You are on page 1of 312

‫ف�صليـــةثقافيـــة‪-‬العـدداخلام�سوال�سـبعـون‬

‫‪NIZWA 2013 - 75‬‬


‫‪N I Z W A‬‬
‫ف�صلية ثقافية‬
‫ـــدر عــن‪:‬‬
‫ت�سســـدر‬
‫ت�س‬
‫�صصةة ُععمان‬
‫مان لل�صحافة‬ ‫ص�ص‬
‫م�ؤ�ؤ�صص�‬
‫والن�صصرر واالعالن‬
‫والن�ص‬
‫الرئي�س التنفيذي‬ ‫ف�سليـــةثقافيـــة‪-‬العـدداخلام�سوال�سـبعـون‬

‫د‪.‬اإبراهيم بن اأحمد الكندي‬


‫رئي�س التحرير‬
‫ـــــيف الرحـــبي‬
‫�صصـــــيف‬
‫�ص‬
‫مدير التحـرير‬
‫طــالب املعمـري‬
‫من�صق التحـرير‬
‫يحيى الناعبي‬
‫اال�صراف الفني واالخراج‬
‫خلف العربي‬ ‫‪NIZWA 2013 - 75‬‬

‫العــدد اخلام�س وال�صـبعـ�ن‬ ‫الأ�ســـعار‪:‬‬


‫سان ‪ 1434‬هـ‬ ‫يوليو ‪ 2013‬م ‪ -‬رم�‬
‫رم�سسان‬ ‫�سلطنة عُمان ريال واحـد ‪ -‬الإمــارات ‪ 10‬دراهم ‪ -‬قطــر ‪ 15‬رياال ‪ -‬البحـرين ‪ 1.5‬دينــار ‪ -‬الكويت‬
‫‪ 1.5‬دين ــار ‪ -‬ال�سـعودية ‪ 15‬ريــال ‪ -‬الأردن ‪ 1.5‬دينار ‪� -‬سوريا ‪ 75‬لرية ‪ -‬لبنان ‪ 3000‬لرية ‪-‬‬
‫املرا�صصلة‪:‬‬
‫صلة‪:‬‬ ‫ان املرا�‬
‫عن��ان‬
‫عن�‬ ‫م�س ـ ــر ‪ 4‬جنيهات ‪ -‬ال�ســودان ‪ 125‬جنيهـا ‪ -‬تونــ�س دينــاران ‪ -‬اجلــزائـر ‪ 125‬دين ـ ــارا ‪ -‬ليبي ــا‬
‫م�س‬
‫‪ 1.5‬دينار ‪ -‬املغرب ‪ 20‬درهما ‪ -‬اليمن ‪ 90‬ريال ‪ -‬اململكة املتحدة جنيهان ‪ -‬امريكا ‪ 3‬دوالرات ‪-‬‬
‫�س‪.‬ب ‪ 855‬الرمز الربيدي‪117 :‬‬
‫س‬
‫�س‬ ‫فرن�سا وايطـ ــاليـا ‪ 4‬يورر‪.‬‬

‫الوادي الكبري‪ ،‬م�سقط ‪� -‬سـلطنة عُمان‬ ‫رتاكات ال�سنوية‪:‬‬


‫�سسرتاكات‬
‫ال�س‬
‫هاتف‪)00968 ( 24601608 :‬‬ ‫للمووؤ�س�سات‪ 10 :‬ريالت عمانية‪ -‬تراجع ق�سيمة ال�س‬
‫�سرتاك‪.‬‬
‫سرتاك‪.‬‬ ‫للأفراد‪ 5 :‬ريالت عُمانية‪ ،‬للم‬
‫رتاك خماطبة اإدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى العنوان التايل‪:‬‬
‫�سسرتاك‬‫وميكن للراغبني يف ال�س‬
‫فاك�س‪)00968( 24694254 :‬‬ ‫�س‪.‬ب‪ - 3002 :‬الرمز الربيدي ‪ 112‬روي ‪� -‬سلطنة عُمان‪.‬‬
‫علن �سس‬
‫وال ل‬
‫والن�سسـر وا‬
‫حافة والن�‬
‫لل�سسسحافة‬
‫موؤ�س�سة عُمان لل�‬
‫مو‬
‫‪Email: nizwa99@nizwa.com‬‬
‫�ملو�د �ملر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش‬
‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬ ‫و� إال �سنـــوقـف ‪ � -‬آ�سـفـــيـن ‪� -‬لتعـــامــل مــع � أ�سحــابهـا‬
‫املحتويــات‬
‫‪4‬‬ ‫سذرات اأخرى‪� :‬سيف الرحبي‬
‫و�سسذرات‬
‫‪ v‬افتتاحية‪ :‬حرب الأجنة فـي الأرحام و�‬

‫‪12‬‬ ‫‪ v‬كتابــات‪:‬‬
‫‪ -‬البالد ال�سعيدة ‪ ..‬قراءة يف تدوينات برترام توما�س املو�سيقية‪:‬‬
‫م�سلم اأحمد الكثريي‪.‬‬

‫‪26‬‬ ‫‪ v‬ملـــــــف‪:‬‬
‫‪« -‬يو�سف �سامي �ليو�سف» من اإعداد‪ :‬عمر ��سبانة‪.‬‬
‫سبانة‪.‬‬
‫ساركون يف �مللف‪� :‬سيف الرحبي‪ -‬يو�سف حطيني‪ -‬فـرج‬ ‫مل�ساركون‬‫�مل�س‬
‫الح‪ -‬را�سم املدهون‪� -‬سعيد الربغـوثـي‪-‬‬ ‫�سسسالح‪-‬‬
‫بريقـدار‪ -‬فخري �‬
‫ني ‪� -‬سمري الزبن‪.‬‬‫احل�سسسني‬
‫اهني‪ -‬عبدالقادر احل�‬
‫حممود ��سسساهني‪-‬‬

‫‪50‬‬ ‫‪ v‬درا�صــات‪:‬‬
‫ال�رشد‬
‫ال�رش‬
‫‪ -‬هيجل والإ�سالم‪ :‬ح�سني هنداوي‪ -‬املراأة العربية يف ال�‬
‫لالأدب الياباين! ‪ :‬كامل يو�سف‬ ‫الن�سائي‪ :‬مرمي دمنوتي‪ -‬وداع ًا لال‬
‫�سايف‪،‬‬
‫سايف‪،‬‬ ‫الر�س‬
‫قد اجلديد‪ :‬معروف ُّ‬ ‫النقد‬
‫وء ال ّن‬
‫الن‬ ‫�سسسوء‬
‫بوية يف �‬
‫النبوية‬
‫رية ال ّن‬
‫الن‬ ‫ال�سرية‬
‫ال�س‬
‫ح�سني‪ِّ -‬‬
‫ة‪ -‬مقاربات علم‬ ‫بزايـنية‪-‬‬
‫بزايـني‬
‫ّ‬ ‫ط‪ :‬ح�سن‬ ‫جعيييط‪:‬‬
‫جع ْ‬
‫ام َ‬
‫وه�سسسام‬
‫تي‪ ،‬وه�‬‫�سستي‪،‬‬‫الد�س‬
‫وعلي َّ‬
‫املتخيلل‬
‫املتخي‬
‫َّ‬ ‫الجتماع والإعالم‪ :‬اآمال مو�سى‪« -‬الرواية العربية‪:‬‬
‫وبنيته الفنية» ليمنى العيد‪ :‬ماجــد ال�ســـامرائي‪.‬‬

‫‪112‬‬ ‫بــاح زويـــن‪.‬‬


‫�سسبــاح‬‫قر�» مــن اإعـــداد‪� :‬‬
‫سقر�‬
‫قر�‬
‫‪ v‬ملـــــــف‪:‬‬
‫وقي �أبي ��سسقر‬ ‫‪�« -‬س‬
‫�سسوقي‬
‫قي�سسسـرـر عــفيـف ‪ -‬جــان‬
‫ساركون يف �مللف‪� :‬سليمــان بخـتي‪ -‬قي�‬ ‫مل�ساركون‬
‫�مل�س‬
‫مــ�س الديـن ‪ -‬اأمـني األبـــرت‬
‫دايـه ‪ -‬لمــــع احلــــــر ‪ -‬حممـد علـي ��سسسمــ�س‬
‫الريحـانـــي ‪ -‬حممـــود �رشيــح‪.‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬

‫‪144‬‬ ‫فا�سسل‪.‬‬
‫سل‪.‬‬ ‫ر�سسساا فا�‬
‫كر حاورته‪ :‬ر�‬
‫‪ v‬حـــ�ارات‪:‬‬
‫ال�سسسكر‬
‫‪ -‬حامت ال�‬
‫حب�س‪.‬‬
‫حب�س‬
‫‪ -‬روؤوف م�سعد حاوره‪ :‬اأ�سامة حب�‬

‫^‬ ‫^ تر�سل �ملقاالت با�سم رئيـ�س �لتحريــر‪ ..‬و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا‬
‫‪160‬‬ ‫‪ v‬م�صــــــــرح‪:‬‬
‫الق�سسابي‪.‬‬
‫سابي‪.‬‬ ‫رشحية ومعاجلات الواقع‪ :‬عزة الق�‬
‫امل�رش‬
‫ارقة امل�‬
‫ال�سسارقة‬
‫‪ -‬اأيام ال�س‬

‫‪168‬‬ ‫‪� v‬صــــــــينما‪:‬‬

‫لطليعي‪[ :‬كلب‬
‫لطليعي‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬لوي�س بونويل‪� /‬سلفادور دايل �سيناريو الفيلم ا‬
‫أندل�سي] ترجمة‪ :‬حممد عيد اإبراهيم‪.‬‬
‫أندل�سي‬
‫ّ‬ ‫ا‬

‫‪176‬‬ ‫‪� v‬صعـــــــــــر‪:‬‬


‫ائـد ‪� :‬رشبل داغر ‪ -‬الكلمات الأخرية للمهرج‪ :‬كرمي عبدال�سالم‪-‬‬ ‫ق�سسسائـد‬
‫‪ -‬ق�‬
‫ور ‪ :‬خلود الفالح‪-‬‬ ‫وال�سسسور‬
‫لونة عزيز احلاكم ‪ -‬الن�ساء التعي�سات وال�‬
‫بر�سسلونة‬
‫بر�س‬
‫الح بن‬
‫�سسسالح‬
‫ج�سدا‪� ..‬‬
‫امليت ً‬
‫امليت‬
‫�سريق�سس ّ‬
‫علو�س ‪� -‬سريق� ُ‬
‫حافة املغيب‪ :‬اإدري�س علو�‬
‫انتظارك‪ِ:‬‬
‫طري الروؤى ‪ :‬عمر اأبو الهيجاء ‪ -‬روحي كر�سي انتظارك‬ ‫عياد ‪ُ -‬‬
‫حم�س‪ :‬خالد‬
‫دلدار فلمز ‪ -‬تفاحة ‪ :‬عبدالفتاح بن حمودة ‪ -‬حجارة حم�سس‬
‫اء‪ :‬فتحية‬
‫بي�سساء‪:‬‬
‫ر�سساسا اأحمد‪ -‬حتت كل حجر وردة بي�‬ ‫زغريت ‪ -‬يــــدك‪ :‬ر�‬
‫قري ‪ -‬كيف تفوز بوردة ‪ :‬عبدالعظيم فنجان‪ -‬خطوة اأوىل‬ ‫ال�سسقري‬
‫ال�س‬
‫للرحيل‪ :‬يحيى الناعبي ‪ -‬عمن‪ :‬طالب املعمري‪.‬‬

‫‪210‬‬ ‫‪ v‬ن�ســـــو�ص‪:‬‬
‫ارلز �سيميك ت‪ :‬اإميان مر�سال ‪� -‬سمرقند‪:‬‬
‫ت�سسسارلز‬
‫‪« -‬ذبابة يف احل�ساء» ت�‬
‫«حبيبة تيمورلنغ» ‪ :‬خليل النعيمي ‪ -‬متى يختفي الآخر عني ‪:‬‬
‫رش ‪ -‬حياة حمتملة‪ :‬فاروق يو�سف ‪ -‬الكتابة‪ ،‬اإنقاذ‬ ‫عبدال�ستار نا�رش‬
‫امللب�سات‬
‫امللب�سات‬
‫يبيع ّ‬‫اللغة من الغرق‪ :‬للووؤي حمزة عبا�س‪ -‬الرجل الذي ُ‬
‫يف احلديقة لوي�س �سيبولبيدا‪ :‬اأحمد الويزي ‪ -‬ذلك الليل‪ :‬مفيد جنم‬
‫ريا�سس بيد�س‪ -‬اأمينة‪ :‬اأمل املغيزوي ‪ -‬مرثية اأوىل‬
‫كوى كلب‪ :‬ريا�‬
‫‪�� -‬سسسكوى‬
‫الرا�سسدي‪.‬‬
‫سدي‪.‬‬ ‫للظل‪ :‬حمود الرا�‬
‫ِّ‬
‫‪254‬‬ ‫‪ v‬متابعات وروؤى‪:‬‬

‫بد زمـن قيامته‪ :‬حممد بودويك‪-‬‬ ‫يو ِّب ُد‬


‫سعـر ُي ؤَو‬
‫عـر حممد ال�سـرغيني‪�� :‬سسعـر‬ ‫‪� -‬س‬
‫�سسعـر‬
‫بحي مو�سى‪ :‬حممد ال�سيد اإ�سماعيل‪-‬‬ ‫ل�سسبحي‬ ‫رواية «اأ�ساطري رجل الثالثاء» ل�‬
‫فرة �سكني) لنجاة‬ ‫(الأبيقورية) فل�سفة للحرية‪ :‬ح�سن اأوزال ‪( -‬مثل ��سسفرة‬
‫علي‪ :‬اأحمد ح�سن ‪ -‬بيزنطة والإ�سالم‪ :‬من كتاب‪« :‬اليهود واملال والعامل»‬ ‫ي‪:‬‬
‫طلح اجلديد‪ :‬اإبراهيم‬
‫امل�سسطلح‬
‫خما�سس امل�س‬
‫الح لوكام‪ -‬خما�‬ ‫�سسالح‬
‫جلاك اأتايل‪ :‬ت‪� :‬سليمة �س‬
‫اليو�سف‪« -‬روائح ماري كلري» للحبيب ال�ساملي‪ :‬حممد بوعزة‪ -‬فتحي‬
‫تفي�س بالأمل‪ :‬عبد النبي فرج ‪« -‬دي�سكولند» لأ�سعد‬ ‫عبداهلل روح اإن�سانية تفي�‬
‫اجلبوري وكائنات مملكة الظالم‪ :‬نـذيـر جعفـر ‪« -‬حكاية تبحث عن‬
‫ة» ب�رشى‬ ‫ّ‬
‫«مظلّة»‬
‫«مظلة»‬ ‫عر يف‬
‫ال�س�سسعر‬
‫ب‪ :‬اإبراهيم احلجري‪ -‬فخاخ ال�‬ ‫الطايب‪:‬‬
‫عنوان» لفاحتة الطاي‬
‫�س ‪( :‬لون‬
‫الن�س‬
‫الواقع اإىل واقعية الن‬
‫ع‬ ‫خلفان‪ :‬عبدالرزاق الربيعي ‪ -‬من نن��س‬
‫�س‬
‫املطر) ‪ :‬حممد حممد العديني‪.‬‬
‫�آر�ء ^‬ ‫^ �ملقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها‪ ،‬و�ملجلة لي�ست بال�رشورة م�سوؤولة عما يرد بها من‬
‫من اأعمال الفنان �سامل املرهون ‪ُ -‬ععمان‬
‫مان‬

‫‪4‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام‬
‫و�شذرات �أخرى‬
‫الريح‬
‫ُ‬ ‫�أو عويل ٍ‬
‫قرد ثكل ْته‬ ‫�آه‪ ،‬هذا العامل الذي ت�سفح‬
‫بني الأكمات‪..‬‬ ‫على غاربه املراثي‬
‫‪jhj‬‬
‫قد انتهى منذ زمن طويل‬
‫�شبع موت ًا‬
‫َ‬
‫كان يجل�س يف املقهى‪ ،‬وحيداً ينظر �إىل اجلهة‬
‫هباء‬
‫تطايرت ً‬ ‫ْ‬ ‫�أنت الآن ‪ ،‬عن ج ّثته التي‬
‫املقابلة‪ ،‬خلف ال�شارع‪ ،‬حيث تنبعث �أ�ضواء‬
‫يف ف�ضاء اللـه‬
‫مهدمة‪ ..‬العجوز االيرلندي‪،‬‬ ‫خافتة لأكواخ �شبه ّ‬ ‫الدود الذي نخرها‬ ‫ُ‬ ‫عن اجلثة التي مات‬
‫الذي جاء جندي ًا �إىل هذه الأ�صقاع البعيدة‪،‬‬
‫جي ًال بعد جيل‬
‫ليقاتل عدواً غام�ض ًا‪ ،‬بالطاعة العمياء للوطن‬
‫عن هباء اجل ّثة حتاول �أن تكتب‬
‫والقيادة‪� ..‬سارح ًا يف �سهوب املا�ضي يف اخلرائب‬
‫ال�شبحي تعي�ش‬
‫ّ‬ ‫�أنت الآن يف ظلّها‬
‫والطمي الذي يحمله النهر الأ�صفر يف هيجاناته‬
‫ٍ‬
‫هلو�سات وكوابي�س‪..‬‬ ‫والذي ميلأُ العامل‬
‫دارت معارك كثرية �ضاربة‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫املو�سمية‪ ..‬هناك‬
‫ّ‬ ‫ظل ال�سحابة املنقر�ضة‬
‫هناك فقد �أحبة و�أ�صدقاء‪ ،‬هناك �أباد �أرواح ًا‬
‫دمى‬‫املقد�س يجره اجل ّزارون ُم ّ‬ ‫ظ ّل الثور ّ‬
‫اجلندي العجوز‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وعائالت ال يعرف عنها �شيئ ًَا‪..‬‬
‫يف الوحل‬
‫يحدق يف اجلهة املقابلة‪ ،‬ك�أمنا كوكب يت�شظى‬ ‫ّ‬ ‫ظل النمر الذي �شنقته �أ�شجار الغابة‬
‫بال�سكر و�أحمال الذكريات‪.‬‬ ‫يف ر�أ�سه املرتنح ُ‬ ‫ظل الطفل الذي قتلته �أمه من فاق ٍة‬
‫حب ينبعث من بني احلرائق‬ ‫وهناك �أي�ضا ‪ ،‬نور ّ‬ ‫وا�ضطراب‬
‫والأنقا�ض املتداعية يف املخيلة واملكان‪..‬‬
‫ظل النجوم الراك�ضة �إىل حتفها‬
‫مت املدن والقرى‪..‬‬ ‫تهد ْ‬ ‫�س َكتت املدافع والأ�سلحة‪ّ ،‬‬ ‫الأكيد‬
‫املحطات‬
‫ّ‬ ‫وبقي ذلك النور القليل الرا�شح عرب‬
‫ظل الظالل وهي تق�ضي نزهتها الأخرية‬
‫والأزمان‪..‬‬
‫مهدمة‪..‬‬
‫و�سط حيطان ّ‬
‫‪jhj‬‬
‫عليك �أن تتوقف عن �سفح املراثي‬
‫يحت�سون البري َة واملث ّلجات‬ ‫ورمي الكلمات‬
‫يف ظالل الأ�شجار اال�ستوائية الفارعة‬ ‫ذئب‪،‬‬
‫فلم يعد هناك ما ي�ستدعي عواء ٍ‬
‫‪5‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام‬
‫و�شذرات �أخرى‬
‫الريح‬
‫ُ‬ ‫�أو عويل ٍ‬
‫قرد ثكل ْته‬ ‫�آه‪ ،‬هذا العامل الذي ت�سفح‬
‫بني الأكمات‪..‬‬ ‫على غاربه املراثي‬
‫‪jhj‬‬
‫قد انتهى منذ زمن طويل‬
‫�شبع موت ًا‬
‫َ‬
‫كان يجل�س يف املقهى‪ ،‬وحيداً ينظر �إىل اجلهة‬
‫هباء‬
‫تطايرت ً‬ ‫ْ‬ ‫�أنت الآن ‪ ،‬عن ج ّثته التي‬
‫املقابلة‪ ،‬خلف ال�شارع‪ ،‬حيث تنبعث �أ�ضواء‬
‫يف ف�ضاء اللـه‬
‫مهدمة‪ ..‬العجوز االيرلندي‪،‬‬ ‫خافتة لأكواخ �شبه ّ‬ ‫الدود الذي نخرها‬ ‫ُ‬ ‫عن اجلثة التي مات‬
‫الذي جاء جندي ًا �إىل هذه الأ�صقاع البعيدة‪،‬‬
‫جي ًال بعد جيل‬
‫ليقاتل عدواً غام�ض ًا‪ ،‬بالطاعة العمياء للوطن‬
‫عن هباء اجل ّثة حتاول �أن تكتب‬
‫والقيادة‪� ..‬سارح ًا يف �سهوب املا�ضي يف اخلرائب‬
‫ال�شبحي تعي�ش‬
‫ّ‬ ‫�أنت الآن يف ظلّها‬
‫والطمي الذي يحمله النهر الأ�صفر يف هيجاناته‬
‫ٍ‬
‫هلو�سات وكوابي�س‪..‬‬ ‫والذي ميلأُ العامل‬
‫دارت معارك كثرية �ضاربة‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫املو�سمية‪ ..‬هناك‬
‫ّ‬ ‫ظل ال�سحابة املنقر�ضة‬
‫هناك فقد �أحبة و�أ�صدقاء‪ ،‬هناك �أباد �أرواح ًا‬
‫دمى‬‫املقد�س يجره اجل ّزارون ُم ّ‬ ‫ظ ّل الثور ّ‬
‫اجلندي العجوز‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وعائالت ال يعرف عنها �شيئ ًَا‪..‬‬
‫يف الوحل‬
‫يحدق يف اجلهة املقابلة‪ ،‬ك�أمنا كوكب يت�شظى‬ ‫ّ‬ ‫ظل النمر الذي �شنقته �أ�شجار الغابة‬
‫بال�سكر و�أحمال الذكريات‪.‬‬ ‫يف ر�أ�سه املرتنح ُ‬ ‫ظل الطفل الذي قتلته �أمه من فاق ٍة‬
‫حب ينبعث من بني احلرائق‬ ‫وهناك �أي�ضا ‪ ،‬نور ّ‬ ‫وا�ضطراب‬
‫والأنقا�ض املتداعية يف املخيلة واملكان‪..‬‬
‫ظل النجوم الراك�ضة �إىل حتفها‬
‫مت املدن والقرى‪..‬‬ ‫تهد ْ‬ ‫�س َكتت املدافع والأ�سلحة‪ّ ،‬‬ ‫الأكيد‬
‫املحطات‬
‫ّ‬ ‫وبقي ذلك النور القليل الرا�شح عرب‬
‫ظل الظالل وهي تق�ضي نزهتها الأخرية‬
‫والأزمان‪..‬‬
‫مهدمة‪..‬‬
‫و�سط حيطان ّ‬
‫‪jhj‬‬
‫عليك �أن تتوقف عن �سفح املراثي‬
‫يحت�سون البري َة واملث ّلجات‬ ‫ورمي الكلمات‬
‫يف ظالل الأ�شجار اال�ستوائية الفارعة‬ ‫ذئب‪،‬‬
‫فلم يعد هناك ما ي�ستدعي عواء ٍ‬
‫‪5‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ُأبيدوا بق�سوة املعرفة‬ ‫�شيوخ �أوروبا‬


‫الأفق �شا�سع وعميق‬ ‫واحلرية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫الزمن‬
‫ُ‬ ‫ه�ؤالء الذين �أنهكهم‬
‫ووجوه املوتى‬ ‫يحت�سون اخلمور الثقيل َة‬
‫ينبعث رفاتها يف املغيب‪..‬‬ ‫ويفرت�سون اللحوم‬
‫‪jhj‬‬
‫الغابي‬
‫ّ‬ ‫يف ظالل الفندق‬
‫رجال ال�رشق‪..‬‬
‫ُ‬
‫يحدق يف ال�شا�شة الزرقاء‪:‬‬
‫البدوي ّ‬
‫ّ‬ ‫�صلف القادة‬
‫ُ‬ ‫الذين �أنهكهم‬
‫ثمة �أمطار على غري العادة يف ال�صحراء‪ ،‬تكت�سح‬
‫العبودية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫و�أثقال‬
‫التخوم‪ ،‬تبعرث الأ�شجار القليلة‪� ،‬أمطار م�صحوبة‬
‫الرملية ا�ستغلّت‬
‫ّ‬ ‫بالرياح‪ ..‬ال بد �أن اجلبال‬ ‫‪jhj‬‬

‫وزحفت �ضاحك ًة باجتاه الأكوام‬‫ْ‬ ‫املنا�سبة‬ ‫�سقطت‬


‫ْ‬ ‫النظر يف �أرجاء املكان الذي طاملا‬
‫َ‬ ‫يحي ُل‬
‫عيت مدنية‪..‬‬
‫احلجرية التي ُد ْ‬
‫ّ‬ ‫ال�شهب مثل عيون الثعالب يف غزوتها‬ ‫على �أدميه ُ‬
‫ح�رشات ال�صيف تطري من مراقدها يف الف�ضاء‬ ‫الليلية‪ ،‬يتبع الراعي والقطيع‪..‬‬
‫ّ‬
‫احلر‪ ،‬حيث الأطفال يعانقون ما�ضي اليمام‬ ‫«ال�سمر»‪ ،‬ما تبقى‪ ،‬ينازل‬
‫وحده جذع �شجرة ُ‬
‫الربي وما�ضي الأ�سالف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرملية‪ ،‬وحيداً يقاتل �ضد الب�رش‬‫ّ‬ ‫الرياح‬
‫َ‬
‫‪jhj‬‬
‫املم�سوخني والتدمري‪..‬‬

‫على ال�سفوح التي �أبحر النخ ُل يف ليلها املحت�شد‬ ‫‪jhj‬‬

‫العباب‪..‬‬
‫مثل �سفن متخر ُ‬ ‫(دع املقادير جتري يف �أعن ِّتها)‬
‫الأطفال الذين مل ي�شهدوا منذ والدتهم �أمطارا‪ ،‬ها‬ ‫م�ضطرب بالكوابي�س‬
‫ٍ‬ ‫تنامن �إال يف بحر‬
‫َّ‬ ‫وال‬
‫وال�سحنات‪.‬‬
‫هي النعم ُة تغمر الأفالج اجلا ّفة ُ‬ ‫واحليتان‪..‬‬
‫ثمة �أمل ‪� ،‬شعاع �أمل‪( ،‬داء الأمل) ثمة وعد بحياة‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬
‫يلوح امل�سافرون ب�أيديهم ال�شاحبة‬
‫حتط رحالهم العتيق ُة‬‫ال تكاد ّ‬ ‫عرب املوانئ واملطارات‬
‫�إ ّال ويرحلون‬ ‫جل ُزر والغابات‬
‫يقر�أون خرائط ا ُ‬
‫ٍ‬
‫جهات جمهولة غالب ًا‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫خبار الطق�س وخالئق امل�ستنقعات‪..‬‬
‫�أ َ‬
‫الربق مبعرثاً �أنحاءها يف‬ ‫ُ‬ ‫جهات ي�شطرها‬ ‫ينتظرون املفاجئ الراب�ض يف �أخدود �أو عرب‬
‫الإع�صار‬ ‫رملي يطل على بحر‬ ‫ّ‬ ‫منحدر‬
‫الرملي من جهة ال�رشق‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي يقذف لهبه‬ ‫�صليون وقد‬
‫ال�سكان الأ ّ‬
‫ُ‬ ‫يف متائم و ُلقى يعلّقها‬
‫‪6‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املتاخم ملوج املحيط ومت�ضي �إىل الفندق‬ ‫ال تكاد رواحلهم تنزل املكان‪ ،‬قري ًة �أو مدين ًة‪،‬‬
‫ال�صغري املحاط بالأ�سماك والنجوم‪ ..‬املر�أة التي‬ ‫�شق حفرة حفرها الأزل يف خا�رصة‬ ‫َّ‬
‫حياتها مع الوحدة يف املقاهي‪ ،‬والكالب‪..‬‬ ‫اجلبل النائي‪ ..‬ال يكاد حفيف الأ�شجار‬
‫ي�ستيقظ الرجل الهاذي من غيبوبته ويقول‪:‬‬ ‫املتعبة‪ ،‬ال يكادون ي�سمعون‬ ‫َ‬ ‫يالم�س �أج�سادهم‬
‫بالفعل ما �أجمل احلياة بني �أنا�س يقت�سمون ذات‬ ‫كالب‬
‫�صوت البلبل �أو نعيق الغراب خمتلط ًا بنباح ٍ‬ ‫َ‬
‫امل�صري‪..‬‬ ‫تر�صد الفجر يف انبالجه الأول‪� ،‬إال وتقذفهم‬
‫‪jhj‬‬ ‫ال�صدفة �إىل مطارح �أخرى‪ ،‬ال يكاد ُي�سمع فيها‬
‫�صياح ديك ٍة �أو �شحيج حما ٍر تائه يف الرباري‬
‫ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا من غار اجلبل‬
‫الغابي‪..‬‬ ‫حجري‬
‫ّ‬ ‫�سهم‬
‫املوح�شة‪ ،‬الرباري التي �شهدت �أول ٍ‬
‫ّ‬ ‫يقذفه قابيل يف �سويداء قلب �أخيه‬
‫�أو معب ٍد �صغري على قارعة طريق‬
‫ي�سدون الآفاق مثل‬ ‫وتبد�أ الكارثة‪..‬‬
‫حيث الثك�إىل واملحرومون ّ‬
‫دخان متزقه ريح‪ ،‬حيث احلروب تبقر �أح�شاء‬ ‫‪jhj‬‬

‫اخلليقة‪ ،‬حروب الأعداء ‪ ،‬حروب االخوة الأعداء‪،‬‬ ‫ذات مرة‪ ،‬وكل مرة‪:‬‬‫يخاطب نف�سه َ‬
‫حروب الأج ّنة يف رحم الأمهات‪ ،‬حروب الأوبئة‬ ‫ما الذي يجعلني مقيم ًا يف هذه البلدة دون الأخرى؟‬
‫القدي�سني والعاهرات‪،‬‬‫ّ‬ ‫والفي�ضانات‪ ،‬حروب‬ ‫ما الذي يجمعني بهذه الأقوام املنتفخة بالآمال‬
‫اجلرثومية ال‬
‫ّ‬ ‫ال�سيارة والأ�سلحة‬
‫حروب الكواكب ّ‬ ‫الوهمية‪� ،‬أنا الهالك املنبوذ‬ ‫وال�شعارات والأ�سماء‬
‫ّ‬
‫ُتبقي وال تذر‪ .‬حروب البع�ض على البع�ض والكل‬ ‫والغريق؟ حياتي التي م�ضت على هذا الوتر الكا�رس‬
‫على الكل‪ ،‬حروب النخيل �ضد ق�صف العوا�صف‪،‬‬ ‫املدمن غرب ًة بني �أقوام غرباء‪� ..‬أنا الذي ال �أ�ستطيع‬
‫هواج�س االنتقام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والأطفال الذين تنه�شهم‬ ‫�أن �أرى الكائن �أي كائن‪� ،‬أن �أرى �أ َّي ج ْذر يربطه‬
‫ذاهبني �إىل الأ�رضحة واحل َلبات‪..‬‬ ‫املتموج بامل�آ�سي‬ ‫بهذه الأر�ض‪ ،‬هو العابر ب�ساطها‬
‫الطائفيني بعد التب�شري باحلداثة‬ ‫حروب الأدباء‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫واللع َنات‪� ،‬إىل جنة ال�سماء �أو جهنمها الأزيل الأكرث‬
‫َ‬
‫والقانون‪..‬‬
‫مرح ًا من حياة ك�أمنا �إله ال�رش والدم البابلي‬
‫ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا‬
‫(كنجو) تقي�أها يف حلظة غ�ضب وا�ضطراب‪..‬‬
‫املتحجرة يف كهوف الغابات‪ ،‬ت�أمالتك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دموعك‬
‫(ما الذي يجعلني �أمكث يف هذه البقعة؟)‬
‫آ�سيوية‬
‫تعاليمك التي ذهبت �أدراج الرياح ال ّ‬ ‫الغريب‪ ،‬تهذي املر�أ ُة الغريبة حامل ًة‬
‫ُ‬ ‫يهذي الرجل‬
‫والطاعون ‪..‬‬
‫ال�سة الواهن‪ ،‬حاملة بالأرخبيالت‬ ‫بقطع حبل رُّ‬
‫‪jhj‬‬
‫البحرية بني ب�رش ال يعرفون �أ�سماء بع�ضهم‬ ‫ّ‬
‫بالفعل‪ ،‬ما الذي يجعلك ال تغادر‪ ،‬مل تذهب‪ ،‬مل‬ ‫ال�صباحية يف املقهى‬
‫ّ‬ ‫(ي�أخذ ت�أخذ) قهوتها‬
‫‪7‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من �أجل الأطفال اجتمعوا‪ ،‬قاطعني م�سافات‬ ‫ترحل حتى اللحظة؟‪ ..‬يف ثقوب بيتك‪ ،‬يف خالء‬
‫�شا�سعة على طائراتهم اخلا�صة‪ ،‬ال تخلو من‬ ‫الدموية‪ ،‬ع�ش�ش عنكبوت �سام وقتلة‬ ‫ّ‬ ‫الوح�شة‬
‫ومطبات‪..‬‬
‫ّ‬ ‫مو�سمية‬
‫ّ‬ ‫رياح‬ ‫م�أجورون يفتكون بال�صغار والكبار‪ ..‬وعلى‬
‫من �أجل �أطفال العامل اجتمعوا‪ ..‬هكذا‪..‬‬ ‫التحية كل �صباح على م�ستوطنات‬ ‫ّ‬ ‫مقربة‪ ،‬تلقي‬
‫�سوريا برداً وفجيعة‬
‫ّ‬ ‫وعلى مقربة يرجتف �أطفال‬ ‫البومة البكماء و�سط اخلرائب والقاعات‪..‬‬
‫و�أ�شتات ًا‪..‬‬ ‫همومك طاولت اجلبال هام ًة‪ ،‬وفاقت ال�شجر‬
‫�سوريا‪ ،‬دماء �أطفالها التي تلجم القارات بنحيب‬ ‫ّ‬ ‫رق ًة وانك�ساراً‪ ..‬ويف الأودية اجلا ّفة‪ ،‬ح ّلقت طيور‬
‫و�سحب �سوداء ‪ ،‬ثقيلة تطبع �آفاق العرب‬ ‫قادمة من �أزمنة الطوفان‪ ،‬حتمل يف مناقريها‬
‫ال ينقطع‪ُ ،‬‬
‫والب�رشية جمعاء بطابع انحطاطها الأكيد‪..‬‬ ‫اجلثث املتحلّلة يف �سدمي الف�ضاء‪ ،‬الذي داخت‬
‫ّ‬
‫وثمة �أدباء كرث‪ ،‬اجتمعوا يف م�ؤمترات وندوات‪..‬‬ ‫الع َدم‬
‫من هوله الآله ُة وطوح بها �إىل �ضفاف َ‬
‫ناق�شوا ُ�صور اجلمال التي �أجنزها خيال‬ ‫الوح�شي والإبادات‪.‬‬
‫ّ‬
‫حريات التعبري‬‫الأفراد احلر‪ ،‬ومل ين�سوا بالطبع‪ّ ،‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫املقموعة يف دنيا العرب‪ ..‬لكنهم‪ ،‬ومن غري �أ�سف‬ ‫رث الطرق‬‫�سوريا‪ ،‬ما الذي يجعلك ت�سلكني �أك َ‬ ‫يا‬
‫ّ‬
‫رمبا لدى �أ�صحاب احلق والآ�رصة العتيدة‪ ،‬لن‬ ‫الب�رشي يف‬ ‫ال�صنف‬ ‫مر به‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وعورة‪ ،‬من كل ما ّ‬
‫�شكلية على جاري العادة‪ ،‬عن‬ ‫ّ‬ ‫ي�أتوا ولو بكلمة‬ ‫ِ‬
‫منافذك ُ�سدت بدم ال�شهداء‪.‬‬ ‫تاريخه احلزين؟‬
‫تلك التي تدخل �أق�صى النكبات و�أق�ساها‪ ،‬من‬ ‫كربيا�ؤك تطاير بروق ًا تخفق يف �ضفاف الأزل‪،‬‬
‫حر ّيتها وجمالها اللذين �ضاعا يف دهاليز‬ ‫�أجل ِّ‬ ‫�سوريا‪،‬‬ ‫بجديته الثانية‪ ..‬يا‬
‫ّ‬ ‫ليفتتح بها العامل �أ ّ‬
‫والهمجية عقوداً طويل ًة‪ ،‬يخالها الرائي‬
‫ّ‬ ‫الظلمة‬ ‫كنتِ املالذ والنعمة‪ ،‬حتى �أتى التتار احلديث‪،‬‬
‫�أحقاب ًا وقرون ًا‪ ...‬وهي هكذا‪..‬‬ ‫ِ‬
‫فدخلت يف الظالم الغليظ �أيام ًا و�سنني‪ ..‬روحكِ‬
‫‪jhj‬‬ ‫واحلرية‪ ،‬تبحر يف الآماد‬
‫ّ‬ ‫العط�شى �إىل املجد‬
‫والدماء‪ ..‬لقد �أوغلتِ يف الرتحل والبطوالت‪ ،‬من‬
‫�أيها الكتاب‪� ،‬أيها املنقذ من ثقالء الظل‬
‫�أجل طفل يبكي‪ ،‬و�أم تنتحب يف غلواء الظلمة‪ ،‬يف‬
‫احلرة حتى يف‬
‫وامل�صري‪ ...‬متنحني دائما �رشفتك ّ‬ ‫اجلماعية والهذيانات والكوابي�س‪..‬‬
‫ّ‬ ‫زحمة املقابر‬
‫تهب اجلمال يف‬
‫اليومية والرتابة‪ُ ..‬‬
‫ّ‬ ‫العبودية‬
‫ّ‬ ‫قلب‬
‫متنح العطالة الفاتنة‪،‬‬
‫قلب م�شهد القبح الأنيق‪ُ ..‬‬
‫‪jhj‬‬

‫والف�ضاء‬
‫ُ‬ ‫تلك التي يهبها البحر لأ�سماكه الك�سولة‬ ‫بالأم�س اجتمع �أثرياء العرب والعامل‪ ،‬من �أجل‬
‫لطيوره حملِّقة يف �سماوات الن�شوة واخليال‪..‬‬ ‫الأطفال اجتمعوا‪ ..‬ما �أجملهم‪ ،‬لطيفني �أنيقني‬
‫عني نبع و�رصخة مظلوم يف �ضياء الفجر‪..‬‬ ‫ن�سانية والكرم واحلنان ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و�إن�سانيني‪ ،‬منتهى الإ‬
‫وهبت ال�سالفني والالحقني‪� ،‬أيتها املعرفة التي‬
‫َ‬ ‫(�إن�سانيينّ مفرطني يف �إن�سانيتهم)‪..‬‬
‫‪8‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫وع�صية‪ ،‬وهبتهم ح�سن اخلامتة‬ ‫ّ‬ ‫تظ ّل غام�ض ًة‬


‫�سوريا ‪� ..‬سوريا‪َ ،‬خجِ لني منكِ ومن �أنف�سنا‪ ،‬من‬ ‫واالختيار‪ ،‬حتى يف عباب املوج الذي يحمل‬
‫التاريخ وال�ضمري‪َ ،‬خجِ لني من عجزنا‪ ..‬ما الذي‬ ‫املوت والغياب‪ ..‬رق�صة اجلمال يف مر�أى ال�شقاء‬ ‫َ‬
‫ته�شمني ر�أ�س التمثال الذي �صنعته‬ ‫ّ‬ ‫يجعلكِ‬ ‫والهاوية‪ ..‬يا كتاب ًا �أبدعه اجلميع ومل يكتبه �أحد‪،‬‬
‫والعبودية دهراً‪ ،‬التمثال الذي تقي�أ عليه‬ ‫البالد ُة‬ ‫مر‬
‫ظ ّل ممتنع ًا على اال�سم والت�صنيف‪ ،‬على ما ّ‬
‫ّ‬
‫�سكارى مت�رشدون يف �ساحة (عرنو�س) حلظة‬ ‫من �أ�سماء وع ُزالت‪ ،‬تعجز حتى �آلهة الرافدين عن‬
‫ا�سه وهربوا؟‬ ‫الإح�صاء والتدقيق‪..‬‬
‫حر ُ‬
‫نام ّ‬
‫ما الذي جعلك حتطمني ر�أ�س التمثال كي ينفجر‬ ‫الأفق مدلهم والأر�ض يباب‬
‫�رش العامل عليك؟‬ ‫الالنهائي واملجزرة‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫و�أنت وحدك امل�ضيء يف‬
‫ُ‬
‫العار الذي‬ ‫�سوريا‪ ،‬ولهم‬ ‫واخللود يا‬ ‫املجد‬ ‫ِ‬
‫لك‬ ‫املر َهفون �إىل امل�شنقة‬
‫�أيها الكتاب‪ ،‬لوالك لذهب ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لك الورد واجلراح‪،‬‬ ‫زلية‪ِ ،‬‬ ‫بب�صرية كامل ٍة ال لب�س فيها‪ ،‬حلظة الوالدة‪� ،‬أو يف‬
‫ال متحى لطخته الأ ّ‬ ‫هذه اللحظة التي يرف�سون يف �شباكها‪ ،‬يف �شباك‬
‫ولن�سائك النائحات يف ليل احلزن املديد‪ ،‬نور‬
‫هذا امل�ضيق‪..‬‬
‫ال�شهادة والإميان‪.‬‬
‫واحلرية‪،‬‬ ‫ملطف�أة على مذبح الآالم‬ ‫كنتِ الفدية ا ُ‬
‫‪jhj‬‬
‫ّ‬
‫كنتِ الفدية والقربان لألف عام من الكارثة‪،‬‬ ‫روحي تختنق‪� ،‬أيامي خاوية ال قيمة لها‪..‬‬
‫ولأنك مهبط احل�ضارات والأديان‪ ،‬يا بالد‬ ‫ال�شورت‬
‫َ‬ ‫�أيتها املر�أة اجلميلة ‪� ،‬شعر عانتكِ يرفع‬
‫ال�شام والهالل اخل�صيب‪ ،‬قو�س الروح ال�ضارب‬ ‫املخفي ذاك الذي يجعل الر�أ�س‬
‫ِّ‬ ‫كرب‬
‫�إىل �أعلى‪� ،‬أم َ‬
‫يف الأعماق‪ ،‬قو�س العدم الدموي ال�ضارب يف‬ ‫يدور‪ ،‬يف َغ َب�ش الر�ؤيا‪ ،‬ويجعل الكائن يتعثرّ يف‬
‫الهباء‪ ،‬حتت �أ�شجار جنانك التي �ستعود ن�ضرِ ًة‬ ‫خطوه متدحرج ًا �إىل مزلقان الرغبة ال�سحيق؟‬
‫وارف ًة بعد �أن �سقت جذورها و�أغ�صانها دموع‬ ‫‪jhj‬‬

‫�أبنائك �أميا �سقاية وحنان‪..‬‬ ‫منيته‪ ،‬عنقه النحيلة‬


‫�أنظر �إىل عنق الرجل ال�سارح يف ّ‬
‫هذه الكلمات‪ ،‬وكل الكلمات فقرية �إىل جاللكِ‬ ‫دم ّرتها امل�سافة واخل�سارات‪..‬‬
‫بتجاعيد ن�سور ّ‬
‫(�سيدة الكربياء‪ ،‬والأحزان)‬ ‫يا ّ‬ ‫�إنني ذلك الرجل‪ ،‬ذلك ال�شبح الذي ال يعرف �أين‬
‫‪jhj‬‬ ‫مي�ضي‪ ..‬يف ظالم هذه الظهرية‪ ،‬القاتلة‪..‬‬
‫دم�شق‬ ‫‪jhj‬‬

‫الركب يف ذلك الفجر الدامي‪ ،‬غادره‬


‫ُ‬ ‫حني غادرك‬ ‫من�شد ال�ضفادع‬
‫ُ‬
‫احلب والأحالم‪ ،‬غادرته �إراد ُة املحارب ورهافة‬
‫ُ‬ ‫يتلو �سور َته‬
‫ال�شعر‪..‬‬ ‫�سيوي البهيم‬
‫ّ‬ ‫يف الليل الآ‬
‫‪9‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والتخبط يف‬
‫ّ‬ ‫املدوخ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فلي�س ثمة �إال هذا الزوغان‬ ‫بقي هكذا‪ ..‬حفن ُة �شحاذين على �أبواب العامل‬
‫املتاهة التي تتنا�سل �صحارى ومفازات‪..‬‬ ‫يا دم�شق لن تكوين �إال �سيدة م�صريك‪ ،‬مهما تطاول‬
‫‪jhj‬‬
‫�سيدة‬
‫قتلة احلياة‪ ،‬كما كنت منذ بدء اخلليقة‪ّ ،‬‬
‫الكربياء والأحزان‪ ..‬الرم ُز واملجاز واحلقيقة‬
‫ال�شجرة ترخي �أهدابها ‪ ،‬ناع�س ًة‪ ،‬على �أغ�صانها‬
‫املحلقة فوق هياكلك والأ�شجار املحروقة‪.‬‬
‫تغرد الطيور املهاجرة واملقيمة‪ ،‬وحتت ظاللها‬ ‫ّ‬
‫ي�سرتخي �أطفال ون�ساء يداعب الن�سيم الع ْذب‬ ‫‪jhj‬‬

‫رداف واخل�صور كما يف �أحالم مالك‪ ،‬وثمة‬ ‫الأ َ‬ ‫يتحدث عن �رضورة االنتقال يف‬ ‫ّ‬ ‫كان �سقراط‪،‬‬
‫تخ�ضب الأفق من جهة‬ ‫ّ‬ ‫غيوم �شفيفة ناعمة‬ ‫الإ�صغاء �إىل �صوت الب�رش بدل ال�شجر واحلجر‪،‬‬
‫الغابة تن�رش لطائفها على ال�شجرة وخملوقاتها‬ ‫م�شريا �إىل فال�سفة الطبيعة‪ ،‬امل�أ�ساويني الُأ َول‬
‫الهانئة‪..‬‬ ‫ت�رصمت على‬ ‫يف بالد الإغريق‪ ..‬ع�رشات القرون‬
‫ّ‬
‫‪jhj‬‬ ‫النوعية‪ ،‬وحتقق ما حتقق من �إجنازات‬ ‫ّ‬ ‫تلك النقلة‬
‫ِ‬
‫منحت‬ ‫ال�صينية‪،‬‬ ‫�شجرة (النارجيل) جوز الهند‬ ‫فوق جبال �أ�سطورية من اجلثث والأ�شالء‪،‬‬
‫ّ‬
‫الربكانية‪ ،‬الربكة واجلمال‪ ،‬ومنحتها‬ ‫هذه البالد‬ ‫والكراهيات‪ ،‬وما ال يح�صى من الآالم‬
‫ّ‬ ‫ال�ضغائن‬
‫ّ‬
‫املنافع املتعددة الأغرا�ض واال�ستعماالت ‪..‬‬ ‫واالقتالعات‪..‬‬
‫حملت يف ج�سدك الر�شيق الذي يتمايل يف‬ ‫ِ‬ ‫�أما �آن الأوان �إىل نوع من الرجوع �إىل ال�شجر؟ لعله‬
‫الريح واملطر‪ ،‬ك�أجمل ما يكون عليه َه َيف قوم‬ ‫والروحية‬
‫ّ‬ ‫اجلمالية‬
‫ّ‬ ‫يخبئ من الأ�رسار والكنوز‬
‫ر�ضي مت�ص ًال‬ ‫ما ا�ستنزفه الإن�سان و�أهدره على مذابح الرغبة‬
‫وا�ستدارة نهد‪ ،‬فكان اجلمال الأ ّ‬
‫ب�أقوى �آ�رصة برحابة املطلق‪ ،‬بلطائفه و�أ�رساره‪..‬‬ ‫االفرتا�سية والطموح والإبادات‪ ...‬الرجوع �إىل‬ ‫ّ‬
‫ال�شعوب التي تنا�سلت حتت ظالل غاباتك‬ ‫�أعطيت‬ ‫ال�شجر‪� ،‬إىل املنابع الأوىل ال�صافية النقية‪� ،‬إىل‬
‫َ‬
‫اخل�صيبة‪ ،‬الت�أم َل والت�سامح والأثرة التي ُعرف‬ ‫تو�سعت وتعمقت يف املكان‬ ‫ما قبل املجزرة التي ّ‬
‫روحيون على هذه الأر�ض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بها مفكرون وقادة‬ ‫والزمان‪ ،‬رمبا مل يكرب ويتعاظم غريها‪� ،‬إذ‬
‫والروحية التي ال تحُ �صى‪..‬‬
‫ّ‬ ‫املادية‬
‫ّ‬ ‫وهبت املنافع‬ ‫ُ�س ِّخرت كل الأدوات واملكا�سب لإجنازها ب�رضاوة‬
‫ال�صينية‪ ،‬ت�شبهني النخيل يف‬ ‫ّ‬ ‫�إنك يا جوزة الهند‬ ‫الب�رشي‬
‫ّ‬ ‫ت�صفوية‪ ...‬وال نهاية تلوح يف هذا الأفق‬ ‫ّ‬
‫�شجرية‬
‫ّ‬ ‫تلك البالد‪ ،‬ولأنكما تنحدران من عائلة‬ ‫اجلهم‪� ..‬أم �أن ذلك احللم بالعودة نوع من �سذاجة‬ ‫ْ‬
‫واحدة جادت بها الطبيعة الأم عرب الأزمان‬ ‫فادحة ال يليق حتى بطرحها بعد �أن جربها‬
‫والأمكنة املختلفة‪ ..‬ت�شبهني النخيل بهباته‬ ‫كثريون وارتطموا بال�سور واحلائط واجلدار‪� ..‬أما‬
‫وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف احلداثة‬ ‫زال هناك خيط رجاء وخال�ص؟ �أم �أن الدائرة‬
‫الهمجية التي ُولدت عمياء ومدقعة‪ ،‬ت�شبهني ذلك‬ ‫ّ‬ ‫أحكمت قب�ضتها على ال�شجر والب�رش‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اجلهنمية �‬
‫ّ‬
‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وهناك حيوانات �أخرى وطيور ت�ستكمل حلقات‬ ‫ال�س�ؤدد التليد وروحه التي �أو�شكت على الغياب‬
‫اقتلعت حيواناته من رحابة‬
‫ْ‬ ‫هذا ال�سريك الذي‬ ‫واالنقرا�ض‪..‬‬
‫الالنهائي احلنون‪ ،‬لي�ؤثث هذه املهزلة الباكية‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫يا غيوم ًا قادمة من خلف جبال الغابات‪،‬‬


‫‪jhj‬‬

‫قدمت �أيها الطائر الذي حط على‬ ‫من �أي الأ�صقاع‬ ‫حبة‬


‫َ‬ ‫ابعثي ب�ش�آبيب غيثك املنهمر‪� ،‬إىل �أر�ض الأ ّ‬
‫نافذتي‬ ‫الغائبني‪ ،‬التي �أنهكها املح ُل واجلفاف‪.‬‬
‫يف َج َذل وحبور‬
‫‪jhj‬‬
‫من �أي الأحقاب وال�سنني؟‬
‫رق‬‫كنت م�ست�سلم ًا لبط�ش الليل والأ ْ‬
‫ُ‬ ‫كان ي�صعد تالل رعبه �أيام ًا و�سنني‪ ،‬مع �أطفاله‬
‫حتى مقدمك امليمون‬ ‫وقطيعه‪ ،‬الهث ًا من غار‪� ،‬إىل كهف‪..‬‬
‫الذي جعل اجلهات‬ ‫والنهب‪ ،‬فلم يعد‬
‫ْ‬ ‫يد االبادة‬
‫�أما الآن ‪ ،‬وقد طالته ُ‬
‫ترق�ص يف ن�شوة وجنون‬ ‫احلرث والن�س ُل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الراعي خائفا كما كان‪ ...‬لقد هلك‬
‫الربانية‬
‫ّ‬ ‫وجعلني يف مقام احل�رضة‬ ‫حبة الهالكني‪..‬‬
‫وها هو ينتظر اللحاق بالأ ّ‬
‫والإ�رشاق‪.‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬
‫يف �سماء �آ�سيا يحلب البوذا‪ ،‬بقرات ِه ال�سمان‬
‫املنفيني يف‬
‫ّ‬ ‫كان يو�شك �أن يكتب‪ ،‬عن �أولئك‬ ‫جنمية �إىل‬ ‫طعام ًا للفقراء‪ ،‬ويقفز النمر من تلة‬
‫ّ‬
‫بلدانهم‪ ،‬ظِ اللهم التي تعانق جدران الليل‪..‬‬ ‫�أخرى‬
‫كان يحاول �أن يكتب عن �أولئك الذين اختفوا يف‬ ‫ال�صياد‪.‬‬ ‫هرب ًا من �سطوة‬
‫ّ‬
‫الهاويات ِ‬
‫وال�شعاب‪ ،‬التي ُولدوا فيها‪ ،‬ومل يرتكوا‬
‫‪jhj‬‬
‫مه�شمة تناو�شها الكالب‪..‬‬
‫�أثراً‪ ،‬عدا هياكل ّ‬
‫كان يحاول �أن ي�ستدعي زفرة املتح�رض‪ ،‬وحيداً‪،‬‬ ‫املدربون على رق�صة ال�سامبا‪ ،‬بحكم‬
‫�أفيال يدربها ّ‬
‫الع َوز واملوت‪..‬‬
‫بني جبال َ‬ ‫ال�سياح‪ ،‬وثمة بحريات‬
‫�شهرتها يف �إر�ضاء ف�ضول ّ‬
‫كان يحاول �أن ير�صد حلظ َة �سقوط الطائر‪ ،‬من‬ ‫ومتا�سيح ترق�ص هي الأخرى بر�ؤو�س منكوبة‪..‬‬
‫علياء �سمائه‪� ،‬إىل م�ستنقع النفايات واجلذام‪..‬‬ ‫كوميدية‪ ،‬م�صطنعة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ِقردة تتقافز بحركات‬

‫�سيف الرحبي‬

‫‪11‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ُأبيدوا بق�سوة املعرفة‬ ‫�شيوخ �أوروبا‬


‫الأفق �شا�سع وعميق‬ ‫واحلرية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫الزمن‬
‫ُ‬ ‫ه�ؤالء الذين �أنهكهم‬
‫ووجوه املوتى‬ ‫يحت�سون اخلمور الثقيل َة‬
‫ينبعث رفاتها يف املغيب‪..‬‬ ‫ويفرت�سون اللحوم‬
‫‪jhj‬‬
‫الغابي‬
‫ّ‬ ‫يف ظالل الفندق‬
‫رجال ال�رشق‪..‬‬
‫ُ‬
‫يحدق يف ال�شا�شة الزرقاء‪:‬‬
‫البدوي ّ‬
‫ّ‬ ‫�صلف القادة‬
‫ُ‬ ‫الذين �أنهكهم‬
‫ثمة �أمطار على غري العادة يف ال�صحراء‪ ،‬تكت�سح‬
‫العبودية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫و�أثقال‬
‫التخوم‪ ،‬تبعرث الأ�شجار القليلة‪� ،‬أمطار م�صحوبة‬
‫الرملية ا�ستغلّت‬
‫ّ‬ ‫بالرياح‪ ..‬ال بد �أن اجلبال‬ ‫‪jhj‬‬

‫وزحفت �ضاحك ًة باجتاه الأكوام‬‫ْ‬ ‫املنا�سبة‬ ‫�سقطت‬


‫ْ‬ ‫النظر يف �أرجاء املكان الذي طاملا‬
‫َ‬ ‫يحي ُل‬
‫عيت مدنية‪..‬‬
‫احلجرية التي ُد ْ‬
‫ّ‬ ‫ال�شهب مثل عيون الثعالب يف غزوتها‬ ‫على �أدميه ُ‬
‫ح�رشات ال�صيف تطري من مراقدها يف الف�ضاء‬ ‫الليلية‪ ،‬يتبع الراعي والقطيع‪..‬‬
‫ّ‬
‫احلر‪ ،‬حيث الأطفال يعانقون ما�ضي اليمام‬ ‫«ال�سمر»‪ ،‬ما تبقى‪ ،‬ينازل‬
‫وحده جذع �شجرة ُ‬
‫الربي وما�ضي الأ�سالف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرملية‪ ،‬وحيداً يقاتل �ضد الب�رش‬‫ّ‬ ‫الرياح‬
‫َ‬
‫‪jhj‬‬
‫املم�سوخني والتدمري‪..‬‬

‫على ال�سفوح التي �أبحر النخ ُل يف ليلها املحت�شد‬ ‫‪jhj‬‬

‫العباب‪..‬‬
‫مثل �سفن متخر ُ‬ ‫(دع املقادير جتري يف �أعن ِّتها)‬
‫الأطفال الذين مل ي�شهدوا منذ والدتهم �أمطارا‪ ،‬ها‬ ‫م�ضطرب بالكوابي�س‬
‫ٍ‬ ‫تنامن �إال يف بحر‬
‫َّ‬ ‫وال‬
‫وال�سحنات‪.‬‬
‫هي النعم ُة تغمر الأفالج اجلا ّفة ُ‬ ‫واحليتان‪..‬‬
‫ثمة �أمل ‪� ،‬شعاع �أمل‪( ،‬داء الأمل) ثمة وعد بحياة‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬
‫يلوح امل�سافرون ب�أيديهم ال�شاحبة‬
‫حتط رحالهم العتيق ُة‬‫ال تكاد ّ‬ ‫عرب املوانئ واملطارات‬
‫�إ ّال ويرحلون‬ ‫جل ُزر والغابات‬
‫يقر�أون خرائط ا ُ‬
‫ٍ‬
‫جهات جمهولة غالب ًا‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫خبار الطق�س وخالئق امل�ستنقعات‪..‬‬
‫�أ َ‬
‫الربق مبعرثاً �أنحاءها يف‬ ‫ُ‬ ‫جهات ي�شطرها‬ ‫ينتظرون املفاجئ الراب�ض يف �أخدود �أو عرب‬
‫الإع�صار‬ ‫رملي يطل على بحر‬ ‫ّ‬ ‫منحدر‬
‫الرملي من جهة ال�رشق‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي يقذف لهبه‬ ‫�صليون وقد‬
‫ال�سكان الأ ّ‬
‫ُ‬ ‫يف متائم و ُلقى يعلّقها‬
‫‪6‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املتاخم ملوج املحيط ومت�ضي �إىل الفندق‬ ‫ال تكاد رواحلهم تنزل املكان‪ ،‬قري ًة �أو مدين ًة‪،‬‬
‫ال�صغري املحاط بالأ�سماك والنجوم‪ ..‬املر�أة التي‬ ‫�شق حفرة حفرها الأزل يف خا�رصة‬ ‫َّ‬
‫حياتها مع الوحدة يف املقاهي‪ ،‬والكالب‪..‬‬ ‫اجلبل النائي‪ ..‬ال يكاد حفيف الأ�شجار‬
‫ي�ستيقظ الرجل الهاذي من غيبوبته ويقول‪:‬‬ ‫املتعبة‪ ،‬ال يكادون ي�سمعون‬ ‫َ‬ ‫يالم�س �أج�سادهم‬
‫بالفعل ما �أجمل احلياة بني �أنا�س يقت�سمون ذات‬ ‫كالب‬
‫�صوت البلبل �أو نعيق الغراب خمتلط ًا بنباح ٍ‬ ‫َ‬
‫امل�صري‪..‬‬ ‫تر�صد الفجر يف انبالجه الأول‪� ،‬إال وتقذفهم‬
‫‪jhj‬‬ ‫ال�صدفة �إىل مطارح �أخرى‪ ،‬ال يكاد ُي�سمع فيها‬
‫�صياح ديك ٍة �أو �شحيج حما ٍر تائه يف الرباري‬
‫ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا من غار اجلبل‬
‫الغابي‪..‬‬ ‫حجري‬
‫ّ‬ ‫�سهم‬
‫املوح�شة‪ ،‬الرباري التي �شهدت �أول ٍ‬
‫ّ‬ ‫يقذفه قابيل يف �سويداء قلب �أخيه‬
‫�أو معب ٍد �صغري على قارعة طريق‬
‫ي�سدون الآفاق مثل‬ ‫وتبد�أ الكارثة‪..‬‬
‫حيث الثك�إىل واملحرومون ّ‬
‫دخان متزقه ريح‪ ،‬حيث احلروب تبقر �أح�شاء‬ ‫‪jhj‬‬

‫اخلليقة‪ ،‬حروب الأعداء ‪ ،‬حروب االخوة الأعداء‪،‬‬ ‫ذات مرة‪ ،‬وكل مرة‪:‬‬‫يخاطب نف�سه َ‬
‫حروب الأج ّنة يف رحم الأمهات‪ ،‬حروب الأوبئة‬ ‫ما الذي يجعلني مقيم ًا يف هذه البلدة دون الأخرى؟‬
‫القدي�سني والعاهرات‪،‬‬‫ّ‬ ‫والفي�ضانات‪ ،‬حروب‬ ‫ما الذي يجمعني بهذه الأقوام املنتفخة بالآمال‬
‫اجلرثومية ال‬
‫ّ‬ ‫ال�سيارة والأ�سلحة‬
‫حروب الكواكب ّ‬ ‫الوهمية‪� ،‬أنا الهالك املنبوذ‬ ‫وال�شعارات والأ�سماء‬
‫ّ‬
‫ُتبقي وال تذر‪ .‬حروب البع�ض على البع�ض والكل‬ ‫والغريق؟ حياتي التي م�ضت على هذا الوتر الكا�رس‬
‫على الكل‪ ،‬حروب النخيل �ضد ق�صف العوا�صف‪،‬‬ ‫املدمن غرب ًة بني �أقوام غرباء‪� ..‬أنا الذي ال �أ�ستطيع‬
‫هواج�س االنتقام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والأطفال الذين تنه�شهم‬ ‫�أن �أرى الكائن �أي كائن‪� ،‬أن �أرى �أ َّي ج ْذر يربطه‬
‫ذاهبني �إىل الأ�رضحة واحل َلبات‪..‬‬ ‫املتموج بامل�آ�سي‬ ‫بهذه الأر�ض‪ ،‬هو العابر ب�ساطها‬
‫الطائفيني بعد التب�شري باحلداثة‬ ‫حروب الأدباء‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫واللع َنات‪� ،‬إىل جنة ال�سماء �أو جهنمها الأزيل الأكرث‬
‫َ‬
‫والقانون‪..‬‬
‫مرح ًا من حياة ك�أمنا �إله ال�رش والدم البابلي‬
‫ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا‬
‫(كنجو) تقي�أها يف حلظة غ�ضب وا�ضطراب‪..‬‬
‫املتحجرة يف كهوف الغابات‪ ،‬ت�أمالتك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دموعك‬
‫(ما الذي يجعلني �أمكث يف هذه البقعة؟)‬
‫آ�سيوية‬
‫تعاليمك التي ذهبت �أدراج الرياح ال ّ‬ ‫الغريب‪ ،‬تهذي املر�أ ُة الغريبة حامل ًة‬
‫ُ‬ ‫يهذي الرجل‬
‫والطاعون ‪..‬‬
‫ال�سة الواهن‪ ،‬حاملة بالأرخبيالت‬ ‫بقطع حبل رُّ‬
‫‪jhj‬‬
‫البحرية بني ب�رش ال يعرفون �أ�سماء بع�ضهم‬ ‫ّ‬
‫بالفعل‪ ،‬ما الذي يجعلك ال تغادر‪ ،‬مل تذهب‪ ،‬مل‬ ‫ال�صباحية يف املقهى‬
‫ّ‬ ‫(ي�أخذ ت�أخذ) قهوتها‬
‫‪7‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من �أجل الأطفال اجتمعوا‪ ،‬قاطعني م�سافات‬ ‫ترحل حتى اللحظة؟‪ ..‬يف ثقوب بيتك‪ ،‬يف خالء‬
‫�شا�سعة على طائراتهم اخلا�صة‪ ،‬ال تخلو من‬ ‫الدموية‪ ،‬ع�ش�ش عنكبوت �سام وقتلة‬ ‫ّ‬ ‫الوح�شة‬
‫ومطبات‪..‬‬
‫ّ‬ ‫مو�سمية‬
‫ّ‬ ‫رياح‬ ‫م�أجورون يفتكون بال�صغار والكبار‪ ..‬وعلى‬
‫من �أجل �أطفال العامل اجتمعوا‪ ..‬هكذا‪..‬‬ ‫التحية كل �صباح على م�ستوطنات‬ ‫ّ‬ ‫مقربة‪ ،‬تلقي‬
‫�سوريا برداً وفجيعة‬
‫ّ‬ ‫وعلى مقربة يرجتف �أطفال‬ ‫البومة البكماء و�سط اخلرائب والقاعات‪..‬‬
‫و�أ�شتات ًا‪..‬‬ ‫همومك طاولت اجلبال هام ًة‪ ،‬وفاقت ال�شجر‬
‫�سوريا‪ ،‬دماء �أطفالها التي تلجم القارات بنحيب‬ ‫ّ‬ ‫رق ًة وانك�ساراً‪ ..‬ويف الأودية اجلا ّفة‪ ،‬ح ّلقت طيور‬
‫و�سحب �سوداء ‪ ،‬ثقيلة تطبع �آفاق العرب‬ ‫قادمة من �أزمنة الطوفان‪ ،‬حتمل يف مناقريها‬
‫ال ينقطع‪ُ ،‬‬
‫والب�رشية جمعاء بطابع انحطاطها الأكيد‪..‬‬ ‫اجلثث املتحلّلة يف �سدمي الف�ضاء‪ ،‬الذي داخت‬
‫ّ‬
‫وثمة �أدباء كرث‪ ،‬اجتمعوا يف م�ؤمترات وندوات‪..‬‬ ‫الع َدم‬
‫من هوله الآله ُة وطوح بها �إىل �ضفاف َ‬
‫ناق�شوا ُ�صور اجلمال التي �أجنزها خيال‬ ‫الوح�شي والإبادات‪.‬‬
‫ّ‬
‫حريات التعبري‬‫الأفراد احلر‪ ،‬ومل ين�سوا بالطبع‪ّ ،‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫املقموعة يف دنيا العرب‪ ..‬لكنهم‪ ،‬ومن غري �أ�سف‬ ‫رث الطرق‬‫�سوريا‪ ،‬ما الذي يجعلك ت�سلكني �أك َ‬ ‫يا‬
‫ّ‬
‫رمبا لدى �أ�صحاب احلق والآ�رصة العتيدة‪ ،‬لن‬ ‫الب�رشي يف‬ ‫ال�صنف‬ ‫مر به‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وعورة‪ ،‬من كل ما ّ‬
‫�شكلية على جاري العادة‪ ،‬عن‬ ‫ّ‬ ‫ي�أتوا ولو بكلمة‬ ‫ِ‬
‫منافذك ُ�سدت بدم ال�شهداء‪.‬‬ ‫تاريخه احلزين؟‬
‫تلك التي تدخل �أق�صى النكبات و�أق�ساها‪ ،‬من‬ ‫كربيا�ؤك تطاير بروق ًا تخفق يف �ضفاف الأزل‪،‬‬
‫حر ّيتها وجمالها اللذين �ضاعا يف دهاليز‬ ‫�أجل ِّ‬ ‫�سوريا‪،‬‬ ‫بجديته الثانية‪ ..‬يا‬
‫ّ‬ ‫ليفتتح بها العامل �أ ّ‬
‫والهمجية عقوداً طويل ًة‪ ،‬يخالها الرائي‬
‫ّ‬ ‫الظلمة‬ ‫كنتِ املالذ والنعمة‪ ،‬حتى �أتى التتار احلديث‪،‬‬
‫�أحقاب ًا وقرون ًا‪ ...‬وهي هكذا‪..‬‬ ‫ِ‬
‫فدخلت يف الظالم الغليظ �أيام ًا و�سنني‪ ..‬روحكِ‬
‫‪jhj‬‬ ‫واحلرية‪ ،‬تبحر يف الآماد‬
‫ّ‬ ‫العط�شى �إىل املجد‬
‫والدماء‪ ..‬لقد �أوغلتِ يف الرتحل والبطوالت‪ ،‬من‬
‫�أيها الكتاب‪� ،‬أيها املنقذ من ثقالء الظل‬
‫�أجل طفل يبكي‪ ،‬و�أم تنتحب يف غلواء الظلمة‪ ،‬يف‬
‫احلرة حتى يف‬
‫وامل�صري‪ ...‬متنحني دائما �رشفتك ّ‬ ‫اجلماعية والهذيانات والكوابي�س‪..‬‬
‫ّ‬ ‫زحمة املقابر‬
‫تهب اجلمال يف‬
‫اليومية والرتابة‪ُ ..‬‬
‫ّ‬ ‫العبودية‬
‫ّ‬ ‫قلب‬
‫متنح العطالة الفاتنة‪،‬‬
‫قلب م�شهد القبح الأنيق‪ُ ..‬‬
‫‪jhj‬‬

‫والف�ضاء‬
‫ُ‬ ‫تلك التي يهبها البحر لأ�سماكه الك�سولة‬ ‫بالأم�س اجتمع �أثرياء العرب والعامل‪ ،‬من �أجل‬
‫لطيوره حملِّقة يف �سماوات الن�شوة واخليال‪..‬‬ ‫الأطفال اجتمعوا‪ ..‬ما �أجملهم‪ ،‬لطيفني �أنيقني‬
‫عني نبع و�رصخة مظلوم يف �ضياء الفجر‪..‬‬ ‫ن�سانية والكرم واحلنان ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و�إن�سانيني‪ ،‬منتهى الإ‬
‫وهبت ال�سالفني والالحقني‪� ،‬أيتها املعرفة التي‬
‫َ‬ ‫(�إن�سانيينّ مفرطني يف �إن�سانيتهم)‪..‬‬
‫‪8‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫وع�صية‪ ،‬وهبتهم ح�سن اخلامتة‬ ‫ّ‬ ‫تظ ّل غام�ض ًة‬


‫�سوريا ‪� ..‬سوريا‪َ ،‬خجِ لني منكِ ومن �أنف�سنا‪ ،‬من‬ ‫واالختيار‪ ،‬حتى يف عباب املوج الذي يحمل‬
‫التاريخ وال�ضمري‪َ ،‬خجِ لني من عجزنا‪ ..‬ما الذي‬ ‫املوت والغياب‪ ..‬رق�صة اجلمال يف مر�أى ال�شقاء‬ ‫َ‬
‫ته�شمني ر�أ�س التمثال الذي �صنعته‬ ‫ّ‬ ‫يجعلكِ‬ ‫والهاوية‪ ..‬يا كتاب ًا �أبدعه اجلميع ومل يكتبه �أحد‪،‬‬
‫والعبودية دهراً‪ ،‬التمثال الذي تقي�أ عليه‬ ‫البالد ُة‬ ‫مر‬
‫ظ ّل ممتنع ًا على اال�سم والت�صنيف‪ ،‬على ما ّ‬
‫ّ‬
‫�سكارى مت�رشدون يف �ساحة (عرنو�س) حلظة‬ ‫من �أ�سماء وع ُزالت‪ ،‬تعجز حتى �آلهة الرافدين عن‬
‫ا�سه وهربوا؟‬ ‫الإح�صاء والتدقيق‪..‬‬
‫حر ُ‬
‫نام ّ‬
‫ما الذي جعلك حتطمني ر�أ�س التمثال كي ينفجر‬ ‫الأفق مدلهم والأر�ض يباب‬
‫�رش العامل عليك؟‬ ‫الالنهائي واملجزرة‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫و�أنت وحدك امل�ضيء يف‬
‫ُ‬
‫العار الذي‬ ‫�سوريا‪ ،‬ولهم‬ ‫واخللود يا‬ ‫املجد‬ ‫ِ‬
‫لك‬ ‫املر َهفون �إىل امل�شنقة‬
‫�أيها الكتاب‪ ،‬لوالك لذهب ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لك الورد واجلراح‪،‬‬ ‫زلية‪ِ ،‬‬ ‫بب�صرية كامل ٍة ال لب�س فيها‪ ،‬حلظة الوالدة‪� ،‬أو يف‬
‫ال متحى لطخته الأ ّ‬ ‫هذه اللحظة التي يرف�سون يف �شباكها‪ ،‬يف �شباك‬
‫ولن�سائك النائحات يف ليل احلزن املديد‪ ،‬نور‬
‫هذا امل�ضيق‪..‬‬
‫ال�شهادة والإميان‪.‬‬
‫واحلرية‪،‬‬ ‫ملطف�أة على مذبح الآالم‬ ‫كنتِ الفدية ا ُ‬
‫‪jhj‬‬
‫ّ‬
‫كنتِ الفدية والقربان لألف عام من الكارثة‪،‬‬ ‫روحي تختنق‪� ،‬أيامي خاوية ال قيمة لها‪..‬‬
‫ولأنك مهبط احل�ضارات والأديان‪ ،‬يا بالد‬ ‫ال�شورت‬
‫َ‬ ‫�أيتها املر�أة اجلميلة ‪� ،‬شعر عانتكِ يرفع‬
‫ال�شام والهالل اخل�صيب‪ ،‬قو�س الروح ال�ضارب‬ ‫املخفي ذاك الذي يجعل الر�أ�س‬
‫ِّ‬ ‫كرب‬
‫�إىل �أعلى‪� ،‬أم َ‬
‫يف الأعماق‪ ،‬قو�س العدم الدموي ال�ضارب يف‬ ‫يدور‪ ،‬يف َغ َب�ش الر�ؤيا‪ ،‬ويجعل الكائن يتعثرّ يف‬
‫الهباء‪ ،‬حتت �أ�شجار جنانك التي �ستعود ن�ضرِ ًة‬ ‫خطوه متدحرج ًا �إىل مزلقان الرغبة ال�سحيق؟‬
‫وارف ًة بعد �أن �سقت جذورها و�أغ�صانها دموع‬ ‫‪jhj‬‬

‫�أبنائك �أميا �سقاية وحنان‪..‬‬ ‫منيته‪ ،‬عنقه النحيلة‬


‫�أنظر �إىل عنق الرجل ال�سارح يف ّ‬
‫هذه الكلمات‪ ،‬وكل الكلمات فقرية �إىل جاللكِ‬ ‫دم ّرتها امل�سافة واخل�سارات‪..‬‬
‫بتجاعيد ن�سور ّ‬
‫(�سيدة الكربياء‪ ،‬والأحزان)‬ ‫يا ّ‬ ‫�إنني ذلك الرجل‪ ،‬ذلك ال�شبح الذي ال يعرف �أين‬
‫‪jhj‬‬ ‫مي�ضي‪ ..‬يف ظالم هذه الظهرية‪ ،‬القاتلة‪..‬‬
‫دم�شق‬ ‫‪jhj‬‬

‫الركب يف ذلك الفجر الدامي‪ ،‬غادره‬


‫ُ‬ ‫حني غادرك‬ ‫من�شد ال�ضفادع‬
‫ُ‬
‫احلب والأحالم‪ ،‬غادرته �إراد ُة املحارب ورهافة‬
‫ُ‬ ‫يتلو �سور َته‬
‫ال�شعر‪..‬‬ ‫�سيوي البهيم‬
‫ّ‬ ‫يف الليل الآ‬
‫‪9‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والتخبط يف‬
‫ّ‬ ‫املدوخ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فلي�س ثمة �إال هذا الزوغان‬ ‫بقي هكذا‪ ..‬حفن ُة �شحاذين على �أبواب العامل‬
‫املتاهة التي تتنا�سل �صحارى ومفازات‪..‬‬ ‫يا دم�شق لن تكوين �إال �سيدة م�صريك‪ ،‬مهما تطاول‬
‫‪jhj‬‬
‫�سيدة‬
‫قتلة احلياة‪ ،‬كما كنت منذ بدء اخلليقة‪ّ ،‬‬
‫الكربياء والأحزان‪ ..‬الرم ُز واملجاز واحلقيقة‬
‫ال�شجرة ترخي �أهدابها ‪ ،‬ناع�س ًة‪ ،‬على �أغ�صانها‬
‫املحلقة فوق هياكلك والأ�شجار املحروقة‪.‬‬
‫تغرد الطيور املهاجرة واملقيمة‪ ،‬وحتت ظاللها‬ ‫ّ‬
‫ي�سرتخي �أطفال ون�ساء يداعب الن�سيم الع ْذب‬ ‫‪jhj‬‬

‫رداف واخل�صور كما يف �أحالم مالك‪ ،‬وثمة‬ ‫الأ َ‬ ‫يتحدث عن �رضورة االنتقال يف‬ ‫ّ‬ ‫كان �سقراط‪،‬‬
‫تخ�ضب الأفق من جهة‬ ‫ّ‬ ‫غيوم �شفيفة ناعمة‬ ‫الإ�صغاء �إىل �صوت الب�رش بدل ال�شجر واحلجر‪،‬‬
‫الغابة تن�رش لطائفها على ال�شجرة وخملوقاتها‬ ‫م�شريا �إىل فال�سفة الطبيعة‪ ،‬امل�أ�ساويني الُأ َول‬
‫الهانئة‪..‬‬ ‫ت�رصمت على‬ ‫يف بالد الإغريق‪ ..‬ع�رشات القرون‬
‫ّ‬
‫‪jhj‬‬ ‫النوعية‪ ،‬وحتقق ما حتقق من �إجنازات‬ ‫ّ‬ ‫تلك النقلة‬
‫ِ‬
‫منحت‬ ‫ال�صينية‪،‬‬ ‫�شجرة (النارجيل) جوز الهند‬ ‫فوق جبال �أ�سطورية من اجلثث والأ�شالء‪،‬‬
‫ّ‬
‫الربكانية‪ ،‬الربكة واجلمال‪ ،‬ومنحتها‬ ‫هذه البالد‬ ‫والكراهيات‪ ،‬وما ال يح�صى من الآالم‬
‫ّ‬ ‫ال�ضغائن‬
‫ّ‬
‫املنافع املتعددة الأغرا�ض واال�ستعماالت ‪..‬‬ ‫واالقتالعات‪..‬‬
‫حملت يف ج�سدك الر�شيق الذي يتمايل يف‬ ‫ِ‬ ‫�أما �آن الأوان �إىل نوع من الرجوع �إىل ال�شجر؟ لعله‬
‫الريح واملطر‪ ،‬ك�أجمل ما يكون عليه َه َيف قوم‬ ‫والروحية‬
‫ّ‬ ‫اجلمالية‬
‫ّ‬ ‫يخبئ من الأ�رسار والكنوز‬
‫ر�ضي مت�ص ًال‬ ‫ما ا�ستنزفه الإن�سان و�أهدره على مذابح الرغبة‬
‫وا�ستدارة نهد‪ ،‬فكان اجلمال الأ ّ‬
‫ب�أقوى �آ�رصة برحابة املطلق‪ ،‬بلطائفه و�أ�رساره‪..‬‬ ‫االفرتا�سية والطموح والإبادات‪ ...‬الرجوع �إىل‬ ‫ّ‬
‫ال�شعوب التي تنا�سلت حتت ظالل غاباتك‬ ‫�أعطيت‬ ‫ال�شجر‪� ،‬إىل املنابع الأوىل ال�صافية النقية‪� ،‬إىل‬
‫َ‬
‫اخل�صيبة‪ ،‬الت�أم َل والت�سامح والأثرة التي ُعرف‬ ‫تو�سعت وتعمقت يف املكان‬ ‫ما قبل املجزرة التي ّ‬
‫روحيون على هذه الأر�ض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بها مفكرون وقادة‬ ‫والزمان‪ ،‬رمبا مل يكرب ويتعاظم غريها‪� ،‬إذ‬
‫والروحية التي ال تحُ �صى‪..‬‬
‫ّ‬ ‫املادية‬
‫ّ‬ ‫وهبت املنافع‬ ‫ُ�س ِّخرت كل الأدوات واملكا�سب لإجنازها ب�رضاوة‬
‫ال�صينية‪ ،‬ت�شبهني النخيل يف‬ ‫ّ‬ ‫�إنك يا جوزة الهند‬ ‫الب�رشي‬
‫ّ‬ ‫ت�صفوية‪ ...‬وال نهاية تلوح يف هذا الأفق‬ ‫ّ‬
‫�شجرية‬
‫ّ‬ ‫تلك البالد‪ ،‬ولأنكما تنحدران من عائلة‬ ‫اجلهم‪� ..‬أم �أن ذلك احللم بالعودة نوع من �سذاجة‬ ‫ْ‬
‫واحدة جادت بها الطبيعة الأم عرب الأزمان‬ ‫فادحة ال يليق حتى بطرحها بعد �أن جربها‬
‫والأمكنة املختلفة‪ ..‬ت�شبهني النخيل بهباته‬ ‫كثريون وارتطموا بال�سور واحلائط واجلدار‪� ..‬أما‬
‫وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف احلداثة‬ ‫زال هناك خيط رجاء وخال�ص؟ �أم �أن الدائرة‬
‫الهمجية التي ُولدت عمياء ومدقعة‪ ،‬ت�شبهني ذلك‬ ‫ّ‬ ‫أحكمت قب�ضتها على ال�شجر والب�رش‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اجلهنمية �‬
‫ّ‬
‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وهناك حيوانات �أخرى وطيور ت�ستكمل حلقات‬ ‫ال�س�ؤدد التليد وروحه التي �أو�شكت على الغياب‬
‫اقتلعت حيواناته من رحابة‬
‫ْ‬ ‫هذا ال�سريك الذي‬ ‫واالنقرا�ض‪..‬‬
‫الالنهائي احلنون‪ ،‬لي�ؤثث هذه املهزلة الباكية‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫يا غيوم ًا قادمة من خلف جبال الغابات‪،‬‬


‫‪jhj‬‬

‫قدمت �أيها الطائر الذي حط على‬ ‫من �أي الأ�صقاع‬ ‫حبة‬


‫َ‬ ‫ابعثي ب�ش�آبيب غيثك املنهمر‪� ،‬إىل �أر�ض الأ ّ‬
‫نافذتي‬ ‫الغائبني‪ ،‬التي �أنهكها املح ُل واجلفاف‪.‬‬
‫يف َج َذل وحبور‬
‫‪jhj‬‬
‫من �أي الأحقاب وال�سنني؟‬
‫رق‬‫كنت م�ست�سلم ًا لبط�ش الليل والأ ْ‬
‫ُ‬ ‫كان ي�صعد تالل رعبه �أيام ًا و�سنني‪ ،‬مع �أطفاله‬
‫حتى مقدمك امليمون‬ ‫وقطيعه‪ ،‬الهث ًا من غار‪� ،‬إىل كهف‪..‬‬
‫الذي جعل اجلهات‬ ‫والنهب‪ ،‬فلم يعد‬
‫ْ‬ ‫يد االبادة‬
‫�أما الآن ‪ ،‬وقد طالته ُ‬
‫ترق�ص يف ن�شوة وجنون‬ ‫احلرث والن�س ُل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الراعي خائفا كما كان‪ ...‬لقد هلك‬
‫الربانية‬
‫ّ‬ ‫وجعلني يف مقام احل�رضة‬ ‫حبة الهالكني‪..‬‬
‫وها هو ينتظر اللحاق بالأ ّ‬
‫والإ�رشاق‪.‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬
‫يف �سماء �آ�سيا يحلب البوذا‪ ،‬بقرات ِه ال�سمان‬
‫املنفيني يف‬
‫ّ‬ ‫كان يو�شك �أن يكتب‪ ،‬عن �أولئك‬ ‫جنمية �إىل‬ ‫طعام ًا للفقراء‪ ،‬ويقفز النمر من تلة‬
‫ّ‬
‫بلدانهم‪ ،‬ظِ اللهم التي تعانق جدران الليل‪..‬‬ ‫�أخرى‬
‫كان يحاول �أن يكتب عن �أولئك الذين اختفوا يف‬ ‫ال�صياد‪.‬‬ ‫هرب ًا من �سطوة‬
‫ّ‬
‫الهاويات ِ‬
‫وال�شعاب‪ ،‬التي ُولدوا فيها‪ ،‬ومل يرتكوا‬
‫‪jhj‬‬
‫مه�شمة تناو�شها الكالب‪..‬‬
‫�أثراً‪ ،‬عدا هياكل ّ‬
‫كان يحاول �أن ي�ستدعي زفرة املتح�رض‪ ،‬وحيداً‪،‬‬ ‫املدربون على رق�صة ال�سامبا‪ ،‬بحكم‬
‫�أفيال يدربها ّ‬
‫الع َوز واملوت‪..‬‬
‫بني جبال َ‬ ‫ال�سياح‪ ،‬وثمة بحريات‬
‫�شهرتها يف �إر�ضاء ف�ضول ّ‬
‫كان يحاول �أن ير�صد حلظ َة �سقوط الطائر‪ ،‬من‬ ‫ومتا�سيح ترق�ص هي الأخرى بر�ؤو�س منكوبة‪..‬‬
‫علياء �سمائه‪� ،‬إىل م�ستنقع النفايات واجلذام‪..‬‬ ‫كوميدية‪ ،‬م�صطنعة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ِقردة تتقافز بحركات‬

‫�سيف الرحبي‬

‫‪11‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫كتابات‬

‫‪12‬‬
‫البالد ال�سعيدة ‪..‬‬
‫قـ ـ ــراءة فـ ـ ــي تدوينـ ـ ــات‬
‫برترام توما�س املو�سيقية‬
‫م�سلم �أحمد الكثريي‬
‫مو�سيقي وباحث من ُعمان‬

‫كان الكابنت توما�س �أول غربي‬ ‫التمهيد‬


‫يخرتق جانبا من �صحراء الربع‬ ‫مثّل الربع اخلايل وحياة �سكانه‬
‫اخلايل انطالقا من مدينة �صاللة‬
‫بحماية وم�ساعدة البدو �سكان‬ ‫البقعة الأكرث �إثارة للمكت�شفني‬
‫�أطرافه اجلنوبية من القبائل‬ ‫الغربيني يف اجلزيرة العربية منذ‬
‫الكثريية وخا�صة الرا�شدي وبيت‬ ‫الن�صف الأول من القرن الع�رشين‬
‫علي بن كثري‪ ،‬وكان على ر�أ�سهم‬
‫على الأقل‪ ،‬وب�سبب عالقات‬
‫ال�شيخ �صالح بن كلوت وهو الرجل‬
‫الذي اعتمد عليه الكابنت توما�س‬ ‫الربيطانيني مع الدول القائمة وهمتهم‬
‫يف قيادة وحماية قافلته يف منطقة‬ ‫العالية كان جميع رواد الربع اخلايل‬
‫ت�شوبها نزاعات الث�أر والنهب‪ ،‬وقد‬ ‫من غري �سكانه الأ�صليني من اجلن�سية‬
‫كان ال�شيخ �صالح بن كلوت مرتددا‬
‫الربيطانية وهم على التوايل‪ :‬برترام‬
‫يف املوافقة على حتقيق رغبات‬
‫عب له عن‬‫الكابنت توما�س عندما رّ‬ ‫توما�س ‪ ،1930‬وجون فيليبي عام‬
‫طموحه �أن تكون نهاية القافلة‬ ‫‪ ،1930‬وولفرد ثي�سجر ‪.1947‬‬

‫‪13‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كانت هذه بع�ض املالحظات ال�شكلية العابرة مقدمة‬ ‫�أبعد من منطقة نفوذ الرا�شدي‪ ،‬ولكن‬
‫�إىل التنويه بالأهمية الثقافية واملو�سيقية لكتاب‬ ‫�إ�رصار الكابنت دفع ال�شيخ �إىل املجازفة‬
‫برترام توما�س وقد جاءا هذا املقال املتوا�ضع‬ ‫معتمدا على عالقاته بالقبائل املختلفة‬
‫تعبريا وتقديرا م ّنا جتاه هذا العمل الهام واجلهد‬ ‫مرة التي كانت‬ ‫وخا�صة مع قبيلة بني ّ‬
‫الذي بذله يف ر�صد ما يقع �أمام عينيه وما ي�صل‬ ‫موافقتها وحمايتها للقافلة عندما تخرتق‬
‫دونها‬‫�إىل �إذنيه من حكايات و�أ�شعار‪ ،‬و�أحلان ّ‬ ‫�أرا�ضيهم �أمرا �أ�سا�سيا ل�سالمتها وو�صولها‬
‫الكاتب بالنوتة املو�سيقية الأوروبية ح�سب ما‬ ‫�إىل مق�صدها يف قطر �شماال‪ ،‬لذلك ا�ستعان‬
‫ت�سمح تقنياتها مع تلك الأحلان العربية البدوية �أو‬ ‫ال�شيخ �صالح ب�صهره ال�شيخ حمد بن هادي‬
‫اجلبالية �أو احل�رضية‪.‬‬ ‫مرة لهذا الغر�ض كدليل للقافلة‬ ‫من بني ّ‬
‫ويف هذه املنا�سبة جتدر بنا الإ�شارة �إىل �أن مقالنا‬ ‫وربيعها من دكاكة عرب �أرا�ضي قبيلته‪.‬‬
‫هذا يف ظل غياب ت�سجيل �سمعي لتلك التدوينات‬ ‫وبهذه املنا�سبة نود الإ�شارة �إىل �أننا نعتمد يف‬
‫القدمية ال ميكن �أن ي�أخذ �شكله النهائي كتحقيق‬ ‫مقالنا هذا على الن�سخة املرتجمة للعربية حتت‬
‫�إال بعد مراجعة الن�سخة الأ�صلية باللغة االجنليزية‬ ‫عنوان‪« :‬البالد ال�سعيدة» ترجمة‪.‬حممد �أمني عبداهلل‬
‫ومتابعة الأحلان والأ�شعار والق�ص�ص الواردة يف‬ ‫�إ�صدار وزارة الرتاث والثقافة‪ ،‬وتاريخ ن�رش الن�سخة‬
‫الكتاب بدرا�سة ميدانية مقارنة‪ ،‬ذلك �أن الكاتب قد‬ ‫الرتجمة ‪1984‬؛ ومن املالحظ �أن الكتاب املرتجم‬
‫�سجل العديد من احلكايات املحلية �أو عن ال�سرية‬ ‫قد خال من �أي �إ�شارة تدل على اعتماده على ن�سخة‬
‫الهاللية كان يرويها البدو املرافقون له للت�سلية‪،‬‬ ‫من�شورة �سابقا باللغة الإجنليزية‪ ،‬ولكن حل�سن‬
‫كما �أن الن�صو�ص ال�شعرية التي جرى ترجمتها عن‬ ‫حظنا وجدنا �أن ولفرد ثي�سجر قد �أ�شار يف كتابه‬
‫الن�ص الإجنليزي �أخذت �شكال ثالثا بعد �إعادتها‬ ‫« الرمال العربية» �إىل �أنه �أطلع عليها قبل ‪� 15‬سنة‬
‫بهذه العملية �إىل العربية‪ .‬من جهة �أخرى كان‬ ‫اثناء رحلته يف املنطقة �أي �أن الكتاب كان من�شورا‬
‫املرتجم ي�صطدم بخ�صو�صية الثقافة املو�سيقية‬ ‫باللغة االجنليزية منذ‪.1932‬‬
‫املحلية فيلج�أ �إىل تعميم �أ�سماء �شائعة يف‬ ‫للأ�سف هذا الكتاب « البالد ال�سعيدة» يف �صورته‬
‫املو�سيقى العربية مثل «مواويل» غري املعروفة يف‬ ‫العربية لي�س �سعيدا مبا يكفي حيث يحتوي على‬
‫تلك املنطقة ونعتقد �أنها مل ترد يف الن�سخة الأ�صلية‬ ‫عيوب منهجية كثرية تت�صل �أغلبها بالن�رش من‬
‫الإجنليزية‪ .‬فربترام توما�س يحمل ثقافة مو�سيقية‬ ‫ذلك مثال‪ :‬عدم وجود مقدمة للمرتجم �أو تعليقات‬
‫عب عن ذلك باهتمامه الوا�ضح‬ ‫�أوروبية ممتازة رّ‬ ‫�أو حتقيق �أو فهر�س با�ستثناء الف�صول وال�صور‬
‫بالغناء وتدوين الأحلان التي �سمعها من الأفراد‬ ‫والر�سوم‪ ..‬ويتكون الإ�صدار من جزءين احتوى‬
‫واملجموعات التي التقى بها‪ ،‬و�سجل �أ�سماء �أمناطها‬ ‫الأول على ع�رشين ف�صال �أما امللحق وهو اجلزء‬
‫وو�صف وظائفها وحر�ص على ن�رش تلك البيانات‬ ‫الثاين؛ فقد ت�ضمن �أربعة مو�ضوعات م�صنفة ح�سب‬
‫مع النوتات املو�سيقية التي �أعدها الأمر الذي مل‬ ‫العينات املادية والبيانات غري املادية التي جمعها‬
‫جند لها ح�ضورا يف الن�ص العربي بال�صفة التي‬ ‫الكاتب ومت �إعداد تقارير علمية من قبل خمت�صني‬
‫ظهرت فيه مع النوت املو�سيقية يف امللحق الرابع ‪.‬‬ ‫عن ثالثة منها فقط فيما امللحق الرابع وكان‬
‫من الوا�ضح �أن اهتمام الكابنت توما�س الأ�سا�سي كان‬ ‫عنوانه «الأغاين العربية» خالء من �أي تقرير حتليلي‬
‫«احل�صول على مقا�سات جلمجمة الإن�سان العربي»‬ ‫وت�ضمن ‪ 25‬نوتة مو�سيقية‪.‬‬
‫‪14‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫( اجلنبة )‪ ،‬ومدينة �صاللة‪ ،‬وجبل القرا‪ ،‬والرمال (‬ ‫«بغر�ض درا�سة �ساللة عرب اجلنوب‪ ،‬واكت�شاف‬
‫الربع اخلايل )؛ �إال �أننا �سوف نتناولها معا ح�سب‬ ‫جيولوجية هذه املنطقة املجهولة للأوروبيني‬
‫�سري العمل يف هذا املقال واحتياجاته‪ .‬ومن‬ ‫و�أنواع احلياة فيها احليوانية والب�رشية وعاداتهم‬
‫النوت املو�سيقية التي دونها الكاتب‬
‫املالحظ �أن ّ‬ ‫اللغوية و�سلوكهم وتقاليدهم وطريقة حياتهم؛ وقد‬
‫يف املنطقة ال�رشقية وت�ضمنها امللحق الرابع مل يتم‬ ‫قام بجمع عينات كثرية من �أنواع احليوانات والطيور‬
‫الإ�شارة �إليها يف ن�ص الكتاب الذي خالء �أي�ضا من‬ ‫واحل�رشات و�سجل انطباعات هامة عن الطبيعة‬
‫�أي و�صف لهذا املنطقة وعن رحلته الربية الأوىل‬ ‫وا�ساليب حياة �سكانها االجتماعية والثقافية‪.‬‬
‫�إىل ظفار يف �شتاء ‪ 1927‬ـ ‪ 1928‬التي اجتاز‬ ‫وعلى هذا ال�صعيد نرى من الأهمية الت�أكيد ب�أن‬
‫فيها بوا�سطة اجلمال حوايل ‪ 600‬ميل عرب احلدود‬ ‫توما�س اجنز عمال ميدانيا كبريا يف كتابه البالد‬
‫اجلنوبية املطلة على املحيط الهندي‪.‬‬ ‫ال�سعيدة نتمنى من اجلهات املخت�صة �إعادة طباعته‬
‫وحتقيقه والتعليق عليه‪ ،‬ذلك �أن الكتاب على �أهميته‬
‫حدود العامل ! توما�س يف جبل القرا‬ ‫تنق�صه العديد من املعلومات واحلقائق التاريخية‬
‫ا�ستغل الكاتب ت�أخر و�صول مرافقيه الروا�شد الذين‬ ‫واالجتماعية والثقافية عن املجتمع يف ظفار‪،‬‬
‫توجهوا ال�ستطالع البادية و�إعداد القافلة وقام يف‬ ‫وبع�ض ا�ستنتاجات الكاتب و�آرائه مثرية للجدل‬
‫�أكتوبر ‪1929‬بجولة �شملت بع�ض مرتفعات جبال‬ ‫خا�صة تلك املتعلقة باجلن�س العربي اجلنوبي‪،‬‬
‫غي ر�أيه ب�ش�أن ت�سمية‬
‫القرا‪ ،‬وهنا يبدو �أن توما�س رّ‬ ‫�أو �أنها خمالفة للواقع مثل‪ :‬ق�صة على �ضبعان‬
‫البالد ال�سعيدة التي و�صفها يف مقدمة كتابه �أنها‬ ‫اخليالية من وجهة نظرنا الذي قتل خم�سني �شخ�صا!‬
‫من املفارقات « �أن يطلق هذا التعبري على منطقة‬ ‫وهو عدد ميثل قبيلة كاملة يف ذلك الوقت‪� ،‬أو كما‬
‫من الأر�ض تكرث بها ال�صحراء املقفرة التي يت�صارع‬ ‫اجلبالية «ال يباح لها طهي الطعام»‬‫يقول‪� :‬أن املر�أة ّ‬
‫ان�سانها منذ فجر التاريخ �ضد عوامل الطبيعة»‬ ‫وغري ذلك من املالحظات الغريبة ! وعلى كل حال‬
‫القا�سية‪ .‬فعندما وقف على مرتفعات جبال القرا التي‬ ‫فربترام توما�س وغريه من االنرثوبولوجيني نقلوا‬
‫تطل على املحيط الهندي كتب قائال‪� :‬إذا كانت هناك‬ ‫لنا �صورة رائعة عن‬
‫الظروف االجتماعية‬
‫ال�سائدة عرب م�شاهداتهم‬
‫وانطباعاتهم املتنوعة‬
‫وهي يف احلقيقة ال‬
‫ت�صلح فقط لالهتمام‬
‫العلمي ال�رصف بل‬
‫والفني والأدبي �أي�ضا‪.‬‬
‫ورغم �أن التدوينات‬
‫املو�سيقية تنتمي �إىل‬
‫�أربعة مواقع جغرافية‬
‫واجتماعية خمتلفة‬
‫هي‪ :‬املنطقة ال�رشقية‬
‫‪15‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مو�ضوعات اجتماعية �أخرى تتعلق باحلياة‬ ‫منطقة يف �شبة اجلزيرة العربية ت�صدق عليها هذه‬
‫املعا�رصة وهمومها‪ .‬وبالفعل وبعد مقارنة الو�صف‬ ‫الت�سمية ـ �إذا ا�ستثنينا اليمن ب�أجمادها التاريخية ـ‬
‫مع التدوينات املو�سيقية نتعرف ب�شكل دقيق على‬ ‫فهي بحق املنطقة التي ت�سمى ظفار والتي ت�شكل يف‬
‫املنا�سبة التي �سجل فيها منطيني غنائيني هما‪:‬‬ ‫جمموعها خميلة من الغابات اخل�رضاء التي تفرت�ش‬
‫دانا دون ( بالعربية املهرية)‪ ،‬وامل�شعري بالعربية‬ ‫املرتفعات اجلبلية املطلة على البحر واجلداول‬
‫ال�شحرية �سنتعرف عليهما �أكرث يف اجلزء املخ�ص�ص‬ ‫الرقراقة واحلقول ال�سند�سية‪ ،‬وال�سهول التي تر�صع‬
‫النوت املو�سيقية‪.‬‬
‫لتحليل َ‬ ‫�أدميها الأ�شجار والنباتات والأع�شاب‪ ..‬ويف هذه‬
‫البالد ـ كما جاء يف كتاب التكوين ـ ح ّدد اهلل حدود‬
‫اختبار القوة !‬ ‫العامل ذاكرا �أنها تبد�أ �رشقا من جبل �سفار»‪.‬‬
‫يرى الكاتب �أن ختان الذكور «من العادات ذات‬ ‫�سجل الكاتب العديد من املعتقدات التي كانت‬
‫الأهمية البالغة»‪ ،‬وتتم عند بلوغ �سن احللم‪ ،‬وهذه‬ ‫�شائعة بني �سكان جبل القرا‪ ،‬وكان يف طريقه �إليها‬
‫العملية يرى �أنها ت�شبه تلك املتبعة يف م�رص‬ ‫من مدينة �صاللة قد وثق العديد من امل�شاهدات‬
‫القدمية كما ثبت من املومياء التي مت اكت�شافها‪.‬‬ ‫الأثرية املادية والكتابات القدمية التي نقل بع�ضها‬
‫وي�صور الكاتب هذا االحتفال بقوله‪« :‬ت�صاحب‬ ‫�أو �أخذ �صورا �ضوئية عنها لدرجة �أنه يخيل �إلينا‬
‫عملية اخلتان احتفاالت كبرية؛ فتتجمع �أعداد من‬ ‫لكرثتها وك�أنه مي�شي على منطقة لي�س بها �سوى‬
‫ال�صبية يف املكان الذي تتم فيها عملية اخلتان‪،‬‬ ‫الآثار‪ ،‬غري �أن هذه اجلوانب على �أهميتها لن ن�شغل‬
‫كما �أن اخلتان يعترب اختبارا لقوة احتمال ال�شباب‬ ‫مقالنا هذا ب�أمرها حيث ين�صب اهتمامنا على‬
‫ورجولتهم‪ ..‬ويح�رض االحتفال الذي يقام بهذه‬ ‫املمار�سات املو�سيقية وما يت�صل بها من مظاهر‬
‫املنا�سبة كل من الرجال والن�ساء يف منطقة‬ ‫ومقارنتها لال�ستدالل بالتدوينات املو�سيقية‬
‫مك�شوفة في�ؤتى بال�شاب الذي يراد ختانه ويجل�س‬ ‫الواردة يف الكتاب؛ فيذكر الكابنت توما�س �أنه �شاهد‬
‫على �صخرة ويحمل �سيفا حاد ال�شفرة بيده خ�ص�ص‬ ‫من فوق قمة اجلبل جماعة ال�شيخ ح�سن (مرافقه من‬
‫لهذه املنا�سبة‪ ،‬ويقوم ال�شاب بقذف ال�سيف �إىل‬ ‫القرا) « وكانوا ين�شدون �أغانيهم اجلبلية‪ ،‬وقد جتمع‬
‫�أعلى ثم يلتقطه بحيث تلم�س راحته حد ال�سيف‪ ،‬ثم‬ ‫بع�ض الرفاق ال�ستقبال جماعتهم و�أخذوا يلوحون‬
‫ي�أتي اخلاتن ويجل�س �إىل جانب ال�شاب بينما تقف‬ ‫بال�سيف كنوع من الرتحيب بهم‪ ،‬و�أخذت بقية‬
‫خلف اخلاتن فتاة عذراء حمجبة وتكون عادة �إحدى‬ ‫املجموعة تتجمع حول زعيم القبيلة الذي كان يتلوا‬
‫قريبات ال�شاب �أو �أخته ويف يدها �سيف وت�أخذ‬ ‫�شعارات كلها متجيد لأبطالهم كما وقفوا �صفوفا‬
‫الفتاة تلوح بال�سيف مينة وي�رسة وت�رضب به على‬ ‫و�أخذوا ين�شدون �أغاين �أخرى بينما كان البع�ض‬
‫راحتها وهذه العملية تعترب متهيدا لعملية اخلتان‪،‬‬ ‫الآخر يرد عليها بنف�س الطريقة‪..‬و�أخذوا يرددون‬
‫ثم يجل�س ال�شاب ويرفع يده الي�رسى �إىل �أعلى‬ ‫�أغانيهم اجلبلية باللهجة املهرية وذلك على عك�س‬
‫انتظاراً لإجراء العملية ومبجرد انتهائها يتعني‬ ‫�أغاين احلب التي يغنونها باللهجة ال�شحرية»‪.‬‬
‫عليه �أن ينه�ض ويدور حول اجلمع ويرفع �سيفه‬ ‫يف الواقع هذا و�صف دقيق للمظاهر االجتماعية‬
‫ويخف�ضه بطريقة ال يظهر منها �أنه ي�شعر ب�أي �أمل‪،‬‬ ‫والثقافية ال يزال جانب كبري منها ميار�س حتى‬
‫وبهذا اال�ستعرا�ض يثبت ال�شاب رجولته‪ ،‬ويف تلك‬ ‫اليوم و�إن كان االهتمام ب�ش�ؤون القبيلة اليوم قد‬
‫املنا�سبة تقوم الن�ساء ب�إن�شاد الأغاين وقرع الطبول‬ ‫تراجع �إ�شعاعه يف مثل هذه الأغاين على ح�ساب‬
‫‪16‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫الأقطار العربية ال�شمالية كالعراق والأردن �أو �شمال‬ ‫كما تقمن بتعرية �صدورهن ابتهاجا بذلك‪ ،‬ويتخلل‬
‫ُعمان وحتى مدينة �صاللة؛ وهي تقاليد تت�شدد يف‬ ‫االحتفال اطالق نار يف الهواء (‪ )..‬ومن امل�ألوف �أن‬
‫الف�صل بني الذكور والإناث ال ميكن تطبيقها يف‬ ‫يقوم بعملية اخلتان �أحد زعماء القبائل �أو �شخ�ص‬
‫ظروف احلياة الريفية القا�سية التي لكل فرد من‬ ‫من عائلة مرموقة»‪.‬‬
‫�أفراد الأ�رسة دور يومي يقوم به‪ ،‬و�أغلب هذه الأدوار‬ ‫تلك كانت العادة يف هذه املنا�سبة التي متثل واحدة‬
‫تكون خارج البيت الب�سيط واملتوا�ضع الذي قد‬ ‫من �أكرب االحتفاالت القدمية يف ظفار‪ ،‬غري �أن الذي‬
‫يكون كهفا �أو ما�شابه ذلك‪ ،‬فهذه املجتمعات عا�شت‬ ‫لفت نظري هو قرع الطبول‪ ،‬وتعرية ال�صدور! وهذا‬
‫قرونا طويلة منعزلة ومن النادر جدا �أن ي�صلها‬ ‫و�صف لي�س �صحيحا لأننا من �أ�صحاب املنطقة‬
‫�شخ�ص غريب‪ .‬من هنا يت�ساءل الكاتب « ما �إذا كان‬ ‫ونعرف تقاليدها جيدا‪ ،‬غري �أن ما ميكن �أن يكون‬
‫يوجد يف �أي منطقة من املناطق اجلبلية يف البالد‬
‫الحظه الكاتب هو �أن مالب�س الن�ساء التقليدية‬
‫العربية ن�ساء على ذلك امل�ستوى من اجلر�أة على‬
‫بطبيعتها تك�شف جانبا من اجلزء العلوي من ال�صدر‬
‫الغناء يف مكان عام‪ ،‬لأن هذا لو حدث يف ُعمان‬
‫املعروفة بالتزمت ف�إنه يعترب عمال منافيا للأخالق‬ ‫والرقبة خا�صة �إذا ما كان غطاء الر�أ�س من القما�ش‬
‫وتعاقب عليه الفتيات‪� ،‬إال �أن مثل هذه الأغاين ترتدد‬ ‫ال�شفاف وهذا مل يكن ميثل حرجا وال ي�سرتعي‬
‫يف كل مكان من هذه املناطق والوديان ولها وقع‬ ‫االهتمام كونه من الأ�شياء العادية يف جمتمع‬
‫جميل على الأذن»‪ .‬والواقع �أن هذه املقارنة لي�ست‬ ‫خمتلط كاملجتمع اجلبايل حتى وقت قريب‪� ،‬أما‬
‫دقيقة متاما ح�سب جتربتنا ال�شخ�صية؛ فدور‬ ‫ب�ش�أن الطبول فاجلباليون ال ي�ستعملون مع الغناء‬
‫املر�أة ال ُعمانية يف املو�سيقى التقليدية كبري ولي�س‬ ‫�أي نوع من �أنواع الآالت املو�سيقية وال �أدري من‬
‫منف�صال عن دور الرجل يف كل الأحوال كما قد يفهم‬ ‫�أين جاء ذكرها‪ .‬ونرجح من رواية الكاتب �أن نوع‬
‫من ن�ص الكاتب‪.‬‬ ‫الغناء كان «م�شعري» حيث ي�ضيف بقوله �أنه فهم‬
‫املهم يبدو �أن الكابنت توما�س كان م�ستمتعا‬ ‫«ب�أن الأغاين التي كانت الفتيات ين�شدنها تعرب‬
‫مب�صاحبة اجلباليني واكت�شاف بيئتهم اجلميلة لذلك‬ ‫عن فرحتهن‪ ،‬غري �أن معرفة معاين هذه الأغنيات‬
‫الغرامية كان يتطلب‬
‫وجود �شخ�ص يح�سن‬
‫اللغتني لكي يرتجمها يل‬
‫�إىل العربية‪ ،‬وملا مل يكن‬
‫مثل هذا ال�شخ�ص موجودا‬
‫فقد اكتفيت بت�سجيل‬
‫حلن الأغنية بالنوتة‬
‫املو�سيقية»‪.‬‬
‫�إن الكاتب لديه معرفة‬
‫بالتقاليد االجتماعية‬
‫احل�رضية‬ ‫الإ�سالمية‬
‫�أكت�سبها عرب ال�سنوات‬
‫التي ق�ضاها يف بع�ض‬
‫‪17‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ويف الواقع هذا التقليد االجتماعي هو �أو�سع مما‬ ‫كتب �أن « التفكري يف العودة (�إىل مدينة �صاللة)‬
‫ذكره الكابنت توما�س ذلك �أن هذا «الأب» يقف على‬ ‫�أمر غري مقبول لأنه لو حدث كنت �سوف �أحرم من‬
‫ر�أ�س جمموعة �أو �أكرث من املواطنني ال�سمر وهو‬ ‫م�شاهدة منطقة من �أجمل املناطق يف �شبة اجلزيرة‬
‫�إىل جانب وظيفته االجتماعية الإدارية التي �أ�شار‬ ‫العربية‪ ،‬وهي معني ال ين�ضب من االلهام للفنان‬
‫�إليها الكاتب ـ �أن جاز التعبري ـ ميتلك ال�سلطة الفنية‬ ‫وعا�شق الطبيعة وعامل االجنا�س ف�ضال عما كانت‬
‫و�سننها الطقو�سية‪ ،‬وهي قوة عظيمة ح�سب تقاليد‬ ‫�ستقدمه �إيل من متعة حقيقية وبهجة روحية»‬
‫هذه الفئات االجتماعية ومعرتف بها باعتبارها‬ ‫عرفنا توما�س بنف�سه ب�شكل وا�ضح‪.‬‬
‫وهكذا اخريا ّ‬
‫جزءا من هيكل التنظيم االجتماعي العام ال يزال‬
‫يتمتع ب�أهمية يف املدن ال�ساحلية يف حمافظات‬ ‫يف مدينة �صاللة‬
‫ال�رشقية والباطنة حتى اليوم و�إن مل يكن بنف�س‬ ‫كان الكابنت الفنان برترام توما�س قد و�صل �إىل‬
‫الهيمنة القدمية فقد تولت الدولة املعا�رصة جميع‬ ‫�صاللة بحرا عرب ميناء ري�سوت (ميناء �صاللة اليوم)‬
‫�ش�ؤون مواطنيها‪.‬‬ ‫يف الثامن من �أكتوبرمن عام ‪ 1929‬ا�ستعدادا لرحلته‬
‫الثانية �إىل رمال الربع اخلايل؛ فالرحلة الأوىل التي‬
‫يف حفلة رق�ص‬ ‫كانت قبل ذلك ب�سنة وو�صل فيها �إىل مق�شن ال نعلم‬
‫يعود بنا الكاتب �إىل �أ�سلوب املقارنات الذي يبدو �أنه‬ ‫للأ�سف عنها �شيئا يف الن�سخة املرتجمة �إىل اللغة‬
‫و�سيلة جيدة يتبعها لفهم ما يجري حوله وخا�صة‬ ‫العربية‪ ،‬وقد ذكر ولفرد ثي�سجر �أن الكابنت و�صف‬
‫موقف الأطراف االجتماعية من خ�صو�صيات بع�ضها‬ ‫مرافقيه حينها ب�أنهم خيبوا �آماله‪.‬‬
‫الثقافية؛ فريوي �أنه ح�رض حفل رق�ص للزنوج‬ ‫ال بد �أن توما�س كان ي�سكن قريبا من احل�صن الذي‬
‫بالقرب من احلافة �أقيم بعد ظهر ذلك اليوم‪ ،‬وكان‬ ‫كان وال يزال مقر جاللة ال�سلطان‪ ،‬فعندما �صحى‬
‫يوجد بع�ض البدو ال�صحراويني جاءوا لي�شاهدوا‬ ‫من النوم �سمع الن�ساء يغنني ويقرعن الطبول قيل‬
‫احلفل وعلى الرغم من �أن ه�ؤالء ـ كما يقول ـ م�سلمون‬ ‫له « �إنها حفلة تقام كل �صباح عندما يكون �سلطان‬
‫�إال �أن �أحدهم مل يعرت�ض �أو ي�ؤنبه �ضمريه �إزاء ما‬ ‫البالد �أو �أحد ال�ضيوف البارزين موجودا بالق�رص»‪،‬‬
‫كان يجري �أمام عينيه‪ ،‬على العك�س من امل�س�ؤول‬ ‫وقد ذكرتني هذه الرواية مبا كتبه ابن بطوطه عن‬
‫ال ُعماين (ال�شمايل) املتزمت الذي كان يرافقه‪.‬‬ ‫تقاليد موكب ال�سلطان الر�سويل حاكم ظفار عندما‬
‫�سجل الكاتب و�صفا ممتازا لذلك احلفل املو�سيقي‬ ‫زارها يف القرن الرابع ع�رش‪.‬‬
‫الذي يقام عادة بعد م�ضي ثالثة �أ�شهر على وفاة‬ ‫وبالنظر يف جمموعة مدينة ظفار جند تدوينا‬
‫ودون �صوتا من‬ ‫�أحدهم ح�سب طقو�س معينة ّ‬ ‫مو�سيقيا لغناء مع العود والطبل‪ ،‬غري �أن الن�ص‬
‫�أ�صواته‪ ،‬نورد هنا ما قاله مع بع�ض الت�رصف‪»:‬‬ ‫العربي ال ي�شري �إىل املنا�سبة التي ا�ستمع فيها الكاتب‬
‫ومكان احلفل بالقرب من قرية احلافة يف املناطق‬ ‫�إىل هذا اللحن وال �إىل ا�سم املغني‪ ،‬ومل يتم حتديد‬
‫التي تكرث فيها �أ�شجار جوز الهند وت�ضفي عليها‬ ‫نوع العود امل�ستعمل وال �أنواع الآالت املو�سيقية‬
‫منظرا جميال وقد ا�ستدرجني �صوت الطبول �إىل‬ ‫الإيقاعية الأخرى‪ .‬وي�سجل الكاتب رواية جيدة عن‬
‫و�سط احل�شد‪ ،‬ويف و�سط ال�ساحة كانت توجد منطقة‬ ‫تقاليد املجتمع الزجني ويذكر ا�سم �شخ�صية منهم‬
‫ف�سيحة‪ ،‬ويف احد اطرافها جل�س �ضاربو الطبول‬ ‫كان مبنزلة» الأب « وبناء على هذه املكانة ف�إن‬
‫و�أمامهم نار م�شتعلة ي�ستعملونها ل�شدها‪ ،‬وبالقرب‬ ‫بقية �أفراد الطائفة مبثابة �أبناء وبنات له‪ ،‬ف ُتعر�ض‬
‫منها ال�شبان الأقوياء البنية املفتويل الع�ضالت وهم‬ ‫عليه جميع خالفاتهم ونزاعاتهم ليف�صل فيها وله‬
‫�شبة عرايا يتبادلون قرع الطبول‪ .‬ويف و�سط احللقة‬ ‫م�ساعد يعاونه يف حتمل هذه امل�س�ؤوليات‪.‬‬
‫‪18‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫ك�سرت العود وال�شر ما يعود‪.‬‬


‫يف الرمال ‪ّ ..‬‬ ‫كان يجل�س مطرب احلفل يقوم برتديد �شعارات‬
‫كان جل اهتمام الكاتب من�صبا على البدو ومراقبة‬ ‫احلفل و�أمامه جمموعة يقفون يف �صفوف لرتديد‬
‫�سلوك �أع�ضاء قافلته والبيئة الطبيعية واالجتماعية‬ ‫الأنا�شيد التي يغنيها املطرب‪ .‬ويف الو�سط كان‬
‫والآثار التي كان مير بها يف بالدهم‪ ،‬وبرترام‬ ‫يجل�س الزعيم الأكرب �صاحب احلفل يتحرك حايف‬
‫توما�س �أول �أوروبي ي�صل منطقة الرمال ( الربع‬ ‫القدمني ميينا وي�سارا حامال �سوطا ي�رضب به يف‬
‫اخلايل ) ح�سب علمنا والكتاب ثري باملعلومات‬ ‫الهواء لإبعاد املتجمهرين عن و�سط احللقة وعلى‬
‫املختلفة واملتنوعة عن البيئة ال�صحراوية‪ ،‬فعلى‬ ‫بعد خطوات من هذه احللقة يقع املمر الرئي�سي‬
‫�صعيد ال�سلوك االجتماعي جند الكاتب يحاول‬ ‫امل�ؤدي للدخول �إىل هذا املهرجان‪ .‬وكان هناك �إىل‬
‫با�ستمرار مالحظة الفروق الثقافية يف عادات‬ ‫جانب جمموعات من الفتيان والفتيات يدورون‬
‫القبائل العربية لتعزيز �آرائه حول اختالف �أجنا�سها‬ ‫حول احللقة يف ا�ستعرا�ض راق�ص‪ ،‬وكانت الفتيات‬
‫من ذلك مثال ق�ضية املوقف من حلب املا�شية‪،‬‬ ‫وكن يف جمموعات‬ ‫يتحركن يف �إيقاعات خمتلفة‪ّ .‬‬
‫وطرق املعاجلة وما �شابه ذلك‪ .‬ورمبا يكون‬ ‫ال�شابات الزجنيات ال�سوداوات كلون خ�شب الأبنو�س‬
‫�أي�ضا �أول من و�صف ظاهرة «حنينة» الطبيعية‬ ‫وكانت كل واحدة منهن تغطي وجهها بغاللة �شفافة‬
‫الغريبة؛ وهي ح�سب و�صفه «�أ�صوات ت�شبه الأحلان‬ ‫تن�سدل على كتفيها وتك�شفن مفاتن وجوههن‬
‫املو�سيقية ي�سمونها البدو حنينة» تنتج عن حركة‬ ‫و�أعينهن وما كن يرتدينه من احللي الذهبية‬
‫الكثبان الرملية وهبوط درجة حرارتها التي‬ ‫كن يرتدين مالب�س جديدة‬ ‫كالأقراط وغريها‪ ،‬كما ّ‬
‫تتعر�ض لها طوال النهار ح�سب تف�سري البدو»‬ ‫�صنعت خ�صي�صا لتلك املنا�سبة ويت�ألف كل ثوب‬
‫وحنينة تعني العواء‪ ،‬والقبيلتان اللتان ت�ستوطنان‬ ‫من قمي�ص ف�ضفا�ض مطبوع بالنيلة‪ ،‬وكان الثوب‬
‫منطقة الرمال يطلق على كل منهما ا�سم خمتلف عن‬ ‫يت�ألق ت�ألقا �شديدا حتت �أ�شعة ال�شم�س وكانت الفتاة‬
‫اال�سم الذي تطلقه الأخرى لتلك الظاهرة‪ ،‬فعلى حني‬ ‫مت�سك ب�أحد طريف الثوب بينما يدها الأخرى متدها‬
‫مرة‬ ‫�إىل الأمام يف حركات بديعة من�سقة‪ ،‬وعندما كانت‬
‫ت�سميها قبيلة الروا�شد «الدمام» ت�سميها قبيلة ّ‬
‫« الهيال»‪.‬‬ ‫ترق�ص كان ر�أ�سها ثابتا ال يتحرك فيميل ميينه‬
‫وي�رسه‪ ،‬وكان �أمام كل‬
‫واحدة منهن �شاب يحمل‬
‫�سيفا يف يده ويلتفت ميينا‬
‫وي�سار ثم يعود ليقف يف‬
‫مواجهة الفتاة وكانت‬
‫هناك جمموعات �أخرى‬
‫من الزنوج كل جمموعة‬
‫تتكون من ثالثة �إىل �أربعة‬
‫�شبان كانوا من وقت‬
‫لآخر ي�صوبون بنادقهم‬
‫ويطلقونها يف الهواء ثم‬
‫يدورون حول احللقة يف‬
‫�إيقاعات ورق�صات ت�شبه‬
‫رق�صات اخليل»‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وقد الت�أمت جراح قلبه‬ ‫بالنظر �إىل التدوينات املو�سيقية نالحظ �أن الكاتب‬
‫من ال�صعب جدا العثور على �أ�صل الن�ص العربي كما‬ ‫قد و�صف العديد من املمار�سات الغنائية للبدو يف‬
‫كان يغنيه ثعيلب ورفاقه‪ ،‬غري �أننا من الو�صف‬ ‫مواقف خمتلفة‪ ،‬وذكر �أن البدو ي�صنعون من قرون‬
‫نعتقد �أن ذلك كان ن�صا يف التغرود وهو نوع من‬ ‫البقرة الوح�شية ( املها ) «نوعا من الناي ي�سمونها‬
‫غناء البدو على ظهور اجلمال �أثناء ال�سفر‪ .‬ومن‬ ‫ربابة ت�ستعملها فتيات البدو يف جنوب اجلزيرة‬
‫احلكايات اللطيفة التي �سجلها الكاتب عن رفاقه‬ ‫العربية لأنهن ال يعرفن الطبل وال �أي نوع من �أنواع‬
‫البدو حكاية الظبي والأرنب ال�شعرية ـ الغنائية‬ ‫الآالت الوترية»‪ .‬واحلقيقة مل يت�سن لنا التحقق من‬
‫«وتقول الق�صة �أن ظبيا جاء لي�أكل من �أحدى‬ ‫وجود هذه الآلة بال�صورة التي و�صفها الكاتب غري‬
‫الأ�شجار ومل يلحظ �أن حتت تلك ال�شجرة �أرنبا نائما‪،‬‬ ‫�أن ال ُعمانيني يف املحافظات ال�شمالية ي�صنعون من‬
‫وعندما �شاهد الأرنب الظبي قفز و�أخذ يجري‪ ،‬ولكن‬ ‫هذه القرون �آلة مو�سيقية ت�سمى «برغوم» وهي �آلة‬
‫الظبي �أي�ضا �أ�صيب بالذعر و�أخذ يجري ولكنه ن�سي‬ ‫حمدودة الإمكانيات ي�ستعملها الرجال فقط كبوق‬
‫الأرنب‪ ،‬وعندما تذكر الأرنب �أمتع�ض و�أخذ ين�شد‬ ‫مع �أداء الرزحة والعازي‪ ،‬وال ميكن ا�ستخراج �أكرث‬
‫هذه الأبيات متهكما على الأرنب (الن�ص مرتجم عن‬ ‫من �صوتني مو�سيقيني منها‪ ،‬وقدميا كان لها �أهمية‬
‫اللغة الإجنليزية)‪:‬‬ ‫خا�صة لدى القبائل لأنها ت�ستعمل كرمز من رموزها‬
‫يا من حلمه قليل القيمة‬ ‫وت�شكل مع بع�ض الآالت الإيقاعية فرقة مو�سيقية‬
‫وجلده ال ي�ضفي �أي متعه‬ ‫ع�سكرية تابعة لها‪.‬‬
‫يا من تعطي جمرد البهجة للأطفال‬ ‫من امل�شاهد اجلميلة التي يرويها الكاتب وهو يف‬
‫�أيها املزعج جلريانك‬ ‫الرمال (الربع اخلايل)‪ ،‬فرحة البدو باملطر التي‬
‫ذلك ما �أعنيه ‪ ..‬يا من حلمه ال يكفي احلاجة‬ ‫يقول �أنها بالن�سبة لهم �أ�شبه بالذهب عند الباحثني‬
‫ولكن الأرنب �أي�ضا ا�ستدار وقعد على رجليه‬ ‫عن املعدن الثمني» وكان اجلميع يتمنى نزولها‬
‫اخللفيتني و�أخذ ين�شد هذه الأبيات ردا على الظبي‪:‬‬ ‫حتى ولو غرقت املنطقة ويغنون مع تبا�شري املطر‬
‫الظبي يا �أبا الن�سيان‬ ‫على ظهور جمالهم وهم ي�سريون عرب تلك الرمال‬
‫يا حاد القرن‬ ‫مرة �أخرى‬‫املهيبة‪ ..‬وها هو ثعيلب ينطلق بالغناء ّ‬
‫�إذا هبطت �إىل الوادي الأخ�رض‬ ‫ـ كما يذكر الكاتب ـ بينما يردد من ورائه زمال�ؤه‬
‫�أ�صبحت �رشيكا للديدان‬ ‫ـ فرادى وجماعات ـ معربين عن �سعادتهم‪ ،‬وكان‬
‫ذلك ما �أعنيه‪..‬يا من حلمه ال يفي باحلاجة‬ ‫املقطع الأخري من تلك الأغنية هو الرتديدة‪ ،‬ولقد‬
‫ومن املو�ضوعات التي تثري االهتمام ورغبة يف‬ ‫ترجمت تلك الأغنية �إىل الإجنليزية « ومنها نقلها‬
‫موا�صلة البحث والتحقيق الق�ص�ص العديدة التي‬ ‫املرتجم �إىل العربية كالتايل‪:‬‬
‫يرويها رفاق برترام توما�س البدو من ال�سرية‬ ‫مهال فالربق يبدو هناك على املدى البعيد‬
‫الهاللية باعتبارها قبيلة من املنطقة‪ .‬وي�صف‬ ‫لعل حملها ي�سقط عند �أم احلياة‬
‫الكاتب رفاقه البدو ب�أنهم» على الرغم من تلك‬ ‫منهمرا امطارا دائمة‬
‫الروح القدرية التي ت�سيطر عليهم‪ ،‬فلهم حلظات مرح‬ ‫ت�سقط عرب كثبان الرمل وممرات الأنهار‬
‫ينطلقون فيها‪ ،‬فكثريا ما يتذكر �أحدهم �أن�شودة �أو‬ ‫حتى تعرب عن �أو وارد وت�صل �إىل ما بعدها‬
‫مقطعا من ق�صيدة عن �أبو زيد �أو دياب بن غامن �أو‬ ‫هناك حيث توجد امر�أة جميلة تعي�ش وت�ستمتع‬
‫غريهما من الأبطال الأ�سطوريني فيقوم برتديدها‪،‬‬ ‫تقف بال حجاب‬
‫مرة جاءين ال�شيخ �صالح وكان ين�شد‬ ‫وذات ّ‬ ‫وحبيبها راكع عند قدميها‬
‫‪20‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫ال�سعيدة للكابنت برترام توما�س‪،‬وقد تعرفنا ب�شكل‬ ‫احدى الأغنيات عن بني هالل قالوها يف بع�ض‬
‫دون‬
‫موجز عن البيئة االجتماعية والثقافية التي ّ‬ ‫خ�صومهم‪ ،‬وتقول تلك الأغنية (الن�ص مرتجم عن‬
‫فيها الكاتب هذه النوتات املو�سيقية ح�سبما ت�سمح‬ ‫اللغة الإجنليزية)‪:‬‬
‫به هذه الو�سيلة الأوروبية كما �أ�شار‪.‬‬ ‫�أن ه�ؤالء لي�سوا �أكرث من ع�صافري‪ ..‬وبوزيد �سدرة‬
‫والنوت املو�سيقية‪ ،‬من�شورة يف ثالث جمموعات‬ ‫�أرغمناهم على الفرار ليعودوا �إىل ح�ضريته‬
‫مبحلق الكتاب اجلزء الرابع (‪ ) APPENDIX VI‬حتتوي‬ ‫�أن ع�ضة الذئب لها دواء‬
‫نوت‪ ،‬كان موقعها ال�صفحات‬ ‫كل منها على ت�سع َ‬ ‫�أما طعنة �أبو زيد فلي�س لها دواء‬
‫الثالث الأخرية من ملحق الكتاب مع تعليق ب�سيط‬ ‫لقد �سال الدم كما ي�سيل املاء من الدلو‬
‫من الكاتب حتت عنوان‪ « :‬الأنا�شيد العربية‪ :‬العربية‬ ‫تخرج الدلو من البئر ممتلئة ثم ت�سكب ب�رسعة ‪..‬‬
‫اجلنوبية»‪ ،‬وب�سبب م�شكلة يف طباعة املجموعة‬ ‫ثم رد عليه احد زمالئه يف القافلة‪ :‬وت�سكب ب�رسعة‪..‬‬
‫الثالثة يف الكتاب ف�إننا م�ضطرون لإعادة كتابة‬ ‫�أي �أنه يردد املقطع الأخري من الأن�شودة‪ ،‬ثم التفت‬
‫النوت التي �سنن�رشها من هذه املجموعة يف هذا‬ ‫�إيل وقال �إن �أبا زيد من �أهل اجلنة‪ ،‬ولكن بدويا �آخر‬
‫َ‬ ‫�صاح ‪:‬‬
‫املقال لت�سهيل قراءتها‪.‬‬
‫�أو بوزيد ‪� ..‬أو بوزيد‬
‫ويف هذه املنا�سبة جتدر الإ�شارة �إىل �أن جمموعة‬
‫لو خرج �سيفك من غمده ف�إن اجلبناء لن يبقوا �أحياء‬
‫نوت برترام توما�س املو�سيقية تغطي م�ساحة‬ ‫َ‬ ‫كم من الآبار التي مررت بها ومل تتوقف عندها‬
‫جغرافية واجتماعية وثقافية وا�سعة متتد من �رشق‬ ‫ويف الليل بعد غروب �شم�س النهار‬
‫ُعمان �إىل ظفار جنوبا من مدينة �صاللة وجبل القرا‬ ‫كم من الآبار التي مرت بها اجلمال وهى عط�شى‬
‫�إىل �شمال ظفار حتى �أطراف اخلليج العربي‪ .‬لذلك‬ ‫يف �ضوء النهار عندما تغم�ض العيون للنوم‬
‫ولت�سهيل العمل نق�سم التدوينات املو�سيقية �إىل‬ ‫ا�ستطاع الكاتب �أن يك�شف لنا ب�صورة مقبولة واقع‬
‫ق�سمني جغرافيني ح�سب الواقع ال�سيا�سي املعا�رص‬ ‫الثقافة البدوية وفنونها الغنائية‪ ،‬ف�إىل جانب‬
‫هما‪ :‬حملية وغري حملية؛ وهذه الأخرية نق�صد‬ ‫بع�ض �أغاين �أو �أهازيج العمل و�أغاين ال�سفر والت�سلية‬
‫قدمت ق�ص�ص ظريفة‬
‫و�أ�شعار جميلة على ل�سان‬
‫بع�ض �أبطال ال�سرية‬
‫الهاللية وب�صفة خا�صة‬
‫�أبو زيد الهاليل بحيث‬
‫نحتاج �إىل الكثري من‬
‫الوقت لتحقيقها و�إعادتها‬
‫�إىل لغتها العربية الأمر‬
‫الذي ال ميكننا �إمتامه يف‬
‫هذا املقال‪ ،‬لذلك ننتقل‬
‫بعد هذا التلخي�ص �إىل‬
‫للنوت‬
‫َ‬ ‫الق�سم التحليلي‬
‫برترام توما�س باللبا�س ال ُعماين‬ ‫املو�سيقية التي وردت‬
‫يف ملحق كتاب البالد‬
‫‪21‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سنة لها �أهمية تاريخية كبرية من وجهة نظرنا‬ ‫مرة‪،‬‬
‫بها التدوينات اللحنية التي تعود �إىل قبائل ّ‬
‫كونها �أقدم وثيقة مكتوبة لأحلان تقليدية ُعمانية‬ ‫والكرب‪ ،‬وال�صيعر بناء على مواقعها املعا�رصة‬
‫عرثنا عليها حتى الآن؛ ولأنها كتبت بالأ�سلوب‬ ‫خارج احلدود ال�سيا�سية ل�سلطنة ُعمان‪ ،‬لذلك ولنق�ص‬
‫الأوروبي وخلت من �أي عالمات حتويل با�ستثناء‬ ‫البيانات لدينا فاهتمامنا �سين�صب يف هذا املقال‬
‫حلن واحد هو «طارق لقبيلة الرا�شد» من املجموعة‬ ‫على ما يت�صل بالتدوينات املو�سيقية التي تدخل‬
‫الثالثة‪ ،‬ف�إن وجود فروقات عربية يف درجات‬ ‫�ضمن الت�صنيف املحلي للمناطق والقبائل ال ُعمانية‬
‫بع�ض النغمات �أمر وارد جدا وواقعي‪ ،‬لذلك من‬ ‫كما وردت يف جمموعة برترام توما�س املو�سيقية‪.‬‬
‫الأهمية متابعة حتقيقها حتقيقا علميا واللجوء �إىل‬ ‫وكما ذكرنا ف�إن جل اهتمام الكاتب كان من�صبا‬
‫مرة �أخرى لال�ستماع جمددا �إىل مناذج من‬ ‫امليدان ّ‬ ‫على ظفار فكانت جمموعتان من �أ�صل ثالث‬
‫هذه الأحلان العربية البدوية واحل�رضية واجلبلية‬ ‫تدوينات مو�سيقية لأحلان ظفارية جند و�صفا‬
‫والزجنية ومالحظة تلك الفروق‪.‬‬ ‫ملنا�سبات �أدائها بني احلني والآخر داخل منت‬
‫وبالنظر يف هذه التدوينات جند يف املجموعتني‬ ‫الكتاب يف �صاللة واجلبل وال�صحراء‪ ،‬وهذا على‬
‫الأوىل والثالثة جتان�سا ثقافيا وا�ضحا يف الأمناط‬ ‫النوت املو�سيقية‬
‫العك�س من املجموعة الأوىل من َ‬
‫الغنائية ووظائفها ب�سبب طبيعة البيئة ال�صحراوية‬ ‫وكانت �أنا�شيد (�أهازيج) لقبائل اجلنبة والعوامرمل‬
‫با�ستثناء ا�سماء مثل‪« :‬همبل �أو رزفة» اخلا�صة‬ ‫يتم ذكر �شيء عنها يف منت الكتاب املرتجم �إىل‬
‫باملجموعة الأوىل (العوامر والوهيبة) ح�سب علمنا‪،‬‬ ‫العربية (مل نطلع على الن�سخة الإجنليزية) �سوى‬
‫لذلك فاملجموعتان ت�ضمان �أ�سماء امناط غنائية‬ ‫�إ�شارة ب�سيطة عن عبور الكاتب يف �شتاء ‪ 1927‬ـ‬
‫م�ألوفة عندنا اليوم مثل‪ :‬تغرود‪ ،‬وطارق‪ ،‬وهمبل‬ ‫‪1928‬على ظهور اجلمال احلدود اجلنوبية املطلة‬
‫(امل�شي �أو همبل البو�ش �أو تغرود البو�ش) �إ�ضافة‬ ‫على املحيط الهندي �إىل ظفار ومداها ‪ 600‬ميل‬
‫�إىل بع�ض �شالت العمل و�سقي اجلمال (�أنظر اجلداول‬ ‫�أي ما يقارب ‪ 970‬كيلو مرتا‪ ،‬وهذا يعني �أنه يف‬
‫املرفقة التي �أعددناها مع ترجمة للت�سميات التي‬ ‫هذه الرحلة انطلق من م�سقط مرورا مبحافظتي‬
‫دونها برترام توما�س)‪.‬‬ ‫ال�رشقية والو�سطى نحو ظفار (الت�سميات ح�سب‬
‫وبطبيعة احلال تواجهنا بع�ض امل�صاعب لفهم‬ ‫التق�سيم الإداري احلايل)‪ ،‬ولكن دون �أن يقدم لنا‬
‫بع�ض هذه الأحلان غري �أن بع�ض ال�صيغ اللحنية‬ ‫تفا�صيل ا�ضافية عن هذه الرحلة الطويلة �سوى‬
‫الثابتة التي ال تتغري بتغري الن�ص ال�شعري �ساعدتنا‬ ‫تلك التدوينات املو�سيقية‪ .‬لذلك فالكتاب ي�ضم‬
‫بخا�صيتها هذه على التعرف ب�سهولة عليها‪ ،‬ومن‬ ‫تقرير الرحلة الثانية التي كانت يف �شتاء ‪-1929‬‬
‫الأمثلة اجليدة حلن الهمبل �أو رزفة امل�شي (العوامر‬ ‫‪ 1930‬انطالقا من مدينة �صاللة وانتهت يف �إمارة‬
‫والوهيبة) التايل (مثال ‪: ) 01‬‬ ‫قطر عرب �صحراء الربع اخلايل‪.‬‬
‫وت�ضم املجموعة الثانية �إىل جانب �أغان من مدينة‬
‫ظفار وجبل القرا ثالثة تدوينات مو�سيقية لأحلان‬
‫تعود للمجموعة الثالثة اخلا�صة ب�أغاين البادية‬
‫ومرة‪ ،‬والكرب‪ ،‬و�صيعر) التي احتوت‬ ‫(قبائل‪ :‬را�شد‪ّ ،‬‬
‫هي الأخرى احلنني للقرا‪.‬‬
‫�إن هذه التدوينات التي كتبت قبل �أكرث من ثمانني‬
‫‪22‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫�أما املجموعة الأكرث عددا فهي الأهازيج التي ميكن‬ ‫ويف هذا الهمبل امل�شهور ال ب�أ�س من خف�ض درجة‬
‫ت�صنيفها وظيفيا ح�سب نوع العمل‪ ،‬ويف الواقع‬ ‫املاهور( �سي بيكار ) قليال حتى ي�ستقيم باملقارنة‬
‫ي�صعب و�ضعها يف �صنف الأغاين التي تتطلب‬ ‫مبا هو متعارف عليه يف ال�سلم دور املاجري الذي‬
‫م�ستوى معينا من التطريب الفني‪ ،‬كما �أنها قد تتفق‬ ‫دون الكاتب فيه اللحن‪ .‬ومب�ساعدة ال�صيغ اللحنية‬ ‫ّ‬
‫�أو تختلف من منطقة �أو من قبيلة �إىل �أخرى‪ ،‬ومن‬ ‫الثابتة نتعرف �أي�ضا على حلن رجزيت لقبيلة املهرة‬
‫هذه الأهازيج �شلة عمل نعتقد �أنها لإنزال احلمولة‬ ‫( دانادون ) من املجموعة الثانية اخلايل متاما من‬
‫من على ظهر اجلمال �أداء �أفراد من قبيلتي را�شد‬ ‫�أي درجة ال�سيكاة كالتايل ( مثال ‪: ) 02‬‬
‫ومرة ال�صحراويتني ( مثال ‪: ) 04‬‬
‫ّ‬

‫�أما ال�صيغ اللحنية التي ت�سمح بحرية ا�ستنباط‬


‫الأحلان اجلديدة فتحقيق �أحلانها املدونة �سيكون‬
‫يف الواقع هناك الكثري مما ميكننا قوله ب�ش�أن‬ ‫�أكرث �صعوبة على الرغم من �أنها يف جمموعة‬
‫برترام توما�س لي�س كثرية وهي‪ :‬غناء العود مع‬
‫جمموعة تدوينات برترام توما�س املو�سيقية‬
‫الطبل ( من مدينة ظفار )‪ ،‬وطارق ( قبيلة را�شد)‬
‫ذلك �أننا ن�أمل موا�صلة اال�شتغال عليها وتعميق‬
‫مع �إمكانية �ضم بع�ض التدوينات اليها مثل‪:‬‬
‫هذا التحقيق الأويل يف امل�ستقبل �إن �شاء اهلل‪،‬‬
‫�شلة جنبة التي نعتقد �أنها حلن من �أحلان الو َنة‪،‬‬
‫ولأن هدفنا يف هذه املرحلة التعريف باجلهد‬ ‫وكذلك طارق ( قبيلة �صيعر) البدوية احل�رضمية (‬
‫العلمي الذي قام به الكابنت توما�س ف�إننا نختم‬ ‫�أنظر التدوينني يف املجموعتني الأوىل والثالثة)؛‬
‫هذا املقال بالنظر يف �أربعة �أحلان ظريفة وهي‬ ‫وهذان اللحنان بلغت م�ساحتهما ال�صوتية ديوانا‬
‫( مثال ‪: ) 05‬‬ ‫مو�سيقيا كامال‪.‬‬
‫جمموعة تدوينات الكابنت برترام توما�س رقم ( ‪II‬‬ ‫وهكذا ف�إنه من ال�صعوبة ت�صنيف اللحن العودي‬
‫)‪:‬هبوت القرا‪ ،‬وم�شعريالقرا ( ن�ساء )‪.‬‬ ‫الوحيد املدون حتت عنوان « غناء العود مع الطبل‬
‫« وحتديد �إىل �أي منط مو�سيقي ظفاري ينتمي‬
‫ب�سبب تركيبته اللحنية غري امل�ألوفة لل�صيغ الفنية‬
‫وتراكيبها اللحنية املعروفة لنا‪ .‬ولكن مع هذا ميكن‬
‫ب�سهولة �أدائه ب�أ�سلوب الطبل العربي ( طبل الن�ساء )‬
‫وهو التايل ( مثال ‪: ) 03‬‬

‫جمموعة تدوينات الكابنت برترام توما�س رقم‬


‫(‪ :)III‬غناء الأطفال القرا‪ ،‬وم�شعريالقرا (ن�ساء)؛ وكما‬
‫ذكرنا فهذه املجموعة (الثالثة) من التدوينات‬
‫‪23‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫غناء �أطفال القرا ناق�صة نوتة من نوع دبل كرو�ش‪،‬‬ ‫ن�رشت معكو�سة يف ملحق الكتاب ولذلك نعيد‬
‫وميكن قراءتها متطابقة من املازورة الثالثة �أي‬ ‫كتابتها حتى ت�سهل قراءتها كتايل (مثال ‪:)06‬‬
‫بكرو�ش ثم نوتتني دبل كرو�ش‪ .‬واملهم الذي نريد‬
‫�أن نالحظه يف هذه الأحلان هو �أنها متثل بيئة فنية‬
‫فريدة‪ ،‬فنحن نرى �أن هذا التدوين هو الأقرب �إىل‬
‫واقع لغتها املو�سيقية مع مراعاة الفروق عند الأداء‬
‫الفني بني ال�سلمني الطبيعي والدياتوين املعدل‪،‬‬
‫وب�شكل عام هذا الأ�سلوب ميكن تطبيقه على معظم‬
‫الأحلان املدونة وخا�صة �أهازيج العمل‪.‬‬
‫وكما ذكرنا �سابقا فنن�رش مع هذا املقال ثالثة‬
‫جداول حتتوي كل منها على الن َوت املو�سيقية‬
‫وت�سمياتها باللغة الإجنليزية ح�سب الرتتيب الذي‬
‫وردت به يف ملحق الكتاب مع ترجمة متوا�ضعة‬
‫لنا‪ .‬وهي‪( :‬انظر اجلداول املرفقة)‪.‬‬ ‫حافظنا يف النقل �أعاله على التدوينات كما هي‬
‫يف الأ�صل‪ ،‬لذلك كانت املازرة الأوىل يف حلن‬

‫ملحق رقم (‪) 4‬جمموعة الأوىل ( ‪ ) I‬ال�رشقية‬

‫‪24‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬

‫ملحق رقم (‪ ) 4‬املجموعة الثانية ( ‪ :) II‬جبل القراـ ظفار‬

‫ملحق رقم (‪ ) 4‬املجموعة الثالثة (‪ :) III‬الباديةـ ظفار‪.‬‬

‫‪25‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ملف‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬

‫يو�سف �سامي اليو�سف‬

‫\ امللـــف مــن اإعـــداد‪ :‬عمر �شبانة‪.‬‬


‫�سيف الرحبي‪ -‬يو�سف حطيني‪ -‬فـرج بريقـدار‬ ‫\ امل�شاركون يف امللف‪:‬‬
‫الح‪ -‬را�سم املدهون‪� -‬سعيد الربغـوثـي‬
‫�سسسالح‪-‬‬
‫‪ -‬فخري �‬
‫ني ‪� -‬سمري الزبن‬
‫احل�سسسني‬
‫اهني‪ -‬عبدالقادر احل�‬
‫‪ -‬حممود ��سسساهني‪-‬‬

‫‪26‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪:‬‬
‫الذي ال يليق به الرثاء النمطي‬
‫كان �شك�سبري ودانتي‪ ،‬دي�ستوفي�سكي‪،‬‬ ‫«الأ�صدقاء ميوتون وي�صيبني الدوار»‬
‫هرني جيم�س املتنبي وحممود دروي�ش‬ ‫ج‪� .‬سيمنون‬ ‫ ‬
‫‪ ...‬دليلك احلد�س‪ ،‬الب�صرية الإ�رشاقية‬ ‫يا �أبا الوليد‪ ،‬مثلك ال يليق به الرثاء‬
‫والذوق ورهافة العاطفة حممولة على‬
‫االعتيادي‪ ،‬مثلما مل تلق بك احلياة النمطية‬
‫ثقافة مو�سوعية �رشق ًا وغرب ًا بنيتها‬
‫االعتيادية‪ ،‬رغم �أنك ع�شت حياتك يف بالد‬
‫(طوبة طوبة) كما يقول الأ�صدقاء‬
‫الأ�سالف والق�رس‪ ،‬بالد ال�رصاع الرتاجيدي الأزيل‬
‫خ�ضم ال�شقاء‬
‫ّ‬ ‫امل�رصيون‪ ،‬بد�أب وكدح يف‬
‫املفتوح بوح�شية ق ْل نظريها على بوابات‬
‫وال�شتات‪ ،‬االقتالعات واملنفى يف بعده‬
‫التاريخ والعامل ‪ ...‬وعلى رغم �رشوط الإكراه‬
‫املكاين واالجتماعي املفتوح على �أبعاد‬
‫العاتية والتي كنت حتلم بالهروب منها �إىل‬
‫ميتافيزيقية ال ترى الوجود �إال من خالل‬
‫تكاثف �ضبابها وغيومها العميق ‪ ...‬روح‬
‫البالد احل�ضارية الأخرى ومل يتحقق ذلك �إال‬
‫مقاتل �رش�س يف كافة جبهات الواقع‪،‬‬ ‫يف احللم واملعرفة‪ ،‬كنت (ن�سيج وحدك) ثقافة‬
‫ومتعبد مغمور بنور الت�أمل واملو�سيقى يف‬ ‫ً و�سلوك ًا‪ ،‬مزاجي ًا حاداً يف مزاجك ويف معايري‬
‫ردهات الوجود‪ ،‬غوام�ضه وخوافيه ‪ ...‬حتى‬ ‫القيمة النقدية واجلمالية التي كنت تق�صي‬
‫ال�صوفيه مل ت�أخذ منها اليقني واال�ستقرار‪،‬‬ ‫� َأي �شيء خارج ف�ضائها االنتقائي الروحي‬
‫أخذت تو ّتر الأ�شواق‬
‫يف الو�صول واحللول‪َ � ،‬‬ ‫امللتهب‪ ،‬كانت روح الرتاجيديا وامللحمة التي‬
‫وجحيم احلنني الذي غالبا ما يف�ضي �إىل‬ ‫�أ�س�ست نواة وعيك املمزق منذ جائحة ‪1948‬‬
‫دم الوح�شي والغياب القاهر ‪� ...‬أخذت‬ ‫ال َع ْ‬ ‫يف فل�سطني وقرية والدتك (لوبيا) وحتى‬
‫وهوامها التي ال ت�سلمك �إىل‬
‫ّ‬ ‫رعب الطريق‬ ‫الف�صل الأخري يف خميم الريموك بدم�شق‬
‫حمطة و�صول‪ ،‬هدوء و�سعادة ‪ ...‬لأن تلك‬ ‫التي كنت متجدها كقيمة جمالية‪ ،‬عا�صمة‬
‫النعمة التي تت�ضمن نوع ًا من التواط�ؤ‪،‬‬ ‫للأمويني وللروح واملعرفة‪� ،‬أولئك (الذين‬
‫ال تتماهى مع هدير الأعماق امل�أهولة‬ ‫�أحلقوا الدنيا بب�ستان ه�شام)‪ ،‬ومن َثم رحلتك‬
‫بر�ؤيا خراب العامل وانحطاطه الوا�ضح‬ ‫(ال�سالمونية) ن�سبة اىل ا�سماك ال�سالمون‪،‬‬
‫‪ ...‬كنت كال�سهم امل�شدود بني النظريات‬ ‫باجتاه املنابع االوىل التي مل ت�صلها‪ ،‬بعد‬
‫والن�صو�ص‪ ،‬املتناق�ضات والعالقات‪،‬‬ ‫خراب املخيم واملدينة ‪...‬‬

‫‪27‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جتدد دورتها الدموية بعد تخرث وعالمات انهيار‬ ‫قدامة وحداثة‪ ،‬املتنزه‪ ،‬لكن لي�س من غري خطر‬
‫كانت تلوح يف الأفق‪ ،‬حتى ا�ستطاعت وتعاظمت‬ ‫و�ألغام بني حقول املعرفة واخليارات االيدلوجية‬
‫نحو العامل ب�أكمله‪ ،‬مراكز وهوام�ش وم�ستنقعات‪،‬‬ ‫والفكرية‪ ...‬حتى نظريات التحرير الي�سارية‬
‫و�شملت الدول الأكرث عدائية لها مثل (�صني ماو‬ ‫واملارك�سية التي و�صلت يف تلك املرحلة ح ّد الالهوت‬
‫وكومفي�شيو�س) ب�صورة �أكرث ف�ضا�ضة ووح�شية‬ ‫والقدا�سة‪ ،‬مل تر فيها �شيئ ًا عظيم ًا وذا قيمة ‪ ...‬مل يكن‬
‫رغم ديكورها اال�شرتاتكي ويف غياب احل ّد الأدنى‬ ‫املع�سكر اال�شرتاكي وطليعته االحتاد ال�سوفييتي‬
‫من احلرية وم�ؤ�س�سات املجتمع املدين التي رمبا‬ ‫قبلة ذلك الي�سار ميثل لك‪ ،‬على طريقة نيت�شه‪� ،‬إال‬
‫ت�ستطيع يف حدود جلم ذلك التوح�ش الذي يجتث‬ ‫مرحلة انحدار يف الفكر والتاريخ‪ ،‬مبا جلبه عليك‬
‫�أي قيمة �أخالقية و�إن�سانية ويكون املجال مفتوح ًا‬ ‫هذا املوقف من عداوات كثرية كونه خروج ًا على‬
‫�إجماع املرحلة بني مثقفي امل�ستقبل املوعود ‪...‬‬
‫�إىل �آخره لهيمنة قيم املال املُطلقة‪ ،‬ذلك (العجل‬
‫وعلى ما كنت عليه من كره للغرب وخا�صة اجنلرتا‪،‬‬
‫الذهبي) كما كنت تدعوه‪ -،‬كانت من هدايا دم�شق‬
‫وتتمنى له املحو واالحرتاق جراء ما �صنعه من �ألآم‬
‫التعرف عليك �أ�ستاذاً و�صديقاً‪ ،‬الأكرث ح�ضوراً‬
‫و�إبادات ت�شكل عارا على الب�رشية جمعاء‪ ،‬بال�شعب‬
‫و�صدق ًا يف خ�ضم عالقات هذه احلياة التي �أخذ‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬بزرعه �إ�رسائيل واقتالع الفل�سطينيني‬
‫الزمن يف التقادم ال�صاعق عليها‪ ،‬هذا الزمن الذي‬
‫من �أر�ضهم‪ .‬على رغم ذلك كنت ترى يف الغرب‬
‫كان هاج�سك املخيف ‪..‬‬
‫�أتذكر وك�أمنا بالأم�س الت�سكع اليومي يف ف�ضاء‬ ‫احل�ضارة املكتملة النا�ضجة‪� ،‬إن�سان ًا و�أدب ًا فل�سفة ً‬
‫�صناعة ً وابتكاراً‪ ،‬لكن ذاهبة نحو �أُفولها احلتمي‪،‬‬
‫دم�شق الكرمية وغالب ًا ب�صحبة �أ�صدقاء حت�رضين‬ ‫كذلك على �صعيد الأدب مل ترق لك موجات احلداثة‬
‫يف هذه العجالة �أ�سماء‪ :‬طاهر ريا�ض‪� ،‬إبراهيم‬ ‫املتالحقة‪ ،‬وكان ميلك الكال�سيكي غالب ًا يطغى يف‬
‫اجلرادي‪ ،‬عبدالقادر احل�صني‪،‬ح�سان عزت‪ ،‬خالد‬ ‫الذائقة والتحليل‪ ،‬وكنا نختلف حول الكثري يف هذا‬
‫دروي�ش‪ ،‬حممد البخاري الذي كنت تدعوه ب�صاحب‬ ‫علي �أن �أبقى يف �ضفاف‬
‫�شنقيط و�آخرين ‪..‬‬ ‫ال�سياق‪�( ...‬أبا الوليد) كان ّ‬
‫حميمية‪ ،‬وهي كثرية‬ ‫ّ‬ ‫الوجدان والذكريات الأكرث‬
‫�أتذكر مرة قلت لك‪� :‬أبو الوليد (�شو ر�أيك نروح‬
‫تنجز كتاب ًا على الأقل‪ ،‬لكن القلم �أخذين عنوة �إىل‬
‫الندوة ال�شعرية؟) �س�ألتني‪َ ،‬من ال�شعراء؟ وحني‬
‫الأ�سطر الآنفة‪� ...‬أنا القادم يف تلك الفرتة‪ ،‬مطلع‬
‫دبيكة يا �سيف م�ش‬ ‫قلت �أ�سماءهم �أجبتني (هذول ّ‬ ‫الع�رشينات من عمري‪ ،‬من القاهرة �إىل دم�شق‪.‬‬
‫�شعراء) ‪..‬‬
‫وكانت من هدايا هذه املدينة التي متزقها حِ راب‬
‫ال �أقول وداع ًا يا �أبا الوليد لأنني �س�أعود �إليك مرات‬
‫التتار يف هذه اللحظة‪ ،‬والقنابل الرو�سية بعد �أن‬
‫ومرات‪ ،‬حتى ينك�رس القلم على الورقة كما يقول‬
‫�أطبق االطل�سيون بدروعهم ال�صاروخية والفكرية‬
‫�صديقك التوحيدي الذي كنت معجب ًا ب�إتالفه لكتبه‬
‫على الكرملني وكربياء القيا�رصة والبال�شفة‪ ،‬وذلك‬
‫وحرقها‪ ...‬و�ستزورنا يف احللم واليقظة ويف جل�سات‬
‫اجلورجي العنيف �ستالني الذي كنت معجب ًا مبقولته‬
‫الأ�صدقاء �إذا ثمة �أمل يف جتمع ولقاء‪.‬‬
‫ا�شرتاكية‬
‫ّ‬ ‫هذه فقط‪�( :‬إن املوت �سي�سحق اجلميع‬
‫‪jhj‬‬ ‫كانت �أم ر�أ�سمالية) لكن هذه الأخرية ا�ستطاعت �أن‬
‫‪28‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫‪                ‬عينا جاحظ ًة‬ ‫مقهى الالترينا يف دم�شق‬


‫و�أخرى تراقب الغيم ي�س ُقطُ‬
‫ن�شار ال�صنوبر املحروق‬ ‫رث �أماَمه َ‬ ‫ريح تن ُ‬
‫‪                ‬فوق اجلبال‬ ‫ترتيب الذاكرة‬ ‫وتعيد‬
‫َ‬
‫ت�سوق قطيع ال�سنوات‬
‫ُ‬ ‫و�ضح النهار الذي نحن فيه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ال ميكن و�صفه يف‬
‫‪        ‬بع�صيان املحبة‬ ‫�شموع كثرية‬
‫ُ‬ ‫يلزمنا‬
‫امل�رضج بال ُغروب‬
‫ّ‬ ‫ال�شجر‬
‫وحتت ّ‬ ‫الريح املتقطعة‬
‫ُ‬ ‫تعمل يف الظلمه كي تعود‬
‫جتل�س وحيداً‬
‫ُ‬ ‫وت�صعق الكرا�سي‬
‫ُ‬ ‫أدراجها بعد الك�أ�س اخلام�سة‬ ‫� َ‬
‫‪        ‬ك�شارع تل�سع ُه �أفعى‬ ‫اخل�شبية امل�ضاء ِة بنور خافتٍ‬
‫ّ‬ ‫والعابرين يف الردهة‬
‫َ‬
‫حتى النافورة الدم�شقية البا�سقة يف و�سطه‪،‬‬
‫بينما خطواتك املتعرثة ب�أحجار الألوهة‬
‫حيوانات �سما ٍء بعيدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والتي تتدلىّ منها‬
‫تتحقق‬
‫ُ‬ ‫و�أحالم ال‬
‫بعد قليل يدخل يو�سف اليو�سف بقامته الفارعة‬
‫تنهمر على �أوجه املارة‬
‫يلعن العامل والأب ّدية التي مل يوفرها هذه املرة‬ ‫ُ‬
‫‪                ‬فلول لعنات‪.‬‬ ‫يدخل نزيه �أبو عف�ش‪ ،‬حامل امل�سامري وال�صلبان‪،‬‬
‫يف ر�ؤياك الأخرية‪« :‬ابن عربي»‬ ‫يتقدمه ذئب �أرق ِه الدائم‪،‬‬
‫‪                        ‬ي�رسق قبعة‬ ‫يدخل اجلرادي والقادمون من وراء النهرين‬
‫‪                        ‬من طفلة‬ ‫يقذفون قبعات وهمية يف الفراغ‪.‬‬
‫ويتغذى من لهاث ال�شجر الطالع‬ ‫يدخل حلمي �سامل وقد َخ�رس حب �أيام اجلامعة‬
‫من قعر املحيطات‪.‬‬ ‫وعو�ضوه ب�سجن يومني على احلدود‪.‬‬ ‫ّ‬
‫املنفي �أبداً‬
‫ّ‬ ‫لكنك‬ ‫‪jhj‬‬
‫‪                ‬وعلى بعد خطوات‬ ‫�أح�شاء ال�صباح‬
‫‪                ‬من موتكْ ‪.‬‬
‫‪�          ‬إىل يو�سف �سامي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫يجرجر �أح�شاءه حتت‬
‫ُ‬ ‫ال�صباح‬
‫‪ j‬هذان املقطعان كتبا يف ثمانينات القرن املا�ضي‪.‬‬
‫قدم التيه‬
‫�سيف الرحبي‬ ‫وامل�ساء دائما حتت معطفك‬

‫‪29‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫الناقد واملبدع الفل�سطيني الراحل‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫قراءة و�شهادات فـي حياته و�إبداعاته‬
‫عمر �شبانة‬
‫كاتب و�شاعر من فل�سطني‬

‫اليو�سف‪ :‬حياته‬
‫ونتاجه الثقافـي املتعدد‬
‫ابن فل�سطني‪،‬‬
‫كان الناق ُد الكبري‪ ،‬الراحلُ‪ُ ،‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف (‪ 1938‬ــ ‪،)2013‬‬
‫ثروة ثقافية حقيقية متميزة على غري‬
‫�صعيد و�أكرث من م�ستوى‪ ،‬بدءا من قراءاته‬
‫املعمقة يف ال�شعر العربي القدمي‪ ،‬و�صوال‬
‫�إىل مذكّراته الف ّذة عن «تلك الأيام»‪ ،‬ومرورا‬
‫برتجماته ونقوداته الأدبية والفكرية وحتى‬
‫و�إىل ذل��ك فاليو�سف ه��و �صنيع ذات��ه‪،‬‬
‫ال�سيا�سية‪ .‬وعلى �صعيد حياته ال�شخ�صية‪-‬‬
‫و�صنيع ظ��روف كثرية خلقت «مزاجه»‬
‫يعول عليه كثرياً‪ ،‬امل��زاج الذي‬
‫الإن�سانية والوطنية‪ ،‬متيزت رحلة اليو�سف‬
‫الذي ظل ِّ‬
‫هو �صنيع ثقافة عالية ووع��ي اغرتابي‬ ‫بزخم وتعدد يف املحطات من جانب‪،‬‬
‫بامتياز‪ .‬وعي اغرتابي عا�شه بدوره �ضمن‬ ‫و�س َمتْها املعاناة والكفاح‬
‫ومن جانب �آخر َ‬
‫ما عا�ش من جتارب امتزجت فيها غربة‬ ‫املرير‪ ،‬رحلة عناوينها «الع�صامية»‬
‫عن الوطن‪ ،‬مع غربة عن العامل الأر�ضي‬ ‫و«الزهد»‪ ،‬وطابعها الأ�سا�س هو العزلة حد‬
‫وح��ن�ين �إىل «امل��ت�����س��ام��ي» يف احل��ي��اة‪.‬‬ ‫الت�صوف‪ ،‬مع مل�سة من العبثية العميقة‪.‬‬
‫فكان اجلرح الوطني يغذي نزوع الوعي‬ ‫ذلك كله هو ح�صيلة رحلة العذاب والتميز‬
‫بانحطاط ال��ع��امل وان��ح��دار الب�رش نحو‬ ‫التي عا�شها اليو�سف‪ ،‬و�أثمرت نتاجا ثقافيا‬
‫احليوانية الوح�شية‪.‬‬ ‫متعدد االجتاهات واالهتمامات‪.‬‬

‫‪30‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫�أج���زاء‪ ،‬فق ‏د ك��ان‪ ،‬وبح�سب حديث ل��ه‪ ،‬يتطلع �إىل‬ ‫يبوح يف حوار معه «مل ي�ؤ�س�سني �أفالطون وال �أر�سطو‪،‬‬
‫الربهة التي يكف فيها عن ممار�سة ه��ذا العناء‬ ‫وال كانط وال هيجل‪ ،‬وال الدكتور جون�سن وال ت‪� .‬س‪.‬‬
‫ال�سقيم العقيم الذي ي�سمى الكتابة‪« ،‬فال مراء يف‬ ‫جانيان‪ ،‬و�إنمّ ا‬
‫�إليوت الناقد‪ ،‬وال الآم��دي وال اجل ُْر ّ‬
‫�أنني �أ�شقى و�أتعب بغري مردود‪� ،‬أيا كان نوعه‪ .‬فلو مل‬ ‫� ّأ�س َ�س ْتني النكبةُ‪� ،‬أو الكارثة التي حلت بفل�سطني �سنة‬
‫يكن هنالك �سوى مردود معنوي لر�ضيت‪ .‬ولكن‪ ،‬ما‬ ‫‪ .»1948‬ولهذا جاء كتابه ال�شهري «رع�شة امل�أ�ساة»‪،‬‬
‫من �شيء �إال التعب الالجمدي‪ ،‬والعداء من كل حدب‬ ‫كر�سه لدرا�سة �أدب غ�سان كنفاين‪ ،‬ليعلن �أن‬ ‫الذي ّ‬
‫و�صوب‪ ،‬والل�صو�ص ينهبون الكثري مما �أكتب‪ ،‬من‬ ‫املقاوم‪ ،‬هو ما �أبرزه يف‬
‫ِ‬ ‫اجلانب الوطني �أو اجلانب‬
‫دون �أن ي�شعروا ب�أي حياء �أو خجل»‪.‬‬ ‫معظم الدرا�سات التي قدمها عن الأدب الفل�سطيني‪،‬‬
‫وهو يقول «لكنني مل �أغفل القيم الإن�سانية التي اهتم‬
‫�أ�س�س النظرية النقدية‬ ‫بها غ�سان‪ ،‬وال �سيما يف م�رسحه الذي ما �أتيحت له‬
‫وللإحاطة ب�أبرز معامل نظراته‪ ،‬وب�أ�س�س نظريته‬ ‫فر�صة الن�ضج‪ ،‬فقد اغتيل الرجل وهو يف �أوج العمر‪،‬‬
‫النقدية‪ ،‬النظرية «اليو�سفية» كما ميكن القول‪،‬‬ ‫�أو عند بداية الن�ضج بال�ضبط»‪( .‬حوار �أجراه معه كل‬
‫ن�ستح�رض بع�ض مفهوماته وم�صطلحاته التي‬ ‫من عبد املنعم قدورة و�سعيد الربغوثي يف العدد‬
‫كر�سته ناقدا متميزا ومتفردا‪ ،‬ب��دءا من اعتباره‬ ‫ّ‬ ‫‪ 30‬من جملة نزوى‪ ،‬و�سنعتمد كثريا على هذا احلوار‬
‫�أن «جل العملية النقدية يتجذر يف مزاج الناقد»‪،‬‬ ‫املعمق‪ ،‬يف قراءتنا هذه)‪.‬‬
‫وتعريفه امل��زاج ب�أنه «ه��و الطبع ال��ذي يولد مع‬ ‫أه��م الن ّقاد يف عاملنا‬
‫اليو�سف ك��ان واح��دا من � ّ‬
‫امل��رء‪ ،‬ولكنه يت�أثر كثريا باحلوادث احل��ادة التي‬ ‫العربي‪ ،‬ك��ان واح��دا من �أ�ش ّد نقادها ومبدعيها‬
‫يعي�شها يف حياته‪ ،‬وال �سيما بالكوارث الوطنية‬ ‫ل خريطة الإبداع‬ ‫خ�صو�صية وعمقا‪ ،‬وهو الذي م أ‬
‫واالجتماعية التي من �ش�أنها �أن ت�شحذ احل�سا�سية‪،‬‬ ‫والنقد بنتاج ثقايف ال يتكرر‪ .‬لقد مت ّتع الناقد‬
‫و�أن مت��ده��ا ب��زخ��م ع���ارم مل يكن لها م��ن قبل‪.‬‬ ‫الفل�سطيني الكبري ب�أدوات مل ميتلكها �سوى قلة من‬
‫واحل�سا�سية عندي هي اليخ�ضور ال�ساري يف �شجرة‬ ‫ومتيز بنكهة الذعة ح ّد القول �إنها‬‫ّ‬ ‫نقادنا العرب‪،‬‬
‫احلياة كلها»‪� .‬إ�ضافة �إىل ما يتبع ذلك من اعتبار‬ ‫حارقة‪ .‬فهو عا�ش بقليل من ال�شهرة التي كان عازفا‬
‫وتقدير ملا ي�سميه بـ«نازع التقزز واالزدراء‪ ،‬وحا�سة‬ ‫عنها‪ ،‬ورحل ب�صمت الكبار الذين عا�ش معهم‪ .‬ومن‬
‫من �ش�أنها �أن تكت�شف الغثاثة والرثاثة ب�رسعة‪ ،‬و�أن‬ ‫عرفه عن قرب‪ ،‬يعرف كم كان وكم ظ ّل عزيز النف�س‪،‬‬
‫تقرف منهما وجتتنبهما فورا»‪ .‬ويف التطبيق يرى‬ ‫ال طموح لديه خارج دائرة الإبداع العميق واخلا�ص‪.‬‬
‫�أن احرتامه للمتنبي ي�أتي «جلملة من الأ�سباب‪,‬‬ ‫وعلى �صعيد حياته وعالقاته‪ ،‬جمع اليو�سف بني‬
‫أهمها �أن��ه �شخ�صية ازدرائية ال ت�ضاهى‬‫�أولها و� ّ‬ ‫التزمت والت�سامح يف �شخ�صه املعطاء‪.‬‬
‫ُّ‬
‫بتاتا‪ ،‬و�إن كان �شخ�صية تنديدية يف الوقت نف�سه‪،‬‬ ‫مل ولن يذهب عمله هباء‪ ،‬رغم العزلة التي فر�ضها‬
‫وهذه مثلبة من مثالبه ال�شائنة‪ .‬فلئن كان االزدراء‬ ‫حلريته‬
‫ّ‬ ‫على نف�سه‪ ،‬مبتعدا عن البذاءة‪ ،‬وخمل�صا‬
‫تلميحيا وا�ستعالئيا‪ ،‬يف �آن معا‪ ،‬ف���إن التنديد‬ ‫وا�شتغاالته‪ ،‬وذلك بف�ضل �إجنازاته الفريدة‪ ،‬منذ‬
‫جهوري وغوغائي �أي�ضا‪ .‬ويف هذا فرق كبري بني‬ ‫مقاالته «يف ال�شعر اجلاهلي» (‪ ،)1975‬و«ال�شعر‬
‫العلو والدنو»‪.‬‬ ‫العربي املعا�رص» (‪ ،)1978‬و«تاريخ فل�سطني»‬
‫وبالن�سبة �إليه‪ ،‬وبعد خربة طويلة يف النقد‪ ،‬ويف‬ ‫(‪« ،)1989‬مقدمة لل ّنفري» (‪ ،)1997‬حتى مذكّ راته‬
‫ما يتعلق مب�صطلح «املزاج» وعالقته بالنقد‪ ،‬فقد‬ ‫متج�سدة يف «تلك الأيام»‪ ،‬وهي مذكرات يف �أربعة‬
‫‪31‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أخالق العلو هي لباب احلياة‪ ،‬وال يبقى �سوى اللحاء‬ ‫«ج ّل العملية النقدية يتجذر يف مزاج‬ ‫كان يرى �أن ُ‬
‫وح��ده»‪ .‬وي�ؤكد ناقدنا على �أن ال�شعور باالغرتاب‬ ‫الناقد‪ ،‬واملزاج هو الطبع الذي يولد مع املرء‪ ،‬ولكن‬
‫هو واحد من �أكرب امل�صادر الغزيرة للأدب العظيم‪.‬‬ ‫يت�أثر كثريا ب��احل��وادث احل��ادة التي يعي�شها يف‬
‫وقد ارتبط عنده بن�صو�ص م� ِّؤ�س�سة‪ ،‬ومن �أبرزها‬ ‫حياته‪ ،‬وال �سيما بالكوارث الوطنية واالجتماعية‬
‫«الكوميديا الإلهية»‪ ،‬فهو يعتقد �أن «دانتي املغرتب‬ ‫مل ي�ؤ�س�سني التي من �ش�أنها ان ت�شحذ احل�سا�سية‪،‬‬
‫الذي كابد اللوعة بعدما طردته فلورن�سا‪ ،‬فراح يت�رشد‬ ‫�أفالطون و�أن متدها بزخم عارم مل يكن لها من‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬ما كان له �أن ينتج «الكوميديا االلهية»‪،‬‬ ‫قبل‪ ،‬واحل�سا�سية عندي هي اليخ�ضور‬
‫وال �أر�سطو‪،‬‬
‫التي هي درة الآداب الأوروبية يف القرون الو�سطى‬ ‫ال�ساري يف �شجرة احلياة كلها»‪.‬‬
‫كلها‪ ،‬لوال �شعوره ب�أنه لي�س من ن�سيج ع�رصه‪ ،‬ورمبا‬ ‫وال كانط ه���ذه ال����روح اخل��ا���ص��ة‪ ،‬يف عمقها‬
‫لي�س ن�سيج هذا العامل الآخذ بالتخمج يوما عن يوم‪.‬‬ ‫وال هيجل‪ ،‬وفرادتها‪ ،‬هي التي قادته �إىل ر�ؤى‬
‫ثم �إن �شعور دانتي باالغرتاب هو الذي ا�ستطاع �أن‬ ‫وال الدكتور و�آراء نافرة‪ ،‬م�ست ِف ّزة‪ ،‬وربمّ��ا منفِّرة‬
‫ي� ّؤ�س�س الآداب يف �أوروبا من جبال الأورال �رشقا‬ ‫جون�سن وال �أي�ضا‪ ،‬ذلك �أن��ه مل يكن يت�ساهل �أبدا‬
‫�إىل جزيرة �آيرلندا غربا‪ .‬ويف احلق �أن �آث��اره على‬ ‫ت‪� .‬س‪� .‬إليوت يف ر�أيه ور�ؤيته‪ ،‬بل كان حادا مت�شبثا‬
‫�شك�سبري‪ ،‬الذي مل تنفه � ّأية حكومة‪ ،‬ال يخفى على‬ ‫مب��ا ي��رى‪ ،‬ال تغريه امل��ج��ام�لات‪ ،‬وال‬
‫الناقد‪ ،‬وال‬
‫�أي ب�صري‪ .‬و�أهم ما يف �أمره �أنه كان �أعرف النا�س‬ ‫تنال منه املدائح‪ .‬اختار منهجه يف‬
‫يف زمنه بكيفية توظيف اخليال‪ ،‬ودجمه بالواقع‬ ‫الآمدي وال احلياة ويف الكتابة‪ ،‬م�ستندا على ركائز‬
‫والوجدان ابتغاء �إنتاج ن�ص �أدبي خالد»‪.‬‬ ‫اجل ْرجان ّيان‪� ،‬أ�سا�سية ال تتغري‪ ،‬ولكنها تتطور‪ ،‬فكان‬ ‫ُ‬
‫وبخ�صو�ص حكم القيمة النقدي‪ ،‬يجزم اليو�سف‬ ‫و� مّإنا � ّأ�س َ�س ْتني مو�سوعيا كما يتطلب الأمر من الناقد‬
‫يف كتابه «القيمة واملعيار»‪ ،‬كما عبرّ يف احلوار‬ ‫النكبة‪� ،‬أو احلقيقي‪ ،‬و�صاحب ذائقة ال تت�ساهل‬ ‫ُ‬
‫املذكور �أعاله «�أن احلكم النقدي �إمنا ينبع من مزاج‬ ‫الكارثة مع الرداءة‪ ،‬م�ؤكدا يف عمله على رف�ض‬
‫الناقد‪� ،‬أكرث مما ينبع من ذهنه الربهاين‪ ،‬مهما يكُ‬ ‫النظرية ال��واح��دة‪ ،‬ليرُ ّ�سخ التعددية‬
‫ح�صيفا �أو فا ِر َه القامة‪ .‬وما الن�ص الأدبي العظيم‬ ‫وال�صدقية �أ�سا�سني يف كل عمل �إبداعي‬
‫التي حلت‬
‫�إال ذاك ال��ذي ينا�سب �أم��زج��ة متباينة‪ ،‬وي�صلح‬ ‫بفل�سطني ونقدي كذلك‪.‬‬
‫للقراءة يف �أماكن كثرية و�أزمان طويلة»‪� .‬أما يف ما‬ ‫�سنة ‪ 1948‬ومما ي�سِ م منهج اليو�سف �أي�ضا‪ ،‬متيزه‬
‫يتعلق مبحتوى الأدب والفن بعامة‪ ،‬فهو بالن�سبة‬ ‫يف ا�ستخدام م�صطلح االغرتاب‪ ،‬ونحت‬
‫له «حمتوى النف�س َح�رصا‪ ،‬و�إال �سقط‪  ‬الإب��داع يف‬ ‫امل�صطلح اخلا�ص به يف هذا الإط��ار‪،‬‬
‫اخلارجية املبتذلة التي من �ش�أنها �أن تزيل كل‬ ‫ومب��ا يرتبط بزمننا ه��ذا‪ ،‬فهو ي�صف املغرتبني‬
‫ألباء‪ .‬فال�شاعر اجليد ميلك‬ ‫م�سافة بني الأغبياء وال ّ‬ ‫ب�أنهم «ع�شاق ال�سمو»‪ ،‬يف مقابل «الت�سافل» �إن جاز‬
‫�أن ي�صف الزهور وك�أنها تنبت‪ ،‬ال يف الطبيعة‪ ،‬و�إمنا‬ ‫التعبري‪ ،‬معتربا �أنه مل يبق �أمام ه�ؤالء الع�شاق «�إال‬
‫يف تربة روح��ه»‪ .‬وخال�صة الأمر لديه �أن الن�شاط‬ ‫ان يحتقروا ب�صمت‪ ،‬وبخا�صة هذه احل�ضارة احلديثة‬
‫النف�سي‪� ،‬أو اجلواين‪ ،‬هو املنتج للعالقة‪� ،‬أي لل�شعور‪،‬‬ ‫التي �أ�سميها ح�ضارة ال�سخام‪ ،‬والتي �أخذ �إن�سانها‬
‫�أو لل�شعر والآداب بوجه عام‪.‬‬ ‫يتحول بالتدريج من كائن ب�رشي �إىل كائن بقري‪.‬‬
‫ورغم ما يعرف من مثالية منهجه النقدي‪� ،‬إال �أن‬ ‫ولكن االحتقار ال ي�سعه �أن يكون جماع وظيفتهم‪،‬‬
‫ق��راءة معمقة يف هذا املنهج‪ ،‬تك�شف توازنا بني‬ ‫�إذ ال بد لهم من ر�سالة �إيجابية‪ .‬ولعل يف املي�سور‬
‫الواقعي وامل��ث��ايل‪ ،‬يتمثل فري�ؤيته �إىل العالقة‬ ‫�أن تتلخ�ص تلك الر�سالة يف وجوب �صيانة امل�سافة‬
‫بني جماليات الإبداع وبني وظيفيته‪ ،‬حيث يعتقد‬ ‫التي تف�صل بني النفي�س واخل�سي�س‪ .‬وب�إيجاز‪ ،‬ف�إن‬
‫‪32‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫واخل�سي�س‪ ،‬والعايل وال��داين‪ ،‬وما �إىل ذلك‪ .‬ول�ست‬ ‫«ب�أنه ما من �أدب قط ميلك �أن ي�ستقلب امل�رشوع‬
‫�أريد �أن �أوفق بني مذهب «الفن للفن» ومذهب «الفن‬ ‫الب�رشي على نحو مبا�رش‪ .‬ولكن الأدب ي�ستطيع �أن‬
‫للحياة»‪ .‬ف�أنا �أ�ؤمن جازما ب�أن الفن ما كان ولن‬ ‫يغري الذات‪� ،‬أو النف�س التي �سوف تغري التاريخ‪� ،‬أي‬
‫يكون �إال من �أج��ل االن�سان‪� ،‬أي من �أجل ومن عرفه‬ ‫ُتغري وجودها‪� ،‬أو جملة �رشوطها»‪ .‬ويتابع القول‬
‫احلياة الب�رشية‪ ،‬التي هي اجتماع وتاريخ‬ ‫ف�أن يكون الن�ص بر�سم الذائقة يعني‪ ،‬كما قال عز‬
‫بالدرجة الأوىل‪ .‬ولكنني لن �أتنازل قيد عن قرب‪،‬‬ ‫الدين بن الأثري يف «املثل ال�سائر» �أن تكون له ن�شوة‬
‫�أمنلة عن وجوب احتقاب العمل الفني �أو يعرف كم‬ ‫كن�شوة اخلمر‪ .‬لقد ف�سد الذوق الفني يف هذا الزمن‬
‫االجناز الأدبي للأ�صالة الناجية من كل كان وكم ّ‬
‫ظل‬ ‫القاحل البليد»‪ ،‬وف�ساد ال��ذوق يعني بال�رضورة‬
‫تزوير‪ .‬ال خ�لاف البتة على غاية الفن‪ ،‬عزيز النف�س‪،‬‬ ‫ف�ساد الآداب والفنون‪ .‬فال خروج عن �سمت ال�سواد‬
‫ال طموح‬ ‫ولكن اخلالف على كيفيته»‪.‬‬ ‫�إذا ما �أعلن املرء ب�أن العامل العربي مل يخرج من‬
‫ويف حت��دي��ده مل��و���ض��وع اخل��ي��ال‪ ،‬ي��رى لديه خارج‬ ‫ع�رص االنحطاط بعد»‪.‬‬
‫اليو�سف �أن «ابن عربي كان �أول من �أ�س�س‬ ‫ويف �إط���ار تنظريه للعالقة ب�ين الأدب (ال�شعر‬
‫نظرية للخيال يف تاريخ الفكر الب�رشي دائرة الإبداع‬ ‫خ�صو�صا) واللغة‪ ،‬وكذلك بني الأدب والواقع‪ ،‬يرى‬
‫برمته‪ .‬ويف هذا الأمر دليل على �أنه خبري العميق‬ ‫ناقدنا �أن «ال�شعر اجليد هو كمال اللغة»‪ ،‬و»�أن‬
‫بالنف�س حقا‪ .‬والأه��م من ذلك �أن ر�ؤيته واخلا�ص‪.‬‬ ‫الأدب الناجح مي��زج العن�رص الواقعي بالعن�رص‬
‫للنف�س بعيدة كل البعد عن �أن تكون ر�ؤية وعلى �صعيد‬ ‫اخليايل»‪ .‬كما ي�ؤكد �أن «من �ش�أن الن�ص اجليد �أن‬
‫�سكونية‪ ،‬وذلك لأنه قد ر�أى اخليال بو�صفه حياته‬ ‫يدمج اخليايل بالوجداين �أو العاطفي»‪ ،‬ويو�ضح‬
‫قوة ابتكار‪� ،‬أو قوة خلق و�إب��داع‪ ،‬بل نوه وعالقاته‪،‬‬ ‫هذه العالقة بالقول «�إمنا �أعني بالدرجة الأوىل �أن‬
‫ال�شيخ ب���أن اخليال غريزة يف الإن�سان‬ ‫الفحوى االجتماعي‪ ،‬وكذلك التاريخي والروحي‪ ،‬قد‬
‫جمع اليو�سف‬ ‫تطالب ب�إ�شباعها اخلا�ص»‪.‬‬ ‫بلغ �إىل �أكمل ظهور ممكن‪� ،‬أو �صيغ ب�أ�سلوب منا�سب‪،‬‬
‫وعلى �صعيد موقفه من ال�شعر العربي بني التز ُّمت‬ ‫�إذ ينبغي �أن نذكر دوما �أن الأدب تعبري وقدرة على‬
‫احلديث واملعا�رص‪ ،‬ال يفاجئنا الناقد الكبري والت�سامح‬ ‫تفعيل اللغة بنهج تلقائي ناج من االفتعال‪ ،‬بحيث‬
‫وهو يعلن �أن «ال�سياب هو من فجر ال�شعر يف �شخ�صه‬ ‫ت�ستجيب ملطالب الروح‪ ،‬وال �سيما حلاجة احل�سا�سية‬
‫احلديث يف اخلم�سينات ونحن تعاطفنا املعطاء‬ ‫والذائقة والغريزة الفنية التي هي برهة ما هوية يف‬
‫معه جميعا‪ ،‬لكني �أظن �أنه �إذا ُقرئ ال�سياب‬ ‫بنية النف�س‪ .‬وعندي �أن الأدب الذي يلبي حاجات‬
‫مرة ثانية لن ينال الإعجاب ال��ذي ناله‬ ‫مالء ُيرتعه الهم‬
‫الذائقة‪ ،‬ال ي�سعه البتة �إال �أن يكون ً‬
‫يف اخلم�سينات»‪ .‬و�أن «�أدوني�س بحياته مل ي�شدين»‪،‬‬ ‫تاريخي �أو‬
‫ٌّ‬ ‫هم‬
‫الإن�ساين قبل كل �شيء‪� ،‬أي ي�أهلَه ٌّ‬
‫و«اجلواهري �شاعر تقليدي جميل‪ ،‬لكنه لي�س ابن‬ ‫اجتماعي �صار �أزمة روحية‪� ،‬أو �أزمة تفعل فعلها يف‬
‫الع�رص‪ ،‬فهناك م�س�ألة مهمة يف ال�شعر تكمن يف �أن‬ ‫داخل الروح بالدرجة الأوىل»‪.‬‬
‫يكون ابن ع�رصه‪ ،‬يحكي عن هموم معا�رصة‪ ،‬ت�شعر‬ ‫ويف رد على ما يعتربه البع�ض حماولة للت�سوية‬
‫ب�أن اجلواهري عا�ش يف زمن املتنبي وتتلمذ على‬ ‫بني النظرة املثالية وبني النظرة الواقعية‪� ،‬أو رغبة‬
‫يديه‪ ،‬لغة املتنبي وا�ضحة يف �شعر اجلواهري‪ ،‬لذا ال‬ ‫املماهاة بني �أن�صار الفن للفن والفن للحياة‪ ،‬يقول‬
‫ميكن و�صفه ب�أنه جمدد‪ ،‬بعك�س ال�سياب و�أدوني�س‪،‬‬ ‫«يف احلق �أن مثل هذه الت�سوية ال تعنيني‪ ،‬بل �إن‬
‫ال�سياب جدد ب�شكل �سطحي‪ ،‬و�أدوني�س �شطح‪� ،‬إذ‬ ‫هذه املثنوية لي�ست من اهتماماتي بتاتا‪ ،‬فما �أعنى‬
‫لعب لعبة ال�شكل ال �أكرث وال �أقل‪ .‬نريد حمتوى حارا‪،‬‬ ‫به هو مثنويات �أخ��رى مثل ال�صحيح واملغلوط‪،‬‬
‫و�أدوني�س مل يقدم هذا املحتوى احلار والدافئ الذي‬ ‫والأ�صيل والنغيل‪ ،‬والوهمي واحلقيقي‪ ،‬والنفي�س‬
‫‪33‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫«لقد ر�أيت حتى �أ�صابني الذهول»‪ .‬ذهول �سينتج‬ ‫ي�صل اىل �سويداء الف�ؤاد»‪� .‬أما بخ�صو�ص دروي�ش‬
‫قراءة يف عامل القرية مبا تنطوي عليه من ظروف‬ ‫فاليو�سف يخ�شى �أن يكون «م�صري حممود دروي�ش‬
‫و�أو�ضاع اجتماعية واقت�صادية و�سيا�سية وثقافية‪،‬‬ ‫مثل م�صري �أحمد �شوقي‪ ،‬ف�أحمد �شوقي احرتمه‬
‫تلخ�ص حال القرية الفل�سطينية خ�صو�صا‪ ،‬وحال‬ ‫جيله �أيمّ ا احرتام‪ ،‬ون�سيته الأجيال الأخرى‪ ،‬و�أخ�شى‬
‫فل�سطني عموما‪ ،‬كما ر�آها اليو�سف‪.‬‬ ‫يجزم �أن حممود ال��ذي �صار جنما �أن ي�أفل‬
‫وقبل التعر�ض لكتاب اليو�سف ه��ذا‪� ،‬أق���ول �إن‬ ‫وينطفئ ذات يوم لأنه �أي�ضا لعب لعبة‬
‫�سرية النكبة الفل�سطينية مل تبد أ� بالعام ‪،1948‬‬ ‫اليو�سف �أن‬
‫ال�شكل‪ ،‬وال�شكل وحده مغامرة»‪.‬‬
‫وال باخلام�س ع�رش من �أي��ار من ذلك العام‪ ،‬حني‬ ‫احلكم النقدي‬
‫ان�سحبت القوات الإجنليزية بعد متهيد املناخات‬
‫فـي «تلك الأيام»‬ ‫�إمنا ينبع من‬
‫و�أخ�ي�را‪ ،‬وم��ن بني كتاباته الأخ�يرة‪،‬‬
‫لقيام الكيان الغا�صب‪ ،‬بل كانت لهذه النكبة بدايات‬ ‫نتوقف عند �سريته التي �أطلق عليها ا�سم‬ ‫مزاج الناقد‪،‬‬
‫وحت�ضريات منذ القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬بد�أت بالهجرة‬ ‫�أكثـر مما ينبع‬
‫«تلك الأيام»‪ ،‬وجاءت يف �أجزاء جتعل‬
‫«اخلجولة»‪� ،‬إن جاز القول‪ ،‬لليهود �إىل فل�سطني‪،‬‬
‫من حياته �أربع مراحل وحمطات‪ ،‬ففي‬ ‫من ذهنه‬
‫و»اال�ست�ضافة» الفل�سطينية الطيبة لهذه الهجرات‬
‫اجلزء الأول يتناول املرحلة املمتدة من‬ ‫الربهاين‪،‬‬
‫التي �رسعان ما راحت تتحول مع م�ؤمتر ‪� 1897‬إىل‬
‫والدته ‪ 1938‬حتى �سنة النكبة ‪،1948‬‬ ‫مهما ُ‬
‫يك‬
‫خمططات عدوانية‪ ،‬فتحول اليهودي ال�ضيف وجار‬
‫والثاين من ‪ 1948‬حتى ‪ ،1975‬والثالث‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬و�رشيكه يف بيته وحقله‪ ،‬حتول �إىل‬ ‫ح�صيفا �أو‬
‫م�رشوع عدو يخطط لالغت�صاب والقتل والتهجري‬ ‫من ‪ 1975‬حتى ‪ ،2007‬ويتناول الرابع‬
‫الفرتة الأخ�ي�رة من حياته‪ .‬ونتوقف‬ ‫فار َه القامة‪.‬‬
‫ِ‬
‫التي ت�صاعدت ف�صولها منذ الع�رشينات من القرن‬ ‫وما الن�ص‬
‫الع�رشين‪ ،‬و�صوال �إىل النكبة التي ك�شفت عن الوجه‬ ‫هنا عند مالمح وحمطات من املرحلة‬
‫الأوىل‪ .‬ال�سرية التي حر�ص فيها على‬ ‫الأدبي‬
‫القبيح لع�صابات هذا ال�شعب‪.‬‬
‫كتب الكثري ح��ول ه��ذه الرحلة واملخططات يف‬ ‫ا�ستظهار «جوهر» امل�رشوع ال�صهيوين‬ ‫العظيم �إال‬
‫الأطر ال�سيا�سية واالقت�صادية والع�سكرية‪ ،‬لكن قلة‬ ‫وطبيعته اال�ستعمارية‪ ،‬من خالل �سرية‬ ‫ذاك الذي‬
‫من الكتاب الفل�سطينيني هم من كتبوا هذه الرحلة‬ ‫قرية فل�سطينية �صغرية هي قريته‪،‬‬ ‫ينا�سب �أمزجة‬
‫ال�شخ�صي والوطني‪ ،‬وجتمع‬ ‫من منطلقات جتمع‬ ‫«�صورة القرية التي ولدت فيها‪ ،‬والتي‬
‫َّ‬ ‫متباينة‬
‫ال�سيا�سي واالجتماعي واالقت�صادي والثقايف‪ ،‬ومن‬ ‫ر أ�ي��ت بيوتها تتهاوى بيتا �إثر الآخر‪،‬‬
‫بني هذه القلة ت�أتي هذه ال�سرية لليو�سف‪.‬‬ ‫لتتحول �إىل حطام‪ ،‬بعدما عاركَ ْتهم‬
‫إ�ح��دى الغايات الكربى لهذا الكتاب‪ -‬كما يحدد‬ ‫طوال ب�ضعة �أ�شهر‪ .‬ولكي ت�صان تلك ال�صورة ال بد‬
‫امل�ؤلف‪� -‬أنه «يبتغي �أن يكون واحدا من الآثار التي‬ ‫من عر�ض الكثري من التفا�صيل ذات ال�صلة باملوقع‬
‫متلك �أن ت�ساعد الزمن امل�ستقبل على «�إيعاء» (حفظ‬ ‫والأر���ض املحيطة والبناء والعادات االجتماعية‪..‬‬
‫ووعي) الزمن الذي ع�شت فيه‪ ..‬وتخليد‬ ‫و�سواها»‪.‬‬
‫القرية الفل�سطينية الرثية بالتفا�صيل‪ ،‬تاريخا‬ ‫وال�سرية �أي�ضا هي‪�« ،‬سرية الطفل الذي يفتح عينيه‬
‫ومكانا‪ .‬هنا لوبيا القرية الكنعانية‪ :‬خط طربيا‪-‬‬ ‫على قرية وادعة وجميلة حد ال�سحر‪ ،‬لكنه ما يكاد‬
‫النا�رصة يالم�س قريتنا من جهتها ال�شمالية‪ .‬ومما‬ ‫يبلغ العا�رشة من عمره حتى يجد نف�سه منفيا يف‬
‫هو م�ؤكد �أن ال�سيد امل�سيح كان ي�سري عليه يف جتواله‬ ‫ال�شتات اللبناين وال�سوري‪ .‬وهاهو يف كهولته يف‬
‫بني النا�رصة وبحرية اجلليل‪� ،‬إنه احلد الذي يحد‬ ‫املخيم‪ ،‬وبعد التقاعد من التدري�س‪ ،‬ي�رسد روايته‬
‫قريتنا من تلك اجلهة نف�سها‪� ،‬إذ كانت لوبيا كلها‬ ‫ملا �شاهد و»ر�أى» خالل رحلة العمر‪ ..،‬وكما يكتب‬
‫‪34‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫�أن الأر�ض كلها هنا ُتروى بالأنداء (الندى) طوال‬ ‫�إىل اجلنوب منه‪ ،‬ما عدا بيتا واحدا حديث البناء‪.‬‬
‫ال�صيف‪ ،‬و�أن «ت�ساقط الندى يبد�أ زه��اء التا�سعة‬ ‫كما �أن الدرب املمتد بني طربيا والنا�رصة مير بني‬
‫م�ساء‪ .‬ويف ال�صباح ترى الأر�ض وك�أنها مغ�سولة‬ ‫�سهل احلمى وبني تل حطني‪ ،‬الذي يقال �إن ال�سيد‬
‫يغ�شيها حتى‬
‫باملاء املُقطّ ر‪ ،‬ويظل الندى ّ‬ ‫امل�سيح قد �صعد �إىل مكان فيه و�ألقى على �أتباعه‬
‫ال��ع��ا��شرة ���ص��ب��اح��ا‪ ،»..‬وبح�رسة �شديدة ال�سياب هو من‬ ‫خطبة م�شهورة ت�سمى خطبة اجلبل‪ ،‬وهي التي ورد‬
‫ن�سمعه ي�رصخ «خ�رسنا �أر�ضا نفي�سة ال فجر ال�شعر‬ ‫ذكرها يف العهد اجلديد‪.‬‬
‫تب ّزها �أي��ة �أر���ض �سوى �أر���ض الفردو�س احلديث يف‬ ‫والقرية يف كتابة اليو�سف‪ ،‬هي معامل ومالمح‬
‫اخلم�سينات‬ ‫وحدها»‪ .‬هي الفردو�س املقود �إذن‪.‬‬ ‫وتفا�صيل‪ ،‬وه��ذه تتج�سد يف �أج���زاء م��ن البيئة‬
‫ويف احلالة اخلا�صة بالبيئة والطبيعة لكنه �إذا ُقرئ‬ ‫القروية‪ ،‬بيئة تنطق اجتماعيا ومكانيا‪ ،‬فتربز‬
‫يف القرية الفل�سطينية‪ ،‬ال بد من التوقف مرة ثانية لن‬ ‫الغمارة»‪،‬‬
‫«ح َجر ّ‬‫التقاليد والقيم‪ ،‬ومن ذلك ِو ْقفة مع َ‬
‫عند ف�صول ال�سنة وم��ا تنتجه «ففي‬ ‫والغمارة هي‪ :‬الفتاة التي تلم �أكدا�س القمح بعدما‬
‫الربيع تكرث الأع�شاب ال�بري��ة ال�صاحلة ينال الإعجاب‬ ‫يح�صدها احل�صادون‪ .‬واحلجر خم�ص�ص للن�ساء‬
‫ّ‬
‫للأكل �أو للغلي‪ ،‬فال�رشب هو من (العكوب االول و�أدوني�س‬ ‫ال�شابات‪ ،‬يقفن عليه ح�ين ي��ردن ال��رك��وب على‬
‫والقر�صعنة والعلت واخلبازي وال�شومر بحياته‬ ‫حمريهن عندما يذهنب �إىل العمل يف احلقول‪� ،‬إذ‬
‫والر�شاد وال�سنارية والعو�صالن واحلليان مل ي�شدين‬ ‫لقد كان من املعيب �أن تركب املر�أة ال�شابة على � ّأية‬
‫والبابوجن واملريمية والزعرت الربي‪..‬الخ)‪ ،‬واجلواهري‬ ‫دابة يف �أزقة لوبيا‪ ،‬فقد كان يتوجب عليها �أن تقود‬ ‫ّ‬
‫تخرج الن�ساء‪ ،‬وال �سيما ال�شابات‪� ،‬إىل �شاعر تقليدي‬ ‫دابتها و�أن ت�سري على �أقدامها حتى ت�صل �إىل حجر‬ ‫ّ‬
‫املروج واحلقول يف دفء ال�شم�س ولطف‬ ‫الغمارة‪ ،‬وهنالك تركب وتنطلق �إىل ال�سهل حيث‬
‫الن�سيم‪ ،‬بحثا عن تلك الهبات الطبيعية جميل‪ ،‬لكنه‬ ‫كمرقاة‪.‬‬‫العمل‪ ،‬بعدما ت�ستفيد من احلجر َ‬
‫ال�سخية”‪ .‬وهنا ننظر �إىل الأر����ض كما لي�س ابن الع�صر‬ ‫ويف ال�سياق نف�سه ي���أت��ي احل��دي��ث ع��ن «حكورة‬
‫ي�صفها اليو�سف بو�صفها «�أر�ض الغبطة وحممود دروي�ش‬ ‫ال�سبيل»‪ ،‬التي هي كرم �صغري جدا‪ ،‬ويقول عنها‬
‫اخ�شى عليه‬ ‫وال�سعادة يف ذاكرتي �أو يف خميلتي»‪.‬‬ ‫اليو�سف «ال �أح�سبها �إال كلمة �رسيانية»‪ .‬وكذلك‬
‫منيز �أي�ضا بني الأر����ض الواقعية من ان ينطفئ‬ ‫وهنا ّ‬ ‫الأمر يف ما يتعلق مثال بتف�صيل مثل عني من عيون‬
‫و�أر����ض احللم �أو اخل��ي��ال‪� ،‬إن��ه��ا الأر���ض‬ ‫املاء ت�سمى «ماء دامية»‪ ،‬حيث يرى �أن ال�سبب وراء‬
‫عند الأجيال‬
‫كما ينظر �إليها من جرى تهجريه عنها‪،‬‬ ‫هذه الت�سمية هو على الأرجح «�أن تكون قد �سميت‬
‫فهو �سيتحدث من ذاكرة حمت�شدة باحلب الالحقة‬ ‫بهذه الت�سمية التي ت�ؤ�رش �إىل الدم‪ ،‬لأن �صداما جرى‬
‫وال�شجن واحلنني‪ ،‬لذلك فهو �سيكتب عن‬ ‫بني الإفرجن وبني اجلي�ش الأيوبي من �أجل ال�سيطرة‬
‫«لوبيا الواقع» التي ر�أينا بع�ض مالحمها‬ ‫على تلك العني‪ ..‬فما هو م�ؤكد �أن الإفرجن �أنهكهم‬
‫تخ�ص الف�ؤاد‬
‫ّ‬ ‫احلقيقية‪ ،‬وعن «لوبيا الداخل التي‬ ‫العط�ش يوم حطني‪ ،‬و�أنهم كانوا يلوبون على املاء‬
‫وحده‪� .‬إنها املكان الذي ت�صون الروح رع�شته يف‬ ‫ولكن دون �أن ي�صلوا �إليه»‪.‬‬
‫جوفها الدافئ احلنون»‪ ،‬وهذه ال�صورة تنطوي على‬ ‫وعلى هذا النحو جند عنا�رص وتفا�صيل خمتلفة‪،‬‬
‫يف‪ ،‬فهي �صورة «ت�ستمد فحواها‬ ‫قدر من الع�شق ال�صو ّ‬ ‫فننظر كيف ي��زرع الفل�سطيني حقله‪ ،‬جند كيف‬
‫من الأزيل ال�ساكن يف نواة الباطن ال�سحيق»‪.‬‬ ‫اعتاد اجلد �أن ي��زرع «حقل العوينة» املطل على‬
‫تفا�صيل وعنا�رص كثرية متثل عامل القرية‪ ،‬خ ِريها‬ ‫طريق طربيا‪ -‬النا�رصة والقريب منها‪ ،‬بالبطيخ‬
‫و�رشها‪ ،‬فمن جهة يتجر�أ امل�ؤلف على القول �إن‬ ‫ِّ‬ ‫وال�شمام والق ّثاء واخلِيار وعباد ال�شم�س‪ ،‬وذلك يف‬
‫«لوبيا ال تخلو من الل�صو�ص والزناة واملقامرين‬ ‫املو�سم ال�صيفي الذي تبد�أ زراعته يف ني�سان‪ .‬ونرى‬
‫‪35‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�شهادات يف حياته وثقافته و�إبداعاته‬ ‫واملحتالني وهواة ال�شجار والعدوان»‪ ،‬ومن جهات‬
‫�أخ���رى يتوقف م��ط��وال �أم���ام بع�ض التفا�صيل‪،‬‬
‫وي�ستخدم �أ�سلوبا خا�صا يف الو�صف يتحفنا به‪ ،‬ففي‬
‫‪ v‬يو�سف اليو�سف‬ ‫العادات والتقاليد «يبد أ� ال��زواج عادة‬
‫«مِ لعق ٌة مِ ن ما ِء ال َقلْب»‬ ‫كانت بداية ب��ـ‪ ،»..‬ويف و�صف البيت «يبد�أ البيت‬
‫النكبة بباحة‪ ،»..‬ويف و�صف الأطعمة يتحدث‬
‫\‬
‫يو�سف حطيني‬
‫الطيني»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفل�سطينية عن «طبخ الطعام يف الفرن‬
‫�صديقي ال�شنفرى كان �سبب ًا من �أ�سباب قراءتي‬ ‫منذ القرن فيقول «م�أكوالتنا كثرية ومتنوعة»‪ ،‬وال‬
‫املبكرة ملا �أنتجه الناقد الفل�سطيني الراحل يو�سف‬ ‫ين�سى تقاليد «الكتاتيب»‪ ،‬و�أنه «دخل‬
‫اليو�سف‪ ..‬تلك ق�صة قدمية تعود �إىل عام ‪،1977‬‬
‫التا�سع ع�شر‪،‬‬
‫الكتاب �سنة ‪� 1944‬أي عندما كان يف‬
‫عندما كنت يف ال�صف الثاين الإعدادي‪..‬‬ ‫مع بداية ال�ساد�سة‪ ،‬ويف عام ‪� 1945‬أنهى عامه‬
‫م��ا �أزال �أذك���ر ذل��ك الفتى �أخ����ضر العينني ال��ذي‬ ‫الهجرة الأول‪ ،‬وكان ق��ادرا على تالوة بع�ض‬
‫�صادفته يف �أثناء درا�ستي تلك ال�سنة‪ ،‬كان ا�سمه‬ ‫اخلجولة �سور القر�آن على م�سامع �أبيه»‪ ،‬ويتذكّ ر‬
‫م��روان يو�سف؛ و�إذ قامت بيننا �صداقة طفولية‪،‬‬ ‫لليهود �إىل اخلراريف (امل�رسودات) يف «ح�ضارتنا‬
‫�أو �شبه طفولية زرت��ه يف بيته‪ ،‬وهناك يف غرفة‬ ‫فل�سطني‪ ،‬الريفية ب�سيطة»‪ .‬ومن ذلك َي�ستخل�ص‬
‫ال�ضيوف ر�أي��ت مكتبة‪ ،‬مل �أكن قد ر أ�ي��ت مثلها يف‬ ‫«م� ّؤ�صلون يف املكان‪،‬‬‫واال�ست�ضافة �أن الفل�سطينيني ُ‬
‫حياتي‪ ،‬ومل �أكن �آن��ذاك على عالقة وثيقة بالكتب‬ ‫الطيبة لهذه �أما �أعدا�ؤنا فعر�ضيون زائلون وزائفون‪،‬‬
‫املرففة يف اخلزائن‪ ،‬ف�س�ألت مروان‪:‬‬ ‫لأنهم بغري جذور وال �أ�صول‪ ،‬والفيتو‬
‫ـ ملن هذه الكتب؟‬ ‫الهجرات التي‬
‫ال��ذي بناه لهم الغربيون ال ي�ساوي‬
‫ـ لأبي‪.‬‬
‫حتولت اىل ق�رشة ب�صلة»‪ .‬وكما جاء يف �سريته‪،‬‬
‫يف ظهرية ذلك اليوم من عام ‪ 1977‬ر�أيت يو�سف‬
‫خمططات ف�إن ال�سنة ال�سوداء يف حياته هي �سنة‬
‫اليو�سف‪ ،‬لأول م��رة يف حياتي‪ ،‬دخ��ل بقامته‬
‫عدوانية ‪ 1947‬التي انت�رشت فيها ال�شائعات‬
‫املديدة ووجهه املتجهم‪ ،‬و�ألقى يف وجهي ابت�سامة‬
‫�رسيعة‪ ،‬ثم �أ ّنب ابنه على تق�صريه‪ ،‬وقال لنا‪ :‬نحن‬ ‫ع��ن ق���دوم جيو�ش الإن��ق��اذ العربية‬
‫ـ الفل�سطينيني ـ لي�س لنا �إال العلم‪ ،‬فتربع مروان‪:‬‬ ‫�إىل‪ ‬فل�سطني‪ ،‬كي متنع ال�صهاينة من‬
‫«يو�سف �أ�شطر طالب يف ال�صف»‪ ،‬ف�س�ألني‪ :‬ماذا‬ ‫اال�ستيالء عليها وتهويدها‪ ،‬و�صوال �إىل ‪� 17‬أيار‬
‫تقر�أ غري كتبك املدر�سية؟ �أ�رشت �إىل «تاريخ الأدب‬ ‫من العام التايل ‪ 1948‬حني �أعلن ال�صهاينة قيام‬
‫العربي» حلنا فاخوري‪ ،‬ف���أردف‪ :‬ومن تعرف من‬ ‫دولتهم‪.‬‬
‫فازور ع ّني قائالً‪ :‬كل النا�س‬
‫َّ‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬قلت له‪ :‬عنرتة‪،‬‬
‫يعرفون عنرتة‪ ،‬قلت له مرتبكاً‪ :‬وال�شنفرى �أي�ضاً‪ .‬و�إذ‬
‫من �أبرز �أعماله‪:‬‬
‫ذكرت ا�سم ال�شنفرى تلب�سته حالة من الفرح الذي‬ ‫‪ - 1‬مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي ‪ -‬بحوث يف املعلقات‪.‬‬
‫مل �أعرف له �سبباً‪ ،‬ثم حدثني دقيقتني‪ ،‬و�أعطاين من‬ ‫‪ -‬الغزل العذري‪ -‬ال�شعر العربي املعا�رص ‪ -‬ما ال�شعر‬
‫العظيم ‪ -‬تاريخ فل�سطني‪ -‬اب��ن الفار�ض‪ -‬مقدمة‬
‫رفوف املكتبة كتاباً‪ ،‬بعد �أن وعد ُته بقراءته‪..‬‬
‫للنفري‪ -‬القيمة واملعيار‪ -‬اخليال واحلرية‪ -‬ر�سالة‬
‫ُعدت يف ذلك اليوم فرح ًا �إىل البيت‪ ،‬فقد كانت تلك‬ ‫�إىل �سيدة ‪ -12‬تلك الأيام‪.‬‬
‫املرة الأوىل التي �أتلقى فيها هدية‪ ،‬كتاب ًا من امل�ؤلف‬
‫نف�سه‪ ،‬ومل �أكن قد ر�أيت م�ؤلف ًا قبل ذلك‪ ،‬ولعلّي كنت‬ ‫‪jhj‬‬
‫‪36‬‬ ‫\ ناقد و�أكادميي من فل�سطني‪.‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫الرتاث النقدي العربي والغربي لإنتاج نقد عربي‬ ‫يدب على الأر�ض‪،‬‬ ‫أظن �أن امل�ؤلف كائن نوراين ال ّ‬ ‫� ّ‬
‫ير�سخ ما دعاه د‪ .‬نعيم اليايف‪ ،‬يف ما بعد‪،‬‬ ‫جديد ّ‬ ‫وال يظهر بني النا�س �إال يف �أيام التجلّي‪.‬‬
‫باملنهج التكاملي‪ ،‬دون �أن يتخلّى عن التحليل‬ ‫هكذا بد�أت عالقتي مع يو�سف اليو�سف‪ ،‬مع كتابه‬
‫االجتماعي واالقت�صادي والبيئي للن�ص اجلاهلي‪،‬‬ ‫«مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي»‪ ،‬وكنت قبل �أن �أقر�أ‬
‫رابط ًا �إي��اه مبا عاناه ال�شاعر اجلاهلي من ته ّدم‬ ‫كتابه قد مررت مروراً �رسيع ًا على بع�ض ما كتبه‬
‫ح�ضاري وقمع جن�سي وطبيعة قا�سية ال ترحم‪.‬‬ ‫�شوقي �ضيف وحنا الفاخوري يف هذا املجال‪ .‬و�إذ‬
‫ن�ضيف �إىل ذلك � ّأن عناية الناقد بفكرة اغرتاب‬ ‫�أ�رسعت �إىل ما قاله عن ال�شنفرى ر�أيت �شيئ ًا عجباً‪:‬‬
‫ال�شاعر عن جمتمعه اجلاهلي‪ ،‬لأ�سباب خمتلفة‬ ‫�إن ما يقوله يختلف اختالف ًا بين ًا عما قاله الرجالن‪.‬‬
‫(النابغة‪ ،‬عنرتة‪ ،‬ال�شنفرى)‪ ،‬وهو ما �سيتجلّى الحق ًا‬ ‫لقد ع ّد وجود احليوان يف المية ال�شنفرى جتلّي ًا من‬
‫بفكرة اغرتاب ال�شاعر ـ �أي �شاعر ـ عن جمتمعه‪ ،‬ل ّأن‬ ‫جتليات املعادل املو�ضوعي‪ ،‬وه��ذا ما مل �أفهمه‬
‫ظاهرة الإبداع وفق ًا لر�ؤية اليو�سف تتجلّى بفكرة‬ ‫حينذاك‪ ،‬فعدت �إىل �أبيات ال�شنفرى‪:‬‬
‫وتفرده‪،‬‬
‫جوهرية هي اختالف املبدع عن الآخرين‪ّ ،‬‬ ‫ويل دونكم �أهلـون‪� :‬سي ٌد َع َملّ�س‬
‫ومن ثم اغرتابه الذي يقوده �إىل فكرة نبيلة يحملها‪،‬‬ ‫و�أرقطُ زهلولٌ ‪ ،‬وعرفاء جي�ألُ‬
‫ومتنح �أدبه جدارة الأدبية‪.‬‬ ‫�شائع‬
‫ٌ‬ ‫ال�رس‬
‫م�ستودع ّ‬‫ُ‬ ‫هم الرهطُ ال‬
‫وال نريد ه��ا هنا �أن نختلف م��ع الناقد يو�سف‬ ‫جر ُيخذلُ‬
‫لديهم وال اجلاين مبا ّ‬
‫اليو�سف‪ ،‬يف �أثناء احلديث عن رحيله الفاجع‪ ،‬حول‬ ‫عندئذ �شعرت بلذة خمتلفة‪� ،‬شعرت ك�أنني �أق��ر�أ‬
‫ماهية ال�شعر‪ ،‬وجوهره‪ ،‬والبحث عن القيم املت�سامية‬ ‫الأبيات لأول مرة‪� ،‬أح�س�ست � ّأن قراءة يو�سف اليو�سف‬
‫التي متنح الن�ص جوهر خلوده‪ ،‬و«الغريزة املثالية»‬ ‫قد �أ�ضافت �شيئ ًا لإح�سا�سي بالن�ص‪� ،‬شيئ ًا ميكن �أن‬
‫ن�سجل �أن اهتمام اليو�سف‬ ‫التي تنتجه‪ ،‬بل نريد �أن ّ‬ ‫ا�سميه (لّ��ذة الن�ص)‪ ،‬وعليه �س�أفهم هذا امل�صطلح‬
‫املتعمقة‬
‫ّ‬ ‫بالفل�سفة املثالية قاده �إىل نوع من القراءة‬ ‫«البارتي» يف ما بعد م�ستنداً �إىل تلك القراءة املبكّرة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التي �ستظهر يف كتبه الأخ���رى‪ ،‬وه��ي تبحث عن‬ ‫ثم �إىل اجلامعة‪ ،‬وكانت‬ ‫رافقتني هذه احلالة من ّ‬
‫ال�شخ�صيات التي حققت ذاتها بطريقة مثالية‪ ،‬بدءاً‬ ‫كتب الناقد يو�سف اليو�سف رفيق ًا دائماً‪ ،‬وكنت‬
‫من تناوله ل�شعراء الغزل العذري‪ ،‬مروراً بتجربتي‬ ‫�أحر�ص دائم ًا على �إعادة قراءة الن�صو�ص ال�شعرية‬
‫ابن الفار�ض والنفري‪ ،‬و�صو ًال �إىل غ�سان كنفاين‪� ،‬إذ‬ ‫بعد قراءة نقد اليو�سف‪� ،‬سعي ًا لل�شعور بتلك اللذة‪.‬‬
‫ي�سعى �أولئك‪ ،‬ك ّل بطريقته‪،‬‬ ‫و�أ�شري هنا ب�شكل خا�ص �إىل (مقاالت يف ال�شعر‬
‫�إىل حت��ق��ي��ق ال������ذات عرب‬ ‫اجلاهلي) و(بحوث يف املعلقات) و(الغزل العذري)؛‬
‫الإخال�ص للفكرة التي ي�ؤمن‬ ‫�إذ وجدت فيهما نقداً يتجاوز ما كنت قد �ألِف ُته من‬
‫بها‪ ،‬وال�سعي �إىل حتقيقها‬ ‫قراءات مو�ضوعية للن�صو�ص اجلاهلية‪� ،‬أو قراءات‬
‫يف كتابته ويف حياته‪.‬‬ ‫ت ّدعي �أنها قراءات فنية‪ ،‬مكتفية با�ستخراج اجلمل‬
‫لقد ك��ان ال��ن��اق��د ي��رى يف‬ ‫الإن�شائية واخل�بري��ة‪ ،‬وحتليل ال�صور اجلمالية‬
‫الأدب‪ ،‬ويف ال�شعر ب�شكل‬ ‫بطريقة تقليدية‪ ،‬دون التغلغل يف عمق الن�ص‪،‬‬
‫خا�ص‪ ،‬عالقة خا�صة بني‬ ‫وك�شف دالالته اخلبيئة‪.‬‬
‫النف�س والأ�شياء‪ ،‬فهو يقول‬ ‫لقد ق�� ّدم اليو�سف للنظرية النقدية التي تناولت‬
‫يف حوار �أجراه معه كل من‬ ‫ال�شعر اجلاهلي خدمات ُجلّى‪ ،‬ف�أدخل �إىل قراءة‬
‫عبد املنعم ق��دورة و�سعيد‬ ‫الن�ص الأبعاد النف�سية التي تعنى بك�شف الدوافع‬
‫الربغوثي يف العدد ‪ 30‬من‬ ‫(اجلوانية) املح ّفزة لإنتاج ال�شعر‪ ،‬م�ستفيداً من‬ ‫ّ‬
‫‪37‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عما‬‫الأدب‪ ،‬بو�صفه ن�شاط ًا �إن�سانياً‪ ،‬هو التعبري ّ‬ ‫جملة نزوى‪ ،‬قبل �سنوات‪�« :‬إن ال�شعر �شعور‪ ،‬وعلى‬
‫�أ�سماه الروح النبيل‪.‬‬ ‫الأ�شياء �أن ت�ستحيل �إىل م�شاعر كي ت�صري �صاحلة‬
‫من هذا الروح النبيل الذي يراه اليو�سف �رضورة‬ ‫للولوج يف بنية الق�صيدة احلية الفاتنة‪ .‬ول�ست‬
‫جتعل من الإن�سان جديراً ب�صفته الإن�سانية ينطلق‬ ‫�أ�ؤكد على �شيء بقدر ما �أ�ؤكد على �أهمية التجربة‬
‫ليق ّدم للمكتبة العربية ع ّدة كتب‪ ،‬حتيل على ف�سطني‬ ‫االن�سانية‪� ،‬أق�صد بال�ضبط ممار�سة الإن�سان للحياة‬
‫ما�ضي ًا وحا�رضاً‪ ،‬في�ؤلّف كتب ًا عن حطني وغ�سان‬ ‫وعالقته بها‪� .‬إن ال�شعر‪ ،‬بل الفن بعامة‪� ،‬إمنا يخزن‬
‫كنفاين و�سمرية ع��زام‪ ،‬وغري ذلك من الكتب التي‬ ‫�أو ي�ست�ضيف العالقة التي بني النف�س والأ�شياء‪،‬‬
‫يدافع بها عن الثقاقة الإن�سانية‪ ،‬وال�شخ�صية‬ ‫فالنف�س بغري الأ�شياء لي�ست �سوى خواء‪ ،‬والأ�شياء‬
‫احل�ضارية لل�شعب العربي الفل�سطيني ال��ذي يراه‬ ‫بغري النف�س لي�ست �سوى حياد‪� ،‬أو حتى بال معنى‪.‬‬
‫�شعب ًا �شهيداً‪ ،‬وفق ًا ملقابلة �أجراها معه �أ�سامة العبد‪،‬‬ ‫ولهذا يجوز القول ب�أن الكون مل يكتمل �إال يوم جاء‬
‫ون�رشها امللحق الثقايف ل�صحيفة الثورة الدم�شقية‬ ‫الإن�سان‪� ،‬أو الوعي‪� ،‬إىل الوجود”‪.‬‬
‫يف ‪:2006/1/7‬‬ ‫كنت قد قمت بها‬ ‫يقودين هذا الكالم �إىل مغامرة ُ‬
‫« �إننا �شعب �شهيد �ضحى به العامل على مذبح يهوا‪،‬‬ ‫عام ‪� ،1988‬أي يف بداية �أحداث االنتفا�ضة الأوىل‪،‬‬
‫ول�صالح كائنات ذات �أنياب زرقاء»‪.‬‬ ‫كنت‬
‫بعر�ض مقطوعة �شعرية عليه‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫(غامرت)‬
‫ُ‬ ‫�إذ‬
‫يف جزء من تلك املقابلة يق ّدم اليو�سف تعريف ًا بكتابه‬ ‫قد كتبتها حول االنتفا�ضة‪( ،‬وعر�ض ق�صيدة على‬
‫(تلك الأيام) الذي ي�ؤكّ د فيه �أن طرد الفل�سطينيني مت‬ ‫الأ�ستاذ يو�سف اليو�سف مغامرة كبرية‪ ،‬فهو الذي‬
‫بفعل م�سل�سل من املجازر ال�شنيعة؛ لذلك يرى من‬ ‫ينج من نقده �أكرب ال�شعراء‬‫ال يعجبه العجب‪ ،‬ومل ُ‬
‫واجبه‪ ،‬بو�صفه مثقف ًا كوني ًا ي�سعى �إىل �إعالء قيمة‬ ‫و�أعظمهم)‪� .‬أذكر �أن عنوان الق�صيدة كان «ما تبقى‬
‫الوجدان‪� ،‬أال ي�سمح للعدو ب�إزالة تفا�صيل احل�ضارة‬ ‫من اجل��رح»‪ ،‬فكتب يل حتتها مالحظة خمت�رصة‪:‬‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬و�أن يربز يف ذلك الكتاب تقاليد الزواج‬ ‫«تنق�صها ملعق ٌة من ماء القلب»‪.‬‬
‫ُ‬
‫والعر�س والعيد والدبكة والغناء واللبا�س‪ ،‬وغري ذلك‬ ‫جل�ست يومذاك مع الأ�ستاذ �أحمد ال�رس�ساوي‪ ،‬وهو‬
‫مما مينح الإن�سان الفل�سطيني ح�صانة ح�ضارية ال‬ ‫املقربني‪ ،‬و�ضحكنا‬ ‫ّ‬ ‫من �أ�صدقاء الأ�ستاذ يو�سف‬
‫متكّن �أعداءه من اقتالعه‪.‬‬ ‫كثرياً على «ماء القلب» هذه‪ .‬غري �أنني اكت�شفت يف‬
‫� ّإن من يقر�أ «تلك الأيام» يدرك مدى اهتمام اليو�سف‬ ‫ما بعد �أن هاتني الكلمتني تلخ�صان نظرته لل�شعر‪،‬‬
‫بالتفا�صيل‪ ،‬تلك التفا�صيل القابعة يف ذاكرة الطفل‬ ‫ول�ل�أدب عموماً‪ ،‬فهو يرى �أن ال�سامي املت�سامي‬
‫الفل�سطيني الذي خرج من فل�سطني‪ ،‬وهو ابن ع�رش‬ ‫جوهر الأدب اخلالد يف ال�رشق والغرب‪ ،‬و� ّأن التعبري‬
‫�سنوات‪ ،‬وحمل معه الزمان واملكان �إىل املنفى‪،‬‬ ‫عن الأ�شياء دون القدرة على نقل �إح�سا�س املبدع �إىل‬
‫وحاول �أن ير�سم يف منفاه ظ ًال لذلك الوطن‪ ،‬تجَ َ ّ�س َد‬ ‫القارئ يفقد الأدب‪ ،‬يف نظر الناقد‪ ،‬جوهره النبيل‪.‬‬
‫يف حديقة منزله يف خميم الريموك‪ ،‬تلك احلديقة‬
‫‪jhj‬‬
‫التي كان ي�رشب فيها قهوته ال�صباحية‪ ،‬وينتمي‬
‫�إليها كمن ينتمي �إىل ذاكرة وطن‪.‬‬ ‫وعلى الرغم مما يبدو من ثقافة نقدية رفيعة يف‬
‫�أتذكّ ر تلك احلديقة مثل ظ ّل باهت‪ ،‬وقد كتبت �إىل‬ ‫كل عبارة ينحتها الناقد يو�سف اليو�سف‪ ،‬ف�إنه‬
‫�صديقي ع�صام �سعيدان (وهو �صديق املثنى �أحد‬ ‫م�رصاً على �أن وعيه النقدي مل يت�شكّل من‬
‫ّ‬ ‫يبقى‬
‫�أوالد الناقد الكبري) �أ�س�أله �أن يثبت يل تفا�صيلها‬ ‫هيغل وفرويد والآم��دي واجلرجاين‪ ،‬بل من النكبة‬
‫يف ذاكرتي‪ ،‬ف�أ�شار �إىل �أن اليو�سف الذي كان ي�رشب‬ ‫الفل�سطينية ذاتها‪ ،‬لأن النكبة جعلته ي�ؤمن �أن‬
‫قهوته ال�صباحية ويدخن ويقر�أ يف تلك احلديقة‬ ‫ال�ضمري هو اخلري الأعظم يف الإن�سان‪ ،‬و� ّأن جوهر‬
‫‪38‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫كنت حينها حتت دورة يف كلية الدفاع اجلوي يف‬ ‫مت‪،‬‬ ‫الأثرية �إىل نف�سه‪� ،‬أ�صبح رج ًال �صعب املزاج حني ّ‬
‫علي تدبر �أمور الهرب لي ًال‬
‫حم�ص‪ ،‬وكان من ال�سهل ّ‬ ‫هدم منزله العربي‪ ،‬وبنا�ؤه‬ ‫بناء على رغبة �أوالده‪ُ ،‬‬‫ً‬
‫الكلية للقاء ح�سني ويو�سف وملّة الأ�صدقاء‬ ‫َّ‬ ‫من‬ ‫على طراز حديث‪� ،‬أطاح باحلديقة وما حتيل عليه‬
‫حولهما خالل �أيام وجودهما يف حم�ص‪.‬‬ ‫من ذكريات غالية‪.‬‬
‫الحق ًا مت فرزي لاللتحاق ب�إحدى كتائب ال�صواريخ‬ ‫خيبة جديدة تن�ضاف �إىل خيبات ذلك الرجل‪ ،‬ونفي‬
‫ي�سمى‬
‫املتمركزة يف غباغب‪� ،‬أي قريب ًا مما كان َّ‬ ‫جديد‪ ،‬داخل منزله اجلديد‪ .‬وك��� ّأن رحيله الق�رسي‬
‫«اجلبهة»‪ ،‬وقد ا�ست�أجرت حينها غرفة يف خميم‬ ‫من فل�سطني‪ ،‬وك���أن هجرته من لبنان �إىل خميم‬
‫الريموك‪ .‬كان يزورين �أ�صدقاء كرث من �أمثال عبد‬ ‫الريموك‪ ،‬مل تكفي لك�رس قلبه‪ ..‬لذلك جاءت هجرته‬
‫القادر احل�صني ونوري اجلراح وخمتار العلي‪،‬‬ ‫الثالثة‪ ،‬من خميم الريموك بعد �أن دخله امل�سلحون‪،‬‬
‫وكانوا يعرفون يو�سف اليو�سف‪ ،‬و�أبلغوين �أن بيته‬ ‫و�صار جزءاً من لعبة الأمم يف �سورية‪ ،‬لينتقل �إىل‬
‫ال يبعد عن �سكني �سوى �أمتار‪ .‬زرته مع بع�ض‬ ‫ثم �إىل عامل �أخري ينتظر فيه عد ًال‬
‫خميم نهر البارد‪ّ ،‬‬
‫الأ�صدقاء‪ ،‬وكم غمرتني حميميته وحميمية �أم‬ ‫كان يبحث عنه طوال حياته‪.‬‬
‫الوليد و�أوالدهما‪� .‬أ�رسة فل�سطينية حق ًا وبامتياز‪.‬‬ ‫و�إذا كان «ذو العقل ي�شقى يف النعيم بعقله» كما‬
‫كان �أهداين يف حم�ص كتابه «بحوث يف املعلقات»‪.‬‬ ‫يقول املتنبي‪ ،‬فما هو �ش�أن يو�سف اليو�سف‪ ،‬وهو‬
‫ال �أبالغ �أبداً حني �أقول �إنه �أهم كتاب قر�أته يف‬ ‫ذو العقل ال��ذي ك��ان يعاين جحيم النفي والقهر‬
‫حياتي عن املعلقات‪ ،‬و�إن �رشح املعلقات ال�سبع‬ ‫واخليبة؟؟‬
‫للزوزين‪ ،‬الذي اعتمدته جامعة دم�شق مرجع ًا لطالب‬
‫‪jhj‬‬
‫اللغة العربية‪ ،‬مل يكن �أكرث من �رشوح �ضح�ضاحة‬
‫قيا�س ًا �إىل غنى وعمق و�شمول وجماليات بحوث‬
‫يو�سف اليو�سف‪ .‬ك�أين لأول مرة �أ�صحو على حقيقة‬
‫‪� v‬شذرات �شخ�صية عن ال�صديق‬
‫�أن مراجعنا الأهم لي�ست يف املا�ضي‪ .‬الحق ًا قر�أت‬ ‫يو�سف �سامي اليو�سف‬
‫كتابه «مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي»‪ .‬مع يو�سف‬
‫اليو�سف جت َّد َد ال�شعر اجلاهلي بالن�سبة يل‪ ،‬فلم يعد‬
‫\‬
‫فرج بريقدار‬
‫غريب ًا عن ع�رصنا وفهمه ومعارفه ولغته و�أدواته‪.‬‬ ‫ات�صل بي �أحد الأ�صدقاء‪ ،‬ليقول يل �إن هناك‬
‫بدا يل �أن ذخرية يو�سف اليو�سف عن ال�شعر اجلاهلي‬ ‫خم ِرج ًا فل�سطيني ًا ا�سمه ح�سني الأ�سمر‪ ،‬موجود‬
‫غري قابلة للنفاد‪ ،‬ورمبا ال مت�سع معها لأي نقد‬ ‫الآن يف حم�ص ويرغب يف لقائك‪ .‬كان ذلك �أوا�سط‬
‫�أدبي �آخر‪ .‬ولكن كتاباته الالحقة عن ال�شعر العربي‬ ‫ال�سبعينيات‪ ،‬بعد �أن منعتني املخابرات ال�سورية من‬
‫املعا�رص‪ ،‬وال�شعر العذري‪ ،‬و�أدب غ�سان كنفاين‪،‬‬ ‫العودة �إىل بوداب�ست ملتابعة درا�سة الإخراج‪ ،‬وذلك‬
‫والرواية العربية والعاملية‪ ،‬والن ّفري وابن الفار�ض‬ ‫ب�سبب موقفي املعار�ض لتدخل النظام ال�سوري يف‬
‫والت�صوف عموماً‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ما �أ�سمعه منه‬ ‫ّ‬ ‫لبنان‪ ،‬وبالتايل مت �سوقي �إىل اخلدمة الإلزامية‪.‬‬
‫يف حواراتنا �شبه اليومية ل�سنوات طويلة‪ ،‬جعلتني‬ ‫نزلت �إىل موعد اتفقنا عليه والتقيت بح�سني‪ .‬كان‬
‫�أدرك �أن املرء قادر على �أن يعي�ش �أكرث من حياة‬ ‫�سهمي املالحظة والتعليق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رحمي القامة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معه رجل‬
‫و�أكرث من ع�رص‪ .‬مع مرور ال�سنوات تنوعت �أحاديثنا‬ ‫ومت�شابك الأغ�صان يف �أفكاره وتنوعها �أدبي ًا‬
‫وان�رسبت �إىل تفا�صيل حياتية اجتماعية و�شخ�صية‪.‬‬ ‫وفل�سفي ًا ونقدي ًا وت�صوفي ًا وعلم نف�س �إلخ‪� .‬س�ألت‬
‫حدثني عن قريته لوبية‪ ،‬وعن مغارة العري�س التي‬ ‫ح�سني عنه ف�أجابني باخت�صار‪� :‬إنه يو�سف اليو�سف‬
‫ي�ستحم يف نبعها «عينها» كل‬ ‫ّ‬ ‫اقت�ضت الأعراف �أن‬ ‫«�أبو الوليد»‪ ،‬ناقد عميق الأغوار و�سيعجبك كثرياً‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫�شاعر وكاتب من �سورية‪.‬‬ ‫\‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ابنها‪ ،‬كما �أبو الوليد ابنها‪ ،‬و�أم علي ابنتها‪.‬‬ ‫�شاب لوباين قبل ليلة دخلته‪ .‬ولكن تلك املغارة‬
‫ل�سبب ما‪ ،‬ولغام�ض علمه‪� ،‬رصت جزءاً من �أ�رسة‬ ‫حتول ا�سمها �إىل مغارة ال�شهداء‪ ،‬بعد �أن ُدفن‬
‫للأ�سف َّ‬
‫�أخي �أبي الوليد‪ .‬مل يعد يختلف دخويل �إىل بيتهم‬ ‫فيها �سبعة وع�رشون �شاب ًا قتلتهم الهاجاناه‪ ،‬وهم‬
‫عن دخويل �إىل بيت �أهلي‪ ،‬وبخا�صة بعد انتهاء‬ ‫يف طريق عودتهم من العمل �إىل قريتهم‪ .‬وحدثني‬
‫خدمتي الإلزامية وبقائي يف املخيم‪� .‬أزعم �أن تلك‬ ‫تعر�ضت له القرية من ق�صف �صهيوين يف تلك‬ ‫عما ّ‬
‫الفرتة �أعادت تكويني باملعنى الثقايف‪ ،‬وجعلتني‬ ‫الأيام‪ ،‬وكيف �أُجرب الأهايل �أطفالهم على االختباء‬
‫فل�سطيني ًا �أكرث مما كنت‪ ،‬وملأت حياتي‪ ،‬كما حياة‬ ‫أ�رسة‪ .‬كما حدثني عن بطوالت رجال القرية‬ ‫حتت ال ّ‬
‫وى وخياالت‬ ‫و�ص ً‬
‫الكثريين‪� ،‬أ�شجاراً وطيوراً و�أحالم ًا ُ‬ ‫من �أمثال �أبو ح�سن ر�رشا�ش الذي متكن ببندقيته‬
‫وعناقيد؟‬ ‫القدمية �أن يطفئ برجكتور �أحد القوارب الإ�رسائيلية‬
‫يوم ًا ما قال يل �أبو الوليد‪ :‬ينبغي �أن �أب ِّدل �شيئ ًا‬ ‫كان اليو�سف يف بحرية طربيا‪ ،‬وكذلك من �أمثال �أبو‬
‫يف ا�سمي يا فرج‪ ،‬فماذا تقول؟‪ .‬يف احلقيقة مل �أكن‬ ‫ر�سمي عودة وغريهما الكثري‪ .‬حينها‬
‫ي�ؤمن ب�أن‬
‫مرتاح ًا للفكرة‪ ،‬ولكني �س�ألته عن ال�سبب‪ ،‬فقال‬ ‫ت�شكَّلت يف ذاكرتي ق�صيدة عن لوبية‬
‫يل‪� :‬إن هناك ناقداً عربي ًا بنف�س الإ�سم‪ ،‬وال �أريد �أن‬ ‫الكتابة وكتبتها الحق ًا ون�رشتها يف ملحق‬
‫القراء م�س�ؤولية‬ ‫أتعر�ض الحتمال �أن يحملني بع�ض ّ‬ ‫� ّ‬ ‫جتربة الثورة الأدبي يف تلك الأيام‪َّ ،‬‬
‫فكر�ستني‬
‫كتاباته‪� .‬س�ألته عن البديل‪ ،‬فقال‪� :‬س�أ�ضيف ا�سم‬ ‫كيانية‪ ،‬و�أن تلك الق�صيدة �شاعراً فل�سطينياً‪ ،‬ح�سب‬
‫والدي الذي تويف �شاب ًا وتركني �صغرياً لنكبات لها‬ ‫الأدب العظيم ما كتبه �شوقي بغدادي عن الق�صيدة يف‬
‫�أول وما لها �آخر‪ .‬فيما بعد �صارت مقاالت وكتب‬ ‫هو الذي ال�صفحة املقابلة يف امللحق‪ .‬فيما بعد‬
‫�أبي الوليد ت�صدر با�سم‪ :‬يو�سف �سامي اليو�سف‪.‬‬ ‫التقيت ال�شاعر �شوقي بغدادي وعاتبته‬
‫قلبي على �سامي الأب‪ ،‬ويو�سف االبن و�أمثالهما‬ ‫يعرب عن على قوله �إن حرارة الق�صيدة مفهومة‬
‫ممن اكتووا بجمر التغريبة الفل�سطينية‪.‬‬ ‫هذه التجربة كون ال�شاعر فل�سطينياً‪ ،‬وواقع احلال‬
‫تغيرَّ ت الدنيا يف �سوريا كثرياً بعد عام ‪ .1982‬قلت‬ ‫الكيان ّية �أين �سوري‪ .‬قال يل �شوقي �إنه �س�أل ثالثة‬
‫لأبي الوليد‪ :‬ال �أريد لك املزيد من وجع الر�أ�س‪ ..‬لقد‬ ‫�أو �أربعة �أ�صدقاء عني وكلهم قالوا له‬
‫أ�صبحت مطلوب ًا وحايل واحد اتنني تالتة �إلخ‪ .‬قال‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫�إنني فل�سطيني‪ .‬يف احلقيقة مل يكونوا‬
‫يل‪ :‬ال تقلق �أبداً‪ ،‬فهذا بيتك‪ ،‬ونحن �أهلك‪ ،‬ول�ست‬ ‫خمطئني‪ ،‬متام ًا كما �أرى نف�سي غري خمطئ حني‬
‫�أنت من يحتاج لن�صيحتي يف كيفية مراقبة نف�سك‬ ‫ر�أيت وال �أزال �أن الآالف من �أ�صدقائي الفل�سطينيني‬
‫خارجاً‪� ..‬أما يف بيتنا فال خوف‪ ..‬للبيت منافذ‬ ‫�إمنا هم �سوريون �أي�ضاً‪ ،‬وذلك قبل الثورة ولي�س‬
‫عديدة للهرب عند ال�رضورة‪.‬‬ ‫بعدها فقط‪.‬‬
‫مرت �سنوات والأمور على ما يرام‪� ،‬إىل �أن جاء ذات‬ ‫ّ‬ ‫بعد تلك الق�صيدة �شعرت كما لو ان كنيتي يف املخيم‬
‫يوم ال�صديق ال�سيناري�ست ح�سن �سامي اليو�سف‪،‬‬ ‫تغيرَّ ت من بريقدار �إىل اليو�سف �أو عودة �أو اللوباين‬
‫�أخو �أبي الوليد الأ�صغر‪ .‬كان هادئ املالمح‪ ،‬رغم‬ ‫ب�صورة عامة‪.‬‬
‫يل‬‫تالهث �أنفا�سه ب�سبب امل�سافة الفا�صلة بني منز ّ‬ ‫�أم ال�صديق علي ال�شهابي‪ ،‬الذي ال يخرج من اعتقال‬
‫�أبي النور و�أبي الوليد‪ ،‬وهو يبلغنا �أن ال�ضابطة‬ ‫�إال ليدخل يف مثله‪ ،‬وللأ�سف هو معتقل الآن‪ ،‬بحثت‬
‫الفدائية ورمبا فرع فل�سطني‪� ،‬أو كليهما مع ًا عند‬ ‫«ودقد�ست» كثرياً عني �إىل �أن و�صلت �إيلّ‪ ،‬ودعتني‬
‫�أخيهما الأكرب �أبي النور وي�س�ألون عن فرج بريقدار‪،‬‬ ‫�إىل وليمة ي�صعب �أن يحلم بها �شخ�ص مطلوب‬
‫و�أ�ضاف �أن �أخاه �أبا النور قال لهم �إنه ال يعرف‬ ‫ومتخف من �أمثايل‪ ،‬ثم رجتني �أن �أ�سمعها الق�صيدة‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫�شيئ ًا عن فرج بريقدار‪ ،‬ولكن لو كان يعرف ف�إنه‬ ‫�آمل �أن تعذروين على اال�ستطرادات‪� ..‬إنها لوبية و�أنا‬
‫‪40‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫وتوا�صلت عرب الزاجل‬


‫ُ‬ ‫قامة مروان الرحمية ك�أبيه‪.‬‬ ‫لن يدلَّ عليه‪ .‬م�شتاق �إىل الغاليني ح�سن و�أبي النور‪،‬‬
‫ال�سحري مع الوليد‪ ،‬االبن الأكرب ل�صديقي يو�سف‪،‬‬ ‫وللأ�سف �أين ال �أعرف �أخبارهما يف هذه الأيام‪.‬‬
‫وقد جر�شت روحي �أخبارهما عن ا�ضطرار الوالد‬ ‫جرت «مرا�سيم» تهريبي من عند �أبي الوليد عرب‬
‫والوالدة �إىل ترك خميم الريموك بعد ق�صف �شارع‬ ‫املخيم‪ ،‬ومل يعد يف و�سعي‬ ‫َّ‬ ‫ال�سطوح املتال�صقة يف‬
‫اجلاعونة‪ ،‬حيث بيتهما‪ ،‬وق�صف غريه من �شوارع‬ ‫ُ‬
‫بعدها لقاء �أخي �أبي الوليد �إىل �أن أ�فرج عني بعد ‪14‬‬
‫املخيم‪� ،‬إىل الرحيل جمدداً �إىل خميم نهر البارد يف‬ ‫عاماً‪ .‬كان �أبو الوليد بعد كل ذلك الزمن متعباً‪ ..‬يف‬
‫لبنان‪.‬‬ ‫احلقيقة كان مت َعب القلب‪ ،‬متو ّقد الذهن والذاكرة‪ .‬يا‬
‫املخيم‪،‬‬ ‫كم متنيت لو ا�ستطاع �أبو الوليد انتظار حلم‬ ‫حتمل‪.‬‬
‫لقلبه كم َّ‬
‫َّ‬
‫�أو حلم �سوريا‪� ،‬أو حلم فل�سطني‪.‬‬ ‫أدر�س الأدب اجلاهلي يف‬ ‫يف عام ‪ 2004‬كنت � ِّ‬
‫مل ي�ستطع قلب �أبي الوليد املزيد‪ ،‬ولكني �آمل ملحبيه‪،‬‬ ‫جامعة ليدن يف هولندا‪ ..‬ومل يكن يل م�سعف �أكرب �أو‬
‫�أهم من كتب �صديقي �أبي الوليد عن ال�شعر اجلاهلي‪،‬‬
‫و�أنا �أو نحن منهم‪� ،‬أن ي�ستطيعوا‪.‬‬
‫وكم كان ذلك يجعل حنيني �إليه �آه ًال بالطراوة‬
‫‪jhj‬‬ ‫والندى‪� ..‬أعرف �أن قامو�س �أخي �أبي الوليد مييل �إىل‬
‫ا�ستخدام لفظة الطراء بد ًال من الطراوة‪ ،‬ولكني حني‬
‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‬ ‫قلتها له فيما بعد‪� ،‬إمنا قلتها بطريقة �أهلي‪.‬‬
‫الآن‪� ،‬أعني يف �شهر (�أيار) ‪ ،2013‬وبكامل ب�ساطة‬
‫وظلم اجلغرافيا‬ ‫احلياة واملوت‪ ،‬والقوة وال�ضعف‪ ،‬واحللم والواقع‪،‬‬
‫واحلرية والق�رس‪ ،‬والورد وال�شوك‪ ،‬يرحل �أبو الوليد‪.‬‬
‫\‬
‫فخري �صالح‬
‫كم كان زاهداً يف ال�شهرة‪ ،‬د�ؤوب ًا على ما ميكث يف‬
‫ظلمت اجلغرافيا الناقد الفل�سطيني الراحل يو�سف‬ ‫الأر�ض‪ ،‬مرتفع ًا عن دكاكني ال�سيا�سة والثقافة‪،‬‬
‫�سامي اليو�سف (‪ )2013 -1938‬مرتني‪ ،‬الأوىل‬ ‫ولهذا مل تكرتث م�ؤ�س�سات منظمة التحرير به يف‬
‫عندما ُه ّجر مع عائلته عام ‪� 1948‬إىل لبنان ثم‬ ‫حياته الإبداعية‪ ،‬وبالطبع مل تكرتث م�ؤ�س�سات‬
‫�إىل �سوريا‪ ،‬والثانية عندما ا�ضطر �إىل مغادرة خميم‬ ‫النظام ال�سوري‪ .‬قد يكون �أول اكرتاث ر�سمي به جاء‬
‫الريموك يف دم�شق نتيجة املعارك التي وجد �أبناء‬ ‫بعد رحيله عرب ر�سالة من رئي�س ال�سلطة الفل�سطينية‬
‫املخيم �أنف�سهم يف و�سطها �أواخر ال�سنة املا�ضية‪.‬‬ ‫حممود عبا�س لأ�رسته‪ .‬ال �أدري �إن كان الرئي�س‬
‫عبا�س قد �سمع بهذه القامة الفل�سطينية والعربية‬
‫والإن�سانية العمالقة قبل رحيلها‪ ،‬وال �أدري �إن‬
‫كان حاول دعمها �أدبي ًا �أو معنوي ًا �أو حتى مادياً‪..‬‬
‫فليتف�ضل الآن‬
‫ّ‬ ‫�إن كان مل يدرك ومل يفعل �سابق ًا‬
‫ب�إن�صاف هذه القامة تكرمي ًا ون�رشاً و�إعالم ًا وغريه‬
‫مما يليق برموز فل�سطني‪ ،‬بل برموز الثقافة العربية‬
‫الكبار‪.‬‬
‫منذ �شهور زرت مدينة ماملو يف جنوبي ال�سويد‪،‬‬
‫والتقيت مبروان ابن �أخي �أبي الوليد‪ .‬كان مروان‬
‫�صغرياً يف تلك الأيام التي �أحتدث عنها‪ ،‬وقد‬
‫ف�شلت يف �أن ال �أك�رس �صورة املا�ضي‪� ،‬إذ ك�رستها‬ ‫ُ‬
‫‪41‬‬ ‫\ ناقد من الأردن‪.‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مطولة جمعها يف كتابه‬ ‫اجلديدة يف خم�س مقاالت ّ‬ ‫يف املرة الأوىل كافح اليو�سف مع عائلته لينجو من‬
‫«ال�شعر العربي املعا�رص» مركّ زا ب�صورة �أ�سا�سية‬ ‫وهوبة �شعبه لي�صبح‬‫ّ‬ ‫هويته‬
‫كارثة حمو ّ‬
‫على �شعر ال�سياب و�أدوني�س‪� ،‬إ�ضافة �إىل درا�سة‬ ‫كتب مذكراته واحداً من النقاد العرب الذين ي�شار‬
‫عن تطور ال�شعر الفل�سطيني املقاوم‪ .‬واملت�أمل‬ ‫«تلك الأيام» �إليهم بالبنان‪ .‬لكن الرحيل الثاين يف‬
‫لهذه الدرا�سات يجد �أنها طالعة من ر�ؤيته ال�شاملة‬ ‫خميم نهر البارد يف لبنان ك�رس‬ ‫مطرزاً اجتاه ّ‬ ‫ّ‬
‫لل�شعر والأدب والثقافة‪ ،‬وال تنف�صل عن قراءته‬ ‫ب�أ�سلوبه قلبه‪ .‬لقد �أيقن �أن الرحيل والت�رشد هما‬
‫لل�شعر العربي القدمي‪ .‬فالأدب بالن�سبة له هو تعبري‬ ‫قدر الفل�سطيني والعالمة الفارقة التي‬
‫العذب‪،‬‬
‫عميق عن م�أ�ساة الوجود الكربى‪ ،‬وهو ما عبرّ عنه‬ ‫تنطبع على ج�سده‪ ،‬ف�آثر الرحيل عن هذا‬
‫يف درا�سة مك ّثفة عن غ�سان كنفاين معنونا كتابه‬ ‫وبيانه العامل الظامل �شديد الق�سوة‪.‬‬
‫�صغري احلجم بـ«رع�شة امل�أ�ساة»‪.‬‬ ‫ال�ساحر‪ ،‬كان اليو�سف ي�ؤمن ب�أن الكتابة جتربة‬
‫الر�ؤية نف�سها تقيم يف �أ�سا�س كتابه «ما ال�شعر‬ ‫ملحمته كيانية‪ ،‬و�أن الأدب العظيم هو الذي يعرب‬
‫الكيانية‪ .‬وقد قادته‬
‫ّ‬ ‫ملحمة ال�شعب عن هذه التجربة‬
‫العظيم؟» الذي ي�ؤكد فيه �أن ال�شعر تعبري عن التجربة‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬ر�ؤيته النقدية هذه‪ ،‬التي ت�ستفيد بعمق‬
‫ي�شن يف هذا الكتاب حملة �رش�سة‬‫الكلية للوجود‪ .‬وهو ّ‬‫ّ‬ ‫اجلدلية خ�صو�صا‬
‫ّ‬ ‫من الفل�سفة املثالية‬
‫مادية الع�رص ونزعة الت�سليع واال�ستهالك فيه‪،‬‬ ‫على ّ‬ ‫و�سكب فيها‬
‫فل�سفة الأملاين هيجل‪� ،‬إىل غزو املنابع‬
‫داعي ًا �إىل �إعادة النظر يف نظرية ال�شعر ونظرية الفن‬ ‫ع�صارة الأدبية والثقافية الكربى يف الأدب‬
‫املادي املعا�رص‪ .‬وهو من‬
‫ّ‬ ‫اللتني تنتميان �إىل الغرب‬ ‫عذاباته العربي وكذلك يف �آداب العامل املختلفة‪.‬‬
‫ثم يدعو �إىل العودة �إىل جذور ال�شعر والفن املركزية‬ ‫ّ‬ ‫و�أحالمه ومن يقر�أ م�ؤلفاته‪ ،‬التي �أجنزها يف‬
‫والن�صو�ص الكربى التي تت�صل مبنابع الوجود‪.‬‬ ‫مردداً فرتة مبكرة من جتربته النقدية‪� ،‬سيعرث‬
‫لقد ظلم تاريخ النقد العربي املعا�رص ا�سم يو�سف‬ ‫با�ستمرار «ال على ت�أثري امل�أ�ساة الفل�سطينية يف‬
‫�سامي اليو�سف‪ ،‬كما ظلمته اجلغرافيا؛ بل رمبا كان‬ ‫تكوينه الثقايف والنقدي‪ ،‬فقد �آمن �أن‬
‫ظلم من كتبوا عن النقد العربي املعا�رص لليو�سف‬ ‫ريب عندي‬
‫جتربة الوجود‪ ،‬وامل�أ�ساة خا�صة‪ ،‬هي‬
‫�أكرث فداح ًة وجتاه ًال ون�سياناً؛ فهو ناق ٌد عربي كبري‬ ‫املكون الأ�سا�سي للأدب العظيم‪.‬‬ ‫طال الزمان‬
‫ّ‬
‫ميتلك ر�ؤية ونظرة عميقتني �إىل الأدب والثقافة‪.‬‬ ‫�أم ق�صر‪ ،‬اجته يو�سف �سامي اليو�سف �إىل الأدب‬
‫فيو�سف �سامي اليو�سف‪� ،‬إ�ضافة �إىل عودته لقراءة‬ ‫الكيانية‬
‫ّ‬ ‫�إ�سرائيل �إىل اجلاهلي لريى عنا�رص التجربة‬
‫ال�شعر العربي القدمي قراءة جديدة‪ ،‬مل يتوان عن‬ ‫ميز‬
‫زوال الوجودية يف هذا الأدب‪ .‬وقد ّ‬
‫و�ضع الظواهر الثقافية العربية املعا�رصة مو�ضع‬ ‫�أ�س�س هذه التجربة الوجودية الكربى‬
‫البحث وامل�ساءلة‪ ،‬جاع ًال ال�شعر العربي يف ب�ؤرة‬ ‫يف معلقات �شعراء اجلاهلية‪ ،‬والغزل‬
‫تفكريه النقدي‪ ،‬لأن ال�شعر من وجهة نظره هو النوع‬ ‫العذري‪ ،‬حملال بعمق هاتني الظاهرتني ال�شعريتني‬ ‫ّ‬
‫أهم يف �إنتاج العرب قدمي ًا وحديثاً‪ .‬ولعل‬‫الأبرز وال ّ‬ ‫الثقافيتني يف الأدب العربي‪ .‬ولعل تلك الفرتة التي‬
‫ذلك يدفعنا �إىل �إعادة االعتبار لناقد كبري دفعته‬ ‫�أجنز فيها اليو�سف ثالثة من كتبه‪« :‬مقاالت يف‬
‫االنك�سارات الكربى �إىل االنزواء بعيداً خالل العقدين‬ ‫ال�شعر اجلاهلي»‪ ،‬و«بحوث يف املعلقات» و»الغزل‬
‫املا�ضيني‪ ،‬كاتب ّا مذكرات ت�رش ّده ومنفاه ال�شخ�صي‬ ‫العذري‪ :‬درا�سة يف احلب املقموع»‪� ،‬أن تكون من‬
‫والعام كفل�سطيني متيد الأر�ض دوم ًا من حتت قدميه‪.‬‬ ‫�أخ�صب مراحل جتربته‪ .‬فهو مل يكتف بدرا�سة ال�شعر‬
‫ّ‬ ‫القدمي بل انطلق يف درا�سة ال�شعر العربي املعا�رص‬
‫‪jhj‬‬ ‫كيانية ليدر�س ظاهرة الق�صيدة العربية‬ ‫ّ‬ ‫من ر�ؤية‬
‫‪42‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�صفحات من �آداب �أمم الأر�ض على اختالفها ظلَ‬ ‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‬
‫حياته كلَها م�شدودا لأديبني من عمالقة الأدب‬
‫يف العامل ‪ ،‬هما الإجنليزي وليم �شك�سبري والرو�سي‬ ‫وداعــــــا‬
‫فيودور دي�ستويف�سكي ‪ ،‬وظل طيلة حياته يرى يف‬ ‫\‬
‫را�سم املدهون‬
‫�شك�سبري ودي�ستويف�سكي تعبريين عن عظمة الأدب‬
‫كما ال تتجلَى عند �أي مبدع �آخر مهما عال �ش�أنه ‪.‬‬ ‫جتربة الناقد الفل�سطيني الراحل يو�سف �سامي‬
‫بني من عرفت من الكتاب والأدباء كان يو�سف‬ ‫مو�سعة تتناول‬
‫اليو�سف النقدية ت�ستحق درا�سات َ‬
‫�أ�شدهم الت�صاقا بفكرته التي مل تتزعزع يوما ‪� ،‬أعني‬ ‫ر�ؤاه ونتاج ذائقته على مدار ما يقارب عقودا �أربعة‬
‫العالقة «ال�شخ�صية» بني الناقد والن�ص ‪ :‬الن�ص‬ ‫�أم�ضاها يف القراءة والكتابة ومتابعة ك ّل ما هو‬
‫الإبداعي �إما �أن يالم�س �أرواحنا �أو ال ‪ ،‬ويف احلالتني‬ ‫جديد يف الأدب املحلي والعربي والعاملي ‪ .‬لكنني‬
‫الأمر يتعلق بـ«الذائقة» ‪ ،‬ولعلَ هذا «الرتمومرت»‬ ‫هنا ال�ستدراج الذاكرة ال�شخ�صية للحديث عن م�شاهد‬
‫بالغ اخل�صو�صية كان «�أداة» يو�سف �سامي اليو�سف‬ ‫ووقائع جمعتني مع «�أبو الوليد» وكانت �شيئا من‬
‫الأبرز يف ر�ؤيته للآثار الأدبية ‪ ،‬وكان يف الوقت‬ ‫�صورته الواقعية كما عرفته خالل �سنوات �صداقتنا‬
‫ذاته �سبب اختالفات ال حت�صى بينه وبني الأدباء ‪،‬‬ ‫الطويلة ‪.‬‬
‫بل بينه وبني النقاد بالذات ‪� .‬إىل ذلك �أ�شري يف هذه‬ ‫عرفت يو�سف �سامي اليو�سف مطلع ال�سبعينات من‬
‫الن�ص روحه‬ ‫ُ‬ ‫العجالة اىل حر�صه على �أن يالم�س‬ ‫مدر�س اللغة‬
‫القرن املن�رصم ‪ :‬هو يف تلك الأيام ّ‬
‫ف�إن مل يفعل ر�آه «باردا وحي َيا» ال تكرتث له الروح‬ ‫الإجنليزية يف مدار�س «�أونروا» التابعة للأمم‬
‫�إن مل يقل �أنها «تعافه» وتنفر منه ‪.‬‬ ‫املتحدة يف خميم الريموك ‪ .‬جاء «�أبو الوليد»‬
‫�أرى ذلك �أداة قيا�سه الأبرز والأهم يف النظر �إىل‬ ‫ل�سوريا وملخيم الريموك حتديدا بعد جلوء عائلته‬
‫ال�شعر اجلاهلي واحلب العذري املو�ضوعتني اللتني‬ ‫من قريتهم الفل�سطينية اجلبلية «لوبية» �إىل خميم‬
‫�شغلتا حيزا هاما يف جهده النقدي و�أنتجتا كتبا‬ ‫بعلبك �رشق لبنان حيث عا�شوا هناك حتى مطلع‬
‫ال �أبالغ �إذ �أقول �أنها كانت وال تزال فتوحا نقدية‬ ‫لي�ستقروا يف‬
‫ُ‬ ‫العام ‪ 1957‬لريحلوا بعدها اىل �سوريا‬
‫على امل�ستوى‬ ‫خميم الريموك ‪.‬‬
‫العربي عامة ‪.‬‬ ‫يو�سف هو االبن الأكرب لعائلة كبرية كانت كباقي‬
‫لكنني مع ذلك‬ ‫العائالت الفل�سطينية تعي�ش العوز وم�صاعب حياة‬
‫�أرغب هنا بالذات‬ ‫اللجوء بعيدا عن الوطن ‪ .‬هكذا كان عليه �أن يتقدم‬
‫�أن �أ�شري اىل‬ ‫حلمل م�سئولية العمل والإنفاق على عائلته ‪ :‬هكذا‬
‫«�سطوة» ترمومرت‬ ‫التحق يو�سف باجلي�ش وحتديدا كتيبة الإ�ستطالع‬
‫م�شاعره الفردية‬ ‫‪ ،‬التي ذكر يل �أنه كان �أ�صغر عنا�رصها جميعا ‪،‬‬
‫‪ :‬عام ‪1982‬‬ ‫والتي ق�ضى يف �صفوفها �سنوات ا�ستطاع خاللها‬
‫وخالل الإجتياح‬ ‫اجتياز امتحانات ال�شهادة الثانوية ليلتحق بجامعة‬
‫ا لإ �رس ا ئيلي‬ ‫دم�شق طالبا يف كلية الآداب ق�سم الأدب الإجنليزي ‪.‬‬
‫للبنان وبريوت‬ ‫هذا اخليار الدرا�سي يف اجلامعة جاء وليد اهتمامه‬
‫مرة �أنه‬
‫قال يل َ‬ ‫التعرف على �آثاره‬
‫ٌ‬ ‫بالأدب العاملي ‪ ،‬ورغبته يف‬
‫�شعر فج�أة ب�آالم‬ ‫الكربى ‪.‬‬
‫يف �إحدى �ساقيه ‪،‬‬ ‫يو�سف �سامي اليو�سف الذي قر�أ ع�رشات �آالف‬
‫‪43‬‬ ‫\ كاتب وروائي من فل�سطني‪.‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف رمى ببع�ض ما يزدحم يف‬ ‫وم�ضت الأيام ليفاج�أ �أن �إبنه قد �أ�صيب بر�صا�صة‬
‫ذاكرته من �أحداث يف كتابه اجلميل «تلك الأيام»‬ ‫يف احلرب يف تلك ال�ساعة من ذلك اليوم بالذات ‪.‬‬
‫�أحد �أجمل كتب الذاكرة الفل�سطينية ‪ ،‬يروق يل ككرث‬ ‫هو مبعنى جميل �إبن احلياة ويف كثري من الأحيان‬
‫من �أ�صدقائه �أن نراه «كامال» فمزاجه اجلميل ال‬ ‫مرة‬
‫الناطق با�سمها ‪� :‬أتذكر �أننا كنا َ‬
‫ينف�صل عن «ع َدته» النقدية التي تنه�ض بالأ�سا�س‬ ‫لقد قدّ م ن�سهر يف مطعم «نادي العمال» يف‬
‫ممن عرفت و�صل لها ‪.‬‬
‫على قراءة ال �أعتقد �أن �أحدا َ‬ ‫بالرق�ص‬
‫اليو�سف دم�شق وحني ا�شتعلت ال�سهرة َ‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف الناقد‬ ‫وبدت ال�سعادة على اجلميع �س�ألته‬
‫للنظرية‬
‫�أبو الوليد ال�صديق‬ ‫فج�أة ‪ :‬من هو بر�أيك الأكرث �سعادة بني‬
‫وداعا ‪.‬‬ ‫النقدية ال�ساهرين ‪ .‬كنت �أعتقد �أنني فاج�أته‬
‫‪jhj‬‬ ‫حول ال�شعر بال�س�ؤال ‪ ،‬ولكنه التفت نحوي وقال‬
‫اجلاهلي بهدوء ‪� :‬صاحب املطعم طبعا !!‬
‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬ ‫ج ّلى يو�سف �سامي اليو�سف �إبن العاطفة‬ ‫خدمات ُ‬
‫يف ابعادها الإن�سانية الأ�شد ح�سا�سية ‪ :‬حني‬
‫حار�س القيمة‬ ‫�صدرت جمموعتي ال�شعرية الثانية‬
‫النف�سية‬
‫\‬
‫�سعيد الربغوثي‬ ‫«دفرت البحر» مطلع العام ‪ ، 1985‬كان‬
‫وك�شف يزورين برفقة بع�ض الأ�صدقاء و�س�ألني‬
‫يف الرحلة الق�رسية الأخرية من ترحاله الدائم‪،‬‬ ‫الدوافع ‪ :‬هل تريد �أن تعرف ر�أيي باملجموعة ؟‬
‫ترجل فار�سنا عن ح�صان احلياة‪ ،‬يف خميم الب ّداوي‬ ‫(اجلوانية) قلت مل ال ‪.‬‬‫ّ‬
‫يف لبنان‪ ،‬بعيداً عن بيته يف خميم الريموك‪ ،‬وقريب ًا‬ ‫م�ستفيداً اعتدل يف جل�سته وقال بهدوء ‪ :‬يف‬
‫من فل�سطني التي مل تفارقه منذ غادرها �صبياً‪.‬‬ ‫من الرتاث جمموعتك ع�رش ق�صائد قر�أتها وت� َأملتها‬
‫يف تلك الرحلة �أ�سدل املوت �ستارة الغياب على‬ ‫‪ ،‬و�أ�صارحك �أنني مل �أجد بينها ق�صيدة‬
‫الناقد العربي الكبري الأ�ستاذ يو�سف �سامي اليو�سف‪،‬‬ ‫النقدي‬
‫واحدة ‪ ،‬بل مل �أجد مقطعا وال حتى‬
‫كا�شف ًا لنا حجم هذا الغياب الفاجع‪ .‬وما ترحاله‬ ‫العربي �سطرا �شعريا واحدا ‪ .‬ثم �أ�ضاف ‪ :‬لقد‬
‫املكاين �سوى اجلانب ال�سهل من ترحال روحه‬ ‫والغربي وجدت بع�ض «اللمعان» الذي �رسعان‬
‫الباحثة عن النفي�س الغايل يف قرارة مكنوناتها‪،‬‬ ‫ما ينطفىء !!‬
‫وهي تغو�ص عميق ًا باحثة عن جوهرها النبيل‪،‬‬ ‫كان احلوار �صباحا ‪ ،‬تق َبلته على‬
‫وعن كل ما يربز نقاءها‪ ،‬وطهارتها‪ ،‬وعن �سبل‬ ‫م�ض�ض ‪ ،‬وم�ضينا عنه �إىل مو�ضوعات �أخرى ‪ .‬يف‬
‫ارتقائها لتتحد مبطلق هي منه‪ ،‬وهو منها‪ ،‬وهما‬ ‫امل�ساء جاء لزيارتي وطلب �أن �أرتدي ب�رسعة لأن‬
‫جديران ببع�ضهما‪.‬‬ ‫«الربوة»‬
‫بع�ض الأ�صدقاء يف انتظارنا للذهاب �إىل َ‬
‫يف تالزم مده�ش بني �صناعة الأجيال التي احرتفها‬ ‫ال�شامية ‪ .‬هناك ‪ ،‬وحني طابت له ال�سهرة واعتدل‬
‫يف للكثريين‪ ،‬وبني النقد الذي‬ ‫ك� ٍّأب روحي ومعر ّ‬ ‫مزاجه نظر يف اجتاهي وقال ‪� :‬إقر�أ لنا ق�صيدتك‬
‫�أ�شعل �شمعة فيه ت�ضيء نارها من قب�سات اجلمال‬ ‫اجلميلة «جنمة» ‪.‬‬
‫امل�سكونة يف الأدب عرب الع�صور‪ ،‬وت�شري �إىل ممر من‬ ‫فاج�أين طلبه و�أردت �أن �أتخابث معه فقلت ‪ :‬لي�س‬
‫نور يف�ضي �إىل اجلمال الأرحب‪ .‬يف هذا التالزم لي�س‬ ‫عندي �أية ق�صيدة وال � َأي مقطع �أو حتى �سطر �شعري‬
‫�صدفةً‪� ،‬أن يعمد «اليو�سف» يف احلالني �إىل حماربة‬ ‫واحد ‪ ،‬فكلُ ما عندي هو بع�ض اللمعان الذي �رسعان‬
‫وك�شف زيف �ضحالة الوجود العائم على‬ ‫اخلواء‪ْ ،‬‬ ‫ما ينطفىء !!‬
‫‪44‬‬ ‫\ مثقف من فل�سطني ونا�رش «دار كنعان‪ -‬دم�شق»‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫ق�رشة احل�ضارة امل�ستهلكة‪ ،‬و�أن ي�ؤكّ د على اجلوهر‬


‫امل�ستمد من �إنتاج القيم الرفيعة املحمولة على‬
‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‬ ‫اجلمال اخلال�ص بو�صفهما �صنوانا يتحدران من �أب‬
‫واحد‪ ،‬ومن �أم واحدة‪.‬‬
‫وطموحه يف �أدب تراجيدي عربي‬ ‫وبهذا و�ضع ناقدنا الكبري مدماك ًا �إ�ضافي ًا يف مبنى‬
‫\‬
‫حممود �شاهني‬ ‫النقد‪ ،‬ورمبا يكون املدماك الأهم يف عامل النقد‬
‫الكا�شف‪ .‬فمن «احلب العذري» �إىل «ما ال�شعر العظيم»‬
‫تعرفت �إىل �أبي الوليد يف �أوائل �سبعينات القرن‬ ‫�إىل «القيمة واملعيار» �إىل «اخليال واحلرية» والكثري‬
‫املا�ضي‪ .‬كانت بداياتي مع الأدب‪ ،‬وبداياته مع‬ ‫من الكتب والدرا�سات الأخرى‪� ،‬سكب «�أبو الوليد»‬
‫النقد‪ .‬ال �أذكر �إن كان كتابه «مقاالت يف ال�شعر‬ ‫روحه وفكره بلغة �أدبية من طراز رفيع نقل فيها‬
‫اجلاهلي» قد �صدر �آنذاك‪ .‬وكانت ال�ساحة الفل�سطينية‬ ‫النقد من مملكة اجلفاف �إىل عامل اخل�صب واحلياة‬
‫تعج بالأدب ال�سهل واملت�أثر �إىل حد كبري ب�أدب‬ ‫ليتحول النقد لديه �إىل قطعة �أدبية من ثمالة النور‬
‫الواقعية‪  ‬الإ�شرتاكية التي فهمها الك ّتاب على‬ ‫واحلياة اخلالدة‪.‬‬
‫طريقتهم ب�أن �أ�ضفوا التفا�ؤل على نهايات ق�ص�صهم‬ ‫ذيل الناقد الكبري «اليو�سف» كل خمطوطات كتبه‬ ‫ّ‬
‫ورواياتهم‪ ،‬بعك�س الكتاب الذين �سبقوهم‪ ،‬مثل‬ ‫ودرا�ساته بعبارة مل يغادرها منذ كتابه الأول حتى‬
‫�سمرية عزام وغ�سان كنفاين وغريهما ممن كانوا‬ ‫كتابه الأخري «ر�سالة �إىل �سيدة»؛ (خميم الريموك‬
‫ينهون بع�ض ق�ص�صهم ورواياتهم مبوت الأبطال‪..‬‬ ‫(ــــــــــ ‪ ،))19‬وك�أن اليو�سف �شاء �أن يذكّ ر من يتذكر‬
‫‪ ‬كان الراحل ي�ستثني هذين الأديبني الكبريين من‬ ‫املتج�سد يف‬
‫ّ‬ ‫ومن ال يتذكّ ر با�ستمرار اللجوء الظامل‬
‫نقده القا�سي‪ ،‬وقد مل�س احل�س الرتاجيدي يف �أدب‬ ‫ذلك املكان‪.‬‬
‫مطرزاً ب�أ�سلوبه‬
‫هناك؛ كتب مذكراته «تلك الأيام» ّ‬
‫كل منهما‪ ،‬فنادى يف حوار معه بالرتاجيديا قائال‬
‫العذب‪ ،‬وبيانه ال�ساحر‪ ،‬ملحمته ملحمة ال�شعب‬
‫«�إىل الرتاجيديا �أيها الفل�سطينيون»‪.‬‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬و�سكب فيها ع�صارة عذاباته و�أحالمه‬
‫‪ ‬ال �شك �أن �أبا الوليد كان م�صيبا �إىل حد كبري يف‬ ‫مردداً با�ستمرار «ال ريب عندي طال الزمان �أم ق�رص‪،‬‬
‫نظرته‪ .‬فالبطل الفل�سطيني الذي ال ينت�رص‪ ،‬والذي‬ ‫�إ�رسائيل �إىل زوال»‪ .‬وبد ًال عن العودة �إىل فل�سطني‬
‫كان يواجه قدره ب�شجاعة‪ ،‬مل يكن غائبا عن باله‪،‬‬ ‫التي طاملا حلم بها‪ ،‬نزح اليو�سف �إىل خميم الب ّداوي‬
‫بـ»جلْيات» الذي قتله امللك‬
‫فالبطل الفل�سطيني بدءا ُ‬ ‫يف لبنان‪ ،‬لتتك ّثف يف روحه عذابات املنايف‪..‬‬
‫داود بحجر من مقالعه‪ ،‬مرورا بعبد القادر احل�سيني‪،‬‬ ‫يتحمل قلبه املتعب وروحه املكتوية بالرتاجيديا‬ ‫ّ‬ ‫مل‬
‫�شهيد معركة الق�سطل‪ ،‬وانتهاء بالقادة املعا�رصين‪،‬‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬ق�ضى هناك و�أطياف لوبيا مرتع‬
‫كان القتل قدرهم الذي ال مفر منه‪ ،‬فكيف ال تتجلى‬ ‫طفولته‪ ،‬وخميم الريموك �أعمق حمطات ترحاله‪،‬‬
‫هذه احلقيقة يف الأدب؟!‬ ‫بحاراته ونا�سه‪ُ ،‬تداعب عينيه قبل غيابه الأخري‪،‬‬
‫‪ ‬هذه النظرة �ألقاها الراحل على الأدب العربي ب�شكل‬ ‫يف برهةٍ هاربة من اجلحيم‪.‬‬
‫عام‪ ،‬حني مل يكن يرى احل�س الرتاجيدي فيه‪ .‬وكان‬ ‫هناك ‪ ،‬وبهدوء روحه ال�صافيه‪ ،‬املفعمة بالوفاء‬
‫معجبا ب�شك�سبري ودو�ستويف�سكي‪ .‬وكان يعترب‬ ‫والنبل ‪ ،‬مللم �أطياف من �أحبهم ومن �أحبوه ‪ ،‬جنبا‬
‫دو�ستويف�سكي �أعظم �أدباء الب�رشية على الإطالق‪.‬‬ ‫اىل جنب ‪ ،‬مع اجلورجاين والنفري وابن عربي‬
‫كان يتغنى‪� ،‬إذا جاز التعبري‪  ،‬ب�أبطالهما‪( .‬فحني‬ ‫وامرئ القي�س ‪ ،‬ليتبادلوا �أنخاب النقد الكا�شف‬
‫ي�سقط امللك لري ت�شعر �أن �رصحا عظيما قد �آل‬ ‫وال�شعر العظيم‪..‬‬
‫‪45‬‬ ‫\ روائي وقا�ص من فل�سطني‪.‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عربية حديثة لل�شعر يف مواجهة حالة الفو�ضى التي‬ ‫�إىل الإنهيار) وهذا للأ�سف ما ال نلم�سه يف الأدب‬
‫وقع فيها النقد العربي املعا�رص‪.‬‏‬ ‫العربي‪ .‬فموت الأبطال يف الأدب العربي ( �إن وجد‬
‫و�أ�شار هنيدي �إىل خ�صو�صية اللغة العالية التي‬ ‫) ال يكاد ي�ؤثر فينا‪ ،‬وال ي�شعرنا حتى بانهيار جدار‬
‫مبينا �أنه كان ينفر من‬
‫يكتبها اليو�سف ويتميز بها‪ّ ،‬‬ ‫(التعبري من عندي)‪.‬‬
‫ا�ستخدام امل�صطلحات ال�شائعة املتواترة يف الكتابة‬ ‫يف ال�شعر كان (اليو�سف) حمبا للرثاء والوقوف على‬
‫النقدية احلديثة‪ ،‬ومييل �إىل ا�شتقاق م�صطلحاته‬ ‫الأطالل والع�شق والتح�رس والو�صف امل�ؤثر والبليغ‬
‫اخلا�صة التي ي�صوغها من املعجم ال�صويف يف �أغلب‬ ‫للحياة‪ ‬االجتماعية‪ ،‬يف معظم ال�شعر اجلاهلي‬
‫الأحيان‪ ،‬ولذلك ي�صبح ن�صه �أقرب �إىل الن�ص الأدبي‬ ‫والالحق له‪ ،‬ك�شعر املتنبي‪.‬‬
‫الإبداعي منه �إىل الن�ص النظري املنهجي‪.‬‏ وال �شك‬ ‫منهجه اخلا�ص يف النقد‪،‬‬‫َ‬ ‫يوجد‬
‫‪ ‬لقد حاول دائما �أن ِ‬
‫�أن �إعادة قراءة �أعماله ودرا�ستها وحماورتها هي‬ ‫يف حماولة جا ّدة لت�أ�سي�س منهج نقدي عربي ي�ستند‬
‫وفاء لهذه القامة ال�شاخمة التي ندر‬
‫خري ما نفعله ً‬ ‫�إىل علم النف�س واالجتماع‪ ‬والفكر ال�صويف وامل�أ�ساة‬
‫مثيلها يف �أدبنا العربي احلديث‪ ،‬وعزا�ؤنا �أن روحه‬ ‫الإن�سانية ب�شكل عام‪ ،‬انطالقا من ر�ؤيته اخلا�صة‬
‫�ستبقى معنا ن�سرت�شد بها يف م�سالك الأدب والنقد‬ ‫للم�أ�ساة الفل�سطينية‪ .‬وكما كان يحاول �أن يرى‬
‫واحلياة‪ ،‬ون�ستلهم منها ما يعيننا على جتاوز �أرزاء‬ ‫امل�أ�ساة يف الأدب‪ ،‬كان يحاول �أن يرى م�أ�ساته‬
‫هذا العامل الذي ي�ضيق بالنفو�س املطهمة بنزعة‬ ‫كفل�سطيني‪ ،‬فيبدو وك�أنه يبحث عن نف�سه يف الأدب‪،‬‬
‫ال�سمو وع�شق احلق واجلمال‪.‬‬ ‫ويف مقاالت قليلة له كان يلج�أ �إىل �إ�صدار �أحكام‬
‫�إطالقية‪ ،‬ترفع الكاتب �إىل �أ�سمى مراحل الأدب �أو‬
‫‪jhj‬‬ ‫تنزل به �إىل �أ�سفل �سافلني‪.‬‬
‫‪ ‬جل أ� الراحل يف فرتات الحقة من حياته �إىل ت�أليف‬
‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬ ‫كتب نظرية للتعبري عن فهمه للأدب وتو�ضيح معامل‬
‫نظريته‪ ،‬ككتابيه «ما ال�شعر العظيم؟»‪ ،‬و»اخليال‬
‫يد بي�ضاء‬ ‫واحلرية»‪ ،‬وغريهما‪.‬‬
‫\‬
‫عبد القادر احل�صني‬ ‫‪ ‬حمل الراحل ثقافة مو�سوعية �أهلته لأن يكون �أحد‬
‫�أهم املثقفني العرب على الإطالق ‪.‬‬
‫العربي الكبري يو�سف �سامي اليو�سف‬
‫ّ‬ ‫�صديقي الناقد‬ ‫وخري ما �س�أختتم به كلمتي‪ ،‬كلمة‪ .‬ال�صديق ال�شاعر‬
‫م�ؤمل رحيلك ممتزجا مبا تعانيه �سورية ويعانيه‬ ‫نزار بريك هنيدي يف رثاء الراحل‬
‫خميم الريموك يف دم�شق من �آالم‪.‬‬ ‫الكبري‪( ،‬يف مقال له على ال ّنت) يقول‪� :‬إن‬
‫العربي يا �صديقي‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬ ‫يدك بي�ضاء على الأدب‬ ‫�أهمية‪ ‬املكانة التي احتلها الأ�ستاذ اليو�سف‪ ،‬يف‬
‫وخ�صو�صية‬
‫ّ‬ ‫العربية مبداد قلمك‬
‫ّ‬ ‫�أغنيت املكتبة‬ ‫�صدارة امل�شهد النقدي العربي‪ ،‬منذ �أوا�سط �سبعينات‬
‫علي �أي�ضا‬
‫ر�ؤيتك وعمق ب�صريتك‪ ،‬ويدك بي�ضاء ّ‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬ترجع �إىل كونه �صاحب م�رشوع‬
‫يا �صديقي‪ ،‬فقد �أتاحت يل �صداقتك املبكرة يف‬ ‫نقدي متكامل قائم على �أ�س�س را�سخة ما انفك يعمل‬
‫مطلع �سبعينيات القرن املا�ضي �أن �أكون الأقرب‬ ‫با�ستمرار على م�ساءلتها وتو�ضيحها و�إغنائها‬
‫�إىل �أغزر من عرفت ثقاف ًة يف الفل�سفة وعلم‬ ‫والإ�ضافة �إليها‪ ،‬مت�سلح ًا مبا امتلكه من �أدوات‬
‫العاملي‪ ،‬فاغتنت ثقافتي‬
‫ّ‬ ‫النف�س والتاريخ والأدب‬ ‫نقدية وثقافة مو�سوعية‪ ،‬ومبا متيز به من ذائقة‬
‫الرتاثية �آنذاك مبا لديك‪ .‬ف�أنا على نح ٍو‪ ،‬ما مدين‬ ‫رهيفة وقدرة على ال�سرب والك�شف واال�ستب�صار‪،‬‬
‫لك مبا �أنا عليه‪.‬‬ ‫حيث طمح يف م�رشوعه �إىل تقدمي �أ�س�س نظرية‬
‫‪46‬‬ ‫\ �شاعر من �سورية‪.‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ح ّتى ُمنتها ُه‬ ‫‪jhj‬‬


‫ُمان‬
‫كاب َد الليلُ عما ُه‪ :‬كب ُد الليلِ اجل ْ‬
‫واملحارات اللآيل‬ ‫ُ‬
‫الف ْرق‬
‫ميامة ُ َ‬
‫الدنان‬
‫ْ‬ ‫والعناقيد‬ ‫عبد القادر احل�صني‬
‫الزيتون يف �آون ِة الع�رص ِ؟‬‫ُ‬ ‫كاب َد‬ ‫(�إىل يو�سف �سامي اليو�سف)‬

‫بوح‬ ‫احلب غري ًبا‬


‫بد�أ ُّ‬
‫الزيتون ٌ‬
‫ُ‬ ‫فمِ ّما كاب َد‬
‫قلب الليلِ ‪،‬‬ ‫احلب‪،‬‬
‫وغري ًبا �سيعو ُد ُّ‬
‫�شق َ‬ ‫ّ‬
‫الدهان‬
‫ْ‬ ‫�أورى ورد ًة مثل‬ ‫حزين‬
‫ْ‬ ‫ما بايل‬
‫الرب ُّي‪،‬‬‫ال�سو�سن ّ‬
‫ُ‬ ‫الوعر فكان‬ ‫كاب َد‬ ‫باخع النف ِْ�س على �آثارهم‪� ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫والنحلُ ‪،‬‬ ‫ات؟‬‫النف�س عليهم َح�سرَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ذاهب‬
‫ُ‬
‫أقحوان‬
‫ْ‬ ‫وكان ال‬ ‫ات دمي من ع َبق ال�رشقِ قبا ًبا‬ ‫ري ُ‬ ‫عب ْت كُ ّ‬‫وملاذا كلّما ّ‬
‫الفاتن‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم كابدنا‪ ،‬فكان اجلدلُ‬ ‫َّ‬ ‫وبخورا‬
‫ً‬
‫�إط َع ْم لُقم َة الز ّق ِ‬
‫وم‬ ‫و�صال ْة‬
‫يف اجل ّنة‬ ‫الياب�س‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الق�صب‬
‫ُ‬ ‫فناح‬
‫ال�شوق‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ع�صف‬ ‫َ‬
‫وا�رشب �سل�سبيل‬ ‫ْ‬ ‫ات؟‬‫وانثالت �أغاين القبرّ ْ‬
‫ْ‬
‫اجلحيم‬
‫ْ‬ ‫يف‬ ‫احلنان‬
‫ْ‬ ‫�آ�سرِ ٌ هذا‬
‫ني‬
‫هذين النقي�ض ِ‬ ‫ِ‬ ‫واعطِ‬ ‫الزمان‬
‫ْ‬ ‫ولوع بالتفا�صيلِ التي ع ّتقها ُم ُّر‬ ‫� ْأم �أنا ِج ُّد ٍ‬
‫أمان‬
‫اجلميلني ال ْ‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫ني‪،‬‬
‫اجلرح والعين ِ‬
‫ِ‬ ‫عميق‬
‫َ‬ ‫يا �صديقي يا‬
‫احلب غري ًبا‬‫بد�أ ّ‬ ‫مركْ‬
‫يا م�شتعلَ احلري ِة ُع َ‬
‫وغري ًبا �سيعو ُد‬ ‫ق ّد�س ا ُ‬
‫هلل و َن ّدى‬
‫احلور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ني‬
‫ليت �أنيّ حاور ْتني الأع ُ‬ ‫َ‬ ‫الديامي�س‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫وق َّدتني ال ُقدو ُد‬ ‫�رسكْ‬
‫على الوح�ش ِة ّ‬
‫ني مرا�سيلُ‬ ‫املحب َ‬
‫ّ‬ ‫أنفا�س‬
‫يوم � ُ‬ ‫َ‬ ‫أنت‬
‫قمر الغرب ِة � َ‬ ‫ُ‬
‫الريح بري ُد‬
‫ُ‬ ‫لها‬ ‫و�شذا ال ُق ْرب ِة � َ‬
‫أنت‬
‫«ريا» مثلُها �صف�صاف ٌة‬ ‫يوم ّ‬ ‫َ‬ ‫الينابيع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ح�شا�شات‬
‫ِ‬ ‫ورحي ٌل يف‬
‫مالت على النه ِر لت�سقي ِه‬ ‫ْ‬ ‫أنت‬
‫�إىل ينبوعها ال ّأولِ � َ‬
‫درب‬‫هلل ٌ‬
‫ومثلُ ا ِ‬ ‫ما عليكَ‬
‫هب مِ ن قلبي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ذاه ًبا يف الكب ِد الكاب ِد‬
‫‪47‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪jhj‬‬ ‫النهايات �إىل ما ال يعو ُد‬ ‫ُ‬ ‫و�ش َّدت ُه‬
‫ا‪...‬ت‬
‫الق�صي ِ‬
‫ّ‬ ‫الثلج‬
‫ُن َق ٌل يف قم ِم ِ‬
‫‪ v‬يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬ ‫الوديان‬
‫ِ‬ ‫انهيارات مع‬
‫ٌ‬
‫مثقف �أر�ستقراطي يف املخيم‬ ‫قيقات‬
‫ِ‬ ‫الر‬
‫الغزاالت َّ‬
‫ِ‬ ‫يف ُ�سوقِ‬
‫\‬
‫�سمري الزبن‬ ‫ان�رساح‬
‫ٌ‬
‫يف حفايف ال َغي ِم‬
‫مل �أكن تلميذا لأ�ستاذ اللغة االجنليزية يو�سف‬
‫�سامي اليو�سف (�أبو الوليد) يف خميم الريموك‪،‬‬ ‫والغيب‬
‫ِ‬
‫والذي عمل مدر�سا لها يف مدار�س الأونروا‪،‬‬ ‫درب‬‫�إىل حيث ُيال�شي ك َّل ٍ‬
‫وكنت تلميذا يف مدار�سها‪ ،‬لكن من خا�ضوا‬ ‫ُبع ُده الأبع ُد � اّإل نقط ًة‬
‫التجربة يف �صفوفه الدرا�سية‪ ،‬كانوا يتحدثون‬ ‫�رسها ُيطوى البعي ُد‬ ‫يف ِّ‬
‫عن �أ�ستاذ «ظامل»‪ ،‬وهو ما يعني �أنه ي�ستخدم‬
‫ال�رضب يف التعليم‪ ،‬وهي و�سيلة تربوية كانت‬ ‫‪jhj‬‬

‫عادية يف تلك الأيام‪ ،‬وكان من النادر �أن جتد‬ ‫احلب غري ًبا‬ ‫بد أ� ُّ‬
‫معلما ال ي�ستخدم ال�رضب مع تالميذه لريبيهم‪،‬‬ ‫كنت قريبا‬ ‫قريب الدا ِر‪ ،‬لو َ‬ ‫يا َ‬
‫ال ليعلمهم فح�سب‪.‬‬
‫كان املدر�سون «الظاملون» يف التجربة‬ ‫ال�ص َّم‬ ‫ِجار ُ‬ ‫ال�شدو احل َ‬ ‫ُ‬ ‫و�سِ ع‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬يعتقدون �أن عليهم مهمة �شاقة‪،‬‬ ‫اجلرح‪ ،‬القلوبا‬ ‫ِ‬ ‫ر�س‪ ،‬على‬ ‫وال ُع ُ‬
‫وهي �صناعة رجال ا�ستثنائيني من �أطفال‬ ‫كنت قريبا‬ ‫�آ ِه لو َ‬
‫اللجوء الفل�سطيني‪ ،‬كان �أبو الوليد واحدا من‬ ‫اخلمر‪،‬‬ ‫قت من يومها‬ ‫ع ّت ْ‬
‫ُ‬
‫ه�ؤالء املدر�سني‪ ،‬الذين كنا ننظر لهم بعني‬
‫أغفت‪،‬‬
‫و� ْ‬
‫االحرتام والرهبة والهيبة واخلوف‪.‬‬
‫يف �سنوات درا�ستي اجلامعية الأوىل التي‬ ‫�ضن جم ِر املوق ِد احلاين‬ ‫حِ َ‬
‫بد�أت مع حرب لبنان العام ‪ 1982‬تعرفت‬ ‫رض‬
‫الطيور اخل� ُ‬ ‫ُ‬
‫على ال�سيا�سة وعلى الثقافة وعلى (�أبو الوليد)‪،‬‬ ‫كنت قريبا‬ ‫لو َ‬
‫وترافقت هذه ال�سنوات مع خروج املقاومة‬ ‫أملا�س ليلَ الفح ِم‬
‫الفل�سطينية من لبنان بعد احلرب‪ ،‬ونقل مراكز‬ ‫�ضو�أ ال ُ‬ ‫ّ‬
‫جمالت الف�صائل الي�سارية «احلرية» و«الهدف»‬ ‫العذب‬
‫ِ‬ ‫بالرتاب‬
‫ِ‬ ‫رب مت ّنى‬ ‫والت ُ‬
‫وغريها اىل دم�شق‪ ،‬وقد كان لهذه املجالت‬ ‫لو ظ َّل م�شوبا‬
‫�صفحاتها الثقافية الغنية يف ذلك الوقت‪ ،‬وكان‬ ‫كنت قريبا‬ ‫�آ ِه لو َ‬
‫�أبو الوليد واحدا من ك ّتابها‪ ،‬ويف نف�س الفرتة‬ ‫احلرف‪،‬‬
‫ِ‬ ‫طق على‬ ‫خرج ال ُن ُ‬ ‫َ‬
‫تعرفت اىل وليد‪ ،‬ابنه البكر‪ ،‬وا�صبحنا �صديقني‪،‬‬
‫وتعرفت على الرجل ذي الهيبة‪.‬‬ ‫وقال ال�صم َت�أ‬
‫مل �أكن �أنا‪ ،‬وال �أي من ا�صدقاء �أبناء (�أبو الوليد)‬ ‫ال�سهوبا‪.‬‬ ‫و قالَ ُّ‬
‫ي�ستطيع زيارة بيتهم يف �أيام ال�صيف احلارة‪،‬‬
‫‪48‬‬ ‫روائي وقانوين من فل�سطني‪.‬‬ ‫\‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يو�سف �سامي اليو�سف‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫وك�أنهما عاملان ال �صلة بينهما‪� ،‬أو ك�أنه يعي�ش‬ ‫وكان ال�سبب مفاجئا بالن�سبة يل‪.‬‬
‫حياتني‪ ،‬تف�صل بينهما هوة عميقة‪..‬‬ ‫�أبو الوليد القارئ النهم واال�ستثنائي والناقد‬
‫لقد كتب ابو الوليد يف �أكرث من حقل‪ ،‬من ال�شعر‬ ‫الالذع للقامات الثقافية الفل�سطينية من جربا‬
‫�إىل نقد الرواية �إىل التاريخ �إىل ال�سرية الذاتية‪،‬‬ ‫ابراهيم جربا الروائي وال�شاعر والناقد واملرتجم‬
‫وتهيب عند الرواية‪ ،‬فكتب كتابه «ر�سالة �إىل‬ ‫ّ‬ ‫والرجل متعدد املواهب و�صاحب ال�شهرة الكبرية‪،‬‬
‫امر�أة» كتب عليه تعبري «ن�ص»‪.‬‬ ‫�إىل �آخر كاتب فل�سطيني مل ي�سلم من نقده الالذع‪،‬‬
‫ومن امل�صادفات �أن الدار التي ن�رشت الكثري‬ ‫مبن فيهم كاتب هذه ال�سطور‪ .‬وال �أعتقد �أن �أحدا‬
‫من كتب (�أبو الوليد) «دار كنعان»‪ ،‬التي يديرها‬ ‫كتب عنه �أبو الوليد مل ت�صبه ل�سعاته النقدية‪،‬‬
‫ال�صديق �سعيد برغوثي‪ ،‬هي نف�سها الدار التي‬ ‫با�ستثناء ال�شهيد غ�سان كنفاين‪ ،‬الذي كتب عنه‬
‫ن�رشت روايتي «قرب بال جثة»‪ ،‬ومل فقد كان‬ ‫كتابا �صغريا وجميال بعنوان «رع�شة امل�أ�ساة»‪.‬‬
‫كانت املفاج�أة �أن (�أبو الوليد) الذي ي�سكن �شارع‬
‫يت�سن يل �إر�سال ن�سخة �إىل (�أبو الوليد)‪� ،‬أر�ستقراطيا‬‫ّ‬
‫اجلاعونة يف خميم الريموك‪ ،‬وهو من �أ�ضيق‬
‫واكت�شفت مبح�ض ال�صدفة �أنه قد قر�أ باملعنى‬ ‫احلارات يف املخيم‪ ،‬وقارئ الكتب املثابر يف‬
‫الرواية و�أعجب بها‪ ،‬وكتب عنها مقاال‬
‫الثقايف‬ ‫كل الأجواء‪ ،‬والذي كان ميلك بيتا من طابق‬
‫بديعا‪� ،‬أ�صابتني من خالله ل�سعات‬
‫نقده‪ ،‬وكنت �سعيدا وفخورا مبا كتب للكلمة‪ ،‬ولكنه‬ ‫حتوله حرارة ال�صيف �إىل فرن حقيقي‪،‬‬ ‫واحد‪ّ ،‬‬
‫عن روايتي‪ ،‬وكنت �سعيدا �أن ُيعجب �أبو كان تقليديا‬ ‫كان يق�ضي كل الوقت يف العطلة ال�صيفية‪ ،‬يقر�أ‬
‫الوليد بروايتي املتوا�ضعة يف الوقت باملعنى‬ ‫الكتب حتت الدرج وهو املنطقة الأكرث برودة‬
‫يف ال�صيف الالهب يف بيته‪ ،‬ولأن الدرج كان‬
‫الذي ال يعرتف �إال بد�ستوف�سكي كروائي‪ ،‬االجتماعي‬ ‫وراء باب املنزل مبا�رشة‪ ،‬ف�إن (�أبو الوليد) حظر‬
‫ويعترب ت‪ .‬هـ ‪ .‬لوران�س كاتبا من الدرجة للكلمة‬ ‫الدخول واخلروج من املنزل و�إليه يف �ساعات‬
‫الثانية‪ ،‬عدا عن ر�أيه ال�سلبي يف الرواية‬ ‫قراءته الطويلة‪ ،‬وهو ما كان يوقف الزيارات‬
‫الأمريكية الالتينية‪.‬‬ ‫�إىل املنزل نهائيا‪ .‬كنت �أتخيل (�أبو الوليد) وهو‬
‫مهجرا يف‬
‫عندما �أدرك املوت (�أبو الوليد) كان ّ‬ ‫ينكب على قراءة الأدب الرفيع والأر�ستقراطي‬
‫خميم نهر البارد‪ -‬لبنان ب�سبب ال�رصاع الدموي‬ ‫وباللغة االجنليزية‪ ،‬على «طبلية» حتت الدرج‬
‫يف �سوريا الذي جعل خميم الريموك مكانا غري‬ ‫املنخف�ض‪ ،‬حيث متر كتب �شك�سبري ولوران�س‬
‫مهجرا يف القاهرة لل�سبب‬‫�صالح للعي�ش‪ ،‬وكنت ّ‬ ‫واليوت وفرجينا وولف وبو بلغتها الأ�صيلة‬
‫مهجرا يف كندا‬
‫ذاته‪ ،‬وكان ابنه و�صديقي وليد ّ‬ ‫حتت درج (�أبو الوليد) يف �شارع اجلاعونة يف‬
‫لل�سبب ذاته اي�ضا‪.‬‬ ‫خميم الريموك‪ .‬وكنت �أتخيل الثقافة الإجنليزية‬
‫�أي قدر �أحمق �أعاد تهجرينا من جديد‪ ،‬قبل‬ ‫وهي ترافق (�أبو الوليد) يف زواريب املخيم‪ ،‬فقد‬
‫يومني من وفاته �س�ألت وليد يف كندا عن �أحوال‬ ‫كان �أر�ستقراطيا باملعنى الثقايف للكلمة‪ ،‬ولكنه‬
‫والده‪ ،‬وكنت �أعرف �أنه مري�ض‪ ،‬قال يل‪ :‬و�ضعه‬ ‫كان تقليديا باملعنى االجتماعي للكلمة‪ ،‬ومل‬
‫ال�صحي جيد �إىل حد ما‪ .‬لكن هيبة (�أبو الوليد) مل‬ ‫�أ�شعر �أن ثقافته الأر�ستقراطية كانت تفعل فعلها‬
‫جلوءا �آخر‪ ،‬فقرر �أن يرحل بكل هيبته قبل‬‫حتتمل ً‬ ‫يف حياته‪ ،‬لقد كان �أ�ستقراطيا بني الكتب التي‬
‫�أن تمُ َ ّ�س‪.‬‬ ‫ق�ضى حياته يقر�أها‪ ،‬وكان يف حياته تقليديا‪،‬‬

‫‪49‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫درا�سات‬

‫‪50‬‬
‫هيغل واال�سالم‬
‫لوثـرية فـي ثوب فل�سَ في‬
‫ح�سني الهنداوي‬
‫كاتب وباحث يف الفل�سفة من العراق يقيم يف لندن‬

‫وهنا ينبغي ان ن�شري اي�ض ًا اىل اجلدل‬ ‫تنبع الأهمية اال�ستثنائية لدرا�سة منظور‬
‫احلاد الذي اثاره يف مطلع القرن احلايل‬ ‫الفيل�سوف االملاين الكبريجورج فيلهلم‬
‫املنظر اال�سرتاتيجي االمريكي فران�سي�س‬
‫فريدريك هيغل ‪Georg Wilhelm FriedrichHegel‬‬
‫فوكوياما عرب فكرته حـول ما ا�سماه‬
‫بـ(نهاية التاريخ) زاعما ان الهيغلية تنب�أت‬ ‫‏(‪ )1831–1770‬حول اال�سالم من واقع‬
‫باالنت�صار احلتمي وحتى االبدي للعقل‬ ‫ان الفل�سفة الهيغلية متتلك نفوذاً متزايداً‬
‫االمريكي كعقل كوين على النظم العقلية‬ ‫يف عقلنة �سيادة الغرب على العامل‪ .‬وهذا‬
‫االخرى معتربا ان طالئع ذلك االنت�صار‬ ‫ي�صدق ح�رصاً يف جمال فل�سفة التاريخ‪،‬‬
‫متثلت ب�سقوط ج��دار برلني واث��ره على‬
‫اذ �أن فل�سفة التاريخ الهيغلية هي اليوم‬
‫االمرباطوية ال�سوفييتية ووالدة «النظام‬
‫العاملي اجلديد» متمثال بال�سيطرة الكونية‬ ‫اكرث الفل�سفات ت�أثرياً يف كافة النظريات‬
‫للنظام الليربايل الر�أ�سمايل بنموذجه‬ ‫والأيديولوجيات ال�سيا�سية الغربية الكربى‬
‫االمريكي خا�صة زاعما‪ ،‬وهو ما تراجع‬ ‫املحافظة منها والثورية وغريهما على حد‬
‫عنه الحقا‪ ،‬انه ي�ستند يف ا�ستنتاجاته تلك‬ ‫�سواء‪ .‬فمنذ الأربعينيات اعترب الفيل�سوف‬
‫على تف�سري خا�ص به لأطروحات هيغلية‬
‫حول هذا املو�ضوع‪.‬‬ ‫الفرن�سي موري�س مريلوبونتي (‪-1961‬‬
‫وب��ال��ط��ب��ع ف���ان ه���ذه االق����وال والكثري‬ ‫‪ ،)1908‬ان الفل�سفة الهيغلية «م�صدر كل‬
‫غريها يف ابراز االهمية الكبرية للفل�سفة‬ ‫ما اجنز يف الفل�سفة منذ قرن»‪ ،‬فيما يرى‬
‫الهيغلية لي�ست جم��رد ع��ب��ارات مديح‬
‫م�ؤرخ الفل�سفة الهيغلية يف القرن الع�رشين‬
‫جم��اين او مبالغات اكادميية امن��ا هي‬
‫قناعات فل�سفية ت�ستند اىل افكار هيغلية‬ ‫جاك دونت �أن الفل�سفة الهيغلية «غريت‬
‫�رصيحة كما ت�سعى اىل عقلنة ا�س�سها‬ ‫م�صري العامل»‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ما يجعل الفيل�سوف متخ�ص�ص ًا حمرتف ًا ولي�س جمرد‬ ‫وطرحها كحقائق ملمو�سة‪ .‬الننا‪ ،‬بالفعل‪ ،‬اذا اخذنا‬
‫مت�أمل يطرح ا�سئلة كونية او وج��ودي��ة ويقرتح‬ ‫الفل�سفات الغربية املعا�رصة املهمة جندها جميع ًا‬
‫االجابة عليها‪.‬‬ ‫ت�أخذ الكثري من هيغل وتعرتف بالت�أثر به وبف�ضله‬
‫وثانياً‪ ،‬القيام بجعل الوعي العقالين االن�ساين مبثابة‬ ‫عليها‪ .‬فاملارك�سية كفل�سفة وكايديولوجيا ما كانت‬
‫املو�ضوع الوحيد واملادة االولية للبحث الفل�سفي‬ ‫�ستحقق ما حققته من نفوذ لوال فل�سفة هيغل‪،‬اذ‬
‫مع اخذ هذا الوعي �ضمن �شموليته املطلقة ب�شكل ال‬ ‫من املعروف ان كارل مارك�س كان تلميذاً وفي ًا‬
‫ميكن معه للميتافيزيقيا ان ت�ستقل عن ال�سيا�سة او‬ ‫لهيغل وعنه بالتحديد اخذ نظريته الديالكتيكية‬
‫االخالق‪ ،‬او لفل�سفة اجلمال �أن ت�ستقل عن الدين او‬ ‫ومنظوراته اخلا�صة يف تف�سري التاريخ االن�ساين‬
‫املنطق مثالً‪ .‬امنا اخذ جميع هذه امليادين الفرعية‬ ‫وان كان قد ادخل عليها تغيريات جوهرية ا�صيلة‬
‫الفل�سفة �ضمن وحدتها العميقة كفروع لعلم واحد‬ ‫وكبرية‪ .‬والفو�ضوية مدينة هي اي�ض ًا للهيغلية‬
‫هو الفل�سفة دون الغاء ا�ستقالليتها الداخلية يف‬ ‫بالكثري‪ .‬فنحن نعرف بالفعل ان باكونني كان‬
‫نف�س الوقت‪.‬‬ ‫احد الهيغليني الي�ساريني يف بدء حياته ال�سيا�سية‪.‬‬
‫وثالثاً‪ ،‬ال�سعي اىل اخذ الوعي االن�ساين �ضمن وحدة‬ ‫والفل�سفة الوجودية‪ ،‬بتياريها امللحد وامل�ؤمن‪ ،‬ما‬
‫مطلقة ���س��واء على ال�صعيد اجل��غ��رايف‪ -‬الثقايف‬ ‫كانت �ستبلغ ما بلغته على يد �سارتر وكارل يا�سربز‬
‫(�رشق‪ -‬غرب) او على ال�صعيد التاريخي (ما�ضي‪-‬‬ ‫وغابريل مار�سيل وغريهم لوال ت�شبعهم امل�سبق‬
‫حا�رض‪ -‬م�ستقبل) او اخرياً على ال�صعيد الروحاين‬ ‫بالفل�سفة الهيغلية‪ .‬ونف�س ال�شيء فيما يتعلق‬
‫حيث ال تهم الت�سميات اخلارجية للوعي (م�سيحي‬ ‫بالفل�سفة الرباغماتية االمريكية والفل�سفة الو�ضعية‬
‫او يهودي او احيائي او ا�سالمي)‪ ،‬امنا فقط حمتواه‬ ‫املنطقية وفل�سفات اجلمال بتياراتها املتعددة‪.‬‬
‫الداخلي ال��ذي تتمحور حوله طبيعة العالقة بني‬ ‫م���ن ج��ان��ب اخ���ر مي��ك��ن ال���ق���ول دون ت����ردد ان‬
‫العقل املطلق والعقل اجلزئي‪ ،‬اي بني اهلل واالن�سان‬ ‫االيديولوجيات الغربية احلديثة املختلفة التي‬
‫يف هذه الروحانية او تلك‪.‬‬ ‫حتكم العامل اليوم جتد ‪-‬رغم تناق�ضاتها العميقة‪-‬‬
‫هذا املنهج ال��ذي بلوره هيغل و�سعى اىل و�ضعه‬ ‫ا�صو ًال م�شرتكة لها ومتطورة اىل هذا احلد او ذاك‬
‫مو�ضع التطبيق يف الفل�سفة كان البد ان يقوده‬ ‫يف الفل�سفة ال�سيا�سية الهيغلية وتتبنى اطروحات‬
‫اىل تناول كل التاريخ االن�ساين وكامل تاريخ‬ ‫�سجلها هيغل او اوحى بها يف واحدة او اخرىمن‬
‫الفل�سفة والفنون والفكر ال�سيا�سي والديني �ضمن‬ ‫كتاباته‪ .‬واالكرث طرافة هو ان معظم التناق�ضات‬
‫احلدود التي ت�سمح له بها املعلومات التي يقدمها‬ ‫التي جندها بني تلك الفل�سفات وهذه االيديولوجيات‬
‫وميتلكها ع�رصه الثقايف واملعريف خ�صو�ص ًا فيما‬ ‫جتد ا�صولها هي اي�ض ًا يف الفكر الفل�سفي الهيغلي‬
‫يتعلق بتاريخ وح�ضارات وفل�سفات وفنون ال�شعوب‬ ‫ذاته ال �سيما ال�سيا�سي منه وكانعكا�س للتناق�ضات‬
‫االخرى غري الغربية وغري امل�سيحية‪ .‬اذ ان انتماءه‬ ‫ابتداء‬
‫ً‬ ‫العميقة التي عرفها الفكر ال�سيا�سي الغربي‬
‫للم�سيحية كدين وللغرب كح�ضارة وفر له معرفة‬ ‫من الن�صف الثاين للقرن الثامن ع�رش‪.‬‬
‫كاملة ن�سبي ًا بهما‪،‬ال �سيما وان هيغل كان قارئ ًا نهم ًا‬ ‫ان عبقرية الفل�سفة الهيغلية تت�أتى‪،‬يف ر�أينا‪ ،‬من‬
‫ومطلع ًا مثابراً وعارف ًا عميق ًا بالعقائد امل�سيحية‬ ‫ثالث خ�صائ�ص ا�سا�سية فيها حر�ص هيغل على‬
‫والثقافة الغربية القدمية (االغريقية والرومانية)‬ ‫تطويرها ب�شكل متوا�صل وعميق‪ .‬وهي اوالً‪ :‬ار�ساء‬
‫والو�سيطة (ال��ق��رون الو�سطى) واجلرمانية اي‬ ‫الفل�سفة على �أ�س�س منطقية دقيقة وثابتة ب�شكل‬
‫احلديثة (مبكوناتها الرئي�سية االملانية واالنكليزية‬ ‫ت�صبح معه كـ «علم» �أ�سوة بالريا�ضيات او الفيزياء‬
‫والفرن�سية)‪ .‬وق��د �ساعده على معرفته العميقة‬ ‫مث ًال مبا ي�ضمن لها االعتماد على منهجية �صارمة‪،‬‬
‫‪52‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫والتي تعرب ب�شكل او باخر عن منظور تقليدي غربي‬ ‫بالديانة امل�سيحية كونه ق�ضى عدة �سنوات من‬
‫حول اال�سالم‪.‬‬ ‫حياته كطالب يف مدر�سة دينية لوثرية كان من‬
‫‌ج‪ -‬كتب الرحالة الغربيني الذين زاروا العامل‬ ‫املفرت�ض ان يتخرج منها كق�س لوثري لوال انه‬
‫اال���س�لام��ي واملكت�شفني االوروب��ي�ين‬ ‫اختار العمل االكادميي على مهنة رجل الدين‪ .‬كما‬
‫يرى هيغل‬ ‫الذين كتبوا حول هذا العامل‪.‬‬ ‫ان معرفته العميقة باللغات االجنليزية والفرن�سية‬
‫‌د‪ -‬الن�صو�ص العربية واال�سالمية التي ان تطور‬ ‫واالملانية اىل جانب اللغتني القدميتني االغريقية‬
‫كانت متوفرة يف ال��غ��رب برتجمات الوعي‬ ‫والالتينية �سهلت له امكانية االط�لاع مبا�رشة‬
‫املانية او فرن�سية او اجنليزية او االن�ساين‪،‬‬ ‫على الن�صو�ص اال�صلية لكبار املفكرين والكتاب‬
‫التينية بغ�ض النظر عن دقة او عدم‬ ‫الغربيني وعلى خفايا الثقافة الغربية �إجماالً‪.‬‬
‫يتج�سد‬
‫دقة هذه الرتجمات او االهمية الكبرية‬ ‫قبل ان نتناول املنظور الهيغلي حول اال�سالم كدين‬
‫ً‬
‫مو�ضوعيا‬ ‫لهذه الن�صو�ص‪.‬‬ ‫وح�ضارة وتاريخ وفل�سفة ودول��ة وق��وة �سيا�سية‬
‫يف عدد من‬ ‫كونية وغريها‪ ،‬ال بد من الت�أكيد هنا على ان فهم‬
‫الفعاليات‬
‫�أ‪ -‬كتب الرتاث الديني‬ ‫هذا املنظور ي�سمح ب�شكل كبري بامتالك ر�ؤية اكرث‬
‫مما ال�شك فيه ان هيغل تعرف على‬ ‫و�ضوح ًا عن مع�ضالت املوقف من اال���س�لام يف‬
‫واحلركات‬
‫اال���س�لام اول م��ا ت��ع��رف خ�لال فرتة‬ ‫الفل�سفة الغربية احلديثة واملعا�رصة اجما ًال ال �سيما‬
‫التاريخية‬ ‫ال�سنوات اخلم�س بني ‪ 1788‬و‪1793‬‬ ‫الفل�سفة ال�سيا�سية وفل�سفة التاريخ وانعكا�سات ذلك‬
‫واالبداعات‬ ‫عندما كان طالب ًا يف املدر�سة الالهوتية‬ ‫يف �شتى جوانب الثقافة الغربية من جهة‪ ،‬وي�سمح‬
‫الروحية ذات‬ ‫اللوثرية امل�سماة بـ«�ستيفت توبنغن»‬ ‫من جهة اخ��رى يف ادراك الكثري من التناق�ضات‬
‫الطابع امللمو�س‪.‬‬ ‫والتي تخرج منها بنجاح مر�شحة اياه‬ ‫العميقة واملظاهر التي تطبع ا�شكاليات الفكر‬
‫لي�صبح ق�س ًا بروت�ستانتيا‪ .‬ففي هذه‬ ‫الغربي حيال اال���س�لام وال����شرق عموم ًا والعامل‬
‫فهو يتج�سد‬ ‫املدر�سة كانت العالقة بني امل�سيحية‬ ‫العربي وال�رشق اال�سالمي خا�صة‪.‬‬
‫قبل كل �شيء‬ ‫واال���س�لام ه��ي مو�ضوع ا�سا�سي من‬
‫يف �شكل الدولة‬ ‫موا�ضيع م���ادة ال��ت��اري��خ‪ .‬وبالطبع‬ ‫م�صادر هيغل حول اال�سالم‬
‫وطبيعة تنظيم‬ ‫ف��ان ه��ذه العالقة تطرح م��ن وجهة‬ ‫لقد ذكرنا قبل قليل ان هيغل كان قارئ ًا نهم ًا للكتب‬
‫نظر م�سيحية �شديدة العداء لال�سالم‬ ‫باللغات الفرن�سية واالجنليزية والالتينية ا�ضافة‬
‫العالقة فيها‬ ‫�آن��ذاك‪ .‬وملا كنا نعرف ان هيغل ظل‬ ‫اىل االملانية مما يجعل من الع�سري جداً علينا القيام‬
‫بني الروح‬ ‫طوال حياته الفكرية �شديد االن�سجام‬ ‫هنا بتقدمي جرد او حتديد دقيق للم�ؤلفات التي اخذ‬
‫الفردية والروح‬ ‫الداخلي مع العقيدة امل�سيحية كما‬ ‫منها مادته عن اال�سالم‪ .‬فهذه امل�صادر عديدة جداً‬
‫اجلماعية‪ ،‬بني‬ ‫ي�ؤكد ذل��ك الكاتب الفرن�سي مي�شيل‬ ‫ومتنوعة ومت�شابكة ومتناق�ضة‪ .‬بيد اننا ن�ستطيع‬
‫الروح اجلزئية‬ ‫هوالن يف كتابه «هيغل وال�رشق»(‪،)1‬‬ ‫باملقابل ح�رص ا�صنافها ب�أربعة لعبت دوراً مبا�رشاً‬
‫فاننا ن�ستطيع التيقن من ان ت�أثري‬ ‫او غري مبا�رش‪� ،‬سلبي ًا او ايجابي ًا يف بلورة املنظور‬
‫والروح الكلية‬ ‫ه���ذه ال��ف�ترة ظ��ل ك��ب�يراً ع��ل��ى هيغل‬ ‫الهيغلي حول اال�سالم‪ .‬وهذه اال�صناف االربعة هي‪:‬‬
‫ومل ي�ستطع اخل��روج عليه ب�شكل تام‪.‬‬ ‫‌�أ‪ -‬الكتب وامل�ؤلفات الدينية امل�سيحية ال �سيما‬
‫�صحيح ان ال�سجال �ضد اال�سالم اخذ طابع ًا اقل‬ ‫كتابات لوثر‪.‬‬
‫حدة يف الالهوت اللوثري‪ ،‬اال انه ظل ذا حمتوى‬ ‫‌ب‪ -‬امل�ؤلفات الفكرية واالدبية والتاريخية التي‬
‫مناه�ض يف اجلوهر حيث ا�ستمرت الربوت�ستانتية‬ ‫وجدت يف الغرب قبل والدته او ظهرت اثناء حياته‬
‫‪53‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مو�ضوعية واتزان ًا وثالثة ترتاوح يف مواقفها بني‬ ‫على اعتبار اال�سالم يف اح�سن االح��وال كمتمرد‬
‫العداء واملو�ضوعية بل ان بع�ضها يتناق�ض هو ذاته‬ ‫على الكني�سة وغريها من االعتبارات املوروثة‬
‫يف موقفه من العامل اال�سالمي واال�سالم والعرب‪.‬‬ ‫وال�سطحية‪ .‬وا�ضافة اىل هذه املواقف التي كونتها‬
‫فالبع�ض منها ي��ع��ادي اال���س�لام كدين ويعرتف‬ ‫الكني�سة حيال اال�سالم منذ القرن ال�سابع امليالدي‬
‫بعبقرية العرب ككتابات الفرن�سي ق�سطنطني فولني‬ ‫اثر انت�صار اال�سالم عليها جنوب حو�ض املتو�سط‬
‫بني اخرين‪ ،‬والبع�ض االخر ميتدح اال�سالم الرتكي‬ ‫وط��رده��ا نهائي ًا م��ن ك��ل ال����شرق ت��ق��ري��ب��اً‪ ،‬جاء‬
‫ويهاجم اال�سالم العربي كامل�ست�رشق النم�ساوي فون‬ ‫ال�تراث الغربي امل�سيحي املتكون خ�لال القرون‬
‫هامر بورغ�ستال يف م�ؤلفاته املختلفة �سيما كتابه‬ ‫الو�سطى االخرية كنتيجة للحروب ال�صليبية ليغني‬
‫ال�ضخم بعنوان «تاريخ االمرباطورية العثمانية»‬ ‫الرت�سانة امل�سيحية املعادية لال�سالم التي ورثتها‬
‫والبع�ض الثالث يرف�ض كل ما هو ا�سالمي دفعة‬ ‫الربوت�ستانتية االملانية‪ .‬وعالوة على كل ذلك فان‬
‫واحدة كما هو احلال بالن�سبة ملونت�سكيو يف «روح‬ ‫االخطار الع�سكرية التي كانت متثلها االمرباطورية‬
‫القوانني» وكذلك بالن�سبة للمفكر االملاين فريدريك‬ ‫العثمانية على املانيا يف زمن لوثر «وحتى فرتة‬
‫ت�شليغل يف كتابه «فل�سفة ال��ت��اري��خ» والبع�ض‬ ‫قريبة من والدة هيغل» قادت اللوثرية ا�ضافة اىل‬
‫الرابع يعرتف بعمق اال�سالم وعبقرية نبيه وبف�ضل‬ ‫عنا�رص جديدة اىل ه��ذه الرت�سانة وتتج�سد هذه‬
‫امل�سلمني على االن�سانية كما جند لدى غوته يف‬ ‫العنا�رص يف عدة كتابات دونها لوثر نف�سه �ضد‬
‫كتابه «الديوان الغربي ال�رشقي»‪.‬‬ ‫اال�سالم و�ضد االتراك و�أهمها ر�سالة طويلة بعنوان‬
‫ان كتابات ه���ؤالء الكتاب املذكورين وكتابات‬ ‫«موعظة بال�صالة �ضد االت��راك» يعترب امل�سلمني‬
‫فولتري وه�يردر وجيبون وكتابات ع�رص التنوير‬ ‫فيها بانهم «جي�ش من ال�شياطني»‪)2(.‬‬
‫حول اال�سالم كانت م�صدراً �أ�سا�سي ًا يف منظور هيغل‬ ‫وميكن القول باخت�صار ان ال�صورة (املغالية‪،‬‬
‫يف هذا املجال فقد قدمت له مادة ثرية وعميقة‬ ‫املتع�صبة) التي يقدمها هذا ال�صنف من امل�صادر‬
‫ولكنها تركت عليه �آثار تناق�ضاتها يف نف�س الوقت‪.‬‬ ‫حول اال�سالم والعرب تتمحور حول اال�ستنتاجات‬
‫توخي ًا للدقة نذكر هنا اهم هذه امل�ؤلفات التي‪ ،‬لدينا‬ ‫الثالثة التالية‪:‬‬
‫الدليل القاطع‪ ،‬من خالل كتابات هيغل ور�سائله‬ ‫�أوالً‪ :‬اعتبار النبوة املحمدية والديانة اال�سالمية‬
‫واثاره‪ ،‬على انه اطلع عليها مبا�رشة وهي‪:‬‬ ‫زائفتني وم��ن �صنع ال�شياطني وموجهتني �ضد‬
‫‪ -‬كتاب «الت�رشيع ال�رشقي» للم�ست�رشق الفرن�سي‬ ‫امل�سيح وامل�سيحية‪.‬‬
‫انكتيل دو ب�يرون ال�صادر يف ام�سرتدام يف عام‬ ‫ثانياً‪ :‬اعتبار ال��ق��ر�آن كمجموعة من الن�صو�ص‬
‫‪« 1778‬من�شورات مارك مي�شيل»‪.‬‬ ‫املقتب�سة ب�شكل م�شوه من الكتاب املقد�س بعهديه‬
‫‪ -‬كتاب «القامو�س التاريخي والنقدي» للفيل�سوف‬ ‫القدمي واجلديد‪.‬‬
‫الفرن�سي بيري بيل ال�صادر يف روتردام عام ‪1715‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬اعتبار العرب �شعب ًا بدائي ًا يحب العنف وب�سيط‬
‫«جزءان»‪.‬‬ ‫العقلية وبالتايل عاجزاً عن �أي تفكري منطقي او‬
‫‪ -‬كتاب «تاريخ االمرباطورية العثمانية» ت�أليف‬ ‫انتاج روحاين او فل�سفي جديدين‪.‬‬
‫امل�ست�رشق الفرن�سي كانتمري ال�صادر يف باري�س‬
‫عام ‪.1743‬‬ ‫ب‪ -‬امل�ؤلفات الفكرية واالدبية الغربية‬
‫‪ -‬كتاب «تدهور و�سقوط االمرباطورية الرومانية»‬ ‫هذا ال�صنف من امل�صادر �شديد التنوع واالهمية‬
‫من ت�أايف امل�ؤرخ االجنليزي ادوارد جيبون‪ ،‬ال�صادر‬ ‫ويتباين جداً يف موقفه من اال�سالم حيث جند فيه‬
‫يف لندن عام ‪.1776‬‬ ‫م�ؤلفات �رصيحة يف عدائها لال�سالم واخرى اكرث‬
‫‪54‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫بع�ض مقتطفات منه يف كتابات اخرى او يف بع�ض‬ ‫‪ -‬كتاب «الديوان الغربي‪ -‬ال�رشقي» من ت�أليف‬
‫الرتجمات العديدة املوجودة‪ ،‬ومن جهة اخرى ي�شري‬ ‫غوته‪ ،‬ال�صادر يف عام ‪.1819‬‬
‫هيغل م��راراً اىل �شخ�صية النبي حممد واىل ال�سنة‬ ‫‪ -‬كتاب «ف��رق��ة احل�شا�شني» م��ن ت�أليف هامر‬
‫النبوية عموم ًا مما يوحي بانه ميتلك فكرة ما عنها‪.‬‬ ‫بورغ�ستال ال�صادر يف �شتوتغارت عام ‪.1818‬‬
‫اما الن�صو�ص العربية واال�سالمية االخرى فقد عرف‬ ‫‪ -‬كتاب «تاريخ االمرباطورية العثمانية» من ت�أليف‬
‫هيغل الكثري من ال�شعر ال�صويف وال�شعر العربي‬ ‫هامر بورغ�ستال‪ ،‬ال�صادر بثالثة اجزاء �ضخمة يف‬
‫وافكار املعتزلة والفال�سفة امل�سلمني االخرين‪ .‬هذه‬ ‫عام ‪ 1827‬يف بي�ست‪.‬‬
‫الن�صو�ص كان ب�إمكانه مراجعتها او قراءتها يف‬ ‫‪ -‬مو�سوعة «املكتبة ال�رشقية» من ت�أليف امل�ست�رشق‬
‫العديد من امل�صادر انذاك و�أهمها‪:‬‬ ‫الفرن�سي ديربياو‪ ،‬ال�صادرة يف باري�س عام ‪1697‬‬
‫‪ -‬كتاب «الف ليلة وليلة» يف الرتجمة الفرن�سية‬ ‫«�سبعة اجزاء»‪.‬‬
‫التي ن�رشها انطوان غاالند يف باري�س عام ‪1704‬‬ ‫‪ -‬كتاب «روح القوانني» ملونت�سكيو‪ ،‬ال�صادر يف‬
‫والتي متت ترجمتها اىل االملانية ون�رشت عام‬ ‫جنيف عام ‪.1748‬‬
‫‪.1712‬‬ ‫‪ -‬كتاب «�آث���ار دي��ن حممد» من ت�أليف االمل��اين‬
‫‪ -‬ر�سالة «حي بن يقظان» البن طفيل التي ترجمها‬ ‫اول�سرن‪ ،‬ال�صادر يف باري�س عام ‪.1810‬‬
‫ا�شوهرن لالملانية ون�رشها يف برلني عام ‪.1783‬‬ ‫‪ -‬كتاب «املنطق العربي»(بالالتينية) من ت�أليف‬
‫‪ -‬ك��ت��اب «ال�شاهنامه» للفردو�سي‪ ،‬حيث قام‬ ‫�سوالندري ال�صادر يف اوب�ساال عام ‪.1721‬‬
‫امل�ست�رشق االملاين غور�س برتجمته اىل االملانية‬ ‫‪ -‬م�رسحية «التع�صب او حممد النبي» لفولتري‬
‫ون�رش الرتجمة بجزءين يف برلني عام ‪.1820‬‬ ‫ال�صادرة يف عام ‪ 1741‬يف باري�س‪.‬‬
‫‪ -‬ديوان ال�شاعر ال�صويف االيراين حافظ ال�شريازي‬ ‫ا�ضافة اىل كتابات فولتري االخرى التي جاء فيها‬
‫الذي ترجمه امل�ست�رشق النم�ساوي هامر بوغ�ستال‬ ‫على ذكر اال�سالم وال�رشق اال�سالمي‪.‬‬
‫اىل االملانية ون�رشه يف فيينا عام ‪.1812‬‬
‫‪ -‬كتاب «دالل��ة احلائرين» للفيل�سوف اليهودي‬ ‫ج‪ -‬كتب الرحالت واالكت�شافات‬
‫العربي مو�سى بن ميمون الذي ترجمه بوك�ستورف‬ ‫ان هذا ال�صنف من امل�ؤلفات اقل اهمية من �سابقه‬
‫اىل الالتينية ون�رشه يف بال عام ‪.1629‬‬ ‫كم�صدر معلومات لهيغل ح��ول اال���س�لام‪ .‬غري‬
‫‪ -‬كتاب «خمتارات تاريخية عربية» اعداد وترجمة‬ ‫انه ي�ستخدم م��راراً ا�شارات من م�ؤلفات الرحالة‬
‫بوكوك‪ ،‬املن�شور بالالتينية يف اوك�سفورد عام‬ ‫االجنليزي جيم�س برو�س التي يتحدث عن لقاءاته‬
‫‪.1650‬‬ ‫مع عدد من امل�سلمني يف افريقيا وذلك يف كتابه‬
‫‪ -‬ق�صائد «موالنا جالل الدين الرومي» يف ترجمة‬ ‫«رحلة الكت�شاف منابع النيل» ال�صادر يف لندن‬
‫ال�شاعر االملاين الكبري روكريت‪ ،‬املن�شور يف توبنغن‬ ‫ابتداء من عام ‪ ،1763‬وب�شكل اهم بالن�سبة لكتاب‬
‫عام ‪.1822‬‬ ‫«رحلة يف م�رص و�سوريا» للفرن�سي فولني ال�صادر‬
‫‪ -‬كتاب «خم��ت��ارات عربية» ‪-‬ج���زءان‪ -‬ترجمة‬ ‫يف باري�س عام ‪.1787‬‬
‫امل�ست�رشق الفرن�سي الكبري �سيلف�سرت دو �سا�سي‬
‫املن�شور يف باري�س عام ‪.1826‬‬ ‫د‪ -‬الن�صو�ص العربية واال�سالمية املرتجمة‬
‫اذن‪ ،‬من الوا�ضح من كل ما تقدم ان معلومات هيغل‬ ‫يف كتاباته املختلفة ذكر هيغل القر�آن مراراً م�شرياً‬
‫عن اال�سالم والعرب وال�رشق اال�سالمي كانت مهمة‬ ‫اىل هذا الن�ص او تلك الفكرة فيه‪ ،‬ورغ��م انه من‬
‫جداً ن�سبي ًا ووا�سعة ومتنوعة ب�شكل مثري ولهذا فهي‬ ‫غري الثابت بانه قر أ� القر�آن فع ًال فالأكيد انه عرف‬
‫‪55‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هذه ال�سريورة ال يبدو ذلك العن�رص على �شكل فرد‬ ‫�ست�سمح له يف بلورة منظوره الفل�سفي اخلا�ص حول‬
‫او جمموعة �صغرية من الأفراد «النخبة» امنا على‬ ‫ال�رضورة التاريخية والطبيعة العميقة لال�سالم‬
‫هيئة �شعب او �أمة‪ .‬والتاريخ اي�ض ًا هو تعاقب هذه‬ ‫كمكون ا�سا�سي يف احل�ضارة ويف التاريخ االن�ساين‪.‬‬
‫الأمم على قيادة العامل �ضمن خمطط خارج ارادتها‬ ‫وه��ذا املنظور يبدو كام ًال وعميق ًا يف الواقع اذا‬
‫جميع ًا هو انعكا�س ملخطط الهي تطوري‪ .‬حيث �أن‬ ‫تفح�صنا كتابات هيغل بدقة على الرغم من ان‬
‫�سريورة تطور الوعي االن�ساين الكوين ت�شبه اىل حد‬ ‫�آراءه بهذا ال�صدد تكاد تكون خفية يف كتاباته‬
‫كبري �سريورة تطور طبيعة معتادة وهيغل يذهب اىل‬ ‫التي ن�رشها يف حياته ثم متفرقة ومبعرثة جداً يف‬
‫حد مقارنتها جمازاً بتطور الفرد االن�ساين انطالق ًا‬ ‫درو�سه الربلينية التي حتولت بعد موته اىل م�ؤلفات‬
‫من حالته اجلنينية قبل الوالدة ثم مرحلة الوالدة‬ ‫مهمة مثل «درو����س فل�سفة ال��ت��اري��خ» و»درو����س‬
‫والطفولة تليها مرحلة ال�شباب واحليوية‪ ،‬تليها‬ ‫فل�سفة الدين» و«درو�س تاريخ الفل�سفة» و«درو�س‬
‫مرحلة الرجولة وامل�س�ؤولية‪ ،‬تليها مرحلة الكهولة‬ ‫فل�سفة اجلمال» ولننتقل الآن اىل معرفة خ�صو�صية‬
‫واحلكمة‪ .‬وهذه املراحل من التطور التي يقطعها‬ ‫منظوره حول ال�رشق اال�سالمي وخمتلف جوانب هذا‬
‫تاريخ الوعي االن�ساين يف �سريورته ال�شاملة هي‬ ‫املنظور �أي موقفه من الدين اال�سالمي ومن الفن‬
‫انعكا�س بر�أي هيغل لتطور «الروح املطلق» كما ان‬ ‫اال�سالمي ومن الفل�سفة اال�سالمية ومن التاريخ‬
‫تاريخ الوعي االن�ساين هو انعكا�س لتاريخ اخر هو‬ ‫اال�سالمي اجما ًال �سيما ال�سيا�سي منه‪ .‬ونالحظ من‬
‫تاريخ وعي «الروح املطلق» عن ذاته‪.‬‬ ‫االن ان تناول هذا املو�ضوع غري ممكن اال يف اطار‬
‫من جانب اخر يرى هيغل ان تطور الوعي االن�ساين‪،‬‬ ‫فل�سفة التاريخ الهيغلية‪.‬‬
‫يتج�سد مو�ضوعي ًا يف عدد من الفعاليات واحلركات‬
‫التاريخية واالب���داع���ات ال��روح��ي��ة ذات الطابع‬ ‫‪ -3‬ال�شرق اال�سالمي يف فل�سفة الهيغلية للتاريخ‬
‫امللمو�س‪ .‬فهو يتج�سد قبل كل �شيء يف �شكل الدولة‬ ‫يف حتليل وتق�سيم تاريخ الوعي االن�ساين عموم ًا‬
‫وطبيعة تنظيم العالقة فيها بني ال��روح الفردية‬ ‫ينطلق هيغل من االطروحة الالهوتية امل�سيحية‬
‫والروح اجلماعية‪ ،‬بني الروح اجلزئية والروح الكلية‪.‬‬ ‫القائلة بان االن�سان هو يف جوهره ابن اهلل‪ ،‬فالوعي‬
‫فالدولة االبوية هي االطار اخلا�ص مبرحلة جنينة‬ ‫االن�ساين ا�ستنتاج ًا هو انعكا�س ب�شكل او باخر‬
‫الوعي االن�ساين ودولة اال�ستبداد الفردي هي االطار‬ ‫للوعي االلهي وكذلك االمر بالن�سبة لالرادة واالبداع‬
‫اخلا�ص ميرحلة طفولة الوعي االن�ساين‪ ،‬والدولة‬ ‫وخمتلف ال�صريورات االخرى‪ .‬وي�ؤكد هيغل يف اكرث‬
‫الدميقراطية البدائية هي االطار اخلا�ص مبرحلة‬ ‫من مو�ضع يف كتاباته تبنيه لهذه الفكرة الالهوتية‬
‫�شباب الوعي االن�ساين‪ ،‬ودولة ا�ستبداد القانون هي‬ ‫امل�سيحية مع فارق جوهري هو انه ي�صوغها بلغة‬
‫االطار اخلا�ص مبرحلة رجولة الوعي االن�ساين‪ ،‬اما‬ ‫الفل�سفة بينما تطرحها امل�سيحية بلغة االميان او‬
‫الدولة الدميقراطية التمثيلية الربملانية فهي االطار‬ ‫الدين‪.‬‬
‫اخلا�ص مبرحلة كهولة ون�ضج الوعي االن�ساين‪.‬‬ ‫ويقوم املنهج الفل�سفي الهيغلي من جانب اخر على‬
‫ان وجود الدولة هو ال�رشط ال�رضوري االول لوالدة‬ ‫مفهوم ال�رضورة والغاء �أي دور لل�صدفة‪ .‬فعلى‬
‫امل�ؤ�س�سات الروحية االخ��رى وه��ي الدين والفن‬ ‫م�رسح تاريخ الوعي االن�ساين يبدو كل عن�رص فاعل‬
‫والفل�سفة ب�شكل خا�ص وعن هذه امل�ؤ�س�سات تتولد‬ ‫مكلف ‪-‬دون دراية او ارادة منه‪ -‬مبهمة حمددة‬
‫م�ؤ�س�سات روحية اخرى ثانوية ن�سبي ًا هي االخالق‬ ‫يولد من اجلها ويتح�رض الجنازها ثم ينجزها فعالً‪.‬‬
‫والعلوم والعالقات الدبلوما�سية وغريها‪ .‬ففي‬ ‫وبعدئذ تدق �ساعة نهايته وي�ستوجب عليه �شاء �أم‬
‫الدولة االبوية ال ميكن ان جند اال دين ًا يقوم على‬ ‫�أب��ى ان يرتك امل�رسح لقوة جديدة �صاعدة‪ .‬ويف‬
‫‪56‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫عموم ًا �سيما ال�صني والهند وب�لاد فار�س وبابل‬ ‫ال�سحر وعبادة الطبيعة املبا�رشة‪ ،‬وفن ًا يقوم على‬
‫وم�رص القدمية‪ ،‬حيث يالحظ ان الديانات التي قامت‬ ‫تقليد مظاهر الطبيعة وبع�ض االخ�لاق والعلوم‬
‫يف هذه املناطق كانت تقوم جميع ًا على تقدي�س‬ ‫والعالقات البدائية ج��داً والعفوية مت��ام��اً‪ .‬ويف‬
‫الطبيعة املبا�رشة متج�سدة رمزي ًا باالمرباطور يف‬ ‫الدولة اال�ستبدادية ال ميكن ان جند اال دين ًا يقوم‬
‫ال�صني وبر�ؤ�ساء نظام الطبقات يف الهند وبعبادة‬ ‫على عبادة الطبيعة لكن جمردة وغري مبا�رشة هذه‬
‫النار يف ايران القدمية وبعبادة التماثيل ذات الهيئة‬ ‫املرة وفن ًا يعك�س هذا التجريد وفل�سفة بدائية اقرب‬
‫االن�سانية او احليوانية يف بابل وم�رص‪ .‬ففي هذه‬ ‫اىل العقيدة الدينية وم�صاغة بلغة االمي��ان‪ .‬اما‬
‫املرحلة ي�شعر االن�سان انه ميتلك قيمة بذاته لكنها‬ ‫يف الدولة الدميقراطية البدائية فنجد دين ًا قائم ًا‬
‫قيمة ثانوية مقارنة مع قيمة االمرباطور والر�ؤ�ساء‬ ‫على عبادة طبيعة جمردة و�شخ�صانية م�ؤن�سة‪� ،‬أي‬
‫والنار‪.‬‬ ‫ممنوحة وعي ًا وحيوية عقالنية‪ ،‬وفن ًا يجعل االن�سان‬
‫‪ -‬مرحلة �شباب الوعي االن�ساين وتتمثل باحل�ضارة‬ ‫مركزه ونقطة انطالقه وفل�سفة م�ستقلة بذاتها عن‬
‫االغريقية القدمية حيث يقد�س االن�سان رم��وزاً له‬ ‫الدين لكنها مل تغادر الأجواء الدينية بعد‪.‬‬
‫بتماثيل االلهة املنحوتة بدقة على �شكل هيجل‪:‬‬ ‫ويف اط��ار الدولة اال�ستبدادية امل�ؤ�س�ساتية جند‬
‫ج�سم ان�ساين‪� ،‬أي ان الفن الكال�سيكي‬ ‫ديانة تقوم على عبادة الطبيعة جم��ردة ب�شكل‬
‫يف الدولة‬
‫وح��ق��وق امل��واط��ن��ة يف الدميقراطية‬ ‫مطلق‪ ،‬وب�شكل ال يبقى من الطبيعة املادية �سوى‬
‫االغ��ري��ق��ي��ة‪ ،‬وم��و���ض��وع��ات الفل�سفة ال�شرقية‬ ‫وجودها الرمزي مطروح ًا على �شكل �إله واحد وجند‬
‫عال االن�سان اما‬ ‫االغريقية تدل جميع ًا على �شعور ٍ‬ ‫فن ًا يعك�س هذا التجريد وهذه الرمزية‪ ،‬وجند فل�سفة‬
‫بقيمة االن�سان يف العامل االغريقي‪ ،‬لكن‬ ‫معقدة ظاهري ًا لكنها �شكلية املحتوى داخلياً‪ .‬اما‬
‫هذه القيمة غري �شمولية بعد‪ .‬ف�شعور �سيدا‬ ‫يف الدولة الدميقراطية التمثيلية فنجد دين ًا يقوم‬
‫الفرد االغريقي بقيمته ال تت�أتى لديه من او عبدا‬ ‫على االحتاد الواعي بني اهلل واالن�سان‪ ،‬وفن ًا ميجد‬
‫هويته اخلا�صة ك�إن�سان بل من هويته‬ ‫االن�سان باعتباره ابن اهلل وممثل حتققه االر�ضي‪،‬‬
‫اخلا�صة ك�أثيني وك أ���غ��ري��ق��ي‪ .‬وه��ذا‬ ‫وفل�سفة متطورة يف خمتلف املجاالت‪.‬‬
‫العجز يف الوعي االغريقي يجد نتائجه امللمو�سة يف‬ ‫هذه هي باخت�صار �شديد املحتويات اال�سا�سية‬
‫وجود نظام الرق يف املجتمعات االغريقية القدمية‪،‬‬ ‫للنظام الفل�سفي الهيغلي يف تف�سري تاريخ تطور‬
‫واي�ض ًا يف كون الوعي الفردي االغريقي ظل ا�سري‬ ‫الوعي االن�ساين‪ .‬واذا انتقلنا االن اىل تلم�س ذلك‬
‫فردانيته ومل يفهم ان قيمته الفعلية تكمن يف‬ ‫على ال�صعيد الواقعي التاريخي لالن�سانية فان هذه‬
‫عامليته‪ ،‬اي يف �رضورة ان تر�سى القيمة االن�سانية‬ ‫الت�صنيفات تتج�سد لدى هيغل على ال�شكل التايل‪:‬‬
‫للفرد على ا�سا�س انتمائه لالن�سانية العاملية‪ ،‬ولي�س‬ ‫‪ -‬مرحلة جنينية الوعي االن�ساين وتتج�سد بافريقيا‬
‫فقط لالن�سانية الالتينية او االغريقية‪.‬‬ ‫التي يعتربها هيغل «ليل الوعي االن�ساين» اي ما‬
‫‪ -‬مرحلة الرجولة تتمثل باحل�ضارة الرومانية‬ ‫قبل الوعي التاريخي حيث يالحظ ان افريقيا مل‬
‫حيث يقد�س االن�سان رم��وزاً له بالقانون والدولة‬ ‫تنجح يف اقامة �أية دولة وبالتايل مل تنجز اال ا�شكا ًال‬
‫وه��ي م�ؤ�س�سات معنوية وجم��ردة ولي�ست مادية‬ ‫ب�سيطة على ال�صعيد الديني والفني واالخالقي‬
‫طبيعية‪ .‬وه��ذا التطور يقرتن بتطور اخر متمث ًال‬ ‫متج�سدة يف روحانية قائمة على ال�سحر وعبادة‬
‫بالنزعة العاملية للح�ضارة الرومانية والوعي الذي‬ ‫اال�شجار واالنهار‪ ،‬و�أكل حلوم الب�رش والغاء �أية قيمة‬
‫طورته‪ .‬لكن هذا التطور يظل حمدوداً نظراً لأن قيمة‬ ‫للإن�سان بذاته‪.‬‬
‫القانون والدولة طغت على قيمة الفرد االن�سان‪ .‬كما‬ ‫‪ -‬مرحلة طفولة الوعي االن�ساين وتتج�سد بال�رشق‬
‫‪57‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عاملي ًا يف تطور الوعي يف حني ان هذا التطور ال‬ ‫ان النزعة العاملية للح�ضارة الرومانية اقرتنت‬
‫ميكن ان يح�صل اال يف الغرب من جهة‪ ،‬ومن جهة‬ ‫بنزوعها لفر�ض عامليتها بالقوة والعنف‪ ،‬مما‬
‫اخرى ان ظهور اال�سالم بعد امل�سيحية تاريخي ًا البد‬ ‫جعلها عملي ًا ت�سحق الفرد امللمو�س با�سم العاملية‬
‫ان يقود اىل اال�ستنتاج ان اال�سالم كوعي روحاين‬ ‫املجردة‪.‬‬
‫هو بال�رضورة اك�ثر تطوراً من الوعي الروحاين‬ ‫‪ -‬مرحلة الكهولة والن�ضج النموذجي يتمثل‬
‫امل�سيحي �سيما وان هذا اال�ستنتاج يبدو بديهي ًا اذا‬ ‫باحل�ضارة الغربية ‪-‬امل�سيحية التي تقرن عامليتها‬
‫احرتمنا املنهج الهيغلي نف�سه‪ .‬ف�إىل �أية حدود التزم‬ ‫‪-‬ح�سب هيغل‪ -‬ب��اح�ترام عميق للفرد االن�ساين‬
‫هيغل نف�سه بهذا املنهج الذي اراد له ان يكون علمي ًا‬ ‫باعتباره اب��ن اهلل‪ ،‬وبا�شاعة املحبة بني الب�رش‬
‫و�صارماً‪ ،‬واىل �أية مدى ا�ستطاع االنحياز لـ»العلم‬ ‫ومب��وازن��ة العالقة بني الفرد واملجموع العاملي‬
‫الفل�سفي» والتحرر من انحيازه الطبيعي لثقافته‬ ‫ب�شكل ي�صبح اح�ترام قيمة الفرد �رشط ًا �رضوري ًا‬
‫اخلا�صة؟‬ ‫مل����شروع��ي��ة قيمة امل��ج��م��وع ال��ع��امل��ي‪ .‬وتعترب‬
‫قبل االجابة على هذه اال�سئلة من ال�رضوري ان‬ ‫الدميقراطية التمثيلية االنتخابية عن هذه املوازنة‬
‫نالحظ ان الن�صو�ص التي يتحدث فيها هيغل عن‬ ‫امثل تعبري‪ .‬وهذه املرحلة هي الذروة العليا لتطور‬
‫اال�سالم هي ن�صو�ص �رسيعة دائم ًا و�شديدة التبعرث‬ ‫الوعي االن�ساين‪.‬‬
‫غالباً‪ ،‬اال انها مركزة وعميقة با�ستمرار ب�شكل يوحي‬ ‫وهنا البد ان نالحظ بان هيغل ي�ؤكد على الدوام بان‬
‫لنا بان هذا الفيل�سوف االملاين الكبري واجه م�شكلة‬ ‫�سريورة تطور الوعي االن�ساين تذهب جغرافي ًا من‬
‫حقيقية يف ادخ��ال اال�سالم يف نظامه الفل�سفي‬ ‫ال�رشق باجتاه الغرب بال�رضورة‪ .‬وكلما انتقلنا من‬
‫وهي م�شكلة تف�ضح بر�أينا تناق�ض ًا جوهري ًا يف‬ ‫ال�رشق باجتاه الغرب كلما بدت الروحانية الواعية‬
‫عمق نظامه الفل�سفي‪ .‬ومما يده�ش جداً ان درو�سه‬ ‫اكرث �سمواً‪ .‬فبعد ان يرتك القارة االفريقية جانب ًا‬
‫حول فل�سفة الدين ال ت�ضم �أي ف�صل مكر�س لال�سالم‬ ‫باعتبارها خ��ارج تاريخ الوعي‪ ،‬ي��رى هيغل ان‬
‫على الرغم من ان��ه حلل يف ه��ذه ال��درو���س جميع‬ ‫ال�صني هي نقطة البداية االوىل الفعلية‪ ،‬تليها الهند‬
‫ادي��ان الب�رشية ال�صغرية والكبرية االخ��رى‪ .‬وهذا‬ ‫فبالد فار�س فبابل فم�رص وكلها مكونات داخلية‬
‫احلال اثار انتباهنا ان درو�سه االخرى حول فل�سفة‬ ‫�ضمن ديالكتيك الوعي ال�رشقي الذي مبجموعه هو‬
‫التاريخ وحول فل�سفة اجلمال وحول تاريخ الفل�سفة‬ ‫طفولة الوعي االن�ساين‪ .‬واذا تقدمنا اكرث باجتاه‬
‫ال تت�ضمن اال ف�صو ًال عجولة مفرو�ضة عليه ب�شكل‬ ‫الغرب ي�أتي العامل االغريقي يليه العامل الروماين‬
‫او ب�آخر‪ .‬ومع ذلك فان ما هو موجود يكفي للقول‬ ‫وتقف اوربا الغربية كخامتة لهذه ال�سريورة على‬
‫بوجود منظور كامل لدى هيغل حول اال�سالم‪.‬‬ ‫ال�صعيد اجلغرايف‪ .‬ومب��وازاة ذلك ي�ؤكد هيغل ان‬
‫التطور يتم بال�رضورة اي�ض ًا على ال�صعيد الزماين‪،‬‬
‫العرب قبل اال�سالم يف فل�سفة هيغل‬ ‫فاحل�ضارة ال�صينية ت�سبق احل�ضارة الهندية‪،‬‬
‫ان املع�ضلة االوىل التي يطرحها اال�سالم‪ ،‬كدين‬ ‫وه��ذه ت�سبق الفار�سية تليها البابلية فامل�رصية‬
‫وكح�ضارة‪ ،‬على الفل�سفة الهيغلية هي ظهور هذا‬ ‫فاالغريقية فالرومانية واخرياً احل�ضارة امل�سيحية‬
‫الدين يف اجلزيرة العربية وبني العرب بالذات‪ .‬فهذا‬ ‫احلديثة‪.‬‬
‫ال�شعب الذي عرفه هيغل جيداً اىل حد ما من خالل‬ ‫واحلال ان ظهور اال�سالم يف ال�رشق بالذات جغرافي ًا‬
‫كتابات فولتري وغوته وفولني وغريهم من كتاب‬ ‫وبعد امل�سيحية بالذات يبدو ك�رضبة قوية لهذا‬
‫ومفكري ع�رص التنوير وامل�ؤرخني والرحالة‪ ،‬يبدو‬ ‫املنظور التطوري اجلغرايف‪ -‬التاريخي‪ .‬الننا ال‬
‫له ك�شعب م�شتت متكون من عدد كبري من القبائل‬ ‫ن�ستطيع ان نفهم كيف ي�ستطيع ال�رشق ان يلعب دوراً‬
‫‪58‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫بـ»كتابات ال�شباب» كتب ما يلي عن الكرم العربي‪:‬‬ ‫ال�صحراوية املتنقلة املتنازعة فيما بينها ومع‬
‫«عندما ي�رشب العربي قدح قهوة مع الغريب ي�شعر‬ ‫جريانها ب�شكل ال ي�سمح لهم بناء دول��ة متطورة‬
‫بانه يرتبط مع هذا الغريب بعهد �صداقة‪ .‬وهذا الفعل‬ ‫وجمتمع مدين متقدم لأن حياتهم يف ال�صحارى‬
‫امل�شرتك يربطه مع الغريب اىل درجة ان العربي‬ ‫وحركة تنقالتهم الدائمة تتناق�ض ب�شكل عميق مع‬
‫يحر�ص على ان يظهر ا�شد انواع الوفاء وكل النجدة‬ ‫قيام الدولة واملجتمع املدين‪ .‬يقول هيغل عن العرب‬
‫لذلك الغريب»‪)6(.‬‬ ‫قبل اال�سالم‪:‬‬
‫ومهما يكن االمر فان هذه ال�صورة ظلت يف ذهن‬ ‫«ان هذه اجلموع من القبائل الرحالة ال ت�ستطيع‬
‫هيغل عن ال��ع��رب‪ ،‬وه��ذا هو ما جنده يجد هيغل‬ ‫ان حتقق تطوراً وتربية ب�شكل ذات��ي ا�صيل‪ ،‬فهي‬
‫وا���ض��ح�� ًا ب�شكل خ��ا���ص يف فل�سفة‬ ‫ال تكت�سب احل�ضارة اال بعد ا�ستقرارها يف ال�سهول‬
‫اجلمال حيث يقول هيغل عن املعلقات ان العرب‪ ،‬وما‬ ‫التي حتتلها وت�ستقر فيها واال بعد ان تفقد طبائعها‬
‫اجلاهلية‪« :‬ان ه��ذا ال�شعر هو ال�شعر دامت ال�صحراء‬ ‫االوىل‪ .‬غري ان هجماتها على احل�ضارات املجاورة‬
‫احلقيقي الالئق با�شخا�ص ناجحني تقدم لهم‬ ‫ت����ؤدي بذاتها اىل اح���داث ان��ق�لاب��ات يف ال�شكل‬
‫وم�ستقلني‪� .‬شعر رغم كل الغرابة التي‬ ‫اخلارجي للعامل»‪)3(.‬‬
‫جندها فيه يجعلنا ننده�ش بقدراتهم اكتفاءهم‬ ‫يف الق�سم االخري من هذا الن�ص يبدو وا�ضح ًا ان‬
‫على اللعب بال�صور واملقارنات وعلى الذاتي من‬ ‫هيغل ي�سعى هنا اىل و�ضع اللبنات االوىل لتف�سريه‬
‫التعبري عن روح ان�سانية واقعية»(‪ )7‬الزاد واملاء‪،‬‬ ‫ال��ه��ادف اىل اخ��ذ الفتوحات العربية اال�سالمية‬
‫وي�ضيف اي�ضاً‪« :‬ان هذا ال�شعر يت�ضمن‬ ‫كواحدة من الهجمات الكربى التي قام بها �شعب من‬
‫هم �شعب طيب‬ ‫نفحة حتمل احلياة»‪.‬‬ ‫الرحالة على احل�ضارات املجاورة‪ .‬لكن الفتوحات‬
‫لكن كل هذه امل�شاعر الهيغلية ال تغري االخالق نبيل‬ ‫العربية مع اال�سالم لي�ست �أول هجمة من هذا النوع‬
‫من اال�ستنتاجات الفل�سفية التي �سبق ورقيق‪ ،‬لديه‬ ‫فقد �سبقتها وتلتها هجمات عربية عديدة‪ .‬ففي‬
‫ذكرها والتي تن�ص على ان الفتوحات‬ ‫كتابه «درو�س حول فل�سفة التاريخ» يقول هيغل‪:‬‬
‫العربية اال�سالمية هي �شكل من ا�شكال �شعر جميل‪،‬‬ ‫«ان بابل ونينوى كانتا ت�شعران بحاجة دائمة‬
‫الهجمات الع�سكرية‪ ،‬ق��ام بها البدو ويحب احلرية‬ ‫لوقاية انف�سهما من هجمات العرب الرحل عليهما‬
‫على احل�����ض��ارات امل��ج��اورة‪ .‬بيد ان ويعتز بنف�سه‬ ‫لذلك كانتا ت�سعيان على الدوام اىل ت�صفية حياتهم‬
‫هذا التف�سري يظل تب�سيط ًا ج��داً‪� ،‬سيما‬ ‫البدوية وجرهم اىل اال�ستقرار يف مناطق ثابتة عرب‬
‫وان هيغل يقر نف�سه بان الروحانية وكرامته‬ ‫العمل يف الزراعة واملهن والتجارة‪ .‬وحتى يف فرتة‬
‫اال�سالمية ه��ي «ال��درج��ة االرق���ى يف‬ ‫الحقة ظلت بغداد تعاين دوري ًا من عبث البدو»‪)4(.‬‬
‫الروحانية ال�رشقية»(‪ .)8‬حلل هذه ال�صعوبة الكبرية‬ ‫لكن هيغل ال يرى يف العرب قبل اال�سالم �شعب ًا‬
‫والتناق�ض ال�صارخ يف منظوره �سيلج�أ هيغل اىل‬ ‫همجي ًا او بدائياً‪ .‬امنا بالعك�س‪ .‬فهو يجد ان العرب‪،‬‬
‫بلورة مفهوم غريب يقول بان اال�سالم هو «ثورة‬ ‫وما دامت ال�صحراء تقدم لهم اكتفاءهم الذاتي من‬
‫الروحانية ال�رشقية»(‪� ،)9‬أي «ث��ورة» �ضد انتقال‬ ‫الزاد واملاء‪ ،‬هم �شعب طيب االخالق نبيل ورقيق‪،‬‬
‫ر�سالة الوعي التاريخي اىل يد الغرب امل�سيحي‪ .‬ان‬ ‫لديه �شعر جميل‪ ،‬ويحب احل��ري��ة ويعتز بنف�سه‬
‫اال�سالم بكلمة اخرى ي�صبح مبثابة ردة اىل الوراء‬ ‫وكرامته اىل درجة قادت هيغل يف فل�سفة اجلمال‬
‫وردة عنيفة و�سلبية انتقام ًا من الوعي ال�رشقي‬ ‫اىل اعتبار العرب اجلاهليني مبثابة «�شعب من‬
‫الذي مل يعرف ان يوا�صل التطور اىل االمام‪.‬‬ ‫االبطال»(‪ .)5‬هذه النظرة الهيغلية جندها مبكرة‬
‫لكن ه��ذه ال��ث��ورة العنيفة وه��ذه ال���ردة ال�سلبية‬ ‫جداً يف كتابات الفيل�سوف‪ .‬ففي م�ؤلفاته امل�سماة‬
‫‪59‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ب���أن الفل�سفة الهيغلية ما هي يف ال��واق��ع �سوى‬ ‫هي ��ضرورة بحد ذاتها �ضمن التطور التاريخي‬
‫العقيدة الدينية اللوثرية م�صاغة بلغة الفل�سفة وان‬ ‫للوعي االن�ساين يف �سريه نحو احلقيقة املطلقة‬
‫كل مزاعم هيغل حول العلمية واحليادية والبحث‬ ‫مع الروحانية امل�سيحية الغربية‪ ،‬اي انه كان البد‬
‫العميق غري قادرة على طم�س هذه احلقيقة الكبرية‪.‬‬ ‫ان يجيء اال�سالم ليدمر االوث��ان ويهدم الدولة‬
‫الفار�سية املجو�سية والدولة الرومانية‬
‫خ�صو�صية الدين اال�سالمي‬ ‫الفل�سفة ال�ضعيفة يف اميانها بامل�سيحية‪ ،‬لكي‬
‫يف الفل�سفة الهيغلية‬ ‫الهيغلية ما تخلق االر�ضية املنا�سبة وال�رشوط‬
‫يرى هيغل «ان الدين اال�سالمي هو دين روحاين‬ ‫هي يف الواقع ال�رضورية االخرى النت�صار الروحانية‬
‫مثل الدين اليهودي لكن م�ضمون اال�سالم يطابق‬ ‫امل�سيحية عاملياً‪.‬‬
‫م�ضمون الدين امل�سيحي‪ ،‬لأن فكرة اهلل اال�سالمية‬ ‫�سوى العقيدة وحل��ل م�شكلة ��ض�رورة التطور على‬
‫تناظر يف تطورها فكرة اهلل امل�سيحية»(‪ .)10‬فماذا‬ ‫الدينية ا�سا�س ���س�يرورة زمانية‪ -‬تاريخية‬
‫يجب ان نفهم من هذا القول؟‬ ‫اللوثرية وملا كان ظهور اال�سالم الحق ًا على‬
‫باعتبارها ذروة ال��روح��ان��ي��ة ال����شرق��ي��ة‪ ،‬تبدو‬ ‫م�صاغة بلغة ظهور امل�سيحية ف��ان هيغل �سيطور‬
‫الروحانية اال�سالمية ل��دى هيغل مبثابة تطور‬ ‫مبد�أ ين�ص �رصاحة على ان امل�سيحية‬
‫الفل�سفة وان‬
‫كمي‪ -‬نوعي للروحانية اليهودية والنقي�ض املطلق‬ ‫الفعلية واحلقيقية مل تظهر اال مع لوثر‬
‫للروحانية امل�سيحية «يف �صيغتها الربوت�ستانتية»‬ ‫كل مزاعم والربوت�ستانتية وهكذا يزول التناق�ض‬
‫التي هي بالن�سبة لهيغل املج�سد االك�ثر اكتما ًال‬ ‫هيغل حول التاريخي‪ -‬الزماين املذكور من نظامه‬
‫للحقيقة االلهية والوعي الراقي للعالقة بني الذات‬ ‫العلمية الفل�سفي‪� .‬أما الكاثوليكية وامل�سيحية‬
‫االلهية والذات االن�سانية‪ .‬ان عالقة اال�ستمرارية بني‬ ‫واحليادية ال�رشقية ال�سابقتني على اال�سالم وعلى‬
‫الروحانية اليهودية والروحانية اال�سالمية يحددها‬ ‫الربوت�ستانتية معاً‪ ،‬فانهما بنظر هيغل‬
‫هيغل على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫والبحث م�سيحية �سطحية او باالحرى متهيدية‬
‫ان ف��ك��رة اهلل ال��واح��د االح���د يف اليهودية متثل‬ ‫العميق غري لأن احلقيقة امل�سيحية املطلقة ظلت‬
‫تقدم ًا هائ ًال يحققه الوعي اليهودي على جميع‬ ‫قادرة على جمهولة م��ن قبل امل�سيحيني حتى‬
‫مراحل الوعي ال�رشقي‪ .‬فاالله الذي يبدو متج�سداً‬ ‫طم�س هذه جميء لوثر‪.‬‬
‫ب��االم�براط��ور يف ال�صني وب�أعلى ه��رم الطبقات‬ ‫وبهذا التف�سري «الفل�سفي» ي�رضب هيغل‬
‫احلقيقة‬
‫يف الهند وبالنار يف املجو�سية‪ ،‬يفارق الطبيعة‬ ‫ثالثة ع�صافري بحجر واحد فهو يجرد‬
‫املبا�رشة او ال�شيئية عرب قطيعة حا�سمة ومطلقة‬ ‫الكبرية امل�سيحية ال�رشقية من عالقة عميقة مع‬
‫مع اال�شياء لي�صبح �إله ًا ذا حمتوى روحي بحت ال‬ ‫احلقيقة امل�سيحية‪ ،‬ويدين الكاثوليكية‬
‫يدرك باحلوا�س املجردة امنا عرب الت�أمل والفكر‬ ‫ب�سطحية فهم هذه احلقيقة وي�سلب اال�سالم �أية عالقة‬
‫فقط‪ .‬ع�لاوة على ذل��ك فهو يبدو للت�أمل الواعي‬ ‫مع احلقيقة االلهية املطلقة‪ .‬وبهذا ي�صفي ح�ساب‬
‫كذات حرة �سامية ومريدة‪ .‬لكن ما ينق�ص الوعي‬ ‫الربوت�ستانتية مع كل الديانات االخرى التي ميكن‬
‫اليهودي هذا هو �سلبية ت�صوره للعالقة بني االن�سان‬ ‫ان تتهمها بالهرطقة والال�رشعية‪ .‬وبالطبع فان‬
‫والذات االلهية‪ .‬فانعدام فكرة احلياة بعد املوت يف‬ ‫انحياز هيغل لديانته الربوت�ستانتية هنا �رصيح‬
‫اليهودية من جهة وجتريد االن�سان امللمو�س من‬ ‫ومفجع ب�شكل ي�رضب يف ال�صميم ت�أكيداته ال�سابقة‬
‫�أية قيمة ايجابية يف الدنيا حيال «يهوه» من جهة‬ ‫حول «العلمية» يف الفل�سفة‪ ،‬مما يدعم الر�أي ال�سائد‬
‫ثانية متثل جانبني �سلبني يف الوعي اليهودي لأن‬ ‫يف بع�ض االو�ساط الفل�سفية الكاثوليكية والقائل‬
‫‪60‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫قيمة لالن�سان امللمو�س امام القيمة املطلقة للذات‬ ‫هذا الوعي يعجز عن ادراك حقيقة ان االقرار بقيمة‬
‫االلهية وهذه الفكرة يعرب عنها هيغل كما يلي‪:‬‬ ‫ال��ذات االلهية تتطلب ك�رشط �سبق االق��رار بقيمة‬
‫«ان اال�سالم يكره ويحتقر كل ما هو ملمو�س‪ .‬فاهلل‬ ‫الذات االن�سانية‪� ،‬صحيح ان ال�شعب اليهودي يجد‬
‫هو واحد مطلق ب�شكل ال يبقي فيه لالن�سان �أي هدف‬ ‫قيمة وقناعة بفكرة كونه «�شعب خمتار» من قبل‬
‫لذاته و�أية قيمة خا�صة»(‪ .)11‬وي�ضيف هيغل‪« :‬ان‬ ‫اهلل‪ ،‬اال ان هذه احلقيقة هي قيمة وهمية متخيلة‬
‫الهدف ال��ذي ي�سعى له اال���س�لام هو ه��دف ذهني‬ ‫فح�سب‪ .‬وعالوة على ذلك فان القول بوجود �شعب‬
‫بحت لذلك فهو ال ي�سمح ب�أي ت�صوير‬ ‫خمتار من قبل اهلل ينطوي بحد ذات��ه على جتريد‬
‫او متثيل هلل»(‪ .)12‬هذا الهدف الذهني هيغل‪:‬‬ ‫للذات االن�سانية من قيمتها الفعلية الن فكرة ال�شعب‬
‫البحت يقود الوعي اال�سالمي اىل نوع «ان الدين‬ ‫املختار حت�رص هذه القيمة مبجموعة من النا�س‬
‫من العدمية وال�شعور الذاتي بالالقيمة اال�سالمي هو‬ ‫فقط (�أي اليهود) يف حني ان احلقيقة االلهية املطلقة‬
‫وكذلك ال�شعور ب�رضورة احتقار وتدمري‬ ‫ال تعرف هذا التعبري‪ .‬ولذلك فان امل�سيحية واال�سالم‬
‫كل ما هو ذو قيمة من امل��وج��ودات دين روحاين‬ ‫ميثالن تقدم ًا هائ ًال على اليهودية بالغائهما فكرة‬
‫امللمو�سة الن كل �شيء يجب ان يفقد مثل الدين‬ ‫ال�شعب املختار واق��رار مبد أ� امل�ساواة بني جميع‬
‫قيمته ام��ام عظمة ومطلقية القيمة اليهودي‬ ‫ال�شعوب واالف��راد فيما يتعلق بامكانية االحتاد‬
‫االلهية‪.‬‬ ‫الروحي مع اهلل وا�ستالم حقيقته‪.‬‬
‫وهذا التوجه يتج�سد عملي ًا ح�سب هيغل‪ ،‬لكن م�ضمون‬ ‫لكن هذا التطور الذي حتققه الديانتان امل�سيحية‬
‫ب�شدة التع�صب اال�سالمي اىل درجة انه اال�سالم يطابق‬ ‫واال�سالمية ي�أخذ اجتاه ًا مت�ضاداً بالن�سبة الحدهما‬
‫يعترب اال�سالم مبثابة دين التع�صب‪ .‬م�ضمون الدين‬ ‫االخ���ر‪ .‬فقول امل�سيحية مب��ب��د أ� االحت���اد ب�ين اهلل‬
‫وهو يعرب عن كل هذه االفكار بالن�ص‬ ‫واالن�سان عرب فكرة التثليث «االب واالب��ن وروح‬
‫التايل لهيغل‪« :‬ان ال�سمات اال�سا�سية امل�سيحي‪ ،‬لأن‬ ‫القد�س» ومببد أ� نزول االبن اىل االر�ض للت�ضحية‬
‫لال�سالم تت�ضمن ما يلي‪ :‬يجب ان ال فكرة اهلل‬ ‫من اجل االن�سان‪ ،‬يت�ضمن ح�سب التف�سري الهيغلي‬
‫يزدهر �شيء يف احلياة الواقعية وان كل اال�سالمية‬ ‫مفهوم ًا عميق الداللة على ايجابية قيمة االن�سان‬
‫ما هو فاعل وحي يتجه بكل طاقاته‬ ‫�ضمن هذا االحتاد‪ .‬وهذا ما ت�ؤكده ن�صو�ص الكتاب‬
‫نحو الالنهائي البعيد وان عبادة االله تناظر يف‬ ‫املقد�س االخرى القائلة مث ًال «بان اهلل خلق االن�سان‬
‫الواحد ي�صبح الرابطة الوحيدة التي تطورها فكرة‬ ‫على ���ص��ورت��ه كمثله» وغ�يره��ا‪ .‬اذ ان جمموع‬
‫يجب ان توحد جميع امل�ؤمنني‪ .‬ويف اهلل امل�سيحية»‬ ‫هذه املبادئ ينعك�س يف الدولة التي تخرج من‬
‫جم��رى التوجه نحو ه��ذا الالنهائي‬ ‫امل�سيحية جاع ًال منها دول��ة عدالة وموازنة بني‬
‫البعيد يختفي كل حاجز وكل متايز بني‬ ‫الذات االن�سانية والذات اجلماعية ودولة دميقراطية‬
‫االمم والطبقات حيث ال توجد �أية قيمة لالمتيازات‬ ‫وحقوق‪ .‬وينعك�س يف الفن والفل�سفة وغريها من‬
‫العرقية او االمتيازات ال�سيا�سية بالوالدة او امللكية‬ ‫ال��ع��ط��اءات ال��روح��ي��ة امللمو�سة بجعل االهتمام‬
‫والرثوات‪ .‬وحده االن�سان امل�ؤمن ميتلك قيمة خا�صة‪.‬‬ ‫باالن�سان وجت�سيد قيمته املذكورة هدف ًا مركزي ًا لها‬
‫وهذه القيمة مت�أتية من فعل عبادة اهلل واالميان به‬ ‫وحموراً الن�شطتها وت�أمالتها‪.‬‬
‫وال�صوم والتخل�ص من الرغبات اجل�سدية امللمو�سة‬ ‫اما يف اال�سالم فان فكرة القول بامل�ساواة املطلقة‬
‫اخلا�صة‪ .‬لكن جميع هذه االوامر تظل ب�سيطة اذ ان‬ ‫للب�رش ال تقرتن بفكرة االحت��اد بني اهلل واالن�سان‬
‫اجلدارة العليا للم�ؤمن هي املوت يف �سبيل االميان‬ ‫ح�سب هيغل‪ .‬امنا بفكرة االنف�صال بينهما‪ .‬وهذا‬
‫والذي ي�سقط يف املعركة من اجل اهلل ي�ضمن اجلنة‬ ‫االنف�صال م�ؤ�س�س يف اجلوهر على مبد�أ الغاء �أية‬
‫‪61‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والف�ضائع»‪)17(.‬‬ ‫ب�شكل اكيد»‪)13(.‬‬
‫وهذا املنظور هو الذي قاد هيغل اىل اظهار اعجاب ًا‬ ‫و�ضمن نف�س ال�سياق ي�ضيف هيغل يف مكان �آخر‬
‫واح�ترام�� ًا �شديدين حيال املت�صوفة امل�سلمني‬ ‫قائالً‪« :‬بالن�سبة ملحمد وحدهم امل�ؤمنون ي�ؤخذون‬
‫من جهة وادان���ة �رصيحة للفتوحات اال�سالمية‬ ‫بنظر االعتبار‪ .‬وهذا املوقف ال يت�أتى من موقف‬
‫ولالمرباطورية العثمانية من جهة اخرى‪.‬‬ ‫يقوم على النظرة املغلقة بل يقوم على التع�صب‪.‬‬
‫وا�ضح اذن ان هيغل ظل يف جميع هذه االحكام‬ ‫الن العالقة القومية اي العالقة النابعة عن الرابطة‬
‫منحازاً كلي ًا لثقافته امل�سيحية ونظرتها التقليدية‬ ‫العائلية الطبيعية «التي جندها يف اليهودية عرب‬
‫املعادية لال�سالم‪ .‬ولذلك فان جميع هذه االفكار‬ ‫فكرة �آل ابراهيم وا�سحق ويعقوب» والعالقة النابعة‬
‫تظل عدمية االهمية ونقطة �ضعف كبرية يف الفل�سفة‬ ‫عن رابطة االنتماء اىل بلد حمدد‪ ،‬تظل‬
‫الهيغلية اخلا�صة بالتاريخ وبالدين‪ .‬فهو ودون ان‬ ‫�شخ�صية ت�سمح ببع�ض املجال»‪)14(.‬‬
‫يكلف نف�سه جهد فهم اال�سالم ب�شكل عميق ي�سمح‬ ‫امل�ؤمن امل�سلم وعلى ا�سا�س ذلك ي�ستنتج هيغل «ان‬
‫لنف�سه باطالق خمتلف االحكام االعتباطية �ضده‪.‬‬ ‫الدين اال�سالمي هو دين تع�صب يف‬
‫تبدو مزدوجة اجل��وه��ر»(‪ ،)15‬وه��ذا التع�صب «هو‬
‫الدولة والفل�سفة‬ ‫متناق�ضة تع�صب يف �سبيل تعميم اعتناق‬
‫‪ -1‬طبيعة الدولة اال�سالمية‬ ‫بنظر هيغل اال���س�لام»(‪ ،)16‬لأن اخل��وف من اهلل‬
‫البد من اال�شارة هنا ان النظام الفل�سفي الهيغلي‬ ‫هو الذي ي�سيطر على امل�ؤمن‪ ،‬وهذا‬
‫ي�ؤكد ان الدولة يف عامل ما ال ميكن ان تكون اال‬ ‫فهو نبيل ال اال�ستنتاج هو الذي �سي�ستخدمه هيغل‬
‫انعكا�س ًا لطبيعة الدين او الروحانية الدينية ال�سائدة‬ ‫نظري له يف لتف�سري الفتوحات العربية اال�سالمية‬
‫يف ذلك العامل‪ .‬فالدولة هي الناجت املبا�رش للدين‬ ‫ع��ل��ى ا���س��ا���س ان��ه��ا اع��م��ال تدمري‬
‫النبل من جهة‬
‫حيث يقول هيغل مو�ضح ًا ذلك مبا يلي‪« :‬عندما‬ ‫وتخريب‪ .‬بكلمة اخ��رى ان التع�صب‬
‫نقول ب���أن الدولة تت�أ�س�س على الدين وانها متد‬ ‫ومدمر ال مثيل هلل ون�رش االميان به وتعميم اعتناق‬
‫جذورها فيه فاننا نق�صد بذلك جوهري ًا ب�أن الدولة‬ ‫له يف حب الدين اال�سالمي جتعل امل�سلم يتجه‬
‫تخرج من الدين وان كل دول��ة حم��ددة هي نتاج‬ ‫كلي ًا وبكل طاقاته للتجرد من كل ما‬
‫الدمار‬
‫حتمي لدين حمدد»(‪.)18‬‬ ‫هو م�صالح مادية او هدف ذاتي من‬
‫وانطالق ًا من هذا املفهوم‪،‬وملا كان الدين اال�سالمي‬ ‫من جهة جهة والخ�ضاع كل ما هو خارجه‬
‫هو دين ي�شيع اخلوف والطاعة لدى امل�ؤمن حيال‬ ‫�أخرى اي�ضاً‪ .‬ولهذا ف�شخ�صية امل�ؤمن امل�سلم‬
‫اهلل‪ ،‬فان الدولة التي تخرج من الدين اال�سالمي البد‬ ‫تبدو مزدوجة متناق�ضة بنظر هيغل‬
‫ان تكون وفق املنهج الهيغلي دولة خوف وطاعة‬ ‫فهو نبيل ال نظري له يف النبل من جهة ومدمر ال‬
‫هي اي�ضاً‪ .‬لكن هذا اخلوف وتلك الطاعة املوجهة‬ ‫مثيل له يف حب الدمار من جهة اخرى‪ .‬اذ يقول‬
‫نحو اهلل يف الدين‪ ،‬تتوجه نحو احلاكم يف احلياة‬ ‫هيغل «ان امل�سلم قادر على اظهار ا�سمى درجات‬
‫�ضمن الدولة اال�سالمية التي تبدو بدورها دولة‬ ‫النبل وال�سمو‪ .‬وهذا ال�سمو املجرد من �أية م�صالح‬
‫ا�ستبدادية ب�شعة بال�رضورة يف نظر هيغل‪ ،‬دولة ال‬ ‫تافهة ينتج جميع الف�ضائل الدالة على العظمة‬
‫وجود فيها لأب�سط �شكل من ا�شكال احلرية وحيث‬ ‫الروحية والبطولة يبدو معها امل�سلم حراً ب�شكل‬
‫الأفراد ال ميتلكون �أية قيمة بالن�سبة للحاكم الذي‬ ‫ال مثيل له يف النبل والكرم وال�شجاعة واحلكمة‪.‬‬
‫يت�رصف كما ي�شاء وكما تتطلبه �شهواته ونزواته‬ ‫لكنه عندما ي�ست�سلم مل�صاحله الذاتية ال يرتدد ان‬
‫وتقلباته‪.‬‬ ‫يكون فظ ًا خمادع ًا وقادراً على كافة الب�شاعات‬
‫‪62‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫«اننا ال نتحدث عن الفل�سفات العربية هنا �إال لأ�سباب‬ ‫���ص��ح��ي��ح ان ه��ي��غ��ل ي��ق��ر «ب����ان االن�������س���ان حر‬
‫تاريخية وخارجية»(‪ .)24‬اما ال�سبب يف كون هيغل‬ ‫بطبيعته»(‪ ،)19‬لكنه ي�ضيف ب���أن الفرد يف ظل‬
‫يرف�ض اعتبار الفل�سفة اال�سالمية كجزء ا�سا�سي‬ ‫الدولة اال�ستبدادية مرغم بال�رضورة ان يتخلى‬
‫مهم من تاريخ الفل�سفة فذلك لأن هذه الفل�سفة ال‬ ‫عن كل �شكل من ا�شكال احلرية‪ .‬واحلرية الوحيدة‬
‫متثل بر�أيه مرحلة خا�صة يف تاريخ تطور الفل�سفة‪.‬‬ ‫امل�سموح بها يف هذه الدولة هي حرية امل�ستبد‪.‬‬
‫الن العرب كما يقول «مل ي�ستطيعوا تطوير مفهوم‬ ‫يقول هيغل عن الدولة ال�رشقية التي يعتربها جميع ًا‬
‫الفل�سفة‪ ،‬ولأن امل�سائل اال�سا�سية التي اهتموا بها‬ ‫وبال�رضورة دو ًال ا�ستبدادية‪« :‬ان ما يهيمن يف‬
‫هي ما يلي‪ :‬معرفة فيما اذا كان العامل �أبدي ًا واثبات‬ ‫ال�رشق هو اال�ستبداد‪ .‬فاالن�سان اما خائف ومرتدد او‬
‫وحدانية اهلل»(‪.)25‬‬ ‫ي�سيطر عرب ا�شاعة اخلوف‪ .‬فهو اذن اما �سيد او عبد‪.‬‬
‫اما هذه الفائدة التاريخية التي يجدها‬ ‫وبكلمة ان اخلوف هو الذي يحكم ال�رشق»(‪ .)20‬لكن‬
‫هيغل يف ت��ن��اول الفل�سفة العربية‪ -‬هيغل‪:‬‬ ‫الدولة اال�سالمية تبدو كذروة الدولة اال�ستبدادية‪.‬‬
‫اال�سالمية يف حما�رضاته حول تاريخ فـي الدولة‬ ‫وه��ذه احلالة من العالقة بني احلاكم واملحكوم‬
‫الفل�سفة فهي بالتحديد لأن العرب هم‬ ‫يف الدولة اال�سالمية عموم ًا يت�أتى بنظر هيغل‬
‫ال��ذي��ن ق���ادوا الغربيني اىل اكت�شاف اال�ستبدادية‬ ‫كانعكا�س لطبيعة العالقة بني اهلل وامل�ؤمن �سيما‬
‫امل�ؤلفات الفل�سفية االغريقية وب�شكل احلرية‬ ‫وان احل��اك��م يعترب نف�سه مبثابة «ظ��ل اهلل على‬
‫خا�ص م�ؤلفات ار�سطو‪ .‬ويعرتف هيغل‬ ‫االر�ض» و»خليفة اهلل»‪.‬‬
‫الوحيدة‬
‫يف ه��ذا امل��ج��ال ب���ـ»ان املعرفة التي‬
‫قدمها العرب حول ار�سطو وحمافظتهم امل�سموح‬ ‫هيغل والفل�سفة اال�سالمية‬
‫على الن�صو�ص االر�سطية كانتا م�صدراً بها هي‬ ‫يف كتابه «درو����س ح��ول تاريخ الفل�سفة» الذي‬
‫مهم ًا للعامل الغربي يف هذا املجال‪ .‬لأن‬ ‫ي�سعى اىل تغطية كل تاريخ الفل�سفة منذ �سقراط اىل‬
‫حرية‬ ‫ديكارت‪ ،‬وجد هيغل نف�سه م�ضطراً اىل تخ�صي�ص‬
‫الغربيني ظلوا لفرتة طويلة ال يعرفون‬
‫�شيئ ًا عن ار�سطو اال من خالل ال�رشاح امل�ستبد‬ ‫ف�صل �صغري عن الفل�سفة اال�سالمية حتت عنوان‬
‫العرب»‪)26(.‬‬ ‫«فل�سفة العرب» ف�شهرة الفال�سفة العرب وامل�سلمني‬
‫ولتجريد العرب من �أية ابداعات ا�صيلة‬ ‫يف الغرب مل تكن ت�سمح له باغفال تناولهم يف‬
‫يف تطوير الفل�سفة يركز هيغل يف الق�سم االعظم من‬ ‫م�ؤلف يزعم درا�سة كل تاريخ الفل�سفة‪.‬‬
‫الف�صل الذي خ�ص�صه للفل�سفة اال�سالمية‪ ،‬على الدور‬ ‫وهنا اي�ض ًا فان حمتوى كل فل�سفة خا�صة يبدو‬
‫الذي لعبه امل�سيحيون وال�رسيان يف الرتجمة من‬ ‫لهيغل انعكا�س ًا ملحتوى الدين الذي تنطلق منه هذه‬
‫االغريقية اىل العربية‪ .‬اي انه يجرد االبداع الفل�سفي‬ ‫الفل�سفة بال�رضورة‪ .‬وملا كانت االدي��ان ال�رشقية‬
‫العربي‪ -‬اال�سالمي حتى من ف�ضله يف ترجمة‬ ‫جميع ًا تقوم على فكرة الف�صل ولي�س االحتاد بني‬
‫الفل�سفة االغريقية واالحتفاظ بها‪.‬‬ ‫اهلل واالن�سان‪ ،‬يرى هيغل‪« :‬ان الفل�سفة ال�رشقية هي‬
‫من جانب �آخر وفيما يتعلق باجلوهري ال يقوم هيغل‬ ‫فل�سفة دينية عموماً»(‪ ،)21‬مبا يف ذلك الفل�سفة‬
‫يف هذا الف�صل �سوى بتعداد ا�سماء الفال�سفة العرب‬ ‫اال�سالمية التي ي�ؤكد هيغل بانها «ال تت�ضمن �أية‬
‫وامل�سلمني كالكندي والفارابي وابن �سينا والغزايل‬ ‫عطاء ا�صيل»(‪ ،)22‬ثم ي�ضيف‪« :‬ان درا�سة الفل�سفة‬
‫واب��ن ر�شد واب��ن طفيل وغريهم‪ ،‬الذين يعتربهم‬ ‫العربية ب�شكل مف�صل هي م�س�ألة غري مفيدة وغري‬
‫جميع ًا جمرد �رشاح الر�سطو ولي�س كفال�سفة فعليني‪.‬‬ ‫��ضروري��ة»(‪ .)23‬واذا كان البد من التحدث عنها‬
‫ويف الواقع فاننا نالحظ ان اال�ضطراب والتناق�ضات‬ ‫فذلك بر�أيه لأ�سباب تاريخية بحتة اذ يقال هيغل‪:‬‬
‫‪63‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الهوام�ش‬ ‫هي التي ت�سيطر على العر�ض الذي يقدمه هيغل يف‬
‫‪.HULIN Michel, Hegel etl›Orient, Paris, Vrin, 1979, p. 13‬‬ ‫‪)1‬‬ ‫هذا ال�صدد‪.‬‬
‫‪.LUTHER, Oeuvres, Genève, Lobor/Fides, 1962, tome 2, p. 288‬‬ ‫‪)2‬‬ ‫هذا هو باخت�صار �شديد موقف هيغل من اال�سالم‬
‫‪.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E‬‬ ‫‪)3‬‬
‫‪p. 273 ,1965 ,10/18 ,‬‬ ‫وال��ع��امل اال���س�لام��ي وح�����ض��ارت��ه‪ .‬وع��م��وم�� ًا فان‬
‫‪Leçons sur la philosophie de l›histoire, trad. Gibelin, p. 142 )4‬‬ ‫اال�ستنتاج الكبري ال��ذي تقدمه لنا درا�سة منظور‬
‫‪Esthétique, trad.Jankélévitch, tome 4, p. 151‬‬ ‫‪)5‬‬
‫‪.L›esprit du Christianismeet son destin, trad )6‬‬ ‫هيغل ح��ول اال�سالم هو ان ه��ذا املنظور �سطحي‬
‫‪J. Martin, p. 68‬‬ ‫وتب�سيطي ومتناق�ض للغاية‪ .‬وه��ذه االم��ور جتد‬
‫‪Esthétique, trad.Jankélévitch, tome 3, p. 151‬‬ ‫‪)7‬‬
‫‪.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E )8‬‬
‫ا�صولها اجلوهرية يف منطلقات نظامه الفل�سفية‬
‫‪p. 293 ,1965 ,10/18 ,‬‬ ‫وانحيازه امل�سبق لثقافته الغربية‪ -‬امل�سيحية‪.‬‬
‫‪Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 276 )9‬‬
‫‪Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )10‬‬
‫فانحيازه املطلق للغرب قاده اىل التم�سك ب�شكل‬
‫‪Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 209 ,‬‬ ‫ق�رسي بفكرة ان ال�رشق ال ي�ستطيع ان يبدي اي‬
‫‪Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )11‬‬
‫‪Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 210‬‬
‫عطاء روحي ا�صيل او لعب دور يذكر با�ستثناء ذلك‬
‫‪)12‬نف�س امل�صدر اعاله‪ ،‬اجلزء الثالث‪� ،‬صفحة ‪.27‬‬ ‫اخلا�ص بـ«طفولة الوعي االن�ساين»‪ ،‬اما انحيازه‬
‫‪Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 276 )13‬‬ ‫للم�سيحية ديانته‪ ،‬فقد قاده اىل التناق�ض اخلا�ص‬
‫‪Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )14‬‬
‫‪Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 83 ,‬‬ ‫القائم على اعتبار كل ما يظهر بعد امل�سيحية يف‬
‫‪)15‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬اجلزء الرابع‪� ،‬صفحة ‪.208‬‬ ‫التاريخ الروحاين االن�ساين كظاهرة عدمية االهمية‬
‫‪)16‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬اجلزء الرابع‪� ،‬صفحة ‪.208‬‬
‫‪Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 277 )17‬‬ ‫وفارغة املحتوى‪ .‬ويف هذه النقطة بالتحديد تكمن‬
‫‪.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E )18‬‬ ‫امل�شكلة الكربى التي يثريها اال�سالم بوجه الفل�سفة‬
‫‪.p. 152 ,1965 ,10/18 ,‬‬
‫‪ )19‬نف�س امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.141‬‬ ‫الهيغلية وبوجه جميع فل�سفات التاريخ والدين‬
‫‪Leçonsurl›histoire de la philosophie, trad.Gibelin‬‬ ‫‪)20‬‬ ‫الغربية التي ال ت�ستطيع جتاهل اال�سالم وح�ضارته‬
‫‪tome 2, p. 21‬‬
‫‪)21‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.70‬‬
‫من جهة وال ت�ستطيع االع�تراف له بدور كبري من‬
‫‪)22‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.77‬‬ ‫جهة اخرى‪.‬‬
‫(‪)23‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.1018‬‬ ‫ولقد ترتب عن هذه املنطلقات الق�رسية‪ ،‬ان هيغل‬
‫(‪)24‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.1024‬‬
‫(‪)25‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.997‬‬ ‫يجد نف�سه غري قادر على اعطاء �أي دور ح�ضاري‬
‫(‪)26‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬صفحة ‪.1035‬‬ ‫ل�لا���س�لام‪ ،‬وب��ال��ت��ايل ذه���ب اىل اخ��ت��ي��ار بع�ض‬
‫االط��روح��ات التي تالئم منهجه امل��ذك��ور ب�شكل‬
‫انتقائي ق�رسي هو االخر‪.‬‬

‫‪64‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫تغيري �صورة املر�أة العربية‬
‫يف ال�سرد الن�سائي‬
‫مرمي دمنوتي‬
‫باحثة و�أكادميية من املغرب‬

‫«ما مل تتحقق للمر�أة امل�ساواة التامة على‬ ‫�أكيد �أن الكل يعلم مدى معاناة املر�أة‬
‫ال�صعيدين القانوين والواقعي‪ ،‬وما مل‬ ‫عامة‪ ،‬واملر�أة العربية خا�صة‪ ،‬يف‬
‫يتحرر النا�س (رجاال ون�ساء) من الأفكار‬
‫امل�سبقة عن املر�أة ـ وهي �أفكار تكونت‬
‫املا�ضي واحلا�رض‪ ،‬مع غياب �إن�سانيتها‬
‫على مر الع�صور‪ ،‬من خرافات وت�صورات‬ ‫يف البيت واحلياة‪ ،‬حتت حجر تقاليد‬
‫غري علمية‪ ،‬ومركبات نق�ص �أو ا�ستعالء‪،‬‬ ‫جمحفة‪ ،‬كر�ست خالل عهود االنحطاط‪،‬‬
‫وما مل ت�صبح البنى االجتماعية مهي�أة‬ ‫الو�ضعية املختلة لواقعها يف البيت‬
‫النطالق �شخ�صية املر�أة وتفتحها يف‬ ‫واملجتمع‪ .‬ورغم ما حققته راهنا من‬
‫مناخ من احلرية ومن احرتام ال�شخ�ص‬
‫الإن�ساين‪ ،‬بعيدا عن كل متييز وا�ضطهاد‬ ‫بع�ض احلقوق‪ ،‬نتيجة ن�ضالها وفر�ض‬
‫ب�سبب اجلن�س �أو العرق كما جاء يف بيان‬ ‫جدارتها يف املنزل والعمل والفكر‬
‫حقوق الإن�سان‪ ،‬ما مل يتحقق هذا كله‪،‬‬ ‫والإبداع ب�صورة بطولية‪ ،‬قدمت من �أجلها‬
‫�ستبقى هذه الق�ضية مفتوحة‪.)1(».‬‬ ‫كثريا من الت�ضحيات اجل�سيمة؛ ف�إنها‬
‫فاملر�أة العربية اليوم دائبة على بذل‬
‫ما فتئت بعد تئن حتت وط�أة تر�سانة‬
‫ق�صارى جهدها‪ ،‬ال�ستعادة �إن�سانيتها‬
‫بالكامل‪ ،‬من خالل انخراطها بفاعلية‬ ‫من القوانني الظاملة‪ ،‬واملمار�سات‬
‫يف حركة احلياة اليومية‪ ،‬عرب اجلمعيات‬ ‫الذكورية ال�رشقية املت�سلطة‪ .‬و�أكيد �أنه‬
‫واالحتادات والأندية الن�سائية والنقابات‬ ‫ما زال �أمامها زمن مديد من الكفاح‬
‫والأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬بل وت�صدرها‬ ‫والن�ضال واالحتجاج يف وجه واقعها‬
‫املواجهات العنيفة مع ال�سلطة الغا�شمة‪.‬‬
‫�أمل نرها تتقدم املظاهرات واالعت�صامات‬
‫البئي�س‪ ،‬و�أ�شواط طويلة من ال�صعوبات‬
‫املعار�ضة للنظم املتهاوية‪ ،‬خالل‬ ‫والإحباطات‪ ،‬وفق ما ت�رشحه خالدة‬
‫انتفا�ضة الربيع العربي‪ ،‬وتق ّدم الأ�سريات‬ ‫�سعيد ‪:‬‬
‫‪65‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إيديولوجية ال�سيطرة واال�ستعباد‪ ،‬و�إحالل ثقافة‬ ‫وال�سجينات واملعذبات واملغت�صبات‪ ،‬بل وال�شهيدات‬
‫التغيري والتطوير ال�شاملة حملها‪ .‬فاملر�أة ما انفكت‬ ‫الواحدة تلو الأخرى‪ ،‬يف خمتلف املواجهات‬
‫ت�شكل «مو�ضوعا �سجاليا يف م�ستوى التغيري‬ ‫االحتجاجية والفدائية بعدد من الأقطار العربية‬
‫االجتماعي لأي جمتمع‪ ،‬على اعتبار �أن تغيري ال�صور‬ ‫الالدميوقراطية‪ ،‬مبا يف ذلك ت�ضحياتها البطولية‬
‫الثابتة حولها من �ش�أنه �أن يحرر الذاكرة‪ ،‬ويهيئ‬ ‫التي ي�رضب بها املثل يف فل�سطني‬
‫التفكري لتقبل وا�ستقبال �صور غري م�ألوفة»(‪،)2‬‬ ‫�إن تغيري احلبيبة؟‪ .‬ف�ضال عن وقوف رموز‬
‫ال�سيما لدى الرجل‪� .‬إذ البد من تغيري وعيه بق�ضية‬ ‫و�ضعية املر�أة ن�سائية يف عدد من الأقطار العربية‪،‬‬
‫املر�أة‪ ،‬وا�ست�ضاءته باملواقف التحررية‪ ،‬ليكف‬ ‫العربية من مثل نوال ال�سعداوي ولطيفة الزيات‬
‫عن حما�رصتها‪ ،‬ولي�ستبعد تربمه بن�ضالها من‬ ‫ور�ضوى عا�شور يف م�رص‪ ،‬وفاطمة‬
‫�أجل ق�ضيتها‪ ،‬على �أ�سا�س اعتبار ق�ضيتها ق�ضيته‬ ‫واقعها املزري املرني�سي يف املغرب‪ ،‬وخالدة �سعيد‬
‫هو �أي�ضا‪ ،‬بل �إنها ق�ضية اجلميع‪ .‬ف�إن حترر املر�أة‬ ‫امل�سكوت عنه‪ ،‬يف لبنان و�سحر خليفة الفل�سطينية‬
‫من منظومات العالئق اال�ستبدادية‪ ،‬هو من حترر‬ ‫�إىل واقع وغريهن‪ ،‬ب�شجاعة نادرة ملواجهة‬
‫الإن�سان والوطن العربيني‪ ،‬لكون املجتمع العربي‬ ‫العقليات املتحجرة التي تقف يف‬
‫املعاق لن يتحرر حتررا تاما‪ ،‬ولن يتقدم �إىل الأمام‪،‬‬ ‫�إن�ساين �أف�ضل‪ ،‬وجه رغبة املر�أة يف حتررها مما علق‬
‫ما مل تتم معاجلة ق�ضية املر�أة بفعل جذري‪.‬‬ ‫مرهون بخرق بها من ظلم وخنق لفاعليتها‪ ،‬يف حتد‬
‫من هنا‪ ،‬يفر�ض �س�ؤال التغيري نف�سه على املر�أة‬ ‫�رصيح لكثري من التابوهات املحبطة‬
‫ثقافة اجلمود‬
‫والرجل معا‪ ،‬ويحملهما م�س�ؤولية الت�ضحية من �أجل‬ ‫للمر�أة واملعيقة لتحررها‪ ،‬من �أجل‬
‫ا�ستبدال واقع ظامل �ضحيته الرجل واملر�أة كالهما‪،‬‬ ‫وخلخلة حت�سني و�ضعيتها ورفعها �إىل مكانة‬
‫مبجتمع دميقراطي‪ ،‬وواقع �آخر مفرت�ض قوامه‬ ‫�إيديولوجية اعتبارية م�ستحقة‪ .‬وقطعا لي�س على‬
‫احلرية والعدل وامل�ساواة‪ ،‬من �ش�أنه �أن ي�ساعد على‬ ‫ح�ساب الرجل‪ ،‬بل توقا لأن ت�صبح‬
‫ال�سيطرة‬
‫تغري املجتمع وتطور الأمة نحو الأف�ضل‪ .‬و�إن �أي‬ ‫عن�رصا موازيا له مبعنى الكلمة‪ ،‬داخل‬
‫تعومي للق�ضية يف �رصاعات هام�شية‪ ،‬خ�صو�صا‬ ‫واال�ستعباد‪ ،‬املجتمع والبيت‪ ،‬باعتبارهما �أ�سا�س‬
‫تلك املفتعلة بني الرجل واملر�أة‪ ،‬ملن �ش�أنه �أن ي�سيء‬ ‫و�إحالل النهو�ض بحركة احلياة اجتماعيا‬
‫بطريقة �أو �أخرى �إليهما معا‪ ،‬وي�ؤخر حتقيق احللول‬ ‫وتربويا واقت�صاديا‪ ،‬على ركائز �سليمة‬
‫الناجعة لق�ضية املر�أة تخ�صي�صا‪� ،‬أو كما يذهب د‪.‬‬ ‫ووعي �إن�ساين دميوقراطي‪ ،‬ال ي�سمح‬
‫ثقافة التغيري‬
‫م�صطفى يعلى‪:‬‬ ‫والتطوير لطرف �أن ي�سود على الطرف الثاين‪.‬‬
‫«�إن فهما يختزل الإ�شكالية يف ثنائية رجل ‪ /‬امر�أة‪،‬‬ ‫ال�شاملة حملها وهو ما يره�ص به هذا اجلدل الوا�سع‬
‫لهو فهم مغلوط يف �أح�سن الأحوال‪� ،‬أو مغر�ض هدفه‬ ‫الدائر بني النخب املثقفة‪ ،‬على طول‬
‫�إبعاد املر�أة عن جوهر ال�رصاع احلقيقي وتوريطها‬ ‫الوطن العربي‪ ،‬حول م�س�ألة املر�أة‬
‫يف �إ�شكاالت جانبية من �ش�أنها تبديد جهدها‬ ‫و�سبل حتررها‪ ،‬وكذا ما تقدمه املر�أة العربية بنف�س‬
‫وتنكي�ص م�صداقيتها‪ ،‬وال ي�ساعدها بالتايل على‬ ‫طويل م�ستميت من �إجنازات ناجحة يف خمتلف‬
‫ا�ستب�صار خمرج حقيقي لأزمتها التاريخية‪ ،‬زد على‬ ‫امليادين‪ ،‬وت�صدرها لبع�ض املراكز العليا يف‬
‫هذا نتيجة عك�سية �أخرى تتمثل يف �إمكانية انزالق‬ ‫الوظائف والأحزاب وجمعيات املجتمع املدين‪.‬‬
‫املر�أة يف هوة �أ�صولية ن�سائية لي�ست يف �صالح �أحد‬ ‫واحلقيقة‪� ،‬إن تغيري و�ضعية املر�أة العربية من‬
‫كما الحظ عن حق املرحوم د‪� .‬شكري عياد؛ لكون‬ ‫واقعها املزري امل�سكوت عنه‪� ،‬إىل واقع �إن�ساين‬
‫ذلك يعني االنح�صار داخل �أفق م�سدود ال بارقة‬ ‫�أف�ضل‪ ،‬مرهون بخرق ثقافة اجلمود وخلخلة‬
‫‪66‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫�شخ�صيات مغمورة تهيم على حواف املجتمع غالبا‬ ‫�ضوء ترى يف ظلمته‪.)3(».‬‬
‫و«تعامل على �أنها منبوذة‪ ،‬ومنفردة متوحدة»(‪.)4‬‬ ‫فكيف عربت الكاتبات العربيات عن هذا ال�رصاع‬
‫لقد �أ�ضحت الكتابة من �ضمن نوافذ التعبري عن‬ ‫الأزيل‪ ،‬يف �أفق حترير املر�أة عامة من جميع �أ�شكال‬
‫الذات الأنثوية‪ ،‬والدفاع عن ق�ضيتها العادلة‪ ،‬بتبليغ‬ ‫القمع‪ ،‬وهيمنة الرجل‪ ،‬و�إغالق �أبواب التحرر يف‬
‫ر�ؤيتها اخلا�صة لو�ضعها التاريخي‬ ‫وجهها؟‪ .‬وما هي التابوهات التي اقتحمتها يف‬
‫الظامل‪ ،‬واقرتاح �سبل خروجها منه‪ ،‬يف ا�ضطرار بع�ض‬ ‫خطابها الإبداعي من �أجل حتقيق ذلك‪ ،‬و�إ�سماع‬
‫مواجهة �أ�صبحت ناقمة �رصاحة على الن�ساء العربيات‬ ‫�صوتها املتحدي حول ق�ضيتها؟‬
‫العقلية املا�ضوية ال�سائدة‪ ،‬وممار�سة‬ ‫ونظرا لإكراهات الوقت‪ ،‬ارت�أينا �أن نح�رص الورقة‬
‫حريتها يف مل�س كثري من مكامن القهر‪ ،‬املتعلمات‬ ‫يف حماولة احلفر عن الأجوبة يف الكتابات‬
‫وت�سليط الأ�ضواء الكا�شفة عليها‪ ،‬من واملوهوبات‪،‬‬ ‫الن�سائية العربية‪ ،‬ال�ساعية �إىل حتقيق حترر املر�أة‬
‫�أجل تو�صيل ر�سائلها االحتجاجية عرب �إىل اللجوء‬ ‫وتغيري �صورتها التقليدية املحبطة‪ ،‬ب�صورة �ضدية‬
‫العوامل التخييلية التي تر�سمها بح�سها‬ ‫مل�ؤها احلرية واجلدارة والعدل‪ ،‬داخل حقل �إبداعي‬
‫الأنثوي‪ ،‬وتغيري �صورة املر�أة التقليدية فيما التج�أن‬ ‫عينه هو حقل ال�رسد‪ ،‬وبال�ضبط يف جمال الق�صة‬
‫بب�سط النماذج املتقدمة ل�صورة املر�أة �إليه من جبهات‬ ‫الق�صرية‪ ،‬للأ�سباب التالية‪:‬‬
‫اجلديدة‪� ،‬أمام املتلقي بهدف ك�سبه �إىل املواجهة‪ ،‬نحو‬ ‫معاجلة الق�صة الق�صرية‪ ،‬من لدن عدد مهم من‬
‫�صفها‪.‬‬ ‫الكاتبات العربيات‪ ،‬على طول جغرافية الوطن‬
‫فقد تكون لدى املر�أة العربية وعي عامل الكتابة‬ ‫العربي‪ ،‬قد �أ�ضحت يف ال�سنوات القليلة املا�ضية‬
‫ّ‬
‫حاد‪ ،‬م�ستح�صل من جتاربها املريرة باعتباره‬ ‫ظاهرة مميزة‪ ،‬لفتت االنتباه �إليها �سواء لدى النقاد‬
‫مع الواقع املعي�ش‪ ،‬بكون قدرها �أن ممار�سة فردية‬ ‫والباحثني �أم لدى املتلقي‪.‬‬
‫حتارب وحدها من �أجل ق�ضيتها‪ ،‬عمال‬ ‫االحتفاء بها يف امل�ؤمترات والندوات واللقاءات‬
‫مببد�أ املثل القائل (ما حك جلدك �إال متاحة �ضد قوى‬ ‫الثقافية املختلفة وامللفات اخلا�صة ببع�ض‬
‫ظفرك)‪ .‬ف�أدركت �أن الكل يقف �ضدها‪ ،‬قمعها وتهمي�شها‬ ‫املجالت الأدبية‪ ،‬خ�صو�صا و�أن مو�ضوع املر�أة‪،‬‬
‫خا�صة على م�ستوى القوانني املجحفة وتكري�س‬ ‫ال�سيما على م�ستوى اجلن�س يف الرواية العربية‪،‬‬
‫والإعالم املغر�ض والعادات والتقاليد‬ ‫كرواية (احلي الالتيني) ل�سهيل �إدري�س‪( ،‬ومو�سم‬
‫البالية‪ .‬ورمبا �ساهم وعيها ب�سلب �صورتها‬ ‫الهجرة �إىل ال�شمال) للطيب �صالح‪ ،‬و(الزمن املوح�ش)‬
‫املجتمع كل الأ�سلحة من بني يديها‪ ،‬النمطية‬ ‫حليدر حيدر‪ ،‬و(ذاكرة اجل�سد) لأحالم م�ستغامني‪ ،‬قد‬
‫على ال�صورة امل�أ�ساوية املعروفة‪،‬‬ ‫حظي بعدد مهم من الدرا�سات الوازنة‪ ،‬لدى نقاد‬
‫البئي�سة‬
‫يف ا�ضطرار بع�ض الن�ساء العربيات‬ ‫من عيار علي الراعي وجورج طرابي�شي وحميي‬
‫املتعلمات واملوهوبات‪� ،‬إىل اللجوء‬ ‫الدين �صبحي‪ ‬ورجاء النقا�ش وخالدة �سعيد و�إليا�س‬
‫فيما التج�أن �إليه من جبهات املواجهة‪ ،‬نحو‬ ‫خوري وغريهم؛ بخالف الأمر بالن�سبة للق�صة‬
‫عامل الكتابة باعتباره ممار�سة فردية متاحة �ضد‬ ‫الن�سائية الق�صرية‪.‬‬
‫قوى قمعها وتهمي�شها وتكري�س �صورتها النمطية‬ ‫مالءمة الق�صة الق�صرية للمو�ضوع‪ ،‬فهي ت�ؤثر‬
‫البئي�سة‪ ،‬رغم ما ميكن �أن تواجهه هنا �أي�ضا من‬ ‫معاجلة حاالت الغربة الفردية الناجتة عن ال�ضغوط‬
‫�صعوبات‪ ،‬بل وما ميكن �أن ت�ؤديه من �رضيبة‬ ‫االجتماعية واالقت�صادية‪ ،‬و�أو�ضاع ال�شخ�صيات‬
‫التعبري احلر املوجعة‪ ،‬على ح�ساب ا�ستقرارها‬ ‫املهم�شة املالكة لوعي حاد باال�ستيحا�ش‪ .‬فكما‬
‫الأ�رسي وموقعها الوظيفي ومكانتها االجتماعية‪.‬‬ ‫ي�ؤكد فرانك �أوكونور‪� ،‬إن �شخ�صيات الق�صة الق�صرية‬
‫‪67‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫البدائل التي اجرتحتها من �أجل تغيري تلك ال�صورة ؟‪.‬‬ ‫ولعل مثال املبدعة اللبنانية ليلى بعلبكي‪ ،‬وما‬
‫وتنبغي الإ�شارة‪ ،‬قبل الإجابة عن هذه الأ�سئلة‪� ،‬إىل‬ ‫عانته ب�سبب كتابتها‪ ،‬بلغ حد املحاكمة الق�ضائية‬
‫طبيعة املرحلة‪ ،‬التي �رشع فيها مترد املر�أة يعلن‬ ‫مطلع �ستينيات القرن الع�رشين‪ ،‬مما ا�ضطرها �إىل‬
‫عن نف�سه من خالل الكتابة‪ .‬فمعروف �أن الأمر يتعلق‬ ‫هجر الوطن والكتابة معا؛ ي�صلح �شاهدا بليغا‬
‫مبرحلتني اثنتني متتابعتني ومتداخلتني يف الآن‬ ‫على ذلك‪ ،‬رغم مرور ما ينيف على ن�صف قرن من‬
‫نف�سه ففي املرحلة الأوىل؛ وخا�صة زمن اال�ستعمار‪،‬‬ ‫الزمن على احلادث‪ .‬بل �إن ما يحز يف النف�س كون‬
‫كانت املر�أة �أمية �أو �شبه �أمية‪ ،‬عبارة عن �سلعة تباع‬ ‫مثل هذه املمار�سات الت�ضييقية على كتابة املر�أة‪،‬‬
‫وت�شرتى حتت عنوان الزواج ال�رشعي‪ ،‬وحتب�س يف‬ ‫�سادرة يف غيها حتى الآن‪ ،‬كما ي�شهد حدث مقا�ضاة‬
‫البيت لإمتاع الرجل وتفريخ الن�سل‪ ،‬بينما جميع‬ ‫متحورت الكاتبة الكويتية ليلى العثمان‪ ،‬بدعوى‬
‫حقوقها العلنية وال�رسية مه�ضومة‪� .‬أما يف املرحلة‬ ‫م�شاركة كتاباتها يف ن�رش الف�ساد‬
‫هذه الكتابة‪،‬‬
‫الثانية‪ ،‬ال�سيما بعد ح�صول ا�ستقالالت الأقطار‬ ‫والفجور‪ ،‬وقد �أدانتها املحكمة ب�ألف‬
‫العربية الواحد تلو الآخر‪� ،‬أواخر خم�سينات ومطلع‬ ‫على التنديد دينار كويتي‪ ،‬ومتى؟‪ ،‬يف خامتة القرن‬
‫�ستينات القرن املا�ضي‪ ،‬فقد �رشعت املجتمعات‬ ‫بتهمي�ش املر�أة الع�رشين (‪ ،)1999‬الذي �سمي قرن‬
‫العربية ت�أخذ طريقها نحو بع�ض التطور‪ ،‬مما �أتاح‬ ‫احلداثة والتحرر والدميقراطية!‪ .‬فما‬
‫العربية‪،‬‬
‫الفر�صة للمر�أة �أن تتعلم وتخرج �إىل احلياة والعمل‪،‬‬ ‫�أ�شبه اليوم بالأم�س‪.‬‬
‫وترفع ال�صوت مطالبة بحقوقها‪ ،‬و�إن ظلت التقاليد‬ ‫وبا�ستمرار �إن دوافع الكتابة الإبداعية لدى املر�أة‬
‫والأعراف والقوانني القدمية‪ ،‬حتكم العالقة بني‬ ‫ال�ضغوط العربية‪ ،‬هي نف�س دوافع ممار�ستها لدى‬
‫الرجل واملر�أة حتى الآن ‪ ،‬خ�ضوعا للعقلية ال�رشقية‬ ‫الرجل‪� ،‬إال �أن ا�ستبعاد الدافع الن�ضايل‬
‫التقليدية‪.‬‬ ‫الرجعية الذاتي النطالقتها لن يكون جمديا‪ .‬فقد‬
‫�إن الكتابات الن�سائية املبكرة‪ ،‬كانت قد الم�ست‬ ‫عليها‪ ،‬وعلى جاءت تلك الكتابة يف معظمها‪ ،‬مبثابة‬
‫يف معاجلاتها ال�رسدية‪� ،‬صورة املر�أة امل�شدودة‬ ‫طرح ال�صورة رد فعل على ا�ستبداد الرجل بكل �شيء‪،‬‬
‫�إىل الواقع القمعي املتخلف‪ ،‬الذي ت�ضيع فيه كل‬ ‫مبا فيه �إنتاج الأدب ب�أنواعه و�أجنا�سه‬
‫حقوقها‪ ،‬وحتبط كل �إمكاناتها الإبداعية‪ ،‬وتعاق‬ ‫الإن�سانية املختلفة‪�« ،‬إن �أدب املر�أة هو عبارة‬
‫حماوالتها الرامية �إىل امل�ساهمة يف دورة احلياة‬ ‫البديلة لها عن ردود فعل‪ ،‬ومن حق املر�أة �أن ترد‬
‫العملية‪ .‬لكن تلك املعاجلات جاءت يف املرحلة‬ ‫الفعل‪ ،‬وذلك لأنها يف موقع املفعولية‪،‬‬
‫الأوىل لوعي املر�أة بق�ضيتها مهادنة هينة‪،‬‬ ‫هذا هو الواقع‪ .‬ومهما بادرت‪ ،‬ومهما فعلت‪ ،‬ف�إنها‬
‫ق�صاراها �أن ت�صف هواج�س بطالت الق�ص�ص‬ ‫لن تت�رصف باعتبارها عائ�شة �أو فاطمة �أو دالل‪..‬‬
‫النف�سية‪ ،‬وجت�سد معاناتهن املريرة‪ ،‬بح�س حتليلي‬ ‫ولكن باعتبارها �أوال وقبل كل �شيء امر�أة‪� ،‬أو �أنثى‪،‬‬
‫�أنثوي مرهف‪ ،‬داخل ف�ضاءات مغلقة قامتة‪ ،‬دون �أن‬ ‫�إنها م�ضطرة �إذن لأن ترد الفعل»(‪.)5‬‬
‫تلم�س امل�شكل ب�صورة متمردة مل�ؤها التحدي وال�سري‬ ‫وقد متحورت هذه الكتابة‪ ،‬على التنديد بتهمي�ش‬
‫بالتمرد �إىل �آخر �أ�شواطه‪ .‬فقد مت فيها الرتكيز على‬ ‫املر�أة العربية‪ ،‬وبا�ستمرار ال�ضغوط الرجعية عليها‪،‬‬
‫التج�سيد التخييلي لو�ضعية املر�أة و�سكونيتها‪ ،‬يف‬ ‫وعلى طرح ال�صورة الإن�سانية البديلة لها‪ ،‬من �أجل‬
‫ر�ضوخ وا�ست�سالم للواقع املتخلف بعاداته وتقاليده‬ ‫تغيري وجهة النظر امل�ضادة جتاهها‪ .‬فكيف ر�سمت‬
‫و�أعرافه البالية‪ ،‬مع بع�ض التململ املحت�شم وغري‬ ‫الكاتبات العربيات �صورة جن�سها يف ال�رشق العربي‪،‬‬
‫اجلذري‪ .‬فما كان يف �إمكان املبدعات العربيات‬ ‫على م�ستوى �إبداع ق�صتها الق�صرية ؟ ‪ .‬وما هي‬
‫�أن يتجاوزن يف تلك املرحلة اخلطوط احلمراء �أكرث‬ ‫التابوهات التي جتر�أت على اخرتاقها ؟ ‪ .‬ثم ما هي‬
‫‪68‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الذي مل يراع م�شاعرها وال حرية اختيارها‪ .‬ورغم‬ ‫من الالزم‪ ،‬خ�صو�صا و�أنهن كن جزءا من الق�ضية‪،‬‬
‫تكثيف العبارة الأوىل‪( :‬خذها‪ ،‬ف�سلطتي انتهت عند‬ ‫وع�شبا نابتا يف �صميم الواقع احلا�ضن للمعطيات‬
‫هنا!‪ ).‬للق�صة ب�أكملها‪ ،‬حيث تنتقل �سلطة الرجل‬ ‫ال�سلبية‪ ،‬املغذية للممار�سات الظاملة يف حق املر�أة‪.‬‬
‫على املر�أة بطلة الق�صة‪ ،‬من الأب �إىل الزوج‪ ،‬ال‬ ‫ففي ق�صة (ن�صيب)(‪ )6‬للقا�صة الفل�سطينية �سمرية‬
‫تتوانى الكاتبة يف ر�صد التفا�صيل ال�صغرية لبع�ض‬ ‫عزام‪ ،‬يتواجه عاملان ومفهومان يختلفان يف‬
‫�سلوكات البطلة املتمردة‪ ،‬من مثل رف�ضها ا�ستقبال‬ ‫وجهة النظر جتاه احلياة‪ ،‬ويف م�س�ألة الزواج‬
‫والدة الزوج عند جميئها للخطبة‪ ،‬و�إغ�ضاب �أمها‬ ‫تخ�صي�صا‪ ،‬باعتباره م�صري املر�أة املحتوم حلياتها‪،‬‬
‫برفع �صوت الرف�ض يف وجهها‪ ،‬و�إعالن �إعرا�ضها‬ ‫حيث تقع البطلة يف حرية �أمام �صفقة زواج فر�ضت‬
‫عن الزواج بهذه الطريقة التقليدية؛ يف حني متتلك‬ ‫عليها فر�ضا‪ ،‬عمال بالقول امل�أثور (ق�سمة ون�صيب)‪.‬‬
‫هي ت�صورا �آخر خمتلفا عن طبيعة الزواج املوفق‪.‬‬ ‫ومن هنا داللة ا�ستعمال �أ�سلوب اال�ستفهام �ضمن‬
‫فهي مل ته�ضم عجرفة الزوج املنتظر‪ ،‬بل �إنها ت�ؤثر‬ ‫ال�صياغة اللغوية اجلميلة املن�سابة للق�صة‪ .‬فرغم‬
‫النا�س الذين ال تكلف بينها وبينهم‪ ،‬وت�ستطيع �أن‬ ‫�أن البطلة متعلمة‪ ،‬وقفت م�سلوبة الإرادة �أمام‬
‫تطلق �شخ�صيتها �إىل مداها معهم‪ ،‬كما �أنها ترغب يف‬ ‫عر�ض زواج تقليدي على طريقة �أمها وج ّدتها‪،‬‬
‫الزواج عن حب متبادل بينها وبني زوج امل�ستقبل‪،‬‬ ‫تكفلت فيه �أم العري�س باختيار العرو�س البنها‪،‬‬
‫كابن عمتها مثال‪ .‬فـعك�س �صورة هذا اخلطيب الثقيل‬ ‫دون �أن يتم التعارف بني اخلطيبني من قبل‪ ،‬بينما‬
‫املغرور «حتب �أن يكون زوجها �إن�سانا خمتلفا بع�ض‬ ‫باركه �أبوها الذي يفهم احلياة فهما عتيقا‪ ،‬وكذا‬
‫ال�شيء‪ .‬تريده �أكرب قليال‪ ،‬يحفظ الكثري من الق�صائد‬ ‫�أمها و�صويحباتها الالئي تزوجن بنف�س الطريقة‬
‫العاطفية‪ ،‬ويحب لوحاتها‪ ،‬ويقبل �أن ي�ضع (فوطة)‬ ‫التقليدية هذه‪ .‬وحدها البطلة وقفت منه موقفا‬
‫على خا�رصته وي�شاركها �صنع كعكة الربتقال �أو‬ ‫�سلبيا بينها وبني نف�سها‪« .‬ياحلريتها هنا بني‬
‫عجة البطاط�س‪ ،‬ويقبلها مرة كل ع�رش دقائق هكذا‬ ‫(نعم) و(ال) ويال�ض�آلتها �أمام قوة غريبة ا�صطلحت‬
‫كانت تتمثل (رجلها) ومل تعرث بعد على الإن�سان‬ ‫�أمها و�صويحبات �أمها من الن�سوة على ت�سميتها‬
‫الذي ميكن �أن يكون كل هذا �إال ابن عمتها»(‪.)8‬‬ ‫بالن�صيب‪ .‬وكانت قبال ترف�ض ـ وهي بنت املدار�س‬
‫وعرب كل هذه اجلولة الدائرية بوا�سطة الفال�ش باك‪،‬‬ ‫ـ من �أن تعرتف بكلمة رجعية يف قامو�سها‪ ،‬كلمة‬
‫ومبكر �رسدي ت�شويقي مق�صود‪ ،‬من �ش�أنه �أن يجذب‬ ‫ملأت ر�أ�س �أمها وج ّدتها من قبل �أما هي فلي�ست‬
‫املتلقي املفرت�ض‪ ،‬نحو م�شاركة البطلة يف معاناة‬ ‫من مدر�سة الن�صيب هذه‪ .‬فالن�صيب خمدر م�سلوبي‬
‫حريتها؛ توحي الق�صة بكون البطلة �ستذهب يف‬ ‫الإرادة وما هي‪ ،‬ما هي منهم‪.‬‬
‫رف�ضها ومتردها �إىل الأخري‪ ،‬لكن �أفق انتظار هذا‬ ‫ولكن �أكان ب�إمكانها حقا �أن تتمرد على الن�صيب‬
‫املتلقي يخيب‪ ،‬ب�سبب �رشوط املرحلة التي تنت�صب‬ ‫الذي �أوقعها بال مقاومة مذكورة وبال �أدنى �إثبات‬
‫مبنظومة �إحباطاتها و�إكراهاتها و�إمالءاتها‬ ‫وجود �أو اختيار؟ و�أعجب من هذا �أو بع�ض هذا �أنها‬
‫وحماتها‪ ،‬فرتغمها على غري ما ترغب فيه‪ ،‬وعلى‬ ‫ما قالت «ال»‪.)7(.‬‬
‫غري انتظارات املتلقي‪ .‬وهنا تنثال التربيرات‬ ‫فبوا�سطة تقنية الفال�ش باك‪ ،‬متكنت الكاتبة من‬
‫املنطقية الواقعية من داخل الق�صة ذاتها‪ ،‬وك�أنها‬ ‫�أن تقدم عرب �ضمري الغائب الدال على التهمي�ش‬
‫�شهادة على مدى �ضيق الأن�شوطة العنكبوتية التي‬ ‫وما�ضوية احلدث‪� ،‬صورة طقو�س اخلطوبة ومراحلها‬
‫كانت حتا�رص املر�أة من كل جانب‪ .‬فت�ست�سلم البطلة‬ ‫الدائرة بني الكبار‪ ،‬يف مواربة تامة متواطئة‬
‫لإرادة الآخرين وتقبل الزواج‪ ،‬بعد �أن اقتنعت �أنها‬ ‫ومق�صودة من اجلميع للمعنية بالأمر‪ ،‬و�أن تر�سم‬
‫تعي�ش يف واقع مينعها من حق االختيار‪ ،‬ومن‬ ‫موقف البطلة منها‪ ،‬وامتناعها عن قبول هذا الزواج‬
‫‪69‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عمن ت�شكو له �أمرها من الأقرباء وال�صديقات‪،‬‬ ‫ممار�سة �إرادتها‪ ،‬مثلما يح�صل مع املر�أة ال�رشقية‪.‬‬
‫وتقعد عنده يف بيته �أياما‪ .‬فتفكر يف خالتها‬ ‫ولئن كانت �سمرية عزام قد قدمت يف ق�صتها‪،‬‬
‫بنوع من اال�ستباق ملا �سيحدث معها (�سرتوي لها‬ ‫منوذجا ملا كان يتم من بيع و�رشاء يف حق املر�أة‬
‫متاما ما تقا�سيه)‪ ،‬و(ترمتي على �صدرها وتبكي‬ ‫با�سم الزواج‪ ،‬ف�إن الكاتبة العراقية ديزي الأمري‪،‬‬
‫وتبكي)‪ .‬بيد �أنها عدلت عن فكرتها ملا تذكرت‬ ‫تقدم يف ق�صتها الق�صرية (ال�سجادة ال�صغرية)(‪،)9‬‬
‫زوج خالتها‪ ،‬فلن يقبل م�س�ؤولية الإنفاق عليها‪.‬‬ ‫مثاال ا�ست�سالميا خمتلفا عن ذلكم النموذج‪� ،‬إذ‬
‫وفكرت يف الذهاب �إىل بيت ابنة عمتها‪ ،‬وت�صورت‬ ‫ت�ست�سلم البطلة لواقعها املتخلف ذليلة مرغمة حتى‬
‫عرب نف�س تقنية اال�ستباق با�ست�رشافها امل�ستقبلي‪،‬‬ ‫وهي واعية متعلمة‪ ،‬بعد حماولة مترد فا�شلة ف�شال‬
‫كل ما �سيحدث معها‪� ،‬سـ «تفتح لها نف�سها وتقول‬ ‫مهينا‪ .‬فمنذ اجلملة الأوىل يف افتتاحية الق�صة‪ ،‬تطل‬
‫لها كل �شيء‪ ..‬وقد متكث عندها فرتة يح�س فيها‬ ‫علينا البطلة وهي يف ذروة متردها ورف�ضها لواقع‬
‫عمها بتق�صريه في�أتي �إليها لي�صاحلها‪ ،‬و�ستخربه‬ ‫وجدت نف�سها حم�شورة فيه دون اختيارها بعد وفاة‬
‫كيف تعاملها زوجته‪ ،‬و�سيكون جو بيت ابنة �أخته‬ ‫والديها‪ ،‬واحت�ضان عمها لها عنوة‪ ،‬وعدم �سماحه‬
‫�أ�صلح للتفاهم يف هذه الأمور من بيت خالتها‬ ‫لها بال�سكنى مع �أي �أقرباء �آخرين‪ ،‬لي�س حمبة فيها‬
‫الغريبة متاما عن عمها‪ .)11(».‬مما يهيىء املتلقي‬ ‫وغرية وحنوا عليها‪ ،‬بل لأنه ال ير�ضى �أن يقال �إنه‬
‫ال�ستقبال اال�ستجابة الإيجابية لأفق انتظاره‪ .‬غري‬ ‫عاجز عن �إعالة ابنة �أخيه وهو ويل �أمرها ال�رشعي‪.‬‬
‫�أن �شيئا من هذا مل يتحقق‪� ،‬إذ عدلت عن الإدالء‬ ‫�إنها تعلن بتحد منذ الكلمة الأوىل‪( :‬ال)‪ ،‬معربة عن‬
‫برغبتها‪ ،‬ملا وجدت يف بيت ابنة عمتها عددا من‬ ‫رف�ضها الذي ت�ساوق و�أ�سلوب النفي املهيمن على‬
‫الزائرات ميار�سن النميمة على كل من يعرفنهن من‬ ‫االفتتاحية‪:‬‬
‫الفا�شالت‪ ،‬فا�ضطرت �إىل اخلروج من البيت دون‬ ‫«ال لن �أعود �إىل البيت‪..‬لن �أعود‪ ،‬وليقل النا�س عني‬
‫�إخبار ابنة عمتها مبا جاءت من �أجله‪ .‬ثم ق�صدت‬ ‫ما يريدون‪..‬لن �أهتم هذه املرة ب�أقوالهم‪� ..‬س�أحقق‬
‫منزل خالتها‪ ،‬فمنزل �إحدى �صويحباتها‪ ،‬لكنها‬ ‫ما يف نف�سي‪� ،‬س�أكونها‪ ،‬ولطاملا متنيت �أن �أكون‬
‫كانت ترتاجع يف اللحظة الأخرية عن الت�رصيح‬ ‫نف�سي كما �أريدها �أن تكون ال كما يريدها يل‬
‫بال�سبب احلقيقي لزيارتها‪ ،‬فلكل م�شاغله التي ال‬ ‫الآخرون»(‪.)10‬‬
‫ت�سمح بالإن�صات لهمومها‪ .‬ويذكرنا هذا بحوذي‬ ‫تخرب بقايا‬‫فهي تثور على زوجة عمها‪ ،‬التي ّ‬
‫ت�شيكوف الذي مل يجد �أحدا م�ستعدا ل�سماع معاناته‬ ‫�أثاث و�أ�شياء �أمها وتعبث بها‪ ،‬وخا�صة �سجادتها‬
‫لفقد ابنه‪� ،‬سوى ح�صانه‪.‬‬ ‫ال�صغرية‪ ،‬مبا يف ف�ضاء البيت من رمزية لتدمري‬
‫ومثلما فعلت �سابقا �سمرية عزام يف ق�صة (ن�صيب)‪،‬‬ ‫روح اال�ستقرار واالطمئنان والإح�سا�س بالدفء لدى‬
‫عمدت الكاتبة ديزي الأمري خالل م�سار ت�شكل‬ ‫البطلة‪ .‬وقررت �أن تقول لها ب�أنها (�رش ما خلق اهلل)‪،‬‬
‫�صورة البطلة يف ذروة �أزمتها‪� ،‬إىل بث الأ�سباب‬ ‫ولعمها وويل �أمرها (�إنه �أ�سو�أ عم يف الدنيا)‪ .‬ثم تبد أ�‬
‫املربرة للف�شل الذريع الذي تعر�ضت له فورة التمرد‬ ‫عملية البحث عمن ت�شكو له‪ .‬وباملنا�سبة ف�إن معظم‬
‫التي دخلتها البطلة‪ ،‬منثورة هنا وهناك بج�سم‬ ‫�أبطال ق�ص�ص ديزي الأمري يعانون عادة من مثل‬
‫الق�صة‪ .‬وهي �أ�سباب نابعة من طبيعة زمن احلدث‬ ‫هذه الغربة وافتقاد الأمان وحماولة الفرار والبحث‬
‫ورمبا زمن كتابة (ال�سجادة ال�صغرية) �أي�ضا‪ ،‬ذلك‬ ‫عن طرف �آخر ميكن التوا�صل معه �إن�سانيا‪.‬‬
‫�أن البطلة منعت من �إمتام درا�ستها‪ ،‬وممنوعة من‬ ‫وهكذا‪ ،‬فالبطلة التي ال ا�سم لها‪ ،‬مثلها مثل بطلة‬
‫اخلروج للعمل‪ ،‬وحمرم عليها الإدالء بر�أيها يف‬ ‫ق�صة �سمرية عزام‪ ،‬رمبا �إمعانا يف �إعطاء االنطباع‬
‫حياتها ال�شخ�صية ويف الآخرين «لو كانت ت�ستطيع‬ ‫مبنتهى �ض�آلتها وتهمي�شها؛ تعاين من البحث‬
‫‪70‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫وف�ضح م�ستور املجتمع املنغلق من املخازي‪،‬‬ ‫�أن تعمل وتك�سب دراهم �إذن لأغنتها الدراهم عن‬
‫وك�شف ما تتعر�ض له املر�أة من ا�ستغالل يف‬ ‫كثري من امل�شاكل التي تالقيها‪ ،‬ولكن ما ذنبها‪،‬‬
‫العمل والبيت‪ .‬فابتداء من �ستينات القرن املا�ضي‬ ‫�إذا كان عمها قد �أوقفها عن الدرا�سة حني تويف‬
‫تقريبا‪� ،‬رشعت املر�أة العربية يف دخول املدار�س‬ ‫والدها ؟ وهي ال ت�ستطيع �أن تعمل بائعة يف حمل‬
‫واجلامعات‪ ،‬واخلروج �إىل العمل‪ ،‬واال�شرتاك يف‬ ‫�أو ما �شاكل هذه الأعمال‪ ،‬وحميطها املتحجب ال‬
‫التجمعات احلزبية والنقابية والثقافية‪ ،‬و�أ�صبحت‬ ‫ي�سمح بفكرة القيام بعمل يتنافى مع املحافظة‬
‫تعلن مطالبها بوعي و�رصاحة وو�ضوح‪ .‬وقد �ساعد‬ ‫كما يحلو لعمها �أن ي�سمي الرجعية و�ضيق العقل‪...‬‬
‫كل هذا على تغيري �صورة املر�أة املنا�ضلة‪ ،‬من �أجل‬ ‫ليتها تقدر �أن تقول له ر�أيها فيه ويف كل ما يفكر؟‪...‬‬
‫ا�سرتجاع حقوقها امل�سلوبة وكرامتها املهدورة‪ ،‬من‬ ‫ليتها‪ .)12(»...‬بل حتى الزواج الذي يعترب الأمل‬
‫مرحلة اال�ست�سالم �إىل مرحلة التحدي‪.‬‬ ‫الوحيد لتخلي�صها من و�ضعها املرتدي‪ ،‬ال يتيحه‬
‫وكان اجلن�س هو ح�صان طروادة‪ ،‬الذي �سيفتح‬ ‫واقع املجتمع البئي�س الذي تعي�ش يف كنفه؛ فهي‬
‫�أبواب املجتمع املحافظ على هول كارثته مع‬ ‫تريد زوجا مثقفا ينقذها من و�سطها العائلي‬
‫التغريات اجلديدة‪ ،‬وم�ستجدات احلداثة‪ .‬فهنا مل تعد‬ ‫املختل‪ ،‬وهي ال تريد زوجا يكون ن�سخة من عمها‪،‬‬
‫�صورة املر�أة �صورة امر�أة م�سكينة تر�ضى بالق�سمة‬ ‫تر�ضى عنه العائلة وال تر�ضى هي عنه‪.‬‬
‫والن�صيب وم�ست�سلمة لإرادة الآخرين‪ ،‬وتنتظر‬ ‫و�أمام انغالق كل ال�سبل يف وجه البطلة‪ ،‬للخال�ص‬
‫بفارغ ال�صرب الزوج املوعود الذي �سيخل�صها‬ ‫من حياة التهمي�ش واملهانة‪ ،‬يف بيت عمها وحتت‬
‫وي�سرتها‪ ،‬وتقبل العي�ش حتت رحمته مدى احلياة‪،‬‬ ‫رحمة زوجته الفظة‪ ،‬مل جتد �أمامها �سوى اال�ست�سالم‬
‫وتعاين غربة �صامتة وانطواء ال يطاق يف جمتمع‬ ‫للواقع املهني‪ ،‬يف �إحباط غري متوقع لأفق انتظار‬
‫رجويل‪ ،‬ديدنه �أن ي�ضيق عليها اخلناق‪ ،‬وميحو‬ ‫املتلقي‪« ،‬وعادت ت�سري وت�سري‪ ،‬ترى النا�س وال‬
‫�شخ�صيتها النزاعة �إىل التحرر‪ .‬بل �إن وجودها يف‬ ‫تراهم‪ ،‬وحني �سمعت �صوت زوجة عمها ي�س�ألها‪:‬‬
‫احلياة العامة �أ�صبح ظاهرة م�ألوفة‪ ،‬و�صارت ن�سبيا‬ ‫ـ �أهذا �أنت؟‬
‫تفر�ض �إرادتها وحتقق اختياراتها‪ ،‬و�أ�ضحت �أكرث‬ ‫�أجابت من غرفتها‪:‬‬
‫جر�أة ومواجهة وحتديا للرجل‪� ،‬سواء كان �أبا �أم‬ ‫ـ نعم‪ ،‬لقد عدت»(‪.)13‬‬
‫زوجا �أم �أخا �أم مطلق رجل‪� .‬سيما بعد �أن اجتاحت‬ ‫وي�ؤكد التناق�ض احلاد بني العبارة االحتجاجية‬
‫املر�أة العربية املدار�س واجلامعات والوظائف وكل‬ ‫ال�صارخة الأوىل يف افتتاحية الق�صة (ال لن �أعود‬
‫ميادين احلياة‪.‬‬ ‫�إىل البيت‪ )..‬والعبارة اال�ست�سالمية اخلافتة الأخرية‬
‫يف هكذا مناخ‪ ،‬ظهرت ق�صا�صات عربيات متمكنات‬ ‫يف خامتتها (ـ نعم لقد عدت)‪ ،‬ال�صورة امل�أ�ساوية‬
‫من �أ�رسار احلكي‪ ،‬وجريئات غري مباليات بالطقو�س‬ ‫املفعمة باحلرية واالرتباك والقهر واال�ست�سالم‬
‫والعادات والتقاليد البالية‪ ،‬من عيار ليلى بعلبكي‬ ‫وغريها من مظاهر النيل من �شخ�صية البطلة‪/‬‬
‫وغادة ال�سمان وليلى العثمان‪ .‬وميكننا �أن نتوقف‬ ‫املر�أة وكرامتها‪ ،‬مما كانت املر�أة العربية ترزح‬
‫يف هذا ال�صدد عند بع�ض التيمات الأ�سا�سية‬ ‫حتت وط�أته يف تلك املرحلة االنتقالية املظلمة‪.‬‬
‫امل�شرتكة بني ه�ؤالء الق�صا�صات‪ ،‬والتي ت�صب يف‬ ‫عك�س ال�صورة املت�شائمة لبطالت �أمثال الق�صتني‬
‫امتالك املر�أة لإرادتها وفر�ض وجهة نظرها على‬ ‫ال�سابقتني‪� ،‬سعت كاتبات عربيات �أخريات �أكرث‬
‫الرجل‪ ،‬ف�ضال عن ف�ضح نفاق املجتمع وما ينوء به‬ ‫جر�أة وحتررا يف املرحلة التالية‪� ،‬إىل املواجهة‬
‫من تدلي�س وخيانة زوجية‪ .‬مما نعتربه تغيريا يف‬ ‫وحتدي كل املمنوعات واخرتاق تابوهات املجتمع‬
‫�صورة املر�أة وتطورا يف نوعية الكتابة الن�سائية‪.‬‬ ‫املحافظ‪ ،‬ويف مقدمتها م�س�ألة اجلن�س و�سلطة الأب‬
‫‪71‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫النوم وتركي وحيدة �صاحية بجانبه) و(هجمت �إىل‬ ‫وتعترب ليلى بعلبكي رائدة للموجة اجلديدة من جيل‬
‫ح�ضنه �أهذي‪� :‬أحبك‪� .‬أحبك‪� .‬أحبك‪� .‬أحبك‪� .‬أحبك وهو‬ ‫الكاتبات العربيات اجلريئات‪ ،‬فـ «هي املحر�ض‬
‫يهم�س يف �شعري (�أنت ل�ؤل�ؤتي)‪ .‬ثم ن�رش راحة يده‬ ‫الرئي�سي يف الإبداع اللبناين �ضد �سلطة الأ�رسة‬
‫على �شفتي‪ ،‬و�شدين �إليه بيده الأخرى‪ ،‬و�أمرين (هيا‬ ‫و�سطوة وطغيان املجتمع على واقع املر�أة‪ ،‬لذا‬
‫لن�صعد �أنا و�أنت �إىل القمر)‪.‬‬ ‫كانت حتاول التخل�ص من الواقع االجتماعي‬
‫فك�أين بالكاتبة كانت تتعمد بهذا‪� ،‬أن حترج ذلكم‬ ‫ال�سائد‪ ،‬وجو التقاليد اخلانق‪ ،‬وجت�سد يف معظم‬
‫املجتمع وت�رضبه يف املقتل‪ ،‬وهو ما انعك�س �أثره‬ ‫ما كتبت هذه الر�ؤية‪ ،‬وتظهر عداء �صارخا لطوطم‬
‫على املوقف ال�صارم للمجتمع‪ ،‬واملرتجم على‬ ‫الوالدين‪ ،‬ولأي نظام له �سطوة وت�سلط الذات على‬
‫يد ال�سلطة �إىل حتقيق وحماكمة وم�صادرة �أعمال‬ ‫الذات‪ ،‬وقد لعب اجلن�س يف �إبداع ليلى بعلبكي دورا‬
‫الكاتبة ليلى بعلبكي روايات وجمموعة ق�ص�صية‪.‬‬ ‫حا�سما يف جت�سيد ر�ؤيتها حيال حرية املر�أة‪ ،‬حيث‬
‫بيد �أن ما يزيد من قوة �شخ�صية البطلة‪ ،‬وفر�ض‬ ‫اعتربت �أن احلرية اجلن�سية هي �أوىل مراحل ح�صول‬
‫�إرادتها �إىل الأخري يف هذه الق�صة‪ ،‬هو ما �سيح�صل‬ ‫الن�ساء على �سيطرتهن على م�صريهن‪ ،‬وكانت تعترب‬
‫من توتر منفعل بني الزوجني وتوتري حاد للم�شهد‬ ‫اجل�سد هو املحرك الأول لدى املر�أة يف نيل حريتها‬
‫الثاين بج�سد الق�صة‪ .‬فالبطلة‪/‬الزوجة ترف�ض رف�ضا‬ ‫الذاتية»(‪.)14‬‬
‫باتا �أن حتبل من زوجها‪ ،‬رغم غ�ضبه الذي ذهب‬ ‫ففي ق�صة (�سفينة حنان �إىل القمر)(‪ ،)15‬حتب‬
‫بعيدا �إىل حد اتهامها بكفها عن حبه‪ .‬لكنها تدافع‬ ‫البطلة زوجها الذي اختارته بذوقها‪ ،‬لكن هذا احلب‬
‫عن حبها واختيارها بعناد‪ .‬فهي ال تريد �أن تكرر‬ ‫يخ�ضع لت�صورها هي ولي�س وفق رغباته هو‪ ،‬رغم‬
‫طريقة املجتمع التقليدي يف التعامل مع الأطفال‬ ‫ما يبديه �أحيانا من عناد وق�سوة‪ ،‬الأمر الذي �ضاعف‬
‫منذ ما قبل والدتهم �إىل زواجهم‪ ،‬كما تبني الفقرة‬ ‫قوة �شخ�صية البطلة يف الق�صة‪ ،‬ورمبا لهذا ال�سبب‬
‫االنتقادية املوالية ‪:‬‬ ‫كان اعتماد �ضمري املتكلمة املفرد الذي �صيغ به‬
‫«كانوا يف القدمي يعرفون �أين ي�سقط ر�أ�س الطفل‪،‬‬ ‫�أ�سلوب الق�صة �أن�سب حلكي جمرياتها‪ ،‬حيث ي�رسد‬
‫ومن ميكن �أن ي�شبه‪ ،‬وذكر هو �أم �أنثى‪ ،‬كانوا يغزلون‬ ‫احلدث من وجهة نظرها‪ .‬فالق�صة تنفتح على م�شهد‬
‫له قم�صانا من ال�صوف وجوارب‪ ،‬وكانوا يطرزون‬ ‫الزوجني يف غرفة النوم‪ ،‬وهو ف�ضاء منغلق يهيئ‬
‫له ذيول الف�ساتني واجليوب والقبعات بع�صافري‬ ‫املتلقي ال�ستقبال ما �سيلي من انطباعات جن�سية‪.‬‬
‫ملونة و�أزهار‪ .‬وكانوا يجمعون له الهدايا �صلبانا‬ ‫وفعال كانت الفر�صة �سانحة لن�سج جمموعة من‬
‫من الذهب وما �شاء اهلل وكفوفا مر�صعة بحجارة‬ ‫العبارات اجلن�سية امل�ستفزة للذوق التقليدي العام‬
‫زرقاء و�سال�سل حفر عليها ا�سمه‪ .‬كانوا يحجزون‬ ‫يف املجتمع املحافظ �آنئذ‪� ،‬إذ مل ي�ألف ويه�ضم‬
‫له الداية ويحددون لها يوم الوالدة‪ .‬وكان يهجم‬ ‫املتلقي التقليدي مثل العبارات التالية‪ ،‬التي تفوح‬
‫الطفل من الظالم ويرمتي يف النور يف توقيته‬ ‫منها رائحة اجلن�س‪ ،‬خ�صو�صا من كاتبة امر�أة‪:‬‬
‫الدقيق املنتظم‪ .‬وكانوا ي�سجلون با�سم الطفل قطعة‬ ‫(ونور الفجر الف�ضي ينهمر على وجهه وكل ج�سمه‬
‫�أر�ض‪ .‬وكانوا ي�ست�أجرون له بيتا‪ ،‬ويختارون له‬ ‫العاري‪� .‬أحب ج�سده العاري) و(ناديته �أن يرجع‬
‫الرفاق‪ ،‬ويعرفون �إىل �أي مدر�سة ير�سلونه‪ ،‬واملهنة‬ ‫ويتمدد قربي‪ :‬عندي رغبة يف �أن �أقبله) و(كنت‬
‫التي يتعلمها‪ ،‬وال�شخ�ص الذي ميكن �أن يحبه ويربط‬ ‫ممددة قربه‪ ،‬كان ي�ست�سلم لنوم عميق و�أنا مفتحة‬
‫م�صريه مب�صريه‪ .‬كان هذا من زمان بعيد‪ ،‬يف عهد‬ ‫الأجفان‪� ،‬أحفحف وجنتي بذقنه‪ ،‬و�أقبل �صدره‪،‬‬
‫والدك ووالدي»(‪.)16‬‬ ‫و�أند�س حتت ذراعه‪� ،‬أبحث عبثا عن النعا�س‪ .‬هنا‬
‫لذلك‪ ،‬ف�إن البطلة تعلن ب�رصامة يف وجه الزوج‪/‬‬ ‫�صارحته �أن [ما] يزعجني فيه �رسعة الذهاب يف‬
‫‪72‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ال�شهرية غادة ال�سمان‪ ،‬التي ذهبت داخل �أعمالها‬ ‫الرجل‪ ،‬مربرة موقفها‪�( :‬إنني ال �أجر�ؤ �أن �أحبل‪� .‬إنني‬
‫الإبداعية‪ ،‬يف حماولة تغيري �صورة املر�أة العربية‬ ‫لن �أقرتف هذا اخلط�أ) و(يرعبني م�صري طفل نرميه‬
‫اجلديدة �أ�شواطا بعيدة‪� ،‬إىل حد ا�سرتجال بطلة‬ ‫يف هذا العامل)‪ .‬واحلقيقة �أن الكاتبة رمبا اختارت‬
‫ق�صتها (عيناك قدري)(‪ ،)18‬وتنكرها لطبيعتها‬ ‫مو�ضوع اخللفة لتبني على حلبته �إحداثية �رصاع‬
‫الأنثوية‪� ،‬إثباتا لتفوقها الذي ال يقل درجة واحدة‬ ‫الإرادات بني الرجل واملر�أة‪ .‬ومن هنا ع�سكرة املعجم‬
‫عن تفوق الرجل‪ ،‬ودح�ضا للقناعة اخلاطئة ال�شائعة‬ ‫احلربي املنترث على م�ساحة امل�شهد الثاين يف‬
‫لدى الرجل املتخلف‪ ،‬عن تف�ضيل الذكور العتبارات‬ ‫الق�صة‪ ،‬من مثل (الغ�ضب‪ ،‬ال�رصاخ‪ ،‬عدم االحتمال‪،‬‬
‫قرباتية واقت�صادية واجتماعية‪� ،‬أم�ست واهية يف‬ ‫التعا�سة‪ ،‬الكمد‪ ،‬الرف�ض‪ ،‬العذاب‪ ،‬التمزق‪ ،‬الق�ساوة‪،‬‬
‫الع�رص احلديث‪ ،‬ومل تعد ذات جدوى يف تف�ضيل‬ ‫ال�ضياع‪ ،‬املوت‪ ،‬البكاء‪ ،‬الهجوم‪ ،‬املقاطعة‪ ،‬الزعيق‪،‬‬
‫الولد على البنت‪ ،‬بعد �أن خرجت املر�أة �إىل احلياة‬ ‫اال�ستغراب‪ ،‬التوتر‪ ،‬ال�صواريخ)‪.‬‬
‫العامة وناف�ست الرجل يف كثري من امليادين‬ ‫وطبعا‪ ،‬ف�إن �إرادة البطلة هي التي �ستفر�ض وتتحقق‬
‫احليوية املنتجة‪.‬‬ ‫يف النهاية على م�ستوى التخييل‪ ،‬ولي�س على م�ستوى‬
‫�إن هذه الق�صة توهمنا يف م�شهدها الأول‪ ،‬بخلوها‬ ‫الواقع كما يفر�ض منطق �سنة احلياة‪� ،‬إذ �سي�ست�سلم‬
‫من �أي نزوع نحو ت�صوير احلاالت اجلن�سية‪ ،‬التي‬ ‫الزوج لإرادة زوجته‪ ،‬وبعد كل غ�ضبه بدا وك�أن‬
‫�أ�ضحت ل�صيقة مبعظم الأعمال ال�رسدية لأمثال‬ ‫فورانه مل يكن �سوى ثورة يف فنجان‪ ،‬حيث انتهت‬
‫ه�ؤالء الكاتبات العربيات املتمردات‪ .‬وبدل ذلك‬ ‫الق�صة بعبارة (ن�رش راحة يده على �شفتي‪ ،‬و�شدين‬
‫تنخرط يف الإيهام ب�أن معركة املر�أة احلقيقية هي‬ ‫�إليه بيده الأخرى‪ ،‬و�أمرين (هيا لن�صعد �أنا و�أنت �إىل‬
‫املواجهة لإثبات حقيقة تفوق املر�أة ك�أي �شاب �أو‬ ‫القمر)‪ ،).‬خميبا انتظارات املتلقي‪ ،‬لأنه كان يتوقع‬
‫رجل‪ ،‬يف العمل والإنتاج‪ .‬فالبطلة تعلن منذ البداية‪:‬‬ ‫�أن ينتهي الأمر �إىل االنف�صال‪ ،‬مثلما حدث يف ق�صة‬
‫«ال‪ ..‬ال �شيء يف حياتي �سوى عملي‪�..‬أنا �سعيدة‪..‬‬ ‫م�شابهة �أخرى للكاتبة بعنوان (البطل)(‪.)17‬‬
‫ال �شيء ينق�صني ‪�..‬أملك حريتي وقدري ك�أي رجل‬ ‫بل �إن املر�أة يف هذه املوجة الن�سائية امل�ستجدة‪،‬‬
‫يف هذه املكاتب‪�..‬أنا حرة �سعيدة»(‪ .)19‬خ�صو�صا‬ ‫م�ستعدة كما بدا يف كثري من االنتاج ال�رسدي‬
‫و�أنها جاءت �إىل احلياة بعد �أربع �أخوات لكون �أمها‬ ‫للكاتبات العربيات اجلديدات‪ ،‬للذهاب �إىل �أق�صى‬
‫مئناثا‪ ،‬معاك�سة رغبة والدها ال�شديدة يف الولد‪،‬‬ ‫ال�شوط يف حتمل الت�ضحيات يف �سبيل فر�ض �إرادتها‪.‬‬
‫باعتباره �سيكون وريثا لأجماد دكانه وحلقته‬ ‫ودون �أن نذهب بعيدا‪ ،‬ف�إن ليلى بعلبكي جتعل يف‬
‫على ر�صيف ال�شارع ووريثا لرنجلته التي ال يريد‬ ‫ق�صتها (البطل)‪ ،‬ال�رصاع بني البطلة وزوجها حول‬
‫جلمرها �أن ينطفىء بعد مماته‪ ،‬وي�سميه (طلعت)‪ ،‬وال‬ ‫روتني احلياة الزوجية‪ ،‬وال�ضجر ال�شديد الذي يثقل‬
‫ي�ضطر حلب�سه يف الدار بعد ال�شهادة االبتدائية‪ ،‬وال‬ ‫على نف�س البطلة‪ ،‬ورغبتها القوية يف التغيري‪ ،‬يبلغ‬
‫يخاف عليه من االنطالق يف ال�شارع وحده كالبنت‪،‬‬ ‫�أق�صى مداه‪ .‬الأمر الذي ينتج عنه هذا التوتر املدمر‬
‫�إىل حد �أنه قدم خري مثال على عنف الرجل ال�رشقي‬ ‫بني الزوجني‪ ،‬الذي جلل كل امل�شهد الرئي�سي يف‬
‫املوجه �ضد املر�أة‪ ،‬حتى ولو مل يكن لها يد يف الأمر‪،‬‬ ‫الق�صة‪ ،‬مل يتقبله الزوج هذه املرة‪ ،‬فلج�أ �إىل الطالق‪،‬‬
‫حيث هم يف رد فعله العدواين �إىل حمل ال�سكني ثائرا‬ ‫ومع ذلك ظلت البطلة مت�شبثة مبوقفها‪ ،‬وظلت تنتظر‬
‫مرغيا ومزبدا عند والدتها‪ ،‬يريد �إعادتها بالقوة �إىل‬ ‫منوذجها املف�ضل من الأزواج‪ ،‬الذي قد ي�أتي وال ي�أتي‪.‬‬
‫بطن �أمها‪ ،‬لوال �أن منعوه من ذلك اجلنون‪ .‬واكتفى‬ ‫ومتعن كاتبة �أخرى من نف�س اجليل اجلديد‪ ،‬ال‬
‫ت�أ�سيا ب�أن �سمى البنت طلعت‪ ،‬وهو ا�سم ذكر‪.‬‬ ‫تقل �شهرة يف �سياق ال�رصاع مع الرجل ال�رشقي‪،‬‬
‫وفعال �صارت البطلة م�سرتجلة يف مظهرها‬ ‫وحتديه وفر�ض �إرادتها عليه؛ هي الكاتبة ال�سورية‬
‫‪73‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حلفظ البقاء‪ ،‬الأمر الذي ميكن �أن يوفره يف ع�رصنا‬ ‫اخلارجي وت�رصفاتها ونف�سيتها وتطلعاتها‪ .‬فهي‬
‫التلقيح اال�صطناعي و�أنابيب االختبار دون حاجة‬ ‫لدى عودتها من العمل متعبة م�ساء‪ ،‬تنتقد طعام‬
‫�إىل ا�ستعباد �أحد الطرفني لهذه الغاية!»(‪ ،)21‬كما‬ ‫�أمها ثائرة �صائحة مثلما يفعل �شباب احلي‪ ،‬وهي‬
‫�أنها ال تفهم �أن تكون الثورة اجلن�سية معزولة‬ ‫جتل�س مع �أبيها كل م�ساء تتناق�ش معه يف ال�سيا�سة‬
‫عن ثورة �إن�سانية �شاملة لكل الأ�صعدة اقت�صاديا‬ ‫وامل�شاريع والدخل القومي‪ ،‬وتدخن نرجيلته‪ .‬وهو‬
‫وفكريا و�سيا�سيا واجتماعيا‪ ،‬فهي جزء من ثورة‬ ‫الأمر الذي ارتاح له والدها «�أ�رصت على �إمتام‬
‫الفرد العربي على مظاهر اال�ستالب الن�سانيته(‪.)22‬‬ ‫درا�ستها بعناد كان يثري يف نف�س �أبيها �رسورا‬
‫وحني تطور احلدث ب�شكل جمايل متدرج‪ ،‬بعيدا‬ ‫خفيا يف�شل يف �إخفائه‪ ..‬مل يعد يخاف عليها من‬
‫عن كل هلهلة يف بناء الق�صة‪ ،‬ا�ستطاع عماد �أن‬ ‫ال�سري يف ال�شارع وحدها‪� ..‬إنها ال تتهادى بدالل‪..‬‬
‫يخرج عمالق الأنوثة من قمقمه لديها‪ ،‬بنموذجيته‬ ‫ال تعتني مبظهرها‪ ..‬ال تثري اهتمام �أحد‪ ..‬تكره‬
‫املتميزة امل�ستجيبة الختيارات البطلة‪ ،‬واملن�سجمة‬ ‫الرجال وال�شباب‪ .‬ال‪ ..‬ال تكرههم‪ ..‬الكراهية اعرتاف‬
‫مع نف�سيتها وذوقها‪ ،‬الأمر الذي كان مفتقدا‬ ‫بوجود ال�شيء املكروه وهي ال حت�س بوجودهم على‬
‫يف املرحلة ال�سابقة‪« ،‬نظر �إليها‪ ..‬مل تتجاوزها‬ ‫الإطالق‪ ..‬ال تريد �أن حت�س بوجودهم‪ ..‬و�إال فلماذا‬
‫عيناه املتفر�ستان كما يفعل الرجال جميعا‪..‬‬ ‫ترف�ض الدخول لتحية �أية خاطبة �شاء لها حظها‬
‫ظلتا تت�أمالنها ببطء ‪..‬عينان عميقتان خ�رضاوان‬ ‫العاثر �أن تدق بابهم؟‪.)20(»..‬‬
‫جتو�سان وجهها كعا�صفة عطر مثرية‪..‬و�أح�ست �أن‬ ‫كانت تفعل كل ذلك لرت�ضي والدها‪ ،‬رغم �أنها كانت‬
‫نظراتهما تنزع عن وجهها النظارة ال�سوداء‪..‬ترمي‬ ‫تكرهه داخلها كراهية �شفافة ال حقد فيها‪ ،‬ولتثبت‬
‫بها قرب قدمي �أخته‪..‬حتل ربطة �شعرها بحنان‬ ‫له جدارتها‪ ،‬وم�ساواتها له‪ ،‬ولتنتقم من �ضعف‬
‫وتدغدغ �آالم اخل�صل امل�شدودة‪..‬نظراته تعريها من‬ ‫والدتها‪ ،‬فلم تكن تريد �أن ت�صري ذليلة مثلها‪.‬‬
‫�ألقابها و�شهاداتها وردائها‪ ..‬تزحف برعونة لذيذة‬ ‫بيد �أن �صورة البطلة يف امل�شهد الرئي�سي التايل‬
‫فوق ذراعيها‪..‬تبعث فيهما دفء �شم�س مل تلم�سهما‪..‬‬ ‫للق�صة‪ ،‬تتغري من ال�ضد �إىل ال�ضد‪ ،‬وتنقلب ر�أ�سا على‬
‫تنحط بثقلها على ال�صدر فيزداد �شموخا ويرتع�ش‬ ‫عقب‪ ،‬من اال�سرتجال اخل�شبي املتكلف واملبالغ‬
‫يف حناياه �شيء ما ويتخبط‪..‬تع�رص اخل�رص فيرتنح‬ ‫فيه‪� ،‬إىل اال�ستئناث الدافئ الطبيعي‪ ،‬عندما تقابل‬
‫بلذة عناقيد �أثقلها الطيب‪..‬رحلة نظراته يف جماهل‬ ‫الرجل املف�ضل (عماد)‪ .‬وهنا تربز لغة و�أ�ساليب‬
‫عواملها �أرهقتها‪ ،‬ك�شفتها‪..‬جعلتها ت�شعر �أنها‬ ‫الع�شق والهيام‪ ،‬ويعود النف�س اجلن�سي يت�سلل �إىل‬
‫م�ضحكة و�سخيفة‪..‬و�أنها لي�ست الأ�ستاذة طلعت‪..‬‬ ‫ج�سم الق�صة‪ ،‬و�إن كان قد �أطل علينا �سابقا ب�صورة‬
‫و�أنها لي�ست �سوى ممثلة اكت�شفت فج�أة �أن ثيابها‬ ‫حمت�شمة‪ ،‬حني �ضبطت البطلة والدها يغازل‬
‫م�ضحكة و�أن دورها م�ضحك و�أنها يف حاجة �إىل‬ ‫اجلارة على الدرج‪ ،‬كا�شفة عما يجو�س يف ردهات‬
‫البكاء يف �صدر ما‪ .)23(»..‬فذاقت حالوة احلب‬ ‫احلياة االجتماعية ال�رشقية الرثة‪ ،‬من خيانة ب�شعة‬
‫واحلنان‪ ،‬و�إن هربت م�ؤقتا مدفوعة بعنادها املتمرد‬ ‫وتظاهر منافق‪ .‬وجتدر الإ�شارة هنا‪� ،‬إىل �أن غادة‬
‫على حقيقة عواطفها جتاهه‪ ،‬موهمة نف�سها ب�أنها‬ ‫ال�سمان حتمل وعيا �صحيا خا�صا بالن�سبة ملعاجلة‬
‫�إمنا كانت تت�سلى مثل �أي �شاب مراهق «هربت من‬ ‫ق�ضية اجلن�س يف ق�ص�صها‪� .‬إذ تنطلق يف هذا من‬
‫�شفتيه النهمتني وهما جتو�سان وجهها يف ليايل‬ ‫اقتناعها �أن «�رشاكة الفرا�ش باملعنى الإن�ساين هي‬
‫ال�صيف‪..‬‬ ‫�أوال نتيجة للقاء �إن�سانني على �صعيد فكري وروحي‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫قبل �أن تكون الغاية من اللقاء جمرد تفقي�س �أطفال‬

‫‪74‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫وداع ًا للأدب‬
‫الياباين!‬
‫كامل يو�سف ح�سني‬
‫كاتب ومرتجم من م�رص‬

‫االهتمام الكبري من جانبي بالأدب‬ ‫لي�ست ال�سطور التي ت�صافحها عينا القارئ‬
‫الياباين‪ ،‬عقب ذلك‪ ،‬وح�صويل على دفق‬ ‫هنا �إال تلويحة وداع مفعمة بالأ�سى‬
‫هائل من الأعمال الأدبية اليابانية ك�شف‬ ‫وال�شجن امل�ؤرق من كاتب هذه الكلمات‬
‫يل‪ ،‬على الفور‪ ،‬عن جمموعة مهمة من‬ ‫للأدب الياباين‪ ،‬الذي ظل مو�ضع حب‬
‫احلقائق‪:‬‬
‫واهتمام ومتابعة دقيقة من جانبي‪ ،‬على‬
‫‪� – 1‬أن الأدب الياباين يتمتع برثاء �شديد‪،‬‬
‫ويعك�س ب�صدق واقتدار العامل اخللفي‬
‫امتداد �أكرث من ثالثني عام ًا‪ .‬وما زلت �أذكر‬
‫لتجربتي التحديث اليابانيتني‪ ،‬بحيث‬ ‫ذلك اليوم البعيد الذي قر�أت فيه مقا ًال‬
‫يغدو من ال�رضوري ملتابعتهما االطالع‬ ‫مطو ًال يف مطبوعة «نيويورك ريفيو �أوف‬
‫على الأقل على جانب معقول من الأعمال‬ ‫بوك�س» عن تطور الأدب الياباين احلديث‪،‬‬
‫الأدبية اليابانية‪.‬‬ ‫�ألقى ال�ضوء ب�صفة خا�صة على م�ساهمات‬
‫‪� – 2‬أننا نحن العرب النعرف �شيئ ًا على‬ ‫ثالثة كتاب كبار‪ ،‬كانوا �آنذاك الأكرث بروزاً‬
‫الإطالق عن الأدب الياباين‪ ،‬والحظ هنا‬ ‫ون�شاط ًا على ال�ساحة الأدبية اليابانية‪ ،‬وهم‬
‫�أنني �أحتدث عن املرحلة التي �أعقبت‬ ‫يوكيو مي�شيما‪ ،‬وكوبو �آبي‪ ،‬و�شو �ساكو �إندو‪.‬‬
‫هزمية اخلام�س من يونيو ‪ ،1967‬التي‬ ‫وكنت �آنذاك – �ش�أن �أبناء جيلي ممن يدعون‬
‫دعيت – مرة �أخرى لأ�سباب ما زلت‬
‫لأ�سباب ما زلت �أجهلها بال�سبعينيني –‬
‫�أجهلها ‪ -‬بــ «النك�سة»‪ .‬وعبث ًا حاولت �أن‬
‫�أ�ضع يدي على ما كان مرتجم ًا �إىل العربية‬
‫نتابع جتارب التحديث يف �أمم �شتى‪ ،‬لعل‬
‫من الأعمال الأدبية اليابانية‪ ،‬فلم �أجد �إال‬ ‫�أمتنا العربية ت�ستفيد منها �شيئا ي�ساعدها‬
‫خمتارات متفرقة من الق�ص�ص اليابانية‬ ‫على مواجهة واقعها‪ ،‬الذي اختزلته هزمية‬
‫ومقاالت حمدودة عن الأدب الياباين‪.‬‬ ‫اخلام�س من يونيو ‪ ،1967‬وقد اهتممت‬
‫‪� – 3‬أده�شني �أننا ال معرفة لنا بالتقاليد‬ ‫ب�صفة خا�صة بتجربتي التحديث اليابانيتني‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اخلارج للدرا�سة وغريها بحمل الكتب لدى عودتهم‪،‬‬ ‫الأدبية اليابانية العريقة‪ ،‬التي متتد عرب �أكرث من‬
‫و�أخرياً ما �أ�صبح يعرف يف وقت الحق بالر�صيد‬ ‫�ألف عام‪ ،‬والتي ترجم الكثري من روائعها �إىل اللغات‬
‫الأجنبي‪ ،‬وهو الق�سم املخت�ص با�سترياد الكتب يف‬ ‫الأوروبية‪ ،‬ويف الوقت نف�سه ال نكاد نعرف �شيئ ًا عن‬
‫الهيئة امل�رصية العامة للكتاب‪.‬‬ ‫�أحدث الكتابات املقدمة يف �إطار الإنتاج الأدبي‬
‫و�أنا ل�ست �أدري ما فعل اهلل بعد ذلك بهذا الق�سم‬ ‫الياباين الغزير‪ ،‬الذي تتواىل �أجياله �رسيعة على‬
‫العتيد‪ ،‬ولكنني �أريد �أن �أعرتف �أن جانب ًا من �أهم‬ ‫نحو يتحدى القدرة على املتابعة‪.‬‬
‫الكتب التي و�ضعت يدي عليها على امتداد عمري‬ ‫‪ – 4‬ما كان ميكن �إال �أن �أتوقف طوي ًال عند االختالف‬
‫جاءت عرب هذا الق�سم‪ ،‬الذي كان بع�ض القائمني عليه‬ ‫ان التعريف الكبري بني دور الكاتب والأديب يف‬
‫من عمق الثقافة ورحابة الأفق بحيث مل يرتددوا‬ ‫بالأدب املجتمع الياباين ودور نظريه يف‬
‫يف اال�ستجابة ملطالبنا با�سترياد كتب حمددة‪،‬‬ ‫املجتمع العربي‪ ،‬فهو يف اليابان له‬
‫حتى و�إن نظرواً �إلينا يف البداية بانزعاج وت�شكك‪،‬‬ ‫الياباين كان ح�ضور قوي وم�ؤثر يف الر�أي العام‪،‬‬
‫وك�أننا كائنات قادمة من املريخ‪ .‬وما زلت �أتذكر‬ ‫أ�صيال‪� ،‬إنه �ضمري �أمته‪ ،‬واملتحدث با�سمها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اهتماما �‬
‫نظرة الفزع التي رمقني بها �أحد م�س�ؤويل الق�سم‬ ‫بالن�سبة يل‪ ،‬واملعرب عن اجتاهات �رشائح كبرية من‬
‫عندما طلبت منه ا�سترياد جملد �أعمال فرانز كافكا‬ ‫الر�أي العام‪ ،‬وهو بهذا املعنى قادر على‬
‫على مدار‬
‫الق�ص�صية الكاملة يف طبعة �شوكني ال�شهرية وكتاب‬ ‫الت�أثري بقوة واقتدار يف احلياة العامة‪،‬‬
‫ً‬
‫«فرانز كافكا‪ :‬خمتارات من النقد املارك�سي»‪ .‬وعلى‬ ‫الثالثني عاما �أما الكاتب والأديب يف عاملنا العربي‬
‫الرغم من اجلدل الذي ثار بيننا �إىل حد و�شك �أن‬ ‫املا�ضية‪ ،‬وهو ف�ش�أنه كما نعرف جميعاً‪ .‬ويف الوقت‬
‫ي�شارف على ال�شجار‪� ،‬إال �أن االحتكام �إىل رئي�س‬ ‫الأمر الذي الذي بد�أ اهتمامي بالأدب الياباين‬
‫الق�سم �أ�سفر يف نهاية املطاف عن ح�صويل على‬ ‫كان الكثري من الكتاب العرب ي�شقون‬
‫انعك�س بو�ضوح‬
‫الكتابني‪ ،‬ولكن بعد �شهور طويلة من االنتظار‪ .‬ولقد‬ ‫طريقهم �إىل املنايف‪� ،‬أو �إىل املعتقالت‪،‬‬
‫تعددت الأمثلة املناظرة بالن�سبة للأدب الياباين‬ ‫يف قائمة �أو �إىل �صمت هو �إىل املوت �أقرب‪� ،‬أو‬
‫الذي كان �آنذاك جمهو ًال �أو �شبه جمهول‪.‬‬ ‫الأعمال التي يهدرون وقتهم بحث ًا عن خبز ال�صغار‪.‬‬
‫مل يكن هذا وحده هو اجلانب الأكرث �سوءاً يف جتربة‬ ‫�صدرت بها هذا �أيا كان الأمر‪ ،‬ف�إن هذه البداية املبكرة‬
‫االهتمام بالأدب الياباين‪ ،‬و�إمنا كان اجلانب الأكرث‬ ‫لالهتمام من جانبي بالأدب الياباين‬
‫تعا�سة يف هذه التجربة‪ ،‬رمبا حتى كتابة هذه‬ ‫املقال قد ا�صطدمت بال�صعوبة البالغة �آنذاك‬
‫ال�سطور‪ ،‬هو و�ضعية الن�رش يف عاملنا العربي‪ .‬وقد‬ ‫يف احل�صول على الكتب من خارج‬
‫�ألقت هذه التعا�سة بظاللها على جتربتي منذ البداية‬ ‫م�رص‪ ،‬فتلك كانت �أيام حظر حتويالت العملة‬
‫املبكرة ذاتها‪ ،‬فعلى الرغم من �أن �صداقة مبكرة‬ ‫ال�صعبة‪ ،‬ولو كان ذلك يف �أ�ضيق احلدود‪ ،‬هكذا مل‬
‫ربطتني‪ ،‬منذ �صدر العمر‪ ،‬بعدد من �أكرب نا�رشي‬ ‫يكن �أمامي – و�أمام غريي – من جمال للح�صول‬
‫العامل العربي و�أكرثهم متيزاً واقتدارا‪� ،‬إال �أن الرياح‬ ‫على الكتب الأجنبية‪ ،‬ومن بينها الأعمال اليابانية‬
‫كثرياً ما ت�أتي مبا ال ت�شتهي ال�سفن‪ .‬وما �أكرث الرياح‬ ‫املرتجمة �إىل اللغة االجنليزية‪� ،‬إال عرب قنوات جد‬
‫يف عاملنا العربي وما �أ�سو�أ حظ ال�سفن!‬ ‫حمدودة‪� ،‬أولها جمموعة املكتبات القليلة التي‬
‫دعني �أتذكر جتربة مبكرة كان ميكن �أن تدفن‬ ‫ت�ؤدي هذه املهمة‪ ،‬ومنها مكتبة الأجنلو العتيدة‬
‫جهودي لرتجمة الأدب الياباين �إىل اللغة العربية‬ ‫يف و�سط القاهرة‪ ،‬وكذلك تو�صية امل�سافرين �إىل‬
‫‪76‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫م�سبق ًا عن عدم التحديد على وجه الدقة بالن�سبة‬ ‫يف مهدها‪ ،‬ففي �أوائل الثمانينيات بعثت برتجمتي‬
‫لدي ن�سخ منها حلظة كتابة‬
‫للأعمال التي ال تتوافر َّ‬ ‫لثالثة جملدات من عيون روائع الأدب الياباين‬
‫هذه ال�سطور‪:‬‬ ‫احلديث �إىل �إحدى �أكرب دور الن�رش العربية‪ ،‬والتي‬
‫‪ – 1‬كوبو �آبي – امر�أة يف الرمال – دار الآداب – بريوت –‬ ‫�سبق لها �أن �أ�صدرت �أعما ًال مرتجمة يل‪ ،‬وملا طال‬
‫‪.1987‬‬ ‫انتظاري لن�رشها‪ ،‬انتهزت فر�صة وجود مدير الدار‬
‫‪ – 2‬كينزابور �أوي – علمنا �أن نتجاوز جنوننا! – دار الآداب‬
‫– بريوت – ‪.1988‬‬ ‫يف معر�ض القاهرة الدويل للكتاب‪ ،‬و�س�ألته عما‬
‫‪ – 3‬يوكيومي�شيما – ال�سيدة دي �ساد – وزارة الإعالم –‬ ‫فعلت الأيام باملجلدات الثالثة العتيدة‪ ،‬فبادر‬
‫الكويت – ‪.1988‬‬ ‫الرجل‪ ،‬مبزيد من احلرج‪ ،‬باالعتذار لأن املخطوطات‬
‫‪� –4‬شو�ساكو �إندو – البحر وال�سم – دار التنوير – بريوت‬ ‫الثالث قد فقدت‪ ،‬يف �إطار الظروف ال�صعبة التي‬
‫– (؟)‪.‬‬ ‫كانت �سائدة يف بريوت �آنذاك‪ .‬وما كان ميكن �إال �أن‬
‫‪ -‬الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – ‪.1997‬‬
‫‪ -‬الطبعة الثالثة – امل�‬
‫�أتفهم املوقف‪ ،‬و�إن �أحزنني كثرياً‪.‬‬
‫ؤ�س�سة العربية للدرا�سات «معجم‬ ‫والن�شر – بريوت – ‪.2005‬‬ ‫كان ميكن �أن ينتهي كل �شيء عند هذا احلد‪ ،‬و�أن‬
‫‪ – 5‬جونت�شريو تانيزاكي – التاريخ ال�سري م�صطلحات‬ ‫يدفعني االحباط �إىل التوقف عن ترجمة املزيد من‬
‫لأمري مو�سا�شي – دار الآداب – بريوت ‪.1989‬‬ ‫الأعمال الأدبية اليابانية‪ ،‬لوال �أنني كنت �أحتفظ‬
‫‪ –5‬يوكيو مي�شيما – اعرتافات قناع – دار املوت» ي�شغلني‬
‫باملخطوطات الأ�صلية املكتوبة بخط يدي‪ ،‬وعنها‬
‫حاليا ك�أول‬ ‫الهالل – القاهرة (؟)‬
‫ن�سخت بالآلة الكاتبة الن�سخة الثانية التي قدر لها‬
‫‪ –6‬يوكيو مي�شيما – اعرتافات قناع – دار‬
‫معجم من‬ ‫الهالل – القاهرة (؟)‪.‬‬ ‫�أن ت�شق طريقها �إىل الن�رش من املجلدات الثالثة‪.‬‬
‫‪ -‬الطبعة الثانية امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات نوعه فـي‬ ‫تلك كانت البداية‪ ،‬والذين تابعوا – بحب تعاطف‬
‫والن�شر – بريوت – ‪.2004‬‬ ‫– ما قدمته للمكتبة العربية من الأعمال الأدبية‬
‫‪� –7‬شو�ساكو �إندو – ال�صمت – دار الهالل – اللغة‬
‫اليابانية يعرفون �أنني قدمت لها ترجمة ع�رشة‬
‫العربية‬ ‫القاهرة (؟)‪.‬‬
‫�آالف �صفحة من الأدب الياباين‪� ،‬أو من الدرا�سات‬
‫‪ -‬الطبعة الثانية امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬
‫والن�شر – بريوت – ‪.2006‬‬ ‫التي تدور حوله‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ترجمة م�رسحيتني‬
‫‪ –8‬يوكيو مي�شيما – ثلج الربيع (اجلزء الأول عن رباعية‬ ‫�شهريتني‪ ،‬ف�ض ًال عن كتابة مئات املقاالت عن �شتى‬
‫«بحر اخل�صب») – دار الآداب – بريوت – ‪.1990‬‬ ‫جوانب احل�ضارة اليابانية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ت�أليف‬
‫‪ –9‬كوبو �آبي – موعد �سري – دار الفارابي واحتاد كتاب‬ ‫�سل�سلة «خمرجون يابانيون» التي تدور حول‬
‫و�أدباء الإمارات – بريوت‪.1991 ،‬‬
‫�أبرز خمرجي ال�سينما اليابانية‪ ،‬والتي �صدر منها‬
‫‪-‬الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – ‪.1999‬‬
‫‪-‬الطبعة الثالثة – امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر –‬ ‫كتابان حتى الآن‪ ،‬و�أعلق �آما ًال كباراً على �صدور‬
‫بريوت – ‪.2006‬‬ ‫باقي كتب ال�سل�سلة تباعاً‪.‬‬
‫‪ –10‬يوكيو مي�شيما – اجلياد الهاربة (اجلزء الثاين من رباعية‬ ‫ل�ست �أريد �أن �أطيل على القارئ‪ ،‬ولكن لأغرا�ض‬
‫«بحر اخل�صب» – دار الآداب – بريوت – ‪.1991‬‬ ‫التوثيق وللقراء الذين رمبا يهمهم هذا البعد‬
‫‪ –11‬يوكيو مي�شيما – معبد الفجر (اجلزء الثالث من رباعية‬ ‫ومتابعته لأغرا�ض بحثية‪ ،‬ف�إنني �س�أ�سمح لنف�سي‬
‫«بحر اخل�صب») ‪ -‬دار الآداب – بريوت – ‪.1993‬‬
‫‪ –12‬يوكيو مي�شيما ‪� -‬سقوط املالك (اجلزء الرابع والأخري من‬ ‫ب�أن �أورد هنا قائمة بالأعمال الأدبية اليابانية التي‬
‫رباعية «بحر اخل�صب») دار الآداب – بريوت – ‪.1995‬‬ ‫قدمتها للمكتبة العربية مرتجمة عن االجنليزية‬
‫‪ -13‬يا�سوناري كاواباتا – ق�ص�ص بحجم راحة اليد – دار‬ ‫وهي كالتايل‪ ،‬ح�سب �سنة ال�صدور‪ ،‬مع اعتذاري‬
‫‪77‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لرائعة الأدب الياباين الأ�شهر «حكاية جينجي»‬ ‫�شرقيات – القاهرة – ‪.1999‬‬
‫– الطبعة الثانية – امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر –‬
‫هي اال�ستثناء الذي ي�ؤكد القاعدة‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫بريوت – ‪.2003‬‬
‫قيامنا مبراجعة عمل �ساي �شوناجون الرائع «كتاب‬ ‫‪ –14‬فوكوزاوا يوكيت�شي ‪� ،‬سرية فوكوزاوا يوكيت�شي ومقدمة‬
‫الو�سادة»‪� ،‬إال �أنه مل ين�رش حتى الآن‪ ،‬ولهذا مل ندرجه‬ ‫�أعماله الكاملة – املجمع الثقايف – �أبوظبي – ‪.2001‬‬
‫يف القائمة‪.‬‬ ‫‪ –15‬كوبو �آبي – الرجل الذي حتول �إىل ع�صا‪ :‬ثالث م�سرحيات‬
‫‪� -2‬إن القائمة ال تت�صدى للتعريف ب�أحدث الأ�سماء‬ ‫من اليابان – دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – ‪.2003‬‬
‫التي برزت على ال�ساحة اليابانية �أخرياً‪ ،‬و�إمنا هي‬ ‫‪ –16‬رايونو�سوكي �أكوتاجاوا – را�شومون وق�ص�ص �أخرى‬
‫– دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – ‪.2004‬‬
‫تتوقف عندما ميكن و�صفه بـ «الأ�سماء الكبرية»‪،‬‬ ‫‪ –17‬مات�سو با�شو – الطريق ال�ضيق �إىل داخل البالد –‬
‫حيث جترى ترجمة �أعمال خمتلفة لأدباء م�شهورين‬ ‫االنت�شار العربي – بريوت – ‪.2005‬‬
‫�سبق بالفعل التعريف بهم من قبل‪ ،‬وهذا عيب ج�سيم‬ ‫‪ –18‬يا�سوناري كاواباتا – ذراع واحدة وق�ص�ص �أخرى –‬
‫يف اختيارات القائمة‪ ،‬ي�ضاف �إىل العيب الأول‪ ،‬الذي‬ ‫دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – ‪.2005‬‬
‫نراه �أكرث خطورة وال منلك �أن ننكره‪.‬‬ ‫‪� –19‬إينازو نيتوبي – البو�شيدو‪ :‬روح اليابان – هيئة‬
‫�أبوظبي للثقافة والرتاث‪ :‬املجمع الثقايف – �أبوظبي – ‪.2006‬‬
‫‪ -3‬القائمة تت�ألف كلية تقريب ًا من �أعمال �إبداعية‪،‬‬
‫‪ –20‬مورا�ساكي �شيكيبو – حكاية جينجي – هيئة �أبوظبي‬
‫وذلك با�ستثناء كتاب «البو�شيدو‪ :‬روح اليابان»‪،‬‬ ‫للثقافة والرتاث‪ :‬املجمع الثقايف – �أبوظبي – ‪.2012‬‬
‫وكتاب «�سرية فوكوزاوا يوكيت�شي ومقدمة �أعماله‬ ‫كما �سبقت الإ�شارة‪ ،‬ف�إنه �إىل جوار هذه الأعمال الع�شرين‪ ،‬فقد‬
‫الكاملة»‪ .‬وعلى الرغم من الأهمية اال�ستثنائية‬ ‫تعددت املقاالت التي كتبناها حول جوانب �شتى يف الثقافة‬
‫لهذين الكتابني‪� ،‬إال �أن القائمة تظل خالية من �أي‬ ‫اليابانية‪� ،‬شملت �إىل جوار الأدب الياباين �إ�ضاءات للم�سرح‬
‫حماولة معمقة للتعريف بتطور الأدب الياباين‪،‬‬ ‫وال�سينما واملو�سيقى والفنون التقليدية يف اليابان‪.‬‬
‫وقمنا �أي�ض ًا‪ ،‬يف �إطار اهتمامنا منذ �سنوات الدرا�سة اجلامعية‬
‫وهذا عيب خطري فيها‪ ،‬كان البد من تداركه منذ‬ ‫بال�سينما اليابانية‪ ،‬بت�أليف �سل�سلة كتب «خمرجون يابانيون»‬
‫البداية‪ ،‬خا�صة مع تعدد الأعمال التي تت�صدى‬ ‫التي �صدر منها‪ :‬مايلي‪:‬‬
‫للت�أ�صيل للأدب الياباين‪� ،‬سواء تلك التي كتبها‬ ‫�أو ًال‪ :‬الطريق الطويل �إىل عامل �أكريا كريو�ساوا – �سل�سلة‬
‫م�ؤلفون يابانيون �أو م�ؤلفون غربيون ا�شتهروا‬ ‫«كرا�سات ال�سينما» املواكبة مل�سابقة �أفالم من الإمارات –‬
‫بهذا النوع من الكتابات على وجه التحديد‪ ،‬ويف‬ ‫املجمع الثقايف – �أبوظبي – ‪.2005‬‬
‫الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – ‪.2006‬‬ ‫‪ -‬‬
‫مقدمتهم الباحث الأمريكي دونالد كني‪.‬‬ ‫ثاني ًا – يا�سوجريو �أوزو‪ ..‬الطريق �إىل الالنهاية – �سل�سلة‬
‫‪ -4‬جميع الكتب الداخلة يف القائمة تت�ضمن‬ ‫كرا�سات ال�سينما» املواكبة مل�سابقة �أفالم الإمارات – املجمع‬
‫مقدمات طويلة بقلم املرتجم تت�صدى للتعريف‬ ‫الثقايف ‪� -‬أبوظبي ‪.2007‬‬
‫بامل�ؤلف وبالعمل املاثل بني دفتي كل كتاب‪ ،‬وتلك‬ ‫‪ -‬الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة ‪.2009‬‬
‫ميزة حقيقية تت�سم بها كتب القائمة‪.‬‬ ‫و�إذا �ألقينا نظرة مدققة على هذه القائمة‪ ،‬ف�إن‬
‫‪ -5‬على الرغم من �أن القائمة ت�ضم كتابني ت�صديا‬ ‫جمموعة من املالحظات �ستفر�ض نف�سها‪ ،‬ب�شكل‬
‫لتقدمي �أعمال من امل�رسح الياباين‪� ،‬إال �أننا نالحظ �أن‬ ‫تلقائي وفوري علينا‪ ،‬جندها جديرة بالتوقف‬
‫هذه الإطاللة املحدودة تقت�رص على امل�رسح الياباين‬ ‫عندها بالت�أمل �أو الت�سا�ؤل يف �آن معاً‪:‬‬
‫احلديث‪ ،‬بينما يظل امل�رسح الياباين التقليدي‬ ‫‪ -1‬خالف ًا ملا نتوقع‪ ،‬ف�إن هذه القائمة تخلو من‬
‫ب�أ�شكاله العديدة يف دائرة اال�ستبعاد‪ ،‬وهو �أمر يظل‪،‬‬ ‫الأعمال التي ميكننا �أن ن�صفها بالأمهات‪ ،‬بالن�سبة‬
‫يف النهاية‪ ،‬غري مفهوم وغري مربر وال مقبول‪.‬‬ ‫للأدب الياباين‪ ،‬ومن ثم قد ميكننا القول �إن ترجمتنا‬
‫‪78‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الأخري يف �سانتياجو»‪ ،‬ومل �أ�شعر بالر�ضا متام ًا عن‬ ‫‪ -6‬يبدو م�ؤ�سف ًا حق ًا �أن معظم الكتب الواردة يف‬
‫النتيجة النهائية‪ ،‬كما وجدت �صعوبة بالغة يف‬ ‫قائمة الع�رشين هذه ظلت مقت�رصة على طبعة‬
‫�إعادة طبع الديوانني كليهما‪ ،‬وهكذا ف�إنني على‬ ‫واحدة‪ ،‬يف معظم احلاالت‪ ،‬وعلى الرغم من �أنني‬
‫الرغم من قيامي برتجمة الن�ص الكامل لديوان‬ ‫�أحتمل جانب ًا من امل�س�ؤولية عن هذا الو�ضع‪ ،‬نتيجة‬
‫«ق�صائد هايكو خمتارة» من �شعر مات�سو با�شو‪� ،‬إال‬ ‫لإ�رصاري الذي دام طوال عمري املهني تقريب ًا على‬
‫�أنني مل �أن�رشها قط‪� ،‬سواء منجمة �أو يف �صورة جملد‬ ‫�أن ت�صدر ترجماتي عن دور ن�رش كربى‪� ،‬أو على الأقل‬
‫متكامل‪ ،‬و�أبقيتها خمطوطة �ضمن �أوراقي عامداً‪،‬‬ ‫عن دور ن�رش �أثق يف مهنية القائمني على �إدارتها‬
‫لأن الرتجمة كانت – يف املقام الأول – مهداة �إىل‬ ‫كل الثقة‪� ،‬إال �أن جانب ًا �أكرب من امل�س�ؤولية يقع على‬
‫ابنتي الكربى‪ ،‬مها‪ ،‬ومن يدري‪ ،‬فرمبا تقوم بن�رشها‬ ‫النا�رشين العرب‪ ،‬الذين ي�ؤثرون عدم �إ�صدار كتب‬
‫بعد رحيلي عن دنيا النا�س الفانني‪� ،‬إذا �أردت �أن‬ ‫�سبق ن�رشها‪ ،‬حتى لو كانت قد لقيت يف طبعتها‬
‫ت�شارك النا�س هديتها تلك‪� ،‬أو حتجبها عن الن�رش‬ ‫الأوىل رواج ًا كبرياً بني القراء‪.‬‬
‫باعتبارها هدية �شخ�صية تعنيها وحدها‪ ،‬وهو ما‬ ‫‪ -7‬رمبا يالحظ القارئ �أنني يف ال�سنوات من ‪2006‬‬
‫ق�صدته بالرتجمة يف املقام الأول‪.‬‬ ‫�إىل ‪ 2012‬مل ي�صدر يل �أي عمل من �أعمال الأدب‬
‫هنا من حق القارئ �أن يت�ساءل‪� :‬إذا كانت قائمة‬ ‫الياباين‪ ،‬ومن الوا�ضع �أن ذلك يرجع من ناحية‬
‫الع�رشين هذه تعك�س كل املقومات الداعية �إىل‬ ‫�إىل �أنني �أم�ضيت وقت ًا طوي ًال يف ترجمة «حكاية‬
‫�إ�ضافة املزيد لها‪ ،‬فلماذا تلويحة الوداع هذه‬ ‫جينجي» بحكم كونه عم ًال هائالً‪ ،‬يقع يف �ألفي‬
‫للأدب الياباين من جانب كاتب هذه ال�سطور؟ ملاذا‬ ‫�صفحة من القطع الكبري‪ ،‬كما امتدت عملية ن�رشه‬
‫الآن وقد تكاملت لهذا الكاتب من عنا�رص اخلربة‬ ‫طوي ًال بحكم حر�ص النا�رش على �صدور هذا العمل‬
‫والتجربة ما ميكنه من تقدمي الأف�ضل والأكرث‬ ‫يف ال�شكل الرفيع والراقي الذي يتفق مع �أهميته‬
‫ن�ضج ًا من الرتجمات؟‬ ‫اال�ستثنائية‪ ،‬ويرجع من ناحية �أخرى �إىل ان�شغايل‬
‫الأ�سباب عديدة‪ ،‬ولكن من البديهي �أن الأمر يتعلق‬ ‫بت�أليف عملني مهمني‪ ،‬كنت قد عاهدت نف�سي منذ‬
‫يف املقام الأول ب�صدور الرتجمة العربية للن�ص‬ ‫�سنوات طويلة على ت�أليفهما‪� ،‬إعراب ًا عن امتناين‬
‫الكامل لـ «حكاية جينجي» �أخرياً‪ ،‬ففي اعتقادي �أن‬ ‫لدولة الإمارات العربية املتحدة و�أبنائها الكرام‬
‫تلك ذروة ال جمال معها لل�سعي نحو قمة �أعلى‪� ،‬أو‬ ‫الذين �أم�ضيت بني ظهرانيهم ثالثني عاماً‪ ،‬كنت‬
‫�إن �شئت فقل �إنها الذروة التي ال جمال بعدها لل�سعي‬ ‫خاللها دائم ًا مو�ضع تكرمي واحتفاء �أعتز بهما �أ�شد‬
‫نحو املزيد‪.‬‬ ‫االعتزاز‪ ،‬وذلك قبل �أن �أرحل عن الإمارات‪� ،‬أو قبل‬
‫�إن �شئت املزيد من الإي�ضاح‪ ،‬فدعني �أبادر �إىل‬ ‫�أن �أرحل عن دنيا النا�س الفانني‪ .‬وهذان الكتابان‬
‫القول �إن «حكاية جينجي» عمل جليل القدر‪ ،‬عظيم‬ ‫اللذان �صدرا بالفعل هما «م�ستقبل الثقافة يف‬
‫الأهمية‪ ،‬هائل االمتداد‪ .‬ومن املحقق �أن �إطالله‬ ‫الإمارات» ال�صادر يف ‪ ،2010‬و«مو�سوعة م�ساجد‬
‫على القارئ العربي يف ن�صه الكامل يف بداية‬ ‫الإمارات» ال�صادرة قبل �أيام من كتابة هذه ال�سطور‪.‬‬
‫الألفية الثالثة‪ ،‬وهو الذي ر�أى النور لأول مرة‬ ‫‪ -8‬تخلو القائمة من �أي عمل �شعري‪ ،‬وهذا طبيعي‬
‫يف م�ستهل القرن احلادي ع�رش امليالدي‪ ،‬يو�ضح‬ ‫ومنطقي وعقلي‪ ،‬ذلك �أن جتربتي يف ترجمة ال�شعر‬
‫بجالء جانب ًا من �أبعاد الو�ضعية املحزنة للعالقات‬ ‫ال ميكن �إال �أن تو�صف ب�أنها مريرة‪ ،‬ففي �صدر العمر‬
‫الثقافية العربية اليابانية‪ ،‬بل وجممل عالقتنا‬ ‫قمت برتجمة ديوانني‪ ،‬هما «�إي�سالنيجرا» و«الفال�س‬
‫‪79‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والباحثني �إىل القول �إن علينا �أن ننتظر حتى القرن‬ ‫نحن العرب بالثقافات الآ�سيوية‪ ،‬التي ال يرتدد‬
‫التا�سع ع�رش‪ ،‬و�أن نرحل �إىل املعاقل احل�رضية‬ ‫بع�ض الباحثني يف الذهاب �إىل القول �إنها ال وجود‬
‫الأوروبية‪ ،‬لكي نلتقي بالرواية‪ ،‬ف�إن هناك تياراً ال‬ ‫لها �أ�صالً‪ ،‬و�إنها بحاجة �إىل الإر�ساء‪ ،‬قبل احلديث‬
‫يقل قوة عن �سابقه يذهب �إىل القول �إننا على امتداد‬ ‫عن التوثيق والتكري�س‪ ،‬ولكن يف حالة «حكاية‬
‫�صفحات «حكاية جينجي» نلتقي مع الرواية الأوىل‬ ‫جينجي» يظل �صحيح ًا �أنه خري �أن ت�صلنا مت�أخرة‬
‫باملعنى ال�صحيح‪.‬‬ ‫عن �أن ال ت�صلنا �أبداً‪.‬‬
‫لكن ملاذا يجمع املنخرطون يف هذا التيار على‬ ‫هنا يربز �س�ؤال مهم‪ :‬ملاذا تعد «حكاية جينجي»‬
‫و�صف «حكاية جينجي» ب�أنها الرواية الأوىل يف‬ ‫عم ًال مهم ًا بالن�سبة لنا نحن العرب‪ ،‬يف هذا‬
‫العامل؟‬ ‫املنعطف من ا�ستمرارية عالقتنا باليابان واجلهود‬
‫الأ�سباب عديدة‪ ،‬ول�سنا يف معر�ض حتليلها ب�صورة‬ ‫املبذولة ملد اجل�سور الثقافية بيننا وبني جممل‬
‫مف�صلة هنا‪� ،‬إمنا �سنكتفي بالإ�شارة ال�رسيعة �إليها‪:‬‬ ‫ثقافات �آ�سيا؟‬
‫(�أ) ر�أينا حا ًال هذا االهتمام الفائق بحبكة الرواية‬ ‫قد ال يكون من قبيل املبالغة القول �إن �أبعاد �أهمية‬
‫الب�سيطة ب�صفة جوهرية‪ ،‬و�أي�ض ًا التي تتمتع بالرثاء‬ ‫«حكاية جينجي» بالن�سبة لنا نحن العرب تكاد‬
‫ال�شديد يف التفا�صيل‪ ،‬التي ترد يف غمار انطالق‬ ‫تكون بال نهاية تقريباً‪ .‬غري �أنني �س�أكتفي هنا‬
‫�أحداثها وتعاقب هذه الأحداث‪ ،‬وهكذا ف�إننا على‬ ‫ب�إلقاء ال�ضوء على �أربعة �أبعاد فح�سب‪ ،‬للأهمية‬
‫موعد مع الو�صف املمتع واملعقد واملعمق يف �آن‬ ‫الفائقة لـ «حكاية جينجي» بالن�سبة لنا نحن العرب‪،‬‬
‫مع ًا للحياة اليومية ولت�شابك العالقات وللغو�ص‬ ‫والتي من �ش�أنها �أن تدفعنا �إىل املزيد من االهتمام‬
‫املعمق يف �أغوار ال�شخ�صيات‪.‬‬ ‫بالأعمال املماثلة من كنوز الآداب ال�رشقية‪ ،‬التي‬
‫(ب) يلفت الباحث الياباين االخت�صا�صي �سني �أونو‬ ‫ظلت حتى الآن من دون احلد الأدنى من التعريف‬
‫نظرنا �إىل اللغة الوا�ضحة التي كُ تبت بها «حكاية‬ ‫بها و�إلقاء ال�ضوء عليها‪ ،‬دع جانب ًا املبادرة �إىل‬
‫جينجي» ويذهب �إىل القول �إنه ما من عمل �أدبي‬ ‫ترجمتها‪.‬‬
‫واحد كُ تب يف الع�رص الهاييني (‪ )1185-794‬بهذه‬ ‫هذه الأبعاد الأربعة هي يف اعتقادي‪ ،‬وب�أكرب قدر‬
‫اللغة الدقيقة والوا�ضحة التي كُ تبت بها «حكاية‬ ‫من الإيجاز‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫جينجي»‪ ،‬وهذه اللغة تتحول �إىل نور هاد وك�شاف‬ ‫�أوالً‪« :‬حكاية جينجي» هي الرواية الأوىل باملعنى‬
‫ت�سلطه امل�ؤلفة مورا�ساكي �شيكيبو‪ ،‬يف مواجهة‬ ‫ال�صحيح يف الأدب العاملي‪:‬‬
‫مفاهيم مركبة ومعقدة يف ذلك الع�رص‪ ،‬من نوعية‬ ‫هذا العمل‪ ،‬الذي يقع فيما يزيد على ثالثة �أرباع‬
‫الزواج واال�ستحواذ الروحي والعالقة بني اجلوانب‬ ‫مليون كلمة‪ ،‬مدرجة يف �أربعة وخم�سني ف�صالً‪،‬‬
‫الروحية والتقاليد البوذية والأعراف ال�شنتوية‪.‬‬ ‫يتميز ب�صفة جوهرية بحبكة ب�سيطة‪ ،‬تدور حول‬
‫(ج) الرباعة الفائقة يف ر�سم ال�شخ�صيات‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫حياة البطل جينجي وغرامياته‪ ،‬ومن ثم كاورو‬
‫البعد هو �أقوى احلجج التي ي�ستعني بها املتحم�سون‬ ‫الذي يعتقد ب�أنه ابنه من بعده‪ ،‬هو بح�سب �إجماع‬
‫لو�صف «حكاية جينجي» ب�أنها الرواية الأوىل‬ ‫ح�شد هائل من الباحثني والكتاب وال�رشاح والنقاد‬
‫يف العامل بامتياز‪ ،‬فال�شخ�صيات التي حت�شدها‬ ‫�أول رواية باملعنى ال�صحيح يف �أي �أدب من �آداب‬
‫امل�ؤلفة تقدر باملئات‪ ،‬وعلى الرغم من �أنه لي�س‬ ‫العامل‪.‬‬
‫هناك الكثري من التغلغل ال�رصيح يف م�شاعر‬ ‫بينما مييل تيار قوي من املنظرين والنقاد‬
‫‪80‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫يف هذا ال�صدد ال�ضجة الكربى التي �أثارها الروائي‬ ‫ال�شخ�صيات وحاالتها الذهنية‪� ،‬إال �أنها يف نهاية‬
‫الياباين كينزابورو �أوى‪ ،‬عندما ذهب يف مقابلة‬ ‫املطاف �شخ�صيات مر�سومة برباعة‪ ،‬وجرى التمييز‬
‫مع جملة «مانوا» الدورية الأدبية املتخ�ص�صة‬ ‫بني كل �شخ�صية و�أخرى ب�إ�رصار وبراعة فائقني‪،‬‬
‫ن�رشتها يف عددها ال�صادر يف �صيف ‪�1994‬إىل‬ ‫ونالحظ �أنه ال وجود للتطرف يف ن�سبة ال�شخ�صيات‬
‫القول‪« :‬هناك من يقوولون �إن (حكاية‬ ‫�إىل اخلري �أو ال�رش‪ ،‬با�ستثناء ما جنده يف الف�صول‬
‫جينجي) هي �أول رواية يف العامل‪ ،‬تعد «حكاية‬ ‫الأوىل من احلكاية‪ ،‬التي ميكن و�صفها ب�أنها الأكرث‬
‫و�أعتقد �أن هذا غري دقيق‪ ،‬قد يكون من جينجي»‬ ‫رومان�سية يف العمل كله‪ ،‬والإيهام باحلياة واحلركة‬
‫املمكن القول �إن (الكوميديا الإلهية)‬ ‫يتم حتقيقه‪ ،‬يف الغالب الأعم‪ ،‬من دون مبالغة وال‬
‫هي �أول رواية يف العامل تت�سم بالعظمة من امل�صادر‬ ‫و�صول �إىل �آفاق املالمح الكاريكاتريية‪.‬‬
‫والتكامل باملعنى احلقيقي‪� ،‬أما القول الرئي�سية‬ ‫د ـ عمق الت�أثر وات�ساع نطاق الرواج‪ ،‬فمن الوا�ضح‬
‫�إن (حكاية جينجي) هي �أول رواية لدراما النو‬ ‫�أن «حكاية جينجي» قد وجهت يف البداية �إىل حلقة‬
‫يف العامل فهو خط�أ‪ ،‬فهناك اختالف امل�سرحية‪،‬‬ ‫�ضيقة من �سيدات البالط الهاييني‪ ،‬لكنها اكت�سبت‬
‫يف املفاهيم بني (حكاية جينجي)‬ ‫رواج ًا و�شعبية مل يقدر لهما الرتاجع قط‪ ،‬منذ ذلك‬
‫كما اقتب�ست‬ ‫والرواية الأوروبية»‪.‬‬ ‫احلني وحتى اليوم‪ ،‬وهكذا �شهدنا انت�شاراً حمرياً‬
‫ومن امل�ؤكد �أن مما له داللة بالغة لأعمال ال‬ ‫ملخطوطات هذا العمل‪ ،‬يف القرون الو�سطى‪ ،‬ومن‬
‫العمق �أن هذه الأ�سطر التي قالها �أوي‪ ،‬ح�صر لها‬ ‫هذه املخطوطات �أُخذت الن�صو�ص الكاملة الأوىل‬
‫يف هذا احلوار ال تزال جتد من الباحثني قدمت على‬ ‫لهذا العمل‪ ،‬التي قدر لها الو�صول �إىل �أيدينا والبقاء‬
‫وال�رشاح واملنظرين واملعنيني بـ‬ ‫حتى اليوم‪.‬‬
‫«حكاية جينجي» من يت�صدى لها خ�شبة م�سرح‬ ‫ومل يقت�رص ت�أثري هذا العمل على الإبداع الأدبي‬
‫الكابوكي وعرب‬ ‫بالتفنيد �أو الت�أييد حتى اليوم‪.‬‬ ‫الالحق‪� ،‬إمنا امتد �إىل العديد من القوالب والأ�شكال‬
‫ثانياً‪« :‬حكاية جينجي» ت�شكل تطوراً ال�شا�شتني‬ ‫الفنية‪ ،‬و�صو ًال �إىل الأدب ال�شعبي‪ ،‬وتعد «حكاية‬
‫نوعي ًا بال مثيل يف م�سار الأدب‬ ‫جينجي» من امل�صادر الرئي�سية لدراما النو‬
‫الف�ضية‬
‫الياباين‪ :‬احلقيقة الأ�سا�سية املتعلقة‬ ‫امل�رسحية‪ ،‬كما اقتب�ست لأعمال ال ح�رص لها قدمت‬
‫بـ «حكاية جينجي» التي يتعني وال�صغرية‪.‬‬ ‫على خ�شبة م�رسح الكابوكي وعرب ال�شا�شتني الف�ضية‬
‫�أخذها يف االعتبار يف معر�ض تقومي‬ ‫وال�صغرية‪.‬‬
‫هذا العمل هي �أن م�ؤلفته‪ ،‬مورا�ساكي‬ ‫ومن املده�ش �أن ت�شق «حكاية جينجي» يف �أكرث من‬
‫�شيكيبو‪ ،‬تعني بالن�سبة لليابان ما يعنيه هومريو�س‬ ‫حماولة �إبداعية واحدة لنقلها من اليابانية القدمية‬
‫لليونان‪ ،‬و�شك�سبري الجنلرتا‪ ،‬ودانتي اليطاليا‪،‬‬ ‫�إىل اليابانية احلديثة‪ ،‬طريقها �إىل قوائم �أكرث الكتب‬
‫وجوته لأملانية‪ ،‬و�شعراء التاجن لل�صني‪.‬‬ ‫مبيع ًا يف اليابان‪.‬‬
‫من املحقق �أن هذا التقومي مل ي�أت من فراغ‪ ،‬و�أنه‬ ‫غري �أن علينا االنتباه �إىل الطبيعة ال�رصاعية للعالقة‬
‫ال يعك�س مبالغة وال ت�ضخيماً‪ ،‬و�سواء �أقبلنا وجهة‬ ‫بني هذين التيارين‪ ،‬والتي مل تفقد �سخونتها حتى‬
‫النظر القائلة �إن «حكاية جينجي» بكاملها ت�شكل‬ ‫اليوم‪ ،‬نتيجة لالحتكاك املتواتر بني القائلني ب�أن‬
‫وثبة تخيلية هائلة‪ ،‬مت عربها جتاوز كل ما قبلها‬ ‫«حكاية جينجي» هي الرواية الأوىل يف العامل ومن‬
‫علي نحو نوعي ال جمال لإنكاره‪� ،‬أو ذهبنا �إىل‬ ‫ي�رصون على نفي ذلك و�إنكاره‪ .‬ويكفي ان نتذكر‬
‫‪81‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الكثري مما يدعو �إىل التنب�ؤ بالقفزة النوعية الكبرية‬ ‫تبني وجهة النظر املختلفة القائلة �إن كل ف�صل �أو‬
‫التي �ستحقق عرب «حكاية جينجي»‪ .‬هذه القفزة تبدو‬ ‫جمموعة ف�صول منها تعك�س قفزة تخيلية جزئية‬
‫باهرة بكل املعايري �إىل حد �أن �إدوارد جي �سدن�ستكر‬ ‫باملقارنة مع ما �سبقها‪ ،‬ف�إننا يف نهاية املطاف‬
‫لن يرتدد يف مقدمة ترجمته لـ «حكاية جينجي» �إىل‬ ‫مع «حكاية جينجي» جند �أنف�سنا حيال تطور نوعي‬
‫االجنليزية يف القول �إن مورا�ساكي �أجنزت عربها‬ ‫ال مو�ضع للت�شكك فيه‪ ،‬بحيث �أن الأدب الياباين‬
‫حماولة‪ ،‬ناجحة بح�سب ر�ؤية الكثريين‪ ،‬ل�شيء‬ ‫بعدها �سيختلف متام ًا عما كان عليه قبلها‪.‬‬
‫غري م�ألوف باملرة‪ ،‬وهو �إبداع �أول بطل يف الأدب‬ ‫حتى املنعطف الذي �أطلقت عنده «حكاية جينجي»‬
‫العاملي كله‪ ،‬والذي يتمثل يف �شخ�صية كاورو‪.‬‬ ‫يف وقت ما من الربع الأول من القرن احلادي‬
‫من املهم �أن نتوقف عند تلك الإ�شارة البارعة التي‬ ‫ع�رش امليالدي (عام ‪ 1004‬بح�سب اعتقاد بع�ض‬
‫يتقدم بها ثيودوردي باري حمرر كتاب «م�صادر‬ ‫الباحثني‪ ،‬لكن من دون وجود دليل ن�صي حا�سم‬
‫العرف الياباين من �أقدم الع�صور حتى عام ‪»1600‬‬ ‫ي�ؤكد هذا االعتقاد)‪ ،‬كان الأدب الياباين يت�ألف من‬
‫حيث يلفت نظرنا يف �صفحة ‪ 201‬من اجلزء‬ ‫دواوين �أو جمموعات �أو خمتارات مكتوبة وفق ن�سق‬
‫الأول من هذا الكتاب ال�صادر عن دار ن�رش جامعة‬ ‫الكاجني امل�ستعار من ال�صني‪.‬‬
‫كولومبيا �إىل �أن مورا�ساكي نف�سها تقدم لنا �إ�ضاءة‬ ‫�أما النرث فقد اقت�رص على احلكايات اخلرافية وعدد‬
‫للت�سا�ؤل عما �أرادت قوله يف عملها‪ ،‬وذلك يف واحد‬ ‫حمدود من اليوميات والأعمال املكتوبة ب�أ�سلوب‬
‫من �أقدم الأمثلة على النقد الياباين‪ ،‬وهو الوارد يف‬ ‫املقاطع ال�صوتية اليابانية‪ ،‬املعروفة با�سم الكانا‪،‬‬
‫الف�صل اخلام�س والع�رشين من «احلكاية» بعنوان‬ ‫ومل يقدم �أحد من قبل قط على كتابة رواية‪ ،‬دع جانب ًا‬
‫«الحُ باحب»‪.‬‬ ‫رواية ذات حبكة وا�ضحة وال ينق�صها الرتكيبة يف‬
‫هنا وعلى امتداد �صفحتني من احلوار بني جينجي‬ ‫�آن معاً‪ ،‬وحتفل مبئات ال�شخ�صيات التي يتم ر�صدها‬
‫وتاما كازورا‪� ،‬سنجد مالمح من ر�ؤية مورا�ساكي‬ ‫عرب خمتلف مراحل تطورها‪.‬‬
‫ملا يعنيه الق�ص الإبداعي بالن�سبة لها‪ ،‬فهي ترف�ض‬ ‫بهذا املعنى ف�إن مورا�ساكي كان �أمامها‪ ،‬كم�صدر‬
‫القول �إن هذا القالب الإبداعي ي�ستهدف الرتفيه ال‬ ‫ت�ستلهم منه عملها‪ ،‬تراث بالغ الرثاء من الكتابات‬
‫غريه‪ ،‬وترى فيه قناة ملتابعة امل�صائر‪� ،‬أي لت�أمل‬ ‫التاريخية ال�صينية ومن ال�شعر الغنائي ال�صيني‬
‫املا�ضي وال�ست�رشاف امل�ستقبل‪ ،‬لتجنب الوقوع يف‬ ‫والياباين‪� ،‬أما من ناحية الق�ص الياباين ف�إنها مل‬
‫�رشاك اخلديعة‪ ،‬ثم �إن هذا القالب ر�سالة �إىل �أجيال‬ ‫يكن لديها �إال البدايات التي تو�صل �إليها اليابانيون‬
‫امل�ستقبل حول الطريقة التي يعي�ش بها النا�س‬ ‫�أنف�سهم يف القرن العا�رش امليالدي‪ ،‬حيث مل يكن‬
‫حياتهم‪ ،‬ثم �إن هذا الإبداع �أداة فاعلة يف ردم الهوة‬ ‫الق�ص النرثي مما يعجب به ال�صينيون كثرياً يف‬
‫بني اال�ستنارة والعواطف‪ ،‬ف�ض ًال عن انه يف ذاته‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬ومل يكن مما برعوا يف �إبداعه‪.‬‬
‫يتمتع بقيمته‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن هذه البدايات اليابانية املبكرة مل‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫تكن تفتقر �إىل اجلمال وال الت�ألق‪� ،‬إال �أنه مل يكن فيها‬

‫‪82‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ال�سرية النبوية يف �ضوء النقد اجلديد‪:‬‬
‫قراءة فـي �أعمال‬
‫معروف ال ُّر�صافـي وعلي الدَّ�شتي‪ ،‬ه�شام ج َع ْيط‬
‫ح�سن بزايـن ّية‬
‫باحث واكادميي من تون�س‬

‫م ــقدّمة‪:‬‬
‫يف ال ّتعريف ب�أعمال ال ُك ّتاب ال ّثالثة‪:‬‬ ‫ملاذا كُتب ه�ؤالء ال ّثالثة دون غ ِريهم؟ لقد‬
‫ال�سرية النّبوية‬ ‫تبينّ لنا خالل درا�سة كُتب ّ‬
‫‪ّ � g‬أول هذه الكُتب ت�أليفا هو كتاب‬ ‫احلديثة يف نطاق �أطروحة ال ّدكتوراه(‪ ،)1‬أ� ّن‬
‫املحمدية �أو ح ّل اللّغز املق ّد�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خ�صية‬
‫ال�ش ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّدرا�ساتِ اجلا ّدة غري التقليدية قليلة‪� ،‬إذ خبا‬
‫الر�صايف (ت‪.‬‬ ‫لل�شاعر العِراقي معروف ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلديد يف �أكرث الكتب واملقاالت التي اتّخذت‬
‫ق�صة ت ُدلّ على‬ ‫‪ ،2)1945‬ولهذا الكِتاب ّ‬ ‫ال�سرية م�صا ِد َر لل ّدرا�سة‪ ،‬ونزع‬
‫من مد ّونة ّ‬
‫كونه «بِدعة» يف زمانه ويف زمان َم ْن‬
‫جم ٌع وفري من الباحثني العرب واملُ�سلِمني‬
‫جاء بعده‪� ،‬إذ �أُ ِّرخت مق ّدم ُته ب�سنة ثالث‬
‫�إىل تلبي�س ال ّدرا�سة بالعقيدة‪ ،‬ف�أنتجوا‬
‫وثالثني وتِ�سعِمائة و�ألف (‪،)1933‬‬
‫درا�سات «دينية» تمُ ّجد وتذ ُّب عن �صاحب‬ ‫ٍ‬
‫وال ّن�سخة التي اع ُتمِ دت يف الطِّ باعة‬
‫ال�شرّ يعة‪ .‬و�سعى فريق منهم يف تلخي�ص‬
‫اكتتبها كامل اجلادرجي �سن َة �أربع‬
‫و�أربعني وتِ�سعِمائة و�ألف (‪ّ � ،)1944‬أما‬
‫نتائج‬
‫َ‬ ‫الآثار املدرو�سة دون �أن ي�صلوا �إىل‬
‫تظهر �إ ّال عام‬ ‫ال ّن�رشة الأوىل للكِتاب فلم‬
‫علم ّية تتعلّق ب�سرية حم ّمد التّاريخ ّية �أو‬
‫ْ‬
‫اثنني و�ألفني (‪ !)2002‬وهكذا ظ ّل الكِتاب‬ ‫بن�ش�أة الإ�سالم‪ .‬ونعتقد أ� ّن ما كتبه ال ُكتّاب‬
‫يخرج فيها‬ ‫�أ�سريا ُزهاء �س ّت َة ُعقودٍ ‪،‬مل‬ ‫الثالثة الذين نروم قراء َة �أعمالهم َن أَ�ى عن‬
‫ُ‬
‫َطر الذي كان‬ ‫ال�سائرة‪� ،‬إذ حاول �أ�صحا ُبه �أن‬ ‫نهج الدرا�سات ّ‬
‫ا�س‪ .‬وقد �أدرك �صاح ُبه اخل َ‬ ‫لل ّن ِ‬
‫ا�س من‬ ‫بِ�سِ فره محُ دِقا فقال‪ّ �« :‬أما ُ�سخطُ ال ّن ِ‬ ‫يتّبعوا �سبيال نقد ّيا يف التّعامل مع �أخبار‬
‫�أجل �أ ّنني خالف ُتهم ِل ِوفاقها [احلقيقة]‪،‬‬ ‫«عمودها»‬ ‫ال�سرية‪ ،‬وراجعوا �أ�صوال من َ‬ ‫ّ‬
‫الف‬
‫و�صارحتهم يف بيانِها َجريا على خِ ِ‬ ‫ال�سائر‪ ،‬فجاءت ُم ؤ�لّفات ُهم « ِب ْدعة» بني‬
‫ّ‬
‫عادات �سقيمة وتقاليد‬ ‫ٍ‬ ‫جروا عليه من‬ ‫ما ْ‬ ‫ال ّدرا�سات‪ ،‬فهل هي كذلك حقيق ًة؟‬

‫‪83‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املحمدية يف مكّة (‪)2007‬‬ ‫ّ‬ ‫بـتاريخية الدعوة‬
‫ّ‬ ‫و�سمه‬ ‫فل�ست ُمبالِيا به‪ ،‬وال ُمك ِرتثا له ما دمت ال‬ ‫ُ‬ ‫واهِ ية‪،‬‬
‫وفل�سفيا‬
‫ّ‬ ‫تاريخيا‬
‫ّ‬ ‫(‪ .)6‬وقد جاء الكِتاب ال ّأول نظرا‬ ‫�أطلب مبا �أكتب �إال ر�ضا احلقيقة‪:‬‬
‫نبوة‬ ‫يف ق�ضايا ت ّت�صل مباهية القر�آن وخ�صائ�ص ّ‬ ‫َل َع ْم ُرك � ّإن احل َُّر ال َي َت َّ‬
‫قي ُد‬
‫ال�سابقة‪ّ � ...‬أما الكِتاب ال ّثاين‬ ‫حممد بني �سائر النبوات ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف املُف ِّن ُد‬‫�شاء َّ‬ ‫�أ َال فل َي ُق ْل ما َ‬ ‫ ‬
‫إ�سالمية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫عوة‬‫د‬‫ّ ّ‬‫لل‬ ‫ة‬ ‫اريخي‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫القراءة‬ ‫عليه‬ ‫غلبت‬ ‫فقد‬ ‫وي�س ّبون‬ ‫وي�صخبون‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫�سيغ�ضبون‬ ‫َ‬ ‫أعلم �أ ّنهم‬ ‫و�إنيّ ل ُ‬
‫ال�سرية‪،‬‬‫اريخية يف ّ‬
‫ّ‬ ‫�إذ بد أ� الكاتِب بتقومي امل�صا ِد ِر ال ّت‬ ‫وي�ش ُتمون‪ ،‬ف�إن كنت يف قيد احلياة‪ ،‬ف�س ُي�ؤذيني ذلك‬
‫ثم خا�ض يف تف�سري بنية املجتمع املكّي حني ظهر‬ ‫ّ‬ ‫منهم‪ ،‬ولك ّني �س�أحتمل الأذى يف �سبيل احلقيقة [‪]...‬‬
‫حممد‪ .‬وفح�ص عن �أمر املراحل الأوىل من ال ّدعوة‬ ‫ّ‬ ‫ميتا فال ينالني من �سِ بابهم خري‪ ،‬كما‬ ‫و�إن كنت ْ‬
‫كالهجرة �إىل احلب�شة والتهجري �إىل يرثب‪ ...‬فهل‬ ‫ِ‬ ‫حتى‬‫ِتاب ّ‬ ‫ال ينالهم منه خري»(‪ .)3‬فماذا حوى الك ُ‬
‫الر�صايف‬ ‫ال�شاعِ ر معروف ّ‬ ‫مل� ّؤرخ ما �أغفله ّ‬ ‫�أ�صاب ا ُ‬ ‫ام؟ وهل ت�س ّنى‬ ‫الكاتب مب�ص ٍري َ�ص َد َق ْته ال ّأي ُ‬ ‫ُ‬ ‫يتنب�أَ له‬
‫ّ‬
‫الرابع من القرن العِ�رشين؟ وهل �أدرك‬ ‫يف العقد ّ‬ ‫أتي‬ ‫َ‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫العربي‬ ‫أدب‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫أ�ستاذ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫اعر‬ ‫ال�ش‬
‫ّ‬ ‫�صايف‬ ‫للر‬
‫ّ‬
‫تاريخية مامل ُيد ِركه رجلُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية قراء ًة‬
‫يف قراءة ّ‬ ‫الرابع من القرن الع�رشين مبا مل ي� ِأت به‬ ‫ّ‬ ‫قد‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫يف‬
‫ال�سيا�سة والفكر الإيراين علي ال َّد�شتي؟ وما هي‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية؟‬‫الأوائل يف ّ‬
‫موارد االئتالف‪ ،‬ومظاهر االختالف بني ه�ؤالء‬ ‫أربع و�سبعني وتِ�سعِمائة‬ ‫‪� g‬صدر ببريوت �سن َة � ٍ‬
‫حممد‪ ،‬وقد ُحبرِّ فيها‬ ‫ّ‬ ‫ال ّناظرين اجلُدد يف �سرية‬ ‫و�ألف (‪ )1974‬كِ تاب باللّغة الفار�سية ُو�سِ م بـبي�ست‬
‫خالل ال ُقرون اخلالية َع�رشات ال ّت�صانيف؟‬ ‫مل ؤ�لِّف‪ ،‬وتاريخ‬ ‫و�سه �سال‪ ،‬وقد ُن�شرِ عاطِ ال من ا�س ِم ا ُ‬
‫ام ب�أخبار هذا الكِتاب‬ ‫ثم �أتت ال ّأي ُ‬ ‫ال ّن�رش ومكانه‪ّ .‬‬
‫املُنطلقات املنهج ّية‪:‬‬ ‫نوان‪ 23 :‬عاما‪،‬‬ ‫العربية ب ُع ِ‬ ‫ّ‬ ‫رجم �إىل‬ ‫و�صاحبه‪� ،‬إذ ُت ِ‬
‫خفي‬
‫لك ّل كاتب من ال ُك ّتاب ال ّثالثة منهج �رصيح �أو ّ‬ ‫وع ِز َي �إىل الكاتب الإيراين علي ال َّد�شتي (ت‪1981 .‬؟)‬ ‫ُ‬
‫الر�سول‪ ،‬وال �شكّ � ّأن ال ّنفا َذ‬
‫قاده يف قراءة �سرية ّ‬ ‫ُ دلّ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫بريوت(‪.)4‬‬ ‫هو‬ ‫ه‬ ‫شرْ‬ ‫�‬ ‫ن‬ ‫مكان‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫قال‬ ‫الذي‬
‫ير ّد‬
‫�إىل معامل املنهج ال ّذي حكم �أعمالَ اجلماعة ُ‬ ‫النبوة �أي ثالثة وع�رشين‬ ‫ّ‬ ‫ال ُعنوان بداه ًة على ُعمر‬
‫متفرق ًة يف كُ تبهم �إىل �أ�صول معلومة‪،‬‬ ‫نتائج كثري ًة ّ‬
‫َ‬ ‫ثالث‬ ‫حممد كما ا�شتهر يف الأخبار َ‬ ‫ق�ضى منها ّ‬ ‫عاما‪ّ ،‬‬
‫ُراجع لأعمالِهم من توجيه نظره �إىل تلك‬ ‫ويمُ كِّن امل ِ‬ ‫�سنوات باملدينةِ‪ .‬وقد جاوز‬ ‫ٍ‬ ‫َع�شرْ َ َة �سن ًة مبكّة وع�شرْ َ‬
‫يغر َق يف الفُ�صول‪ .‬لكن هل احتكم‬ ‫الكليات دون �أن َ‬ ‫ّ‬ ‫خ�ص�ص ف�صال لل ّنظر‬ ‫بحث الكاتب هذه الفَرتة‪� ،‬إذ ّ‬
‫ال ُك ّتاب الثالثة �إىل �أ�صول واحدة على اختِالف‬ ‫حممد (الف�صل‬ ‫يف م�صري اجلماعة الإ�سالمية بعد ّ‬
‫الع�رص واملِ�رص وال ّثقافة؟ فمِ ن ه�ؤالء َمن غلبت‬ ‫حممد»)‪ .‬وينـزع ال َّد�شتي يف‬ ‫اخلام�س الأخري «بعد ّ‬
‫كال�شاعِ ر‬
‫قليدية ّ‬ ‫إ�سالمية ال ّت ّ‬
‫ّ‬ ‫العربية ال‬
‫ّ‬ ‫عليه ال ّثقافة‬ ‫حممد نزعة «عقالنية» مثلما تر ّدد يف‬ ‫قراءة �سرية ّ‬
‫ت�شبع بال ّثقافة‬ ‫ّ‬ ‫الر�صايف‪ ،‬ومنهم من‬ ‫معروف ّ‬ ‫غري مو�ضع من كتابه‪ ،‬ف�إىل �أين قاده هذا املنهج؟‬
‫مل� ّؤرخ ال ّتون�سي‬ ‫والفل�سفية احلديثة كا ُ‬
‫ّ‬ ‫اريخية‬
‫ّ‬ ‫ال ّت‬ ‫وملاذا تخ ّفى حني ن�رش ال ِكتاب‪ ،‬وهل فيه من الآراء‬
‫املُعا�صرِ ه�شام ج َع ْيط‪ ،‬وثا ِلثُهم كاتب �إيراين اكتنفه‬ ‫اجلديدة ما يدعو فعال �إىل ذلك؟‬
‫ف�ضاء ثقايف �إ�سالمي �شيعي ُعموما‪ ،‬لكن غري‬ ‫‪ّ � g‬أما ثالث ال ّثالثة من ال ُك ّتاب فلي�س ب�شاعِ ٍر‬
‫عربي‪� .‬أفال يكون َجم ُعنا تخليطا‪ ،‬وح�شرْ ا لأعالم‬ ‫مل� ّؤرخ التون�سي ه�شام‬ ‫وال رجل �سيا�سة و�إنمّ ا هو ا ُ‬
‫لل�سرية؟‬ ‫تباينت م�صادر ثقافتهم ومناهج در�سهم ّ‬ ‫جعيط‪ ،‬وهو باحث جامعي مرموق يف الأو�ساط‬
‫قائم بني بع�ض الأ�صول‬ ‫�إ ّننا نعتقد � ّأن تناظُ را َّما ٌ‬ ‫أكادميية(‪ ،)5‬ن�رش يف �أواخر القرن الع�رشين كِ تابه‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫ال ّتي اعتمدوا عليها مع اختِالف يف طرائق اال�ستِناد‬ ‫والنبوة‬‫ّ‬ ‫النبوية‪ ،‬الوحي وال ُقر�آن‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية‬ ‫ال ّأول يف ّ‬
‫النبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�إليها‪ ،‬و�إجرائها على تاريخ‬ ‫آخر‬
‫ثم ث ّنى بعد ب�ضع �سنوات بكِتاب � َ‬ ‫(‪ّ ،)1999‬‬
‫‪84‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ح�سا�س ج ّدا لأ ّنه يلت�صق باملاورائي‬ ‫يف مو�ضوع ّ‬ ‫‪ 1‬ـ ال ِقراءة ال ّتاريخ ّية ّ‬
‫لل�سرية ال ّنبويّة‪:‬‬
‫وي ّت�صل باملُعتقد‪ ،‬وال ّتاريخ �إنمّ ا هو عِ لم و�ضعي‬ ‫لل�سرية حماولة الكُتاب‬
‫و�أر�ضي يتناول فعاليات الأفراد واملُجتمعات‬ ‫اريخية ّ‬
‫ّ‬ ‫نعني بالقِراءة ال ّت‬
‫حممد داخل ال ّتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّثالثة �أن ُينزلوا تاريخ‬
‫ويخرج عن دائرة الإميان‬ ‫ُ‬ ‫الب�رشية يف املا�ضي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ينية‪...‬‬
‫أمر يكون �أكثرَ َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫�شكّ‬ ‫وال‬ ‫ُعتقد»(‪.)11‬‬ ‫وامل‬ ‫قافية وال ّد ّ‬ ‫ِماعية وال ّث ّ‬‫العام بوجوهه االجت ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِلمية‬
‫«ح�سا�سيةً» �إذا كان الكات ُِب ُم�سلِما‪ ،‬و ُيخاطب‬ ‫وهذه الغاية تهفو �إىل �إدراكها ال ّدرا�سات الع ّ‬
‫ّ‬ ‫تتدبرها باعتِبارها‬
‫إ�سالم اعتِقاد �أو‬ ‫املُعا�صرِ ة لتاريخ الأديان‪� ،‬إذ ّ‬
‫عربيا م�سلِما يف ُمعظمه‪َ � ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُجمهورا‬
‫الب�رشية(‪.)7‬‬ ‫�أ�شكاال مق َد�سة «معي�شة» يف تاريخ‬
‫إ�سالم ثقافة تكتنف الإن�سان‪ ،‬و ُت�سهم يف تكوينه‬ ‫ّ‬
‫� َ‬ ‫وعوا‬
‫ال ّنف�سي‪ ،‬و ُت�شكِّل مخِ يالَه‪ ...‬و�إىل هذه املُع�ضلة‬ ‫مقا�ص َد العِلم �سواء َ‬ ‫ِ‬ ‫فمق�ص ُد اجلماعة ُيوافق‬
‫ذلك‪� ،‬أم جاء اجتِها ُدهم مبعزل عن ت�أثري ال ّثقافة‬
‫حممد عبد احلي‬ ‫ّ‬ ‫مل� ّؤرخ املِ�رصي‬ ‫ِلمية �أ�شار ا ُ‬ ‫الع ّ‬ ‫مل� ّؤر َخ هِ �شام جعيط هو‬ ‫احلديثة‪ .‬وال َيخفى � ّأن ا ُ‬
‫�شعبان‪ ،‬بل جعل احلديث عنها فاتحِ ة كِ تابه يف‬
‫ت�شبع باملناهج احلديثة‬ ‫الوحيد بني اجلماعة الذي ّ‬
‫ال ّتاريخ الإ�سالمي(‪.)12‬‬
‫ال�سرية‪� ،‬إذ‬ ‫يف درا�سة ال ّتاريخ والأديان‪ ،‬و�أحال على م�صادرها‬
‫لقد خرج ال ّتاريخ يف القدمي من ُ�صلب ّ‬ ‫وح ْ�س ُب القا ِرئ‬
‫ال�س ِري والأخبار»‪ ،‬لك ّنه �أ�صبح بعد‬ ‫حممد‪َ .‬‬ ‫ّ‬ ‫كتابيه عن‬ ‫ْ‬ ‫أوروبية يف‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫�سمى «عِ َلم ّ‬ ‫كان ُي َّ‬
‫لكن‬
‫أعم‪ ،‬و�أ�ضحت هي فرعا منه‪ّ .‬‬ ‫ذلك �أ�شملَ منها و� َّ‬ ‫�أن ينظُ ر يف هوام�ش الكِتاب ال ّأول وال ّثاين ل َيظْ َ‬
‫فر‬
‫يتحركُ يف ف�ضائه املعريف‬ ‫ق�سيم لل ُعلوم ال‬ ‫� ة‪ ،‬و�أ�سماء‬ ‫ب�أ�سماء �أعالم ال ّثقافة احلديثة واملُعا صرِ‬
‫ّ‬ ‫هذا ال ّت َ‬
‫الفل�سفية‬ ‫املُح َدثون‪� ،‬إذ �أ ّثرت يف ثقافتهم ال ّثورة‬ ‫ُجمهور وا�سع من املُ�ست� ِرشقني‪ ،‬ح ّتى َمن كتب ب� َأخ َرة‬
‫ّ‬
‫الت �أغلب ال ُعلوم بال ّدين‪.‬‬ ‫ِلمية التي قطعت ِ�ص ِ‬ ‫ري معروفة على نطاق وا�سع مثل‬ ‫وال تزال �آرا�ؤه غ َ‬
‫والع ّ‬
‫ر�سخت هذه ال ّثورة كما ا�شتهر منذ ع�رص‬ ‫الر�صايف يف‬ ‫ك‪ .‬لك�سبورغ (‪ّ � .)8()Ch. Luxenberg‬أما ّ‬
‫وقد َ‬
‫الر�صايف‬ ‫زمانه وو�سطه الذي عا�ش فيه فلم ُي ِ�صب من ال ّثقافة‬
‫امن َع�شرَ َ ‪ .‬ونعتقد � ّأن ّ‬
‫الأنوار يف القرن ال ّث َ‬
‫وال َّد�شتي وجعيط حاولوا جميعا �أن ُيد ِرجوا جت ِربة‬ ‫رج َم منها مثلما �سيتبينّ ُ يف‬ ‫بع�ض ما ُت ِ‬ ‫احلديثة �إال َ‬
‫النبوة يف ال ّتاريخ‪،‬‬ ‫مو�ضعه‪ ،‬وهذا ال ّنزر الذي �أ�صاب ال ُيحيلُ عليه يف‬
‫ّ‬
‫�سرية‬ ‫وقر�أوا‬ ‫دية‪ ،‬و�إنمّ ا دلّتنا عليه قراء ُة‬ ‫ُحم ّ‬‫ال�شخ�صية امل ّ‬ ‫ّ‬ ‫هوام�ش‬
‫حممد يف �ضوء‬ ‫ّ‬ ‫تاريخية �أي�ضا! وكذلك يق ّل االعتِماد‬ ‫ّ‬ ‫كتابه قراء ًة‬
‫مكوناته‪،‬‬‫ّ‬ ‫�رصاع‬ ‫دية احلديثة يف كِ تاب الإيراين‬ ‫املحم ّ‬
‫ّ‬ ‫على ال ّدرا�سات‬
‫ال حدثا ُمتعالِيا‬ ‫علي ال َّد�شتي(‪.)9‬‬
‫عنه‪ .‬وهذه قراءة‬ ‫ال�صلة باملُق َّد ِ�س‪،‬‬ ‫النبوية مو�ضوع �شديد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية‬
‫� ّإن ّ‬
‫لل�سرية‪،‬‬
‫دينية ّ‬ ‫ّ‬ ‫غري‬ ‫ب�شخ�صية �صاحِ ب ال�شرّ يعة‪ .‬وكم كانت‬ ‫ّ‬ ‫لأ ّنها تتعلّق‬
‫تقليدية و�إن‬‫ّ‬ ‫وغري‬ ‫معرف ُتها �أ�صال من �أ�صول ال ّديانة لدى كثري من‬
‫درج ُة‬ ‫اختلفت‬ ‫مل� ّؤرخني قدميا‪ ،‬ويف هذا املعنى‬ ‫ال�سري وا ُ‬ ‫�أرباب ّ‬
‫«تاريخيتها» من‬ ‫ّ‬ ‫النبوية‬
‫ّ‬ ‫ال�سرية‬‫ال�سخاوي (ت‪902 .‬هـ)‪ّ �« :‬إن ّ‬ ‫نقل ّ‬
‫كاتب �إىل �آخر‪.‬‬ ‫مما يحِّ ق على املرء امل�سلم‬ ‫بخ ُ�صو�صها منه ّ‬ ‫ُ‬
‫لي�س غر�ضنا يف‬ ‫حفظُ ها‪ ،‬ويجب على ذي ال ّدين معرف ُتها»(‪ّ � .)10‬أما‬
‫هذا البحث � ْأن‬ ‫عِ لم ال ّتاريخ فهو عِ لم و�ضعي وقد �أ�شار جعيط �إىل‬
‫ُنحيطَ بك ّل ما قاله‬ ‫ال�سرية‬ ‫اريخية ال�صرِّ فة ملو�ضوع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُع�رس ال ّدرا�سة ال ّت‬
‫ال ُك ّتاب ال ّثالثة يف‬ ‫تاريخية بحتة‬ ‫ّ‬ ‫�إذ قال عن كتابه ال ّثاين �إ ّنه‪« :‬درا�سة‬
‫‪85‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الهجرة (‪580‬هـ) �أو ُبعيدها‬ ‫ثمانني وخم�سِ مائة من ِ‬ ‫حممد‪ ،‬فذلك ُيظف َُر به يف كتبهم ذاتها‪ ،‬و�إنمّ ا‬ ‫�سرية ّ‬
‫تقريب تاريخي ال يقوم على‬ ‫ٌ‬ ‫ب�سنة �أو �سنتني(‪،)16‬‬ ‫ال�سرية ما‬ ‫�سنحاول � ْأن ن�ست�صف َِي من مقاالتهم يف ّ‬
‫جدت �سبيلُ ال�شكّ العِلمي التي‬ ‫�شواهد ما ّدية‪ .‬وقد َو ْ‬ ‫وخروجا عن م�ألوف املقاالت يف‬ ‫نرى فيه جديدا‪ُ ،‬‬
‫عف‬ ‫الر�صايف َم ْن �أقام احل ُّجة على َ�ض ِ‬ ‫اخططّ ها ّ‬ ‫خا�صة واملُ�سلِمني‬ ‫ّ‬ ‫الر�سول لدى العرب‬ ‫ما كُ تِب عن ّ‬
‫حممد وعام الفِيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرواية التي تربِط بني والدة‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقيم ذلك �إال ب�أ�سلوب‪ ،‬فارت�أينا �أن‬ ‫َ‬ ‫عامة‪ .‬ولن‬ ‫ّ‬
‫مل� ّؤرخ جعيط � ّأن حملة �أبرهة على احلب�شة‬ ‫�إذ ُيقرر ا ُ‬ ‫ال�سرية املعروف‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هيكل‬ ‫ِعني‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫ُّ‬ ‫م‬ ‫آراءهم‬ ‫�‬ ‫ى‬ ‫نتق�ص‬
‫ّ‬
‫ني وخم�سِ مائة (‪547‬م) َح َ�س َب‬ ‫�سبع و�أربع َ‬ ‫وقعت �سنة ٍ‬ ‫حممد قبل البِعثة‪ .‬ومب َع ٌث يبد أ�‬ ‫ُمبتد�أ‪ ،‬يتعلّق بحياة ّ‬
‫ال ّنقو�ش(‪.)17‬‬ ‫النبوة‪ ،‬وينتهي بنهاية الفَرتة املكّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعوار�ض‬
‫تحرر من �أ�رس‬ ‫الر�صايف يف كتابه عن روح ُم ِّ‬ ‫ُي�صد ُِر ُّ‬ ‫والهجرة �إىل يرثب يف �سنة اثنتني وعِ �رشين و�سِ ِّتمائة‬ ‫ِ‬
‫ال�سرية قدميا‬ ‫اال�ستن�ساخ وهو داء �أ�صاب كتابة ّ‬ ‫النبي باملدينة‬ ‫ّ‬ ‫ومغاز‪ ،‬تتعلّق بحياة‬ ‫ٍ‬ ‫(‪622‬م)‪.‬‬
‫وحديثا‪ ،‬ولع ّل هذه ال ّنزع َة يف تفكريه هي التي‬ ‫ال�سنة احلادي َة َع�شرْ َ َة (‪11‬هـ) من‬ ‫ح ّتى وفاتِه يف ّ‬
‫علمية مفيدة يف كتابته لتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫«حدو�سا»‬ ‫�أنتجت ُ‬ ‫م�صادر مكتوبة‬ ‫َ‬ ‫الهجرة‪ .‬وقد ورد هذا «الهيكل» يف‬ ‫ِ‬
‫حممد‪ ،‬رغم � ّأن الكات َِب مل ي�ستطِ ْع �أن ُيقِيم الربهان‬ ‫ّ‬ ‫املكية‬
‫ّ‬ ‫ُمت� ّأخرة عن زمن ال ّدعوة‪ ،‬و�أنتجت الفَرتتان‬
‫على تلك احلُدو�س يف كثري من الأحيان لعدم‬ ‫واملدنية �رشيعة‪ ،‬كان لل ُك ّتاب يف م�سائلَ منها �آراء‬ ‫ّ‬
‫تاريخية حديثة متينة‪ ،‬ولكونه كتب‬ ‫ّ‬ ‫امتِالكه لثقافة‬ ‫خم�صو�صة‪.‬‬
‫تطورا‬ ‫املحمدية يف الغرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتطور ال ّدرا�سات‬ ‫قبل �أن ّ‬ ‫الر�صايف عن حدود اخلِطاب ال ّتمجيدي‬ ‫يخرج ّ‬
‫كبريا منذ ال ّن�صف ال ّثاين من القرن العِ�رشين‪ .‬وال‬ ‫الر�سول عام الفيل‪ ،‬و ُيق َّد ُر‬ ‫القدمي الذي ُي�سلِّم مبيالد ّ‬
‫مل�ؤمن املُقلِّد‬ ‫الر�صايف �إميان ا ُ‬ ‫غراب َة يف �أن ي�صد َِم ّ‬ ‫عاد ًة ب�سنة �سبعني وخم�سِ مائة (‪570‬م)‪ ،‬ويرى‬
‫حممد‪ ،‬رغم � ّأن‬ ‫للنبي ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إذ ُيق ّد ُم له �صورة غري ُمطّ ِردة‬ ‫النبوة‬‫ّ‬ ‫حممد قبل‬ ‫وايات التي تتعلّق بحياة ّ‬ ‫الر ِ‬ ‫� ّأن ّ‬
‫�ض من ال ّديانة بقدر ما‬ ‫ما يقوله يف موا�ضع ال ي ُغ ّ‬ ‫يهتموا‬ ‫ا�س مل ّ‬ ‫«مظلِمة»‪ ،‬يط َب ُعها اال�ضطِ راب ل ّأن ال ّن َ‬ ‫ُ‬
‫اريخية التي �شكلّها املُ�سلِمون‬ ‫ّ‬ ‫ال�صورة ال ّت‬ ‫�ض من ّ‬ ‫ي ُغ ّ‬ ‫به �إال بعد وفاته بزمن طويل‪ ،‬وهكذا ا�ضطربت‬
‫الب�رشية التي‬ ‫ّ‬ ‫جاو ُز احلُدود‬ ‫للنبي‪ ،‬وهي منوذج ُي ِ‬ ‫ّ‬ ‫الروايات التي جاءت يف‬ ‫روايات املولد‪« :‬فانظُ ْر �إىل ّ‬
‫نف�سه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫آن‬ ‫�‬ ‫ر‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫عليها‬ ‫ن�ص‬‫ّ‬ ‫جت ُد فيها اختِالفا بالِغا �إىل‬ ‫عام ِوالدتِه مثال‪ ،‬ف�إ ّنك ِ‬ ‫ِ‬
‫الر�صايف‬ ‫ُّ‬ ‫قاد‬ ‫اريخ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫النبوي‬
‫ّ‬ ‫التجربة‬ ‫تنـزيلَ‬ ‫� ّإن‬ ‫يت�ضمنها اختِالفُهم‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫ة‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫امل‬ ‫وجتد‬ ‫ً‪،‬‬
‫ال‬‫قو‬ ‫�أح َ َ شرَ َ‬
‫�‬ ‫ع‬ ‫د‬
‫النبوة خامِ لَ‬ ‫ّ‬ ‫«حممدا كان قبل‬ ‫ّ‬ ‫�إىل الإقرار ب� ّأن‬ ‫م�س َع�شرْ َ َة �سنةً‪ ،‬وما‬ ‫ترتاوح بني ما قبل الفِيل ب َِخ َ‬
‫�شتهر وال معروف عند العرب(‪،)18‬‬ ‫ري ُم ِ‬ ‫ال ّذكر» غ َ‬ ‫ِالف‬
‫جاوز اخت ُ‬ ‫ني �سنةً»(‪� .)13‬أي ُي ِ‬ ‫بع َده ب�سبع َ‬
‫ال�سرية‬ ‫إ�سالمية يف كُ تب ّ‬ ‫ّ‬ ‫وايات ال‬ ‫الر ِ‬ ‫وهذا ُيناق�ض ّ‬ ‫النبي‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫مل ّد َة التي عا�شها‬ ‫الرواية يف املولد ا ُ‬ ‫ِّ‬
‫اجلاهلية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وال ّتاريخ �إذ تتح ّدث عن م�آثره يف‬ ‫ال�سرية وال ّتاريخ‬ ‫نيف و�س ّتون �سنة يف �أغلب كتب ّ‬ ‫ٌ‬
‫وحتكيمه حني اختلف العرب يف �إعادة ُبنيان‬ ‫الإ�سالميني(‪.)14‬‬
‫الكعبة‪ .)19(...‬وينده�ش القا ِرئ عندما يجد عند‬ ‫الر�صايف يف روايات املولِد ي�ست ِن ُد �إىل تلك‬ ‫� ّإن �شكّ ُّ‬
‫جعيط وغريه من ال ُعلماء الذين جا�ؤوا بعد الر�صايف‬ ‫منهج ّيا متينا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الروايات نف�سِ ها‪ ،‬وهو ما يجعله �شكّا‬ ‫ّ‬
‫نتائجه و ُتناظِ ُرها حتى يف اللّفظ‪� ،‬إذ‬ ‫َ‬ ‫نتائ َِج ُتقا ِرب‬ ‫حممد‪.‬‬ ‫قرر تاريخا بعينه لوالدة ّ‬ ‫رغم � ّأن �صاحِ َبه مل ُي ّ‬
‫حممدا خرج من هذا‬ ‫ُي�سائِل جعيط نف�سه «كيف � ّأن ّ‬ ‫وقد �أ�صاب �إذ مل يفعلْ‪ ،‬فلي�س بني َي َد ْي الباحِ ث يف‬
‫�شابي‬‫الو�سط اخلامل �أي بني ها�شم»(‪ .)20‬و ُتر ّدد ج‪ّ .‬‬ ‫النبي �إال «الكلمات» �أي‬ ‫عهده‪ ،‬وقبلَه وبع َده من تاريخ ّ‬
‫ِالف اللّ�سان(‪.)21‬‬ ‫الر�أي مع اخت ِ‬ ‫نف�س ّ‬ ‫(‪َ ) J. Chabbi‬‬ ‫حممد(‪.)15‬‬ ‫امل�صادر املكتوبة بعد قرنني من حياة ّ‬
‫لكن البالذري (ت‪279 .‬هـ) ‪-‬وهو م�صدر من‬ ‫الر�سول �سنة‬ ‫وما يذهب �إليه املُ�ست� ِرشقون من والدة ّ‬
‫‪86‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫كونه‪-‬ح�سب ُجمهور‬ ‫َ‬ ‫اريخية من‬ ‫ّ‬ ‫ِلمية ال ّت‬ ‫الع ّ‬ ‫�سميها جعيط‬ ‫رتمة التي ُي ّ‬ ‫امل�صادر الأربعة املُح َ‬
‫الباحِ ثني‪ُ -‬يجلّي عالقة الإ�سالم بامل�سيحية‬ ‫حممد»‪ -‬يتح ّدث عن �سيادة بني ها�شم‪،‬‬ ‫«�أناجيل ّ‬
‫قية وتعاليمها‪ ،‬وقد �أجحف بع�ض ال ُعلماء‬ ‫ال�شرّ ّ‬ ‫وال�سقاية لها�شِ م‪،‬‬ ‫الرفادة ِّ‬ ‫و ُي�رس ها�شم‪« :‬ملّا �صارت ِّ‬
‫الغربيني يف هذا االتجّ اه حني اعتربوا � ّأن الإ�سالم‬ ‫للرفادة ماال عظيما‪،‬‬ ‫كان ُيخ ِر ُج من مالِه ك ّل �سنة ِّ‬
‫ام ولي�س مب ّك َة �أو املدينة(‪ .)30‬وبعيدا‬ ‫بال�ش ِ‬
‫ّ‬ ‫ن�ش�أ‬ ‫وكان �أي�سرَ َ ُقري�ش»(‪ ،)22‬و ُيقر جعيط نف�سه بتالزم‬
‫حممد قبل‬‫عن مجُ ادلة هذه الأطروحات ف� ّإن �أ�سفار ّ‬ ‫الثرّ اء وال�شرّ ف يف املجتمع املكّي(‪!)23‬‬
‫النبوة ُتفيد يف ك�شف عالقة الإ�سالم بال ّديانات‬ ‫ّ‬ ‫هامة تتعلّق‬ ‫ق�ضية ّ‬ ‫الر�صايف �إ�شارة لبيبة �إىل ّ‬ ‫ُي�شري ّ‬
‫املُجاورة‪ ،‬و�ضمن هذا املنحى يتن ّزل عمل ج‪� .‬شابي‬ ‫أ�سفاره‪� ،‬إذ يقول‪:‬‬ ‫حممد قبل البِعثِة وهي � ُ‬ ‫ّ‬ ‫بحياة‬
‫الأخري‪ :‬تفكيك رموز ال ُقر�آن‪� ،‬صور كِ تابية ب�أر�ض‬ ‫ت�ستحق العِناية بدر�سِ ها‬ ‫ّ‬ ‫أ�سفار ُه هذه هي التي‬ ‫«ف� ُ‬
‫العرب(‪.)31‬‬ ‫حق املع ِرفة‪� ،‬إذ بها وحدها‬ ‫ومعرفة تفا�صيلها ّ‬
‫مرة �أخرى‪� ،‬إذ‬ ‫مل� ّؤرخ املُعا�رص ّ‬ ‫ال�شاعر مع ا ُ‬ ‫يلتقي ّ‬ ‫النبوة‬
‫حممد قبل ّ‬ ‫تنك�شف لنا �أ�رسار كثرية من حياة ّ‬
‫ح�صلَ‬
‫الر�سالة َ‬ ‫الر�صايف �إىل القول � ّإن ُعموم ّ‬ ‫ذهب ّ‬ ‫ولك ّنا ‪-‬مع الأ�سف‪ -‬نراها غام�ضة �أي�ضا كحياته‬
‫ملحمد باملدينة بعد فتح مكّة(‪ .)32‬و ُي�ؤكّ د جعيط‬ ‫ّ‬ ‫النبوة»(‪ .)24‬ويرى الكاتب � ّأن ما جاء يف كتب‬ ‫قبل ّ‬
‫الر�أي بقوله‪ّ �« :‬إن ق�ص�ص الأنبياء والإحلاح‬ ‫نف�س ّ‬ ‫ال�سرية من �أ�سفاره منقو�ص(‪ .)25‬ولع ّل توجيه ال ّنظر‬ ‫ّ‬
‫آنية دعوة‬ ‫على «اللّ�سان العربي» ُت ِربز � ّأن ال ّدعوة ال ُقر� ّ‬ ‫أهم من حماولة �ضبطها‪ ،‬مادام‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫أ�سفار‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ألة‬ ‫س�‬‫م�‬ ‫إىل‬ ‫�‬
‫نبيهم‪ ،‬وهذا �أ�سا�سي يف الفَرتة‬ ‫«وطنية» �إذ لك ّل قوم ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكاتِب ال ميتلك موارد تمُ كّنه من ذلك ومل ميتلكها‬
‫ا�ستقر‬
‫ّ‬ ‫ملا‬ ‫الفة‬ ‫مخُ‬ ‫من‬ ‫فيه‬ ‫ما‬ ‫هذا‬ ‫ويف‬ ‫ّية»(‪.)33‬‬ ‫املك‬ ‫َم ْن جاء بعده‪ ،‬ف�إذا كان الباحِ ث يف تاريخ الإ�سالم‬
‫حممد َعالمَ ّية يف‬ ‫ال�ضمري الإ�سالمي من � ّأن دعوة ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫مادية من عِ مارة �أو نقو�ش �أو �سِ كّة‪...‬‬ ‫ال يجد �شواهد ّ‬
‫�سميناه‬‫ربز البون بني ما ّ‬ ‫املب َد�إ واملُنتهى‪ .‬وههنا ي ُ‬ ‫حممد؟‬ ‫فكيف �سيظفر بها لكتابة تاريخ ّ‬
‫لل�سرية‪ ،‬وما يمُ كن ت�سمي ُته قراءة‬ ‫تاريخية ّ‬
‫ّ‬ ‫قراءة‬ ‫هامة ل ّأن ال ّتجارة التي امتهنها‬ ‫� ّإن م�س�ألة الأ�سفار ّ‬
‫ال�سرية‬
‫إميانية‪ .‬و�أغلب ما كتبه املُ�سلِمون يف ّ‬ ‫دينية � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سفر»(‪ .)26‬وقد‬ ‫النبوة «من �أقوى �أ�سباب ّ‬ ‫حممد قبل ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�صنف ال ّثاين من‬ ‫خالل الع�رص احلديث يتن ّزل يف ّ‬ ‫هامة � ّأن ال ِّتجارة وال ّديانة‬ ‫تاريخية ّ‬ ‫ّ‬ ‫بينت �أبحاث‬ ‫ّ‬
‫القِراءة‪.‬‬ ‫«كانتا يف � ّأيام ما قبل الإ�سالم �أمرين م ّت�صلني‪ ،‬و� ّأن‬
‫ُي ِل ّح الكاتب الإيراين علي ال َّد�شتي على �إدراج ال�شرّ يعة‬ ‫إحداهما كان ُي�ؤ ّدي �إىل جناح الأخرى»(‪.)27‬‬ ‫جناح � ُ‬
‫الإ�سالم ّية يف تاريخ‬ ‫وي ُدل ُعنوان كتاب املُ�ست� ِرشقة ب‪ .‬كرون داللة‬
‫الأديان‪ ،‬و ُيبينّ يف غري‬ ‫املكية و ُبزوغ‬ ‫ّ‬ ‫قاطِ عة على هذا ال ّتال ُزم‪ :‬ال ّتجارة‬
‫مو�ضع � ّأن ت�رشيعات‬ ‫الر�صايف‬ ‫الإ�سالم(‪ .)28‬ويذهب جعيط �أبع َد من ّ‬
‫«م�ستم ّدة � ّإما من‬ ‫املدينة ُ‬ ‫ُهمة‬ ‫يف تف�سري م�س�ألة الأ�سفار �إذ يقول‪« :‬ال ّنقطة امل ّ‬
‫ال ّت�رشيعات اليهود ّية‪،‬‬ ‫حممد لل ِّتجارة‪ ،‬و�إذن‬ ‫ال�صدد هي تعاطي ّ‬ ‫يف هذا ّ‬
‫�أو من العادات العرب ّية‬ ‫ال�شام ومن املُمكِن �إىل اليمن‪ ،‬وخروجه‬ ‫�سفرا ُته �إىل ّ‬
‫الوثن ّية»(‪ ،)34‬كال ّت�رشيع‬ ‫ح�صلَ هذا اخلُروج‬ ‫من �ضيق الأفق املكّي‪ .‬قد يكون َ‬
‫ا ُملتعلّق بال ّزواج(‪.)35‬‬ ‫ا�ستقر‬
‫ّ‬ ‫النبي‬
‫ّ‬ ‫يف �سفَرات ُمتتالية وعديدة‪ ،‬وقد يكون‬
‫وال يقف بحث ال ّد�شتي‬ ‫بال�شام ملُدد تطول �أو تق�رص [‪ ]...‬ذلك � ّأن ال ُقر�آن‬ ‫ّ‬
‫عند ال ّتاريخ بل ُيجاوزه‬ ‫ُمفعم مبع ِرفة دقيقة للترّ اث امل�سيحي وللرتاث‬
‫�إىل ال ّن�ضال ال ِفكري‬ ‫اليهودي‪ ،‬وامل�سيحي �أكرث من اليهودي»(‪.)29‬‬
‫�ض ّد ال�شرّ يعة كقوله‪:‬‬ ‫حممد قبل البِعثة يكت�سِ ُب قيم َته‬ ‫ّ‬ ‫بحث �أ�سفار‬ ‫َ‬ ‫� ّإن‬
‫‪87‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫معناها ال ّدنيوي»(‪ ...)41‬لكن ا ُ‬
‫مل� ّؤرخ العِراقي جواد‬ ‫جن َد � َّأي ُم ّربر عقالين �أو ديني‬ ‫«لي�س مبقدو ِرنا �أن ِ‬
‫َبت‪ -‬يعتمد على ال ّنقو�ش (�شواهد قبور)‬‫علي ‪-‬وهو ث ٌ‬ ‫احلج‬
‫للحفاظ على ممُ ار�سات وثن ّية قدمية يف �شعرية ّ‬ ‫ِ‬
‫اجلاهلية(‪� ،)42‬أفال‬
‫ّ‬ ‫حممد يف‬
‫ّ‬ ‫ل ُيثبِت انت�شار ا�سم‬ ‫وم�صطلح «عقالنية» وما أُ� ِخذ منه‬ ‫الإ�سالم ّية»(‪ُ .)36‬‬
‫وحدودها؟‬ ‫الفيلولوجية ُ‬
‫ّ‬ ‫املنهجية‬
‫ّ‬ ‫ُي�ؤكّ د هذا ُق�صور‬ ‫ُمتوا ِتر يف ال ِكتاب‪ ،‬وال ُيفهم منه �إال نزعة الكا ِتب �إىل‬
‫‪2‬ـ ّ‬ ‫أمر ف� ّإن عقالن ّية‬‫نظر عقلي يف ال�شرّ يعة‪ .‬ومهما يكن ال ُ‬
‫ال�شك ونقد الأخبار‪:‬‬ ‫ال ّد�شتي ال تخلو من ُب�ؤ�س‪ ،‬فحني يتح ّدث عن «وثن ّية»‬
‫الر�صايف يف مق ّدمة كِ تابِه‪�« :‬أ�صبحت ال �أقيم‬ ‫قال ُّ‬ ‫كرر ما قاله امل�سيحيون‬ ‫احلج الإ�سالم ّية ف�إ ّنه ُي ّ‬
‫�شعائر ّ‬
‫أح�سب له حِ �سابا‪ ،‬لأنيّ ر�أيته‬ ‫لل ّتاريخ وزنا‪ ،‬وال � ُ‬ ‫اعنون على الإ�سالم منذ قرون خلت‪� ،‬إذ انتقد‬ ‫الطّ ِ‬
‫تج�شم �أهواء ال ّنا�س‪،‬‬ ‫وم ّ‬ ‫ومناخ ال�ضالل‪ُ ،‬‬ ‫بيت الكذب ُ‬ ‫يوح ّنا ال ّدم�شقي (‪ )St. Jean Damascène‬الذي ُتوفيّ �سنة‬
‫�إذا نظرت فيه كنت ك�أين منه يف كُ ثبان من ِرمال‬ ‫طاع‬
‫�سع و�أربعني و�سب ِعمائة من امليالد (‪749‬م) ال ِق َ‬ ‫ِت ٍ‬
‫الأباطيل قد تغلغلت فيها ذرات �ضئيلة من �شذور‬ ‫«الوثني» يف الإ�سالم كتقبيل احلجر الأ�سود‪.)37(...‬‬
‫احلقيقة‪ ،‬فيتع ّذر �أو يتع�سرّ على املرء �أن ي�ستخلِ�ص‬ ‫و ُي ؤ�كِّد ه�شام جعيط ‪-‬وهو ُم� ِّؤرخ‪ -‬يف كتاب ْيه‬
‫من طي�س �أباطيله ذرات �شذور احلقيقة»(‪ .)43‬بهذا‬ ‫ظهر �أثرها فيه‪.‬‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬ل ُي ِ‬ ‫�صل َة الإ�سالم بال�شرّ ائع ّ‬
‫جليا على ن�سق‬ ‫الر�صايف ف�أظهر خروجا ّ‬ ‫البيان بد�أ ّ‬ ‫لينجح يف دعوته لو‬ ‫َ‬ ‫حممدا ما كان‬ ‫وهكذا يرى � ّأن ّ‬
‫بوية‪،‬‬
‫ال�سرية ال ّن ّ‬ ‫التمجيدية يف ّ‬‫ّ‬ ‫الت�سليمية‬
‫ّ‬ ‫الكِتابة‬ ‫قوية مبكّة �إذ ُقتِل يحيى (يوحنا‬ ‫دينية ّ‬ ‫ُو ِجدت ُ�سلطة ّ‬
‫وهي �صفة �أغلب ما كتبه املُ�سلِمون املُح َدثون‪.‬‬ ‫و�صلِب امل�سيح‬ ‫املعمدان) �آخر �أنبياء بني �إ�رسائيل‪ُ ،‬‬
‫مي�ضي الكاتِب يف ثنايا الكِتاب يف تف�صيل ما‬ ‫و َ‬ ‫حلكّام(‪.)38‬‬ ‫قوة دينية ُم ؤ� ّثرة يف ا ُ‬ ‫وماين لوجود ّ‬
‫�أجمله عن ال ّتاريخ �إذ ينتقد املرويات التي حوتها‬ ‫ا‪-‬فيلولوجيا يف‬
‫ّ‬ ‫تاريخي‬
‫ّ‬ ‫وي ّتبع جعيط منهجا‬
‫فالرواية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية واحلديث انتِقادا الذعا‪،‬‬ ‫كُ تب ّ‬ ‫ال�سابِقة‪� ،‬إذ‬
‫امية ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ا�ستقراء عالقة الإ�سالم بالأديان ّ‬
‫والرواية‬ ‫املُتواتِرة يكاد وقوعها يكون ُم�ستحيال‪ّ ،‬‬ ‫ِربية‬
‫يقول يف هذا املعنى � ّإن «جربيل» يعني يف الع ّ‬
‫باملعنى خطر «ل ّأن معاين الكالم �إنمّ ا ُتو َز ُن مبيزان‬ ‫ُق ّوة اللهّ (جرب‪�-‬إيل)‪ ،‬ولذلك ُو ِ�صف يف ال ُقر�آن بـ«ذي‬
‫أمر احلديث عن باقي‬ ‫الألفاظ»(‪ .)44‬وال يختلِف � ُ‬ ‫ُق ّوة» «و�شديد ال ُقوى»(‪ .)39‬ويذكر � ّأن «الأفق املُبني»‬
‫الر�صايف �إذ ال ُتراعِ ي معايري‬ ‫ح�سب ُّ‬ ‫�رضوب اخلرب َ‬ ‫نر ّدها �إىل عِ بارة‬ ‫يف ال ُقر�آن [ال ّتكوير ‪ ]23 :‬يمُ كِن �أن ُ‬
‫املُح ِّدثني ُمطابقة اخلرب للقر�آن واملعقول‪ ،‬بل ُتراعِ ي‬ ‫مقر الإله العلوي(‪...)40‬‬ ‫ادية‪ ،‬وتعني ّ‬ ‫«�أفَك» الأكّ ّ‬
‫الرواة‪ ،‬ولهذا وقعت يف كُ تبهم �أحاديث ُمنكَرة‬ ‫«ثقة» ّ‬ ‫وهذا املنهج الذي ا ّتبعه جعيط يف جوهره ُي�ساير‬
‫كحديث ال ّذباب(‪.)45‬‬ ‫منهجيات البحث التي �سادت � ّإبان القرن ال ّتا�سع‬
‫الر�صايف‬ ‫مع هذا ال�شكّ املنهجي يف املرويات جند ّ‬ ‫ع�شرَ َ ‪ ،‬وهي ال حمالة قدمية يف زمانه (‪.)1999‬‬
‫ينهل منها يف بطن الكِتاب‪ ،‬فال تكاد تخلو �صحائفُه‬ ‫«حممد» عالق ًة بلغة‬ ‫ّ‬ ‫ويرى جعيط � ّأن ال�سم الر�سول‬
‫ال�سرية ُمت� ِّأخر ج ّدا وهو‬ ‫من الإحالة على كِ تاب يف ّ‬ ‫ال�سرُّ يان وبالبارقليط�س اليونانية‪ ،‬من طريق عبارة‬
‫لعلي بن‬ ‫�إن�سان ال ُعيون يف �سرية الأمني امل�أمون‪ّ ،‬‬ ‫يانية‪ ،‬وهو لقب كان ُيطلَق على �أمراء‬ ‫«حممدان» ال�سرُّ ّ‬
‫برهان ال ّدين احللبي (ت‪1044 .‬هـ‪1634/‬م)(‪،)46‬‬ ‫الروم‪ ،‬فنقلوه‬ ‫غ�سان امل�سيحيني‪� ،‬أخذه ال�سرُ يان من ّ‬ ‫ّ‬
‫مل َن َّمقة‬ ‫ِ�صنوف من الأخبار ا ُ‬ ‫وقد ح�شا احللبي كِ تا َبه ب ُ‬ ‫ال�صفة (‪Vir‬‬‫�إىل لغتهم‪ ،‬وقد كان الروم يخلعون هذه ّ‬
‫الرواية‬ ‫�ساهل يف ّ‬ ‫الر�سول تنـزع �إىل اخليال‪ ،‬و َت َ‬ ‫عن ّ‬ ‫و«حممد» ترجمة‬ ‫ّ‬ ‫‪ )illustris‬على البطارقة والأمراء‪.‬‬
‫�شن‬
‫فكيف ُي ّ‬ ‫َ‬ ‫�إذا مل تتعلّق باحلالل واحلرام(‪...)47‬‬ ‫للبارقليط�س و«هي عِ بارة تفخيم و ِرفعة ا ّتخذها‬
‫م�صادره املُت� ّأخرة‬ ‫َ‬ ‫عم‬
‫ال ّنقد على كُ تب ال ّتاريخ‪ ،‬وال َي ّ‬ ‫النبي يف املدينة بعد �أن ارتفع مقامه‪ ،‬لك ّنه �أك�سبها‬ ‫ّ‬
‫أجدر‪ ،‬فكلّما كان امل�صدر‬ ‫وهي عند امل� ّؤرخني بال ّنقد � ُ‬ ‫معنى دينيا وربطها برتاث امل�سيحية زيادة على‬
‫‪88‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫مزية‬
‫للرواية‪ ،‬فكيف يكون جمع املُت� ِّأخرين ّ‬ ‫«�إماتة» ّ‬ ‫الوثوق به؟‬ ‫بعيدا من زمن الأحداث قلّت درجة ُ‬
‫يف الت�أريخ؟‬ ‫ال�سرية �إىل‬ ‫�أ ّدى ال�شكّ يف املرويات بكثري من كُ ّتاب ّ‬
‫الر�صايف يف‬ ‫مل� ِّؤرخ ه�شام جعيط �أبع َد من ُّ‬ ‫ويذهب ا ُ‬ ‫ال�سرية و�أوثقِها‪� ،‬إذ‬ ‫الإقرار ب� ّأن ال ُقر�آن ر� ُأ�س م�صادر ّ‬
‫ال�سرية‪� ،‬إذ يقول‪« :‬نحن ال نعتمد‬ ‫ال�شكّ يف �أخبار ّ‬ ‫أهم من بني هذه امل�صادِر‬ ‫يقول علي ال َّد�شتي «وال ّ‬
‫على ما �أُكمل به الإ�سالم فيما بعد من �سرية وتاريخ‬ ‫نتح�صل منه على مع ِرفة‬ ‫ّ‬ ‫هو ال ُقر�آن‪ ،‬الذي يمُ ك ُِن �أن‬
‫وطبقات وحديث‪ ،‬ل ّأن القاعدة � ّأن ك ّل ما ُد ِّون بعد‬ ‫بكث ٍري من حوادث ذلك ال ّزمن»(‪ .)48‬ومِ ن قبلِ ال َّد�شتي‬
‫مائة �سنة من احل َدث فاقد لثقة امل� ّؤرخ»(‪ ،)56‬ويرى‬ ‫أوثق‬
‫املذهب حني اعترب ال ُقر�آن � َ‬ ‫َ‬ ‫الر�صايف هذا‬ ‫ذهب ّ‬
‫يف مع ِر�ض نقده ملا ُر ِو َي عن ال ّزهري عن ه�شام بن‬ ‫حممد(‪،)49‬‬ ‫ّ‬ ‫من باقي امل�صادر يف معرفة حياة‬
‫ُعروة عن ُعروة عن عائ�شة‪ّ � ،‬أن الأ�سانيد ال يق َبلها‬ ‫تابيه ُي�ؤ ِّك ُد � ّأن «ال ُقر� َآن‬ ‫وكذلك ما فتِئ جعيط يف كِ ْ‬
‫«و ِ�ضعت بعد الأثر»(‪.)57‬‬ ‫امل� ِّؤرخ لأ ّنها �سل�سلة �أ�سماء ُ‬ ‫امل�صدر الأ�سا�سي»(‪.)50‬‬ ‫ُ‬ ‫ُمعا�صرِ ٌ للأحداث‪ ،‬فهو‬
‫مل� ِّؤرخ ُيو�شِ ك �أن ُيناق�ض ر�أ َيه هذا يف الكِتاب‬ ‫لكن ا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعِ َر املُتق ِّدم ب َّز الكا ِت َبينْ‬‫ريف يف امل�س�ألة � ّأن ّ‬ ‫والطّ ُ‬
‫ال ّثاين �إذ اعترب ر�سالة ُعروة بن ال ّزبري �إىل عبد امللك‬ ‫الح‬
‫وجه �سِ َ‬ ‫ّذين جاءا بعده يف حلْب َة ال�شكّ �إذ ّ‬ ‫الل ْ‬
‫هامة(‪ ،)58‬رغم � ّأن ناقِ لَها‬ ‫تاريخية ّ‬ ‫ّ‬ ‫بن مروان وثيق ًة‬ ‫نقدِه �إىل ال ُقر� ِآن باعتِباره م�صدرا حلياة النبي‪ ،‬فهذا‬
‫الهجري ال ّثالث‪.‬‬‫‪-‬وهو الطّ ربي‪ -‬من �أهل القرن ِ‬ ‫مما وقع‬ ‫باملرة ّ‬‫ّ‬ ‫الر�صايف «مل يخلُ‬ ‫ح�س َب ُّ‬
‫الكِتاب َ‬
‫النبي قبل البِعثة كغريه‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكّ جعيط كذلك يف حت ّنث‬ ‫الرواية من زيادة و َنق�ص ومن تغيري وتبديل‬ ‫يف ّ‬
‫من احلُنفاء(‪ ،)59‬وي�أتي يف الكِتاب ال ّثاين بر�أي‬ ‫ُخ�صو�صا بوا�سطة تع ّدد القِراءات»(‪ .)51‬وال �شكّ � ّأن‬
‫ُيناق�ض باجلُملة ما ذكره يف الكِتاب ال ّأول‪« :‬تقول‬ ‫الر�صايف ينطلِق ممِ ّ ا �أُثري يف بع�ض كُ تب الترُّ اث من‬ ‫ّ‬
‫النبي يف غار حِ راء‪ ،‬فهذا يجعل منه‬ ‫ّ‬ ‫بخلوة‬ ‫ال�سرية َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ�صحف(‪.)52‬‬ ‫عِ ناية بخِ الف املُ�سلِمني يف تدوين امل َ‬
‫ال�صوامع‪:‬‬‫ّ‬ ‫أ�صحاب‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫اك‪،‬‬ ‫�س‬
‫ّ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ال‬ ‫منوذج‬ ‫من‬ ‫قريبا‬ ‫�شخ�صا‬ ‫الق�ضية يف كِ تاب جعيط � َّأي‬ ‫ّ‬ ‫وال جند لمِ ُناق�شة هذه‬
‫هذا ال�سلوك ممكن ج ّدا»(‪ .)60‬ومر ّد هذا التناق�ض‬ ‫ُت�شبع ب�أ�صول ال ّثقافة احلديثة‪،‬‬ ‫مل� ِّؤرخ امل ِّ‬‫�أثر وهو ا ُ‬
‫ريب هو ُ�ش ّح املوارد املا ّدية املُتعلِّقة بتاريخ‬ ‫بال ْ‬ ‫ومناهج ال ّنقد ال ّتاريخي‪.‬‬
‫التو�سط يف نقد امل�صادر‬ ‫ّ‬ ‫منا�ص من‬ ‫َ‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬فال‬ ‫ال�سري احلديثة تجُ مِ ُع على توثيق �سرية عبد‬ ‫تكاد ِّ‬
‫ُدونة منذ القرن ال ّثاين‪ ،‬ولمِ َ ال�شكّ يف بع�ض‬ ‫امل َّ‬ ‫امللك بن ه�شام (ت‪218 .‬هـ‪833/‬م)‪ ،‬وهي «تهذيب»‬
‫الأخبار املُتواتِرة‬ ‫ل�سرية ابن �إ�سحاق (ت‪150 .‬هـ‪768/‬م) ال ّتي ُتو�سم‬
‫ب�صيغ خمتلِفة؟ �إذ هي‬ ‫بـاملبتد�أ واملبعث واملغازي‪ ،‬وقد اعتمد ابن ه�شام‬
‫حمالة ل َن َوى �أحداث‬ ‫ّ‬ ‫يف كتابه على رواية �أحد تالميذ ابن �إ�سحاق‪،‬‬
‫يمُ ك ُِن � ْأن حتظى ب َقبول‬ ‫زياد بن عبد اهلل ال َبكّائي (ت‪183 .‬هـ)‪ .‬وينفرد‬
‫مفر من‬ ‫مل� ِّؤرخ‪ .‬وال ّ‬ ‫ا ُ‬ ‫الر�صايف بنقد الذع ملرويات ابن ه�شام وملنهجه‬ ‫ّ‬
‫االعتِماد على بع�ض‬ ‫يف ال ّتعامل مع �سرية �أ�ستاذه(‪� ،)53‬إذ عاب عليه‬
‫الأخبار املُتق ِّدمة‬ ‫خا�صة‪ ،‬ولهذا يرى � ّأن‬ ‫ّ‬ ‫حممد‬
‫حذفه مقاالت �أعداء ّ‬
‫بعد فح�صها‪ ،‬ما دام‬ ‫ابن ه�شام مل يخت�رص �سرية ابن �إ�سحاق بل «قتلها‬
‫ال ُقر� ُآن ال ُيق ِّد ُم لنا‬ ‫ُتحرر‬
‫الروح ال ّنقدي امل ِّ‬ ‫و�أماتها»(‪ .)54‬لكن �إزاء هذا ّ‬
‫لوح ًة ُمكتمِ ل ًة حلياة‬ ‫من �سلطة ال ّن�صو�ص �شبه املُق ّد�سة لدى املُ�سلِمني‪،‬‬
‫النبي وهو ر�أي باحِ ث‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية‬ ‫الر�صايف على م�صدر مت� ِّأخر ج ّدا وهو ّ‬ ‫عول ّ‬ ‫ُي ِّ‬
‫ح�صيف كمنتغمري‬ ‫ال�سري‬ ‫احللبية مثلما تق ّدم‪ ،‬بل يعتربها «�أجمع كتب ّ‬ ‫ّ‬
‫واط(‪.)61‬‬ ‫الرواة»(‪ ،)55‬ف�إذا كان اختِ�صار املُتق ِّدمني‬ ‫لأقوال ّ‬
‫‪89‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املُعا�صرِ ة يف الإ�سالم وت�أ ّثرا بها على هيئات‬ ‫‪ 3‬ـ ت�أثري اال�س ِت�شراق‪:‬‬
‫ُمتبايِنة‪.‬‬ ‫ال ي ّت�سِ ُع هذا املقال لنخو�ض يف معنى اال�ستِ�رشاق‪،‬‬
‫تقرير ال ُك ّتاب ال ّثالثة ‪-‬مثلما تق ّدم‪ -‬ب� ّأن ال ُقر� َآن‬ ‫َ‬ ‫� ّإن‬ ‫املو�ضوع بحثا من قبل �أ�ساطني ال ّدار�سني‬ ‫فقد ُقتِل‬
‫ُ‬
‫حممد‪ ،‬وانتقادهم امل�صادر‬ ‫ّ‬ ‫�أوثق امل�صادر حلياة‬ ‫حممد �أركون و�إدوارد �سعيد يف كتابه عن‬
‫والر�صايف � ّأولهم يف هذا املذهب(‪،)63‬‬ ‫من �أمثال ّ‬
‫املُت� ِّأخرة‪ّ ،‬‬ ‫اال�ستِ�رشاق‪ ،‬و�إنمّ ا نو ّد فقط �أن ُن�ؤكّ َد على املعنى‬
‫ِ�رشاقية‬‫ّ‬ ‫مبعزل عن الكِتابات اال�ست‬‫ٍ‬ ‫فهما‬
‫ال يمُ ك ُِن �أن ُي َ‬ ‫اجلامع لال�ستِ�رشاق باعتِبا ِره دالل ًة على م ؤ�لّفات‬
‫الكال�سيكية على اختِالفِ ها‪� ،‬إذ دعا املُ�ست� ِرشق‬ ‫ّ‬ ‫الكُتاب الغربيني يف الإ�سالم‪ .‬لكن هذا اال�ستِ�رشاق‬
‫إ�سالمية‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫للم�صادر‬ ‫�صارم‬ ‫نقد‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫يتاين‬ ‫كِ‬ ‫الإيطايل‬
‫عموما ينق�سِ م �إىل فروع‪ ،‬فهناك ا�ستِ�رشاق كال�سيكي‬
‫املُتعلِّقة بتاريخ الإ�سالم‪ ،‬ومل يثق �إال يف ال ُقر�آن‬
‫تمُ ّثله �أعمال ال ُك ّتاب الأوروبيني يف القرن ال ّتا�سِ َع‬
‫ملُعا�رصته لل ّدعوة(‪ .)64‬وقد ا ّتبع ُخطاه المن�س‪،‬‬
‫رش وال ُعقود الأوىل من القرن العِ�رشين كنولدكه‬ ‫ع� َ‬
‫وبال�شري‪ ...‬لكن ذكرنا يف مع ِر�ض تقدمينا لكِتاب‬
‫وفرع‬‫ٌ‬ ‫(‪ )N ldeke‬وغولدت�سهر (‪ )Goldziher‬وغريهما‪.‬‬
‫الر�صايف �أ ّنه ال ُيحيل على � ّأي كِ تاب �أعجمي‪ ،‬فكيف‬ ‫ّ‬
‫ت�س ّنى له � ْأن يطِّ ل َِع على �آراء كِ يتاين مثال؟‬ ‫العاملية‬‫ّ‬ ‫الغربية بعد احلرب‬ ‫ّ‬ ‫يتعلّق بالكِتابات‬
‫ال�سرية التي‬ ‫ثم كوك (‪)Cook‬‬ ‫انية كم�ؤلّفات رودن�سن وواط‪ّ ،‬‬ ‫ال ّث ّ‬
‫الظن � ّأن ت�أثري اال�ست�رشاق يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أكرب‬
‫بالتع�صب يف‬ ‫وكرون (‪ ...)P. Crone‬وقد اختلط العِلم‬
‫ح�صلَ من طريق قِ راءة ترجمات‬ ‫الر�صايف َ‬ ‫�ص ّنفها ّ‬ ‫ّ‬
‫الر�صايف بالآ�سِ تانة‪،‬‬ ‫خا�صة لدى‬ ‫بع�ض الكِتابات الأوروبية عن الإ�سالم ّ‬
‫لكُتب املُ�ست� ِرشقني‪ ،‬فقد �أقام ُّ‬ ‫تب�شريية كالأب‬ ‫مل�ؤلِّفني الذين ا�ضطلعوا بوظائف‬ ‫ا ُ‬
‫وان ُتخِ ب ُع�ضوا مبجل�س املبعوثان ال ُعثماين �سنة‬ ‫ّ‬
‫اثن َت ْي َع�شرْ َ َة وتِ�سعِمائة و�ألف (‪ ،)1912‬و�ألّف ر�سالة‬ ‫البلجيكي المن�س (ت‪،)]H. Lammens[ 1937.‬‬
‫كية‬ ‫والكاتِب الإنقليزي ُمويِر (‪ )W. Muir‬الذي كان‬
‫العربية املُ�ستعملَة يف اللّغة الترّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الألفاظ‬
‫الر�سالة‬ ‫بالهند يف ال ّن�صف ال ّثاين‬ ‫نا�شِ طا يف جمال ال ّتب�شري ِ‬
‫وبالعك�س(‪ .)65‬ويقت�ضي عملُ مثل هذه ّ‬
‫رجمت‬ ‫ق ْدرا من الإحاطة باللّغة الترّ كية‪ .‬وقد ُت ِ‬ ‫رش‪ ،‬وهو ُم ؤ�لِّف كتاب حياة‬ ‫من القرن ال ّتا�سِ َع ع� َ‬
‫الرتكية يف �أوا�سط العقد ال ّثالث‬ ‫حوليات كِ يتاين �إىل‬ ‫حممد (‪...)Life of Mahomet, 1861‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الر�صايف‬ ‫الدينية يف �أحيان‬ ‫ّ‬ ‫بالعقيدة‬ ‫ِ�رشاق‬
‫ت‬ ‫اال�س‬ ‫�س‬
‫� ّإن ّ َ‬
‫تلب‬
‫رجح � ّأن ّ‬ ‫من القرن العِ�رشين(‪ ،)66‬و ُن ّ‬
‫قر�أ يف هذه الترّ جمة ر�أ�سا لمِ ا يف كِ تابه من �آراء‬ ‫آراء يف الإ�سالم وتاريخِ ه ال نجُ ان ُِب ال َّن�صفة‬ ‫�أنتج � ً‬
‫لبع�ضها‪.‬‬
‫ِ�رشاقية �أخرى عديدة �سنع ِر�ض ِ‬ ‫ّ‬ ‫ا�ست‬ ‫بالتع�صب‪ ،‬وقد و�صفها بذلك كُ ّتاب‬ ‫ّ‬ ‫�إذا و�سمناها‬
‫� ّإن من مظاهر الت�أ ُّثر البينِّ ب�آراء املُ�ست� ِرشقني‬ ‫غربيون �أي�ضا‪ .‬وهذا اخللط جعل عِ بارة «ا�ستِ�رشاق»‬
‫النبوة التي كانت تطر�أ‬ ‫الر�صايف يف عوار�ض ّ‬ ‫قول ّ‬ ‫مذمومة يف الوعي العربي الإ�سالمي على ح ّد‬
‫جيدا يف‬ ‫ظر ِّ‬ ‫الوحي‪« :‬و�إذا �أنعمنا ال ّن َ‬ ‫ِ‬ ‫حني ُنزول‬ ‫تهافت‬ ‫ُ‬ ‫حممد �أركون(‪ .)62‬لكن ال ينفي‬ ‫ّ‬ ‫عِ بارة‬
‫وتربد‬
‫ُّ‬ ‫الرعدة‪ ،‬و�شِ به الإغماء‪،‬‬ ‫أعرا�ضها التي هي ِّ‬ ‫� ِ‬ ‫أوروبية يف تاريخ الإ�سالم وجو َد‬ ‫ّ‬ ‫بع�ض الكِتابات ال‬
‫الوجه‪ ،‬واحمِ رار العينني‪ ،‬والغطيط كغطيط البِكر‪،‬‬ ‫ِلم لذاتِه‪ .‬وقد‬ ‫كِ تابات تهفو �إىل ال ّن�صفة‪ ،‬وتطل ُُب الع َ‬
‫ال�شديد [‪ ]...‬علِمنا‬ ‫وحت ّدر العرق من اجلبني يف الربد ّ‬ ‫ب�صنفيها املُتق ِّد ِم‬ ‫ِ�رشاقية ِ‬‫ّ‬ ‫�أ ّثرت الكِتابات اال�ست‬
‫�أ ّنها لي�ست �إال حالة كحالة امل�رصوع ل ّأن هذه‬ ‫ذكر ُهما يف الكُتاب ال ّثالثة الذين راجعنا �أعمالهم‬ ‫ُ‬
‫الأعرا�ض لي�ست �إال من �أعرا�ض ال�صرّ ْ ع‪ ،‬و� ّأن ك ّل‬ ‫يت�سن‬
‫ّ‬ ‫يف هذا البحثِ ‪ .‬واختلفت �أوج ُه ال ّت�أثري �إذ مل‬
‫�رصع ال يكون �إال كذلك»(‪ .)67‬وما �أغنانا‬ ‫َم ْن بِه ْ‬ ‫للر�صايف يف زمانه �أن يطّ ل َِع �إال على بع�ض الآراء‬ ‫ّ‬
‫يف مثل هذا العمل الي�سري عن الإ�سهاب يف �إبراز � ّأن‬ ‫الكال�سيكية‪ ،‬يف حني اطّ لع ال ّد�شتي‬ ‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ِ�رشاقي‬
‫ّ‬ ‫ت‬ ‫اال�س‬
‫هذه «ال ّتهمة»‪� ،‬أي تف�سري عوار�ض الوحي بال�صرّ ْ ع‬ ‫أوروبية‬ ‫ّ‬ ‫تفاوتة على الكِتابات ال‬ ‫وجعيط بدرجات ُم ِ‬
‫‪90‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫إيديولوجية‬
‫ّ‬ ‫الدينية وال‬
‫ّ‬ ‫ُيك َتب مبع َزل عن املُماحكات‬ ‫(‪ )épilepsie‬مقالٌ �ضا ِر ٌب يف ال ِق َدم‪� ،‬إذ �صدر عن‬
‫فـ«ك ّل واحد ي ّتهم تاريخ الآخر بالعنف وين�سى‬ ‫بع�ض‬ ‫املُجادِلني البيزنطيني ال ُقدامى‪ ،‬وو ِرثه عنهم ُ‬
‫نف�سه»(‪.)75‬‬ ‫ظن‬
‫املُ�ست� ِرشقني املُح َدثني(‪ .)68‬فاجلديد الذي ّ‬
‫حممد بالوجد بال ّن�ساء فيكثرُ يف كِ تاب‬ ‫� ّأما ا ّتهام ّ‬ ‫خليق‪ ،‬وجدل ديني م�سيحي‬ ‫ٌ‬ ‫الر�صايف �أ ّنه �أتى به‬ ‫ُّ‬
‫ربرا‬ ‫خا�صةً‪� ،‬إذ ُيو ِرد ال ُقر�آن باعتِباره ُم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ال َّد�شتي‬ ‫قدمي‪.‬‬
‫ل�شهوات اجل�سد مثلما جاء يف حديثه عن ُملك‬ ‫ومن املقاالت اال�ستِ�رشاقية الكامِ نة يف �سرية‬
‫حممدا ملّا �أ�صبح‬ ‫قرر ت�رصيحا � ّأن ّ‬ ‫اليمني(‪ ،)76‬و ُي ّ‬ ‫حممد‬
‫ّ‬ ‫الر�صايف قوله يف غري مو�ضع � ّإن دعوة‬ ‫ّ‬
‫بقوة �إىل املر�أة‪ّ �« :‬أما بعد‬ ‫رج َل دولة باملدينة التفت ّ‬ ‫بال�سيوف‬ ‫ّ‬ ‫ها‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫أركا‬ ‫�‬ ‫ور�سخت‬ ‫ها‪،‬‬ ‫دعائم‬
‫ُ‬ ‫«ثبتت‬
‫االنتِقال �إىل املدينة فقد توافرت الفُر�ص ووجدت‬ ‫جومية‬ ‫ّ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫احلرب‬ ‫أعلن‬ ‫�‬ ‫دا‬ ‫حمم‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫وارم»(‪،)69‬‬ ‫ال�ص‬
‫ّ‬
‫ال�شديدة لل ّن�ساء مرتعها الف�سيح»(‪.)77‬‬ ‫النبي ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شهوة‬ ‫كرر الكاتب‬ ‫ملّا َق ِويت جماع ُته باملدينة(‪ .)70‬و ُي ِّ‬
‫وقد تق ّدم الكالم يف هذه «ال ّتهمة»‪ ،‬وما االحتِفاء‬ ‫الر�أي بل يزيد فيه �شِ ّدة‬ ‫نف�س ّ‬ ‫الإيراين علي ال َّد�شتي َ‬
‫بها �إال داللة على منـزع �إيديولوجي ُمنا�ضل لدى‬ ‫النبي من احلرب‪ ،‬فقد «دعا يف مكّة‬ ‫وانتِقادا ملوقف ّ‬
‫ال�سيا�سة‬ ‫ال ّد�شتي ُيخ ِر ُج كِ تابه من ال ّتاريخ �إىل ّ‬ ‫ثم «راح ُيغيرِّ م�ساره يف‬ ‫والرحمة»‪ّ ،‬‬ ‫�إىل الإميان ّ‬
‫ل�سلطة‬ ‫و�ش ّتان ما ُهما‪ ،‬وداللة على ُخ�ضوع الكاتِب ُ‬ ‫املدينة �شيئا ف�شيئا وبد�أ ُي�صدِر �أوامر القِتال»‪ ،‬وههنا‬
‫(موير والمن�س‪ )...‬وهو يف‬ ‫اال�ستِ�رشاق الكال�سيكي ُ‬ ‫آنية(‪ .)71‬ويخلُ�ص ال َّد�شتي �إىل‬ ‫ي�أتي ب�آيات ُقر� ّ‬
‫امل�سيحية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُمعظمِ ه ُم َّلو ٌن بالعقيدة‬ ‫حتول الإ�سالم �شيئا ف�شيئا من‬ ‫النتيجة الآتية‪« :‬هكذا ّ‬
‫الر�صايف يف وقته (‪)1933‬‬ ‫خ�ضوع ّ‬‫َ‬ ‫�إ ّننا ال ن�ستغرب‬ ‫قابية‪،‬‬ ‫� فة �إىل منظّ مة مقاتِلة وعِ ّ‬ ‫روحية صرِ‬‫ّ‬ ‫ر�سالة‬
‫ل�سلطة اال�ستِ�رشاق الكال�سيكي‪ ،‬وت�أث َُر ال َّد�شتي رجل‬ ‫ُ‬ ‫يعتمد تق ّدمها على الغنائم التي ت�أتي بها الغزوات‬
‫ال�سيا�سة الإيراين ببع�ض الآراء اال�ستِ�رشاقية احلديثة‬ ‫ّ‬ ‫وعلى ال ّدخل الذي ُتغلّه ال ّزكاة املفرو�ضة»(‪.)72‬‬
‫نعجب من ت�أثري هذا‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫لك‬ ‫جوهرها‪،‬‬ ‫يف‬ ‫القدمية‬ ‫حممد من �آراء‬ ‫ّ‬ ‫وال يخلو كتاب جعيط ال ّثاين عن‬
‫أوروبية‬
‫ّ‬ ‫ت�شبع بال ّثقافة ال‬ ‫اال�ستِ�رشاق يف ُم� ِّؤرخ ُم ّ‬ ‫�شبيهة مبا تق ّدم �إذ يقول عن م�سار ال ّدعوة بني مكّة‬
‫املُعا�صرِ ة كه�شام جعيط الذي كتب كِ تابه ال ّثاين‬ ‫النبي بذلك من املُ�سالمِ املُ�ضط َهد‬ ‫ّ‬ ‫«حتول‬
‫ّ‬ ‫واملدينة‬
‫ال�سرية بعد الألف ال ّثانية‪ .‬فاحتفى فيه مبقاالت‬ ‫يف ّ‬ ‫تهجم‪ ،‬فهو الذي ابتد�أ باالعتِداء‬ ‫�إىل �سيا�سي وقائد ُم ِّ‬
‫خ�ص�ص الف�صل‬ ‫بع�ض �أعالم اال�ستِ�رشاق القدمي‪� ،‬إذ ّ‬ ‫على ُقري�ش»(‪.)73‬‬
‫امل�سيحية»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�سماه «م�شكلة ال ّت�أثريات‬ ‫اخلام�س لمِ ا ّ‬ ‫� ّإن يف ما عر�ضنا من �آراء ال ُك ّتاب ال ّثالثة ت�شا ُبها‬
‫ورية وال ُقر�آن‬ ‫ال�س ّ‬
‫امل�سيحية ّ‬‫ّ‬ ‫ُوافقات بني‬
‫ِ‬ ‫فبينّ َ امل‬ ‫ونحن نعزو‬ ‫ُ‬ ‫عجيبا على اختِالف الع�رص واملِ� ِرص‪،‬‬
‫ُمع َتمِ دا على كتاب طور �أندري �أ�صول الإ�سالم‬ ‫هذا �إىل كرثة ما راج يف كُ تب املُ�ست� ِرشقني من‬
‫وامل�سيحية(‪. )78‬‬ ‫ال�سيف على‬ ‫حممد با�ستعمال ّ‬ ‫ّ‬ ‫«توارث» ال ّتهام‬
‫ُي�شري جعيط ت�رصيحا �إىل كِ تاب �أند ِري يف الف�صل‬ ‫ُخ�صومه‪ ،‬وحربه لبني قومه‪ ...‬وقد بينّ الباحث‬
‫لفظيا‪،‬‬‫ثم ين ُقل عنه نقال يكاد يكون ّ‬ ‫اخلام�س(‪ّ ،)79‬‬ ‫الربيطاين ن‪ .‬دانيال بتف�صيل عِ لمي � ّأن اجلدل‬
‫ُخ�صو�صا ما يتعلّق ب�آراء �إفرائيم (‪)Ephrem‬‬ ‫الو�سطى على‬ ‫امل�سيحي ركّ ز منذ ن�ش�أته يف القرون ُ‬
‫ورية‪ .‬وح ّتى عناوين‬ ‫ال�س ّ‬ ‫وهو من �آباء الكني�سة ّ‬ ‫وحب املر�أة(‪.)74‬‬ ‫ّ‬ ‫نبي الإ�سالم بال ُق ّوة‪،‬‬ ‫الطّ عن على ّ‬
‫ال�سابع‬ ‫الفُ�صول تت�شابه‪� ،‬إذ و�سم �أندري الف�صل ّ‬ ‫اريخ؟ و�أين العِلم يف تِكرار هذه املقاالت؟‬ ‫ف�أين ال ّت ُ‬
‫من الق�سم ال ّثاين من كِ تابه بـ»�إفرائيم» ومثله فعل‬ ‫جمتها �أقالم امل�ست� ِرشقني‪،‬‬ ‫ف�إن كانت ح�صيف ًة فقد ّ‬
‫جعيط حني جعل ُعنوان امل�س�ألة ال ّثانية من الف�صل‬ ‫يفح�ص‬
‫َ‬ ‫و�إن كانت ُمتهافِ تة ف�إ ّنه ح ِر ٌّي بناقِ لها �أن‬
‫اخلام�س «�آراء �إفرائيم وال ُقر�آن»(‪ .)80‬وههنا ينقل‬ ‫تاريخ ال ُعنف مل‬ ‫َ‬ ‫ثم � ّإن‬
‫عن �أم ِرها وال ُي�سرَ ُّ بنقلِها‪ّ .‬‬
‫‪91‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ 1‬ـ هدم ال ّثوابت‪:‬‬ ‫ما ذكره �أندري من تناظر بني �آراء �إفرائيم وال ُقر�آن‬
‫لكن‬ ‫ال�ساعة حني ت�أتي يف ملح الب�رص‪ ،‬وما‬ ‫يف و�صف ّ‬
‫الر�سول‪ّ ،‬‬ ‫دار جدل منذ القدمي حول «� ّأمية» ّ‬
‫النبي ال ّأمي يف‬ ‫جمهور املُ�سلِمني يعتقِدون �أ ّنه‬ ‫وجال من‬ ‫تكفهر َ‬
‫ّ‬ ‫ُي�صاحِ بها من تناثر ال ّنجوم‪ ،‬وكيف‬
‫ّ‬ ‫ال�ساعة‪ .)81(...‬و ُيوا�صل جعيط �إظهار الت�شابه‬
‫النبي الذي «ال يقر أ� وال يكتب»‪ .‬وبهذا ال ّت�أويل‬ ‫معنى‬ ‫هول ّ‬
‫ّ‬ ‫يف و�صف اجل ّنة بني �إفرائيم وال ُقر�آن‪ ،‬فيو�شك على‬
‫قيد ذلك‬ ‫الر�سالة مثلما ّ‬ ‫يحتج املُ�سلِمون على ِ�صدق ّ‬ ‫ُّ‬
‫«فم ْن جاءنا‬ ‫الث‪:‬‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫القرن‬ ‫يف‬ ‫ربي‬ ‫ن‬ ‫رب‬ ‫بن‬ ‫علي‬ ‫نقل كالم �أندري «بلفظه»‪ ،‬بل ين ُقل عنه ح ّتى بع�ض‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الطّ‬ ‫ّ‬ ‫�إحاالته(‪!)82‬‬
‫بكتاب هذه ن�سبته ونعته وله من القلوب هذا املحل‬
‫� ّإن الإفراطَ يف االعتِماد على كتاب �أندري جعل‬
‫واجلاللة واحلالوة‪ ،‬ومعه هذا ال ّن�رص وال ُيمن والغلَبة‪،‬‬
‫ينتهج نهجا يف البحث قدميا قدميا‪� ،‬إذ ا ّتبع‬ ‫جعيط ِ‬
‫أميا مل يعرف كتابة وال بالغة قطّ ‪،‬‬ ‫وكان �صاح ُبه � ّ‬ ‫املُ�ست� ِرشقون يف ال ُعقود الأوىل من القرن العِ�رشين‬
‫النبوة ال �شكّ فيه وال مِ رية»(‪.)84‬‬ ‫ّ‬ ‫فهو من �آيات‬
‫الفيلولوجية ال ّتاريخية القائمة على‬ ‫ّ‬ ‫املنهجية‬
‫ّ‬
‫وقد رف�ض ُثلّة من املُح َدثني هذا ال ّت�أويلَ �إذ يذهب‬
‫ا�سع‬
‫ّ َ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫القرن‬ ‫يف‬ ‫البحث‬ ‫ة‬ ‫منهجي‬
‫ّ‬ ‫وهي‬ ‫ُقارنة‪،‬‬
‫امل‬
‫الر�صايف �إىل � ّأن املق�صود بال ّأميني يف ال ُقر�آن‬ ‫ّ‬ ‫َع�شرَ َ ‪ .‬ومورد القِدم ال ّثاين ينبع من ت�أخر مناهج‬
‫هم الأقوام الذين لي�س لهم كِ تاب ُمن َّزل يف ُمقابلة‬
‫املُ�ست� ِرشقني عن مناهج الباحِ ثني يف املجال‬
‫«فمحمد ملّا قام بال ّدعوة‬ ‫ّ‬ ‫وا�ضحة مع �أهل الكِتاب‪:‬‬
‫أحدث املناهج(‪ .)83‬فهل‬ ‫الأوروبي وهم ميتلِكون � َ‬
‫�إىل الإ�سالم �أراد �أن يمُ ِّي َز يف كالمِ ه بني ال ّأمة التي‬ ‫النبوية‬ ‫ال�سرية‬
‫ف�سمى العرب‬ ‫ّ‬ ‫يمُ كِن �أن ن�أت َِي بجديد يف درا�سة ّ‬
‫لها كِ تاب وال ّأمة التي لي�س لها كِ تاب‪ّ ،‬‬ ‫ومنهجيات‬
‫ّ‬ ‫من خالل ال ّتعويل على مقاالت‬
‫ويحتج الكاتب ملذهبه مبا جاء يف‬ ‫ّ‬ ‫بالأميني»‪.85‬‬ ‫وبخا�صة �إذا‬ ‫مرتني؟ يع�سرُ ذلك‪،‬‬
‫� ِآي ال ُقر�آن من تقابل بني الأميني و�أهل الكِتاب(‪.)86‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ�رشاقية قدمية ّ‬
‫ّ‬ ‫ا�ست‬
‫ر ّددنا كالم املُ�ست� ِرشقني الكال�سيكيني بحذافريه‪،‬‬
‫الر�سول قولَه‬ ‫الر�صايف على احتِجاجه لعِلم ّ‬ ‫ويزيد ّ‬ ‫بال توظيف نقدي كفعل جعيط بكالم �أندري يف‬
‫حممد الوا�سِ عة ب�أخبار الأمم املا�ضية‪،‬‬ ‫� ّإن معرفة ّ‬ ‫الر�صايف وال ّد�شتي يف‬ ‫�إفرائيم وتعاليمه‪ ،‬وكفِعل ّ‬
‫واحلديث النبوي يدالن على �أنه كان ُيح�سِ ن القِراءة‬ ‫ُلونة باجلدل‬ ‫ترديد بع�ض املقاالت اال�ست�رشاقية امل َّ‬
‫قررها‬ ‫والكِتابة(‪ .)87‬وهي ذات ال ّنتيجة التي ُي ِّ‬ ‫امل�سيحي القدمي‪.‬‬
‫تابيه(‪ ،)88‬ويذهب كذلك �إىل ما‬ ‫ه�شام جعيط يف كِ ْ‬
‫النبي‬
‫«النبي ال ّأمي يعني ّ‬ ‫ّ‬ ‫الر�صايف من � ّأن‬ ‫ذهب �إليه ّ‬ ‫ال ّنقد اجلديد‬
‫املبعوث من غري بني �إ�رسائيل»‪ ،‬و� ّأن لعِبارة «� ّأمي»‬ ‫الر�صايف‬‫ميز �أعمال ّ‬‫ذكرنا يف مق ّدمة كالمنا � ّأن ما ّ‬
‫ِربية وهو «�أُممُ ُعالم» �أي‬ ‫و»� ّأميني» ُمرادِف يف الع ّ‬ ‫وال َّد�شتي وجعيط هو ُخروجها عن ن�سق اال�ستن�ساخ‬
‫�أُمم العالمَ ني‪ .‬وال يمُ كِن ت�أويل ال ّأمية التي وردت‬ ‫ال�سرية لدى املُ�سلِمني قدميا وحديثا‪،‬‬ ‫الذي طبع كتابة ّ‬
‫ال�صفة تعلّقت‬ ‫يف ال ُقر�آن بجهل القِراءة والكِتابة ل ّأن ّ‬ ‫بع�ض �أوج ِه االختِالف فيما تق ّدم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تبينت‬‫وقد ّ‬
‫بالعرب كا ّفة‪ ،‬ولي�س جمي ُعهم � ّأم ّيا بهذا املعنى‪� ،‬إذ‬ ‫وال يعني انتِقادنا لت�أ ّثر ال ُك ّتاب ال ّثالثة مبقاالت‬
‫كان منهم القا ِرئ والكاتِب(‪...)89‬‬ ‫عما كتبوا‪ ،‬فقدمي‬
‫جل ّدة ّ‬
‫كال�سيكية انتِفاء ا ِ‬
‫ّ‬ ‫ِ�رشاقية‬
‫ّ‬ ‫ا�ست‬
‫يحتج بها املُ�سلِمون‬ ‫ُّ‬ ‫غيب جعيط �آية من ال ُقر�آن‬ ‫لقد ّ‬ ‫�سيما �إذا كان‬
‫املُ�ست� ِرشقني ال يخلو من � ّأية فائدة‪ ،‬ال ّ‬
‫نت َت ْتلُو مِ ن َق ْب ِل ِه مِ ن‬ ‫النبي وهي‪َ :‬و َما كُ َ‬ ‫ّ‬ ‫أمية‬
‫يف � ّ‬ ‫عدد من الكُتاب املُ�سلِمني يرف�ضون التفاعل مع �إنتاج‬
‫ُون‬‫اب المْ ُْبطِ ل َ‬ ‫اب َولاَ َت ُخطُّ ُه ِب َيمِ ينِكَ �إِذاً لاَّ ْر َت َ‬ ‫كِ َت ٍ‬ ‫امل�ست� ِرشقني ُجملة‪ ،‬و�إ ّنه ملوقف �سلفي بعيد عن روح‬
‫[العنكبوت ‪ .]48 :‬وهذه الآية هي التي ُتثبِت‬ ‫والفل�سفية‪ .‬فما مظاهر التجديد يف‬
‫ّ‬ ‫ِلمية‬
‫الع�رص الع ّ‬
‫النبي ال الآيات التي وردت فيها ُمقابلة بني‬ ‫ّ‬ ‫� ّأم ّية‬ ‫�سري ال ّثالثة ال ُك ّتاب؟ وما هي ُحدو ُدها؟‬
‫‪92‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫حتجب ال�سري َة‬ ‫حتى امتزج بالأ�ساطري التي كادت ُ‬ ‫الأميني و�أهل الكِتاب َح َ�س َب بع�ض ال ُك ّتاب(‪ّ � .)90‬أما‬
‫النبي الب�رش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ملحمد‬
‫ّ‬ ‫التاّريخية‬ ‫تع�سف‬ ‫الر�صايف فقد ت� ّأول الآية ب�أ�سلوب ال يخلو من ُّ‬ ‫ُّ‬
‫مل� ِّؤرخ القول‬ ‫ومن ذلك ال َق�ص�ص الذي اطّ رحه ا ُ‬ ‫حممد‬ ‫حني قال � ّإن الآية املذكورة ال تنفي معرفة ّ‬
‫بالر�ؤيا‬ ‫مت ُّ‬ ‫بالإ�رساء مناما «املُح َّقق � ّأن الإ�رساء ّ‬ ‫قوعها «وال يل َزم من‬ ‫وو َ‬ ‫إظهارها ُ‬ ‫بالكِتابة بل تنفي � َ‬
‫بتدخل من اللهّ ‪ ،‬ولي�س �أبدا‬ ‫ُّ‬ ‫«احلقيقية» يف ال ّنوم‬ ‫وقوعها»(‪!)91‬‬ ‫ُ‬ ‫مع ِرفة الكِتابة‬
‫جل�سم»(‪ .)96‬ولي�س هذا القول بجديد �إذ افرتقت‬ ‫با ِ‬ ‫الق�ضية �إذ‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّننا نرغب عن اخلو�ض طويال يف هذه‬
‫روايات املُ�سلمني يف الإ�رساء �إىل ثالث مقاالت‪،‬‬ ‫لل�سري‬ ‫فح�صنا عن �أمرها ب�إ�سهاب يف درا�ستنا ّ‬
‫منها مقالة الإ�رساء مناما وهي تعتمد على روايات‬ ‫النبي ال يمُ كِن �أن‬ ‫ّ‬ ‫احلديثة(‪ ،)92‬وانتهينا �إىل � ّأن‬
‫يكمن ف�ضل‬ ‫ومعاوية(‪ .)97‬و�إنمّ ا ُ‬ ‫قدمية لعائ�شة ُ‬ ‫يكون � ّأميا يف معنى جهل القِراءة والكِتابة يف الأقل‬
‫ال�س ّني‬ ‫مل� ِّؤرخ يف �إبراز ما �أخمله الفِكر الإ�سالمي ُ‬ ‫ا ُ‬ ‫بعد البِعثة‪� ،‬إذ �أُوكِ لت �إليه وظيفة تعليم ال ِكتاب مثلما‬
‫(الر�سمي)‪ ،‬ويف االلتِزام ب�رصيح ال ُقر�آن كر�أيه يف ما‬ ‫ّ‬ ‫ني‬‫الُ ِّم ِّي َ‬ ‫�ص على ذلك الآية‪ُ :‬ه َو ا َّلذِي َب َع َث فيِ ْ أ‬ ‫ت ُن ّ‬
‫�سميه املُ�سلِمون «هِ جرة»‪ ،‬يف حني �أ ّنه تهجري كما‬ ‫ُي ّ‬ ‫َر ُ�سولاً مِ ْن ُه ْم َي ْتلُو َعل َْي ِه ْم �آ َيا ِت ِه َو ُي َزك ِ‬
‫ِّيه ْم َو ُي َعل ُِّم ُه ُم‬
‫ن�ص على ذلك ال ُقر�آن يف غري �آية‪َ :‬وكَ َ�أ ِّين ِّمن َق ْر َيةٍ‬ ‫ّ‬ ‫ِني‬‫اب َوالحْ ِ ك َْم َة َو ِ�إ ْن كَ ا ُنوا مِ ْن َق ْبلُ َلفِي َ�ضلاَ ٍل ُمب ٍ‬ ‫ا ْل ِك َت َ‬
‫اه ْم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هِ َى أ� َ�ش ُّد ُق َّو ًة ِّمن َق ْر َيتِكَ َّلتِي �أ ْخ َر َج ْتكَ أ� ْه َل ْك َن ُ‬ ‫ثم � ّإن بيئة‬ ‫[اجلمعة ‪ .]2 :‬ف�أ ّنى لمِ َن ال يعلَم �أن ُيعل ِّّم! ّ‬
‫اج ُرواْ‬ ‫ِين َه َ‬ ‫[حممد ‪ ،]13 :‬و َف َّلذ َ‬ ‫ّ‬ ‫َف َال َنا�صرِ َ َل ُه ْم‬ ‫النبي العلمية مل تكن قائم ًة على الكِتابة بل على‬ ‫ّ‬
‫َو أُ� ْخ ِر ُجواْ مِ ْن ِد َيا ِرهِ ْم [�آل عِ مران ‪ .)98(...]195 :‬و� ّإن‬ ‫املُ�شافهة‪ ،‬وهكذا تبدو �صلة العِلم بالقِراءة والكِتابة‬
‫لل�سرية قيم ًة تاريخي ًة‬ ‫ِزام بال ُقر�آن م�صدرا ّ‬ ‫يف االلت ِ‬ ‫أمية‬ ‫واهية‪ .‬ومل يكن غر�ض املُ�سلِمني من القول بال ّ‬
‫ب�إجماع ال ّدار�سني م� ِرشقا ومغ ِربا‪ .‬وباال�ستِناد �إليه‬ ‫أر�ضية»‬ ‫ال�سائرة �إال تنـزيه ال ُقر�آن عن ك ّل «حِ كمة � ّ‬ ‫ّ‬
‫ُعجزات التي اختلقها املُ�سلِمون للنبي‬ ‫نبذ جعيط امل ِ‬ ‫ربن الطّ ربي‪ ،‬من �أجل الر ّد على‬ ‫ّ‬ ‫ابن‬ ‫بارة‬ ‫عِ‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫على‬
‫«فالنبي الذي يتكلّم عنه ال ُقر�آن‬ ‫ّ‬ ‫منذ الع�رص الأموي‪،‬‬ ‫مطاعِ ن �أهل الكِتاب‪ .‬وقد ر ّد عليهم ال ُقدامى بقولهم‬
‫عقالين �إىل �آخر درجة»(‪.)99‬‬ ‫النبي «قارئ كاتب فما لهم مل ي�ؤمنوا به‬ ‫ّ‬ ‫َه ْب � ّأن‬
‫‪ِّ .2‬‬ ‫مبو�سى وعي�سى عليهما‬ ‫من الوجه الّذي �آمنوا منه ُ‬
‫تخطي �أ�س ِيجة الفكر الإ�سالمي ال ّر�سمي‪:‬‬ ‫الت�شبثِ‬
‫ّ‬ ‫نفع للفِكر الإ�سالمي يف‬ ‫ال�سالم؟»(‪ .)93‬فال َ‬
‫فمحمد‬
‫ّ‬ ‫الر�سمي‪،‬‬
‫يختلِف الباحِ ثون يف حتديد الفكر ّ‬ ‫مبفهوم ال ّأمية امل�شهور‪.‬‬
‫�سميه �أرتودك�سياّ‪ ،‬ومن�صف بن عبد اجلليل‬ ‫�أركون ُي ِّ‬ ‫ق�صة نزول الوحي بغا ِر‬ ‫وعلى هذا ال ّنح ِو هدم جعيط ّ‬
‫عرفه‬ ‫نية �شيعية)‪ ،‬و ُي ِّ‬
‫و�س ّ‬‫نية ُ‬ ‫(�س ّنية ُ�س ّ‬
‫�سميه ُ�س ّنيا ُ‬
‫ُي ّ‬ ‫أمية ت�ؤكّ د على � ّأن ال ُقر�آن‬ ‫حِ راء‪ ،‬لأ ّنها مثل م�س�ألة ال ّ‬
‫للن�ص الإ�سالمي‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫بكونه «الفهم املركزي‬ ‫«فق�صة الغار وما‬ ‫ّ‬ ‫كالم اهلل بحذافريه لفظا ومعنى‪:‬‬
‫كر�سته نواة را�سخة من الفقهاء ومراجع‬ ‫فهم ّ‬ ‫بوة ُف ِر�ضت على‬ ‫ري �إىل � ّأن ال ُن ّ‬ ‫حف بها تريد �أن ُت�ش َ‬ ‫ّ‬
‫التقليد»(‪ .)100‬وهذا الفهم يمُ ِّثل �أحد َع َم ِد ال ّنظام‬ ‫مل� ِّؤرخ � َّأن ال ُقر� َآن‬ ‫حممد من اخلارج»(‪ .)94‬ويرى ا ُ‬ ‫ّ‬
‫ح�سب �أركون �إذ يحظى بدعم ال ّدولة‬ ‫ال�سائد َ‬ ‫ّ‬ ‫ح�صل يف‬ ‫َ‬ ‫الوحي‬
‫َ‬ ‫أن‬‫ّ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ألب‬ ‫�‬ ‫الغار‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫�شري‬ ‫ال ُي‬
‫املركزية(‪ .)101‬وقد �سيطر «الفهم املركزي للن�ص‬ ‫ّ‬ ‫زمن �آخر‪،‬‬ ‫وقت التجلّي يف الأفق‪ ،‬ومل يح�صل يف ٍ‬
‫مل�ؤمنني فبات نق�ضه �أو‬ ‫الإ�سالمي» على خميال ا ُ‬ ‫وال مو�ضع �آخر‪ ،‬وهو ما ُت�شري �إليه ُ�سورتا ال ّتكوير‬
‫نقده جتا�سرُ ا على الإميان ذاته ل ّأن ُجمهور املُ�سلِمني‬ ‫مل� ِّؤرخ على القر�آن‬ ‫وال ّنجم(‪ .)95‬و� ّإن يف اعتِماد ا ُ‬
‫ال يمُ ِّيزون بني ال ّن�صو�ص الإ�سالمية املق َّد�سة والفكر‬ ‫املُعا�صرِ لل ّدعوة وفَرتاتها ُح ّج ًة كفيلة بدح�ض‬
‫أ�صلية‪،‬‬
‫الإ�سالمي باعتِباره فهما لل ّن�صو�ص ال ّ‬ ‫ق�صة غار حِ راء وغريها من ال َق�ص�ص الذي ُن�سِ ج‬ ‫ّ‬
‫وهو فهم ب�رشي وتاريخي‪ .‬بل ي�ستحيل نق ُد الفهم‬ ‫يت�ضخم مع الأع�صرُ‬ ‫ّ‬ ‫حممد‪ ،‬وبد�أ‬ ‫ب� َأخرة حول �سرية ّ‬
‫‪93‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حبون‬ ‫وين�سبون مع هذا �إىل اللهّ بنات‪� ،‬أي ما ال ُي ّ‬ ‫عامة‬ ‫املُ�سيطِ ر يف �أحيان ُخروجا عن ال ّدين لدى ّ‬
‫هم لأنف�سهم‪« :‬تلك �إذن قِ ْ�س َم ٌة ِ�ضي َزى»‪ ،‬يقول ال ُقر�آن‪.‬‬ ‫املُ�سلِمني‪ .‬فما حظُّ ال ُك ّتاب ال ّثالثة من خلخلة الفهم‬
‫�أيعني هذا �أ ّنهم لو ن�سبوا له �آلهة ذكورا‪ ،‬مثل �سعد‬ ‫حممد؟‬
‫«املركزي» ل�سرية ّ‬
‫و�سواع‪� ...‬إلخ‪ ،‬لكان هذا مقبوال؟»(‪.)105‬‬ ‫الر�صايف يف تعليقه على بع�ض الأخبار «ال‬ ‫يقول ّ‬
‫ال�سرية يجد �صعوبة‬ ‫ُتدب َر ملا كتبه اجلماعة يف ّ‬ ‫� ّإن امل ِّ‬ ‫ريب � ّأن اللهّ �أعظم و�أجل من �أن َ‬
‫يعم َد �إىل �إن�سان‬
‫نتائج‪ ،‬ف� ّإما �أن‬‫َ‬ ‫يف تقومي �آرائهم وما انتهوا �إليه من‬ ‫فيرُ �سِ لُه �إىل ال ّنا�س ل ُيخبرِ َ هم عنه مبا ُيريد‪ ،‬ف� ّإن‬
‫دينيا فريى يف بع�ضها اجرتاء‬ ‫ي ّتخذ منها موقفا ّ‬ ‫الفعالة املُطلَقة‪ ،‬وال بوجوده‬ ‫هذا ال يليق بذاته ّ‬
‫على نقد �أ�صول العقيدة‪ ،‬فال يقبله‪ ،‬ويع ِرت�ض على‬ ‫ال ُكلّي ال�سرّ مدي الالنهائي»(‪ .)102‬فهل يعني هذا‬
‫بحجج �أخرى‪� .‬أو يقف موقف الباحث مثلما‬ ‫بع�ضه ُ‬ ‫�إنكارا للن ُب ّوات كمذهب بع�ض املُفكِّرين يف ال ّتاريخ‬
‫حاور الفكر حِ وارا عِ لميا ما‬ ‫نروم �أن نفعلَ‪ ،‬ف ُي ِ‬ ‫الر�صايف‬ ‫بينا يف كِ تاب ّ‬ ‫الإ�سالمي؟ ال يبدو ذلك ِّ‬
‫ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيال دون �أن ين ِزلق �إىل �إطالق‬ ‫النبوة والوحي‪ ،‬و�إن متثلّها بطرائق‬ ‫ّ‬ ‫�إذ حت ّدث عن‬
‫ال�شخ�صية‪ .‬ويف كلتا احلالتني �إ�سهام‬ ‫ّ‬ ‫الأحكام‬ ‫ُتخالِف يف �أمور ما �ساد وراج‪ .‬و�إنمّ ا هي �شذرات‬
‫يف �إغناء الفكر الإ�سالمي‪ّ � ،‬أما ثالثة الأثايف فهي‬ ‫تعبرِّ عن فكر جتر�أ على «امل�سكوت عنه» �أو «الالمفكّر‬
‫الإحجام عن مع ِرفة �صميم ما قال الكُتاب الثالثة‬ ‫الر�صايف مهما كان‬ ‫فيه»‪ .‬وههنا تكمن قيمة منهج ّ‬
‫حترم التفكري والبحث يف‬ ‫دينية ّ‬‫ورميهم ب�أحكام ّ‬ ‫موقفنا الإمياين منه‪ ،‬فال ُقدامى فكّروا يف ما �أ�صبح‬
‫مل ّت ِ�صلة باملُق ّد�س‪ .‬ومهما كان موقف‬ ‫امل�سائل ا ُ‬ ‫لدى املُح َدثني حمظورا كنظرهم يف خلق ال ُقر�آن‬
‫القا ِرئ ف� ّإن نقد الفكر الإ�سالمي‪ ،‬والقراءة ال ّتاريخية‬ ‫وماهية الوحي‪...‬‬
‫ّ‬
‫لذاك الفكر ال �صلة لهما بالعقيدة ل ّأن الفكر تاريخي‬ ‫و� ّإن بع�ض الآراء التي تبدو بِدعة لدى املُح َدثني جند‬
‫الر�سول كان يبحث‬ ‫وب�رشي‪ .‬فعندما يقول جعيط �إن ّ‬ ‫الر�صايف � ّإن قدرة‬ ‫اث كقول ّ‬ ‫نظائرها يف كتب الترُّ ِ‬
‫عن احلقيقة يف اتجّ اهات عديدة قبل البِعثة‪ ،‬ف�إ ّنه‬ ‫اهلل غري ُمطلقة لأ ّنها ال تتعلّق باملُحال‪ ،‬وقد �أ�شار‬
‫للنبي‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ال�صورة التي بناها املُ�سلِمون‬ ‫ينتقد ّ‬ ‫هو نف�سه �إىل ر�أي ُعلماء الكالم يف امل�س�ألة‪� ،‬إذ قالوا‬
‫ينتقد الن�ص الإ�سالمي الأ�صل‪ ،‬ل ّأن ال ُقر� َآن ُي� ِّؤيد ر�أ َيه‪،‬‬ ‫مبا يقول(‪ .)103‬وهكذا ترى تواطُ �ؤا بني �أ�صحاب‬
‫احتج به(‪.)106‬‬‫ّ‬ ‫وقد‬ ‫ُتحرر على اختِالف الأزمِ نة‪ ،‬و َترى � ّأن‬ ‫التفكري امل ِّ‬
‫امل�س�ألة التي ال َينظُ ُر فيها حديثا �إال ثلّة من املفكّرين‬
‫‪ .3‬حُ دود املُقاربات‪:‬‬ ‫ق�ضية لل ّنظر لدى ال ُقدامى‪ ،‬فكم يحتاج الفكر‬ ‫ّ‬ ‫كانت‬
‫الر�صايف وال َّد�شتي وجعيط يف‬ ‫ال تخلو حماوالت ُّ‬ ‫ليتحرر من‬
‫ّ‬ ‫الت�شبع بالترّ اث‬
‫ُّ‬ ‫الإ�سالمي املُعا�صرِ �إىل‬
‫«منطية» من تهافت‬‫ّ‬ ‫حممد درا�س ًة غري‬ ‫درا�سة �سرية ّ‬ ‫الوهمية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�سلفيته‬
‫ّ‬
‫يف جوانب من مناهجها ونتائجها‪ ،‬وقد �أ�رشنا �إىل‬ ‫الرا�سِ خة‬‫ينية ّ‬
‫�أف�ضى ال ّتجا�سرُ يف نقد املُ�سلّمات ال ّد ّ‬
‫بع�ض ذلك فيما تق ّدم من مقالنا‪ .‬ونذكر ههنا �أوجها‬ ‫بالر�صايف �إىل نِقا�ش‬ ‫ّ‬ ‫يف الكُتب والأذهان‬
‫الر�صايف‬‫�أخرى تتعلّق بكل كاتب ُمنف ِردا‪� ،‬إذ ينتقد ّ‬ ‫حِ جاج ال ُقر�آن‪ ،‬فانتهى �إىل �أ ّنه ال « ُينا�سِ ُب ذكاء‬
‫الأخبار ال ّتاريخية التي ُد ِّونت بعد ع�رص النبي‪،‬‬ ‫حممد»(‪ .)104‬وقد �أ�سهب الكاتب يف �رضب الأمثلة‬ ‫ّ‬
‫وقوعها يكون‬ ‫ُ‬ ‫الرواية املُتواتِرة يكاد‬ ‫قرر � ّأن ّ‬ ‫و ُي ِّ‬ ‫«�ضعفا» يف جدل ال ُقر�آن‪ .‬ومثله فعل‬ ‫لإظهار ما ر�آه َ‬
‫عول يف ف�صول كتابه على‬ ‫ثم ُي ِّ‬‫ُم�ستحيال(‪ّ ،)107‬‬ ‫جعيط دون �إفا�ضة حني قال‪ّ �« :‬إن ر ّد ال ُقر�آن قبل‬
‫احللبية‪ ،‬وهي م�صدر �شديد الت�أخر يعود �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرية‬
‫ّ‬ ‫ال�سورة‪ ،‬على اعتِبار الآلهة‬ ‫�سورة ال ّنجم و�ضمن هذه ّ‬
‫رش ميالديا! وكذلك ُيناق�ض قوله‬ ‫َ‬ ‫ع�‬ ‫ابع‬ ‫ال�س‬
‫ّ َ‬ ‫القرن‬ ‫«بنات اللهّ » غري ُمقنع بتاتا‪ ،‬فربهنته َخ ّ‬
‫طابية‬
‫ال�شعر اجلاهلي �إ ّنه كان من املنحول واملن�سي‪،‬‬ ‫يف ّ‬ ‫ف�ضلون البنني على البنات‬ ‫حم�ضة‪ .‬القر�شيون ُي ّ‬
‫‪94‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫وقد راجعنا تف�سري الطّ ربي فوجدنا نقي�ض ما ن�سبه‬ ‫ثم يقول يف مو�ضع �آخر � ّإن ال ُقر� َآن‬ ‫واملفقود(‪ّ .)108‬‬
‫�إليه ال َّد�شتي‪َ « :‬و ُت ْخفِي فيِ َنفْ�سِ كَ َما اللهَّ ُ ُم ْبدِي ِه ‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫أمية بن �أبي‬ ‫�أخذ من �شعر زيد بن عمرو بن ُنفيل و� ّ‬
‫لتتزو َجها‬
‫ّ‬ ‫حمبة فِ راقِ ه � ّإياها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫و ُتخفي يف نف�سِ ك‬ ‫ال�سابِقني كيو ُن�س‬ ‫ال�صلت بع�ض �أخبار الأنبياء ّ‬ ‫ّ‬
‫�إن هو فارقها‪ ،‬واللهّ ُمب ٍد ما ُتخفي يف نف�سِ ك من‬ ‫وغريه(‪.)109‬‬
‫ذلك»(‪ ،)116‬و ُي� ِّؤيد الطربي ت�أويلَه بروايات تدلّ‬ ‫الر�صايف‪« :‬وال ريب � ّأن اجل ّنة التي و�صفها‬ ‫ويقول ّ‬
‫حممد‪ ،‬كرواية َقتادة‬ ‫بجالء على � ّأن املُخاطب هو ّ‬ ‫بال�شكل‬ ‫ّ‬ ‫حممد ب�أو�صافها الباهرة املعلومة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫التي ورد فيها تعليقا على العِبارة املُتق ِّدمة من‬ ‫التوراة وال يف‬ ‫ُبهج العجيب‪ ،‬غري مذكورة يف ْ‬ ‫امل ِ‬
‫الآية «ولو كان نبي اللهّ �صلى اهلل عليه و�سلّم كاتمِ ا‬ ‫الإجنيل»(‪ ،)110‬وههنا نكت�شف حدود الآفاق‬
‫�شيئا من الوحي لكتمها»(‪ .)117‬فال لَب�س يف تف�سري‬ ‫املعرفية للكاتب‪� ،‬إذ بينّ ط‪� .‬أندري (‪ّ � )1930‬أن‬
‫حممد‪ ،‬و�إنمّ ا التخليط‬ ‫الطربي يف � ّأن املُخاطَ ب هو ّ‬ ‫و�صف اجل ّنة يف ال ُقر�آن ُي�شبِه ما جاء يف تعاليم‬
‫التحري‬
‫ّ‬ ‫يف كالم ال ّد�شتي‪ ،‬تخليط يدعو القا ِرئ �إىل‬ ‫ال�سوريني(‪ .)111‬ونكت�شف‬ ‫املُب�شرِّ ين ال ّن�صارى ُّ‬
‫ال�س�ؤال عن مقا�صده يف حتريف‬ ‫يف �أ�سانيده‪ ،‬و�إىل ُّ‬ ‫الر�صايف حني يقارن بني‬ ‫ُحدود احلداثة يف كتاب ّ‬
‫ت�أويل الطّ ربي‪ ،‬وهو كتاب �سائر مطبوع منذ ُعقود‬ ‫بال�سبحة‬ ‫خليرَ ة ّ‬ ‫اجلاهلية وا ِ‬
‫ّ‬ ‫اال�ستِق�سام بالأزالم يف‬
‫من ال ّزمن؟‬ ‫املذهبية‬
‫ّ‬ ‫ال�شيعة املُح َدثني‪ُ ،‬ف ُيحيِي املُماحكة‬ ‫لدى ّ‬
‫يبدو � ّأن ت�شكيل بع�ض الأخبار يف كتاب ال َّد�شتي‬ ‫القدمية(‪ ،)112‬كما ُيذكي اخلِالف الطّ ائفي ينب‬
‫«العقالنية» التي‬
‫ّ‬ ‫الر�ؤية الإيديولوجية‬ ‫َيخ ُدم ُّ‬ ‫�رصانية‬
‫ّ‬ ‫يذم ال ّن‬‫ّ‬ ‫املُ�سلِمني وامل�سيحيني حني‬
‫النبي كان‬ ‫ّ‬ ‫يتح ّدث عنها يف موا�ضع‪� ،‬إذ يحكُم ب� ّأن‬ ‫و«�شرِ كها»(‪ .)113‬ولي�ست هذه معالمِ َ جتديد حقيقي‬
‫ثم ُيو ِرد قائم ًة بعِ�رشين‬ ‫�صاحِ ب «�شهوة �شديدة»‪ّ ،‬‬ ‫ال�سرية‪ ،‬خِ طاب ال ّتاريخ‪.‬‬ ‫يف خطاب ّ‬
‫تزوجها حممد مثل �أ�سماء بنت �سباء‪ ،‬وهبلة‬ ‫امر�أة ّ‬ ‫وال يختلف ال َّد�شتي عن الر�صايف كثريا يف‬
‫بنت قي�س‪ ،)118(...‬وهذه الأ�سماء مل نعهد لها ذكرا‬ ‫عول على‬ ‫االعتِماد على امل�صادر املُت� ِّأخرة �إذ ّ‬
‫ال�سرية وال ّتاريخ املُتق ِّدمة‪ ،‬ومل تذكر‬ ‫يف م�صادر ّ‬ ‫تف�سري اجلَاللينْ ‪ ،‬جالل ال ّدين املحلّي وجالل ال ّدين‬
‫ثالث ع�شرْ َ َة زوجةً(‪ّ � .)119‬إن‬ ‫َ‬ ‫هذه امل�صادر �سِ وى‬ ‫ال�سيوطي (ت‪911 .‬هـ)‪ ،‬فلم تكد تخلو ف�صول‬ ‫ّ‬
‫�سيا�سة انتِقاء الأخبار وت�شكيلها ب�أ�سلوب ُيوافِ ق‬ ‫ال�سيوطي‬ ‫ّ‬ ‫عا�ش‬ ‫وقد‬ ‫هما(‪.)114‬‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ذك‬ ‫من‬ ‫ِتاب‬ ‫ك‬ ‫ال‬
‫منهج �سلكه املُ�ستِ� ِرشقون وال�سلفيون يف‬ ‫ٌ‬ ‫ر�أي الكاتِب‬ ‫كما نعلم بداهة يف ع�رص غلب عليه جمع ُعلماء‬
‫حممد‪ ،‬وهو ُمتهافت لديهما أل ّنه قائم‬ ‫درا�سة حياة ّ‬ ‫مِ �رص لترُ اث املُتق ِّدمني من �أجل حفظه بعد �أن �أفل‬
‫على اال�ستِ�صفاء والإق�صاء يف التعامل مع الأخبار‪،‬‬ ‫دور بغداد ال ّثقايف‪ .‬ومل نر �أحدا من �أهل العِلم يعكِف‬
‫إيديولوجية بعيدة عن علم‬ ‫ّ‬ ‫ويطلُب مقا�ص َد فكرية و�‬ ‫على ُم�ؤلّفات �أهل القرن العا�رش في�ستعي�ض بها عن‬
‫ال ّتاريخ احلديث الذي يطلُب املعرفة لذاتها‪.‬‬ ‫ثم � ّإن ال ّد�شتي مل يكن‬ ‫امل�صادر املُتق ّدمة الأ�صول‪ّ .‬‬
‫ويكثرُ يف كِ تاب ال ّد�شتي الإ�سقاط ال ّتاريخي‪� ،‬أي‬ ‫�أمينا يف بع�ض نقله عن املُف�سرِّ ين‪� ،‬إذ يقول يف‬
‫�إ�سقاط قيم الع�رص احلديث على ال ّتاريخ القدمي‪� ،‬إذ‬ ‫الرغم‬ ‫النبي من زينب بنت َجح�ش‪« :‬فعلى ّ‬ ‫ق�صة زواج ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�سيف» من �أجل ن�رش‬ ‫الر�سول �إىل ّ‬ ‫يقول يف «لجُ وء ّ‬ ‫وو�ضوح‬ ‫ُ‬ ‫أحاديث‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِّرها‬
‫ف‬ ‫تو‬ ‫التي‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫أد‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و�ضوح‬ ‫من‬
‫ال ّدعوة و�إقامة ال ّدولة �إ ّنه َنهج «ينطوي بال�ضرّ ورة‬ ‫مل� ِّؤرخ‬ ‫املعنى يف الآية (‪ ،)37‬مل ي�ستطِ ع الإمام وا ُ‬
‫على دو�س لواحد من �أثمن حقوق الإن�سان‪� ،‬أعني‬ ‫العظيم الطّ ربي �أن يق َبلَ � ّأن فاعِ لَ الفِعل يف ُجملة‬
‫حرية الفِكر واالعتِقاد»(‪ ،)120‬وال ِجدالَ يف � ّأن‬ ‫ّ‬ ‫حممد‪ ،‬ولذلك فهو يرى �أن‬ ‫«و ُتخفي يف نف�سِ ك» هو ّ‬
‫اخلو�ض يف م�سائل حقوق الإن�سان يعود �إىل القرن‬ ‫املُخاطَ ب هنا هو زيد‪ ،‬و� ّأن زيدا هو الذي كان ُيخفي‬
‫خا�صة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفرن�سية‬
‫ّ‬ ‫ال ّثامن ع�رش‪ ،‬و�إىل فكر ال ّثورة‬ ‫يف نف�سه»(‪.)115‬‬
‫‪95‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫فتبينّ لنا � ّأن ه�ؤالء ال ُك ّتاب اختطوا نهجا جديدا يف‬ ‫ملحمد �أن ي�ستلهم هذه القيم يف ع�رصه‬ ‫ّ‬ ‫ف�أ ّنى‬
‫ر�ضوا با�ستِن�ساخ ما جاء‬ ‫النبي‪ ،‬فلم َي ْ‬ ‫ّ‬ ‫درا�سة �سرية‬ ‫كمثَلِ‬
‫ومثَلُ الإ�سقاط التاريخي املُتق ِّدم َ‬ ‫وبِيئته؟ َ‬
‫يف الكتب القدمية منهجا‪ ،‬وهي مزية كربى‪� ،‬إذ تكاد‬ ‫«�ضعف احلُجج» التي َت�سوقها‬ ‫ما ذكره الكاتِب عن َ‬
‫نبه‬
‫حممد تكون ُمطّ ردة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫الكُتب ال ّدائرة بحياة ّ‬ ‫إ�سالمية دِفاعا عن غلب ِة حظّ ال ُّذكور‬ ‫ّ‬ ‫ال�شرّ يعة ال‬
‫�رصح‬‫�إىل ذلك املُث ّقفون منذ ُعقود من ال ّزمن‪� ،‬إذ ّ‬ ‫على الإناث يف املواريث وغريها‪ .)121(...‬و ُي ؤ� ّدي‬
‫�أح ُدهم ب�أ ّنه كان يتل ّهف لقراءة �شيء جديد عن‬ ‫تاريخية �أ�صال‬ ‫ّ‬ ‫الإ�سقاط ال ّتاريخي �إىل قِ راءة غري‬
‫الر�سول‪ ،‬وف�سرّ ذلك بقوله‪« :‬كنت كلّما ظهر كتاب‬ ‫ّ‬ ‫وال�سيا�سة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لل ّتاريخ‪ ،‬قد ُتفيد �أهل الإيديولوجيا‬
‫«حممد» (�ص)‪ ،‬أُ��سارع القتنائه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ا�سم‬ ‫عليه‬ ‫حديث‬ ‫لكن ال ُتفيد �أهل العِلم‪ .‬وال يخلو كِ تاب ال ّد�شتي من‬
‫ذلك لأ ّنني كنت وال �أزال يف رغبة �شديدة �أن �أ�سمع‬ ‫ع�صبية تن�أى به عن �إن�صاف ال ُعلماء كحديثه عن‬ ‫ّ‬
‫النبي الكرمي‬
‫ّ‬ ‫عن الر�سول العربي العظيم‪ ،‬وعن �سرية‬ ‫مجُ اوزة العرب ال ُقدامى احل َّد «الرببري املُعتاد» يف‬
‫�شيئا جديدا»(‪.)124‬‬ ‫ُمعاملة ال ّن�ساء(‪!)122‬‬
‫وال تخلو كِ تابة اجلماعة من جديد‪ ،‬فقد انتقدوا‬ ‫أقرب ال ّثالثة �إىل ُحدود‬ ‫مل� ِّؤرخ ه�شام جعيط � ُ‬ ‫� ّإن ا ُ‬
‫حممد‪ ،‬وهي‬ ‫الأخبار التي ُد ّونت بعد قرنني من حياة ّ‬ ‫لكن ذلك ال‬ ‫العِلم‪ ،‬و�أكرثُهم التِزاما بِحِ ياد ال ُعلماء‪ّ ،‬‬
‫و�صنِعت لأغرا�ض‬ ‫بنقدهم خليقة �إذ داخلها ال ّتهويل‪ُ ،‬‬ ‫دو ُن بعد‬ ‫مينع من نقده يف م�سائل‪ ،‬كقوله � ّإن ما ُي َّ‬ ‫ُ‬
‫ومذهبية يف ُمعظمها‪ .‬وو ّثق ال ُك ّتاب‬ ‫ّ‬ ‫�سيا�سية‪،‬‬ ‫مل� ِّؤرخ(‪،)123‬‬ ‫مائة �سنة من احلدث لي�س جديرا بثِقة ا ُ‬
‫ال ّثالثة ال ُقر�آن وق ّدموه على غريه من امل�صادر‬ ‫دو ُن الأثر ُمبكِّرا وال ُيوثَق‬ ‫نظر �إذ قد ُي َّ‬
‫ويف هذا القول ٌ‬
‫بحدود ال ّتاريخ‪،‬‬ ‫لمِ ُعا�رصته لل ّدعوة‪ ،‬ويف ذلك التِزام ُ‬ ‫بال�سلطان مثلما‬ ‫ال�صلة ُّ‬ ‫به‪ ،‬فكِتابة ال ّتاريخ متينة ّ‬
‫فكلّما كانت الوثيقة قريبة من زمن الأحداث ازدادت‬ ‫ر�س �رشقا وغربا‪ .‬و ُيك َت ُب ال ّتاريخ يف �أحيان‬ ‫بينّ ال ّد ُ‬
‫اريخية‪ .‬و ُيعترب ال�شك يف كثري ممِ ّ ا حوته‬ ‫ّ‬ ‫قيمتها ال ّت‬ ‫كثرية لأ�رسة حاكِ مة �أو �سيا�سة قائمة على مذهب �أو‬
‫ال�سرية وال ّتاريخ معلَما يمُ ّيز �أعمالهم على‬ ‫م�صادر ّ‬ ‫مِ لّة‪ ،‬وي�شهد ال ّتاريخ العربي على مثل هذا يف العهد‬
‫الر�صايف‬ ‫اختِالف درجات ذاك ال�شكّ ‪ ،‬كانتِقاد ّ‬ ‫العبا�سي وبع َده‪ ،‬ح ّتى � ّأن كثريا من كُ ُتب ال ّتاريخ‬
‫لبع�ض مرويات ابن ه�شام وهو م�صدر �أ�صبغت عليه‬ ‫ّ‬
‫ال�سلطان احلاكِ م‪.‬‬ ‫و�شى عناوينها بذكر ّ‬ ‫ُت َّ‬
‫�أجيال املُ�سلِمني قدا�سة يف حني �أنه �إنتاج ُم� ِّؤرخ يف‬
‫ظرف تاريخي معلوم‪ ،‬يعرتيه حتما ما يعرتي فكر‬ ‫خامتـة‪:‬‬
‫الب�رش من زلل ونق�صان‪...‬‬ ‫الر�صايف‬‫لي�ست قِ راءة �أعمال ال ُك ّتاب ال ّثالثة ُّ‬
‫تكم ُن يف عدم‬ ‫ولع ّل قيمة �أعمال ال ّثالثة ال ُك ّتاب ُ‬ ‫�سيما ه�شام‬‫عيط بالأمر الي�سري‪ ،‬ال ّ‬ ‫وج ْ‬ ‫وال َّد�شتي َ‬
‫ال�سرية الذي أُ�ر�سِ خ منذ‬ ‫ل�سلطة «عمود» ّ‬ ‫ُخ�ضوعهم ُ‬ ‫لتخ�ص�صه العِلمي يف ال ّتاريخ‪ ،‬وامتِالكه‬ ‫جعيط‬
‫ّ‬
‫ر�سميا ال ُيق َبل اخلُروج عنه‪ ،‬بيد �أ ّنه‬
‫ّ‬ ‫القدمي‪ ،‬ف�أ�ضحى‬ ‫مل� ّؤرخني املُعا�صرِ ين من �إحاطة بامل�صادر‬ ‫لآلة ا ُ‬
‫تاريخية تقبلُ ال ّنقد ال ّتاريخي‪ .‬وقد �أوغل‬ ‫ّ‬ ‫�صناعة‬ ‫منهجية على نقدها‪ ،‬ف�ضال عن‬ ‫القدمية مع قدرة‬
‫خا�صة‪ ،‬فك�رس حلقات من‬ ‫ّ‬
‫يف هذا ال ّنقد ه�شام جعيط ّ‬ ‫رث من ل�سان �أوروبي مكّنه من الإفادة‬ ‫حذقه لأك َ‬
‫ال�سرية امل�شهورة ك�إثباته � ّأن عام الفيل عالمة‬ ‫ق�صة ّ‬‫ّ‬ ‫من ُم�ساهمة الغربيني املُح َدثني واملُعا�رصين يف‬
‫حممد لأ ّنها‬ ‫زمنية فح�سب‪ ،‬وال ُتنا�سِ ُب �سنة ميالد ّ‬ ‫ّ‬ ‫درا�سة ال ّتاريخ الإ�سالمي‪ ...‬وقد حاولنا �أن نع ِر�ض‬
‫رث من ثالثني عاما‪..‬‬ ‫ح�سب ال ّنقو�ش قبله ب�أك َ‬ ‫َ‬ ‫حدثت‬
‫�ضمته كُ تبهم من نتائج كربى‬ ‫�آراء اجلماعة وما ّ‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫حممد‪ ،‬لك ّننا �آثرنا العر�ض ال ّنقدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتعلّق ب�سرية‬

‫‪96‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫مقاربات علم االجتماع‬
‫الوظيفي والنقدي لو�سائل الإعالم‬
‫�آمال مو�سى‬
‫�شاعرة وباحثة من تون�س‬

‫ولكننا �إذا �أ�ضفنا �إىل هذا االعتبار‪ ،‬تلك‬ ‫مقدمة‬


‫احلرية املعرفية التي انطلقت مع بداية‬
‫ي�صنف علماء االجتماع و�سائل الإعالم‬
‫القرن الع�رشين والتي �شهدت ت�سا�ؤالت‬
‫جدية حول املاهية اجلديدة للمجتمعات‬ ‫ّ‬
‫يف خانة ت�صنيف �أطر التن�شئة الثانوية‬
‫و�أثر و�سائل الإعالم اجلماهريية يف‬ ‫خالفا مل�ؤ�س�ستي الأ�رسة واملدر�سة اللتني‬
‫التغيريات التي عرفتها ماهية املجتمع‬ ‫تنتميان �إىل �أطر التن�شئة االجتماعية‬
‫احلديث وما م�صداقية ما ي�سمى املجتمع‬ ‫الأول ّية والأ�سا�س ّية‪ .‬وبذلك تكون و�سائل‬
‫اجلماهريي ثم و�صف جمتمع املعلومات‪،‬‬
‫�إذا ما �أ�ضفنا عامل هيمنة و�سائل‬
‫الإعالم حم ّددا مهما من حم ّددات تن�شئة‬
‫الإعالم اليوم على احلياة اليومية للأفراد‬ ‫الأفراد اجتماعيا حتى و�إن كانت هذه‬
‫واملجتمعات‪� ،‬إىل �أي ح ّد ميكن القبول‬ ‫الأهمية ثانوية وت�شرتك يف الدور والوظيفة‬
‫بالت�صنيف ال�سو�سيولوجي لو�سائل‬ ‫مع �أطر اجتماعية �أخرى مثل �أ�صدقاء‬
‫الإعالم اجلماهريية كم�ؤ�س�سات للتن�شئة‬ ‫اجليل ودور العبادة وغريهما‪ .‬ونفرت�ض �أن‬
‫االجتماعية الثانوية؟‬
‫أولية‬
‫قوة البعد االجتماعي للعملية االت�صالية‬
‫لقد خيرّ نا ا�ستهالل هذه املقالة ال ّ‬
‫واالختزالية بطرح ت�سا�ؤل نعتقد يف‬ ‫والإعالمية والوظائف االجتماعية املهمة‪،‬‬
‫م�رشوعية التفكري فيه بالرغم من �أنه لن‬ ‫التي تقوم بها و�سائل الإعالم على غرار‬
‫ي�ست�أثر �إال بعن�رص من عنا�رص حتليلنا‪،‬‬ ‫التن�شئة االجتماعية (‪)la socialisation‬‬
‫على اعتبار �أن م�رشوعيته كت�سا�ؤل ي�ستند‬ ‫واالندماج االجتماعي (‪)l’intégration sociale‬‬
‫�إىل م�ؤ�رشات تدعمه(‪� ،)1‬ستجد �صداها‬
‫عند مقاربة مكانة و�سائل الإعالم من‬ ‫‪ ،‬هي التي �أعطت امل�رشوع ّية العلم ّية‬
‫منظور التحليل البنائي الوظيفي و�أي�ضا‬ ‫ال�سو�سيولوج ّية لقيام فرع داخل علم‬
‫النقدية التي تهتم بالت�أثريات‬
‫ّ‬ ‫النظريات‬ ‫االجتماع العام ي�سمى‪ :‬علم اجتماع الإعالم‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫للعالقات االجتماعية»(‪.)5‬‬ ‫االجتماعية لو�سائل الإعالم وكيف �أنها تخدم‬
‫كما �أنها‪� -‬أي و�سائل الإعالم‪« -‬الأداة الرئي�سية‬ ‫العالقات االجتماعية القائمة �أكرث على التناف�س‬
‫لعملية الإعالم بكل خطواتها بدءا من اختيار الفكرة‬ ‫وال�رصاع والهيمنة وذلك مقارنة بخ�صائ�ص البناء‬
‫و�صياغتها يف ر�سالة ذات حمتوى و�شكل معني �إىل‬ ‫االجتماعي املنظور �إليه بنيويا ووظيفيا من زاوية‬
‫�أن ن�صل �إىل جمهور املتلقني لتحقيق وظائف �أو‬ ‫التعاون واالن�سجام‪.‬‬
‫غايات معينة ذات عالقة بالفرد واملجتمع»(‪.)6‬‬ ‫كما �أن اختيارنا لهذين الباراديغمني(‪� )2‬أ�سا�سا ال‬
‫وا�ستنادا �إىل هذه التعريفات املتقاربة‪ ،‬يبدو البعد‬ ‫يعني �إغفالنا مثال لباراديغمي الفردانية املنهجية‬
‫ال�سو�سيولوجي لو�سائل الإعالم حا�رضا بقوة‪ .‬فهي‬ ‫والتفاعلية الرمزية حيث ميكن االعتماد عليهما‬
‫نظم اجتماعية حتتكم �إىل ما حتتكم �إليه �أجزاء‬ ‫يف نقد النظرتني‪ .‬مع العلم �أن الرتكيز على النظرية‬
‫النظام الكلي من وظائف وعالقات متبادلة‪ ،‬ناهيك‬ ‫البنائية الوظيفية(‪ )3‬واملدر�سة النقدية يعود �إىل �أن‬
‫عن دورها يف حتقيق ما ي�سميه اميل دوركامي‬ ‫كلتا النظريتني قد اهتمتا تاريخيا مب�س�ألة و�سائل‬
‫(‪ )Emile Durkheim‬مبد�أ الت�ساند الوظيفي‪ .‬وقد ح ّدد‬ ‫الإعالم اجلماهريية كنظم اجتماعية �إ�ضافة �إىل �أن‬
‫بع�ض خرباء االت�صال والإعالم و�سائل الإعالم‬ ‫معظم الأبحاث ومناذج االت�صال العلمية املتعلقة‬
‫اجلماهريية ب�أنها «جمموعة الو�سائل والأدوات التي‬ ‫بو�سائل االت�صال والإعالم‪ ،‬هي ذات خلفية وظيفية‬
‫ت�سهل عملية الن�رش والتوزيع على نطاق وا�سع»(‪،)7‬‬ ‫�أو نقدية �أو االثنني معا‪.‬‬
‫علما ب�أن و�سائل الإعالم التي نركز عليها يف هذه‬ ‫لذلك‪ ،‬ف�إن هذه املقالة �ست�ستعني يف حتديد كيفية‬
‫املقالة �إمنا هي ال�صحافة املكتوبة وال�صحافة‬ ‫والنظريات النقدية‬
‫ّ‬ ‫ت�صور النظرية البنائية الوظيفية‬
‫ال�سمعية والب�رصية(‪.)8‬‬ ‫لي�س فقط بالأ�س�س الفكرية العلمية للنظريتني‪،‬‬
‫كلية الن�سق والتكامل الوظيفي‬
‫الوظيفية‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫البنائية‬
‫ّ‬ ‫‪)1‬‬ ‫بل و�أي�ضا ببع�ض نظريات االت�صال التي ر�أينا‬
‫تقوم النظرية البنائية الوظيفية ( �‪Structuro-Fonc‬‬ ‫م�رشوعية توظيفها يف حتليلنا وذلك مثل نظرية‬
‫‪ )tionnaliste‬التي ظهرت على يد الربيطاين هربرت‬ ‫االعتماد على و�سائل الإعالم ونظرية اال�ستخدام‬
‫�سبن�رس (‪ )1820-1903( )Herbert Spencer‬على‬ ‫والإ�شباع ونظرية ترتيب الأوليات ونظرية الغر�س‬
‫اجلمع بني مفهومي البناء والوظيفة مع ت�أكيد‬ ‫الثقايف وبع�ض نظريات الت�أثري‪.‬‬
‫ترابطهما املنطقي والآيل‪.‬‬ ‫فكيف ميكن �أن نفهم ونف�رس وظيفة �أو وظائف‬
‫فهي نظرية توفيقية ُتوظف مفاهيم البنائية‬ ‫و�سائل الإعالم وت�أثرياتها املختلفة يف املعي�ش‬
‫والوظيفية ق�صد الرتفيع من �سقف �إمكانات فهم‬ ‫اليومي للأفراد واملجتمعات عموما (مع بع�ض‬
‫املجتمع وما يت�ضمنه من وحدات ونظم و�أن�ساق‬ ‫الإحاالت القليلة على املجتمعات العربية)‪ ،‬من‬
‫فرعية وما ي�ستند �إليه من عالقات اجتماعية‬ ‫خالل حماولة تطبيق الأ�س�س اجلوهرية لنظريتي‬
‫توا�صلية وتفاعلية‪.‬‬ ‫البنائية الوظيفية والنقدية‪ ،‬وهل من املمكن �أن‬
‫وحتظى هذه النظرية التي ظهرت يف نهاية القرن‬ ‫نخل�ص بعد ذلك �إىل التلويح ب�أهمية فكرة مراجعة‬
‫التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين برتاكم فكري‬ ‫التطبيق ال�سو�سيولوجي لو�سائل الإعالم واعتبارها‬
‫مك ّنها بف�ضل خا�صة �أعمال تالكوت بار�سونز‬ ‫أولية؟‬
‫من م�ؤ�س�سات التن�شئة االجتماعية ال ّ‬
‫(‪ )Talcott Parsons‬وروبرت مريتون (�‪Robert Mer‬‬ ‫ُيعرف ديني�س ماكويل (‪ )D. Mcquail‬و�سائل الإعالم‬
‫نقدية‬
‫‪ )9()ton‬من �أن تعرف تطورات ع ّدة وحركة ّ‬ ‫ب�أنها م�ؤ�س�سات تهتم ب�إنتاج املعلومات والأفكار‬
‫داخلية وذاتية تطال �أحيانا امل�سلمات الأ�سا�سية‪،‬‬ ‫والثقافة وتوزيعها على النا�س تلبية حلاجياتهم‬
‫ال�شيء الذي جعل من باراديغم البنائية الوظيفية‬ ‫االجتماعية(‪ )4‬وهي �أي�ضا «الأجهزة الأ�سا�سية‬
‫‪98‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫‪ )Mead‬القائمة على �أهمية القيم والثقافة واملعايري‬ ‫جهازا غنيا ومتنوعا‪ ،‬قادرا على اال�ستمرارية رغم‬
‫ودورها يف حتقيق اال�ستقرار والتما�سك واالن�ضباط‬ ‫�أنه يندرج �ضمن النظريات الكال�سيكية واملحافظة‬
‫االجتماعي(‪ .)13‬وميكن القول �إن التطورات التي‬ ‫وال�شمولية‪.‬‬
‫�شهدتها النظرية البنائية الوظيفية ذات �صلة‬ ‫ولعل �أول خطوات فهم الإطار الفكري للبنائية‬
‫باخل�صو�ص بالرافد الأنرثبولوجي مهمة ونقطة‬ ‫الفكرية‬
‫ّ‬ ‫الروافد‬
‫الوظيفية‪ ،‬هو التعرف �إىل �أهم ّ‬
‫حتول نوعي يف بداية التقلي�ص من �إن و�سائل‬ ‫ال�سابقة لظهور البنائية الوظيفية التي نهلت‬
‫هيمنة التم�شي الإمربيقي‬ ‫ت�صورها للمجتمع وللفعل‬ ‫ّ‬ ‫منها ومن ثمة �صاغت‬
‫(‪ )une démarche empirique‬رغم نقد الإعالم‬ ‫االجتماعي ب�صفة عامة‪ ،‬من منطلق �أن هذه النظرية‬
‫روبرت مريتون مل�سلمة اال�ستقرار وحتديدا‬ ‫هي ثمرة تفاعل �آفاق فكرية خمتلفة‪.‬‬
‫والتوازن التي تنطبق على املجتمعات اجلماهريية‬ ‫فلقد �شكل املذهب الو�ضعي (‪ )Positivisme‬الذي‬
‫البدائية �أكرث من املجتمعات احلديثة‬ ‫و�ضعه الفرن�سي �أوقي�ست كونت (‪)August Conte‬‬
‫والتي من خ�صائ�صها الدينامية منها نظم‬ ‫�أحد اجلذور الفكرية للبنائية الوظيفية حيث �أخذت‬
‫والتعقيد وما قد ينتج عنهما من اجتماعية‬ ‫عنه معطى التوازن بني خمتلف الأجزاء املكونة‬
‫م�ؤثرة �إىل حد‬ ‫حاالت عدم اال�ستقرار‪.‬‬ ‫لالجتماعي‪.‬‬
‫ويف �ضوء هذه الروافد جمتمعة ميكننا‬ ‫و�إىل جانب الفل�سفة الو�ضعية التي تتعامل مع البنى‬
‫فهم طبيعة الأفق الفكري واملفاهيمي كبري يف املعي�ش‬ ‫االجتماعية بو�صفها «�أ�شياء»‪ ،‬جند رافد االجتاه‬
‫للبنائية الوظيفية و�إحاالت م�سلماتها االجتماعي‬ ‫الع�ضوي( ‪ )la perspective organique‬امل�ؤ�س�س على‬
‫اليومي‬ ‫الأ�سا�سية املتمثلة اخت�صارا يف‪:‬‬ ‫�أبحاث ت�شارلز داروين(‪ )10()Charles darwin‬و�أي�ضا‬
‫‪ -‬يحكم اال�ستقرار والتوازن كافة‬ ‫ي�صور املجتمع �أي‬
‫ّ‬ ‫هربرت �سبن�رس وغريهما‪ ،‬الذي‬
‫وحدات املجتمع التي ت�شكل جمتمعة للفاعلني‬ ‫‪ -‬الرافد الع�ضوي‪ -‬باعتباره « كائنا ع�ضويا حيا‪،‬‬
‫ّ‬
‫كال ع�ضويا هو البناء االجتماعي‪ .‬االجتماعيني‬ ‫يتكون من جمموعة من الأجزاء التي ي�ؤدي كل منها‬
‫مبعنى �أن « تف�سري وجود �أي جزء من الذين تربطهم‬ ‫وظيفة ل�صالح بقاء الكل وا�ستمراره حيا»(‪،)11‬‬
‫الأجزاء يتم بالنظر �إىل الوظيفة التي‬ ‫مبعنى �أن التف�سري البيولوجي ُمهيمن على كيفية‬
‫ي�ؤديهما يف �إطار الكل و�أن فاعلية بها عالقة‬ ‫ت�صور املجتمع والبعد الوظيفي لأع�ضائه حيث �إن‬ ‫ّ‬
‫اجلزء ذات �صلة مبتطلبات الكل وم�ؤثرة اعتماد متقدمة‬ ‫هذا التف�سري ُي�شابه بني ج�سم احليوان واملجتمع‬
‫فيه»(‪.)14‬‬ ‫من ناحية العمل وت�ساند الأع�ضاء ل�ضمان احلياة‬
‫‪ -‬ت�ؤدي �أجزاء املجتمع وظائف‬ ‫واال�ستمرارية وهو ما جند له �صدى يف فكر‬
‫وتخ�ضع �إىل مبد�أ الت�ساند الوظيفي واالعتماد‬ ‫دوركامي القائل ب�أن وظيفة العنا�رص االجتماعية‬
‫املتبادل بني البنى والأن�ساق الفرعية للن�سق الكلي‪.‬‬ ‫تتمثل يف م�ساهمتها يف احلفاظ على جمرى احلياة‬
‫ا�ستنادا �إىل هذه الروافد واملبادئ واملفاهيم‬ ‫يف املجتمع و�أي�ضا رادكليف براون الذي يعرف‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬فكيف ميكن �أن نح ّدد ت�صور البنائية‬ ‫الوظيفة بكونها «امل�ساهمة يف ا�ستمرارية البناء‬
‫الوظيفية لو�سائل الإعالم كن�سق فرعي وجزء من‬ ‫االجتماعي وثباته»(‪.)12‬‬
‫كلية الن�سق؟‬ ‫ومن علم الإحياء والبيولوجيا �إىل علم الإن�سان‬
‫أ�سا�سية‬
‫ّ‬ ‫‪ 1-1‬و�سائل الإعالم �أو «الأجهزة ال‬ ‫(‪� )Anthropologie‬إذ ا�ستفادت البنائية الوظيفية من‬
‫االجتماعية» ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫للعالقات‬ ‫�أبحاث مالينوف�سكي(‪ )Malinowski‬ورادكليف براون‬
‫من املهم التذكري ب�أن االت�صال من العمليات‬ ‫«‪ Radcliffe-Brown‬ومارغريت ميد (‪Margaret‬‬

‫‪99‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بل �إن و�سائل الإعالم يف �ضوء �أفكار هربرت �سبن�رس‬ ‫االجتماعية الأ�سا�سية التي تقوم عليها حياة‬
‫تغدو مكونا رئي�سيا وقاعديا للنظام الع�ضوي الكلي‬ ‫الأفراد واملجتمعات‪ ،‬وهو ما يف�رس لنا توظيف‬
‫وحتديدا ملا ي�سميه «اجلهازين الع�ضويني» وهما‬ ‫علم االجتماع وعلم النف�س لعدد من النظريات �أو‬
‫املوزع واملنظم(‪.)16‬‬ ‫النماذج االت�صالية على غرار نظرية التعلم مثال‪.‬‬
‫فاالجتماعي يتجلى يف كل �أمناط االت�صال املتمثلة‬
‫‪ 2-1‬املعلومات‪ :‬حم ّرك الأن�شطة االجتماعية‬ ‫يف االت�صال ال�شخ�صي واجلماعي واجلماهريي‬
‫واحلقيقة �إن الفكرة املركزية التي �أهلّت و�سائل‬ ‫وغري ذلك‪ ،‬كما �أن الفعل االت�صايل ببعديه الإن�ساين‬
‫الإعالم �إىل �أن تكون نظما اجتماعية ذات دور م�ؤثر‬ ‫واالجتماعي �رشط وجود املجتمع‬
‫وقوي يف حياة الأفراد واملجتمعات‪ ،‬تتعلق بكون‬ ‫«�صناعة وا�ستمراريته‪ .‬ومن ثمة ف�إن �أهمية‬
‫و�سائل الإعالم منتجة للر�سائل املعلوماتية و�إذا‬ ‫الثقافة‪ :‬و�سائل الإعالم يف �صلة بالرتاث‬
‫ما و�ضعنا يف احل�سبان حاجة الفرد احليوية �إىل‬ ‫االت�صايل الإن�ساين وال تعني حداثتها‬
‫املعلومات وكيف �أن املعلومة �أو اخلرب «ركيزة‬ ‫التنوير كخداع‬
‫باملعنى التقني والتكنولوجي �أن‬
‫كل ن�شاط اجتماعي»(‪ ،)17‬ف�إننا �سندرك حتما �رس‬ ‫جماهريي»‪ ،‬جوهر العملية االت�صالية املتكونة من‬
‫العالقة القوية والإلزامية اليوم بني الأفراد وو�سائل‬ ‫هي انعكا�س باث ومتقبل ور�سالة قد تغريت‪� .‬أي �أن‬
‫الإعالم بحكم اعتماد الفرد عليها يف اكت�ساب‬ ‫و�سائل الإعالم تن�ضوي �ضمن و�سائل‬
‫املعلومات التي متكنه بدورها من فهم بيئته‬ ‫االت�صال وما ينطبق على العملية‬
‫للواقع‬
‫والتفاعل معها وفق ما وفرته له و�سائل الإعالم‬ ‫االحتكاري االت�صالية من عنا�رص وحاجات‬
‫من معرفة م�ؤطرة ل�سلوكه االجتماعي ولطبيعة‬ ‫الذي يركز وتفاعالت خمتلفة وكيف �أنه ‪� -‬أي‬
‫تفاعله‪.‬‬ ‫الفعل االت�صايل‪ -‬يرنو �إىل �إ�شباع‬
‫ويف هذا ال�سياق‪ ،‬يبدو لنا طرح الت�سا�ؤل الب�سيط حول‬ ‫على برامج حاجيات الفرد وتوقعاته‪ ،‬ينطبق كذلك‬
‫�أ�سباب ا�ستخدام النا�س لو�سائل الإعالم من قراءة‬ ‫الت�سلية على العملية الإعالمية‪ .‬وما الأهمية‬
‫لل�صحف وا�ستماع للإذاعات وم�شاهدة للقنوات‪،‬‬ ‫والإعالنات املتزايدة التي باتت تعرفها منذ عقود‬
‫قد تقودنا لي�س فقط �إىل حتديد دواعي اال�ستخدام‬ ‫و�سائل االت�صال والإعالم اجلماهريية‬
‫ومربراته و�إمنا �أي�ضا �إىل التعرف �إىل طبيعة تلك‬ ‫�إال تعبريا عن تزايد احلاجة �إىل الإعالم‬
‫احلاجات وعلى ر�أ�سها «احلاجة �إىل التكيف مع‬ ‫و�إىل تعقد الواقع االجتماعي وتعمق‬
‫الأفكار واملمار�سات والتقنيات اجلديدة»(‪ )18‬التي‬ ‫تبعية الفاعل االجتماعي اليوم �إىل و�سائل الإعالم‪.‬‬
‫تقوم بتلبيتها‪ .‬وحتديدا ن�شري �إىل نظرية اال�ستخدام‬ ‫وا�ستنادا �إىل فكرة كلية الن�سق وا�ضطالع اجلزء‬
‫والإ�شباع التي ك�شفت عن العالقة بني اال�ستخدام‬ ‫بوظيفة داخل الكل‪ ،‬ف�إن و�سائل الإعالم هي نظم‬
‫والإ�شباع يف جمال و�سائل الإعالم‪� :‬إحدى ال ّدرا�سات‬ ‫اجتماعية ون�سق فرعي ي�ؤدي وظائف اجتماعية‬
‫التي قامت عليها هذه النظرية هي الدرا�سة التي‬ ‫ت�ساهم يف حتقيق التوازن واال�ستقرار االجتماعيني‬
‫�أجراها برينارد بريل�سون (‪� )B. Berlson‬سنة ‪1949‬‬ ‫(‪)15‬على اعتبار �أن امل�ؤ�س�سات االجتماعية يف‬
‫تتعلق مبا مثله حدث توقف ثماين �صحف عن‬ ‫التحليل الوظيفي تثبت النظام والتوازن داخل‬
‫ال�صدور ملدة �أ�سبوعني بالن�سبة �إىل القراء وذلك‬ ‫املجتمع‪ .‬مبعنى �أن و�سائل الإعالم كجزء من‬
‫ب�سبب �إ�رضاب عمال التوزيع يف نيويورك‪� .‬أظهرت‬ ‫البناء االجتماعي هي متغري م�ستقل وع�ضو ي�ساند‬
‫هذه الدرا�سة التي �أجريت قبل قرابة ‪ 65‬عاما �أن‬ ‫وظيفيا النظام الع�ضوي للمجتمع وين�سحب عليه ما‬
‫ال�صحف ت�ؤدي عدة �أدوار وهي تقدمي املعلومات‬ ‫ين�سحب على الأع�ضاء �أو الأن�ساق الفرعية الأخرى‪.‬‬
‫‪100‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫اليومي من «ظلمة قامتة»(‪ )22‬ح�سب و�صف مي�شال‬ ‫العامة وتف�سري الأحداث وتقدم معلومات حول املال‬
‫مافيزويل (‪� )Michel Maffesolli‬إذ يح ّدد خ�صائ�ص‬ ‫والطق�س �إ�ضافة �إىل �أنها �أداة للهروب من العامل‬
‫احلياة اليومية يف «التناق�ض الوجداين وتعدد‬ ‫اليومي(‪.)19‬‬
‫الدالالت والتبدلية وانعدام الأهمية والتكرار»(‪)23‬‬ ‫والظاهر �أن نتائج هذه الدرا�سة ال تزال ذات‬
‫فالرتفيه �أو ما يعرب عنه يف نظرية اللعب يف‬ ‫م�صداقية �إن مل تت�أكد �أكرث ف�أكرث باعتبار م�ضاعفة‬
‫االت�صال اجلماهريي بات�صال املتعة ميثل �أحد �أهم‬ ‫�أ�سباب اال�ستخدام واحلاجات الباحثة عن الإ�شباع‬
‫�أ�سباب « تعر�ض الأفراد �إىل و�سائل‬ ‫يف ع�رص ُتهيمن عليه م�شاعر وحاالت القلق‬
‫الإعالم للتحرر من �ضغوط ال�ضبط �إن عجز‬ ‫واخلوف واالغرتاب‪ .‬كما يك�شف التزايد الهائل التي‬
‫اجلماهري‬ ‫االجتماعي»(‪)24‬‬ ‫�أ�صبح يعرفه عدد القنوات الإخبارية‪ ،‬عن تخمة‬
‫�أما كاتز(‪ ، )E. Katz‬فقط �ضبط عن التفكري‬ ‫يف الأحداث وت�شابكها وازدياد الغمو�ض‪ ،‬الذي‬
‫حاجيات الأفراد يف خم�س حاجيات‬ ‫ولّد بدوره حاجات نف�سية و�إدراكية متزايدة تبحث‬
‫كربى هي احلاجيات املعرفية املتمثلة املتعقل يحرمها‬ ‫عن التف�سري والفهم �إذ العالقة بني خف�ض الغمو�ض‬
‫يف اكت�ساب املعرفة والفهم والأخبار من كل روح‬ ‫وجدلية‪ .‬ولعله من املهم‬
‫ّ‬ ‫ع�ضوية‬
‫ّ‬ ‫وخف�ض التوتر‬
‫والوجدانية النف�سية وال�شخ�صية نقدية �أي‬ ‫مالحظة �أن اجلمهور ح�سب الإطار الفكري لنظرية‬
‫واالجتماعية ومعاجلة التوتر(‪)25‬‬ ‫اال�ستخدام والإ�شباع لي�س �سلبيا ‪ .‬بل �إن العالقة‬
‫وهو تلخي�ص بليغ يك�شف �إحاطة من كل قدرة‬ ‫مع و�سائل الإعالم حتتكم �إىل التفاعلية بني �أهداف‬
‫و�سائل الإعالم بعدة وظائف تعالج على التمييز‬ ‫اجلمهور ودور املتغريات الو�سيطة يف حتديد‬
‫بني احلقيقة‬ ‫خمتلف �أبعاد الفعل االجتماعي‪.‬‬ ‫هذه الأهداف و�سعي و�سائل الإعالم اجلماهريية‬
‫وملزيد ت�أكيد مركزية وظيفة تقدمي‬ ‫التقليدية �إىل �إ�شباع مقا�صد اجلمهور وحاجياته‪.‬‬
‫املعلومات للأفراد وللجمهور يف واخلط�أ‬ ‫تو�صل ديني�س ماكويل (‪ - )Denis McQuail‬الذي‬
‫منظومة الوظائف االجتماعية التي وبالتايل من‬ ‫يعترب و�سائل الإعالم اجلماهريية يف قمة الهرم‬
‫ت�ؤديها و�سائل الإعالم ‪ ،‬نذكر نظرية ت�شكيل حكم‬ ‫الذي اقرتحه للم�ستويات امل�ؤلفة للحقل االت�صايل‬
‫ترتيب الأولويات (‪ )26‬التي ظهرت‬ ‫‪� -‬إىل �ضبط احلاجيات التي تلبيها و�سائل الإعالم‬
‫‪ 1958‬بانتباه من الباحث برنارد دقيق على‬ ‫وهي تتوزع ما بني اكت�ساب الأخبار واملعلومات‬
‫كوهني (‪ )Bernard Cohen‬وهو ما الأمور‬ ‫عن البيئة املحيطة وحتقيق االندماج ودعم ال�سلوك‬
‫يعني �أن عالقة الفاعلني االجتماعيني‬ ‫واالجتاهات‪ ،‬حم ّددا يف مقابل ذلك ومن �صلب‬
‫بـ«املعي�ش اليومي»(‪ُ )27‬ت�شكلها‬ ‫احلاجيات املعلنة وظائف الإعالم املتمثلة يف‬
‫الر�سائل املعلوماتية والثقافية التي تبثها و�سائل‬ ‫حتقيق الفهم‪ ‬واملراقبة ودعم العالقات االجتماعية‬
‫مما يك�شف عن قوة ت�أثري و�سائل الإعالم‬ ‫الإعالم ّ‬ ‫والرتكيب الهوياتي ال�شخ�صي واالجتماعي للفرد‬
‫�صحفا و�إذاعات م�سموعة ومرئية يف حياة النا�س‬ ‫ووظيفة االلتحام االجتماعي والتفاعل االجتماعي‬
‫اليومية وتغلغلها �إىل درجة لعب دور ت�أطريي‬ ‫و�أي�ضا وظيفة الرتفيه(‪.)20‬‬
‫لأمناط ال�سلوك االجتماعي وذلك من خالل تركيز‬ ‫وباعتبار �أن �إفراد «م�ساحة للرتفيه هي من‬
‫و�سائل الإعالم على ق�ضايا و�أحداث بعينها و�إهمال‬ ‫خ�صائ�ص احل�ضارة ال�صناعية والتقنية»(‪ ،)21‬ف�إن‬
‫ق�ضايا �أخرى مبعنى �أن و�سائل الإعالم هي من‬ ‫الت�سلية تعد وظيفة �أ�سا�سية من وظائف و�سائل‬
‫يرتب انتقائيا مراكز اهتمام الر�أي العام وتوجهه‪.‬‬ ‫الإعالم وهي تلبي حاجة نف�سية اجتماعية حيث‬
‫ويف هذا ال�صدد من غري املمكن القفز على درا�سة‬ ‫ت�ساعد الت�سلية الأفراد على مقاومة ما يت�صف به‬
‫‪101‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫االجتماعي كمنظومة اجتماعية كاملة �أ�ضاف �إليها‬ ‫هارولد الزوال (‪ )Harold Lasswell‬ذات اجلذور‬
‫�إىل جانب الوظائف ال�سابقة الذكر وظيفة املحافظة‬ ‫الوظيفية يف مقاربتها لت�أثري و�سائل الإعالم‬
‫على الأمناط واملعايري‪.‬‬ ‫اجلماهريية ذلك �أن نظريته امل�سماة «�إطالق‬
‫رمبا ا اال�ستنتاج �أن و�سائل الإعالم تقوم بوظيفة‬ ‫الر�صا�صة» �أو «احلقنة املخدرة»‪� ،‬إمنا تقوم على‬
‫ثقافية تربوية �أحيانا معلنة و�أحيانا غري ذلك‬ ‫ت�أكيد قوة ت�أثري و�سائل الإعالم على اجلمهور وهي‬
‫وهي وظيفة ا�ستدعاء الثقايف لل�ضبط االجتماعي‬ ‫قوة �شبهها بالر�صا�صة وت�أثريها ‪� -‬أي و�سائل‬
‫مما يعزز التحليل الوظيفي لو�سائل الإعالم بحكم‬ ‫ّ‬ ‫الإعالم‪ -‬اعتربه مطابقا لت�أثري احلقنة املخدرة‪.‬‬
‫جوهرية امل�س�ألة الثقافية ومتوقعها يف جوهر‬ ‫ف�أمنوذج ال�سوال لالت�صال تكمن �أهميته يف �إ�ضافة‬
‫ما هو اجتماعي �سواء يف �أمناط �سلوك الفرد �أو‬ ‫عن�رص الت�أثري (من؟ يقول ماذا؟ وب�أي‬
‫لتيودور �أدورنو‬
‫اجلماعات �أو املجتمع ‪ .‬فاحلياة االجتماعية‬ ‫و�سيلة؟ وملن؟ وب�أي ت�أثري؟) وهي‬
‫الإن�سانية تتميز بوجود الثقافة والتقاليد الثقافية‬ ‫الذي يرى الإ�ضافة املدخل التي قدم يف �إطارها‬
‫والواقعة االجتماعية تنقل طرائق التفكري وال�شعور‬ ‫�أنه مع ظهور قراءة يف ت�أثري الدعاية خالل احلرب‬
‫والتفاعل(‪.)30‬‬ ‫العاملية الأوىل منتهيا �إىل جمموعة‬
‫من جهة ثانية نعتقد �أن وجاهة نقد روبريت مريتون‬ ‫من اال�ستنتاجات وهي القوة الكبرية‬
‫الر�أ�سمالية‬
‫ملبد أ� التكامل واالن�سجام مل ُي�ضعف املنظور البنائي‬ ‫�أ�صبحت لو�سائل الإعالم يف الت�أثري على �سلوك‬
‫الوظيفي لو�سائل الإعالم‪ ،‬بقدر ما دعمه وجعله �أكرث‬ ‫منتجات اجلمهور وكيف �أن و�سائل الإعالم‬
‫مو�ضوعية وذلك لأن تن�سيب مبد�أ التكامل والتما�سك‬ ‫هذه‪ ،‬هي �أدوات لإدارة الرموز امل�ؤثرة‬
‫االجتماعيني �أكرث تال�ؤما مع طبيعة املجتمعات‬ ‫ال�صناعة وتوزيعها على الر�أي العام(‪. )28‬‬
‫احلديثة التي تعاين �أحيانا من عدم التكامل والتفكك‬ ‫الثقافية «كلها �إىل جانب قوة و�سائل الإعالم من‬
‫واالنحراف‪ .‬لذلك‪ ،‬ف�إن تنبيه مريتون يف كتابه‬ ‫�سلعة والربح ناحية كونها م�صدرا للمعلومات‬
‫«عنا�رص النظرية واملنهج ال�سو�سيولوجي» �إىل‬ ‫وموزعة لها وتطور �أدواتها يف‬
‫�رضورة احلذر من فكرة التكامل واالن�سجام للن�سق‬ ‫هو كل �شيء الإحاطة ال�رسيعة و�أحيانا الفورية‬
‫الكلي والت�شكيك فيها(‪ ،)31‬تدافع عنه ظروف ن�ش�أة‬ ‫ملا هو حدث �آين‪ ،‬ف�إنها متثل م�صدرا‬
‫ال�سو�سيولوجيا نف�سها ‪ ،‬فال يجب �أن نن�سى كون‬ ‫�أ�سا�سيا اليوم يف ت�شكيل ر�أ�س املال الرمزي للأفراد‬
‫ال�سو�سيولوجيا هي �إرثا للحداثة مع ما يعنيه ذلك‬ ‫واجلماهري وذلك من خالل �أداء وظيفة نقل الرتاث‬
‫من ظهور م�شكالت اجتماعية جديدة تنتج بدورها‬ ‫االجتماعي والتدخل يف ت�شكيل املخيال والتمثالت‬
‫حاالت عدم اال�ستقرار �أكرث من �أو�ضاع متما�سكة‪.‬‬ ‫االجتماعية ال�شيء الذي يفيد �أن التحليل البنائي‬
‫كما �أن احلاجة �إىل املعلومات والتف�سري وخف�ض‬ ‫الوظيفي لو�سائل الإعالم قد ا�ستفاد و�أ�صبح‬
‫التوتر والغمو�ض تعرف ت�صاعدا نوعيا يف �أوقات‬ ‫�أكرث م�صداقية مع الأعمال الوظيفية النقدية‬
‫عدم اال�ستقرار والأزمات والأحداث ال�ساخنة‬ ‫التي قدمها الوظيفيون اجلدد تالكوت بار�سونز‬
‫واحلروب والنزاعات �أكرث منه يف حاالت اال�ستقرار‬ ‫وروبرت مريتون‪ .‬ونق�صد بذلك �أن نظرية تالكوت‬
‫والتوازن االجتماعيني حيث �إن متابعة �أخبار‬ ‫وكيفية فهمه لبنية الفعل االجتماعي تنطبق كذلك‬
‫ال�صحف والإذاعات والقنوات التلفزية ت�صبح‬ ‫على و�سائل الإعالم التي متثل ن�سقا فرعيا داخل‬
‫أ�سا�سية وتت�ضاعف كثافة‬ ‫ّ‬ ‫ممار�سة ثقافية �‬ ‫الن�سق الكلي‪ .‬من هذا املنطلق الذي يقارب فيه‬
‫التعر�ض �إىل و�سائل الإعالم ال�سمعية الب�رصية‬ ‫بار�سونز الفعل االجتماعي مقاربة ال فقط وظيفية‬
‫اجلماهريية وذلك بحثا عن �إ�شباع معريف ونف�سي‬ ‫و�إمنا خ�صو�صا منظومية(‪� )29‬أي �أنه يفهم الفعل‬
‫‪102‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫و�سائل الإعالم كن�سق فرعي وم�ستقبلي الر�سائل‬ ‫واجتماعي(‪.)32‬‬


‫املعلوماتية الإعالمية والن�سق االجتماعي الكلي‪،‬‬ ‫�إذن ميكن القول �إن و�سائل الإعالم وحتديدا‬
‫ت�ستند �إىل االعتماد املتبادل الذي ي�ساعد الفاعلني‬ ‫اجلماهريية منها نظم اجتماعية م�ؤثرة �إىل حد‬
‫االجتماعيني على فهم الأن�ساق الفرعية الأخرى‬ ‫كبري يف املعي�ش االجتماعي اليومي للفاعلني‬
‫كنظم ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية املكونة‬ ‫االجتماعيني الذين تربطهم بها عالقة اعتماد‬
‫للمنظومة االجتماعية العامة‪ .‬بل �إن هذا االعتماد‬ ‫متقدمة حتى �أن بع�ض اخلرباء يرون يف و�صف‬
‫املتبادل بني و�سائل الإعالم والنظم االجتماعية‬ ‫«التبعية» �أكرث دقة وتعبريا عن طبيعة العالقة التي‬
‫الأخرى يكت�سي طابعا �إلزاميا(‪ )35‬يف املجتمعات‬ ‫باتت حتكم عالقة الأفراد واملجتمعات بال�صحف‬
‫املركبة‪.‬‬
‫الراهنة ذات اخلا�صية ّ‬ ‫ّ‬ ‫والإذاعات والتلفزيونات وغريها من و�سائل الإعالم‬
‫كما �أن اعتماد الأن�ساق الفرعية الأخرى على و�سائل‬ ‫اجلماهريية ذات الت�أثري اجلماهريي القوي‪.‬‬
‫الإعالم ال ميكن التغا�ضي عنه بدليل تواتر الربط‬
‫بني دور و�سائل الإعالم يف التغيري االجتماعي‬
‫‪ 3-1‬لزوم االعتماد املتبادل على و�سائل‬
‫وم�سائل التنمية والتقدم‪ .‬بل �إن و�سائل الإعالم‬ ‫الإعالم يف املجتمعات ال ّراهنة‬
‫مثلت يف اخلم�سينيات وال�ستينيات من القرن‬ ‫�إن فكرتي االعتماد واالعتماد املتبادل هما �أهم‬
‫املا�ضي خ�صو�صا يف دول العامل العربي امل�ستقلة‬ ‫�إ�ضافات النظريات ال�شهرية التي حتمل ا�سم «نظرية‬
‫مما‬
‫حديثا �آنذاك �أداة مهمة و�أ�سا�سية للتحديث(‪ّ ، )36‬‬ ‫االعتماد على و�سائل الإعالم»‪ .‬فقد ك�شفت هذه‬
‫ُيعيدنا �إىل املقاربة املنظومية التي و�ضعها تالكوت‬ ‫النظرية التي مرت بعدة �أطوار‪ ،‬العالقة الدائرية بني‬
‫بار�سونز لبنية الفعل االجتماعي وتركيزه على‬ ‫اجلمهور وو�سائل الإعالم واملجتمع و�أن ظاهرة‬
‫البعد الثقايف‪ .‬لذلك ف�إن انخراط و�سائل الإعالم يف‬ ‫االعتماد على و�سائل الإعالم �إمنا هي تعود �إىل‬
‫امل�رشوع التحديثي والعمل على نقل قيمه و�أفكاره‪،‬‬ ‫الوظائف التي ت�ؤديها واملتمثلة ح�سب �أ�صحاب‬
‫�إمنا هو م�سوغ �إ�ضايف ملكانة و�سائل الإعالم‬ ‫هذه النظرية التي تو�صف ب�أنها نظرية «بيئية»‬
‫اجلماهريية وقوتها ال فقط كم�صدر للمعلومات‬ ‫‪ ،‬يف الإعالم والتعلم والإقناع والعالقات العامة‬
‫بل �أي�ضا كفاعل م�ؤثر يف ت�شكيل منظومة قيمية‬ ‫والتغيري االجتماعي(‪ .)33‬ومن ثمة‪ ،‬ف�إن الفكرة‬
‫ورمزية جديدة للأفراد واملجتمعات‪.‬‬ ‫اجلوهرية يف نظرية االعتماد على و�سائل الإعالم‬
‫�إذا كانت و�سائل الإعالم من منظور البنائية‬ ‫ذات اجلذور البنائية الوظيفية تكمن يف ت�أكيد قدرة‬
‫الوظيفية‪ ،‬هي ن�سق فرعي ي�سهم يف حتقيق التوازن‬ ‫و�سائل الإعالم واالت�صال على الت�أثري املعريف‬
‫والتما�سك وي�شبع حاجات الأفراد املختلفة �إىل‬ ‫والنف�سي العاطفي و�أي�ضا يف طبيعة املمار�سات‬
‫درجة ح�صول نوع من التبعية �إىل و�سائل الإعالم‪،‬‬ ‫بحكم امتالك و�سائل الإعالم للمعلومات وقيامها‬
‫ت�صور لنا املدر�سة النقدية و�سائل الإعالم‬
‫ّ‬ ‫فكيف‬ ‫بالتوزيع والن�رش‪ .‬و�إذا كانت هذه النظرية التي‬
‫وت�أثرياتها؟‬ ‫ظهرت يف �أمنوذجها الأول �سنة ‪ ،1976‬قد ركزت‬
‫على م�س�ألة املعلومات ومركزيتها يف ظاهرة‬
‫‪ -2‬النظريّات النقديّة ونقد حمتوى‬ ‫اعتماد الأفراد واملجتمعات على و�سائل الإعالم ‪،‬‬
‫و�سائل الإعالم‪:‬‬ ‫ف�إن التطورات التي قدمتها عام ‪، )34( 1994‬‬
‫يعود تاريخ ظهور الأفكار الأوىل التي قامت عليها‬ ‫�أ�شارت �إىل فكرة �أخرى �أ�سا�سية هي م�س�ألة‬
‫النظريات النقدية �إىل الع�رشينات من القرن املا�ضي‬ ‫االعتماد املتبادل التي تت�صل بدورها مببد�أ‬
‫وحتديدا عند ت�أ�سي�س معهد البحث االجتماعي‬ ‫الت�ساند الوظيفي لدوركامي مبعنى �أن الروابط بني‬
‫‪103‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫«النقدية» ذلك �أن منطلقات النظريات النقدية‪ُ ،‬تي�رس‬ ‫يف فرانكفورت �سنة ‪ .1923‬ومن ثمة ف�إنه بلغة‬
‫للباحث الت�أ�صيل الفكري االجتماعي والفل�سفي‬ ‫ال�سنوات تكون �أطروحات النظريات النقدية املدافعة‬
‫ملواقف �أ�صحاب مدر�سة فرانكفورت من الثقافة‬ ‫عن العقل وقيم العقالنية قد بلغت ت�سعة عقود عرفت‬
‫ال�سائدة عموما ومن و�سائل الإعالم حمتوى وت�أثريات‪.‬‬ ‫فيها مراحل من اخلفوت والنجاح‪.‬‬
‫و ُيح�سب للنظر ّيات النقدية ذات اجلذور الهيجلية يف‬
‫‪� -1-2‬ضد الو�ضعيّة والإن�سان ذي البعد الواحد‪:‬‬ ‫خ�صو�ص النظرة �إىل العقل ومفهوم اجلدلية و�أي�ضا‬
‫ميثل نقد الفكر الو�ضعي والتجريبي مرتكزا �أ�سا�سيا‬ ‫املارك�سية امل�ؤ�س�سة ملفهوم الهيمنة يف عالقته‬
‫من مرتكزات النظريات النقدية التي ترف�ض ت�أليه‬ ‫بالرثوة‪ ،‬ربط ال�صلة بني العلوم االجتماعية والفل�سفة ‪.‬‬
‫الواقع وحتمية « الكليات» وطم�سها للفرد وملا هو‬ ‫وت�شمل النظريات النقد ّية اجتاهني تقريبا هما اجتاه‬
‫فردي‪ .‬وهي النقطة الأوىل امل�ؤ�س�سة لتعار�ضها مع‬ ‫مدر�سة فرانكفورت‬
‫�أهم م�سلمات االجتاه الو�ضعي الذي ي�شكل بدوره �أحد‬ ‫(‪ )L›Ecole de Francfort‬والنظرية الثقافية النقدية‬
‫الروافد الرئي�سية للمنظور الوظيفي لو�سائل الإعالم‪.‬‬ ‫و�أي�ضا اجتاه نظرية االقت�صاد ال�سيا�سي‪ ،‬مع العلم �أن‬
‫ولكن كيف تفهم «النظريات النقدية» النقد وماهي‬ ‫اخليط املنظم لهذين االجتاهني‪ ،‬ينهل من املنطلقات‬
‫املبادئ امل�ؤطرة ملواقفها واملعجم الرثي باملفاهيم‬ ‫االجتماعية والفل�سفة نف�سها وي�ستند �إىل امل�سوغات‬
‫واملقوالت النقدية؟‬ ‫الأ�سا�سية للنظريات النقدية‪.‬‬
‫يعد ماك�س هوركامير (‪-1973( )Max Horkheimer‬‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬لعله من املهم التذكري باهتمام‬
‫‪� )1895‬أحد م�ؤ�س�سي مدر�سة فرانكفورت �إىل جانب‬ ‫مفكري النظريات النقدية بالت�أثريات ال�سلبية لو�سائل‬
‫تيودور �أدورنو(‪،)1903-1969( )Théodore Adorno‬‬ ‫الإعالم ناهيك عن ال�صلة القوية التي رمبا تربط بني‬
‫وهو من �صاغ ا�سم النظرية النقدية وذلك يف كتابه «‬ ‫ما ي�سميه روبرت مريتون الوظائف اخلفية واملعجم‬
‫النظرية التقليدية والنظرية النقدية»‪.‬‬ ‫الأ�سا�سي للنظريات النقدية وخ�صو�صا مفاهيم‬
‫�آالن هاو (‪ )Alan Haw‬يف كتاب له عنوانه «النظرية‬ ‫الثقافة اجلماهريية وت�سليع الثقافة وخداع اجلماهري‬
‫النقدية» ي�رشح مربرات �إطالق �صفة «النقدية» على‬ ‫وغري ذلك مع املفاهيم واملقوالت الأ�سا�سية يف‬
‫نظريات مدر�سة فرانكفورت والنظرية الثقافية‬ ‫اخلطاب الفكري العام مل�ؤلفات ودرا�سات �أ�صحاب‬
‫ونظرية االقت�صاد ال�سيا�سي‪ ،‬ويقول �إن هذا التو�صيف‬ ‫االجتاهات املن�ضوية حتت م�رشوع النظريات النقدية‪.‬‬
‫مرده «الربط بني بع�ض �أفكار هيجل وت�شديد كارل‬ ‫ّ‬ ‫وهي �صالت وروابط �سمحت لنا بافرتا�ض تبني‬
‫مارك�س على طبيعة الوجود املادية»(‪.)37‬‬ ‫مدر�سة فرانكفورت ملوقف نقدي �إزاء و�سائل الإعالم‬
‫وعالوة على �أن النقد كما متار�سه اجتاهات‬ ‫اجلماهريية باعتبار الوظائف التي ت�ؤديها يف‬
‫النظريات النقدية هو ذلك النقد الذي يدافع على‬ ‫املجتمع احلديث اجلامع بني الت�صنيع واال�ستهالك‪،‬‬
‫العقالنية ومكانة العقل وحرية الفرد �أي النقد الذي‬ ‫دون �أن يفوتنا يف هذا ال�سياق تلك التقاطعات‬
‫يعك�س جت�سيدا للمبادئ الإن�سانية الكونية التي‬
‫املوقفية بني هذا املوقف النقدي وما ت�ستبطنه بع�ض‬
‫نادى بها التنوير لذلك ف�إن هربرت ماركيوز( (�‪Her‬‬
‫نقاط النظريات االت�صالية والإعالمية املتعلقة بدور‬
‫‪ )1898 - 1979( )bert Marcuse‬ي�شدد على فكرة �أن‬
‫حار�س البوابة �أو القائم باالت�صال‪.‬‬
‫«التقومي النقدي‪ ...‬هو احلقل الفعلي للمعرفة»(‪.)38‬‬
‫ويف احلقيقة‪ ،‬يبدو لنا �أن فهم الإطار الباراديغمي‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫للنظريات النقدية يتحقق بتحديد �أهم املفاهيم‬
‫ذات املركزية الفكر ّية يف م�رشوعها احلامل لل�صفة‬

‫‪104‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫الرواية العربية‪:‬‬
‫املتخيَّل وبنيته الفنية ليمنى العيد‪..‬‬
‫�س�ؤال النقد‪ ..‬جواب الفن‬
‫ماجــد ال�ســـامرائي‬
‫ناقد واكادميي من العراق‬

‫ف�إذا كانت الأعمال الروائية التي تناولتها‪،‬‬ ‫�إذا كانت العقود الثالثة الأخرية قد‬
‫والق�ضايا التي �أثارتها الناقدة من خاللها‬ ‫عرفت زخم ًا كبرياً يف النتاج الروائي‬
‫ال تزال ممتدة احل�ضور يف واقعنا‪� ،‬إن مل‬
‫تكن يف �صلب الوجود الثقايف لهذا الواقع‪،‬‬
‫العربي‪ ،‬ف�إنها‪ ،‬بالتزامن‪ ،‬قد عرفت من‬
‫فذلك هو ما يجعل لهذا الكتاب �أهميته‬ ‫الدرا�سات التي كتبت يف هذه الرواية‪،‬‬
‫النقدية‪ ،‬وقد �أكدت على ثالثة عنا�رص يف‬ ‫ما ك�شف عن خمتلف جوانبها الفنية‬
‫تكوين العمل الأدبي‪ ،‬وتناولته من خاللها‪،‬‬ ‫واملو�ضوعية‪ ،‬وعزز ح�ضورها بو�صفها‬
‫وهي‪ :‬املوقف‪ ،‬والفعالية‪ ،‬وااللتزام‪ ..‬ممثلة‬ ‫الفن املتقدم اليوم على الفنون الأخرى‬
‫بهذا م�شاركة ذات بعدين �أ�سا�سني‪ :‬فني‪،‬‬
‫وفكري‪ .‬فالناقدة تق ّدم كتابها من هذين‬ ‫يف احلياة الثقافية العربية‪ ،‬ف�ض ًال عما‬
‫املنطلقني اللذين ت�ؤ�س�س عليهما‪ ،‬لي�شكال‬ ‫�أثارته هذه الكتابات بح ّديها‪ ،‬االبداعي‬
‫�أفق القراءة عندها‪ ،‬م�ؤكدة‪ ،‬خال�صة لذلك‬ ‫والنقدي‪ ،‬من �أ�سئلة انبنت عليها غري‬
‫وا�ستخال�ص ًا منه‪ ،‬الدور الفاعل‪ ،‬ايجاب ًا‬ ‫درا�سة من الدرا�سات التي كتبت يف هذا‬
‫و�سلباً‪ ،‬للفعل الثقايف �إزاء‪� /‬أو يف مواجهة‬
‫ال�سياق‪ ،‬والتي عربت عن ر�ؤية نقدية‬
‫الفعل االجتماعي لالن�سان ـ و�إن �أ�صدرت‬
‫يف هذا من واقع انحياز للمنهج الواقعي‬ ‫كبرية الو�ضوح‪ ،‬وحمددة بغايات البحث‬
‫ببعده الفكري وا�ضح االحالة اىل موارده‪.‬‬ ‫وتوجهاته‪ .‬وي�أتي كتاب الناقدة مينى‬
‫جتد الناقدة يف الأعمال التي قر�أتها نقدي ًا‬ ‫العيد عن «الرواية العربية‪ :‬املتخ َّيل‬
‫�أعما ًال �إن مل ت�شكل �شهادة على الع�رص‬ ‫وبنيته الفنية» كتاب ًا ف�صوله حممولة‬
‫فهي �شهادة من ع�رص مل يخ�ضع للتفاعل‬
‫نب على‬
‫على مواجهة نقدية لهذا الواقع الذي‬
‫قدر خ�ضوعه للقمع واالبتزاز‪ ،‬ومل ُي َ‬
‫معاين احلياة‪ ،‬مبا فيها انت�صار االن�سان‬ ‫�أ�صبح واقع ًا تاريخي ًا‪ ،‬يف بعد من �أبعاد‬
‫�أو االنت�صار له‪ ،‬بقدر ما قام على �سحق‬ ‫التاريخ ومعناه‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التي ق���ر�أت‪ ،‬بحث ًا يف «�أث��ر ه��ذا ال��واق��ع املعي�ش‪،‬‬ ‫هذا االن�سان وال�صعود على حطامه‪ ..‬وهو‪ ،‬بح�سب‬
‫وب�صفته املرجعية‪ ،‬يف ت�شكّل بنية عامل الرواية»‪،‬‬ ‫ر�ؤيتها له‪ ،‬مل يكن ع�رص �صواب بقدر ما كان ع�رص‬
‫وتعالق مكوناته‪ ،‬و«التوظيف الداليل لها»‪ ..‬ومن‬ ‫خط�أ وتكري�س لهذا اخلط�أ‪ ..‬ومل تكن حياة االن�سان‬
‫ثم «�أثر هذا الواقع املعي�ش يف الدينامية ال�رسدية‪،‬‬ ‫فيه مقرتنة باحلرية بقدر ما هي حياة مفرو�ضة‬
‫�أو يف ما يخ�ص زمن ال�رسد و�سياقاته»‪ ،‬من دون‬ ‫ق�رساً على هذا االن�سان مبا لها من تراجعات‪ ،‬وما‬
‫�أن تتغا�ضى عن «املنظور الت�أليفي للعمل الروائي»‪.‬‬ ‫فيها من انك�سارات‪ .‬كما �أن االن�سان فيها مل يكن‪،‬‬
‫طور مفهوم الواقعية يف‬ ‫(�ص‪ )9‬ـ ويف هذا‪� ،‬إمنا ُت ِّ‬ ‫�إال يف بع�ض من م�ضامني ابداعه‪� ،‬صانع حياة‬
‫وتو�سع ف�ضاءاتها من خالل النظر‬ ‫ّ‬ ‫النقد الأدب��ي‪،‬‬ ‫باختياره‪.‬‬
‫املفتوح يف العمل الروائي ـ مو�ضوع قراءتها‪ ..‬بل‬ ‫مثل هذه الق�ضايا حتتاج قارئة‪ /‬ناقدة على ن�صيب‬
‫هي‪ ،‬هنا‪ ،‬حتقق ملفهوم القراءة‪ ،‬بو�صفه مفهوم ًا‬ ‫من اجل��ر�أة ملراجعتها ـ وهذا ما �ستحر�ص م�ؤلفة‬
‫نقدياً‪� ،‬أبعاده الفنية واملو�ضوعية‪ ،‬وهو منظور «ال‬ ‫الكتاب على القيام به‪� ،‬آخذ ًة ذلك مبفهومات النقد‪،‬‬
‫ي�ست�أثر باملعرفة‪� ،‬أو بالر�ؤية واملوقف‪ ،‬بل يدعو‬ ‫كما تتبناها‪ ،‬معيدة قراءة الذات املبدعة يف بعديها‪:‬‬
‫القراءة اىل امل�شاركة يف ما تقوله الرواية» ـ كما‬ ‫ُبعد ال��ذات ـ تكوين ًا ابداعياً‪ ،‬و ُبعد ال��ذات ـ موقف ًا‬
‫جاء يف ما حددت به‪ /‬ومن خالله طبيعة الرواية‬ ‫اجتماعياً‪ .‬فنحن‪ ،‬معها يف هذا الكتاب‪� ،‬أمام منطقني‬
‫اللبنانية التي كُ تبت زمن احلرب‪�( .‬ص‪)9‬‬ ‫يك�شف عنهما‪� /‬أو يتحددان يف‪ :‬منطق الفكر‪ ،‬ومنطق‬
‫هذا املرتكز النظري ـ الذي ال ب ّد من ا�ستيفاء جوانبه‬ ‫الواقع ـ التاريخ‪ ،‬مبا لهما من ح�ضور وت�أثري يف‬
‫املتخيل الروائي‬
‫َّ‬ ‫كافة ـ و«القائم على العالقة بني‬ ‫حياتنا احلا�رضة‪ ،‬مع مالحظة �أن الناقدة‪ ،‬هنا‪ ،‬ال‬
‫املتخيل»‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وبني املرجعي احلي الذي يحيل اىل هذا‬ ‫«ت�صنع» مواقف بقدر ما ت�ستخل�ص مما تقر�أ‪ ..‬وكل‬
‫خولها «ك�شف معنى ال�سلطة الذكورية‬ ‫جتده قد ّ‬ ‫ع ّدتها‪ :‬منهجية املراجعة‪ ،‬وجر�أة القول‪� ،‬أو ال�س�ؤال‬
‫وحقيقتها يف �أكرث من عمل روائي»‪ ،‬كما �أتاح لها‬ ‫الذي يدفعها اىل �أن ت�شري‪ ،‬بداية‪ ،‬اىل �أنها �إمنا تقر أ�‬
‫ـ كما ت�ؤكد ـ «تبيان دالالت العالقة بني الذكورة‬ ‫الرواية «بهدف بلورة مفهوم نظري يكون جواب ًا عن‬
‫والأنوثة‪ ،‬وبني الذكورة والعنف الذي ي� ّؤوله عنف‬ ‫�س�ؤال» كانت قد �أثارته «حول �أثر املرجع احلي يف‬
‫النظم وتراتب العالقات املجتمعية فيه»‪ ،‬وجتد �أن‬ ‫بنية ال�شكل الفنية ودالالت هذه البنية الروائية»‪،‬‬
‫الرجل هو من يتوالها و ُيكر�سها‪ ...‬ف�ض ًال عما تراه‬ ‫معتمدة يف ذلك مفهومات «نقدية ُتطلق القراءة وال‬
‫من �أن الثقافة العربية‪ ،‬مبا هي ثقافة املتداول‬ ‫ُتخ�ضعها لها»‪� ..‬أما �أ�سا�س هذه املمفهومات فيتعينّ‬
‫واملهم�ش‪ ،‬ق��ادرة على �أن توفر امكانية ل�صياغة‬ ‫َّ‬ ‫يف ت�أكيد «العالقة‪ ،‬غري املبا�رشة‪ ،‬بني العمل الأدبي‬
‫خطاب روائي عربي‪ ،‬داعية اىل �إعادة االعتبار اىل‬ ‫واملرجعي من طريق االحالة»‪�( .‬ص‪)8‬‬
‫الكال�سيكية ال�رسدية التي جتد �أن بع�ض الروائيني‬ ‫و�إذا كانت جتد �أن �س�ؤال املبدع‪ /‬الروائي العربي‬
‫العرب قد مال اىل تو�سلها مبا يتالءم ومنظورهم‬ ‫ع��ن «الكيفية» التي يقول بها (يف كتابة عمل‬
‫لرواية عربية الطابع الفني واالهتمام املو�ضوعي‪.‬‬ ‫روائ��ي) قد و�ضعه �أمام حقائق ذاته‪ ،‬االجتماعية‬
‫(�ص‪)10‬‬ ‫والتاريخية‪ ،‬ف�إن ذلك هو الطريق الذي اتخذ (هذا‬
‫وت�أ�سي�س ًا على هذا‪� /‬أو انطالق ًا منه‪ ،‬جتد �أن جنيب‬ ‫الروائي) نحو «رواية ت�ستجيب لذاكرتنا وتاريخنا»‪..‬‬
‫حمفوظ يف «مريامار» قد تو�سل «تقنية املنظور‬ ‫فال�س�ؤال‪ ،‬كما ت�ستغوره الناقدة من خالل قراءتها‪،‬‬
‫املختلف للحكاية التي �شكلت عقدة الرواية‪ ،‬وق ّدم‬ ‫�س�ؤال يحيل اىل «مرجعي خا�ص» من دون �أن ينفي‬
‫�شخ�صيات تنوعت ر�ؤاه��ا وتعبرياتها اللغوية يف‬ ‫الطابع العام‪ ،‬امل�شرتك‪ ،‬للفنون» (�ص‪ .)8‬وعلى هذا‬
‫تناوبها على حكاية ه��ذه احلكاية»‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫فهي �إمنا تق ّدم‪ ،‬هنا‪ ،‬ومن خالل الأعمال الروائية‬
‫‪106‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫فاعلية» العاملني الثقايف والأدب���ي‪« ،‬وت�ستعري‬ ‫جتده عبرّ ‪� ،‬أكرث ما عبرّ ‪« ،‬عما هو م�شرتك يف الوعي‬
‫جمالية امل�ضمون مكانتها و��ض�رورة ت�شكلها‬ ‫اجلمعي امل�ضمر لهذه ال�شخ�صيات» (�ص‪ ،)19‬ذلك‬
‫املختلف»‪�(.‬ص‪ )33‬ومن هنا ماجتد فيه الكتابة‬ ‫�أن ما ي�شغل الناقدة يف قراءتها هذه‪ ،‬كما ت�ؤكد‪،‬‬
‫�ضعت �أمام واقع ا�شكايل‪ :‬ف�أبناء املدينة‪،‬‬
‫«و ْ‬
‫وقد ُ‬ ‫«هو الداللة املولَّدة على قاعدة العالقة باملرجع‬
‫�أو الوطن‪ ،‬هم الذين يدمرون مدينتهم ووطنهم»‪،‬‬ ‫احلي‪� ،‬أوالأن��ا» غري املنغلق على ذاته‪ ،‬مبا تعنيه‪،‬‬
‫وقد �شمل التدمري «ن�سيجها االجتماعي‪ ،‬وما كان‬ ‫هذه الأن��ا‪« ،‬من هوية وثقافة وتاريخ»‪�( .‬ص‪)31‬‬
‫يرمز �إليه عمرانها من قيم ثقافية بها ارتبط الوعي‬ ‫ومن خالل هذا تنظر يف مو�ضوع الكتابة الروائية‬
‫وتكون»‪�( ،‬ص‪)38‬وهو ما يجعل‪ ،‬بح�سب‬ ‫َّ‬ ‫اجلمعي‬ ‫يف زمن احلرب اللبنانية لتجدها قد �شكلت «م�شكلة‬
‫الر�ؤية النقدية التحليلية للناقدة‪ ،‬م�س�ألة تفكيك‬ ‫�شائكة‪ ،‬لأنها قائمة يف حلظة مفارقة حادة بني‬
‫البنى القيمية للمدينة وثقافتها وا�ضحة‪ ،‬كما يجعل‬ ‫(املتخيل)‪ »...‬مبا يطرح‬
‫َّ‬ ‫املرجعي (الواقع) والأدبي‬
‫خط االفرتاق بني منظورين اىل املجتمع‪ ،‬وموقفني‬ ‫على الكتابة «��ضرورة انت�شال ذاتها ـ مبا يعادل‬
‫منه‪ /‬وفيه وا�ضح املعامل‪ :‬فالقطع متحقق‪ ،‬كما‬ ‫والدة جديدة لها‪�( ».‬ص‪)32‬‬
‫ت��رى‪ ،‬مع مرجعية روائية تعطيها ُبعد التاريخ‪،‬‬ ‫وتنظر نظرة ا�ستغوارية اىل طبيعة احلروب ووالدة‬
‫مبا فيها من منظومة قيم وقواعد بنائية ـ �إحالية‪،‬‬ ‫الكتابة يف واقعها‪ ،‬فتجدها‪ ،‬يف العمق منها‪ ،‬متثل‬
‫وبني «مرجع م�صاب بالدمار يف مكانه وزمانه‬ ‫«والدة املعاين القادرة على �أن ت�شكل يف الثقافة‪ ،‬ال‬
‫وقيمه و�أنا�سه»‪ )39( ،‬ووج��دت يف هذا انحراف ًا‬ ‫جمرد خطاب �سيا�سي‪ ،‬بل فاعلية �أدبية قوامها لغة‬ ‫ّ‬
‫«بالنظر نحو ال��ذات»‪ ،‬فبدا وك�أنه يخ�ص ـ بح�سب‬ ‫الق�ص والبناء»‪ ،‬و�إن كانت جتدها والدة‬‫ّ‬ ‫يف‬ ‫متميزة‬
‫قراءتها ـ «عالقة الرواية بالرواية على حد تدمري‬ ‫تعاين‪ ،‬يف الآن ذاته‪ ،‬من «خواء العالقة باملرجعي‬
‫بطولة ال�شخ�صية فيها‪ ،‬وتدمري لغتها‪ ،‬وقواعد بناء‬ ‫دمر مادي ًا وقيمياً»‪ ،‬ويح ّتم‬
‫من حيث هو جمتمع ُي ّ‬
‫خطابها»‪ ،‬ف�ض ًال عن «عالقة الرواية بواقع مرجعي‬ ‫«��ض�رورة االن��ب��ن��اء امل��ع��ريف والت�شكل النوعي»‬
‫هو نف�سه قيد التدمري‪�( »...‬ص‪ )40‬ويف ال�سياق ذاته‬ ‫ـ (�����ص‪ )32‬وه��و م��ا يجعلها ت���رى �أن قراءتها‬
‫جتد يف االجابة عما تثري من �س�ؤال حول الكيفية‬ ‫«الن�صو�ص الأدبية املنتجة يف زمن احلرب‪ ،‬مبثابة‬
‫التي حلت بها «رواي��ة احل��رب اللبنانية �س�ؤالها‬ ‫تلم�س لتجلياتها النوعية اخلا�صة‪�( »...‬ص‪32‬ـ‪)33‬‬
‫اال���ش��ك��ايل؟» �أن اجل���واب ينح�رص يف خ�صائ�ص‬ ‫وتعني منها «املتغريات البنائية اجلمالية يف حلظة‬
‫�أبرزها «زمن ال�رسد» الذي ترى فيه زمن ًا يتك�رس يف‬ ‫مفارقة ح��ادة بني املرجعي (الواقعي) والأدب��ي‬
‫هذه الرواية‪ .‬فال�رسد «الذي يك�رس زمنه يبدو وك�أنه‬ ‫(املتخيل)‪ »...‬بل تذهب يف ما هو �أبعد فتجد يف‬ ‫َّ‬
‫يدمر امل�رسود الراهني نف�سه وال يكتفي بو�ضعه‬ ‫هذه الكتابة «معاد ًال نقدياً» للحرب ‪ ،‬هو ما يجعل‬
‫بعالقة غربة مع ما�ضيه التاريخي (‪ ،)...‬بل مع ذاته‬ ‫«امل�شهد‪ ،‬بكل خ�صائ�صه البنائية‪ ...‬يت�شكل كمر�آة‬
‫�أي�ضاً» مبا «جعل الزمن يبدو حلظوي ًا حا�رضاً يف‬ ‫داللية لواقع يعاين فيه النا�س»‪�( ،‬ص‪ )33‬وهو ما‬
‫حلظويته»‪���( .‬ص‪� )41،42،43‬أما الهوية ف�إن هذه‬ ‫و�ضعته مو�ضع نظر من خالل القراءة وامل�ساءلة‪.‬‬
‫�سوية»‪ ،‬ومت ّثل‪ ،‬يف‬
‫ال�شخ�صية تك�شف عن «هوية ال ّ‬ ‫و أ�م��ام هذا تثري ال�س�ؤال عما �إذا «كان ما �آل �إليه‬
‫غري رواية من روايات احلرب هذه‪« ،‬معاناة فعلية‬ ‫املتخيل الأدبي م�رشوط ًا بدمار الواقع املرجعي؟»‬ ‫َّ‬
‫لتفكك تعي�شه ال�شخ�صية وتعبرّ عنه �سلوكاتها‬ ‫فيكون ذلك منطلقها يف ما جعلت لقراءاتها من‬
‫ومنطوقاتها‪�( ».‬ص‪)45‬‬ ‫م�سار جتد معها م�س�ألة العالقة لي�ست «�سببية‬
‫ف���إذا ما ج��اءت اىل «دالالت املرجعي يف العامل‬ ‫على قاعدتها يتكامل الأدب��ي بنق�صان املرجعي‪،‬‬
‫املتخيل وبنيته الفنية» وقفت على ثالثة مفا�صل‬
‫َّ‬ ‫�أو ب��دم��اره‪ ،‬بل هي م�س�ألة مفارقة تتعزز معها‬
‫‪107‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫احلقائق»‪�(.‬ص‪)72،73‬‬ ‫من خالل ثالثة مو�ضوعات‪ ،‬هي‪ :‬ثورة النا�رصية‬
‫وامل�س�ألة الأخرى هي امل�س�ألة الطائفية يف الرواية‬ ‫ودالالتها يف رواية «مريامار»‪ ،‬الرواية التي جتد‬
‫اللبنانية‪ ،‬الداللة وحتوالتها التاريخية‪ ،‬فتتابعها‪،‬‬ ‫فيها «منوذج ًا رائداً لبنية ال�شكل الروائي املتميز‬
‫م�����س��ارات وحت����والت‪ ،‬ب�ين ال�����س���ؤال ع��ن «ال���ذات»‬ ‫بحداثته واختالفه على �أ�سا�س من تعامله مع‬
‫�سيتحول من‬
‫ّ‬ ‫عمق «االنتماء»‪ ،‬الذي‬ ‫والبحث عما ُي ّ‬ ‫واقع الثورة النا�رصية وما �آل �إليه هذا الواقع قبيل‬
‫ال�ضيق‪ ،‬واالنتقال من‬ ‫ّ‬ ‫ُبعده الوا�سع اىل جماله‬ ‫الهزمية»‪ ،‬و�أن ا�شتغال خطابها يتمتع «بدرجة‬
‫«البعد الفردي» للذات اىل ما ي�شكّل « ُبعداً جمعياً»‪،‬‬ ‫عالية من املهارة الفنية الهادفة‪� ،‬ضمنياً‪ ،‬اىل توليد‬
‫مبعنى من املعاين‪ ،‬و�إن كان حما�رصاً بانتمائه ـ‬ ‫املعنى العميق للثورة»‪���( .‬ص‪ )53‬وت�أ�سي�س ًا على‬
‫املرة‪ ،‬والذي‬‫الذي �سيكون االنتماء الفعلي يف هذه ّ‬ ‫هذا ترى الناقدة «ان الرواية العربية املعا�رصة‬
‫�أ�شرّ ته رواية توفيق يو�سف عواد «طواحني بريوت»‬ ‫تعاين م���أزق التعامل النقدي مع واق��ع مرجعي‬
‫(‪ )1969‬التي تع ّدها الناقدة «مقدمة لعودة امل�س�ألة‬ ‫من�سوب اىل �سلطة ثورية»‪ .‬وعلى هذا فهي (الرواية) ـ‬
‫الطائفية يف لبنان»‪� ...‬إذ جت��ده ق��دم بها‪ /‬ومن‬ ‫بح�سب الناقدة ـ «حتاول ح ًال بايجاد بدائل فنية‪� ،‬أو‬
‫خاللها «ق��راءة مميزة للواقع املرجعي املحكوم‬ ‫توظيفات تقنية تطبعها �أحيان ًا بطابع االلتبا�س‪»...‬‬
‫بامل�س�ألة الطائفية»‪ ،‬متخذة منها مقدمة ملا جاء‬ ‫(�ص‪)69‬‬
‫من بعدها من روايات اللبنانيني عن احلرب الأهلية‬ ‫هنا تثري الناقدة �س�ؤا ًال مهم ًا يتعلق بالكيفية التي‬
‫اللبنانية‪ ،‬وق��د رك��زت على «اجل��ان��ب الأخ�لاق��ي‬ ‫«ميكن للكتابة الروائية (فيها) �أن جتيب‪ ،‬روائياً‪،‬‬
‫واالن�ساين»‪ ،‬و�إن مل ُيهمل بع�ضها اجلانب ال�سيا�سي ـ‬ ‫عن ال�س�ؤال الغائب فيها‪ :‬ال�س�ؤال الذي ينتج معرفة‬
‫الوطني‪�( .‬ص‪)83،86‬‬ ‫بالواقع التاريخي يف كليته‪ ،‬يف عمقه»‪�( .‬ص‪)71‬‬
‫ثم ت�أتي‪ ،‬م�س�ألة ثالثة‪ ،‬الق�ضية الفل�سطينية يف‬ ‫ومن وجه العالقة بال�سلطة‪ ،‬تذهب الناقدة اىل «�أن‬
‫الرواية العربية التي تتناولها من حيث الداللة‬ ‫االلتبا�س‪ ،‬من حيث هو معادل فني للتعامل امل�أزقي‬
‫واختالفها يف املنظور التاريخي‪ ..‬موزع ُة قراءتها‬ ‫التاريخي‪ ،‬ال يعود‪ ...‬اىل ر�ؤية تب�سيطية تتعامل بها‬
‫بني روايات «تعود اىل �أكرث من زمن من �أزمنة هذه‬ ‫الكتابة الروائية مع املرجع الواقعي‪ ،‬بل اىل نوع من‬
‫الق�ضية»‪ ،‬غايتها من ذلك «البحث عن متغريات‬ ‫تخول الكتابة قول ما ال يقال يف ظل‬ ‫احليلة الفنية ّ‬
‫املنظور التاريخي يف تناول الق�ضية الفل�سطينية‬ ‫�سلطة ترف�ض النقد وامل�ساءلة»‪�(.‬ص‪ )72‬وهذا الر�أي‬
‫ق�ضية ت��اري��خ��ي��ة‪ ،‬وب��اع��ت��ب��ار امل��ن��ظ��ور ال����سردي‬ ‫منها مبني على‪ /‬وم�ستخل�ص من املوقف داخل‬
‫الت�أليفي ر�ؤي��ة تندرج يف الثقايف وحت��اور وعي‬ ‫«م�يرام��ار» جنيب حمفوظ التي �صدرت يف عام‬
‫القراءة وترتك �أثرها فيه»‪�(،‬ص‪ )92‬متخذة البداية‬ ‫نك�سة حزيران ‪ ..1967‬فهي ـ بح�سب الناقدة ـ رواية‬
‫من روايتني وكاتبني (�إميل حبيبي يف «الوقائع‬ ‫«�أبدعت ال�شكل القادر على قول املدلول امل�رشوط‬
‫الغريبة‪ ،»...‬وغ�سان كنفاين يف «عائد اىل حيفا»‪)...‬‬ ‫بزمنه التاريخي‪ ،‬ليتخ�ص�ص ال�شكل مبدلول فيه‬
‫مثا ًال تر�صد من خالله مفهوم ال�رصاع و�أبعاده يف‬ ‫ـ �أي مبرجعي حا�رض فيه ق��و ًال روائي ًا متميزاً»‪،‬‬
‫اطار الق�ضية وما لها من �سياقات‪ ،‬لت�صل اىل ما‬ ‫وتخل�ص اىل �أن هذه الرواية (مريامار)‪ ،‬بو�صفها‬
‫بعدهما من �أعمال جتد بع�ضها �أف�سح «حيزاً وا�سع ًا‬ ‫منوذج ًا لرواية مرحلتها‪ ،‬رواية مار�ست «دوراً يف‬
‫للنقد الذاتي»‪ ،‬وت�أخذ املثال من روايات �سحر خليفة‬ ‫ال�رصاع الثقايف ـ ال�سيا�سي»‪� ،‬إذ �أنتجت «ت�شكلها‬
‫التي جتد ر�ؤيتها ل�سلبية الدافع تتطور من رواية اىل‬ ‫الفني املميز معرفة نقدية مبرجعها االجتماعي‬
‫�أخرى‪ ،‬وهي �سلبية تكاد تركز يف بعدين‪« :‬الثورة مع‬ ‫احلي»‪ ،‬وبذلك فتحت «�أمام الوعي االن�ساين العام‬
‫العجز واجلهل واالنق�سام»‪� ،‬أو «ال�رصاع مع الهزمية‬ ‫باب الت�أمل وامل�ساءلة‪ ،‬ورمبا �سبيل الو�صول اىل‬
‫‪108‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ت�سميه «الأنوثة اخلائفة من العنف»‪ ،‬وهي‪ ،‬و�إن‬ ‫واخليانة والق�صور‪�(»...‬ص‪ )98،100‬ف�إذا ما جاءت‬
‫وجدت فيها «رواية �شهرزادية من حيث منط البنية»‪،‬‬ ‫اىل رواي��ة بهاء طاهر «احل��ب يف املنفى» وجدته‬
‫حيث ُتزمع البطلة «على مغادرة وطنها(‪� )...‬إثر حرب‬ ‫ُي�صدر فيها عن «موقف نقدي بالغ�ضب والأمل‬
‫دمرت كل �شيء»‪ ،‬فيجيء «�سفرها وك�أنه دمار لها‬ ‫واملرارة» �إزاء ما ح�صل يف اجتياح بريوت ‪،1982‬‬
‫ال ينقذها منه �سوى ما ترويه ذاكرتها‪�(».‬ص‪)128‬‬ ‫وقد ج�سدت‪ ،‬مع روايات �أخرى‪ ،‬التعبري عن «واقع‬
‫وت��رى أ�ن��ه على الرغم من والدة هذه الرواية يف‬ ‫فل�سطيني عربي مهزوم» ات�سم بالعجز والق�صور‬
‫حقبة عنوانها الأبرز «التجريب الروائي العربي»‪،‬‬ ‫واخليانة‪ ..‬لت�أخذ الق�ضية �أبعاداً �أخرى عند اجلزائري‬
‫ف�إن هذه الرواية‪ ،‬بح�سب ما ترى الناقدة‪« ،‬لي�ست‬ ‫وا�سيني الأعرج يف «�سوناتا لأ�شباح القد�س»‪ ،‬وعند‬
‫رواية جتريبية (‪ )...‬لأنها‪ ،‬وبكل ب�ساطة‪ ،‬ال تكتفي‪،‬‬ ‫اليا�س خوري يف «باب ال�شم�س»‪ ،‬مثرية عند الأخري‬
‫�ش�أن الرواية التجريبية‪ ،‬بك�رس قواعد الرواية الغربية‬ ‫بع�ض الأ�سئلة التي جتد‪ ،‬جواب ًا عنها‪ ،‬ان الرواية‬
‫يف مثالها الواقعي لتبقى ن�ص ًا مفتوحاً‪ ،‬بل تبني‬ ‫العربية افتقدت «ديناميتها ال�رسدية‪� ،‬إذ راحت‬
‫�رسدها ال��روائ��ي وف��ق قواعد �أخ��رى تغلق الن�ص‬ ‫تروي احلكاية �ضمن زمن ينغلق عليها (‪ )...‬ال دور‬
‫و ُتبقيه مفتوح ًا يف الآن‪� ،‬ضمن �إطاره املغلق‪ ،‬املزيد‬ ‫للذاكرة‪ ،‬ملرجعها احلي الذي ا�ستعانت به الرواية‪،‬‬
‫من احلكايات‪�) ».‬ص‪)130‬‬ ‫والذي �شكل‪ ،‬على م�ستواه الواقعي التاريخي‪ ،‬فعل‬
‫�أم��ا يف بحثها يف «الأدب الن�سائي» وا�شكاليته‬ ‫�صمود و��صراع بو�صفه وثيقة انتماء ووج��ود»‪،‬‬
‫العربية فتجد �أن املر�أة مل تكتب «�ض ّد الرجل االن�سان‬ ‫لتخل�ص اىل �أن تلك «الدينامية التي عربت عنها‬
‫حني تناولت يف كتاباتها االبداعية العالقة بني‬ ‫«عائد اىل حيفا» لغ�سان كنفاين راحت مع �أواخر‬
‫الأنوثة والذكورة‪ ،‬بل كتبت �ض ّد �إيديولوجيا ال�سلطة‬ ‫القرن الع�رشين وبداية القرن احلادي والع�رشين‪،‬‬
‫الذكورية»‪�(.‬ص‪ )146‬ف���إذا ما وجدتها عند ليلى‬ ‫تنو�س يف الرواية العربية لتنتهي هذه الرواية اىل‬
‫بعلبكي يف «�أن��ا �أحيا» تتمرد على القمع‪ ،‬ف�إنها‬ ‫مرويه وقد فقد ديناميته‬‫ّ‬ ‫زمن �رسدي ي�ستعري زمن‬
‫عند هدى بركات يف «حجر ال�ضحك» تتحدد يف‬ ‫الروائية وانغلق على ذاته‪�(».‬ص‪)100،110‬‬
‫«مرجعي ثقايف ـ اجتماعي ـ تربوي»‪ ،‬لتخل�ص من‬ ‫ف�إذا ما نظرت يف مو�ضوع «العنف واثره يف عامل‬
‫هذا اىل �أن املر�أة تكتب لتعبرّ عن �سبل ت�ستعيد بها‬ ‫املتخيل»‪ ،‬وجدت �أن احلرب الأهلية اللبنانية‬
‫َّ‬ ‫الرواية‬
‫الأنثى ثقتها بذاتها املفقودة»‪ ،‬كما عند �أ�سيمة‬ ‫�شكلت «مرجعية �أ�سا�سية الزدهار الكتابة يف لبنان»‬
‫دروي�ش‪� ،‬أو تكتب لتف�صح «عن قدراتها االبداعية‬ ‫مبا م ّثل «ظاهرة» روائية لرواية حديثة ال يف عدد من‬
‫يف مواجهة ما حلق بها من ظلم على مدى تاريخ‬ ‫كتب فح�سب‪« ،‬بل يف الر�ؤى والعوامل واخل�صائ�ص‬
‫ت�صور ذلك عالية ممدوح يف غري عمل‬ ‫طويل»‪ ،‬كما ّ‬ ‫البنائية التي ميزت هذه الرواية و�أجادت ن�سبتها‬
‫من �أعمالها الروائية‪ .‬ويف �ضوء هذا تقيم الناقدة‬ ‫اىل احل��رب»‪���( ،‬ص‪ )117‬متناولة هذا كله‪ ،‬بر�ؤية‬
‫ال�ضدية بني‬
‫ّ‬ ‫ا�ستنتاجها فرتى �أن «خطاب العالقة‬ ‫نقدية حتليلية‪ ،‬من خالل رواية املر�أة الروائية التي‬
‫الأنوثة والذكورة يف �أدب املر�أة العربية» ي�سعى «اىل‬ ‫جتدها حتيل‪ ،‬يف ه��ذا اجلانب تخ�صي�صاً‪« ،‬على‬
‫تثمني الأنوثة با�ضاءة دالالتها املرتبطة بالهوية‬ ‫منطق �أنثوي يربط بني الذكورة والعنف»‪ ،‬لتجد‬
‫واللغة واحلياة»‪ ،‬متابعة تفا�صيل ذلك‪ ،‬وفق ًا للر�ؤية‬ ‫�أن هدى بركات يف «حجر ال�ضحك»‪ ،‬ومن خالل‬
‫الفنية والذاتية ـ االجتماعية لكل كاتبة‪ ،‬يف عدد من‬ ‫�شخ�صية بطلها‪ ،‬تبني «روايتها من منظور نقدي‬
‫الأعمال الروائية لكاتبات عربيات‪ ،‬مق ِّدمة بذلك‬ ‫للحرب باعتبارها‪� ،‬أي احلرب‪� ،‬أثراً لثقافة ذكورية‬
‫�صورة بانورامية للم�شهد الروائي الن�سوي العربي يف‬ ‫بنت تاريخها على مفهوم العنف‪�(».‬ص‪)121‬‬
‫ما يت�صل با�شكالية العالقة التي جتدها عند البع�ض‬ ‫�أما عند علوية �صبح يف «مرمي احلكايا» فهناك ما‬
‫‪109‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بال�رضورة اقل مو�ضوعية‪� ،‬أو حقيقة من املعرفة‬ ‫ـ كما عند التون�سية عرو�سية النالوتي ـ «تقدم �صورة‬
‫التي تنتجها ال�سرية‪� ،‬أو ال�سرية الذاتية»‪ ،‬م�ستندة‬ ‫جيل يعي�ش قلق الأ�سئلة ال�صعبة‪�(».‬ص‪)147،149‬‬
‫يف ما ترى اىل ما جتد من �أ�سباب تركز على اثنني‬ ‫غري �أن م�شهد هذا الأدب (الن�سائي)‪ ،‬كما تراه‪ ،‬ال‬
‫منها‪� ،‬أولهما‪« :‬كون هذه الأنواع الأدبية تنتمي‪...‬‬ ‫يتوقف عند هذه احلدود «املو�ضوعية»‪� ،‬أو يكون‬
‫املتخيل‪� ،‬أو كتابة من الذاكرة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اىل ال�رسد‪ ،‬وال�رسد‬ ‫مق�صوراً عليها‪ ،‬بل جتد املر�أة الكاتبة تعمل على‬
‫وعن املا�ضي»‪ .‬وال�سبب الثاين هو «كون ال�رسد‬ ‫االنخراط يف ما ت�سميه «م�رشوع الرواية العربية»‬
‫املتخيل ي�شكل قناع ًا ي�سمح بتقدمي معرفة‬
‫َّ‬ ‫الروائي‬ ‫فهي قد مار�ست «التجريب»‪ ،‬وتو�سلت عنا�رص‬
‫بالذات �أكرث حرية وجراة‪ ،‬ورمبا �صحة وحقيقة‪،‬‬ ‫من التاريخ م�ضمِ رة �س�ؤا َال حول معنى احلقيقة‬
‫وهو ما ال ت�سمح به الكتابة املبا�رشة عن ال�سرية‬ ‫املتخيل الروائي بال�رسد التاريخي‪ ،‬كما‬‫َّ‬ ‫وعالقة‬
‫الذاتية‪�(».‬ص‪)191،192،195،196‬‬ ‫جتاوزت القواعد التقليدية‪ ...‬مق ِّدمة ذلك من خالل‬
‫ويف ال�سياق ذاته ترى �أن «كتب ال�سرية الذاتية‪،‬‬ ‫«�أعمال‪� /‬شواهد» بذاتها‪ ،‬وم�ستق�صية خ�صائ�ص‬
‫وحتى الروائية»‪ ،‬تبدو «�أكرث جر�أة يف انتاج هذه‬ ‫هذه الأعمال يف هذا امل�ستوى من القراءة لها‪،‬‬
‫املعرفة وو�ضعها عارية»‪�(،‬ص‪ )197‬مق ِّدمة املثال‬ ‫لت�ؤكد‪ ،‬مرة �أخرى‪� ،‬أن التحدي املعلن فيها «يقول‬
‫على ذلك من خالل عر�ض بع�ض الأعمال الروائية‬ ‫والتنوع‪ ،‬ولي�س‬
‫ّ‬ ‫باالختالف على �أ�سا�س التعدد‬
‫العربية احلديثة‪ ...‬مع مالحظة منها ت�ؤكد فيها �أن‬ ‫على �أ�سا�س من معايري قيمية ت�ضع الأنوثة �ض ّد‬
‫«�أدب ال�سرية الذاتية الروائي �أكرث جر�أة يف االف�صاح‬ ‫الذكورة‪� ،‬أو دونها‪�(».‬ص‪)149‬‬
‫عن الذات‪ ،‬واكرث حرية يف و�ضع الـ«�أنا» يف عالقة‬ ‫ويف ف�صل �آخر تتناول «ال�سرية الذاتية الروائية»‪،‬‬
‫نقدية مع ذاته‪ ،‬ومع الـ«�آخر»‪�(0‬ص‪)206‬‬ ‫ناظرة �إليها من �أرب��ع زواي���ا‪ ،‬معترب ًة «ال�سرية‬
‫ثم ت�أتي على «�صورة الأب» يف الرواية العربية‬ ‫الذاتية م�صدراً من م�صادر املعرفة»‪ ،‬لتت�ساءل‪ ،‬يف‬
‫لتجد يف تنوعها واختالفها بني روائ��ي و آ�خ��ر‬ ‫�ضوء ما تقرر‪ ،‬عن «قيمة هذه املعرفة» انطالق ًا‬
‫«اختالف ًا قوامه الواقع الثقايف يف تاريخيته‪ ،‬كما‬ ‫من كون ال�سرية الذاتية‪� ،‬ش�أنها «�ش�أن الرواية‪،‬‬
‫موقع امل�ؤلف ور�ؤيته وما لذلك من �أثر يتمثل يف‬ ‫املتخيل»‪..‬‬
‫َّ‬ ‫�رسد من الذاكرة ي�ستوي على م�ستوى‬
‫منظور العمل الروائي وعامله‪�(».‬ص‪)218‬‬ ‫كما تت�ساءل عما دفع البع�ض «اىل تو�سل ال�رسد‬
‫ويف املقابل تقف «���ص��ورة الأم»‪ .‬وم��ن خالل‬ ‫ال��روائ��ي حلكاية ال�سرية ال��ذات��ي��ة؟»‪ ،‬ف�ترى �أن‬
‫قراءتها‪ ،‬وعطف ًا على الرواية ال�سريية‪ ،‬وااليهام من‬ ‫عبدالرحمن منيف‪ ،‬يف �سبيل املثال‪� ،‬إمنا هدف‬
‫خالل و�ضع عنوان «رواي��ة» بدي ًال عن التو�صيف‬ ‫يف ما كتب يف هذا ال�سياق‪ ،‬اىل «اكت�شاف الواقع‪،‬‬
‫ال�سريي‪ ،‬جتد �أن «القناع ال��روائ��ي و�سيلة فنية‬ ‫�أي انتاج معرفة به تندرج يف منظوره هو لهذا‬
‫يواجه به كاتب ال�سرية املعيار الأخالقي» الذي ما‬ ‫الواقع»‪ ،‬وم�ستنتجة‪� ،‬أو م�ستخل�صة‪�« ،‬أن املعرفة‬
‫نزال نحاكم به الأدب‪�( .‬ص‪)226‬‬ ‫التي تنتجها ال�سرية‪� ،‬أو ال�سرية الذاتية‪ ،‬لي�ست‬
‫من بعد هذا ُتط ّل الناقدة على «الرواية وامل�ستقبل»‬ ‫بال�رضورة اكرث مو�ضوعية‪� ،‬أو حقيقة من املعرفة‬
‫«التعرف اىل حتوالتها الداخلية» مبا �أنها‬‫ّ‬ ‫ق�صد‬ ‫التي قد تنتجها ال�سرية الذاتية الروائية‪ ،‬ورمبا‬
‫ر�أت فيها «�رسد احلياة»‪ ..‬وتتابع امل�س�ألة متابعة‬ ‫التي تنتجها الرواية»‪� ،‬أو كما تقول ذلك بطريقة‬
‫تاريخية فتعود اىل الأعمال الأوىل حيث التطور‬ ‫مغايرة‪ ،‬فرتى �أن «املعرفة التي تنتجها ال�سرية‬
‫والتحول‪ ،‬ناظرة اىل الرواية كونها النوع الأدبي‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية الروائية‪ ،‬ولرمبا التي تنتجها الرواية‪ ،‬لي�ست‬
‫‪110‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫«مبا يحقق تعدد القراءة وامل�شاركة يف ما تود قوله‬ ‫«الأك�ثر مواءمة لقول ما ال ُي�سمح بقوله يف ظل‬
‫هذه الرواية»‪ ،‬وكان من ت�أثريات ذلك وانعكا�ساته‪،‬‬ ‫النظم ال�شمولية»‪ .‬ومن هنا ف�إن نظرتها اىل الرواية‬
‫ان بع�ض الروائيني اللبنايني الذين كتبوا عن‬ ‫العربية وعالقتها ب�آفاق م�ستقبلها �إمن��ا يتعينّ‬
‫ه��ذه احل��رب‪� ،‬صاروا «يتعاملون مع التاريخ ال‬ ‫عندها «بتناول حركيتها الداخلية‪ ،‬و�صو ًال اىل ]‬
‫باعتباره حكاية يروونها‪ ،‬بل باعتباره مرجع ًا‬ ‫�إثارة[ ال�س�ؤال عن عالقة احلقيقي الفني الذي بلورته‬
‫املتخيل ال��روائ��ي يف ن�سج عامله‪».‬‬
‫َّ‬ ‫ي�ستعني به‬ ‫الرواية العربية‪ ...‬باللعب اال�شاري‪ ،‬كما بتنظريات‬
‫(�ص‪)260،261،293‬‬ ‫وبالتخيل»‪ ،‬معرب ُة‬
‫ُّ‬ ‫ما بعد احلداثة املرتبطة باللغة‬
‫�إال �أنها جتد بني الروائيني العرب من �سبقهم‬ ‫عن اعتقادها ب�أن هذه الرواية‪« ،‬يف خمتلف مراحل‬
‫اىل ذل��ك‪ .‬ف�صنع اهلل ابراهيم «ه��و ال��ذي �أدخ��ل‬ ‫تطورها التاريخي» كانت «تهج�س مب�ستقبل لها»‪،‬‬
‫التوثيق اىل الرواية العربية جاع ًال منه م�رشوع ًا‬ ‫وال��ذي هو‪ ،‬كما ت��راه‪ ،‬م�ستقبل «ال يخ�ص م�س�ألة‬
‫لروائيتها»(�ص‪ ..)264‬بينما جتد ر�ضوى عا�شور‬ ‫عاملها املمكن �أو املحتمل فح�سب‪ ،‬بل �أدوات‬
‫يف روايتها «ثالثية غرناطة» قد اكتفت «باقامة‬ ‫املتخيل �أي�ضاً‪�(»...‬ص‪)258،259‬‬
‫ّ‬ ‫ت�شكيل عاملها‬
‫العالقة بني الرواية والتاريخ» وجعلت «من �أحداث‬ ‫ومع �أنها جتد «�أن الرواية العربية ولدت يف بيئة‬
‫ثقافية ال تتوفر على ما يحقق للرواية العربية‬
‫التاريخ حكاية ترويها وتبني عواملها يف �سياقات‬
‫روائيتها الفنية»‪�(،‬ص‪ )260‬ف�إنها جتد للحدث‬
‫�أق��رب اىل التتابع الزماين‪ ،‬ووف��ق منظور روائي‬
‫الواقعي ت�أثرياته على هذه الرواية بنية فنية‪� ،‬آتية‬
‫ي�ستعيد احلقيقة با�ضاءتها ويعيد االعتبار املعريف‬
‫باملثال على ذلك من الرواية التي كتبها روائيون‬
‫اىل معانيها‪�(».‬ص‪)296‬‬
‫لبنانيون عن احلرب اللبنانية يف زمنها‪ ،‬لتجدها‬
‫و�أخ�ي�راً‪ ،‬ي�أتي ال�س�ؤال عما �إذا كانت الناقدة‪،‬‬
‫بناء فني ًا قائم ًا على اناطة معنى التفكك‬ ‫مبنية ً‬
‫وهي تق ّدم التاريخ املو�ضوعاتي والفني لهذه‬
‫والدمار الذي �شهده لبنان بالفعل ال�رسدي‪ ...‬بدل‬
‫الرواية من خالل مناذج خمتارة‪ ،‬قد �أرادت تقدمي‬ ‫اناطته باحلكاية امل��روي��ة»‪ ..‬كما وج��دت «هذه‬
‫�صورة احلا�رض من خالل فن من �أبرز فنونه؟ �أم‬ ‫الرواية متيل اىل ايالء الدال �أهمية �أوىل هي �أحيان ًا‬
‫تراها ت�ساءلت‪ ،‬بدورها‪،‬عن الكيفية التي ُيفكر‬ ‫على ح�ساب املدلول»‪ ،‬ما يدفعها اىل �أن ترى هذه‬
‫بها احلا�رض‪ ،‬فعمدت اىل بلوغ‪� ،‬أو حماولة بلوغ‬ ‫احلرب وك�أنها «عنت انهياراً ال للعمران وح�سب‪ ،‬بل‬
‫اجلواب من خالل الأعمال التي قر�أت؟‪ ..‬ومن هنا‬ ‫�أي�ض ًا للبنى املدينية والثقافية»‪ ،‬حتى �صار ذلك‬
‫ما جنده من �أنها‪ ،‬يف ما قر�أت من �أعمال‪ ،‬عمدت‬ ‫االنهيار «ايقاع ًا بنائي ًا لزمن ال�رسد وامل�رسود»‪.‬‬
‫اىل «حماكمة» م�ضامني هذه الأعمال‪ ،‬ما جعلها‬ ‫ويف هذا ال�سياق‪ ،‬ومن خالل ما تقدم‪ ،‬مبا قدمت‪،‬‬
‫نقوم الأدب به ‪،‬معيارياً‪،‬‬
‫ت�ؤكد على �أن ما ينبغي �أن ّ‬ ‫من من��اذج هذه الرواية‪ ،‬لتجدها رواي��ة ا�شتغلت‬
‫هو «معيار اب��داع احلقائق» ال��ذي جعلها تق ّدم‬ ‫«على فنية اخلطاب الروائي ومتييز بنية ال�شكل»‪،‬‬
‫اجلانب الفني تالي ًا للجانب املو�ضوعي‪ .‬وبذلك‬ ‫وبهدفني‪� ،‬أحدهما على امل�ستوى الداليل (رف�ض‬
‫ق ّدمت قراءة �إيديولوجية املنطلق واملبنى بامتياز‬ ‫احل���رب)‪ ،‬والآخ���ر على امل�ستوى البنائي الفني‬
‫يف كتاب حقق �إ�ضافة وا�ضحة اىل املكتبة النقدية‬ ‫متمث ًال يف ك�رس ح��دود «اخل�صو�صية ال�ضيقة»‪،‬‬
‫للرواية العربية‪.‬‬ ‫وفتح �أفق هذه الرواية على ما ت�سميه بـ«الروائية»‪،‬‬

‫‪111‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ملف‬
‫�شوقي اأبي �شقرا‪..‬‬

‫اأبي �شقرا (حريتي جال�شة تفاحة على الطاولة)‪..‬‬ ‫�شنجاب يت�شلق الأ�شالك‪ ،‬اأتذكر �شوقي اأبي �شقرا‬
‫حني اأقراأ اأبي �شقراء تتهادى اأ�شوات رعاة تائهة‬ ‫(�شنجاب يقع من الربج) وكنت ذات زمن يف‬
‫يف الرباري‪ ،‬اأو �شخب اأطفال يلعبون‪ ...‬اأبو �شقراء‬ ‫بريوت‪ ،‬اأهم مبغادرتها اإىل مدينة اأخرى‪ ،‬كنت‬
‫طفل ال�شعر العربي الكبري من غري ادعاء ول‬ ‫يف مقام الرتدد واحلرية الق�شوى‪ ،‬هل اأغادر اأم‬
‫لعاملية كاذبة‪« ..‬اأفتح اأظافرك‬
‫ّ‬ ‫حفالت تطويب‬ ‫ل؟ �شحر بريوت واأهلها‪ ،‬فتنة الليايل‪ ،‬ال�شهرات‬
‫مروحة ‪/‬تخد�س احلياة‪ /‬يف بطنها»‪..‬‬ ‫والكتب (اأندل�س و�شام) وباري�س اأو ما ي�شبه ذلك‪..‬‬
‫ي�صدر قريب ًا‬
‫قريبا‬ ‫ة) �س‪.‬ر‪�� ..‬صصصي�صدر‬
‫يوية)‬
‫يوي‬
‫صيوي‬
‫من (يوميات �آ�آ�صص ّ‬ ‫كنت يف مقام احلرية حني باغتني عنوان كتاب‬

‫\ امللـــف مــن اإعـــداد‪� :‬صبــاح زويـــن‪.‬‬


‫ليمــان بخـتي‪ -‬قي�صـر عــفيـف ‪ -‬جــان دايـه‬ ‫�صصليمــان‬
‫�ص‬ ‫\ امل�شاركون يف امللف‪:‬‬
‫مــ�س الديـن‬
‫‪ -‬المــــع احلــــــر ‪ -‬حممـد علـي ��صصصمــ�س‬
‫يحـانـــي ‪ -‬حممـــود ��صصريــح‬
‫صريــح‬ ‫الريحـانـــي‬
‫الر‬
‫‪ -‬اأمـني األبـــرت ّ‬

‫‪112‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‬
‫امل ُعلّم وامل�ؤ�س�س‬
‫فـي ال�شعر احلديث‬
‫�صباح زوين‬
‫�شاعرة وناقدة لبنانية‬

‫�شوقي �أبي �شقرا‬ ‫«امل�أدبة يجب �أن تتم»‪ ،‬هكذا جاء‬


‫�شاعر لبناين‪ ،‬ولد �سنة ‪� ،1935‬صدر له ‪:‬‬ ‫عنوان �إحدى الق�صائد يف ديوان‬
‫\ �أكيا�س الفقراء‪)1959( ،‬‬ ‫ال�شاعر الكبري �شوقي �أبي �شقرا‪ .‬هذا‬
‫\ خطوات امللك‪)1960( ،‬‬
‫\ ماء اىل ح�صان العائلة‪)1962( ،‬‬ ‫ما قاله يف ديوانه «ثياب �سهرة‬
‫\ �سنجاب يقع من الربج‪)1971( ،‬‬
‫\ م��اء اىل ح�صان العائلة واىل حديقة‬ ‫الواحة والع�شبة» الذي �صدر عن‬
‫القدي�سة منمن‪( ،‬طبعة ثانية م�ضاف اليها)‪،‬‬ ‫دار نل�سن �سنة ‪� .1998‬أعود اىل هذا‬
‫(‪.)1974‬‬
‫\ يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً‪،‬‬ ‫العنوان لأنه يذكرين دائم ًا ب�أن هذا‬
‫(‪)1979‬‬ ‫القول ال�شعري هو يف الوقت ذاته قول‬
‫\ حريتي جال�سة تفاحة على الطاولة‪،‬‬
‫(‪.)1983‬‬ ‫تنب�ؤي �إذا جاز يل‪ ،‬مبعنى ان كتابة‬
‫\ ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل‪.)1992( ،‬‬
‫\ �صالة اال�شتياق على �رسير ال��وح��دة‪،‬‬ ‫ابي �شقرا ال�شعرية كان عليها حتم ًا‬
‫(‪.)1995‬‬ ‫�أن تتم يف احلياة الثقافية‪ .‬كان ال‬
‫\ ثياب �سهرة الواحة والع�شبة‪( 1998 ،‬دار نل�سن)‬
‫\ �سائق االم�س ينزل من العربة‪– 2000 ،‬‬ ‫ب ّد لها �أن ت�أتي اىل النور‪ ،‬لأنها القدر‬
‫ن�صو�ص (دار نل�سن)‪.‬‬ ‫ولأنها احلاجة‪ .‬انها الكتابة التي ال‬
‫\ نوتي مزدهر القوام‪( 2003 ،‬دار نل�سن)‪.‬‬
‫\ تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة‪،‬‬ ‫مفرّ منها‪ ،‬وك�أن ُكتب لها منذ البداية‬
‫‪( 2004‬دار نل�سن)‪.‬‬
‫\ ابجدية الكلمة وال�صورة‪( 2009 ،‬دار نل�سن)‪.‬‬ ‫ان تكون موجودة‪ُ .‬كتب لها �أن تنوجد‬
‫لأنها ال�شعر املح�ض‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫انه املنهل وامل�صدر ومنه كم �أخ��ذ الآخ��رون من‬ ‫و�أبي �شقرا هو ال�شاعر الذي ترك �أثراً كبرياً وعميق ًا‬
‫ال�شعراء الذين عرفوه و�أح��ب��وا �شعره وحاولوه‬ ‫يف �شعراء من كل الأجيال‪ ،‬والذي دائم ًا اعتربناه‬
‫(حاولوه ومل يفلحوا) ! ظ ّل �شاعرنا حمافظ ًا على‬ ‫املُعلّم الأكرب يف ال�صياغة ال�شعرية احلديثة كما يف‬
‫ن�ضارة عبارته و�شفافية �صورته وحيوية ق�صيدته‬ ‫املهنية ال�صحفية وكذلك يف ترجمة ال�شعر الأجنبي‬
‫التي مل تتخلَ حتى اليوم عن وهجها وبهجتها‬ ‫ومنه الفرن�سي ب�شكل خا�ص‪ ،‬هو ال�شاعر الذي كان‬
‫وتلويناتها على �أنواعها‪ .‬ظ ّل ال�شاعر �أب��ي �شقرا‬ ‫من املفرت�ض ان يكون موجوداً بقلمه‪ ،‬بق�صيدته‪،‬‬
‫رائداً حتى ما بعد احلقبة الريادية التي بد�أت مع‬ ‫وهكذا كان‪ ،‬ناثراً موهبته على �صفحات الثقافة‬
‫جملة «�شعر» وعميدها يو�سف اخلال‪ .‬مل ي�ضمحل‬ ‫بني جملة «الرثيا» او ًال ثم جملة «�شعر» ومن بعدها‬
‫رونق بيته ال�شعري مع الوقت بل زاد ت�ألق ًا مع مرور‬
‫جريدة «النهار» وب�شكل خا�ص من‬
‫الوقت وك ��أن الوقت �أخ��ذ يتجدد يف ق�صائده فال‬
‫كان دائم ًا خ�لال ‪ 13‬كتاب ًا و���ض� َ�ع فيها عامل ًا‬
‫يتعب وال يكلّ‪.‬‬
‫ال ت��ذوي كلمته ع�بر كتبه مهما ت��ع��ددت ومهما‬ ‫يف ال�صفحة �شعري ًا غنيا ً ومميزاً‪ .‬كان عليه �أن يكتب‬
‫ات�سعت امل�سافة الزمنية يف ما بينها‪ .‬ال تذوي وال‬ ‫الثقافية و�أن ين�رش �إذ كان على ق�صيدته �أن تولد‬
‫تن�ضب‪ .‬انها املتجددة املتوالدة دائم ًا وك�أن �شاعرنا‬ ‫وهج‬
‫اجلندي و�أن تنوجد‪ ،‬كان عليها ان تكون َ‬
‫ال ي�ستطيع �سوى ان يكون �شاعراً يف كل حلظة من‬ ‫املجهول‪ ،‬كان ال�صورة وجماليتها املبتكرة ووهج‬
‫حياته‪ ،‬يف كل وم�ضة‪ ،‬يف كل فكرة ويف كل حركة‬ ‫يعمل من �أجل الكلمة الفريدة‪ ،‬تلك الكلمة ال�شعرية التي‬
‫يتحركها‪ .‬وما ي�ؤكد ذلك‪ ،‬ميله الدائم اىل الكتابة‬ ‫مل يبلغ طاقتها �سوى عمالقة ال�شعر‪.‬‬
‫ال�صحافة‬
‫ال�شعرية حتى عندما يكتب مقا ًال وعندما يكتب ً‬
‫رثاء‬ ‫مل يلج أ� يف جتربته ال�شعرية الطويلة‬
‫وعندما يكتب حما�رضة او �أي مادة �صحافية تخطر‬ ‫ب�صمت التي متتد على �أكرث من خم�سة عقود‪،‬‬
‫على البال‪ .‬كل عبارة يطبعها على ورقته ت�أتي على‬ ‫قلت قبل‬ ‫وبتق�شف مل يلج أ� �شاعرنا يوماً‪ ،‬كما ُ‬
‫�شكل �صورة �شعرية فنن�سى اننا ازاء حما�رضة مث ًال‬ ‫مذهلني �سنوات يف حما�رضتي عنه‪ ،‬اىل تقنيات‬
‫او �أننا ازاء مقال او عامود من �أعمدته الأ�سبوعية‬ ‫غربية غريبة ع��ن طاقته ال�شعرية‬
‫عودنا عليها يف جريدة «النهار» �سابقا ً‪.‬‬‫التي ّ‬ ‫الداخلية‪ ،‬تلك اخلالقة لأنها العفوية‪ ،‬مل ي�ستفد يوم ًا‬
‫�شوقي �أب��ي �شقرا َمعلم من معامل ال�شعر اللبناين‬ ‫مما قر�أ او ترجم‪� ،‬أكانت‬ ‫من �أي لعبة او تقنية غربية ّ‬
‫أ�سلفت‪� ،‬أثراً وا�ضحا ً وعميق ًا‬
‫والعربي الذي ترك‪ ،‬كما � ُ‬ ‫رف فح�سب من عمقه‬ ‫لعبة �صورية او تعبريية‪� ،‬إمنا َغ َ‬
‫يف جمال الأدب عامة وال�شعر خا�صة‪ .‬كذلك يف عامل‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬من بئر وجدانه الرثي‪ .‬مل يتكل كذلك يوم ًا‬
‫مير على‬‫فمن منا مل ّ‬ ‫ال�صحافة ترك ب�صمته الكبرية‪َ .‬‬ ‫مما �صيغ يف الغرب على �أيدي‬ ‫على �أي نظرية �أدبية ّ‬
‫�صفحته الثقافية يف جريدة «النهار» عندما كانت‬ ‫�شعراء ونقادٍ غربيني‪� .‬إمنا ق�صيدته هي التي �أوجدت‬
‫«النهار» يف �أوجها واحلركة الأدب��ي��ة والثقافية‬ ‫لنف�سها طريقها و� ُأ�س�سها‪� ،‬أوج��دت لنف�سها ركائز‬
‫يف عزها‪� ،‬أعني يف حقبته هو والتي حل�سن حظنا‬ ‫ودعائم الكتابة ال�شعرية‪ .‬لذلك هي بعيدة كل البعد‬
‫جميع ًا ا�ستمرت عقوداً طويلة‪ ،‬الأمر الذي انقذ جوانب‬ ‫عن �أي تفل�سف تنظريي‪ .‬فهي اُ�س�س ودعائم َغرفَها‬
‫كثرية من احلياة الثقافية وال�صحافية يف مهنيتها‬ ‫�أبي �شقرا من كونية ر�ؤيته اىل ال�شعر واىل العامل‪ ،‬اي‬
‫و�أخالقيتها‪� .‬أنقذها من الركود واخلمول‪� ،‬أنقذها من‬ ‫اىل الإن�سان ومنه اىل املوت واحلياة‪ .‬انها اُ�س�سه هو‬
‫الف�ساد‪ ،‬فمنحها‪ ،‬اي حياتنا الثقافية وال�صحافية‪،‬‬ ‫و�أتت من جعبته ال�شا�سعة‪ .‬انها �أدوات لغته هو لأن‬
‫الدفعة ال�رضورية التي ت� ّؤمن فعل االبتكار‪ .‬كم من‬ ‫ون �إحدى‬ ‫«لغتي‪ ،‬جمرفتي»‪ ،‬لغته جمرفته كما َع ْن َ‬
‫تدرب عنده على مهنة ال�صحافة احلرة وغري‬ ‫�شاعر ّ‬ ‫ق�صائده يف الديوان الآنف الذكر‪.‬‬
‫‪114‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫العك�س هو ال�صحيح‪ ،‬حيث لل�شاعر ر�ؤياه ووعيه يف‬ ‫املبتذلة‪ .‬كم من �صحايف اكت�شف نف�سه �صحافي ًا‬
‫اللعبة الكتابية وحيث للمبنى ال�شعري ركائزه التي‬ ‫ماهراً يف �صفحته لأن ابي �شقرا كان وراء اكت�شاف‬
‫ال تقوم �أو ًال و�آخراً �سوى على اجلمالية الإ�ستيتيكية‬ ‫احلَ�سن والأح�سن‪ ،‬وراء دفع العجلة املهنية دائم ًا‬
‫الأ�صلية‪ .‬و�أعني بالأ�صلية‪ ،‬تلك النابعة من ال�شعرية‬ ‫اىل الأمام‪ ،‬وكم من �شاعر ا�شتهر من خالل �صفحته‬
‫املطلقة وهي التي عرفناها وال ن��زال‪ ،‬يف �أعمال‬ ‫(�صفحة ابي �شقرا) الثقافية اليومية يف جريدة‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪.‬‬ ‫«النهار» التي كانت تربز وت�شهر كل َمن �ساهم يف‬
‫امليزة الكبرية والفريدة التي عرفها ابي �شقرا يف‬ ‫�صناعة اخلرب واملقالة عنده‪ ،‬من خالل تكراره ( اي‬
‫ا�سم ال�صحفي وال�شاعر‪ -‬ال�صحفي) �شبه اليومي‬
‫وظهوره على القراء‪.‬‬
‫مر‬‫�إذاً‪ ،‬كم من مثقف وكاتب و�شاعر و�أديب ومفكر ّ‬
‫يف هذه ال�صفحة املرموقة وبف�ضله كانت مرموقة‪،‬‬
‫بف�ضل اندفاعه ال�لاحم��دود يف �سبيل الق�ضايا‬
‫الثقافية‪ ،‬بف�ضل تفانيه من �أجل الكِتاب واملقالة‬
‫واحل��وار واخل�بر‪ ،‬كل خرب �أدب��ي ! و�إ�شارة هنا اىل‬
‫انه كان دائم ًا يف هذه ال�صفحة الثقافية اجلندي‬
‫املجهول‪ ،‬كان يعمل من �أج��ل ال�صحافة ب�صمت‬
‫وبتق�شف مذهلني‪.‬‬
‫انه املُعلّم يف مهنية ال�صحافة من �أجل الثقافة‪� ،‬إنه‬
‫املُعلّم يف اللغة العربية‪ ،‬وباملنا�سبة‪ ،‬ما �أزال حتى‬
‫احتجت اىل م�ساعدة يف ال�رصف والنحو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اليوم‪ ،‬كلما‬
‫ت�صح عبارتي او جملتي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أجل أ� اليه �سائلة �إياه حتى‬
‫وعودة اىل �رصحه ال�شعري‪ ،‬فال ب ّد انه �أجنز عامل ًا‬
‫متكامال ً قائم ًا بذاته‪ ،‬قائما ً على �أدوات الق�صيدة‬
‫ال�رصفة‪ ،‬حيث ال نقع �سوى على جوهر القول‬
‫ال�شعري وجوهر التقنية الأب��ي �شقرية وجوهر‬
‫الأ�سلوب واللغة‪ .‬انها الكتابة ال�شعرية اجلوهرية‬
‫وهي يف كلمة �أخ��رى‪ ،‬خال�صة ال�شعر الأنقى‪ .‬انه‬
‫مبدع الأبجدية ال�شعرية ومبدع �أبجدية �صورتها‪،‬‬
‫انه النغم واللحن يف كل بيت من �أبيات الق�صيدة‬
‫احل��رة والطليقة‪ ،‬وه��ي كذلك‪ ،‬لأنها املبنية على‬
‫متانة القول يف وقته ويف مكانه‪� .‬شاعرنا هو الذي‬
‫يعرف متى و�أي��ن تتنا�سب ال�صورة والكلمة وهو‬
‫الذي يعرف تاليا ً كيفية �أ�سلبتهما‪ .‬ال ي�ستويل على‬
‫الكلمة �صدفة وال يتبنى املفردة مزاجي ًا وال ي�صنع‬
‫مقالة الأديب ال�صحفي ادغار دافيديان باللغة الفرن�سية لدى �صدور كتاب �أبي �شقرا «ثياب �سهرة‬
‫ال�صورة كيفما اتفق‪ ،‬وذلك لأن ال�صياغة ال�شعرية‬
‫الواحة واخليبة» يف جريدة «االوريان الجور» يف بريون‪ ،‬ال�سبت ‪ 3‬من كانون الثاين ‪.1998‬‬ ‫عنده لي�ست بنت اي جمانية ولي�ست طارئة‪� ،‬إمنا‬
‫‪115‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والأل��ف والياء وال�ضاد والتاء وكل �أبجدية ال�شعر‬ ‫أ�سلفت‪ ،‬مل يت�أثر بتقنيات عقالنية‬
‫�شعره‪ ،‬هو انه وكما � ُ‬
‫واللغة وما بعد الأبجدية»‪ .‬انه �ألِف الق�صيدة ويا�ؤها‪،‬‬ ‫�أوغريعقالنية �أت��ت من الغرب‪ ،‬كذلك مل يح ُذ حذو‬
‫انه الفنان الأك�بر يف ر�سم كل عنا�رص الطبيعة يف‬ ‫الكثريين من جمايليه الأجانب والعرب واللبنانيني‬
‫تالوين كلمات ترفرف فوق الأبيات ال�شعرية كطيور‬ ‫مكونات �أ�سطورية وتاريخية و�أدبية‬ ‫يف اعتماد ّ‬
‫مزرك�شة وفرحة لتنطنط من �صورة اىل �أخرى دون‬ ‫عاملية ليبني منها وعليها ق�صيدته‪ .‬هذا ما قلته‬
‫كلل ودون الوقوع يف البهتان‪.‬‬ ‫�سابق ًا و�أكرره اليوم‪ ،‬فهو ال�شاعر املتفرد يف �صياغة‬
‫انه ال�شاعر احلديث والراهن‪ ،‬لأنه مل يكن �سورياليا ًعلى‬ ‫عامل �شعري مل ي�سبقه اليه �أح��د‪ ،‬ومن هنا فرادته‬
‫الطريقة ال�سوريالية التقليدية الفرن�سية‪ .‬بل ميكنني‬ ‫وكونيته‪ .‬انه وحيد يف ابتكاره اللغة ال�شعرية هذه‬
‫ان اقول انه مل يكن �سوريالي ًا كما ظنه البع�ض ولفرتة‬ ‫أ�سميها حكما ً ابي �شقرية‪ .‬فكما �أ�رشت �أعاله‪ ،‬مل‬ ‫التي � ّ‬
‫طويلة من الزمن حيث رافقته هذه ال�صفة عن غري حق‬ ‫ي� ِأت من �أي �شعرية تنظريية وال من �أي موجة كتابية‬
‫وعن غري بحث عميق حول كتابته‪ .‬هو ال�شاعر احلديث‬ ‫كانت رائجة يف حينها بني ال�شعراء العرب‪ ،‬عند‬
‫والراهن‪� ،‬إمنا لأنه مل يتبع اي مدر�سة من املدار�س‬ ‫بداياته‪ ،‬ومل ي� ِأت اىل ال�شعر من �أي �أدجلة �سيا�سية‪.‬‬
‫التي عرفتها �أوروب��ا و�أمريكا‪� ،‬أي انه مل يفعل كما‬ ‫«تلوث» تثاقفي‪.‬‬ ‫�أتى اىل ال�شعر نا�صع ًا ونظيف ًا من �أي ّ‬
‫�سواه من ال�شعراء الذين �أحبوا �أن ين�ضموا اىل مدر�سة‬ ‫�إنها الطهارة ال�شعرية التي مار�سها ومل يتخ َل عنها‪.‬‬
‫ما او فل�سفة ما يف ال�صنعة ال�شعرية‪� .‬أن��ه ال�شاعر‬ ‫انه بذاته البئر ال�شفافة ومنها غرف‪ ،‬وال يزال‪ ،‬كل‬
‫احلديث ودائما ً الراهن لأنه بد�أ حرا ً وظ ّل حراً من �أي‬ ‫طاقته ال�شعرية‪ ،‬الطاقة التي ال تن�ضب عنده‪ .‬فلم‬
‫مو�ضة‪ ،‬ونعرف ان املو�ضة موجة ذات مدة حمددة‬ ‫يرتاجع وهج ق�صيدته يف �أي من كتبه‪ .‬بل كلما كتب‬
‫وبعدها متوت وتنتهي‪ .‬هكذا هي املوجات الأدبية‬ ‫ون�رش كلما وقعنا يف �صفحاته الوفرية على املزيد‬
‫والفنية كلها التي عرفناها‪� ،‬أقله منذ مائة عام ونيف‪،‬‬ ‫من املتانة ال�شعرية‪.‬‬
‫حيث ال�سوريالية �رسعان ما انطف�أ وهجها والدادائية‬ ‫ي�صنع الأبجدية وي�صنع ال�صورة‪ ،‬فهو �صانع حرف‬
‫�رسعان ما ت�آكلت وا�ستهلكت نف�سها والبارنا�سية‬ ‫الق�صيدة الناب�ضة حياة يف كل �سطر وك��ل كلمة‪،‬‬
‫بهتت ووقعت يف الن�سيان وكذلك الرمزية الخ‪ .‬هذا‬ ‫���ص��ان��ع امل��ف��ردة‬
‫�ش�أن كل مو�ضة‪ ،‬اي كل نظرية عقالنية (مهما �أدعت‬ ‫والبيت ال�شعريني‬
‫الالعقالنية ال�شعرية كال�رسيالية و�سواها)‪ ،‬فتن�رش‬ ‫من د�سم الطبيعة‬
‫تروج لها لت�أخذ ق�سط ًا من الدعاية‬ ‫بيانها وقوانينها‪ّ ،‬‬ ‫ود����س���م ذك��ري��ات‬
‫وال�شهرة‪ ،‬لكن ال ب ّد ان يعود ال�شعر اىل جمراه الطبيعي‬ ‫الطفولة وم��ا بعد‬
‫وال�شاعر اىل طريقته ال�شخ�صية والعفوية‪ .‬ما من �شيء‬ ‫أحب �أن‬
‫الطفولة‪ ،‬و� ُ‬
‫يدوم يف ال�شعر ويف الفن عامة �سوى ما يقوم على‬ ‫�أعيد و�أكرر نف�سي‬
‫العفوية‪ ،‬و�أعني بالعفوية وح�رصياً‪ ،‬تلك التي �أ�ص ًال‬ ‫ه��ن��ا اي�����ض��ا ً يف‬
‫تقوم على وعي جمايل حم�ض ووعي فني كبري نابع‬ ‫ما قلته م��رة عنه‬
‫من الذات‪ .‬يف كلمة خمت�رصة‪� ،‬أعني بالعفوية ما يظ ّل‬ ‫«ف�صاحب الزيز‬
‫متحرراً من �أي ايديولوجيا فنية (و�سيا�سية) ليطري‬ ‫والنملة وال�ضفدعة‬
‫طليقا ً يف مطلق ال�شعر الفذ كما لدى �شوقي ابي �شقرا !‬ ‫وال��غ�����ص��ن واجل��ل‬
‫فمنذ البداية‪� ،‬أي منذ �أن ترك‪ ،‬ولو يف قلبه غ�صة كما‬ ‫واخلوخة‪ ،‬هو قبل‬
‫يقول‪ ،‬حلقة «الرثيا» �أواخر اخلم�سينات لين�ضم اىل‬ ‫كل �شيء �صاحب‬
‫جمموعة �شعراء جملة «�شعر» (وباملنا�سبة ابي �شقرا‬ ‫الفتحة وال�ضمة‬ ‫�شوقي مع زوجته اوائل ال�سبعينات‬

‫‪116‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫القلب على الذهن على حد تعبري ال�رشيف الر�ضي‪،‬‬ ‫حاز يف ذلك الوقت «جائزة جملة �شعر» عن كتابه‬
‫يراقب النجمة يف اول ال�سطر ويرافقها غالب ًا اىل‬ ‫«ماء اىل ح�صان العائلة»‪ .‬وكان الثالث يف حيازتها‬
‫منزلها املنيف‪ .‬و�س�أكمل �شعراً ما وددت ان �أقوله‬ ‫مع ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�سياب و�أدوني�س‪ ،‬ومن‬
‫مقتب�س ًا من ق�صيدة له من كتابه االخري «تت�ساقط‬ ‫بعدهم توقفت اجلائزة)‪� ،‬إذا ً منذ ترك حلقة «الرثيا»‬
‫الثمار ‪ »...‬وهي بعنوان «�أ�صفق للحياة وقوفاً»‪:‬‬ ‫وعى ال�شاعر تلقائي ًا وعفوياً‪ ،‬من خالل حد�سه ال�شعري‪،‬‬
‫« ال ازال ال��ورق االخ�رض واالق��وى ولي�س الورقة‬ ‫م�ستلزمات الكتابة اجلديدة املعا�رصة ملتقط ًا �رسيع ًا‬
‫والطيور‬ ‫جوهر اللعبة ال�شعرية احلديثة‪ ،‬وال ُمعلم له �سوى‬
‫من حراب النور‬ ‫�شعر‬
‫ذاته‪ .‬ويجب القول انه من باب احلد�س فح�سب َ‬
‫حكايته مع‬ ‫واللون اال�صفى يف لوحة االفق‪.‬‬ ‫ب�رضورة الإنتقال اىل جملة «�شعر» و�أعتق ُد بذلك انه‬
‫الكلمة التي‬ ‫وا�صفق وقوف ًا على احلجر للحياة‬ ‫مل ي� ِأت اىل هذه املجلة �صدفة‪ .‬بل قدومه اليها كان‬
‫والطويل الإهاب‬ ‫��ضرورة حتمية لأنه يف �أي حال كان �سيبتعد عن‬
‫�صارت ان�سان ًا‪،‬‬ ‫واملغني املزدان بالأو�سمة‬ ‫الق�صيدة املوزونة التي بد�أ معها‪ ،‬كونه برز يف حقبة‬
‫واالن�سان‬ ‫من والدته الطبيعة»‬ ‫جملة «�شعر» تلك‪ ،‬ك�أحد �أهم �أركان الكتابة ال�شعرية‬
‫حكاية ال�شاعر �شوقي �أب��ي �شقرا مع الذي �صار هو‬ ‫احلديثة التي كانت حاجة ملحة يف املجال الأدبي‬
‫ال�شعر هي حكاية العمر كله‪ .‬حكايته املكان‪ ،‬واملكان‬ ‫حينها‪ ،‬وهو حد�س بهذا الإحل��اح ال�شعري احلديث‬
‫م��ع الكلمة ال��ت��ي ���ص��ارت ان�����س��ان�اً‪،‬‬ ‫والذي ال بد منه لت�ستوي الق�صيدة‪.‬‬
‫هو الأثر‪،‬‬ ‫وج��وده �أ�سا�سي‪� ،‬شعراً و�صحاف ًة (يف جملة �شعر‬
‫واالن�����س��ان ال���ذي ���ص��ار ه��و امل��ك��ان‪،‬‬
‫واملكان هو االث��ر‪ ،‬والأث��ر هو الرمز‪ ،‬والأثر هو‬ ‫ويف ما بعد يف جريدة «النهار» حيث �أن�ش�أ ال�صفحة‬
‫الرمز‪ ،‬والرمز‬ ‫والرمز هو ال�شعر‪.‬‬ ‫الثقافية)‪ .‬انه ال�شاعر الأ�سا�سي يف امل�شهد ال�شعري‬
‫من زم��ان ا�ضطجع �شوقي �أب��ي �شقرا هو ال�شعر‬ ‫اللبناين والعربي‪.‬‬
‫على الطلل وال��ع��رزال وعلى املطلع‬ ‫ُمعل ٌم يف ر�سم ال�صورة ال�شعرية ويف نحت بيت‬
‫والقوايف واالوزان‪ .‬وانهمك يف �صياغة‬ ‫الق�صيدة‪ُ ،‬مع ّل ٌم يف �رضب قلمه الفذ حيث بلوغ منتهى‬
‫ق�صيدة م�شغولة من طفولة وغياب‪،‬‬ ‫الق�صيدة بني ًة و�صياغ ًة وهيكلةً‪ ،‬منتهى الت�صوير‬
‫م��ن طبيعة و���ص��ور‪ ،‬من‬ ‫والإيقاع‪ .‬انه ال�شاعر املغامر الذي �أ�س�س ل�شعرية‬
‫�أ�سى وده�شة وخيال‪ ،‬من‬ ‫جديدة تركت �أثرها الكبري على �شعراء كرث‪ ،‬تركت‬
‫عزلة وتعب ولعب‪ .‬ولبث‬ ‫�أثرها على الق�صيدة احلديثة ككل‪.‬‬
‫يقرتب �شيئ ًا ف�شيئ ًا من‬ ‫\‪\v‬‬
‫وهج احلقيقة مدرك ًا ان‬
‫ال�شكل باهظ التكاليف �أو‬ ‫‪� v‬شوقي �أبي �شقرا‬
‫انهم �سي�سيئون تف�سريه‬ ‫اللون الأ�صفى يف الق�صيدة‬
‫ح��ت��م �اً‪ .‬وان����ه �سيم�شي‬ ‫\‬
‫�سليمان بختي‪:‬‬
‫حافي ًا ف��وق اجلمر ليدل‬
‫االخ���ري���ن ع��ل��ى ج��م��ال‬ ‫ال يزال ال�شاعر �شوقي �أبي �شقرا منذ ديوانه ال�شعري‬
‫ج��دي��د‪ ،‬ع��ل��ى امل��غ��ام��رة‬ ‫االول «�أكيا�س الفقراء» (‪ )1959‬وحتى « تت�ساقط‬
‫الق�صوى‪ ،‬على �أفق مغاير‬ ‫الثمار والطيور ولي�س الورقة» (‪ – )2004‬دار نل�سن‬
‫للق�صيدة العربية احلديثة‪.‬‬ ‫للن�رش‪ -‬يحوم على املعنى امل�ستحيل كما يحوم‬
‫‪117‬‬ ‫\ كاتب ونا�رش من لبنان‪.‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫االنتقام؟ �صمت برهة ثم �أجاب « �أعتقد �أنني انتقمت‬ ‫وان يو�ضح مراراً ما التب�س او غم�ض‪ .‬لي�س فقط ان‬
‫من احلياة دون ان �أجرحها‪ .‬لكن عربت عن الذي‬ ‫تخرج اىل �شكل جديد بل ان حتمل املعنى اذ ي�رشق‬
‫عربت عنه بطريقة انتقامية و�رشيفة ونبيلة‪ .‬وكما‬ ‫من �شق العبارة اىل احلرية‪ ،‬وحتتفي بالكلمة قطعة‬
‫يقولون بالفرو�سية �أي الذي يقلب الآخر عن احل�صان‬ ‫من احلياة‪ ،‬غرزة من االمل‪ ،‬حفنة من خال�ص‪:‬‬
‫هو املنت�رص‪� .‬أن��ا قلبت احلياة وانت�رصت عليها‬ ‫«وهات الكلمات للخال�ص‬
‫بهذه الطريقة‪ .‬مل يكن لدي طريقة �أخرى وال �سالح‪.‬‬ ‫مل ي�ستعن من االخطبوط‪،‬‬
‫�سالحي القلم واخليال‪ .‬هذااخليال الذي �أو�صلني اىل‬ ‫لرن�شفها ون�شفى من احلنني‬
‫�أبعد ما يكون وهو الذي �أر�ضاين وجعلني من �أكون‪.‬‬ ‫�أبي �شقرا‬
‫�أيها ال�صائغ»‬
‫اخليال العظيم‪ .‬و�أع�ترف ان ما لدي من اخليال ال‬ ‫(ق�صيدة القالدة )‬ ‫يف م�ساره‬
‫ميلكه �أحد‪ .‬ورمبا جر علي م�شاكل و�صعاباً»‪.‬‬ ‫من جمموعة «تت�ساقط الثمار ‪».....‬‬ ‫ال�شعري‬
‫كيف يولد ال�شاعر من اخليال؟ كيف يولد ال�شعر‬ ‫كانت لديه منذ البداية لغة مغلقة على‬ ‫بخطاب او‬
‫يف احلقول؟ وكيف تولد الق�صيدة يف الب�ساتني؟‬ ‫الكنز وق��ادت��ه ع�صا الغابة الوا�سعة‬
‫االجنحة‪ ،‬وقادته ع�صا اخليال واحلجر‬ ‫ا�سطورة‪.‬‬
‫ورث �شوقي �أبي �شقرا عن ا�سالفه نقاوة النظر اىل‬ ‫فقريته هي‬
‫التالل‪ .‬ر�أى كيف يتحول عنقود العنب املتديل من‬ ‫الن يزحزح الباب العمالق‪ .‬ك��ان له‬
‫العري�شة اىل عنقود ال�صور املتديل من اللغة‪ .‬و�شاهد‬ ‫م��ن ال��وج��د ك��ل ال��وج��د‪ ،‬وم��ن الهوى‬ ‫ا�سطورته‬
‫كيف تدنو اللغة من املعنى النادر ويقرتن املعنى‬ ‫الفة الهوى‪ ،‬ومن ال�شوق ما �شاق على‬ ‫ورمزه‪،‬‬
‫ب�ضيافة االمل بعناية االمل بحرقة الغياب‪.‬‬ ‫ال�شاعر ان يحمل او يرود‪.‬‬ ‫وجتربته‬
‫ال �أعرف من قال ان ال�شعر هو ح�ضور الغياب‪ .‬غاب‬ ‫ج��اء �شوقي اب��ي �شقرا اىل ال�شعر من‬ ‫ال�شعرية‬
‫الوالد وغابت الطفولة وغ��اب املكان‪ .‬وح�رضت‬ ‫الطفولة واخليال مثلما جاء اي�ض ًا من‬
‫هي جتربة‬
‫اللغة والق�صيدة واخليال‪ .‬وح�رض �أي�ض ًا احلنني ذاك‬ ‫امل�شقة وال�شغف‪.‬‬
‫حمل زوادته وكتابه وم�شى‪ .‬ادرك منذ‬ ‫احلقيقة‬
‫التلم�س الأعمى لإعادة ت�شكيل عامل غائب‪ .‬حنني‬
‫ازيل اىل جنة مفقودة‪ .‬حنني متوا�صل اىل مكان‬ ‫بداية الرحلة التي غ��اب عنها وال��ده‬ ‫الوجودية‬
‫كلما اقرتبنا منه تناثر او توارى‪ .‬هذا احلنني بات‬ ‫ح�صان العائلة ب��اك��راً‪ .‬ان املعارك‬ ‫التي رفعها‬
‫التجربة الأ�صلية التي وحدت هذا العامل‪ ،‬ومن خالله‬ ‫امامه وفرية وانه �سيعي�ش يف الفقدان‬ ‫اىل عامل‬
‫وح ّد �أبي �شقرا امل�سافات بني الذات واملكان والروح‬ ‫ولكنه �سريف�ض االن�صياع لقانون‬ ‫اخليال‬
‫وبني القرية واملدينة والكون‪.‬‬ ‫احلياة والعادة‪ .‬هاجمته ق�سوة احلياة‬
‫�صنع �أب��ي �شقرا م�ساره من ال��داخ��ل ومل ي�ستعن‬ ‫لأجل رجولة مبكرة فرف�ض التخلي عن‬
‫بخطاب او ا�سطورة‪ .‬قريته هي ا�سطورته ورمزه‪،‬‬ ‫الطفولة او خ�رسانها‪ .‬وهاجمه اي�ض ًا الت�شتت يف‬
‫قريته هي عامله‪ ،‬وجتربته ال�شعرية هي جتربة‬ ‫الأمكنة فرف�ض ان يخ�رس املكان االول – املكان‬
‫احلقيقة ال��وج��ودي��ة الكيانية‪ ،‬ورف��ع ال��واق��ع اىل‬ ‫اال�صل رحم القرية ونبع الريف‪ .‬وهاجمه اي�ضا‬
‫عامل اخلرافة‪ .‬وبذلك غدا �شوقي �أب��ي �شقرا �شاعر‬ ‫الواقع ب�رضاوة فرف�ض ان يخ�رس اخليال‪ ،‬عامله‬
‫املكانية اللبنانية املفتوحة على مداها االن�ساين‬ ‫ال�رسي ال�سحري ‪ .‬م�شى وكتم رغبة يف االنتقام‬
‫ال�شمويل الرحب‪ .‬واخت�رصت مغامرته ال�شعرية‬ ‫من احلياة وكل ما ميكله اللغة والكلمات وزوادته‬
‫جوهر احلياة يف لبنان و�ألوانها ومداها املفتوح‬ ‫القليلة ‪� .‬أذكر �أين �س�ألته يف حوار لكتابي « �إ�شارات‬
‫على النقد واالختبار والت�سامح والتنوع واحرتام‬ ‫الن�ص واالبداع» قلت مرة انك �رصت �شاعراً لتنتقم‬
‫الآخر‪ .‬مع �شوقي ابي �شقرا بتنا نعرف كيف ت�ستقبل‬ ‫من احلياة‪� ،‬س�ؤايل هل انت را�ض ٍ عن احلياة ام عن‬
‫‪118‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫وجود ذلك اخلامت يف �أ�صبعه‪ ،‬خامت الطفولة الذي‬ ‫ف�سحة اخليال يف قريتنا طف ًال يلهو‪ .‬وكيف ت�ستقبل‬
‫ي�ضيء الطريق كلما هبطت الظلمة و�أليل الليل‪.‬‬ ‫احلياة يف عاملنا �شاعراً ال ي�شبه احداً‪ .‬واكت�شفنا يف‬
‫و�أخرياً‪� ،‬أود ان �أروي �صلتي به كنا�رش لكتبه االربعة‬ ‫�صوته �صوت التطهر من الآثام واملرارات‪� .‬صوت‬
‫االخ�يرة التي �صدرت يف دار نل�سن للن�رش لبع�ض‬ ‫الف�ضاءات يف املكان والروح واال�شياء‪� .‬صوت نكران‬
‫طقو�سه يف التعامل فهو مث ًال ال يعطيك املخطوطة‬ ‫كل �شيء اال حقيقة الذات‪� .‬صوت اخليال حني ي�ضج‬
‫اال قبل ان ي�شعر حق ًا ان الكتاب �صار يف ف�ضاء‬ ‫ب�أعنف �صوره وت�شكيالته‪� .‬صوت اجلمال امل�سكوب‬
‫خلفه‪ .‬وحني يعطيك املخطوطة فيقدمها اليك كمن‬ ‫يف الكلمة واملت�أنق يف العبارة واملتجهد يف ح�رضة‬
‫ي�ستل اوراق ًا من قلبه او قطعة من ذاته‪.‬‬ ‫الطبيعة – االر�ض – الأب ‪ -‬االم‪ -‬النبع‪ -‬التعزية‪.‬‬
‫يعد �شوقي‬
‫ينظر يف ان�سان عينك ك�أنه ي�أمتنك على‬ ‫ماذا يريد �شوقي ابي �شقرا ؟ يريد من احلياة ان تظل‬
‫ا��سرار عا�شت معه طوي ًال وحان وقت ابي �شقرا‬ ‫تده�شنا ونكت�شف فيها كل هذا الغلط الوجودي الذي‬
‫من ال�شعراء‬ ‫والدتها اجلديدة‪.‬‬ ‫ي�ستحيل �شعرا ً ال�شعري رغم القدر والأ�شواك‪ .‬يريد‬
‫�أذكر حني �صدر كتابه النرثي – ال�شعري الكبار الذين‬ ‫من الطفولة ان ت�سكننا كامللح فال نف�سد ابداً‪.‬‬
‫اجلميل «�سائق الأم�س ينزل من العربة» تعرف‬ ‫يريد من اللعب طرافته وغرابته ولو اننا على حافة‬
‫ع��ام ‪ 2000‬ان��ه ات�صل بي يف م�ساء‬ ‫الهاوية وامل�أ�ساة فال يفني االمل وال يبيت الرجاء‬
‫مت�أخر والكتاب يف املطبعة وقال �أريد ق�صائدهم‬ ‫يف العراء‪ .‬يريد ان ال ي�أتي �شعراء �أقل من الق�صيدة‬
‫ان �أغري العنوان من «االم�س حممو ًال ومفرداتهم‬ ‫لأن هذا يدفعه اىل اخلوف واحلزن‪.‬‬
‫على عربة» اىل «�سائق االم�س ينزل من وعواملهم‬ ‫يريد ان نظل نحمل حيلة القول‪ ،‬وذروة الكمال‬
‫العربة» فقلت له «طبعا نغري ومن يقدر وحتى ولو مل‬ ‫امللقى على كاهل االن�سان او ًال و�أخرياً‪.‬‬
‫ان ال يغري العنوان جلوهرجي ال�شعر‬ ‫هذه الرحلة الوجودية اجلمالية ال�صوفية املنتظرة‬
‫ول�سيد العناوين على مدى ثلث قرن يف يوقعوا‬ ‫دائم ًا بكل جديد وق�شيب جتعلنا ن�س�أل ماذا يفعل‬
‫ال�شعر العربي وال�صحافة اللبنانية»‪.‬‬ ‫�شوقي ابي �شقرا اليوم؟‬
‫وبعد‪� ،‬شوقي اب��ي �شقرا من ال�شعراء‬ ‫بعد ثالث ع�رشة جمموعة �شعرية‪ ،‬وريادة يف فتح‬
‫الكبار الذين تعرف ق�صائدهم ومفرداتهم وعواملهم‬ ‫االبواب ومتهيد الطرق‪ ،‬وبعد امل�شقة وال�شغف‪ ،‬وبعد‬
‫وحتى ولو مل يوقعوا‪ .‬انه‬ ‫امل�شوار الذي �سلخه من الطبيعة اىل مدر�سة احلكمة‬
‫ع��ل��ى م��ا ي��ق��ول ف��ال�يري‬ ‫والق�سم الداخلي فيها اىل التعليم يف املدار�س وامل�شي‬
‫«�شاعر اللغة داخل اللغة»‪.‬‬ ‫الطليق يف �شوارع بريوت وركوب الرتامواي‪ ،‬اىل‬
‫وام���ت���ي���ازه يف ذات��ي��ت��ه‬ ‫حلقة الرثيا ‪ 1956‬اىل جملة �شعر ‪ 1959‬واملغامرة‬
‫احل������ادة ل��غ��ة وخ���ي���ا ًال‬ ‫الكربى اىل ال�صحافة وجريدة «الزمان» وجريدة‬
‫وخ��رب��ط��ة ع�لاق��ات و�إن‬ ‫«النهار» و�صفحاتها الثقافية‪ ،‬اىل ال�سعي الالنهائي‬
‫ك���ان ل��ب��ع�����ض ال�����ش��ع��راء‬ ‫لأجل الق�صيدة‪ ،‬اىل الطرقات التي وط�أها ومل يعكف‬
‫�أهمية يف تاريخ ال�شعر‬ ‫�شوقي اليوم على كتابة مذكراته �شهادة للزمن الآتي‬
‫ولبع�ضهم الآخر �أهمية يف‬ ‫والآين وال��ذي عرب‪ ،‬وثيقة ملن ي�ؤثر معرفة ق�صة‬
‫فن ال�شعر ف�إن ل�شوقي �أبي‬ ‫الق�صيدة العربية احلديثة‪ ،‬وملن يو ّد ان يعرف كيف‬
‫�شقرا �أهمية يف كليهما‪،‬‬ ‫ان�ضمت التبا�شري وحلقت الطيور يف �سماء خفي�ضة‬
‫و�أي�ضا يف �أبجدية الكلمة‬ ‫وو�سيعة و�صنعت الربيع‪.‬‬
‫وال�صورة‪.‬‬ ‫وها �أنا كلما زرته يف بيته يف الأ�رشفية �أطمئن اىل‬
‫‪119‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�سريتها ويحر�س لغتها‪ .‬وجاءها ال�شاعر �شوقي ابي‬ ‫ذرف �شوقي �أدق التعب و�أرق��ه على جتربته‪ .‬انه‬
‫�شقرا الذي راح منذ بداياته يف جملة «�شِ عر» اوال‬ ‫ال�شاعر احل��ق ال��ذي يحتفل باحلياة وي�صفق لها‬
‫ومن ثم يف ت�أ�سي�سه و�إ�رشافه على ال�صفحة الثقافية‬ ‫من بعيد ويحملها ب�أوجاع يديه حتى يبقى للأمل‬
‫يف �صحيفة «النهار» اليومية يخرتع جمالية جديدة‬ ‫واجلمال املكان الأبهى الأمثل والبني يف م�سارنا‬
‫ويوجه االجيال اجلديدة‬ ‫ّ‬ ‫لل�شِ عر العربي املعا�رص‬ ‫ال�شعري العربي‪ ،‬ويبقى هو اللون الأ�صفى يف لوحة‬
‫نحوها‪ .‬فما �أبرز �سمات هذه اجلمالية التي نراها‬ ‫الق�صيدة العربية احلديثة‪.‬‬
‫يف �أعمال هذا ال�شاعر الفذ؟‬
‫\‪\v‬‬
‫يف الع�صور املا�ضية كانت ُتقا�س احل�ضارات مبا‬
‫تنتجه من فنون‪ .‬فاليونان‪ ،‬واالمل���ان من بعد‪،‬‬
‫اعتربوا ان احل�س اجلمايل مركوز يف جبلة االن�سان‪.‬‬
‫‪� v‬شوقي �أبي �شقرا‬
‫ولهذا مل يكن غريب ًا �أن يقول غوته (‪)1832-1749‬‬ ‫وجمالية احلداثة‬
‫مقولته ال�شهرية ‪»:‬على االن�سان ان ي�سمع يف كل‬ ‫\‬
‫قي�صر عفيف‬
‫يوم قليال من املو�سيقى‪ ،‬و�أن يقر�أ قليال من ال�شِ عر‪،‬‬
‫و�أن يت�أمل لوحة او منحوتة حتى ال تطم�س م�شكالت‬ ‫مع حركة احلداثة بد�أ اخل��روج من قواعد الكتابة‬
‫احلياة اليومية احل�س اجلمايل الذي زرعه الرب يف‬ ‫القدمية‪ .‬تبدلت القواعد واالجواء وخرجت الق�صيدة‬
‫القلب»‪ .‬ولكن بعد ان �رضبت احلروب اوروبا تبدلت‬ ‫أعطت ال�شعر العربي املعا�رص‬
‫ب�ألوان وحِ لل مده�شة � ْ‬
‫االولويات‪ .‬وما �أن انتهت احلرب العاملية الثانية‬ ‫وهج ًا ج��دي��داً‪ .‬وك��ان ال ب� ّد لهذه احلركة اجلديدة‬
‫حتى تزعزعت القيم التقليدية واالخالقية ومل ت�سلم‬ ‫املندفعة منذ خم�سينات القرن املا�ضي اىل �شاعر‬
‫الفنون من هذه اخللخلة وخ�صو�صا ال�شعر‪ .‬فبد�أ‬ ‫عمالق ير�شد خطواتها‪ ،‬ي��ح� ّدد معاملها‪ ،‬ير�سم‬

‫ال�صورة يف بيت �شوقي ابي �شقرا اجلبلي �سنة ‪ ,2010‬من اخللف اليمني ‪� :‬سليمان بختي مع زوجته‪ ,‬الدكتورة الهام كالب‪ , ‬ه�شام ب�ساط‪ ,‬ادمون رزق‪,‬‬
‫قي�رص عفيف مع زوجته‪� ,‬شوقي ابي �شقرا‪ ,‬جوزيف ابو �ضاهر مع زوجته‪ ,‬فادية جحا‪ ,‬زوجة �شوقي ابي �شقرا جلو�سا‪ ,‬وقرف�صة �صباح زوين‪..‬‬

‫‪120‬‬ ‫\ �شاعر من لبنان و�صاحب جملة «احلركة ال�شعرية»‪.‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫فيه زهرة طالعة»‪ . ..‬والق�صيدة «فتاة يطل عليها‬ ‫النا�س يت�ساءلون عن �أهمية ال�شعر ودوره وقيمته‬
‫ال�شاعر وي�سقيها من عمره جرعة اخلمر‪ ،‬ومينحها‬ ‫ب�ش ب�أفوله‬
‫يف احلياة املعا�رصة حتى �أن بع�ضهم رَّ‬
‫�صفة االرتفاع وبلوغ الن�ضج»(�سائق‬ ‫وموته‪ .‬وانتقلت هذه العدوى اىل العامل العربي مع‬
‫الأم�س �ص ‪ )119‬وتكون معاناة ال�شاعر اخليال ذكاء‬ ‫حركة احلداثة وكان على ال�شعراء �أن يذكّ روا النا�س‬
‫على �أ�ش ّدها حني تغيب هذه الفتاة لأنها تخلى عن‬ ‫ان ال�شعر من جوهر االن�سان ولن تقف امام ال�شاعر‬
‫ترتكه وحيداً �ضائع ًا هائم ًا ‪� .‬إ�سمعه الأالعيب‬ ‫عقبة متنعه من اخللق‪� .‬أدرك ال�شعراء ان اخلطر على‬
‫يحدثنا يف نرثه ال�سحري عنها‪ »:‬وال الفكرية‬ ‫ال�شِ عر ي�أتي من النا�رش الذي ترك لل�سوق ان حتدد‬
‫ي�شقى (ال�شاعر) ابداّ �إال حني تهرب منه‪،‬‬ ‫الأهمية والأولوية‪ .‬والنا�رش اعترب ال�شِ عر هام�شيا‬
‫واملماحكات‬
‫تهرب الق�صيدة �إىل �أبيها ثم ي�رسع من‬ ‫�سطحيا لأنه ال يدر املال ‪� .‬أما ال�شاعر فكان يرى ان‬
‫املتك�أ �إىل اخل��ارج ويخطف الق�صيدة النظرية وراح‬ ‫ال�شعر جوهر الوجود لأنه يك�شف عن جوانب خفية‬
‫من ذويها‪،‬من �أبيها‪ ،‬من خالتها و�أمها‪ ،‬يلعب على‬ ‫يف التجربة االن�سانية‪.‬‬
‫ويذهب �إىل ال�سوق لي�شرتي لها اخللخال م�سارح الإبداع‬ ‫يف هذا ال�سجال وقف ال�شاعر �أبي �شقرا ي�ؤكد اال زوال‬
‫واحلجر الأزرق والقالدة‪......‬وتظهر يف بالكلمات‬ ‫لل�شعر‪� .‬أعلن بو�ضوح‪� ...« :‬أما ال�شِ عر فهو الأخ�رض وال‬
‫الإط��ار الزجاجي هكذا وهي ت�ضحك‬ ‫قدرة لأحد على ان يلفّه و�أن يق ّدده ويعلقه يف ال�سقف‬
‫للزوار ويف يدها الباقة‪ ،‬باقة العهد‪ ».‬وال�صور فت�أتيه‬ ‫مع الب�صل والثوم‪�( ».‬سائق االم�س ينزل من العربة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الق�صيدة‬ ‫(�سائق الأم�س �ص ‪.)273‬‬ ‫دار نل�سن ‪� 2000‬ص ‪ )174‬وي�ضيف م�شدداً على‬
‫متنى ال�شاعر ان ت�أتيه الق�صيدة جاهزة‪ ،‬نتيجة هذه‬ ‫�أهمية ال�شعر يف ع�رصنا قائالَ‪« :‬وال عجب ان ي�سبق‬
‫جميلة‪ ،‬كاملة االو���ص��اف‪ .‬واحلقيقة اللعبة الذكية‬ ‫ال�شعر كل املبتكرات فهو‪ ،‬يف ع�رصنا‪ ،‬ويف حقبتنا‬
‫انها ال ت�أتيه �إال بعد عناء‪ .‬فاخللخال‬ ‫الآن‪ ،‬ي�أخذنا �أكرث اىل حيث ت�أخذنا الألكرتونيات‪،‬‬
‫واحلجر الأزرق والقالدة بحاجة اىل‬ ‫اىل االوه��ام الراقية‪�( ».‬سائق الأم�����س‪� ،‬ص ‪)175‬‬
‫�صائغ ماهر‪ .‬وال�شاعر جوعان والق�صيدة �سمكة‬ ‫وي��ؤك��د �أي�ضا ان ال�شِ عر ن�شاط ثقايف روح��ي �أي‬
‫لكنها ال ت�أتيه جاهزة مهما طلب منها‪:‬‬ ‫ان�ساين بامتياز يتجاوز العادي وامل�ألوف وما دام‬
‫طلبنا من الق�صيدة بجمال �ساقيها‬ ‫يف االن�سان قلب و�شعور و�أحا�سي�س فال�شعر قائم‪.‬‬
‫وب��ه��اء معدتها و�أمل�س‬ ‫عبك اىل �صدرك‪،‬‬ ‫ي�رسك و�أن يدخل اىل ّ‬ ‫«ووظيفته ان ّ‬
‫البطن‬ ‫حيز‪ ،‬ومن بهاء اىل بهاء‪».‬‬ ‫حيز اىل ّ‬ ‫و�أن ينقلك من ّ‬
‫�أن ت�أتي مقلية او م�شوية‬ ‫(�سائق االم�س ينزل من العربة‪� ،‬ص ‪ )175‬ويرى‬
‫على �صينية النادل‬ ‫ال�شاعر ان من اهمية ال�شعر �أي�ضا انه يحفظ اللغة‬
‫فلم ت �� ِأت لأنها منهمكة‬ ‫وينقذها‪ .‬يقول‪« :‬وال جتد هذه اللغة جتمد �أو متوت‪ ،‬بل‬
‫يف املاكياج‬ ‫الرثي جداً يقلّمها ويرويها‬
‫ّ‬ ‫ان ال�شعر هو املنقذ وهو‬
‫وطلبنا من ال�سماء الر�أفة‬ ‫يف حكايته‪ ،‬يف مغامراته‪ ،‬يف �سهوله اخل�صبة‪...‬فهذه‬
‫فلم تقبل ان تلتفت‪.‬‬ ‫اللغة تتعاىل عن الواقع وتذهب يف اجتاه غري ترابي‬
‫(تت�ساقط الثمار والطيور‬ ‫غري �أر�ضي‪� (».‬سائق االم�س‪� ،‬ص ‪.)176‬‬
‫ولي�س الورقة) دار نل�سن‬ ‫ال �أعرف �شاعراً رفع من �ش�أن ال�شاعر والق�صيدة كما‬
‫‪� 2004‬ص ‪181‬‬ ‫فعل �شوقي ابي �شقرا‪ .‬مل يرتك منا�سبة اال وتناول‬
‫يزين‬
‫واذا ت�ساءلنا كيف ّ‬ ‫�أهميتهما‪ .‬فهي «الفانو�س وقت اخلراب» وال�شاعر‬
‫ال�شاعر فتاته‪ ،‬ق�صيدته‬ ‫«من ال�ساللة النورانية وال�ساهر على اللعبة والقوة‬
‫‪121‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جيله من عرب و�أجانب الذين اعتمدوا اال�ساطري يف‬ ‫ويجملها؟ يجيبنا ابي �شقرا بب�ساطة ان �أداة ال�شاعر‬‫ّ‬
‫�أعمالهم ال�شعرية وبنوا ق�صائدهم عليها واعتربوها‬ ‫الأهم هي خياله‪ .‬كلمات املعاجم �أدركتها املعاين‪،‬‬
‫�رضورة متنح الق�صيدة رحابة ومدى و�أبعاداً‪ .‬وي�شري‬ ‫�أ�رستها يف خانات وحددتها‪ .‬ي�شعل خيال ال�شاعر‬
‫ن�ص نرثي‪.‬‬ ‫�إىل ذلك يف �أكرث من ق�صيدة و�أكرث من ٍّ‬ ‫يحمل الكلمات‬‫ناراً يف اللغة ويبدع لغة داخل اللغة‪ّ .‬‬
‫يرى ان على ال�شاعر ان يرتك الأ�ساطري على رفوف‬ ‫املعاين وال�صور التي تعجز عنها املعاجم فترتك‬
‫الكتب وي�ستمد مو�ضوعاته من ال�شارع والبيت‬ ‫معانيها املتعارف عليها وتلب�س ثياب ًا مل ت�ألفها‬
‫واملدينة والنا�س والأر�ض وكل �شيء حوله و ُيعمل‬ ‫من قبل‪ .‬يقول يف ق�صيدته « نريان الأ�سطورة» من‬
‫خياله ليبدع البطل اخلا�ص به ويكون ابن بيئته‬ ‫جمموعته تت�ساقط الثمار �ص ‪« :79‬و�أ َد ُع خيايل‬
‫ب��دل ان ي�ستعريه من بطون اال�ساطري‪� ،‬صفحات‬ ‫يلعب وخيايل»‪ .‬ويف «�سائق الأم�س ينزل من العربة‬
‫الكتب و�أخبار الآخرين‪ .‬يت�ساءل �أبي �شقرا ‪« :‬ملاذا‬ ‫يرى ال�شاعر « �ص ‪ 143‬كتب « و�أتكلم يف خيايل مع‬
‫نرغب ان ننطح ب�سيف غرينا و�أن ن�صل من هذا‬ ‫خيايل»‪ .‬ولكن ما اخليال؟ انه ذكاء يلعب‬
‫�شوقي ابي‬
‫الباب اىل العمق الوجودي والكيان الأ�صيل الذي هو‬ ‫داخل الدائرة وخارجها‪ ،‬فوق احلدود‬
‫الغاية والر�سالة» (�سائق الأمي ينزل من العربة �ص‪.‬‬ ‫�شقرا ان وحتتها ال حدود حت ّده وال عقبات �أمامه‪.‬‬
‫‪ )354‬وليحدد موقفه ا�ستعار ا�سطورة عولي�س وكتب‬ ‫الب�ساطة‪ ،‬اخليال ذكاء تخلى عن الأالعيب الفكرية‬
‫�شارحاً‪« :‬وال ن�ستقبل املمثل العولي�سي بل نلتفت �إىل‬ ‫كما الو�ضوح‪ ،‬واملماحكات النظرية وراح يلعب على‬
‫منظر �آخر‪ ،‬يقع يف ناحيتنا‪ ،‬يف جغرافيتنا‪ ،‬ونربهن‬ ‫تق�ضي على م�سارح الإب����داع بالكلمات وال�صور‬
‫له �أننا ن�سافر ونرحل معا ونحن على مركبنا‪ ،‬على‬ ‫الن�ص كما فت�أتيه الق�صيدة نتيجة ه��ذه اللعبة‬
‫خيالنا‪ ،‬ونب�رص البحر من لوننا الأزرق‪....‬ون��ظ��ل‬ ‫الذكية‪� .‬أنه ح�صان جم ّنح يحمل ال�شاعر‬
‫ال�سو�سة على‬
‫�أحرارا من اال�سطورة كما ولدتنا الأمهات‪ .‬ون�ضع‬ ‫اىل عوامل مل تولد بعد ي�ستمد منها ر�ؤاه‬
‫عولي�س على ال��رف‪ ،‬ورف��اق��ه وعجائبه‪ ،‬ون�صنع‬ ‫اخل�شب ويحدد نظرته اىل الكائنات‪ .‬يف خياله‬
‫اجلميع دمى لنلهو بها �ساعة ن�شاء‪ ،‬ونر�سم على‬ ‫وامل�رشع على االجتاهات يكمن‬
‫ّ‬ ‫اخل�صب‬
‫احلائط بط ًال منا كي يحيا وينتقل من العدم‬ ‫ال�رس يف غرائبية هذا ال�شاعر الذي ينقلك من غرائبية‬
‫�إىل الكينونة‪�( ».‬سائق الأم�س‪� ،‬صفحة ‪ )233‬وحده‬ ‫�إىل غرائبية‪ ،‬من ده�شة �إىل ده�شة‪ ،‬من ف�صاحة اىل‬
‫ال�شاعر الذي يخلق �أبطاله ومو�ضوعاته مما يراه‬ ‫ف�صاحة‪ ،‬لتحملك ق�صيدته اىل �ألوان جديدة وبهجة‬
‫حوله ي�ستطيع ان يقول‪:‬‬ ‫جديدة وكلما عاودت قراءتها كلما ظهرت لك زوايا‬
‫ويل �شعلتي الوحيدة الوهج‬ ‫ومعان كانت حمجوبة‪� .‬إنه اخليال الفريد‬ ‫ٍ‬ ‫خفية‬
‫كانت ّ‬
‫ال تفنى ذبالتها‪،‬‬ ‫يطرزها‪ ،‬ي�صقل‬ ‫يبدع رموز الق�صيدة‪ ،‬ير ّتب �صورها‪ّ ،‬‬
‫ال�صوان والقداحة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وال ا�ستعري من بنات القمر‬ ‫نتواءتها ويزرعها بالكلمات «النادرة الري�ش» على‬
‫�إنها را�سخة يف درعي‬ ‫ح ّد تعبريه‪� .‬أ�سمعه يتحدث عن عالقته مع خياله‪:‬‬
‫ويف ال�شمعدان‪،‬‬ ‫�أملك اال�سطبل حيث خيايل‬
‫وال يوما �إىل الرقاد‬ ‫ميرح بي وي�رسح فر�س ًا �أو نعج ًة تهمدر‬
‫�صياد‪.‬‬
‫وال يتع ّدى على امالكي � ّأي ّ‬ ‫�أوعنقاء ت�سافر على طريق العني‬
‫( تت�ساقط الثمار والطيور‪� ،‬ص ‪) 80‬‬ ‫ويف مطار االمنيات‬
‫وحتى ت�رشقط الق�صيدة يف جمالها اخلا�ص يلزمها‬ ‫�سائق الأم�س‪� ،‬ص‪44 .‬‬
‫ان تكون مغلّفة اجلوانب بالغمو�ض‪ .‬يرى ال�شاعر‬ ‫لأنه اعترب ان اخليال عند ال�شاعر هو حجر الزاوية‬
‫�شوقي ابي �شقرا ان الب�ساطة‪ ،‬كما الو�ضوح‪ ،‬تق�ضي‬ ‫يف البناء اجلميل للق�صيدة‪ ،‬عار�ض ابي �شقرا �شعراء‬
‫‪122‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫اخلا�ص والنكهة املميزة‪ .‬فال�شاعر‪ ،‬بتعبري �أبي �شقرا‪،‬‬ ‫على الن�ص كما ال�سو�سة على اخل�شب‪ .‬فالب�ساطة‬
‫هو «�أبو اخلليقة بدءاً من اهلل‪ ،‬وو�صو ًال �إليه» (�سائق‬ ‫املوغلة �صنو ال�سخافة النها ُتفقِد الن�ص �أبعاده‪.‬‬
‫الأم�س‪� ،‬ص‪ )264.‬وبهذا املعنى ال يتكرر �أبداً وال‬ ‫وهذا منحى جمايل تناوله ال�شاعر �أي�ض ًا يف ق�صائده‬
‫يت�شابه مع �سلف او معا�رص‪ .‬ال ي�سكب‬ ‫ومقاالته النرثية و�أحاديثه اخلا�صة‪ .‬و�أفرد ف�ص ًال‬
‫من �صحن غريه وال ي�صب كلماته يف ال�شاعر �أبي‬ ‫كام ًال من كتابه «�سائق الأم�س ينزل من العربة»‬
‫قوالب غريه‪ ،‬وال خال�ص له �إال اذا كان �شقرا ابن‬ ‫�سماه «ال�سهولة قاتلة للن�ص والق�صيدة» يتحدث فيه‬ ‫ّ‬
‫فريداً يحمل ب�صمته اخلا�صة يرتكها بيئته �أخذ‬ ‫عن الذين يعتمدون ال�سهولة يف ن�صو�صهم‪ ،‬ال�شعري‬
‫على اللغة وي��ب��دع بها لغة ج��دي��دة‪ .‬املفردة من‬ ‫منها والنرثي‪ ،‬يقول عنهم انهم يظنون انهم يبدعون‬
‫وي��ح � ّذر اب��ي �شقرا ق��ائ�لاً‪« :‬علينا ان‬ ‫ال�صور والر�سمات ويفعلون احل�سن والأح�سن ولكنهم‬
‫نهرب من اللغة �إىل اللغة لئال نت�شابه لغتة املحكية‬ ‫«يف غري هذا املجال‪ ،‬يف حالة من ال�سهولة التي �إن‬
‫ون��ق��ف يف ال�صف ون�صري ال�صحراء لكنه عرف‬ ‫دخلت يف املرء‪ ،‬يف الإن�سان‪ ،‬يف الفنان‪ ،‬فقل انها‬
‫التي ت�شابه رملها‪ ،‬والنخيل هو ذاته كيف ي�سكبها‬ ‫ال�سو�سة و�إنها تعطل الإب��داع‪ ،‬وال��رذل والأ�شاحة‬
‫وال�سعف والثمار‪� ( ».‬سائق الأم�س‪� ،‬ص يف الن�ص‬ ‫هما �أق � ّل العقاب واق � ّل الالمباالة جتاهها» �ص‬
‫‪ )120‬وباخت�صار كلما تنوعت الورود‬ ‫‪ .181‬وحتى ال تتعر�ض اعماله للإهمال والرذل‬
‫لتك�سبه‬
‫واالزاه�ير يف حديقة ال�شِ عر كلما ازداد‬ ‫على ال�شاعر �أو الكاتب ان يتخلى عن هذه ال�سهولة‬
‫ال يف‬‫جما ً‬ ‫جمالها و�سطع رونقها‪.‬‬ ‫القاتلة فال يبقى على ال�سطح بل يعمل على الدخول‬
‫وم���ن ع�لام��ات اجل��م��ال يف ق�صيدة ال�صورة ودقة‬ ‫�إىل االبعاد والأعماق ي�صطاد منها معانيه و�صوره‪.‬‬
‫�أب��ي �شقرا ا�ستعماله كلمات من اللغة يف �إداء املعنى‬ ‫مرة اخرى لن�سمع كيف ي�شري �إىل ذلك‪:‬‬
‫يطرز بها الن�ص‪ .‬املق�صود‬ ‫اللبنانية املحكية ّ‬ ‫«انها ال�سهولة التي نطردها من باب الدار‪ ،‬ونر ّدها‬
‫وال غ��راب��ة يف ذل��ك لأن���ه م��ن بيئته‪،‬‬ ‫وتتمرن‬
‫ّ‬ ‫اىل ال�سياج‪ ،‬لتلعب ه��ن��اك يف احل��ق��ل‪،‬‬
‫نا�س ًا وجغرافية وم�ؤ�س�سات ا�ستم َّد‬ ‫على الطعام‪ ،‬وعلى �إر�سال منقارها يف الأر���ض‬
‫مو�ضوعاته‪ .‬تراه «يحتطب من بيداء اللغة» (التعبري‬ ‫اللتقاط الغذاء‪ ،‬اىل ان ترتفع من مرتبة الدجاجة‬
‫ل��ه) لي�شعل ن��اراً يف الق�صيدة فهي ال ت�أتيه كما‬ ‫�إىل مرتبة ال�صقر الذي يرى من عليائه مثلما يرى‬
‫يقول جاهزة من فانو�س‬ ‫من الأ�سفل‪� ....‬أو هو القارىء الذي يب�رص اللمعة‬
‫ع�ل�اء ال��دي��ن وج��ن� ّ�ي��ات��ه‪،‬‬ ‫والق�صيدة واللوحة‪ ....‬وعندئذ ي�أخذ من هذا املو�ضع‬
‫وال ي�شرتيها كما ال�سكر‬ ‫كنزه‪ ،‬ويروح يتباهى ب�أنه ح�صل على اللذة‪...‬و�أن‬
‫والباذجنان من الدكان‪.‬‬ ‫اللذة م�ستعادة‪ ،‬فال تكون مرة واح��دة‪ ،‬بل م��راراً‬
‫عليه �أذن ان ي�صقلها‬ ‫ويكون الطريان والتحليق جزءاً من اللعبة» (�سائق‬
‫ب��ح��ن��ك��ت��ه‪ ،‬ي�����ص��وغ��ه��ا‬ ‫الأم�س‪� ،‬ص ‪)182‬‬
‫مب���وه���ب���ت���ه وي��� ّل���ون���ه���ا‬ ‫ومِ ن �صفات اجلمال اي�ضا ان يكون ال�شاعر فردا‬
‫بعبقريته اخلا�صة‪ .‬فاىل‬ ‫مميز الأ�سلوب وال�صقل والرتكيب‪ .‬فال�شاعر الذي‬ ‫ّ‬
‫بع�ض الذين عابوا عليه‬ ‫كرر �أمناط ال�سابقني‪� ،‬أ�ساليبهم‪ ،‬وطرقهم يعر�ض‬ ‫ُي ِّ‬
‫ا�ستعمال الكلمات العامية‬ ‫ق�صيدته لالبتذال‪ .‬يقول اب��ي �شقرا «�إن ال�شاعر‬
‫يف ن�صه �أفرد امثلة ت�شري‬ ‫الذي نن�شده يختلف عن الكلمات ال�سابقة وال�شعراء‬
‫�إىل كيف ا�ستطاع ان ي�أخذ‬ ‫ال�سابقني» (�سائق الأم�س �ص‪.)269‬على ال�شاعر اذن‬
‫الكلمة املحكية ويركب‬ ‫ان يكون دائم االبتكار واخللق ليكون له اال�سلوب‬
‫‪123‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وم��ن جماليات احل��داث��ة عند اب��ي �شقرا �ألاّ يلج�أ‬ ‫�صورة �شعرية جميلة تقف على قدميها وترفع‬
‫ال�شاعر اىل الأ�شكال القدمية والأوزان اخلليلية لأن‬ ‫ر�أ�سها‪ .‬قال يف جمموعته «نوتي مزدهر القوام»‪،‬‬
‫هذه مل تعد تنا�سب الع�رص �أوال ً ولأن ال�شعر ال يقا�س‬ ‫«وقجتك متتلىء‬ ‫ّ‬ ‫دار نل�سن ‪��� ،2003‬ص‪136 .‬‬
‫باالوزان والقوايف‪ .‬ولعله هنا يعيد املقولة النقدية‬ ‫بال ُنور»‪ .‬لو ا�ستبدل «قجتك» بـ «حم�صلتك» �أال تنك�رس‬
‫ميزوا بني ال�شاعر والنظّ ام‪.‬‬ ‫عن العرب القدامي الذين ّ‬ ‫�شفافيتها؟ او كيف‬ ‫ّ‬ ‫ال�صورة وجترح �سمعنا وتخ�رس‬
‫فلي�س من ال�رضورة ان حت ّدد االوزان جوهر الق�صيدة‬ ‫ت�ستبدل كلمة «الكم�شة» يف ال�صورة التالية دون ان‬
‫فاملق�صود �شيء �آخر خمتلف متاماً‪ .‬يذكّ رنا انه بد�أ‬ ‫تخد�شها؟ «وتر�سل الكم�شة من امل�سك» (نوتي مزدهر‬
‫ال�شعر خليلي ًال ولكنه تخلى عنه‪ .‬ا�سمعه يقول عن‬ ‫القوام �ص‪ 45) .‬ثم ان كلمة «كم�شة» تعني ما تعنيه‬
‫جتربته يف كتابه «�سائق االم�س‪� ،‬ص‪270 .‬‬ ‫يف املجتمع اللبناين ولو بدلّناه خل�رست معناها‬
‫« وترغب اي�ض ًا يف �إلبا�س ال�شاعر ّزيه الالئق‪ ،‬ال ان‬ ‫املق�صود واملتعارف عليه يف املجتمع اللبناين‪� .‬أو‬
‫يرتدي ثوبا لي�س �أنيقا ولي�س ال ئق ًا بك‪�....‬إذ ال القافية‬ ‫كيف ت�ستعيد حياة القرية اللبنانية لو ا�ستبدل كلمة‬
‫وال الوزن هما م�س�ألتك او ميدانك‪ ،‬بل انك مررت على‬ ‫ن�شمه»‬
‫«م�شاوير» يف قوله ‪ »:‬وال م�شاوير�إىل ن�سيم ّ‬
‫اخليمة و�صافحت امللك اخلليل ابن احمد‪ ،‬واعتذرت‬ ‫بكلمة �أخرى من الف�صحى؟ ولن�أخذ مث ًال �آخر‪ « :‬ومن‬
‫من القافية‪ ،‬النك ب��د�أت امل�شوار �إىل الكروم معها‪،‬‬ ‫نلمها‬
‫�سقطت ّ‬
‫ْ‬ ‫�سكارى نفرت عيونهم �إىل االمام‪ ،‬و�إن‬
‫وخطبت ال�شم�س من �إ�صبعها‪ ،‬و�أدخلت اخل��امت يف‬ ‫باملحرمة» �أو هذه ال�صورة « �أبو احلن بالفوطة‬
‫�سياقها‪ ،‬يف مرونتها‪ ،‬يف لهبها‪ ،‬يف حلمها‪».‬‬ ‫الربتقالية حت��ت ذق��ن��ه» ( نوتي م��زده��ر ال��ق��وام‪،‬‬
‫القيم‬
‫منذ جملة «�شِ عر» وعلى مدى عقود كان فيها ِّ‬ ‫�ص‪� )37 .‬أترانا ن�ستطيع ان ن�ستبدل «املحرمة»‬
‫على ال�صفحة الثقافية يف �صحيفة «النهار» وقت‬ ‫و«الفوطة» دون ان تخ�رس ال�صورة لبنانيتها؟ اذن‬
‫كانت هذه ال�صحيفة يف ت�ألقها ال�سابق‪ ،‬كان �شوقي‬ ‫فال�شاعر �أبي �شقرا ابن بيئته �أخذ املفردة من لغتة‬
‫ابي �شقرا «النوتي املزدهر القوام» و�سائق العربة‬ ‫املحكية لكنه عرف كيف ي�سكبها يف الن�ص لتك�سبه‬
‫اجلمالية يف �أدب احلداثة من نرث و�شِ عر‪ .‬ت�س َّنى له يف‬ ‫جما ًال يف ال�صورة ودقة يف �إداء املعنى املق�صود‪.‬‬
‫هذه العربة �أن ير�سم طُ رق اجلمال يف االبداع االدبي‬ ‫كيف ال نتذكر اذن‪ ،‬ونحن نقر�أ �شعر �أب��ي �شقرا‪،‬‬
‫ويح ّدد معامله لأنه �أُوتي حا�سة جمالية رفيعه مع‬ ‫مقولة الفيل�سوف الأملاين مارتن هيدجر ب�أن الكالم‬
‫عال ور�شاقة يف التعبري َع َّز نظريها‪.‬‬ ‫ذوق لغوي ٍ‬ ‫املحكي �شعر‪.‬‬

‫�شوقي �أبي �شقرا مع �أمني نخلة يف مكتبه يف بريوت اوائل ال�ستينات‪.‬‬

‫‪124‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫«ذه��ب» باكورة ق�صائد �شوقي يف «احلكمة» وقد‬ ‫فجاءت �أكرث‬


‫ْ‬ ‫نت‬
‫وتزي ْ‬
‫تطورت اللغة العربية ّ‬
‫على يديه ّ‬
‫ن�رشت يف عدد ني�سان (ابريل) ‪ ،1955‬ويف ال�صفحة‬ ‫طراوة و�صفاء‪� ،‬أكرث رهافة وليونة‪� ،‬أكرث غنى ودقة‬
‫نف�سها املن�شورة‪ ،‬ق�صيدة «اىل �أ�سمر» جلورج غامن‪.‬‬ ‫يف التعبري‪� .‬صارت �صفحته الثقافية ال�شعلة اليومية‬
‫قال يف الق�صيدة املوزونة املقفاة التي توحي مكان‬ ‫ت�ضيء طريق اجلمال لأجيال فكان له الف�ضل على‬
‫ناظمها �شاعر حمرتف‪:‬‬ ‫كثريين وكاتب هذه الكلمات واح��د منهم‪� .‬أت��راين‬
‫«هذه الأوتار املهذبة التحنان‪ ،‬ترغي برغوة �صوفية‬ ‫�أغلو حني �أقول ان ابي �شقرا قيمة جمالية حني كان‬
‫هذه الغمرة الوليدة منها قد ك�ستني بك�سوة احلرية‬ ‫�سائق االم�س واليوم النه ال يزال يقود يف ك ِّل ما‬
‫بللتني كما يبلل ينبوع رهيف ا�ضمامة وردية‬ ‫يكتب عرب َة اجلمال نحو الأحلى والأ�سمى والأكرث‬
‫غ�سق طاب بعدها موئ ًال لل�شعر طيب الع�صفور يف‬ ‫ٌ‬ ‫ومتيزاً يف عربة العربية املعا�رصة‪.‬‬
‫تفرداً ّ‬
‫�أغنية‬ ‫\‪\v‬‬
‫طيب غيم حتت ال�سماء وطيب الغيم فوق امل�سارح‬
‫الب�رشية»‪.‬‬
‫وتتابعت الق�صائد ب�صورة دوري��ة يف تلك املجلة‬ ‫‪� v‬شوقي ابي �شقرا‬
‫الأدبية ال�شهرية‪ .‬في�س�ألها �شوقي يف ق�صيدة «�رسور»‬ ‫يف حلقة الرثيا‬
‫املن�شورة يف عدد �أيار (مايو) ‪: 1955‬‬
‫نظرت ال�سهولَ ي�شمخ فيها‬ ‫«هل‬
‫\‬
‫جان دايه‬
‫ِ‬
‫زيزفون و�سنديان مماثل ؟‪...‬‬ ‫ ‬ ‫لو كانت املنربية معيار ال�شعرية الوحيد والأ�سا�سي‪،‬‬
‫والرباري التي عليها �أكاليل‬ ‫واملهرجانية اخلطابية بطاقة دخول اىل اجلمعيات‬
‫وعيدان فاغمات اجلدائل ؟»‬ ‫ٌ‬ ‫ ‬ ‫الأدب��ي��ة وت�سلّم م�س�ؤوليات رفيعة يف هيئاتها‬
‫ي�ضيف‪ ،‬ودائم ًا اليها ‪:‬‬ ‫الإدارية‪ ،‬ملا كان �أحد �سمع بال�شاعر املجدد �شوقي‬
‫«هوذا احلنبال�س قد ظهر احل َُب‬ ‫ابي �شقرا‪ .‬وحل�سن حظ ال�شعر واجلمعيات الأدبية ذات‬
‫عليه وناتئات اوائل‬ ‫ ‬ ‫الثقل ال�شعري كحلقة الرثيا‪ ،‬ف�إن املوهبة والإجتهاد‬
‫بح�ضن‬
‫ٍ‬ ‫مللميها وه ّدئيها‬ ‫اجلدي املتوا�صل واملفجر للمواهب والنتاج املبدع‪،‬‬
‫ح�ضنك‬ ‫ ‬ ‫والعمل ال�شاق ال�صامت يف امل�ؤ�س�سات الثقافية‬
‫الفاتن الأنيق ال�شامل»‬ ‫ودورياتها‪ ،‬كانت يف خم�سينات القرن املا�ضي‬
‫اىل ان يقول ‪:‬‬ ‫�أحد املعايري الرئي�سية‪ -‬وال اقول املعيار الوحيد‬
‫« ان��ظ��ري امل��ؤم��ن�ين اي‬ ‫لأن اجلمعيات الأدبية و�صفحات الدوريات الثقافية‬
‫غ��م��و� ٍ��ض ح � ّل ب��ك��راً يف‬ ‫مليئة بال�شعراء املهرجانيني واخلطباء‪� -‬أما اذا‬
‫خطوهم للهياكل»‪.‬‬ ‫التقت املنربية واملهرجانية وال�شاعرية يف ال�شاعر‬
‫ونقر�أ يف «فجر» املن�شورة‬ ‫املوهوب كما هي احلال مع ال�شاعر والناثر نزار‬
‫يف «احلكمة» عدد حزيران‬ ‫قباين‪ ،‬فيكون «زيت على زيتون» على حد تعبري‬
‫(يونيو) ‪: 1955‬‬ ‫ال�شوفيني و�شوقي منهم و�إب��ن اح��دى قرى ق�ضاء‬
‫«ه��و طف ٌل من التبا�شري‬ ‫ال�شوف يف جبل لبنان‪.‬‬
‫مئناف �رسي ٍر و�شبه طفل‬ ‫ُ‬ ‫كان �شوقي دون الع�رشين ربيع ًا حني بد�أت جملة‬
‫املها ِد‬ ‫«احلكمة» البريوتية تن�رش بع�ض ق�صائده وقد‬
‫وغ�لام له البعاد �شغوف ًا‬ ‫ٌ‬ ‫�سبقت غريها من الدوريات الأدبية اللبنانية‪ .‬كانت‬
‫‪125‬‬ ‫\ كاتب وباحث من لبنان‪.‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ا�ضاف خماطب ًا �صاحب العيد بلغة «خو�شبو�شية»‬ ‫رف�ضتع البالد اال بالدي‬
‫يتداولها ع��ادة امل�ؤمنون احلقيقيون مع قادتهم‬ ‫�أهلها يحرثون ار�ض ًا لتعطي‬
‫التاريخيني ‪:‬‬ ‫وي�شقون �صدرها املتمادي‬ ‫ ‬
‫«يا �أخي ي�سوع عيدك هذا‬ ‫بانقالب ولهثةٍ وجهاد»‬‫ٍ‬ ‫عندهم معولٌ يحثحث ترب ًا‬
‫كالندى يف عرمرم الأعواد‬ ‫ ‬ ‫يف عدد متوز (يوليو) ‪ 1955‬ن�رش �شوقي ق�صيدة‬
‫وا�ص ٌل يا رفيق مني اىل ق ْد‬ ‫«ميميا»‪.‬‬
‫ركَ �شعري و�سمعتي وودادي‬ ‫ ‬ ‫ويف ق�صيدة «ان���ف���راد» امل��ن�����ش��ورة يف ع��دد �آب‬
‫مبغناي‪...‬لي�س هذا رديئا‬
‫َ‬ ‫ج ْل‬ ‫(�أغ�سط�س)‪ ،‬والتي يو�صينا ال�شاعر ب��أن «نقر�أها‬
‫مغنى مثلُ مغناكَ عادي‬ ‫ً‬ ‫انه‬ ‫ ‬ ‫متمهلني»‪ ،‬نقر�أ وفق الو�صية ‪:‬‬
‫يف زواياه مبلغ من ق�صا�صا‬ ‫«انا و�أنتِ وحدنا‪ ...‬و�سط غاب‬
‫تي وحربي وري�شتي وعنادي»‬ ‫ ‬ ‫�أ�سوده لطيفة‪ ...‬والذئاب‬ ‫ ‬
‫متيزت ه��ذه الق�صيدة عن �سابقاتها‪ ،‬لي�س فقط‬ ‫انا و�أنتِ وحدنا ‪ ...‬يف جنان‬
‫ب�صورها ال�شعرية احلافلة باللمعات الإبداعية‪ ،‬بل‬ ‫وعندنا الزمان غري زمان‬ ‫ ‬
‫�أي�ض ًا بالإهداء والتوقيع‪ .‬حني نعلم ان والدة ال�شاعر‬ ‫وليتنا‪ ،‬ثم‪ ،‬نكزنا الكمان‬
‫توفيت منذ ا�شهر قليلة‪ ،‬نفهم �أكرث ملاذا اهدى والده‪،‬‬ ‫بري�شة جملوة‪ ...‬ليتنا»‬
‫املتوفى منذ ‪� 55‬سنة‪ ،‬الق�صيدة‪ ،‬يف الوقت كان‬ ‫ويف العام نف�سه ‪ 1955‬تويف ال�شاعر �صالح لبكي‬
‫�سائر ال�شبان يتلقون الهدايا من �آبائهم‪ .‬اما التوقيع‪،‬‬ ‫الذي كان ير�أ�س «جمعية �أهل القلم» فرثاه �شوقي‬
‫فلم يقت�رص على ا�سم ال�شاعر كما هي حال الق�صائد‬ ‫بق�صيدة يف عدد ايلول (�سبتمرب) قال له فيها عرب‬
‫ال�سابقة‪ ،‬بل �أ�ضيف اىل الإ�سم عبارة «حلقة الرثيا»‪.‬‬ ‫ابيات غري تقليدية‪:‬‬
‫فماذا عن هذه اجلمعية الأدبية ودور �شوقي فيها ؟‬ ‫«ن�ش�أت على دنيا من ال�شعر ب�ضةٍ‬
‫تكتف جملة «احلكمة» بن�رش نتاج م�ؤ�س�سي احللقة‪،‬‬ ‫مل ِ‬ ‫ودنياكَ �أثراها ر�شيق تلفّتِ‬ ‫ ‬
‫بل هي ن�رشت �أخبارها وغطت ن�شاطاتها بدءاً من‬ ‫بها الهم�سات احلور غراء تلتظي‬
‫اخلطوة الأوىل‪ ،‬فكتب رئي�س حتريرها الروائي ف�ؤاد‬ ‫وفيها انثالم الريح بني �شجرية‬ ‫ ‬
‫كنعان يف عدد كانون الثاين (يناير) ‪ 1957‬اخلرب‬ ‫ذر� َأت فرادى يف القري�ض نقية‬
‫التايل ‪« :‬اب�رصت «حلقة الرثيا» النور يف ليل اليل‪،‬‬ ‫وحلّقت بالأهزوجة العربي ِة‬ ‫ ً‬
‫على ك�أ�س عرق يف مطعم «الأمريال» ثم ت�ألفت‪ ،‬ثم‬ ‫رقيت بتحدي ٍد اىل م�سمع الورى‬‫َ‬
‫تنظمت‪ ،‬ثم طلعت مبيثاق‪ .‬و�أما م�ؤ�س�سوها فهم ‪:‬‬ ‫فت �أ�سماع الورى بنقيةِ»‬ ‫ّ َ‬‫ن‬ ‫و�ش‬ ‫ ‬
‫ادمون رزق‪ ،‬جورج غامن‪� ،‬شوقي ابي �شقرا‪ ،‬مي�شال‬ ‫واحتلّت ق�صيدة «ميالدية» املن�شورة يف عدد كانون‬
‫نعمة‪ .‬ام��ا مل��اذا ا�سموها «ال�ثري��ا»‪ ،‬فلأنها‪ ،‬كما‬ ‫الثاين (يناير) ‪� 1957‬صفحة كاملة‪ ،‬وقد �أهداها‬
‫نعتقد‪� ،‬سباعية‪ ،‬اي انها م�ؤلفة من �سبعة جنوم يف‬ ‫«اىل والدي امليت احلي» وقال يف مطلعها ‪:‬‬
‫عنق الثور‪ ...‬ال يزال ثالثة منهم يف عامل الغيب‪ .‬وقد‬ ‫«�أهدين يا ي�سوع يف امليالد‬
‫دعيت هذه احللقة‪ ،‬غب ت�أليفها ‪ ،‬اىل مائدة رئي�س‬ ‫دمي ًة ت�ستحي كمثل ف�ؤادي‬ ‫ ‬
‫معهد احلكمة اخلوري خليل ابي نادر‪ ،‬فكانت لها‬ ‫�أهدين والدي الذي مات عني‬
‫م�أدبة ع�شاء‪ ،‬وكانت لها وعليها متنيات و�آمال»‪.‬‬ ‫و�أنا بع ُد �أ�صغر الأوال ِد‬ ‫ ‬
‫وال�س�ؤال مرة �أخ��رى ‪ :‬هل من عالقة بني فر�سان‬ ‫فر�سا ً يعلو بي اىل حيث ال قا‬
‫احللقة واحلكمة ؟ املجلة واملعهد الذي �أ�س�سه امل�ؤرخ‬ ‫نون للظاملني والأ�سيادِ»‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫‪126‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ :‬العمل على الإمناء الفكري ورفع م�ستوى العطاء‬ ‫املطران يو�سف الدب�س ودر���س فيه ج�بران خليل‬
‫الأدبي متو�سلة اىل ذلك ‪� :‬أ – بعقد اجتماعات بني‬ ‫جربان اللغة العربية يف العام ‪ 1900‬؟‬
‫افرادها ؛ ب – تنظيم ام�سيات �شعرية و�أحاديث‬ ‫يف لقاء طازج مع النائب والوزير ال�سابق والأديب‬
‫دورية ؛ ج – مبعاي�شة التيارات الفكرية املعا�رصة‬ ‫ال��دائ��م ادم��ون رزق‪ ،‬اك��د يل ان��ه و�سائر م�ؤ�س�سي‬
‫والإت�صال باحللقات املماثلة ؛ د‪ -‬بن�رش م�ؤلفات‬ ‫احللقة تخرجوا يف معهد احلكمة امل�شهور بتفوقه‬
‫الأع�ضاء ؛ ه ‪ -‬ب�إن�شاء جوائز ادبية‪.‬‬ ‫يف تدري�س اللغة العربية و�أوزان اخلليل يف بريوت‬
‫�أع�ضا�ؤها ‪ :‬امل�ؤ�س�سون الأربعة ‪ ،‬وثمة جمال لقبول‬ ‫وعموم لبنان‪.‬‬
‫ثالثة �آخرين ال ُيقبل �أحدهم اال ب�إجماع الأربعة‬ ‫ويف لقاء مماثل مع م�س�ؤول ال�صفحة الثقافية‬
‫امل�ؤ�س�سني‪.‬‬ ‫ال�سابق يف جريدة «النهار» البريوتية‪ ،‬و�أحد �أركان‬
‫ومن بنود النظام الداخلي الت�سعة يجدر التنويه‬ ‫حركة ال�شعر احلديث التي قادها يو�سف اخلال‪،‬‬
‫بالبنود التالية ون�صو�صها ‪:‬‬ ‫�أكد �أن جملة «احلكمة» �أ�صدرها معهد احلكمة‪ ،‬و�أن‬
‫البند الثاين ‪ :‬حترر حما�رض جل�سات احللقة يف �سجل‬ ‫«حلقة الرثيا» تربطها عالقة عميقة ولكن غري‬
‫خا�ص ي�ؤمتن عليه �أح��د الأع�ضاء‪ .‬البند الثالث ‪:‬‬ ‫ر�سمية مع املجلة واملعهد‪ ،‬عرب رئي�س حترير الأوىل‬
‫يتبادل الأع�ضاء عر�ض نتاجهم ويوحدون �آراءهم‬ ‫ف�ؤاد كنعان‪ ،‬ورئي�س املعهد اخلوري ابي نادر الذي‬
‫حوله‪ .‬البند الرابع ‪ :‬يتخذ الأع�ضاء مواقف من�سجمة‬ ‫ا�صبح مطراناً‪.‬‬
‫حيال احلركات الأدبية‪ .‬البند ال�ساد�س ‪ :‬ي�ضيف‬ ‫وباملنا�سبة‪ ،‬مل تكن «الرثيا» اجلمعية الثقافية‬
‫الأع�ضاء ا�سم احللقة اىل تواقيعهم كلما ن�رشوا من‬ ‫الأوىل التي ارتبطت معنوي ًا ب�رصح تعليمي عريق‪.‬‬
‫�أدبهم‪.‬‬ ‫ترع اجلامعة الي�سوعية‬‫اومل َ‬
‫وال�س�ؤال الآن ‪ :‬م��اذا حتقق من امليثاق والنظام‬ ‫يف ب�يروت «اجلمعية امل�رشقية» التي ك��ان من‬
‫الداخلي ؟ لي�س يف �سجالت احللقة املنظمة وامللونة‬ ‫م�ؤ�س�سيها رائد امل�رسح يف العامل العربي مارون‬
‫واملكتوبة بخط جميل‪ ،‬ما ي�شري اىل ا�سم الع�ضو‬ ‫النقا�ش يف العام ‪ 1850‬؟‬
‫الذي ا�ؤمتن عليها‪ .‬ولكن ب�صمات �شوقي على معظم‬ ‫و�سالت �شوقي عن د�ستور اجلمعية التي تا�س�ست‬ ‫ُ‬
‫حما�رض اجلل�سات‪ ،‬وبقاء ال�سجالت يف منزله قبل ان‬ ‫يف �أواخر ‪ 1956‬الذي يت�ضمن ميثاقها ونظامها‬
‫ي�سلمها لإدمون رزق‪ ،‬يدل‬ ‫الداخلي‪ ،‬ف�أعلمني انه نظم �أر�شيفها وكتب معظم‬
‫على ان��ه ك��ان امل��ؤمت��ن‪.‬‬ ‫حما�رض جل�ساتها‪ ،‬و�سلّمها مع �ألبوم الق�صا�صات‬
‫واملثري للعجب‪ ،‬ان �شوقي‬ ‫ال�صحفية التي تغطي ن�شاطاتها‪ ،‬اىل ادمون رزق‪.‬‬
‫ال�شاعر النيوكال�سيكي‬ ‫ويف مكتب الأخ�ي�ر ال��ذي يلتقي فيه املحامون‬
‫وق���ت���ذاك وامل���ج���دد يف‬ ‫وال�سيا�سيون والأدب��اء‪ ،‬ق��ر� ُأت يف ال�سجل املكتوب‬
‫ال��ق�����ص��ي��دة امل���وزون���ة‪،‬‬ ‫بخط �شوقي الذي مل يتغري عن خطه بعد �سنني وهو‬
‫ال ي��خ��ت��ل��ف ع���ن �شوقي‬ ‫يعيد �صياغة مقالت ال�صفحة الثقافية يف «النهار»‪،‬‬
‫الإداري املدبج املحا�رض‬ ‫الن�ص التايل بعنوان « ميثاق احللقة» ‪�« :‬إن ادمون‬
‫ب��ل��غ��ة �أدب����ي����ة جميلة‬ ‫رزق‪� ،‬شوقي ابي �شقرا‪ ،‬مي�شال نعمة‪ ،‬جورج غامن‪ ،‬مبا‬
‫ومب�ضمون غري تقليدي‬ ‫هم �أدباء �شباب يتطلعون معطيات الأدب يف نظرة‬
‫بحيث يت�ضمن الن�ص‬ ‫�شاملة اىل الكون‪ ،‬وي�ؤمنون بفعل الطاقة اخليرّ ة يف‬
‫وقائع اجلل�سة وتفا�صيل‬ ‫م�صري الإن�سان فاملجتمع‪ ،‬ومبا هم ينزعون اىل‬
‫امور �شخ�صية طريفة من‬ ‫الأف�ضل ويعتنقون التكامل منطاً‪ ،‬يعلنون ‪ :‬غايتها‬
‫‪127‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�رس انتقال �شوقي من حلقة‬ ‫وال�شعراء»‪ .‬وهنا يكمن ّ‬ ‫مثل ع�شق فر�سان احللقة ال�شباب وبخا�صة ادون‬
‫الرثيا اىل خمي�س �شعر‪ ،‬كما �سيجيء‪.‬‬ ‫رزق‪.‬‬
‫وم��ع ذل��ك‪ ،‬فالفر�سان الأرب��ع��ة‪ ،‬و�شوقي منهم‪،‬‬ ‫واملحا�رض التي ت�صدر قريب ًا يف كتاب‪ ،‬ت�ؤكد على‬
‫ا�ستفادوا من النقد ال�رصيح املتبادل‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫نقد الأع�ضاء لنتاج بع�ضهم البع�ض‪،‬‬
‫و�أنهم كانوا يف طليعة املحا�رضين وال�شعراء الذين‬ ‫مل يك قط ومبنهج ال تنق�صه ال����صراح��ة‪ .‬ون��ال‬
‫�ألقوا املحا�رضات و�أحيوا الأم�سيات ال�شعرية يف‬ ‫لأحد‪ ،‬بني �شوقي ح�صة الأ�سد من النقد املوجه‬
‫القاعة التابعة ل��وزارة الرتبية يف �شارع ب�شارة‬ ‫الأ�ساتذة‪ ،‬نحو الكلمات ال�شعرية التي يتداولها‬
‫اخل��وري‪� ،‬إ�ضافة اىل �إلقاء ق�صائدهم و�شد�شدتها‬ ‫ت�أثري يف يف ق�صائده‪ ،‬خ�صو�ص ًا م��ن مي�شال‬
‫قبل ن�رشها يف الدوريات‪ .‬وباملنا�سبة‪ ،‬فاجلميع‬ ‫«خيل‬‫بد�أتي نعمه‪ ،‬وقد ر ّد عليه مبا حرفيته ‪ُ :‬‬
‫و�ضعوا ا�سم احللقة اىل جانب ا�سمائهم‪ ،‬لي�س فقط‬ ‫اليه ان ا�سلوب ق�صائدي ناق�ص‪ .‬ك�أنه‬
‫ال�شعرية‬
‫يف الدوريات‪ ،‬بل على �أغلفة كتبهم‪ .‬والطريف ان‬ ‫وه��و ال��غ � ِزل الرقيق‪ ،‬م��ا تعود �صقل‬
‫يغيب ا�سم الرثيا عن ديوانه الأول «اكيا�س‬ ‫�شوقي مل ّ‬ ‫اي حياتي‪ .‬اللغة و�أ�ساليب الكالم املده�شة‪ ،‬وك�أنه‬
‫الفقراء» رغم �أن يو�سف اخلال هو الذي تولىّ طبعه‬ ‫يعان ال�سبك الفني‪ .‬امل يقر�أ بودلري‬
‫ِ‬ ‫ا�ستاذي العالمة مل‬
‫ب�سبب فقر الرثيا املادي‪.‬‬ ‫الفهّامة الذي كيف ك��ان ينحت الفاظه ويجعلها‬
‫وعلى ذك��ر امل��ح��ا��ضرات والأم�����س��ي��ات‪ ،‬فال�صور‬ ‫له اقتدار هيك ًال ؟ �إذا كان يعترب هو يف الأ�سا�س‬
‫وق�صا�صات ال�صحف‪ ،‬ت�ؤكد ان حلقة الرثيا التي‬ ‫وت�أثري امنا هو ان ال�شكل ال بد منه‪ ،‬و�أن ال�سلوب يجب‬
‫بقي عدد �أع�ضائها دون الرقم ‪ ،7‬كانت حت�شد مئات‬ ‫قلبي ان يكون طرازه من طراز الذي لل�صحف‬
‫املثقفني يف القاعة الف�سيحة املجاورة ملطعم «علي‬ ‫واملجالت‪ ،‬فهذا �شيء ال يجوز البحث‬
‫بابا والأربعني ف��روج» وقد ع ّدل ال�شاعر موري�س‬ ‫فيه مطلق ًا لأن الأ�سلوب احل��اد ينم‬
‫ع��واد يف الإ���س��م لي�صبح «علي بابا والأرب��ع�ين‬ ‫عن �صاحبه م�سافة ميل‪ .‬ويليق بالكتابة اي�ض ًا ان‬
‫حرامي»‪.‬‬ ‫الدار�س املتع�شق للأدب اين يجد الكمال اللغوي؟‬
‫يبق كل اع�ضاء احللقة فيها‪ .‬ويف املقابل‬ ‫طبعاً‪ ،‬مل َ‬ ‫هل يجده يف �شعوذات املتطفلني ؟ ام يجده عند‬
‫انتمى اليها اع�ضاء جدد‪ .‬كانت الأديبة وال�شاعرة‬ ‫ابي متام واملتنبي وا�رضابهما ؟ لأنه اذا ادعينا‬
‫نور �سلمان يف طليعة املنتمني‪ .‬وحلقها املحامي‬ ‫ان كل �شعر امنا يكون موزوناً‪ ،‬ف�سالم على ال�شعر‬

‫من اليمني ادوني�س و�شوقي ويو�سف اخلال وان�سي احلاج‪ ‬‬


‫‪128‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫له اقتدار وت�أثري امنا هو قلبي‪ ،‬ومل ينفك ا�ستاذاً يل‪...‬‬ ‫ال�شاعر رميون عازار‪ ،‬والأكادميي الباحث جوزيف‬
‫�س‪ -‬ما هي باكورة نتاجك ؟‬ ‫ابو ج��وده‪ .‬وهنا علّق �صديق احللقة ف��ؤاد كنعان‬
‫ج‪ -‬باكورة نتاجي ق�صيدة نظمتها �أم�س‪ .‬كل ما‬ ‫يف «احلكمة» ب�أ�سلوبه ال�ساخر ‪« :‬كم من ماليني‬
‫انظمه هو عندي باكورة �أروي هذا مقدراً الطيب‬ ‫الكيلومرتات �سيقطع الع�ضو اجلديد قبل الرثيا؟»‪.‬‬
‫لدي‬
‫والعنفوان يف الباكورة لي�س اال‪ ...‬لأن��ه كرث ّ‬ ‫وان�ضم اىل احللقة اي�ض ًا اديب مغمور وموظف م�شهور‬
‫ال�شعر عدداً واحلم ُد‪...‬للمالح !‬ ‫هو جان جبور‪ .‬وكان قد �سبقه اىل الإنتماء الروائي‬
‫�س‪ -‬ما هي �أحب الأنواع الأدبية اليك ؟‬ ‫جورج �شامي‪ .‬ومع ذلك مل ي�صبح العدد ثمانية‪ .‬ذلك‬
‫يل ال�شعر‪ ،‬وما هو مكتوب برت�سل‬ ‫ج‪� -‬أحب الأنواع ا ّ‬ ‫ان بع�ض املنتمني قد ان�سحبوا من الرثيا‪ .‬وكان �أول‬
‫وحنان وعظمة‪.‬‬ ‫املن�سحبني �شوقي ابي �شقرا‪ .‬وبقدر ما �أ�سف �سائر‬
‫�س‪ -‬هل تكتب هذه الأيام‪ ،‬وماذا تكتب ؟‬ ‫امل�ؤ�س�سني واملنتمني اجلدد يف حلقة الرثيا على‬
‫ج‪ -‬اكتب كل يوم‪...‬وخيايل امتنى ان يخبو فيه‬ ‫ان�سحابه ويف طليعتهم ادم��ون رزق‪ ،‬هلل يو�سف‬
‫الأوار لأنه عما قليل �سيقتلني قتالً‪...‬اكتب �شعراً‪.‬‬ ‫اخلال و�سائر فر�سان «خمي�س �شعر» الن�ضمامه اىل‬
‫�س‪ -‬هل لديك م�ؤلفات للن�رش ؟ وهل من �صعوبات‬ ‫�صفوفهم‪.‬‬
‫حتول دون ن�رشها ؟‬ ‫ان انتماء ال�شاعر �شوقي اب��ي �شقرا اىل «حلقة‬
‫ج‪ -‬عندي للن�رش ق�صدان مكتنزة جمة‪ .‬ومع وجودها‬ ‫الرثيا»او ًال و»خمي�س �شعر» تالياً‪ ،‬ي�ضعه يف طليعة‬
‫تظل ال تغريني بالطبع وجمعها يف الديوان‪ .‬ويف‬ ‫ال�شعراء الذين ي�ؤمنون بامل�ؤ�س�سات الأدبية التي‬
‫اعتقادي انها كاملة‪ ،‬وفيها «�شعر» يبقى‪.‬‬ ‫ت��دوزن نتاجهم وتن�رشه وت�ساعد على تعميمه‪،‬‬
‫�س‪ -‬ما ر�أي��ك يف حالة الأدب والأدب��اء يف لبنان‬ ‫في�صبح ال�شاعر «مفرداً ب�صيغة اجلمع» على حد‬
‫اليوم ؟ وما هي اقرتاحاتك ب�صدد هذه ؟‬ ‫تعبري �أدوني�س الذي هو �أي�ض ًا �شاعر م�ؤ�س�ساتي‪.‬‬
‫ج‪ -‬ال اجيب على الق�سم الأول‪ .‬و�أما الثاين ف�أجيب‬ ‫يبقى ان «احلكمة» �أجرت مقابلة مع �شوقي ابي �شقرا‬
‫عنه مبا يتبع ! لو كان لهم عنفواين لنجحوا‪...‬‬ ‫يف مطلع �شباب «حلقة الرثيا»‪ .‬متيزت �أجوبة ال�شاعر‬
‫أدب‬
‫�س‪ -‬ما ر�أيك يف مهمة الأدب والعمل يف �سبيل � ٍ‬ ‫بالطرافة والكثافة و «التوا�ضع» وال�سخرية والثقة‬
‫من�ض ٍو ؟‬ ‫بالنف�س وال�شاعرية اي�ضاً‪ .‬ولو مل تتوقف املجلة عن‬
‫ج‪ -‬ر�أيي ان ال يكون لهذا‬ ‫ال�صدور‪ ،‬ويتقاعد �شيخ ال�شباب �شوقي‪ ،‬لظن القراء ان‬
‫وجود و�سعة‪.‬‬ ‫عمر املقابلة ‪� 56‬ساعة ولي�س ‪� 56‬سنة‪.‬‬
‫���س‪ -‬هل ين�سجم العمل‬ ‫فلنختم‪� ،‬إذن‪ ،‬هذه العجالة بالن�ص الكامل للمقابلة‬
‫الذي تقوم به مع ن�شاطك‬ ‫املن�شورة يف «احلكمة» عدد كانون الثاين (يناير)‬
‫الأدبي ؟‬ ‫‪: 1957‬‬
‫ج‪ -‬على ما يف الأعمال‬ ‫�س‪ -‬كيف بد�أت حياتك الأدبية ؟‬
‫كلها من غيظ ملثلي‪ ،‬ال‬ ‫كر�سي‬
‫ّ‬ ‫ج‪ -‬بد�أت حياتي الأدبية فيما انا قاعد على‬
‫�أف��ت��أ اح��د لنف�سي جما ًال‬ ‫يف �رشفة‪ ،‬والنف�س يف ذلك احلني يالطمها الأ�سى‬
‫طليقاً‪...‬ال ا�ستطيع غري‬ ‫والإكتئاب‪.‬‬
‫ذا‪...‬‬ ‫�س‪ -‬هل كان لأ�ساتذتك او لبع�ض الأدباء من ت�أثري‬
‫�س‪ -‬اىل ما تطمح ؟‬ ‫عليك ؟‬
‫ج‪ -‬ال���ي���ه���ا‪ ...‬واىل ان‬ ‫ج‪ -‬مل يك قط لأحد‪ ،‬بني الأ�ساتذة‪ ،‬ت�أثري يف بدايتي‬
‫اكون تاما ً ‪ ،‬و�أن يتحقق‬ ‫ال�شعرية اي حياتي‪ .‬ا�ستاذي العالمة الف ّهامة الذي‬
‫‪129‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تراكم يف رحاب ِ الده�شة‬ ‫َ‬ ‫القدمي خرافة ً �أوىل تب ّد ُد ما‬ ‫وينجلي يل الآن ما اطمح اليه وهو كبري‪ ،‬و�أن حتيط‬
‫هباء‪.‬‬
‫ِ االوىل‪ ،‬ويف الكتب ِ التليدة ِ من ْ‬ ‫بي «احلكمة»‪ ،‬و�أن تن�رش �صورتي‪ ...‬و�أن ال يلومني‬
‫يختار نكه َت ُه التي مت�ضي بعيداً يف ال�سماء‬ ‫ُ‬ ‫�شاعر‬
‫هو ٌ‬ ‫َ‬ ‫ا�صحابي و�ساداتي‪ ...‬و�أن ت�سلّم يل كربيائي التي‬
‫ال�شهي قدا�سة ً‪ .‬تختال ُ ح�سناً‪ .‬ال يجاري‬ ‫َّ‬ ‫تعيد ُ للفن َّ‬ ‫لي�ست بذميمة‪.‬‬
‫ري التوغل ِ يف حياة ِ الأولياء‪.‬‬ ‫نفحها غ ُ‬ ‫َ‬
‫حبه جنم ًا اىل الأعلى‪.‬‬ ‫ّ ُ َّ‬ ‫د‬ ‫ي�صع‬ ‫‪....‬‬ ‫�شقرا‬ ‫أبي‬ ‫�‬ ‫�شوقي‬ ‫\‪\v‬‬
‫احلمر‪ .‬ال‬
‫َ‬ ‫بقارب �سدرة َ اجل��وزاء ِ ‪ .‬يجتا ُز احلطوطَ‬ ‫ُ‬
‫خ�ضم فراغِ ها الأبقى‪ .‬وال‬ ‫تعنيه ِ �أوهام ُ الكتابة ِ‪ ،‬يف َّ‬ ‫‪� v‬شوقي �أبي �شقرا‬
‫يختار من ت ّفاحة ِ الأيام ِ �أجمل َها‪ .‬بل يحفُر التاريخ‬ ‫ُ‬
‫َ بالنب�ض ِ املولد البتكار ٍ خارق ٍ‪ ،‬لأ�صول ِ �أو�صال‬
‫\‬
‫المع احلر‬
‫ِ املحال‪ .‬ك�أّنه ُ الأ�سم ُ اجلدي ُد خلمرة ِ الأقالم ِ َو ْه َي‬ ‫�شغب الطفولة‬ ‫ال�سالم على الق�صيدة ِ حا�ضن ًا َ‬ ‫ُ‬ ‫�شوقي‬
‫الدرب املكّبلَ بالبهاء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫تعانق ُ‬ ‫ِ مثل �أزها ِر ال�ضباب‪ .‬منادي ًا �أحبا َبه ُ القدماء ‪ ...‬يا‬
‫مي‬
‫حل��ر‪ ،‬وااليغالُ يف ّ‬ ‫الطريق اىل الكالم ِ ا ّ‬ ‫ُ‬ ‫�شوقي‬ ‫أحباب‪. ...‬‬
‫� ُ‬
‫احلداثة‪ ،‬وال�س�ؤالُ عن الغرابة ِعن ف�ضاء ٍ مل يزل يف‬ ‫كان �شوقي ي��ا ظ�� ّل ال��وج��ود ِ املنت�شي مبياهِ ه‬
‫تخيلِنا ‪ .‬و�أبع َد من نداء ِ ال�شعر ِ يف‬ ‫احللم ِ �أبعد َ من ّ‬ ‫الأوىل‪ .‬ويا �شوق َ اخلرافة ِ للخرافة ِ يف‬ ‫ّ‬
‫الآف��اق‪� .‬أبعد َ من �سكون ٍ راحل ٍ مثل َ ال�ضياء ِ اىل‬ ‫يغرد وحده‬
‫ت�صاعدِها النبيل‪.‬‬
‫زمان ٍ �آخر ٍل�سنا نراه‪.‬‬ ‫خارج ال�سرب‪ .‬هناك َ كان َ ال�ش ُعر ي�س�أل ُ عن تنا�سلِه‪،‬‬
‫واىل مكان ٍ عامر ٍ باحلب ّ ‪ ،‬من�ساب ٍ اىل ما لي�س َ‬ ‫وك�أنه ي�ضيء وع���ن م�لاحمِ ��ه ال�شهيِة يف امل����دار ِ‬
‫قارىء الغيب ِ امل�ؤ�صل ِ منتهاه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يدري‬ ‫ّرر الأي��ام ُ ن�شو َته‪،‬‬ ‫وي�شعل ال�صعب‪َ .‬ح�ين تك ُ‬
‫رفيع ‪� //‬شوقي �أب��ي �شقرا عامل مده�ش و�صادم‬ ‫قرب‬ ‫املن�سي َ‬ ‫ّ‬ ‫كالم ُه‬ ‫َ‬ ‫ليعطي ال�شعر بايقاع ٍ ي�ضيء‬
‫وجريء‬ ‫ماهية �أخرى‪ ،‬حكاية ِ الولد ِ امل�شاغب ِ ‪ ،‬يف حقول ِ‬
‫رئي�س ‪ //‬ي�صهر الوعي والالوعي بحبكة متقنة‬ ‫�سطوع ال‬ ‫ٍ‬ ‫ال�ضيع ِة الفيحا ِء بحث ًا عن‬
‫بقلم ‪ :‬المع احلر‬ ‫ُيجاريه املدى‪.‬‬
‫تخرج على‬
‫متوج ًا بتجربة‬ ‫ي�أتي الكالم على �شوقي �أبي �شقرا ّ‬ ‫تنطلق‬ ‫ُ‬ ‫�زي��ه ال��ق��روي‪.‬‬ ‫ط� ٌف��ل ي��ج��يء ب� ّ‬
‫الأ�صول‪،‬‬
‫كتابية متميزة يف ال�شكل وامل�ضمون‪ .‬وذلك لأنها‬ ‫احلب‬ ‫ت�سكب ّ‬ ‫ُ‬ ‫حمياه ق�صائ َد‬ ‫وعلى التكرار «الرثيا» من ّ‬
‫جتربة تنهل من بئر االخ��ت�لاف ال��ذي ال ُيوازيه‬ ‫العميق َ على �صباح ٍ ال يفار ُقه الندى‪.‬‬
‫اختالف �آخ��ر‪ .‬ك�أنه كان ي�سري يف اجتاه مل يخطر‬ ‫اخلفي اىل ال�ضياء مباغت ًا ليل َ‬ ‫ُّ‬ ‫هو لل�شوق ُ‬‫�شوقي َ‬
‫على بال للآخرين على الرغم من ت ّنوع م�شاربهم‬ ‫الكالم ِ بنفحة ِ املعنى الذي ين�سلُّ من عمق ِ الليايل‬
‫واجتاهاتهم‪.‬‬ ‫تختار من ما�ضي اجلمال ِ هواءه االنقى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ده�شة ً ‪.‬‬
‫لرواد احلداثة �آباء �رشعيني يف خمزوننا‬ ‫رمبا جتد ّ‬ ‫ال�سحب بحث ًا عن هوى‬ ‫َ‬ ‫جتوب‬
‫ُ‬ ‫ومت�ضي يف مغامرة ٍ‬
‫الرتاثي‪� .‬أو يف التجارب ال�شعرية الغربية‪� .‬أما جتربة‬ ‫فقد الو�صول َاىل الرجاء‪.‬‬
‫�أبي �شقرا‪ ،‬فتخرج على كل الأطر التقليدية‪ ،‬ما كان‬ ‫وال�شعر‬
‫ُ‬ ‫�شوقي ال�س�ؤالُ عن احلقيقة ِ يف مدار ِ احللم‪.‬‬
‫معروف ًا منها و�شائعاً‪� ،‬أو غري معروف و�شائع‪.‬‬ ‫�شح لل�صعود ِ اىل ف�ضاء ٍ �أخر ٍ ‪ .‬والل ُغز مفتوح ًا‬ ‫املر ُ‬‫ّ‬
‫وك�أن هذا املبدع ي ّغرد وحده خارج ال�رسب‪� .‬أو ك�أنه‬ ‫تختار‬ ‫ُ‬ ‫بي�ضاء‬ ‫ً‬ ‫راية‬ ‫لتدنو‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ابتع‬ ‫التي‬ ‫الدنيا‬ ‫على‬
‫ي�ضيء وي�شعل ليعطي ال�شعر ماهية �أخرى‪ ،‬تخرج‬ ‫ِ‬ ‫اجلمال‬ ‫ِ‬ ‫برج‬ ‫اىل‬ ‫أنقى‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫وتعي‬ ‫�صفاءها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ال�سماء‬
‫ُ‬
‫على الأ�صول‪ ،‬وعلى التكرار‪.‬‬ ‫املن�سي يف بوابِة العه ِد‬ ‫َّ‬ ‫ك�أن ّها اللون ُ املواكب ُخلم َنا‬
‫‪130‬‬ ‫\ �شاعر وناقد و�صحفي من لبنان‪.‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫يك�شفها الآخرون‪� ,.‬أو مل يعرتف بها الآخرون ن فاذا‬ ‫ال يكتب كما �أتفق‪ .‬بل يخرج على ما �أتفق عليه‬
‫به يجعل منها عامل ًا تتحرك يف �أعماقه كائنات مل‬ ‫يتحقق مبدى االنف�صال عن ذلك املوروث‪،‬‬ ‫خروج ًا ّ‬
‫ن�ألفها �سابق ًا �أو مل نعرتف بجدواها �سابقاً‪.‬‬ ‫ومبدى االختالف عن كل ما �أنتج يف الزمن ال�شعري‬
‫يتحرك يف ف�ضائه ال�شعري‬ ‫ال يكتب كما يكتبون وال ّ‬ ‫اجلميل‪.‬‬
‫يتحركون‪ .‬وال ين�صاع لهذه اجلهة او تلك كما‬ ‫كما ّ‬ ‫�شاعر يعزف على وتر املفاج�أة‪ .‬تنتظره من ال�رشق‬
‫ين�صاعون‪ .‬بل يكتب ويكتب لريمي حجراً يف البئر‪،‬‬ ‫في�أتي من الغرب‪ .‬ال ت�ستطيع ان تتو ّقع ماذا يمُ كن‬
‫�أو ليب ّدد الركود الذي ي�ستفحل �إثر ركام من الغبار‬ ‫�أن يقول‪ .‬ويف �أي �أفق يحلّق ‪ .‬وعلى نار �أي جمال‬
‫ال�شعري‪ ،‬املنت�رش يف ثنايا املكان‪ ،‬ويف حميط كل‬ ‫يتد ّفق وم�ضه املعطّ ر ب�ضوء ي�سطع‪ ،‬او ب�ضوء يتخ ّفى‬
‫الأمكنة‪.‬‬ ‫على جناح البيا�ض املرتهنب‪.‬‬
‫�شاعر مل ي�أت من فراغ‪ .‬ومل ينظّ ر للفراغ‪ .‬ومل ي�صل‬ ‫ال يكتب ما �أنت تريد‪� ،‬أو ما �أنا �أري��د‪� .‬أو ما يريد‬
‫اىل �أي فراغ‪ .‬بل هو مبدع عرف الأ�صول‪� .‬أتقنها ثم‬ ‫الآخرون‪ .‬ال يخ�ضع للمقوالت النقدية ال�سائدة الآتية‬
‫جتاوزها حماو ًال �أن ي�ؤ�س�س �أ�صو ًال جديدة‪ .‬تتنا�سب‬ ‫من هنا‪ ،‬او من هناك‪ .‬وال للمقوالت النقدية الهجينة‪.‬‬
‫والر�ؤية اىل حداثة مغايرة‪ .‬تت ّغذى مبائها‪ ،‬دون ان‬ ‫بل يكتب على �سجيته م�ستجيب ًا لنداءاتها‪ ،‬حملّق ًا يف‬
‫وتربت عليها‪ ،‬وتن ّف�ست‬ ‫ّ‬ ‫تتنكّر للمياه التي غ ّذتها‪،‬‬ ‫جتمع‬
‫�أفيائها‪ ،‬ومنغرزاً يف ترابها‪ ،‬الذي ال ي�شبه ما ّ‬
‫منها رحيق احلياة‪.‬‬ ‫يف الذاكرة من تراب‪.‬‬
‫حت��رراً كلي ًا‬
‫عمل على التحرر من ربقة املا�ضي ّ‬ ‫عامل �شوقي �أبي �شقرا عامل مده�ش �صادم‪ ،‬جريء‪.‬‬
‫ال ت�شوبه �شائبة‪ .‬حت��رراً يتجاوز �أن�صاف احللول‬ ‫يعرف كيف يك�سرّ �أبراج اللغة‪ ،‬ليبني على �أنقا�ضها‬
‫وفكرة الت�سويات وذلك لأن حترير الن�ص ال�شعري‬ ‫لغة ت��ت� ّ�م��رد على امل����وروث‪ ،‬لتبدع كينونتها‪،‬‬
‫من الأ�صول الغابرة‪ ،‬يعني �ضمن ما يعني حترير‬ ‫وخ�صو�صيتها‪.‬‬
‫االن�سان من القيود التي تعوق حركته‪ ،‬لعلّه ي�صل‬ ‫رمبا يعجبك �شعره‪ ،‬ورمبا ال يعجبك‪ .‬رمبا تنغم�س‬
‫اىل امل�ستقبل لي�صوغه على هواه‪.‬‬ ‫يف دفء جتلياته‪ ،‬ورمب��ا ت�ستغرب ما ج��اءت به‬
‫يكتب ن�صه بلغة ي�شوبها غمو�ض حار حيناً‪ ،‬وبارد‬ ‫هذه التجليات‪ ،‬رمبا جتده �شاعراً ا�ستثنائي ًا ورمبا‬
‫حين ًا �آخر‪ .‬لغة ت ّت�سع طوراً‪ ،‬لرتى الوجود بني الرائي‬ ‫ت�ستنكر ا�ستنكاراً بالغ ًا هذه الكتابة اخلارجة على‬
‫ال���ذي ي��ح��دق يف البعيد‬ ‫كل الطقو�س ال�شعرية‪�.‬إ ّال �أنك ال ت�ستطيع �إ ّال �أن تعرتف‬
‫البعيد‪ ،‬وتنقب�ض ط��وراً‬ ‫�أن لهذا ال�شاعر عامل ًا �شعري ًا ال ي�شبه �أي عامل �آخر‪.‬‬
‫�آخ��ر‪ ،‬لت�ستغرق يف عامل‬ ‫�شاعر ال يكتب لكي يكتب‪ .‬وكالمه لي�س كالم ًا على‬
‫مغلق‪.‬‬ ‫كالم‪ .‬بل م�سعى �صادق وعميق البتكار الكالم الذي‬
‫واذا ك��ان ال�شعر �صورة‬ ‫مل يقل بعد‪ ،‬او العطاء الكالم بعدا �آخر مل يك�شف بعد‪.‬‬
‫عن الواقع القائم‪ ،‬بكلما‬ ‫يكتب م�ستح�رضاً الوعي والالوعي‪� .‬صاهراً بينهما‬
‫فيه م��ن ا��ش�راق وعتمة‪،‬‬ ‫بحبكة �شعرية‪ ،‬تغرف من رحاب املوهبة والتجربة‬
‫فان ق�صيدة �أبي �شقرا ما‬ ‫واالح�تراف‪ .‬حتى ليبدو القول غري القول وت�أتي‬
‫هي �إ ّال انعكا�س ملا يعتمل‬ ‫اللغة غري اللغة وي�صبح ال�شعر فع ًال يتجاوز هذا‬
‫يف هذا الواقع القائم‪ .‬واذا‬ ‫الركام ال�شعري الذي ي�ستف ّزنا منذ داح�س والغرباء‬
‫كان هناك ترابط ما يف‬ ‫لغاية اليوم‪.‬‬
‫ه��ذا ال��واق��ع ف��ان ال�شعر‬ ‫�شاعر ي�ضيء كهنوت ال�شعر‪ .‬ي�ستظل به كمن ي�ستظل‬
‫ي�أتي مرتابط ًا وملتزم ًا‬ ‫برمز مق ّد�س ‪ .‬يغو�ص يف �أغواره بحث ًا عن لآىلء مل‬
‫‪131‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املمتد اىل امل�ستقبل‪.‬‬ ‫بالوحدة املو�ضوعية‪ ،‬والوحدة الع�ضوية‪.‬‬
‫خ�ض جتربة احلداثة‪ ،‬ومل ي�صل اىل ابداع‬
‫و�شوقي مل ُي ْ‬ ‫� ّأما اذا كان غري مرتابط‪ ،‬مفكك ًا ومذبذياً‪ ،‬فان ال�شعر‬
‫ق�صيدة النرث اىل جانب زمالئه املعروفني‪ .‬ويف‬ ‫ال ب ّد �إال ان يت�أثر بهذه احلال القائمة‪ .‬ولهذا دائم ًا‬
‫طليعتهم �أن�سي احلاج – وحممد املاغوط‪ ،‬وتوفيق‬ ‫نرى �أن هناك خيط ًا رفيع ًا يجمع بني �أجزاء الق�صيدة‬
‫ال�صايغ وف����ؤاد رفقه‪ ،‬نتيجة لق�صور يف �أدوات��ه‬ ‫وي�سوغ‬‫ويلم �شملها‪ ،‬و ُيعطيها �ضوءها‪ّ .‬‬ ‫ال�شقراوية ّ‬
‫الإبداعية بل على العك�س من ذلك متاماً‪ .‬لقد �أثبت‬ ‫هذا التدفق الذي يكتمل على �إيقاع �سيل ال�صور التي‬
‫جدارته يف كتابه اال�صول‪ ،‬وما نتج عن هذه الأ�صول‬ ‫تتنافر حيناً‪ ،‬وتكتمل حين ًا �آخر‪ ،‬على �إيقاع الر�ؤية‬
‫عرب ديواين «�أكيا�س الفقرا�س» و«خطوات امللك»‪.‬‬ ‫املكتملة وال�شاملة لفنية الق�صيدة‪.‬‬
‫لقد كتب ق�صيدة التف�صيلة باتقان وتالعب بالوزن‬ ‫ق�صيدته �صور �شعرية متتالية ‪��� .‬ص��ورة مت�سك‬
‫على طريقته‪ ،‬مثبت ًا خ�صو�صيته وجدارته‪ .‬ثم تطلّع‬ ‫ب�صورة و�صو ًال اىل نهايتها التي ت�ضع ح� ّداً لهذا‬
‫اىل ق�صيدة النرث تطلّع من يريد �أن يتجاوز نف�سه اىل‬ ‫االن�سياب‪ .‬وك�أنها تريد �أن ت�شعرك �أنه ال يزال يف‬
‫ما يراه عامل ًا �أرحب‪ ،‬عامل ًا يحت�ضن ما يجول يف‬ ‫نف�س ال�شاعر �شيء ما مل يقل �أو ك� ّأن على املبدع ا ّال‬
‫نف�س املرء من ر�ؤى وجتارب واقتحامات‪.‬‬ ‫يقول كل ما لديه وك�أن اكت�شاف املتلقي للر�ؤيا التي‬
‫و�إذا ب��د�أ مع « �أكيا�س الفقراء» بكتابة الق�صيدة‬ ‫مل يقلها ال�شاعر هي زبدة القول‪ .‬وك�أنه بذلك يعمل‬
‫الوم�ضة ف�أنه و�صل مع دواوينه الأخرية وال �سيما‬ ‫على الربط املبا�رش بينه وبني الآخرمن جهة‪ ،‬وبينه‬
‫« تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة» لكتابة‬ ‫وبني العامل الذي يحيط به من جهة �أخرى‪.‬‬
‫الق�صيدة الطويلة ولي�ست املطّ ولة‪ ،‬لأنها تعبري عن‬ ‫حركة �شوقي �أب��ي �شقرا ال�شعرية التي ال تنف�صل‬
‫لتعري‬
‫جتارب‪ ،‬تغو�ص عميق ًا يف النف�س االن�سانية‪ّ ،‬‬ ‫ع��ن ح��رك��ة �شعر‪ .‬ب��ل ت�صب يف عمقها‪ ،‬واجهت‬
‫مكنوناتها‪ ،‬وتك�شف ما يعرتيها من �إحباطات‬ ‫�ضغوط ًا كثرية‪ ،‬على خمتلف ال�صعد الفنية واللغوية‬
‫وحزن وانك�سار‪.‬‬ ‫واالخالقية‪ .‬وذلك ما �ساعد على �أغنائها وعلى �إثراء‬
‫�أل�صقت ب�شوقي �أب��ي �شقرا بخا�صة وجملة �شعر‬ ‫خيالها‪ .‬ودفعها القتحام العامل الأو�سع‪.‬‬
‫بعامة �أ�سو�أ االتهامات وحاولوا ان يلحقوا حركتهم‬ ‫فلي�س �سه ًال حتطيم الأ�صنام القائمة والوقوف‬
‫بحركة خمابراتية رخي�صة‪ .‬وذلك لت�شويه �إجنازهم‬ ‫ال�صارم بوجه التقليديني وال�سلفيني الذين يرون‬
‫ولبث عالمات اال�ستفهام‬
‫ّ‬ ‫وزرع ال�شك يف ابداعهم‪،‬‬ ‫يف املا�ضي حتربة يفرت�ض ان ت�ستمر يف احلا�رض‬

‫من اليمني �شوقي ابي �شقرا‪� -‬صالح �ستيتيه‪ -‬ان�سي احلاج‪ -‬ادوني�س‪ -‬ف�ؤاد رفقة‬

‫‪132‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ُيح�سب لها الف ح�ساب‪.‬‬ ‫حول نتاجهم وحول �آراثهم ومواقفهم‪.‬‬


‫دي��ك النهار خ� ّ�رج ع�رشات اال�سماء ال بل مئات‬ ‫يبدلوا ومل‬
‫�إال �أنهم ظلّوا على قناعاتهم ‪ .‬مل ي ّغريواومل ّ‬
‫الأ�سماء‪ ،‬من حتت يديه‪ .‬و�أعطاها ما ت�ستحق من‬ ‫يرتاجعوا‪.‬حملوا لواء احلداثة و�ساروا فيه اىل �أق�صى‬
‫اهتمام نرثاً وكتابة نقدية‪ ،‬وتلميح ًا ل�صورة يرى‬ ‫ما ميكن ان ي�سريوا متحملني عبء احلمالت التي‬
‫فيها كل امل ّقومات الفنية املفرت�ضة التي جتعل‬ ‫ومتجثمني م�ش ّقة املواجهة ال�صعبة‬ ‫ّ‬ ‫تعر�ضوا لها‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويتوهج يف عامل اعترب �شوقي‬ ‫ّ‬ ‫منها �إ�سم ًا ي�ضيء‬ ‫ترتب�ص بهم‪ ،‬وت�سعى اىل �إثبات ما ذهبوا‬ ‫ّ‬ ‫جهاب‬ ‫مع‬
‫االبداع‪.‬‬ ‫اليه من غي و�ضالل‪.‬‬
‫�شوقي اب��ي �شقرا جعل من «النهار» اًن جودة العمل‬ ‫و�شوقي �أبي �شقرا يف منت�صف املرحلة الآوىل كان‬
‫م��ن�براً ثقافي ًا متميزاً وا�ستطاع �أن الفني تكمن‬ ‫ت�صدر جملة «�شعر» كمدير للتحرير م�س�ؤول عن‬ ‫قد ّ‬
‫يخلق �أجواء من املناف�سة ال�رشيفة بني عنده يف القدرة‬ ‫م�صوب ًا مقاالتها وق�صائدها‬ ‫ّ‬ ‫كل ما ي�صدر عنها‪،‬‬
‫ال�صحف الرئي�سية‪ ،‬دفعت للآخرين على جعل‬ ‫بعناية ف ّنان �ش ّفاف‪ ،‬يعرف ماذا يريد‪ ،‬وماذا يفعل‪.‬‬
‫اىل حت�سني �أدائ��ه��م ليكونوا مب�ستوى‬ ‫�شوقي �أبي �شقرا كان « يعمل حداده وبويا» للق�صائد‬
‫الآخر يتفاج�أ‬
‫هذه القامة ال�صحافية اخلالّبة‪ ،‬وهذه‬ ‫� ح بذلك‬ ‫التي كانت ت�أتيه يف جملة «�شعر» وهو صرّ‬
‫ويت�ساءل‪،‬‬ ‫القامة ال�شعرية املت� ّأججة‪.‬‬ ‫مت�أخراً لأن كثريين راحوا ين�سبون اىل �أنف�سهم �أدواراً‬
‫و�شوقي واح��د م��ن ال��ذي��ن عملوا على وي�ؤيد او‬ ‫مل تكن لهم‪ .‬وهو بع�صاميته امل�شهودة �صامت مل‬
‫حتطيم اال�صنام ال�شعرية بوعي يقوم يعرت�ض‪� ،‬أي‬ ‫يحرك �ساكناً‪ .‬اىل ان قال ما قال ومل يرد �أحد من‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫دفعا اىل‬ ‫على العلم واملنطق‪ .‬وذل��ك كمحاولة يدفعه‬ ‫�شعراء املجلة ( الذين مل يغادر �أحد منهم �آنذاك هذه‬
‫لر ّد االعتبار اىل الفن الذي يعمل على‬ ‫الفانية) عليه او ليقول كالم ًا مغايراً لهذا الت�رصيح‬
‫جت�سيد �صورة احلياة ب�أ�ساليب خمتلفة حتريك ذهنه‬ ‫اخلطري ال��ذي يك�شف دور �أب��ي �شقرا ال��ري��ادي يف‬
‫تخرج على ال�صورة التقليدية امل�ألوفة‪.‬‬ ‫متثل الت�أ�سي�س ال ّأول حلداثة الق�صيدة‬
‫جملة ريادية ّ‬
‫وذلك ت�أكيداً على دورالفن «كقوة �إيجابية تعمل على‬ ‫النرثية يف لبنان والوطن العربي‪.‬‬
‫�صنع احلياة»‪ ،‬كما ت�شاء‪ ،‬وكما تريد‪.‬‬ ‫و�أكمل �شوقي هذا ال��دور عرب م�س�ؤوليته لل�صفحة‬
‫وال�شعر لديه كما �أراد رامبو �أن يكون ‪ :‬مغامرة من‬ ‫ونيف‪،‬‬
‫الثقافية يف جريدة «النهار» لثالثة عقود ّ‬
‫�أجل املعرفة»‪ .‬واملعرفة‬ ‫و�أث��ب��ت ق��درت��ه على ا�ستقطاب امل��واه��ب ال�شابة‬
‫لي�ست ح��ك��راً ع��ل��ى فئة‬ ‫واطالقها يف ف�ضاء االبداع لتكمل امل�سرية‪ .‬ولت�أخذ‬
‫معينة م��ن ال��ن��ا���س‪ .‬بل‬ ‫احلداثة نوراً جديداً ي�ضيء الدرب‪ ،‬ولتبقى امل�سرية‬
‫ه���ي م��ل��ك ل��ل��ج��م��ي��ع �إذا‬ ‫االبداعية م�ستمرة‪ ،‬كما لو �أنها ال ت��زال يف طور‬
‫توافرت الو�سائل الناجحة‬ ‫ال�شباب‪.‬‬
‫لإي�صالها‪ .‬وهذا ما مل يكن‬
‫ب��االم��ر ال�سهل‪ .‬فالن�ص‬ ‫ديك النهار الثقايف‬
‫ال�شعري احل��دي��ث ب�شكل‬ ‫ك��ان �شوقي �أب��ي �شقرا ديكا ي�صيح كل �صباح‪.‬‬
‫عام‪ ،‬ون�ص �شوقي ب�شكل‬ ‫في ّغطي �صياحه املعمورة وميلأها �شعراً ُيحاكي‬
‫خ��ا���ص‪ ،‬ي��ح��ت��اج��ان اىل‬ ‫النجوم‪ .‬وي�ست�ضيء مبا يف ف�ضائها من جمال‪.‬‬
‫والتب�رص‬
‫التمعن ّ‬ ‫�شيء من ّ‬ ‫ديك النهار الثقايف هو نف�سه «�سائق العربة» الذي‬
‫الكت�شاف مكنوناتهما‪،‬‬ ‫تبنى الكثري الكثري من املواهب كّ تاب ًا و�شعراء‬
‫ّ‬
‫ولبلوغ املعرفة املخبوءة‬ ‫وقا�صني و�أطلقهم يف ف�ضاء الإبداع �أ�سماء كبرية‬
‫‪133‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يكتب �شوقي �أبي �شقرا معترباً ان جودة العمل الفني‬ ‫وراء �ستار املعنى‪ .‬وك��ل ال��ذي��ن ت��ن��اول��وا �شوقي‬
‫تكمن عنده يف القدرة على جعل الآخ��ر يتفاج�أ‬ ‫جتنبوا الدخول يف ال�رشح‬ ‫ّ‬ ‫يف كتاباتهم النقدية‬
‫ويت�ساءل‪ ،‬وي�ؤيد او يعرت�ض‪� ،‬أي يدفعه دفع ًا اىل‬ ‫والتف�سري‪ ،‬كي ال يقعوا يف املحظور‪ .‬كما ان ال�شاعر‬
‫حتريك ذهنه‪� ،‬سعي ًا اىل حتريك �أحا�سي�سه التي‬ ‫يتجنب هذه املهمة ال�شاقة كي يبقى الن�ص‬ ‫نف�سه ّ‬
‫�ست�ؤدي حتم ًا اىل تغيري قناعات املتلقي تغيرياً‬ ‫مفتوح ًا على احتماالت �ش ّتى‪ .‬وكي ال يلزم الناقد او‬
‫يكاد يكون جذرياً‪.‬‬ ‫القارىء احل�صيف بر�ؤيته اخلا�صة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ك��ون كتاباته غام�ضة‪ ،‬ب�شكل‬ ‫وعلى طريقة ال�رسياليني مي�ضي �شوقي‬
‫�إجمايل �إال انه يرف�ض‪ ،‬وعلى غرار كثريين‪� ،‬أن يكتب‬ ‫حاول �أبي �شقرا بعيداً يف ابتكار ن�سيج لغوي جديد‬
‫ما ال ين�سجم مع قناعاته‪ .‬وم��ا يعتربه ت�ضحية‬ ‫الك�شف عن والذي يعني �ضمن ما يعني خلق حياة‬
‫بالقيمة الفنية‪ ،‬من �أجل �أغرا�ض لي�س �سامية‪.‬‬ ‫الطاقة اجلوفية جديدة‪� .‬أي قيام جمتمع ث��وري على‬
‫واذا كان ال�رسياليون الأوائ��ل ق ًد قاموا مبحاكمة‬ ‫للغة‪ ,‬وهي انقا�ض املجتمع القائم ‪ .‬هذاالتح ّدي‬
‫�ساخرة للكاتب موري�س باريه حيث �أتهموه بارتكاب‬ ‫الكبري للواقع القائم مل يخرج يف بالدنا‬
‫جرائم �ضد �أمن العقل» فان هناك من كان يعترب ان‬ ‫طاقة بدائية عن اطار الن�ص‪ .‬لأن الإبداع بكل فروعه‬
‫كتابات �أبي �شقرا ما هي اال هلو�سات ال ت ّقدم وال‬ ‫ال ي�ستطيع يف مكان والنا�س يف مكان �آخر‪� .‬أما يف‬
‫ت�ؤخر يف واقع الأمر �شيئاً‪.‬‬ ‫اللغويون الغرب فالأمرخمتلف �شك ًال وم�ضموناً‪.‬‬
‫فاذا بالزمن يطوي هذه املقوالت غري العلمية وغري‬ ‫الك�شف عنها‪ ,‬هذه الغرائبية التي تهيمن على ن�ص‬
‫الدقيقة وغري ال�صحيحة‪.‬‬ ‫وال ي�ستطيع �شوقي لي�ست وليدة ال�صدفة بل هي‬
‫لت�صبح الر�ؤية اىل نتاجه قائمة على بعد نقدي‬ ‫�سرب �أغوارها حماولة مبا�رشة للت�أثري يف املتلّقي‪،‬‬
‫عميق‪ ،‬وعلى ر�ؤي���ة اىل �إب���داع خمتلف‪ ،‬يتح ّدى‬ ‫والعمل على تغيريه تغيرياً حقيقياً‪،‬‬
‫ال�سلطات االبداعية القائمة‪ ،‬وين�سج ما يه ّدد الهيكل‬ ‫�سوى علماء ي�سهم يف ا�ستيالء ر�ؤي��ة جديدة اىل‬
‫بال�سقوط او بالت�ص ّدع‪.‬‬ ‫النف�س وال�شعراء املجتمع‪.‬‬
‫جتربة �شوقي لي�ست جتربة تقوم على املغامرة‬ ‫الغوا�صني �إىل غرائبية ُتده�ش ومتنح الن�ص ر�ؤى‬
‫جمرب‪،‬‬‫فح�سب‪ ،‬بل هي جتربة قائمة على �إدراك واع‪ّ ،‬‬ ‫الأعماق جديدة‪ .‬تفكّك ال�صورة‪ .‬وتهتك ت�آلفها‬
‫وقادر على التقاط ال�ضوء‪ ،‬بحذاقة ف ّنان بارع‪ ،‬بدرك‬ ‫مع ذاتها ومع غريها لت�ستقر على وهج‬
‫ماذ يفعل‪ ،‬ويعرف اىل �أين يريد �أن يذهب‪.‬‬ ‫جديد ال عهد لنا به يقول «ونختلف‬
‫لكن جتدر الإ�شارة هنا اىل �أن نزعته ال�شعرية نزعة‬ ‫ونهجم على ج ّدنا احلائط‪ /‬نركله على خ�صيته‬
‫العقالنية حني تتفذلك وتطرح الفر�ضيات اخلارجة‬ ‫جرنه‪/‬‬ ‫وخيثومه‪ /‬ي�سيل الدهان وخماط الزبد من ّ‬
‫على كل املعايري املنطقية‪ .‬وحني ترتك العنان حلركة‬ ‫ون�رضب الولد من ن�صفه وعر�ضه‪ /‬حيث لوحة‬
‫الالوعي‪ ،‬التي ت�ستغرف بعيداً يف ا�ستح�ضار الالمعقول‬ ‫الأمل وامل�سمار‪ /‬وال يقع بنا ال�سلّم وال يهوي اجلمل‬
‫الذي ي�ستح�رض بدوره ر�ؤى ال تخطر على بال‪.‬‬ ‫املرو�ض»‪.‬‬
‫ّ‬
‫هذه النزعة الالعقالنية كانت تغور عميق ًا يف فل�سفة‬ ‫وعلى الرغم من ر�ؤيته ال�سوداوية اىل هذا الواقع‪،‬‬
‫اجلمال‪ ،‬ويف �أغوار اخليال الذي يجعل من الق�صيدة‬ ‫وعلى الرغم من تفاهة العامل الذي نعي�ش فيه‪ .‬كان‬
‫لوحة فنية مت�ضي نحو ال ّتحرر الروحي‪ ،‬لتحلّق‬ ‫ي�سعى دائم ًا اىل ت�أكيد م�س�ؤوليته‪ ،‬ك�أن�سان ومبدع‬
‫بعيداً يف الف�ضاء على �إيقاع ن�سمات ال�شوق التي‬ ‫جت��اه امل��ع��اين التي تختمر على �إي��ق��اع حركتها‬
‫ت ّغرد‪ ،‬وتكّمل االر�ض با�رشاقاتها التي ال تنتهي ‪.‬‬ ‫كل الأ�شياء والتي ت�ست�ضيء بذلك النب�ض الآدمي‬
‫�شوقي ابي �شقرا �شاعرية عربية تفوح ناراً وعطراً‪.‬‬ ‫الواعي وامل ّتيقظ‪.‬‬
‫‪134‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ولعل عنا�رص من ال�رسيالية وا�صلت عملها يف ن�صه‬ ‫ت�رشب لُتعطي الآخ���ر ��شري��ان ال��وج��ود وكينونة‬
‫ال�شعري احلداثي واملابعد حداثي ‪ .‬وهي الغرابة‬ ‫اجلمال‪ ،‬وتتدىل �أغ�صانها لتملأ الف�ضاء حيوية تثري‬
‫املعابثة‪ ,‬وت�شظي الكلمات واللغة‪ ,‬والعودة بها ملا‬ ‫يف الآخر الرغبة يف املعرقة‪ ،‬والرغبة يف االكت�شاف‪.‬‬
‫ي�شبه دادائية طفلية فيها الكثري من الفطرة الريفية‪,‬‬ ‫يكتب ممتلئ ًا �شوق ًا اىل ذلك املجهول الغام�ض الذي‬
‫وال�سخرية ‪ ..‬فك�أنه يخلط �أمني نخلة مبارون عبود‪,‬‬ ‫ي�ؤرق ويدفع املرء اىل طرح املزيد من الت�سا�ؤالت‬
‫ويكون من موادهما الأولية كيمياء جديدة ل�شاعر‬ ‫حترك‬
‫التي ال ُتق�ضي اىل اجابات �شافية‪ ،‬والتي ّ‬
‫لبناين‪� ,‬سحري �أويل يت�سم باحلرية والإ�سرت�سال‬ ‫فينا الف�ضول‪ ،‬للغو�ص عميقاً‪� ،‬أو للو�صول اىل ذلك‬
‫والطرافة ‪ .‬وتت�شكل لغته بلعثمة لي�ست ف�صيحة‬ ‫الف�ضاء الذي مل يدركه �أحد بعد‪.‬‬
‫باملعنى التقليدي للف�صاحة‪ ,‬ولكنها لي�ست عامية‬ ‫يكتب على �إيقاع ترانيم جديدة‪ ،‬ك�أن �أفق �إبداعه‬
‫باملعنى املحكي للعامية‪ ,‬فهي �إذ تك�رس حواجز‬ ‫يت�سع �شيئ ًا ف�شيئ ًا مع كل �إ�صدار جديد‪� .‬أو كان‬
‫البالغة العربية التقليدية‪ ,‬ف�إنها ت�سرت�سل على‬ ‫�سماءه ت�أخذ ما تريد من زرقة على �إيقاع �أنغامه‬
‫الورقة كقطيع ماعز حر وجبلي‪ ,‬يق�ضم ما ي�شاء‪,‬‬ ‫التي حتمل �ألف �ضوء و�ضوء‪.‬‬
‫ويعتلي ال�صخور‪ ,‬ويتناطح ويلعب حتت مراقبة‬ ‫خربوا ما ا�ستطاعوا‬‫�شاعر من جيل ال� ّ�رواد‪ ،‬الذين ّ‬
‫عني الراعي ‪ .‬فق�صائد �أبي �شقرا لغة يف مناخ‪� ,‬أو‬ ‫يخربوا‪ .‬ال حب ًا بالتخريب فح�سب‪ ،‬بل �سعي ًا اىل‬‫�أن ّ‬
‫لغة مناخ ال يبتعد عن ال�رسيالية ولكنه ال ي�ستهلك‬ ‫زم��ن �شعري مغاير‪ ،‬يتنكّر للما�ضي‪ ،‬وال ي�ؤن�سه‬
‫فيها ذاته ‪.‬‬ ‫�رسب احلا�رض وال يرى يف امل�ستقبل غري ما تبدعه‬
‫لقد ح��اول �أب��ي �شقرا الك�شف عن الطاقة اجلوفية‬ ‫خميلته‪ ،‬وخميلة ال�شباب ال�صاعدين اىل ال�سماء على‬
‫للغة‪ ,‬وهي طاقة بدائية ال ي�ستطيع اللغويون الك�شف‬ ‫منت ب�ساط الريح‪.‬‬
‫عنها‪ ,‬وال ي�ستطيع �سرب �أغوارها �سوى علماء النف�س‬ ‫�شوقي �أبي �شقرا �شاعر اجلمال الفرد والإبداع احلر‪،‬‬
‫وال�شعراء الغوا�صني �إىل الأعماق‪ ,‬فلغة ال�شاعر هي‬ ‫والر�ؤيا التي تختمر على �إيقاع التجليات‪ .‬والن�سيم‬
‫�أم الفكر ال وليدته‪ ,‬وال بد له من ان يرتك نف�سه بني‬ ‫ال��ذي يتدفق اىل الأع��م��اق‪ .‬ليعطيها ذل��ك النفح‬
‫يديها كالطفل تت�رصف به كما ت�شاء ‪ .‬فالإبداع‬ ‫اجلميل‪ ،‬واخلرافة التي ت�ستح�رض الالمعقول لُتعطيه‬
‫والتوليد ال يكونان �إال من بئر اللغة اخلام‪ .‬واالر�ض‬ ‫�شيئ ًا من حقيقتها وواقعيتها‪.‬‬
‫احل��ق��ي��ق��ي��ة ه���ي �أر�����ض‬
‫الداخل‪ ,‬التي ال ترى �إال‬ ‫\‪\v‬‬
‫ب�إغما�ض العني‪ .‬ف�شم�س‬
‫ال�شاعر‪ ,‬كما يقول كارل‬ ‫‪� v‬شوقي �أبي �شقرا‬
‫كراو�س‪ ,‬ينبغي توليدها‬ ‫الطقو�س والن�صو�ص‬
‫م���ن غ��ي��اه��ب ال���داخ���ل ‪.‬‬
‫وال ب��د م��ن التالعب من‬ ‫من الت�شظي �إىل ال�سخرية‬
‫�أجل انت�صار الإ�ستعمال‬ ‫\‬
‫حممد علي �شم�س الدين‬
‫اجلديد للغة ‪ ...‬وكل ذلك‬
‫ال ي��ت��م م���ن دون ت�شظ‬ ‫ال�شاعر اللبناين �شوقي �أبي �شقرا‪� ,‬شاعر خا�ص‪ ,‬بل‬
‫وتنافر و�سخرية‪ ,‬الأقانيم‬ ‫خا�ص اخلا�ص‪ ,‬يف ال�شعر العربي احلديث عموما‪,‬‬
‫ال�رضورية لفنون ما بعد‬ ‫إبتداء من خم�سينات القرن املن�رصم‪ ,‬حتى‬
‫املكتوب � ً‬
‫احلداثة يف الغرب‪.‬‬ ‫اليوم‪ ,‬ويف ال�شعر اللبناين منه على وجه الدقة ‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫\ �شاعر وناقد من لبنان‪.‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عليكم» ‪ ...‬فهي تداعيات طيارة‪ ,‬غري متكلفة‪ ,‬جتمع‬ ‫ندخل �إىل ن�صو�ص �أبي �شقرا من مدخلني قد يظهر‬
‫بني متناق�ضات بال منطق ت�أليفي �أو بال خيط �سوى‬ ‫بينهما التباين‪ ,‬ولكن يف النتيجة يوحدهما احلال‬
‫الغرابة ‪ ..‬واجلمل مويجات‪ ,‬وال ما ي�شيع الهدوء‬ ‫الإبداعي لن�صه ال�شعري ولغته املتدرجة نحو ذاتها ‪.‬‬
‫�سوى اال�ست�سالم حلركات مرجتلة لكن حرة ‪.‬‬ ‫وهو يف تدرج نحو لغته ال�شعرية اخلا�صة به‪ ,‬ابتداء‬
‫غالبا ما يعبث �أب��ي �شقرا بال�صور ‪ .‬يقول مثال ‪:‬‬ ‫من «�أكيا�س الفقراء»‪ ,‬جمموعته ال�شعرية الأوىل‪,‬‬
‫«ت�أتيك ال�سمكة‪ ,‬تقودها احلورية بالر�سن» ويقول‬ ‫و�صو ًال لآخر �إ�صداراته‪ ,‬م�شى يف اجتاه التخل�ص‬
‫«كنت �أفور و�أفقع يف اجلو» ‪...‬ما ي�ستدعي لأول وهلة‪,‬‬ ‫من البالغة العربية وال��وزن العرو�ضي اخلليلي‬
‫توليد عامل �صوري افرتا�ضي من املخيلة‪ ,‬غالبا ما‬ ‫باملفهوم التقليدي واحلديث معاً‪ ,‬وما ن�رش له يف‬
‫كنت �أ�شبهه بعامل «ديزين» لل�صور املتحركة‪ .‬ذلك‬ ‫جملة �شعر يف فرتتي �صدور املجلة‪ ,‬مكتوب ب�أوزان‬
‫ي�ؤدي �إىل �شد الإنتباه‪ ,‬و�إىل حترير املخيلة وحترير‬ ‫هادئة‪ ,‬مع تخفيف البالغة الق�صى حدود التخفيف‪,‬‬
‫اللغة يف وقت واحد ‪� ...‬أي نحن �أمام كتابة حديثة‬ ‫والنزعة �إىل الإ�سرت�سال الغرائبي والطرافة وما يثري‬
‫مبتكرة بال و�صاية وال و�صايا وال تعاليم ‪ .‬من هنا‬ ‫الده�شة‪ ,‬واملالحظ انه بقي حتى �صيف ‪ 1963‬ال‬
‫هي كتابة مغامرة حداثية‪ ,‬وكتابة لها طقو�سها ‪...‬‬ ‫يفوته ال��وزن‪ ,‬فكتب يف هذا العام‪ ,‬ق�صيدة نرثات‬
‫باملعنى احلريف للق�صيدة ‪.‬‬ ‫بجمل متتالية بال وزن‪ ,‬يقول فيها مث ًال ‪« :‬الع�صفور‬
‫بيانو» ون�س�أل انف�سنا بعد رحلة �أبي �شقرا‪ ,‬على‬
‫احلداثة ال�شعرية‪ ,‬ما بعدها‪,‬‬ ‫امتداد دواوينه‪ ,‬من «خطوات امللك» �إىل «ماء �إىل‬
‫الطقو�س احلرفية للق�صيدة‬ ‫ح�صان العائلة» (‪« )1962‬ف�سنجاب يقع من الربج»‬
‫كتابة �شوقي �أبي �شقرا حداثية وما بعد حداثية ‪.‬‬ ‫(‪« )1971‬فيتبع ال�ساحرة»‪« ,‬فحريتي جال�سة‬
‫نحن �أمام ن�صو�ص تعيد اكت�شاف اللغة من خالل‬ ‫تفاحة على الطاولة» (‪ )1983‬و�صو ًال �إىل ديوان «ال‬
‫مراوغة التقاليد �أو ك�رسها ‪ .‬ويف ذلك عبث بال ريب‪,‬‬ ‫ت�أخذ تاج فتى الهيكل» (‪ )1992‬ف�صالة الإ�شتياق‬
‫عبث �رضوري‪ ,‬وقلب للقواعد ‪� .‬إن ما بعد احلداثة يف‬ ‫(‪« )1995‬فثياب �سهرة الواحة والع�شبة» م�سبوقة‬
‫�أوروبا وامريكا ‪,‬اقرتنت �شواهدها بذلك‪ ,‬يف خمتلف‬ ‫مبجموعة نرثية «�سائق الأم�س ينزل من العربة»‬
‫الفنون الأدائية والكتابية ‪ :‬يف العمارة وامل�رسح‬ ‫(‪� ,)2000‬إىل «نوتي من دهر القوام» ‪ ..‬ن�س�أل على‬
‫بخا�صة‪ ,‬ويف الرواية والق�صيدة ‪.‬‬ ‫�أي بر تر�سو مراكبه ؟ �أم لعله ما زال يطوح يف موج‬
‫و من يقر�أ كتاب الأمريكي «نيك كاي» امل�سمى «ما‬ ‫جلي هائم وحامل ولكنه غام�ض وخطري «ليتمازج‬
‫بعد احلداثة والفنون الأدائية» – وقد ترجمته �إىل‬ ‫احللم والأمل وال��ب��خ��ور»‪ ,‬كما يقول يف ق�صيدة‬
‫العربية نهاد �صليحة‪ ,‬ا�ستاذة الفنون امل�رسحية يف‬ ‫«ال�سهام من منقارها» ‪.‬‬
‫جامعة القاهرة‪ ,‬و�صدر عن الهيئة امل�رصية العامة‬ ‫�سيلزم التزود ببدائية لغوية ورعوية يف غالب‬
‫للكتاب م��ن خ�لال م����شروع «ن��اف��ذة على الثقافة‬ ‫الأح��ي��ان‪ ,‬ملن يقر�أ هذا ال�شاعر‪ ,‬ومن ال�رضوري‬
‫العاملية»‪� ,‬سيقع على �شواهد كثرية حلركة ما بعد‬ ‫الإنتباه �إىل ان ال�لاوع��ي لديه هو ال��ذي يك�شف‬
‫احلداثة يف الهند�سة وامل�رسح‪ ,‬والرواية والق�صيدة ‪..‬‬ ‫الوعي ولي�س العك�س‪ ,‬من خالل �سياقات لغوية‬
‫ف�إن معر�ض « احدث طريق» الذي اقيم العام ‪1980‬‬ ‫طيارة ومرحة‪ ,‬خمتلطة‪ ,‬فيها عبث وملعنة طفلية‪,‬‬
‫يف �إطار بينايل فيني�سيا وهو معر�ض فني ملجموعة‬ ‫وملعنة كبار ال�سن املحنكني يف الريف اجلبلي‬
‫من الواجهات �صممها ثالثون مهند�سا معماري ًا من‬ ‫اللبناين‪ ,‬كقوله يف ق�صيدة «عبدك‪ ,‬لبيك»‪« :‬و�صقر‬
‫اوروب��ا و�أمريكا‪ ,‬يت�سم بخا�صية التالعب ال�ساخر‬ ‫انت نتخيلك ومنقار‪ ,‬ف�ضاء و�ضحية‪ ,‬ويف ال�سلة‬
‫ب�أ�ساليب املا�ضي وتقاليده املعمارية وا�ستخدامها‬ ‫رغيف‪ ,‬ورج��اء‪ ,‬وليمونة لل�سالم عليك وال�سالم‬
‫‪136‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫واللغوية‪ ,‬لهذه الظواهر الإبداعية‪ ,‬ي�شري �إىل نظرية‬ ‫خللق مفارقات وتوريات ب�رصية ‪ .‬وقد طرح املعماري‬
‫جاك دريدا ونقده اللغوي ل�سو�سور والقول ب�أن املعنى‬ ‫والناقد باولو بورتوجيزي �أ�سلوب التالعب كبديل عن‬
‫ال يتحقق �أب��داً ب�صورة كاملة‪ ,‬بل القول با�ستحالة‬ ‫الثبات ‪ .‬و�أ�شار الناقد الإجنليزي ت�شارلز جينك�س �إىل‬
‫املعنى‪ ,‬كما �أن فكرة دي �سو�سور يف ا�ستقالل اللغة‬ ‫عنا�رص الت�شظي والتنافر والتناثر يف عمارة ما بعد‬
‫عن التاريخ �أو ال تاريخية اللغة اي كونها قائمة‬ ‫احلداثة مقابل عنا�رص الب�ساطة والوظيفية والوحدة‬
‫بذاتها و�سابقة على التفكري‪ ,‬وج��دت �صداها يف‬ ‫يف املعمار ال�سابق‪ ,‬وقد طرح مبد�أ اللعب باللغات‬
‫التحوالت الروائية وال�شعرية اجلديدة‪� .‬إنها حالة بال‬ ‫والتقاليد املعمارية كو�سيلة لتحييد وك�رس القراءات‬
‫اعماق وال �آفاق مت�ساوية‪ ,‬وهي قلقة ‪,‬مت�شظية‪ ,‬غري‬ ‫املغلقة املحددة ملعاين الأ�سلوب وال�شكل وال�صورة‬
‫م�ستقرة‪ ,‬وهو ما �أم�سك به جان بودريار من خالل‬ ‫‪ ..‬ثمة �ألعاب ذهنية وتعدد يتق�صد عدم الإن�سجام ‪.‬‬
‫لعبه بال�شيفرات واعتباره ن�شاط ما بعد احلداثة هو‬ ‫والتقنيات امل�ستحدثة ترمي �إىل ما ميكن ت�سميته‬
‫الهدم‪ ,‬ويلتقي معه جان فرن�سوا ليوتار يف الت�شكيك‬ ‫«هارمونية الن�شاز»‪ ,‬فثمة تورية �ساخرة والتبا�س‬
‫باملرجعية والتنبه للقلق امل�ستدام والتوتر الذي ال‬ ‫معنى وتناق�ض وتناق�ص وتعقيد وع�شوائية وقلب‬
‫ي�ستقر ‪ ...‬للمراوغة امل�ستمرة ‪.‬‬ ‫الرتاتيب الثابتة ‪ .‬وقد انتقل مفهوم ما بعد احلداثة‬
‫ف�إذا كانت احلداثة جتاوزت املا�ضي فما بعد احلداثة‬ ‫من العمارة �إىل ما �سواها من فنون‪ ,‬يف جمال‬
‫اعادت طرحه ككيان مبهم ‪ ..‬كتكوين مفتوح‪ ,‬ت�شظ‪,‬‬ ‫الأدب وجماالت الت�صوير والنحت وال�سينما والفيديو‬
‫ت�شوي�ش‪� ,‬سخرية‪ ,‬وكوالج وتوليف ‪.‬‬ ‫والرق�ص والتلفزيون واملو�سيقى ‪ .‬لقد مت الرتكيز‬
‫وبناء على جممل ما ورد من مالحظات‬ ‫ً‬ ‫لهذه الناحية‪,‬‬ ‫على رواي��ة غابرييل غار�سيا ماركيز «مائة عام‬
‫و�شواهد‪ ,‬ف�إنني �أرى �أن كتابات �شوقي ابي �شقرا‪ ,‬يف‬ ‫من العزلة» ورواي��ة جونرت غرا�س «طبل ال�صفيح»‬
‫�أبرز دواوينه‪ ,‬وبخا�صة الأخرية منها‪ ,‬هي كتابات‬ ‫ورواية «العار» ل�سلمان ر�شدي «حيث يتم توظيف‬
‫عربية لبنانية ما بعد حداثية ‪ .‬ولي�س من ال�رضوري‬ ‫احلوار توظيف ًا �ساخراً‪ ,‬وت�ستعمل تقنية النقد للتاريخ‬
‫ان الكاتب املزود باملخيلة و�أداة اللغة‪ ,‬يكون دائم ًا‬ ‫والكتابة نف�سها‪ ,‬حيث ي�سود ال�شك وتطفو ال�سخرية ‪.‬‬
‫�صورة معكو�سة لع�رصه وب�لاده ولغته ‪ ..‬بل لعله‬ ‫ويف امل����سرح ب���رزت ع��ن��ا��صر جت��ري��ب م�رسحي‬
‫هو مندوب‪ ,‬وقادر على تغيري جميع قواعد اللعبة‬ ‫وعرو�ض مفاجئة و�ساخرة‪ ,‬وظهر ال�رسد املبعرث‬
‫ال��راه��ن��ة برت�سيماتها‬ ‫يف جزئيات متناثرة ‪ ...‬وظهر الكوالج امل�رسحي‬
‫الأي����دي����ول����وج����ي����ة و‬ ‫املتنافر الذي يجمع بني عنا�رص خمتلفة �سمعية‬
‫الإجتماعية واللغوية‪,‬‬ ‫�صوتية ب�رصية م�ستقاة من م�صادر متنوعة من‬
‫فيغامر ويغري ‪ .‬ولي�س هذا‬ ‫اعمال درامية و�أفالم �سينمائية وا�صوات ‪ ...‬وبرز‬
‫الكالم كالم قيمة‪ ,‬مبعنى‬ ‫التجريب‪ ,‬فقد عمدت املخرجة امل�رسحية « اليزابيت‬
‫ان��ه لي�س من ال�رضوري‬ ‫لوكونت» �إىل �ستة اختبارات مل�رسحية ت ‪� .‬س �إليوت‬
‫�أن يكون �شطح املبدع هو‬ ‫امل�سماة «حفلة كوكتيل» ومت تقدمي عنا�رص متباينة‬
‫الأوىل والأع��ل��ى‪ ,‬ولكنه‬ ‫بال تن�سيق ‪ .‬يذكر اي�ضا �أعمال الأمريكية «جون‬
‫بال ريب جدير ب�أن ي�شار‬ ‫جونا�س» من خ�لال العر�ض امل�رسحي امل�سمى‬
‫�إليه‪ ,‬و�أن يقر�أ‪ ,‬و�أن يفهم‪,‬‬ ‫«را�س ًا على عقب و�إىل الوراء» املكون من كوالج من‬
‫والزمن يف النهاية كفيل‬ ‫اخليوط ال�رسدية القدمية واجلديدة تنتهي �إىل خلطة‬
‫بو�ضعه يف املرتبة التي‬ ‫م�رسحية �أ�سا�سها �إف�ساد املنطق والن�ص ‪.‬‬
‫ي�ستحقها ‪ .‬فلي�س كل عبث‬ ‫لعل التدقيق يف اجلذور الفكرية الفل�سفية واجلمالية‬
‫‪137‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و لعله �أ�س�س لنف�سه طقو�س ًا تخ�صه يف الكتابة ‪ .‬ففي‬ ‫بالرتتيبات وامل�سلمات‪ ,‬هو بال�رضورة‪ ,‬عبث خالق‪.‬‬
‫ق�صيدة «ما ي�صنع امل�ساء» من جمموعة « تت�ساقط‬ ‫نقر�أ ل��دى �شوقي �أب��ي �شقرا‪ ,‬اجلمل التالية‪ ,‬على‬
‫الثمار والطيور ولي�س الورقة» يجري على عجلة‬ ‫�سبيل املثال ‪« :‬عمي النهر يف ثياب ال�سكينة ‪..‬‬
‫حرف «الواو » جريان ًا حراً يف ا�ستطراد يدور ويدور‬ ‫�أعط�س من العف�ص‪ ,‬ا�صل �إىل معلمي ال�صباح �إذ‬
‫ويدور ‪.. « :‬و من�سح جباهنا من الكيمياء‪ ,‬واملرارة‬ ‫يفلت وعله ال�شجاع وخريفه الأ�صلع ويعطيني‬
‫دائم ًا هي احللوى‪ ,‬والفاكهة �أننا �أملا�س احلرية‪,‬‬ ‫الطيارة لأقودها يف الف�ضاء‪ ,‬لأقود النعجة �إىل الليل‬
‫و�أننا �رسعة الر�ؤيا ‪,‬و �أننا ق�رص ال�سمو�أل‪ ,‬وحيث‬ ‫و�أغ�صان الزيزفون والتوت‪ ,‬ك�أننا الرعية وال نطبخ‬
‫نحرر امل�شاعر الزائلة‪ ,‬ونربط جدائلنا باملعادن‪,‬‬ ‫يف الطناجر وال�صحون �سوى ع�شبة الظفر والف�صح‬
‫ونتفرج على ثياب ال�ت�راث‪ ,‬وخ��زائ��ن الفرا�شات‪,‬‬ ‫وبع�ض قهوة اجل��وار « (من دي��وان يتبع ال�ساحرة‬
‫ومنا�شفها تتمازج على ال�شوك ‪ ....‬وامل�س�ألة �أننا‬ ‫ويك�رس ال�سنابل راك�ض ًا ) ‪.‬‬
‫�سمكة ال�شهوة‪ ,‬وجلدنا رقيق احلا�شية‪ ,‬وكل طعنة‬ ‫و يف دي��وان « نوتي مزدهر القوام « ن��رى اللغة‬
‫حتى احلبة من الكرز عالمتنا‪ ,‬وينفجر ثقب ال�شاعر‬ ‫جتري �إىل �أماكن غري معتادة وال م�ألوفة‪ ,‬تتفكك‬
‫من ال�ضيق‪ ,‬وال�صديق هو املريخ ‪« ...‬‬ ‫وتخف‪ ,‬وتتخفف ‪,‬و ال ي�سعنا معها �سوى القول‪ :‬لن‬
‫ال �شك يف �أن مثل ه��ذه الكتابة‪ ,‬مت��ار���س جملة‬ ‫يكون لنا اجتاهها ق�ضايا كبرية و�إرنان �أو بالغة‬
‫�إق�صاءات‪ ,‬لكي تقرتح وتتبنى جملة طقو�س خا�صة‬ ‫‪ ...‬بل عبث وم�رسة ‪ .‬يقول ‪�« :‬سن�رضب نحن احلائط‬
‫‪ .‬فمن ناحية اجلوهر ال�شعري‪ ,‬فهو �شعر يعزل نف�سه‬ ‫ون�سب عر�ضه جزاف ًا ونخلع �رض�س العقل ‪ ...‬ونكتفي‬
‫عن الرتاث العربي ويعت�صم ب�إرث حملي‪ ,‬بعنا�رص‬ ‫باخل�شوع والت�ؤدة يف مهرجان الغولف �إذ نرفع‬
‫ريفية من �إرث لبناين �سحري‪ ,‬يلوذ بالبداءة ويلب�س‬ ‫الطابة البي�ضاء وال نعاملها بالع�صا لأنها حبلى‬
‫جلداً رعوياً‪ ,‬و�صاحب عتق يف ال�براري والبيوت‬ ‫وتلد منل ًة �أو جندي ًا �أو ح�شي�ش ًة « ‪.‬‬
‫الأولية والكلمات الأول��ي��ة‪ ,‬والغابات واحل�رشات‬
‫والنباتات وما �أ�شبه ‪ ..‬وهكذا ف�إنه ينعقد على ما‬
‫ي�شبه هذيان املخيلة واللغة البدائية ‪.‬‬
‫�أما من ناحية الت�أليف‪ ,‬ف�إن كتابة �شوقي �أبي �شقرا‬
‫تظهر على �صورة كتابة ما قبل بالغية‪ ,‬بل وحتى‬
‫ما قبل لغوية‪ ,‬وبال�رضورة ما قبل غنائية ‪ .‬هي‬
‫كتابة طفلية تت�ساحب فيها الكلمات وتتنا�سل من‬
‫�أط��راف �أ�صابعها تنا�س ًال مرح ًا و�أولياً‪ ,‬وال ت�س�أل‬
‫عن مقا�صد الذاكرة اللغوية وال املعاين التاريخية‪,‬‬
‫وال تلتزم متام الإلتزام مبوا�صفات ق�صيدة النرث‬
‫بنت احلداثة‪ ,‬بل جتنح ملا بعدها‪ ,‬وحتاول ت�أ�سي�س‬
‫طقو�س تخ�صها‪ ,‬والطقو�س ما هي ؟ الطق�س كلمة‬
‫مولدة دينية م�سيحية‪ ,‬فقد جاء يف العدد احلادي‬
‫ع�رش من جملة املجمع العلمي العربي بدم�شق �ص‬
‫‪� 232‬أن كلمة «طق�س» يطلقها امل�سيحيون على‬
‫�شعائر الديانة‪ ,‬معرب «تك�سي�س « من الالتينية ‪.‬‬
‫‪138‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫لبنانية خارقة لكل تقليد‬ ‫ّ‬ ‫�شعرية‬


‫ّ‬ ‫ب�صو ٍر‬
‫َ‬ ‫وزودتها‬
‫ّ‬ ‫\‪\v‬‬
‫الفرن�سية‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ال�ضيف‬ ‫اكتنزت‬ ‫بحيث‬ ‫ألوف‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫تركيب‬ ‫ولكل‬
‫ال�شعرية اجلديدة التي مل‬‫ّ‬ ‫أحمال من املادة‬ ‫ال�صديقة ب� ٍ‬ ‫‪� v‬شاعر ينهمر على مهل‬
‫الفرن�سية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تكن لتتو ّقعها خارج الأر�ض‬ ‫ويدغدغ م�سامنا‬
‫تتجول يف دواوي��ن �أب��ي �شقرا جتد � ّأن هذا‬ ‫ّ‬ ‫بعد �أن‬ ‫\‬
‫الريحاين‪:‬‬
‫�أمني �ألربت ّ‬
‫�شعري �آخر‪ ،‬ال ي�شبه‬‫ّ‬ ‫ن�ص‬
‫ال�شعر‪ ،‬الذي ال ي�شبه �أي ّ‬
‫مميزة‪:‬‬
‫�إال �صاحبه‪ ،‬ميكن ت�صنيفه �ضمن �أربع �سمات ّ‬ ‫جناحيه طفول ًة كلّلها‬ ‫َ‬ ‫ت�صوروا �شاعراً يجمع حتت‬ ‫ّ‬
‫ال�شعرية‪� .‬أبادر‬
‫ّ‬ ‫الطفولة‪ ،‬الريف‪ ،‬اللغة‪ ،‬وال�صورة‬ ‫ريفي ًة بال‬
‫ّ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ونزع‬ ‫�دود‪،‬‬‫�‬ ‫ح‬ ‫بال‬ ‫ة‬ ‫ً‬ ‫و�رسيالي‬
‫ّ‬ ‫امل�شيب‪،‬‬
‫�إىل القول �أن هذه ال�سمات متداخلة بحيث جتد يف‬ ‫«ماء‬
‫ً‬ ‫مزاجه‬ ‫بحرب‬ ‫ير�سم‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫�شاعر‬ ‫ت�صوروا‬ ‫ّ‬ ‫ه��وادة!‬
‫الق�صيدة الواحدة �أحيان ًا جميع �أو معظم الطفولة عند‬ ‫ويلون على هواه «ت ّفاحة فوق‬ ‫لحِ �صان العائلة»‪ّ ،‬‬
‫مالحمها‪ .‬لك ّنك يف ك � ّل ح��ال‪� ،‬سواء‬ ‫الطاولة»‪ ،‬ويكتب الق�صائد املغايرة وهي تالحق‬
‫�أبي �شقرا‬
‫متفرقة‪ ،‬جتدها‬ ‫ّ‬ ‫وجدتها جمتمع ًة �أو‬ ‫تخيلوا �شاعراً يق�ضي‬ ‫�أزاهر احلقول وينابيع الأودية! ّ‬
‫تتلون‬
‫ّ‬ ‫حرباء‬ ‫مالزمة ل�شعر �أبي �شقرا بحيث ت�شكّل‬ ‫العمر يف املدينة ويف جيبه �صورة قريته التي �إن‬
‫أ�سا�سية من خ�صائ�ص مع الألوان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة �‬‫ك ٌّل منها ّ‬ ‫�أ�ضاعها يجدها خمتبئ ًة يف قلبه! افرت�ضوا �أ ّنكم‬
‫�شعره املختلف واملميز باختالفه‪ .‬من املنظور‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫تتجولون مع هذا ال�شاعر يف �أقاليمه‬ ‫ّ‬
‫و�سوف ن�شري �إىل ك ٍّل من هذه ال�سمات �إىل غري‬ ‫املتخيلة‪ ،‬فت�صادفون �أنف�سكم برفقة لغة‬ ‫ّ‬ ‫ف�ضاءاته‬
‫واقفني عند �أبرز مالحمها ومناذجها‪.‬‬ ‫ال ك�سائر اللغات‪ ،‬وبني طائفة مفردات لي�ست ك�سائر‬
‫املنظور‪ ،‬ومن‬ ‫�شعرية خمتلفة عن‬ ‫�صور‬
‫ّ‬ ‫املفردات‪ ،‬وبني معر�ض َ‬
‫الب�سيط �إىل‬ ‫الطفولة‬ ‫و�صو ِر الق�صائد!‬
‫َ‬ ‫ال�شعرية‬
‫ّ‬ ‫واللوحات‬
‫ِ‬ ‫�سائر املعار�ض‬
‫ال تقف الطفولة يف �شعر �شوقي �أبي العميق القرار‬ ‫تت�صوروه قبل �أن‬ ‫َّ‬ ‫هذا ال�شاعر ي�صعب عليكم �أن‬
‫�شقرا عند معنى الرباءة‪� .‬أو هي �رضب‬ ‫�سوي ًا يمُ �سك بنا�صية‬ ‫تتعرفوا �إليه وتعرفوه ب�رشاً ّ‬ ‫ّ‬
‫اللولبية ال��ت��ي حت��ب �أن‬
‫ّ‬ ‫م��ن ال�ب�راءة‬ ‫�سوريالية ن��زق��ة‪ ،‬ويجبل‬ ‫ّ‬ ‫بري�شة‬ ‫ح‬ ‫�و‬‫�‬
‫ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫اللغة‪،‬‬
‫بت�صوراتها الالحمدودة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تلهو بتالفيف اخليالء‪،‬‬ ‫الإثنني مع ًا ببهاء الطفولة‪ ،‬ويقظة الأنبياء‪ ،‬و�إك�سري‬
‫ب�����ل ب���اف�ت�را����ض���ات���ه���ا‬ ‫�ضاهى‪ .‬هل عرفتم‬ ‫ثري ال ُي َ‬ ‫خيال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫العرافني‪ ،‬و�سح ِر‬ ‫ّ‬
‫الالمتناهية‪ .‬ال�شاعر هنا‬ ‫�أن هذا ال�شاعر الذي ال ي�شبه �أحداً بعينه‪ ،‬وال ي�شبهه‬
‫ي�لاع��ب �أل��ف��اظ الطفولة‬ ‫نف�سيته‪� ،‬أو روحه‪� ،‬أو ق�صائده‪ ...‬هذا‬ ‫ّ‬ ‫�أح ٌد بقلمه‪� ،‬أو‬
‫ل��ي��ب��ت��دع م��ن��ه��ا معنى‬ ‫ال�شاعر ال ي�شبه �أحداً �إال �شوقي �أبي �شقرا‪.‬‬
‫مغايراً‪ ،‬معنى ال ك�سائر‬ ‫ال�رسيالية ارتدت حلّتها‬ ‫ّ‬ ‫�ض ّل َمن زعم �أن املدر�سة‬
‫امل����ع����اين‪ ،‬ف��ي��دخ��ل به‬ ‫ال�رسيالية‬
‫ّ‬ ‫العربية ب�شعر �أبي �شقرا‪ .‬وال�صحيح �أن‬ ‫ّ‬
‫الأر����ض البكر ويكت�شف‬ ‫اللبنانية‪ ،‬دعت املدر�سة‬ ‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ال�رسيالي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫وحتديد‬ ‫ة‪،‬‬ ‫العربي‬
‫ّ‬
‫ع��ب�ره‪ ،‬وم���ع���ه‪ ،‬ط��اق��ات‬ ‫الفرن�سية لق�ضاء عطلتها يف ربوع جبل‬ ‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ال�سوريالي‬
‫ّ‬
‫جمالية �أو بواكري اخليال‬ ‫ّ‬ ‫لبنان‪ ،‬ط��وال الن�صف الثاين من القرن الع�رشين‪،‬‬
‫ال��ل��ع��وب ال���ذي تت�ساقط‬ ‫ف�ألب�ستها حلّة جديدة بعد جتربة فريدة مل تعهدها‬
‫ع��ن��ده ح���دود املنطق �أو‬ ‫من قبل‪ .‬وتف�صيل ذلك �أن �أخ�ذ َْت ق�صائ ُد �أبي �شقرا‬
‫�أ�صول القاعدة �أو حواجز‬ ‫رحاب‬
‫ٍ‬ ‫الفرن�سية وجالت معها يف‬ ‫ّ‬ ‫ال�رسيالية‬
‫ّ‬ ‫�صديقتها‬
‫امل����أل���وف وامل���ت���داول‪.‬‬ ‫واقعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عربية فوق‬ ‫مل ت�ألفها من قبل‪ ،‬وعلّمتها لغة ّ‬
‫‪139‬‬ ‫\ �أكادميي من لبنان‪.‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�شاعر ب��ال�تراب كما يخلطها ب��ذاك��رة الطفولة‬ ‫ملون يجوب‬ ‫طفولة ال�شاعر بهذا املعنى طائر ّ‬
‫و�ألعابها وخيالئها‪« .‬ق�ص َبة» هذا ال�شاعر «ح�صانه»‪،‬‬ ‫الف�ضاءات الرحبة اجلديدة وي�أخذ القارىء �إىل عوامل‬
‫وح�صانه «�أرقه»‪ ،‬و�أرقه «�أقحوانة احلرير»(‪ )6‬التي‬ ‫مل يعهدها من قبل‪ .‬لعبة ال�شاعر هنا «لي�ست قائمة‬
‫ال تتقطّ ع خيوطها وال تذبل بتالتها‪.‬‬ ‫االلكرتونية‬
‫ّ‬ ‫على �أزرار وكب�سها ولي�ست من الفنون‬
‫و�أن ن�ضيء ونكب�س ونزيح ون�صل �إىل النقاط و�إىل‬
‫الريف‬ ‫احلركة و�إىل ال�رضب والقفز �أو نرمتي يف ال�رشك‬
‫أبدية‪ .‬نزهة ال تفارقه حتى‬ ‫والريف عنده نزهة � ّ‬ ‫ون��خ��ت��ف��ي‪ )1(»...‬وللطفولة �ألعابها ول��و اختلفت‬
‫الداخلية ال ميكن‬
‫ّ‬ ‫ولو ظ ّل يف قلب املدينة‪ .‬نزهته‬ ‫�أدوات��ه��ا واختلفت �أ�شكالها و�ألوانها بني �أنامل‬
‫ريفية بامتياز‪ .‬لأن «ذاكرتي يف‬ ‫�إال �أن تكون نزهة ّ‬ ‫قجتي‬ ‫ال�شاعر وعلى مداد قلمه‪�« :‬أين لعبتي‪ ...‬و�أين ّ‬
‫القنطرة‪ ،‬حنيني رغيف ال�صاج‪ ...‬ويختفي الع�صفور‬ ‫امللونة‬
‫ّ‬ ‫ال�شعر واللغة و�أين والدي‪ ...‬يعطيني الورقة‬
‫ي�ضج وال يب�رصه الناطور‪)7(».‬‬‫ّ‬ ‫يف بطن الوردة‪ ،‬ال‬ ‫طيارة‪ ،‬و�أين الق�صب الذي ينفخ‬ ‫عند �إبي �شقرا لأ�صنع ّ‬
‫وترتاكم �أدوات الريف على كَ ِتفَي ال�شاعر حتى ولو‬ ‫املو�سيقى والتعابري‪ ،‬و�أي��ن ق�صبتي‬
‫كان جال�س ًا �إىل مكتبه يف ب�يروت‪� ،‬أو واقف ًا على‬ ‫«نا ٌر وموقد‪ ،‬لأج���رح �إ�صبعي‪ ،‬ولأن �آخ��ذ ال�سكّني‬
‫�رشفته و�سط املدينة‪ .‬فعامل الريف يطويه يف جعبته‬ ‫�صيحة و�أج���رح ج�سدها و�أق����ّ�ص ه��ذا الهيكل‬
‫ليتمكّن من �أن ينتقل به �إىل كل مكان‪� .‬شوقي �أبي‬ ‫�إىل حجر و�أن�ساه يف الطبيعة‪)2(»...‬‬
‫وحنجرة‪،‬‬
‫«اخلروبة»‪� ،‬أو بزجاج‬ ‫ّ‬ ‫�شقرا يكتب ق�صائده ب�أوراق‬ ‫الطفولة عند �أبي �شقرا لعبة جارحة‪،‬‬
‫«املرطبان»‪� ،‬أو ِب«رم��اد» الوجاق‪� ،‬أو «يتفرك�ش‬ ‫�شقية‪،‬‬
‫لعبة حزينة‪ ،‬و�أك��اد �أقول لعبة ّ‬
‫ِ�ص َغر ونق�ش‬
‫�إبريق الزيت‪ ،‬بالأرغفة حروف احلكاية»(‪)8‬؛ ملاذا؟‬ ‫بهية‬‫نقية ّ‬‫حجر‪ ،‬قدح لك ّنها‪ ،‬يف ك ّل ح��ال‪ ،‬لعبة ّ‬
‫«مي�ص البئر غيمة �إىل القلم»(‪)9‬‬ ‫ّ‬ ‫ل ّأن هذا ال�شاعر‬ ‫ونبيذ»‪ ،‬وهما � ّأخ��اذة‪ ،‬يلعبها وح��ده‪ .‬فقد يكون هذا‬
‫�إىل قلمه‪ .‬ودم هذا ال�شاعر يزهر يف ثنايا «زبيب‬ ‫�شقياً‪ ،‬لكنه يف‬‫كل ال�شاعر جارحاً‪ ،‬حزيناً‪ّ ،‬‬ ‫عنده يف ّ‬
‫«القادومية» و»خ�صلة‬
‫ّ‬ ‫ال�صحارة»‪ ،‬ويف تعاريج‬ ‫ّ‬ ‫بهي � ّأخاذ‪ ،‬يلعب‬ ‫ّ ّ‬ ‫نقي‬ ‫�شاعر‬ ‫حال‪،‬‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ك‬
‫الفرفحني»‪ ،‬وي�رشق �أم��ام «مفتاح القبو» و»نبيذ‬ ‫حال «مر�آة وح��ده لعبة فريدة ن��ادرة‪ ،‬وال ينتظر‬
‫ال�صالة» و»مقعد احلطبة»(‪.)10‬‬ ‫ووجه �أحداً �أن ي�أتي‪.‬‬
‫ويرثَى الريف يف ق�صائد ال�شاعر عرب مفردات يكاد‬ ‫غري � ّأن الطفولة عند �أبي �شقرا حرباء‬
‫الزمان يغلّفها بق�رشة من الن�سيان �إذ ي�ستوحي‬ ‫تتلون مع الأل��وان‪ ،‬من املنظور �إىل غري املنظور‪،‬‬ ‫ّ‬
‫«الدبور» و�إ َبر‬
‫بع�ض �شعره من �أفياء «التوتة» ولذعة ّ‬ ‫ومن الب�سيط �إىل العميق القرار‪ .‬ف ��إذا ح ّدثك عن‬
‫«العلَّيقة» و ُبقَع «الكبو�ش» و�أل��وان «الزيز» وخرير‬ ‫«حية والبنات يرق�صن على �صفري ال�سهم‬ ‫احلبل تراه ّ‬
‫«ال�شالل» وم�شهد «حجل ال�صخر» و�أنوثة «مت ال�سمكة»‬ ‫و�أوراق���ي على الفحيح»(‪ ،)3‬و�إذا انك�رس الق�سطل‬
‫الطبلية» وعطر «كب�ش‬‫ّ‬ ‫وندرة «�صمغ اللوزة» و»حنان‬ ‫«ركبنا على ق�صبة‪ ،‬فارت املياه‪ ،‬فتحت قمي�صي‪،‬‬
‫القرنفل‪� )11(».‬إ ّن��ه ع��امل قائم بذاته وق��د ا�ستعاد‬ ‫�رصخت‪� ،‬ضحكت‪ )4(».‬و�إذا ح ّدثك عن الق َدر الأزرق‪،‬‬
‫حياته على م��داد قلم ال�شاعر‪ ،‬وتباهى بتفا�صيل‬ ‫يبادرك قائ ًال � ْأن «ن�شرتيه قطّ ًة يف كي�س جنفي�ص‪،‬‬
‫جميلة ال يدرك معانيها ال�ساحرة َمن ال يت�س ّنى له �أن‬ ‫غزل بنات يف ورقة‪ ،‬جبنة �سوداء‪)5(»...‬‬
‫مير بتجاربها ال�سعيدة‪ ،‬املديدة‪ ،‬الفريدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطفولة لديه حالة‪ ،‬واحلالة م��زاج‪ ،‬وامل��زاج لغة‪،‬‬
‫عرية يف لولب‬ ‫واللغة �أ�سلوب‪ ،‬والأ�سلوب جتاعيد �شِ ّ‬
‫اللغة‬ ‫ملونة بتالوين‬ ‫���ص��ورة بالأبي�ض والأ���س��ود‪� ،‬أو ّ‬
‫�أَ ْن تتحدى اللغة يعني �أن تبنيها لنف�سك دون �سواك‪،‬‬ ‫يبق منها �سوى بقايا مطحونة يخلطها‬ ‫طب�شورة مل َ‬
‫‪140‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ال��غ��ب��ار»(‪ )17‬ه��ذه لغة‪ ،‬على متانتها و�صالبة‬ ‫�أن ت�شقع مفرداتها وجملَها‪ ،‬مدماك ًا فوق مدماك‪،‬‬
‫تراكيبها‪ ،‬ال ت�شبه �أح��داً �أكرث مما ت�شبه �صاحبها‪.‬‬ ‫دون �أن تتبع امل ��أل��وف واملعتاد م��ن الرتاكيب‬
‫�شعره‪،‬‬
‫خا�صة فريدة يغ ّذي بها َ‬ ‫فزاد هذا ال�شاعر لغ ٌة ّ‬ ‫وامل�صطلحات‪� .‬أن تتحدى اللغة يعني �أن تخرج‬
‫مميز يغ ّذي به لغ َته‪ .‬فال�شعر واللغة عند‬
‫و�شعر الفت ّ‬
‫ٌ‬ ‫عنها �إليها‪� ،‬أن تثور عليها من �أجلها‪� ،‬أن تتجاوزها‬
‫«نار وموقد‪� ،‬صيحة وحنجرة‪�ِ ،‬ص َغر ونق�ش‬ ‫ٌ‬ ‫�شقرا‬ ‫�إبي‬ ‫و�صو ًال �إىل جوهرها والأعماق‪ّ � .‬أما ال�شكل فال يكون‬
‫حجر‪ ،‬قدح ونبيذ»‪ ،‬وهما عنده يف ك ّل حال «مر�آة‬ ‫�إال �شكل ال�شاعر‪ ،‬والرتكيب ال يكون �إال برتكيب‬
‫ووجه‪)18(».‬‬ ‫�شاعرية‬
‫ّ‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬وتفتيق �أبعاد اللغة ال يتم �إال بقدرة‬
‫اللغوي ب�شعره‪،‬‬‫ّ‬ ‫ق��ادرة‪ .‬هذا هو �شوقي �أب��ي �شقرا‬
‫ال�صورة ال�شعريّة‬ ‫وال�شاعر بِلغته التي ال ميكن تف�صيلها �إال على‬
‫مبني‬
‫ّ‬ ‫قد تكون امليزة الرئي�سية لل�شعر احلديث �أ ّنه‬ ‫قيا�سه‪ ،‬وال ميكن حياكتها �إال بنوله‪ ،‬بل بقلمه الذي‬
‫ال�شعرية التي حتاول تفتيق امل�ألوف‬ ‫ّ‬ ‫على ال�صورة‬ ‫ثري اخليال‪ ،‬بعيد‬ ‫ريفي ّ‬ ‫ترابي‬ ‫يل‬
‫يغم�سه بحرب طفو ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملكرر واملتو ّقع بحث ًا عن الأر�ض البكر‪ ،‬والف�ضاء‬ ‫ّ‬ ‫واقعية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بواقعية فوق‬
‫ّ‬ ‫ال�صور‬
‫َ‬ ‫املرامي‪ ،‬طريف‬
‫امل�ستحدث‪ ،‬واللغة اجلديدة يف قلب اللغة‪� ،‬أو عن‬ ‫وت�ستوقفك م��ف��ردات ل ّقحها ال�شاعر يف م�سام‬
‫ال�شعرية �إىل طاقة خالقة غري‬ ‫ّ‬ ‫املخيلة‬
‫ّ‬ ‫تطويع‬ ‫ق�صائده‪ ،‬فاع�شو�شبت و�أزه��رت يف �شتالت �شعره‬
‫م�سبوقة‪ ،‬طاقة قادرة على ت�صوير عامل جديد من‬ ‫اللغوي ال�صلب العود‬ ‫ّ‬ ‫التي زرع��ه��ا يف ب�ستانه‬
‫امل�رشعة بكل اتجّ اه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املعاين املفتوحة‪ ،‬والدالالت‬ ‫دنان االبت�سامة‬ ‫َ‬ ‫وال�رشو�ش والبنيان‪« :‬كم جررنا‬
‫واالحتماالت غري املتناهية‪.‬‬ ‫واحل�رصم القتيل ونحن يف منخف�ضات الوهلة‪...‬‬
‫لو قر�أت �شوقي �أبي �شقرا‪ ،‬قبل �أن تدرك خ�صائ�ص‬ ‫طالت مر�ساة ال�سهر‪ ...‬و�سن�ضحك مثنى ونع�شو�شب‬
‫الطفولة والريف واللغة لديه‪ ،‬ال�ستوقفتك طبيعة‬ ‫بالربق والعا�صفة وغبار ال��ه� َ�و���س‪ )12(»...‬وعليه‬
‫ال�شعرية عنده بغرابتها‪�« :‬أح��رث الك�سل‬ ‫ّ‬ ‫ال�صورة‬ ‫ميكن القول � ّأن لغة �شوقي �أبي �شقرا تبحر «يف البعيد‬
‫والتجاعيد»(‪ ،)19‬و«جمجمتي �صندوقي‪� ...‬ستهرول‬ ‫املجن وظهرية‬ ‫ّ‬ ‫الذي ي�رشف على البعيد‪ ،‬و�إذ يلمع‬
‫املتحركة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بافرتا�ضيتها‬
‫ّ‬ ‫املراكب والق�صائد»(‪)20‬؛ �أو‬ ‫الرحلة �إىل الرتياق‪)13(»...‬‬
‫«ال�سيف والأ�صابع‪ ،‬والأف��واه‪ ،‬واملالقط‪ ...‬اختلطت‬ ‫ي�صور لنا لغة ال�شاعر هو ال�شاعر نف�سه‬ ‫و�أف�ضل َمن ّ‬
‫�سبحت متمايلة‬ ‫َ‬ ‫كالبطّ ‪،‬‬ ‫�إذ يقول‪« :‬وا�ضطر َبت لغتي من احل��دث‪ ،‬لففتها‬
‫رق��� َ��ص��ت ج�������ازاً»(‪،)21‬‬ ‫بالقطن والطحالب واختنقت �سفينة الأج��وب��ة»‪.‬‬
‫و«�أن����ا ال��ر���س��ول املقلّم‪،‬‬ ‫(‪ )14‬ولئن ا�ضطربت اللغة من احلدث جند ال�شاعر‬
‫وح�شي �رسيع‪� ،‬أنا‬
‫ّ‬ ‫حمار‬ ‫«ي�سبح يف الغمر‪ ...‬وقارب النجاة ي�أخذه �إىل مفازة‬
‫اخلفيف ال �أط�ير‪� ،‬أرتبط‬ ‫العري وال�رصاخ القاحل‪ ...‬ول]ه[ الكتب العذبة‬
‫بجنزير احل��ائ��ط‪ ،‬مبوعد‬ ‫الدخول �إىل املطاوي وال�صعبة اخلروج �إىل املرف�أ‬
‫احل����ق»(‪)22‬؛ �أو بتداخل‬ ‫ممر �إىل‬
‫والت�صابي‪ )15(».‬ويكت�شف فج�أة � ّأن «ال ّ‬
‫املنظور بالالمنظور من‬ ‫أغر‪� ...‬سوى الع�صفورة‪...‬لي�صغي ال�صارخ‬ ‫احلبور ال ّ‬
‫عنا�رصها‪« :‬ي��ا �سنبلة‬ ‫�أمامي �إىل جنواي و�إىل منقلب الهوان‪)16(»...‬‬
‫ال����ت����ع����ب‪ ...‬وح����صرم��ة‬ ‫اللغوية يف‬
‫ّ‬ ‫وال يرت ّدد ال�شاعر يف توظيف تراكيبه‬
‫ال��ل��ي��ل»(‪ ،)23‬و«احل���رف‬ ‫�شعرية غري م�سبوقة �إذ «ي�شلح البئر على‬ ‫ّ‬ ‫�صور‬
‫ري�����ف ال����ب����ال‪� ،‬أذرع‬ ‫احلجر‪ ...‬ي�شلح ال�سطور‪ ...‬واخلامتة ذنب الع�صفور‪.‬‬
‫الغنى»(‪.)24‬‬ ‫ي�سكب ال��ن��دم‪ ،‬ي�سكبه اخل��دم قبل امل��ائ��دة وب��دء‬
‫‪141‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الهوام�ش‬ ‫ال�شعرية مبزج �أطراف‬‫ّ‬ ‫وكثرياً ما يبني ال�شاعر لوحته‬
‫‪� -1‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪� ،‬سائق الأم�س ينزل من العربة‪ ،‬دار نل�سن‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫�شعري ًا‬
‫ّ‬ ‫ف�ضاء‬
‫ً‬ ‫واقعية فيدخل‬
‫ّ‬ ‫الواقعية بعنا�رص فوق‬
‫ّ‬
‫‪� ،2000‬ص‪.156‬‬
‫‪ -2‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.189‬‬ ‫ثري ًا بليغ ًا بذاته ولذاته‪:‬‬ ‫متما�سك ًا م ّتقداً مت أ�لّق ًا ّ‬
‫‪� -3‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً‪ ،‬دار النهار‪،‬‬ ‫وقمة‬ ‫«ت��دق �أجرا�سي حني �أرت��ط��م باللحظات‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬
‫بريوت‪� ،1979 ،‬ص‪.38‬‬
‫‪ - 4‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.39‬‬ ‫ال�سكون ت�شكر الطنني»(‪ ،)25‬و«لن ن�سمع الوقت‪...‬‬
‫‪ -5‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.40‬‬ ‫من بوق املدائح و�صنوج النقائ�ض‪ .‬و�أو ّزة االختالف‬
‫‪� -6‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل‪ ،‬دار اجلديد‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪� ،1992‬ص ‪.41 ،51‬‬ ‫جاثمة على ال��ك� ّ�وة»(‪ ،)26‬و«العنرب طفل قدمي بال‬
‫‪� -7‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً‪ ،‬دار النهار‪،‬‬
‫بريوت‪� ،1979 ،‬ص‪.60 ،53‬‬ ‫�أ�سنان حليب يجل�س يف ح�ضن الدهر وال يبكي �إن‬
‫‪� -8‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل‪ ،‬دار اجلديد‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫قر�صناه»(‪.)27‬‬
‫‪� ،1992‬ص ‪.21 ،11 ،10‬‬
‫‪ -9‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.21‬‬ ‫هوذا عامل ال�شاعر الذي ال ميكن و�صفه �أو ت�صويره‬
‫‪ -10‬املرجع نف�سه‪.28 ،24 ،‬‬ ‫�إال باال�ستعانة بلغة ال�شاعر نف�سه‪ .‬لذا ميكن القول يف‬
‫‪ -11‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.70 ،58 ،51 ،36‬‬
‫‪� -12‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة‪ ،‬دار‬ ‫ختام هذه العجالة‪� :‬شوقي �أبي �شقرا ي�سكبه ال�شباب‪،‬‬
‫نل�سن‪ ،‬بريوت‪� ،2004 ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ -13‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.36‬‬
‫يفر �إىل عني الر ّقة و�صوف‬ ‫يفر من ح�ضن النجمة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -14‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.68‬‬ ‫ال�سعادة‪ ،‬وين�سكب على قيا�س ج�سده وتقا�سيم‬
‫‪ -15‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.79 ،76‬‬ ‫وجهه يف ال��ذي يخطّ ه قلمه‪ .‬هو ال ي�تر ّدد يف �أن‬
‫‪ -16‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.110-109‬‬
‫‪� -17‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل‪� ،‬ص ‪.33‬‬ ‫يفلح الأر�ض اليباب ويخرب حار�س الريح‪ ،‬ويخاطب‬
‫‪ -18‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.85 ،71‬‬
‫‪� -19‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً‪� ،‬ص ‪.7‬‬ ‫ثم يغت�سل بالنقطة على الورق‪.‬‬ ‫الربد والعا�صفة‪ّ ،‬‬
‫‪ - 20‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.20‬‬ ‫هو يتقن خرم�شة احلرير وحذف الر�سمات القدمية‪.‬‬
‫‪ -21‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ -22‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.44‬‬ ‫ال�شعرية ينفخ النريان امل�رسوقة‬ ‫ّ‬ ‫هو يف مهنته‬
‫‪� -23‬شوقي �أبي �شقرا‪ ،‬ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل‪� ،‬ص ‪.29‬‬ ‫اني ًا تنتع�ش به‬ ‫�صو ّ‬‫وي�ستعري من بنات القمر �رشراً ّ‬
‫‪ -24‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ -25‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.96‬‬ ‫الأ�سطورة‪ .‬هو يغ ّني للحطب‪ ،‬ين�سى طقو�سه‪ ،‬يطرب‬
‫‪� -26‬أبي �شقرا‪� ،‬شوقي‪ ،‬تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة‪� ،‬ص‬
‫‪.138‬‬
‫لرنني ال�صنوبر‪ ،‬يراوح بني خملب ال�صقر وقيثارة‬
‫‪ -27‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.146‬‬ ‫الفرا�شة‪ ،‬يغرتب يف زماننا ويك�رس اخلمر بالكلمات‬
‫ثم يهد�أ هدوء ال�سنديان‪� .‬شوقي �أبي �شقرا يكون � ّإياه‬ ‫ّ‬
‫حي ًا حني‬‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ب‬
‫ُ َ‬ ‫ي‬ ‫ال�شاعر‬ ‫هذا‬ ‫يكون‪.‬‬ ‫ال‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫يكتب‬ ‫ما‬ ‫يف‬
‫\‪\v‬‬
‫تكتبه الق�صيدة فهو ربيب الف�صول‪ ،‬ينهمر على مهل‬
‫ويدغدغ م�سامنا كرذاذ املطر‪.‬‬

‫‪142‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫وترت�سخ مفاهيم وتنه�ض‬ ‫ّ‬ ‫ويتبخر الزيف‪،‬‬


‫ّ‬ ‫الوهم‬ ‫‪� v‬شوقي �أبي �شقرا‬
‫ت�صورات‪ ،‬ثم تنكفئ معايري وتن�سخها مقايي�س‬ ‫ّ‬
‫احل�سا�سية النقدية امل�ألوفة‪ ،‬ولكن تبقى‬
‫\‬
‫حممود �شريح‬
‫ّ‬ ‫فتتغيرّ‬
‫الق�صيدة الق�صيدة معقال ال يطاولها النقد �إلاّ عند‬ ‫ودويها الهائل الذي‬‫ّ‬ ‫غ ًدا حني تهد�أ قرقعة اال ّدعاء‬
‫تخومها‪ ،‬فال ي�صيبها مبا�رشة وال يعر�ض �شبكة‬ ‫يكاد ي�صم الآذان فيحجب عنها �سماع مو�سيقى‬
‫ا ّت�صاالتها الداخلية لأدنى �أذى‪ ،‬فالنقد ومهما كانت‬ ‫التبجح‬‫ّ‬ ‫الطبيعة الن�رضة‪ ،‬وغ� ًدا حني تخف وط��أة‬
‫مدفعيته ثقيلة – جاء بها الدار�سون من معدن‬ ‫ّ‬ ‫و�أثرها البغي�ض الذي يكاد يعمي الب�رص عن ر�ؤية‬
‫الرتاث �أو من مقالع الفرجنة – يعجز عن البوح‪ .‬يدل‬ ‫اخل�رضة الذهبية للواقع‪ ،‬غ ًدا يدرك جماعة النقد‬
‫عليه فح�سب‪ ،‬فالبوح للق�صيدة – ويف بيتها الأمان‪.‬‬ ‫املت�رسعون ورهط البحث املت�أ ّنقون �أ ّنهم �أغفلوا‬ ‫ّ‬
‫وغ� ًدا حني تربد جبهة ال�صرّاع بني جماعة تقول‬ ‫�سماع نب�ض ال�شوق وهم�س الوجد‪ ،‬فغاب عنهم نقاء‬
‫ب�أزمة نقد و�أخرى تزعم مع�ضلة �شعر‪ ،‬وكل منهما‬ ‫و�شفافية الندى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الورد‬
‫حت�صن نفرها بذخرية ف�سدت‪ ،‬و�شهروا رايات تتناظر‬ ‫وغ ًدا حني تهد�أ الزوبعة الدائرة على حداثة اجلديد‬
‫يف بهتان �ألوانهما وذبول رونقها‪ ،‬غ ًدا فقط وفقط‬ ‫وكال�سية ال��ق��دمي‪ ،‬وترقد اخل��واط��ر جت��اه ال�صرّاع‬
‫غ ًدا يدرك القائمون على الأمر فينا �أن البون �شا�سع‬ ‫يخت�ص‬
‫ّ‬ ‫وال�سلفيني فيما‬
‫النا�شب بني املعا�رصين ّ‬
‫بني �صخب حجر الرحى و�صدى انفالت البذرة من‬ ‫ال�شكل بامل�ضمون‪ ،‬وجت��ري �إع��ادة النظر‬ ‫بعالقة ّ‬
‫عقالها‪ ،‬فجوعنا الروحي ال ي�شفيه �إال رغيف �ساخن‬ ‫يف موروث الأم�س و�إبداع اليوم‪ ،‬غ ًدا يدرك جماعة‬
‫ي�ضحك القلب له وهو يطل من خمبز ال�شاعر‪ .‬هذا هو‬ ‫الطيبون وحماةالأكادمييا ال�صاحلون �أ ّنهم‬ ‫التنظري ّ‬
‫�شوقي �أبي �شقرا‪.‬‬ ‫�سقطوا جمي ًعا يف مطب الكربياء‪ ،‬فما الزهو �إلاّ‬
‫�شاهد قربه‪.‬‬
‫\‪\v‬‬
‫وغ��� ًدا ح�ين ينجلي ال��دخ��ان‬
‫امل��ت�����ص��اع��د م���ن امل��واج��ه��ة‬
‫احل��ام��ي��ة ب�ين �شيوخ الأدب‬
‫و���ش��ب��اب��ه – وه���ي مواجهة‬
‫�أزلية مبعثها التوتر النا�شئ‬
‫عن قطبي ال�رصاع الأبديني‪:‬‬
‫الثبات والتغري‪ ،‬وحم�صلتهما‬
‫ال�����ص�يرورة‪ ،‬م��ادة احلركة –‬
‫�سوف تربز وا�ضحة ت�ضاري�س‬
‫جمرة ال�شعر املتقدة فت�ضيء‬
‫بوهجها خط التما�س الفا�صل‬
‫بني الأ�صالة والتقليد‪ ،‬فيتبدد‬
‫من اليمني مي�شال نعمة‪ -‬قي�رص اجلميل‪ -‬نور �سلمان ‪� -‬سعيد عقل‪ -‬ادمون رزق‪� -‬شوقي ابي‬
‫�شقرا‪ -‬جورج غامن‪.‬‬

‫‪143‬‬ ‫\ كاتب من لبنان‪.‬‬


‫حوارات‬

‫من اأعمال الفنانة �صناء ال�صابري‪ُ -‬عمان‬

‫‪144‬‬
‫حامت ال�صكر‪:‬‬
‫لي�س للزمن �أفق واحد كي حتتله‬
‫�سلطة الرواية �أو ال�شعر‬
‫حاورته ‪ :‬ر�شــا فا�ضـل‬
‫كاتبة �صحفية من العراق تقيم يف لبنان‬

‫\‪\v‬‬

‫يقيم بني رحيلني ‪ ،‬غري انه اليعرف‬


‫االقامة احلقيقية اال بني دفتي الكتب‬
‫حيث ينتمي بثبات فهي الوطن الوحيد‬
‫الذي اليجيد نفيه ‪ ،‬وفيها متتد جذوره‬
‫املعرفية ال�ضاربة يف العمق والأ�صالة ‪،‬‬
‫وعلى ج�سد الق�صيدة يرمي بظالله ويفرغ‬
‫ذاكرته امل�أهولة بالوجوه واحلكايا ليقول‬
‫مايود ان يقوله يف عامل اليت�سع اال‬
‫�ست�ستفيد الثقافة‬ ‫لل�ضجيج‪ ..‬هو الناقد الدكتور حامت ال�صكر‬
‫الذي التقيناه يف هذا احلوار لنقرتب اكرث‬
‫العربية حتما من‬ ‫من ف�ضائه املعريف ولن�سمع �صوته عن‬
‫التغيري احلاد فـي‬ ‫كثب و�سط �ضجيج التغيريات التي تع�صف‬
‫باملنطقة على كل الأ�صعدة‪.‬‬
‫الأنظمة وامل�ؤ�س�سات‬ ‫\‪\v‬‬

‫‪145‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الب�رش هكذا يف حلظة ‪ .‬الوجود ال يعود ملك خالق �أو‬ ‫‪� z‬سنبد�أ من هجرتك الأخرية‪ ..‬مكانك ال�شاغر يف‬
‫�أب �أو م�س�ؤول بل مب�شيئة �إرهابي ي�شد حزامه حول‬ ‫جامعة �صنعاء ويف قلوب طلبتك و�أ�صدقائك وحمبيك‬
‫ثوبه الق�صري ك�ضمريه‪ ،‬ويطلق حقده الطويل كلحيته‬ ‫‪ ،‬هل ت�شبه هذه الهجرة هجرتك من بغداد؟‬
‫‪ ،‬وال يفهم �سوى العنف والكراهية‪� .‬أنا نف�سي �أح�س�ست‬ ‫‪ yy‬ال �أج��ازف باملقارنة رغم �أن ل�صنعاء يف قلبي‬
‫مبا اح�س به تلميذي و�صديقي ال�شاعر احمد النجار‬ ‫و�ضمريي كثري مما لبغداد التي ولدت ودر�ست وع�شت‬
‫و�رصت �أهرب من �صور بوابة اجلامعة و�ساحاتها‬ ‫فيها‪ ،‬وغادرتها مدمى القلب �أح�سب �أن فراقها‬
‫التي بكيد وق�سوة �صارت حتتل ال�شا�شات وتالحقني‬ ‫�سيكون ق�صرياً‪ .‬كان ذلك منت�صف الت�سعينيات التي‬
‫يف مغرتبي الق�صي‪ . .‬لكنني �ضعفت وذعنت وح�سبتها‬ ‫ت�أزم فيها كل �شيء‪ ،‬وت�صاعدت امل�شكالت حتى قلت‬
‫خال�صا م�ؤقتا ل�سواي باملنا�سبة وتلك ق�صة تتداعى‬ ‫وقتها �إن �إبرة العي�ش �ضاقت بخيط احلياة الكرمية‪.‬‬
‫من اختطاف الولد وتركته اال�رسية بعده‪.‬لكن �أ�صدقك‬ ‫هجرتي الأخرية من �صنعاء التي �أحببتها ‪ ،‬وبادلتني‬
‫القول ‪ :‬لي�س املربر كافيا مو�ضوعيا لكن معاناتي‬ ‫املحبة ورمم� ْ�ت كثريا من ج��راح روح��ي و�صار يل‬
‫كان لها طابع اجلرب وال اختيار‪.‬‬ ‫فيها �أحبة وا�صدقاء و�أه��ل ‪،‬خمتلفة ‪ ،‬فيها ق�سوة‬
‫لكنني كمت�أثر بالظاهراتية ونظرتهم اجلمالية‬ ‫اي�ضا النها رمتني وراء البحار والقارات‪ ،‬وتخيلت‬
‫للأمكنة والأ�شياء والن�صو�ص كلها �أعتقد ان املكان‬ ‫نف�سي �أوغل باملعنى ا َ‬
‫حل ْريف للكلمة يف رمال الغربة‬
‫ال يغادرين‪� ..‬أعيد ت�شكيله بوعيي و�إدراكي و�شعوري‪،‬‬ ‫املتحركة دوم��ا ‪ ،‬والتي جذبتني وخدعت �صربي‬
‫و�أ�ستح�رضه عما بقي من جذور يل هناك‪ ..‬و�أح�س‬ ‫وجلَدي و�أحالمي ؛ فكنت �ضحية نداءاتها ومل �أفعل‬
‫وراء غيم الغربة �أن �شم�س العودة واللقاء لي�ست بعيدة‬ ‫بحارة ال�سندباد ورفقة عولي�س عندما غنت‬ ‫ما فعله ّ‬
‫ال�رشوق!‬ ‫ال�سريينيات ليجذبنهم؛ لكنهم �س ّدوا �آذانهم بقوة‬
‫‪ z‬تعاتبك مي�سون االرياين ‪ :‬ما زلت �أمتنى لو‬ ‫وقاوموا‪..‬‬
‫�أنه ودعنا و�سمح لنا بالتعبري عن مدى �شكرنا‬ ‫‪ z‬كتب ال�شاعر اليمني احمد النجار ما ي�شبه‬
‫وتقديرنا له ك�إن�سان ومعلم �أي�ضا‪.‬‬ ‫البكائية علّقها يف غيابك م�ستنطقا الأمكنة التي‬
‫‪ yy‬لأ�صدقائي وطالبي ب�صنعاء احلق كله‪.‬كان غيابي‬ ‫مررت بها‪ ..‬فقال‪ :‬رباه دلني كيف جتفف عربات‬
‫خجوال؛ فهو لي�س عودة للوطن بل هجرة قا�سية نحو‬ ‫مبنى كلية الإعالم‪ ..‬كيف نر�شو بوابة اجلامعة‬
‫البعيد‪ .‬تزامن ذل��ك ب�صدفة قدرية مع ب��دء الثورة‬ ‫لكي تفتح �أحداقها ثاني ًة‪,‬وترى‪ ، ) ..‬هل حتتاج‬
‫ال�شبابية يف اليمن ومن اجلامعة التي اعمل فيها‬ ‫لتربير غيابك ام تربير وجودك يف �صنعاء ؟‬
‫و�أ�سكن ‪ .‬كان اجلميع م�شغولني بيومياتها ومفرداتها‪.‬‬ ‫‪ yy‬كالهما حا�رض يف وعيي و�ضمريي ‪.‬وجودي هناك‬
‫ومل يت�سن لأح��د ان يرتب وداع��ا‪�.‬أخ�برت القريبني‬ ‫واختياري العمل يف اليمن دون �سواها وفراقي‬
‫بقراري‪ ..‬وتواط�أت مع نف�سي كي ال �أثري مزيدا من‬ ‫اال�ضطراري لها‪�.‬س�أف�ضي ل��كِ ب�أمر ‪ :‬قبل حادثة‬
‫ال�شجن‪.‬وذكريات حياة امتدت �أكرث من خم�سة ع�رش‬ ‫اختطاف ابني يف ال�شهر العا�رش من ع��ام ‪2006‬‬
‫عاما‪ ..‬لكن ما و�صلني وما كتبه اال�صدقاء والطالب‬ ‫غرب العراق مل اكن افكر بالهجرة‪.‬كل �شيء كان مع ّدا‬
‫كان كافيا لوداع حميم ‪.‬و�أقول لك �رصاحة �أنا ال �أحب‬ ‫حلياة بني الأه��ل ببغداد �أو �صنعاء ‪.‬لكنني طُ عنت‬
‫ككثري من النا�س م�شاهد الوداع‪ ..‬و�أختزلها ب�أقل ما‬ ‫عميقا بغياب ول��دي بال م�برر‪ .‬و�أح�س�ست بجحود‬
‫ميكن من الكلمات دوما ‪ ،‬رغم �أنها تغور يف داخلي ‪،‬‬ ‫رهيب وت�ساءلت عن حق الآخرين يف تغييب حياة‬
‫‪146‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫ثم هناك املنجز‪ .‬ال ميكن �إه��م��ال �شعراء ك�شوقي‬ ‫وت�شكل منبع حزن يل كلما تذكرتها ‪،‬وانا كما يعرف‬
‫وال�سياب واجل��واه��ري والبياتي وال�شابي ون��ازك‬ ‫ا�صدقائي �شديد التذكر‪ ،‬واتخذه �آلية دفاعية للعي�ش‪.‬‬
‫وادوني�س ونزار و�سعدي والربيكان و�رسكون وغريهم‬ ‫احلم كثريا واقيم عاملي يف داخلي و�أغلبه ت�ؤثثه‬
‫لأنهم مكر�سون ‪ ،‬بينما نتاجهم متجدد ويعي�ش‬ ‫الذكرى ‪ ،‬حتى �رصت م�ؤخرا �أدعو لقراءة ا�ستعادية‬
‫ع�رصه ب��ج��دارة ‪ ،‬وال �أذه��ب بعيدا لأذك��ر املتنبي‬ ‫او تذكارية للن�صو�ص؛ لر�ؤيتها جمددا بوعي متغري‬
‫مكر�سي‬
‫واملعري و�أبا متام واملت�صوفة وغريهم من َّ‬ ‫وجديد‪ ..‬فيبدو لها وجود �آخر غري ما وقر يف النف�س‬
‫الرتاث وكباره‪ .‬و�أنا معك يف �أن الدم اجلديد واخلاليا‬ ‫عند لقائها الأول‪..‬‬
‫الطالعة احليوية يف اجل�سد ال�شعري بحاجة لاللتفات‬ ‫‪ z‬من �صنعاء اىل النقد و�س�ؤال يح�رضين دائما‬
‫والتعريف والقراءة‪ ..‬ولكن ذلك يح�صل‬ ‫ملاذا يكاد ينح�رس النقد على الأ�سماء الكبرية ‪،‬‬
‫بكيفيات �أخرى‪ ،‬كفح�ص منجز اجليل �أو ال�شعوب يف‬ ‫�شحة املواهب اجلديدة ام عدم‬ ‫هل يعود ذلك اىل ّ‬
‫املتغري الأ�سلوبي واجلمايل يف الكتابة منطقتنا مل‬ ‫ارتقاء �أعمالها مل�ستوى النقد ؟‬
‫ال�شعرية وغ�ير ذل��ك مما يخدم وجود تتعود ال�سلم‬ ‫‪ yy‬هذا خلل ا�سرتاتيجي يف تكوين عقلنا �أ�صال ‪.‬عقلنا‬
‫ن�صو�صهم ب�صورة من ال�صور‪. .‬فيما‬
‫يتعذر ا�ستق�صاء ن�صو�صهم كلهم ب�سبب االجتماعي‬ ‫النقدي املمتد من وعينا املتكون بعوامل متعددة‪.‬‬
‫القبيلة واحلزب والنظام يف اال�رسة وكل �شيء هنا‬
‫كرثتهم وقلة النتاج امل�ؤهل للفح�ص والدميقراطية‬
‫ير�شح لتقدي�س الكبري �ضمن منظومة مقد�سات‬
‫والفاعلية القرائية‪ .‬و�أح�سب �أن التفاتنا ومل تتح لها‬ ‫كاملا�ضي والثوابت و�سواها مما ميتلك �سلطة على‬
‫ل�شعراء الأجيال الالحقة قد ح�صل يف الأنظمة ان‬ ‫الوعي ال يراد ان تراجع �أو يتم التخفيف –حتى – من‬
‫منا�سبات نقدية كثرية ‪ ،‬وميكن مراجعة‬
‫�إ�صداراتنا لت�أكيد ذلك ف�ضال عما قدمناه ت�شكل حتى‬ ‫�سطوتها ‪.‬‬
‫‪ -‬هذا جانب ق�صور يف النقد نف�سه‪ ،‬لكن هناك �أي�ضا‬
‫عرب املنابر االعالمية التي ا�شتغلنا معار�ضاتها‬
‫عوامل خارجية‪� ،‬سياقية تت�صل بهيمنة االنظمة‬
‫الوطنية‬ ‫فيها‪..‬‬
‫وتكري�سها لكتابها و�شعرائها ولهام�ش احلرية‬
‫‪ z‬اال ت�شعر ان م�س�ؤوليتكم كنقاد هو البديلة‬ ‫املعدوم �أ�صال يف حياتنا الثقافية‪ .‬و�س�أحكي لك ما‬
‫الت�صحيح والتقومي خ�صو�صا ونحن‬ ‫ح�صل معي كمحرر ال كاتب؛ فقد ن�رشنا يف جملة‬
‫ن�شهد توزيعا جمانيا للألقاب مثل �شاعر وقا�ص‬ ‫الأقالم عندما كنت �أعمل يف رئا�سة حتريرها خربا‬
‫وروائي وغريه من الت�صنيفات ؟‬ ‫عن مواد العدد القادم يف املجلة نف�سها ت�شويقا للقراء؛‬
‫‪ yy‬امل�شهد ال�شعري �شهد تراجعا ذوقيا ال �سيما على‬ ‫فذكرنا �أ�سماء �شعراء العدد القادم‪ .‬بعد الن�رش هاتفني‬
‫م�ستوى التقبل‪ ،‬وانزوت الن�صو�ص املنتمية للحداثة‬ ‫�شاعر �أحبه لكنه ذو م�س�ؤولية �إدارية مهمة يف الوزارة‬
‫ب�سبب ذلك‪.‬عادت موجات ال�شعر املنا�سباتي ب�شدة‪،‬‬ ‫واحل��زب يلومنا بغ�ضب قريب من املحا�سبة عن‬
‫وكذلك الق�صائد ال�شعبوية التي جتامل ذوق املتلقي‬ ‫�سبب ح�رش ا�سمه مع ه�ؤالء!! وقا�صة �صديقة رف�ضت‬
‫وال تقوده لتغيري �أفقه وتتخذ من ال�سيا�سة منا�سبة‬ ‫ب�صنعاء �أن تقر أ� مع �شباب من القا�صني اجليدين يف‬
‫لعودة اخلطابية واملبا�رشة والتهريج ال�صوتي يف‬ ‫االم�سية نف�سها ‪ ،‬لأنهم �شباب وح�سب!!‪ .‬هذان مثاالن‬
‫ال�شعر امل�ؤقت الفاعلية والذي يزاح بعد زوال احلدث‪.‬‬ ‫يفيدان يف تفح�ص امل�شكلة فهي ال تت�صل بالنقد ذاته‬
‫و�شاعت عادات ثقافية كانت قد اختفت من الو�سط‬ ‫‪� .‬أحيانا ترتاكم الأ�سباب كما ترين‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ z‬لديك قراءات يف الفن الت�شكيلي تكللت بكتابك‬ ‫امل�ستهلك لل�شعر كحمى امل�سابقات واجلوائز‪ ،‬وهذه‬
‫(املرئي واملكتوب – درا�سات يف الت�شكيل العربي‬ ‫امل�ؤ�س�سات التي حتمل الفتة ال�شعر وتقاوم جتدده‬
‫املعا�رص) وغريها ‪ ،‬هل تعترب الكتابة عن الفنون‬ ‫وتطوره ب�رضاوة وتقوم بتجهيل املتلقي وفر�ض �أمية‬
‫ممار�سة مكملة لعملك كناقد ام جتاوزا على ار�ض‬ ‫�شعرية على املجتمع ‪ .‬وهذا هو اخلطر ولي�س �إ�سباغ‬
‫جماورة ال�شتغالك ؟‬ ‫و�صف �شاعر او كاتب على من ال ي�ستحق؛ فالكتابة‬
‫‪ yy‬منذ بداية وعيي بالكتابة كنت �أح�س باحلاجة‬ ‫ال ينفذ من اختبارها �إال امل�ؤهل لها مب�ؤهالته ال‬
‫لالقرتا�ض �أو التنافذ بني الفنون املختلفة ؛الن‬ ‫ب�شفاعات منرب �أو حزب �أو �سلطة �أو حتى تربيكات‬
‫م�شكالتها واحدة جماليا على م�ستوى التلقي‪ ،‬وكذلك‬ ‫ناقد �أو �صحيفة‪.‬‬
‫يف م�شكلتها الن�صية اي هيئتها و�أ�سلوبها وحداثتها‬ ‫ودعيني �أخالفك الر�أي ب�صدد مهمة الناقد �أو م�س�ؤوليته‬
‫‪.‬يف الر�سم ثمة مقاومة م�ستمرة كما يح�صل يف‬ ‫؛ فهي ال تكمن اليوم يف الت�صويب والت�صحيح وال‬
‫ال�شعر لكل اال�ساليب التجريبية او الرمزية التي ال‬ ‫احلكم القيمي املطلق‪.‬مهمة النقد اليوم تتجه �إىل‬
‫تعتمد الت�شخي�ص واملطابقة بني املادة خارج العمل‬ ‫الن�ص ال ال�شاعر؛ وهذا يكفي لتجاهل الن�صو�ص التي‬
‫وداخله‪.‬وبالن�سبة جليلي ال�ستيني كان الر�سم خا�صة‬ ‫ال ت�ضيف �أو تعدل �أو ت�ؤثر‪.‬‬
‫والفن الت�شكيلي عامة واحداً من االهتمامات املكملة‬ ‫‪ z‬اذن ماهي م�س�ؤولية الناقد جتاه الأدب ؟‬
‫تداوليا �أي�ضا ‪،‬مبعنى �أنه كان واحدا من روافد التكوين‬ ‫‪ yy‬ه��ذا ال�س�ؤال كبري ال ت�ستوعبه مقابلة! لكن هي‬
‫الثقايف ت�شجع عليه �أجواء العراق الثقافية‪ ،‬املتنوعة‬ ‫م�س�ألة وعي بخطورة الكتابة النقدية نف�سها‪ .‬واالمم‬
‫واحليوية‪.‬وقد امتد �أثرها لعقود مت�أخرة من القرن‬ ‫املتقدمة فقط تعول على النقد؛ النها ت�ستوعب الآخر‬
‫املا�ضي‪ ،‬ومثال ذلك كرثة قاعات العر�ض وظهور‬ ‫كيانا وفكراً‪.‬نحن نعاين من تهمي�ش للنقد ولي�س‬
‫�شجع على‬
‫املنابر املتخ�ص�صة بالفن الت�شكيلي‪ .‬وهذا ّ‬ ‫العك�س‪� .‬شكوى املبدعني غري مربرة بر�أيي ؛فالنقد‬
‫االلتفات للت�شكيل وامل�ساهمة يف ق�ضاياه اجلمالية ال‬ ‫الأدبي العربي اجنز الكثري ولأجيال متعاقبة ‪،‬وار�سى‬
‫التقنية باملعنى ال�ضيق‪.‬وهذا كان دافعي يف كتابة‬ ‫امل�صطلح وم ّهد للتجديد والتحديث ‪،‬ونافح عن التغيري‬
‫كتابي (املرئي واملكتوب) ال�صادر‬
‫َّ‬ ‫مواد ومفردات‬ ‫اال�سلوبي وهدم التقليد ونبذ اجلمود‪.‬لكن البع�ض ال‬
‫عام ‪2007‬و(اقوال النور) الذي �صدر عام ‪2010‬‬
‫�صب يف �صف‬ ‫يرى ذلك لأنه ال مي�س ن�صه ذاته‪ ،‬و�إن َّ‬
‫‪ z‬يرى عز الدين املنا�رصة ان ق�صيدة النرث ق�صيدة‬ ‫نوعه وتوجهه‪.‬‬
‫(خنثى) ‪ ،‬كما يرى البع�ض انها لي�ست اال تقهقرا‬ ‫ا�سمحي يل �أن �أعدل ال�س�ؤال ليكون‪ :‬ما م�س�ؤولية الناقد‬
‫اىل النرث وهي �شعر من ال�شعر له؟‬ ‫جتاه الن�ص‪ .‬هنا ميكن احلديث دون عقد او تبادل‬
‫‪ yy‬الفرن�سيون انف�سهم الذين �أطلقوا الت�سمية مل يطمئنوا‬ ‫تهم! وميكن الإجابة بالقيام بتقدميه حملال �أو منوها‬
‫لها‪ .‬ومن الكتب املرتجمة حديثا عن ق�صيدة النرث‬ ‫به ؛لبيان ما �أ�ضافه �أو �ساهم يف تكري�سه باجتاه‬
‫ملي�شيل �ساندرا ي�ؤكد ذل��ك‪ .‬و���س��وزان برنار ك��أول‬ ‫التحول يف اخلطاب نف�سه‪ ،‬وكذلك لإ�سقاط فاعليات‬
‫منظّ ره �أكادميية لها �أعلنت عن قلقها من امل�صطلح‬ ‫القراءة املتنوعة عليه‪ ،‬ك�صلته ب�سواه من الن�صو�ص‬
‫‪.‬ورمبا كان هذا �سببا يف ادعاء هجنتها �أو اتهامها‬ ‫‪� ،‬أو مو�ضوعه‪ ،‬وكيفية تقدميه ‪ ،‬او لغته و�شكله‬
‫باالختالط الذي تعتمده قا�صدة ‪ ،‬لكن لي�س على �سبيل‬ ‫‪،‬واملهيمنات الفاعلة فيه ‪،‬و�صلته باللحظة الراهنة‬
‫الإ�ضافة‪ :‬نرث ‪� +‬شعر = ق�صيدة نرث بل على �سبيل‬ ‫و�سوى ذلك من املقرتبات املمكنة‪.‬‬
‫‪148‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫عنه وقراءته وحتليله‪.‬‬ ‫االن�صهار والإف��ادة من ان�سيابية النرث والإيقاعات‬


‫‪ z‬يف الوقت الذي حتتفي به املحافل الأدبية‬ ‫املتولدة من �إيقاعه ومو�سيقاه‪ .‬هنا نختلف الن‬
‫بال�شعر‪ ،‬ي�رصّح الكثري من الأدباء ب�أنه زمن‬ ‫ثمة من ال يرى املو�سيقى �إال خارجية‪ :‬وزنا خليليا‬
‫الرواية؟‬ ‫متعددا (حر) التفعيالت عدديا �أو بالقافية الن�سقية‬
‫�أو املتباعدة يف الق�صيدة‪.‬بينما يخبئ النرث �إيقاعاته‬
‫‪ yy‬لي�س للزمن �أف��ق واح��د كي حتتله �سلطة الرواية‬
‫اخلا�صة به ب ��أن��واع خمتلفة‪ ،‬كالتكرار والت�ضاد‬
‫�أو ال�شعر‪ .‬هذا القول كان �أ�شبه مبجازفة �صادمة‬
‫و�سواها‪،‬وهو ما يجعل الن�صو�ص ال�صوفية امل�رشقة‬
‫�شاعت ونوق�شت يف حينها ‪،‬بل ذهب كتاب ظرفاء‬
‫نرثا بروح ال�شعر ‪ ،‬وما خ ّيل للعرب انه �شعر يف القر�آن‬
‫�إىل القول �إنه زمن الكا�سيت! ال الأدب �إذا ما احتكمنا‬
‫وه� ْم �أدرى ب��الأوزان ومو�سيقاها؛ فلماذا توهموه‬
‫�إىل التداولية و�أرقام البيع وال�شهرة‪.‬لكن‬
‫من ال�رضوري االلتفات �إىل ثالث ظواهر حتى ي�صل‬ ‫�شعرا؟لأن �أث��ره ي�شتغل يف تلك املنطقة ال ق�ص َده‪.‬‬
‫هنا هي ات�ساع رقعة كتابة الرواية التغيري �إىل‬ ‫ولو قي�ض لنظرية الأثر –�أي ع ّد ما له مفعول ال�شعر‬
‫و�أثره يف النفو�س �شعرا‪ -‬لتغريت �أفكار كثرية حول‬
‫العربية يف العقود الأخ�يرة ‪ ،‬واهتمام ج�سد الأدب‬ ‫مو�سيقى ال�شعر ‪،‬والنتفت تهمة اخلنثى والتهجني –‬
‫القراء املتزايد بها‪ ،‬وجاذبيتها حتى ‪ -‬والثقافة‬ ‫وهما يعربان عن فكر ذكوري باملنا�سبة!‪-‬‬
‫لل�شعراء �أنف�سهم و�رشوع كثريين منهم‬
‫بكتابة رواي��ة! كما ان الهفو واحلنني عموما – يلزمنا‬ ‫‪ z‬هل ت�ؤمن بفكرة ان�صهار الن�ص الأدبي مع‬
‫للحرية يتيح للرواية �أن تت�سع لتمثيل التحرر �أوال‪-‬‬ ‫ن�صو�ص �أخرى وخروجه عن �إطار التجني�س؟‬
‫ذل��ك –خذي مثال كتابات الروائيات يف مهب التحول‬ ‫‪ yy‬نعم‪ .‬وقد كتبت كثريا عن تهدمي حدود الأجنا�س‬
‫ال�سعوديات الالفتة عددا وجر�أة!‪-‬‬ ‫والأن��واع ‪ ،‬وهو ما يح�صل يف الفنون كلها ‪ :‬الر�سم‬
‫التاريخي الذي‬
‫ي�ستعري اخلط وال�صورة واحلركة وال�صوت �أحيانا‪،‬‬
‫‪ z‬يرى حممد براده ان الرواية العربية نعي�ش‬ ‫والق�صة تقرت�ض من امل�رسح‪ ،‬وامل�رسح من ال�شعر‬
‫مل تخرج من الأن�ساق التقليدية اال‬
‫بفعل �أحداث �سيا�سية �أ�رضمت فيها‬ ‫وال�سرية منها كلها! وال �أ�شك �أن الن�ص مبفهومه الفني‬
‫ثورة التجديد ‪ ،‬هل ت�ؤثر الأحداث اخلارجية على‬ ‫واجلمايل �سيت�سع ملثل هذه االقرتا�ضات‪.‬لكنني �أحتفظ‬
‫بنية الكون الروائي او العمل الأدبي اىل حد هدمه‬ ‫قليال على م�سخ هوية الن�ص‪ .‬و�أرى �أن التجني�س �أحد‬
‫و�إعادة تكوينه من جديد؟‬ ‫موجهات القراءة وحمدد �أفقها‪ ،‬وهو تعارف �أو تقدمي‬
‫للقارئ‪ .‬فاال�صح �أن ت�صب اال�ستعانات كلها ل�صاحله‪.‬‬
‫‪ yy‬ال��رواي��ة ذات حظ واف��ر يف �شعريتها �أي النظم‬
‫املتحكمة يف طبيعتها ال�رسدية ؛ فهي بقدر ما‬ ‫‪ z‬االيزعجك ان تراقب خطواتك على ج�سد الق�صيدة‬
‫ت�أخذ من اخليال تت�سع للوقائع والأحداث اخلارجية‬ ‫بعني النقد؟ االيفقدها �شيئا من تلقائيتها ؟‬
‫وتنتزعها كما يرى ال�شكالنيون الرو�س وباختني‬ ‫‪ yy‬هذا ت�شخي�ص �سليم وا�ستبطان حلالتي �شخ�صيا مع‬
‫خا�صة من متوالية احلياة �أي وجودها اخلارجي؛‬ ‫الق�صيدة‪ .‬موازنة العفوية املطلوبة لكتابتها اوال ثم‬
‫ليعطيها الروائي حياة جديدة �ضمن متوالية كتابية‬ ‫ال�شغل عليها تختل وتتفاوت الزمنية‪ .‬فيغلب النقد‬
‫جديدة ‪ ،‬وتخ�ضع لإعادة تكوين وخلق تغري بالقراءة‬ ‫كتفكري ور�ؤية على ما تتطلبه الق�صيدة من اخليال‬
‫؛الن �إعادة متثيل الوقائع يف الروايات االجتماعية‬ ‫احلر واللغة والإيقاعات والرتاكيب‪.‬ورمبا كان هذا‬
‫والتاريخية جت��ري ب�شفافية وب��زاوي��ة نظر ذاتية‬ ‫وراء �ضعف �صلتي بكتابة ال�شعر مقارنة بالكتابة‬
‫‪149‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ف�ضائه‪.‬يقول ماركيز �إن الديكتاتور يعترب الوطن بيته‬ ‫يف الرواية احلديثة‪ ،‬ما يعطيها هذا االق�تراب من‬
‫وحده يغلق �أبوابه متى �شاء ويطرد منه من ي�شاء‪.‬‬ ‫ع�رصها وحلظة احلدث الذي يجري متثيله ‪ ،‬كالثورات‬
‫الآن لن يعود ب�إمكان �أحد �أن ي�سد ف�ضاءها – وهذا‬ ‫والتبدالت االجتماعية والتغيريات ‪ .‬وهنا عمل جنيب‬
‫كمني مفخخ لعقلية الإ�سالميني الذين يت�صدرون‬ ‫حمفوظ ويف ه��ذه املنطقة ب��ال��ذات لي�صنع جمده‬
‫الربملانات العربية اليوم او يت�سلمون ال�سلطة ‪ -‬فال‬ ‫ال�رسدي؛ وحذا عبدالرحمن منيف حذوه اي�ضا بزاوية‬
‫الفتاوى وال االوام��ر وال املحاكمات وامل�صادرات‬ ‫نظر اكرث حداثة وليربالية ‪ .‬ويف العراق فعل الرواد‬
‫توقف ع�شق احلرية والكالم والكتابة بل حرية اخليال‬ ‫كالتكريل وغائب طعمه فرمان ال�شيء ذات��ه‪ ،‬حنب‬
‫الذي اعتدوا عليه حتى باثر رجعي –�أنا �أ�شري هنا‬ ‫احتكوا بتحوالت التاريخ ال�سيا�سي واالجتماعي يف‬
‫لدعاواهم املقامة �ضد نا�رشي �ألف ليلة وليلة مثال!!‪-‬‬ ‫العراق‪ .‬وهو ما يفعله روائيون معا�رصون اي�ضا بعد‬
‫‪ z‬يف احد حواراتك تطالب بقراءة الأدب ال�صهيوين‬ ‫اللحظة التاريخية التي �شهدها العراق‪.‬‬
‫اال ميكن اعتبار ذلك نوعا من التطبيع؟‬ ‫‪ z‬هل تتوقع ان ميتد ماي�سمى بـ(الربيع العربي)‬
‫‪ yy‬كان قويل ب�رضورة ق��راءة الأدب العرقي لهدف‬ ‫اىل ج�سد الأدب ويحدث فيه انقالبا ما ؟‬
‫حمدد هو التعرف على م�شغالته و�أن�ساقه وحتى ما‬ ‫‪ yy‬هذا الرهان بحاجة لوقت �أط��ول‪ .‬الدكتاتوريات‬
‫يكتب �ضمن عقيديات ور�ؤى م�ضادة لك�شفها وعر�ض‬ ‫كما نعلم ترتك مرياثا �ضخما من التخلف والظلم‬
‫ما يخفى �أو يرتمز منها ‪.‬ال تخيفنا ق��راءة الأدب‬ ‫والأمل الإن�ساين‪ ،‬وتداعيتها ت�ستمر زمنا ك�أي مر�ض‬
‫ال�صهيوين �إال له�شا�شة �شعور بع�ضنا �أن الآخر مادام‬ ‫�أو عار�ض طبيعي مدمر‪.‬فقط نحن نخ�شى �أن تكون‬
‫ملغى من ذاكراتهم فهو منهزم �إذن‪� .‬أ�ؤمن كثري �أن‬ ‫املنا�سبة التغيريية الكبرية والفريد ه��ذه فر�صة‬
‫فهم الآخ��ر �إن كان خ�صما كامل�ؤ�س�سة ال�صهيونية‬ ‫لالجتاه �إىل ال��وراء‪ .‬ال�شعوب يف منطقتنا مل تتعود‬
‫�رضوري لك�شف خطابه وعنا�رصه ور�ؤاه‪ .‬وهذا ما‬ ‫ال�سلم االجتماعي والدميقراطية ومل تتح لها الأنظمة‬
‫فعله ال�شهيد غ�سان كنفاين مبكرا يف كتابه عن االدب‬ ‫ان ت�شكل حتى معار�ضاتها الوطنية البديلة‪ ،‬وحتتل‬
‫ال�صهيوين قبل عقود وك��ان وقتها يف قلب حركة‬ ‫عقولها ثوابت دينية وقبلية وعرقية ومذهبية �ضيقة‬
‫املقاومة وت�صديها لالحتالل‪.‬‬ ‫الأفق قد ت�رض �إذا ما ت�سلطت حتى عرب االنتخاب‪..‬‬
‫‪ z‬االترى ان الق�صيدة �سل�سلة مرتابطة ي�شكل‬ ‫وحتى ي�صل التغيري �إىل ج�سد الأدب ‪ -‬والثقافة عموما‬
‫القارئ �إحدى حلقاتها املهمة وهي �سل�سلة تكاد‬ ‫– يلزمنا التحرر �أوال‪ -‬يف مهب التحول التاريخي‬
‫تكون مقطوعة يف الوقت احلا�رض لعدم وجود‬ ‫الذي نعي�ش – من النظر التقليدي لدور الأدب ومهمته‬
‫قارئ حقيقي معريف ؟‬ ‫يف احلياة وحاجته للحرية التي ال نريد لها �أن ت�صادر‬
‫جمددا حتت الفتات الأنظمة البديلة ذات الت�صورات‬
‫‪� yy‬أعلم �أن �إجابتي �ستكون جتريدية ب�صدد القارئ ؛‬
‫ال�ضيقة‪.‬‬
‫لأنني �أحتدث دوما عن القراءة كفعل معريف م�ؤثر‬
‫يف ت�شكيل الن�صو�ص و�إع����ادة متثلها حية رغم‬ ‫‪ z‬هل ميكن ان يكون لهذه الثورات دور فاعل يف‬
‫بعدها الزمني �أحيانا‪ .‬والقارئ م�ستودع للن�صو�ص‬ ‫ج�سد الثقافة العربي ؟‬
‫املتجاوزة واملتقدمة ولديه �سجل افرتا�ضي يتيح‬ ‫‪� yy‬ست�ستفيد الثقافة العربية حتما من التغيري احلاد‬
‫التهي ؤ� للتغري والتحديث ‪ .‬وال يجب �أن يحبطنا‬ ‫يف الأنظمة وامل�ؤ�س�سات‪� .‬ستفيد من ه��واء احلرية‬
‫ان�رصاف القراء و�شح الإ�صدارات قيا�سا ملا يجري‬ ‫الذي لن يعود ب�إمكان �أحد م�صادرته �أو حما�رصة‬
‫‪150‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫‪ z‬انت الآن خارج العراق كيف تنظر اىل امل�شهد‬ ‫يف العامل ‪ ،‬فثمة دوما ما ينع�ش امل�شهد الثقايف لعل‬
‫الثقايف العراقي‪ ..‬هل احتوى التجربة العراقية‬ ‫معار�ض الكتب ووجود القراء مهما كانت دوافعهم‬
‫ال�صعبة‪ ..‬وهل متكن من متثلها وجتاوز املحنة؟‬ ‫ونوع الكتب التي يبحثون عنها‪..‬‬
‫‪� yy‬أح�سب �أين �أجبت �ضمنا عن ت�سا�ؤلك املهم واحليوي‬ ‫‪ z‬هل ان انحيازك لفرتة ال�ستينات واعتبارها‬
‫هذا‪.‬وال ب�أ�س من القول ب�أن ذلك يتطلب زمنا ور�ؤية‬ ‫الفرتة الأجمل والأكرث ازدهارا دليل على فقر‬
‫ال يختلط فيها اليومي والعابر والتكتيكي!امل�شهد‬ ‫احلا�رض؟‬
‫الثقايف العراقي متجدد ومتعدد ‪.‬وثرا�ؤه يكمن يف ذلك‬ ‫‪ yy‬هذا �صحيح للأ�سف‪ ،‬نتذكر ال�ستينيات ببهائها‬
‫ال �سيما يف ف�ضاء من احلرية وال�صدق‪�.‬أما عن جتاوز‬
‫ال�شامل على م�ستوى الكتابة والفن والتلقي واحلراك‬
‫املحنة وعبورها فال يتم ذلك ثقافيا‬
‫�إال باعتبار الثقافة ظهرا ملا يحدث يف �أ�ؤمن كثرياً‬ ‫ال�صحفي وال�سيا�سي والوعي بالزمن وال�صلة بالعامل‪.‬‬
‫هذا ما ع�شناه ك�شهود على املرحلة ‪.‬ومل ي�ستجد ما‬
‫اللحظة احلرجة الراهنة‪ .‬ولهذا علينا �أن فهم الآخر‬ ‫يدح�ض ت�صورنا‪ .‬وكلما �أف�ضنا يف ت�أمل احلا�رض‬
‫ان ننتظر ومننح الثقافة زمنا يكفي �إن كان خ�صما‬ ‫الثقايف ازددنا متثال لتلك املرحلة اخل�صبة من حياة‬
‫الحتواء زل��زال احلياة وبركان الواقع‪.‬‬
‫ولكن �أمام ثقافتنا اليوم مهمة عاجلة كامل�ؤ�س�سة‬ ‫املجتمع وثقافته‪.‬‬
‫هي جتاوز حمنتها اخلا�صة والتخل�ص ال�صهيونية‬ ‫‪ z‬هل للمجايلة اثر ما على تقييم العمل الأدبي‬
‫من الثنائيات القدمية كالفن والهدف �ضروري‬ ‫والكاتب ؟‬
‫االجتماعي ‪ ،‬وثقافة الداخل واخلارج‬ ‫‪ yy‬ذاتيا نعم ‪ .‬فاملتجايلون يحملون العنا�رص ذاتها‬
‫لك�شف خطابه‬
‫‪،‬والتقليد والتحديث‪ ..‬واملباح واملتاح ‪،‬‬ ‫من حيث الرتبية االدبية وامل�ؤثرات واملتغريات‪.‬لكن‬
‫وعنا�صره‬ ‫وغريها‪..‬‬ ‫الناقد يك�شف عما مل يتبلور بعد فنيا او ي�ستقر جماليا‬
‫‪ z‬ماذا تقرتح على وزارة الثقافة ور�ؤاه‬ ‫ال �سيما ما يتعلق بالأ�شكال وجدلها و�رصاعها ‪.‬لذا قد‬
‫للنهو�ض بواقع الكاتب العراقي‬ ‫يتجاوز جمايليه لينطلق من جتريد نظري ي�سقطه على‬
‫و�ضمان حقوقه ؟‬ ‫الن�صو�ص‪ ،‬و�صوال �إىل القوانني الفاعلة يف التحديث ‪.‬‬
‫‪ yy‬منذ زمن وبتجربة عملية �رصت �أ�ؤمن �أن الكاتب‬ ‫‪ z‬ملاذا يرف�ض �أكرث الكتّاب فكرة جتني�س الأدب ؟‬
‫ال منقذ له �سواه! بيديه ي�شق طريقه ويفتح له افقا‬ ‫‪ yy‬ال �أدري كم من الكتاب يرف�ض التجني�س و�أح�سبهم‬
‫وكذلك موقعا يف جمتمعه وعامله‪.‬الحظي �أن الثقافة‬ ‫قلة ‪ ،‬رمبا جلهلهم داللة التجني�س ؛ لأنها ت�أتي من‬
‫كم�ؤ�س�سة هي دوما بيئة طاردة ال يتوالها �إال من ال‬ ‫اع��راف النوع �أو اجلن�س الأدب��ي ‪ ،‬وتراكم خ�صاله‬
‫عالقة له بالثقافة جهال او موقفا‪ ..‬ويكون التعامل‬ ‫وم��زاي��اه ب�تراك��م �أف���راد الن�صو�ص‪ .‬اجل��ه��ل اي�ضا‬
‫بني ه�ؤالء والكتاب تعامال فوقيا مينحون ومينعون‬ ‫بال�شعرية وانتظام عنا�رص الن�صو�ص جتعل النظر‬
‫ويخططون بال دراية‪ ..‬ولكن �إن كان البد من �أمنية‬ ‫عندالقراءة قا�رصا ‪،‬لكن املتلقي يتلقف ما ي�صله ن�صا‬
‫فهي �أن نتعلم من �أخطاء الأنظمة املت�سلطة وثقافتها‬ ‫وال تهمه كثريا ابتداعاته داخل نوعه‪.‬الكاتب بكونه‬
‫املعلبة ‪ ،‬وندع العقول واالفئدة تبدع بحرية ونقابلها‬ ‫مبدع الن�ص ترتكز يف ذات��ه هوية ما للن�ص ‪ ،‬هي‬
‫باهتمام ينا�سب قيمتها الروحية‪..‬‬ ‫التي �ستجدد جن�سه مهما اختلط ب�سواه م�ستفيدا منه‬
‫‪ z‬مت اختيار بغداد ك�أ�سو�أ مدينة عربية‪! ..‬‬ ‫�أو معار�ضا له‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ونرى ن�صب احلرية والقباب الذهبية واملنائر و�أبراج‬ ‫‪� yy‬أت�ساءل ب��أي مقيا�س؟ خرابها احلا�رض بتداعي‬
‫الكنائ�س ور�ؤو���س النخيل ونوار�س ال�شاطئ ومنلأ‬ ‫�أزماتها و�إهمالها �أم باحلكم على وجودها االفرتا�ضي‬
‫منها الأعني؟العودة ممكنة واحللم قيد الإمكان �أي�ضا‬ ‫ك��ل��ه؟ عا�صمة ال����شرق وامل��غ��رب ودول����ة ال��ع��رب‬
‫‪.‬موجود داخلنا بالقوة وخمفي يف الفعل فح�سب‪.‬‬ ‫وامل�سلمني لأك�ثر من خم�سة ق��رون ‪ ،‬وحمفل العلم‬
‫مي�شي يف الق�صائد والأحالم والكوابي�س اي�ضا!‬ ‫وال�شعر واحلداثة واجلمال بكل معانيه يتم اختيارها‬
‫لتكون �أ�سو�أ مدينة؟ ماذا �سنقول �إذن عن مدن ي�صفها‬
‫‪ z‬كيف وجد ال�شاعر فيك منفاك اجلديد‪ ..‬ام نقول‬
‫البياتي ب�أنها مدن بال فجر تنام‪ ..‬مدن تعلك الروح‬
‫وطنك البديل؟‬
‫وال تعطيك �إح�سا�سا بالعراقة �أو الهوية‪ ..‬مل�صقات‬
‫‪ yy‬ال �أتفق معك على و�صف املنفى ب�أنه الوطن البديل‪.‬‬ ‫معمارية وهجنة لغوية وب�رشية وجفاف! تناظر ممل‬
‫كتب املاغوط مرة متهكما عن اوطان يتم تبادلها‬ ‫ومنظور �ضيق و�أفق رمادي بال نور �أو لون نوراين ‪.‬‬
‫كاملرافقات يف الرق�ص �أو كالأنخاب ‪.‬ذاك افرتا�ض‬ ‫بغداد – دعكِ ر�شا حتى من الأدبيات والغنائيات التي‬
‫مزاجي عن لعنة اخلال�ص من حبيب �أو خلية يف اجل�سد‪.‬‬ ‫متجدها – ذات رنني �سحري ‪ ،‬ال�شعر يعليها واملاء‬
‫قدريا كانت هجرتي و�أنا يف عمر متقدم تتكثف فيه‬ ‫والتاريخ وكل مفردة من يومياتها وما�ضيها‪ .‬بغداد‬
‫الأ�شجان والعواطف وي�صعب التكيف‪ ،‬ف�ضال عن �أنني‬ ‫ب�ستان �أبدي ال تيب�س �أوراق �أ�شجاره ‪ .‬تتجدد وتن�رش‬
‫ال �أعدها حال �شخ�صيا –يل ك�إن�سان‪ -‬وال للجماعة‪-‬‬ ‫ظاللها‪�.‬أكرب من مدينة و�أبعد من مكان على اخلارطة‪.‬‬
‫كب�رش يعانون يف اوطانهم �صنفا من الغربة التي‬ ‫‪ z‬هل ميكن للذاكرة ان تتجاوز وعورة ار�ضها‬
‫و�صفها التوحيدي بالغربة الغريبة و�آعتربها �أ�شد‬ ‫وتتن�صل من جراحها‪ ..‬وتقرر ان العودة ممكنة‪..‬‬
‫�أن���واع الغربة �أذى ول��وع��ة‪ .‬وكثريا ما رددت قول‬ ‫وان احللم ممكن؟‬
‫عولي�س مل��دن ال�سواحل التي اعاقت طريقه عائدا‬
‫‪ yy‬الإن�سان كائن متفرد يف غرابته و�إ��صراره‪� .‬ضاق‬
‫لإيثاكا‪ :‬لقد �ألقت بنا ال�سفن مرغمني على �شواطئك‪.‬‬ ‫ب��ه كوكبه فو�سعت خطاه الف�ضاء ليجد كواكب‬
‫واليوم �أجد تلك ال�شط�آن جزءا من حل‪ .‬ت�ؤا�سينا من‬ ‫بعيدة و�أمكنة ع�صية على الإح��اط��ة‪ .‬واجت��ه للماء‬
‫حيث جرحتنا االوطان‪�.‬رسقت منا الأبناء خمطوفني‬ ‫يرو�ض �أم��واج��ه‪ ..‬يجعلها طرقا للعي�ش وطرقات‬
‫او قتلى بال �سبب �أو معنى‪.‬ومل تكافئ ثالثة عقود من‬ ‫للم�سري وحلظات لل�شعر والت�أمل والعرب‪ .‬ه��ذا هو‪:‬‬
‫العمل وعمر من الكتابة وتاريخ امكنة وزهو مدن‬ ‫الغالب �شيخوخته و�ضعفه‪ ،‬وهازم طغاته وجالديه‪،‬‬
‫و�سالمها وفنونها و�شعرها و�سحرها و�رسها‪ ،‬و�أبدلته‬ ‫وعرو�شهم وق�صورهم ‪،‬وفقره ومر�ضه‪.‬فلماذا ال نحلم‬
‫بخرافة ع�سرية على الفهم ‪،‬تتداولها �أج�ساد معطلة‬ ‫مثل ما حلمت ال�ساللة كلها‪ :‬ر�أت الطري فحلمت مبا‬
‫العقل تلفها كالأكفان الد�شادي�ش الق�صرية والعمائم‬ ‫يجعلها تطري‪ ،‬وال�سمك فغا�صت �سابحة يف ال�سطوح‬
‫واللحى وت�سريها عمياء خر�ساء تفاهات الفتاوى‬ ‫والأعماق‪.‬الأ�شياء اليوم كلها من �أح�لام الأم�س‪.‬‬
‫والدمياغوجية ال�سيا�سية �شديدة النفوذ لدرجة �رصنا‬ ‫فلنحلم لعلنا من�شي من جديد �آمنني يف ال�رساي –‬
‫معها نعترب كل يوم اف�ضل من �سابقه‪ .‬وتلك عالمة‬ ‫��سراي الكتب‪ -‬وجنل�س منت�شني بدجلة و�شاطئها‬
‫�سقوط الأمم وا�ضمحاللها– منذ ك�شوفات فكر ابن‬ ‫يف �أبي نوا�س ال�شارع ور�ؤى النوا�سي ال�شاعر حتف‬
‫خلدون حتى تعديالت مي�شيل فوكو ‪.‬‬ ‫بنا وحتر�س �ساعاتنا املتاخرة برخاء وا�سرت�سال‪.‬‬

‫‪152‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ر�ؤوف م�سعد‪:‬‬
‫الثقافة العربية فـي م�أزق‬
‫حاوره‪� :‬أ�سامة حب�شي‬
‫كاتب وروائي من م�رص‬

‫\‪\v‬‬

‫ر�ؤوف م�سعد ا�سم لروائي م�رصي كبري‬


‫قرر �أن يعي�ش خارج م�رص بعد �أن ذاق‬
‫مرارة ال�سجن بها ومعه القا�ص‬
‫عبداحلكيم قا�سم والروائي �صنع‬
‫اللـه �إبراهيم ب�سبب ا�شرتاكه يف احد‬
‫التنظيمات ال�شيوعية‪ ،‬وداخل ال�سجن‬
‫تفجرت طاقاته الإبداعية فاخرج عمله‬
‫امل�رسحي الأول داخل ال�سجن ومن‬
‫الثــورات العربيـــة‬ ‫ثم توالت �أعماله التي �أنهاها بروايته‬
‫الرائعة (غواية الو�صال)‪ .‬هو ابن لق�سي�س‬
‫لي�ســـت ربيعــــ ًا‬ ‫بروت�ستانتي ولكنه مترد على مذهب‬
‫وال خريفـــ ًا‬ ‫�أبيه و�أ�صبح ال ديني‪ .‬وحينما �ضاق عليه‬
‫�شتــــاء‬
‫ً‬ ‫و�إمنا‬ ‫اخلناق بعد خروجه من ال�سجن حزم‬
‫حقائبه وغادر �إىل بولندا لدرا�سة الإخراج‬
‫قار�س‬ ‫امل�رسحي‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وم��ا ك��ان ط��ه ح�سني ي��ري��د ان يعيد تعريف‬ ‫\‪\v‬‬
‫�صياغته‪ ..‬وحدث له ما حدث من «تكفري»‪ ..‬لأن‬ ‫ومن بولندا بد�أت رحلته يف العوا�صم‬
‫التق�سيم الثقايف الذي احدثه اال�سالم «جاهلي»‬ ‫العربية والأفريقية التي امتدت بني بغداد‬
‫وا�سالمي؛ حتول اىل يقني ديني الميكن امل�سا�س‬ ‫والقاهرة �إىل �أن ا�ستقر به املطاف يف‬
‫به‪ ..‬مثلما حتولت «اللغة العربية» من و�سيلة‬
‫�أم�سرتدام‪ .‬له عدة روايات قيمة �أ�شهرها‪:‬‬
‫تعبري؛ �إىل «اداة مقد�سة» باعتبار ان اقد�س كتاب‬
‫عربي ‪ ،‬كُ تب بها‪.‬‬ ‫بي�ضة النعامة‪ ،‬مزاج التما�سيح وعن‬
‫والثقافة– اية ثقافة– هي ر�ؤية جماعة ب�رشية‬ ‫الثقافة العربية وثورات الربيع العربي‬
‫حم��ددة للكون‪ ..‬للطبيعة وم��ا وراء الطبيعة‪..‬‬ ‫الثقافة – كان لنا معه هذا احلوار‪:‬‬
‫للواقع وللغيبيات‪ ..‬للحياة وامل��وت وم��ا بعد‬ ‫اية ثقافة ‪ z‬الواقع واملتخيل هو �صلب «بي�ضة‬
‫�ع�بر» ع��ن نف�سها بالدين‬
‫امل����وت‪ ..‬وال��ت��ي «ت� ّ‬ ‫– هي نتاج النعامة» وهي �أي�ضا رواية البحث عن‬
‫وطقو�سه ‪ ،‬وبالإبداع الب�رشي املتنوع من جتريد‬ ‫الذات‪ ..‬فهل مازال م�أزق الثقافة العربية‬
‫(مو�سيقى) ور�سم ومتاثيل تريد تقريب وان�سنة‬ ‫ديناميكة‬
‫ماثال يف فخ الواقع واملتخيل؟‬
‫ما وراء الطبيعة اىل العقل الب�رشي ‪ ،‬والق�ص‬ ‫املجتمع‬
‫‪ yy‬اعتقد ان «م�أزق» الثقافة العربية‬
‫بانواعه با�ستخدام اللغة لت�أ�سي�س التوا�صل‬
‫وخرباته هو اعمق من ذلك بكثري فالثقافة‬
‫الب�رشي واخل�ب�رة االن�سانية وحم��اول��ة �رشح‬
‫اجلمعية ؛ كما – اية ثقافة – هي نتاج ديناميكة‬
‫العالقة امللتب�سة بني «الآلهة والب�رش» كما يف‬
‫الرتاجيديات اليونانية حيث يتوا�صل ال�رصاع‬ ‫انها يف الوقت املجتمع وخرباته اجلمعية ؛ كما انها‬
‫بني ما هو مقد�س وما هو دينيوي ‪.‬‬ ‫ذاته حمرك يف ال��وق��ت ذات��ه حم��رك ديناميكي‬
‫ديناميكي باجتاه «التقدم» حتى لو كان ذلك‬
‫‪ z‬وكيف تتطور الثقافة من هذا املنظور الذي طرحته؟‬ ‫باجتاه التقدم الذي يطلق عليه ابن خلدون‬
‫‪ yy‬بالتطور اجلديل ديناميكي املتوا�صل للعالقات‬ ‫«التقدم» «ال��ت��ق��دم ال��ع��م��راين» وه��و بالطبع‬
‫االجتماعية ‪ ،‬تتطور الثقافة يف حركة متوا�صلة‪،‬‬ ‫يعني ما ن�شري اليه هنا يف ايامنا‬
‫مثل حركات املد واجلذر ومثل حتركات جماري‬ ‫املعا�رصة «باملجتمع املدين» ‪ ،‬ان تعب ري �‪civil so‬‬
‫االنهار‪ ..‬ومل ت�أت هذه الثقافة – وتطوراتها ‪-‬‬ ‫‪ ciety‬هوتعبري م�ضاد للمجتمع «الريفي» وكلمة‬
‫من فراغ بل من تراكم اخلربة اجلمعية والذاكرة‬ ‫‪ citizen‬امل�شتقة من ‪ City‬ت�ؤكد ان «املواطن» له‬
‫اجلمعية لهذه اجلماعة‪ ..‬تكون «اللغة» هي االداة‬ ‫عالقة «باملدنية» اي ان ا�صطالح مواطنة هو‬
‫الرئي�سية للتعبري عن هذه الثقافة‪..‬‬
‫ا�صطالح ح�ضاري بالدرجة الأوىل قبل ان يكون‬
‫ومثلما ت�صعد الإمرباطوريات وتنهار‪ ..‬ت�صعد‬
‫�سيا�سيا‪..‬‬
‫اجل��م��اع��ات الب�رشية‪ ..‬وتنهار اي�ضا ويكون‬
‫�صعودها وانهيارها «ثقافيا» مثل ما حدث‬ ‫‪ z‬ولكن ما هو م�أزق الثقافة العربية حتديدا؟‬
‫للإمرباطورية الرومانية وما �سبقها وما حلقها‬ ‫‪ yy‬هنا مكمن امل�أزق الثقايف العربي‪ ،‬الذي متتد‬
‫من امرباطوريات‪..‬‬ ‫جذوره اىل ما �أطلق عليه اال�سالم «اجلاهلية»‬
‫‪154‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫مواطنو الثقافة اال�سالمية؛ التي كانت �آن��ذاك‬ ‫لكن ثمة ثقافات ت�ستطيع ان جتدد نف�سها مثل‬
‫ت�سمح بل وترعى التعددية الثقافية من جمو�سية‬ ‫«العنقاء» وه��ذا م��ا ح��دث للثقافة الالتينية‬
‫وتوحيدية وعربانية ون�رصانية‪ ..‬الخ‬ ‫الغربية وبد�أ التجديد عرب اللغة؛ ثم عرب الدين ثم‬
‫‪ z‬يف خ�ضم كل ماطرحته �أين يوجد الكاتب ر�ؤوف‬ ‫فك االرتباط بني املقد�س والدينيوي‪ ..‬وبالتايل‬
‫م�سعد؟‬ ‫فتح العقل امام قبول االكت�شفات العلمية مثل‬
‫ان االر���ض لي�ست هي مركز الكون كما كانت‬
‫‪ yy‬اعترب نف�سي من مدر�سة ت�ؤمن برتابط كل‬
‫«الكني�سة» ت�ؤمن وتب�رش بذلك وتعاقب من يخالف‬
‫اال�شياء ب�شكل ج��ديل ‪ ,‬وه��ي مدر�سة ا�س�سها‬
‫ذلك‪ ،‬وان الأر�ض بالتايل ‪ ،‬والب�رش الذين يقطنون‬
‫هيجل ث��م ط��وره��ا م��ارك�����س‪ ..‬هي‬
‫عليها‪ ..‬جمرد جزء �صغري يف حركة كونية دائبة‬
‫لي�ست مارك�سية كما يظن بع�ض لقد مرت‬ ‫ومتوا�صة ال منلك النف�سنا فيها خيارا!!‬
‫التب�سيطيني‪ ..‬بل ان ا�سا�سها املقولة الثقافة‬
‫االغريقية ال�شهرية «ان��ت ال تنزل‬ ‫‪ z‬ذلك يجرنا لل�س�ؤال عن مدى جناح �أو ف�شل الثقافة‬
‫الغربية‬ ‫النهر الواحد مرتني»!‬ ‫العربية وامل�رصية يف هذا؟‬
‫فانا ال ا�ستطيع ان اف�صل ما بني بفرتات‬ ‫‪ yy‬الثقافة العربية وامل�رصية حتديدا ‪ ،‬مل ت�ستطع‬
‫التدهور االخالقي – مثال‪ -‬جلزء من «ظالمية» اي�ضا‬ ‫ان تقطع «احلبل ال����سري» بني املقد�س وبني‬
‫امل�رصيني الذكور الذين يتحر�شون وحترميية‪..‬‬ ‫الدينيوي بل اعلنت عرب «املقد�س» اي عرب فقيه‬
‫عالنية ب��الإن��اث جن�سيا باللفظ حيث حر ّمت‬ ‫ديني هو االمام ال�شافعي «اغالق باب االجتهاد»‬
‫وال��ف��ع��ل‪ ،‬ع��ن ال��ر�ؤي��ة االجتماعية‬ ‫حيث كان االجتهاد الديني هو اال�سا�س املعريف‬
‫املتدنية للفرد ب�شكل عام والأنثى عرب املقد�س‬ ‫املتوا�صل احلي للتف�سري والت�أويل‪ ..‬اي �إعمال‬
‫ب�شكل خ��ا���ص‪ ،‬تلك ال��ت��ي تفرزها – اي الكني�سة‬ ‫العقل ال النقل كما ك��ان ال��دار���س��ون يقولون‬
‫الثقافات ال�شمولية الديكتاتورية والكهنة –‬ ‫ويب�رشون !‬
‫وت����ؤي���ده���ا ب��ع�����ض ال��ت��ف�����س�يرات التفكري‬ ‫لقد م��رت الثقافة الغربية بفرتات «ظالمية»‬
‫وال��ت�بري��رات الدينية غ�ير النزيهة‬ ‫حرمت عرب املقد�س‬ ‫ّ‬ ‫اي�ضا وحترميية‪ ..‬حيث‬
‫يف العالقة‬
‫واملغر�ضة‪ ..‬ال ا�ستطيع ان �أف�صل‬ ‫– اي الكني�سة والكهنة – التفكري يف العالقة‬
‫بني ما ذكرت وبني تزايد قوة اليمني امللتب�سة بني‬ ‫امللتب�سة بني ان�سنة امل�سيح وت�أليهه‪ ..‬وقامت‬
‫ال�سيا�سي – الديني يف جمتمعاتنا ان�سنة امل�سيح‬ ‫حروب ب�سبب ذلك‪ :‬حروب دينية تريد االطراف‬
‫العربية‪ -‬اال�سالمية؛ ال��ذي يزيد وت�أليهه‬ ‫املتقاتلة اثبات مقوالتها بحد ال�سيف (!) ومل تنج‬
‫الفقراء فقرا واالغنياء فح�شا‪ ..‬فكل‬ ‫الثقافة الغربية من م�أزقها ه��ذا‪ ..‬اال بت�صاعد‬
‫اال�شياء مرتابطة !‬ ‫اجن��ازات البحوث العلمية والتي كان معظمها‬
‫‪ z‬هل ميكن لنا القول ب�أن الروائي ر�ؤوف م�سعد‬ ‫م�صدره الأدي��رة والرهبان انف�سهم ومدار�سهم‬
‫يغو�ص فى فل�سفة الالمنتمي؟ وم��اذا تعنى لك‬ ‫وكتبهم والرتجمات التي ح�صلوا عليها من‬
‫�إبداعيا تلك الفل�سفة؟‬ ‫الع�رص العبا�سي حول الفل�سفة اليونانية وحول‬
‫‪ yy‬على العك�س متاما انا منتم اىل اق�صى درجات‬ ‫علوم احل�ساب والريا�ضيات التي ب��رع فيها‬
‫‪155‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تربيتي الدينية ج��اءت م��ن وال���دي الق�سي�س‬ ‫االنتماء‪ ..‬لكن بدون تع�صب‪ ..‬انا منتم ا�سا�سا �إىل‬
‫الربوت�ستنتي الذي كان ي�سمح يل ان اقرا من كتبه‬ ‫«ذاتي» ف�إذا كنت قد بلغت الآن نهاية اخلام�سة‬
‫الأخرى «الالدينية» مثل جزيرة الكنز وروبن�سن‬ ‫وال�سبعني من عمري عرب حياة «ن�شطة» �سيا�سيا‬
‫ك��روزو وجملة املختار من ري��درز دايجي�ست‬ ‫�إىل حد ما منذ ان كنت يف حوايل الثامنة ع�رشة‬
‫(ايامها) ثم خاالتي الالتي ك�شفن يل كنوز الف‬ ‫م��ن ع��م��ري‪ ،‬وان�ضممت اىل تنظيم مارك�سي‬
‫ليلة وليلة يف حكاياتهن التي كن يحكينها يل‬ ‫م�رصي �رسي ‪ ،‬ثم املحكمة الع�سكرية وال�سجن‪..‬‬
‫قبل النوم‪ ..‬فال�شاطر ح�سن كان بالن�سبة يل ايام‬ ‫الخ‪ ..‬ثم الدرا�سة والتجوال داخل ما كنا نطلق‬
‫ال�صبا مثل القدي�سني امل�سيحيني الذين كانوا‬ ‫عليه «املع�سكر اال�شرتاكي» ثم العمل يف عراق‬
‫يجوبون االر���ض يب�رشون ويتعر�ضون للعنت‬ ‫البكر و�صدام ح�سني يف اطار ما كنا نطلق عليه‬
‫ب�سبب ذلك‪..‬‬ ‫– اي�ضا – اجلبهة الوطنية او م�سميات م�شابهة‬
‫‪ z‬ذلك ي�ستدرجنا اىل احلديث عن كتاباتك الأوىل؟‬ ‫ثم بريوت‪ ..‬وغريها من بالد ت�شيل وبالد حتط‪..‬‬
‫‪ yy‬كتاباتي االوىل كانت ع��ن ال�سد ال��ع��ايل ؛‬ ‫وتعاملت �صحفيا م��ع ق���ادة وزع��م��اء نبالء‬
‫�صحفيا وابداعيا م�رسحيا‪ ..‬لكني كنت – وما‬ ‫و�آخرين معتوهني مثل منج�ستو هيلال ماريام‪..‬‬
‫ازال – انزع دائما اىل «ال�سرييالية» يف كتاباتي‬ ‫لأت�أكد دائما ان اختياراتي ال�سيا�سية املبدئية‬
‫م�ستخدما خيايل اجلامح يف اقامة ج�رس بني‬ ‫اي اال�شرتاكية واالمي��ان مبا نطلق عليه حركة‬
‫«الآن «وامل��اوراء هذا الآن‪ ..‬فجزء ا�سا�سي من‬ ‫اجلماهري هو مبدئي ال��ذي مل �أح��د عنه حتى‬
‫ثقافتي هو فرعوين يربط بني الآن وامل��اوراء‪..‬‬ ‫الآن(!) بالرغم من مراجعاتي ال�شخ�صية ملا‬
‫مثل ا�سطورة ايزي�س وبحثها عن ج�سد اوزير‬ ‫ر�أيته وع�شته فعليا يف «املع�سكر اال�شرتاكي»‬
‫املمزق م�ستعينة بال�سحر لتبث الروح فيه مرة‬ ‫بان احلرية واخلبز ال ميكن ف�صلهما حتت اية‬
‫اخرى‪..‬‬ ‫دع���اوى اوح��ج��ج ت��ق��ول ان «االع����داء» يقفون‬
‫يف اهتماما‬ ‫الفرعونية كثقافة وديانة تثري ّ‬ ‫مرتب�صني وعلينا ان نبني جدارا بيننا وبينهم‬
‫بالغا بهذه البقعة من الأر�ض (م�رص) وبنا�سها‪..‬‬ ‫(جدار برلني) وتكون النتيجة معروفة بعد ذلك‬
‫فانا اي�ضا انتمى اىل �صعيد م�رص وهو موطن‬ ‫للجميع‪..‬‬
‫ا�ساليف من الوالدين‪ ..‬وال�صعيد هو «خال�صة»‬ ‫ال تن�سى اي�ضا انني انتمي اىل «االقلية الدينية»‬
‫م�رص‪ ..‬يقودك اىل خال�صة اخ��رى هي النيل‪،‬‬ ‫يف العامل العربي– اال�سالمي وداخل هذه االقلية‬
‫الذي يقودك اىل منابعه اذا ابحرت عك�س التيار‪..‬‬ ‫انتمي اي�ضا اىل اقلية مذهبية هي «الربوت�ستنية»‬
‫كما فعلت انا يف �صباي و�شبابي‪ ..‬حيث كانت‬ ‫وه��ي اقلية تطهرية ���ص��ارم��ة‪ ..‬لكنها «تعمل‬
‫اال�رسة تقيم يف ال�سودان حيث ُولدت‪ ..‬ثم ق�ضيت‬ ‫بال�سيا�سة» باعتبار ان الكني�سة جزء من حركة‬
‫�سنوات مراهقتي يف مدر�سة دينية علمانية هي‬ ‫املجتمع (كما تالحظ ذل��ك يف موقف كني�سة‬
‫«كلية ا�سيوط االمريكية» يف ق�سمها الداخلي‪،‬‬ ‫ق�رص الدوبارة الربوت�ستنتية من ثورة خم�سة‬
‫ا�صعد يف النيل كل �صيف الق�ضي العطلة مع‬ ‫وع�رشين يناير)‬
‫اهلي يف ال�سودان‪ ،‬ثم اهبط فيه راجعا لأتعلم‬ ‫انتمائي الديني هو بالأ�سا�س «ث��ق��ايف» لأن‬
‫‪156‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫– ان جاز التعبري – فانا �أعي�ش بني نقي�ضني‬ ‫يف م�رص‪ ..‬لذا ا�صبح ال�سودان بالن�سبة يل يف‬
‫‪ :‬رغبتي يف االكتمال‪ ،‬و�إح�سا�سي بعدم امكانية‬ ‫تلك املرحلة من العمر موطني اال�صلي‪ ..‬اتكلم‬
‫حتقيق ذلك لنق�ص يف �أنا �شخ�صيا (قد يكون ذلك‬ ‫كما يتحدث ابنا�ؤه‪ ..‬وحينما ا�ستقر بنا الأمر يف‬
‫نتاج الربوت�ستنتية التي ال ت�ؤمن بجدوى االفعال‬ ‫م�رص مل احبب البلد الذي كان اهله ي�سخرون من‬
‫الطيبة بقدر اميانها بتحقيق هذه االفعال مهما‬ ‫طريقة كالمي (خا�صة اين كنت ُم�صابا بالتهتة‬
‫كانت النائج)‬ ‫والتمتمة) لكني اكت�شفت ان م�رص لي�ست «نا�سها»‬
‫بالتايل ا�ستقر الأم���ر ب��ي ان اعي�ش حياتني‬ ‫فقط الذين يقطنونها الآن بل هي مكان خا�ص‬
‫متالزمتني مثل التوائم ال�سيامية‪ ..‬فانا احيانا‬ ‫وعبقري (كما يقول جمال حمدان) وان جزءا‬
‫«احلم» يف مناماتي بلغات متعددة‬ ‫هاما من تاريخي ال�شخ�صي وتاريخ ا�ساليف‬
‫منها البولندية التي تعلمتها لأدر�س بد�أت الكتابة‬ ‫وديانتي هو جزء اي�ضا من م�رص (!)‬
‫امل�رسح ه��ن��اك‪ ..‬ا�ستيقظ يف و�سط مع اقراين‬ ‫وجت��د يف ك��ل اع��م��ايل �شخ�صيات لها عالقة‬
‫ال�ستينيني‪..‬‬ ‫النوم حائرا «اين انا االن؟»‪..‬‬ ‫ب��ال�����س��ودان ول��ه��ا ع�لاق��ة اي�ضا بامل�سيحية‪..‬‬
‫ومل��ا اج��د ان االج��اب��ة على �س�ؤالك لكني توقفت‬ ‫«انتماءاتي» متعددة‪ ..‬ف�أنا نتاج الفرعونية‬
‫اردت ان اكون دقيقا ف�سوف‬‫�صعبة ان ُ‬ ‫وامل�سيحية امل�رصية والهلينية املتم�رصة‬
‫اكرث من ع�شر‬
‫اقول – ب�صدق – اين ال �أعرف !‬ ‫واال�سالم امل�رصي واحل�ضارة االفريقية التي‬
‫فقد �أ�شار كاتب �صديق يل م�رصي �سنوات من‬ ‫جتولت فعليا يف ربوعها الوا�سعة‪ ..‬وجتد هذا يف‬
‫ب�أين خالل كل هذه ال�سنوات مل اكتب ال�سبعينيات‬ ‫ر�ؤيتي للكون‪ ..‬اي�ضا ‪.‬‬
‫رواية «عن الغرب» وا�شارته �صحيحة حتى‬ ‫‪ z‬بحكم �إقامتك الدائمة خارج م�رص هل �أ�صبح الآخر‬
‫اي�ضا‪ ..‬ام��ا ال�سبب فقد حاولت ان الثمانينات‬ ‫معكو�سا مبعنى هل �أ�صبح الواقع امل�رصي‪ /‬العربي‬
‫اعرفه وان ا�صل اليه لكن‪..‬‬ ‫هو الآخر‪� ..‬أم مازال الآخر هو الغربي‪ ،‬و�إذا كان فكيف‬
‫لفقدان الثقة‬
‫حينما �س�ألت زوجتي الهولندية عن‬ ‫تراه الآن؟‬
‫تف�سريها لذلك اجابت بجدية» لأنك يف ما اريد‬
‫‪ yy‬هذا �س�ؤال ملتب�س وحمري و�صعب وقد قر�أت‬
‫غري مهتم اال مبا ت�شعر به ولي�س مبا كتابته وهل‬
‫لأم�ين معلوف م��ؤخ��را ح��وارا مع عبده وازن‬
‫هو مفرت�ض ان ت�شعر به» واكتفيت هو �ضروري‬ ‫يناق�ش فيه «اخل��ارج والداخل» فمعلوف يفكر‬
‫را�ضيا بهذه االج��اب��ة من �شخ�ص ومفيد؟‬ ‫ويكتب بالفرن�سية‪ ..‬بينما انا ال ا�ستطيع التفكري‬
‫خبري بدواخيلي!!‬
‫والكتابة اال بالعربية‪ ..‬لي�س تع�صبا مني لكن‬
‫‪� z‬أعمالك نرى بها – ب�شكل وا�ضح‪ -‬ك�رس امل�ألوف‬ ‫عن قلة حيلة (!) ففي الغرب يوجد كتاّب قدموا‬
‫والتابوهات‪ ..‬فكيف كنت ترى تلك التابوهات ؟‬ ‫من ال�رشقني االق�صى واالدين يكتبون يف الأغلب‬
‫‪ yy‬لعلها الربوت�ستنتية اي�ضا التي ت�أ�س�ست على‬ ‫بلغة الدولة الغربية التي ا�ستوطنوا فيها‪ ..‬لكني‬
‫ك�رس ال��ت��اب��وه��ات ‪ :‬فهي «اه��ان��ت «البابوية‬ ‫مل ا�ستطع ذلك وحقيقة مل اهتم كثريا بذلك اي�ضا‪..‬‬
‫والفاتيكان‪ ..‬وبالتايل الطقو�س والتابوهات‬ ‫لأين اكتب ا�سا�سا لال�ستمتاع باجناز �شيء ما لأين‬
‫التي تعترب «البابا» خليفة امل�سيح على االر�ض‪..‬‬ ‫كنت �أعاين دائما من االح�سا�س بعدم االكتمال‬
‫‪157‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الهوية امل�سيحية امل�رصية «املهاجرة» مثل‬ ‫تنكر الربوت�ستنتية �شفاعة القدي�سني وبالتايل ال‬
‫�سنوحي‪ ..‬وقد ب��د�أت هجراتي (ب�صيغة اجلمع)‬ ‫ت�أبه لاليقونات‪ ..‬لي�ست بها رهبنة وال �أديرة وال‬
‫مبكرا‪ ..‬هجرت طبقتي اىل التنظيم املارك�سي‬ ‫عزلة عن العامل‪ ..‬الخ‬
‫‪،‬وهجرت الكني�سة كم�ؤ�س�سة دينية وتقبلتها‬ ‫ولعلها اي�ضا فكرتي اخلا�صة عن الكتابة بان‬
‫كتيار ثقايف متحرك ‪ ،‬هجرت ال�سودان اىل م�رص‬ ‫اكتب ما هو لي�س م�ألوفا حتى تتميز كتاباتي‬
‫وهجرت م�رص اىل الغرب واىل ال��ع��امل‪ ..‬ومن‬ ‫عن غريها‪..‬‬
‫هنا فقد كان اهتمامي هو البحث عن «الهوية»‬ ‫لقد ب��د�أت الكتابة مع اق��راين ال�ستينيني‪ ..‬لكني‬
‫وعالقتها باملكان (اي ال��وط��ن) ث��م عالقتها‬ ‫توقفت اكرث من ع�رش �سنوات من ال�سبعينيات‬
‫بالدين (ال��ي��ه��ودي��ة وامل��واط��ن��ة) ث��م عالقتها‬ ‫مزاج حتى الثمانينات لفقدان الثقة يف‬
‫بال�رصاع العرقي ال��ذي قد يكون وا�ضحا بال‬ ‫ما اري��د كتابته وه��ل هو ��ضروري‬
‫التما�سيح‬
‫اقنعة مثلما كان يف جنوب افريقيا قبل حتررها‬ ‫ومفيد؟ واكتفيت بالقراءات وال�سفر‬
‫من �سيطرة «العرق الأبي�ض» او متخفيا خلف‬ ‫كانت و�ستظل و�ساعدتني معرفتي باالجنليزية ان‬
‫اقنعة القومية واقنعة الوطنية واقنعة الدينية‪..‬‬ ‫«عن �صراع اقر أ� اعماال غربية عظيمة والتينية‬
‫لكن مزاج التما�سيح كانت و�ستظل «عن �رصاع‬ ‫الهويات» مرتجمة‪ ..‬كما ان رحيلي وترحايل‬
‫الهويات» يف م�رص‪ :‬م�سيحية وا�سالمية‪ ..‬وقد‬ ‫يف م�صر‪ :‬اف�����اداين ك��ث�يرا ب��ع��دم االح�����س��ا���س‬
‫ن�رشتها يف اواخر الت�سعينيات‪� ..‬ساعتها �س�ألني‬ ‫م�سيحية باالرتباط مبكان معني او ا�شخا�ص‬
‫ك��ت�اّب ا�صدقاء م��ن م�رص» ه��ل تتوقع حربا‬ ‫معينني وال ح��ت��ى اي��دي��ول��وج��ي��ة‬
‫وا�سالمية‪...‬‬
‫اهلية؟ «فقلت اين اتوقع �رصاعا ال ي�صل اىل‬ ‫حم���ددة فا�ضفت اىل املارك�سية‬
‫بينما بي�ضة‬
‫مرحلة احلرب الأهلية ‪ ،‬مثل احلروب الدينية –‬ ‫ا�شياء ان�سانية اكرث مما بها ونزعت‬
‫الأهلية يف لبنان او افريقيا ويوغ�سالفيا �سابقا‬ ‫النعامة كانت منها «ديكتاتورية لربوليتاريا»(!)‬
‫‪ ،‬او حتى ايرلندا‪ ..‬لي�ست حربا باملعنى التقليدي‬ ‫هي البحث وا���ض��ف��ت اىل «ث��ق��اف��ت��ي الدينية»‬
‫لكنها «حافة هاوية» كما كان وزير اخلارجية‬ ‫عن الهوية ثقافات اخ���رى‪ ..‬اي اع��دت ت�شكيل‬
‫االمريكي اال�سبق يقول عن الو�ضع النووي بني‬ ‫اع���دت خلقي من‬ ‫ُ‬ ‫امل�سيحية روح���ي ونف�سي‬
‫امريكا واالحتاد ال�سوفييتي ‪.‬‬ ‫�شعرت ان ا�شياء‬ ‫ُ‬ ‫امل�صرية جديد‪ ..‬وبالتايل‬
‫ا�صبح االم��ر االن اك�ثر تعقيدا وخ��ط��ورة بعد‬ ‫مثل تابوهات وتقاليد و�سيا�سة‬
‫«املهاجرة»‬
‫ا�ستيالء التيارات الدينية اال�سالمية بانواعها‬ ‫و�سيا�سيني‪ ..‬الخ ال ت�ستحق احرتاما‬
‫على مقاليد ال��دول��ة امل����صري��ة‪ ،‬جن��د ان هذه‬ ‫مثل �سنوحي وتقدي�سا مني يف الكتابة (طاملا ال‬
‫التيارات متثل متاهيا مع اليمني ال�سيا�سي–‬ ‫ي�سبب ذلك ازعاجا دينيا الخرين)‪.‬‬
‫الديني يف الغرب‪ ..‬وهي تيارات ميينية �سيا�سية‬ ‫‪ z‬مزاج التما�سيح والبحث عن الهوية القبطية‪ ..‬ونحن‬
‫لها خربات �سابقة والحقة يف احلكم وال�سيا�سة‬ ‫الآن بـ ‪ 2013‬وفى ظل حكم الإخوان امل�سلمني كيف‬
‫وت�ستوىل على احلكم ابان االزمات االقت�صادية‬ ‫ترى تلك الهوية؟‬
‫(مثلما يحدث الآن يف اوروب��ا وا�سرتاليا عدا‬ ‫‪ yy‬اعتقد ان بي�ضة النعامة كانت هي البحث عن‬
‫‪158‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫�سوف يف�رس لك حالة �شتاء ال�سخط التي نعي�شها‬ ‫اثتثناءات قليلة مثل فرن�سا)‪..‬‬
‫من املحيط اىل اخلليج‪ ..‬وبدون الدخول يف نظرية‬ ‫‪ z‬ماذا عن كتابك حوارات مع ن�رص حامد �أبو زيد‬
‫امل�ؤامرة اي «نعيب زماننا والعيب فينا» ف�إن‬ ‫الذى �سي�صدر بهولندا؟‬
‫ما حدث ويحدث الآن هو نتاج طبيعي لتواجد‬
‫‪ yy‬الكتاب مل ي�صدر يف هولندا الختاليف مع‬
‫ثقافة �شائهة‪ ،‬ومري�ضة ت�أ�س�ست على قرون من‬
‫املرتجم وال��ن��ا��شر‪ ..‬و�صدر يف طبعته االوىل‬
‫القهر واملداهنة والتماهي مع ال�سجان ‪ :‬تعلن ان‬
‫يف املغرب منذ �سنوات و�صدر عام ‪ 2012‬يف‬
‫ال�رضب يف امليت حرام وان كان لك عند الكلب‬
‫م�رص عن دار الثقافة اجلديدة‪ ،‬وهو كتاب جديل‪،‬‬
‫حاجة قول له يا�سيدي‪ ..‬الخ‬
‫وقد ا�ضفت اليه الهوام�ش بعد �صعود اال�سالم‬
‫ت���أم��ل االجن�����ازات امل��ع��م��اري��ة يف االن��دل�����س‬
‫ال�سيا�سي يف تون�س وم�رص اىل احلكم‪ ،‬وقد نفدت‬
‫اال�سالمية – مثال‪ -‬انها اجن��ازات تعتمد على‬
‫الطبعتان املغربية وامل�رصية‬
‫مبد�أ فل�سفي ومعماري هام وهو اكت�شاف ثيمة‬
‫زخرفية ومعمارية ال تتنافى مع روح الإ�سالم‬ ‫‪ z‬الروائي ر�ؤوف م�سعد كيف ترى الو�ضع الثقايف‬
‫الذي يرف�ض الت�صاوير والتماثيل ف�أ�س�سوا ثقافة‬ ‫الراهن؟‬
‫فن «التكرار» فيتحول احلرف من «م��ادة» اىل‬ ‫‪� yy‬صعب تقييمه النه يف حالة خما�ض ع�سري‬
‫فكرة‪ ..‬ثم «فكرة جمردة» حتى و�صلوا اىل الكمال‬ ‫ووالدة ا�صعب و�سيبقى هكذا لفرتة طويلة‪..‬‬
‫كما يف ق�رص احلمراء مثال‪..‬‬ ‫خ��ا���ص��ة ن��ح��ن يف ع����صر الفي�سبوك وثقافة‬
‫مل اقر�أ – حتى الآن – عمال ابداعيا – يف م�ستوى‬ ‫الفي�سبوك املتعجلة وتويرت التي تعتمد على‬
‫ال��ث��ورة‪ ..‬ميكن الآن ال��وق��ت ال ي��زال مبكرا؟‪..‬‬ ‫التغريدات الق�صرية‪ ..‬م�رص كلها وال�رشق االو�سط‬
‫االمريكون كتبوا عن فيتنام واحل��رب الكثري ‪،‬‬ ‫يف خم��ا���ض ع�سري �سيا�سي وطبقي وديني‬
‫لكن ب�ضعة روايات وافالم قليلة هي التي حازت‬ ‫وطائفي‪ ،‬وهذا ي�ؤثر بدون �شك �سلبا على الثقافة‬
‫اهتماما عاما‪ ..‬لأن «وقت» الكتابة هو غري وقت‬ ‫ب�شكل اكرب من االيجابيات‬
‫الفعل (الثورة او احل��رب) انا اطلق عليه «اوان‬ ‫‪ z‬م�رص ما زالت يف مرحلة الربيع العربي �أم دخلت‬
‫الكتابة» مثل اوان ال��زرع واون احل�صاد‪ ..‬لعل‬ ‫اخلريف الإ�سالمى الدائم؟‬
‫اوان الكتابة عندي عن الثورة ا�رسع من غريي‬
‫ال�سباب �شخ�صية مثال‪.. ..‬‬ ‫الروائي الكبري ر�ؤوف م�سعد هل تابعت ما كتب‬
‫لعله لإح�سا�سي بتقدمي يف العمر ولعلها رغبتي‬ ‫�إبداعيا عن الثورة امل�رصية �أو الربيع العربي عامة؟‬
‫يف «اجناز» �شيء ما عن الثورة قبل الوفاة ؟!‬ ‫وهل �أنت مع الكتابة الإبداعية عن الثورات الآن؟‬
‫او لتواجد «خمزون» من خربات �سيا�سية وكتابية‬ ‫‪ yy‬لي�س ربيعا ولي�س خريفا لكنه «�شتاء �سخطنا»‬
‫�آن له الآوان ان يظهر ؟!‬ ‫كما قال �شتانبيك يف روايته اال�شهر «عناقيد‬
‫وباملنا�سبة فانا �شخ�ص غري متوا�ضع فيما‬ ‫الغ�ضب» عن �رصاع الأخوين‪..‬‬
‫يخ�ص �أعمايل !!‬ ‫هذا يرجعنا‪ ،‬مرة اخرى اىل «الثقافة العربية»‬
‫التي حتجرت بعد اغ�لاق ب��اب االجتهاد وهذا‬

‫‪159‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫م�سرح‬

‫من عرو�ض اأيام ال�شارقة امل�رسحية الدورة ‪23‬‬

‫‪160‬‬
‫�أيام ال�شارقة امل�سرحية‬
‫م�سرحيات تناق�ش ق�ضايا احلياة املعا�صرة‬
‫و�إ�شكالياتها االجتماعية وال�سيا�سية‬
‫عزة الق�صابي‬
‫ناقدة م�رسحية من ُعمان‬

‫والعرو�ض الع�رشة التي قدمت يف‬ ‫�شهدت �أيام ال�شارقة امل�رسحية خالل الدورة‬
‫امل�سابقة الر�سمية هي‪ :‬م�رسحية «(�شهيد‬ ‫الثالثة والع�رشين التي اقيمت م�ؤخرا تقدمي‬
‫التني) مل�رسح دبي ال�شعبي‪ ،‬وم�رسحية‬ ‫ع�رشة عرو�ض م�رسحية �ضمن امل�سابقة‬
‫(رابرت) مل�رسح خورفكان‪ ،‬وم�رسحية (زيت‬ ‫الر�سمية مل�سارح االمارات‪ ,‬كما قدمت اربعة‬
‫وورق) مل�رسح حتا‪ ،‬وم�رسحية (الرتيال)‬
‫عرو�ض م�رسحية خارج تلك امل�سابقة‪.‬‬
‫مل�رسح عجمان‪ ،‬وم�رسحية (�سيد القبو)‬
‫مل�رسح بني يا�س‪ ،‬وم�رسحية (م�ساء الورد)‬
‫اجلدير ذكره ان هذه الفعالية امل�رسحية‬
‫مل�رسح دبي الأهلي‪ ،‬وم�رسحية (طوفان)‬ ‫الهامة يف مو�سمها احلايل قد قدم فيها عر�ض‬
‫مل�رسح الفجرية‪ ،‬وم�رسحية (نهارات‬ ‫م�رسحية «الدكتاتور» وهي من امل�رسحيات‬
‫علول) وم�رسحية (خلطة ورطة) مل�رسح‬ ‫البارزة يف امل�رسح العربي حاليا‪ .‬هذه‬
‫ام القيوين‪ ،‬وم�رسحية (�أنت ل�ست كارا)‬ ‫امل�رسحية من ت�أليف ع�صام حمفوظ وقد‬
‫مل�رسح ال�شارقة‪.‬‬ ‫قدمتها اخراجا اللبنانية لينا ابي�ض‪.‬‬
‫كما ان العرو�ض الق�صرية التي قدمت‬ ‫اقرتب عر�ض م�رسحية «الدكتاتور» من‬
‫خارج امل�سابقة الر�سمية �شملت كال من‬ ‫امل�رسح اجلروتف�سكي‪� ،‬إال �أنه مل يتخل عن‬
‫ن�ص‬‫م�رسحية (م�شاجرة رباعية) عن ٍ‬ ‫املكياج امل�رسحي‪ ،‬والذي �ساعد املمثلتني‬
‫عاملي للم�ؤلف امل�رسحي يوجني يون�سكو‪,‬‬ ‫على تقم�ص �أدوارهما‪� ,‬إ�ضافة �إىل التعوي�ض‬
‫وهو ن�ص عبثي الطابع وامل�ضمون‪ ..‬ولقد‬
‫عن تفا�صيل «ال�سينوغرافيا» التي يفرت�ض‬
‫أدوارا �صامت ًة‬
‫كانت ال�شخ�صيات ت�ؤدي � ً‬
‫(الباتوميم)‪ ..‬ولكنه مل يلبث �أن يهجرها‪,‬‬ ‫�أن متلأ املكان‪ .‬ولكن غابت م�ساحات ال�صمت‪،‬‬
‫حيث فتح املخرج احلديث‪ ..‬وهناك عبثية‬ ‫و�سائد احلوار ال�رسدي‪ ..‬ويفرت�ض من املخرجة‬
‫وا�ضحة يف الطرح مع الظالل الكوميدية‬ ‫«الأبي�ض» �أن تقل�ص من م�ساحات احلوار‬
‫التي �سادت يف العمل ‪.‬‬ ‫ال�رسدي‪ ,‬وا�ستبداله بالأداء اال�ستعرا�ضي‬
‫�أما العر�ض امل�رسحي الق�صري الثاين‬ ‫والتعبريي ‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قب�ضته على جلام �صهوة جواده امل�رسحي‪ ,‬حيث‬ ‫هو م�رسحية (امل�شهد الأخري من امل�أ�ساة‪ )..‬والذي‬
‫ا�ستطاع �أن يقدم عر�ضا م�رسحيا م�ؤثرا من خالل‬ ‫اعتمد على حركة املمثلني واال�ستعرا�ض احلركي‬
‫ق�صة مربوك ال�ساخرة ملفهوم ال�شهادة يف ع�رصنا‬ ‫التعبريي‪ ..‬فيما خال امل�رسح من �أي قطع ديكور‪..‬‬
‫احلايل‪ .‬ولقد �أ�صبحنا يف ع�رصنا مثال نتابع عرب‬ ‫الأزياء وكنبة جللو�س املمثلتني ووجود �شخ�صية‬
‫و�سائل الإعالم واالت�صال الأخرىقيام انتحاري‬ ‫ثالثة تتحكم بها‪..‬‬
‫بتفجري نف�سه بحجة « اال�ست�شهاد يف �سبيل اهلل‪,‬‬ ‫وثالث هذه العرو�ض م�رسحية (ندب ال�سموم) وهو‬
‫نتيجة غ�سل الدماغ من اجلماعات الإرهابية!‪. ..‬ومما‬ ‫ن�ص للكاتب ال�شاب حممد ال�شلبي‪ ،‬بينما قالب‬
‫يولد احلرية يف نفو�س النا�س‪ ،‬بغية معرفة ما �إذا‬ ‫الأحداث مبني على �أ�سا�س ال�رصاع بني اخلري‬
‫كان الفعل هو املعنى احلقيقي لل�شهادة‪ ..‬؟! بالرغم‬ ‫وال�رش الذي يتمثل يف الغرباء‪ .‬و�آخر هذه الأعمال‬
‫من الظالل الفل�سفية التي طغت على املو�ضوع‪� ،‬إال‬ ‫امل�رسحية الق�صرية (ممثل خمرج خ�شبة) ‪.‬‬
‫�أن املخرج اخت�رص الكثري من التفا�صيل التي حولها‬
‫قراءة ب�صرية‬
‫�إىل �سينوغرافيا جمالية‪� ،‬شملت الف�ضاء امل�رسحي‪,‬‬
‫�أوال‪ :‬عر�ض م�سرحية «�شهيد التني»‬
‫كما ا�ستطاع �صنع ب�ؤر للحراك ال�شعبي‪ ,‬الراق�ص‪..‬‬
‫لفرقة م�سرح دبي ال�شعبي‬
‫بحيث ميكن الإظالم ال�رسيع للف�ضاء امل�رسحي(‪) 3‬‬
‫واالنتقال من لوحة �إىل �أخرى دون �أن ي�شعر امل�شاهد‬ ‫تزامنا مع ثورة الربيع العربي وما دار يف رحمها‬
‫بامللل!‬ ‫من �رصاع بني التيارات والأحزاب املختلفة‪ ،‬ولدت‬
‫لقد ا�ستطاع املخرج االمارتي حممد �سعيد �أن ينفذ‬ ‫م�رسحية (�شهيد التني) للم�ؤلف عبداهلل �صالح‪,‬‬
‫�إىل عامل الكوميديا ال�سوداء‪ ,‬التي نقلت �إىل العر�ض‬ ‫واملخرج حممد �سعيد‪ ،‬وهي م�رسحية م�ستوحاة‬
‫عن رواية عزيز ن�سني‪ ،‬لي�صنع امل�ؤلف منهاعر�ضا‬ ‫من رواية (�أنت ل�ست غارا) للكاتب الرتكي عزيز‬
‫فرجويا �شعبيا‪ ،‬يقرتب من امل�رسح ال�شعبي‪ ،‬الذي‬ ‫ن�سني‪ ،‬واملتابع للأحداث يجد هناك جدة يف طرح‬
‫يعترب قريبا من وجدان اجلماعة‪ ،‬يف ما�ضيها‬ ‫املو�ضوع من خالل الرتكيز على الفكرة الرئي�سية‪� ،‬أال‬
‫وحا�رضها‪ ،‬بحيث ي�شمل كافة مالمح احلياة‬ ‫وهي‪( :‬اال�ست�شهاد) الذي حتدثت الديانات ال�سماوية‬
‫من نظم �سيا�سية وموروثات اجتماعية وثقافية‬ ‫عنه‪ ،‬والتي �أ�شارت �إىل �أن جزاء ال�شهيد اجلنة‪ ،‬فيما‬
‫و�أخالقية‪ ،‬وتقاليد وعقائد و�شعائر‪ ،‬وكل تراكمات‬ ‫�أ�رص م�ؤلف ن�ص م�رسحية (�شهيد التني) �أن يكون‬
‫التجربة احلياتية الكامنة يف الالوعي اجلمعي على‬ ‫جزاء (مربوك) هو متاع الدنيا !‬
‫�شكل �أ�ساطري وحواديت ورموز(‪ .)4‬وي�ؤكد ع�صام‬ ‫ومنذ ظهور امل�شهد اال�ستهاليل الغنائي مب�صاحبة‬
‫�أبو العال �إن فنون الفرجة ال�شعبية العربية‪ ،‬حتمل‬ ‫عزف الفرقة ال�رشقية‪ ،‬والتي غر�ست يف عمق‬
‫مقومات الفن امل�رسحي‪ ،‬و�إنها لي�ست (ظاهرة)‬ ‫امل�رسح‪ ،‬عازفة الأحلان ال�رشقية اال�صيله يف عمق‬
‫كما يود �أن يطلق عليها بع�ض الدار�سني‪ ،‬فعرو�ض‬ ‫امل�رسح‪ ،‬بينما كان هناك (كور�س) ي�ؤدي رق�صات‬
‫الفرجة امل�رسحية ال�شعبية العربية‪ ،‬قد قامت‬ ‫�رسيعة للتعليق على الأحداث وت�صعيد احلدث‬
‫ونه�ضت وامتدت يف الزمان واملكان‪� ،‬ش�أنها يف‬ ‫الدرامي‪ .‬لذا كانت مبثابة �شاهد عيان على مو�ضوع‬
‫ذلك �ش�أن امل�رسح اليوناين القدمي‪� ,‬أو �ش�أن م�رسح‬ ‫ال�شهادة كما وردت يف الن�ص‪« :‬ال�شهادة ما�شي‬
‫(النوه) يف القرن اخلام�س ع�رش امليالدي حتى الآن‪,‬‬ ‫�أح�سن عنها �إذا الكل �شارك فيها بحب‪ ..‬ال�شهادة البد‬
‫وتعترب هذه االختالفات والتنوع يف �أ�شكال و�أنوع‬ ‫�أن تكون �صادقة لوجه اهلل من ني�شان نعلقه على‬
‫امل�سارح‪ ,‬من املهام القومية للم�رسح و�أ�سا�س‬ ‫�صدورنا نتغنى به»(‪.)2‬‬
‫طابعه املحلي(‪.)5‬‬ ‫وبذلك ا�ستطاع امل�ؤلف (عبداهلل �صالح) �أن يحكم‬
‫‪162‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫ب�رصية قائمة على اال�ستعرا�ض‪ ،‬والأداء التمثيلي‪،‬‬ ‫ويطرح عر�ض م�رسحية (�شهيد التني) بجر�أة غري‬
‫والتم�رسح (امل�رسح داخل امل�رسح)(‪ ..)7‬ويكون ذلك‬ ‫م�سبوقة مو�ضوع «اال�ست�شهاد»‪ ,‬التي ي�صعب القطع‬
‫عندما يتحدث الأب (رجب) عن ن�ش�أة ابنه (مربوك)‬ ‫يف م�صداقيته خ�صو�صا يف ع�رصنا احلايل‪ ،‬حيث‬
‫ال�شهيد‪ ،‬ودعم احلكومة له‪ ،‬حيث تتحرك الإ�ضاءة‬ ‫بدا مو�ضوع ال�شهادة يف ع�رصنا احلايل �ضبابيا‬
‫لتفتح ر�ؤية م�شهديه على اجلانب الآخر‪ ،‬يظهر الأب‬ ‫‪-‬كما �أ�رشنا �سلفا‪ -‬خا�صة لتزامن مثل هذا الطرح‬
‫وهو يتحدث �إىل ال�صحافة‪ ،‬بكل فخر واعتزاز‪ ..‬ثم ال‬ ‫مع ما يدور يف واقعنا العربي من حتوالت وتغريات‬
‫تلبث الإ�ضاءة �أن تعود �إىل حيث الأب مرة‪ ،‬وتظلم‬ ‫متر بهاالأمة العربية والإ�سالمية‪ ,‬بينما ال تزال‬
‫منطقة احلدث امل�رسحي الآخر‪ .‬وبذلك تكون الإ�ضاءة‬ ‫تدور رحاها يف الكثري من الدول االخرى ‪.‬‬
‫�ساعدت على �رسعة التنقل بني م�ساحات الظالم‬ ‫ومن ناحية �أخرى‪ ،‬ركز املخرج حممد �سعيد على‬
‫والنور‪ ..‬مع الرتكيز على املمثلني وهماينتقالن‬ ‫الر�ؤية اجلمالية للعر�ض‪ ،‬والتي امتزجت بروح‬
‫عرب خ�شبة امل�رسح‪ ..‬وخا�صة يف املواقف احل�سا�سة‬ ‫الدعابة واملرح مع قتامةواقع ال�شخ�صيات !‪ ..‬والذي‬
‫وامل�ؤثرة‪ ..‬مثل متجيد حلظة اال�ست�شهاد يف نف�س‬ ‫�ساعد على ذلك امتزاجها بامل�ؤثرات املو�سيقية‬
‫االبن‪ ..‬الرجوع �إىل املا�ضي ‪،‬عندما يتحدث الأب عن‬ ‫التي كانت تعزفها الفرقة يف عمق امل�رسح‪ ,‬والتي‬
‫كيفية�شحذ همة ابنه وجعله ي�ستعد لال�ست�شهاد‪..‬‬ ‫التحمت مع الأزياء ال�رشقية التي تن�صلت من‬
‫وهكذا تباينت مناطق الفرجة امل�رسحية ح�سب‬ ‫تبعيتها الثقافية لدولة بعينها‪ ،‬والتي كانت ت�رص‬
‫(احلكاية)‪ ،‬لذا خال العر�ض من ال�رصاع التقليدي‬ ‫على �أن ما يقدم على خ�شبة امل�رسح‪ ،‬ما هو �إال‬
‫بني ال�شخ�صيات‪ ،‬و�سعى �إىل التوغل يف ذواتها‪،‬‬ ‫تراكمات للإرث الإ�سالمي الثقايف املغلوط!‪ ..‬والذي‬
‫كونه �رصاعا تعي�شه ال�شخ�صيات‪ ،‬فهو �رصاع‬ ‫يف �أحيان كثرية يكون حمفوفا بعناية ال�سلطة‪,‬‬
‫داخلي‪ ،‬ن�شاهد (مربوك) يرتحم على ذاته ومعه‬ ‫وهي ت�سعى �إىل ت�سيي�س الدين من �أجل �أهداف‬
‫والداته‪ ،‬قبل �أن ي�صبح �شهيدا‪ ..‬ويف الوقت ذاته يعي‬ ‫دنيوية بحتة!‬
‫معنى ال�شهادة!‬ ‫ولقد تكونت امل�رسحية من ف�صلني وعدد من امل�شاهد‬
‫وحفل عر�ض ال�شهيد بعدد من ال�شخ�صيات‪ ,‬حيث‬ ‫جتاوز االثني ع�رشة م�شهدا‪ ،‬وجميع امل�شاهد حاولت‬
‫ت�ضمنت امل�رسحية �سبع ع�رشة �شخ�صية رئي�سية‬ ‫�أن ت�ضخم احلدث من خالل حتول مربوك �إىل‬
‫وثانوية‪ ،‬ومن بينها رجب �أبو ال�شهيد وزمزم �أم‬ ‫«�شهيد» مقد�س يقوم اجلميع بخدمته‪ ،‬حتى قبل �أن‬
‫ال�شهيد‪ ,‬ومربوك ال�شهيد‪ ،‬وبو جربان وايل القرية‪،‬‬ ‫ينال ال�شهادة !‪ ..‬حيث ظهر الوايل وهو يغدق الهدايا‬
‫وخربو�ش م�ساعد الوايل‪ ،‬و�سلمان �صديق من‬ ‫والعطايا على �أ�رسته!‪ ..‬وعندما التقى والد مربوك‬
‫كبري التجار‪ ،‬و«بو وفاء» جار ال�شهيد‪ .‬ولقد قام‬ ‫(رجب) بو�سائل الإعالم‪� ,‬رصح لل�صحافة ب�أن‬
‫خمرج العر�ض باخت�صار امل�شاهد الطويلة يف‬ ‫الوايل(ال�سلطة) كان لها الف�ضل الكبري يف االهتمام‬
‫الن�ص‪ ،‬وا�ستطاع العمل العزف على اوتار ف�صول‬ ‫بابنه‪ ،‬للو�صول �إىل مرحلة ال�شهادة !‬
‫حياة (مربوك) الذي كان �ضحية الأب واملجتمع‬ ‫وبذلك تكون هذه امل�رسحية قد ج�سدت رحلة‬
‫واملبالغة يف معنى ال�شهادة و�صوال �إىل ال�سلطة‬ ‫(مربوك) يف التحول من �إن�سان عادي يف حي التني‬
‫واجلاه واملال‪..‬‬ ‫�إىل بطل و�شهيد يف نف�س الوقت!‪ ..‬والذي �ساعد على‬
‫كما قام العر�ض امل�رسحي بتوظيف الرتاث ال�شعبي‬ ‫ذلك �إ�رصار والده على نيل ال�شهادة‪« :‬رجب‪ :‬مربوك‬
‫يف العرو�ض امل�رسحية احلديثة‪ ،‬مع احلر�ص على‬ ‫الزم يبقى يف عني الكل �شهيد التني هالقرية اللي‬
‫ت�شذيبه بظالل الواقع املعا�رص‪ ،‬والذي حمل الكثري‬ ‫ما خلفت غري ولدي مربوك‪ ..‬ال�شهيد اللي الكل‬
‫من الر�سائل والإ�سقاطات ال�سيا�سية والدينية‪،‬‬ ‫بيتذكره»(‪ ...)6‬وهكذا قادنا هذا العر�ض �إىل فرجة‬
‫‪163‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫غري عربية‪ ،‬يق�صد بها الدراجة النارية‪ .‬ويف هذا‬ ‫مع تو�ضيح العالقة بني ال�سلطة وو�سائل الإعالم‬
‫العر�ض ظهر �صبي(عمر) يتيم الأبوين يقود دراجته‬ ‫احلديث‪ ،‬ودرا�سة مالحظة ما تفعله و�سائل الإعالم‬
‫(رابرت) يف الرب (ال�صحراء)‪ ,‬وت�صادف ذلك مع توقف‬ ‫من ت�ضخيم احلدث‪ ,‬وحتويله �إىل حدث ا�ستثنائي‪،‬‬
‫�سيارة زوجني يف منت�صف الطريق تقري ًبا‪ ,‬وما‬ ‫يتم ايدجلته ليتوافق مع الواقع‪ .‬كما ميكن مالحظة‬
‫ان ر�آهم الفتى حتى توقف لتقدمي امل�ساعدة ليبد�أ‬ ‫ذلك من خالل ت�شذيب العر�ض ببع�ض الكلمات‬
‫العر�ض امل�رسحي ‪.‬‬ ‫احلديثة مثل‪ « :‬القذيفة‪ ..‬جي ا�س « وال�صاروخ طويل‬
‫ورغم ب�ساطة الفكرة التي �أ�س�س امل�ؤلف (عبداهلل زيد)‬ ‫املدى‪ ..‬وخا�صة عندما يدعو الأب �إىل �أن ت�صيب‬
‫عليها عر�ضه امل�رسحي‪� ،‬إال �أنه ا�ستطاع �أن ي�شحنه‬ ‫والده مربوك قذيفة‪ ,‬لينال ال�شهادة‪ ..‬؟!‬
‫بالكثري من التفا�صيل والق�ضايا التي ت�شغل بال‬ ‫وعلى الرغم من �أن العر�ض نقلنا �إىل ق�ضية‬
‫الأ�رسة الإماراتية‪ ،‬ب�شكل خا�ص والعربية ب�شكل‬ ‫فل�سفية وجودية‪ ،‬ي�صعب التعر�ض لها يف التاريخ‬
‫عام‪ ،‬حيث حتدث عن تربية الأبناء‪ ،‬واليتم‪ ،‬والعقم‪..‬‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬على اعتبار �أنها من التابوهات املحرمة‬
‫اخلالفات الزوجية‪ ،‬وتدخل املجتمع وت�أثريه على‬ ‫(ال�سيا�سة‪ ،‬الدين‪ ،‬اجلن�س)‪� ،‬إال �أنه ف�شل يف �صنع‬
‫احلياة ال�شخ�صية للأفراد‪ ..‬وغريها من الق�ضايا‬ ‫�شخ�صيات تنمو وتتطور مع احلدث امل�رسحي‪،‬‬
‫التي انبلجت من واقع الن�ص االجتماعي املعا�رص‪.‬‬ ‫فكل ما ن�شاهده عبارة عن �شخ�صيات اقتب�ست من‬
‫ويلم�س املتفرج ب�ساطة الطرح ملو�ضوع هذه‬ ‫الرواية احلقيقية‪ ،‬فيما حركها املخرج بالتعاون مع‬
‫امل�رسحية‪ ،‬مع ت�رشبها مبالمح املدر�سة الطبيعية(‪)8‬‬ ‫امل�ؤلف بغية ت�ضخيم فعل ال�شهادة‪ .‬كما ي�ؤخذ على‬
‫التي �سادت العر�ض امل�رسحي‪ ،‬ابتداء من امل�ضمون‬ ‫العر�ض النهاية املتوقعة‪ ،‬بعودة ال�شهيد (مربوك)‬
‫وانتهاء بال�شكل‪ ،‬حيث حر�ص امل�ؤلف واملخرج على‬ ‫حيا‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فوالده ينفي �أنه ال يزال‬
‫�أن تقود �شخ�صياته الثالث العمل برمته‪ ،‬وت�أجيج‬ ‫على قيد احلياة‪ ..!..‬مما يك�شف مدى �ضعف �شخ�صية‬
‫ال�رصاع بينهم‪ ،‬وهو �رصاع ظاهر نتاج تك�شف‬ ‫(ال�شهيد) وعدم مقدرته على التغلغل يف عمق الفعل‬
‫ال�شخ�صيات ال�رسيع‪ ،‬حيث قام الزوجان ب�إلقاء‬ ‫امل�رسحي‪ ،‬فقد بدت �شخ�صيته ثانوية‪� ،‬ضعيفة‪،‬‬
‫التهم على الآخر‪ ،‬الناجتة عن تراكمات الزمن‪،‬‬ ‫بالتايل كان �رصاعه مع ذاته وا�ضحا‪� ،‬أكرث من‬
‫مثال ق�ضية العقم‪ ,‬فعلى الرغم من م�ضي �أكرث من‬ ‫�رصاعه مع والده واملجتمع يف حي التني‪.‬‬
‫ثالثني عاما‪ ،‬وتفهم كال الطرفني لهذا املو�ضوع‬ ‫ولقد متاهى الديكور للعر�ض امل�رسحي مع بقية‬
‫على انه ق�ضاء وقدر‪� ،‬إال �أن الزوج بد�أ يكيل التهم‬ ‫مفردات ال�سينوغرافيا‪ ،‬فظهر العمل كوحدة فنية‬
‫على زوجته‪ ،‬ويتهمها ب�أنها ال�سبب يف ذلك‪ ،‬ولو �أنه‬ ‫بحثت عن فرجة فنية‪ ،‬ت�شكلت يف االنتقال الفرجوي‬
‫تزوج ببنت اجلريان لأ�صبح لديه �أوالد‪ ..‬فيما تلقي‬ ‫من لوحة �إىل �أخرى‪ ،‬مع الأحلان ال�شعبية‪ ،‬وم�ضمونه‬
‫الزوجة بالتهم على الزوج‪ ,‬كونه يعاين من عجز عن‬ ‫الذي حتدث عن ق�ضية ي�صعب القطع فيها‪ ،‬على‬
‫التوا�صل معها !‬ ‫الرغم من التعر�ض لها كدراما �سابقا !‬
‫كما تك�شفت مالمح �شخ�صية الطفل الذي يقود‬
‫(الرابرت) طفل يتيم‪ ,‬وحيد‪ .‬وهو ال يرتدد يف‬ ‫ثانيا‪ :‬عر�ض م�سرحية «رابرت» لفرقة خورفكان‬
‫م�شاك�سة (مرزوق)‪ ,‬الذي يرف�ض �آراء الطفل الذي‬ ‫ال �شك‪� ،‬أن حماولة عك�س الواقع املحلي بكل‬
‫كان ي�شاك�سه بكل براءة وعفوية‪ ..‬ويف حني تتحرك‬ ‫تفا�صيله‪ ،‬وم�شاك�سة ق�ضاياه املعا�رصة كان‬
‫م�شاعر الزوجة نحو الطفل (عمر) ‪-‬الذي قام بدوره‬ ‫هم العر�ض امل�رسحي (رابرت) الذي هو من ت�أليف‬
‫عبداهلل نبيل –‪ ،‬كونه يعاين عدد من الأمرا�ض‬ ‫و�إخراج الفنان االماراتي عبداهلل زيد‪ ،‬والذي حر�ص‬
‫الأخرى‪. ..‬وقد �شارف على املوت‪ ،‬مما جعل العر�ض‬ ‫على �أن يكون (رابرت) عنوا ًنا مل�رسحيته‪ ،‬وهي كلمة‬
‫‪164‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫الطفل عن يتمه ووحدته‪ ..‬وظلت ال�شخ�صيات الثالث‬ ‫يقع يف مطب امليلودرما(‪.!)9‬‬


‫تتك�شف �أمام امل�شاهد‪ ..‬م�ستعر�ض ًة تفا�صيل واقع‬ ‫حيث ات�ضح من �رصاخ الزوجة ب�أن اجلميع م�صابون‬
‫حياتها امل�ؤملة ونهايته امل�أ�ساوية!‪ ..‬فيما ر�سخت‬ ‫باملر�ض‪ ..‬هكذا مل ي�ستطع م�ؤلف العر�ض كبح جلام‬
‫الر�ؤية الإخراجية جماليات ال�سينوغرافيا ور�صدت‬ ‫قلمه‪ ،‬واالبتعاد عن نقاط الإثارة‪ ،‬واملفاج�آت‪. ..‬مما‬
‫البيئة البدوية‪ ,‬حيث الرمال(العراقيب)‪ ،‬والنباتات‬ ‫جعله يقرتب من الأعمال ال�سينمائية والتلفزيونية‪.‬‬
‫ال�صحراوية اجلافة‪ ،‬والرابرت(الدراجة النارية)‬ ‫وال يخلو عر�ض م�رسحية (رابرت) من املواقف‬
‫املخ�ص�صة لل�صحراء‪ ،‬وجميع الأدوات امل�ستخدمة‬ ‫الكوميدية التي جعلته يقرتب من عرو�ض امل�رسح‬
‫(الإك�س�سوارات) كانت طبيعية على امل�رسح‪ ..‬مما‬ ‫التجاري‪ ،‬والتي ت�ضخم اخلطاب امل�رسحي ال�رسدي‪،‬‬
‫ي�ؤكد �سيادة الديكور الطبيعي على العر�ض ككل‪،‬‬ ‫يف حني ذاب الفعل الدرامي يف معمعة الرتا�شقات‬
‫خا�صة و�أن املخرج حر�ص على جلب الكثبان‬ ‫الكالمية بني الزوجني(مرزوق و�صاحلة) ‪.‬وظهرت‬
‫الرملية �إىل خ�شبة امل�رسح !‪ ..‬مما جعل امل�شاهد‬ ‫الزوجة وهي تنتقد زوجها بحدة زوجها‪ -‬الفنانة‬
‫ي�شعر باحلرية‪ ,‬ويت�ساءل كيف نقلت هذه الكثبان‬ ‫القديرة (فاطمة ح�سن)‪ -‬وا�ستمر اجلدال حتى‬
‫�إىل خ�شبة امل�رسح ؟!‬ ‫بلغ ذروته عندما اتهمته ب�ضعف رجولته!‪ ..‬وكان‬
‫الطفل يتدخل يف احلوار‪ ،‬الأمر الذي جعل البع�ض‬
‫ثالثا‪ :‬عر�ض م�سرحية الطوفان‪ ..‬مل�سرح الفجرية‬
‫ال يحبذ فكرة �إ�رشاكه يف �أحاديث البالغني‪ ،‬كما‬
‫الكثري من الأعمال الفنية امل�رسحية والتلفزيونية‬ ‫�أن احلوارات ال�رسدية واملرا�شقات ال�رسيعة‪ ،‬عرت‬
‫اخلليجية يكون حمورها الرئي�سي عادة (النوخذة‬ ‫حقيقة الزوج(مرزق) الذي قام ب�أداء دوره الفنان‬
‫والبحارة)‪ ,‬نتيجة ارتباط �أهل اخلليج بق�ص�ص‬ ‫علي القحطاين‪.‬‬
‫وحكايات الغو�ص وال�صيد‪ ،‬وهذا ما ح�صل يف‬ ‫ومن املالحظ على بنية عر�ض م�رسحية (رابرت)‬
‫عر�ض م�رسحية (الطوفان) الذي هو من ت�أليف حميد‬ ‫�رسعة االنتقال من حدث درامي �إىل �آخر ب�رسعة‪،‬‬
‫فار�س و�إخراج �صابر رجب‪ ..‬ولقد �أ�رص الطوفان �أن‬ ‫مما جعل ذهنية املتلقي ت�ستنتج ما الذي �سيحدث‬
‫يهز �صالة العر�ض منذ امل�شاهد الأوىل‪ ,‬حيث كانت‬ ‫بعد ذلك؟!‪ ..‬وخا�صة �أن الر�ؤية الإخراجية توحدت‬
‫ال�شخ�صيات تردد‪« :‬طوفان‪ ..‬طوفان‪ ،‬يرمل وييتم‬ ‫مع الن�ص‪ ،‬ف�أ�صبح من ال�صعوبة مبكان الف�صل بني‬
‫ويفرق �صلة الرحوم‪ ،‬دخلوا عيالكم و�أزلوا بيبانكم‪،‬‬ ‫الر�ؤية الإخراجية والن�ص؛لكون �أن خمرج وم�ؤلف‬
‫ف�ضوا ال�سكيك والدروب»(‪)10‬‬ ‫العر�ض �شخ�ص واحد‪ .‬وهذا من امل�آخذ التي حت�سب‬
‫واملتابع لعر�ض (الطوفان) يدرك اجتياح ال�رصاع‬ ‫حرا‬
‫على العر�ض‪ ,‬وكان يجدر ب�أن يكون املخرج ً‬
‫الأزيل بني (قابيل وهابيل) على املو�ضوع‪ ،‬والقائم‬ ‫طلي ًقا يف ر�ؤيته الإخراجية ‪ .‬ولكن هذا العر�ض‬
‫على ال�رصاع الظاهر بني �سيف والعم زيد‪ ،‬وهما‬ ‫امل�رسحي دمج املهمتني‪ ،‬حتى �أ�صبح من ال�صعب‬
‫�أخوان‪ ,‬ين�شب النزاع بينهما‪ ,‬بفعل وقوع الفتنة!‪..‬‬ ‫الف�صل بينهما‪ ،‬وهذا بدوره قل�ص امل�ساحة الإبداعية‬
‫وميكن �أن نلمح ذلك يف احلوار التايل‪« :‬زيد‪ :‬اطلع‬ ‫للعمل الفني‪ ،‬وزاد من ن�صاب امل�ؤلف‪ ..‬كون العمل‬
‫يا �سيف‪..‬ال ترا وراء باب ما بيقدر ي�صمد ثانية يف‬ ‫ي�رسد ق�صة ثالث �شخ�صيات عرب م�شاهد مفتوحة‬
‫ويه غ�ضب زيد‪ ..‬وال بيحتمل �رضبة من يرزي عليه‬ ‫و�سجال حواري ال ينقطع‪.‬‬
‫اللي بت�شطره ن�صفني‪� ..‬أطلع ما �أبغي �أك�رسك جدام‬ ‫تلقائيا وب�سيطً ا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫بالن�سبة للأداء التمثيلي فقد كان‬
‫�أهلك �أطلع‪� .‬شاهني‪� :‬أنا العم يف هذا الفريج‪..‬ونوخذة‬ ‫ومعربا عن معاناة ال�شخ�صيات‪ ,‬التي خذلها الزمن‬‫ً‬
‫البالد بكربها»(‪)11‬‬ ‫عن حتقيق �أحالمها‪ ،‬فقد وجد الزوجان نف�سيهما على‬
‫ويتمكن الغريب من �إ�شعال نار الفتنة بني الأهايل‬ ‫م�شارف اخلم�سينات من العمر‪ .‬كما تك�شفت �شخ�صية‬
‫‪165‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ر�سالة العر�ض يف التوا�صل مع القاعة‪ ،‬ولقد �أ�شار‬ ‫حتى يتمكن من اال�ستيالء على املال ‪ .‬وتزداد حدة‬
‫(بيرت بروك) �إىل ال�ضجر الناجم عن مثل هذه احلالة‪,‬‬ ‫ال�رصاع حتى لت�صل �إىل زوجة �شاهني وابنة �أخيه‬
‫حيث قال‪« :‬عندما ن�صل �إىل اجلمهور احلقيقي‪ ،‬ف�إن‬ ‫زيد‪ ،‬حيث كانت الأخرية تعاين حالة نف�سية جعلتها‬
‫املقيا�س الكبري‪ ،‬هو م�ستوى ال�صمت الذي ن�ش�أ يف‬ ‫ت�رصخ من القهر والظلم االجتماعي من زوجها ‪..‬‬
‫�صفوف جمموعة �أ�شخا�ص منتبهني‪ ..‬و�إذا ظهر‬ ‫وتطور الأحداث لت�صل لذروتها عندما يقوم �شاهني‬
‫ال�ضجر ف�إنه تكون هناك �ضو�ضاء و�سيقف �أحد‬ ‫برفع �أ�سعار الب�ضائع‪ ،‬كما يتمادى ب�رضب �أخيه‬
‫اال�شخا�ص و�آخر يهم�س‪ ،‬و�أخريا‪ ،‬يقع الأ�سو�أ‪ ،‬منهاج‬ ‫زيد ملطالبته بتعوي�ض نتيجة حرق الب�ضاعة يف‬
‫العر�ض»(‪.)13‬‬ ‫املخازن ‪.‬‬
‫ومن ناحية �أخرى‪ ،‬ال بد من التنويه ب�أن الإ�ضاءة‬ ‫واملتابع للعر�ض امل�رسحي يجد �أن هناك دوائر‬
‫دورا يف الرتكيز على املواقف الدرامية‬ ‫لعبت ً‬ ‫حلقية للحدث‪ ،‬ت�صل �إىل ذروة ال�رصاع الدرامي‪،‬‬
‫التي ت�شكل نقطة حتول يف حياة ال�شخ�صيات‪،‬‬ ‫وهي قوالب جاهزة متاثلت مع منطية ال�شخ�صيات‪،‬‬
‫وعموديا يف الف�ضاء‬
‫ًّ‬ ‫أفقيا‬
‫وكان امتداد خطوطها � ًّ‬ ‫وميكن �أن جندها يف �شخ�صية‪ :‬النوخذة �سيف‬
‫امل�رسحي‪ ،‬كما �ساعدت على الرتكيز على حلظات‬ ‫والنوخذة زيد‪ ,‬و�شاهني‪ ..‬وامل�سكونني باالنتقام لهم‬
‫االحتقان الدرامي امللتهب بني النوخذة و�أخيه ‪.‬‬ ‫والعنف وحب ال�سيطرة‪ ..‬كما �أن هناك ال�شخ�صيات‬
‫ويفرت�ض �أن يحقق املمثل امل�رسحي الوحدة الفنية‪,‬‬ ‫التي متثل اخلري‪ ،‬مثل زوجة �شاهني‪ ..‬بينما بقية‬
‫حيث من ال�سمات التي ينفرد بها التمثيل امل�رسحي‪،‬‬ ‫ال�شخ�صيات بدت مقهورة ومظلومة كالأهبل (بروك)‬
‫�أن املمثل ال ينفرد وحده ب�إنتاج العملية الفنية‪,‬‬ ‫الذي يقوم بخدمة الآخرين‪ ،‬والذي يت�رصف بتلقائية‬
‫ذلك �أنها عملية متكاملة‪ ،‬وي�شرتك فيها �أكرث من‬ ‫وعفوية‪ ,‬تتقارب مع �شخ�صية املهرج يف م�رسحيات‬
‫عن�رص �أو جهة ت�سبق املمثل �أو تلحق به‪ ،‬فثمة –‬ ‫�شك�سبري التي تغر�س يف الأحداث للتخفيف من حدة‬
‫مثال‪ -‬امل�ؤلف واملخرج �أو امللحن يف الأوبرا �أو‬ ‫امل�أ�ساة‪ ،‬مما �ساعد على �إ�ضفاءنوع من البهجة‬
‫م�صمم الأقنعة‪� ،‬إ�ضافة �إىل جمموعة الفنون التي‬ ‫والفرح يف نفو�س املتفرجني‪ ,‬رغم قتامة الأحداث‬
‫لها عالقة مبا�رشة باجلمهور ويكون العمل الفني‬ ‫التي ميكن �أن حتيط بها‪.‬‬
‫بكل تفا�صيله ناجتا عنها(‪.)14‬‬ ‫ولقد �صاحب الأداء التمثيلي لل�شخ�صيات نوعا من‬
‫ومن املالحظ على هذا العر�ض ب�أنه مل ي�ستغل‬ ‫الت�شنج وال�رصاخ‪ ,‬مما جعل حواراتها متداخلة وغري‬
‫طاقات املمثلني و�أدواتهم احلقيقية‪ ،‬الأمر لو‬ ‫مفهومة‪ ،‬ولعل من الأمور املهمة يف �أي عر�ض‬
‫وجد كان �سيعمق طبيعة العالقة بني املمثلني‬ ‫م�رسحي هي التوا�صل مع املتلقي(‪ ..)12‬ولقد برزت‬
‫واجلمهور‪ ،‬ويربز هذا العر�ض ب�شكل �أف�ضل‪ ،‬ويبتعد‬ ‫يف القرن الع�رشين عدد من النظريات النقدية التي‬
‫عن الت�ضخيم وال�رصاخ والأداء املفتعل يف بع�ض‬ ‫ارتكزت على دور املتلقي‪ ،‬متذوقا كان و ناقدا يف‬
‫املواقف امل�رسحية‪.‬‬ ‫تناول العمل الفني املقدم‪ ،‬بحيث �أن يكون قادر‬
‫ومن مالمح هذا العر�ض حر�صه على ت�أكيد‬ ‫على تفح�ص هذا الإبداع واال�ستمتاع به بناء على‬
‫هويته �سواء �أكان يف الف�ضاء اجلغرايف للعر�ض‪،‬‬ ‫خرباته ال�شخ�صية التح�صيلية‪ ،‬والتي حتث على‬
‫او احلوارات ال�رسدية حيث وظف العر�ض ( اللهجة‬ ‫�رضورة البحث عن املعاين الداخلية‪ ،‬من �أجل حتديد‬
‫املحلية) ال�سجعية‪ ،‬يف حني اعترب البع�ض �أن‬ ‫الأبنية الكامنة فيه دون �إغفال الواقع املحيط به‪.‬‬
‫ا�ستخدامها�شكل �صعوبة يف فهم م�ضمون احلدث‬ ‫والبد من الإ�شارة‪� ,‬إىل �أن من �أ�سباب انخفا�ض‬
‫الرئي�سي يف العر�ض‪ ,‬كون امل�شاركني بحاجة �إىل‬ ‫تفاعل العر�ض مع ال�صالة‪ ,‬هو هبوط م�ستوى‬
‫مزيد من التدريبات على الإلقاء اخلطابي وخمارج‬ ‫الإيقاع الدرامي‪ ,‬نتيجة ال�ضجر الناجت عن �ضعف‬
‫‪166‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫ويف ظل تنامي �سلُطة و�سائل الإعالم و�رسعة‬ ‫ال�صوت ب�صورة �صحيحة‪.‬‬


‫نقل اخلرب‪ ,‬وحتليل الق�ضايا ال�سيا�سية التي تهم‬ ‫وهذا جعل احلوار يتحول �إىل حديث داخلي يرتدد‬
‫لزاما على امل�رسح مواكبة‬‫ال�شارع العربي‪ ،‬كان ً‬ ‫بني ردهات الديكور اخل�شبة الذي اكت�سح الف�ضاء‬
‫ذلك‪ ،‬مما ميكنه من طرح الق�ضايا ال�سيا�سية‬ ‫امل�رسحي‪ ،‬حيث برز من خالل خيام لل�صيادين‪,‬‬
‫واالجتماعية(‪..)15‬‬ ‫بينما ال�شخ�صيات الأخرى كانت تطلع وتهبط يف‬
‫وب�شيء من اجلر�أة ال�صارمة‪ ,‬ا�ستطاع عر�ض‬ ‫العمل ب�شكل �أفقي وعمودي ب�شكل م�ستمر‪ ..‬ورمبا‬
‫م�رسحية «الرتيال» �أن يعرب عن �أوجه الأنظمة‬ ‫�ضعف الأجهزة ال�صوتية �ساهم يف �صعوبة معرفة‬
‫القمعية‪ ،‬لتقدمي ر�سالة �رصيحة معربة عن واقع‬ ‫م�ضمون احلوار‪ ,‬ف�أ�صوات املمثلني عندما يكونون‬
‫ال�شعوب العربية من قبل ال�سلطات العليا التي تدار‬ ‫يف مقدمة اخل�شبة تكون وا�ضحة‪،‬ثم تبد�أ يف الذوبان‬
‫يف الأغلب بني �شخ�صيات و�صولية تزرع الوهم‬ ‫تدريجيا‪� .‬إ�ضافة �إىل غلبة النربة البكائية‬
‫ًّ‬ ‫يف العمق‬
‫بينهم‪ ،‬وجتعلهم ي�شعرون ب�أهمية ال�سلُطة‪ ،‬كونها‬ ‫على الأداء‪ ،‬كما �أن املونولوجات �أ�صبحت طويلة‬
‫تقدم لهم احلماية وت�شعرهم بالأمان!‪ ..‬وهذا النوع‬ ‫ومكررة‪ ,‬بحيث تعيد تف�سري احلدث‪ ،‬مما ولد �إرباك ًا‬
‫من ال�شخ�صيات االنتهازية هدفها الو�صول �إىل‬ ‫لدى املتفرج‪.‬‬
‫املنا�صب على ح�ساب الطبقة الكادحة‪ ،‬فهي تبيع‬ ‫ف�ضال عن �أن توظيف الديكور يف م�ساحته الكبرية‪,‬‬
‫الوهم والكذب ال�سيا�سي لهم‪ ،‬كما �أنها ت�سعى �إىل‬ ‫جتريديا‪ ,‬ومتحركً ا‪ ..‬وقد حر�ص املخرج‬ ‫ًّ‬ ‫كان‬
‫تكوين �صورة ذهنية زائفة‪ ،‬مو�ضحة �أن �أحالمهم‬ ‫نظرا لأن‬
‫على �أن يتخلل العر�ض املو�سيقي احلي‪ً ،‬‬
‫�ستحقق مما ميكنهم من العي�ش ب�أمان‪ ,‬بينما‬ ‫(املو�سيقار) الذي كان يعزف للعر�ض املقطوعات‬
‫احلقيقة غري ذلك؟!‪ ..‬وعندما يتطلب الأمر‪ ،‬ف�إنها‬ ‫كان يجل�س يف �أعلى امل�رسح‪ ،‬ي�سار امل�شاهد‪ ..‬وهذا‬
‫تتخذ �أية و�سيلة لإغراء ال�شعوب حتى يت�سنى لها‬ ‫ما جعل العر�ض و�سيلة تعبريية حية‪ ،‬ولدت يف ذات‬
‫ال�سيطرة‪ ..‬وهذه ا�ستعارة �رصيحة ووا�ضحة تو�ضح‬ ‫امل�شاهد الكثري من الت�سا�ؤالت؟!‬
‫ب�أن ال�سلُطة �إذا ما �أرادت �أن حتكم �شعبا فعليها �أن‬
‫رابعا‪ :‬عر�ض م�سرحية «الرتيال»‬
‫ت�ضلله!‪ ..‬وبرغم تراجيدية العمل وقتامة الأحداث‪،‬‬
‫مل�سرح عجمان الوطني‬
‫�إال �أنه ال يخلو من احل�س الكوميدي‪ ،‬الذي يقرتمبن‬
‫الكوميديا ال�سوداء(‪.)16‬‬ ‫عندما تزداد حدة ال�رصاع بني (ال�سيا�سة والدين)‬
‫وتظهر يف هذا العر�ض مالمح ظالل امل�رسح‬ ‫تكون ال�شعوب هي ال�ضحية‪ ،‬ولعل ما يدور يف رحى‬
‫الربختي(‪ )17‬كونه يك�شف الأوراق ال�سحرية‬ ‫عاملنا العربي‪ ،‬الربيعي احلا�رض‪ ..‬خري دليل على‬
‫لل�سلُطة‪ ،‬ويعري الأحداث الدرامية‪ ,‬حيث عمد‬ ‫ذلك ‪ .‬وبلغة ب�رصية م�شحونة بالكثري من الر�سائل‬
‫املخرج الكويتي حممد احلملي على ك�رس احلاجز‬ ‫ال�سيا�سية الناطقة ب�أحالم و�أنات ال�شعوب‪ ،‬جاء‬
‫الرابع (العلبة االيطالية) يف امل�شهد الذي يتعاطى‬ ‫عر�ض م�رسحية (الرتيال)حمفوفًامبخاطر العالقة‬
‫فيه ال�شعب املخدر‪ ،‬مما جعل املمثلني يخرجون‬ ‫بني رجال ال�سلُطة ورجال الدين!‪ ..‬وهي م�رسحية‬
‫�إىل �صالة املتفرجني‪ ،‬وهم يف الالوعي‪ ..‬الأمر الذي‬ ‫من ت�أليف �إ�سماعيل عبداهلل‪ ،‬امل�أخوذة عن رواية‬
‫جعل هذا العر�ض يقرتب مع روح امل�رسح ال�سيا�سي‬ ‫(زوبك) للم�ؤلف الرتكي ال�شهري عزيز نا�سني‪ ،‬وهي‬
‫بكل حماذيره(‪!)18‬‬ ‫دراميا �ساب ًقا‬
‫ًّ‬ ‫من الروايات ال�شهرية التي عاجلها‬
‫رفيق ال�صبان يف م�سل�سله ال�شهري (الدوغري)‪ ,‬من‬
‫(البقية على موقع املجلة باالنرتنت)‬ ‫بطولة الفنان دريد حلام عام ‪1992‬م‪.‬‬

‫‪167‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫�سينما‬

‫‪168‬‬
‫لوي�س بونويل‪� /‬سلفادور دايل‬
‫�سيناريو الفيلم الطليعي‪:‬‬
‫كلب �أندل�سي‬
‫ترجمة‪ :‬حممد عيد �إبراهيم‬
‫مرتجم وكاتب من م�رص‬

‫ين �سلفادور‬ ‫وقد تعاون مع الفنان الإ�سبا ّ‬ ‫ُيع ّد لوي�س بونويل (‪ 1900‬ب�إ�سبانيا ـ ‪1983‬‬
‫دايل يف كتابة �سيناريو فيلمه الأول «كلب‬ ‫باملك�سيك) �أول خمرج طليعي جتريبي‬
‫أندل�سي» (با�سم ديوان بونويل الأول)‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫درامي �سوريايلّ‪ .‬وقد �أخرج �أول �أفالمه «كلب‬
‫الذي اعتربه �سالح ًا �سوريالي ًا ل�صدمة‬
‫الطليعي‪ .‬ثم‬ ‫الفن‬
‫أندل�سي» الذي نال به م�صداقية فنية عام‬ ‫ّ‬ ‫�‬
‫ّ‬ ‫البورجوازية وانتقاد ّ‬
‫تعاون مع دايل مرة �أخرية يف فيلم بعنوان‬ ‫‪ .1928‬ودام ن�شاطه ال�سينمائي حتى وفاته‬
‫الذهبي»‪ ،‬ثم هجر �صناعة ال�سينما‬
‫ّ‬ ‫«الع�رص‬ ‫قرابة ن�صف قرن‪ ،‬وتركّز يف ك ّل من‪ :‬موطنه‬
‫حوايل ع�رشين عاماً‪ ،‬حتى انتهت احلرب‬ ‫الأم �إ�سبانيا‪ ،‬املك�سيك‪ ،‬فرن�سا‪� ،‬أمريكا‪.‬‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬ثم انتقل �إىل املك�سيك‪،‬‬ ‫ويعتربه نقّاد ال�سينما من �أكرب املخرجني يف‬
‫وتابع �إىل �أمريكا‪ ،‬ف�أنتج كوميديات‬ ‫جمال ال�سينما بالعامل حيث تعاملت �أوىل‬
‫جتارية كان يعي�ش عليها يف �أواخر �أيامه‪.‬‬
‫جتاربه ال�سينمائية مع الأحالم واجلنون يف‬
‫املن�سي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من �أهم �أفالمه‪� :‬أر�ض بال خبز‪،‬‬
‫هذه العاطفة الغريبة‪� ،‬سوزان‪ ،‬ال�صعود‬ ‫حياة الإن�سان‪.‬‬
‫�إىل الزنزانة‪� ،‬أ�سفار وهمية بال�سيارة‪،‬‬ ‫� ّأ�س�س ال�سينما ال�سوريالية‪ ،‬وهو �أ�ستاذ‬
‫النهر واملوت‪ ،‬يوميات خادمة‪� ،‬سمعان‬ ‫ال�سينما ال�صامتة وامل�سموعة‪ ،‬والت�سجيلية‬
‫ال�صحراوي‪ ،‬تري�ستانا‪� ،‬شبح احلرية‪ ،‬غاية‬
‫ّ‬ ‫والروائية‪ ،‬لكن �أفالمه مل تكن كلها‬
‫الرغبة الغام�ضة‪.‬‬ ‫�سوريالية‪ ،‬بل كان بع�ضها درامي ًا واقعي ًا‬
‫�أما �سلفادور دايل (‪ 1904‬ـ ‪ )1989‬ف ُيع ّد‬ ‫�أو متثل الواقعية اجلديدة‪ .‬وتتمثّل �أهدافه‬
‫من كبار الر�سامني ال�سورياليني‪ ،‬وهو‬
‫ظاهرة يف ح ّد ذاته �أكرب �أحيان ًا من قيمته‬
‫يف‪ :‬ال�سخرية من الثقافة البورجوازية‬
‫كفنان‪ ،‬فقد �سعى للكالم عن نف�سه على‬ ‫واال�شرتاكية والفا�شية والكني�سة‪ ،‬حيث قال‬
‫مير بها‪ ،‬كان �آخرها قبل وفاته‪:‬‬ ‫مراحل ّ‬ ‫الديني وال�سوريالية‬
‫ّ‬ ‫مرة «لقد م ّيز التعليم‬
‫ومر دايل بع ّدة مدار�س يف‬ ‫دايل املق ّد�س‪ّ .‬‬ ‫�أهم معامل حياتي»‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املو�سى عني امر�أة �شابة‪.‬‬ ‫حياته الفنية‪ :‬التكعيبية‪ ،‬امل�ستقبلية‪ ،‬امليتافيزيقية‪،‬‬
‫نهاية املفتتح‪.‬‬ ‫ال�سوريالية‪ ،‬وملهارته يف الدعاية الذاتية‪� ،‬صار‬
‫�أ�شهر ممثلي احلركة الأخرية على الإطالق (ظهر‬
‫بعد ثماين �سنوات‬
‫ب�أول معار�ضه يف لبا�س الغط�س)‪� .‬سافر من �إ�سبانيا‬
‫�شارع مقفر‪ .‬والدنيا متطر‪.‬‬ ‫�إىل فرن�سا‪ ،‬ثم �إيطاليا‪ ،‬ثم �أمريكا‪ ،‬وعاد ‪� 1955‬إىل‬
‫يبدو رجل مرتدي ًا بدلة رمادية داكنة وهو يركب‬ ‫فرن�سا وظ ّل بها حتى وفاته‪.‬‬
‫مزينة بك�شك�شة‬ ‫دراجة‪ .‬ر�أ�سه وظهره ومنطقة العانة ّ‬ ‫�أن�ش�أ دايل نظرية «البارانويا النقدية»‪ ،‬حيث ينادي‬
‫من ك ّتان �أبي�ض‪ .‬علبة م�ستطيلة ب�رشائط �سوداء‬ ‫احلقيقي بينما‬ ‫ينمي املرء نوع ًا من الفِ�صام‬ ‫ب�أن ّ‬
‫ّ‬
‫وبي�ضاء مائلة مربوطة �إىل �صدره بحزام‪ .‬يب ّدل‬ ‫يحتفظ بعقله من�ضبط ًا يف م� ّؤخر ر�أ�سه‪ ،‬وقال‬
‫الرجل قدميه ب�صورة �آلية من دون �أن مي�سك مِ ْقو َدي‬ ‫والفن‪ ،‬بل ويف‬ ‫ّ‬ ‫ب�إمكان ممار�سة هذا يف ال�شعر‬
‫الدراجة‪ ،‬بينما ترتاح يداه على ُركبتيه‪.‬‬ ‫احلياة اليومية �أي�ضاً‪ .‬وكان يوظّ ف يف فنه بع�ض‬
‫ُيرى ال�شخ�ص من الوراء مائ ًال على فخذيه بلقطة‬ ‫الواقعي الذي‬ ‫التقنيات‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ُبعد احللم غري‬
‫ّ‬
‫متو�سطة‪ ،‬يركب بطوله ناز ًال ال�شارع وهو يقود‬ ‫ّ‬ ‫يخلّق �شخ�صيات لوحاته الغريبة‪ ،‬قائ ًال «هي �صور‬
‫الدراجة‪ ،‬بظهره �إىل الكامريا‪.‬‬‫ّ‬ ‫من واقع يد الأحالم» من قبيل‪ :‬الب�رش اخلارجني‬
‫يتحرك ال�شخ�ص ناحية الكامريا حتى تبدو العلبة‬ ‫من الأدراج‪ ،‬الزرافات املحرتقة‪ ،‬ال�ساعات ال�سائلة‬
‫مقربة‪.‬‬
‫املربوطة يف لقطة ّ‬ ‫ك�أنها من �شمع ذائب‪ .‬وغري الر�سام‪ ،‬كان دايل‬
‫غرفة عادية بالدور الثالث يف ال�شارع نف�سه‪ .‬امر�أة‬ ‫وم�صمم كتب وجموهرات وديكور‬ ‫ّ‬ ‫نحات ًا وفنان حفر‬
‫رداء ب�ألوان فاقعة‪ ،‬جتل�س مبنت�صف‬ ‫�شابة تلب�س ً‬ ‫م�رسحي‪ .‬وكتب رواية «وجوه خفية»‪ ،‬و�ساعد‬ ‫ّ‬
‫الغرفة منتبهة وهي تقر أ� كتاباً‪ .‬يت�ش ّتت انتباهها‬ ‫هيت�شكوك يف �سيناريو فيلم «الدائخ»‪.1945 ،‬‬
‫فج�أة عن القراءة‪ُ .‬تن�صت بف�ضول‪ ،‬قبل �أن حُت ّرر‬ ‫�سيناريوي‬
‫َ‬ ‫يل بونويل‬
‫كتب دايل مع املخرج ال�سوريا ّ‬
‫نف�سها من الكتاب ب�أن تلقيه نحو �أقرب �أريكة‪.‬‬ ‫الذهبي‪ ،‬و ُيعتربان‬ ‫أندل�سي والع�رص‬ ‫فيلمني‪ :‬كلب �‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يظ ّل الكتاب مفتوح ًا مع ن�سخة من لوحة فريمري‬ ‫�أوىل الأفالم ال�سوريالية يف العامل‪ .‬لكنه انف�صل عن‬
‫«املطرزة» على �إحدى ال�صفحات املقلوبة لأعلى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بونويل �رسيعاً‪ ،‬وعا�ش ك ٌل لفنه‪ ،‬ف�صار دايل �أ�شهر‬
‫تقتنع املر�أة ال�شابة الآن �أن �شيئ ًا غريب ًا يحدث‪:‬‬ ‫ال�شخ�صيات الفنية يف القرن ‪ ،20‬و�صار بونويل من‬
‫فتنه�ض‪ ،‬وبن�صف دورة ت�سري بخطو �رسيع �إىل‬ ‫بح�س عال وخيال‬ ‫ّ‬ ‫يتميزون‬
‫كبار املخرجني الذين ّ‬
‫النافذة‪.‬‬ ‫غرائبي يف طريقة �صنع �أفالمه‪ ،‬وكتابتها �أحياناً‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ال�شخ�ص الذي ذكرناه من قبل تو ّقف يف هذه اللحظة‪،‬‬ ‫التجريبي‬ ‫الطليعي‬ ‫الفيلم‬ ‫�سيناريو‬ ‫ن�ص‬
‫ّ‬ ‫هنا‬ ‫ونرتجم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حتت بال�شارع‪ .‬بدون �أن يطرح �أدنى مقاومة‪ ،‬ومن‬ ‫أندل�سي» ال�صادر �ضمن كتاب «خيانة ال‬ ‫«كلب �‬
‫ّ‬
‫بالدراجة يف م�رصف‪ ،‬و�سط كومة‬ ‫ّ‬ ‫غري ك�سل‪ ،‬ينزل‬ ‫ُتو�صف‪ :‬كتابات خمتارة من لوي�س بونويل»‪:‬‬
‫من الطني‪.‬‬
‫ت�رسع املر�أة ال�شابة للنزول على ال�سالمل‪ ،‬وتبدو‬ ‫مفتتح‬
‫م�ستاءة غا�ضبة‪ ،‬ثم تخرج لل�شارع‪.‬‬ ‫كان يا ما كان‪...‬‬
‫مقربة لل�شخ�ص و�أطرافه مرتامية �أر�ضاً‪،‬‬ ‫لقطة ّ‬ ‫�رشفة ليالً‪.‬‬
‫بتعبري جامد‪ ،‬و�ضعه �شبيه بلحظة �سقوطه‪.‬‬ ‫رجل يقف جنب نافذة‪ ،‬ي�شحذ مو�سى‪ .‬يتطلّع �إىل‬
‫تخرج ال�شابة من املنزل‪ ،‬وتلقي بنف�سها على راكب‬ ‫ال�سماء فريى �سحاب ًة تتحرك نحو قمر بدر‪.‬‬
‫فتقبله بجنون يف فمه‪ ،‬وعينيه و�أنفه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدراجة‪،‬‬‫ّ‬ ‫متر ال�سحابة عرب وجه القمر‪ ،‬تقطع �شفرة‬ ‫وبينما ّ‬
‫‪170‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب�ش ّدة؛ ثم مييل ليلتقط اليد ويل ّفها يف حر�ص‬ ‫ي�صبح املطر �أغزر ح ّد �أنه يلطّ خ امل�شهد ال�سابق‪.‬‬
‫الدراجة‪.‬‬
‫لي�ضعها يف العلبة التي كان يحملها راكب ّ‬ ‫تذوب �رشائط العلبة املربوطة ب�سبب املطر‪ .‬تتج ّهز‬
‫حييها بطريقة ع�سكرية‬ ‫ي�سلّمها للمر�أة ال�شابة‪ ،‬ثم ُي ّ‬ ‫اليدان مبفتاح �صغري لفتح العلبة‪ ،‬ونزع ربطة العنق‬
‫ريثما هي ت�شكره‪.‬‬ ‫امللفوفة بورق �ش ّفاف‪ُ .‬ي�ؤخذ يف احلُ�سبان �أن املطر‬
‫ال�رشطي العلبة‪ ،‬يغلبها انفعال فوق‬
‫ّ‬ ‫بينما ي�سلّمها‬ ‫والعلبة والورق ال�ش ّفاف وربطة العنق �س ُتبدي كلّها‬
‫العادة يعزلها عن ك ّل ما حولها‪ .‬ك�أنها م�أ�سورة‬ ‫ال�رشائط املائلة‪ ،‬بقيا�ساتها املتفاوتة وحدها‪.‬‬
‫�ضمن �أ�صداء مو�سيقى دينية بعيدة؛ قد تكون‬ ‫الغرفة نف�سها‪.‬‬
‫مو�سيقى �سمعتها يف بواكري طفولتها‪.‬‬ ‫تقف املر�أة ال�شابة جنب الفرا�ش‪ ،‬تتطلّع يف قطع‬
‫التفرق يف جميع‬
‫ّ‬ ‫ت�شبع ف�ضولهم‪ ،‬يبد�أ املارة‬‫لدى ّ‬ ‫املالب�س تلك التي �أبالها ال�شخ�ص ـ الك�شك�شة‪،‬‬
‫االجتاهات‪.‬‬ ‫املن�شاة بربطة العنق ال�سوداء ال�سادة‬ ‫ّ‬ ‫العلبة‪ ،‬والياقة‬
‫�سريى هذا امل�شهد ال�شخ�صان اللذان تركناهما يف‬ ‫ـ مو�ضوعة كلّها ك�أن �شخ�ص ًا على الفِرا�ش �أبالها‪.‬‬
‫غرفة الطابق الثالث‪ .‬فرناهما بني �ألواح نافذة‬ ‫تقرر املر�أة ال�شابة �أخرياً التقاط الياقة‪ ،‬وتنزع ربطة‬ ‫ّ‬
‫ال�رشفة التي ت ّت�ضح بنهاية امل�شهد املو�صوف �أعاله‪.‬‬ ‫العنق ال�سادة لت�ضعها حملّها مع تلك املقلّمة التي‬
‫ال�رشطي العلبة للمر�أة ال�شابة‪ ،‬يظهر‬
‫ّ‬ ‫حني ُي�سلّم‬ ‫�أخرجتها تواً من العلبة‪ .‬ترجعها للمح ّل نف�سه‪ ،‬ثم‬
‫بال�رشفة ال�شخ�صان مغلوبني باالنفعال نف�سه ح ّد‬ ‫جتل�س جنب الفرا�ش بو�ضعية �شخ�ص يراقب ميت ًا‬
‫يتتبع �إيقاع تلك‬
‫الدمع �أي�ضاً‪ .‬يتمايل ر�أ�ساهما كمن ّ‬ ‫عل‪.‬‬
‫من ٍ‬
‫(مالحظة‪ :‬الفِرا�ش‪� ،‬أو بالأحرى مفر�ش ال�رسير‬
‫جمعدة قلي ًال ومته ّدلة ك�أن ج�سم ًا ب�رشي ًا‬
‫واملخ ّدة‪ّ ،‬‬
‫كان راقداً هناك فعالً)‬
‫حت�س املر�أة �أن �أحداً يقف خلفها فت�ستدير لرتى من‬ ‫ّ‬
‫هو‪ .‬دون �أدنى مفاج�أة‪ ،‬ترى ال�شخ�ص‪ ،‬وهو الآن من‬
‫غري كمالياته ال�سابقة‪ ،‬لكنه يتطلّع منتبه ًا �إىل �شيء‬
‫�رس‬
‫براحته اليمنى‪ .‬ويف�ضح هذا اال�ستغراق الكبري ّ‬
‫القلق الكبري‪.‬‬
‫تدنو املر�أة لرتى بدورها ما ي�ضعه يف يده‪ .‬لقطة‬
‫مقربة لليد‪ ،‬و�سطها زاخر بنمل يخرج مزدحم ًا من‬ ‫ّ‬
‫ثَقب �أ�سود‪.‬‬
‫نقرتب من َ�شعر �إبط امر�أة �شابة ت�سرتخي على الرمل‬
‫بحري ترتقرق‬ ‫ّ‬ ‫يف �شاطئ م�شم�س‪ .‬نقرتب من قنفذ‬
‫�أ�شواكه طفيفاً‪ .‬نقرتب من ر�أ�س املر�أة ال�شابة بلقطة‬
‫من فوق الر�أ�س قوية يف �إطار زهرة �سو�سن‪ .‬تتف ّتح‬
‫زهرة ال�سو�سن لتك�شف املر�أة ال�شابة �ضمن ح�شد من‬
‫النا�س يحاولون حتطيم حاجز لل�رشطة‪.‬‬
‫مت�سك املر�أة ال�شابة‪ ،‬مبنت�صف هذه الدائرة‪ ،‬ع�صا‪،‬‬
‫ملونة كانت‬ ‫وحتاول التقاط يد مقطوعة ب�أظافر ّ‬
‫�رشطي‪ ،‬ي�ؤ ّنبها‬‫ّ‬ ‫راقدة على الأر�ض‪ .‬يقرتب منها‬
‫‪171‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫نرى �أمام �أعيننا على ال�شا�شة �أ�شياء عابرة‪ :‬فلّني‪،‬‬ ‫املو�سيقى غري املح�سو�س‪.‬‬
‫�أوالً‪ ،‬ثم بطيخة‪ ،‬ثم �أخوين من املدار�س امل�سيحية‪،‬‬ ‫يتطلّع الرجل �إىل املر�أة ال�شابة ب�إمياء من يقول‪:‬‬
‫ويف النهاية بيانوين اثنني �ضخمني رائعني‪.‬‬ ‫«�أر�أيتِ ؟ �أمل �أخربك بهذا؟» ف ُتخف�ض ب�رصها ثاني ًة‬
‫بجث َتي حمارين متعفن َتني‪،‬‬ ‫البيانوان محُ ّمالن ُ‬ ‫نحو املر�أة ال�شابة التي يف ال�شارع وقد �صارت‬
‫ب�أرجلهما‪ ،‬بذيليهما‪ ،‬مب� ّؤخرتيهما‪ ،‬بالرباز امل�سكوب‬ ‫م�سمرة �إىل البقعة‪ ،‬يف‬
‫وحدها الآن متاماً‪ ،‬وك�أنها ّ‬
‫مير �أحد البيانوين �أمام‬‫على ال�صندو َقني‪ .‬بينما ّ‬ ‫متر العربات من حولها‬ ‫حالة من الكبت الكلّي‪ّ .‬‬
‫عد�سات الكامريا‪ُ ،‬يرى ر�أ�س حمار كبري عابراً فوق‬ ‫ب�رسعات خاطفة‪ .‬وفج�أة ت�صدمها �إحدى هذه‬
‫املفاتيح‪.‬‬ ‫م�شوهة ب�شكل مرعب‪.‬‬ ‫العربات ف ُتخلّفها هناك ّ‬
‫وبينما ي�ش ّد الرجل هذه احلمولة ب�صعوبة بالغة‪،‬‬ ‫مي�ضي الرجل‪ ،‬حينذاك‪ ،‬بح�سم رجل يعرف حقوقه‬
‫فيتخبط بالكرا�سي‬
‫ّ‬ ‫ينجذب يائ�س ًا نحو املر�أة ال�شابة‪،‬‬ ‫جيداً‪� ،‬إىل رفيقته‪ ،‬ولدى حتديقه مبا�رش ًة يف عينيها‬
‫والطاوالت وملبة ال�سقف‪� ،‬إلخ‪ .‬تنح�رش م� ّؤخرة‬ ‫ب�شكل فا�سق‪ ،‬يقب�ض على ثد َييها من ف�ستانها‪.‬‬
‫احلمار يف ك ّل �شيء‪ .‬ترتطم ملبة معلّقة من ال�سقف‬ ‫مقربة لليدين امللت ّذ َتني فوق الثد َيني‪ .‬يبدوان‬ ‫لقطة ّ‬
‫جمردة‪ ،‬وتظ ّل تهت ّز حتى نهاية امل�شهد‪.‬‬‫ب َعظمة ّ‬ ‫عار َيني بينما يختفي الف�ستان‪ .‬تعبري مفزع من‬
‫حني يكون الرجل على و�شك بلوغ املر�أة ال�شابة‪،‬‬ ‫عذاب مميت بوجه الرجل‪ ،‬ثم ي�سيل لعاب م�شوب‬
‫تراوغه بنطّ ة ثم تهرب‪ .‬يرتك مهاجمها احلبلَني‬ ‫بالدم من فمه ين ّقط فوق الثد َيني العار َيني للمر�أة‬
‫ويبد أ� مالحقتها‪ .‬تفتح املر�أة ال�شابة باب ًا وتختفي‬ ‫ال�شابة‪.‬‬
‫يف الغرفة املجاورة‪ ،‬لكن من غري ال�رسعة الكافية‬ ‫يختفي الثديان لي�ستحيال فخذَين يوا�صل الرجل‬
‫لأن تغلق الباب خلفها‪ .‬فتم�سك يد الرجل بالر�سغ يف‬ ‫تفور عيناه بالغ ّل‬
‫ُ‬ ‫َج ّ�سهما‪ .‬يتغيرّ تعبري وجهه‪.‬‬
‫املدخل‪ ،‬وت�أ�رسه‪.‬‬ ‫وال�شهوة‪ .‬فمه الذي كان مفتوح ًا على ات�ساعه ُيغلَق‬
‫املر�أة ال�شابة‪ ،‬داخل الغرفة الأخرى‪ ،‬ت�ضغط الباب‬ ‫الآن كمن َز ّمه بالع�ضلة العا�رصة‪.‬‬
‫تتوجع من �أمل‬
‫ّ‬ ‫ب�ش ّدة �أقوى‪ ،‬وتنظر �إىل اليد التي‬ ‫تتحرك املر�أة ال�شابة عائد ًة ملنت�صف الغرفة‪ ،‬يتبعها‬
‫بحركة ب�سيطة‪ ،‬بينما يعاود النمل ظهوره حمت�شداً‬ ‫الرجل وهو ال يزال بالو�ضع نف�سه‪.‬‬
‫على الباب‪.‬‬ ‫تقوم فج�أ ًة بحركة قوية‪ ،‬تقطع احت�ضانه لها‪،‬‬
‫ُتدير املر�أة ال�شابة ر�أ�سها بعيداً نحو منت�صف الغرفة‬ ‫فتحرر نف�سها من متهيداته الغرامية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اجلديدة‪ ،‬وهي مطابقة للغرفة ال�سابقة‪ ،‬وعند �إ�ضاءة‬ ‫غ�ضباً‪.‬‬
‫يزم الرجل فمه ُم َ‬ ‫ّ‬
‫النور متنح نظرة خمتلفة؛ فرتى‪...‬‬ ‫تدرك �أن م�شهداً عنيف ًا �أو مزعج ًا على و�شك احلدوث‪.‬‬
‫رج ًال مت ّدد على الفِرا�ش‪ ،‬هو الرجل نف�سه ذا اليد‬ ‫ت�ستعيد احلركة‪ ،‬خطو ًة بعد خطوة‪ ،‬حتى تبلغ ركن‬
‫املم�سكة بالباب‪ .‬يلب�س �شيئ ًا بك�شك�شة‪ ،‬مع العلبة‬ ‫الغرفة‪ ،‬حيث ت ّتخذ و�ضع ًا خلف طاولة �صغرية‪.‬‬
‫التي ترتاح على �صدره‪ ،‬وال يبدي �أدنى حركة‪ ،‬لكنه‬ ‫م ّتخذاً مالمح �رشير مبيلودراما‪ ،‬يتطلّع الرجل حوله‬
‫راقد هناك‪ ،‬عيناه مفتوحتان على و�سعهما‪ ،‬تعبري‬ ‫من �أجل �شيء �أو �آخر‪ .‬يرى عند قدميه طرف حبل‬
‫يف كمن يقول‪« :‬هناك �شيء فوق العادة‬ ‫وجهه اخلرا ّ‬ ‫تتلم�س يده الي�رسى �أي�ضاً‪،‬‬ ‫فيلتقطه بيده اليمنى‪ّ .‬‬
‫على و�شك احلدوث الآن فعالً!»‬ ‫فتم�سك حب ًال مماثالً‪.‬‬
‫ترقب املر�أة ال�شابة يف رعب‪ ،‬وهي ملت�صقة‬
‫قرب الثالثة �صباح ًا‬ ‫باحلائط‪ ،‬حيلة مهاجمها‪.‬‬
‫ُيرى �شخ�ص جديد من الوراء على الر�صيف؛ تو ّقف‬ ‫يتق ّدم الأخري ناحيتها وهو ي�سحب بجهد بالغ ما‬
‫يرن جر�س ال�ش ّقة حيث‬
‫تواً جنب باب مدخل ال�ش ّقة‪ّ .‬‬ ‫كان م ّت�ص ًال وراءه باحلبلني‪.‬‬
‫‪172‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ك ّل �شيء �إىل طبيعته‪ ،‬فيختفي ال�ضباب واحلركة‬ ‫تدور الأحداث‪ .‬ال نرى اجلر�س وال املد ّقة الكهربية‪،‬‬
‫البطيئة‪.‬‬ ‫متر من خاللهما‬ ‫لكن حملّها‪ ،‬فوق الباب‪ ،‬ثقبان ّ‬
‫لدى و�صوله للرجل‪ ،‬يقوم الوافد اجلديد بتوجيهه‬ ‫ترجان ك�أ�س ه ّزاز كوكتيل ف�ضياً‪� .‬أدا�ؤهما‬ ‫يدان ّ‬
‫كي مي ّد ذراعيه بو�ضعية ال�صليب‪ ،‬وا�ضع ًا كتاب ًا يف‬ ‫حلظي‪ ،‬كما بالأفالم العادية‪ ،‬حتى ي�ضغط �أحد ِز ّر‬ ‫ّ‬
‫ك ّل يد‪ ،‬وي�أمره �أن يظ ّل هكذا نوع ًا من العقاب‪.‬‬ ‫جر�س الباب‪.‬‬
‫متحم�س ًة‬
‫ّ‬ ‫ا�ستحالت تعبريات ال�شخ�ص املُعا َقب الآن‬ ‫يح ّدق الرجل الراقد بالفِرا�ش �أعاله‪.‬‬
‫وحتول‬
‫ّ‬ ‫حتول ليواجه الوافد اجلديد‪.‬‬ ‫وغ ّدار ًة‪ .‬ثم ّ‬ ‫مت�ضي املر�أة ال�شابة فتفتح الباب‪.‬‬
‫الكتابان اللذان كان مي�سكهما �إىل غ ّدارتني‪.‬‬ ‫مي�ضي الوافد اجلديد مبا�رشة نحو الفِرا�ش‪� ،‬آمراً‬
‫يتطلّع فيه الوافد اجلديد بر ّقة‪ ،‬وهو تعبري ي ّت�ضح‬ ‫الرجل بغطر�سة �أن ينه�ض‪ .‬ميتثل الرجل على‬
‫�أكرث مع ك ّل حلظة عابرة‪.‬‬ ‫م�ض�ض حتى ُي�ضطر الآخر �أن مي�سكه من الياقة‬
‫مب�س ّد�سيه غا�صب ًا �إياه‬
‫�أما الآخر‪ ،‬فيه ّدد الوافد اجلديد ُ‬ ‫املك�شك�شة جمرباً �إياه للوقوف على قدميه‪.‬‬
‫�أن يرفع يديه لأعلى‪ ،‬غري ملتفت �إىل �إذعان الأخري‪،‬‬ ‫ولدى متزيقه ك�شك�شة قمي�صه واحد ًة بعد �أخرى‪،‬‬
‫مقربة‬ ‫ثم يطلق النار عليه من كال املُ�س ّد�سني‪ .‬لقطة ّ‬ ‫يلقي بها الوافد اجلديد من النافذة‪ .‬تتبع العلبة‬
‫متو�سطة للوافد اجلديد وهو يرمتي جريح ًا �إىل ح ّد‬ ‫ّ‬ ‫اجلولة نف�سها وكذلك ال�رشائط‪ ،‬التي يحاول الرجل‬
‫تتلوى مالحمه يف عذاب ( ُي�ست�أنف غمو�ض‬ ‫ّ‬ ‫مميت‪،‬‬ ‫يائ�س ًا �أن ينقذها من الكارثة‪ .‬وي ؤ� ّدي هذا بالوافد‬
‫ال�صورة‪ ،‬ثم تبدو �سقطة الوافد اجلديد بحركة بطيئة‪،‬‬ ‫اجلديد �إىل معاقبة الرجل ب�أن يجعله مي�ضي فيقف‬
‫بوجهه ناحية �أحد احلوائط‪.‬‬
‫�سي�ؤ ّدي الوافد اجلديد هذا كلّه وظهره م�ستدير متام ًا‬
‫ناحية الكامريا‪ .‬ي�ستدير يف هذه اللحظة للمرة‬
‫الأوىل كي يذهب ويبحث عن �شيء يف اجلانب الآخر‬
‫من الغرفة‪.‬‬
‫من �ستة ع�شر عام ًا‬
‫ي�صبح الت�صوير لدى هذه النقطة غائماً‪ .‬يتحرك‬
‫الوافد اجلديد بحركة بطيئة ونرى مالحمه مطابقة‬
‫ملالمح الآخر؛ فهما واحد وهما ال�شخ�ص نف�سه‪،‬‬
‫لكن‪ ،‬لوجه احلقيقة‪ ،‬يبدو الوافد اجلديد �أكرث �شباب ًا‬
‫و�أ�ش ّد ك�آبة‪ ،‬كما كان الآخر من �سنني �أعقبت‪.‬‬
‫مي�ضي الوافد اجلديد ناحية ظهر الغرفة تتبعه‬
‫مقربة‪.‬‬
‫الكامريا فتجعله مبنت�صف لقطة ّ‬
‫طاولة املدر�سة التي ي ّتجه �إليها �شخ�صنا تدخل �إطار‬
‫ال�صورة‪ .‬على طاولة املدر�سة كتابان‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬
‫أخالقي‬
‫ّ‬ ‫منوعة‪ ،‬مو�ضعها ومعناها ال‬ ‫�أ�شياء مدر�سية ّ‬
‫حم ّددان بعناية‪.‬‬
‫يلتقط الوافد اجلديد الكتابني وي�ستدير ليذهب‬
‫من�ض ّم ًا �إىل الرجل الآخر‪ .‬ولدى هذه النقطة‪ ،‬يعود‬‫َ‬
‫‪173‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إبطها ب�رسعة‪ ،‬وكان عندئ ٍذ عاري ًا متاماً‪ .‬ف ُتطلع‬ ‫بطريقة �أ�ش ّد و�ضوح ًا مما �سبق)‪.‬‬
‫ل�سانها باحتقار �إليه‪ ،‬ثم تلقي �شا ًال على كتفيها‪،‬‬ ‫نرى الرجل اجلريح عن ُبعد وهو ي�سقط؛ وهو عموم ًا‬
‫وبفتح الباب القريب منها‪ ،‬مت�ضي �إىل الغرفة‬ ‫مل يعد داخل الغرفة‪ ،‬بل يف حديقة‪ .‬جتل�س جنبه‬
‫املجاورة‪ ،‬وكانت عبارة عن �شاطئ وا�سع‪.‬‬ ‫امر�أة �ساكنة بكتفني عاريني‪ ،‬و ُترى من اخللف‪ ،‬وهي‬
‫ينتظرها �شخ�ص ثالث قرب حا ّفة املاء‪ُ .‬يحيي ك ّل‬ ‫متيل طفيف ًا للأمام‪ .‬بينما ي�سقط الرجل اجلريح‪،‬‬
‫منهما الآخر بو ّد بالغ‪ ،‬ثم يت�سكّعان مع ًا على طول‬ ‫يحاول �أن مي�سك كتفيها ويداعبهما؛ ت�ستدير �إحدى‬
‫خطّ املياه‪.‬‬ ‫فتم�س بر ّقة‬
‫ّ‬ ‫يديه‪ ،‬فتهت ّز ناحيته هو؛ �أما الأخرى‬
‫لقطة لأرجلهما واملوج يتحطّ م عند �أقدامهما‪.‬‬ ‫جلد الكتفني العاري‪ .‬ثم ي�سقط يف النهاية �أر�ضاً‪.‬‬
‫تتتبعهما الكامريا بلقطة ناعمة‪ .‬يجرف املوج �إىل‬ ‫حرا�س‬‫منظر من بعيد‪ .‬عدد من املارة وعديد من ّ‬
‫ال�شطّ بر ّقة‪ :‬ال�رشائط‪ ،‬ثم العلبة املقلّمة‪ ،‬متبوعة‬ ‫احلديقة يندفعون لنجدته‪ .‬يقيمونه بني �أذرعهم ثم‬
‫والدراجة �أخرياً‪ .‬تدوم هذه‬ ‫ّ‬ ‫بالقمي�ص املك�شك�ش‪،‬‬ ‫يحملونه بعيداً عرب غابة ال�شجر‪.‬‬
‫اللقطة حلظة �أطول من دون �أن ينجرف �شيء �آخر‬ ‫يخبو النور بطيئاً‪ ،‬ثم‪...‬‬
‫�إىل ال�شطّ ‪.‬‬ ‫نعود �إىل الغرفة ذاتها‪ .‬باب‪ ،‬هو نف�سه الذي �أم�سك‬
‫يوا�صالن عملهما على ال�شطّ ‪ ،‬ي�شحبان قلي ًال فقلي ًال‬ ‫باليد من قبل‪ُ ،‬يفتح الآن ببطء‪ .‬تظهر املر�أة ال�شابة‬
‫من املنظر‪ ،‬بينما تظهر بال�سماء الكلمات التالية‪:‬‬ ‫تعرفنا �إليها �سابقاً‪ُ .‬تغلق خلفها الباب ثم‬ ‫التي ّ‬
‫يف الربيع‬ ‫حُت ّدق بانتباه بالغ يف احلائط املواجه حيث يقف‬
‫ك ّل �شيء قد تغيرّ ‪.‬‬ ‫القاتل‪.‬‬
‫نرى الآن �صحراء بال نهاية‪ .‬نرى الرجل واملر�أة‬ ‫عار‪ ،‬من دون �أثاث �أو‬ ‫مل يعد الرجل هناك‪ .‬احلائط ٍ‬
‫ال�شابة يف املنت�صف‪ ،‬يغط�سان يف الرمال �إىل �أعلى‬ ‫ديكور‪ .‬تعطي املر�أة ال�شابة ملمح ًا من الغيظ ونفاد‬
‫يع�شى ب�رصهما‪ ،‬مالب�سهما ُيرثى لها‪،‬‬ ‫�صدريهما‪َ ،‬‬ ‫ال�صرب‪.‬‬
‫تفرت�سهما ال�شم�س وح�شود من احل�رشات‪.‬‬ ‫ُيرى احلائط من جديد؛ مبنت�صفه بقعة �سوداء‬
‫�صغرية‪.‬‬
‫لقطة النهاية‪.‬‬
‫ولدى ر�ؤيتها �أقرب‪ ،‬تبدو البقعة ال�صغرية ك�أنها‬
‫‪vvv‬‬ ‫املوت بر�أ�س فرا�شة‪.‬‬
‫مقربة للفرا�شة‪.‬‬‫لقطة ّ‬
‫بني بونويل ودايل ولوركا‬
‫جناح ْي الفرا�شة ميلأ ال�شا�شة كلّها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ر�أ�س املوت على‬
‫املك�سيكي �أكتافيو باث «لي�ست ال�سوريالية‬
‫ّ‬ ‫يقول ال�شاعر‬ ‫الرجل الذي كان يلب�س قمي�ص ًا بك�شك�شة يخرج فج�أة‬
‫مدر�سة �شعرية‪ ،‬بل حركة للتحرر‪ ،‬طريقة لإعادة‬ ‫متو�سطة‪ ،‬يرفع يده م�رسع ًا نحو فمه‬ ‫ّ‬ ‫للعيان بلقطة‬
‫أ�سا�سي �أن ال�شعر‬
‫ّ‬ ‫ا�ستك�شاف لغة الرباءة‪ ،‬جتديد مليثاق �‬ ‫كمن فقد �أ�سنانه‪.‬‬
‫الب�رشي‪ ،‬ال�سوريالية‬
‫ّ‬ ‫الن�ص يف �أ�صله‪ ،‬قاعدة للنظام‬
‫هو ّ‬ ‫ترمقه املر�أة ال�شابة بازدراء‪.‬‬
‫حركة ثورية لأن فيها عودة �إىل بداية البدايات»‪ .‬ويف‬ ‫حينما يبعد الرجل يده‪ ،‬نرى فمه وقد اختفى‪.‬‬
‫�شقة مبدريد عا�ش ثالثة‪ :‬املخرج لوي�س بونويل والفنان‬ ‫تبدو املر�أة ال�شابة ك�أنها تقول له‪« :‬طيب‪ ،‬وماذا‬
‫�سلفادور دايل وال�شاعر جارثيا لوركا عقداً من الزمان‬ ‫بعد؟»‪ ،‬ثم تلم�س �شفتيها ب�إ�صبع روج‪.‬‬
‫(‪ 1920‬ـ ‪� ،)1930‬أ�س�سوا مع ًا جماعة �شعرية ُعرفت‬ ‫ال�شعر اال�ستنبات‬‫نرى ر�أ�س الرجل من جديد‪ .‬يبد�أ َ‬
‫با�سم «جيل ‪ ،»27‬وقد ا�ستلهموا فكرتهم من لوحات‬ ‫حيث كان فمه‪.‬‬
‫بيكا�سو التكعيبية‪ ،‬وعملوا �أ�سا�س ًا �ض ّد الرومانتيكية‬ ‫لدى ر�ؤيتها هذا‪ ،‬تخنق املر�أة �رصخ ًة ثم تفح�ص‬
‫‪174‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لوحات ملعظم ال�سورياليني كانت يف ردهة العر�ض‪.‬‬ ‫ال�شائعة وقتها يف �إ�سبانيا‪ .‬وكتب بونويل ودايل‪،‬‬
‫عار�ضته ال�صحافة املحافظة واعتربته فيلم ًا �إباحياً‪،‬‬ ‫وامل�رسحي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ب�إلهام من العالقة مع لوركا‪ ،‬ال�شاعر‬
‫حتى �صودرت ن�سخه من قبل ال�رشطة‪ ،‬وللأ�سف دام‬ ‫ثان هو‬‫أندل�سي»‪� ،‬أتبعاه بفيلم ٍ‬ ‫�سيناريو فيلم «كلب �‬
‫هذا املنع ن�صف قرن‪ ،‬ثم �أُعيد عر�ض الفيلم تقديراً‬ ‫ّ‬
‫الذهبي»‪ ،‬كانا يهتمان فيه بت�رشيح خطوط‬ ‫ّ‬ ‫«الع�رص‬
‫له يف �أمريكا عام ‪ .1979‬لكنه كان قد فقد �ساعتها‬
‫مبني على رواية «‪ 120‬يوم ًا‬ ‫رونقه ومترده‪ .‬والفيلم‬ ‫ج�سم الأنثى والعالقات الغرامية‪ .‬كما �ساعد لوركا دايل‬
‫ّ‬ ‫يف �إخراج دراما تاريخية‪ .‬لكن ت�أثريات لوركا كانت‬
‫الفرن�سي امللعون املاركيز دو‬ ‫ّ‬ ‫للروائي‬
‫ّ‬ ‫يف �سدوم»‪،‬‬
‫�ساد‪ .‬وتدور ق�صة الفيلم حول عا�شقني يعلنان احلرب‬ ‫ثبت لوركا �شهرته على �أنه‬ ‫بعيدة عن ال�سوريالية‪ .‬لقد ّ‬
‫ي�صور حلظات‬ ‫الفرن�سي‪ .‬كما ّ‬
‫ّ‬ ‫البورجوازي‬
‫ّ‬ ‫على املجتمع‬ ‫«غجري»‪ ،‬وحني زار �أمريكا اكت�شف‬‫ّ‬ ‫أندل�سي» �أو‬
‫ّ‬ ‫«�شاعر �‬
‫�شحاذ ُي�رضب بعنف‪،‬‬ ‫�سوريالية واحد ًة بعد �أخرى‪ّ :‬‬ ‫�أ�صوله الإفريقية‪ .‬ويف ‪� 1930‬صار لوركا ودايل‬
‫عجوز مهيبة ُت�صفع‪� ،‬أب يطلق النار على ابنه‪ .‬ويهدف‬ ‫للفن‪ .‬لكن حني‬
‫غريبني‪ ،‬ل ُبعد البون بني ر�ؤية ك ّل منهما ّ‬
‫تتبع اهتمامات زمانه‪ :‬غراميات حمبطة‪ ،‬قهر‬ ‫الفيلم �إىل ّ‬ ‫�سافر لوركا �إىل غرناطة يف ذروة احلرب الأهلية‪ُ ،‬قتل‪،‬‬
‫اجل�سدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العنف‬ ‫قيمة‬ ‫�شيوع‬ ‫‪،‬‬‫اجلن�سي‬
‫ّ‬ ‫للح�س‬
‫ّ‬ ‫املجتمع‬
‫ال�سينمائي‬ ‫التهكم على رجال الدين‪ .‬وقد و�صفه امل�ؤرخ‬ ‫على يد القوات الفا�شية‪ ،‬و�صار �شهيداً بالن�سبة جليل من‬
‫ّ‬ ‫الفني قرب منت�صف‬ ‫الفنانني ورمزاً للتغري يف امل�شهد‬
‫جورج �سدول ب�أنه «فيلم فريد يف عنفه‪ ،‬يف نقائه‪ ،‬يف‬ ‫ّ‬
‫لفن ال�سينما»‪ .‬و ُيع ّد‬
‫التام ّ‬
‫الغنائي‪ ،‬ويف �إخال�صه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ�سعاره‬ ‫القرن الع�رشين يف غرب �أوربا‪ .‬ونرتجم هنا ق�صيدة‬
‫الذهبي» اليوم �شهادة على القيم البالية‬ ‫ّ‬ ‫«الع�رص‬ ‫فيلم‬ ‫لوركا «مدينة ال تنام» التي كتبها عام ‪ ،1929‬بعد‬
‫للح�ضارة الغربية‪.‬‬ ‫عودته من نيويورك‪:‬‬
‫«حذار! كن حذراً حذار!‬
‫ممن يحملون عالمات املخلب والعا�صفة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والولد الباكي لأنه مل ي�سمع باخرتاع اجل�رس‪،‬‬
‫�أو امليت الذي ال ميلك غري ر�أ�سه وفردة حذاء‪،‬‬
‫واحليات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫علينا بحملهم للجدار حيث تنتظر ال�سحايل‬
‫الدب‪،‬‬
‫حيث تنتظر �أ�سنان ّ‬
‫حيث تنتظر يد الولد املح ّنطة‪،‬‬
‫ويقف َ�شعر الناقة منت�صب ًا برِعدةٍ مزر ّقة عنيفة»‪.‬‬
‫الذهبي»‬
‫ّ‬ ‫فيلم «الع�صر‬
‫بني دايل وبونويل‬
‫الفني بني‬
‫ّ‬ ‫هو الفيلم الثاين والأخري من ثمار التعاون‬
‫يل‬
‫يل لوي�س بونويل والفنان ال�سوريا ّ‬ ‫املخرج ال�سوريا ّ‬
‫أندل�سي»‪ ،‬وقد ُعر�ض فيلم‬
‫ّ‬ ‫�سلفادور دايل‪ ،‬بعد «كلب �‬
‫الذهبي» عام ‪ ،1930‬يف ‪ 60‬دقيقة‪ ،‬وهو من‬ ‫ّ‬ ‫«الع�رص‬
‫�أداء‪ :‬جا�ستون مودو (الرجل) وليا ليز (املر�أة) وماك�س‬
‫�إرن�ست (الل�ص)‪ ،‬وتكلّف وقتها مليون فرنك‪ .‬ظ ّل هذا‬
‫الفيلم ممنوع ًا فرتة طويلة‪ ،‬بعدما �ألقت جمموعة فا�شية‬
‫مناه�ضة لل�سامية قنبلة م�سيلة للدموع يف دار �سينما‬
‫باري�سية كان ُيعر�ض فيها‪ ،‬كما �أحدثوا بها �شغباً‪،‬‬
‫حيث �ألقوا حرباً وبي�ض ًا فا�سداً على ال�شا�شة‪ ،‬و�أتلفوا‬
‫‪175‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‬

‫من اأعمال خلود اجلابري ‪ُ -‬عمان‬

‫‪176‬‬
‫يف الأمر ما يدعو �إىل الرثاء‪،‬‬
‫�شربل داغر‬
‫ال �إىل الن�شيد‬
‫‪� ‬شاعر من لبنان‬

‫ليقتلني‪.‬‬ ‫يف الأمر ما يدعو �إىل الرثاء‪،‬‬


‫هناك من َيقتل والده لكي يكرب‪،‬‬ ‫ال �إىل الن�شيد‬
‫هناك من َيقتل �أمه لكي يح�سن معا�رشة الن�ساء‪،‬‬ ‫طاملا �أنني انتهيت �إىل الإقرار ب�أن من �سبقني‬
‫معلمه لكي ي�شتد �ساعده يف‬ ‫َ‬ ‫هناك من َيقتل‬ ‫يبق �سواه لكي‬‫�إىل احلرب تعج َل يف قتلي‪ ،‬ومل َ‬
‫الرماية‪،‬‬ ‫يخرب عني‪ ،‬بد ًال مني‪.‬‬
‫هناك من َيقتل قبل �صياح الديك‪� ،‬أو بعده‪ ،‬من‬ ‫غري �أنه مل يقتلني واقعاً‪ ،‬بل �أنا الذي قتلته‪ ،‬ف�ض ًال‬
‫فرط نقمته‪ ،‬لكي يتفرغ حل�شو الر�صا�صات من‬ ‫عن �أنني �أح�سن ‪� -‬أف�ضل منه – رواية ما جرى‪.‬‬
‫جديد‪،‬‬ ‫�أنا مل �أقتله يف حا�صل الأمر‪ ،‬وال هو قتلني يف‬
‫هناك من َيقتل براءته فيتحول �إىل بذيء يف‬ ‫نهاية املطاف‪ :‬تبادلنا �أ�صابعنا فقط‪ ،‬ما يتوجب‬
‫ول�ص يف بيت جاره‪،‬‬
‫م�شادة‪ٍّ ،‬‬ ‫يف عمل املح ِرتفِ ني‪.‬‬
‫وجرنال يف �أعني امل�سنات القانطات من كونهن‬‫ٍ‬ ‫كان يف �إمكانه الت�أخر‪ ،‬واملجيء متى �شاء‪ ،‬من‬
‫لن يع�شن من احلروب غري �أخبارها على �أجهزة‬ ‫دون �أن ي�صطحب معه مقاتلني �آخرين‪� ،‬سواء‬
‫الرتانز�ستور‪،‬‬ ‫بربطة عنق �أو بقبعة مرقطة؛‬
‫هناك من َيقتل ‪ -‬مثله ‪ -‬لكي يتكفل غريه برواية‬ ‫«الكتاب الأحمر» يف �سيارته‬ ‫�سيان �إن ن�سي‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما جرى له‪.‬‬ ‫ال�صغرية فال يقوى على ا�ست�شارته مثل مر�شد يف‬
‫أعرتف من دون خجل ب�أنني ع�شت حياة �رسية‪،‬‬ ‫� ُ‬ ‫أ�رسع �إىل �إخفاء رهبته من‬
‫معابد املراهقة‪� ،‬أو � َ‬
‫�أكرث من حياة‪ ،‬ب�سيقان كثرية‪ ،‬لكنني اقرتفت‬ ‫ليل املتاري�س يف الرثثرة والت�ضاحك؛‬
‫جرمية واحدة كنت �شاه َدها الوحيد‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ال ب� َأ�س �إن ترد َد يف فعلته‪� ،‬أو تباط أ� يف التقدم‬
‫دعاين بنف�سه‪ ،‬من دون كامريا �أو �آلة ت�سجيل‪ ،‬على‬ ‫بهمة املحاولة‪� ،‬أو �أم�سكَ عن التنف�س قلي ًال حني‬
‫�أنني �أ�ستطيع ذات يوم �أن �أروي‪ ...‬ذلك �أنه كان‬ ‫ملع يف الن�صل بريق عينيه مثل عا�شق يف ليلته‬
‫مدرك ًا كوين حمب ًا للق�ص�ص البولي�سية‪� ،‬أقر�أها‬ ‫الأوىل‪،‬‬
‫باملقلوب يف املرة الأوىل‪ ،‬لكي �أتعقب القاتل‬ ‫ف�أنا كنت �أنتظر منذ وقت فتى �أ�ش َّد عزمية مني‪،‬‬

‫‪177‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف موتي‪،‬‬ ‫يف املرة الثانية منذ خطواته الأوىل فوق �سطور‬
‫ومن دون ن�شيد‪.‬‬ ‫اجلرمية‪� ...‬أن �أروي ما يحدث من دون جهد‪ ،‬ما‬
‫ال�شهداء يعودون فرادى‬ ‫ي�سقط مثل ثمرة نا�ضجة يف �سلتها‪ ،‬طاملا �أنه‬
‫يتم �شحذ الف�ؤو�س من دون كلل‪ ،‬وين�رصفون �إىل‬
‫ال�شهداء يعودون فرادى ‪:‬‬ ‫القتل‪ ،‬على مقربة مني‪ ،‬يف يفء العائالت الظليل‪.‬‬
‫ال�شباك‬
‫منهم من عاد �إىل الفرن من دون �أن يجد ُّ‬
‫�سن ال�سكاكني‪،‬‬
‫لطاملا �أم�ضيت �ساعات لهوي يف ِّ‬
‫الذي ت�سلم فيه �أرغفة ال�صباح مع ر�سالة ت�أخر‬
‫ومترنت‪ ،‬يف امل�شادة �أو عرب النوافذ املو�صدة‪،‬‬
‫ُ‬
‫يف فتحها لكون «التعليمات» مل تلحظ وجود‬
‫على �إخفائها يف عتمة حذائي‪� ،‬أو التباهي بها‬
‫عابرين فوق اجلادة التي �ضاقت بنظرات‬
‫يوم العيد مثل ني�شان املدر�سة‪،‬‬
‫الواقفات على �رشفاتهن‪ ،‬اللواتي �أنزلن �ساللهن‬
‫قبل �أن ت�صبح امتداداً ليدي‪،‬‬
‫�إىل الباعة الثابتني واملتجولني‪...‬‬
‫امتداداً تلقائي ًا‬
‫ال�شهداء يجل�سون القرف�صاء‬ ‫ليدي الأرجوانية‪...‬‬
‫يف الق�صيدة‪،‬‬ ‫احتجت ل�سكني لتدوين ر�سالة حبي الأول‬ ‫هكذا‬
‫ُ‬
‫ال �أكرث‪...‬‬ ‫على �شجرة‪،‬‬
‫فال ي�سرتيحون فيها‪.‬‬ ‫قبل �أن �أن�رصف �إىل ت�سجيل ا�سمها ب�أحرفه‬
‫طلب منهم‬
‫ذلك �أن ال�شاعر َ‬ ‫الأوىل فوق جدران ال�شارع اخللفي ل�شارعها‪،‬‬
‫�أن يبقوا يقظني‬ ‫�آم ًال ب�أن تكت�شفه وحدها مثل ر�سالة �رسية ال‬
‫يف انتظار بلوغ القارىء‬ ‫يح�سن قراءتها غري م�ستلمها‪.‬‬
‫عتبة العتمة‪.‬‬ ‫واحتجت ل�سكني �أخرى تنا�سب قبعة الإخفاء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ال�شهيد �شجرة‬ ‫ل�سكني تختفي بدورها ما �أن تنق�ضي احلاجة‬
‫من دون �أغ�صان‪،‬‬ ‫�إليها‪� ،‬أو تتحول �إىل �ساعة يف اليد‪� ،‬أو �إىل و�سخ‬
‫لل�شجرة �أ�صابع من دون �أن تقوى على الت�صفيق‪.‬‬ ‫ب�سيط على راحة اليد ال �ألبث �أن �أم�سحه من‬
‫جبهتي‪ ،‬فال تبقى عالمة منه حتت قبعة الإخفاء‪.‬‬
‫بلى‪ ،‬كنتُ هنا‬
‫�سكاكيني‬
‫كنت هنا ‪:‬‬
‫بلى‪ُ ،‬‬ ‫كلب �أعمى‬
‫ٌ‬
‫مل �أ�صفق قبل �أن ينهي ال�ساحر جملته الأخرية‪،‬‬
‫وو�سخ‪،‬‬
‫مل �أدفع املتهالك فوق كر�سيه �صوب ال�سقوط‪،‬‬ ‫ي�شم اجلثث واحدة واحدة‬
‫مل �أتفوه ب�أي كلمة يف اجلنازة‪...‬‬ ‫قبل �أن ي�أنف منها‪.‬‬
‫بلى‪ ،‬كنت معهم‪ :‬يف هذا ال�صحن البارد‪ ،‬نقتات‬ ‫يف الأمر ما يدعو �إىل الرثاء‪ ،‬ال �إىل الن�شيد‬
‫حلم �أج�سادنا ب�صمت و�إذعان‪...‬‬ ‫أ�شفقت على حايل بعد موتي‪ :‬وحيداً‬ ‫ُ‬ ‫طاملا �أنني �‬
‫‪178‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وال يلبث �أن ينام مبجرد �أن ي�ضع ر�أ�سه على‬ ‫بلى‪ ،‬و�إن غاف ًال عما يفعلون‬
‫خمدته‪...‬‬ ‫من وراء زجاج نظارتي‪.‬‬
‫بخاليف �أي�ضاً‪� ،‬إذ �أم�ضي الليلة مع َّذب ًا‬ ‫موتانا اليقظون‬
‫قتلت ذبابة يف نهاري‪،‬‬ ‫من دون �أن �أكون قد ُ‬ ‫موتانا اليقظون‬
‫ولي�س يل من �أتوجه �إليه‬ ‫ال�ساهرون‬
‫يف عزلتي‪ ،‬ويف خر�سي‬ ‫ميرنون �أ�صابعنا على العزف العاطفي‬
‫ِّ‬
‫غري هذه الكلمات‪.‬‬ ‫وحناجرنا على الن�شيد الوطني‪...‬‬
‫َ‬
‫حتى حني نكون �صغاراً‬ ‫موتانا الأليفون‪،‬‬
‫حتى حني نكون �صغاراً‬ ‫الهانئون يف ريا�ضهم البليدة‪،‬‬
‫يحلو لنا �أن نت�صفح �صور الأم�س ‪:‬‬ ‫القاب�ضون على ر�ؤو�سنا مثل مقاعد كر�سي ال‬
‫نتذكر‪ ،‬ونروي ما ح�صل لنا فيها‪...‬‬ ‫يتوانى عن االهتزاز‪،‬‬
‫�أما ال�شاعر فال يقوى على ذلك‪� ،‬إذ يطلبون منه‬ ‫ال ينفكون عن معا�رشتنا‪،‬‬
‫الدخول �إىل ق�صائده ‪:‬‬ ‫عن ُن�صحنا‬
‫يزورها رمبا‪،‬‬ ‫ب�أن املوت �أجدى‬
‫لكنه يف�شل حتم ًا يف �أن يكون دلي ًال فيها‪،‬‬ ‫من �أن نبقى قانعني‬
‫عما انق�ضى‪،‬‬ ‫يف تابوت الثلج‪.‬‬
‫مثل انفعال �صاعق‪،‬‬ ‫موتانا يقفون خلفنا‬
‫كون له من ر�ؤو�س حروفه جذور‪...‬‬ ‫يف ٍ‬ ‫و ُي َقلِّبون �أوراق «النوتة» لنا‪،‬‬
‫حني نكون �صغاراً‬ ‫لأ�صابعنا الطرية‪،‬‬
‫يحلو لنا �أن نكرب‪،‬‬ ‫فوق بيانو احلياة‪.‬‬
‫�أن من ِّثل �أدوارنا‪،‬‬ ‫كان لهم �إل ٌه يتوجهون �إليه �إذ يبكون‬
‫وهو ما يفعله ال�شاعر‬
‫كان لهم �إل ٌه يتوجهون �إليه �إذ يبكون‪،‬‬
‫يف طفوالت اللغة‪.‬‬
‫ويتم�سكون بحبات �سبحته �إذ يت�ساقطون يف‬
‫يراين‪ ،‬يراين‪ ،‬يراين‪....‬‬ ‫وهدة الك�آبة‪،‬‬
‫الذي يتقدم �صوبي‬ ‫وكلم ٌة منه كانت تكفيهم لكي يرتدعوا عن‬
‫أتقدم �صوبه بدوري‪،‬‬
‫� ُ‬ ‫حماقاتهم‪،‬‬
‫لكن خطاه �أ�رسع من خطاي‪.‬‬ ‫بخالفه‪:‬‬
‫�أكتب عنه‪،‬‬ ‫يقتل �آالف ًا يف اليوم الواحد‬
‫‪179‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يرت�سمون يف طوابري �صاحلة لقافية‬ ‫وهو يراين ‪:‬‬
‫بينما �أبحث عن نرث ذهبي يف كومة ق�ش‪.‬‬ ‫�أخاف‪،‬‬
‫هكذا‪ :‬ال يدخلون �إليها قبل �أن تدخل قبلهم‬ ‫من فرط ولعي باحلياة‪.‬‬
‫البحار وال�سطور واملن�صات والطوابري والقوايف‬ ‫هكذا �أنا‬
‫وخالفها‪،‬‬
‫فيما �أتخفف من ثيابي‬ ‫هكذا �أنا‪ ،‬وقد قر�أت يف «بخالء» اجلاحظ‪� ،‬أن‬
‫وترق ورقتي‬ ‫�أخوين ال ميلكان �سوى ثوب واحد‪� :‬إذ يخرج‬
‫مثل ج�سد �شفاف‪.‬‬ ‫�أحدهما‪ ،‬يبقى الآخر يف البيت‪.‬‬
‫ارتختْ العبارة‬ ‫�أنا الراحل‪،‬‬
‫�أنت القادمة ‪:‬‬
‫ارتخت العبارة‬
‫ْ‬
‫نلتقي‪،‬‬
‫يف حملول احلزن‪،‬‬
‫ولكن يف اجتاهني خمتلفني‪.‬‬
‫يف مائه البارد ‪:‬‬
‫منها ما ي�صفو فيعلو يف �صدر القارىء‪،‬‬ ‫دعني‬
‫منها ما ير�سب يف �صدر ال�شاعر‪،‬‬ ‫الآن‬
‫يف بئر الق�صيدة‪.‬‬ ‫�أبكي‬
‫يف وداعي‪.‬‬
‫�أي م�أدبة‬
‫تكرتث بالأمر‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ال‬
‫�أي م�أدبة‬
‫�ستكون – �إذ ذاك – قد رحلت‪.‬‬
‫تكون ل�شخ�صني‬
‫و�إن كانوا كثريين‪،‬‬ ‫فيما‬
‫مثل املطالعة‬ ‫ينظمون ق�صائد عن البحر‬
‫تكون لكثريين‬ ‫فيما �أ�ستعذب اال�ستلقاء على ال�ضفاف؛‬
‫و�إن يف الكتاب عينه‪.‬‬
‫يبنون البيت �سطراً �سطراً لكي يرتفعوا معه فوق‬
‫ُمع َّلقة‬ ‫من�صة‪،‬‬
‫يدي بيدك‬ ‫عندما �أحترى عما يلمع‪ ،‬يف الليل‪،‬‬
‫قبلة ُمعلقة‪.‬‬ ‫يف عني العبارة؛‬

‫‪180‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫الكلمات الأخرية للمهرج «�ص»‬
‫كرمي عبدال�سالم‬
‫‪� ‬شاعر من م�رص‬

‫‪jhj‬‬
‫ماذا كنتم تنتظرون‪..‬‬
‫ال �أحد ي�صدق كم �أنا قوي‬ ‫أدافع عن حقوق املظلومني والفقراء‪،‬‬ ‫�أن � َ‬
‫ال �أحد يرى ما بنف�سي من طاقات‬ ‫�أن �أقطّ ب جبينى و�أقول كلمة حق‪،‬‬
‫الالعب الأمهر‬
‫ُ‬ ‫�أنا‬ ‫هي الأخرية ىل يف الق�رص والأر�ض وال�سماء‪،‬‬
‫امل�سيطر على الأرواح‬ ‫�أن �أنا�ضل ب�سيفي اخل�شبي �ضد الطاغية والأزالم؟‬
‫ه�ش�شت �أ�شجع الرجال بع�صاي‬
‫ُ‬ ‫ماذا كنتم تنتظرون من املهرج‬
‫حتى ر�أيتهم ينحنون �أمام امر�أة �ساقطة‬
‫�إال �أن يكون نف�سه حتى النهاية‪..‬‬
‫أعربت عن ر�ضاي حلماة الأخالق‬ ‫و� ُ‬ ‫�أنا ظلُّ الديكتاتور الذي يلت�صق بقدميه‬
‫وهم ي�سلخون جلودهم لقاء حفنة من الذهب‪..‬‬
‫حاملُ النكات البذيئة و�أخبار امل�سامرة‬
‫�أ�ش ُّد امل�ؤمنني تع�صباً‪،‬‬
‫حار�س امل�رسات وال�شهوات وكامت الأ�رسار‬‫ُ‬
‫دفعتهم لل�سجود �أمام الوثن الأكرب‬
‫زاحف بني زواحف‬‫ٌ‬ ‫�أنا‬
‫و�أجمل الن�ساء قدمتهن للبغاء تلوكهن دون نظر‬
‫و�ضع الكناري على ل�سانى‬ ‫و�ضبع و�سط �آكالت اجليف‬
‫ٌ‬
‫علي ْ‬
‫وكان ّ‬
‫بينما متور داخلى الغابة ووحو�شها اجلائعة‬ ‫ح�رش ٌة تعلم �أنها ح�رشة و�سط �أخريات جاهلة‪،‬‬
‫‪jhj‬‬
‫وانت�رصت عليها بابت�سامتي‬
‫ُ‬
‫املهرج �أيها العامل‬
‫ُ‬ ‫�أنا‬ ‫‪jhj‬‬

‫�صانع املجد امللطخ بال�سخرية‬ ‫ُ‬ ‫�أنا‬ ‫كان البد �أن �أم�ضي‬
‫واملو�صوم �إىل الأبد‬
‫ُ‬ ‫حيث ال مكان لالختباء وال فر�صة للتوقف‬
‫�أيتها ال�صحراء املليئة بالف�ضالت‬ ‫وكلما توغلت فقدت �شيئ ًا من روحى‪،‬‬
‫�أيتها املدن امل�صنوعة من الق�ش والأكاذيب‬ ‫أ�صبحت فارغ ًا متام ًا‬
‫ُ‬ ‫حتى �‬
‫�أيتها الأنوار التى ت�ستحق الإطفاء‬ ‫وعارف ًا �أننى ال �شيء‬
‫�أيها ال�شياطني والرجال اجلوف والداعرات‬ ‫توقفت‬
‫ُ‬ ‫لكني يف حلظة‬
‫وامل�أبونون والل�صو�ص‬ ‫�أريد �أن �أغري نهاية امل�أ�ساة‬
‫والقتلة وجتار الدماء‪..‬‬ ‫مت ظم�آن ًا فال نزل القطر»‬‫« �إذا ُّ‬
‫‪181‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وتاه ا�سمي بني �أدغالها‬ ‫�أنا من يعلم �أن مياه جميع البحار‬
‫‪jhj‬‬ ‫لن تزيل الو�سخ عن روحه‬
‫يف �أيامي الأخرية‬ ‫ومع ذلك ي�سعى بهمة العمال‬
‫كانت متعتى �أن �أت�رشب‬ ‫ل عينيه بابت�سامة طفل‬ ‫ليم أ‬
‫نظرة الده�شة‬ ‫�أو يراقب «الزهرة»‬
‫يف عيني‬ ‫وهي تلمع وحدها‬
‫يف ال�سماء‬
‫الفري�سة املطعونة‪..‬‬
‫�أريد �أن �أرى ابت�سامة نقية واحدة‬
‫أنت ‪..‬‬
‫� َ‬ ‫�أريد �أن �أ�ستقبل نظرة ر�ضا ال �أكرث‬
‫�أيها احلقري‪..‬‬ ‫لأقول �إنها احلياة املليئة بالعجائب‬
‫نعم �أنا‬ ‫ري الكراهية‬
‫لأتوقف عن ّ‬
‫القادر الناه�ش امل�سيطر‬ ‫يف قلبي كل �صباح‬
‫الن�سخة الأكرث تطوراً‬ ‫حتى �أ�صبحت غابة وا�سعة‬
‫من ظالل الطواغيت‪.‬‬ ‫مليئة بالأ�شجار والكائنات‬

‫من �أعمال الفنان ح�سن مري ‪ُ -‬عمان‬

‫‪182‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫بر�شلونة‬
‫عزيز احلاكم‬
‫‪� ‬شاعر من املغرب‬

‫هل كنت الآن �أمازح بارميد‬ ‫ل�سبب ما‬


‫«‪» La Bolsa ‬‬ ‫تركت باري�س يف مرمى الت�أجيل‬
‫ب�صمتي العريان‬ ‫وذهبت �أبحث عني‬
‫�أم �إين فقط‬ ‫يف �شارع «الرامبال»‬
‫هاوي �أوهام‬ ‫قبل �أن مت�سك بي يد التمثال‬
‫ي�ستطيب اخلمر والتيه‬ ‫الواقف يف الهواء‬
‫يف ال�صحارى اخل�رضاء‬ ‫ف�أ�سقط بني قدمي امر�أة‬
‫تاركا لندميي اجلليل‬ ‫ال ا�سم لها وال تاج‬
‫ف�سحة االتكاء‬ ‫خلت �أين بها‬
‫على مب�سط العدم‬ ‫�أ�ستعيد �صورة الأمرية النائمة‬
‫و�أمامنا رغيفان �أهيفان‬ ‫فوق حلمي‬
‫لن يغم�سا �أبدا‬ ‫مثل غانية يابانية‬
‫يف دم امل�سيح‬ ‫ت�ستعطي العابرين �أرواحهم‬
‫ولن يقتات منهما‬ ‫فال ي�ضنون‬
‫�شحاذ روماين‬ ‫بغري ما �أوتوا من �شهوات‬
‫حتى تغلق �آخر حانة‬ ‫ويف اجل�رس املطل‬
‫يف عا�صمة الكاطاالن‪،،،‬‬ ‫على «وادي احلرية»‬
‫هكذا �أنا ‪:‬‬ ‫ي�سرتخون مثنى وفرادى‬
‫كلما داهمتني فتنة غريبة‬ ‫ع�سى �أن يجود امل�ساء عليهم‬
‫�أو خلخل وقويف ب�أعتاب اللذة‬ ‫ب�أج�ساد �أخرى‬
‫بهاء متغطر�س‬ ‫مل تهر�أ بعد‬
‫وجدت للزيغ ذريعة‬ ‫يف ربائع العمر‪،،،‬‬
‫‪183‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يل فيها �أطوار �شبيهة‬ ‫و�أقمت بعني املالذ‬
‫ب�أحالم املجانني‬ ‫�أكرث من �أزل‬
‫ون�صيب واف من كربياء الفقراء‬ ‫عذري يف ذلك‬
‫وارتكان م�شوب بالده�شات الزرقاء‬ ‫�شم�س �أليفة‬
‫و�سهاد لذيذ‪،،،‬‬ ‫ونهد م�ضياف‬
‫بهما حتلو �أ�سفاري‬
‫ال برق ي�ضيء تيهي‬
‫ويغدو جلوازي‬
‫يا روين �شار‬
‫لون الإقامة اجلربية‪،،،‬‬
‫وال امر�أة تطبخ رغباتي‬
‫يف هذا ال�صباح النيئ‬ ‫ول�سبب ما‬
‫يل كما يخفى عنك‬ ‫تالفيت الدخول‬
‫حال من حالني ‪:‬‬ ‫�إىل متحف «غويا»‬
‫�أن �أغم�س روحي يف الراح‬ ‫هربا من �رشاهة الكانيبال‬
‫�أو �أعتزل البكاء على �صدور احلمقاوات‬ ‫وان�سللت �إىل‬
‫حانة �أفروديث‬
‫ويل �أي�ضا‬ ‫فما جنوت‬
‫يف مرمى ال�رشود‬ ‫كان اجلالد املتقاعد‬
‫ممالك مهجورة‬ ‫يحت�سي جعته‬
‫وق�صور حتتفي فيها الغربان‬ ‫وك�أنه ي�رشب‬
‫بجثامني الأباطرة العاقرين‬ ‫بول �ضحاياه‬
‫يل �أكرث من ربيع‬
‫مل �أرتعب ومل‬
‫وتر�سانة من الكلمات ال�شفيفة‬
‫�أخلع ب�رصي عن عناء اجلالد‬
‫و�أحالم بوذية‬
‫ومل �أعب�أ‬
‫على جانب «الطريق»‪،،،‬‬
‫بف�ضول احلر�س املدين‬
‫ها هنا �س�أظل‬ ‫ظللت يف نف�س الك�أ�س �أقيم‬
‫يف نف�س املحطة‬ ‫حمرو�سا بتنانري الراق�صات‬
‫خلف كل النوايا الفا�سدة‬ ‫وعابدات باخو�س‬
‫�أبعرث �أهوائي حيثما‬ ‫ورنني الأقداح ي�سافر بي‬
‫طاب يل هواء‬ ‫�إىل �سواحل الأرواح الأليفة‬
‫‪184‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ول�سبب ما‬
‫ن�سيت ورود «مارغوت»‬ ‫ال بريق يل‬
‫يف جحيم دانتي‬ ‫�سوى هذا القمي�ص امل�ستعار‬
‫لغريي �أن مي�سح دموعها‬ ‫من دوالب «لوركا»‬
‫قبل �أن يحظى بها‬ ‫وخيول �سوريالية‬
‫�ضفدع هانوفه‬
‫�أ�ستعني بها‬
‫�أما �أنا‬
‫على قهر امل�سافات‬
‫فقد هي�أت مقربة الأ�صدقاء‬
‫وحنني قريب �إىل �أبعد القارات‬
‫للوافدين اجلدد‬
‫وقليل من طعام «هلغا»‬
‫وكن�ست �سبيلي‬
‫من خطوات امل�شائني‬ ‫ومرقد �سامق‬
‫ودفنت الأ�سباب كلها‬ ‫يف مدخل «الغابة ال�سوداء»‬
‫يف �رشفة اخلطايا‬ ‫وكثري من ع�شب « �أويل»‬
‫قبل �أن �أ�صطحب �سماحتي‬ ‫وال �شيء من مرارة الأيام اخلوايل‬
‫�إىل عا�صمة النبالء‪،،،‬‬ ‫ال �شيء‪،،،‬‬

‫من �أعمال الفنان مال اللـه حبيب ‪ُ -‬عمان‬

‫‪185‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫الن�ساء التعي�سات وال�صور‬
‫خلود الفالح‬
‫‪� ‬شاعرة من ليبيا‬

‫فقدوا �شهيتهم للرثثرة‬ ‫هذه الليلة‬


‫ال�صبايا‬ ‫للأ‬‫تت أ‬
‫اكت�شفن‬ ‫بحبيبات‬
‫ان �أ�سماءهن‬ ‫يعزفن حريف �أ�صواتهن‪.‬‬
‫خدعة تليق بهن‪.‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫يف و�سط ال�شارع‬ ‫«احلياة بعدك مملة»‬


‫الفتة كبرية‬ ‫_ مقطع من اغنية ما_‬
‫مكتوب عليها‬ ‫والن�سوة ال�صامتات‪ ،‬اجلميالت‬
‫نحن نحطم الأ�سعار‪.‬‬ ‫يغلفن قالب احللوى الذي تع�شقه بال�شوكوال‬
‫‪jhj‬‬ ‫وكلمات الأغنية‬
‫يف ظروف عادية‬ ‫ليهنب هذا ال�شتاء‬
‫الن�ساء التعي�سات‬ ‫بع�ضا من حنينهن‪.‬‬
‫يتعقنب‬ ‫‪jhj‬‬

‫موجة دافئة يف ن�رشات الطق�س‬ ‫هذه الغرفة ال�صغرية‬


‫يف ظروف عادية جداً‬ ‫اجلدران املزدحمة ب�صوري‬
‫وبالتق�سيط املريح‬ ‫ال�رسير‬
‫يبعن‬ ‫ال�رش�شف الربتقايل‬
‫ذكريات‬ ‫طاولة الزينة البليدة‬
‫�أبواب‬ ‫مر�آتها‬
‫فرح‬ ‫فاج�أت فراغي‪.‬‬
‫وبالونات جميلة‪.‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫كل �شيء هادئ‬


‫دوالب مالب�سك‬ ‫الأوالد‬
‫‪186‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�شكلني‬ ‫دوالب مالب�سها‬


‫امل�سافة‬ ‫قمي�صك الفارغ‬
‫امر�أة م�ضيئة‪.‬‬ ‫�أحمر �شفاهي‬
‫‪jhj‬‬ ‫�شعري امللبد‬
‫مللموا‬ ‫وم�شطك الذي اختفى فج�أة‪.‬‬
‫�أمانيهم‬
‫بحة �صوتك‬
‫وم�ضوا‬
‫ورائحة منزلنا‬
‫لكن‬
‫الذي �أ�صبح �أكرث هدوءاً‬
‫�إطارات ال�صور‬
‫ق�صائد مودرن‪.‬‬
‫تبت�سم‬
‫يف انتظارهم‪.‬‬ ‫من ثقب �صغري‬
‫‪jhj‬‬ ‫تراقبني نف�سك‬
‫�شاهدة قرب‬ ‫كحكاية مملة‪.‬‬
‫ترمقني‬ ‫‪jhj‬‬

‫بال اكرتاث‪.‬‬ ‫يف التيه‬

‫من �أعمال نداء �آل كليب ‪ُ -‬عمان‬

‫‪187‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫حافة املغيب‬
‫�إدري�س علو�ش‬
‫‪� ‬شاعر من املغرب‬
‫و�آفات ا�ستعارات �شعوب‬ ‫�إىل احميدة عيا�شي‬
‫�أدركوا حمبة الكائن‪،‬‬
‫والكيان‪،‬‬ ‫مونيكا‬
‫والكيونة‬ ‫حافة مغيب فيا�ض‬
‫يف ر�شفة‬ ‫ان�سل من قدا�س‬
‫وتاريخ‬ ‫�أتربة وادي �أغري�س‬
‫ده�شة ك� ٍأ�س انحاز‬ ‫ومن �ساللة دوايل حكماء‬
‫لثقب ال َّذاكرة‬ ‫ا�ستفردوا بر�شف‬
‫وتدل‬ ‫�رس دكنة الكناية‬
‫كانت دوايل مونيكا‪-‬وال تزال‪-‬‬ ‫تقا�سموا جريد اللغات‬
‫ما�ض ب�سيطٍ‬
‫يف �سحنة ر�صيف ٍ‬ ‫و�سحر �أنخاب تدركُ‬
‫خ�ضب ملعان العنب‬‫و�أدراج حا�رض َّ‬ ‫�أبجدية املكان‬
‫ال�شم�س‬
‫و�أينع جهة ا�ستدارة عباد َّ‬ ‫وتحُ اكي ُدكنة الفراغ‬
‫جداو ًال‬ ‫ان�شطروا جزراً – هكذا‪-‬‬
‫وحقو ًال‬ ‫و�سيوف ًا من برق النحا�س‬
‫ترق�ص حافية‬ ‫لت�ستفيق الذاكرة‬
‫لتحاكي �شطحات الروح‬ ‫من غبار الن�أي‬
‫وحتفر انت�ساب اجل�سد‬ ‫وكتب ًا لتعرف ال�شجرة معنى الدم‬
‫ل�شا�سعة الوجود‬ ‫وحكايات لي�سرتيح التاريخ‬
‫بطلل مل مت�سحه دمعة‬
‫وهيام الأر�ض ٍ‬ ‫وي�سرتخي فوق �رسير الأبدية‬
‫�شعراء �رشك احلداثة‬ ‫من �سهر الرواة‬
‫ومل تبكه زوبعة ريح‬ ‫على فطنة ال�رسد‬
‫�ساعة انفتاح‬ ‫وهدنة التدوين مع ًا‬
‫�أقفال �أبواب احلديد‬ ‫وا�ستعادوا جمد حياة‬
‫و�سعة رحابة‬ ‫كانت لهم مالذاً‬
‫مغارة «�سريفانت�س»‬ ‫لفك بالغة‬
‫من يجر ؤ� الآن‬ ‫وتورية �سدمي والت�شبيه‬
‫‪188‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الق�صة الق�صرية جدا‪ ،‬وعازفون على ق�صب ناي‬ ‫على الوقوف عاري ًا‬
‫الهند‪،‬و �صانعون للذهب وف�سيف�ساء الزليج‪،‬ورعاة‬ ‫كحروف ق�صيدةٍ‬
‫حقول �آبار النفط‪ ،‬و�سينمائيون �أنهكتهم ع�رشية‬ ‫ليحت�سي نخبه مبعية ندمي‬
‫�سوداء وقامتة و�آخرون ت�ألقوا يف دليل ال�صورة‬ ‫الغربة الآ�رسة‬
‫واملل�صقات‪ ،‬ومنفيون يف قالدة جغرافيات‬ ‫عداك مونيكا‬
‫مفرت�ضة‪ ،‬وواقعيون وانطباعيون على حد �سواء‪،‬‬ ‫يا �سيدة �أكرث من مقام‬
‫و�أركيولوجيون عازفون عن احلفر‪ ،‬و�شلَّة احيمدة‬ ‫يا رحابة بلور �شفيف‬
‫عيا�شي يف «كرا كويا» ذات ظهرية‪،‬و�سعدي‬ ‫يا امر�أة‬
‫يو�سف احلامل بالأثر الرجعي ل�سجالت �سيدي‬ ‫من و�شم‪،‬‬
‫بلعبا�س‪ ،‬و�ألبري كامو الذي �أحب اجلزائر بالقدر‬ ‫ورخام‪ ،‬و�أ�سطورة‪،‬‬
‫غري الكايف‪ ،‬ور�شيد بوجدرة الذي مهد ال�سبيل‬ ‫وفخار‪ ،‬و�سقيفة‪،‬و�صل�صال‪،‬‬
‫لأكرث من حلزون يف عمق ال�صحراء‪،‬وكاتب‬ ‫ودن‪،‬‬
‫و�صوجلان‪،‬و�صحيفة‪ ،‬و�أيقونة‪ٍّ ،‬‬
‫يا�سني الذي و�ضع �شارة ل�رشك اللغة‪،‬‬ ‫ول�سان‪ ،‬وقرط‪،‬و�أبجدية‪ ،‬ور�شح‪،‬‬
‫ودراق‪،‬ون�صل‪،‬وبراق‪،‬‬
‫ودائرة لعمران املعنى‬
‫و�سواكٍ ‪،‬ونافورةٍ ‪ ،‬و�رشا�شف‪،‬‬
‫بختي بن عودة الذي �شاهد �أن وم�ضة الفكر‬
‫و�سماق‪،‬وجمرة‪،‬ونيزك‪ ،‬و�صليب‪ ،‬وهالل‪،‬‬
‫حارقة‪،‬‬
‫وجنمة فاحتةٍ ملدار الك َّْون‬
‫ودامية‪،‬‬
‫فن �سما ٍء‬‫و�س ِ‬‫ُ‬
‫وجارحة‪،‬‬ ‫�أر�ض �أخرى يف حراك‬
‫وم�ضى دون مل�صق‬ ‫ك�أرخبيالت‬
‫يتنف�س �رساديب وهران‬ ‫�رس الدوران‬‫تقلِّب َّ‬
‫و�سبحة «جاك ديريدا»‬ ‫و�أ�سطوانة خالء مو�سيقى‬
‫مبعنى �آخر‬
‫ً‬ ‫هي‬ ‫مالح‬
‫تطوق حقل فلني ٍ‬ ‫ِّ‬
‫دوايل مونيكا‬ ‫و�شالل ماء‬
‫�أكرث من كا�س تدور‬ ‫حتطُّ فوق فناء مائدة و�شمعدان‬
‫فوق ق�رشة الياب�سة‬ ‫جتمع �إخوة يو�سف والذئب‬
‫تنف�ض عنها �سري الأمل‬ ‫قرامطة‪،‬وزنوج‪ ،‬و�سعاة بريد‪ ،‬و�شعراء‪ ،‬وحفار‬
‫وحيوات كائنات مرت‬ ‫قبور‪ ،‬و�ساردون‪ ،‬ومرابون جدد‪ ،‬وعارفون‬
‫يف حا�شية كتاب‬ ‫الركْ ِح‪،‬و�ساهرون على �أوتار‬ ‫بانفراط عقد ًّ‬
‫ومفرتق جبهة‬ ‫املو�سيقى‪ ،‬وت�شكيليون تكعبيون �إىل حد التخمة‪،‬‬
‫وحا�شية طريق‪.‬‬ ‫ومهجرون من تعدد �أجنا�س الأدب �إىل �رساديب‬

‫‪189‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫امليت ج� ًسدا‬
‫سريق�ص ّ‬
‫� ُ‬
‫�صالح بن ع ّياد‬
‫خال صً� ا يف مكانٍ ما‬
‫‪� ‬شاعر من تون�س‬

‫يدي يف �إ ْثميهما‬
‫أغم�س ّ‬
‫الر�صيف‪ ،‬و� َ‬ ‫أتقم�ص ّ‬
‫�أن � ّ‬ ‫وجهي وجوها‪ ،‬و�أن �أنتقي‬ ‫أ�شتق من ْ‬
‫يل عاد ُة � ْأن � ّ‬
‫ويف احلاالت ال َف ِزعة‪.‬‬ ‫أنوم‬
‫أبيت‪ .‬يل عادة �أن � ّ‬
‫�شعري � ُ‬
‫ّ‬ ‫بيتٍ‬
‫ك ّل ليلة يف � ّأي ْ‬
‫العامل جمي ًعا و�أن �أ�سهر على فكّ رموز �ضفرية‬
‫متنبئة‪ ،‬قارئة ُخطُ وط ّ‬
‫الر َمال‬ ‫متنبئا �أو ّ‬ ‫تاج ّ‬ ‫(�سنح ُ‬
‫ْ‬
‫�أو قعر الف ْنجان عن الق�صيدة التي �ست�أتي‪...‬‬ ‫تكف عن املرور‪...‬‬‫يومية المر�أة ال ّ‬
‫خ�شب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫هل ت�أتي من ل َه ٍب �أو من‬ ‫لل�سطر عادة الإتيان دون �أن �أنتبه لذلك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أق�صد اخل�شب الذي يتذكّ ر � ْأورا َقه‬ ‫�شباك بيتي‪.‬‬
‫للفكرة عادة الغزالة القافزة من ّ‬
‫� ُ‬
‫اخل�رضاء القدمية‪)...‬‬ ‫يل عادة �أن ال �أختار � ّأي �إ�صبع ل ّأي رع�شةٍ‬
‫«فر ًدا» ي�أ َبى اجلمع‪،‬‬ ‫يل �ش ْهوة �أن �ألزم ْ‬ ‫جزاف‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬الرع�شات‬
‫ّ‬
‫حر ِف هو الأخ ِري‬ ‫ليموج �ساكنا يف ْ‬ ‫يل عادة �أن �أ�صقل من الهواء الذي يحوم‬
‫ألف م ٍّد َمديدةٍ ‪..‬‬‫كئ على � ِ‬‫فردٍ ي ّت ُ‬
‫ْ‬ ‫ونارا‪.‬‬
‫وبرا ً‬‫جذعا ب ّن ّيا ّ‬
‫حول طاولتي ً‬
‫وال�صوت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫فردٍ النقط‬ ‫و�أن ال �أختار الغ ّنة احلادة حلنجرتي‪،‬‬
‫البار يف البا ِر‪،‬‬
‫أت�شمم َ‬ ‫يل �ش ْهوة �أن � ّ‬ ‫مبي�ض الكالم‪.‬‬
‫ويل � ْأن �أ�شكّ � ّأن ال ّنادلَ �إله متنك ٌّر‬ ‫مادي‪،‬‬
‫الر ّ‬‫أقف طوي ًال �أمام اللّون ّ‬ ‫يل عاد ُة � ْأن � َ‬
‫ِقاط اخلَطَ ايا‪،‬‬
‫جاء ال ْلت ِ‬ ‫ن�صف الأ�سو ِد‬‫أبي�ض ْ‬
‫ن�ص ِف ال ِ‬ ‫ْ‬
‫خطاي‪.‬‬
‫َ‬ ‫ولقراء ِة‬ ‫متو�سط اللون ذاك‪،‬‬‫ّ‬ ‫� ْأن �أتركَ نف�سي يف‬
‫�صوت‬ ‫املوت‬ ‫يل َعا َد ُة � ْأن �أعتق َد � ّأن‬ ‫ن�صف الداخل‪ ،‬ن�صف اخلارج‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫توها‪...‬‬‫� ّأما احلياة ف�ص ًدى م ْع ً‬ ‫ال�ساهي هو � ْأي ً�ضا‬
‫والرماد ّ‬‫الن�ص ّ‬
‫ن�صف ّ‬ ‫ْ‬
‫خال�صا‬ ‫�سريق�ص ج�س ًدا‬ ‫املي َت‬ ‫من َعا َدتي‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وان ّ‬ ‫ّ‬
‫مكان َما‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬ ‫تقي �سمائي‪.‬‬
‫يل عاد ُة � ْأن �أ ْن َ‬
‫ق�ص ُمفكّكا‪� ،‬سرتق�ص‬ ‫�سري ُ‬‫ْ‬ ‫الوجودية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�أن �أن ّق َيها من الأ�سئلة‬
‫‪190‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اال�ستعاري‬
‫ّ‬ ‫�إىل الف�سيح‬ ‫حا�سة مل�سه ك�شهرزاد برداء من �رسدٍ ‪.‬‬
‫ّ‬
‫�أقف ي ًدا‬ ‫حيث ال �أدري‪.‬‬
‫يل عاد ُة � ْأن �أخ َتل َِف و� ْأن �أقِ َف ُ‬
‫وتقف هي بل ًدا‪...‬‬ ‫الريح حماولة‬ ‫أتلم َ�س ّ‬
‫يل عادة �أن � ّ‬
‫ها ُه َو احلبرْ ُ ي ْكبرُ ُ يف القل ِْب‪..‬‬ ‫روح � ْأخرى‪.‬‬‫ت�شكيلِ ٍ‬
‫ئي ًة‬
‫مر ّ‬‫وها � ّأن حروفًا غيرْ ْ‬ ‫َ‬ ‫(فهذي التي ب�ص ْدري ال تكفي)‬
‫واء �أخ�رض تتقاذف‬ ‫وه ً‬ ‫فجائية َ‬
‫ّ‬ ‫و�سطورا‬ ‫امل�ضي �إىل �أواخِ ِر ال ْأ�ش َياءِ‪،‬‬ ‫يل عاد ُة‬
‫ّ‬
‫كلّها يف تلك املدينة‬
‫يف �أواخرها ط ْقطقةٌ‪:‬‬
‫ذات ال ّزب ْد‪.‬‬
‫الفانو�س الأكرب‬
‫ِ‬ ‫حول‬ ‫‪ -‬لعلّها فرا�شة ت�ص ّفق ْ‬
‫ت�صو ٍف‬
‫يل عاد ُة � ْأن �أج ّدف من حالة ّ‬ ‫العمر‬
‫بات ْ‬ ‫بي ِ‬ ‫‪ -‬لعلّها عجو ٌز تكا ُد ُت ْنهي ُح ْ‬
‫�إىل حالة َت َخ ّو ٍف‪،‬‬
‫يف طَ ْقطَ قة ْ‬
‫امل�سبحة‪.‬‬
‫ك�س ال�صرّ ْ خةَ‪...‬‬
‫مر�آ ٌة ت ْع ُ‬‫و�أن � ْأعتَبرِ َ الهواء ْ‬ ‫تعج ٍب)‬
‫( �أقِ ُف �أمام الإ ْثنينْ ِ عالمة ّ‬
‫كي �أوج ْد‬ ‫يل عادة ال�صرّ خة ْ‬ ‫لكن‬
‫لقد نرثت اال�ستفهام ّ‬
‫عب�أٌ باحل ِ‬
‫ُروف)‬ ‫ت�رصخ ف� َ‬
‫أنت ُم ّ‬ ‫َ‬ ‫(ف� ْأن‬
‫الظرف‬
‫ري ْ‬ ‫ع�صاف َ‬
‫ين الْتقط ْتها‬‫املكا ّ‬
‫‪-2-‬‬
‫ك�ساعةٍ ُمعطّ بةٍ‬
‫�أقِ ُف َ‬
‫الكون؟‪.‬‬
‫أتداوى من داء ْ‬ ‫كي َف �س� َ‬ ‫‪ْ -‬‬ ‫�أقف وقد �أكون بِال ظِ لّ‪،‬‬
‫كيف �أحلق بتلْك الق�صائد‬ ‫‪ْ -‬‬ ‫ال�شعر هذه‪.‬‬
‫جمرد ي ٍد حلْظة ّ‬ ‫�رصت ّ‬
‫ُ‬ ‫� ْأو‬
‫التي خرقتِ الكثريين؟‪.‬‬ ‫واقفًا ي ًدا � ّأما الباقي من اجل�س ِد‬
‫كي َف �أ ْنتمي نهائ ِّيا ل ِّأي �شيء؟‪.‬‬
‫‪ْ -‬‬ ‫�شعرا (ربمّ ا)‬
‫فتف ّتت ً‬
‫هذه �ش ْهوتي ال ُت َغا ُد ُرين‬ ‫ا�س َز َب ًدا‬
‫أتخيلَ ال ّن َ‬
‫يل عادة � ْأن � ّ‬
‫وال�ش ْهو ُة �أنثى م�ؤمل ٌة يف راحتيها‬ ‫ّ‬ ‫يف �شوارع املدينة‪...‬‬
‫رحى من حرارةٍ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫و� ّأن على حا ّفة املَدينة تلك ال َحقي َق ُة‬
‫�ص الإله‪،‬‬
‫أخم َ‬
‫ويل عادة �أن �أالعب � ُ‬ ‫�سِ َوى يدي املتقاطع َة مع ي ٍد ُم ّ‬
‫�شعةٍ ‪...‬‬
‫و�أن �أت�ألّه‪.‬‬ ‫ريح‬
‫من ٍ‬ ‫خملوق ْ‬ ‫ٌ‬ ‫و�أن � ْأع َت ِق َد � ّأن املر�أة‬
‫كلّما ازد ْد َت ت أ�لّها ازدادت‬ ‫عطفات يف تلك املَدينة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫�أو من م ْن‬
‫تلك ال�شهوة ت� ّأو ًها‬ ‫مت ّر بي‬
‫وللمر�أة –كما �أعتق ُد‪� -‬أن ُ‬
‫‪191‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تكف عن الرتاب‬
‫وقد ّ‬
‫‪-3-‬‬ ‫يف �آخر �شهقةٍ ‪.‬‬
‫يل عاد ُة � ْأن �أهد َِي‬
‫يف املتل ّه ِف‪،‬‬ ‫ال�صو ّ‬ ‫ا ْنظري �إىل َي ِد ّ‬
‫الدف‬
‫ال�ضارب ِة على ِّ‬ ‫الي ِد ّ‬ ‫الور َد َة المر�أةٍ‬
‫ْ‬
‫تذوب ن ْقر ًة ن ْقر ًة‬ ‫اليد التي‬ ‫يف الأ�ساطري القدميةِ‪..‬‬
‫ُ‬
‫انظُ ري‪...‬‬ ‫يل عادة �أن �أ�شتهي‬
‫مل ي ُع ْد �سِ وى نقْرةٍ واحدةٍ‬ ‫ْ‬ ‫ر�ؤية �صاحبتي‬
‫بع واحدة‪.‬‬ ‫ل ْإ�ص ٍ‬ ‫فكر ًة على ورقةٍ ‪...‬‬

‫من �أعمال الفنان غ�صن الريامي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪192‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫طـــــري الــــــر�ؤى‬
‫ُ‬
‫عمر �أبوالهيجاء‬
‫‪�  ‬شاعر من الأردن‬
‫يف �سف ِر الأماين‪،‬‬ ‫«�إىل خالد �أبو حمدية»‬
‫قلب‪/‬‬
‫خفق ٍ‬
‫ُ‬
‫‪jhj‬‬

‫�أيا خال ُد‪/‬‬


‫يه ُّزين هذا امل�ساء‪،‬‬
‫بوح‪،‬‬
‫رث من ٍ‬ ‫ابن �أك َ‬
‫يا َ‬
‫ويخطفني لي ٌل �إىل دارته‪،‬‬
‫وحطام‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رث من طعنةٍ‬ ‫و�أك َ‬
‫أتبيـن الق�صائ َد يف عروق املخيم‪،‬‬
‫ل ّ‬
‫تذكر �أطيافنا التي تركناها‬ ‫ُ‬ ‫‪jhj‬‬
‫يف ذاكر ِة الرغبةِ‪،‬‬
‫يا «دار َة الليل»‪،‬‬
‫احلروف‪،‬‬
‫َ‬ ‫ن�سن‬
‫وم�ضينا ُُّ‬
‫الغيمي»‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫«ك�ساحـها‬
‫َ‬ ‫ويا‬
‫غب�ش النهار‪،‬‬ ‫قنادي َل يف ِ‬
‫خذ ما �شئت من امل�شاوير‪،‬‬
‫تذكر‪/‬‬
‫ُ‬
‫رص ِم‪،‬‬ ‫التي اع�شو�شبت يف طني البيوت‪،‬‬
‫ملّا بكينا �أولَ احلُ� ُ‬
‫على ورقِ اجلرائدِ‪،‬‬ ‫بكى الناي‪ ..‬بكينا‪،‬‬
‫الديوان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وكان‬
‫َ‬ ‫وكُ نا‪،‬‬ ‫يدي العازف‪،‬‬ ‫بني ّ‬
‫‪jhj‬‬
‫فا�ض ال�ضوء‪،‬‬‫ني َ‬ ‫ح َ‬
‫�أيا خال ُد‪/‬‬ ‫على «الدالي ِة الآثمة»‪،‬‬
‫نادم فيكِ ك َّل هذا النزيف‪،‬‬ ‫�أُ ُ‬ ‫ين‪،‬‬
‫ومل ينم الول ُد الزيتو ُّ‬
‫احليطان‬
‫ُ‬ ‫هذي‬ ‫وتر يف البيات»‪،‬‬ ‫«يجر ْح ُه ُ‬
‫َ‬ ‫ومل‬
‫واملرايا التي تك�سرّ ْت‬ ‫‪jhj‬‬

‫على �سجاد ِة �صالة �أبيكَ ‪،‬‬ ‫قلب‪/‬‬ ‫فق ٍ‬ ‫َخ ُ‬


‫تنزو وحيداً‪،‬‬ ‫ومل ِ‬ ‫يه ُّزين ملّا �أُطلُّ‬
‫كان املوالُ ‪،‬‬‫َ‬ ‫على بواب ِة «التوميتو»‪،‬‬
‫الطريق �إىل عري�ش ِة ُعم ِركَ يف اخلليلْ‪،‬‬‫ُ‬ ‫�أراه ي�رشب مرارة الطرقات‪،‬‬
‫دليل �إليكَ ‪،‬‬
‫و� ُّأي ٍ‬ ‫قارئ ًا خيوطَ الأ�سى‪،‬‬
‫‪193‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أربع ًة كنا‪/‬‬ ‫دم وق�صيد ْة‪.‬‬
‫ري ٍ‬
‫غ ُ‬
‫«ابوحمدية‪ ،‬اخلطيب‪ ،‬و�ساري»‪،‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫ني باملو�سيقى‪،‬‬ ‫مل نزلْ ُمت�شِ ح َ‬ ‫�أيا خال ُد‪/‬‬


‫الكالم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫االنزياح وكثاف ُة‬
‫ُ‬ ‫ي�سكننا‬ ‫احلكيم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أتذكر �شيخنا‬‫� ُ‬
‫آذن الريح‪،‬‬
‫الكواكب يف م� ِ‬ ‫ني غادرنا وم�ضى‬ ‫ح َ‬
‫َ‬ ‫نطيرّ ُ‬
‫ويتبعنا احلجلُ ‪،‬‬ ‫�إىل حفل ِه الأخري‪،‬‬
‫�أربع ًة كنا‪/‬‬ ‫ذات م�ساءٍ‪،..‬‬ ‫�أتذكر َ‬
‫ملّا �أخذتنا الق�صيد ُة‪،‬‬
‫احلرف‪،‬‬
‫ِ‬ ‫غيم‬
‫منطر َ‬‫ُ‬
‫اىل كوفي ِة الع�شقِ ‪،‬‬
‫الكالم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أردان‬
‫يف � ِ‬
‫تراب ذبيح‪،‬‬ ‫خلف ٍ‬ ‫َ‬
‫‪jhj‬‬
‫قلت يل‪:‬‬
‫حينها‪َ ..‬‬
‫با�سم ال�شع ِر‪،‬‬
‫تنه�ض الآن فينا الدوايل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واحلزن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫املدن‪،‬‬ ‫حتن �إلينا كلُّ‬
‫ِ‬ ‫ُُّ‬
‫واجلراح‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كعب البواري ْد‪.‬‬
‫التي ر�سمناها على ِ‬
‫أيام لنا‪،‬‬
‫با�سم ما َحملت ُه ال ُ‬ ‫‪jhj‬‬

‫�صديق البح ِر‪،‬‬


‫َ‬ ‫أطلق يا‬
‫� ْ‬ ‫�أربع ًة كنا‪/‬‬
‫طيرّ َ الر�ؤى ن�شيداً للرعدِ‪،‬‬ ‫أر�ض الق�صيدةِ‪،‬‬
‫احلرف على � ِ‬
‫َ‬ ‫منطر‬
‫ُ‬
‫والذنوب»‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وكُ ْن «�آي ًال للهوى‬ ‫النبع ال�صايف‪،‬‬
‫ن�رشب َ‬ ‫ُ‬
‫أ�شياء بليلها‪،‬‬
‫ُن�سمي ال َ‬

‫هوام�ش‪:‬‬
‫‪« j‬ك�ساح الغيم‪ ،‬دالية �آثمة‪ ،‬ال جترحي وتر البيات‪� ،‬آيل للهوى والذنوب‪،‬‬
‫�شقاوة الآ�س»‪ ،‬جمموعات �شعرية لل�شاعر خالد ابوحمدية‪ ،‬و»دارة‬
‫الليل»‪ :‬ق�صيدة له كتبها حني كنا نلتقي يف منزل الفنان عليان قا�سم‪،‬‬
‫«احلكيم»‪ :‬ال�شاعر د‪ .‬ابراهيم اخلطيب‪« ،‬التوميتو»‪ :‬مقهى يرتاده بع�ض‬
‫مثقفي �إربد‪.‬‬
‫‪� j‬أبو حمدية واخلطيب و�ساري‪� :‬شعراء كنا نلتقى �شبه يومي يف‬
‫منازلنا ونرجتل ال�شعر على مو�سيقى عليان قا�سم‪.‬‬

‫‪194‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫انتظارك‬
‫ِ‬ ‫روحي كر�سي‬
‫دلدار فلمز‬
‫‪� ‬شاعر من �سورية‬

‫‪-2-‬‬ ‫(�أنا على �أطراف حزين �أعد �أعمدة الوحدة‬


‫غيابكِ ؛ غيابكِ عني يخيفني‬ ‫حتت خيمة الوقت يف انتظاري لكِ )‬
‫و�رسير موح�ش يهدهد ر�أ�سي املنخور‬ ‫روحي �رسير انتظاركِ‬
‫ال �أحمل يف جيبي �سوى �سجائر ال�شوق‬ ‫أزرق وهادئ‬ ‫هذا امل�ساء � ٌ‬
‫�أ�شعلها واحدة تلوى الأخرى ب�شفتني ياب�ستني‬ ‫كبحر ينام على كتف الرمل‬
‫يف عيني يتلألأ ؛ يتلألأ ليل العناق‬ ‫غرفتي موح�شة كليل الغابات‬
‫�أحتاج يداً؛‬ ‫ك�شعركِ‬
‫يداً ب�أ�صابعها الكاملة احلنان‬ ‫ك�صوتكِ �أي�ضا‬
‫يداً تك�رس رغيف احلب وتطعم روحي‬ ‫كوحدتي �أي�ضا‬
‫و�صباح ًا يزيح هذه الغمامات‬ ‫يف ر�أ�سي ت�صبحني فرا�شة‬
‫عن مكاناتي البعيدة‬ ‫فرا�شة تغ�سل عني وعن �أحالمي رحيق الكوابي�س‬
‫�أحتاج �أي�ض ًا لي ًال ؛ لي ًال يت�سع لنعا�سي‬ ‫ك�شيء يت�أبط رمل الأمنيات‬
‫وبحراً عذب ًا يغ�سل عن ج�سدي دخان الدم‬ ‫ويفك �أزرار بابي املغلق‬
‫�أحتاج �أي�ض ًا و�سادة ع�شقٍ حت�ضن وجهي الغارب‬ ‫حبيبتي نهاراتي �صفراء ك�أوراق‬
‫روزنامةٍ يف غرفة عا�شقني‬
‫ويف اجلهة الثالثة من ليلي الطويل‬
‫�أيامي املعلقة كعواء الكالب‬
‫ال تزال ك�آبتي مرتبة ككتبي‬
‫على حبال الريح‬
‫ومبعرثة �أي�ضا ك�صباحاتي‬
‫حتتاج قلي ًال من هدوء جلو�سكِ‬
‫وحفنة من �صوتكِ الأ�سمر‬
‫‪-3-‬‬
‫ذاكرتي ت�شتعل بلقاءاتنا‬
‫يف ال�شارع املفتوح على حزين �أعرب النا�س‬ ‫و�سجائر العا�شقني‬
‫كما �أعرب نوافذ مغلقة‬ ‫يف خ�رص التالل‬
‫وحده �صوتك كنوار�س بي�ضاء يتحدى بحر عزلتي‬ ‫مل تقدر �أن تطف�أ ر�أ�سي‬
‫‪195‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ويف وجوههم املتعبة ابت�سامة حمراء‬ ‫وب�أ�صابعكِ الف�ضية ت�شعلني فانو�س حياتي‬
‫ال�شم�س حترقهم و�أ�شواك الرمل‬ ‫وتدرين متام ًا كما لن يدري �أحد‬
‫تنخر �أب�صارهم‬ ‫�أن روحي �رسير غيابكِ‬
‫‪-7-‬‬ ‫�إنه الربيع �أخرياً و�صوتكِ اال�سمر‬
‫�أيها احلب املتعب متى �ستعرب مدينتنا ؟‬ ‫يرتدد على الأ�شجار يف �سماء الغربة‬
‫فدخانها م�ؤمل وجنومها احلزينة‬ ‫ك�أن كل �شيء ثابت كما لو تعطل الكون هنا؛‬
‫نائمة يف ال�سماء‬ ‫هنا على عتبة ع�شقنا يف انتظار لقائنا امل�ؤجل‬
‫قبعات احلزن ال تليق بغري ر�ؤو�سنا‬ ‫وطيفكِ كخياالت ال�صيف القا�سية‬
‫جدراننا املليئة بالعناكب يت�ساقط‬ ‫هائج كبحر ينخر جدران وحدتي‬ ‫ٌ‬
‫من ثقوبها حمى الوقت‬
‫‪-4-‬‬
‫ال تخف �أيها املتعب فلن تخد�شك �أ�شجارنا‬
‫�أيها احلب املتعب‬
‫وطيور ت�شبه البطريق تعرب الأفق على عجل‬
‫من �أجلك �أدفن نهاراتي؛‬
‫�أريا�ش خ�شنة و�سحب مغلقة تغمرنا‬
‫نهاراتي هذه طفل حزين‬
‫مبطر حنون‬
‫يبكي على تخوم قلبي‬
‫�أين �أنت ‪................‬؟‬
‫�أيها احلب املتعب‬ ‫‪-5-‬‬
‫�إنه الربيع‬
‫‪-8-‬‬ ‫و�أنت تر�سمني يف ماء وجهي دوائر الن�شوة‬
‫يت�صاعد يف ر�أ�سي‬ ‫تك�رسين زجاج حزين يف �ضباب النوم‬
‫دخان وجهكِ‬ ‫كما لو �أن يف �سماء وجهك باقة‬
‫ويدي حتتاج قلي ًال من خميلتكِ‬ ‫من مرايا البنف�سج‬
‫يف كتابة ق�صيدة تليق بحبك يل‬
‫‪jhj‬‬ ‫‪-6-‬‬
‫هام�ش ‪1‬‬ ‫يا خليبة ال�شعراء‬
‫(�أنا على �أطراف حزين‬ ‫كم وجدوا �أنهم �ضلوا الكلمات‬
‫�أعد �أعمدة الوحدة‬ ‫مقرف�صني يف حقول الي�أ�س‬
‫حتت خيمة الوقت‬ ‫بقبعاتهم احلزينة ينتظرونكِ‬
‫يف انتظاري لكِ )‪.‬‬ ‫يف �أيديهم باقة من �سنابل الأمل‬

‫‪196‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ّتفاحة ق�صيدة ّالنرث‬
‫عبدالفتاح بن حمودة‬
‫‪� ‬شاعر من تون�س‬

‫روحي‬ ‫يوما ما‪،‬‬


‫قطار‬
‫بعجالت ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نقدية مدهو�س ًة‬ ‫وقط ًعا ّ‬ ‫�ستجل�سني على �صخرة فوق حافة ال ّنهر‬
‫�ست ْن ُقرين ب�أ�صابعك ليال على طاول ِة خ�شب ل ّف َها‬ ‫�ضيع �صابة القمح‪.‬‬ ‫و�ستذرفني ال ّدمع مثل فالّح ّ‬
‫�سيان‬
‫ال ّن ُ‬ ‫يوما ما‪،‬‬
‫الربق ومن ظلّك حتت‬ ‫�ستم�شني طوي ًال خائف ًة من ْ‬
‫�ستجل�سني على �صخرة قبالة البحر‬
‫القمر‬
‫و�ستح ّدثني املوجة ـ بكلمات ال تفهمها ـ‬
‫�ستجمعني لغ َة الربق‬ ‫ْ‬ ‫وبيدين مرتع�شتينْ‬
‫الريح‪.‬‬
‫عن �شِ باك م ّزقتها ّ‬
‫وخ�شخ�ش َة �أوراق الأ�شجار �صيفًا‬
‫�ستبنني بي ًتا من بيوت العناكب يف ال ّندى‬ ‫ْ‬ ‫يوما ما‪،‬‬
‫ح�صان‬
‫ٍ‬ ‫وال�سماء ب�أوتا ِر ذيلِ‬ ‫و�س ُتم�سكني الأر�ض ّ‬ ‫ال�شتاء‬
‫�ستتحلّقني مع الأطفال حول موقد يف ّ‬
‫ال�صيد‬‫ويف حفالت اخلروج �إىل ّ‬ ‫و�أنت حت ّدثينهم عن فائدة اللّيل‬
‫ال�شباك ب�أ�سنانك مثل القوار�ض‬ ‫�ستق�ضمني ِّ‬ ‫جلنود احلرب وحطّ ابي الغابات ومنكودي احلظّ ‪.‬‬
‫ال�شامتة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يوما ما‪،‬‬
‫املطر غا�ضب ًة ما ّد ًة قب�ض ًة عالي ًة يف‬ ‫َ‬ ‫�ست�رشبني‬ ‫ال�صبايا عن لغة الربق‬
‫�ستح ّدثني ّ‬
‫الهواء‬ ‫وفائدة امل�شم�ش احلام�ض ليال‪،‬‬
‫وال�صنوبر‬
‫ال�سجائر ّ‬ ‫الفرق بني طعم ّ‬ ‫َ‬ ‫و�س ُتطفئني‬ ‫وعن امل�سافة الفا�صلة بني الف�أ�س ور�أ�س الأفعى!‬
‫أخ�شاب الأخري َة حتت �سماء تنذر‬ ‫َ‬ ‫�ست ْقلعني ال‬
‫يوما ما‪،‬‬
‫باملطر‬
‫�ستحتفلني بقليل من املك�سرّ ات‬
‫�شاربيك‬
‫ْ‬ ‫املارة فاتل ًة‬
‫و�س ُتغلقني طريقا �أمام ّ‬ ‫و�شيء من احلظّ وال ّنبيذ‬
‫الريح‬
‫�ستفعلني � ّأي �شيء � ّأيتها العابرة يف ّ‬ ‫ال�شم�س!‬
‫مق�سم ًة على انت�صار ّ‬
‫ف�ضالت �س ُتزهر بعد‬ ‫ٍ‬ ‫ما دمت تدركني � ّأن كوم َة‬
‫قليل‬ ‫«وردة العامل الذي ال ينتهي» (_)‬
‫مروحة!‬
‫َ‬ ‫�ستتحوالن ً‬
‫حتما �إىل‬ ‫ّ‬ ‫يديك‬
‫و� ّأن ْ‬ ‫�ست ْت َبعني �أثر اجلرذان التي �أ�سقطت �أ�سنا َنها يف‬
‫ــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الفجر‬
‫(_) ت�شارلز �سيميت�ش‪.‬‬ ‫�ستلتقطني الأزهار احلمراء التي �سقطت من‬
‫‪197‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫تتعرق يا�سمينا‬
‫حجارة حم�ص ّ‬
‫خالد زغريت‬
‫‪� ‬شاعر من �سورية‬

‫ــــــــيـطَ �أَنـِـــــــيـني‬ ‫ــــــــمي�صـــكِ َخ ْ‬


‫ِ‬ ‫فــي َق‬ ‫ال�صمتِ رانية ٌ فوق‬ ‫و�أقولُ لها‪ :‬مـــــا لها جنم ُة ّ‬
‫ــر‬
‫كَ نــَ َه ْ‬ ‫هدبكِ‬
‫و�أقــول لــها‪ :‬يا حــبيبـة ال ُتـــــــطْ ِرقي يف‬ ‫دمائي‬
‫َ‬ ‫والطّ ــري كانت ُت�ضي ُء مبــل ِْـح‬
‫يديـــــــكِ‬ ‫مــــــــوالَــــــها‬
‫ِــــــــــعا�ص)‬
‫ٍ‬ ‫تـَــ ْتـلـو �ضفـــــــــــاف ًا (لـ‬ ‫وعلى هدبِـها حنينــي يطــولُ لــــها ‪...‬ف�أقـــول‬
‫�أنـاجيلـَــــــــها‬ ‫لــــــــها‬
‫ويــــداها مــرايا لـروحي فال ت�ســـ�أيل مــــــا‬ ‫لـــكـن‪ ....‬بعينيــــــــــكِ قـــلبــي‬ ‫ْ‬ ‫ـرت‪،‬‬
‫ما ت� ّأخ ُ‬
‫لــــــــها‬ ‫َــــــها‬
‫ل ِ‬
‫�إن َعــــــ َل ْتـكِ يــــــداكِ ُخـــــــــــــــزامى فـــــــلي�س‬ ‫�صـــمت عــطرك فـي‬ ‫َ‬ ‫و�أقـولُ لــها‪ :‬اك�ســري‬
‫ِــي لـــنا‬ ‫ــــــعجزات َنـــب ٍ ّ‬
‫ُ‬ ‫ل َّأحـــــــــــدِنا ُم‬ ‫لغتـــــي‬
‫مـــالـــــــها‬ ‫كم ت�صاع َد ُد ّخان قلبي �أ�شـــ َّد اكتما ًال ْ‬
‫من‬
‫ـ�ص َع ُب‬ ‫ــبكِ َي ْ‬ ‫غيـر � َّأن لِـقلبي كــرام َة ُح ِّ‬ ‫َ‬ ‫القمــر‬
‫ْ‬ ‫بيــا�ض‬
‫ِ‬
‫بالكلمــــــــات‬ ‫حلـــمِ يديـّـ ِة‬ ‫ني ا َ‬ ‫ـــــن يا�سمـ ِ‬ ‫ِــم مِ ْ‬ ‫كـــم �أُلـَ ْ‬
‫ـــملـ ُ‬
‫ري َت َو ُّردِهـــا وعلى العط ِر َي ْع ِجـــــ ُز‬ ‫تف�س ُ‬ ‫ــــــــ�ض‬
‫ِّ‬ ‫ال َغ‬
‫ت�أويلَـــــــــها‬ ‫يـدي‬
‫ظِ ــــ ِّل عيونـِـكِ رانيـــ ًة ف ُي�صـلي لــها يف َّ‬
‫ا�ش رعـى يف‬ ‫حل ِو ِ‬
‫و�أقول لها كم غزالُ ا ِ‬ ‫ـــر‬
‫احلَجـَ ْ‬
‫�أ�صابعـــــــها‬ ‫ب�ش ْعــــــ ِركِ‬
‫�ص َتفُـــــكُّ َ‬ ‫بحــــم َ‬
‫ْ‬ ‫وك�أنـــي‬
‫�ســرها فَـ َنـما َ�شــ ْع ُر ُه‬ ‫ال َع َب َـق احلـــل َْو يف ِّ‬ ‫ُخ ْـر ُنوبِـــــــها‬
‫َح َبـــــــــــقا‬ ‫ــرفـات‬
‫ِ‬ ‫كــي ُت َـخ ّيــــــــــــــــــــــــــــم فـي �شـُ‬
‫كم حــــنينـــي َز َقـــــــا يف �شــــــقـوقِ حِ جـَــــــا ِر‬ ‫ـــــر‬
‫ال�ش َج ْ‬ ‫َّ‬
‫ـــت َع َرقـــــــــــــا‬ ‫احلـــــميديـ ِة ال ّز ْرقِ ح ّتـى َنـ َب َت ْ‬
‫ّ‬ ‫ـــــــر َب قـــــــهـو َة عــــــينيــــــكِ قـــ ْد‬ ‫و ِل َت ْ�ش َ‬
‫يعـــــانـق ورداً‬
‫ُ‬ ‫وجـــ ُهكِ ورداً‬ ‫مـا �أُ َح ْيــالكِ َيطْ ُ‬
‫لــع ْ‬ ‫ــــت‬
‫َن َّو َم ْ‬
‫‪198‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أبطالِـــــــــــــها‬ ‫�صارت له‬


‫ْ‬ ‫ف�أخ�شى على كربيائي‪ ...‬تقولني‬
‫خــواتيـــــــــم � ّأولَــــــــــــــــــــها‬
‫َ‬ ‫�أن كتبنــــــــــا‬ ‫َع َبقــــا‬
‫الـــــــــــورق‬
‫ْ‬ ‫ِبي�ضا�ض‬
‫ِ‬ ‫و بِحِ برْ �أ�ش َّد بيا�ض َا على ا‬ ‫حت‬
‫زهراً وت ْن ُ‬ ‫ما �أُحيــــــــــلى �شفاهكِ َت ْع ُق ُد ْ‬
‫للجم ِر ْ‬
‫لن�ضحكَ �صمتـــــــــــــــــــ ًا على‬‫فتعالــــــــــــي ْ‬ ‫للعطْ ِر غِ ْمـــداً‬
‫فما �أنتِ ‪� ..‬أنتِ مرايا َج َمالِ اجلَمال‪ ..‬فكيف‬
‫ورق‬
‫ليـــــــن �صنعناهمـــــــــــا من ْ‬
‫ِ‬ ‫َبطَ‬
‫بعينيك لن � ْأغ َرقـــــــا‬
‫و َن ُ�ش ُّق ُه َما حني نبكيهما ل ُن َن ّ�ش َف �أدمعنا‬
‫جناحي مالئكةٍ َ�س َّب َح ْت �ألق ًا‬‫ْ‬ ‫ما �أحيلى يديكِ‬
‫بـــالورق‬
‫ْ‬
‫جلمالكِ ق ْد َح�سِ َب ْت ُه لـها‬
‫و�سن�ضحكُ �أ ّنا بكينا الذي َخ َل ْقنـــــاه من ْ‬
‫ورق‬ ‫ْ‬ ‫يف َغــــــــــــــدا‬ ‫الور َد َّ‬
‫وح�سِ ْب ُت لروحكِ � ْأن تحَ ْ َ�س َب ْ‬ ‫َ‬
‫َـــــق‬
‫ـدى من َعل ْ‬
‫نن�س �أ ّنا ُخ ِل ْقنا ُ�س ً‬
‫نحن مل َ‬ ‫ظلَّـــــــــها‬
‫ألق‬
‫حم�ص تبقى �إذا ما بقيتِ بروحـي � ْ‬
‫ُ‬ ‫�أ�أقول لها‬ ‫الكربيـــــــاء التي‬
‫َ‬ ‫وح�سِ ْب ُت لروحكِ � ْأن تحَ ْ َ�س َب‬ ‫َ‬
‫فلعلكِ �إ ْذما عرفتِ ب�أنكِ �إن تحَ ْ ُرقينـــــا‬ ‫لــــي لـــــــــها‬
‫ْ‬
‫احتـــــرق‪.‬‬
‫ْ‬ ‫بحم�ص الذي ما‬ ‫َ‬ ‫فق ْد حترقني‬ ‫جر َح‬ ‫حكت ْ‬ ‫ق�ص ًة � ْأ�ض ْ‬‫و�أقولُ لها � َآن � ْأن َت ْختمي ّ‬

‫من �أعمال الفنان ادري�س الهوتي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪199‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫يدك‪..‬‬
‫ر�شــــا �أحمــــد‬
‫‪� ‬شاعرة من ُعمان‬

‫َريف‬
‫كاخل ِ‬ ‫لك يف ي َد َّي ر�سا ِئلٌ‪ُ :‬م�شتاق ٌة ‪..‬‬
‫وظلّت الآه ُة َت ُ‬
‫طر ُقني‬ ‫َخب�أ ُتها ‪..‬‬
‫كاملَ�صائِد‬ ‫ال�شم�س ‪! ..‬‬
‫ُ‬ ‫ما َداع َبتها‬
‫�أحمِ لها ‪..‬‬
‫بيديك‪..‬‬
‫وتحَ ملُني �إليك على َعجل‬
‫ار�سم ما�شئت‬
‫قلبي �صفحة بي�ضاء‬ ‫و �أنــا‬
‫لونها بقو�س قزح‬
‫ّ‬ ‫�رس ال�شقوق يف جدار القلب‬
‫�أفت�ش يف كفي عن ّ‬
‫وقل يل‬ ‫�أُب�رصك‪.‬‬
‫هل اكتمل احللم‬ ‫غيبا من�سوجا من �صمت و�شوق‬
‫يدك �سحابات الوله املكممة لل�ضوء‪.‬‬
‫�أ�صابعك لغتي‬
‫ِب�إنـْتـِظـَا ِرقـَ ْه َـوتك‬ ‫من يقنع الع�صافري‬
‫ت�ص َن ُعها يل ِب َيدِك‬ ‫ْ‬ ‫الواقفة على نافذتي‬
‫بلهيب حبك‬‫ِ‬ ‫مغمو�س ِة‬ ‫املنتظرة لقمح يدي‬
‫َ�ص َمت َقلِيال‬ ‫ب�أن احل�صاد ال ينتهي‬
‫َه َّمت بِالل ََّحاقِ بِه‬
‫رجح َبني َي َديك‬‫طيع ال َت َم ُ‬
‫�أ�أ�س َت ُ‬
‫‪�..‬ص َم ُت قليال ً‬ ‫عت َ‬ ‫راج ْ‬‫َت َ‬ ‫يا احتِماالتي‬
‫َنا َدتــــْـــــــــــ ُه ف َْج�أَة‪ :‬أُ�حبــك‬
‫ِكريات‬
‫�أ�أ�س َتطيع �أن �أغمِ �ض الآن كَ ّفي َعلى الذ َ‬
‫امةٍ‬‫ِابت َِ�س َ‬
‫ال َتف ََت َنحوها ب ْ‬ ‫الّتي ج ّففتها ال َق�صائِد‬
‫� ْأ�ش َعلَ �شوقا ‪َ ,‬ق َّد َم َل َها فِ ْن َج َ‬
‫ان َق ْه َوة‬ ‫ها �أنت‬
‫ِ�ص ْمتِه ِا ُ‬
‫مل ْع َتاد‬ ‫او َب ِن َد َاء َها ب َ‬
‫َج َ‬ ‫مثل ُغ�ضن‬
‫حرف وعط ِر كلم ِة‬ ‫اها َج َوا ُب ُه ‪ ..‬يف ِ‬ ‫�أَ َت َ‬ ‫أغم َ�ضني‬ ‫وال ُعمر � َ‬
‫‪200‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عطرك الذي ن�سيته على ج�سدي بذات عناق‬ ‫قلّمي �أظافر ال�شوق‬
‫�شطرين �إىل اثنتني‬ ‫ثم �إغ�سلي تعب امل�سافات‬
‫فكيف �أمتكن من الإفالت‬ ‫بدمعكِ‬
‫و�أ�صابعك مغرو�سة يف كلي‬ ‫ورتبي للبحر و�سادة‬
‫و ب�أ�صابع ‪ ..‬جتيد �رسد احلكايا‬
‫من ا�شعل املاء‬ ‫�إم�سحي �شعره‬
‫وترك الغيم يحرتق وحيداً‬ ‫لينام‬
‫لك�أن االغرتاب‬
‫بعد الرحيل‬
‫كف يكفن ‪ ..‬فرحنا‬‫ّ‬
‫نرقد على قارعة «تلويحة»‬
‫و بـ �رشود ال�ضوء عن �رسبه‬
‫خر�ساء �أ�صابعها‬
‫كان اليمام‬
‫ال نعي الي�ستوعبنا‪،‬‬
‫فري�سة الإنتظار‬ ‫�سوى اعتناق عــودة‬
‫يا �أنت‬
‫قل لـ هذا ال�ضجيج ال�ساكن عينيك‬ ‫تناولت قلمها فكتبته حبا‪..‬‬
‫تناول فر�شاة ور�سمها‬
‫يكفي‪.‬‬
‫هو يراها ج�سدا‬
‫ا�شتاقك‪..‬‬ ‫هي تراه حبا‬
‫ف�أُ َح َّرر �أ َنامِ لِي ‪ ..‬مِ ن َق ْي ِد ال َقلَم‪..‬‬ ‫وبينهما ت�ضيع امل�سافات‬
‫ف ُي ْغ ِر ُقنِي حِ برْ ُ ُه ‪...‬‬ ‫احلب هو �أن تلتحف يدك الدافئة يدي الباردة‬
‫ا�سمِ ك‪..‬‬ ‫وف ْ‬‫ب ُِح ُر ِ‬ ‫فت�شعل جمرها‪.‬‬

‫و �أنــا‬ ‫كَ م �أ�شتهي �أن َيتعرى حِ رب قلمي مِ نك ‪..‬‬


‫�رس ال�شقوق يف‬ ‫�أواري لهفتي تحَ ت غطاء �أحريف‪..‬‬
‫�أفت�ش يف كفي عن ّ‬
‫فتحلق بي‪ ..‬نحوك‪..‬‬
‫جدار القلب‬
‫�أُب�رصك‪.‬‬ ‫على كتف غيابك‬
‫غيبا من�سوجا من �صمت و�شوق‪.‬‬ ‫و�شمت ح�ضوري‬
‫ُ‬

‫‪201‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫حتت كل حجر وردة بي�ضاء‬
‫فتحية ال�صقري‬
‫‪� ‬شاعرة من ُعمان‬

‫�إخماد احلرائق ‪ /‬تهدئة الرباكني‪/‬‬ ‫�أنتِ هنا ‪..‬‬


‫حقن اليقني كلما ا�ستفاق ب�إبرة خمدر‪/‬‬ ‫ال زلت هنا‬
‫مفاو�ضة الوهم‪/‬لال�ستمرار يف عمله‬ ‫مبحاوالتك الكثرية لك�سب ال�شك‬
‫كقاطع طريق‪.‬‬ ‫مبحاوالتك الكثرية ملحو احلقيقة‬
‫نظرتك املرتددة بني ال�ساعة‬ ‫�أنت هنا‬
‫والورقة التي ت�سقط من دفرت‬ ‫ال زلت هنا‬
‫العمر كل يوم‬ ‫داخل هذه الغرفة ال�صغرية‬
‫تكرر ال�س�ؤال ذاته‬ ‫املزدحمة جدرانها بال�صور القدمية‬
‫هل �سيرُ جعون للقتيلة �شم�سها‬ ‫وبالوجوه ال�ضاحكة والباكية يف �آن‬
‫قبل �أن تباغتها نهاية �صادمة؟‬ ‫داخل هذه الغرفة اخلر�ساء‬
‫التي حتتفظ ب�أ�رسارك‬
‫عمر عزلتك الآن ع�رشون عام ًا‬
‫دون نية م�سبقة لتهديدك‬
‫تخللتها غيابات �صغرية‬
‫يل ذراعك‪.‬‬‫�أو ّ‬
‫�صغرية جداً‬
‫ال ُتخِ لُّ باملعنى احلقيقي للعزلة‬ ‫هل �سيكون؟‬
‫�أنت فقط ترين العامل من خالل‬ ‫يوما ما ‪..‬‬
‫هل �سيكون لها ل�سان ً‬
‫نافذة افرتا�ضية‬ ‫لتف�صح عن حياة م�شوهة‬
‫اخرتعها عباقرة‬ ‫ت�سري بقدمني ا�صطناعيتني‬
‫كانوا يعلمون �أن ثمة قتلى‬ ‫داخل علبة‬
‫عاجزين عن ال�سفر‬ ‫عن حياة ت�سري‬
‫عن ر�ؤية العامل دون‬ ‫نحو الال�شيء‬
‫حاجز زجاجي‬ ‫مدفوعة بيد الوهم العمالقة ‪.‬‬
‫يهوي بهذيانه البليد‬ ‫�أنتِ هنا ‪..‬‬
‫يف م�ستنقعات احلرب‪.‬‬ ‫ال زلت هنا‬
‫متاما‬
‫� َّأن ثمة قتلى عاجزين ً‬ ‫تتدربني على؛‬
‫‪202‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قطرة‬ ‫عن �إيقاظه من ه�سترييا النباح‬


‫تلو‬ ‫ب�صفعة قوية‪.‬‬
‫�أخرى‬
‫تنامني‬
‫لت�شهدي‬ ‫وال ت�ستيقظني‬
‫ت�شكل الأنهار ال�صغرية‬ ‫ت�ستيقظني‬
‫وهي جتري‬ ‫وال تنامني‬
‫بني البيوت‬
‫تغيبـيــــــــن‬
‫يف الأحياء الفقرية‬
‫وعودتك مرهونة بطعنة؛‬
‫لت�شهدي‬ ‫طعنة‬
‫حتطم الزوارق‬ ‫لك�أنها وقعت على‬
‫والبيوت والأحالم‬
‫ظهرك لل ّتو‪.‬‬
‫حتت ع�صف الريح‪.‬‬
‫لت�شهدي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ j‬مقاطع من ن�ص طويل‪.‬‬ ‫ت�ساقط الكلمات‬

‫من �أعمال الفنان عبداللـه البلو�شي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪203‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫كيف تفوز بوردة ؟!‬
‫عبد العظيم فنجان‬
‫�شاعر من العراق‬

‫راكع‬
‫ينبج�س من َم�سام اجلدران‪ ،‬من النوافذ‪ ،‬و�أنا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫احلمامة‬
‫فخرجت حزينا ويائ�سا �إىل‬‫ُ‬ ‫�أمام متثاله ال�ضخم‪،‬‬ ‫كان �أتوناب�شتم يت�أمل الأفق وحيدا‪ ،‬فوق ال�سفينة‪،‬‬
‫جل�ست القرف�صاء يف زاوية نف�سي ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫البيت‪ ،‬وهناك‬ ‫عندما عادت احلمامةُ‪ ،‬احلمامة البي�ضاء‪ ،‬حمامة‬
‫ا�ستغرقت طويال يف التحديق �إىل خمطوطة هذه‬ ‫ُ‬ ‫الطوفان‪ ،‬عادت بعد قرون طويلة من الطريان‬
‫حفرت‬
‫ُ‬ ‫توغلت عميقا يف داخلها‪:‬‬‫ُ‬ ‫الق�صيدة ‪ .‬رمبا‬ ‫فوق امل�شانق والقتلى ‪.‬‬
‫وم�شيت حماطا بقبائل الأرق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والنهار‪،‬‬
‫َ‬ ‫اللي َل‬ ‫�ضم ْت جناحيها‬
‫حامت حول ر�أ�سه عدة مرات‪ ،‬ثم ّ‬
‫حيث ال �أر�ض هناك وال �سماء‪ ،‬حتى خـُيـّل �إيل �أين‬ ‫رمت بنف�سها �إىل‬
‫�إىل بع�ضيهما‪ ،‬وب�رسعة خاطفة ْ‬
‫أيت‪ :‬جلجام�ش‪،‬‬ ‫أيت ما ر� ُ‬
‫اخرتقت الع�صور‪ ،‬فر� ُ‬
‫ُ‬ ‫قد‬ ‫و�سقطت ميتة بني قدميه ‪.‬‬ ‫ال�سفينة‪،‬‬
‫ْ‬
‫يف الأخري‪ ،‬منهو�ش القلب‪ ،‬يطرق بابي‪ ،‬بحثا عن‬
‫�رس اخللود ‪.‬‬
‫ّ‬
‫خمطوطة الأع�شاب الغام�ضة‬
‫َمن يفهمني ؟!‬ ‫أقطع الليل جيئة‬ ‫مثل نبي ُج َّن من مقالب �شعبه‪ُ � ،‬‬
‫أيت‪ :‬هي ر�ؤيا‬ ‫كتبت ما قد ر� ُ‬ ‫ُ‬ ‫وذهابا‪ ،‬رغم �أين‬
‫�إن الأمر لي�س �سوى تلك الأع�شاب الغام�ضة يف‬ ‫أخل�صت لها‪.‬‬ ‫جتلّت يل وحدي‪ ،‬يف حلظة نادرة‪ ،‬ف�‬
‫ُ‬
‫�أقا�صي الباطن‪ ،‬تنمو فت�أخذ �شكل ق�صيدة ‪.‬‬ ‫يقرتب‪ ،‬والهروب �شِ عر‪ ،‬وما‬ ‫الطوفان نرث‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫�آه ‪َ ،‬من يقنع هذا املجنون �أن الفنان مثل ربان‬ ‫من َمهرب �إال اخليال‪ :‬ال غابة �أو ب�ستان يف هذه‬
‫يتخلى عن معرفته بالبحر‪ ،‬طلبا ملتاهته‬ ‫البلدة‪ ،‬و�أنا مل �أجمع خ�شبا لبناء ال�سفينة ‪.‬‬
‫اخلا�صة ؟‬ ‫أنت وال�شِ عر والطوفان‪� ،‬أما‬ ‫إذهب �إىل اجلحيم � َ‬
‫‪ْ �«-‬‬
‫َمن يقنعه �أن �أكتاف ال�شاعر هزيلة‪ ،‬يلقي عليها‬ ‫نحن ف�سنعت�صم باجلبل»‪.‬‬
‫عر �أمتعة ثقيلة جدا‪ ،‬قبل �أن مينحه موهبة‬ ‫ال�شِ ُ‬ ‫وما من جبل‪ ،‬وهذا ما يجعلُ الأمر حميرّ ا‪:‬‬
‫العبور فوق مياه الأبدية‪ ،‬وحيدا ؟!‬ ‫أكتب‪،‬‬
‫عما � ُ‬ ‫مل أ� ّد ِع ال�شِ عر‪ ،‬ف�أنا عادة ال �أخرب �أحدا ّ‬
‫�أخبار املر�أة التي �سكنتْ‬ ‫مع ذلك فهم يخنقون اال�رشاقة‪ ،‬و ي�ؤدون �أدوارهم‬
‫الطابق الأعلى من البيت‬ ‫يبعث على اجلنون ‪.‬‬‫ب�إتقان ُ‬
‫�سكنت الطابق الأعلى من البيت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫املر�أة التي‬ ‫ـ « ملاذا تفعل بي هذا‪ ،‬يا �إلهي؟»‬
‫يل هربا من الطوفان‪ ،‬والتي قالت‬
‫التي جل� ْأت �إ ّ‬ ‫�رصخت به يف معابد « �رشوباك» لكن ال يبدو‬
‫ُ‬
‫مو�ضحة‪ ،‬بعد �أن �شاركتني قنينة الفودكا‪،‬‬ ‫عليه �أنه كان ي�سمع‪ ،‬و�سط �سيل من احلجارة‪:‬‬
‫‪204‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�أخذ زينتها ولن تتحقق �إال �إذا �ألغيتها متاما‪،‬‬ ‫و�أنهتها بجرعةٍ واحدةٍ ‪« :‬ال تهمني النجاة‪ ،‬وال‬
‫�أو �إال �إذا تبنيتها كحماقة ترتكبها ب�إتقان ي�ضمن‬ ‫أ�شارت �إىل قلبها‪ ،‬الذي‬
‫ْ‬ ‫يهمني هذا» و�‬ ‫الغرق‪ّ :‬‬
‫لكَ �أن ال تكون رابحا �أو خا�رسا‪ ،‬لكنها يجب �أن‬ ‫رياحه‪،‬‬
‫َ‬ ‫وي�ضخ عا�صفته‪،‬‬‫ُّ‬ ‫يخفق باملطر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�سمعته‬
‫حتدث ـ كبطاقة دعوتكَ �إىل احلياة ـ‪ ،‬يف حلظة‬ ‫يف كل االجتاهات ‪..‬‬
‫ُ�سكر‪ ،‬يف حلظة �شعورية حم�ضة‪ ،‬ثم تندم عليها‬ ‫كانت م�سافرة على مركب �أتوناب�شتم‪ ،‬لكن‬
‫طوال حياتك‪ ،‬التي مهما حاولت بعد ذلك‪ ،‬فلن‬ ‫نفدت هناك‪� ،‬إ�ضافة �إىل �أنها ر�أت‬ ‫ْ‬ ‫�سجائرها‬
‫تكون حياتكَ ‪ ،‬لأن حياتك هناك‪ ،‬يف الال فكرة‬ ‫حفرت ثقوبه بدموعها احلارة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الناي‪ ،‬الذي‬
‫حاولت �أن تكون اجلوهر من حياتك ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫التي طاملا‬ ‫ألقت بنف�سها‪ ،‬عارية‪� ،‬إىل‬ ‫طافيا فوق املياه‪ ،‬ف� ْ‬
‫كنت بحاجة �إليها و�أنتظرها لنت�شارك العوم‬ ‫جلّة املو�سيقى التي ال ميكن �أن ي�سمعها املت�أمل‬
‫يف ج�سدينا حتى �آخر رع�شة‪ ،‬قبل �أن ت�صطدم‬ ‫‪� ،‬إال ب�أن ن�سي �أنه مت�أمل ال ل�شيء بعينه‪ ،‬لكن‬
‫باجلدار ونكت�شف �أننا غارقان ال حمالة‪ ،‬لكنها‬ ‫�أمله ال ميكن �أن ُين�سى �إال بهذا‪� ،‬إال بالقفز �إىل قعر‬
‫تكف‪ ،‬هذه املر�أة‪ ،‬عن الغناء‪ ،‬وال عن �رضب‬ ‫مل ّ‬ ‫الأمل بقوة‪ ،‬لأن ذلك مما يجعله بعيدا عن التداول‪،‬‬
‫ترق�ص عارية‪� ،‬أو تبكي‬‫ُ‬ ‫الأر�ض بقدميها‪ ،‬وهي‬ ‫و�صلت �إىل هذه البلدة املحرو�سة بالي�أ�س‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حتى‬
‫من فرط احلنني على �أ�شياء مل �أفهمها‪ ،‬حتى‬ ‫وب�أ�سوار من ذكريات غري وا�ضحة‪ ،‬حتى بالن�سبة‬
‫فكرت �أن �أطردها‪ ،‬لأنها تخالف �إيقاعي يف‬ ‫ُ‬ ‫غ�سلت �سواقيها‬ ‫رت �ضواحيها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عم ُ‬
‫يل‪� :‬أنا الذي ّ‬
‫تفجري امل�أزق‪� ،‬أو حتجزين داخل �سجن فكرتي‬ ‫ب�أحالمي‪ ،‬وعانقتها ب�شدة‪ ،‬كعاهة ال �شفاء منها‬
‫عنها‪ ،‬فال �أجر�ؤ على �أن �أرتكب حماقة‪ ،‬حماقة‬ ‫�إال باعتناقها كمذهب �أو كديانة ‪.‬‬
‫�صغرية‪ ،‬ت�ؤكدين غري عابيء مبا يح�صل على‬ ‫كنت �أنتظرها لأن �أ�سمها كان مذكورا يف بطاقة‬ ‫ُ‬
‫ظهر هذا الكوكب‪ ،‬الذي فقد مغزى دورانه حول‬ ‫الدعوة �إىل احلياة‪ :‬عندما جتد اجلميع يف‬
‫نف�سه منذ �آالف ال�سنوات‪ ،‬بل هي جتربين على‬ ‫انتظارك �إال حياتكَ ‪ ،‬كما �أن ا�سمها كان مكتوبا‬
‫�أن �أم�شي على حبل الأمل‪ ،‬كالبهلوان‪ ،‬يف نف�س‬ ‫على الأ�سوار‪ ،‬مثل نبوءة ‪ .‬كان ا�سمها مكتوبا‪،‬‬
‫الطوفان كل �شيء من‬
‫ُ‬ ‫اللحظة التي اقتلع فيها‬
‫وال �أحد يقر�أ‪ ،‬لأن ا�سمها مل يكن مكتوبا لكن الكل‬
‫جذوره‪ ،‬كما �أنها كانت مت�أهبة للطريان يف‬
‫يقر�أ‪ ،‬غري �أنني مل �أتوقعها جميلة وب�سيطة‪ ،‬ك�أول‬
‫متاهة �أطوارها املتقلبة‪� ،‬أو للقفز من النافذة‪،‬‬
‫فجر عا�شته اخلليقة ‪ .‬مل �أتوقعها حقيقية جدا‪،‬‬
‫وم�ستعدة لأن حتزم حقائبها وترحل ب�إ�شارة‬
‫كما قلم الر�صا�ص الذي كان طافيا‪ ،‬هو الآخر‪،‬‬
‫مني‪ ،‬لكنني مل �أفعل ذلك‪ :‬مل �أطردها‪� ،‬إذ ال بيت‬
‫فوق طوفان دموعي ‪ ،‬حامال يف �صلبه فكرتي‬
‫أعي�ش وحيدا‪ ،‬مع‬
‫يل‪ ،‬ال طابق �أعلى‪ ،‬ال قبو ‪ ،‬و� ُ‬
‫عنها‪ ،‬فكرتي التي ال ميكن �أن تتجلى وا�ضحة‬
‫م�صريي‪ ،‬يف العراء ‪.‬‬
‫وطردت‪ ،‬من ر�أ�سه‪َ ،‬جمالها‬ ‫ُ‬ ‫القلم‬
‫ك�رست َ‬‫ُ‬ ‫�إال �إذا‬
‫�أنبتُ ورودا بني �أقدام متاثيلكِ‬ ‫الذي يتجاوزها كفكرة‪ ،‬ومي�ضي بعيدا‪ ،‬و�صوال‬
‫كان �أتوناب�شتم يلعنني‪ ،‬وهو يجمع الأخ�شاب‪،‬‬ ‫�إىل الال فكرة‪ ،‬فبع�ض الأ�شياء امل�ستحيلة‪ ،‬ال‬
‫‪205‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ق�صيدة نرث عن الطوفان الأخري‬ ‫من غابة اخليال‪ ،‬لي�صنع ال�سفينة‪ ،‬وكنتِ‬
‫�سمعت �رصخة‬ ‫من �صنبور مياه‪ ،‬يف الفندق‪،‬‬ ‫ّرت يف التوبة‪ ،‬لأنني‬ ‫مت�سحني دموعي كلما فك ُ‬
‫ُ‬
‫نظرت بحزن‪ ،‬من‬‫ُ‬ ‫فهززت ر�أ�سي بي�أ�س‪:‬‬
‫ُ‬ ‫اتوناب�شتم‪،‬‬ ‫أكلت ك َّل تفاحاتكِ ‪ ،‬ولأنكِ كنتِ �سخية مبا يكفي‬ ‫� ُ‬
‫النافذة‪ ،‬ور�أيته منهمكا بتحطيم �أ�شجار احلديقة‬ ‫ال�شيطان �إىل �أعمال �أخرى‪ ،‬كما �أنكِ‬
‫ُ‬ ‫لأن ين�رصف‬
‫تذكرت �أن دوري يف الق�صة هو‬ ‫ُ‬ ‫بف�أ�سه ال�ضخم‪ ،‬ثم‬ ‫كنتِ وقحة‪ ،‬طفلة وقحة‪ ،‬مبا يكفي لأن يتوقف‬
‫�أن اعت�صم بجبل‪ ،‬عندما يفور التنور‪ ،‬فلم �أجد بدا‬ ‫يفي�ض به ج�سدكِ من‬ ‫ُ‬ ‫املالكُ عن مالحقة ما‬
‫من ال�صعود �إىل �سطح البناية‪ ،‬واجللو�س بانتظار‬ ‫حرائق مباركة ‪.‬‬
‫�إ�شارة من املُخرج‪ ،‬كي �أموت غرقا ‪..‬‬ ‫وقعت �أن �أ�سقطَ ‪ ،‬لأن �أتونا ب�شتم كان غا�ضبا ‪.‬‬
‫ّت ُ‬
‫مللت من هذا‪ ،‬لكن ماذا �أفعل ‪ ..‬كي‬ ‫اعرتف �أنني ُ‬ ‫قت �شِ باك‬ ‫كان �ساخطا ك�أي �صياد نبيل‪ ،‬م ّز ْ‬
‫�أجنو من الإفال�س‪ ،‬من �شعوري باخلزي نتيجة‬ ‫�أفكاره �سمك ٌة طائ�شة‪ ،‬وكلما فكـّرت يف العودة‬
‫خيانات ع�شتار املتكررة مع �أ�صدقائي‪،‬‬ ‫�إىل �أح�ضانه‪ ،‬كنتِ تفكني �أزرار رغبتكِ ‪ ،‬فيندلع‬
‫وكيف �أتخل�ص من ثقل الزمن ؟!‬ ‫الرتانيم‪ ،‬وامل�شاعلُ ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫أنهار‪،‬‬
‫وتفي�ض ال ُ‬
‫ُ‬ ‫القمي�ص‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجرف‬ ‫َ‬ ‫هب م�صريي‪ ،‬كما �إع�صار‪،‬‬ ‫وعندما ّ‬
‫كيف ت�صنع �أ�سطورتك ال�شخ�صية ؟!‬
‫ارتفعت درجة ُ حرارة‬ ‫ْ‬ ‫الطوفان ك َّل �شيء‪ :‬عندما‬
‫ُ‬
‫يجل�س بهدوء �إىل جواري يف‬ ‫ُ‬ ‫كان �أتوناب�شتم‬ ‫الظالم يف العامل‪ ،‬كنتِ عارية‪ ،‬عارية جدا‪ ،‬مبا‬
‫اخلمر‬
‫ُ‬ ‫دب ْت فيه الن�شوة‪ :‬فتح‬ ‫احلانة‪ ،‬عندما ّ‬ ‫كنت‬‫الربق يف داخلي‪ ،‬لكنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫يكفي لأن ينفجر‬
‫نواف َذ خياله‪ ،‬وبد أ� ب�رس َد ق�صة الطوفان‪ ،‬فهطل‬ ‫كنت ه�شا مبا يكفي لأن �أكون �إن�سانا‪ ،‬الن‬ ‫ه�شا‪ُ :‬‬
‫وهبت العا�صف ُة من جميع اجلهات‪،‬‬ ‫املطر فج�أة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أذوب �شيئا ف�شيئا‪،‬‬ ‫أموت غرقا يف احلب‪ ،‬ولأن � َ‬ ‫� َ‬
‫فجرفت كل �شيء‪ ،‬لكنه ظ ّل رابط اجل�أ�ش مم�سكا‬ ‫الغرين‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬حيث �س�أعو ُد‬ ‫أتر�سب مع‬
‫ّ‬ ‫ثم � ُ‬
‫ارتفعت �إىل‬
‫ْ‬ ‫بقنينة اخلمر‪ ،‬غري �آبه باملياه‪ ،‬التي‬ ‫أنبت ورودا‪ ،‬ال �شك َل لها‪ ،‬بني �أقدام‬ ‫ثانية‪ ،‬ل َ‬
‫أحالم العامل ‪.‬‬
‫وارتفعت معها � ُ‬
‫ْ‬ ‫ال�سقف‪،‬‬ ‫متاثيلكِ ‪..‬‬
‫أبحث عن مخَ رج من تلك الورطة‪ ،‬وكلما‬ ‫كنت � ُ‬ ‫ُ‬
‫حاولت اخلروج �إىل ال�شارع كان ي�سحبني‬ ‫كيف تفوز بوردة ؟!‬
‫من ياقتي �إىل اخللف‪ ،‬موا�صال �رسد الق�صة‪،‬‬ ‫دخلت ب�أحمالكَ ‪ ،‬مبا معكَ‬ ‫َ‬ ‫الباب‪:‬‬
‫َ‬ ‫فتحت‬
‫َ‬ ‫عندما‬
‫كر بال�رضبة القا�ضية‪،‬‬ ‫ال�س ُ‬
‫وعندما‪� ،‬أخريا‪� ،‬أوقعه ُ‬ ‫من �أهوال‪ ،‬من متاهات ومن عوا�صف‪ ،‬ومبا يف‬
‫أيت نداء حزينا يف عينيه‪ ،‬ومل �أتردد‪ ،‬فعانقته‬ ‫ر� ُ‬ ‫مازلت يف‬
‫َ‬ ‫وفوجئت �أنكَ نف�سكَ‬
‫َ‬ ‫جيوبكَ من غبار‪،‬‬
‫م�رصا على‬
‫ّ‬ ‫و�صعدنا �إىل ال�سطح‪ ،‬فيما هو ال يزال‬ ‫غرفتكَ ‪ :‬مل تغادرها قط‪ ،‬م�ستلقيا على خرائط‬
‫موا�صلة ال�رسد ‪.‬‬ ‫أيت ‪ ،‬يف �سفركَ الطويل ‪!..‬‬
‫البلدان التي ر� َ‬

‫‪206‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫خطوة �أوىل للرحيل‬
‫يحــيى الناعــبي‬

‫يف دفرت هذا العامل‬ ‫هذه الطرق التي تئز كل يوم‬


‫ودون �أن ادرك‬ ‫من خطوات الك�ساىل واملوهومني‬
‫�أن اخليبات تقتل الزمن‬ ‫وتز�أر على الفقراء واملعذبني‬
‫الذي خب�أته‬ ‫متلأ ك�أ�سها من خيوط ال�شم�س‬
‫يف مندو�س الفرح‪.‬‬ ‫والأحالم‬
‫�أنظر �إىل املرعى اجلبلي‬ ‫فتوزع �صهدها على املّارة والأ�شجار‬
‫خلف نافذة قطار‬ ‫ويوقف احلنني الذي �أتوق‬
‫علّي �أقطف بع�ضا من جنوم الفرح‬ ‫�إىل �شواطئه‬
‫لأ�صنع منها حزاما‬ ‫ك�أعمى فقد طريقه‬
‫�أ�ستعني بطلقاته‬ ‫يف الظالم‪.‬‬
‫وانا عائد لأح�صي اخليبات‬ ‫�إنه بيتي ال�صغري‬
‫يف املجهول‪.‬‬ ‫هذا اجل�سد امللتوي بني اجلبال‬
‫كيف �أميز احلياة‬ ‫و�أنا �أذرعه‬
‫التي �أعي�شها الآن‬ ‫كمن يالحق فرا�شة �أيامه‬
‫�إال بقليل من العمر‬ ‫وقد �أغوتها اللعنة‬
‫مر يف املر�آة‬
‫ّ‬ ‫نحو الهالك‪.‬‬
‫وانا �أتلم�س وجهي‬ ‫لن تكتمل �صحبتي كثريا‬
‫ال جديد‬ ‫امل�سماة باحلياة‬ ‫مع هذه ال�شجرة‬
‫ّ‬
‫�سوى �أن املر�آة‬ ‫لأنني �أ�ضعت قنديل احلذر‬
‫تغيرّ مزاجها فهجرتها‬ ‫خلف جدار الطفولة‬
‫و�أ�صبحت العذوبة‬ ‫الذي �سقط مع �آخر قطرة‬
‫�شجرة بال ظل‪.‬‬
‫م�صب النبع‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫هذه الأفواه التي �أراها تخاطبني‬ ‫دون �أن ي�سجل �آخر �إ�رشاقة‬
‫‪207‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قالتها ورحلت‬ ‫وتلك ال�شجرة بجذعها‬
‫الفجر ير�سل‬ ‫امل�شبع باملياه‬
‫ّ‬
‫�سل�سلة من العتابات ال�ضوئية‬ ‫كلها حلظتي العابرة بحزن‬
‫تن�سل بني �سعف النخيل‬ ‫أقبل تلك الأفواه‬
‫�أو ّد لو � ّ‬
‫التي ت�شبه �أ�صابع م�شلولة‪.‬‬ ‫قبل �أن‬
‫ذهبت وك�أنها مو�سيقى‬ ‫ت�سقط ورقة‬
‫مل �أعرف كنهها بعد‬ ‫ف�أح�سبني انطف�أت‪.‬‬
‫حيث �إن العزف الإلهي‬ ‫و�أنا �أ�صوب نظري للبعيد‬
‫م ّد �أوتاره نحو قلقنا املتوارث‪.‬‬ ‫فتاتان تقعيان �أمامي‬
‫قليال من البهجة �أطلّت علينا‬ ‫�شعرهما املتطاير‬
‫من وراء �ستارة جمهولة يف الذكريات‬ ‫يظلل ب�ؤب�ؤ العني‬
‫انت�شلت م ّنا احلذر‬ ‫كما لو �أن منجال‬
‫وانطلقنا ن�رسد التاريخ وال�صور‬ ‫ج ّز حزمة ال�سنوات‬
‫وبالرغم من ع�صافري ال�شوق‬ ‫يف جدولني من احلياة‬
‫التي حلّقت يف �سمائنا‬ ‫حيث � ّأن القابلة‬
‫�إال �أن جحافل القلق‬ ‫هجرتني �إىل غربة‬ ‫ّ‬
‫توزع مهماتها بق�سوة‬ ‫مل تتجان�س مع روحي‪.‬‬
‫على طاولة الرباءة التي‬
‫�ص ّفت عليها �سنني الأحالم واخليبات‬ ‫كم هو الإله ملغز‬
‫مل ن�ستطع امتطاء قوافل الذاكرة‬ ‫�أرواحنا يف بقعة كونية‬
‫خ�شية �أن يخيبنا احلنني‬ ‫و�أج�سادنا يف الأخرى‬
‫ترى ‪...‬‬
‫مثل ثفل القهوة املن�سكب‪.‬‬
‫هل هو يف حلظة امتاع �أبدية؟‬
‫وكلما رغبت �أرواحنا‬
‫كان احلظ عنكبوتا‬ ‫الربد قار�س‬
‫ين�سج م�صائرنا يف الغابات املظلمة‪.‬‬ ‫ولكنه ال يحمل ال�ضباب الذي �أحب‪.‬‬

‫‪208‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫عمن‬
‫طالب املعمري‬

‫هل‪ ،‬لنا‬ ‫� ُأي زرع‬


‫�أن نعرف ‪ -‬يا حياتي ‪-‬‬ ‫زرعناه‪ ،‬يليق بكِ‬
‫�أين نحن‪ ،‬منكِ‬ ‫ِنجنيه‬
‫ل ْ‬
‫فمنذ �أن عرفناكِ‬ ‫كلمات‬
‫ٍ‬ ‫� ُأي‬
‫ال ي�شابه الدم‬ ‫تقال فيكِ‬
‫املاء‬ ‫ومل نقل‬
‫و�إن ت�شابه عليهم‬ ‫ليل‬
‫� ُأي ٍ‬
‫علينا �أن نحبكِ‬ ‫ك�شعركِ الطويل‬
‫حتى لو ر�أينا‬ ‫قرب القمر‬
‫«�سيوحكِ »‬ ‫نح ْلم به‬
‫مل ْ‬
‫جرداء يف عيونهم‬ ‫جبل‬
‫� ُأي ٍ‬
‫وف�ؤو�سهم‬ ‫من جبالكِ ال�سود‬
‫ونخ َل ُتنا الأخرية‬ ‫مل يحاذيه‬
‫قرب لنا‬
‫دموعنا ماء‬
‫ن�ضارتكِ‬ ‫هل‪ ،‬كنا‬
‫وبكا�ؤنا الطهارة‬ ‫‪ -‬يا عزيزتي ‪ -‬غرباء‬
‫عن �صخرة الطفولة‬
‫من الدن�س‬
‫و�إن ال�سماء‬
‫�أنتِ النواة‬ ‫اختارتنا هدية لل�شم�س‬
‫يف فيزياء �أرواحنا‬ ‫لهذا‪ ،‬ن�سيتنا احلياة‬
‫وكيمياء لغتكِ‬ ‫فوق �أر�ضكِ املفتوحة‬
‫وجو ُدنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫على اخليال‬
‫«الكتاب» والكالم والأحالم‬

‫‪209‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ن�صو�ص‬

‫من اأعمال الفنانة فخرية اليحيائي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪210‬‬
‫ذبابة يف احل�ساء‬
‫ت�شارلز �سيميك‬
‫ترجمة‪� :‬إميان مر�سال‬
‫�شاعرة من م�رص تقيم يف كندا‬

‫طبقة خاطئة‪ ،‬جماعة عرقية خاطئة‪ ،‬دين خاطىء _‬ ‫ق�صتي ق�صة قدمية و�أ�صبحت الآن م�ألوفة‪ .‬لقد‬
‫�إىل �آخره_ هم كانوا وما زالوا تذكرياً غري �سار بكل‬ ‫كثري من النا�س يف هذا القرن‪� :‬أعدادهم مهولة‬ ‫ت�رشد ٌ‬‫ّ‬
‫�أخطاء اليوتوبيات الفل�سفية والقومية‪ .‬لقد جاءوا‬ ‫وم�صائرهم الفردية واجلماعية متنوعة‪� ،‬سيكون‬
‫بخِ رقهم البالية ومناظرهم التع�سة وي�أ�سهم‪ ،‬جاءوا‬ ‫متميزاً ك�ضحية‪� ،‬أنا �أو‬
‫ّ‬ ‫م�ستحي ًال يل �أن �أ ّدعي و�ضع ًا‬
‫زرافات ووحدانا من ال�رشق‪ ،‬هاربني من ال�رش بدون‬ ‫أردت ال�صدق‪ .‬خا�ص ًة �أن ما حدث‬‫�شخ�ص �آخر‪� -‬إذا � ُ‬
‫ٍ‬ ‫�أي‬
‫عما ينتظرهم‪ .‬مل يكن لدى �أحد يف �أوروبا ما‬ ‫�أية فكرة ّ‬ ‫يل منذ خم�سني �سنة يحدث لآخرين اليوم‪ .‬رواندا‪،‬‬
‫يكفيه لي�أكل‪ ،‬وهنا جاء الالجئون املت�ضورون جوعاً‪،‬‬ ‫البو�سنة‪� ،‬أفغان�ستان‪ ،‬كو�سوفو‪ ،‬والأكراد املهانون‬
‫خميمات‪ ،‬و�سجون‪،‬‬ ‫مئات الألوف منهم يف قطارات‪ّ ،‬‬ ‫ب�صورة ال تنتهي‪ -‬وهكذا ي�ستمر احلال‪ .‬قبل خم�سني‬
‫يغم�سون خبزاً ياب�س ًا يف ح�ساء مائي‪ ،‬يبحثون عن‬ ‫�سنة كانت الفا�شية وال�شيوعية‪ ،‬الآن هناك القومية‬
‫قمل يف ر�ؤو�س �أطفالهم‪ ،‬ويندبون مبختلف اللغات‬ ‫والأ�صولية الدينية مما يجعل احلياة ال تطاق يف‬
‫املروع‪.‬‬
‫م�صريهم ّ‬ ‫�أماكن كثرية‪ .‬يف الآونة الأخرية‪ ،‬على �سبيل املثال‪،‬‬
‫�أ�رستي‪ ،‬مثل �أ�رس �أخرى عديدة‪ ،‬متكنت من �أن‬ ‫كنت �أترجم ق�صائد من �رساييفو لأنطولوجيا �شعرية‬
‫ترى العامل جماناً‪ ،‬والف�ضل يعود حلروب هتلر‬ ‫حمرروها �صعوبات كبرية يف العثور على‬ ‫ّ‬ ‫واجه‬
‫و�سيطرة �ستالني على �أوروبا ال�رشقية‪ .‬نحن مل نكن‬ ‫ال�شاعرة التي كتبتها‪ .‬لقد اختفت‪ .‬هي مل تكن مغمورة‪،‬‬
‫متعاونني مع الأملان وال كنا من املنتمني �إىل الطبقة‬ ‫كان لديها الكثري من الأ�صدقاء‪ ،‬لكن يبدو �أن ال �أحد‬
‫الأر�ستقراطية‪ ،‬كما مل نكن ب�أي معنى من املنفيني‬ ‫يعرف ما حدث لها يف فو�ضى احلرب‪.‬‬
‫ال�سيا�سيني‪ .‬عدميو الأهمية كُ نا‪ ،‬مل نقرر �شيئا لأنف�سنا‪.‬‬ ‫«م�رشدون»(‪ )1‬هو اال�سم الذي �أطلقوه علينا يف‬
‫كل �شيء رتبه قادة العامل يف وقتها‪ .‬كالكثري من‬ ‫‪ ،1945‬وهذا كان و�ضعنا بالفعل‪ .‬وكما جتل�س‬
‫النازحني مل يكن لدينا طموح يتعدى حدود مدينتنا‬ ‫وت�شاهد قناب َل ت�سقط يف بع�ض الأفالم الوثائقية‬
‫بلجراد‪ .‬كنا على ما ُيرام مع ذلك‪ .‬اتفاقيات ُعقدت‬ ‫القدمية �أوجيو�ش ًا ُيحارب بع�ضها البع�ض‪ ،‬قرى‬
‫حول جماالت النفوذ‪ ،‬حدود �أعيد تر�سيمها‪ ،‬وما‬ ‫ومدن ًا تت�صاعد منها النريان والدخان‪ ،‬ال يخطر ببالك‬ ‫ُ‬
‫رحلونا‬
‫بال�ستاراحلديدي(‪ )2‬مت ا�سداله‪ ،‬ونحن َّ‬
‫ّ‬ ‫ي�سمى‬ ‫النا�س املتكد�سون يف الأقبية‪ .‬لقد دفع ال�سيد الربيء‬
‫مع حاجاتنا القليلة‪ .‬ما زال امل�ؤرخون يوثقون جميع‬ ‫وال�سيدة الربيئة و�أ�رستاهما ثمن ًا باهظ ًا يف هذا‬
‫اخليانات والرعب الذي واجهناه كنتيجة مل�ؤمتر‬ ‫القرن ملجرد وجودهم هناك‪ .‬مدانون تاريخي ًا _ كما‬
‫يالطا(‪ )3‬وغريه‪ ،‬واملو�ضوع �أبعد من �أن ينتهي‪.‬‬ ‫كان يحب املارك�سيون �أن يقولوا _ رمبا انتموا �إىل‬
‫‪211‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�صغرية‪ ،‬وهلم جرا‪� ،‬إىل �أن يهز ال�ضابط كتفيه وي�رشع‬ ‫كما هو احلال دائماً‪ ،‬كان هناك تفاوت يف درجات‬
‫يف �إعالمهم �أنه �إذا مل ُتق ّدم الوثائق فوراً ف�سيتم �إلغاء‬ ‫ال�رش وتفاوت يف درجات امل�أ�ساة‪ .‬مل تتعر�ض �أ�رستي‬
‫ت�رصيح الإقامة‪.‬‬ ‫ملعاناة ُمريعة كالآخرين‪� .‬أعاد احللفاء �إىل �ستالني‬
‫هكذا‪ ،‬ما الذي كنا نفعله؟ ح�سنا‪ ،‬عندما يكون اجلو‬ ‫مئات الآالف من الرو�س الهاربني �ضد �إرادتهم‪،‬‬
‫لطيف ًا كنا نذهب لنجل�س على مقعد �شارع ن�شاهد‬ ‫كان الأملان قد جلبوهم قبل ذلك ق�رساً ليعملوا يف‬
‫الباري�سيني املحظوظني وهم يتنزهون‪ ،‬يحملون‬ ‫م�صانعهم ومزارعهم‪ُ .‬قتل بع�ضهم والبقية مت �شحنها‬
‫البقالة‪ ،‬يدفعون عربات �أطفالهم‪ ،‬يمُ ّ�شون كالبهم‪،‬‬ ‫ال�سخرة حتى ال ُيلوثوا بقية املواطنني‬ ‫�إىل مع�سكرات ُّ‬
‫وحتى ُي�ص ّفرون‪ .‬يف بع�ض الأحيان يقف �أمامنا‬ ‫مبا اكت�سبوه حديث ًا من مفاهيم ر�أ�سمالية منحطة‪.‬‬
‫اثنان ليتعانقا‪ ،‬بينما نحن نلعن الفرن�سيني وحظنا‬ ‫وردية‪ .‬كنا ن�أمل �أن ينتهي‬ ‫ّ‬ ‫توقعاتنا كانت �أكرث‬
‫التع�س‪ .‬يف النهاية جُنرجر �أقدامنا بتثاقل �إىل غرفتنا‬ ‫بنا احلال يف الواليات املتحدة‪ ،‬كندا �أو �أُ�سرتاليا‪ .‬مل‬
‫ال�صغرية بالفندق ونكتب ر�سائل للأهل‪.‬‬ ‫يكن ذلك م�ضموناً‪ .‬كانت �أ�سهم معظم بالد �أوروبا‬
‫نن كل يوم‬ ‫بالطبع‪ ،‬ال ي�صل الربيد ب�رسعة‪ .‬كُ نا جُ َ‬ ‫ال�رشقية منخف�ضة على عك�س بالد �أوروبا الغربية‪.‬‬
‫وملدة �أ�سابيع يف انتظار البو�سطجي الذي مل يكن‬ ‫ال�سالف اجلنوبيون‪ ،‬كانوا يف عيون خرباء اجلينات‬ ‫ُ‬
‫يتحمل ر�ؤيتنا لأننا ك ّنا ن�ضايقه‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬وب�شكل ما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الأمريكيني ووا�ضعي قانون الهجرة من الأعراق غري‬
‫كانت الوثائق ت�صل‪ ،‬بف�ضل قريب ما من بعيد‪ .‬وال بد‬ ‫املرغوب فيها �إطالقاً‪.‬‬
‫من ترجمتها بعد ذلك على يد مرتجم ُمعتمد‪ ،‬يكون‬ ‫من ال�صعب على الذين مل ميروا بالتجربة �أن يفهموا‬
‫طيات‬ ‫عادة غري قادر على التفرقة بني ر�أ�س وذيل ّ‬ ‫حق ًا ماذا يعني �أال يكون لديك الوثائق الالزمة‪ .‬نقر أ�‬
‫الورقة ذات اخلم�سني عام ًا من مدر�سة يف مقاطعة يف‬ ‫كل يوم عن �ضباط الهجرة لدينا وكيف ي�ستخدمون‬
‫البلقان �أو من دفرت ت�سجيل كني�سة‪ .‬يف كل الأحوال‪،‬‬ ‫وي�سيئون ا�ستخدام �سلطاتهم املكت�سبة لإعادة �أجانب‬
‫كنا نعود �إىل الطابور الطويل فقط لنكت�شف �أن هذه‬ ‫م�شبوهني من على حدودنا‪ .‬ال�سعادة يف �إذالل‬
‫الوثائق مل تعد مهمة‪ ،‬ولكن �شيئ ًا �آخر �أ�صبح مطلوباً‪.‬‬ ‫كنت‬‫العاجزين ال يجب اال�ستهانة بها‪ .‬حتى عندما ُ‬
‫يف كل مكتب جلوازات �سفر‪ ،‬يف كل ق�سم بولي�س‪ ،‬يف‬ ‫طفالً‪ ،‬كان بو�سعي �أن �أرى حدوث ذلك‪� .‬أينما يوجد‬
‫كل قن�صلية‪ ،‬يوجد مكتب وخلفه موظف حذر �سيء‬ ‫بريوقراطيون‪ ،‬تكون الدولة البولي�سية هي املثال‬
‫املزاج ي�شتبه يف �أننا ندعي غري حقيقتنا‪ .‬ال �أحد‬ ‫الأعلى‪.‬‬
‫�رشداً»‬
‫«م ّ‬
‫�سمى ُ‬‫يحب الالجئني‪ .‬الو�ضع املبهم لأن ُت ّ‬ ‫�أتذكر الوقوف يف طوابري ال نهاية لها �أمام مقر‬
‫جعل الأمر �أكرث �سوءاً‪ .‬امل�س�ؤولون الذين يقابلوننا ال‬ ‫البولي�س يف باري�س من �أجل ا�ستالم �أو جتديد ت�رصيح‬
‫يعرفون من �أين �أتينا وملاذا‪ ،‬ولكن هذا مل مينعهم من‬ ‫الإقامة‪ .‬يبدو ذلك وك�أنه كل ما كنا نقوم به عندما‬
‫�إ�صدار حكمهم علينا‪ .‬قد يجلب لك قدراً من التعاطف �أن‬ ‫كنا نعي�ش هناك‪ .‬ننتظر نهاراً كام ًال فقط لنكت�شف �أن‬
‫تكون مطروداً ب�سبب النازية‪� ،‬أما �أن ُتغادر بلدك ب�سبب‬ ‫القوانني قد تغيرّ ت منذ زيارتنا املا�ضية‪� ،‬أنهم الآن‬
‫ال�شيوعية فهذا ما ي�صعب قبوله‪� .‬إذا كان امل�س�ؤولون‬ ‫يطلبون‪ ،‬على �سبيل املثال‪� ،‬شيئ ًا على قدر من العبث‬
‫ي�ساريني‪ ،‬ف�سيقولون لنا بفظاظة �أننا ُتع�ساء ناكرون‬ ‫تخرجها من‬ ‫والدي �أمي �أو �شهادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫مثل وثيقة زواج‬
‫للجميل‪� ،‬أننا تركنا خلفنا �أكرث املجتمعات تقدم ًا‬ ‫املدر�سة‪ ،‬هذا على الرغم من �أنها يف طريقها للح�صول‬
‫وعدالة على وجه الأر�ض‪ .‬الآخرون ح�سبونا جمرد‬ ‫على �شهادة فرن�سية لأنها �أنهت درا�ستها العليا يف‬
‫وما�ض م�شبوه‪ .‬حتى ال ُدمى‬ ‫ٍ‬ ‫رعاع ب�شهادات مزيفة‬ ‫باري�س‪ .‬وبينما كنا نقف هناك نت�أمل يف ا�ستحالة‬
‫املبت�سمة خلف فتارين املحالت يف �شارع فيكتور‬ ‫ما يطلبونه منا‪ ،‬كنا ن�ستمع �إىل �شخ�ص �أمام ال�شباك‬
‫هيجو الأنيق عاملتنا وك�أننا هناك لن�رسق �شيئاً‪.‬‬ ‫املجاور يحاول �أن يقول يف فرن�سية �ضعيفة كيف‬
‫يف احلقيقة كان الأمر ب�سيط ًا للغاية‪� :‬إما �أننا كنا‬ ‫احرتق بيتهم‪ ،‬كيف غادروا مهرولني بحقيبة واحدة‬
‫‪212‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫زار والدي واملر�أتان عدداً من الأماكن الأخرى يف‬ ‫�سنح�صل على موطىء قدم هنا �أو يف مكان �آخر‪� ،‬أو‬
‫تلك الليلة‪ .‬وذهب معهم اخلنزير وهو مربوط باحلبل‪.‬‬ ‫�سنعود �إىل خميم لالجئني‪� ،‬أو‪ ،‬الأ�سو�أ‪� ،‬إىل «التج�سيد‬
‫لقد �أجربوه على �رشب ال�شمبانيا معهم وعلى لب�س‬ ‫الكامل ل�شوق االن�سان العميق للعدالة وال�سعادة» كما‬
‫قبعة احلفالت‪ .‬بعد �سنوات عديدة �سي�سميه والدي‬ ‫اعتاد العامل ال�شيوعي �أن يو�صف يف بع�ض اجلهات‪.‬‬
‫«اخلنزير امل�سكني»‪.‬‬ ‫الهجرة‪ ،‬املنفى‪� ،‬أن تكون بال جذور و�أن ت�صبح‬
‫عند الفجر كان والدي وحده مع اخلنزير ي�رشبان يف‬ ‫منبوذاً‪ ،‬رمبا يكون ذلك �أكرث الطرق املبتكرة القناع‬
‫بار متوا�ضع بالقرب من حمطة ال�سكة احلديد‪ .‬يف‬ ‫االعتباطية لوجوده �أو وجودها‪ .‬ل�سنا‬‫ّ‬ ‫الفرد بالطبيعة‬
‫الطاولة بجانبهما كان هناك كاهن �سكران يكلّل‬ ‫روحي طاملا �أن‬‫ّ‬ ‫نف�سي �أو ُمر�شد‬
‫ّ‬ ‫يف حاجة �إىل طبيب‬
‫عرو�سني‪ .‬رفع ال�شوكة وال�سكني يف و�ضع �صليب‬ ‫كل من نقابلهم ي�س�ألوننا من �أنتم مبجرد �أن نفتح‬
‫الزوجي‪ .‬بعد ذلك �أهداهما والدي اخلنزير‬ ‫نْ‬ ‫ليبارك‬ ‫�أفواهنا وي�سمعون اللكنة ‪.‬‬
‫كهدية لزواجهما‪ .‬اخلنزير امل�سكني‪.‬‬ ‫احلقيقة هي �أننا مل يكن عندنا �أجوبة وا�ضحة‪ .‬بعد‬
‫لكن هذه لي�ست نهاية الق�صة‪ .‬ففي ‪ ،1948‬عندما‬ ‫ترجرجنا يف القطارات املخيفة وفوق ال�شاحنات‬
‫كان والدي يف طريقه �إىل �أمريكا ونحن نت�ضور جوع ًا‬ ‫وال�سفن التجارية املهلهلة‪� ،‬أ�صبحنا لغزاً حتى لأنف�سنا‪.‬‬
‫يف بلجراد‪ ،‬اعتدنا �أن نقاي�ض ممتلكاتنا بالطعام‪.‬‬ ‫يف البداية‪ ،‬كان ذلك �صعب ًا علينا ولكن مبرور الوقت‬
‫ب�إمكانك �أن حت�صل على دجاجة مقابل حذاء‬ ‫نتعود‪ .‬بد�أنا نتذوق هذا الو�ضع ون�ستمتع به‪� .‬أن‬ ‫بد�أنا ّ‬
‫ومزهريات‬
‫ّ‬ ‫رجايل بحال جيد‪ .‬ال�ساعات والف�ضيات‬ ‫تكون ال �أحد بدا يل �شخ�صي ًا �أكرث �إثارة من �أن تكون‬
‫الكري�ستال و�أطباق ال�صيني الفخمة مت مقاي�ضتها‬ ‫�شخ�ص ًا ما‪ .‬ال�شوارع كانت مليئة ب�أولئك الأ�شخا�ص‬
‫بلحم ودهن اخلنزير وال�سجق و�أ�شياء من هذا القبيل‪.‬‬ ‫املهمني وهم ي�صنعون �أجواء الثقة حولهم‪ .‬ن�صف‬
‫غجري قبعة والدي الر�سمية‪.‬‬‫ٌّ‬ ‫املرات‪ ،‬طلب‬ ‫يف �إحدى ّ‬ ‫الوقت كنت �أح�سدهم‪ ،‬ن�صف الوقت كنت �أنظر �إليهم‬
‫مل تكن على مقا�سه‪ .‬مقابل هذه القبعة التي غطت‬ ‫يف �شفقة‪ .‬لقد كنت �أعرف �شيئ ًا مل يعرفوه‪� ،‬شيئ ًا‬
‫جربها‪ ،‬ناولنا بطة حية‪.‬‬ ‫عينيه عندما ّ‬ ‫من ال�صعب معرفته �إذا مل يركلك التاريخ بقوة يف‬
‫ثرياً‪� .‬س ّنة‬
‫بعد ذلك ب�أ�سابيع جاء �أخوه لريانا‪ .‬بدا ّ‬ ‫م�ؤخرتك‪ :‬كيف يبدو الأفراد غري �رضوريني وعدميي‬
‫�أمامية من الذهب‪� ،‬ساعتان‪ ،‬واحدة يف كل يد‪ .‬الآخر‪،‬‬ ‫الأهمية �ضمن �أي �صورة كبرية! كيف �أن ه�ؤالء ال ُق�ساة‬
‫كما يبدو‪ ،‬كان قد انتبه لبذلة �سهرة �سوداء عندنا‪ .‬يف‬ ‫ال يفهمون احتمال �أن يكون ذلك هو م�صريهم �أي�ضاً‪.‬‬
‫الواقع كنا نرتك ه�ؤالء النا�س يتجولون بني الغرف‬
‫يقيمون الب�ضائع‪ .‬يت�رصفون ك�أنه بيتهم‪ ،‬يفتحون‬ ‫ّ‬ ‫‪-2-‬‬
‫الأدراج‪ ،‬ينظرون يف اخلزانات‪ .‬يعرفون �أننا لن‬ ‫عندي �صورة لوالدي وهو يلب�س بدلة �سوداء ويحمل‬
‫نعرت�ض‪ .‬ك ّنا جوعى‪.‬‬ ‫خنزيراً �صغرياً حتت �إبطه‪� .‬إنه يف مركز ال�صورة‬
‫على �أي حال‪� ،‬أح�رضت �أمي بذلة �سهرة ‪ .1926‬كان‬ ‫وبجانبه امر�أتان جميلتان يف ف�ساتني �سهرة ق�صرية‬
‫با�ستطاعتنا �أن نرى فوراً كيف وقع الرجل يف غرامها‪.‬‬ ‫و�ضحكة جميلة يف عيونهما ال�سوداء‪ .‬هو �أي�ض ًا‬
‫دجاجتي‪.‬‬
‫نْ‬ ‫عر�ض علينا يف مقابلها �أو ًال دجاجة ثم‬ ‫ي�ضحك‪ .‬فم اخلنزير مفتوح ولكن ال يبدو �أنه ي�ضحك‪.‬‬
‫ل�سبب ما �أ�صبحت �أمي عنيدة‪ .‬الأعياد على الأبواب‪.‬‬ ‫�إنه حفل ر�أ�س ال�سنة‪ .‬ال�سنة هي ‪ 1928‬ويبدو �أنهم‬
‫الغجري �أ�صبح غا�ضباً‪� ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫لقد �أرادت خنزيراً ر�ضيعاً‪.‬‬ ‫الليلية‪ .‬عند منت�صف الليل �أُطفئت‬
‫ّ‬ ‫يف �أحد املالهى‬
‫م ّثل �أنه غا�ضب‪ .‬اخلنزير �أكرث مما ينبغي‪ .‬لكن �أمي‬ ‫الأنوار ومت الإفراج عن اخلنزير‪� .‬أثناء الهرج واملرج‬
‫مل ت�ست�سلم‪ .‬عندما تركب ر�أ�سها فهي ت�ساوم ب�رضاوة‪.‬‬ ‫قب�ض والدي على اخلنزير املت�أمل‪� .‬أ�صبح ملكه‪ .‬بعد‬
‫بعد ذلك ب�سنوات يف دوفر نيوهام�رش‪ ،‬راقبتها وهي‬ ‫ت�شجيع النا�س‪� ،‬أخذ حب ًال من النادل وربط اخلنزير‬
‫تو�صل بائع �أثاث �إىل �شفا اجلنون‪ .‬عر�ض عليها �أن‬ ‫برجل الطاولة‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫على ال�ستارة‪� ،‬أريد �أن �أنظر ولكني خائف من انعكا�س‬ ‫ت�أخذ الكنبة جمان ًا فقط ليتخلّ�ص منها‪.‬‬
‫ال�ضوء اخلافت للراديو على جدار غرفة النوم‪ .‬والدي‬ ‫الغجري كان �أكرث ت�ش ّدداً‪ .‬غادرنا‪ .‬بعدها ب�أيام عاد‬
‫ّ‬
‫مت�أخر والثلج يغطي ال�سطوح يف اخلارج‪.‬‬ ‫ل ُيلقي نظر ًة �أخرى‪ .‬وقف يح ّدق يف البذلة عند �أمي‬
‫يف ‪� 6‬إبريل ‪ ،1941‬كان عمري ثالث �سنوات‪� ،‬رضبت‬ ‫ك�أنه يريد �أن يتخلّ�ص م ّنا يف نف�س الوقت‪ .‬نظر‬
‫قنبلة يف اخلام�سة �صباح ًا املبنى املقابل من ال�شارع‬ ‫كرجل يتخذ‬ ‫ٍ‬ ‫ونظرنا‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تن ّف�س ال�صعداء‬
‫لدت‬‫مما �أدى �إىل ا�شتعال النار فيه‪ .‬بلجراد التي ُو ُ‬ ‫قراراً �صعب ًا وال رجعة فيه‪ .‬ح�صلنا على اخلنزير يف‬
‫فيها‪ ،‬لديها فرادة غري م�ؤكّ دة فقد ق�صفها النازيون‬ ‫حي ًا وي�شبه �إىل حد كبري اخلنزير‬ ‫اليوم التايل‪ .‬كان ّ‬
‫يف عام ‪ ،1941‬واحللفاء يف عام ‪ ،1944‬والناتو يف‬ ‫يف ال�صورة‪.‬‬
‫عام ‪.1999‬‬ ‫‪-3-‬‬
‫عدد القتلي يف ذلك اليوم من �أبريل _ والذي �أطلق‬ ‫يف البدء ‪ ...‬الراديو‪ .‬كان على طاولة بجانب �رسيري‪.‬‬
‫عليه الأملان «عملية عقابية» _ يرتاوح بني خم�سة‬ ‫كان له زر حتكّم ُي�ضيء‪ ،‬ثم تظهر �أ�سماء املحطات‪.‬‬
‫و�سبعة ع�رش �ألفاً‪ ،‬وهو �أكرب عدد من القتلى املدنيني‬ ‫فكنت �أ�س�أل الآخرين‬
‫ُ‬ ‫ومل يكن با�ستطاعتي القراءة بعد‬
‫يف يوم واحد خالل الع�رشين �شهر الأوىل من احلرب‪.‬‬ ‫�أن يقر�أوها يل‪ .‬هناك �أو�سلو‪ ،‬ل�شبونة‪ ،‬مو�سكو‪ ،‬برلني‪،‬‬
‫كانت املدينة قد تعر�ضت لأربعمائة قاذفة و�أكرث من‬ ‫بوداب�ست‪ ،‬مونت كارلو‪ ،‬وغريها الكثري‪ .‬ت�ضع ال�سهم‬
‫مائتي طائرة مقاتلة يف يوم �أحد ال�شعانني(‪ )4‬عندما‬
‫ّ‬ ‫الأحمر موازي ًا لال�سم‪ ،‬فتنبثق لغة غريبة ومو�سيقى‬
‫ت�ضخم عدد �سكان العا�صمة بزوارها من الأرياف‪� .‬أي ًا‬ ‫غري م�ألوفة‪ .‬يف العا�رشة‪ ،‬تتوقف املحطات عن البث‪.‬‬
‫كان العدد احلقيقي‪ ،‬فلقد ُحكم على املار�شال الك�سندر‬ ‫احلرب م�ستمرة‪ .‬هذا العام هو ‪.1943‬‬
‫لور(‪ )5‬لهذا الق�صف املرعب ومت �شنقه يف ‪.1945‬‬ ‫لقد �أم�ضيت ليايل طفولتي مع هذا الراديو‪� ،‬إنني‬
‫�أظن �أحيان ًا �أنني ال �أذكر �شيئ ًا عن ذلك الق�صف‪،‬‬ ‫�أُرجع الأرق الذي �صاحبني طوال حياتي ل�سِ حره‪ .‬مل‬
‫و�أحيان ًا �أجد نف�سي على الأر�ض وه�شيم الزجاج‬ ‫يدي عنه‪ .‬حتى بعد �أن تتوقف‬ ‫يكن ممكن ًا �أن �أبعد ّ‬
‫حويل‪ .‬الغرفة �ساطعة الإ�ضاءة و�أمي ترك�ض نحوي‬ ‫زر التحكّم‬ ‫ا�ستمر يف حتريك ّ‬ ‫ُّ‬ ‫املحطات عن البث‪.‬‬
‫وذراعاها مفرودان على ات�ساعهما‪ .‬حكوا يل بعد ذلك‬ ‫و�أدر�س ال�ضو�ضاء املختلفة‪ .‬مرة �سمعت �صفارات‬
‫�أنني طِ رت من �رسيري وعرب الغرفة حيث �سقطت‪ ،‬و�أن‬ ‫�شفرة مور�س‪ .‬فكرت �أن هناك جوا�سي�س‪� .‬أحيان ًا كنت‬
‫�أمي التي كانت تنام يف الغرفة املجاورة وجدتني‬ ‫علي �أن �أ�ضع �أذين‬
‫�ألتقط حمطة بعيدة خافتة ويكون ّ‬
‫عندها‪ .‬كلما حاولت �أن ا�س�ألها �أن تف�رس يل ماحدث‬ ‫على خ�شونة الغطاء التي تغطي مركز ال�صوت‪� .‬أحيان ًا‬
‫كانت ترف�ض مكتفية بواحدة من تنهداتها املعتادة‬ ‫كانت تندلع مو�سيقى رق�ص �أو تكون اللغة جذابة جداً‬
‫ونظراتها ال�ساخطة‪ .‬لي�س غريب ًا �أن هذه الذكرى‬ ‫ف�أ�ستمع �إليها مدة طويلة‪ ،‬و�أ�شعر �أنني على و�شك �أن‬
‫كانت م�ؤملة بالن�سبة لها‪ ،‬بالت�أكيد كانت كذلك‪.‬‬ ‫�أفهمها‪.‬‬
‫الذي �أغ�ضبها وجعلها ال جتد كلمات ُتعبرّ بها كان‬ ‫كل ذلك كان ممنوع ًا منع ًا باتاً‪ .‬كان من املفرو�ض �أن‬
‫ذلك الغباء املخيف يف كل ما حدث‪ .‬كان والدي يقبل‬ ‫�أكون نائماً‪� .‬أفكر يف ذلك الآن‪ ،‬رمبا كنت خائف ًا من‬
‫بالقتال من �أجل ق�ضية عادلة‪ .‬هي‪ ،‬يف الطرف الآخر‪،‬‬ ‫الوحدة يف تلك الغرفة الكبرية‪ .‬احلرب م�ستمرة‪ .‬البالد‬
‫مل ترتاجع �أبداً عن قناعتها ب�أن العنف وخ�صو�ص ًا‬ ‫حمتلة‪� .‬أ�شياء فظيعة حدثت يف الليل‪ .‬كان هناك حظر‬
‫هذه الدرجة من العنف لي�س �إال غباء‪ .‬والدها نف�سه‬ ‫�شخ�ص �آخر يف الغرفة‬ ‫ٌ‬ ‫جتول‪� .‬أحدهم كان مت�أخراً‪.‬‬
‫كان عقيداً يف احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬ولكنها مل يكن‬ ‫املجاورة مي�شي جيئة وذهاباً‪� .‬ستائر من الورق‬
‫عندها �أوهام‪ .‬احلرب تقوم على �أيدي رجال ُق�ساة‬ ‫الأ�سود معلقة على ال�شبابيك‪ .‬كان �شيئ ًا مرعب ًا �أن‬
‫ب�صفوف من امليداليات تغطي �صدورهم التي مل تكرب‬ ‫تنظر من خاللها �إىل ال�شارع _ ال�شارع اخلايل املظلم‪.‬‬
‫�أبداً‪� .‬إذا ذكرت انت�صار احللفاء لأمي‪ ،‬ف�ستذكرك بعدد‬ ‫�أتخيل نف�سي و�أنا �أم�شي على �أطراف �أ�صابعي وي ٌد‬
‫‪214‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�شيء يف تلك املرة‪� .‬أفرجوا‬ ‫ٌ‬ ‫على كل حال مل يحدث‬ ‫الأمهات اللواتي فقدن �أبناءهن من اجلانبني‪.‬‬
‫عنه‪ .‬مل يكن ذنبه �أن �أخاه الأ�صغر �رسق �شاحنة من‬ ‫عندي ذكرى �ضبابية �أخرى لنريان �ساطعة ثم عتمة‬
‫اجلي�ش الأملاين لي�أخذ �صديقته يف نزهة‪ .‬الأملان‬ ‫تامة و�أنا حممول على ال�سالمل يف هرولة �إىل املخب�أ‪.‬‬
‫كانوا منده�شني‪ ،‬تقريب ًا مذهولني من اجلر�أة‪� .‬أر�سلوه‬ ‫حدث هذا كثرياً �أثناء احلرب العاملية الثانية‪ ،‬لذا‬
‫للعمل يف �أملانيا‪ .‬لقد قاموا باملحاولة‪ ،‬ولكنه ت�سلّل‬ ‫رمبا حدث ذلك يف ظرف �آخر‪ .‬ما �أده�شني بعد ذلك‬
‫من بني �أ�صابعهم‪.‬‬ ‫ت�سجيلي �أملاين عن‬
‫ّ‬ ‫ب�سنوات‪ ،‬بينما �أتابع م�شاهد فيلم‬
‫و ّفر لنا زمن احلرب مالهي للريا�ضة وزحاليق وبيوت ًا‬ ‫مبان‬
‫ٍ‬ ‫الق�صف‪� ،‬أن �أرى م�شهداً عابراً ل�شارعي ولع ّدة‬
‫خ�شبية وح�صون ًا ومتاهات ميكن العثور عليها يف‬ ‫دمرة يف احلي‪ .‬مل �أدرك حتى تلك اللحظة كم من‬ ‫ُم ّ‬
‫ذلك اخلراب عرب ال�شارع‪ .‬كان هناك جزء قد تبقى من‬ ‫القذائف �أمطرت فوق ر�أ�سي ذلك ال�صباح‪.‬‬
‫الدرج‪ ،‬كنا ن�صعد بني احلطام وفج�أة تظهر ال�سماء!‬ ‫أنا�س كثريون ماتوا يف البناية التي تقع يف اجلهة‬ ‫� ٌ‬
‫ولد �صغري �سقط على ر�أ�سه ومل ي ُعد �أبداً ملا كان عليه‪.‬‬ ‫املقابلة من ال�شارع‪ ،‬مبا فيهم �أ�رسة كان لها �صبي‬
‫حرمن علينا االقرتاب من الدمار‪ ،‬ه ّددننا‪،‬‬ ‫�أمهاتنا ّ‬ ‫يف عمري‪ ،‬وب�سبب ما‪ ،‬عاد املو�ضوع لذهني جمدداً‬
‫حاولن �أن ي�رشحن املخاطر الكثرية التي تنتظرنا‪،‬‬ ‫بعد ذلك ب�سنوات‪ .‬قيل يل مرات ومرات كم كانت �أ�رسة‬
‫مع ذلك كنا نذهب‪ .‬جال�سون ب�سعادة بني �أطالل غرفة‬ ‫طيبة وكم كان ال�صبي و�سيم ًا و�أن مالحمه كانت‬
‫�شخ�ص ما بالدور الثالث‪ ،‬ي�أتينا من ال�شارع‬ ‫ٍ‬ ‫طعام‬ ‫ت�شبه مالحمي بع�ض ال�شيء‪ .‬وجدت ذلك خميفاً‪ .‬لكن‬
‫حتتنا �صياح واحدة من �أمهاتنا وهي ت�شري �إلينا‬ ‫الق�صة �أُعيد �رسدها ب ُغاللة من الن�سيان ك�أن لهذا �صلة‬
‫بينما ابنها يهرول �إىل �أ�سفل جماهداً يف تذكر �أين‬ ‫ما بي‪ .‬لي�س عندي فكرة كيف كانت مالحمه‪ ،‬كما‬
‫كان ي�ضع قدميه �أثناء ال�صعود‪.‬‬ ‫لي�س عندي فكرة كيف كانت مالحمي يف هذا ال�سن‬
‫كنا نلعب جنوداً‪ ،‬ا�ستمرت احلرب‪ .‬نزلت القنابل‪.‬‬ ‫ال�صغري‪ .‬لكني ظللت �أتخيله بو�ضوح بينما �أنا �أكرب‬
‫ولعبنا جنوداً‪� .‬أطلقنا النار على بع�ضنا البع�ض طوال‬ ‫ك�أنه كان �رشيكي يف اللعب‪.‬‬
‫النهار‪ .‬طاخ طخ _ طيخ‪� .‬سقطنا قتلى على الر�صيف‪.‬‬ ‫رمادي ًا وقتها؟ يف ذكرياتي‬ ‫ّ‬ ‫هل كان العامل حق ًا‬
‫رك�ضنا بني الزحام مقلدين �صوت الطائرات املقاتلة‬ ‫املبكرة كان العامل دائم ًا يف �أواخر اخلريف‪ .‬اجلنود‬
‫وهي تغط�س وتقب‪.‬‬ ‫رماديون‪ ،‬وهكذا كان النا�س‪.‬‬
‫ثم �أ�صبحنا حامالت قذائف‪� .‬أ�سقطنا �أ�شياء من‬ ‫منر بجانبهم‪« .‬ال‬ ‫الأملان يقفون يف الزاوية‪ .‬نحن ّ‬
‫ال�شباك �أو البلكونة على النا�س يف ال�شارع‪ .‬اجلاذبية‬ ‫تنظر �إليهم»‪ ،‬تهم�س �أمي‪ .‬نظرت �إليهم على �أي حال‪،‬‬
‫الأر�ضية هي �صديقة القنبلة‪� ،‬أتذكر قراءتي مرة يف‬ ‫وواحد منهم ابت�سم‪ .‬ل�سبب ما �أخافني ذلك‪.‬‬
‫دليل للجي�ش‪ .‬القنابل �إما تحُ مل حتت اجلناح �أو تو�ضع‬ ‫يف ليلة جاء اجل�ستابو العتقال والدي‪ .‬كانوا يفت�شون‬
‫يف مق�صورة خا�صة داخل الطائرة‪ .‬بالن�سبة لنا‪ ،‬كان‬ ‫يف كل مكان حمدثني �ضجة كبرية‪ .‬كان والدي قد‬
‫علينا فقط �أن نفرد �أذرعتنا‪ ،‬نزيد من �رسعة املواتري‪،‬‬ ‫ارتدى مالب�سه بالفعل‪ .‬كان يقول �شيئاً‪ ،‬رمبا كان‬
‫وندور كمروحة هوائية ونحن نحمل ج�سم ًا يف �أيدينا‬ ‫ينكّت‪ .‬تلك كانت طريقته‪ .‬مهما كان الو�ضع قامتاً‪،‬‬
‫حتى يتم التخل�ص من حمولتنا‪� .‬أحد �أ�صدقائي‬ ‫كان يجد �شيئ ًا م�ضحك ًا ليقوله‪ .‬بعد �سنوات عديدة‪،‬‬
‫كان عنده نظارات جي�ش واقية‪ ،‬وكان ي�سمح لنا‬ ‫حماط ًا بالأطباء واملمر�ضات بعد تعر�ضه لأزمة‬
‫با�ستعمالها �أحياناً‪ .‬لقد كانت جتعل ق�صف ال�شارع‬ ‫قلبية خطرية‪� ،‬أجاب على �س�ؤالهم «كيف ت�شعر الآن‬
‫حتتنا �أكرث واقعية يف عيوننا‪.‬‬ ‫يا �سيدي؟» بـ «�أن طلب بيتزا وبرية»‪ .‬ظن الأطباء �أنه‬
‫طبيعي ًا من جن�س الذكور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�صوت الطيخ _ طاخ يخرج‬ ‫علي �أن �أ�رشح لهم �أن هذا‬
‫تعر�ض لتلف يف املخ‪ .‬كان ّ‬
‫من النادر �أن ت�أتي هذه ال�ضو�ضاء من فتاة بال�شكل‬ ‫�سلوك طبيعي بالن�سبة له‪.‬‬
‫ال�صحيح‪� .‬ألقينا احل�صى على العابرين حتتنا‪ ،‬الطوب‬ ‫على الأرجح �أنني عدت للنوم بعد �أن �أخذوا والدي‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كنت مرعوب ًا من �صفعاتها �أكرث من رعبي من القنابل‪.‬‬ ‫على القطط والكالب ال�ضالة‪ ،‬م ّدعني �أننا ن�سقط قنابل‬
‫جن ّر �أقدامنا بتثاقل‪.‬‬
‫يف حلظة ما انتهى الأمر‪ .‬خرجنا ُ‬ ‫�أمريكية على النازيني‪ .‬بعد خم�سني عام ًا ما زلت‬
‫تخيل‬
‫املتحم�سون للق�صف اجلوي �إما يفتقرون �إىل ّ‬ ‫املحرمة واخلبث يف القيام بذلك‪ .‬الآن‬ ‫ّ‬ ‫�أذكر املتعة‬
‫حقيقة ما يحدث على الأر�ض‪� ،‬أو �أنهم عطلوا خيالهم‪.‬‬ ‫حيث تتو ّفر �ألعاب الفيديو يمُ كن للواحد �أن يتم ّثل‬
‫ال�شارع كان مظلم ًا مع بع�ض اللهب هنا وهناك‪.‬‬ ‫الناتو قا�صف ًا يوغ�سالفيا‪ ،‬الأطفال يناق�شون بدراية‬
‫الغبار والدخان ميلآن اجلو‪ ،‬بدا وك�أن الليل قد ح ّل‬ ‫القنابل م�سرت�شدين بالليزر وكامريات التلفزيون‪.‬‬
‫بالفعل‪ .‬خرج رج ٌل من العتمة وهو مغطى ب�ضمادات‬ ‫�أظن �أن فكرتنا عن املعنى احلقيقي لق�صف بناية‬
‫تت�ساقط‪ .‬حكى لنا �أن �أحد الأحياء املجاورة قد مت‬ ‫كانت �أكرث و�ضوحاً‪ ،‬مع ذلك مل نتو ّقف‪ .‬كُ ّنا بال عقل‬
‫عادياً‪ .‬الواحد منا كان‬ ‫ّ‬ ‫ت�سويته بالأر�ض‪ .‬كان ذلك‬ ‫مثلنا مثل جرناالت اليوم وهم ي�ضغطون الأزرار‬
‫ي�سمع �أكرث الإ�شاعات �شناعة ومبالغة يف مثل هذا‬ ‫ويتابعون �شا�شة احلا�سوب منتظرين بحما�س نتيجة‬
‫الوقت‪� .‬آالف القتلى‪ ،‬جثث ملقاة يف كل مكان‪ ،‬وهلم‬ ‫ما قاموا به‪.‬‬
‫احلي الذي يتحدث عنه هو �أحد �أفقر الأحياء‬ ‫جرا‪ .‬كان ّ‬ ‫بد�أ الربيطانيون والأمريكيون ق�صف بلجراد يوم �أحد‬
‫يف املدينة‪ .‬مل يكن فيه �أهداف ع�سكرية‪ .‬مل يكن ذلك‬ ‫الف�صح‪� 16 ،‬أبريل ‪ .1944‬الرواية الر�سمية ال�صادرة‬
‫ُمربراً حتى لطفل‪.‬‬ ‫عن القوات اجلوية الأمريكية تتحدث عن قاذفات‬
‫يف اليوم التايل للغارة الأوىل يف ‪ ،1944‬جاءت‬ ‫ثقيلة «ت�ستهدف ق�صف لوفتواف(‪ )6‬و�أهداف جوية‬
‫الطائرات مرة �أخرى‪ ،‬وبنف�س الطريقة «�ألقت حوايل‬ ‫«بـ» حوايل ‪ 397‬طن ًا من القنابل»‪ .‬تقول �أي�ضاً‪« :‬ن�سبة‬
‫‪ 373‬طن ًا من القنابل على بلجراد‪� /‬ساحات �سافا‬ ‫�إىل �أحد التقارير‪ ،‬ف�إن عمليات ‪� 17‬أبريل ت�سببت‬
‫مار�شالنج»‪ ،‬و�أ�ضاف التقرير الر�سمي �أن «هذا الهجوم‬ ‫يف بع�ض الأ�رضار ملنطقة �سكنية تقع �شمال غرب‬
‫دمار عظيم يف عربات الركاب والب�ضائع‪،‬‬ ‫ت�سبب يف ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بلجراد‪ /‬زميون �أرديروم‪ .‬ويبدو �أن معظم الدمار الذي‬
‫نريان كثيفة‪ ،‬خمازن م�شتعلة‪ ،‬دمار عظيم ملحطة‬ ‫ح�صل خالل اليومني‪ ،‬كان ذا طبيعة ع�سكرية»‪� .‬إنها‬
‫الركاب الرئي�سية‪ ،‬دمار مماثل جل�رس �سكة احلديد على‬ ‫كلمة «يبدو» املُدرجة بحكمة يف التقرير‪� ،‬إنها بيت‬
‫نهر �سافا‪� ...‬إلخ‪ .‬ال ُيوجد ما ي�شري �إىل حدوث تفجريات‬ ‫الق�صيد وجوهر امل�س�ألة‪.‬‬
‫خارج الأهداف الع�سكرية خالل هذه العملية»‪ .‬يف‬ ‫كان ذلك قبل تناول الغذاء‪ ،‬مائدة الطعام كانت قد‬
‫احلقيقة‪ ،‬لقد �سقطت قنبلة على املم�شى �أمام بنايتنا‬ ‫�أعدت ب�صورة بهيجة ب�أح�سن ماعندنا من �صيني‬
‫ولكنها مل تنفجر‪.‬‬ ‫وف�ضيات عندما و�صلت الطائرات‪ .‬كان با�ستطاعتنا‬
‫يف بع�ض الليايل كان والدي يرف�ض النزول �إىل‬ ‫�أن ن�سمع �أزيزها حتى قبل �أن تنطلق �صفارات االنذار‪.‬‬
‫املخب�أ ويبقى يف فرا�شه‪ ،‬يف حني كانت �أمي ت�صيح‬ ‫ال�شبابيك كانت مفتوحة على ات�ساعها حيث كان‬
‫عليه من الدرج لينزل‪ .‬هي كانت مع �إخالء املدينة‬ ‫اليوم ربيعي ًا معتدالً‪� .‬أتذكر والدي وهو ي�صيح من‬
‫فوراً؛ بينما اعتقد �أبي �أن العي�ش يف الريف ال يقل‬ ‫البلكونة «الأمريكيون يرمون بي�ض عيد الف�صح»‪.‬‬
‫خطورة مع احلرب الأهلية التي يف طريقها‪ .‬هكذا‬ ‫بعدها �سمعنا �صوت االنفجار الأول‪ .‬رك�ضنا نازلني‬
‫ومع غرابة الأهداف الع�شوائية حللفائنا فقد كانت‬ ‫�إىل نف�س املخب�أ حيث اليوم ما زالت بع�ض �شخ�صياته‬
‫خماطرة �أن نبقى وخماطرة م�ساوية لها �أن نهرب‪.‬‬ ‫الأ�صلية ترتعد‪ .‬اهتزت البناية‪ .‬غطى النا�س �آذانهم‪.‬‬
‫طوال ربيع و�صيف ‪ 1944‬كنا نرحل �إىل الأمام �أو �إىل‬ ‫ته�شم زجاج يف‬ ‫كان با�ستطاعة املرء �أن ي�سمع �صوت ّ‬
‫الوراء م�شي ًا على الأقدام‪� .‬أتذكر �صفوف الالجئني على‬ ‫مكان ما فوقه‪ .‬ول ٌد �أكرب مني بقليل كان قد اختفى‪.‬‬
‫الطريق‪ ،‬الأملان يفح�صون الوثائق ويرعبون اجلميع‬ ‫ات�ضح �أنه ت�سلل للخارج لي�شاهد القنابل وهي ت�سقط‪.‬‬
‫ي�سجل وين�رش‬‫�أكرث و�أكرث‪ .‬اليوم طبع ًا هناك تلفزيون ّ‬ ‫عندما �أعاده الرجال بد�أت �أمه ت�صفعه وت�ؤنبه ب�شدة‪،‬‬
‫مثل هذه امل�شاهد التعي�سة‪.‬‬ ‫كانت ت�رصخ فيه �أنها �ستقتله �إذا خرج مر ًة �أخرى‪.‬‬
‫‪216‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�صغريين‬
‫ْ‬ ‫العبي‬
‫نْ‬ ‫�أن تتخلّى عنه مبجرد والدته‪ .‬كنا‬ ‫يف ‪ 1972‬قابلت �أحد الرجال الذين ق�صفوين يف‬
‫مرتبكي يف �أحداث �أكرب من �سيطرتنا‪ .‬هو على الأقل‬ ‫نْ‬ ‫‪ .1944‬كنت قد قمت ب�أول رحلة لبلجراد بعد ع�رشين‬
‫اعرتف مب�س�ؤوليته عما فعل‪ ،‬هذا ما ال ن�سمع به يف‬ ‫عام ًا تقريباً‪ .‬مبجرد عودتي �إىل الواليات املتحدة‪،‬‬
‫حروب اليوم اخلالية من اخلطر حيث املو�ضة هي‬ ‫جتمع �أدبي يف �سان فران�سي�سكو حيث‬ ‫ذهبت �إىل ّ‬
‫حتميل م�س�ؤولية الأخطاء على التكنولوجيا‪ .‬هيوجو‬ ‫قابلت بال�صدفة ال�شاعر ريت�شارد هيوجو يف مطعم‪.‬‬
‫كان رج ًال يتمتع بالنزاهة‪ ،‬واحداً من �أف�ضل ال�شعراء‬ ‫حت ّدثنا‪� ،‬س�ألني كيف ق�ضيت ال�صيف‪� ،‬أخربته �أنني‬
‫يف جيله‪ ،‬وقد يبدو هذا غريباً‪ ،‬مل يخطر ببايل �أن �ألومه‬ ‫عدت للتو من بلجراد‪.‬‬
‫على ما قام به‪ .‬مع �أين كنت على الأرجح �س�أب�صق يف‬ ‫قال‪�« :‬آي نعم‪ ،‬ب�إمكاين �أن �أرى هذه املدينة جيداً»‬
‫وجه ذلك الغبي الذي قرر املوافقة على طلب تيتو ب�أن‬ ‫دون �أن يعرف خلفيتي‪ ،‬انطلق ير�سم على مفر�ش‬
‫ي�رضب احللفاء مدينة مليئة هي نف�سها باحللفاء يوم‬ ‫املائدة‪ ،‬بقطع اخلبز وبقع النبيذ‪ ،‬موقع املبنى‬
‫انده�شت عندما كتب هيوجو‬ ‫ُ‬ ‫عيد الف�صح‪ .‬مع ذلك‪،‬‬ ‫نهري الدانوب‬
‫ّ‬ ‫الرئي�سي ملكتب الربيد‪ ،‬الكباري على‬
‫ق�صيدة عما فعله و�أهداها يل‪ .‬كيف تكون الأمور‬ ‫وال�سافا‪ ،‬وبع�ض املعامل الأخرى الهامة‪ .‬دون �أية‬
‫معقدة �إىل هذه الدرجة‪ ،‬كيف ال تكفي حماوالتنا لأن‬ ‫فكرة عن معنى ذلك‪ ،‬مفرت�ض ًا طوال الوقت �أنه زار‬
‫نقف يف وجه الريبة غري املعلنة حيث ال �شيء يف‬ ‫مرة املدينة ك�سائح‪� ،‬س�ألته كم من الوقت ق�ضى يف‬
‫جحيمها ميكن فهمه على الإطالق‪.‬‬ ‫بلجراد‪.‬‬
‫ر�سالة �إىل �سيميك من بولدر(‪)7‬‬ ‫�أجابني‪« :‬مل �أزرها �أبداً‪� ،‬أنا فقط ق�صفتها عدة مرات»‬
‫عزيزي ت�شارلز‪ :‬هكذا تقابلنا مر ًة يف �سان‬ ‫كنت هناك‬ ‫بذهول من املفاج�أة‪ ،‬اندفعت قائ ًال لقد ُ‬
‫أعرف‬
‫فران�سي�سكو و� ُ‬ ‫وقتها و�أنني �أنا من كان يقوم بق�صفه‪� .‬أ�صبح‬
‫كنت‬
‫�أنني ق�صفتك منذ زمن طويل يف بلجراد عندما َ‬ ‫منزعج ًا للغاية‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬كان مهزوزاً ب�شدة‪ .‬بعد‬
‫يف اخلام�سة‪.‬‬ ‫�أن توقف عن االعتذار وهد�أ قليالً‪� ،‬سارعت �أ�ؤكد له‬
‫�أتذكّر‪ .‬كان هدفنا ج�رسٌعلى نهر الدانوب‬ ‫�أنني ال �أحمل �شيئ ًا �ضده و�س�ألته ما هو ال�سبب يف‬
‫ن�أمل �أن نُحا�رص جيو�ش الأملان بينما هي تفرّ من‬ ‫�أنهم مل يق�صفوا مقر اجلُ�ستابو وال �أي مبنى �آخر حيث‬
‫كان يتواجد الأملان‪� .‬رشح يل هيوجو �أن الغارات‬
‫اليونان �إىل ال�شمال‪،‬‬
‫اجلوية كانت تنطلق من �إيطاليا‪ ،‬م�ستهدفة �أو ًال حقول‬
‫�ض ّيعنا الهدف‪ .‬لي�س هذا من غري املعتاد‪ ،‬مبا �أنني‬
‫النفط الرومانية‪ ،‬التي كانت لها �أهمية ا�سرتاتيجية‬
‫كنت واحداً من املهاجمني‪.‬‬
‫كبرية بالن�سبة للنازيني حيث كان يتم الدفاع عنها‬
‫مل يكن با�ستطاعتي �أن �أ�رضب م�ؤخرتي‬ ‫جوية كانوا يفقدون طائرة �أو‬ ‫ب�رضاوة‪ .‬يف كل غارة ّ‬
‫جل�ست علىجهاز التحكّم �أو امتطيت قنبل ًة‬ ‫ُ‬ ‫حتى �إذا‬ ‫اثنتني‪ ،‬ومع ذلك كله‪ ،‬يف طريق عودتهم لإيطاليا‪،‬‬
‫ونزلت و�أنا‬ ‫كان عليهم �أن يتخل�صوا من حموالتهم فوق بلجراد‪.‬‬
‫�أغني الن�شيد الوطني الأمريكي‪.‬‬ ‫عال‬
‫ح�سن‪ ،‬كانوا يف غاية احلذر‪ .‬يطريون على ارتفاع ٍ‬ ‫ٌ‬
‫�أتذكّر بلجراد تتفتّح مثل وردة عندما و�صلنا‪.‬‬ ‫ويلقون ما تبقى من احلموالت ب�أي طريقة ممكنة‪ ،‬يف‬
‫ال مدفع ّية م�ضادة للطائرات‪ .‬مل �أعرف �شيئ ًا عن‬ ‫ا�ستباق ليعودوا �إىل �إيطاليا‪ ،‬حيث يق�ضون بقية اليوم‬
‫اليومي‪ ،‬الثمانني‬
‫ّ‬ ‫ال�شنق‬ ‫على ال�شاطيء مع بع�ض الفتيات املحليات‪.‬‬
‫�ألف ُ�ساليف الذين تدلّوا من احلبال الأملانية يف‬ ‫أكدت لهيوجو �أن ذلك بال�ضبط ما كنت �س�أفعله عن‬ ‫� ُ‬
‫املدينة‪ ،‬كعربة للآخرين‪.‬‬ ‫نف�سي‪ ،‬لكنه ا�ستمر يطلب الغفران ويربر موقفه‪ .‬لقد‬
‫كان كل همي �أن �أبقى على وجه احلياة‪ ،‬تلك اللحظة‬ ‫كرب يف منطقة قا�سية يف �سياتل‪ ،‬يف �أ�رسة فقرية‬
‫تخفّفت الطائرة من حمولة القنابل ونحن ُعدنا‪.‬‬ ‫من الطبقة العاملة‪� .‬أمه‪ ،‬كانت مراهقة‪ ،‬وكان عليها‬
‫‪217‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جتاهله‪.‬‬ ‫�أية لغة كنت تتحدث وقتها؟ ال�رصبية‪ ،‬على ما �أعتقد‪.‬‬
‫لطيف �أن �أقابلك �أخرياً بعدالكراهية بدون �سبب‪ .‬املرة‬ ‫وماذا كان عقلك‬
‫القادمة‪،‬‬ ‫يفعل بالعواء الرهيب للقنابل؟ ما هي كلمة «خوف»‬
‫�إذا �أردت �أن تت�أكدمن جناتك‪ ،‬اجل�س على اجل�رس الذي‬ ‫بال�رصبية؟‬
‫�أحاول �رضبه ول ّوح يل‪�.‬أنا قادم على الطريق ال�صحيح‬ ‫يجب �أن تكون هي الكلمة نف�سها باالجنليزية‪ ،‬عويل‬
‫لكني‬ ‫بدائي طويل‬
‫قل ٌق وعد�سة م�سد�سي ترفرف‪.‬‬ ‫لأطفال ميوتون‪ ،‬نظرة طف ٌل ُمثبتة للأبد يف املوت‪.‬‬
‫كنت على الأر�ض‪� .‬أما �أنا ف�أ�ص ّوب‬
‫أنت‪� ،‬أينما َ‬‫�أمن � َ‬ ‫كنت م�شو�ش ًا‬ ‫�أنا ال �أعتذر عن احلرب‪� ،‬أو ملا كن ُت ُه‪ُ .‬‬
‫ناحية الهدف‬ ‫وقتها عن طيب خاطر‪.‬‬
‫ُهت عن الطائرة التي‬ ‫ولكن قنابلي من احللوى وقد ت ُ‬ ‫�أظن �أنني حتى �آمنت بالبطولة (للآخرين‪ ،‬ولي�س‬
‫تر�شدين‪.‬‬ ‫لنف�سي)‪� ،‬صدقت يف �رضورة‬
‫�صديقك ِدك‪.‬‬ ‫ذلك العامل املُعذَّب‪� ،‬آم ًال �أنه �سيتعلّم �أال يفعل ذلك‬
‫مر ًة‬
‫الهوام�ش‬ ‫�أخرى‪ .‬لكني كنت �صغرياً‪ .‬العامل ال يتعلّم �أبداً‪ .‬التاريخ‬
‫(‪)1‬ي�سخر �سيميك بو�ضع «‪ »DP‬بني قو�سني لال�شارة �إىل امل�صطلح‬ ‫جلعل‬ ‫لديه طريقة جلعل املا�ضي ُم�ست�ساغ ًا‪،‬‬
‫‪Displaced Persons‬‬
‫ْ‬
‫(‪)2‬ال�ستار احلديدي ‪Iron Curtain‬مبعنييه املادي واملجازي هو‬ ‫املوتىحلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ما كان يف�صل بني �أوروبا الغربية وال�رشقية‪ ،‬وقد ظل هذا ال�ستار الذي‬ ‫عزيزي ت�شارلز‪� ،‬أنا �سعي ٌد �أنك تفاديت القنابل‪� ،‬أنك‬
‫فر�ضه االحتاد‬
‫(‪)3‬م�ؤمتر يالطا عقد بني ‪ 4‬و‪ 11‬فرباير ‪ ،1945‬وح�رضه ر�ؤ�ساء �أمريكا‬
‫تعي�ش معنا الآن وتكتب ق�صائد‪ .‬البد يل �أن �أخربك‬
‫وبريطانيا واالحتاد ال�سوفييتي لإعادة ترتيب �أوروبا التي مزقتها‬ ‫مع ذلك‪،‬‬
‫احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫لقد ا�ستغربت ذلك اللقاء يف �سان فران�سي�سكو‪ .‬ظللت‬
‫(‪)4‬هو الأحد ال�سابع من ال�صوم الكبري والأخري قبل عيد الف�صح �أو‬
‫القيامة وهو يوم ذكرى دخول ال�سيد امل�سيح �إىل �أور�شليم �أو بيت‬ ‫�أكرر لنف�سي‪،‬‬
‫املقد�س حيث مت ا�ستقباله ب�أغ�صان النخيل يف �إ�شارة ال�ستقبال‬ ‫كان على الأر�ض يف ذلك اليوم‪� ،‬صفار ال�سماء املخيف‬
‫امل�سيح كمنت�رص‪.‬‬ ‫وحمرّكاتنا تز�أر بكل �شيء يف طريقنا‪.‬‬
‫(‪)5‬مار�شال الك�سندر لور (‪ ،)1947 -1885‬كان قائد الدفاع اجلوي‬
‫الأملاين �أثناء احلرب العاملية الثانية‪� .‬سجنه اليوغ�سالف يف ‪1945‬‬ ‫يف حلظات كهذه ي�صبح العامل �صافي ًا للناجني‪.‬‬
‫وحوكم بتهمة جرائم حرب ومت اعدامه يف ‪.1947‬‬ ‫العامل ي�صبح �صافي ًا ك�سحاب ال�صيف‪،‬كالبيا�ض‬
‫(‪)6‬اال�سم الذي كان ُيطلق على القوات اجلوية الأملانية قبل و�أثناء‬
‫احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫النقي املنفوخ‪،‬‬
‫(‪)7‬مدينة يف والية كولورادو بالواليات املتحدة الأمريكية حيث كان‬ ‫طيو ٌر ناعمة مترق وتدخل وتخرج‪،‬‬
‫يعي�ش هيوجو‪.‬‬ ‫حياتنا لديها فر�صة لأن تنجرف ببطءفوق العامل‪،‬‬
‫من�سي‪،‬العد ّو يتم‬ ‫ّ‬ ‫خمازن القنابل فارغة‪ ،‬الهدف‬

‫‪218‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫�سمرقند‪:‬‬
‫حبيبة تيمورلنغ‬
‫خليل النعيمي‬
‫روائي وطبيب جراح من �سورية يقيم يف فرن�سا‬

‫�أدخلها �ضاحك ًا من‬


‫الفرح‪ .‬املدينة الزرقاء‬
‫العجيبة‪ .‬حبيبة‬
‫«تيمورلنغ» الذي‬
‫ق�ضى حياته يت ََ�س ّول‬
‫عطفها‪ ،‬و ِر�ضاها‪ ،‬حماو ًال‬
‫�أن يك ِّفر عن ذنوب‬
‫�صباه دون جدوى‪ .‬يف‬
‫ال�ساحة العظمى‪� ،‬ساحة‬
‫«ريجي�ستان»‪� ،‬أهرب من‬
‫احل�شد‪� .‬أجل�س وحيداً‪.‬‬
‫حتيط بي امل�آذن ال ُز ْرق‬
‫والقِباب التوركوازية‪.‬‬
‫َع َجب ًا �أرى!‪ .‬و�أ�صري �أمتل َمل‬
‫يف مكاين كالقاعد فوق‬
‫منل‪� .‬أية روعة هي هذه؟‬
‫وكيف يفوت الكائن‪ ،‬طيلة‬
‫هذه الأعوام‪ ،‬ر�ؤية �أمكنة‬
‫م�صريية مثلها؟ ومِ ْن �أين‬
‫لها كل هذا اجلَ مال!‪.‬‬
‫‪219‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وال غفالً‪� .‬أُ ْنظُ ْر!‬ ‫ا�ستعيد «تاج حمل » الرائع يف الهند‪ .‬هو الآخر بناه‬
‫نحيا من �أجل التاريخ‪ .‬من �أجل تذكُّ ُره‪ ،‬وتقديره‪.‬‬ ‫املغول‪� .‬أولئك ال ُغزاة‪ ،‬املغامرون‪ ،‬الذين اجتاحوا‬
‫�أو نقده‪ ،‬ال فرق‪� .‬إننا نحيا فيه منذ �أن نتذكَّ ر قب�س ًا‬ ‫العالمَ القدمي‪ ،‬وخلَّفوا يف �أنحائه �أعمالهم املثرية‪.‬‬
‫منه‪ ،‬ون�ستح�رضه‪ .‬لنا منه‪ ،‬ومعه‪ ،‬مواقف‪ ،‬ومناقب‪،‬‬ ‫أح�س اللَّ�سْ نة تلْجمني‪ :‬هذا املكان‪ ،‬مثل ذاك‪ ،‬ال‬ ‫و� ُّ‬
‫ور�ضا�ضات‪ .‬ال �أريد �أن �أكون حيادياً‪ ،‬وال‬ ‫وم�آخذ‪ُ ،‬‬ ‫يليق به �إ ّال ال�صمت! لكن ال�صمت بال ت َب�صرُّ ال جدوى‬
‫عدائياً‪� .‬أريد �أن �أحب تاريخي كما هو‪ ،‬حتى ولو كان‬ ‫منه‪� .‬أدير الأو�ضاع يف ر�أ�سي‪ ،‬ومعها �أدور‪ .‬روح‬
‫يل الغارق‬ ‫مريباً‪َ .‬م ْن �أنا لأجت ّنب كل هذا العنف اجلَما ّ‬ ‫التاريخ تتملَّكني مثل متيمة �سحرية‪.‬‬
‫ال�شخ�صي‬
‫ّ‬ ‫يف �أبهة املا�ضي الآ�رس؟ �إنه تاريخي‬ ‫قاعداً يف الفراغ املنع�ش‪� ،‬أمرر ب�رصي من �أثر �إىل‬
‫مل �أع�شْ منه �شيئاً‪.‬‬ ‫عيني حتى ولو ْ‬
‫املاثل‪ ،‬الآن‪� ،‬أمام ّ‬ ‫�آخر‪ ،‬دون �أن �أرتوي‪� .‬أتطلَّع‪ .‬و�أعيد التطلُّع‪َ .‬جمال‬
‫نبد أ� اليوم ( ‪ /27‬ني�سان‪ )2009/‬الرحلة الداخلية‬ ‫ل �أنف�سنا برباءة‬ ‫الأمكنة‪ ،‬مثل َجمال الكائنات‪ ،‬مي أ‬
‫يف �سمرقند‪ .‬هي مثل «دم�شق» جميلة وقريبة من‬ ‫عميقة‪ .‬براءة االنعطاف الإن�ساين من ال َت َو ُْح�ش �إىل‬
‫القلب‪� .‬أنهارها �صغرية وعديدة‪ ،‬مثل « َب َردى»‬ ‫وبر َع فيه‪.‬‬‫التم ّدن‪ .‬ولقد �أدركَ الفن الإ�سالمي ذلك‪َ .‬‬
‫وم َ�س َّورات‪.‬‬‫وفروعه‪ .‬ن�سا�ؤها‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬بي�ض ُ‬ ‫وزينه‪ ،‬وا�صطفاه‪.‬‬‫أبدع فيما �صنعه‪َّ ،‬‬ ‫و� َ‬
‫�ضحكاتهن حا�رضة فوق �شفاههن‪ .‬وعيونهن ت�سائل‬ ‫�سمرقند! َم ْن كان يحلم قبلي بهذا املكان؟ �أبتعد �أكرث‬
‫الزائر‪ ،‬بدالل‪ :‬من �أين �أنت؟ و�سيكون ذلك بالفعل �أول‬ ‫املدونة‬
‫َّ‬ ‫بعيني الآيات‬‫َّ‬ ‫عن احل�شد‪� .‬أغلق الكتاب‪� .‬أقر�أ‬
‫الكالم‪ ،‬منذ �أن تلتقيهن‪ .‬اخل�شية املمزوجة بالرغبة‬ ‫مر وراح‪ .‬وكم‬ ‫كم من ب�رش َّ‬ ‫على احليطان‪� .‬أت�ساءل‪ْ :‬‬
‫ترت�سم بغنج على وجوههن‪ .‬لك�أن هذه املدينة‬ ‫يبق يف الف�ضاء �سوى‬ ‫وولىّ ‪ .‬ومل َ‬ ‫من حاكم َ‬
‫تولىّ ‪َ ،‬‬
‫املح�صن بال�شوق‬ ‫َّ‬ ‫ال تنتج �إال هذا الكمال الب�رشي‬ ‫هذا ال�رصح الذي بناه «تيمور ِل ْنغ» الذي كان قاطع‬
‫والظم�أ‪ .‬مدينة � ّأخاذة هي «�سمرقند»‪ .‬كانت حمطة‬ ‫طريق متوح�ش يف البدء‪ .‬بداية الكائن ال َت�شي به‪،‬‬
‫�أ�سا�سية على «طريق احلرير»‪ .‬منها ت�صعد القوافل‪،‬‬ ‫�إذن‪ ،‬و�إمنا نهايته‪ .‬تلك التي يكتبها �رساً‪ ،‬وترتاكم‬
‫�أو تهبط‪� ،‬إىل اجلنوب‪ .‬يف الع�صور الو�سطى‪ ،‬كانت‬ ‫يف نف�سه كالذهب‪� ،‬أو كالرماد‪ .‬و�أكاد �أ�رصخ يف‬
‫تعترب «مركز العامل»(مثل ُم ُدن �أخرى غريها يف‬ ‫الف�ضاء املليء بالأزرق النوراين‪ :‬يا رجل!‬
‫�أمكنة �أخرى بعيدة! فالعالمَ لي�س وحيد املركز‪ ،‬كما‬ ‫�سمرقند لي�ست مدينة مبتدئة مثل طا�شقند‪ .‬وهذا يبدو‬
‫�سنعرف فيما بعد)‪.‬‬ ‫مل ُدن كالكائنات‪ :‬مبتدىء‬ ‫وا�ضح ًا منذ �أن تراها‪ .‬ا ُ‬
‫«�سمرقند» مليئة باملفاج�آت‪ .‬و�س�أرى الكثري منها‬ ‫وجم ّرب‪ .‬وال تكمن التجربة يف «ال ُع ْمر» ‪ ،‬يف ال َد ْهر‪،‬‬ ‫َ‬
‫خالل �إقامتي فيها‪« .‬قرية القرميد الأحمر»على‬ ‫مل َّدة» التي قد تخدع الرائي‪� .‬إنهامغمو�سة يف‬ ‫�أو«ا ُ‬
‫�أطراف املدينة مذهلة‪� .‬أ�شجار «احلور» الطويلة التي‬ ‫جوهر الكائن‪ ،‬يف روح املدينة‪ ،‬ويف وجه ال�شيء‪.‬‬
‫حتيط بها ال مثيل لها( ذكَّ ر ْتني باحلور البا�سق‬ ‫ولكن‪ ،‬ما هو اجلوهر‪ ،‬يف هذه احلال؟ �إنه عبق‬
‫على «اخلابور»)‪� .‬سواقيها ال�صغرية ذات الفروع‬ ‫التاريخ ‪� ،‬أو رائحته‪� ،‬أو خمزونه املرئي‪ ،‬والالمرئي‪،‬‬
‫العديدة‪ ،‬هي نف�سها �سواقي «اجلزيرة» املرتعة‬ ‫�أي�ضاً‪� .‬سذاجة الرائي ال تنفع‪ ،‬يف هذه احلالة‪� ،‬شيئاً‪،‬‬
‫والوحول املل�ساء‬ ‫باملاء‪ .‬وكذلك‪� ،‬أع�شابها الغريبة‪ُ ،‬‬ ‫�سيء النية‪� .‬إننا �إزاء مدينة مرتعة‬ ‫حتى ولو كان ّ‬
‫مثل ال ِتبرْ املبلول التي تفر�ش تربتها‪� .‬إنها جنة‬ ‫بالتاريخ ‪ .‬وهو لي�س تاريخ ًا مزيفاً‪ ،‬وال م�صطنعاً‪،‬‬
‫‪220‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ُج ُدر الـ«�شاهي ِز ْن َده»‪ ،‬كما يلفظ هنا‪ .‬م�ساحات‬ ‫«بدائية»‪ ،‬ما زالت تقاوم الفناء فوق هذا الكوكب‬
‫مقد�سة ملمومة حول «املركز»‪ ،‬مثل ُرفات كائن‬ ‫الذي �ستدمره ح�ضارة الغرب‪� ،‬إ ّال �إذا‪ ...‬هذه القرية‬
‫قام من املوت‪ .‬مثل«بن عبا�س» الذي م�شي بعد �أن‬ ‫املزتوتة على �أطراف �سمرقند‪ ،‬تخت�ص ب�صناعة‬
‫قطعوا ر�أ�سه‪� .‬صرَْ ح خميف من �شدة اجلَمال هو هذا‬ ‫الورق من احلرير‪ .‬وما زالت «امل َد ّقات املائية» فيها‬
‫الـ«�شاه زنده»‪.‬‬ ‫ت�ستعمل ل َه ْر�س الأ�شجار والأع�شاب‪ ،‬قبل �أن متر �إىل‬
‫يخبىء هذا ال�رصح من �أفانني؟ وكيف لنا‬ ‫�أوه! ماذا ِّ‬ ‫الت�صنيع‪ .‬قبل �أن تغدو حريراً جاهزاً لي َت َو َّرق‪ .‬ورق‬
‫ن�ستقر يف معرفتنا القدمية ( �أكاد �أقول جهلنا‬ ‫َّ‬ ‫�أن‬ ‫احلرير امل�صنوع‪ ،‬هنا‪ ،‬والذي كان م�ستخدم ًا كثرياً‬
‫القدمي) ونحن نرى ما نرى‪ ،‬الآن؟ ُقبب و�أ�ساطيح‪.‬‬ ‫يف الع�صور الو�سطى مقاوم للزمن‪ .‬ميكن �أن يدوم‬
‫تزين‬
‫�ألوان ُز ْرق توركوازية‪ .‬فُ�سيف�ساء خالدة ِّ‬ ‫�أكرث من �ألف �سنة (الورق الذي ن�ستعمله اليوم‪ ،‬ال‬
‫اجلدران‪ .‬املداخل هائلة احلُجوم‪ .‬والأبواب �سافرة‬ ‫يدوم �إال قرن ًا �أو بع�ض قرن‪ ،‬على �سبيل املثال)‪.‬‬
‫أنت‪ ،‬هنا‪ .‬لكنك تدرك جيداً‬ ‫ومنيعة‪ .‬ال تعرف َم ْن � َ‬ ‫طاقة الإ�سالم ال تكمن يف انت�شاره الكوين‪ ،‬فح�سب‪،‬‬
‫�أنك يف ف�ضائك الأ�صيل‪ .‬ف�ضاء الثقافة العربية‬ ‫و�إمنا يف «انت�شاره املختلف»‪� ،‬أ�سا�ساً‪ .‬هنا‪ ،‬جند‬
‫أبدع ْت مثل هذه ال�رصوح الآ�رسة‪.‬‬ ‫الإ�سالمية التي � َ‬ ‫«�إ�سالم ًا �آخر»‪ .‬عادات خمتلفة‪ ،‬وتقاليد مغايرة‬
‫ال �شيء ميكن �أن يحقننا باملتعة واملعرفة مثل‬ ‫متام ًا ملا نعرفه يف ال�رشق العربي‪ ،‬دون �أن يقلل‬
‫الرحيل‪ .‬مثل م�شاهدة �أماكن مل ن�شاهد مثلها من‬ ‫ذلك من عمق امل�شاعر الدينية عندهم‪ .‬ال بد �أن‬
‫قبل‪ .‬ذلك‪ ،‬وحده‪ ،‬يجعلنا نن�سى بالدتنا وخمولنا‬ ‫ت�سامح اال�سالم‪ ،‬وقبوله ملا هو خمتلف‪ ،‬وا�ستيعابه‬
‫الذهني‪ ،‬ولو لفرتة ق�صرية‪ .‬ل َيت َغ َّمد اهلل بالرحمة روح‬ ‫حل�ضارات جديدة‪ ،‬ومفاهيم �إن�سانية �أخرى عن‬
‫وم ْن �أقام له هذه ال ُع ُمد يف «�سمرقند»‪.‬‬ ‫«بن عبا�س»‪َ ،‬‬ ‫احلياة وال�سلوك‪ ،‬كان عام ًال �أ�سا�سي ًا يف تو�سيع‬
‫ر�أيت «مراك�ش» احلمراء‪ ،‬و«عدن» الك َْحالء‪،‬‬ ‫�ساحات نفوذه‪ ،‬وف�ضاءات انت�شاره‪ .‬هنا‪ ،‬ندرك‬
‫و«جيبور» اخلمرية يف �شمال الهند‪ ،‬واليوم‪� ،‬أرى‬ ‫ْ‬ ‫ب�سهولة كيف تك ََّيف الإ�سالم مع الواقع اجلديد‪ ،‬ومع‬
‫«�سمرقند» الزرقاء‪ .‬لون التوركواز الأزرق اجلميل‬ ‫الوقائع املختلفة‪ .‬كيف انت�رص على اجلمود الذي‬
‫هو الذي ي�سود يف ف�ضاء هذه املدينة ال�ساحرة‪ .‬وهو‬ ‫التم�سك به‪ْ � .‬أن‬
‫َّ‬ ‫مت‬
‫�سيح ُّد كثرياً من انت�شاره لو ّ‬
‫كان ُ‬
‫يزين الأ�رضحة وال�رصوح فيها‪ .‬الآن‪� ،‬أنا يف‬ ‫الذي ِّ‬ ‫جتمع اليوم بني القاهرة‪ ،‬ودم�شق‪ ،‬و�سمرقند‪ ،‬و� ْأغرا‬
‫يل «خوجا �أحمد» ال�سمرقندي‪� .‬إىل‬ ‫حرمة �رضيح الو ّ‬ ‫(حيث «تاج حمل » الرائع‪ ،‬يف الهند)‪ ،‬وحيدر �آباد‪،‬‬
‫ويكبون النقود فيه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�رضيحه‪ ،‬هذا‪ ،‬يحج الأوزبيك‪.‬‬ ‫وبانكوك‪ ،‬ونواك�شوط‪ ،‬وا�ستانبول‪ ،‬و داكار‪ ،‬و‪...‬‬
‫كما نفعل نحن يف «قرب ال�ست زينب» يف دم�شق‪� ،‬أو‬ ‫مثالً‪� ،‬ستفهم �أن الإ�سالم مل يكن ُجموداً(على العك�س‬
‫«احل�سني» يف القاهرة‪ .‬وقد ُدفِ ن هنا يف القرن الرابع‬ ‫تكيف ًا واختالفاً‪.‬‬
‫مما ُيراد له اليوم)‪ ،‬و�إمنا كان ُّ‬
‫ع�رش امليالدي‪ .‬وكان الويل« قا�سم بن عبا�س»‬ ‫«�شاه ِز ْن َد ْه» ( امللك احلي)‪� ،‬آية �أخرى من �آيات‬
‫الذي � ِأ�صلُ �رضيحه‪ ،‬للتو‪ ،‬هو � ْأ�صل ظاهرة الأولياء‬ ‫الروعة يف «�سمرقند»‪ .‬هو مثوى «ح�سان بن عبا�س»‬
‫ال�صاحلني التي انت�رشت يف �آ�سيا الو�سطى‪.‬‬ ‫الذي قطع «الزراد�شتيون» ر�أ�سه‪ ،‬و�ألقوه يف اجل ُّب‪.‬‬
‫يربد اجلو‪ ،‬فج�أة‪ ،‬يف «�سمرقند»‪ ،‬ويهطل املطر‪.‬‬ ‫لكنه «قام‪ ،‬واختفى‪ ،‬و�سيعود»‪ ،‬كما تقول الأ�سطورة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال �شيء يحول دون التم ُّتع بروعة هذه‬ ‫تزين‬‫�إنه «مهدي منتظر»‪� ،‬آخر‪� .‬ألوان‪ ،‬و�آيات قر�آنية‪ّ ،‬‬
‫‪221‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ضمخة بالنور‪�« ،‬سمرقند»‪ .‬حتى �أنك‬ ‫َّ‬ ‫منها‪ .‬مدينة‬ ‫املدينة ال�ساحرة ‪« :‬جوهرة ال�رشق»‪« ،‬مركز الدنيا»‪،‬‬
‫�رصت حتب �أن متوت فيها‪ .‬و�أ�سمع �رصير رئتيك‬ ‫«حتفة العامل الإ�سالمي»‪ ،‬كما ُت َ�س ّمى‪ .‬الآن‪ ،‬نبد أ�‬
‫تعب الريح الآتي من ال�رشق‪ .‬من �رشق بعيد‪ ،‬ن�سيته‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫زيارة «قرب الأمري»‪ .‬وهو حفيد «تيمورلنغ»‪ .‬وكان‬
‫كدت‪ .‬واقف ًا عند �أقدام املر�صد املهجور‪ ،‬ت َتال�شى‬ ‫�أو َ‬ ‫هي�ؤه خلالفته‪ .‬وقد مات يف احلرب‪ .‬فبنى له هذا‬ ‫ُي ِّ‬
‫قاوم‪.‬‬
‫يف َع َدم ال ُي َ‬ ‫القرب العجيب تخليداً لذكراه‪ .‬من هنا‪ ،‬نعود �إىل‬
‫عندما يكون الكائن حيادي ًا تبدو الأ�شياء بال معنى‪.‬‬ ‫جامع «بيبي خامن» يف قلب «�سمرقند»‪ .‬وهي زوجة‬
‫ويفقد التاريخ مزية �إغوائه‪ .‬يغدو �أحداث ًا مرتاكمة ال‬ ‫«تيمور لنغ»‪ .‬وقد بنى لها هذا اجلامع تخليداً حلبه‬
‫ال�شى‪� ،‬رسيعاً‪،‬‬ ‫وم ْن‪ ،‬وما‪ ،‬ال جوهر له‪َ ،‬ي َت َ‬ ‫تعني �أحداً‪َ .‬‬ ‫لها‪ ،‬كما فعل «�شاه جاهان» يف الهند‪ ،‬عندما بنى‬
‫يبقى له �أثر‪ .‬لكن احلياة التي ال ت�ستقيم بالوحدة‬ ‫وال َ‬ ‫حلبيبته «ممتاز حمل» يف مدينة «� ْأغرا»‪� :‬رصْ ح‬
‫والتجان�س‪ ،‬وال تتخلّى عن كونها متعددة امل�آرب‬ ‫«تاج حمل» اخلالد‪.‬‬
‫والأ�شكال‪ ،‬هي التي متنحنا طاقة االهتمام العميق‬ ‫ب‬ ‫الـم ْمطِ ر رائع هذا اليوم‪ .‬مِ َ‬‫�صباح «�سمرقند» ُ‬
‫مبا يجري حولنا‪ .‬وتنقذنا من االنغما�س املجحف‬ ‫مر به عندما يغرق‬ ‫يذكُّ رين؟ يتذكَّ ر املرء كل ما َّ‬
‫يف مثل هذه الإ�ضطرابات‪.‬‬ ‫يف الروعة‪ .‬العالمَ مليء بالأفانني البهية‪ ،‬وال‬
‫كنت �أريد �أن �أودعها‪� .‬أن �أو ِّدع «�أماكني» التي أ� ِلفْتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يحتاج الكائن �إىل طاقة عظمى الكت�شافها‪ .‬يكفي‬
‫�رسيع ًا يف «�سمرقند»‪ .‬لكن املطر الغزير �أوقفني يف‬ ‫�أن يت� َّأملها ب�شغف‪ .‬احلمقى‪ ،‬وحدهم‪ ،‬يعتقدون �أن‬
‫�شري‬
‫را�س ْه ْ‬ ‫�ساحة «راغي�ستان» العظمى‪ ،‬حيث «مِ ْد َ‬ ‫الروعة التي ال يعرفونها‪� ،‬أو مل يروا منها �شيئاً‪ ،‬غري‬
‫�رصت‬
‫ُ‬ ‫دور»‪� ،‬أو مدر�سة «الأ�سد الذهبي»‪ .‬ومن جديد‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫موجودة‪� ،‬أو هي حتتاج �إىل ج ْهد كبري لك�شفها! لكننا‬
‫�أتطلَّع حويل مذهوالً‪ .‬الرغبة يف اكت�شاف الأمكنة‬ ‫منذ �أن نرى الأمم والبلدان‪ ،‬و ُنل َْ�سع بال�سطوع وال�سحر‬
‫تحُ َ ِّر�ضني مثل طفل يريد �أن يكرب‪ .‬و�أبد�أ امل�سري‪.‬‬ ‫الذي خلَّفوه‪ ،‬ندرك كم نحن ُبلَداء‪ ،‬وبال معرفة‪ .‬و�أن‬
‫م�صحوب ًا باملطر والريح‪ ،‬م�شيت �شوارع «�سمرقند»‪،‬‬ ‫ذاكرتنا الب�رصية‪ ،‬والفكرية �أي�ضاً‪ ،‬حمدودة بحدود‬
‫وقفت �أمام متثال الغازي «تيمور لنغ»‪ ،‬جال�س ًا‬ ‫ُ‬ ‫�إىل �أن‬ ‫وخمولنا‪ .‬ويف هذه النقطة بالذات‪ ،‬نقطة‬ ‫بلداننا ُ‬
‫ب�أبهة يف قلب ال�ساحة‪� .‬سيفه العظيم م�سلول‪ .‬يح ِّدق‬ ‫االفرتاق احلا�سم عن البالدة والإكتفاء‪ ،‬تكمن �أهمية‬
‫يف الأفق بحدة مثل �صقر يريد �أن ينق�ض على الفراغ‪.‬‬ ‫ال�سفر‪ ،‬و�رضورة الرحيل‪.‬‬
‫يف عينيه رع�شة من عظمة الكون‪ .‬هو الذي قال‬ ‫الفلكي ال�شهري الذي بناه يف‬‫ّ‬ ‫اليوم‪ ،‬نزور املر�صد‬
‫‪«:‬العالمَ ال ي َّت�سع مللك نَْي»! وكانت «�سمرقند» �أو�سع‬ ‫�أعايل �سمرقند « �أولوغْ بيكْ » حفيد «تيمور لنغ»‪.‬‬
‫يح ْز على لقب الـ«خان» الذي كان‬ ‫من ذلك‪ .‬مات ومل ُ‬ ‫كان فلكي ًا �شهرياً‪ .‬جمع حوله م�شاهري علماء الفلك‬
‫يحلم به‪� .‬ساللة «جنكيز خان» الأعظم‪ ،‬ال ت�سمح ب�أن‬ ‫والنجوم‪ ،‬يف ذلك الزمان‪ .‬من �أعاىل ه�ضبة املر�صد‪،‬‬
‫يلوثها دم لي�س من �ساللة «اخلانات»‪ ،‬حقاً‪ .‬وكان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تبدو « �سمرقند» نائمة يف ال�ضوء‪ .‬منت�رشة فوق‬
‫هو‪ ،‬جمرد «قاطع طريق» طموح‪ ،‬ترك �أثره العميق‬ ‫القاع بهدوء‪ .‬متتد عماراتها حتى الأفق الغارق يف‬
‫على تاريخ القرون الو�سطى‪ .‬ومل ينفعه �إعالن نف�سه‬ ‫الفراغ‪ .‬يف قلبها‪ ،‬ق�صور«تيمور لنغ»‪ ،‬وال�رصوح‬
‫«ملك الكون»‪ .‬يا خليبته التي ال عزاء لها‪.‬‬ ‫التي �شيدها لأحبابه‪ ،‬تعلو مت�شاخمة نحو ال�سماء‪.‬‬
‫لآ�سيا الو�سطى �أ�رساها الكبرية‪ .‬و«�سمرقند» واحدة‬
‫‪222‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متى يختفي‬
‫الآخر مني ؟‬
‫عبد ال�ستار نا�صر‬
‫كاتب وقا�ص من العراق‬

‫والكذابني وال�شعراء وامل�شعوذين‪ ،‬وقبل �أن �أ�رشب‬ ‫جئت ب�أمرا�ضي جميعها‪ ،‬عربت بها القرن الع�رشين‬
‫ال�شاي �أرى نف�سي يف مقهى زهرة الب�ستان مع‬ ‫ودخلت القرن التايل وهي مت�شي وتنام معي‪،‬‬
‫مع�سل بالتفاح‪ ،‬و�أ�صحو وقت القيلولة ف�أرى‬ ‫�أرجيلة ّ‬ ‫�أع�صابي معطوبة برغم الثلج النازل حد الركبتني‪،‬‬
‫ج�سدي مبل ًال يف مقهى الرو�ضة يف دم�شق‪� ،‬أذهب‬ ‫اىل �أين‪ ،‬ومن �أين؟ ك�أنني �أكرث من واحد‪ ،‬عندما �أكون‬
‫اىل الطبيب امل�رصي فيقول‪ :‬البد من ق�سطرة القلب‬ ‫يف بريوت �أرى الآخر يف ال�شام‪ ،‬وحني �أعرب احلدود‬
‫وب�رسعة‪ ،‬وب�رسعة �أي�ض ًا دخلت عامل الأمرا�ض‪� ،‬شلل‬ ‫عمان‪� ،‬أنظر اىل‬‫اىل �أنقرة �أجد جواز ال�سفر ي�شري اىل ّ‬
‫يف املفا�صل‪ ،‬زيادة يف �إفراز الدهون‪ ،‬ماء ابي�ض يف‬ ‫�أختام الرحالت وال �أعرف حق ًا من الذي عافني‬
‫التبول‪ ،‬خلبطة‬‫ّ‬ ‫العينني‪� ،‬رسطان يتحر�ش بي وقت‬ ‫يف بغداد وجاء خلفي اىل القاهرة؟ يبدو �أنني �أكرث‬
‫يف الكول�سرتول‪ ،‬م�سامات ملتهبة ت�شبه املكرونة‪،‬‬ ‫من واحد‪ ،‬لي�س يف هذا �أدنى �شك‪� ،‬إنه اليقني الذي‬
‫قطعت ال�سنوات �إذا بها تقطعني ن�صفني‪ ،‬ويف الدار‬ ‫احتواين منذ اليفاعة وال�صبا‪� ...‬صحيح �أنني �أطوف‬
‫البي�ضاء �أم�ضيت الرحلة �أ�شكو من جلطة يف الدماغ‪،‬‬ ‫�أحيان ًا على حلم طري طازج‪� ،‬أرى نف�سي �أمرح‬
‫ثم �ضحكت مما �أنا فيه‪ ،‬ت�ساقطت �أ�سناين وقف�صي‬ ‫و�أ�رسح و�أذوب ع�شق ًا مع �شاكريا ومرة مع �رشيهان‪،‬‬
‫وتكومت العظام على بع�ضها‪ ،‬وبرغم ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ال�صدري‬ ‫�أو �ألعب كما الأطفال (عري�س وعرو�سة) والبقية ال‬
‫احل�ساد وت�شتغل النميمة ليل نهار‪.‬‬
‫ياكلني ّ‬ ‫حتتاج اىل تف�سري‪ ،‬لكنها حم�ض �أحالم �أ�صحو منها‬
‫�أنا �أكرث من واحد‪ ،‬مل �أجل�س يوم ًا يف تلك املقهى‬ ‫فال �أجد �رشيهان وال �شاكريا‪.‬‬
‫املطلة على �شارع الر�شيد‪ ،‬وال �أعرف �أديب ًا جهبذاً‪،‬‬ ‫املهم‪� ،‬أمرا�ضي معي تعرب القارات واملحيطات‬
‫رمبا ذهبت اىل القاهرة‪ ،‬لكنني مل �أدخن الأرجيلة يف‬ ‫والبحار وال�صحارى واجلبال والغابات‪� ،‬أعرف‬
‫زهرة الب�ستان وال اعرف الطريق اىل مقهى الرو�ضة‪،‬‬ ‫�أ�رسارها و�أخفي بع�ضها عن الن�ساء‪ ،‬ال �أك�شف‬
‫وقلبي (�صاغ �سليم) ولي�س من �أحد يح�سدين �أو‬ ‫�أمامهن عن العيوب والعاهات‪ ،‬بل �أترك ال�رس ينمو‬
‫ت�أكلني النميمة‪� ،‬أ�ستغرب من يقول ب�أين دخلت غرفة‬ ‫وينغر�س يف عظامي وتربتي و�أبكي وحدي وراء‬
‫الإنعا�ش �أ�شكو من جلطة يف الدماغ‪ ،‬لي�س من �شلل‬ ‫الأبواب‪ ،‬يبدو �أنني �أكرث من واحد‪ ،‬ف�أنا ال �أبكي‬
‫وال زيادة يف الدهون‪ ،‬من يتجر�أ ويقول هذا الهراء‬ ‫ول�ست �ضعيف ًا وال خائفاً‪ ،‬مع �أن ا�سمي هو نف�سه يف‬
‫و�أنا يف اح�سن حاالتي و�صحتي ال غبار عليها ؟‬ ‫كل مكان �أم�ضي اليه‪ ،‬والثلج ال يزال يت�ساقط حد‬
‫�شاطر يف �صاالت القمار‪� ،‬شاطر يف البالك جاك‪،‬‬ ‫الركبتني و�أمرا�ضي مازالت تنمو مثل �شجرة‪.‬‬
‫�أعرف متى ي�أتي الرقم (زيرو) ومتى يبزغ اللون‬ ‫ثمة مقهى يف �شارع الر�شيد �أجل�س فيه‪ ،‬ي�أتي �إليها‬
‫الأ�سود على الطاولة اخل�رضاء‪� ،‬شاطر‪� ،‬أعرف متى‬ ‫جهابذة الفن والرواية والغناء‪� ،‬شلة من العباقرة‬
‫‪223‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يقفز التاريخ من ال�سبت على جمجمة الأحد‪ ،‬و�أنا‬ ‫تده�سني �سيارة �أجرة وت�شطرين اىل �أجزاء‪� ،‬شاطر يف‬
‫ال �أحد يعرف عني �أي �شيء �سوى ما قلته وما‬ ‫اخل�سارة‪� ،‬شاطر يف احلب‪� ،‬شاطر يف احلنني �أذرف‬
‫كتبته‪ ،‬وهو قليل �إزاء ما �أخفيته‪ ،‬قليل جداً‪ ،‬انتقمت‪،‬‬ ‫الدموع على بلدي‪ ،‬ماذا حل به؟ كرث الذين ي�ضعون‬
‫و�أنا يف حالة الغليان‪ ،‬من كل من �سكب ال�سم يف‬ ‫ال�سكاكني يف دربه املزحوم بالأ�شواك‪ ،‬الكالب‬
‫�رشابي‪ ،‬دون �أن يدري ب�أنني �أعطيته الك�أ�س نف�سها‬ ‫ال�سلوقية باملر�صاد‪ ،‬تنه�ش به ثم تختفي لت�أتي‬
‫واكتفيت بالع�سل‪� ،‬أتعامل مع النا�س بن�صف ذكائي‬ ‫وتنه�ش ثانية‪ ،‬و�أنا �أت�شظى مثله اىل �أجزاء‪ ،‬جنوب ًا‬
‫والن�صف الثاين �أحفظه للطوارىء‪ ،‬وهكذا متكنت من‬ ‫و�شماالً‪ ،‬بينما اجلزء الثالث يئن يف مكان القلب‬
‫البقاء حي ًا برغم جميع �أمرا�ضي‪ ،‬االحتفاظ بن�صف‬ ‫يحتاج اىل ق�سطرة كما فعلوا معي‪ ،‬واجلنوب‪ ،‬عيني‬
‫الذكاء لعبة خطرية‪ ،‬قد متوت و�أنت يف �أول الطريق‪،‬‬ ‫على اجلنوب‪� ،‬أ�رصخ عالي ًا �أن يحفظه اهلل‪� ،‬إذا راح‬
‫ت�أخذك املخابرات مث ًال و�أنت مازلت مكابراً �أنك‬ ‫اجلنوب راح عقلي‪ ،‬وال�شمال‪ ،‬ربيع البالد‪ ،‬يرتب�ص‬
‫�ستنجو منهم‪ ،‬متر الأيام وال فائدة‪ ،‬تلعب مع الوقت‬ ‫به العثمانيون منذ مئات ال�سنني‪.‬‬
‫واملخابرات تلعب �أي�ضاً‪ ،‬وما الفائدة؟ حتى �إذا كنت‬ ‫و�أنا بني اجلنوب وال�شمال مازلت يف منطقة القلب‪،‬‬
‫�أكرث من واحد كما تقول‪ ،‬ماذا �ستفعل و�أنت وحدك‬ ‫�أكرث من واحد‪� ،‬أم�شي حماذاة الفرات وي�ضحك يل‬
‫يف غرفتك؟ غرفة حتت الأر�ض ال �أحد ي�سمعك وال‬ ‫دجلة‪ ،‬ماذا �أفعل ب�أمرا�ضي وهي تت�شعب وتزداد‬
‫�أحد يراك‪ ،‬غرفة انفرادية ال ينفع معها ال�رصاخ او‬ ‫وتهبط فوق جلدي‪ ،‬ترتاكم يف ج�سد نحيل‪ ،‬بينما‬
‫طلب النجدة‪ ،‬هناك �ستكون النهاية‪� ،‬إذ لي�س من‬ ‫�أوالد الزنا ميرحون قرب ر�أ�سي ور�أ�سي يتحرك يف‬
‫املعقول �أن تكون يف �سجن املزة و�أنت يف قلعة (�أبو‬ ‫�أكرث من مكان‪ ،‬لي�س من �شيء ثابت‪ ،‬عظامي تتك�رس‪،‬‬
‫غريب) مثالً‪...‬‬ ‫�أهلكني داء ال�سكري ورافقني ال�رصع وال �أدري متى‬
‫‪jjj‬‬ ‫يوقعني �أر�ضاً‪ ،‬والكوابي�س ت�شذب �أظافري وقيا�س‬
‫منذ خم�سني عام ًا و�أنت تراقب �أفعالك‪� ،‬أنقذك القدر‬ ‫ال�ضغط ي�شري اىل �رضورة ال�سفر نحو الثلج بني‬
‫وطاوعتك الطبيعة‪ ،‬هذا حالك منذ خروجك من‬ ‫الغابات‪ ،‬وهكذا م�ضيت اىل باري�س وبكيت فرح ًا‬
‫هناك وقبل ذهابك �أي�ضاً‪ ،‬كثرياً ما راقبوك‪ ،‬يبحثون‬ ‫و�أنا �أم�شي يف ال�شانزليزيه‪ ،‬ثم غادرتها اىل بالد‬
‫عن احلقيقة بني �أحرا�شك و�أ�رسارك‪� ،‬أنت اللغز بينهم‪،‬‬ ‫الثلج يغمرين ويغمرها ومل �أمت‪ ،‬دخلت حي �سوهو‬
‫مع انك �أكرثهم و�ضوحاً‪ ،‬كثرياً ما خدعوك مع‬ ‫ور�أيت كولن ويل�سون‪� ،‬أخذت القطار اىل �أبعد نقطة‬
‫�أنك �أول من اكت�شف خبثهم وطعناتهم من اخللف‪،‬‬ ‫يف �أوروبا ال�رشقية ور�أيت نف�سي يف بوداب�ست‪،‬‬
‫�ضحكت منهم ومن �سكاكينهم‪� ،‬ضحكت كثرياً‪ ،‬حيث‬ ‫ماذا �أفعل؟ �أمرا�ضي مازالت ترتاكم‪ ،‬مع �أنني �أمتتع‬
‫تعود الطعنات اىل نحورهم و�أيديهم تلتف حولهم‬ ‫باحلانات يف وار�سو و�ألتذ باملواخري يف الرباط‪ ،‬مع‬
‫وتطعنهم واحداً واحداً‪ ،‬جئت ب�أمرا�ضي ودخلت‬ ‫�أن امل�سافة بينهما �أطول من ن�صف الكرة الأر�ضية‪،‬‬
‫القرن اخلط�أ بعد �أن غادرت القرن الع�رشين يف �آخر‬ ‫وما الغرابة‪ ،‬ف�أنا �أكرث من واحد يف كل زمان ومكان!‬
‫عام منه‪ ،‬نظرت اىل نف�سي‪ ،‬اىل ال�سنوات البطيئة‪،‬‬ ‫‪jjj‬‬

‫نظرت اىل روحي التائهة‪ ،‬نظرت اىل ال�سماء جنوم ًا‬ ‫تعلمت من �أمرا�ضي ال�صرب‪ ،‬وتعلمت من ال�صرب‬
‫ونيازك وتذكرت �سمائي‪ ،‬تذكرت �أ�صابعي التي‬ ‫املكابرة على جروحي‪ ،‬وتعلمت من املكابرة‬
‫�أتعبتها يف الكتابة‪ ،‬الكتب التي تناثرت حويل حتى‬ ‫الكتمان‪ ،‬وتعلمت من الكتمان ال�صرب على �أمرا�ضي‪،‬‬
‫�أغرقتني‪ ،‬نظرت اىل �أ�صابع اليد اليمنى‪ ،‬قبلتها‪،‬‬ ‫وهكذا �أدور يف حلقة مفرغة‪ ،‬منذ القرن الع�رشين‬
‫�أقد�سها‪ ،‬لهذا جاء من ي�سحقها‪ ،‬مرة يف �أقبية‬ ‫حتى هذا اليوم ال�سابع من حزيران‪ ،‬هو نف�سه‬
‫املخابرات‪ ،‬مرة ب�سيارة �أجرة‪ ،‬ومرة من احلب‪ ،‬كنت‬ ‫يتكرر كل عام ي�ؤكد ميالدي يف الثانية لي ًال حيث‬
‫‪224‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خمذول يف �صحوي ويف نومي‪� ،‬أهذا �أنا �أم الآخر‬ ‫�أغازل البنات فارعات الطول ب�أ�صابعي‪� ،‬أ�صابع اليد‬
‫الذي يختفي حني �أظهر والذي يظهر حني ينام؟‬ ‫اليمنى‪ ،‬والآن ال �أدري ماذا حل بها‪� ،‬أ�صابعي‪ ،‬مع‬
‫حلم فا�سد يبعرثين يف �أكرث من طريق بينما �أبحث‬ ‫�أنها ما زالت تكتب‪ ،‬ماذا تكتب بعد �أن حلت �أمرا�ضي‬
‫مل �أزل عن الآخر حتى تهر�أت ثيابي‪ ،‬قمي�صي‬ ‫يف ج�سدي طو ًال وعر�ضاً؟ هل ي�شفقون على �أ�صابعي‬
‫مهلهل ك�أنني دخلت حرباً‪ ،‬والرمال �أطم�س فيها‬ ‫وعلى ما تكتبه بعد هذا العمر العليل؟ كال‪� ،‬أنا �أكرث‬
‫حتى عنقي‪ ،‬عليل منذ طفولتي تالحقني النك�سات‪،‬‬ ‫من واحد‪ ،‬لن يخدعني �أحد‪ ،‬ومل �أكن اللغز بينهم‪ ،‬ال‬
‫بينما الآخر الذي هو مني ما زال �أنيق ًا مرتاح البال‪،‬‬ ‫�ش�أن للقدر يف �أفعايل ومل تفر�ض الطبيعة �سطوتها‬
‫ي�سمع الأغاين ويطرب حتى الثمالة‪ ،‬ال ي�رشب غري‬ ‫علي‪ ،‬اع�صابي على حالها‪ ،‬هادئة منت�رصة يف وجه‬ ‫ّ‬
‫بالك ليبل‪ ،‬واجلواري ي�رسحن حوله ويرق�صن‪� ،‬أهذا‬ ‫الريح‪ ،‬هل قر�أمت (حياتي يف ق�ص�صي)؟ �ستعرفون‬
‫�أنا ام الآخر الذي يختفي حني �أظهر والذي يظهر‬ ‫�إذن ملاذا �أكتب عن �أبطايل و�أبد�أ (مني)‪ ...‬كل واحد‬
‫حني �أختفي؟ الآخر يعذبني ب�سعادته‪ ،‬و�أنا �أتك�رس‬ ‫هو �أكرث من واحد‪� ،‬أنا‪ ،‬ال �أحد ي�ستحق البطولة �سواي‪،‬‬
‫بذاكرتي‪ ،‬عندما ذهبت اىل روما كان هناك خلفي‬ ‫ال �أعرف غريي بط ًال للق�صة‪ ،‬ومتى انتهيت مني‬
‫يراقبني‪� ،‬أنا حزين مع �أنني يف �أجمل بقاع الأر�ض‪،‬‬ ‫�س�أبد�أ فوراً بغريي‪ ،‬هذا هو العدل‪� ،‬أنا ثم الأقربون‬
‫بينما (هو) ي�رشب ويرق�ص ويغازل �أحلى البنات‪،‬‬ ‫الذين هم �أوىل باملعروف‪.‬‬
‫لكنه يظهر حني �أختفي وال �أدري كيف �أ�صطاده‬ ‫‪jjj‬‬

‫و�أم�سك به‪ ،‬فما كان مني غري الهجرة نحو ال�صحراء‪،‬‬ ‫�صحوت يف ليل دام�س‪ ،‬م�سكت �أ�صابعي‪ ،‬كنت �أخاف‬
‫هناك حيث ال �أحد ميكنه االختباء وراء الرمال‪،‬‬ ‫عليها‪ ،‬هي كنزي الذي‪ ...‬وحياتي معاً‪ ،‬بينما ترك�ض‬
‫�إذا جاء �سوف �أهبط عليه قبل �أن يفكر بالنجاة‪ ،‬ال‬ ‫بي �أمرا�ضي بني املحيطات والغابات‪ ،‬من م�شفى‬
‫�أريد �أن �أكون �أكرث من واحد‪ ،‬يكفيني(�أنا) يف حزين‬ ‫اىل م�شفى‪ ،‬ومن نهر هنا اىل بحر هناك يغطي‬
‫وم�رستي‪� ،‬أريد �أن �أكون وحدي يف املكان الذي �أنا‬ ‫عورتي ب�أوراق التوت‪� ،‬أ�صابعي ترجتف �إذا �شعرت‬
‫فيه‪ ،‬وحدي يف �صحوي ونومي‪ ،‬وحدي يف بغداد �إذا‬ ‫باخلطر‪ ،‬كما الكلب يتح�س�س الكوارث قبل حدوثها‪،‬‬
‫ما عدت اليها ذات عام‪ ،‬وحدي يف زهرة الب�ستان‬ ‫�أنا الكلب الويف يف عامل خبيث يدور حويل‪� ،‬أنا‬
‫�إذا �أينعت‪ ،‬وحدي يف دم�شق احللوة‪� ،‬أكرث من واحد‬ ‫�أح�سد كالب العامل منفو�شة ال�شعر ق�صرية الأطراف‬
‫حمنة كربى ال يعرفها �إال من ابتلي بها‪ ،‬ال �أريد‬ ‫تعرب ال�شوارع قبل �صاحبها خوف ًا عليه‪ ،‬ترق�ص �إذا‬
‫البقاء يف املحنة‪ ،‬قد �أحلم حلم ًا ال ي�شاركني �أحد‬ ‫حل الفرح وتبكي �إذا بكى �أهل بيتها‪� ،‬أنا هذا الكلب‬
‫فيه‪ ،‬رمبا �أطرق الباب على �رشيهان‪ ،‬تفتح الباب يل‬ ‫بامتياز‪� ،‬أحمل بع�ض �صفاته وال �أعرب ال�شوارع �إذا‬
‫وحدي‪ ،‬وقد �أرق�ص مع �شاكريا‪� ،‬أرق�ص معها وحدي‪،‬‬ ‫كانت الإ�شارة تقول(قف)‪...‬‬
‫وحني �أ�ستيقظ من نومي �أكون قد �صحوت وحدي‪ ،‬ال‬ ‫هذا ما حل بي ذات ليل دام�س‪� ،‬أحت�س�س �أ�صابعي‬
‫�أريد البقاء يف املحنة‪.‬‬ ‫و�أمتنى �أن �أكون كلب ًا مدل ًال منفو�ش ال�شعر ق�صري‬
‫‪jjj‬‬ ‫الأطراف‪� ،‬أن �أكون كلب ًا جميل الطلعة ينام يف مونت‬
‫رجعت اىل الوراء‪ ،‬كل �شيء معقول‪ ،‬ذاكرتي وا�سمي‬ ‫كارلو وي�صحو يف �شمال �أوتاوا‪ ...‬هناك �أت�ساءل‪:‬‬
‫وميالدي والآخر الذي هو مني‪ ،‬درب �شائك ميتد من‬ ‫متى �أرى الآخر مني؟ �أعني كيف �أرى الآخرين‬
‫�آه و�أنني اىل ذرف الدموع‪ ،‬مل �أعد �أطمح يف امل�رسات‪،‬‬ ‫الذين يف داخلي والذين يرف�ضون اخلروج؟ ي�أتون‬
‫يكفيني ما �أنا فيه‪ ،‬ير�ضيني ما جرى برغم ق�سوته‪،‬‬ ‫يف �أحالمي كما ال�رساب‪� ،‬أ�صحو فال �أرى غري بقايا‬
‫ير�ضيني ما تبقى من عمري مهما كان فاجعاً‪،‬‬ ‫هزائم �أتال�شى بعدها يف حلم م�سعور �آخر ينه�ش‬
‫�س�أرى كيف ينقلب العامل من �شمال اىل جنوب اىل‬ ‫بي‪� ،‬أمتاهى مع تلك الأحالم و�أنكم�ش خائف ًا منها‪،‬‬
‫‪225‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و�ألتذ بالثلج و�أرق�ص طرب ًا يف الف�صول كلها‪� ،‬أنا‬ ‫�رشق بال غروب‪� ،‬أريد ر�ؤية النيازك تهبط وحترق‬
‫كما ت�شري �شهادتي (عراقي قح) من ر�أ�سي حتى‬ ‫الأول والتايل‪ ،‬وقد نزلت‪� ...‬أريد ر�ؤية القادة يتخلون‬
‫�أ�سفل جن�سيتي‪ ،‬لي�س من �أحد بعد الآن ميرح قرب‬ ‫عن كرا�سيهم بعد �أن م�سكوا بها دهراً م�ستطريا‪ ،‬وقد‬
‫ر�أ�سي وال �أ�شكو من داء ال�سكري‪ ،‬لقد انت�رصت على‬ ‫ذهبوا‪� ،‬أريد ر�ؤية نف�سي يف مكانها دون الآخر الذي‬
‫�أمرا�ضي بال�صرب عليها‪� ،‬أنقذين القدر وطاوعتني‬ ‫هو مني‪ ،‬ورمبا ي�أتي اليوم الذي �أحترر فيه من‬
‫الطبيعة‪ ،‬القرن احلادي والع�رشون مي�شي معي‪،‬‬ ‫قيودي ومن عتمة الطريق الذي �أم�شيه‪ ،‬ال �أريد �أي‬
‫ن�سهر مع ًا حتى ال�صباح ونحت�سي اخلمرة يف �صحة‬ ‫�شيء بعد الآن غري �أن مي�ضي الآخر يف ذاك الطريق‬
‫�آخر الق�ص�ص‪ ،‬ما زلت �أح�سد الكالب املدللة منفو�شة‬ ‫املعتم ويرتكني �أعي�ش حياتي‪� ،‬أو ما تبقى منها‪...‬‬
‫ال�شعر ق�صرية الأطراف تنام يف باري�س وفانكوفر‪،‬‬ ‫�أظنني بعد هبوط النيازك وبعد �أن تخلى القادة عن‬
‫و�أمتنى �أن �أكون كلب ًا منفو�ش ال�شعر ق�صري الأطراف‬ ‫كرا�سيهم‪ ،‬غادرتني �أمرا�ضي‪� ،‬أع�صابي باردة �شتاء‬
‫�أعي�ش يف هاملتون‪ ،‬لن يعذبني �أحد بعد اليوم ولن‬ ‫و�صيفاً‪ ،‬مل �أعد �أكرث من واحد‪ ،‬عندما �أكون يف بغداد‬
‫تالحقني الهزائم والنك�سات‪ ،‬لقد انتهيت متام ًا من‬ ‫�أنا يف بغداد فعالً‪ ،‬وعندما �أدخن الأرجيلة يف زهرة‬
‫الآخر الذي هو مني‪ ،‬ر�أيته‪ ،‬مل �أفعل �أي �شيء‪ ،‬ر�أيته‬ ‫الب�ستان ف�أنا وحدي يف تلك املقهى‪ ،‬حني �أحلم‬
‫بقوة ومل �أفعل �أي �شيء‪� ،‬إنني �أعي�ش حياتي بهدوء‪،‬‬ ‫ب�شاكريا �أو �رشيهان فهو حلم يخ�صني وحدي وال‬
‫�أو ما تبقى منها‪.....‬‬ ‫ي�شاركني �أحد فيه‪ ،‬يهبط الثلج وي�صل حد الركبتني‪،‬‬
‫ال فرق بني ربيع وخريف‪ ،‬املهم �أنني وحدي‪� ،‬أمتتع‬

‫من �أعمال الفنان �أحمد جعبوب ‪ُ -‬عمان‬

‫‪226‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫حياة حُم َتملة‬
‫(ما ي�شبه ال�سرية)‬
‫فاروق يو�سف‬
‫�شاعر وكاتب من العراق يقيم يف ال�سويد‬

‫وكثافة وقوة الت�أثري املطلوب‪« .‬الن�ساء مياالت �إىل‬ ‫ال يزال يف �إمكانه �أن يرى‪�« .‬سعادتك مبهمة» قالت‬
‫ال�سعادة» وهن لذلك يف حاجة �إىل من يتخيل لهن‬ ‫املر�أة وهي تهم بتقبيله‪« .‬اح�سنت اللعب مباء الذهب‬
‫ال�سعادة‪ .‬من يدخل بهن �إىل فرادي�س وهمية‪« .‬كل‬ ‫ال�صباحي‪ ،‬لن يكون نهارك ثقيال» قال لنف�سه وهو‬
‫فردو�س هو وهم» كانت يدي تقول كلما بد�أت بحراثة‬ ‫يعيد تركيب تفا�صيل وجه املر�أة كما لو �أن ذلك‬
‫�أر�ض جديدة‪ .‬قارات خمتلفة‪ :‬ن�رضة ومع�شو�شبة‬ ‫الوجه قد طلع فج�أة من ف�ضاء‪ ،‬ما حتته ماء وما‬
‫ومل�ساء وملتوية ومكتظة وعاكفة على لوعتها‪ .‬كل‬ ‫فوقه ماء‪ .‬ينتج فعل النظر رغبة يف التعرف من‬
‫ج�سد هو قارة‪ .‬يقول لكي يكف عن اال�ستفهام‪ .‬يكفي‬ ‫جديد‪� .‬ضحكت املر�أة بعد �أن ر�أته يحدق بها بطريقة‬
‫�أن يكون املرء يائ�سا لكي يعرث على الر�ضا‪.‬‬ ‫م�ستفهمة‪« .‬ال �شيء‪ ،‬هكذا‪ ،‬ك�أنك �آخر» �شعر يف‬
‫حني �شعر �أن �صورته العابرة هي �أف�ضل ما ميلك‬ ‫جملتها نوعا من الإطراء على فكرة �أن يكون موجودا‬
‫جعل من االرتباك ا�سلوب حياة‪ .‬تذكر �أنها و�صفة‬ ‫معها بهذه الطريقة ال ب�سواها‪ .‬تكفيه ما لديه من‬
‫نيت�شوية من �أجل �أن تقع املر�أة على �شيء من قوة‬ ‫�أ�سباب لل�سعادة‪� .‬ضوء النهار‪� ،‬أنا�شيد الطيور‪ ،‬هبوب‬
‫�أنوثتها‪ .‬يف �أعماق الك�أ�س �صور �شتى‪ .‬تتحرك‬ ‫الريح‪ ،‬املطر الناعم‪ ،‬الأع�شاب اخل�رضاء‪ ،‬وجوه‬
‫لتت�صادم كما تفعل الكلمات‪ .‬بني ما قيل وما مل‬ ‫النا�س‪� ،‬سيقان الن�ساء‪ ،‬عربات الت�سوق‪� ،‬أديث بياف‪،‬‬
‫يقل بعد‪ ،‬بني ما ن�سيناه وما عرثنا عليه بال�صدفة‪،‬‬ ‫القناطر اخل�شبية‪ ،‬البط يف البحرية‪ .‬يده بيدها فيما‬
‫بني ما ي�شد �أع�صابنا �إليه وما مي�سنا بخفة قدمي‬ ‫عطرها ينزلق �إىل �صدره‪ .‬العامل هادئ من حوله‪.‬‬
‫ع�صفور‪ .‬الكلمات ال ت�ؤنث بقدر ما ت�ستدعى �شفقتها‪.‬‬ ‫ال �أحد يعرف �أحدا يف هذه البقعة النائية‪ .‬الغرباء‬
‫كل كلمة هي نظرة �إ�شفاق‪( .‬الكلمة الطيبة �صدقة)‬ ‫يخرتعون بلدا‪ .‬وهو البلد الذي ال ميلكه �أحد‪ .‬يف‬
‫نبوءة م�ؤجلة بالرغم من �أنها ممكنة يف كل وقت‪.‬‬ ‫�إمكان �أي واحد منهم �أن يقول‪« :‬هذه جزيرتي»‪.‬‬
‫�أحيانا يق�ضي املرء حياته وهو يبحث عن تلك‬ ‫حينها تذكر �أغنية تقول ‪« :‬هذه ليلتي» كان يفكر‬
‫الكلمة‪� .‬أقول «�أنا حر» يالها من جملة حائرة! من‬ ‫مب�ستويات ال�رسد اجلن�سي التي تنطوي عليه تلك‬
‫الذي يدفع ثمن تلك احلرية؟ املكان البعيد الذي ما‬ ‫اجلملة‪ .‬كما تخيلها يوم كان مراهقا‪ .‬ال�رسير‬
‫فتئت �أ�سري �إليه منذ �سنوات من غري �أن �أملح �أية �إ�شارة‬ ‫الأبي�ض والو�سائد املرتفة بري�شها‪ .‬ما انبعثت النار‬
‫ت�ؤكد �أنني �أم�شي يف الطريق ال�صحيحة‪ .‬ي�سليني‬ ‫يف يده �إال بعد �أن تعلمت تلك اليد الكالم‪ .‬لقد �صارت‬
‫العثور على مكان �صغري‪ .‬مكان يت�سع مبا ينتج عنه‪.‬‬ ‫تهوى الكالم‪ ،‬بل الرثثرة املاكرة‪� .‬إذا �سافرت ي�سافر‬
‫بفعل ال يكون متقنا دائما غري �أنه يحر�ص على �أن‬ ‫معها كالمها‪ .‬ال ي�ضجرها تكرار املعاين فهي تتقن‬
‫ال يكون معادا‪ .‬مر�آة ذاته‪.‬‬ ‫اللعب بالأ�شكال‪ .‬دائما هنالك �شكل يتنا�سب وحجم‬
‫‪227‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بارعتني‪ .‬غري �أين يف تلك اللحظة كنت يف مكان �آخر‬ ‫يف (الفحي�ص) وهي بلدة �أردنية �أقمت �أياما يف‬
‫بعد �أن ن�سيت �أنني قد فعلت كل �شيء من �أجل �أن‬ ‫حمرتف ر�سام �صديق‪ .‬كان ذلك املحرتف بنوافذه‬
‫نكون موجودين بتلك الطريقة‪ .‬كان املكان الوا�سع‬ ‫الكبرية يطل من كل جوانبه على م�شاهد طبيعية‬
‫بكل ترفه ي�ضيق بي فحر�صت على �أن ال �أنظر �إىل‬ ‫خارقة اجلمال‪ .‬فكنت كل �صباح احتاج �إىل حلظات‬
‫عينيها‪ .‬نبيلة كانت حني �سمحت يل بالفرار‪ .‬وحني‬ ‫يقظة لكي �أتاكد من �أنني �أقيم بني جدران �أربعة‬
‫قبلتني و�أنا �أودعها عند بوابة الفندق‪ ،‬قب�ضت على‬ ‫تف�صلني عن الطبيعة‪ .‬حملت عزلتي يومها �إىل‬
‫يدي وقبلتهما‪« .‬لقد انتهيت» قلت لنف�سي «لتذهب‬ ‫خميلتي �أفكارا فريدة من نوعها عن لذة العي�ش‬
‫�إىل �رسيرها منت�رصة» ولكن هل ذهبت حقا‬ ‫وحيدا‪ .‬لي�س هنالك يف تلك القرية من يعرفني‪.‬‬
‫منت�رصة؟ الآن بعد ع�رش �سنوات من تلك الواقعة‬ ‫ذات م�ساء قدم �صاحبي الر�سام ومعه فتى وفتاة‬
‫�رصت �أتخيل قبلتها التي تركتها على يدي نوعا من‬ ‫فل�سطينيان‪ .‬ن�رشت تلك الفتاة املرحة �شيئا من‬
‫ا�ستعادة الكرامة املهانة‪ .‬لقد قالت يل �شيئا خمتلفا‪.‬‬ ‫�أنوثتها يف املكان‪ .‬وهو ال�شيء الذي �صار يذهب‬
‫رمبا هو ال�شكر ورمبا هو اللعنة‪�« .‬سعادتك مبهمة»‬ ‫معي �إىل النوم كل ليلة‪ .‬ذهبت الفتاة غري �أنها تركت‬
‫تقول يل «يف هذه اللحظة �أنا موجود يف �أماكن‬ ‫ل املكان‪ .‬يومها اعتقدت �أن ذلك يكفي‬ ‫�ضحكاتها مت أ‬
‫�شتى‪ ،‬هل ت�صدقني؟» ال يت�سع �إناء الرباءة للندم‪ .‬ما‬ ‫�سببا للكتابة‪ .‬لدي م�صباح يكفي لكي �أرى من خالله‬
‫�أن ينقطع احلبل ال�رسي حتى تكون الرباءة نوعا من‬ ‫الأ�شباح‪� .‬أرفع وجهي عن الورقة ف�أرى تلك الأ�شباح‬
‫ما�ضي الفرد‪ .‬ل�سنا �أبرياء بالرغم من �أن ب�صمات‬ ‫وهي تتجول من حويل‪ .‬كانت تلك ال�صور تخرج من‬
‫�أ�صابعنا مل تكت�شف يف مكان اجلرمية‪.‬‬ ‫قاع الك�أ�س لتقفز �إىل الف�ضاء الذي يحيطني بزرقته‪.‬‬
‫«ل�ست م�س�ؤوال عما جرى قبل والدتي» يقول املرء‪،‬‬ ‫«�أنت واحدة منهن‪ ،‬بل كلهن» املر�أة ال تنتظر طويال‪.‬‬
‫ولكنه ي�صمت حني ي�س�أل «ولكن هل �ستكون م�س�ؤوال‬ ‫�إنها تقيم يف حلظة نادرة‪ .‬حلظة ما قبلها خواء‬
‫عما جري بعد والدتك؟» فعل النظر يديننا‪« .‬هو‬ ‫وما بعدها ف�شل‪ .‬وهي حلظة تنتمي �إىل عامل الغيب‪.‬‬
‫الذي ر�أى» جلجما�ش‪ ،‬ربيب الآلهة‪ ،‬كان �سيد الفتنة‬ ‫فج�أة ميتلئ املكان بالأ�صوات التي ميكن االهتداء‬
‫التي �أودت به‪ .‬لقد ر�أى مثلما ر�أينا غري �أنه ذهب‬ ‫�إىل م�صدرها بي�رس‪ :‬ج�سد امر�أة بعينها ال �سواها‪.‬‬
‫لكي يكون ا�سطورة فيما قررنا �أن نكتفي بفعل‬ ‫�أجرا�س وكمنجات و�أبواق وطبول‪ .‬كل ع�ضو يف‬
‫النظر‪ ،‬م�شاهدين ال هم لهم �سوى متابعة الوقائع‪.‬‬ ‫املر�أة ي�صدر �صوتا معينا‪�« .‬سمعنا و�أطعنا» ال تكفي‬
‫حني غادرت العراق �آخر مرة كنت على يقني من‬ ‫تلك اجلملة‪ .‬هناك ما تنتظره املر�أة‪ .‬وهو ما ال يجر ؤ�‬
‫�أن عودتي �إليه لن تكون مي�رسة‪ ،‬لذلك كنت �أردد‬ ‫على القيام به �أي رجل‪.‬‬
‫«م�شيناها خطى كتبت علينا‪ /‬ومن كتبت عليه‬ ‫قال يل �صديقي اللبناين «لقد �سالت �شهوتها بني‬
‫خطى م�شاها» كل ما فعلته فيما بعد هو نوع من‬ ‫�أقدام احلا�رضين يف القاعة‪ .‬فعلت ح�سنا و�أنت‬
‫التنويع على ذلك البيت ال�شعري‪ .‬يف كل بقعة كانت‬ ‫ت�أخذها بعيدا» وهو يتذكر تلك املر�أة التي �أخذتني‬
‫هناك خطوة ت�سبقني‪ .‬هي خطوتي التي مل �ألقها‬ ‫ب�سيارتها ذات ليلة �إىل حمرتفها لرتيني اعمالها‬
‫بعد‪ .‬وبعد �أن �رصت م�ؤمنا �أن املنفى �صار قدري‬ ‫النحتية‪« .‬هناك برية يف الثالجة» «ال �أحب البرية»‬
‫�رصت �أتفح�ص خطواتي بعمق‪ .‬مل يعد لدي ما �أجل�أ‬ ‫«هناك وي�سكي �أي�ضا»‪ .‬مل �أ�رشب‪ .‬قبل �أن �أرى ذلك‬
‫�إليه �سواهن‪�« .‬صديقي الوحيد» تقول يل زوجتي‬ ‫الق�ضيب املنحوت من الربونز كنت قد �أدركت‬
‫ف�أملح يف عينيها �أ�شباحا‪« .‬ع�شنا ملوكا» «ولن‬ ‫�أين قد وقعت يف امل�صيدة التي ن�صبتها لنف�سي‬
‫نكون الجئني كما يرغبون» منذ �سنة املنفى الأوىل‬ ‫مبرح ا�ستثنائي‪ .‬كانت تلك املر�أة املتزوجة تعي�ش‬
‫فهمت �أن الوظيفة غري الإن�سان‪ .‬لي�س �رشطا على‬ ‫خيال تلك اللحظة النادرة التي التقطتها �أنا بيدين‬
‫‪228‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املكان غري املن�سجمة مظهريا‪ ،‬لندرك بعدها �أن‬ ‫من يقابلك بلطف يف وظيفته �أن يكون لطيفا معك‬
‫هناك نغما واحدا يغلف �أعماقها‪ .‬هناك مواقع‬ ‫حني يراك يف ال�شارع‪ ،‬بل �أنه قد ي�ستهجن بعينيه‬
‫ناعمة و�أخرى خ�شنة‪ .‬وهناك ما ننعم بالطم�أنينة‬ ‫جلو�سك يف املقهى الذي يجل�س فيه‪ .‬العن�رصية‬
‫حني النظر �إليه وهناك ما ي�سبب لنا الفزع‪ .‬لي�س يف‬ ‫هي در�س ينبثق من املكان �أي�ضا‪ .‬ليت الن�ساء‬
‫�إمكاننا �أن نتعلم فن ال�صمت الذي هو �ضالة جمالية‬ ‫اللواتي �أحببتهن يح�رضن هنا لنحتفل بالنهايات‪.‬‬
‫و�أخالقية ما مل ننهمك يف تفكيك �أ�رسار ذلك ال�سطح‬ ‫للحرية ثمنها دائما‪ .‬يقول املرء لنف�سه بزهو «لقد‬
‫الذي يطيح بهد�أتنا الب�رصية‪ .‬حني يكون يف �إمكاننا‬ ‫جنوت» غري �أن �س�ؤاال من نوع «من �أين �أتيت؟» هو‬
‫�أن نرى الكلمات فان ذلك يعني �أن الطريق �صارت‬ ‫مبثابة امل�سمار الذي يثقب قارب النجاة‪ .‬متتزج‬
‫�سالكة امامنا‪ .‬فالكلمة التي ترى هي حروفها وهي‬ ‫احلرية ب�شعور مرير بالإحباط‪�« .‬أنت الجئ �إذن»‬
‫امل�سافة التي تف�صلها عن �سواها من الكلمات وهي‬ ‫ال تنفع املواطنة يف مثل هذه احلاالت‪ .‬فلن يكون‬
‫بعدها اخلالق اخلفي‪ .‬الأمر �أ�شبه بات�صال هاتفي‬ ‫مقنعا �أن تقول له «�أنا مواطن مثلما �أنت» احلقيقة‬
‫ي�صلنا من الغيب‪ .‬ينبغي �أن ال يكون �صادما م�شهد‬ ‫يف مكان �آخر‪ .‬يف احلديث عن دفع ال�رضائب ي�شم‬
‫اال�ضطراب الذي يعي�شه املرء وهو يتلقى مثل هكذا‬ ‫املرء رائحة عن�رصية بالرغم من �أن الإح�صاءات‬
‫ات�صال‪ .‬علينا ان نتذكر ان للمالئكة مهمات غري‬ ‫الر�سمية ت�ؤكد �أن ‪ ٪90‬من املتالعبني بال�رضائب‬
‫معروفة‪ .‬ن�صمت لكي نتيح للمالئكة وقتا لرعايتنا‪.‬‬ ‫هم من اال�سوجيني الأ�صليني‪� ،‬أما املهاجرون فانهم‬
‫نحن �أبناء الغيب �أي�ضا‪ .‬لقد حظيت مرارا بلقاء‬ ‫ال يتقنون امل�شي �إال يف ممرات الف�ساد الق�صرية‬
‫كائنات ال تنتمي بتاتا �إىل عاملنا‪ .‬كائنات كانت‬ ‫واملك�شوفة‪.‬‬
‫الطبيعة من حويل تلهمني وجودها‪ .‬ولأين �أعترب‬ ‫يف �أحيان كثرية تهزمنا اللغة‪ .‬يف احلقيقة ال �أحد‬
‫حياتي نوعا من اخلرافة فقد كنت �أقبل على احلوار‬ ‫يف �إمكانه �أن يهزم اللغة‪ .‬واملنفى اللغوي يف‬
‫مع تلك الكائنات ب�شهية مفتوحة‪« .‬ترى ما الذي‬ ‫حد ذاته مكان ال يتمكن املرء من اخلروج منه‬
‫كان يقوله بع�ضنا �إىل البع�ض الآخر؟» هناك �شيء‬ ‫�ساملا ومعافى‪ .‬وهنا ال تهمني حماولة الهرب‬
‫من الإبهام يحيط بالكلمات التي تتعر�ض للمحو ما‬ ‫من مواجهة هذا القدر‪ ،‬وهو الأ�سلوب الذي يتبعه‬
‫�أن تقال‪ .‬ال ي�شرتط ت�أثريها بقاءها‪ .‬هناك ح�سا�سية‬ ‫معظم املهاجرين من �أجل �أن ال يزيدوا من ارتباك‬
‫كامنة تدفع بتلك الكلمات �إىل الذوبان واالمتزاج‬ ‫خطواتهم‪ .‬من امل�ؤكد �أن تعلم اللغة يعني املهاجر‬
‫مب�شاعرنا‪ ،‬مبا نفكر به ومبا نتخيله‪ .‬هي كلمات يف‬ ‫على ال�شعور بنوع من الراحة‪ ،‬لكنها راحة ال تدوم‬
‫�إمكانها �أن تقولنا بل و�أن تكون لنا مبثابة املعرب‬ ‫طويال‪ .‬فبعد �أن يطمئن املهاجر �إىل �سيطرته اللغوية‬
‫الذي ننتقل عن طريقه �إىل �ضفة �أخرى‪ .‬هل كانت‬ ‫على حاجاته الأ�سا�سية‪ ،‬يبد�أ �س�ؤال اللغة يف �صفتها‬
‫فتاة الفحي�ص نوعا من تلك الكائنات اخلفية التي‬ ‫معيارا ثقافيا‪ .‬ذلك لأن التحدث بلغة ما يفرت�ض‬
‫ال يلتقيها املرء با�ستمرار؟ يف اليوم التايل للقائنا‬ ‫معرفة املزاج الثقايف للغة حيث تلعب تلك املعرفة‬
‫ا�ستيقظت مبكرا‪ .‬كان الفجر على ر�ؤو�س الأ�شجار‪.‬‬ ‫دورا كبريا يف �إمكانية اال�سرت�سال مع تلك اللغة‬
‫م�شهد الطبيعة من حويل �أده�شني كما لو �أين �أراه �أول‬ ‫يف حتوالتها‪ .‬وهو ما يعجز عن القيام به املهاجر‪.‬‬
‫مرة‪« .‬لقد تغريت» قد ال يكون ذلك التعبري منا�سبا‬ ‫وهنا تنفتح �أبواب جحيم منفى خمتلف‪ .‬فاللغة‬
‫ملا كنت �أ�شعر به‪ .‬غري �أنني يف احلقيقة ا�ستيقظت‬ ‫لي�ست و�سيلة ات�صال جمردة من لذائذها اخلفية‪.‬‬
‫على �صوتها الذي تركته راقدا يف �أعماقي‪ .‬لذلك‬ ‫«حيث اللغة تنكر نف�سها‪� /‬أذهب ملالقاة نف�سي»‬
‫خرجت م�رسعا من البيت وقبل �أن �أعد القهوة من‬ ‫يقول اوكتافيو باث‪ .‬نتعرف على اللغة يف �صفتها‬
‫�أجل �أن �أتخل�ص من ذلك ال�صوت من خالل اعادته‬ ‫مكانا جمهوال‪ ،‬ت�شتبك حوا�سنا بعنف ب�سطوح ذلك‬
‫‪229‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫خالل رغبتك يف �أن تبقى حيا‪ .‬عدوانية اجلمال هي‬ ‫�إىل ف�ضائه‪« .‬هذه هبتك �أعيدها �إليك لأنني ف�شلت‬
‫جزء من فكرتنا عنه‪ .‬اجلمال واقعة �شاذة‪ ،‬متطرفة‪،‬‬ ‫يف حملها» قلت للطبيعة وعدت �إىل البيت‪ .‬كان ما‬
‫ملعونة‪� ،‬صادمة‪ ،‬مت�شنجة‪ ،‬فالتة‪ ،‬ومتمردة على كل‬ ‫فعلته نوعا من االرجتال اخليايل غري �أن نتائجه‬
‫قيا�س م�سبق‪« .‬ما مل تكن �ضاال لن تكون جميال»‪.‬‬ ‫كانت مده�شة‪ .‬حني وقفت لأعد القهوة كنت �أ�شعر‬
‫فتنة اخللخلة تقيم يف كل اللغات‪ .‬مل يعن فن�سنت‬ ‫ب�صفاء روحي مل �أ�شعر به منذ زمن طويل‪ .‬كانت‬
‫فان غوخ يف حياته ب�شيء بقدر عنايته بتلك الفتنة‪.‬‬ ‫هناك مو�سيقى تخرج من ج�سدي لتعود �إليه ثانية‬
‫لقد نظرت بعيني فن�سنت �إىل تلك احل�شود ال�صفراء‬ ‫من غري �أن ت�صطدم ب�شيء يبعرثها‪ .‬عدت وحيدا‬
‫فيما كان العامل ال يرى �إال وحو�شا فالتة‪ .‬لو كنا‬ ‫حتر�سني عيون املالئكة‪ .‬حملت فنجان القهوة‬
‫مزارعني‪ :‬فن�سنت و�أنا لأدركنا اخلطر‪« .‬ولكن اخلطر‬ ‫وجل�ست قريبا من �أحدى النوافذ الوا�سعة منتظرا‬
‫هو الذي يجذبنا �إىل تلك املناطق» يقول يل فن�سنت‬ ‫بخوف �أن �أب�رص ذلك ال�صوت وهو يتخفى بني‬
‫ب�صوتي‪ .‬وهو حمق‪ .‬مل يكن فن�سنت �إال ر�ساما �صينيا‪.‬‬ ‫الأ�شجار‪.‬‬
‫هذا ما قاله نقاد ع�رصه عنه بتعال‪ ،‬ت�شم منه‬ ‫كغريها من اللغات فان اللغة اال�سوجية (ال�سويدية)‬
‫رائحة العن�رصية‪ .‬كانت لوحاته اوغرا�س‪ .‬وحياته‬ ‫حتتوي على كلمات‪ ،‬فيها قدر عظيم من املو�سيقى‬
‫هي الأخرى كانت اوغرا�س‪� .‬صاحبه الذي م�ضى‬ ‫مبا ال تك�شف عنه معانيها‪ .‬بل �أن تلك املو�سيقى‬
‫متلهفا �إىل تاهيتي كان هو الآخر اوغرا�س‪ .‬بول‬ ‫تبعث يف النف�س نوعا من الق�شعريرة ال�شاعرية‬
‫غوغان وجد هناك املر�أة التي يحبها وي�ضاجعها‬ ‫يهمل املرء �إزاءها التفكري بالداللة‪( .‬اوغرا�س) هي‬
‫بعمق‪ ،‬ور�سم اللوحة التي يحلم بها ويظنها و�سيلته‬ ‫واحدة من تلك الكلمات التي �أ�رستني بجر�سها‪.‬‬
‫لتغيري العامل‪ .‬لقد مكنه خط�أ من القب�ض على روح‬ ‫معناها نوع من الأع�شاب والأزهار ال�ضارة‪ .‬وهي‬
‫الآلهة‪ .‬حرا�س الدين كانوا يح�صون �أخطاءه‪�« .‬صبية‬ ‫نباتات برية يتمكن املرء من العثور عليها بي�رس يف‬
‫يلعبون» بالن�سبة لغوغان مل يكن العامل ي�ضيق‬ ‫كل مكان‪ .‬ذات يوم ا�ستيقظت على �ضجيج ماكنة‪.‬‬
‫بكلمة‪ .‬الفرن�سي الذي ترك املدنية وراءه لينتمي‬ ‫نظرت من النافذة �إىل احلقل الأخ�رض الذي يحيط‬
‫بكل حيويته �إىل عامل ي�ستمد قوته من اخلرافة هو‬ ‫مبنزيل من جهة غرفة النوم فر�أيت ماكنة وهي‬
‫�رضبة يد على طبل غري مرئي‪ .‬دعاء يذهب �إىل‬ ‫تقطع ر�ؤو�س �آالف الأزهار ال�صفراء‪ .‬كانت �أجزاء‬
‫اهلل مبا�رشة من غري �أن مير بالدين‪� .‬أمام مثل هذا‬ ‫من تلك ال�سجادة ال�صفراء ال تزال موجودة حني‬
‫النوع من الأدعية ت�شعر امل�ؤ�س�سة الدينية باخلطر‪.‬‬ ‫وقفت �أمام العامل الذي كان ينجز تلك املجزرة‪.‬‬
‫هناك من يفقدها �سلطة احتكار املفاتيح التي تفتح‬ ‫قلت له «مل تفعل ذلك؟» فقال يل الكلمة التي علقت‬
‫بها �أبواب الغيب‪ .‬وهنا بال�ضبط يقع التناق�ض بني‬ ‫بخيايل بقوة «اوغرا�س»‪ .‬عدت �إىل املعجم حزينا‬
‫الدين والفن‪ .‬م�سيحيو فرن�سا يف تاهيتي �أقلقهم �أن‬ ‫وخميبا ب�إن�سانية مولعة باخلراب‪ .‬تركت تلك الكلمة‬
‫ت�ستيقظ �أديان الطبيعة من خالل ر�سوم ومنحوتات‬ ‫يف نف�سي ما مل �أكن �أتوقعه من ت�أثري‪ .‬لقد امتزج‬
‫غوغان‪ .‬يف النهاية انت�رص املوت‪ .‬مات غوغان‬ ‫نغمها بالأوهام الب�رصية الذي اخرتعتها ح�شود‬
‫فيما ذهبت ر�سومه �إىل املتاحف‪ .‬كانت حياته‬ ‫الزهرة ال�صفراء ف�صنعت يف عيني دموعا هي �أ�شبه‬
‫الق�صرية كما هي حياة ارثور رامبو من قبله وحياة‬ ‫بالفرا�شات‪ .‬حني فتحت املعجم كنت �أ�شبه بالأعمى‪.‬‬
‫كافكا من بعده فكرة عن حياة ال ميكن ا�ستعادتها‬ ‫حينها تذكرت فتاة الفحي�ص‪ .‬كانت الفاتنة نوعا من‬
‫�إال عن طريق الفن‪� .‬إن �أهمية عمل من نوع (البحث‬ ‫الع�شب ال�ضار‪ .‬ما يفعله ذلك العامل فعلته �أنا قبله‬
‫عن الزمن املفقود) ملار�سيل برو�ست تكمن يف‬ ‫ب�أعوام‪ .‬الوعي �ضد اجلمال‪� .‬أهذا ما �أردت �أن �أقوله؟‬
‫�أنه ينقي امل�سافة بني الفرد واالله من احلكايات‬ ‫يف اللحظة عينها ميكنك �أن تف�رس عدوانيتك من‬
‫‪230‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بني كتاب يقر أ� مرة واحدة ومن ثم يلقى بعيدا و�آخر‬ ‫الدينية‪ .‬ولهذا ال�سبب تبدو قراءة هرني ميلر م�سلية‪.‬‬
‫يقر أ� يف كل مرة كما لو �أنه �صدر لتوه‪ .‬لي�ست ال�صور‬ ‫فميلر الذي يحتقر امل�ؤ�س�سة الدينية مل يكن ملحدا‪.‬‬
‫الفوتوغرافية املعلقة على جدران ذلك البيت وحدها‬ ‫كان مثلي متاما م�ؤمنا بعمق‪ .‬ف�أنا يف عالقتي مع‬
‫ما يعيد املرء �إىل زمن الأ�سالف‪ ،‬هناك �أ�شياء عديدة‬ ‫اخلالق ال �أبحث عن ر�ضا �أحد �سواه‪ .‬وهي العالقة‬
‫ال تكف عن االمتزاج بزمن ال يزال حيا‪ .‬اخلزانات‬ ‫التي ال يفهمها الكثريون ممن �أقتنعوا بقوة الو�سيط‬
‫والأباريق والري�ش وال�شبابيك وال�صحون واملالعق‬ ‫على ال�شفاعة‪� .‬إنهم يفتقرون �إىل اجلر�أة على �إقامة‬
‫واحلطب وال�شمعدانات والأقداح وال�صناديق‬ ‫عالقة مبا�رشة مع الرب‪ .‬وهي عالقة يقرتحها اهلل‬
‫اخل�شبية و�سالل حفظ اخلبز والدمى ال�صغرية واواين‬ ‫بنف�سه «�أينما تولوا فثم وجه اهلل»‪.‬‬
‫النباتات الظلية والكتب‪ ،‬كلها تقيم على جناحي‬ ‫يف ع�رص املدن ال�صناعية الكبرية رمبا �أكون‬
‫فرا�شة عمالقة يخفقان فيحرك الهواء من حولهما‬ ‫حمظوظا �إذ �أقيم يف قرية‪ .‬فر�صة نادرة يحلم بها‬
‫�ضباب الأزمنة ويتطاير الري�ش يف كل مكان‪ .‬يف‬ ‫الكثريون جتعلني قريبا من فكرة اخللق‪ .‬يف كل حلظة‬
‫كل �شيء �صغري هنالك باب ي�ؤدي �إىل فكرة وجود‬ ‫ا�ستثناء �أهرع �إىل الغابة ال�ستعيد توازن املعادلة‬
‫خفي‪« .‬انظر من النافذة‪� ،‬أترى ذلك البئر قرب �شجرة‬ ‫يف �أعماقي‪�« .‬أعي�ش حياتي بال �صفات‪ ،‬فال �أعرف‬
‫التفاح؟ لقد حفره جدي قبل �أن ي�شيد البيت غري �أنه‬ ‫معنى الغنى �أو الفقر‪ .‬حياتي كما هي‪ ،‬كما الفتها‪،‬‬
‫جف منذ �سنوات‪ .‬هو اليوم �أ�شبه باملزار» ينظر يف‬ ‫مليئة باملعاين» يقول يل احلطاب وهو يقرتح علي‬
‫عيني كمن يتذكر «دائما هناك حياة حمتملة» تكرث‬ ‫�أن �أ�رشب معه كا�سا من النبيذ يف بيته‪ .‬ذلك احلطاب‬
‫يف حكاياتهم كائنات تخرج من العدم فج�أة لتعود‬ ‫كان غنيا باملعنى الذي ال ي�شعر معه باحلاجة �إىل‬
‫�إليه بعد �أن ت�ؤدي �أدوارها املطلوبة‪� .‬أناث خارقات‬ ‫�شيء ال ميلكه‪« .‬ع�رص الزراعة ال ميكن �أن ينتهي»‬
‫تركن اثرا كبريا يف نوع الرتاتبية اجلن�سية ال�سائدة‬ ‫يريني مزرعته ال�صغرية التي ذكرتني مبزرعة‬
‫يف املجتمع حاليا‪ :‬املر�أة ومن ثم الطفل وبعدهما‬ ‫الر�سام قا�سم ال�ساعدي يف بيته بهولندا‪« .‬الثلج‬
‫الرجل‪ .‬ي�ضع البع�ض �ساخرا الكلب قبل الرجل‪.‬‬ ‫يدفن كل �شيء غري �أنه ال يقتله‪ .‬هناك دائما حياة‬
‫«الرتف لي�س الغنى» هم�س �صخر فرزات يف اذين‬ ‫كامنة يف �أعماق الأر�ض‪ .‬الأر�ض ت�شبهنا من جهة‬
‫ذات مرة «�أن تكون مرتفا �أف�ضل من �أن تكون غنيا»‬ ‫قدرتها على �أن حتتفظ بالأمل بعيدا عن كل �شعور‬
‫�أ�ضاف‪ .‬ر�سومه التي ت�شف عن الألوان كلها كانت‬ ‫بالإحباط» �أنظر �إىل نباتاته التي خرجت لتوها من‬
‫مبعنى من معانيها تعبريا عن �شعوره برتف احلياة‪،‬‬ ‫الأر�ض لأن�صت �إىل ن�شيدها املبلل بنداءات املوتى‪.‬‬
‫وهو الذي كان واحدا من �أكرث املدافعني عن حقوق‬ ‫«يقيمون هناك‪ ،‬يف كل حلظة ي�ستعدون لوالدتهم‬
‫الإن�سان رفعة‪ .‬يف املرة الثانية التي زرته فيها يف‬ ‫الثانية» ال �أحد من حولنا فيما ي�صفر طائر �صغري‬
‫بيته بباري�س كانت دفاتره ال�شعرية هي مفاج�أته‬ ‫يف اخلارج وحيدا‪ .‬ليتنا ن�ستطيع ال�صفري �أي�ضا‪.‬‬
‫التي �صعقت و�أنا �أتخيل �أ�سلوب ذلك الر�سام يف‬ ‫اتلفت بني جدران البيت اخل�شبي املختنقة بال�صور‬
‫اخرتاع نوع من الكدح ال يتخلى عنه اجلمال حلظة‬ ‫ال�صغرية‪ .‬بع�ضها ر�سوم والبع�ض الآخر فوتوغراف‪.‬‬
‫واحدة‪« .‬كمن ي�شقى يف �إنتظار املعجزة» «لقد‬ ‫«بناه جدي بنف�سه يف بدايات القرن الع�رشين‪،‬‬
‫تعلمت �أن �أعمل با�ستمرار‪ .‬يدنا هي التي حتر�ض‬ ‫وجددته بنف�سي يف الثمانينات‪ ،‬يف كل �سنتمرت‬
‫الإلهام على احل�ضور» ي�صمت «هل �أقول لك‪ :‬يدنا‬ ‫منه و�ضعت ب�صمتي حيث كنت �أرى بو�ضوح ب�صمة‬
‫هي م�صدر الإلهام» نظر يف عيني كعادته حني‬ ‫جدي» �أحالني �صوته �إىل فكرة اال�ستمرار والدائرة‬
‫ينهي جملة ي�شعر �أنها لن تكتمل �إال بجملة يقولها‬ ‫املغلقة‪ .‬البيت م�ستمر يف الوجود‪ ،‬لكن من خالل ب�رش‬
‫الآخر معرت�ضا �أو موافقا‪ ،‬ال فرق‪ .‬كانت كتب‬ ‫فانني‪ .‬الكتب هي الأخرى ت�شبه البيوت‪ .‬هناك فرق‬
‫‪231‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�ضوء النهار بن�ضارتها‪ .‬ال يبدو عليها العناد‪ ،‬املر�أة‬ ‫ال�شعراء هي دفاتره التي ترتك يده على �أوراقها‬
‫التي جبلت على الرتف الدم�شقي بل كانت م�ؤمنة‬ ‫�آثار م�ضيها املنفعل ب�أناقة الفتة �إىل الروح‪ .‬كل‬
‫�إىل درجة يكون فيها اجلبل مقتنعا بالعودة �إىل‬ ‫كتاب من تلك الكتب هو ن�سخة فريدة من نوعها‬
‫ح�ضن طفولته املائية‪.‬‬ ‫من جهة الر�سوم التي تزينها‪ .‬حطاب ي�سبق الغابة‬
‫«نبيلة اخلري �أخرى» قلت لنف�سي و�أنا �أتذكر‬ ‫�إىل فجرها‪ .‬لي�س هناك كتاب ي�شبه �آخر‪« .‬بيتي يف‬
‫�صديقتي الر�سامة البحرينية التي كان وجهها ينبئ‬ ‫اجلنوب كذلك‪ .‬ال حجر فيه ي�شبه حجرا �آخر» روى‬
‫ب�سخاء م�شاعرها دائما‪« .‬ليتك تغ�ضبني يا نبيلة‬ ‫يومها يل ق�صة ذلك البيت الذي ا�شرتاه مهجورا‬
‫لأرى اجلانب الآخر من وجهك» كنت �أقول لنف�سي‬ ‫ليحوله عرب �سنوات طويلة من اجلهد اليدوي اخلالق‬
‫وانا �أرى يف وجهها مالمح �إن�سانية افتقدها حني‬ ‫�إىل م�صيدة للإلهام‪ .‬كنت �أنظر �إىل زوجته ال�شاعرة‬
‫�أنظر �إىل وجوه الكثري من الب�رش‪ .‬كان هناك نوع من‬ ‫عائ�شة �أرنا�ؤوط و�أفكر بال�شعر اليدوي‪ .‬هي ال�شاهدة‬
‫ال�صفاء املت�سائل يف عينيها ين�سيني فكرة القناع‬ ‫الوحيدة على نوع ا�ستفهامي من ال�صلة بالأر�ض‪،‬‬
‫الذي ي�ضعه الب�رش على وجوههم‪ .‬ال يرى املرء من‬ ‫مبوادها و�أ�صباغها وطرق تفكريها‪ .‬ولأن عائ�شة‬
‫خاللها قناعا‪ ،‬بل الوجه الذي خلقه اهلل متاما‪ .‬ما‬ ‫يف حد ذاتها نوع من املالئكة فقد كانت ال ترى‬
‫ي�شعر به املرء وهو يرى لوحاتها من توتر ال يجد له‬ ‫يف ذهويل �أي معنى م�ضاد يحتاج التعرف عليه �إىل‬
‫�أثرا يف حركتها املت�أنية التي تك�شف عن قدر هائل‬ ‫نوع خا�ص من الأجوبة‪ .‬كانت املعجزات تقع بني‬
‫من ال�صلح الداخلي العميق‪ .‬مل تكن نبيلة تر�سم‬ ‫يديها لت�ست�أنف من خاللها نهارها ال لتكون تلك‬
‫�إال ن�ساء‪« .‬هل كن �صورتها‪� ،‬أولئك الن�ساء اللواتي‬ ‫املعجزات مواقع قطيعة‪ .‬البيت الذي �شيداه معا كان‬
‫ر�سمتهن ب�شغف وحنان؟» حني يرى املرء الأ�صل‬ ‫ي�ستكمل بنيته من خالل �أ�شعارها ودفاتر �صخر‪.‬‬
‫ين�سى املر�آة‪ .‬لذلك مل �أكن مهتما بتلك امل�سافة‬ ‫يف ذلك اللقاء الذي ح�رضته الروائية عالية ممدوح‬
‫التي تف�صل بني نبيلة ور�سومها‪ .‬يف احلقيقة كانت‬ ‫وزوجتي وابنتي اكت�شف �صخر �أن ابنتي قد ر�سمت‬
‫نبيلة بالن�سبة يل �أهم من ر�سومها‪ .‬كانت اكت�شافا‬ ‫�صورة �شخ�صية له ف�أ�رص على �أن يحتفظ بها‪ .‬يف‬
‫لوجود �أر�ضي ميكن �أن تختاره ال�سماء يف انت�شاء‬ ‫تلك ال�صورة ظهر �صخر يف �صفته واحدا من نبالء‬
‫منوذجا للخليقة‪ .‬كنت �أرى �إىل ر�سوم نبيلة كونها‬ ‫فر�ساي‪ .‬لقد قب�ضت ابنتي عليه يف حلظة ترف‪ .‬وهي‬
‫حتريرا لتلك الإرادة يف التعاي�ش مع ما هو �أر�ضي‪.‬‬ ‫حقيقته التي ال ميكن �رشحها بي�رس‪ .‬ذلك املنا�ضل‬
‫«غدا �أفطر لديك» قلت لها من خالل الهاتف‪ .‬لو انني‬ ‫كان يحلم بحياة ال ت�ستثني �أحدا من كرامتها‪ .‬يف‬
‫دعيت �إىل مطعم مك�سيم بباري�س لكان الإفطار �أقل‬ ‫الطريق �إىل بيته وبينما كنا نقرتب من �أحد الأنفاق‬
‫�أبهة‪ .‬يكفي �أن نبيلة كانت موجودة‪� .‬أما املائدة‬ ‫قال يل «هل ميكن لعاقل �أن ي�صدق �أن الأمرية ديانا‬
‫فقد كانت مزيجا مرهفا ومنغما من �أطعمة ال�رشق‬ ‫ماتت ب�سبب حادث مروري يف هذا النفق؟ لقد قتلوا‬
‫والغرب‪ .‬كانت موجودة يف ذلك الإفطار بالقوة‬ ‫يومها فكرة �أزعجتهم» بعدها اكت�شفت �أنه كان يدافع‬
‫نف�سها التي هي موجودة يف ر�سومها‪ .‬خيالها الذي‬ ‫عن حقه يف احلرية‪ .‬كان ميزج �أمرية ويلز ب�سجناء‬
‫ال يرتك ثغرة �إال وميلأها بدعائه املت�سامح ي�سلمني‬
‫الر�أي يف بلده �سوريا لريى �صورته من خالل ذلك‬
‫�إىل وجوه مطمنئة‪ ،‬يهمها �أنها و�صلت �أخريا‪ .‬ولأن‬
‫املزيج‪ .‬ومع ذلك فان عائ�شة مل تكن �ضائعة يف ظل‬
‫نبيلة ال تقول �شيئا عن ر�سومها فان تلك الوجوه‬
‫ذلك البطل الأ�سطوري‪ .‬لي�س لأن �صخرا كان ين�صت‬
‫تظل مبثابة لغز حمري‪.‬‬
‫�إليها مثل طفل وهو �أمر م�ؤكد بل لإن عائ�شة �أ�شبه‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫بتلك الأع�شاب الرقيقة التي ت�شق ال�صخور لتفاجئ‬
‫‪232‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫الكتابة‬
‫�إنقاذ اللغة من الغرق‬
‫لؤي حمزة ع ّباس‬
‫قا�ص وروائي من العراق‬

‫لكل منهم ا�سم ًا و ُأ�نادي عليه‪،‬‬ ‫ف�أخذت �أُنادي‪ُ � ،‬‬


‫أخرتع ٍ‬ ‫ال�صوت‬
‫فتى من ال�سور وحاملا ي�صدمه‬ ‫يقرتب ً‬
‫ُ‬ ‫مع ك ِّل ندا ٍء‬ ‫خطوت‬ ‫ممر مدر�ستي كما‬
‫ُ‬ ‫كنت �أخطو وحيداً يف ّ‬
‫حم�شوةٍ بن�شارة‬
‫ّ‬ ‫قما�ش‬
‫ٍ‬ ‫الإ�سم يتهاوى مثل دميةٍ من‬ ‫املمر وهو ميت ُّد‬ ‫�صمت‬
‫ُ‬ ‫ذات �شتاءٍ بعيد‪ ،‬ي�شغلني‬
‫ِّ‬
‫يدو ُم يف الهواء وقد م ّد يديه‪ ،‬قبل �أن ُيتعبه‬ ‫خ�شب‪ّ ،‬‬ ‫حتت عتمةٍ خفيفةٍ تتك ّثف مع ك ِّل خطوةٍ وتزداد‪.‬‬
‫التحليق وي�سقط �رسيع ًا لريتطم ب�أر�ض ال�ساحة‬ ‫ُ‬ ‫مل متنعني العتم ُة من موا�صلة امل�شي‪ ،‬ومل تك�رس‬
‫املمر‪ ،‬وي�سيلُ من فم ِه املفتوح‬
‫ّ‬ ‫املبلّطة‪ ،‬قريب ًا من‬ ‫�أم ًال يراودين يف ر�ؤية زمالئي‪� ،‬أُح ّدث نف�سي‬
‫دم قليل‪.‬‬‫ٌ‬ ‫ب�أنهم كربوا جميع ًا وتوزعوا يف اجلهات‪ ،‬منهم‬
‫موظف م�ساحةٍ ‪ ،‬كلّت عيناه من طول النظر‬ ‫َ‬ ‫من غدا‬
‫�شكوك‬
‫آخر حار�س ًا ليلي ًا ملر�سى الزوارق‬ ‫عرب العد�سة‪ ،‬و� ُ‬
‫تعي�ش على حا ّفتها‪.‬‬‫ُ‬ ‫ال تكون الكتاب ُة بنت ًا للغة‪ ،‬وال‬ ‫وثالث غادر مهن َة ج ّد ِه و�أبيه بعد �أن‬ ‫ٌ‬ ‫القدمية‪،‬‬
‫أع�شاب اللغةِ‪ ،‬وال ترعى مثل �شاةٍ على‬‫َ‬ ‫الكتاب ُة ال ت�أكل �‬ ‫يختنق كلّما‬
‫ُ‬ ‫زاولها �أعواماً‪ ،‬مل ُيطق الرائحةَ‪ ،‬كان‬
‫�سفحها‪ ،‬باحث ًة عن �أغ�صان املجاز‪ .‬الكتاب ُة كتابةٌ‪،‬‬ ‫الذبائح من حوله‪ ،‬ومل يفهم معنى‬ ‫ِ‬ ‫هب ْت رائح ُة‬ ‫ّ‬
‫ليزحف‪،‬‬‫َ‬ ‫االن�سان �أن �إن�سان ًا يول ُد من نف�سه‬
‫ُ‬ ‫منذ فكّر‬ ‫ف�ضل �أن يغدو‬ ‫ارجتافها حلظ َة ينخزها اخلطّ اف‪ّ ،‬‬
‫تنحت‬‫ُ‬ ‫مثل ك ِّل وليدٍ‪ ،‬بني الكلمات‪ .‬ي ُد الوليد الالهي ُة‬ ‫الب�رشي ِة‬
‫ّ‬ ‫يغرق يف الرائح ِة‬ ‫ُ‬ ‫بائع �ألب�سةٍ م�ستعملةٍ ‪،‬‬
‫َ‬
‫ومتنح ك َّل �صورةٍ‬
‫ُ‬ ‫�شئ �صور ًة‪،‬‬
‫ك َّل �شئ‪ ،‬جتعلُ لكلِ ٍ‬ ‫الرطب ِة وقد خزنتها الثياب‪ .‬كنت �أ�ستعيدهم واحداً‬
‫اخللفية للوجود‪ .‬بني الكتاب ِة‬‫ّ‬ ‫روح ًا تهيم يف ال�شوارع‬ ‫املمر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أوغلت يف‬
‫واحداً كلما � ُ‬
‫واللغةِ‪� ،‬رسعان ما تتناهبنا ال�شكوك‪.‬‬ ‫نداء‬
‫غامر‪ ،‬مل يكن ً‬ ‫ٌ‬ ‫�صوت بعي ٌد‬ ‫ٌ‬ ‫فج�أة �أخذين ال�صوت‪،‬‬
‫وال �صيحةً‪ ،‬كان �صوت ًا فح�سب‪ ،‬عاري ًا من ُ�شبهة‬
‫الغابة‬ ‫املمر ميت ُّد يف العتم ِة‬ ‫تركت‬ ‫ال�شكل ولوثة الزمن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫تقر أُ� الكتاب ُة الغاب َة وهي توغل يف �أعماقها‪.‬‬ ‫ي�شع و�سطها‪،‬‬‫م�صباح ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫و�رست باجتاه ال�ساحةِ‪ ،‬كان‬ ‫ُ‬
‫كلُّ �شجرةٍ ‪ ،‬يف غابة الكتابة‪ ،‬ورقةٌ‪ ،‬وعلى ك ِّل ورقةٍ‬ ‫معلّق ًا يف ر� ِأ�س عمود‪ ،‬تعلوه قبع ٌة وا�سعة‪ ،‬مكتومة‬
‫كلم ٌة وحيد ٌة ال غري‪.‬‬ ‫قرب‬ ‫رفعت ر�أ�سي ور�أيتهم َ‬ ‫ُ‬ ‫الف�ضة‪ ،‬م�سطّ حة احلواف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تول ُد ال�شجر ُة وتنمو من �أجلِ كلمةٍ ‪ ،‬حتيا طوي ًال على‬ ‫فتى‪ .‬عاودين‬ ‫�صف ً‬ ‫أمام ك ِّل ٍ‬ ‫�سور الطابق العلوي‪َ � ،‬‬
‫كاتب وحيد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫�أمل �أن يلتقطها‬ ‫ورجوت �أن يكونوا هم‬ ‫ُ‬ ‫الأملُ يف ر�ؤية زمالئي‪،‬‬
‫‪233‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حيث ُي�صنع ال�صابون الب ّني بروائحه الفاغمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مكتوب يف فنجان‬
‫ليجف حتت‬ ‫َّ‬ ‫و ُيرتك يف ال�ساحات �صفوف ًا طويل ًة‬ ‫�إنها املر�أة التي ر�أت الكثري من الأ�شياء ومل حت ّدث‬
‫املجاديف كما لو‬
‫ِ‬ ‫�رضبات‬
‫ِ‬ ‫ال�شم�س‪ ،‬يهتفون مع‬ ‫بغري القليل‪ ،‬حيث يبدو كلُّ �شئ مكتوب ًا يف فنجان‪،‬‬
‫جنوب الغاب ِة ي�صعدون‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كانوا ينادون الأ�شجار‪ .‬من‬ ‫من�سية يف‬ ‫خيول و�سالحف و�أ�شجار‪ ،‬كمانات‬
‫ّ‬
‫جترحها‬ ‫حيث �صخور ال�ض ّفة �أكرث رحم ًة ب�أقدامهم‪ ،‬ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫عربات قطار‪ ،‬و�سيدات منتظرات‪ ،‬كما لو �أن يداً‬
‫�إال قليالً‪� .‬إىل قلب الغابة مي�ضون على الطريق الذي‬ ‫زمن بعيد‪.‬‬ ‫زجاج‪ ،‬منذ ٍ‬ ‫ماهرة نق�شتهن على‬
‫ٍ‬
‫عام‬
‫قطعوه يف مثل هذا النهار من العام املا�ضي‪ٌ .‬‬ ‫غيوم‪ ،‬على كل‬ ‫ر�أت حروب ًا متالحقة‪ ،‬تندفع مثل‬
‫ٍ‬
‫مر وما زالت دما�ؤهم رطب ًة على الع�شب‪ ،‬على قطرات‬ ‫َّ‬ ‫مهل‪ ،‬ر�أت ك َّل‬
‫غيمةٍ كثري من الأ�سماء‪ .‬ب�صمتٍ وعلى ٍ‬
‫قطرات جديد ٌة‪ ،‬و�سنتخف�ض �أ�صواتهم‬ ‫ٌ‬ ‫ُق‬‫ل‬ ‫�ستع‬ ‫الدم‬ ‫ا�سم يختفي فور قراءته‪ .‬ما كان ُيحزنها حق ًا هو‬ ‫ٍ‬
‫وهي توا�صل نداءها‪ ،‬حتى �إذا و�صلوا �إىل الأ�شجا ِر‬ ‫متر مهما كانت‬ ‫احلروب‬ ‫إن‬
‫�‬ ‫من‬ ‫يوم‬ ‫ذات‬ ‫أته‬‫�‬ ‫قر‬ ‫ما‬
‫ُّ‬
‫يتحملون‬
‫ّ‬ ‫العظيم ِة العالي ِة �أخذهم ال�صمت‪ .‬ما كانوا‬ ‫طويلة وقاهرة‪ ،‬وال تبقى غري الأ�سماء‪ .‬عا�شت �شعوراً‬
‫�صنف معينّ ٍ من الثمار‪� ،‬إنهم‬ ‫ٍ‬ ‫هذا العناء من �أجل‬ ‫مل تع�شه امر أ� ٌة قبلها وهي ُتدرك �أن احلروب �ستبقى‬
‫عام كي يقفوا �صامتني �أمام الأ�شجار ثم‬ ‫ي�أتون ك َّل ٍ‬ ‫�سيمر و ُين�سى هو الأ�سماء‪.‬‬ ‫و�أن ما‬
‫ُّ‬
‫امل�صب املتد ّفق‬
‫ّ‬ ‫يقفلون عائدين عرب خليج باريا �إىل‬ ‫منذ �سنوات �صعدت ُ�سلّماً‪ ،‬ومن �أعلى درجةٍ تركت‬
‫ال�صابون هناك‪ ،‬وهناك‬ ‫ِ‬ ‫من نهر �أورينوكو‪ ،‬رائح ُة‬ ‫الفنجان يتهاوى‪ .‬قيل �أنه ا�ستغرق زمن ًا قبل �أن‬
‫الكالم يحيا وميوت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حفر �صغري ٌة مثل عمالت‬ ‫ي�سقط على �أر�ض متل�ؤها ٌ‬
‫احل ّكاء‬ ‫معدنية �صدئة‪ ،‬فتهت ُّز ل�سقوطه اجلدران‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تب عن �سيدة‬ ‫ولأنها مل حت ّدث بغري القليل‪ ،‬فقد كُ َ‬
‫كان ما يفعله �سوجن لنج بو‪ ،‬احلكّاء العظيم‪ ،‬ب�سيط ًا‬
‫ت�شبهها �صعدت �أعلى ال�سلّم م�ستجيب ًة حللم امر�أة‬
‫جداً‪� ،‬إنه يحكي حكايته على طريقته كما لو كان‬
‫ممحو ًة ور�سوم ًا مثل نق�ش‬ ‫ّ‬ ‫كلمات‬
‫ٍ‬ ‫فنجان‬
‫ٍ‬ ‫تقر�أ يف‬
‫يطارد �شبح ًا يف مر�آة‪ ،‬ومل يكن من ال�صعب على‬
‫على زجاج‪ .‬حاولت من جهتها �أن تلتقط ولو حرفاً‪،‬‬
‫نبع عندما ينام‪ ،‬ي�سمع‬ ‫يتحول �إىل ٍ‬
‫ّ‬ ‫حكّاء مثله �أن‬
‫لكن املر�أة التفتت لتح ّدثها عن رجل يطعن �ضفدع ًا‬
‫�أرواح النا�س املخبوءة يف الأ�صداف‪ ،‬ويرى ثريان ًا‬
‫ب�سكني‪.‬‬
‫تتقافز بني يديه‪ ،‬و�أيائل تتخاطف يف �أحالم‬
‫ينق مع ك ِّل طعنة‪ ،‬والرجل يوا�صل‬ ‫كان ال�ضفدع ُّ‬
‫ال�صيادين‪� ،‬إنه يت�سلل �إىل �أحالمهم كي يداعبهم‬
‫عمله بدقّةٍ واجتهاد‪.‬‬
‫قلي ًال قبل ال�صحو‪ .‬يف حكاياته حيث يجل�س على‬
‫حمرك ًا قدميه جري ًا على عادة‬ ‫كر�سي بال ظهر‪ّ ،‬‬ ‫ابتكار‬
‫قدمية‪ ،‬ومن ورائه‪ ،‬يف الف�ضاء الف�سيح‪ ،‬توا�صل‬ ‫تبتكر الكتابة املوت‬
‫وتتحرك‬
‫ّ‬ ‫ال�شم�س �أي�ضاً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رائحة روث هبوبها‪ُ ،‬ت�رشق‬ ‫متنحه قفازاً ومنز ًال‬
‫عقارب ال�ساعة مثل حركتها ك َّل يوم‪ ،‬لكنها ُت�شري‬ ‫ت�أويه وتدلّلـه مثل ذئب وحيد‪ .‬تناديه‪ ،‬كلما نزل‬
‫لوقتٍ �آخر ُيحيط بالأ�شياء مثل هواء مغرب ويت�سلل‬ ‫الليل‪ ،‬ب�أ�سماء جديدة‪.‬‬
‫�إىل �أعماقها‪ .‬الرجل الذي يتهاوى من �أعلى خمازن‬
‫اخل�شب وقد زلّت قدمه على �سقف �شديد االنحدار‪،‬‬ ‫ال�صمت‬
‫مرمية على اجلانب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لن ي�سقط على كومة �أحجار‬ ‫النهر بقواربهم الر�شيق ِة مثل ال�سهام‪،‬‬
‫َ‬ ‫كانوا ي�ش ّقون‬
‫�سيهوم طوي ًال مثل ن� ٍرس فتي يف حكاية �سوجن لنج‬ ‫ّ‬ ‫الرب الرئي�سي‬
‫�صوب الغابةِ‪ ،‬قادمني من ّ‬ ‫َ‬ ‫متوجهني‬
‫ّ‬
‫‪234‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الغرفة‬ ‫فيمر على‬


‫رس ّ‬ ‫عام ت�أخذ احلكاي ُة الن� َ‬
‫عام �إىل ٍ‬
‫بو‪ ،‬من ٍ‬
‫الغرف ُة الف�سيح ُة اخلالية‪ ،‬املط ّل ُة على ال�صمت كما‬ ‫عام‪ .‬احلكّاء �سيكون هناك‪ ،‬على‬ ‫�أر�ض جديدة ك ِّل ٍ‬
‫حمفور‬ ‫وباب‬ ‫لوكانت تابوتاً‪ ،‬لها نواف ُذ حمكمة‪،‬‬ ‫هوم من �أعلى‬
‫ك ِّل ار�ض‪ ،‬يوا�صل حكاية الن�رس الذي ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫طيبون‪،‬‬ ‫خمازن اخل�شب‪ ،‬عند نقطة حم ّددة يتو ّقف كي ي�سمع‬
‫�ضيوف ّ‬
‫ٌ‬ ‫حني‪،‬‬
‫ُج ّدد مرتني‪ ،‬يدخلها‪ ،‬يف ك ِّل ٍ‬
‫يرتي ُث قليالً‪ ،‬لكنهم يوا�صلون‬ ‫خفق جناحيه ويلتقط �رصخته‪.‬‬
‫كم يتمنى ك ٌّل منهم لو ّ‬
‫امل�شي خمرتقني اجلدران‪ ،‬لتظ َّل الغرف ُة ف�سيح ًة‬ ‫الذكرى‬
‫جانب وال ترتك �أثراً‬
‫ٍ‬ ‫الريح من ك ِّل‬
‫ُ‬ ‫تهب عليها‬
‫خاليةً‪ُّ ،‬‬ ‫من دوجنبي بجاومي البعيدة يتح ّدث الرجل عن‬
‫فيها‪ .‬لي�س ثمة ما ُي�شري لهبوب الريح على ال�سجادة‪:‬‬
‫�أبيه و�أخوته وزوجته وابنته وحفيدته التي مل تتخط‬
‫خ�شب يتم ّدد على �أر�ض الغابة‪ ،‬تت�ساقطُ‬‫ٍ‬ ‫رج ٌل من‬
‫كل منهم ن�ستمع‬ ‫�شهورها ال�ستة ع�رش‪ .‬يف حديثه عن ٍ‬
‫على ج�سده الأوراق‪.‬‬
‫علم يف قارب‪ ،‬وهي تتطلّع نحو‬ ‫لروحه تخفق مثل ٍ‬
‫رجال‬ ‫خوخ ب�رشق القرية‪� .‬صوته يتباعد‪ ،‬ينخف�ض‬ ‫حديق ِة ٍ‬
‫قرون‪ ،‬يف �صحراء الربع اخلايل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ال�سائر‪ ،‬منذ‬ ‫الرجلُ‬ ‫يتغ�ضن كما لو كان وريث ًا غري‬‫ّ‬ ‫مع ك ِّل كلمةٍ ‪ ،‬ووجهه‬
‫ُ‬
‫ال ي�شبهك يف �شيء‪ ،‬ي�ؤ�سفني ذلك حقاً‪ ،‬لكنه يوا�صلُ‬ ‫مبا�رش لأحزان العامل‪ .‬يف ال�سنة املا�ضية‪ ،‬يتح ّدث‬
‫ال�سري‪ ،‬غري عابئ‪ ،‬و�أنت توا�صلُ حكايتك‪ ،‬كلما ح ّل‬ ‫مير باحلديقة‬
‫الرجل‪ ،‬وب�سبب ت�شييد خط �س ّك ِة حدي ٍد ُّ‬
‫الليل‪ ،‬عن رجال ينامون حتت مطحنة معطّ لة‪.‬‬ ‫ا�ضطررنا لنقل قربها ملكان �آخر بعيد‪ ،‬انتبهت عند‬
‫ي�ضم الرماد قد اندثر‬
‫ُّ‬ ‫فتح القرب �أن ال�صندوق الذي‬
‫يف اجلي�ش‬ ‫و�صار جزءاً من الأر�ض‪ ،‬ومل ي�سعنا �إال �أن نقب�ض‬
‫يف ثمانينيات القرن املا�ضي‪ ،‬ومل �أكن قد جتاوزت‬ ‫على قليل من الرتاب كذكرى‪.‬‬
‫�صادفت جندي ًا يفتح �صدره ب�سكّني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الع�رشين بعد‪،‬‬ ‫يف الكتابة جتتمع العائلة‪ ،‬ومن بعيد‪� ،‬أبعد من‬
‫ثم يقف حتت ال�شم�س طوي ًال كي ينظر داخله مبعونة‬ ‫حديقة اخلوخ‪ ،‬تراقب الأم امل�شهد وت�ستمع ملا يدور‪.‬‬
‫مر�آة‪ .‬يف ليل الق�صف‪ ،‬قرب ال�ساتر‪ ،‬كان يح ّدثني عن‬ ‫ال الرماد‪ ،‬وال الرتاب الذي �صار ذكرى‪.‬‬
‫ق�سوة �أن يغفو ب�صدر مفتوح‪ ،‬و�أن يرتنمّ ‪ ،‬قبل ذلك‪،‬‬
‫بلحن عابر قدمي‪.‬‬
‫حيوانات الذكرى‬
‫حجراً بعد حجر ُنقطّ ع الأحجار من جبال حياتنا‪،‬‬
‫مو�سوعة العذاب‬ ‫نك�رسها مثل موهومني بال�ضوء الأزرق البعيد‪،‬‬
‫يف يوم حم ّدد من ك ِّل عام تفرغ املدين ُة من‬ ‫ثعالب ال‬
‫َ‬ ‫مهل‪،‬‬
‫ننحت‪ ،‬على ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ومثل حاملني �سعداء‬
‫الريح‬
‫ُ‬ ‫وتهب‬
‫ُّ‬ ‫املارة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�سكّانها‪ ،‬تخلو �شوارعها من‬ ‫قدم رفيع ٌة واحدة‪ .‬ما‬
‫لكل منها ٌ‬ ‫ت�شبه الثعالب كثرياً‪ٍ ،‬‬
‫طليق ًة يف ال�ساحات‪ ،‬واحلدائق‪ ،‬والأ�سواق‪ ،‬لي�س‬ ‫التعب ـ لي�س ثمة‬
‫ُ‬ ‫�أن ُنغم�ض عيوننا وقد ا�ستب َّد بنا‬
‫ثمة وج ٌه ينعك�س على الزجاج‪ ،‬لي�ست ثمة �شتائم‬ ‫عمل �أكرث م�ش ّق ًة من تقطيع الأحجار ـ حتى ن�سمعها‬
‫ح�س‬ ‫ترهات‪� .‬أوا�صل امل�شي من �شارع ل�شارع‪� ،‬أُ ُّ‬‫�أو ّ‬ ‫تقفز من �أعايل اجلبال‪ .‬الثعالب ب�أقدامها الرفيعة‪،‬‬
‫مير‬
‫وح�شة احلدائق‪ ،‬و�أدور منفرداً يف الأ�سواق‪ ،‬ال ُّ‬ ‫مل ُتخلق لغري قفزةٍ وحيدةٍ ‪ ،‬متوت �إثرها يف القيعان‬
‫ترهة واحدة‪،‬‬ ‫بجانبي �أحد‪ ،‬وال ت�صادفني �شتيمة �أو ّ‬ ‫ال�سحيقة املعتمة‪.‬‬
‫مرة‪ ،‬على زجاج‪� .‬إىل الأزقة‬ ‫وال �أرى وجهي‪ ،‬ولو ّ‬ ‫�إنها حيوانات الذكرى وقد �أخذتها‪ ،‬بكل �أ�سف‪ ،‬فتنة‬
‫القدمية التي طاملا �أحببتها تقودين خطاي‪� ،‬أعربها‬ ‫الهاوية‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قالع قدمي ٌة تطلُّ من بعيد‪ ،‬ومعل ُّم‬
‫ٌ‬ ‫جوار الكتب‪.‬‬ ‫زقاق ًا بعد �آخر يف طريقي �إىل النهر‪ ،‬على �ض ّفته‬
‫وكلمات‪ ،‬هكذا ُيبنى العاملُ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مو�سيقى بال مواهب‪،‬‬ ‫�أقف‪ ،‬يف الرائحة العفنة حيث تتحلل الأفكار على‬
‫وقالع من‬
‫ٌ‬ ‫وهكذا ُت�ستعاد احلياة‪ :‬مو�سيقى موجعة‬ ‫ال�شاطئ وتتخاطف الأمواج‪ ،‬على ك ِّل موجةٍ يرت�سم‬
‫كلمات‪ ،‬قبل �أن تنزلق للبئر العميقة وال يعد ثمة ما‬ ‫وجه ويختفي‪� .‬إنهم �سكان املدينة ي�ؤكدون غيبتهم‪،‬‬
‫حماط باحلدائق يف‬‫ٍ‬ ‫امليت يف بيتٍ‬
‫مييز بني الأب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح ّدثت نف�سي يف اللحظة التي �أخذت الوجوه تفتح‬
‫قرية (روكن)‪ ،‬واالبن الذي يوا�صل النزول من �أعلى‬ ‫�أفواهها‪ ،‬حلظة ي�صعب معها ادراك معنى االنفتاحة‪:‬‬
‫الفكرة مثق ًال ب�أعباء الوحدة‪ ،‬موا�ص ًال االن�شغال‪ ،‬مبا‬ ‫�شهقة‪� ،‬أو تثا�ؤباً‪� ،‬أو لوعة موت‪� ،‬رسيع ًا ما تت�شظى‬
‫تب ّقى يف ذهنه من نور‪ ،‬برذائل االعتقاد مبا تتوهمه‬ ‫املوجة بعدها‪ ،‬ويغيب الوجه‪ .‬يف وقفتي على النهر‪،‬‬
‫ذكرياتنا‪ ،‬وبالراحة العميقة يف م�صاحلة املر�ض‪.‬‬ ‫وكما لو كنت على موعد‪ ،‬تذكّ رت �أنني �أبحث‪ ،‬منذ‬
‫ها �أنت مت�ضي �سيد فريدريك‪ ،‬بال ا�سم وال مر�آة‪،‬‬ ‫انتهت احلرب‪ ،‬عن مو�سوعة العذاب‪ .‬لكم ع ّذبني �أن‬
‫حماو ًال اخلال�ص من اخليول التي ترتاك�ض يف‬ ‫�أوا�صل البحث نهاراً بعد نهار‪ ،‬حتى �إذا ُع ّد ُت ملنزيل‬
‫جوف البئر‪ ،‬ومن ارجتافة نار الفانو�س‪.‬‬ ‫املرتفع عن ال�شارع ـ ُ�سلّم ق�صري ي�ؤدي �إليه ـ و�أكلت‬
‫يحدث �أن ينهار العقلُ املتوهج‪ ،‬ي�سقط يف مغاور‬ ‫طعامي القليل مم ّدداً على ال�رسير بكامل ثيابي‪،‬‬
‫العتمة‪ ،‬لكن الكتابة حتافظ على و�سامتها يف �رضب‬ ‫رحت �إىل النوم �رسيع ًا ور�أيتني �أفتح باب ًا و�أدخل‪،‬‬
‫خيالية بعيدة وغري مفهومة‪ ،‬متح ّدثة‬ ‫ّ‬ ‫من مناورة‬ ‫أجتول‬
‫�صوت ما ُيح ّدثني �أنني يف املو�سوعة الآن‪ّ � ،‬‬ ‫ٌ‬
‫عن الأمواج التي ُت�سمع يف الليل‪.‬‬ ‫يف غرفها الرطبة �شبه املعتمة‪� ،‬أنزل عرب ُ�سلّم ق�صري‬
‫من هانئ ًا �سيد فريدريك‪ ،‬وراء العتمة‪ ،‬وراء ال�ضوء‪،‬‬ ‫�إىل قاعها‪ ،‬حتيطني رائحة العفن القدمي‪ ،‬ويتملّكني‬
‫وراء ك ِّل ما للخري من معنى وما لل�رش‪ ،‬لعلّك ت�صحو‬ ‫�شعور �أنني كنت هنا من قبل وي�ؤملني �أنها مو�سوعة‬ ‫ٌ‬
‫مرة �أخرى‬ ‫وقد مل�ستك املعرفة بجناحها‪ ،‬لتكتب ّ‬ ‫فارغة �أي�ضاً‪ ،‬ال �رصخة‪ ،‬وال وجه‪ ،‬وال عذاب‪.‬‬
‫عن « اللذات املكلّفة للأوهام‪ ،‬واللذات الأكرث كلف ًة‬
‫لتقوي�ضها»‪.‬‬
‫مثل طائر وحيد‬
‫على الطريق الوا�سع بني (فاي�سنفال�س) و(اليبزيغ)‪،‬‬
‫�سيد يو�سا‬ ‫مروراً بـ(لوتزان)‪ ،‬متت ُّد قرية (روكن) مثل طائر‬
‫�صف‬
‫نعم �سيد يو�سا‪ ،‬كما تقول متاماً‪ ،‬نحن نقف يف ِّ‬ ‫وحيد‪ ،‬هناك �أو يف �أي مكان �آخر ب�إمكانك �أن تولد‪،‬‬
‫املخرب�شني على الورق‪� ،‬سيئي الطالع‪ ،‬بال نا�رشين‬ ‫قرن‬‫يف �أية قريةٍ على الطريق‪ ،‬ويف منت�صف � ِّأي ٍ‬
‫قراء‪ ،‬قد ُتكت�شف مواه ُبنا من قبل‬ ‫وال مكاف�آت وال ّ‬ ‫�سمى ب� ِّأي ا�سم‪ ،‬فريدريك‬
‫ت�شاء‪ ،‬مثلما ب�إمكانك �أن ُت ّ‬
‫لعزاء حزين! ن�شكرك ب�صدق‬ ‫ٌ‬ ‫الأجيال القادمة‪ ،‬و�إنه‬ ‫آالم‬
‫فيلهامل �أو �سواه‪ ،‬ال فرق‪ ،‬ففي ك ِّل يوم تزداد ال ُ‬
‫�أن ت�صنفنا زمالء‪ ،‬و�إن كنا قليلي احلظ‪ ،‬فنحن مثلك‬ ‫حد ًة ويغدو العا ُمل �أكرث عتم ًة مع الفقدان البطئ‬
‫ت�أخذنا �أحالمنا للكتابة‪ ،‬و ُتعيدنا الكتاب ُة ملا ُيحيط‬ ‫ب�شائر‬
‫ُ‬ ‫للب�رص‪ ،‬ويبدو اجل�س ُد �شدي َد النحول‪� ،‬إنها‬
‫بنا من ظالم‪ .‬جادون نحن يف امل�ضي ب�أوهامنا‬ ‫موارةٍ تردم يف‬ ‫ثلجيةٍ ّ‬
‫ّ‬ ‫املتفجر مثل عا�صفةٍ‬
‫ّ‬ ‫الدماغ‬
‫حتى �آخر ال�شوط‪ ،‬حيث ال تو ّقف وال انتهاء‪.‬‬ ‫الرباقتني‪،‬‬
‫طريقها ك َّل �شئ‪ :‬الفكرة‪ ،‬وعيني ال�سنجاب ّ‬
‫تعلم‪� ،‬أيها العزيز‪ ،‬ب�أننا مل نع�ش على الرتاب اال�سباين‬ ‫و�أ�شجار التنوب التي تتخلى عن �صمودها‪ ،‬حيث‬
‫يوماً‪ ،‬ولي�ست لنا وم�ض ُة ذكرى عن بر�شلونة اجلميلة‬ ‫يهيم الأب يف الهبوب العا�صف ومل يكن عمرك قد‬
‫ل ُن�سعد با�ستعادتها‪ ،‬لكن ذلك ال مينعنا من �أن جنتهد‬ ‫جتاوز الرابعة بعد‪ .‬فلتكتب‪� ،‬إذن‪ ،‬عن (ناومبورغ)‪،‬‬
‫يف ابتكار عزائنا‪ ،‬حيث الكلم ُة وحدها متنحنا‬ ‫وعن اخلوف الذي يقر�ص اجللد‪ ،‬وعن احلياة �إىل‬
‫‪236‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫طريق ابن ف�ضالن‬ ‫بر�شلونة �أخرى‪ ،‬ال ُن�ضطر ال�ستعادتها كلّما ا�ستب َّد‬
‫غيوم‬ ‫الفتيات ي�ؤدين رق�صاتهن حتت‬ ‫التتاريات‬ ‫ني لأننا‪ ،‬بب�ساطةٍ ‪ ،‬نحيا فيها‪ ،‬فرب�شلونة‬ ‫بنا احلن ُ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رماديةٍ ‪ ،‬يف باح ِة امل�سج ِد الأبي�ض‪ ،‬يف قريةٍ على‬ ‫و�شوارع‬
‫ُ‬ ‫أبواب عاليةٌ‪،‬‬
‫كلم ٌة مثل �آالف الكلمات لها � ٌ‬
‫ّ‬ ‫وفتيات جميالت‪ ،‬ولها �أي�ض ًا‬ ‫كروم‪،‬‬
‫ابن ف�ضالن‬ ‫نهر الفوجلا‪� .‬شهراً بعد �آخر يوا�صلُ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ومزارع ٍ‬
‫ُ‬ ‫وا�سعةٌ‪،‬‬
‫اب �سيئو الطالع ـ يا ل�سعادتنا ـ عزا�ؤهم �أن �أنا�س ًا‬ ‫ك ّت ٌ‬
‫جبال‬‫ٍ‬ ‫رحلته على اخلريطة التي تقطعها �سال�سلُ‬
‫أماكن كثريةٍ من‬ ‫ي�شبهونهم يوا�صلون اخلرب�ش َة يف � َ‬
‫خطوط من النمل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كثري ٌة‪ ،‬م�ستقيم ٌة وملتوي ٌة مثل‬ ‫العامل ك َّل يوم‪� .‬إنهم يكتبون‪ ،‬كما تقول �سيد يو�سا‪،‬‬
‫ال ُبلغار ب�أنهارها وخيولها وفر�سانها‪ ،‬بح ّداديها‬ ‫ي�ش احليوات املتع ّددة التي يرغبون فيها‪،‬‬ ‫من �أجلِ َع ِ‬
‫وربات بيوتها‪ ،‬ترت ّق ُب ما ت�أتي به الرياح‪ .‬طوي ٌل‬ ‫ّ‬ ‫هم الذين مل تتوفر لهم �إال حيا ٌة واحد ٌة بالكاد‪ ،‬وهي‬
‫طريقك يا ابن ف�ضالن‪ ،‬لن ينتهي بني يدي �أمل�ش‬ ‫حيا ٌة ت�ستحق �أن ُتعا�ش‪ ،‬رغم ذلك وب�سببه رمبا‪ ،‬و�أن‬
‫�شعاب �أحالم ِه‬
‫ِ‬ ‫يغيب يف‬
‫َ‬ ‫بن يلطوار‪ ،‬امللك‪ ،‬ولن‬ ‫للتخيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أوهامها‪� .‬إنها م�ساحتهم الوحيد ُة‬
‫تتع ّدد � ُ‬
‫كتاب اخلليفة وقد �صمتت‬ ‫َ‬ ‫الف�سيحةِ‪ .‬ها �أنت تقر�أ‬ ‫حيث َيح َيون من جدي ٍد مع ك ِّل فكرةٍ ‪ ،‬ولن يكون‬
‫الطبولُ من حولك‪ ،‬ورفرفتِ الرايات‪.‬‬ ‫مب�ستطاعهم‪ ،‬وقد �ضاقت خيارا ُتهم‪ ،‬غري �أن يوا�صلوا‬
‫موت ميوتونه‪ ،‬ومع ك ِّل حياة‪.‬‬ ‫الكتاب َة مع ك ِّل ٍ‬
‫يف القارب‬ ‫اجل�سور بني‬ ‫اجليد مي ُّد‬
‫َ‬ ‫قلت‪� ،‬سيد يو�سا‪� ،‬إن الأدب ّ‬ ‫َ‬
‫املاء يف‬
‫َ‬ ‫الرجلُ يف القارب منذ �سنوات‪ ،‬مل يربح‬ ‫النا�س املختلفني‪ ،‬ذلك �صائب حقاً‪ ،‬ومن ال�صواب‬
‫القارب يف رحلة طويلة �إىل‬‫ُ‬ ‫ليلٍ �أونهار‪ .‬ي�أخذه‬ ‫�أي�ض ًا �أن نفكّر ب�أن ال ج�رس يف الكتابة‪ ،‬ال باب‪ ،‬وال‬
‫و�سار على‬
‫َ‬ ‫مر ًة على ال�شاطئ‪،‬‬
‫حياته‪ ،‬حيث نزلَ ّ‬ ‫�شارع‪ ،‬ثمة حيا ٌة طليق ٌة فح�سب ت�أخذ النا�س حتت‬
‫الرمل‪ ،‬ور�أى جنوداً منك�رسين‪ .‬كان �شاب ًا وقتها‪،‬‬ ‫جناحيها يف جتربة فريدة ال تنق�ضي‪.‬‬
‫�سعيداً بالرمل الذي يعلُق بقدميه‪ ،‬حاولَ �أن ُيح ّدث‬ ‫�إنقاذ اللغة من الغرق‬
‫اجلنو َد عن �سعادته‪ ،‬وعن �سنوات ِه على القارب‪،‬‬
‫ما �أبعد اخلام�س والع�رشين من ني�سان ‪ ،1937‬ما‬
‫لكن �أحداً منهم مل ي�سمع �أو ُيجيد الكالم‪ ،‬كانوا‬
‫�أ�صعب الو�صول لل�صفحة الثامنة والع�رشين من‬
‫زخات الر�صا�ص‪.‬‬ ‫قد خ�رسوا اللغة‪ ،‬ال ريب‪ ،‬مع ّ‬ ‫النيويورك تاميز‪ ،‬حيث ي�أوي همنغواي ُمق َت َب�س ًا‬
‫وقت مل ير طرياً ومل ي�سمع زقزق ًة �أو نعيباً‪،‬‬ ‫منذ ٍ‬ ‫من احلرب التي تتجلّى ناب�ض ًة باحلياة يف مدريد‪.‬‬
‫�إنه يوا�صل حياته مم ّدداً على ال�سطح‪ ،‬ناظراً‬ ‫طيف عاب ٍر‪ ،‬ميكنك ر�ؤي ُة‬
‫ٍ‬ ‫هام�ش وحيدٍ‪ ،‬مث َل‬
‫ٍ‬ ‫يف‬
‫كل �شئ من حوله‪ ،‬حتى املاء‬ ‫�صامت ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫لل�سماء‪.‬‬ ‫جندي ي�ستلقي على الرمل بثيابه الكاملة‪ ،‬عيناه‬ ‫ٍ‬
‫القارب‪ ،‬يدفعه بال �صوت‪ .‬عند هذه‬ ‫َ‬ ‫يدفع‬
‫ُ‬ ‫الذي‬ ‫مفتوحتان‪ ،‬عظمتا وجنتيه بارزتان‪ ،‬مي�سحهما‬
‫ي�سحب كتاب ًا من بطن القارب‪،‬‬‫ُ‬ ‫النقط ِة من النهار‬ ‫التف‬
‫�ضوء �آخر النهار‪ ،‬خوذته مائلة قلي ًال وقد َّ‬ ‫ُ‬
‫املاء منها‬
‫الوقوف �أمام كلمات ِه التي مل ُيبق ُ‬
‫َ‬ ‫ُيطيل‬ ‫حزامها على الرقبة‪ .‬يف جيبه العلوي‪� ،‬إن ح ّدقت‬ ‫ُ‬
‫كل ظلٍ غيم ٌة عابرة‪ .‬من �صفحةٍ �إىل‬ ‫غري الظالل‪ُّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ملياً‪� ،‬سرتى دلي ًال للنجاة كُ تب خ�صي�ص ًا لإنقاذ‬ ‫ّ‬
‫�صفحةٍ يوا�صلُ القراء َة حتى يغلبه النوم‪.‬‬ ‫اللغة من الغرق‪.‬‬

‫‪237‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫امللب�سات‬
‫ُ ّ‬ ‫يبيع‬ ‫الذي‬ ‫الرجل‬
‫يف احلديقة‬
‫لوي�س �سيبولبيدا ـ ال�شيلي ‪j‬‬
‫ترجمة‪� :‬أحمد الويزي‬
‫كاتب ومرتجم من املغرب‬

‫الع�رشين‪� ،‬أو اخلم�سني‪ .‬ينبغي �أن �أ�صنع بورق‬ ‫«احلياة ف�سيحة للغاية‪ .‬وثمة حلظة بدا يل �أثناءها‪،‬‬
‫ال�صحف ل ّفات متقنة‪ ،‬و�أن �أكتب على ك ّل ل ّفة منها‬
‫ُ‬ ‫قمت به‪ ،‬كان ُمق ّدراً علي منذ ع�رشة �آالف عام؛‬
‫�أن ما ُ‬
‫باحلرب الأ�سود‪ ،‬املبلغ الذي حتويه‪.‬‬ ‫بعد ذلك‪� ،‬ساورين االعتقاد ب�أن العامل قد ان�شق اىل‬
‫يلزمني الوقت الكايف لأقوم بكل ما ذكرت‪ ،‬اىل‬ ‫ن�صفني‪ ،‬وب�أن كل �شيء قد اتخذ لون ًا �أ�صفى مما‬
‫جانب غ�سل ما ينبغي علي غ�سله‪ ،‬وحت�ضري قطعتي‬ ‫كان عليه‪ ،‬وب�أ ّننا ـ نحن الب�رش كذلك ـ مل نعد نعي�ش‬
‫خبز مطلي بالزبد‪ ،‬واخلروج على وجه ال�رسعة كذلك‪،‬‬ ‫يف حزن �شديد»‪.‬‬
‫اللعبة امل�سعورة‪ ،‬روبريتو �أرتل‬
‫و�أنا �أحمل اخلوان �سهل الطي اىل جانب ال�سلة‪ ،‬ق�صد‬
‫االلتحاق باحلافلة العمومية ال�صغرية‪ ،‬التي تنطلق‬ ‫�أنا‪ ،‬ما �سبق يل قط من قبل‪� ،‬أن �أ�س�أت اىل �أي كان‪.‬‬
‫مع متام ال�سابعة‪.‬‬ ‫كل ما �أدريه هو �أنه يتعينّ ُ علي النهو�ض من النوم‬
‫�أنا‪ ،‬ما �سبق يل قط من قبل‪� ،‬أن �أ�س�أت اىل �أي كان‪،‬‬ ‫يف ال�ساد�سة �صباحاً‪ ،‬حتى يف�ضل �أمامي ما يكفي‬
‫معني مع ذلك‪ ،‬ب�أن �أكون حذراً غاية احلذر مع‬
‫ٌّ‬ ‫�إال �أين‬ ‫من الوقت‪ ،‬لرتتيب ال�سلة التي تكون دائم ًا غري‬
‫ومن‬‫النا�س‪� ،‬إذ ثمة دائم ًا َمن ال يعرفني من ه�ؤالء‪َ ،‬‬ ‫مرتبة‪ .‬يلزمني ما يكفي من الوقت‪ ،‬لأعرف العدد‬
‫ينظر اىل �ش َعر ر�أ�سي املق�صو�ص بطريقة مفرطة‬ ‫امللب�سات‪� ،‬سواء ذات‬
‫الذي ينبغي يل �أن �أ�شرتيه من ّ‬
‫عيني اللتني ُيقال �إنهما‬
‫ّ‬ ‫ومن ينظر اىل‬ ‫الق�ص‪َ ،‬‬ ‫مذاق النعناع‪� ،‬أو الين�سون‪� ،‬أو البنف�سج‪ .‬ويلزمني‬
‫جاحظتان‪ ،‬بينما هما غري ذلك بح�سب ما يبدو يل‬ ‫ما يكفي من الوقت �أي�ضاً‪ ،‬حتى �أعرف عدد �سبائك‬
‫�أنا؛ وهناك َمن ينظر اىل املالب�س التي تمُ نح يل من‬ ‫ال�شوكوالتة الذي تك�سرّ ‪� ،‬أو ذاب يف لفافاته‪� ،‬أو �أعرف‬
‫امللج�أ‪ ،‬ف�أرتديها نظيف ًة ومكوية؛ والأخطر من كل‬ ‫عدد اجلُند امل�صنوع من حلوى املرزبانية‪ ،‬الذي فقد‬
‫ذلك‪� ،‬أن ثمة دائم ًا َمن يحاول �أن ي�رسق مني �شيئاً‪،‬‬ ‫بريقه الع�سكري‪ ،‬ومل يعد �سوى �أن�صاف �سيقان ال‬
‫حني ال تكون ال�سلة حمكمة الغلق‪ ،‬لكرثة امللب�سات‬ ‫متب�سمة‪ ،‬ببندقية‬
‫ّ‬ ‫قيمة لها‪� ،‬أو جمرد وجوه �صغرية‬
‫ت�ضمها‪ .‬يحدث هذا عامة يومي‬ ‫ّ‬ ‫واحللويات التي‬ ‫تك�سرّ ْت هي الأخرى‪.‬‬
‫االثنني واخلمي�س‪ ،‬وهما اليومان اللذان �أذهب فيهما‬ ‫ألف قطع‬‫ويلزمني كذلك ما يكفي من الوقت‪ ،‬كي � ّ‬
‫أتزود بقطع امللب�سات‬ ‫اىل املحالت التجارية‪ ،‬ل ّ‬ ‫النقود املعدنية يف ل ّفات متمايزة‪ ،‬بع�ضها من‬
‫واحللوى التي تنق�صني‪.‬‬ ‫فئة ع�رشة �سنتيمات‪ ،‬وبع�ضها الآخر �إما من فئة‬
‫‪238‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إال نحو القدي�سني‪ ،‬ولي�س �صوب �أي �شيء �آخر �أبداً‪،‬‬ ‫حني �أ�صل اىل حملي بال�ساحة‪ ،‬ال �أجد هناك يف ذلك‬
‫حتى �إنهم قد قلبوا اخلوان الذي �أ�ضع فيه الب�ضاعة‪،‬‬ ‫الوقت الباكر من ال�صباح‪� ،‬سوى احلَمام‪ .‬قد يقول‬
‫ملرتني اثنتني يف ال�سنة املا�ضية‪ ،‬ورف�سوا على‬ ‫قائل �إن احلمام يعرفني حق املعرفة‪ ،‬اىل ح ّد �أن‬
‫امللب�سات‪ ‬وال�شوكوالتة‪ ،‬وبقيت ال �أجد �شيئ ًا �أقتات‬ ‫حملي يبقى هو املكان الوحيد‪ ،‬الذي ال يغدو مع‬
‫منه لعدة �أيام‪.‬‬ ‫ال�صباح كما لو �أنه تغطى بالثلج‪ ،‬لأن معامل الأمكنة‬
‫ال�صورة التي �أطلب منها �أن تي�سرّ يل �أمر نهاري‪،‬‬ ‫طمر حتت ذرق تلك الطيور‪� .‬أعتقد‬ ‫الأخرى املتبقية ُت َ‬
‫هي �صورة عذراء الرحمة ال�صغرية‪ .‬العذراء ال�صغرية‬ ‫ب�أن احلمام ي�شكرين ب�صنيعه ذاك‪ ،‬على لباب اخلبز‬
‫هذه �أ�صغر من �سيد اخلوارق بكثري‪ ،‬ويف كل يوم‬ ‫الذي �أجمعه له يف بيتي‪ ،‬و�آتيه به كل يوم جمعة‬
‫�أراها بوجهها الظريف امل�صنوع من اجلب�س‪ ،‬وهو‬ ‫يف �أكيا�س من البال�ستيك‪� .‬أعتقد ب�أن احلمام يعرف‬
‫ي�شع بالكثري من االبت�سام‪ ،‬وك�أمنا قد �شبعت نوماً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬لهذا فهو يحرتم مو�ضعي‪ ،‬عك�س ما يحدث‬
‫وك�أمنا نظفها �أحدهم يف ال�صباح الباكر مباء زهرة‬ ‫ملمع الأحذية الأخر�س الق�صري‪.‬‬ ‫متام ًا مع مو�ضع ّ‬
‫اخلريي‪ ،‬قبل �أن يح ّل �أي كان باحلديقة‪ .‬من هذه‬ ‫�إن هذا ليقذف احلمام دائم ًا باحلجارة‪ ،‬ويحاول‬
‫بال�ضبط‪� ،‬أطلب ـ �أي نعم! ـ �أن يتي�سرّ �أمر نهاري‪،‬‬ ‫الإم�ساك ب�صغاره‪ .‬يقول �إن احلمام‪� ،‬إذا ما طُ بِخ‬
‫رسق مني �شيء‪ ،‬و�أن‬ ‫و�أن ال متطر ال�سماء‪ ،‬و�أن ال ُي� َ‬ ‫على نار هادئة‪ ،‬مع الكثري من الثوم‪ ،‬يكون جيداً‬
‫ي�أتيني الكثري من �أبناء املدار�س‪ ،‬وي�شرتوا مني‬ ‫جداً للرئتني‪ .‬و�إين لأعتقد ب�أن احلمام ال يحب ذلك‬
‫كل حمتويات ال�سلة‪ .‬ومن هذه �ألتم�س ـ �أي نعم! ـ‬ ‫الأخر�س الق�صري‪ ،‬لهذا دائما ما ي�صبح مو�ضعه‬
‫�أن تقيني من عرثة احل�ساب‪ ،‬حني يدفع يل �أحدهم‬ ‫مك�سواً بذرق �أبي�ض كل �صباح‪ ،‬وهو ما يجعله يغلي‬
‫بورقة نقدية من فئة كبرية‪ ،‬و�أ�ضطر اىل �أن �أر ّد عليه‬ ‫حنقاً‪.‬‬
‫ما تبقى من احل�ساب‪ .‬حني يقع هذا‪� ،‬أ�صبح يف غاية‬ ‫حني �أح ّل يف ال�صباح مبحلي‪ ،‬ف�إن �أول �شيء‬
‫يت�صبب العرق‬‫ّ‬ ‫من الع�صبية‪ ،‬وحني �أغدو ع�صبياً‪،‬‬ ‫�أقوم به هو ر�سم �إ�شارة ال�صليب �أمام �صورة �سيد‬
‫حلكّة‪،‬‬‫من وجهي‪ ،‬وي�ستبد بج�سمي كله الأكالن وا ِ‬ ‫اخلوارق‪ ،‬لكني ال �ألتم�س منه يف كل الأحوال‪ ،‬هو‬
‫و�أ�شعر برائحة كريهة ت�صعد من بطني‪ ،‬قد تت�سبب‬ ‫الذي يبدو دائم ًا ب�سِ ْمت جاد للغاية‪ ،‬بينما الكثري‬
‫أتع�صب‪ ،‬ال يكون مب�ستطاعي‬ ‫يف فرار الزبائن‪ .‬وحني � ّ‬ ‫من �شموع الع�سل ذكية الرائحة وغالية الثمن‪ ،‬تذوب‬
‫التفوه ب�أي �شيء‪ ،‬ف�أ�شعر حينها ب�أن عيني قد‬ ‫تقريب ًا ّ‬ ‫بالقرب من قدميه‪� ،‬أن يعينني �أو ي�سندين على ق�ضاء‬
‫جحظتا حقاً‪.‬‬ ‫�أي �شيء‪ .‬ال‪� .‬أنا ال �ألتم�س منه �شيئاً‪ ،‬و�إمنا �أر�سم‬
‫ال ُتوقد مبقام العذراء ال�صغرية تقريباً‪� ،‬أي �شمعة‬ ‫�إ�شارة ال�صليب �أمامه وح�سب‪ ،‬و�أنا خائف كثرياً‬
‫ع�سلية جميلة وملونة‪ُ .‬توقد ملقامها �شموع طويلة‬ ‫من منظر عينيه املرعبتني‪ ،‬اللتني تعك�سان �شعاع‬
‫وح�سب‪ ،‬من �صنف ما ي�ضيء بيوت ه�ؤالء الذين‬ ‫ال�شمع‪ ،‬حتى ل ُيقال �إنهما تر�سالن �رشراً م�ستطرياً‪،‬‬
‫يعي�شون على ال�ضفة الأخرى من الوادي‪ ،‬وي�سمونه‬ ‫يف وجه كل من يقف �أمامه‪ .‬و�أنا �أخاف كذلك‪ ،‬من‬
‫ال�شمع الأبي�ض‪ .‬هذا هو كل النذر الذي حتظى به‬ ‫دثار القطيفة احلمراء املو�ضوع يف ال�صورة على‬
‫هذه العذراء‪ :‬جمرد �شمع رخي�ص‪ .‬ويحدث يل يف‬ ‫كتفيه‪ ،‬بنف�س اللون الذي ُي�صنع منه دثار الأ�سقف‬
‫بع�ض الأحيان‪� ،‬أن �أحمل لها معي علبة كاملة منه‪،‬‬ ‫خالل يوم االنبثاق‪ ،‬حني يخرج جميع القدي�سني‬
‫لأ�شكرها على تلك النهارات اجليدة التي تكون قد‬ ‫يف موكب النزهة‪ ،‬فيكون علي �أن �أحذر حذراً كثرياً‪،‬‬
‫بعت فيها كل‬ ‫منحتها يل‪ ،‬وهي نهارات �أكون قد ُ‬ ‫لأن عيون النا�س يف العادة‪ ،‬ال تن�ش ّد �أثناء ذلك اليوم‬
‫‪239‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ذلك متاماً‪ ،‬و�أنا واثق من �أنه مل ي�سبق يل باملرة‪� ،‬أن‬ ‫احللوى و�سبائك ال�شوكوالتة‪ ،‬وال يتك�سرّ يل خاللها‬
‫�رصت‬
‫ُ‬ ‫�أ�س�أت اىل �أي كان‪ ،‬ورمبا لهذا ال�سبب بال�ضبط‬ ‫�أي جندي من حلوى املرزبانية؛ ويكون الكثري من‬
‫�أ�ش ّد ع�صبية‪ ،‬يوم جاء �أ�صحاب ال�سيارة‪ ،‬بنظاراتهم‬ ‫الأطفال قد جاء اىل �ساحة احلديقة‪ ،‬وتكون ال�سماء‬
‫ال�سوداء الواقية من ال�شم�س‪ ،‬وطلبوا مني وثيقة‬ ‫ما �أمطرت‪ ،‬ويكون ما من �شيء قد �سرُ ق مني‪.‬‬
‫الرتخي�ص بالبيع‪.‬‬ ‫يف ال�سابعة والربع �صباحاً‪� ،‬أج ّهز اخلوان �سهل‬
‫اعتقدت ب�أنهم مفت�شو‬
‫ُ‬ ‫نت لهم الوثيقة‪ ،‬ف�ضحكوا‪.‬‬ ‫بي ُ‬
‫ّ‬ ‫الطي‪� .‬أر ّتب فيه امللب�سات بح�سب مذاقها ولونها‪،‬‬
‫البلدية اجلدد‪ ،‬وب�أنهم �سينظرون اىل الرتخي�ص‪،‬‬ ‫وال�شوكوالتة بح�سب ثمنها‪ ،‬تارك ًا بالطبع �أغالها‬
‫و�سيتبينون ب�أن كل �شيء على ما يرام‪ ،‬لكنهم‬ ‫بالقرب مني‪ ،‬كما �أ�ص ّفف فيه جنود احللوى‬
‫�ضحكوا‪ ،‬و�أخذوا معهم الوثيقة‪.‬‬ ‫املرزبانية‪ ،‬وك�أمنا هي يف ا�ستعرا�ض ع�سكري‪،‬‬
‫�أعرف ب�أن رجال ال�سيارة �سي�أتون ثانية اليوم‪،‬‬ ‫أ�ضيق �صفوف اجلند ال�صغار‪ ،‬و�أترك َح َملة‬ ‫حيث � ّ‬
‫مثلما جا�ؤوا يف املرة ال�سابقة‪.‬‬ ‫البيارق يف املقدمة‪.‬‬
‫�أ�شعر ب�أين �رصت منذ وقت ع�صبياً‪ ،‬ح ّد �أين مل �أعد‬ ‫وكنت كلما‬
‫ُ‬ ‫أحب كثرياً هذه املخلوقات ال�صغرية‪.‬‬ ‫� ّ‬
‫أت�صبب عرقاً‪،‬‬
‫التفوه ب�شيء‪� .‬إين ل ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أ�ستطيع تقريب ًا‬ ‫رت معها �أزمنة �أخرى‪ ،‬كانت‬ ‫�صففتها‪� ،‬إال وتذكّ ُ‬
‫وي�أكلني ج�سدي كله‪ ،‬و�أح�س برائحة كريهة ت�صعد‬ ‫مت�سكني �أثناءها امر�أة من يدي‪ ،‬وهي تراقفني‬
‫من بطني‪ ،‬هي رائحة زنخ ال�ضفدع املتعفن‪ ،‬التي‬ ‫لر�ؤية اال�ستعرا�ض‪ ،‬فت�شرتي يل مثلج ًا مبذاق‬
‫تو�شك �أن تت�سبب يف فرار الزبائن‪.‬‬ ‫وتذكرت معها �أزمنة‬
‫ُ‬ ‫الفانيال‪ .‬كلما �صففتها‪� ،‬إال‬
‫�إنهم �سي�أتون‪ ،‬و�سيلتهمون �سبيكة �أو اثنتني من‬ ‫مير ناقرو الطبول على‬ ‫�أخرى‪ ،‬كنت خاللها ـ ما �أن ّ‬
‫ال�شوكوالتة غالية الثمن‪ ،‬دون �أن يدفعوا يل‪،‬‬ ‫�صهوات اجلياد‪ ،‬مرعدين الأر�ض من حولهم بالنقر ـ‬
‫و�سينفجرون بال�ضحك حني �س�أ�س�ألهم من جديد عن‬ ‫بوم! لهذا‪ ،‬ما زلت يف بع�ض‬ ‫بوم! ْ‬‫البوم! ْ‬
‫�أدندن بلحن ْ‬
‫رخ�صتي‪ ،‬و�س�أجدين م�ضطراً اىل �أن �أوافيهم ب�أرقام‬ ‫بوم! و�أنا �أ�صفف‬
‫بوم! ْ‬
‫البوم! ْ‬
‫الأحيان‪� ،‬أدندن بالزمة ْ‬
‫كافة ال�سيارات‪ ،‬التي توقفت هذا الأ�سبوع �أمام‬ ‫تلك املخلوقات ال�صغرية يف اخلوان؛ �إمنا �أفعل ذلك‬
‫املكتبة‪.‬‬ ‫ب�صوت خافت‪ ،‬خمافة �أن ي�سمعني النا�س‪ ،‬لأن كل‬
‫�أعرف ب�أنهم لن يردوا يل الرخ�صة‪ ،‬رغم �أين تو�سلت‬ ‫َمن قد ي�سمعني على تلك احلال‪� ،‬سيجعلني �أخجل‬
‫يف �ش�أن هذا كثرياً لعذراء الرحمة ال�صغرية؛ ورغم‬ ‫كثرياً من نف�سي‪ ،‬ف�أ�صري للتو ع�صبياً‪ ،‬وقد �سبق يل‬
‫�أين قلت لهم ـ هم بالذات �أي�ض ًا ـ ب�أنه مل ي�سبق يل من‬ ‫�رصت ع�صبياً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ذكرت احلالة التي تنتابني‪ ،‬كلما‬ ‫ُ‬ ‫�أن‬
‫قبل �أبداً‪� ،‬أن �أ�س�أت لأي كان‪.‬‬ ‫حني ُتعلن الأجرا�س حلول ال�ساعة ال�سابعة والن�صف‪،‬‬
‫بقرع ُمن ّغم يروق يل‪ ،‬لأنه يجعل احلمام يرق�ص‪،‬‬
‫هام�ش‬ ‫يكون كل �شيء قد �صار جاهزاً‪ ،‬و�أكون �أنا يف انتظار‬
‫‪ j‬لوي�س �سيبولبيدا (‪� 4‬أكتوبر ‪ ،)1949‬من الروائيني والق�صا�صني‬
‫املعا�رصين يف ال�شيلي‪� ،‬صدرت له رواية‪« :‬ال�شيخ الذي كان يقر�أ‬ ‫الطالئع الأوىل‪ ،‬من �أبناء املدار�س‪.‬‬
‫روايات احلب»‪ ،‬وترجمت اىل خم�س وثالثني لغة‪ ،‬وجمموعة كبرية من‬ ‫�أنا‪ ،‬ما �سبق يل قط من قبل‪� ،‬أن �أ�س�أت اىل �أي كان‪.‬‬
‫حب يف بالد‬
‫الروايات واملجاميع الق�ص�صية‪ ،‬التي من بينها‪« :‬موعد ّ‬
‫تعي�ش احلرب»‪ ،‬وهي املجموعة التي ترجمنا منها هذا الن�ص‪.‬‬ ‫كل ما �أقوم به‪ ،‬هو �أين �أ�ستيقظ يف ال�ساد�سة �صباحاً‪،‬‬
‫لأ�ستطيع القيام بعملي على الوجه الأكمل‪� .‬أعرف‬

‫‪240‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫ذلك الليل الطويل ‪...‬‬
‫الطويل‬
‫مفيد جنم‬
‫كاتب وناقد يف �سورية‬

‫�أن يكونوا يف املقدمة‪ .‬ا�سرتقت نظرة خاطفة �إىل‬ ‫بعد �إعادة التحقيق معنا يف فرع التحقيق الكائن‬
‫املكان‪ ،‬الذي كان يعج باجلنود املت�أهبني بكابالت‬ ‫يف �إدارة املخابرات العامة يف كفر �سو�سة‪ ،‬عادوا‬
‫الكهرباء الثخينة‪ ،‬التي كانوا يلوحون بها يف الهواء‪،‬‬ ‫بعد �أ�سبوعني وجمعونا مرة �أخرى بنف�س الطريقة‬
‫ف�أدركت فظاعة امل�شهد الذي ينتظرنا‪ .‬قبل �أن ينتهوا‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬لكنهم هذه املرة ح�رشونا جميعا يف �سيارة‬
‫من ملء اال�ستمارات اخلا�صة بكل �سجني‪ ،‬وت�سليم‬ ‫ال�صفيح املغلقة‪ ،‬دون �أن ندري �إىل �أين �ستم�ضي‬
‫الأمانات بد�أوا باقتياد ال�سجني الأول منا نحو الباحة‬ ‫بنا‪ .‬كان م�ساء دم�شق �ساجيا وعميقا تبلله رطوبة‬
‫اخلارجية‪ ،‬فقد كانوا متحم�سني لبدء حفلة اال�ستقبال‪،‬‬ ‫خفيفة‪ ،‬بينما راحت ال�سيارة ت�صعد بنا جبال مرتفعا‪،‬‬
‫و�رسعان ما راحت الكرابيج تنهال عليه بعد �أن‬ ‫تقطعه احلواجز الع�سكرية املكثفة‪ ،‬مما جعلنا نوقن‬
‫و�ضعوه يف الدوالب‪ ،‬الذي كان مركونا يف زاوية‬ ‫�أنه اجلبل الذي كان يرتبع على قمته �سجن املزة‬
‫ال�ساحة‪� .‬أخذ ال�رصاخ الدامي ميزق �سكون الليل من‬ ‫الع�سكري‪ ،‬الذي طاملا الح لنا من بعيد كقلعة بالغة‬
‫حولنا‪ ،‬ويرتدد �صداه يف جنبات املكان ويف �أعماقنا‬ ‫اجلهامة والرهبة‪ ،‬بلونه الرمادي الذي يوحي بالأ�سى‬
‫احلزينة مدة طويلة من الزمن‪ ،‬ثم تكرر امل�شهد مع‬ ‫والك�آبة‪ ،‬ناهيك عن �سمعته ال�سيئة تاريخيا‪ ،‬والتي‬
‫ال�سجني الثاين‪ .‬كان �رصاخهم العنيف ي�ضفي حالة‬ ‫اكت�سبها على مدى عقود طويلة من تاريخ �سوريا‬
‫من الرعب والعذاب النف�سي الرهيب‪ ،‬ولذلك ما �أن‬ ‫الوطني وال�سيا�سي‪ ،‬بو�صفه رمزا للقمع والإرهاب‬
‫حاولوا �سحب ال�سجني املجاور يل نحو ال�ساحة‬ ‫والتعذيب‪ ،‬الذي طاملا مار�سته �سلطة الع�سكر طوال‬
‫املجاورة‪ ،‬حتى وجدتني اندفع م�رسعا بدال منه نحو‬ ‫تاريخ �سوريا احلديث‪ ،‬ومن قبلها امل�ستعمر الفرن�سي‪.‬‬
‫ال�ساحة اخلارجية‪ ،‬لكي �أ�ضع حدا لهذا العذاب النف�سي‬ ‫عندما �أنزلونا من ال�صندوق احلديدي املغلق لل�سيارة‪،‬‬
‫الفادح‪ ،‬وانتهي من هذا الكابو�س‪ ،‬بعد �أن �أيقنت �أن‬ ‫كان كل �شيء �أمامنا يوحي بالرهبة والوح�شة‪...‬‬
‫حفلة اال�ستقبال الوح�شية البد منها‪ ،‬وهكذا وجدتني‬ ‫الدرجات احلجرية التي كان علينا �أن نعرب فوقها‪،‬‬
‫�أتلقى ع�رشات ال�صفعات والكرابيج‪ ،‬حتى و�صويل �إىل‬ ‫واملمر الطويل الذي كان يلي الباب الوا�سع والقدمي‬
‫مكان الدوالب‪ ،‬الذي كان علي �أن �أنزل فيه ب�رسعة‪،‬‬ ‫ب�أ�ضوائه الباهتة‪ ،‬و�رصاخ اجلنود وكرابيجهم التي‬
‫لأجدين وقد انقلبت معه على ظهري‪ ،‬و�صارت �ساقاي‬ ‫راحت تنهال على �أج�سادنا‪ ،‬ونحن ن�صطف يف رتل‬
‫وقدماي يف الأعلى‪ ،‬و�رسعان ما راحت كرابيجهم‬ ‫طويل يف الباحة اخلارجية لل�سجن‪� .‬أدخلونا �إىل‬
‫و�ساقي بغزارة عجيبة‪ .‬كانوا ثالثة‬
‫ِّ‬ ‫قدمي‬
‫َّ‬ ‫تنهال على‬ ‫غرفة وا�سعة وقدمية‪ ،‬وبد�أوا بتوزيعنا على ثالثة‬
‫جنود يحيطون بي من اجلانبني واخللف‪ ،‬لكي �أبقى‬ ‫�صفوف‪ ،‬كان على الع�سكريني منا‪ -‬و�أنا كنت واحدا‬
‫يف مرمى كرابيجهم حيثما حتركت‪ .‬حاولت عبثا �أن‬ ‫منهم‪� ،‬إذ مل �أكن عند اعتقايل قد انهيت خدمة العلم‪-‬‬
‫‪241‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أوا�صل الهرولة منذ دخويل �إىل املهجع‪ .‬كان املكان‬ ‫�أفلت من غزارة الكرابيج التي كانت تت�ساقط على‬
‫املخ�ص�ص لنومي يقع يف نهاية املم�شى‪ ،‬الذي يتو�سط‬ ‫الق�سم ال�سفي الظاهر من ج�سدي‪ ،‬خارج الدوالب‪،‬‬
‫م�صطبتني عاليتني‪ ،‬بجانب مغ�سلة املهجع الوحيدة‪،‬‬ ‫لكنهم كانوا يحيطون بي من كل مكان‪ ،‬ويتبارون‬
‫التي تت�صدر واجهة احلمام الوحيد‪ ،‬يف مهجع كان‬ ‫فيما بينهم يف �ش ِّدة ال�رضب‪ ،‬والطريقة التي يجعلون‬
‫يعج بع�رشات ال�سجناء‪ ،‬الذين �سنعرف فيما بعد �أنهم‬ ‫بها الكابل يلتف على قدم ال�سجني لزيادة ن�سبة الإيذاء‬
‫يتوزعون على معتقلي املحكمة االقت�صاية‪ ،‬ب�سبب‬ ‫والأمل‪ .‬ا�ستمرت حفلة التعذيب(وت�سمى يف ال�سجن‬
‫اتهامات لهم بق�ضايا الف�ساد واالختال�س‪ ،‬وعنا�رص‬ ‫حفلة اال�ستقبال) مدة طويلة‪ ،‬لكنني ما �أن خرجت‬
‫من �رسايا الدفاع متهمون بال�سطو واالغت�صاب‬ ‫من الدوالب مدمى القدمني وال�ساقني حتى راحوا‬
‫امل�سلح‪ ،‬بينما مل يكن هناك �أي �سجني �سيا�سي بينهم‪.‬‬ ‫يكيلون ال�صفعات يل‪ ،‬ويالحقونني بالكرابيج حيثما‬
‫�أمرونا بالنوم و�إطفاء النور‪ ،‬فتمددنا يف �أماكننا‬ ‫تقع على ج�سدي‪ ،‬بينما كنت �أحاول �أن التقط حذائي‬
‫ونحن ال نعرف كيف نتدبر نومنا بثالث حرامات‬ ‫عن الأر�ض‪� .‬أدخلوين �إىل مهجع طويل كان ال�سجناء‬
‫�شبه بالية‪ ،‬وذات رائحة واخزة يف هذا الربد ال�شتائي‬ ‫فيه ب�سحنهم الداكنة و�صمتهم الثقيل‪ ،‬يتوزعون‬
‫الداهم‪ .‬بعد �أن طويت احلرام الأول طويتني اثنتني‪،‬‬ ‫على جانبي املمر‪ ،‬بينما راحت عيونهم تتفح�صني‬
‫ليكون مبثابة فر�شة‪ .‬ن�صحني �سجني قريب مني �أن‬ ‫وحتا�رصين بنظراتها‪ .‬كان اثنان من زمالئي قد‬
‫�أغطي ر�أ�سي باحلرام �أثناء التون لكي �أمنع اجلرذان‪،‬‬ ‫�سبقاين يف الو�صول �إىل املهجع‪ ،‬لكن ال�صمت املخيم‬
‫التي تخرج ليال من جماري احلمام عند �إطفاء الأنوار‬ ‫منعنا حتى من االقرتاب من بع�ضنا البع�ض‪ .‬وا�صلت‬
‫من �أن تقفز على وجهي بعد �أن تخرج‪ .‬وهكذا كان‬ ‫الهرولة داخل املهجع يف حماولة ملنع انحبا�س الدم‬
‫علي على الرغم من الرائحة الكريهة للحرامات‪ ،‬ب�سبب‬ ‫ّ‬ ‫يف القدمني وال�ساقني‪ ،‬كيال تتورم القدمان‪ ،‬وهو ما‬
‫طول ا�ستخدامها املتوا�صل وعدم غ�سلها‪� ،‬أن �أغطي‬ ‫تعلمته بعد مرحلة التحقيق الأوىل‪ ،‬دون �أعري تلك‬
‫ر�أ�سي بها‪ ،‬لكي �أجتنب مرور تلك اجلرذان على وجهي‬ ‫العيون التي كانت تالحقني �أي اهتمام‪ ،‬يف حني كان‬
‫ور�أ�سي‪ .‬خيم ال�سكون الكامل على املكان حتى بد�أت‬ ‫زميالي الآخران يتكومان على نف�سيهما من الأمل يف‬
‫�أ�سمع و�سط هذه ال�سكينة املريبة �صوت املطر‪ ،‬وهو‬ ‫�أر�ضية املمر‪ ،‬الذي كان يتو�سط م�صطبتني مرتفعتني‪،‬‬
‫يت�ساقط على �سطح املهجع‪ ،‬ووقع �أقدام احلرا�س‬ ‫كان �سجناء املهجع يتكومون فوقهما‪ .‬طالت مدة‬
‫وهم تتحرك جيئة وذهابا دون توقف‪ ،‬وال�رصاخ‪،‬‬ ‫اال�ستقبال‪ ،‬لكنهم بعد ال�سجني العا�رش �أغلقوا باب‬
‫الذي كانوا يطلقونه بني فينة و�أخرى‪ ،‬رمبا من �أجل‬ ‫املهجع‪ ،‬وراحوا يوزعون البقية على املهاجع الأخرى‬
‫ت�أكيد وجودهم يقظني يف حرا�ساتهم بالن�سبة لإدارة‬ ‫‪ .‬ما �أثار ا�ستغرابنا �أن �أحدا من ال�سجناء مل يتجر أ�‬
‫احلرا�سة يف ال�سجن‪� ،‬أو بالن�سبة للمحار�س الأخرى‬ ‫بعد �إغالق الباب‪ ،‬وان�رصاف عنا�رص ال�سجن على‬
‫الكثرية‪ ،‬التي تنت�رش على �أطراف ال�سجن بكثافة‬ ‫االقرتاب منا‪� ،‬أو ال�س�ؤال عمن نكون‪ ،‬فبقينا معزولني‬
‫كبرية‪ .‬كانت تلك الأ�صوات تختلط مع �صوت املطر‬ ‫عن البقية‪ ،‬ك�أننا م�صابون مبر�ض معد‪ ،‬يجعلهم‬
‫ونباح كالب قريب‪ ،‬كان يتعاىل بني وقت و�آخر يف‬ ‫يتجنبون االقرتاب منا‪ ،‬خ�شية انتقال املر�ض �إليهم‪.‬‬
‫�سكون هذا الليل الكانوين البارد‪ ،‬ما زاد من �شعوري‬ ‫بعد االنتهاء من �آخر معتقل‪ ،‬عاد عنا�رص ال�سجن‬
‫بالوح�شة والرهبة‪ ،‬وجعلني �أح�س �أنني �أدخل جتربة‬ ‫بعد وقت ق�صري‪ ،‬ليوزعوا على كل �سجني منا ثالث‬
‫جديدة مع ال�سجن‪ ،‬الذي �سوف يطول كثريا وكثريا‬ ‫حرامات قدمية وو�سخة‪ ،‬ثم طلبوا من رئي�س املهجع‬
‫جدا‪ ،‬ويحفر ذكرياته املريرة يف ذاكرتي وذاكرة‬ ‫�أن يوزعنا على الأماكن ال�شاغرة يف املهجع‪ ،‬فكان‬
‫الآالف الذين مروا بهذه التجربة املريعة‪ ،‬على مدى‬ ‫�أن اختار يل �أ�سو�أ مكان‪ ،‬رمبا لأنه وجدين �أكرث‬
‫تلك ال�سنوات القا�سية من �إرهاب النظام جلميع �أ�شكال‬ ‫قدرة على التحمل من بقية زمالئي‪ ،‬بعد �أن �شاهدين‬
‫‪242‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كانت ت�ضطرهم يف كثري من الأحيان لتعددانا على‬ ‫املعار�ضة‪ ،‬على اختالف تياراتها وايديولوجياتها‪.‬‬
‫عجل‪ ،‬وبالتايل تتقل�ص املدة الزمنية لهذه الو�ضعية‪،‬‬ ‫�أثناء ا�ستغراقي يف خواطري‪ ،‬كان جرذ كبري قد بد أ�‬
‫التي كانت ت�شعرنا باملهانة‪ ،‬وتك�شف عن مدى‬ ‫يقفز فوق ر�أ�سي‪ ،‬فنه�ضت م�رسعا‪ ،‬وكذلك فعل من‬
‫رغبتهم ال�شديدة يف �إ�شعارنا بالإذالل‪.‬‬ ‫هم بعدي‪ ،‬لأنه كان يوا�صل قفزه ال�رسيع نحو الباب‬
‫يت�ألف الق�سم ال�سفلي ل�سجن املزة من �ستة مهاجع‬ ‫دون �أن يتمكن �أحد من الإيقاع به‪ ،‬و�سوف يتكرر هذا‬
‫وغرفة جانبية لل�سجناء الق�ضائيني من �ضباط‬ ‫امل�شهد يف كل ليل من الليايل التالية تقريبا‪� .‬صباح‬
‫اجلي�ش‪ .‬كانت املهاجع الأربعة منها خم�ص�صة‬ ‫اليوم التايل بد�أ البع�ض يقرتب منا بحذر‪ ،‬حماوال‬
‫ل�سجناء املحاكم امليدانية‪ ،‬وقد ح�رش بها ال�سجناء‬ ‫التعرف �إلينا‪ ،‬نحن ال�سجناء الع�رشة‪ ،‬الذين كنا يف‬
‫ب�أعداد تفوق طاقة ا�ستيعابها بكثري‪ .‬بنيت هذه‬ ‫الغالب ال نعرف بع�ضنا البع�ض‪ .‬من مفارقات ال�سجن‬
‫املهاجع كما هو باقي ال�سجن يف عهد اال�ستعمار‬ ‫الغريبة �أن حماميا كان من �ضمن جمموعتنا راح‬
‫مت بناء‬
‫الفرن�سي‪ ،‬لتكون ا�سطبالت للخيول‪ ،‬ولذلك َّ‬ ‫�أثناء ليلة اال�ستقبال القا�سية يطالب بح�صانته‪ ،‬لكي‬
‫م�صطبتني اثنني عاليتني بارتفاع مرت واحد على‬ ‫يعفوه من حفلة اال�ستقبال‪ ،‬فما كان منهم �إال ال�سخرية‬
‫جانبي املهجع‪ ،‬وب�شكل مائل بحيث تكون معالفا لها‪،‬‬ ‫منه‪ ،‬وزيادة ن�سبة ال�رضب املربح له‪ ،‬ولذلك كان هذا‬
‫وت�سمح بتحرك العلف من �أعلى امل�صطبة نحو الأدنى‬ ‫املوقف مو�ضع تندرنا طوال اليوم‪ ،‬كلما كان يئن �أو‬
‫ب�صورة �آلية‪ ،‬عندما تلتهم اخليول الكمية القريبة‬ ‫يتوجع من الأمل الذي ت�سببه له اجلراح‪ ،‬بعد �أن �أخذت‬
‫منها‪ ،‬بينما كانت اخليول تقف يف املمر الفا�صل بني‬ ‫جتف على قدميه و�ساقيه‪ .‬كان علينا �أن نتكيف مع‬
‫امل�صطبتني‪ .‬عانينا كثريا من تلك الو�ضعية املائلة‬ ‫واقع ال�سجن اجلديد‪ ،‬و�أن نحفظ قوانينه ال�شديدة‪� ،‬إذ‬
‫للمكان‪ ،‬والتي كانت جتعل فرا�ش ال�سجني امل�ؤلف‬ ‫كان من املمنوع علينا عندما يفتح ال�سجان �رشاقة‬
‫من حرامني‪ ،‬ال ي�ستقر يف مكانه‪� ،‬إ�ضافة �إىل �أوجاع‬ ‫الباب(فتحة مربعة �صغرية تتو�سط الباب تغطى‬
‫الظهر‪ ،‬ورغم ذلك مل تكن م�شكلة ال�سجني تقف عند هذا‬ ‫بقطعة حديدية على �شكل جرار) �أن ننظر ولو مواربة‬
‫احلد‪� ،‬إذ كان عدد ال�سجناء يزداد ويتقل�ص ح�سب حركة‬ ‫باجتاه الباب‪� ،‬أما �إذا فتح الباب كامال فقد كان‬
‫االعتقاالت‪ ،‬واملحاكم امليدانية التي كانت مبثابة‬ ‫علينا جميعا �أن جنل�س ب�رسعة �أينما كنا‪ ،‬و�أن ننحني‬
‫مهزلة‪ ،‬ي�ؤخذ ال�سجني �إليها خمفورا‪ ،‬وحتت ل�سع‬ ‫بر�ؤو�سنا �إىل درجة‪ ،‬تكاد فيها ر�ؤو�سنا �أن تالم�س‬
‫ال�سياط من عنا�رص ال�سجن‪ ،‬الذين كانوا يحت�شدون‬ ‫�أفخاذنا‪ ،‬بحيث ال ن�ستطيع معها ر�ؤية �أي �شيء‬
‫�أمام املكان‪ ،‬يف حني مل تكن مدة املحاكمة تتجاوز‬ ‫مما يحدث حولنا‪� ،‬أو من هم العنا�رص الذين دخلوا‪،‬‬
‫�أكرث من دقيقة �أو اثنتني‪ ،‬وغالبا ما كان ال�سجني‬ ‫و�إذا ما حاول �أحد �أن يختل�س نظرة �رسيعة و�ضبطه‬
‫يتعر�ض لل�رضب املربح حتى داخل املحكمة‪ ،‬من قبل‬ ‫ال�سجان‪ ،‬فقد كان عليه �أن يتحمل تبعات ذلك‪ ،‬لأن‬
‫مرافقة القا�ضي‪ ،‬الذي رقي كما عرفت بعد خروجي‬ ‫الدوالب يف ال�ساحة اخلارجية �سيكون يف انتظاره‪،‬‬
‫من ال�سجن ب�سبب خدماته اجلليلة للنظام‪� ،‬إىل رتبة‬ ‫مدمى‪ .‬كان التفقد‬‫مع حفلة عقاب �شديدة يخرج منها ّ‬
‫لواء‪ ،‬وعني رئي�سا للق�ضاء الع�سكري‪ .‬لقد كان على‬ ‫اليومي لل�سجناء يف كل مهجع‪ ،‬من قبل �إدارة ال�سجن‬
‫هذا العدد‪ ،‬الذي ي�صل يف بع�ض الأحيان �إىل ما يقاب‬ ‫تتم يف ال�ساعة الثانية ظهرا‪ ،‬لكي يتم ت�سليم املهمة‬
‫املائة �سجني‪� ،‬أن يتكيف مع وجود حمام واحد‪ ،‬ومع‬ ‫�إىل النوبة الأخرى‪ ،‬و�أثناء ذلك يكون علينا �أن جنل�س‬
‫م�ساحة حمدودة ال تتجاوز ‪ 12‬مرتا طوال و‪� 6‬أمتار‬ ‫على اجلانبني وب�رسعة ق�صوى‪ ،‬يف �صفوف ثالثية‬
‫عر�ضا‪ ،‬ما كان ي�ضطر ال�سجني منا �أن ينتظر �أكرث من‬ ‫منتظمة‪ ،‬وقد انحنت ر�ؤو�سنا �أي�ضا حتى تكاد تالم�س‬
‫�ساعة ون�صف ال�ساعة و�أحيانا ال�ساعتني‪ ،‬حتى يتمكن‬ ‫ركبنا‪ ،‬لكن رائحة املهاجع املزعجة لهم‪ ،‬نتيجة عدم‬
‫من دخول احلمام‪ .‬كذلك مل يكن الأمر يختلف بالن�سبة‬ ‫التهوية‪ ،‬واكتظاظها بالأعداد الكبرية من ال�سجناء‪،‬‬
‫‪243‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وهي عبارة عن نافذة �صغرية بطول ال يتجاوز ‪30‬‬ ‫�إىل امل�ساحة املخ�ص�صة لنوم كل �سجني‪ .‬كان عدد‬
‫�سم وعر�ض ‪� 20‬سم‪ ،‬ما يجعل �إمكانية جتدد الهواء‬ ‫ال�سجناء بتقل�ص ويزداد بحركة �رسيعة �أ�شبه بحركة‬
‫داخل املهجع �شبه م�ستحيلة‪ ،‬خا�صة مع وجود‬ ‫بندول ال�ساعة‪� ،‬سواء من داخل ال�سجن �إىل ال�سجون‬
‫تلك الأعداد الكبرية من ال�سجناء‪ .‬كانت تلك النافذة‬ ‫الأخرى‪� ،‬أو العك�س‪ ،‬الأمر الذي كان يتطلب منا يف كل‬
‫ال�صعرية هي �صلتنا الوحيدة مع العامل اخلارجي‪،‬‬ ‫مرة‪� ،‬أن نعيد توزيع م�ساحة املهجع على عدد ال�سجناء‬
‫�إ�ضافة �إىل �صحيفة حملية واحدة‪ ،‬كان علينا �أن ندفع‬ ‫املوجودين من جديد‪ .‬لقد تطلب منا هذا الو�ضع �أن‬
‫ثمنها من قبل ال�سجناء الذين ميلكون بع�ض املال‪،‬‬ ‫ن�رصف معظم �أوقاتنا يف انتظار دورنا‪ ،‬للدخول‬
‫على �أن نعيدها يف اليوم التايل‪ ،‬دون �أن ي�صيبها �أي‬ ‫�إىل احلمام‪� ،‬أو يف توزيع م�ساحات املهجع على عدد‬
‫خد�ش‪� ،‬أو يكون عليها عليها �أية كتابة‪ ،‬وعندما ال يتم‬ ‫ال�سجناء املوجودين‪� ،‬أو حل اخلالفات الناجمة عن‬
‫االلتزام بذلك‪ ،‬يكون على حار�س املهجع‪ ،‬الذي غالبا‬ ‫تداخل عالمات خطوط الف�صل التي كان البع�ض‬
‫ما تقوم �إدارة ال�سجن باختياره من ال�سجناء املر�ضي‬ ‫يحاول تعدبلها لتو�سيع م�ساحة نومه اخلا�صة‪،‬‬
‫عنهم من قبلها‪� ،‬أن يح ِّدد من قام بهذا الفعل‪ ،‬لكي‬ ‫على ح�ساب جاره‪ ،‬نظرا ملحدودية م�ساحتها‪ ،‬التي‬
‫ينال عقابه بعد ت�سليم ال�صحيفة �صباحا‪ .‬كان نظام‬ ‫كانت غالبا ال تتجاوز ‪� 34‬أو ‪� 36‬سم‪ ،‬الأمر الذي‬
‫ال�سجن يفر�ض علينا بعد �إطفاء الأ�ضواء من قبل‬ ‫كان ي�ضطرنا ب�أن ننام يف و�ضعية املخالفة �أو ر�أ�س‬
‫ورجل‪ ،‬بحيث يكون ر�أ�س ال�سجني الأول من الأعلى‬
‫عنا�رص ال�سجن يف ال�ساعة التا�سعة م�ساء‪� ،‬أن منتنع‬
‫وقدما ال�سجني الثاين من الأعلى ور�أ�سه من الأدنى‪،‬‬
‫عن القيام ب�أي حركة لأي �سبب كان‪ ،‬حتى من �أجل‬
‫وهكذا حتى النهاية‪ ،‬وذلك لكي ي�ستطيع ال�سجناء‬
‫الذهاب �إىل احلمام لق�ضاء حاجة‪ ،‬ومن يتم �ضبطه‬
‫�أن يتكيفوا مع امل�ساحة املحدودة املخ�ص�صة لكل‬
‫�أثناء الغارات املتتالية‪ ،‬التي كان يقوم بها حرا�س‬
‫واحد منهم‪ .‬لقد كان �ضيق املكان وما ينجم عنه من‬
‫ال�سجن‪ ،‬من خالل �رشاقة الباب( فتحة �صغرية يف‬
‫خالفات �سببا كافيا للدخول يف �رصاعات‪ ،‬وم�شادات‬
‫منت�صف الباب تفتح وتغلق من اخلارج ب�صفيحة من‬ ‫وجدال طويل �شبه يومي‪ ،‬بني ال�سجناء املهيئني �أ�صال‬
‫احلديد)‪ ،‬التي كانت ُتف َتح ب�رسعة مع �إ�شعال الإنارة‪،‬‬ ‫لكل هذا‪ ،‬ب�سبب حالة التوتر والقلق وال�ضيق التي‬
‫يكون عليه �أن ينال عقابه ال�شديد يف ال�صباح الباكر‬ ‫كانوا يعي�شون فيها‪ ،‬يف ظل هذه الأو�ضاع املهينة‪،‬‬
‫من اليوم التايل‪ .‬لقد كانوا يبحثون عن �أي و�سيلة‬ ‫وغري الإن�سانية داخل املعتقل‪ .‬كان ال�سجن مبثابة‬
‫ملمار�سة العنف على ال�سجناء‪ ،‬لأنه يف كثري من‬ ‫حم�رش معزول عن العامل‪ ،‬فال زيارات الأهل م�سموح‬
‫الأحيان‪ ،‬كان يكفي �أن يالحظ ال�سجان �أنك تتحرك‬ ‫بها‪ ،‬وال اخلروج �إىل ال�شم�س والهواء الطلق م�سموح‬
‫يف نومك �أثناء تلك الغارات‪ ،‬حتى يتم تعليمك( حتديد‬ ‫به‪ ،‬وال حتى ر�ؤية �أي �شيء خارج م�ساحة املهجع‪،‬‬
‫موقعك) من قبل ال�سجان‪ ،‬و�إعالم حار�س املهجع‬ ‫بعد �أن مت تغطية النوافذ املطلة على املمر الفا�صل‬
‫بذلك‪ ،‬لكي يتم عقابك يف �صباح اليوم التايل‪ ،‬من قبل‬ ‫بني املهاجه ال�ستة مغطاة ببطانيات �سميكة‪� ،‬إ�ضافة‬
‫عنا�رص النوبة‪ ،‬بل كان يكفي �أن يفتح �أي عن�رص من‬ ‫�إىل �أنه كان على ال�سجني عند اخلروج من املهجع لأي‬
‫ال�سجن الباب‪ ،‬ويراك تتم�شى يف مكانك حتى لو كان‬ ‫�سبب كان‪� ،‬أن يغطي ر�أ�سه والق�سم العلوي من ج�سده‬
‫يف �ساعات النهار‪ ،‬حتى يخرجك �إىل �ساحة ال�سجن‪،‬‬ ‫ببطانية‪ ،‬بحيث ال يظهر منه �سوى عينيه لر�ؤية طريقه‪.‬‬
‫حيث يتم العقاب‪ ،‬لتعود عاجزا عن ال�سري على قدميك‬ ‫الفتحة الوحيدة التي كان ميكن �أن ي�أتي منها النور‬
‫املتورمتني من ال�رضب‪.‬‬ ‫والهواء‪ ،‬كانت تقع يف �أعلى اجلدار اخللفي للمهجع‪،‬‬

‫‪244‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫�شكــوى‬
‫كــــلب‬
‫ريا�ض بيد�س‬
‫كاتب من فل�سطني‬

‫بطبيعة احلال وجدت مالذا على ج�سدي ‪ ،‬اذن ملن ا�شكو‬ ‫اعذروين الين �س�أحدثكم عن �أملي الذي ال يطاق والذي‬
‫امري ‪ ،‬هل من احد يقبل �شكواي انا الكلب الذي اقوم‬ ‫قد يثري �شيئا من حتفظاتكم او يخد�ش م�شاعركم‬
‫بكل واجباتي دون ان يعنى بي احد كما يجب ‪ ،‬بالطبع‬ ‫املرهفة ‪ ،‬فالفا�سوق الذي يغزو ج�سدي بالذات �صيفا‬
‫توجه التهمة اىل �صاحبي الذي جاء بي �صغريا ورباين‬ ‫يجعلني كلبا مت�أملا جدا متوجعا ال احد يح�س بوجعي‬
‫واىل اهل كل بيته ‪ ،‬اذا كنتم تعرفون فاترجاكم ان‬ ‫اال انا ‪ ،‬ولكي ال تنقزوا وتبتعدوا او تعر�ضوا عن قراءة‬
‫قولوا يل ملن ا�شكو امري ‪ ،‬هل ا�شكو امري اىل الفا�سوقة‬ ‫ما �س�أكتب اقول لكم انه لي�ست عندي اي نية الن اكتب‬
‫‪ ،‬ال ال فانا اخاف هذه الفا�سوقة املرعبة ‪ ،‬اجل اخافها‬ ‫اتعر�ض لهجماته وغزواته و�آالمه‬
‫عن كل الفا�سوق الذي ّ‬
‫الن كل ت�رصفاتها وحركاتها و�سكناتها وما تقوم به‬ ‫بل كل ما يف االمر هو اين �س�أكتب لكم عن فا�سوقة‬
‫يدل على ذكاء نادر واخ�شى ان تنقلب �شكواي لها �ضدي‬ ‫واحدة فقط ‪ ،‬ال اكرث وال اقل ‪ ،‬هكذا يكون وقع االمر‬
‫‪ ،‬ال �شك انها تدرك ما يدور يف داخلي وتعاي�شني حالتي‬ ‫تعر�ضا‬
‫عليكم اهون وتكون ح�سا�سيتكم الفائقة اقل ّ‬
‫غري اين يجب ان اكون حذرا معها واال اك�شف كل اوراقي‬ ‫لالذى ‪ .‬ويف الوقت ذاته عليكم ان تعرفوا اين اراعي‬
‫علي ان �آخذ جانب احليطة واحلذر ولتعرف هي‬ ‫لها ‪ّ ،‬‬ ‫م�شاعركم النبيلة كما ال اراعي نف�سي او حتى زمالئي‬
‫باجتهادها قدر ما ت�ستطيع ان تعرفه ‪ ،‬اما مني فال ‪،‬‬ ‫الكالب ‪ .‬فاملعذرة اذا كان احدكم �شديد احل�سا�سية او‬
‫ويتوجب علي ان احرت�س لئال تقع على كلمة �صادرة‬ ‫االنزعاج او الت�أذي من الفا�سوق و�سريته على عمومه ‪،‬‬
‫مني عنها او ت�سمع قوال يل يدور حولها فانا كلب �شديد‬ ‫فال�صمت مل يعد ممكنا ‪ .‬واذا كان بع�ضكم فعال على‬
‫احلذر بالذات من ومع هذه الفا�سوقة التي تختلف‬ ‫درجة عالية من احل�سا�سية فما عليهم اال ان يطووا هذا‬
‫اختالفا كبريا عن كل الفا�سوق الذي عرفته طيلة حياتي‬ ‫الكالم الذي كتبته وي�ضعوه جانبا ولي�ساحموين ‪،‬‬
‫‪ .‬فامي حني لفظتني من اح�شائها اىل احلياة كان اول‬ ‫فعالقتي مع الفا�سوق عالقة قوية جدا وال اجد نف�سي‬
‫ين عواء حزينا ك�سريا �شفوقا وا�ضحا‬‫�شيء �سكبته يف اذ ّ‬ ‫قادرا يف هذا الوقت اال احلديث عن الفا�سوق عفوا‬
‫جدا ان ا�صعب �شيء �سيكون يف حياتك هو الفا�سوق ‪،‬‬ ‫الفا�سوقة ‪ ،‬واعاهدكم ان ال اعود اىل هذا املو�ضوع مرة‬
‫يومها �ضحكت كما ت�ضحك الكالب وقلت لها اي فا�سوق‬ ‫اعر�ض ايا منكم اىل‬
‫اخرى الين �شديد احلر�ص على ان ال ّ‬
‫يقدر علي �س�ألتها هذا ال�س�ؤال مفتخرا اذ كنت �شجاعا من‬ ‫غزو الفا�سوق ولو عرب الكلمات التي اخطها ‪ ،‬فالفا�سوق‬
‫اول يوم يف حياتي ‪ .‬وبعدها كربت وكربت �شجاعتي‬ ‫لي�س باالمر امل�ستحب وال امتنى لكم ان ت�صابوا‬
‫معي لكني �ضحكت فيما بعد من نف�سي بانك�سار الين‬ ‫بالفا�سوق الذي ي�سعى احيانا منت�رشا على االر�ض النه‬
‫ا�ستهز�أت يف ال�سابق من الفا�سوق ‪ ،‬اذ خربت الفا�سوق‬ ‫ببالدته املعهودة ومنظره املقرف على ا�ستعداد الن‬
‫كثريا وعرفت معنى ان تكون مفو�سقا مت�أملا حد اجلنون‬ ‫مي�ص دم من ي�صل اليه اكان كلبا ام ب�رشا ‪ ،‬وكما يعرف‬
‫‪ ،‬لكن الفا�سوق كوم وهذه الفا�سوقة داهية ‪ ،‬لذا احاذر‬ ‫جميعكم ان الفا�سوقة هي ح�رشة مقرفة جدا ‪ ،‬والن‬
‫قدر امل�ستطاع فلو عرفت الفا�سوقة اين امتنى لو انها‬ ‫عالقة الفا�سوق والكالب قدمية العهد فان هذه احل�رشة‬
‫‪245‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫امل�ؤذي ابن احلرام كان اقدر من كالب احلارة علي اذ‬ ‫�سقطت عني باية طريقة لرمبا هاجمتني هجوما‬
‫احتل ج�سدي وانت�رش بكرثة وم�ص دمي بالذات �صيفا‬ ‫كا�سحا عندئذ من �سيكون اخلا�رس ‪ ،‬بالطبع انا ‪ .‬لو كان‬
‫يف ايام القيظ كما لو كان يت�آمر علي مع الذباب ‪ ،‬ورغم‬ ‫�صاحبي �صاحيا ال�شرتى دواء وا�سقط كل الفا�سوق‬
‫اين كلب حمرتم تهابني كل كالب احلارة وحت�سب يل‬ ‫عني لكنه غري �آبه لهذا الفا�سوق الذي ينت�رش عليه ك�أنه‬
‫الف ح�ساب اال ان الفا�سوق مل يرحمني بل جعل حياتي‬ ‫يعي�ش يف عامل غري هذا العامل ‪ ،‬فهل افتح جبهة مع هذه‬
‫جحيما ‪ ،‬اذن ملن ا�شكو همي واملي ‪ ،‬هل ا�شكو اىل هذه‬ ‫الفا�سوقة ‪ ،‬كال بل الجل أ� اىل احليلة اىل احلذر فرمبا نلت‬
‫الفا�سوقة اخلطرة التي ترب�ض على جلدي وحتتلني‬ ‫منها بطريقة من الطرق من يعرف ‪ ،‬واذا كنتم �ست�سخرون‬
‫ومت�ص دمي وال تنوي ال�سقوط ‪ ،‬ليتها ت�سقط وتذهب اىل‬ ‫مني فلكم ذلك ‪ .‬هل تعرفون ان هذه الفا�سوقة الداهية‬
‫مليون داهية ‪ ،‬هل ا�شكو اىل ا�صحابي الذين ال ي�أبهون‬ ‫تعرف كيف توا�سيني احيانا ‪ ،‬كيف ‪ ،‬ب�أن تهم�س يف‬
‫لآالمي بل يرمون يل بالقليل من الطبيخ اخلامم‬ ‫اذين مرات ان زمنها مهما طال على اقل من �سنتمرت من‬
‫والعظام ونظراتهم توحي يل احيانا بالقرف ‪ ،‬يا للعظام‬ ‫ج�سدي هو زمن ق�صري جدا وانها بعد ان تتغذى جيدا‬
‫النيئة التي كادت جتعلني كلبا م�سعورا لوال اين تعودت‬ ‫من دمي فانها �ست�سقط عني و�سيخف احلكاك الذي‬
‫وما ا�صبت بال�سعر ‪ ،‬ويا لهذا اجلار املهوو�س الذي ي�أتي‬ ‫ا�صاب به احيانا النه كما هو معروف للجميع ان‬
‫يوميا ملراقبة الفا�سوق املنت�رش علي كما لو كان يعاين‬ ‫ويتكور متغذيا من‬
‫ّ‬ ‫الفا�سوق ي�سقط ار�ضا بعد ان يكرب‬
‫امرا طبيعيا ‪ ،‬رمبا كان يريد ان يدر�س املو�ضوع بدال‬ ‫دمي ودم غريي من الكالب املهملة ‪� ،‬سمعتها وما قلت‬
‫من ر�شي باالك�سيلون ‪ ،‬هل يوجد احد ال يعرف ما هو‬ ‫�شيئا �سوى ان اظهرت لها كل ر�ضاي ‪ ،‬هززت ر�أ�سي‬
‫االك�سيلون ‪ ،‬جمرد ان ي�سمع الفا�سوق با�سم هذا الدواء‬ ‫با�سى ك�سري حر�صا مني على ان ال ا�شتم ا�صحابي الذين‬
‫حتى يرجتف رعبا على جلدي ‪ ،‬اذن ملاذا ال ي�سارعون‬ ‫احبهم واخل�ص لهم النهم يرتكون هذه الفا�سوقة‬
‫اىل ر�شي اىل الق�ضاء على كل الفا�سوق ‪ ،‬فالفا�سوق كثري‬ ‫وغريها ت�صول وجتول على ج�سدي كما لو كانت‬
‫جدا لدرجة اين �رصت ا�صاب بالدوخة فرمبا اتى هذا‬ ‫ت�ستعمرين ‪ .‬وكدت ذات مرة يف حلظة غ�ضب جنوين ان‬
‫الفا�سوق على كل دمي وا�صبت بانيميا حادة جدا ‪ ،‬من‬ ‫انفتح لهذه الفا�سوقة الذكية التي كانت تغو�ص يف‬
‫يهمه االمر اذا مت او ع�شت ‪ ،‬ا�صحابي ال ي�أبهون‬ ‫جلدي ومت�ص دمي وت�شعرين انها تفيدين وتخدمني‬
‫ويرك�ضون اىل ا�شغالهم ‪ ،‬واذا جاء حرامي ليال علي انا‬ ‫وابوح بوحا خطريا لوال اين ا�صبت بنوبة حكاك قوية‬
‫ان اتوكل فيه واهجم عليه فيما هم ي�ست�سلمون للنوم‬ ‫ونعو�صت على اثرها نعو�صة ك�سرية خافتة ‪ ،‬كدت قبل‬
‫الهاينء اللذيذ ‪ ،‬ارحموا عزيز قوم ذل ارحموين ‪ ،‬كنت‬ ‫احلكاك الذي ا�صبت به ان اقول لها ب�رصيح العبارة ان‬
‫اريد ان ابوح بكل هذا الحد ما حتى للفا�سوقة ‪ ،‬لكني‬ ‫مكانها ال يجب ان يكون على جلدي وانه لو كان‬
‫حر�ضت‬‫ح�سنا فعلت حني بقيت على �صمتي ‪ ،‬فلرمبا ّ‬ ‫ا�صحابي حمبني يل فعال و�شاعرين باملي وبالفا�سوق‬
‫هذه الفا�سوقة الداهية باقي الفا�سوق وقاموا باغارة‬ ‫الذي يغزو جلدي غزوا قويا ل�سارعوا من فورهم اىل‬
‫علي وجابوا �آخرتي ‪ ،‬فالفا�سوق قادر على ذلك ‪ ،‬يكفي‬ ‫الذهاب اىل ال�صيدلية و�رشاء الدواء حاال وربطي ور�شي‬
‫يف احلكاك ‪ ،‬ماذا �سيحدث‬‫ان يهاجمني الفا�سوق ويدق ّ‬ ‫ر�شا قويا لي�سقط عني كل الفا�سوق وميوت �رش ميتة‬
‫يل عندها ‪� ،‬س�أجن واقطع احلبل وادور كاملجنون اىل ان‬ ‫وارتاح ‪ ،‬لكني ح�سنا اين مل اقل للفا�سوقة حرفا واحدا‬
‫ا�سقط يف مكان ما واموت ‪ ،‬ال يجب علي ان احافظ على‬ ‫�ستحر�ض‬
‫ّ‬ ‫من ذلك ‪ ،‬فرمبا كانت �ستغ�ضب مني وكانت‬
‫حياتي وان ال اترك هذه احلياة اجلميلة للفا�سوق وملا‬ ‫علي باقي الفا�سوق ليقوموا باالغارة علي وم�ص دمي‬
‫هو اقل �ش�أنا ‪ ،‬علي ان اظل قويا وان ا�ساير واداري هذا‬ ‫وحتى اىل قتلي رمبا ‪ .‬علي ان اعرتف اين اخاف من‬
‫الفا�سوق وهذه الفا�سوقة بالذات التي مت�ص دمي وان ال‬ ‫الفا�سوق اكرث مما اخاف من كالب احلارة ال�رش�سة التي‬
‫ا�ستثريها ‪ ،‬ان ابقيها هادئة ‪ ،‬لها حياتها التي ت�ستمدها‬ ‫كنت وال ازال ات�صدى لها بجر�أة ‪ ،‬فحني كانت احيانا‬
‫مني ومن دمي ويل حياتي التي ا�ستمدها من احلياة‬ ‫علي كنت ا�شلّخها واترك �آثار انيابي عليها ‪،‬‬ ‫تعتدي ّ‬
‫بكرامة ‪ ،‬هي ح�رشة طفيلية وانا حيوان حر ‪ ،‬الفرق كبري‬ ‫وي�شهد جميع من يف احلارة على ذلك ‪ ،‬لكن الفا�سوق‬
‫‪246‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫التي ينخرها الفا�سوق نخرا ‪ ،‬اين جمعيات الرفق‬ ‫بيننا ‪ ،‬لكني ا�ضطرب لوجودها على ج�سدي افقد توازين‬
‫باحليوان ‪ ،‬اال ت�صل هذه االماكن حيث ن�سكن نحن ‪ ،‬ال‬ ‫اكاد اجن اطق ‪ .‬لو طلع بيدي لد�ست انا عليها وارحتت‬
‫ال بد اين جننت ‪ ،‬ما يل وللجمعيات ‪ ،‬هذا كثري وكل ما‬ ‫منها ‪ ،‬احيانا احك نف�سي باحدى ال�شجرات لعلها‬
‫اريده هو التخلّ�ص من الفا�سوق الن الفا�سوق كثري جدا‬ ‫تنمع�س لكنها يف احلال تغزر يف جلدي وت�أخذ بال�ضغط‬
‫‪ ،‬ينت�رش علي وعلى غريي ‪ ،‬وهناك يف البالد البعيدة اال‬ ‫على �رشاييني فاكف ‪ ،‬انها تدرك كل احابيلي وحيلي ‪،‬‬
‫يوجد فا�سوق ‪ ،‬ال بد ان يكون موجودا فالفا�سوق لي�س‬ ‫ليتني كان يل ع�رش دهائها وكيدها كنت �سابيدها وابيد‬
‫ح�صتنا نحن وحدنا فقط بل من امل�ؤكد ان الفا�سوق‬ ‫معها كل الفا�سوق الذي على االر�ض لكن من اين يل‬
‫م�صا�ص الدماء واخلبيث ينت�رش يف كل مكان لكنهم‬ ‫ّ‬ ‫حكمتها وخبثها ‪ ،‬انها يل باملر�صاد ‪ ،‬هل ت�صدقون هذا‬
‫يعملون على مداواته ‪ ،‬ورمبا كان الفا�سوق يف تلك‬ ‫يف‬
‫هي التي ت�سكن على ج�سدي ومت�ص دمي وتتحكّم ّ‬
‫البالد الراقية املتح�ضرّ ة خمتلفا ‪ ،‬ناهيك ان الكالب‬ ‫اي حتكم ‪ ،‬هل حل عليكم ذات يوم �ضيف وا�صابكم ما‬
‫هناك حتظى بحياة مريحة ‪ ،‬هنيئا لها ‪ ،‬الكالب هناك‬ ‫ا�صابني وحتكّم يف حياتكم كما تفعل هذه الفا�سوقة‬
‫تعي�ش اح�سن من الب�رش اما هنا ‪ ،‬من اين يل هذا ‪ ،‬ذات‬ ‫اللعينة يل ‪ ،‬اعرف عادة ما تتخلّ�صون من ال�ضيوف‬
‫مرة �شاهدت فيلما وثائقيا عن الكالب يف تلك البالد ‪،‬‬ ‫الثقالء ب�رسعة ‪ ،‬انا اعرفكم يا بني الب�رش ‪ ،‬ففيكم من‬
‫ومتنيت لو ولدت هناك ‪ ،‬الفرق كبري جدا ‪ ،‬كما ان‬ ‫الدهاء واملكر واخلبث وم�ص دماء بع�ضكم البع�ض‬
‫�صاحبي الذي اح�رضين اىل هذا البيت كان قد حدثني‬ ‫واللحو�سة ما يفوق دهاء هذه الفا�سوقة التي هي ادهى‬
‫عن حياة الكالب يف اخلارج ومل ي�أت على اي ذكر‬ ‫فا�سوقة ا�ستوطنت على ج�سدي ذات يوم ‪ ،‬كما انكم ال بد‬
‫يف�ضل ان يكون كلبا هناك‬ ‫للفا�سوق ‪ ،‬ال بل قال يل انه ّ‬ ‫تعلمتم من الفا�سوق فانتم تتعلمون من بع�ضكم ومن‬
‫على ان يكون امرباطورا هنا ‪ ،‬يا لرفاهية الكالب ‪ ،‬ك�أن‬ ‫كل ما حولكم ‪ ،‬والفا�سوق ينت�رش يف كل مكان ويف‬
‫الفا�سوق غري موجود هناك ‪ ،‬وانا من جهتي مل اجر�ؤ‬ ‫علي ان ا�ضحك وا�س�أل اذا‬
‫انواع وا�شكال خمتلفة ‪ ،‬هنا ّ‬
‫على ال�شكوى ل�صاحبي اذ ان الفا�سوق هنا ال يداوى بل‬ ‫كان هذا االمر يعزيني اذ ل�ست الوحيد املفو�سق ‪ ،‬فهناك‬
‫ي�شبه‬
‫يبقى ليتكاثر ‪ ،‬لكني �سمعته ذات مرة يذكر او ّ‬ ‫انواع اخرى من الفا�سوق ‪ ،‬واذا ما نظرت جيدا اىل‬
‫بع�ض النا�س بالفا�سوق اولئك النا�س الذين يتعرب�شون‬ ‫ا�صحابي فلرمبا ر�أيت عندهم بع�ض الفا�سوق ‪ ،‬ال ال ‪،‬‬
‫على اماكن لي�ست لهم ويلحو�سون ويكونون كالفا�سوق‬ ‫علي ان اقول هذا فا�صحابي انا�س طياب ‪ ،‬طياب‬ ‫عيب ّ‬
‫يف حياتهم ومعا�شهم وبعد ان ي�شبعوا ويح�صلوا على‬ ‫مق�رصون معي باالك�سيلون ‪ ،‬اال يرونني‬
‫ّ‬ ‫جدا لوال انهم‬
‫مبتغاهم وي�ستقلون اول �شيء يفعلونه هو انهم يدع�سون‬ ‫اال يرون هذا الفا�سوق املنت�رش على ج�سدي والذي‬
‫على النا�س الذين �ضبوهم ‪ ،‬ايوه هذا ما �سمعته ‪ ،‬مي�صون‬ ‫يحتلني وينه�شني نه�شا وي�شفط دمي ببطء ويجعلني‬
‫دماء الآخرين ثم يرمون بهم او يدع�سون عليهم او‬ ‫احيانا مري�ضا مكتئبا م�صابا ب�سويداء ال اطيق احدا‬
‫ي�ستقوون عليهم او يتنمردون ‪ .‬غريب امر النا�س ‪ ،‬انا‬ ‫لكني اكابر عندما ارى بالذات �صاحبي فاه�ش واب�ش‬
‫اخاف من النا�س فال �شيء يخيفني كما النا�س ‪ ،‬حتى‬ ‫ملوحا له بذنبي ‪ ،‬اال يرون ما يحدث يل واي حال انا‬‫له ّ‬
‫هذه الفا�سوقة التي تراقب النا�س كثريا وتقلّدهم ومت�ص‬ ‫فيه ‪ ،‬ملاذا يتقاع�سون ‪ ،‬ملاذا ال يبادرون اىل مداواتي‬
‫دمي على الرايق ال اخافها كما اخاف النا�س ‪ .‬لو خيرّ ت‬ ‫ي�سببه يل الفا�سوق ‪،‬‬ ‫قبل ان انهار من االكتئاب الذي‬
‫ّ‬
‫بني الفا�سوق الب�رشي وهذه الفا�سوقة على خبثها‬ ‫�شغلة ب�سيطة ‪ ،‬اعرف كم هي كريهة رائحة االك�سيلون‬
‫ول�ؤمها او غريها من الفا�سوق الخرتت من دون ادنى‬ ‫لهم وكم هي اكره يل ‪ ،‬لكنه اذا كان االك�سيلون ي�ضايقهم‬
‫تردد الفا�سوق الالب�رشي النه ارحم ‪ ،‬الفا�سوق الب�رشي‬ ‫فلي�ست�أجروا �شخ�صا ما لري�شني ‪ ،‬لو كانت هناك جلنة‬
‫خطري جدا ومرعب ‪ ،‬هه هه هه ي�ضحكني هذا جدا �آه لو‬ ‫للكالب قريبة من منطقتنا ل�شكوت لها امري ‪ ،‬لكن‬
‫�سمع �صاحبي ما افكر به رمبا كان رف�ش يف بطني‬ ‫الكالب هنا مهملة واحيانا كثرية تكون �رشيدة و�ضالة‬
‫مرددا فا�سوق ب�رشي ها او رمبا طار فرحا‪..‬‬ ‫‪ ،‬متى ي�صحو ا�صحاب الكالب هنا على تعزيزنا‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫وتكرمينا ولو با�سقاط الفا�سوق فقط من على اج�سادنا‬
‫‪247‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫�أمينة‬
‫�أمل املغيزوي‬
‫قا�صة من ُعمان‬

‫يف اجلدران مازالت حت�س بب�شاعتها �إىل اليوم‬ ‫ان�سكبت دموع �أمينة بغزارة حني و�ضعت ر�أ�سها‬
‫وبالطبع مل تركب يف ال�سيارة �إال يف م�شوارها �إىل‬ ‫على الو�سادة و�أدركت ب�أن �أحالمها التي ر�سمتها‬
‫عملها لأن زوجها كان يجربها على تغطية وجهها‬ ‫يف بداية حياتها اجلديدة كانت احالما ب�سيطة‬
‫ب�أكمله بينما كانت ال�سيارة ت�صدر �رصيرا طويال‬ ‫وم�رشوعة ولكن كل تلك االحالم حتولت يف حلظة‬
‫وتتوقف بني كل حلظة و�أخرى‪.‬‬ ‫واحدة �إىل فقاعة كبرية امت�صت كل طاقاتها‬
‫هنا كانت دمعة �أمينة حارقة ل�سعت وجهها الأ�سمر‬ ‫وحولتها �إىل �صورة م�شوهة جتمع �شتات �ضحكتها‬
‫لأنها مازالت تتذكر وجوه زميالتها يف العمل‬ ‫بني الوجوه واحل�ضور‪.‬‬
‫وال�سيارات الفارهة التي تنقلهن من مكان �إىل �آخر‬ ‫اليوم بالذات �أم�سكت �أمينة ورقة وقلما وكتبت يف‬
‫مع ابت�سامات وا�سعة ووجوه مل تغط ‪.‬‬ ‫�أول �سطر من الورقة حلمها الأول‪:‬‬
‫‪ -3‬زوج يجيد التعامل مع الآخرين‪.‬‬ ‫‪ -1‬زوج ميلك قلبا يفي�ض حبا و�شهامة‪.‬‬
‫مازالت ت�رصفات زوج �أمينة تثري يف قلبها احلنون‬ ‫مزقت الورقة ب�رسعة لأنها �إىل اليوم مل ت�ستطع �أن‬
‫عا�صفة من الغرابة واحلزن يف �آن واحد ‪ ،‬فقد قاطع‬ ‫تعي الأفكار الغريبة التي تنبعث من عقل زوجها‬
‫اهلها و�أهله واجلريان ‪ ،‬و�أجربت يف حلظات كثرية‬ ‫الذي يعي�ش بج�سد رجل �شاب و�أفكار �شيخ يف‬
‫على عدم ال�سالم على هذا �أوذاك ا�شباعا لرغبته ‪ ،‬كما‬ ‫الثمانني من عمره ‪ ،‬هنا الغ�صة كانت كبرية حتى‬
‫�أنها تذكر ب�أنها �أح�صت عدد �ضحكاته وابت�سامته‬ ‫بعد �أن مزقت �أمينة الورقة فهي طاملا حلمت برجل‬
‫خالل خم�سة �أ�شهر فوجدتها قليلة التتجاوز �أ�صابع‬ ‫ي�شاركها �أفكارها و�أحالمها ومازال لقب الفرا�شة‬
‫اليد الواحدة‪.‬‬ ‫معلقا ب�أحرفه اجلافة يف نهاية دفرت مذكراتها‬
‫تذكرت �أمينة �أيام طفولتها حني كانت تق�ص‬ ‫اليومية‪.‬‬
‫ل�صديقتها عائ�شة حكاية �أ�رسة متحابة متلك قلوبا‬ ‫‪ -2‬زوج ميتلك �سيارة وبيتا‪.‬‬
‫مت�آلفة ودائما الق�صة تنتهي نهاية �سعيدة لكنها‬ ‫مل حتلم �أمينة �سوى ب�سيارة متوا�ضعة وبيت ب�سيط‬
‫اليوم ما زالت تبحث عن بداية منا�سبة لق�صتها‬ ‫ي�ضمها مع زوجها لكنها �صدمت بالواقع و�أجربت‬
‫والأحداث فيها تزداد تعقيدا حتى حتولت �إىل رواية‬ ‫على التعاي�ش معه بعد �أن ادركت ب�أن ال�سيارة مل‬
‫من النوع الذي تت�شعب تف�صيالته حتى يغرق‬ ‫تكن �سوى �سيارة �أجرة عتيقة وان البيت مل يكن‬
‫القارئ ويخرج منها �صفر اليدين‪.‬‬ ‫�سوى غرفة مل تذق طعم ال�سرياميك وال الأ�صباغ‬
‫مب�صطلح اليدين تذكرت �أمينة كل الأ�شخا�ص الذين‬ ‫اجلديدة و�أجربت يف النهاية على خط ورود متنوعة‬
‫‪248‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اليوم �أمينة حتاول �أن تتخذ قرارا حا�سما يعيد لها‬ ‫تقدموا خلطبتها كانوا كرثا ميلكون م�ؤهالت وبيوتا‬
‫جناحي الفرا�شة احلاملة التي فقدتها ‪ ،‬اليوم �ستكلمه‬ ‫و�سيارات ولكنها �إىل الآن مل تدرك ال�سبب الذي‬
‫عن �رشوطها عن رغبتها يف ا�ستعادة حريتها ‪،‬‬ ‫جعلها توافق عليه دون �أن تتمح�ص وتفت�ش عن كل‬
‫�ستواجه �ستعلمه من هي �أمينة ولن ت�سمح بعد الآن‬ ‫التف�صيالت وكيف �صدقت كالم �أخواته حني حتدثن‬
‫ب�أي عقبة حتد من �إنطالقها يف الأرجاء ‪ ،‬خا�صة‬ ‫عن �سيارته وبيته ‪ ،‬هل كان لرف�ض ابن عمها‬
‫بعدما �ضحك عليها �أخوها ال�صغري و�رصحت �أختها‬ ‫الذي وعدها بالزواج ملدة ثالث �سنوات ثم تركها‬
‫الكبرية ب�سلبيتها وعدم قدرتها على الوقوف يف‬ ‫يف مفرتق الطرق دور يف ت�رسعها وحماولة �إثبات‬
‫وجه زوجها‪.‬‬ ‫�أنها مازالت مرغوب فيها ‪ ،‬لكنها اليوم تتمنى �أن‬
‫اليوم لن تطبخ �أمينة وجبة الع�شاء كعادتها ‪،‬‬ ‫تبقى كما كانت يف بيت �أهلها وتذهب �إىل عملها‬
‫كما �أنها مل تكن�س الغرفة وترتبها ‪،‬وظلت تنتظره‬ ‫دون قيود حتد من حريتها وانطالقها يف الأرجاء‪،‬‬
‫لتناق�شه يف كل املوا�ضيع ‪ ،‬هي موظفة ومتلك راتبا‬ ‫خا�صة بعدما الحظت ال�سعادة الكبرية التي ترت�سم‬
‫ووجها ح�سنا ‪ ،‬لن تخاف من وجهه الغا�ضب دائما‬ ‫على حميا ابن عمها وزوجته ‪ ،‬والغ�صة التي تنمو‬
‫‪ ،‬املت�شائم من كل �شيء و�أي �شيء‪ ،‬ارتاحت �أمينة‬ ‫يف حلقها عندما تقابلهم والتي تتحول �إىل جمموعة‬
‫لكافة الأفكار التي طافت يف ر�أ�سها ‪ ،‬انتظرت قدومه‬ ‫من اخليوط تكبلها وحتتجزها يف �رشنقة ‪ ،‬متنعها‬
‫�إىل البيت ‪ ،‬الدقائق وال�ساعات متر ‪ ،‬ت�سمع اهتزاز‬ ‫من الكالم والتنف�س ‪ ،‬ويبقى �صوت �أمها وهو يتحدث‬
‫جهازها ‪ ،‬تقر�أ ر�سالته «�أنا تعبان ومع�صب وقبل‬ ‫يوميا عن بنات النا�س وحالهن وال�سعادة واملال‬
‫�شوي تنازعت مع الوالد ‪ ،‬جهزي الع�شاء ‪� ،‬أريد �أنام»‪.‬‬ ‫والبيوت ويف النهاية ت�صمت وتتخذ قرارا دائما‬
‫�أح�ست �أمينة بارتباك �شديد ‪ ،‬خافت من ردة فعله ‪،‬‬ ‫ب�أنها لن تكلمها حتى تغري من حالها وحال زوجها‬
‫تخيلته كمارد هائل يزجمر يف وجهها بينما الزبد‬ ‫‪ ،‬ت�شعر �أمينة يف تلك اللحظات ب�أنها تخو�ض غمار‬
‫يتطاير ليجعل من ج�سدها ورقة جافة تتك�رس حتت‬ ‫حرب �رضو�س ‪ ،‬و�أنها دخلت حلبة �رصاع ملعركة‬
‫�أقدام النا�س ‪ ،‬توجهت نحو املطبخ العتيق ‪ ،‬حاولت‬ ‫طويلة فتن�ساب دموعها بغزارة املطر الذي هطل يف‬
‫�أن جتعل ذهنها �صافيا لتحدد وجبة الع�شاء لتنتهي‬ ‫تلك الليلة ‪ ،‬تلك الليلة التي راقبت فيه �أمينة املطر‬
‫منها يف �أ�رسع وقت ‪ ،‬ت�صورت وجهه املكفهر ‪،‬‬ ‫وتذكرت �أن�شودة املطر ورددت �أكرث من مرة قول‬
‫�شياطني الغ�ضب تتقافز منه ‪� ،‬شعرت باخلوف ‪،‬‬ ‫ال�سياب‪:‬‬
‫اليوم قررت �أن تكتم كل تلك االفكار يف �صدرها ‪،‬‬ ‫�أتعلمني �أي حزن يبعث املطر؟!‬
‫خ�شيت من ردة فعله الغا�ضبة ‪� ،‬أم�سكت بحبة ب�صل‬ ‫وكيف تن�شج املزاريب �إذا انهمر؟!‬
‫‪ ،‬بد�أت يف تقطيعها ‪ ،‬متنت �أن يت�أخر لبع�ض الوقت‬ ‫وكيف ي�شعر الغريب فيها بال�ضياع؟!‬
‫‪ ،‬حتى تنتهي من �إعداد الع�شاء ‪ ،‬و�ضعت الب�صل يف‬ ‫وتنهمر دموع �أمينة لت�شارك املطر بكاءه املتوا�صل‬
‫املقالة وحني بد�أت يف �إ�شعال الغاز ‪� ،‬سمعت �صوت‬ ‫على خطايا الب�رش‪.‬‬
‫الباب وهو يفتح ‪ ،‬و�سقط قلبها �إىل �أ�سفل �سافلني‪.‬‬ ‫خلم�سة �أ�شهر مل تتوقف دموع �أمينة كما مل تتوقف‬
‫�أ�صوات ال�شجار وال�رصاخ ال�صادرة من الغرفة ‪،‬‬

‫‪249‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫مرثية �أوىل‬
‫للظ ِّل‬
‫حمود الرا�شدي‬
‫قا�ص من ُعمان‬

‫يفتح عينيه على‬‫لكل طفوالتنا‪ ،‬ف�أرى نف�سي طفال ُ‬ ‫(‪)1‬‬


‫جبال عالية‪ ،‬جبال تحُ ا�رصنا باحلياة واملوت‪،‬‬ ‫�سيحفر الطفل دموعه‬
‫ُ‬ ‫مبتد أ� مت�أخر جداً يف الذاكرة ‪:‬‬
‫جبال تزرع القلق على حواف حياتنا‪ .‬كُ ّنا نبني‬ ‫ليكتب للظ ِّل مرثيةً؛ ولكي ُي�ؤثث لأحالمه بع�ض ما‬
‫مدن ًا و�أ�ساطريا و�أحالما خلف تلك اجلبال‪ ،‬ر�سمنا‬ ‫�سيحرث مقابر القرية ليج َد‬
‫ُ‬ ‫ت�ساقط من احلكايات‪.‬‬
‫احلكايات بحرب اخليال والعزلة خلف تلك اجلبال‪.‬‬ ‫�ضمه املوت يف ليل‬ ‫�شاهدا لقرب امر�أة �أو لقرب طفل ّ‬
‫يف �صباح طفويل بعيد زرعنا احلجارة حتت �سمرة‬ ‫بعيد‪ ،‬لي�سمع بكاء �أو ليم�سح دموع العابرين‪ .‬ما‬
‫البيت حاملني ب�أن تكرب احلجارة وت�صبح جباال‪،‬‬ ‫يطفو على ماء الطفولة �ستحرقه �شم�س الكتابة‪.‬‬
‫كربنا ومل تكرب جبالنا ال�صغرية‪.‬‬
‫مقابر كثرية حتا�رصين من كل اجلهات‪ .‬كلُّ جنمة‬ ‫(‪)2‬‬
‫يف ال�سماء لها قرب على هذه الأر�ض يناغيها‪ .‬وك� ّأن‬ ‫عندما نطلُّ على طفولتنا من بعيد‪� ،‬أو نطلُّ عليها‬
‫كنت‬
‫خلف تلك اجلبال ُ‬ ‫القبور �أطفال النجوم البعيدة‪َ .‬‬ ‫فوهة احلنني جندها‬ ‫(نحن �أطفال الطني) من ّ‬
‫أبحث عنه ليدلني �إىل الطريق‪ .‬فلم‬ ‫أبحث عن اهلل‪ُ � .‬‬
‫� ُ‬ ‫موجعة حارقة وجميلة �أحيانا‪� .‬أطلُّ على طفولتي‬
‫بحثت عنه يف الليل بني النجوم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�أجده يف النهار‪،‬‬ ‫والتمجد‪ُ .‬مبتع ًدا‬
‫ّ‬ ‫متعري ًا من الزمان واملكان‬‫ّ‬ ‫عاري ًا‬
‫كان يرانا نتقلّب حتت مو�سيقى البعو�ض‪ ،‬ويرتكنا‬ ‫عن نف�سي‪ ،‬مقرتبا منها باحلنني والذكريات‪ ،‬وما‬
‫هكذا نتلذ ُذ بالنجوم‪ .‬كم كنا نح ّد ُق يف «بنات نع�ش»‬ ‫تب ّقى يف �سقف الذاكرة املنهكة من رائحة اندثرت‬
‫النار؟! ويف جنوم الطفولة‬
‫يدخلن َ‬
‫َّ‬ ‫ونت�ساءل ملاذا مل‬ ‫باجلفاف �أو �صوت امر�أة اختطفها املوت يف اجلبال‪.‬‬
‫ر�سمنا �أحالما �صغرية وب�سيطة‪.‬‬ ‫يفتح عينيه على العامل يف‬ ‫ُ‬ ‫�أطل ُّ على طفلِ �صغري‬
‫‪� :‬أنا راح �أ�شرتي �سيكل‪.‬‬ ‫يت جمازاً وت�شويه ًا « م�ست�شفى‬ ‫�صناديق خ�شبية ُ�س ّم ْ‬
‫‪� :‬أنا راح �أ�شرتي بيك �أب‪ ،‬و�أ�ش ّغل ميحد حمد‪ .‬وما‬ ‫�سمائل»‪ .‬يطلق الطفلُ ال�رصخة الأوىل على العامل‪،‬‬
‫�أركبكم يف �سيارتي‪.‬‬ ‫وعلى نف�سه‪ .‬قادما من �سجن الرحم �إىل �سجن العامل‪.‬‬
‫‪� :‬أنا راح �أ�شتغل يف اجلي�ش‪ ،‬وا�شرتي اندروفر‪.‬‬ ‫حماو ًال التحليق نحو �أبعد من احللم و�أقرب من ماء‬
‫‪jhj‬‬
‫الواقع‪ .‬معلنا بدء الرحلة الق�صرية املت�شظية ‪.‬‬
‫يف الليل كُ نا نرى الطائرات‪ ،‬الطائرات القادمات من‬ ‫‪jhj‬‬

‫�سماوات بعيدة‪ .‬مل نكن نعرف اجلهات وال الدول‪� .‬أي‬ ‫�أطلُّ على نف�سي الآن‪ ،‬وبعد هذا الزمن املُمتد‬
‫ده�شةٍ تلك كانت عندما نرى ال�ضوء الأحمر ال�صادر‬ ‫واملُوجع‪� ،‬أطلُّ على طفولتي من مر�آة الزمن واحلنني‬
‫من الطائرة‪ ،‬الطائرة ك�أنها بطة ت�سبح يف بحرية من‬ ‫املُوح�ش واملتوح�ش والوح�شي‪ .‬الزمن املُفرت�س‬
‫‪250‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�أحالمه‪ .‬ي�سافر الطفل يف دم القبائل وحروبها‬ ‫جنوم‪ .‬كم من الق�ص�ص �رسدنها عن تلك الطائرات‪.‬‬
‫ين�صت الطفلُ جيدا‬
‫ُ‬ ‫وهجراتها وجوعها وخياناتها‪.‬‬ ‫‪ :‬هذه رايحه الهند �شاله عي�ش وطحني‪.‬‬
‫جلمال يف احلكايات وهي متجه �إىل «م�سكد»‬ ‫ل�صوت ا ِ‬ ‫‪ :‬هذه الطائرة جايه من �أمريكا ورايحه اليمن‪.‬‬
‫تم الطفلُ رائحة الرماد‬ ‫ي�ش ُّ‬
‫�أو �إىل البحر «احلدري»‪ّ .‬‬ ‫‪ :‬هذا طائرة رايحه العراق‪.‬‬
‫يف موقد القهوة يف رحالت جده‪ ،‬يرتعب من �صوت‬ ‫لعبة اجلهات ممتعة جدا عندما تكون مفتوحة على‬
‫الر�صا�ص يف احلكاية‪ .‬يف الظالم يرى املغا�صيب‬ ‫�سماء ال حدود لها‪ .‬يف تلك ال�سموات ر�أى الطفل‬
‫يد�س‬
‫وال�سحرة يتطايرون يف ف�ضاء الغرفة املظلمة‪ُّ .‬‬ ‫َ‬ ‫املالئكة حتر�س عر�ش اهلل‪ .‬ور�أى املالئكة تطارد‬
‫في�شم رائحة دم القبائل‬
‫ُّ‬ ‫أ�سود‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الغطاء‬ ‫حتت‬ ‫أ�سه‬ ‫ر�‬ ‫اجلن وال�شياطني‪ .‬وكلّما ا�شتعل �شهاب يف ال�سماء‬
‫ور�صا�ص حرب اجلبل ودموع �أمهات ال�شهداء‪ ،‬و‬ ‫متتم الطفل ‪ :‬اهلل �أكرب اهلل �أكرب‪.‬‬
‫ي�سمع �صوت طائرات (الك ّفار ) وهي رايحه «تخزق»‬
‫فوق اجلبل الأخ�رض‪ ،‬و�صوت خطوات‪ ،‬و�صوت امر�أة‬ ‫(‪)3‬‬
‫تبكي يف املقربة‪ .‬وبكاء ن�ساء يف جنازات عابرة‪.‬‬ ‫�صوت م�ؤ ّذن بعيد‪ ،‬ال�صوت لن‬
‫ُ‬ ‫يف ال�صباح يوقظنا‬
‫يتكرر‪ .‬ما �أجمل �صوت اهلل‪ ،‬وهو قادم من خلف‬
‫(‪)4‬‬ ‫تلوثه املكرفونات وال‬ ‫اجلبال والنخيل‪� .‬صوت مل ّ‬
‫ري الطفولةُ‪ ،‬وتهبط على ت�ضاري�س املكان‪� .‬أطلُّ‬ ‫تط ُ‬ ‫الإيدولوجيا‪ُ .‬يوقظنا �صوت ديك من فوق ُ�سمرة‬
‫على بيوت الطني‪� ،‬أطلُّ على رائحة القهوة‪ ،‬وهي‬ ‫بجوار البيت‪ .‬تبد�أ �صباحاتنا عادة برائحة القهوة‪.‬‬
‫تفوح من البيوت الطينية ومن �أغاين الفالحني‬ ‫القهوة �سيدة طفولتنا‪ .‬يقود الطفلُ جده الأعمى من‬
‫يف القرى وال�ضواحي ومن �أغاين الرعاة‪ ،‬ميتزج‬ ‫يتلم ُ�س‬
‫يده نحو حقول النخيل وال�ضواحي اخل�رضاء‪ّ ،‬‬
‫الطني بالقهوة وبرائحة ال�صباح‪� .‬أطلُّ على قرية‬ ‫اجل ُّد الظّ َّل واحلجارة ليح ّدد موعد املاء والعط�ش‪.‬‬
‫ي�سكنها املاء والنخيل واجلبال واملقابر و�شقاواتنا‬ ‫يعلّم اجل ُّد الطف َل كيف يحدد للماء والظ ِّل وقت؟‬
‫و�أوجاعنا و�أوهام الكالم‪� .‬أطلُّ على رائحة اجلدات‬
‫‪jhj‬‬
‫وهن ذاهبات �إىل املوت برائحة حنني ال�سالالت‪.‬‬ ‫َّ‬
‫�أطلُّ على �صوت راعية يف اجلبال توقظني ب�صوتها‬ ‫ال تكتمل الطفولة العمانية بدون جد �أو جدة‪ .‬اجل ُّد‬
‫املحمل بالفق ِد واحلنني‪� .‬صوت املر�أة التي ت�سكن‬ ‫ّ‬ ‫�سار ُد جيد للحكايات‪ ،‬احلكايات املليئة بالدم‬
‫وحيدة يف خيمتها على طرف القرية يوقظُ الدمع‬ ‫وال�سحرة و«املغايبة»‪� .‬أطلُّ عليك‬
‫وامل�سافة واملوت َ‬
‫انتظرت زوجها‬ ‫ْ‬ ‫من �أقا�صي القلب؛ املر�أة التي‬ ‫أنت ت�سن ُد ظهرك املتقو�س كالزمن‬ ‫الآن يا جدي و� َ‬
‫رحلت ورحلَ كلُّ �شي ٍء معها‪ ،‬ما عدا‬ ‫ْ‬ ‫لربع قرن‪،‬‬ ‫على جدار الطني‪ ،‬ومت�سكُ بيدك ع�صا (عِ تِم)* من‬
‫�سكنت يف ذاكرة الطفل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫«تعويباتها الليلية» التي‬ ‫�أ�شجار جبال احلجر‪ .‬وت�رس ُد كل �صباح وم�ساء‬
‫�أطلُّ على وجه امر�أة ماتت يف اجلبال البعيدة بقرب‬ ‫حكايات �سالالتك و�أ�سالفك‪ .‬الظلُّ �صديق نبيل‬
‫بركة ماء‪ .‬ن�سى الطفل املر�أة وموتها الليلي وظ َّل‬ ‫للحكايات‪ .‬وكذلك الليل مو�سم حل�صاد احلكايات‬
‫�صفاء عينيها يطارده‪.‬‬ ‫الطفولية‪.‬‬
‫كنت يتيما وحاملا بكل‬ ‫يا �أيها الطفل البعيد كم َ‬ ‫القنديل املعلّق على وتد املكان‪ .‬ال�ضوء يغازل‬
‫�شيء؛ بالظ ِّل واملاء والذكريات‪.‬‬ ‫احلكايات والدم ورائحة البارود والر�صا�ص‪� .‬أطلُّ‬
‫على الطفل اخلائف من كل هذه احلكايات‪ .‬اجلد‬
‫(‪)5‬‬ ‫يتقن هذا‬ ‫الأعمى ي�رسد حكاياته بتلذذ بدون تو ّقف‪ُ .‬‬
‫يبحث عن جرعة‬
‫ُ‬ ‫�أطلُّ من فوهة العط�ش على طفل‬ ‫مبال بالطفل‬ ‫ٍ‬ ‫اجلد الأعمى وقفات حكاتاته؛ غري‬
‫‪251‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اهلل ملاذا ال توجد يف بالدنا مياه كثرية!‪ .‬يف مطرح‬ ‫يبحث‬ ‫ُ‬ ‫ماء باردة‪� .‬أطلُّ من فوهة ال�صه ِد على طفل‬
‫لأول مرة يتلذذ باملاء البارد‪ .‬يتذكر جيدا الآن‬ ‫عن ظ ِّل يحميه من جحيم الظهرية وحرائق �صيف‬
‫الع�شب الأخ�رض ودلة القهوة والبيك �أب (املازدا )‬ ‫مالك بن فهم‪� .‬أطلُّ من رائحة اجلوع على طفل يبحث‬
‫منده�ش هو من الأزرق الكبري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و�صوت البحر الهادر‪،‬‬ ‫عن ك�رسة خبز يف الطرقات‪� .‬أطلُّ من بعيد على طفل‬
‫عندما رجع �إىل القرية قال لهم‬ ‫يهرب يف‪ /‬وعن �ضواحي النخيل ي�رصخ وي�رصخ‬
‫‪ :‬م�سقط كبييييييرية كما الهند‪.‬‬ ‫ويغني يف النهاية لكل �شيء‪ُ .‬يغني للمطر ورائحة‬
‫فيها نا�س واجد و�شوارع وبيوت كبرية وحرمي غري‬ ‫ال ِبلّ**‪.‬يغني للغيوم العابرة يف �سماء اجلفاف ‪:‬‬
‫وماء بارد ‪.‬‬ ‫« يا اهلل يا اهلل بال�سيل يهبط وادينا قبل الليل»‪.‬‬
‫�أغم�ض عيني الآن ف�أرى النخيل والدروب ال�ضيقة‬
‫(‪)6‬‬ ‫أ�شم رائحة الليمون وال�سمر‬ ‫بني جدران الطني‪ ،‬و� ُّ‬
‫طفولتنا ت�شبه امر�أة تركناها يف اجلبال لتحر�س‬ ‫وال�رسح وال�سدر ورائحة البيوت الطينية املُغت�سلة‬
‫عزلة الرعاة‪ ،‬عاد الرعاة ليال‪ ،‬ومل ترجع طفولتنا‪.‬‬ ‫أ�شم رائحة املاء يف الفلج‬ ‫باملطر وباجلفاف‪ُّ � .‬‬
‫ظل ّْت �أغنية حتفظ اجلبال والنخيل واملقابر �صوت‬ ‫أ�شم رائحة جذع‬ ‫بطحالبه‪ ،‬ورائحة �أ�شجار املاجنو‪ُّ � ،‬‬
‫�صداها‪ .‬كلما ابتعدنا عن طفولتنا يجذبنا �إليها‬ ‫(ال�ص َّد)‬
‫نخلة يحرتق يف ال�صباح‪� ،‬أرى الطف َل يطارد ّ‬
‫احلنني والنداء وال�رصخة الأوىل‪ .‬انها النبع الأول‬ ‫يف الفلج‪ ،‬ويطارد احلمام و(اجلراد والفنازيز)‬
‫واجلحيم الأول واجلنة الأوىل‪ .‬كانت وظل ّْت ظال ًال‬ ‫أفتح عيني الآن ف�أرى بالدا احرتقت‬ ‫يف ال�سيوح‪ُ � .‬‬
‫حلياة عابرة ‪.‬‬ ‫احرتقت‬
‫ْ‬ ‫باجلفاف واملوت‪ .‬كل نخيل الطفولة‬
‫تت�ساقط �سنوات الطفولة من �شجرة العمر‪ ،‬فيلتقطها‬ ‫هرمت‬
‫ْ‬ ‫باجلفاف‪ .‬فلم تثمر الطفولة �سوى الفقد‪.‬‬
‫احلنني �أو الن�سيان �أودمعة يتيمة‪.‬‬ ‫الطفولة مبكرا ومل يكرب الطفل‪.‬‬
‫�أطلُّ على طفولتي‬
‫(‪)7‬‬ ‫ف�أرى طفال ينام يف املقربة‬
‫ما ت�ساقط من ذاكرة الطفل‪.‬‬ ‫�أطلُّ على نف�سي‬
‫ف�أرى طفال مربوطا على جذع نخلة‪.‬‬
‫‪1986 j‬م‪.‬‬ ‫النار كانت خطيئتي الأوىل‬
‫يف الطريق املو�صل من القرية �إىل امل�ست�شفى‬ ‫�أطلُّ على طفولتي‬
‫الع�سكري يف العا�صمة‪ .‬يرقد هناك والد الطفل يف‬ ‫ف�أرى طفال يلعب يف املقربة‬
‫فرا�شه الأبي�ض‪ .‬مل يتذكّ ر الطفل من تلك الرحلة �سوى‬ ‫ينام حتتها طفل مل يغت�سل‬ ‫ُ‬ ‫�أطلُّ على (�سرَ حة)‬
‫ده�شته من ال�شم�س التي تتبعه من خلف اجلبال‪.‬‬ ‫بالطفولة‪.‬‬
‫يطلُّ بر�أ�سه من نافذة ال�سيارة‪ ،‬يراقب ال�شم�س وهي‬ ‫�أطلُّ على نف�سي ف�أرى طفال ينام يف املقربة ‪.‬‬
‫تتل�ص�ص عليه‪ .‬كان ي�س�أل نف�سه هل نف�س ال�شم�س‬ ‫يرك�ض بني النخيل‬ ‫ُ‬ ‫�أطلُّ على الظهرية ف�أرى الطفلَ‬
‫التي ت�رشق وتغرب يف القرية؟ �أم للعا�صمة �شم�س‬ ‫باحثا عن ظلِّ‪� .‬أطلُّ على طفل يف الظهرية يحمل‬
‫�أخرى؟‬ ‫املاء يف عبوات معدنية لي�سقي قبور املوتى وجراد‬
‫عندما �أعطاه والده ورقة نقدية‪ ،‬وقال له ُخ ْذ �آي�س‬ ‫املقابر و«ال�رسحة» التي يرقد �أخوه حتتها‪.‬‬
‫كرمي‪ .‬طول الطريق العودة يفكر الطفل يف امل�صطلح‬
‫اجلديد‪ .‬هو يعرف جيدا الكِرمي ؛ ولكنه مل ي�ستوعب‬ ‫‪jhj‬‬

‫يف تلك اللحظات معنى (�آي�س كرمي)‪.‬‬ ‫عندما ر�أى الطفل �أول مرة البحر يف مطرح �س�أل‬
‫‪252‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بطلة الفيلم‪ ،‬بع�ض الن�ساء يحاولن م�ساعدة املخرج‬ ‫‪.1989 j‬‬


‫بال�رصاخ على البطل كي يهرب _ البطل الذي يبعد‬ ‫من ال�صندوق البني الذي ي�صدر �صورا و�أ�صواتا‬
‫�آالف الكيلومرتات م�سافة وزمنا ـ ‪ :‬اهلل يقرعك طري‬ ‫وعاملا خمتلفا‪ .‬كان الطفل ينجذب للأفالم الهندية‪.‬‬
‫تو بي�رضبوك‪.‬‬ ‫تده�شه �أغاين الهند ورق�صات �صباياه‪ ،‬و�سهولها‪،‬‬
‫والبطل الذي ال ميوت‪ .‬تدمع عيناه عندما حترتق‬
‫‪.1991 j‬‬ ‫يحول الرتاب‬
‫اجلثة‪ .‬ينده�ش من قدرة البطل الذي ّ‬
‫من املذياع (ال�سوين) البني اللون‪ ،‬ت�صل �أخبار عن‬ ‫�إىل متفجرات يف وجه الأعداء والل�صو�ص‪ .‬يحاول‬
‫حرب اخلليج ‪ ،‬وعن ا�سم رجل ( �صدام ح�سني)‪ .‬وعن‬ ‫هو و�أخوه تقليد البطل الهندي‪ ،‬ي�أخذان حفنة تراب‪،‬‬
‫�آبار نفط حترتق‪ .‬كان اجلد الأعمى ُيح ّذز من و�صول‬ ‫ويب�صقان عليها وال تنفجر‪.‬فيف�شالن‪ُ .‬يعلّل لأخيه ‪:‬‬
‫�سحب دخان �إىل ُعمان‪ .‬كان كثري من رجال القرية‬ ‫«تراه تراب الهند غري عن تراب بالدنا»‪.‬‬
‫ميتدحون �صدام‪ ،‬بالرغم من خوفهم من �سحب‬ ‫يف بع�ض بيوت القرية يتجمع ن�ساء احلارة يف بيت‬
‫الدخان النفطية املحتمل و�صولها لعمان‪ .‬مل يدرك‬ ‫واحد مل�شاهدة الفليم الهندي‪� ،‬أحيانا يقام عزاء على‬
‫الطفل يف تلك ال�سنوات ال الدخان وال احلرب ‪.‬‬ ‫موت البطلة‪ .‬وتنهمر دموع ن�ساء القرية ت�ضامنا مع‬

‫من �أعمال الفنان خلفان اجلامودي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪253‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫متابعات‬
‫�ر�ؤى‬

‫من اأعمال الفنانة ريا املنجي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪254‬‬
‫�شعـر حممد ال�سـرغيني ‪..‬‬
‫�شعـر ُي َ�ؤ ِّب ُد زمـن قيامته‬
‫حممد بودويك‬
‫كاتب وناقد من املغرب‬

‫املتعاليات‪ ،‬واحلقائق الكلية‪ ،‬والتفا�صيل اجلزئية‬ ‫التقاء ال�شعر والفكر‪ ،‬قدرة ُم ْب ِه َرة على الك�شف‬
‫ورن الأفكار‪.‬‬
‫وهي تفتق املعاين‪َ ،‬و ُت َ�ص ُ‬ ‫والغو�ص يف عوامل اللغة والفكر‪ ،‬وال�شعر‪ ،‬وباقي‬
‫«حتت الأنقا�ض «فوق الأنقا�ض» �أ ْي َك ٌة من الأفكار‬ ‫�أجنا�س الفن والأدب‪ ،‬مهارة ُم َد ِّو َخة يف �إتيان‬
‫والتعريفات واملقوالت واحلكمة‪ .‬ودوحة تجُ َ ف ِْج ُف‬ ‫ال�شعر بالفكر‪ ،‬والفكر بال�شعر‪ ،‬برتكيز وا�ستخال�ص‪،‬‬
‫باحلفيف والثقيل اليانع‪ ،‬والنا�ضج من الثمار‬ ‫وتقطري‪َ ،‬م ّر ًة‪َ ،‬وطَ ل ٍْق وفتح‪ ،‬وتفتيق‪َ ،‬م َّر ًة �أخرى‪ .‬بهذا‬
‫العاليات والدانيات القطوف‪ ،‬واخلفيف اللطيف من‬ ‫ال�صنيع‪ ،‬نفهم الفذاذة يف ال�شعر‪ ،‬الذي ال نرتدد يف‬
‫ذوات اجلناح والأوراق الندية امل ُْخ َّ�ضلة بال�شعر‪.‬‬ ‫و�سمه بال�شعر الفكري الوجودي‪ ،‬بال�شعر ال�شامل‪،‬‬
‫كتب �شعرية �أخرى‬ ‫ومثل هذا الكتاب العجيب الغريب‪ٌ ،‬‬ ‫وبالتجربة الباطنية التي م�سعاها «حتدي�س احل�س»‬
‫لل�رسغيني‪ ،‬تندرج �ضمن املنظور �إياه‪ ،‬والر�ؤية‬ ‫بتعبري ال�شاعر ال�رسغيني‪.‬‬
‫ذاتها‪ ،‬واملبادهة ال�شعرية يف �صميم ال�سياق الفكري‪،‬‬ ‫يتكىء ال�رسغيني على املوروث‪ ،‬والعجيب الإن�ساين‬
‫وامل�ساق املعريف‪ ،‬والعمق الفل�سفي‪ .‬ومن ث ََّم‪َ ،‬ع�سرُ َ‬ ‫من الإنتاج املعريف والروحي‪ ،‬فين�شئه �إن�شاء‪ ،‬وي�شكله‬
‫�شعر ال�رسغيني على الت�صنيف‪( .‬تقر�أ الن�ص �إن‬ ‫َ�سبيكة �شعرية – فكرية �سائلة‪ ،‬وهو ما ال �سبيل �إليه‬
‫�صربت‪ ،‬فيم�سك بتالبيبك ال يفارقك‪ ،‬وال تقدر على‬ ‫من ِق َب ِل الكثريين‪� .‬إذ كيف ي�سهل تطويع مقوالت‬
‫مفارقته‪ ،‬ينفرد بك ويحيلك �إىل جنة الإبداع احلق‪،‬‬ ‫الفل�سفة‪ ،‬ومدونات الفقه‪ ،‬والفكر‪ ،‬والتيولوجيا‪،‬‬
‫كما يحيلك �إىل جهلك لكي تواجهه‪ -‬هذا اجلهل – �أو‬ ‫واملنجز العلمي والتكنولوجي الإن�ساين؟ كيف ي�سهل‬
‫تتهم �صاحب هذا ال�شعر‪ ،‬بال�صعوبة والغمو�ض‪ ،‬لت�ؤثر‬ ‫هذا َف َي ْن َ�س ِبكُ �ضمن ناظم �شعري رفيع يخرتق ُ�س ْمكَ‬
‫ال�سالمة‪ ،‬م�ستنيما �إىل التربير ال�ضحل وال�ساذج‪،‬‬ ‫ال ُع َّدة والعتاد هذين‪ ،‬ما مل ُي�ؤ َْت ال�شاعر الكتاب‬
‫وتتهم �صاحبه بال�صعوبة‪ ،‬وت�سرتيح من مواجهة‬ ‫واحلكمة يف الإم�ساك بالكتاب‪ ،‬و�أخذه بقوة؟‬
‫عوا�صف رعود الإبداع احلق) ‪« :‬كرمي عبدال�سالم من‬ ‫م�سار َم ِ�ص ٍري �إن�ساين‬
‫ُ‬ ‫«حتت الأنقا�ض فوق الأنقا�ض»‪،‬‬
‫مقدمته لأعمال بدر الديب ال�شعرية ‪».‬‬ ‫َي ْن ُب ُت يف احلطام‪ ،‬و�رسعان ما يعلو على خرابه حيث‬
‫ويكاد كتاب ‪« :‬حتت الأنقا�ض فوق الأنقا�ض» يكون‬ ‫يطفو معنى النهو�ض‪ ،‬والإنها�ض مبا ي�شي بجربوت‬
‫تو�سعة‪ ،‬وتكملة لعمله ال�شعري‪ ،‬الأ�سبق ‪« :‬من �أعلى‬ ‫الإن�سان يف َ�ضعفه‪ ،‬و�ض�آلة كينونته على رغم �سل�سلة‬
‫قمم االحتيال»‪ ،‬ما دام �أن الثيمة املحورية التي‬ ‫�أعاجيبه‪ ،‬وتقدمه املبهر من خالل م�سعاه الد�ؤوب‬
‫ا�شتغل عليها الن�ص هناك‪ ،‬هي ما ي�شتغل بها الن�ص‬ ‫�إىل تخطي �رشطه‪ ،‬ووجوده الق�صري على الأر�ض‪،‬‬
‫هنا ‪� :‬أنقا�ض – �شظايا‪� -‬أ�شتات – فتيت‪ -‬مِ َزق‪-‬‬ ‫�إِ ّما َر�أينا �إليه يف فردانيته‪� ،‬أو وجوده الطويل املمتد‬
‫حطام‪ ،‬بقايا �أ�شياء‪ -‬انك�سارات‪ .‬كل ذلك تو�صيف‬ ‫متى ما تعاملنا معه بو�صفه جتريدا‪ ،‬ورمزا‪ ،‬وروحا‬
‫تراديف و�إردايف ي�شي مبا طال املكان والف�ضاء‬ ‫هيمى َح َي َّية ال َتنِي تتنا�سل‪ ،‬وتتنا�سخ‪ ،‬وحتل يف‬
‫والروح‪ ،‬من خراب وهدم ودمار‪ ،‬وردم‪ ،‬وطم�س‬ ‫جمرى ومرمى الزمكان املتعدد ‪.‬هنا ينكتب �شعريا‬
‫ملعامل تاريخية وح�ضارية‪ ،‬ال تزال مو�شومة يف‬ ‫و�رسديا‪ ،‬تاريخ الأ�شكال‪ ،‬وهيئات املنطق‪ ،‬و�أن�ساق‬
‫‪255‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪« :‬من فعل هذا بجماجمكم»‪� ،‬إىل ‪« :‬احتياطي العاج»‬ ‫الذاكرة‪ ،‬ويف الوجدان‪.‬‬
‫وث‬
‫ام ْ‬
‫�إىل «من �أعلى قم االحتيال» �إىل ‪« :‬و�صايا َم ُ‬ ‫فهذا العمل ال�شعري اجلبار‪ ،‬يتموقع بني حجرين‬
‫مل ينقر�ض» �إىل‪« :‬حتت الأنقا�ض‪ ..‬فوق الأنقا�ض»‪،‬‬ ‫وع‬
‫«ر�شيدين» ‪ :‬حج ٍر تحَ ْ تِي ت�أتي منه �أ�صوات ُج ُم ٍ‬
‫كانت –دوما‪ -‬نبعا ثريا‪ ،‬فيا�ضا‪ ،‬يزرك�ش ال�شعر‬ ‫ون�شيج تاريخ مغربي دا�سه امل َُرابون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تبكي‪،‬‬
‫مبطلقيات �أخرى‪ ،‬وم�ؤثثات َحافّة ت�سنده‪ ،‬وتن�رشه‪،‬‬ ‫و�سما�رسة الأحقاب‪ ،‬والن�صابون‪ .‬وحجر ُم َت َب ٍّد مرتهن‪،‬‬
‫وتو�سع َح َدقَا ِتهِ‪ .‬فك�أن ال�شعر يف �رشعة ال�رسغيني‪،‬‬ ‫الآن َوغ ًدا‪ِ ،‬ل َناهبي الرثوات باملعاين جميعها‪.‬‬
‫قا�رص �إذا عومل �ضمن حده التجني�سي‪ ،‬وخطوطه‬ ‫عمل �شعري �أ�شبه ما يكون بدغل غابوي ملتف‬
‫املر�سومة‪ ،‬و«حذائه ال�صيني»‪ ،‬كما تعاور على‬ ‫م َراح‪ ،‬يقدم بني �أيدينا املعرفة‬ ‫وكثيف‪ ،‬غِ ًنى ُمترْ َ ٌع‪ ،‬مِ ْ‬
‫ذلك‪ ،‬وكر�سته �أحقاب‪ ،‬وممار�سات‪ ،‬وتقاليد عجلى‬ ‫الب�رشية‪ ،‬م�صبوبة يف وعاء �شعري �أخاذ ومدوخ‪،‬‬
‫ومركوزة‪ .‬فهو ي�سنده ليعطيه ما ف�صل عنه‪ ،‬ويو�صله‬ ‫و�آنية م�ستطرقة‪ ،‬وغري م�ستطرقة‪ .‬منتظم �ضمن ن�سق‬
‫مبا كان له‪ ،‬وما ينبغي �أن يعاد وي�ستعاد‪.‬‬ ‫فكري‪ ،‬حي‪ ،‬متموج‪ ،‬متما�سك ومتوتر يف نف�س الآن‪.‬‬
‫ولعل يف �صنيع �أبي متام‪ ،‬و�شيخ املعرة‪ ،‬بع�ضا من‬ ‫�إنها جتربة تذكر بتجربة �أدوني�س من جهة �ضئيلة‪،‬‬
‫هذا الفهم‪َ ،‬و َن ْز ًرا من هذا امل�أتى على رغم بقائهما‬ ‫لكنها تذكر –بقوة‪ -‬بتجربة ال�شاعر الت�صـويري‬
‫رهيني حمب�س العامود‪ ،‬و�سجيني جزمة الوزن‬ ‫ْ‬ ‫الكبري ‪� :‬إزرا باوند ‪ ،EZRA Pound‬وجتربة‬
‫والعرو�ض‪ ،‬ولنا يف ما �أتاه وي�أتيه �أدوني�س‪ ،‬و�أجنزه‬ ‫ال�شاعر ‪� :‬سان جـون بر�س ‪ Perse‬مداح الطفولة‬
‫حممد عفيفي مطر‪ ،‬وبدر الديب‪ ،‬ت�ضمني للتالقي‬ ‫املدارية والعنا�رص‪ .‬املحاكاة ال�ساخرة‪ ،‬والباروديا ‪:‬‬
‫والتقاطع‪ ،‬مع االحرتا�س من التعميم‪ ،‬والت�رشيك‪.‬‬ ‫‪ ،Parodie‬واملفارقة املثرية‪،Le Paradoxal :‬‬
‫وفاء ال�شاعر الرائد حممد ال�رسغيني‪ ،‬لل�شعرية‬ ‫ت�ستخدم يف كثري من مفا�صل‪ ،‬وت�ضاعيف املنت‪،‬‬
‫مبفهومها الكوين العميق‪ ،‬ال�شعرية التي تت�صاهر‬ ‫ك�أداة قلب والتفات باملعنى البالغي‪ ،‬وكَ َم َمر م�ضيء‬
‫فيها الر�ؤى جميعها من�ضفرة باملواجع والآالم‬ ‫و�سط �سماكة اللغة وهي تتنامى �شعريا وفكريا‪،‬‬
‫الإن�سانية‪ ،‬ومن�شبكة مبديح الإن�سان يف قوته‪،‬‬ ‫وطريق م�سعفة ملوا�صلة ال�سري و�سط العذابات‪،‬‬
‫وفتوحاته‪ ،‬ويف �ض�آلته وه�شا�شته �أي�ضا‪ .‬وهي‬ ‫والأحزان الب�رشية التي تتوارى رويدا‪ ،‬رويدا‪ ،‬خلف‬
‫ال�شعرية –ا�ستطرادا‪ -‬ذات اخلطاب املتكرث‪ ،‬واللغات‬ ‫الر َّيان املتالمح يف املفكر فيه‪ ،‬املرج�أ �إىل‬ ‫الأمل َ‬
‫املادية والالمادية العديدة املرتبطة ب�شجرة �أن�ساب‬ ‫كتابة �أخرى‪� ..‬إىل خيوط فجر �آت‪.‬‬
‫ُمو ِرقَة‪ ،‬وممتدة‪ ،‬واملتماهية بجذع تلك ال�شجرة‪،‬‬ ‫َت َه َّي ْب ُت –دوما‪ -‬االقرتاب من «كتاب» ال�رسغيني‪،‬‬
‫ال�ضخم‪ ،‬الو�سيع العري�ض‪ ،‬الذي تن�رسب يف �أليافه‪،‬‬ ‫املخبوء وامل�ستور بني الظل وال�شم�س‪ ،‬حتى ال‬
‫وخالياه‪ ،‬و�رشايينه‪ ،‬وحلائه‪� ،‬أن�ساغ الكد الإن�ساين‬ ‫يحرقني‪ ،‬وال ُي ِرينِي َف َهاهتي َو َع ِّيي وجهلي‪.‬‬
‫الذي بنى ع�رصا يف �إثر ع�رص‪� ،‬رصح احل�ضارة‬ ‫تهيبت ُع ْمرانه اللغوي‪ ،‬و�شوكه املعريف امل�ستكن يف‬
‫الإن�سانية املنيف وال�شامخ‪.‬‬ ‫قطيفة الإملاع ال�شعوري‪ ،‬والدفق الإح�سا�سي‪ ،‬املدفون‬
‫وفاء ال�رسغيني جلماع ال�شعرية تلك‪ ،‬باالحت�ضان‪،‬‬ ‫يف طيات ف َِرا ٍء لجِ ِ َرا ِء منور بي�ضاء‪ ،‬وفهود رقطاء‪،‬‬
‫والإيراق واال�ستغراق‪ ،‬واال�ستنباط‪ ،‬والتوليد‪ ،‬والتعهد‪،‬‬ ‫ولب�ؤات �صهباء‪ ،‬تذرع اال�ستوائيات‪ ،‬واله�ضاب‬
‫والتعميد‪ ،‬ر�سما للت�شييد‪ ،‬وبلورة جلهد ذهني وفكري‪،‬‬ ‫الزرقاء‪ ،‬واملنابع الثلجية‪ ،‬وال�ضفاف املخ�رضة‪ ،‬يف‬
‫وانبثاق �شعري‪ ،‬هو ما حقق له ما حقق‪ ،‬و�أويف‬ ‫�أق�صى القطب واجلغرافيا‪ ،‬ومنتهى الوهاد والقمم‪ .‬مل‬
‫�صنيعه ال�شعري اخلالق على الذروة‪ ،‬حتى بات‬ ‫يكن موطوءا –�أبدا‪ -‬عمل ال�رسغيني ال�شعري‪� ،‬أحتدث‬
‫اخرتاقه القرائي‪ ،‬ومراودته العا�شقة‪� ،‬أو املخادعة‬ ‫عن عمله «باجلمع»‪ ،‬بدءا من ‪« :‬بحار جبل قاف» �إىل‪..‬‬
‫املرت�صدة‪َ ،‬م�شَ قة َ�ض ْنكَى‪ ،‬و�سعيا َي ْعيا بحاطب ليل‪،‬‬ ‫«الكائن ال�سبئي» �إىل «وجدتك يف هذا الأرخيبل» �إىل‬
‫‪256‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الغفران» ق�شيبة جديدة‪ ،‬متحالفة مع �صنيع املعري‬ ‫�أو عاجر م�ستعجل‪� ،‬أو ظامىء متلهف‪� ،‬أو «واحاتي»‬
‫العظيم‪ ،‬فيما هي متخالفة وحملقة بعيدا عنها‪،‬‬ ‫م�صادر على ماء طوع اليد‪ ،‬ونخيل وارف بعد الكثيب‪.‬‬
‫طاملا �أنها تتو�سل بالتحوالت ال�شعرية‪ ،‬وروح الع�رص‬ ‫وفاء واحتفاء ال�شاعر بال�شعر لي�س كمثله احتفاء ‪:‬‬
‫اجلديد‪ ،‬ونب�ض القرن والدماغ‪ ،‬والأل�سنيات‪ ،‬والذكاء‬ ‫[متى كان ال�شعر و�صيفا للغه وهو تاجها‬
‫اال�صطناعي الراهن‪ .‬و�إنها «ر�سالة التوابع والزوابع»‬ ‫متى كان ال�شعر ر�أ�س يتيم بني يدي حالق غِ ّر؟‬
‫البن �شهيد الأندل�سي‪ ،‬منقلبة ومبتدعة‪ ،‬ومفارقة‬ ‫هو خال�صة ما يف القارات والإياالت والأ�صقاع‬
‫متاما‪ ،‬تب�صمها عبقرية �صاحب‪ ،‬وم�صفف‪ ،‬وم�شذب‪،‬‬ ‫من ال�سحاب والغيث واجلدب والأجرام املجهولة‪.‬‬
‫وخمرتع الذي هو ال�رسغيني ‪ .‬وهي «كوميديا» دانتي‬ ‫بطاقة تعريف �شخ�صية و�سِ ِّجل لأرومة الإن�سان]‬
‫�أليغوري‪ ،‬و«كوميديا بالزاك»‪� ،‬سوى �أنها تغو�ص‬ ‫وث مل ينقر�ض)‬ ‫(و�صايا َما ُم ْ‬
‫عميقا‪ ،‬وتنزل دفينا �إىل قاع �شعري وفكري �صاغه‬ ‫ويف فقرة �شعرية �أخرى من نف�س الكتاب ‪:‬‬
‫[للتاريخ غنائية احلكي واملحكي‪ /،‬ولهذه الغنائية‬
‫ال�رسغيني �شاعرا‪ ،‬وعاملا‪ ،‬وفقيها‪ ،‬ولغويا‪ ،‬وقارئا‬
‫�صالحية التدخل‪/‬بني امل�شاغب واملهادن‪/.‬‬
‫من طراز رفيع‪ ،‬طراز قد ال يمُ َ اثله طراز‪.‬‬
‫املقطعات �أنا�شيد‪/‬والأنا�شيد فقرات‪/‬والفقرات‬
‫يف جتربة ال�رسغيني ال�شعرية ال�شاخمة‪ ،‬الأليمة‬
‫لهاث‪/‬واللهاث باقات ‪/‬والباقات مقاطع ‪/‬‬
‫وت‪� ،‬شيخ امل�ؤرخني طُ ًّرا‪،‬‬
‫واللذيذة يف �آن‪ ،‬يح�رض هِ ُريو ُد ْ‬ ‫واملقاطع ع�شاريات‪/‬الطق�س الفردو�سي بارد‪/‬‬
‫ومالحم الإغريق العتيدة‪ ،‬وفرجيل‪َ ،‬و�أوفي ْد‪ ،‬والكتاب‬ ‫واجلحيمي ملهتب‪/‬واملطهري معتدل ‪�/..‬أما ال�شعر‬
‫«ال�ص ُّدوقيني»‬
‫املقد�س بعهديه‪ :‬القدمي واجلديد‪ ،‬ومقالب َّ‬ ‫فوحده املتدفق]‪.‬‬
‫و»الف ِِّري�سيني» اليهود‪ ،‬والأ�ساطري‪ ،‬واملنت اخلرايف‪،‬‬ ‫ال ميكن‪ ،‬بحال‪� ،‬أن نفهم �شعر حممد ال�رسغيني‪،‬‬
‫و�شعراء الع�صور واللغات‪ ،‬وال�صوفية‪ ،‬والفال�سفة‪ ،‬من‬ ‫والفوز بلذة فيه ومنه‪ ،‬واختال�س م�رسب �إىل عني‬
‫ون واملعري وابن عربي‪ ،‬و�أبي حيان التوحيدي‪،‬‬ ‫مِ ْل ُت ْ‬ ‫زرقاء ترقرق حتت رمو�شها ال�سوداء الوطفاء‬
‫ال�ساحرة‪ ،‬فرا�شات من �ضوء‪ ،‬و�إىل �صف�صافة عا�شقة‬
‫حانية‪ ،‬يهدهدها ن�شيد متوار بني الأوراق‪ ،‬ال ميكن‬
‫فتح م�رسب فيه –كما �أقول‪� : -‬إال مب�صاحبة املوتى‬
‫ون يف دارته ال�شعرية‪،‬‬ ‫والأحياء الذين َي ْ�ص َخ ُب َ‬
‫وقراءتهم –باحلتم‪� -‬أو قراءة بع�ضهم يف الأقل‪.‬‬
‫غري املدجج ب�سالح العلم واملعرفة وال�شعر‬
‫واملو�سيقى‪ ،‬والت�شكيل‪َ ،‬ي ْق�صرُ ُ به َحالُه‪ ،‬ويزري به‬
‫جهله‪ ،‬ويقهقه يف وجهه –�شبح َز َّي َن له َو ْه َم �أَ َّن ما‬
‫يقر أ� من �شعر لل�رسغيني‪ ،‬هو جمرد ُم َعميات وطال�سم‪،‬‬
‫اج‪ ،‬وخطوط َز َّناتية‪ ،‬وكربيت �أحمر‪ ،‬ورمل يف‬ ‫َو�أَ َح ٍ‬
‫دوما كحياتنا‬ ‫�أ�صقاع كندا‪ ،‬ومعنى هارب‪ ،‬مهرول ً‬
‫على الأر�ض‪.‬‬
‫�سالح الفتح ُي ْن ِيئكَ �أن ال�شاعر َر َّحا َل ٌة عمالق خالل‬
‫الدهور والع�صور‪ ،‬والأحقاب‪ ،‬والأزمنة‪ ،‬خالل‬
‫اجلغرافيات والأرا�ضني‪ ،‬وال�سالالت‪ ،‬والأن�ساب‬
‫والأح�ساب‪ ،‬وال�شجرات الآدمية‪� .‬إنها «ر�سالة‬
‫‪257‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫ومتو�ضعات �إن�سانية مثرية‪ ،‬بغاية الإراحة واال�سرتاحة‪،‬‬ ‫وابن �سبعني‪ .‬كما يح�رض الت�شكيليون واملو�سيقيون‬
‫والإ�ضافة النافلة‪ ،‬بل بغاية �إمداد ال�رسود ال�شعرية‬ ‫واملغنون العظام‪ ،‬من كل دوحة ون�سب‪ .‬وحت�رض‬
‫ِب ُقف ٍْل يجمع «�شتاتها»‪ ،‬و َت َف ُت َّتها‪ ،‬هل يكون قفل العفة‬ ‫العلوم املختلفة من طب وهند�سة‪ ،‬و�آلة‪ ،‬وهيئة‪ ،‬وفلك‪،‬‬
‫واملعرفة؟ ‪ ،-‬وبغاية �إ�ضفاء املعنى على البنيان‬ ‫وريا�ضيات‪ ،‬وتنجيم‪ ،‬وكيمياء وفيزياء‪ ،‬و�سحر‪،‬‬
‫ال�شعري وهو يت�صاعد طابوقة فوق طابوقة‪ ،‬ما يباعد‬ ‫وخمرتعات قدمية وحديثة‪ ،‬واجلوامع وال�صوامع‪،‬‬
‫االقرتاب‪ ،‬وين�أى باللحاق وال�سيطرة –من ثم‪ -‬على‬ ‫والأبواب واجل�سور‪ ،‬واملدافن واملقابر‪.‬‬
‫الإيقاع العام للن�ص ال�شعري‪ ،‬بو�صف الإيقاع داال �أكرب‪،‬‬ ‫يف جتربة ال�رسغيني اجلميلة واجلليلة‪ ،‬يح�رض ال�شعر‬
‫ومتعددا‪� ،‬أي �أن و�ضع «�أ�سورة» ذهبية وما�سية �ضمن‬ ‫مفكرا‪ ،‬والفكر مفكرا وم�شعرنا‪ ،‬وحمافل ال�رسود‬
‫الن�ص‪ ،‬يف و�سطه �أو خامتته‪ ،‬من �ش�أنها �أن تبئر الداللة‪،‬‬ ‫املختلفة‪ ،‬وحت�رض – ب�شكل الفت ومق�صود‪ -‬ال�سخرية‬
‫وتعمل –بهذا القدر �أو ذاك‪ -‬على �إ�ضاءة الفكرة التي‬ ‫ك�أهز إ� ما يكون‪ ،‬و�أنبل و�أندر ما يكون‪ ،‬حت�رض لِل َّت َن ُّد ِر‪،‬‬
‫َت ْن�سرَ ِ ُد �شعريا بني يدي الن�ص‪ ،‬بني يدي القاريء‪.‬‬ ‫وك�رس ال�سياق اللغوي الالهث‪� ،‬إذ تتيح التقاط الأنفا�س‪،‬‬
‫العامل‪ -‬يف منظور ال�رسغيني‪ -‬على عظمته‪� ،‬ضئيل‪،‬‬ ‫ورفع الأمل بال�ضحك‪ ،‬فيما هي تزرع احلكمة الوارفة يف‬
‫والكون على و�ساعته �ضيق‪ ،‬والأر�ض على امتدادها‪،‬‬ ‫�أعطاف وثنيات البنيان ال�شعري‪ .‬ويحر�ص ال�شاعر –‬
‫�أو لولبيتها العظيمة‪� ،‬إ�سفنجة َت ْن َع ِج ُن يف يد الزيات‪،‬‬ ‫و»م ْ�س َخ َراتِه»‪،‬‬ ‫يف �أثناء ذلك‪ -‬على تقوي�س �سخرياته‪َ ،‬‬
‫�إذ يختطفها –مبهارة �صقر‪ -‬ويطفئها يف «جفنة»‬ ‫واحات وحمطات ا�سرتاحة‪ ،‬ونقط ا�ستئناف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بو�صفها‬
‫زيت‪ .‬والإن�سان عابر �سبيل ميت ما دام �سيموت‪،‬‬ ‫والتفات‪ .‬فالتقوي�سات حوا�ش خادعة‪ ،‬مند�سة‬
‫عقباه التحلل‪ ،‬والتذرر‪ ،‬والهباء‪ ،‬لكنه بهي يف هبائه‪،‬‬ ‫ومد�سو�سة يف ت�ضاعيف الكالم ال�شعري‪ ،‬تعمل على‬
‫ري على ال�سهل‪ ،‬محُ َ اذٍ للتل‪ ،‬قريب من اجلبل‪� ،‬أر�ضي‬ ‫ع�س ٌ‬ ‫تفتيق الداللة‪ ،‬وتو�سيع املعنى‪ ،‬وقد ُت ْعمِيه وتطم�سه‬
‫و�سماوي معا‪ ،‬طائر يف الأجواز‪ ،‬عالق باملجرات‬ ‫ق�صدا وتر�صدا‪ .‬بيد �أن التقوي�سات متون‪ ،‬متون قائمة‬
‫آيب خالل الع�صور‪ ،‬وم�شدود – على‬ ‫البعيدة‪ ،‬ذاهب و� ٌ‬ ‫على وجازتها‪ ،‬وخال�صاتها املكثفة‪ .‬والأمثلة على هذا‬
‫رغم كل هذا‪� -‬إىل ال�سفح‪ ،‬والوتد‪ ،‬والأ�سباب املهرتئة‪،‬‬ ‫�أكرث من �أن نحيط بها؛ فهي ت�رسي‪ ،‬وتتخلل جميع كتبه‬
‫والو�ضاعة‪ ،‬والأنانية املقيتة‪ .‬م�شدود – بكلمة واحدة‪-‬‬ ‫ال�شعرية‪ .‬منها متثيال ‪:‬‬
‫‪� :‬إىل الطني والوحل‪.‬‬ ‫ورها)‬
‫‪( -‬لعنت �شجرة الدفلى‪ ،‬وبوركت ُز ُه ُ‬
‫ِب َي ِد ال�شعر ال ِب َي ِد احلاكم‪ ،‬وال القاتل‪ ،‬وال املُرابي‪ْ � ،‬أم ُر‬ ‫‪�( -‬سكان الأ�رضحة ال يهاجرون)‬
‫الأر�ض والإن�سان‪ .‬بيد ال�شعر ما يجعل الإقامة حمبوبة‬ ‫‪( -‬لل�ساكن من الذكاء ن�صف حق ما للمتحرك من‬
‫ومرغوبة‪ ،‬بيده ما يك�شف عن م�سد�س العامل املخفي‪،‬‬ ‫الغباء)‬
‫ون�صله ال�صدىء يف الغمد العتيق‪ ،‬بالإعالن عن املخفي‬ ‫‪( -‬ما جدوى عالمات املرور يف ليل �سدميي)‬
‫ذاك‪ ،‬واملخبوء يف ال ّزنار واحلزام‪ ،‬من خالل ر�ش‬ ‫‪)Il s’agit là d’une irrigation panachée( -‬‬
‫ال�ضوء‪ ،‬واحللم‪ ،‬والأمل بني جنبات الكون‪ .‬ومن خالل‬ ‫‪( -‬الزنبور وا�سطة بني الوجود والعدم)‬
‫ت�أبيد اخل�رضة و�سط احلطام‪ ،‬ورفع الل�سان بالن�شيد‬ ‫‪َ ( -‬ث َّم َت من يكتب دون قفازين)‬
‫والت�سبيح‪ ،‬والهتاف للحياة‪.‬‬ ‫‪( -‬تمَ َّ َت من يلب�س التاج ويخلع القناع)‬
‫يقول ال�شاعر يف الزمة بديعة –حكيمة‪ ،‬تكررت داخل‬ ‫‪( -‬ال�شم�س التي ال �سوابق لها‪ ،‬قطعة ق�صدير)‬
‫وث مل‬ ‫�أحد ن�صو�صه ال�شعرية‪ ،‬بكتابه ‪« :‬و�صايا َما ُم ْ‬ ‫‪( -‬كم هو لذيذ تردد امليت على متاجر قطع الغيار)‬
‫ينقر�ض» ‪:‬‬ ‫ال ي�ؤثث ال�شاعر رفوف عمارته ال�شعرية‪ ،‬بهذه احلكم‬
‫‪[-‬ال يكت�شف ُت َّرهات هذا العامل غري ال�شعر]‬ ‫والف�صو�ص والأمثال ال�شعرية التي ت�ستبطن ال�سخرية‬
‫لكن‪� ،‬إذا كان ‪ /:‬الكاتب مزور ‪/‬القارىء مزور‬ ‫املريرة‪ ،‬وت�ستهدف الإ�ضحاك والتموقف ُحيال عِ ل ٍَل‬
‫‪258‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫وما �أظن �أن ال�رسغيني يريد بذلك تعاملًا هو يف غنى‬ ‫القراءة مزاولة تزوير‬
‫عنه‪ ،‬و�أكرب منه مبا ال يقا�س‪ .‬وما �أظن �أنه يبدع يف‬ ‫�إن كان هذا الفعل الثالثي ُمراب ًيا‬
‫الفرن�سية ت�رشيبا ملخياله‪ ،‬وتزكية لأيقونة تقيم بني‬ ‫فالبد من تلقيحه ب�أنزميات �صناعية‬
‫ال�صوت وال�صدى‪ ،‬والإعالن واملحو‪ ،‬وتو�سيعا لر�أيه‬ ‫تعوي�ضا عن عبثية املكتوب واملقروء‪.‬‬
‫ال�شعري‪ ،‬وفكره الفل�سفي‪ ،‬على �أ�سا�س مِ ْن تحَ َ ٍّد لل�شعراء‬ ‫مما يعني– يف تقديري‪ -‬لي�س غري ا�ستثارة الآدمية‬
‫املغاربة والعرب‪َ ،‬و َم ْك ٍر بهم‪ ،‬و�سباق يف م�ضمار مل‬ ‫احلق‪ ،‬وا�ستفزاز الذائقة الطبيعية والثقافية‪،‬وا�ستثارة‬
‫يدخله �إال هو؟‬ ‫احل�س اجلمايل يف الإن�سان موقفا وموقعا ومباد�أة‪،‬‬
‫فما يقوم به‪ ،‬يندرج –يف البحث امل�ضني‪ ،‬املفكر فيه‪،‬‬ ‫َو َد ْي َد ًنا‪ ،‬وهدفا ال�ستحقاق الت�سمية‪ ،‬وا�ستحقاق الإقامة‬
‫عن فتوحات �إ�ضافية ُت ْ�سبِغُ على ال�شعرية املغربية‬ ‫على الأر�ض‪.‬‬
‫تنوعا‪ ،‬وحتديثا‪ ،‬و�أ�صالة‪ ،‬وعلى العربية َرفْدا وعمقا‪،‬‬ ‫ولي�س التجاء ال�شاعر �إىل اللغة الفرن�سية‪ ،‬مدعاة للقول‬
‫وتخ�صيبا‪ ،‬و�إن�سانية‪ ،‬وثقافة خم�صو�صة‪.‬‬ ‫بق�صور العربية عن التعبري‪ ،‬وعن ا�ستمداد من معينها‪،‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬فمحمد ال�رسغيني‪ ،‬مدر�سة قائمة الذات‪،‬‬ ‫ما به يك�شف عن خزائنه ومعارفه‪ ،‬و�أحا�سي�سه‪� .‬إن‬
‫ونهر �شعري طَ ٍام‪ ،‬عميق وهادىء يف املظهر واملخرب‪،‬‬ ‫اف لمِ َا حتدثنا عنه –قبال‪ -‬من كونه‬ ‫هو �إ َّال َد ْم ٌغ َ�ص ٍ‬
‫م�صطخب ومتالطم يف الداخل والباطن‪ ،‬كثري من رذاذه‪،‬‬ ‫�سخرية‪ ،‬وا�سرتفادا‪ ،‬وتطعيما‪ ،‬و�إغناء للمنت ال�شعري‬
‫�ض ك�ساعد «كَ الِي ْب ُ�سو»‬ ‫مر�شو�ش وموجود‪ ،‬ملتمع‪َ ،‬وامِ ٌ‬ ‫احلافل والو�سيع‪ .‬ما �ضاق به الل�سان العربي‪ ،‬وكيف‬
‫الب�ض‪ ،‬يتخلل ن�صو�ص بع�ض �شعرائنا املغاربة‪ ،‬مع‬ ‫ي�ضيق به وهو �أحد رواده وفر�سانه؛ ما �ضاق به هو‬
‫�أنهم يحاولون –عبثا‪� -‬إخفاء ونكران ذلك الت�أثر‪.‬‬ ‫ال�شعر يف جذوره وغُ ُ�صونه‪ ،‬على نحو يجذبه �إىل القاع‬
‫�أقام �رصحه ال�شعري على نقطتني �أ�سا�سيتني‪ ،‬فيما‬ ‫البعيد‪� ،‬إىل اجلرة اخلرافية‪ ،‬و�صل�صال اخلليقة‪ ،‬وليل‬
‫يقول‪ ،‬وفيما ت�ؤكد القراءة واملقاربة ملتنه ال�شعري‬ ‫احل�ضارات‪ ،‬و�إىل و�سائل مقاربة‪ ،‬و�إتيان هذا ال�صنيع‬
‫الباذخ‪ ،‬وهما ‪« :‬عقلنة ال�شعر‪َ ،‬و َو ْج َد َن ُة الفل�سفة»‪ .‬هما‬ ‫البديع اخلالق‪ .‬ففي الأمر تو�سعة لف�ضاء ال�شعر‪ ،‬والقول‬
‫حموران كبريان متعار�ضان –فيما يبدو‪ -‬ولكن ال�شاعر‬ ‫الرفيع‪ ،‬ويف الأمر‪� ،‬إبراز و�إظهار خل�صو�صيات ال�شعر من‬
‫�أوتي من العلم والفكر وال�شعر‪ ،‬والثقافة املو�سوعية‪ ،‬ما‬ ‫حيث هي كونيات وعموميات‪ ،‬ترابيات‪ ،‬ومتعاليات‪.‬‬
‫َم َّك َن ُه من �إجناح عملية امل�صاهرة‪ ،‬واملواجلة‪ ،‬والتنافذ‬ ‫�إنه الت�سبيح الأعلى‪ ،‬والتمجيد الأ�سنى‪ ،‬والن�شيد الأعظم‬
‫احلي املتحرك ذهابا و�إيابا‪ ،‬وما مكنه –على م�ستوى‬ ‫وت‪ ،‬ما يجعلنا نقول بكل‬ ‫ا�س ْ‬
‫يف امللكوت ِلالَّهوت وال َّن ُ‬
‫اطمئنان ‪� :‬إن ال�شعر‪ ،‬وهو يتو�سل‪ ،‬للتعبري عن الدواخل‬
‫�آخر‪ -‬من قول كلمته يف ‪« :‬هذا الطق�س املتقلب بهدف‬
‫واخلوارج‪ ،‬اللُّغةَ‪ ،‬يعلو‪ ،‬وي�سمو على اللغة‪ ،‬مثلما الطائرة‬
‫مقاومة االختالل امللحوظ يف احلياة العامة‪ ،‬ما جعله‬
‫تقطع الأجواز والف�ضاء بالإن�سان على رغم �أن الإن�سان‬
‫يوثق العرى بني حوا�سه وحدو�سه‪ ،‬فاحتا ال�سبيل‬
‫وج ُدها‪َ .‬ي ْن َو ِج ُد ال�شعر‬
‫هو �صانعها‪ ،‬وخمرتعها‪َ ،‬و ُم ِ‬
‫ملالحظة احلوا�س‪ ،‬وتف�سري احلدو�س‪ ،‬م�رشعا كتابه على‬
‫باللغة‪ ،‬وتنوجد به‪ ،‬بيد �أنه يعلو‪ ،‬ويطري‪ ،‬ويخرج من‬
‫بوابة النبوءة‪ ،‬و�سنبلة الأ�سطورة‪.‬‬
‫�رشنقتها‪ ،‬فت�صبح ظم�أى �إليه‪� ،‬صديانة �إىل مائه الزالل‪،‬‬
‫�إ�شـارة ‪:‬‬
‫‪-‬ال ُي َدانِي ِه يف منحى �صهر الفكر يف ال�شعر‪ ،‬وال�شعر يف الفكر‪� ،‬سوى‬ ‫مل ْه َراقة‪ ،‬و�أمله و�أمله‪ ،‬وا�ست�رشافاته جميعا‪.‬‬ ‫وخ�رضته ا ُ‬
‫�إ ْز َراباوند‪ ،‬و�أدوني�س‪ ،‬وحممد عفيفي مطر‪ ،‬مع اختالف الأربعة يف‬ ‫ول�ست �أذكر –يف حدود علمي‪� -‬شاعرا عربيا قدميا �أو‬
‫كيفيات الت�صوير‪ ،‬وميكانيزمات العجن والتبئري‪ ،‬واال�ستب�صار اللغوي‬ ‫معا�رصا‪ ،‬قام بفعلة ال�رسغيني اجلمالية و الفل�سفية‪� ،‬أي‬
‫يف تن�سيبه الرتابي‪ -‬الأر�ضي‪ ،‬وانحالله العنا�رصي‪ ،‬ومتعلقاتها من‬
‫ب�إن�شاء ال�شعر �إن�شاء بلغة املتنبي كما بلغة موليري �ضمن‬
‫ماء وهواء ونار‪ ،‬ويف مطلقه املتعايل‪ ،‬متو�سلني (ال�شعراء الأربعة)‪،‬‬
‫باحلد�س والر�ؤيا والك�شف‪ .‬علما �أنه قد يخفي عني الكثري يف باب‬ ‫الديوان الواحد‪ ،‬وال�صفحات املتال�صقات املتوازيات‪،‬‬
‫املقارنة واملقاي�سة ‪.‬‬ ‫امل�صاقبات واملت�ساوقات نعال بنعل‪.‬‬
‫‪259‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫رواية «�أ�ساطري رجل الثالثاء»‬
‫ل�صبحي مو�سى‬
‫حممد ال�سيد �إ�سماعيل‬
‫�شاعر وناقد من م�رص‬

‫النه�ضة وال�صحوة الإ�سالمية احلديثة التي بد�أها‬ ‫تو�صف الرواية دائما ب�أنها فن مو�ضوعي يقوم على‬
‫الأفغاين ومن خرجوا من حتت عباءته باجتاهاتهم‬ ‫معاينة الواقع وقراءة التاريخ وتفكيكه وخماولة‬
‫املختلفة‪ ،‬فالتاريخ امل�ستدعى هنا ال يقت�رص على‬ ‫�إ�سقاطه على اللحظة الراهنة املعي�شة‪ ،‬وارتباط‬
‫فرتة حمددة �أو �شخ�صية حمورية‪ ،‬وبالتاىل ف�إن‬ ‫الرواية بالتاريخ ظل غالبا من ال�سمات املالزمة لها‬
‫فكرة الإ�سقاط ال�سيا�سى غري واردة‪ ،‬ف�شخ�صيات‬ ‫منذ ن�ش�أتها‪ ،‬الأمر الذي ترتب عليه �شيوع ما عرف‬
‫الرواية ال تقوم با�ستدعاء هذا التاريخ املمتد والذي‬ ‫بالرواية التاريخية يف بع�ض املراحل‪ ،‬والتى ميكن‬
‫ي�شمل عدة ع�صور والعديد من ال�شخ�صيات بو�صفها‬ ‫عدها نوعا �رسديا قائما بذاته‪ ،‬ميكن درا�سة ا�شكاله‬
‫�أحداثا بعيدة عنها‪ ،‬بل بو�صفها حياة حا�رضة‬ ‫وتطوراته و�أمناط ا�ستدعائه لهذا التاريخ‪ ،‬وهو ما‬
‫تعي�ش بها وعليها وخاللها‪ ،‬وتردد �أقوالها وتتخذ‬ ‫ميكن �أن ن�ضنعه مع �أنواع �رسدية �أخرى تقوم على‬
‫مواقفها وجتعل منها منوذجا «مثاليا» ت�ستهدي‬ ‫تيمة «مو�ضوعية» واحدة كما يف الروايات التي‬
‫به يف حركتها و�رصاعاتها‪ ،‬ولهذا ف�إن التق�سيمات‬ ‫تعالج عالقة ال�رشق بالغرب‪� ،‬أو مو�ضوعة عالقة‬
‫الزمنية املعهودة‪ :‬املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل‪.‬‬ ‫الفرد بال�سلطة على �سبيل املثال‪.‬‬
‫لي�س لها وجود يف العقلية الأ�صولية‪ ،‬فاملا�ضي هو‬ ‫غري �أن اجلديد يف رواية ا�ساطري رجل الثالثاء‬
‫الأ�صل الذي ينبغي �أن ي�ستمر و�أن يتكيف احلا�رض‬ ‫ل�صبحي مو�سى هو �أنها تقوم على وجود ثالثة‬
‫وامل�ستقبل على مقايي�سه‪ ،‬وبناء على ذلك ف�إن هذا‬ ‫م�ستويات زمنية ميكن �أن نطلق على الأول زمن‬
‫املا�ضي يتجاوز كونه كما عهدنا ذلك كثريا حيلة‬ ‫الكتابة الفعلية التي �أنتهت كما ي�شري امل�ؤلف عام‬
‫فنية �أو قناعا تختبىء الذات وراءه‪� ،‬أو مو�ضوعا‬ ‫‪ ،2008‬وزمن التاريخ املكتوب بوقائعه و�شخ�صياته‬
‫للت�أمل �أو للحنني‪ ،‬بل �إن ال�شخ�صيات حتياه بو�صفها‬ ‫و�رصاعاته والتي تنح�رص كما ت�شري بع�ض ف�صول‬
‫جزءا منه وامتدادا له‪ ،‬مما ي�ؤكد ح�س املفارقة بني‬ ‫الرواية ما بني عامي ‪ 1974‬و‪ ،2001‬مع �إرتدادات‬
‫هذا الوعي املفارق واحلياة املعا�رصة بقوانينها‬ ‫قريبة ال تتجاوز حياة والد ال�سارد يف �شبابه وع�شقه‬
‫املختلفة وواقعها املغاير‪ ،‬وهو ما يتولد عنه �أي�ضا‬ ‫البنة عمة وطرد الإمام له‪ ،‬وحياة ال�شيخ‪ /‬ال�سارد‬
‫الإح�سا�س بالإغرتاب �سواء داخل الوطن �أو بعيدا عنه‬ ‫او منقذه من ال�ضالل كما ي�صفة‪ ،‬والذي ي�ستدعي‬
‫ويف�رس الإيقاعات امل�ؤقتة والرحيل الدائم من مكان‬ ‫بدوره حياة والده الفل�سطيني‪ ،‬الأمر الذي ي�صل‬
‫لآخر‪ ،‬واحلقيقة �أين �أحتدث هنا عن هذه ال�شخ�صيات‬ ‫بنا �إىل بدايات اال�ستيطان ال�صهيوين الفل�سطيني‪،‬‬
‫بعد انتظامها داخل فكرة اجلهاد دفاعا عن �أر�ض‬ ‫و�أخريا زمن املا�ضي البعيد امل�ستدعى‪ ،‬والذي‬
‫امل�سلمني التى تنتق�ص من �أطرافها يف �أفغان�ستان‬ ‫يرجع �إىل ع�رص الر�سول وال�صحابة‪ ،‬وميتد �شامال‬
‫على يد ال�سوفيت «املالحدة»‪ ،‬ف�إن ال�سارد الرئي�سي‬ ‫الع�رصيني الأموى والعبا�سي و�صوال �إىل ع�رص‬
‫‪260‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫كما يف�سح املجال للغنائية‪ ،‬ومن ثم ال�شعرية التي‬ ‫الذى �شهدت حياته حتوال جذريا بعد تعرفه على �أبي‬
‫تتجاوز فكرة االهتمام باللغة واملجاز اىل حيث‬ ‫�سعيد الفل�سطيني الذي كان على �صلة بوالد ال�سارد‬
‫ت�شمل امل�شهد واملوقف ال�رسدي‪ ،‬كما يعد «االيقاع»‬ ‫وحلما معا بعامل �إ�سالمي موحد‪.‬‬
‫الروائى ت�أكيدا لهذه الغنائية‪ ،‬وهو ما يتمثل يف‬ ‫و�إجماال ميكن و�صف ال�شخ�صيات املنتمية �إىل‬
‫تكرار بع�ض العبارات املحورية يف موا�ضع متفرقة‬ ‫املا�ضى البعيد �أو القريب ب�أنها �شخ�صيات مرجعية‬
‫من الرواية‪ ،‬ومتاثل بنيه الف�صول‪ ،‬حيث مالت‬ ‫حيث ترد ب�أ�سمائها احلقيقية والوقائع التاريخية‬
‫يف �أغلبها اىل الق�رص والتكثيف بالقيا�س اىل ما‬ ‫املعروفة التى �شاركت فيها‪ ،‬كما ميكن و�صف‬
‫هو معهود يف الف�صول الروائية‪ ،‬وال يخلو الن�ص‬ ‫�شخ�صيات الرواية امل�شاركة يف �أحداثها ب�أنها‬
‫الروائي «�أ�ساطري رجل الثالثاء» من طابع ملحمي‬ ‫�شخ�صيات «كنائية» ت�شري بو�ضوح �إىل �شخ�صيات‬
‫حقيقية لكنها ال حتمل �أ�سماءها ال�رصيحة‪ ،‬فهي‬
‫يتمثل يف تلك الهجرة متعدده االقطار والقوميات‬
‫�أقرب �إىل ال�شخ�صيات املخلوقة �أو ال�شخ�صيات‬
‫التي ال ي�ضم �أ�صحابها �سوى ما يعرف باالممية‬
‫الورقية بتعبريات روالن بارت‪ ،‬وهذا يعني �أن‬
‫الإ�سالمية كي تت�أكد هذه امللحميه من خالل ح�س‬
‫الرواية جتمع بني احلقيقي والتخيلي �أو بني ما‬
‫املجازفة واملغامرة التي يبديها ه�ؤالء املجاهدون‬ ‫�سماه د‪ .‬ر�شيد يحياوى بال�رسد التخيلى املمثل يف‬
‫الذين يواجهون �آلة ع�سكرية �ضخمة ب�إمكانيات‬ ‫الأ�ساطري واخلرافات وال�رسد غري التخيلي كما يبدو‬
‫قليلة‪.‬‬ ‫يف �أدب الرحالت واليوميات واملذكرات وتقارير‬
‫تبدو عالقه ال�شخ�صيات بال�سلطة عالقة �رصاعية‬ ‫احلروب مع مالحظة �أن هذا النوع ال يخلو متاما من‬
‫�سواء كانت �سلطات حملية �أو �أجنبية‪ ،‬وهو ما يظهر‬ ‫�أثر اخليال(‪.)1‬‬
‫هذا التعدد الذى نراه على م�ستوى الزمن‬
‫وال�شخ�صيات جنده كذلك على م�ستوى الأ�سلوب‬
‫ال�رسدي‪ ،‬مما يحقق ما ا�سماة باختني بـ‬
‫«البولوفينية»‪ ،‬فرغم �أن الرواية م�رسودة ب�ضمري‬
‫املتكلم من خالل ال�سارد الرئي�س الداخلي امل�شارك‬
‫يف الأحداث ف�إن معرفته تقرتب من معرفة ال�سارد‬
‫اخلارجي العليم‪ ،‬مما �أتاح له �إمكانية �رسد ق�صة‬
‫والده يتقريعاتها املختلفة و�أحداثها الغريبة‪ ،‬كما‬
‫اتاح �أي�ضا التعدد الأ�سلوبي حيث ميكن التمييز بني‬
‫ثالثة �أ�ساليب ‪� :‬أ�سلوب ال�سارد يف �شبابه وهو ب�شكل‬
‫املنت او النغمة الأ�سا�س على مدار الرواية‪ ،‬و�أ�سلوب‬
‫ال�سارد يف �شيخوخته‪ ،‬و�أ�سلوب �أبي �سعيد الذي كان‬
‫يتناوب ال�رسد مع ال�سارد الرئي�س يف بع�ض الف�صول‬
‫الروائية‪.‬‬
‫وال �شك �أن غلبة �ضمري املتكلم ب�صورة �شبه مطلقة‬
‫يجعل الرواية �أقرب اىل ما ي�سمى برواية ال�شخ�صية‪،‬‬
‫‪261‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫املوا�ضع �إىل املروي عليه من قبل �أحد ال�شخ�صيات‬ ‫من ق�صة والد ال�سارد الذي حالت قوة املال والنفوذ‬
‫املحايثة له يف ال�رسد‪ ،‬ومل يكن ذلك مراعاة لفنية‬ ‫بينه وبني الزواج من ابنة عمه‪ ،‬كما يظهر يف هذه‬
‫الرواية فح�سب بل و�سيلة لتعرية هذه ال�شخ�صيات‬ ‫الق�صة ذاتها تراتيب ال�سلطة‪ ،‬حيث تتال�شى �إراده‬
‫و�سرب �أغوارها من خالل املوقف وال�سلوك والقناعة‬ ‫�شيخ القبيلة وابنه �أمام �إرادة الإمام‪ ،‬وي�صبح والد‬
‫الفكرية‪ ،‬و�صنع جمموعة من التقابالت الالفتة‬ ‫ال�سارد هو مو�ضوع القهر الوحيد‪ ،‬حيث يتم تر�ضية‬
‫بينها كما يف حالة «ال�صباح» و«�أبي عبدالرحمن»‬ ‫�شيخ القبيلة وابنه بامتياز الرعي يف �أر�ض جديدة‪،‬‬
‫حيث يبدو الأول برجماتيا ال يرى حرمانية يف‬ ‫بينما �أ�ضاف الإمام «امليمونة» ‪ /‬الفتاة مو�ضو‬
‫زراعة «اخل�شخا�ش» وبيعه‪ ،‬يف حني يبدو «�أبي‬ ‫ال�رصاع �إىل جواريه املائتني والت�سعني‪ ،‬ومل يبق‬
‫عبد الرحمن» مثاليا ي�ؤمن ب�رضورة ات�ساق‬ ‫ملحمد ‪ /‬والد ال�سارد �سوى ما ي�شبه حتديد الإقامه‬
‫الو�سيلة والهدف حتى �أ�صبحت �شخ�صيتة �أقرب �إىل‬ ‫على م�سالك ال�صحراء‪ ،‬منتظرا االجانب ذوي العيون‬
‫ال�شخ�صية «النمط» التي تتجاوز وجودها التاريخي‬ ‫الزرقاء والب�رشه الثلجيه كى يدلهم على الطريق �إىل‬
‫املتعني �إىل الوجود يف «الوعي»‪ ،‬فهي يف ت�صوري‬ ‫م�ساعدي الإمام‪ ،‬ويح�صل منهم على طعامه و�رشابه‬
‫�شبيهة �إىل درجة كبرية ب�شخ�صية دون كي�شوت الذي‬ ‫ودراهم يرتكونها من �أجله‪ ،‬و�إن مل ي�أتوا فعليه �أن‬
‫خرج يحارب العامل احلديث بقيم الع�صور الو�سطى‪،‬‬ ‫ي�أكل الرمل واحل�صى دون �أن يربح مكانه‪.‬‬
‫ومل يكن حب «�أبي عبدالرحمن» للخري من قبيل‬ ‫�أما ال�سلطة «املعوملة»ـ �إن �صح الو�صف والتي‬
‫امل�صادفة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إميانه بخواء احل�ضارة‬ ‫متثلت يف القوة ال�سوفييتية ثم القوه االمريكية فقد‬
‫احلديثة التى لن ينقذها طبقا لقناعته �سوى القيم‬ ‫كان عداء اال�صولية الإ�سالمية لها �شديد الو�ضوح‪،‬‬
‫الإ�سالمية حتديدا‪ ،‬الفرق الأ�سا�س بينه وبني دون‬ ‫غري �أن تعمق االمر يك�شف عن �أن هذه اال�صولية‬
‫كي�شوت �أنه مل يعرت�ض على توظيف �إمكانيات‬ ‫مل تكن �أكرث من �أداة يف يد القوى الكربى‪ ،‬و�أما‬
‫القوى الغربية وتوظيف ر�أ�س «املال» ال�سيا�سي يف‬ ‫ا�رصار �أبي عبدالرحمن ‪ /‬ال�سارد الرئي�سي على �أن‬
‫�سبيل حتقيق ما ي�ؤمن به من قيم‪.‬‬ ‫يكون تنظيمهم هو الذي يحدد وقت الهجوم على‬
‫ولعله كان من الالفت حقا �أن املثري الأ�سا�سى‬ ‫برجى التجارة العاملي لي�س �سوى �إ�رصار على �أمر‬
‫لهذه ال�شخ�صية وغريها من ال�شخ�صيات اجلهادية‬ ‫ثانوي و�شكلي ال مينع تبعيه التنظيم لهذه القوى‬
‫متثل يف �صورة اال�ستعمار التقليدي القدمي القائم‬ ‫التي اعرتفت ب�رضورة التعاون معها وتوظيف‬
‫على احتالل «الأر�ض» بالقوة الع�سكرية‪ ،‬مبا يعني‬ ‫امكانياتها العلمية واملخابراتية‪ ،‬كما كان ذريعة‬
‫عدم جتدد وعي هذه ال�شخ�صيات بحيث يدرك‬ ‫قويه لت�سويق امليديا الغربية لنموذج الإرهابي‬
‫�أمناط اال�ستعمار اجلديد الذي وقعت يف �رشاكة‬ ‫امل�سلم الذي يهدد ال�سالم العاملي‪.‬‬
‫و�إكتفت ب�شكليات «الهوية» كما تراها‪ ،‬مما يدفعنا‬ ‫وعلى الرغم من �إغراء هذه املو�ضوعية الفكرية‬
‫�إىل القول �أن اال�صولية على هذا النحو مل تعد لها‬ ‫لفكرة االدانة �سواء لهذا الطرف �أو ذاك‪� ،‬أو حتى‬
‫داللة امل�رشوع الن�ضايل «احلقيقي» حني كانت‬ ‫جمرد التعليق‪ ،‬فان الكاتب مل ينزلق لغواية هذا‬
‫امل�ستعمر ( بفتح امليم) �ضد اجلهود‬
‫َ‬ ‫ملج�أ يحتمى به‬ ‫«احلجاج» الأيديوجلي وذلك بتغييبه لو�ضعية‬
‫اال�ستعمارية الرامية اىل طم�س معامل «الرتاث وم�سخ‬ ‫الراوي العليم الذى ي�صدر الأحكام ويقيم �سلوك‬
‫الهوية» (‪)3‬‬ ‫ال�شخ�صيات و�أفكارها ومواقفها‪ ،‬وا�صطناع و�ضعية‬
‫لقد حولت الأ�صولية ال�رصاع من كونه �رصاع بني‬ ‫الراوي امل�شارك يف احلدث والذي يتحول يف بع�ض‬
‫‪262‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫واملنخل الي�شكري وغريهم» �ص ‪ ،22‬وهى مقدمات‬ ‫اال�ستقالل والتبعية كما هو حادث حقيقة �إىل �رصاع‬
‫مل تكن تنبىء مبا �سوف ت�ؤول �إليه حياته على يد‬ ‫دينى بني الإ�سالم والإحلاد يف �رصاعها مع القوى‬
‫�أبي �سعيد‪ ،‬غري �أن �شخ�صية ال�سارد حتى وهي على‬ ‫ال�سوفييتية‪،‬ثم بني الإ�سالم وامل�سيحية يف �رصاعها‬
‫هذه ال�صورة الالهية كانت حتمل من ال�سمات ما‬ ‫مع القوى الأمريكية‪ ،‬ناهيك عن ال�رصاعات املذهبية‬
‫ي�ؤهلها حلياة الزهد واجلهاد التى عا�شها فيما بعد‪،‬‬ ‫داخل اال�سالم نف�سه طبقا لر�ؤى بع�ض التنظيمات‪،‬‬
‫وك�أن هذه احلياة الالهية هى الغواية التى يهرب‬ ‫فهل ميكن القول ب�أن ال�رصاع الذى يحكم الرواية هو‬
‫بها من حقيقة نف�سه كما يظهر يف قوله «ك�أنني‬ ‫ما �أطلق عليه روجيه جارودي «�رصاع الأ�صوليات»‬
‫كنت �أود الهرب من نف�سي‪� ،‬أود �أن �أ�صبح �شخ�صا ال‬ ‫التى مل يجعلها قا�رصة فقط على الأديان بل جعلها‬
‫�أعرفه‪ ،‬لكنه ي�شبه �أبي و�أمي وعمارة واملنخل وكل‬ ‫ت�شمل ما �أ�سماه ب�أ�صولية «العلم» بتقنياته اجلازمة‬
‫من �سمعت عنهم يف الق�ص�ص‪ ،‬كنت يف نهاية الليل‬ ‫ورف�ضة لأمناط املعرفة املخالفة لقوانينه؟‬
‫�أقود العربة كرمح انطلق من قو�سه» �ص‪ ،25‬ولعل‬ ‫هذا �س�ؤال ميكن اختباره من خالل الرواية‪ ،‬خا�صة‬
‫هذا االقتبا�س يو�ضح �أننا �أمام �شخ�صية تعي�ش‬ ‫�أن هذة النزعة الأ�صولية اليقينية ظلت من ال�سمات‬
‫خياالتها و�أحالمها �أكرث مما تعي�ش حقيقتها وال فرق‬ ‫التى ت�سيطر على العديد من الف�صائل الدينية‬
‫جوهريا بني خياالت و�أحالم هذه احلياة الالهية‬ ‫وال�سيا�سية وتدفعها �إىل ا�ستخدام القوة حتت دعاوى‬
‫وخياالت و�أحالم مرحلة حلم الدولة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ومربرات خمتلفة‪ ،‬ولنت�أمل هذه الوقائع التي‬
‫يكفي �أنه كان يعي�ش ما ي�سمعه من ق�ص�ص يف‬ ‫تزخر بها الرواية والتي تكاد حتمل داللة واحدة‬
‫املرحلتني‪ ،‬فلم يزد على �أنه ا�ستبدل ب�شخ�صيات‬ ‫رغم اختالف الدوافع واملربرات‪ :‬الغزو ال�سوفييتي‬
‫املرحلة الأوىل �شخ�صيات جهادية تنا�سب املرحلة‬ ‫لأفغان�ستان‪ ،‬الغزو العراقى للكويت‪ ،‬اقتتال اجليو�ش‬
‫الثانية‪ ،‬على �أنه من املفيد �أن نت�أمل الت�شبيه الوارد‬ ‫العربية على �أر�ض اليمن‪ ،‬ا�ستدعاء القوات الأمريكية‬
‫يف االقتبا�س ال�سابق حني يقول «كنت يف نهاية‬ ‫للمنطقة العربية‪ ،‬بحث تنظيم القاعدة عن �أكرث‬
‫الليل �أقود العربة كرمح انطلق من قو�سه» فهي‬ ‫الدول تهيئة لإقامة دولة �إ�سالمية تكون منطلقا‬
‫�صورة جتمع بني منتجات احلداثة والوعي البدوي‬ ‫لتكوين عامل �إ�سالمي يتجاوز الأقطار والقوميات‪،‬‬
‫الذي يعي�ش زمن الرمح والقو�س‪ ،‬مما يعمق القدرة‬ ‫الغزو ال�صهيوين اال�ستيطاين لفل�سطني‪.‬‬
‫ال�سابقة عن انف�صال الوعي واالحالم واخلياالت عن‬ ‫واحلقيقة �أن الو�صول �إىل «الأ�صولية» الإ�سالمية‬
‫واقع احلياة‪ ،‬مما يدفعنا �إىل القول عموما �أنه لي�س‬ ‫حتديدا ميثل رحلة وعي �شاق تتوازى مع رحلة‬
‫من الإميان بايدولوجية ما فح�سب بل احلوار معها‬ ‫�أ�صحابها �أق�صد هذه الأ�صولية �إىل افغان�ستان‬
‫الكت�شاف تناق�ضاتها‪ ،‬ومل يكن التو�سري مبالغا حني‬ ‫وغريها من الأماكن بحثا عن �إمكانيات حتقيق‬
‫جعل االيديولوجيا عندما تدخل يف �سياق املقد�س‬ ‫«حلم» العامل الإ�سالمي الواحد‪ ،‬ف�إذا ما توقفنا �أمام‬
‫– مناق�ضة للعلم‪ ،‬وهذا بالفعل ما ي�سم الأ�صوليات‬ ‫ال�سارد الرئي�سي منوذجا جنده قد مر بطفولة ناعمة‬
‫الواردة بالرواية �سواء كانت �إ�سالمية �أو غري‬ ‫و�شباب الهٍ يقول عنه «مل �أكن راغبا يف �أق�صى من‬
‫�إ�سالمية‪ ،‬وبهذا املعنى ي�صبح من الوارد ان يتباهى‬ ‫هذا‪ ،‬ف�أطياف املحبني الذين همت بهم ميكنني �أن‬
‫ال�سارد يف �شيخوخته مع �شخ�صية الر�سول في�صبح‬ ‫�أراها يف البارات وال�صاالت والعرى املنت�رش بطول‬
‫الكهف �أ�شبه بالغار‪ ،‬وي�صبح ما ينطق به �إلهام ًا‬ ‫البالد وعر�ضها (يق�صد مدينة لندن) ميكنني القب�ض‬
‫اقرب �إىل الوحي على نحو ما يظهر من هذا احلوار‬ ‫على ب�شار وعمرو بن ربيعة وعمارة بن الوليد‬
‫‪263‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫يقول وا�سيني الأعرج» �أكرث الأ�شكال الفنية جر�أة‪،‬‬ ‫بينه وبني جمد الدين «قلت‪ :‬تريد قاعدة ال�ستقبالهم‬
‫وال مقد�س لديها مبا يف ذلك �شكلها الأدبي اخلارجي‬ ‫وتدريبهم ثم توجيههم �إىل �أماكن القتال؟ قال‬
‫الذي يتحول با�ستمرار بنيوياً‪ ،‬تاركا مكا�سبه االوىل‬ ‫‪:‬بال�ضبط ‪ :‬قاعدة! ثم �ضحك‪� ،‬س�ألته عالم ال�ضحك؟‬
‫وفتوحاته للتاريخ « (‪ )4‬ومن هنا يتجاور يف هذه‬ ‫قال ‪ :‬كنا نتحدث �سيدي عبداهلل و�أنا عن هذا احللم‬
‫الرواية ال�رسد التاريخى الذي يقوم على ر�صد‬ ‫ومل جند الكلمة التى تعرب عما نحلم بها‪ ،‬وها �أنت‬
‫معلومات حقيقية‪ ،‬وال�رسد التخييلي‪ ،‬و�رسد الأحالم‬ ‫قد نطقت بها‪ ،‬قلت‪ :‬م�صادفة ت�ستحق ال�ضحك حقا‪،‬‬
‫التى يعي�شها ال�سارد الرئي�سي‪ ،‬وال�رسد القائم على‬ ‫قال ‪ :‬بل الإلهام» �ص‪ ،137‬ويف مو�ضع �آخر ي�صبح‬
‫التوهمات‪ ،‬ومن ذلك قوله «ر�أى التماثيل ت�سعى‬ ‫دعا�ؤه �شبيها بدعاء الر�سول «اللهم �إن مل يكن بك‬
‫وتتحرك ك�أنها متار�س احلياة‪ ،‬دقق يف وجه واحد‬ ‫غ�ضب على فال �أبايل» �ص‪ ،327‬وي�صبح املهدي‬
‫منها فوجده ال�سلطان عبد احلميد جال�س ًا على‬ ‫املنتظر عند ال�شيعة موازي ًا حللم الدولة الإ�سالمية‬
‫عر�ش اخلالفة يف الأ�ستانة و�أمامه جمال الدين‬ ‫عند الأ�صوليه اجلهادية‪ ،‬بل �سببا رئي�سا من �أ�سبابها‪،‬‬
‫الأفغاين» �ص‪ ،122‬فبغ�ض النظرعما يقال �أن�سنة‬ ‫لأنه هو الذى �سيملأ الأر�ض عد ًال بعد ان ملئت جورا‪.‬‬
‫اجلمادات وتوظيف تقنيات الفن ال�سنمائي‪ ،‬ف�إن‬ ‫كما ي�صبح الت�أويل اخلاطىء �أيديولوجية �سلطوية‬
‫الأمر كله يقوم على ال�رسد التوهمى الذى يعي�شه‬ ‫زائفة تقوم على توظيف الآيات القر�آنية ل�صاحلها‪،‬‬
‫ال�سارد بو�صفه واقعا حقيقيا‪ ،‬كما �أنه ي�ساعد على‬ ‫فحني �شاور املن�صور �أ�صحابه يف قتل �أبي م�سلم‬
‫�آلية االنتقاالت الزمنية املتباعدة حيث �أمكنه من‬ ‫اخلر�ساين قالوا «لو كان فيهما �آلهة غري اهلل لف�سدتا»‬
‫خالل هذه احليلة الفنية االنتقال �إىل زمن ال�سلطان‬ ‫�ص ‪ ،116‬وحني بلغ مو�سى الهادي نب�أ مقتل‬
‫عبد احلميد وجمال الدين الأفغاين‪ ،‬وهو ما يتوازى‬ ‫�إبراهيم بن عبداهلل قال «اهلل يعلم �أنهم �أحق بها منا‪،‬‬
‫مع ما �أ�رشت �إليه من �آلية االنتقاالت املكانية‪،‬حيث‬ ‫لكنه امللك ‪ ............‬ولو جاءنا ر�سول اهلل وحاربنا‬
‫حتولت الأماكن كلها �إىل جمرد �إقامات عابرة‪.‬‬ ‫عليه حلاربناه وقتلناه» �ص‪.116‬فنحن هنا امام‬
‫و�أخريا فنحن امام رواية متميزة ت�ؤكد من خالل‬ ‫عملية �إ�سقاط لوحدانية اهلل على اال�ستبداد والإنفراد‬
‫مو�ضوعها وت�شكيلها خ�صو�صية الرواية العربية‪،‬‬ ‫بال�سلطة ولي�س �أدل على ذلك من قول احلرا�س الذين‬
‫وت�ستحق املزيد من القراءات النقدية التى ت�ستك�شف‬ ‫قتلوا �أبا م�سلم اخلر�ساين للمن�صور «الآن �أ�صبحت‬
‫جمالياتها املتنوعة والرثية‪.‬‬ ‫اخلليفة وحدك ال �رشيك لك» �ص‪117‬‬
‫�إن ما �أ�رشت �إليه من تعدد الأ�ساليب داخل الرواية‬
‫مراجع‪:‬‬ ‫ومزجها ل�سمات امللحمية وال�شعرية والدرامية التي‬
‫‪1‬ـ « ال�رسد و�أ�سئلة الكينونة» جمع و�إعداد حامت التهامي الفطنا�سي‬
‫�صـ‪ 65‬كتاب دبي العدد ‪ 77‬فرباير ‪2013‬‬
‫تقوم على تقابالت ال�شخ�صيات و�رصاع القوى‬
‫‪2‬ـ « �أ�ساطري رجل الثالثاء» �صبحي مو�سى �صـ ‪ 16‬الهيئة امل�رصية‬ ‫املتباينة يجعلنا نقول �أن الرواية ب�صفة عامة هي‬
‫العامة للكتاب �سل�سلة كتابات جديدة‪.‬‬ ‫الفن الوحيد الذي ال �شكل له‪� ،‬أو بتعبري �آخر هي الفن‬
‫‪3‬ـ « �أثر الإرهاب يف الكتابة الروائية» خملوف عمر جملة عامل الفكر‬
‫�صـ ‪ 317‬املجلد الثامن والع�رشون العدد ‪.1999‬‬ ‫الوحيد الذي ال يعرف ال�شكل الثابت والنهائى فهى‬
‫‪4‬ـ « ال�رسد وا�سئلة الكينونة» �صـ ‪ 21‬مرجع �سابق‪.‬‬ ‫ن�ص مفتوح على الأجنا�س الأدبية والفنية‪� ،‬إنها كما‬

‫‪264‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫الأبيقورية فل�سفة‬
‫ح�سن �أوزال‬ ‫للحرية‬
‫كاتب وباحث من املغرب‬

‫فحتى �أكرب ثراء لي�س �إال فقرا»‪� .‬ضد متعة االمتالك‪� ،‬إذن‬ ‫ال مراء �أن املدر�سة الأبيقورية‪ ،‬ظلت ُت ْع َتبرَ ُ لقرون‬
‫يدافع �أبيقور عن متعة الوجود‪ .‬يف احلالة الأوىل يكون‬ ‫طويلة منذ هورا�س حتى ديدرو‪ ،‬مرورا مبفكري القرن‬
‫املرء عبدا للمال وال ي�ستمتع �إال وهو ي�ستهلك ويتب�ضع‪،‬‬ ‫‪ ،17‬الأحرار‪ ،‬مدر�سة املتعة بامتياز‪ .‬لكن خلف هذا‬
‫َي ُحوز و ُي َراكم الب�ضاعة‪ ،‬بينما يف احلالة الثانية بقدر‬ ‫االعتبار‪ ،‬تتجلى ن َّية مغر�ضة‪ ،‬تبغي النيل ما �أمكن من‬
‫ما نكون مكتفني بدواتنا‪ ،‬بقدرما ن�ضاعف من فر�ص‬ ‫فل�سفة �أبيقور التي ال ميكن ح�رصها بتاتا يف جمرد هكذا‬
‫التواجد ال�سعيد واملرح يف العامل‪ ،‬مما يعني �أننا بذلك‬ ‫و�صف‪ .‬ذلك �أن �صاحب الب�ستان مل يكن يف واقع احلال‪،‬‬
‫نقل�ص من احتماالت التعا�سة و َن ُح ُّد من �إمكانات‬ ‫مييز املتعة عن احلرية‪.‬و�إذا كانت املتعة بالن�سبة �إليه‬
‫الب�ؤ�س‪ .‬ف�ضال عما �سلف‪ ،‬يلزمنا الإ�شارة �أي�ضا‪� ،‬إىل‬ ‫هي «�أ�سا�س حتقق اخلري الأ�سمى وبلوغ ال�سعادة «(‪،)1‬‬
‫�أن خلف حكمة التزهد‪ ،‬التي ات�صف بها �أبيقور‪ ،‬ثمة‬ ‫فاحلرية على حد تعبريه هي ‪« :‬ثمرة االكتفاء الذاتي‪،‬‬
‫ا�سرتاتيجية ناجعة‪ ،‬هي ا�سرتاتيجية تفادي الأمل‪ ،‬التي‬ ‫الأكرث �أهمية»(‪ .)2‬من ثمة يتبدى �أن اال�ستلذاذ عنده‪،‬‬
‫عليها تقوم �سيا�سة احلمية املقرتحة جتاه امللذات‪.‬‬ ‫م�رشوط قبل كل �شيء �آخر‪ ،‬باالكتفاء الذاتي‪ ،‬باعتباره‬
‫وهي �سيا�سة متكن �صاحبها من رف�ض لذة تكون‬ ‫مبد أ� فل�سفة احلكيم ‪ .‬والأكيد �أن هذا املبد�أ‪ ،‬ولئن‬
‫مكلفة وباهظة الثمن باعتبارها تجَ ُ ُّر معها عذابات‬ ‫كان البع�ض يربطه بالتزهد‪ ،‬فهو بالأ�سا�س مو�صول‬
‫ال حت�صى‪ .‬يقت�ضي الأمر‪ ،‬حتى تغدو احل�صيلة مفيدة‪،‬‬ ‫باحلرية ‪ .‬كيف ال؟‪ ،‬واحلاجة التي جتعلنا مرهونني‬
‫�أن نتقن فن احل�ساب بحيث ُت َر َّجح كفة املتعة على‬ ‫بالغري‪ ،‬هي يف غالب الأحوال‪� ،‬أ�سا�س ا�ستعبادنا‬
‫ح�ساب كفة الأمل ؛مما ُي َي�سرِّ علينا بالتايل م�أمورية‬ ‫وعالمة �ضعفنا‪ .‬على هكذا نحو‪ ،‬ي�رص �أبيقور‪� ،‬صيانة‬
‫القبول �أو الرف�ض‪ ،‬املوافقة �أو العدول‪ .‬هذا من جهة‪،‬‬ ‫للذات ودرءا خلطر العبودية‪ ،‬على نهج الع ّد الريا�ضي‪،‬‬
‫لكن هذه الإ�سرتاتيجية‪ ،‬ال تتوقف عند هذا احلد‪ ،‬بل‬ ‫القائم على مبد أ� ت�صنيف الرغبات وبالتايل حِ �ساب‬
‫ت�ستدعي كذلك‪ ،‬تعديل عالقتنا بالزمان‪ ،‬والتحكم ما‬ ‫امللذات حاملا رغبنا يف �إتيانها‪.‬كل ذلك‪ ،‬الغاية منه‪،‬‬
‫�أمكن يف �أبعاده خا�صة املا�ضي منه وامل�ستقبل ‪�.‬أما‬ ‫�إمنا هي تفادي التعا�سة والعي�ش على نحو مرح‪ ،‬مادام‬
‫احلا�رض‪ ،‬فهو جوهر كينونة احلكيم‪ ،‬والت�شبث به لب‬ ‫�أنه ثمة مابني امللذات والعذابات عالقات مت�شابكة‪،‬‬
‫الق�ضية‪ .‬ف�إذا كان التذكر‪ ،‬يجعلنا ملزمني با�ستح�ضار‬ ‫لي�س فح�سب لأن بع�ض املتع قد تنقلب �إىل �ضدها‪ ،‬بل‬
‫فرتات م�ضت‪ ،‬والرجاء يدفعنا �إىل ترقب الآتي‪ ،‬فقوة‬ ‫لكونها تكاد تفقدنا التناغم القبلي ال�رضوري لبلوغ‬
‫احلكيم‪ ،‬تتجلى يف قدرته على التحكم يف ت�صوراته‪،‬‬ ‫حالة الهدوء �أو ما يدعوه هو نف�سه بالأتراك�سيا‪.‬يجب‬
‫�سواء منها ما تعلق باملا�ضي �أو بامل�ستقبل‪ .‬عليه �أال‬ ‫على املرء �إذن �أن يعمل على ح�رص رغباته‪ ،‬مبقيا منها‬
‫يتذكر مثال‪� ،‬إال ما هو ممتع وين�سى كل ما هو مقلق‬ ‫فقط على تلك الطبيعية وال�رضورية‪ ،‬على اعتبار �أن‬
‫‪ .‬وعلى نف�س املنوال‪ ،‬ينبغي له �أن ال يرتقب �إال ما‬ ‫الفقر‪ ،‬بالن�سبة لأبيقور‪ ،‬لي�س يرجع بالأ�سا�س �إىل ندرة‬
‫يفيده مرحا وفرحا‪ .‬مثلما عليه‪� ،‬أي�ضا �أن ينغم�س يف‬ ‫الأ�شياء �أكرث مما يرجع �إىل االحتياجات الغري الطبيعية‪.‬‬
‫حا�رضه‪ ،‬و�أن يعي�ش كل يوم بيوم‪ ،‬وكل حلظة بلحظة‪،‬‬ ‫«فكل امتالك‪ ،‬ثراء بالنظر �إىل ما نحن بحاجة �إليه‬
‫وفق �شدرة هورا�س ال�شهرية ‪�« ،Carpe diem:‬أقطف‬ ‫بحكم الطبيعة‪ ،‬لكن بالنظر �إىل الرغبات الالحمدودة‪،‬‬
‫‪265‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�أحوج ما نكون لنظريته املتعوية املادية‪ ،‬للخروج‬ ‫نهارك»‪ .‬علينا �أن نُ�شَ ِّغل عقولنا‪ ،‬و�أن ُن َف ِّعل منطق‬
‫من م�أزق الالهوت �أوال‪ ،‬واالنفالت ثانيا من �سطو‬ ‫الإرادة جتاه ال�رضورة‪ ،‬و�أن ُن َل ِّق َح الطبيعة بالثقافة‪.‬‬
‫الإيديولوجية الليربالية وبراثن الأ�رس االجتماعي‪.‬على‬ ‫كل ذلك‪ ،‬من �أجل �أن نطرد من النف�س كل ما ي�ستعبدها‪،‬‬
‫هذا النحو ينبغي �أن نعرف‪� ،‬أنه مل يكتف بالت�أ�سي�س‬ ‫و من اجل�سد كل ما ي�ؤمله ‪.‬ع�ش �إذن وفق الطبيعة‪ ،‬ال‬
‫للزمان وفق ميتافزيقا اللحظة احلا�رضة‪ ،‬بل تعدى‬ ‫وفق �آراء الدوك�سا‪.‬هذه هي ن�صيحة احلكيم‪ ،‬على اعتبار‬
‫ذلك‪ ،‬ف�صاغ �أ�سلوبا فريدا لفن اال�ستلذاذ‪ ،‬و�أقام نوعا‬ ‫�أن من يعي�ش وفق الأوىل لن يعرف معنى العوز يف‬
‫من العالقة التعاقدية النفعية لتي�سري اال�ستمتاع على‬ ‫حياته‪ ،‬لكن من يعي�ش وفق الدوك�سا‪ ،‬لن يذوق مهما‬
‫نحو متبادل‪ ،‬ناهيك عن انت�صاره للتحرر الن�سوي على‬ ‫طال به العمر‪ ،‬طعم الغنى‪.‬مع�ضلة العامة‪ ،‬تتجلى يف‬
‫قوامه ال يجب �أن يكون ثمة من فرق مابني اجلن�سني‪:‬‬ ‫كونها تعي�ش على اخلرافات وال�شائعات‪ ،‬وال ترغب‬
‫الأنثى والذكر‪ .‬مثلما نهج‪� ،‬أي�ضا‪ ،‬منطا من االبتكار‬ ‫بالتايل يف �أن ُت َغيرِّ جلدها‪.‬و�إذا �صح القول ب�أن كل‬
‫الذاتي املرهون بفن العزوبية‪ ،‬فلم ُي ْع َرف عنه �إطالقا‬ ‫اعتقاد �سجن ل�صاحبه كما �أكد نت�شه‪ ،‬ف�أبيقور‪ ،‬يتقاطع‬
‫�أي اهتمام بالأ�رسة‪ ،‬ومل يتزوج قط‪ ،‬معتربا احلب‬ ‫مع �صاحب فل�سفة املطرقة يف مهمته املثلى التي هي‬
‫�سيما منه العاطفي‪� ،‬أ�سا�س العذاب والفو�ضى وفقدان‬ ‫هدم الأوثان ‪.‬كالهما‪ ،‬عا�شق للحرية حتى النخاع‪،‬‬
‫احلكيم حلالة الأتراك�سيا لب وجوده من حيث هو كذلك‪.‬‬ ‫وال ي�ستطيع �أن ي�ساوم على ح�سابها ‪.‬لذلك‪ ،‬مترد كل‬
‫واحلالة هاته‪ ،‬ففي ع�رص عدمي مثل ع�رصنا‪ ،‬ع�رص‬ ‫منهما‪ ،‬على الثقافة ال�سائدة �أميا مترد؛ هذا �إن مل نقل‪،‬‬
‫مو�سوم ب�شتى الأمرا�ض‪ ،‬بدءا من مر�ض الالهوت‪،‬‬ ‫�أن �صاحب الب�ستان قد �سبق �صاحب العود الأبدي‪ ،‬يف‬
‫�أفيون ال�شعوب‪ ،‬حتى مر�ض الت�سلط والهيمنة‪ ،‬مرورا‬ ‫اختبار‪ ،‬نهج التمرد وحمنة الهدم هاته‪ ،‬بل �أكرث من‬
‫بكل مظاهر الغ�ش والنهم‪ ،‬وال�سعي وراء ال�شهرة والربح‬ ‫ذلك فنت�شه هو من وجد نف�سه‪ ،‬يغرف من فل�سفة �أبيقور‬
‫ال�رسيع‪�...‬ألي�س املذهب املتعوي املادي الأبيقوري‪،‬‬ ‫يف فرتة من فرتات عمره‪ ،‬مدركا �أنها ما �سي�سعفه على‬
‫مبلج أ� �آمن؟ فالرجل‪ ،‬جعل من الفل�سفة �إمكانا للعي�ش‪،‬‬ ‫ال�شفاء عندما انتابه املر�ض‪ ،‬وعارفا ب�أن هذه الفل�سفة‪،‬‬
‫و من الأفكار‪ ،‬نهجا للمقاومة‪ .‬فهو من طينة �أولئك‬ ‫ال تتقل�ص يف معرفة عقيمة بل هي تقنية للعي�ش‬
‫الذين ينبغي لنا �أن نحياهم ال �أن نقر�أهم فح�سب ‪ .‬ذلك‬ ‫ت�سعف على اللوذ بحياة �سعيدة ‪.‬لكن ما هي ال�سعادة‬
‫ما �أ�ست�شعره‪ ،‬حاملا �أ�ستعيد ما تبقى لنا من ن�صو�صه‬ ‫بالن�سبة لطبيب نت�شه؟ �أال تكمن يف عدم اخلوف لي�س‬
‫�أو ن�صو�ص تالمذته وبالأخ�ص ق�صيدة لوقراتو�س‪.‬‬ ‫من الآلهة فح�سب بل وكذلك من املوت؟ من �أجل ذلك‬
‫بحيث �رسعان ما َت ْنطَ ِر ُح َعل ََّي �أ�سئلة عديدة‪ ،‬من قبيل‬ ‫علينا �إذن �أن نعمل جاهدين على تبديد الأ�ساطري‪،‬‬
‫‪:‬كيف ميكن للعالقات العاطفية �أن تقوم؟ على �أي نحو‬ ‫التي تكاد تف�صلنا عن ذواتنا وت�سلب �إرادتنا‪ .‬فلنتعاط‬
‫ن�ستطيع �أن نحب‪ ،‬دومنا الإجهاز على حريتنا؟كيف‬ ‫الدواء‪ ،‬ولنت�شبع بالفطنة‪ ،‬التي هي بنظر �أبيقور �أف�ضل‬
‫ِّ�ص عالقاتنا اجلن�سية وغريها من احلزن والك�آبة؟‬ ‫ُن َخل ُ‬ ‫من الفل�سفة ذاتها‪ ،‬مادام �أن الفل�سفة عنده‪ ،‬قبل �أن‬
‫كيف با�ستطاعتنا �أن نحيا �سعداء‪ ،‬يف ظل �سيادة‬ ‫تكون فل�سفة متعة‪ ،‬فهي فل�سفة حرية كما �أ�سلفنا‬
‫املنطق الليربايل الوح�شي‪ ،‬وهيمنة لغة ال�سوق؟ كيف‬ ‫وذلك ب�أكرث من معنى‪� .‬أولها �أنها عملت على جمابهة‬
‫ميكننا �أن نقاوم �آليات التفقري وخمططات اال�ستعباد‬ ‫الأفالطونية وامتداداتها‪ ،‬وثانيها كونها عار�ضت‬
‫التي نكابدها كل يوم‪ ،‬وكل �ساعة؟‬ ‫فكرة القدر التي �شكلت �صلب فل�سفة الرواقيني وثالثها‬
‫احلا�صل �أن روعة ن�صو�ص �أبيقور‪ ،‬تتجلى �أول ما‬ ‫�أنها واجهت مبد أ� احلتمية الذي قال به دميقريط�س‪.‬‬
‫تتجلى‪ ،‬يف كونها ن�صو�ص محُ َ ِّف َزة‪ ،‬ب�سيطة لكن عميقة‪،‬‬ ‫و�إذا كان َه ُّم الرجل هو حترير النا�س من �أ�رس اخلرافات‬
‫�إنها �أ�شبه ما تكون بغداء‪ْ � ،‬إن مل يقتلك ُيقويك ‪.‬فهو‬ ‫املرتبطة بالدين‪ ،‬وترهات الأعراف االجتماعية‪،‬‬
‫حينما يتكلم عن املتعة‪ ،‬مييز ما بني املتعة ال�شعبوية‬ ‫فذلك لي�س �إال لأنه يدرك �أميا �إدراك‪� ،‬أنها �أكرب �أعداء‬
‫واملتعة امليتافزيقية‪ ،‬قا�صدا التقعيد لنهج يف احلياة‬ ‫احلرية ‪ .‬هاهنا تكمن راهنية �أبيقور‪� .‬إذ‪ ،‬نحن اليوم‬
‫‪266‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫جديد للحياة‪ ،‬ت�صب يف ال�سعادة وتن�أى بنا عن احلزن ‪.‬‬ ‫تتقوى فيه ذواتنا‪ ،‬ويزداد معه كمالنا‪ .‬فالنا�س ولئن‬
‫�صحيح �أنه مل يقل ب�أن الرب ال وجود له‪ ،‬لكنه مع ذلك‪،‬‬ ‫كانت ترغب بطبعها يف اال�ستمتاع وتنزع نزوع‬
‫فقد َح َّد من جربوته ‪ .‬هكذا نالحظ كيف �أكد على �أن‬ ‫اال�ستلذاذ؛ فهي لي�ست على نف�س اخلط من حيث القدرة‬
‫الآلهة‪ ،‬ال دخل لها يف �أمور النا�س‪ ،‬و�أن الروح تفنى‪،‬‬ ‫على بناء الذات ونحث �أ�سلوب خا�ص يف احلياة‪ .‬ملاذا؟‬
‫مما يعني �ضمنيا �أال وجود ال جلهنم وال للجنة‪ ،‬وملَّا‬ ‫لأنها مل تت�سلح بعد مبا يكفي من حكمة ال�سعادة التي‬
‫كان الأمر كذلك‪ ،‬فمن ال�رضورة مبكان‪ ،‬التخل�ص من‬ ‫�ش َّيدها �صاحب الب�ستان ومل َت ْغرف قط من و�صفة الدواء‬
‫هاج�س اخلوف‪ ،‬الذي م�صدره االعتقاد باملاورائيات‬ ‫الرباعي التي �أقرها �أبيقور‪ .‬نورد هذا القول‪ ،‬لأن كال‬
‫والإح�سا�س بالذنب يف كل ما نحن ب�صدد �إتيانه يف‬ ‫منا ينبغي �أن يعرث له يف م�ساره‪ ،‬على �أ�سلوب يقويه‬
‫احلياة‪� .‬إن الرجل وا�ضح يف ت�صوره للكون وما ينبغي‬ ‫ونهج ي�سعفه على املزيد من ال�سعادة يف الوجود‪.‬ذلك‬
‫�أن تكون عليه ت�صوراتنا جتاهه‪ ،‬دومنا لف �أو دوران‪.‬‬ ‫�أن ق�رص احلياة وعدم قابليتها للتكرار‪ ،‬تفرت�ض منا �أن‬
‫وثمة خطورة مذهبه املادي والذري‪ ،‬على اعتباره‬ ‫نحرت�س ما �أمكن يف كل �أمور الدنيا‪ ،‬و �أال ننقاد دومنا‬
‫ككل املذاهب املادية‪ ،‬ال ي�ست�سيغ القبول بالرتهات‬ ‫�إعمال للفكر‪ ،‬وراء ال�شائع من اخلرافات وال�سائد من‬
‫الدينية ‪.‬لذلك �أي�ضا‪ ،‬يقول عنه نت�شه يف كتابه �ضد‬ ‫االعتقادات‪ .‬علينا �أن منار�س حقنا يف االرتياب و�أن‬
‫امل�سيح ‪« :‬علينا �أن نقر أ� لوقراتو�س‪ ،‬حتى نفهم‪� ،‬ضد‬ ‫نعمل ما �أمكن على و�ضع كل الآراء يف حمك ال�س�ؤال‪،‬‬
‫من كان �أبيقور يت�صارع ‪�.‬إنه مل يكن ي�صارع الوثنية‪،‬‬ ‫و�أن ُن َغ ْر ِبلَها مب�صفاة ال�شك ‪.‬يف هذا ال�سياق‪ ،‬واعتبارا‬
‫بل امل�سيحية‪ ،‬باعتبارها ما يف�سد النفو�س بوا�سطة‬ ‫لقيمة احلياة �أوال‪ ،‬و لغالء كل حلظة من حلظاتها ثانيا‪،‬‬
‫مفاهيم اخلطيئة والعقاب واخللود»(‪ .)3‬وعلى نحو ما‬ ‫يدعونا �أبيقور �إىل العي�ش دومنا عراقيل �أو م�ضيعة‬
‫فعل �صاحب �أفول الأ�صنام‪ ،‬عمل �أبيقور على �إ�سقاط‬ ‫للوقت‪ ،‬وفق و�صفته الرباعية ال�شهرية‪ ،‬التي تتلخ�ص‬
‫الأوثان واحدا تلو الآخر‪ ،‬كا�شفا عن زيف الأقنعة‪ ،‬و‬ ‫فيما يلي ‪:‬‬
‫مفندا �إيديولوجيا غريزة املوت‪« .‬فاملوت الذي يبدو‬ ‫‪�-1‬إن الآلهة ال تكرتث ب�أمورنا وال ينبغي لنا �أن‬
‫مرة �أخرى‪� ،‬أخطر ال�رشور‪ ،‬لي�س �إال وهما‪ ،‬لأنه لي�س‬ ‫نخ�شاها ‪.‬‬
‫يحلُّ‪ ،‬فاحلياة ال‬
‫�شيئا طاملا احلياة ت�ستمر؛ لكنه حاملا ُ‬ ‫‪-2‬علينا �أال نهاب املوت‪ ،‬مادام �أنه عندما منوت ال‬
‫توجد بعد‪ :‬هكذا فال �سلطان له ال على الأحياء وال على‬ ‫وجود لنا بعد‪.‬‬
‫الأموات ؛ الأوائل ال يح�سون برعبه بعد‪ ،‬بينما الآخرون‬ ‫‪�-3‬إن الرغبات الطبيعية (كاجلوع والعط�ش والوقاية‬
‫يف من�أى عن كل ت�أثريه‪ ،‬لأن ال وجود لهم بعد»(‪.)4‬‬ ‫من الربد‪ )...‬رغبات �سهلة الإ�شباع‪ ،‬بل حتى عدم‬
‫املوت‪ ،‬طبعا‪ ،‬جمرد رعب‪ ،‬يزرعه التيولوجيون يف‬ ‫�إ�شباعها (وهذا حال الرغبة اجلن�سية �سيما عندما ال‬
‫�أذهاننا‪ ،‬و ُي�سكنونه يف ت�صوراتنا ق�صد النيل من‬ ‫يكون لدينا ع�شيق‪/‬ع�شيقة‪ ،‬يف امل�ستوى) ال ي�ؤذي (وقد‬
‫قدراتنا يف الوجود‪ ،‬والتقلي�ص ما �أمكن‪ ،‬من فر�ص‬ ‫نلج أ� �إىل الريا�ضة �أو الأعمال اليدوية للتخفيف من‬
‫احلياة ال�سعيدة حيث تزداد قوتنا وتنفتح �أمامنا‬ ‫حدتها)‪.‬‬
‫�إمكانات جديدة للعي�ش‪� .‬إن الوعاظ الدينيني و�أن�صار‬ ‫‪�-4‬إن الآالم احلالية بو�سعنا الق�ضاء عليها وتبديدها‬
‫الالهوت‪ ،‬إ� ْذ يكرهون العقل واملعرفة ويعار�ضون كل‬ ‫بف�ضل الذكريات اجلميلة‪.‬‬
‫تقدم طبي �أو تطور علمي وينبذون املتعة و الفرح‪،‬‬ ‫ومن خالل هذا‪ ،‬العالج‪ ،‬الذي نحته ديوجني الإينواندي‬
‫فذلك لي�س �إال لأنهم �أ�سعد ما يكونون باجلهل وال�شقاء‬ ‫حوايل ‪120‬م‪ ،‬على حائط (طوله ‪80‬م وعلوه ‪4‬م‬
‫؛ و�أنعم ما يكونون بالت�أخر والتخلف؛ وال عجب يف‬ ‫وعر�ضه ‪1‬م) ببلدة �إينواندا التي تقع على بعد ‪ 45‬كلم‬
‫ذلك‪ ،‬لأن من طبيعة الأمور‪� ،‬أن تنقلب �إىل �ضدها‪،‬‬ ‫يف ال�شمال ال�رشقي ملدينة فتحية برتكيا‪ ،‬وذلك بغاية‬
‫�سيما حاملا يي�أ�س املرء من ال�شفاء‪ ،‬و ال يلقى بديال‬ ‫�إ�شفاء النا�س من �أوهامها‪ ،‬قلت من خالل هذا العالج‪،‬‬
‫ال�ستعادة ال�صحة ‪.‬على �إثر‪ ،‬هكذا نزوع مر�ضي‪ ،‬ومن‬ ‫يتبدى �أن �أبيقور‪ ،‬كان يروم عرب فل�سفته التقعيد لفهم‬
‫‪267‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫احلاذق ل�صاحب الب�ستان‪ ،‬القائم على مناه�ضته لفكرة‬ ‫فرط الهذيان التيولوجي‪ ،‬اب ُتكِرت الآخرة بتفخيماتها‬
‫القدر التقليدية‪ ،‬انت�صارا للحرية الإن�سانية‪�.‬آيته يف‬ ‫حتى ال يبقى �أحد من بني �آدم ينظر �إىل الواقع كما‬
‫ذلك‪ ،‬كون القول بال�رضورة املطلقة‪ ،‬تف�سد الأخالق‪ ،‬و‬ ‫هو ويلتفت �إىل َق َدره مواجها �إياه وجها لوجه ‪.‬و�إذا‬
‫جتعل �أنف�سنا يف ا�ضطراب و�أمل م�ستمر‪�.‬إن للحرية �أعداء‬ ‫كانت امل�سيحية على حد تعبري نت�شه‪ ،‬وعلى مقا�سها‬
‫بنظر احلكيم‪�.‬أولها القدر‪ ،‬ثانيها الإكراهات الطبيعية‬ ‫‪� -‬أ�ضيف ‪ -‬كل �أديان التوحيد‪» ،‬يف �أم�س احلاجة‬
‫التي نحن م�شمولني بها ‪ .‬ثالثها اخلرافات التي ن�ؤمن‬ ‫للمر�ض متاما مثلما احل�ضارة الهلينية كانت يف‬
‫بها ‪ .‬بدهي �إذن �أن يت�صدى لفكرة ال�رضورة‪ ،‬بحكم �أنه‬ ‫�أم�س احلاجة لل�صحة» ؛ف َه ُّم �أبيقور‪ ،‬خالفا لذلك‪ ،‬هو‬
‫لي�س ثمة من �رضورة للعي�ش وفق ال�رضورة‪.‬مثلما هو‬ ‫�أن يجعل كل واحد منا يعي�ش «ك�إله بني الب�رش»(‪.)5‬‬
‫بديهي �أي�ضا �أن يناه�ض كل قول بالعناية الإلهية �إذ‬ ‫لذلك مكث يف�رس الطبيعة وي�رشح الأخالق ويو�ضح‬
‫‪»:‬لي�س هنالك بالتايل �أي �شيء ميكنه (يق�صد الكون)‬ ‫قواعد املعرفة‪ .‬فعمل‪ ،‬على تفكيك �رصح التيولوجيا‪،‬‬
‫�أن يتحول �إليه‪ ،‬مثلما لي�س هنالك �أي �شيء خارجه‪،‬‬ ‫التي با�سم الرب �أجربت الإن�سانية على الزحف‪ ،‬وبا�سم‬
‫ميكنه �أن ُي ؤَ�ثِّر عليه‪ ،‬ف ُي َغيرِّ ه»(‪ )7‬؛ وبالتايل فالرب‬ ‫الأخالق قادتها من �أنفها طيلة قرون‪ .‬كيف؟ بتبنيه‬
‫ال دخل له مبجريات العامل‪ ،‬ولي�س ين�شغل يف �شيء‬ ‫لت�صور مادي للكون‪ ،‬ين�سحب فيه الرب من عامل الب�رش‪،‬‬
‫بهموم الب�رش حتى يعاقبهم �أو يحا�سبهم‪�.‬أما الروح‪،‬‬ ‫فال يكرتث يف �شيء لأمرهم ‪.‬البد لنا �إذن‪ ،‬ا�ستيعابا‬
‫فلئن كان ُيق ُِّر بوجودها‪ ،‬فهو مافتئ‪ ،‬خالفا لأفالطون‬ ‫لفل�سفته‪� ،‬أن ن�ستح�رض‪ ،‬نظرته الذرية للكون‪ ،‬و�أن‬
‫كما لأر�سطو‪ ،‬يلح على �أنها ذات طبيعة ذرية �أي �أنها‬ ‫نفكر معه‪ ،‬كفزيائي وطبيب‪ ،‬كعامل ميكانيكا و�ضليع‬
‫لي�ست كائنا ال ج�سميا‪ ،‬على اعتبار �أن الفراغ وحده‬ ‫يف الأخالق‪ ،‬لأن يف عامل �أبيقور ال�شيء يوجد خارج‬
‫هو الالج�سمي‪.‬بناء عليه‪ ،‬فال وجود لغائية من وراء‬ ‫املادة والفراغ اخلالدين‪.‬كل �شيء عنده خا�ضع لقدر‬
‫خلق الكون‪ ،‬والروح متوت لأنها ج�سم مركب من ذرات‬ ‫التن�سيق البنيوي‪.‬ذلك �أن الكون‪ ،‬بح�سبه قدمي و�أزيل‪،‬‬
‫قابلة لأن تنحل؛نقطة �إىل ال�سطر‪.‬معنى ذلك‪ ،‬ملن يرغب‬ ‫�أي �أن العامل كان و�سيبقى دائما مثلما كان «فال�شيء‬
‫يف املزيد‪� ،‬أن حقيقة هذا العامل‪� ،‬إمنا تكمن فيه‪ ،‬وال‬ ‫يولد من ال�شيء‪ ،‬لأنه لو كان بو�سع الأ�شياء �أن تولد‬
‫ينبغي علينا �أن نبحث له عن علة خارجة عنه‪.‬فليذهب‬ ‫دومنا حاجة للبذور‪ ،‬لكان بو�سع كل �شيء �أن يولد من‬
‫جتار املاورائيات‪� ،‬إذن �إىل اجلحيم‪ ،‬لوحدهم‪� ،‬أما من‬ ‫كل �شيء «(‪ . )6‬هذا املنطق ال ِعلِّي‪ ،‬جعله كذلك يلح على‬
‫�سرب �أغوار احلكمة الأبيقورية‪ ،‬فال خوف عليه وال هم‬ ‫�أن الكون مل ُي ْخلَق بال�صدفة مثلما زعم دميقريط�س‪ ،‬بل‬
‫يحزنون ؛لأنه كعا�شق لقدره‪ ،‬ال يعرف يف هذه احلياة‪،‬‬ ‫كان نتيجة اجلاذبية‪ ،‬التي هي ال�سبب يف �سقوط الذرات‬
‫كما �أكد �أبيقور يف �شذرة له‪� ،‬إال «�أن يتفل�سف و�أن‬ ‫(«�شتاء الذرات» بتعبري لوقراتو�س)‪ ،‬من �أعلى �إىل حتت‪،‬‬
‫ي�ضحك و�أن يهتم ببيته»‪.‬‬ ‫على نحو م�ستقيم ‪.‬فحدث �أن انزاح بع�ضها عن امل�سار‬
‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫العمودي‪ ،‬مما �أدى �إىل وقوع الت�صادم‪� ،‬أو «الكلينامني»‬
‫‪Epicure à Ménecée  ,128, Traduction par‬‬ ‫(‪ )1‬‬ ‫بلغة لوقراتو�س‪ ،‬لت�صاغ بالتايل‪ ،‬حلمة الوجود على‬
‫‪.)Jacques Georges Chauffepié,Lefevre,1840(pp.487-493‬‬
‫‪.Sentences Vaticanes,77‬‬ ‫ ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫نحو ما هي عليه وتت�شكل الظواهر‪.‬يف هذا املبد�أ‪ ،‬الذي‬
‫‪Friedrich Nietzsche, L’Antéchrist,traduit de‬‬ ‫(‪) 3‬‬ ‫هو الكلينامني‪� ،‬أو انحراف الذرات‪ ،‬يعرث �أبيقور على‬
‫‪.l’allemand par Jean-ClaudeHémery,Aph.58.éd. Gallimard‬‬
‫‪. Epicure à Ménecée ,125‬‬ ‫ ‬ ‫(‪)4‬‬
‫�ضالته‪ ،‬لتف�سري مبد أ� احلركة احلرة‪ ،‬التي ُت َك�سرِّ قوانني‬
‫‪.Idem, 135‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫(‪) 5‬‬ ‫القدر‪ ،‬وتف ِّند مبد�أ ال�رضورة الدميقريط�سي‪� .‬ضد النزعة‬
‫(‪Lettre à Hérodote,38. Trad. par Octave Hamelin,Revue )6‬‬ ‫امليكانيكة الذرية‪ ،‬التي تقر باحلتمية الفزيائية‪ ،‬نرى‬
‫‪.de Métaphysique et de Morale,18,1910.P.397-410‬‬
‫‪.Idem.39‬‬ ‫(‪) 7‬‬ ‫�أن �أبيقور‪ ،‬هو �أول من قال بالالحتمية‪� ،‬أو ما ي�سمى‬
‫اليوم باالحتمال‪ .‬املغزى واملراد �إمنا هو التب�رص‬

‫‪268‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫�شعرية الكتابة باجل�سد‬
‫يف ديوان «مثل �شفرة �سكني» لـنجاة علي‬
‫�أحمد ح�سن‬
‫�شاعر من م�رص‬

‫نظر القارئ املدقق �إىل الرتا�سل الداليل بني بنية‬ ‫يبدو ح�ضور اجل�سد يف ديوان (مثل �شفرة �سكني)‬
‫العنوان وح�ضور مفرداته يف ثالثة موا�ضع من املنت‬ ‫ح�ضورا طاغ ًيا مهيم ًنا‪ ،‬بحيث‬
‫ً‬ ‫لل�شاعرة جناة علي‬
‫ال�شعري‪.‬‬ ‫ال ميكن لأية قراءة عميقة تنخرط يف ت�أمل الديوان‬
‫املو�ضع الأول يف ن�ص عدو امل�سيح‪:‬‬ ‫�أن تفلت من �أ�رس ذلك احل�ضور اجل�سدي بدرجاته‬
‫مل ين�شغل �أبدا بعيونها‪ /‬التي انت�صبت من الرغبة‬ ‫املتفاوتة‪ ،‬وتنوعاته املت�شابكة‪ ،‬وعالئقه املتوا�شجة‪،‬‬
‫فيه‪ /‬هي �أي�ضا ال تفهم‪ /‬ما الذي ال يجعلها‪ /‬حني‬ ‫بدءا من طبيعة اجل�سد البيولوجية وتورطه التاريخي‬ ‫ً‬
‫�شفرات‪� /‬صدئ ًة ب�صدرها‪ /‬تربط بينه وبني‪« /‬‬ ‫ٍ‬ ‫تنزع‬ ‫مع ح�سا�سية اللحظة الراهنة‪ ،‬حيث القمع واال�ستباحة‬
‫عدو امل�سيح «(‪)1‬‬ ‫وقتل فاعلية احلوا�س والنزف امل�ستمر والتحجر‬
‫�إذ ترد مفردة « �شفرات « ب�صيغة اجلمع التى تت�صادى‬ ‫ومرورا بعالئق اجل�سد بالآخر الذكوري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اجلامد‪،‬‬
‫مع �صيغتها الإفرادية على غالف الديوان‪ ،‬لكنها ت�أتي‬ ‫والأماكن الليلية �أو مالذات الهروب التي تتحول يف‬
‫هنا يف �إطار �إدانة الآخر الذكوري‪ ،‬الذي ينتهك اجل�سد‬ ‫الت�أويل الأخري �إىل قبور زجاجية‪ ،‬يقبع اجل�سد فيها‬
‫الأنثوي ب�شفراته ال�صدئة يف �إمياءة من ال�شاعرة‬ ‫وانتهاء مبحاولة �صياغة‬
‫ً‬ ‫ملتفًا ببيا�ض ي�شبه العدم‪،‬‬
‫�إىل �أن ممار�سة احلب تظل فعال ج�سديا ال ينطوي‬ ‫فل�سفة للأمل ت�صبح يف ت�أويل ال�شاعرة – �رضورة ال‬
‫على م�شاعر الألفة �أو املودة‪ ،‬التي قد حتفل ب�شوق‬ ‫غنى عنها لر�ؤية احلياة وفهم العامل‪.‬‬
‫العينني املتجدد للقاء املحبة املفعم بالدفء‪ ،‬ومن‬ ‫كما‬
‫و�إذا كان «اجل�سد» هو التجلي احل�سي الأبرز ًّ‬
‫ثم ال يبقى �إال الربودة التي تنتهي �إىل �صد أ� مال�صق‬ ‫وكيفًا يف املنت ال�شعري‪ ،‬ف�إن عنوان الديوان يعد‬
‫للج�سد الأنثوي امل�ستباح من قبل الذكر الذي يتجلى‬ ‫أي�ضا ذا طبيعة ح�سية حادة‪ ،‬تنه�ض على ثنائية‬ ‫� ً‬
‫عدوا للم�سيح ؛ حيث التجرد التام‬ ‫يف الن�ص بو�صفه ًّ‬ ‫قائما على‬
‫ً‬ ‫احل�ضور والغياب ؛ بحيث يبدو العنوان‬
‫من �سمات الرحمة واملودة والت�سامح والإح�سان التي‬ ‫بنية ت�شبيهية‪ ،‬نلمح فيها ح�ضور �أداة الت�شبيه القدمية‬
‫حتيل �إليها داللة مفردة امل�سيح ‪.‬‬ ‫(مثل) وامل�شبه به (�شفرة �سكني) مع غياب امل�شبه‬
‫واملو�ضع الثاين يف ن�ص (ملاذا ال يذبحها مرة‬ ‫الذي �آثرت ال�شاعرة �أن تخفيه م�ستثمرة بالغة احلذف‬
‫واحدة) ‪:‬‬ ‫؛ لتعطى جلملتها الت�شبيهية الب�سيطة رحابة ت�أويلية‬
‫يكفيها الآن ‪ -‬فقط ‪� /-‬أن تت�أمل عينيه ال�ضيقتني‪/‬‬ ‫منب�سطة تنع�ش ذهن املتلقي ليقوم بدوره الفاعل يف‬
‫ونظارته الطبية ال�سميكة‪ - /‬التي تزيده ق�سوة ‪/-‬‬ ‫البحث عن امل�شبه و�صياغة جملته الت�شبيهية اخلا�صة‬
‫قبلها‪� /‬أو حني‬
‫واحلياء الذي ال يقطعه‪� /‬شيء‪ /‬حني ُي ِّ‬ ‫به‪ ،‬وبدهي �أن هذا الأمر ال يتم �إال بعد االنتهاء من‬
‫يغرز �سكينه الباردة‪ /‬بني �رشايينها املتقطعة‪ /‬دون‬ ‫قراءة املنت ال�شعري ب�أكمله‪ ،‬ورمبا و�ضع املتلقي‬
‫�أن ت�س�أله‪ /‬ملاذا ال يذبحها‪ /‬مرة «واحدة»‪� /‬أو حتى‬ ‫�صياغات من نوعية ‪ :‬احلياة مثل �شفرة �سكني �أو‬
‫يجدد‪ /‬يف القتل؟!(‪)2‬‬ ‫ق�صائدي مثل �شفرة �سكني �أو جتاربي مثل �شفرة‬
‫�إذا ت�أتى مفردة «ال�سكني» مقرتنة بالنعت‪« /‬الباردة»‬ ‫�سكني‪ ،‬لكن �إعادة الت�أمل يف ثنايا الق�صائد �ستلفت‬
‫‪269‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫العاهة امل�ستدمية لتتمكن الأنثى من فهم العامل �أو‬ ‫مثلما �أتت مفردة ال�شفرات مقرتنة بالنعت‪ /‬ال�صدئة؛‬
‫ر�ؤيته بعمق‪ ،‬وهي ر�ؤية تكاد تالم�س �أفق الفل�سفة‬ ‫لي�ؤ�رش ت�شابه املركبني الو�صفيني واحتادهما الداليل‬
‫املازوكية وتتجادل معها بطرائق خمتلفة‪ ،‬ت�صل‬ ‫على ت�شابه ال�سياق الكلي الذي وردت فيه املفردتان‬
‫�إىل حد ا�ستح�ضار نقي�ضها ال�سادي‪ ،‬كما �سرنى يف‬ ‫( ال�شفرات – ال�سكني ) بحيث نلمح الآخر الذكوري‬
‫بنية الديوان الذي يطل بعمق على جتربة �أنثى مثقفة‬ ‫ذاته بنظارته ال�سميكة التي تزيده ق�سوة على حد‬
‫تتحرك بوعي تاريخي فل�سفي يف عامل مدين حديث‪،‬‬ ‫تعبري ال�شاعرة – وهو ذاته عدو امل�سيح يف الق�صيدة‬
‫جتدل فيه عالئقها ب�شخو�صه و�أماكنه و�أ�شيائه‪ ، ‬عرب‬ ‫ال�سابقة‪.‬‬
‫ح�سا�سية مغايرة لأفق االغرتاب الرومانتيكي الذي‬ ‫أي�ضا طبيعة العالقة اجل�سدية التى ميار�س‬ ‫ونر�صد � ً‬
‫تنتجه الذوات احل�سا�سة عادة عند لقائها بالعامل‬ ‫فيها الرجل انتهاكه للج�سد الأنثوي بالق�سوة ذاتها‬
‫املتجهم الالمبايل‪ ، ‬وما تلبث �أن ت�ست�شعر العزلة‬ ‫وبالربودة ذاتها‪ ،‬لكن املفارقة هذه املرة �أن اجل�سد‬
‫واالنطواء‪ ،‬ومتار�س فعل الت�أمل �أو الت�أمل دون �أن‬ ‫الأنثوي قد بد�أ يف االنحدار ناحية اخل�ضوع ؛ لذلك‬
‫تتجذر يف العامل �أو حتى ترتك جل�سدها التحرك فيه‪،‬‬ ‫القمع الذكوري بحيث انح�رصت �أمنيته الأخرية‬
‫كما فعلت جناة يف التعامل مع عاملها‪ ،‬و�أنتجت ما‬ ‫يف احللم بالقتل النهائي للتخل�ص من احلياة �أو‬
‫ميكن �أن نطلق عليه �شعرية الكتابة باجل�سد‪ ،‬وهى‬ ‫حتى التمني العاجز للتجديد يف طريقة الذبح !! مع‬
‫�شعرية تعتمد لدى �شاعرتنا على ح�ضور البنية‬ ‫مالحظة �أن هاتني الأمنيتني قد ظلتا حبي�ستي تيار‬
‫احلكائية‪ ،‬بت�سل�سلها ال�رسدي املرتابط والولع بر�صد‬ ‫وعي �صامت عاجز حتى عن التحرك �إىل ف�ضاء البوح‪.‬‬
‫املفارقات يف مقابل غياب التكثيف املجازي والت�أنق‬ ‫املو�ضع الثالث يف ن�ص الق�صاب‪:‬‬
‫ال�صياغي‪ ،‬واالكتفاء بالتق�شف البالغي‪ ،‬واالتكاء على‬ ‫�أظنه مل يكن يق�صد‪� /‬أن ي�صنع لها عاهةً‪ /‬حني كان‬
‫بالغة ال�صور الت�شبيهية واال�ستعارية الب�سيطة‪.‬‬ ‫يدربها‪ /‬على الغرام‪ /‬مهنته القدمية‪ - /‬فقط ‪ /-‬هي‬
‫تقول جناة يف ن�ص (الفُرجة) الذي ي�ستثمر عنوانه‬ ‫التي غلب ْت ُه‪ /‬وجعلت يديه‪ /‬ك�شفر ِة �سكني‪/‬‬
‫الوعي ال�شعبي بفكرة امل�شاهدة املرتبطة بالف�ضيحة‪:‬‬ ‫حقيقي‪/‬‬
‫ٍّ‬ ‫حني كان ي�ضمها‪� /‬إىل �صدره‪ /‬ب�شوقٍ‬
‫حتولت �إىل فُرجةٍ ‪ /‬دون �أن تدرى‪ /‬ومبرور الوقت‪/‬‬ ‫ْ‬ ‫لكنها‪ -‬البائ�سة ‪ /-‬هل كان ميكنها ح ًّقا‪� /‬أن ترى‬
‫تزداد بالهة(‪)4‬‬ ‫ري لها الطريق(‪)3‬‬
‫العامل جي ًدا‪ - /‬دون عاهة ‪ /-‬تن ُ‬
‫�إذ يتجلى اجل�سد يف املفتتح ال�شعري ال�سابق باعتباره‬ ‫�إذ يكاد يتماهى ا�ستح�ضار الرتكيب (ك�شفرة �سكني)‬
‫منظورا متار�س عليه عيون العامل فعل القمع‬
‫ً‬ ‫مو�ضوعا‬
‫ً‬ ‫مع العنوان (مثل �شفرة �سكني) با�ستثناء تبادل‬
‫الب�رصي – �إن جاز التعبري – لتف�ضح مكنون الذات‬ ‫املواقع بني كاف الت�شبيه والأداة الت�شبيهية (مثل)‪،‬‬
‫ال�شاعرة وخبيئة نف�سها يف مواجهة الأخر الذكورى‪:‬‬ ‫وهو انحراف �صياغي �ضئيل ال يكاد ي�ؤثر يف �أفق‬
‫ي�صطدم‪ /‬مبالحمه الباردِ‪/‬‬
‫ُ‬ ‫كانت تخ�شى ظلها‪ /‬حني‬ ‫الداللة الكلية التى يبدو �سياقها العام يف االقتبا�س‬
‫وعينيه ال�ضيقتني‪ /‬وال تعرف كيف تهرب ‪ /‬من‬ ‫ال�سابق مرتا�س ًال مع املو�ضعني ال�سابقني‪� ،‬إذ نلمح‬
‫ابت�سامته‪ /‬التي ت�سخر من �أي‪� /‬شيء تقابله‪ /‬وال‬ ‫ح�ضور العالقة اجل�سدية التي نرى فيها اجل�سد‬
‫من تلك الرع�شة‪ /‬التي تق�سمها ن�صفني‪ /،‬وتختبئ يف‬ ‫الن�سوي منتهكا بال�شفرات الذكورية احلادة �أو الهيمنة‬
‫جلدها(‪)5‬‬ ‫الغرامية التي ت�أخذ �شكل التعليم الفظ‪.‬‬
‫وكما ا�ستثمرت ال�شاعرة الوعي ال�شعبي يف داللة‬ ‫لكن الالفت للنظر هذه املرة‪� ،‬أن ال�شاعرة قد حتركت‬
‫العنوان‪ /‬الفرجة‪ ، ‬ف�إنها متعن يف توظيف هذا الوعي‬ ‫من �إطار ال�رسد ال�شعري املبني على �صياغة املفارقة‬
‫عرب كنايتني تت�آزران لر�سم عالج اجل�سد املرتع�ش‬ ‫بني الفعل الذكوري والفعل الن�سوي �إىل حماولة‬
‫(كانت تخ�شى ظلها – وتختبئ يف جلدها) ؛ لتتجلى‬ ‫�صياغة فل�سفة تربيرية تتعاطف مع ال�صنيع الذكوري‪،‬‬
‫بو�ضوح ثنائية اجل�سد الأنثوي اخلائف املتعرث يف‬ ‫وتنه�ض على الإقرار بحتمية حدوث الأمل الفادح �أو‬
‫‪270‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الأول يف �إطار ا�ستح�ضار ال�شاعرة للعالقة الت�أويلية‬ ‫مقابل اجل�سد الذكورى القاهر ال�ساخر ‪:‬‬
‫املتبادلة بني وعي الآخر الذكوري بالأنثى الظاهرة‪،‬‬ ‫مل تعد تده�شها الآن‪ /‬فرحته الزائدة‪ /‬حني يتل�ص�ص‪/‬‬
‫التي تتجلى حا�سة الب�رص لديها جتليا مناوئا لكل‬ ‫على تلك العالمات‪ /‬التي و�ضعها مبهارة‪ /‬قرب‬
‫الكائنات الذكورية املناه�ضة‪ ،‬ووعي الأنثى الباطنة‬ ‫جمرى البئرين(‪)6‬‬
‫بذاتها وج�سدها وخجلها القدمي امل�صاحب لتوترها‬ ‫لكن هذا « اجل�سد الأنثوي اخلجول» �سيفتقد ده�شة‬
‫الدائم �إذا �أراد الآخرون حتريك ا�سمها املوازى‬ ‫اخلوف ورع�شة اخلجل‪ ،‬رمبا ب�سبب اعتياده الفعل‬
‫لكينونتها من ال�صمت �إىل ال�صخب‪� ، ‬أو حتريك ج�سدها‬ ‫اجل�سدي املتكرر الذي يقوم به البطل‪ ،‬وهو ما ت�شي به‬
‫‪ -‬الذي تتوهم بفعل املمار�سات االجتماعية القامعة‬ ‫الفجوة ال�رسدية املعنوية (مل تعد تده�شها الآن)‪ ،‬و�إن‬
‫�أنها حتمله كجرمية دائمة �أو خطيئة �رسمدية ‪ -‬من‬ ‫كنت �أوثر �أن تقوم ال�شاعرة بعمل متثيل ب�رصي لها‬
‫اخلفاء �إىل الإعالن ‪.‬‬ ‫م�ستفيدة من �إمكانات الت�شكيل الطباعي‪ ،‬عرب داللة‬
‫مل يكن يراها �سوى‪ /‬طفلة متتلك عينني‪ /‬حائرتني‪/‬‬ ‫الفراغ املنقوط �أو فراغ البيا�ض ‪:‬‬
‫حتفران بق�سوة‪ /‬يف كل كائن‪ /‬تقابله‪ /‬هي التي ‪/‬‬ ‫�أما هي‪ /‬كتلميذ خائب طب ًعا‪ /‬مل تكن تت�أمل �أب ًدا‪/‬‬
‫ترتعد من‪ /‬ا�سمها‪� /‬إذا نطقه �أحدهم‪ /‬على نحو ‪/‬‬ ‫يوما‪ /‬على بعد خطوة(‪)7‬‬ ‫حال ال�صيد الذي كان‪ً /‬‬
‫�صاخب‪ /‬وتغ�ضب من الأوالد‪� /‬إن حكوا عن �صدرها‪/‬‬ ‫�إن هذه الفجوة الزمانية قد �أهلت ال�شاعرة لرت�صد‬
‫الفاتن(‪)9‬‬ ‫املفارقة بني حال التجربة يف بكارتها الأوىل‪،‬‬
‫�إن هذا اجل�سد الأنثوي �سيتحول �إىل متثال بفعل‬ ‫أوتار‬
‫وحالها مع اخلربة املتمر�سة‪ ،‬وك�أنها تعزف ب� ٍ‬
‫املكا�شفة الت�أويلية التى رمبا ف�ضحت �سلوكً ا عدوانيا‬ ‫جديدة وب�أنامل ن�سوية خمتلفة على ثنائية البكارة‬
‫غري م�شعور مبربراته ‪:‬‬ ‫والتجريب‪ ،‬التي �سبق �أن عزف وليم بليك عليها‪ ،‬و�أعاد‬
‫ظلت واقفة كتمثال‪ /‬بليد‪ /‬تتابعه(‪)10‬‬ ‫�صالح عبد ال�صبور �إنتاجها ب�شكل مغاير يف �أحالم‬
‫�صورا �أخرى لتجليات اجل�سد‬ ‫ً‬ ‫وبو�سعنا �أن نلتقط‬ ‫الفار�س القدمي‪:‬‬
‫الأنثوي عرب ت�صفح املنت ال�شعري‪ ،‬لنجد يف الق�صيدة‬ ‫لكنها تعرف جي ًدا‪� /‬أنه ال �أحد يحتملها‪� /‬سوى هذه‬
‫الأوىل (�ساعي الربيد) �أن اجل�سد يتجلى بو�صفه جثة‬ ‫احلانات القدمية املظلمة‪ /‬التي �أدمنت الذهاب‪/‬‬ ‫ِ‬
‫م�ستباحا نازفًا‪:‬‬
‫ً‬ ‫حتلق حولها روح املوات �أو حي ًزا‬ ‫�إليها‪ /‬مع �أولئك الأحياء‪ /‬امليتني‪ /‬لترثثر معهم‪/‬‬
‫مل يكت�شف �أنها‪ /‬جثة باهتة‪ /‬تت�أمله – فقط‪ /‬بعينني‬ ‫عن البدانة التي‪� /‬ستبتلعها هذا ال�شتاء(‪)8‬‬
‫�شاردتني(‪)11‬‬ ‫و�إذا كانت ال�شاعرة مل تقتطع عالقتها الإبداعية‬
‫بينما يتجلى اجل�سد يف ق�صيدة (�رضورة �أن تعرف‬ ‫باملوروث ال�شعري احلديث‪ ،‬وا�ستح�رضت �صورة‬
‫حمكما‪:‬‬
‫ً‬ ‫ح�صارا‬
‫ً‬ ‫حما�رصا‬
‫ً‬ ‫مقموعا‬
‫ً‬ ‫فرويد والكان)‬ ‫الأحياء املوتى �أو الأبطال الع�رصيني املهزومني‪،‬‬
‫احل�صار‪/‬‬
‫َ‬ ‫كنت – فقط – �أقاوم‪ /‬يديه‪ /‬اللتني �أحكمتا‬ ‫التي كانت تيمة حمورية يف �أغلب ن�صو�ص �إليوت‬
‫جي ًدا‪ /‬حول ج�سدي‪ /‬ج�سدي الذي‪ /‬ال طائل من‬ ‫الإبداعية‪ ،‬ف�إنها يف الوقت ذاته تخل�ص لهمها‬
‫وجوده(‪)12‬‬ ‫الإبداعي ور�ؤيتها اخلا�صة‪ ،‬عرب ح�ضور ملمح البدانة‬
‫جريحا هرب‬ ‫ً‬ ‫ويف ن�ص (�إليكرتا) يتجلى بو�صفه‬ ‫وهاج�سا خميفًا يقبع‬
‫ً‬ ‫هما م�ؤر ًقا‬
‫اجل�سدية باعتباره ًّ‬
‫بعد معركة حربية‪ ،‬وك�أنه يرتا�سل مع داللة احليز‬ ‫يف خامتة الن�ص ال�شعري م�ؤذ ًنا بتجدد الأرق اجل�سدي‬
‫املحا�رص يف الن�ص ال�سابق‪ ،‬وينتهي به احلال �إىل‬ ‫املال�صق‪ ،‬الذي ال تبدو فيه م�ساحات من االنف�صال‬
‫حياة معطلة تندثر فيها فاعلية احلوا�س وتتيب�س‬ ‫قد جتعلها تداوره مثلما داورت فعل القهر الذكوري‬
‫مرونة الأع�ضاء‪:‬‬ ‫باملناورة والهروب‪ ،‬والتخفي يف احلانات القدمية‬
‫كانت تهرب كلما‪ /‬ا�ستدرجها بثقة‪ /‬للم�شهد الأخري‪/‬‬ ‫املظلمة‪.‬‬
‫وت�سخر منه‪ /‬كلما حدثها عن اليكرتا‪« /‬قرينتها‬ ‫�إن هذا الهم اجل�سدي املالزم �سريتد بنا �إىل زمن ال�صبا‬
‫‪271‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫الأب املفتقد‪:‬‬ ‫وخزات غائرةٍ يف‪/‬‬
‫ٍ‬ ‫القدمية»‪ /‬تلك التي منحتها‪/‬‬
‫ويرد هذا امللمح يف �إطار ثنائية مقاومة القمع‬ ‫الر�أ�س‪ /‬وعلمتها كيف حتيا‪ /‬ب�أع�ضا ٍء معطلة(‪)13‬‬
‫اجل�سدي واحلنني �إىل الروح الأبوية الغائبة‪.‬‬ ‫ج�سديا للأنا‬
‫ًّ‬ ‫ويف ن�ص (الغرمية) نكاد نرى ت�شاب ًها‬
‫كنت فقط – �أقاوم‪ /‬يديه‪ /‬اللتني �أحكمتا احل�صار‪/‬‬ ‫ال�شاعرة وغرميتها‪ ،‬وهو ت�شابه يحيل �إىل منطقة من‬
‫جي ًدا‪ /‬حول ج�سدي‪ /‬ج�سدي الذي‪ /‬ال طائل من‬ ‫التعاطف الإن�ساين على طريقة (�إن امل�صائب يجمعن‬
‫وجوده(‪)16‬‬ ‫امل�صابينا)‪ ،‬و�إن تفردت الذات ال�شاعرة باقرتافها‬
‫فال�سطور ال�سابقة تهيئ لتجلي �صورة الأب يف الن�ص‬ ‫كتابة ال�شعر بو�صفها موازية للأرق املعريف‪ ،‬والقدرة‬
‫بعد ذلك التخييل املجازي الذي عقدته ال�شاعرة‬ ‫على ر�ؤية امل�أ�ساة وفل�سفتها‪ ،‬والتحرك عرب الوعي‬
‫متكئ ًة على �صنيع ا�ستبدايل‪ ،‬و�ضعت فيه مفردات‬ ‫العميق بها‪:‬‬
‫املعجم احلربي (�أقاوم – �أحكمنا ‪ -‬احل�صار) بد ًال من‬ ‫كانت ت�شبهها يف‪ /‬كل �شيء‪ /‬العينني العميقتني‪/‬‬
‫مفردات املعجم العاطفي يف مفارقة خاطفة بني ما‬ ‫احلوا�س التي خربها‪ /‬احلب‪ /،‬اجل�سد الذي �أدركه‪/‬‬
‫هو كائن وما ينبغي �أن يكون‪ ،‬تهيئ الأنا ال�شاعرة‬ ‫العمى‪ /‬لكن على �أية حال‪ /‬غرميتها‪ /‬كانت �أكرث‬
‫لأن جتدل ثنائية احلنني الالهث امل�صدوم بيقني «ال‬ ‫براءة‪ /‬منها‪ /‬وال تكتب ال�شعر(‪)14‬‬
‫جدوى حماوالت احلديث مع الأب»‪ ،‬وامل�ست�سلم ليقني‬ ‫�إن جتليات اجل�سد الأنثوي التي ك�شف عنها الت�صفح‬
‫«الهروب �إىل املقاهي واحلانات»‪.‬‬ ‫العابر للمنت ال�شعري ال ميكن �أن ُتتخيل – ب�أية ٍ‬
‫حال‬
‫كنت �أرمم �آخر‪ /‬ما تبقى منه‪ /‬و�أنا �أنب�ش حائطَ ‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫من الأحوال – مبعزل عن العالئق التي ين�سجها ذلك‬
‫البيتِ ‪ /‬الذي يعلو بق�سوة‪ /‬بح ًثا عن ثقب واحدٍ‪� /‬أكلم‬ ‫اجل�سد‪ ،‬بحيث تقطع القراءة املت�أنية ب�أن �صورة‬
‫منه �أبي‪�« /‬أبي الذي يف ال�سماء»‪ /‬انتظرته �سني ًنا‪/‬‬ ‫اجل�سد �أو بالأحرى جتلياته الب�رصية املختلفة (اجل�سد‬
‫‪ -‬دون فائدة ‪ /-‬هارب ًة من �أ�شباحه‪� /‬إىل املقاهي‬ ‫املرتع�ش – اجل�سد النازف‪ -‬التمثال املتحجر‪ -‬اجلثة‬
‫الباردة‪ /‬يف ليايل ال�شتاء‪ /‬و�إىل البارات ‪/‬القدمية‪/‬‬ ‫الباهتة – احليز املحا�رص – اجل�سد الأعمى – اجل�سد‬
‫التي �أجل�س فيها(‪)17‬‬ ‫املتقيح بال�صديد – اجل�سد امل�ستباح بال�شفرات‬
‫ال�صدئة – اجل�سد امل�شوه بالوخزات والندوب‬
‫‪ -3‬حتول اجل�سد �إىل جماز رمزي‪:‬‬ ‫الغائرة)‪ .‬تكاد ت�صب – عند التحليل العميق – يف‬
‫�إن اجل�سد الذي �أخفق يف التحول �إىل روح تنعم‬ ‫ب�ؤرة داللية واحدة ت�ستقطبها فكرة واحدة هي القمع‬
‫بدفء التوا�صل مع روح الأب الغائبة �سيتجلى يف‬ ‫الذكوري ب�أ�شكاله املتباينة‪ ،‬لكن �أمناط اال�ستجابة �أو‬
‫ن�ص (�ساعى الربيد) باعتباره جما ًزا يبتعد عن جوهر‬ ‫حماوالت املناوءة التي جترتحها الذات ال�شاعرة �إزاء‬
‫جمازيا باه ًتا‬
‫ًّ‬ ‫احلقيقة‪� ،‬أو يظل يف �أف�ضل الأحوال ظ ًّال‬ ‫تلك املمار�سات القامعة‪ ،‬هي ما يك�سب ال�رسد ال�شعري‬
‫لبطل هو يف حد ذاته ظ َّل للبطل احلقيقي يف رواية‬ ‫مذاقه اخلا�ص يف �إطار تنوعات الفعل الن�سوي‪ ،‬التي‬
‫بابلو نريودا التي حتمل ا�سم �ساعي الربيد‪ ،‬وك�أنه‬ ‫�سنقوم بر�صدها يف ال�صفحات التالية‪:‬‬
‫املجاز الذي يبعدنا خطوتني عن احلقيقة على طريقة‬
‫�أفالطون يف النظر �إىل فن ال�شعر‪:‬‬ ‫‪ -1‬الهروب �إىل احلانات الليلية‪:‬‬
‫كان م�شغوال ب�أن يعلمها‪ - /‬مبهارة املحرتفني طب ًعا‬ ‫وهو ملمح �شاهدناه بتج ٍّل الفت يف ن�ص (الفرجة)‬
‫‪ /-‬كيف ترتجم اال�ستعارات‪ /‬التي تقبع حولها‪ /‬يف‬ ‫م�صوغا بيقني معريف ينتهي �إىل حتمية العالقة بني‬
‫ً‬
‫دوما‪ /‬دون �أن تعرف‪/‬‬ ‫ركن‪ /،‬كانت تخ�شاها‪ً /‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫اجل�سد الن�سوي واحلانات القدمية‪:‬‬
‫�أنها �صارت ت�شبه ‪ /‬بب�ؤ�سها‪ /‬ماريو « �ساعي‬ ‫لكنها تعرف جي ًدا‪� /‬أنه ال �أحد يحتملها‪� /‬سوى هذه‬
‫الربيد»‪ /‬و�أن اجلال�س بجوارها‪ - /‬هو نف�سه ‪ /-‬كان‬ ‫احلانات‪ /‬القدمية املظلمة(‪)15‬‬
‫ا�ستعار ًة‪ /‬عن �شيء ال ي�أتي(‪)18‬‬ ‫‪ -2‬املقاومة والهروب املقرتن باحلنني �إىل روح‬
‫‪272‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫لأوا�صل خطتي التي‪ /‬بد�أ ُتها‪ /‬منذ ال�صباح‪ /‬لتعذيب‬ ‫�إذ يتجلى اجل�سد الن�سوي الذي ينزف ببطء – كما‬
‫احلمقى‪ - /‬احلمقى الذين �أح�سدهم‪ /‬من كل قلبي‪/‬‬ ‫و�صفته ال�شاعرة يف الأ�سطر ال�سابقة لذلك االقتبا�س‬
‫على �سذاجتهم(‪)20‬‬ ‫مقهورا حتت هيمنة ثقافية ميار�س فيها الذكر‬‫ً‬ ‫–‬
‫لكن �إعادة الت�أمل يف �سياق الن�ص رمبا جعلتنا‬ ‫متاما عن‬
‫يف غافل ً‬ ‫فعل التثقيف با�ستعرا�ض احرتا ٍّ‬
‫ن�ستح�رض النقي�ض املازوكي للنزعة ال�سادية‪،‬‬ ‫ذلك اجل�سد بوجعه الإن�ساين ونزفه ال�رسمدي الذي‬
‫جزءا من تعذيب الأبرياء والنبالء �أو‬ ‫ون�ست�شعر �أن ً‬ ‫يكاد يعادل ت�رسب الروح من م�سام اجل�سد الواقع يف‬
‫احلمقى وفق الت�أويل الظاهري لل�شاعرة‪ ،‬يظل مبعنى‬ ‫فخ االغرتاب املجازي الذي يف�ضحه تيار الوعي �أو‬
‫جزءا من جلد الذات �أو بالأحرى تعذيب‬ ‫من املعاين ً‬ ‫الكتابة ال�صامتة التي تتجلى فيها الذات ال�شاعرة‬
‫اجلانب النبيل فيها ؛ لأن الذات ال�شاعرة ال تزال‬ ‫بو�صفها �شبيهة «ماريو» �ساعي الربيد يف رواية‬
‫تتدرب على ال�رش‪ ، ‬مما يعني �أنه �سلوك طارئ ولي�س‬ ‫نريودا ويتجلى الذكر املتعامل املتثاقف – وفق وعي‬
‫نزعة �أ�صيلة‪ ،‬وحت�سد احلمقى ال�ساذجني مما يدل‬ ‫الأنثى ال�صامت باعتباره ا�ستعارة بعيدة حلقيقة‬
‫على ا�ستمرارية الأمل امل�ؤرق‪ ،‬واحلنني امل�ضمر لزمن‬ ‫مفارقة ت�ستع�صي على التج�سد يف �شخ�صه الواقعي‪.‬‬
‫الرباءة الأوىل‪ ،‬والنبل القدمي ‪.‬‬
‫وبالرغم من احتدام ال�رصاع داخل الذات ال�شاعرة‪،‬‬ ‫‪ -4‬املناورة والهجوم والتهكم‪:‬‬
‫ف�إنه لن يجعلها تذهب من �أحد الطرفني �إىل الآخر ؛ بل‬ ‫�إذا كانت الذات ال�شاعرة قد ا�ست�شعرت �ض�آلتها يف‬
‫�ستمعن يف �إكمال خطتها العدوانية منتقم ًة من ذاتها‬ ‫ن�ص (�ساعي الربيد) �إىل احلد الذي �أ�ضحت فيه ظال‬
‫القدمية ومن الآخرين يف �آن واحد‪ ، ‬لأن احلنني �إىل‬ ‫للظل ف�إنه من البدهي �أن تنتهب الفر�صة ملناو�شة‬
‫م�شاعر املحبة هو حنني �إىل ال�ضعف‪ ،‬املرذول الذي ال‬ ‫الفري�سة ال�ساذجة �أو البطل النبيل الذي يبدو مفتق ًدا‬
‫ينبغي ملن تريد �أن حتيا يف ع�رصنا الراهن �أن تظهره‬ ‫للوعي بح�سا�سية اللحظة الراهنة‪ ،‬ك�أنه قد قدم من‬
‫و�إال حا�رصتها الهزائم التي حتاول �أن توقف مدها‬ ‫زمن مغاير لزمننا الراهن الذي �ألقى بظالله القامتة‬
‫مرة �أخرى‪:‬‬ ‫على اجل�سد الن�سوي املناوئ‪:‬‬
‫و�س�أكون رحيمةً‪ /‬معهم‪ /‬و�أهيل عليهم الرتاب‪/‬‬ ‫�أظنك جئت من‪ /‬القرن ال�ساد�س ع�رش‪ /‬و�إال ملاذا‬
‫بنف�سي‪ /‬ثم �أ�ضع الورود التي‪ْ � /‬أح�رض َتها‪ /‬من �أجلي‪/‬‬ ‫تدربت اليوم‬
‫ُ‬ ‫أ�رسفت‪ /‬يف النبل؟!‪ /‬لن ت�صدق �أنني‪/‬‬
‫َ‬ ‫�‬
‫على قلبهم‪ - /‬والتي ف�صلتها عن‪� /‬أج�سادهم –‪ /‬منذ‬ ‫مبا‪ /‬يكفي‪ /‬على ال�رش؟‪ /‬لذا �س�أزيح بهدوء‪/‬‬
‫قليل‪ /‬على �أمل �أن‪� /‬أراها‪ /‬على حقيقتها(‪)21‬‬ ‫�آثار ابت�سامتك‪ /‬الطيبةِ‪ /‬التي تخرتقني‪ /‬ويدك التي‬
‫�إن ال�شاعرة تختم ن�صها ب�إحكام نربة التهكم و�إعالء‬ ‫بها‪ /‬رحمةٌ‪ /‬عن يدي(‪)19‬‬
‫�سلطة الق�سوة حمول ًة داللة الورد من الورد الرومان�سي‬ ‫�إن اجل�سد الن�سوي املتورط يف عمق حلظته التاريخية‬
‫قرين املحبة �إىل الورد اجلنائزي قرين املوت‪.‬‬ ‫واملتمر�س ب�رصاعاته ال�سابقة �سيتعامل بق�سوةٍ فائقة‬
‫ويف هذا الإطار من املمكن �أن نفهم «فل�سفة الأمل»‬ ‫مع البطل اال�ستثنائي الرحيم بني �أغلب �شخو�ص املنت‬
‫التي جعلتها الذات ال�شاعرة قرينة لفهم العامل يف‬ ‫أ�سلوبيا مباغ ًتا‬
‫ًّ‬ ‫نهجا �‬
‫ال�شعري ؛ �إذ تنتهج ال�شاعرة ً‬
‫ن�ص الق�صاب‪ ،‬الذي ينه�ض على منطق الت�شفي يف‬ ‫يقو�ض �أفق االن�سجام املتوقع بني الفعل‪ /‬االبت�سامة‬
‫ال�صديقة التي �أنهكتها ممار�سات اجلزار اجل�سدية‪:‬‬ ‫الطبية واللم�سة احلانية من اليد الرحيمة ورد الفعل‪/‬‬
‫كان عليها �أن ت�شكره‪ /‬ال �أن تلعنه هكذا‪� /‬أظنه مل يكن‬ ‫الإزاحة الباردة للم�شاعر الدافئة!! لي�شي ذلك ال�صنيع‬
‫يق�صد‪� /‬أن ي�صنع لها عاهةً‪ /‬حني كان يدربها‪ /‬على‬ ‫بنزعة �سادية مولعة بتعذيب الأبرياء وال�سخرية منهم‬
‫الغرام (‪)22‬‬ ‫والإفراط يف ال�سلوك العدواين جتاههم على طريقة‬
‫(البقية يف موقع املجلة باالنرتنت)‬ ‫الكل باطل‪:‬‬
‫‪273‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫بيزنطة والإ�سالم ‪..‬‬
‫من كتاب «اليهود واملال والعامل» جلاك �أتايل‬
‫ترجمة‪� :‬سليمة �صالح لوكام‬
‫ناقدة واكادميية من اجلزائر‬

‫وبالتجارة يف امليناء‪ ،‬وقد غيرّ وا �ألقاب عائالتهم‬ ‫مع انعطافة الألفية الأوىل‪ ،‬وبينما كانت بغداد ت�ؤول‬
‫ف�صارت هيلينية‪ ،‬و�صاروا يقر�أون الكتابات‬ ‫�إىل انهيار‪ ،‬كانت الق�سطنطينية متلك ك ّل امل�ؤهالت‬
‫املق ّد�سة وي ؤ� ّدون طقو�سهم الدينية باليونانية‪ ،‬وهم‬ ‫لت�صبح مركز اقت�صاد العامل‪ :‬ملتقى يجمع بني‬
‫يولون عناية �أكرث لتعليقات حاخاماتهم على ن�ص‬ ‫�آ�سيا و�أفريقيا‪ ،‬بني الغرب وبكني‪ ،‬لت�صبح املدينة‬
‫التوراة فقط‪ ،‬بل �إنهم كانوا يحكمون يف النزاعات‬ ‫احلا�رضةمع العا�صمة ال�صينية من بني �أكرب مدن‬
‫فيما بينهم ح�سب قوانني االمرباطورية‪.‬‬ ‫العامل‪ ،‬فهي متلك املال والب�ضائع والف�ضاء والقوة‬
‫فر يهود �آخرون من بغداد التي‬ ‫بعد �سنة ‪ّ ،1050‬‬ ‫الع�سكرية وال�شبكات التجارية‪.‬‬
‫كانت تنهار‪ ،‬وقدموا �إىل العا�صمة البيزنطية‪ ،‬لك ّنهم‬ ‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬مل تنجح الق�سطنطينية يف‬
‫ف�شلوا يف التعاي�ش بعد �أن اكت�شفوا � ّأن طقو�سهم‬ ‫ب�سط نفوذها على بالد الإ�سالم ب�سبب غياب روح‬
‫مما‬
‫تختلف مع تلك التي ميار�سها «الرومانيوت» ّ‬ ‫املجابهة لدى نخبها املثقفة التي �أغرقت يف‬
‫بريوقراطيتها‪ ،‬وا�ستمر�أت حياتها ال�سعيدة املرفهة‪،‬‬
‫ف�صار �شللها يف تزايد بفعل �إمعانها يف طريقة‬
‫عي�شها تلك‪ ،‬مدفوعة بحنينها �إىل الفرتة الهيلينية‪.‬‬
‫كان اليهود يعي�شون يف الق�سطنطينية فيما‬
‫بينهم‪ ،‬ويعملون لأجل اجلميع‪ ،‬فقد كانوا ي�شتغلون‬
‫والفراء والن�سيج والتجارة وجلب‬ ‫ّ‬ ‫بال�صباغة‬
‫الب�ضائع وال�سم�رسة يف ك ّل �شيء‪ ،‬و�أحيانا يجلبون‬
‫الثياب واملجوهرات �إىل البالط‪ ،‬والقلّة القليلة منهم‬
‫يحرتفون � ّإما قر�ض الأموال‪ ،‬و� ّإما التمويل‪ ،‬وهنا‬
‫�صارت االمرباطورية البيزنطية حتتكم على �شبكتها‬
‫اخلا�صة‪.‬‬
‫و منذ عهد االمرباطور «جو�ستينيان‪ ،‬انربى جماعة‬
‫من العربانيني‪ ،‬وهم «الرومانيوت»‪ ،‬لالندماج يف‬
‫الروح اليونانية على وجه اخل�صو�ص حتى يتم‬
‫قبولهم ب�شكل �أف�ضل‪.‬‬
‫و ي�شتغل ه�ؤالء بالأ�سا�س باحلرف وامل�صوغات‪،‬‬
‫‪274‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫وكما يف � ّأي مكان‪ ،‬يف ذلك الوقت‪� ،‬صار اليهود‬ ‫جعل االمرباطور «�ألك�سي�س كومبيان» يقوم ببناء‬
‫يف بالد الإ�سالم‪ ،‬جمربين على �أداء �صلواتهم‬ ‫حيي الطائفتني‪ ،‬وظلّت هاتان‬ ‫جدار يف�صل بني ّ‬
‫يف عزلة‪ ،‬ومن جهة �أخرى‪ ،‬مل يعد عددهم يف دار‬ ‫�سويا لكنهما ال ت�صليان يف‬ ‫الطائفتان ت�شتغالن ّ‬
‫اخلالفة يتجاوز مليون �شخ�ص‪ ،‬فارحتل بع�ضهم‬ ‫معبد واحد‪ ،‬ونادرا ما يح�صل الزواج بينهما‪ .‬مل يكن‬
‫�إىل اال�سكندرية‪� ،‬أو اتجّ ه �صوب اجلاليات ال�صغرية‬ ‫ذلك ان�شقاقا‪ ،‬و�إنمّ ا م�سافة ثقافية ‪.‬‬
‫العديدة املتناثرة يف �أرا�ضي الإ�سالم‪.‬‬ ‫و كان بالد الإ�سالم يف املناطق املجاورة ال تزال‬
‫يف حلب واملو�صل ودم�شق والف�سطاط والقريوان‬ ‫اليهودية‪� ،‬أي ما يعادل‬
‫ّ‬ ‫ت�ضم ثالثة �أرباع اجلالية‬ ‫ّ‬
‫وفا�س‪ ،‬ويف اليمن ويف �إ�سبانيا‪ ،‬كانت هذه اجلاليات‬ ‫�أكرث من ثالثة ماليني �شخ�ص‪ ،‬من «قرطبة» �إىل‬
‫ت ؤ� ّدي عباداتها كل واحدة منها وفق طريقتها‬ ‫ولكن الو�ضع مل‬
‫ّ‬ ‫«كابل»‪ ،‬وحتى �إىل �أبعد من ذلك‪،‬‬
‫اخلا�صة‪ ،‬وقد ظ ّل بع�ضها �أحيانا مل ّدة قرون حتت‬ ‫يعد منا�سبا بالن�سبة �إليهم‪.‬‬
‫�سلطة �أ�رسة واحدة من التجار املتن ّفذين‪.‬‬ ‫يف الق�سطنطينية‪ ،‬كما يف � ّأي مكان �آخر‪،‬كان‬
‫لقد عانى ه�ؤالء من الإهانة واال�ضطهاد‪ ،‬كما حدث‬ ‫اليهود ي�شتغلون بكل املهن امل ّت�صلة بالتجارة‬
‫عربي «�أبو‬
‫ّ‬ ‫يف فا�س �سنة ‪ 1032‬حيث �أقدم قائد‬ ‫والفالحة واحلرف‪ ،‬وكانوا يعي�شون معزولني يف‬
‫تنيم» على قتل �س ّتة �آالف �شخ�ص‪� ،‬أو كما حدث‬ ‫� ّأي مكان حلّوا فيه‪ ،‬يعي�شون يف زرائب‪« ،‬حمميني»‬
‫يف مراك�ش ابتداء �سنة ‪ 1150‬حيث ُمنعت اجلالية‬ ‫بدونية على الرغم من‬ ‫ّ‬ ‫ومحُ تقرين‪ُ ،‬يتعامل معهم‬
‫اليهودية التي كانت تقيم هناك منذ �سنة ‪1062‬‬ ‫ّ‬ ‫كون ال ّتجار اليهود هم الذين ي�ضمنون اجلزء الأكرب‬
‫من ممار�سة عباداتها يف ظ ّل �سلطة عائلة جديدة‬ ‫من املبادالت بني العاملني الهندي واالطلنطي‪،‬‬
‫املوحدون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حاكمة غري مت�ساحمة‪ :‬وهم‬ ‫وهم الذين يدفعون مواكب قوافلهم ومراكبهم جللب‬
‫� ّأما يف فل�سطني‪ ،‬فكانت الو�ضعية �أكرث ب�ؤ�سا‪ ،‬مل يكن‬ ‫التوابل من الهند واحلرير من ال�صني‪.‬‬
‫ثمة من اليهود � اّإل القليل‪ ،‬وهم � ّإما يف الأكادمييات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مل يعد للإ�سالم مركز �آخر غري املركز الديني‪ ،‬جزيرة‬
‫وما تبقى منهم كانوا ُيعاملون يف بع�ض املدن على‬ ‫العرب التي طُ رد منها اليهود‪ ،‬ومل تعد بغداد مدينة‬
‫�أ ّنهم �أدنى من م�ستوى الب�رش‪.‬‬ ‫اليهودية يف‬
‫ّ‬ ‫اليهود الأوىل يف العامل‪ ،‬كما فقدت‬
‫أكرم وفاد ًة‪ ،‬والأكرث ازدهاراً يف تلك‬
‫كان الإ�سالم ال ُ‬ ‫«املدائن» دور �صاحبة الفكر الذي �أ ّدته على امتداد‬
‫الفرتة هو ذلك الذي عرفته م�رص التي بقيت نقطة‬ ‫يهودية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثمة مدار�س‬ ‫�ألف �سنة من الزمان‪ ،‬مل يعد ّ‬
‫العبور من ال�رشق �إىل الغرب‪.‬‬ ‫وق ّل اجنذاب �أ�صحاب املال �إىل اخللفاء‪ ،‬كما تناق�ص‬
‫فابتداء من عام ‪ ،1000‬كفلت العائلة الفاطمية‬ ‫عدد �سكّان بغداد من اليهود‪ ،‬ففي �سنة ‪ ،1168‬مل‬
‫وحرية مل�رص مل يعرف‬ ‫ّ‬ ‫ال�شيعية احلاكمة ازدهارا‬ ‫يهودي‪ ،‬وح�سب رواية‬
‫ّ‬ ‫ي ُعد فيها �أكرث من �أربعني �ألف‬
‫تاريخ النيل لهما نظري‪.‬‬ ‫الرحالة «بنيامني التوديل»‪ ،‬الذي ظلّت حكاياته‬
‫املتو�سطي‪ ،‬كان علماء الالهوت‬ ‫ّ‬ ‫يف هذا املجتمع‬ ‫املمتعة تفتقد �إىل الد ّقة التاريخية‪� ،‬أ ّنه كانت يف‬
‫البيزنطيون وعلماء اليهود يجاورون املفكرين‬ ‫وع�رش‬
‫بغداد �آنذاك �أكرث من ثمانية وع�رشين كني�سا َ‬
‫امل�سلمني ويحاورونهم‪ ،‬وكانت اجلاليات اليهودية‬ ‫مدار�س ‪.‬‬
‫�سمى «جنيد»‪،‬‬
‫يف م�رص تمُ ّثل لدى اخلليفة ب�أحدهم و ُي ّ‬ ‫بعد مرور قرن من الزمان‪ ،‬وحتديدا يف ‪� ،1258‬أورد‬
‫وهو الذي يفاو�ض من �أجل اجلالية فيما يتعلّق‬ ‫رحالة �آخر �أ ّنه مل يعد يف بغداد �إال �س ّتة وثالثون �ألف‬
‫جو من االحرتام‬ ‫ال�سخرة‪ ،‬يف ّ‬ ‫بال�رضائب ونظام ُّ‬ ‫يهودي يرت ّددون على �ستة ع�رش كني�سا فقط‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪275‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫وتويف نور الدين �سنة ‪ ،1174‬وقيل �إ ّنها وفاة‬ ‫املتبادل‪ .‬وملّا ب�سط الفاطميون نفوذهم على مكّة‬
‫طبيعية‪ ،‬و�أحلق �صالح الدين حكم �سورية مب�رص‪،‬‬ ‫واملدينة واملناطق املجاورة لهما‪� ،‬صار «جنيد»‬
‫وب�سط �سلطانه على جزء من املدائن‪ ،‬ومن جزيرة‬ ‫الر�سمي عن جاليات فل�سطني‬ ‫ّ‬ ‫القاهرة الناطق‬
‫العرب‪ ،‬وا�ستوىل �سنة ‪ 1187‬على القد�س‪.‬‬ ‫و�صقلّية و�شمال �أفريقيا‪:‬‬
‫مل يتغيرّ و�ضع يهود م�رص‪ ،‬فقد لبثوا ك�سابق عهدهم‪،‬‬ ‫وم َبادلو العمالت‬‫و�شارك الفالحون واحلرفيون ُ‬
‫� ّإما حرفيني‪ ،‬و� ّإما جتارا‪ ،‬وقد �صار �أحدهم‪ ،‬واملدعو‬ ‫وال�سما�رسة وال�صاغة يف بناء العا�صمة اجلديدة‬
‫ب «�أبو البيجرن» طبيب اخلليفة اجلديد‪ ،‬وتولىّ �آخر‬ ‫(القاهرة) �إىل جانب العا�صمة القدمية (الف�سطاط)‪،‬‬
‫« �أبو املنجا بن �شحاح» م�س�ؤولية الزراعة‪ ،‬فبنى‬ ‫ور�سم املعماريون اليهود ت�صميمات جامع الأزهر‪،‬‬
‫قناة محُ ّولة عن نهر النيل‪.‬‬ ‫وحافظ البحارة اليهود مع اليونانيني على نظام‬
‫متنور ومت�سامح‪ ،‬ال �أحد ي�ستطيع‬‫يف ظ ّل �إ�سالم كهذا‪ّ ،‬‬ ‫�شبكة العالقات التجارية التي تربط منذ �ألف‬
‫يج�سد الوجوه املتع ّددة ل َق َدر اليهود مثل «مو�سى‬‫�أن ّ‬ ‫عام بني ك ّل من اال�سكندرية و�إ�سبانيا و«�صقلية»‬
‫بن ميمون» احلاخام والطبيب وم�ست�شار الأمري‪.‬‬ ‫و«بيزا»و «�أمالفي»(ميناء نابويل) و«كرفو» (جزيرة‬
‫ُولد «ابن ميمون» يف قرطبة �سنة ‪ ،1135‬وملّا بلغ‬ ‫يونانية) وعمان و«كو�شني» (مدينة هندية)‪.‬‬
‫�سن الثالثة ع�رشة‪ ،‬احت ّل املوحدون املدينة ومنعوا‬ ‫ّ‬ ‫وكان الباعة اليهود هم الأوائل الذين جل�أوا �إىل‬
‫اليهود من ت�أدية طقو�سهم التعبدية‪.‬وهكذا دخلت‬ ‫ثالثة اخرتاعات ن�سبها التاريخ فيما بعد �إىل‬
‫ظاهريا‪ ،‬وكانت قد َنفَت نف�سها �إىل‬
‫ّ‬ ‫�أ�رسته الإ�سالم‬ ‫الإيطاليني‪:‬‬
‫املغرب‪ ،‬بعيدا عن الأ�رسة املوحدية املالكة‪.‬‬ ‫ال�صكّ (ورقة يق ّدمها امل�شرتي للبائع ل�سداد ثمن‬
‫وقد وجد «�آل ميمون» هناك العديد من املثقفني‬ ‫الب�ضاعة‪ ،‬و ُيذكر عليها ا�سم ك ّل واحد منهما‪،‬‬
‫الباحثني عن احلرية‪ :‬م�سلمون مثل «ابن ر�شد» وهو‬ ‫واملو�ضع الذي يوجد فيه املال‪ ،‬واملبلغ الواجب‬
‫من كبار من علّقوا على �أر�سطو‪ ،‬وقد جاء �إىل مراك�ش‬ ‫دفعه‪ ،‬و�آية من االجنيل على �سبيل �شفرة تعيني‬
‫ا�ستقر �أغلبهم يف «فا�س»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجئا‪ ،‬ويهود‬ ‫امل�شرتي‪).‬‬
‫هناك در�س مو�سى بن ميمون‪ ،‬وهو اليهودي‬ ‫حول الدفع‪ ،‬واملحا�سبة‬ ‫ور�سالة ال�رصف ملّا ُي ّ‬
‫�رسه‪ ،‬التلمود والطب والفل�سفات اليونانية‬ ‫يف ّ‬ ‫بالطريقة املزدوجة لت�سجيل حركات ديونهما‪.‬‬
‫والإ�سالمية‪ ،‬فيكتب الحقا‪ « :‬ال يوجد توحيد �أكرث‬ ‫لكن الفرتة ال�شيعية الفاطمية كانت ق�صرية‪ ،‬ففي‬ ‫ّ‬
‫من �صفاء الإ�سالم‪،».‬و كان يف الثانية والع�رشين‬ ‫�سنة ‪ ،1164‬وب�سبب قلّة في�ضان وادي النيل‪ ،‬كانت‬
‫حرر ميثاقا عن « الرزنامة»‪.‬‬ ‫حني ّ‬ ‫جر‬
‫وعمت جماعة حا ّدة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫املحا�صيل كارثية‪ّ ،‬‬
‫ويف �سنة ‪� ،1165‬أحكم املوحدون قب�ضتهم على‬ ‫ذلك �إىل حدوث ا�ضطرابات اقت�صادية وم�شادات يف‬
‫املغرب‪ ،‬و�صار �أداء العبادات اليهودية �أمرا �صعبا‬ ‫القاهرة‪ ،‬وا�ستدعى اخلليفة‪ ،‬بعد �أن جتاوزه الأمر‪،‬‬
‫�رسا‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬ح ّتى ملّا كانت متار�س ّ‬ ‫ال�س ّن ّي «نور الدين»‪ ،‬وكان القائد‬
‫فرق «�أتابك» حلب ُ‬
‫ويف �سنة ‪� ،1165‬سافر «ابن ميمون‪� ،‬إىل اال�سكندرية‬ ‫الكردي «�صالح الدين بن �أيوب» قد �أ�رسع �إىل م�رص‬
‫احلرية الذي �ساد م�رص‬ ‫ّ‬ ‫بجو‬
‫وا�ستقر فيها مفتونا ّ‬‫ّ‬ ‫ون�صب نف�سه‬ ‫بهدف �إعادة النظام والأمن �إليها‪ّ ،‬‬
‫�آنذاك‪ ،‬ولك ّنه وجدها مدينة �آيلة لالنهيار ( مل ُيح�ص‬ ‫الفاطمي «العا�ضد»‪ ،‬وبعد‬
‫ّ‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬وزيرا للخليفة‬
‫يهودي)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنيامني التوديل �أكرث من ثالثة �آالف‬ ‫ني يف‬‫ال�س ّ‬
‫أولوية املذهب ُ‬
‫قتله اخلليفة‪� ،‬أعاد ن�رش � ّ‬
‫كان «ابن ميمون» يف اال�سكندرية قد حلق ب�أخيه‬ ‫القاهرة‪.‬‬
‫‪276‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫القرو�ض‪ ،‬و� ّإما مب�شاركة كل من افتقر للح�صول على‬ ‫الذي �سبقه �إليها طلبا للرثوة عن طريق التجارة يف‬
‫عمل على النحو الذي مل يعد فيه حمتاجا �إىل طلب‬ ‫املحيط الهندي‪ ،‬قبل �أن ميوت غرقا يف البحر الأحمر‬
‫معونة �أحد‪».‬‬ ‫�سنة ‪� .1169‬أ�صبح «مو�سى بن ميمون» وريثا �شابا‬
‫ومبعنى �آخر‪ ،‬ال ميكن التغلب على الفقر � اّإل �إذا قام‬ ‫حي‬
‫فتزوج وانتقل للعي�ش يف الف�سطاط‪ ،‬وهو ّ‬ ‫غنيا‪ّ ،‬‬
‫الأغنياء بتمويل م�شاريع الفقراء‪ ،‬ومن جهة �أخرى‬ ‫بالقاهرة تعي�ش فيه غالبية اجلالية اليهودية التي‬
‫ي�صري �أمرا �أخالقيا �أن ُنقر�ض من لي�سوا يهودا �إذا‬ ‫تفرغ للبحث يف الالهوت‪،‬‬ ‫تقيم بالعا�صمة‪ ،‬وبه ّ‬
‫كان ذلك يف الإمكان‪ ،‬مع مراعاة عدم ا�ستغالل‬ ‫ويف الطب‪.‬‬
‫املقرت�ض بن�سب عالية جدا من الفائدة‪ ،‬كما �إ ّنه ال‬ ‫ويف �سنة ‪� ،1185‬صار «ابن ميمون» طبيبا‬
‫يجوز تقدمي قرو�ض المر�أة وحيدة ق�صد ا�ستعبادها‬ ‫للقا�ضي الفا�ضل وزير �صالح الدين الذي كان قد‬
‫( ل�ضمان تبعيتها)‪.‬‬ ‫لي�ستقر يف دم�شق‪ ،‬ويف هذه الفرتة كان «ابن‬ ‫ّ‬ ‫ذهب‬
‫كون �أبنا�ؤه‬ ‫بعد وفاة «ابن ميمون» �سنة ‪ّ ،1204‬‬ ‫ميمون» ي�ستقبل احلاخامات والعلماء امل�سلمني‬
‫عائلة حاخامات‪ ،‬وقادة جاليات ب�سطوا �سلطانهم‬ ‫املولعني بالريا�ضيات اليونانية والعلوم امل�رصية‪.‬‬
‫على اليهودية يف م�رص ح ّتى غزو البالد من طرف‬ ‫املتنورين الذين‬
‫ّ‬ ‫ويف جمع من املثقفني والتجار‬
‫العثمانيني �سنة ‪.1517‬‬ ‫ارتبكوا لل�صدام الذي حدث بني القر�آن وفكر‬
‫وقد بد�أت هذه العائلة مع �صهر �أحد �أبنائه احلاخام‬ ‫�أر�سطو‪�ُ ،‬سمع مبن يربهن باللغة العربية على � ّأن‬
‫«�أبراهام حانانيل» �أحد الأثرياء الذين ميلكون‬ ‫اليهودية تق ّدم تف�سريا عقالنيا للو�ضع‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سفة‬
‫م�صنعا لتكرير ال�سكر‪ ،‬وهو امل�س�ؤول عن جمموع‬ ‫الب�رشي‪ ،‬وذلك حني كتب كتاب «دليل احلائرين»‬
‫املحاكم احلاخامية يف م�رص‪ ،‬وكان يق�ضي يف‬ ‫وحمينا‬
‫ّ‬ ‫نحو �سنة ‪ ،1190‬متجاوزا «كتاب الآباء»‬
‫ك ّل املنازعات بني التجار الذين يجلبون التوابل‬ ‫فكر احلاخام (حلاّ ل)‪ ،‬وكَ َّي َف ك ّل ذلك مع العاملني‪:‬‬
‫من الهند والتجار الذين ي�أتون باحلرير من ال�صني‪،‬‬ ‫اليوناين وامل�سلم‪ ،‬كما عمل على عقد االن�سجام بني‬
‫ويعيدون بيعهما يف �أوروبا‪.‬‬ ‫اجلماعي والفردي‪ ،‬بني العقل والإميان‪ ،‬بني االجنيل‬
‫ويف ظرف ق�صري ُعرفت �أعمال «ابن ميمون» يف‬ ‫و�أر�سطو‪ ،‬مثلما فعل «ابن ر�شد» يف الإ�سالم‪.‬‬
‫�أو�ساط اجلاليات الهودية وامل�سيحية‪ ،‬ف�سافر التجار‬ ‫حر يف‬ ‫ووفق ما يراه «ابن ميمون» فك ّل �إن�سان ّ‬
‫بكتبه‪ ،‬وهكذا ا�ستقى الغرب امل�سيحي من م�رص‪،‬‬ ‫�أن يعي�ش الإميان كما يراه ( ميكن و�صف التوراة‬
‫وعن طريق هذا املفكّر اليهودي املبادىء الأوىل‬ ‫فقط ب�أ ّنها �إلهية‪ّ � ،‬أما بقية القوانني فهي من و�ضع‬
‫لأخالقيات الفردية العقالنية‪ ،‬ومن خالل ذلك ح ّدد‬ ‫الب�رش‪).‬‬
‫«ابن ميمون» مبادىء ف�ضل الفردية وخلود الروح‬ ‫يف عامل التجار والرحالة هذا‪ ،‬كان «ابن ميمون»‬
‫التي ا�ستوحى منها «توما�س االكويني» فيما بعد‪،‬‬ ‫يعي�ش ويدافع عن امل�س�ؤولية الفردية‪ ،‬وذهب به‬
‫كما �أر�سى قيم احلرية وامل�س�ؤولية التي تنبع منها‬ ‫الأمر �إىل اال�ستنتاج التايل‪� »:‬إن �أف�ضل �شكل لل�صدقة‬
‫�أخالقيات الر�أ�سمالية‪.‬‬ ‫هي امل�ساعدة‪ّ � ،‬إما عن طريق الهبات‪ ،‬و� ّإما عن طريق‬

‫‪277‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫خما�ض امل�صطلح‬
‫اجلديد‬
‫�إبراهيم اليو�سف‬
‫ناقد و�إعالمي من �سورية‬

‫العامل‪ ،‬بكامل �أدوات وعدد �صدمتها‪ ،‬وا�ستفزازها‪،‬‬ ‫�إن �أي متابع للخطاب الثقايف‪ ،‬على مدى عامني‬
‫من رائحة �شواء �آدمي‪� ،‬أوبيئي‪ ،‬يرتك �أثره الكبرييف‬ ‫ونيف‪ ،‬منذ ا�شتعال �رشارة البوعزيزي‪ ،‬وحتى هذه‬ ‫ِّ‬
‫نفو�سنا‪� ،‬إىل تلك الدرجة التي �رصنا ن�شعريف كل‬ ‫اللحظة‪ ،‬حتديداً‪ ،‬حيث تهيمن لغة العنف على املوج‬
‫برهة‪� ،‬أن �أية حرب جتري يف العامل‪� ،‬إمناهي جتري‬ ‫الهادر للأخبار التي تتناقلها وكاالت االنباء‪،‬‬
‫يف بلداننا‪ ،‬وبيوتنا‪ ،‬بل و�أعماقنا‪.!...‬‬ ‫وو�سائل الإعالم‪ :‬املرئي منها‪ ،‬واملقروء‪ ،‬وامل�سموع‪،‬‬
‫ومن املعروف‪� ،‬أن متكن احلدث من �أن يكون عاماً‪،‬‬ ‫على امل�ستوى العام‪ ،‬ف�إنه ليجد �أن رائحة البارود‪،‬‬
‫هم عامة‪ ،‬يف �أو�سع‬ ‫من �ش�أنه �أن ي�شكل وحدة ّ‬ ‫والدمار‪ ،‬والدم‪ ،‬هي التي تت�سيد هاتيك الأخبار‪،‬‬
‫دائرة ممكنة‪ ،‬ال�سيما و�أن هذا احلدث‪� -‬أية كانت‬ ‫�سواء تلك التي تعتمد على ال�صورة الإلكرتونية‪،‬‬
‫جغرافيته‪ -‬الميكن و�ضع �أية �سدود‪� ،‬أوجدران بينه‬ ‫�أوالتقليدية‪� ،‬إذ باتت تفر�ض نف�سها‪-‬بكل ماحتمله‬
‫ومتلقيه العاملي‪ ،‬فقد انهارت �شوكة الرقابات‬ ‫من �أمل و�أ�سى‪ -‬على ذاكرة كائن العمارة الكونية‬
‫امل�صونة‪ ،‬التي كانت تبت�رساملعلومة‪ ،‬وتق ِّدمها على‬ ‫الواحدة‪ ،‬لتجعله م�شدوداً �إىل ما يدوريف حومة‬
‫نحو حم َّدد‪� ،‬إىل تلك الدرجة التي كان من املمكن‬ ‫الف�ضاء املكاين‪ ،‬حيث ح�ضور املوت واخلوف‬
‫تكوين عددالمتناه من القراءات للحدث الواحد‪،‬‬ ‫والتوتر‪ ،‬يف �أعلى رقم قيا�سي ميكن ت�سجيله هنا‪،‬‬
‫وهوما بات ينح�رستدريجي ًاً‪.‬‬ ‫وطبيعي‪� ،‬أن املثقف‪� ،‬أي ًا كان‪ ،‬هو الأكرث تاثراً بهذا‬
‫من تعدد القراءات‬
‫الواقع‪ ،‬والأكرث ح�سا�سية‪ ،‬باعتباره �ضمرياً جمعياً‪،‬‬
‫يف �صورته النمطية‪ ،‬يف �أقل تقدير‪.‬‬
‫�إىل القراءة الواحدة‪:‬‬ ‫�إن منظر مقتل طفل �صغري‪� ،‬أو تهدم منزل فوق‬
‫�إن ثورة االت�صاالت التي �أ�رشنا �إليها‪�-‬أعاله‪-‬‬ ‫ر�ؤو�س �أ�رسته‪ ،‬كاملة‪� ،‬أو غري ذلك من � َّأمات الأحداث‬
‫ا�ستطاعت‪-‬بحق‪�-‬أن جتري ثورة معرفية موازية‬ ‫الكربى التي جتري يف �أية نقطة من العامل العربي‪،‬‬
‫يف نطاقها الكوين‪ ،‬ال�سيما و�أنه مع توافر �إمكان‬ ‫بل والعامل‪ ،‬مل تعد ت�ؤثر يف حميطها ال�ضيق‪ ،‬فح�سب‪،‬‬
‫�إي�صال املعلومة ال�صحيحة‪ ،‬بكل �صدق‪� ،‬إىل متلقيها‬ ‫و�إمنا ت�ؤثر �أبعد من هذا املحيط‪ ،‬و�أعمق‪� ،‬إىل تلك‬
‫املعومل‪-‬يف احلدود اجلغرافية يف �أقل تقدير‪ -‬مت‬ ‫الدرجة التي غدت القرية الكونية‪� ،‬أو العمارة‬
‫التخل�ص من تباينات وجهات النظر‪ ،‬حيث تقل�ص‬ ‫الكونية‪ ،‬وغريهما من امل�صطلحات التي باتت تطلق‬
‫ذلك البون ال�شا�سع بني وجهات النظر املختلفة‪،‬‬ ‫على الكرة الأر�ضية‪ ،‬التي باتت تتهاوى‪ ،‬وتت�ضاءل‪،‬‬
‫حول واقعة حمددة‪ ،‬معروفة املعطيات الأولية‪ ،‬وهو‬ ‫وتتقزم‪ ،‬يف ظل االنت�شار العمودي والأفقي‪ ،‬لو�سائل‬
‫حتول مهم يف م�سار الفكر الإن�ساين‪ ،‬و�إن كنا هنا‬ ‫الإعالم‪ ،‬وثورة االت�صاالت‪� ،‬إذ �أن ما يجري �أمام‬
‫�سنظل يف مواجهة حتديني‪:‬‬ ‫�أعيننا‪ ،‬بل وبات يداهمنا يف بيوتنا‪ ،‬ومكاتبنا‪،‬‬
‫‪-1‬ر�ؤية النخبة التي تتعامى عن قراءة الوقائع‪،‬‬ ‫من م�شاهد �أحداث �ساخنة‪� ،‬أليمة‪ ،‬يف �أي مكان يف‬
‫‪278‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫مقدرة اخلرب الإعالمي‪ ،‬على ت�شكيل منظومة خا�صة‬ ‫انطالق ًا من دواع منفعية‪ ،‬ولذلك فهي تعمد �إىل‬
‫به‪ ،‬ت�ستحوذ على درجة عليا من الت�أثريعلى اخلطاب‬ ‫موا�صلة و�سائل التزوير املعريف التي كان يتم‬
‫الثقايف العام‪� ،‬إذ �أن هناك جت�سرياً بني املعلومة ذات‬ ‫اللجوء �إليها‪ ،‬من قبل مراكز البحوث وامل�ؤ�س�سات‬
‫الطابع العلمي املعريف‪ ،‬وتلك املعلومة الإخبارية‬ ‫والهيئات التي تخدمها‪ ،‬بيد �أن ت�أثري مثل هذه الدوائر‬
‫اليومية‪� ،‬أواللحظية‪� ،‬إىل تلك احلال التي بتنا جند‬ ‫يتقو�ض على نحو وا�ضح‪ ،‬ال�سيما و�أن املتلقي‬ ‫بات َّ‬
‫فيها ا�ستبيانات و�أرقام ًا و�إح�صاءات تعتمد على هذه‬ ‫العادي‪ ،‬يف �أطراف املعمورة‪ ،‬غدا �صانع ًا للوعي‪ ،‬من‬
‫املعلومة‪ ،‬ب�أ�شكالها املتعددة‪ ،‬بل �إن هناك تخوف ًا من‬ ‫خالل طريقة تلقيه له‪ ،‬وتفاعله معه‪ ،‬وهوما ميكن‬
‫ابتالع ماهو �إعالمي ملا�سواه من م�صادراملعرفة‬ ‫اخت�صاره‪ ،‬وو�سمه بـ«حتدي ال�سلطة» التي طاملا‬
‫الكربى‪ ،‬بعد �أن غدت العالقة بينهما جد متوازنة‪،‬‬ ‫تناولها النقاد والفال�سفة واملثقفون‪ ،‬يف درا�ساتهم‬
‫وكيفية تبادل اال�ستفادة بينهماخالقاً‪ ،‬رغم وجود‬ ‫العميقة وكان له �أثره الكبري يف اخلطِّ البياين للعالقة‬
‫جتيي�ش ال�ستخدام اخلرب‪� ،‬ضمن �إطار معريف مزور‪،‬‬ ‫بني الإنتلجن�سيا وال�سلطة على مر الع�صور‪.‬‬
‫وهوما د�أبت ماكينة ال�رش على �أال تتورع عن احلفر يف‬ ‫‪ -2‬ا�ستمرار بع�ض الأو�ساط العامة‪ ،‬التي خ�ضع‬
‫م�ضامريه‪ ،‬لتحقيق �أهدافها املعروفة‪ ،‬على اختالف‬ ‫�أفرادها‪-‬فكرياً‪-‬وملدد طويلة‪ ،‬لت�أثريات الإعالم‬
‫�أ�شكالها و�أبعادها‪.‬‬ ‫امل�ضلل‪ ،‬بيد �أن مايحدث‪ ،‬هو�أن هذه الأو�ساط‬
‫تتقو�ض‪ -‬يوم ًا بعد �آخر‪ -‬بل �إنها‬ ‫�صارت دائرتها َّ‬
‫قلق اخلطاب خطاب القلق‪:‬‬
‫تتفكك‪ ،‬ال�سيما و�أن �سلطة ال�صورة الإلكرتونية‪-‬‬
‫واليخفي على متابع ال�ش�أن الثقايف والإبداعي‪� ،‬أن‬ ‫غرياملفربكة‪ ،‬متتلك طاقة �سحرية فاعلة‪ ،‬م�ؤثرة‪،‬‬
‫هناك انكفاء وا�ضح ًا يف تفاعل عدد من الأنواع‬ ‫وهي ت�ستند �إىل عمق ا�سرتاتيجي‪ ،‬الميكن اال�ستهانة‬
‫الإبداعية مع طبيعة احلدث‪ ،‬رغم توتره العايل‪،‬‬ ‫به‪ ،‬البتة‪ ،‬لأنه ميثل‪�-‬أو ًال و�أخرياً‪ -‬امل�صلحة‬
‫و�سخونته‪ ،‬بل ال�صدع الفظيع الذي يرتكه وراءه‪ ،‬يف ظ ِّل‬ ‫الب�رشية العامة‪.‬‬
‫انت�شار�آلة العنف التي حت�صد‪-‬الأخ�رضوالياب�س‪-‬يف‬
‫�آن‪ .‬حيث �أن النقلة اجلديدة يف تاريخ ثورة االت�صاالت‪،‬‬ ‫اهتزاز �صورة اخلطاب «املفربك»‪:‬‬
‫ا�ستطاعت �أن تنعك�س على كل بقعة يف خريطة العامل‪،‬‬ ‫و�إذا كان من �ش�أن ثورة االت�صاالت‪ ،‬عندما تتاح‬
‫فال تنجو �أ�رسة ما‪ ،‬من الت�أثربظالل هذا احلدث‪،‬‬ ‫لها الإمكانات واملناخات ال�صحيحة‪� ،‬أن تعيد بناء‬
‫بهذا امل�ستوى �أوذاك‪ ،‬ما خلف وراءه �أعظم �صدمة‬ ‫الإن�سان‪ ،‬يف ف�ضائه الكوين‪ ،‬م�سهمة يف تقارب‬
‫يف تاريخ الإن�سان‪ ،‬ال�سيما و�أن عيني هذا الكائن‬ ‫املفاهيم‪ ،‬وااللتفاف حول املعلومة الدقيقة‪،‬‬
‫الب�رشي باتتا مفتوحتني على �أو�سع ف�ضاء �أر�ضي‪،‬‬ ‫ال�صائبة‪ ،‬ونبذ مناف�ستها التي المتتلك م�صداقيتها‪،‬‬
‫أدق الذبذبات ال�صوتية‪،‬‬‫و�أن �أذنيه مرهونتان لتلقي � َّ‬ ‫وهوما يكون له �أقوى الت�أثرييف الأ�رسة الكونية‬
‫وهي توا�صل نقل احلدث‪ ،‬وهلم جرا بالن�سبة لبقية‬ ‫اجلديدة‪ ،‬حتى و�إن كان جهاز التلقي‪ ،‬عند هذا‬
‫حوا�سه‪ ،‬ما يجعل كثريين غري قادرين على ا�ستيعاب‬ ‫املواطن العاملي‪� ،‬سيكون يف مواجهة �صنفني من‬
‫ما يجري‪ ،‬حتت وط�أة ال�صدمة الكربى‪ ،‬بل �إننا ملا نزل‬ ‫املعلومات‪� :‬أولهما �سهل التفاعل معه‪ ،‬وثانيهما‬
‫من يهرول ملتابعة الق�ضايا الهام�شية‪ ،‬النافلة‪ ،‬ليكون‬ ‫حتول بع�ض تراكمات الر�ؤى ال�سابقة‪-‬على اختالف‬
‫احل�سا�سة‪،‬‬
‫ذلك على ح�ساب معاجلة الق�ضايا الكربى َّ‬ ‫بواعثها‪ -‬دون التفاعل الإيجابي ال�رسيع معها‪،‬‬
‫و�إذا كان احلديث هنا عن م�ستوى من يتفاعل مع‬ ‫وهوما ميكن لعامل الزمان �أن يزيل الكثريمن العوالق‬
‫احلدث يف احلدود الدنيا‪ ،‬ف�إن خطابه ال يعدو �أن يكون‬ ‫غرياملتما�شية مع الوعي والذائقة الب�رشيني العامني‪.‬‬
‫انعكا�س ًا ال�ستجابته لل�صدمة ذاتها‪ ،‬و�إن احلديث عن‬ ‫لقدمرت دورة املعرفة‪ ،‬مبف�صل ج ّد مهم‪ ،‬وهومف�صل‬
‫َّ‬
‫‪279‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫حلظة وعي فردية‪ ،‬جماعية‪ ،‬م�ؤ�س�سية‪ ،‬جمتمعية‪،‬‬ ‫تلك ال�رشائح والتكوينات التي تن�رصف النبهارها‬
‫�أكادميية‪ ،‬قطرية‪ ،‬كونية‪ ،‬و�إمنا على منظومة الوعي‬ ‫�أمام ما يتم‪ ،‬لي�ستدعي‪-‬حقاً‪ -‬وقفات مطولة‪� ،‬ضمن‬
‫العام‪ ،‬داخل اجلغرافيا امل�ؤطرة‪ ،‬وخارجها‪ ،‬بل وداخل‬ ‫خمترب التحليل والدرا�سة اخلا�صني‪.‬‬
‫اخلط الزماين املح َّدد‪ ،‬وخارجه‪ ،‬على حد �سواء‪ ،‬لأن‬
‫خما�ض امل�صطلح اجلديد‪:‬‬
‫حلالة الوعي فعل ال�سحر‪� ،‬سواء �أمتكنا من تتبع منابعه‬
‫وم�صابه ومظانه �أوال‪ ،‬فالأمر �سيان‪ ،‬لأن ا�ستجاباتنا‬ ‫�إذا كانت والدة امل�صطلح اجلديد‪ ،‬تتعلق بدورة الزمان‬
‫لها‪ ،‬ال تت�أثر بدرجة وعينا واكت�شافنا لها‪ ،‬و�إمنا‬ ‫واحل�ضارة‪ ،‬على ال�صعد كافة‪ ،‬الثقافية‪ ،‬والفكرية‪،‬‬
‫تغدو خارج كل ذلك‪� ،‬سواء �أ�صدرت عنا‪� ،‬أو كنا جمرد‬ ‫وال�سيا�سية‪ ،‬والفنية‪ ،‬والإبداعية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬ك�أحد‬
‫منفعلني مع ت�أثرياتها العامة‪.‬‬ ‫معطيات احلراك الإن�ساين‪ ،‬وجتلياته‪ ،‬تبع ذلك‪ ،‬ف�إنه‬
‫�إن احلديث عن عامل امل�صطلح‪ ،‬لي�ستحق درا�سات‬ ‫ميكن اعتبار ن�ش�أة امل�صطلح‪ ،‬منذ بداية �إرها�صات‬
‫طويلة‪ ،‬من خالل هذا املنظور‪-‬حتديداً‪ -‬و�إن كنا‬ ‫التفكري لدى الكائن الآدمي‪� ،‬أحد مقايي�س تطور الوعي‬
‫يف الغالب‪ ،‬نتوقف �أثناء ا�ستقراءاتنا له‪ ،‬عند حدود‬ ‫لديه‪ ،‬حيث �أن �أي �إجناز معريف‪ ،‬ب�أبعاده‪ ،‬واجتاهاته‪،‬‬
‫معجميته‪ ،‬وا�ستخداماته الوظيفية‪ ،‬مدر�سياً‪� ،‬أو‬ ‫و�أ�شكاله‪ ،‬املتعددة‪ ،‬املذكورة‪ ،‬ليرتجم م�صطلحياً‪،‬‬
‫�أكادميياً‪ ،‬بيد �أنه من املمكن‪-‬كذلك‪ -‬معاينة‬ ‫من خالل �إ�ضافة وم�ضة �ضوء‪� ،‬أو مفردة‪ ،‬يف معجم‬
‫امل�صطلح يف حلظة �إرها�صاته و متخ�ضاته‪ -‬خالل‬ ‫امل�صطلحات‪ ،‬كي ميكن ا�ستقراء تاريخ هذا الوعي‪،‬‬
‫مير بها‪ ،‬ولع َّل اللحظة‬
‫حلظات التحول الكربى التي ُّ‬ ‫من خالل �سريورة امل�صطلح و�صريورته‪ ،‬وليكون‬
‫املعي�شة‪ ،‬منذ تبلور مفهوم الغال�سنو�ست‪ ،‬وترجمته‪،‬‬ ‫امل�صطلح حا�ضن ًا حلركة املعرفة‪ ،‬منذ ت�شكيالتها‪،‬‬
‫وتفكك االحتاد ال�سوفييتي‪ ،‬و�سقوط �أحد القطبني‬ ‫ومتظهراتها البدائية‪ ،‬وحتى اللحظة احلالية التي‬
‫العامليني‪ ،‬وهيمنة �أحدهما �إىل وقت طويل‪ ،‬و�سقوط‬ ‫ت�شهد فيها ت�شعباتها‪ ،‬وميادينها الهائلة‪ ،‬واملختلفة‪،‬‬
‫جدار برلني‪-‬بغ�ض النظر عن تقومياتنا لهذا الفعل‬ ‫�إىل درجة التناق�ض‪ ،‬والتالغي‪.‬‬
‫التاريخي الكبري �أو ذاك‪-‬ف�إننا �أمام حتوالت هائلة‪،‬‬ ‫وبدهي‪ ،‬وفق هذه التقدمة‪� ،‬أن معجمات امل�صطلحات‬ ‫ٌّ‬
‫جذرية‪ ،‬يف م�ستوى وعينا بالأ�شياء‪ ،‬ال�سيما و�أن‬ ‫املتعددة‪ ،‬هي عبارة عن م�ؤ�شورات تدلُّ على‬
‫التاريخ بات يتعدى �إطاراته م�سبقة ال�صنع‪ ،‬وكالةً‪،‬‬ ‫تلك الفتوحات الفكرية الإبداعية ‪-‬على اختالف‬
‫بل بات ي�سجل مقارباته التدريجية‪ ،‬من روح املعني‬ ‫جماالتها‪ -‬والتي حققتها جتربة الآدمي‪ ،‬وهي‬
‫الأول ب�صناعته‪ ،‬وهذا ما�سي�سهم يف تغيريات جذرية‪،‬‬ ‫عالمات حفره يف هاتيك امليادين‪� ،‬أية كانت وجهة‬
‫تدعونا‪-‬يف قادمات الأيام‪�-‬أمام وقائع‪ ،‬وحاالت‬ ‫هذه الأحافري‪ ،‬ما�ضياً‪-‬كما هو احلال يف تناول‬
‫جديدة‪ ،‬ترتجم �أ�سئلة الكائن امل�سلوب‪ ،‬وحلظته‬ ‫الرتاث والفلكلور‪�-‬أو واقع ًا كما هو حال الإجناز‬
‫احللمية التي ت�شكلت‪-‬جي ًال بعد جيل‪-‬يف خمترب‬ ‫العلمي والإبداعي والفكري‪�-‬أو م�ستقبالً‪ ،‬وهو احلامل‬
‫وعيه‪ ،‬ومعاناته‪ ،‬وحاجاته العليا التي حجرعليها‪،‬‬ ‫لكل هذه ال�رضوب‪ ،‬جمتمعة‪ ،‬داخ ًال يف �إطارها كلُّ‬
‫طويالً‪ ،‬ك�أحد �أ�شكال القهر الباهظة التي بات يرف�ض‬ ‫احتمال يت�ساوق مع العوامل التي ت�شكل امل�صطلح‪،‬‬
‫دفعها‪ ،‬و�إن كان �سيقدم لقاء ذلك �رضيبته الكربى‪،‬‬ ‫ك�إ�شارة �سيميائية‪ ،‬مل تت�شكل اعتباط ًا البتة‪.‬‬
‫مادام �أنه لي�س لدى املرء �أغلى من حياته البتة‪.!...‬‬ ‫و�إذا كان ف�ضاء امل�صطلح مفتوح ًا على انعكا�سات‬
‫ومن هنا‪ ،‬ف�إن يف تناولنا ملو�ضوعة خما�ضات‬ ‫دورة الزمان‪ ،‬يف اجتاهاتها الثالثة‪� ،‬أو �أبعادها‬
‫امل�صطلح اجلديد‪ ،‬ت�أكيداً على �أمر ج ّد مهم‪ ،‬وهو‬ ‫الثالثة‪ ،‬وهي اجتاهات و�أبعاد ال ميكن �أن تنف�صل عن‬
‫�أن الآفاق لي�ست م�سدودة قط‪ ،‬كما يتوهم بع�ض‬ ‫بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬وذلك لأن لتفاعالتها الداخلية ت�أثريها‬
‫املت�شائمني‪ ،‬و�إن احلياة املفتوحة على كل جديد‪،‬‬ ‫العميق لي�س على امل�صطلح كمنتج‪ ،‬مت ت�شكيله �ضمن‬
‫‪280‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫م�ضطراً �أن يعي�ش بعيداً عن �سواه‪� ،‬سواء �أكان يف قريته‪،‬‬ ‫و�إننا على موعد –دائم‪-‬مع ما هو جديد مع املنجز‬
‫�أو ال�شارع الذي ي�سكنه‪� ،‬أويف حيه‪� ،‬أويف مدينته‪� ،‬أويف‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬و�إن �رشيط الزمان الذي �شهد والدة بداية‬
‫بلده القطري‪ ،‬حيث احلدود القائمة‪ ،‬مابني امل�شرتك‬ ‫حالة الوعي‪ ،‬فهو م�ستمر‪ ،‬يف توفري �سبل ا�ستمرارية‬
‫العام‪ ،‬واخل�صو�صية �ضمن الأ�رسة الواحدة‪ ،‬وهو ما‬ ‫الوعي‪ ،‬على اعتبار الوعي تو�أم الوجود واحلياة‬
‫كان يرتب غربة حقيقية بني �أبناء هذه املجتمعات‪،‬‬ ‫والتجربة‪ ،‬و�إننا على موعد مع مواليد م�صطلحية‬
‫حيث كان كل منها يعي�ش يف عزلته‪ ،‬و�إن كنا لنجد‬ ‫جديدة‪� ،‬ستتم ت�سمياتهم وفق درجات �إجنازاتها‬
‫�أن التعوي�ض عن هذه العزلة‪ ،‬يتم من خالل الرتكيز‬ ‫املتعددة‪ ،‬يف زمن التحوالت الأعظم‪.!.......‬‬
‫على الإطار النظري اجلامع الذي مل ت�صمد ه�شا�شته‪،‬‬ ‫نحوخطاب ثقايف‬
‫يف �أمثلة كونية كثرية‪ ،‬وذلك لأن العامل النظري‪ ،‬مل‬ ‫يف م�ستوى الأ�سئلة الراهنة‪:‬‬
‫تتوافر له ظروف التطبيق الفعلي‪ ،‬بل كان يتماهى يف‬
‫�إهاب ال�شعار‪ ،‬الذي يتم فر�ضه‪ ،‬عمودياً‪ ،‬و�أفقياً‪ ،‬من‬ ‫من ميعن النظر‪ ،‬يف جممل التحوالت الكربى التي‬
‫ين‪ -‬ف�إنه لواجد‪ ،‬بال �شك‪� ،‬أن الكثري‬‫تتم‪-‬على نحو كو ِّ‬‫ُّ‬
‫دون �أن يكون ناجم ًا عن قناعات �ضمنية‪ ،‬تعد هي‬
‫من املق ّدمات التي طاملا كان يعتمد عليها‪ ،‬من‬
‫ال ّأ�س الرئي�س‪ ،‬والعمود الفقري‪ ،‬يف ما لو مت تقبلها‬
‫قبل‪،‬يف �صياغات ر�ؤاه‪ ،‬وا�ستنتاجاته‪ ،‬و�سلوكه‪ ،‬قد‬
‫على نحو روحي‪� ،‬ضمني‪ ،‬عرب الإميان احلقيقي بها‪،‬‬
‫طر�أت عليها تغريات وتبدالت كثرية‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫بعيداً عن �أية �سطوة �أو �سلطة‪.‬‬
‫طبيعة جملة الو�شائج امل�ستجدة التي تربط بالآخر‪،‬‬
‫ولقد �أتاحت امليديولوجيا اجلديدة‪ ،‬يف نقلتها‬
‫يف ظل االنفتاح اجلغرايف اجلديد‪� ،‬ضمن ما ن�صطلح‬
‫طراً‪ ،‬يف‬‫العظمى‪ ،‬وهي الثورة الأ�سبق‪ ،‬والأكرب‪َّ ،‬‬ ‫عليه‪ ،‬بـ«�سكان العمارة الواحدة» حيث �أن التوا�صل‬
‫الت�أثري‪-‬عميقاً‪ -‬يف العامل الروحي للكائن العاملي‪،‬‬ ‫مع الآخر‪َّ � ،‬أي ًا كان‪ ،‬بات يتم عرب احلوا�س الكاملة‬
‫من دون �أن يدرك‪ ،‬و�إن كنا‪-‬هنا‪�-‬أمام �إيجابيات ما‪،‬‬ ‫تتم من‬
‫للإن�سان‪ ،‬بل �إن الفا�صل ال َّزماين الذي كانت ُّ‬
‫بيد �أن هناك‪-‬يف املقابل‪-‬خماطر كثرية‪ ،‬البد من‬ ‫خالله عملية التوا�صل االجتماعي‪ ،‬قد و�صلت �إىل‬
‫ين‬
‫�أن يتم االنتباه �إليها‪ ،‬وذلك من خالل ا�ستقراء كو ّ‬ ‫«درجة ال�صفر‪ ،‬فما عاد العامل الزماين ي�سهم يف‬
‫عام‪ ،‬لت�أثريات �إمرباطورية الإعالم الكونية‪ ،‬يكون‬ ‫تراخي التوا�صل‪� ،‬أوفر�ض القطيعة‪ ،‬وبدهي �أن مثل‬
‫لكل �أ�صحاب اخل�صو�صيات ح�ضورهم‪ ،‬و�رشاكتهم‪،‬‬ ‫هذه التغريات اجلذرية لتنعك�س على طريقة تفكري‬
‫كي يح�صنوا �أنف�سهم �أمام واقع املحو املحدق على‬ ‫الكائن الآدمي‪� ،‬أينما كان‪.‬‬
‫نحو جدي‪.‬‬ ‫�إن ا�شرتاك حا�سة النظر‪ ،‬يف تلقي ال�صورة الإلكرتونية‪،‬‬
‫وت�أ�سي�ساً‪ ،‬على كل ما �سبق‪ ،‬ف�إن العامل قد بات‪-‬‬ ‫على نحو وا�سع‪ ،‬من �ش�أنه �أن ي�ؤ�س�س ملرحلة جديدة‪،‬‬
‫بحق‪ -‬يف ربع القرن الأخري‪-‬وب�شكل �أو�ضح‪-‬‬ ‫من العالقات بني املجتمعات الإن�سانية التي امحَّ ت‬
‫�أمام ت�أثريات كثرية‪ ،‬يخ�ضع لها روحياً‪ ،‬وفكرياً‪،‬‬ ‫احلدود‪ ،‬واحلواجر بينها‪ ،‬وباتت تعي�ش على امتداد‬
‫و �سايكولوجياً‪ ،‬وهو ما بات يرتك �أثره العميق‬ ‫الأربع والع�رشين �ساعة يف اليوم‪ ،‬هاج�س الروح‬
‫يف عامل الإن�سان‪ ،‬بل �إنه مع اندياح دائرة الت�أثري‬ ‫اجلماعية‪ ،‬حيث �أن م�شاركة الآخر‪� ،‬أي ًا كان‪ ،‬يف �أمله‪،‬‬
‫�إىل احل ِّد الأعظمي‪ ،‬ف�إن الباب بات مفتوح ًا �أمام‬ ‫و�أمله‪ ،‬يف فرحه‪ ،‬وحزنه‪ ،‬يف هزائمه‪ ،‬وانت�صاراته‪،‬‬
‫�صياغة»خطاب جديد»‪ ،‬متفاعل‪ ،‬وناجم‪ ،‬عن كل‬ ‫يف انك�ساراته و�أحالمه‪ ،‬بات �أمراً واقع ًا ال مفر منه‪،‬‬
‫مثل هذه املعطيات واملقدمات التي ي�شهدها‪ ،‬بل‬ ‫وهو �أمر جد مهم يف تغيري طريقة الر�ؤية‪ ،‬يف ظل هذا‬
‫يعي�شها العامل‪� ،‬أجمع‪ ،‬وهو�أرومة «النظرية» الكونية‪،‬‬ ‫الواقع اجلديد الذي يلقي بظالله يف كل مكان‪.‬‬
‫�أو»النظرية» نف�سها‪!...‬‬ ‫الب ّد من االعرتاف‪� ،‬أن الإن�سان‪-‬يف ما قبل‪ -‬كان‬
‫‪281‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متثيل الآخر فـي رواية‬
‫«روائح ماري كلري»‬
‫حممد بوعزة‬
‫باحث و�أكادميي من املغرب‬

‫حتديدا لأنها حتب الر�سائل والطرود والربقيات وكل‬ ‫ت�شخ�ص رواية «روائح ماري كلري‪ »1‬للروائي‬
‫ما له عالقة بالربيد منذ �صغرها‪)16( ).‬‬ ‫التون�سي احلبيب ال�ساملي‪ ،‬املقيم يف فرن�سا‪ ،‬ق�صة‬
‫ذات يوم يف مقهى بباري�س‪ ،‬وبينما حمفوظ م�ستغرق‬ ‫حب يف باري�س بني حمفوظ‪� ،‬شاب ينحدر من قرية‬
‫يف القراءة‪ ،‬يلفت نظره وجه ماري كلري يف املر�آة‬ ‫«املخاليف» بتون�س‪ ،‬وماري كلري فتاة فرن�سية‬
‫املقابلة للطاولة التي يجل�س فيها‪ .‬كانت جتل�س‬ ‫‪ .‬حمفوظ ي�شتغل ليال يف اال�ستقباالت يف فندق‬
‫خلفه وهو ي�سرتق النظر �إليها يف املر�آة‪ .‬وبفعل‬ ‫ميلكه مهاجر جزائري‪ ،‬ويف النهار ي�شتغل ك�أ�ستاذ‬
‫قانون اجلذب‪ ،‬بد أ� يهتم بها (وحني رفعت ر�أ�سي من‬ ‫متعاقد يف اجلامعة الفرن�سية يلقي درو�سا يف الأدب‬
‫جديد بعد وقت طويل بد�أت �أهتم بها ‪..‬العنق الطويل‬ ‫العربي‪ .‬ا�ستقر يف املهجر الفرن�سي‪ ،‬لأنه يخاف‬
‫امل�ستقيم هو �أول ما لفت انتباهي‪..‬ولكن بالرغم من‬ ‫العودة �إىل بلده تون�س‪ ،‬فيتم احلجز على جواز �سفره‬
‫ذلك �شعرت ب�شيء يجتذبني يف هذا الوجه املدور‪..‬‬ ‫(كنت �أخ�شى �إن عدت �إىل تون�س �أن �أبقى حمبو�سا‬
‫ركزت ب�رصي على وجهها‪ .‬وكلما نظرت �إليه ازددت‬ ‫هناك لفرتة طويلة و�أن �أنقطع دفعة واحدة وب�شكل‬
‫حاد عن زيارة باري�س‪ ،‬فقد كانوا يحجزون جوازات‬
‫كل الذين يعودون �إىل تون�س بعد فرتة طويلة من‬
‫الإقامة خارجها للت�أكد من عقولهم مل تتلوث و�أن‬
‫حبهم للوطن ال يزال �صادقا) (‪.)15‬‬
‫ماري كلري‪� ،‬شابة جامعية جتاوزت الثالثني‬
‫(انقطعت عن درا�سة التاريخ واجلغرافيا يف جامعة‬
‫نانتيز من دون �أن تكمل اللي�سان�س‪ ،‬لأنه مل تعد‬
‫تريد �أن ت�صبح �أ�ستاذة مثلما كانت حتلم بذلك‪.‬‬
‫عينت منذ �أ�شهر قليلة موظفة يف دائرة الربيد‬
‫والربق والهاتف يف �شارع مونبار�س بعد جناحها‬
‫يف مناظرة للوظيفة العمومية‪ .‬اختارت العمل يف‬
‫الربيد لأن القطاع العام ي�ضمن لها خالفا للقطاع‬
‫اخلا�ص ال�شغل طوال حياتها‪ ..‬فماري كلري ال حتب‬
‫�أن جتد نف�سها يف يوم من الأيام عاطلة عن العمل‪..‬‬
‫كان ب�إمكانها مثال �أن تعرث على �شغل يف القطاع‬
‫العام له عالقة مبا در�سته يف اجلامعة بعامل الكتب‬
‫واملدار�س‪� .‬أمينة مكتبة مثال‪ .‬لكنها اختارت الربيد‬
‫‪282‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫لتناوله‪ .‬بعد فرتة ق�صرية �أ�صبحت �أكرث حر�صا مني‬ ‫اجنذابا �إليه‪.).‬‬
‫على االغت�سال قبل تناول �أي �شيء‪�( « .‬ص‪)6/5‬‬ ‫يبت�سم لها‪ ،‬وترد عليه بابت�سامة‪ ،‬ينتقل �إىل طاولتها‪،‬‬
‫يف التفاعل مع هذا الأفق اجلديد الذي تطرحه زمنية‬ ‫ثم ي�رشعان يف الكالم ك�إجراء تد�شيني حلكاية حب‬
‫االختالف الثقايف‪ ،‬تعي�ش الذات جتربة اكت�شاف‬ ‫تبد�أ بتبادل النظرات‪( .‬يف ذلك اللقاء الأول ويف ذلك‬
‫الآخر‪ ،‬وعرب هذه التجربة املعا�شة بوعي مزدوج‪،‬‬ ‫املقهى الذي دلفت �إليه م�صادفة علمت �أ�شياء كثرية‬
‫تتم �إعادة بناء الذات يف �ضوء يف خربات متبادلة‪.‬‬ ‫عن �أول امر�أة حقيقية يف حياتي‪. )16( ).‬‬
‫ويف �سياق هذا الوعي املزدوج الذي يدرك العامل من‬ ‫من هذا اللقاء‪ /‬ال�صدفة تن�ش�أ بينهما عالقة حب‬
‫�رشفة االنفتاح‪ ،‬يتم حتويل الغرابة �إىل �ألفة‪.‬‬ ‫حقيقية‪ ،‬حيث تقرر ماري مع تعمق ال�صداقة‬
‫يف بداية العالقة ي�ستغرب حمفوظ �إ�رصار ماري‬ ‫بينهما‪،‬االنتقال للعي�ش معه يف بيته‪ ،‬وتبد أ� حكاية‬
‫كلري على اخلروج لتناول الطعام خارج البيت‪،‬‬ ‫احلب‪�( :‬أحب وجه ماري كلري ال ب�سبب ال�شفتني اللتني‬
‫وال ويفهم هذا االحتفاء اجلماعي بالطعام‪ ،‬لأنه‬ ‫كنت �أ�شتهيهما با�ستمرار‪ ،‬وال لأنه ينطوي على قدر‬
‫يختلف عن عاداته الأ�صلية‪ ،‬لكنه مع عي�ش هذه‬ ‫من اجلمال‪ ،‬و�إمنا لأنه مدور �أنثوي وخ�صو�صا‬
‫التجربة اجلديدة وتواليها‪� ،‬سيكت�سب خربات جديدة‬ ‫مريح‪ .‬منه ي�شع خليط من الألفة والعفوية والهدوء‬
‫‪� .‬إ�ضافة �إىل خربته الأ�صلية‪� ،‬سينفتح على عامل‬ ‫والذكاء‪� .‬أحيانا �أنظر �إليه ف�أ�شعر كما لو �أين �أنظر‬
‫الفن وامل�رسح وال�سينما‪ .‬و�سي�شكل هذا االنفتاح ثراء‬ ‫�إىل وجه طفلة ال وجه امر�أة جتاوزت الثالثني‪�( ).‬ص‬
‫ملداركه و�إ�ضافة نوعية خلربته‪ (:‬يف بع�ض الأحيان‬ ‫‪)9/8‬‬
‫تبدي رغبة وا�ضحة يف ق�ضاء ال�سهرة خارج البيت‪.‬‬ ‫تنمو هذه العالقة ب�شكل طبيعي مفعم باحلب‬
‫وبالرغم من �أين ال �أحتم�س كثريا لذلك‪..‬اكت�شفت‬ ‫وال�شفافية والألفة‪ ،‬لكن مع مرور ال�شهور‪ ،‬وبفعل‬
‫ب�رسعة �أن ما ت�سميه «اخلروج» �شيء �أ�سا�سي بالن�سبة‬ ‫قانون الرتابة‪ ،‬يتعر�ض م�سار العالقة لبع�ض‬
‫�إليها‪...‬ال�شيء الوحيد الذي يزعجني هو الذهاب‬ ‫التوترات والفجوات‪ ،‬حيث تطفو على �سطح العالقة‬
‫�إىل مطعم‪ ،‬ف�أنا مل �أفهم كل هذا االحتفاء اجلماعي‬ ‫بع�ض االختالفات التي مت �إرجا�ؤها يف غمرة ن�شوة‬
‫بالطعام الذي من املفرو�ض �أن يتناوله الإن�سان‬ ‫احلب وده�شة الإعجاب‪ .‬تتطور هذه االختالفات‬
‫بتوا�ضع بل وب�شيء من االحت�شام لأنه نعمة ربي‬ ‫وتقع القطيعة �أحيانا بينهما‪ ،‬ورغم حماوالت ترميم‬
‫كما تردد �أمي‪ ..‬لكن ينبغي �أن �أ�شري اىل �أن اخلروج‬ ‫العالقة من طرفهما‪� ،‬إال �أنها تنتهي �إىل الفراق‪.‬‬
‫�أفادين‪� ،‬إذ �أنه جعلني �أكت�شف �أهمية ال�سينما التي‬ ‫و�إذا كانت بع�ض مظاهر االختالف الثقايف بني‬
‫�رصت معجبا بها منذ ذلك الوقت‪ ،‬متاما مثلما كنت‬ ‫العا�شقني تتجلى يف طرائق العي�ش‪ ،‬مثل املطبخ‪،‬‬
‫معجبا ب�شعر ال�صعاليك املغمورين»‪�( .‬ص‪)33/32‬‬ ‫والعالقة باجل�سد والبيئة‪ ،‬والنباتات‪ ،‬واالحتفال‬
‫�إنها جتربة امتزاج الآفاق التي تعا�ش يف زمنية‬ ‫بالعطل‪ ،‬ف�إن هذا االختالف الثقايف مل ميثل عائقا‬
‫االختالف الثقايف بني الآن (�أكت�شف‪ )..‬وهناك (كنت‬ ‫يف توا�صل الطرفني‪ ،‬بل �شكل «ف�ضاء ثالثا‪»2‬‬
‫معجبا)‪.‬‬ ‫بتعبري «هومي بابا» لإنتاج خربات تبادلية �أغنت‬
‫العالقة بينهما‪ ،‬مبا قدمته من �أفق جديد لالنفتاح‬
‫تفكيك الن�سق‪ :‬من حكاية الث�أر �إىل حكاية احلب‬ ‫على ثقافة الآخر‪ « :‬ملا تعمقت �صداقتنا و�صارت‬
‫على نقي�ض الرواية احل�ضارية ت�شخ�ص رواية‬ ‫حميمية �أكرث من �أي وقت م�ضى‪� .‬أبديت ده�شتي‪.‬‬
‫«روائح ماري كلري» عالقة احلب بني حمفوظ‬ ‫و�شيئا ف�شيئا �أقنعتها ب�أن تتخلى عن هذه العادة‬
‫وماري‪ ،‬خارج ن�سق « ال�شفرة الكولونيالية» التي‬ ‫ال�سيئة‪ .‬الطعام �شيء مقد�س‪ .‬الطعام نعمة ربي كما‬
‫فر�ضت جمالياتها املانوية على �سيا�سات التمثيل‪،‬‬ ‫تردد �أمي كنت �أقول لها‪ .‬وال بد �أن نكون نظيفني‬
‫‪283‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫يف امليرتوبول « من ورطة االغرتاب الكولونيايل‪،‬‬ ‫مبا جعل الذات يف الرواية احل�ضارية ت�ؤكد هويتها‬
‫«�أي عدم يقني املوقع الروحي املفرو�ض نتيجة‬ ‫يف م�سار ال�رصاع القائم مع القوى الكولونيالية‪،‬‬
‫التمايز بني املركز والطرف‪»)5(.‬‬ ‫وت�أكيد اختالفاتها الأنطلوجية واالب�ستيملوجية‬
‫�إنه يقيم يف باري�س منذ ع�رش �سنوات على تعرفه‬ ‫مع فرو�ض املركز الإمرباطوري‪ .‬وب�سبب ذلك‪ ،‬تبدو‬
‫على ماري كلري‪ ،‬يعي�ش فيها ب�شكل طبيعي‪،‬‬ ‫رواية «ماري كلري» غري معنية بتفكيك �أر�شيف‬
‫مت�أقلما مع �إيقاعها ومنط العي�ش فيها وزمنيتها‬ ‫الكولونيالية ‪ ، decolonization‬الذي ميثل رهان الرواية‬
‫الكو�سموبوليتية‪� ،‬إال �أن هذا التكيف مل ميح من‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬مبا يقت�ضيه من طرح ا�ستنطاقات‬
‫ذاكرته طفولته وم�سقط ر�أ�سه يف تون�س‪ .‬ففي حلظات‬ ‫وتفكيكات لكثري من الت�شييدات التي ترتكز عليها‬
‫ال�صمت والفتور بينه وبني ماري كلري‪ ،‬كان يلج�أ �إىل‬ ‫تواريخ ال�رشق والغرب‪.‬‬
‫ا�ستعادة طفولته يف «قرية املخاليف» بتون�س‪ ،‬كنوع‬ ‫و�إذا كانت الرواية احل�ضارية يف �سياق متوقعها‬
‫من املالذ الرمزي ملواجهة برودة حلظة احلا�رض ‪.‬‬ ‫على م�سافة اب�ستيمولوجية من الغرب‪ ،‬اتخذت من‬
‫وال يعاين حمفوظ �أية م�شكلة يف وجوده بالغرب‪.‬‬ ‫ال�رسد �إ�سرتاتيجية م�ضادة «للرد بالكتابة(‪ »)3‬على‬
‫يعي�ش حياة عادية يف املجتمع الفرن�سي‪ ،‬دون حقد‬ ‫�أطروحات الغرب‪ ،‬ف�إن بطل رواية «روائح ماري‬
‫تاريخي‪ ،‬مكبل يف اال�ستيهامات الكولونيالية‪� ،‬أو‬ ‫كلري» يك�رس هذه امل�سافة‪ ،‬ويعي�ش جتربته العاطفية‬
‫وعي تلقائي واقع يف �إغراء انبهارات �ساذجة‪.‬‬ ‫يف الغرب متحررا من تواريخ الكولونيالية‪ ،‬بحيث‬
‫بامل�صادفة االعتباطية يتورط حمفوظ يف حب‬ ‫يتحرر ال�رسد من ثقل التاريخ و ين�ساب يف خفة‬
‫ماري كلري ب�سحر جاذبية ملتب�سة‪ ،‬ال ت�سلم �سوى‬ ‫ه�شا�شة جوانية‪ ،‬غري حمكومة ب�سطوة الن�سق‪،‬‬
‫مبنطقها اخلا�ص‪ ،‬غري معنية بلعبة �رصاع ال�رشق‬ ‫تتطور يف �شكل انتقاالت مفاجئة يحكمها منطق‬
‫والغرب يف الرواية احل�ضارية‪ .‬ميار�س عالقة احلب‬ ‫التجاذبات‪ ،‬الذي يفر�ضه تذبذب االنفعاالت‬
‫حمررا من جدل القهر الكولونيايل والعنف اجلن�سي‬ ‫والأفعال وردود الفعل يف كل ق�صة حب بني رجل‬
‫‪ .‬وبالتايل ال يقع يف لعبة املثاقفة امليرتوبولية‪،‬‬ ‫وامر�أة‪.‬‬
‫وي�سلم مبنطقها‪ ،‬بتجني�س عملية املثاقفة‪ ،‬والقبول‬ ‫ولأن املحكي يف «روائح ماري كلري» يتحرر من‬
‫ال�شعوريا‪ « ،‬على الأقل ب�أن يقيم عالقة ت�ساو ومتاه‬ ‫�سلطة الن�سق‪ ،‬ف�إن احلب كعالقة �إن�سانية �أ�صيلة‪،‬‬
‫بني الثقافة والرجولة‪»..)6(.‬‬ ‫يعو�ض �صورة العنف اجلن�سي الذي هيمن يف الرواية‬
‫خالفا لهذا املنطق ال�رشقي الفحويل‪ ،‬ال يقع حمفوظ‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬التي مثل فيها العنف «رمزا لل�رصاع‪،‬‬
‫مثل «م�صطفي �سعيد» يف �رشاك وهم يختلق �صورة‬ ‫حيث ال يتحقق االلتحام �إال بالدمار(‪ »)4‬لكن رواية‬
‫جمن�سة للعالقات بني احل�ضارات‪ ،‬حتول العالقة مع‬ ‫« روائح ماري كلري « ب�إحاللها جماز احلب حمل‬
‫الغرب �إىل عالقة جن�سية‪ ،‬تقوم بت�أنيث الغرب يف‬ ‫جماز العنف‪ ،‬ت�ؤكد �أن التفاعل يحدث عرب احلياة‬
‫مقابل ذكورة ال�رشق على قاعدة التفوق اجلن�سي‬ ‫امل�شرتكة يف �سياق االنفتاح واخلربات املتبادلة‬
‫للرجل ال�رشقي الفحل‪ .‬فالعالقة بني حمفوظ وماري‬ ‫التي يج�سدها عامل احلب بني حمفوظ وماري كلري‪.‬‬
‫كلري تروى يف جوانبها الإن�سانية الفردية امل�رشقة‪،‬‬ ‫ال يعيد حمفوظ متثيل دور «البطل احل�ضاري»‪ ،‬لأن‬
‫كعالقة حب «مبا هو هبة املرء للذات وجل�سده‪ ،‬هو‬ ‫ق�صة احلب تروى يف ن�سق النموذج الفردي‪ ،‬جمردة‬
‫�شيء مقد�س‪ ،‬م�ستبعد من التبادل ال�سلعي‪ ،‬تفرت�ض‬ ‫من �رصاع ال�رشق والغرب‪ ،‬وال ي�سند له فيها دور‬
‫وتنتج عالقات دائمة وغري م�ؤقتة‪»)7(.‬‬ ‫البطل ال�رشقي الفحل الذي يث�أر جلروح �أمته للدفاع‬
‫يف عالقة احلب كعامل ي�ستبدل منطق التبادل ال�سلعي‬ ‫عن تراثها و�أ�صالتها ‪ .‬وهو على نقي�ض «م�صطفي‬
‫مبنطق التبادل الإن�ساين‪ ،‬تبنى العالقة بني الرجل‬ ‫�سعيد» بطل «مو�سم الهجرة �إىل ال�شمال»‪ ،‬ال يعاين‬
‫‪284‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫و�إذا ما كان بطل الرواية احل�ضارية‪ ،‬ب�سبب وط�أة‬ ‫واملر�أة يف �أفق م�شرتك على قيم امل�ساواة والقبول‬
‫الإح�سا�س بالقهر الكولونيايل «يلوذ مبا�ضيه‬ ‫والرتا�ضي املتبادل‪ ،‬بغ�ض النظر عن �سيا�سات‬
‫احل�ضاري الذي يفرت�ض فيه �أنه ينم هو الآخر عن‬ ‫اجلن�س‪ ،‬واختالف املرجعيات الثقافية‪.‬‬
‫رجولة‪ .‬ويبعث الرتاث الأدبي القومي‪ ،‬الذي كان قبل‬ ‫وبا�شرتاع هذا الأفق الإن�ساين الذي حتيل عليه‬
‫ال�صدمة الكولونيالية‪ ،‬ن�سيا من�سيا‪ ،‬يخامر مثقف‬ ‫حكاية احلب بني حمفوظ وماري كلري يف العالقة‬
‫امل�ستعمرة ال�سابقة �شعور مزهو بالرجولة‪ ،‬هو‬ ‫مع الآخر‪ ،‬يتحرر حمفوظ من الوعي الق�ضيبي‬
‫ب�أم�س احلاجة �إليه �إزاء �سيادة الثقافة املرتوبولية‬ ‫الذي حكم �سلوك البطل احل�ضاري‪ ،‬وجعله يت�رصف‬
‫‪ « )11(.‬ف�إن رواية « روائح ماري كلري « تغري م�سار‬ ‫على �أن جميع ن�ساء الغرب مباحات له‪ .‬و«�أن كل‬
‫العودة نحو املا�ضي‪ ،‬من العودة �إىل التاريخ القومي‬ ‫امر�أة بي�ضاء م�شتهاة‪ ،‬ونقاء ب�رشتها دعوة دائمة‬
‫والرتاث‪� ،‬إىل العودة �إىل �سرية الذات والذكريات‬ ‫لالغت�صاب‪ ،»8‬لأنه يريد �أن يث�أر لنف�سه ورجولته‬
‫ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫وح�ضارته‪.‬‬
‫ويف الوقت الذي تتخذ فيه العودة �إىل املا�ضي يف‬ ‫يقود فعل �أن�سنة العالقة مع الآخر �إىل جتريدها من‬
‫الرواية احل�ضارية م�سارا ن�سقيا‪« ،‬على نحو �سياقي‬ ‫عالقات الهيمنة الكولونيالية والذكورية‪ ،‬وهذا ما‬
‫عرب ا�ستح�ضار نظريه الغائب يف الرتاث‪ ،‬لأنه يبدو‬ ‫يتيح تفادي �إنتاج الن�سق الفحويل املوجه لعالقة‬
‫وا�ضحا �أن من خالل هذا الغائب فح�سب‪ ،‬ومتكني‬ ‫البطل احل�ضاري باملر�أة القائم على «ت�سليمه ب�أن‬
‫الدال عليه‪ ،‬تكت�سب الذات هويتها‪ ،‬ويكت�سب خطابها‬ ‫العالقات بني الأمم واحل�ضارات هي كالعالقة‬
‫م�رشوعيته(‪ ».)12‬ت�ؤكد رواية «روائح ماري كلري»‬ ‫القائمة واقعا بني الرجل واملر�أة‪ :‬عالقة قوة وحتكم‬
‫�أن الذات تكت�سب هويتها ال�رسدية من ذاتيتها ‪.‬‬ ‫و�سيطرة‪ ،‬وبالتايل ا�ست�سالم ور�ضوخ ومعاناة‪.‬‬
‫وبذلك ت�ستبدل النموذج الكلي الن�سقي بالنموذج‬ ‫فكان �أن تبنى بدوره الت�صور املرتوبويل القائل ب�أن‬
‫الفردي ال�شخ�صي‪.‬‬ ‫املثاقفة جمامعة‪»9.‬‬
‫يف �سياق هذه الإجراءات التحويلية‪ ،‬تتم �إزاحة‬ ‫يف خروجه على هذا الن�سق الفحويل‪ ،‬يبدو حمفوظ‬
‫العالقات اجلن�سية التي حتكمت يف ت�شكيل وعي‬ ‫على خالف م�صطفي �سعيد يف «مو�سم الهجرة‬
‫الذات بالآخر‪ ،‬وتنميط �صور التمثيل‪ .‬و بدل العالقات‬ ‫لل�شمال»‪ ،‬حري�صا على حب ماري كلري‪� ،‬شديد احلذر‬
‫الكولونيالية املجن�سة التي فر�ضت تعار�ض‬ ‫من كل ما قد ي�صدر عنه من �سلوك ي�ضايقها ( ينبغي‬
‫اال�سرتاتيجيات ال�رسدية (�رشق‪ /‬غرب‪ ،‬مركز‪/‬‬ ‫�أن �أقول هنا �إن ح�ضور ماري كلري الدائم يف بيتي‬
‫هام�ش) يف حبكة الرواية احل�ضارية من جهة‪ ،‬و‬ ‫جعلني يف ال�شهور الأوىل �سعيدا �إىل درجة كنت‬
‫جتني�س العالقات الثقافية (ذكورة‪� /‬أنوثة) ب�إ�ضفاء‬ ‫�أخ�شى معها �أن تتحول هذه ال�سعادة �إىل نقي�ضها‪.‬‬
‫م�ضمون جن�سي على وعي الذات ومتثيالت الآخر‬ ‫مل يحدث �أن �أحبتني امر�أة كما �أحبتني ماري كلري‪).‬‬
‫من جهة ثانية ‪ ،‬تنزاح رواية «روائح ماري كلري»‬ ‫(�ص‪� .)20‬إنه معني فقط ب�سعادته ال�صغرى‪ ،‬وغري‬
‫نحو م�رسحة عالقة احلب‪ ،‬كحالة « تعليق للعنف‬ ‫معني مثل م�صطفي �سعيد بالث�أر احل�ضاري لأمته‪،‬‬
‫الرمزي‪ »13‬ب�شكليه احل�ضاري والذكوري ‪.‬احلب‬ ‫وال « ينق�ض على كل امر�أة تتاح له دون متييز وبال‬
‫مبا هو حالة �أ�سمى ملا ي�سميه بورديو «اقت�صاد‬ ‫اختيار‪ . »10.‬وهذا ما ي�شكل حتوال يف متثيل الآخر‬
‫التبادالت الرمزية املحمولة �إىل ذروة قوتها والتي‬ ‫من العالقات املجن�سة �إىل العالقات امل�ؤن�سنة على‬
‫�شكلها الأ�سمى‪ ،‬ومبا هو هبة املرء للذات وجل�سده‪،‬‬ ‫م�ستوى �سيا�سات التمثيل‪ ،‬ومن ال�رسديات الكربى‬
‫هو �شيء مقد�س‪ ،‬م�ستبعد من التبادل ال�سلعي‪ ،‬والتي‬ ‫�إىل النموذج الفردي على م�ستوى اال�سرتاتيجيات‬
‫لكونها تفرت�ض وتنتج عالقات دائمة وغري م�ؤقتة‪،‬‬ ‫ال�رسدية‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫ل�سيكولوجية ال�ضعف‪ ،‬التي ت�شكل م�صدر �إرباك‬ ‫فهي تتعار�ض مع تبادالت �سوق العمل مبا هي‬
‫ملحفوظ يف عالقته بج�سده ومباري كلري ‪.‬‬ ‫�صفقات م�ؤقتة و�آلية بح�رص املعنى‪»14...‬‬
‫و�إذا كان البطل الفحل يبني �أ�سطورته على �سمة‬ ‫وخالفا ملنطق القوة الكولونيالية‪ ،‬ت�شخ�ص الرواية‬
‫التفوق اجلن�سي‪ ،‬ف�إن حمفوظ ب�سبب ته�شم �صورة‬ ‫لعبة احلب من خالل منطق اله�شا�شة‪ ،‬الذي يفر�ض‬
‫اجل�سد يجد نف�سه يف و�ضع مربك وم�شو�ش‪ ،‬يخلق‬ ‫على العا�شقني بناء عامل م�شرتك قائم على �سريورة‬
‫له عقدة نق�ص‪ .‬ففي احل�ضور الطاغي جل�سد ماري‬ ‫من التحوالت يف الكينونة والهوية‪ ،‬تفرت�ض �سل�سلة‬
‫كلري يبدو مرتددا غري واثق من نف�سه‪ ،‬يف حالة قلق‪،‬‬ ‫من التنازالت والت�شييدات اجلديدة‪ ،‬يفر�ضها عامل‬
‫يهج�س كيف ير�ضيها ج�سديا‪ ،‬على خالف ال�صورة‬ ‫احلب‪ ،‬بو�صفه تعليقا لعالقات الهيمنة والقوة‪،‬‬
‫املت�سيدة واملت�سلطة للبطل الفحل‪ .‬غري �أن جتربته‬ ‫و�إحالال ملنطق عالقات االعرتاف املتبادل‪ .‬احلب‬
‫العاطفية مع ماري كلري مبا فيها من حب حقيقي‪،‬‬ ‫مبا هو جت�سيد «لهذا العامل املغلق واملكتفي ذاتيا‬
‫وعمق �إن�ساين م�ؤ�س�س ‪ -‬كما بينا على اقت�صاد‬ ‫على الوجه الأكمل‪،‬الذي هو �سل�سلة متوا�صلة من‬
‫تباديل للخربات ‪� ،-‬سيغري من �شكل عالقته بج�سده‬ ‫(التغيريات والتحوالت يف منط الكينونة والوجود)‬
‫النحيل‪ ،‬امل�ؤ�س�سة على موروث ذكوري‪ ،‬بحيث‬ ‫من املعجزات‪ :‬عامل الالعنف الذي يجعل من �إر�ساء‬
‫�ستجعله جتربة احلب يكت�شف �أن اجلن�س ال عالقة له‬ ‫عالقات قائمة على التبادلية الكاملة ممكنا‪،‬‬
‫بالقوة ( ك�أن ج�سدي يولد من جديد‪�..‬إال �أن املثري حقا‬ ‫والذي ي�سمح بالتنازل وت�سليم الذات واالعرتاف‬
‫هو �أين �رصت �أرى ج�سدي ب�شكل خمتلف‪...‬قبل ذلك‬ ‫املتبادل الذي ي�سمح كما يقول �سارتر‪ ،‬ب�أن ي�شعر‬
‫كنت معقدا ب�سبب هذا اجل�سد النحيل الرقيق اله�ش‪.‬‬ ‫املرء ب�أن «مربر وجوده» م�ضطلع به حتى يف �أكرث‬
‫ال �أنتظر منه الكثري‪ .‬وال �أعول عليه يف اللحظات‬ ‫خ�صو�صياته عر�ضية �أو �أ�شده �سلبية‪ ،‬يف وبوا�سطة‬
‫احلرجة واحلا�سمة‪ .‬كنت �أت�أمل يف �رسي و�أنا �أ�سمع‬ ‫�إطالق االعتباطية العتباطية لقاء ما(لأنه كان هو‪،‬‬
‫ما يرويه الرجال حويل عما يفعلونه للن�ساء‪� .‬شيئا‬ ‫لأنني كنت �أنا)‪ .،‬عامل الرتفع الذي يجعل عالقات‬
‫ف�شيئا �أقنعت نف�سي ب�أن �شيئا ما ينق�صني يف هذا‬ ‫منزوعة من الذرائعية ممكنا وقائما على �سعادة‬
‫املجال‪�( ».‬ص‪)83‬‬ ‫منح ال�سعادة‪ .‬ويجد يف �إعجاب الآخر‪ ،‬وال �سيما‬
‫�إن جتربة احلب‪ ،‬بو�صفها عاملا بينيا يقوم على‬ ‫�أمام الإعجاب الذي يحدثه‪ ،‬مربرات ال تن�ضب لأن‬
‫خربات تبادلية‪� ،‬ستغري هذا الوعي الذكوري‬ ‫يده�ش‪)15.‬‬
‫املوروث‪ ،‬بحيث �سيتحول ال�شعور بالعقدة والنق�ص‬ ‫�أ�سلبة �صورة الفحل‪ :‬من الذكوري �إىل الأنثوي‬
‫�إىل �شعور بالزهو ‪( .‬ويرافق كل هذا �إح�سا�س ب�شيء‬ ‫يعجب حمفوظ مباري كلري‪ ،‬ويعرب عن �إعجابه كطفل‬
‫من الزهو‪ .‬فلأول مرة يف حياتي �أ�شعر �أنني قادر‬ ‫منده�ش‪ ،‬يكت�شف العامل لأول مرة‪ ،‬وال يت�رصف‬
‫على �أن �أ�شبع امر�أة‪�( ).‬ص‪)83‬‬ ‫كبطل �رشقي يرد بق�ضيبه على الآخر‪ .‬ويف �صريورته‬
‫يف مقابل تباهي الفحل بقوة ج�سده‪ ،‬ال يجد حمفوظ‬ ‫طفال‪ ،‬يخ�ضع ملنطق اله�شا�شة‪ ،‬ويج�سد جمموعة‬
‫حرجا يف البوح به�شا�شة ج�سده‪ ،‬وال يعترب ذلك عيبا‬ ‫من التمثيالت التي تناق�ض �صورة الفحولة‪ .‬ف�إذا‬
‫ي�ستوجب الت�سرت عليه‪� (.‬إال �أن املثري حقا هو �أين‬ ‫كانت عالقة البطل احل�ضاري داخل ن�سق الفحولة‬
‫�رصت �أرى ج�سدي ب�شكل خمتلف �أتلم�سه دون �أي‬ ‫تتميز بخا�صية االمتالء التي حتددها �سمات القوة‬
‫�إح�سا�س باحلرج‪� .‬أنظر �إليه بدون خجل‪� .‬أحتدث عنه‬ ‫وال�سطوة‪ ،‬ف�إن عالقة حمفوظ بج�سده تقدم �صورة‬
‫بجر�أة وبدون مواربة)‪.‬‬ ‫بارودية للج�سد الفحل‪ .‬تبد�أ هذه الباروديا بته�شيم‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫�إطار اجل�سد يف �صورة مهتزة بالآلة التفكيكية‬
‫‪286‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ال�شاعر فتحي عبداهلل‬
‫روح �إن�سانية تفي�ض بالأمل‬
‫عبد النبي فرج‬
‫كاتب وروائي من م�رص‬

‫املوتى الذين ‪/‬خطروا ب�شقتي ‪/‬و�أنا غائب‬ ‫ت�سعى �شعرية فتحي عبد اهلل منذ ديوانه الأول «راعي‬
‫قالت ‪ :‬ذو ال�شال الأبي�ض ‪/‬هم�س بنومني‪/‬وترك �صحيفة‬ ‫املياه» �إىل االنحياز �إيل كل ما هو جوهري �إن�ساين‬
‫الأعمال ‪/‬مملوءة باخلطوط ‪/‬ومل �أعرف كم جنازة‪/‬‬ ‫بامتياز دون �أن حتفل بكونها تعرب عن الهام�ش �أو‬
‫حملها للم�صلني ‪/‬لكنه ‪�/‬أو�صى مبراقبة الأ�شجار ‪/‬‬ ‫املنت �سواء كانوا رعاة �أو زراعا‪ ،‬قاطعي طريق �أو‬
‫وزيارة املحافل ‪/‬رمبا ‪/‬نعرث على هواء جديد‬ ‫ل�صو�صا‪ ،‬عماال �أو مهند�سني‪ ،‬معربا عن عامل الريف‬
‫هذا الن�ص منوذج دال على ما �أريد �أن �أقوله‪ ،‬من هو‬ ‫امل�ستقر‪ .‬هذا العامل مبا يحفل به من طقو�س ح�صاد‬
‫ذو ال�شال الأبي�ض‪ ،‬و�أي �صحيفة‪ ،‬وما هو املدون‬ ‫وري وزراعة وت�ضامن �إن�ساين يفر�ضه املجتمع‬
‫فيها‪ ،‬وما داللة هذا اجلملة‪ ،‬خطروا ب�شقتي‪ ،‬ومن هم‬ ‫الزراعي‪ ..‬ولذلك جاءت هذه ال�شعرية وك�أنها نتاج‬
‫املوتى و�أي جنازة‪ ،‬قد يكون الن�ص يف جوهره ب�سيط‬ ‫ت�أثري هذا املكان فكان بها قدر عال من ان�سيابية‬
‫جدا‪ ،‬وهو �أن ال�شاعر مطارد‪،‬هارب من الع�س�س‪ ،‬وهذه‬ ‫البناء وب�ساطة اللغة وغناها احل�سي امل�ستمد من‬
‫اللقاء مت مع زوجته‪،‬ب�صورة ما‪،‬يف مكان م�أمون‪،‬‬ ‫�أغاين الفلكلور �أو ال�شعراء ال�شعبيني والذين كانوا‬
‫«قبل �أن �أنام» وهذا حوار عادي ي�س�أل زوجته‪ ،‬عن‬ ‫يلعبون دورا قويا وم�ؤثرا يف وعي الأجيال ال�سابقة‬
‫املخربين‪،‬ويت�ساءل عن التهم اجلديدة املوجهة له‪،‬‬ ‫قبل �أن تلعب امليديا هذا‪ ،‬والدور‪ .‬حتى العنف الذي‬
‫ولكن من �أو�صى مبراقبة الأ�شجار وما هو املحفل‬ ‫ميثل رافدا �أ�سا�سيا من روافد �شعرية فتحي عبد اهلل‬
‫الذي يحوي هواء جديد؟‪ ،‬هل هو ينتمي جلماعة �رسية‬ ‫جاء مكتوما يرف�ض �أن يخد�ش هذا العامل ال�سحري‪،‬‬
‫مناه�ضة للدولة وهل لقاء جماعته ميثل هواء جديد‪،‬‬ ‫وهذا الديوان جتربة مهمة لأنه ا�ستطاع يقل�ص‬
‫قد‪ ،‬وقد يكون كل ما قلناه هراء وان ما يدور داخل‬ ‫الأداء الزاعق‪ ،‬القعقعة‪ ،‬ال�صهيل‪ ،‬املبا�رش‪ ،‬الفا�ضح‪،‬‬
‫دهاليز الن�ص‪� ،‬شيء �أخر متاماً‪� ،‬أما الق�سم الآخر من‬ ‫ل�صالح الأداء الهام�س‪ ،‬الأداء الذي هو يومي وال‬
‫الديوان فهو يتناول جتربة �أعرفها بحكم �صداقتي‬ ‫يف�صح‪ ،‬وينق�سم الديوان �إىل ق�سمني‪� ،‬رسد متقطع‬
‫لل�شاعر وكان قد ق�ضى �سبعة ع�رش يوم ًا او ثمانية‬ ‫الهث لتجربته اليومية يف اجلامعة‪ ،‬يف املقهى‪ ،‬على‬
‫ع�رش يوم ًا يف امل�ست�شفي مرافق ًا لأبيه �أثناء اجراء‬ ‫ر�صيف احلياة‪ ،‬يلتقط �شخو�صا ويعيد ترتيب امل�شهد‬
‫عملية جراحية له حيث كان �سيتم قطع رجله بعد‬ ‫من جديد قاطع ًا مع هذا الوقائعية الب�سيطة‪ ،‬ليخرجها‬
‫�أ�صابته بداء ال�سكري‪ ،‬هذه التجربة امل�ؤملة‪ ،‬ر�صدها‬ ‫بعد ذلك يف �إطار جديد‪ ،‬يف مناخات جديدة‪،‬من خالل‬
‫ال�شاعر يف مقاطع‪ ،‬عذبه‪� ،‬شجيه‪ ،‬خمتنق ًا يبحث عن‬ ‫روحه القلقة‪ ،‬وهنا ي�أتي دور اخليال املده�ش الذي‬
‫خمرج‪ ،‬ولذلك تكرث يف الن�صو�ص‪ ،‬مفردة هواء‪ ،‬وهو‬ ‫يهند�س امل�شاهد‪ ،‬يف �إطار رمزي �أ�شبه باملتاهة‪،‬‬
‫عنوان لق�صيدة من الديوان‪ ،‬الهواء م�شاركتى الأخرية‬ ‫ولوال �أ�سماء واقعيه‪ ،‬مثل‪ ،‬الزوجة‪ ،‬ن�رسين واملقهى‬
‫‪�،‬أبى ي�سمع التعاليم ‪/‬وينع�س دون مرارة ‪/‬لأنه حني‬ ‫وغريها لتحول الن�ص ملتاهة مغلقة‪ ،‬م�شفره‪ ،‬متاما‬
‫راقب اجلوهرة‪/،‬وجد التما�سيح ت�أكلٌ‪/،‬دون مائدة‪/،‬‬ ‫قبل �أن �أنام ‪� /‬س�ألت زوجتي عن �ساعي‪ /‬الربيد‪ ،‬وعدد‬
‫‪287‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫لأنهم مهوو�سون ‪/‬ولي�س لديهم القوة ‪/‬الكافية ‪/‬لأن‬ ‫والفطريات ت�شبه ال�ساللة ‪/‬وال جماز بني الكحول‪/،‬‬
‫يرتكونى ‪/‬و�أنا مللت من ال�رصاخ ‪/‬و املبارزة‬ ‫والأع�شاب ‪/‬القمي�ص من �أنبوبةٍ ‪/‬لأخري‬
‫ان هذا ديوان انفجار دالالت حتت حم�صول لغوي‬ ‫ورائحة» عبد اهلل» مل جتد‪/‬ما�شيته ‪/‬ف�أخذت نومها‬
‫�ضنني ال ميكن ت�صوره‪ ،‬فتحت كل لفظة‪ ،‬تكمن‬ ‫بني ‪/‬حرامه واخل�شب ‪،/‬‬
‫ت�أويالت ال ح�رص لها‪ ،‬فلتنظر للعنوان �سعادة مت�أخرة‪،‬‬ ‫ثم خرج منذ ديوانه الثاين �سعادة مت�أخرة عن هذا‬
‫وتقر�أ الديوان‪ ،‬هل هناك �سعادة من الأ�سا�س‪� ،‬أم �أن‬ ‫العامل الزراعي �إيل عامل املدينة مبا حتفل به من‬
‫هناك روحا منهكة‪ ،‬ترزح حتت وط�أة �أمل مم�ض‪ ،‬بداية‬ ‫عنف وق�سوة وقتل وفقدان للرباءة يفر�ضها املجتمع‬
‫من الإهداء �إىل �أمي‪� ،‬صاحبة ال�سعادة الذي مل تعرف‬ ‫ال�صناعي احلديث وبدل �أن ت�صيبه املدينة بنوع‬
‫ما حدث يل يف الق�سوة الأخرية يف �أق�صى درجاته‬ ‫من النكو�ص لي�رشد �إيل ظالل امليتافيزيقا �أندفع‬
‫الدفاع عن الذات‪ ،‬ذاته تعي�ش يف بلد يعاين القهر‪،‬‬ ‫برباءة احلاملني واخلياليني العظام‪� ,‬إيل حماولة‬
‫العنف‪،‬الإرهاب‪ ،‬الفقر‪ ،‬وانعدام العدالة‪ ،‬وك�شاعر‪،‬‬ ‫تدمري املدينة‪ ,‬وبناء مدينة متخيلة بعد�سة كامريا‬
‫مق�صى‪ ،‬حمذوف من امل�شهد ال�شعري يف ظل م�ؤ�س�سة‬ ‫ور�ؤية خمرج �سينمائي‪ ,‬ولذلك جاء الديوان عبارة‪,‬‬
‫ثقافية‪� ،‬إرهابية‪ ,‬بولي�سية‪ ،‬ع�صابية تتفنن يف تعذيب‬ ‫عن م�شاهد ق�صرية ترتاوح بني احلادة‪ ،‬والناعمة‬
‫الغري مدجن ًا تدجين ًا كام ًال بحيل �شيطانية‪� ،‬أن دور‬ ‫م�ستخدما تقنية الفيديو كليب‪،‬ولذلك جاء عبارة عن‬
‫هذه امل�ؤ�س�سة يف ت�صحري امل�شهد الثقايف ال يقل‬ ‫م�شاهد ق�صرية حمكومة وم�ضفرة‪ ،‬وك�أنها قطعة‬
‫�إجرام ًا وانحطاطا عن انحطاط وزارة الداخلية بل هى‬ ‫موزاييكو يكون عماد هذه املدينة احلرية والعدالة‬
‫الأكرث عنف لأنها متار�س عنفا رمزيا قا�سيا جتاه‬ ‫املطلقة هذه احلرية‪ ،‬التي تكفل العدالة لكل الب�رش‬
‫ذوات فردية بطبيعتها ه�شة وي�سهل ك�رسها‪ ،‬وهذا‬ ‫مبن‪ ,‬فيهم اخللعاء واملهم�شون‪،‬وال�ساقطون من‬
‫املقطع اعتربه داال عن حجم املعاناة من اجلماعة‬ ‫املجتمع وق�سوته‪ .‬وال ميكن فهم هذا الديوان وهذا‬
‫الثقافية املتواطئ مع ال�سلطة الفا�سدة‪.‬‬ ‫العنف الكارثى‪ ،‬املتوح�شة‪ ،‬الراديكالية‪ ،‬والذي تركز‬
‫مل يعلنوا عن زفايف ‪/‬يف املنا�سب ‪/‬من الأيام ‪/‬‬ ‫حول املو�ضوع دون اهتمام يذكر يف ال�شكل ف�شكل‬
‫و�أرجعوا ذلك ‪�/‬إىل �أنى م�صاب ‪/‬بحمى قريبة �أخذتها‬ ‫الق�صيدة ثابت منذ ديوانه راع املياه؟‪ ,‬ملاذا؟ لأنه‬
‫من �أبقاري‪.‬‬ ‫ميقت الزخارف‪ ,‬يكره احليل الفارغة‪ ،‬يكره ال�شكالنية‬
‫يجب �أن نتذكر طقو�س العرب لالحتفال بتد�شني‬ ‫يف العمق‪ ،‬يريد �أن ي�صل ملا يريد كالطلقة‪ ،‬يف خط‬
‫ال�شاعر املوهوب حيث تقام الوالئم وتذبح الذبائح‬ ‫م�ستقيم‪ ،‬كاملطوي يف عنق �صنم‪� ،‬أله‪ ،‬متبجع‪ ،‬فارغ‪،‬‬
‫يف وجود ال�شعراء املخ�رضمني‪ ،‬وهكذا يكت�سب �رشعية‬ ‫انه �شاعر ميقت‪ ،‬الأكروبات البهلوانية‪ ،‬التزيني‪،‬‬
‫وجوده ك�شاعر‪.‬‬ ‫التو�شية‪ ،‬هذا ال�شاعر ‪ /‬روح الطفل‪ ،‬الذي يت�صور نف�سه‬
‫هذا الديوان لي�س دفاع ًا فردي ُا عن الذات‪ ،‬ولكنه دفاع‬ ‫قادراً على مواجهة العامل‪ ،‬حتطيم الأ�صنام ببلطة‪،‬‬
‫عن الذات اجلمعية املهدرة �ضد اخل�صي‪� ،‬أنه ديوان‬ ‫الذي يقف كمخرج فاعل وقادر على �صناعة حياة‬
‫مقاوم بامتياز �ضد كل ‪� /‬شذاذ الآفاق ‪ /‬ال�سلطويني‬ ‫بديلة ليقذف يف وجوهنا مب�شاهدة �شديدة الق�سوة‬
‫‪ /‬املهيمنني ‪� /‬ضد التنكيل به ودفعه �إىل احلائط ‪2‬‬ ‫لكى ننتبه حلجم الكارثة‪ ،‬يك�شف عن نف�سه املعذبة ‪/‬‬
‫املحبة‪ ،‬يف ق�صيدته‪� ،‬أبريل �أيها الطيب‪ /،‬ف�أ�رصخ ‪/‬‬
‫روافد ثالثة �أ�سا�سية بلورة ر�ؤية ال�شاعر‬ ‫�أبريل �أيها الطيب ‪/‬بقرات �أبي ‪/‬يف حاجة �إىل دواء ‪/‬‬
‫‪ -1‬ال�رسيالية ‪ :‬لقد حطمت ال�رسيالية احلدود والأطر‬ ‫و�أوالدي م�صابون ب�أمرا�ض الكالب ‪/‬وحليتي طويلة‬
‫القومية‪ ،‬انها ثورة جذرية‪� ،‬ضد الأطر‪� ،‬ضد التقاليد‪،‬‬ ‫‪/‬و�أحبها هكذا ‪/‬لأنني وحيد ‪/‬و�أفعاىل كلها‪ /‬يل ‪/‬‬
‫�ضد امل�ستقر‪� ،‬ضد الأعراف‪� ،‬ضد ال�سائد‪ ،‬اتكاء على‬ ‫ولكي تزيح هذا الركام ال�صلب الظاهري‪ ،‬لتكت�شف‬
‫منجز فرويد يف �أهمية احللم‪ ،‬ت�سفيه العقل‪ ،‬واعتماد‬ ‫عمق ه�شا�شة الذات ال�شعرية عليك �أن تقرا‬
‫‪288‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الكاوبوي و راعى البقر‪ ،‬مو�سيقى الروك‪ ،‬التاجنو‪،‬‬ ‫الكتابة الآلية لإلهام العقل الباطني املرتوك على‬
‫اجلاز‪ ،‬ورغم ذلك تظل كلمات حمدودة ال تزيد عن‬ ‫�سجيته ل�رسد احللم‪ ،‬ولذلك تفتقد الق�صيدة عند‬
‫ع�رش كلمات‪ ،‬كما انه يعترب هذه اللغة جزءا من‬ ‫ال�رسياىل للمنطق وتربز ال�صورة كعن�رص م�شع‪،‬‬
‫مرياثه الكوين‪ ,‬ورغم ذلك يتهم ال�شاعر ب�أنه تغريبي‬ ‫فاعل وت�صبح الق�صيدة عدة م�شاهد‪� ،‬شظايا‪� ،‬أنوار‪،‬‬
‫م�ستلب‪ ،‬ع�رش كلمات يف ديوان من ‪� 100‬صفحة‪،‬‬ ‫التماعات‪ ،‬موزاييك على القاري �أن يعيد ترتيبها‬
‫يحفل بلغة نقية ع�رصية‪ ،‬دالة‪،‬مثل‪ ،‬احل�صاد‪ ،‬البقر‪،‬‬ ‫كما ي�شاء‪ ،‬فلي�س لل�رسيايل الأ�صيل �أن يعطي �صورة‬
‫الروحانيني‪ ،‬الإيقاع‪ ،‬القطار‪ ،‬املقهى‪ ،‬ال�سعادة‪،‬‬ ‫مكتملة �أو معنى كامال جاهزا‪ ،‬بل عليه �أن يتعامل مع‬
‫تاجر اخلردة‪،‬القطيع‪ ،‬اخليول‪ ،‬احلار�س‪ ،‬خلخال �أمه‪،‬‬ ‫الن�ص على �أنه جمموعة من الرموز الباطنية‪ ،‬وعليه‬
‫احلروب‪ ،‬القر�آن‪ ،‬الأزهار‪� ،‬أنبياء‪ ،‬ال�صحراء‪،‬القوارب‪،‬‬ ‫�أن يكت�شفها �أو ي�ؤولها كما يريد هو‪ ،‬كما ان ال�رسيالية‬
‫املعزون‪،‬الرباري‪ ،‬الكعبة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الكتان‪ ،‬ال�رضيح‪ ،،‬ال�صالة‪،‬‬ ‫متجد احلرب وتعلى من قيمة القتل والهدم‪ ،‬وقد جاء‬
‫ال�سهول‪ ،‬ال�شعري‪ ،‬اجلبال‪ ،‬املنازل‪ ,‬البو�ص‪،‬القمح‪،‬‬ ‫يف البيان الثانى لل�رسيالية‪ ،‬على ل�سان بريتون (‪)1‬‬
‫الغناء‪ ،‬املحارب‪،‬الهالل‪،‬الإن�شاد‪ ،‬ف�رسيالية فتحي‬ ‫«من مقومات اب�سط عمل �رسياىل �أن ت�شهر امل�سد�سات‪،‬‬
‫عبداهلل‪ ،‬ان لغة ال�شاعر لغة �صافية‪ ،‬لغة نقية‪ ،‬رغم‬ ‫يف ال�شارع وتطلق النار ع�شوائي ًا قدر امل�ستطاع بني‬
‫كونه ا�ستفاد من ال�رسيالية العاملية ولكنها �رسيالية‬ ‫اجلماهري» ولذلك حتفل ن�صو�ص ال�شاعر فتحى عبداهلل‬
‫خا�صة به‪� ،‬رسيالية م�صهوره داخلة ولذلك كثري من‬ ‫والبلطة‪ ،‬وامل�صارعني‪،‬‬
‫بالقتل واجلثث وامل�سد�سات ٌ‬
‫�سمات �شعرية فتحي �ضد ال�رسيالية يف ال�صميم‪،‬‬ ‫والزوجة التي ت�أكل حلم زوجها‪ ،‬والعنف‪ ،‬ان‬
‫منها فكرة الفن فالق�صيدة بنت تراث الفن ال�شعري‪،‬‬ ‫ال�رسيالية داعية‪ ،‬هدم‪ ،‬داعية تفكيك‪ ،‬داعية انتهاك‬
‫وهذا مهم لأن ال�رسيالية‪� ،‬ضد الفن‪ ،‬و�ضد ال�شكل‬ ‫حرمات‪� ،‬أق�صى �أمانيه الو�صول حلالة م�شاعة لي�س‬
‫الثابت و�ضد الغنائية‪،‬و�ضد ال�شفافية املنمقة‪ ،‬فلتقر�أ‬ ‫هناك قوانني �أو �أعراف م�شاعة مطلقة‪ ،‬حرية مطلقة‪،‬‬
‫ديوان‪ ،‬اثر البكاء والحظ الإيقاع الراق�ص حد الإن�شاد‪،‬‬ ‫لل�سحاقيات‪ ،‬اللوطيون‪ ،‬اخللعاء‪ ،‬منتهكى زنا حمارم‪،‬‬
‫املو�سيقى الناعمة‪ ،‬اللغة ال�سل�سة‪� ،‬أقر�أ‪ ،‬الر�سائل عادة‬ ‫لنقر�أ من ق�صيدة �سعادة كربى‪:‬‬
‫ال تذكر املوتى‪ ،‬ن�شيد وذكر م�ستمد من �إيقاعات‬ ‫عندها �سوف ي�ضع ال�سكني‪/‬على ذراع �أخته الكربى‬
‫احل�رضة التي يقيمها الأولياء وامل�شايخ يف الريف‬ ‫التي تلعب الكونغ فو‪/‬وتك�رس كل مر�آه تقابلها‪/‬ولو‬
‫امل�رصي ويف بلدة ال�شاعر؟‬ ‫بال�صدفة‪/‬حتى امتلأت ال�شقة بالزجاج‪/‬وحينما‬
‫‪ -2‬نيت�شه ‪�:‬أن فل�سفة نيت�شه هى فل�سفة العقل احلر‪،‬‬ ‫ي�أخذها‪�/‬إىل جواره‪/‬يف ال�رسير‪/‬ال جتد �أي غ�ضا�ضة‪...‬‬
‫العقل الواعي‪ ،‬فل�سفة قلب القيم وحتطيم الأ�صنام‪،‬‬ ‫تدمري نواة الأ�رسة والتحلل منها واالندفاع نحو‬
‫واخلروج من القيود الذي يرزح حتت نريها الإن�سان‪،‬‬ ‫العدمية املطلقة‪ /‬لكي ي�صبح بطالً‪ /‬عليه من الآن‬
‫ليكون �أكرث خ�ضوعاً‪ ،‬ولذلك كان نيت�شه �آلة هدم‪ ،‬هدم‬ ‫�أن يقتل �أمه‬
‫القيم البالية‪ ،‬هدم للم�ستقر‪ ،‬يعلى من قيمة الإن�سان‬ ‫�إن ال�رسيايل احلق هو من يبتكر لغة جديدة‪ ،‬لغة بكر‪،‬‬
‫واختياره كما حرر الفل�سفة‪ ،‬من اللغة الكهنوتية‪،‬‬ ‫مل مت�ضغ‪ ،‬مل ت�ستهلك مل يتقي�أها اخلراتيت‪ ،‬ولذلك‬
‫الرمزية املغلقة وانفتح على لغة ال�شعر‪ ،‬لغة احلياة‪,‬‬ ‫رف�ض ال�رسياليني �أطالق فوق طبيعة على مذهبهم‬
‫ولذلك عندما ترجم �إىل العربية‪ ,‬حتول ل�رصعة جليل‬ ‫لأنها كلمة موجودة‪ ،‬وم�ستقره‪ ،‬وال ميكن �أن تخلق لغة‬
‫�شاب من ال�شعراء والفنانني‪ ،‬كما �أنه يبجل القوة‪،‬‬ ‫جديدة �سوى اقتحام مناطق‪ ،‬جديدة‪ ،‬جغرافيا بديلة‪،‬‬
‫وكر�ست �أخالق‬
‫حملت لواء الن�ضال �ضد �أخالق ال�سادة َّ‬ ‫مناخات خمتلفة‪ ،‬ولذلك ميتح ال�شاعر من القامو�س‬
‫العبيد‪ ،‬مبا فيها من �ضعف وعجز‪،‬لذلك وقف نيت�شه‬ ‫الغربي يف �سعادة مت�أخرة ومن الرتاث العربى القدمي‬
‫تكر�سه من �أفكار‪ ،‬فدعا‬ ‫موقفه الراف�ض للم�سيحية‪ ,‬ملا ِّ‬ ‫بعد ذلك يف دواوين‪ ،‬اثر البكاء‪ ،‬والر�سائل عادة‬
‫جتاوزها‪ ،‬وبناء �أخالق جديدة تقوم على �إرادة‬ ‫ُ‬ ‫�إىل‬ ‫ال تذكر املوتى‪ ،‬ولذلك تتناثر‪ ،‬كلمات مثل‪ ،‬العبي‬
‫‪289‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫احلاد‪ ،‬ومل تخرج الق�صيدة عنده عن ثالثة �ضمائر‪ ،‬قد‬ ‫القوة وقد مت ا�ستخدام فل�سفته لتربير العنف لدى‬
‫تقل ولكن ال تزيد‪ ،‬وخري معرب عن ما نريد �أن نقول‬ ‫النظم الفا�شية وقد ت�أثر ال�رسياليون بفل�سفة نيت�شه‬
‫جنده يف ق�صيدة رجل ال�ساونا من «مو�سيقيون لأدوار‬ ‫وكانت زادا وملهما لكثري من �أفكارهم خا�صة فكرة‬
‫�صغرية»‪ ،‬ال�ضمري يف البداية يقوم بالدور الو�صفي‪:‬‬ ‫الهدم والعدمية‪.‬‬
‫بعد حمامها‪ /‬يف ال�صباح‪ /‬و�سماع الآيات من‪/‬‬ ‫‪� – 3‬إذا كانت ال�رسيالية فتحت وعي ال�شاعر على‬
‫القارئ الأعمى ‪/‬تعود حلجرة البخار ‪/‬و�آالم املفا�صل‬ ‫مناطق جديدة يف الكتابة‪ ،‬فعني ال�شاعر الفاح�صة‪،‬‬
‫ويف منت�صف الق�صيدة دخول ينتقل ال�ضمري ل�شخ�صية‬ ‫للواقع املعي�ش كانت لها �أبلغ الأثر يف تكوين ر�ؤية‬
‫لتعرب عن �أحوالها‪:‬‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬فال�شاعر مل ينكفئ على ذاته يف عزلة فوقية‬
‫ال تكن قا�سيا هكذا ‪ /‬ففي الزيارات الأخرية‪/‬‬ ‫مكتفي بالزاد املعريف العميق‪ ،‬بل انخرط يف جتربة‬
‫مل ت�سمع هذياين‪ /‬كما تعودت‪ /‬ومل تتحدث عن‬ ‫معي�شة غاية يف الرثاء‪ ،‬زاده النا�س من كل الطبقات‪ ،‬ال‬
‫جارتك ‪ /‬التى ت�أكل يف الليل والنهار‬ ‫ي�ستقر‪ ،‬ينتقل من مكان لآخر‪ ،‬من مقهى لآخر‪� ،‬صديق‬
‫ثم يختم الق�صيدة ب�ضمري ليعرب عن �شخ�صية �أخرى‬ ‫اجلميع وعدو اجلميع‪ ،‬مفرتى عليه ومفرت علينا‪ ,‬فهو ال‬
‫لرتد على املر�أة التي ظهرت يف بداية الق�صيدة‪:‬‬ ‫�أخالقي متاما‪ ،‬ملوث‪ ،‬خائن‪ ،‬خمادع‪ ،‬ماكر‪� ،,‬إذا ق�سته‬
‫ال ا�سمع �إال �أ�صواتك‪ /‬يف ال�شارع ‪ /‬او يف املقهى‬ ‫على الف�ضائل واملثل التي يكر�سها املجتمع‪ ،‬الأخالق‬
‫او داخل امل�صعد ‪ /‬فت�أملي ب�سماحة‪� /‬أكرث من هذا‬ ‫الزائفة التي تكر�س لل�ضعف واجلنب‪ ،‬والو�ضاعة حتت‬
‫�أن لعبة الأ�صوات املتعددة هي الأ�سا�س يف تعقيد‬ ‫�ستار معان نبيلة وفا�ضلة‪ ،‬ولكن لو ق�سته بكونه‬
‫الق�صيدة لدى ال�شاعر فتحي عبداهلل ومبجرد ما تفكك هذه‬ ‫�شاعرا �رسياليا حقيقيا‪ ،‬ف�ستكت�شف يف العمق كم هو‪،‬‬
‫اللعبة اخلبيثة �سي�رشق الن�ص بداللته‪ ،‬ب�شخو�صه بعوامله‬ ‫فهو هنا مت�سق مع نف�سه متاماً‪� ،‬أن ال�رسيايل الأخري‬
‫�أن عوامل ال�شاعر فتحي عبداهلل عوامل خمتلفة و�رسية‬ ‫يريد �أن يقدم اجنازا معتدا به باعتباره طهرانيا‬
‫وتعرب عن مناطق غام�ضة يف حياتنا‪ ،‬ال ميكن �أن تظهر‬ ‫و�صوفيا‪ ،‬عتيدا ودروي�شا‪.‬‬
‫لنا �سوى يف الأحالم حيث الرباءة والن�صاعة وال�شفافية‪,‬‬ ‫�أما ديوان‪ :‬مو�سيقيون الدوار �صغرية‪ ،‬فهو ديوان‬
‫�أما اخليال لدى ال�شاعر فهو خيال باذخ‪ ،‬خيال فانتازي‬ ‫الوم�ضات ال�صغرية‪ ،‬الفال�شات املكثفة الناعمة‬
‫خميف ويحتاج لدرا�سة نقدية منف�صلة لتعطيه حقه‪.‬‬ ‫وامل�ستفيدة من تقنية الفيديو كليب يجمع فيها بني‬
‫‪3‬‬ ‫عنا�رص املكونة للواقع وت�ضفري م�شهد يعرب عن �إيقاع‬
‫�أثر البكاء ديوان فارق يف جتربة ال�شاعر فتحي عبد اهلل‪،‬‬ ‫املدينة تر�صد‪ ،‬الراق�صة‪ ،‬العواد‪ ،‬املمثل‪ ،‬العجوز من‬
‫فقد مت كتابته �أثر حرب اخلليج الثانية و�سقوط بغداد‬ ‫قيمة كل ماهو ح�سي‪ ،‬فقد جاء تعبريا عن دور املديا‬
‫حتت �رضبات قوي حتالف ال�رش‪ ،‬يف هذا الديوان الأكرث‬ ‫يف احلياة احلديثة وتعظيم دور اللذة حتى �أدى �إىل‬
‫تعقيداً‪ ،‬والأكرث غمو�ض ًا حتت وابل من الأقنعة والرموز‬ ‫ا�ستالب الإن�سان فغلب عليه العدمية وانعدام اجلدوي‪،‬‬
‫الذي ي�صعب ت�ضفريها يف �سياق ما‪ ،‬فكل دواوين‬ ‫يخرجون جماعات‪� /‬إىل ال�صيد‪/‬ال قوارب ‪/‬وال �أ�سماك‪.‬‬
‫فتحي ال�سابقة هناك وحدة الديوان‪ ،‬حتت راية فكرة‬ ‫كما يعتمد بناء الق�صيدة من خالل �ضمري غائب‬
‫يف بداية الق�صيدة يقوم بالدور الو�صفي للم�شهد‬
‫مركزية فهو ال يكتب ق�صائد متناثرة‪ ،‬وقد يكون �سقوط‬
‫ثم ي�سلم �إىل راو �آخر دائم ًا ما تكون �شخ�صية داخل‬
‫بغداد‪ ،‬تكئة لي�ستعيد بغداد‪ ،‬الذي عا�ش فيها فرتة مهمة‬
‫امل�شهد لتعرب عن مذاقها الوجودي او تك�شف عن‬
‫من حياته‪ ،‬بغداد‪ ،‬احللم الآ�رس ب�شخو�صه القريبة �إىل‬
‫جانب مظلم من امل�شهد �أو تعلن خربا ما غام�ضا ثم‬
‫روحة‪� ،‬سعدي‪ ،‬يو�سف‪ ،‬تركى ن�صار‪� ،‬رسكون بول�س‪،‬‬
‫يتبعه دائم ًا اجلانب الطقو�سي يف الن�ص ثم يعود مرة‬
‫مايكل جاك�سون‪ ،‬ويتمان‪ ،‬املوالد والأذكار‪ ،‬احل�سينيات‬
‫�أخرى ال�صوت الأول او �شخ�صية �أخرى لتفل الق�صيدة‪،‬‬
‫وامل�شاهد الطقو�سي املرعبة‪..‬‬ ‫وهذه ال�سمة املكونة للق�صيدة‪ ،‬ال تختلف من ق�صيدة‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫لأخري‪ ،‬وك�أنه يرتب بعناية الن�ص من خالل الذهن‬
‫‪290‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫«دي�سكوالند» �أ�سعد اجلبوري‬
‫وكائنات مملكة الظالم‬
‫نـذيـر جعفـر‬
‫ناقد وروائي من �سورية‬

‫ـ ال ّن�سق الأوّل‪ ,‬مالك‪:‬‬ ‫ال�شمال‬


‫كيف تتحول «�أر�ض الدي�سكو» يف �أعايل بحر ّ‬
‫يتوزع هذا الن�سق على خم�سة عناوين رئي�سة متتالية‪:‬‬ ‫ين جاذب ومالذ للغرباء الهاربني‬ ‫من ف�ضاء مكا ّ‬
‫«ع�ش ال ّثلج»‪,‬‬
‫ّ‬ ‫«اجلينوم التائه»‪« ,‬الف�ستان الأ�سود»‪,‬‬ ‫من �أنظمة اال�ستبداد يف اجلنوب‪� ,‬إىل ف�ضاء طارد‬
‫«الرباد الإ�سكندنايف»‪« ,‬انف�صام ال�شهوات»‪ .‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫ومملكة للظالم‪ ,‬واال�ستئثار بال�سلطة‪ ,‬والقتل على‬
‫ت�شكّل نقاط ا�ستناد وتبئري للمنت وتعزيز للداللة‪.‬‬ ‫ال�شبهة �أو من دونها؟ ذلك هو ال�س�ؤال الذي جتيب عنه‬
‫فـ«اجلينوم التائه» ي�شي باغرتاب «مالك» عن وطنه‬ ‫عمان‪2010 ,‬م‪,‬‬‫رواية «دي�سكوالند»‪ /‬دار ف�ضاءات‪ّ ,‬‬
‫العراق الذي ن�ستدلّ عليه من ال�سياق ال من الت�رصيح‪:‬‬ ‫للكاتب وال�شاعر العراقي املعروف �أ�سعد اجلبوري عرب‬
‫�شعرت‬
‫ُ‬ ‫و�صلت �إىل حو�ض بناء ال�سفن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أعرف كيف‬
‫«ال � ُ‬ ‫ال�رسدية وعمارتها اجلمالية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�أن�ساقها‬
‫لوح من الألواح ال�سومرية‪� ،‬أ�صابه‬
‫بنف�سي كما لو �أنني ٌ‬ ‫ـ الأن�ساق ال�سرديّة‪:‬‬
‫اال�ضطراب يف حلظة غام�ضة من ال ّزمن‪ ،‬فدارت به‬
‫الأمواج حممو ًال من �أر�ض ما بني النهرين �إىل �أعايل‬ ‫تتو ّزع الرواية على �ستة وثالثني ف�ص ًال لك ٍّل منها‬
‫بحر ال�شمال �ص‪ .»4‬و«الف�ستان الأ�سود» يحيل على‬ ‫عنوانه الرئي�سي الذي ُي ْت َبع �أحيان ًا بعناوين فرعية‬
‫�صاحبته الفتاة «جينفر�س» التي ارتبطت بـ«مالك»‪.‬‬ ‫تو�سع دائرة داللته بغر�ض التعليق والتو�ضيح‬ ‫ّ‬
‫و«ع�ش ال ّثلج» ي�شري �إىل كوخ زواجهما يف �أعلى نقطة‬
‫ّ‬ ‫يتكرر‬
‫ّ‬ ‫الذي‬ ‫�ص»‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫عنوان«غبار‬ ‫يف‬ ‫كما‬ ‫إ�ضافة‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫و«الرباد الإ�سكندنايف»‬ ‫ال�شمايل!‬
‫من �سقف القطب ّ‬ ‫غالبا يف نهاية كل ف�صل‪ ,‬وعناوين �أخرى مثل‪:‬‬
‫ّ‬
‫يوحي بالثلج وال�صقيع حيث ال �رشوق ل�شم�س وال‬ ‫«غبار �سميك»‪ ,‬و«مف�صل � ّأول» و«هام�ش»‪ ,‬و«الزريبة‬
‫غروب هناك! و«انف�صام ال�شهوات» يعبرّ عن حالة‬ ‫أدبية» و«الهيئة العليا للت�أليف»‪ ,‬و«امل�ؤلف ال ّأول»‪,‬‬
‫ال ّ‬
‫الطالق التي انتهت �إليها عالقة «مالك» بـ«جينفر�س»‪.‬‬ ‫و«امل�ؤلّف املُنت َدب» و�سواها‪ .‬وتنتظم تلك الف�صول‬
‫ين�شغل هذا الن�سق ب�إ�ضاءة عامل «مالك» الداخلي‬ ‫�رسدية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫على م�ستوى املنت احلكائي يف خم�سة �أن�ساق‬
‫وت�شظيه‪ ,‬وبا�سرتجاع طقو�س والدته الغريبة‬ ‫�شخ�صية «مالك» املهاجر من‬ ‫ّ‬ ‫� ّأولها يتمحور حول‬
‫امل�ضمخة برائحة البارود والدم‪ ,‬التي ت�صدم «فرانك»‬
‫ّ‬ ‫بالد ما بني النهرين �إىل «دي�سكوالند»‪ .‬وثانيها حول‬
‫مدير حو�ض بناء ال�سفن عندما ي�سمعها منه على‬ ‫�شخ�صية ابنه «املث ّنى» من زوجته الدي�سكوالندية‬ ‫ّ‬
‫مر�أى من �سكرتريته «روت»‪ ,‬ويتف ّهم من خاللها حالة‬ ‫العن�رصية ب�سبب لونه!‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ومعاناته‬ ‫«جينفر�س»‬
‫�رشوده الدائم‪ .‬كما ين�شغل بت�صوير عالقته بالفتاة‬ ‫والثالث حول«طورو�س» املهاجر من اجلنوب الذي‬
‫«جينفر�س» بدءاً من رحلته معها �إىل «الرنويج»‬ ‫اختطف ال�سلطة يف «دي�سكوالند» بتواط�ؤ مع زوجة‬
‫�سماه «املث ّنى»‬
‫وزواجه منها‪ ,‬ثم والدة ابنه الذي ّ‬ ‫«جوكري�س» قائد احلركة االنقالبية على امللك‪ .‬والرابع‬
‫«تيمن ًا بثنائية ف�صيلتني من اجلينات التي احتدت‬ ‫ّ‬ ‫حول �سوين الهاربة من «دي�سكوالند» �إىل املغرب‬
‫�ص‪ ,»32‬مرورا بانف�صالهما‪ ,‬وو�صوال �إىل وفاة‬ ‫العربي‪ ,‬فلبنان‪ .‬واخلام�س حول «�آدم ال�سومري»‬
‫«مالك» يف ظروف غام�ضة بعد �ستة ع�رش عام ًا من‬ ‫املكلّف بكتابة رواية عن الديكتاتور«طورو�س»‪.‬‬
‫‪291‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫�صديقه ال�صيني «توالي»‪ ,‬هو م�صري كل من غادر‬ ‫والدة ابنه‪ .‬تلك الوفاة املفاجئة التي تك�رس �أفق‬
‫واحلرية و�إذا به ُيرمى‬
‫ّ‬ ‫وطنه الأ�صلي بحث ًا عن العدالة‬ ‫وجهه ال�سياق على مدى خم�سة‬ ‫توقعات القارئ الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫يف «�سلّة البارود» العن�رصية‪ ,‬ليواجه من جديد طبائع‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سة‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫با�ستمرار‬ ‫لالعتقاد‬ ‫ف�صول‬
‫اال�ستبداد يف املهجر!‬ ‫واملحورية حتى النهاية‪ .‬وك�أن املوت املفاجئ‬
‫ـ الن�سق الثالث‪ ,‬طورو�س‪:‬‬ ‫يرت�صد املغرتب يف احلياة ويف الرواية لتكتمل �سريته‬
‫ّ‬
‫الرتاجيدية قبل �أن تكتحل عيناه مبر�أى وطنه مرة‬
‫على �أثر م�رصع «روبن �شيفر» ملك «دي�سكوالند»‪,‬‬ ‫ثانية!‬
‫الفوالذية» العن�رصية‬
‫ّ‬ ‫وت�سلُّم زعيم ع�صابة «الثريان‬
‫«جوكري�س» لزمام احلكم‪ ,‬تن�شط منظمة «الأر�ض‬ ‫ـ ال ّن�سق الثاين‪,‬املث ّنى‪:‬‬
‫للجميع» الوطنية‪ ,‬يف مواجهة احلكم العن�رصي‪,‬‬ ‫رمبا جاء ظهور االبن «املث ّنى» متثيال رمزيا وتعوي�ض ًا‬
‫وتعمل على تطهري البالد من املنظمات العن�رصية‪.‬‬ ‫ال�ستمرار الأب يف جيل الحق من �أبناء املهاجرين‬
‫فيتزعم اجلناح‬
‫ّ‬ ‫وينتهز املهاجر «طورو�س» الفر�صة‬ ‫الذين ولدوا يف «دي�سكوالند» يف عام (‪1995‬م) وما‬
‫الع�سكري لهذه املنظمة من الغرباء‪ ,‬ثم يتواط أ� مع‬ ‫ي�صور من خالله تنب�ؤاته امل�ستقبلية‬ ‫ّ‬ ‫بعده‪ ,‬متثيال‬
‫«لوزانا» زوجة «جوكري�س»‪ ,‬ويتمكن من قتله‪ ,‬و�أخذ‬ ‫لهذا اجليل وما �سيواجهه حتى عام (‪2056‬م) يف‬
‫مكانه لي�صبح ملكا جديدا لـ «دي�سكوالند»! فيتزوج‬ ‫عن�رصية وا�ستبداد‪ ,‬عرب‬
‫ّ‬ ‫ال�شمال الإ�سكندنايف من‬ ‫دول ّ‬
‫حاال من «�رشيهان» زوجة امللك ال�سابق «روبن‬ ‫م�سارات تتنا�ص مع رواية جورج �أورويل ال�شهرية‬
‫�شيفر»‪ ,‬التي تهرب فيما بعد على �أثر مقتل طفلها على‬ ‫«‪1984‬م» وتنب�ؤه فيها ب�أ�شكال وممار�سات وم�آالت‬
‫يد �إحدى خادمات الق�رص! ويخلو اجلّو لـ«طورو�س»‬ ‫ال�شمولية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الأنظمة‬
‫في�صبح لديه عدد كبري من الن�ساء واملحظيات‪ ,‬مثل‪:‬‬ ‫ي�شهد «املث ّنى» �أعمال الع�صابات العن�رصية وال‬
‫«بتول»‪ ,‬و«بانكولينا»‪ ,‬و«�سورين كالر»‪ .‬كما تنتقل‬ ‫الفوالذية» وع�صابة «‪»HR‬‬
‫ّ‬ ‫�سيما ع�صابة «الثريان‬ ‫ّ‬
‫عدوى وجينات الديكتاتورية والت�سلّط والأ�سلمة‬ ‫وتنكيلهما باملهاجرين‪ ,‬ويت�أمل من لقب‪« :‬اخلنزير‬
‫ال�سيد املطلق يف البالد‪.‬‬ ‫والتكفري �إىل بالطه في�صبح ّ‬ ‫الأ�سود» الذي �أُطلق عليه لل�سخرية منه‪ .‬وي�صل الأمر‬
‫فيبد�أ حكمه ب�إطالق الر�صا�ص على املاي�سرتو يف‬ ‫التع�سفي يف اجلامعة من فرع الإلكرتونيات‬ ‫ّ‬ ‫�إىل نقله‬
‫ويحول «التيفالند»‬ ‫ّ‬ ‫مو�سيقية يح�رضها!‬
‫ّ‬ ‫�أول حفلة‬ ‫االجتماعية! ثم‬
‫ّ‬ ‫كلية العلوم‬
‫كلية العلوم �إىل ّ‬ ‫يف ّ‬
‫ع�سكرية! و ُي�صدر‬
‫ّ‬ ‫مدينة املالهي ال�شهرية �إىل ثكنة‬ ‫احتجازه من قبل تلك الع�صابات مع عدد كبري من‬
‫مر�سوما مبنع اخلمرة على املواطنني‪ ,‬وقرارا بجعل‬ ‫الغرباء يف طاحونة «توبال�سن» وتعذيبهم! ومل ت�شفع‬
‫ر�سمياً‪ ,‬و�أمراً‬
‫ّ‬ ‫التنانري الإ�سكتلندية الطويلة لبا�س ًا‬ ‫له عالقته بـ«هيلن»‪ ,‬و«فبيكا»‪ ,‬والعم «هنرت�سني»‬
‫مبنع ذبح اخلنازير‪ ,‬وفرمان ًا باقتناء كل مواطن‬ ‫بالتخلّ�ص منهم‪� ,‬إىل �أن �أتت دورية البولي�س و�أطلقت‬
‫تن�صت‬
‫كلب ًا وفر�ض �رضيبة عليه! و�آخر بزرع �أجهزة ّ‬ ‫�رساحه مع من بقي من الغرباء الأحياء!‬
‫داخل املخلوق الب�رشي! وت�صبح لديه وزارة للحوا�س‪,‬‬ ‫حتولت �إقامة الغرباء حتت �ضغط الع�صابات‬ ‫لقد ّ‬
‫خمت�صة برتتيب االت�صاالت‬ ‫ّ‬ ‫ووزارة لنقل الكالم‬ ‫العن�رصية �إىل «�سكن على �سيوف حا ّدة طويلة‪ ,‬كل‬
‫اخلارجية ُتلزم املواطن بتعبئة ا�ستمارة‬ ‫ّ‬ ‫الهاتفية‬ ‫خروج منها �أو دخول �إليها يرتك جرح ًا يف اجل�سد‬
‫خا�صة ب�أفكاره وطلباته وت�سليمها للتنفيذ! و�شبكة‬ ‫ّ‬ ‫والعقل �ص‪.»33‬‬
‫مراقبة با�سم «�صومعة الغيوم»! وفرع ًا للثقافة‬ ‫وكما تويف الأب «مالك» فج�أة يف حادثة غام�ضة‪,‬‬
‫والأمن! وجمعية لرعاية الن�سل املوبوء! و�شعبة‬ ‫ميوت االبن «املث ّنى» فج�أة �أي�ضاً‪ ,‬من دون �أن يرتك‬
‫لل�صم‪ ،‬النطق‪ ,‬البكم‪ .‬ثم يتفننّ «طورو�س» عرب نزعته‬ ‫ّ‬ ‫�أثراً‪� ,‬أو ذكرى‪� ,‬أو ح ّتى التفاتة! وك�أن هذا امل�صري‬
‫وخميلته املري�ضة يف تعذيب من ال ير�ضى‬ ‫ّ‬ ‫ادية‬
‫ال�س ّ‬‫ّ‬ ‫الرتاجيدي الذي واجهه الأب‪ ,‬ومن بعده االبن‪ ,‬ثم‬
‫‪292‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫بلغة �أهل ال�صحراء وتكت�سب عاداتهم وتقاليدهم‪,‬‬ ‫عنهم‪ ,‬وقتلهم والتمثيل بجثثهم �سواء كانوا رجاال من‬
‫ومن خالل �شبكة العالقات االجتماعية الوا�سعة التي‬ ‫ن�ساء من حمظياته!‬‫معارفه وخ�صومه و�أ�صدقائه‪� ,‬أم ً‬
‫حتيط ب�أمها «�سوين» يف بريوت‪ ,‬مثل‪« :‬الوزير قي�رص‬ ‫�أم وزراء ورجاالت بالط وبرملان‪ ,‬على نحو ما فعله‬
‫فريد وزوجته هالة قي�س �صاحبة غالريي «ال�شمعة‬ ‫بـ«هوال �سك�سن» رئي�سة الربملان التي ق�ضت نحبها‬
‫الزرقاء»‪ .‬وعي�سى املع�شوق مدير وكالة للطريان‪,‬‬ ‫غرق ًا على �أثر مناق�شتها لقراراته املت�أ�سلمة يف منع‬
‫و�سهاد فواز مديرة لبنك جتاري‪ .‬و�سعيد وجدي‬ ‫اخلمر و�سواه‪ ,‬و�إلقائها خطابا �ضده!‬
‫الذي يعمل يف جتارة الذهب والتوكيالت البحرية‪،‬‬ ‫وتتحول «دي�سكوالند» حتت ظله �إىل م�ستنقع‬ ‫ّ‬
‫بالإ�ضافة �إىل الدكتور ممتاز ال�رشقي الذي ميلك‬ ‫للعن�رصية‪ ,‬ومملكة للكائنات املتوح�شة‪ ,‬تنذر بفناء‬
‫حمطة للتلفزيون وداراً للن�رش‪ .‬و�صوالجن اجلوزي التي‬ ‫من يعي�شون فيها‪ ,‬لي�صبح م�صريهم �أ�شبه مب�صري‬
‫كانت تتوىل الإ�رشاف على دار الأوبرا �ص‪.»204‬‬ ‫«هنود التافديزين»!‬
‫وباختبار ك ٍّل من «�سوين» و�صديقتها «لونا» للغرب‬ ‫ويدخل هذا الن�سق املتعلّق بـ«طورو�س» يف �سياق‬
‫وال�رشق يف رحلتهما الطويلة‪ ,‬تتبادالن الر�سائل التي‬ ‫اخلطاب العجائبي املفارق للواقع واملت�شابك معه يف‬
‫تك�شف عن التناق�ض من جهة والتكامل من جهة‬ ‫يتوخى ر�سم �صورة مرعبة للديكتاتور‬ ‫ّ‬ ‫�آن معاً‪ ,‬الذي‬
‫ثانية بني هذين العاملني‪ .‬ففي الوقت الذي يبدو فيه‬ ‫ال�سادي التكفريي و�إحداث الإثارة والتو ّتر واالنفتاح‬ ‫ّ‬
‫وعاطفيا و�ساحرا وم�شتع ًال بالرغبات‬
‫ّ‬ ‫روحانيا‬
‫ّ‬ ‫ال�رشق‬ ‫على الت�أويل‪ ,‬وتنمية ال�سرّ د وتو�سيع حدوده‪ ,‬وك�رس‬
‫اجل�سدية التي ال ميكن اخلروج من �أقفا�صها‪ ,‬ف�إن‬‫ّ‬ ‫رتابته‪ .‬فيمنح بذلك دينامية عالية لل ّن�ص يف حتفيز‬
‫الغرب ال يعدو �أن يكون يف نظر «لونا» �سوى‪:‬‬ ‫خميلة القارئ‪ ,‬و�إثارة �أ�سئلته‪ ,‬وا�ستنطاق موقفه‬ ‫ّ‬
‫واحلب واملال وال�شهرة‬
‫ّ‬ ‫«�شيخوخة مبكرة للم�شاعر‬ ‫الأخالقي والإن�ساين لإدانة هذا النموذج والنفور منه‬
‫والرفاه �ص‪ّ � .»267‬أما «�سوين» فرتى ال�رشق‬ ‫والروح ّ‬ ‫�أو لت�سويغه وفهم دوافعه على �أقل تقدير‪.‬‬
‫والغرب لوحة واحدة يف ق�سمني‪« :‬وال ي�صح لن�صف‬ ‫ـ ال ّن�سق الرابع‪� ,‬سوين‪:‬‬
‫اللوحة التهام الن�صف الآخر‪ ،‬ما دام العدل يق�ضي‬
‫ب�رشعية التقا�سم �ص‪ .»268‬وتعك�س تلك الآراء‬ ‫�شخ�صية «�سوين» حتت عنوان‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ينفتح هذا الن�سق على‬
‫و�سواها عن ال�رشق والغرب �صوت الراوي‪ /‬الكاتب‪,‬‬ ‫تقرر الهروب بربع مليون‬‫«تراجيديا الهجرة»‪ ,‬حيث ّ‬
‫�شخ�صياته‬ ‫ونربته ولغته �أكرث مما تعك�س منطوق‬ ‫دوالر من اخلزينة العامة مع ابنتها ال�صغرية «مونو»‬
‫ّ‬
‫الروائية‪.‬‬ ‫املثلية «لونا» �إىل‬
‫ّ‬ ‫وزوجها «النك�سن» و�صديقتها‬
‫ي�صور مواقف‬ ‫�أملانيا‪ ,‬ومنها �إىل املغرب العربي‪ ,‬فبريوت‪ .‬لكن‬
‫ويف �سياق هذا الن�سق اال�ست�رشاقي الذي ّ‬
‫و�آراء «�سوين» و«لونا» تتواىل �صور الهجرة وت ّت�سع من‬ ‫الأقدار تعاك�سها فتفقد ابنتها على ال�شاطئ‪ ,‬و ُيعتقل‬
‫الغرب �إىل ال�رشق ب�سبب ممار�سات «طورو�س» وتت�شكّل‬ ‫زوجها‪ ,‬وت�ضطر لل�سفر مع �صديقتها فقط‪ .‬وكما فرقت‬
‫يف املنفي جماعات املعار�ضة ال�سيا�سية وامل�سلّحة‬ ‫الأقدار بني الأم وابنتها جتمعهما من جديد بعدما‬
‫الدي�سكوالندية‪ ,‬املناوئة للحكومة‪ .‬وتقام الندوات‬ ‫اختطف الغجر «مونو» وذهبوا بها �إىل ال�صحراء‪.‬‬
‫ّ‬
‫واملعار�ض املن ّددة بقرارات وممار�سات «طورو�س»‪,‬‬ ‫وهناك تلتقي ب�صديقة �أمها «لونا» املرتبطة بال�شاعر‬
‫مثل معر�ض «روتي بينك» يف بريوت عن فظاعة‬ ‫«ورد الكعبي» واملغرمة حديث ًا بالغجرية «هديلو»‬
‫للتج�س�س على‬ ‫اال�ستبداد يف عهده‪ .‬كما تت�شكّل حلقات‬ ‫فتدفع بها لل�سفر �إىل بريوت واللقاء ب�أمها عند رجل‬
‫ّ‬
‫هذه املعار�ضة ورفع التقارير بها �إىل «طورو�س»!‬ ‫الأعمال «بريم داغر»‪.‬‬
‫يك�شف هذا الن�سق عن �صورة اجلنوب العربي يف عيون‬
‫ـ الن�سق اخلام�س‪� :‬آدم ال�سومري‪:‬‬ ‫ال�شمال الإ�سكندنايف‪ ,‬وعن التفاعل الإن�ساين بينهما‬
‫ب�شخ�صية الراوي‪/‬‬
‫ّ‬ ‫�شخ�صية �آدم ال�سومري‬
‫ّ‬ ‫تتماهى‬ ‫من خالل ال�صغرية «مونو» التي �رسعان ما تتح ّدث‬
‫‪293‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫تاريخية‪ ,‬وتوظيفها ب�أ�شكال خمتلفة على خلفية‬ ‫الكاتب العراقي �أ�سعد اجلبوري نف�سه‪ ,‬الذي يقتحم‬
‫املفارقة‪ ,‬واملعار�ضة‪ ,‬واملحاكاة ال�ساخرة(‪.)1‬‬ ‫�صوته الربنامج ال�سرّ دي‪ ,‬بو�صفه مكلّفا ب�إعادة كتابة‬
‫«التحول» يف هذا الن�سق من‬ ‫ّ‬ ‫وميكن معاينة ثيمة‬ ‫رواية �ستيفاين بروك�سن‪« :‬قيامة الدينا�صور» التي‬
‫حتول «�آدم» �إىل عود ثقاب‪ « :‬مل‬ ‫«دي�سكوالند» يف ّ‬ ‫مل تعجب الديكتاتور«طورو�س» لأنها مل ت�شتمل على‬
‫�أعرف ب�أن ال�شخ�ص الذي �أم�سكني من ذراعي يف ذلك‬ ‫ما يكفي من �صور القتل التي متكنه من زرع الرعب‬
‫اليوم‪ ،‬كان هو حبة الكربيت امل�ستقرة على ر�أ�س عود‬ ‫والهول يف نفو�س مواطنيه‪« :‬لقد انتخبتك الكارثة‬
‫الثقاب الذي هو �أنا �ص‪ .»374‬ويف حكاية �آدم عن‬ ‫الآن يا �آدم‪ .‬ومن �أجل ماذا؟ من �أجل �أن تكمل رواية‬
‫حتول �آدم وابنة‬‫عالقته بابنة عمه وبكلبه‪ ,‬وكيف ّ‬ ‫تفوح منها رائحة العنف واال�ستبداد واملوت‪� .‬ستكتب‬
‫حتول الكلب �إىل ذئب!‬
‫عمه �إىل كلبني ينبحان! ثم كيف ّ‬ ‫تاريخ املوتى‪ .‬لذا عليك تهيئة النف�س لل�سباحة يف‬
‫م�شوية! والعاقل �إىل‬
‫ّ‬ ‫والطعام �إىل �أفخاذ جنود و�سجناء‬ ‫الدم‪ .‬فهو احلرب الوحيد الذي �سيتم فيه تدوين طقو�س‬
‫جمنون! ثم كيف عاد «�ستيفاين بروك�سن» من املوت‬ ‫الإرهاب و�أحداثه �ص‪.»290‬‬
‫�إىل احلياة ليكتب �شهادته عن الرواية التي كُ لِّف بها‪,‬‬ ‫وبرف�ض «�آدم» لهذه املهمة حت ّل عليه لعنة وزير‬
‫وعن «طورو�س» وزمنه وعن�رصيته! كما ميكن معاينة‬ ‫«احلوا�س»‪ ,‬ومدير �شعبة «ال�صم النطق البكم» اللذين‬
‫ثيمة التنا�ص يف ا�ستلهام حكاية «�سندريال» وق�صة‬ ‫أدبية) ليواجه‬
‫يدفعان به �إىل الزنزانة (الزريبة ال ّ‬
‫�أبي الب�رش «�آدم» وعقابه على خطيئته‪ ,‬وع�رشات‬ ‫تخيلها‬
‫�صنوف التعذيب التي مل ت�سعفه موهبته يف ّ‬
‫النماذج التاريخية واملعا�رصة التي تتم ّثل يف �صورة‬ ‫من قبل! بدءا من مترين «نزهة الرباءة» مرورا بتمرين‬
‫الديكتاتور «طورو�س»‪ .‬وبتكامل هاتني الثيمتني‪:‬‬ ‫«مكب�س احلرير»‪ ,‬وانتهاء بتمرين «هم�س املالئكة»‪.‬‬
‫«التحول» و«التنا�ص» وتناغمهما يرتقي الربنامج‬ ‫ّ‬ ‫املرة‬
‫وتعك�س �أ�سماء هذه التمارين املفارقة ال�ساخرة ّ‬
‫ال�رسدي يف «دي�سوكالند» �إىل م�صاف الفن الرفيع‬ ‫بني داللتها اللغوية وداللتها الواقعية التي تنطوي‬
‫املمتع واملح ّفز واملثري‪.‬‬ ‫على �ش ّتى �أنواع التعذيب املبتكرة‪ ,‬و�أعنف االحتقار‬
‫ـ ال�صيغ ال�سرديّة‪:‬‬ ‫للكائن الب�رشي‪ .‬وب�سببها يذعن «�آدم ال�سومري»‬
‫يف النهاية لكتابة رواية جديدة عن الإمرباطور‬
‫تتباين م�ستويات ال�رسد يف «دي�سكوالند» ما بني‬ ‫«طورو�س» حتت عنوان‪« :‬دي�سكوالند» وهي الرواية‬
‫الواقعية املتم ّثلة يف ت�صوير حياة الأب «مالك»‪,‬‬ ‫التي بني �أيدينا‪ .‬والتي و�صلت لنا �إحدى ن�سخها‬
‫�شخ�صية وحياة‬
‫ّ‬ ‫والفانتازية املتم ّثلة يف ت�صوير‬ ‫امللقاة من يد «طورو�س» وهو برفقة كاتبها «�آدم‬
‫«طورو�س»‪ .‬كما تتباين م�ستويات اللغة ما بني‬ ‫ال�شمال!‬
‫ال�سومري» على يخته الذي ميخر عباب بحر ّ‬
‫التوا�صلية التي حتر�ص على �إي�صال املعنى‬
‫ّ‬ ‫الوظيفية‬ ‫ومن هنا ُي ْد َر ُج هذا الن�سق ال�رسدي يف �سياق «امليتا‬
‫املخيلة‬
‫ّ‬ ‫املبا�رش‪ ,‬واملجازية ال�شاعرية التي تطلق‬ ‫أولي ًا لفكرتها و�أ�سبابها‬
‫رواية» بو�صفه �رشح ًا � ّ‬
‫وتو�سع دوائر داللة ال ّن�ص‪« :‬كان الليل يف اخلارج‬
‫ّ‬ ‫درج على م�ستوى التخييل يف‬
‫معطف ًا ثقي ًال �ص‪« ,»4‬الزمن جي�ش طويل يخرتق‬ ‫وظروف كتابتها‪ ,‬كما ُي َ‬
‫�سياق اخلطاب الفانتازي القائم على عدد من الثيمات‬
‫جثماين �ص‪« ,»5‬كان املث ّنى نهراً �ص‪« ,»42‬لوزانا‬ ‫«التحول» و«ال ّتنا�ص»‪ .‬و ُيعنى‬ ‫املتواترة لعل �أبرزها‪:‬‬
‫ملونة‬ ‫ّ‬
‫برية يف حقل �شا�سع �ص‪�« ,»83‬أنت لوحة ّ‬
‫زهرة ّ‬ ‫التحول باالنتقال من الواقعي �إىل امليتافيزيقي‪ ,‬ومن‬ ‫ّ‬
‫بالرغبات �ص‪.»203‬‬ ‫املادي‪� ,‬أو العك�س‪ّ � .‬أما التنا�ص ف ُيعنى‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫الروحي‬
‫ّ‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫با�ستلهام املوروث ال�رسدي من ق�ص�ص خيالية‪,‬‬
‫وحكايات �شعبية‪ ,‬و�أمثوالت رمزية‪ ,‬و�شخ�صيات‬

‫‪294‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫«حكاية تبحث عن عنوان»‬
‫لفاحتة الطايب‬
‫�إبراهيم احلجري‬
‫كاتب وناقد من املغرب‬

‫تفح�صه لأوليات الن�ص وعتباته الأوىل‪ ،‬بقدر ما‬


‫باتت هجا�سية ال�صوغ لدى الكاتبة �إبان التخلق‬ ‫مل ي�أت العنوان الذي و�ضعته القا�صة فاحتة‬
‫الأول للن�صو�ص �أو لنقل‪ :‬للمجموعة ككل‪ .‬وهي‬ ‫الطايب ملنجزها الق�ص�صي مو�سوما بـ«حكاية‬
‫�أ�سئلة ملحاحة توحي ب�أن املبدعة م�شدودة �إىل فعل‬ ‫تبحث عن عنوان»؛ من قبيل امل�صادفات �أو‬
‫احلكي‪ ،‬وبنف�س القدر مرتبطة ب�س�ؤال كينونة الن�ص‬ ‫االختيارات االعتباطية‪ ،‬بل جاء �إعالنا عن نوايا‬
‫و�أدوات متثله وا�ستيعابه ل�شكل ال�س�ؤال وهوية الفكرة‬ ‫ات�صالية توجه فعل التلقي انطالقا من امل�شري‬
‫ونوعية الر�سالة‪� :‬أي �أنها تكتب‪ ،‬و�أناملها املبدعة‬ ‫الأويل الأقوى ح�ضورا؛ وهو العنوان؛ وان�سجاما‬
‫مو�صولة بفكرها و�أ�سئلتها النقدية امل�شاك�سة التي‬ ‫مع ت�صور خطابي يروم ت�أ�سي�س ر�ؤية خمتلفة يف‬
‫ال تطمئن �إىل اجلاهز من الأمناط �أو القوالب‪ ،‬وال‬ ‫التعامل مع اجلن�س الأدبي؛ وك�أنها ترى �أن الإميان‬
‫ت�ستكني �إىل ا�ستعادة التجارب وبديهيات الأفكار‬ ‫الهجا�سي ب�أ�سبقية ال�شكل والتفكري فيه ي�شكل �أكرب‬
‫واملعاين والأ�سئلة‪.‬‬ ‫عائق �أمام املوهبة يف بناء احلكي وفق ما تتطلبه‬
‫لقد متر�ست فاحتة الطايب على درا�سة املتون‬ ‫البنى القيمية والداللية التي يقرتحها الن�ص‬
‫ال�رسدية‪ ،‬وه�ضمت قوالبها و�أمناطها يف �إطار‬ ‫و�صاحبه و�سياقه معا‪.‬‬
‫الدر�س الأكادميي؛ حيث تدر�س لطلبتها الأجنا�س‬ ‫هل من ال�رضوري �أن ي�ستفتح القا�ص ن�صه بعنوان؟‬
‫الأدبية وتوجهاتها اجلديدة‪ ،‬وخطاب ال�شعريات‬ ‫وهل من املفرو�ض �أن يكون العنوان خربيا �أو‬
‫احلديث؛ ونظرية ال�رسديات يف انفتاحها على العلوم‬ ‫�إنكاريا �أو ا�ستفهاميا؟ ومتى نقول هذا عنوان جيد‪،‬‬
‫الإن�سانية من �سو�سيولوجيا ول�سانيات وتاريخ‬ ‫موات للن�ص؟ وهل يقدم‬
‫وهذا عنوان غري الئق �أو غري ٍ‬
‫و�سيميولوجيا‪ .‬وهذا ال�سبق للوعي النقدي النظري‬ ‫العنوان خدمة للن�ص والقارئ �أو لفعل التوا�صل بني‬
‫لدى الكاتبة يف جتربتها الأدبية والإبداعية‪� ،‬سي�شكل‪،‬‬ ‫قطبي القراءة؟ �ألي�س من الأجدر �أن يف�صح الن�ص‬
‫دون �شك‪ ،‬انتقاال ملمو�سا على م�ستوى املنظور‬ ‫عن ذاته‪ ،‬بدل �أن تنوب عنه م�شرياته الأولية التي‬
‫الكتابي والر�ؤية ال�صوغية لفن الق�ص‪� .‬إذ تظل الق�صة‬ ‫غالبا ما تكون يف الن�ص احلديث م�ضللة؟ وهل‬
‫لديها مرهونة �أبدا �إىل ال�س�ؤال النقدي الذي يبدو �أكرث‬ ‫يقوم العنوان وما معه من مداخل �إ�شهارية كاللوحة‬
‫ح�ضورا على م�ستوى �شعرية اخلطاب‪ -‬وجماليته‬ ‫و�صورة الغالف بدعوة القارئ القتحام الن�ص‪،‬‬
‫يف هذا املنجز‪ .‬لذلك كانت حرية املدلول والدال معا‬ ‫و�إثارة اهتمامه و�شد �شهيته للقراءة؟ وما الذي‬
‫هي مي�سم الن�صو�ص وعالمتها الفارقة‪� .‬إن جامع‬ ‫ي�سبق من حيث التواجد‪ ،‬الن�ص �أم عنوانه؟ كل هذا‬
‫كتابتها‪ ،‬وفق هذا النزوع‪ ،‬ي�ؤ�س�س لفكرة ال�شك لدى‬ ‫البحر من الأ�سئلة وغريها تراود القارئ وهو يت�أمل‬
‫القا�ص يف الداللة والر�سالة وال�صوغ الفني؛ �أي �أن‬ ‫العنوان الذي اختارته الكاتبة ملنجزها الق�ص�صي‬
‫يكتب الكاتب ما يكتبه‪ ،‬وهو يف حل من القوالب‬ ‫الأول‪ .‬وهذه الأ�سئلة بقدر ما تراود املتلقي �إبان‬
‫‪295‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫وي�شحنه بالت�سا�ؤالت ويربك طم�أنينته عو�ض �أن‬ ‫اجلاهزة والأ�شكال املنمطة م�سبقا‪.‬‬
‫يقدم له متعة جاهزة ك�سلى‪.‬‬ ‫لقد �ساهم الوعي النقدي لدى فاحتة الطايب يف‬
‫لقد �سبقت الإ�شارة �إىل �أن تقوي�ض �شكلية العنونة‬ ‫توجيه جتربة ال�رسد يف هذه املجموعة‪ ،‬فجعلها‬
‫�أول عالمات هذا التمرد على النمط التقليدي يف بناء‬ ‫تبدو حبلى بالتجليات الت�صورية والأطروحية التي‬
‫الن�صو�ص‪ :‬لقد حافظت الكاتبة على وجود العناوين‬ ‫تنتقد و�ضعا وت�ؤ�س�س ل�سريورة و�ضع �آخر ينتحي‬
‫غري �أن بنيتها وداللتها معا يهج�سان بالأفق ال�ساخر‬ ‫فل�سفة ال�س�ؤال بدل االطمئنان �إىل النظرة اجلاهزة‬
‫لتواجده ال�شكلي على هام�ش الن�ص‪ .‬وهو �أول �إعالن‬ ‫للعامل والأ�شياء والقيم ا�ستنادا �إىل ال�سائد من العوائد‬
‫تعاقدي مع القارئ ب�رضورة تقبل ن�صو�ص غري‬ ‫واملوروثات‪ ،‬وك�أنها‪ ،‬بهذه التجربة املخاتلة‪ ،‬تدعو‬
‫مهادنة تربز تبا�شريها منذ العتبة الأوىل‪ ،‬منذ باب‬ ‫الكتاب �إىل اخلروج من قوقعات التقليد‪ ،‬وترك‬
‫الولوج‪� .‬إن املجموعة ال تبحث عن عنوان؛ وال حاجة‬ ‫الن�ص ي�شكل ذاته بدل خنقه بالقوالب امل�شيدة �سلفا‪.‬‬
‫لها به‪� ،‬إمنا تبحث‪ ،‬مع �سبق الإ�رصار والرت�صد‪ ،‬عن‬ ‫وبالنظر �إىل كون الإبداع هو ما يغني النظريات‬
‫هوية �شكلية جديدة‪ ،‬عن موطئ قدم و�سط هذا احل�شد‬ ‫الأدبية والنقدية‪ ،‬وثراءه وتعدده هو ما يجعل هاته‬
‫من الأمناط املتكررة‪ ،‬عن ت�أ�شرية اعرتاف املرور‬ ‫النظريات دائمة التطور والدينامية‪ ،‬فالنقاد يبنون‬
‫�إىل امل�شهد املطمئن للأعراف‪.‬‬ ‫�أحكامهم وت�صوراتهم انطالقا من خربات قرائية‬
‫وتتجذر هذه املالحظة بالنظر �إىل طبيعة ت�شكيل‬ ‫لن�صو�ص كثرية‪� ،‬أما‪ ،‬يف حال العك�س‪� ،‬أي االرتهان‬
‫الغالف‪� ،‬سواء كان ذلك من اقرتاح الكاتبة وب�إ�رشاك‬ ‫�إىل اجلاهز من الأدبيات النقدية فهو ال يولد �سوى‬
‫منها‪� ،‬أو كان ناجما عن ت�رصف وقراءة النا�رش‪:‬‬ ‫االجرتار والتقليد و�إنتاج الأفكار والت�صورات ذاتها‪،‬‬
‫فاللوحة بدل �أن ت�أخذ حيز الو�سط‪� ،‬صعدت �إىل‬ ‫ال�شيء الذي يتنايف مع منطق العامل وبديهياته‬
‫الأعلى يف تواز مع ا�سم امل�ؤلفة‪ ،‬فيما تو�سطت‬ ‫الالم�ستقرة‪.‬‬
‫امل�ؤ�رش اجلن�سي الغالف‪� ،‬أما العنوان فانحدر �إىل‬ ‫وانبثاقا عن هذا املنظور‪� ،‬س�أر�صد �أثر هذا التنازع‬
‫موقع �أ�سفل ال�صفحة متخذا �صيغته املفتوحة‪.‬‬ ‫الذي يتملك الذات املبدعة‪ ،‬من خالل جتربتها‬
‫وتبدو امل�شاك�سة النقدية الت�صورية‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬إذا ما‬ ‫الأوىل‪ ،‬عرب ن�صو�ص املجموعة‪ ،‬مربزا املظاهر‬
‫ت�أملنا طبيعة الن�ص الق�ص�صي يف هذه املجموعة؛‬ ‫التي يربز فيها اال�شتغال التجريبي للمفهومية يف‬
‫خا�صة على م�ستوى البداية والنهاية يف احلكي‪� :‬إن‬ ‫ال�رسديات‪ ،‬حيث تتحكم يف بناء منوذج الن�ص‬
‫الق�صة‪ ،‬وفق النموذج الن�صي هنا‪ ،‬تنطلق مبا�رشة‬ ‫الق�ص�صي جمموعة من املفاهيم النقدية الب�ؤرية‬
‫من نقطة متقدمة يف احلكي‪ ،‬وك�أنها مبتورة من‬ ‫النابعة من قناعات املبدعة وتوجهاتها الأدبية‪،‬‬
‫الأول والآخر‪ .‬فهي ت�ضع قارئها مبا�رشة و�سط �سياق‬ ‫واختياراتها الت�صويرية التي ظلت حا�رضة عرب‬
‫املحكي‪ ،‬وحت�رشه يف و�سط احللبة دون مقدمات وال‬ ‫هذا املنجز من �أول عتبة حتى �آخر ب�صمة �رسدية‬
‫متهيدات تو�صيفية لل�شخو�ص �أو املكان والزمن كما‬ ‫لها‪ .‬وهي منطلقات‪ ،‬تعقد من و�ضعية تلقي هذه‬
‫هو معتاد يف بنية الن�ص الق�ص�صي [و�ضعية بدئية‬ ‫املجموعة‪ ،‬حيث يقت�ضي التفاعل مع التجربة هاته‪،‬‬
‫(حالة توازن) – و�ضعية م�أزومة (حبكة‪ ،‬العقدة)–‬ ‫الإملام مبكونات ال�رسد و�أ�ساليب �صوغه ومنظوراته‬
‫و�ضعية نهائية (احلل‪ ،‬املكاف�أة)]‪ .‬وحتتفظ الكاتبة‪،‬‬ ‫وخطاباته املتعددة مبعنى �أن الكتابة هنا تراهن‬
‫فح�سب‪ ،‬ببدن الن�ص داعية‪ ،‬بذلك‪ ،‬املتلقي �إىل‬ ‫�أي�ضا على ت�شغيل القارئ و�إ�رشاكه يف الت�صورات‬
‫حتريك خميلته الك�سلى وت�شييد عوامل الن�ص؛ وفق ما‬ ‫النقدية وم�شاطرته للأ�سئلة القيمية واجلمالية‬
‫يراه منا�سبا لثقافته‪ ،‬بدل تلقي عوامل م�شيدة �سلفا‬ ‫التي ت�ؤرق الكاتبة و�سياقاتها املحيطة بالتجربة؛‬
‫من قبل الرواة‪� .‬إن الق�صة‪ ،‬بهكذا بناء‪ ،‬حترم املتلقي‬ ‫وك�أنها تريد من الن�ص الق�ص�صي �أن يحيرّ قارئه‪،‬‬
‫‪296‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫تفا�ضل بني اللغات‪� .‬أي �أن اللغة ال تكت�سي �أهميتها‬ ‫من نكهة الطم�أنينة واملتعة الك�سلى وت�سعى‪ ،‬بوعي‬
‫�إال داخل منطوقها الن�صي؛ و�أن لل�شخ�صيات‬ ‫م�سبق ومق�صود‪� ،‬إىل ت�شوي�ش معتاده التخيلي الذي‬
‫الق�ص�صية احلق يف انتقاد اللغة التي حتوي �أفكارهم‬ ‫�سي�ست�سلم للجاهز والبدهي‪� .‬إذ ما قيمة القراءة كفعل‬
‫ور�ؤاهم‪ ،‬وجت�سد العوامل وفق منظوراتهم؛ ما دامت‬ ‫وكممار�سة‪� ،‬إذا مل حترك �أ�شجان القارئ‪ ،‬وت�شغل‬
‫اللغة �أنظمة توا�صلية تختلف باختالف املجموعات‬ ‫ذهنه‪ ،‬وت�شحنه بالأ�سئلة النقدية من �أجل �إعادة النظر‬
‫الب�رشية؛ ح�سب ثقافتها وهمومها و�أ�سئلتها التي ال‬ ‫يف امل�سلمات التي ت�أ�س�ست وفق الرتاكم االعتيادي‬
‫تت�شابه البتة‪ .‬فالن�ص مثله مثل العامل من حقه �أن‬ ‫الطقو�سي؟ تقول الراوية يف بداية �أحد الن�صو�ص‪:‬‬
‫يت�سع لكل الفئات والأقليات والأعراق واملجموعات‪.‬‬ ‫«مل يجر�ؤ �أحد منهم على خرق ال�صمت»‪ ،1‬وتقول يف‬
‫�إن اللغة غري مقد�سة هنا‪ ،‬وال هي حمتفظة بنقائها‪:‬‬ ‫النهاية‪« :‬للحكمة‪ ،‬فعال‪ ،‬ر�ؤو�س خم�صو�صة تنبت‬
‫�إذ تتجاور اللهجة والف�صحى‪ ،‬الأجنبية واملحلية‬ ‫فيها»‪ .2‬فمثلما �أن القارئ ي�شعر ب�أن الن�ص ال بداية‬
‫يف تعاي�ش تام دومنا �إح�سا�س بالنق�ص �أو الدونية‪.‬‬ ‫له‪ ،‬يخرج من حلبته يف الأخري وهو يح�س ب�أنه ال‬
‫ومن مناذج هذا التجاور‪ :‬العامية املغربيـــــــــة‬ ‫نهاية له‪ ،‬وما على القارئ �إال �أن ي�ؤ�س�س مقروئيته‬
‫(املكتـــــاب ما منو هروب)‪ ،‬الأمازيغيـــــــة (�أقمو‬ ‫اخلا�صة لبداية الن�ص ونهايته‪ ،‬بل �أي�ضا لو�سطه‪،‬‬
‫نينان �سوظ �إ�سوظ)‪ ،‬الأجنبيـــــة (‪Vous n›avez‬‬ ‫بحكم �أنه مطالب ب�إعادة ت�شكيل �صياغة مفرت�ضة‬
‫‪pas le droit de le frapper… La police‬‬ ‫له تن�سجم مع البداية والنهاية اللتني يقرتحهما‪.‬‬
‫‪ ،)est en route‬ف�ضال عن اللغة العربية الف�صحى‬ ‫وتتعمق‪ ،‬عرب املنت‪ ،‬الر�ؤية التجريبية يف تك�سري‬
‫التي تلحم مكونات الن�ص‪ .‬والأكيد �أن العربية لن‬ ‫خطية ال�رسد وترتيب الأحداث‪ ،‬حيث ال وجود لنظام‬
‫ي�ضريها هذا التعدد اللغوي وهذا الزخم من الأنظمة‬ ‫قار ي�ؤثث البنية‪ .‬وغالبا ما يثور الرواة على ال�رسد‬
‫العالماتية‪ ،‬بل ي�شكل �إثراء لها‪ ،‬وتطعيما ملكوناتها‪.‬‬ ‫نف�سه‪ ،‬فت�صبح الكتابة �أقرب ما تكون �إىل الت�أمل‬
‫ويعد هذا دفاعا عن تعاي�ش املختلفات وجتاوزها‬ ‫الفل�سفي والنقد املقايل للظواهر‪ ،‬خا�صة ملّا جتعل‬
‫نب لنظرة باختني‬ ‫بدل اجتثاث النقي�ض وتهمي�شه‪ ،‬وت ٍّ‬ ‫الراوية نف�سها �شخ�صية تقتحم حلبة ال�رصاع را�سمة‬
‫حول اخلطاب املهجن �أو البوليفوين‪.‬‬ ‫بذلك حدود التوزع وامتالء احلدث ونزول الفكرة‬
‫�أما على م�ستوى الق�ضايا املطروقة والظواهر‬ ‫وحترك ال�شخ�صية و�أفق التحول من حالة �إىل حالة‪،‬‬
‫املتناولة‪ ،‬فيتجه املنجز �إىل النظرة ال�ساخرة‬ ‫م�صورة نف�سها «�إلها» يتحكم يف العوامل‪ ،‬ويكب�س‬
‫ملنظومة القيم ال�سائدة التي ت�ستند �إىل املوروث‬ ‫�أنفا�س ال�شخو�ص ويوجه �أفكارها وحواراتها (التي‬
‫التقليدي يف غياب مطلق للعقل وت�شغيل املنطق‪.‬‬ ‫تكون نادرة)‪ .‬وهذا الو�ضع الذي تربز فيه الراوية‬
‫وهو اجتاه يو�ضح عدم ر�ضى الكاتبة عن حالة‬ ‫يخدم فكرة مفادها تقزم ال�شخ�صية الإن�سية‪ ،‬وتنميط‬
‫االطمئنان املخيفة التي يتبناها الإن�سان العربي‬ ‫فكرها‪ ،‬والدو�س على القيم اجلميلة التي ميليها‬
‫جتاه ما يفكر فيه؛ وما ي�ستهلكه من قيم‪ ،‬وك�أنه‬ ‫الطابع الب�رشي‪ ،‬حيث �أ�صبح الإن�سان جمرد �شيء‬
‫�أجوف خال من العقل‪ .‬لقد �أدت النظرة القد�سية‬ ‫يف عامل حتتكر فيه املادية كل املجاالت‪ ،‬وتنتهك‬
‫بالإن�سان العربي �إىل اعتبار كل �شيء ثابت يجب‬ ‫الت�شييئية خمتلف �أن�شطة الب�رش ملتهمة بذلك كل ما‬
‫�أن ينظر �إليه مثلما َنظر �إليه ال�سابقون دون بذل �أي‬ ‫يحفظ �صورة الب�رش داخل عامل يتعقد يوما عن يوم‬
‫جهد لت�شغيل العقل‪� .‬إن الإن�سان العربي‪ ،‬بهكذا فعل‪،‬‬ ‫معلنا (نهاية الإن�سان) و(موت امل�ؤلف) واقرتاب‬
‫يحيل �أقوى مميزاته الب�رشية على التقاعد الأبدي‬ ‫نهاية الكون وما �إىل ذلك من الر�ؤى الن�سقية‪...‬‬
‫الذي هو العقل‪ .‬وهو و�ضع م�أ�سوف عليه تبعا‬ ‫ومل ت�سلم اللغة نف�سها من هذا الدفق النقدي‪� .‬إذ ترى‬
‫للمنجز‪ ،‬وهذه هي الر�سالة التي ت�سعى املجموعة‬ ‫املجموعة‪ ،‬انبثاقا عن �أ�سلوب تعاملها مع اللغة‪� ،‬أال‬
‫‪297‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫معنيا �أي�ضا بهذه احلفرية؛ ف�إن �أطروحة املر�أة �أو ما‬ ‫لرت�سيخها‪ ،‬والأطروحة التي تدافع عنها طيلة م�سار‬
‫ي�صطلح عليها البع�ض الن�سوية (‪)Féminisme‬‬ ‫امل�رسود‪.‬‬
‫ال ت�شكل‪ ،‬عرب الت�صور الذي تقرتحه املجموعة �إال‬ ‫وتبدو الأطروحة الن�صية التي تنتقد الواقع‬
‫عن�رصا �ضمن ن�سق متجان�س من الق�ضايا العالقة‬ ‫وتعري ب�سخرية جارحة زيفه واندحار قيمه‪ ،‬يف‬
‫التي ميثل الرجل �أي�ضا جزءا من معادلتها‪ .‬ذلك �أن‬ ‫جتلي ال�صورة التي تبدو عليها حياة ال�شخو�ص‬
‫املر�أة والرجل معا عانيا‪ ،‬ب�صورة جتعل كال منهما‬ ‫ونف�سياتهم‪ ،‬ويف اندحار متثالتهم حول العامل‪،‬‬
‫يبدو �أنه �سبب م�أ�ساة الآخر‪ ،‬من م�ؤامرة التاريخ‬ ‫ويف رف�ضهم لأحوالهم االجتماعية‪ .‬ومن هنا‪،‬‬
‫التي ي�صنعها الإن�سان نف�سه باجرتار �أفكار ور�ؤى‬ ‫كانت النظرة النقدية ال�سلطوية للرواة تت�سع را�سمة‪،‬‬
‫وتقاليد الآخرين‪� .‬إنها جتاوز حمنة اجل�سد الثقايف‬ ‫بذلك‪ ،‬حدود العالقة بني الراوي وال�شخ�صية والعامل‬
‫ككل‪ .‬ذلك الذي تتفاعل فيه مكونات اللغة‪ ،‬العادات‪،‬‬ ‫والكاتبة‪ ،‬والتي كلما ات�سعت؛ ازدادت �صور املفارقة‬
‫ال�سلوكات‪ ،‬الأفكار‪ ،‬اللبا�س‪ ،‬توا�صل الب�رش‪ ،‬العلم‪،‬‬ ‫والتوج�س وتراجع النزعة الإن�سانية لدى ال�شخو�ص‬
‫املحكيات الكربى‪ ،‬الغرائز‪ ،‬ال�سيكولوجيا‪ ...‬وغري‬ ‫من خالل اغتيال عزائمها و�إرادتها وقوتها على‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫التحدي وال�صمود من �أجل اخلال�ص‪ .‬لقد افتقدت‬
‫لقد جنحت فاحتة الطايب يف اقرتاح طبق ق�ص�صي‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬عرب الن�صو�ص‪ ،‬نكهة االنت�صار‪ .‬وكان‬
‫د�سم �أمام القارئ املتعدد‪ .‬ولئن كان هذا الطبق قد‬ ‫قدرها الن�صي الذي �سلطه عليها الرواة لإبالغ‬
‫ُه ّيئ‪ ،‬عن ق�صد نقدي ح�سا�س‪ ،‬ب�صيغة تتعب املتلقي‪،‬‬ ‫ر�سالتهم‪ ،‬هو �أن تكون �أبدا يف ذلة الهزمية‪ ،‬متجرعة‬
‫وت�شغله يف �إعادة تركيب املنت املختل الرتتيب‬ ‫�سخرية العامل من حولها‪ ،‬متوهمة انت�صاراتها‬
‫والتوازن ال�سريوري لبنية املحكي‪ ،‬ويت�أ�س�س‬ ‫يف �صور مزيفة احل�ضور‪( :‬كان دائم البحث عن‬
‫على حمكي يتجاوز ال�رسد �إىل النقد والت�أمل‪ ،‬فقد‬ ‫االنت�صارات‪ ...‬انت�صار الفريق الوطني يف مباراة‬
‫دولية‪ ،‬حدث الأحداث‪ .‬عندما ال ي�سعفه الفريق‬
‫يجد فيه كل باحث �ضالته‪ :‬املحكي الإثنوغرايف‪،‬‬
‫الوطني يلتفت �إىل الفرق اجلهوية‪ ،‬ينتقل من فريق‬
‫اللّ�سني‪ ،‬التاريخي‪ ،‬الفل�سفي‪ ،‬التخطيب ال�رسدي‪،‬‬
‫�إىل �آخر �إىل �أن ينقذه انت�صار عداء �أو عداءة يف‬
‫البعد التداويل‪ ،‬املنحى ال�سيميائي‪ ...‬وغريها‪ .‬ودون‬
‫�ألعاب القوى‪ .‬حتى انت�صاره يف لعبة ال�ضومينو‬
‫�شكّ ‪� ،‬سترثي هذه التجربة ما تراكم‪ ،‬يف املغرب ويف‬
‫ي�صريه حدثا»‪ .3‬لقد باتت ال�شخ�صية تبحث عن طعم‬
‫العامل العربي‪ ،‬من ح�سا�سيات �رسدية متزج بني‬
‫الفوز خارج نطاق الذات واجل�سد‪ ،‬يف �أي �شيء تراه‬
‫التطلعات الداللية للع�رص‪ ،‬والرهانات التجريبية‬ ‫كفيال بتح�سي�سها بهذه الن�شوة املفقودة‪.‬‬
‫الق�صة يف �أفق م�سايرة م�سل�سل التطورات‬
‫ل�شكل بناء ّ‬ ‫وال �أن�سى الإ�شارة �إىل �أن الكاتبة‪ ،‬عرب هذه املجموعة‪،‬‬
‫الالمهادنة التي تع�صف بالعامل‪.‬‬ ‫حتاور �أي�ضا اجل�سد‪ ،‬وحتفر تر�سباته النف�سية‬
‫‪ - 1‬فاحتة الطايب‪ :‬حكاية تبحث عن عنوان‪ ،...‬جمموعة ق�ص�صية‪ ،‬دار‬ ‫العميقة لدى الرواة وال�شخو�ص معا‪ ،‬وك�أنها تعمل‬
‫دال للن�رش والتوزيع‪ ،‬دم�شق‪� ،‬سوريا‪ ،‬ط‪2012 ،1 .‬م‪� ،‬ص‪. 61.‬‬
‫‪ - 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.63 .‬‬
‫حفريات �أركيولوجية يف ذاكرة هذا اجل�سد‪ .‬ولئن‬
‫‪ - 3‬فاحتة الطايب‪ ،‬م�صدر مذكور‪� ،‬ص‪.40 .‬‬ ‫كان اجل�سد الأنثوي ب�أ�سئلته الف�ضفا�ضة واملتداخلة‬

‫‪298‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬


‫فخاخ ال�شعر فـي‬
‫«مظلّة» ب�شرى خلفان‬
‫عبدالرزاق الربيعي‬
‫�شاعر وكاتب من العراق يقيم يف ُعمان‬

‫«مل يكن يعرف �أن �أجنحته م�صنوعة من ال�شمع‬ ‫كلّما قر�أت ن�صا ق�ص�ص ّيا للكاتبة ب�رشى خلفان �أجد نف�سي‬
‫لذا حلّق قريبا من ال�شم�س‪/‬ال�شم�س مل تعرف ذلك �أي�ضا‪/‬‬ ‫منبهرا بلغة ال�شعر التي تطفح من جملها املكتنزة ب�ضوئه‬
‫لكن اخلوف ت�سلّل من قلب �أبيه‪/‬وو�شى به ‪»...‬‬ ‫يدي‬
‫د�ست م� ّؤخرا بني ّ‬ ‫وده�شته‪ ،‬لذا مل �أفاج أ� حينما ّ‬
‫يف ن�ص �آخر نقر�أ‪:‬‬ ‫مطبوعا �أنيقا بحجم كفّ اليد �صدر �ضمن من�شورات «بيت‬
‫«ثالثة �أطفال‪/‬بنتان وولد‪/‬ولدان وبنت‪/‬طفالن‪/‬بنت‬ ‫احلب وال�ضحك» حتت م�س ّمى‬ ‫الغ�شّ ام» حمل عنوان» مظلّة ّ‬
‫«ن�صو�ص» وهو تو�صيف �أرادت به الكاتبة ترك الباب‬
‫وولد‪/‬ولدان �أو بنتان‪/‬طفل واحد‪/‬ولد‪�/‬أو بنت‬
‫والقراء لت�صنيف الكتاب‪ ،‬فهل ماورد يف‬ ‫مفتوحا للنقّاد ّ‬
‫هذا ما كانت تهم�س به‪ /‬وهو ميد لها يده يف الظالم»‬
‫املطبوع «ق�ص�ص ق�صرية ج ّدا» نظرا خليوط ال�رسد التي‬
‫لو فح�صنا الن�صو�ص املذكورة فح�صا دقيقا نرى � ّإن‬ ‫تربط اجلمل بع�ضها ببع�ض؟ �أم �شعر؟؟ �أم منط �آخر من‬
‫عنا�رص ال�رسد متوافرة فيها من �شخو�ص وحوار وبنية‬ ‫الن�ص ّية؟‬
‫الكتابة ّ‬
‫لكن الكاتبة قامت بغربلة الن�ص وحذف الو�صف‬ ‫حكائ ّية‪ّ ،‬‬ ‫يف «توطئة» الذي افتتحت به الإ�صدار تقول ب�رشى ‪:‬‬
‫والتفا�صيل و�أبقت على جوهر البنية ال�رسدية‪،‬وبذلك‬ ‫«لأين ال �أعرفني‪� /‬صديقتي التي تعرفني جيدا‬
‫قالت يل ‪� :‬أنت حتبني الكتابة �أكرث منه»‬
‫وهي «توطئة» حتمل الكثري من املفاتيح ال�رضورية‬
‫لقراءة الإ�صدار‪ ،‬بدء�أ من بناء الن�ص‪،‬وهو بناء �شعري‪،‬‬
‫تف�ضلها‬
‫ولي�س انتهاء بالعالقة امل�شيم ّية بالكتابة التي ّ‬
‫«الكاتبة» على من حتب‪ ،‬يف «نريفانا» نقر�أ ‪:‬‬
‫«�أبوها و�أمها‪ /‬من�شغالن‪/‬بكراهية الطريق‬
‫وهي على املقعد اخللفي‪/‬تداعب امل�صابيح‬
‫على زجاج الليل‪/‬وتبت�سم»‬
‫فالكاتبة هنا تر�سم م�شهدا‪ ،‬عاد ّيا لرجل وامر�أة يف طريق‪،‬‬
‫يتح ّدثان يف �أمور �ش ّتى تتعلّق بـ«طريق احلياة» املليء‬
‫باملط ّبات‪ ،‬ثم تنتقل ال�صورة �إىل اخللف حيث جتل�س طفلة‬
‫تراقب‪،‬من خلل عتمة الأحاديث‪� ،‬أ�ضواء امل�صابيح باحثة‬
‫عن �ضوء يف �آخر النفق‪.‬‬
‫وت�ستح�رض حكاية «عبا�س بن فرنا�س» الذي حلم ب�أن‬
‫يحلّق يف ال�سماء كما الطائر م�ستعينا ب�أجنحة من ال�شمع‬
‫يف ن�ص «و�شاية»دون �أن ت�شري �إىل ذلك‪ ،‬لك ّنها تلوي عنق‬
‫الأ�سطورة لتخرج لنا بحكاية جديدة‪:‬‬
‫‪299‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫وتريد �أن تخرج �إىل ذلك الف�ضاء ال�شا�سع ‪ :‬ال�شعر‬ ‫فقد وجلت منطقة ال�شعر القائمة على الإختزال واللمح‬
‫ولكن هل ماكتبت ب�رشى خلفان يف �إ�صدارها اجلديد‬ ‫والإ�شارة‬
‫ميكن له �أن يقف بعل ّو قامته يف مدائن ال�شعر و يطيل‬ ‫واكتفت بب�ضع كلمات لتكتب ما ي�شبه «الهايكو» الياباين‬
‫املكوث فيها؟‬ ‫الذي يت�ألف من بيت واحد فقط‪ ،‬مكون من �سبعة ع�رش‬
‫تتهرب «ب�رشى» من الإجابة عنه‪،‬‬ ‫هذا ال�س�ؤال كثريا ما ّ‬ ‫مقطعا �صوتيا‪ ،‬ويكتب عادة يف ثالثة �أ�سطر‪� ،‬أو الدارمي‪،‬‬
‫وحني �س�ألتها �إن كانت تنوي الت�سلّل �إىل منطقة ال�شعر‪،‬‬ ‫وهو من فنون ال�شعر ال�شعبي العراقي املتداولة يف مناطق‬
‫وهي منطقة تنظر لها بعني الهيبة‪ ،‬نفت ذلك ب�ش ّدة واكتفت‬ ‫الفرات الأو�سط وجنوبه ويقوم هذا الفن على اختزال‬
‫بو�ضع ا�صبعها على مفردة «ن�صو�ص»؟‬ ‫املعنى �أو التجربة ال�شعور ّية يف بيت واحد هو مبثابة‬
‫�أم ي�ص ّنف حتت م�س ّمى «ن�ص مفتوح» كما فعلت يف‬ ‫ق�صيدة كاملة‬
‫كتابها «غبار» الذي نظر �إليه د‪.‬غالب املطّ لبي « ن�ص‬ ‫كقول ال�شاعر ‪�« :‬أرد ان�شدك وارجوك �صارحني ياهواي‪/‬‬
‫نرثي عايل اللغة حتاول الكاتبة فيه �صنع «قول جميل»‬ ‫تذكرين لوغ�صيت من ت�رشب املــاي»‬
‫من غري اهتمام مق�صود باجلن�س الذي ينتمي اليه ذلك‬ ‫�أو ق�صيدة «الوم�ضة» وهي «�أمنوذج �شعري مبا تكتنزه‬
‫القول و قبل الدخول يف تف�صيالت البنى ال�رسدية التي‬ ‫من ملفوظات قليلة‪ ،‬ذات دالالت كثرية‪ ،‬و�إيحاءات‬
‫حتكم الن�ص» ور�أى « �أن من املمكن لنا اي�ضا �أن ننظر‬ ‫خ�صبة‪،‬تتخ َّلق من ذاتها‪ ،‬وعلى ذاتها‪،‬يف حركة ب�ؤر ّية‬
‫اليه على إ� ّنه جمموعة من الر�سائل املكتوبة بلغة نرثية‬ ‫مكثفة‪ ،‬ومتوترة‪ ،‬ونامية مع كل قراءة» كما يرى د‪.‬حممود‬
‫عالية مفعمة بالطاقة ال�شعرية‪ ،‬لكن ذلك ال مينع �أن ننظر‬ ‫جابر عبا�س‪ ،‬يف مقال من�شور بجريدة «الفينيق» بعدد‬
‫�إليه على �أ ّنه ن�ص �رسدي حمكوم بهيمنة عنا�رص �رسدية‬ ‫�صدر يف ‪2000-9-1‬م �أو الق�صيدة الق�صرية التي‬
‫�أ�سا�س ّية مثل الراوي‪ ،‬واملروي له‪ ،‬والتبئري والأفعال‪،‬‬ ‫ح ّددها الناقد هريبرت ريديف كتابه (ال�شكل يف الق�صيدة‬
‫واملكان‪ ،‬والزمان ال�رسدي»‬ ‫احلديثة) بقوله «عندما ميكن ح�رص املحتوى بدفقة فكرية‬
‫ف�إذا كانت «ب�رشى خلفان «قد وقفت يف «غبار» مبنطقة‬ ‫واحدة وا�ضحة البداية والنهاية‪،‬بحيث تبدو يف وحدة‬
‫و�سطى بني ال�شعر وال�رسد ف إ� ّنها يف �إ�صدارها اجلديد‬ ‫ب ّينة‪،‬عندها ميكن القول �أننا �أمام الق�صيدة الق�صرية»‬
‫جعلت الكفّة متيل كثريا باجتاه عامل الكتابة ال�شعر ّية‬ ‫و�أرى � ّإن ب�رشى خلفان‪ ،‬مع �سعة �إطّ العها‪،‬وهي قارئة‬
‫متخلّية عن الكثري من التفا�صيل التي حتكم الكتابة‬ ‫ج ّيدة لل�شعر و�سواه‪ ،‬حني كتبت ن�صو�ص «مظلّة احلب‬
‫ن�صها من‬ ‫بلب املعنى وجوهره خملّ�صة ّ‬ ‫ال�رسد ّية لتم�سك ّ‬ ‫وال�ضحك»‪ ،‬مل ت�ضع يف ذهنها �شكال مع ّينا‪ ،‬لت�سري على‬
‫الكثري من زوائد و�شحوم اللغة‪ ،‬كقولها يف «مطر» املقطع‬ ‫نهجه‪ ،‬لك ّنها تل ّب�ست �إحدى �شخ�ص ّيات ق�ص�صها ونطقت‬
‫الذي ا�ستقت منه عنوان الإ�صدار‪ ،‬وهو عنوان دال وي�شكّل‬ ‫بل�سانها‪ ،‬لتكثّف جتربة �شعور ّية عاطف ّية ‪ ،‬جل�أت يف‬
‫مفتاحا مه ّما لقراءة الإ�صدار‪ ،‬فمن خالل اللعب بثالث‬ ‫�صياغتها لها �إىل ف�ضاء تعبريي‪ ،‬يعلو على التفا�صيل‪،‬‬
‫مفردات «احلب»‪« ،‬ال�ضحك»‪« ،‬مظلّة» � ّأ�س�ست عاملا ي ّت�سع‬ ‫ومثل هكذا جتربة ال يليق بها � اّإل ال�شعر الذي يتيح جماال‬
‫للكثري من التفا�صيل ‪:‬‬ ‫لتد�س به �أ�رسار بطلتها‪ ،‬التي تختلط ب�أ�رسارها‬ ‫ّ‬ ‫وا�سعا‬
‫«يف ال�ضحك‪ /‬انفتح احلب‪ /‬حتى‪� /‬صار مظلة»‬ ‫ال�شخ�ص ّية‪ ،‬ب�أق ّل ماميكن من املفردات‪ ،‬ح ّتى �إ ّنها حني‬
‫وي�صل االختزال‪،‬والإقت�صاد باملفردات‪� ،‬أق�صاهما يف‬ ‫قر�أت بيت املعري‪:‬‬
‫قولها‪:‬‬ ‫تعب كلّها احلياة فال �أعجب � اّإل من راغب بازدياد‬
‫«كانت لل�صورة �سطوة‪ /‬لذا مل يلم�س ج�سد املعنى»‬ ‫اكتفت منه ب�شظية م�ؤلّفة من كلمتني من البيت ال�شهري‬
‫�أو يف «هي» ‪:‬‬ ‫لتحيل �إليه ولتبني فكرتها ‪:‬‬
‫تند�س بعيدا‪ /‬خ�شية الرذاذ»‪/‬‬ ‫« امر�أة تغزل الغيم‪ /‬لكنها ّ‬ ‫«تعب كلها‪ /......‬فافتح يل باب اخلروج‪� /‬إليك»‬
‫أجرب النجاح �أبدا‪�/‬أ�ستعري‬ ‫�أو كما يف «�إدمان» ‪«/‬لأين مل � ّ‬ ‫وهو الن�ص الأخري يف الإ�صدار فك أ� ّنها تعبت من الكتابة‬
‫‪300‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫يف درج املطبخ‪/‬هناك �أي�ضا هذه الأبواب‪/‬التي ال تكف‬ ‫الن�شوة من الف�شل»‪� /‬أو ‪«/....‬تعب كلها‪/......‬فافتح يل باب‬
‫عن �إر�سال قبل ‪/‬الوداع‪�/‬إذا‪/‬ملاذا كل هذا العناء‪/‬يف‬ ‫اخلروج‪�/‬إليك»‬
‫حت�ضري ‪/‬امل�أدبة؟»‪�/‬أو كما «ديجيتال»‪�/‬أفكر يف ا�ستبدال‬ ‫واجلمل التي ذكرت ت�شبه «التوقيعات»‪ ،‬وهي من �ألوان‬
‫ذاكرتي‪ /...‬بواحدة جديدة‪ ....../‬ترى هل بقي ما يكفي‪/‬‬ ‫الكتابة التي انت�رشت يف الع�رصين الأموي‪ ،‬والعبا�سي‪،‬‬
‫من الوقت ‪ /‬لتعبئتها؟‬ ‫ومنها التوقيع الذي بعثه اخلليفة عمر بن عبدالعزيز(ر�ض)‬
‫وتلج�أ الكاتبة ب�رشى خلفان �إىل التكرار وهو «�رشط‬ ‫�إىل �أحد ع ّماله « لقد كرث �شاكوك وق ّل �شاكروك‪ ...‬ف�إما‬
‫كمال» كما يرى د‪ .‬حممد مفتاح يف كتابه «اخلطاب‬ ‫اعتدلت و�إما اعتزلت»‬
‫«لعب‬
‫ٌ‬ ‫«حم�س ٌن» �أو‬
‫ِّ‬ ‫ال�شعري (ا�سرتاتيج ّية التنا�ص) « �أو‬ ‫� ّإن عناية الكاتبة ب�رشى خلفان ب�أناقة اللغة هي التي‬
‫لغوي» بقولها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جعلتها هائمة يف براري ال�شعر‪،‬ويف حوار �أجريته معها‬
‫«كان يقلقه وجهها يف املر�آة‪/‬كان يقلقه تكورها بني‬ ‫ملجلة «دبي الثقاف ّية» �س�ألتها عن لغة ال�شعر التي نراها‬
‫يدي اهلل‪/‬يف ال�سجود‪/‬كان يقلقه الكتاب الذي تقر�أه‪/‬لكن‬ ‫تطفو دوما على �سطح ن�صو�صها ف�أجابتني قائلة « للغة‬
‫�أكرث ما كان يقلقه‪/‬تلك الع�صافري ال�صغرية‪/‬التي تنقر‬ ‫غوايتها‪ ،‬ونحن اجليل الذي تربى على متجيد ال�شعر‬
‫نافذتها كل �صباح»‪/‬او‪«/...‬ملأت حقيبتي بتذكارات‬ ‫كديوان للعرب‪ ،‬جند �أنف�سنا �أحيانا وقد وقعنا يف فخاخ‬
‫الغد‪/‬وم�ضت‪/‬ملأت �أرداين بكريات البلور‪/‬وم�ضت‪/‬‬ ‫اللغة ال�شعرية التي قد ال تزيد من عمق الن�ص الق�ص�صي‬
‫ملأت �أحذيتي باجتاهات الريح‪/‬وم�ضت‪/‬ملأت روحي‬ ‫بل ت�ضيف عليه جمالية اللغة‪ ،‬التي ال ت�شفع وحدها‬
‫باخلراف ال�صغرية ال�سوداء‪/‬وم�ضت‪/‬ملأت دموعي‬ ‫لكتابة ن�ص ق�ص�صي جيد»‬
‫باملناديل‬ ‫ون�صو�ص الكاتبة «رفرفة» و«غبار» و«�صائد الفرا�شات‬
‫وم�ضت‪/‬ملأتني باالنتظار ‪/‬وم�ضت»‬ ‫احلزين» ت�سري يف منطقة فيها الكثري من ماء ال�شعر الذي‬
‫ففي الن�ص الأخري تقوم مفردة «وم�ضت» بربط مفا�صل‬ ‫يغلّف خطوط ال�رسد‪ ،‬والوا�ضح � ّإن د ّوامة الأ�سئلة التي‬
‫الن�ص و�شد ّ بنيته وي�أتي العنوان ليكون جزءا ال يتجز�أ من‬ ‫وجدت ب�رشى نف�سها مك ّبلة بها هي التي جعلتها تلج أ�‬
‫الن�ص ومن ال�صعب ف�صله عنه ف�إذا ف�صلناه �ضاع املعنى‬ ‫لل�شعر‪،‬وهي �أ�سئلة �شائكة تتربعم عن �أ�سئلة ت ّت�صل بحرية‬
‫�أو جرى ت�سطيحه كما يف «موت» حيث تقول ‪:‬‬ ‫كون ّية كربى‪:‬‬
‫وثري هذا الفرا�ش‪/‬حتى �أين ال �أجر�ؤ ‪/‬على التفكري يف ‪/‬‬ ‫«لو �أنني عدت ثانية‪ /‬هل �س�أخلق على هيئة �شجرة‬
‫النوم‬ ‫�أم فرا�شة؟»‪ /‬و‪« /....‬ما الذي مل �أتقنه بعد‪ /‬احلب �أم‬
‫�أو يف ن�ص «ليلى» حيث يحيلنا العنوان �إىل حكاية‬ ‫الن�سيان؟»‪« /....... /‬قلبها كموج البحر‪ /‬ملاذا يخافه‬
‫الأطفال املعروفة»ليلى والذئب» لك ّنها ت�صيغ حكاية‬ ‫ال�صيادون‪� /‬إذا ما َه ّم باحت�ضانهم!»‪......... /‬‬
‫جديدة فليلى «ب�رشى خلفان» كربت و ك�رست الطوق حني‬ ‫«هل من املمكن‪� /‬أن يتم فعل الن�سيان‪ /‬دون �أن يبقى‬
‫�أرادت لها �أن تخرج ملالقاة الذئب ‪:‬‬ ‫جزء منه �أ�سري الرتدد؟»‪«/......../‬ترى ‪/‬هل �سيخرتع‬
‫«منذ �أن ت�سلّل الراعي �إىل غرفتها‪�/‬أدركها �شبق الذئب‪/‬لذا‬ ‫العبث و�سائل �أخرى‪/‬كي يتمكن مني؟‪�«/......./‬إذا كنت‬
‫�رسقت ال�سلّة ‪/‬من ج ّدتها ‪/‬وخرجت لتالقيه»‬ ‫حتبني‪/‬فلماذا �إذا‪/‬ال �أ�شبهني يف ال�صور التي‬
‫� ّإن «مظلّة ‪ »..‬ب�رشى خلفان بن�صو�صها املكثّفة‪ ،‬التي‬ ‫التقطتها يل البارحة؟»‪�«/............./‬إذ ما توقفت عن حبك‬
‫تتج ّول يف حدائق العاطفة‪ ،‬وبلغة هام�سة ‪ ،‬م�ش ّعة باملعاين‬ ‫الآن‪/‬هل �أ�ستطيع الرجوع �إىل البيت؟»‬
‫‪ ،‬وبقطع الإ�صدار الذي يو�ضع باجليب‪ ،‬فجاء من�سجما مع‬ ‫وقد ي�أتي ال�س�ؤال مبا�رشا �أو تختتم به الن�ص لتخلق نوعا‬
‫�شكل الن�ص‪ ،‬تكون‪،‬من دون ق�صد‪ ،‬قطعت �شوطا من م�سافة‬ ‫من التمهيد ‪:‬‬
‫لت�صل �إىل القارىء الذي ان�رصف عن الكتاب ‪.‬‬ ‫«هناك دوما ما هو �أكرث‪� /‬أو �أقل‪�/‬أ�صغر ‪�/‬أو �أكرب‪/‬من‬
‫توقعاتنا‪/‬هناك دوما‪/‬مفاج�أة غري �رضورية ‪/‬تختبئ‬
‫‪301‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫من ن�ص الواقع �إىل واقعية الن�ص ‪:‬‬
‫«لون املطر» ملحمد عبد الويل �أمنوذجاً‬
‫حممد حممدالعديني‬
‫كاتب من اليمن‬

‫املقابلة ؟ �إنها وا�ضحة كل ّ الو�ضوح ‪ ,‬بكل ّ تفا�صيلها‬ ‫(اللغة – التي هي نظام �إ�شارات مبني بناء ً‬
‫‪ ,‬ر�أيت كل ّ البحار ‪ ,‬و�سمعت كل ّ احلكايات ‪)..‬‬ ‫اجتماعياً‪ -‬هي نف�سها واقع مادي)‬
‫وعرب منطية ال�صور املجازية وتقليديتها املعتمدة‬ ‫ميخائيل باختني ( ‪)1‬‬ ‫ ‬
‫على املبالغة والأ�سطرة ‪�( :‬صمت خرايف ‪ , ..‬تلك �آخر‬ ‫يف معر�ض الإجابة عن �س�ؤال يتعلق بالق�صة‬
‫أت�صور حدوثها ‪� .. ,‬صوت الأمطار‬ ‫�أ�سطورة كنت � ّ‬ ‫الق�صرية حتدثت �إيزابيال الليندي عن �صعوبة كتابة‬
‫يخيل �إيل ّ ك�أنه هدير جنود يزحفون �إىل‬ ‫العذب ّ‬ ‫هذا اجلن�س وعن توا�شجه الع�ضوي املتني بال�شعر(‪)2‬‬
‫الهدف ‪ ..,‬ميزقون ال�صمت واجلنب ‪ ..,‬واملاء مي�ضي‬ ‫‪,‬وهو ماي�ؤكده–كذلك – ك ّتاب ونقاد �آخرون ‪)3 (,‬‬
‫من حتتهم بعيدا ً ‪ ,‬كثعبان �أ�سطوري خرج من‬ ‫وما يجدر التنويه �إليه يف مفتتح ومطلع قراءتنا‬
‫�أعماق اجلبال بعد �سجن دام قرونا ً ‪..‬‬ ‫لهذا الن�ص ‪.‬‬
‫يف ال�صوت الثاين جتنح اللغة �إىل التن�سيب (الن�سبية)‬ ‫ينتظم الق�صة �صوتان ( لغويان ) متجادالن ‪:‬ال�ضوء‬
‫والتع ّدد اللغوي والت�أنث وت�رشع يف التخلّ�ص من‬ ‫واملاء يتحاور فيهما التاريخ والإن�سان ‪ ,‬الفن‬
‫مطلقيتها الواحدة وعنفوانها البالغي امل�ؤ�سطر‬ ‫وال�رضورة ‪,‬الواقع واملثال ‪,‬الذكوري والأنثوي‪(,‬‬
‫وك�رس منطيتها ال�رسدية من خالل ر�ؤية �رسدية‬ ‫القمر والبندقية ) فتنة الأر�ض وغوايتها وواجب‬
‫داخلية ذاتية م�صحوبة بتقنيات ظاهرة الوعي‬ ‫الكفاح املقد�س والت�ضحية ‪.‬‬
‫احلديث(‪ )5‬كالفال�ش باك (التذكّ ر) وااليجاز‬ ‫يف ال�صوت الأول يلتقي عنف االيديولوجيا بعنف‬
‫واحلذف القائم على الفراغات الن�صية ‪ .‬تنه�ض‬ ‫اللغة عرب �أحادية ال�صوت وطغيان �صفته الذكورية‬
‫هذه الر�ؤية على اعرتافات (الأنا) وتعزيز ح�ضورها‬ ‫(يخيل �إيل ك�أنه هدير جنود يزحفون �إىل‬ ‫ّ‬ ‫اجلمعية ‪:‬‬
‫الفردي وحمدودية معرفتها و على بوحها العاطفي‬ ‫الهدف ‪ ..,‬تنا�سوا كل �شيء ‪ ,‬حتى وجودهم ‪� ,‬إنهم‬
‫وك�شفها عن عواملها الداخلية العميقة و�سخريتها‪:‬‬ ‫يندفعون ‪ ,‬كل واحد يت�شجع لأن �آخرين بجانبه ‪,‬‬
‫(‪ ..‬ماكان �أغباين!‪ ,‬لعلّها تعتربين بطال ً ‪ ,‬وتنتظر‬ ‫لوكان وحيدا ً لفر ولكنهم جموع ‪� ..,‬أتدري �إنهم �أكرث‬
‫م ّني �أن �أحكي لها �أ�ساطري عن بطوالتي ‪� ,‬إنها لن‬ ‫من �شخ�ص واحد‪ ..‬ولكوننا جمموعة فنحن النخاف‬
‫ت�صدق ب�أنني �أرجتف عند �سماع طلق ناري ‪ ,‬وك�أن‬ ‫‪�..‬إنه احلما�س‪ ,‬حتدثت يف الوطنية حتى مل النا�س ‪..,‬‬
‫الر�صا�ص ينغر�س يف �أعماقي ‪� ,‬أنت �أكرب م ّني ‪ ,‬لقد‬ ‫كثريون قالوا يل تطوع ‪ ,‬تطوع وتطوعت)‪.‬‬
‫ر�أيت عوامل ف�سيحة ‪ ,‬ولعلّك ت�سخر م ّني الآن ‪�..‬أما �أنا‬ ‫وعرب هيمنة الر�ؤية ال�رسدية اخلارجية امل�ؤكَ دة‬
‫جمرد طفل ‪ ..‬اليجيد �سوى‬ ‫‪..‬و�ضحك بحزن – �أنا ّ‬ ‫بوثوقية الراوي و�شمولية معرفته (‪( :)4‬ع�رشون‬
‫احل�ساب والكتابة و‪ ..‬التحدث عن الوطنية بحما�س‬ ‫عاما ً ذقت فيها كل ّ �شيء ‪� .. ,‬أال تالحظ قمم اجلبال‬
‫‪302‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ف�أ�صبح لديه (لون( مو�ضوعي ) ال ت�شعر به �إ ّال‬ ‫�أجوف ‪ ..‬قال يل والدها ال تخف ‪�..,‬أنا هنا ‪ ..,‬وقال‬
‫عندما توده)‪ ,‬لون اللغة ‪ ,‬الكلمات والأ�شياء حني‬ ‫الأ�صدقاء ‪ ,‬نحن هنا ‪ ..‬وها �أنذا ‪ ,‬كنت م�ستعجال ً يف‬
‫تتجرد من دالالتها املعجمية وامتثالها الال‬ ‫ّ‬ ‫مرة‪� .‬ضحك‬ ‫قراري‪ - .‬قاتلت من قبل ‪ ,‬ورمبا �أكرث من ّ‬
‫مو�ضوعي وعاداتنا ال�سلطوية التي �ضاعفت عزلة‬ ‫مربر‪�,‬أما‬
‫البحار قائال ً‪ :‬ومع �أكرث من جهة ‪,‬وبدون ّ‬
‫اللغة واغرتابها والواقعيتها و�ساهمت يف �أدجلتها‬ ‫اليوم ف�أنا �أحارب من �أجل �شيء ‪ ..‬رمبا كان ذلك هو‬
‫‪� ( ,‬إن تقولب التعبري هو واقع �سيا�سي ‪,‬وهو ال�صورة‬ ‫لون املطر وكان الوادي من حتتهما مي�ضي بعيدا ً‬
‫وقد فقد قوته الأ�سطورية ‪ ,‬كان هادئا ً ‪,‬ال �أحد فيهم‬
‫العظمى لاليديولوجيا ) (‪ . )7‬و(ازدهار الرواية‬
‫يعرف من �أين يبتدئ وال من �أين ينتهي‪ .. ,‬فقدت‬
‫(الق�صة) مرتبط ‪ ,‬دوما ً بتحلّل الأن�ساق اللفظية‬
‫رجولتي يف �أح�ضان امر�أة �صادفتها)‪.‬‬
‫االيديولوجية امل�ستقرة ‪ ,‬فاللغة التي كانت قدميا‬ ‫ومن خالل ا�ستقواء الناحية الت�صويرية والدرامية‬
‫ً جت�سيدا ً اليجادل ‪,‬‬ ‫كالت�شبيه‪�( :‬إن ّ طعم احلياة �أ�شعر به هنا على ل�ساين‪..‬‬
‫ووحيدا ً للمعنى وللحقيقة ‪ ,‬قد �صارت �أحد‬ ‫عند كل طلقة ر�صا�ص ‪� ..,‬شيء كانا يح�سان بدبيب‬
‫افرتا�ضات املعنى املمكنة) ‪) 8 (.‬‬ ‫�أقدامه يتقدم كن�صل حاد يزرع املوت) واال�ستعارة‬
‫وبذلك تكون الق�صة قد ح ّققت تع ّدديتها ال�صوتية‬ ‫الت�رصيحية‪( :‬يف يدي وريقات خ�رضاء وحمراء)‬
‫احلوارية ‪ ,‬وا�ستطاعت �أن تعبرّ عن الوعي الكُا ليلي‬ ‫والكناية‪( :‬مل �أكن قد بعت ذراعي لأحد)‪ ,‬وكذلك‬
‫ملطلقية لغة واحدة ووحيدة ‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫للغة الذي (برف�ضه‬ ‫ن�ستطيع تلّم�س البعد الدراماتيكي ال�رسدي يف ارتباط‬
‫وتخلّيه عن اعتبارها مبثابة املركز الوحيد اللفظي‬ ‫حتول ال�شخ�صيات من العبثي �إىل الواقعي �أو‬ ‫م�سار ّ‬
‫والداليل للعامل االيديولوجي ‪ ,‬يقر ّ بتع ّدد اللغات‬ ‫من واقع اال�ستالب اجلمعي �إىل واقع التحقق الفردي‬
‫بلحظة اجنالء الوهم (حلظة انف�صام الأفكار عن‬
‫الإجتماعية وقابليتها لأن ت�صري لغات ن�سبية‬
‫وحتولها �إىل �أحداث نف�سية ‪� ,‬أي �إىل مثل‬
‫ّ‬ ‫العامل ‪,‬‬
‫غريية ‪) 9( ).‬‬
‫عليا ‪ .‬عندئذ تفقد الفردية طابعها الع�ضوي الذي‬
‫الهوام�ش ‪:‬‬ ‫يجعل منها واقعا ً غري �إ�شكايل ‪ ,‬فت�صري هي نف�سها‬
‫الق�ص�صية ( الأر�ض يا�سلمى ) ملحمد عبد‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ق�صة ق�صرية �ضمن املجموعة‬ ‫غاية نف�سها ‪ ,‬لأنها تكت�شف �أن ماهو جوهري‪ ,‬يوجد‬
‫الويل ‪ ,‬طبعة دار العودة ‪,‬بريوت ‪1986‬م الأعمال الكاملة ‪.‬‬
‫‪ -1‬النظرية الأدبية املعا�رصة ‪,‬رامان يلدن ‪,‬ترجمة �سعيد الغامني امل�ؤ�س�سة‬ ‫بداخلها) ‪) 6(.‬‬
‫العربية ‪.‬‬ ‫وتلم�س ذلك �أي�ضا ً ‪ ,‬و�أثره التعددي اللغوي الناجع‪,‬‬‫ّ‬
‫للدرا�سات والن�رش ‪,1996‬الطبعة الأوىل ‪�.‬ص ‪31‬و‪. 32‬‬
‫‪ -2‬جملة نوافذ ‪�,‬إ�صدارات النادي الأدبي بجدة ‪ ,‬العدد ‪,40‬حمرم ‪1433‬ه‬
‫التحوالت �أو التغيرّ ات الداللية للدوال‬
‫ّ‬ ‫م�سار‬ ‫يف‬
‫دي�سمرب ‪2011‬م‪�,‬ص‪48‬ومابعدها ‪.‬‬ ‫اللفظية ذات ال�سمة �أو النزعة الب�ؤرية يف الن�ص؛‬
‫‪ -3‬تهجني االجتاه يف �رسد ما بعد احلداثة ‪,‬د‪�.‬آمنة يو�سف ‪,‬امل�ؤ�س�سة العربية‬
‫فـ(الغربة) مل تعد تقت�رص داللتها على االنتقال‬
‫للدرا�سات والن�رش ‪,‬الطبعة الأوىل ‪2012‬م‪�,‬ص ‪36‬و‪. 37‬‬
‫‪ -4‬املرجع نف�سه ‪�,‬ص‪17‬و‪. 18‬‬ ‫املادي يف حدود املكان‪ ,‬بل �صارت اغرتابا ً‬
‫‪ -5‬املرجع نف�سه ‪�,‬ص‪. 22‬‬ ‫وجوديا ً يف الوعي وتغريبا ً دالليا ً يف اللغة (هل‬
‫برادة ‪,‬دار ر�ؤية‬‫ّ‬ ‫حممد‬ ‫‪,‬ترجمة‬ ‫باختني‬ ‫ميخائيل‬ ‫‪ -6‬اخلطاب الروائي ‪,‬‬
‫‪,‬الطبعة الأوىل �ص‪. 19‬‬ ‫تعرف معنى الغربة؟ مل �أكن �أعرفها ولكني لقيتها‬
‫‪ -7‬لذة الن�ص ‪,‬روالن بارت ‪,‬امل�رشوع القومي للرتجمة الطبعة الثانية‪1998‬م‬ ‫على �رسير تلك املر�أة يف تلك الليلة‪ ,‬قبالتها‬
‫‪�,‬ص‪. 46‬‬
‫‪ -8‬اخلطاب الروائي ‪,‬مرجع �سابق ‪�,‬ص‪. 242‬‬
‫كانت كاذبة) و(املطر) دخل نطاق جتربة الت�أويل‬
‫‪ -9‬املرجع نف�سه ‪�,‬ص ‪236 .‬‬ ‫الظاهراتي ال�سيميائي‪.‬‬
‫‪303‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 75‬يوليو ‪2013‬‬
‫ليــة ثقافيــة‬
‫ف�سسسليــة‬
‫جمـلـة ف�‬
‫‪A Cultural Quarterly in Arabic‬‬
‫‪Editor - in - Chief‬‬
‫‪Saif Al Rahbi‬‬
‫‪Email: saif@alrahbi. info‬‬
‫‪P. O. Box: 855, Postal Code: 117. Al-Wadi Al-Kabir‬‬
‫‪Sultanate of Oman. Tel: 24601608 Fax: 24694254‬‬

‫‪Managing Editor‬‬
‫‪Talib Al Mamari‬‬
‫‪Directed By‬‬
‫‪Khalaf Al Abri‬‬
‫‪Email: khalf301@hotmail. com‬‬

‫ا إ�شـــــــارات‬
‫دقاء الكتاب وال أدباء والفنانني بباا أن موادهم‬
‫نتوجه ا إىل ال أ�أ�شششدقاء‬
‫الها بالربيد االلكرتوين(‪ )Email‬يكون على العناوين‪:‬‬ ‫إر�ششالها‬
‫يف حالة ا إر�ش‬
‫‪nizwa99@omantel. net. om‬‬
‫‪nizwa99@nizwa. com‬‬
‫‪ -‬املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل ا إىل ا أية جهة ا أخرى للن�رش‬
‫أ�سحابها‬
‫سحابها‬ ‫وا إال �سنوقف ‪ -‬ا آ�سفني ‪ -‬التعامل مع ا أ�س‬
‫وا‬
‫ـالهـا بالربيـد االلكتــروين‬
‫إر�ششـالهـا‬
‫شـل ا إر�ش‬
‫ويف�ششـل‬
‫ب ال آيل‪ ..‬ويف�‬
‫باحلا�شششب‬
‫لة تطبع باحلا�‬ ‫املر�شششلة‬
‫املواد املر�‬
‫ل�رسورات‬
‫ل�رس‬
‫رس‬‫خا�شششعع ل�‬
‫ياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال ا أو غريه خا�‬ ‫‪ -‬ترتيب املواد يف ��شششياقها‬
‫تن�رس‬
‫رس‬ ‫ن�رست ا أو مل تن�‬
‫ن�رس‬
‫رس‬ ‫واء ن�‬
‫حابها ��شششواء‬
‫فنيـة وا إخراجية‪ -‬املواد التي ترد للمجلة ل ترد ل أ�أ�شششحابها‬
‫�شدار‪.‬‬
‫شدار‪.‬‬
‫لية اال�ش‬
‫ف�شششلية‬
‫بب ف�‬
‫ب�شششبب‬
‫بيا ب�‬
‫ن�شششبيا‬
‫ملقيا�صص زمني طويل ن�‬
‫تخ�شششعع ملقيا�‬
‫وا أحيانا تخ�‬
‫‪ -‬املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين‪.‬‬
‫عنوان نزوى على �شبكة النرتنت‬
‫‪www. nizwa. com‬‬
‫رس والعالن‬
‫والن�رس‬
‫حافة والن�‬
‫لل�شششحافة‬
‫مان لل�‬
‫طبعت مبطابع‪ :‬مموو ؤ�شؤ�ش�ش�ش�ششةة ُععمان‬
‫لطنة عمان‬ ‫قط‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 100‬ش‬
‫�ششلطنة‬ ‫�ص‪ .‬ب‪ 974 :‬م�ش‬
‫م�ششقط‪،‬‬
‫هاتف البدالة‪ - 24649444 :‬ص‬
‫فاك�ص‪24649508 :‬‬
‫العالنات‪ :‬العمانية لالعالن والعالقات العامة‬
‫‪24649411‬‬ ‫مبا�رس‪- 24649401 :‬‬
‫رس‬
‫مبا�رس‬
‫لطنة عمان‬ ‫�ص‪ .‬ب‪ 3303 :‬روي‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬ش‬
‫�ششلطنة‬
‫‪Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR‬‬
‫‪PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING‬‬
‫‪P. O. Box, 974. Postal Code: 100. Muscat. Sultanate of Oman‬‬
‫‪Tel:24649444 - Fax. : 24649508‬‬
‫‪Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS‬‬
‫‪Tell: 24649411, 24649401‬‬
‫‪P. O. Box 3303. P. C. 112 Ruwi Sultanate of Oman‬‬
‫�لعـــدد �خلام�ض و�ل�سبعـــون‬
‫شان ‪ 1434‬هـ‬
‫رم�ششان‬
‫يوليو ‪ 2013‬م ‪ -‬رم�‬
‫‪304‬‬

You might also like