Professional Documents
Culture Documents
12 vكتابــات:
-البالد ال�سعيدة ..قراءة يف تدوينات برترام توما�س املو�سيقية:
م�سلم اأحمد الكثريي.
26 vملـــــــف:
« -يو�سف �سامي �ليو�سف» من اإعداد :عمر ��سبانة.
سبانة.
ساركون يف �مللف� :سيف الرحبي -يو�سف حطيني -فـرج مل�ساركون�مل�س
الح -را�سم املدهون� -سعيد الربغـوثـي- �سسسالح-
بريقـدار -فخري �
ني � -سمري الزبن.احل�سسسني
اهني -عبدالقادر احل�
حممود ��سسساهني-
50 vدرا�صــات:
ال�رشد
ال�رش
-هيجل والإ�سالم :ح�سني هنداوي -املراأة العربية يف ال�
لالأدب الياباين! :كامل يو�سف الن�سائي :مرمي دمنوتي -وداع ًا لال
�سايف،
سايف، الر�س
قد اجلديد :معروف ُّ النقد
وء ال ّن
الن �سسسوء
بوية يف �
النبوية
رية ال ّن
الن ال�سرية
ال�س
ح�سنيِّ -
ة -مقاربات علم بزايـنية-
بزايـني
ّ ط :ح�سن جعيييط:
جع ْ
ام َ
وه�سسسام
تي ،وه��سستي،الد�س
وعلي َّ
املتخيلل
املتخي
َّ الجتماع والإعالم :اآمال مو�سى« -الرواية العربية:
وبنيته الفنية» ليمنى العيد :ماجــد ال�ســـامرائي.
144 فا�سسل.
سل. ر�سسساا فا�
كر حاورته :ر�
vحـــ�ارات:
ال�سسسكر
-حامت ال�
حب�س.
حب�س
-روؤوف م�سعد حاوره :اأ�سامة حب�
^ ^ تر�سل �ملقاالت با�سم رئيـ�س �لتحريــر ..و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا
160 vم�صــــــــرح:
الق�سسابي.
سابي. رشحية ومعاجلات الواقع :عزة الق�
امل�رش
ارقة امل�
ال�سسارقة
-اأيام ال�س
لطليعي[ :كلب
لطليعي
ّ -لوي�س بونويل� /سلفادور دايل �سيناريو الفيلم ا
أندل�سي] ترجمة :حممد عيد اإبراهيم.
أندل�سي
ّ ا
210 vن�ســـــو�ص:
ارلز �سيميك ت :اإميان مر�سال � -سمرقند:
ت�سسسارلز
« -ذبابة يف احل�ساء» ت�
«حبيبة تيمورلنغ» :خليل النعيمي -متى يختفي الآخر عني :
رش -حياة حمتملة :فاروق يو�سف -الكتابة ،اإنقاذ عبدال�ستار نا�رش
امللب�سات
امللب�سات
يبيع ّاللغة من الغرق :للووؤي حمزة عبا�س -الرجل الذي ُ
يف احلديقة لوي�س �سيبولبيدا :اأحمد الويزي -ذلك الليل :مفيد جنم
ريا�سس بيد�س -اأمينة :اأمل املغيزوي -مرثية اأوىل
كوى كلب :ريا�
�� -سسسكوى
الرا�سسدي.
سدي. للظل :حمود الرا�
ِّ
254 vمتابعات وروؤى:
4
حرب الأجنة فـي الأرحام
و�شذرات �أخرى
الريح
ُ �أو عويل ٍ
قرد ثكل ْته �آه ،هذا العامل الذي ت�سفح
بني الأكمات.. على غاربه املراثي
jhj
قد انتهى منذ زمن طويل
�شبع موت ًا
َ
كان يجل�س يف املقهى ،وحيداً ينظر �إىل اجلهة
هباء
تطايرت ً ْ �أنت الآن ،عن ج ّثته التي
املقابلة ،خلف ال�شارع ،حيث تنبعث �أ�ضواء
يف ف�ضاء اللـه
مهدمة ..العجوز االيرلندي، خافتة لأكواخ �شبه ّ الدود الذي نخرها ُ عن اجلثة التي مات
الذي جاء جندي ًا �إىل هذه الأ�صقاع البعيدة،
جي ًال بعد جيل
ليقاتل عدواً غام�ض ًا ،بالطاعة العمياء للوطن
عن هباء اجل ّثة حتاول �أن تكتب
والقيادة� ..سارح ًا يف �سهوب املا�ضي يف اخلرائب
ال�شبحي تعي�ش
ّ �أنت الآن يف ظلّها
والطمي الذي يحمله النهر الأ�صفر يف هيجاناته
ٍ
هلو�سات وكوابي�س.. والذي ميلأُ العامل
دارت معارك كثرية �ضاربة.. ْ املو�سمية ..هناك
ّ ظل ال�سحابة املنقر�ضة
هناك فقد �أحبة و�أ�صدقاء ،هناك �أباد �أرواح ًا
دمىاملقد�س يجره اجل ّزارون ُم ّ ظ ّل الثور ّ
اجلندي العجوز
ّ ٍ
وعائالت ال يعرف عنها �شيئ ًَا..
يف الوحل
يحدق يف اجلهة املقابلة ،ك�أمنا كوكب يت�شظى ّ ظل النمر الذي �شنقته �أ�شجار الغابة
بال�سكر و�أحمال الذكريات. يف ر�أ�سه املرتنح ُ ظل الطفل الذي قتلته �أمه من فاق ٍة
حب ينبعث من بني احلرائق وهناك �أي�ضا ،نور ّ وا�ضطراب
والأنقا�ض املتداعية يف املخيلة واملكان..
ظل النجوم الراك�ضة �إىل حتفها
مت املدن والقرى.. تهد ْ �س َكتت املدافع والأ�سلحةّ ، الأكيد
املحطات
ّ وبقي ذلك النور القليل الرا�شح عرب
ظل الظالل وهي تق�ضي نزهتها الأخرية
والأزمان..
مهدمة..
و�سط حيطان ّ
jhj
عليك �أن تتوقف عن �سفح املراثي
يحت�سون البري َة واملث ّلجات ورمي الكلمات
يف ظالل الأ�شجار اال�ستوائية الفارعة ذئب،
فلم يعد هناك ما ي�ستدعي عواء ٍ
5 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حرب الأجنة فـي الأرحام
و�شذرات �أخرى
الريح
ُ �أو عويل ٍ
قرد ثكل ْته �آه ،هذا العامل الذي ت�سفح
بني الأكمات.. على غاربه املراثي
jhj
قد انتهى منذ زمن طويل
�شبع موت ًا
َ
كان يجل�س يف املقهى ،وحيداً ينظر �إىل اجلهة
هباء
تطايرت ً ْ �أنت الآن ،عن ج ّثته التي
املقابلة ،خلف ال�شارع ،حيث تنبعث �أ�ضواء
يف ف�ضاء اللـه
مهدمة ..العجوز االيرلندي، خافتة لأكواخ �شبه ّ الدود الذي نخرها ُ عن اجلثة التي مات
الذي جاء جندي ًا �إىل هذه الأ�صقاع البعيدة،
جي ًال بعد جيل
ليقاتل عدواً غام�ض ًا ،بالطاعة العمياء للوطن
عن هباء اجل ّثة حتاول �أن تكتب
والقيادة� ..سارح ًا يف �سهوب املا�ضي يف اخلرائب
ال�شبحي تعي�ش
ّ �أنت الآن يف ظلّها
والطمي الذي يحمله النهر الأ�صفر يف هيجاناته
ٍ
هلو�سات وكوابي�س.. والذي ميلأُ العامل
دارت معارك كثرية �ضاربة.. ْ املو�سمية ..هناك
ّ ظل ال�سحابة املنقر�ضة
هناك فقد �أحبة و�أ�صدقاء ،هناك �أباد �أرواح ًا
دمىاملقد�س يجره اجل ّزارون ُم ّ ظ ّل الثور ّ
اجلندي العجوز
ّ ٍ
وعائالت ال يعرف عنها �شيئ ًَا..
يف الوحل
يحدق يف اجلهة املقابلة ،ك�أمنا كوكب يت�شظى ّ ظل النمر الذي �شنقته �أ�شجار الغابة
بال�سكر و�أحمال الذكريات. يف ر�أ�سه املرتنح ُ ظل الطفل الذي قتلته �أمه من فاق ٍة
حب ينبعث من بني احلرائق وهناك �أي�ضا ،نور ّ وا�ضطراب
والأنقا�ض املتداعية يف املخيلة واملكان..
ظل النجوم الراك�ضة �إىل حتفها
مت املدن والقرى.. تهد ْ �س َكتت املدافع والأ�سلحةّ ، الأكيد
املحطات
ّ وبقي ذلك النور القليل الرا�شح عرب
ظل الظالل وهي تق�ضي نزهتها الأخرية
والأزمان..
مهدمة..
و�سط حيطان ّ
jhj
عليك �أن تتوقف عن �سفح املراثي
يحت�سون البري َة واملث ّلجات ورمي الكلمات
يف ظالل الأ�شجار اال�ستوائية الفارعة ذئب،
فلم يعد هناك ما ي�ستدعي عواء ٍ
5 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
العباب..
مثل �سفن متخر ُ (دع املقادير جتري يف �أعن ِّتها)
الأطفال الذين مل ي�شهدوا منذ والدتهم �أمطارا ،ها م�ضطرب بالكوابي�س
ٍ تنامن �إال يف بحر
َّ وال
وال�سحنات.
هي النعم ُة تغمر الأفالج اجلا ّفة ُ واحليتان..
ثمة �أمل � ،شعاع �أمل( ،داء الأمل) ثمة وعد بحياة.. jhj
jhj
يلوح امل�سافرون ب�أيديهم ال�شاحبة
حتط رحالهم العتيق ُةال تكاد ّ عرب املوانئ واملطارات
�إ ّال ويرحلون جل ُزر والغابات
يقر�أون خرائط ا ُ
ٍ
جهات جمهولة غالب ًا، نحو خبار الطق�س وخالئق امل�ستنقعات..
�أ َ
الربق مبعرثاً �أنحاءها يف ُ جهات ي�شطرها ينتظرون املفاجئ الراب�ض يف �أخدود �أو عرب
الإع�صار رملي يطل على بحر ّ منحدر
الرملي من جهة ال�رشق.. ّ الذي يقذف لهبه �صليون وقد
ال�سكان الأ ّ
ُ يف متائم و ُلقى يعلّقها
6 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
املتاخم ملوج املحيط ومت�ضي �إىل الفندق ال تكاد رواحلهم تنزل املكان ،قري ًة �أو مدين ًة،
ال�صغري املحاط بالأ�سماك والنجوم ..املر�أة التي �شق حفرة حفرها الأزل يف خا�رصة َّ
حياتها مع الوحدة يف املقاهي ،والكالب.. اجلبل النائي ..ال يكاد حفيف الأ�شجار
ي�ستيقظ الرجل الهاذي من غيبوبته ويقول: املتعبة ،ال يكادون ي�سمعون َ يالم�س �أج�سادهم
بالفعل ما �أجمل احلياة بني �أنا�س يقت�سمون ذات كالب
�صوت البلبل �أو نعيق الغراب خمتلط ًا بنباح ٍ َ
امل�صري.. تر�صد الفجر يف انبالجه الأول� ،إال وتقذفهم
jhj ال�صدفة �إىل مطارح �أخرى ،ال يكاد ُي�سمع فيها
�صياح ديك ٍة �أو �شحيج حما ٍر تائه يف الرباري
ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا من غار اجلبل
الغابي.. حجري
ّ �سهم
املوح�شة ،الرباري التي �شهدت �أول ٍ
ّ يقذفه قابيل يف �سويداء قلب �أخيه
�أو معب ٍد �صغري على قارعة طريق
ي�سدون الآفاق مثل وتبد�أ الكارثة..
حيث الثك�إىل واملحرومون ّ
دخان متزقه ريح ،حيث احلروب تبقر �أح�شاء jhj
اخلليقة ،حروب الأعداء ،حروب االخوة الأعداء، ذات مرة ،وكل مرة:يخاطب نف�سه َ
حروب الأج ّنة يف رحم الأمهات ،حروب الأوبئة ما الذي يجعلني مقيم ًا يف هذه البلدة دون الأخرى؟
القدي�سني والعاهرات،ّ والفي�ضانات ،حروب ما الذي يجمعني بهذه الأقوام املنتفخة بالآمال
اجلرثومية ال
ّ ال�سيارة والأ�سلحة
حروب الكواكب ّ الوهمية� ،أنا الهالك املنبوذ وال�شعارات والأ�سماء
ّ
ُتبقي وال تذر .حروب البع�ض على البع�ض والكل والغريق؟ حياتي التي م�ضت على هذا الوتر الكا�رس
على الكل ،حروب النخيل �ضد ق�صف العوا�صف، املدمن غرب ًة بني �أقوام غرباء� ..أنا الذي ال �أ�ستطيع
هواج�س االنتقام،
ُ والأطفال الذين تنه�شهم �أن �أرى الكائن �أي كائن� ،أن �أرى �أ َّي ج ْذر يربطه
ذاهبني �إىل الأ�رضحة واحل َلبات.. املتموج بامل�آ�سي بهذه الأر�ض ،هو العابر ب�ساطها
الطائفيني بعد التب�شري باحلداثة حروب الأدباء ّ
ّ واللع َنات� ،إىل جنة ال�سماء �أو جهنمها الأزيل الأكرث
َ
والقانون..
مرح ًا من حياة ك�أمنا �إله ال�رش والدم البابلي
ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا
(كنجو) تقي�أها يف حلظة غ�ضب وا�ضطراب..
املتحجرة يف كهوف الغابات ،ت�أمالتك، ّ دموعك
(ما الذي يجعلني �أمكث يف هذه البقعة؟)
آ�سيوية
تعاليمك التي ذهبت �أدراج الرياح ال ّ الغريب ،تهذي املر�أ ُة الغريبة حامل ًة
ُ يهذي الرجل
والطاعون ..
ال�سة الواهن ،حاملة بالأرخبيالت بقطع حبل رُّ
jhj
البحرية بني ب�رش ال يعرفون �أ�سماء بع�ضهم ّ
بالفعل ،ما الذي يجعلك ال تغادر ،مل تذهب ،مل ال�صباحية يف املقهى
ّ (ي�أخذ ت�أخذ) قهوتها
7 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
من �أجل الأطفال اجتمعوا ،قاطعني م�سافات ترحل حتى اللحظة؟ ..يف ثقوب بيتك ،يف خالء
�شا�سعة على طائراتهم اخلا�صة ،ال تخلو من الدموية ،ع�ش�ش عنكبوت �سام وقتلة ّ الوح�شة
ومطبات..
ّ مو�سمية
ّ رياح م�أجورون يفتكون بال�صغار والكبار ..وعلى
من �أجل �أطفال العامل اجتمعوا ..هكذا.. التحية كل �صباح على م�ستوطنات ّ مقربة ،تلقي
�سوريا برداً وفجيعة
ّ وعلى مقربة يرجتف �أطفال البومة البكماء و�سط اخلرائب والقاعات..
و�أ�شتات ًا.. همومك طاولت اجلبال هام ًة ،وفاقت ال�شجر
�سوريا ،دماء �أطفالها التي تلجم القارات بنحيب ّ رق ًة وانك�ساراً ..ويف الأودية اجلا ّفة ،ح ّلقت طيور
و�سحب �سوداء ،ثقيلة تطبع �آفاق العرب قادمة من �أزمنة الطوفان ،حتمل يف مناقريها
ال ينقطعُ ،
والب�رشية جمعاء بطابع انحطاطها الأكيد.. اجلثث املتحلّلة يف �سدمي الف�ضاء ،الذي داخت
ّ
وثمة �أدباء كرث ،اجتمعوا يف م�ؤمترات وندوات.. الع َدم
من هوله الآله ُة وطوح بها �إىل �ضفاف َ
ناق�شوا ُ�صور اجلمال التي �أجنزها خيال الوح�شي والإبادات.
ّ
حريات التعبريالأفراد احلر ،ومل ين�سوا بالطبعّ ، jhj
املقموعة يف دنيا العرب ..لكنهم ،ومن غري �أ�سف رث الطرق�سوريا ،ما الذي يجعلك ت�سلكني �أك َ يا
ّ
رمبا لدى �أ�صحاب احلق والآ�رصة العتيدة ،لن الب�رشي يف ال�صنف مر به
ّ ُ وعورة ،من كل ما ّ
�شكلية على جاري العادة ،عن ّ ي�أتوا ولو بكلمة ِ
منافذك ُ�سدت بدم ال�شهداء. تاريخه احلزين؟
تلك التي تدخل �أق�صى النكبات و�أق�ساها ،من كربيا�ؤك تطاير بروق ًا تخفق يف �ضفاف الأزل،
حر ّيتها وجمالها اللذين �ضاعا يف دهاليز �أجل ِّ �سوريا، بجديته الثانية ..يا
ّ ليفتتح بها العامل �أ ّ
والهمجية عقوداً طويل ًة ،يخالها الرائي
ّ الظلمة كنتِ املالذ والنعمة ،حتى �أتى التتار احلديث،
�أحقاب ًا وقرون ًا ...وهي هكذا.. ِ
فدخلت يف الظالم الغليظ �أيام ًا و�سنني ..روحكِ
jhj واحلرية ،تبحر يف الآماد
ّ العط�شى �إىل املجد
والدماء ..لقد �أوغلتِ يف الرتحل والبطوالت ،من
�أيها الكتاب� ،أيها املنقذ من ثقالء الظل
�أجل طفل يبكي ،و�أم تنتحب يف غلواء الظلمة ،يف
احلرة حتى يف
وامل�صري ...متنحني دائما �رشفتك ّ اجلماعية والهذيانات والكوابي�س..
ّ زحمة املقابر
تهب اجلمال يف
اليومية والرتابةُ ..
ّ العبودية
ّ قلب
متنح العطالة الفاتنة،
قلب م�شهد القبح الأنيقُ ..
jhj
والف�ضاء
ُ تلك التي يهبها البحر لأ�سماكه الك�سولة بالأم�س اجتمع �أثرياء العرب والعامل ،من �أجل
لطيوره حملِّقة يف �سماوات الن�شوة واخليال.. الأطفال اجتمعوا ..ما �أجملهم ،لطيفني �أنيقني
عني نبع و�رصخة مظلوم يف �ضياء الفجر.. ن�سانية والكرم واحلنان ،
ّ و�إن�سانيني ،منتهى الإ
وهبت ال�سالفني والالحقني� ،أيتها املعرفة التي
َ (�إن�سانيينّ مفرطني يف �إن�سانيتهم)..
8 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
s
s
s
والتخبط يف
ّ املدوخ،
ّ فلي�س ثمة �إال هذا الزوغان بقي هكذا ..حفن ُة �شحاذين على �أبواب العامل
املتاهة التي تتنا�سل �صحارى ومفازات.. يا دم�شق لن تكوين �إال �سيدة م�صريك ،مهما تطاول
jhj
�سيدة
قتلة احلياة ،كما كنت منذ بدء اخلليقةّ ،
الكربياء والأحزان ..الرم ُز واملجاز واحلقيقة
ال�شجرة ترخي �أهدابها ،ناع�س ًة ،على �أغ�صانها
املحلقة فوق هياكلك والأ�شجار املحروقة.
تغرد الطيور املهاجرة واملقيمة ،وحتت ظاللها ّ
ي�سرتخي �أطفال ون�ساء يداعب الن�سيم الع ْذب jhj
رداف واخل�صور كما يف �أحالم مالك ،وثمة الأ َ يتحدث عن �رضورة االنتقال يف ّ كان �سقراط،
تخ�ضب الأفق من جهة ّ غيوم �شفيفة ناعمة الإ�صغاء �إىل �صوت الب�رش بدل ال�شجر واحلجر،
الغابة تن�رش لطائفها على ال�شجرة وخملوقاتها م�شريا �إىل فال�سفة الطبيعة ،امل�أ�ساويني الُأ َول
الهانئة.. ت�رصمت على يف بالد الإغريق ..ع�رشات القرون
ّ
jhj النوعية ،وحتقق ما حتقق من �إجنازات ّ تلك النقلة
ِ
منحت ال�صينية، �شجرة (النارجيل) جوز الهند فوق جبال �أ�سطورية من اجلثث والأ�شالء،
ّ
الربكانية ،الربكة واجلمال ،ومنحتها هذه البالد والكراهيات ،وما ال يح�صى من الآالم
ّ ال�ضغائن
ّ
املنافع املتعددة الأغرا�ض واال�ستعماالت .. واالقتالعات..
حملت يف ج�سدك الر�شيق الذي يتمايل يف ِ �أما �آن الأوان �إىل نوع من الرجوع �إىل ال�شجر؟ لعله
الريح واملطر ،ك�أجمل ما يكون عليه َه َيف قوم والروحية
ّ اجلمالية
ّ يخبئ من الأ�رسار والكنوز
ر�ضي مت�ص ًال ما ا�ستنزفه الإن�سان و�أهدره على مذابح الرغبة
وا�ستدارة نهد ،فكان اجلمال الأ ّ
ب�أقوى �آ�رصة برحابة املطلق ،بلطائفه و�أ�رساره.. االفرتا�سية والطموح والإبادات ...الرجوع �إىل ّ
ال�شعوب التي تنا�سلت حتت ظالل غاباتك �أعطيت ال�شجر� ،إىل املنابع الأوىل ال�صافية النقية� ،إىل
َ
اخل�صيبة ،الت�أم َل والت�سامح والأثرة التي ُعرف تو�سعت وتعمقت يف املكان ما قبل املجزرة التي ّ
روحيون على هذه الأر�ض. ّ بها مفكرون وقادة والزمان ،رمبا مل يكرب ويتعاظم غريها� ،إذ
والروحية التي ال تحُ �صى..
ّ املادية
ّ وهبت املنافع ُ�س ِّخرت كل الأدوات واملكا�سب لإجنازها ب�رضاوة
ال�صينية ،ت�شبهني النخيل يف ّ �إنك يا جوزة الهند الب�رشي
ّ ت�صفوية ...وال نهاية تلوح يف هذا الأفق ّ
�شجرية
ّ تلك البالد ،ولأنكما تنحدران من عائلة اجلهم� ..أم �أن ذلك احللم بالعودة نوع من �سذاجة ْ
واحدة جادت بها الطبيعة الأم عرب الأزمان فادحة ال يليق حتى بطرحها بعد �أن جربها
والأمكنة املختلفة ..ت�شبهني النخيل بهباته كثريون وارتطموا بال�سور واحلائط واجلدار� ..أما
وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف احلداثة زال هناك خيط رجاء وخال�ص؟ �أم �أن الدائرة
الهمجية التي ُولدت عمياء ومدقعة ،ت�شبهني ذلك ّ أحكمت قب�ضتها على ال�شجر والب�رش، ْ اجلهنمية �
ّ
10 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
وهناك حيوانات �أخرى وطيور ت�ستكمل حلقات ال�س�ؤدد التليد وروحه التي �أو�شكت على الغياب
اقتلعت حيواناته من رحابة
ْ هذا ال�سريك الذي واالنقرا�ض..
الالنهائي احلنون ،لي�ؤثث هذه املهزلة الباكية.. jhj
jhj
يف �سماء �آ�سيا يحلب البوذا ،بقرات ِه ال�سمان
املنفيني يف
ّ كان يو�شك �أن يكتب ،عن �أولئك جنمية �إىل طعام ًا للفقراء ،ويقفز النمر من تلة
ّ
بلدانهم ،ظِ اللهم التي تعانق جدران الليل.. �أخرى
كان يحاول �أن يكتب عن �أولئك الذين اختفوا يف ال�صياد. هرب ًا من �سطوة
ّ
الهاويات ِ
وال�شعاب ،التي ُولدوا فيها ،ومل يرتكوا
jhj
مه�شمة تناو�شها الكالب..
�أثراً ،عدا هياكل ّ
كان يحاول �أن ي�ستدعي زفرة املتح�رض ،وحيداً، املدربون على رق�صة ال�سامبا ،بحكم
�أفيال يدربها ّ
الع َوز واملوت..
بني جبال َ ال�سياح ،وثمة بحريات
�شهرتها يف �إر�ضاء ف�ضول ّ
كان يحاول �أن ير�صد حلظ َة �سقوط الطائر ،من ومتا�سيح ترق�ص هي الأخرى بر�ؤو�س منكوبة..
علياء �سمائه� ،إىل م�ستنقع النفايات واجلذام.. كوميدية ،م�صطنعة..
ّ ِقردة تتقافز بحركات
�سيف الرحبي
s
s
s
العباب..
مثل �سفن متخر ُ (دع املقادير جتري يف �أعن ِّتها)
الأطفال الذين مل ي�شهدوا منذ والدتهم �أمطارا ،ها م�ضطرب بالكوابي�س
ٍ تنامن �إال يف بحر
َّ وال
وال�سحنات.
هي النعم ُة تغمر الأفالج اجلا ّفة ُ واحليتان..
ثمة �أمل � ،شعاع �أمل( ،داء الأمل) ثمة وعد بحياة.. jhj
jhj
يلوح امل�سافرون ب�أيديهم ال�شاحبة
حتط رحالهم العتيق ُةال تكاد ّ عرب املوانئ واملطارات
�إ ّال ويرحلون جل ُزر والغابات
يقر�أون خرائط ا ُ
ٍ
جهات جمهولة غالب ًا، نحو خبار الطق�س وخالئق امل�ستنقعات..
�أ َ
الربق مبعرثاً �أنحاءها يف ُ جهات ي�شطرها ينتظرون املفاجئ الراب�ض يف �أخدود �أو عرب
الإع�صار رملي يطل على بحر ّ منحدر
الرملي من جهة ال�رشق.. ّ الذي يقذف لهبه �صليون وقد
ال�سكان الأ ّ
ُ يف متائم و ُلقى يعلّقها
6 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
املتاخم ملوج املحيط ومت�ضي �إىل الفندق ال تكاد رواحلهم تنزل املكان ،قري ًة �أو مدين ًة،
ال�صغري املحاط بالأ�سماك والنجوم ..املر�أة التي �شق حفرة حفرها الأزل يف خا�رصة َّ
حياتها مع الوحدة يف املقاهي ،والكالب.. اجلبل النائي ..ال يكاد حفيف الأ�شجار
ي�ستيقظ الرجل الهاذي من غيبوبته ويقول: املتعبة ،ال يكادون ي�سمعون َ يالم�س �أج�سادهم
بالفعل ما �أجمل احلياة بني �أنا�س يقت�سمون ذات كالب
�صوت البلبل �أو نعيق الغراب خمتلط ًا بنباح ٍ َ
امل�صري.. تر�صد الفجر يف انبالجه الأول� ،إال وتقذفهم
jhj ال�صدفة �إىل مطارح �أخرى ،ال يكاد ُي�سمع فيها
�صياح ديك ٍة �أو �شحيج حما ٍر تائه يف الرباري
ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا من غار اجلبل
الغابي.. حجري
ّ �سهم
املوح�شة ،الرباري التي �شهدت �أول ٍ
ّ يقذفه قابيل يف �سويداء قلب �أخيه
�أو معب ٍد �صغري على قارعة طريق
ي�سدون الآفاق مثل وتبد�أ الكارثة..
حيث الثك�إىل واملحرومون ّ
دخان متزقه ريح ،حيث احلروب تبقر �أح�شاء jhj
اخلليقة ،حروب الأعداء ،حروب االخوة الأعداء، ذات مرة ،وكل مرة:يخاطب نف�سه َ
حروب الأج ّنة يف رحم الأمهات ،حروب الأوبئة ما الذي يجعلني مقيم ًا يف هذه البلدة دون الأخرى؟
القدي�سني والعاهرات،ّ والفي�ضانات ،حروب ما الذي يجمعني بهذه الأقوام املنتفخة بالآمال
اجلرثومية ال
ّ ال�سيارة والأ�سلحة
حروب الكواكب ّ الوهمية� ،أنا الهالك املنبوذ وال�شعارات والأ�سماء
ّ
ُتبقي وال تذر .حروب البع�ض على البع�ض والكل والغريق؟ حياتي التي م�ضت على هذا الوتر الكا�رس
على الكل ،حروب النخيل �ضد ق�صف العوا�صف، املدمن غرب ًة بني �أقوام غرباء� ..أنا الذي ال �أ�ستطيع
هواج�س االنتقام،
ُ والأطفال الذين تنه�شهم �أن �أرى الكائن �أي كائن� ،أن �أرى �أ َّي ج ْذر يربطه
ذاهبني �إىل الأ�رضحة واحل َلبات.. املتموج بامل�آ�سي بهذه الأر�ض ،هو العابر ب�ساطها
الطائفيني بعد التب�شري باحلداثة حروب الأدباء ّ
ّ واللع َنات� ،إىل جنة ال�سماء �أو جهنمها الأزيل الأكرث
َ
والقانون..
مرح ًا من حياة ك�أمنا �إله ال�رش والدم البابلي
ما زلت تطل بر�أ�سك �أيها البوذا
(كنجو) تقي�أها يف حلظة غ�ضب وا�ضطراب..
املتحجرة يف كهوف الغابات ،ت�أمالتك، ّ دموعك
(ما الذي يجعلني �أمكث يف هذه البقعة؟)
آ�سيوية
تعاليمك التي ذهبت �أدراج الرياح ال ّ الغريب ،تهذي املر�أ ُة الغريبة حامل ًة
ُ يهذي الرجل
والطاعون ..
ال�سة الواهن ،حاملة بالأرخبيالت بقطع حبل رُّ
jhj
البحرية بني ب�رش ال يعرفون �أ�سماء بع�ضهم ّ
بالفعل ،ما الذي يجعلك ال تغادر ،مل تذهب ،مل ال�صباحية يف املقهى
ّ (ي�أخذ ت�أخذ) قهوتها
7 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
من �أجل الأطفال اجتمعوا ،قاطعني م�سافات ترحل حتى اللحظة؟ ..يف ثقوب بيتك ،يف خالء
�شا�سعة على طائراتهم اخلا�صة ،ال تخلو من الدموية ،ع�ش�ش عنكبوت �سام وقتلة ّ الوح�شة
ومطبات..
ّ مو�سمية
ّ رياح م�أجورون يفتكون بال�صغار والكبار ..وعلى
من �أجل �أطفال العامل اجتمعوا ..هكذا.. التحية كل �صباح على م�ستوطنات ّ مقربة ،تلقي
�سوريا برداً وفجيعة
ّ وعلى مقربة يرجتف �أطفال البومة البكماء و�سط اخلرائب والقاعات..
و�أ�شتات ًا.. همومك طاولت اجلبال هام ًة ،وفاقت ال�شجر
�سوريا ،دماء �أطفالها التي تلجم القارات بنحيب ّ رق ًة وانك�ساراً ..ويف الأودية اجلا ّفة ،ح ّلقت طيور
و�سحب �سوداء ،ثقيلة تطبع �آفاق العرب قادمة من �أزمنة الطوفان ،حتمل يف مناقريها
ال ينقطعُ ،
والب�رشية جمعاء بطابع انحطاطها الأكيد.. اجلثث املتحلّلة يف �سدمي الف�ضاء ،الذي داخت
ّ
وثمة �أدباء كرث ،اجتمعوا يف م�ؤمترات وندوات.. الع َدم
من هوله الآله ُة وطوح بها �إىل �ضفاف َ
ناق�شوا ُ�صور اجلمال التي �أجنزها خيال الوح�شي والإبادات.
ّ
حريات التعبريالأفراد احلر ،ومل ين�سوا بالطبعّ ، jhj
املقموعة يف دنيا العرب ..لكنهم ،ومن غري �أ�سف رث الطرق�سوريا ،ما الذي يجعلك ت�سلكني �أك َ يا
ّ
رمبا لدى �أ�صحاب احلق والآ�رصة العتيدة ،لن الب�رشي يف ال�صنف مر به
ّ ُ وعورة ،من كل ما ّ
�شكلية على جاري العادة ،عن ّ ي�أتوا ولو بكلمة ِ
منافذك ُ�سدت بدم ال�شهداء. تاريخه احلزين؟
تلك التي تدخل �أق�صى النكبات و�أق�ساها ،من كربيا�ؤك تطاير بروق ًا تخفق يف �ضفاف الأزل،
حر ّيتها وجمالها اللذين �ضاعا يف دهاليز �أجل ِّ �سوريا، بجديته الثانية ..يا
ّ ليفتتح بها العامل �أ ّ
والهمجية عقوداً طويل ًة ،يخالها الرائي
ّ الظلمة كنتِ املالذ والنعمة ،حتى �أتى التتار احلديث،
�أحقاب ًا وقرون ًا ...وهي هكذا.. ِ
فدخلت يف الظالم الغليظ �أيام ًا و�سنني ..روحكِ
jhj واحلرية ،تبحر يف الآماد
ّ العط�شى �إىل املجد
والدماء ..لقد �أوغلتِ يف الرتحل والبطوالت ،من
�أيها الكتاب� ،أيها املنقذ من ثقالء الظل
�أجل طفل يبكي ،و�أم تنتحب يف غلواء الظلمة ،يف
احلرة حتى يف
وامل�صري ...متنحني دائما �رشفتك ّ اجلماعية والهذيانات والكوابي�س..
ّ زحمة املقابر
تهب اجلمال يف
اليومية والرتابةُ ..
ّ العبودية
ّ قلب
متنح العطالة الفاتنة،
قلب م�شهد القبح الأنيقُ ..
jhj
والف�ضاء
ُ تلك التي يهبها البحر لأ�سماكه الك�سولة بالأم�س اجتمع �أثرياء العرب والعامل ،من �أجل
لطيوره حملِّقة يف �سماوات الن�شوة واخليال.. الأطفال اجتمعوا ..ما �أجملهم ،لطيفني �أنيقني
عني نبع و�رصخة مظلوم يف �ضياء الفجر.. ن�سانية والكرم واحلنان ،
ّ و�إن�سانيني ،منتهى الإ
وهبت ال�سالفني والالحقني� ،أيتها املعرفة التي
َ (�إن�سانيينّ مفرطني يف �إن�سانيتهم)..
8 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
s
s
s
والتخبط يف
ّ املدوخ،
ّ فلي�س ثمة �إال هذا الزوغان بقي هكذا ..حفن ُة �شحاذين على �أبواب العامل
املتاهة التي تتنا�سل �صحارى ومفازات.. يا دم�شق لن تكوين �إال �سيدة م�صريك ،مهما تطاول
jhj
�سيدة
قتلة احلياة ،كما كنت منذ بدء اخلليقةّ ،
الكربياء والأحزان ..الرم ُز واملجاز واحلقيقة
ال�شجرة ترخي �أهدابها ،ناع�س ًة ،على �أغ�صانها
املحلقة فوق هياكلك والأ�شجار املحروقة.
تغرد الطيور املهاجرة واملقيمة ،وحتت ظاللها ّ
ي�سرتخي �أطفال ون�ساء يداعب الن�سيم الع ْذب jhj
رداف واخل�صور كما يف �أحالم مالك ،وثمة الأ َ يتحدث عن �رضورة االنتقال يف ّ كان �سقراط،
تخ�ضب الأفق من جهة ّ غيوم �شفيفة ناعمة الإ�صغاء �إىل �صوت الب�رش بدل ال�شجر واحلجر،
الغابة تن�رش لطائفها على ال�شجرة وخملوقاتها م�شريا �إىل فال�سفة الطبيعة ،امل�أ�ساويني الُأ َول
الهانئة.. ت�رصمت على يف بالد الإغريق ..ع�رشات القرون
ّ
jhj النوعية ،وحتقق ما حتقق من �إجنازات ّ تلك النقلة
ِ
منحت ال�صينية، �شجرة (النارجيل) جوز الهند فوق جبال �أ�سطورية من اجلثث والأ�شالء،
ّ
الربكانية ،الربكة واجلمال ،ومنحتها هذه البالد والكراهيات ،وما ال يح�صى من الآالم
ّ ال�ضغائن
ّ
املنافع املتعددة الأغرا�ض واال�ستعماالت .. واالقتالعات..
حملت يف ج�سدك الر�شيق الذي يتمايل يف ِ �أما �آن الأوان �إىل نوع من الرجوع �إىل ال�شجر؟ لعله
الريح واملطر ،ك�أجمل ما يكون عليه َه َيف قوم والروحية
ّ اجلمالية
ّ يخبئ من الأ�رسار والكنوز
ر�ضي مت�ص ًال ما ا�ستنزفه الإن�سان و�أهدره على مذابح الرغبة
وا�ستدارة نهد ،فكان اجلمال الأ ّ
ب�أقوى �آ�رصة برحابة املطلق ،بلطائفه و�أ�رساره.. االفرتا�سية والطموح والإبادات ...الرجوع �إىل ّ
ال�شعوب التي تنا�سلت حتت ظالل غاباتك �أعطيت ال�شجر� ،إىل املنابع الأوىل ال�صافية النقية� ،إىل
َ
اخل�صيبة ،الت�أم َل والت�سامح والأثرة التي ُعرف تو�سعت وتعمقت يف املكان ما قبل املجزرة التي ّ
روحيون على هذه الأر�ض. ّ بها مفكرون وقادة والزمان ،رمبا مل يكرب ويتعاظم غريها� ،إذ
والروحية التي ال تحُ �صى..
ّ املادية
ّ وهبت املنافع ُ�س ِّخرت كل الأدوات واملكا�سب لإجنازها ب�رضاوة
ال�صينية ،ت�شبهني النخيل يف ّ �إنك يا جوزة الهند الب�رشي
ّ ت�صفوية ...وال نهاية تلوح يف هذا الأفق ّ
�شجرية
ّ تلك البالد ،ولأنكما تنحدران من عائلة اجلهم� ..أم �أن ذلك احللم بالعودة نوع من �سذاجة ْ
واحدة جادت بها الطبيعة الأم عرب الأزمان فادحة ال يليق حتى بطرحها بعد �أن جربها
والأمكنة املختلفة ..ت�شبهني النخيل بهباته كثريون وارتطموا بال�سور واحلائط واجلدار� ..أما
وعطاياه وكرمه الباذخ قبل زحف احلداثة زال هناك خيط رجاء وخال�ص؟ �أم �أن الدائرة
الهمجية التي ُولدت عمياء ومدقعة ،ت�شبهني ذلك ّ أحكمت قب�ضتها على ال�شجر والب�رش، ْ اجلهنمية �
ّ
10 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s حرب الأجنة فـي الأرحام و�شذرات �أخرى
s
s
s
s
s
وهناك حيوانات �أخرى وطيور ت�ستكمل حلقات ال�س�ؤدد التليد وروحه التي �أو�شكت على الغياب
اقتلعت حيواناته من رحابة
ْ هذا ال�سريك الذي واالنقرا�ض..
الالنهائي احلنون ،لي�ؤثث هذه املهزلة الباكية.. jhj
jhj
يف �سماء �آ�سيا يحلب البوذا ،بقرات ِه ال�سمان
املنفيني يف
ّ كان يو�شك �أن يكتب ،عن �أولئك جنمية �إىل طعام ًا للفقراء ،ويقفز النمر من تلة
ّ
بلدانهم ،ظِ اللهم التي تعانق جدران الليل.. �أخرى
كان يحاول �أن يكتب عن �أولئك الذين اختفوا يف ال�صياد. هرب ًا من �سطوة
ّ
الهاويات ِ
وال�شعاب ،التي ُولدوا فيها ،ومل يرتكوا
jhj
مه�شمة تناو�شها الكالب..
�أثراً ،عدا هياكل ّ
كان يحاول �أن ي�ستدعي زفرة املتح�رض ،وحيداً، املدربون على رق�صة ال�سامبا ،بحكم
�أفيال يدربها ّ
الع َوز واملوت..
بني جبال َ ال�سياح ،وثمة بحريات
�شهرتها يف �إر�ضاء ف�ضول ّ
كان يحاول �أن ير�صد حلظ َة �سقوط الطائر ،من ومتا�سيح ترق�ص هي الأخرى بر�ؤو�س منكوبة..
علياء �سمائه� ،إىل م�ستنقع النفايات واجلذام.. كوميدية ،م�صطنعة..
ّ ِقردة تتقافز بحركات
�سيف الرحبي
12
البالد ال�سعيدة ..
قـ ـ ــراءة فـ ـ ــي تدوينـ ـ ــات
برترام توما�س املو�سيقية
م�سلم �أحمد الكثريي
مو�سيقي وباحث من ُعمان
13
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
كانت هذه بع�ض املالحظات ال�شكلية العابرة مقدمة �أبعد من منطقة نفوذ الرا�شدي ،ولكن
�إىل التنويه بالأهمية الثقافية واملو�سيقية لكتاب �إ�رصار الكابنت دفع ال�شيخ �إىل املجازفة
برترام توما�س وقد جاءا هذا املقال املتوا�ضع معتمدا على عالقاته بالقبائل املختلفة
تعبريا وتقديرا م ّنا جتاه هذا العمل الهام واجلهد مرة التي كانت وخا�صة مع قبيلة بني ّ
الذي بذله يف ر�صد ما يقع �أمام عينيه وما ي�صل موافقتها وحمايتها للقافلة عندما تخرتق
دونها�إىل �إذنيه من حكايات و�أ�شعار ،و�أحلان ّ �أرا�ضيهم �أمرا �أ�سا�سيا ل�سالمتها وو�صولها
الكاتب بالنوتة املو�سيقية الأوروبية ح�سب ما �إىل مق�صدها يف قطر �شماال ،لذلك ا�ستعان
ت�سمح تقنياتها مع تلك الأحلان العربية البدوية �أو ال�شيخ �صالح ب�صهره ال�شيخ حمد بن هادي
اجلبالية �أو احل�رضية. مرة لهذا الغر�ض كدليل للقافلة من بني ّ
ويف هذه املنا�سبة جتدر بنا الإ�شارة �إىل �أن مقالنا وربيعها من دكاكة عرب �أرا�ضي قبيلته.
هذا يف ظل غياب ت�سجيل �سمعي لتلك التدوينات وبهذه املنا�سبة نود الإ�شارة �إىل �أننا نعتمد يف
القدمية ال ميكن �أن ي�أخذ �شكله النهائي كتحقيق مقالنا هذا على الن�سخة املرتجمة للعربية حتت
�إال بعد مراجعة الن�سخة الأ�صلية باللغة االجنليزية عنوان« :البالد ال�سعيدة» ترجمة.حممد �أمني عبداهلل
ومتابعة الأحلان والأ�شعار والق�ص�ص الواردة يف �إ�صدار وزارة الرتاث والثقافة ،وتاريخ ن�رش الن�سخة
الكتاب بدرا�سة ميدانية مقارنة ،ذلك �أن الكاتب قد الرتجمة 1984؛ ومن املالحظ �أن الكتاب املرتجم
�سجل العديد من احلكايات املحلية �أو عن ال�سرية قد خال من �أي �إ�شارة تدل على اعتماده على ن�سخة
الهاللية كان يرويها البدو املرافقون له للت�سلية، من�شورة �سابقا باللغة الإجنليزية ،ولكن حل�سن
كما �أن الن�صو�ص ال�شعرية التي جرى ترجمتها عن حظنا وجدنا �أن ولفرد ثي�سجر قد �أ�شار يف كتابه
الن�ص الإجنليزي �أخذت �شكال ثالثا بعد �إعادتها « الرمال العربية» �إىل �أنه �أطلع عليها قبل � 15سنة
بهذه العملية �إىل العربية .من جهة �أخرى كان اثناء رحلته يف املنطقة �أي �أن الكتاب كان من�شورا
املرتجم ي�صطدم بخ�صو�صية الثقافة املو�سيقية باللغة االجنليزية منذ.1932
املحلية فيلج�أ �إىل تعميم �أ�سماء �شائعة يف للأ�سف هذا الكتاب « البالد ال�سعيدة» يف �صورته
املو�سيقى العربية مثل «مواويل» غري املعروفة يف العربية لي�س �سعيدا مبا يكفي حيث يحتوي على
تلك املنطقة ونعتقد �أنها مل ترد يف الن�سخة الأ�صلية عيوب منهجية كثرية تت�صل �أغلبها بالن�رش من
الإجنليزية .فربترام توما�س يحمل ثقافة مو�سيقية ذلك مثال :عدم وجود مقدمة للمرتجم �أو تعليقات
عب عن ذلك باهتمامه الوا�ضح �أوروبية ممتازة رّ �أو حتقيق �أو فهر�س با�ستثناء الف�صول وال�صور
بالغناء وتدوين الأحلان التي �سمعها من الأفراد والر�سوم ..ويتكون الإ�صدار من جزءين احتوى
واملجموعات التي التقى بها ،و�سجل �أ�سماء �أمناطها الأول على ع�رشين ف�صال �أما امللحق وهو اجلزء
وو�صف وظائفها وحر�ص على ن�رش تلك البيانات الثاين؛ فقد ت�ضمن �أربعة مو�ضوعات م�صنفة ح�سب
مع النوتات املو�سيقية التي �أعدها الأمر الذي مل العينات املادية والبيانات غري املادية التي جمعها
جند لها ح�ضورا يف الن�ص العربي بال�صفة التي الكاتب ومت �إعداد تقارير علمية من قبل خمت�صني
ظهرت فيه مع النوت املو�سيقية يف امللحق الرابع . عن ثالثة منها فقط فيما امللحق الرابع وكان
من الوا�ضح �أن اهتمام الكابنت توما�س الأ�سا�سي كان عنوانه «الأغاين العربية» خالء من �أي تقرير حتليلي
«احل�صول على مقا�سات جلمجمة الإن�سان العربي» وت�ضمن 25نوتة مو�سيقية.
14 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
( اجلنبة ) ،ومدينة �صاللة ،وجبل القرا ،والرمال ( «بغر�ض درا�سة �ساللة عرب اجلنوب ،واكت�شاف
الربع اخلايل )؛ �إال �أننا �سوف نتناولها معا ح�سب جيولوجية هذه املنطقة املجهولة للأوروبيني
�سري العمل يف هذا املقال واحتياجاته .ومن و�أنواع احلياة فيها احليوانية والب�رشية وعاداتهم
النوت املو�سيقية التي دونها الكاتب
املالحظ �أن ّ اللغوية و�سلوكهم وتقاليدهم وطريقة حياتهم؛ وقد
يف املنطقة ال�رشقية وت�ضمنها امللحق الرابع مل يتم قام بجمع عينات كثرية من �أنواع احليوانات والطيور
الإ�شارة �إليها يف ن�ص الكتاب الذي خالء �أي�ضا من واحل�رشات و�سجل انطباعات هامة عن الطبيعة
�أي و�صف لهذا املنطقة وعن رحلته الربية الأوىل وا�ساليب حياة �سكانها االجتماعية والثقافية.
�إىل ظفار يف �شتاء 1927ـ 1928التي اجتاز وعلى هذا ال�صعيد نرى من الأهمية الت�أكيد ب�أن
فيها بوا�سطة اجلمال حوايل 600ميل عرب احلدود توما�س اجنز عمال ميدانيا كبريا يف كتابه البالد
اجلنوبية املطلة على املحيط الهندي. ال�سعيدة نتمنى من اجلهات املخت�صة �إعادة طباعته
وحتقيقه والتعليق عليه ،ذلك �أن الكتاب على �أهميته
حدود العامل ! توما�س يف جبل القرا تنق�صه العديد من املعلومات واحلقائق التاريخية
ا�ستغل الكاتب ت�أخر و�صول مرافقيه الروا�شد الذين واالجتماعية والثقافية عن املجتمع يف ظفار،
توجهوا ال�ستطالع البادية و�إعداد القافلة وقام يف وبع�ض ا�ستنتاجات الكاتب و�آرائه مثرية للجدل
�أكتوبر 1929بجولة �شملت بع�ض مرتفعات جبال خا�صة تلك املتعلقة باجلن�س العربي اجلنوبي،
غي ر�أيه ب�ش�أن ت�سمية
القرا ،وهنا يبدو �أن توما�س رّ �أو �أنها خمالفة للواقع مثل :ق�صة على �ضبعان
البالد ال�سعيدة التي و�صفها يف مقدمة كتابه �أنها اخليالية من وجهة نظرنا الذي قتل خم�سني �شخ�صا!
من املفارقات « �أن يطلق هذا التعبري على منطقة وهو عدد ميثل قبيلة كاملة يف ذلك الوقت� ،أو كما
من الأر�ض تكرث بها ال�صحراء املقفرة التي يت�صارع اجلبالية «ال يباح لها طهي الطعام»يقول� :أن املر�أة ّ
ان�سانها منذ فجر التاريخ �ضد عوامل الطبيعة» وغري ذلك من املالحظات الغريبة ! وعلى كل حال
القا�سية .فعندما وقف على مرتفعات جبال القرا التي فربترام توما�س وغريه من االنرثوبولوجيني نقلوا
تطل على املحيط الهندي كتب قائال� :إذا كانت هناك لنا �صورة رائعة عن
الظروف االجتماعية
ال�سائدة عرب م�شاهداتهم
وانطباعاتهم املتنوعة
وهي يف احلقيقة ال
ت�صلح فقط لالهتمام
العلمي ال�رصف بل
والفني والأدبي �أي�ضا.
ورغم �أن التدوينات
املو�سيقية تنتمي �إىل
�أربعة مواقع جغرافية
واجتماعية خمتلفة
هي :املنطقة ال�رشقية
15 نزوى العدد - 75يوليو 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
مو�ضوعات اجتماعية �أخرى تتعلق باحلياة منطقة يف �شبة اجلزيرة العربية ت�صدق عليها هذه
املعا�رصة وهمومها .وبالفعل وبعد مقارنة الو�صف الت�سمية ـ �إذا ا�ستثنينا اليمن ب�أجمادها التاريخية ـ
مع التدوينات املو�سيقية نتعرف ب�شكل دقيق على فهي بحق املنطقة التي ت�سمى ظفار والتي ت�شكل يف
املنا�سبة التي �سجل فيها منطيني غنائيني هما: جمموعها خميلة من الغابات اخل�رضاء التي تفرت�ش
دانا دون ( بالعربية املهرية) ،وامل�شعري بالعربية املرتفعات اجلبلية املطلة على البحر واجلداول
ال�شحرية �سنتعرف عليهما �أكرث يف اجلزء املخ�ص�ص الرقراقة واحلقول ال�سند�سية ،وال�سهول التي تر�صع
النوت املو�سيقية.
لتحليل َ �أدميها الأ�شجار والنباتات والأع�شاب ..ويف هذه
البالد ـ كما جاء يف كتاب التكوين ـ ح ّدد اهلل حدود
اختبار القوة ! العامل ذاكرا �أنها تبد�أ �رشقا من جبل �سفار».
يرى الكاتب �أن ختان الذكور «من العادات ذات �سجل الكاتب العديد من املعتقدات التي كانت
الأهمية البالغة» ،وتتم عند بلوغ �سن احللم ،وهذه �شائعة بني �سكان جبل القرا ،وكان يف طريقه �إليها
العملية يرى �أنها ت�شبه تلك املتبعة يف م�رص من مدينة �صاللة قد وثق العديد من امل�شاهدات
القدمية كما ثبت من املومياء التي مت اكت�شافها. الأثرية املادية والكتابات القدمية التي نقل بع�ضها
وي�صور الكاتب هذا االحتفال بقوله« :ت�صاحب �أو �أخذ �صورا �ضوئية عنها لدرجة �أنه يخيل �إلينا
عملية اخلتان احتفاالت كبرية؛ فتتجمع �أعداد من لكرثتها وك�أنه مي�شي على منطقة لي�س بها �سوى
ال�صبية يف املكان الذي تتم فيها عملية اخلتان، الآثار ،غري �أن هذه اجلوانب على �أهميتها لن ن�شغل
كما �أن اخلتان يعترب اختبارا لقوة احتمال ال�شباب مقالنا هذا ب�أمرها حيث ين�صب اهتمامنا على
ورجولتهم ..ويح�رض االحتفال الذي يقام بهذه املمار�سات املو�سيقية وما يت�صل بها من مظاهر
املنا�سبة كل من الرجال والن�ساء يف منطقة ومقارنتها لال�ستدالل بالتدوينات املو�سيقية
مك�شوفة في�ؤتى بال�شاب الذي يراد ختانه ويجل�س الواردة يف الكتاب؛ فيذكر الكابنت توما�س �أنه �شاهد
على �صخرة ويحمل �سيفا حاد ال�شفرة بيده خ�ص�ص من فوق قمة اجلبل جماعة ال�شيخ ح�سن (مرافقه من
لهذه املنا�سبة ،ويقوم ال�شاب بقذف ال�سيف �إىل القرا) « وكانوا ين�شدون �أغانيهم اجلبلية ،وقد جتمع
�أعلى ثم يلتقطه بحيث تلم�س راحته حد ال�سيف ،ثم بع�ض الرفاق ال�ستقبال جماعتهم و�أخذوا يلوحون
ي�أتي اخلاتن ويجل�س �إىل جانب ال�شاب بينما تقف بال�سيف كنوع من الرتحيب بهم ،و�أخذت بقية
خلف اخلاتن فتاة عذراء حمجبة وتكون عادة �إحدى املجموعة تتجمع حول زعيم القبيلة الذي كان يتلوا
قريبات ال�شاب �أو �أخته ويف يدها �سيف وت�أخذ �شعارات كلها متجيد لأبطالهم كما وقفوا �صفوفا
الفتاة تلوح بال�سيف مينة وي�رسة وت�رضب به على و�أخذوا ين�شدون �أغاين �أخرى بينما كان البع�ض
راحتها وهذه العملية تعترب متهيدا لعملية اخلتان، الآخر يرد عليها بنف�س الطريقة..و�أخذوا يرددون
ثم يجل�س ال�شاب ويرفع يده الي�رسى �إىل �أعلى �أغانيهم اجلبلية باللهجة املهرية وذلك على عك�س
انتظاراً لإجراء العملية ومبجرد انتهائها يتعني �أغاين احلب التي يغنونها باللهجة ال�شحرية».
عليه �أن ينه�ض ويدور حول اجلمع ويرفع �سيفه يف الواقع هذا و�صف دقيق للمظاهر االجتماعية
ويخف�ضه بطريقة ال يظهر منها �أنه ي�شعر ب�أي �أمل، والثقافية ال يزال جانب كبري منها ميار�س حتى
وبهذا اال�ستعرا�ض يثبت ال�شاب رجولته ،ويف تلك اليوم و�إن كان االهتمام ب�ش�ؤون القبيلة اليوم قد
املنا�سبة تقوم الن�ساء ب�إن�شاد الأغاين وقرع الطبول تراجع �إ�شعاعه يف مثل هذه الأغاين على ح�ساب
16 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
الأقطار العربية ال�شمالية كالعراق والأردن �أو �شمال كما تقمن بتعرية �صدورهن ابتهاجا بذلك ،ويتخلل
ُعمان وحتى مدينة �صاللة؛ وهي تقاليد تت�شدد يف االحتفال اطالق نار يف الهواء ( )..ومن امل�ألوف �أن
الف�صل بني الذكور والإناث ال ميكن تطبيقها يف يقوم بعملية اخلتان �أحد زعماء القبائل �أو �شخ�ص
ظروف احلياة الريفية القا�سية التي لكل فرد من من عائلة مرموقة».
�أفراد الأ�رسة دور يومي يقوم به ،و�أغلب هذه الأدوار تلك كانت العادة يف هذه املنا�سبة التي متثل واحدة
تكون خارج البيت الب�سيط واملتوا�ضع الذي قد من �أكرب االحتفاالت القدمية يف ظفار ،غري �أن الذي
يكون كهفا �أو ما�شابه ذلك ،فهذه املجتمعات عا�شت لفت نظري هو قرع الطبول ،وتعرية ال�صدور! وهذا
قرونا طويلة منعزلة ومن النادر جدا �أن ي�صلها و�صف لي�س �صحيحا لأننا من �أ�صحاب املنطقة
�شخ�ص غريب .من هنا يت�ساءل الكاتب « ما �إذا كان ونعرف تقاليدها جيدا ،غري �أن ما ميكن �أن يكون
يوجد يف �أي منطقة من املناطق اجلبلية يف البالد
الحظه الكاتب هو �أن مالب�س الن�ساء التقليدية
العربية ن�ساء على ذلك امل�ستوى من اجلر�أة على
بطبيعتها تك�شف جانبا من اجلزء العلوي من ال�صدر
الغناء يف مكان عام ،لأن هذا لو حدث يف ُعمان
املعروفة بالتزمت ف�إنه يعترب عمال منافيا للأخالق والرقبة خا�صة �إذا ما كان غطاء الر�أ�س من القما�ش
وتعاقب عليه الفتيات� ،إال �أن مثل هذه الأغاين ترتدد ال�شفاف وهذا مل يكن ميثل حرجا وال ي�سرتعي
يف كل مكان من هذه املناطق والوديان ولها وقع االهتمام كونه من الأ�شياء العادية يف جمتمع
جميل على الأذن» .والواقع �أن هذه املقارنة لي�ست خمتلط كاملجتمع اجلبايل حتى وقت قريب� ،أما
دقيقة متاما ح�سب جتربتنا ال�شخ�صية؛ فدور ب�ش�أن الطبول فاجلباليون ال ي�ستعملون مع الغناء
املر�أة ال ُعمانية يف املو�سيقى التقليدية كبري ولي�س �أي نوع من �أنواع الآالت املو�سيقية وال �أدري من
منف�صال عن دور الرجل يف كل الأحوال كما قد يفهم �أين جاء ذكرها .ونرجح من رواية الكاتب �أن نوع
من ن�ص الكاتب. الغناء كان «م�شعري» حيث ي�ضيف بقوله �أنه فهم
املهم يبدو �أن الكابنت توما�س كان م�ستمتعا «ب�أن الأغاين التي كانت الفتيات ين�شدنها تعرب
مب�صاحبة اجلباليني واكت�شاف بيئتهم اجلميلة لذلك عن فرحتهن ،غري �أن معرفة معاين هذه الأغنيات
الغرامية كان يتطلب
وجود �شخ�ص يح�سن
اللغتني لكي يرتجمها يل
�إىل العربية ،وملا مل يكن
مثل هذا ال�شخ�ص موجودا
فقد اكتفيت بت�سجيل
حلن الأغنية بالنوتة
املو�سيقية».
�إن الكاتب لديه معرفة
بالتقاليد االجتماعية
احل�رضية الإ�سالمية
�أكت�سبها عرب ال�سنوات
التي ق�ضاها يف بع�ض
17 نزوى العدد - 75يوليو 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
ويف الواقع هذا التقليد االجتماعي هو �أو�سع مما كتب �أن « التفكري يف العودة (�إىل مدينة �صاللة)
ذكره الكابنت توما�س ذلك �أن هذا «الأب» يقف على �أمر غري مقبول لأنه لو حدث كنت �سوف �أحرم من
ر�أ�س جمموعة �أو �أكرث من املواطنني ال�سمر وهو م�شاهدة منطقة من �أجمل املناطق يف �شبة اجلزيرة
�إىل جانب وظيفته االجتماعية الإدارية التي �أ�شار العربية ،وهي معني ال ين�ضب من االلهام للفنان
�إليها الكاتب ـ �أن جاز التعبري ـ ميتلك ال�سلطة الفنية وعا�شق الطبيعة وعامل االجنا�س ف�ضال عما كانت
و�سننها الطقو�سية ،وهي قوة عظيمة ح�سب تقاليد �ستقدمه �إيل من متعة حقيقية وبهجة روحية»
هذه الفئات االجتماعية ومعرتف بها باعتبارها عرفنا توما�س بنف�سه ب�شكل وا�ضح.
وهكذا اخريا ّ
جزءا من هيكل التنظيم االجتماعي العام ال يزال
يتمتع ب�أهمية يف املدن ال�ساحلية يف حمافظات يف مدينة �صاللة
ال�رشقية والباطنة حتى اليوم و�إن مل يكن بنف�س كان الكابنت الفنان برترام توما�س قد و�صل �إىل
الهيمنة القدمية فقد تولت الدولة املعا�رصة جميع �صاللة بحرا عرب ميناء ري�سوت (ميناء �صاللة اليوم)
�ش�ؤون مواطنيها. يف الثامن من �أكتوبرمن عام 1929ا�ستعدادا لرحلته
الثانية �إىل رمال الربع اخلايل؛ فالرحلة الأوىل التي
يف حفلة رق�ص كانت قبل ذلك ب�سنة وو�صل فيها �إىل مق�شن ال نعلم
يعود بنا الكاتب �إىل �أ�سلوب املقارنات الذي يبدو �أنه للأ�سف عنها �شيئا يف الن�سخة املرتجمة �إىل اللغة
و�سيلة جيدة يتبعها لفهم ما يجري حوله وخا�صة العربية ،وقد ذكر ولفرد ثي�سجر �أن الكابنت و�صف
موقف الأطراف االجتماعية من خ�صو�صيات بع�ضها مرافقيه حينها ب�أنهم خيبوا �آماله.
الثقافية؛ فريوي �أنه ح�رض حفل رق�ص للزنوج ال بد �أن توما�س كان ي�سكن قريبا من احل�صن الذي
بالقرب من احلافة �أقيم بعد ظهر ذلك اليوم ،وكان كان وال يزال مقر جاللة ال�سلطان ،فعندما �صحى
يوجد بع�ض البدو ال�صحراويني جاءوا لي�شاهدوا من النوم �سمع الن�ساء يغنني ويقرعن الطبول قيل
احلفل وعلى الرغم من �أن ه�ؤالء ـ كما يقول ـ م�سلمون له « �إنها حفلة تقام كل �صباح عندما يكون �سلطان
�إال �أن �أحدهم مل يعرت�ض �أو ي�ؤنبه �ضمريه �إزاء ما البالد �أو �أحد ال�ضيوف البارزين موجودا بالق�رص»،
كان يجري �أمام عينيه ،على العك�س من امل�س�ؤول وقد ذكرتني هذه الرواية مبا كتبه ابن بطوطه عن
ال ُعماين (ال�شمايل) املتزمت الذي كان يرافقه. تقاليد موكب ال�سلطان الر�سويل حاكم ظفار عندما
�سجل الكاتب و�صفا ممتازا لذلك احلفل املو�سيقي زارها يف القرن الرابع ع�رش.
الذي يقام عادة بعد م�ضي ثالثة �أ�شهر على وفاة وبالنظر يف جمموعة مدينة ظفار جند تدوينا
ودون �صوتا من �أحدهم ح�سب طقو�س معينة ّ مو�سيقيا لغناء مع العود والطبل ،غري �أن الن�ص
�أ�صواته ،نورد هنا ما قاله مع بع�ض الت�رصف»: العربي ال ي�شري �إىل املنا�سبة التي ا�ستمع فيها الكاتب
ومكان احلفل بالقرب من قرية احلافة يف املناطق �إىل هذا اللحن وال �إىل ا�سم املغني ،ومل يتم حتديد
التي تكرث فيها �أ�شجار جوز الهند وت�ضفي عليها نوع العود امل�ستعمل وال �أنواع الآالت املو�سيقية
منظرا جميال وقد ا�ستدرجني �صوت الطبول �إىل الإيقاعية الأخرى .وي�سجل الكاتب رواية جيدة عن
و�سط احل�شد ،ويف و�سط ال�ساحة كانت توجد منطقة تقاليد املجتمع الزجني ويذكر ا�سم �شخ�صية منهم
ف�سيحة ،ويف احد اطرافها جل�س �ضاربو الطبول كان مبنزلة» الأب « وبناء على هذه املكانة ف�إن
و�أمامهم نار م�شتعلة ي�ستعملونها ل�شدها ،وبالقرب بقية �أفراد الطائفة مبثابة �أبناء وبنات له ،ف ُتعر�ض
منها ال�شبان الأقوياء البنية املفتويل الع�ضالت وهم عليه جميع خالفاتهم ونزاعاتهم ليف�صل فيها وله
�شبة عرايا يتبادلون قرع الطبول .ويف و�سط احللقة م�ساعد يعاونه يف حتمل هذه امل�س�ؤوليات.
18 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
ال�سعيدة للكابنت برترام توما�س،وقد تعرفنا ب�شكل احدى الأغنيات عن بني هالل قالوها يف بع�ض
دون
موجز عن البيئة االجتماعية والثقافية التي ّ خ�صومهم ،وتقول تلك الأغنية (الن�ص مرتجم عن
فيها الكاتب هذه النوتات املو�سيقية ح�سبما ت�سمح اللغة الإجنليزية):
به هذه الو�سيلة الأوروبية كما �أ�شار. �أن ه�ؤالء لي�سوا �أكرث من ع�صافري ..وبوزيد �سدرة
والنوت املو�سيقية ،من�شورة يف ثالث جمموعات �أرغمناهم على الفرار ليعودوا �إىل ح�ضريته
مبحلق الكتاب اجلزء الرابع ( ) APPENDIX VIحتتوي �أن ع�ضة الذئب لها دواء
نوت ،كان موقعها ال�صفحات كل منها على ت�سع َ �أما طعنة �أبو زيد فلي�س لها دواء
الثالث الأخرية من ملحق الكتاب مع تعليق ب�سيط لقد �سال الدم كما ي�سيل املاء من الدلو
من الكاتب حتت عنوان « :الأنا�شيد العربية :العربية تخرج الدلو من البئر ممتلئة ثم ت�سكب ب�رسعة ..
اجلنوبية» ،وب�سبب م�شكلة يف طباعة املجموعة ثم رد عليه احد زمالئه يف القافلة :وت�سكب ب�رسعة..
الثالثة يف الكتاب ف�إننا م�ضطرون لإعادة كتابة �أي �أنه يردد املقطع الأخري من الأن�شودة ،ثم التفت
النوت التي �سنن�رشها من هذه املجموعة يف هذا �إيل وقال �إن �أبا زيد من �أهل اجلنة ،ولكن بدويا �آخر
َ �صاح :
املقال لت�سهيل قراءتها.
�أو بوزيد � ..أو بوزيد
ويف هذه املنا�سبة جتدر الإ�شارة �إىل �أن جمموعة
لو خرج �سيفك من غمده ف�إن اجلبناء لن يبقوا �أحياء
نوت برترام توما�س املو�سيقية تغطي م�ساحة َ كم من الآبار التي مررت بها ومل تتوقف عندها
جغرافية واجتماعية وثقافية وا�سعة متتد من �رشق ويف الليل بعد غروب �شم�س النهار
ُعمان �إىل ظفار جنوبا من مدينة �صاللة وجبل القرا كم من الآبار التي مرت بها اجلمال وهى عط�شى
�إىل �شمال ظفار حتى �أطراف اخلليج العربي .لذلك يف �ضوء النهار عندما تغم�ض العيون للنوم
ولت�سهيل العمل نق�سم التدوينات املو�سيقية �إىل ا�ستطاع الكاتب �أن يك�شف لنا ب�صورة مقبولة واقع
ق�سمني جغرافيني ح�سب الواقع ال�سيا�سي املعا�رص الثقافة البدوية وفنونها الغنائية ،ف�إىل جانب
هما :حملية وغري حملية؛ وهذه الأخرية نق�صد بع�ض �أغاين �أو �أهازيج العمل و�أغاين ال�سفر والت�سلية
قدمت ق�ص�ص ظريفة
و�أ�شعار جميلة على ل�سان
بع�ض �أبطال ال�سرية
الهاللية وب�صفة خا�صة
�أبو زيد الهاليل بحيث
نحتاج �إىل الكثري من
الوقت لتحقيقها و�إعادتها
�إىل لغتها العربية الأمر
الذي ال ميكننا �إمتامه يف
هذا املقال ،لذلك ننتقل
بعد هذا التلخي�ص �إىل
للنوت
َ الق�سم التحليلي
برترام توما�س باللبا�س ال ُعماين املو�سيقية التي وردت
يف ملحق كتاب البالد
21 نزوى العدد - 75يوليو 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
�سنة لها �أهمية تاريخية كبرية من وجهة نظرنا مرة،
بها التدوينات اللحنية التي تعود �إىل قبائل ّ
كونها �أقدم وثيقة مكتوبة لأحلان تقليدية ُعمانية والكرب ،وال�صيعر بناء على مواقعها املعا�رصة
عرثنا عليها حتى الآن؛ ولأنها كتبت بالأ�سلوب خارج احلدود ال�سيا�سية ل�سلطنة ُعمان ،لذلك ولنق�ص
الأوروبي وخلت من �أي عالمات حتويل با�ستثناء البيانات لدينا فاهتمامنا �سين�صب يف هذا املقال
حلن واحد هو «طارق لقبيلة الرا�شد» من املجموعة على ما يت�صل بالتدوينات املو�سيقية التي تدخل
الثالثة ،ف�إن وجود فروقات عربية يف درجات �ضمن الت�صنيف املحلي للمناطق والقبائل ال ُعمانية
بع�ض النغمات �أمر وارد جدا وواقعي ،لذلك من كما وردت يف جمموعة برترام توما�س املو�سيقية.
الأهمية متابعة حتقيقها حتقيقا علميا واللجوء �إىل وكما ذكرنا ف�إن جل اهتمام الكاتب كان من�صبا
مرة �أخرى لال�ستماع جمددا �إىل مناذج من امليدان ّ على ظفار فكانت جمموعتان من �أ�صل ثالث
هذه الأحلان العربية البدوية واحل�رضية واجلبلية تدوينات مو�سيقية لأحلان ظفارية جند و�صفا
والزجنية ومالحظة تلك الفروق. ملنا�سبات �أدائها بني احلني والآخر داخل منت
وبالنظر يف هذه التدوينات جند يف املجموعتني الكتاب يف �صاللة واجلبل وال�صحراء ،وهذا على
الأوىل والثالثة جتان�سا ثقافيا وا�ضحا يف الأمناط النوت املو�سيقية
العك�س من املجموعة الأوىل من َ
الغنائية ووظائفها ب�سبب طبيعة البيئة ال�صحراوية وكانت �أنا�شيد (�أهازيج) لقبائل اجلنبة والعوامرمل
با�ستثناء ا�سماء مثل« :همبل �أو رزفة» اخلا�صة يتم ذكر �شيء عنها يف منت الكتاب املرتجم �إىل
باملجموعة الأوىل (العوامر والوهيبة) ح�سب علمنا، العربية (مل نطلع على الن�سخة الإجنليزية) �سوى
لذلك فاملجموعتان ت�ضمان �أ�سماء امناط غنائية �إ�شارة ب�سيطة عن عبور الكاتب يف �شتاء 1927ـ
م�ألوفة عندنا اليوم مثل :تغرود ،وطارق ،وهمبل 1928على ظهور اجلمال احلدود اجلنوبية املطلة
(امل�شي �أو همبل البو�ش �أو تغرود البو�ش) �إ�ضافة على املحيط الهندي �إىل ظفار ومداها 600ميل
�إىل بع�ض �شالت العمل و�سقي اجلمال (�أنظر اجلداول �أي ما يقارب 970كيلو مرتا ،وهذا يعني �أنه يف
املرفقة التي �أعددناها مع ترجمة للت�سميات التي هذه الرحلة انطلق من م�سقط مرورا مبحافظتي
دونها برترام توما�س). ال�رشقية والو�سطى نحو ظفار (الت�سميات ح�سب
وبطبيعة احلال تواجهنا بع�ض امل�صاعب لفهم التق�سيم الإداري احلايل) ،ولكن دون �أن يقدم لنا
بع�ض هذه الأحلان غري �أن بع�ض ال�صيغ اللحنية تفا�صيل ا�ضافية عن هذه الرحلة الطويلة �سوى
الثابتة التي ال تتغري بتغري الن�ص ال�شعري �ساعدتنا تلك التدوينات املو�سيقية .لذلك فالكتاب ي�ضم
بخا�صيتها هذه على التعرف ب�سهولة عليها ،ومن تقرير الرحلة الثانية التي كانت يف �شتاء -1929
الأمثلة اجليدة حلن الهمبل �أو رزفة امل�شي (العوامر 1930انطالقا من مدينة �صاللة وانتهت يف �إمارة
والوهيبة) التايل (مثال : ) 01 قطر عرب �صحراء الربع اخلايل.
وت�ضم املجموعة الثانية �إىل جانب �أغان من مدينة
ظفار وجبل القرا ثالثة تدوينات مو�سيقية لأحلان
تعود للمجموعة الثالثة اخلا�صة ب�أغاين البادية
ومرة ،والكرب ،و�صيعر) التي احتوت (قبائل :را�شدّ ،
هي الأخرى احلنني للقرا.
�إن هذه التدوينات التي كتبت قبل �أكرث من ثمانني
22 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
�أما املجموعة الأكرث عددا فهي الأهازيج التي ميكن ويف هذا الهمبل امل�شهور ال ب�أ�س من خف�ض درجة
ت�صنيفها وظيفيا ح�سب نوع العمل ،ويف الواقع املاهور( �سي بيكار ) قليال حتى ي�ستقيم باملقارنة
ي�صعب و�ضعها يف �صنف الأغاين التي تتطلب مبا هو متعارف عليه يف ال�سلم دور املاجري الذي
م�ستوى معينا من التطريب الفني ،كما �أنها قد تتفق دون الكاتب فيه اللحن .ومب�ساعدة ال�صيغ اللحنية ّ
�أو تختلف من منطقة �أو من قبيلة �إىل �أخرى ،ومن الثابتة نتعرف �أي�ضا على حلن رجزيت لقبيلة املهرة
هذه الأهازيج �شلة عمل نعتقد �أنها لإنزال احلمولة ( دانادون ) من املجموعة الثانية اخلايل متاما من
من على ظهر اجلمال �أداء �أفراد من قبيلتي را�شد �أي درجة ال�سيكاة كالتايل ( مثال : ) 02
ومرة ال�صحراويتني ( مثال : ) 04
ّ
26
يو�سف �سامي اليو�سف:
الذي ال يليق به الرثاء النمطي
كان �شك�سبري ودانتي ،دي�ستوفي�سكي، «الأ�صدقاء ميوتون وي�صيبني الدوار»
هرني جيم�س املتنبي وحممود دروي�ش ج� .سيمنون
...دليلك احلد�س ،الب�صرية الإ�رشاقية يا �أبا الوليد ،مثلك ال يليق به الرثاء
والذوق ورهافة العاطفة حممولة على
االعتيادي ،مثلما مل تلق بك احلياة النمطية
ثقافة مو�سوعية �رشق ًا وغرب ًا بنيتها
االعتيادية ،رغم �أنك ع�شت حياتك يف بالد
(طوبة طوبة) كما يقول الأ�صدقاء
الأ�سالف والق�رس ،بالد ال�رصاع الرتاجيدي الأزيل
خ�ضم ال�شقاء
ّ امل�رصيون ،بد�أب وكدح يف
املفتوح بوح�شية ق ْل نظريها على بوابات
وال�شتات ،االقتالعات واملنفى يف بعده
التاريخ والعامل ...وعلى رغم �رشوط الإكراه
املكاين واالجتماعي املفتوح على �أبعاد
العاتية والتي كنت حتلم بالهروب منها �إىل
ميتافيزيقية ال ترى الوجود �إال من خالل
تكاثف �ضبابها وغيومها العميق ...روح
البالد احل�ضارية الأخرى ومل يتحقق ذلك �إال
مقاتل �رش�س يف كافة جبهات الواقع، يف احللم واملعرفة ،كنت (ن�سيج وحدك) ثقافة
ومتعبد مغمور بنور الت�أمل واملو�سيقى يف ً و�سلوك ًا ،مزاجي ًا حاداً يف مزاجك ويف معايري
ردهات الوجود ،غوام�ضه وخوافيه ...حتى القيمة النقدية واجلمالية التي كنت تق�صي
ال�صوفيه مل ت�أخذ منها اليقني واال�ستقرار، � َأي �شيء خارج ف�ضائها االنتقائي الروحي
أخذت تو ّتر الأ�شواق
يف الو�صول واحللولَ � ، امللتهب ،كانت روح الرتاجيديا وامللحمة التي
وجحيم احلنني الذي غالبا ما يف�ضي �إىل �أ�س�ست نواة وعيك املمزق منذ جائحة 1948
دم الوح�شي والغياب القاهر � ...أخذت ال َع ْ يف فل�سطني وقرية والدتك (لوبيا) وحتى
وهوامها التي ال ت�سلمك �إىل
ّ رعب الطريق الف�صل الأخري يف خميم الريموك بدم�شق
حمطة و�صول ،هدوء و�سعادة ...لأن تلك التي كنت متجدها كقيمة جمالية ،عا�صمة
النعمة التي تت�ضمن نوع ًا من التواط�ؤ، للأمويني وللروح واملعرفة� ،أولئك (الذين
ال تتماهى مع هدير الأعماق امل�أهولة �أحلقوا الدنيا بب�ستان ه�شام) ،ومن َثم رحلتك
بر�ؤيا خراب العامل وانحطاطه الوا�ضح (ال�سالمونية) ن�سبة اىل ا�سماك ال�سالمون،
...كنت كال�سهم امل�شدود بني النظريات باجتاه املنابع االوىل التي مل ت�صلها ،بعد
والن�صو�ص ،املتناق�ضات والعالقات، خراب املخيم واملدينة ...
27
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
جتدد دورتها الدموية بعد تخرث وعالمات انهيار قدامة وحداثة ،املتنزه ،لكن لي�س من غري خطر
كانت تلوح يف الأفق ،حتى ا�ستطاعت وتعاظمت و�ألغام بني حقول املعرفة واخليارات االيدلوجية
نحو العامل ب�أكمله ،مراكز وهوام�ش وم�ستنقعات، والفكرية ...حتى نظريات التحرير الي�سارية
و�شملت الدول الأكرث عدائية لها مثل (�صني ماو واملارك�سية التي و�صلت يف تلك املرحلة ح ّد الالهوت
وكومفي�شيو�س) ب�صورة �أكرث ف�ضا�ضة ووح�شية والقدا�سة ،مل تر فيها �شيئ ًا عظيم ًا وذا قيمة ...مل يكن
رغم ديكورها اال�شرتاتكي ويف غياب احل ّد الأدنى املع�سكر اال�شرتاكي وطليعته االحتاد ال�سوفييتي
من احلرية وم�ؤ�س�سات املجتمع املدين التي رمبا قبلة ذلك الي�سار ميثل لك ،على طريقة نيت�شه� ،إال
ت�ستطيع يف حدود جلم ذلك التوح�ش الذي يجتث مرحلة انحدار يف الفكر والتاريخ ،مبا جلبه عليك
�أي قيمة �أخالقية و�إن�سانية ويكون املجال مفتوح ًا هذا املوقف من عداوات كثرية كونه خروج ًا على
�إجماع املرحلة بني مثقفي امل�ستقبل املوعود ...
�إىل �آخره لهيمنة قيم املال املُطلقة ،ذلك (العجل
وعلى ما كنت عليه من كره للغرب وخا�صة اجنلرتا،
الذهبي) كما كنت تدعوه -،كانت من هدايا دم�شق
وتتمنى له املحو واالحرتاق جراء ما �صنعه من �ألآم
التعرف عليك �أ�ستاذاً و�صديقاً ،الأكرث ح�ضوراً
و�إبادات ت�شكل عارا على الب�رشية جمعاء ،بال�شعب
و�صدق ًا يف خ�ضم عالقات هذه احلياة التي �أخذ
الفل�سطيني ،بزرعه �إ�رسائيل واقتالع الفل�سطينيني
الزمن يف التقادم ال�صاعق عليها ،هذا الزمن الذي
من �أر�ضهم .على رغم ذلك كنت ترى يف الغرب
كان هاج�سك املخيف ..
�أتذكر وك�أمنا بالأم�س الت�سكع اليومي يف ف�ضاء احل�ضارة املكتملة النا�ضجة� ،إن�سان ًا و�أدب ًا فل�سفة ً
�صناعة ً وابتكاراً ،لكن ذاهبة نحو �أُفولها احلتمي،
دم�شق الكرمية وغالب ًا ب�صحبة �أ�صدقاء حت�رضين كذلك على �صعيد الأدب مل ترق لك موجات احلداثة
يف هذه العجالة �أ�سماء :طاهر ريا�ض� ،إبراهيم املتالحقة ،وكان ميلك الكال�سيكي غالب ًا يطغى يف
اجلرادي ،عبدالقادر احل�صني،ح�سان عزت ،خالد الذائقة والتحليل ،وكنا نختلف حول الكثري يف هذا
دروي�ش ،حممد البخاري الذي كنت تدعوه ب�صاحب علي �أن �أبقى يف �ضفاف
�شنقيط و�آخرين .. ال�سياق�( ...أبا الوليد) كان ّ
حميمية ،وهي كثرية ّ الوجدان والذكريات الأكرث
�أتذكر مرة قلت لك� :أبو الوليد (�شو ر�أيك نروح
تنجز كتاب ًا على الأقل ،لكن القلم �أخذين عنوة �إىل
الندوة ال�شعرية؟) �س�ألتنيَ ،من ال�شعراء؟ وحني
الأ�سطر الآنفة� ...أنا القادم يف تلك الفرتة ،مطلع
دبيكة يا �سيف م�ش قلت �أ�سماءهم �أجبتني (هذول ّ الع�رشينات من عمري ،من القاهرة �إىل دم�شق.
�شعراء) ..
وكانت من هدايا هذه املدينة التي متزقها حِ راب
ال �أقول وداع ًا يا �أبا الوليد لأنني �س�أعود �إليك مرات
التتار يف هذه اللحظة ،والقنابل الرو�سية بعد �أن
ومرات ،حتى ينك�رس القلم على الورقة كما يقول
�أطبق االطل�سيون بدروعهم ال�صاروخية والفكرية
�صديقك التوحيدي الذي كنت معجب ًا ب�إتالفه لكتبه
على الكرملني وكربياء القيا�رصة والبال�شفة ،وذلك
وحرقها ...و�ستزورنا يف احللم واليقظة ويف جل�سات
اجلورجي العنيف �ستالني الذي كنت معجب ًا مبقولته
الأ�صدقاء �إذا ثمة �أمل يف جتمع ولقاء.
ا�شرتاكية
ّ هذه فقط�( :إن املوت �سي�سحق اجلميع
jhj كانت �أم ر�أ�سمالية) لكن هذه الأخرية ا�ستطاعت �أن
28 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
اليو�سف :حياته
ونتاجه الثقافـي املتعدد
ابن فل�سطني،
كان الناق ُد الكبري ،الراحلُُ ،
يو�سف �سامي اليو�سف ( 1938ــ ،)2013
ثروة ثقافية حقيقية متميزة على غري
�صعيد و�أكرث من م�ستوى ،بدءا من قراءاته
املعمقة يف ال�شعر العربي القدمي ،و�صوال
�إىل مذكّراته الف ّذة عن «تلك الأيام» ،ومرورا
برتجماته ونقوداته الأدبية والفكرية وحتى
و�إىل ذل��ك فاليو�سف ه��و �صنيع ذات��ه،
ال�سيا�سية .وعلى �صعيد حياته ال�شخ�صية-
و�صنيع ظ��روف كثرية خلقت «مزاجه»
يعول عليه كثرياً ،امل��زاج الذي
الإن�سانية والوطنية ،متيزت رحلة اليو�سف
الذي ظل ِّ
هو �صنيع ثقافة عالية ووع��ي اغرتابي بزخم وتعدد يف املحطات من جانب،
بامتياز .وعي اغرتابي عا�شه بدوره �ضمن و�س َمتْها املعاناة والكفاح
ومن جانب �آخر َ
ما عا�ش من جتارب امتزجت فيها غربة املرير ،رحلة عناوينها «الع�صامية»
عن الوطن ،مع غربة عن العامل الأر�ضي و«الزهد» ،وطابعها الأ�سا�س هو العزلة حد
وح��ن�ين �إىل «امل��ت�����س��ام��ي» يف احل��ي��اة. الت�صوف ،مع مل�سة من العبثية العميقة.
فكان اجلرح الوطني يغذي نزوع الوعي ذلك كله هو ح�صيلة رحلة العذاب والتميز
بانحطاط ال��ع��امل وان��ح��دار الب�رش نحو التي عا�شها اليو�سف ،و�أثمرت نتاجا ثقافيا
احليوانية الوح�شية. متعدد االجتاهات واالهتمامات.
�أج���زاء ،فق د ك��ان ،وبح�سب حديث ل��ه ،يتطلع �إىل يبوح يف حوار معه «مل ي�ؤ�س�سني �أفالطون وال �أر�سطو،
الربهة التي يكف فيها عن ممار�سة ه��ذا العناء وال كانط وال هيجل ،وال الدكتور جون�سن وال ت� .س.
ال�سقيم العقيم الذي ي�سمى الكتابة« ،فال مراء يف جانيان ،و�إنمّ ا
�إليوت الناقد ،وال الآم��دي وال اجل ُْر ّ
�أنني �أ�شقى و�أتعب بغري مردود� ،أيا كان نوعه .فلو مل � ّأ�س َ�س ْتني النكبةُ� ،أو الكارثة التي حلت بفل�سطني �سنة
يكن هنالك �سوى مردود معنوي لر�ضيت .ولكن ،ما .»1948ولهذا جاء كتابه ال�شهري «رع�شة امل�أ�ساة»،
من �شيء �إال التعب الالجمدي ،والعداء من كل حدب كر�سه لدرا�سة �أدب غ�سان كنفاين ،ليعلن �أن الذي ّ
و�صوب ،والل�صو�ص ينهبون الكثري مما �أكتب ،من املقاوم ،هو ما �أبرزه يف
ِ اجلانب الوطني �أو اجلانب
دون �أن ي�شعروا ب�أي حياء �أو خجل». معظم الدرا�سات التي قدمها عن الأدب الفل�سطيني،
وهو يقول «لكنني مل �أغفل القيم الإن�سانية التي اهتم
�أ�س�س النظرية النقدية بها غ�سان ،وال �سيما يف م�رسحه الذي ما �أتيحت له
وللإحاطة ب�أبرز معامل نظراته ،وب�أ�س�س نظريته فر�صة الن�ضج ،فقد اغتيل الرجل وهو يف �أوج العمر،
النقدية ،النظرية «اليو�سفية» كما ميكن القول، �أو عند بداية الن�ضج بال�ضبط»( .حوار �أجراه معه كل
ن�ستح�رض بع�ض مفهوماته وم�صطلحاته التي من عبد املنعم قدورة و�سعيد الربغوثي يف العدد
كر�سته ناقدا متميزا ومتفردا ،ب��دءا من اعتباره ّ 30من جملة نزوى ،و�سنعتمد كثريا على هذا احلوار
�أن «جل العملية النقدية يتجذر يف مزاج الناقد»، املعمق ،يف قراءتنا هذه).
وتعريفه امل��زاج ب�أنه «ه��و الطبع ال��ذي يولد مع أه��م الن ّقاد يف عاملنا
اليو�سف ك��ان واح��دا من � ّ
امل��رء ،ولكنه يت�أثر كثريا باحلوادث احل��ادة التي العربي ،ك��ان واح��دا من �أ�ش ّد نقادها ومبدعيها
يعي�شها يف حياته ،وال �سيما بالكوارث الوطنية ل خريطة الإبداع خ�صو�صية وعمقا ،وهو الذي م أ
واالجتماعية التي من �ش�أنها �أن ت�شحذ احل�سا�سية، والنقد بنتاج ثقايف ال يتكرر .لقد مت ّتع الناقد
و�أن مت��ده��ا ب��زخ��م ع���ارم مل يكن لها م��ن قبل. الفل�سطيني الكبري ب�أدوات مل ميتلكها �سوى قلة من
واحل�سا�سية عندي هي اليخ�ضور ال�ساري يف �شجرة ومتيز بنكهة الذعة ح ّد القول �إنهاّ نقادنا العرب،
احلياة كلها»� .إ�ضافة �إىل ما يتبع ذلك من اعتبار حارقة .فهو عا�ش بقليل من ال�شهرة التي كان عازفا
وتقدير ملا ي�سميه بـ«نازع التقزز واالزدراء ،وحا�سة عنها ،ورحل ب�صمت الكبار الذين عا�ش معهم .ومن
من �ش�أنها �أن تكت�شف الغثاثة والرثاثة ب�رسعة ،و�أن عرفه عن قرب ،يعرف كم كان وكم ظ ّل عزيز النف�س،
تقرف منهما وجتتنبهما فورا» .ويف التطبيق يرى ال طموح لديه خارج دائرة الإبداع العميق واخلا�ص.
�أن احرتامه للمتنبي ي�أتي «جلملة من الأ�سباب, وعلى �صعيد حياته وعالقاته ،جمع اليو�سف بني
أهمها �أن��ه �شخ�صية ازدرائية ال ت�ضاهى�أولها و� ّ التزمت والت�سامح يف �شخ�صه املعطاء.
ُّ
بتاتا ،و�إن كان �شخ�صية تنديدية يف الوقت نف�سه، مل ولن يذهب عمله هباء ،رغم العزلة التي فر�ضها
وهذه مثلبة من مثالبه ال�شائنة .فلئن كان االزدراء حلريته
ّ على نف�سه ،مبتعدا عن البذاءة ،وخمل�صا
تلميحيا وا�ستعالئيا ،يف �آن معا ،ف���إن التنديد وا�شتغاالته ،وذلك بف�ضل �إجنازاته الفريدة ،منذ
جهوري وغوغائي �أي�ضا .ويف هذا فرق كبري بني مقاالته «يف ال�شعر اجلاهلي» ( ،)1975و«ال�شعر
العلو والدنو». العربي املعا�رص» ( ،)1978و«تاريخ فل�سطني»
وبالن�سبة �إليه ،وبعد خربة طويلة يف النقد ،ويف (« ،)1989مقدمة لل ّنفري» ( ،)1997حتى مذكّ راته
ما يتعلق مب�صطلح «املزاج» وعالقته بالنقد ،فقد متج�سدة يف «تلك الأيام» ،وهي مذكرات يف �أربعة
31 نزوى العدد - 75يوليو 2013
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
�أخالق العلو هي لباب احلياة ،وال يبقى �سوى اللحاء «ج ّل العملية النقدية يتجذر يف مزاج كان يرى �أن ُ
وح��ده» .وي�ؤكد ناقدنا على �أن ال�شعور باالغرتاب الناقد ،واملزاج هو الطبع الذي يولد مع املرء ،ولكن
هو واحد من �أكرب امل�صادر الغزيرة للأدب العظيم. يت�أثر كثريا ب��احل��وادث احل��ادة التي يعي�شها يف
وقد ارتبط عنده بن�صو�ص م� ِّؤ�س�سة ،ومن �أبرزها حياته ،وال �سيما بالكوارث الوطنية واالجتماعية
«الكوميديا الإلهية» ،فهو يعتقد �أن «دانتي املغرتب مل ي�ؤ�س�سني التي من �ش�أنها ان ت�شحذ احل�سا�سية،
الذي كابد اللوعة بعدما طردته فلورن�سا ،فراح يت�رشد �أفالطون و�أن متدها بزخم عارم مل يكن لها من
يف الأر�ض ،ما كان له �أن ينتج «الكوميديا االلهية»، قبل ،واحل�سا�سية عندي هي اليخ�ضور
وال �أر�سطو،
التي هي درة الآداب الأوروبية يف القرون الو�سطى ال�ساري يف �شجرة احلياة كلها».
كلها ،لوال �شعوره ب�أنه لي�س من ن�سيج ع�رصه ،ورمبا وال كانط ه���ذه ال����روح اخل��ا���ص��ة ،يف عمقها
لي�س ن�سيج هذا العامل الآخذ بالتخمج يوما عن يوم. وال هيجل ،وفرادتها ،هي التي قادته �إىل ر�ؤى
ثم �إن �شعور دانتي باالغرتاب هو الذي ا�ستطاع �أن وال الدكتور و�آراء نافرة ،م�ست ِف ّزة ،وربمّ��ا منفِّرة
ي� ّؤ�س�س الآداب يف �أوروبا من جبال الأورال �رشقا جون�سن وال �أي�ضا ،ذلك �أن��ه مل يكن يت�ساهل �أبدا
�إىل جزيرة �آيرلندا غربا .ويف احلق �أن �آث��اره على ت� .س� .إليوت يف ر�أيه ور�ؤيته ،بل كان حادا مت�شبثا
�شك�سبري ،الذي مل تنفه � ّأية حكومة ،ال يخفى على مب��ا ي��رى ،ال تغريه امل��ج��ام�لات ،وال
الناقد ،وال
�أي ب�صري .و�أهم ما يف �أمره �أنه كان �أعرف النا�س تنال منه املدائح .اختار منهجه يف
يف زمنه بكيفية توظيف اخليال ،ودجمه بالواقع الآمدي وال احلياة ويف الكتابة ،م�ستندا على ركائز
والوجدان ابتغاء �إنتاج ن�ص �أدبي خالد». اجل ْرجان ّيان� ،أ�سا�سية ال تتغري ،ولكنها تتطور ،فكان ُ
وبخ�صو�ص حكم القيمة النقدي ،يجزم اليو�سف و� مّإنا � ّأ�س َ�س ْتني مو�سوعيا كما يتطلب الأمر من الناقد
يف كتابه «القيمة واملعيار» ،كما عبرّ يف احلوار النكبة� ،أو احلقيقي ،و�صاحب ذائقة ال تت�ساهل ُ
املذكور �أعاله «�أن احلكم النقدي �إمنا ينبع من مزاج الكارثة مع الرداءة ،م�ؤكدا يف عمله على رف�ض
الناقد� ،أكرث مما ينبع من ذهنه الربهاين ،مهما يكُ النظرية ال��واح��دة ،ليرُ ّ�سخ التعددية
ح�صيفا �أو فا ِر َه القامة .وما الن�ص الأدبي العظيم وال�صدقية �أ�سا�سني يف كل عمل �إبداعي
التي حلت
�إال ذاك ال��ذي ينا�سب �أم��زج��ة متباينة ،وي�صلح بفل�سطني ونقدي كذلك.
للقراءة يف �أماكن كثرية و�أزمان طويلة»� .أما يف ما �سنة 1948ومما ي�سِ م منهج اليو�سف �أي�ضا ،متيزه
يتعلق مبحتوى الأدب والفن بعامة ،فهو بالن�سبة يف ا�ستخدام م�صطلح االغرتاب ،ونحت
له «حمتوى النف�س َح�رصا ،و�إال �سقط الإب��داع يف امل�صطلح اخلا�ص به يف هذا الإط��ار،
اخلارجية املبتذلة التي من �ش�أنها �أن تزيل كل ومب��ا يرتبط بزمننا ه��ذا ،فهو ي�صف املغرتبني
ألباء .فال�شاعر اجليد ميلك م�سافة بني الأغبياء وال ّ ب�أنهم «ع�شاق ال�سمو» ،يف مقابل «الت�سافل» �إن جاز
�أن ي�صف الزهور وك�أنها تنبت ،ال يف الطبيعة ،و�إمنا التعبري ،معتربا �أنه مل يبق �أمام ه�ؤالء الع�شاق «�إال
يف تربة روح��ه» .وخال�صة الأمر لديه �أن الن�شاط ان يحتقروا ب�صمت ،وبخا�صة هذه احل�ضارة احلديثة
النف�سي� ،أو اجلواين ،هو املنتج للعالقة� ،أي لل�شعور، التي �أ�سميها ح�ضارة ال�سخام ،والتي �أخذ �إن�سانها
�أو لل�شعر والآداب بوجه عام. يتحول بالتدريج من كائن ب�رشي �إىل كائن بقري.
ورغم ما يعرف من مثالية منهجه النقدي� ،إال �أن ولكن االحتقار ال ي�سعه �أن يكون جماع وظيفتهم،
ق��راءة معمقة يف هذا املنهج ،تك�شف توازنا بني �إذ ال بد لهم من ر�سالة �إيجابية .ولعل يف املي�سور
الواقعي وامل��ث��ايل ،يتمثل فري�ؤيته �إىل العالقة �أن تتلخ�ص تلك الر�سالة يف وجوب �صيانة امل�سافة
بني جماليات الإبداع وبني وظيفيته ،حيث يعتقد التي تف�صل بني النفي�س واخل�سي�س .وب�إيجاز ،ف�إن
32 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
واخل�سي�س ،والعايل وال��داين ،وما �إىل ذلك .ول�ست «ب�أنه ما من �أدب قط ميلك �أن ي�ستقلب امل�رشوع
�أريد �أن �أوفق بني مذهب «الفن للفن» ومذهب «الفن الب�رشي على نحو مبا�رش .ولكن الأدب ي�ستطيع �أن
للحياة» .ف�أنا �أ�ؤمن جازما ب�أن الفن ما كان ولن يغري الذات� ،أو النف�س التي �سوف تغري التاريخ� ،أي
يكون �إال من �أج��ل االن�سان� ،أي من �أجل ومن عرفه ُتغري وجودها� ،أو جملة �رشوطها» .ويتابع القول
احلياة الب�رشية ،التي هي اجتماع وتاريخ ف�أن يكون الن�ص بر�سم الذائقة يعني ،كما قال عز
بالدرجة الأوىل .ولكنني لن �أتنازل قيد عن قرب، الدين بن الأثري يف «املثل ال�سائر» �أن تكون له ن�شوة
�أمنلة عن وجوب احتقاب العمل الفني �أو يعرف كم كن�شوة اخلمر .لقد ف�سد الذوق الفني يف هذا الزمن
االجناز الأدبي للأ�صالة الناجية من كل كان وكم ّ
ظل القاحل البليد» ،وف�ساد ال��ذوق يعني بال�رضورة
تزوير .ال خ�لاف البتة على غاية الفن ،عزيز النف�س، ف�ساد الآداب والفنون .فال خروج عن �سمت ال�سواد
ال طموح ولكن اخلالف على كيفيته». �إذا ما �أعلن املرء ب�أن العامل العربي مل يخرج من
ويف حت��دي��ده مل��و���ض��وع اخل��ي��ال ،ي��رى لديه خارج ع�رص االنحطاط بعد».
اليو�سف �أن «ابن عربي كان �أول من �أ�س�س ويف �إط���ار تنظريه للعالقة ب�ين الأدب (ال�شعر
نظرية للخيال يف تاريخ الفكر الب�رشي دائرة الإبداع خ�صو�صا) واللغة ،وكذلك بني الأدب والواقع ،يرى
برمته .ويف هذا الأمر دليل على �أنه خبري العميق ناقدنا �أن «ال�شعر اجليد هو كمال اللغة» ،و»�أن
بالنف�س حقا .والأه��م من ذلك �أن ر�ؤيته واخلا�ص. الأدب الناجح مي��زج العن�رص الواقعي بالعن�رص
للنف�س بعيدة كل البعد عن �أن تكون ر�ؤية وعلى �صعيد اخليايل» .كما ي�ؤكد �أن «من �ش�أن الن�ص اجليد �أن
�سكونية ،وذلك لأنه قد ر�أى اخليال بو�صفه حياته يدمج اخليايل بالوجداين �أو العاطفي» ،ويو�ضح
قوة ابتكار� ،أو قوة خلق و�إب��داع ،بل نوه وعالقاته، هذه العالقة بالقول «�إمنا �أعني بالدرجة الأوىل �أن
ال�شيخ ب���أن اخليال غريزة يف الإن�سان الفحوى االجتماعي ،وكذلك التاريخي والروحي ،قد
جمع اليو�سف تطالب ب�إ�شباعها اخلا�ص». بلغ �إىل �أكمل ظهور ممكن� ،أو �صيغ ب�أ�سلوب منا�سب،
وعلى �صعيد موقفه من ال�شعر العربي بني التز ُّمت �إذ ينبغي �أن نذكر دوما �أن الأدب تعبري وقدرة على
احلديث واملعا�رص ،ال يفاجئنا الناقد الكبري والت�سامح تفعيل اللغة بنهج تلقائي ناج من االفتعال ،بحيث
وهو يعلن �أن «ال�سياب هو من فجر ال�شعر يف �شخ�صه ت�ستجيب ملطالب الروح ،وال �سيما حلاجة احل�سا�سية
احلديث يف اخلم�سينات ونحن تعاطفنا املعطاء والذائقة والغريزة الفنية التي هي برهة ما هوية يف
معه جميعا ،لكني �أظن �أنه �إذا ُقرئ ال�سياب بنية النف�س .وعندي �أن الأدب الذي يلبي حاجات
مرة ثانية لن ينال الإعجاب ال��ذي ناله مالء ُيرتعه الهم
الذائقة ،ال ي�سعه البتة �إال �أن يكون ً
يف اخلم�سينات» .و�أن «�أدوني�س بحياته مل ي�شدين»، تاريخي �أو
ٌّ هم
الإن�ساين قبل كل �شيء� ،أي ي�أهلَه ٌّ
و«اجلواهري �شاعر تقليدي جميل ،لكنه لي�س ابن اجتماعي �صار �أزمة روحية� ،أو �أزمة تفعل فعلها يف
الع�رص ،فهناك م�س�ألة مهمة يف ال�شعر تكمن يف �أن داخل الروح بالدرجة الأوىل».
يكون ابن ع�رصه ،يحكي عن هموم معا�رصة ،ت�شعر ويف رد على ما يعتربه البع�ض حماولة للت�سوية
ب�أن اجلواهري عا�ش يف زمن املتنبي وتتلمذ على بني النظرة املثالية وبني النظرة الواقعية� ،أو رغبة
يديه ،لغة املتنبي وا�ضحة يف �شعر اجلواهري ،لذا ال املماهاة بني �أن�صار الفن للفن والفن للحياة ،يقول
ميكن و�صفه ب�أنه جمدد ،بعك�س ال�سياب و�أدوني�س، «يف احلق �أن مثل هذه الت�سوية ال تعنيني ،بل �إن
ال�سياب جدد ب�شكل �سطحي ،و�أدوني�س �شطح� ،إذ هذه املثنوية لي�ست من اهتماماتي بتاتا ،فما �أعنى
لعب لعبة ال�شكل ال �أكرث وال �أقل .نريد حمتوى حارا، به هو مثنويات �أخ��رى مثل ال�صحيح واملغلوط،
و�أدوني�س مل يقدم هذا املحتوى احلار والدافئ الذي والأ�صيل والنغيل ،والوهمي واحلقيقي ،والنفي�س
33 نزوى العدد - 75يوليو 2013
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
«لقد ر�أيت حتى �أ�صابني الذهول» .ذهول �سينتج ي�صل اىل �سويداء الف�ؤاد»� .أما بخ�صو�ص دروي�ش
قراءة يف عامل القرية مبا تنطوي عليه من ظروف فاليو�سف يخ�شى �أن يكون «م�صري حممود دروي�ش
و�أو�ضاع اجتماعية واقت�صادية و�سيا�سية وثقافية، مثل م�صري �أحمد �شوقي ،ف�أحمد �شوقي احرتمه
تلخ�ص حال القرية الفل�سطينية خ�صو�صا ،وحال جيله �أيمّ ا احرتام ،ون�سيته الأجيال الأخرى ،و�أخ�شى
فل�سطني عموما ،كما ر�آها اليو�سف. يجزم �أن حممود ال��ذي �صار جنما �أن ي�أفل
وقبل التعر�ض لكتاب اليو�سف ه��ذا� ،أق���ول �إن وينطفئ ذات يوم لأنه �أي�ضا لعب لعبة
�سرية النكبة الفل�سطينية مل تبد أ� بالعام ،1948 اليو�سف �أن
ال�شكل ،وال�شكل وحده مغامرة».
وال باخلام�س ع�رش من �أي��ار من ذلك العام ،حني احلكم النقدي
ان�سحبت القوات الإجنليزية بعد متهيد املناخات
فـي «تلك الأيام» �إمنا ينبع من
و�أخ�ي�را ،وم��ن بني كتاباته الأخ�يرة،
لقيام الكيان الغا�صب ،بل كانت لهذه النكبة بدايات نتوقف عند �سريته التي �أطلق عليها ا�سم مزاج الناقد،
وحت�ضريات منذ القرن التا�سع ع�رش ،بد�أت بالهجرة �أكثـر مما ينبع
«تلك الأيام» ،وجاءت يف �أجزاء جتعل
«اخلجولة»� ،إن جاز القول ،لليهود �إىل فل�سطني،
من حياته �أربع مراحل وحمطات ،ففي من ذهنه
و»اال�ست�ضافة» الفل�سطينية الطيبة لهذه الهجرات
اجلزء الأول يتناول املرحلة املمتدة من الربهاين،
التي �رسعان ما راحت تتحول مع م�ؤمتر � 1897إىل
والدته 1938حتى �سنة النكبة ،1948 مهما ُ
يك
خمططات عدوانية ،فتحول اليهودي ال�ضيف وجار
والثاين من 1948حتى ،1975والثالث
الفل�سطيني ،و�رشيكه يف بيته وحقله ،حتول �إىل ح�صيفا �أو
م�رشوع عدو يخطط لالغت�صاب والقتل والتهجري من 1975حتى ،2007ويتناول الرابع
الفرتة الأخ�ي�رة من حياته .ونتوقف فار َه القامة.
ِ
التي ت�صاعدت ف�صولها منذ الع�رشينات من القرن وما الن�ص
الع�رشين ،و�صوال �إىل النكبة التي ك�شفت عن الوجه هنا عند مالمح وحمطات من املرحلة
الأوىل .ال�سرية التي حر�ص فيها على الأدبي
القبيح لع�صابات هذا ال�شعب.
كتب الكثري ح��ول ه��ذه الرحلة واملخططات يف ا�ستظهار «جوهر» امل�رشوع ال�صهيوين العظيم �إال
الأطر ال�سيا�سية واالقت�صادية والع�سكرية ،لكن قلة وطبيعته اال�ستعمارية ،من خالل �سرية ذاك الذي
من الكتاب الفل�سطينيني هم من كتبوا هذه الرحلة قرية فل�سطينية �صغرية هي قريته، ينا�سب �أمزجة
ال�شخ�صي والوطني ،وجتمع من منطلقات جتمع «�صورة القرية التي ولدت فيها ،والتي
َّ متباينة
ال�سيا�سي واالجتماعي واالقت�صادي والثقايف ،ومن ر أ�ي��ت بيوتها تتهاوى بيتا �إثر الآخر،
بني هذه القلة ت�أتي هذه ال�سرية لليو�سف. لتتحول �إىل حطام ،بعدما عاركَ ْتهم
إ�ح��دى الغايات الكربى لهذا الكتاب -كما يحدد طوال ب�ضعة �أ�شهر .ولكي ت�صان تلك ال�صورة ال بد
امل�ؤلف� -أنه «يبتغي �أن يكون واحدا من الآثار التي من عر�ض الكثري من التفا�صيل ذات ال�صلة باملوقع
متلك �أن ت�ساعد الزمن امل�ستقبل على «�إيعاء» (حفظ والأر���ض املحيطة والبناء والعادات االجتماعية..
ووعي) الزمن الذي ع�شت فيه ..وتخليد و�سواها».
القرية الفل�سطينية الرثية بالتفا�صيل ،تاريخا وال�سرية �أي�ضا هي�« ،سرية الطفل الذي يفتح عينيه
ومكانا .هنا لوبيا القرية الكنعانية :خط طربيا- على قرية وادعة وجميلة حد ال�سحر ،لكنه ما يكاد
النا�رصة يالم�س قريتنا من جهتها ال�شمالية .ومما يبلغ العا�رشة من عمره حتى يجد نف�سه منفيا يف
هو م�ؤكد �أن ال�سيد امل�سيح كان ي�سري عليه يف جتواله ال�شتات اللبناين وال�سوري .وهاهو يف كهولته يف
بني النا�رصة وبحرية اجلليل� ،إنه احلد الذي يحد املخيم ،وبعد التقاعد من التدري�س ،ي�رسد روايته
قريتنا من تلك اجلهة نف�سها� ،إذ كانت لوبيا كلها ملا �شاهد و»ر�أى» خالل رحلة العمر ..،وكما يكتب
34 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
�أن الأر�ض كلها هنا ُتروى بالأنداء (الندى) طوال �إىل اجلنوب منه ،ما عدا بيتا واحدا حديث البناء.
ال�صيف ،و�أن «ت�ساقط الندى يبد�أ زه��اء التا�سعة كما �أن الدرب املمتد بني طربيا والنا�رصة مير بني
م�ساء .ويف ال�صباح ترى الأر�ض وك�أنها مغ�سولة �سهل احلمى وبني تل حطني ،الذي يقال �إن ال�سيد
يغ�شيها حتى
باملاء املُقطّ ر ،ويظل الندى ّ امل�سيح قد �صعد �إىل مكان فيه و�ألقى على �أتباعه
ال��ع��ا��شرة ���ص��ب��اح��ا ،»..وبح�رسة �شديدة ال�سياب هو من خطبة م�شهورة ت�سمى خطبة اجلبل ،وهي التي ورد
ن�سمعه ي�رصخ «خ�رسنا �أر�ضا نفي�سة ال فجر ال�شعر ذكرها يف العهد اجلديد.
تب ّزها �أي��ة �أر���ض �سوى �أر���ض الفردو�س احلديث يف والقرية يف كتابة اليو�سف ،هي معامل ومالمح
اخلم�سينات وحدها» .هي الفردو�س املقود �إذن. وتفا�صيل ،وه��ذه تتج�سد يف �أج���زاء م��ن البيئة
ويف احلالة اخلا�صة بالبيئة والطبيعة لكنه �إذا ُقرئ القروية ،بيئة تنطق اجتماعيا ومكانيا ،فتربز
يف القرية الفل�سطينية ،ال بد من التوقف مرة ثانية لن الغمارة»،
«ح َجر ّالتقاليد والقيم ،ومن ذلك ِو ْقفة مع َ
عند ف�صول ال�سنة وم��ا تنتجه «ففي والغمارة هي :الفتاة التي تلم �أكدا�س القمح بعدما
الربيع تكرث الأع�شاب ال�بري��ة ال�صاحلة ينال الإعجاب يح�صدها احل�صادون .واحلجر خم�ص�ص للن�ساء
ّ
للأكل �أو للغلي ،فال�رشب هو من (العكوب االول و�أدوني�س ال�شابات ،يقفن عليه ح�ين ي��ردن ال��رك��وب على
والقر�صعنة والعلت واخلبازي وال�شومر بحياته حمريهن عندما يذهنب �إىل العمل يف احلقول� ،إذ
والر�شاد وال�سنارية والعو�صالن واحلليان مل ي�شدين لقد كان من املعيب �أن تركب املر�أة ال�شابة على � ّأية
والبابوجن واملريمية والزعرت الربي..الخ) ،واجلواهري دابة يف �أزقة لوبيا ،فقد كان يتوجب عليها �أن تقود ّ
تخرج الن�ساء ،وال �سيما ال�شابات� ،إىل �شاعر تقليدي دابتها و�أن ت�سري على �أقدامها حتى ت�صل �إىل حجر ّ
املروج واحلقول يف دفء ال�شم�س ولطف الغمارة ،وهنالك تركب وتنطلق �إىل ال�سهل حيث
الن�سيم ،بحثا عن تلك الهبات الطبيعية جميل ،لكنه كمرقاة.العمل ،بعدما ت�ستفيد من احلجر َ
ال�سخية” .وهنا ننظر �إىل الأر����ض كما لي�س ابن الع�صر ويف ال�سياق نف�سه ي���أت��ي احل��دي��ث ع��ن «حكورة
ي�صفها اليو�سف بو�صفها «�أر�ض الغبطة وحممود دروي�ش ال�سبيل» ،التي هي كرم �صغري جدا ،ويقول عنها
اخ�شى عليه وال�سعادة يف ذاكرتي �أو يف خميلتي». اليو�سف «ال �أح�سبها �إال كلمة �رسيانية» .وكذلك
منيز �أي�ضا بني الأر����ض الواقعية من ان ينطفئ وهنا ّ الأمر يف ما يتعلق مثال بتف�صيل مثل عني من عيون
و�أر����ض احللم �أو اخل��ي��ال� ،إن��ه��ا الأر���ض املاء ت�سمى «ماء دامية» ،حيث يرى �أن ال�سبب وراء
عند الأجيال
كما ينظر �إليها من جرى تهجريه عنها، هذه الت�سمية هو على الأرجح «�أن تكون قد �سميت
فهو �سيتحدث من ذاكرة حمت�شدة باحلب الالحقة بهذه الت�سمية التي ت�ؤ�رش �إىل الدم ،لأن �صداما جرى
وال�شجن واحلنني ،لذلك فهو �سيكتب عن بني الإفرجن وبني اجلي�ش الأيوبي من �أجل ال�سيطرة
«لوبيا الواقع» التي ر�أينا بع�ض مالحمها على تلك العني ..فما هو م�ؤكد �أن الإفرجن �أنهكهم
تخ�ص الف�ؤاد
ّ احلقيقية ،وعن «لوبيا الداخل التي العط�ش يوم حطني ،و�أنهم كانوا يلوبون على املاء
وحده� .إنها املكان الذي ت�صون الروح رع�شته يف ولكن دون �أن ي�صلوا �إليه».
جوفها الدافئ احلنون» ،وهذه ال�صورة تنطوي على وعلى هذا النحو جند عنا�رص وتفا�صيل خمتلفة،
يف ،فهي �صورة «ت�ستمد فحواها قدر من الع�شق ال�صو ّ فننظر كيف ي��زرع الفل�سطيني حقله ،جند كيف
من الأزيل ال�ساكن يف نواة الباطن ال�سحيق». اعتاد اجلد �أن ي��زرع «حقل العوينة» املطل على
تفا�صيل وعنا�رص كثرية متثل عامل القرية ،خ ِريها طريق طربيا -النا�رصة والقريب منها ،بالبطيخ
و�رشها ،فمن جهة يتجر�أ امل�ؤلف على القول �إن ِّ وال�شمام والق ّثاء واخلِيار وعباد ال�شم�س ،وذلك يف
«لوبيا ال تخلو من الل�صو�ص والزناة واملقامرين املو�سم ال�صيفي الذي تبد�أ زراعته يف ني�سان .ونرى
35 نزوى العدد - 75يوليو 2013
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
�شهادات يف حياته وثقافته و�إبداعاته واملحتالني وهواة ال�شجار والعدوان» ،ومن جهات
�أخ���رى يتوقف م��ط��وال �أم���ام بع�ض التفا�صيل،
وي�ستخدم �أ�سلوبا خا�صا يف الو�صف يتحفنا به ،ففي
vيو�سف اليو�سف العادات والتقاليد «يبد أ� ال��زواج عادة
«مِ لعق ٌة مِ ن ما ِء ال َقلْب» كانت بداية ب��ـ ،»..ويف و�صف البيت «يبد�أ البيت
النكبة بباحة ،»..ويف و�صف الأطعمة يتحدث
\
يو�سف حطيني
الطيني»،
ّ الفل�سطينية عن «طبخ الطعام يف الفرن
�صديقي ال�شنفرى كان �سبب ًا من �أ�سباب قراءتي منذ القرن فيقول «م�أكوالتنا كثرية ومتنوعة» ،وال
املبكرة ملا �أنتجه الناقد الفل�سطيني الراحل يو�سف ين�سى تقاليد «الكتاتيب» ،و�أنه «دخل
اليو�سف ..تلك ق�صة قدمية تعود �إىل عام ،1977
التا�سع ع�شر،
الكتاب �سنة � 1944أي عندما كان يف
عندما كنت يف ال�صف الثاين الإعدادي.. مع بداية ال�ساد�سة ،ويف عام � 1945أنهى عامه
م��ا �أزال �أذك���ر ذل��ك الفتى �أخ����ضر العينني ال��ذي الهجرة الأول ،وكان ق��ادرا على تالوة بع�ض
�صادفته يف �أثناء درا�ستي تلك ال�سنة ،كان ا�سمه اخلجولة �سور القر�آن على م�سامع �أبيه» ،ويتذكّ ر
م��روان يو�سف؛ و�إذ قامت بيننا �صداقة طفولية، لليهود �إىل اخلراريف (امل�رسودات) يف «ح�ضارتنا
�أو �شبه طفولية زرت��ه يف بيته ،وهناك يف غرفة فل�سطني ،الريفية ب�سيطة» .ومن ذلك َي�ستخل�ص
ال�ضيوف ر�أي��ت مكتبة ،مل �أكن قد ر أ�ي��ت مثلها يف «م� ّؤ�صلون يف املكان،واال�ست�ضافة �أن الفل�سطينيني ُ
حياتي ،ومل �أكن �آن��ذاك على عالقة وثيقة بالكتب الطيبة لهذه �أما �أعدا�ؤنا فعر�ضيون زائلون وزائفون،
املرففة يف اخلزائن ،ف�س�ألت مروان: لأنهم بغري جذور وال �أ�صول ،والفيتو
ـ ملن هذه الكتب؟ الهجرات التي
ال��ذي بناه لهم الغربيون ال ي�ساوي
ـ لأبي.
حتولت اىل ق�رشة ب�صلة» .وكما جاء يف �سريته،
يف ظهرية ذلك اليوم من عام 1977ر�أيت يو�سف
خمططات ف�إن ال�سنة ال�سوداء يف حياته هي �سنة
اليو�سف ،لأول م��رة يف حياتي ،دخ��ل بقامته
عدوانية 1947التي انت�رشت فيها ال�شائعات
املديدة ووجهه املتجهم ،و�ألقى يف وجهي ابت�سامة
�رسيعة ،ثم �أ ّنب ابنه على تق�صريه ،وقال لنا :نحن ع��ن ق���دوم جيو�ش الإن��ق��اذ العربية
ـ الفل�سطينيني ـ لي�س لنا �إال العلم ،فتربع مروان: �إىل فل�سطني ،كي متنع ال�صهاينة من
«يو�سف �أ�شطر طالب يف ال�صف» ،ف�س�ألني :ماذا اال�ستيالء عليها وتهويدها ،و�صوال �إىل � 17أيار
تقر�أ غري كتبك املدر�سية؟ �أ�رشت �إىل «تاريخ الأدب من العام التايل 1948حني �أعلن ال�صهاينة قيام
العربي» حلنا فاخوري ،ف���أردف :ومن تعرف من دولتهم.
فازور ع ّني قائالً :كل النا�س
َّ ال�شعراء ،قلت له :عنرتة،
يعرفون عنرتة ،قلت له مرتبكاً :وال�شنفرى �أي�ضاً .و�إذ
من �أبرز �أعماله:
ذكرت ا�سم ال�شنفرى تلب�سته حالة من الفرح الذي - 1مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي -بحوث يف املعلقات.
مل �أعرف له �سبباً ،ثم حدثني دقيقتني ،و�أعطاين من -الغزل العذري -ال�شعر العربي املعا�رص -ما ال�شعر
العظيم -تاريخ فل�سطني -اب��ن الفار�ض -مقدمة
رفوف املكتبة كتاباً ،بعد �أن وعد ُته بقراءته..
للنفري -القيمة واملعيار -اخليال واحلرية -ر�سالة
ُعدت يف ذلك اليوم فرح ًا �إىل البيت ،فقد كانت تلك �إىل �سيدة -12تلك الأيام.
املرة الأوىل التي �أتلقى فيها هدية ،كتاب ًا من امل�ؤلف
نف�سه ،ومل �أكن قد ر�أيت م�ؤلف ًا قبل ذلك ،ولعلّي كنت jhj
36 \ ناقد و�أكادميي من فل�سطني.
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
الرتاث النقدي العربي والغربي لإنتاج نقد عربي يدب على الأر�ض، أظن �أن امل�ؤلف كائن نوراين ال ّ � ّ
ير�سخ ما دعاه د .نعيم اليايف ،يف ما بعد، جديد ّ وال يظهر بني النا�س �إال يف �أيام التجلّي.
باملنهج التكاملي ،دون �أن يتخلّى عن التحليل هكذا بد�أت عالقتي مع يو�سف اليو�سف ،مع كتابه
االجتماعي واالقت�صادي والبيئي للن�ص اجلاهلي، «مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي» ،وكنت قبل �أن �أقر�أ
رابط ًا �إي��اه مبا عاناه ال�شاعر اجلاهلي من ته ّدم كتابه قد مررت مروراً �رسيع ًا على بع�ض ما كتبه
ح�ضاري وقمع جن�سي وطبيعة قا�سية ال ترحم. �شوقي �ضيف وحنا الفاخوري يف هذا املجال .و�إذ
ن�ضيف �إىل ذلك � ّأن عناية الناقد بفكرة اغرتاب �أ�رسعت �إىل ما قاله عن ال�شنفرى ر�أيت �شيئ ًا عجباً:
ال�شاعر عن جمتمعه اجلاهلي ،لأ�سباب خمتلفة �إن ما يقوله يختلف اختالف ًا بين ًا عما قاله الرجالن.
(النابغة ،عنرتة ،ال�شنفرى) ،وهو ما �سيتجلّى الحق ًا لقد ع ّد وجود احليوان يف المية ال�شنفرى جتلّي ًا من
بفكرة اغرتاب ال�شاعر ـ �أي �شاعر ـ عن جمتمعه ،ل ّأن جتليات املعادل املو�ضوعي ،وه��ذا ما مل �أفهمه
ظاهرة الإبداع وفق ًا لر�ؤية اليو�سف تتجلّى بفكرة حينذاك ،فعدت �إىل �أبيات ال�شنفرى:
وتفرده،
جوهرية هي اختالف املبدع عن الآخرينّ ، ويل دونكم �أهلـون� :سي ٌد َع َملّ�س
ومن ثم اغرتابه الذي يقوده �إىل فكرة نبيلة يحملها، و�أرقطُ زهلولٌ ،وعرفاء جي�ألُ
ومتنح �أدبه جدارة الأدبية. �شائع
ٌ ال�رس
م�ستودع ُّ هم الرهطُ ال
وال نريد ه��ا هنا �أن نختلف م��ع الناقد يو�سف جر ُيخذلُ
لديهم وال اجلاين مبا ّ
اليو�سف ،يف �أثناء احلديث عن رحيله الفاجع ،حول عندئذ �شعرت بلذة خمتلفة� ،شعرت ك�أنني �أق��ر�أ
ماهية ال�شعر ،وجوهره ،والبحث عن القيم املت�سامية الأبيات لأول مرة� ،أح�س�ست � ّأن قراءة يو�سف اليو�سف
التي متنح الن�ص جوهر خلوده ،و«الغريزة املثالية» قد �أ�ضافت �شيئ ًا لإح�سا�سي بالن�ص� ،شيئ ًا ميكن �أن
ن�سجل �أن اهتمام اليو�سف التي تنتجه ،بل نريد �أن ّ ا�سميه (لّ��ذة الن�ص) ،وعليه �س�أفهم هذا امل�صطلح
املتعمقة
ّ بالفل�سفة املثالية قاده �إىل نوع من القراءة «البارتي» يف ما بعد م�ستنداً �إىل تلك القراءة املبكّرة. ّ
التي �ستظهر يف كتبه الأخ���رى ،وه��ي تبحث عن ثم �إىل اجلامعة ،وكانت رافقتني هذه احلالة من ّ
ال�شخ�صيات التي حققت ذاتها بطريقة مثالية ،بدءاً كتب الناقد يو�سف اليو�سف رفيق ًا دائماً ،وكنت
من تناوله ل�شعراء الغزل العذري ،مروراً بتجربتي �أحر�ص دائم ًا على �إعادة قراءة الن�صو�ص ال�شعرية
ابن الفار�ض والنفري ،و�صو ًال �إىل غ�سان كنفاين� ،إذ بعد قراءة نقد اليو�سف� ،سعي ًا لل�شعور بتلك اللذة.
ي�سعى �أولئك ،ك ّل بطريقته، و�أ�شري هنا ب�شكل خا�ص �إىل (مقاالت يف ال�شعر
�إىل حت��ق��ي��ق ال������ذات عرب اجلاهلي) و(بحوث يف املعلقات) و(الغزل العذري)؛
الإخال�ص للفكرة التي ي�ؤمن �إذ وجدت فيهما نقداً يتجاوز ما كنت قد �ألِف ُته من
بها ،وال�سعي �إىل حتقيقها قراءات مو�ضوعية للن�صو�ص اجلاهلية� ،أو قراءات
يف كتابته ويف حياته. ت ّدعي �أنها قراءات فنية ،مكتفية با�ستخراج اجلمل
لقد ك��ان ال��ن��اق��د ي��رى يف الإن�شائية واخل�بري��ة ،وحتليل ال�صور اجلمالية
الأدب ،ويف ال�شعر ب�شكل بطريقة تقليدية ،دون التغلغل يف عمق الن�ص،
خا�ص ،عالقة خا�صة بني وك�شف دالالته اخلبيئة.
النف�س والأ�شياء ،فهو يقول لقد ق�� ّدم اليو�سف للنظرية النقدية التي تناولت
يف حوار �أجراه معه كل من ال�شعر اجلاهلي خدمات ُجلّى ،ف�أدخل �إىل قراءة
عبد املنعم ق��دورة و�سعيد الن�ص الأبعاد النف�سية التي تعنى بك�شف الدوافع
الربغوثي يف العدد 30من (اجلوانية) املح ّفزة لإنتاج ال�شعر ،م�ستفيداً من ّ
37 نزوى العدد - 75يوليو 2013
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
عماالأدب ،بو�صفه ن�شاط ًا �إن�سانياً ،هو التعبري ّ جملة نزوى ،قبل �سنوات�« :إن ال�شعر �شعور ،وعلى
�أ�سماه الروح النبيل. الأ�شياء �أن ت�ستحيل �إىل م�شاعر كي ت�صري �صاحلة
من هذا الروح النبيل الذي يراه اليو�سف �رضورة للولوج يف بنية الق�صيدة احلية الفاتنة .ول�ست
جتعل من الإن�سان جديراً ب�صفته الإن�سانية ينطلق �أ�ؤكد على �شيء بقدر ما �أ�ؤكد على �أهمية التجربة
ليق ّدم للمكتبة العربية ع ّدة كتب ،حتيل على ف�سطني االن�سانية� ،أق�صد بال�ضبط ممار�سة الإن�سان للحياة
ما�ضي ًا وحا�رضاً ،في�ؤلّف كتب ًا عن حطني وغ�سان وعالقته بها� .إن ال�شعر ،بل الفن بعامة� ،إمنا يخزن
كنفاين و�سمرية ع��زام ،وغري ذلك من الكتب التي �أو ي�ست�ضيف العالقة التي بني النف�س والأ�شياء،
يدافع بها عن الثقاقة الإن�سانية ،وال�شخ�صية فالنف�س بغري الأ�شياء لي�ست �سوى خواء ،والأ�شياء
احل�ضارية لل�شعب العربي الفل�سطيني ال��ذي يراه بغري النف�س لي�ست �سوى حياد� ،أو حتى بال معنى.
�شعب ًا �شهيداً ،وفق ًا ملقابلة �أجراها معه �أ�سامة العبد، ولهذا يجوز القول ب�أن الكون مل يكتمل �إال يوم جاء
ون�رشها امللحق الثقايف ل�صحيفة الثورة الدم�شقية الإن�سان� ،أو الوعي� ،إىل الوجود”.
يف :2006/1/7 كنت قد قمت بها يقودين هذا الكالم �إىل مغامرة ُ
« �إننا �شعب �شهيد �ضحى به العامل على مذبح يهوا، عام � ،1988أي يف بداية �أحداث االنتفا�ضة الأوىل،
ول�صالح كائنات ذات �أنياب زرقاء». كنت
بعر�ض مقطوعة �شعرية عليهُ ، ِ (غامرت)
ُ �إذ
يف جزء من تلك املقابلة يق ّدم اليو�سف تعريف ًا بكتابه قد كتبتها حول االنتفا�ضة( ،وعر�ض ق�صيدة على
(تلك الأيام) الذي ي�ؤكّ د فيه �أن طرد الفل�سطينيني مت الأ�ستاذ يو�سف اليو�سف مغامرة كبرية ،فهو الذي
بفعل م�سل�سل من املجازر ال�شنيعة؛ لذلك يرى من ينج من نقده �أكرب ال�شعراءال يعجبه العجب ،ومل ُ
واجبه ،بو�صفه مثقف ًا كوني ًا ي�سعى �إىل �إعالء قيمة و�أعظمهم)� .أذكر �أن عنوان الق�صيدة كان «ما تبقى
الوجدان� ،أال ي�سمح للعدو ب�إزالة تفا�صيل احل�ضارة من اجل��رح» ،فكتب يل حتتها مالحظة خمت�رصة:
الفل�سطينية ،و�أن يربز يف ذلك الكتاب تقاليد الزواج «تنق�صها ملعق ٌة من ماء القلب».
ُ
والعر�س والعيد والدبكة والغناء واللبا�س ،وغري ذلك جل�ست يومذاك مع الأ�ستاذ �أحمد ال�رس�ساوي ،وهو
مما مينح الإن�سان الفل�سطيني ح�صانة ح�ضارية ال املقربني ،و�ضحكنا ّ من �أ�صدقاء الأ�ستاذ يو�سف
متكّن �أعداءه من اقتالعه. كثرياً على «ماء القلب» هذه .غري �أنني اكت�شفت يف
� ّإن من يقر�أ «تلك الأيام» يدرك مدى اهتمام اليو�سف ما بعد �أن هاتني الكلمتني تلخ�صان نظرته لل�شعر،
بالتفا�صيل ،تلك التفا�صيل القابعة يف ذاكرة الطفل ول�ل�أدب عموماً ،فهو يرى �أن ال�سامي املت�سامي
الفل�سطيني الذي خرج من فل�سطني ،وهو ابن ع�رش جوهر الأدب اخلالد يف ال�رشق والغرب ،و� ّأن التعبري
�سنوات ،وحمل معه الزمان واملكان �إىل املنفى، عن الأ�شياء دون القدرة على نقل �إح�سا�س املبدع �إىل
وحاول �أن ير�سم يف منفاه ظ ًال لذلك الوطن ،تجَ َ ّ�س َد القارئ يفقد الأدب ،يف نظر الناقد ،جوهره النبيل.
يف حديقة منزله يف خميم الريموك ،تلك احلديقة
jhj
التي كان ي�رشب فيها قهوته ال�صباحية ،وينتمي
�إليها كمن ينتمي �إىل ذاكرة وطن. وعلى الرغم مما يبدو من ثقافة نقدية رفيعة يف
�أتذكّ ر تلك احلديقة مثل ظ ّل باهت ،وقد كتبت �إىل كل عبارة ينحتها الناقد يو�سف اليو�سف ،ف�إنه
�صديقي ع�صام �سعيدان (وهو �صديق املثنى �أحد م�رصاً على �أن وعيه النقدي مل يت�شكّل من
ّ يبقى
�أوالد الناقد الكبري) �أ�س�أله �أن يثبت يل تفا�صيلها هيغل وفرويد والآم��دي واجلرجاين ،بل من النكبة
يف ذاكرتي ،ف�أ�شار �إىل �أن اليو�سف الذي كان ي�رشب الفل�سطينية ذاتها ،لأن النكبة جعلته ي�ؤمن �أن
قهوته ال�صباحية ويدخن ويقر�أ يف تلك احلديقة ال�ضمري هو اخلري الأعظم يف الإن�سان ،و� ّأن جوهر
38 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
كنت حينها حتت دورة يف كلية الدفاع اجلوي يف مت، الأثرية �إىل نف�سه� ،أ�صبح رج ًال �صعب املزاج حني ّ
علي تدبر �أمور الهرب لي ًال
حم�ص ،وكان من ال�سهل ّ هدم منزله العربي ،وبنا�ؤه بناء على رغبة �أوالدهُ ،ً
الكلية للقاء ح�سني ويو�سف وملّة الأ�صدقاء َّ من على طراز حديث� ،أطاح باحلديقة وما حتيل عليه
حولهما خالل �أيام وجودهما يف حم�ص. من ذكريات غالية.
الحق ًا مت فرزي لاللتحاق ب�إحدى كتائب ال�صواريخ خيبة جديدة تن�ضاف �إىل خيبات ذلك الرجل ،ونفي
ي�سمى
املتمركزة يف غباغب� ،أي قريب ًا مما كان َّ جديد ،داخل منزله اجلديد .وك��� ّأن رحيله الق�رسي
«اجلبهة» ،وقد ا�ست�أجرت حينها غرفة يف خميم من فل�سطني ،وك���أن هجرته من لبنان �إىل خميم
الريموك .كان يزورين �أ�صدقاء كرث من �أمثال عبد الريموك ،مل تكفي لك�رس قلبه ..لذلك جاءت هجرته
القادر احل�صني ونوري اجلراح وخمتار العلي، الثالثة ،من خميم الريموك بعد �أن دخله امل�سلحون،
وكانوا يعرفون يو�سف اليو�سف ،و�أبلغوين �أن بيته و�صار جزءاً من لعبة الأمم يف �سورية ،لينتقل �إىل
ال يبعد عن �سكني �سوى �أمتار .زرته مع بع�ض ثم �إىل عامل �أخري ينتظر فيه عد ًال
خميم نهر الباردّ ،
الأ�صدقاء ،وكم غمرتني حميميته وحميمية �أم كان يبحث عنه طوال حياته.
الوليد و�أوالدهما� .أ�رسة فل�سطينية حق ًا وبامتياز. و�إذا كان «ذو العقل ي�شقى يف النعيم بعقله» كما
كان �أهداين يف حم�ص كتابه «بحوث يف املعلقات». يقول املتنبي ،فما هو �ش�أن يو�سف اليو�سف ،وهو
ال �أبالغ �أبداً حني �أقول �إنه �أهم كتاب قر�أته يف ذو العقل ال��ذي ك��ان يعاين جحيم النفي والقهر
حياتي عن املعلقات ،و�إن �رشح املعلقات ال�سبع واخليبة؟؟
للزوزين ،الذي اعتمدته جامعة دم�شق مرجع ًا لطالب
jhj
اللغة العربية ،مل يكن �أكرث من �رشوح �ضح�ضاحة
قيا�س ًا �إىل غنى وعمق و�شمول وجماليات بحوث
يو�سف اليو�سف .ك�أين لأول مرة �أ�صحو على حقيقة
� vشذرات �شخ�صية عن ال�صديق
�أن مراجعنا الأهم لي�ست يف املا�ضي .الحق ًا قر�أت يو�سف �سامي اليو�سف
كتابه «مقاالت يف ال�شعر اجلاهلي» .مع يو�سف
اليو�سف جت َّد َد ال�شعر اجلاهلي بالن�سبة يل ،فلم يعد
\
فرج بريقدار
غريب ًا عن ع�رصنا وفهمه ومعارفه ولغته و�أدواته. ات�صل بي �أحد الأ�صدقاء ،ليقول يل �إن هناك
بدا يل �أن ذخرية يو�سف اليو�سف عن ال�شعر اجلاهلي خم ِرج ًا فل�سطيني ًا ا�سمه ح�سني الأ�سمر ،موجود
غري قابلة للنفاد ،ورمبا ال مت�سع معها لأي نقد الآن يف حم�ص ويرغب يف لقائك .كان ذلك �أوا�سط
�أدبي �آخر .ولكن كتاباته الالحقة عن ال�شعر العربي ال�سبعينيات ،بعد �أن منعتني املخابرات ال�سورية من
املعا�رص ،وال�شعر العذري ،و�أدب غ�سان كنفاين، العودة �إىل بوداب�ست ملتابعة درا�سة الإخراج ،وذلك
والرواية العربية والعاملية ،والن ّفري وابن الفار�ض ب�سبب موقفي املعار�ض لتدخل النظام ال�سوري يف
والت�صوف عموماً ،بالإ�ضافة �إىل ما �أ�سمعه منه ّ لبنان ،وبالتايل مت �سوقي �إىل اخلدمة الإلزامية.
يف حواراتنا �شبه اليومية ل�سنوات طويلة ،جعلتني نزلت �إىل موعد اتفقنا عليه والتقيت بح�سني .كان
�أدرك �أن املرء قادر على �أن يعي�ش �أكرث من حياة �سهمي املالحظة والتعليق،
ّ رحمي القامة،
ّ معه رجل
و�أكرث من ع�رص .مع مرور ال�سنوات تنوعت �أحاديثنا ومت�شابك الأغ�صان يف �أفكاره وتنوعها �أدبي ًا
وان�رسبت �إىل تفا�صيل حياتية اجتماعية و�شخ�صية. وفل�سفي ًا ونقدي ًا وت�صوفي ًا وعلم نف�س �إلخ� .س�ألت
حدثني عن قريته لوبية ،وعن مغارة العري�س التي ح�سني عنه ف�أجابني باخت�صار� :إنه يو�سف اليو�سف
ي�ستحم يف نبعها «عينها» كل ّ اقت�ضت الأعراف �أن «�أبو الوليد» ،ناقد عميق الأغوار و�سيعجبك كثرياً.
39 �شاعر وكاتب من �سورية. \
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
ابنها ،كما �أبو الوليد ابنها ،و�أم علي ابنتها. �شاب لوباين قبل ليلة دخلته .ولكن تلك املغارة
ل�سبب ما ،ولغام�ض علمه� ،رصت جزءاً من �أ�رسة حتول ا�سمها �إىل مغارة ال�شهداء ،بعد �أن ُدفن
للأ�سف َّ
�أخي �أبي الوليد .مل يعد يختلف دخويل �إىل بيتهم فيها �سبعة وع�رشون �شاب ًا قتلتهم الهاجاناه ،وهم
عن دخويل �إىل بيت �أهلي ،وبخا�صة بعد انتهاء يف طريق عودتهم من العمل �إىل قريتهم .وحدثني
خدمتي الإلزامية وبقائي يف املخيم� .أزعم �أن تلك تعر�ضت له القرية من ق�صف �صهيوين يف تلك عما ّ
الفرتة �أعادت تكويني باملعنى الثقايف ،وجعلتني الأيام ،وكيف �أُجرب الأهايل �أطفالهم على االختباء
فل�سطيني ًا �أكرث مما كنت ،وملأت حياتي ،كما حياة أ�رسة .كما حدثني عن بطوالت رجال القرية حتت ال ّ
وى وخياالت و�ص ً
الكثريين� ،أ�شجاراً وطيوراً و�أحالم ًا ُ من �أمثال �أبو ح�سن ر�رشا�ش الذي متكن ببندقيته
وعناقيد؟ القدمية �أن يطفئ برجكتور �أحد القوارب الإ�رسائيلية
يوم ًا ما قال يل �أبو الوليد :ينبغي �أن �أب ِّدل �شيئ ًا كان اليو�سف يف بحرية طربيا ،وكذلك من �أمثال �أبو
يف ا�سمي يا فرج ،فماذا تقول؟ .يف احلقيقة مل �أكن ر�سمي عودة وغريهما الكثري .حينها
ي�ؤمن ب�أن
مرتاح ًا للفكرة ،ولكني �س�ألته عن ال�سبب ،فقال ت�شكَّلت يف ذاكرتي ق�صيدة عن لوبية
يل� :إن هناك ناقداً عربي ًا بنف�س الإ�سم ،وال �أريد �أن الكتابة وكتبتها الحق ًا ون�رشتها يف ملحق
القراء م�س�ؤولية أتعر�ض الحتمال �أن يحملني بع�ض ّ � ّ جتربة الثورة الأدبي يف تلك الأيامَّ ،
فكر�ستني
كتاباته� .س�ألته عن البديل ،فقال� :س�أ�ضيف ا�سم كيانية ،و�أن تلك الق�صيدة �شاعراً فل�سطينياً ،ح�سب
والدي الذي تويف �شاب ًا وتركني �صغرياً لنكبات لها الأدب العظيم ما كتبه �شوقي بغدادي عن الق�صيدة يف
�أول وما لها �آخر .فيما بعد �صارت مقاالت وكتب هو الذي ال�صفحة املقابلة يف امللحق .فيما بعد
�أبي الوليد ت�صدر با�سم :يو�سف �سامي اليو�سف. التقيت ال�شاعر �شوقي بغدادي وعاتبته
قلبي على �سامي الأب ،ويو�سف االبن و�أمثالهما يعرب عن على قوله �إن حرارة الق�صيدة مفهومة
ممن اكتووا بجمر التغريبة الفل�سطينية. هذه التجربة كون ال�شاعر فل�سطينياً ،وواقع احلال
تغيرَّ ت الدنيا يف �سوريا كثرياً بعد عام .1982قلت الكيان ّية �أين �سوري .قال يل �شوقي �إنه �س�أل ثالثة
لأبي الوليد :ال �أريد لك املزيد من وجع الر�أ�س ..لقد �أو �أربعة �أ�صدقاء عني وكلهم قالوا له
أ�صبحت مطلوب ًا وحايل واحد اتنني تالتة �إلخ .قال ُ � �إنني فل�سطيني .يف احلقيقة مل يكونوا
يل :ال تقلق �أبداً ،فهذا بيتك ،ونحن �أهلك ،ول�ست خمطئني ،متام ًا كما �أرى نف�سي غري خمطئ حني
�أنت من يحتاج لن�صيحتي يف كيفية مراقبة نف�سك ر�أيت وال �أزال �أن الآالف من �أ�صدقائي الفل�سطينيني
خارجاً� ..أما يف بيتنا فال خوف ..للبيت منافذ �إمنا هم �سوريون �أي�ضاً ،وذلك قبل الثورة ولي�س
عديدة للهرب عند ال�رضورة. بعدها فقط.
مرت �سنوات والأمور على ما يرام� ،إىل �أن جاء ذات ّ بعد تلك الق�صيدة �شعرت كما لو ان كنيتي يف املخيم
يوم ال�صديق ال�سيناري�ست ح�سن �سامي اليو�سف، تغيرَّ ت من بريقدار �إىل اليو�سف �أو عودة �أو اللوباين
�أخو �أبي الوليد الأ�صغر .كان هادئ املالمح ،رغم ب�صورة عامة.
يلتالهث �أنفا�سه ب�سبب امل�سافة الفا�صلة بني منز ّ �أم ال�صديق علي ال�شهابي ،الذي ال يخرج من اعتقال
�أبي النور و�أبي الوليد ،وهو يبلغنا �أن ال�ضابطة �إال ليدخل يف مثله ،وللأ�سف هو معتقل الآن ،بحثت
الفدائية ورمبا فرع فل�سطني� ،أو كليهما مع ًا عند «ودقد�ست» كثرياً عني �إىل �أن و�صلت �إيلّ ،ودعتني
�أخيهما الأكرب �أبي النور وي�س�ألون عن فرج بريقدار، �إىل وليمة ي�صعب �أن يحلم بها �شخ�ص مطلوب
و�أ�ضاف �أن �أخاه �أبا النور قال لهم �إنه ال يعرف ومتخف من �أمثايل ،ثم رجتني �أن �أ�سمعها الق�صيدة.
ٍّ
�شيئ ًا عن فرج بريقدار ،ولكن لو كان يعرف ف�إنه �آمل �أن تعذروين على اال�ستطرادات� ..إنها لوبية و�أنا
40 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
ال�صفحات من �آداب �أمم الأر�ض على اختالفها ظلَ vيو�سف �سامي اليو�سف
حياته كلَها م�شدودا لأديبني من عمالقة الأدب
يف العامل ،هما الإجنليزي وليم �شك�سبري والرو�سي وداعــــــا
فيودور دي�ستويف�سكي ،وظل طيلة حياته يرى يف \
را�سم املدهون
�شك�سبري ودي�ستويف�سكي تعبريين عن عظمة الأدب
كما ال تتجلَى عند �أي مبدع �آخر مهما عال �ش�أنه . جتربة الناقد الفل�سطيني الراحل يو�سف �سامي
بني من عرفت من الكتاب والأدباء كان يو�سف مو�سعة تتناول
اليو�سف النقدية ت�ستحق درا�سات َ
�أ�شدهم الت�صاقا بفكرته التي مل تتزعزع يوما � ،أعني ر�ؤاه ونتاج ذائقته على مدار ما يقارب عقودا �أربعة
العالقة «ال�شخ�صية» بني الناقد والن�ص :الن�ص �أم�ضاها يف القراءة والكتابة ومتابعة ك ّل ما هو
الإبداعي �إما �أن يالم�س �أرواحنا �أو ال ،ويف احلالتني جديد يف الأدب املحلي والعربي والعاملي .لكنني
الأمر يتعلق بـ«الذائقة» ،ولعلَ هذا «الرتمومرت» هنا ال�ستدراج الذاكرة ال�شخ�صية للحديث عن م�شاهد
بالغ اخل�صو�صية كان «�أداة» يو�سف �سامي اليو�سف ووقائع جمعتني مع «�أبو الوليد» وكانت �شيئا من
الأبرز يف ر�ؤيته للآثار الأدبية ،وكان يف الوقت �صورته الواقعية كما عرفته خالل �سنوات �صداقتنا
ذاته �سبب اختالفات ال حت�صى بينه وبني الأدباء ، الطويلة .
بل بينه وبني النقاد بالذات � .إىل ذلك �أ�شري يف هذه عرفت يو�سف �سامي اليو�سف مطلع ال�سبعينات من
الن�ص روحه ُ العجالة اىل حر�صه على �أن يالم�س مدر�س اللغة
القرن املن�رصم :هو يف تلك الأيام ّ
ف�إن مل يفعل ر�آه «باردا وحي َيا» ال تكرتث له الروح الإجنليزية يف مدار�س «�أونروا» التابعة للأمم
�إن مل يقل �أنها «تعافه» وتنفر منه . املتحدة يف خميم الريموك .جاء «�أبو الوليد»
�أرى ذلك �أداة قيا�سه الأبرز والأهم يف النظر �إىل ل�سوريا وملخيم الريموك حتديدا بعد جلوء عائلته
ال�شعر اجلاهلي واحلب العذري املو�ضوعتني اللتني من قريتهم الفل�سطينية اجلبلية «لوبية» �إىل خميم
�شغلتا حيزا هاما يف جهده النقدي و�أنتجتا كتبا بعلبك �رشق لبنان حيث عا�شوا هناك حتى مطلع
ال �أبالغ �إذ �أقول �أنها كانت وال تزال فتوحا نقدية لي�ستقروا يف
ُ العام 1957لريحلوا بعدها اىل �سوريا
على امل�ستوى خميم الريموك .
العربي عامة . يو�سف هو االبن الأكرب لعائلة كبرية كانت كباقي
لكنني مع ذلك العائالت الفل�سطينية تعي�ش العوز وم�صاعب حياة
�أرغب هنا بالذات اللجوء بعيدا عن الوطن .هكذا كان عليه �أن يتقدم
�أن �أ�شري اىل حلمل م�سئولية العمل والإنفاق على عائلته :هكذا
«�سطوة» ترمومرت التحق يو�سف باجلي�ش وحتديدا كتيبة الإ�ستطالع
م�شاعره الفردية ،التي ذكر يل �أنه كان �أ�صغر عنا�رصها جميعا ،
:عام 1982 والتي ق�ضى يف �صفوفها �سنوات ا�ستطاع خاللها
وخالل الإجتياح اجتياز امتحانات ال�شهادة الثانوية ليلتحق بجامعة
ا لإ �رس ا ئيلي دم�شق طالبا يف كلية الآداب ق�سم الأدب الإجنليزي .
للبنان وبريوت هذا اخليار الدرا�سي يف اجلامعة جاء وليد اهتمامه
مرة �أنه
قال يل َ التعرف على �آثاره
ٌ بالأدب العاملي ،ورغبته يف
�شعر فج�أة ب�آالم الكربى .
يف �إحدى �ساقيه ، يو�سف �سامي اليو�سف الذي قر�أ ع�رشات �آالف
43 \ كاتب وروائي من فل�سطني.
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف رمى ببع�ض ما يزدحم يف وم�ضت الأيام ليفاج�أ �أن �إبنه قد �أ�صيب بر�صا�صة
ذاكرته من �أحداث يف كتابه اجلميل «تلك الأيام» يف احلرب يف تلك ال�ساعة من ذلك اليوم بالذات .
�أحد �أجمل كتب الذاكرة الفل�سطينية ،يروق يل ككرث هو مبعنى جميل �إبن احلياة ويف كثري من الأحيان
من �أ�صدقائه �أن نراه «كامال» فمزاجه اجلميل ال مرة
الناطق با�سمها � :أتذكر �أننا كنا َ
ينف�صل عن «ع َدته» النقدية التي تنه�ض بالأ�سا�س لقد قدّ م ن�سهر يف مطعم «نادي العمال» يف
ممن عرفت و�صل لها .
على قراءة ال �أعتقد �أن �أحدا َ بالرق�ص
اليو�سف دم�شق وحني ا�شتعلت ال�سهرة َ
يو�سف �سامي اليو�سف الناقد وبدت ال�سعادة على اجلميع �س�ألته
للنظرية
�أبو الوليد ال�صديق فج�أة :من هو بر�أيك الأكرث �سعادة بني
وداعا . النقدية ال�ساهرين .كنت �أعتقد �أنني فاج�أته
jhj حول ال�شعر بال�س�ؤال ،ولكنه التفت نحوي وقال
اجلاهلي بهدوء � :صاحب املطعم طبعا !!
vيو�سف �سامي اليو�سف.. ج ّلى يو�سف �سامي اليو�سف �إبن العاطفة خدمات ُ
يف ابعادها الإن�سانية الأ�شد ح�سا�سية :حني
حار�س القيمة �صدرت جمموعتي ال�شعرية الثانية
النف�سية
\
�سعيد الربغوثي «دفرت البحر» مطلع العام ، 1985كان
وك�شف يزورين برفقة بع�ض الأ�صدقاء و�س�ألني
يف الرحلة الق�رسية الأخرية من ترحاله الدائم، الدوافع :هل تريد �أن تعرف ر�أيي باملجموعة ؟
ترجل فار�سنا عن ح�صان احلياة ،يف خميم الب ّداوي (اجلوانية) قلت مل ال .ّ
يف لبنان ،بعيداً عن بيته يف خميم الريموك ،وقريب ًا م�ستفيداً اعتدل يف جل�سته وقال بهدوء :يف
من فل�سطني التي مل تفارقه منذ غادرها �صبياً. من الرتاث جمموعتك ع�رش ق�صائد قر�أتها وت� َأملتها
يف تلك الرحلة �أ�سدل املوت �ستارة الغياب على ،و�أ�صارحك �أنني مل �أجد بينها ق�صيدة
الناقد العربي الكبري الأ�ستاذ يو�سف �سامي اليو�سف، النقدي
واحدة ،بل مل �أجد مقطعا وال حتى
كا�شف ًا لنا حجم هذا الغياب الفاجع .وما ترحاله العربي �سطرا �شعريا واحدا .ثم �أ�ضاف :لقد
املكاين �سوى اجلانب ال�سهل من ترحال روحه والغربي وجدت بع�ض «اللمعان» الذي �رسعان
الباحثة عن النفي�س الغايل يف قرارة مكنوناتها، ما ينطفىء !!
وهي تغو�ص عميق ًا باحثة عن جوهرها النبيل، كان احلوار �صباحا ،تق َبلته على
وعن كل ما يربز نقاءها ،وطهارتها ،وعن �سبل م�ض�ض ،وم�ضينا عنه �إىل مو�ضوعات �أخرى .يف
ارتقائها لتتحد مبطلق هي منه ،وهو منها ،وهما امل�ساء جاء لزيارتي وطلب �أن �أرتدي ب�رسعة لأن
جديران ببع�ضهما. «الربوة»
بع�ض الأ�صدقاء يف انتظارنا للذهاب �إىل َ
يف تالزم مده�ش بني �صناعة الأجيال التي احرتفها ال�شامية .هناك ،وحني طابت له ال�سهرة واعتدل
يف للكثريين ،وبني النقد الذي ك� ٍّأب روحي ومعر ّ مزاجه نظر يف اجتاهي وقال � :إقر�أ لنا ق�صيدتك
�أ�شعل �شمعة فيه ت�ضيء نارها من قب�سات اجلمال اجلميلة «جنمة» .
امل�سكونة يف الأدب عرب الع�صور ،وت�شري �إىل ممر من فاج�أين طلبه و�أردت �أن �أتخابث معه فقلت :لي�س
نور يف�ضي �إىل اجلمال الأرحب .يف هذا التالزم لي�س عندي �أية ق�صيدة وال � َأي مقطع �أو حتى �سطر �شعري
�صدفةً� ،أن يعمد «اليو�سف» يف احلالني �إىل حماربة واحد ،فكلُ ما عندي هو بع�ض اللمعان الذي �رسعان
وك�شف زيف �ضحالة الوجود العائم على اخلواءْ ، ما ينطفىء !!
44 \ مثقف من فل�سطني ونا�رش «دار كنعان -دم�شق»
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
jhj ني،
اجلرح والعين ِ
ِ عميق
َ يا �صديقي يا
احلب غري ًبابد�أ ّ مركْ
يا م�شتعلَ احلري ِة ُع َ
وغري ًبا �سيعو ُد ق ّد�س ا ُ
هلل و َن ّدى
احلور،
ُ ني
ليت �أنيّ حاور ْتني الأع ُ َ الديامي�س
ِ يف
وق َّدتني ال ُقدو ُد �رسكْ
على الوح�ش ِة ّ
ني مرا�سيلُ املحب َ
ّ أنفا�س
يوم � ُ َ أنت
قمر الغرب ِة � َ ُ
الريح بري ُد
ُ لها و�شذا ال ُق ْرب ِة � َ
أنت
«ريا» مثلُها �صف�صاف ٌة يوم ّ َ الينابيع،
ِ ح�شا�شات
ِ ورحي ٌل يف
مالت على النه ِر لت�سقي ِه ْ أنت
�إىل ينبوعها ال ّأولِ � َ
دربهلل ٌ
ومثلُ ا ِ ما عليكَ
هب مِ ن قلبي، َّ ذاه ًبا يف الكب ِد الكاب ِد
47 نزوى العدد - 75يوليو 2013
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
s
s
jhj النهايات �إىل ما ال يعو ُد ُ و�ش َّدت ُه
ا...ت
الق�صي ِ
ّ الثلج
ُن َق ٌل يف قم ِم ِ
vيو�سف �سامي اليو�سف.. الوديان
ِ انهيارات مع
ٌ
مثقف �أر�ستقراطي يف املخيم قيقات
ِ الر
الغزاالت َّ
ِ يف ُ�سوقِ
\
�سمري الزبن ان�رساح
ٌ
يف حفايف ال َغي ِم
مل �أكن تلميذا لأ�ستاذ اللغة االجنليزية يو�سف
�سامي اليو�سف (�أبو الوليد) يف خميم الريموك، والغيب
ِ
والذي عمل مدر�سا لها يف مدار�س الأونروا، درب�إىل حيث ُيال�شي ك َّل ٍ
وكنت تلميذا يف مدار�سها ،لكن من خا�ضوا ُبع ُده الأبع ُد � اّإل نقط ًة
التجربة يف �صفوفه الدرا�سية ،كانوا يتحدثون �رسها ُيطوى البعي ُد يف ِّ
عن �أ�ستاذ «ظامل» ،وهو ما يعني �أنه ي�ستخدم
ال�رضب يف التعليم ،وهي و�سيلة تربوية كانت jhj
عادية يف تلك الأيام ،وكان من النادر �أن جتد احلب غري ًبا بد أ� ُّ
معلما ال ي�ستخدم ال�رضب مع تالميذه لريبيهم، كنت قريبا قريب الدا ِر ،لو َ يا َ
ال ليعلمهم فح�سب.
كان املدر�سون «الظاملون» يف التجربة ال�ص َّم ِجار ُ ال�شدو احل َ ُ و�سِ ع
الفل�سطينية ،يعتقدون �أن عليهم مهمة �شاقة، اجلرح ،القلوبا ِ ر�س ،على وال ُع ُ
وهي �صناعة رجال ا�ستثنائيني من �أطفال كنت قريبا �آ ِه لو َ
اللجوء الفل�سطيني ،كان �أبو الوليد واحدا من اخلمر، قت من يومها ع ّت ْ
ُ
ه�ؤالء املدر�سني ،الذين كنا ننظر لهم بعني
أغفت،
و� ْ
االحرتام والرهبة والهيبة واخلوف.
يف �سنوات درا�ستي اجلامعية الأوىل التي �ضن جم ِر املوق ِد احلاين حِ َ
بد�أت مع حرب لبنان العام 1982تعرفت رض
الطيور اخل� ُ ُ
على ال�سيا�سة وعلى الثقافة وعلى (�أبو الوليد)، كنت قريبا لو َ
وترافقت هذه ال�سنوات مع خروج املقاومة أملا�س ليلَ الفح ِم
الفل�سطينية من لبنان بعد احلرب ،ونقل مراكز �ضو�أ ال ُ ّ
جمالت الف�صائل الي�سارية «احلرية» و«الهدف» العذب
ِ بالرتاب
ِ رب مت ّنى والت ُ
وغريها اىل دم�شق ،وقد كان لهذه املجالت لو ظ َّل م�شوبا
�صفحاتها الثقافية الغنية يف ذلك الوقت ،وكان كنت قريبا �آ ِه لو َ
�أبو الوليد واحدا من ك ّتابها ،ويف نف�س الفرتة احلرف،
ِ طق على خرج ال ُن ُ َ
تعرفت اىل وليد ،ابنه البكر ،وا�صبحنا �صديقني،
وتعرفت على الرجل ذي الهيبة. وقال ال�صم َت�أ
مل �أكن �أنا ،وال �أي من ا�صدقاء �أبناء (�أبو الوليد) ال�سهوبا. و قالَ ُّ
ي�ستطيع زيارة بيتهم يف �أيام ال�صيف احلارة،
48 روائي وقانوين من فل�سطني. \
s
s
يو�سف �سامي اليو�سف..
s
وك�أنهما عاملان ال �صلة بينهما� ،أو ك�أنه يعي�ش وكان ال�سبب مفاجئا بالن�سبة يل.
حياتني ،تف�صل بينهما هوة عميقة.. �أبو الوليد القارئ النهم واال�ستثنائي والناقد
لقد كتب ابو الوليد يف �أكرث من حقل ،من ال�شعر الالذع للقامات الثقافية الفل�سطينية من جربا
�إىل نقد الرواية �إىل التاريخ �إىل ال�سرية الذاتية، ابراهيم جربا الروائي وال�شاعر والناقد واملرتجم
وتهيب عند الرواية ،فكتب كتابه «ر�سالة �إىل ّ والرجل متعدد املواهب و�صاحب ال�شهرة الكبرية،
امر�أة» كتب عليه تعبري «ن�ص». �إىل �آخر كاتب فل�سطيني مل ي�سلم من نقده الالذع،
ومن امل�صادفات �أن الدار التي ن�رشت الكثري مبن فيهم كاتب هذه ال�سطور .وال �أعتقد �أن �أحدا
من كتب (�أبو الوليد) «دار كنعان» ،التي يديرها كتب عنه �أبو الوليد مل ت�صبه ل�سعاته النقدية،
ال�صديق �سعيد برغوثي ،هي نف�سها الدار التي با�ستثناء ال�شهيد غ�سان كنفاين ،الذي كتب عنه
ن�رشت روايتي «قرب بال جثة» ،ومل فقد كان كتابا �صغريا وجميال بعنوان «رع�شة امل�أ�ساة».
كانت املفاج�أة �أن (�أبو الوليد) الذي ي�سكن �شارع
يت�سن يل �إر�سال ن�سخة �إىل (�أبو الوليد)� ،أر�ستقراطياّ
اجلاعونة يف خميم الريموك ،وهو من �أ�ضيق
واكت�شفت مبح�ض ال�صدفة �أنه قد قر�أ باملعنى احلارات يف املخيم ،وقارئ الكتب املثابر يف
الرواية و�أعجب بها ،وكتب عنها مقاال
الثقايف كل الأجواء ،والذي كان ميلك بيتا من طابق
بديعا� ،أ�صابتني من خالله ل�سعات
نقده ،وكنت �سعيدا وفخورا مبا كتب للكلمة ،ولكنه حتوله حرارة ال�صيف �إىل فرن حقيقي، واحدّ ،
عن روايتي ،وكنت �سعيدا �أن ُيعجب �أبو كان تقليديا كان يق�ضي كل الوقت يف العطلة ال�صيفية ،يقر�أ
الوليد بروايتي املتوا�ضعة يف الوقت باملعنى الكتب حتت الدرج وهو املنطقة الأكرث برودة
يف ال�صيف الالهب يف بيته ،ولأن الدرج كان
الذي ال يعرتف �إال بد�ستوف�سكي كروائي ،االجتماعي وراء باب املنزل مبا�رشة ،ف�إن (�أبو الوليد) حظر
ويعترب ت .هـ .لوران�س كاتبا من الدرجة للكلمة الدخول واخلروج من املنزل و�إليه يف �ساعات
الثانية ،عدا عن ر�أيه ال�سلبي يف الرواية قراءته الطويلة ،وهو ما كان يوقف الزيارات
الأمريكية الالتينية. �إىل املنزل نهائيا .كنت �أتخيل (�أبو الوليد) وهو
مهجرا يف
عندما �أدرك املوت (�أبو الوليد) كان ّ ينكب على قراءة الأدب الرفيع والأر�ستقراطي
خميم نهر البارد -لبنان ب�سبب ال�رصاع الدموي وباللغة االجنليزية ،على «طبلية» حتت الدرج
يف �سوريا الذي جعل خميم الريموك مكانا غري املنخف�ض ،حيث متر كتب �شك�سبري ولوران�س
مهجرا يف القاهرة لل�سبب�صالح للعي�ش ،وكنت ّ واليوت وفرجينا وولف وبو بلغتها الأ�صيلة
مهجرا يف كندا
ذاته ،وكان ابنه و�صديقي وليد ّ حتت درج (�أبو الوليد) يف �شارع اجلاعونة يف
لل�سبب ذاته اي�ضا. خميم الريموك .وكنت �أتخيل الثقافة الإجنليزية
�أي قدر �أحمق �أعاد تهجرينا من جديد ،قبل وهي ترافق (�أبو الوليد) يف زواريب املخيم ،فقد
يومني من وفاته �س�ألت وليد يف كندا عن �أحوال كان �أر�ستقراطيا باملعنى الثقايف للكلمة ،ولكنه
والده ،وكنت �أعرف �أنه مري�ض ،قال يل :و�ضعه كان تقليديا باملعنى االجتماعي للكلمة ،ومل
ال�صحي جيد �إىل حد ما .لكن هيبة (�أبو الوليد) مل �أ�شعر �أن ثقافته الأر�ستقراطية كانت تفعل فعلها
جلوءا �آخر ،فقرر �أن يرحل بكل هيبته قبلحتتمل ً يف حياته ،لقد كان �أ�ستقراطيا بني الكتب التي
�أن تمُ َ ّ�س. ق�ضى حياته يقر�أها ،وكان يف حياته تقليديا،
50
هيغل واال�سالم
لوثـرية فـي ثوب فل�سَ في
ح�سني الهنداوي
كاتب وباحث يف الفل�سفة من العراق يقيم يف لندن
وهنا ينبغي ان ن�شري اي�ض ًا اىل اجلدل تنبع الأهمية اال�ستثنائية لدرا�سة منظور
احلاد الذي اثاره يف مطلع القرن احلايل الفيل�سوف االملاين الكبريجورج فيلهلم
املنظر اال�سرتاتيجي االمريكي فران�سي�س
فريدريك هيغل Georg Wilhelm FriedrichHegel
فوكوياما عرب فكرته حـول ما ا�سماه
بـ(نهاية التاريخ) زاعما ان الهيغلية تنب�أت ( )1831–1770حول اال�سالم من واقع
باالنت�صار احلتمي وحتى االبدي للعقل ان الفل�سفة الهيغلية متتلك نفوذاً متزايداً
االمريكي كعقل كوين على النظم العقلية يف عقلنة �سيادة الغرب على العامل .وهذا
االخرى معتربا ان طالئع ذلك االنت�صار ي�صدق ح�رصاً يف جمال فل�سفة التاريخ،
متثلت ب�سقوط ج��دار برلني واث��ره على
اذ �أن فل�سفة التاريخ الهيغلية هي اليوم
االمرباطوية ال�سوفييتية ووالدة «النظام
العاملي اجلديد» متمثال بال�سيطرة الكونية اكرث الفل�سفات ت�أثرياً يف كافة النظريات
للنظام الليربايل الر�أ�سمايل بنموذجه والأيديولوجيات ال�سيا�سية الغربية الكربى
االمريكي خا�صة زاعما ،وهو ما تراجع املحافظة منها والثورية وغريهما على حد
عنه الحقا ،انه ي�ستند يف ا�ستنتاجاته تلك �سواء .فمنذ الأربعينيات اعترب الفيل�سوف
على تف�سري خا�ص به لأطروحات هيغلية
حول هذا املو�ضوع. الفرن�سي موري�س مريلوبونتي (-1961
وب��ال��ط��ب��ع ف���ان ه���ذه االق����وال والكثري ،)1908ان الفل�سفة الهيغلية «م�صدر كل
غريها يف ابراز االهمية الكبرية للفل�سفة ما اجنز يف الفل�سفة منذ قرن» ،فيما يرى
الهيغلية لي�ست جم��رد ع��ب��ارات مديح
م�ؤرخ الفل�سفة الهيغلية يف القرن الع�رشين
جم��اين او مبالغات اكادميية امن��ا هي
قناعات فل�سفية ت�ستند اىل افكار هيغلية جاك دونت �أن الفل�سفة الهيغلية «غريت
�رصيحة كما ت�سعى اىل عقلنة ا�س�سها م�صري العامل».
51
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ما يجعل الفيل�سوف متخ�ص�ص ًا حمرتف ًا ولي�س جمرد وطرحها كحقائق ملمو�سة .الننا ،بالفعل ،اذا اخذنا
مت�أمل يطرح ا�سئلة كونية او وج��ودي��ة ويقرتح الفل�سفات الغربية املعا�رصة املهمة جندها جميع ًا
االجابة عليها. ت�أخذ الكثري من هيغل وتعرتف بالت�أثر به وبف�ضله
وثانياً ،القيام بجعل الوعي العقالين االن�ساين مبثابة عليها .فاملارك�سية كفل�سفة وكايديولوجيا ما كانت
املو�ضوع الوحيد واملادة االولية للبحث الفل�سفي �ستحقق ما حققته من نفوذ لوال فل�سفة هيغل،اذ
مع اخذ هذا الوعي �ضمن �شموليته املطلقة ب�شكل ال من املعروف ان كارل مارك�س كان تلميذاً وفي ًا
ميكن معه للميتافيزيقيا ان ت�ستقل عن ال�سيا�سة او لهيغل وعنه بالتحديد اخذ نظريته الديالكتيكية
االخالق ،او لفل�سفة اجلمال �أن ت�ستقل عن الدين او ومنظوراته اخلا�صة يف تف�سري التاريخ االن�ساين
املنطق مثالً .امنا اخذ جميع هذه امليادين الفرعية وان كان قد ادخل عليها تغيريات جوهرية ا�صيلة
الفل�سفة �ضمن وحدتها العميقة كفروع لعلم واحد وكبرية .والفو�ضوية مدينة هي اي�ض ًا للهيغلية
هو الفل�سفة دون الغاء ا�ستقالليتها الداخلية يف بالكثري .فنحن نعرف بالفعل ان باكونني كان
نف�س الوقت. احد الهيغليني الي�ساريني يف بدء حياته ال�سيا�سية.
وثالثاً ،ال�سعي اىل اخذ الوعي االن�ساين �ضمن وحدة والفل�سفة الوجودية ،بتياريها امللحد وامل�ؤمن ،ما
مطلقة ���س��واء على ال�صعيد اجل��غ��رايف -الثقايف كانت �ستبلغ ما بلغته على يد �سارتر وكارل يا�سربز
(�رشق -غرب) او على ال�صعيد التاريخي (ما�ضي- وغابريل مار�سيل وغريهم لوال ت�شبعهم امل�سبق
حا�رض -م�ستقبل) او اخرياً على ال�صعيد الروحاين بالفل�سفة الهيغلية .ونف�س ال�شيء فيما يتعلق
حيث ال تهم الت�سميات اخلارجية للوعي (م�سيحي بالفل�سفة الرباغماتية االمريكية والفل�سفة الو�ضعية
او يهودي او احيائي او ا�سالمي) ،امنا فقط حمتواه املنطقية وفل�سفات اجلمال بتياراتها املتعددة.
الداخلي ال��ذي تتمحور حوله طبيعة العالقة بني م���ن ج��ان��ب اخ���ر مي��ك��ن ال���ق���ول دون ت����ردد ان
العقل املطلق والعقل اجلزئي ،اي بني اهلل واالن�سان االيديولوجيات الغربية احلديثة املختلفة التي
يف هذه الروحانية او تلك. حتكم العامل اليوم جتد -رغم تناق�ضاتها العميقة-
هذا املنهج ال��ذي بلوره هيغل و�سعى اىل و�ضعه ا�صو ًال م�شرتكة لها ومتطورة اىل هذا احلد او ذاك
مو�ضع التطبيق يف الفل�سفة كان البد ان يقوده يف الفل�سفة ال�سيا�سية الهيغلية وتتبنى اطروحات
اىل تناول كل التاريخ االن�ساين وكامل تاريخ �سجلها هيغل او اوحى بها يف واحدة او اخرىمن
الفل�سفة والفنون والفكر ال�سيا�سي والديني �ضمن كتاباته .واالكرث طرافة هو ان معظم التناق�ضات
احلدود التي ت�سمح له بها املعلومات التي يقدمها التي جندها بني تلك الفل�سفات وهذه االيديولوجيات
وميتلكها ع�رصه الثقايف واملعريف خ�صو�ص ًا فيما جتد ا�صولها هي اي�ض ًا يف الفكر الفل�سفي الهيغلي
يتعلق بتاريخ وح�ضارات وفل�سفات وفنون ال�شعوب ذاته ال �سيما ال�سيا�سي منه وكانعكا�س للتناق�ضات
االخرى غري الغربية وغري امل�سيحية .اذ ان انتماءه ابتداء
ً العميقة التي عرفها الفكر ال�سيا�سي الغربي
للم�سيحية كدين وللغرب كح�ضارة وفر له معرفة من الن�صف الثاين للقرن الثامن ع�رش.
كاملة ن�سبي ًا بهما،ال �سيما وان هيغل كان قارئ ًا نهم ًا ان عبقرية الفل�سفة الهيغلية تت�أتى،يف ر�أينا ،من
ومطلع ًا مثابراً وعارف ًا عميق ًا بالعقائد امل�سيحية ثالث خ�صائ�ص ا�سا�سية فيها حر�ص هيغل على
والثقافة الغربية القدمية (االغريقية والرومانية) تطويرها ب�شكل متوا�صل وعميق .وهي اوالً :ار�ساء
والو�سيطة (ال��ق��رون الو�سطى) واجلرمانية اي الفل�سفة على �أ�س�س منطقية دقيقة وثابتة ب�شكل
احلديثة (مبكوناتها الرئي�سية االملانية واالنكليزية ت�صبح معه كـ «علم» �أ�سوة بالريا�ضيات او الفيزياء
والفرن�سية) .وق��د �ساعده على معرفته العميقة مث ًال مبا ي�ضمن لها االعتماد على منهجية �صارمة،
52 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
والتي تعرب ب�شكل او باخر عن منظور تقليدي غربي بالديانة امل�سيحية كونه ق�ضى عدة �سنوات من
حول اال�سالم. حياته كطالب يف مدر�سة دينية لوثرية كان من
ج -كتب الرحالة الغربيني الذين زاروا العامل املفرت�ض ان يتخرج منها كق�س لوثري لوال انه
اال���س�لام��ي واملكت�شفني االوروب��ي�ين اختار العمل االكادميي على مهنة رجل الدين .كما
يرى هيغل الذين كتبوا حول هذا العامل. ان معرفته العميقة باللغات االجنليزية والفرن�سية
د -الن�صو�ص العربية واال�سالمية التي ان تطور واالملانية اىل جانب اللغتني القدميتني االغريقية
كانت متوفرة يف ال��غ��رب برتجمات الوعي والالتينية �سهلت له امكانية االط�لاع مبا�رشة
املانية او فرن�سية او اجنليزية او االن�ساين، على الن�صو�ص اال�صلية لكبار املفكرين والكتاب
التينية بغ�ض النظر عن دقة او عدم الغربيني وعلى خفايا الثقافة الغربية �إجماالً.
يتج�سد
دقة هذه الرتجمات او االهمية الكبرية قبل ان نتناول املنظور الهيغلي حول اال�سالم كدين
ً
مو�ضوعيا لهذه الن�صو�ص. وح�ضارة وتاريخ وفل�سفة ودول��ة وق��وة �سيا�سية
يف عدد من كونية وغريها ،ال بد من الت�أكيد هنا على ان فهم
الفعاليات
�أ -كتب الرتاث الديني هذا املنظور ي�سمح ب�شكل كبري بامتالك ر�ؤية اكرث
مما ال�شك فيه ان هيغل تعرف على و�ضوح ًا عن مع�ضالت املوقف من اال���س�لام يف
واحلركات
اال���س�لام اول م��ا ت��ع��رف خ�لال فرتة الفل�سفة الغربية احلديثة واملعا�رصة اجما ًال ال �سيما
التاريخية ال�سنوات اخلم�س بني 1788و1793 الفل�سفة ال�سيا�سية وفل�سفة التاريخ وانعكا�سات ذلك
واالبداعات عندما كان طالب ًا يف املدر�سة الالهوتية يف �شتى جوانب الثقافة الغربية من جهة ،وي�سمح
الروحية ذات اللوثرية امل�سماة بـ«�ستيفت توبنغن» من جهة اخ��رى يف ادراك الكثري من التناق�ضات
الطابع امللمو�س. والتي تخرج منها بنجاح مر�شحة اياه العميقة واملظاهر التي تطبع ا�شكاليات الفكر
لي�صبح ق�س ًا بروت�ستانتيا .ففي هذه الغربي حيال اال���س�لام وال����شرق عموم ًا والعامل
فهو يتج�سد املدر�سة كانت العالقة بني امل�سيحية العربي وال�رشق اال�سالمي خا�صة.
قبل كل �شيء واال���س�لام ه��ي مو�ضوع ا�سا�سي من
يف �شكل الدولة موا�ضيع م���ادة ال��ت��اري��خ .وبالطبع م�صادر هيغل حول اال�سالم
وطبيعة تنظيم ف��ان ه��ذه العالقة تطرح م��ن وجهة لقد ذكرنا قبل قليل ان هيغل كان قارئ ًا نهم ًا للكتب
نظر م�سيحية �شديدة العداء لال�سالم باللغات الفرن�سية واالجنليزية والالتينية ا�ضافة
العالقة فيها �آن��ذاك .وملا كنا نعرف ان هيغل ظل اىل االملانية مما يجعل من الع�سري جداً علينا القيام
بني الروح طوال حياته الفكرية �شديد االن�سجام هنا بتقدمي جرد او حتديد دقيق للم�ؤلفات التي اخذ
الفردية والروح الداخلي مع العقيدة امل�سيحية كما منها مادته عن اال�سالم .فهذه امل�صادر عديدة جداً
اجلماعية ،بني ي�ؤكد ذل��ك الكاتب الفرن�سي مي�شيل ومتنوعة ومت�شابكة ومتناق�ضة .بيد اننا ن�ستطيع
الروح اجلزئية هوالن يف كتابه «هيغل وال�رشق»(،)1 باملقابل ح�رص ا�صنافها ب�أربعة لعبت دوراً مبا�رشاً
فاننا ن�ستطيع التيقن من ان ت�أثري او غري مبا�رش� ،سلبي ًا او ايجابي ًا يف بلورة املنظور
والروح الكلية ه���ذه ال��ف�ترة ظ��ل ك��ب�يراً ع��ل��ى هيغل الهيغلي حول اال�سالم .وهذه اال�صناف االربعة هي:
ومل ي�ستطع اخل��روج عليه ب�شكل تام. �أ -الكتب وامل�ؤلفات الدينية امل�سيحية ال �سيما
�صحيح ان ال�سجال �ضد اال�سالم اخذ طابع ًا اقل كتابات لوثر.
حدة يف الالهوت اللوثري ،اال انه ظل ذا حمتوى ب -امل�ؤلفات الفكرية واالدبية والتاريخية التي
مناه�ض يف اجلوهر حيث ا�ستمرت الربوت�ستانتية وجدت يف الغرب قبل والدته او ظهرت اثناء حياته
53 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
مو�ضوعية واتزان ًا وثالثة ترتاوح يف مواقفها بني على اعتبار اال�سالم يف اح�سن االح��وال كمتمرد
العداء واملو�ضوعية بل ان بع�ضها يتناق�ض هو ذاته على الكني�سة وغريها من االعتبارات املوروثة
يف موقفه من العامل اال�سالمي واال�سالم والعرب. وال�سطحية .وا�ضافة اىل هذه املواقف التي كونتها
فالبع�ض منها ي��ع��ادي اال���س�لام كدين ويعرتف الكني�سة حيال اال�سالم منذ القرن ال�سابع امليالدي
بعبقرية العرب ككتابات الفرن�سي ق�سطنطني فولني اثر انت�صار اال�سالم عليها جنوب حو�ض املتو�سط
بني اخرين ،والبع�ض االخر ميتدح اال�سالم الرتكي وط��رده��ا نهائي ًا م��ن ك��ل ال����شرق ت��ق��ري��ب��اً ،جاء
ويهاجم اال�سالم العربي كامل�ست�رشق النم�ساوي فون ال�تراث الغربي امل�سيحي املتكون خ�لال القرون
هامر بورغ�ستال يف م�ؤلفاته املختلفة �سيما كتابه الو�سطى االخرية كنتيجة للحروب ال�صليبية ليغني
ال�ضخم بعنوان «تاريخ االمرباطورية العثمانية» الرت�سانة امل�سيحية املعادية لال�سالم التي ورثتها
والبع�ض الثالث يرف�ض كل ما هو ا�سالمي دفعة الربوت�ستانتية االملانية .وعالوة على كل ذلك فان
واحدة كما هو احلال بالن�سبة ملونت�سكيو يف «روح االخطار الع�سكرية التي كانت متثلها االمرباطورية
القوانني» وكذلك بالن�سبة للمفكر االملاين فريدريك العثمانية على املانيا يف زمن لوثر «وحتى فرتة
ت�شليغل يف كتابه «فل�سفة ال��ت��اري��خ» والبع�ض قريبة من والدة هيغل» قادت اللوثرية ا�ضافة اىل
الرابع يعرتف بعمق اال�سالم وعبقرية نبيه وبف�ضل عنا�رص جديدة اىل ه��ذه الرت�سانة وتتج�سد هذه
امل�سلمني على االن�سانية كما جند لدى غوته يف العنا�رص يف عدة كتابات دونها لوثر نف�سه �ضد
كتابه «الديوان الغربي ال�رشقي». اال�سالم و�ضد االتراك و�أهمها ر�سالة طويلة بعنوان
ان كتابات ه���ؤالء الكتاب املذكورين وكتابات «موعظة بال�صالة �ضد االت��راك» يعترب امل�سلمني
فولتري وه�يردر وجيبون وكتابات ع�رص التنوير فيها بانهم «جي�ش من ال�شياطني»)2(.
حول اال�سالم كانت م�صدراً �أ�سا�سي ًا يف منظور هيغل وميكن القول باخت�صار ان ال�صورة (املغالية،
يف هذا املجال فقد قدمت له مادة ثرية وعميقة املتع�صبة) التي يقدمها هذا ال�صنف من امل�صادر
ولكنها تركت عليه �آثار تناق�ضاتها يف نف�س الوقت. حول اال�سالم والعرب تتمحور حول اال�ستنتاجات
توخي ًا للدقة نذكر هنا اهم هذه امل�ؤلفات التي ،لدينا الثالثة التالية:
الدليل القاطع ،من خالل كتابات هيغل ور�سائله �أوالً :اعتبار النبوة املحمدية والديانة اال�سالمية
واثاره ،على انه اطلع عليها مبا�رشة وهي: زائفتني وم��ن �صنع ال�شياطني وموجهتني �ضد
-كتاب «الت�رشيع ال�رشقي» للم�ست�رشق الفرن�سي امل�سيح وامل�سيحية.
انكتيل دو ب�يرون ال�صادر يف ام�سرتدام يف عام ثانياً :اعتبار ال��ق��ر�آن كمجموعة من الن�صو�ص
« 1778من�شورات مارك مي�شيل». املقتب�سة ب�شكل م�شوه من الكتاب املقد�س بعهديه
-كتاب «القامو�س التاريخي والنقدي» للفيل�سوف القدمي واجلديد.
الفرن�سي بيري بيل ال�صادر يف روتردام عام 1715 ثالثاً :اعتبار العرب �شعب ًا بدائي ًا يحب العنف وب�سيط
«جزءان». العقلية وبالتايل عاجزاً عن �أي تفكري منطقي او
-كتاب «تاريخ االمرباطورية العثمانية» ت�أليف انتاج روحاين او فل�سفي جديدين.
امل�ست�رشق الفرن�سي كانتمري ال�صادر يف باري�س
عام .1743 ب -امل�ؤلفات الفكرية واالدبية الغربية
-كتاب «تدهور و�سقوط االمرباطورية الرومانية» هذا ال�صنف من امل�صادر �شديد التنوع واالهمية
من ت�أايف امل�ؤرخ االجنليزي ادوارد جيبون ،ال�صادر ويتباين جداً يف موقفه من اال�سالم حيث جند فيه
يف لندن عام .1776 م�ؤلفات �رصيحة يف عدائها لال�سالم واخرى اكرث
54 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
بع�ض مقتطفات منه يف كتابات اخرى او يف بع�ض -كتاب «الديوان الغربي -ال�رشقي» من ت�أليف
الرتجمات العديدة املوجودة ،ومن جهة اخرى ي�شري غوته ،ال�صادر يف عام .1819
هيغل م��راراً اىل �شخ�صية النبي حممد واىل ال�سنة -كتاب «ف��رق��ة احل�شا�شني» م��ن ت�أليف هامر
النبوية عموم ًا مما يوحي بانه ميتلك فكرة ما عنها. بورغ�ستال ال�صادر يف �شتوتغارت عام .1818
اما الن�صو�ص العربية واال�سالمية االخرى فقد عرف -كتاب «تاريخ االمرباطورية العثمانية» من ت�أليف
هيغل الكثري من ال�شعر ال�صويف وال�شعر العربي هامر بورغ�ستال ،ال�صادر بثالثة اجزاء �ضخمة يف
وافكار املعتزلة والفال�سفة امل�سلمني االخرين .هذه عام 1827يف بي�ست.
الن�صو�ص كان ب�إمكانه مراجعتها او قراءتها يف -مو�سوعة «املكتبة ال�رشقية» من ت�أليف امل�ست�رشق
العديد من امل�صادر انذاك و�أهمها: الفرن�سي ديربياو ،ال�صادرة يف باري�س عام 1697
-كتاب «الف ليلة وليلة» يف الرتجمة الفرن�سية «�سبعة اجزاء».
التي ن�رشها انطوان غاالند يف باري�س عام 1704 -كتاب «روح القوانني» ملونت�سكيو ،ال�صادر يف
والتي متت ترجمتها اىل االملانية ون�رشت عام جنيف عام .1748
.1712 -كتاب «�آث���ار دي��ن حممد» من ت�أليف االمل��اين
-ر�سالة «حي بن يقظان» البن طفيل التي ترجمها اول�سرن ،ال�صادر يف باري�س عام .1810
ا�شوهرن لالملانية ون�رشها يف برلني عام .1783 -كتاب «املنطق العربي»(بالالتينية) من ت�أليف
-ك��ت��اب «ال�شاهنامه» للفردو�سي ،حيث قام �سوالندري ال�صادر يف اوب�ساال عام .1721
امل�ست�رشق االملاين غور�س برتجمته اىل االملانية -م�رسحية «التع�صب او حممد النبي» لفولتري
ون�رش الرتجمة بجزءين يف برلني عام .1820 ال�صادرة يف عام 1741يف باري�س.
-ديوان ال�شاعر ال�صويف االيراين حافظ ال�شريازي ا�ضافة اىل كتابات فولتري االخرى التي جاء فيها
الذي ترجمه امل�ست�رشق النم�ساوي هامر بوغ�ستال على ذكر اال�سالم وال�رشق اال�سالمي.
اىل االملانية ون�رشه يف فيينا عام .1812
-كتاب «دالل��ة احلائرين» للفيل�سوف اليهودي ج -كتب الرحالت واالكت�شافات
العربي مو�سى بن ميمون الذي ترجمه بوك�ستورف ان هذا ال�صنف من امل�ؤلفات اقل اهمية من �سابقه
اىل الالتينية ون�رشه يف بال عام .1629 كم�صدر معلومات لهيغل ح��ول اال���س�لام .غري
-كتاب «خمتارات تاريخية عربية» اعداد وترجمة انه ي�ستخدم م��راراً ا�شارات من م�ؤلفات الرحالة
بوكوك ،املن�شور بالالتينية يف اوك�سفورد عام االجنليزي جيم�س برو�س التي يتحدث عن لقاءاته
.1650 مع عدد من امل�سلمني يف افريقيا وذلك يف كتابه
-ق�صائد «موالنا جالل الدين الرومي» يف ترجمة «رحلة الكت�شاف منابع النيل» ال�صادر يف لندن
ال�شاعر االملاين الكبري روكريت ،املن�شور يف توبنغن ابتداء من عام ،1763وب�شكل اهم بالن�سبة لكتاب
عام .1822 «رحلة يف م�رص و�سوريا» للفرن�سي فولني ال�صادر
-كتاب «خم��ت��ارات عربية» -ج���زءان -ترجمة يف باري�س عام .1787
امل�ست�رشق الفرن�سي الكبري �سيلف�سرت دو �سا�سي
املن�شور يف باري�س عام .1826 د -الن�صو�ص العربية واال�سالمية املرتجمة
اذن ،من الوا�ضح من كل ما تقدم ان معلومات هيغل يف كتاباته املختلفة ذكر هيغل القر�آن مراراً م�شرياً
عن اال�سالم والعرب وال�رشق اال�سالمي كانت مهمة اىل هذا الن�ص او تلك الفكرة فيه ،ورغ��م انه من
جداً ن�سبي ًا ووا�سعة ومتنوعة ب�شكل مثري ولهذا فهي غري الثابت بانه قر أ� القر�آن فع ًال فالأكيد انه عرف
55 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
هذه ال�سريورة ال يبدو ذلك العن�رص على �شكل فرد �ست�سمح له يف بلورة منظوره الفل�سفي اخلا�ص حول
او جمموعة �صغرية من الأفراد «النخبة» امنا على ال�رضورة التاريخية والطبيعة العميقة لال�سالم
هيئة �شعب او �أمة .والتاريخ اي�ض ًا هو تعاقب هذه كمكون ا�سا�سي يف احل�ضارة ويف التاريخ االن�ساين.
الأمم على قيادة العامل �ضمن خمطط خارج ارادتها وه��ذا املنظور يبدو كام ًال وعميق ًا يف الواقع اذا
جميع ًا هو انعكا�س ملخطط الهي تطوري .حيث �أن تفح�صنا كتابات هيغل بدقة على الرغم من ان
�سريورة تطور الوعي االن�ساين الكوين ت�شبه اىل حد �آراءه بهذا ال�صدد تكاد تكون خفية يف كتاباته
كبري �سريورة تطور طبيعة معتادة وهيغل يذهب اىل التي ن�رشها يف حياته ثم متفرقة ومبعرثة جداً يف
حد مقارنتها جمازاً بتطور الفرد االن�ساين انطالق ًا درو�سه الربلينية التي حتولت بعد موته اىل م�ؤلفات
من حالته اجلنينية قبل الوالدة ثم مرحلة الوالدة مهمة مثل «درو����س فل�سفة ال��ت��اري��خ» و»درو����س
والطفولة تليها مرحلة ال�شباب واحليوية ،تليها فل�سفة الدين» و«درو�س تاريخ الفل�سفة» و«درو�س
مرحلة الرجولة وامل�س�ؤولية ،تليها مرحلة الكهولة فل�سفة اجلمال» ولننتقل الآن اىل معرفة خ�صو�صية
واحلكمة .وهذه املراحل من التطور التي يقطعها منظوره حول ال�رشق اال�سالمي وخمتلف جوانب هذا
تاريخ الوعي االن�ساين يف �سريورته ال�شاملة هي املنظور �أي موقفه من الدين اال�سالمي ومن الفن
انعكا�س بر�أي هيغل لتطور «الروح املطلق» كما ان اال�سالمي ومن الفل�سفة اال�سالمية ومن التاريخ
تاريخ الوعي االن�ساين هو انعكا�س لتاريخ اخر هو اال�سالمي اجما ًال �سيما ال�سيا�سي منه .ونالحظ من
تاريخ وعي «الروح املطلق» عن ذاته. االن ان تناول هذا املو�ضوع غري ممكن اال يف اطار
من جانب اخر يرى هيغل ان تطور الوعي االن�ساين، فل�سفة التاريخ الهيغلية.
يتج�سد مو�ضوعي ًا يف عدد من الفعاليات واحلركات
التاريخية واالب���داع���ات ال��روح��ي��ة ذات الطابع -3ال�شرق اال�سالمي يف فل�سفة الهيغلية للتاريخ
امللمو�س .فهو يتج�سد قبل كل �شيء يف �شكل الدولة يف حتليل وتق�سيم تاريخ الوعي االن�ساين عموم ًا
وطبيعة تنظيم العالقة فيها بني ال��روح الفردية ينطلق هيغل من االطروحة الالهوتية امل�سيحية
والروح اجلماعية ،بني الروح اجلزئية والروح الكلية. القائلة بان االن�سان هو يف جوهره ابن اهلل ،فالوعي
فالدولة االبوية هي االطار اخلا�ص مبرحلة جنينة االن�ساين ا�ستنتاج ًا هو انعكا�س ب�شكل او باخر
الوعي االن�ساين ودولة اال�ستبداد الفردي هي االطار للوعي االلهي وكذلك االمر بالن�سبة لالرادة واالبداع
اخلا�ص ميرحلة طفولة الوعي االن�ساين ،والدولة وخمتلف ال�صريورات االخرى .وي�ؤكد هيغل يف اكرث
الدميقراطية البدائية هي االطار اخلا�ص مبرحلة من مو�ضع يف كتاباته تبنيه لهذه الفكرة الالهوتية
�شباب الوعي االن�ساين ،ودولة ا�ستبداد القانون هي امل�سيحية مع فارق جوهري هو انه ي�صوغها بلغة
االطار اخلا�ص مبرحلة رجولة الوعي االن�ساين ،اما الفل�سفة بينما تطرحها امل�سيحية بلغة االميان او
الدولة الدميقراطية التمثيلية الربملانية فهي االطار الدين.
اخلا�ص مبرحلة كهولة ون�ضج الوعي االن�ساين. ويقوم املنهج الفل�سفي الهيغلي من جانب اخر على
ان وجود الدولة هو ال�رشط ال�رضوري االول لوالدة مفهوم ال�رضورة والغاء �أي دور لل�صدفة .فعلى
امل�ؤ�س�سات الروحية االخ��رى وه��ي الدين والفن م�رسح تاريخ الوعي االن�ساين يبدو كل عن�رص فاعل
والفل�سفة ب�شكل خا�ص وعن هذه امل�ؤ�س�سات تتولد مكلف -دون دراية او ارادة منه -مبهمة حمددة
م�ؤ�س�سات روحية اخرى ثانوية ن�سبي ًا هي االخالق يولد من اجلها ويتح�رض الجنازها ثم ينجزها فعالً.
والعلوم والعالقات الدبلوما�سية وغريها .ففي وبعدئذ تدق �ساعة نهايته وي�ستوجب عليه �شاء �أم
الدولة االبوية ال ميكن ان جند اال دين ًا يقوم على �أب��ى ان يرتك امل�رسح لقوة جديدة �صاعدة .ويف
56 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
عموم ًا �سيما ال�صني والهند وب�لاد فار�س وبابل ال�سحر وعبادة الطبيعة املبا�رشة ،وفن ًا يقوم على
وم�رص القدمية ،حيث يالحظ ان الديانات التي قامت تقليد مظاهر الطبيعة وبع�ض االخ�لاق والعلوم
يف هذه املناطق كانت تقوم جميع ًا على تقدي�س والعالقات البدائية ج��داً والعفوية مت��ام��اً .ويف
الطبيعة املبا�رشة متج�سدة رمزي ًا باالمرباطور يف الدولة اال�ستبدادية ال ميكن ان جند اال دين ًا يقوم
ال�صني وبر�ؤ�ساء نظام الطبقات يف الهند وبعبادة على عبادة الطبيعة لكن جمردة وغري مبا�رشة هذه
النار يف ايران القدمية وبعبادة التماثيل ذات الهيئة املرة وفن ًا يعك�س هذا التجريد وفل�سفة بدائية اقرب
االن�سانية او احليوانية يف بابل وم�رص .ففي هذه اىل العقيدة الدينية وم�صاغة بلغة االمي��ان .اما
املرحلة ي�شعر االن�سان انه ميتلك قيمة بذاته لكنها يف الدولة الدميقراطية البدائية فنجد دين ًا قائم ًا
قيمة ثانوية مقارنة مع قيمة االمرباطور والر�ؤ�ساء على عبادة طبيعة جمردة و�شخ�صانية م�ؤن�سة� ،أي
والنار. ممنوحة وعي ًا وحيوية عقالنية ،وفن ًا يجعل االن�سان
-مرحلة �شباب الوعي االن�ساين وتتمثل باحل�ضارة مركزه ونقطة انطالقه وفل�سفة م�ستقلة بذاتها عن
االغريقية القدمية حيث يقد�س االن�سان رم��وزاً له الدين لكنها مل تغادر الأجواء الدينية بعد.
بتماثيل االلهة املنحوتة بدقة على �شكل هيجل: ويف اط��ار الدولة اال�ستبدادية امل�ؤ�س�ساتية جند
ج�سم ان�ساين� ،أي ان الفن الكال�سيكي ديانة تقوم على عبادة الطبيعة جم��ردة ب�شكل
يف الدولة
وح��ق��وق امل��واط��ن��ة يف الدميقراطية مطلق ،وب�شكل ال يبقى من الطبيعة املادية �سوى
االغ��ري��ق��ي��ة ،وم��و���ض��وع��ات الفل�سفة ال�شرقية وجودها الرمزي مطروح ًا على �شكل �إله واحد وجند
عال االن�سان اما االغريقية تدل جميع ًا على �شعور ٍ فن ًا يعك�س هذا التجريد وهذه الرمزية ،وجند فل�سفة
بقيمة االن�سان يف العامل االغريقي ،لكن معقدة ظاهري ًا لكنها �شكلية املحتوى داخلياً .اما
هذه القيمة غري �شمولية بعد .ف�شعور �سيدا يف الدولة الدميقراطية التمثيلية فنجد دين ًا يقوم
الفرد االغريقي بقيمته ال تت�أتى لديه من او عبدا على االحتاد الواعي بني اهلل واالن�سان ،وفن ًا ميجد
هويته اخلا�صة ك�إن�سان بل من هويته االن�سان باعتباره ابن اهلل وممثل حتققه االر�ضي،
اخلا�صة ك�أثيني وك أ���غ��ري��ق��ي .وه��ذا وفل�سفة متطورة يف خمتلف املجاالت.
العجز يف الوعي االغريقي يجد نتائجه امللمو�سة يف هذه هي باخت�صار �شديد املحتويات اال�سا�سية
وجود نظام الرق يف املجتمعات االغريقية القدمية، للنظام الفل�سفي الهيغلي يف تف�سري تاريخ تطور
واي�ض ًا يف كون الوعي الفردي االغريقي ظل ا�سري الوعي االن�ساين .واذا انتقلنا االن اىل تلم�س ذلك
فردانيته ومل يفهم ان قيمته الفعلية تكمن يف على ال�صعيد الواقعي التاريخي لالن�سانية فان هذه
عامليته ،اي يف �رضورة ان تر�سى القيمة االن�سانية الت�صنيفات تتج�سد لدى هيغل على ال�شكل التايل:
للفرد على ا�سا�س انتمائه لالن�سانية العاملية ،ولي�س -مرحلة جنينية الوعي االن�ساين وتتج�سد بافريقيا
فقط لالن�سانية الالتينية او االغريقية. التي يعتربها هيغل «ليل الوعي االن�ساين» اي ما
-مرحلة الرجولة تتمثل باحل�ضارة الرومانية قبل الوعي التاريخي حيث يالحظ ان افريقيا مل
حيث يقد�س االن�سان رم��وزاً له بالقانون والدولة تنجح يف اقامة �أية دولة وبالتايل مل تنجز اال ا�شكا ًال
وه��ي م�ؤ�س�سات معنوية وجم��ردة ولي�ست مادية ب�سيطة على ال�صعيد الديني والفني واالخالقي
طبيعية .وه��ذا التطور يقرتن بتطور اخر متمث ًال متج�سدة يف روحانية قائمة على ال�سحر وعبادة
بالنزعة العاملية للح�ضارة الرومانية والوعي الذي اال�شجار واالنهار ،و�أكل حلوم الب�رش والغاء �أية قيمة
طورته .لكن هذا التطور يظل حمدوداً نظراً لأن قيمة للإن�سان بذاته.
القانون والدولة طغت على قيمة الفرد االن�سان .كما -مرحلة طفولة الوعي االن�ساين وتتج�سد بال�رشق
57 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
عاملي ًا يف تطور الوعي يف حني ان هذا التطور ال ان النزعة العاملية للح�ضارة الرومانية اقرتنت
ميكن ان يح�صل اال يف الغرب من جهة ،ومن جهة بنزوعها لفر�ض عامليتها بالقوة والعنف ،مما
اخرى ان ظهور اال�سالم بعد امل�سيحية تاريخي ًا البد جعلها عملي ًا ت�سحق الفرد امللمو�س با�سم العاملية
ان يقود اىل اال�ستنتاج ان اال�سالم كوعي روحاين املجردة.
هو بال�رضورة اك�ثر تطوراً من الوعي الروحاين -مرحلة الكهولة والن�ضج النموذجي يتمثل
امل�سيحي �سيما وان هذا اال�ستنتاج يبدو بديهي ًا اذا باحل�ضارة الغربية -امل�سيحية التي تقرن عامليتها
احرتمنا املنهج الهيغلي نف�سه .ف�إىل �أية حدود التزم -ح�سب هيغل -ب��اح�ترام عميق للفرد االن�ساين
هيغل نف�سه بهذا املنهج الذي اراد له ان يكون علمي ًا باعتباره اب��ن اهلل ،وبا�شاعة املحبة بني الب�رش
و�صارماً ،واىل �أية مدى ا�ستطاع االنحياز لـ»العلم ومب��وازن��ة العالقة بني الفرد واملجموع العاملي
الفل�سفي» والتحرر من انحيازه الطبيعي لثقافته ب�شكل ي�صبح اح�ترام قيمة الفرد �رشط ًا �رضوري ًا
اخلا�صة؟ مل����شروع��ي��ة قيمة امل��ج��م��وع ال��ع��امل��ي .وتعترب
قبل االجابة على هذه اال�سئلة من ال�رضوري ان الدميقراطية التمثيلية االنتخابية عن هذه املوازنة
نالحظ ان الن�صو�ص التي يتحدث فيها هيغل عن امثل تعبري .وهذه املرحلة هي الذروة العليا لتطور
اال�سالم هي ن�صو�ص �رسيعة دائم ًا و�شديدة التبعرث الوعي االن�ساين.
غالباً ،اال انها مركزة وعميقة با�ستمرار ب�شكل يوحي وهنا البد ان نالحظ بان هيغل ي�ؤكد على الدوام بان
لنا بان هذا الفيل�سوف االملاين الكبري واجه م�شكلة �سريورة تطور الوعي االن�ساين تذهب جغرافي ًا من
حقيقية يف ادخ��ال اال�سالم يف نظامه الفل�سفي ال�رشق باجتاه الغرب بال�رضورة .وكلما انتقلنا من
وهي م�شكلة تف�ضح بر�أينا تناق�ض ًا جوهري ًا يف ال�رشق باجتاه الغرب كلما بدت الروحانية الواعية
عمق نظامه الفل�سفي .ومما يده�ش جداً ان درو�سه اكرث �سمواً .فبعد ان يرتك القارة االفريقية جانب ًا
حول فل�سفة الدين ال ت�ضم �أي ف�صل مكر�س لال�سالم باعتبارها خ��ارج تاريخ الوعي ،ي��رى هيغل ان
على الرغم من ان��ه حلل يف ه��ذه ال��درو���س جميع ال�صني هي نقطة البداية االوىل الفعلية ،تليها الهند
ادي��ان الب�رشية ال�صغرية والكبرية االخ��رى .وهذا فبالد فار�س فبابل فم�رص وكلها مكونات داخلية
احلال اثار انتباهنا ان درو�سه االخرى حول فل�سفة �ضمن ديالكتيك الوعي ال�رشقي الذي مبجموعه هو
التاريخ وحول فل�سفة اجلمال وحول تاريخ الفل�سفة طفولة الوعي االن�ساين .واذا تقدمنا اكرث باجتاه
ال تت�ضمن اال ف�صو ًال عجولة مفرو�ضة عليه ب�شكل الغرب ي�أتي العامل االغريقي يليه العامل الروماين
او ب�آخر .ومع ذلك فان ما هو موجود يكفي للقول وتقف اوربا الغربية كخامتة لهذه ال�سريورة على
بوجود منظور كامل لدى هيغل حول اال�سالم. ال�صعيد اجلغرايف .ومب��وازاة ذلك ي�ؤكد هيغل ان
التطور يتم بال�رضورة اي�ض ًا على ال�صعيد الزماين،
العرب قبل اال�سالم يف فل�سفة هيغل فاحل�ضارة ال�صينية ت�سبق احل�ضارة الهندية،
ان املع�ضلة االوىل التي يطرحها اال�سالم ،كدين وه��ذه ت�سبق الفار�سية تليها البابلية فامل�رصية
وكح�ضارة ،على الفل�سفة الهيغلية هي ظهور هذا فاالغريقية فالرومانية واخرياً احل�ضارة امل�سيحية
الدين يف اجلزيرة العربية وبني العرب بالذات .فهذا احلديثة.
ال�شعب الذي عرفه هيغل جيداً اىل حد ما من خالل واحلال ان ظهور اال�سالم يف ال�رشق بالذات جغرافي ًا
كتابات فولتري وغوته وفولني وغريهم من كتاب وبعد امل�سيحية بالذات يبدو ك�رضبة قوية لهذا
ومفكري ع�رص التنوير وامل�ؤرخني والرحالة ،يبدو املنظور التطوري اجلغرايف -التاريخي .الننا ال
له ك�شعب م�شتت متكون من عدد كبري من القبائل ن�ستطيع ان نفهم كيف ي�ستطيع ال�رشق ان يلعب دوراً
58 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
بـ»كتابات ال�شباب» كتب ما يلي عن الكرم العربي: ال�صحراوية املتنقلة املتنازعة فيما بينها ومع
«عندما ي�رشب العربي قدح قهوة مع الغريب ي�شعر جريانها ب�شكل ال ي�سمح لهم بناء دول��ة متطورة
بانه يرتبط مع هذا الغريب بعهد �صداقة .وهذا الفعل وجمتمع مدين متقدم لأن حياتهم يف ال�صحارى
امل�شرتك يربطه مع الغريب اىل درجة ان العربي وحركة تنقالتهم الدائمة تتناق�ض ب�شكل عميق مع
يحر�ص على ان يظهر ا�شد انواع الوفاء وكل النجدة قيام الدولة واملجتمع املدين .يقول هيغل عن العرب
لذلك الغريب»)6(. قبل اال�سالم:
ومهما يكن االمر فان هذه ال�صورة ظلت يف ذهن «ان هذه اجلموع من القبائل الرحالة ال ت�ستطيع
هيغل عن ال��ع��رب ،وه��ذا هو ما جنده يجد هيغل ان حتقق تطوراً وتربية ب�شكل ذات��ي ا�صيل ،فهي
وا���ض��ح�� ًا ب�شكل خ��ا���ص يف فل�سفة ال تكت�سب احل�ضارة اال بعد ا�ستقرارها يف ال�سهول
اجلمال حيث يقول هيغل عن املعلقات ان العرب ،وما التي حتتلها وت�ستقر فيها واال بعد ان تفقد طبائعها
اجلاهلية« :ان ه��ذا ال�شعر هو ال�شعر دامت ال�صحراء االوىل .غري ان هجماتها على احل�ضارات املجاورة
احلقيقي الالئق با�شخا�ص ناجحني تقدم لهم ت����ؤدي بذاتها اىل اح���داث ان��ق�لاب��ات يف ال�شكل
وم�ستقلني� .شعر رغم كل الغرابة التي اخلارجي للعامل»)3(.
جندها فيه يجعلنا ننده�ش بقدراتهم اكتفاءهم يف الق�سم االخري من هذا الن�ص يبدو وا�ضح ًا ان
على اللعب بال�صور واملقارنات وعلى الذاتي من هيغل ي�سعى هنا اىل و�ضع اللبنات االوىل لتف�سريه
التعبري عن روح ان�سانية واقعية»( )7الزاد واملاء، ال��ه��ادف اىل اخ��ذ الفتوحات العربية اال�سالمية
وي�ضيف اي�ضاً« :ان هذا ال�شعر يت�ضمن كواحدة من الهجمات الكربى التي قام بها �شعب من
هم �شعب طيب نفحة حتمل احلياة». الرحالة على احل�ضارات املجاورة .لكن الفتوحات
لكن كل هذه امل�شاعر الهيغلية ال تغري االخالق نبيل العربية مع اال�سالم لي�ست �أول هجمة من هذا النوع
من اال�ستنتاجات الفل�سفية التي �سبق ورقيق ،لديه فقد �سبقتها وتلتها هجمات عربية عديدة .ففي
ذكرها والتي تن�ص على ان الفتوحات كتابه «درو�س حول فل�سفة التاريخ» يقول هيغل:
العربية اال�سالمية هي �شكل من ا�شكال �شعر جميل، «ان بابل ونينوى كانتا ت�شعران بحاجة دائمة
الهجمات الع�سكرية ،ق��ام بها البدو ويحب احلرية لوقاية انف�سهما من هجمات العرب الرحل عليهما
على احل�����ض��ارات امل��ج��اورة .بيد ان ويعتز بنف�سه لذلك كانتا ت�سعيان على الدوام اىل ت�صفية حياتهم
هذا التف�سري يظل تب�سيط ًا ج��داً� ،سيما البدوية وجرهم اىل اال�ستقرار يف مناطق ثابتة عرب
وان هيغل يقر نف�سه بان الروحانية وكرامته العمل يف الزراعة واملهن والتجارة .وحتى يف فرتة
اال�سالمية ه��ي «ال��درج��ة االرق���ى يف الحقة ظلت بغداد تعاين دوري ًا من عبث البدو»)4(.
الروحانية ال�رشقية»( .)8حلل هذه ال�صعوبة الكبرية لكن هيغل ال يرى يف العرب قبل اال�سالم �شعب ًا
والتناق�ض ال�صارخ يف منظوره �سيلج�أ هيغل اىل همجي ًا او بدائياً .امنا بالعك�س .فهو يجد ان العرب،
بلورة مفهوم غريب يقول بان اال�سالم هو «ثورة وما دامت ال�صحراء تقدم لهم اكتفاءهم الذاتي من
الروحانية ال�رشقية»(� ،)9أي «ث��ورة» �ضد انتقال الزاد واملاء ،هم �شعب طيب االخالق نبيل ورقيق،
ر�سالة الوعي التاريخي اىل يد الغرب امل�سيحي .ان لديه �شعر جميل ،ويحب احل��ري��ة ويعتز بنف�سه
اال�سالم بكلمة اخرى ي�صبح مبثابة ردة اىل الوراء وكرامته اىل درجة قادت هيغل يف فل�سفة اجلمال
وردة عنيفة و�سلبية انتقام ًا من الوعي ال�رشقي اىل اعتبار العرب اجلاهليني مبثابة «�شعب من
الذي مل يعرف ان يوا�صل التطور اىل االمام. االبطال»( .)5هذه النظرة الهيغلية جندها مبكرة
لكن ه��ذه ال��ث��ورة العنيفة وه��ذه ال���ردة ال�سلبية جداً يف كتابات الفيل�سوف .ففي م�ؤلفاته امل�سماة
59 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ب���أن الفل�سفة الهيغلية ما هي يف ال��واق��ع �سوى هي ��ضرورة بحد ذاتها �ضمن التطور التاريخي
العقيدة الدينية اللوثرية م�صاغة بلغة الفل�سفة وان للوعي االن�ساين يف �سريه نحو احلقيقة املطلقة
كل مزاعم هيغل حول العلمية واحليادية والبحث مع الروحانية امل�سيحية الغربية ،اي انه كان البد
العميق غري قادرة على طم�س هذه احلقيقة الكبرية. ان يجيء اال�سالم ليدمر االوث��ان ويهدم الدولة
الفار�سية املجو�سية والدولة الرومانية
خ�صو�صية الدين اال�سالمي الفل�سفة ال�ضعيفة يف اميانها بامل�سيحية ،لكي
يف الفل�سفة الهيغلية الهيغلية ما تخلق االر�ضية املنا�سبة وال�رشوط
يرى هيغل «ان الدين اال�سالمي هو دين روحاين هي يف الواقع ال�رضورية االخرى النت�صار الروحانية
مثل الدين اليهودي لكن م�ضمون اال�سالم يطابق امل�سيحية عاملياً.
م�ضمون الدين امل�سيحي ،لأن فكرة اهلل اال�سالمية �سوى العقيدة وحل��ل م�شكلة ��ض�رورة التطور على
تناظر يف تطورها فكرة اهلل امل�سيحية»( .)10فماذا الدينية ا�سا�س ���س�يرورة زمانية -تاريخية
يجب ان نفهم من هذا القول؟ اللوثرية وملا كان ظهور اال�سالم الحق ًا على
باعتبارها ذروة ال��روح��ان��ي��ة ال����شرق��ي��ة ،تبدو م�صاغة بلغة ظهور امل�سيحية ف��ان هيغل �سيطور
الروحانية اال�سالمية ل��دى هيغل مبثابة تطور مبد�أ ين�ص �رصاحة على ان امل�سيحية
الفل�سفة وان
كمي -نوعي للروحانية اليهودية والنقي�ض املطلق الفعلية واحلقيقية مل تظهر اال مع لوثر
للروحانية امل�سيحية «يف �صيغتها الربوت�ستانتية» كل مزاعم والربوت�ستانتية وهكذا يزول التناق�ض
التي هي بالن�سبة لهيغل املج�سد االك�ثر اكتما ًال هيغل حول التاريخي -الزماين املذكور من نظامه
للحقيقة االلهية والوعي الراقي للعالقة بني الذات العلمية الفل�سفي� .أما الكاثوليكية وامل�سيحية
االلهية والذات االن�سانية .ان عالقة اال�ستمرارية بني واحليادية ال�رشقية ال�سابقتني على اال�سالم وعلى
الروحانية اليهودية والروحانية اال�سالمية يحددها الربوت�ستانتية معاً ،فانهما بنظر هيغل
هيغل على ال�شكل التايل: والبحث م�سيحية �سطحية او باالحرى متهيدية
ان ف��ك��رة اهلل ال��واح��د االح���د يف اليهودية متثل العميق غري لأن احلقيقة امل�سيحية املطلقة ظلت
تقدم ًا هائ ًال يحققه الوعي اليهودي على جميع قادرة على جمهولة م��ن قبل امل�سيحيني حتى
مراحل الوعي ال�رشقي .فاالله الذي يبدو متج�سداً طم�س هذه جميء لوثر.
ب��االم�براط��ور يف ال�صني وب�أعلى ه��رم الطبقات وبهذا التف�سري «الفل�سفي» ي�رضب هيغل
احلقيقة
يف الهند وبالنار يف املجو�سية ،يفارق الطبيعة ثالثة ع�صافري بحجر واحد فهو يجرد
املبا�رشة او ال�شيئية عرب قطيعة حا�سمة ومطلقة الكبرية امل�سيحية ال�رشقية من عالقة عميقة مع
مع اال�شياء لي�صبح �إله ًا ذا حمتوى روحي بحت ال احلقيقة امل�سيحية ،ويدين الكاثوليكية
يدرك باحلوا�س املجردة امنا عرب الت�أمل والفكر ب�سطحية فهم هذه احلقيقة وي�سلب اال�سالم �أية عالقة
فقط .ع�لاوة على ذل��ك فهو يبدو للت�أمل الواعي مع احلقيقة االلهية املطلقة .وبهذا ي�صفي ح�ساب
كذات حرة �سامية ومريدة .لكن ما ينق�ص الوعي الربوت�ستانتية مع كل الديانات االخرى التي ميكن
اليهودي هذا هو �سلبية ت�صوره للعالقة بني االن�سان ان تتهمها بالهرطقة والال�رشعية .وبالطبع فان
والذات االلهية .فانعدام فكرة احلياة بعد املوت يف انحياز هيغل لديانته الربوت�ستانتية هنا �رصيح
اليهودية من جهة وجتريد االن�سان امللمو�س من ومفجع ب�شكل ي�رضب يف ال�صميم ت�أكيداته ال�سابقة
�أية قيمة ايجابية يف الدنيا حيال «يهوه» من جهة حول «العلمية» يف الفل�سفة ،مما يدعم الر�أي ال�سائد
ثانية متثل جانبني �سلبني يف الوعي اليهودي لأن يف بع�ض االو�ساط الفل�سفية الكاثوليكية والقائل
60 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
قيمة لالن�سان امللمو�س امام القيمة املطلقة للذات هذا الوعي يعجز عن ادراك حقيقة ان االقرار بقيمة
االلهية وهذه الفكرة يعرب عنها هيغل كما يلي: ال��ذات االلهية تتطلب ك�رشط �سبق االق��رار بقيمة
«ان اال�سالم يكره ويحتقر كل ما هو ملمو�س .فاهلل الذات االن�سانية� ،صحيح ان ال�شعب اليهودي يجد
هو واحد مطلق ب�شكل ال يبقي فيه لالن�سان �أي هدف قيمة وقناعة بفكرة كونه «�شعب خمتار» من قبل
لذاته و�أية قيمة خا�صة»( .)11وي�ضيف هيغل« :ان اهلل ،اال ان هذه احلقيقة هي قيمة وهمية متخيلة
الهدف ال��ذي ي�سعى له اال���س�لام هو ه��دف ذهني فح�سب .وعالوة على ذلك فان القول بوجود �شعب
بحت لذلك فهو ال ي�سمح ب�أي ت�صوير خمتار من قبل اهلل ينطوي بحد ذات��ه على جتريد
او متثيل هلل»( .)12هذا الهدف الذهني هيغل: للذات االن�سانية من قيمتها الفعلية الن فكرة ال�شعب
البحت يقود الوعي اال�سالمي اىل نوع «ان الدين املختار حت�رص هذه القيمة مبجموعة من النا�س
من العدمية وال�شعور الذاتي بالالقيمة اال�سالمي هو فقط (�أي اليهود) يف حني ان احلقيقة االلهية املطلقة
وكذلك ال�شعور ب�رضورة احتقار وتدمري ال تعرف هذا التعبري .ولذلك فان امل�سيحية واال�سالم
كل ما هو ذو قيمة من امل��وج��ودات دين روحاين ميثالن تقدم ًا هائ ًال على اليهودية بالغائهما فكرة
امللمو�سة الن كل �شيء يجب ان يفقد مثل الدين ال�شعب املختار واق��رار مبد أ� امل�ساواة بني جميع
قيمته ام��ام عظمة ومطلقية القيمة اليهودي ال�شعوب واالف��راد فيما يتعلق بامكانية االحتاد
االلهية. الروحي مع اهلل وا�ستالم حقيقته.
وهذا التوجه يتج�سد عملي ًا ح�سب هيغل ،لكن م�ضمون لكن هذا التطور الذي حتققه الديانتان امل�سيحية
ب�شدة التع�صب اال�سالمي اىل درجة انه اال�سالم يطابق واال�سالمية ي�أخذ اجتاه ًا مت�ضاداً بالن�سبة الحدهما
يعترب اال�سالم مبثابة دين التع�صب .م�ضمون الدين االخ���ر .فقول امل�سيحية مب��ب��د أ� االحت���اد ب�ين اهلل
وهو يعرب عن كل هذه االفكار بالن�ص واالن�سان عرب فكرة التثليث «االب واالب��ن وروح
التايل لهيغل« :ان ال�سمات اال�سا�سية امل�سيحي ،لأن القد�س» ومببد أ� نزول االبن اىل االر�ض للت�ضحية
لال�سالم تت�ضمن ما يلي :يجب ان ال فكرة اهلل من اجل االن�سان ،يت�ضمن ح�سب التف�سري الهيغلي
يزدهر �شيء يف احلياة الواقعية وان كل اال�سالمية مفهوم ًا عميق الداللة على ايجابية قيمة االن�سان
ما هو فاعل وحي يتجه بكل طاقاته �ضمن هذا االحتاد .وهذا ما ت�ؤكده ن�صو�ص الكتاب
نحو الالنهائي البعيد وان عبادة االله تناظر يف املقد�س االخرى القائلة مث ًال «بان اهلل خلق االن�سان
الواحد ي�صبح الرابطة الوحيدة التي تطورها فكرة على ���ص��ورت��ه كمثله» وغ�يره��ا .اذ ان جمموع
يجب ان توحد جميع امل�ؤمنني .ويف اهلل امل�سيحية» هذه املبادئ ينعك�س يف الدولة التي تخرج من
جم��رى التوجه نحو ه��ذا الالنهائي امل�سيحية جاع ًال منها دول��ة عدالة وموازنة بني
البعيد يختفي كل حاجز وكل متايز بني الذات االن�سانية والذات اجلماعية ودولة دميقراطية
االمم والطبقات حيث ال توجد �أية قيمة لالمتيازات وحقوق .وينعك�س يف الفن والفل�سفة وغريها من
العرقية او االمتيازات ال�سيا�سية بالوالدة او امللكية ال��ع��ط��اءات ال��روح��ي��ة امللمو�سة بجعل االهتمام
والرثوات .وحده االن�سان امل�ؤمن ميتلك قيمة خا�صة. باالن�سان وجت�سيد قيمته املذكورة هدف ًا مركزي ًا لها
وهذه القيمة مت�أتية من فعل عبادة اهلل واالميان به وحموراً الن�شطتها وت�أمالتها.
وال�صوم والتخل�ص من الرغبات اجل�سدية امللمو�سة اما يف اال�سالم فان فكرة القول بامل�ساواة املطلقة
اخلا�صة .لكن جميع هذه االوامر تظل ب�سيطة اذ ان للب�رش ال تقرتن بفكرة االحت��اد بني اهلل واالن�سان
اجلدارة العليا للم�ؤمن هي املوت يف �سبيل االميان ح�سب هيغل .امنا بفكرة االنف�صال بينهما .وهذا
والذي ي�سقط يف املعركة من اجل اهلل ي�ضمن اجلنة االنف�صال م�ؤ�س�س يف اجلوهر على مبد�أ الغاء �أية
61 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
والف�ضائع»)17(. ب�شكل اكيد»)13(.
وهذا املنظور هو الذي قاد هيغل اىل اظهار اعجاب ًا و�ضمن نف�س ال�سياق ي�ضيف هيغل يف مكان �آخر
واح�ترام�� ًا �شديدين حيال املت�صوفة امل�سلمني قائالً« :بالن�سبة ملحمد وحدهم امل�ؤمنون ي�ؤخذون
من جهة وادان���ة �رصيحة للفتوحات اال�سالمية بنظر االعتبار .وهذا املوقف ال يت�أتى من موقف
ولالمرباطورية العثمانية من جهة اخرى. يقوم على النظرة املغلقة بل يقوم على التع�صب.
وا�ضح اذن ان هيغل ظل يف جميع هذه االحكام الن العالقة القومية اي العالقة النابعة عن الرابطة
منحازاً كلي ًا لثقافته امل�سيحية ونظرتها التقليدية العائلية الطبيعية «التي جندها يف اليهودية عرب
املعادية لال�سالم .ولذلك فان جميع هذه االفكار فكرة �آل ابراهيم وا�سحق ويعقوب» والعالقة النابعة
تظل عدمية االهمية ونقطة �ضعف كبرية يف الفل�سفة عن رابطة االنتماء اىل بلد حمدد ،تظل
الهيغلية اخلا�صة بالتاريخ وبالدين .فهو ودون ان �شخ�صية ت�سمح ببع�ض املجال»)14(.
يكلف نف�سه جهد فهم اال�سالم ب�شكل عميق ي�سمح امل�ؤمن امل�سلم وعلى ا�سا�س ذلك ي�ستنتج هيغل «ان
لنف�سه باطالق خمتلف االحكام االعتباطية �ضده. الدين اال�سالمي هو دين تع�صب يف
تبدو مزدوجة اجل��وه��ر»( ،)15وه��ذا التع�صب «هو
الدولة والفل�سفة متناق�ضة تع�صب يف �سبيل تعميم اعتناق
-1طبيعة الدولة اال�سالمية بنظر هيغل اال���س�لام»( ،)16لأن اخل��وف من اهلل
البد من اال�شارة هنا ان النظام الفل�سفي الهيغلي هو الذي ي�سيطر على امل�ؤمن ،وهذا
ي�ؤكد ان الدولة يف عامل ما ال ميكن ان تكون اال فهو نبيل ال اال�ستنتاج هو الذي �سي�ستخدمه هيغل
انعكا�س ًا لطبيعة الدين او الروحانية الدينية ال�سائدة نظري له يف لتف�سري الفتوحات العربية اال�سالمية
يف ذلك العامل .فالدولة هي الناجت املبا�رش للدين ع��ل��ى ا���س��ا���س ان��ه��ا اع��م��ال تدمري
النبل من جهة
حيث يقول هيغل مو�ضح ًا ذلك مبا يلي« :عندما وتخريب .بكلمة اخ��رى ان التع�صب
نقول ب���أن الدولة تت�أ�س�س على الدين وانها متد ومدمر ال مثيل هلل ون�رش االميان به وتعميم اعتناق
جذورها فيه فاننا نق�صد بذلك جوهري ًا ب�أن الدولة له يف حب الدين اال�سالمي جتعل امل�سلم يتجه
تخرج من الدين وان كل دول��ة حم��ددة هي نتاج كلي ًا وبكل طاقاته للتجرد من كل ما
الدمار
حتمي لدين حمدد»(.)18 هو م�صالح مادية او هدف ذاتي من
وانطالق ًا من هذا املفهوم،وملا كان الدين اال�سالمي من جهة جهة والخ�ضاع كل ما هو خارجه
هو دين ي�شيع اخلوف والطاعة لدى امل�ؤمن حيال �أخرى اي�ضاً .ولهذا ف�شخ�صية امل�ؤمن امل�سلم
اهلل ،فان الدولة التي تخرج من الدين اال�سالمي البد تبدو مزدوجة متناق�ضة بنظر هيغل
ان تكون وفق املنهج الهيغلي دولة خوف وطاعة فهو نبيل ال نظري له يف النبل من جهة ومدمر ال
هي اي�ضاً .لكن هذا اخلوف وتلك الطاعة املوجهة مثيل له يف حب الدمار من جهة اخرى .اذ يقول
نحو اهلل يف الدين ،تتوجه نحو احلاكم يف احلياة هيغل «ان امل�سلم قادر على اظهار ا�سمى درجات
�ضمن الدولة اال�سالمية التي تبدو بدورها دولة النبل وال�سمو .وهذا ال�سمو املجرد من �أية م�صالح
ا�ستبدادية ب�شعة بال�رضورة يف نظر هيغل ،دولة ال تافهة ينتج جميع الف�ضائل الدالة على العظمة
وجود فيها لأب�سط �شكل من ا�شكال احلرية وحيث الروحية والبطولة يبدو معها امل�سلم حراً ب�شكل
الأفراد ال ميتلكون �أية قيمة بالن�سبة للحاكم الذي ال مثيل له يف النبل والكرم وال�شجاعة واحلكمة.
يت�رصف كما ي�شاء وكما تتطلبه �شهواته ونزواته لكنه عندما ي�ست�سلم مل�صاحله الذاتية ال يرتدد ان
وتقلباته. يكون فظ ًا خمادع ًا وقادراً على كافة الب�شاعات
62 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
«اننا ال نتحدث عن الفل�سفات العربية هنا �إال لأ�سباب ���ص��ح��ي��ح ان ه��ي��غ��ل ي��ق��ر «ب����ان االن�������س���ان حر
تاريخية وخارجية»( .)24اما ال�سبب يف كون هيغل بطبيعته»( ،)19لكنه ي�ضيف ب���أن الفرد يف ظل
يرف�ض اعتبار الفل�سفة اال�سالمية كجزء ا�سا�سي الدولة اال�ستبدادية مرغم بال�رضورة ان يتخلى
مهم من تاريخ الفل�سفة فذلك لأن هذه الفل�سفة ال عن كل �شكل من ا�شكال احلرية .واحلرية الوحيدة
متثل بر�أيه مرحلة خا�صة يف تاريخ تطور الفل�سفة. امل�سموح بها يف هذه الدولة هي حرية امل�ستبد.
الن العرب كما يقول «مل ي�ستطيعوا تطوير مفهوم يقول هيغل عن الدولة ال�رشقية التي يعتربها جميع ًا
الفل�سفة ،ولأن امل�سائل اال�سا�سية التي اهتموا بها وبال�رضورة دو ًال ا�ستبدادية« :ان ما يهيمن يف
هي ما يلي :معرفة فيما اذا كان العامل �أبدي ًا واثبات ال�رشق هو اال�ستبداد .فاالن�سان اما خائف ومرتدد او
وحدانية اهلل»(.)25 ي�سيطر عرب ا�شاعة اخلوف .فهو اذن اما �سيد او عبد.
اما هذه الفائدة التاريخية التي يجدها وبكلمة ان اخلوف هو الذي يحكم ال�رشق»( .)20لكن
هيغل يف ت��ن��اول الفل�سفة العربية -هيغل: الدولة اال�سالمية تبدو كذروة الدولة اال�ستبدادية.
اال�سالمية يف حما�رضاته حول تاريخ فـي الدولة وه��ذه احلالة من العالقة بني احلاكم واملحكوم
الفل�سفة فهي بالتحديد لأن العرب هم يف الدولة اال�سالمية عموم ًا يت�أتى بنظر هيغل
ال��ذي��ن ق���ادوا الغربيني اىل اكت�شاف اال�ستبدادية كانعكا�س لطبيعة العالقة بني اهلل وامل�ؤمن �سيما
امل�ؤلفات الفل�سفية االغريقية وب�شكل احلرية وان احل��اك��م يعترب نف�سه مبثابة «ظ��ل اهلل على
خا�ص م�ؤلفات ار�سطو .ويعرتف هيغل االر�ض» و»خليفة اهلل».
الوحيدة
يف ه��ذا امل��ج��ال ب���ـ»ان املعرفة التي
قدمها العرب حول ار�سطو وحمافظتهم امل�سموح هيغل والفل�سفة اال�سالمية
على الن�صو�ص االر�سطية كانتا م�صدراً بها هي يف كتابه «درو����س ح��ول تاريخ الفل�سفة» الذي
مهم ًا للعامل الغربي يف هذا املجال .لأن ي�سعى اىل تغطية كل تاريخ الفل�سفة منذ �سقراط اىل
حرية ديكارت ،وجد هيغل نف�سه م�ضطراً اىل تخ�صي�ص
الغربيني ظلوا لفرتة طويلة ال يعرفون
�شيئ ًا عن ار�سطو اال من خالل ال�رشاح امل�ستبد ف�صل �صغري عن الفل�سفة اال�سالمية حتت عنوان
العرب»)26(. «فل�سفة العرب» ف�شهرة الفال�سفة العرب وامل�سلمني
ولتجريد العرب من �أية ابداعات ا�صيلة يف الغرب مل تكن ت�سمح له باغفال تناولهم يف
يف تطوير الفل�سفة يركز هيغل يف الق�سم االعظم من م�ؤلف يزعم درا�سة كل تاريخ الفل�سفة.
الف�صل الذي خ�ص�صه للفل�سفة اال�سالمية ،على الدور وهنا اي�ض ًا فان حمتوى كل فل�سفة خا�صة يبدو
الذي لعبه امل�سيحيون وال�رسيان يف الرتجمة من لهيغل انعكا�س ًا ملحتوى الدين الذي تنطلق منه هذه
االغريقية اىل العربية .اي انه يجرد االبداع الفل�سفي الفل�سفة بال�رضورة .وملا كانت االدي��ان ال�رشقية
العربي -اال�سالمي حتى من ف�ضله يف ترجمة جميع ًا تقوم على فكرة الف�صل ولي�س االحتاد بني
الفل�سفة االغريقية واالحتفاظ بها. اهلل واالن�سان ،يرى هيغل« :ان الفل�سفة ال�رشقية هي
من جانب �آخر وفيما يتعلق باجلوهري ال يقوم هيغل فل�سفة دينية عموماً»( ،)21مبا يف ذلك الفل�سفة
يف هذا الف�صل �سوى بتعداد ا�سماء الفال�سفة العرب اال�سالمية التي ي�ؤكد هيغل بانها «ال تت�ضمن �أية
وامل�سلمني كالكندي والفارابي وابن �سينا والغزايل عطاء ا�صيل»( ،)22ثم ي�ضيف« :ان درا�سة الفل�سفة
واب��ن ر�شد واب��ن طفيل وغريهم ،الذين يعتربهم العربية ب�شكل مف�صل هي م�س�ألة غري مفيدة وغري
جميع ًا جمرد �رشاح الر�سطو ولي�س كفال�سفة فعليني. ��ضروري��ة»( .)23واذا كان البد من التحدث عنها
ويف الواقع فاننا نالحظ ان اال�ضطراب والتناق�ضات فذلك بر�أيه لأ�سباب تاريخية بحتة اذ يقال هيغل:
63 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الهوام�ش هي التي ت�سيطر على العر�ض الذي يقدمه هيغل يف
.HULIN Michel, Hegel etl›Orient, Paris, Vrin, 1979, p. 13 )1 هذا ال�صدد.
.LUTHER, Oeuvres, Genève, Lobor/Fides, 1962, tome 2, p. 288 )2 هذا هو باخت�صار �شديد موقف هيغل من اال�سالم
.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E )3
p. 273 ,1965 ,10/18 , وال��ع��امل اال���س�لام��ي وح�����ض��ارت��ه .وع��م��وم�� ًا فان
Leçons sur la philosophie de l›histoire, trad. Gibelin, p. 142 )4 اال�ستنتاج الكبري ال��ذي تقدمه لنا درا�سة منظور
Esthétique, trad.Jankélévitch, tome 4, p. 151 )5
.L›esprit du Christianismeet son destin, trad )6 هيغل ح��ول اال�سالم هو ان ه��ذا املنظور �سطحي
J. Martin, p. 68 وتب�سيطي ومتناق�ض للغاية .وه��ذه االم��ور جتد
Esthétique, trad.Jankélévitch, tome 3, p. 151 )7
.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E )8
ا�صولها اجلوهرية يف منطلقات نظامه الفل�سفية
p. 293 ,1965 ,10/18 , وانحيازه امل�سبق لثقافته الغربية -امل�سيحية.
Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 276 )9
Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )10
فانحيازه املطلق للغرب قاده اىل التم�سك ب�شكل
Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 209 , ق�رسي بفكرة ان ال�رشق ال ي�ستطيع ان يبدي اي
Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )11
Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 210
عطاء روحي ا�صيل او لعب دور يذكر با�ستثناء ذلك
)12نف�س امل�صدر اعاله ،اجلزء الثالث� ،صفحة .27 اخلا�ص بـ«طفولة الوعي االن�ساين» ،اما انحيازه
Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 276 )13 للم�سيحية ديانته ،فقد قاده اىل التناق�ض اخلا�ص
Leçonsur la philosophie de la religion, trad.Gibelin )14
Paris Vrin, 1959, tome 4, p. 83 , القائم على اعتبار كل ما يظهر بعد امل�سيحية يف
)15امل�صدر ال�سابق ،اجلزء الرابع� ،صفحة .208 التاريخ الروحاين االن�ساين كظاهرة عدمية االهمية
)16امل�صدر ال�سابق ،اجلزء الرابع� ،صفحة .208
Leçonssur la philosophie de l›histoire, trad.Gibelin, p. 277 )17 وفارغة املحتوى .ويف هذه النقطة بالتحديد تكمن
.La Raison dansl›histoire, trad. Papaioannou, U.G.E )18 امل�شكلة الكربى التي يثريها اال�سالم بوجه الفل�سفة
.p. 152 ,1965 ,10/18 ,
)19نف�س امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .141 الهيغلية وبوجه جميع فل�سفات التاريخ والدين
Leçonsurl›histoire de la philosophie, trad.Gibelin )20 الغربية التي ال ت�ستطيع جتاهل اال�سالم وح�ضارته
tome 2, p. 21
)21امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .70
من جهة وال ت�ستطيع االع�تراف له بدور كبري من
)22امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .77 جهة اخرى.
()23امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .1018 ولقد ترتب عن هذه املنطلقات الق�رسية ،ان هيغل
()24امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .1024
()25امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .997 يجد نف�سه غري قادر على اعطاء �أي دور ح�ضاري
()26امل�صدر ال�سابق� ،صفحة .1035 ل�لا���س�لام ،وب��ال��ت��ايل ذه���ب اىل اخ��ت��ي��ار بع�ض
االط��روح��ات التي تالئم منهجه امل��ذك��ور ب�شكل
انتقائي ق�رسي هو االخر.
«ما مل تتحقق للمر�أة امل�ساواة التامة على �أكيد �أن الكل يعلم مدى معاناة املر�أة
ال�صعيدين القانوين والواقعي ،وما مل عامة ،واملر�أة العربية خا�صة ،يف
يتحرر النا�س (رجاال ون�ساء) من الأفكار
امل�سبقة عن املر�أة ـ وهي �أفكار تكونت
املا�ضي واحلا�رض ،مع غياب �إن�سانيتها
على مر الع�صور ،من خرافات وت�صورات يف البيت واحلياة ،حتت حجر تقاليد
غري علمية ،ومركبات نق�ص �أو ا�ستعالء، جمحفة ،كر�ست خالل عهود االنحطاط،
وما مل ت�صبح البنى االجتماعية مهي�أة الو�ضعية املختلة لواقعها يف البيت
النطالق �شخ�صية املر�أة وتفتحها يف واملجتمع .ورغم ما حققته راهنا من
مناخ من احلرية ومن احرتام ال�شخ�ص
الإن�ساين ،بعيدا عن كل متييز وا�ضطهاد بع�ض احلقوق ،نتيجة ن�ضالها وفر�ض
ب�سبب اجلن�س �أو العرق كما جاء يف بيان جدارتها يف املنزل والعمل والفكر
حقوق الإن�سان ،ما مل يتحقق هذا كله، والإبداع ب�صورة بطولية ،قدمت من �أجلها
�ستبقى هذه الق�ضية مفتوحة.)1(». كثريا من الت�ضحيات اجل�سيمة؛ ف�إنها
فاملر�أة العربية اليوم دائبة على بذل
ما فتئت بعد تئن حتت وط�أة تر�سانة
ق�صارى جهدها ،ال�ستعادة �إن�سانيتها
بالكامل ،من خالل انخراطها بفاعلية من القوانني الظاملة ،واملمار�سات
يف حركة احلياة اليومية ،عرب اجلمعيات الذكورية ال�رشقية املت�سلطة .و�أكيد �أنه
واالحتادات والأندية الن�سائية والنقابات ما زال �أمامها زمن مديد من الكفاح
والأحزاب ال�سيا�سية ،بل وت�صدرها والن�ضال واالحتجاج يف وجه واقعها
املواجهات العنيفة مع ال�سلطة الغا�شمة.
�أمل نرها تتقدم املظاهرات واالعت�صامات
البئي�س ،و�أ�شواط طويلة من ال�صعوبات
املعار�ضة للنظم املتهاوية ،خالل والإحباطات ،وفق ما ت�رشحه خالدة
انتفا�ضة الربيع العربي ،وتق ّدم الأ�سريات �سعيد :
65
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�إيديولوجية ال�سيطرة واال�ستعباد ،و�إحالل ثقافة وال�سجينات واملعذبات واملغت�صبات ،بل وال�شهيدات
التغيري والتطوير ال�شاملة حملها .فاملر�أة ما انفكت الواحدة تلو الأخرى ،يف خمتلف املواجهات
ت�شكل «مو�ضوعا �سجاليا يف م�ستوى التغيري االحتجاجية والفدائية بعدد من الأقطار العربية
االجتماعي لأي جمتمع ،على اعتبار �أن تغيري ال�صور الالدميوقراطية ،مبا يف ذلك ت�ضحياتها البطولية
الثابتة حولها من �ش�أنه �أن يحرر الذاكرة ،ويهيئ التي ي�رضب بها املثل يف فل�سطني
التفكري لتقبل وا�ستقبال �صور غري م�ألوفة»(،)2 �إن تغيري احلبيبة؟ .ف�ضال عن وقوف رموز
ال�سيما لدى الرجل� .إذ البد من تغيري وعيه بق�ضية و�ضعية املر�أة ن�سائية يف عدد من الأقطار العربية،
املر�أة ،وا�ست�ضاءته باملواقف التحررية ،ليكف العربية من مثل نوال ال�سعداوي ولطيفة الزيات
عن حما�رصتها ،ولي�ستبعد تربمه بن�ضالها من ور�ضوى عا�شور يف م�رص ،وفاطمة
�أجل ق�ضيتها ،على �أ�سا�س اعتبار ق�ضيتها ق�ضيته واقعها املزري املرني�سي يف املغرب ،وخالدة �سعيد
هو �أي�ضا ،بل �إنها ق�ضية اجلميع .ف�إن حترر املر�أة امل�سكوت عنه ،يف لبنان و�سحر خليفة الفل�سطينية
من منظومات العالئق اال�ستبدادية ،هو من حترر �إىل واقع وغريهن ،ب�شجاعة نادرة ملواجهة
الإن�سان والوطن العربيني ،لكون املجتمع العربي العقليات املتحجرة التي تقف يف
املعاق لن يتحرر حتررا تاما ،ولن يتقدم �إىل الأمام، �إن�ساين �أف�ضل ،وجه رغبة املر�أة يف حتررها مما علق
ما مل تتم معاجلة ق�ضية املر�أة بفعل جذري. مرهون بخرق بها من ظلم وخنق لفاعليتها ،يف حتد
من هنا ،يفر�ض �س�ؤال التغيري نف�سه على املر�أة �رصيح لكثري من التابوهات املحبطة
ثقافة اجلمود
والرجل معا ،ويحملهما م�س�ؤولية الت�ضحية من �أجل للمر�أة واملعيقة لتحررها ،من �أجل
ا�ستبدال واقع ظامل �ضحيته الرجل واملر�أة كالهما، وخلخلة حت�سني و�ضعيتها ورفعها �إىل مكانة
مبجتمع دميقراطي ،وواقع �آخر مفرت�ض قوامه �إيديولوجية اعتبارية م�ستحقة .وقطعا لي�س على
احلرية والعدل وامل�ساواة ،من �ش�أنه �أن ي�ساعد على ح�ساب الرجل ،بل توقا لأن ت�صبح
ال�سيطرة
تغري املجتمع وتطور الأمة نحو الأف�ضل .و�إن �أي عن�رصا موازيا له مبعنى الكلمة ،داخل
تعومي للق�ضية يف �رصاعات هام�شية ،خ�صو�صا واال�ستعباد ،املجتمع والبيت ،باعتبارهما �أ�سا�س
تلك املفتعلة بني الرجل واملر�أة ،ملن �ش�أنه �أن ي�سيء و�إحالل النهو�ض بحركة احلياة اجتماعيا
بطريقة �أو �أخرى �إليهما معا ،وي�ؤخر حتقيق احللول وتربويا واقت�صاديا ،على ركائز �سليمة
الناجعة لق�ضية املر�أة تخ�صي�صا� ،أو كما يذهب د. ووعي �إن�ساين دميوقراطي ،ال ي�سمح
ثقافة التغيري
م�صطفى يعلى: والتطوير لطرف �أن ي�سود على الطرف الثاين.
«�إن فهما يختزل الإ�شكالية يف ثنائية رجل /امر�أة، ال�شاملة حملها وهو ما يره�ص به هذا اجلدل الوا�سع
لهو فهم مغلوط يف �أح�سن الأحوال� ،أو مغر�ض هدفه الدائر بني النخب املثقفة ،على طول
�إبعاد املر�أة عن جوهر ال�رصاع احلقيقي وتوريطها الوطن العربي ،حول م�س�ألة املر�أة
يف �إ�شكاالت جانبية من �ش�أنها تبديد جهدها و�سبل حتررها ،وكذا ما تقدمه املر�أة العربية بنف�س
وتنكي�ص م�صداقيتها ،وال ي�ساعدها بالتايل على طويل م�ستميت من �إجنازات ناجحة يف خمتلف
ا�ستب�صار خمرج حقيقي لأزمتها التاريخية ،زد على امليادين ،وت�صدرها لبع�ض املراكز العليا يف
هذا نتيجة عك�سية �أخرى تتمثل يف �إمكانية انزالق الوظائف والأحزاب وجمعيات املجتمع املدين.
املر�أة يف هوة �أ�صولية ن�سائية لي�ست يف �صالح �أحد واحلقيقة� ،إن تغيري و�ضعية املر�أة العربية من
كما الحظ عن حق املرحوم د� .شكري عياد؛ لكون واقعها املزري امل�سكوت عنه� ،إىل واقع �إن�ساين
ذلك يعني االنح�صار داخل �أفق م�سدود ال بارقة �أف�ضل ،مرهون بخرق ثقافة اجلمود وخلخلة
66 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
�شخ�صيات مغمورة تهيم على حواف املجتمع غالبا �ضوء ترى يف ظلمته.)3(».
و«تعامل على �أنها منبوذة ،ومنفردة متوحدة»(.)4 فكيف عربت الكاتبات العربيات عن هذا ال�رصاع
لقد �أ�ضحت الكتابة من �ضمن نوافذ التعبري عن الأزيل ،يف �أفق حترير املر�أة عامة من جميع �أ�شكال
الذات الأنثوية ،والدفاع عن ق�ضيتها العادلة ،بتبليغ القمع ،وهيمنة الرجل ،و�إغالق �أبواب التحرر يف
ر�ؤيتها اخلا�صة لو�ضعها التاريخي وجهها؟ .وما هي التابوهات التي اقتحمتها يف
الظامل ،واقرتاح �سبل خروجها منه ،يف ا�ضطرار بع�ض خطابها الإبداعي من �أجل حتقيق ذلك ،و�إ�سماع
مواجهة �أ�صبحت ناقمة �رصاحة على الن�ساء العربيات �صوتها املتحدي حول ق�ضيتها؟
العقلية املا�ضوية ال�سائدة ،وممار�سة ونظرا لإكراهات الوقت ،ارت�أينا �أن نح�رص الورقة
حريتها يف مل�س كثري من مكامن القهر ،املتعلمات يف حماولة احلفر عن الأجوبة يف الكتابات
وت�سليط الأ�ضواء الكا�شفة عليها ،من واملوهوبات، الن�سائية العربية ،ال�ساعية �إىل حتقيق حترر املر�أة
�أجل تو�صيل ر�سائلها االحتجاجية عرب �إىل اللجوء وتغيري �صورتها التقليدية املحبطة ،ب�صورة �ضدية
العوامل التخييلية التي تر�سمها بح�سها مل�ؤها احلرية واجلدارة والعدل ،داخل حقل �إبداعي
الأنثوي ،وتغيري �صورة املر�أة التقليدية فيما التج�أن عينه هو حقل ال�رسد ،وبال�ضبط يف جمال الق�صة
بب�سط النماذج املتقدمة ل�صورة املر�أة �إليه من جبهات الق�صرية ،للأ�سباب التالية:
اجلديدة� ،أمام املتلقي بهدف ك�سبه �إىل املواجهة ،نحو معاجلة الق�صة الق�صرية ،من لدن عدد مهم من
�صفها. الكاتبات العربيات ،على طول جغرافية الوطن
فقد تكون لدى املر�أة العربية وعي عامل الكتابة العربي ،قد �أ�ضحت يف ال�سنوات القليلة املا�ضية
ّ
حاد ،م�ستح�صل من جتاربها املريرة باعتباره ظاهرة مميزة ،لفتت االنتباه �إليها �سواء لدى النقاد
مع الواقع املعي�ش ،بكون قدرها �أن ممار�سة فردية والباحثني �أم لدى املتلقي.
حتارب وحدها من �أجل ق�ضيتها ،عمال االحتفاء بها يف امل�ؤمترات والندوات واللقاءات
مببد�أ املثل القائل (ما حك جلدك �إال متاحة �ضد قوى الثقافية املختلفة وامللفات اخلا�صة ببع�ض
ظفرك) .ف�أدركت �أن الكل يقف �ضدها ،قمعها وتهمي�شها املجالت الأدبية ،خ�صو�صا و�أن مو�ضوع املر�أة،
خا�صة على م�ستوى القوانني املجحفة وتكري�س ال�سيما على م�ستوى اجلن�س يف الرواية العربية،
والإعالم املغر�ض والعادات والتقاليد كرواية (احلي الالتيني) ل�سهيل �إدري�س( ،ومو�سم
البالية .ورمبا �ساهم وعيها ب�سلب �صورتها الهجرة �إىل ال�شمال) للطيب �صالح ،و(الزمن املوح�ش)
املجتمع كل الأ�سلحة من بني يديها ،النمطية حليدر حيدر ،و(ذاكرة اجل�سد) لأحالم م�ستغامني ،قد
على ال�صورة امل�أ�ساوية املعروفة، حظي بعدد مهم من الدرا�سات الوازنة ،لدى نقاد
البئي�سة
يف ا�ضطرار بع�ض الن�ساء العربيات من عيار علي الراعي وجورج طرابي�شي وحميي
املتعلمات واملوهوبات� ،إىل اللجوء الدين �صبحي ورجاء النقا�ش وخالدة �سعيد و�إليا�س
فيما التج�أن �إليه من جبهات املواجهة ،نحو خوري وغريهم؛ بخالف الأمر بالن�سبة للق�صة
عامل الكتابة باعتباره ممار�سة فردية متاحة �ضد الن�سائية الق�صرية.
قوى قمعها وتهمي�شها وتكري�س �صورتها النمطية مالءمة الق�صة الق�صرية للمو�ضوع ،فهي ت�ؤثر
البئي�سة ،رغم ما ميكن �أن تواجهه هنا �أي�ضا من معاجلة حاالت الغربة الفردية الناجتة عن ال�ضغوط
�صعوبات ،بل وما ميكن �أن ت�ؤديه من �رضيبة االجتماعية واالقت�صادية ،و�أو�ضاع ال�شخ�صيات
التعبري احلر املوجعة ،على ح�ساب ا�ستقرارها املهم�شة املالكة لوعي حاد باال�ستيحا�ش .فكما
الأ�رسي وموقعها الوظيفي ومكانتها االجتماعية. ي�ؤكد فرانك �أوكونور� ،إن �شخ�صيات الق�صة الق�صرية
67 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
البدائل التي اجرتحتها من �أجل تغيري تلك ال�صورة ؟. ولعل مثال املبدعة اللبنانية ليلى بعلبكي ،وما
وتنبغي الإ�شارة ،قبل الإجابة عن هذه الأ�سئلة� ،إىل عانته ب�سبب كتابتها ،بلغ حد املحاكمة الق�ضائية
طبيعة املرحلة ،التي �رشع فيها مترد املر�أة يعلن مطلع �ستينيات القرن الع�رشين ،مما ا�ضطرها �إىل
عن نف�سه من خالل الكتابة .فمعروف �أن الأمر يتعلق هجر الوطن والكتابة معا؛ ي�صلح �شاهدا بليغا
مبرحلتني اثنتني متتابعتني ومتداخلتني يف الآن على ذلك ،رغم مرور ما ينيف على ن�صف قرن من
نف�سه ففي املرحلة الأوىل؛ وخا�صة زمن اال�ستعمار، الزمن على احلادث .بل �إن ما يحز يف النف�س كون
كانت املر�أة �أمية �أو �شبه �أمية ،عبارة عن �سلعة تباع مثل هذه املمار�سات الت�ضييقية على كتابة املر�أة،
وت�شرتى حتت عنوان الزواج ال�رشعي ،وحتب�س يف �سادرة يف غيها حتى الآن ،كما ي�شهد حدث مقا�ضاة
البيت لإمتاع الرجل وتفريخ الن�سل ،بينما جميع متحورت الكاتبة الكويتية ليلى العثمان ،بدعوى
حقوقها العلنية وال�رسية مه�ضومة� .أما يف املرحلة م�شاركة كتاباتها يف ن�رش الف�ساد
هذه الكتابة،
الثانية ،ال�سيما بعد ح�صول ا�ستقالالت الأقطار والفجور ،وقد �أدانتها املحكمة ب�ألف
العربية الواحد تلو الآخر� ،أواخر خم�سينات ومطلع على التنديد دينار كويتي ،ومتى؟ ،يف خامتة القرن
�ستينات القرن املا�ضي ،فقد �رشعت املجتمعات بتهمي�ش املر�أة الع�رشين ( ،)1999الذي �سمي قرن
العربية ت�أخذ طريقها نحو بع�ض التطور ،مما �أتاح احلداثة والتحرر والدميقراطية! .فما
العربية،
الفر�صة للمر�أة �أن تتعلم وتخرج �إىل احلياة والعمل، �أ�شبه اليوم بالأم�س.
وترفع ال�صوت مطالبة بحقوقها ،و�إن ظلت التقاليد وبا�ستمرار �إن دوافع الكتابة الإبداعية لدى املر�أة
والأعراف والقوانني القدمية ،حتكم العالقة بني ال�ضغوط العربية ،هي نف�س دوافع ممار�ستها لدى
الرجل واملر�أة حتى الآن ،خ�ضوعا للعقلية ال�رشقية الرجل� ،إال �أن ا�ستبعاد الدافع الن�ضايل
التقليدية. الرجعية الذاتي النطالقتها لن يكون جمديا .فقد
�إن الكتابات الن�سائية املبكرة ،كانت قد الم�ست عليها ،وعلى جاءت تلك الكتابة يف معظمها ،مبثابة
يف معاجلاتها ال�رسدية� ،صورة املر�أة امل�شدودة طرح ال�صورة رد فعل على ا�ستبداد الرجل بكل �شيء،
�إىل الواقع القمعي املتخلف ،الذي ت�ضيع فيه كل مبا فيه �إنتاج الأدب ب�أنواعه و�أجنا�سه
حقوقها ،وحتبط كل �إمكاناتها الإبداعية ،وتعاق الإن�سانية املختلفة�« ،إن �أدب املر�أة هو عبارة
حماوالتها الرامية �إىل امل�ساهمة يف دورة احلياة البديلة لها عن ردود فعل ،ومن حق املر�أة �أن ترد
العملية .لكن تلك املعاجلات جاءت يف املرحلة الفعل ،وذلك لأنها يف موقع املفعولية،
الأوىل لوعي املر�أة بق�ضيتها مهادنة هينة، هذا هو الواقع .ومهما بادرت ،ومهما فعلت ،ف�إنها
ق�صاراها �أن ت�صف هواج�س بطالت الق�ص�ص لن تت�رصف باعتبارها عائ�شة �أو فاطمة �أو دالل..
النف�سية ،وجت�سد معاناتهن املريرة ،بح�س حتليلي ولكن باعتبارها �أوال وقبل كل �شيء امر�أة� ،أو �أنثى،
�أنثوي مرهف ،داخل ف�ضاءات مغلقة قامتة ،دون �أن �إنها م�ضطرة �إذن لأن ترد الفعل»(.)5
تلم�س امل�شكل ب�صورة متمردة مل�ؤها التحدي وال�سري وقد متحورت هذه الكتابة ،على التنديد بتهمي�ش
بالتمرد �إىل �آخر �أ�شواطه .فقد مت فيها الرتكيز على املر�أة العربية ،وبا�ستمرار ال�ضغوط الرجعية عليها،
التج�سيد التخييلي لو�ضعية املر�أة و�سكونيتها ،يف وعلى طرح ال�صورة الإن�سانية البديلة لها ،من �أجل
ر�ضوخ وا�ست�سالم للواقع املتخلف بعاداته وتقاليده تغيري وجهة النظر امل�ضادة جتاهها .فكيف ر�سمت
و�أعرافه البالية ،مع بع�ض التململ املحت�شم وغري الكاتبات العربيات �صورة جن�سها يف ال�رشق العربي،
اجلذري .فما كان يف �إمكان املبدعات العربيات على م�ستوى �إبداع ق�صتها الق�صرية ؟ .وما هي
�أن يتجاوزن يف تلك املرحلة اخلطوط احلمراء �أكرث التابوهات التي جتر�أت على اخرتاقها ؟ .ثم ما هي
68 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
الذي مل يراع م�شاعرها وال حرية اختيارها .ورغم من الالزم ،خ�صو�صا و�أنهن كن جزءا من الق�ضية،
تكثيف العبارة الأوىل( :خذها ،ف�سلطتي انتهت عند وع�شبا نابتا يف �صميم الواقع احلا�ضن للمعطيات
هنا! ).للق�صة ب�أكملها ،حيث تنتقل �سلطة الرجل ال�سلبية ،املغذية للممار�سات الظاملة يف حق املر�أة.
على املر�أة بطلة الق�صة ،من الأب �إىل الزوج ،ال ففي ق�صة (ن�صيب)( )6للقا�صة الفل�سطينية �سمرية
تتوانى الكاتبة يف ر�صد التفا�صيل ال�صغرية لبع�ض عزام ،يتواجه عاملان ومفهومان يختلفان يف
�سلوكات البطلة املتمردة ،من مثل رف�ضها ا�ستقبال وجهة النظر جتاه احلياة ،ويف م�س�ألة الزواج
والدة الزوج عند جميئها للخطبة ،و�إغ�ضاب �أمها تخ�صي�صا ،باعتباره م�صري املر�أة املحتوم حلياتها،
برفع �صوت الرف�ض يف وجهها ،و�إعالن �إعرا�ضها حيث تقع البطلة يف حرية �أمام �صفقة زواج فر�ضت
عن الزواج بهذه الطريقة التقليدية؛ يف حني متتلك عليها فر�ضا ،عمال بالقول امل�أثور (ق�سمة ون�صيب).
هي ت�صورا �آخر خمتلفا عن طبيعة الزواج املوفق. ومن هنا داللة ا�ستعمال �أ�سلوب اال�ستفهام �ضمن
فهي مل ته�ضم عجرفة الزوج املنتظر ،بل �إنها ت�ؤثر ال�صياغة اللغوية اجلميلة املن�سابة للق�صة .فرغم
النا�س الذين ال تكلف بينها وبينهم ،وت�ستطيع �أن �أن البطلة متعلمة ،وقفت م�سلوبة الإرادة �أمام
تطلق �شخ�صيتها �إىل مداها معهم ،كما �أنها ترغب يف عر�ض زواج تقليدي على طريقة �أمها وج ّدتها،
الزواج عن حب متبادل بينها وبني زوج امل�ستقبل، تكفلت فيه �أم العري�س باختيار العرو�س البنها،
كابن عمتها مثال .فـعك�س �صورة هذا اخلطيب الثقيل دون �أن يتم التعارف بني اخلطيبني من قبل ،بينما
املغرور «حتب �أن يكون زوجها �إن�سانا خمتلفا بع�ض باركه �أبوها الذي يفهم احلياة فهما عتيقا ،وكذا
ال�شيء .تريده �أكرب قليال ،يحفظ الكثري من الق�صائد �أمها و�صويحباتها الالئي تزوجن بنف�س الطريقة
العاطفية ،ويحب لوحاتها ،ويقبل �أن ي�ضع (فوطة) التقليدية هذه .وحدها البطلة وقفت منه موقفا
على خا�رصته وي�شاركها �صنع كعكة الربتقال �أو �سلبيا بينها وبني نف�سها« .ياحلريتها هنا بني
عجة البطاط�س ،ويقبلها مرة كل ع�رش دقائق هكذا (نعم) و(ال) ويال�ض�آلتها �أمام قوة غريبة ا�صطلحت
كانت تتمثل (رجلها) ومل تعرث بعد على الإن�سان �أمها و�صويحبات �أمها من الن�سوة على ت�سميتها
الذي ميكن �أن يكون كل هذا �إال ابن عمتها»(.)8 بالن�صيب .وكانت قبال ترف�ض ـ وهي بنت املدار�س
وعرب كل هذه اجلولة الدائرية بوا�سطة الفال�ش باك، ـ من �أن تعرتف بكلمة رجعية يف قامو�سها ،كلمة
ومبكر �رسدي ت�شويقي مق�صود ،من �ش�أنه �أن يجذب ملأت ر�أ�س �أمها وج ّدتها من قبل �أما هي فلي�ست
املتلقي املفرت�ض ،نحو م�شاركة البطلة يف معاناة من مدر�سة الن�صيب هذه .فالن�صيب خمدر م�سلوبي
حريتها؛ توحي الق�صة بكون البطلة �ستذهب يف الإرادة وما هي ،ما هي منهم.
رف�ضها ومتردها �إىل الأخري ،لكن �أفق انتظار هذا ولكن �أكان ب�إمكانها حقا �أن تتمرد على الن�صيب
املتلقي يخيب ،ب�سبب �رشوط املرحلة التي تنت�صب الذي �أوقعها بال مقاومة مذكورة وبال �أدنى �إثبات
مبنظومة �إحباطاتها و�إكراهاتها و�إمالءاتها وجود �أو اختيار؟ و�أعجب من هذا �أو بع�ض هذا �أنها
وحماتها ،فرتغمها على غري ما ترغب فيه ،وعلى ما قالت «ال».)7(.
غري انتظارات املتلقي .وهنا تنثال التربيرات فبوا�سطة تقنية الفال�ش باك ،متكنت الكاتبة من
املنطقية الواقعية من داخل الق�صة ذاتها ،وك�أنها �أن تقدم عرب �ضمري الغائب الدال على التهمي�ش
�شهادة على مدى �ضيق الأن�شوطة العنكبوتية التي وما�ضوية احلدث� ،صورة طقو�س اخلطوبة ومراحلها
كانت حتا�رص املر�أة من كل جانب .فت�ست�سلم البطلة الدائرة بني الكبار ،يف مواربة تامة متواطئة
لإرادة الآخرين وتقبل الزواج ،بعد �أن اقتنعت �أنها ومق�صودة من اجلميع للمعنية بالأمر ،و�أن تر�سم
تعي�ش يف واقع مينعها من حق االختيار ،ومن موقف البطلة منها ،وامتناعها عن قبول هذا الزواج
69 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
عمن ت�شكو له �أمرها من الأقرباء وال�صديقات، ممار�سة �إرادتها ،مثلما يح�صل مع املر�أة ال�رشقية.
وتقعد عنده يف بيته �أياما .فتفكر يف خالتها ولئن كانت �سمرية عزام قد قدمت يف ق�صتها،
بنوع من اال�ستباق ملا �سيحدث معها (�سرتوي لها منوذجا ملا كان يتم من بيع و�رشاء يف حق املر�أة
متاما ما تقا�سيه) ،و(ترمتي على �صدرها وتبكي با�سم الزواج ،ف�إن الكاتبة العراقية ديزي الأمري،
وتبكي) .بيد �أنها عدلت عن فكرتها ملا تذكرت تقدم يف ق�صتها الق�صرية (ال�سجادة ال�صغرية)(،)9
زوج خالتها ،فلن يقبل م�س�ؤولية الإنفاق عليها. مثاال ا�ست�سالميا خمتلفا عن ذلكم النموذج� ،إذ
وفكرت يف الذهاب �إىل بيت ابنة عمتها ،وت�صورت ت�ست�سلم البطلة لواقعها املتخلف ذليلة مرغمة حتى
عرب نف�س تقنية اال�ستباق با�ست�رشافها امل�ستقبلي، وهي واعية متعلمة ،بعد حماولة مترد فا�شلة ف�شال
كل ما �سيحدث معها� ،سـ «تفتح لها نف�سها وتقول مهينا .فمنذ اجلملة الأوىل يف افتتاحية الق�صة ،تطل
لها كل �شيء ..وقد متكث عندها فرتة يح�س فيها علينا البطلة وهي يف ذروة متردها ورف�ضها لواقع
عمها بتق�صريه في�أتي �إليها لي�صاحلها ،و�ستخربه وجدت نف�سها حم�شورة فيه دون اختيارها بعد وفاة
كيف تعاملها زوجته ،و�سيكون جو بيت ابنة �أخته والديها ،واحت�ضان عمها لها عنوة ،وعدم �سماحه
�أ�صلح للتفاهم يف هذه الأمور من بيت خالتها لها بال�سكنى مع �أي �أقرباء �آخرين ،لي�س حمبة فيها
الغريبة متاما عن عمها .)11(».مما يهيىء املتلقي وغرية وحنوا عليها ،بل لأنه ال ير�ضى �أن يقال �إنه
ال�ستقبال اال�ستجابة الإيجابية لأفق انتظاره .غري عاجز عن �إعالة ابنة �أخيه وهو ويل �أمرها ال�رشعي.
�أن �شيئا من هذا مل يتحقق� ،إذ عدلت عن الإدالء �إنها تعلن بتحد منذ الكلمة الأوىل( :ال) ،معربة عن
برغبتها ،ملا وجدت يف بيت ابنة عمتها عددا من رف�ضها الذي ت�ساوق و�أ�سلوب النفي املهيمن على
الزائرات ميار�سن النميمة على كل من يعرفنهن من االفتتاحية:
الفا�شالت ،فا�ضطرت �إىل اخلروج من البيت دون «ال لن �أعود �إىل البيت..لن �أعود ،وليقل النا�س عني
�إخبار ابنة عمتها مبا جاءت من �أجله .ثم ق�صدت ما يريدون..لن �أهتم هذه املرة ب�أقوالهم� ..س�أحقق
منزل خالتها ،فمنزل �إحدى �صويحباتها ،لكنها ما يف نف�سي� ،س�أكونها ،ولطاملا متنيت �أن �أكون
كانت ترتاجع يف اللحظة الأخرية عن الت�رصيح نف�سي كما �أريدها �أن تكون ال كما يريدها يل
بال�سبب احلقيقي لزيارتها ،فلكل م�شاغله التي ال الآخرون»(.)10
ت�سمح بالإن�صات لهمومها .ويذكرنا هذا بحوذي تخرب بقايافهي تثور على زوجة عمها ،التي ّ
ت�شيكوف الذي مل يجد �أحدا م�ستعدا ل�سماع معاناته �أثاث و�أ�شياء �أمها وتعبث بها ،وخا�صة �سجادتها
لفقد ابنه� ،سوى ح�صانه. ال�صغرية ،مبا يف ف�ضاء البيت من رمزية لتدمري
ومثلما فعلت �سابقا �سمرية عزام يف ق�صة (ن�صيب)، روح اال�ستقرار واالطمئنان والإح�سا�س بالدفء لدى
عمدت الكاتبة ديزي الأمري خالل م�سار ت�شكل البطلة .وقررت �أن تقول لها ب�أنها (�رش ما خلق اهلل)،
�صورة البطلة يف ذروة �أزمتها� ،إىل بث الأ�سباب ولعمها وويل �أمرها (�إنه �أ�سو�أ عم يف الدنيا) .ثم تبد أ�
املربرة للف�شل الذريع الذي تعر�ضت له فورة التمرد عملية البحث عمن ت�شكو له .وباملنا�سبة ف�إن معظم
التي دخلتها البطلة ،منثورة هنا وهناك بج�سم �أبطال ق�ص�ص ديزي الأمري يعانون عادة من مثل
الق�صة .وهي �أ�سباب نابعة من طبيعة زمن احلدث هذه الغربة وافتقاد الأمان وحماولة الفرار والبحث
ورمبا زمن كتابة (ال�سجادة ال�صغرية) �أي�ضا ،ذلك عن طرف �آخر ميكن التوا�صل معه �إن�سانيا.
�أن البطلة منعت من �إمتام درا�ستها ،وممنوعة من وهكذا ،فالبطلة التي ال ا�سم لها ،مثلها مثل بطلة
اخلروج للعمل ،وحمرم عليها الإدالء بر�أيها يف ق�صة �سمرية عزام ،رمبا �إمعانا يف �إعطاء االنطباع
حياتها ال�شخ�صية ويف الآخرين «لو كانت ت�ستطيع مبنتهى �ض�آلتها وتهمي�شها؛ تعاين من البحث
70 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
وف�ضح م�ستور املجتمع املنغلق من املخازي، �أن تعمل وتك�سب دراهم �إذن لأغنتها الدراهم عن
وك�شف ما تتعر�ض له املر�أة من ا�ستغالل يف كثري من امل�شاكل التي تالقيها ،ولكن ما ذنبها،
العمل والبيت .فابتداء من �ستينات القرن املا�ضي �إذا كان عمها قد �أوقفها عن الدرا�سة حني تويف
تقريبا� ،رشعت املر�أة العربية يف دخول املدار�س والدها ؟ وهي ال ت�ستطيع �أن تعمل بائعة يف حمل
واجلامعات ،واخلروج �إىل العمل ،واال�شرتاك يف �أو ما �شاكل هذه الأعمال ،وحميطها املتحجب ال
التجمعات احلزبية والنقابية والثقافية ،و�أ�صبحت ي�سمح بفكرة القيام بعمل يتنافى مع املحافظة
تعلن مطالبها بوعي و�رصاحة وو�ضوح .وقد �ساعد كما يحلو لعمها �أن ي�سمي الرجعية و�ضيق العقل...
كل هذا على تغيري �صورة املر�أة املنا�ضلة ،من �أجل ليتها تقدر �أن تقول له ر�أيها فيه ويف كل ما يفكر؟...
ا�سرتجاع حقوقها امل�سلوبة وكرامتها املهدورة ،من ليتها .)12(»...بل حتى الزواج الذي يعترب الأمل
مرحلة اال�ست�سالم �إىل مرحلة التحدي. الوحيد لتخلي�صها من و�ضعها املرتدي ،ال يتيحه
وكان اجلن�س هو ح�صان طروادة ،الذي �سيفتح واقع املجتمع البئي�س الذي تعي�ش يف كنفه؛ فهي
�أبواب املجتمع املحافظ على هول كارثته مع تريد زوجا مثقفا ينقذها من و�سطها العائلي
التغريات اجلديدة ،وم�ستجدات احلداثة .فهنا مل تعد املختل ،وهي ال تريد زوجا يكون ن�سخة من عمها،
�صورة املر�أة �صورة امر�أة م�سكينة تر�ضى بالق�سمة تر�ضى عنه العائلة وال تر�ضى هي عنه.
والن�صيب وم�ست�سلمة لإرادة الآخرين ،وتنتظر و�أمام انغالق كل ال�سبل يف وجه البطلة ،للخال�ص
بفارغ ال�صرب الزوج املوعود الذي �سيخل�صها من حياة التهمي�ش واملهانة ،يف بيت عمها وحتت
وي�سرتها ،وتقبل العي�ش حتت رحمته مدى احلياة، رحمة زوجته الفظة ،مل جتد �أمامها �سوى اال�ست�سالم
وتعاين غربة �صامتة وانطواء ال يطاق يف جمتمع للواقع املهني ،يف �إحباط غري متوقع لأفق انتظار
رجويل ،ديدنه �أن ي�ضيق عليها اخلناق ،وميحو املتلقي« ،وعادت ت�سري وت�سري ،ترى النا�س وال
�شخ�صيتها النزاعة �إىل التحرر .بل �إن وجودها يف تراهم ،وحني �سمعت �صوت زوجة عمها ي�س�ألها:
احلياة العامة �أ�صبح ظاهرة م�ألوفة ،و�صارت ن�سبيا ـ �أهذا �أنت؟
تفر�ض �إرادتها وحتقق اختياراتها ،و�أ�ضحت �أكرث �أجابت من غرفتها:
جر�أة ومواجهة وحتديا للرجل� ،سواء كان �أبا �أم ـ نعم ،لقد عدت»(.)13
زوجا �أم �أخا �أم مطلق رجل� .سيما بعد �أن اجتاحت وي�ؤكد التناق�ض احلاد بني العبارة االحتجاجية
املر�أة العربية املدار�س واجلامعات والوظائف وكل ال�صارخة الأوىل يف افتتاحية الق�صة (ال لن �أعود
ميادين احلياة. �إىل البيت )..والعبارة اال�ست�سالمية اخلافتة الأخرية
يف هكذا مناخ ،ظهرت ق�صا�صات عربيات متمكنات يف خامتتها (ـ نعم لقد عدت) ،ال�صورة امل�أ�ساوية
من �أ�رسار احلكي ،وجريئات غري مباليات بالطقو�س املفعمة باحلرية واالرتباك والقهر واال�ست�سالم
والعادات والتقاليد البالية ،من عيار ليلى بعلبكي وغريها من مظاهر النيل من �شخ�صية البطلة/
وغادة ال�سمان وليلى العثمان .وميكننا �أن نتوقف املر�أة وكرامتها ،مما كانت املر�أة العربية ترزح
يف هذا ال�صدد عند بع�ض التيمات الأ�سا�سية حتت وط�أته يف تلك املرحلة االنتقالية املظلمة.
امل�شرتكة بني ه�ؤالء الق�صا�صات ،والتي ت�صب يف عك�س ال�صورة املت�شائمة لبطالت �أمثال الق�صتني
امتالك املر�أة لإرادتها وفر�ض وجهة نظرها على ال�سابقتني� ،سعت كاتبات عربيات �أخريات �أكرث
الرجل ،ف�ضال عن ف�ضح نفاق املجتمع وما ينوء به جر�أة وحتررا يف املرحلة التالية� ،إىل املواجهة
من تدلي�س وخيانة زوجية .مما نعتربه تغيريا يف وحتدي كل املمنوعات واخرتاق تابوهات املجتمع
�صورة املر�أة وتطورا يف نوعية الكتابة الن�سائية. املحافظ ،ويف مقدمتها م�س�ألة اجلن�س و�سلطة الأب
71 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
النوم وتركي وحيدة �صاحية بجانبه) و(هجمت �إىل وتعترب ليلى بعلبكي رائدة للموجة اجلديدة من جيل
ح�ضنه �أهذي� :أحبك� .أحبك� .أحبك� .أحبك� .أحبك وهو الكاتبات العربيات اجلريئات ،فـ «هي املحر�ض
يهم�س يف �شعري (�أنت ل�ؤل�ؤتي) .ثم ن�رش راحة يده الرئي�سي يف الإبداع اللبناين �ضد �سلطة الأ�رسة
على �شفتي ،و�شدين �إليه بيده الأخرى ،و�أمرين (هيا و�سطوة وطغيان املجتمع على واقع املر�أة ،لذا
لن�صعد �أنا و�أنت �إىل القمر). كانت حتاول التخل�ص من الواقع االجتماعي
فك�أين بالكاتبة كانت تتعمد بهذا� ،أن حترج ذلكم ال�سائد ،وجو التقاليد اخلانق ،وجت�سد يف معظم
املجتمع وت�رضبه يف املقتل ،وهو ما انعك�س �أثره ما كتبت هذه الر�ؤية ،وتظهر عداء �صارخا لطوطم
على املوقف ال�صارم للمجتمع ،واملرتجم على الوالدين ،ولأي نظام له �سطوة وت�سلط الذات على
يد ال�سلطة �إىل حتقيق وحماكمة وم�صادرة �أعمال الذات ،وقد لعب اجلن�س يف �إبداع ليلى بعلبكي دورا
الكاتبة ليلى بعلبكي روايات وجمموعة ق�ص�صية. حا�سما يف جت�سيد ر�ؤيتها حيال حرية املر�أة ،حيث
بيد �أن ما يزيد من قوة �شخ�صية البطلة ،وفر�ض اعتربت �أن احلرية اجلن�سية هي �أوىل مراحل ح�صول
�إرادتها �إىل الأخري يف هذه الق�صة ،هو ما �سيح�صل الن�ساء على �سيطرتهن على م�صريهن ،وكانت تعترب
من توتر منفعل بني الزوجني وتوتري حاد للم�شهد اجل�سد هو املحرك الأول لدى املر�أة يف نيل حريتها
الثاين بج�سد الق�صة .فالبطلة/الزوجة ترف�ض رف�ضا الذاتية»(.)14
باتا �أن حتبل من زوجها ،رغم غ�ضبه الذي ذهب ففي ق�صة (�سفينة حنان �إىل القمر)( ،)15حتب
بعيدا �إىل حد اتهامها بكفها عن حبه .لكنها تدافع البطلة زوجها الذي اختارته بذوقها ،لكن هذا احلب
عن حبها واختيارها بعناد .فهي ال تريد �أن تكرر يخ�ضع لت�صورها هي ولي�س وفق رغباته هو ،رغم
طريقة املجتمع التقليدي يف التعامل مع الأطفال ما يبديه �أحيانا من عناد وق�سوة ،الأمر الذي �ضاعف
منذ ما قبل والدتهم �إىل زواجهم ،كما تبني الفقرة قوة �شخ�صية البطلة يف الق�صة ،ورمبا لهذا ال�سبب
االنتقادية املوالية : كان اعتماد �ضمري املتكلمة املفرد الذي �صيغ به
«كانوا يف القدمي يعرفون �أين ي�سقط ر�أ�س الطفل، �أ�سلوب الق�صة �أن�سب حلكي جمرياتها ،حيث ي�رسد
ومن ميكن �أن ي�شبه ،وذكر هو �أم �أنثى ،كانوا يغزلون احلدث من وجهة نظرها .فالق�صة تنفتح على م�شهد
له قم�صانا من ال�صوف وجوارب ،وكانوا يطرزون الزوجني يف غرفة النوم ،وهو ف�ضاء منغلق يهيئ
له ذيول الف�ساتني واجليوب والقبعات بع�صافري املتلقي ال�ستقبال ما �سيلي من انطباعات جن�سية.
ملونة و�أزهار .وكانوا يجمعون له الهدايا �صلبانا وفعال كانت الفر�صة �سانحة لن�سج جمموعة من
من الذهب وما �شاء اهلل وكفوفا مر�صعة بحجارة العبارات اجلن�سية امل�ستفزة للذوق التقليدي العام
زرقاء و�سال�سل حفر عليها ا�سمه .كانوا يحجزون يف املجتمع املحافظ �آنئذ� ،إذ مل ي�ألف ويه�ضم
له الداية ويحددون لها يوم الوالدة .وكان يهجم املتلقي التقليدي مثل العبارات التالية ،التي تفوح
الطفل من الظالم ويرمتي يف النور يف توقيته منها رائحة اجلن�س ،خ�صو�صا من كاتبة امر�أة:
الدقيق املنتظم .وكانوا ي�سجلون با�سم الطفل قطعة (ونور الفجر الف�ضي ينهمر على وجهه وكل ج�سمه
�أر�ض .وكانوا ي�ست�أجرون له بيتا ،ويختارون له العاري� .أحب ج�سده العاري) و(ناديته �أن يرجع
الرفاق ،ويعرفون �إىل �أي مدر�سة ير�سلونه ،واملهنة ويتمدد قربي :عندي رغبة يف �أن �أقبله) و(كنت
التي يتعلمها ،وال�شخ�ص الذي ميكن �أن يحبه ويربط ممددة قربه ،كان ي�ست�سلم لنوم عميق و�أنا مفتحة
م�صريه مب�صريه .كان هذا من زمان بعيد ،يف عهد الأجفان� ،أحفحف وجنتي بذقنه ،و�أقبل �صدره،
والدك ووالدي»(.)16 و�أند�س حتت ذراعه� ،أبحث عبثا عن النعا�س .هنا
لذلك ،ف�إن البطلة تعلن ب�رصامة يف وجه الزوج/ �صارحته �أن [ما] يزعجني فيه �رسعة الذهاب يف
72 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
ال�شهرية غادة ال�سمان ،التي ذهبت داخل �أعمالها الرجل ،مربرة موقفها�( :إنني ال �أجر�ؤ �أن �أحبل� .إنني
الإبداعية ،يف حماولة تغيري �صورة املر�أة العربية لن �أقرتف هذا اخلط�أ) و(يرعبني م�صري طفل نرميه
اجلديدة �أ�شواطا بعيدة� ،إىل حد ا�سرتجال بطلة يف هذا العامل) .واحلقيقة �أن الكاتبة رمبا اختارت
ق�صتها (عيناك قدري)( ،)18وتنكرها لطبيعتها مو�ضوع اخللفة لتبني على حلبته �إحداثية �رصاع
الأنثوية� ،إثباتا لتفوقها الذي ال يقل درجة واحدة الإرادات بني الرجل واملر�أة .ومن هنا ع�سكرة املعجم
عن تفوق الرجل ،ودح�ضا للقناعة اخلاطئة ال�شائعة احلربي املنترث على م�ساحة امل�شهد الثاين يف
لدى الرجل املتخلف ،عن تف�ضيل الذكور العتبارات الق�صة ،من مثل (الغ�ضب ،ال�رصاخ ،عدم االحتمال،
قرباتية واقت�صادية واجتماعية� ،أم�ست واهية يف التعا�سة ،الكمد ،الرف�ض ،العذاب ،التمزق ،الق�ساوة،
الع�رص احلديث ،ومل تعد ذات جدوى يف تف�ضيل ال�ضياع ،املوت ،البكاء ،الهجوم ،املقاطعة ،الزعيق،
الولد على البنت ،بعد �أن خرجت املر�أة �إىل احلياة اال�ستغراب ،التوتر ،ال�صواريخ).
العامة وناف�ست الرجل يف كثري من امليادين وطبعا ،ف�إن �إرادة البطلة هي التي �ستفر�ض وتتحقق
احليوية املنتجة. يف النهاية على م�ستوى التخييل ،ولي�س على م�ستوى
�إن هذه الق�صة توهمنا يف م�شهدها الأول ،بخلوها الواقع كما يفر�ض منطق �سنة احلياة� ،إذ �سي�ست�سلم
من �أي نزوع نحو ت�صوير احلاالت اجلن�سية ،التي الزوج لإرادة زوجته ،وبعد كل غ�ضبه بدا وك�أن
�أ�ضحت ل�صيقة مبعظم الأعمال ال�رسدية لأمثال فورانه مل يكن �سوى ثورة يف فنجان ،حيث انتهت
ه�ؤالء الكاتبات العربيات املتمردات .وبدل ذلك الق�صة بعبارة (ن�رش راحة يده على �شفتي ،و�شدين
تنخرط يف الإيهام ب�أن معركة املر�أة احلقيقية هي �إليه بيده الأخرى ،و�أمرين (هيا لن�صعد �أنا و�أنت �إىل
املواجهة لإثبات حقيقة تفوق املر�أة ك�أي �شاب �أو القمر) ،).خميبا انتظارات املتلقي ،لأنه كان يتوقع
رجل ،يف العمل والإنتاج .فالبطلة تعلن منذ البداية: �أن ينتهي الأمر �إىل االنف�صال ،مثلما حدث يف ق�صة
«ال ..ال �شيء يف حياتي �سوى عملي�..أنا �سعيدة.. م�شابهة �أخرى للكاتبة بعنوان (البطل)(.)17
ال �شيء ينق�صني �..أملك حريتي وقدري ك�أي رجل بل �إن املر�أة يف هذه املوجة الن�سائية امل�ستجدة،
يف هذه املكاتب�..أنا حرة �سعيدة»( .)19خ�صو�صا م�ستعدة كما بدا يف كثري من االنتاج ال�رسدي
و�أنها جاءت �إىل احلياة بعد �أربع �أخوات لكون �أمها للكاتبات العربيات اجلديدات ،للذهاب �إىل �أق�صى
مئناثا ،معاك�سة رغبة والدها ال�شديدة يف الولد، ال�شوط يف حتمل الت�ضحيات يف �سبيل فر�ض �إرادتها.
باعتباره �سيكون وريثا لأجماد دكانه وحلقته ودون �أن نذهب بعيدا ،ف�إن ليلى بعلبكي جتعل يف
على ر�صيف ال�شارع ووريثا لرنجلته التي ال يريد ق�صتها (البطل) ،ال�رصاع بني البطلة وزوجها حول
جلمرها �أن ينطفىء بعد مماته ،وي�سميه (طلعت) ،وال روتني احلياة الزوجية ،وال�ضجر ال�شديد الذي يثقل
ي�ضطر حلب�سه يف الدار بعد ال�شهادة االبتدائية ،وال على نف�س البطلة ،ورغبتها القوية يف التغيري ،يبلغ
يخاف عليه من االنطالق يف ال�شارع وحده كالبنت، �أق�صى مداه .الأمر الذي ينتج عنه هذا التوتر املدمر
�إىل حد �أنه قدم خري مثال على عنف الرجل ال�رشقي بني الزوجني ،الذي جلل كل امل�شهد الرئي�سي يف
املوجه �ضد املر�أة ،حتى ولو مل يكن لها يد يف الأمر، الق�صة ،مل يتقبله الزوج هذه املرة ،فلج�أ �إىل الطالق،
حيث هم يف رد فعله العدواين �إىل حمل ال�سكني ثائرا ومع ذلك ظلت البطلة مت�شبثة مبوقفها ،وظلت تنتظر
مرغيا ومزبدا عند والدتها ،يريد �إعادتها بالقوة �إىل منوذجها املف�ضل من الأزواج ،الذي قد ي�أتي وال ي�أتي.
بطن �أمها ،لوال �أن منعوه من ذلك اجلنون .واكتفى ومتعن كاتبة �أخرى من نف�س اجليل اجلديد ،ال
ت�أ�سيا ب�أن �سمى البنت طلعت ،وهو ا�سم ذكر. تقل �شهرة يف �سياق ال�رصاع مع الرجل ال�رشقي،
وفعال �صارت البطلة م�سرتجلة يف مظهرها وحتديه وفر�ض �إرادتها عليه؛ هي الكاتبة ال�سورية
73 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
حلفظ البقاء ،الأمر الذي ميكن �أن يوفره يف ع�رصنا اخلارجي وت�رصفاتها ونف�سيتها وتطلعاتها .فهي
التلقيح اال�صطناعي و�أنابيب االختبار دون حاجة لدى عودتها من العمل متعبة م�ساء ،تنتقد طعام
�إىل ا�ستعباد �أحد الطرفني لهذه الغاية!»( ،)21كما �أمها ثائرة �صائحة مثلما يفعل �شباب احلي ،وهي
�أنها ال تفهم �أن تكون الثورة اجلن�سية معزولة جتل�س مع �أبيها كل م�ساء تتناق�ش معه يف ال�سيا�سة
عن ثورة �إن�سانية �شاملة لكل الأ�صعدة اقت�صاديا وامل�شاريع والدخل القومي ،وتدخن نرجيلته .وهو
وفكريا و�سيا�سيا واجتماعيا ،فهي جزء من ثورة الأمر الذي ارتاح له والدها «�أ�رصت على �إمتام
الفرد العربي على مظاهر اال�ستالب الن�سانيته(.)22 درا�ستها بعناد كان يثري يف نف�س �أبيها �رسورا
وحني تطور احلدث ب�شكل جمايل متدرج ،بعيدا خفيا يف�شل يف �إخفائه ..مل يعد يخاف عليها من
عن كل هلهلة يف بناء الق�صة ،ا�ستطاع عماد �أن ال�سري يف ال�شارع وحدها� ..إنها ال تتهادى بدالل..
يخرج عمالق الأنوثة من قمقمه لديها ،بنموذجيته ال تعتني مبظهرها ..ال تثري اهتمام �أحد ..تكره
املتميزة امل�ستجيبة الختيارات البطلة ،واملن�سجمة الرجال وال�شباب .ال ..ال تكرههم ..الكراهية اعرتاف
مع نف�سيتها وذوقها ،الأمر الذي كان مفتقدا بوجود ال�شيء املكروه وهي ال حت�س بوجودهم على
يف املرحلة ال�سابقة« ،نظر �إليها ..مل تتجاوزها الإطالق ..ال تريد �أن حت�س بوجودهم ..و�إال فلماذا
عيناه املتفر�ستان كما يفعل الرجال جميعا.. ترف�ض الدخول لتحية �أية خاطبة �شاء لها حظها
ظلتا تت�أمالنها ببطء ..عينان عميقتان خ�رضاوان العاثر �أن تدق بابهم؟.)20(»..
جتو�سان وجهها كعا�صفة عطر مثرية..و�أح�ست �أن كانت تفعل كل ذلك لرت�ضي والدها ،رغم �أنها كانت
نظراتهما تنزع عن وجهها النظارة ال�سوداء..ترمي تكرهه داخلها كراهية �شفافة ال حقد فيها ،ولتثبت
بها قرب قدمي �أخته..حتل ربطة �شعرها بحنان له جدارتها ،وم�ساواتها له ،ولتنتقم من �ضعف
وتدغدغ �آالم اخل�صل امل�شدودة..نظراته تعريها من والدتها ،فلم تكن تريد �أن ت�صري ذليلة مثلها.
�ألقابها و�شهاداتها وردائها ..تزحف برعونة لذيذة بيد �أن �صورة البطلة يف امل�شهد الرئي�سي التايل
فوق ذراعيها..تبعث فيهما دفء �شم�س مل تلم�سهما.. للق�صة ،تتغري من ال�ضد �إىل ال�ضد ،وتنقلب ر�أ�سا على
تنحط بثقلها على ال�صدر فيزداد �شموخا ويرتع�ش عقب ،من اال�سرتجال اخل�شبي املتكلف واملبالغ
يف حناياه �شيء ما ويتخبط..تع�رص اخل�رص فيرتنح فيه� ،إىل اال�ستئناث الدافئ الطبيعي ،عندما تقابل
بلذة عناقيد �أثقلها الطيب..رحلة نظراته يف جماهل الرجل املف�ضل (عماد) .وهنا تربز لغة و�أ�ساليب
عواملها �أرهقتها ،ك�شفتها..جعلتها ت�شعر �أنها الع�شق والهيام ،ويعود النف�س اجلن�سي يت�سلل �إىل
م�ضحكة و�سخيفة..و�أنها لي�ست الأ�ستاذة طلعت.. ج�سم الق�صة ،و�إن كان قد �أطل علينا �سابقا ب�صورة
و�أنها لي�ست �سوى ممثلة اكت�شفت فج�أة �أن ثيابها حمت�شمة ،حني �ضبطت البطلة والدها يغازل
م�ضحكة و�أن دورها م�ضحك و�أنها يف حاجة �إىل اجلارة على الدرج ،كا�شفة عما يجو�س يف ردهات
البكاء يف �صدر ما .)23(»..فذاقت حالوة احلب احلياة االجتماعية ال�رشقية الرثة ،من خيانة ب�شعة
واحلنان ،و�إن هربت م�ؤقتا مدفوعة بعنادها املتمرد وتظاهر منافق .وجتدر الإ�شارة هنا� ،إىل �أن غادة
على حقيقة عواطفها جتاهه ،موهمة نف�سها ب�أنها ال�سمان حتمل وعيا �صحيا خا�صا بالن�سبة ملعاجلة
�إمنا كانت تت�سلى مثل �أي �شاب مراهق «هربت من ق�ضية اجلن�س يف ق�ص�صها� .إذ تنطلق يف هذا من
�شفتيه النهمتني وهما جتو�سان وجهها يف ليايل اقتناعها �أن «�رشاكة الفرا�ش باملعنى الإن�ساين هي
ال�صيف.. �أوال نتيجة للقاء �إن�سانني على �صعيد فكري وروحي
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) قبل �أن تكون الغاية من اللقاء جمرد تفقي�س �أطفال
االهتمام الكبري من جانبي بالأدب لي�ست ال�سطور التي ت�صافحها عينا القارئ
الياباين ،عقب ذلك ،وح�صويل على دفق هنا �إال تلويحة وداع مفعمة بالأ�سى
هائل من الأعمال الأدبية اليابانية ك�شف وال�شجن امل�ؤرق من كاتب هذه الكلمات
يل ،على الفور ،عن جمموعة مهمة من للأدب الياباين ،الذي ظل مو�ضع حب
احلقائق:
واهتمام ومتابعة دقيقة من جانبي ،على
� – 1أن الأدب الياباين يتمتع برثاء �شديد،
ويعك�س ب�صدق واقتدار العامل اخللفي
امتداد �أكرث من ثالثني عام ًا .وما زلت �أذكر
لتجربتي التحديث اليابانيتني ،بحيث ذلك اليوم البعيد الذي قر�أت فيه مقا ًال
يغدو من ال�رضوري ملتابعتهما االطالع مطو ًال يف مطبوعة «نيويورك ريفيو �أوف
على الأقل على جانب معقول من الأعمال بوك�س» عن تطور الأدب الياباين احلديث،
الأدبية اليابانية. �ألقى ال�ضوء ب�صفة خا�صة على م�ساهمات
� – 2أننا نحن العرب النعرف �شيئ ًا على ثالثة كتاب كبار ،كانوا �آنذاك الأكرث بروزاً
الإطالق عن الأدب الياباين ،والحظ هنا ون�شاط ًا على ال�ساحة الأدبية اليابانية ،وهم
�أنني �أحتدث عن املرحلة التي �أعقبت يوكيو مي�شيما ،وكوبو �آبي ،و�شو �ساكو �إندو.
هزمية اخلام�س من يونيو ،1967التي وكنت �آنذاك – �ش�أن �أبناء جيلي ممن يدعون
دعيت – مرة �أخرى لأ�سباب ما زلت
لأ�سباب ما زلت �أجهلها بال�سبعينيني –
�أجهلها -بــ «النك�سة» .وعبث ًا حاولت �أن
�أ�ضع يدي على ما كان مرتجم ًا �إىل العربية
نتابع جتارب التحديث يف �أمم �شتى ،لعل
من الأعمال الأدبية اليابانية ،فلم �أجد �إال �أمتنا العربية ت�ستفيد منها �شيئا ي�ساعدها
خمتارات متفرقة من الق�ص�ص اليابانية على مواجهة واقعها ،الذي اختزلته هزمية
ومقاالت حمدودة عن الأدب الياباين. اخلام�س من يونيو ،1967وقد اهتممت
� – 3أده�شني �أننا ال معرفة لنا بالتقاليد ب�صفة خا�صة بتجربتي التحديث اليابانيتني.
75
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
اخلارج للدرا�سة وغريها بحمل الكتب لدى عودتهم، الأدبية اليابانية العريقة ،التي متتد عرب �أكرث من
و�أخرياً ما �أ�صبح يعرف يف وقت الحق بالر�صيد �ألف عام ،والتي ترجم الكثري من روائعها �إىل اللغات
الأجنبي ،وهو الق�سم املخت�ص با�سترياد الكتب يف الأوروبية ،ويف الوقت نف�سه ال نكاد نعرف �شيئ ًا عن
الهيئة امل�رصية العامة للكتاب. �أحدث الكتابات املقدمة يف �إطار الإنتاج الأدبي
و�أنا ل�ست �أدري ما فعل اهلل بعد ذلك بهذا الق�سم الياباين الغزير ،الذي تتواىل �أجياله �رسيعة على
العتيد ،ولكنني �أريد �أن �أعرتف �أن جانب ًا من �أهم نحو يتحدى القدرة على املتابعة.
الكتب التي و�ضعت يدي عليها على امتداد عمري – 4ما كان ميكن �إال �أن �أتوقف طوي ًال عند االختالف
جاءت عرب هذا الق�سم ،الذي كان بع�ض القائمني عليه ان التعريف الكبري بني دور الكاتب والأديب يف
من عمق الثقافة ورحابة الأفق بحيث مل يرتددوا بالأدب املجتمع الياباين ودور نظريه يف
يف اال�ستجابة ملطالبنا با�سترياد كتب حمددة، املجتمع العربي ،فهو يف اليابان له
حتى و�إن نظرواً �إلينا يف البداية بانزعاج وت�شكك، الياباين كان ح�ضور قوي وم�ؤثر يف الر�أي العام،
وك�أننا كائنات قادمة من املريخ .وما زلت �أتذكر أ�صيال� ،إنه �ضمري �أمته ،واملتحدث با�سمها، ً ً
اهتماما �
نظرة الفزع التي رمقني بها �أحد م�س�ؤويل الق�سم بالن�سبة يل ،واملعرب عن اجتاهات �رشائح كبرية من
عندما طلبت منه ا�سترياد جملد �أعمال فرانز كافكا الر�أي العام ،وهو بهذا املعنى قادر على
على مدار
الق�ص�صية الكاملة يف طبعة �شوكني ال�شهرية وكتاب الت�أثري بقوة واقتدار يف احلياة العامة،
ً
«فرانز كافكا :خمتارات من النقد املارك�سي» .وعلى الثالثني عاما �أما الكاتب والأديب يف عاملنا العربي
الرغم من اجلدل الذي ثار بيننا �إىل حد و�شك �أن املا�ضية ،وهو ف�ش�أنه كما نعرف جميعاً .ويف الوقت
ي�شارف على ال�شجار� ،إال �أن االحتكام �إىل رئي�س الأمر الذي الذي بد�أ اهتمامي بالأدب الياباين
الق�سم �أ�سفر يف نهاية املطاف عن ح�صويل على كان الكثري من الكتاب العرب ي�شقون
انعك�س بو�ضوح
الكتابني ،ولكن بعد �شهور طويلة من االنتظار .ولقد طريقهم �إىل املنايف� ،أو �إىل املعتقالت،
تعددت الأمثلة املناظرة بالن�سبة للأدب الياباين يف قائمة �أو �إىل �صمت هو �إىل املوت �أقرب� ،أو
الذي كان �آنذاك جمهو ًال �أو �شبه جمهول. الأعمال التي يهدرون وقتهم بحث ًا عن خبز ال�صغار.
مل يكن هذا وحده هو اجلانب الأكرث �سوءاً يف جتربة �صدرت بها هذا �أيا كان الأمر ،ف�إن هذه البداية املبكرة
االهتمام بالأدب الياباين ،و�إمنا كان اجلانب الأكرث لالهتمام من جانبي بالأدب الياباين
تعا�سة يف هذه التجربة ،رمبا حتى كتابة هذه املقال قد ا�صطدمت بال�صعوبة البالغة �آنذاك
ال�سطور ،هو و�ضعية الن�رش يف عاملنا العربي .وقد يف احل�صول على الكتب من خارج
�ألقت هذه التعا�سة بظاللها على جتربتي منذ البداية م�رص ،فتلك كانت �أيام حظر حتويالت العملة
املبكرة ذاتها ،فعلى الرغم من �أن �صداقة مبكرة ال�صعبة ،ولو كان ذلك يف �أ�ضيق احلدود ،هكذا مل
ربطتني ،منذ �صدر العمر ،بعدد من �أكرب نا�رشي يكن �أمامي – و�أمام غريي – من جمال للح�صول
العامل العربي و�أكرثهم متيزاً واقتدارا� ،إال �أن الرياح على الكتب الأجنبية ،ومن بينها الأعمال اليابانية
كثرياً ما ت�أتي مبا ال ت�شتهي ال�سفن .وما �أكرث الرياح املرتجمة �إىل اللغة االجنليزية� ،إال عرب قنوات جد
يف عاملنا العربي وما �أ�سو�أ حظ ال�سفن! حمدودة� ،أولها جمموعة املكتبات القليلة التي
دعني �أتذكر جتربة مبكرة كان ميكن �أن تدفن ت�ؤدي هذه املهمة ،ومنها مكتبة الأجنلو العتيدة
جهودي لرتجمة الأدب الياباين �إىل اللغة العربية يف و�سط القاهرة ،وكذلك تو�صية امل�سافرين �إىل
76 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
م�سبق ًا عن عدم التحديد على وجه الدقة بالن�سبة يف مهدها ،ففي �أوائل الثمانينيات بعثت برتجمتي
لدي ن�سخ منها حلظة كتابة
للأعمال التي ال تتوافر َّ لثالثة جملدات من عيون روائع الأدب الياباين
هذه ال�سطور: احلديث �إىل �إحدى �أكرب دور الن�رش العربية ،والتي
– 1كوبو �آبي – امر�أة يف الرمال – دار الآداب – بريوت – �سبق لها �أن �أ�صدرت �أعما ًال مرتجمة يل ،وملا طال
.1987 انتظاري لن�رشها ،انتهزت فر�صة وجود مدير الدار
– 2كينزابور �أوي – علمنا �أن نتجاوز جنوننا! – دار الآداب
– بريوت – .1988 يف معر�ض القاهرة الدويل للكتاب ،و�س�ألته عما
– 3يوكيومي�شيما – ال�سيدة دي �ساد – وزارة الإعالم – فعلت الأيام باملجلدات الثالثة العتيدة ،فبادر
الكويت – .1988 الرجل ،مبزيد من احلرج ،باالعتذار لأن املخطوطات
� –4شو�ساكو �إندو – البحر وال�سم – دار التنوير – بريوت الثالث قد فقدت ،يف �إطار الظروف ال�صعبة التي
– (؟). كانت �سائدة يف بريوت �آنذاك .وما كان ميكن �إال �أن
-الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – .1997
-الطبعة الثالثة – امل�
�أتفهم املوقف ،و�إن �أحزنني كثرياً.
ؤ�س�سة العربية للدرا�سات «معجم والن�شر – بريوت – .2005 كان ميكن �أن ينتهي كل �شيء عند هذا احلد ،و�أن
– 5جونت�شريو تانيزاكي – التاريخ ال�سري م�صطلحات يدفعني االحباط �إىل التوقف عن ترجمة املزيد من
لأمري مو�سا�شي – دار الآداب – بريوت .1989 الأعمال الأدبية اليابانية ،لوال �أنني كنت �أحتفظ
–5يوكيو مي�شيما – اعرتافات قناع – دار املوت» ي�شغلني
باملخطوطات الأ�صلية املكتوبة بخط يدي ،وعنها
حاليا ك�أول الهالل – القاهرة (؟)
ن�سخت بالآلة الكاتبة الن�سخة الثانية التي قدر لها
–6يوكيو مي�شيما – اعرتافات قناع – دار
معجم من الهالل – القاهرة (؟). �أن ت�شق طريقها �إىل الن�رش من املجلدات الثالثة.
-الطبعة الثانية امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات نوعه فـي تلك كانت البداية ،والذين تابعوا – بحب تعاطف
والن�شر – بريوت – .2004 – ما قدمته للمكتبة العربية من الأعمال الأدبية
� –7شو�ساكو �إندو – ال�صمت – دار الهالل – اللغة
اليابانية يعرفون �أنني قدمت لها ترجمة ع�رشة
العربية القاهرة (؟).
�آالف �صفحة من الأدب الياباين� ،أو من الدرا�سات
-الطبعة الثانية امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات
والن�شر – بريوت – .2006 التي تدور حوله ،بالإ�ضافة �إىل ترجمة م�رسحيتني
–8يوكيو مي�شيما – ثلج الربيع (اجلزء الأول عن رباعية �شهريتني ،ف�ض ًال عن كتابة مئات املقاالت عن �شتى
«بحر اخل�صب») – دار الآداب – بريوت – .1990 جوانب احل�ضارة اليابانية ،بالإ�ضافة �إىل ت�أليف
–9كوبو �آبي – موعد �سري – دار الفارابي واحتاد كتاب �سل�سلة «خمرجون يابانيون» التي تدور حول
و�أدباء الإمارات – بريوت.1991 ،
�أبرز خمرجي ال�سينما اليابانية ،والتي �صدر منها
-الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – .1999
-الطبعة الثالثة – امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر – كتابان حتى الآن ،و�أعلق �آما ًال كباراً على �صدور
بريوت – .2006 باقي كتب ال�سل�سلة تباعاً.
–10يوكيو مي�شيما – اجلياد الهاربة (اجلزء الثاين من رباعية ل�ست �أريد �أن �أطيل على القارئ ،ولكن لأغرا�ض
«بحر اخل�صب» – دار الآداب – بريوت – .1991 التوثيق وللقراء الذين رمبا يهمهم هذا البعد
–11يوكيو مي�شيما – معبد الفجر (اجلزء الثالث من رباعية ومتابعته لأغرا�ض بحثية ،ف�إنني �س�أ�سمح لنف�سي
«بحر اخل�صب») -دار الآداب – بريوت – .1993
–12يوكيو مي�شيما � -سقوط املالك (اجلزء الرابع والأخري من ب�أن �أورد هنا قائمة بالأعمال الأدبية اليابانية التي
رباعية «بحر اخل�صب») دار الآداب – بريوت – .1995 قدمتها للمكتبة العربية مرتجمة عن االجنليزية
-13يا�سوناري كاواباتا – ق�ص�ص بحجم راحة اليد – دار وهي كالتايل ،ح�سب �سنة ال�صدور ،مع اعتذاري
77 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
لرائعة الأدب الياباين الأ�شهر «حكاية جينجي» �شرقيات – القاهرة – .1999
– الطبعة الثانية – امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر –
هي اال�ستثناء الذي ي�ؤكد القاعدة .وعلى الرغم من
بريوت – .2003
قيامنا مبراجعة عمل �ساي �شوناجون الرائع «كتاب –14فوكوزاوا يوكيت�شي � ،سرية فوكوزاوا يوكيت�شي ومقدمة
الو�سادة»� ،إال �أنه مل ين�رش حتى الآن ،ولهذا مل ندرجه �أعماله الكاملة – املجمع الثقايف – �أبوظبي – .2001
يف القائمة. –15كوبو �آبي – الرجل الذي حتول �إىل ع�صا :ثالث م�سرحيات
� -2إن القائمة ال تت�صدى للتعريف ب�أحدث الأ�سماء من اليابان – دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – .2003
التي برزت على ال�ساحة اليابانية �أخرياً ،و�إمنا هي –16رايونو�سوكي �أكوتاجاوا – را�شومون وق�ص�ص �أخرى
– دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – .2004
تتوقف عندما ميكن و�صفه بـ «الأ�سماء الكبرية»، –17مات�سو با�شو – الطريق ال�ضيق �إىل داخل البالد –
حيث جترى ترجمة �أعمال خمتلفة لأدباء م�شهورين االنت�شار العربي – بريوت – .2005
�سبق بالفعل التعريف بهم من قبل ،وهذا عيب ج�سيم –18يا�سوناري كاواباتا – ذراع واحدة وق�ص�ص �أخرى –
يف اختيارات القائمة ،ي�ضاف �إىل العيب الأول ،الذي دائرة الثقافة والإعالم – ال�شارقة – .2005
نراه �أكرث خطورة وال منلك �أن ننكره. � –19إينازو نيتوبي – البو�شيدو :روح اليابان – هيئة
�أبوظبي للثقافة والرتاث :املجمع الثقايف – �أبوظبي – .2006
-3القائمة تت�ألف كلية تقريب ًا من �أعمال �إبداعية،
–20مورا�ساكي �شيكيبو – حكاية جينجي – هيئة �أبوظبي
وذلك با�ستثناء كتاب «البو�شيدو :روح اليابان»، للثقافة والرتاث :املجمع الثقايف – �أبوظبي – .2012
وكتاب «�سرية فوكوزاوا يوكيت�شي ومقدمة �أعماله كما �سبقت الإ�شارة ،ف�إنه �إىل جوار هذه الأعمال الع�شرين ،فقد
الكاملة» .وعلى الرغم من الأهمية اال�ستثنائية تعددت املقاالت التي كتبناها حول جوانب �شتى يف الثقافة
لهذين الكتابني� ،إال �أن القائمة تظل خالية من �أي اليابانية� ،شملت �إىل جوار الأدب الياباين �إ�ضاءات للم�سرح
حماولة معمقة للتعريف بتطور الأدب الياباين، وال�سينما واملو�سيقى والفنون التقليدية يف اليابان.
وقمنا �أي�ض ًا ،يف �إطار اهتمامنا منذ �سنوات الدرا�سة اجلامعية
وهذا عيب خطري فيها ،كان البد من تداركه منذ بال�سينما اليابانية ،بت�أليف �سل�سلة كتب «خمرجون يابانيون»
البداية ،خا�صة مع تعدد الأعمال التي تت�صدى التي �صدر منها :مايلي:
للت�أ�صيل للأدب الياباين� ،سواء تلك التي كتبها �أو ًال :الطريق الطويل �إىل عامل �أكريا كريو�ساوا – �سل�سلة
م�ؤلفون يابانيون �أو م�ؤلفون غربيون ا�شتهروا «كرا�سات ال�سينما» املواكبة مل�سابقة �أفالم من الإمارات –
بهذا النوع من الكتابات على وجه التحديد ،ويف املجمع الثقايف – �أبوظبي – .2005
الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة – .2006 -
مقدمتهم الباحث الأمريكي دونالد كني. ثاني ًا – يا�سوجريو �أوزو ..الطريق �إىل الالنهاية – �سل�سلة
-4جميع الكتب الداخلة يف القائمة تت�ضمن كرا�سات ال�سينما» املواكبة مل�سابقة �أفالم الإمارات – املجمع
مقدمات طويلة بقلم املرتجم تت�صدى للتعريف الثقايف � -أبوظبي .2007
بامل�ؤلف وبالعمل املاثل بني دفتي كل كتاب ،وتلك -الطبعة الثانية – دار �شرقيات – القاهرة .2009
ميزة حقيقية تت�سم بها كتب القائمة. و�إذا �ألقينا نظرة مدققة على هذه القائمة ،ف�إن
-5على الرغم من �أن القائمة ت�ضم كتابني ت�صديا جمموعة من املالحظات �ستفر�ض نف�سها ،ب�شكل
لتقدمي �أعمال من امل�رسح الياباين� ،إال �أننا نالحظ �أن تلقائي وفوري علينا ،جندها جديرة بالتوقف
هذه الإطاللة املحدودة تقت�رص على امل�رسح الياباين عندها بالت�أمل �أو الت�سا�ؤل يف �آن معاً:
احلديث ،بينما يظل امل�رسح الياباين التقليدي -1خالف ًا ملا نتوقع ،ف�إن هذه القائمة تخلو من
ب�أ�شكاله العديدة يف دائرة اال�ستبعاد ،وهو �أمر يظل، الأعمال التي ميكننا �أن ن�صفها بالأمهات ،بالن�سبة
يف النهاية ،غري مفهوم وغري مربر وال مقبول. للأدب الياباين ،ومن ثم قد ميكننا القول �إن ترجمتنا
78 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
الأخري يف �سانتياجو» ،ومل �أ�شعر بالر�ضا متام ًا عن -6يبدو م�ؤ�سف ًا حق ًا �أن معظم الكتب الواردة يف
النتيجة النهائية ،كما وجدت �صعوبة بالغة يف قائمة الع�رشين هذه ظلت مقت�رصة على طبعة
�إعادة طبع الديوانني كليهما ،وهكذا ف�إنني على واحدة ،يف معظم احلاالت ،وعلى الرغم من �أنني
الرغم من قيامي برتجمة الن�ص الكامل لديوان �أحتمل جانب ًا من امل�س�ؤولية عن هذا الو�ضع ،نتيجة
«ق�صائد هايكو خمتارة» من �شعر مات�سو با�شو� ،إال لإ�رصاري الذي دام طوال عمري املهني تقريب ًا على
�أنني مل �أن�رشها قط� ،سواء منجمة �أو يف �صورة جملد �أن ت�صدر ترجماتي عن دور ن�رش كربى� ،أو على الأقل
متكامل ،و�أبقيتها خمطوطة �ضمن �أوراقي عامداً، عن دور ن�رش �أثق يف مهنية القائمني على �إدارتها
لأن الرتجمة كانت – يف املقام الأول – مهداة �إىل كل الثقة� ،إال �أن جانب ًا �أكرب من امل�س�ؤولية يقع على
ابنتي الكربى ،مها ،ومن يدري ،فرمبا تقوم بن�رشها النا�رشين العرب ،الذين ي�ؤثرون عدم �إ�صدار كتب
بعد رحيلي عن دنيا النا�س الفانني� ،إذا �أردت �أن �سبق ن�رشها ،حتى لو كانت قد لقيت يف طبعتها
ت�شارك النا�س هديتها تلك� ،أو حتجبها عن الن�رش الأوىل رواج ًا كبرياً بني القراء.
باعتبارها هدية �شخ�صية تعنيها وحدها ،وهو ما -7رمبا يالحظ القارئ �أنني يف ال�سنوات من 2006
ق�صدته بالرتجمة يف املقام الأول. �إىل 2012مل ي�صدر يل �أي عمل من �أعمال الأدب
هنا من حق القارئ �أن يت�ساءل� :إذا كانت قائمة الياباين ،ومن الوا�ضع �أن ذلك يرجع من ناحية
الع�رشين هذه تعك�س كل املقومات الداعية �إىل �إىل �أنني �أم�ضيت وقت ًا طوي ًال يف ترجمة «حكاية
�إ�ضافة املزيد لها ،فلماذا تلويحة الوداع هذه جينجي» بحكم كونه عم ًال هائالً ،يقع يف �ألفي
للأدب الياباين من جانب كاتب هذه ال�سطور؟ ملاذا �صفحة من القطع الكبري ،كما امتدت عملية ن�رشه
الآن وقد تكاملت لهذا الكاتب من عنا�رص اخلربة طوي ًال بحكم حر�ص النا�رش على �صدور هذا العمل
والتجربة ما ميكنه من تقدمي الأف�ضل والأكرث يف ال�شكل الرفيع والراقي الذي يتفق مع �أهميته
ن�ضج ًا من الرتجمات؟ اال�ستثنائية ،ويرجع من ناحية �أخرى �إىل ان�شغايل
الأ�سباب عديدة ،ولكن من البديهي �أن الأمر يتعلق بت�أليف عملني مهمني ،كنت قد عاهدت نف�سي منذ
يف املقام الأول ب�صدور الرتجمة العربية للن�ص �سنوات طويلة على ت�أليفهما� ،إعراب ًا عن امتناين
الكامل لـ «حكاية جينجي» �أخرياً ،ففي اعتقادي �أن لدولة الإمارات العربية املتحدة و�أبنائها الكرام
تلك ذروة ال جمال معها لل�سعي نحو قمة �أعلى� ،أو الذين �أم�ضيت بني ظهرانيهم ثالثني عاماً ،كنت
�إن �شئت فقل �إنها الذروة التي ال جمال بعدها لل�سعي خاللها دائم ًا مو�ضع تكرمي واحتفاء �أعتز بهما �أ�شد
نحو املزيد. االعتزاز ،وذلك قبل �أن �أرحل عن الإمارات� ،أو قبل
�إن �شئت املزيد من الإي�ضاح ،فدعني �أبادر �إىل �أن �أرحل عن دنيا النا�س الفانني .وهذان الكتابان
القول �إن «حكاية جينجي» عمل جليل القدر ،عظيم اللذان �صدرا بالفعل هما «م�ستقبل الثقافة يف
الأهمية ،هائل االمتداد .ومن املحقق �أن �إطالله الإمارات» ال�صادر يف ،2010و«مو�سوعة م�ساجد
على القارئ العربي يف ن�صه الكامل يف بداية الإمارات» ال�صادرة قبل �أيام من كتابة هذه ال�سطور.
الألفية الثالثة ،وهو الذي ر�أى النور لأول مرة -8تخلو القائمة من �أي عمل �شعري ،وهذا طبيعي
يف م�ستهل القرن احلادي ع�رش امليالدي ،يو�ضح ومنطقي وعقلي ،ذلك �أن جتربتي يف ترجمة ال�شعر
بجالء جانب ًا من �أبعاد الو�ضعية املحزنة للعالقات ال ميكن �إال �أن تو�صف ب�أنها مريرة ،ففي �صدر العمر
الثقافية العربية اليابانية ،بل وجممل عالقتنا قمت برتجمة ديوانني ،هما «�إي�سالنيجرا» و«الفال�س
79 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
والباحثني �إىل القول �إن علينا �أن ننتظر حتى القرن نحن العرب بالثقافات الآ�سيوية ،التي ال يرتدد
التا�سع ع�رش ،و�أن نرحل �إىل املعاقل احل�رضية بع�ض الباحثني يف الذهاب �إىل القول �إنها ال وجود
الأوروبية ،لكي نلتقي بالرواية ،ف�إن هناك تياراً ال لها �أ�صالً ،و�إنها بحاجة �إىل الإر�ساء ،قبل احلديث
يقل قوة عن �سابقه يذهب �إىل القول �إننا على امتداد عن التوثيق والتكري�س ،ولكن يف حالة «حكاية
�صفحات «حكاية جينجي» نلتقي مع الرواية الأوىل جينجي» يظل �صحيح ًا �أنه خري �أن ت�صلنا مت�أخرة
باملعنى ال�صحيح. عن �أن ال ت�صلنا �أبداً.
لكن ملاذا يجمع املنخرطون يف هذا التيار على هنا يربز �س�ؤال مهم :ملاذا تعد «حكاية جينجي»
و�صف «حكاية جينجي» ب�أنها الرواية الأوىل يف عم ًال مهم ًا بالن�سبة لنا نحن العرب ،يف هذا
العامل؟ املنعطف من ا�ستمرارية عالقتنا باليابان واجلهود
الأ�سباب عديدة ،ول�سنا يف معر�ض حتليلها ب�صورة املبذولة ملد اجل�سور الثقافية بيننا وبني جممل
مف�صلة هنا� ،إمنا �سنكتفي بالإ�شارة ال�رسيعة �إليها: ثقافات �آ�سيا؟
(�أ) ر�أينا حا ًال هذا االهتمام الفائق بحبكة الرواية قد ال يكون من قبيل املبالغة القول �إن �أبعاد �أهمية
الب�سيطة ب�صفة جوهرية ،و�أي�ض ًا التي تتمتع بالرثاء «حكاية جينجي» بالن�سبة لنا نحن العرب تكاد
ال�شديد يف التفا�صيل ،التي ترد يف غمار انطالق تكون بال نهاية تقريباً .غري �أنني �س�أكتفي هنا
�أحداثها وتعاقب هذه الأحداث ،وهكذا ف�إننا على ب�إلقاء ال�ضوء على �أربعة �أبعاد فح�سب ،للأهمية
موعد مع الو�صف املمتع واملعقد واملعمق يف �آن الفائقة لـ «حكاية جينجي» بالن�سبة لنا نحن العرب،
مع ًا للحياة اليومية ولت�شابك العالقات وللغو�ص والتي من �ش�أنها �أن تدفعنا �إىل املزيد من االهتمام
املعمق يف �أغوار ال�شخ�صيات. بالأعمال املماثلة من كنوز الآداب ال�رشقية ،التي
(ب) يلفت الباحث الياباين االخت�صا�صي �سني �أونو ظلت حتى الآن من دون احلد الأدنى من التعريف
نظرنا �إىل اللغة الوا�ضحة التي كُ تبت بها «حكاية بها و�إلقاء ال�ضوء عليها ،دع جانب ًا املبادرة �إىل
جينجي» ويذهب �إىل القول �إنه ما من عمل �أدبي ترجمتها.
واحد كُ تب يف الع�رص الهاييني ( )1185-794بهذه هذه الأبعاد الأربعة هي يف اعتقادي ،وب�أكرب قدر
اللغة الدقيقة والوا�ضحة التي كُ تبت بها «حكاية من الإيجاز ،كما يلي:
جينجي» ،وهذه اللغة تتحول �إىل نور هاد وك�شاف �أوالً« :حكاية جينجي» هي الرواية الأوىل باملعنى
ت�سلطه امل�ؤلفة مورا�ساكي �شيكيبو ،يف مواجهة ال�صحيح يف الأدب العاملي:
مفاهيم مركبة ومعقدة يف ذلك الع�رص ،من نوعية هذا العمل ،الذي يقع فيما يزيد على ثالثة �أرباع
الزواج واال�ستحواذ الروحي والعالقة بني اجلوانب مليون كلمة ،مدرجة يف �أربعة وخم�سني ف�صالً،
الروحية والتقاليد البوذية والأعراف ال�شنتوية. يتميز ب�صفة جوهرية بحبكة ب�سيطة ،تدور حول
(ج) الرباعة الفائقة يف ر�سم ال�شخ�صيات ،ولعل هذا حياة البطل جينجي وغرامياته ،ومن ثم كاورو
البعد هو �أقوى احلجج التي ي�ستعني بها املتحم�سون الذي يعتقد ب�أنه ابنه من بعده ،هو بح�سب �إجماع
لو�صف «حكاية جينجي» ب�أنها الرواية الأوىل ح�شد هائل من الباحثني والكتاب وال�رشاح والنقاد
يف العامل بامتياز ،فال�شخ�صيات التي حت�شدها �أول رواية باملعنى ال�صحيح يف �أي �أدب من �آداب
امل�ؤلفة تقدر باملئات ،وعلى الرغم من �أنه لي�س العامل.
هناك الكثري من التغلغل ال�رصيح يف م�شاعر بينما مييل تيار قوي من املنظرين والنقاد
80 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
يف هذا ال�صدد ال�ضجة الكربى التي �أثارها الروائي ال�شخ�صيات وحاالتها الذهنية� ،إال �أنها يف نهاية
الياباين كينزابورو �أوى ،عندما ذهب يف مقابلة املطاف �شخ�صيات مر�سومة برباعة ،وجرى التمييز
مع جملة «مانوا» الدورية الأدبية املتخ�ص�صة بني كل �شخ�صية و�أخرى ب�إ�رصار وبراعة فائقني،
ن�رشتها يف عددها ال�صادر يف �صيف �1994إىل ونالحظ �أنه ال وجود للتطرف يف ن�سبة ال�شخ�صيات
القول« :هناك من يقوولون �إن (حكاية �إىل اخلري �أو ال�رش ،با�ستثناء ما جنده يف الف�صول
جينجي) هي �أول رواية يف العامل ،تعد «حكاية الأوىل من احلكاية ،التي ميكن و�صفها ب�أنها الأكرث
و�أعتقد �أن هذا غري دقيق ،قد يكون من جينجي» رومان�سية يف العمل كله ،والإيهام باحلياة واحلركة
املمكن القول �إن (الكوميديا الإلهية) يتم حتقيقه ،يف الغالب الأعم ،من دون مبالغة وال
هي �أول رواية يف العامل تت�سم بالعظمة من امل�صادر و�صول �إىل �آفاق املالمح الكاريكاتريية.
والتكامل باملعنى احلقيقي� ،أما القول الرئي�سية د ـ عمق الت�أثر وات�ساع نطاق الرواج ،فمن الوا�ضح
�إن (حكاية جينجي) هي �أول رواية لدراما النو �أن «حكاية جينجي» قد وجهت يف البداية �إىل حلقة
يف العامل فهو خط�أ ،فهناك اختالف امل�سرحية، �ضيقة من �سيدات البالط الهاييني ،لكنها اكت�سبت
يف املفاهيم بني (حكاية جينجي) رواج ًا و�شعبية مل يقدر لهما الرتاجع قط ،منذ ذلك
كما اقتب�ست والرواية الأوروبية». احلني وحتى اليوم ،وهكذا �شهدنا انت�شاراً حمرياً
ومن امل�ؤكد �أن مما له داللة بالغة لأعمال ال ملخطوطات هذا العمل ،يف القرون الو�سطى ،ومن
العمق �أن هذه الأ�سطر التي قالها �أوي ،ح�صر لها هذه املخطوطات �أُخذت الن�صو�ص الكاملة الأوىل
يف هذا احلوار ال تزال جتد من الباحثني قدمت على لهذا العمل ،التي قدر لها الو�صول �إىل �أيدينا والبقاء
وال�رشاح واملنظرين واملعنيني بـ حتى اليوم.
«حكاية جينجي» من يت�صدى لها خ�شبة م�سرح ومل يقت�رص ت�أثري هذا العمل على الإبداع الأدبي
الكابوكي وعرب بالتفنيد �أو الت�أييد حتى اليوم. الالحق� ،إمنا امتد �إىل العديد من القوالب والأ�شكال
ثانياً« :حكاية جينجي» ت�شكل تطوراً ال�شا�شتني الفنية ،و�صو ًال �إىل الأدب ال�شعبي ،وتعد «حكاية
نوعي ًا بال مثيل يف م�سار الأدب جينجي» من امل�صادر الرئي�سية لدراما النو
الف�ضية
الياباين :احلقيقة الأ�سا�سية املتعلقة امل�رسحية ،كما اقتب�ست لأعمال ال ح�رص لها قدمت
بـ «حكاية جينجي» التي يتعني وال�صغرية. على خ�شبة م�رسح الكابوكي وعرب ال�شا�شتني الف�ضية
�أخذها يف االعتبار يف معر�ض تقومي وال�صغرية.
هذا العمل هي �أن م�ؤلفته ،مورا�ساكي ومن املده�ش �أن ت�شق «حكاية جينجي» يف �أكرث من
�شيكيبو ،تعني بالن�سبة لليابان ما يعنيه هومريو�س حماولة �إبداعية واحدة لنقلها من اليابانية القدمية
لليونان ،و�شك�سبري الجنلرتا ،ودانتي اليطاليا، �إىل اليابانية احلديثة ،طريقها �إىل قوائم �أكرث الكتب
وجوته لأملانية ،و�شعراء التاجن لل�صني. مبيع ًا يف اليابان.
من املحقق �أن هذا التقومي مل ي�أت من فراغ ،و�أنه غري �أن علينا االنتباه �إىل الطبيعة ال�رصاعية للعالقة
ال يعك�س مبالغة وال ت�ضخيماً ،و�سواء �أقبلنا وجهة بني هذين التيارين ،والتي مل تفقد �سخونتها حتى
النظر القائلة �إن «حكاية جينجي» بكاملها ت�شكل اليوم ،نتيجة لالحتكاك املتواتر بني القائلني ب�أن
وثبة تخيلية هائلة ،مت عربها جتاوز كل ما قبلها «حكاية جينجي» هي الرواية الأوىل يف العامل ومن
علي نحو نوعي ال جمال لإنكاره� ،أو ذهبنا �إىل ي�رصون على نفي ذلك و�إنكاره .ويكفي ان نتذكر
81 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الكثري مما يدعو �إىل التنب�ؤ بالقفزة النوعية الكبرية تبني وجهة النظر املختلفة القائلة �إن كل ف�صل �أو
التي �ستحقق عرب «حكاية جينجي» .هذه القفزة تبدو جمموعة ف�صول منها تعك�س قفزة تخيلية جزئية
باهرة بكل املعايري �إىل حد �أن �إدوارد جي �سدن�ستكر باملقارنة مع ما �سبقها ،ف�إننا يف نهاية املطاف
لن يرتدد يف مقدمة ترجمته لـ «حكاية جينجي» �إىل مع «حكاية جينجي» جند �أنف�سنا حيال تطور نوعي
االجنليزية يف القول �إن مورا�ساكي �أجنزت عربها ال مو�ضع للت�شكك فيه ،بحيث �أن الأدب الياباين
حماولة ،ناجحة بح�سب ر�ؤية الكثريين ،ل�شيء بعدها �سيختلف متام ًا عما كان عليه قبلها.
غري م�ألوف باملرة ،وهو �إبداع �أول بطل يف الأدب حتى املنعطف الذي �أطلقت عنده «حكاية جينجي»
العاملي كله ،والذي يتمثل يف �شخ�صية كاورو. يف وقت ما من الربع الأول من القرن احلادي
من املهم �أن نتوقف عند تلك الإ�شارة البارعة التي ع�رش امليالدي (عام 1004بح�سب اعتقاد بع�ض
يتقدم بها ثيودوردي باري حمرر كتاب «م�صادر الباحثني ،لكن من دون وجود دليل ن�صي حا�سم
العرف الياباين من �أقدم الع�صور حتى عام »1600 ي�ؤكد هذا االعتقاد) ،كان الأدب الياباين يت�ألف من
حيث يلفت نظرنا يف �صفحة 201من اجلزء دواوين �أو جمموعات �أو خمتارات مكتوبة وفق ن�سق
الأول من هذا الكتاب ال�صادر عن دار ن�رش جامعة الكاجني امل�ستعار من ال�صني.
كولومبيا �إىل �أن مورا�ساكي نف�سها تقدم لنا �إ�ضاءة �أما النرث فقد اقت�رص على احلكايات اخلرافية وعدد
للت�سا�ؤل عما �أرادت قوله يف عملها ،وذلك يف واحد حمدود من اليوميات والأعمال املكتوبة ب�أ�سلوب
من �أقدم الأمثلة على النقد الياباين ،وهو الوارد يف املقاطع ال�صوتية اليابانية ،املعروفة با�سم الكانا،
الف�صل اخلام�س والع�رشين من «احلكاية» بعنوان ومل يقدم �أحد من قبل قط على كتابة رواية ،دع جانب ًا
«الحُ باحب». رواية ذات حبكة وا�ضحة وال ينق�صها الرتكيبة يف
هنا وعلى امتداد �صفحتني من احلوار بني جينجي �آن معاً ،وحتفل مبئات ال�شخ�صيات التي يتم ر�صدها
وتاما كازورا� ،سنجد مالمح من ر�ؤية مورا�ساكي عرب خمتلف مراحل تطورها.
ملا يعنيه الق�ص الإبداعي بالن�سبة لها ،فهي ترف�ض بهذا املعنى ف�إن مورا�ساكي كان �أمامها ،كم�صدر
القول �إن هذا القالب الإبداعي ي�ستهدف الرتفيه ال ت�ستلهم منه عملها ،تراث بالغ الرثاء من الكتابات
غريه ،وترى فيه قناة ملتابعة امل�صائر� ،أي لت�أمل التاريخية ال�صينية ومن ال�شعر الغنائي ال�صيني
املا�ضي وال�ست�رشاف امل�ستقبل ،لتجنب الوقوع يف والياباين� ،أما من ناحية الق�ص الياباين ف�إنها مل
�رشاك اخلديعة ،ثم �إن هذا القالب ر�سالة �إىل �أجيال يكن لديها �إال البدايات التي تو�صل �إليها اليابانيون
امل�ستقبل حول الطريقة التي يعي�ش بها النا�س �أنف�سهم يف القرن العا�رش امليالدي ،حيث مل يكن
حياتهم ،ثم �إن هذا الإبداع �أداة فاعلة يف ردم الهوة الق�ص النرثي مما يعجب به ال�صينيون كثرياً يف
بني اال�ستنارة والعواطف ،ف�ض ًال عن انه يف ذاته ذلك الوقت ،ومل يكن مما برعوا يف �إبداعه.
يتمتع بقيمته. وعلى الرغم من �أن هذه البدايات اليابانية املبكرة مل
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) تكن تفتقر �إىل اجلمال وال الت�ألق� ،إال �أنه مل يكن فيها
م ــقدّمة:
يف ال ّتعريف ب�أعمال ال ُك ّتاب ال ّثالثة: ملاذا كُتب ه�ؤالء ال ّثالثة دون غ ِريهم؟ لقد
ال�سرية النّبوية تبينّ لنا خالل درا�سة كُتب ّ
ّ � gأول هذه الكُتب ت�أليفا هو كتاب احلديثة يف نطاق �أطروحة ال ّدكتوراه( ،)1أ� ّن
املحمدية �أو ح ّل اللّغز املق ّد�س، ّ خ�صية
ال�ش ّ ّ ال ّدرا�ساتِ اجلا ّدة غري التقليدية قليلة� ،إذ خبا
الر�صايف (ت. لل�شاعر العِراقي معروف ّ ّ اجلديد يف �أكرث الكتب واملقاالت التي اتّخذت
ق�صة ت ُدلّ على ،2)1945ولهذا الكِتاب ّ ال�سرية م�صا ِد َر لل ّدرا�سة ،ونزع
من مد ّونة ّ
كونه «بِدعة» يف زمانه ويف زمان َم ْن
جم ٌع وفري من الباحثني العرب واملُ�سلِمني
جاء بعده� ،إذ �أُ ِّرخت مق ّدم ُته ب�سنة ثالث
�إىل تلبي�س ال ّدرا�سة بالعقيدة ،ف�أنتجوا
وثالثني وتِ�سعِمائة و�ألف (،)1933
درا�سات «دينية» تمُ ّجد وتذ ُّب عن �صاحب ٍ
وال ّن�سخة التي اع ُتمِ دت يف الطِّ باعة
ال�شرّ يعة .و�سعى فريق منهم يف تلخي�ص
اكتتبها كامل اجلادرجي �سن َة �أربع
و�أربعني وتِ�سعِمائة و�ألف (ّ � ،)1944أما
نتائج
َ الآثار املدرو�سة دون �أن ي�صلوا �إىل
تظهر �إ ّال عام ال ّن�رشة الأوىل للكِتاب فلم
علم ّية تتعلّق ب�سرية حم ّمد التّاريخ ّية �أو
ْ
اثنني و�ألفني ( !)2002وهكذا ظ ّل الكِتاب بن�ش�أة الإ�سالم .ونعتقد أ� ّن ما كتبه ال ُكتّاب
يخرج فيها �أ�سريا ُزهاء �س ّت َة ُعقودٍ ،مل الثالثة الذين نروم قراء َة �أعمالهم َن أَ�ى عن
ُ
َطر الذي كان ال�سائرة� ،إذ حاول �أ�صحا ُبه �أن نهج الدرا�سات ّ
ا�س .وقد �أدرك �صاح ُبه اخل َ لل ّن ِ
ا�س من بِ�سِ فره محُ دِقا فقالّ �« :أما ُ�سخطُ ال ّن ِ يتّبعوا �سبيال نقد ّيا يف التّعامل مع �أخبار
�أجل �أ ّنني خالف ُتهم ِل ِوفاقها [احلقيقة]، «عمودها» ال�سرية ،وراجعوا �أ�صوال من َ ّ
الف
و�صارحتهم يف بيانِها َجريا على خِ ِ ال�سائر ،فجاءت ُم ؤ�لّفات ُهم « ِب ْدعة» بني
ّ
عادات �سقيمة وتقاليد ٍ جروا عليه من ما ْ ال ّدرا�سات ،فهل هي كذلك حقيق ًة؟
83
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
املحمدية يف مكّة ()2007 ّ بـتاريخية الدعوة
ّ و�سمه فل�ست ُمبالِيا به ،وال ُمك ِرتثا له ما دمت ال ُ واهِ ية،
وفل�سفيا
ّ تاريخيا
ّ ( .)6وقد جاء الكِتاب ال ّأول نظرا �أطلب مبا �أكتب �إال ر�ضا احلقيقة:
نبوة يف ق�ضايا ت ّت�صل مباهية القر�آن وخ�صائ�ص ّ َل َع ْم ُرك � ّإن احل َُّر ال َي َت َّ
قي ُد
ال�سابقةّ � ...أما الكِتاب ال ّثاين حممد بني �سائر النبوات ّ ّ يف املُف ِّن ُد�شاء َّ �أ َال فل َي ُق ْل ما َ
إ�سالمية،
ّ ل ا عوةدّ ّلل ة اريخي ت
ّ ال القراءة عليه غلبت فقد وي�س ّبون وي�صخبونُ ، َ �سيغ�ضبون َ أعلم �أ ّنهم و�إنيّ ل ُ
ال�سرية،اريخية يف ّ
ّ �إذ بد أ� الكاتِب بتقومي امل�صا ِد ِر ال ّت وي�ش ُتمون ،ف�إن كنت يف قيد احلياة ،ف�س ُي�ؤذيني ذلك
ثم خا�ض يف تف�سري بنية املجتمع املكّي حني ظهر ّ منهم ،ولك ّني �س�أحتمل الأذى يف �سبيل احلقيقة []...
حممد .وفح�ص عن �أمر املراحل الأوىل من ال ّدعوة ّ ميتا فال ينالني من �سِ بابهم خري ،كما و�إن كنت ْ
كالهجرة �إىل احلب�شة والتهجري �إىل يرثب ...فهل ِ حتىِتاب ّ ال ينالهم منه خري»( .)3فماذا حوى الك ُ
الر�صايف ال�شاعِ ر معروف ّ مل� ّؤرخ ما �أغفله ّ �أ�صاب ا ُ ام؟ وهل ت�س ّنى الكاتب مب�ص ٍري َ�ص َد َق ْته ال ّأي ُ ُ يتنب�أَ له
ّ
الرابع من القرن العِ�رشين؟ وهل �أدرك يف العقد ّ أتي َ � ي أن � العربي أدب لا أ�ستاذ � و اعر ال�ش
ّ �صايف للر
ّ
تاريخية مامل ُيد ِركه رجلُ ّ ال�سرية قراء ًة
يف قراءة ّ الرابع من القرن الع�رشين مبا مل ي� ِأت به ّ قد ع
َ ال يف
ال�سيا�سة والفكر الإيراين علي ال َّد�شتي؟ وما هي ّ ال�سرية؟الأوائل يف ّ
موارد االئتالف ،ومظاهر االختالف بني ه�ؤالء أربع و�سبعني وتِ�سعِمائة � gصدر ببريوت �سن َة � ٍ
حممد ،وقد ُحبرِّ فيها ّ ال ّناظرين اجلُدد يف �سرية و�ألف ( )1974كِ تاب باللّغة الفار�سية ُو�سِ م بـبي�ست
خالل ال ُقرون اخلالية َع�رشات ال ّت�صانيف؟ مل ؤ�لِّف ،وتاريخ و�سه �سال ،وقد ُن�شرِ عاطِ ال من ا�س ِم ا ُ
ام ب�أخبار هذا الكِتاب ثم �أتت ال ّأي ُ ال ّن�رش ومكانهّ .
املُنطلقات املنهج ّية: نوان 23 :عاما، العربية ب ُع ِ ّ رجم �إىل و�صاحبه� ،إذ ُت ِ
خفي
لك ّل كاتب من ال ُك ّتاب ال ّثالثة منهج �رصيح �أو ّ وع ِز َي �إىل الكاتب الإيراين علي ال َّد�شتي (ت1981 .؟) ُ
الر�سول ،وال �شكّ � ّأن ال ّنفا َذ
قاده يف قراءة �سرية ّ ُ دلّ ي و بريوت(.)4 هو ه شرْ � ن مكان إن ّ � قال الذي
ير ّد
�إىل معامل املنهج ال ّذي حكم �أعمالَ اجلماعة ُ النبوة �أي ثالثة وع�رشين ّ ال ُعنوان بداه ًة على ُعمر
متفرق ًة يف كُ تبهم �إىل �أ�صول معلومة، نتائج كثري ًة ّ
َ ثالث حممد كما ا�شتهر يف الأخبار َ ق�ضى منها ّ عاماّ ،
ُراجع لأعمالِهم من توجيه نظره �إىل تلك ويمُ كِّن امل ِ �سنوات باملدينةِ .وقد جاوز ٍ َع�شرْ َ َة �سن ًة مبكّة وع�شرْ َ
يغر َق يف الفُ�صول .لكن هل احتكم الكليات دون �أن َ ّ خ�ص�ص ف�صال لل ّنظر بحث الكاتب هذه الفَرتة� ،إذ ّ
ال ُك ّتاب الثالثة �إىل �أ�صول واحدة على اختِالف حممد (الف�صل يف م�صري اجلماعة الإ�سالمية بعد ّ
الع�رص واملِ�رص وال ّثقافة؟ فمِ ن ه�ؤالء َمن غلبت حممد») .وينـزع ال َّد�شتي يف اخلام�س الأخري «بعد ّ
كال�شاعِ ر
قليدية ّ إ�سالمية ال ّت ّ
ّ العربية ال
ّ عليه ال ّثقافة حممد نزعة «عقالنية» مثلما تر ّدد يف قراءة �سرية ّ
ت�شبع بال ّثقافة ّ الر�صايف ،ومنهم من معروف ّ غري مو�ضع من كتابه ،ف�إىل �أين قاده هذا املنهج؟
مل� ّؤرخ ال ّتون�سي والفل�سفية احلديثة كا ُ
ّ اريخية
ّ ال ّت وملاذا تخ ّفى حني ن�رش ال ِكتاب ،وهل فيه من الآراء
املُعا�صرِ ه�شام ج َع ْيط ،وثا ِلثُهم كاتب �إيراين اكتنفه اجلديدة ما يدعو فعال �إىل ذلك؟
ف�ضاء ثقايف �إ�سالمي �شيعي ُعموما ،لكن غري ّ � gأما ثالث ال ّثالثة من ال ُك ّتاب فلي�س ب�شاعِ ٍر
عربي� .أفال يكون َجم ُعنا تخليطا ،وح�شرْ ا لأعالم مل� ّؤرخ التون�سي ه�شام وال رجل �سيا�سة و�إنمّ ا هو ا ُ
لل�سرية؟ تباينت م�صادر ثقافتهم ومناهج در�سهم ّ جعيط ،وهو باحث جامعي مرموق يف الأو�ساط
قائم بني بع�ض الأ�صول �إ ّننا نعتقد � ّأن تناظُ را َّما ٌ أكادميية( ،)5ن�رش يف �أواخر القرن الع�رشين كِ تابه ّ ال
ال ّتي اعتمدوا عليها مع اختِالف يف طرائق اال�ستِناد والنبوةّ النبوية ،الوحي وال ُقر�آن ّ ال�سرية ال ّأول يف ّ
النبي.
ّ �إليها ،و�إجرائها على تاريخ آخر
ثم ث ّنى بعد ب�ضع �سنوات بكِتاب � َ (ّ ،)1999
84 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
ح�سا�س ج ّدا لأ ّنه يلت�صق باملاورائي يف مو�ضوع ّ 1ـ ال ِقراءة ال ّتاريخ ّية ّ
لل�سرية ال ّنبويّة:
وي ّت�صل باملُعتقد ،وال ّتاريخ �إنمّ ا هو عِ لم و�ضعي لل�سرية حماولة الكُتاب
و�أر�ضي يتناول فعاليات الأفراد واملُجتمعات اريخية ّ
ّ نعني بالقِراءة ال ّت
حممد داخل ال ّتاريخ ّ ال ّثالثة �أن ُينزلوا تاريخ
ويخرج عن دائرة الإميان ُ الب�رشية يف املا�ضي، ّ ينية...
أمر يكون �أكثرَ َ ل ا أن � �شكّ وال ُعتقد»(.)11 وامل قافية وال ّد ّ ِماعية وال ّث ّالعام بوجوهه االجت ّ
َ ّ ِلمية
«ح�سا�سيةً» �إذا كان الكات ُِب ُم�سلِما ،و ُيخاطب وهذه الغاية تهفو �إىل �إدراكها ال ّدرا�سات الع ّ
ّ تتدبرها باعتِبارها
إ�سالم اعتِقاد �أو املُعا�صرِ ة لتاريخ الأديان� ،إذ ّ
عربيا م�سلِما يف ُمعظمهَ � ، ّ ُجمهورا
الب�رشية(.)7 �أ�شكاال مق َد�سة «معي�شة» يف تاريخ
إ�سالم ثقافة تكتنف الإن�سان ،و ُت�سهم يف تكوينه ّ
� َ وعوا
ال ّنف�سي ،و ُت�شكِّل مخِ يالَه ...و�إىل هذه املُع�ضلة مقا�ص َد العِلم �سواء َ ِ فمق�ص ُد اجلماعة ُيوافق
ذلك� ،أم جاء اجتِها ُدهم مبعزل عن ت�أثري ال ّثقافة
حممد عبد احلي ّ مل� ّؤرخ املِ�رصي ِلمية �أ�شار ا ُ الع ّ مل� ّؤر َخ هِ �شام جعيط هو احلديثة .وال َيخفى � ّأن ا ُ
�شعبان ،بل جعل احلديث عنها فاتحِ ة كِ تابه يف
ت�شبع باملناهج احلديثة الوحيد بني اجلماعة الذي ّ
ال ّتاريخ الإ�سالمي(.)12
ال�سرية� ،إذ يف درا�سة ال ّتاريخ والأديان ،و�أحال على م�صادرها
لقد خرج ال ّتاريخ يف القدمي من ُ�صلب ّ وح ْ�س ُب القا ِرئ
ال�س ِري والأخبار» ،لك ّنه �أ�صبح بعد حممدَ . ّ كتابيه عن ْ أوروبية يف
ّ ال
�سمى «عِ َلم ّ كان ُي َّ
لكن
أعم ،و�أ�ضحت هي فرعا منهّ . ذلك �أ�شملَ منها و� َّ �أن ينظُ ر يف هوام�ش الكِتاب ال ّأول وال ّثاين ل َيظْ َ
فر
يتحركُ يف ف�ضائه املعريف ق�سيم لل ُعلوم ال � ة ،و�أ�سماء ب�أ�سماء �أعالم ال ّثقافة احلديثة واملُعا صرِ
ّ هذا ال ّت َ
الفل�سفية املُح َدثون� ،إذ �أ ّثرت يف ثقافتهم ال ّثورة ُجمهور وا�سع من املُ�ست� ِرشقني ،ح ّتى َمن كتب ب� َأخ َرة
ّ
الت �أغلب ال ُعلوم بال ّدين. ِلمية التي قطعت ِ�ص ِ ري معروفة على نطاق وا�سع مثل وال تزال �آرا�ؤه غ َ
والع ّ
ر�سخت هذه ال ّثورة كما ا�شتهر منذ ع�رص الر�صايف يف ك .لك�سبورغ (ّ � .)8()Ch. Luxenbergأما ّ
وقد َ
الر�صايف زمانه وو�سطه الذي عا�ش فيه فلم ُي ِ�صب من ال ّثقافة
امن َع�شرَ َ .ونعتقد � ّأن ّ
الأنوار يف القرن ال ّث َ
وال َّد�شتي وجعيط حاولوا جميعا �أن ُيد ِرجوا جت ِربة رج َم منها مثلما �سيتبينّ ُ يف بع�ض ما ُت ِ احلديثة �إال َ
النبوة يف ال ّتاريخ، مو�ضعه ،وهذا ال ّنزر الذي �أ�صاب ال ُيحيلُ عليه يف
ّ
�سرية وقر�أوا دية ،و�إنمّ ا دلّتنا عليه قراء ُة ُحم ّال�شخ�صية امل ّ ّ هوام�ش
حممد يف �ضوء ّ تاريخية �أي�ضا! وكذلك يق ّل االعتِماد ّ كتابه قراء ًة
مكوناته،ّ �رصاع دية احلديثة يف كِ تاب الإيراين املحم ّ
ّ على ال ّدرا�سات
ال حدثا ُمتعالِيا علي ال َّد�شتي(.)9
عنه .وهذه قراءة ال�صلة باملُق َّد ِ�س، النبوية مو�ضوع �شديد ّ ّ ال�سرية
� ّإن ّ
لل�سرية،
دينية ّ ّ غري ب�شخ�صية �صاحِ ب ال�شرّ يعة .وكم كانت ّ لأ ّنها تتعلّق
تقليدية و�إنّ وغري معرف ُتها �أ�صال من �أ�صول ال ّديانة لدى كثري من
درج ُة اختلفت مل� ّؤرخني قدميا ،ويف هذا املعنى ال�سري وا ُ �أرباب ّ
«تاريخيتها» من ّ النبوية
ّ ال�سريةال�سخاوي (ت902 .هـ)ّ �« :إن ّ نقل ّ
كاتب �إىل �آخر. مما يحِّ ق على املرء امل�سلم بخ ُ�صو�صها منه ّ ُ
لي�س غر�ضنا يف حفظُ ها ،ويجب على ذي ال ّدين معرف ُتها»(ّ � .)10أما
هذا البحث � ْأن عِ لم ال ّتاريخ فهو عِ لم و�ضعي وقد �أ�شار جعيط �إىل
ُنحيطَ بك ّل ما قاله ال�سرية اريخية ال�صرِّ فة ملو�ضوع ّ ّ ُع�رس ال ّدرا�سة ال ّت
ال ُك ّتاب ال ّثالثة يف تاريخية بحتة ّ �إذ قال عن كتابه ال ّثاين �إ ّنه« :درا�سة
85 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الهجرة (580هـ) �أو ُبعيدها ثمانني وخم�سِ مائة من ِ حممد ،فذلك ُيظف َُر به يف كتبهم ذاتها ،و�إنمّ ا �سرية ّ
تقريب تاريخي ال يقوم على ٌ ب�سنة �أو �سنتني(،)16 ال�سرية ما �سنحاول � ْأن ن�ست�صف َِي من مقاالتهم يف ّ
جدت �سبيلُ ال�شكّ العِلمي التي �شواهد ما ّدية .وقد َو ْ وخروجا عن م�ألوف املقاالت يف نرى فيه جديداُ ،
عف الر�صايف َم ْن �أقام احل ُّجة على َ�ض ِ اخططّ ها ّ خا�صة واملُ�سلِمني ّ الر�سول لدى العرب ما كُ تِب عن ّ
حممد وعام الفِيل، ّ الرواية التي تربِط بني والدة ّ ي�ستقيم ذلك �إال ب�أ�سلوب ،فارت�أينا �أن َ عامة .ولن ّ
مل� ّؤرخ جعيط � ّأن حملة �أبرهة على احلب�شة �إذ ُيقرر ا ُ ال�سرية املعروف: ّ هيكل ِعني ب ت
ُّ م آراءهم � ى نتق�ص
ّ
ني وخم�سِ مائة (547م) َح َ�س َب �سبع و�أربع َ وقعت �سنة ٍ حممد قبل البِعثة .ومب َع ٌث يبد أ� ُمبتد�أ ،يتعلّق بحياة ّ
ال ّنقو�ش(.)17 النبوة ،وينتهي بنهاية الفَرتة املكّية، ّ بعوار�ض
تحرر من �أ�رس الر�صايف يف كتابه عن روح ُم ِّ ُي�صد ُِر ُّ والهجرة �إىل يرثب يف �سنة اثنتني وعِ �رشين و�سِ ِّتمائة ِ
ال�سرية قدميا اال�ستن�ساخ وهو داء �أ�صاب كتابة ّ النبي باملدينة ّ ومغاز ،تتعلّق بحياة ٍ (622م).
وحديثا ،ولع ّل هذه ال ّنزع َة يف تفكريه هي التي ال�سنة احلادي َة َع�شرْ َ َة (11هـ) من ح ّتى وفاتِه يف ّ
علمية مفيدة يف كتابته لتاريخ ّ «حدو�سا» �أنتجت ُ م�صادر مكتوبة َ الهجرة .وقد ورد هذا «الهيكل» يف ِ
حممد ،رغم � ّأن الكات َِب مل ي�ستطِ ْع �أن ُيقِيم الربهان ّ املكية
ّ ُمت� ّأخرة عن زمن ال ّدعوة ،و�أنتجت الفَرتتان
على تلك احلُدو�س يف كثري من الأحيان لعدم واملدنية �رشيعة ،كان لل ُك ّتاب يف م�سائلَ منها �آراء ّ
تاريخية حديثة متينة ،ولكونه كتب ّ امتِالكه لثقافة خم�صو�صة.
تطورا املحمدية يف الغرب ّ ّ تتطور ال ّدرا�سات قبل �أن ّ الر�صايف عن حدود اخلِطاب ال ّتمجيدي يخرج ّ
كبريا منذ ال ّن�صف ال ّثاين من القرن العِ�رشين .وال الر�سول عام الفيل ،و ُيق َّد ُر القدمي الذي ُي�سلِّم مبيالد ّ
مل�ؤمن املُقلِّد الر�صايف �إميان ا ُ غراب َة يف �أن ي�صد َِم ّ عاد ًة ب�سنة �سبعني وخم�سِ مائة (570م) ،ويرى
حممد ،رغم � ّأن للنبي ّ ّ �إذ ُيق ّد ُم له �صورة غري ُمطّ ِردة النبوةّ حممد قبل وايات التي تتعلّق بحياة ّ الر ِ � ّأن ّ
�ض من ال ّديانة بقدر ما ما يقوله يف موا�ضع ال ي ُغ ّ يهتموا ا�س مل ّ «مظلِمة» ،يط َب ُعها اال�ضطِ راب ل ّأن ال ّن َ ُ
اريخية التي �شكلّها املُ�سلِمون ّ ال�صورة ال ّت �ض من ّ ي ُغ ّ به �إال بعد وفاته بزمن طويل ،وهكذا ا�ضطربت
الب�رشية التي ّ جاو ُز احلُدود للنبي ،وهي منوذج ُي ِ ّ الروايات التي جاءت يف روايات املولد« :فانظُ ْر �إىل ّ
نف�سه. ُ آن � ر ق
ُ ال عليها ن�صّ جت ُد فيها اختِالفا بالِغا �إىل عام ِوالدتِه مثال ،ف�إ ّنك ِ ِ
الر�صايف ُّ قاد اريخ ت
ّ ال يف ة النبوي
ّ التجربة تنـزيلَ � ّإن يت�ضمنها اختِالفُهم ّ التي ة د
ّ امل وجتد ً،
القو �أح َ َ شرَ َ
� ع د
النبوة خامِ لَ ّ «حممدا كان قبل ّ �إىل الإقرار ب� ّأن م�س َع�شرْ َ َة �سنةً ،وما ترتاوح بني ما قبل الفِيل ب َِخ َ
�شتهر وال معروف عند العرب(،)18 ري ُم ِ ال ّذكر» غ َ ِالف
جاوز اخت ُ ني �سنةً»(� .)13أي ُي ِ بع َده ب�سبع َ
ال�سرية إ�سالمية يف كُ تب ّ ّ وايات ال الر ِ وهذا ُيناق�ض ّ النبي ،وهي ّ مل ّد َة التي عا�شها الرواية يف املولد ا ُ ِّ
اجلاهلية،
ّ وال ّتاريخ �إذ تتح ّدث عن م�آثره يف ال�سرية وال ّتاريخ نيف و�س ّتون �سنة يف �أغلب كتب ّ ٌ
وحتكيمه حني اختلف العرب يف �إعادة ُبنيان الإ�سالميني(.)14
الكعبة .)19(...وينده�ش القا ِرئ عندما يجد عند الر�صايف يف روايات املولِد ي�ست ِن ُد �إىل تلك � ّإن �شكّ ُّ
جعيط وغريه من ال ُعلماء الذين جا�ؤوا بعد الر�صايف منهج ّيا متينا، ِ الروايات نف�سِ ها ،وهو ما يجعله �شكّا ّ
نتائجه و ُتناظِ ُرها حتى يف اللّفظ� ،إذ َ نتائ َِج ُتقا ِرب حممد. قرر تاريخا بعينه لوالدة ّ رغم � ّأن �صاحِ َبه مل ُي ّ
حممدا خرج من هذا ُي�سائِل جعيط نف�سه «كيف � ّأن ّ وقد �أ�صاب �إذ مل يفعلْ ،فلي�س بني َي َد ْي الباحِ ث يف
�شابيالو�سط اخلامل �أي بني ها�شم»( .)20و ُتر ّدد جّ . النبي �إال «الكلمات» �أي عهده ،وقبلَه وبع َده من تاريخ ّ
ِالف اللّ�سان(.)21 الر�أي مع اخت ِ نف�س ّ (َ ) J. Chabbi حممد(.)15 امل�صادر املكتوبة بعد قرنني من حياة ّ
لكن البالذري (ت279 .هـ) -وهو م�صدر من الر�سول �سنة وما يذهب �إليه املُ�ست� ِرشقون من والدة ّ
86 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
كونه-ح�سب ُجمهور َ اريخية من ّ ِلمية ال ّت الع ّ �سميها جعيط رتمة التي ُي ّ امل�صادر الأربعة املُح َ
الباحِ ثنيُ -يجلّي عالقة الإ�سالم بامل�سيحية حممد» -يتح ّدث عن �سيادة بني ها�شم، «�أناجيل ّ
قية وتعاليمها ،وقد �أجحف بع�ض ال ُعلماء ال�شرّ ّ وال�سقاية لها�شِ م، الرفادة ِّ و ُي�رس ها�شم« :ملّا �صارت ِّ
الغربيني يف هذا االتجّ اه حني اعتربوا � ّأن الإ�سالم للرفادة ماال عظيما، كان ُيخ ِر ُج من مالِه ك ّل �سنة ِّ
ام ولي�س مب ّك َة �أو املدينة( .)30وبعيدا بال�ش ِ
ّ ن�ش�أ وكان �أي�سرَ َ ُقري�ش»( ،)22و ُيقر جعيط نف�سه بتالزم
حممد قبلعن مجُ ادلة هذه الأطروحات ف� ّإن �أ�سفار ّ الثرّ اء وال�شرّ ف يف املجتمع املكّي(!)23
النبوة ُتفيد يف ك�شف عالقة الإ�سالم بال ّديانات ّ هامة تتعلّق ق�ضية ّ الر�صايف �إ�شارة لبيبة �إىل ّ ُي�شري ّ
املُجاورة ،و�ضمن هذا املنحى يتن ّزل عمل ج� .شابي أ�سفاره� ،إذ يقول: حممد قبل البِعثِة وهي � ُ ّ بحياة
الأخري :تفكيك رموز ال ُقر�آن� ،صور كِ تابية ب�أر�ض ت�ستحق العِناية بدر�سِ ها ّ أ�سفار ُه هذه هي التي «ف� ُ
العرب(.)31 حق املع ِرفة� ،إذ بها وحدها ومعرفة تفا�صيلها ّ
مرة �أخرى� ،إذ مل� ّؤرخ املُعا�رص ّ ال�شاعر مع ا ُ يلتقي ّ النبوة
حممد قبل ّ تنك�شف لنا �أ�رسار كثرية من حياة ّ
ح�صلَ
الر�سالة َ الر�صايف �إىل القول � ّإن ُعموم ّ ذهب ّ ولك ّنا -مع الأ�سف -نراها غام�ضة �أي�ضا كحياته
ملحمد باملدينة بعد فتح مكّة( .)32و ُي�ؤكّ د جعيط ّ النبوة»( .)24ويرى الكاتب � ّأن ما جاء يف كتب قبل ّ
الر�أي بقولهّ �« :إن ق�ص�ص الأنبياء والإحلاح نف�س ّ ال�سرية من �أ�سفاره منقو�ص( .)25ولع ّل توجيه ال ّنظر ّ
آنية دعوة على «اللّ�سان العربي» ُت ِربز � ّأن ال ّدعوة ال ُقر� ّ أهم من حماولة �ضبطها ،مادام ّ � أ�سفار ل ا ألة س�م� إىل �
نبيهم ،وهذا �أ�سا�سي يف الفَرتة «وطنية» �إذ لك ّل قوم ّ ّ الكاتِب ال ميتلك موارد تمُ كّنه من ذلك ومل ميتلكها
ا�ستقر
ّ ملا الفة مخُ من فيه ما هذا ويف ّية»(.)33 املك َم ْن جاء بعده ،ف�إذا كان الباحِ ث يف تاريخ الإ�سالم
حممد َعالمَ ّية يف ال�ضمري الإ�سالمي من � ّأن دعوة ّ يف ّ مادية من عِ مارة �أو نقو�ش �أو �سِ كّة... ال يجد �شواهد ّ
�سميناهربز البون بني ما ّ املب َد�إ واملُنتهى .وههنا ي ُ حممد؟ فكيف �سيظفر بها لكتابة تاريخ ّ
لل�سرية ،وما يمُ كن ت�سمي ُته قراءة تاريخية ّ
ّ قراءة هامة ل ّأن ال ّتجارة التي امتهنها � ّإن م�س�ألة الأ�سفار ّ
ال�سرية
إميانية .و�أغلب ما كتبه املُ�سلِمون يف ّ دينية � ّ ّ ال�سفر»( .)26وقد النبوة «من �أقوى �أ�سباب ّ حممد قبل ّ ّ
ال�صنف ال ّثاين من خالل الع�رص احلديث يتن ّزل يف ّ هامة � ّأن ال ِّتجارة وال ّديانة تاريخية ّ ّ بينت �أبحاث ّ
القِراءة. «كانتا يف � ّأيام ما قبل الإ�سالم �أمرين م ّت�صلني ،و� ّأن
ُي ِل ّح الكاتب الإيراين علي ال َّد�شتي على �إدراج ال�شرّ يعة إحداهما كان ُي�ؤ ّدي �إىل جناح الأخرى»(.)27 جناح � ُ
الإ�سالم ّية يف تاريخ وي ُدل ُعنوان كتاب املُ�ست� ِرشقة ب .كرون داللة
الأديان ،و ُيبينّ يف غري املكية و ُبزوغ ّ قاطِ عة على هذا ال ّتال ُزم :ال ّتجارة
مو�ضع � ّأن ت�رشيعات الر�صايف الإ�سالم( .)28ويذهب جعيط �أبع َد من ّ
«م�ستم ّدة � ّإما من املدينة ُ ُهمة يف تف�سري م�س�ألة الأ�سفار �إذ يقول« :ال ّنقطة امل ّ
ال ّت�رشيعات اليهود ّية، حممد لل ِّتجارة ،و�إذن ال�صدد هي تعاطي ّ يف هذا ّ
�أو من العادات العرب ّية ال�شام ومن املُمكِن �إىل اليمن ،وخروجه �سفرا ُته �إىل ّ
الوثن ّية»( ،)34كال ّت�رشيع ح�صلَ هذا اخلُروج من �ضيق الأفق املكّي .قد يكون َ
ا ُملتعلّق بال ّزواج(.)35 ا�ستقر
ّ النبي
ّ يف �سفَرات ُمتتالية وعديدة ،وقد يكون
وال يقف بحث ال ّد�شتي بال�شام ملُدد تطول �أو تق�رص [ ]...ذلك � ّأن ال ُقر�آن ّ
عند ال ّتاريخ بل ُيجاوزه ُمفعم مبع ِرفة دقيقة للترّ اث امل�سيحي وللرتاث
�إىل ال ّن�ضال ال ِفكري اليهودي ،وامل�سيحي �أكرث من اليهودي»(.)29
�ض ّد ال�شرّ يعة كقوله: حممد قبل البِعثة يكت�سِ ُب قيم َته ّ بحث �أ�سفار َ � ّإن
87 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
معناها ال ّدنيوي»( ...)41لكن ا ُ
مل� ّؤرخ العِراقي جواد جن َد � َّأي ُم ّربر عقالين �أو ديني «لي�س مبقدو ِرنا �أن ِ
َبت -يعتمد على ال ّنقو�ش (�شواهد قبور)علي -وهو ث ٌ احلج
للحفاظ على ممُ ار�سات وثن ّية قدمية يف �شعرية ّ ِ
اجلاهلية(� ،)42أفال
ّ حممد يف
ّ ل ُيثبِت انت�شار ا�سم وم�صطلح «عقالنية» وما أُ� ِخذ منه الإ�سالم ّية»(ُ .)36
وحدودها؟ الفيلولوجية ُ
ّ املنهجية
ّ ُي�ؤكّ د هذا ُق�صور ُمتوا ِتر يف ال ِكتاب ،وال ُيفهم منه �إال نزعة الكا ِتب �إىل
2ـ ّ أمر ف� ّإن عقالن ّيةنظر عقلي يف ال�شرّ يعة .ومهما يكن ال ُ
ال�شك ونقد الأخبار: ال ّد�شتي ال تخلو من ُب�ؤ�س ،فحني يتح ّدث عن «وثن ّية»
الر�صايف يف مق ّدمة كِ تابِه�« :أ�صبحت ال �أقيم قال ُّ كرر ما قاله امل�سيحيون احلج الإ�سالم ّية ف�إ ّنه ُي ّ
�شعائر ّ
أح�سب له حِ �سابا ،لأنيّ ر�أيته لل ّتاريخ وزنا ،وال � ُ اعنون على الإ�سالم منذ قرون خلت� ،إذ انتقد الطّ ِ
تج�شم �أهواء ال ّنا�س، وم ّ ومناخ ال�ضاللُ ، بيت الكذب ُ يوح ّنا ال ّدم�شقي ( )St. Jean Damascèneالذي ُتوفيّ �سنة
�إذا نظرت فيه كنت ك�أين منه يف كُ ثبان من ِرمال طاع
�سع و�أربعني و�سب ِعمائة من امليالد (749م) ال ِق َ ِت ٍ
الأباطيل قد تغلغلت فيها ذرات �ضئيلة من �شذور «الوثني» يف الإ�سالم كتقبيل احلجر الأ�سود.)37(...
احلقيقة ،فيتع ّذر �أو يتع�سرّ على املرء �أن ي�ستخلِ�ص و ُي ؤ�كِّد ه�شام جعيط -وهو ُم� ِّؤرخ -يف كتاب ْيه
من طي�س �أباطيله ذرات �شذور احلقيقة»( .)43بهذا ظهر �أثرها فيه. ال�سابقة ،ل ُي ِ �صل َة الإ�سالم بال�شرّ ائع ّ
جليا على ن�سق الر�صايف ف�أظهر خروجا ّ البيان بد�أ ّ لينجح يف دعوته لو َ حممدا ما كان وهكذا يرى � ّأن ّ
بوية،
ال�سرية ال ّن ّ التمجيدية يف ّّ الت�سليمية
ّ الكِتابة قوية مبكّة �إذ ُقتِل يحيى (يوحنا دينية ّ ُو ِجدت ُ�سلطة ّ
وهي �صفة �أغلب ما كتبه املُ�سلِمون املُح َدثون. و�صلِب امل�سيح املعمدان) �آخر �أنبياء بني �إ�رسائيلُ ،
مي�ضي الكاتِب يف ثنايا الكِتاب يف تف�صيل ما و َ حلكّام(.)38 قوة دينية ُم ؤ� ّثرة يف ا ُ وماين لوجود ّ
�أجمله عن ال ّتاريخ �إذ ينتقد املرويات التي حوتها ا-فيلولوجيا يف
ّ تاريخي
ّ وي ّتبع جعيط منهجا
فالرواية ّ ال�سرية واحلديث انتِقادا الذعا، كُ تب ّ ال�سابِقة� ،إذ
امية ّ ال�س ّ ا�ستقراء عالقة الإ�سالم بالأديان ّ
والرواية املُتواتِرة يكاد وقوعها يكون ُم�ستحيالّ ، ِربية
يقول يف هذا املعنى � ّإن «جربيل» يعني يف الع ّ
باملعنى خطر «ل ّأن معاين الكالم �إنمّ ا ُتو َز ُن مبيزان ُق ّوة اللهّ (جرب�-إيل) ،ولذلك ُو ِ�صف يف ال ُقر�آن بـ«ذي
أمر احلديث عن باقي الألفاظ»( .)44وال يختلِف � ُ ُق ّوة» «و�شديد ال ُقوى»( .)39ويذكر � ّأن «الأفق املُبني»
الر�صايف �إذ ال ُتراعِ ي معايري ح�سب ُّ �رضوب اخلرب َ نر ّدها �إىل عِ بارة يف ال ُقر�آن [ال ّتكوير ]23 :يمُ كِن �أن ُ
املُح ِّدثني ُمطابقة اخلرب للقر�آن واملعقول ،بل ُتراعِ ي مقر الإله العلوي(...)40 ادية ،وتعني ّ «�أفَك» الأكّ ّ
الرواة ،ولهذا وقعت يف كُ تبهم �أحاديث ُمنكَرة «ثقة» ّ وهذا املنهج الذي ا ّتبعه جعيط يف جوهره ُي�ساير
كحديث ال ّذباب(.)45 منهجيات البحث التي �سادت � ّإبان القرن ال ّتا�سع
الر�صايف مع هذا ال�شكّ املنهجي يف املرويات جند ّ ع�شرَ َ ،وهي ال حمالة قدمية يف زمانه (.)1999
ينهل منها يف بطن الكِتاب ،فال تكاد تخلو �صحائفُه «حممد» عالق ًة بلغة ّ ويرى جعيط � ّأن ال�سم الر�سول
ال�سرية ُمت� ِّأخر ج ّدا وهو من الإحالة على كِ تاب يف ّ ال�سرُّ يان وبالبارقليط�س اليونانية ،من طريق عبارة
لعلي بن �إن�سان ال ُعيون يف �سرية الأمني امل�أمونّ ، يانية ،وهو لقب كان ُيطلَق على �أمراء «حممدان» ال�سرُّ ّ
برهان ال ّدين احللبي (ت1044 .هـ1634/م)(،)46 الروم ،فنقلوه غ�سان امل�سيحيني� ،أخذه ال�سرُ يان من ّ ّ
مل َن َّمقة ِ�صنوف من الأخبار ا ُ وقد ح�شا احللبي كِ تا َبه ب ُ ال�صفة (Vir�إىل لغتهم ،وقد كان الروم يخلعون هذه ّ
الرواية �ساهل يف ّ الر�سول تنـزع �إىل اخليال ،و َت َ عن ّ و«حممد» ترجمة ّ )illustrisعلى البطارقة والأمراء.
�شن
فكيف ُي ّ َ �إذا مل تتعلّق باحلالل واحلرام(...)47 للبارقليط�س و«هي عِ بارة تفخيم و ِرفعة ا ّتخذها
م�صادره املُت� ّأخرة َ عم
ال ّنقد على كُ تب ال ّتاريخ ،وال َي ّ النبي يف املدينة بعد �أن ارتفع مقامه ،لك ّنه �أك�سبها ّ
أجدر ،فكلّما كان امل�صدر وهي عند امل� ّؤرخني بال ّنقد � ُ معنى دينيا وربطها برتاث امل�سيحية زيادة على
88 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
مزية
للرواية ،فكيف يكون جمع املُت� ِّأخرين ّ «�إماتة» ّ الوثوق به؟ بعيدا من زمن الأحداث قلّت درجة ُ
يف الت�أريخ؟ ال�سرية �إىل �أ ّدى ال�شكّ يف املرويات بكثري من كُ ّتاب ّ
الر�صايف يف مل� ِّؤرخ ه�شام جعيط �أبع َد من ُّ ويذهب ا ُ ال�سرية و�أوثقِها� ،إذ الإقرار ب� ّأن ال ُقر�آن ر� ُأ�س م�صادر ّ
ال�سرية� ،إذ يقول« :نحن ال نعتمد ال�شكّ يف �أخبار ّ أهم من بني هذه امل�صادِر يقول علي ال َّد�شتي «وال ّ
على ما �أُكمل به الإ�سالم فيما بعد من �سرية وتاريخ نتح�صل منه على مع ِرفة ّ هو ال ُقر�آن ،الذي يمُ ك ُِن �أن
وطبقات وحديث ،ل ّأن القاعدة � ّأن ك ّل ما ُد ِّون بعد بكث ٍري من حوادث ذلك ال ّزمن»( .)48ومِ ن قبلِ ال َّد�شتي
مائة �سنة من احل َدث فاقد لثقة امل� ّؤرخ»( ،)56ويرى أوثق
املذهب حني اعترب ال ُقر�آن � َ َ الر�صايف هذا ذهب ّ
يف مع ِر�ض نقده ملا ُر ِو َي عن ال ّزهري عن ه�شام بن حممد(،)49 ّ من باقي امل�صادر يف معرفة حياة
ُعروة عن ُعروة عن عائ�شةّ � ،أن الأ�سانيد ال يق َبلها تابيه ُي�ؤ ِّك ُد � ّأن «ال ُقر� َآن وكذلك ما فتِئ جعيط يف كِ ْ
«و ِ�ضعت بعد الأثر»(.)57 امل� ِّؤرخ لأ ّنها �سل�سلة �أ�سماء ُ امل�صدر الأ�سا�سي»(.)50 ُ ُمعا�صرِ ٌ للأحداث ،فهو
مل� ِّؤرخ ُيو�شِ ك �أن ُيناق�ض ر�أ َيه هذا يف الكِتاب لكن ا ُ ّ ال�شاعِ َر املُتق ِّدم ب َّز الكا ِت َبينْريف يف امل�س�ألة � ّأن ّ والطّ ُ
ال ّثاين �إذ اعترب ر�سالة ُعروة بن ال ّزبري �إىل عبد امللك الح
وجه �سِ َ ّذين جاءا بعده يف حلْب َة ال�شكّ �إذ ّ الل ْ
هامة( ،)58رغم � ّأن ناقِ لَها تاريخية ّ ّ بن مروان وثيق ًة نقدِه �إىل ال ُقر� ِآن باعتِباره م�صدرا حلياة النبي ،فهذا
الهجري ال ّثالث.-وهو الطّ ربي -من �أهل القرن ِ مما وقع باملرة ّّ الر�صايف «مل يخلُ ح�س َب ُّ
الكِتاب َ
النبي قبل البِعثة كغريه ّ ي�شكّ جعيط كذلك يف حت ّنث الرواية من زيادة و َنق�ص ومن تغيري وتبديل يف ّ
من احلُنفاء( ،)59وي�أتي يف الكِتاب ال ّثاين بر�أي ُخ�صو�صا بوا�سطة تع ّدد القِراءات»( .)51وال �شكّ � ّأن
ُيناق�ض باجلُملة ما ذكره يف الكِتاب ال ّأول« :تقول الر�صايف ينطلِق ممِ ّ ا �أُثري يف بع�ض كُ تب الترُّ اث من ّ
النبي يف غار حِ راء ،فهذا يجعل منه ّ بخلوة ال�سرية َ ّ ُ�صحف(.)52 عِ ناية بخِ الف املُ�سلِمني يف تدوين امل َ
ال�صوامع:ّ أ�صحاب � و اك، �س
ّ نُ ال منوذج من قريبا �شخ�صا الق�ضية يف كِ تاب جعيط � َّأي ّ وال جند لمِ ُناق�شة هذه
هذا ال�سلوك ممكن ج ّدا»( .)60ومر ّد هذا التناق�ض ُت�شبع ب�أ�صول ال ّثقافة احلديثة، مل� ِّؤرخ امل ِّ�أثر وهو ا ُ
ريب هو ُ�ش ّح املوارد املا ّدية املُتعلِّقة بتاريخ بال ْ ومناهج ال ّنقد ال ّتاريخي.
التو�سط يف نقد امل�صادر ّ منا�ص من َ الإ�سالم ،فال ال�سري احلديثة تجُ مِ ُع على توثيق �سرية عبد تكاد ِّ
ُدونة منذ القرن ال ّثاين ،ولمِ َ ال�شكّ يف بع�ض امل َّ امللك بن ه�شام (ت218 .هـ833/م) ،وهي «تهذيب»
الأخبار املُتواتِرة ل�سرية ابن �إ�سحاق (ت150 .هـ768/م) ال ّتي ُتو�سم
ب�صيغ خمتلِفة؟ �إذ هي بـاملبتد�أ واملبعث واملغازي ،وقد اعتمد ابن ه�شام
حمالة ل َن َوى �أحداث ّ يف كتابه على رواية �أحد تالميذ ابن �إ�سحاق،
يمُ ك ُِن � ْأن حتظى ب َقبول زياد بن عبد اهلل ال َبكّائي (ت183 .هـ) .وينفرد
مفر من مل� ِّؤرخ .وال ّ ا ُ الر�صايف بنقد الذع ملرويات ابن ه�شام وملنهجه ّ
االعتِماد على بع�ض يف ال ّتعامل مع �سرية �أ�ستاذه(� ،)53إذ عاب عليه
الأخبار املُتق ِّدمة خا�صة ،ولهذا يرى � ّأن ّ حممد
حذفه مقاالت �أعداء ّ
بعد فح�صها ،ما دام ابن ه�شام مل يخت�رص �سرية ابن �إ�سحاق بل «قتلها
ال ُقر� ُآن ال ُيق ِّد ُم لنا ُتحرر
الروح ال ّنقدي امل ِّ و�أماتها»( .)54لكن �إزاء هذا ّ
لوح ًة ُمكتمِ ل ًة حلياة من �سلطة ال ّن�صو�ص �شبه املُق ّد�سة لدى املُ�سلِمني،
النبي وهو ر�أي باحِ ث ّ ال�سرية الر�صايف على م�صدر مت� ِّأخر ج ّدا وهو ّ عول ّ ُي ِّ
ح�صيف كمنتغمري ال�سري احللبية مثلما تق ّدم ،بل يعتربها «�أجمع كتب ّ ّ
واط(.)61 الرواة»( ،)55ف�إذا كان اختِ�صار املُتق ِّدمني لأقوال ّ
89 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
املُعا�صرِ ة يف الإ�سالم وت�أ ّثرا بها على هيئات 3ـ ت�أثري اال�س ِت�شراق:
ُمتبايِنة. ال ي ّت�سِ ُع هذا املقال لنخو�ض يف معنى اال�ستِ�رشاق،
تقرير ال ُك ّتاب ال ّثالثة -مثلما تق ّدم -ب� ّأن ال ُقر� َآن َ � ّإن املو�ضوع بحثا من قبل �أ�ساطني ال ّدار�سني فقد ُقتِل
ُ
حممد ،وانتقادهم امل�صادر ّ �أوثق امل�صادر حلياة حممد �أركون و�إدوارد �سعيد يف كتابه عن
والر�صايف � ّأولهم يف هذا املذهب(،)63 من �أمثال ّ
املُت� ِّأخرةّ ، اال�ستِ�رشاق ،و�إنمّ ا نو ّد فقط �أن ُن�ؤكّ َد على املعنى
ِ�رشاقيةّ مبعزل عن الكِتابات اال�ستٍ فهما
ال يمُ ك ُِن �أن ُي َ اجلامع لال�ستِ�رشاق باعتِبا ِره دالل ًة على م ؤ�لّفات
الكال�سيكية على اختِالفِ ها� ،إذ دعا املُ�ست� ِرشق ّ الكُتاب الغربيني يف الإ�سالم .لكن هذا اال�ستِ�رشاق
إ�سالمية ّ ل ا للم�صادر �صارم نقد إىل � يتاين كِ الإيطايل
عموما ينق�سِ م �إىل فروع ،فهناك ا�ستِ�رشاق كال�سيكي
املُتعلِّقة بتاريخ الإ�سالم ،ومل يثق �إال يف ال ُقر�آن
تمُ ّثله �أعمال ال ُك ّتاب الأوروبيني يف القرن ال ّتا�سِ َع
ملُعا�رصته لل ّدعوة( .)64وقد ا ّتبع ُخطاه المن�س،
رش وال ُعقود الأوىل من القرن العِ�رشين كنولدكه ع� َ
وبال�شري ...لكن ذكرنا يف مع ِر�ض تقدمينا لكِتاب
وفرعٌ ( )N ldekeوغولدت�سهر ( )Goldziherوغريهما.
الر�صايف �أ ّنه ال ُيحيل على � ّأي كِ تاب �أعجمي ،فكيف ّ
ت�س ّنى له � ْأن يطِّ ل َِع على �آراء كِ يتاين مثال؟ العامليةّ الغربية بعد احلرب ّ يتعلّق بالكِتابات
ال�سرية التي ثم كوك ()Cook انية كم�ؤلّفات رودن�سن وواطّ ، ال ّث ّ
الظن � ّأن ت�أثري اال�ست�رشاق يف ّ ّ �أكرب
بالتع�صب يف وكرون ( ...)P. Croneوقد اختلط العِلم
ح�صلَ من طريق قِ راءة ترجمات الر�صايف َ �ص ّنفها ّ ّ
الر�صايف بالآ�سِ تانة، خا�صة لدى بع�ض الكِتابات الأوروبية عن الإ�سالم ّ
لكُتب املُ�ست� ِرشقني ،فقد �أقام ُّ تب�شريية كالأب مل�ؤلِّفني الذين ا�ضطلعوا بوظائف ا ُ
وان ُتخِ ب ُع�ضوا مبجل�س املبعوثان ال ُعثماين �سنة ّ
اثن َت ْي َع�شرْ َ َة وتِ�سعِمائة و�ألف ( ،)1912و�ألّف ر�سالة البلجيكي المن�س (ت،)]H. Lammens[ 1937.
كية والكاتِب الإنقليزي ُمويِر ( )W. Muirالذي كان
العربية املُ�ستعملَة يف اللّغة الترّ ّ ّ يف الألفاظ
الر�سالة بالهند يف ال ّن�صف ال ّثاين نا�شِ طا يف جمال ال ّتب�شري ِ
وبالعك�س( .)65ويقت�ضي عملُ مثل هذه ّ
رجمت ق ْدرا من الإحاطة باللّغة الترّ كية .وقد ُت ِ رش ،وهو ُم ؤ�لِّف كتاب حياة من القرن ال ّتا�سِ َع ع� َ
الرتكية يف �أوا�سط العقد ال ّثالث حوليات كِ يتاين �إىل حممد (...)Life of Mahomet, 1861 ّ
ّ
الر�صايف الدينية يف �أحيان ّ بالعقيدة ِ�رشاق
ت اال�س �س
� ّإن ّ َ
تلب
رجح � ّأن ّ من القرن العِ�رشين( ،)66و ُن ّ
قر�أ يف هذه الترّ جمة ر�أ�سا لمِ ا يف كِ تابه من �آراء آراء يف الإ�سالم وتاريخِ ه ال نجُ ان ُِب ال َّن�صفة �أنتج � ً
لبع�ضها.
ِ�رشاقية �أخرى عديدة �سنع ِر�ض ِ ّ ا�ست بالتع�صب ،وقد و�صفها بذلك كُ ّتاب ّ �إذا و�سمناها
� ّإن من مظاهر الت�أ ُّثر البينِّ ب�آراء املُ�ست� ِرشقني غربيون �أي�ضا .وهذا اخللط جعل عِ بارة «ا�ستِ�رشاق»
النبوة التي كانت تطر�أ الر�صايف يف عوار�ض ّ قول ّ مذمومة يف الوعي العربي الإ�سالمي على ح ّد
جيدا يف ظر ِّ الوحي« :و�إذا �أنعمنا ال ّن َ ِ حني ُنزول تهافت ُ حممد �أركون( .)62لكن ال ينفي ّ عِ بارة
وتربد
ُّ الرعدة ،و�شِ به الإغماء، أعرا�ضها التي هي ِّ � ِ أوروبية يف تاريخ الإ�سالم وجو َد ّ بع�ض الكِتابات ال
الوجه ،واحمِ رار العينني ،والغطيط كغطيط البِكر، ِلم لذاتِه .وقد كِ تابات تهفو �إىل ال ّن�صفة ،وتطل ُُب الع َ
ال�شديد [ ]...علِمنا وحت ّدر العرق من اجلبني يف الربد ّ ب�صنفيها املُتق ِّد ِم ِ�رشاقية ِّ �أ ّثرت الكِتابات اال�ست
�أ ّنها لي�ست �إال حالة كحالة امل�رصوع ل ّأن هذه ذكر ُهما يف الكُتاب ال ّثالثة الذين راجعنا �أعمالهم ُ
الأعرا�ض لي�ست �إال من �أعرا�ض ال�صرّ ْ ع ،و� ّأن ك ّل يت�سن
ّ يف هذا البحثِ .واختلفت �أوج ُه ال ّت�أثري �إذ مل
�رصع ال يكون �إال كذلك»( .)67وما �أغنانا َم ْن بِه ْ للر�صايف يف زمانه �أن يطّ ل َِع �إال على بع�ض الآراء ّ
يف مثل هذا العمل الي�سري عن الإ�سهاب يف �إبراز � ّأن الكال�سيكية ،يف حني اطّ لع ال ّد�شتي ّ ة ِ�رشاقي
ّ ت اال�س
هذه «ال ّتهمة»� ،أي تف�سري عوار�ض الوحي بال�صرّ ْ ع أوروبية ّ تفاوتة على الكِتابات ال وجعيط بدرجات ُم ِ
90 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
إيديولوجية
ّ الدينية وال
ّ ُيك َتب مبع َزل عن املُماحكات ( )épilepsieمقالٌ �ضا ِر ٌب يف ال ِق َدم� ،إذ �صدر عن
فـ«ك ّل واحد ي ّتهم تاريخ الآخر بالعنف وين�سى بع�ض املُجادِلني البيزنطيني ال ُقدامى ،وو ِرثه عنهم ُ
نف�سه»(.)75 ظن
املُ�ست� ِرشقني املُح َدثني( .)68فاجلديد الذي ّ
حممد بالوجد بال ّن�ساء فيكثرُ يف كِ تاب � ّأما ا ّتهام ّ خليق ،وجدل ديني م�سيحي ٌ الر�صايف �أ ّنه �أتى به ُّ
ربرا خا�صةً� ،إذ ُيو ِرد ال ُقر�آن باعتِباره ُم ِّ ّ ال َّد�شتي قدمي.
ل�شهوات اجل�سد مثلما جاء يف حديثه عن ُملك ومن املقاالت اال�ستِ�رشاقية الكامِ نة يف �سرية
حممدا ملّا �أ�صبح قرر ت�رصيحا � ّأن ّ اليمني( ،)76و ُي ّ حممد
ّ الر�صايف قوله يف غري مو�ضع � ّإن دعوة ّ
بقوة �إىل املر�أةّ �« :أما بعد رج َل دولة باملدينة التفت ّ بال�سيوف ّ ها ن
ُ أركا � ور�سخت ها، دعائم
ُ «ثبتت
االنتِقال �إىل املدينة فقد توافرت الفُر�ص ووجدت جومية ّ ه
ُ ال احلرب أعلن � دا حمم
ّ أن
ّ � و وارم»(،)69 ال�ص
ّ
ال�شديدة لل ّن�ساء مرتعها الف�سيح»(.)77 النبي ّ ّ �شهوة كرر الكاتب ملّا َق ِويت جماع ُته باملدينة( .)70و ُي ِّ
وقد تق ّدم الكالم يف هذه «ال ّتهمة» ،وما االحتِفاء الر�أي بل يزيد فيه �شِ ّدة نف�س ّ الإيراين علي ال َّد�شتي َ
بها �إال داللة على منـزع �إيديولوجي ُمنا�ضل لدى النبي من احلرب ،فقد «دعا يف مكّة وانتِقادا ملوقف ّ
ال�سيا�سة ال ّد�شتي ُيخ ِر ُج كِ تابه من ال ّتاريخ �إىل ّ ثم «راح ُيغيرِّ م�ساره يف والرحمة»ّ ، �إىل الإميان ّ
ل�سلطة و�ش ّتان ما ُهما ،وداللة على ُخ�ضوع الكاتِب ُ املدينة �شيئا ف�شيئا وبد�أ ُي�صدِر �أوامر القِتال» ،وههنا
(موير والمن�س )...وهو يف اال�ستِ�رشاق الكال�سيكي ُ آنية( .)71ويخلُ�ص ال َّد�شتي �إىل ي�أتي ب�آيات ُقر� ّ
امل�سيحية.
ّ ُمعظمِ ه ُم َّلو ٌن بالعقيدة حتول الإ�سالم �شيئا ف�شيئا من النتيجة الآتية« :هكذا ّ
الر�صايف يف وقته ()1933 خ�ضوع َّ �إ ّننا ال ن�ستغرب قابية، � فة �إىل منظّ مة مقاتِلة وعِ ّ روحية صرِّ ر�سالة
ل�سلطة اال�ستِ�رشاق الكال�سيكي ،وت�أث َُر ال َّد�شتي رجل ُ يعتمد تق ّدمها على الغنائم التي ت�أتي بها الغزوات
ال�سيا�سة الإيراين ببع�ض الآراء اال�ستِ�رشاقية احلديثة ّ وعلى ال ّدخل الذي ُتغلّه ال ّزكاة املفرو�ضة»(.)72
نعجب من ت�أثري هذا َ نا نّ لك جوهرها، يف القدمية حممد من �آراء ّ وال يخلو كتاب جعيط ال ّثاين عن
أوروبية
ّ ت�شبع بال ّثقافة ال اال�ستِ�رشاق يف ُم� ِّؤرخ ُم ّ �شبيهة مبا تق ّدم �إذ يقول عن م�سار ال ّدعوة بني مكّة
املُعا�صرِ ة كه�شام جعيط الذي كتب كِ تابه ال ّثاين النبي بذلك من املُ�سالمِ املُ�ضط َهد ّ «حتول
ّ واملدينة
ال�سرية بعد الألف ال ّثانية .فاحتفى فيه مبقاالت يف ّ تهجم ،فهو الذي ابتد�أ باالعتِداء �إىل �سيا�سي وقائد ُم ِّ
خ�ص�ص الف�صل بع�ض �أعالم اال�ستِ�رشاق القدمي� ،إذ ّ على ُقري�ش»(.)73
امل�سيحية»،
ّ �سماه «م�شكلة ال ّت�أثريات اخلام�س لمِ ا ّ � ّإن يف ما عر�ضنا من �آراء ال ُك ّتاب ال ّثالثة ت�شا ُبها
ورية وال ُقر�آن ال�س ّ
امل�سيحية ّّ ُوافقات بني
ِ فبينّ َ امل ونحن نعزو ُ عجيبا على اختِالف الع�رص واملِ� ِرص،
ُمع َتمِ دا على كتاب طور �أندري �أ�صول الإ�سالم هذا �إىل كرثة ما راج يف كُ تب املُ�ست� ِرشقني من
وامل�سيحية(. )78 ال�سيف على حممد با�ستعمال ّ ّ «توارث» ال ّتهام
ُي�شري جعيط ت�رصيحا �إىل كِ تاب �أند ِري يف الف�صل ُخ�صومه ،وحربه لبني قومه ...وقد بينّ الباحث
لفظيا،ثم ين ُقل عنه نقال يكاد يكون ّ اخلام�س(ّ ،)79 الربيطاين ن .دانيال بتف�صيل عِ لمي � ّأن اجلدل
ُخ�صو�صا ما يتعلّق ب�آراء �إفرائيم ()Ephrem الو�سطى على امل�سيحي ركّ ز منذ ن�ش�أته يف القرون ُ
ورية .وح ّتى عناوين ال�س ّ وهو من �آباء الكني�سة ّ وحب املر�أة(.)74 ّ نبي الإ�سالم بال ُق ّوة، الطّ عن على ّ
ال�سابع الفُ�صول تت�شابه� ،إذ و�سم �أندري الف�صل ّ اريخ؟ و�أين العِلم يف تِكرار هذه املقاالت؟ ف�أين ال ّت ُ
من الق�سم ال ّثاين من كِ تابه بـ»�إفرائيم» ومثله فعل جمتها �أقالم امل�ست� ِرشقني، ف�إن كانت ح�صيف ًة فقد ّ
جعيط حني جعل ُعنوان امل�س�ألة ال ّثانية من الف�صل يفح�ص
َ و�إن كانت ُمتهافِ تة ف�إ ّنه ح ِر ٌّي بناقِ لها �أن
اخلام�س «�آراء �إفرائيم وال ُقر�آن»( .)80وههنا ينقل تاريخ ال ُعنف مل َ ثم � ّإن
عن �أم ِرها وال ُي�سرَ ُّ بنقلِهاّ .
91 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
1ـ هدم ال ّثوابت: ما ذكره �أندري من تناظر بني �آراء �إفرائيم وال ُقر�آن
لكن ال�ساعة حني ت�أتي يف ملح الب�رص ،وما يف و�صف ّ
الر�سولّ ، دار جدل منذ القدمي حول «� ّأمية» ّ
النبي ال ّأمي يف جمهور املُ�سلِمني يعتقِدون �أ ّنه وجال من تكفهر َ
ّ ُي�صاحِ بها من تناثر ال ّنجوم ،وكيف
ّ ال�ساعة .)81(...و ُيوا�صل جعيط �إظهار الت�شابه
النبي الذي «ال يقر أ� وال يكتب» .وبهذا ال ّت�أويل معنى هول ّ
ّ يف و�صف اجل ّنة بني �إفرائيم وال ُقر�آن ،فيو�شك على
قيد ذلك الر�سالة مثلما ّ يحتج املُ�سلِمون على ِ�صدق ّ ُّ
«فم ْن جاءنا الث: ث ال القرن يف ربي ن رب بن علي نقل كالم �أندري «بلفظه» ،بل ين ُقل عنه ح ّتى بع�ض
َ ّ الطّ ّ �إحاالته(!)82
بكتاب هذه ن�سبته ونعته وله من القلوب هذا املحل
� ّإن الإفراطَ يف االعتِماد على كتاب �أندري جعل
واجلاللة واحلالوة ،ومعه هذا ال ّن�رص وال ُيمن والغلَبة،
ينتهج نهجا يف البحث قدميا قدميا� ،إذ ا ّتبع جعيط ِ
أميا مل يعرف كتابة وال بالغة قطّ ، وكان �صاح ُبه � ّ املُ�ست� ِرشقون يف ال ُعقود الأوىل من القرن العِ�رشين
النبوة ال �شكّ فيه وال مِ رية»(.)84 ّ فهو من �آيات
الفيلولوجية ال ّتاريخية القائمة على ّ املنهجية
ّ
وقد رف�ض ُثلّة من املُح َدثني هذا ال ّت�أويلَ �إذ يذهب
ا�سع
ّ َ ت ال القرن يف البحث ة منهجي
ّ وهي ُقارنة،
امل
الر�صايف �إىل � ّأن املق�صود بال ّأميني يف ال ُقر�آن ّ َع�شرَ َ .ومورد القِدم ال ّثاين ينبع من ت�أخر مناهج
هم الأقوام الذين لي�س لهم كِ تاب ُمن َّزل يف ُمقابلة
املُ�ست� ِرشقني عن مناهج الباحِ ثني يف املجال
«فمحمد ملّا قام بال ّدعوة ّ وا�ضحة مع �أهل الكِتاب:
أحدث املناهج( .)83فهل الأوروبي وهم ميتلِكون � َ
�إىل الإ�سالم �أراد �أن يمُ ِّي َز يف كالمِ ه بني ال ّأمة التي النبوية ال�سرية
ف�سمى العرب ّ يمُ كِن �أن ن�أت َِي بجديد يف درا�سة ّ
لها كِ تاب وال ّأمة التي لي�س لها كِ تابّ ، ومنهجيات
ّ من خالل ال ّتعويل على مقاالت
ويحتج الكاتب ملذهبه مبا جاء يف ّ بالأميني».85 وبخا�صة �إذا مرتني؟ يع�سرُ ذلك،
� ِآي ال ُقر�آن من تقابل بني الأميني و�أهل الكِتاب(.)86 ّ ِ�رشاقية قدمية ّ
ّ ا�ست
ر ّددنا كالم املُ�ست� ِرشقني الكال�سيكيني بحذافريه،
الر�سول قولَه الر�صايف على احتِجاجه لعِلم ّ ويزيد ّ بال توظيف نقدي كفعل جعيط بكالم �أندري يف
حممد الوا�سِ عة ب�أخبار الأمم املا�ضية، � ّإن معرفة ّ الر�صايف وال ّد�شتي يف �إفرائيم وتعاليمه ،وكفِعل ّ
واحلديث النبوي يدالن على �أنه كان ُيح�سِ ن القِراءة ُلونة باجلدل ترديد بع�ض املقاالت اال�ست�رشاقية امل َّ
قررها والكِتابة( .)87وهي ذات ال ّنتيجة التي ُي ِّ امل�سيحي القدمي.
تابيه( ،)88ويذهب كذلك �إىل ما ه�شام جعيط يف كِ ْ
النبي
«النبي ال ّأمي يعني ّ ّ الر�صايف من � ّأن ذهب �إليه ّ ال ّنقد اجلديد
املبعوث من غري بني �إ�رسائيل» ،و� ّأن لعِبارة «� ّأمي» الر�صايفميز �أعمال ّذكرنا يف مق ّدمة كالمنا � ّأن ما ّ
ِربية وهو «�أُممُ ُعالم» �أي و»� ّأميني» ُمرادِف يف الع ّ وال َّد�شتي وجعيط هو ُخروجها عن ن�سق اال�ستن�ساخ
�أُمم العالمَ ني .وال يمُ كِن ت�أويل ال ّأمية التي وردت ال�سرية لدى املُ�سلِمني قدميا وحديثا، الذي طبع كتابة ّ
ال�صفة تعلّقت يف ال ُقر�آن بجهل القِراءة والكِتابة ل ّأن ّ بع�ض �أوج ِه االختِالف فيما تق ّدم. ُ تبينتوقد ّ
بالعرب كا ّفة ،ولي�س جمي ُعهم � ّأم ّيا بهذا املعنى� ،إذ وال يعني انتِقادنا لت�أ ّثر ال ُك ّتاب ال ّثالثة مبقاالت
كان منهم القا ِرئ والكاتِب(...)89 عما كتبوا ،فقدمي
جل ّدة ّ
كال�سيكية انتِفاء ا ِ
ّ ِ�رشاقية
ّ ا�ست
يحتج بها املُ�سلِمون ُّ غيب جعيط �آية من ال ُقر�آن لقد ّ �سيما �إذا كان
املُ�ست� ِرشقني ال يخلو من � ّأية فائدة ،ال ّ
نت َت ْتلُو مِ ن َق ْب ِل ِه مِ ن النبي وهيَ :و َما كُ َ ّ أمية
يف � ّ عدد من الكُتاب املُ�سلِمني يرف�ضون التفاعل مع �إنتاج
ُوناب المْ ُْبطِ ل َ اب َولاَ َت ُخطُّ ُه ِب َيمِ ينِكَ �إِذاً لاَّ ْر َت َ كِ َت ٍ امل�ست� ِرشقني ُجملة ،و�إ ّنه ملوقف �سلفي بعيد عن روح
[العنكبوت .]48 :وهذه الآية هي التي ُتثبِت والفل�سفية .فما مظاهر التجديد يف
ّ ِلمية
الع�رص الع ّ
النبي ال الآيات التي وردت فيها ُمقابلة بني ّ � ّأم ّية �سري ال ّثالثة ال ُك ّتاب؟ وما هي ُحدو ُدها؟
92 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
حتجب ال�سري َة حتى امتزج بالأ�ساطري التي كادت ُ الأميني و�أهل الكِتاب َح َ�س َب بع�ض ال ُك ّتاب(ّ � .)90أما
النبي الب�رش.
ّ ملحمد
ّ التاّريخية تع�سف الر�صايف فقد ت� ّأول الآية ب�أ�سلوب ال يخلو من ُّ ُّ
مل� ِّؤرخ القول ومن ذلك ال َق�ص�ص الذي اطّ رحه ا ُ حممد حني قال � ّإن الآية املذكورة ال تنفي معرفة ّ
بالر�ؤيا مت ُّ بالإ�رساء مناما «املُح َّقق � ّأن الإ�رساء ّ قوعها «وال يل َزم من وو َ إظهارها ُ بالكِتابة بل تنفي � َ
بتدخل من اللهّ ،ولي�س �أبدا ُّ «احلقيقية» يف ال ّنوم وقوعها»(!)91 ُ مع ِرفة الكِتابة
جل�سم»( .)96ولي�س هذا القول بجديد �إذ افرتقت با ِ الق�ضية �إذ ّ �إ ّننا نرغب عن اخلو�ض طويال يف هذه
روايات املُ�سلمني يف الإ�رساء �إىل ثالث مقاالت، لل�سري فح�صنا عن �أمرها ب�إ�سهاب يف درا�ستنا ّ
منها مقالة الإ�رساء مناما وهي تعتمد على روايات النبي ال يمُ كِن �أن ّ احلديثة( ،)92وانتهينا �إىل � ّأن
يكمن ف�ضل ومعاوية( .)97و�إنمّ ا ُ قدمية لعائ�شة ُ يكون � ّأميا يف معنى جهل القِراءة والكِتابة يف الأقل
ال�س ّني مل� ِّؤرخ يف �إبراز ما �أخمله الفِكر الإ�سالمي ُ ا ُ بعد البِعثة� ،إذ �أُوكِ لت �إليه وظيفة تعليم ال ِكتاب مثلما
(الر�سمي) ،ويف االلتِزام ب�رصيح ال ُقر�آن كر�أيه يف ما ّ نيالُ ِّم ِّي َ �ص على ذلك الآيةُ :ه َو ا َّلذِي َب َع َث فيِ ْ أ ت ُن ّ
�سميه املُ�سلِمون «هِ جرة» ،يف حني �أ ّنه تهجري كما ُي ّ َر ُ�سولاً مِ ْن ُه ْم َي ْتلُو َعل َْي ِه ْم �آ َيا ِت ِه َو ُي َزك ِ
ِّيه ْم َو ُي َعل ُِّم ُه ُم
ن�ص على ذلك ال ُقر�آن يف غري �آيةَ :وكَ َ�أ ِّين ِّمن َق ْر َيةٍ ّ ِنياب َوالحْ ِ ك َْم َة َو ِ�إ ْن كَ ا ُنوا مِ ْن َق ْبلُ َلفِي َ�ضلاَ ٍل ُمب ٍ ا ْل ِك َت َ
اه ْم َ َ َ
هِ َى أ� َ�ش ُّد ُق َّو ًة ِّمن َق ْر َيتِكَ َّلتِي �أ ْخ َر َج ْتكَ أ� ْه َل ْك َن ُ ثم � ّإن بيئة [اجلمعة .]2 :ف�أ ّنى لمِ َن ال يعلَم �أن ُيعل ِّّم! ّ
اج ُرواْ ِين َه َ [حممد ،]13 :و َف َّلذ َ ّ َف َال َنا�صرِ َ َل ُه ْم النبي العلمية مل تكن قائم ًة على الكِتابة بل على ّ
َو أُ� ْخ ِر ُجواْ مِ ْن ِد َيا ِرهِ ْم [�آل عِ مران .)98(...]195 :و� ّإن املُ�شافهة ،وهكذا تبدو �صلة العِلم بالقِراءة والكِتابة
لل�سرية قيم ًة تاريخي ًة ِزام بال ُقر�آن م�صدرا ّ يف االلت ِ أمية واهية .ومل يكن غر�ض املُ�سلِمني من القول بال ّ
ب�إجماع ال ّدار�سني م� ِرشقا ومغ ِربا .وباال�ستِناد �إليه أر�ضية» ال�سائرة �إال تنـزيه ال ُقر�آن عن ك ّل «حِ كمة � ّ ّ
ُعجزات التي اختلقها املُ�سلِمون للنبي نبذ جعيط امل ِ ربن الطّ ربي ،من �أجل الر ّد على ّ ابن بارة عِ د
ّ ح على
«فالنبي الذي يتكلّم عنه ال ُقر�آن ّ منذ الع�رص الأموي، مطاعِ ن �أهل الكِتاب .وقد ر ّد عليهم ال ُقدامى بقولهم
عقالين �إىل �آخر درجة»(.)99 النبي «قارئ كاتب فما لهم مل ي�ؤمنوا به ّ َه ْب � ّأن
ِّ .2 مبو�سى وعي�سى عليهما من الوجه الّذي �آمنوا منه ُ
تخطي �أ�س ِيجة الفكر الإ�سالمي ال ّر�سمي: الت�شبثِ
ّ نفع للفِكر الإ�سالمي يف ال�سالم؟»( .)93فال َ
فمحمد
ّ الر�سمي،
يختلِف الباحِ ثون يف حتديد الفكر ّ مبفهوم ال ّأمية امل�شهور.
�سميه �أرتودك�سياّ ،ومن�صف بن عبد اجلليل �أركون ُي ِّ ق�صة نزول الوحي بغا ِر وعلى هذا ال ّنح ِو هدم جعيط ّ
عرفه نية �شيعية) ،و ُي ِّ
و�س ّنية ُ (�س ّنية ُ�س ّ
�سميه ُ�س ّنيا ُ
ُي ّ أمية ت�ؤكّ د على � ّأن ال ُقر�آن حِ راء ،لأ ّنها مثل م�س�ألة ال ّ
للن�ص الإ�سالمي ،وهو ّ بكونه «الفهم املركزي «فق�صة الغار وما ّ كالم اهلل بحذافريه لفظا ومعنى:
كر�سته نواة را�سخة من الفقهاء ومراجع فهم ّ بوة ُف ِر�ضت على ري �إىل � ّأن ال ُن ّ حف بها تريد �أن ُت�ش َ ّ
التقليد»( .)100وهذا الفهم يمُ ِّثل �أحد َع َم ِد ال ّنظام مل� ِّؤرخ � َّأن ال ُقر� َآن حممد من اخلارج»( .)94ويرى ا ُ ّ
ح�سب �أركون �إذ يحظى بدعم ال ّدولة ال�سائد َ ّ ح�صل يف َ الوحي
َ أنّ � و ة، ت
ّ ألب � الغار إىل � �شري ال ُي
املركزية( .)101وقد �سيطر «الفهم املركزي للن�ص ّ زمن �آخر، وقت التجلّي يف الأفق ،ومل يح�صل يف ٍ
مل�ؤمنني فبات نق�ضه �أو الإ�سالمي» على خميال ا ُ وال مو�ضع �آخر ،وهو ما ُت�شري �إليه ُ�سورتا ال ّتكوير
نقده جتا�سرُ ا على الإميان ذاته ل ّأن ُجمهور املُ�سلِمني مل� ِّؤرخ على القر�آن وال ّنجم( .)95و� ّإن يف اعتِماد ا ُ
ال يمُ ِّيزون بني ال ّن�صو�ص الإ�سالمية املق َّد�سة والفكر املُعا�صرِ لل ّدعوة وفَرتاتها ُح ّج ًة كفيلة بدح�ض
أ�صلية،
الإ�سالمي باعتِباره فهما لل ّن�صو�ص ال ّ ق�صة غار حِ راء وغريها من ال َق�ص�ص الذي ُن�سِ ج ّ
وهو فهم ب�رشي وتاريخي .بل ي�ستحيل نق ُد الفهم يت�ضخم مع الأع�صرُ ّ حممد ،وبد�أ ب� َأخرة حول �سرية ّ
93 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
حبون وين�سبون مع هذا �إىل اللهّ بنات� ،أي ما ال ُي ّ عامة املُ�سيطِ ر يف �أحيان ُخروجا عن ال ّدين لدى ّ
هم لأنف�سهم« :تلك �إذن قِ ْ�س َم ٌة ِ�ضي َزى» ،يقول ال ُقر�آن. املُ�سلِمني .فما حظُّ ال ُك ّتاب ال ّثالثة من خلخلة الفهم
�أيعني هذا �أ ّنهم لو ن�سبوا له �آلهة ذكورا ،مثل �سعد حممد؟
«املركزي» ل�سرية ّ
و�سواع� ...إلخ ،لكان هذا مقبوال؟»(.)105 الر�صايف يف تعليقه على بع�ض الأخبار «ال يقول ّ
ال�سرية يجد �صعوبة ُتدب َر ملا كتبه اجلماعة يف ّ � ّإن امل ِّ ريب � ّأن اللهّ �أعظم و�أجل من �أن َ
يعم َد �إىل �إن�سان
نتائج ،ف� ّإما �أنَ يف تقومي �آرائهم وما انتهوا �إليه من فيرُ �سِ لُه �إىل ال ّنا�س ل ُيخبرِ َ هم عنه مبا ُيريد ،ف� ّإن
دينيا فريى يف بع�ضها اجرتاء ي ّتخذ منها موقفا ّ الفعالة املُطلَقة ،وال بوجوده هذا ال يليق بذاته ّ
على نقد �أ�صول العقيدة ،فال يقبله ،ويع ِرت�ض على ال ُكلّي ال�سرّ مدي الالنهائي»( .)102فهل يعني هذا
بحجج �أخرى� .أو يقف موقف الباحث مثلما بع�ضه ُ �إنكارا للن ُب ّوات كمذهب بع�ض املُفكِّرين يف ال ّتاريخ
حاور الفكر حِ وارا عِ لميا ما نروم �أن نفعلَ ،ف ُي ِ الر�صايف بينا يف كِ تاب ّ الإ�سالمي؟ ال يبدو ذلك ِّ
ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيال دون �أن ين ِزلق �إىل �إطالق النبوة والوحي ،و�إن متثلّها بطرائق ّ �إذ حت ّدث عن
ال�شخ�صية .ويف كلتا احلالتني �إ�سهام ّ الأحكام ُتخالِف يف �أمور ما �ساد وراج .و�إنمّ ا هي �شذرات
يف �إغناء الفكر الإ�سالميّ � ،أما ثالثة الأثايف فهي تعبرِّ عن فكر جتر�أ على «امل�سكوت عنه» �أو «الالمفكّر
الإحجام عن مع ِرفة �صميم ما قال الكُتاب الثالثة الر�صايف مهما كان فيه» .وههنا تكمن قيمة منهج ّ
حترم التفكري والبحث يف دينية ّورميهم ب�أحكام ّ موقفنا الإمياين منه ،فال ُقدامى فكّروا يف ما �أ�صبح
مل ّت ِ�صلة باملُق ّد�س .ومهما كان موقف امل�سائل ا ُ لدى املُح َدثني حمظورا كنظرهم يف خلق ال ُقر�آن
القا ِرئ ف� ّإن نقد الفكر الإ�سالمي ،والقراءة ال ّتاريخية وماهية الوحي...
ّ
لذاك الفكر ال �صلة لهما بالعقيدة ل ّأن الفكر تاريخي و� ّإن بع�ض الآراء التي تبدو بِدعة لدى املُح َدثني جند
الر�سول كان يبحث وب�رشي .فعندما يقول جعيط �إن ّ الر�صايف � ّإن قدرة اث كقول ّ نظائرها يف كتب الترُّ ِ
عن احلقيقة يف اتجّ اهات عديدة قبل البِعثة ،ف�إ ّنه اهلل غري ُمطلقة لأ ّنها ال تتعلّق باملُحال ،وقد �أ�شار
للنبي ،وال
ّ ال�صورة التي بناها املُ�سلِمون ينتقد ّ هو نف�سه �إىل ر�أي ُعلماء الكالم يف امل�س�ألة� ،إذ قالوا
ينتقد الن�ص الإ�سالمي الأ�صل ،ل ّأن ال ُقر� َآن ُي� ِّؤيد ر�أ َيه، مبا يقول( .)103وهكذا ترى تواطُ �ؤا بني �أ�صحاب
احتج به(.)106ّ وقد ُتحرر على اختِالف الأزمِ نة ،و َترى � ّأن التفكري امل ِّ
امل�س�ألة التي ال َينظُ ُر فيها حديثا �إال ثلّة من املفكّرين
.3حُ دود املُقاربات: ق�ضية لل ّنظر لدى ال ُقدامى ،فكم يحتاج الفكر ّ كانت
الر�صايف وال َّد�شتي وجعيط يف ال تخلو حماوالت ُّ ليتحرر من
ّ الت�شبع بالترّ اث
ُّ الإ�سالمي املُعا�صرِ �إىل
«منطية» من تهافتّ حممد درا�س ًة غري درا�سة �سرية ّ الوهمية.
ّ �سلفيته
ّ
يف جوانب من مناهجها ونتائجها ،وقد �أ�رشنا �إىل الرا�سِ خةينية ّ
�أف�ضى ال ّتجا�سرُ يف نقد املُ�سلّمات ال ّد ّ
بع�ض ذلك فيما تق ّدم من مقالنا .ونذكر ههنا �أوجها بالر�صايف �إىل نِقا�ش ّ يف الكُتب والأذهان
الر�صايف�أخرى تتعلّق بكل كاتب ُمنف ِردا� ،إذ ينتقد ّ حِ جاج ال ُقر�آن ،فانتهى �إىل �أ ّنه ال « ُينا�سِ ُب ذكاء
الأخبار ال ّتاريخية التي ُد ِّونت بعد ع�رص النبي، حممد»( .)104وقد �أ�سهب الكاتب يف �رضب الأمثلة ّ
وقوعها يكون ُ الرواية املُتواتِرة يكاد قرر � ّأن ّ و ُي ِّ «�ضعفا» يف جدل ال ُقر�آن .ومثله فعل لإظهار ما ر�آه َ
عول يف ف�صول كتابه على ثم ُي ُِّم�ستحيال(ّ ،)107 جعيط دون �إفا�ضة حني قالّ �« :إن ر ّد ال ُقر�آن قبل
احللبية ،وهي م�صدر �شديد الت�أخر يعود �إىل ّ ال�سرية
ّ ال�سورة ،على اعتِبار الآلهة �سورة ال ّنجم و�ضمن هذه ّ
رش ميالديا! وكذلك ُيناق�ض قوله َ ع� ابع ال�س
ّ َ القرن «بنات اللهّ » غري ُمقنع بتاتا ،فربهنته َخ ّ
طابية
ال�شعر اجلاهلي �إ ّنه كان من املنحول واملن�سي، يف ّ ف�ضلون البنني على البنات حم�ضة .القر�شيون ُي ّ
94 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
وقد راجعنا تف�سري الطّ ربي فوجدنا نقي�ض ما ن�سبه ثم يقول يف مو�ضع �آخر � ّإن ال ُقر� َآن واملفقود(ّ .)108
�إليه ال َّد�شتيَ « :و ُت ْخفِي فيِ َنفْ�سِ كَ َما اللهَّ ُ ُم ْبدِي ِه .يقول: أمية بن �أبي �أخذ من �شعر زيد بن عمرو بن ُنفيل و� ّ
لتتزو َجها
ّ حمبة فِ راقِ ه � ّإياها، َّ و ُتخفي يف نف�سِ ك ال�سابِقني كيو ُن�س ال�صلت بع�ض �أخبار الأنبياء ّ ّ
�إن هو فارقها ،واللهّ ُمب ٍد ما ُتخفي يف نف�سِ ك من وغريه(.)109
ذلك»( ،)116و ُي� ِّؤيد الطربي ت�أويلَه بروايات تدلّ الر�صايف« :وال ريب � ّأن اجل ّنة التي و�صفها ويقول ّ
حممد ،كرواية َقتادة بجالء على � ّأن املُخاطب هو ّ بال�شكل ّ حممد ب�أو�صافها الباهرة املعلومة، ّ
التي ورد فيها تعليقا على العِبارة املُتق ِّدمة من التوراة وال يف ُبهج العجيب ،غري مذكورة يف ْ امل ِ
الآية «ولو كان نبي اللهّ �صلى اهلل عليه و�سلّم كاتمِ ا الإجنيل»( ،)110وههنا نكت�شف حدود الآفاق
�شيئا من الوحي لكتمها»( .)117فال لَب�س يف تف�سري املعرفية للكاتب� ،إذ بينّ ط� .أندري (ّ � )1930أن
حممد ،و�إنمّ ا التخليط الطربي يف � ّأن املُخاطَ ب هو ّ و�صف اجل ّنة يف ال ُقر�آن ُي�شبِه ما جاء يف تعاليم
التحري
ّ يف كالم ال ّد�شتي ،تخليط يدعو القا ِرئ �إىل ال�سوريني( .)111ونكت�شف املُب�شرِّ ين ال ّن�صارى ُّ
ال�س�ؤال عن مقا�صده يف حتريف يف �أ�سانيده ،و�إىل ُّ الر�صايف حني يقارن بني ُحدود احلداثة يف كتاب ّ
ت�أويل الطّ ربي ،وهو كتاب �سائر مطبوع منذ ُعقود بال�سبحة خليرَ ة ّ اجلاهلية وا ِ
ّ اال�ستِق�سام بالأزالم يف
من ال ّزمن؟ املذهبية
ّ ال�شيعة املُح َدثنيُ ،ف ُيحيِي املُماحكة لدى ّ
يبدو � ّأن ت�شكيل بع�ض الأخبار يف كتاب ال َّد�شتي القدمية( ،)112كما ُيذكي اخلِالف الطّ ائفي ينب
«العقالنية» التي
ّ الر�ؤية الإيديولوجية َيخ ُدم ُّ �رصانية
ّ يذم ال ّنّ املُ�سلِمني وامل�سيحيني حني
النبي كان ّ يتح ّدث عنها يف موا�ضع� ،إذ يحكُم ب� ّأن و«�شرِ كها»( .)113ولي�ست هذه معالمِ َ جتديد حقيقي
ثم ُيو ِرد قائم ًة بعِ�رشين �صاحِ ب «�شهوة �شديدة»ّ ، ال�سرية ،خِ طاب ال ّتاريخ. يف خطاب ّ
تزوجها حممد مثل �أ�سماء بنت �سباء ،وهبلة امر�أة ّ وال يختلف ال َّد�شتي عن الر�صايف كثريا يف
بنت قي�س ،)118(...وهذه الأ�سماء مل نعهد لها ذكرا عول على االعتِماد على امل�صادر املُت� ِّأخرة �إذ ّ
ال�سرية وال ّتاريخ املُتق ِّدمة ،ومل تذكر يف م�صادر ّ تف�سري اجلَاللينْ ،جالل ال ّدين املحلّي وجالل ال ّدين
ثالث ع�شرْ َ َة زوجةً(ّ � .)119إن َ هذه امل�صادر �سِ وى ال�سيوطي (ت911 .هـ) ،فلم تكد تخلو ف�صول ّ
�سيا�سة انتِقاء الأخبار وت�شكيلها ب�أ�سلوب ُيوافِ ق ال�سيوطي ّ عا�ش وقد هما(.)114 ر
ِ ذك من ِتاب ك ال
منهج �سلكه املُ�ستِ� ِرشقون وال�سلفيون يف ٌ ر�أي الكاتِب كما نعلم بداهة يف ع�رص غلب عليه جمع ُعلماء
حممد ،وهو ُمتهافت لديهما أل ّنه قائم درا�سة حياة ّ مِ �رص لترُ اث املُتق ِّدمني من �أجل حفظه بعد �أن �أفل
على اال�ستِ�صفاء والإق�صاء يف التعامل مع الأخبار، دور بغداد ال ّثقايف .ومل نر �أحدا من �أهل العِلم يعكِف
إيديولوجية بعيدة عن علم ّ ويطلُب مقا�ص َد فكرية و� على ُم�ؤلّفات �أهل القرن العا�رش في�ستعي�ض بها عن
ال ّتاريخ احلديث الذي يطلُب املعرفة لذاتها. ثم � ّإن ال ّد�شتي مل يكن امل�صادر املُتق ّدمة الأ�صولّ .
ويكثرُ يف كِ تاب ال ّد�شتي الإ�سقاط ال ّتاريخي� ،أي �أمينا يف بع�ض نقله عن املُف�سرِّ ين� ،إذ يقول يف
�إ�سقاط قيم الع�رص احلديث على ال ّتاريخ القدمي� ،إذ الرغم النبي من زينب بنت َجح�ش« :فعلى ّ ق�صة زواج ّ ّ
ال�سيف» من �أجل ن�رش الر�سول �إىل ّ يقول يف «لجُ وء ّ وو�ضوح ُ أحاديث ل ا ِّرها
ف تو التي ّة ل أد
ل ا و�ضوح من
ال ّدعوة و�إقامة ال ّدولة �إ ّنه َنهج «ينطوي بال�ضرّ ورة مل� ِّؤرخ املعنى يف الآية ( ،)37مل ي�ستطِ ع الإمام وا ُ
على دو�س لواحد من �أثمن حقوق الإن�سان� ،أعني العظيم الطّ ربي �أن يق َبلَ � ّأن فاعِ لَ الفِعل يف ُجملة
حرية الفِكر واالعتِقاد»( ،)120وال ِجدالَ يف � ّأن ّ حممد ،ولذلك فهو يرى �أن «و ُتخفي يف نف�سِ ك» هو ّ
اخلو�ض يف م�سائل حقوق الإن�سان يعود �إىل القرن املُخاطَ ب هنا هو زيد ،و� ّأن زيدا هو الذي كان ُيخفي
خا�صة، ّ الفرن�سية
ّ ال ّثامن ع�رش ،و�إىل فكر ال ّثورة يف نف�سه»(.)115
95 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
فتبينّ لنا � ّأن ه�ؤالء ال ُك ّتاب اختطوا نهجا جديدا يف ملحمد �أن ي�ستلهم هذه القيم يف ع�رصه ّ ف�أ ّنى
ر�ضوا با�ستِن�ساخ ما جاء النبي ،فلم َي ْ ّ درا�سة �سرية كمثَلِ
ومثَلُ الإ�سقاط التاريخي املُتق ِّدم َ وبِيئته؟ َ
يف الكتب القدمية منهجا ،وهي مزية كربى� ،إذ تكاد «�ضعف احلُجج» التي َت�سوقها ما ذكره الكاتِب عن َ
نبه
حممد تكون ُمطّ ردة ،وقد ّ الكُتب ال ّدائرة بحياة ّ إ�سالمية دِفاعا عن غلب ِة حظّ ال ُّذكور ّ ال�شرّ يعة ال
�رصح�إىل ذلك املُث ّقفون منذ ُعقود من ال ّزمن� ،إذ ّ على الإناث يف املواريث وغريها .)121(...و ُي ؤ� ّدي
�أح ُدهم ب�أ ّنه كان يتل ّهف لقراءة �شيء جديد عن تاريخية �أ�صال ّ الإ�سقاط ال ّتاريخي �إىل قِ راءة غري
الر�سول ،وف�سرّ ذلك بقوله« :كنت كلّما ظهر كتاب ّ وال�سيا�سة،
ّ لل ّتاريخ ،قد ُتفيد �أهل الإيديولوجيا
«حممد» (�ص) ،أُ��سارع القتنائه، ّ ا�سم عليه حديث لكن ال ُتفيد �أهل العِلم .وال يخلو كِ تاب ال ّد�شتي من
ذلك لأ ّنني كنت وال �أزال يف رغبة �شديدة �أن �أ�سمع ع�صبية تن�أى به عن �إن�صاف ال ُعلماء كحديثه عن ّ
النبي الكرمي
ّ عن الر�سول العربي العظيم ،وعن �سرية مجُ اوزة العرب ال ُقدامى احل َّد «الرببري املُعتاد» يف
�شيئا جديدا»(.)124 ُمعاملة ال ّن�ساء(!)122
وال تخلو كِ تابة اجلماعة من جديد ،فقد انتقدوا أقرب ال ّثالثة �إىل ُحدود مل� ِّؤرخ ه�شام جعيط � ُ � ّإن ا ُ
حممد ،وهي الأخبار التي ُد ّونت بعد قرنني من حياة ّ لكن ذلك ال العِلم ،و�أكرثُهم التِزاما بِحِ ياد ال ُعلماءّ ،
و�صنِعت لأغرا�ض بنقدهم خليقة �إذ داخلها ال ّتهويلُ ، دو ُن بعد مينع من نقده يف م�سائل ،كقوله � ّإن ما ُي َّ ُ
ومذهبية يف ُمعظمها .وو ّثق ال ُك ّتاب ّ �سيا�سية، مل� ِّؤرخ(،)123 مائة �سنة من احلدث لي�س جديرا بثِقة ا ُ
ال ّثالثة ال ُقر�آن وق ّدموه على غريه من امل�صادر دو ُن الأثر ُمبكِّرا وال ُيوثَق نظر �إذ قد ُي َّ
ويف هذا القول ٌ
بحدود ال ّتاريخ، لمِ ُعا�رصته لل ّدعوة ،ويف ذلك التِزام ُ بال�سلطان مثلما ال�صلة ُّ به ،فكِتابة ال ّتاريخ متينة ّ
فكلّما كانت الوثيقة قريبة من زمن الأحداث ازدادت ر�س �رشقا وغربا .و ُيك َت ُب ال ّتاريخ يف �أحيان بينّ ال ّد ُ
اريخية .و ُيعترب ال�شك يف كثري ممِ ّ ا حوته ّ قيمتها ال ّت كثرية لأ�رسة حاكِ مة �أو �سيا�سة قائمة على مذهب �أو
ال�سرية وال ّتاريخ معلَما يمُ ّيز �أعمالهم على م�صادر ّ مِ لّة ،وي�شهد ال ّتاريخ العربي على مثل هذا يف العهد
الر�صايف اختِالف درجات ذاك ال�شكّ ،كانتِقاد ّ العبا�سي وبع َده ،ح ّتى � ّأن كثريا من كُ ُتب ال ّتاريخ
لبع�ض مرويات ابن ه�شام وهو م�صدر �أ�صبغت عليه ّ
ال�سلطان احلاكِ م. و�شى عناوينها بذكر ّ ُت َّ
�أجيال املُ�سلِمني قدا�سة يف حني �أنه �إنتاج ُم� ِّؤرخ يف
ظرف تاريخي معلوم ،يعرتيه حتما ما يعرتي فكر خامتـة:
الب�رش من زلل ونق�صان... الر�صايفلي�ست قِ راءة �أعمال ال ُك ّتاب ال ّثالثة ُّ
تكم ُن يف عدم ولع ّل قيمة �أعمال ال ّثالثة ال ُك ّتاب ُ �سيما ه�شامعيط بالأمر الي�سري ،ال ّ وج ْ وال َّد�شتي َ
ال�سرية الذي أُ�ر�سِ خ منذ ل�سلطة «عمود» ّ ُخ�ضوعهم ُ لتخ�ص�صه العِلمي يف ال ّتاريخ ،وامتِالكه جعيط
ّ
ر�سميا ال ُيق َبل اخلُروج عنه ،بيد �أ ّنه
ّ القدمي ،ف�أ�ضحى مل� ّؤرخني املُعا�صرِ ين من �إحاطة بامل�صادر لآلة ا ُ
تاريخية تقبلُ ال ّنقد ال ّتاريخي .وقد �أوغل ّ �صناعة منهجية على نقدها ،ف�ضال عن القدمية مع قدرة
خا�صة ،فك�رس حلقات من ّ
يف هذا ال ّنقد ه�شام جعيط ّ رث من ل�سان �أوروبي مكّنه من الإفادة حذقه لأك َ
ال�سرية امل�شهورة ك�إثباته � ّأن عام الفيل عالمة ق�صة ّّ من ُم�ساهمة الغربيني املُح َدثني واملُعا�رصين يف
حممد لأ ّنها زمنية فح�سب ،وال ُتنا�سِ ُب �سنة ميالد ّ ّ درا�سة ال ّتاريخ الإ�سالمي ...وقد حاولنا �أن نع ِر�ض
رث من ثالثني عاما.. ح�سب ال ّنقو�ش قبله ب�أك َ َ حدثت
�ضمته كُ تبهم من نتائج كربى �آراء اجلماعة وما ّ
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) حممد ،لك ّننا �آثرنا العر�ض ال ّنقدي.
ّ تتعلّق ب�سرية
)Meadالقائمة على �أهمية القيم والثقافة واملعايري جهازا غنيا ومتنوعا ،قادرا على اال�ستمرارية رغم
ودورها يف حتقيق اال�ستقرار والتما�سك واالن�ضباط �أنه يندرج �ضمن النظريات الكال�سيكية واملحافظة
االجتماعي( .)13وميكن القول �إن التطورات التي وال�شمولية.
�شهدتها النظرية البنائية الوظيفية ذات �صلة ولعل �أول خطوات فهم الإطار الفكري للبنائية
باخل�صو�ص بالرافد الأنرثبولوجي مهمة ونقطة الفكرية
ّ الروافد
الوظيفية ،هو التعرف �إىل �أهم ّ
حتول نوعي يف بداية التقلي�ص من �إن و�سائل ال�سابقة لظهور البنائية الوظيفية التي نهلت
هيمنة التم�شي الإمربيقي ت�صورها للمجتمع وللفعل ّ منها ومن ثمة �صاغت
( )une démarche empiriqueرغم نقد الإعالم االجتماعي ب�صفة عامة ،من منطلق �أن هذه النظرية
روبرت مريتون مل�سلمة اال�ستقرار وحتديدا هي ثمرة تفاعل �آفاق فكرية خمتلفة.
والتوازن التي تنطبق على املجتمعات اجلماهريية فلقد �شكل املذهب الو�ضعي ( )Positivismeالذي
البدائية �أكرث من املجتمعات احلديثة و�ضعه الفرن�سي �أوقي�ست كونت ()August Conte
والتي من خ�صائ�صها الدينامية منها نظم �أحد اجلذور الفكرية للبنائية الوظيفية حيث �أخذت
والتعقيد وما قد ينتج عنهما من اجتماعية عنه معطى التوازن بني خمتلف الأجزاء املكونة
م�ؤثرة �إىل حد حاالت عدم اال�ستقرار. لالجتماعي.
ويف �ضوء هذه الروافد جمتمعة ميكننا و�إىل جانب الفل�سفة الو�ضعية التي تتعامل مع البنى
فهم طبيعة الأفق الفكري واملفاهيمي كبري يف املعي�ش االجتماعية بو�صفها «�أ�شياء» ،جند رافد االجتاه
للبنائية الوظيفية و�إحاالت م�سلماتها االجتماعي الع�ضوي( )la perspective organiqueامل�ؤ�س�س على
اليومي الأ�سا�سية املتمثلة اخت�صارا يف: �أبحاث ت�شارلز داروين( )10()Charles darwinو�أي�ضا
-يحكم اال�ستقرار والتوازن كافة ي�صور املجتمع �أي
ّ هربرت �سبن�رس وغريهما ،الذي
وحدات املجتمع التي ت�شكل جمتمعة للفاعلني -الرافد الع�ضوي -باعتباره « كائنا ع�ضويا حيا،
ّ
كال ع�ضويا هو البناء االجتماعي .االجتماعيني يتكون من جمموعة من الأجزاء التي ي�ؤدي كل منها
مبعنى �أن « تف�سري وجود �أي جزء من الذين تربطهم وظيفة ل�صالح بقاء الكل وا�ستمراره حيا»(،)11
الأجزاء يتم بالنظر �إىل الوظيفة التي مبعنى �أن التف�سري البيولوجي ُمهيمن على كيفية
ي�ؤديهما يف �إطار الكل و�أن فاعلية بها عالقة ت�صور املجتمع والبعد الوظيفي لأع�ضائه حيث �إن ّ
اجلزء ذات �صلة مبتطلبات الكل وم�ؤثرة اعتماد متقدمة هذا التف�سري ُي�شابه بني ج�سم احليوان واملجتمع
فيه»(.)14 من ناحية العمل وت�ساند الأع�ضاء ل�ضمان احلياة
-ت�ؤدي �أجزاء املجتمع وظائف واال�ستمرارية وهو ما جند له �صدى يف فكر
وتخ�ضع �إىل مبد�أ الت�ساند الوظيفي واالعتماد دوركامي القائل ب�أن وظيفة العنا�رص االجتماعية
املتبادل بني البنى والأن�ساق الفرعية للن�سق الكلي. تتمثل يف م�ساهمتها يف احلفاظ على جمرى احلياة
ا�ستنادا �إىل هذه الروافد واملبادئ واملفاهيم يف املجتمع و�أي�ضا رادكليف براون الذي يعرف
الأ�سا�سية ،فكيف ميكن �أن نح ّدد ت�صور البنائية الوظيفة بكونها «امل�ساهمة يف ا�ستمرارية البناء
الوظيفية لو�سائل الإعالم كن�سق فرعي وجزء من االجتماعي وثباته»(.)12
كلية الن�سق؟ ومن علم الإحياء والبيولوجيا �إىل علم الإن�سان
أ�سا�سية
ّ 1-1و�سائل الإعالم �أو «الأجهزة ال (� )Anthropologieإذ ا�ستفادت البنائية الوظيفية من
االجتماعية» :
ّ للعالقات �أبحاث مالينوف�سكي( )Malinowskiورادكليف براون
من املهم التذكري ب�أن االت�صال من العمليات « Radcliffe-Brownومارغريت ميد (Margaret
اليومي من «ظلمة قامتة»( )22ح�سب و�صف مي�شال العامة وتف�سري الأحداث وتقدم معلومات حول املال
مافيزويل (� )Michel Maffesolliإذ يح ّدد خ�صائ�ص والطق�س �إ�ضافة �إىل �أنها �أداة للهروب من العامل
احلياة اليومية يف «التناق�ض الوجداين وتعدد اليومي(.)19
الدالالت والتبدلية وانعدام الأهمية والتكرار»()23 والظاهر �أن نتائج هذه الدرا�سة ال تزال ذات
فالرتفيه �أو ما يعرب عنه يف نظرية اللعب يف م�صداقية �إن مل تت�أكد �أكرث ف�أكرث باعتبار م�ضاعفة
االت�صال اجلماهريي بات�صال املتعة ميثل �أحد �أهم �أ�سباب اال�ستخدام واحلاجات الباحثة عن الإ�شباع
�أ�سباب « تعر�ض الأفراد �إىل و�سائل يف ع�رص ُتهيمن عليه م�شاعر وحاالت القلق
الإعالم للتحرر من �ضغوط ال�ضبط �إن عجز واخلوف واالغرتاب .كما يك�شف التزايد الهائل التي
اجلماهري االجتماعي»()24 �أ�صبح يعرفه عدد القنوات الإخبارية ،عن تخمة
�أما كاتز( ، )E. Katzفقط �ضبط عن التفكري يف الأحداث وت�شابكها وازدياد الغمو�ض ،الذي
حاجيات الأفراد يف خم�س حاجيات ولّد بدوره حاجات نف�سية و�إدراكية متزايدة تبحث
كربى هي احلاجيات املعرفية املتمثلة املتعقل يحرمها عن التف�سري والفهم �إذ العالقة بني خف�ض الغمو�ض
يف اكت�ساب املعرفة والفهم والأخبار من كل روح وجدلية .ولعله من املهم
ّ ع�ضوية
ّ وخف�ض التوتر
والوجدانية النف�سية وال�شخ�صية نقدية �أي مالحظة �أن اجلمهور ح�سب الإطار الفكري لنظرية
واالجتماعية ومعاجلة التوتر()25 اال�ستخدام والإ�شباع لي�س �سلبيا .بل �إن العالقة
وهو تلخي�ص بليغ يك�شف �إحاطة من كل قدرة مع و�سائل الإعالم حتتكم �إىل التفاعلية بني �أهداف
و�سائل الإعالم بعدة وظائف تعالج على التمييز اجلمهور ودور املتغريات الو�سيطة يف حتديد
بني احلقيقة خمتلف �أبعاد الفعل االجتماعي. هذه الأهداف و�سعي و�سائل الإعالم اجلماهريية
وملزيد ت�أكيد مركزية وظيفة تقدمي التقليدية �إىل �إ�شباع مقا�صد اجلمهور وحاجياته.
املعلومات للأفراد وللجمهور يف واخلط�أ تو�صل ديني�س ماكويل ( - )Denis McQuailالذي
منظومة الوظائف االجتماعية التي وبالتايل من يعترب و�سائل الإعالم اجلماهريية يف قمة الهرم
ت�ؤديها و�سائل الإعالم ،نذكر نظرية ت�شكيل حكم الذي اقرتحه للم�ستويات امل�ؤلفة للحقل االت�صايل
ترتيب الأولويات ( )26التي ظهرت � -إىل �ضبط احلاجيات التي تلبيها و�سائل الإعالم
1958بانتباه من الباحث برنارد دقيق على وهي تتوزع ما بني اكت�ساب الأخبار واملعلومات
كوهني ( )Bernard Cohenوهو ما الأمور عن البيئة املحيطة وحتقيق االندماج ودعم ال�سلوك
يعني �أن عالقة الفاعلني االجتماعيني واالجتاهات ،حم ّددا يف مقابل ذلك ومن �صلب
بـ«املعي�ش اليومي»(ُ )27ت�شكلها احلاجيات املعلنة وظائف الإعالم املتمثلة يف
الر�سائل املعلوماتية والثقافية التي تبثها و�سائل حتقيق الفهم واملراقبة ودعم العالقات االجتماعية
مما يك�شف عن قوة ت�أثري و�سائل الإعالم الإعالم ّ والرتكيب الهوياتي ال�شخ�صي واالجتماعي للفرد
�صحفا و�إذاعات م�سموعة ومرئية يف حياة النا�س ووظيفة االلتحام االجتماعي والتفاعل االجتماعي
اليومية وتغلغلها �إىل درجة لعب دور ت�أطريي و�أي�ضا وظيفة الرتفيه(.)20
لأمناط ال�سلوك االجتماعي وذلك من خالل تركيز وباعتبار �أن �إفراد «م�ساحة للرتفيه هي من
و�سائل الإعالم على ق�ضايا و�أحداث بعينها و�إهمال خ�صائ�ص احل�ضارة ال�صناعية والتقنية»( ،)21ف�إن
ق�ضايا �أخرى مبعنى �أن و�سائل الإعالم هي من الت�سلية تعد وظيفة �أ�سا�سية من وظائف و�سائل
يرتب انتقائيا مراكز اهتمام الر�أي العام وتوجهه. الإعالم وهي تلبي حاجة نف�سية اجتماعية حيث
ويف هذا ال�صدد من غري املمكن القفز على درا�سة ت�ساعد الت�سلية الأفراد على مقاومة ما يت�صف به
101 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
االجتماعي كمنظومة اجتماعية كاملة �أ�ضاف �إليها هارولد الزوال ( )Harold Lasswellذات اجلذور
�إىل جانب الوظائف ال�سابقة الذكر وظيفة املحافظة الوظيفية يف مقاربتها لت�أثري و�سائل الإعالم
على الأمناط واملعايري. اجلماهريية ذلك �أن نظريته امل�سماة «�إطالق
رمبا ا اال�ستنتاج �أن و�سائل الإعالم تقوم بوظيفة الر�صا�صة» �أو «احلقنة املخدرة»� ،إمنا تقوم على
ثقافية تربوية �أحيانا معلنة و�أحيانا غري ذلك ت�أكيد قوة ت�أثري و�سائل الإعالم على اجلمهور وهي
وهي وظيفة ا�ستدعاء الثقايف لل�ضبط االجتماعي قوة �شبهها بالر�صا�صة وت�أثريها � -أي و�سائل
مما يعزز التحليل الوظيفي لو�سائل الإعالم بحكم ّ الإعالم -اعتربه مطابقا لت�أثري احلقنة املخدرة.
جوهرية امل�س�ألة الثقافية ومتوقعها يف جوهر ف�أمنوذج ال�سوال لالت�صال تكمن �أهميته يف �إ�ضافة
ما هو اجتماعي �سواء يف �أمناط �سلوك الفرد �أو عن�رص الت�أثري (من؟ يقول ماذا؟ وب�أي
لتيودور �أدورنو
اجلماعات �أو املجتمع .فاحلياة االجتماعية و�سيلة؟ وملن؟ وب�أي ت�أثري؟) وهي
الإن�سانية تتميز بوجود الثقافة والتقاليد الثقافية الذي يرى الإ�ضافة املدخل التي قدم يف �إطارها
والواقعة االجتماعية تنقل طرائق التفكري وال�شعور �أنه مع ظهور قراءة يف ت�أثري الدعاية خالل احلرب
والتفاعل(.)30 العاملية الأوىل منتهيا �إىل جمموعة
من جهة ثانية نعتقد �أن وجاهة نقد روبريت مريتون من اال�ستنتاجات وهي القوة الكبرية
الر�أ�سمالية
ملبد أ� التكامل واالن�سجام مل ُي�ضعف املنظور البنائي �أ�صبحت لو�سائل الإعالم يف الت�أثري على �سلوك
الوظيفي لو�سائل الإعالم ،بقدر ما دعمه وجعله �أكرث منتجات اجلمهور وكيف �أن و�سائل الإعالم
مو�ضوعية وذلك لأن تن�سيب مبد�أ التكامل والتما�سك هذه ،هي �أدوات لإدارة الرموز امل�ؤثرة
االجتماعيني �أكرث تال�ؤما مع طبيعة املجتمعات ال�صناعة وتوزيعها على الر�أي العام(. )28
احلديثة التي تعاين �أحيانا من عدم التكامل والتفكك الثقافية «كلها �إىل جانب قوة و�سائل الإعالم من
واالنحراف .لذلك ،ف�إن تنبيه مريتون يف كتابه �سلعة والربح ناحية كونها م�صدرا للمعلومات
«عنا�رص النظرية واملنهج ال�سو�سيولوجي» �إىل وموزعة لها وتطور �أدواتها يف
�رضورة احلذر من فكرة التكامل واالن�سجام للن�سق هو كل �شيء الإحاطة ال�رسيعة و�أحيانا الفورية
الكلي والت�شكيك فيها( ،)31تدافع عنه ظروف ن�ش�أة ملا هو حدث �آين ،ف�إنها متثل م�صدرا
ال�سو�سيولوجيا نف�سها ،فال يجب �أن نن�سى كون �أ�سا�سيا اليوم يف ت�شكيل ر�أ�س املال الرمزي للأفراد
ال�سو�سيولوجيا هي �إرثا للحداثة مع ما يعنيه ذلك واجلماهري وذلك من خالل �أداء وظيفة نقل الرتاث
من ظهور م�شكالت اجتماعية جديدة تنتج بدورها االجتماعي والتدخل يف ت�شكيل املخيال والتمثالت
حاالت عدم اال�ستقرار �أكرث من �أو�ضاع متما�سكة. االجتماعية ال�شيء الذي يفيد �أن التحليل البنائي
كما �أن احلاجة �إىل املعلومات والتف�سري وخف�ض الوظيفي لو�سائل الإعالم قد ا�ستفاد و�أ�صبح
التوتر والغمو�ض تعرف ت�صاعدا نوعيا يف �أوقات �أكرث م�صداقية مع الأعمال الوظيفية النقدية
عدم اال�ستقرار والأزمات والأحداث ال�ساخنة التي قدمها الوظيفيون اجلدد تالكوت بار�سونز
واحلروب والنزاعات �أكرث منه يف حاالت اال�ستقرار وروبرت مريتون .ونق�صد بذلك �أن نظرية تالكوت
والتوازن االجتماعيني حيث �إن متابعة �أخبار وكيفية فهمه لبنية الفعل االجتماعي تنطبق كذلك
ال�صحف والإذاعات والقنوات التلفزية ت�صبح على و�سائل الإعالم التي متثل ن�سقا فرعيا داخل
أ�سا�سية وتت�ضاعف كثافة ّ ممار�سة ثقافية � الن�سق الكلي .من هذا املنطلق الذي يقارب فيه
التعر�ض �إىل و�سائل الإعالم ال�سمعية الب�رصية بار�سونز الفعل االجتماعي مقاربة ال فقط وظيفية
اجلماهريية وذلك بحثا عن �إ�شباع معريف ونف�سي و�إمنا خ�صو�صا منظومية(� )29أي �أنه يفهم الفعل
102 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
ف�إذا كانت الأعمال الروائية التي تناولتها، �إذا كانت العقود الثالثة الأخرية قد
والق�ضايا التي �أثارتها الناقدة من خاللها عرفت زخم ًا كبرياً يف النتاج الروائي
ال تزال ممتدة احل�ضور يف واقعنا� ،إن مل
تكن يف �صلب الوجود الثقايف لهذا الواقع،
العربي ،ف�إنها ،بالتزامن ،قد عرفت من
فذلك هو ما يجعل لهذا الكتاب �أهميته الدرا�سات التي كتبت يف هذه الرواية،
النقدية ،وقد �أكدت على ثالثة عنا�رص يف ما ك�شف عن خمتلف جوانبها الفنية
تكوين العمل الأدبي ،وتناولته من خاللها، واملو�ضوعية ،وعزز ح�ضورها بو�صفها
وهي :املوقف ،والفعالية ،وااللتزام ..ممثلة الفن املتقدم اليوم على الفنون الأخرى
بهذا م�شاركة ذات بعدين �أ�سا�سني :فني،
وفكري .فالناقدة تق ّدم كتابها من هذين يف احلياة الثقافية العربية ،ف�ض ًال عما
املنطلقني اللذين ت�ؤ�س�س عليهما ،لي�شكال �أثارته هذه الكتابات بح ّديها ،االبداعي
�أفق القراءة عندها ،م�ؤكدة ،خال�صة لذلك والنقدي ،من �أ�سئلة انبنت عليها غري
وا�ستخال�ص ًا منه ،الدور الفاعل ،ايجاب ًا درا�سة من الدرا�سات التي كتبت يف هذا
و�سلباً ،للفعل الثقايف �إزاء� /أو يف مواجهة
ال�سياق ،والتي عربت عن ر�ؤية نقدية
الفعل االجتماعي لالن�سان ـ و�إن �أ�صدرت
يف هذا من واقع انحياز للمنهج الواقعي كبرية الو�ضوح ،وحمددة بغايات البحث
ببعده الفكري وا�ضح االحالة اىل موارده. وتوجهاته .وي�أتي كتاب الناقدة مينى
جتد الناقدة يف الأعمال التي قر�أتها نقدي ًا العيد عن «الرواية العربية :املتخ َّيل
�أعما ًال �إن مل ت�شكل �شهادة على الع�رص وبنيته الفنية» كتاب ًا ف�صوله حممولة
فهي �شهادة من ع�رص مل يخ�ضع للتفاعل
نب على
على مواجهة نقدية لهذا الواقع الذي
قدر خ�ضوعه للقمع واالبتزاز ،ومل ُي َ
معاين احلياة ،مبا فيها انت�صار االن�سان �أ�صبح واقع ًا تاريخي ًا ،يف بعد من �أبعاد
�أو االنت�صار له ،بقدر ما قام على �سحق التاريخ ومعناه:
105
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
التي ق���ر�أت ،بحث ًا يف «�أث��ر ه��ذا ال��واق��ع املعي�ش، هذا االن�سان وال�صعود على حطامه ..وهو ،بح�سب
وب�صفته املرجعية ،يف ت�شكّل بنية عامل الرواية»، ر�ؤيتها له ،مل يكن ع�رص �صواب بقدر ما كان ع�رص
وتعالق مكوناته ،و«التوظيف الداليل لها» ..ومن خط�أ وتكري�س لهذا اخلط�أ ..ومل تكن حياة االن�سان
ثم «�أثر هذا الواقع املعي�ش يف الدينامية ال�رسدية، فيه مقرتنة باحلرية بقدر ما هي حياة مفرو�ضة
�أو يف ما يخ�ص زمن ال�رسد و�سياقاته» ،من دون ق�رساً على هذا االن�سان مبا لها من تراجعات ،وما
�أن تتغا�ضى عن «املنظور الت�أليفي للعمل الروائي». فيها من انك�سارات .كما �أن االن�سان فيها مل يكن،
طور مفهوم الواقعية يف (�ص )9ـ ويف هذا� ،إمنا ُت ِّ �إال يف بع�ض من م�ضامني ابداعه� ،صانع حياة
وتو�سع ف�ضاءاتها من خالل النظر ّ النقد الأدب��ي، باختياره.
املفتوح يف العمل الروائي ـ مو�ضوع قراءتها ..بل مثل هذه الق�ضايا حتتاج قارئة /ناقدة على ن�صيب
هي ،هنا ،حتقق ملفهوم القراءة ،بو�صفه مفهوم ًا من اجل��ر�أة ملراجعتها ـ وهذا ما �ستحر�ص م�ؤلفة
نقدياً� ،أبعاده الفنية واملو�ضوعية ،وهو منظور «ال الكتاب على القيام به� ،آخذ ًة ذلك مبفهومات النقد،
ي�ست�أثر باملعرفة� ،أو بالر�ؤية واملوقف ،بل يدعو كما تتبناها ،معيدة قراءة الذات املبدعة يف بعديها:
القراءة اىل امل�شاركة يف ما تقوله الرواية» ـ كما ُبعد ال��ذات ـ تكوين ًا ابداعياً ،و ُبعد ال��ذات ـ موقف ًا
جاء يف ما حددت به /ومن خالله طبيعة الرواية اجتماعياً .فنحن ،معها يف هذا الكتاب� ،أمام منطقني
اللبنانية التي كُ تبت زمن احلرب�( .ص)9 يك�شف عنهما� /أو يتحددان يف :منطق الفكر ،ومنطق
هذا املرتكز النظري ـ الذي ال ب ّد من ا�ستيفاء جوانبه الواقع ـ التاريخ ،مبا لهما من ح�ضور وت�أثري يف
املتخيل الروائي
َّ كافة ـ و«القائم على العالقة بني حياتنا احلا�رضة ،مع مالحظة �أن الناقدة ،هنا ،ال
املتخيل»،
َّ وبني املرجعي احلي الذي يحيل اىل هذا «ت�صنع» مواقف بقدر ما ت�ستخل�ص مما تقر�أ ..وكل
خولها «ك�شف معنى ال�سلطة الذكورية جتده قد ّ ع ّدتها :منهجية املراجعة ،وجر�أة القول� ،أو ال�س�ؤال
وحقيقتها يف �أكرث من عمل روائي» ،كما �أتاح لها الذي يدفعها اىل �أن ت�شري ،بداية ،اىل �أنها �إمنا تقر أ�
ـ كما ت�ؤكد ـ «تبيان دالالت العالقة بني الذكورة الرواية «بهدف بلورة مفهوم نظري يكون جواب ًا عن
والأنوثة ،وبني الذكورة والعنف الذي ي� ّؤوله عنف �س�ؤال» كانت قد �أثارته «حول �أثر املرجع احلي يف
النظم وتراتب العالقات املجتمعية فيه» ،وجتد �أن بنية ال�شكل الفنية ودالالت هذه البنية الروائية»،
الرجل هو من يتوالها و ُيكر�سها ...ف�ض ًال عما تراه معتمدة يف ذلك مفهومات «نقدية ُتطلق القراءة وال
من �أن الثقافة العربية ،مبا هي ثقافة املتداول ُتخ�ضعها لها»� ..أما �أ�سا�س هذه املمفهومات فيتعينّ
واملهم�ش ،ق��ادرة على �أن توفر امكانية ل�صياغة َّ يف ت�أكيد «العالقة ،غري املبا�رشة ،بني العمل الأدبي
خطاب روائي عربي ،داعية اىل �إعادة االعتبار اىل واملرجعي من طريق االحالة»�( .ص)8
الكال�سيكية ال�رسدية التي جتد �أن بع�ض الروائيني و�إذا كانت جتد �أن �س�ؤال املبدع /الروائي العربي
العرب قد مال اىل تو�سلها مبا يتالءم ومنظورهم ع��ن «الكيفية» التي يقول بها (يف كتابة عمل
لرواية عربية الطابع الفني واالهتمام املو�ضوعي. روائ��ي) قد و�ضعه �أمام حقائق ذاته ،االجتماعية
(�ص)10 والتاريخية ،ف�إن ذلك هو الطريق الذي اتخذ (هذا
وت�أ�سي�س ًا على هذا� /أو انطالق ًا منه ،جتد �أن جنيب الروائي) نحو «رواية ت�ستجيب لذاكرتنا وتاريخنا»..
حمفوظ يف «مريامار» قد تو�سل «تقنية املنظور فال�س�ؤال ،كما ت�ستغوره الناقدة من خالل قراءتها،
املختلف للحكاية التي �شكلت عقدة الرواية ،وق ّدم �س�ؤال يحيل اىل «مرجعي خا�ص» من دون �أن ينفي
�شخ�صيات تنوعت ر�ؤاه��ا وتعبرياتها اللغوية يف الطابع العام ،امل�شرتك ،للفنون» (�ص .)8وعلى هذا
تناوبها على حكاية ه��ذه احلكاية» ،و�إن كانت فهي �إمنا تق ّدم ،هنا ،ومن خالل الأعمال الروائية
106 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
فاعلية» العاملني الثقايف والأدب���ي« ،وت�ستعري جتده عبرّ � ،أكرث ما عبرّ « ،عما هو م�شرتك يف الوعي
جمالية امل�ضمون مكانتها و��ض�رورة ت�شكلها اجلمعي امل�ضمر لهذه ال�شخ�صيات» (�ص ،)19ذلك
املختلف»�(.ص )33ومن هنا ماجتد فيه الكتابة �أن ما ي�شغل الناقدة يف قراءتها هذه ،كما ت�ؤكد،
�ضعت �أمام واقع ا�شكايل :ف�أبناء املدينة،
«و ْ
وقد ُ «هو الداللة املولَّدة على قاعدة العالقة باملرجع
�أو الوطن ،هم الذين يدمرون مدينتهم ووطنهم»، احلي� ،أوالأن��ا» غري املنغلق على ذاته ،مبا تعنيه،
وقد �شمل التدمري «ن�سيجها االجتماعي ،وما كان هذه الأن��ا« ،من هوية وثقافة وتاريخ»�( .ص)31
يرمز �إليه عمرانها من قيم ثقافية بها ارتبط الوعي ومن خالل هذا تنظر يف مو�ضوع الكتابة الروائية
وتكون»�( ،ص)38وهو ما يجعل ،بح�سب َّ اجلمعي يف زمن احلرب اللبنانية لتجدها قد �شكلت «م�شكلة
الر�ؤية النقدية التحليلية للناقدة ،م�س�ألة تفكيك �شائكة ،لأنها قائمة يف حلظة مفارقة حادة بني
البنى القيمية للمدينة وثقافتها وا�ضحة ،كما يجعل (املتخيل) »...مبا يطرح
َّ املرجعي (الواقع) والأدبي
خط االفرتاق بني منظورين اىل املجتمع ،وموقفني على الكتابة «��ضرورة انت�شال ذاتها ـ مبا يعادل
منه /وفيه وا�ضح املعامل :فالقطع متحقق ،كما والدة جديدة لها�( ».ص)32
ت��رى ،مع مرجعية روائية تعطيها ُبعد التاريخ، وتنظر نظرة ا�ستغوارية اىل طبيعة احلروب ووالدة
مبا فيها من منظومة قيم وقواعد بنائية ـ �إحالية، الكتابة يف واقعها ،فتجدها ،يف العمق منها ،متثل
وبني «مرجع م�صاب بالدمار يف مكانه وزمانه «والدة املعاين القادرة على �أن ت�شكل يف الثقافة ،ال
وقيمه و�أنا�سه» )39( ،ووج��دت يف هذا انحراف ًا جمرد خطاب �سيا�سي ،بل فاعلية �أدبية قوامها لغة ّ
«بالنظر نحو ال��ذات» ،فبدا وك�أنه يخ�ص ـ بح�سب الق�ص والبناء» ،و�إن كانت جتدها والدةّ يف متميزة
قراءتها ـ «عالقة الرواية بالرواية على حد تدمري تعاين ،يف الآن ذاته ،من «خواء العالقة باملرجعي
بطولة ال�شخ�صية فيها ،وتدمري لغتها ،وقواعد بناء دمر مادي ًا وقيمياً» ،ويح ّتم
من حيث هو جمتمع ُي ّ
خطابها» ،ف�ض ًال عن «عالقة الرواية بواقع مرجعي «��ض�رورة االن��ب��ن��اء امل��ع��ريف والت�شكل النوعي»
هو نف�سه قيد التدمري�( »...ص )40ويف ال�سياق ذاته ـ (�����ص )32وه��و م��ا يجعلها ت���رى �أن قراءتها
جتد يف االجابة عما تثري من �س�ؤال حول الكيفية «الن�صو�ص الأدبية املنتجة يف زمن احلرب ،مبثابة
التي حلت بها «رواي��ة احل��رب اللبنانية �س�ؤالها تلم�س لتجلياتها النوعية اخلا�صة�( »...ص32ـ)33
اال���ش��ك��ايل؟» �أن اجل���واب ينح�رص يف خ�صائ�ص وتعني منها «املتغريات البنائية اجلمالية يف حلظة
�أبرزها «زمن ال�رسد» الذي ترى فيه زمن ًا يتك�رس يف مفارقة ح��ادة بني املرجعي (الواقعي) والأدب��ي
هذه الرواية .فال�رسد «الذي يك�رس زمنه يبدو وك�أنه (املتخيل) »...بل تذهب يف ما هو �أبعد فتجد يف َّ
يدمر امل�رسود الراهني نف�سه وال يكتفي بو�ضعه هذه الكتابة «معاد ًال نقدياً» للحرب ،هو ما يجعل
بعالقة غربة مع ما�ضيه التاريخي ( ،)...بل مع ذاته «امل�شهد ،بكل خ�صائ�صه البنائية ...يت�شكل كمر�آة
�أي�ضاً» مبا «جعل الزمن يبدو حلظوي ًا حا�رضاً يف داللية لواقع يعاين فيه النا�س»�( ،ص )33وهو ما
حلظويته»���( .ص� )41،42،43أما الهوية ف�إن هذه و�ضعته مو�ضع نظر من خالل القراءة وامل�ساءلة.
�سوية» ،ومت ّثل ،يف
ال�شخ�صية تك�شف عن «هوية ال ّ و أ�م��ام هذا تثري ال�س�ؤال عما �إذا «كان ما �آل �إليه
غري رواية من روايات احلرب هذه« ،معاناة فعلية املتخيل الأدبي م�رشوط ًا بدمار الواقع املرجعي؟» َّ
لتفكك تعي�شه ال�شخ�صية وتعبرّ عنه �سلوكاتها فيكون ذلك منطلقها يف ما جعلت لقراءاتها من
ومنطوقاتها�( ».ص)45 م�سار جتد معها م�س�ألة العالقة لي�ست «�سببية
ف���إذا ما ج��اءت اىل «دالالت املرجعي يف العامل على قاعدتها يتكامل الأدب��ي بنق�صان املرجعي،
املتخيل وبنيته الفنية» وقفت على ثالثة مفا�صل
َّ �أو ب��دم��اره ،بل هي م�س�ألة مفارقة تتعزز معها
107 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
احلقائق»�(.ص)72،73 من خالل ثالثة مو�ضوعات ،هي :ثورة النا�رصية
وامل�س�ألة الأخرى هي امل�س�ألة الطائفية يف الرواية ودالالتها يف رواية «مريامار» ،الرواية التي جتد
اللبنانية ،الداللة وحتوالتها التاريخية ،فتتابعها، فيها «منوذج ًا رائداً لبنية ال�شكل الروائي املتميز
م�����س��ارات وحت����والت ،ب�ين ال�����س���ؤال ع��ن «ال���ذات» بحداثته واختالفه على �أ�سا�س من تعامله مع
�سيتحول من
ّ عمق «االنتماء» ،الذي والبحث عما ُي ّ واقع الثورة النا�رصية وما �آل �إليه هذا الواقع قبيل
ال�ضيق ،واالنتقال من ّ ُبعده الوا�سع اىل جماله الهزمية» ،و�أن ا�شتغال خطابها يتمتع «بدرجة
«البعد الفردي» للذات اىل ما ي�شكّل « ُبعداً جمعياً»، عالية من املهارة الفنية الهادفة� ،ضمنياً ،اىل توليد
مبعنى من املعاين ،و�إن كان حما�رصاً بانتمائه ـ املعنى العميق للثورة»���( .ص )53وت�أ�سي�س ًا على
املرة ،والذيالذي �سيكون االنتماء الفعلي يف هذه ّ هذا ترى الناقدة «ان الرواية العربية املعا�رصة
�أ�شرّ ته رواية توفيق يو�سف عواد «طواحني بريوت» تعاين م���أزق التعامل النقدي مع واق��ع مرجعي
( )1969التي تع ّدها الناقدة «مقدمة لعودة امل�س�ألة من�سوب اىل �سلطة ثورية» .وعلى هذا فهي (الرواية) ـ
الطائفية يف لبنان»� ...إذ جت��ده ق��دم بها /ومن بح�سب الناقدة ـ «حتاول ح ًال بايجاد بدائل فنية� ،أو
خاللها «ق��راءة مميزة للواقع املرجعي املحكوم توظيفات تقنية تطبعها �أحيان ًا بطابع االلتبا�س»...
بامل�س�ألة الطائفية» ،متخذة منها مقدمة ملا جاء (�ص)69
من بعدها من روايات اللبنانيني عن احلرب الأهلية هنا تثري الناقدة �س�ؤا ًال مهم ًا يتعلق بالكيفية التي
اللبنانية ،وق��د رك��زت على «اجل��ان��ب الأخ�لاق��ي «ميكن للكتابة الروائية (فيها) �أن جتيب ،روائياً،
واالن�ساين» ،و�إن مل ُيهمل بع�ضها اجلانب ال�سيا�سي ـ عن ال�س�ؤال الغائب فيها :ال�س�ؤال الذي ينتج معرفة
الوطني�( .ص)83،86 بالواقع التاريخي يف كليته ،يف عمقه»�( .ص)71
ثم ت�أتي ،م�س�ألة ثالثة ،الق�ضية الفل�سطينية يف ومن وجه العالقة بال�سلطة ،تذهب الناقدة اىل «�أن
الرواية العربية التي تتناولها من حيث الداللة االلتبا�س ،من حيث هو معادل فني للتعامل امل�أزقي
واختالفها يف املنظور التاريخي ..موزع ُة قراءتها التاريخي ،ال يعود ...اىل ر�ؤية تب�سيطية تتعامل بها
بني روايات «تعود اىل �أكرث من زمن من �أزمنة هذه الكتابة الروائية مع املرجع الواقعي ،بل اىل نوع من
الق�ضية» ،غايتها من ذلك «البحث عن متغريات تخول الكتابة قول ما ال يقال يف ظل احليلة الفنية ّ
املنظور التاريخي يف تناول الق�ضية الفل�سطينية �سلطة ترف�ض النقد وامل�ساءلة»�(.ص )72وهذا الر�أي
ق�ضية ت��اري��خ��ي��ة ،وب��اع��ت��ب��ار امل��ن��ظ��ور ال����سردي منها مبني على /وم�ستخل�ص من املوقف داخل
الت�أليفي ر�ؤي��ة تندرج يف الثقايف وحت��اور وعي «م�يرام��ار» جنيب حمفوظ التي �صدرت يف عام
القراءة وترتك �أثرها فيه»�(،ص )92متخذة البداية نك�سة حزيران ..1967فهي ـ بح�سب الناقدة ـ رواية
من روايتني وكاتبني (�إميل حبيبي يف «الوقائع «�أبدعت ال�شكل القادر على قول املدلول امل�رشوط
الغريبة ،»...وغ�سان كنفاين يف «عائد اىل حيفا»)... بزمنه التاريخي ،ليتخ�ص�ص ال�شكل مبدلول فيه
مثا ًال تر�صد من خالله مفهوم ال�رصاع و�أبعاده يف ـ �أي مبرجعي حا�رض فيه ق��و ًال روائي ًا متميزاً»،
اطار الق�ضية وما لها من �سياقات ،لت�صل اىل ما وتخل�ص اىل �أن هذه الرواية (مريامار) ،بو�صفها
بعدهما من �أعمال جتد بع�ضها �أف�سح «حيزاً وا�سع ًا منوذج ًا لرواية مرحلتها ،رواية مار�ست «دوراً يف
للنقد الذاتي» ،وت�أخذ املثال من روايات �سحر خليفة ال�رصاع الثقايف ـ ال�سيا�سي»� ،إذ �أنتجت «ت�شكلها
التي جتد ر�ؤيتها ل�سلبية الدافع تتطور من رواية اىل الفني املميز معرفة نقدية مبرجعها االجتماعي
�أخرى ،وهي �سلبية تكاد تركز يف بعدين« :الثورة مع احلي» ،وبذلك فتحت «�أمام الوعي االن�ساين العام
العجز واجلهل واالنق�سام»� ،أو «ال�رصاع مع الهزمية باب الت�أمل وامل�ساءلة ،ورمبا �سبيل الو�صول اىل
108 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
ت�سميه «الأنوثة اخلائفة من العنف» ،وهي ،و�إن واخليانة والق�صور�(»...ص )98،100ف�إذا ما جاءت
وجدت فيها «رواية �شهرزادية من حيث منط البنية»، اىل رواي��ة بهاء طاهر «احل��ب يف املنفى» وجدته
حيث ُتزمع البطلة «على مغادرة وطنها(� )...إثر حرب ُي�صدر فيها عن «موقف نقدي بالغ�ضب والأمل
دمرت كل �شيء» ،فيجيء «�سفرها وك�أنه دمار لها واملرارة» �إزاء ما ح�صل يف اجتياح بريوت ،1982
ال ينقذها منه �سوى ما ترويه ذاكرتها�(».ص)128 وقد ج�سدت ،مع روايات �أخرى ،التعبري عن «واقع
وت��رى أ�ن��ه على الرغم من والدة هذه الرواية يف فل�سطيني عربي مهزوم» ات�سم بالعجز والق�صور
حقبة عنوانها الأبرز «التجريب الروائي العربي»، واخليانة ..لت�أخذ الق�ضية �أبعاداً �أخرى عند اجلزائري
ف�إن هذه الرواية ،بح�سب ما ترى الناقدة« ،لي�ست وا�سيني الأعرج يف «�سوناتا لأ�شباح القد�س» ،وعند
رواية جتريبية ( )...لأنها ،وبكل ب�ساطة ،ال تكتفي، اليا�س خوري يف «باب ال�شم�س» ،مثرية عند الأخري
�ش�أن الرواية التجريبية ،بك�رس قواعد الرواية الغربية بع�ض الأ�سئلة التي جتد ،جواب ًا عنها ،ان الرواية
يف مثالها الواقعي لتبقى ن�ص ًا مفتوحاً ،بل تبني العربية افتقدت «ديناميتها ال�رسدية� ،إذ راحت
�رسدها ال��روائ��ي وف��ق قواعد �أخ��رى تغلق الن�ص تروي احلكاية �ضمن زمن ينغلق عليها ( )...ال دور
و ُتبقيه مفتوح ًا يف الآن� ،ضمن �إطاره املغلق ،املزيد للذاكرة ،ملرجعها احلي الذي ا�ستعانت به الرواية،
من احلكايات�) ».ص)130 والذي �شكل ،على م�ستواه الواقعي التاريخي ،فعل
�أم��ا يف بحثها يف «الأدب الن�سائي» وا�شكاليته �صمود و��صراع بو�صفه وثيقة انتماء ووج��ود»،
العربية فتجد �أن املر�أة مل تكتب «�ض ّد الرجل االن�سان لتخل�ص اىل �أن تلك «الدينامية التي عربت عنها
حني تناولت يف كتاباتها االبداعية العالقة بني «عائد اىل حيفا» لغ�سان كنفاين راحت مع �أواخر
الأنوثة والذكورة ،بل كتبت �ض ّد �إيديولوجيا ال�سلطة القرن الع�رشين وبداية القرن احلادي والع�رشين،
الذكورية»�(.ص )146ف���إذا ما وجدتها عند ليلى تنو�س يف الرواية العربية لتنتهي هذه الرواية اىل
بعلبكي يف «�أن��ا �أحيا» تتمرد على القمع ،ف�إنها مرويه وقد فقد ديناميتهّ زمن �رسدي ي�ستعري زمن
عند هدى بركات يف «حجر ال�ضحك» تتحدد يف الروائية وانغلق على ذاته�(».ص)100،110
«مرجعي ثقايف ـ اجتماعي ـ تربوي» ،لتخل�ص من ف�إذا ما نظرت يف مو�ضوع «العنف واثره يف عامل
هذا اىل �أن املر�أة تكتب لتعبرّ عن �سبل ت�ستعيد بها املتخيل» ،وجدت �أن احلرب الأهلية اللبنانية
َّ الرواية
الأنثى ثقتها بذاتها املفقودة» ،كما عند �أ�سيمة �شكلت «مرجعية �أ�سا�سية الزدهار الكتابة يف لبنان»
دروي�ش� ،أو تكتب لتف�صح «عن قدراتها االبداعية مبا م ّثل «ظاهرة» روائية لرواية حديثة ال يف عدد من
يف مواجهة ما حلق بها من ظلم على مدى تاريخ كتب فح�سب« ،بل يف الر�ؤى والعوامل واخل�صائ�ص
ت�صور ذلك عالية ممدوح يف غري عمل طويل» ،كما ّ البنائية التي ميزت هذه الرواية و�أجادت ن�سبتها
من �أعمالها الروائية .ويف �ضوء هذا تقيم الناقدة اىل احل��رب»���( ،ص )117متناولة هذا كله ،بر�ؤية
ال�ضدية بني
ّ ا�ستنتاجها فرتى �أن «خطاب العالقة نقدية حتليلية ،من خالل رواية املر�أة الروائية التي
الأنوثة والذكورة يف �أدب املر�أة العربية» ي�سعى «اىل جتدها حتيل ،يف ه��ذا اجلانب تخ�صي�صاً« ،على
تثمني الأنوثة با�ضاءة دالالتها املرتبطة بالهوية منطق �أنثوي يربط بني الذكورة والعنف» ،لتجد
واللغة واحلياة» ،متابعة تفا�صيل ذلك ،وفق ًا للر�ؤية �أن هدى بركات يف «حجر ال�ضحك» ،ومن خالل
الفنية والذاتية ـ االجتماعية لكل كاتبة ،يف عدد من �شخ�صية بطلها ،تبني «روايتها من منظور نقدي
الأعمال الروائية لكاتبات عربيات ،مق ِّدمة بذلك للحرب باعتبارها� ،أي احلرب� ،أثراً لثقافة ذكورية
�صورة بانورامية للم�شهد الروائي الن�سوي العربي يف بنت تاريخها على مفهوم العنف�(».ص)121
ما يت�صل با�شكالية العالقة التي جتدها عند البع�ض �أما عند علوية �صبح يف «مرمي احلكايا» فهناك ما
109 نزوى العدد - 75يوليو 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
بال�رضورة اقل مو�ضوعية� ،أو حقيقة من املعرفة ـ كما عند التون�سية عرو�سية النالوتي ـ «تقدم �صورة
التي تنتجها ال�سرية� ،أو ال�سرية الذاتية» ،م�ستندة جيل يعي�ش قلق الأ�سئلة ال�صعبة�(».ص)147،149
يف ما ترى اىل ما جتد من �أ�سباب تركز على اثنني غري �أن م�شهد هذا الأدب (الن�سائي) ،كما تراه ،ال
منها� ،أولهما« :كون هذه الأنواع الأدبية تنتمي... يتوقف عند هذه احلدود «املو�ضوعية»� ،أو يكون
املتخيل� ،أو كتابة من الذاكرة،
َّ اىل ال�رسد ،وال�رسد مق�صوراً عليها ،بل جتد املر�أة الكاتبة تعمل على
وعن املا�ضي» .وال�سبب الثاين هو «كون ال�رسد االنخراط يف ما ت�سميه «م�رشوع الرواية العربية»
املتخيل ي�شكل قناع ًا ي�سمح بتقدمي معرفة
َّ الروائي فهي قد مار�ست «التجريب» ،وتو�سلت عنا�رص
بالذات �أكرث حرية وجراة ،ورمبا �صحة وحقيقة، من التاريخ م�ضمِ رة �س�ؤا َال حول معنى احلقيقة
وهو ما ال ت�سمح به الكتابة املبا�رشة عن ال�سرية املتخيل الروائي بال�رسد التاريخي ،كماَّ وعالقة
الذاتية�(».ص)191،192،195،196 جتاوزت القواعد التقليدية ...مق ِّدمة ذلك من خالل
ويف ال�سياق ذاته ترى �أن «كتب ال�سرية الذاتية، «�أعمال� /شواهد» بذاتها ،وم�ستق�صية خ�صائ�ص
وحتى الروائية» ،تبدو «�أكرث جر�أة يف انتاج هذه هذه الأعمال يف هذا امل�ستوى من القراءة لها،
املعرفة وو�ضعها عارية»�(،ص )197مق ِّدمة املثال لت�ؤكد ،مرة �أخرى� ،أن التحدي املعلن فيها «يقول
على ذلك من خالل عر�ض بع�ض الأعمال الروائية والتنوع ،ولي�س
ّ باالختالف على �أ�سا�س التعدد
العربية احلديثة ...مع مالحظة منها ت�ؤكد فيها �أن على �أ�سا�س من معايري قيمية ت�ضع الأنوثة �ض ّد
«�أدب ال�سرية الذاتية الروائي �أكرث جر�أة يف االف�صاح الذكورة� ،أو دونها�(».ص)149
عن الذات ،واكرث حرية يف و�ضع الـ«�أنا» يف عالقة ويف ف�صل �آخر تتناول «ال�سرية الذاتية الروائية»،
نقدية مع ذاته ،ومع الـ«�آخر»�(0ص)206 ناظرة �إليها من �أرب��ع زواي���ا ،معترب ًة «ال�سرية
ثم ت�أتي على «�صورة الأب» يف الرواية العربية الذاتية م�صدراً من م�صادر املعرفة» ،لتت�ساءل ،يف
لتجد يف تنوعها واختالفها بني روائ��ي و آ�خ��ر �ضوء ما تقرر ،عن «قيمة هذه املعرفة» انطالق ًا
«اختالف ًا قوامه الواقع الثقايف يف تاريخيته ،كما من كون ال�سرية الذاتية� ،ش�أنها «�ش�أن الرواية،
موقع امل�ؤلف ور�ؤيته وما لذلك من �أثر يتمثل يف املتخيل»..
َّ �رسد من الذاكرة ي�ستوي على م�ستوى
منظور العمل الروائي وعامله�(».ص)218 كما تت�ساءل عما دفع البع�ض «اىل تو�سل ال�رسد
ويف املقابل تقف «���ص��ورة الأم» .وم��ن خالل ال��روائ��ي حلكاية ال�سرية ال��ذات��ي��ة؟» ،ف�ترى �أن
قراءتها ،وعطف ًا على الرواية ال�سريية ،وااليهام من عبدالرحمن منيف ،يف �سبيل املثال� ،إمنا هدف
خالل و�ضع عنوان «رواي��ة» بدي ًال عن التو�صيف يف ما كتب يف هذا ال�سياق ،اىل «اكت�شاف الواقع،
ال�سريي ،جتد �أن «القناع ال��روائ��ي و�سيلة فنية �أي انتاج معرفة به تندرج يف منظوره هو لهذا
يواجه به كاتب ال�سرية املعيار الأخالقي» الذي ما الواقع» ،وم�ستنتجة� ،أو م�ستخل�صة�« ،أن املعرفة
نزال نحاكم به الأدب�( .ص)226 التي تنتجها ال�سرية� ،أو ال�سرية الذاتية ،لي�ست
من بعد هذا ُتط ّل الناقدة على «الرواية وامل�ستقبل» بال�رضورة اكرث مو�ضوعية� ،أو حقيقة من املعرفة
«التعرف اىل حتوالتها الداخلية» مبا �أنهاّ ق�صد التي قد تنتجها ال�سرية الذاتية الروائية ،ورمبا
ر�أت فيها «�رسد احلياة» ..وتتابع امل�س�ألة متابعة التي تنتجها الرواية»� ،أو كما تقول ذلك بطريقة
تاريخية فتعود اىل الأعمال الأوىل حيث التطور مغايرة ،فرتى �أن «املعرفة التي تنتجها ال�سرية
والتحول ،ناظرة اىل الرواية كونها النوع الأدبي ّ الذاتية الروائية ،ولرمبا التي تنتجها الرواية ،لي�ست
110 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
«مبا يحقق تعدد القراءة وامل�شاركة يف ما تود قوله «الأك�ثر مواءمة لقول ما ال ُي�سمح بقوله يف ظل
هذه الرواية» ،وكان من ت�أثريات ذلك وانعكا�ساته، النظم ال�شمولية» .ومن هنا ف�إن نظرتها اىل الرواية
ان بع�ض الروائيني اللبنايني الذين كتبوا عن العربية وعالقتها ب�آفاق م�ستقبلها �إمن��ا يتعينّ
ه��ذه احل��رب� ،صاروا «يتعاملون مع التاريخ ال عندها «بتناول حركيتها الداخلية ،و�صو ًال اىل ]
باعتباره حكاية يروونها ،بل باعتباره مرجع ًا �إثارة[ ال�س�ؤال عن عالقة احلقيقي الفني الذي بلورته
املتخيل ال��روائ��ي يف ن�سج عامله».
َّ ي�ستعني به الرواية العربية ...باللعب اال�شاري ،كما بتنظريات
(�ص)260،261،293 وبالتخيل» ،معرب ُة
ُّ ما بعد احلداثة املرتبطة باللغة
�إال �أنها جتد بني الروائيني العرب من �سبقهم عن اعتقادها ب�أن هذه الرواية« ،يف خمتلف مراحل
اىل ذل��ك .ف�صنع اهلل ابراهيم «ه��و ال��ذي �أدخ��ل تطورها التاريخي» كانت «تهج�س مب�ستقبل لها»،
التوثيق اىل الرواية العربية جاع ًال منه م�رشوع ًا وال��ذي هو ،كما ت��راه ،م�ستقبل «ال يخ�ص م�س�ألة
لروائيتها»(�ص ..)264بينما جتد ر�ضوى عا�شور عاملها املمكن �أو املحتمل فح�سب ،بل �أدوات
يف روايتها «ثالثية غرناطة» قد اكتفت «باقامة املتخيل �أي�ضاً�(»...ص)258،259
ّ ت�شكيل عاملها
العالقة بني الرواية والتاريخ» وجعلت «من �أحداث ومع �أنها جتد «�أن الرواية العربية ولدت يف بيئة
ثقافية ال تتوفر على ما يحقق للرواية العربية
التاريخ حكاية ترويها وتبني عواملها يف �سياقات
روائيتها الفنية»�(،ص )260ف�إنها جتد للحدث
�أق��رب اىل التتابع الزماين ،ووف��ق منظور روائي
الواقعي ت�أثرياته على هذه الرواية بنية فنية� ،آتية
ي�ستعيد احلقيقة با�ضاءتها ويعيد االعتبار املعريف
باملثال على ذلك من الرواية التي كتبها روائيون
اىل معانيها�(».ص)296
لبنانيون عن احلرب اللبنانية يف زمنها ،لتجدها
و�أخ�ي�راً ،ي�أتي ال�س�ؤال عما �إذا كانت الناقدة،
بناء فني ًا قائم ًا على اناطة معنى التفكك مبنية ً
وهي تق ّدم التاريخ املو�ضوعاتي والفني لهذه
والدمار الذي �شهده لبنان بالفعل ال�رسدي ...بدل
الرواية من خالل مناذج خمتارة ،قد �أرادت تقدمي اناطته باحلكاية امل��روي��ة» ..كما وج��دت «هذه
�صورة احلا�رض من خالل فن من �أبرز فنونه؟ �أم الرواية متيل اىل ايالء الدال �أهمية �أوىل هي �أحيان ًا
تراها ت�ساءلت ،بدورها،عن الكيفية التي ُيفكر على ح�ساب املدلول» ،ما يدفعها اىل �أن ترى هذه
بها احلا�رض ،فعمدت اىل بلوغ� ،أو حماولة بلوغ احلرب وك�أنها «عنت انهياراً ال للعمران وح�سب ،بل
اجلواب من خالل الأعمال التي قر�أت؟ ..ومن هنا �أي�ض ًا للبنى املدينية والثقافية» ،حتى �صار ذلك
ما جنده من �أنها ،يف ما قر�أت من �أعمال ،عمدت االنهيار «ايقاع ًا بنائي ًا لزمن ال�رسد وامل�رسود».
اىل «حماكمة» م�ضامني هذه الأعمال ،ما جعلها ويف هذا ال�سياق ،ومن خالل ما تقدم ،مبا قدمت،
نقوم الأدب به ،معيارياً،
ت�ؤكد على �أن ما ينبغي �أن ّ من من��اذج هذه الرواية ،لتجدها رواي��ة ا�شتغلت
هو «معيار اب��داع احلقائق» ال��ذي جعلها تق ّدم «على فنية اخلطاب الروائي ومتييز بنية ال�شكل»،
اجلانب الفني تالي ًا للجانب املو�ضوعي .وبذلك وبهدفني� ،أحدهما على امل�ستوى الداليل (رف�ض
ق ّدمت قراءة �إيديولوجية املنطلق واملبنى بامتياز احل���رب) ،والآخ���ر على امل�ستوى البنائي الفني
يف كتاب حقق �إ�ضافة وا�ضحة اىل املكتبة النقدية متمث ًال يف ك�رس ح��دود «اخل�صو�صية ال�ضيقة»،
للرواية العربية. وفتح �أفق هذه الرواية على ما ت�سميه بـ«الروائية»،
اأبي �شقرا (حريتي جال�شة تفاحة على الطاولة).. �شنجاب يت�شلق الأ�شالك ،اأتذكر �شوقي اأبي �شقرا
حني اأقراأ اأبي �شقراء تتهادى اأ�شوات رعاة تائهة (�شنجاب يقع من الربج) وكنت ذات زمن يف
يف الرباري ،اأو �شخب اأطفال يلعبون ...اأبو �شقراء بريوت ،اأهم مبغادرتها اإىل مدينة اأخرى ،كنت
طفل ال�شعر العربي الكبري من غري ادعاء ول يف مقام الرتدد واحلرية الق�شوى ،هل اأغادر اأم
لعاملية كاذبة« ..اأفتح اأظافرك
ّ حفالت تطويب ل؟ �شحر بريوت واأهلها ،فتنة الليايل ،ال�شهرات
مروحة /تخد�س احلياة /يف بطنها».. والكتب (اأندل�س و�شام) وباري�س اأو ما ي�شبه ذلك..
ي�صدر قريب ًا
قريبا ة) �س.ر�� ..صصصي�صدر
يوية)
يوي
صيوي
من (يوميات �آ�آ�صص ّ كنت يف مقام احلرية حني باغتني عنوان كتاب
112
�شوقي �أبي �شقرا
امل ُعلّم وامل�ؤ�س�س
فـي ال�شعر احلديث
�صباح زوين
�شاعرة وناقدة لبنانية
العك�س هو ال�صحيح ،حيث لل�شاعر ر�ؤياه ووعيه يف املبتذلة .كم من �صحايف اكت�شف نف�سه �صحافي ًا
اللعبة الكتابية وحيث للمبنى ال�شعري ركائزه التي ماهراً يف �صفحته لأن ابي �شقرا كان وراء اكت�شاف
ال تقوم �أو ًال و�آخراً �سوى على اجلمالية الإ�ستيتيكية احلَ�سن والأح�سن ،وراء دفع العجلة املهنية دائم ًا
الأ�صلية .و�أعني بالأ�صلية ،تلك النابعة من ال�شعرية اىل الأمام ،وكم من �شاعر ا�شتهر من خالل �صفحته
املطلقة وهي التي عرفناها وال ن��زال ،يف �أعمال (�صفحة ابي �شقرا) الثقافية اليومية يف جريدة
�شوقي �أبي �شقرا. «النهار» التي كانت تربز وت�شهر كل َمن �ساهم يف
امليزة الكبرية والفريدة التي عرفها ابي �شقرا يف �صناعة اخلرب واملقالة عنده ،من خالل تكراره ( اي
ا�سم ال�صحفي وال�شاعر -ال�صحفي) �شبه اليومي
وظهوره على القراء.
مر�إذاً ،كم من مثقف وكاتب و�شاعر و�أديب ومفكر ّ
يف هذه ال�صفحة املرموقة وبف�ضله كانت مرموقة،
بف�ضل اندفاعه ال�لاحم��دود يف �سبيل الق�ضايا
الثقافية ،بف�ضل تفانيه من �أجل الكِتاب واملقالة
واحل��وار واخل�بر ،كل خرب �أدب��ي ! و�إ�شارة هنا اىل
انه كان دائم ًا يف هذه ال�صفحة الثقافية اجلندي
املجهول ،كان يعمل من �أج��ل ال�صحافة ب�صمت
وبتق�شف مذهلني.
انه املُعلّم يف مهنية ال�صحافة من �أجل الثقافة� ،إنه
املُعلّم يف اللغة العربية ،وباملنا�سبة ،ما �أزال حتى
احتجت اىل م�ساعدة يف ال�رصف والنحو، ُ اليوم ،كلما
ت�صح عبارتي او جملتي. ّ �أجل أ� اليه �سائلة �إياه حتى
وعودة اىل �رصحه ال�شعري ،فال ب ّد انه �أجنز عامل ًا
متكامال ً قائم ًا بذاته ،قائما ً على �أدوات الق�صيدة
ال�رصفة ،حيث ال نقع �سوى على جوهر القول
ال�شعري وجوهر التقنية الأب��ي �شقرية وجوهر
الأ�سلوب واللغة .انها الكتابة ال�شعرية اجلوهرية
وهي يف كلمة �أخ��رى ،خال�صة ال�شعر الأنقى .انه
مبدع الأبجدية ال�شعرية ومبدع �أبجدية �صورتها،
انه النغم واللحن يف كل بيت من �أبيات الق�صيدة
احل��رة والطليقة ،وه��ي كذلك ،لأنها املبنية على
متانة القول يف وقته ويف مكانه� .شاعرنا هو الذي
يعرف متى و�أي��ن تتنا�سب ال�صورة والكلمة وهو
الذي يعرف تاليا ً كيفية �أ�سلبتهما .ال ي�ستويل على
الكلمة �صدفة وال يتبنى املفردة مزاجي ًا وال ي�صنع
مقالة الأديب ال�صحفي ادغار دافيديان باللغة الفرن�سية لدى �صدور كتاب �أبي �شقرا «ثياب �سهرة
ال�صورة كيفما اتفق ،وذلك لأن ال�صياغة ال�شعرية
الواحة واخليبة» يف جريدة «االوريان الجور» يف بريون ،ال�سبت 3من كانون الثاين .1998 عنده لي�ست بنت اي جمانية ولي�ست طارئة� ،إمنا
115 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
والأل��ف والياء وال�ضاد والتاء وكل �أبجدية ال�شعر أ�سلفت ،مل يت�أثر بتقنيات عقالنية
�شعره ،هو انه وكما � ُ
واللغة وما بعد الأبجدية» .انه �ألِف الق�صيدة ويا�ؤها، �أوغريعقالنية �أت��ت من الغرب ،كذلك مل يح ُذ حذو
انه الفنان الأك�بر يف ر�سم كل عنا�رص الطبيعة يف الكثريين من جمايليه الأجانب والعرب واللبنانيني
تالوين كلمات ترفرف فوق الأبيات ال�شعرية كطيور مكونات �أ�سطورية وتاريخية و�أدبية يف اعتماد ّ
مزرك�شة وفرحة لتنطنط من �صورة اىل �أخرى دون عاملية ليبني منها وعليها ق�صيدته .هذا ما قلته
كلل ودون الوقوع يف البهتان. �سابق ًا و�أكرره اليوم ،فهو ال�شاعر املتفرد يف �صياغة
انه ال�شاعر احلديث والراهن ،لأنه مل يكن �سورياليا ًعلى عامل �شعري مل ي�سبقه اليه �أح��د ،ومن هنا فرادته
الطريقة ال�سوريالية التقليدية الفرن�سية .بل ميكنني وكونيته .انه وحيد يف ابتكاره اللغة ال�شعرية هذه
ان اقول انه مل يكن �سوريالي ًا كما ظنه البع�ض ولفرتة أ�سميها حكما ً ابي �شقرية .فكما �أ�رشت �أعاله ،مل التي � ّ
طويلة من الزمن حيث رافقته هذه ال�صفة عن غري حق ي� ِأت من �أي �شعرية تنظريية وال من �أي موجة كتابية
وعن غري بحث عميق حول كتابته .هو ال�شاعر احلديث كانت رائجة يف حينها بني ال�شعراء العرب ،عند
والراهن� ،إمنا لأنه مل يتبع اي مدر�سة من املدار�س بداياته ،ومل ي� ِأت اىل ال�شعر من �أي �أدجلة �سيا�سية.
التي عرفتها �أوروب��ا و�أمريكا� ،أي انه مل يفعل كما «تلوث» تثاقفي. �أتى اىل ال�شعر نا�صع ًا ونظيف ًا من �أي ّ
�سواه من ال�شعراء الذين �أحبوا �أن ين�ضموا اىل مدر�سة �إنها الطهارة ال�شعرية التي مار�سها ومل يتخ َل عنها.
ما او فل�سفة ما يف ال�صنعة ال�شعرية� .أن��ه ال�شاعر انه بذاته البئر ال�شفافة ومنها غرف ،وال يزال ،كل
احلديث ودائما ً الراهن لأنه بد�أ حرا ً وظ ّل حراً من �أي طاقته ال�شعرية ،الطاقة التي ال تن�ضب عنده .فلم
مو�ضة ،ونعرف ان املو�ضة موجة ذات مدة حمددة يرتاجع وهج ق�صيدته يف �أي من كتبه .بل كلما كتب
وبعدها متوت وتنتهي .هكذا هي املوجات الأدبية ون�رش كلما وقعنا يف �صفحاته الوفرية على املزيد
والفنية كلها التي عرفناها� ،أقله منذ مائة عام ونيف، من املتانة ال�شعرية.
حيث ال�سوريالية �رسعان ما انطف�أ وهجها والدادائية ي�صنع الأبجدية وي�صنع ال�صورة ،فهو �صانع حرف
�رسعان ما ت�آكلت وا�ستهلكت نف�سها والبارنا�سية الق�صيدة الناب�ضة حياة يف كل �سطر وك��ل كلمة،
بهتت ووقعت يف الن�سيان وكذلك الرمزية الخ .هذا ���ص��ان��ع امل��ف��ردة
�ش�أن كل مو�ضة ،اي كل نظرية عقالنية (مهما �أدعت والبيت ال�شعريني
الالعقالنية ال�شعرية كال�رسيالية و�سواها) ،فتن�رش من د�سم الطبيعة
تروج لها لت�أخذ ق�سط ًا من الدعاية بيانها وقوانينهاّ ، ود����س���م ذك��ري��ات
وال�شهرة ،لكن ال ب ّد ان يعود ال�شعر اىل جمراه الطبيعي الطفولة وم��ا بعد
وال�شاعر اىل طريقته ال�شخ�صية والعفوية .ما من �شيء أحب �أن
الطفولة ،و� ُ
يدوم يف ال�شعر ويف الفن عامة �سوى ما يقوم على �أعيد و�أكرر نف�سي
العفوية ،و�أعني بالعفوية وح�رصياً ،تلك التي �أ�ص ًال ه��ن��ا اي�����ض��ا ً يف
تقوم على وعي جمايل حم�ض ووعي فني كبري نابع ما قلته م��رة عنه
من الذات .يف كلمة خمت�رصة� ،أعني بالعفوية ما يظ ّل «ف�صاحب الزيز
متحرراً من �أي ايديولوجيا فنية (و�سيا�سية) ليطري والنملة وال�ضفدعة
طليقا ً يف مطلق ال�شعر الفذ كما لدى �شوقي ابي �شقرا ! وال��غ�����ص��ن واجل��ل
فمنذ البداية� ،أي منذ �أن ترك ،ولو يف قلبه غ�صة كما واخلوخة ،هو قبل
يقول ،حلقة «الرثيا» �أواخر اخلم�سينات لين�ضم اىل كل �شيء �صاحب
جمموعة �شعراء جملة «�شعر» (وباملنا�سبة ابي �شقرا الفتحة وال�ضمة �شوقي مع زوجته اوائل ال�سبعينات
القلب على الذهن على حد تعبري ال�رشيف الر�ضي، حاز يف ذلك الوقت «جائزة جملة �شعر» عن كتابه
يراقب النجمة يف اول ال�سطر ويرافقها غالب ًا اىل «ماء اىل ح�صان العائلة» .وكان الثالث يف حيازتها
منزلها املنيف .و�س�أكمل �شعراً ما وددت ان �أقوله مع ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�سياب و�أدوني�س ،ومن
مقتب�س ًا من ق�صيدة له من كتابه االخري «تت�ساقط بعدهم توقفت اجلائزة)� ،إذا ً منذ ترك حلقة «الرثيا»
الثمار »...وهي بعنوان «�أ�صفق للحياة وقوفاً»: وعى ال�شاعر تلقائي ًا وعفوياً ،من خالل حد�سه ال�شعري،
« ال ازال ال��ورق االخ�رض واالق��وى ولي�س الورقة م�ستلزمات الكتابة اجلديدة املعا�رصة ملتقط ًا �رسيع ًا
والطيور جوهر اللعبة ال�شعرية احلديثة ،وال ُمعلم له �سوى
من حراب النور �شعر
ذاته .ويجب القول انه من باب احلد�س فح�سب َ
حكايته مع واللون اال�صفى يف لوحة االفق. ب�رضورة الإنتقال اىل جملة «�شعر» و�أعتق ُد بذلك انه
الكلمة التي وا�صفق وقوف ًا على احلجر للحياة مل ي� ِأت اىل هذه املجلة �صدفة .بل قدومه اليها كان
والطويل الإهاب ��ضرورة حتمية لأنه يف �أي حال كان �سيبتعد عن
�صارت ان�سان ًا، واملغني املزدان بالأو�سمة الق�صيدة املوزونة التي بد�أ معها ،كونه برز يف حقبة
واالن�سان من والدته الطبيعة» جملة «�شعر» تلك ،ك�أحد �أهم �أركان الكتابة ال�شعرية
حكاية ال�شاعر �شوقي �أب��ي �شقرا مع الذي �صار هو احلديثة التي كانت حاجة ملحة يف املجال الأدبي
ال�شعر هي حكاية العمر كله .حكايته املكان ،واملكان حينها ،وهو حد�س بهذا الإحل��اح ال�شعري احلديث
م��ع الكلمة ال��ت��ي ���ص��ارت ان�����س��ان�اً، والذي ال بد منه لت�ستوي الق�صيدة.
هو الأثر، وج��وده �أ�سا�سي� ،شعراً و�صحاف ًة (يف جملة �شعر
واالن�����س��ان ال���ذي ���ص��ار ه��و امل��ك��ان،
واملكان هو االث��ر ،والأث��ر هو الرمز ،والأثر هو ويف ما بعد يف جريدة «النهار» حيث �أن�ش�أ ال�صفحة
الرمز ،والرمز والرمز هو ال�شعر. الثقافية) .انه ال�شاعر الأ�سا�سي يف امل�شهد ال�شعري
من زم��ان ا�ضطجع �شوقي �أب��ي �شقرا هو ال�شعر اللبناين والعربي.
على الطلل وال��ع��رزال وعلى املطلع ُمعل ٌم يف ر�سم ال�صورة ال�شعرية ويف نحت بيت
والقوايف واالوزان .وانهمك يف �صياغة الق�صيدةُ ،مع ّل ٌم يف �رضب قلمه الفذ حيث بلوغ منتهى
ق�صيدة م�شغولة من طفولة وغياب، الق�صيدة بني ًة و�صياغ ًة وهيكلةً ،منتهى الت�صوير
م��ن طبيعة و���ص��ور ،من والإيقاع .انه ال�شاعر املغامر الذي �أ�س�س ل�شعرية
�أ�سى وده�شة وخيال ،من جديدة تركت �أثرها الكبري على �شعراء كرث ،تركت
عزلة وتعب ولعب .ولبث �أثرها على الق�صيدة احلديثة ككل.
يقرتب �شيئ ًا ف�شيئ ًا من \\v
وهج احلقيقة مدرك ًا ان
ال�شكل باهظ التكاليف �أو � vشوقي �أبي �شقرا
انهم �سي�سيئون تف�سريه اللون الأ�صفى يف الق�صيدة
ح��ت��م �اً .وان����ه �سيم�شي \
�سليمان بختي:
حافي ًا ف��وق اجلمر ليدل
االخ���ري���ن ع��ل��ى ج��م��ال ال يزال ال�شاعر �شوقي �أبي �شقرا منذ ديوانه ال�شعري
ج��دي��د ،ع��ل��ى امل��غ��ام��رة االول «�أكيا�س الفقراء» ( )1959وحتى « تت�ساقط
الق�صوى ،على �أفق مغاير الثمار والطيور ولي�س الورقة» ( – )2004دار نل�سن
للق�صيدة العربية احلديثة. للن�رش -يحوم على املعنى امل�ستحيل كما يحوم
117 \ كاتب ونا�رش من لبنان.
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
االنتقام؟ �صمت برهة ثم �أجاب « �أعتقد �أنني انتقمت وان يو�ضح مراراً ما التب�س او غم�ض .لي�س فقط ان
من احلياة دون ان �أجرحها .لكن عربت عن الذي تخرج اىل �شكل جديد بل ان حتمل املعنى اذ ي�رشق
عربت عنه بطريقة انتقامية و�رشيفة ونبيلة .وكما من �شق العبارة اىل احلرية ،وحتتفي بالكلمة قطعة
يقولون بالفرو�سية �أي الذي يقلب الآخر عن احل�صان من احلياة ،غرزة من االمل ،حفنة من خال�ص:
هو املنت�رص� .أن��ا قلبت احلياة وانت�رصت عليها «وهات الكلمات للخال�ص
بهذه الطريقة .مل يكن لدي طريقة �أخرى وال �سالح. مل ي�ستعن من االخطبوط،
�سالحي القلم واخليال .هذااخليال الذي �أو�صلني اىل لرن�شفها ون�شفى من احلنني
�أبعد ما يكون وهو الذي �أر�ضاين وجعلني من �أكون. �أبي �شقرا
�أيها ال�صائغ»
اخليال العظيم .و�أع�ترف ان ما لدي من اخليال ال (ق�صيدة القالدة ) يف م�ساره
ميلكه �أحد .ورمبا جر علي م�شاكل و�صعاباً». من جمموعة «تت�ساقط الثمار »..... ال�شعري
كيف يولد ال�شاعر من اخليال؟ كيف يولد ال�شعر كانت لديه منذ البداية لغة مغلقة على بخطاب او
يف احلقول؟ وكيف تولد الق�صيدة يف الب�ساتني؟ الكنز وق��ادت��ه ع�صا الغابة الوا�سعة
االجنحة ،وقادته ع�صا اخليال واحلجر ا�سطورة.
ورث �شوقي �أبي �شقرا عن ا�سالفه نقاوة النظر اىل فقريته هي
التالل .ر�أى كيف يتحول عنقود العنب املتديل من الن يزحزح الباب العمالق .ك��ان له
العري�شة اىل عنقود ال�صور املتديل من اللغة .و�شاهد م��ن ال��وج��د ك��ل ال��وج��د ،وم��ن الهوى ا�سطورته
كيف تدنو اللغة من املعنى النادر ويقرتن املعنى الفة الهوى ،ومن ال�شوق ما �شاق على ورمزه،
ب�ضيافة االمل بعناية االمل بحرقة الغياب. ال�شاعر ان يحمل او يرود. وجتربته
ال �أعرف من قال ان ال�شعر هو ح�ضور الغياب .غاب ج��اء �شوقي اب��ي �شقرا اىل ال�شعر من ال�شعرية
الوالد وغابت الطفولة وغ��اب املكان .وح�رضت الطفولة واخليال مثلما جاء اي�ض ًا من
هي جتربة
اللغة والق�صيدة واخليال .وح�رض �أي�ض ًا احلنني ذاك امل�شقة وال�شغف.
حمل زوادته وكتابه وم�شى .ادرك منذ احلقيقة
التلم�س الأعمى لإعادة ت�شكيل عامل غائب .حنني
ازيل اىل جنة مفقودة .حنني متوا�صل اىل مكان بداية الرحلة التي غ��اب عنها وال��ده الوجودية
كلما اقرتبنا منه تناثر او توارى .هذا احلنني بات ح�صان العائلة ب��اك��راً .ان املعارك التي رفعها
التجربة الأ�صلية التي وحدت هذا العامل ،ومن خالله امامه وفرية وانه �سيعي�ش يف الفقدان اىل عامل
وح ّد �أبي �شقرا امل�سافات بني الذات واملكان والروح ولكنه �سريف�ض االن�صياع لقانون اخليال
وبني القرية واملدينة والكون. احلياة والعادة .هاجمته ق�سوة احلياة
�صنع �أب��ي �شقرا م�ساره من ال��داخ��ل ومل ي�ستعن لأجل رجولة مبكرة فرف�ض التخلي عن
بخطاب او ا�سطورة .قريته هي ا�سطورته ورمزه، الطفولة او خ�رسانها .وهاجمه اي�ض ًا الت�شتت يف
قريته هي عامله ،وجتربته ال�شعرية هي جتربة الأمكنة فرف�ض ان يخ�رس املكان االول – املكان
احلقيقة ال��وج��ودي��ة الكيانية ،ورف��ع ال��واق��ع اىل اال�صل رحم القرية ونبع الريف .وهاجمه اي�ضا
عامل اخلرافة .وبذلك غدا �شوقي �أب��ي �شقرا �شاعر الواقع ب�رضاوة فرف�ض ان يخ�رس اخليال ،عامله
املكانية اللبنانية املفتوحة على مداها االن�ساين ال�رسي ال�سحري .م�شى وكتم رغبة يف االنتقام
ال�شمويل الرحب .واخت�رصت مغامرته ال�شعرية من احلياة وكل ما ميكله اللغة والكلمات وزوادته
جوهر احلياة يف لبنان و�ألوانها ومداها املفتوح القليلة � .أذكر �أين �س�ألته يف حوار لكتابي « �إ�شارات
على النقد واالختبار والت�سامح والتنوع واحرتام الن�ص واالبداع» قلت مرة انك �رصت �شاعراً لتنتقم
الآخر .مع �شوقي ابي �شقرا بتنا نعرف كيف ت�ستقبل من احلياة� ،س�ؤايل هل انت را�ض ٍ عن احلياة ام عن
118 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
�شوقي �أبي �شقرا..
s
وجود ذلك اخلامت يف �أ�صبعه ،خامت الطفولة الذي ف�سحة اخليال يف قريتنا طف ًال يلهو .وكيف ت�ستقبل
ي�ضيء الطريق كلما هبطت الظلمة و�أليل الليل. احلياة يف عاملنا �شاعراً ال ي�شبه احداً .واكت�شفنا يف
و�أخرياً� ،أود ان �أروي �صلتي به كنا�رش لكتبه االربعة �صوته �صوت التطهر من الآثام واملرارات� .صوت
االخ�يرة التي �صدرت يف دار نل�سن للن�رش لبع�ض الف�ضاءات يف املكان والروح واال�شياء� .صوت نكران
طقو�سه يف التعامل فهو مث ًال ال يعطيك املخطوطة كل �شيء اال حقيقة الذات� .صوت اخليال حني ي�ضج
اال قبل ان ي�شعر حق ًا ان الكتاب �صار يف ف�ضاء ب�أعنف �صوره وت�شكيالته� .صوت اجلمال امل�سكوب
خلفه .وحني يعطيك املخطوطة فيقدمها اليك كمن يف الكلمة واملت�أنق يف العبارة واملتجهد يف ح�رضة
ي�ستل اوراق ًا من قلبه او قطعة من ذاته. الطبيعة – االر�ض – الأب -االم -النبع -التعزية.
يعد �شوقي
ينظر يف ان�سان عينك ك�أنه ي�أمتنك على ماذا يريد �شوقي ابي �شقرا ؟ يريد من احلياة ان تظل
ا��سرار عا�شت معه طوي ًال وحان وقت ابي �شقرا تده�شنا ونكت�شف فيها كل هذا الغلط الوجودي الذي
من ال�شعراء والدتها اجلديدة. ي�ستحيل �شعرا ً ال�شعري رغم القدر والأ�شواك .يريد
�أذكر حني �صدر كتابه النرثي – ال�شعري الكبار الذين من الطفولة ان ت�سكننا كامللح فال نف�سد ابداً.
اجلميل «�سائق الأم�س ينزل من العربة» تعرف يريد من اللعب طرافته وغرابته ولو اننا على حافة
ع��ام 2000ان��ه ات�صل بي يف م�ساء الهاوية وامل�أ�ساة فال يفني االمل وال يبيت الرجاء
مت�أخر والكتاب يف املطبعة وقال �أريد ق�صائدهم يف العراء .يريد ان ال ي�أتي �شعراء �أقل من الق�صيدة
ان �أغري العنوان من «االم�س حممو ًال ومفرداتهم لأن هذا يدفعه اىل اخلوف واحلزن.
على عربة» اىل «�سائق االم�س ينزل من وعواملهم يريد ان نظل نحمل حيلة القول ،وذروة الكمال
العربة» فقلت له «طبعا نغري ومن يقدر وحتى ولو مل امللقى على كاهل االن�سان او ًال و�أخرياً.
ان ال يغري العنوان جلوهرجي ال�شعر هذه الرحلة الوجودية اجلمالية ال�صوفية املنتظرة
ول�سيد العناوين على مدى ثلث قرن يف يوقعوا دائم ًا بكل جديد وق�شيب جتعلنا ن�س�أل ماذا يفعل
ال�شعر العربي وال�صحافة اللبنانية». �شوقي ابي �شقرا اليوم؟
وبعد� ،شوقي اب��ي �شقرا من ال�شعراء بعد ثالث ع�رشة جمموعة �شعرية ،وريادة يف فتح
الكبار الذين تعرف ق�صائدهم ومفرداتهم وعواملهم االبواب ومتهيد الطرق ،وبعد امل�شقة وال�شغف ،وبعد
وحتى ولو مل يوقعوا .انه امل�شوار الذي �سلخه من الطبيعة اىل مدر�سة احلكمة
ع��ل��ى م��ا ي��ق��ول ف��ال�يري والق�سم الداخلي فيها اىل التعليم يف املدار�س وامل�شي
«�شاعر اللغة داخل اللغة». الطليق يف �شوارع بريوت وركوب الرتامواي ،اىل
وام���ت���ي���ازه يف ذات��ي��ت��ه حلقة الرثيا 1956اىل جملة �شعر 1959واملغامرة
احل������ادة ل��غ��ة وخ���ي���ا ًال الكربى اىل ال�صحافة وجريدة «الزمان» وجريدة
وخ��رب��ط��ة ع�لاق��ات و�إن «النهار» و�صفحاتها الثقافية ،اىل ال�سعي الالنهائي
ك���ان ل��ب��ع�����ض ال�����ش��ع��راء لأجل الق�صيدة ،اىل الطرقات التي وط�أها ومل يعكف
�أهمية يف تاريخ ال�شعر �شوقي اليوم على كتابة مذكراته �شهادة للزمن الآتي
ولبع�ضهم الآخر �أهمية يف والآين وال��ذي عرب ،وثيقة ملن ي�ؤثر معرفة ق�صة
فن ال�شعر ف�إن ل�شوقي �أبي الق�صيدة العربية احلديثة ،وملن يو ّد ان يعرف كيف
�شقرا �أهمية يف كليهما، ان�ضمت التبا�شري وحلقت الطيور يف �سماء خفي�ضة
و�أي�ضا يف �أبجدية الكلمة وو�سيعة و�صنعت الربيع.
وال�صورة. وها �أنا كلما زرته يف بيته يف الأ�رشفية �أطمئن اىل
119 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
م�سريتها ويحر�س لغتها .وجاءها ال�شاعر �شوقي ابي ذرف �شوقي �أدق التعب و�أرق��ه على جتربته .انه
�شقرا الذي راح منذ بداياته يف جملة «�شِ عر» اوال ال�شاعر احل��ق ال��ذي يحتفل باحلياة وي�صفق لها
ومن ثم يف ت�أ�سي�سه و�إ�رشافه على ال�صفحة الثقافية من بعيد ويحملها ب�أوجاع يديه حتى يبقى للأمل
يف �صحيفة «النهار» اليومية يخرتع جمالية جديدة واجلمال املكان الأبهى الأمثل والبني يف م�سارنا
ويوجه االجيال اجلديدة ّ لل�شِ عر العربي املعا�رص ال�شعري العربي ،ويبقى هو اللون الأ�صفى يف لوحة
نحوها .فما �أبرز �سمات هذه اجلمالية التي نراها الق�صيدة العربية احلديثة.
يف �أعمال هذا ال�شاعر الفذ؟
\\v
يف الع�صور املا�ضية كانت ُتقا�س احل�ضارات مبا
تنتجه من فنون .فاليونان ،واالمل���ان من بعد،
اعتربوا ان احل�س اجلمايل مركوز يف جبلة االن�سان.
� vشوقي �أبي �شقرا
ولهذا مل يكن غريب ًا �أن يقول غوته ()1832-1749 وجمالية احلداثة
مقولته ال�شهرية »:على االن�سان ان ي�سمع يف كل \
قي�صر عفيف
يوم قليال من املو�سيقى ،و�أن يقر�أ قليال من ال�شِ عر،
و�أن يت�أمل لوحة او منحوتة حتى ال تطم�س م�شكالت مع حركة احلداثة بد�أ اخل��روج من قواعد الكتابة
احلياة اليومية احل�س اجلمايل الذي زرعه الرب يف القدمية .تبدلت القواعد واالجواء وخرجت الق�صيدة
القلب» .ولكن بعد ان �رضبت احلروب اوروبا تبدلت أعطت ال�شعر العربي املعا�رص
ب�ألوان وحِ لل مده�شة � ْ
االولويات .وما �أن انتهت احلرب العاملية الثانية وهج ًا ج��دي��داً .وك��ان ال ب� ّد لهذه احلركة اجلديدة
حتى تزعزعت القيم التقليدية واالخالقية ومل ت�سلم املندفعة منذ خم�سينات القرن املا�ضي اىل �شاعر
الفنون من هذه اخللخلة وخ�صو�صا ال�شعر .فبد�أ عمالق ير�شد خطواتها ،ي��ح� ّدد معاملها ،ير�سم
ال�صورة يف بيت �شوقي ابي �شقرا اجلبلي �سنة ,2010من اخللف اليمني � :سليمان بختي مع زوجته ,الدكتورة الهام كالب , ه�شام ب�ساط ,ادمون رزق,
قي�رص عفيف مع زوجته� ,شوقي ابي �شقرا ,جوزيف ابو �ضاهر مع زوجته ,فادية جحا ,زوجة �شوقي ابي �شقرا جلو�سا ,وقرف�صة �صباح زوين..
فيه زهرة طالعة» . ..والق�صيدة «فتاة يطل عليها النا�س يت�ساءلون عن �أهمية ال�شعر ودوره وقيمته
ال�شاعر وي�سقيها من عمره جرعة اخلمر ،ومينحها ب�ش ب�أفوله
يف احلياة املعا�رصة حتى �أن بع�ضهم رَّ
�صفة االرتفاع وبلوغ الن�ضج»(�سائق وموته .وانتقلت هذه العدوى اىل العامل العربي مع
الأم�س �ص )119وتكون معاناة ال�شاعر اخليال ذكاء حركة احلداثة وكان على ال�شعراء �أن يذكّ روا النا�س
على �أ�ش ّدها حني تغيب هذه الفتاة لأنها تخلى عن ان ال�شعر من جوهر االن�سان ولن تقف امام ال�شاعر
ترتكه وحيداً �ضائع ًا هائم ًا � .إ�سمعه الأالعيب عقبة متنعه من اخللق� .أدرك ال�شعراء ان اخلطر على
يحدثنا يف نرثه ال�سحري عنها »:وال الفكرية ال�شِ عر ي�أتي من النا�رش الذي ترك لل�سوق ان حتدد
ي�شقى (ال�شاعر) ابداّ �إال حني تهرب منه، الأهمية والأولوية .والنا�رش اعترب ال�شِ عر هام�شيا
واملماحكات
تهرب الق�صيدة �إىل �أبيها ثم ي�رسع من �سطحيا لأنه ال يدر املال � .أما ال�شاعر فكان يرى ان
املتك�أ �إىل اخل��ارج ويخطف الق�صيدة النظرية وراح ال�شعر جوهر الوجود لأنه يك�شف عن جوانب خفية
من ذويها،من �أبيها ،من خالتها و�أمها ،يلعب على يف التجربة االن�سانية.
ويذهب �إىل ال�سوق لي�شرتي لها اخللخال م�سارح الإبداع يف هذا ال�سجال وقف ال�شاعر �أبي �شقرا ي�ؤكد اال زوال
واحلجر الأزرق والقالدة......وتظهر يف بالكلمات لل�شعر� .أعلن بو�ضوح� ...« :أما ال�شِ عر فهو الأخ�رض وال
الإط��ار الزجاجي هكذا وهي ت�ضحك قدرة لأحد على ان يلفّه و�أن يق ّدده ويعلقه يف ال�سقف
للزوار ويف يدها الباقة ،باقة العهد ».وال�صور فت�أتيه مع الب�صل والثوم�( ».سائق االم�س ينزل من العربة،
ّ
الق�صيدة (�سائق الأم�س �ص .)273 دار نل�سن � 2000ص )174وي�ضيف م�شدداً على
متنى ال�شاعر ان ت�أتيه الق�صيدة جاهزة ،نتيجة هذه �أهمية ال�شعر يف ع�رصنا قائالَ« :وال عجب ان ي�سبق
جميلة ،كاملة االو���ص��اف .واحلقيقة اللعبة الذكية ال�شعر كل املبتكرات فهو ،يف ع�رصنا ،ويف حقبتنا
انها ال ت�أتيه �إال بعد عناء .فاخللخال الآن ،ي�أخذنا �أكرث اىل حيث ت�أخذنا الألكرتونيات،
واحلجر الأزرق والقالدة بحاجة اىل اىل االوه��ام الراقية�( ».سائق الأم�����س� ،ص )175
�صائغ ماهر .وال�شاعر جوعان والق�صيدة �سمكة وي��ؤك��د �أي�ضا ان ال�شِ عر ن�شاط ثقايف روح��ي �أي
لكنها ال ت�أتيه جاهزة مهما طلب منها: ان�ساين بامتياز يتجاوز العادي وامل�ألوف وما دام
طلبنا من الق�صيدة بجمال �ساقيها يف االن�سان قلب و�شعور و�أحا�سي�س فال�شعر قائم.
وب��ه��اء معدتها و�أمل�س عبك اىل �صدرك، ي�رسك و�أن يدخل اىل ّ «ووظيفته ان ّ
البطن حيز ،ومن بهاء اىل بهاء». حيز اىل ّ و�أن ينقلك من ّ
�أن ت�أتي مقلية او م�شوية (�سائق االم�س ينزل من العربة� ،ص )175ويرى
على �صينية النادل ال�شاعر ان من اهمية ال�شعر �أي�ضا انه يحفظ اللغة
فلم ت �� ِأت لأنها منهمكة وينقذها .يقول« :وال جتد هذه اللغة جتمد �أو متوت ،بل
يف املاكياج الرثي جداً يقلّمها ويرويها
ّ ان ال�شعر هو املنقذ وهو
وطلبنا من ال�سماء الر�أفة يف حكايته ،يف مغامراته ،يف �سهوله اخل�صبة...فهذه
فلم تقبل ان تلتفت. اللغة تتعاىل عن الواقع وتذهب يف اجتاه غري ترابي
(تت�ساقط الثمار والطيور غري �أر�ضي� (».سائق االم�س� ،ص .)176
ولي�س الورقة) دار نل�سن ال �أعرف �شاعراً رفع من �ش�أن ال�شاعر والق�صيدة كما
� 2004ص 181 فعل �شوقي ابي �شقرا .مل يرتك منا�سبة اال وتناول
يزين
واذا ت�ساءلنا كيف ّ �أهميتهما .فهي «الفانو�س وقت اخلراب» وال�شاعر
ال�شاعر فتاته ،ق�صيدته «من ال�ساللة النورانية وال�ساهر على اللعبة والقوة
121 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
جيله من عرب و�أجانب الذين اعتمدوا اال�ساطري يف ويجملها؟ يجيبنا ابي �شقرا بب�ساطة ان �أداة ال�شاعرّ
�أعمالهم ال�شعرية وبنوا ق�صائدهم عليها واعتربوها الأهم هي خياله .كلمات املعاجم �أدركتها املعاين،
�رضورة متنح الق�صيدة رحابة ومدى و�أبعاداً .وي�شري �أ�رستها يف خانات وحددتها .ي�شعل خيال ال�شاعر
ن�ص نرثي. �إىل ذلك يف �أكرث من ق�صيدة و�أكرث من ٍّ يحمل الكلماتناراً يف اللغة ويبدع لغة داخل اللغةّ .
يرى ان على ال�شاعر ان يرتك الأ�ساطري على رفوف املعاين وال�صور التي تعجز عنها املعاجم فترتك
الكتب وي�ستمد مو�ضوعاته من ال�شارع والبيت معانيها املتعارف عليها وتلب�س ثياب ًا مل ت�ألفها
واملدينة والنا�س والأر�ض وكل �شيء حوله و ُيعمل من قبل .يقول يف ق�صيدته « نريان الأ�سطورة» من
خياله ليبدع البطل اخلا�ص به ويكون ابن بيئته جمموعته تت�ساقط الثمار �ص « :79و�أ َد ُع خيايل
ب��دل ان ي�ستعريه من بطون اال�ساطري� ،صفحات يلعب وخيايل» .ويف «�سائق الأم�س ينزل من العربة
الكتب و�أخبار الآخرين .يت�ساءل �أبي �شقرا « :ملاذا يرى ال�شاعر « �ص 143كتب « و�أتكلم يف خيايل مع
نرغب ان ننطح ب�سيف غرينا و�أن ن�صل من هذا خيايل» .ولكن ما اخليال؟ انه ذكاء يلعب
�شوقي ابي
الباب اىل العمق الوجودي والكيان الأ�صيل الذي هو داخل الدائرة وخارجها ،فوق احلدود
الغاية والر�سالة» (�سائق الأمي ينزل من العربة �ص. �شقرا ان وحتتها ال حدود حت ّده وال عقبات �أمامه.
)354وليحدد موقفه ا�ستعار ا�سطورة عولي�س وكتب الب�ساطة ،اخليال ذكاء تخلى عن الأالعيب الفكرية
�شارحاً« :وال ن�ستقبل املمثل العولي�سي بل نلتفت �إىل كما الو�ضوح ،واملماحكات النظرية وراح يلعب على
منظر �آخر ،يقع يف ناحيتنا ،يف جغرافيتنا ،ونربهن تق�ضي على م�سارح الإب����داع بالكلمات وال�صور
له �أننا ن�سافر ونرحل معا ونحن على مركبنا ،على الن�ص كما فت�أتيه الق�صيدة نتيجة ه��ذه اللعبة
خيالنا ،ونب�رص البحر من لوننا الأزرق....ون��ظ��ل الذكية� .أنه ح�صان جم ّنح يحمل ال�شاعر
ال�سو�سة على
�أحرارا من اال�سطورة كما ولدتنا الأمهات .ون�ضع اىل عوامل مل تولد بعد ي�ستمد منها ر�ؤاه
عولي�س على ال��رف ،ورف��اق��ه وعجائبه ،ون�صنع اخل�شب ويحدد نظرته اىل الكائنات .يف خياله
اجلميع دمى لنلهو بها �ساعة ن�شاء ،ونر�سم على وامل�رشع على االجتاهات يكمن
ّ اخل�صب
احلائط بط ًال منا كي يحيا وينتقل من العدم ال�رس يف غرائبية هذا ال�شاعر الذي ينقلك من غرائبية
�إىل الكينونة�( ».سائق الأم�س� ،صفحة )233وحده �إىل غرائبية ،من ده�شة �إىل ده�شة ،من ف�صاحة اىل
ال�شاعر الذي يخلق �أبطاله ومو�ضوعاته مما يراه ف�صاحة ،لتحملك ق�صيدته اىل �ألوان جديدة وبهجة
حوله ي�ستطيع ان يقول: جديدة وكلما عاودت قراءتها كلما ظهرت لك زوايا
ويل �شعلتي الوحيدة الوهج ومعان كانت حمجوبة� .إنه اخليال الفريد ٍ خفية
كانت ّ
ال تفنى ذبالتها، يطرزها ،ي�صقل يبدع رموز الق�صيدة ،ير ّتب �صورهاّ ،
ال�صوان والقداحة،
ّ وال ا�ستعري من بنات القمر نتواءتها ويزرعها بالكلمات «النادرة الري�ش» على
�إنها را�سخة يف درعي ح ّد تعبريه� .أ�سمعه يتحدث عن عالقته مع خياله:
ويف ال�شمعدان، �أملك اال�سطبل حيث خيايل
وال يوما �إىل الرقاد ميرح بي وي�رسح فر�س ًا �أو نعج ًة تهمدر
�صياد.
وال يتع ّدى على امالكي � ّأي ّ �أوعنقاء ت�سافر على طريق العني
( تت�ساقط الثمار والطيور� ،ص ) 80 ويف مطار االمنيات
وحتى ت�رشقط الق�صيدة يف جمالها اخلا�ص يلزمها �سائق الأم�س� ،ص44 .
ان تكون مغلّفة اجلوانب بالغمو�ض .يرى ال�شاعر لأنه اعترب ان اخليال عند ال�شاعر هو حجر الزاوية
�شوقي ابي �شقرا ان الب�ساطة ،كما الو�ضوح ،تق�ضي يف البناء اجلميل للق�صيدة ،عار�ض ابي �شقرا �شعراء
122 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
�شوقي �أبي �شقرا..
s
اخلا�ص والنكهة املميزة .فال�شاعر ،بتعبري �أبي �شقرا، على الن�ص كما ال�سو�سة على اخل�شب .فالب�ساطة
هو «�أبو اخلليقة بدءاً من اهلل ،وو�صو ًال �إليه» (�سائق املوغلة �صنو ال�سخافة النها ُتفقِد الن�ص �أبعاده.
الأم�س� ،ص )264.وبهذا املعنى ال يتكرر �أبداً وال وهذا منحى جمايل تناوله ال�شاعر �أي�ض ًا يف ق�صائده
يت�شابه مع �سلف او معا�رص .ال ي�سكب ومقاالته النرثية و�أحاديثه اخلا�صة .و�أفرد ف�ص ًال
من �صحن غريه وال ي�صب كلماته يف ال�شاعر �أبي كام ًال من كتابه «�سائق الأم�س ينزل من العربة»
قوالب غريه ،وال خال�ص له �إال اذا كان �شقرا ابن �سماه «ال�سهولة قاتلة للن�ص والق�صيدة» يتحدث فيه ّ
فريداً يحمل ب�صمته اخلا�صة يرتكها بيئته �أخذ عن الذين يعتمدون ال�سهولة يف ن�صو�صهم ،ال�شعري
على اللغة وي��ب��دع بها لغة ج��دي��دة .املفردة من منها والنرثي ،يقول عنهم انهم يظنون انهم يبدعون
وي��ح � ّذر اب��ي �شقرا ق��ائ�لاً« :علينا ان ال�صور والر�سمات ويفعلون احل�سن والأح�سن ولكنهم
نهرب من اللغة �إىل اللغة لئال نت�شابه لغتة املحكية «يف غري هذا املجال ،يف حالة من ال�سهولة التي �إن
ون��ق��ف يف ال�صف ون�صري ال�صحراء لكنه عرف دخلت يف املرء ،يف الإن�سان ،يف الفنان ،فقل انها
التي ت�شابه رملها ،والنخيل هو ذاته كيف ي�سكبها ال�سو�سة و�إنها تعطل الإب��داع ،وال��رذل والأ�شاحة
وال�سعف والثمار� ( ».سائق الأم�س� ،ص يف الن�ص هما �أق � ّل العقاب واق � ّل الالمباالة جتاهها» �ص
)120وباخت�صار كلما تنوعت الورود .181وحتى ال تتعر�ض اعماله للإهمال والرذل
لتك�سبه
واالزاه�ير يف حديقة ال�شِ عر كلما ازداد على ال�شاعر �أو الكاتب ان يتخلى عن هذه ال�سهولة
ال يفجما ً جمالها و�سطع رونقها. القاتلة فال يبقى على ال�سطح بل يعمل على الدخول
وم���ن ع�لام��ات اجل��م��ال يف ق�صيدة ال�صورة ودقة �إىل االبعاد والأعماق ي�صطاد منها معانيه و�صوره.
�أب��ي �شقرا ا�ستعماله كلمات من اللغة يف �إداء املعنى مرة اخرى لن�سمع كيف ي�شري �إىل ذلك:
يطرز بها الن�ص .املق�صود اللبنانية املحكية ّ «انها ال�سهولة التي نطردها من باب الدار ،ونر ّدها
وال غ��راب��ة يف ذل��ك لأن���ه م��ن بيئته، وتتمرن
ّ اىل ال�سياج ،لتلعب ه��ن��اك يف احل��ق��ل،
نا�س ًا وجغرافية وم�ؤ�س�سات ا�ستم َّد على الطعام ،وعلى �إر�سال منقارها يف الأر���ض
مو�ضوعاته .تراه «يحتطب من بيداء اللغة» (التعبري اللتقاط الغذاء ،اىل ان ترتفع من مرتبة الدجاجة
ل��ه) لي�شعل ن��اراً يف الق�صيدة فهي ال ت�أتيه كما �إىل مرتبة ال�صقر الذي يرى من عليائه مثلما يرى
يقول جاهزة من فانو�س من الأ�سفل� ....أو هو القارىء الذي يب�رص اللمعة
ع�ل�اء ال��دي��ن وج��ن� ّ�ي��ات��ه، والق�صيدة واللوحة ....وعندئذ ي�أخذ من هذا املو�ضع
وال ي�شرتيها كما ال�سكر كنزه ،ويروح يتباهى ب�أنه ح�صل على اللذة...و�أن
والباذجنان من الدكان. اللذة م�ستعادة ،فال تكون مرة واح��دة ،بل م��راراً
عليه �أذن ان ي�صقلها ويكون الطريان والتحليق جزءاً من اللعبة» (�سائق
ب��ح��ن��ك��ت��ه ،ي�����ص��وغ��ه��ا الأم�س� ،ص )182
مب���وه���ب���ت���ه وي��� ّل���ون���ه���ا ومِ ن �صفات اجلمال اي�ضا ان يكون ال�شاعر فردا
بعبقريته اخلا�صة .فاىل مميز الأ�سلوب وال�صقل والرتكيب .فال�شاعر الذي ّ
بع�ض الذين عابوا عليه كرر �أمناط ال�سابقني� ،أ�ساليبهم ،وطرقهم يعر�ض ُي ِّ
ا�ستعمال الكلمات العامية ق�صيدته لالبتذال .يقول اب��ي �شقرا «�إن ال�شاعر
يف ن�صه �أفرد امثلة ت�شري الذي نن�شده يختلف عن الكلمات ال�سابقة وال�شعراء
�إىل كيف ا�ستطاع ان ي�أخذ ال�سابقني» (�سائق الأم�س �ص.)269على ال�شاعر اذن
الكلمة املحكية ويركب ان يكون دائم االبتكار واخللق ليكون له اال�سلوب
123 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
وم��ن جماليات احل��داث��ة عند اب��ي �شقرا �ألاّ يلج�أ �صورة �شعرية جميلة تقف على قدميها وترفع
ال�شاعر اىل الأ�شكال القدمية والأوزان اخلليلية لأن ر�أ�سها .قال يف جمموعته «نوتي مزدهر القوام»،
هذه مل تعد تنا�سب الع�رص �أوال ً ولأن ال�شعر ال يقا�س «وقجتك متتلىء ّ دار نل�سن ��� ،2003ص136 .
باالوزان والقوايف .ولعله هنا يعيد املقولة النقدية بال ُنور» .لو ا�ستبدل «قجتك» بـ «حم�صلتك» �أال تنك�رس
ميزوا بني ال�شاعر والنظّ ام. عن العرب القدامي الذين ّ �شفافيتها؟ او كيف ّ ال�صورة وجترح �سمعنا وتخ�رس
فلي�س من ال�رضورة ان حت ّدد االوزان جوهر الق�صيدة ت�ستبدل كلمة «الكم�شة» يف ال�صورة التالية دون ان
فاملق�صود �شيء �آخر خمتلف متاماً .يذكّ رنا انه بد�أ تخد�شها؟ «وتر�سل الكم�شة من امل�سك» (نوتي مزدهر
ال�شعر خليلي ًال ولكنه تخلى عنه .ا�سمعه يقول عن القوام �ص 45) .ثم ان كلمة «كم�شة» تعني ما تعنيه
جتربته يف كتابه «�سائق االم�س� ،ص270 . يف املجتمع اللبناين ولو بدلّناه خل�رست معناها
« وترغب اي�ض ًا يف �إلبا�س ال�شاعر ّزيه الالئق ،ال ان املق�صود واملتعارف عليه يف املجتمع اللبناين� .أو
يرتدي ثوبا لي�س �أنيقا ولي�س ال ئق ًا بك�....إذ ال القافية كيف ت�ستعيد حياة القرية اللبنانية لو ا�ستبدل كلمة
وال الوزن هما م�س�ألتك او ميدانك ،بل انك مررت على ن�شمه»
«م�شاوير» يف قوله »:وال م�شاوير�إىل ن�سيم ّ
اخليمة و�صافحت امللك اخلليل ابن احمد ،واعتذرت بكلمة �أخرى من الف�صحى؟ ولن�أخذ مث ًال �آخر « :ومن
من القافية ،النك ب��د�أت امل�شوار �إىل الكروم معها، نلمها
�سقطت ّ
ْ �سكارى نفرت عيونهم �إىل االمام ،و�إن
وخطبت ال�شم�س من �إ�صبعها ،و�أدخلت اخل��امت يف باملحرمة» �أو هذه ال�صورة « �أبو احلن بالفوطة
�سياقها ،يف مرونتها ،يف لهبها ،يف حلمها». الربتقالية حت��ت ذق��ن��ه» ( نوتي م��زده��ر ال��ق��وام،
القيم
منذ جملة «�شِ عر» وعلى مدى عقود كان فيها ِّ �ص� )37 .أترانا ن�ستطيع ان ن�ستبدل «املحرمة»
على ال�صفحة الثقافية يف �صحيفة «النهار» وقت و«الفوطة» دون ان تخ�رس ال�صورة لبنانيتها؟ اذن
كانت هذه ال�صحيفة يف ت�ألقها ال�سابق ،كان �شوقي فال�شاعر �أبي �شقرا ابن بيئته �أخذ املفردة من لغتة
ابي �شقرا «النوتي املزدهر القوام» و�سائق العربة املحكية لكنه عرف كيف ي�سكبها يف الن�ص لتك�سبه
اجلمالية يف �أدب احلداثة من نرث و�شِ عر .ت�س َّنى له يف جما ًال يف ال�صورة ودقة يف �إداء املعنى املق�صود.
هذه العربة �أن ير�سم طُ رق اجلمال يف االبداع االدبي كيف ال نتذكر اذن ،ونحن نقر�أ �شعر �أب��ي �شقرا،
ويح ّدد معامله لأنه �أُوتي حا�سة جمالية رفيعه مع مقولة الفيل�سوف الأملاين مارتن هيدجر ب�أن الكالم
عال ور�شاقة يف التعبري َع َّز نظريها. ذوق لغوي ٍ املحكي �شعر.
:العمل على الإمناء الفكري ورفع م�ستوى العطاء املطران يو�سف الدب�س ودر���س فيه ج�بران خليل
الأدبي متو�سلة اىل ذلك � :أ – بعقد اجتماعات بني جربان اللغة العربية يف العام 1900؟
افرادها ؛ ب – تنظيم ام�سيات �شعرية و�أحاديث يف لقاء طازج مع النائب والوزير ال�سابق والأديب
دورية ؛ ج – مبعاي�شة التيارات الفكرية املعا�رصة ال��دائ��م ادم��ون رزق ،اك��د يل ان��ه و�سائر م�ؤ�س�سي
والإت�صال باحللقات املماثلة ؛ د -بن�رش م�ؤلفات احللقة تخرجوا يف معهد احلكمة امل�شهور بتفوقه
الأع�ضاء ؛ ه -ب�إن�شاء جوائز ادبية. يف تدري�س اللغة العربية و�أوزان اخلليل يف بريوت
�أع�ضا�ؤها :امل�ؤ�س�سون الأربعة ،وثمة جمال لقبول وعموم لبنان.
ثالثة �آخرين ال ُيقبل �أحدهم اال ب�إجماع الأربعة ويف لقاء مماثل مع م�س�ؤول ال�صفحة الثقافية
امل�ؤ�س�سني. ال�سابق يف جريدة «النهار» البريوتية ،و�أحد �أركان
ومن بنود النظام الداخلي الت�سعة يجدر التنويه حركة ال�شعر احلديث التي قادها يو�سف اخلال،
بالبنود التالية ون�صو�صها : �أكد �أن جملة «احلكمة» �أ�صدرها معهد احلكمة ،و�أن
البند الثاين :حترر حما�رض جل�سات احللقة يف �سجل «حلقة الرثيا» تربطها عالقة عميقة ولكن غري
خا�ص ي�ؤمتن عليه �أح��د الأع�ضاء .البند الثالث : ر�سمية مع املجلة واملعهد ،عرب رئي�س حترير الأوىل
يتبادل الأع�ضاء عر�ض نتاجهم ويوحدون �آراءهم ف�ؤاد كنعان ،ورئي�س املعهد اخلوري ابي نادر الذي
حوله .البند الرابع :يتخذ الأع�ضاء مواقف من�سجمة ا�صبح مطراناً.
حيال احلركات الأدبية .البند ال�ساد�س :ي�ضيف وباملنا�سبة ،مل تكن «الرثيا» اجلمعية الثقافية
الأع�ضاء ا�سم احللقة اىل تواقيعهم كلما ن�رشوا من الأوىل التي ارتبطت معنوي ًا ب�رصح تعليمي عريق.
�أدبهم. ترع اجلامعة الي�سوعيةاومل َ
وال�س�ؤال الآن :م��اذا حتقق من امليثاق والنظام يف ب�يروت «اجلمعية امل�رشقية» التي ك��ان من
الداخلي ؟ لي�س يف �سجالت احللقة املنظمة وامللونة م�ؤ�س�سيها رائد امل�رسح يف العامل العربي مارون
واملكتوبة بخط جميل ،ما ي�شري اىل ا�سم الع�ضو النقا�ش يف العام 1850؟
الذي ا�ؤمتن عليها .ولكن ب�صمات �شوقي على معظم و�سالت �شوقي عن د�ستور اجلمعية التي تا�س�ست ُ
حما�رض اجلل�سات ،وبقاء ال�سجالت يف منزله قبل ان يف �أواخر 1956الذي يت�ضمن ميثاقها ونظامها
ي�سلمها لإدمون رزق ،يدل الداخلي ،ف�أعلمني انه نظم �أر�شيفها وكتب معظم
على ان��ه ك��ان امل��ؤمت��ن. حما�رض جل�ساتها ،و�سلّمها مع �ألبوم الق�صا�صات
واملثري للعجب ،ان �شوقي ال�صحفية التي تغطي ن�شاطاتها ،اىل ادمون رزق.
ال�شاعر النيوكال�سيكي ويف مكتب الأخ�ي�ر ال��ذي يلتقي فيه املحامون
وق���ت���ذاك وامل���ج���دد يف وال�سيا�سيون والأدب��اء ،ق��ر� ُأت يف ال�سجل املكتوب
ال��ق�����ص��ي��دة امل���وزون���ة، بخط �شوقي الذي مل يتغري عن خطه بعد �سنني وهو
ال ي��خ��ت��ل��ف ع���ن �شوقي يعيد �صياغة مقالت ال�صفحة الثقافية يف «النهار»،
الإداري املدبج املحا�رض الن�ص التايل بعنوان « ميثاق احللقة» �« :إن ادمون
ب��ل��غ��ة �أدب����ي����ة جميلة رزق� ،شوقي ابي �شقرا ،مي�شال نعمة ،جورج غامن ،مبا
ومب�ضمون غري تقليدي هم �أدباء �شباب يتطلعون معطيات الأدب يف نظرة
بحيث يت�ضمن الن�ص �شاملة اىل الكون ،وي�ؤمنون بفعل الطاقة اخليرّ ة يف
وقائع اجلل�سة وتفا�صيل م�صري الإن�سان فاملجتمع ،ومبا هم ينزعون اىل
امور �شخ�صية طريفة من الأف�ضل ويعتنقون التكامل منطاً ،يعلنون :غايتها
127 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
�رس انتقال �شوقي من حلقة وال�شعراء» .وهنا يكمن ّ مثل ع�شق فر�سان احللقة ال�شباب وبخا�صة ادون
الرثيا اىل خمي�س �شعر ،كما �سيجيء. رزق.
وم��ع ذل��ك ،فالفر�سان الأرب��ع��ة ،و�شوقي منهم، واملحا�رض التي ت�صدر قريب ًا يف كتاب ،ت�ؤكد على
ا�ستفادوا من النقد ال�رصيح املتبادل ،خ�صو�ص ًا نقد الأع�ضاء لنتاج بع�ضهم البع�ض،
و�أنهم كانوا يف طليعة املحا�رضين وال�شعراء الذين مل يك قط ومبنهج ال تنق�صه ال����صراح��ة .ون��ال
�ألقوا املحا�رضات و�أحيوا الأم�سيات ال�شعرية يف لأحد ،بني �شوقي ح�صة الأ�سد من النقد املوجه
القاعة التابعة ل��وزارة الرتبية يف �شارع ب�شارة الأ�ساتذة ،نحو الكلمات ال�شعرية التي يتداولها
اخل��وري� ،إ�ضافة اىل �إلقاء ق�صائدهم و�شد�شدتها ت�أثري يف يف ق�صائده ،خ�صو�ص ًا م��ن مي�شال
قبل ن�رشها يف الدوريات .وباملنا�سبة ،فاجلميع «خيلبد�أتي نعمه ،وقد ر ّد عليه مبا حرفيته ُ :
و�ضعوا ا�سم احللقة اىل جانب ا�سمائهم ،لي�س فقط اليه ان ا�سلوب ق�صائدي ناق�ص .ك�أنه
ال�شعرية
يف الدوريات ،بل على �أغلفة كتبهم .والطريف ان وه��و ال��غ � ِزل الرقيق ،م��ا تعود �صقل
يغيب ا�سم الرثيا عن ديوانه الأول «اكيا�س �شوقي مل ّ اي حياتي .اللغة و�أ�ساليب الكالم املده�شة ،وك�أنه
الفقراء» رغم �أن يو�سف اخلال هو الذي تولىّ طبعه يعان ال�سبك الفني .امل يقر�أ بودلري
ِ ا�ستاذي العالمة مل
ب�سبب فقر الرثيا املادي. الفهّامة الذي كيف ك��ان ينحت الفاظه ويجعلها
وعلى ذك��ر امل��ح��ا��ضرات والأم�����س��ي��ات ،فال�صور له اقتدار هيك ًال ؟ �إذا كان يعترب هو يف الأ�سا�س
وق�صا�صات ال�صحف ،ت�ؤكد ان حلقة الرثيا التي وت�أثري امنا هو ان ال�شكل ال بد منه ،و�أن ال�سلوب يجب
بقي عدد �أع�ضائها دون الرقم ،7كانت حت�شد مئات قلبي ان يكون طرازه من طراز الذي لل�صحف
املثقفني يف القاعة الف�سيحة املجاورة ملطعم «علي واملجالت ،فهذا �شيء ال يجوز البحث
بابا والأربعني ف��روج» وقد ع ّدل ال�شاعر موري�س فيه مطلق ًا لأن الأ�سلوب احل��اد ينم
ع��واد يف الإ���س��م لي�صبح «علي بابا والأرب��ع�ين عن �صاحبه م�سافة ميل .ويليق بالكتابة اي�ض ًا ان
حرامي». الدار�س املتع�شق للأدب اين يجد الكمال اللغوي؟
يبق كل اع�ضاء احللقة فيها .ويف املقابل طبعاً ،مل َ هل يجده يف �شعوذات املتطفلني ؟ ام يجده عند
انتمى اليها اع�ضاء جدد .كانت الأديبة وال�شاعرة ابي متام واملتنبي وا�رضابهما ؟ لأنه اذا ادعينا
نور �سلمان يف طليعة املنتمني .وحلقها املحامي ان كل �شعر امنا يكون موزوناً ،ف�سالم على ال�شعر
له اقتدار وت�أثري امنا هو قلبي ،ومل ينفك ا�ستاذاً يل... ال�شاعر رميون عازار ،والأكادميي الباحث جوزيف
�س -ما هي باكورة نتاجك ؟ ابو ج��وده .وهنا علّق �صديق احللقة ف��ؤاد كنعان
ج -باكورة نتاجي ق�صيدة نظمتها �أم�س .كل ما يف «احلكمة» ب�أ�سلوبه ال�ساخر « :كم من ماليني
انظمه هو عندي باكورة �أروي هذا مقدراً الطيب الكيلومرتات �سيقطع الع�ضو اجلديد قبل الرثيا؟».
لدي
والعنفوان يف الباكورة لي�س اال ...لأن��ه كرث ّ وان�ضم اىل احللقة اي�ض ًا اديب مغمور وموظف م�شهور
ال�شعر عدداً واحلم ُد...للمالح ! هو جان جبور .وكان قد �سبقه اىل الإنتماء الروائي
�س -ما هي �أحب الأنواع الأدبية اليك ؟ جورج �شامي .ومع ذلك مل ي�صبح العدد ثمانية .ذلك
يل ال�شعر ،وما هو مكتوب برت�سل ج� -أحب الأنواع ا ّ ان بع�ض املنتمني قد ان�سحبوا من الرثيا .وكان �أول
وحنان وعظمة. املن�سحبني �شوقي ابي �شقرا .وبقدر ما �أ�سف �سائر
�س -هل تكتب هذه الأيام ،وماذا تكتب ؟ امل�ؤ�س�سني واملنتمني اجلدد يف حلقة الرثيا على
ج -اكتب كل يوم...وخيايل امتنى ان يخبو فيه ان�سحابه ويف طليعتهم ادم��ون رزق ،هلل يو�سف
الأوار لأنه عما قليل �سيقتلني قتالً...اكتب �شعراً. اخلال و�سائر فر�سان «خمي�س �شعر» الن�ضمامه اىل
�س -هل لديك م�ؤلفات للن�رش ؟ وهل من �صعوبات �صفوفهم.
حتول دون ن�رشها ؟ ان انتماء ال�شاعر �شوقي اب��ي �شقرا اىل «حلقة
ج -عندي للن�رش ق�صدان مكتنزة جمة .ومع وجودها الرثيا»او ًال و»خمي�س �شعر» تالياً ،ي�ضعه يف طليعة
تظل ال تغريني بالطبع وجمعها يف الديوان .ويف ال�شعراء الذين ي�ؤمنون بامل�ؤ�س�سات الأدبية التي
اعتقادي انها كاملة ،وفيها «�شعر» يبقى. ت��دوزن نتاجهم وتن�رشه وت�ساعد على تعميمه،
�س -ما ر�أي��ك يف حالة الأدب والأدب��اء يف لبنان في�صبح ال�شاعر «مفرداً ب�صيغة اجلمع» على حد
اليوم ؟ وما هي اقرتاحاتك ب�صدد هذه ؟ تعبري �أدوني�س الذي هو �أي�ض ًا �شاعر م�ؤ�س�ساتي.
ج -ال اجيب على الق�سم الأول .و�أما الثاين ف�أجيب يبقى ان «احلكمة» �أجرت مقابلة مع �شوقي ابي �شقرا
عنه مبا يتبع ! لو كان لهم عنفواين لنجحوا... يف مطلع �شباب «حلقة الرثيا» .متيزت �أجوبة ال�شاعر
أدب
�س -ما ر�أيك يف مهمة الأدب والعمل يف �سبيل � ٍ بالطرافة والكثافة و «التوا�ضع» وال�سخرية والثقة
من�ض ٍو ؟ بالنف�س وال�شاعرية اي�ضاً .ولو مل تتوقف املجلة عن
ج -ر�أيي ان ال يكون لهذا ال�صدور ،ويتقاعد �شيخ ال�شباب �شوقي ،لظن القراء ان
وجود و�سعة. عمر املقابلة � 56ساعة ولي�س � 56سنة.
���س -هل ين�سجم العمل فلنختم� ،إذن ،هذه العجالة بالن�ص الكامل للمقابلة
الذي تقوم به مع ن�شاطك املن�شورة يف «احلكمة» عدد كانون الثاين (يناير)
الأدبي ؟ : 1957
ج -على ما يف الأعمال �س -كيف بد�أت حياتك الأدبية ؟
كلها من غيظ ملثلي ،ال كر�سي
ّ ج -بد�أت حياتي الأدبية فيما انا قاعد على
�أف��ت��أ اح��د لنف�سي جما ًال يف �رشفة ،والنف�س يف ذلك احلني يالطمها الأ�سى
طليقاً...ال ا�ستطيع غري والإكتئاب.
ذا... �س -هل كان لأ�ساتذتك او لبع�ض الأدباء من ت�أثري
�س -اىل ما تطمح ؟ عليك ؟
ج -ال���ي���ه���ا ...واىل ان ج -مل يك قط لأحد ،بني الأ�ساتذة ،ت�أثري يف بدايتي
اكون تاما ً ،و�أن يتحقق ال�شعرية اي حياتي .ا�ستاذي العالمة الف ّهامة الذي
129 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
تراكم يف رحاب ِ الده�شة َ القدمي خرافة ً �أوىل تب ّد ُد ما وينجلي يل الآن ما اطمح اليه وهو كبري ،و�أن حتيط
هباء.
ِ االوىل ،ويف الكتب ِ التليدة ِ من ْ بي «احلكمة» ،و�أن تن�رش �صورتي ...و�أن ال يلومني
يختار نكه َت ُه التي مت�ضي بعيداً يف ال�سماء ُ �شاعر
هو ٌ َ ا�صحابي و�ساداتي ...و�أن ت�سلّم يل كربيائي التي
ال�شهي قدا�سة ً .تختال ُ ح�سناً .ال يجاري َّ تعيد ُ للفن َّ لي�ست بذميمة.
ري التوغل ِ يف حياة ِ الأولياء. نفحها غ ُ َ
حبه جنم ًا اىل الأعلى. ّ ُ َّ د ي�صع .... �شقرا أبي � �شوقي \\v
احلمر .ال
َ بقارب �سدرة َ اجل��وزاء ِ .يجتا ُز احلطوطَ ُ
خ�ضم فراغِ ها الأبقى .وال تعنيه ِ �أوهام ُ الكتابة ِ ،يف َّ � vشوقي �أبي �شقرا
يختار من ت ّفاحة ِ الأيام ِ �أجمل َها .بل يحفُر التاريخ ُ
َ بالنب�ض ِ املولد البتكار ٍ خارق ٍ ،لأ�صول ِ �أو�صال
\
المع احلر
ِ املحال .ك�أّنه ُ الأ�سم ُ اجلدي ُد خلمرة ِ الأقالم ِ َو ْه َي �شغب الطفولة ال�سالم على الق�صيدة ِ حا�ضن ًا َ ُ �شوقي
الدرب املكّبلَ بالبهاء. َ تعانق ُ ِ مثل �أزها ِر ال�ضباب .منادي ًا �أحبا َبه ُ القدماء ...يا
مي
حل��ر ،وااليغالُ يف ّ الطريق اىل الكالم ِ ا ّ ُ �شوقي أحباب. ...
� ُ
احلداثة ،وال�س�ؤالُ عن الغرابة ِعن ف�ضاء ٍ مل يزل يف كان �شوقي ي��ا ظ�� ّل ال��وج��ود ِ املنت�شي مبياهِ ه
تخيلِنا .و�أبع َد من نداء ِ ال�شعر ِ يف احللم ِ �أبعد َ من ّ الأوىل .ويا �شوق َ اخلرافة ِ للخرافة ِ يف ّ
الآف��اق� .أبعد َ من �سكون ٍ راحل ٍ مثل َ ال�ضياء ِ اىل يغرد وحده
ت�صاعدِها النبيل.
زمان ٍ �آخر ٍل�سنا نراه. خارج ال�سرب .هناك َ كان َ ال�ش ُعر ي�س�أل ُ عن تنا�سلِه،
واىل مكان ٍ عامر ٍ باحلب ّ ،من�ساب ٍ اىل ما لي�س َ وك�أنه ي�ضيء وع���ن م�لاحمِ ��ه ال�شهيِة يف امل����دار ِ
قارىء الغيب ِ امل�ؤ�صل ِ منتهاه. ُ يدري ّرر الأي��ام ُ ن�شو َته، وي�شعل ال�صعبَ .ح�ين تك ُ
رفيع � //شوقي �أب��ي �شقرا عامل مده�ش و�صادم قرب املن�سي َ ّ كالم ُه َ ليعطي ال�شعر بايقاع ٍ ي�ضيء
وجريء ماهية �أخرى ،حكاية ِ الولد ِ امل�شاغب ِ ،يف حقول ِ
رئي�س //ي�صهر الوعي والالوعي بحبكة متقنة �سطوع ال ٍ ال�ضيع ِة الفيحا ِء بحث ًا عن
بقلم :المع احلر ُيجاريه املدى.
تخرج على
متوج ًا بتجربة ي�أتي الكالم على �شوقي �أبي �شقرا ّ تنطلق ُ �زي��ه ال��ق��روي. ط� ٌف��ل ي��ج��يء ب� ّ
الأ�صول،
كتابية متميزة يف ال�شكل وامل�ضمون .وذلك لأنها احلب ت�سكب ّ ُ حمياه ق�صائ َد وعلى التكرار «الرثيا» من ّ
جتربة تنهل من بئر االخ��ت�لاف ال��ذي ال ُيوازيه العميق َ على �صباح ٍ ال يفار ُقه الندى.
اختالف �آخ��ر .ك�أنه كان ي�سري يف اجتاه مل يخطر اخلفي اىل ال�ضياء مباغت ًا ليل َ ُّ هو لل�شوق ُ�شوقي َ
على بال للآخرين على الرغم من ت ّنوع م�شاربهم الكالم ِ بنفحة ِ املعنى الذي ين�سلُّ من عمق ِ الليايل
واجتاهاتهم. تختار من ما�ضي اجلمال ِ هواءه االنقى. ُ ده�شة ً .
لرواد احلداثة �آباء �رشعيني يف خمزوننا رمبا جتد ّ ال�سحب بحث ًا عن هوى َ جتوب
ُ ومت�ضي يف مغامرة ٍ
الرتاثي� .أو يف التجارب ال�شعرية الغربية� .أما جتربة فقد الو�صول َاىل الرجاء.
�أبي �شقرا ،فتخرج على كل الأطر التقليدية ،ما كان وال�شعر
ُ �شوقي ال�س�ؤالُ عن احلقيقة ِ يف مدار ِ احللم.
معروف ًا منها و�شائعاً� ،أو غري معروف و�شائع. �شح لل�صعود ِ اىل ف�ضاء ٍ �أخر ٍ .والل ُغز مفتوح ًا املر ُّ
وك�أن هذا املبدع ي ّغرد وحده خارج ال�رسب� .أو ك�أنه تختار ُ بي�ضاء ً راية لتدنو
َ ت د
َ ابتع التي الدنيا على
ي�ضيء وي�شعل ليعطي ال�شعر ماهية �أخرى ،تخرج ِ اجلمال ِ برج اىل أنقى ال ها د
ُ وتعي �صفاءها.
َ ال�سماء
ُ
على الأ�صول ،وعلى التكرار. املن�سي يف بوابِة العه ِد َّ ك�أن ّها اللون ُ املواكب ُخلم َنا
130 \ �شاعر وناقد و�صحفي من لبنان.
s
s
�شوقي �أبي �شقرا..
s
يك�شفها الآخرون� ,.أو مل يعرتف بها الآخرون ن فاذا ال يكتب كما �أتفق .بل يخرج على ما �أتفق عليه
به يجعل منها عامل ًا تتحرك يف �أعماقه كائنات مل يتحقق مبدى االنف�صال عن ذلك املوروث، خروج ًا ّ
ن�ألفها �سابق ًا �أو مل نعرتف بجدواها �سابقاً. ومبدى االختالف عن كل ما �أنتج يف الزمن ال�شعري
يتحرك يف ف�ضائه ال�شعري ال يكتب كما يكتبون وال ّ اجلميل.
يتحركون .وال ين�صاع لهذه اجلهة او تلك كما كما ّ �شاعر يعزف على وتر املفاج�أة .تنتظره من ال�رشق
ين�صاعون .بل يكتب ويكتب لريمي حجراً يف البئر، في�أتي من الغرب .ال ت�ستطيع ان تتو ّقع ماذا يمُ كن
�أو ليب ّدد الركود الذي ي�ستفحل �إثر ركام من الغبار �أن يقول .ويف �أي �أفق يحلّق .وعلى نار �أي جمال
ال�شعري ،املنت�رش يف ثنايا املكان ،ويف حميط كل يتد ّفق وم�ضه املعطّ ر ب�ضوء ي�سطع ،او ب�ضوء يتخ ّفى
الأمكنة. على جناح البيا�ض املرتهنب.
�شاعر مل ي�أت من فراغ .ومل ينظّ ر للفراغ .ومل ي�صل ال يكتب ما �أنت تريد� ،أو ما �أنا �أري��د� .أو ما يريد
اىل �أي فراغ .بل هو مبدع عرف الأ�صول� .أتقنها ثم الآخرون .ال يخ�ضع للمقوالت النقدية ال�سائدة الآتية
جتاوزها حماو ًال �أن ي�ؤ�س�س �أ�صو ًال جديدة .تتنا�سب من هنا ،او من هناك .وال للمقوالت النقدية الهجينة.
والر�ؤية اىل حداثة مغايرة .تت ّغذى مبائها ،دون ان بل يكتب على �سجيته م�ستجيب ًا لنداءاتها ،حملّق ًا يف
وتربت عليها ،وتن ّف�ست ّ تتنكّر للمياه التي غ ّذتها، جتمع
�أفيائها ،ومنغرزاً يف ترابها ،الذي ال ي�شبه ما ّ
منها رحيق احلياة. يف الذاكرة من تراب.
حت��رراً كلي ًا
عمل على التحرر من ربقة املا�ضي ّ عامل �شوقي �أبي �شقرا عامل مده�ش �صادم ،جريء.
ال ت�شوبه �شائبة .حت��رراً يتجاوز �أن�صاف احللول يعرف كيف يك�سرّ �أبراج اللغة ،ليبني على �أنقا�ضها
وفكرة الت�سويات وذلك لأن حترير الن�ص ال�شعري لغة ت��ت� ّ�م��رد على امل����وروث ،لتبدع كينونتها،
من الأ�صول الغابرة ،يعني �ضمن ما يعني حترير وخ�صو�صيتها.
االن�سان من القيود التي تعوق حركته ،لعلّه ي�صل رمبا يعجبك �شعره ،ورمبا ال يعجبك .رمبا تنغم�س
اىل امل�ستقبل لي�صوغه على هواه. يف دفء جتلياته ،ورمب��ا ت�ستغرب ما ج��اءت به
يكتب ن�صه بلغة ي�شوبها غمو�ض حار حيناً ،وبارد هذه التجليات ،رمبا جتده �شاعراً ا�ستثنائي ًا ورمبا
حين ًا �آخر .لغة ت ّت�سع طوراً ،لرتى الوجود بني الرائي ت�ستنكر ا�ستنكاراً بالغ ًا هذه الكتابة اخلارجة على
ال���ذي ي��ح��دق يف البعيد كل الطقو�س ال�شعرية�.إ ّال �أنك ال ت�ستطيع �إ ّال �أن تعرتف
البعيد ،وتنقب�ض ط��وراً �أن لهذا ال�شاعر عامل ًا �شعري ًا ال ي�شبه �أي عامل �آخر.
�آخ��ر ،لت�ستغرق يف عامل �شاعر ال يكتب لكي يكتب .وكالمه لي�س كالم ًا على
مغلق. كالم .بل م�سعى �صادق وعميق البتكار الكالم الذي
واذا ك��ان ال�شعر �صورة مل يقل بعد ،او العطاء الكالم بعدا �آخر مل يك�شف بعد.
عن الواقع القائم ،بكلما يكتب م�ستح�رضاً الوعي والالوعي� .صاهراً بينهما
فيه م��ن ا��ش�راق وعتمة، بحبكة �شعرية ،تغرف من رحاب املوهبة والتجربة
فان ق�صيدة �أبي �شقرا ما واالح�تراف .حتى ليبدو القول غري القول وت�أتي
هي �إ ّال انعكا�س ملا يعتمل اللغة غري اللغة وي�صبح ال�شعر فع ًال يتجاوز هذا
يف هذا الواقع القائم .واذا الركام ال�شعري الذي ي�ستف ّزنا منذ داح�س والغرباء
كان هناك ترابط ما يف لغاية اليوم.
ه��ذا ال��واق��ع ف��ان ال�شعر �شاعر ي�ضيء كهنوت ال�شعر .ي�ستظل به كمن ي�ستظل
ي�أتي مرتابط ًا وملتزم ًا برمز مق ّد�س .يغو�ص يف �أغواره بحث ًا عن لآىلء مل
131 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
املمتد اىل امل�ستقبل. بالوحدة املو�ضوعية ،والوحدة الع�ضوية.
خ�ض جتربة احلداثة ،ومل ي�صل اىل ابداع
و�شوقي مل ُي ْ � ّأما اذا كان غري مرتابط ،مفكك ًا ومذبذياً ،فان ال�شعر
ق�صيدة النرث اىل جانب زمالئه املعروفني .ويف ال ب ّد �إال ان يت�أثر بهذه احلال القائمة .ولهذا دائم ًا
طليعتهم �أن�سي احلاج – وحممد املاغوط ،وتوفيق نرى �أن هناك خيط ًا رفيع ًا يجمع بني �أجزاء الق�صيدة
ال�صايغ وف����ؤاد رفقه ،نتيجة لق�صور يف �أدوات��ه وي�سوغويلم �شملها ،و ُيعطيها �ضوءهاّ . ال�شقراوية ّ
الإبداعية بل على العك�س من ذلك متاماً .لقد �أثبت هذا التدفق الذي يكتمل على �إيقاع �سيل ال�صور التي
جدارته يف كتابه اال�صول ،وما نتج عن هذه الأ�صول تتنافر حيناً ،وتكتمل حين ًا �آخر ،على �إيقاع الر�ؤية
عرب ديواين «�أكيا�س الفقرا�س» و«خطوات امللك». املكتملة وال�شاملة لفنية الق�صيدة.
لقد كتب ق�صيدة التف�صيلة باتقان وتالعب بالوزن ق�صيدته �صور �شعرية متتالية ��� .ص��ورة مت�سك
على طريقته ،مثبت ًا خ�صو�صيته وجدارته .ثم تطلّع ب�صورة و�صو ًال اىل نهايتها التي ت�ضع ح� ّداً لهذا
اىل ق�صيدة النرث تطلّع من يريد �أن يتجاوز نف�سه اىل االن�سياب .وك�أنها تريد �أن ت�شعرك �أنه ال يزال يف
ما يراه عامل ًا �أرحب ،عامل ًا يحت�ضن ما يجول يف نف�س ال�شاعر �شيء ما مل يقل �أو ك� ّأن على املبدع ا ّال
نف�س املرء من ر�ؤى وجتارب واقتحامات. يقول كل ما لديه وك�أن اكت�شاف املتلقي للر�ؤيا التي
و�إذا ب��د�أ مع « �أكيا�س الفقراء» بكتابة الق�صيدة مل يقلها ال�شاعر هي زبدة القول .وك�أنه بذلك يعمل
الوم�ضة ف�أنه و�صل مع دواوينه الأخرية وال �سيما على الربط املبا�رش بينه وبني الآخرمن جهة ،وبينه
« تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة» لكتابة وبني العامل الذي يحيط به من جهة �أخرى.
الق�صيدة الطويلة ولي�ست املطّ ولة ،لأنها تعبري عن حركة �شوقي �أب��ي �شقرا ال�شعرية التي ال تنف�صل
لتعري
جتارب ،تغو�ص عميق ًا يف النف�س االن�سانيةّ ، ع��ن ح��رك��ة �شعر .ب��ل ت�صب يف عمقها ،واجهت
مكنوناتها ،وتك�شف ما يعرتيها من �إحباطات �ضغوط ًا كثرية ،على خمتلف ال�صعد الفنية واللغوية
وحزن وانك�سار. واالخالقية .وذلك ما �ساعد على �أغنائها وعلى �إثراء
�أل�صقت ب�شوقي �أب��ي �شقرا بخا�صة وجملة �شعر خيالها .ودفعها القتحام العامل الأو�سع.
بعامة �أ�سو�أ االتهامات وحاولوا ان يلحقوا حركتهم فلي�س �سه ًال حتطيم الأ�صنام القائمة والوقوف
بحركة خمابراتية رخي�صة .وذلك لت�شويه �إجنازهم ال�صارم بوجه التقليديني وال�سلفيني الذين يرون
ولبث عالمات اال�ستفهام
ّ وزرع ال�شك يف ابداعهم، يف املا�ضي حتربة يفرت�ض ان ت�ستمر يف احلا�رض
من اليمني �شوقي ابي �شقرا� -صالح �ستيتيه -ان�سي احلاج -ادوني�س -ف�ؤاد رفقة
ولعل عنا�رص من ال�رسيالية وا�صلت عملها يف ن�صه ت�رشب لُتعطي الآخ���ر ��شري��ان ال��وج��ود وكينونة
ال�شعري احلداثي واملابعد حداثي .وهي الغرابة اجلمال ،وتتدىل �أغ�صانها لتملأ الف�ضاء حيوية تثري
املعابثة ,وت�شظي الكلمات واللغة ,والعودة بها ملا يف الآخر الرغبة يف املعرقة ،والرغبة يف االكت�شاف.
ي�شبه دادائية طفلية فيها الكثري من الفطرة الريفية, يكتب ممتلئ ًا �شوق ًا اىل ذلك املجهول الغام�ض الذي
وال�سخرية ..فك�أنه يخلط �أمني نخلة مبارون عبود, ي�ؤرق ويدفع املرء اىل طرح املزيد من الت�سا�ؤالت
ويكون من موادهما الأولية كيمياء جديدة ل�شاعر حترك
التي ال ُتق�ضي اىل اجابات �شافية ،والتي ّ
لبناين� ,سحري �أويل يت�سم باحلرية والإ�سرت�سال فينا الف�ضول ،للغو�ص عميقاً� ،أو للو�صول اىل ذلك
والطرافة .وتت�شكل لغته بلعثمة لي�ست ف�صيحة الف�ضاء الذي مل يدركه �أحد بعد.
باملعنى التقليدي للف�صاحة ,ولكنها لي�ست عامية يكتب على �إيقاع ترانيم جديدة ،ك�أن �أفق �إبداعه
باملعنى املحكي للعامية ,فهي �إذ تك�رس حواجز يت�سع �شيئ ًا ف�شيئ ًا مع كل �إ�صدار جديد� .أو كان
البالغة العربية التقليدية ,ف�إنها ت�سرت�سل على �سماءه ت�أخذ ما تريد من زرقة على �إيقاع �أنغامه
الورقة كقطيع ماعز حر وجبلي ,يق�ضم ما ي�شاء, التي حتمل �ألف �ضوء و�ضوء.
ويعتلي ال�صخور ,ويتناطح ويلعب حتت مراقبة خربوا ما ا�ستطاعوا�شاعر من جيل ال� ّ�رواد ،الذين ّ
عني الراعي .فق�صائد �أبي �شقرا لغة يف مناخ� ,أو يخربوا .ال حب ًا بالتخريب فح�سب ،بل �سعي ًا اىل�أن ّ
لغة مناخ ال يبتعد عن ال�رسيالية ولكنه ال ي�ستهلك زم��ن �شعري مغاير ،يتنكّر للما�ضي ،وال ي�ؤن�سه
فيها ذاته . �رسب احلا�رض وال يرى يف امل�ستقبل غري ما تبدعه
لقد ح��اول �أب��ي �شقرا الك�شف عن الطاقة اجلوفية خميلته ،وخميلة ال�شباب ال�صاعدين اىل ال�سماء على
للغة ,وهي طاقة بدائية ال ي�ستطيع اللغويون الك�شف منت ب�ساط الريح.
عنها ,وال ي�ستطيع �سرب �أغوارها �سوى علماء النف�س �شوقي �أبي �شقرا �شاعر اجلمال الفرد والإبداع احلر،
وال�شعراء الغوا�صني �إىل الأعماق ,فلغة ال�شاعر هي والر�ؤيا التي تختمر على �إيقاع التجليات .والن�سيم
�أم الفكر ال وليدته ,وال بد له من ان يرتك نف�سه بني ال��ذي يتدفق اىل الأع��م��اق .ليعطيها ذل��ك النفح
يديها كالطفل تت�رصف به كما ت�شاء .فالإبداع اجلميل ،واخلرافة التي ت�ستح�رض الالمعقول لُتعطيه
والتوليد ال يكونان �إال من بئر اللغة اخلام .واالر�ض �شيئ ًا من حقيقتها وواقعيتها.
احل��ق��ي��ق��ي��ة ه���ي �أر�����ض
الداخل ,التي ال ترى �إال \\v
ب�إغما�ض العني .ف�شم�س
ال�شاعر ,كما يقول كارل � vشوقي �أبي �شقرا
كراو�س ,ينبغي توليدها الطقو�س والن�صو�ص
م���ن غ��ي��اه��ب ال���داخ���ل .
وال ب��د م��ن التالعب من من الت�شظي �إىل ال�سخرية
�أجل انت�صار الإ�ستعمال \
حممد علي �شم�س الدين
اجلديد للغة ...وكل ذلك
ال ي��ت��م م���ن دون ت�شظ ال�شاعر اللبناين �شوقي �أبي �شقرا� ,شاعر خا�ص ,بل
وتنافر و�سخرية ,الأقانيم خا�ص اخلا�ص ,يف ال�شعر العربي احلديث عموما,
ال�رضورية لفنون ما بعد إبتداء من خم�سينات القرن املن�رصم ,حتى
املكتوب � ً
احلداثة يف الغرب. اليوم ,ويف ال�شعر اللبناين منه على وجه الدقة .
135 \ �شاعر وناقد من لبنان.
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
عليكم» ...فهي تداعيات طيارة ,غري متكلفة ,جتمع ندخل �إىل ن�صو�ص �أبي �شقرا من مدخلني قد يظهر
بني متناق�ضات بال منطق ت�أليفي �أو بال خيط �سوى بينهما التباين ,ولكن يف النتيجة يوحدهما احلال
الغرابة ..واجلمل مويجات ,وال ما ي�شيع الهدوء الإبداعي لن�صه ال�شعري ولغته املتدرجة نحو ذاتها .
�سوى اال�ست�سالم حلركات مرجتلة لكن حرة . وهو يف تدرج نحو لغته ال�شعرية اخلا�صة به ,ابتداء
غالبا ما يعبث �أب��ي �شقرا بال�صور .يقول مثال : من «�أكيا�س الفقراء» ,جمموعته ال�شعرية الأوىل,
«ت�أتيك ال�سمكة ,تقودها احلورية بالر�سن» ويقول و�صو ًال لآخر �إ�صداراته ,م�شى يف اجتاه التخل�ص
«كنت �أفور و�أفقع يف اجلو» ...ما ي�ستدعي لأول وهلة, من البالغة العربية وال��وزن العرو�ضي اخلليلي
توليد عامل �صوري افرتا�ضي من املخيلة ,غالبا ما باملفهوم التقليدي واحلديث معاً ,وما ن�رش له يف
كنت �أ�شبهه بعامل «ديزين» لل�صور املتحركة .ذلك جملة �شعر يف فرتتي �صدور املجلة ,مكتوب ب�أوزان
ي�ؤدي �إىل �شد الإنتباه ,و�إىل حترير املخيلة وحترير هادئة ,مع تخفيف البالغة الق�صى حدود التخفيف,
اللغة يف وقت واحد � ...أي نحن �أمام كتابة حديثة والنزعة �إىل الإ�سرت�سال الغرائبي والطرافة وما يثري
مبتكرة بال و�صاية وال و�صايا وال تعاليم .من هنا الده�شة ,واملالحظ انه بقي حتى �صيف 1963ال
هي كتابة مغامرة حداثية ,وكتابة لها طقو�سها ... يفوته ال��وزن ,فكتب يف هذا العام ,ق�صيدة نرثات
باملعنى احلريف للق�صيدة . بجمل متتالية بال وزن ,يقول فيها مث ًال « :الع�صفور
بيانو» ون�س�أل انف�سنا بعد رحلة �أبي �شقرا ,على
احلداثة ال�شعرية ,ما بعدها, امتداد دواوينه ,من «خطوات امللك» �إىل «ماء �إىل
الطقو�س احلرفية للق�صيدة ح�صان العائلة» (« )1962ف�سنجاب يقع من الربج»
كتابة �شوقي �أبي �شقرا حداثية وما بعد حداثية . (« )1971فيتبع ال�ساحرة»« ,فحريتي جال�سة
نحن �أمام ن�صو�ص تعيد اكت�شاف اللغة من خالل تفاحة على الطاولة» ( )1983و�صو ًال �إىل ديوان «ال
مراوغة التقاليد �أو ك�رسها .ويف ذلك عبث بال ريب, ت�أخذ تاج فتى الهيكل» ( )1992ف�صالة الإ�شتياق
عبث �رضوري ,وقلب للقواعد � .إن ما بعد احلداثة يف (« )1995فثياب �سهرة الواحة والع�شبة» م�سبوقة
�أوروبا وامريكا ,اقرتنت �شواهدها بذلك ,يف خمتلف مبجموعة نرثية «�سائق الأم�س ينزل من العربة»
الفنون الأدائية والكتابية :يف العمارة وامل�رسح (� ,)2000إىل «نوتي من دهر القوام» ..ن�س�أل على
بخا�صة ,ويف الرواية والق�صيدة . �أي بر تر�سو مراكبه ؟ �أم لعله ما زال يطوح يف موج
و من يقر�أ كتاب الأمريكي «نيك كاي» امل�سمى «ما جلي هائم وحامل ولكنه غام�ض وخطري «ليتمازج
بعد احلداثة والفنون الأدائية» – وقد ترجمته �إىل احللم والأمل وال��ب��خ��ور» ,كما يقول يف ق�صيدة
العربية نهاد �صليحة ,ا�ستاذة الفنون امل�رسحية يف «ال�سهام من منقارها» .
جامعة القاهرة ,و�صدر عن الهيئة امل�رصية العامة �سيلزم التزود ببدائية لغوية ورعوية يف غالب
للكتاب م��ن خ�لال م����شروع «ن��اف��ذة على الثقافة الأح��ي��ان ,ملن يقر�أ هذا ال�شاعر ,ومن ال�رضوري
العاملية»� ,سيقع على �شواهد كثرية حلركة ما بعد الإنتباه �إىل ان ال�لاوع��ي لديه هو ال��ذي يك�شف
احلداثة يف الهند�سة وامل�رسح ,والرواية والق�صيدة .. الوعي ولي�س العك�س ,من خالل �سياقات لغوية
ف�إن معر�ض « احدث طريق» الذي اقيم العام 1980 طيارة ومرحة ,خمتلطة ,فيها عبث وملعنة طفلية,
يف �إطار بينايل فيني�سيا وهو معر�ض فني ملجموعة وملعنة كبار ال�سن املحنكني يف الريف اجلبلي
من الواجهات �صممها ثالثون مهند�سا معماري ًا من اللبناين ,كقوله يف ق�صيدة «عبدك ,لبيك»« :و�صقر
اوروب��ا و�أمريكا ,يت�سم بخا�صية التالعب ال�ساخر انت نتخيلك ومنقار ,ف�ضاء و�ضحية ,ويف ال�سلة
ب�أ�ساليب املا�ضي وتقاليده املعمارية وا�ستخدامها رغيف ,ورج��اء ,وليمونة لل�سالم عليك وال�سالم
136 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
�شوقي �أبي �شقرا..
s
واللغوية ,لهذه الظواهر الإبداعية ,ي�شري �إىل نظرية خللق مفارقات وتوريات ب�رصية .وقد طرح املعماري
جاك دريدا ونقده اللغوي ل�سو�سور والقول ب�أن املعنى والناقد باولو بورتوجيزي �أ�سلوب التالعب كبديل عن
ال يتحقق �أب��داً ب�صورة كاملة ,بل القول با�ستحالة الثبات .و�أ�شار الناقد الإجنليزي ت�شارلز جينك�س �إىل
املعنى ,كما �أن فكرة دي �سو�سور يف ا�ستقالل اللغة عنا�رص الت�شظي والتنافر والتناثر يف عمارة ما بعد
عن التاريخ �أو ال تاريخية اللغة اي كونها قائمة احلداثة مقابل عنا�رص الب�ساطة والوظيفية والوحدة
بذاتها و�سابقة على التفكري ,وج��دت �صداها يف يف املعمار ال�سابق ,وقد طرح مبد�أ اللعب باللغات
التحوالت الروائية وال�شعرية اجلديدة� .إنها حالة بال والتقاليد املعمارية كو�سيلة لتحييد وك�رس القراءات
اعماق وال �آفاق مت�ساوية ,وهي قلقة ,مت�شظية ,غري املغلقة املحددة ملعاين الأ�سلوب وال�شكل وال�صورة
م�ستقرة ,وهو ما �أم�سك به جان بودريار من خالل ..ثمة �ألعاب ذهنية وتعدد يتق�صد عدم الإن�سجام .
لعبه بال�شيفرات واعتباره ن�شاط ما بعد احلداثة هو والتقنيات امل�ستحدثة ترمي �إىل ما ميكن ت�سميته
الهدم ,ويلتقي معه جان فرن�سوا ليوتار يف الت�شكيك «هارمونية الن�شاز» ,فثمة تورية �ساخرة والتبا�س
باملرجعية والتنبه للقلق امل�ستدام والتوتر الذي ال معنى وتناق�ض وتناق�ص وتعقيد وع�شوائية وقلب
ي�ستقر ...للمراوغة امل�ستمرة . الرتاتيب الثابتة .وقد انتقل مفهوم ما بعد احلداثة
ف�إذا كانت احلداثة جتاوزت املا�ضي فما بعد احلداثة من العمارة �إىل ما �سواها من فنون ,يف جمال
اعادت طرحه ككيان مبهم ..كتكوين مفتوح ,ت�شظ, الأدب وجماالت الت�صوير والنحت وال�سينما والفيديو
ت�شوي�ش� ,سخرية ,وكوالج وتوليف . والرق�ص والتلفزيون واملو�سيقى .لقد مت الرتكيز
وبناء على جممل ما ورد من مالحظات ً لهذه الناحية, على رواي��ة غابرييل غار�سيا ماركيز «مائة عام
و�شواهد ,ف�إنني �أرى �أن كتابات �شوقي ابي �شقرا ,يف من العزلة» ورواي��ة جونرت غرا�س «طبل ال�صفيح»
�أبرز دواوينه ,وبخا�صة الأخرية منها ,هي كتابات ورواية «العار» ل�سلمان ر�شدي «حيث يتم توظيف
عربية لبنانية ما بعد حداثية .ولي�س من ال�رضوري احلوار توظيف ًا �ساخراً ,وت�ستعمل تقنية النقد للتاريخ
ان الكاتب املزود باملخيلة و�أداة اللغة ,يكون دائم ًا والكتابة نف�سها ,حيث ي�سود ال�شك وتطفو ال�سخرية .
�صورة معكو�سة لع�رصه وب�لاده ولغته ..بل لعله ويف امل����سرح ب���رزت ع��ن��ا��صر جت��ري��ب م�رسحي
هو مندوب ,وقادر على تغيري جميع قواعد اللعبة وعرو�ض مفاجئة و�ساخرة ,وظهر ال�رسد املبعرث
ال��راه��ن��ة برت�سيماتها يف جزئيات متناثرة ...وظهر الكوالج امل�رسحي
الأي����دي����ول����وج����ي����ة و املتنافر الذي يجمع بني عنا�رص خمتلفة �سمعية
الإجتماعية واللغوية, �صوتية ب�رصية م�ستقاة من م�صادر متنوعة من
فيغامر ويغري .ولي�س هذا اعمال درامية و�أفالم �سينمائية وا�صوات ...وبرز
الكالم كالم قيمة ,مبعنى التجريب ,فقد عمدت املخرجة امل�رسحية « اليزابيت
ان��ه لي�س من ال�رضوري لوكونت» �إىل �ستة اختبارات مل�رسحية ت � .س �إليوت
�أن يكون �شطح املبدع هو امل�سماة «حفلة كوكتيل» ومت تقدمي عنا�رص متباينة
الأوىل والأع��ل��ى ,ولكنه بال تن�سيق .يذكر اي�ضا �أعمال الأمريكية «جون
بال ريب جدير ب�أن ي�شار جونا�س» من خ�لال العر�ض امل�رسحي امل�سمى
�إليه ,و�أن يقر�أ ,و�أن يفهم, «را�س ًا على عقب و�إىل الوراء» املكون من كوالج من
والزمن يف النهاية كفيل اخليوط ال�رسدية القدمية واجلديدة تنتهي �إىل خلطة
بو�ضعه يف املرتبة التي م�رسحية �أ�سا�سها �إف�ساد املنطق والن�ص .
ي�ستحقها .فلي�س كل عبث لعل التدقيق يف اجلذور الفكرية الفل�سفية واجلمالية
137 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
و لعله �أ�س�س لنف�سه طقو�س ًا تخ�صه يف الكتابة .ففي بالرتتيبات وامل�سلمات ,هو بال�رضورة ,عبث خالق.
ق�صيدة «ما ي�صنع امل�ساء» من جمموعة « تت�ساقط نقر�أ ل��دى �شوقي �أب��ي �شقرا ,اجلمل التالية ,على
الثمار والطيور ولي�س الورقة» يجري على عجلة �سبيل املثال « :عمي النهر يف ثياب ال�سكينة ..
حرف «الواو » جريان ًا حراً يف ا�ستطراد يدور ويدور �أعط�س من العف�ص ,ا�صل �إىل معلمي ال�صباح �إذ
ويدور .. « :و من�سح جباهنا من الكيمياء ,واملرارة يفلت وعله ال�شجاع وخريفه الأ�صلع ويعطيني
دائم ًا هي احللوى ,والفاكهة �أننا �أملا�س احلرية, الطيارة لأقودها يف الف�ضاء ,لأقود النعجة �إىل الليل
و�أننا �رسعة الر�ؤيا ,و �أننا ق�رص ال�سمو�أل ,وحيث و�أغ�صان الزيزفون والتوت ,ك�أننا الرعية وال نطبخ
نحرر امل�شاعر الزائلة ,ونربط جدائلنا باملعادن, يف الطناجر وال�صحون �سوى ع�شبة الظفر والف�صح
ونتفرج على ثياب ال�ت�راث ,وخ��زائ��ن الفرا�شات, وبع�ض قهوة اجل��وار « (من دي��وان يتبع ال�ساحرة
ومنا�شفها تتمازج على ال�شوك ....وامل�س�ألة �أننا ويك�رس ال�سنابل راك�ض ًا ) .
�سمكة ال�شهوة ,وجلدنا رقيق احلا�شية ,وكل طعنة و يف دي��وان « نوتي مزدهر القوام « ن��رى اللغة
حتى احلبة من الكرز عالمتنا ,وينفجر ثقب ال�شاعر جتري �إىل �أماكن غري معتادة وال م�ألوفة ,تتفكك
من ال�ضيق ,وال�صديق هو املريخ « ... وتخف ,وتتخفف ,و ال ي�سعنا معها �سوى القول :لن
ال �شك يف �أن مثل ه��ذه الكتابة ,مت��ار���س جملة يكون لنا اجتاهها ق�ضايا كبرية و�إرنان �أو بالغة
�إق�صاءات ,لكي تقرتح وتتبنى جملة طقو�س خا�صة ...بل عبث وم�رسة .يقول �« :سن�رضب نحن احلائط
.فمن ناحية اجلوهر ال�شعري ,فهو �شعر يعزل نف�سه ون�سب عر�ضه جزاف ًا ونخلع �رض�س العقل ...ونكتفي
عن الرتاث العربي ويعت�صم ب�إرث حملي ,بعنا�رص باخل�شوع والت�ؤدة يف مهرجان الغولف �إذ نرفع
ريفية من �إرث لبناين �سحري ,يلوذ بالبداءة ويلب�س الطابة البي�ضاء وال نعاملها بالع�صا لأنها حبلى
جلداً رعوياً ,و�صاحب عتق يف ال�براري والبيوت وتلد منل ًة �أو جندي ًا �أو ح�شي�ش ًة « .
الأولية والكلمات الأول��ي��ة ,والغابات واحل�رشات
والنباتات وما �أ�شبه ..وهكذا ف�إنه ينعقد على ما
ي�شبه هذيان املخيلة واللغة البدائية .
�أما من ناحية الت�أليف ,ف�إن كتابة �شوقي �أبي �شقرا
تظهر على �صورة كتابة ما قبل بالغية ,بل وحتى
ما قبل لغوية ,وبال�رضورة ما قبل غنائية .هي
كتابة طفلية تت�ساحب فيها الكلمات وتتنا�سل من
�أط��راف �أ�صابعها تنا�س ًال مرح ًا و�أولياً ,وال ت�س�أل
عن مقا�صد الذاكرة اللغوية وال املعاين التاريخية,
وال تلتزم متام الإلتزام مبوا�صفات ق�صيدة النرث
بنت احلداثة ,بل جتنح ملا بعدها ,وحتاول ت�أ�سي�س
طقو�س تخ�صها ,والطقو�س ما هي ؟ الطق�س كلمة
مولدة دينية م�سيحية ,فقد جاء يف العدد احلادي
ع�رش من جملة املجمع العلمي العربي بدم�شق �ص
� 232أن كلمة «طق�س» يطلقها امل�سيحيون على
�شعائر الديانة ,معرب «تك�سي�س « من الالتينية .
138 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
�شوقي �أبي �شقرا..
s
ال��غ��ب��ار»( )17ه��ذه لغة ،على متانتها و�صالبة �أن ت�شقع مفرداتها وجملَها ،مدماك ًا فوق مدماك،
تراكيبها ،ال ت�شبه �أح��داً �أكرث مما ت�شبه �صاحبها. دون �أن تتبع امل ��أل��وف واملعتاد م��ن الرتاكيب
�شعره،
خا�صة فريدة يغ ّذي بها َ فزاد هذا ال�شاعر لغ ٌة ّ وامل�صطلحات� .أن تتحدى اللغة يعني �أن تخرج
مميز يغ ّذي به لغ َته .فال�شعر واللغة عند
و�شعر الفت ّ
ٌ عنها �إليها� ،أن تثور عليها من �أجلها� ،أن تتجاوزها
«نار وموقد� ،صيحة وحنجرة�ِ ،ص َغر ونق�ش ٌ �شقرا �إبي و�صو ًال �إىل جوهرها والأعماقّ � .أما ال�شكل فال يكون
حجر ،قدح ونبيذ» ،وهما عنده يف ك ّل حال «مر�آة �إال �شكل ال�شاعر ،والرتكيب ال يكون �إال برتكيب
ووجه)18(». �شاعرية
ّ ال�شاعر ،وتفتيق �أبعاد اللغة ال يتم �إال بقدرة
اللغوي ب�شعره،ّ ق��ادرة .هذا هو �شوقي �أب��ي �شقرا
ال�صورة ال�شعريّة وال�شاعر بِلغته التي ال ميكن تف�صيلها �إال على
مبني
ّ قد تكون امليزة الرئي�سية لل�شعر احلديث �أ ّنه قيا�سه ،وال ميكن حياكتها �إال بنوله ،بل بقلمه الذي
ال�شعرية التي حتاول تفتيق امل�ألوف ّ على ال�صورة ثري اخليال ،بعيد ريفي ّ ترابي يل
يغم�سه بحرب طفو ّ
ّ ّ
واملكرر واملتو ّقع بحث ًا عن الأر�ض البكر ،والف�ضاء ّ واقعية.
ّ بواقعية فوق
ّ ال�صور
َ املرامي ،طريف
امل�ستحدث ،واللغة اجلديدة يف قلب اللغة� ،أو عن وت�ستوقفك م��ف��ردات ل ّقحها ال�شاعر يف م�سام
ال�شعرية �إىل طاقة خالقة غري ّ املخيلة
ّ تطويع ق�صائده ،فاع�شو�شبت و�أزه��رت يف �شتالت �شعره
م�سبوقة ،طاقة قادرة على ت�صوير عامل جديد من اللغوي ال�صلب العود ّ التي زرع��ه��ا يف ب�ستانه
امل�رشعة بكل اتجّ اه،
ّ املعاين املفتوحة ،والدالالت دنان االبت�سامة َ وال�رشو�ش والبنيان« :كم جررنا
واالحتماالت غري املتناهية. واحل�رصم القتيل ونحن يف منخف�ضات الوهلة...
لو قر�أت �شوقي �أبي �شقرا ،قبل �أن تدرك خ�صائ�ص طالت مر�ساة ال�سهر ...و�سن�ضحك مثنى ونع�شو�شب
الطفولة والريف واللغة لديه ،ال�ستوقفتك طبيعة بالربق والعا�صفة وغبار ال��ه� َ�و���س )12(»...وعليه
ال�شعرية عنده بغرابتها�« :أح��رث الك�سل ّ ال�صورة ميكن القول � ّأن لغة �شوقي �أبي �شقرا تبحر «يف البعيد
والتجاعيد»( ،)19و«جمجمتي �صندوقي� ...ستهرول املجن وظهرية ّ الذي ي�رشف على البعيد ،و�إذ يلمع
املتحركة:
ّ بافرتا�ضيتها
ّ املراكب والق�صائد»()20؛ �أو الرحلة �إىل الرتياق)13(»...
«ال�سيف والأ�صابع ،والأف��واه ،واملالقط ...اختلطت ي�صور لنا لغة ال�شاعر هو ال�شاعر نف�سه و�أف�ضل َمن ّ
�سبحت متمايلة َ كالبطّ ، �إذ يقول« :وا�ضطر َبت لغتي من احل��دث ،لففتها
رق��� َ��ص��ت ج�������ازاً»(،)21 بالقطن والطحالب واختنقت �سفينة الأج��وب��ة».
و«�أن����ا ال��ر���س��ول املقلّم، ( )14ولئن ا�ضطربت اللغة من احلدث جند ال�شاعر
وح�شي �رسيع� ،أنا
ّ حمار «ي�سبح يف الغمر ...وقارب النجاة ي�أخذه �إىل مفازة
اخلفيف ال �أط�ير� ،أرتبط العري وال�رصاخ القاحل ...ول]ه[ الكتب العذبة
بجنزير احل��ائ��ط ،مبوعد الدخول �إىل املطاوي وال�صعبة اخلروج �إىل املرف�أ
احل����ق»()22؛ �أو بتداخل ممر �إىل
والت�صابي )15(».ويكت�شف فج�أة � ّأن «ال ّ
املنظور بالالمنظور من أغر� ...سوى الع�صفورة...لي�صغي ال�صارخ احلبور ال ّ
عنا�رصها« :ي��ا �سنبلة �أمامي �إىل جنواي و�إىل منقلب الهوان)16(»...
ال����ت����ع����ب ...وح����صرم��ة اللغوية يف
ّ وال يرت ّدد ال�شاعر يف توظيف تراكيبه
ال��ل��ي��ل»( ،)23و«احل���رف �شعرية غري م�سبوقة �إذ «ي�شلح البئر على ّ �صور
ري�����ف ال����ب����ال� ،أذرع احلجر ...ي�شلح ال�سطور ...واخلامتة ذنب الع�صفور.
الغنى»(.)24 ي�سكب ال��ن��دم ،ي�سكبه اخل��دم قبل امل��ائ��دة وب��دء
141 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شوقي �أبي �شقرا..
s
s
s
الهوام�ش ال�شعرية مبزج �أطرافّ وكثرياً ما يبني ال�شاعر لوحته
� -1أبي �شقرا� ،شوقي� ،سائق الأم�س ينزل من العربة ،دار نل�سن ،بريوت، �شعري ًا
ّ ف�ضاء
ً واقعية فيدخل
ّ الواقعية بعنا�رص فوق
ّ
� ،2000ص.156
-2املرجع ال�سابق� ،ص .189 ثري ًا بليغ ًا بذاته ولذاته: متما�سك ًا م ّتقداً مت أ�لّق ًا ّ
� -3أبي �شقرا� ،شوقي ،يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً ،دار النهار، وقمة «ت��دق �أجرا�سي حني �أرت��ط��م باللحظاتّ ... ّ
بريوت� ،1979 ،ص.38
- 4املرجع ال�سابق� ،ص .39 ال�سكون ت�شكر الطنني»( ،)25و«لن ن�سمع الوقت...
-5املرجع نف�سه� ،ص .40 من بوق املدائح و�صنوج النقائ�ض .و�أو ّزة االختالف
� -6أبي �شقرا� ،شوقي ،ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل ،دار اجلديد ،بريوت،
� ،1992ص .41 ،51 جاثمة على ال��ك� ّ�وة»( ،)26و«العنرب طفل قدمي بال
� -7أبي �شقرا� ،شوقي ،يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً ،دار النهار،
بريوت� ،1979 ،ص.60 ،53 �أ�سنان حليب يجل�س يف ح�ضن الدهر وال يبكي �إن
� -8أبي �شقرا� ،شوقي ،ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل ،دار اجلديد ،بريوت، قر�صناه»(.)27
� ،1992ص .21 ،11 ،10
-9املرجع ال�سابق� ،ص .21 هوذا عامل ال�شاعر الذي ال ميكن و�صفه �أو ت�صويره
-10املرجع نف�سه.28 ،24 ، �إال باال�ستعانة بلغة ال�شاعر نف�سه .لذا ميكن القول يف
-11املرجع نف�سه� ،ص .70 ،58 ،51 ،36
� -12أبي �شقرا� ،شوقي ،تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة ،دار ختام هذه العجالة� :شوقي �أبي �شقرا ي�سكبه ال�شباب،
نل�سن ،بريوت� ،2004 ،ص.7
-13املرجع ال�سابق� ،ص .36
يفر �إىل عني الر ّقة و�صوف يفر من ح�ضن النجمةّ ، ّ
-14املرجع نف�سه� ،ص .68 ال�سعادة ،وين�سكب على قيا�س ج�سده وتقا�سيم
-15املرجع نف�سه� ،ص .79 ،76 وجهه يف ال��ذي يخطّ ه قلمه .هو ال ي�تر ّدد يف �أن
-16املرجع نف�سه� ،ص .110-109
� -17أبي �شقرا� ،شوقي ،ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل� ،ص .33 يفلح الأر�ض اليباب ويخرب حار�س الريح ،ويخاطب
-18املرجع ال�سابق� ،ص .85 ،71
� -19أبي �شقرا� ،شوقي ،يتبع ال�ساحر ويك�رس ال�سنابل راك�ضاً� ،ص .7 ثم يغت�سل بالنقطة على الورق. الربد والعا�صفةّ ،
- 20املرجع ال�سابق� ،ص .20 هو يتقن خرم�شة احلرير وحذف الر�سمات القدمية.
-21املرجع نف�سه� ،ص .28
-22املرجع نف�سه� ،ص .44 ال�شعرية ينفخ النريان امل�رسوقة ّ هو يف مهنته
� -23شوقي �أبي �شقرا ،ال ت�أخذ تاج فتى الهيكل� ،ص .29 اني ًا تنتع�ش به �صو ّوي�ستعري من بنات القمر �رشراً ّ
-24املرجع ال�سابق� ،ص .74
-25املرجع نف�سه� ،ص .96 الأ�سطورة .هو يغ ّني للحطب ،ين�سى طقو�سه ،يطرب
� -26أبي �شقرا� ،شوقي ،تت�ساقط الثمار والطيور ولي�س الورقة� ،ص
.138
لرنني ال�صنوبر ،يراوح بني خملب ال�صقر وقيثارة
-27املرجع ال�سابق� ،ص .146 الفرا�شة ،يغرتب يف زماننا ويك�رس اخلمر بالكلمات
ثم يهد�أ هدوء ال�سنديان� .شوقي �أبي �شقرا يكون � ّإياه ّ
حي ًا حنيّ ث ع ب
ُ َ ي ال�شاعر هذا يكون. ال أو � يكتب ما يف
\\v
تكتبه الق�صيدة فهو ربيب الف�صول ،ينهمر على مهل
ويدغدغ م�سامنا كرذاذ املطر.
144
حامت ال�صكر:
لي�س للزمن �أفق واحد كي حتتله
�سلطة الرواية �أو ال�شعر
حاورته :ر�شــا فا�ضـل
كاتبة �صحفية من العراق تقيم يف لبنان
\\v
145
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
الب�رش هكذا يف حلظة .الوجود ال يعود ملك خالق �أو � zسنبد�أ من هجرتك الأخرية ..مكانك ال�شاغر يف
�أب �أو م�س�ؤول بل مب�شيئة �إرهابي ي�شد حزامه حول جامعة �صنعاء ويف قلوب طلبتك و�أ�صدقائك وحمبيك
ثوبه الق�صري ك�ضمريه ،ويطلق حقده الطويل كلحيته ،هل ت�شبه هذه الهجرة هجرتك من بغداد؟
،وال يفهم �سوى العنف والكراهية� .أنا نف�سي �أح�س�ست yyال �أج��ازف باملقارنة رغم �أن ل�صنعاء يف قلبي
مبا اح�س به تلميذي و�صديقي ال�شاعر احمد النجار و�ضمريي كثري مما لبغداد التي ولدت ودر�ست وع�شت
و�رصت �أهرب من �صور بوابة اجلامعة و�ساحاتها فيها ،وغادرتها مدمى القلب �أح�سب �أن فراقها
التي بكيد وق�سوة �صارت حتتل ال�شا�شات وتالحقني �سيكون ق�صرياً .كان ذلك منت�صف الت�سعينيات التي
يف مغرتبي الق�صي . .لكنني �ضعفت وذعنت وح�سبتها ت�أزم فيها كل �شيء ،وت�صاعدت امل�شكالت حتى قلت
خال�صا م�ؤقتا ل�سواي باملنا�سبة وتلك ق�صة تتداعى وقتها �إن �إبرة العي�ش �ضاقت بخيط احلياة الكرمية.
من اختطاف الولد وتركته اال�رسية بعده.لكن �أ�صدقك هجرتي الأخرية من �صنعاء التي �أحببتها ،وبادلتني
القول :لي�س املربر كافيا مو�ضوعيا لكن معاناتي املحبة ورمم� ْ�ت كثريا من ج��راح روح��ي و�صار يل
كان لها طابع اجلرب وال اختيار. فيها �أحبة وا�صدقاء و�أه��ل ،خمتلفة ،فيها ق�سوة
لكنني كمت�أثر بالظاهراتية ونظرتهم اجلمالية اي�ضا النها رمتني وراء البحار والقارات ،وتخيلت
للأمكنة والأ�شياء والن�صو�ص كلها �أعتقد ان املكان نف�سي �أوغل باملعنى ا َ
حل ْريف للكلمة يف رمال الغربة
ال يغادرين� ..أعيد ت�شكيله بوعيي و�إدراكي و�شعوري، املتحركة دوم��ا ،والتي جذبتني وخدعت �صربي
و�أ�ستح�رضه عما بقي من جذور يل هناك ..و�أح�س وجلَدي و�أحالمي ؛ فكنت �ضحية نداءاتها ومل �أفعل
وراء غيم الغربة �أن �شم�س العودة واللقاء لي�ست بعيدة بحارة ال�سندباد ورفقة عولي�س عندما غنت ما فعله ّ
ال�رشوق! ال�سريينيات ليجذبنهم؛ لكنهم �س ّدوا �آذانهم بقوة
zتعاتبك مي�سون االرياين :ما زلت �أمتنى لو وقاوموا..
�أنه ودعنا و�سمح لنا بالتعبري عن مدى �شكرنا zكتب ال�شاعر اليمني احمد النجار ما ي�شبه
وتقديرنا له ك�إن�سان ومعلم �أي�ضا. البكائية علّقها يف غيابك م�ستنطقا الأمكنة التي
yyلأ�صدقائي وطالبي ب�صنعاء احلق كله.كان غيابي مررت بها ..فقال :رباه دلني كيف جتفف عربات
خجوال؛ فهو لي�س عودة للوطن بل هجرة قا�سية نحو مبنى كلية الإعالم ..كيف نر�شو بوابة اجلامعة
البعيد .تزامن ذل��ك ب�صدفة قدرية مع ب��دء الثورة لكي تفتح �أحداقها ثاني ًة,وترى ، ) ..هل حتتاج
ال�شبابية يف اليمن ومن اجلامعة التي اعمل فيها لتربير غيابك ام تربير وجودك يف �صنعاء ؟
و�أ�سكن .كان اجلميع م�شغولني بيومياتها ومفرداتها. yyكالهما حا�رض يف وعيي و�ضمريي .وجودي هناك
ومل يت�سن لأح��د ان يرتب وداع��ا�.أخ�برت القريبني واختياري العمل يف اليمن دون �سواها وفراقي
بقراري ..وتواط�أت مع نف�سي كي ال �أثري مزيدا من اال�ضطراري لها�.س�أف�ضي ل��كِ ب�أمر :قبل حادثة
ال�شجن.وذكريات حياة امتدت �أكرث من خم�سة ع�رش اختطاف ابني يف ال�شهر العا�رش من ع��ام 2006
عاما ..لكن ما و�صلني وما كتبه اال�صدقاء والطالب غرب العراق مل اكن افكر بالهجرة.كل �شيء كان مع ّدا
كان كافيا لوداع حميم .و�أقول لك �رصاحة �أنا ال �أحب حلياة بني الأه��ل ببغداد �أو �صنعاء .لكنني طُ عنت
ككثري من النا�س م�شاهد الوداع ..و�أختزلها ب�أقل ما عميقا بغياب ول��دي بال م�برر .و�أح�س�ست بجحود
ميكن من الكلمات دوما ،رغم �أنها تغور يف داخلي ، رهيب وت�ساءلت عن حق الآخرين يف تغييب حياة
146 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
ثم هناك املنجز .ال ميكن �إه��م��ال �شعراء ك�شوقي وت�شكل منبع حزن يل كلما تذكرتها ،وانا كما يعرف
وال�سياب واجل��واه��ري والبياتي وال�شابي ون��ازك ا�صدقائي �شديد التذكر ،واتخذه �آلية دفاعية للعي�ش.
وادوني�س ونزار و�سعدي والربيكان و�رسكون وغريهم احلم كثريا واقيم عاملي يف داخلي و�أغلبه ت�ؤثثه
لأنهم مكر�سون ،بينما نتاجهم متجدد ويعي�ش الذكرى ،حتى �رصت م�ؤخرا �أدعو لقراءة ا�ستعادية
ع�رصه ب��ج��دارة ،وال �أذه��ب بعيدا لأذك��ر املتنبي او تذكارية للن�صو�ص؛ لر�ؤيتها جمددا بوعي متغري
مكر�سي
واملعري و�أبا متام واملت�صوفة وغريهم من َّ وجديد ..فيبدو لها وجود �آخر غري ما وقر يف النف�س
الرتاث وكباره .و�أنا معك يف �أن الدم اجلديد واخلاليا عند لقائها الأول..
الطالعة احليوية يف اجل�سد ال�شعري بحاجة لاللتفات zمن �صنعاء اىل النقد و�س�ؤال يح�رضين دائما
والتعريف والقراءة ..ولكن ذلك يح�صل ملاذا يكاد ينح�رس النقد على الأ�سماء الكبرية ،
بكيفيات �أخرى ،كفح�ص منجز اجليل �أو ال�شعوب يف �شحة املواهب اجلديدة ام عدم هل يعود ذلك اىل ّ
املتغري الأ�سلوبي واجلمايل يف الكتابة منطقتنا مل ارتقاء �أعمالها مل�ستوى النقد ؟
ال�شعرية وغ�ير ذل��ك مما يخدم وجود تتعود ال�سلم yyهذا خلل ا�سرتاتيجي يف تكوين عقلنا �أ�صال .عقلنا
ن�صو�صهم ب�صورة من ال�صور. .فيما
يتعذر ا�ستق�صاء ن�صو�صهم كلهم ب�سبب االجتماعي النقدي املمتد من وعينا املتكون بعوامل متعددة.
القبيلة واحلزب والنظام يف اال�رسة وكل �شيء هنا
كرثتهم وقلة النتاج امل�ؤهل للفح�ص والدميقراطية
ير�شح لتقدي�س الكبري �ضمن منظومة مقد�سات
والفاعلية القرائية .و�أح�سب �أن التفاتنا ومل تتح لها كاملا�ضي والثوابت و�سواها مما ميتلك �سلطة على
ل�شعراء الأجيال الالحقة قد ح�صل يف الأنظمة ان الوعي ال يراد ان تراجع �أو يتم التخفيف –حتى – من
منا�سبات نقدية كثرية ،وميكن مراجعة
�إ�صداراتنا لت�أكيد ذلك ف�ضال عما قدمناه ت�شكل حتى �سطوتها .
-هذا جانب ق�صور يف النقد نف�سه ،لكن هناك �أي�ضا
عرب املنابر االعالمية التي ا�شتغلنا معار�ضاتها
عوامل خارجية� ،سياقية تت�صل بهيمنة االنظمة
الوطنية فيها..
وتكري�سها لكتابها و�شعرائها ولهام�ش احلرية
zاال ت�شعر ان م�س�ؤوليتكم كنقاد هو البديلة املعدوم �أ�صال يف حياتنا الثقافية .و�س�أحكي لك ما
الت�صحيح والتقومي خ�صو�صا ونحن ح�صل معي كمحرر ال كاتب؛ فقد ن�رشنا يف جملة
ن�شهد توزيعا جمانيا للألقاب مثل �شاعر وقا�ص الأقالم عندما كنت �أعمل يف رئا�سة حتريرها خربا
وروائي وغريه من الت�صنيفات ؟ عن مواد العدد القادم يف املجلة نف�سها ت�شويقا للقراء؛
yyامل�شهد ال�شعري �شهد تراجعا ذوقيا ال �سيما على فذكرنا �أ�سماء �شعراء العدد القادم .بعد الن�رش هاتفني
م�ستوى التقبل ،وانزوت الن�صو�ص املنتمية للحداثة �شاعر �أحبه لكنه ذو م�س�ؤولية �إدارية مهمة يف الوزارة
ب�سبب ذلك.عادت موجات ال�شعر املنا�سباتي ب�شدة، واحل��زب يلومنا بغ�ضب قريب من املحا�سبة عن
وكذلك الق�صائد ال�شعبوية التي جتامل ذوق املتلقي �سبب ح�رش ا�سمه مع ه�ؤالء!! وقا�صة �صديقة رف�ضت
وال تقوده لتغيري �أفقه وتتخذ من ال�سيا�سة منا�سبة ب�صنعاء �أن تقر أ� مع �شباب من القا�صني اجليدين يف
لعودة اخلطابية واملبا�رشة والتهريج ال�صوتي يف االم�سية نف�سها ،لأنهم �شباب وح�سب!! .هذان مثاالن
ال�شعر امل�ؤقت الفاعلية والذي يزاح بعد زوال احلدث. يفيدان يف تفح�ص امل�شكلة فهي ال تت�صل بالنقد ذاته
و�شاعت عادات ثقافية كانت قد اختفت من الو�سط � .أحيانا ترتاكم الأ�سباب كما ترين.
147 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
zلديك قراءات يف الفن الت�شكيلي تكللت بكتابك امل�ستهلك لل�شعر كحمى امل�سابقات واجلوائز ،وهذه
(املرئي واملكتوب – درا�سات يف الت�شكيل العربي امل�ؤ�س�سات التي حتمل الفتة ال�شعر وتقاوم جتدده
املعا�رص) وغريها ،هل تعترب الكتابة عن الفنون وتطوره ب�رضاوة وتقوم بتجهيل املتلقي وفر�ض �أمية
ممار�سة مكملة لعملك كناقد ام جتاوزا على ار�ض �شعرية على املجتمع .وهذا هو اخلطر ولي�س �إ�سباغ
جماورة ال�شتغالك ؟ و�صف �شاعر او كاتب على من ال ي�ستحق؛ فالكتابة
yyمنذ بداية وعيي بالكتابة كنت �أح�س باحلاجة ال ينفذ من اختبارها �إال امل�ؤهل لها مب�ؤهالته ال
لالقرتا�ض �أو التنافذ بني الفنون املختلفة ؛الن ب�شفاعات منرب �أو حزب �أو �سلطة �أو حتى تربيكات
م�شكالتها واحدة جماليا على م�ستوى التلقي ،وكذلك ناقد �أو �صحيفة.
يف م�شكلتها الن�صية اي هيئتها و�أ�سلوبها وحداثتها ودعيني �أخالفك الر�أي ب�صدد مهمة الناقد �أو م�س�ؤوليته
.يف الر�سم ثمة مقاومة م�ستمرة كما يح�صل يف ؛ فهي ال تكمن اليوم يف الت�صويب والت�صحيح وال
ال�شعر لكل اال�ساليب التجريبية او الرمزية التي ال احلكم القيمي املطلق.مهمة النقد اليوم تتجه �إىل
تعتمد الت�شخي�ص واملطابقة بني املادة خارج العمل الن�ص ال ال�شاعر؛ وهذا يكفي لتجاهل الن�صو�ص التي
وداخله.وبالن�سبة جليلي ال�ستيني كان الر�سم خا�صة ال ت�ضيف �أو تعدل �أو ت�ؤثر.
والفن الت�شكيلي عامة واحداً من االهتمامات املكملة zاذن ماهي م�س�ؤولية الناقد جتاه الأدب ؟
تداوليا �أي�ضا ،مبعنى �أنه كان واحدا من روافد التكوين yyه��ذا ال�س�ؤال كبري ال ت�ستوعبه مقابلة! لكن هي
الثقايف ت�شجع عليه �أجواء العراق الثقافية ،املتنوعة م�س�ألة وعي بخطورة الكتابة النقدية نف�سها .واالمم
واحليوية.وقد امتد �أثرها لعقود مت�أخرة من القرن املتقدمة فقط تعول على النقد؛ النها ت�ستوعب الآخر
املا�ضي ،ومثال ذلك كرثة قاعات العر�ض وظهور كيانا وفكراً.نحن نعاين من تهمي�ش للنقد ولي�س
�شجع على
املنابر املتخ�ص�صة بالفن الت�شكيلي .وهذا ّ العك�س� .شكوى املبدعني غري مربرة بر�أيي ؛فالنقد
االلتفات للت�شكيل وامل�ساهمة يف ق�ضاياه اجلمالية ال الأدبي العربي اجنز الكثري ولأجيال متعاقبة ،وار�سى
التقنية باملعنى ال�ضيق.وهذا كان دافعي يف كتابة امل�صطلح وم ّهد للتجديد والتحديث ،ونافح عن التغيري
كتابي (املرئي واملكتوب) ال�صادر
َّ مواد ومفردات اال�سلوبي وهدم التقليد ونبذ اجلمود.لكن البع�ض ال
عام 2007و(اقوال النور) الذي �صدر عام 2010
�صب يف �صف يرى ذلك لأنه ال مي�س ن�صه ذاته ،و�إن َّ
zيرى عز الدين املنا�رصة ان ق�صيدة النرث ق�صيدة نوعه وتوجهه.
(خنثى) ،كما يرى البع�ض انها لي�ست اال تقهقرا ا�سمحي يل �أن �أعدل ال�س�ؤال ليكون :ما م�س�ؤولية الناقد
اىل النرث وهي �شعر من ال�شعر له؟ جتاه الن�ص .هنا ميكن احلديث دون عقد او تبادل
yyالفرن�سيون انف�سهم الذين �أطلقوا الت�سمية مل يطمئنوا تهم! وميكن الإجابة بالقيام بتقدميه حملال �أو منوها
لها .ومن الكتب املرتجمة حديثا عن ق�صيدة النرث به ؛لبيان ما �أ�ضافه �أو �ساهم يف تكري�سه باجتاه
ملي�شيل �ساندرا ي�ؤكد ذل��ك .و���س��وزان برنار ك��أول التحول يف اخلطاب نف�سه ،وكذلك لإ�سقاط فاعليات
منظّ ره �أكادميية لها �أعلنت عن قلقها من امل�صطلح القراءة املتنوعة عليه ،ك�صلته ب�سواه من الن�صو�ص
.ورمبا كان هذا �سببا يف ادعاء هجنتها �أو اتهامها � ،أو مو�ضوعه ،وكيفية تقدميه ،او لغته و�شكله
باالختالط الذي تعتمده قا�صدة ،لكن لي�س على �سبيل ،واملهيمنات الفاعلة فيه ،و�صلته باللحظة الراهنة
الإ�ضافة :نرث � +شعر = ق�صيدة نرث بل على �سبيل و�سوى ذلك من املقرتبات املمكنة.
148 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
zانت الآن خارج العراق كيف تنظر اىل امل�شهد يف العامل ،فثمة دوما ما ينع�ش امل�شهد الثقايف لعل
الثقايف العراقي ..هل احتوى التجربة العراقية معار�ض الكتب ووجود القراء مهما كانت دوافعهم
ال�صعبة ..وهل متكن من متثلها وجتاوز املحنة؟ ونوع الكتب التي يبحثون عنها..
� yyأح�سب �أين �أجبت �ضمنا عن ت�سا�ؤلك املهم واحليوي zهل ان انحيازك لفرتة ال�ستينات واعتبارها
هذا.وال ب�أ�س من القول ب�أن ذلك يتطلب زمنا ور�ؤية الفرتة الأجمل والأكرث ازدهارا دليل على فقر
ال يختلط فيها اليومي والعابر والتكتيكي!امل�شهد احلا�رض؟
الثقايف العراقي متجدد ومتعدد .وثرا�ؤه يكمن يف ذلك yyهذا �صحيح للأ�سف ،نتذكر ال�ستينيات ببهائها
ال �سيما يف ف�ضاء من احلرية وال�صدق�.أما عن جتاوز
ال�شامل على م�ستوى الكتابة والفن والتلقي واحلراك
املحنة وعبورها فال يتم ذلك ثقافيا
�إال باعتبار الثقافة ظهرا ملا يحدث يف �أ�ؤمن كثرياً ال�صحفي وال�سيا�سي والوعي بالزمن وال�صلة بالعامل.
هذا ما ع�شناه ك�شهود على املرحلة .ومل ي�ستجد ما
اللحظة احلرجة الراهنة .ولهذا علينا �أن فهم الآخر يدح�ض ت�صورنا .وكلما �أف�ضنا يف ت�أمل احلا�رض
ان ننتظر ومننح الثقافة زمنا يكفي �إن كان خ�صما الثقايف ازددنا متثال لتلك املرحلة اخل�صبة من حياة
الحتواء زل��زال احلياة وبركان الواقع.
ولكن �أمام ثقافتنا اليوم مهمة عاجلة كامل�ؤ�س�سة املجتمع وثقافته.
هي جتاوز حمنتها اخلا�صة والتخل�ص ال�صهيونية zهل للمجايلة اثر ما على تقييم العمل الأدبي
من الثنائيات القدمية كالفن والهدف �ضروري والكاتب ؟
االجتماعي ،وثقافة الداخل واخلارج yyذاتيا نعم .فاملتجايلون يحملون العنا�رص ذاتها
لك�شف خطابه
،والتقليد والتحديث ..واملباح واملتاح ، من حيث الرتبية االدبية وامل�ؤثرات واملتغريات.لكن
وعنا�صره وغريها.. الناقد يك�شف عما مل يتبلور بعد فنيا او ي�ستقر جماليا
zماذا تقرتح على وزارة الثقافة ور�ؤاه ال �سيما ما يتعلق بالأ�شكال وجدلها و�رصاعها .لذا قد
للنهو�ض بواقع الكاتب العراقي يتجاوز جمايليه لينطلق من جتريد نظري ي�سقطه على
و�ضمان حقوقه ؟ الن�صو�ص ،و�صوال �إىل القوانني الفاعلة يف التحديث .
yyمنذ زمن وبتجربة عملية �رصت �أ�ؤمن �أن الكاتب zملاذا يرف�ض �أكرث الكتّاب فكرة جتني�س الأدب ؟
ال منقذ له �سواه! بيديه ي�شق طريقه ويفتح له افقا yyال �أدري كم من الكتاب يرف�ض التجني�س و�أح�سبهم
وكذلك موقعا يف جمتمعه وعامله.الحظي �أن الثقافة قلة ،رمبا جلهلهم داللة التجني�س ؛ لأنها ت�أتي من
كم�ؤ�س�سة هي دوما بيئة طاردة ال يتوالها �إال من ال اع��راف النوع �أو اجلن�س الأدب��ي ،وتراكم خ�صاله
عالقة له بالثقافة جهال او موقفا ..ويكون التعامل وم��زاي��اه ب�تراك��م �أف���راد الن�صو�ص .اجل��ه��ل اي�ضا
بني ه�ؤالء والكتاب تعامال فوقيا مينحون ومينعون بال�شعرية وانتظام عنا�رص الن�صو�ص جتعل النظر
ويخططون بال دراية ..ولكن �إن كان البد من �أمنية عندالقراءة قا�رصا ،لكن املتلقي يتلقف ما ي�صله ن�صا
فهي �أن نتعلم من �أخطاء الأنظمة املت�سلطة وثقافتها وال تهمه كثريا ابتداعاته داخل نوعه.الكاتب بكونه
املعلبة ،وندع العقول واالفئدة تبدع بحرية ونقابلها مبدع الن�ص ترتكز يف ذات��ه هوية ما للن�ص ،هي
باهتمام ينا�سب قيمتها الروحية.. التي �ستجدد جن�سه مهما اختلط ب�سواه م�ستفيدا منه
zمت اختيار بغداد ك�أ�سو�أ مدينة عربية! .. �أو معار�ضا له.
151 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ونرى ن�صب احلرية والقباب الذهبية واملنائر و�أبراج � yyأت�ساءل ب��أي مقيا�س؟ خرابها احلا�رض بتداعي
الكنائ�س ور�ؤو���س النخيل ونوار�س ال�شاطئ ومنلأ �أزماتها و�إهمالها �أم باحلكم على وجودها االفرتا�ضي
منها الأعني؟العودة ممكنة واحللم قيد الإمكان �أي�ضا ك��ل��ه؟ عا�صمة ال����شرق وامل��غ��رب ودول����ة ال��ع��رب
.موجود داخلنا بالقوة وخمفي يف الفعل فح�سب. وامل�سلمني لأك�ثر من خم�سة ق��رون ،وحمفل العلم
مي�شي يف الق�صائد والأحالم والكوابي�س اي�ضا! وال�شعر واحلداثة واجلمال بكل معانيه يتم اختيارها
لتكون �أ�سو�أ مدينة؟ ماذا �سنقول �إذن عن مدن ي�صفها
zكيف وجد ال�شاعر فيك منفاك اجلديد ..ام نقول
البياتي ب�أنها مدن بال فجر تنام ..مدن تعلك الروح
وطنك البديل؟
وال تعطيك �إح�سا�سا بالعراقة �أو الهوية ..مل�صقات
yyال �أتفق معك على و�صف املنفى ب�أنه الوطن البديل. معمارية وهجنة لغوية وب�رشية وجفاف! تناظر ممل
كتب املاغوط مرة متهكما عن اوطان يتم تبادلها ومنظور �ضيق و�أفق رمادي بال نور �أو لون نوراين .
كاملرافقات يف الرق�ص �أو كالأنخاب .ذاك افرتا�ض بغداد – دعكِ ر�شا حتى من الأدبيات والغنائيات التي
مزاجي عن لعنة اخلال�ص من حبيب �أو خلية يف اجل�سد. متجدها – ذات رنني �سحري ،ال�شعر يعليها واملاء
قدريا كانت هجرتي و�أنا يف عمر متقدم تتكثف فيه والتاريخ وكل مفردة من يومياتها وما�ضيها .بغداد
الأ�شجان والعواطف وي�صعب التكيف ،ف�ضال عن �أنني ب�ستان �أبدي ال تيب�س �أوراق �أ�شجاره .تتجدد وتن�رش
ال �أعدها حال �شخ�صيا –يل ك�إن�سان -وال للجماعة- ظاللها�.أكرب من مدينة و�أبعد من مكان على اخلارطة.
كب�رش يعانون يف اوطانهم �صنفا من الغربة التي zهل ميكن للذاكرة ان تتجاوز وعورة ار�ضها
و�صفها التوحيدي بالغربة الغريبة و�آعتربها �أ�شد وتتن�صل من جراحها ..وتقرر ان العودة ممكنة..
�أن���واع الغربة �أذى ول��وع��ة .وكثريا ما رددت قول وان احللم ممكن؟
عولي�س مل��دن ال�سواحل التي اعاقت طريقه عائدا
yyالإن�سان كائن متفرد يف غرابته و�إ��صراره� .ضاق
لإيثاكا :لقد �ألقت بنا ال�سفن مرغمني على �شواطئك. ب��ه كوكبه فو�سعت خطاه الف�ضاء ليجد كواكب
واليوم �أجد تلك ال�شط�آن جزءا من حل .ت�ؤا�سينا من بعيدة و�أمكنة ع�صية على الإح��اط��ة .واجت��ه للماء
حيث جرحتنا االوطان�.رسقت منا الأبناء خمطوفني يرو�ض �أم��واج��ه ..يجعلها طرقا للعي�ش وطرقات
او قتلى بال �سبب �أو معنى.ومل تكافئ ثالثة عقود من للم�سري وحلظات لل�شعر والت�أمل والعرب .ه��ذا هو:
العمل وعمر من الكتابة وتاريخ امكنة وزهو مدن الغالب �شيخوخته و�ضعفه ،وهازم طغاته وجالديه،
و�سالمها وفنونها و�شعرها و�سحرها و�رسها ،و�أبدلته وعرو�شهم وق�صورهم ،وفقره ومر�ضه.فلماذا ال نحلم
بخرافة ع�سرية على الفهم ،تتداولها �أج�ساد معطلة مثل ما حلمت ال�ساللة كلها :ر�أت الطري فحلمت مبا
العقل تلفها كالأكفان الد�شادي�ش الق�صرية والعمائم يجعلها تطري ،وال�سمك فغا�صت �سابحة يف ال�سطوح
واللحى وت�سريها عمياء خر�ساء تفاهات الفتاوى والأعماق.الأ�شياء اليوم كلها من �أح�لام الأم�س.
والدمياغوجية ال�سيا�سية �شديدة النفوذ لدرجة �رصنا فلنحلم لعلنا من�شي من جديد �آمنني يف ال�رساي –
معها نعترب كل يوم اف�ضل من �سابقه .وتلك عالمة ��سراي الكتب -وجنل�س منت�شني بدجلة و�شاطئها
�سقوط الأمم وا�ضمحاللها– منذ ك�شوفات فكر ابن يف �أبي نوا�س ال�شارع ور�ؤى النوا�سي ال�شاعر حتف
خلدون حتى تعديالت مي�شيل فوكو . بنا وحتر�س �ساعاتنا املتاخرة برخاء وا�سرت�سال.
\\v
153
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
وم��ا ك��ان ط��ه ح�سني ي��ري��د ان يعيد تعريف \\v
�صياغته ..وحدث له ما حدث من «تكفري» ..لأن ومن بولندا بد�أت رحلته يف العوا�صم
التق�سيم الثقايف الذي احدثه اال�سالم «جاهلي» العربية والأفريقية التي امتدت بني بغداد
وا�سالمي؛ حتول اىل يقني ديني الميكن امل�سا�س والقاهرة �إىل �أن ا�ستقر به املطاف يف
به ..مثلما حتولت «اللغة العربية» من و�سيلة
�أم�سرتدام .له عدة روايات قيمة �أ�شهرها:
تعبري؛ �إىل «اداة مقد�سة» باعتبار ان اقد�س كتاب
عربي ،كُ تب بها. بي�ضة النعامة ،مزاج التما�سيح وعن
والثقافة– اية ثقافة– هي ر�ؤية جماعة ب�رشية الثقافة العربية وثورات الربيع العربي
حم��ددة للكون ..للطبيعة وم��ا وراء الطبيعة.. الثقافة – كان لنا معه هذا احلوار:
للواقع وللغيبيات ..للحياة وامل��وت وم��ا بعد اية ثقافة zالواقع واملتخيل هو �صلب «بي�ضة
�ع�بر» ع��ن نف�سها بالدين
امل����وت ..وال��ت��ي «ت� ّ – هي نتاج النعامة» وهي �أي�ضا رواية البحث عن
وطقو�سه ،وبالإبداع الب�رشي املتنوع من جتريد الذات ..فهل مازال م�أزق الثقافة العربية
(مو�سيقى) ور�سم ومتاثيل تريد تقريب وان�سنة ديناميكة
ماثال يف فخ الواقع واملتخيل؟
ما وراء الطبيعة اىل العقل الب�رشي ،والق�ص املجتمع
yyاعتقد ان «م�أزق» الثقافة العربية
بانواعه با�ستخدام اللغة لت�أ�سي�س التوا�صل
وخرباته هو اعمق من ذلك بكثري فالثقافة
الب�رشي واخل�ب�رة االن�سانية وحم��اول��ة �رشح
اجلمعية ؛ كما – اية ثقافة – هي نتاج ديناميكة
العالقة امللتب�سة بني «الآلهة والب�رش» كما يف
الرتاجيديات اليونانية حيث يتوا�صل ال�رصاع انها يف الوقت املجتمع وخرباته اجلمعية ؛ كما انها
بني ما هو مقد�س وما هو دينيوي . ذاته حمرك يف ال��وق��ت ذات��ه حم��رك ديناميكي
ديناميكي باجتاه «التقدم» حتى لو كان ذلك
zوكيف تتطور الثقافة من هذا املنظور الذي طرحته؟ باجتاه التقدم الذي يطلق عليه ابن خلدون
yyبالتطور اجلديل ديناميكي املتوا�صل للعالقات «التقدم» «ال��ت��ق��دم ال��ع��م��راين» وه��و بالطبع
االجتماعية ،تتطور الثقافة يف حركة متوا�صلة، يعني ما ن�شري اليه هنا يف ايامنا
مثل حركات املد واجلذر ومثل حتركات جماري املعا�رصة «باملجتمع املدين» ،ان تعب ري �civil so
االنهار ..ومل ت�أت هذه الثقافة – وتطوراتها - cietyهوتعبري م�ضاد للمجتمع «الريفي» وكلمة
من فراغ بل من تراكم اخلربة اجلمعية والذاكرة citizenامل�شتقة من Cityت�ؤكد ان «املواطن» له
اجلمعية لهذه اجلماعة ..تكون «اللغة» هي االداة عالقة «باملدنية» اي ان ا�صطالح مواطنة هو
الرئي�سية للتعبري عن هذه الثقافة..
ا�صطالح ح�ضاري بالدرجة الأوىل قبل ان يكون
ومثلما ت�صعد الإمرباطوريات وتنهار ..ت�صعد
�سيا�سيا..
اجل��م��اع��ات الب�رشية ..وتنهار اي�ضا ويكون
�صعودها وانهيارها «ثقافيا» مثل ما حدث zولكن ما هو م�أزق الثقافة العربية حتديدا؟
للإمرباطورية الرومانية وما �سبقها وما حلقها yyهنا مكمن امل�أزق الثقايف العربي ،الذي متتد
من امرباطوريات.. جذوره اىل ما �أطلق عليه اال�سالم «اجلاهلية»
154 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
مواطنو الثقافة اال�سالمية؛ التي كانت �آن��ذاك لكن ثمة ثقافات ت�ستطيع ان جتدد نف�سها مثل
ت�سمح بل وترعى التعددية الثقافية من جمو�سية «العنقاء» وه��ذا م��ا ح��دث للثقافة الالتينية
وتوحيدية وعربانية ون�رصانية ..الخ الغربية وبد�أ التجديد عرب اللغة؛ ثم عرب الدين ثم
zيف خ�ضم كل ماطرحته �أين يوجد الكاتب ر�ؤوف فك االرتباط بني املقد�س والدينيوي ..وبالتايل
م�سعد؟ فتح العقل امام قبول االكت�شفات العلمية مثل
ان االر���ض لي�ست هي مركز الكون كما كانت
yyاعترب نف�سي من مدر�سة ت�ؤمن برتابط كل
«الكني�سة» ت�ؤمن وتب�رش بذلك وتعاقب من يخالف
اال�شياء ب�شكل ج��ديل ,وه��ي مدر�سة ا�س�سها
ذلك ،وان الأر�ض بالتايل ،والب�رش الذين يقطنون
هيجل ث��م ط��وره��ا م��ارك�����س ..هي
عليها ..جمرد جزء �صغري يف حركة كونية دائبة
لي�ست مارك�سية كما يظن بع�ض لقد مرت ومتوا�صة ال منلك النف�سنا فيها خيارا!!
التب�سيطيني ..بل ان ا�سا�سها املقولة الثقافة
االغريقية ال�شهرية «ان��ت ال تنزل zذلك يجرنا لل�س�ؤال عن مدى جناح �أو ف�شل الثقافة
الغربية النهر الواحد مرتني»! العربية وامل�رصية يف هذا؟
فانا ال ا�ستطيع ان اف�صل ما بني بفرتات yyالثقافة العربية وامل�رصية حتديدا ،مل ت�ستطع
التدهور االخالقي – مثال -جلزء من «ظالمية» اي�ضا ان تقطع «احلبل ال����سري» بني املقد�س وبني
امل�رصيني الذكور الذين يتحر�شون وحترميية.. الدينيوي بل اعلنت عرب «املقد�س» اي عرب فقيه
عالنية ب��الإن��اث جن�سيا باللفظ حيث حر ّمت ديني هو االمام ال�شافعي «اغالق باب االجتهاد»
وال��ف��ع��ل ،ع��ن ال��ر�ؤي��ة االجتماعية حيث كان االجتهاد الديني هو اال�سا�س املعريف
املتدنية للفرد ب�شكل عام والأنثى عرب املقد�س املتوا�صل احلي للتف�سري والت�أويل ..اي �إعمال
ب�شكل خ��ا���ص ،تلك ال��ت��ي تفرزها – اي الكني�سة العقل ال النقل كما ك��ان ال��دار���س��ون يقولون
الثقافات ال�شمولية الديكتاتورية والكهنة – ويب�رشون !
وت����ؤي���ده���ا ب��ع�����ض ال��ت��ف�����س�يرات التفكري لقد م��رت الثقافة الغربية بفرتات «ظالمية»
وال��ت�بري��رات الدينية غ�ير النزيهة حرمت عرب املقد�س ّ اي�ضا وحترميية ..حيث
يف العالقة
واملغر�ضة ..ال ا�ستطيع ان �أف�صل – اي الكني�سة والكهنة – التفكري يف العالقة
بني ما ذكرت وبني تزايد قوة اليمني امللتب�سة بني امللتب�سة بني ان�سنة امل�سيح وت�أليهه ..وقامت
ال�سيا�سي – الديني يف جمتمعاتنا ان�سنة امل�سيح حروب ب�سبب ذلك :حروب دينية تريد االطراف
العربية -اال�سالمية؛ ال��ذي يزيد وت�أليهه املتقاتلة اثبات مقوالتها بحد ال�سيف (!) ومل تنج
الفقراء فقرا واالغنياء فح�شا ..فكل الثقافة الغربية من م�أزقها ه��ذا ..اال بت�صاعد
اال�شياء مرتابطة ! اجن��ازات البحوث العلمية والتي كان معظمها
zهل ميكن لنا القول ب�أن الروائي ر�ؤوف م�سعد م�صدره الأدي��رة والرهبان انف�سهم ومدار�سهم
يغو�ص فى فل�سفة الالمنتمي؟ وم��اذا تعنى لك وكتبهم والرتجمات التي ح�صلوا عليها من
�إبداعيا تلك الفل�سفة؟ الع�رص العبا�سي حول الفل�سفة اليونانية وحول
yyعلى العك�س متاما انا منتم اىل اق�صى درجات علوم احل�ساب والريا�ضيات التي ب��رع فيها
155 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
تربيتي الدينية ج��اءت م��ن وال���دي الق�سي�س االنتماء ..لكن بدون تع�صب ..انا منتم ا�سا�سا �إىل
الربوت�ستنتي الذي كان ي�سمح يل ان اقرا من كتبه «ذاتي» ف�إذا كنت قد بلغت الآن نهاية اخلام�سة
الأخرى «الالدينية» مثل جزيرة الكنز وروبن�سن وال�سبعني من عمري عرب حياة «ن�شطة» �سيا�سيا
ك��روزو وجملة املختار من ري��درز دايجي�ست �إىل حد ما منذ ان كنت يف حوايل الثامنة ع�رشة
(ايامها) ثم خاالتي الالتي ك�شفن يل كنوز الف م��ن ع��م��ري ،وان�ضممت اىل تنظيم مارك�سي
ليلة وليلة يف حكاياتهن التي كن يحكينها يل م�رصي �رسي ،ثم املحكمة الع�سكرية وال�سجن..
قبل النوم ..فال�شاطر ح�سن كان بالن�سبة يل ايام الخ ..ثم الدرا�سة والتجوال داخل ما كنا نطلق
ال�صبا مثل القدي�سني امل�سيحيني الذين كانوا عليه «املع�سكر اال�شرتاكي» ثم العمل يف عراق
يجوبون االر���ض يب�رشون ويتعر�ضون للعنت البكر و�صدام ح�سني يف اطار ما كنا نطلق عليه
ب�سبب ذلك.. – اي�ضا – اجلبهة الوطنية او م�سميات م�شابهة
zذلك ي�ستدرجنا اىل احلديث عن كتاباتك الأوىل؟ ثم بريوت ..وغريها من بالد ت�شيل وبالد حتط..
yyكتاباتي االوىل كانت ع��ن ال�سد ال��ع��ايل ؛ وتعاملت �صحفيا م��ع ق���ادة وزع��م��اء نبالء
�صحفيا وابداعيا م�رسحيا ..لكني كنت – وما و�آخرين معتوهني مثل منج�ستو هيلال ماريام..
ازال – انزع دائما اىل «ال�سرييالية» يف كتاباتي لأت�أكد دائما ان اختياراتي ال�سيا�سية املبدئية
م�ستخدما خيايل اجلامح يف اقامة ج�رس بني اي اال�شرتاكية واالمي��ان مبا نطلق عليه حركة
«الآن «وامل��اوراء هذا الآن ..فجزء ا�سا�سي من اجلماهري هو مبدئي ال��ذي مل �أح��د عنه حتى
ثقافتي هو فرعوين يربط بني الآن وامل��اوراء.. الآن(!) بالرغم من مراجعاتي ال�شخ�صية ملا
مثل ا�سطورة ايزي�س وبحثها عن ج�سد اوزير ر�أيته وع�شته فعليا يف «املع�سكر اال�شرتاكي»
املمزق م�ستعينة بال�سحر لتبث الروح فيه مرة بان احلرية واخلبز ال ميكن ف�صلهما حتت اية
اخرى.. دع���اوى اوح��ج��ج ت��ق��ول ان «االع����داء» يقفون
يف اهتماما الفرعونية كثقافة وديانة تثري ّ مرتب�صني وعلينا ان نبني جدارا بيننا وبينهم
بالغا بهذه البقعة من الأر�ض (م�رص) وبنا�سها.. (جدار برلني) وتكون النتيجة معروفة بعد ذلك
فانا اي�ضا انتمى اىل �صعيد م�رص وهو موطن للجميع..
ا�ساليف من الوالدين ..وال�صعيد هو «خال�صة» ال تن�سى اي�ضا انني انتمي اىل «االقلية الدينية»
م�رص ..يقودك اىل خال�صة اخ��رى هي النيل، يف العامل العربي– اال�سالمي وداخل هذه االقلية
الذي يقودك اىل منابعه اذا ابحرت عك�س التيار.. انتمي اي�ضا اىل اقلية مذهبية هي «الربوت�ستنية»
كما فعلت انا يف �صباي و�شبابي ..حيث كانت وه��ي اقلية تطهرية ���ص��ارم��ة ..لكنها «تعمل
اال�رسة تقيم يف ال�سودان حيث ُولدت ..ثم ق�ضيت بال�سيا�سة» باعتبار ان الكني�سة جزء من حركة
�سنوات مراهقتي يف مدر�سة دينية علمانية هي املجتمع (كما تالحظ ذل��ك يف موقف كني�سة
«كلية ا�سيوط االمريكية» يف ق�سمها الداخلي، ق�رص الدوبارة الربوت�ستنتية من ثورة خم�سة
ا�صعد يف النيل كل �صيف الق�ضي العطلة مع وع�رشين يناير)
اهلي يف ال�سودان ،ثم اهبط فيه راجعا لأتعلم انتمائي الديني هو بالأ�سا�س «ث��ق��ايف» لأن
156 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
– ان جاز التعبري – فانا �أعي�ش بني نقي�ضني يف م�رص ..لذا ا�صبح ال�سودان بالن�سبة يل يف
:رغبتي يف االكتمال ،و�إح�سا�سي بعدم امكانية تلك املرحلة من العمر موطني اال�صلي ..اتكلم
حتقيق ذلك لنق�ص يف �أنا �شخ�صيا (قد يكون ذلك كما يتحدث ابنا�ؤه ..وحينما ا�ستقر بنا الأمر يف
نتاج الربوت�ستنتية التي ال ت�ؤمن بجدوى االفعال م�رص مل احبب البلد الذي كان اهله ي�سخرون من
الطيبة بقدر اميانها بتحقيق هذه االفعال مهما طريقة كالمي (خا�صة اين كنت ُم�صابا بالتهتة
كانت النائج) والتمتمة) لكني اكت�شفت ان م�رص لي�ست «نا�سها»
بالتايل ا�ستقر الأم���ر ب��ي ان اعي�ش حياتني فقط الذين يقطنونها الآن بل هي مكان خا�ص
متالزمتني مثل التوائم ال�سيامية ..فانا احيانا وعبقري (كما يقول جمال حمدان) وان جزءا
«احلم» يف مناماتي بلغات متعددة هاما من تاريخي ال�شخ�صي وتاريخ ا�ساليف
منها البولندية التي تعلمتها لأدر�س بد�أت الكتابة وديانتي هو جزء اي�ضا من م�رص (!)
امل�رسح ه��ن��اك ..ا�ستيقظ يف و�سط مع اقراين وجت��د يف ك��ل اع��م��ايل �شخ�صيات لها عالقة
ال�ستينيني.. النوم حائرا «اين انا االن؟».. ب��ال�����س��ودان ول��ه��ا ع�لاق��ة اي�ضا بامل�سيحية..
ومل��ا اج��د ان االج��اب��ة على �س�ؤالك لكني توقفت «انتماءاتي» متعددة ..ف�أنا نتاج الفرعونية
اردت ان اكون دقيقا ف�سوف�صعبة ان ُ وامل�سيحية امل�رصية والهلينية املتم�رصة
اكرث من ع�شر
اقول – ب�صدق – اين ال �أعرف ! واال�سالم امل�رصي واحل�ضارة االفريقية التي
فقد �أ�شار كاتب �صديق يل م�رصي �سنوات من جتولت فعليا يف ربوعها الوا�سعة ..وجتد هذا يف
ب�أين خالل كل هذه ال�سنوات مل اكتب ال�سبعينيات ر�ؤيتي للكون ..اي�ضا .
رواية «عن الغرب» وا�شارته �صحيحة حتى zبحكم �إقامتك الدائمة خارج م�رص هل �أ�صبح الآخر
اي�ضا ..ام��ا ال�سبب فقد حاولت ان الثمانينات معكو�سا مبعنى هل �أ�صبح الواقع امل�رصي /العربي
اعرفه وان ا�صل اليه لكن.. هو الآخر� ..أم مازال الآخر هو الغربي ،و�إذا كان فكيف
لفقدان الثقة
حينما �س�ألت زوجتي الهولندية عن تراه الآن؟
تف�سريها لذلك اجابت بجدية» لأنك يف ما اريد
yyهذا �س�ؤال ملتب�س وحمري و�صعب وقد قر�أت
غري مهتم اال مبا ت�شعر به ولي�س مبا كتابته وهل
لأم�ين معلوف م��ؤخ��را ح��وارا مع عبده وازن
هو مفرت�ض ان ت�شعر به» واكتفيت هو �ضروري يناق�ش فيه «اخل��ارج والداخل» فمعلوف يفكر
را�ضيا بهذه االج��اب��ة من �شخ�ص ومفيد؟ ويكتب بالفرن�سية ..بينما انا ال ا�ستطيع التفكري
خبري بدواخيلي!!
والكتابة اال بالعربية ..لي�س تع�صبا مني لكن
� zأعمالك نرى بها – ب�شكل وا�ضح -ك�رس امل�ألوف عن قلة حيلة (!) ففي الغرب يوجد كتاّب قدموا
والتابوهات ..فكيف كنت ترى تلك التابوهات ؟ من ال�رشقني االق�صى واالدين يكتبون يف الأغلب
yyلعلها الربوت�ستنتية اي�ضا التي ت�أ�س�ست على بلغة الدولة الغربية التي ا�ستوطنوا فيها ..لكني
ك�رس ال��ت��اب��وه��ات :فهي «اه��ان��ت «البابوية مل ا�ستطع ذلك وحقيقة مل اهتم كثريا بذلك اي�ضا..
والفاتيكان ..وبالتايل الطقو�س والتابوهات لأين اكتب ا�سا�سا لال�ستمتاع باجناز �شيء ما لأين
التي تعترب «البابا» خليفة امل�سيح على االر�ض.. كنت �أعاين دائما من االح�سا�س بعدم االكتمال
157 نزوى العدد - 75يوليو 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
الهوية امل�سيحية امل�رصية «املهاجرة» مثل تنكر الربوت�ستنتية �شفاعة القدي�سني وبالتايل ال
�سنوحي ..وقد ب��د�أت هجراتي (ب�صيغة اجلمع) ت�أبه لاليقونات ..لي�ست بها رهبنة وال �أديرة وال
مبكرا ..هجرت طبقتي اىل التنظيم املارك�سي عزلة عن العامل ..الخ
،وهجرت الكني�سة كم�ؤ�س�سة دينية وتقبلتها ولعلها اي�ضا فكرتي اخلا�صة عن الكتابة بان
كتيار ثقايف متحرك ،هجرت ال�سودان اىل م�رص اكتب ما هو لي�س م�ألوفا حتى تتميز كتاباتي
وهجرت م�رص اىل الغرب واىل ال��ع��امل ..ومن عن غريها..
هنا فقد كان اهتمامي هو البحث عن «الهوية» لقد ب��د�أت الكتابة مع اق��راين ال�ستينيني ..لكني
وعالقتها باملكان (اي ال��وط��ن) ث��م عالقتها توقفت اكرث من ع�رش �سنوات من ال�سبعينيات
بالدين (ال��ي��ه��ودي��ة وامل��واط��ن��ة) ث��م عالقتها مزاج حتى الثمانينات لفقدان الثقة يف
بال�رصاع العرقي ال��ذي قد يكون وا�ضحا بال ما اري��د كتابته وه��ل هو ��ضروري
التما�سيح
اقنعة مثلما كان يف جنوب افريقيا قبل حتررها ومفيد؟ واكتفيت بالقراءات وال�سفر
من �سيطرة «العرق الأبي�ض» او متخفيا خلف كانت و�ستظل و�ساعدتني معرفتي باالجنليزية ان
اقنعة القومية واقنعة الوطنية واقنعة الدينية.. «عن �صراع اقر أ� اعماال غربية عظيمة والتينية
لكن مزاج التما�سيح كانت و�ستظل «عن �رصاع الهويات» مرتجمة ..كما ان رحيلي وترحايل
الهويات» يف م�رص :م�سيحية وا�سالمية ..وقد يف م�صر :اف�����اداين ك��ث�يرا ب��ع��دم االح�����س��ا���س
ن�رشتها يف اواخر الت�سعينيات� ..ساعتها �س�ألني م�سيحية باالرتباط مبكان معني او ا�شخا�ص
ك��ت�اّب ا�صدقاء م��ن م�رص» ه��ل تتوقع حربا معينني وال ح��ت��ى اي��دي��ول��وج��ي��ة
وا�سالمية...
اهلية؟ «فقلت اين اتوقع �رصاعا ال ي�صل اىل حم���ددة فا�ضفت اىل املارك�سية
بينما بي�ضة
مرحلة احلرب الأهلية ،مثل احلروب الدينية – ا�شياء ان�سانية اكرث مما بها ونزعت
الأهلية يف لبنان او افريقيا ويوغ�سالفيا �سابقا النعامة كانت منها «ديكتاتورية لربوليتاريا»(!)
،او حتى ايرلندا ..لي�ست حربا باملعنى التقليدي هي البحث وا���ض��ف��ت اىل «ث��ق��اف��ت��ي الدينية»
لكنها «حافة هاوية» كما كان وزير اخلارجية عن الهوية ثقافات اخ���رى ..اي اع��دت ت�شكيل
االمريكي اال�سبق يقول عن الو�ضع النووي بني اع���دت خلقي من ُ امل�سيحية روح���ي ونف�سي
امريكا واالحتاد ال�سوفييتي . �شعرت ان ا�شياء ُ امل�صرية جديد ..وبالتايل
ا�صبح االم��ر االن اك�ثر تعقيدا وخ��ط��ورة بعد مثل تابوهات وتقاليد و�سيا�سة
«املهاجرة»
ا�ستيالء التيارات الدينية اال�سالمية بانواعها و�سيا�سيني ..الخ ال ت�ستحق احرتاما
على مقاليد ال��دول��ة امل����صري��ة ،جن��د ان هذه مثل �سنوحي وتقدي�سا مني يف الكتابة (طاملا ال
التيارات متثل متاهيا مع اليمني ال�سيا�سي– ي�سبب ذلك ازعاجا دينيا الخرين).
الديني يف الغرب ..وهي تيارات ميينية �سيا�سية zمزاج التما�سيح والبحث عن الهوية القبطية ..ونحن
لها خربات �سابقة والحقة يف احلكم وال�سيا�سة الآن بـ 2013وفى ظل حكم الإخوان امل�سلمني كيف
وت�ستوىل على احلكم ابان االزمات االقت�صادية ترى تلك الهوية؟
(مثلما يحدث الآن يف اوروب��ا وا�سرتاليا عدا yyاعتقد ان بي�ضة النعامة كانت هي البحث عن
158 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
�سوف يف�رس لك حالة �شتاء ال�سخط التي نعي�شها اثتثناءات قليلة مثل فرن�سا)..
من املحيط اىل اخلليج ..وبدون الدخول يف نظرية zماذا عن كتابك حوارات مع ن�رص حامد �أبو زيد
امل�ؤامرة اي «نعيب زماننا والعيب فينا» ف�إن الذى �سي�صدر بهولندا؟
ما حدث ويحدث الآن هو نتاج طبيعي لتواجد
yyالكتاب مل ي�صدر يف هولندا الختاليف مع
ثقافة �شائهة ،ومري�ضة ت�أ�س�ست على قرون من
املرتجم وال��ن��ا��شر ..و�صدر يف طبعته االوىل
القهر واملداهنة والتماهي مع ال�سجان :تعلن ان
يف املغرب منذ �سنوات و�صدر عام 2012يف
ال�رضب يف امليت حرام وان كان لك عند الكلب
م�رص عن دار الثقافة اجلديدة ،وهو كتاب جديل،
حاجة قول له يا�سيدي ..الخ
وقد ا�ضفت اليه الهوام�ش بعد �صعود اال�سالم
ت���أم��ل االجن�����ازات امل��ع��م��اري��ة يف االن��دل�����س
ال�سيا�سي يف تون�س وم�رص اىل احلكم ،وقد نفدت
اال�سالمية – مثال -انها اجن��ازات تعتمد على
الطبعتان املغربية وامل�رصية
مبد�أ فل�سفي ومعماري هام وهو اكت�شاف ثيمة
زخرفية ومعمارية ال تتنافى مع روح الإ�سالم zالروائي ر�ؤوف م�سعد كيف ترى الو�ضع الثقايف
الذي يرف�ض الت�صاوير والتماثيل ف�أ�س�سوا ثقافة الراهن؟
فن «التكرار» فيتحول احلرف من «م��ادة» اىل � yyصعب تقييمه النه يف حالة خما�ض ع�سري
فكرة ..ثم «فكرة جمردة» حتى و�صلوا اىل الكمال ووالدة ا�صعب و�سيبقى هكذا لفرتة طويلة..
كما يف ق�رص احلمراء مثال.. خ��ا���ص��ة ن��ح��ن يف ع����صر الفي�سبوك وثقافة
مل اقر�أ – حتى الآن – عمال ابداعيا – يف م�ستوى الفي�سبوك املتعجلة وتويرت التي تعتمد على
ال��ث��ورة ..ميكن الآن ال��وق��ت ال ي��زال مبكرا؟.. التغريدات الق�صرية ..م�رص كلها وال�رشق االو�سط
االمريكون كتبوا عن فيتنام واحل��رب الكثري ، يف خم��ا���ض ع�سري �سيا�سي وطبقي وديني
لكن ب�ضعة روايات وافالم قليلة هي التي حازت وطائفي ،وهذا ي�ؤثر بدون �شك �سلبا على الثقافة
اهتماما عاما ..لأن «وقت» الكتابة هو غري وقت ب�شكل اكرب من االيجابيات
الفعل (الثورة او احل��رب) انا اطلق عليه «اوان zم�رص ما زالت يف مرحلة الربيع العربي �أم دخلت
الكتابة» مثل اوان ال��زرع واون احل�صاد ..لعل اخلريف الإ�سالمى الدائم؟
اوان الكتابة عندي عن الثورة ا�رسع من غريي
ال�سباب �شخ�صية مثال.. .. الروائي الكبري ر�ؤوف م�سعد هل تابعت ما كتب
لعله لإح�سا�سي بتقدمي يف العمر ولعلها رغبتي �إبداعيا عن الثورة امل�رصية �أو الربيع العربي عامة؟
يف «اجناز» �شيء ما عن الثورة قبل الوفاة ؟! وهل �أنت مع الكتابة الإبداعية عن الثورات الآن؟
او لتواجد «خمزون» من خربات �سيا�سية وكتابية yyلي�س ربيعا ولي�س خريفا لكنه «�شتاء �سخطنا»
�آن له الآوان ان يظهر ؟! كما قال �شتانبيك يف روايته اال�شهر «عناقيد
وباملنا�سبة فانا �شخ�ص غري متوا�ضع فيما الغ�ضب» عن �رصاع الأخوين..
يخ�ص �أعمايل !! هذا يرجعنا ،مرة اخرى اىل «الثقافة العربية»
التي حتجرت بعد اغ�لاق ب��اب االجتهاد وهذا
160
�أيام ال�شارقة امل�سرحية
م�سرحيات تناق�ش ق�ضايا احلياة املعا�صرة
و�إ�شكالياتها االجتماعية وال�سيا�سية
عزة الق�صابي
ناقدة م�رسحية من ُعمان
والعرو�ض الع�رشة التي قدمت يف �شهدت �أيام ال�شارقة امل�رسحية خالل الدورة
امل�سابقة الر�سمية هي :م�رسحية «(�شهيد الثالثة والع�رشين التي اقيمت م�ؤخرا تقدمي
التني) مل�رسح دبي ال�شعبي ،وم�رسحية ع�رشة عرو�ض م�رسحية �ضمن امل�سابقة
(رابرت) مل�رسح خورفكان ،وم�رسحية (زيت الر�سمية مل�سارح االمارات ,كما قدمت اربعة
وورق) مل�رسح حتا ،وم�رسحية (الرتيال)
عرو�ض م�رسحية خارج تلك امل�سابقة.
مل�رسح عجمان ،وم�رسحية (�سيد القبو)
مل�رسح بني يا�س ،وم�رسحية (م�ساء الورد)
اجلدير ذكره ان هذه الفعالية امل�رسحية
مل�رسح دبي الأهلي ،وم�رسحية (طوفان) الهامة يف مو�سمها احلايل قد قدم فيها عر�ض
مل�رسح الفجرية ،وم�رسحية (نهارات م�رسحية «الدكتاتور» وهي من امل�رسحيات
علول) وم�رسحية (خلطة ورطة) مل�رسح البارزة يف امل�رسح العربي حاليا .هذه
ام القيوين ،وم�رسحية (�أنت ل�ست كارا) امل�رسحية من ت�أليف ع�صام حمفوظ وقد
مل�رسح ال�شارقة. قدمتها اخراجا اللبنانية لينا ابي�ض.
كما ان العرو�ض الق�صرية التي قدمت اقرتب عر�ض م�رسحية «الدكتاتور» من
خارج امل�سابقة الر�سمية �شملت كال من امل�رسح اجلروتف�سكي� ،إال �أنه مل يتخل عن
ن�صم�رسحية (م�شاجرة رباعية) عن ٍ املكياج امل�رسحي ،والذي �ساعد املمثلتني
عاملي للم�ؤلف امل�رسحي يوجني يون�سكو, على تقم�ص �أدوارهما� ,إ�ضافة �إىل التعوي�ض
وهو ن�ص عبثي الطابع وامل�ضمون ..ولقد
عن تفا�صيل «ال�سينوغرافيا» التي يفرت�ض
أدوارا �صامت ًة
كانت ال�شخ�صيات ت�ؤدي � ً
(الباتوميم) ..ولكنه مل يلبث �أن يهجرها, �أن متلأ املكان .ولكن غابت م�ساحات ال�صمت،
حيث فتح املخرج احلديث ..وهناك عبثية و�سائد احلوار ال�رسدي ..ويفرت�ض من املخرجة
وا�ضحة يف الطرح مع الظالل الكوميدية «الأبي�ض» �أن تقل�ص من م�ساحات احلوار
التي �سادت يف العمل . ال�رسدي ,وا�ستبداله بالأداء اال�ستعرا�ضي
�أما العر�ض امل�رسحي الق�صري الثاين والتعبريي .
161
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
قب�ضته على جلام �صهوة جواده امل�رسحي ,حيث هو م�رسحية (امل�شهد الأخري من امل�أ�ساة )..والذي
ا�ستطاع �أن يقدم عر�ضا م�رسحيا م�ؤثرا من خالل اعتمد على حركة املمثلني واال�ستعرا�ض احلركي
ق�صة مربوك ال�ساخرة ملفهوم ال�شهادة يف ع�رصنا التعبريي ..فيما خال امل�رسح من �أي قطع ديكور..
احلايل .ولقد �أ�صبحنا يف ع�رصنا مثال نتابع عرب الأزياء وكنبة جللو�س املمثلتني ووجود �شخ�صية
و�سائل الإعالم واالت�صال الأخرىقيام انتحاري ثالثة تتحكم بها..
بتفجري نف�سه بحجة « اال�ست�شهاد يف �سبيل اهلل, وثالث هذه العرو�ض م�رسحية (ندب ال�سموم) وهو
نتيجة غ�سل الدماغ من اجلماعات الإرهابية!. ..ومما ن�ص للكاتب ال�شاب حممد ال�شلبي ،بينما قالب
يولد احلرية يف نفو�س النا�س ،بغية معرفة ما �إذا الأحداث مبني على �أ�سا�س ال�رصاع بني اخلري
كان الفعل هو املعنى احلقيقي لل�شهادة ..؟! بالرغم وال�رش الذي يتمثل يف الغرباء .و�آخر هذه الأعمال
من الظالل الفل�سفية التي طغت على املو�ضوع� ،إال امل�رسحية الق�صرية (ممثل خمرج خ�شبة) .
�أن املخرج اخت�رص الكثري من التفا�صيل التي حولها
قراءة ب�صرية
�إىل �سينوغرافيا جمالية� ،شملت الف�ضاء امل�رسحي,
�أوال :عر�ض م�سرحية «�شهيد التني»
كما ا�ستطاع �صنع ب�ؤر للحراك ال�شعبي ,الراق�ص..
لفرقة م�سرح دبي ال�شعبي
بحيث ميكن الإظالم ال�رسيع للف�ضاء امل�رسحي() 3
واالنتقال من لوحة �إىل �أخرى دون �أن ي�شعر امل�شاهد تزامنا مع ثورة الربيع العربي وما دار يف رحمها
بامللل! من �رصاع بني التيارات والأحزاب املختلفة ،ولدت
لقد ا�ستطاع املخرج االمارتي حممد �سعيد �أن ينفذ م�رسحية (�شهيد التني) للم�ؤلف عبداهلل �صالح,
�إىل عامل الكوميديا ال�سوداء ,التي نقلت �إىل العر�ض واملخرج حممد �سعيد ،وهي م�رسحية م�ستوحاة
عن رواية عزيز ن�سني ،لي�صنع امل�ؤلف منهاعر�ضا من رواية (�أنت ل�ست غارا) للكاتب الرتكي عزيز
فرجويا �شعبيا ،يقرتب من امل�رسح ال�شعبي ،الذي ن�سني ،واملتابع للأحداث يجد هناك جدة يف طرح
يعترب قريبا من وجدان اجلماعة ،يف ما�ضيها املو�ضوع من خالل الرتكيز على الفكرة الرئي�سية� ،أال
وحا�رضها ،بحيث ي�شمل كافة مالمح احلياة وهي( :اال�ست�شهاد) الذي حتدثت الديانات ال�سماوية
من نظم �سيا�سية وموروثات اجتماعية وثقافية عنه ،والتي �أ�شارت �إىل �أن جزاء ال�شهيد اجلنة ،فيما
و�أخالقية ،وتقاليد وعقائد و�شعائر ،وكل تراكمات �أ�رص م�ؤلف ن�ص م�رسحية (�شهيد التني) �أن يكون
التجربة احلياتية الكامنة يف الالوعي اجلمعي على جزاء (مربوك) هو متاع الدنيا !
�شكل �أ�ساطري وحواديت ورموز( .)4وي�ؤكد ع�صام ومنذ ظهور امل�شهد اال�ستهاليل الغنائي مب�صاحبة
�أبو العال �إن فنون الفرجة ال�شعبية العربية ،حتمل عزف الفرقة ال�رشقية ،والتي غر�ست يف عمق
مقومات الفن امل�رسحي ،و�إنها لي�ست (ظاهرة) امل�رسح ،عازفة الأحلان ال�رشقية اال�صيله يف عمق
كما يود �أن يطلق عليها بع�ض الدار�سني ،فعرو�ض امل�رسح ،بينما كان هناك (كور�س) ي�ؤدي رق�صات
الفرجة امل�رسحية ال�شعبية العربية ،قد قامت �رسيعة للتعليق على الأحداث وت�صعيد احلدث
ونه�ضت وامتدت يف الزمان واملكان� ،ش�أنها يف الدرامي .لذا كانت مبثابة �شاهد عيان على مو�ضوع
ذلك �ش�أن امل�رسح اليوناين القدمي� ,أو �ش�أن م�رسح ال�شهادة كما وردت يف الن�ص« :ال�شهادة ما�شي
(النوه) يف القرن اخلام�س ع�رش امليالدي حتى الآن, �أح�سن عنها �إذا الكل �شارك فيها بحب ..ال�شهادة البد
وتعترب هذه االختالفات والتنوع يف �أ�شكال و�أنوع �أن تكون �صادقة لوجه اهلل من ني�شان نعلقه على
امل�سارح ,من املهام القومية للم�رسح و�أ�سا�س �صدورنا نتغنى به»(.)2
طابعه املحلي(.)5 وبذلك ا�ستطاع امل�ؤلف (عبداهلل �صالح) �أن يحكم
162 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
ب�رصية قائمة على اال�ستعرا�ض ،والأداء التمثيلي، ويطرح عر�ض م�رسحية (�شهيد التني) بجر�أة غري
والتم�رسح (امل�رسح داخل امل�رسح)( ..)7ويكون ذلك م�سبوقة مو�ضوع «اال�ست�شهاد» ,التي ي�صعب القطع
عندما يتحدث الأب (رجب) عن ن�ش�أة ابنه (مربوك) يف م�صداقيته خ�صو�صا يف ع�رصنا احلايل ،حيث
ال�شهيد ،ودعم احلكومة له ،حيث تتحرك الإ�ضاءة بدا مو�ضوع ال�شهادة يف ع�رصنا احلايل �ضبابيا
لتفتح ر�ؤية م�شهديه على اجلانب الآخر ،يظهر الأب -كما �أ�رشنا �سلفا -خا�صة لتزامن مثل هذا الطرح
وهو يتحدث �إىل ال�صحافة ،بكل فخر واعتزاز ..ثم ال مع ما يدور يف واقعنا العربي من حتوالت وتغريات
تلبث الإ�ضاءة �أن تعود �إىل حيث الأب مرة ،وتظلم متر بهاالأمة العربية والإ�سالمية ,بينما ال تزال
منطقة احلدث امل�رسحي الآخر .وبذلك تكون الإ�ضاءة تدور رحاها يف الكثري من الدول االخرى .
�ساعدت على �رسعة التنقل بني م�ساحات الظالم ومن ناحية �أخرى ،ركز املخرج حممد �سعيد على
والنور ..مع الرتكيز على املمثلني وهماينتقالن الر�ؤية اجلمالية للعر�ض ،والتي امتزجت بروح
عرب خ�شبة امل�رسح ..وخا�صة يف املواقف احل�سا�سة الدعابة واملرح مع قتامةواقع ال�شخ�صيات ! ..والذي
وامل�ؤثرة ..مثل متجيد حلظة اال�ست�شهاد يف نف�س �ساعد على ذلك امتزاجها بامل�ؤثرات املو�سيقية
االبن ..الرجوع �إىل املا�ضي ،عندما يتحدث الأب عن التي كانت تعزفها الفرقة يف عمق امل�رسح ,والتي
كيفية�شحذ همة ابنه وجعله ي�ستعد لال�ست�شهاد.. التحمت مع الأزياء ال�رشقية التي تن�صلت من
وهكذا تباينت مناطق الفرجة امل�رسحية ح�سب تبعيتها الثقافية لدولة بعينها ،والتي كانت ت�رص
(احلكاية) ،لذا خال العر�ض من ال�رصاع التقليدي على �أن ما يقدم على خ�شبة امل�رسح ،ما هو �إال
بني ال�شخ�صيات ،و�سعى �إىل التوغل يف ذواتها، تراكمات للإرث الإ�سالمي الثقايف املغلوط! ..والذي
كونه �رصاعا تعي�شه ال�شخ�صيات ،فهو �رصاع يف �أحيان كثرية يكون حمفوفا بعناية ال�سلطة,
داخلي ،ن�شاهد (مربوك) يرتحم على ذاته ومعه وهي ت�سعى �إىل ت�سيي�س الدين من �أجل �أهداف
والداته ،قبل �أن ي�صبح �شهيدا ..ويف الوقت ذاته يعي دنيوية بحتة!
معنى ال�شهادة! ولقد تكونت امل�رسحية من ف�صلني وعدد من امل�شاهد
وحفل عر�ض ال�شهيد بعدد من ال�شخ�صيات ,حيث جتاوز االثني ع�رشة م�شهدا ،وجميع امل�شاهد حاولت
ت�ضمنت امل�رسحية �سبع ع�رشة �شخ�صية رئي�سية �أن ت�ضخم احلدث من خالل حتول مربوك �إىل
وثانوية ،ومن بينها رجب �أبو ال�شهيد وزمزم �أم «�شهيد» مقد�س يقوم اجلميع بخدمته ،حتى قبل �أن
ال�شهيد ,ومربوك ال�شهيد ،وبو جربان وايل القرية، ينال ال�شهادة ! ..حيث ظهر الوايل وهو يغدق الهدايا
وخربو�ش م�ساعد الوايل ،و�سلمان �صديق من والعطايا على �أ�رسته! ..وعندما التقى والد مربوك
كبري التجار ،و«بو وفاء» جار ال�شهيد .ولقد قام (رجب) بو�سائل الإعالم� ,رصح لل�صحافة ب�أن
خمرج العر�ض باخت�صار امل�شاهد الطويلة يف الوايل(ال�سلطة) كان لها الف�ضل الكبري يف االهتمام
الن�ص ،وا�ستطاع العمل العزف على اوتار ف�صول بابنه ،للو�صول �إىل مرحلة ال�شهادة !
حياة (مربوك) الذي كان �ضحية الأب واملجتمع وبذلك تكون هذه امل�رسحية قد ج�سدت رحلة
واملبالغة يف معنى ال�شهادة و�صوال �إىل ال�سلطة (مربوك) يف التحول من �إن�سان عادي يف حي التني
واجلاه واملال.. �إىل بطل و�شهيد يف نف�س الوقت! ..والذي �ساعد على
كما قام العر�ض امل�رسحي بتوظيف الرتاث ال�شعبي ذلك �إ�رصار والده على نيل ال�شهادة« :رجب :مربوك
يف العرو�ض امل�رسحية احلديثة ،مع احلر�ص على الزم يبقى يف عني الكل �شهيد التني هالقرية اللي
ت�شذيبه بظالل الواقع املعا�رص ،والذي حمل الكثري ما خلفت غري ولدي مربوك ..ال�شهيد اللي الكل
من الر�سائل والإ�سقاطات ال�سيا�سية والدينية، بيتذكره»( ...)6وهكذا قادنا هذا العر�ض �إىل فرجة
163 نزوى العدد - 75يوليو 2013
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
غري عربية ،يق�صد بها الدراجة النارية .ويف هذا مع تو�ضيح العالقة بني ال�سلطة وو�سائل الإعالم
العر�ض ظهر �صبي(عمر) يتيم الأبوين يقود دراجته احلديث ،ودرا�سة مالحظة ما تفعله و�سائل الإعالم
(رابرت) يف الرب (ال�صحراء) ,وت�صادف ذلك مع توقف من ت�ضخيم احلدث ,وحتويله �إىل حدث ا�ستثنائي،
�سيارة زوجني يف منت�صف الطريق تقري ًبا ,وما يتم ايدجلته ليتوافق مع الواقع .كما ميكن مالحظة
ان ر�آهم الفتى حتى توقف لتقدمي امل�ساعدة ليبد�أ ذلك من خالل ت�شذيب العر�ض ببع�ض الكلمات
العر�ض امل�رسحي . احلديثة مثل « :القذيفة ..جي ا�س « وال�صاروخ طويل
ورغم ب�ساطة الفكرة التي �أ�س�س امل�ؤلف (عبداهلل زيد) املدى ..وخا�صة عندما يدعو الأب �إىل �أن ت�صيب
عليها عر�ضه امل�رسحي� ،إال �أنه ا�ستطاع �أن ي�شحنه والده مربوك قذيفة ,لينال ال�شهادة ..؟!
بالكثري من التفا�صيل والق�ضايا التي ت�شغل بال وعلى الرغم من �أن العر�ض نقلنا �إىل ق�ضية
الأ�رسة الإماراتية ،ب�شكل خا�ص والعربية ب�شكل فل�سفية وجودية ،ي�صعب التعر�ض لها يف التاريخ
عام ،حيث حتدث عن تربية الأبناء ،واليتم ،والعقم.. الإ�سالمي ،على اعتبار �أنها من التابوهات املحرمة
اخلالفات الزوجية ،وتدخل املجتمع وت�أثريه على (ال�سيا�سة ،الدين ،اجلن�س)� ،إال �أنه ف�شل يف �صنع
احلياة ال�شخ�صية للأفراد ..وغريها من الق�ضايا �شخ�صيات تنمو وتتطور مع احلدث امل�رسحي،
التي انبلجت من واقع الن�ص االجتماعي املعا�رص. فكل ما ن�شاهده عبارة عن �شخ�صيات اقتب�ست من
ويلم�س املتفرج ب�ساطة الطرح ملو�ضوع هذه الرواية احلقيقية ،فيما حركها املخرج بالتعاون مع
امل�رسحية ،مع ت�رشبها مبالمح املدر�سة الطبيعية()8 امل�ؤلف بغية ت�ضخيم فعل ال�شهادة .كما ي�ؤخذ على
التي �سادت العر�ض امل�رسحي ،ابتداء من امل�ضمون العر�ض النهاية املتوقعة ،بعودة ال�شهيد (مربوك)
وانتهاء بال�شكل ،حيث حر�ص امل�ؤلف واملخرج على حيا ،وعلى الرغم من ذلك فوالده ينفي �أنه ال يزال
�أن تقود �شخ�صياته الثالث العمل برمته ،وت�أجيج على قيد احلياة ..!..مما يك�شف مدى �ضعف �شخ�صية
ال�رصاع بينهم ،وهو �رصاع ظاهر نتاج تك�شف (ال�شهيد) وعدم مقدرته على التغلغل يف عمق الفعل
ال�شخ�صيات ال�رسيع ،حيث قام الزوجان ب�إلقاء امل�رسحي ،فقد بدت �شخ�صيته ثانوية� ،ضعيفة،
التهم على الآخر ،الناجتة عن تراكمات الزمن، بالتايل كان �رصاعه مع ذاته وا�ضحا� ،أكرث من
مثال ق�ضية العقم ,فعلى الرغم من م�ضي �أكرث من �رصاعه مع والده واملجتمع يف حي التني.
ثالثني عاما ،وتفهم كال الطرفني لهذا املو�ضوع ولقد متاهى الديكور للعر�ض امل�رسحي مع بقية
على انه ق�ضاء وقدر� ،إال �أن الزوج بد�أ يكيل التهم مفردات ال�سينوغرافيا ،فظهر العمل كوحدة فنية
على زوجته ،ويتهمها ب�أنها ال�سبب يف ذلك ،ولو �أنه بحثت عن فرجة فنية ،ت�شكلت يف االنتقال الفرجوي
تزوج ببنت اجلريان لأ�صبح لديه �أوالد ..فيما تلقي من لوحة �إىل �أخرى ،مع الأحلان ال�شعبية ،وم�ضمونه
الزوجة بالتهم على الزوج ,كونه يعاين من عجز عن الذي حتدث عن ق�ضية ي�صعب القطع فيها ،على
التوا�صل معها ! الرغم من التعر�ض لها كدراما �سابقا !
كما تك�شفت مالمح �شخ�صية الطفل الذي يقود
(الرابرت) طفل يتيم ,وحيد .وهو ال يرتدد يف ثانيا :عر�ض م�سرحية «رابرت» لفرقة خورفكان
م�شاك�سة (مرزوق) ,الذي يرف�ض �آراء الطفل الذي ال �شك� ،أن حماولة عك�س الواقع املحلي بكل
كان ي�شاك�سه بكل براءة وعفوية ..ويف حني تتحرك تفا�صيله ،وم�شاك�سة ق�ضاياه املعا�رصة كان
م�شاعر الزوجة نحو الطفل (عمر) -الذي قام بدوره هم العر�ض امل�رسحي (رابرت) الذي هو من ت�أليف
عبداهلل نبيل – ،كونه يعاين عدد من الأمرا�ض و�إخراج الفنان االماراتي عبداهلل زيد ،والذي حر�ص
الأخرى. ..وقد �شارف على املوت ،مما جعل العر�ض على �أن يكون (رابرت) عنوا ًنا مل�رسحيته ،وهي كلمة
164 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
s
ر�سالة العر�ض يف التوا�صل مع القاعة ،ولقد �أ�شار حتى يتمكن من اال�ستيالء على املال .وتزداد حدة
(بيرت بروك) �إىل ال�ضجر الناجم عن مثل هذه احلالة, ال�رصاع حتى لت�صل �إىل زوجة �شاهني وابنة �أخيه
حيث قال« :عندما ن�صل �إىل اجلمهور احلقيقي ،ف�إن زيد ،حيث كانت الأخرية تعاين حالة نف�سية جعلتها
املقيا�س الكبري ،هو م�ستوى ال�صمت الذي ن�ش�أ يف ت�رصخ من القهر والظلم االجتماعي من زوجها ..
�صفوف جمموعة �أ�شخا�ص منتبهني ..و�إذا ظهر وتطور الأحداث لت�صل لذروتها عندما يقوم �شاهني
ال�ضجر ف�إنه تكون هناك �ضو�ضاء و�سيقف �أحد برفع �أ�سعار الب�ضائع ،كما يتمادى ب�رضب �أخيه
اال�شخا�ص و�آخر يهم�س ،و�أخريا ،يقع الأ�سو�أ ،منهاج زيد ملطالبته بتعوي�ض نتيجة حرق الب�ضاعة يف
العر�ض»(.)13 املخازن .
ومن ناحية �أخرى ،ال بد من التنويه ب�أن الإ�ضاءة واملتابع للعر�ض امل�رسحي يجد �أن هناك دوائر
دورا يف الرتكيز على املواقف الدرامية لعبت ً حلقية للحدث ،ت�صل �إىل ذروة ال�رصاع الدرامي،
التي ت�شكل نقطة حتول يف حياة ال�شخ�صيات، وهي قوالب جاهزة متاثلت مع منطية ال�شخ�صيات،
وعموديا يف الف�ضاء
ًّ أفقيا
وكان امتداد خطوطها � ًّ وميكن �أن جندها يف �شخ�صية :النوخذة �سيف
امل�رسحي ،كما �ساعدت على الرتكيز على حلظات والنوخذة زيد ,و�شاهني ..وامل�سكونني باالنتقام لهم
االحتقان الدرامي امللتهب بني النوخذة و�أخيه . والعنف وحب ال�سيطرة ..كما �أن هناك ال�شخ�صيات
ويفرت�ض �أن يحقق املمثل امل�رسحي الوحدة الفنية, التي متثل اخلري ،مثل زوجة �شاهني ..بينما بقية
حيث من ال�سمات التي ينفرد بها التمثيل امل�رسحي، ال�شخ�صيات بدت مقهورة ومظلومة كالأهبل (بروك)
�أن املمثل ال ينفرد وحده ب�إنتاج العملية الفنية, الذي يقوم بخدمة الآخرين ،والذي يت�رصف بتلقائية
ذلك �أنها عملية متكاملة ،وي�شرتك فيها �أكرث من وعفوية ,تتقارب مع �شخ�صية املهرج يف م�رسحيات
عن�رص �أو جهة ت�سبق املمثل �أو تلحق به ،فثمة – �شك�سبري التي تغر�س يف الأحداث للتخفيف من حدة
مثال -امل�ؤلف واملخرج �أو امللحن يف الأوبرا �أو امل�أ�ساة ،مما �ساعد على �إ�ضفاءنوع من البهجة
م�صمم الأقنعة� ،إ�ضافة �إىل جمموعة الفنون التي والفرح يف نفو�س املتفرجني ,رغم قتامة الأحداث
لها عالقة مبا�رشة باجلمهور ويكون العمل الفني التي ميكن �أن حتيط بها.
بكل تفا�صيله ناجتا عنها(.)14 ولقد �صاحب الأداء التمثيلي لل�شخ�صيات نوعا من
ومن املالحظ على هذا العر�ض ب�أنه مل ي�ستغل الت�شنج وال�رصاخ ,مما جعل حواراتها متداخلة وغري
طاقات املمثلني و�أدواتهم احلقيقية ،الأمر لو مفهومة ،ولعل من الأمور املهمة يف �أي عر�ض
وجد كان �سيعمق طبيعة العالقة بني املمثلني م�رسحي هي التوا�صل مع املتلقي( ..)12ولقد برزت
واجلمهور ،ويربز هذا العر�ض ب�شكل �أف�ضل ،ويبتعد يف القرن الع�رشين عدد من النظريات النقدية التي
عن الت�ضخيم وال�رصاخ والأداء املفتعل يف بع�ض ارتكزت على دور املتلقي ،متذوقا كان و ناقدا يف
املواقف امل�رسحية. تناول العمل الفني املقدم ،بحيث �أن يكون قادر
ومن مالمح هذا العر�ض حر�صه على ت�أكيد على تفح�ص هذا الإبداع واال�ستمتاع به بناء على
هويته �سواء �أكان يف الف�ضاء اجلغرايف للعر�ض، خرباته ال�شخ�صية التح�صيلية ،والتي حتث على
او احلوارات ال�رسدية حيث وظف العر�ض ( اللهجة �رضورة البحث عن املعاين الداخلية ،من �أجل حتديد
املحلية) ال�سجعية ،يف حني اعترب البع�ض �أن الأبنية الكامنة فيه دون �إغفال الواقع املحيط به.
ا�ستخدامها�شكل �صعوبة يف فهم م�ضمون احلدث والبد من الإ�شارة� ,إىل �أن من �أ�سباب انخفا�ض
الرئي�سي يف العر�ض ,كون امل�شاركني بحاجة �إىل تفاعل العر�ض مع ال�صالة ,هو هبوط م�ستوى
مزيد من التدريبات على الإلقاء اخلطابي وخمارج الإيقاع الدرامي ,نتيجة ال�ضجر الناجت عن �ضعف
166 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s
s
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
168
لوي�س بونويل� /سلفادور دايل
�سيناريو الفيلم الطليعي:
كلب �أندل�سي
ترجمة :حممد عيد �إبراهيم
مرتجم وكاتب من م�رص
ين �سلفادور وقد تعاون مع الفنان الإ�سبا ّ ُيع ّد لوي�س بونويل ( 1900ب�إ�سبانيا ـ 1983
دايل يف كتابة �سيناريو فيلمه الأول «كلب باملك�سيك) �أول خمرج طليعي جتريبي
أندل�سي» (با�سم ديوان بونويل الأول) ّ � درامي �سوريايلّ .وقد �أخرج �أول �أفالمه «كلب
الذي اعتربه �سالح ًا �سوريالي ًا ل�صدمة
الطليعي .ثم الفن
أندل�سي» الذي نال به م�صداقية فنية عام ّ �
ّ البورجوازية وانتقاد ّ
تعاون مع دايل مرة �أخرية يف فيلم بعنوان .1928ودام ن�شاطه ال�سينمائي حتى وفاته
الذهبي» ،ثم هجر �صناعة ال�سينما
ّ «الع�رص قرابة ن�صف قرن ،وتركّز يف ك ّل من :موطنه
حوايل ع�رشين عاماً ،حتى انتهت احلرب الأم �إ�سبانيا ،املك�سيك ،فرن�سا� ،أمريكا.
العاملية الثانية ،ثم انتقل �إىل املك�سيك، ويعتربه نقّاد ال�سينما من �أكرب املخرجني يف
وتابع �إىل �أمريكا ،ف�أنتج كوميديات جمال ال�سينما بالعامل حيث تعاملت �أوىل
جتارية كان يعي�ش عليها يف �أواخر �أيامه.
جتاربه ال�سينمائية مع الأحالم واجلنون يف
املن�سي،
ّ من �أهم �أفالمه� :أر�ض بال خبز،
هذه العاطفة الغريبة� ،سوزان ،ال�صعود حياة الإن�سان.
�إىل الزنزانة� ،أ�سفار وهمية بال�سيارة، � ّأ�س�س ال�سينما ال�سوريالية ،وهو �أ�ستاذ
النهر واملوت ،يوميات خادمة� ،سمعان ال�سينما ال�صامتة وامل�سموعة ،والت�سجيلية
ال�صحراوي ،تري�ستانا� ،شبح احلرية ،غاية
ّ والروائية ،لكن �أفالمه مل تكن كلها
الرغبة الغام�ضة. �سوريالية ،بل كان بع�ضها درامي ًا واقعي ًا
�أما �سلفادور دايل ( 1904ـ )1989ف ُيع ّد �أو متثل الواقعية اجلديدة .وتتمثّل �أهدافه
من كبار الر�سامني ال�سورياليني ،وهو
ظاهرة يف ح ّد ذاته �أكرب �أحيان ًا من قيمته
يف :ال�سخرية من الثقافة البورجوازية
كفنان ،فقد �سعى للكالم عن نف�سه على واال�شرتاكية والفا�شية والكني�سة ،حيث قال
مير بها ،كان �آخرها قبل وفاته: مراحل ّ الديني وال�سوريالية
ّ مرة «لقد م ّيز التعليم
ومر دايل بع ّدة مدار�س يف دايل املق ّد�سّ . �أهم معامل حياتي».
169
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
املو�سى عني امر�أة �شابة. حياته الفنية :التكعيبية ،امل�ستقبلية ،امليتافيزيقية،
نهاية املفتتح. ال�سوريالية ،وملهارته يف الدعاية الذاتية� ،صار
�أ�شهر ممثلي احلركة الأخرية على الإطالق (ظهر
بعد ثماين �سنوات
ب�أول معار�ضه يف لبا�س الغط�س)� .سافر من �إ�سبانيا
�شارع مقفر .والدنيا متطر. �إىل فرن�سا ،ثم �إيطاليا ،ثم �أمريكا ،وعاد � 1955إىل
يبدو رجل مرتدي ًا بدلة رمادية داكنة وهو يركب فرن�سا وظ ّل بها حتى وفاته.
مزينة بك�شك�شة دراجة .ر�أ�سه وظهره ومنطقة العانة ّ �أن�ش�أ دايل نظرية «البارانويا النقدية» ،حيث ينادي
من ك ّتان �أبي�ض .علبة م�ستطيلة ب�رشائط �سوداء احلقيقي بينما ينمي املرء نوع ًا من الفِ�صام ب�أن ّ
ّ
وبي�ضاء مائلة مربوطة �إىل �صدره بحزام .يب ّدل يحتفظ بعقله من�ضبط ًا يف م� ّؤخر ر�أ�سه ،وقال
الرجل قدميه ب�صورة �آلية من دون �أن مي�سك مِ ْقو َدي والفن ،بل ويف ّ ب�إمكان ممار�سة هذا يف ال�شعر
الدراجة ،بينما ترتاح يداه على ُركبتيه. احلياة اليومية �أي�ضاً .وكان يوظّ ف يف فنه بع�ض
ُيرى ال�شخ�ص من الوراء مائ ًال على فخذيه بلقطة الواقعي الذي التقنيات ،بالإ�ضافة �إىل ُبعد احللم غري
ّ
متو�سطة ،يركب بطوله ناز ًال ال�شارع وهو يقود ّ يخلّق �شخ�صيات لوحاته الغريبة ،قائ ًال «هي �صور
الدراجة ،بظهره �إىل الكامريا.ّ من واقع يد الأحالم» من قبيل :الب�رش اخلارجني
يتحرك ال�شخ�ص ناحية الكامريا حتى تبدو العلبة من الأدراج ،الزرافات املحرتقة ،ال�ساعات ال�سائلة
مقربة.
املربوطة يف لقطة ّ ك�أنها من �شمع ذائب .وغري الر�سام ،كان دايل
غرفة عادية بالدور الثالث يف ال�شارع نف�سه .امر�أة وم�صمم كتب وجموهرات وديكور ّ نحات ًا وفنان حفر
رداء ب�ألوان فاقعة ،جتل�س مبنت�صف �شابة تلب�س ً م�رسحي .وكتب رواية «وجوه خفية» ،و�ساعد ّ
الغرفة منتبهة وهي تقر أ� كتاباً .يت�ش ّتت انتباهها هيت�شكوك يف �سيناريو فيلم «الدائخ».1945 ،
فج�أة عن القراءةُ .تن�صت بف�ضول ،قبل �أن حُت ّرر �سيناريوي
َ يل بونويل
كتب دايل مع املخرج ال�سوريا ّ
نف�سها من الكتاب ب�أن تلقيه نحو �أقرب �أريكة. الذهبي ،و ُيعتربان أندل�سي والع�رص فيلمني :كلب �
ّ ّ
يظ ّل الكتاب مفتوح ًا مع ن�سخة من لوحة فريمري �أوىل الأفالم ال�سوريالية يف العامل .لكنه انف�صل عن
«املطرزة» على �إحدى ال�صفحات املقلوبة لأعلى. ّ بونويل �رسيعاً ،وعا�ش ك ٌل لفنه ،ف�صار دايل �أ�شهر
تقتنع املر�أة ال�شابة الآن �أن �شيئ ًا غريب ًا يحدث: ال�شخ�صيات الفنية يف القرن ،20و�صار بونويل من
فتنه�ض ،وبن�صف دورة ت�سري بخطو �رسيع �إىل بح�س عال وخيال ّ يتميزون
كبار املخرجني الذين ّ
النافذة. غرائبي يف طريقة �صنع �أفالمه ،وكتابتها �أحياناً. ّ
ال�شخ�ص الذي ذكرناه من قبل تو ّقف يف هذه اللحظة، التجريبي الطليعي الفيلم �سيناريو ن�ص
ّ هنا ونرتجم
ّ ّ
حتت بال�شارع .بدون �أن يطرح �أدنى مقاومة ،ومن أندل�سي» ال�صادر �ضمن كتاب «خيانة ال «كلب �
ّ
بالدراجة يف م�رصف ،و�سط كومة ّ غري ك�سل ،ينزل ُتو�صف :كتابات خمتارة من لوي�س بونويل»:
من الطني.
ت�رسع املر�أة ال�شابة للنزول على ال�سالمل ،وتبدو مفتتح
م�ستاءة غا�ضبة ،ثم تخرج لل�شارع. كان يا ما كان...
مقربة لل�شخ�ص و�أطرافه مرتامية �أر�ضاً، لقطة ّ �رشفة ليالً.
بتعبري جامد ،و�ضعه �شبيه بلحظة �سقوطه. رجل يقف جنب نافذة ،ي�شحذ مو�سى .يتطلّع �إىل
تخرج ال�شابة من املنزل ،وتلقي بنف�سها على راكب ال�سماء فريى �سحاب ًة تتحرك نحو قمر بدر.
فتقبله بجنون يف فمه ،وعينيه و�أنفه. ّ الدراجة،ّ متر ال�سحابة عرب وجه القمر ،تقطع �شفرة وبينما ّ
170 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
ب�ش ّدة؛ ثم مييل ليلتقط اليد ويل ّفها يف حر�ص ي�صبح املطر �أغزر ح ّد �أنه يلطّ خ امل�شهد ال�سابق.
الدراجة.
لي�ضعها يف العلبة التي كان يحملها راكب ّ تذوب �رشائط العلبة املربوطة ب�سبب املطر .تتج ّهز
حييها بطريقة ع�سكرية ي�سلّمها للمر�أة ال�شابة ،ثم ُي ّ اليدان مبفتاح �صغري لفتح العلبة ،ونزع ربطة العنق
ريثما هي ت�شكره. امللفوفة بورق �ش ّفافُ .ي�ؤخذ يف احلُ�سبان �أن املطر
ال�رشطي العلبة ،يغلبها انفعال فوق
ّ بينما ي�سلّمها والعلبة والورق ال�ش ّفاف وربطة العنق �س ُتبدي كلّها
العادة يعزلها عن ك ّل ما حولها .ك�أنها م�أ�سورة ال�رشائط املائلة ،بقيا�ساتها املتفاوتة وحدها.
�ضمن �أ�صداء مو�سيقى دينية بعيدة؛ قد تكون الغرفة نف�سها.
مو�سيقى �سمعتها يف بواكري طفولتها. تقف املر�أة ال�شابة جنب الفرا�ش ،تتطلّع يف قطع
التفرق يف جميع
ّ ت�شبع ف�ضولهم ،يبد�أ املارةلدى ّ املالب�س تلك التي �أبالها ال�شخ�ص ـ الك�شك�شة،
االجتاهات. املن�شاة بربطة العنق ال�سوداء ال�سادة ّ العلبة ،والياقة
�سريى هذا امل�شهد ال�شخ�صان اللذان تركناهما يف ـ مو�ضوعة كلّها ك�أن �شخ�ص ًا على الفِرا�ش �أبالها.
غرفة الطابق الثالث .فرناهما بني �ألواح نافذة تقرر املر�أة ال�شابة �أخرياً التقاط الياقة ،وتنزع ربطة ّ
ال�رشفة التي ت ّت�ضح بنهاية امل�شهد املو�صوف �أعاله. العنق ال�سادة لت�ضعها حملّها مع تلك املقلّمة التي
ال�رشطي العلبة للمر�أة ال�شابة ،يظهر
ّ حني ُي�سلّم �أخرجتها تواً من العلبة .ترجعها للمح ّل نف�سه ،ثم
بال�رشفة ال�شخ�صان مغلوبني باالنفعال نف�سه ح ّد جتل�س جنب الفرا�ش بو�ضعية �شخ�ص يراقب ميت ًا
يتتبع �إيقاع تلك
الدمع �أي�ضاً .يتمايل ر�أ�ساهما كمن ّ عل.
من ٍ
(مالحظة :الفِرا�ش� ،أو بالأحرى مفر�ش ال�رسير
جمعدة قلي ًال ومته ّدلة ك�أن ج�سم ًا ب�رشي ًا
واملخ ّدةّ ،
كان راقداً هناك فعالً)
حت�س املر�أة �أن �أحداً يقف خلفها فت�ستدير لرتى من ّ
هو .دون �أدنى مفاج�أة ،ترى ال�شخ�ص ،وهو الآن من
غري كمالياته ال�سابقة ،لكنه يتطلّع منتبه ًا �إىل �شيء
�رس
براحته اليمنى .ويف�ضح هذا اال�ستغراق الكبري ّ
القلق الكبري.
تدنو املر�أة لرتى بدورها ما ي�ضعه يف يده .لقطة
مقربة لليد ،و�سطها زاخر بنمل يخرج مزدحم ًا من ّ
ثَقب �أ�سود.
نقرتب من َ�شعر �إبط امر�أة �شابة ت�سرتخي على الرمل
بحري ترتقرق ّ يف �شاطئ م�شم�س .نقرتب من قنفذ
�أ�شواكه طفيفاً .نقرتب من ر�أ�س املر�أة ال�شابة بلقطة
من فوق الر�أ�س قوية يف �إطار زهرة �سو�سن .تتف ّتح
زهرة ال�سو�سن لتك�شف املر�أة ال�شابة �ضمن ح�شد من
النا�س يحاولون حتطيم حاجز لل�رشطة.
مت�سك املر�أة ال�شابة ،مبنت�صف هذه الدائرة ،ع�صا،
ملونة كانت وحتاول التقاط يد مقطوعة ب�أظافر ّ
�رشطي ،ي�ؤ ّنبهاّ راقدة على الأر�ض .يقرتب منها
171 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
نرى �أمام �أعيننا على ال�شا�شة �أ�شياء عابرة :فلّني، املو�سيقى غري املح�سو�س.
�أوالً ،ثم بطيخة ،ثم �أخوين من املدار�س امل�سيحية، يتطلّع الرجل �إىل املر�أة ال�شابة ب�إمياء من يقول:
ويف النهاية بيانوين اثنني �ضخمني رائعني. «�أر�أيتِ ؟ �أمل �أخربك بهذا؟» ف ُتخف�ض ب�رصها ثاني ًة
بجث َتي حمارين متعفن َتني، البيانوان محُ ّمالن ُ نحو املر�أة ال�شابة التي يف ال�شارع وقد �صارت
ب�أرجلهما ،بذيليهما ،مب� ّؤخرتيهما ،بالرباز امل�سكوب م�سمرة �إىل البقعة ،يف
وحدها الآن متاماً ،وك�أنها ّ
مير �أحد البيانوين �أمامعلى ال�صندو َقني .بينما ّ متر العربات من حولها حالة من الكبت الكلّيّ .
عد�سات الكامرياُ ،يرى ر�أ�س حمار كبري عابراً فوق ب�رسعات خاطفة .وفج�أة ت�صدمها �إحدى هذه
املفاتيح. م�شوهة ب�شكل مرعب. العربات ف ُتخلّفها هناك ّ
وبينما ي�ش ّد الرجل هذه احلمولة ب�صعوبة بالغة، مي�ضي الرجل ،حينذاك ،بح�سم رجل يعرف حقوقه
فيتخبط بالكرا�سي
ّ ينجذب يائ�س ًا نحو املر�أة ال�شابة، جيداً� ،إىل رفيقته ،ولدى حتديقه مبا�رش ًة يف عينيها
والطاوالت وملبة ال�سقف� ،إلخ .تنح�رش م� ّؤخرة ب�شكل فا�سق ،يقب�ض على ثد َييها من ف�ستانها.
احلمار يف ك ّل �شيء .ترتطم ملبة معلّقة من ال�سقف مقربة لليدين امللت ّذ َتني فوق الثد َيني .يبدوان لقطة ّ
جمردة ،وتظ ّل تهت ّز حتى نهاية امل�شهد.ب َعظمة ّ عار َيني بينما يختفي الف�ستان .تعبري مفزع من
حني يكون الرجل على و�شك بلوغ املر�أة ال�شابة، عذاب مميت بوجه الرجل ،ثم ي�سيل لعاب م�شوب
تراوغه بنطّ ة ثم تهرب .يرتك مهاجمها احلبلَني بالدم من فمه ين ّقط فوق الثد َيني العار َيني للمر�أة
ويبد أ� مالحقتها .تفتح املر�أة ال�شابة باب ًا وتختفي ال�شابة.
يف الغرفة املجاورة ،لكن من غري ال�رسعة الكافية يختفي الثديان لي�ستحيال فخذَين يوا�صل الرجل
لأن تغلق الباب خلفها .فتم�سك يد الرجل بالر�سغ يف تفور عيناه بالغ ّل
ُ َج ّ�سهما .يتغيرّ تعبري وجهه.
املدخل ،وت�أ�رسه. وال�شهوة .فمه الذي كان مفتوح ًا على ات�ساعه ُيغلَق
املر�أة ال�شابة ،داخل الغرفة الأخرى ،ت�ضغط الباب الآن كمن َز ّمه بالع�ضلة العا�رصة.
تتوجع من �أمل
ّ ب�ش ّدة �أقوى ،وتنظر �إىل اليد التي تتحرك املر�أة ال�شابة عائد ًة ملنت�صف الغرفة ،يتبعها
بحركة ب�سيطة ،بينما يعاود النمل ظهوره حمت�شداً الرجل وهو ال يزال بالو�ضع نف�سه.
على الباب. تقوم فج�أ ًة بحركة قوية ،تقطع احت�ضانه لها،
ُتدير املر�أة ال�شابة ر�أ�سها بعيداً نحو منت�صف الغرفة فتحرر نف�سها من متهيداته الغرامية. ّ
اجلديدة ،وهي مطابقة للغرفة ال�سابقة ،وعند �إ�ضاءة غ�ضباً.
يزم الرجل فمه ُم َ ّ
النور متنح نظرة خمتلفة؛ فرتى... تدرك �أن م�شهداً عنيف ًا �أو مزعج ًا على و�شك احلدوث.
رج ًال مت ّدد على الفِرا�ش ،هو الرجل نف�سه ذا اليد ت�ستعيد احلركة ،خطو ًة بعد خطوة ،حتى تبلغ ركن
املم�سكة بالباب .يلب�س �شيئ ًا بك�شك�شة ،مع العلبة الغرفة ،حيث ت ّتخذ و�ضع ًا خلف طاولة �صغرية.
التي ترتاح على �صدره ،وال يبدي �أدنى حركة ،لكنه م ّتخذاً مالمح �رشير مبيلودراما ،يتطلّع الرجل حوله
راقد هناك ،عيناه مفتوحتان على و�سعهما ،تعبري من �أجل �شيء �أو �آخر .يرى عند قدميه طرف حبل
يف كمن يقول« :هناك �شيء فوق العادة وجهه اخلرا ّ تتلم�س يده الي�رسى �أي�ضاً، فيلتقطه بيده اليمنىّ .
على و�شك احلدوث الآن فعالً!» فتم�سك حب ًال مماثالً.
ترقب املر�أة ال�شابة يف رعب ،وهي ملت�صقة
قرب الثالثة �صباح ًا باحلائط ،حيلة مهاجمها.
ُيرى �شخ�ص جديد من الوراء على الر�صيف؛ تو ّقف يتق ّدم الأخري ناحيتها وهو ي�سحب بجهد بالغ ما
يرن جر�س ال�ش ّقة حيث
تواً جنب باب مدخل ال�ش ّقةّ . كان م ّت�ص ًال وراءه باحلبلني.
172 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
ك ّل �شيء �إىل طبيعته ،فيختفي ال�ضباب واحلركة تدور الأحداث .ال نرى اجلر�س وال املد ّقة الكهربية،
البطيئة. متر من خاللهما لكن حملّها ،فوق الباب ،ثقبان ّ
لدى و�صوله للرجل ،يقوم الوافد اجلديد بتوجيهه ترجان ك�أ�س ه ّزاز كوكتيل ف�ضياً� .أدا�ؤهما يدان ّ
كي مي ّد ذراعيه بو�ضعية ال�صليب ،وا�ضع ًا كتاب ًا يف حلظي ،كما بالأفالم العادية ،حتى ي�ضغط �أحد ِز ّر ّ
ك ّل يد ،وي�أمره �أن يظ ّل هكذا نوع ًا من العقاب. جر�س الباب.
متحم�س ًة
ّ ا�ستحالت تعبريات ال�شخ�ص املُعا َقب الآن يح ّدق الرجل الراقد بالفِرا�ش �أعاله.
وحتول
ّ حتول ليواجه الوافد اجلديد. وغ ّدار ًة .ثم ّ مت�ضي املر�أة ال�شابة فتفتح الباب.
الكتابان اللذان كان مي�سكهما �إىل غ ّدارتني. مي�ضي الوافد اجلديد مبا�رشة نحو الفِرا�ش� ،آمراً
يتطلّع فيه الوافد اجلديد بر ّقة ،وهو تعبري ي ّت�ضح الرجل بغطر�سة �أن ينه�ض .ميتثل الرجل على
�أكرث مع ك ّل حلظة عابرة. م�ض�ض حتى ُي�ضطر الآخر �أن مي�سكه من الياقة
مب�س ّد�سيه غا�صب ًا �إياه
�أما الآخر ،فيه ّدد الوافد اجلديد ُ املك�شك�شة جمرباً �إياه للوقوف على قدميه.
�أن يرفع يديه لأعلى ،غري ملتفت �إىل �إذعان الأخري، ولدى متزيقه ك�شك�شة قمي�صه واحد ًة بعد �أخرى،
مقربة ثم يطلق النار عليه من كال املُ�س ّد�سني .لقطة ّ يلقي بها الوافد اجلديد من النافذة .تتبع العلبة
متو�سطة للوافد اجلديد وهو يرمتي جريح ًا �إىل ح ّد ّ اجلولة نف�سها وكذلك ال�رشائط ،التي يحاول الرجل
تتلوى مالحمه يف عذاب ( ُي�ست�أنف غمو�ض ّ مميت، يائ�س ًا �أن ينقذها من الكارثة .وي ؤ� ّدي هذا بالوافد
ال�صورة ،ثم تبدو �سقطة الوافد اجلديد بحركة بطيئة، اجلديد �إىل معاقبة الرجل ب�أن يجعله مي�ضي فيقف
بوجهه ناحية �أحد احلوائط.
�سي�ؤ ّدي الوافد اجلديد هذا كلّه وظهره م�ستدير متام ًا
ناحية الكامريا .ي�ستدير يف هذه اللحظة للمرة
الأوىل كي يذهب ويبحث عن �شيء يف اجلانب الآخر
من الغرفة.
من �ستة ع�شر عام ًا
ي�صبح الت�صوير لدى هذه النقطة غائماً .يتحرك
الوافد اجلديد بحركة بطيئة ونرى مالحمه مطابقة
ملالمح الآخر؛ فهما واحد وهما ال�شخ�ص نف�سه،
لكن ،لوجه احلقيقة ،يبدو الوافد اجلديد �أكرث �شباب ًا
و�أ�ش ّد ك�آبة ،كما كان الآخر من �سنني �أعقبت.
مي�ضي الوافد اجلديد ناحية ظهر الغرفة تتبعه
مقربة.
الكامريا فتجعله مبنت�صف لقطة ّ
طاولة املدر�سة التي ي ّتجه �إليها �شخ�صنا تدخل �إطار
ال�صورة .على طاولة املدر�سة كتابان� ،إ�ضافة �إىل
أخالقي
ّ منوعة ،مو�ضعها ومعناها ال �أ�شياء مدر�سية ّ
حم ّددان بعناية.
يلتقط الوافد اجلديد الكتابني وي�ستدير ليذهب
من�ض ّم ًا �إىل الرجل الآخر .ولدى هذه النقطة ،يعودَ
173 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
�إبطها ب�رسعة ،وكان عندئ ٍذ عاري ًا متاماً .ف ُتطلع بطريقة �أ�ش ّد و�ضوح ًا مما �سبق).
ل�سانها باحتقار �إليه ،ثم تلقي �شا ًال على كتفيها، نرى الرجل اجلريح عن ُبعد وهو ي�سقط؛ وهو عموم ًا
وبفتح الباب القريب منها ،مت�ضي �إىل الغرفة مل يعد داخل الغرفة ،بل يف حديقة .جتل�س جنبه
املجاورة ،وكانت عبارة عن �شاطئ وا�سع. امر�أة �ساكنة بكتفني عاريني ،و ُترى من اخللف ،وهي
ينتظرها �شخ�ص ثالث قرب حا ّفة املاءُ .يحيي ك ّل متيل طفيف ًا للأمام .بينما ي�سقط الرجل اجلريح،
منهما الآخر بو ّد بالغ ،ثم يت�سكّعان مع ًا على طول يحاول �أن مي�سك كتفيها ويداعبهما؛ ت�ستدير �إحدى
خطّ املياه. فتم�س بر ّقة
ّ يديه ،فتهت ّز ناحيته هو؛ �أما الأخرى
لقطة لأرجلهما واملوج يتحطّ م عند �أقدامهما. جلد الكتفني العاري .ثم ي�سقط يف النهاية �أر�ضاً.
تتتبعهما الكامريا بلقطة ناعمة .يجرف املوج �إىل حرا�سمنظر من بعيد .عدد من املارة وعديد من ّ
ال�شطّ بر ّقة :ال�رشائط ،ثم العلبة املقلّمة ،متبوعة احلديقة يندفعون لنجدته .يقيمونه بني �أذرعهم ثم
والدراجة �أخرياً .تدوم هذه ّ بالقمي�ص املك�شك�ش، يحملونه بعيداً عرب غابة ال�شجر.
اللقطة حلظة �أطول من دون �أن ينجرف �شيء �آخر يخبو النور بطيئاً ،ثم...
�إىل ال�شطّ . نعود �إىل الغرفة ذاتها .باب ،هو نف�سه الذي �أم�سك
يوا�صالن عملهما على ال�شطّ ،ي�شحبان قلي ًال فقلي ًال باليد من قبلُ ،يفتح الآن ببطء .تظهر املر�أة ال�شابة
من املنظر ،بينما تظهر بال�سماء الكلمات التالية: تعرفنا �إليها �سابقاًُ .تغلق خلفها الباب ثم التي ّ
يف الربيع حُت ّدق بانتباه بالغ يف احلائط املواجه حيث يقف
ك ّل �شيء قد تغيرّ . القاتل.
نرى الآن �صحراء بال نهاية .نرى الرجل واملر�أة عار ،من دون �أثاث �أو مل يعد الرجل هناك .احلائط ٍ
ال�شابة يف املنت�صف ،يغط�سان يف الرمال �إىل �أعلى ديكور .تعطي املر�أة ال�شابة ملمح ًا من الغيظ ونفاد
يع�شى ب�رصهما ،مالب�سهما ُيرثى لها، �صدريهماَ ، ال�صرب.
تفرت�سهما ال�شم�س وح�شود من احل�رشات. ُيرى احلائط من جديد؛ مبنت�صفه بقعة �سوداء
�صغرية.
لقطة النهاية.
ولدى ر�ؤيتها �أقرب ،تبدو البقعة ال�صغرية ك�أنها
vvv املوت بر�أ�س فرا�شة.
مقربة للفرا�شة.لقطة ّ
بني بونويل ودايل ولوركا
جناح ْي الفرا�شة ميلأ ال�شا�شة كلّها.
َ ر�أ�س املوت على
املك�سيكي �أكتافيو باث «لي�ست ال�سوريالية
ّ يقول ال�شاعر الرجل الذي كان يلب�س قمي�ص ًا بك�شك�شة يخرج فج�أة
مدر�سة �شعرية ،بل حركة للتحرر ،طريقة لإعادة متو�سطة ،يرفع يده م�رسع ًا نحو فمه ّ للعيان بلقطة
أ�سا�سي �أن ال�شعر
ّ ا�ستك�شاف لغة الرباءة ،جتديد مليثاق � كمن فقد �أ�سنانه.
الب�رشي ،ال�سوريالية
ّ الن�ص يف �أ�صله ،قاعدة للنظام
هو ّ ترمقه املر�أة ال�شابة بازدراء.
حركة ثورية لأن فيها عودة �إىل بداية البدايات» .ويف حينما يبعد الرجل يده ،نرى فمه وقد اختفى.
�شقة مبدريد عا�ش ثالثة :املخرج لوي�س بونويل والفنان تبدو املر�أة ال�شابة ك�أنها تقول له« :طيب ،وماذا
�سلفادور دايل وال�شاعر جارثيا لوركا عقداً من الزمان بعد؟» ،ثم تلم�س �شفتيها ب�إ�صبع روج.
( 1920ـ � ،)1930أ�س�سوا مع ًا جماعة �شعرية ُعرفت ال�شعر اال�ستنباتنرى ر�أ�س الرجل من جديد .يبد�أ َ
با�سم «جيل ،»27وقد ا�ستلهموا فكرتهم من لوحات حيث كان فمه.
بيكا�سو التكعيبية ،وعملوا �أ�سا�س ًا �ض ّد الرومانتيكية لدى ر�ؤيتها هذا ،تخنق املر�أة �رصخ ًة ثم تفح�ص
174 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
لوحات ملعظم ال�سورياليني كانت يف ردهة العر�ض. ال�شائعة وقتها يف �إ�سبانيا .وكتب بونويل ودايل،
عار�ضته ال�صحافة املحافظة واعتربته فيلم ًا �إباحياً، وامل�رسحي،
ّ ب�إلهام من العالقة مع لوركا ،ال�شاعر
حتى �صودرت ن�سخه من قبل ال�رشطة ،وللأ�سف دام ثان هوأندل�سي»� ،أتبعاه بفيلم ٍ �سيناريو فيلم «كلب �
هذا املنع ن�صف قرن ،ثم �أُعيد عر�ض الفيلم تقديراً ّ
الذهبي» ،كانا يهتمان فيه بت�رشيح خطوط ّ «الع�رص
له يف �أمريكا عام .1979لكنه كان قد فقد �ساعتها
مبني على رواية « 120يوم ًا رونقه ومترده .والفيلم ج�سم الأنثى والعالقات الغرامية .كما �ساعد لوركا دايل
ّ يف �إخراج دراما تاريخية .لكن ت�أثريات لوركا كانت
الفرن�سي امللعون املاركيز دو ّ للروائي
ّ يف �سدوم»،
�ساد .وتدور ق�صة الفيلم حول عا�شقني يعلنان احلرب ثبت لوركا �شهرته على �أنه بعيدة عن ال�سوريالية .لقد ّ
ي�صور حلظات الفرن�سي .كما ّ
ّ البورجوازي
ّ على املجتمع «غجري» ،وحني زار �أمريكا اكت�شفّ أندل�سي» �أو
ّ «�شاعر �
�شحاذ ُي�رضب بعنف، �سوريالية واحد ًة بعد �أخرىّ : �أ�صوله الإفريقية .ويف � 1930صار لوركا ودايل
عجوز مهيبة ُت�صفع� ،أب يطلق النار على ابنه .ويهدف للفن .لكن حني
غريبني ،ل ُبعد البون بني ر�ؤية ك ّل منهما ّ
تتبع اهتمامات زمانه :غراميات حمبطة ،قهر الفيلم �إىل ّ �سافر لوركا �إىل غرناطة يف ذروة احلرب الأهليةُ ،قتل،
اجل�سدي،
ّ العنف قيمة �شيوع ،اجلن�سي
ّ للح�س
ّ املجتمع
ال�سينمائي التهكم على رجال الدين .وقد و�صفه امل�ؤرخ على يد القوات الفا�شية ،و�صار �شهيداً بالن�سبة جليل من
ّ الفني قرب منت�صف الفنانني ورمزاً للتغري يف امل�شهد
جورج �سدول ب�أنه «فيلم فريد يف عنفه ،يف نقائه ،يف ّ
لفن ال�سينما» .و ُيع ّد
التام ّ
الغنائي ،ويف �إخال�صه ّ ّ ُ�سعاره القرن الع�رشين يف غرب �أوربا .ونرتجم هنا ق�صيدة
الذهبي» اليوم �شهادة على القيم البالية ّ «الع�رص فيلم لوركا «مدينة ال تنام» التي كتبها عام ،1929بعد
للح�ضارة الغربية. عودته من نيويورك:
«حذار! كن حذراً حذار!
ممن يحملون عالمات املخلب والعا�صفة، ّ
والولد الباكي لأنه مل ي�سمع باخرتاع اجل�رس،
�أو امليت الذي ال ميلك غري ر�أ�سه وفردة حذاء،
واحليات،
ّ علينا بحملهم للجدار حيث تنتظر ال�سحايل
الدب،
حيث تنتظر �أ�سنان ّ
حيث تنتظر يد الولد املح ّنطة،
ويقف َ�شعر الناقة منت�صب ًا برِعدةٍ مزر ّقة عنيفة».
الذهبي»
ّ فيلم «الع�صر
بني دايل وبونويل
الفني بني
ّ هو الفيلم الثاين والأخري من ثمار التعاون
يل
يل لوي�س بونويل والفنان ال�سوريا ّ املخرج ال�سوريا ّ
أندل�سي» ،وقد ُعر�ض فيلم
ّ �سلفادور دايل ،بعد «كلب �
الذهبي» عام ،1930يف 60دقيقة ،وهو من ّ «الع�رص
�أداء :جا�ستون مودو (الرجل) وليا ليز (املر�أة) وماك�س
�إرن�ست (الل�ص) ،وتكلّف وقتها مليون فرنك .ظ ّل هذا
الفيلم ممنوع ًا فرتة طويلة ،بعدما �ألقت جمموعة فا�شية
مناه�ضة لل�سامية قنبلة م�سيلة للدموع يف دار �سينما
باري�سية كان ُيعر�ض فيها ،كما �أحدثوا بها �شغباً،
حيث �ألقوا حرباً وبي�ض ًا فا�سداً على ال�شا�شة ،و�أتلفوا
175 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شعـــر
176
يف الأمر ما يدعو �إىل الرثاء،
�شربل داغر
ال �إىل الن�شيد
� شاعر من لبنان
177
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
يف موتي، يف املرة الثانية منذ خطواته الأوىل فوق �سطور
ومن دون ن�شيد. اجلرمية� ...أن �أروي ما يحدث من دون جهد ،ما
ال�شهداء يعودون فرادى ي�سقط مثل ثمرة نا�ضجة يف �سلتها ،طاملا �أنه
يتم �شحذ الف�ؤو�س من دون كلل ،وين�رصفون �إىل
ال�شهداء يعودون فرادى : القتل ،على مقربة مني ،يف يفء العائالت الظليل.
ال�شباك
منهم من عاد �إىل الفرن من دون �أن يجد ُّ
�سن ال�سكاكني،
لطاملا �أم�ضيت �ساعات لهوي يف ِّ
الذي ت�سلم فيه �أرغفة ال�صباح مع ر�سالة ت�أخر
ومترنت ،يف امل�شادة �أو عرب النوافذ املو�صدة،
ُ
يف فتحها لكون «التعليمات» مل تلحظ وجود
على �إخفائها يف عتمة حذائي� ،أو التباهي بها
عابرين فوق اجلادة التي �ضاقت بنظرات
يوم العيد مثل ني�شان املدر�سة،
الواقفات على �رشفاتهن ،اللواتي �أنزلن �ساللهن
قبل �أن ت�صبح امتداداً ليدي،
�إىل الباعة الثابتني واملتجولني...
امتداداً تلقائي ًا
ال�شهداء يجل�سون القرف�صاء ليدي الأرجوانية...
يف الق�صيدة، احتجت ل�سكني لتدوين ر�سالة حبي الأول هكذا
ُ
ال �أكرث... على �شجرة،
فال ي�سرتيحون فيها. قبل �أن �أن�رصف �إىل ت�سجيل ا�سمها ب�أحرفه
طلب منهم
ذلك �أن ال�شاعر َ الأوىل فوق جدران ال�شارع اخللفي ل�شارعها،
�أن يبقوا يقظني �آم ًال ب�أن تكت�شفه وحدها مثل ر�سالة �رسية ال
يف انتظار بلوغ القارىء يح�سن قراءتها غري م�ستلمها.
عتبة العتمة. واحتجت ل�سكني �أخرى تنا�سب قبعة الإخفاء، ُ
ال�شهيد �شجرة ل�سكني تختفي بدورها ما �أن تنق�ضي احلاجة
من دون �أغ�صان، �إليها� ،أو تتحول �إىل �ساعة يف اليد� ،أو �إىل و�سخ
لل�شجرة �أ�صابع من دون �أن تقوى على الت�صفيق. ب�سيط على راحة اليد ال �ألبث �أن �أم�سحه من
جبهتي ،فال تبقى عالمة منه حتت قبعة الإخفاء.
بلى ،كنتُ هنا
�سكاكيني
كنت هنا :
بلىُ ، كلب �أعمى
ٌ
مل �أ�صفق قبل �أن ينهي ال�ساحر جملته الأخرية،
وو�سخ،
مل �أدفع املتهالك فوق كر�سيه �صوب ال�سقوط، ي�شم اجلثث واحدة واحدة
مل �أتفوه ب�أي كلمة يف اجلنازة... قبل �أن ي�أنف منها.
بلى ،كنت معهم :يف هذا ال�صحن البارد ،نقتات يف الأمر ما يدعو �إىل الرثاء ،ال �إىل الن�شيد
حلم �أج�سادنا ب�صمت و�إذعان... أ�شفقت على حايل بعد موتي :وحيداً ُ طاملا �أنني �
178 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
وال يلبث �أن ينام مبجرد �أن ي�ضع ر�أ�سه على بلى ،و�إن غاف ًال عما يفعلون
خمدته... من وراء زجاج نظارتي.
بخاليف �أي�ضاً� ،إذ �أم�ضي الليلة مع َّذب ًا موتانا اليقظون
قتلت ذبابة يف نهاري، من دون �أن �أكون قد ُ موتانا اليقظون
ولي�س يل من �أتوجه �إليه ال�ساهرون
يف عزلتي ،ويف خر�سي ميرنون �أ�صابعنا على العزف العاطفي
ِّ
غري هذه الكلمات. وحناجرنا على الن�شيد الوطني...
َ
حتى حني نكون �صغاراً موتانا الأليفون،
حتى حني نكون �صغاراً الهانئون يف ريا�ضهم البليدة،
يحلو لنا �أن نت�صفح �صور الأم�س : القاب�ضون على ر�ؤو�سنا مثل مقاعد كر�سي ال
نتذكر ،ونروي ما ح�صل لنا فيها... يتوانى عن االهتزاز،
�أما ال�شاعر فال يقوى على ذلك� ،إذ يطلبون منه ال ينفكون عن معا�رشتنا،
الدخول �إىل ق�صائده : عن ُن�صحنا
يزورها رمبا، ب�أن املوت �أجدى
لكنه يف�شل حتم ًا يف �أن يكون دلي ًال فيها، من �أن نبقى قانعني
عما انق�ضى، يف تابوت الثلج.
مثل انفعال �صاعق، موتانا يقفون خلفنا
كون له من ر�ؤو�س حروفه جذور... يف ٍ و ُي َقلِّبون �أوراق «النوتة» لنا،
حني نكون �صغاراً لأ�صابعنا الطرية،
يحلو لنا �أن نكرب، فوق بيانو احلياة.
�أن من ِّثل �أدوارنا، كان لهم �إل ٌه يتوجهون �إليه �إذ يبكون
وهو ما يفعله ال�شاعر
كان لهم �إل ٌه يتوجهون �إليه �إذ يبكون،
يف طفوالت اللغة.
ويتم�سكون بحبات �سبحته �إذ يت�ساقطون يف
يراين ،يراين ،يراين.... وهدة الك�آبة،
الذي يتقدم �صوبي وكلم ٌة منه كانت تكفيهم لكي يرتدعوا عن
أتقدم �صوبه بدوري،
� ُ حماقاتهم،
لكن خطاه �أ�رسع من خطاي. بخالفه:
�أكتب عنه، يقتل �آالف ًا يف اليوم الواحد
179 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
يرت�سمون يف طوابري �صاحلة لقافية وهو يراين :
بينما �أبحث عن نرث ذهبي يف كومة ق�ش. �أخاف،
هكذا :ال يدخلون �إليها قبل �أن تدخل قبلهم من فرط ولعي باحلياة.
البحار وال�سطور واملن�صات والطوابري والقوايف هكذا �أنا
وخالفها،
فيما �أتخفف من ثيابي هكذا �أنا ،وقد قر�أت يف «بخالء» اجلاحظ� ،أن
وترق ورقتي �أخوين ال ميلكان �سوى ثوب واحد� :إذ يخرج
مثل ج�سد �شفاف. �أحدهما ،يبقى الآخر يف البيت.
ارتختْ العبارة �أنا الراحل،
�أنت القادمة :
ارتخت العبارة
ْ
نلتقي،
يف حملول احلزن،
ولكن يف اجتاهني خمتلفني.
يف مائه البارد :
منها ما ي�صفو فيعلو يف �صدر القارىء، دعني
منها ما ير�سب يف �صدر ال�شاعر، الآن
يف بئر الق�صيدة. �أبكي
يف وداعي.
�أي م�أدبة
تكرتث بالأمر،
ْ ال
�أي م�أدبة
�ستكون – �إذ ذاك – قد رحلت.
تكون ل�شخ�صني
و�إن كانوا كثريين، فيما
مثل املطالعة ينظمون ق�صائد عن البحر
تكون لكثريين فيما �أ�ستعذب اال�ستلقاء على ال�ضفاف؛
و�إن يف الكتاب عينه.
يبنون البيت �سطراً �سطراً لكي يرتفعوا معه فوق
ُمع َّلقة من�صة،
يدي بيدك عندما �أحترى عما يلمع ،يف الليل،
قبلة ُمعلقة. يف عني العبارة؛
jhj
ماذا كنتم تنتظرون..
ال �أحد ي�صدق كم �أنا قوي أدافع عن حقوق املظلومني والفقراء، �أن � َ
ال �أحد يرى ما بنف�سي من طاقات �أن �أقطّ ب جبينى و�أقول كلمة حق،
الالعب الأمهر
ُ �أنا هي الأخرية ىل يف الق�رص والأر�ض وال�سماء،
امل�سيطر على الأرواح �أن �أنا�ضل ب�سيفي اخل�شبي �ضد الطاغية والأزالم؟
ه�ش�شت �أ�شجع الرجال بع�صاي
ُ ماذا كنتم تنتظرون من املهرج
حتى ر�أيتهم ينحنون �أمام امر�أة �ساقطة
�إال �أن يكون نف�سه حتى النهاية..
أعربت عن ر�ضاي حلماة الأخالق و� ُ �أنا ظلُّ الديكتاتور الذي يلت�صق بقدميه
وهم ي�سلخون جلودهم لقاء حفنة من الذهب..
حاملُ النكات البذيئة و�أخبار امل�سامرة
�أ�ش ُّد امل�ؤمنني تع�صباً،
حار�س امل�رسات وال�شهوات وكامت الأ�رسارُ
دفعتهم لل�سجود �أمام الوثن الأكرب
زاحف بني زواحفٌ �أنا
و�أجمل الن�ساء قدمتهن للبغاء تلوكهن دون نظر
و�ضع الكناري على ل�سانى و�ضبع و�سط �آكالت اجليف
ٌ
علي ْ
وكان ّ
بينما متور داخلى الغابة ووحو�شها اجلائعة ح�رش ٌة تعلم �أنها ح�رشة و�سط �أخريات جاهلة،
jhj
وانت�رصت عليها بابت�سامتي
ُ
املهرج �أيها العامل
ُ �أنا jhj
�صانع املجد امللطخ بال�سخرية ُ �أنا كان البد �أن �أم�ضي
واملو�صوم �إىل الأبد
ُ حيث ال مكان لالختباء وال فر�صة للتوقف
�أيتها ال�صحراء املليئة بالف�ضالت وكلما توغلت فقدت �شيئ ًا من روحى،
�أيتها املدن امل�صنوعة من الق�ش والأكاذيب أ�صبحت فارغ ًا متام ًا
ُ حتى �
�أيتها الأنوار التى ت�ستحق الإطفاء وعارف ًا �أننى ال �شيء
�أيها ال�شياطني والرجال اجلوف والداعرات توقفت
ُ لكني يف حلظة
وامل�أبونون والل�صو�ص �أريد �أن �أغري نهاية امل�أ�ساة
والقتلة وجتار الدماء.. مت ظم�آن ًا فال نزل القطر»« �إذا ُّ
181 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
وتاه ا�سمي بني �أدغالها �أنا من يعلم �أن مياه جميع البحار
jhj لن تزيل الو�سخ عن روحه
يف �أيامي الأخرية ومع ذلك ي�سعى بهمة العمال
كانت متعتى �أن �أت�رشب ل عينيه بابت�سامة طفل ليم أ
نظرة الده�شة �أو يراقب «الزهرة»
يف عيني وهي تلمع وحدها
يف ال�سماء
الفري�سة املطعونة..
�أريد �أن �أرى ابت�سامة نقية واحدة
أنت ..
� َ �أريد �أن �أ�ستقبل نظرة ر�ضا ال �أكرث
�أيها احلقري.. لأقول �إنها احلياة املليئة بالعجائب
نعم �أنا ري الكراهية
لأتوقف عن ّ
القادر الناه�ش امل�سيطر يف قلبي كل �صباح
الن�سخة الأكرث تطوراً حتى �أ�صبحت غابة وا�سعة
من ظالل الطواغيت. مليئة بالأ�شجار والكائنات
s
s
s
يل فيها �أطوار �شبيهة و�أقمت بعني املالذ
ب�أحالم املجانني �أكرث من �أزل
ون�صيب واف من كربياء الفقراء عذري يف ذلك
وارتكان م�شوب بالده�شات الزرقاء �شم�س �أليفة
و�سهاد لذيذ،،، ونهد م�ضياف
بهما حتلو �أ�سفاري
ال برق ي�ضيء تيهي
ويغدو جلوازي
يا روين �شار
لون الإقامة اجلربية،،،
وال امر�أة تطبخ رغباتي
يف هذا ال�صباح النيئ ول�سبب ما
يل كما يخفى عنك تالفيت الدخول
حال من حالني : �إىل متحف «غويا»
�أن �أغم�س روحي يف الراح هربا من �رشاهة الكانيبال
�أو �أعتزل البكاء على �صدور احلمقاوات وان�سللت �إىل
حانة �أفروديث
ويل �أي�ضا فما جنوت
يف مرمى ال�رشود كان اجلالد املتقاعد
ممالك مهجورة يحت�سي جعته
وق�صور حتتفي فيها الغربان وك�أنه ي�رشب
بجثامني الأباطرة العاقرين بول �ضحاياه
يل �أكرث من ربيع
مل �أرتعب ومل
وتر�سانة من الكلمات ال�شفيفة
�أخلع ب�رصي عن عناء اجلالد
و�أحالم بوذية
ومل �أعب�أ
على جانب «الطريق»،،،
بف�ضول احلر�س املدين
ها هنا �س�أظل ظللت يف نف�س الك�أ�س �أقيم
يف نف�س املحطة حمرو�سا بتنانري الراق�صات
خلف كل النوايا الفا�سدة وعابدات باخو�س
�أبعرث �أهوائي حيثما ورنني الأقداح ي�سافر بي
طاب يل هواء �إىل �سواحل الأرواح الأليفة
184 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
ول�سبب ما
ن�سيت ورود «مارغوت» ال بريق يل
يف جحيم دانتي �سوى هذا القمي�ص امل�ستعار
لغريي �أن مي�سح دموعها من دوالب «لوركا»
قبل �أن يحظى بها وخيول �سوريالية
�ضفدع هانوفه
�أ�ستعني بها
�أما �أنا
على قهر امل�سافات
فقد هي�أت مقربة الأ�صدقاء
وحنني قريب �إىل �أبعد القارات
للوافدين اجلدد
وقليل من طعام «هلغا»
وكن�ست �سبيلي
من خطوات امل�شائني ومرقد �سامق
ودفنت الأ�سباب كلها يف مدخل «الغابة ال�سوداء»
يف �رشفة اخلطايا وكثري من ع�شب « �أويل»
قبل �أن �أ�صطحب �سماحتي وال �شيء من مرارة الأيام اخلوايل
�إىل عا�صمة النبالء،،، ال �شيء،،،
الق�صة الق�صرية جدا ،وعازفون على ق�صب ناي على الوقوف عاري ًا
الهند،و �صانعون للذهب وف�سيف�ساء الزليج،ورعاة كحروف ق�صيدةٍ
حقول �آبار النفط ،و�سينمائيون �أنهكتهم ع�رشية ليحت�سي نخبه مبعية ندمي
�سوداء وقامتة و�آخرون ت�ألقوا يف دليل ال�صورة الغربة الآ�رسة
واملل�صقات ،ومنفيون يف قالدة جغرافيات عداك مونيكا
مفرت�ضة ،وواقعيون وانطباعيون على حد �سواء، يا �سيدة �أكرث من مقام
و�أركيولوجيون عازفون عن احلفر ،و�شلَّة احيمدة يا رحابة بلور �شفيف
عيا�شي يف «كرا كويا» ذات ظهرية،و�سعدي يا امر�أة
يو�سف احلامل بالأثر الرجعي ل�سجالت �سيدي من و�شم،
بلعبا�س ،و�ألبري كامو الذي �أحب اجلزائر بالقدر ورخام ،و�أ�سطورة،
غري الكايف ،ور�شيد بوجدرة الذي مهد ال�سبيل وفخار ،و�سقيفة،و�صل�صال،
لأكرث من حلزون يف عمق ال�صحراء،وكاتب ودن،
و�صوجلان،و�صحيفة ،و�أيقونةٍّ ،
يا�سني الذي و�ضع �شارة ل�رشك اللغة، ول�سان ،وقرط،و�أبجدية ،ور�شح،
ودراق،ون�صل،وبراق،
ودائرة لعمران املعنى
و�سواكٍ ،ونافورةٍ ،و�رشا�شف،
بختي بن عودة الذي �شاهد �أن وم�ضة الفكر
و�سماق،وجمرة،ونيزك ،و�صليب ،وهالل،
حارقة،
وجنمة فاحتةٍ ملدار الك َّْون
ودامية،
فن �سما ٍءو�س ُِ
وجارحة، �أر�ض �أخرى يف حراك
وم�ضى دون مل�صق ك�أرخبيالت
يتنف�س �رساديب وهران �رس الدورانتقلِّب َّ
و�سبحة «جاك ديريدا» و�أ�سطوانة خالء مو�سيقى
مبعنى �آخر
ً هي مالح
تطوق حقل فلني ٍ ِّ
دوايل مونيكا و�شالل ماء
�أكرث من كا�س تدور حتطُّ فوق فناء مائدة و�شمعدان
فوق ق�رشة الياب�سة جتمع �إخوة يو�سف والذئب
تنف�ض عنها �سري الأمل قرامطة،وزنوج ،و�سعاة بريد ،و�شعراء ،وحفار
وحيوات كائنات مرت قبور ،و�ساردون ،ومرابون جدد ،وعارفون
يف حا�شية كتاب الركْ ِح،و�ساهرون على �أوتار بانفراط عقد ًّ
ومفرتق جبهة املو�سيقى ،وت�شكيليون تكعبيون �إىل حد التخمة،
وحا�شية طريق. ومهجرون من تعدد �أجنا�س الأدب �إىل �رساديب
يدي يف �إ ْثميهما
أغم�س ّ
الر�صيف ،و� َ أتقم�ص ّ
�أن � ّ وجهي وجوها ،و�أن �أنتقي أ�شتق من ْ
يل عاد ُة � ْأن � ّ
ويف احلاالت ال َف ِزعة. أنوم
أبيت .يل عادة �أن � ّ
�شعري � ُ
ّ بيتٍ
ك ّل ليلة يف � ّأي ْ
العامل جمي ًعا و�أن �أ�سهر على فكّ رموز �ضفرية
متنبئة ،قارئة ُخطُ وط ّ
الر َمال متنبئا �أو ّ تاج ّ (�سنح ُ
ْ
�أو قعر الف ْنجان عن الق�صيدة التي �ست�أتي... تكف عن املرور...يومية المر�أة ال ّ
خ�شب:
ٍ هل ت�أتي من ل َه ٍب �أو من لل�سطر عادة الإتيان دون �أن �أنتبه لذلك. ّ
أق�صد اخل�شب الذي يتذكّ ر � ْأورا َقه �شباك بيتي.
للفكرة عادة الغزالة القافزة من ّ
� ُ
اخل�رضاء القدمية)... يل عادة �أن ال �أختار � ّأي �إ�صبع ل ّأي رع�شةٍ
«فر ًدا» ي�أ َبى اجلمع، يل �ش ْهوة �أن �ألزم ْ جزاف-
ٌ -الرع�شات
ّ
حر ِف هو الأخ ِري ليموج �ساكنا يف ْ يل عادة �أن �أ�صقل من الهواء الذي يحوم
ألف م ٍّد َمديدةٍ ..كئ على � ِفردٍ ي ّت ُ
ْ ونارا.
وبرا ًجذعا ب ّن ّيا ّ
حول طاولتي ً
وال�صوت.
ْ فردٍ النقط و�أن ال �أختار الغ ّنة احلادة حلنجرتي،
البار يف البا ِر،
أت�شمم َ يل �ش ْهوة �أن � ّ مبي�ض الكالم.
ويل � ْأن �أ�شكّ � ّأن ال ّنادلَ �إله متنك ٌّر مادي،
الر ّأقف طوي ًال �أمام اللّون ّ يل عاد ُة � ْأن � َ
ِقاط اخلَطَ ايا،
جاء ال ْلت ِ ن�صف الأ�سو ِدأبي�ض ْ
ن�ص ِف ال ِ ْ
خطاي.
َ ولقراء ِة متو�سط اللون ذاك،ّ � ْأن �أتركَ نف�سي يف
�صوت املوت يل َعا َد ُة � ْأن �أعتق َد � ّأن ن�صف الداخل ،ن�صف اخلارج
ٌ َ
توها...� ّأما احلياة ف�ص ًدى م ْع ً ال�ساهي هو � ْأي ً�ضا
والرماد ّالن�ص ّ
ن�صف ّ ْ
خال�صا �سريق�ص ج�س ًدا املي َت من َعا َدتي. ْ
ً ُ وان ّ ّ
مكان َما، ٍ يف تقي �سمائي.
يل عاد ُة � ْأن �أ ْن َ
ق�ص ُمفكّكا� ،سرتق�ص �سري ُْ الوجودية.
ّ �أن �أن ّق َيها من الأ�سئلة
190 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
اال�ستعاري
ّ �إىل الف�سيح حا�سة مل�سه ك�شهرزاد برداء من �رسدٍ .
ّ
�أقف ي ًدا حيث ال �أدري.
يل عاد ُة � ْأن �أخ َتل َِف و� ْأن �أقِ َف ُ
وتقف هي بل ًدا... الريح حماولة أتلم َ�س ّ
يل عادة �أن � ّ
ها ُه َو احلبرْ ُ ي ْكبرُ ُ يف القل ِْب.. روح � ْأخرى.ت�شكيلِ ٍ
ئي ًة
مر ّوها � ّأن حروفًا غيرْ ْ َ (فهذي التي ب�ص ْدري ال تكفي)
واء �أخ�رض تتقاذف وه ً فجائية َ
ّ و�سطورا امل�ضي �إىل �أواخِ ِر ال ْأ�ش َياءِ، يل عاد ُة
ّ
كلّها يف تلك املدينة
يف �أواخرها ط ْقطقةٌ:
ذات ال ّزب ْد.
الفانو�س الأكرب
ِ حول -لعلّها فرا�شة ت�ص ّفق ْ
ت�صو ٍف
يل عاد ُة � ْأن �أج ّدف من حالة ّ العمر
بات ْ بي ِ -لعلّها عجو ٌز تكا ُد ُت ْنهي ُح ْ
�إىل حالة َت َخ ّو ٍف،
يف طَ ْقطَ قة ْ
امل�سبحة.
ك�س ال�صرّ ْ خةَ...
مر�آ ٌة ت ْع ُو�أن � ْأعتَبرِ َ الهواء ْ تعج ٍب)
( �أقِ ُف �أمام الإ ْثنينْ ِ عالمة ّ
كي �أوج ْد يل عادة ال�صرّ خة ْ لكن
لقد نرثت اال�ستفهام ّ
عب�أٌ باحل ِ
ُروف) ت�رصخ ف� َ
أنت ُم ّ َ (ف� ْأن
الظرف
ري ْ ع�صاف َ
ين الْتقط ْتهااملكا ّ
-2-
ك�ساعةٍ ُمعطّ بةٍ
�أقِ ُف َ
الكون؟.
أتداوى من داء ْ كي َف �س� َ ْ - �أقف وقد �أكون بِال ظِ لّ،
كيف �أحلق بتلْك الق�صائد ْ - ال�شعر هذه.
جمرد ي ٍد حلْظة ّ �رصت ّ
ُ � ْأو
التي خرقتِ الكثريين؟. واقفًا ي ًدا � ّأما الباقي من اجل�س ِد
كي َف �أ ْنتمي نهائ ِّيا ل ِّأي �شيء؟.
ْ - �شعرا (ربمّ ا)
فتف ّتت ً
هذه �ش ْهوتي ال ُت َغا ُد ُرين ا�س َز َب ًدا
أتخيلَ ال ّن َ
يل عادة � ْأن � ّ
وال�ش ْهو ُة �أنثى م�ؤمل ٌة يف راحتيها ّ يف �شوارع املدينة...
رحى من حرارةٍ . ً و� ّأن على حا ّفة املَدينة تلك ال َحقي َق ُة
�ص الإله،
أخم َ
ويل عادة �أن �أالعب � ُ �سِ َوى يدي املتقاطع َة مع ي ٍد ُم ّ
�شعةٍ ...
و�أن �أت�ألّه. ريح
من ٍ خملوق ْ ٌ و�أن � ْأع َت ِق َد � ّأن املر�أة
كلّما ازد ْد َت ت أ�لّها ازدادت عطفات يف تلك املَدينة. ٍ �أو من م ْن
تلك ال�شهوة ت� ّأو ًها مت ّر بي
وللمر�أة –كما �أعتق ُد� -أن ُ
191 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
تكف عن الرتاب
وقد ّ
-3- يف �آخر �شهقةٍ .
يل عاد ُة � ْأن �أهد َِي
يف املتل ّه ِف، ال�صو ّ ا ْنظري �إىل َي ِد ّ
الدف
ال�ضارب ِة على ِّ الي ِد ّ الور َد َة المر�أةٍ
ْ
تذوب ن ْقر ًة ن ْقر ًة اليد التي يف الأ�ساطري القدميةِ..
ُ
انظُ ري... يل عادة �أن �أ�شتهي
مل ي ُع ْد �سِ وى نقْرةٍ واحدةٍ ْ ر�ؤية �صاحبتي
بع واحدة. ل ْإ�ص ٍ فكر ًة على ورقةٍ ...
s
s
s
�أربع ًة كنا/ دم وق�صيد ْة.
ري ٍ
غ ُ
«ابوحمدية ،اخلطيب ،و�ساري»، jhj
هوام�ش:
« jك�ساح الغيم ،دالية �آثمة ،ال جترحي وتر البيات� ،آيل للهوى والذنوب،
�شقاوة الآ�س» ،جمموعات �شعرية لل�شاعر خالد ابوحمدية ،و»دارة
الليل» :ق�صيدة له كتبها حني كنا نلتقي يف منزل الفنان عليان قا�سم،
«احلكيم» :ال�شاعر د .ابراهيم اخلطيب« ،التوميتو» :مقهى يرتاده بع�ض
مثقفي �إربد.
� jأبو حمدية واخلطيب و�ساري� :شعراء كنا نلتقى �شبه يومي يف
منازلنا ونرجتل ال�شعر على مو�سيقى عليان قا�سم.
s
s
s
ويف وجوههم املتعبة ابت�سامة حمراء وب�أ�صابعكِ الف�ضية ت�شعلني فانو�س حياتي
ال�شم�س حترقهم و�أ�شواك الرمل وتدرين متام ًا كما لن يدري �أحد
تنخر �أب�صارهم �أن روحي �رسير غيابكِ
-7- �إنه الربيع �أخرياً و�صوتكِ اال�سمر
�أيها احلب املتعب متى �ستعرب مدينتنا ؟ يرتدد على الأ�شجار يف �سماء الغربة
فدخانها م�ؤمل وجنومها احلزينة ك�أن كل �شيء ثابت كما لو تعطل الكون هنا؛
نائمة يف ال�سماء هنا على عتبة ع�شقنا يف انتظار لقائنا امل�ؤجل
قبعات احلزن ال تليق بغري ر�ؤو�سنا وطيفكِ كخياالت ال�صيف القا�سية
جدراننا املليئة بالعناكب يت�ساقط هائج كبحر ينخر جدران وحدتي ٌ
من ثقوبها حمى الوقت
-4-
ال تخف �أيها املتعب فلن تخد�شك �أ�شجارنا
�أيها احلب املتعب
وطيور ت�شبه البطريق تعرب الأفق على عجل
من �أجلك �أدفن نهاراتي؛
�أريا�ش خ�شنة و�سحب مغلقة تغمرنا
نهاراتي هذه طفل حزين
مبطر حنون
يبكي على تخوم قلبي
�أين �أنت ................؟
�أيها احلب املتعب -5-
�إنه الربيع
-8- و�أنت تر�سمني يف ماء وجهي دوائر الن�شوة
يت�صاعد يف ر�أ�سي تك�رسين زجاج حزين يف �ضباب النوم
دخان وجهكِ كما لو �أن يف �سماء وجهك باقة
ويدي حتتاج قلي ًال من خميلتكِ من مرايا البنف�سج
يف كتابة ق�صيدة تليق بحبك يل
jhj -6-
هام�ش 1 يا خليبة ال�شعراء
(�أنا على �أطراف حزين كم وجدوا �أنهم �ضلوا الكلمات
�أعد �أعمدة الوحدة مقرف�صني يف حقول الي�أ�س
حتت خيمة الوقت بقبعاتهم احلزينة ينتظرونكِ
يف انتظاري لكِ ). يف �أيديهم باقة من �سنابل الأمل
َريف
كاخل ِ لك يف ي َد َّي ر�سا ِئلٌُ :م�شتاق ٌة ..
وظلّت الآه ُة َت ُ
طر ُقني َخب�أ ُتها ..
كاملَ�صائِد ال�شم�س ! ..
ُ ما َداع َبتها
�أحمِ لها ..
بيديك..
وتحَ ملُني �إليك على َعجل
ار�سم ما�شئت
قلبي �صفحة بي�ضاء و �أنــا
لونها بقو�س قزح
ّ �رس ال�شقوق يف جدار القلب
�أفت�ش يف كفي عن ّ
وقل يل �أُب�رصك.
هل اكتمل احللم غيبا من�سوجا من �صمت و�شوق
يدك �سحابات الوله املكممة لل�ضوء.
�أ�صابعك لغتي
ِب�إنـْتـِظـَا ِرقـَ ْه َـوتك من يقنع الع�صافري
ت�ص َن ُعها يل ِب َيدِك ْ الواقفة على نافذتي
بلهيب حبكِ مغمو�س ِة املنتظرة لقمح يدي
َ�ص َمت َقلِيال ب�أن احل�صاد ال ينتهي
َه َّمت بِالل ََّحاقِ بِه
رجح َبني َي َديكطيع ال َت َم ُ
�أ�أ�س َت ُ
�..ص َم ُت قليال ً عت َ راج َْت َ يا احتِماالتي
َنا َدتــــْـــــــــــ ُه ف َْج�أَة :أُ�حبــك
ِكريات
�أ�أ�س َتطيع �أن �أغمِ �ض الآن كَ ّفي َعلى الذ َ
امةٍِابت َِ�س َ
ال َتف ََت َنحوها ب ْ الّتي ج ّففتها ال َق�صائِد
� ْأ�ش َعلَ �شوقا َ ,ق َّد َم َل َها فِ ْن َج َ
ان َق ْه َوة ها �أنت
ِ�ص ْمتِه ِا ُ
مل ْع َتاد او َب ِن َد َاء َها ب َ
َج َ مثل ُغ�ضن
حرف وعط ِر كلم ِة اها َج َوا ُب ُه ..يف ِ �أَ َت َ أغم َ�ضني وال ُعمر � َ
200 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
عطرك الذي ن�سيته على ج�سدي بذات عناق قلّمي �أظافر ال�شوق
�شطرين �إىل اثنتني ثم �إغ�سلي تعب امل�سافات
فكيف �أمتكن من الإفالت بدمعكِ
و�أ�صابعك مغرو�سة يف كلي ورتبي للبحر و�سادة
و ب�أ�صابع ..جتيد �رسد احلكايا
من ا�شعل املاء �إم�سحي �شعره
وترك الغيم يحرتق وحيداً لينام
لك�أن االغرتاب
بعد الرحيل
كف يكفن ..فرحناّ
نرقد على قارعة «تلويحة»
و بـ �رشود ال�ضوء عن �رسبه
خر�ساء �أ�صابعها
كان اليمام
ال نعي الي�ستوعبنا،
فري�سة الإنتظار �سوى اعتناق عــودة
يا �أنت
قل لـ هذا ال�ضجيج ال�ساكن عينيك تناولت قلمها فكتبته حبا..
تناول فر�شاة ور�سمها
يكفي.
هو يراها ج�سدا
ا�شتاقك.. هي تراه حبا
ف�أُ َح َّرر �أ َنامِ لِي ..مِ ن َق ْي ِد ال َقلَم.. وبينهما ت�ضيع امل�سافات
ف ُي ْغ ِر ُقنِي حِ برْ ُ ُه ... احلب هو �أن تلتحف يدك الدافئة يدي الباردة
ا�سمِ ك.. وف ْب ُِح ُر ِ فت�شعل جمرها.
راكع
ينبج�س من َم�سام اجلدران ،من النوافذ ،و�أنا ٌ ُ احلمامة
فخرجت حزينا ويائ�سا �إىلُ �أمام متثاله ال�ضخم، كان �أتوناب�شتم يت�أمل الأفق وحيدا ،فوق ال�سفينة،
جل�ست القرف�صاء يف زاوية نف�سي . ُ البيت ،وهناك عندما عادت احلمامةُ ،احلمامة البي�ضاء ،حمامة
ا�ستغرقت طويال يف التحديق �إىل خمطوطة هذه ُ الطوفان ،عادت بعد قرون طويلة من الطريان
حفرت
ُ توغلت عميقا يف داخلها:ُ الق�صيدة .رمبا فوق امل�شانق والقتلى .
وم�شيت حماطا بقبائل الأرق، ُ والنهار،
َ اللي َل �ضم ْت جناحيها
حامت حول ر�أ�سه عدة مرات ،ثم ّ
حيث ال �أر�ض هناك وال �سماء ،حتى خـُيـّل �إيل �أين رمت بنف�سها �إىل
�إىل بع�ضيهما ،وب�رسعة خاطفة ْ
أيت :جلجام�ش، أيت ما ر� ُ
اخرتقت الع�صور ،فر� ُ
ُ قد و�سقطت ميتة بني قدميه . ال�سفينة،
ْ
يف الأخري ،منهو�ش القلب ،يطرق بابي ،بحثا عن
�رس اخللود .
ّ
خمطوطة الأع�شاب الغام�ضة
َمن يفهمني ؟! أقطع الليل جيئة مثل نبي ُج َّن من مقالب �شعبهُ � ،
أيت :هي ر�ؤيا كتبت ما قد ر� ُ ُ وذهابا ،رغم �أين
�إن الأمر لي�س �سوى تلك الأع�شاب الغام�ضة يف أخل�صت لها. جتلّت يل وحدي ،يف حلظة نادرة ،ف�
ُ
�أقا�صي الباطن ،تنمو فت�أخذ �شكل ق�صيدة . يقرتب ،والهروب �شِ عر ،وما الطوفان نرث ،وهو
ُ
ُ
�آه َ ،من يقنع هذا املجنون �أن الفنان مثل ربان من َمهرب �إال اخليال :ال غابة �أو ب�ستان يف هذه
يتخلى عن معرفته بالبحر ،طلبا ملتاهته البلدة ،و�أنا مل �أجمع خ�شبا لبناء ال�سفينة .
اخلا�صة ؟ أنت وال�شِ عر والطوفان� ،أما إذهب �إىل اجلحيم � َ
ْ �«-
َمن يقنعه �أن �أكتاف ال�شاعر هزيلة ،يلقي عليها نحن ف�سنعت�صم باجلبل».
عر �أمتعة ثقيلة جدا ،قبل �أن مينحه موهبة ال�شِ ُ وما من جبل ،وهذا ما يجعلُ الأمر حميرّ ا:
العبور فوق مياه الأبدية ،وحيدا ؟! أكتب،
عما � ُ مل أ� ّد ِع ال�شِ عر ،ف�أنا عادة ال �أخرب �أحدا ّ
�أخبار املر�أة التي �سكنتْ مع ذلك فهم يخنقون اال�رشاقة ،و ي�ؤدون �أدوارهم
الطابق الأعلى من البيت يبعث على اجلنون .ب�إتقان ُ
�سكنت الطابق الأعلى من البيت،
ْ املر�أة التي ـ « ملاذا تفعل بي هذا ،يا �إلهي؟»
يل هربا من الطوفان ،والتي قالت
التي جل� ْأت �إ ّ �رصخت به يف معابد « �رشوباك» لكن ال يبدو
ُ
مو�ضحة ،بعد �أن �شاركتني قنينة الفودكا، عليه �أنه كان ي�سمع ،و�سط �سيل من احلجارة:
204 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s �شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
ت�أخذ زينتها ولن تتحقق �إال �إذا �ألغيتها متاما، و�أنهتها بجرعةٍ واحدةٍ « :ال تهمني النجاة ،وال
�أو �إال �إذا تبنيتها كحماقة ترتكبها ب�إتقان ي�ضمن أ�شارت �إىل قلبها ،الذي
ْ يهمني هذا» و� الغرقّ :
لكَ �أن ال تكون رابحا �أو خا�رسا ،لكنها يجب �أن رياحه،
َ وي�ضخ عا�صفته،ُّ يخفق باملطر،
ُ �سمعته
حتدث ـ كبطاقة دعوتكَ �إىل احلياة ـ ،يف حلظة يف كل االجتاهات ..
ُ�سكر ،يف حلظة �شعورية حم�ضة ،ثم تندم عليها كانت م�سافرة على مركب �أتوناب�شتم ،لكن
طوال حياتك ،التي مهما حاولت بعد ذلك ،فلن نفدت هناك� ،إ�ضافة �إىل �أنها ر�أت ْ �سجائرها
تكون حياتكَ ،لأن حياتك هناك ،يف الال فكرة حفرت ثقوبه بدموعها احلارة، ْ الناي ،الذي
حاولت �أن تكون اجلوهر من حياتك . َ التي طاملا ألقت بنف�سها ،عارية� ،إىل طافيا فوق املياه ،ف� ْ
كنت بحاجة �إليها و�أنتظرها لنت�شارك العوم جلّة املو�سيقى التي ال ميكن �أن ي�سمعها املت�أمل
يف ج�سدينا حتى �آخر رع�شة ،قبل �أن ت�صطدم � ،إال ب�أن ن�سي �أنه مت�أمل ال ل�شيء بعينه ،لكن
باجلدار ونكت�شف �أننا غارقان ال حمالة ،لكنها �أمله ال ميكن �أن ُين�سى �إال بهذا� ،إال بالقفز �إىل قعر
تكف ،هذه املر�أة ،عن الغناء ،وال عن �رضب مل ّ الأمل بقوة ،لأن ذلك مما يجعله بعيدا عن التداول،
ترق�ص عارية� ،أو تبكيُ الأر�ض بقدميها ،وهي و�صلت �إىل هذه البلدة املحرو�سة بالي�أ�س، ْ حتى
من فرط احلنني على �أ�شياء مل �أفهمها ،حتى وب�أ�سوار من ذكريات غري وا�ضحة ،حتى بالن�سبة
فكرت �أن �أطردها ،لأنها تخالف �إيقاعي يف ُ غ�سلت �سواقيها رت �ضواحيها،
ُ عم ُ
يل� :أنا الذي ّ
تفجري امل�أزق� ،أو حتجزين داخل �سجن فكرتي ب�أحالمي ،وعانقتها ب�شدة ،كعاهة ال �شفاء منها
عنها ،فال �أجر�ؤ على �أن �أرتكب حماقة ،حماقة �إال باعتناقها كمذهب �أو كديانة .
�صغرية ،ت�ؤكدين غري عابيء مبا يح�صل على كنت �أنتظرها لأن �أ�سمها كان مذكورا يف بطاقة ُ
ظهر هذا الكوكب ،الذي فقد مغزى دورانه حول الدعوة �إىل احلياة :عندما جتد اجلميع يف
نف�سه منذ �آالف ال�سنوات ،بل هي جتربين على انتظارك �إال حياتكَ ،كما �أن ا�سمها كان مكتوبا
�أن �أم�شي على حبل الأمل ،كالبهلوان ،يف نف�س على الأ�سوار ،مثل نبوءة .كان ا�سمها مكتوبا،
الطوفان كل �شيء من
ُ اللحظة التي اقتلع فيها
وال �أحد يقر�أ ،لأن ا�سمها مل يكن مكتوبا لكن الكل
جذوره ،كما �أنها كانت مت�أهبة للطريان يف
يقر�أ ،غري �أنني مل �أتوقعها جميلة وب�سيطة ،ك�أول
متاهة �أطوارها املتقلبة� ،أو للقفز من النافذة،
فجر عا�شته اخلليقة .مل �أتوقعها حقيقية جدا،
وم�ستعدة لأن حتزم حقائبها وترحل ب�إ�شارة
كما قلم الر�صا�ص الذي كان طافيا ،هو الآخر،
مني ،لكنني مل �أفعل ذلك :مل �أطردها� ،إذ ال بيت
فوق طوفان دموعي ،حامال يف �صلبه فكرتي
أعي�ش وحيدا ،مع
يل ،ال طابق �أعلى ،ال قبو ،و� ُ
عنها ،فكرتي التي ال ميكن �أن تتجلى وا�ضحة
م�صريي ،يف العراء .
وطردت ،من ر�أ�سهَ ،جمالها ُ القلم
ك�رست َُ �إال �إذا
�أنبتُ ورودا بني �أقدام متاثيلكِ الذي يتجاوزها كفكرة ،ومي�ضي بعيدا ،و�صوال
كان �أتوناب�شتم يلعنني ،وهو يجمع الأخ�شاب، �إىل الال فكرة ،فبع�ض الأ�شياء امل�ستحيلة ،ال
205 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
ق�صيدة نرث عن الطوفان الأخري من غابة اخليال ،لي�صنع ال�سفينة ،وكنتِ
�سمعت �رصخة من �صنبور مياه ،يف الفندق، ّرت يف التوبة ،لأنني مت�سحني دموعي كلما فك ُ
ُ
نظرت بحزن ،منُ فهززت ر�أ�سي بي�أ�س:
ُ اتوناب�شتم، أكلت ك َّل تفاحاتكِ ،ولأنكِ كنتِ �سخية مبا يكفي � ُ
النافذة ،ور�أيته منهمكا بتحطيم �أ�شجار احلديقة ال�شيطان �إىل �أعمال �أخرى ،كما �أنكِ
ُ لأن ين�رصف
تذكرت �أن دوري يف الق�صة هو ُ بف�أ�سه ال�ضخم ،ثم كنتِ وقحة ،طفلة وقحة ،مبا يكفي لأن يتوقف
�أن اعت�صم بجبل ،عندما يفور التنور ،فلم �أجد بدا يفي�ض به ج�سدكِ من ُ املالكُ عن مالحقة ما
من ال�صعود �إىل �سطح البناية ،واجللو�س بانتظار حرائق مباركة .
�إ�شارة من املُخرج ،كي �أموت غرقا .. وقعت �أن �أ�سقطَ ،لأن �أتونا ب�شتم كان غا�ضبا .
ّت ُ
مللت من هذا ،لكن ماذا �أفعل ..كي اعرتف �أنني ُ قت �شِ باك كان �ساخطا ك�أي �صياد نبيل ،م ّز ْ
�أجنو من الإفال�س ،من �شعوري باخلزي نتيجة �أفكاره �سمك ٌة طائ�شة ،وكلما فكـّرت يف العودة
خيانات ع�شتار املتكررة مع �أ�صدقائي، �إىل �أح�ضانه ،كنتِ تفكني �أزرار رغبتكِ ،فيندلع
وكيف �أتخل�ص من ثقل الزمن ؟! الرتانيم ،وامل�شاعلُ ..
ُ أنهار،
وتفي�ض ال ُ
ُ القمي�ص،
ُ
وجرف َ هب م�صريي ،كما �إع�صار، وعندما ّ
كيف ت�صنع �أ�سطورتك ال�شخ�صية ؟!
ارتفعت درجة ُ حرارة ْ الطوفان ك َّل �شيء :عندما
ُ
يجل�س بهدوء �إىل جواري يف ُ كان �أتوناب�شتم الظالم يف العامل ،كنتِ عارية ،عارية جدا ،مبا
اخلمر
ُ دب ْت فيه الن�شوة :فتح احلانة ،عندما ّ كنتالربق يف داخلي ،لكنني ُ ُ يكفي لأن ينفجر
نواف َذ خياله ،وبد أ� ب�رس َد ق�صة الطوفان ،فهطل كنت ه�شا مبا يكفي لأن �أكون �إن�سانا ،الن ه�شاُ :
وهبت العا�صف ُة من جميع اجلهات، املطر فج�أةّ ، ُ أذوب �شيئا ف�شيئا، أموت غرقا يف احلب ،ولأن � َ � َ
فجرفت كل �شيء ،لكنه ظ ّل رابط اجل�أ�ش مم�سكا الغرين ،هنا وهناك ،حيث �س�أعو ُد أتر�سب مع
ّ ثم � ُ
ارتفعت �إىل
ْ بقنينة اخلمر ،غري �آبه باملياه ،التي أنبت ورودا ،ال �شك َل لها ،بني �أقدام ثانية ،ل َ
أحالم العامل .
وارتفعت معها � ُ
ْ ال�سقف، متاثيلكِ ..
أبحث عن مخَ رج من تلك الورطة ،وكلما كنت � ُ ُ
حاولت اخلروج �إىل ال�شارع كان ي�سحبني كيف تفوز بوردة ؟!
من ياقتي �إىل اخللف ،موا�صال �رسد الق�صة، دخلت ب�أحمالكَ ،مبا معكَ َ الباب:
َ فتحت
َ عندما
كر بال�رضبة القا�ضية، ال�س ُ
وعندما� ،أخريا� ،أوقعه ُ من �أهوال ،من متاهات ومن عوا�صف ،ومبا يف
أيت نداء حزينا يف عينيه ،ومل �أتردد ،فعانقته ر� ُ مازلت يف
َ وفوجئت �أنكَ نف�سكَ
َ جيوبكَ من غبار،
م�رصا على
ّ و�صعدنا �إىل ال�سطح ،فيما هو ال يزال غرفتكَ :مل تغادرها قط ،م�ستلقيا على خرائط
موا�صلة ال�رسد . أيت ،يف �سفركَ الطويل !..
البلدان التي ر� َ
s
s
s
قالتها ورحلت وتلك ال�شجرة بجذعها
الفجر ير�سل امل�شبع باملياه
ّ
�سل�سلة من العتابات ال�ضوئية كلها حلظتي العابرة بحزن
تن�سل بني �سعف النخيل أقبل تلك الأفواه
�أو ّد لو � ّ
التي ت�شبه �أ�صابع م�شلولة. قبل �أن
ذهبت وك�أنها مو�سيقى ت�سقط ورقة
مل �أعرف كنهها بعد ف�أح�سبني انطف�أت.
حيث �إن العزف الإلهي و�أنا �أ�صوب نظري للبعيد
م ّد �أوتاره نحو قلقنا املتوارث. فتاتان تقعيان �أمامي
قليال من البهجة �أطلّت علينا �شعرهما املتطاير
من وراء �ستارة جمهولة يف الذكريات يظلل ب�ؤب�ؤ العني
انت�شلت م ّنا احلذر كما لو �أن منجال
وانطلقنا ن�رسد التاريخ وال�صور ج ّز حزمة ال�سنوات
وبالرغم من ع�صافري ال�شوق يف جدولني من احلياة
التي حلّقت يف �سمائنا حيث � ّأن القابلة
�إال �أن جحافل القلق هجرتني �إىل غربة ّ
توزع مهماتها بق�سوة مل تتجان�س مع روحي.
على طاولة الرباءة التي
�ص ّفت عليها �سنني الأحالم واخليبات كم هو الإله ملغز
مل ن�ستطع امتطاء قوافل الذاكرة �أرواحنا يف بقعة كونية
خ�شية �أن يخيبنا احلنني و�أج�سادنا يف الأخرى
ترى ...
مثل ثفل القهوة املن�سكب.
هل هو يف حلظة امتاع �أبدية؟
وكلما رغبت �أرواحنا
كان احلظ عنكبوتا الربد قار�س
ين�سج م�صائرنا يف الغابات املظلمة. ولكنه ال يحمل ال�ضباب الذي �أحب.
210
ذبابة يف احل�ساء
ت�شارلز �سيميك
ترجمة� :إميان مر�سال
�شاعرة من م�رص تقيم يف كندا
طبقة خاطئة ،جماعة عرقية خاطئة ،دين خاطىء _ ق�صتي ق�صة قدمية و�أ�صبحت الآن م�ألوفة .لقد
�إىل �آخره_ هم كانوا وما زالوا تذكرياً غري �سار بكل كثري من النا�س يف هذا القرن� :أعدادهم مهولة ت�رشد ٌّ
�أخطاء اليوتوبيات الفل�سفية والقومية .لقد جاءوا وم�صائرهم الفردية واجلماعية متنوعة� ،سيكون
بخِ رقهم البالية ومناظرهم التع�سة وي�أ�سهم ،جاءوا متميزاً ك�ضحية� ،أنا �أو
ّ م�ستحي ًال يل �أن �أ ّدعي و�ضع ًا
زرافات ووحدانا من ال�رشق ،هاربني من ال�رش بدون أردت ال�صدق .خا�ص ًة �أن ما حدث�شخ�ص �آخر� -إذا � ُ
ٍ �أي
عما ينتظرهم .مل يكن لدى �أحد يف �أوروبا ما �أية فكرة ّ يل منذ خم�سني �سنة يحدث لآخرين اليوم .رواندا،
يكفيه لي�أكل ،وهنا جاء الالجئون املت�ضورون جوعاً، البو�سنة� ،أفغان�ستان ،كو�سوفو ،والأكراد املهانون
خميمات ،و�سجون، مئات الألوف منهم يف قطاراتّ ، ب�صورة ال تنتهي -وهكذا ي�ستمر احلال .قبل خم�سني
يغم�سون خبزاً ياب�س ًا يف ح�ساء مائي ،يبحثون عن �سنة كانت الفا�شية وال�شيوعية ،الآن هناك القومية
قمل يف ر�ؤو�س �أطفالهم ،ويندبون مبختلف اللغات والأ�صولية الدينية مما يجعل احلياة ال تطاق يف
املروع.
م�صريهم ّ �أماكن كثرية .يف الآونة الأخرية ،على �سبيل املثال،
�أ�رستي ،مثل �أ�رس �أخرى عديدة ،متكنت من �أن كنت �أترجم ق�صائد من �رساييفو لأنطولوجيا �شعرية
ترى العامل جماناً ،والف�ضل يعود حلروب هتلر حمرروها �صعوبات كبرية يف العثور على ّ واجه
و�سيطرة �ستالني على �أوروبا ال�رشقية .نحن مل نكن ال�شاعرة التي كتبتها .لقد اختفت .هي مل تكن مغمورة،
متعاونني مع الأملان وال كنا من املنتمني �إىل الطبقة كان لديها الكثري من الأ�صدقاء ،لكن يبدو �أن ال �أحد
الأر�ستقراطية ،كما مل نكن ب�أي معنى من املنفيني يعرف ما حدث لها يف فو�ضى احلرب.
ال�سيا�سيني .عدميو الأهمية كُ نا ،مل نقرر �شيئا لأنف�سنا. «م�رشدون»( )1هو اال�سم الذي �أطلقوه علينا يف
كل �شيء رتبه قادة العامل يف وقتها .كالكثري من ،1945وهذا كان و�ضعنا بالفعل .وكما جتل�س
النازحني مل يكن لدينا طموح يتعدى حدود مدينتنا وت�شاهد قناب َل ت�سقط يف بع�ض الأفالم الوثائقية
بلجراد .كنا على ما ُيرام مع ذلك .اتفاقيات ُعقدت القدمية �أوجيو�ش ًا ُيحارب بع�ضها البع�ض ،قرى
حول جماالت النفوذ ،حدود �أعيد تر�سيمها ،وما ومدن ًا تت�صاعد منها النريان والدخان ،ال يخطر ببالك ُ
رحلونا
بال�ستاراحلديدي( )2مت ا�سداله ،ونحن َّ
ّ ي�سمى النا�س املتكد�سون يف الأقبية .لقد دفع ال�سيد الربيء
مع حاجاتنا القليلة .ما زال امل�ؤرخون يوثقون جميع وال�سيدة الربيئة و�أ�رستاهما ثمن ًا باهظ ًا يف هذا
اخليانات والرعب الذي واجهناه كنتيجة مل�ؤمتر القرن ملجرد وجودهم هناك .مدانون تاريخي ًا _ كما
يالطا( )3وغريه ،واملو�ضوع �أبعد من �أن ينتهي. كان يحب املارك�سيون �أن يقولوا _ رمبا انتموا �إىل
211
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
�صغرية ،وهلم جرا� ،إىل �أن يهز ال�ضابط كتفيه وي�رشع كما هو احلال دائماً ،كان هناك تفاوت يف درجات
يف �إعالمهم �أنه �إذا مل ُتق ّدم الوثائق فوراً ف�سيتم �إلغاء ال�رش وتفاوت يف درجات امل�أ�ساة .مل تتعر�ض �أ�رستي
ت�رصيح الإقامة. ملعاناة ُمريعة كالآخرين� .أعاد احللفاء �إىل �ستالني
هكذا ،ما الذي كنا نفعله؟ ح�سنا ،عندما يكون اجلو مئات الآالف من الرو�س الهاربني �ضد �إرادتهم،
لطيف ًا كنا نذهب لنجل�س على مقعد �شارع ن�شاهد كان الأملان قد جلبوهم قبل ذلك ق�رساً ليعملوا يف
الباري�سيني املحظوظني وهم يتنزهون ،يحملون م�صانعهم ومزارعهمُ .قتل بع�ضهم والبقية مت �شحنها
البقالة ،يدفعون عربات �أطفالهم ،يمُ ّ�شون كالبهم، ال�سخرة حتى ال ُيلوثوا بقية املواطنني �إىل مع�سكرات ُّ
وحتى ُي�ص ّفرون .يف بع�ض الأحيان يقف �أمامنا مبا اكت�سبوه حديث ًا من مفاهيم ر�أ�سمالية منحطة.
اثنان ليتعانقا ،بينما نحن نلعن الفرن�سيني وحظنا وردية .كنا ن�أمل �أن ينتهي ّ توقعاتنا كانت �أكرث
التع�س .يف النهاية جُنرجر �أقدامنا بتثاقل �إىل غرفتنا بنا احلال يف الواليات املتحدة ،كندا �أو �أُ�سرتاليا .مل
ال�صغرية بالفندق ونكتب ر�سائل للأهل. يكن ذلك م�ضموناً .كانت �أ�سهم معظم بالد �أوروبا
نن كل يوم بالطبع ،ال ي�صل الربيد ب�رسعة .كُ نا جُ َ ال�رشقية منخف�ضة على عك�س بالد �أوروبا الغربية.
وملدة �أ�سابيع يف انتظار البو�سطجي الذي مل يكن ال�سالف اجلنوبيون ،كانوا يف عيون خرباء اجلينات ُ
يتحمل ر�ؤيتنا لأننا ك ّنا ن�ضايقه ،مع ذلك ،وب�شكل ما، ّ الأمريكيني ووا�ضعي قانون الهجرة من الأعراق غري
كانت الوثائق ت�صل ،بف�ضل قريب ما من بعيد .وال بد املرغوب فيها �إطالقاً.
من ترجمتها بعد ذلك على يد مرتجم ُمعتمد ،يكون من ال�صعب على الذين مل ميروا بالتجربة �أن يفهموا
طيات عادة غري قادر على التفرقة بني ر�أ�س وذيل ّ حق ًا ماذا يعني �أال يكون لديك الوثائق الالزمة .نقر أ�
الورقة ذات اخلم�سني عام ًا من مدر�سة يف مقاطعة يف كل يوم عن �ضباط الهجرة لدينا وكيف ي�ستخدمون
البلقان �أو من دفرت ت�سجيل كني�سة .يف كل الأحوال، وي�سيئون ا�ستخدام �سلطاتهم املكت�سبة لإعادة �أجانب
كنا نعود �إىل الطابور الطويل فقط لنكت�شف �أن هذه م�شبوهني من على حدودنا .ال�سعادة يف �إذالل
الوثائق مل تعد مهمة ،ولكن �شيئ ًا �آخر �أ�صبح مطلوباً. كنتالعاجزين ال يجب اال�ستهانة بها .حتى عندما ُ
يف كل مكتب جلوازات �سفر ،يف كل ق�سم بولي�س ،يف طفالً ،كان بو�سعي �أن �أرى حدوث ذلك� .أينما يوجد
كل قن�صلية ،يوجد مكتب وخلفه موظف حذر �سيء بريوقراطيون ،تكون الدولة البولي�سية هي املثال
املزاج ي�شتبه يف �أننا ندعي غري حقيقتنا .ال �أحد الأعلى.
�رشداً»
«م ّ
�سمى ُيحب الالجئني .الو�ضع املبهم لأن ُت ّ �أتذكر الوقوف يف طوابري ال نهاية لها �أمام مقر
جعل الأمر �أكرث �سوءاً .امل�س�ؤولون الذين يقابلوننا ال البولي�س يف باري�س من �أجل ا�ستالم �أو جتديد ت�رصيح
يعرفون من �أين �أتينا وملاذا ،ولكن هذا مل مينعهم من الإقامة .يبدو ذلك وك�أنه كل ما كنا نقوم به عندما
�إ�صدار حكمهم علينا .قد يجلب لك قدراً من التعاطف �أن كنا نعي�ش هناك .ننتظر نهاراً كام ًال فقط لنكت�شف �أن
تكون مطروداً ب�سبب النازية� ،أما �أن ُتغادر بلدك ب�سبب القوانني قد تغيرّ ت منذ زيارتنا املا�ضية� ،أنهم الآن
ال�شيوعية فهذا ما ي�صعب قبوله� .إذا كان امل�س�ؤولون يطلبون ،على �سبيل املثال� ،شيئ ًا على قدر من العبث
ي�ساريني ،ف�سيقولون لنا بفظاظة �أننا ُتع�ساء ناكرون تخرجها من والدي �أمي �أو �شهادة ّ ّ مثل وثيقة زواج
للجميل� ،أننا تركنا خلفنا �أكرث املجتمعات تقدم ًا املدر�سة ،هذا على الرغم من �أنها يف طريقها للح�صول
وعدالة على وجه الأر�ض .الآخرون ح�سبونا جمرد على �شهادة فرن�سية لأنها �أنهت درا�ستها العليا يف
وما�ض م�شبوه .حتى ال ُدمى ٍ رعاع ب�شهادات مزيفة باري�س .وبينما كنا نقف هناك نت�أمل يف ا�ستحالة
املبت�سمة خلف فتارين املحالت يف �شارع فيكتور ما يطلبونه منا ،كنا ن�ستمع �إىل �شخ�ص �أمام ال�شباك
هيجو الأنيق عاملتنا وك�أننا هناك لن�رسق �شيئاً. املجاور يحاول �أن يقول يف فرن�سية �ضعيفة كيف
يف احلقيقة كان الأمر ب�سيط ًا للغاية� :إما �أننا كنا احرتق بيتهم ،كيف غادروا مهرولني بحقيبة واحدة
212 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
زار والدي واملر�أتان عدداً من الأماكن الأخرى يف �سنح�صل على موطىء قدم هنا �أو يف مكان �آخر� ،أو
تلك الليلة .وذهب معهم اخلنزير وهو مربوط باحلبل. �سنعود �إىل خميم لالجئني� ،أو ،الأ�سو�أ� ،إىل «التج�سيد
لقد �أجربوه على �رشب ال�شمبانيا معهم وعلى لب�س الكامل ل�شوق االن�سان العميق للعدالة وال�سعادة» كما
قبعة احلفالت .بعد �سنوات عديدة �سي�سميه والدي اعتاد العامل ال�شيوعي �أن يو�صف يف بع�ض اجلهات.
«اخلنزير امل�سكني». الهجرة ،املنفى� ،أن تكون بال جذور و�أن ت�صبح
عند الفجر كان والدي وحده مع اخلنزير ي�رشبان يف منبوذاً ،رمبا يكون ذلك �أكرث الطرق املبتكرة القناع
بار متوا�ضع بالقرب من حمطة ال�سكة احلديد .يف االعتباطية لوجوده �أو وجودها .ل�سناّ الفرد بالطبيعة
الطاولة بجانبهما كان هناك كاهن �سكران يكلّل روحي طاملا �أنّ نف�سي �أو ُمر�شد
ّ يف حاجة �إىل طبيب
عرو�سني .رفع ال�شوكة وال�سكني يف و�ضع �صليب كل من نقابلهم ي�س�ألوننا من �أنتم مبجرد �أن نفتح
الزوجي .بعد ذلك �أهداهما والدي اخلنزير نْ ليبارك �أفواهنا وي�سمعون اللكنة .
كهدية لزواجهما .اخلنزير امل�سكني. احلقيقة هي �أننا مل يكن عندنا �أجوبة وا�ضحة .بعد
لكن هذه لي�ست نهاية الق�صة .ففي ،1948عندما ترجرجنا يف القطارات املخيفة وفوق ال�شاحنات
كان والدي يف طريقه �إىل �أمريكا ونحن نت�ضور جوع ًا وال�سفن التجارية املهلهلة� ،أ�صبحنا لغزاً حتى لأنف�سنا.
يف بلجراد ،اعتدنا �أن نقاي�ض ممتلكاتنا بالطعام. يف البداية ،كان ذلك �صعب ًا علينا ولكن مبرور الوقت
ب�إمكانك �أن حت�صل على دجاجة مقابل حذاء نتعود .بد�أنا نتذوق هذا الو�ضع ون�ستمتع به� .أن بد�أنا ّ
ومزهريات
ّ رجايل بحال جيد .ال�ساعات والف�ضيات تكون ال �أحد بدا يل �شخ�صي ًا �أكرث �إثارة من �أن تكون
الكري�ستال و�أطباق ال�صيني الفخمة مت مقاي�ضتها �شخ�ص ًا ما .ال�شوارع كانت مليئة ب�أولئك الأ�شخا�ص
بلحم ودهن اخلنزير وال�سجق و�أ�شياء من هذا القبيل. املهمني وهم ي�صنعون �أجواء الثقة حولهم .ن�صف
غجري قبعة والدي الر�سمية.ٌّ املرات ،طلب يف �إحدى ّ الوقت كنت �أح�سدهم ،ن�صف الوقت كنت �أنظر �إليهم
مل تكن على مقا�سه .مقابل هذه القبعة التي غطت يف �شفقة .لقد كنت �أعرف �شيئ ًا مل يعرفوه� ،شيئ ًا
جربها ،ناولنا بطة حية. عينيه عندما ّ من ال�صعب معرفته �إذا مل يركلك التاريخ بقوة يف
ثرياً� .س ّنة
بعد ذلك ب�أ�سابيع جاء �أخوه لريانا .بدا ّ م�ؤخرتك :كيف يبدو الأفراد غري �رضوريني وعدميي
�أمامية من الذهب� ،ساعتان ،واحدة يف كل يد .الآخر، الأهمية �ضمن �أي �صورة كبرية! كيف �أن ه�ؤالء ال ُق�ساة
كما يبدو ،كان قد انتبه لبذلة �سهرة �سوداء عندنا .يف ال يفهمون احتمال �أن يكون ذلك هو م�صريهم �أي�ضاً.
الواقع كنا نرتك ه�ؤالء النا�س يتجولون بني الغرف
يقيمون الب�ضائع .يت�رصفون ك�أنه بيتهم ،يفتحون ّ -2-
الأدراج ،ينظرون يف اخلزانات .يعرفون �أننا لن عندي �صورة لوالدي وهو يلب�س بدلة �سوداء ويحمل
نعرت�ض .ك ّنا جوعى. خنزيراً �صغرياً حتت �إبطه� .إنه يف مركز ال�صورة
على �أي حال� ،أح�رضت �أمي بذلة �سهرة .1926كان وبجانبه امر�أتان جميلتان يف ف�ساتني �سهرة ق�صرية
با�ستطاعتنا �أن نرى فوراً كيف وقع الرجل يف غرامها. و�ضحكة جميلة يف عيونهما ال�سوداء .هو �أي�ض ًا
دجاجتي.
نْ عر�ض علينا يف مقابلها �أو ًال دجاجة ثم ي�ضحك .فم اخلنزير مفتوح ولكن ال يبدو �أنه ي�ضحك.
ل�سبب ما �أ�صبحت �أمي عنيدة .الأعياد على الأبواب. �إنه حفل ر�أ�س ال�سنة .ال�سنة هي 1928ويبدو �أنهم
الغجري �أ�صبح غا�ضباً� ،أو
ّ لقد �أرادت خنزيراً ر�ضيعاً. الليلية .عند منت�صف الليل �أُطفئت
ّ يف �أحد املالهى
م ّثل �أنه غا�ضب .اخلنزير �أكرث مما ينبغي .لكن �أمي الأنوار ومت الإفراج عن اخلنزير� .أثناء الهرج واملرج
مل ت�ست�سلم .عندما تركب ر�أ�سها فهي ت�ساوم ب�رضاوة. قب�ض والدي على اخلنزير املت�أمل� .أ�صبح ملكه .بعد
بعد ذلك ب�سنوات يف دوفر نيوهام�رش ،راقبتها وهي ت�شجيع النا�س� ،أخذ حب ًال من النادل وربط اخلنزير
تو�صل بائع �أثاث �إىل �شفا اجلنون .عر�ض عليها �أن برجل الطاولة.
213 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
على ال�ستارة� ،أريد �أن �أنظر ولكني خائف من انعكا�س ت�أخذ الكنبة جمان ًا فقط ليتخلّ�ص منها.
ال�ضوء اخلافت للراديو على جدار غرفة النوم .والدي الغجري كان �أكرث ت�ش ّدداً .غادرنا .بعدها ب�أيام عاد
ّ
مت�أخر والثلج يغطي ال�سطوح يف اخلارج. ل ُيلقي نظر ًة �أخرى .وقف يح ّدق يف البذلة عند �أمي
يف � 6إبريل ،1941كان عمري ثالث �سنوات� ،رضبت ك�أنه يريد �أن يتخلّ�ص م ّنا يف نف�س الوقت .نظر
قنبلة يف اخلام�سة �صباح ًا املبنى املقابل من ال�شارع كرجل يتخذ ٍ ونظرنا .يف النهاية ،تن ّف�س ال�صعداء
لدتمما �أدى �إىل ا�شتعال النار فيه .بلجراد التي ُو ُ قراراً �صعب ًا وال رجعة فيه .ح�صلنا على اخلنزير يف
فيها ،لديها فرادة غري م�ؤكّ دة فقد ق�صفها النازيون حي ًا وي�شبه �إىل حد كبري اخلنزير اليوم التايل .كان ّ
يف عام ،1941واحللفاء يف عام ،1944والناتو يف يف ال�صورة.
عام .1999 -3-
عدد القتلي يف ذلك اليوم من �أبريل _ والذي �أطلق يف البدء ...الراديو .كان على طاولة بجانب �رسيري.
عليه الأملان «عملية عقابية» _ يرتاوح بني خم�سة كان له زر حتكّم ُي�ضيء ،ثم تظهر �أ�سماء املحطات.
و�سبعة ع�رش �ألفاً ،وهو �أكرب عدد من القتلى املدنيني فكنت �أ�س�أل الآخرين
ُ ومل يكن با�ستطاعتي القراءة بعد
يف يوم واحد خالل الع�رشين �شهر الأوىل من احلرب. �أن يقر�أوها يل .هناك �أو�سلو ،ل�شبونة ،مو�سكو ،برلني،
كانت املدينة قد تعر�ضت لأربعمائة قاذفة و�أكرث من بوداب�ست ،مونت كارلو ،وغريها الكثري .ت�ضع ال�سهم
مائتي طائرة مقاتلة يف يوم �أحد ال�شعانني( )4عندما
ّ الأحمر موازي ًا لال�سم ،فتنبثق لغة غريبة ومو�سيقى
ت�ضخم عدد �سكان العا�صمة بزوارها من الأرياف� .أي ًا غري م�ألوفة .يف العا�رشة ،تتوقف املحطات عن البث.
كان العدد احلقيقي ،فلقد ُحكم على املار�شال الك�سندر احلرب م�ستمرة .هذا العام هو .1943
لور( )5لهذا الق�صف املرعب ومت �شنقه يف .1945 لقد �أم�ضيت ليايل طفولتي مع هذا الراديو� ،إنني
�أظن �أحيان ًا �أنني ال �أذكر �شيئ ًا عن ذلك الق�صف، �أُرجع الأرق الذي �صاحبني طوال حياتي ل�سِ حره .مل
و�أحيان ًا �أجد نف�سي على الأر�ض وه�شيم الزجاج يدي عنه .حتى بعد �أن تتوقف يكن ممكن ًا �أن �أبعد ّ
حويل .الغرفة �ساطعة الإ�ضاءة و�أمي ترك�ض نحوي زر التحكّم ا�ستمر يف حتريك ّ ُّ املحطات عن البث.
وذراعاها مفرودان على ات�ساعهما .حكوا يل بعد ذلك و�أدر�س ال�ضو�ضاء املختلفة .مرة �سمعت �صفارات
�أنني طِ رت من �رسيري وعرب الغرفة حيث �سقطت ،و�أن �شفرة مور�س .فكرت �أن هناك جوا�سي�س� .أحيان ًا كنت
�أمي التي كانت تنام يف الغرفة املجاورة وجدتني علي �أن �أ�ضع �أذين
�ألتقط حمطة بعيدة خافتة ويكون ّ
عندها .كلما حاولت �أن ا�س�ألها �أن تف�رس يل ماحدث على خ�شونة الغطاء التي تغطي مركز ال�صوت� .أحيان ًا
كانت ترف�ض مكتفية بواحدة من تنهداتها املعتادة كانت تندلع مو�سيقى رق�ص �أو تكون اللغة جذابة جداً
ونظراتها ال�ساخطة .لي�س غريب ًا �أن هذه الذكرى ف�أ�ستمع �إليها مدة طويلة ،و�أ�شعر �أنني على و�شك �أن
كانت م�ؤملة بالن�سبة لها ،بالت�أكيد كانت كذلك. �أفهمها.
الذي �أغ�ضبها وجعلها ال جتد كلمات ُتعبرّ بها كان كل ذلك كان ممنوع ًا منع ًا باتاً .كان من املفرو�ض �أن
ذلك الغباء املخيف يف كل ما حدث .كان والدي يقبل �أكون نائماً� .أفكر يف ذلك الآن ،رمبا كنت خائف ًا من
بالقتال من �أجل ق�ضية عادلة .هي ،يف الطرف الآخر، الوحدة يف تلك الغرفة الكبرية .احلرب م�ستمرة .البالد
مل ترتاجع �أبداً عن قناعتها ب�أن العنف وخ�صو�ص ًا حمتلة� .أ�شياء فظيعة حدثت يف الليل .كان هناك حظر
هذه الدرجة من العنف لي�س �إال غباء .والدها نف�سه �شخ�ص �آخر يف الغرفة ٌ جتول� .أحدهم كان مت�أخراً.
كان عقيداً يف احلرب العاملية الأوىل ،ولكنها مل يكن املجاورة مي�شي جيئة وذهاباً� .ستائر من الورق
عندها �أوهام .احلرب تقوم على �أيدي رجال ُق�ساة الأ�سود معلقة على ال�شبابيك .كان �شيئ ًا مرعب ًا �أن
ب�صفوف من امليداليات تغطي �صدورهم التي مل تكرب تنظر من خاللها �إىل ال�شارع _ ال�شارع اخلايل املظلم.
�أبداً� .إذا ذكرت انت�صار احللفاء لأمي ،ف�ستذكرك بعدد �أتخيل نف�سي و�أنا �أم�شي على �أطراف �أ�صابعي وي ٌد
214 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
�شيء يف تلك املرة� .أفرجوا ٌ على كل حال مل يحدث الأمهات اللواتي فقدن �أبناءهن من اجلانبني.
عنه .مل يكن ذنبه �أن �أخاه الأ�صغر �رسق �شاحنة من عندي ذكرى �ضبابية �أخرى لنريان �ساطعة ثم عتمة
اجلي�ش الأملاين لي�أخذ �صديقته يف نزهة .الأملان تامة و�أنا حممول على ال�سالمل يف هرولة �إىل املخب�أ.
كانوا منده�شني ،تقريب ًا مذهولني من اجلر�أة� .أر�سلوه حدث هذا كثرياً �أثناء احلرب العاملية الثانية ،لذا
للعمل يف �أملانيا .لقد قاموا باملحاولة ،ولكنه ت�سلّل رمبا حدث ذلك يف ظرف �آخر .ما �أده�شني بعد ذلك
من بني �أ�صابعهم. ت�سجيلي �أملاين عن
ّ ب�سنوات ،بينما �أتابع م�شاهد فيلم
و ّفر لنا زمن احلرب مالهي للريا�ضة وزحاليق وبيوت ًا مبان
ٍ الق�صف� ،أن �أرى م�شهداً عابراً ل�شارعي ولع ّدة
خ�شبية وح�صون ًا ومتاهات ميكن العثور عليها يف دمرة يف احلي .مل �أدرك حتى تلك اللحظة كم من ُم ّ
ذلك اخلراب عرب ال�شارع .كان هناك جزء قد تبقى من القذائف �أمطرت فوق ر�أ�سي ذلك ال�صباح.
الدرج ،كنا ن�صعد بني احلطام وفج�أة تظهر ال�سماء! أنا�س كثريون ماتوا يف البناية التي تقع يف اجلهة � ٌ
ولد �صغري �سقط على ر�أ�سه ومل ي ُعد �أبداً ملا كان عليه. املقابلة من ال�شارع ،مبا فيهم �أ�رسة كان لها �صبي
حرمن علينا االقرتاب من الدمار ،ه ّددننا، �أمهاتنا ّ يف عمري ،وب�سبب ما ،عاد املو�ضوع لذهني جمدداً
حاولن �أن ي�رشحن املخاطر الكثرية التي تنتظرنا، بعد ذلك ب�سنوات .قيل يل مرات ومرات كم كانت �أ�رسة
مع ذلك كنا نذهب .جال�سون ب�سعادة بني �أطالل غرفة طيبة وكم كان ال�صبي و�سيم ًا و�أن مالحمه كانت
�شخ�ص ما بالدور الثالث ،ي�أتينا من ال�شارع ٍ طعام ت�شبه مالحمي بع�ض ال�شيء .وجدت ذلك خميفاً .لكن
حتتنا �صياح واحدة من �أمهاتنا وهي ت�شري �إلينا الق�صة �أُعيد �رسدها ب ُغاللة من الن�سيان ك�أن لهذا �صلة
بينما ابنها يهرول �إىل �أ�سفل جماهداً يف تذكر �أين ما بي .لي�س عندي فكرة كيف كانت مالحمه ،كما
كان ي�ضع قدميه �أثناء ال�صعود. لي�س عندي فكرة كيف كانت مالحمي يف هذا ال�سن
كنا نلعب جنوداً ،ا�ستمرت احلرب .نزلت القنابل. ال�صغري .لكني ظللت �أتخيله بو�ضوح بينما �أنا �أكرب
ولعبنا جنوداً� .أطلقنا النار على بع�ضنا البع�ض طوال ك�أنه كان �رشيكي يف اللعب.
النهار .طاخ طخ _ طيخ� .سقطنا قتلى على الر�صيف. رمادي ًا وقتها؟ يف ذكرياتي ّ هل كان العامل حق ًا
رك�ضنا بني الزحام مقلدين �صوت الطائرات املقاتلة املبكرة كان العامل دائم ًا يف �أواخر اخلريف .اجلنود
وهي تغط�س وتقب. رماديون ،وهكذا كان النا�س.
ثم �أ�صبحنا حامالت قذائف� .أ�سقطنا �أ�شياء من منر بجانبهم« .ال الأملان يقفون يف الزاوية .نحن ّ
ال�شباك �أو البلكونة على النا�س يف ال�شارع .اجلاذبية تنظر �إليهم» ،تهم�س �أمي .نظرت �إليهم على �أي حال،
الأر�ضية هي �صديقة القنبلة� ،أتذكر قراءتي مرة يف وواحد منهم ابت�سم .ل�سبب ما �أخافني ذلك.
دليل للجي�ش .القنابل �إما تحُ مل حتت اجلناح �أو تو�ضع يف ليلة جاء اجل�ستابو العتقال والدي .كانوا يفت�شون
يف مق�صورة خا�صة داخل الطائرة .بالن�سبة لنا ،كان يف كل مكان حمدثني �ضجة كبرية .كان والدي قد
علينا فقط �أن نفرد �أذرعتنا ،نزيد من �رسعة املواتري، ارتدى مالب�سه بالفعل .كان يقول �شيئاً ،رمبا كان
وندور كمروحة هوائية ونحن نحمل ج�سم ًا يف �أيدينا ينكّت .تلك كانت طريقته .مهما كان الو�ضع قامتاً،
حتى يتم التخل�ص من حمولتنا� .أحد �أ�صدقائي كان يجد �شيئ ًا م�ضحك ًا ليقوله .بعد �سنوات عديدة،
كان عنده نظارات جي�ش واقية ،وكان ي�سمح لنا حماط ًا بالأطباء واملمر�ضات بعد تعر�ضه لأزمة
با�ستعمالها �أحياناً .لقد كانت جتعل ق�صف ال�شارع قلبية خطرية� ،أجاب على �س�ؤالهم «كيف ت�شعر الآن
حتتنا �أكرث واقعية يف عيوننا. يا �سيدي؟» بـ «�أن طلب بيتزا وبرية» .ظن الأطباء �أنه
طبيعي ًا من جن�س الذكور.
ّ �صوت الطيخ _ طاخ يخرج علي �أن �أ�رشح لهم �أن هذا
تعر�ض لتلف يف املخ .كان ّ
من النادر �أن ت�أتي هذه ال�ضو�ضاء من فتاة بال�شكل �سلوك طبيعي بالن�سبة له.
ال�صحيح� .ألقينا احل�صى على العابرين حتتنا ،الطوب على الأرجح �أنني عدت للنوم بعد �أن �أخذوا والدي.
215 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
كنت مرعوب ًا من �صفعاتها �أكرث من رعبي من القنابل. على القطط والكالب ال�ضالة ،م ّدعني �أننا ن�سقط قنابل
جن ّر �أقدامنا بتثاقل.
يف حلظة ما انتهى الأمر .خرجنا ُ �أمريكية على النازيني .بعد خم�سني عام ًا ما زلت
تخيل
املتحم�سون للق�صف اجلوي �إما يفتقرون �إىل ّ املحرمة واخلبث يف القيام بذلك .الآن ّ �أذكر املتعة
حقيقة ما يحدث على الأر�ض� ،أو �أنهم عطلوا خيالهم. حيث تتو ّفر �ألعاب الفيديو يمُ كن للواحد �أن يتم ّثل
ال�شارع كان مظلم ًا مع بع�ض اللهب هنا وهناك. الناتو قا�صف ًا يوغ�سالفيا ،الأطفال يناق�شون بدراية
الغبار والدخان ميلآن اجلو ،بدا وك�أن الليل قد ح ّل القنابل م�سرت�شدين بالليزر وكامريات التلفزيون.
بالفعل .خرج رج ٌل من العتمة وهو مغطى ب�ضمادات �أظن �أن فكرتنا عن املعنى احلقيقي لق�صف بناية
تت�ساقط .حكى لنا �أن �أحد الأحياء املجاورة قد مت كانت �أكرث و�ضوحاً ،مع ذلك مل نتو ّقف .كُ ّنا بال عقل
عادياً .الواحد منا كان ّ ت�سويته بالأر�ض .كان ذلك مثلنا مثل جرناالت اليوم وهم ي�ضغطون الأزرار
ي�سمع �أكرث الإ�شاعات �شناعة ومبالغة يف مثل هذا ويتابعون �شا�شة احلا�سوب منتظرين بحما�س نتيجة
الوقت� .آالف القتلى ،جثث ملقاة يف كل مكان ،وهلم ما قاموا به.
احلي الذي يتحدث عنه هو �أحد �أفقر الأحياء جرا .كان ّ بد�أ الربيطانيون والأمريكيون ق�صف بلجراد يوم �أحد
يف املدينة .مل يكن فيه �أهداف ع�سكرية .مل يكن ذلك الف�صح� 16 ،أبريل .1944الرواية الر�سمية ال�صادرة
ُمربراً حتى لطفل. عن القوات اجلوية الأمريكية تتحدث عن قاذفات
يف اليوم التايل للغارة الأوىل يف ،1944جاءت ثقيلة «ت�ستهدف ق�صف لوفتواف( )6و�أهداف جوية
الطائرات مرة �أخرى ،وبنف�س الطريقة «�ألقت حوايل «بـ» حوايل 397طن ًا من القنابل» .تقول �أي�ضاً« :ن�سبة
373طن ًا من القنابل على بلجراد� /ساحات �سافا �إىل �أحد التقارير ،ف�إن عمليات � 17أبريل ت�سببت
مار�شالنج» ،و�أ�ضاف التقرير الر�سمي �أن «هذا الهجوم يف بع�ض الأ�رضار ملنطقة �سكنية تقع �شمال غرب
دمار عظيم يف عربات الركاب والب�ضائع، ت�سبب يف ٍ ّ بلجراد /زميون �أرديروم .ويبدو �أن معظم الدمار الذي
نريان كثيفة ،خمازن م�شتعلة ،دمار عظيم ملحطة ح�صل خالل اليومني ،كان ذا طبيعة ع�سكرية»� .إنها
الركاب الرئي�سية ،دمار مماثل جل�رس �سكة احلديد على كلمة «يبدو» املُدرجة بحكمة يف التقرير� ،إنها بيت
نهر �سافا� ...إلخ .ال ُيوجد ما ي�شري �إىل حدوث تفجريات الق�صيد وجوهر امل�س�ألة.
خارج الأهداف الع�سكرية خالل هذه العملية» .يف كان ذلك قبل تناول الغذاء ،مائدة الطعام كانت قد
احلقيقة ،لقد �سقطت قنبلة على املم�شى �أمام بنايتنا �أعدت ب�صورة بهيجة ب�أح�سن ماعندنا من �صيني
ولكنها مل تنفجر. وف�ضيات عندما و�صلت الطائرات .كان با�ستطاعتنا
يف بع�ض الليايل كان والدي يرف�ض النزول �إىل �أن ن�سمع �أزيزها حتى قبل �أن تنطلق �صفارات االنذار.
املخب�أ ويبقى يف فرا�شه ،يف حني كانت �أمي ت�صيح ال�شبابيك كانت مفتوحة على ات�ساعها حيث كان
عليه من الدرج لينزل .هي كانت مع �إخالء املدينة اليوم ربيعي ًا معتدالً� .أتذكر والدي وهو ي�صيح من
فوراً؛ بينما اعتقد �أبي �أن العي�ش يف الريف ال يقل البلكونة «الأمريكيون يرمون بي�ض عيد الف�صح».
خطورة مع احلرب الأهلية التي يف طريقها .هكذا بعدها �سمعنا �صوت االنفجار الأول .رك�ضنا نازلني
ومع غرابة الأهداف الع�شوائية حللفائنا فقد كانت �إىل نف�س املخب�أ حيث اليوم ما زالت بع�ض �شخ�صياته
خماطرة �أن نبقى وخماطرة م�ساوية لها �أن نهرب. الأ�صلية ترتعد .اهتزت البناية .غطى النا�س �آذانهم.
طوال ربيع و�صيف 1944كنا نرحل �إىل الأمام �أو �إىل ته�شم زجاج يف كان با�ستطاعة املرء �أن ي�سمع �صوت ّ
الوراء م�شي ًا على الأقدام� .أتذكر �صفوف الالجئني على مكان ما فوقه .ول ٌد �أكرب مني بقليل كان قد اختفى.
الطريق ،الأملان يفح�صون الوثائق ويرعبون اجلميع ات�ضح �أنه ت�سلل للخارج لي�شاهد القنابل وهي ت�سقط.
ي�سجل وين�رش�أكرث و�أكرث .اليوم طبع ًا هناك تلفزيون ّ عندما �أعاده الرجال بد�أت �أمه ت�صفعه وت�ؤنبه ب�شدة،
مثل هذه امل�شاهد التعي�سة. كانت ت�رصخ فيه �أنها �ستقتله �إذا خرج مر ًة �أخرى.
216 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
�صغريين
ْ العبي
نْ �أن تتخلّى عنه مبجرد والدته .كنا يف 1972قابلت �أحد الرجال الذين ق�صفوين يف
مرتبكي يف �أحداث �أكرب من �سيطرتنا .هو على الأقل نْ .1944كنت قد قمت ب�أول رحلة لبلجراد بعد ع�رشين
اعرتف مب�س�ؤوليته عما فعل ،هذا ما ال ن�سمع به يف عام ًا تقريباً .مبجرد عودتي �إىل الواليات املتحدة،
حروب اليوم اخلالية من اخلطر حيث املو�ضة هي جتمع �أدبي يف �سان فران�سي�سكو حيث ذهبت �إىل ّ
حتميل م�س�ؤولية الأخطاء على التكنولوجيا .هيوجو قابلت بال�صدفة ال�شاعر ريت�شارد هيوجو يف مطعم.
كان رج ًال يتمتع بالنزاهة ،واحداً من �أف�ضل ال�شعراء حت ّدثنا� ،س�ألني كيف ق�ضيت ال�صيف� ،أخربته �أنني
يف جيله ،وقد يبدو هذا غريباً ،مل يخطر ببايل �أن �ألومه عدت للتو من بلجراد.
على ما قام به .مع �أين كنت على الأرجح �س�أب�صق يف قال�« :آي نعم ،ب�إمكاين �أن �أرى هذه املدينة جيداً»
وجه ذلك الغبي الذي قرر املوافقة على طلب تيتو ب�أن دون �أن يعرف خلفيتي ،انطلق ير�سم على مفر�ش
ي�رضب احللفاء مدينة مليئة هي نف�سها باحللفاء يوم املائدة ،بقطع اخلبز وبقع النبيذ ،موقع املبنى
انده�شت عندما كتب هيوجو ُ عيد الف�صح .مع ذلك، نهري الدانوب
ّ الرئي�سي ملكتب الربيد ،الكباري على
ق�صيدة عما فعله و�أهداها يل .كيف تكون الأمور وال�سافا ،وبع�ض املعامل الأخرى الهامة .دون �أية
معقدة �إىل هذه الدرجة ،كيف ال تكفي حماوالتنا لأن فكرة عن معنى ذلك ،مفرت�ض ًا طوال الوقت �أنه زار
نقف يف وجه الريبة غري املعلنة حيث ال �شيء يف مرة املدينة ك�سائح� ،س�ألته كم من الوقت ق�ضى يف
جحيمها ميكن فهمه على الإطالق. بلجراد.
ر�سالة �إىل �سيميك من بولدر()7 �أجابني« :مل �أزرها �أبداً� ،أنا فقط ق�صفتها عدة مرات»
عزيزي ت�شارلز :هكذا تقابلنا مر ًة يف �سان كنت هناك بذهول من املفاج�أة ،اندفعت قائ ًال لقد ُ
أعرف
فران�سي�سكو و� ُ وقتها و�أنني �أنا من كان يقوم بق�صفه� .أ�صبح
كنت
�أنني ق�صفتك منذ زمن طويل يف بلجراد عندما َ منزعج ًا للغاية .يف احلقيقة ،كان مهزوزاً ب�شدة .بعد
يف اخلام�سة. �أن توقف عن االعتذار وهد�أ قليالً� ،سارعت �أ�ؤكد له
�أتذكّر .كان هدفنا ج�رسٌعلى نهر الدانوب �أنني ال �أحمل �شيئ ًا �ضده و�س�ألته ما هو ال�سبب يف
ن�أمل �أن نُحا�رص جيو�ش الأملان بينما هي تفرّ من �أنهم مل يق�صفوا مقر اجلُ�ستابو وال �أي مبنى �آخر حيث
كان يتواجد الأملان� .رشح يل هيوجو �أن الغارات
اليونان �إىل ال�شمال،
اجلوية كانت تنطلق من �إيطاليا ،م�ستهدفة �أو ًال حقول
�ض ّيعنا الهدف .لي�س هذا من غري املعتاد ،مبا �أنني
النفط الرومانية ،التي كانت لها �أهمية ا�سرتاتيجية
كنت واحداً من املهاجمني.
كبرية بالن�سبة للنازيني حيث كان يتم الدفاع عنها
مل يكن با�ستطاعتي �أن �أ�رضب م�ؤخرتي جوية كانوا يفقدون طائرة �أو ب�رضاوة .يف كل غارة ّ
جل�ست علىجهاز التحكّم �أو امتطيت قنبل ًة ُ حتى �إذا اثنتني ،ومع ذلك كله ،يف طريق عودتهم لإيطاليا،
ونزلت و�أنا كان عليهم �أن يتخل�صوا من حموالتهم فوق بلجراد.
�أغني الن�شيد الوطني الأمريكي. عال
ح�سن ،كانوا يف غاية احلذر .يطريون على ارتفاع ٍ ٌ
�أتذكّر بلجراد تتفتّح مثل وردة عندما و�صلنا. ويلقون ما تبقى من احلموالت ب�أي طريقة ممكنة ،يف
ال مدفع ّية م�ضادة للطائرات .مل �أعرف �شيئ ًا عن ا�ستباق ليعودوا �إىل �إيطاليا ،حيث يق�ضون بقية اليوم
اليومي ،الثمانني
ّ ال�شنق على ال�شاطيء مع بع�ض الفتيات املحليات.
�ألف ُ�ساليف الذين تدلّوا من احلبال الأملانية يف أكدت لهيوجو �أن ذلك بال�ضبط ما كنت �س�أفعله عن � ُ
املدينة ،كعربة للآخرين. نف�سي ،لكنه ا�ستمر يطلب الغفران ويربر موقفه .لقد
كان كل همي �أن �أبقى على وجه احلياة ،تلك اللحظة كرب يف منطقة قا�سية يف �سياتل ،يف �أ�رسة فقرية
تخفّفت الطائرة من حمولة القنابل ونحن ُعدنا. من الطبقة العاملة� .أمه ،كانت مراهقة ،وكان عليها
217 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
جتاهله. �أية لغة كنت تتحدث وقتها؟ ال�رصبية ،على ما �أعتقد.
لطيف �أن �أقابلك �أخرياً بعدالكراهية بدون �سبب .املرة وماذا كان عقلك
القادمة، يفعل بالعواء الرهيب للقنابل؟ ما هي كلمة «خوف»
�إذا �أردت �أن تت�أكدمن جناتك ،اجل�س على اجل�رس الذي بال�رصبية؟
�أحاول �رضبه ول ّوح يل�.أنا قادم على الطريق ال�صحيح يجب �أن تكون هي الكلمة نف�سها باالجنليزية ،عويل
لكني بدائي طويل
قل ٌق وعد�سة م�سد�سي ترفرف. لأطفال ميوتون ،نظرة طف ٌل ُمثبتة للأبد يف املوت.
كنت على الأر�ض� .أما �أنا ف�أ�ص ّوب
أنت� ،أينما َ�أمن � َ كنت م�شو�ش ًا �أنا ال �أعتذر عن احلرب� ،أو ملا كن ُت ُهُ .
ناحية الهدف وقتها عن طيب خاطر.
ُهت عن الطائرة التي ولكن قنابلي من احللوى وقد ت ُ �أظن �أنني حتى �آمنت بالبطولة (للآخرين ،ولي�س
تر�شدين. لنف�سي)� ،صدقت يف �رضورة
�صديقك ِدك. ذلك العامل املُعذَّب� ،آم ًال �أنه �سيتعلّم �أال يفعل ذلك
مر ًة
الهوام�ش �أخرى .لكني كنت �صغرياً .العامل ال يتعلّم �أبداً .التاريخ
()1ي�سخر �سيميك بو�ضع « »DPبني قو�سني لال�شارة �إىل امل�صطلح جلعل لديه طريقة جلعل املا�ضي ُم�ست�ساغ ًا،
Displaced Persons
ْ
()2ال�ستار احلديدي Iron Curtainمبعنييه املادي واملجازي هو املوتىحلم.
ُ
ما كان يف�صل بني �أوروبا الغربية وال�رشقية ،وقد ظل هذا ال�ستار الذي عزيزي ت�شارلز� ،أنا �سعي ٌد �أنك تفاديت القنابل� ،أنك
فر�ضه االحتاد
()3م�ؤمتر يالطا عقد بني 4و 11فرباير ،1945وح�رضه ر�ؤ�ساء �أمريكا
تعي�ش معنا الآن وتكتب ق�صائد .البد يل �أن �أخربك
وبريطانيا واالحتاد ال�سوفييتي لإعادة ترتيب �أوروبا التي مزقتها مع ذلك،
احلرب العاملية الثانية. لقد ا�ستغربت ذلك اللقاء يف �سان فران�سي�سكو .ظللت
()4هو الأحد ال�سابع من ال�صوم الكبري والأخري قبل عيد الف�صح �أو
القيامة وهو يوم ذكرى دخول ال�سيد امل�سيح �إىل �أور�شليم �أو بيت �أكرر لنف�سي،
املقد�س حيث مت ا�ستقباله ب�أغ�صان النخيل يف �إ�شارة ال�ستقبال كان على الأر�ض يف ذلك اليوم� ،صفار ال�سماء املخيف
امل�سيح كمنت�رص. وحمرّكاتنا تز�أر بكل �شيء يف طريقنا.
()5مار�شال الك�سندر لور ( ،)1947 -1885كان قائد الدفاع اجلوي
الأملاين �أثناء احلرب العاملية الثانية� .سجنه اليوغ�سالف يف 1945 يف حلظات كهذه ي�صبح العامل �صافي ًا للناجني.
وحوكم بتهمة جرائم حرب ومت اعدامه يف .1947 العامل ي�صبح �صافي ًا ك�سحاب ال�صيف،كالبيا�ض
()6اال�سم الذي كان ُيطلق على القوات اجلوية الأملانية قبل و�أثناء
احلرب العاملية الثانية. النقي املنفوخ،
()7مدينة يف والية كولورادو بالواليات املتحدة الأمريكية حيث كان طيو ٌر ناعمة مترق وتدخل وتخرج،
يعي�ش هيوجو. حياتنا لديها فر�صة لأن تنجرف ببطءفوق العامل،
من�سي،العد ّو يتم ّ خمازن القنابل فارغة ،الهدف
s
s
s
وال غفالً� .أُ ْنظُ ْر! ا�ستعيد «تاج حمل » الرائع يف الهند .هو الآخر بناه
نحيا من �أجل التاريخ .من �أجل تذكُّ ُره ،وتقديره. املغول� .أولئك ال ُغزاة ،املغامرون ،الذين اجتاحوا
�أو نقده ،ال فرق� .إننا نحيا فيه منذ �أن نتذكَّ ر قب�س ًا العالمَ القدمي ،وخلَّفوا يف �أنحائه �أعمالهم املثرية.
منه ،ون�ستح�رضه .لنا منه ،ومعه ،مواقف ،ومناقب، أح�س اللَّ�سْ نة تلْجمني :هذا املكان ،مثل ذاك ،ال و� ُّ
ور�ضا�ضات .ال �أريد �أن �أكون حيادياً ،وال وم�آخذُ ، يليق به �إ ّال ال�صمت! لكن ال�صمت بال ت َب�صرُّ ال جدوى
عدائياً� .أريد �أن �أحب تاريخي كما هو ،حتى ولو كان منه� .أدير الأو�ضاع يف ر�أ�سي ،ومعها �أدور .روح
يل الغارق مريباًَ .م ْن �أنا لأجت ّنب كل هذا العنف اجلَما ّ التاريخ تتملَّكني مثل متيمة �سحرية.
ال�شخ�صي
ّ يف �أبهة املا�ضي الآ�رس؟ �إنه تاريخي قاعداً يف الفراغ املنع�ش� ،أمرر ب�رصي من �أثر �إىل
مل �أع�شْ منه �شيئاً. عيني حتى ولو ْ
املاثل ،الآن� ،أمام ّ �آخر ،دون �أن �أرتوي� .أتطلَّع .و�أعيد التطلُّعَ .جمال
نبد أ� اليوم ( /27ني�سان )2009/الرحلة الداخلية ل �أنف�سنا برباءة الأمكنة ،مثل َجمال الكائنات ،مي أ
يف �سمرقند .هي مثل «دم�شق» جميلة وقريبة من عميقة .براءة االنعطاف الإن�ساين من ال َت َو ُْح�ش �إىل
القلب� .أنهارها �صغرية وعديدة ،مثل « َب َردى» وبر َع فيه.التم ّدن .ولقد �أدركَ الفن الإ�سالمي ذلكَ .
وم َ�س َّورات.وفروعه .ن�سا�ؤها� ،أي�ضاً ،بي�ض ُ وزينه ،وا�صطفاه.أبدع فيما �صنعهَّ ، و� َ
�ضحكاتهن حا�رضة فوق �شفاههن .وعيونهن ت�سائل �سمرقند! َم ْن كان يحلم قبلي بهذا املكان؟ �أبتعد �أكرث
الزائر ،بدالل :من �أين �أنت؟ و�سيكون ذلك بالفعل �أول املدونة
َّ بعيني الآياتَّ عن احل�شد� .أغلق الكتاب� .أقر�أ
الكالم ،منذ �أن تلتقيهن .اخل�شية املمزوجة بالرغبة مر وراح .وكم كم من ب�رش َّ على احليطان� .أت�ساءلْ :
ترت�سم بغنج على وجوههن .لك�أن هذه املدينة يبق يف الف�ضاء �سوى وولىّ .ومل َ من حاكم َ
تولىّ َ ،
املح�صن بال�شوق َّ ال تنتج �إال هذا الكمال الب�رشي هذا ال�رصح الذي بناه «تيمور ِل ْنغ» الذي كان قاطع
والظم�أ .مدينة � ّأخاذة هي «�سمرقند» .كانت حمطة طريق متوح�ش يف البدء .بداية الكائن ال َت�شي به،
�أ�سا�سية على «طريق احلرير» .منها ت�صعد القوافل، �إذن ،و�إمنا نهايته .تلك التي يكتبها �رساً ،وترتاكم
�أو تهبط� ،إىل اجلنوب .يف الع�صور الو�سطى ،كانت يف نف�سه كالذهب� ،أو كالرماد .و�أكاد �أ�رصخ يف
تعترب «مركز العامل»(مثل ُم ُدن �أخرى غريها يف الف�ضاء املليء بالأزرق النوراين :يا رجل!
�أمكنة �أخرى بعيدة! فالعالمَ لي�س وحيد املركز ،كما �سمرقند لي�ست مدينة مبتدئة مثل طا�شقند .وهذا يبدو
�سنعرف فيما بعد). مل ُدن كالكائنات :مبتدىء وا�ضح ًا منذ �أن تراها .ا ُ
«�سمرقند» مليئة باملفاج�آت .و�س�أرى الكثري منها وجم ّرب .وال تكمن التجربة يف «ال ُع ْمر» ،يف ال َد ْهر، َ
خالل �إقامتي فيها« .قرية القرميد الأحمر»على مل َّدة» التي قد تخدع الرائي� .إنهامغمو�سة يف �أو«ا ُ
�أطراف املدينة مذهلة� .أ�شجار «احلور» الطويلة التي جوهر الكائن ،يف روح املدينة ،ويف وجه ال�شيء.
حتيط بها ال مثيل لها( ذكَّ ر ْتني باحلور البا�سق ولكن ،ما هو اجلوهر ،يف هذه احلال؟ �إنه عبق
على «اخلابور»)� .سواقيها ال�صغرية ذات الفروع التاريخ � ،أو رائحته� ،أو خمزونه املرئي ،والالمرئي،
العديدة ،هي نف�سها �سواقي «اجلزيرة» املرتعة �أي�ضاً� .سذاجة الرائي ال تنفع ،يف هذه احلالة� ،شيئاً،
والوحول املل�ساء باملاء .وكذلك� ،أع�شابها الغريبةُ ، �سيء النية� .إننا �إزاء مدينة مرتعة حتى ولو كان ّ
مثل ال ِتبرْ املبلول التي تفر�ش تربتها� .إنها جنة بالتاريخ .وهو لي�س تاريخ ًا مزيفاً ،وال م�صطنعاً،
220 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
ُج ُدر الـ«�شاهي ِز ْن َده» ،كما يلفظ هنا .م�ساحات «بدائية» ،ما زالت تقاوم الفناء فوق هذا الكوكب
مقد�سة ملمومة حول «املركز» ،مثل ُرفات كائن الذي �ستدمره ح�ضارة الغرب� ،إ ّال �إذا ...هذه القرية
قام من املوت .مثل«بن عبا�س» الذي م�شي بعد �أن املزتوتة على �أطراف �سمرقند ،تخت�ص ب�صناعة
قطعوا ر�أ�سه� .صرَْ ح خميف من �شدة اجلَمال هو هذا الورق من احلرير .وما زالت «امل َد ّقات املائية» فيها
الـ«�شاه زنده». ت�ستعمل ل َه ْر�س الأ�شجار والأع�شاب ،قبل �أن متر �إىل
يخبىء هذا ال�رصح من �أفانني؟ وكيف لنا �أوه! ماذا ِّ الت�صنيع .قبل �أن تغدو حريراً جاهزاً لي َت َو َّرق .ورق
ن�ستقر يف معرفتنا القدمية ( �أكاد �أقول جهلنا َّ �أن احلرير امل�صنوع ،هنا ،والذي كان م�ستخدم ًا كثرياً
القدمي) ونحن نرى ما نرى ،الآن؟ ُقبب و�أ�ساطيح. يف الع�صور الو�سطى مقاوم للزمن .ميكن �أن يدوم
تزين
�ألوان ُز ْرق توركوازية .فُ�سيف�ساء خالدة ِّ �أكرث من �ألف �سنة (الورق الذي ن�ستعمله اليوم ،ال
اجلدران .املداخل هائلة احلُجوم .والأبواب �سافرة يدوم �إال قرن ًا �أو بع�ض قرن ،على �سبيل املثال).
أنت ،هنا .لكنك تدرك جيداً ومنيعة .ال تعرف َم ْن � َ طاقة الإ�سالم ال تكمن يف انت�شاره الكوين ،فح�سب،
�أنك يف ف�ضائك الأ�صيل .ف�ضاء الثقافة العربية و�إمنا يف «انت�شاره املختلف»� ،أ�سا�ساً .هنا ،جند
أبدع ْت مثل هذه ال�رصوح الآ�رسة. الإ�سالمية التي � َ «�إ�سالم ًا �آخر» .عادات خمتلفة ،وتقاليد مغايرة
ال �شيء ميكن �أن يحقننا باملتعة واملعرفة مثل متام ًا ملا نعرفه يف ال�رشق العربي ،دون �أن يقلل
الرحيل .مثل م�شاهدة �أماكن مل ن�شاهد مثلها من ذلك من عمق امل�شاعر الدينية عندهم .ال بد �أن
قبل .ذلك ،وحده ،يجعلنا نن�سى بالدتنا وخمولنا ت�سامح اال�سالم ،وقبوله ملا هو خمتلف ،وا�ستيعابه
الذهني ،ولو لفرتة ق�صرية .ل َيت َغ َّمد اهلل بالرحمة روح حل�ضارات جديدة ،ومفاهيم �إن�سانية �أخرى عن
وم ْن �أقام له هذه ال ُع ُمد يف «�سمرقند». «بن عبا�س»َ ، احلياة وال�سلوك ،كان عام ًال �أ�سا�سي ًا يف تو�سيع
ر�أيت «مراك�ش» احلمراء ،و«عدن» الك َْحالء، �ساحات نفوذه ،وف�ضاءات انت�شاره .هنا ،ندرك
و«جيبور» اخلمرية يف �شمال الهند ،واليوم� ،أرى ْ ب�سهولة كيف تك ََّيف الإ�سالم مع الواقع اجلديد ،ومع
«�سمرقند» الزرقاء .لون التوركواز الأزرق اجلميل الوقائع املختلفة .كيف انت�رص على اجلمود الذي
هو الذي ي�سود يف ف�ضاء هذه املدينة ال�ساحرة .وهو التم�سك بهْ � .أن
َّ مت
�سيح ُّد كثرياً من انت�شاره لو ّ
كان ُ
يزين الأ�رضحة وال�رصوح فيها .الآن� ،أنا يف الذي ِّ جتمع اليوم بني القاهرة ،ودم�شق ،و�سمرقند ،و� ْأغرا
يل «خوجا �أحمد» ال�سمرقندي� .إىل حرمة �رضيح الو ّ (حيث «تاج حمل » الرائع ،يف الهند) ،وحيدر �آباد،
ويكبون النقود فيه،
ّ �رضيحه ،هذا ،يحج الأوزبيك. وبانكوك ،ونواك�شوط ،وا�ستانبول ،و داكار ،و...
كما نفعل نحن يف «قرب ال�ست زينب» يف دم�شق� ،أو مثالً� ،ستفهم �أن الإ�سالم مل يكن ُجموداً(على العك�س
«احل�سني» يف القاهرة .وقد ُدفِ ن هنا يف القرن الرابع تكيف ًا واختالفاً.
مما ُيراد له اليوم) ،و�إمنا كان ُّ
ع�رش امليالدي .وكان الويل« قا�سم بن عبا�س» «�شاه ِز ْن َد ْه» ( امللك احلي)� ،آية �أخرى من �آيات
الذي � ِأ�صلُ �رضيحه ،للتو ،هو � ْأ�صل ظاهرة الأولياء الروعة يف «�سمرقند» .هو مثوى «ح�سان بن عبا�س»
ال�صاحلني التي انت�رشت يف �آ�سيا الو�سطى. الذي قطع «الزراد�شتيون» ر�أ�سه ،و�ألقوه يف اجل ُّب.
يربد اجلو ،فج�أة ،يف «�سمرقند» ،ويهطل املطر. لكنه «قام ،واختفى ،و�سيعود» ،كما تقول الأ�سطورة.
ومع ذلك ،ال �شيء يحول دون التم ُّتع بروعة هذه تزين�إنه «مهدي منتظر»� ،آخر� .ألوان ،و�آيات قر�آنيةّ ،
221 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
م�ضمخة بالنور�« ،سمرقند» .حتى �أنك َّ منها .مدينة املدينة ال�ساحرة « :جوهرة ال�رشق»« ،مركز الدنيا»،
�رصت حتب �أن متوت فيها .و�أ�سمع �رصير رئتيك «حتفة العامل الإ�سالمي» ،كما ُت َ�س ّمى .الآن ،نبد أ�
تعب الريح الآتي من ال�رشق .من �رشق بعيد ،ن�سيته، ُّ زيارة «قرب الأمري» .وهو حفيد «تيمورلنغ» .وكان
كدت .واقف ًا عند �أقدام املر�صد املهجور ،ت َتال�شى �أو َ هي�ؤه خلالفته .وقد مات يف احلرب .فبنى له هذا ُي ِّ
قاوم.
يف َع َدم ال ُي َ القرب العجيب تخليداً لذكراه .من هنا ،نعود �إىل
عندما يكون الكائن حيادي ًا تبدو الأ�شياء بال معنى. جامع «بيبي خامن» يف قلب «�سمرقند» .وهي زوجة
ويفقد التاريخ مزية �إغوائه .يغدو �أحداث ًا مرتاكمة ال «تيمور لنغ» .وقد بنى لها هذا اجلامع تخليداً حلبه
ال�شى� ،رسيعاً، وم ْن ،وما ،ال جوهر لهَ ،ي َت َ تعني �أحداًَ . لها ،كما فعل «�شاه جاهان» يف الهند ،عندما بنى
يبقى له �أثر .لكن احلياة التي ال ت�ستقيم بالوحدة وال َ حلبيبته «ممتاز حمل» يف مدينة «� ْأغرا»� :رصْ ح
والتجان�س ،وال تتخلّى عن كونها متعددة امل�آرب «تاج حمل» اخلالد.
والأ�شكال ،هي التي متنحنا طاقة االهتمام العميق ب الـم ْمطِ ر رائع هذا اليوم .مِ َ�صباح «�سمرقند» ُ
مبا يجري حولنا .وتنقذنا من االنغما�س املجحف مر به عندما يغرق يذكُّ رين؟ يتذكَّ ر املرء كل ما َّ
يف مثل هذه الإ�ضطرابات. يف الروعة .العالمَ مليء بالأفانني البهية ،وال
كنت �أريد �أن �أودعها� .أن �أو ِّدع «�أماكني» التي أ� ِلفْتها،
ُ يحتاج الكائن �إىل طاقة عظمى الكت�شافها .يكفي
�رسيع ًا يف «�سمرقند» .لكن املطر الغزير �أوقفني يف �أن يت� َّأملها ب�شغف .احلمقى ،وحدهم ،يعتقدون �أن
�شري
را�س ْه ْ �ساحة «راغي�ستان» العظمى ،حيث «مِ ْد َ الروعة التي ال يعرفونها� ،أو مل يروا منها �شيئاً ،غري
�رصت
ُ دور»� ،أو مدر�سة «الأ�سد الذهبي» .ومن جديد، ْ موجودة� ،أو هي حتتاج �إىل ج ْهد كبري لك�شفها! لكننا
�أتطلَّع حويل مذهوالً .الرغبة يف اكت�شاف الأمكنة منذ �أن نرى الأمم والبلدان ،و ُنل َْ�سع بال�سطوع وال�سحر
تحُ َ ِّر�ضني مثل طفل يريد �أن يكرب .و�أبد�أ امل�سري. الذي خلَّفوه ،ندرك كم نحن ُبلَداء ،وبال معرفة .و�أن
م�صحوب ًا باملطر والريح ،م�شيت �شوارع «�سمرقند»، ذاكرتنا الب�رصية ،والفكرية �أي�ضاً ،حمدودة بحدود
وقفت �أمام متثال الغازي «تيمور لنغ» ،جال�س ًا ُ �إىل �أن وخمولنا .ويف هذه النقطة بالذات ،نقطة بلداننا ُ
ب�أبهة يف قلب ال�ساحة� .سيفه العظيم م�سلول .يح ِّدق االفرتاق احلا�سم عن البالدة والإكتفاء ،تكمن �أهمية
يف الأفق بحدة مثل �صقر يريد �أن ينق�ض على الفراغ. ال�سفر ،و�رضورة الرحيل.
يف عينيه رع�شة من عظمة الكون .هو الذي قال الفلكي ال�شهري الذي بناه يفّ اليوم ،نزور املر�صد
«:العالمَ ال ي َّت�سع مللك نَْي»! وكانت «�سمرقند» �أو�سع �أعايل �سمرقند « �أولوغْ بيكْ » حفيد «تيمور لنغ».
يح ْز على لقب الـ«خان» الذي كان من ذلك .مات ومل ُ كان فلكي ًا �شهرياً .جمع حوله م�شاهري علماء الفلك
يحلم به� .ساللة «جنكيز خان» الأعظم ،ال ت�سمح ب�أن والنجوم ،يف ذلك الزمان .من �أعاىل ه�ضبة املر�صد،
يلوثها دم لي�س من �ساللة «اخلانات» ،حقاً .وكان، ّ تبدو « �سمرقند» نائمة يف ال�ضوء .منت�رشة فوق
هو ،جمرد «قاطع طريق» طموح ،ترك �أثره العميق القاع بهدوء .متتد عماراتها حتى الأفق الغارق يف
على تاريخ القرون الو�سطى .ومل ينفعه �إعالن نف�سه الفراغ .يف قلبها ،ق�صور«تيمور لنغ» ،وال�رصوح
«ملك الكون» .يا خليبته التي ال عزاء لها. التي �شيدها لأحبابه ،تعلو مت�شاخمة نحو ال�سماء.
لآ�سيا الو�سطى �أ�رساها الكبرية .و«�سمرقند» واحدة
222 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متى يختفي
الآخر مني ؟
عبد ال�ستار نا�صر
كاتب وقا�ص من العراق
والكذابني وال�شعراء وامل�شعوذين ،وقبل �أن �أ�رشب جئت ب�أمرا�ضي جميعها ،عربت بها القرن الع�رشين
ال�شاي �أرى نف�سي يف مقهى زهرة الب�ستان مع ودخلت القرن التايل وهي مت�شي وتنام معي،
مع�سل بالتفاح ،و�أ�صحو وقت القيلولة ف�أرى �أرجيلة ّ �أع�صابي معطوبة برغم الثلج النازل حد الركبتني،
ج�سدي مبل ًال يف مقهى الرو�ضة يف دم�شق� ،أذهب اىل �أين ،ومن �أين؟ ك�أنني �أكرث من واحد ،عندما �أكون
اىل الطبيب امل�رصي فيقول :البد من ق�سطرة القلب يف بريوت �أرى الآخر يف ال�شام ،وحني �أعرب احلدود
وب�رسعة ،وب�رسعة �أي�ض ًا دخلت عامل الأمرا�ض� ،شلل عمان� ،أنظر اىلاىل �أنقرة �أجد جواز ال�سفر ي�شري اىل ّ
يف املفا�صل ،زيادة يف �إفراز الدهون ،ماء ابي�ض يف �أختام الرحالت وال �أعرف حق ًا من الذي عافني
التبول ،خلبطةّ العينني� ،رسطان يتحر�ش بي وقت يف بغداد وجاء خلفي اىل القاهرة؟ يبدو �أنني �أكرث
يف الكول�سرتول ،م�سامات ملتهبة ت�شبه املكرونة، من واحد ،لي�س يف هذا �أدنى �شك� ،إنه اليقني الذي
قطعت ال�سنوات �إذا بها تقطعني ن�صفني ،ويف الدار احتواين منذ اليفاعة وال�صبا� ...صحيح �أنني �أطوف
البي�ضاء �أم�ضيت الرحلة �أ�شكو من جلطة يف الدماغ، �أحيان ًا على حلم طري طازج� ،أرى نف�سي �أمرح
ثم �ضحكت مما �أنا فيه ،ت�ساقطت �أ�سناين وقف�صي و�أ�رسح و�أذوب ع�شق ًا مع �شاكريا ومرة مع �رشيهان،
وتكومت العظام على بع�ضها ،وبرغم ذلك ّ ال�صدري �أو �ألعب كما الأطفال (عري�س وعرو�سة) والبقية ال
احل�ساد وت�شتغل النميمة ليل نهار.
ياكلني ّ حتتاج اىل تف�سري ،لكنها حم�ض �أحالم �أ�صحو منها
�أنا �أكرث من واحد ،مل �أجل�س يوم ًا يف تلك املقهى فال �أجد �رشيهان وال �شاكريا.
املطلة على �شارع الر�شيد ،وال �أعرف �أديب ًا جهبذاً، املهم� ،أمرا�ضي معي تعرب القارات واملحيطات
رمبا ذهبت اىل القاهرة ،لكنني مل �أدخن الأرجيلة يف والبحار وال�صحارى واجلبال والغابات� ،أعرف
زهرة الب�ستان وال اعرف الطريق اىل مقهى الرو�ضة، �أ�رسارها و�أخفي بع�ضها عن الن�ساء ،ال �أك�شف
وقلبي (�صاغ �سليم) ولي�س من �أحد يح�سدين �أو �أمامهن عن العيوب والعاهات ،بل �أترك ال�رس ينمو
ت�أكلني النميمة� ،أ�ستغرب من يقول ب�أين دخلت غرفة وينغر�س يف عظامي وتربتي و�أبكي وحدي وراء
الإنعا�ش �أ�شكو من جلطة يف الدماغ ،لي�س من �شلل الأبواب ،يبدو �أنني �أكرث من واحد ،ف�أنا ال �أبكي
وال زيادة يف الدهون ،من يتجر�أ ويقول هذا الهراء ول�ست �ضعيف ًا وال خائفاً ،مع �أن ا�سمي هو نف�سه يف
و�أنا يف اح�سن حاالتي و�صحتي ال غبار عليها ؟ كل مكان �أم�ضي اليه ،والثلج ال يزال يت�ساقط حد
�شاطر يف �صاالت القمار� ،شاطر يف البالك جاك، الركبتني و�أمرا�ضي مازالت تنمو مثل �شجرة.
�أعرف متى ي�أتي الرقم (زيرو) ومتى يبزغ اللون ثمة مقهى يف �شارع الر�شيد �أجل�س فيه ،ي�أتي �إليها
الأ�سود على الطاولة اخل�رضاء� ،شاطر� ،أعرف متى جهابذة الفن والرواية والغناء� ،شلة من العباقرة
223 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
يقفز التاريخ من ال�سبت على جمجمة الأحد ،و�أنا تده�سني �سيارة �أجرة وت�شطرين اىل �أجزاء� ،شاطر يف
ال �أحد يعرف عني �أي �شيء �سوى ما قلته وما اخل�سارة� ،شاطر يف احلب� ،شاطر يف احلنني �أذرف
كتبته ،وهو قليل �إزاء ما �أخفيته ،قليل جداً ،انتقمت، الدموع على بلدي ،ماذا حل به؟ كرث الذين ي�ضعون
و�أنا يف حالة الغليان ،من كل من �سكب ال�سم يف ال�سكاكني يف دربه املزحوم بالأ�شواك ،الكالب
�رشابي ،دون �أن يدري ب�أنني �أعطيته الك�أ�س نف�سها ال�سلوقية باملر�صاد ،تنه�ش به ثم تختفي لت�أتي
واكتفيت بالع�سل� ،أتعامل مع النا�س بن�صف ذكائي وتنه�ش ثانية ،و�أنا �أت�شظى مثله اىل �أجزاء ،جنوب ًا
والن�صف الثاين �أحفظه للطوارىء ،وهكذا متكنت من و�شماالً ،بينما اجلزء الثالث يئن يف مكان القلب
البقاء حي ًا برغم جميع �أمرا�ضي ،االحتفاظ بن�صف يحتاج اىل ق�سطرة كما فعلوا معي ،واجلنوب ،عيني
الذكاء لعبة خطرية ،قد متوت و�أنت يف �أول الطريق، على اجلنوب� ،أ�رصخ عالي ًا �أن يحفظه اهلل� ،إذا راح
ت�أخذك املخابرات مث ًال و�أنت مازلت مكابراً �أنك اجلنوب راح عقلي ،وال�شمال ،ربيع البالد ،يرتب�ص
�ستنجو منهم ،متر الأيام وال فائدة ،تلعب مع الوقت به العثمانيون منذ مئات ال�سنني.
واملخابرات تلعب �أي�ضاً ،وما الفائدة؟ حتى �إذا كنت و�أنا بني اجلنوب وال�شمال مازلت يف منطقة القلب،
�أكرث من واحد كما تقول ،ماذا �ستفعل و�أنت وحدك �أكرث من واحد� ،أم�شي حماذاة الفرات وي�ضحك يل
يف غرفتك؟ غرفة حتت الأر�ض ال �أحد ي�سمعك وال دجلة ،ماذا �أفعل ب�أمرا�ضي وهي تت�شعب وتزداد
�أحد يراك ،غرفة انفرادية ال ينفع معها ال�رصاخ او وتهبط فوق جلدي ،ترتاكم يف ج�سد نحيل ،بينما
طلب النجدة ،هناك �ستكون النهاية� ،إذ لي�س من �أوالد الزنا ميرحون قرب ر�أ�سي ور�أ�سي يتحرك يف
املعقول �أن تكون يف �سجن املزة و�أنت يف قلعة (�أبو �أكرث من مكان ،لي�س من �شيء ثابت ،عظامي تتك�رس،
غريب) مثالً... �أهلكني داء ال�سكري ورافقني ال�رصع وال �أدري متى
jjj يوقعني �أر�ضاً ،والكوابي�س ت�شذب �أظافري وقيا�س
منذ خم�سني عام ًا و�أنت تراقب �أفعالك� ،أنقذك القدر ال�ضغط ي�شري اىل �رضورة ال�سفر نحو الثلج بني
وطاوعتك الطبيعة ،هذا حالك منذ خروجك من الغابات ،وهكذا م�ضيت اىل باري�س وبكيت فرح ًا
هناك وقبل ذهابك �أي�ضاً ،كثرياً ما راقبوك ،يبحثون و�أنا �أم�شي يف ال�شانزليزيه ،ثم غادرتها اىل بالد
عن احلقيقة بني �أحرا�شك و�أ�رسارك� ،أنت اللغز بينهم، الثلج يغمرين ويغمرها ومل �أمت ،دخلت حي �سوهو
مع انك �أكرثهم و�ضوحاً ،كثرياً ما خدعوك مع ور�أيت كولن ويل�سون� ،أخذت القطار اىل �أبعد نقطة
�أنك �أول من اكت�شف خبثهم وطعناتهم من اخللف، يف �أوروبا ال�رشقية ور�أيت نف�سي يف بوداب�ست،
�ضحكت منهم ومن �سكاكينهم� ،ضحكت كثرياً ،حيث ماذا �أفعل؟ �أمرا�ضي مازالت ترتاكم ،مع �أنني �أمتتع
تعود الطعنات اىل نحورهم و�أيديهم تلتف حولهم باحلانات يف وار�سو و�ألتذ باملواخري يف الرباط ،مع
وتطعنهم واحداً واحداً ،جئت ب�أمرا�ضي ودخلت �أن امل�سافة بينهما �أطول من ن�صف الكرة الأر�ضية،
القرن اخلط�أ بعد �أن غادرت القرن الع�رشين يف �آخر وما الغرابة ،ف�أنا �أكرث من واحد يف كل زمان ومكان!
عام منه ،نظرت اىل نف�سي ،اىل ال�سنوات البطيئة، jjj
نظرت اىل روحي التائهة ،نظرت اىل ال�سماء جنوم ًا تعلمت من �أمرا�ضي ال�صرب ،وتعلمت من ال�صرب
ونيازك وتذكرت �سمائي ،تذكرت �أ�صابعي التي املكابرة على جروحي ،وتعلمت من املكابرة
�أتعبتها يف الكتابة ،الكتب التي تناثرت حويل حتى الكتمان ،وتعلمت من الكتمان ال�صرب على �أمرا�ضي،
�أغرقتني ،نظرت اىل �أ�صابع اليد اليمنى ،قبلتها، وهكذا �أدور يف حلقة مفرغة ،منذ القرن الع�رشين
�أقد�سها ،لهذا جاء من ي�سحقها ،مرة يف �أقبية حتى هذا اليوم ال�سابع من حزيران ،هو نف�سه
املخابرات ،مرة ب�سيارة �أجرة ،ومرة من احلب ،كنت يتكرر كل عام ي�ؤكد ميالدي يف الثانية لي ًال حيث
224 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
خمذول يف �صحوي ويف نومي� ،أهذا �أنا �أم الآخر �أغازل البنات فارعات الطول ب�أ�صابعي� ،أ�صابع اليد
الذي يختفي حني �أظهر والذي يظهر حني ينام؟ اليمنى ،والآن ال �أدري ماذا حل بها� ،أ�صابعي ،مع
حلم فا�سد يبعرثين يف �أكرث من طريق بينما �أبحث �أنها ما زالت تكتب ،ماذا تكتب بعد �أن حلت �أمرا�ضي
مل �أزل عن الآخر حتى تهر�أت ثيابي ،قمي�صي يف ج�سدي طو ًال وعر�ضاً؟ هل ي�شفقون على �أ�صابعي
مهلهل ك�أنني دخلت حرباً ،والرمال �أطم�س فيها وعلى ما تكتبه بعد هذا العمر العليل؟ كال� ،أنا �أكرث
حتى عنقي ،عليل منذ طفولتي تالحقني النك�سات، من واحد ،لن يخدعني �أحد ،ومل �أكن اللغز بينهم ،ال
بينما الآخر الذي هو مني ما زال �أنيق ًا مرتاح البال، �ش�أن للقدر يف �أفعايل ومل تفر�ض الطبيعة �سطوتها
ي�سمع الأغاين ويطرب حتى الثمالة ،ال ي�رشب غري علي ،اع�صابي على حالها ،هادئة منت�رصة يف وجه ّ
بالك ليبل ،واجلواري ي�رسحن حوله ويرق�صن� ،أهذا الريح ،هل قر�أمت (حياتي يف ق�ص�صي)؟ �ستعرفون
�أنا ام الآخر الذي يختفي حني �أظهر والذي يظهر �إذن ملاذا �أكتب عن �أبطايل و�أبد�أ (مني) ...كل واحد
حني �أختفي؟ الآخر يعذبني ب�سعادته ،و�أنا �أتك�رس هو �أكرث من واحد� ،أنا ،ال �أحد ي�ستحق البطولة �سواي،
بذاكرتي ،عندما ذهبت اىل روما كان هناك خلفي ال �أعرف غريي بط ًال للق�صة ،ومتى انتهيت مني
يراقبني� ،أنا حزين مع �أنني يف �أجمل بقاع الأر�ض، �س�أبد�أ فوراً بغريي ،هذا هو العدل� ،أنا ثم الأقربون
بينما (هو) ي�رشب ويرق�ص ويغازل �أحلى البنات، الذين هم �أوىل باملعروف.
لكنه يظهر حني �أختفي وال �أدري كيف �أ�صطاده jjj
و�أم�سك به ،فما كان مني غري الهجرة نحو ال�صحراء، �صحوت يف ليل دام�س ،م�سكت �أ�صابعي ،كنت �أخاف
هناك حيث ال �أحد ميكنه االختباء وراء الرمال، عليها ،هي كنزي الذي ...وحياتي معاً ،بينما ترك�ض
�إذا جاء �سوف �أهبط عليه قبل �أن يفكر بالنجاة ،ال بي �أمرا�ضي بني املحيطات والغابات ،من م�شفى
�أريد �أن �أكون �أكرث من واحد ،يكفيني(�أنا) يف حزين اىل م�شفى ،ومن نهر هنا اىل بحر هناك يغطي
وم�رستي� ،أريد �أن �أكون وحدي يف املكان الذي �أنا عورتي ب�أوراق التوت� ،أ�صابعي ترجتف �إذا �شعرت
فيه ،وحدي يف �صحوي ونومي ،وحدي يف بغداد �إذا باخلطر ،كما الكلب يتح�س�س الكوارث قبل حدوثها،
ما عدت اليها ذات عام ،وحدي يف زهرة الب�ستان �أنا الكلب الويف يف عامل خبيث يدور حويل� ،أنا
�إذا �أينعت ،وحدي يف دم�شق احللوة� ،أكرث من واحد �أح�سد كالب العامل منفو�شة ال�شعر ق�صرية الأطراف
حمنة كربى ال يعرفها �إال من ابتلي بها ،ال �أريد تعرب ال�شوارع قبل �صاحبها خوف ًا عليه ،ترق�ص �إذا
البقاء يف املحنة ،قد �أحلم حلم ًا ال ي�شاركني �أحد حل الفرح وتبكي �إذا بكى �أهل بيتها� ،أنا هذا الكلب
فيه ،رمبا �أطرق الباب على �رشيهان ،تفتح الباب يل بامتياز� ،أحمل بع�ض �صفاته وال �أعرب ال�شوارع �إذا
وحدي ،وقد �أرق�ص مع �شاكريا� ،أرق�ص معها وحدي، كانت الإ�شارة تقول(قف)...
وحني �أ�ستيقظ من نومي �أكون قد �صحوت وحدي ،ال هذا ما حل بي ذات ليل دام�س� ،أحت�س�س �أ�صابعي
�أريد البقاء يف املحنة. و�أمتنى �أن �أكون كلب ًا مدل ًال منفو�ش ال�شعر ق�صري
jjj الأطراف� ،أن �أكون كلب ًا جميل الطلعة ينام يف مونت
رجعت اىل الوراء ،كل �شيء معقول ،ذاكرتي وا�سمي كارلو وي�صحو يف �شمال �أوتاوا ...هناك �أت�ساءل:
وميالدي والآخر الذي هو مني ،درب �شائك ميتد من متى �أرى الآخر مني؟ �أعني كيف �أرى الآخرين
�آه و�أنني اىل ذرف الدموع ،مل �أعد �أطمح يف امل�رسات، الذين يف داخلي والذين يرف�ضون اخلروج؟ ي�أتون
يكفيني ما �أنا فيه ،ير�ضيني ما جرى برغم ق�سوته، يف �أحالمي كما ال�رساب� ،أ�صحو فال �أرى غري بقايا
ير�ضيني ما تبقى من عمري مهما كان فاجعاً، هزائم �أتال�شى بعدها يف حلم م�سعور �آخر ينه�ش
�س�أرى كيف ينقلب العامل من �شمال اىل جنوب اىل بي� ،أمتاهى مع تلك الأحالم و�أنكم�ش خائف ًا منها،
225 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
و�ألتذ بالثلج و�أرق�ص طرب ًا يف الف�صول كلها� ،أنا �رشق بال غروب� ،أريد ر�ؤية النيازك تهبط وحترق
كما ت�شري �شهادتي (عراقي قح) من ر�أ�سي حتى الأول والتايل ،وقد نزلت� ...أريد ر�ؤية القادة يتخلون
�أ�سفل جن�سيتي ،لي�س من �أحد بعد الآن ميرح قرب عن كرا�سيهم بعد �أن م�سكوا بها دهراً م�ستطريا ،وقد
ر�أ�سي وال �أ�شكو من داء ال�سكري ،لقد انت�رصت على ذهبوا� ،أريد ر�ؤية نف�سي يف مكانها دون الآخر الذي
�أمرا�ضي بال�صرب عليها� ،أنقذين القدر وطاوعتني هو مني ،ورمبا ي�أتي اليوم الذي �أحترر فيه من
الطبيعة ،القرن احلادي والع�رشون مي�شي معي، قيودي ومن عتمة الطريق الذي �أم�شيه ،ال �أريد �أي
ن�سهر مع ًا حتى ال�صباح ونحت�سي اخلمرة يف �صحة �شيء بعد الآن غري �أن مي�ضي الآخر يف ذاك الطريق
�آخر الق�ص�ص ،ما زلت �أح�سد الكالب املدللة منفو�شة املعتم ويرتكني �أعي�ش حياتي� ،أو ما تبقى منها...
ال�شعر ق�صرية الأطراف تنام يف باري�س وفانكوفر، �أظنني بعد هبوط النيازك وبعد �أن تخلى القادة عن
و�أمتنى �أن �أكون كلب ًا منفو�ش ال�شعر ق�صري الأطراف كرا�سيهم ،غادرتني �أمرا�ضي� ،أع�صابي باردة �شتاء
�أعي�ش يف هاملتون ،لن يعذبني �أحد بعد اليوم ولن و�صيفاً ،مل �أعد �أكرث من واحد ،عندما �أكون يف بغداد
تالحقني الهزائم والنك�سات ،لقد انتهيت متام ًا من �أنا يف بغداد فعالً ،وعندما �أدخن الأرجيلة يف زهرة
الآخر الذي هو مني ،ر�أيته ،مل �أفعل �أي �شيء ،ر�أيته الب�ستان ف�أنا وحدي يف تلك املقهى ،حني �أحلم
بقوة ومل �أفعل �أي �شيء� ،إنني �أعي�ش حياتي بهدوء، ب�شاكريا �أو �رشيهان فهو حلم يخ�صني وحدي وال
�أو ما تبقى منها..... ي�شاركني �أحد فيه ،يهبط الثلج وي�صل حد الركبتني،
ال فرق بني ربيع وخريف ،املهم �أنني وحدي� ،أمتتع
وكثافة وقوة الت�أثري املطلوب« .الن�ساء مياالت �إىل ال يزال يف �إمكانه �أن يرى�« .سعادتك مبهمة» قالت
ال�سعادة» وهن لذلك يف حاجة �إىل من يتخيل لهن املر�أة وهي تهم بتقبيله« .اح�سنت اللعب مباء الذهب
ال�سعادة .من يدخل بهن �إىل فرادي�س وهمية« .كل ال�صباحي ،لن يكون نهارك ثقيال» قال لنف�سه وهو
فردو�س هو وهم» كانت يدي تقول كلما بد�أت بحراثة يعيد تركيب تفا�صيل وجه املر�أة كما لو �أن ذلك
�أر�ض جديدة .قارات خمتلفة :ن�رضة ومع�شو�شبة الوجه قد طلع فج�أة من ف�ضاء ،ما حتته ماء وما
ومل�ساء وملتوية ومكتظة وعاكفة على لوعتها .كل فوقه ماء .ينتج فعل النظر رغبة يف التعرف من
ج�سد هو قارة .يقول لكي يكف عن اال�ستفهام .يكفي جديد� .ضحكت املر�أة بعد �أن ر�أته يحدق بها بطريقة
�أن يكون املرء يائ�سا لكي يعرث على الر�ضا. م�ستفهمة« .ال �شيء ،هكذا ،ك�أنك �آخر» �شعر يف
حني �شعر �أن �صورته العابرة هي �أف�ضل ما ميلك جملتها نوعا من الإطراء على فكرة �أن يكون موجودا
جعل من االرتباك ا�سلوب حياة .تذكر �أنها و�صفة معها بهذه الطريقة ال ب�سواها .تكفيه ما لديه من
نيت�شوية من �أجل �أن تقع املر�أة على �شيء من قوة �أ�سباب لل�سعادة� .ضوء النهار� ،أنا�شيد الطيور ،هبوب
�أنوثتها .يف �أعماق الك�أ�س �صور �شتى .تتحرك الريح ،املطر الناعم ،الأع�شاب اخل�رضاء ،وجوه
لتت�صادم كما تفعل الكلمات .بني ما قيل وما مل النا�س� ،سيقان الن�ساء ،عربات الت�سوق� ،أديث بياف،
يقل بعد ،بني ما ن�سيناه وما عرثنا عليه بال�صدفة، القناطر اخل�شبية ،البط يف البحرية .يده بيدها فيما
بني ما ي�شد �أع�صابنا �إليه وما مي�سنا بخفة قدمي عطرها ينزلق �إىل �صدره .العامل هادئ من حوله.
ع�صفور .الكلمات ال ت�ؤنث بقدر ما ت�ستدعى �شفقتها. ال �أحد يعرف �أحدا يف هذه البقعة النائية .الغرباء
كل كلمة هي نظرة �إ�شفاق( .الكلمة الطيبة �صدقة) يخرتعون بلدا .وهو البلد الذي ال ميلكه �أحد .يف
نبوءة م�ؤجلة بالرغم من �أنها ممكنة يف كل وقت. �إمكان �أي واحد منهم �أن يقول« :هذه جزيرتي».
�أحيانا يق�ضي املرء حياته وهو يبحث عن تلك حينها تذكر �أغنية تقول « :هذه ليلتي» كان يفكر
الكلمة� .أقول «�أنا حر» يالها من جملة حائرة! من مب�ستويات ال�رسد اجلن�سي التي تنطوي عليه تلك
الذي يدفع ثمن تلك احلرية؟ املكان البعيد الذي ما اجلملة .كما تخيلها يوم كان مراهقا .ال�رسير
فتئت �أ�سري �إليه منذ �سنوات من غري �أن �أملح �أية �إ�شارة الأبي�ض والو�سائد املرتفة بري�شها .ما انبعثت النار
ت�ؤكد �أنني �أم�شي يف الطريق ال�صحيحة .ي�سليني يف يده �إال بعد �أن تعلمت تلك اليد الكالم .لقد �صارت
العثور على مكان �صغري .مكان يت�سع مبا ينتج عنه. تهوى الكالم ،بل الرثثرة املاكرة� .إذا �سافرت ي�سافر
بفعل ال يكون متقنا دائما غري �أنه يحر�ص على �أن معها كالمها .ال ي�ضجرها تكرار املعاين فهي تتقن
ال يكون معادا .مر�آة ذاته. اللعب بالأ�شكال .دائما هنالك �شكل يتنا�سب وحجم
227 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
بارعتني .غري �أين يف تلك اللحظة كنت يف مكان �آخر يف (الفحي�ص) وهي بلدة �أردنية �أقمت �أياما يف
بعد �أن ن�سيت �أنني قد فعلت كل �شيء من �أجل �أن حمرتف ر�سام �صديق .كان ذلك املحرتف بنوافذه
نكون موجودين بتلك الطريقة .كان املكان الوا�سع الكبرية يطل من كل جوانبه على م�شاهد طبيعية
بكل ترفه ي�ضيق بي فحر�صت على �أن ال �أنظر �إىل خارقة اجلمال .فكنت كل �صباح احتاج �إىل حلظات
عينيها .نبيلة كانت حني �سمحت يل بالفرار .وحني يقظة لكي �أتاكد من �أنني �أقيم بني جدران �أربعة
قبلتني و�أنا �أودعها عند بوابة الفندق ،قب�ضت على تف�صلني عن الطبيعة .حملت عزلتي يومها �إىل
يدي وقبلتهما« .لقد انتهيت» قلت لنف�سي «لتذهب خميلتي �أفكارا فريدة من نوعها عن لذة العي�ش
�إىل �رسيرها منت�رصة» ولكن هل ذهبت حقا وحيدا .لي�س هنالك يف تلك القرية من يعرفني.
منت�رصة؟ الآن بعد ع�رش �سنوات من تلك الواقعة ذات م�ساء قدم �صاحبي الر�سام ومعه فتى وفتاة
�رصت �أتخيل قبلتها التي تركتها على يدي نوعا من فل�سطينيان .ن�رشت تلك الفتاة املرحة �شيئا من
ا�ستعادة الكرامة املهانة .لقد قالت يل �شيئا خمتلفا. �أنوثتها يف املكان .وهو ال�شيء الذي �صار يذهب
رمبا هو ال�شكر ورمبا هو اللعنة�« .سعادتك مبهمة» معي �إىل النوم كل ليلة .ذهبت الفتاة غري �أنها تركت
تقول يل «يف هذه اللحظة �أنا موجود يف �أماكن ل املكان .يومها اعتقدت �أن ذلك يكفي �ضحكاتها مت أ
�شتى ،هل ت�صدقني؟» ال يت�سع �إناء الرباءة للندم .ما �سببا للكتابة .لدي م�صباح يكفي لكي �أرى من خالله
�أن ينقطع احلبل ال�رسي حتى تكون الرباءة نوعا من الأ�شباح� .أرفع وجهي عن الورقة ف�أرى تلك الأ�شباح
ما�ضي الفرد .ل�سنا �أبرياء بالرغم من �أن ب�صمات وهي تتجول من حويل .كانت تلك ال�صور تخرج من
�أ�صابعنا مل تكت�شف يف مكان اجلرمية. قاع الك�أ�س لتقفز �إىل الف�ضاء الذي يحيطني بزرقته.
«ل�ست م�س�ؤوال عما جرى قبل والدتي» يقول املرء، «�أنت واحدة منهن ،بل كلهن» املر�أة ال تنتظر طويال.
ولكنه ي�صمت حني ي�س�أل «ولكن هل �ستكون م�س�ؤوال �إنها تقيم يف حلظة نادرة .حلظة ما قبلها خواء
عما جري بعد والدتك؟» فعل النظر يديننا« .هو وما بعدها ف�شل .وهي حلظة تنتمي �إىل عامل الغيب.
الذي ر�أى» جلجما�ش ،ربيب الآلهة ،كان �سيد الفتنة فج�أة ميتلئ املكان بالأ�صوات التي ميكن االهتداء
التي �أودت به .لقد ر�أى مثلما ر�أينا غري �أنه ذهب �إىل م�صدرها بي�رس :ج�سد امر�أة بعينها ال �سواها.
لكي يكون ا�سطورة فيما قررنا �أن نكتفي بفعل �أجرا�س وكمنجات و�أبواق وطبول .كل ع�ضو يف
النظر ،م�شاهدين ال هم لهم �سوى متابعة الوقائع. املر�أة ي�صدر �صوتا معينا�« .سمعنا و�أطعنا» ال تكفي
حني غادرت العراق �آخر مرة كنت على يقني من تلك اجلملة .هناك ما تنتظره املر�أة .وهو ما ال يجر ؤ�
�أن عودتي �إليه لن تكون مي�رسة ،لذلك كنت �أردد على القيام به �أي رجل.
«م�شيناها خطى كتبت علينا /ومن كتبت عليه قال يل �صديقي اللبناين «لقد �سالت �شهوتها بني
خطى م�شاها» كل ما فعلته فيما بعد هو نوع من �أقدام احلا�رضين يف القاعة .فعلت ح�سنا و�أنت
التنويع على ذلك البيت ال�شعري .يف كل بقعة كانت ت�أخذها بعيدا» وهو يتذكر تلك املر�أة التي �أخذتني
هناك خطوة ت�سبقني .هي خطوتي التي مل �ألقها ب�سيارتها ذات ليلة �إىل حمرتفها لرتيني اعمالها
بعد .وبعد �أن �رصت م�ؤمنا �أن املنفى �صار قدري النحتية« .هناك برية يف الثالجة» «ال �أحب البرية»
�رصت �أتفح�ص خطواتي بعمق .مل يعد لدي ما �أجل�أ «هناك وي�سكي �أي�ضا» .مل �أ�رشب .قبل �أن �أرى ذلك
�إليه �سواهن�« .صديقي الوحيد» تقول يل زوجتي الق�ضيب املنحوت من الربونز كنت قد �أدركت
ف�أملح يف عينيها �أ�شباحا« .ع�شنا ملوكا» «ولن �أين قد وقعت يف امل�صيدة التي ن�صبتها لنف�سي
نكون الجئني كما يرغبون» منذ �سنة املنفى الأوىل مبرح ا�ستثنائي .كانت تلك املر�أة املتزوجة تعي�ش
فهمت �أن الوظيفة غري الإن�سان .لي�س �رشطا على خيال تلك اللحظة النادرة التي التقطتها �أنا بيدين
228 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
املكان غري املن�سجمة مظهريا ،لندرك بعدها �أن من يقابلك بلطف يف وظيفته �أن يكون لطيفا معك
هناك نغما واحدا يغلف �أعماقها .هناك مواقع حني يراك يف ال�شارع ،بل �أنه قد ي�ستهجن بعينيه
ناعمة و�أخرى خ�شنة .وهناك ما ننعم بالطم�أنينة جلو�سك يف املقهى الذي يجل�س فيه .العن�رصية
حني النظر �إليه وهناك ما ي�سبب لنا الفزع .لي�س يف هي در�س ينبثق من املكان �أي�ضا .ليت الن�ساء
�إمكاننا �أن نتعلم فن ال�صمت الذي هو �ضالة جمالية اللواتي �أحببتهن يح�رضن هنا لنحتفل بالنهايات.
و�أخالقية ما مل ننهمك يف تفكيك �أ�رسار ذلك ال�سطح للحرية ثمنها دائما .يقول املرء لنف�سه بزهو «لقد
الذي يطيح بهد�أتنا الب�رصية .حني يكون يف �إمكاننا جنوت» غري �أن �س�ؤاال من نوع «من �أين �أتيت؟» هو
�أن نرى الكلمات فان ذلك يعني �أن الطريق �صارت مبثابة امل�سمار الذي يثقب قارب النجاة .متتزج
�سالكة امامنا .فالكلمة التي ترى هي حروفها وهي احلرية ب�شعور مرير بالإحباط�« .أنت الجئ �إذن»
امل�سافة التي تف�صلها عن �سواها من الكلمات وهي ال تنفع املواطنة يف مثل هذه احلاالت .فلن يكون
بعدها اخلالق اخلفي .الأمر �أ�شبه بات�صال هاتفي مقنعا �أن تقول له «�أنا مواطن مثلما �أنت» احلقيقة
ي�صلنا من الغيب .ينبغي �أن ال يكون �صادما م�شهد يف مكان �آخر .يف احلديث عن دفع ال�رضائب ي�شم
اال�ضطراب الذي يعي�شه املرء وهو يتلقى مثل هكذا املرء رائحة عن�رصية بالرغم من �أن الإح�صاءات
ات�صال .علينا ان نتذكر ان للمالئكة مهمات غري الر�سمية ت�ؤكد �أن ٪90من املتالعبني بال�رضائب
معروفة .ن�صمت لكي نتيح للمالئكة وقتا لرعايتنا. هم من اال�سوجيني الأ�صليني� ،أما املهاجرون فانهم
نحن �أبناء الغيب �أي�ضا .لقد حظيت مرارا بلقاء ال يتقنون امل�شي �إال يف ممرات الف�ساد الق�صرية
كائنات ال تنتمي بتاتا �إىل عاملنا .كائنات كانت واملك�شوفة.
الطبيعة من حويل تلهمني وجودها .ولأين �أعترب يف �أحيان كثرية تهزمنا اللغة .يف احلقيقة ال �أحد
حياتي نوعا من اخلرافة فقد كنت �أقبل على احلوار يف �إمكانه �أن يهزم اللغة .واملنفى اللغوي يف
مع تلك الكائنات ب�شهية مفتوحة« .ترى ما الذي حد ذاته مكان ال يتمكن املرء من اخلروج منه
كان يقوله بع�ضنا �إىل البع�ض الآخر؟» هناك �شيء �ساملا ومعافى .وهنا ال تهمني حماولة الهرب
من الإبهام يحيط بالكلمات التي تتعر�ض للمحو ما من مواجهة هذا القدر ،وهو الأ�سلوب الذي يتبعه
�أن تقال .ال ي�شرتط ت�أثريها بقاءها .هناك ح�سا�سية معظم املهاجرين من �أجل �أن ال يزيدوا من ارتباك
كامنة تدفع بتلك الكلمات �إىل الذوبان واالمتزاج خطواتهم .من امل�ؤكد �أن تعلم اللغة يعني املهاجر
مب�شاعرنا ،مبا نفكر به ومبا نتخيله .هي كلمات يف على ال�شعور بنوع من الراحة ،لكنها راحة ال تدوم
�إمكانها �أن تقولنا بل و�أن تكون لنا مبثابة املعرب طويال .فبعد �أن يطمئن املهاجر �إىل �سيطرته اللغوية
الذي ننتقل عن طريقه �إىل �ضفة �أخرى .هل كانت على حاجاته الأ�سا�سية ،يبد�أ �س�ؤال اللغة يف �صفتها
فتاة الفحي�ص نوعا من تلك الكائنات اخلفية التي معيارا ثقافيا .ذلك لأن التحدث بلغة ما يفرت�ض
ال يلتقيها املرء با�ستمرار؟ يف اليوم التايل للقائنا معرفة املزاج الثقايف للغة حيث تلعب تلك املعرفة
ا�ستيقظت مبكرا .كان الفجر على ر�ؤو�س الأ�شجار. دورا كبريا يف �إمكانية اال�سرت�سال مع تلك اللغة
م�شهد الطبيعة من حويل �أده�شني كما لو �أين �أراه �أول يف حتوالتها .وهو ما يعجز عن القيام به املهاجر.
مرة« .لقد تغريت» قد ال يكون ذلك التعبري منا�سبا وهنا تنفتح �أبواب جحيم منفى خمتلف .فاللغة
ملا كنت �أ�شعر به .غري �أنني يف احلقيقة ا�ستيقظت لي�ست و�سيلة ات�صال جمردة من لذائذها اخلفية.
على �صوتها الذي تركته راقدا يف �أعماقي .لذلك «حيث اللغة تنكر نف�سها� /أذهب ملالقاة نف�سي»
خرجت م�رسعا من البيت وقبل �أن �أعد القهوة من يقول اوكتافيو باث .نتعرف على اللغة يف �صفتها
�أجل �أن �أتخل�ص من ذلك ال�صوت من خالل اعادته مكانا جمهوال ،ت�شتبك حوا�سنا بعنف ب�سطوح ذلك
229 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
خالل رغبتك يف �أن تبقى حيا .عدوانية اجلمال هي �إىل ف�ضائه« .هذه هبتك �أعيدها �إليك لأنني ف�شلت
جزء من فكرتنا عنه .اجلمال واقعة �شاذة ،متطرفة، يف حملها» قلت للطبيعة وعدت �إىل البيت .كان ما
ملعونة� ،صادمة ،مت�شنجة ،فالتة ،ومتمردة على كل فعلته نوعا من االرجتال اخليايل غري �أن نتائجه
قيا�س م�سبق« .ما مل تكن �ضاال لن تكون جميال». كانت مده�شة .حني وقفت لأعد القهوة كنت �أ�شعر
فتنة اخللخلة تقيم يف كل اللغات .مل يعن فن�سنت ب�صفاء روحي مل �أ�شعر به منذ زمن طويل .كانت
فان غوخ يف حياته ب�شيء بقدر عنايته بتلك الفتنة. هناك مو�سيقى تخرج من ج�سدي لتعود �إليه ثانية
لقد نظرت بعيني فن�سنت �إىل تلك احل�شود ال�صفراء من غري �أن ت�صطدم ب�شيء يبعرثها .عدت وحيدا
فيما كان العامل ال يرى �إال وحو�شا فالتة .لو كنا حتر�سني عيون املالئكة .حملت فنجان القهوة
مزارعني :فن�سنت و�أنا لأدركنا اخلطر« .ولكن اخلطر وجل�ست قريبا من �أحدى النوافذ الوا�سعة منتظرا
هو الذي يجذبنا �إىل تلك املناطق» يقول يل فن�سنت بخوف �أن �أب�رص ذلك ال�صوت وهو يتخفى بني
ب�صوتي .وهو حمق .مل يكن فن�سنت �إال ر�ساما �صينيا. الأ�شجار.
هذا ما قاله نقاد ع�رصه عنه بتعال ،ت�شم منه كغريها من اللغات فان اللغة اال�سوجية (ال�سويدية)
رائحة العن�رصية .كانت لوحاته اوغرا�س .وحياته حتتوي على كلمات ،فيها قدر عظيم من املو�سيقى
هي الأخرى كانت اوغرا�س� .صاحبه الذي م�ضى مبا ال تك�شف عنه معانيها .بل �أن تلك املو�سيقى
متلهفا �إىل تاهيتي كان هو الآخر اوغرا�س .بول تبعث يف النف�س نوعا من الق�شعريرة ال�شاعرية
غوغان وجد هناك املر�أة التي يحبها وي�ضاجعها يهمل املرء �إزاءها التفكري بالداللة( .اوغرا�س) هي
بعمق ،ور�سم اللوحة التي يحلم بها ويظنها و�سيلته واحدة من تلك الكلمات التي �أ�رستني بجر�سها.
لتغيري العامل .لقد مكنه خط�أ من القب�ض على روح معناها نوع من الأع�شاب والأزهار ال�ضارة .وهي
الآلهة .حرا�س الدين كانوا يح�صون �أخطاءه�« .صبية نباتات برية يتمكن املرء من العثور عليها بي�رس يف
يلعبون» بالن�سبة لغوغان مل يكن العامل ي�ضيق كل مكان .ذات يوم ا�ستيقظت على �ضجيج ماكنة.
بكلمة .الفرن�سي الذي ترك املدنية وراءه لينتمي نظرت من النافذة �إىل احلقل الأخ�رض الذي يحيط
بكل حيويته �إىل عامل ي�ستمد قوته من اخلرافة هو مبنزيل من جهة غرفة النوم فر�أيت ماكنة وهي
�رضبة يد على طبل غري مرئي .دعاء يذهب �إىل تقطع ر�ؤو�س �آالف الأزهار ال�صفراء .كانت �أجزاء
اهلل مبا�رشة من غري �أن مير بالدين� .أمام مثل هذا من تلك ال�سجادة ال�صفراء ال تزال موجودة حني
النوع من الأدعية ت�شعر امل�ؤ�س�سة الدينية باخلطر. وقفت �أمام العامل الذي كان ينجز تلك املجزرة.
هناك من يفقدها �سلطة احتكار املفاتيح التي تفتح قلت له «مل تفعل ذلك؟» فقال يل الكلمة التي علقت
بها �أبواب الغيب .وهنا بال�ضبط يقع التناق�ض بني بخيايل بقوة «اوغرا�س» .عدت �إىل املعجم حزينا
الدين والفن .م�سيحيو فرن�سا يف تاهيتي �أقلقهم �أن وخميبا ب�إن�سانية مولعة باخلراب .تركت تلك الكلمة
ت�ستيقظ �أديان الطبيعة من خالل ر�سوم ومنحوتات يف نف�سي ما مل �أكن �أتوقعه من ت�أثري .لقد امتزج
غوغان .يف النهاية انت�رص املوت .مات غوغان نغمها بالأوهام الب�رصية الذي اخرتعتها ح�شود
فيما ذهبت ر�سومه �إىل املتاحف .كانت حياته الزهرة ال�صفراء ف�صنعت يف عيني دموعا هي �أ�شبه
الق�صرية كما هي حياة ارثور رامبو من قبله وحياة بالفرا�شات .حني فتحت املعجم كنت �أ�شبه بالأعمى.
كافكا من بعده فكرة عن حياة ال ميكن ا�ستعادتها حينها تذكرت فتاة الفحي�ص .كانت الفاتنة نوعا من
�إال عن طريق الفن� .إن �أهمية عمل من نوع (البحث الع�شب ال�ضار .ما يفعله ذلك العامل فعلته �أنا قبله
عن الزمن املفقود) ملار�سيل برو�ست تكمن يف ب�أعوام .الوعي �ضد اجلمال� .أهذا ما �أردت �أن �أقوله؟
�أنه ينقي امل�سافة بني الفرد واالله من احلكايات يف اللحظة عينها ميكنك �أن تف�رس عدوانيتك من
230 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
بني كتاب يقر أ� مرة واحدة ومن ثم يلقى بعيدا و�آخر الدينية .ولهذا ال�سبب تبدو قراءة هرني ميلر م�سلية.
يقر أ� يف كل مرة كما لو �أنه �صدر لتوه .لي�ست ال�صور فميلر الذي يحتقر امل�ؤ�س�سة الدينية مل يكن ملحدا.
الفوتوغرافية املعلقة على جدران ذلك البيت وحدها كان مثلي متاما م�ؤمنا بعمق .ف�أنا يف عالقتي مع
ما يعيد املرء �إىل زمن الأ�سالف ،هناك �أ�شياء عديدة اخلالق ال �أبحث عن ر�ضا �أحد �سواه .وهي العالقة
ال تكف عن االمتزاج بزمن ال يزال حيا .اخلزانات التي ال يفهمها الكثريون ممن �أقتنعوا بقوة الو�سيط
والأباريق والري�ش وال�شبابيك وال�صحون واملالعق على ال�شفاعة� .إنهم يفتقرون �إىل اجلر�أة على �إقامة
واحلطب وال�شمعدانات والأقداح وال�صناديق عالقة مبا�رشة مع الرب .وهي عالقة يقرتحها اهلل
اخل�شبية و�سالل حفظ اخلبز والدمى ال�صغرية واواين بنف�سه «�أينما تولوا فثم وجه اهلل».
النباتات الظلية والكتب ،كلها تقيم على جناحي يف ع�رص املدن ال�صناعية الكبرية رمبا �أكون
فرا�شة عمالقة يخفقان فيحرك الهواء من حولهما حمظوظا �إذ �أقيم يف قرية .فر�صة نادرة يحلم بها
�ضباب الأزمنة ويتطاير الري�ش يف كل مكان .يف الكثريون جتعلني قريبا من فكرة اخللق .يف كل حلظة
كل �شيء �صغري هنالك باب ي�ؤدي �إىل فكرة وجود ا�ستثناء �أهرع �إىل الغابة ال�ستعيد توازن املعادلة
خفي« .انظر من النافذة� ،أترى ذلك البئر قرب �شجرة يف �أعماقي�« .أعي�ش حياتي بال �صفات ،فال �أعرف
التفاح؟ لقد حفره جدي قبل �أن ي�شيد البيت غري �أنه معنى الغنى �أو الفقر .حياتي كما هي ،كما الفتها،
جف منذ �سنوات .هو اليوم �أ�شبه باملزار» ينظر يف مليئة باملعاين» يقول يل احلطاب وهو يقرتح علي
عيني كمن يتذكر «دائما هناك حياة حمتملة» تكرث �أن �أ�رشب معه كا�سا من النبيذ يف بيته .ذلك احلطاب
يف حكاياتهم كائنات تخرج من العدم فج�أة لتعود كان غنيا باملعنى الذي ال ي�شعر معه باحلاجة �إىل
�إليه بعد �أن ت�ؤدي �أدوارها املطلوبة� .أناث خارقات �شيء ال ميلكه« .ع�رص الزراعة ال ميكن �أن ينتهي»
تركن اثرا كبريا يف نوع الرتاتبية اجلن�سية ال�سائدة يريني مزرعته ال�صغرية التي ذكرتني مبزرعة
يف املجتمع حاليا :املر�أة ومن ثم الطفل وبعدهما الر�سام قا�سم ال�ساعدي يف بيته بهولندا« .الثلج
الرجل .ي�ضع البع�ض �ساخرا الكلب قبل الرجل. يدفن كل �شيء غري �أنه ال يقتله .هناك دائما حياة
«الرتف لي�س الغنى» هم�س �صخر فرزات يف اذين كامنة يف �أعماق الأر�ض .الأر�ض ت�شبهنا من جهة
ذات مرة «�أن تكون مرتفا �أف�ضل من �أن تكون غنيا» قدرتها على �أن حتتفظ بالأمل بعيدا عن كل �شعور
�أ�ضاف .ر�سومه التي ت�شف عن الألوان كلها كانت بالإحباط» �أنظر �إىل نباتاته التي خرجت لتوها من
مبعنى من معانيها تعبريا عن �شعوره برتف احلياة، الأر�ض لأن�صت �إىل ن�شيدها املبلل بنداءات املوتى.
وهو الذي كان واحدا من �أكرث املدافعني عن حقوق «يقيمون هناك ،يف كل حلظة ي�ستعدون لوالدتهم
الإن�سان رفعة .يف املرة الثانية التي زرته فيها يف الثانية» ال �أحد من حولنا فيما ي�صفر طائر �صغري
بيته بباري�س كانت دفاتره ال�شعرية هي مفاج�أته يف اخلارج وحيدا .ليتنا ن�ستطيع ال�صفري �أي�ضا.
التي �صعقت و�أنا �أتخيل �أ�سلوب ذلك الر�سام يف اتلفت بني جدران البيت اخل�شبي املختنقة بال�صور
اخرتاع نوع من الكدح ال يتخلى عنه اجلمال حلظة ال�صغرية .بع�ضها ر�سوم والبع�ض الآخر فوتوغراف.
واحدة« .كمن ي�شقى يف �إنتظار املعجزة» «لقد «بناه جدي بنف�سه يف بدايات القرن الع�رشين،
تعلمت �أن �أعمل با�ستمرار .يدنا هي التي حتر�ض وجددته بنف�سي يف الثمانينات ،يف كل �سنتمرت
الإلهام على احل�ضور» ي�صمت «هل �أقول لك :يدنا منه و�ضعت ب�صمتي حيث كنت �أرى بو�ضوح ب�صمة
هي م�صدر الإلهام» نظر يف عيني كعادته حني جدي» �أحالني �صوته �إىل فكرة اال�ستمرار والدائرة
ينهي جملة ي�شعر �أنها لن تكتمل �إال بجملة يقولها املغلقة .البيت م�ستمر يف الوجود ،لكن من خالل ب�رش
الآخر معرت�ضا �أو موافقا ،ال فرق .كانت كتب فانني .الكتب هي الأخرى ت�شبه البيوت .هناك فرق
231 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
�ضوء النهار بن�ضارتها .ال يبدو عليها العناد ،املر�أة ال�شعراء هي دفاتره التي ترتك يده على �أوراقها
التي جبلت على الرتف الدم�شقي بل كانت م�ؤمنة �آثار م�ضيها املنفعل ب�أناقة الفتة �إىل الروح .كل
�إىل درجة يكون فيها اجلبل مقتنعا بالعودة �إىل كتاب من تلك الكتب هو ن�سخة فريدة من نوعها
ح�ضن طفولته املائية. من جهة الر�سوم التي تزينها .حطاب ي�سبق الغابة
«نبيلة اخلري �أخرى» قلت لنف�سي و�أنا �أتذكر �إىل فجرها .لي�س هناك كتاب ي�شبه �آخر« .بيتي يف
�صديقتي الر�سامة البحرينية التي كان وجهها ينبئ اجلنوب كذلك .ال حجر فيه ي�شبه حجرا �آخر» روى
ب�سخاء م�شاعرها دائما« .ليتك تغ�ضبني يا نبيلة يومها يل ق�صة ذلك البيت الذي ا�شرتاه مهجورا
لأرى اجلانب الآخر من وجهك» كنت �أقول لنف�سي ليحوله عرب �سنوات طويلة من اجلهد اليدوي اخلالق
وانا �أرى يف وجهها مالمح �إن�سانية افتقدها حني �إىل م�صيدة للإلهام .كنت �أنظر �إىل زوجته ال�شاعرة
�أنظر �إىل وجوه الكثري من الب�رش .كان هناك نوع من عائ�شة �أرنا�ؤوط و�أفكر بال�شعر اليدوي .هي ال�شاهدة
ال�صفاء املت�سائل يف عينيها ين�سيني فكرة القناع الوحيدة على نوع ا�ستفهامي من ال�صلة بالأر�ض،
الذي ي�ضعه الب�رش على وجوههم .ال يرى املرء من مبوادها و�أ�صباغها وطرق تفكريها .ولأن عائ�شة
خاللها قناعا ،بل الوجه الذي خلقه اهلل متاما .ما يف حد ذاتها نوع من املالئكة فقد كانت ال ترى
ي�شعر به املرء وهو يرى لوحاتها من توتر ال يجد له يف ذهويل �أي معنى م�ضاد يحتاج التعرف عليه �إىل
�أثرا يف حركتها املت�أنية التي تك�شف عن قدر هائل نوع خا�ص من الأجوبة .كانت املعجزات تقع بني
من ال�صلح الداخلي العميق .مل تكن نبيلة تر�سم يديها لت�ست�أنف من خاللها نهارها ال لتكون تلك
�إال ن�ساء« .هل كن �صورتها� ،أولئك الن�ساء اللواتي املعجزات مواقع قطيعة .البيت الذي �شيداه معا كان
ر�سمتهن ب�شغف وحنان؟» حني يرى املرء الأ�صل ي�ستكمل بنيته من خالل �أ�شعارها ودفاتر �صخر.
ين�سى املر�آة .لذلك مل �أكن مهتما بتلك امل�سافة يف ذلك اللقاء الذي ح�رضته الروائية عالية ممدوح
التي تف�صل بني نبيلة ور�سومها .يف احلقيقة كانت وزوجتي وابنتي اكت�شف �صخر �أن ابنتي قد ر�سمت
نبيلة بالن�سبة يل �أهم من ر�سومها .كانت اكت�شافا �صورة �شخ�صية له ف�أ�رص على �أن يحتفظ بها .يف
لوجود �أر�ضي ميكن �أن تختاره ال�سماء يف انت�شاء تلك ال�صورة ظهر �صخر يف �صفته واحدا من نبالء
منوذجا للخليقة .كنت �أرى �إىل ر�سوم نبيلة كونها فر�ساي .لقد قب�ضت ابنتي عليه يف حلظة ترف .وهي
حتريرا لتلك الإرادة يف التعاي�ش مع ما هو �أر�ضي. حقيقته التي ال ميكن �رشحها بي�رس .ذلك املنا�ضل
«غدا �أفطر لديك» قلت لها من خالل الهاتف .لو انني كان يحلم بحياة ال ت�ستثني �أحدا من كرامتها .يف
دعيت �إىل مطعم مك�سيم بباري�س لكان الإفطار �أقل الطريق �إىل بيته وبينما كنا نقرتب من �أحد الأنفاق
�أبهة .يكفي �أن نبيلة كانت موجودة� .أما املائدة قال يل «هل ميكن لعاقل �أن ي�صدق �أن الأمرية ديانا
فقد كانت مزيجا مرهفا ومنغما من �أطعمة ال�رشق ماتت ب�سبب حادث مروري يف هذا النفق؟ لقد قتلوا
والغرب .كانت موجودة يف ذلك الإفطار بالقوة يومها فكرة �أزعجتهم» بعدها اكت�شفت �أنه كان يدافع
نف�سها التي هي موجودة يف ر�سومها .خيالها الذي عن حقه يف احلرية .كان ميزج �أمرية ويلز ب�سجناء
ال يرتك ثغرة �إال وميلأها بدعائه املت�سامح ي�سلمني
الر�أي يف بلده �سوريا لريى �صورته من خالل ذلك
�إىل وجوه مطمنئة ،يهمها �أنها و�صلت �أخريا .ولأن
املزيج .ومع ذلك فان عائ�شة مل تكن �ضائعة يف ظل
نبيلة ال تقول �شيئا عن ر�سومها فان تلك الوجوه
ذلك البطل الأ�سطوري .لي�س لأن �صخرا كان ين�صت
تظل مبثابة لغز حمري.
�إليها مثل طفل وهو �أمر م�ؤكد بل لإن عائ�شة �أ�شبه
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) بتلك الأع�شاب الرقيقة التي ت�شق ال�صخور لتفاجئ
232 نزوى العدد - 75يوليو 2013
الكتابة
�إنقاذ اللغة من الغرق
لؤي حمزة ع ّباس
قا�ص وروائي من العراق
s
s
s
حيث ُي�صنع ال�صابون الب ّني بروائحه الفاغمة، ُ مكتوب يف فنجان
ليجف حتت َّ و ُيرتك يف ال�ساحات �صفوف ًا طويل ًة �إنها املر�أة التي ر�أت الكثري من الأ�شياء ومل حت ّدث
املجاديف كما لو
ِ �رضبات
ِ ال�شم�س ،يهتفون مع بغري القليل ،حيث يبدو كلُّ �شئ مكتوب ًا يف فنجان،
جنوب الغاب ِة ي�صعدون، ِ كانوا ينادون الأ�شجار .من من�سية يف خيول و�سالحف و�أ�شجار ،كمانات
ّ
جترحها حيث �صخور ال�ض ّفة �أكرث رحم ًة ب�أقدامهم ،ال ّ ُ عربات قطار ،و�سيدات منتظرات ،كما لو �أن يداً
�إال قليالً� .إىل قلب الغابة مي�ضون على الطريق الذي زمن بعيد. زجاج ،منذ ٍ ماهرة نق�شتهن على
ٍ
عام
قطعوه يف مثل هذا النهار من العام املا�ضيٌ . غيوم ،على كل ر�أت حروب ًا متالحقة ،تندفع مثل
ٍ
مر وما زالت دما�ؤهم رطب ًة على الع�شب ،على قطرات َّ مهل ،ر�أت ك َّل
غيمةٍ كثري من الأ�سماء .ب�صمتٍ وعلى ٍ
قطرات جديد ٌة ،و�سنتخف�ض �أ�صواتهم ٌ ُقل �ستع الدم ا�سم يختفي فور قراءته .ما كان ُيحزنها حق ًا هو ٍ
وهي توا�صل نداءها ،حتى �إذا و�صلوا �إىل الأ�شجا ِر متر مهما كانت احلروب إن
� من يوم ذات أته� قر ما
ُّ
يتحملون
ّ العظيم ِة العالي ِة �أخذهم ال�صمت .ما كانوا طويلة وقاهرة ،وال تبقى غري الأ�سماء .عا�شت �شعوراً
�صنف معينّ ٍ من الثمار� ،إنهم ٍ هذا العناء من �أجل مل تع�شه امر أ� ٌة قبلها وهي ُتدرك �أن احلروب �ستبقى
عام كي يقفوا �صامتني �أمام الأ�شجار ثم ي�أتون ك َّل ٍ �سيمر و ُين�سى هو الأ�سماء. و�أن ما
ُّ
امل�صب املتد ّفق
ّ يقفلون عائدين عرب خليج باريا �إىل منذ �سنوات �صعدت ُ�سلّماً ،ومن �أعلى درجةٍ تركت
ال�صابون هناك ،وهناك ِ من نهر �أورينوكو ،رائح ُة الفنجان يتهاوى .قيل �أنه ا�ستغرق زمن ًا قبل �أن
الكالم يحيا وميوت.
ُ حفر �صغري ٌة مثل عمالت ي�سقط على �أر�ض متل�ؤها ٌ
احل ّكاء معدنية �صدئة ،فتهت ُّز ل�سقوطه اجلدران. ّ
تب عن �سيدة ولأنها مل حت ّدث بغري القليل ،فقد كُ َ
كان ما يفعله �سوجن لنج بو ،احلكّاء العظيم ،ب�سيط ًا
ت�شبهها �صعدت �أعلى ال�سلّم م�ستجيب ًة حللم امر�أة
جداً� ،إنه يحكي حكايته على طريقته كما لو كان
ممحو ًة ور�سوم ًا مثل نق�ش ّ كلمات
ٍ فنجان
ٍ تقر�أ يف
يطارد �شبح ًا يف مر�آة ،ومل يكن من ال�صعب على
على زجاج .حاولت من جهتها �أن تلتقط ولو حرفاً،
نبع عندما ينام ،ي�سمع يتحول �إىل ٍ
ّ حكّاء مثله �أن
لكن املر�أة التفتت لتح ّدثها عن رجل يطعن �ضفدع ًا
�أرواح النا�س املخبوءة يف الأ�صداف ،ويرى ثريان ًا
ب�سكني.
تتقافز بني يديه ،و�أيائل تتخاطف يف �أحالم
ينق مع ك ِّل طعنة ،والرجل يوا�صل كان ال�ضفدع ُّ
ال�صيادين� ،إنه يت�سلل �إىل �أحالمهم كي يداعبهم
عمله بدقّةٍ واجتهاد.
قلي ًال قبل ال�صحو .يف حكاياته حيث يجل�س على
حمرك ًا قدميه جري ًا على عادة كر�سي بال ظهرّ ، ابتكار
قدمية ،ومن ورائه ،يف الف�ضاء الف�سيح ،توا�صل تبتكر الكتابة املوت
وتتحرك
ّ ال�شم�س �أي�ضاً،
ُ رائحة روث هبوبهاُ ،ت�رشق متنحه قفازاً ومنز ًال
عقارب ال�ساعة مثل حركتها ك َّل يوم ،لكنها ُت�شري ت�أويه وتدلّلـه مثل ذئب وحيد .تناديه ،كلما نزل
لوقتٍ �آخر ُيحيط بالأ�شياء مثل هواء مغرب ويت�سلل الليل ،ب�أ�سماء جديدة.
�إىل �أعماقها .الرجل الذي يتهاوى من �أعلى خمازن
اخل�شب وقد زلّت قدمه على �سقف �شديد االنحدار، ال�صمت
مرمية على اجلانب، ّ لن ي�سقط على كومة �أحجار النهر بقواربهم الر�شيق ِة مثل ال�سهام،
َ كانوا ي�ش ّقون
�سيهوم طوي ًال مثل ن� ٍرس فتي يف حكاية �سوجن لنج ّ الرب الرئي�سي
�صوب الغابةِ ،قادمني من ّ َ متوجهني
ّ
234 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
s
s
قالع قدمي ٌة تطلُّ من بعيد ،ومعل ُّم
ٌ جوار الكتب. زقاق ًا بعد �آخر يف طريقي �إىل النهر ،على �ض ّفته
وكلمات ،هكذا ُيبنى العاملُ،
ٌ مو�سيقى بال مواهب، �أقف ،يف الرائحة العفنة حيث تتحلل الأفكار على
وقالع من
ٌ وهكذا ُت�ستعاد احلياة :مو�سيقى موجعة ال�شاطئ وتتخاطف الأمواج ،على ك ِّل موجةٍ يرت�سم
كلمات ،قبل �أن تنزلق للبئر العميقة وال يعد ثمة ما وجه ويختفي� .إنهم �سكان املدينة ي�ؤكدون غيبتهم،
حماط باحلدائق يفٍ امليت يف بيتٍ
مييز بني الأب ّ ّ ح ّدثت نف�سي يف اللحظة التي �أخذت الوجوه تفتح
قرية (روكن) ،واالبن الذي يوا�صل النزول من �أعلى �أفواهها ،حلظة ي�صعب معها ادراك معنى االنفتاحة:
الفكرة مثق ًال ب�أعباء الوحدة ،موا�ص ًال االن�شغال ،مبا �شهقة� ،أو تثا�ؤباً� ،أو لوعة موت� ،رسيع ًا ما تت�شظى
تب ّقى يف ذهنه من نور ،برذائل االعتقاد مبا تتوهمه املوجة بعدها ،ويغيب الوجه .يف وقفتي على النهر،
ذكرياتنا ،وبالراحة العميقة يف م�صاحلة املر�ض. وكما لو كنت على موعد ،تذكّ رت �أنني �أبحث ،منذ
ها �أنت مت�ضي �سيد فريدريك ،بال ا�سم وال مر�آة، انتهت احلرب ،عن مو�سوعة العذاب .لكم ع ّذبني �أن
حماو ًال اخلال�ص من اخليول التي ترتاك�ض يف �أوا�صل البحث نهاراً بعد نهار ،حتى �إذا ُع ّد ُت ملنزيل
جوف البئر ،ومن ارجتافة نار الفانو�س. املرتفع عن ال�شارع ـ ُ�سلّم ق�صري ي�ؤدي �إليه ـ و�أكلت
يحدث �أن ينهار العقلُ املتوهج ،ي�سقط يف مغاور طعامي القليل مم ّدداً على ال�رسير بكامل ثيابي،
العتمة ،لكن الكتابة حتافظ على و�سامتها يف �رضب رحت �إىل النوم �رسيع ًا ور�أيتني �أفتح باب ًا و�أدخل،
خيالية بعيدة وغري مفهومة ،متح ّدثة ّ من مناورة أجتول
�صوت ما ُيح ّدثني �أنني يف املو�سوعة الآنّ � ، ٌ
عن الأمواج التي ُت�سمع يف الليل. يف غرفها الرطبة �شبه املعتمة� ،أنزل عرب ُ�سلّم ق�صري
من هانئ ًا �سيد فريدريك ،وراء العتمة ،وراء ال�ضوء، �إىل قاعها ،حتيطني رائحة العفن القدمي ،ويتملّكني
وراء ك ِّل ما للخري من معنى وما لل�رش ،لعلّك ت�صحو �شعور �أنني كنت هنا من قبل وي�ؤملني �أنها مو�سوعة ٌ
مرة �أخرى وقد مل�ستك املعرفة بجناحها ،لتكتب ّ فارغة �أي�ضاً ،ال �رصخة ،وال وجه ،وال عذاب.
عن « اللذات املكلّفة للأوهام ،واللذات الأكرث كلف ًة
لتقوي�ضها».
مثل طائر وحيد
على الطريق الوا�سع بني (فاي�سنفال�س) و(اليبزيغ)،
�سيد يو�سا مروراً بـ(لوتزان) ،متت ُّد قرية (روكن) مثل طائر
�صف
نعم �سيد يو�سا ،كما تقول متاماً ،نحن نقف يف ِّ وحيد ،هناك �أو يف �أي مكان �آخر ب�إمكانك �أن تولد،
املخرب�شني على الورق� ،سيئي الطالع ،بال نا�رشين قرنيف �أية قريةٍ على الطريق ،ويف منت�صف � ِّأي ٍ
قراء ،قد ُتكت�شف مواه ُبنا من قبل وال مكاف�آت وال ّ �سمى ب� ِّأي ا�سم ،فريدريك
ت�شاء ،مثلما ب�إمكانك �أن ُت ّ
لعزاء حزين! ن�شكرك ب�صدق ٌ الأجيال القادمة ،و�إنه آالم
فيلهامل �أو �سواه ،ال فرق ،ففي ك ِّل يوم تزداد ال ُ
�أن ت�صنفنا زمالء ،و�إن كنا قليلي احلظ ،فنحن مثلك حد ًة ويغدو العا ُمل �أكرث عتم ًة مع الفقدان البطئ
ت�أخذنا �أحالمنا للكتابة ،و ُتعيدنا الكتاب ُة ملا ُيحيط ب�شائر
ُ للب�رص ،ويبدو اجل�س ُد �شدي َد النحول� ،إنها
بنا من ظالم .جادون نحن يف امل�ضي ب�أوهامنا موارةٍ تردم يف ثلجيةٍ ّ
ّ املتفجر مثل عا�صفةٍ
ّ الدماغ
حتى �آخر ال�شوط ،حيث ال تو ّقف وال انتهاء. الرباقتني،
طريقها ك َّل �شئ :الفكرة ،وعيني ال�سنجاب ّ
تعلم� ،أيها العزيز ،ب�أننا مل نع�ش على الرتاب اال�سباين و�أ�شجار التنوب التي تتخلى عن �صمودها ،حيث
يوماً ،ولي�ست لنا وم�ض ُة ذكرى عن بر�شلونة اجلميلة يهيم الأب يف الهبوب العا�صف ومل يكن عمرك قد
ل ُن�سعد با�ستعادتها ،لكن ذلك ال مينعنا من �أن جنتهد جتاوز الرابعة بعد .فلتكتب� ،إذن ،عن (ناومبورغ)،
يف ابتكار عزائنا ،حيث الكلم ُة وحدها متنحنا وعن اخلوف الذي يقر�ص اجللد ،وعن احلياة �إىل
236 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
طريق ابن ف�ضالن بر�شلونة �أخرى ،ال ُن�ضطر ال�ستعادتها كلّما ا�ستب َّد
غيوم الفتيات ي�ؤدين رق�صاتهن حتت التتاريات ني لأننا ،بب�ساطةٍ ،نحيا فيها ،فرب�شلونة بنا احلن ُ
ٍ ُ ُ
رماديةٍ ،يف باح ِة امل�سج ِد الأبي�ض ،يف قريةٍ على و�شوارع
ُ أبواب عاليةٌ،
كلم ٌة مثل �آالف الكلمات لها � ٌ
ّ وفتيات جميالت ،ولها �أي�ض ًا كروم،
ابن ف�ضالن نهر الفوجلا� .شهراً بعد �آخر يوا�صلُ ُ ٌ ومزارع ٍ
ُ وا�سعةٌ،
اب �سيئو الطالع ـ يا ل�سعادتنا ـ عزا�ؤهم �أن �أنا�س ًا ك ّت ٌ
جبالٍ رحلته على اخلريطة التي تقطعها �سال�سلُ
أماكن كثريةٍ من ي�شبهونهم يوا�صلون اخلرب�ش َة يف � َ
خطوط من النمل. ٍ كثري ٌة ،م�ستقيم ٌة وملتوي ٌة مثل العامل ك َّل يوم� .إنهم يكتبون ،كما تقول �سيد يو�سا،
ال ُبلغار ب�أنهارها وخيولها وفر�سانها ،بح ّداديها ي�ش احليوات املتع ّددة التي يرغبون فيها، من �أجلِ َع ِ
وربات بيوتها ،ترت ّق ُب ما ت�أتي به الرياح .طوي ٌل ّ هم الذين مل تتوفر لهم �إال حيا ٌة واحد ٌة بالكاد ،وهي
طريقك يا ابن ف�ضالن ،لن ينتهي بني يدي �أمل�ش حيا ٌة ت�ستحق �أن ُتعا�ش ،رغم ذلك وب�سببه رمبا ،و�أن
�شعاب �أحالم ِه
ِ يغيب يف
َ بن يلطوار ،امللك ،ولن للتخيل،
ّ أوهامها� .إنها م�ساحتهم الوحيد ُة
تتع ّدد � ُ
كتاب اخلليفة وقد �صمتت َ الف�سيحةِ .ها �أنت تقر�أ حيث َيح َيون من جدي ٍد مع ك ِّل فكرةٍ ،ولن يكون
الطبولُ من حولك ،ورفرفتِ الرايات. مب�ستطاعهم ،وقد �ضاقت خيارا ُتهم ،غري �أن يوا�صلوا
موت ميوتونه ،ومع ك ِّل حياة. الكتاب َة مع ك ِّل ٍ
يف القارب اجل�سور بني اجليد مي ُّد
َ قلت� ،سيد يو�سا� ،إن الأدب ّ َ
املاء يف
َ الرجلُ يف القارب منذ �سنوات ،مل يربح النا�س املختلفني ،ذلك �صائب حقاً ،ومن ال�صواب
القارب يف رحلة طويلة �إىلُ ليلٍ �أونهار .ي�أخذه �أي�ض ًا �أن نفكّر ب�أن ال ج�رس يف الكتابة ،ال باب ،وال
و�سار على
َ مر ًة على ال�شاطئ،
حياته ،حيث نزلَ ّ �شارع ،ثمة حيا ٌة طليق ٌة فح�سب ت�أخذ النا�س حتت
الرمل ،ور�أى جنوداً منك�رسين .كان �شاب ًا وقتها، جناحيها يف جتربة فريدة ال تنق�ضي.
�سعيداً بالرمل الذي يعلُق بقدميه ،حاولَ �أن ُيح ّدث �إنقاذ اللغة من الغرق
اجلنو َد عن �سعادته ،وعن �سنوات ِه على القارب،
ما �أبعد اخلام�س والع�رشين من ني�سان ،1937ما
لكن �أحداً منهم مل ي�سمع �أو ُيجيد الكالم ،كانوا
�أ�صعب الو�صول لل�صفحة الثامنة والع�رشين من
زخات الر�صا�ص. قد خ�رسوا اللغة ،ال ريب ،مع ّ النيويورك تاميز ،حيث ي�أوي همنغواي ُمق َت َب�س ًا
وقت مل ير طرياً ومل ي�سمع زقزق ًة �أو نعيباً، منذ ٍ من احلرب التي تتجلّى ناب�ض ًة باحلياة يف مدريد.
�إنه يوا�صل حياته مم ّدداً على ال�سطح ،ناظراً طيف عاب ٍر ،ميكنك ر�ؤي ُة
ٍ هام�ش وحيدٍ ،مث َل
ٍ يف
كل �شئ من حوله ،حتى املاء �صامت ُّ ٌ لل�سماء. جندي ي�ستلقي على الرمل بثيابه الكاملة ،عيناه ٍ
القارب ،يدفعه بال �صوت .عند هذه َ يدفع
ُ الذي مفتوحتان ،عظمتا وجنتيه بارزتان ،مي�سحهما
ي�سحب كتاب ًا من بطن القارب،ُ النقط ِة من النهار التف
�ضوء �آخر النهار ،خوذته مائلة قلي ًال وقد َّ ُ
املاء منها
الوقوف �أمام كلمات ِه التي مل ُيبق ُ
َ ُيطيل حزامها على الرقبة .يف جيبه العلوي� ،إن ح ّدقت ُ
كل ظلٍ غيم ٌة عابرة .من �صفحةٍ �إىل غري الظاللُّ ،
َ ملياً� ،سرتى دلي ًال للنجاة كُ تب خ�صي�ص ًا لإنقاذ ّ
�صفحةٍ يوا�صلُ القراء َة حتى يغلبه النوم. اللغة من الغرق.
الع�رشين� ،أو اخلم�سني .ينبغي �أن �أ�صنع بورق «احلياة ف�سيحة للغاية .وثمة حلظة بدا يل �أثناءها،
ال�صحف ل ّفات متقنة ،و�أن �أكتب على ك ّل ل ّفة منها
ُ قمت به ،كان ُمق ّدراً علي منذ ع�رشة �آالف عام؛
�أن ما ُ
باحلرب الأ�سود ،املبلغ الذي حتويه. بعد ذلك� ،ساورين االعتقاد ب�أن العامل قد ان�شق اىل
يلزمني الوقت الكايف لأقوم بكل ما ذكرت ،اىل ن�صفني ،وب�أن كل �شيء قد اتخذ لون ًا �أ�صفى مما
جانب غ�سل ما ينبغي علي غ�سله ،وحت�ضري قطعتي كان عليه ،وب�أ ّننا ـ نحن الب�رش كذلك ـ مل نعد نعي�ش
خبز مطلي بالزبد ،واخلروج على وجه ال�رسعة كذلك، يف حزن �شديد».
اللعبة امل�سعورة ،روبريتو �أرتل
و�أنا �أحمل اخلوان �سهل الطي اىل جانب ال�سلة ،ق�صد
االلتحاق باحلافلة العمومية ال�صغرية ،التي تنطلق �أنا ،ما �سبق يل قط من قبل� ،أن �أ�س�أت اىل �أي كان.
مع متام ال�سابعة. كل ما �أدريه هو �أنه يتعينّ ُ علي النهو�ض من النوم
�أنا ،ما �سبق يل قط من قبل� ،أن �أ�س�أت اىل �أي كان، يف ال�ساد�سة �صباحاً ،حتى يف�ضل �أمامي ما يكفي
معني مع ذلك ،ب�أن �أكون حذراً غاية احلذر مع
ٌّ �إال �أين من الوقت ،لرتتيب ال�سلة التي تكون دائم ًا غري
ومنالنا�س� ،إذ ثمة دائم ًا َمن ال يعرفني من ه�ؤالءَ ، مرتبة .يلزمني ما يكفي من الوقت ،لأعرف العدد
ينظر اىل �ش َعر ر�أ�سي املق�صو�ص بطريقة مفرطة امللب�سات� ،سواء ذات
الذي ينبغي يل �أن �أ�شرتيه من ّ
عيني اللتني ُيقال �إنهما
ّ ومن ينظر اىل الق�صَ ، مذاق النعناع� ،أو الين�سون� ،أو البنف�سج .ويلزمني
جاحظتان ،بينما هما غري ذلك بح�سب ما يبدو يل ما يكفي من الوقت �أي�ضاً ،حتى �أعرف عدد �سبائك
�أنا؛ وهناك َمن ينظر اىل املالب�س التي تمُ نح يل من ال�شوكوالتة الذي تك�سرّ � ،أو ذاب يف لفافاته� ،أو �أعرف
امللج�أ ،ف�أرتديها نظيف ًة ومكوية؛ والأخطر من كل عدد اجلُند امل�صنوع من حلوى املرزبانية ،الذي فقد
ذلك� ،أن ثمة دائم ًا َمن يحاول �أن ي�رسق مني �شيئاً، بريقه الع�سكري ،ومل يعد �سوى �أن�صاف �سيقان ال
حني ال تكون ال�سلة حمكمة الغلق ،لكرثة امللب�سات متب�سمة ،ببندقية
ّ قيمة لها� ،أو جمرد وجوه �صغرية
ت�ضمها .يحدث هذا عامة يومي ّ واحللويات التي تك�سرّ ْت هي الأخرى.
االثنني واخلمي�س ،وهما اليومان اللذان �أذهب فيهما ألف قطعويلزمني كذلك ما يكفي من الوقت ،كي � ّ
أتزود بقطع امللب�سات اىل املحالت التجارية ،ل ّ النقود املعدنية يف ل ّفات متمايزة ،بع�ضها من
واحللوى التي تنق�صني. فئة ع�رشة �سنتيمات ،وبع�ضها الآخر �إما من فئة
238 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
�إال نحو القدي�سني ،ولي�س �صوب �أي �شيء �آخر �أبداً، حني �أ�صل اىل حملي بال�ساحة ،ال �أجد هناك يف ذلك
حتى �إنهم قد قلبوا اخلوان الذي �أ�ضع فيه الب�ضاعة، الوقت الباكر من ال�صباح� ،سوى احلَمام .قد يقول
ملرتني اثنتني يف ال�سنة املا�ضية ،ورف�سوا على قائل �إن احلمام يعرفني حق املعرفة ،اىل ح ّد �أن
امللب�سات وال�شوكوالتة ،وبقيت ال �أجد �شيئ ًا �أقتات حملي يبقى هو املكان الوحيد ،الذي ال يغدو مع
منه لعدة �أيام. ال�صباح كما لو �أنه تغطى بالثلج ،لأن معامل الأمكنة
ال�صورة التي �أطلب منها �أن تي�سرّ يل �أمر نهاري، طمر حتت ذرق تلك الطيور� .أعتقد الأخرى املتبقية ُت َ
هي �صورة عذراء الرحمة ال�صغرية .العذراء ال�صغرية ب�أن احلمام ي�شكرين ب�صنيعه ذاك ،على لباب اخلبز
هذه �أ�صغر من �سيد اخلوارق بكثري ،ويف كل يوم الذي �أجمعه له يف بيتي ،و�آتيه به كل يوم جمعة
�أراها بوجهها الظريف امل�صنوع من اجلب�س ،وهو يف �أكيا�س من البال�ستيك� .أعتقد ب�أن احلمام يعرف
ي�شع بالكثري من االبت�سام ،وك�أمنا قد �شبعت نوماً، ّ ذلك ،لهذا فهو يحرتم مو�ضعي ،عك�س ما يحدث
وك�أمنا نظفها �أحدهم يف ال�صباح الباكر مباء زهرة ملمع الأحذية الأخر�س الق�صري. متام ًا مع مو�ضع ّ
اخلريي ،قبل �أن يح ّل �أي كان باحلديقة .من هذه �إن هذا ليقذف احلمام دائم ًا باحلجارة ،ويحاول
بال�ضبط� ،أطلب ـ �أي نعم! ـ �أن يتي�سرّ �أمر نهاري، الإم�ساك ب�صغاره .يقول �إن احلمام� ،إذا ما طُ بِخ
رسق مني �شيء ،و�أن و�أن ال متطر ال�سماء ،و�أن ال ُي� َ على نار هادئة ،مع الكثري من الثوم ،يكون جيداً
ي�أتيني الكثري من �أبناء املدار�س ،وي�شرتوا مني جداً للرئتني .و�إين لأعتقد ب�أن احلمام ال يحب ذلك
كل حمتويات ال�سلة .ومن هذه �ألتم�س ـ �أي نعم! ـ الأخر�س الق�صري ،لهذا دائما ما ي�صبح مو�ضعه
�أن تقيني من عرثة احل�ساب ،حني يدفع يل �أحدهم مك�سواً بذرق �أبي�ض كل �صباح ،وهو ما يجعله يغلي
بورقة نقدية من فئة كبرية ،و�أ�ضطر اىل �أن �أر ّد عليه حنقاً.
ما تبقى من احل�ساب .حني يقع هذا� ،أ�صبح يف غاية حني �أح ّل يف ال�صباح مبحلي ،ف�إن �أول �شيء
يت�صبب العرقّ من الع�صبية ،وحني �أغدو ع�صبياً، �أقوم به هو ر�سم �إ�شارة ال�صليب �أمام �صورة �سيد
حلكّة،من وجهي ،وي�ستبد بج�سمي كله الأكالن وا ِ اخلوارق ،لكني ال �ألتم�س منه يف كل الأحوال ،هو
و�أ�شعر برائحة كريهة ت�صعد من بطني ،قد تت�سبب الذي يبدو دائم ًا ب�سِ ْمت جاد للغاية ،بينما الكثري
أتع�صب ،ال يكون مب�ستطاعي يف فرار الزبائن .وحني � ّ من �شموع الع�سل ذكية الرائحة وغالية الثمن ،تذوب
التفوه ب�أي �شيء ،ف�أ�شعر حينها ب�أن عيني قد تقريب ًا ّ بالقرب من قدميه� ،أن يعينني �أو ي�سندين على ق�ضاء
جحظتا حقاً. �أي �شيء .ال� .أنا ال �ألتم�س منه �شيئاً ،و�إمنا �أر�سم
ال ُتوقد مبقام العذراء ال�صغرية تقريباً� ،أي �شمعة �إ�شارة ال�صليب �أمامه وح�سب ،و�أنا خائف كثرياً
ع�سلية جميلة وملونةُ .توقد ملقامها �شموع طويلة من منظر عينيه املرعبتني ،اللتني تعك�سان �شعاع
وح�سب ،من �صنف ما ي�ضيء بيوت ه�ؤالء الذين ال�شمع ،حتى ل ُيقال �إنهما تر�سالن �رشراً م�ستطرياً،
يعي�شون على ال�ضفة الأخرى من الوادي ،وي�سمونه يف وجه كل من يقف �أمامه .و�أنا �أخاف كذلك ،من
ال�شمع الأبي�ض .هذا هو كل النذر الذي حتظى به دثار القطيفة احلمراء املو�ضوع يف ال�صورة على
هذه العذراء :جمرد �شمع رخي�ص .ويحدث يل يف كتفيه ،بنف�س اللون الذي ُي�صنع منه دثار الأ�سقف
بع�ض الأحيان� ،أن �أحمل لها معي علبة كاملة منه، خالل يوم االنبثاق ،حني يخرج جميع القدي�سني
لأ�شكرها على تلك النهارات اجليدة التي تكون قد يف موكب النزهة ،فيكون علي �أن �أحذر حذراً كثرياً،
بعت فيها كل منحتها يل ،وهي نهارات �أكون قد ُ لأن عيون النا�س يف العادة ،ال تن�ش ّد �أثناء ذلك اليوم
239 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
ذلك متاماً ،و�أنا واثق من �أنه مل ي�سبق يل باملرة� ،أن احللوى و�سبائك ال�شوكوالتة ،وال يتك�سرّ يل خاللها
�رصت
ُ �أ�س�أت اىل �أي كان ،ورمبا لهذا ال�سبب بال�ضبط �أي جندي من حلوى املرزبانية؛ ويكون الكثري من
�أ�ش ّد ع�صبية ،يوم جاء �أ�صحاب ال�سيارة ،بنظاراتهم الأطفال قد جاء اىل �ساحة احلديقة ،وتكون ال�سماء
ال�سوداء الواقية من ال�شم�س ،وطلبوا مني وثيقة ما �أمطرت ،ويكون ما من �شيء قد �سرُ ق مني.
الرتخي�ص بالبيع. يف ال�سابعة والربع �صباحاً� ،أج ّهز اخلوان �سهل
اعتقدت ب�أنهم مفت�شو
ُ نت لهم الوثيقة ،ف�ضحكوا. بي ُ
ّ الطي� .أر ّتب فيه امللب�سات بح�سب مذاقها ولونها،
البلدية اجلدد ،وب�أنهم �سينظرون اىل الرتخي�ص، وال�شوكوالتة بح�سب ثمنها ،تارك ًا بالطبع �أغالها
و�سيتبينون ب�أن كل �شيء على ما يرام ،لكنهم بالقرب مني ،كما �أ�ص ّفف فيه جنود احللوى
�ضحكوا ،و�أخذوا معهم الوثيقة. املرزبانية ،وك�أمنا هي يف ا�ستعرا�ض ع�سكري،
�أعرف ب�أن رجال ال�سيارة �سي�أتون ثانية اليوم، أ�ضيق �صفوف اجلند ال�صغار ،و�أترك َح َملة حيث � ّ
مثلما جا�ؤوا يف املرة ال�سابقة. البيارق يف املقدمة.
�أ�شعر ب�أين �رصت منذ وقت ع�صبياً ،ح ّد �أين مل �أعد وكنت كلما
ُ أحب كثرياً هذه املخلوقات ال�صغرية. � ّ
أت�صبب عرقاً،
التفوه ب�شيء� .إين ل ّ ّ �أ�ستطيع تقريب ًا رت معها �أزمنة �أخرى ،كانت �صففتها� ،إال وتذكّ ُ
وي�أكلني ج�سدي كله ،و�أح�س برائحة كريهة ت�صعد مت�سكني �أثناءها امر�أة من يدي ،وهي تراقفني
من بطني ،هي رائحة زنخ ال�ضفدع املتعفن ،التي لر�ؤية اال�ستعرا�ض ،فت�شرتي يل مثلج ًا مبذاق
تو�شك �أن تت�سبب يف فرار الزبائن. وتذكرت معها �أزمنة
ُ الفانيال .كلما �صففتها� ،إال
�إنهم �سي�أتون ،و�سيلتهمون �سبيكة �أو اثنتني من مير ناقرو الطبول على �أخرى ،كنت خاللها ـ ما �أن ّ
ال�شوكوالتة غالية الثمن ،دون �أن يدفعوا يل، �صهوات اجلياد ،مرعدين الأر�ض من حولهم بالنقر ـ
و�سينفجرون بال�ضحك حني �س�أ�س�ألهم من جديد عن بوم! لهذا ،ما زلت يف بع�ض بوم! ْالبوم! ْ
�أدندن بلحن ْ
رخ�صتي ،و�س�أجدين م�ضطراً اىل �أن �أوافيهم ب�أرقام بوم! و�أنا �أ�صفف
بوم! ْ
البوم! ْ
الأحيان� ،أدندن بالزمة ْ
كافة ال�سيارات ،التي توقفت هذا الأ�سبوع �أمام تلك املخلوقات ال�صغرية يف اخلوان؛ �إمنا �أفعل ذلك
املكتبة. ب�صوت خافت ،خمافة �أن ي�سمعني النا�س ،لأن كل
�أعرف ب�أنهم لن يردوا يل الرخ�صة ،رغم �أين تو�سلت َمن قد ي�سمعني على تلك احلال� ،سيجعلني �أخجل
يف �ش�أن هذا كثرياً لعذراء الرحمة ال�صغرية؛ ورغم كثرياً من نف�سي ،ف�أ�صري للتو ع�صبياً ،وقد �سبق يل
�أين قلت لهم ـ هم بالذات �أي�ض ًا ـ ب�أنه مل ي�سبق يل من �رصت ع�صبياً.
ُ ذكرت احلالة التي تنتابني ،كلما ُ �أن
قبل �أبداً� ،أن �أ�س�أت لأي كان. حني ُتعلن الأجرا�س حلول ال�ساعة ال�سابعة والن�صف،
بقرع ُمن ّغم يروق يل ،لأنه يجعل احلمام يرق�ص،
هام�ش يكون كل �شيء قد �صار جاهزاً ،و�أكون �أنا يف انتظار
jلوي�س �سيبولبيدا (� 4أكتوبر ،)1949من الروائيني والق�صا�صني
املعا�رصين يف ال�شيلي� ،صدرت له رواية« :ال�شيخ الذي كان يقر�أ الطالئع الأوىل ،من �أبناء املدار�س.
روايات احلب» ،وترجمت اىل خم�س وثالثني لغة ،وجمموعة كبرية من �أنا ،ما �سبق يل قط من قبل� ،أن �أ�س�أت اىل �أي كان.
حب يف بالد
الروايات واملجاميع الق�ص�صية ،التي من بينها« :موعد ّ
تعي�ش احلرب» ،وهي املجموعة التي ترجمنا منها هذا الن�ص. كل ما �أقوم به ،هو �أين �أ�ستيقظ يف ال�ساد�سة �صباحاً،
لأ�ستطيع القيام بعملي على الوجه الأكمل� .أعرف
�أن يكونوا يف املقدمة .ا�سرتقت نظرة خاطفة �إىل بعد �إعادة التحقيق معنا يف فرع التحقيق الكائن
املكان ،الذي كان يعج باجلنود املت�أهبني بكابالت يف �إدارة املخابرات العامة يف كفر �سو�سة ،عادوا
الكهرباء الثخينة ،التي كانوا يلوحون بها يف الهواء، بعد �أ�سبوعني وجمعونا مرة �أخرى بنف�س الطريقة
ف�أدركت فظاعة امل�شهد الذي ينتظرنا .قبل �أن ينتهوا ال�سابقة ،لكنهم هذه املرة ح�رشونا جميعا يف �سيارة
من ملء اال�ستمارات اخلا�صة بكل �سجني ،وت�سليم ال�صفيح املغلقة ،دون �أن ندري �إىل �أين �ستم�ضي
الأمانات بد�أوا باقتياد ال�سجني الأول منا نحو الباحة بنا .كان م�ساء دم�شق �ساجيا وعميقا تبلله رطوبة
اخلارجية ،فقد كانوا متحم�سني لبدء حفلة اال�ستقبال، خفيفة ،بينما راحت ال�سيارة ت�صعد بنا جبال مرتفعا،
و�رسعان ما راحت الكرابيج تنهال عليه بعد �أن تقطعه احلواجز الع�سكرية املكثفة ،مما جعلنا نوقن
و�ضعوه يف الدوالب ،الذي كان مركونا يف زاوية �أنه اجلبل الذي كان يرتبع على قمته �سجن املزة
ال�ساحة� .أخذ ال�رصاخ الدامي ميزق �سكون الليل من الع�سكري ،الذي طاملا الح لنا من بعيد كقلعة بالغة
حولنا ،ويرتدد �صداه يف جنبات املكان ويف �أعماقنا اجلهامة والرهبة ،بلونه الرمادي الذي يوحي بالأ�سى
احلزينة مدة طويلة من الزمن ،ثم تكرر امل�شهد مع والك�آبة ،ناهيك عن �سمعته ال�سيئة تاريخيا ،والتي
ال�سجني الثاين .كان �رصاخهم العنيف ي�ضفي حالة اكت�سبها على مدى عقود طويلة من تاريخ �سوريا
من الرعب والعذاب النف�سي الرهيب ،ولذلك ما �أن الوطني وال�سيا�سي ،بو�صفه رمزا للقمع والإرهاب
حاولوا �سحب ال�سجني املجاور يل نحو ال�ساحة والتعذيب ،الذي طاملا مار�سته �سلطة الع�سكر طوال
املجاورة ،حتى وجدتني اندفع م�رسعا بدال منه نحو تاريخ �سوريا احلديث ،ومن قبلها امل�ستعمر الفرن�سي.
ال�ساحة اخلارجية ،لكي �أ�ضع حدا لهذا العذاب النف�سي عندما �أنزلونا من ال�صندوق احلديدي املغلق لل�سيارة،
الفادح ،وانتهي من هذا الكابو�س ،بعد �أن �أيقنت �أن كان كل �شيء �أمامنا يوحي بالرهبة والوح�شة...
حفلة اال�ستقبال الوح�شية البد منها ،وهكذا وجدتني الدرجات احلجرية التي كان علينا �أن نعرب فوقها،
�أتلقى ع�رشات ال�صفعات والكرابيج ،حتى و�صويل �إىل واملمر الطويل الذي كان يلي الباب الوا�سع والقدمي
مكان الدوالب ،الذي كان علي �أن �أنزل فيه ب�رسعة، ب�أ�ضوائه الباهتة ،و�رصاخ اجلنود وكرابيجهم التي
لأجدين وقد انقلبت معه على ظهري ،و�صارت �ساقاي راحت تنهال على �أج�سادنا ،ونحن ن�صطف يف رتل
وقدماي يف الأعلى ،و�رسعان ما راحت كرابيجهم طويل يف الباحة اخلارجية لل�سجن� .أدخلونا �إىل
و�ساقي بغزارة عجيبة .كانوا ثالثة
ِّ قدمي
َّ تنهال على غرفة وا�سعة وقدمية ،وبد�أوا بتوزيعنا على ثالثة
جنود يحيطون بي من اجلانبني واخللف ،لكي �أبقى �صفوف ،كان على الع�سكريني منا -و�أنا كنت واحدا
يف مرمى كرابيجهم حيثما حتركت .حاولت عبثا �أن منهم� ،إذ مل �أكن عند اعتقايل قد انهيت خدمة العلم-
241 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
�أوا�صل الهرولة منذ دخويل �إىل املهجع .كان املكان �أفلت من غزارة الكرابيج التي كانت تت�ساقط على
املخ�ص�ص لنومي يقع يف نهاية املم�شى ،الذي يتو�سط الق�سم ال�سفي الظاهر من ج�سدي ،خارج الدوالب،
م�صطبتني عاليتني ،بجانب مغ�سلة املهجع الوحيدة، لكنهم كانوا يحيطون بي من كل مكان ،ويتبارون
التي تت�صدر واجهة احلمام الوحيد ،يف مهجع كان فيما بينهم يف �ش ِّدة ال�رضب ،والطريقة التي يجعلون
يعج بع�رشات ال�سجناء ،الذين �سنعرف فيما بعد �أنهم بها الكابل يلتف على قدم ال�سجني لزيادة ن�سبة الإيذاء
يتوزعون على معتقلي املحكمة االقت�صاية ،ب�سبب والأمل .ا�ستمرت حفلة التعذيب(وت�سمى يف ال�سجن
اتهامات لهم بق�ضايا الف�ساد واالختال�س ،وعنا�رص حفلة اال�ستقبال) مدة طويلة ،لكنني ما �أن خرجت
من �رسايا الدفاع متهمون بال�سطو واالغت�صاب من الدوالب مدمى القدمني وال�ساقني حتى راحوا
امل�سلح ،بينما مل يكن هناك �أي �سجني �سيا�سي بينهم. يكيلون ال�صفعات يل ،ويالحقونني بالكرابيج حيثما
�أمرونا بالنوم و�إطفاء النور ،فتمددنا يف �أماكننا تقع على ج�سدي ،بينما كنت �أحاول �أن التقط حذائي
ونحن ال نعرف كيف نتدبر نومنا بثالث حرامات عن الأر�ض� .أدخلوين �إىل مهجع طويل كان ال�سجناء
�شبه بالية ،وذات رائحة واخزة يف هذا الربد ال�شتائي فيه ب�سحنهم الداكنة و�صمتهم الثقيل ،يتوزعون
الداهم .بعد �أن طويت احلرام الأول طويتني اثنتني، على جانبي املمر ،بينما راحت عيونهم تتفح�صني
ليكون مبثابة فر�شة .ن�صحني �سجني قريب مني �أن وحتا�رصين بنظراتها .كان اثنان من زمالئي قد
�أغطي ر�أ�سي باحلرام �أثناء التون لكي �أمنع اجلرذان، �سبقاين يف الو�صول �إىل املهجع ،لكن ال�صمت املخيم
التي تخرج ليال من جماري احلمام عند �إطفاء الأنوار منعنا حتى من االقرتاب من بع�ضنا البع�ض .وا�صلت
من �أن تقفز على وجهي بعد �أن تخرج .وهكذا كان الهرولة داخل املهجع يف حماولة ملنع انحبا�س الدم
علي على الرغم من الرائحة الكريهة للحرامات ،ب�سبب ّ يف القدمني وال�ساقني ،كيال تتورم القدمان ،وهو ما
طول ا�ستخدامها املتوا�صل وعدم غ�سلها� ،أن �أغطي تعلمته بعد مرحلة التحقيق الأوىل ،دون �أعري تلك
ر�أ�سي بها ،لكي �أجتنب مرور تلك اجلرذان على وجهي العيون التي كانت تالحقني �أي اهتمام ،يف حني كان
ور�أ�سي .خيم ال�سكون الكامل على املكان حتى بد�أت زميالي الآخران يتكومان على نف�سيهما من الأمل يف
�أ�سمع و�سط هذه ال�سكينة املريبة �صوت املطر ،وهو �أر�ضية املمر ،الذي كان يتو�سط م�صطبتني مرتفعتني،
يت�ساقط على �سطح املهجع ،ووقع �أقدام احلرا�س كان �سجناء املهجع يتكومون فوقهما .طالت مدة
وهم تتحرك جيئة وذهابا دون توقف ،وال�رصاخ، اال�ستقبال ،لكنهم بعد ال�سجني العا�رش �أغلقوا باب
الذي كانوا يطلقونه بني فينة و�أخرى ،رمبا من �أجل املهجع ،وراحوا يوزعون البقية على املهاجع الأخرى
ت�أكيد وجودهم يقظني يف حرا�ساتهم بالن�سبة لإدارة .ما �أثار ا�ستغرابنا �أن �أحدا من ال�سجناء مل يتجر أ�
احلرا�سة يف ال�سجن� ،أو بالن�سبة للمحار�س الأخرى بعد �إغالق الباب ،وان�رصاف عنا�رص ال�سجن على
الكثرية ،التي تنت�رش على �أطراف ال�سجن بكثافة االقرتاب منا� ،أو ال�س�ؤال عمن نكون ،فبقينا معزولني
كبرية .كانت تلك الأ�صوات تختلط مع �صوت املطر عن البقية ،ك�أننا م�صابون مبر�ض معد ،يجعلهم
ونباح كالب قريب ،كان يتعاىل بني وقت و�آخر يف يتجنبون االقرتاب منا ،خ�شية انتقال املر�ض �إليهم.
�سكون هذا الليل الكانوين البارد ،ما زاد من �شعوري بعد االنتهاء من �آخر معتقل ،عاد عنا�رص ال�سجن
بالوح�شة والرهبة ،وجعلني �أح�س �أنني �أدخل جتربة بعد وقت ق�صري ،ليوزعوا على كل �سجني منا ثالث
جديدة مع ال�سجن ،الذي �سوف يطول كثريا وكثريا حرامات قدمية وو�سخة ،ثم طلبوا من رئي�س املهجع
جدا ،ويحفر ذكرياته املريرة يف ذاكرتي وذاكرة �أن يوزعنا على الأماكن ال�شاغرة يف املهجع ،فكان
الآالف الذين مروا بهذه التجربة املريعة ،على مدى �أن اختار يل �أ�سو�أ مكان ،رمبا لأنه وجدين �أكرث
تلك ال�سنوات القا�سية من �إرهاب النظام جلميع �أ�شكال قدرة على التحمل من بقية زمالئي ،بعد �أن �شاهدين
242 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
كانت ت�ضطرهم يف كثري من الأحيان لتعددانا على املعار�ضة ،على اختالف تياراتها وايديولوجياتها.
عجل ،وبالتايل تتقل�ص املدة الزمنية لهذه الو�ضعية، �أثناء ا�ستغراقي يف خواطري ،كان جرذ كبري قد بد أ�
التي كانت ت�شعرنا باملهانة ،وتك�شف عن مدى يقفز فوق ر�أ�سي ،فنه�ضت م�رسعا ،وكذلك فعل من
رغبتهم ال�شديدة يف �إ�شعارنا بالإذالل. هم بعدي ،لأنه كان يوا�صل قفزه ال�رسيع نحو الباب
يت�ألف الق�سم ال�سفلي ل�سجن املزة من �ستة مهاجع دون �أن يتمكن �أحد من الإيقاع به ،و�سوف يتكرر هذا
وغرفة جانبية لل�سجناء الق�ضائيني من �ضباط امل�شهد يف كل ليل من الليايل التالية تقريبا� .صباح
اجلي�ش .كانت املهاجع الأربعة منها خم�ص�صة اليوم التايل بد�أ البع�ض يقرتب منا بحذر ،حماوال
ل�سجناء املحاكم امليدانية ،وقد ح�رش بها ال�سجناء التعرف �إلينا ،نحن ال�سجناء الع�رشة ،الذين كنا يف
ب�أعداد تفوق طاقة ا�ستيعابها بكثري .بنيت هذه الغالب ال نعرف بع�ضنا البع�ض .من مفارقات ال�سجن
املهاجع كما هو باقي ال�سجن يف عهد اال�ستعمار الغريبة �أن حماميا كان من �ضمن جمموعتنا راح
مت بناء
الفرن�سي ،لتكون ا�سطبالت للخيول ،ولذلك َّ �أثناء ليلة اال�ستقبال القا�سية يطالب بح�صانته ،لكي
م�صطبتني اثنني عاليتني بارتفاع مرت واحد على يعفوه من حفلة اال�ستقبال ،فما كان منهم �إال ال�سخرية
جانبي املهجع ،وب�شكل مائل بحيث تكون معالفا لها، منه ،وزيادة ن�سبة ال�رضب املربح له ،ولذلك كان هذا
وت�سمح بتحرك العلف من �أعلى امل�صطبة نحو الأدنى املوقف مو�ضع تندرنا طوال اليوم ،كلما كان يئن �أو
ب�صورة �آلية ،عندما تلتهم اخليول الكمية القريبة يتوجع من الأمل الذي ت�سببه له اجلراح ،بعد �أن �أخذت
منها ،بينما كانت اخليول تقف يف املمر الفا�صل بني جتف على قدميه و�ساقيه .كان علينا �أن نتكيف مع
امل�صطبتني .عانينا كثريا من تلك الو�ضعية املائلة واقع ال�سجن اجلديد ،و�أن نحفظ قوانينه ال�شديدة� ،إذ
للمكان ،والتي كانت جتعل فرا�ش ال�سجني امل�ؤلف كان من املمنوع علينا عندما يفتح ال�سجان �رشاقة
من حرامني ،ال ي�ستقر يف مكانه� ،إ�ضافة �إىل �أوجاع الباب(فتحة مربعة �صغرية تتو�سط الباب تغطى
الظهر ،ورغم ذلك مل تكن م�شكلة ال�سجني تقف عند هذا بقطعة حديدية على �شكل جرار) �أن ننظر ولو مواربة
احلد� ،إذ كان عدد ال�سجناء يزداد ويتقل�ص ح�سب حركة باجتاه الباب� ،أما �إذا فتح الباب كامال فقد كان
االعتقاالت ،واملحاكم امليدانية التي كانت مبثابة علينا جميعا �أن جنل�س ب�رسعة �أينما كنا ،و�أن ننحني
مهزلة ،ي�ؤخذ ال�سجني �إليها خمفورا ،وحتت ل�سع بر�ؤو�سنا �إىل درجة ،تكاد فيها ر�ؤو�سنا �أن تالم�س
ال�سياط من عنا�رص ال�سجن ،الذين كانوا يحت�شدون �أفخاذنا ،بحيث ال ن�ستطيع معها ر�ؤية �أي �شيء
�أمام املكان ،يف حني مل تكن مدة املحاكمة تتجاوز مما يحدث حولنا� ،أو من هم العنا�رص الذين دخلوا،
�أكرث من دقيقة �أو اثنتني ،وغالبا ما كان ال�سجني و�إذا ما حاول �أحد �أن يختل�س نظرة �رسيعة و�ضبطه
يتعر�ض لل�رضب املربح حتى داخل املحكمة ،من قبل ال�سجان ،فقد كان عليه �أن يتحمل تبعات ذلك ،لأن
مرافقة القا�ضي ،الذي رقي كما عرفت بعد خروجي الدوالب يف ال�ساحة اخلارجية �سيكون يف انتظاره،
من ال�سجن ب�سبب خدماته اجلليلة للنظام� ،إىل رتبة مدمى .كان التفقدمع حفلة عقاب �شديدة يخرج منها ّ
لواء ،وعني رئي�سا للق�ضاء الع�سكري .لقد كان على اليومي لل�سجناء يف كل مهجع ،من قبل �إدارة ال�سجن
هذا العدد ،الذي ي�صل يف بع�ض الأحيان �إىل ما يقاب تتم يف ال�ساعة الثانية ظهرا ،لكي يتم ت�سليم املهمة
املائة �سجني� ،أن يتكيف مع وجود حمام واحد ،ومع �إىل النوبة الأخرى ،و�أثناء ذلك يكون علينا �أن جنل�س
م�ساحة حمدودة ال تتجاوز 12مرتا طوال و� 6أمتار على اجلانبني وب�رسعة ق�صوى ،يف �صفوف ثالثية
عر�ضا ،ما كان ي�ضطر ال�سجني منا �أن ينتظر �أكرث من منتظمة ،وقد انحنت ر�ؤو�سنا �أي�ضا حتى تكاد تالم�س
�ساعة ون�صف ال�ساعة و�أحيانا ال�ساعتني ،حتى يتمكن ركبنا ،لكن رائحة املهاجع املزعجة لهم ،نتيجة عدم
من دخول احلمام .كذلك مل يكن الأمر يختلف بالن�سبة التهوية ،واكتظاظها بالأعداد الكبرية من ال�سجناء،
243 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
وهي عبارة عن نافذة �صغرية بطول ال يتجاوز 30 �إىل امل�ساحة املخ�ص�صة لنوم كل �سجني .كان عدد
�سم وعر�ض � 20سم ،ما يجعل �إمكانية جتدد الهواء ال�سجناء بتقل�ص ويزداد بحركة �رسيعة �أ�شبه بحركة
داخل املهجع �شبه م�ستحيلة ،خا�صة مع وجود بندول ال�ساعة� ،سواء من داخل ال�سجن �إىل ال�سجون
تلك الأعداد الكبرية من ال�سجناء .كانت تلك النافذة الأخرى� ،أو العك�س ،الأمر الذي كان يتطلب منا يف كل
ال�صعرية هي �صلتنا الوحيدة مع العامل اخلارجي، مرة� ،أن نعيد توزيع م�ساحة املهجع على عدد ال�سجناء
�إ�ضافة �إىل �صحيفة حملية واحدة ،كان علينا �أن ندفع املوجودين من جديد .لقد تطلب منا هذا الو�ضع �أن
ثمنها من قبل ال�سجناء الذين ميلكون بع�ض املال، ن�رصف معظم �أوقاتنا يف انتظار دورنا ،للدخول
على �أن نعيدها يف اليوم التايل ،دون �أن ي�صيبها �أي �إىل احلمام� ،أو يف توزيع م�ساحات املهجع على عدد
خد�ش� ،أو يكون عليها عليها �أية كتابة ،وعندما ال يتم ال�سجناء املوجودين� ،أو حل اخلالفات الناجمة عن
االلتزام بذلك ،يكون على حار�س املهجع ،الذي غالبا تداخل عالمات خطوط الف�صل التي كان البع�ض
ما تقوم �إدارة ال�سجن باختياره من ال�سجناء املر�ضي يحاول تعدبلها لتو�سيع م�ساحة نومه اخلا�صة،
عنهم من قبلها� ،أن يح ِّدد من قام بهذا الفعل ،لكي على ح�ساب جاره ،نظرا ملحدودية م�ساحتها ،التي
ينال عقابه بعد ت�سليم ال�صحيفة �صباحا .كان نظام كانت غالبا ال تتجاوز � 34أو � 36سم ،الأمر الذي
ال�سجن يفر�ض علينا بعد �إطفاء الأ�ضواء من قبل كان ي�ضطرنا ب�أن ننام يف و�ضعية املخالفة �أو ر�أ�س
ورجل ،بحيث يكون ر�أ�س ال�سجني الأول من الأعلى
عنا�رص ال�سجن يف ال�ساعة التا�سعة م�ساء� ،أن منتنع
وقدما ال�سجني الثاين من الأعلى ور�أ�سه من الأدنى،
عن القيام ب�أي حركة لأي �سبب كان ،حتى من �أجل
وهكذا حتى النهاية ،وذلك لكي ي�ستطيع ال�سجناء
الذهاب �إىل احلمام لق�ضاء حاجة ،ومن يتم �ضبطه
�أن يتكيفوا مع امل�ساحة املحدودة املخ�ص�صة لكل
�أثناء الغارات املتتالية ،التي كان يقوم بها حرا�س
واحد منهم .لقد كان �ضيق املكان وما ينجم عنه من
ال�سجن ،من خالل �رشاقة الباب( فتحة �صغرية يف
خالفات �سببا كافيا للدخول يف �رصاعات ،وم�شادات
منت�صف الباب تفتح وتغلق من اخلارج ب�صفيحة من وجدال طويل �شبه يومي ،بني ال�سجناء املهيئني �أ�صال
احلديد) ،التي كانت ُتف َتح ب�رسعة مع �إ�شعال الإنارة، لكل هذا ،ب�سبب حالة التوتر والقلق وال�ضيق التي
يكون عليه �أن ينال عقابه ال�شديد يف ال�صباح الباكر كانوا يعي�شون فيها ،يف ظل هذه الأو�ضاع املهينة،
من اليوم التايل .لقد كانوا يبحثون عن �أي و�سيلة وغري الإن�سانية داخل املعتقل .كان ال�سجن مبثابة
ملمار�سة العنف على ال�سجناء ،لأنه يف كثري من حم�رش معزول عن العامل ،فال زيارات الأهل م�سموح
الأحيان ،كان يكفي �أن يالحظ ال�سجان �أنك تتحرك بها ،وال اخلروج �إىل ال�شم�س والهواء الطلق م�سموح
يف نومك �أثناء تلك الغارات ،حتى يتم تعليمك( حتديد به ،وال حتى ر�ؤية �أي �شيء خارج م�ساحة املهجع،
موقعك) من قبل ال�سجان ،و�إعالم حار�س املهجع بعد �أن مت تغطية النوافذ املطلة على املمر الفا�صل
بذلك ،لكي يتم عقابك يف �صباح اليوم التايل ،من قبل بني املهاجه ال�ستة مغطاة ببطانيات �سميكة� ،إ�ضافة
عنا�رص النوبة ،بل كان يكفي �أن يفتح �أي عن�رص من �إىل �أنه كان على ال�سجني عند اخلروج من املهجع لأي
ال�سجن الباب ،ويراك تتم�شى يف مكانك حتى لو كان �سبب كان� ،أن يغطي ر�أ�سه والق�سم العلوي من ج�سده
يف �ساعات النهار ،حتى يخرجك �إىل �ساحة ال�سجن، ببطانية ،بحيث ال يظهر منه �سوى عينيه لر�ؤية طريقه.
حيث يتم العقاب ،لتعود عاجزا عن ال�سري على قدميك الفتحة الوحيدة التي كان ميكن �أن ي�أتي منها النور
املتورمتني من ال�رضب. والهواء ،كانت تقع يف �أعلى اجلدار اخللفي للمهجع،
بطبيعة احلال وجدت مالذا على ج�سدي ،اذن ملن ا�شكو اعذروين الين �س�أحدثكم عن �أملي الذي ال يطاق والذي
امري ،هل من احد يقبل �شكواي انا الكلب الذي اقوم قد يثري �شيئا من حتفظاتكم او يخد�ش م�شاعركم
بكل واجباتي دون ان يعنى بي احد كما يجب ،بالطبع املرهفة ،فالفا�سوق الذي يغزو ج�سدي بالذات �صيفا
توجه التهمة اىل �صاحبي الذي جاء بي �صغريا ورباين يجعلني كلبا مت�أملا جدا متوجعا ال احد يح�س بوجعي
واىل اهل كل بيته ،اذا كنتم تعرفون فاترجاكم ان اال انا ،ولكي ال تنقزوا وتبتعدوا او تعر�ضوا عن قراءة
قولوا يل ملن ا�شكو امري ،هل ا�شكو امري اىل الفا�سوقة ما �س�أكتب اقول لكم انه لي�ست عندي اي نية الن اكتب
،ال ال فانا اخاف هذه الفا�سوقة املرعبة ،اجل اخافها اتعر�ض لهجماته وغزواته و�آالمه
عن كل الفا�سوق الذي ّ
الن كل ت�رصفاتها وحركاتها و�سكناتها وما تقوم به بل كل ما يف االمر هو اين �س�أكتب لكم عن فا�سوقة
يدل على ذكاء نادر واخ�شى ان تنقلب �شكواي لها �ضدي واحدة فقط ،ال اكرث وال اقل ،هكذا يكون وقع االمر
،ال �شك انها تدرك ما يدور يف داخلي وتعاي�شني حالتي تعر�ضا
عليكم اهون وتكون ح�سا�سيتكم الفائقة اقل ّ
غري اين يجب ان اكون حذرا معها واال اك�شف كل اوراقي لالذى .ويف الوقت ذاته عليكم ان تعرفوا اين اراعي
علي ان �آخذ جانب احليطة واحلذر ولتعرف هي لها ّ ، م�شاعركم النبيلة كما ال اراعي نف�سي او حتى زمالئي
باجتهادها قدر ما ت�ستطيع ان تعرفه ،اما مني فال ، الكالب .فاملعذرة اذا كان احدكم �شديد احل�سا�سية او
ويتوجب علي ان احرت�س لئال تقع على كلمة �صادرة االنزعاج او الت�أذي من الفا�سوق و�سريته على عمومه ،
مني عنها او ت�سمع قوال يل يدور حولها فانا كلب �شديد فال�صمت مل يعد ممكنا .واذا كان بع�ضكم فعال على
احلذر بالذات من ومع هذه الفا�سوقة التي تختلف درجة عالية من احل�سا�سية فما عليهم اال ان يطووا هذا
اختالفا كبريا عن كل الفا�سوق الذي عرفته طيلة حياتي الكالم الذي كتبته وي�ضعوه جانبا ولي�ساحموين ،
.فامي حني لفظتني من اح�شائها اىل احلياة كان اول فعالقتي مع الفا�سوق عالقة قوية جدا وال اجد نف�سي
ين عواء حزينا ك�سريا �شفوقا وا�ضحا�شيء �سكبته يف اذ ّ قادرا يف هذا الوقت اال احلديث عن الفا�سوق عفوا
جدا ان ا�صعب �شيء �سيكون يف حياتك هو الفا�سوق ، الفا�سوقة ،واعاهدكم ان ال اعود اىل هذا املو�ضوع مرة
يومها �ضحكت كما ت�ضحك الكالب وقلت لها اي فا�سوق اعر�ض ايا منكم اىل
اخرى الين �شديد احلر�ص على ان ال ّ
يقدر علي �س�ألتها هذا ال�س�ؤال مفتخرا اذ كنت �شجاعا من غزو الفا�سوق ولو عرب الكلمات التي اخطها ،فالفا�سوق
اول يوم يف حياتي .وبعدها كربت وكربت �شجاعتي لي�س باالمر امل�ستحب وال امتنى لكم ان ت�صابوا
معي لكني �ضحكت فيما بعد من نف�سي بانك�سار الين بالفا�سوق الذي ي�سعى احيانا منت�رشا على االر�ض النه
ا�ستهز�أت يف ال�سابق من الفا�سوق ،اذ خربت الفا�سوق ببالدته املعهودة ومنظره املقرف على ا�ستعداد الن
كثريا وعرفت معنى ان تكون مفو�سقا مت�أملا حد اجلنون مي�ص دم من ي�صل اليه اكان كلبا ام ب�رشا ،وكما يعرف
،لكن الفا�سوق كوم وهذه الفا�سوقة داهية ،لذا احاذر جميعكم ان الفا�سوقة هي ح�رشة مقرفة جدا ،والن
قدر امل�ستطاع فلو عرفت الفا�سوقة اين امتنى لو انها عالقة الفا�سوق والكالب قدمية العهد فان هذه احل�رشة
245 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
امل�ؤذي ابن احلرام كان اقدر من كالب احلارة علي اذ �سقطت عني باية طريقة لرمبا هاجمتني هجوما
احتل ج�سدي وانت�رش بكرثة وم�ص دمي بالذات �صيفا كا�سحا عندئذ من �سيكون اخلا�رس ،بالطبع انا .لو كان
يف ايام القيظ كما لو كان يت�آمر علي مع الذباب ،ورغم �صاحبي �صاحيا ال�شرتى دواء وا�سقط كل الفا�سوق
اين كلب حمرتم تهابني كل كالب احلارة وحت�سب يل عني لكنه غري �آبه لهذا الفا�سوق الذي ينت�رش عليه ك�أنه
الف ح�ساب اال ان الفا�سوق مل يرحمني بل جعل حياتي يعي�ش يف عامل غري هذا العامل ،فهل افتح جبهة مع هذه
جحيما ،اذن ملن ا�شكو همي واملي ،هل ا�شكو اىل هذه الفا�سوقة ،كال بل الجل أ� اىل احليلة اىل احلذر فرمبا نلت
الفا�سوقة اخلطرة التي ترب�ض على جلدي وحتتلني منها بطريقة من الطرق من يعرف ،واذا كنتم �ست�سخرون
ومت�ص دمي وال تنوي ال�سقوط ،ليتها ت�سقط وتذهب اىل مني فلكم ذلك .هل تعرفون ان هذه الفا�سوقة الداهية
مليون داهية ،هل ا�شكو اىل ا�صحابي الذين ال ي�أبهون تعرف كيف توا�سيني احيانا ،كيف ،ب�أن تهم�س يف
لآالمي بل يرمون يل بالقليل من الطبيخ اخلامم اذين مرات ان زمنها مهما طال على اقل من �سنتمرت من
والعظام ونظراتهم توحي يل احيانا بالقرف ،يا للعظام ج�سدي هو زمن ق�صري جدا وانها بعد ان تتغذى جيدا
النيئة التي كادت جتعلني كلبا م�سعورا لوال اين تعودت من دمي فانها �ست�سقط عني و�سيخف احلكاك الذي
وما ا�صبت بال�سعر ،ويا لهذا اجلار املهوو�س الذي ي�أتي ا�صاب به احيانا النه كما هو معروف للجميع ان
يوميا ملراقبة الفا�سوق املنت�رش علي كما لو كان يعاين ويتكور متغذيا من
ّ الفا�سوق ي�سقط ار�ضا بعد ان يكرب
امرا طبيعيا ،رمبا كان يريد ان يدر�س املو�ضوع بدال دمي ودم غريي من الكالب املهملة � ،سمعتها وما قلت
من ر�شي باالك�سيلون ،هل يوجد احد ال يعرف ما هو �شيئا �سوى ان اظهرت لها كل ر�ضاي ،هززت ر�أ�سي
االك�سيلون ،جمرد ان ي�سمع الفا�سوق با�سم هذا الدواء با�سى ك�سري حر�صا مني على ان ال ا�شتم ا�صحابي الذين
حتى يرجتف رعبا على جلدي ،اذن ملاذا ال ي�سارعون احبهم واخل�ص لهم النهم يرتكون هذه الفا�سوقة
اىل ر�شي اىل الق�ضاء على كل الفا�سوق ،فالفا�سوق كثري وغريها ت�صول وجتول على ج�سدي كما لو كانت
جدا لدرجة اين �رصت ا�صاب بالدوخة فرمبا اتى هذا ت�ستعمرين .وكدت ذات مرة يف حلظة غ�ضب جنوين ان
الفا�سوق على كل دمي وا�صبت بانيميا حادة جدا ،من انفتح لهذه الفا�سوقة الذكية التي كانت تغو�ص يف
يهمه االمر اذا مت او ع�شت ،ا�صحابي ال ي�أبهون جلدي ومت�ص دمي وت�شعرين انها تفيدين وتخدمني
ويرك�ضون اىل ا�شغالهم ،واذا جاء حرامي ليال علي انا وابوح بوحا خطريا لوال اين ا�صبت بنوبة حكاك قوية
ان اتوكل فيه واهجم عليه فيما هم ي�ست�سلمون للنوم ونعو�صت على اثرها نعو�صة ك�سرية خافتة ،كدت قبل
الهاينء اللذيذ ،ارحموا عزيز قوم ذل ارحموين ،كنت احلكاك الذي ا�صبت به ان اقول لها ب�رصيح العبارة ان
اريد ان ابوح بكل هذا الحد ما حتى للفا�سوقة ،لكني مكانها ال يجب ان يكون على جلدي وانه لو كان
حر�ضتح�سنا فعلت حني بقيت على �صمتي ،فلرمبا ّ ا�صحابي حمبني يل فعال و�شاعرين باملي وبالفا�سوق
هذه الفا�سوقة الداهية باقي الفا�سوق وقاموا باغارة الذي يغزو جلدي غزوا قويا ل�سارعوا من فورهم اىل
علي وجابوا �آخرتي ،فالفا�سوق قادر على ذلك ،يكفي الذهاب اىل ال�صيدلية و�رشاء الدواء حاال وربطي ور�شي
يف احلكاك ،ماذا �سيحدثان يهاجمني الفا�سوق ويدق ّ ر�شا قويا لي�سقط عني كل الفا�سوق وميوت �رش ميتة
يل عندها � ،س�أجن واقطع احلبل وادور كاملجنون اىل ان وارتاح ،لكني ح�سنا اين مل اقل للفا�سوقة حرفا واحدا
ا�سقط يف مكان ما واموت ،ال يجب علي ان احافظ على �ستحر�ض
ّ من ذلك ،فرمبا كانت �ستغ�ضب مني وكانت
حياتي وان ال اترك هذه احلياة اجلميلة للفا�سوق وملا علي باقي الفا�سوق ليقوموا باالغارة علي وم�ص دمي
هو اقل �ش�أنا ،علي ان اظل قويا وان ا�ساير واداري هذا وحتى اىل قتلي رمبا .علي ان اعرتف اين اخاف من
الفا�سوق وهذه الفا�سوقة بالذات التي مت�ص دمي وان ال الفا�سوق اكرث مما اخاف من كالب احلارة ال�رش�سة التي
ا�ستثريها ،ان ابقيها هادئة ،لها حياتها التي ت�ستمدها كنت وال ازال ات�صدى لها بجر�أة ،فحني كانت احيانا
مني ومن دمي ويل حياتي التي ا�ستمدها من احلياة علي كنت ا�شلّخها واترك �آثار انيابي عليها ، تعتدي ّ
بكرامة ،هي ح�رشة طفيلية وانا حيوان حر ،الفرق كبري وي�شهد جميع من يف احلارة على ذلك ،لكن الفا�سوق
246 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
التي ينخرها الفا�سوق نخرا ،اين جمعيات الرفق بيننا ،لكني ا�ضطرب لوجودها على ج�سدي افقد توازين
باحليوان ،اال ت�صل هذه االماكن حيث ن�سكن نحن ،ال اكاد اجن اطق .لو طلع بيدي لد�ست انا عليها وارحتت
ال بد اين جننت ،ما يل وللجمعيات ،هذا كثري وكل ما منها ،احيانا احك نف�سي باحدى ال�شجرات لعلها
اريده هو التخلّ�ص من الفا�سوق الن الفا�سوق كثري جدا تنمع�س لكنها يف احلال تغزر يف جلدي وت�أخذ بال�ضغط
،ينت�رش علي وعلى غريي ،وهناك يف البالد البعيدة اال على �رشاييني فاكف ،انها تدرك كل احابيلي وحيلي ،
يوجد فا�سوق ،ال بد ان يكون موجودا فالفا�سوق لي�س ليتني كان يل ع�رش دهائها وكيدها كنت �سابيدها وابيد
ح�صتنا نحن وحدنا فقط بل من امل�ؤكد ان الفا�سوق معها كل الفا�سوق الذي على االر�ض لكن من اين يل
م�صا�ص الدماء واخلبيث ينت�رش يف كل مكان لكنهم ّ حكمتها وخبثها ،انها يل باملر�صاد ،هل ت�صدقون هذا
يعملون على مداواته ،ورمبا كان الفا�سوق يف تلك يف
هي التي ت�سكن على ج�سدي ومت�ص دمي وتتحكّم ّ
البالد الراقية املتح�ضرّ ة خمتلفا ،ناهيك ان الكالب اي حتكم ،هل حل عليكم ذات يوم �ضيف وا�صابكم ما
هناك حتظى بحياة مريحة ،هنيئا لها ،الكالب هناك ا�صابني وحتكّم يف حياتكم كما تفعل هذه الفا�سوقة
تعي�ش اح�سن من الب�رش اما هنا ،من اين يل هذا ،ذات اللعينة يل ،اعرف عادة ما تتخلّ�صون من ال�ضيوف
مرة �شاهدت فيلما وثائقيا عن الكالب يف تلك البالد ، الثقالء ب�رسعة ،انا اعرفكم يا بني الب�رش ،ففيكم من
ومتنيت لو ولدت هناك ،الفرق كبري جدا ،كما ان الدهاء واملكر واخلبث وم�ص دماء بع�ضكم البع�ض
�صاحبي الذي اح�رضين اىل هذا البيت كان قد حدثني واللحو�سة ما يفوق دهاء هذه الفا�سوقة التي هي ادهى
عن حياة الكالب يف اخلارج ومل ي�أت على اي ذكر فا�سوقة ا�ستوطنت على ج�سدي ذات يوم ،كما انكم ال بد
يف�ضل ان يكون كلبا هناك للفا�سوق ،ال بل قال يل انه ّ تعلمتم من الفا�سوق فانتم تتعلمون من بع�ضكم ومن
على ان يكون امرباطورا هنا ،يا لرفاهية الكالب ،ك�أن كل ما حولكم ،والفا�سوق ينت�رش يف كل مكان ويف
الفا�سوق غري موجود هناك ،وانا من جهتي مل اجر�ؤ علي ان ا�ضحك وا�س�أل اذا
انواع وا�شكال خمتلفة ،هنا ّ
على ال�شكوى ل�صاحبي اذ ان الفا�سوق هنا ال يداوى بل كان هذا االمر يعزيني اذ ل�ست الوحيد املفو�سق ،فهناك
ي�شبه
يبقى ليتكاثر ،لكني �سمعته ذات مرة يذكر او ّ انواع اخرى من الفا�سوق ،واذا ما نظرت جيدا اىل
بع�ض النا�س بالفا�سوق اولئك النا�س الذين يتعرب�شون ا�صحابي فلرمبا ر�أيت عندهم بع�ض الفا�سوق ،ال ال ،
على اماكن لي�ست لهم ويلحو�سون ويكونون كالفا�سوق علي ان اقول هذا فا�صحابي انا�س طياب ،طياب عيب ّ
يف حياتهم ومعا�شهم وبعد ان ي�شبعوا ويح�صلوا على مق�رصون معي باالك�سيلون ،اال يرونني
ّ جدا لوال انهم
مبتغاهم وي�ستقلون اول �شيء يفعلونه هو انهم يدع�سون اال يرون هذا الفا�سوق املنت�رش على ج�سدي والذي
على النا�س الذين �ضبوهم ،ايوه هذا ما �سمعته ،مي�صون يحتلني وينه�شني نه�شا وي�شفط دمي ببطء ويجعلني
دماء الآخرين ثم يرمون بهم او يدع�سون عليهم او احيانا مري�ضا مكتئبا م�صابا ب�سويداء ال اطيق احدا
ي�ستقوون عليهم او يتنمردون .غريب امر النا�س ،انا لكني اكابر عندما ارى بالذات �صاحبي فاه�ش واب�ش
اخاف من النا�س فال �شيء يخيفني كما النا�س ،حتى ملوحا له بذنبي ،اال يرون ما يحدث يل واي حال اناله ّ
هذه الفا�سوقة التي تراقب النا�س كثريا وتقلّدهم ومت�ص فيه ،ملاذا يتقاع�سون ،ملاذا ال يبادرون اىل مداواتي
دمي على الرايق ال اخافها كما اخاف النا�س .لو خيرّ ت ي�سببه يل الفا�سوق ، قبل ان انهار من االكتئاب الذي
ّ
بني الفا�سوق الب�رشي وهذه الفا�سوقة على خبثها �شغلة ب�سيطة ،اعرف كم هي كريهة رائحة االك�سيلون
ول�ؤمها او غريها من الفا�سوق الخرتت من دون ادنى لهم وكم هي اكره يل ،لكنه اذا كان االك�سيلون ي�ضايقهم
تردد الفا�سوق الالب�رشي النه ارحم ،الفا�سوق الب�رشي فلي�ست�أجروا �شخ�صا ما لري�شني ،لو كانت هناك جلنة
خطري جدا ومرعب ،هه هه هه ي�ضحكني هذا جدا �آه لو للكالب قريبة من منطقتنا ل�شكوت لها امري ،لكن
�سمع �صاحبي ما افكر به رمبا كان رف�ش يف بطني الكالب هنا مهملة واحيانا كثرية تكون �رشيدة و�ضالة
مرددا فا�سوق ب�رشي ها او رمبا طار فرحا.. ،متى ي�صحو ا�صحاب الكالب هنا على تعزيزنا
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) وتكرمينا ولو با�سقاط الفا�سوق فقط من على اج�سادنا
247 نزوى العدد - 75يوليو 2013
�أمينة
�أمل املغيزوي
قا�صة من ُعمان
يف اجلدران مازالت حت�س بب�شاعتها �إىل اليوم ان�سكبت دموع �أمينة بغزارة حني و�ضعت ر�أ�سها
وبالطبع مل تركب يف ال�سيارة �إال يف م�شوارها �إىل على الو�سادة و�أدركت ب�أن �أحالمها التي ر�سمتها
عملها لأن زوجها كان يجربها على تغطية وجهها يف بداية حياتها اجلديدة كانت احالما ب�سيطة
ب�أكمله بينما كانت ال�سيارة ت�صدر �رصيرا طويال وم�رشوعة ولكن كل تلك االحالم حتولت يف حلظة
وتتوقف بني كل حلظة و�أخرى. واحدة �إىل فقاعة كبرية امت�صت كل طاقاتها
هنا كانت دمعة �أمينة حارقة ل�سعت وجهها الأ�سمر وحولتها �إىل �صورة م�شوهة جتمع �شتات �ضحكتها
لأنها مازالت تتذكر وجوه زميالتها يف العمل بني الوجوه واحل�ضور.
وال�سيارات الفارهة التي تنقلهن من مكان �إىل �آخر اليوم بالذات �أم�سكت �أمينة ورقة وقلما وكتبت يف
مع ابت�سامات وا�سعة ووجوه مل تغط . �أول �سطر من الورقة حلمها الأول:
-3زوج يجيد التعامل مع الآخرين. -1زوج ميلك قلبا يفي�ض حبا و�شهامة.
مازالت ت�رصفات زوج �أمينة تثري يف قلبها احلنون مزقت الورقة ب�رسعة لأنها �إىل اليوم مل ت�ستطع �أن
عا�صفة من الغرابة واحلزن يف �آن واحد ،فقد قاطع تعي الأفكار الغريبة التي تنبعث من عقل زوجها
اهلها و�أهله واجلريان ،و�أجربت يف حلظات كثرية الذي يعي�ش بج�سد رجل �شاب و�أفكار �شيخ يف
على عدم ال�سالم على هذا �أوذاك ا�شباعا لرغبته ،كما الثمانني من عمره ،هنا الغ�صة كانت كبرية حتى
�أنها تذكر ب�أنها �أح�صت عدد �ضحكاته وابت�سامته بعد �أن مزقت �أمينة الورقة فهي طاملا حلمت برجل
خالل خم�سة �أ�شهر فوجدتها قليلة التتجاوز �أ�صابع ي�شاركها �أفكارها و�أحالمها ومازال لقب الفرا�شة
اليد الواحدة. معلقا ب�أحرفه اجلافة يف نهاية دفرت مذكراتها
تذكرت �أمينة �أيام طفولتها حني كانت تق�ص اليومية.
ل�صديقتها عائ�شة حكاية �أ�رسة متحابة متلك قلوبا -2زوج ميتلك �سيارة وبيتا.
مت�آلفة ودائما الق�صة تنتهي نهاية �سعيدة لكنها مل حتلم �أمينة �سوى ب�سيارة متوا�ضعة وبيت ب�سيط
اليوم ما زالت تبحث عن بداية منا�سبة لق�صتها ي�ضمها مع زوجها لكنها �صدمت بالواقع و�أجربت
والأحداث فيها تزداد تعقيدا حتى حتولت �إىل رواية على التعاي�ش معه بعد �أن ادركت ب�أن ال�سيارة مل
من النوع الذي تت�شعب تف�صيالته حتى يغرق تكن �سوى �سيارة �أجرة عتيقة وان البيت مل يكن
القارئ ويخرج منها �صفر اليدين. �سوى غرفة مل تذق طعم ال�سرياميك وال الأ�صباغ
مب�صطلح اليدين تذكرت �أمينة كل الأ�شخا�ص الذين اجلديدة و�أجربت يف النهاية على خط ورود متنوعة
248 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
اليوم �أمينة حتاول �أن تتخذ قرارا حا�سما يعيد لها تقدموا خلطبتها كانوا كرثا ميلكون م�ؤهالت وبيوتا
جناحي الفرا�شة احلاملة التي فقدتها ،اليوم �ستكلمه و�سيارات ولكنها �إىل الآن مل تدرك ال�سبب الذي
عن �رشوطها عن رغبتها يف ا�ستعادة حريتها ، جعلها توافق عليه دون �أن تتمح�ص وتفت�ش عن كل
�ستواجه �ستعلمه من هي �أمينة ولن ت�سمح بعد الآن التف�صيالت وكيف �صدقت كالم �أخواته حني حتدثن
ب�أي عقبة حتد من �إنطالقها يف الأرجاء ،خا�صة عن �سيارته وبيته ،هل كان لرف�ض ابن عمها
بعدما �ضحك عليها �أخوها ال�صغري و�رصحت �أختها الذي وعدها بالزواج ملدة ثالث �سنوات ثم تركها
الكبرية ب�سلبيتها وعدم قدرتها على الوقوف يف يف مفرتق الطرق دور يف ت�رسعها وحماولة �إثبات
وجه زوجها. �أنها مازالت مرغوب فيها ،لكنها اليوم تتمنى �أن
اليوم لن تطبخ �أمينة وجبة الع�شاء كعادتها ، تبقى كما كانت يف بيت �أهلها وتذهب �إىل عملها
كما �أنها مل تكن�س الغرفة وترتبها ،وظلت تنتظره دون قيود حتد من حريتها وانطالقها يف الأرجاء،
لتناق�شه يف كل املوا�ضيع ،هي موظفة ومتلك راتبا خا�صة بعدما الحظت ال�سعادة الكبرية التي ترت�سم
ووجها ح�سنا ،لن تخاف من وجهه الغا�ضب دائما على حميا ابن عمها وزوجته ،والغ�صة التي تنمو
،املت�شائم من كل �شيء و�أي �شيء ،ارتاحت �أمينة يف حلقها عندما تقابلهم والتي تتحول �إىل جمموعة
لكافة الأفكار التي طافت يف ر�أ�سها ،انتظرت قدومه من اخليوط تكبلها وحتتجزها يف �رشنقة ،متنعها
�إىل البيت ،الدقائق وال�ساعات متر ،ت�سمع اهتزاز من الكالم والتنف�س ،ويبقى �صوت �أمها وهو يتحدث
جهازها ،تقر�أ ر�سالته «�أنا تعبان ومع�صب وقبل يوميا عن بنات النا�س وحالهن وال�سعادة واملال
�شوي تنازعت مع الوالد ،جهزي الع�شاء � ،أريد �أنام». والبيوت ويف النهاية ت�صمت وتتخذ قرارا دائما
�أح�ست �أمينة بارتباك �شديد ،خافت من ردة فعله ، ب�أنها لن تكلمها حتى تغري من حالها وحال زوجها
تخيلته كمارد هائل يزجمر يف وجهها بينما الزبد ،ت�شعر �أمينة يف تلك اللحظات ب�أنها تخو�ض غمار
يتطاير ليجعل من ج�سدها ورقة جافة تتك�رس حتت حرب �رضو�س ،و�أنها دخلت حلبة �رصاع ملعركة
�أقدام النا�س ،توجهت نحو املطبخ العتيق ،حاولت طويلة فتن�ساب دموعها بغزارة املطر الذي هطل يف
�أن جتعل ذهنها �صافيا لتحدد وجبة الع�شاء لتنتهي تلك الليلة ،تلك الليلة التي راقبت فيه �أمينة املطر
منها يف �أ�رسع وقت ،ت�صورت وجهه املكفهر ، وتذكرت �أن�شودة املطر ورددت �أكرث من مرة قول
�شياطني الغ�ضب تتقافز منه � ،شعرت باخلوف ، ال�سياب:
اليوم قررت �أن تكتم كل تلك االفكار يف �صدرها ، �أتعلمني �أي حزن يبعث املطر؟!
خ�شيت من ردة فعله الغا�ضبة � ،أم�سكت بحبة ب�صل وكيف تن�شج املزاريب �إذا انهمر؟!
،بد�أت يف تقطيعها ،متنت �أن يت�أخر لبع�ض الوقت وكيف ي�شعر الغريب فيها بال�ضياع؟!
،حتى تنتهي من �إعداد الع�شاء ،و�ضعت الب�صل يف وتنهمر دموع �أمينة لت�شارك املطر بكاءه املتوا�صل
املقالة وحني بد�أت يف �إ�شعال الغاز � ،سمعت �صوت على خطايا الب�رش.
الباب وهو يفتح ،و�سقط قلبها �إىل �أ�سفل �سافلني. خلم�سة �أ�شهر مل تتوقف دموع �أمينة كما مل تتوقف
�أ�صوات ال�شجار وال�رصاخ ال�صادرة من الغرفة ،
�سماوات بعيدة .مل نكن نعرف اجلهات وال الدول� .أي �أطلُّ على نف�سي الآن ،وبعد هذا الزمن املُمتد
ده�شةٍ تلك كانت عندما نرى ال�ضوء الأحمر ال�صادر واملُوجع� ،أطلُّ على طفولتي من مر�آة الزمن واحلنني
من الطائرة ،الطائرة ك�أنها بطة ت�سبح يف بحرية من املُوح�ش واملتوح�ش والوح�شي .الزمن املُفرت�س
250 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
و�أحالمه .ي�سافر الطفل يف دم القبائل وحروبها جنوم .كم من الق�ص�ص �رسدنها عن تلك الطائرات.
ين�صت الطفلُ جيدا
ُ وهجراتها وجوعها وخياناتها. :هذه رايحه الهند �شاله عي�ش وطحني.
جلمال يف احلكايات وهي متجه �إىل «م�سكد» ل�صوت ا ِ :هذه الطائرة جايه من �أمريكا ورايحه اليمن.
تم الطفلُ رائحة الرماد ي�ش ُّ
�أو �إىل البحر «احلدري»ّ . :هذا طائرة رايحه العراق.
يف موقد القهوة يف رحالت جده ،يرتعب من �صوت لعبة اجلهات ممتعة جدا عندما تكون مفتوحة على
الر�صا�ص يف احلكاية .يف الظالم يرى املغا�صيب �سماء ال حدود لها .يف تلك ال�سموات ر�أى الطفل
يد�س
وال�سحرة يتطايرون يف ف�ضاء الغرفة املظلمةُّ . َ املالئكة حتر�س عر�ش اهلل .ور�أى املالئكة تطارد
في�شم رائحة دم القبائل
ُّ أ�سود. ل ا الغطاء حتت أ�سه ر� اجلن وال�شياطني .وكلّما ا�شتعل �شهاب يف ال�سماء
ور�صا�ص حرب اجلبل ودموع �أمهات ال�شهداء ،و متتم الطفل :اهلل �أكرب اهلل �أكرب.
ي�سمع �صوت طائرات (الك ّفار ) وهي رايحه «تخزق»
فوق اجلبل الأخ�رض ،و�صوت خطوات ،و�صوت امر�أة ()3
تبكي يف املقربة .وبكاء ن�ساء يف جنازات عابرة. �صوت م�ؤ ّذن بعيد ،ال�صوت لن
ُ يف ال�صباح يوقظنا
يتكرر .ما �أجمل �صوت اهلل ،وهو قادم من خلف
()4 تلوثه املكرفونات وال اجلبال والنخيل� .صوت مل ّ
ري الطفولةُ ،وتهبط على ت�ضاري�س املكان� .أطلُّ تط ُ الإيدولوجياُ .يوقظنا �صوت ديك من فوق ُ�سمرة
على بيوت الطني� ،أطلُّ على رائحة القهوة ،وهي بجوار البيت .تبد�أ �صباحاتنا عادة برائحة القهوة.
تفوح من البيوت الطينية ومن �أغاين الفالحني القهوة �سيدة طفولتنا .يقود الطفلُ جده الأعمى من
يف القرى وال�ضواحي ومن �أغاين الرعاة ،ميتزج يتلم ُ�س
يده نحو حقول النخيل وال�ضواحي اخل�رضاءّ ،
الطني بالقهوة وبرائحة ال�صباح� .أطلُّ على قرية اجل ُّد الظّ َّل واحلجارة ليح ّدد موعد املاء والعط�ش.
ي�سكنها املاء والنخيل واجلبال واملقابر و�شقاواتنا يعلّم اجل ُّد الطف َل كيف يحدد للماء والظ ِّل وقت؟
و�أوجاعنا و�أوهام الكالم� .أطلُّ على رائحة اجلدات
jhj
وهن ذاهبات �إىل املوت برائحة حنني ال�سالالت. َّ
�أطلُّ على �صوت راعية يف اجلبال توقظني ب�صوتها ال تكتمل الطفولة العمانية بدون جد �أو جدة .اجل ُّد
املحمل بالفق ِد واحلنني� .صوت املر�أة التي ت�سكن ّ �سار ُد جيد للحكايات ،احلكايات املليئة بالدم
وحيدة يف خيمتها على طرف القرية يوقظُ الدمع وال�سحرة و«املغايبة»� .أطلُّ عليك
وامل�سافة واملوت َ
انتظرت زوجها ْ من �أقا�صي القلب؛ املر�أة التي أنت ت�سن ُد ظهرك املتقو�س كالزمن الآن يا جدي و� َ
رحلت ورحلَ كلُّ �شي ٍء معها ،ما عدا ْ لربع قرن، على جدار الطني ،ومت�سكُ بيدك ع�صا (عِ تِم)* من
�سكنت يف ذاكرة الطفل. ْ «تعويباتها الليلية» التي �أ�شجار جبال احلجر .وت�رس ُد كل �صباح وم�ساء
�أطلُّ على وجه امر�أة ماتت يف اجلبال البعيدة بقرب حكايات �سالالتك و�أ�سالفك .الظلُّ �صديق نبيل
بركة ماء .ن�سى الطفل املر�أة وموتها الليلي وظ َّل للحكايات .وكذلك الليل مو�سم حل�صاد احلكايات
�صفاء عينيها يطارده. الطفولية.
كنت يتيما وحاملا بكل يا �أيها الطفل البعيد كم َ القنديل املعلّق على وتد املكان .ال�ضوء يغازل
�شيء؛ بالظ ِّل واملاء والذكريات. احلكايات والدم ورائحة البارود والر�صا�ص� .أطلُّ
على الطفل اخلائف من كل هذه احلكايات .اجلد
()5 يتقن هذا الأعمى ي�رسد حكاياته بتلذذ بدون تو ّقفُ .
يبحث عن جرعة
ُ �أطلُّ من فوهة العط�ش على طفل مبال بالطفل ٍ اجلد الأعمى وقفات حكاتاته؛ غري
251 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
اهلل ملاذا ال توجد يف بالدنا مياه كثرية! .يف مطرح يبحث ُ ماء باردة� .أطلُّ من فوهة ال�صه ِد على طفل
لأول مرة يتلذذ باملاء البارد .يتذكر جيدا الآن عن ظ ِّل يحميه من جحيم الظهرية وحرائق �صيف
الع�شب الأخ�رض ودلة القهوة والبيك �أب (املازدا ) مالك بن فهم� .أطلُّ من رائحة اجلوع على طفل يبحث
منده�ش هو من الأزرق الكبري.
ُ و�صوت البحر الهادر، عن ك�رسة خبز يف الطرقات� .أطلُّ من بعيد على طفل
عندما رجع �إىل القرية قال لهم يهرب يف /وعن �ضواحي النخيل ي�رصخ وي�رصخ
:م�سقط كبييييييرية كما الهند. ويغني يف النهاية لكل �شيءُ .يغني للمطر ورائحة
فيها نا�س واجد و�شوارع وبيوت كبرية وحرمي غري ال ِبلّ**.يغني للغيوم العابرة يف �سماء اجلفاف :
وماء بارد . « يا اهلل يا اهلل بال�سيل يهبط وادينا قبل الليل».
�أغم�ض عيني الآن ف�أرى النخيل والدروب ال�ضيقة
()6 أ�شم رائحة الليمون وال�سمر بني جدران الطني ،و� ُّ
طفولتنا ت�شبه امر�أة تركناها يف اجلبال لتحر�س وال�رسح وال�سدر ورائحة البيوت الطينية املُغت�سلة
عزلة الرعاة ،عاد الرعاة ليال ،ومل ترجع طفولتنا. أ�شم رائحة املاء يف الفلج باملطر وباجلفافُّ � .
ظل ّْت �أغنية حتفظ اجلبال والنخيل واملقابر �صوت أ�شم رائحة جذع بطحالبه ،ورائحة �أ�شجار املاجنوُّ � ،
�صداها .كلما ابتعدنا عن طفولتنا يجذبنا �إليها (ال�ص َّد)
نخلة يحرتق يف ال�صباح� ،أرى الطف َل يطارد ّ
احلنني والنداء وال�رصخة الأوىل .انها النبع الأول يف الفلج ،ويطارد احلمام و(اجلراد والفنازيز)
واجلحيم الأول واجلنة الأوىل .كانت وظل ّْت ظال ًال أفتح عيني الآن ف�أرى بالدا احرتقت يف ال�سيوحُ � .
حلياة عابرة . احرتقت
ْ باجلفاف واملوت .كل نخيل الطفولة
تت�ساقط �سنوات الطفولة من �شجرة العمر ،فيلتقطها هرمت
ْ باجلفاف .فلم تثمر الطفولة �سوى الفقد.
احلنني �أو الن�سيان �أودمعة يتيمة. الطفولة مبكرا ومل يكرب الطفل.
�أطلُّ على طفولتي
()7 ف�أرى طفال ينام يف املقربة
ما ت�ساقط من ذاكرة الطفل. �أطلُّ على نف�سي
ف�أرى طفال مربوطا على جذع نخلة.
1986 jم. النار كانت خطيئتي الأوىل
يف الطريق املو�صل من القرية �إىل امل�ست�شفى �أطلُّ على طفولتي
الع�سكري يف العا�صمة .يرقد هناك والد الطفل يف ف�أرى طفال يلعب يف املقربة
فرا�شه الأبي�ض .مل يتذكّ ر الطفل من تلك الرحلة �سوى ينام حتتها طفل مل يغت�سل ُ �أطلُّ على (�سرَ حة)
ده�شته من ال�شم�س التي تتبعه من خلف اجلبال. بالطفولة.
يطلُّ بر�أ�سه من نافذة ال�سيارة ،يراقب ال�شم�س وهي �أطلُّ على نف�سي ف�أرى طفال ينام يف املقربة .
تتل�ص�ص عليه .كان ي�س�أل نف�سه هل نف�س ال�شم�س يرك�ض بني النخيل ُ �أطلُّ على الظهرية ف�أرى الطفلَ
التي ت�رشق وتغرب يف القرية؟ �أم للعا�صمة �شم�س باحثا عن ظلِّ� .أطلُّ على طفل يف الظهرية يحمل
�أخرى؟ املاء يف عبوات معدنية لي�سقي قبور املوتى وجراد
عندما �أعطاه والده ورقة نقدية ،وقال له ُخ ْذ �آي�س املقابر و«ال�رسحة» التي يرقد �أخوه حتتها.
كرمي .طول الطريق العودة يفكر الطفل يف امل�صطلح
اجلديد .هو يعرف جيدا الكِرمي ؛ ولكنه مل ي�ستوعب jhj
يف تلك اللحظات معنى (�آي�س كرمي). عندما ر�أى الطفل �أول مرة البحر يف مطرح �س�أل
252 نزوى العدد - 75يوليو 2013
s ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
254
�شعـر حممد ال�سـرغيني ..
�شعـر ُي َ�ؤ ِّب ُد زمـن قيامته
حممد بودويك
كاتب وناقد من املغرب
املتعاليات ،واحلقائق الكلية ،والتفا�صيل اجلزئية التقاء ال�شعر والفكر ،قدرة ُم ْب ِه َرة على الك�شف
ورن الأفكار.
وهي تفتق املعاينَ ،و ُت َ�ص ُ والغو�ص يف عوامل اللغة والفكر ،وال�شعر ،وباقي
«حتت الأنقا�ض «فوق الأنقا�ض» �أ ْي َك ٌة من الأفكار �أجنا�س الفن والأدب ،مهارة ُم َد ِّو َخة يف �إتيان
والتعريفات واملقوالت واحلكمة .ودوحة تجُ َ ف ِْج ُف ال�شعر بالفكر ،والفكر بال�شعر ،برتكيز وا�ستخال�ص،
باحلفيف والثقيل اليانع ،والنا�ضج من الثمار وتقطريَ ،م ّر ًةَ ،وطَ ل ٍْق وفتح ،وتفتيقَ ،م َّر ًة �أخرى .بهذا
العاليات والدانيات القطوف ،واخلفيف اللطيف من ال�صنيع ،نفهم الفذاذة يف ال�شعر ،الذي ال نرتدد يف
ذوات اجلناح والأوراق الندية امل ُْخ َّ�ضلة بال�شعر. و�سمه بال�شعر الفكري الوجودي ،بال�شعر ال�شامل،
كتب �شعرية �أخرى ومثل هذا الكتاب العجيب الغريبٌ ، وبالتجربة الباطنية التي م�سعاها «حتدي�س احل�س»
لل�رسغيني ،تندرج �ضمن املنظور �إياه ،والر�ؤية بتعبري ال�شاعر ال�رسغيني.
ذاتها ،واملبادهة ال�شعرية يف �صميم ال�سياق الفكري، يتكىء ال�رسغيني على املوروث ،والعجيب الإن�ساين
وامل�ساق املعريف ،والعمق الفل�سفي .ومن ث ََّمَ ،ع�سرُ َ من الإنتاج املعريف والروحي ،فين�شئه �إن�شاء ،وي�شكله
�شعر ال�رسغيني على الت�صنيف( .تقر�أ الن�ص �إن َ�سبيكة �شعرية – فكرية �سائلة ،وهو ما ال �سبيل �إليه
�صربت ،فيم�سك بتالبيبك ال يفارقك ،وال تقدر على من ِق َب ِل الكثريين� .إذ كيف ي�سهل تطويع مقوالت
مفارقته ،ينفرد بك ويحيلك �إىل جنة الإبداع احلق، الفل�سفة ،ومدونات الفقه ،والفكر ،والتيولوجيا،
كما يحيلك �إىل جهلك لكي تواجهه -هذا اجلهل – �أو واملنجز العلمي والتكنولوجي الإن�ساين؟ كيف ي�سهل
تتهم �صاحب هذا ال�شعر ،بال�صعوبة والغمو�ض ،لت�ؤثر هذا َف َي ْن َ�س ِبكُ �ضمن ناظم �شعري رفيع يخرتق ُ�س ْمكَ
ال�سالمة ،م�ستنيما �إىل التربير ال�ضحل وال�ساذج، ال ُع َّدة والعتاد هذين ،ما مل ُي�ؤ َْت ال�شاعر الكتاب
وتتهم �صاحبه بال�صعوبة ،وت�سرتيح من مواجهة واحلكمة يف الإم�ساك بالكتاب ،و�أخذه بقوة؟
عوا�صف رعود الإبداع احلق) « :كرمي عبدال�سالم من م�سار َم ِ�ص ٍري �إن�ساين
ُ «حتت الأنقا�ض فوق الأنقا�ض»،
مقدمته لأعمال بدر الديب ال�شعرية ». َي ْن ُب ُت يف احلطام ،و�رسعان ما يعلو على خرابه حيث
ويكاد كتاب « :حتت الأنقا�ض فوق الأنقا�ض» يكون يطفو معنى النهو�ض ،والإنها�ض مبا ي�شي بجربوت
تو�سعة ،وتكملة لعمله ال�شعري ،الأ�سبق « :من �أعلى الإن�سان يف َ�ضعفه ،و�ض�آلة كينونته على رغم �سل�سلة
قمم االحتيال» ،ما دام �أن الثيمة املحورية التي �أعاجيبه ،وتقدمه املبهر من خالل م�سعاه الد�ؤوب
ا�شتغل عليها الن�ص هناك ،هي ما ي�شتغل بها الن�ص �إىل تخطي �رشطه ،ووجوده الق�صري على الأر�ض،
هنا � :أنقا�ض – �شظايا� -أ�شتات – فتيت -مِ َزق- �إِ ّما َر�أينا �إليه يف فردانيته� ،أو وجوده الطويل املمتد
حطام ،بقايا �أ�شياء -انك�سارات .كل ذلك تو�صيف متى ما تعاملنا معه بو�صفه جتريدا ،ورمزا ،وروحا
تراديف و�إردايف ي�شي مبا طال املكان والف�ضاء هيمى َح َي َّية ال َتنِي تتنا�سل ،وتتنا�سخ ،وحتل يف
والروح ،من خراب وهدم ودمار ،وردم ،وطم�س جمرى ومرمى الزمكان املتعدد .هنا ينكتب �شعريا
ملعامل تاريخية وح�ضارية ،ال تزال مو�شومة يف و�رسديا ،تاريخ الأ�شكال ،وهيئات املنطق ،و�أن�ساق
255
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
« :من فعل هذا بجماجمكم»� ،إىل « :احتياطي العاج» الذاكرة ،ويف الوجدان.
وث
ام ْ
�إىل «من �أعلى قم االحتيال» �إىل « :و�صايا َم ُ فهذا العمل ال�شعري اجلبار ،يتموقع بني حجرين
مل ينقر�ض» �إىل« :حتت الأنقا�ض ..فوق الأنقا�ض»، وع
«ر�شيدين» :حج ٍر تحَ ْ تِي ت�أتي منه �أ�صوات ُج ُم ٍ
كانت –دوما -نبعا ثريا ،فيا�ضا ،يزرك�ش ال�شعر ون�شيج تاريخ مغربي دا�سه امل َُرابون، ُ تبكي،
مبطلقيات �أخرى ،وم�ؤثثات َحافّة ت�سنده ،وتن�رشه، و�سما�رسة الأحقاب ،والن�صابون .وحجر ُم َت َب ٍّد مرتهن،
وتو�سع َح َدقَا ِتهِ .فك�أن ال�شعر يف �رشعة ال�رسغيني، الآن َوغ ًداِ ،ل َناهبي الرثوات باملعاين جميعها.
قا�رص �إذا عومل �ضمن حده التجني�سي ،وخطوطه عمل �شعري �أ�شبه ما يكون بدغل غابوي ملتف
املر�سومة ،و«حذائه ال�صيني» ،كما تعاور على م َراح ،يقدم بني �أيدينا املعرفة وكثيف ،غِ ًنى ُمترْ َ ٌع ،مِ ْ
ذلك ،وكر�سته �أحقاب ،وممار�سات ،وتقاليد عجلى الب�رشية ،م�صبوبة يف وعاء �شعري �أخاذ ومدوخ،
ومركوزة .فهو ي�سنده ليعطيه ما ف�صل عنه ،ويو�صله و�آنية م�ستطرقة ،وغري م�ستطرقة .منتظم �ضمن ن�سق
مبا كان له ،وما ينبغي �أن يعاد وي�ستعاد. فكري ،حي ،متموج ،متما�سك ومتوتر يف نف�س الآن.
ولعل يف �صنيع �أبي متام ،و�شيخ املعرة ،بع�ضا من �إنها جتربة تذكر بتجربة �أدوني�س من جهة �ضئيلة،
هذا الفهمَ ،و َن ْز ًرا من هذا امل�أتى على رغم بقائهما لكنها تذكر –بقوة -بتجربة ال�شاعر الت�صـويري
رهيني حمب�س العامود ،و�سجيني جزمة الوزن ْ الكبري � :إزرا باوند ،EZRA Poundوجتربة
والعرو�ض ،ولنا يف ما �أتاه وي�أتيه �أدوني�س ،و�أجنزه ال�شاعر � :سان جـون بر�س Perseمداح الطفولة
حممد عفيفي مطر ،وبدر الديب ،ت�ضمني للتالقي املدارية والعنا�رص .املحاكاة ال�ساخرة ،والباروديا :
والتقاطع ،مع االحرتا�س من التعميم ،والت�رشيك. ،Parodieواملفارقة املثرية،Le Paradoxal :
وفاء ال�شاعر الرائد حممد ال�رسغيني ،لل�شعرية ت�ستخدم يف كثري من مفا�صل ،وت�ضاعيف املنت،
مبفهومها الكوين العميق ،ال�شعرية التي تت�صاهر ك�أداة قلب والتفات باملعنى البالغي ،وكَ َم َمر م�ضيء
فيها الر�ؤى جميعها من�ضفرة باملواجع والآالم و�سط �سماكة اللغة وهي تتنامى �شعريا وفكريا،
الإن�سانية ،ومن�شبكة مبديح الإن�سان يف قوته، وطريق م�سعفة ملوا�صلة ال�سري و�سط العذابات،
وفتوحاته ،ويف �ض�آلته وه�شا�شته �أي�ضا .وهي والأحزان الب�رشية التي تتوارى رويدا ،رويدا ،خلف
ال�شعرية –ا�ستطرادا -ذات اخلطاب املتكرث ،واللغات الر َّيان املتالمح يف املفكر فيه ،املرج�أ �إىل الأمل َ
املادية والالمادية العديدة املرتبطة ب�شجرة �أن�ساب كتابة �أخرى� ..إىل خيوط فجر �آت.
ُمو ِرقَة ،وممتدة ،واملتماهية بجذع تلك ال�شجرة، َت َه َّي ْب ُت –دوما -االقرتاب من «كتاب» ال�رسغيني،
ال�ضخم ،الو�سيع العري�ض ،الذي تن�رسب يف �أليافه، املخبوء وامل�ستور بني الظل وال�شم�س ،حتى ال
وخالياه ،و�رشايينه ،وحلائه� ،أن�ساغ الكد الإن�ساين يحرقني ،وال ُي ِرينِي َف َهاهتي َو َع ِّيي وجهلي.
الذي بنى ع�رصا يف �إثر ع�رص� ،رصح احل�ضارة تهيبت ُع ْمرانه اللغوي ،و�شوكه املعريف امل�ستكن يف
الإن�سانية املنيف وال�شامخ. قطيفة الإملاع ال�شعوري ،والدفق الإح�سا�سي ،املدفون
وفاء ال�رسغيني جلماع ال�شعرية تلك ،باالحت�ضان، يف طيات ف َِرا ٍء لجِ ِ َرا ِء منور بي�ضاء ،وفهود رقطاء،
والإيراق واال�ستغراق ،واال�ستنباط ،والتوليد ،والتعهد، ولب�ؤات �صهباء ،تذرع اال�ستوائيات ،واله�ضاب
والتعميد ،ر�سما للت�شييد ،وبلورة جلهد ذهني وفكري، الزرقاء ،واملنابع الثلجية ،وال�ضفاف املخ�رضة ،يف
وانبثاق �شعري ،هو ما حقق له ما حقق ،و�أويف �أق�صى القطب واجلغرافيا ،ومنتهى الوهاد والقمم .مل
�صنيعه ال�شعري اخلالق على الذروة ،حتى بات يكن موطوءا –�أبدا -عمل ال�رسغيني ال�شعري� ،أحتدث
اخرتاقه القرائي ،ومراودته العا�شقة� ،أو املخادعة عن عمله «باجلمع» ،بدءا من « :بحار جبل قاف» �إىل..
املرت�صدةَ ،م�شَ قة َ�ض ْنكَى ،و�سعيا َي ْعيا بحاطب ليل، «الكائن ال�سبئي» �إىل «وجدتك يف هذا الأرخيبل» �إىل
256 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الغفران» ق�شيبة جديدة ،متحالفة مع �صنيع املعري �أو عاجر م�ستعجل� ،أو ظامىء متلهف� ،أو «واحاتي»
العظيم ،فيما هي متخالفة وحملقة بعيدا عنها، م�صادر على ماء طوع اليد ،ونخيل وارف بعد الكثيب.
طاملا �أنها تتو�سل بالتحوالت ال�شعرية ،وروح الع�رص وفاء واحتفاء ال�شاعر بال�شعر لي�س كمثله احتفاء :
اجلديد ،ونب�ض القرن والدماغ ،والأل�سنيات ،والذكاء [متى كان ال�شعر و�صيفا للغه وهو تاجها
اال�صطناعي الراهن .و�إنها «ر�سالة التوابع والزوابع» متى كان ال�شعر ر�أ�س يتيم بني يدي حالق غِ ّر؟
البن �شهيد الأندل�سي ،منقلبة ومبتدعة ،ومفارقة هو خال�صة ما يف القارات والإياالت والأ�صقاع
متاما ،تب�صمها عبقرية �صاحب ،وم�صفف ،وم�شذب، من ال�سحاب والغيث واجلدب والأجرام املجهولة.
وخمرتع الذي هو ال�رسغيني .وهي «كوميديا» دانتي بطاقة تعريف �شخ�صية و�سِ ِّجل لأرومة الإن�سان]
�أليغوري ،و«كوميديا بالزاك»� ،سوى �أنها تغو�ص وث مل ينقر�ض) (و�صايا َما ُم ْ
عميقا ،وتنزل دفينا �إىل قاع �شعري وفكري �صاغه ويف فقرة �شعرية �أخرى من نف�س الكتاب :
[للتاريخ غنائية احلكي واملحكي /،ولهذه الغنائية
ال�رسغيني �شاعرا ،وعاملا ،وفقيها ،ولغويا ،وقارئا
�صالحية التدخل/بني امل�شاغب واملهادن/.
من طراز رفيع ،طراز قد ال يمُ َ اثله طراز.
املقطعات �أنا�شيد/والأنا�شيد فقرات/والفقرات
يف جتربة ال�رسغيني ال�شعرية ال�شاخمة ،الأليمة
لهاث/واللهاث باقات /والباقات مقاطع /
وت� ،شيخ امل�ؤرخني طُ ًّرا،
واللذيذة يف �آن ،يح�رض هِ ُريو ُد ْ واملقاطع ع�شاريات/الطق�س الفردو�سي بارد/
ومالحم الإغريق العتيدة ،وفرجيلَ ،و�أوفي ْد ،والكتاب واجلحيمي ملهتب/واملطهري معتدل �/..أما ال�شعر
«ال�ص ُّدوقيني»
املقد�س بعهديه :القدمي واجلديد ،ومقالب َّ فوحده املتدفق].
و»الف ِِّري�سيني» اليهود ،والأ�ساطري ،واملنت اخلرايف، ال ميكن ،بحال� ،أن نفهم �شعر حممد ال�رسغيني،
و�شعراء الع�صور واللغات ،وال�صوفية ،والفال�سفة ،من والفوز بلذة فيه ومنه ،واختال�س م�رسب �إىل عني
ون واملعري وابن عربي ،و�أبي حيان التوحيدي، مِ ْل ُت ْ زرقاء ترقرق حتت رمو�شها ال�سوداء الوطفاء
ال�ساحرة ،فرا�شات من �ضوء ،و�إىل �صف�صافة عا�شقة
حانية ،يهدهدها ن�شيد متوار بني الأوراق ،ال ميكن
فتح م�رسب فيه –كما �أقول� : -إال مب�صاحبة املوتى
ون يف دارته ال�شعرية، والأحياء الذين َي ْ�ص َخ ُب َ
وقراءتهم –باحلتم� -أو قراءة بع�ضهم يف الأقل.
غري املدجج ب�سالح العلم واملعرفة وال�شعر
واملو�سيقى ،والت�شكيلَ ،ي ْق�صرُ ُ به َحالُه ،ويزري به
جهله ،ويقهقه يف وجهه –�شبح َز َّي َن له َو ْه َم �أَ َّن ما
يقر أ� من �شعر لل�رسغيني ،هو جمرد ُم َعميات وطال�سم،
اج ،وخطوط َز َّناتية ،وكربيت �أحمر ،ورمل يف َو�أَ َح ٍ
دوما كحياتنا �أ�صقاع كندا ،ومعنى هارب ،مهرول ً
على الأر�ض.
�سالح الفتح ُي ْن ِيئكَ �أن ال�شاعر َر َّحا َل ٌة عمالق خالل
الدهور والع�صور ،والأحقاب ،والأزمنة ،خالل
اجلغرافيات والأرا�ضني ،وال�سالالت ،والأن�ساب
والأح�ساب ،وال�شجرات الآدمية� .إنها «ر�سالة
257 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
ومتو�ضعات �إن�سانية مثرية ،بغاية الإراحة واال�سرتاحة، وابن �سبعني .كما يح�رض الت�شكيليون واملو�سيقيون
والإ�ضافة النافلة ،بل بغاية �إمداد ال�رسود ال�شعرية واملغنون العظام ،من كل دوحة ون�سب .وحت�رض
ِب ُقف ٍْل يجمع «�شتاتها» ،و َت َف ُت َّتها ،هل يكون قفل العفة العلوم املختلفة من طب وهند�سة ،و�آلة ،وهيئة ،وفلك،
واملعرفة؟ ،-وبغاية �إ�ضفاء املعنى على البنيان وريا�ضيات ،وتنجيم ،وكيمياء وفيزياء ،و�سحر،
ال�شعري وهو يت�صاعد طابوقة فوق طابوقة ،ما يباعد وخمرتعات قدمية وحديثة ،واجلوامع وال�صوامع،
االقرتاب ،وين�أى باللحاق وال�سيطرة –من ثم -على والأبواب واجل�سور ،واملدافن واملقابر.
الإيقاع العام للن�ص ال�شعري ،بو�صف الإيقاع داال �أكرب، يف جتربة ال�رسغيني اجلميلة واجلليلة ،يح�رض ال�شعر
ومتعددا� ،أي �أن و�ضع «�أ�سورة» ذهبية وما�سية �ضمن مفكرا ،والفكر مفكرا وم�شعرنا ،وحمافل ال�رسود
الن�ص ،يف و�سطه �أو خامتته ،من �ش�أنها �أن تبئر الداللة، املختلفة ،وحت�رض – ب�شكل الفت ومق�صود -ال�سخرية
وتعمل –بهذا القدر �أو ذاك -على �إ�ضاءة الفكرة التي ك�أهز إ� ما يكون ،و�أنبل و�أندر ما يكون ،حت�رض لِل َّت َن ُّد ِر،
َت ْن�سرَ ِ ُد �شعريا بني يدي الن�ص ،بني يدي القاريء. وك�رس ال�سياق اللغوي الالهث� ،إذ تتيح التقاط الأنفا�س،
العامل -يف منظور ال�رسغيني -على عظمته� ،ضئيل، ورفع الأمل بال�ضحك ،فيما هي تزرع احلكمة الوارفة يف
والكون على و�ساعته �ضيق ،والأر�ض على امتدادها، �أعطاف وثنيات البنيان ال�شعري .ويحر�ص ال�شاعر –
�أو لولبيتها العظيمة� ،إ�سفنجة َت ْن َع ِج ُن يف يد الزيات، و»م ْ�س َخ َراتِه»، يف �أثناء ذلك -على تقوي�س �سخرياتهَ ،
�إذ يختطفها –مبهارة �صقر -ويطفئها يف «جفنة» واحات وحمطات ا�سرتاحة ،ونقط ا�ستئناف، ٍ بو�صفها
زيت .والإن�سان عابر �سبيل ميت ما دام �سيموت، والتفات .فالتقوي�سات حوا�ش خادعة ،مند�سة
عقباه التحلل ،والتذرر ،والهباء ،لكنه بهي يف هبائه، ومد�سو�سة يف ت�ضاعيف الكالم ال�شعري ،تعمل على
ري على ال�سهل ،محُ َ اذٍ للتل ،قريب من اجلبل� ،أر�ضي ع�س ٌ تفتيق الداللة ،وتو�سيع املعنى ،وقد ُت ْعمِيه وتطم�سه
و�سماوي معا ،طائر يف الأجواز ،عالق باملجرات ق�صدا وتر�صدا .بيد �أن التقوي�سات متون ،متون قائمة
آيب خالل الع�صور ،وم�شدود – على البعيدة ،ذاهب و� ٌ على وجازتها ،وخال�صاتها املكثفة .والأمثلة على هذا
رغم كل هذا� -إىل ال�سفح ،والوتد ،والأ�سباب املهرتئة، �أكرث من �أن نحيط بها؛ فهي ت�رسي ،وتتخلل جميع كتبه
والو�ضاعة ،والأنانية املقيتة .م�شدود – بكلمة واحدة- ال�شعرية .منها متثيال :
� :إىل الطني والوحل. ورها)
( -لعنت �شجرة الدفلى ،وبوركت ُز ُه ُ
ِب َي ِد ال�شعر ال ِب َي ِد احلاكم ،وال القاتل ،وال املُرابيْ � ،أم ُر �( -سكان الأ�رضحة ال يهاجرون)
الأر�ض والإن�سان .بيد ال�شعر ما يجعل الإقامة حمبوبة ( -لل�ساكن من الذكاء ن�صف حق ما للمتحرك من
ومرغوبة ،بيده ما يك�شف عن م�سد�س العامل املخفي، الغباء)
ون�صله ال�صدىء يف الغمد العتيق ،بالإعالن عن املخفي ( -ما جدوى عالمات املرور يف ليل �سدميي)
ذاك ،واملخبوء يف ال ّزنار واحلزام ،من خالل ر�ش )Il s’agit là d’une irrigation panachée( -
ال�ضوء ،واحللم ،والأمل بني جنبات الكون .ومن خالل ( -الزنبور وا�سطة بني الوجود والعدم)
ت�أبيد اخل�رضة و�سط احلطام ،ورفع الل�سان بالن�شيد َ ( -ث َّم َت من يكتب دون قفازين)
والت�سبيح ،والهتاف للحياة. ( -تمَ َّ َت من يلب�س التاج ويخلع القناع)
يقول ال�شاعر يف الزمة بديعة –حكيمة ،تكررت داخل ( -ال�شم�س التي ال �سوابق لها ،قطعة ق�صدير)
وث مل �أحد ن�صو�صه ال�شعرية ،بكتابه « :و�صايا َما ُم ْ ( -كم هو لذيذ تردد امليت على متاجر قطع الغيار)
ينقر�ض» : ال ي�ؤثث ال�شاعر رفوف عمارته ال�شعرية ،بهذه احلكم
[-ال يكت�شف ُت َّرهات هذا العامل غري ال�شعر] والف�صو�ص والأمثال ال�شعرية التي ت�ستبطن ال�سخرية
لكن� ،إذا كان /:الكاتب مزور /القارىء مزور املريرة ،وت�ستهدف الإ�ضحاك والتموقف ُحيال عِ ل ٍَل
258 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
وما �أظن �أن ال�رسغيني يريد بذلك تعاملًا هو يف غنى القراءة مزاولة تزوير
عنه ،و�أكرب منه مبا ال يقا�س .وما �أظن �أنه يبدع يف �إن كان هذا الفعل الثالثي ُمراب ًيا
الفرن�سية ت�رشيبا ملخياله ،وتزكية لأيقونة تقيم بني فالبد من تلقيحه ب�أنزميات �صناعية
ال�صوت وال�صدى ،والإعالن واملحو ،وتو�سيعا لر�أيه تعوي�ضا عن عبثية املكتوب واملقروء.
ال�شعري ،وفكره الفل�سفي ،على �أ�سا�س مِ ْن تحَ َ ٍّد لل�شعراء مما يعني– يف تقديري -لي�س غري ا�ستثارة الآدمية
املغاربة والعربَ ،و َم ْك ٍر بهم ،و�سباق يف م�ضمار مل احلق ،وا�ستفزاز الذائقة الطبيعية والثقافية،وا�ستثارة
يدخله �إال هو؟ احل�س اجلمايل يف الإن�سان موقفا وموقعا ومباد�أة،
فما يقوم به ،يندرج –يف البحث امل�ضني ،املفكر فيه، َو َد ْي َد ًنا ،وهدفا ال�ستحقاق الت�سمية ،وا�ستحقاق الإقامة
عن فتوحات �إ�ضافية ُت ْ�سبِغُ على ال�شعرية املغربية على الأر�ض.
تنوعا ،وحتديثا ،و�أ�صالة ،وعلى العربية َرفْدا وعمقا، ولي�س التجاء ال�شاعر �إىل اللغة الفرن�سية ،مدعاة للقول
وتخ�صيبا ،و�إن�سانية ،وثقافة خم�صو�صة. بق�صور العربية عن التعبري ،وعن ا�ستمداد من معينها،
وبناء عليه ،فمحمد ال�رسغيني ،مدر�سة قائمة الذات، ما به يك�شف عن خزائنه ومعارفه ،و�أحا�سي�سه� .إن
ونهر �شعري طَ ٍام ،عميق وهادىء يف املظهر واملخرب، اف لمِ َا حتدثنا عنه –قبال -من كونه هو �إ َّال َد ْم ٌغ َ�ص ٍ
م�صطخب ومتالطم يف الداخل والباطن ،كثري من رذاذه، �سخرية ،وا�سرتفادا ،وتطعيما ،و�إغناء للمنت ال�شعري
�ض ك�ساعد «كَ الِي ْب ُ�سو» مر�شو�ش وموجود ،ملتمعَ ،وامِ ٌ احلافل والو�سيع .ما �ضاق به الل�سان العربي ،وكيف
الب�ض ،يتخلل ن�صو�ص بع�ض �شعرائنا املغاربة ،مع ي�ضيق به وهو �أحد رواده وفر�سانه؛ ما �ضاق به هو
�أنهم يحاولون –عبثا� -إخفاء ونكران ذلك الت�أثر. ال�شعر يف جذوره وغُ ُ�صونه ،على نحو يجذبه �إىل القاع
�أقام �رصحه ال�شعري على نقطتني �أ�سا�سيتني ،فيما البعيد� ،إىل اجلرة اخلرافية ،و�صل�صال اخلليقة ،وليل
يقول ،وفيما ت�ؤكد القراءة واملقاربة ملتنه ال�شعري احل�ضارات ،و�إىل و�سائل مقاربة ،و�إتيان هذا ال�صنيع
الباذخ ،وهما « :عقلنة ال�شعرَ ،و َو ْج َد َن ُة الفل�سفة» .هما البديع اخلالق .ففي الأمر تو�سعة لف�ضاء ال�شعر ،والقول
حموران كبريان متعار�ضان –فيما يبدو -ولكن ال�شاعر الرفيع ،ويف الأمر� ،إبراز و�إظهار خل�صو�صيات ال�شعر من
�أوتي من العلم والفكر وال�شعر ،والثقافة املو�سوعية ،ما حيث هي كونيات وعموميات ،ترابيات ،ومتعاليات.
َم َّك َن ُه من �إجناح عملية امل�صاهرة ،واملواجلة ،والتنافذ �إنه الت�سبيح الأعلى ،والتمجيد الأ�سنى ،والن�شيد الأعظم
احلي املتحرك ذهابا و�إيابا ،وما مكنه –على م�ستوى وت ،ما يجعلنا نقول بكل ا�س ْ
يف امللكوت ِلالَّهوت وال َّن ُ
اطمئنان � :إن ال�شعر ،وهو يتو�سل ،للتعبري عن الدواخل
�آخر -من قول كلمته يف « :هذا الطق�س املتقلب بهدف
واخلوارج ،اللُّغةَ ،يعلو ،وي�سمو على اللغة ،مثلما الطائرة
مقاومة االختالل امللحوظ يف احلياة العامة ،ما جعله
تقطع الأجواز والف�ضاء بالإن�سان على رغم �أن الإن�سان
يوثق العرى بني حوا�سه وحدو�سه ،فاحتا ال�سبيل
وج ُدهاَ .ي ْن َو ِج ُد ال�شعر
هو �صانعها ،وخمرتعهاَ ،و ُم ِ
ملالحظة احلوا�س ،وتف�سري احلدو�س ،م�رشعا كتابه على
باللغة ،وتنوجد به ،بيد �أنه يعلو ،ويطري ،ويخرج من
بوابة النبوءة ،و�سنبلة الأ�سطورة.
�رشنقتها ،فت�صبح ظم�أى �إليه� ،صديانة �إىل مائه الزالل،
�إ�شـارة :
-ال ُي َدانِي ِه يف منحى �صهر الفكر يف ال�شعر ،وال�شعر يف الفكر� ،سوى مل ْه َراقة ،و�أمله و�أمله ،وا�ست�رشافاته جميعا. وخ�رضته ا ُ
�إ ْز َراباوند ،و�أدوني�س ،وحممد عفيفي مطر ،مع اختالف الأربعة يف ول�ست �أذكر –يف حدود علمي� -شاعرا عربيا قدميا �أو
كيفيات الت�صوير ،وميكانيزمات العجن والتبئري ،واال�ستب�صار اللغوي معا�رصا ،قام بفعلة ال�رسغيني اجلمالية و الفل�سفية� ،أي
يف تن�سيبه الرتابي -الأر�ضي ،وانحالله العنا�رصي ،ومتعلقاتها من
ب�إن�شاء ال�شعر �إن�شاء بلغة املتنبي كما بلغة موليري �ضمن
ماء وهواء ونار ،ويف مطلقه املتعايل ،متو�سلني (ال�شعراء الأربعة)،
باحلد�س والر�ؤيا والك�شف .علما �أنه قد يخفي عني الكثري يف باب الديوان الواحد ،وال�صفحات املتال�صقات املتوازيات،
املقارنة واملقاي�سة . امل�صاقبات واملت�ساوقات نعال بنعل.
259 نزوى العدد - 75يوليو 2013
رواية «�أ�ساطري رجل الثالثاء»
ل�صبحي مو�سى
حممد ال�سيد �إ�سماعيل
�شاعر وناقد من م�رص
النه�ضة وال�صحوة الإ�سالمية احلديثة التي بد�أها تو�صف الرواية دائما ب�أنها فن مو�ضوعي يقوم على
الأفغاين ومن خرجوا من حتت عباءته باجتاهاتهم معاينة الواقع وقراءة التاريخ وتفكيكه وخماولة
املختلفة ،فالتاريخ امل�ستدعى هنا ال يقت�رص على �إ�سقاطه على اللحظة الراهنة املعي�شة ،وارتباط
فرتة حمددة �أو �شخ�صية حمورية ،وبالتاىل ف�إن الرواية بالتاريخ ظل غالبا من ال�سمات املالزمة لها
فكرة الإ�سقاط ال�سيا�سى غري واردة ،ف�شخ�صيات منذ ن�ش�أتها ،الأمر الذي ترتب عليه �شيوع ما عرف
الرواية ال تقوم با�ستدعاء هذا التاريخ املمتد والذي بالرواية التاريخية يف بع�ض املراحل ،والتى ميكن
ي�شمل عدة ع�صور والعديد من ال�شخ�صيات بو�صفها عدها نوعا �رسديا قائما بذاته ،ميكن درا�سة ا�شكاله
�أحداثا بعيدة عنها ،بل بو�صفها حياة حا�رضة وتطوراته و�أمناط ا�ستدعائه لهذا التاريخ ،وهو ما
تعي�ش بها وعليها وخاللها ،وتردد �أقوالها وتتخذ ميكن �أن ن�ضنعه مع �أنواع �رسدية �أخرى تقوم على
مواقفها وجتعل منها منوذجا «مثاليا» ت�ستهدي تيمة «مو�ضوعية» واحدة كما يف الروايات التي
به يف حركتها و�رصاعاتها ،ولهذا ف�إن التق�سيمات تعالج عالقة ال�رشق بالغرب� ،أو مو�ضوعة عالقة
الزمنية املعهودة :املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل. الفرد بال�سلطة على �سبيل املثال.
لي�س لها وجود يف العقلية الأ�صولية ،فاملا�ضي هو غري �أن اجلديد يف رواية ا�ساطري رجل الثالثاء
الأ�صل الذي ينبغي �أن ي�ستمر و�أن يتكيف احلا�رض ل�صبحي مو�سى هو �أنها تقوم على وجود ثالثة
وامل�ستقبل على مقايي�سه ،وبناء على ذلك ف�إن هذا م�ستويات زمنية ميكن �أن نطلق على الأول زمن
املا�ضي يتجاوز كونه كما عهدنا ذلك كثريا حيلة الكتابة الفعلية التي �أنتهت كما ي�شري امل�ؤلف عام
فنية �أو قناعا تختبىء الذات وراءه� ،أو مو�ضوعا ،2008وزمن التاريخ املكتوب بوقائعه و�شخ�صياته
للت�أمل �أو للحنني ،بل �إن ال�شخ�صيات حتياه بو�صفها و�رصاعاته والتي تنح�رص كما ت�شري بع�ض ف�صول
جزءا منه وامتدادا له ،مما ي�ؤكد ح�س املفارقة بني الرواية ما بني عامي 1974و ،2001مع �إرتدادات
هذا الوعي املفارق واحلياة املعا�رصة بقوانينها قريبة ال تتجاوز حياة والد ال�سارد يف �شبابه وع�شقه
املختلفة وواقعها املغاير ،وهو ما يتولد عنه �أي�ضا البنة عمة وطرد الإمام له ،وحياة ال�شيخ /ال�سارد
الإح�سا�س بالإغرتاب �سواء داخل الوطن �أو بعيدا عنه او منقذه من ال�ضالل كما ي�صفة ،والذي ي�ستدعي
ويف�رس الإيقاعات امل�ؤقتة والرحيل الدائم من مكان بدوره حياة والده الفل�سطيني ،الأمر الذي ي�صل
لآخر ،واحلقيقة �أين �أحتدث هنا عن هذه ال�شخ�صيات بنا �إىل بدايات اال�ستيطان ال�صهيوين الفل�سطيني،
بعد انتظامها داخل فكرة اجلهاد دفاعا عن �أر�ض و�أخريا زمن املا�ضي البعيد امل�ستدعى ،والذي
امل�سلمني التى تنتق�ص من �أطرافها يف �أفغان�ستان يرجع �إىل ع�رص الر�سول وال�صحابة ،وميتد �شامال
على يد ال�سوفيت «املالحدة» ،ف�إن ال�سارد الرئي�سي الع�رصيني الأموى والعبا�سي و�صوال �إىل ع�رص
260 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
كما يف�سح املجال للغنائية ،ومن ثم ال�شعرية التي الذى �شهدت حياته حتوال جذريا بعد تعرفه على �أبي
تتجاوز فكرة االهتمام باللغة واملجاز اىل حيث �سعيد الفل�سطيني الذي كان على �صلة بوالد ال�سارد
ت�شمل امل�شهد واملوقف ال�رسدي ،كما يعد «االيقاع» وحلما معا بعامل �إ�سالمي موحد.
الروائى ت�أكيدا لهذه الغنائية ،وهو ما يتمثل يف و�إجماال ميكن و�صف ال�شخ�صيات املنتمية �إىل
تكرار بع�ض العبارات املحورية يف موا�ضع متفرقة املا�ضى البعيد �أو القريب ب�أنها �شخ�صيات مرجعية
من الرواية ،ومتاثل بنيه الف�صول ،حيث مالت حيث ترد ب�أ�سمائها احلقيقية والوقائع التاريخية
يف �أغلبها اىل الق�رص والتكثيف بالقيا�س اىل ما املعروفة التى �شاركت فيها ،كما ميكن و�صف
هو معهود يف الف�صول الروائية ،وال يخلو الن�ص �شخ�صيات الرواية امل�شاركة يف �أحداثها ب�أنها
الروائي «�أ�ساطري رجل الثالثاء» من طابع ملحمي �شخ�صيات «كنائية» ت�شري بو�ضوح �إىل �شخ�صيات
حقيقية لكنها ال حتمل �أ�سماءها ال�رصيحة ،فهي
يتمثل يف تلك الهجرة متعدده االقطار والقوميات
�أقرب �إىل ال�شخ�صيات املخلوقة �أو ال�شخ�صيات
التي ال ي�ضم �أ�صحابها �سوى ما يعرف باالممية
الورقية بتعبريات روالن بارت ،وهذا يعني �أن
الإ�سالمية كي تت�أكد هذه امللحميه من خالل ح�س
الرواية جتمع بني احلقيقي والتخيلي �أو بني ما
املجازفة واملغامرة التي يبديها ه�ؤالء املجاهدون �سماه د .ر�شيد يحياوى بال�رسد التخيلى املمثل يف
الذين يواجهون �آلة ع�سكرية �ضخمة ب�إمكانيات الأ�ساطري واخلرافات وال�رسد غري التخيلي كما يبدو
قليلة. يف �أدب الرحالت واليوميات واملذكرات وتقارير
تبدو عالقه ال�شخ�صيات بال�سلطة عالقة �رصاعية احلروب مع مالحظة �أن هذا النوع ال يخلو متاما من
�سواء كانت �سلطات حملية �أو �أجنبية ،وهو ما يظهر �أثر اخليال(.)1
هذا التعدد الذى نراه على م�ستوى الزمن
وال�شخ�صيات جنده كذلك على م�ستوى الأ�سلوب
ال�رسدي ،مما يحقق ما ا�سماة باختني بـ
«البولوفينية» ،فرغم �أن الرواية م�رسودة ب�ضمري
املتكلم من خالل ال�سارد الرئي�س الداخلي امل�شارك
يف الأحداث ف�إن معرفته تقرتب من معرفة ال�سارد
اخلارجي العليم ،مما �أتاح له �إمكانية �رسد ق�صة
والده يتقريعاتها املختلفة و�أحداثها الغريبة ،كما
اتاح �أي�ضا التعدد الأ�سلوبي حيث ميكن التمييز بني
ثالثة �أ�ساليب � :أ�سلوب ال�سارد يف �شبابه وهو ب�شكل
املنت او النغمة الأ�سا�س على مدار الرواية ،و�أ�سلوب
ال�سارد يف �شيخوخته ،و�أ�سلوب �أبي �سعيد الذي كان
يتناوب ال�رسد مع ال�سارد الرئي�س يف بع�ض الف�صول
الروائية.
وال �شك �أن غلبة �ضمري املتكلم ب�صورة �شبه مطلقة
يجعل الرواية �أقرب اىل ما ي�سمى برواية ال�شخ�صية،
261 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
املوا�ضع �إىل املروي عليه من قبل �أحد ال�شخ�صيات من ق�صة والد ال�سارد الذي حالت قوة املال والنفوذ
املحايثة له يف ال�رسد ،ومل يكن ذلك مراعاة لفنية بينه وبني الزواج من ابنة عمه ،كما يظهر يف هذه
الرواية فح�سب بل و�سيلة لتعرية هذه ال�شخ�صيات الق�صة ذاتها تراتيب ال�سلطة ،حيث تتال�شى �إراده
و�سرب �أغوارها من خالل املوقف وال�سلوك والقناعة �شيخ القبيلة وابنه �أمام �إرادة الإمام ،وي�صبح والد
الفكرية ،و�صنع جمموعة من التقابالت الالفتة ال�سارد هو مو�ضوع القهر الوحيد ،حيث يتم تر�ضية
بينها كما يف حالة «ال�صباح» و«�أبي عبدالرحمن» �شيخ القبيلة وابنه بامتياز الرعي يف �أر�ض جديدة،
حيث يبدو الأول برجماتيا ال يرى حرمانية يف بينما �أ�ضاف الإمام «امليمونة» /الفتاة مو�ضو
زراعة «اخل�شخا�ش» وبيعه ،يف حني يبدو «�أبي ال�رصاع �إىل جواريه املائتني والت�سعني ،ومل يبق
عبد الرحمن» مثاليا ي�ؤمن ب�رضورة ات�ساق ملحمد /والد ال�سارد �سوى ما ي�شبه حتديد الإقامه
الو�سيلة والهدف حتى �أ�صبحت �شخ�صيتة �أقرب �إىل على م�سالك ال�صحراء ،منتظرا االجانب ذوي العيون
ال�شخ�صية «النمط» التي تتجاوز وجودها التاريخي الزرقاء والب�رشه الثلجيه كى يدلهم على الطريق �إىل
املتعني �إىل الوجود يف «الوعي» ،فهي يف ت�صوري م�ساعدي الإمام ،ويح�صل منهم على طعامه و�رشابه
�شبيهة �إىل درجة كبرية ب�شخ�صية دون كي�شوت الذي ودراهم يرتكونها من �أجله ،و�إن مل ي�أتوا فعليه �أن
خرج يحارب العامل احلديث بقيم الع�صور الو�سطى، ي�أكل الرمل واحل�صى دون �أن يربح مكانه.
ومل يكن حب «�أبي عبدالرحمن» للخري من قبيل �أما ال�سلطة «املعوملة»ـ �إن �صح الو�صف والتي
امل�صادفة ،بالإ�ضافة �إىل �إميانه بخواء احل�ضارة متثلت يف القوة ال�سوفييتية ثم القوه االمريكية فقد
احلديثة التى لن ينقذها طبقا لقناعته �سوى القيم كان عداء اال�صولية الإ�سالمية لها �شديد الو�ضوح،
الإ�سالمية حتديدا ،الفرق الأ�سا�س بينه وبني دون غري �أن تعمق االمر يك�شف عن �أن هذه اال�صولية
كي�شوت �أنه مل يعرت�ض على توظيف �إمكانيات مل تكن �أكرث من �أداة يف يد القوى الكربى ،و�أما
القوى الغربية وتوظيف ر�أ�س «املال» ال�سيا�سي يف ا�رصار �أبي عبدالرحمن /ال�سارد الرئي�سي على �أن
�سبيل حتقيق ما ي�ؤمن به من قيم. يكون تنظيمهم هو الذي يحدد وقت الهجوم على
ولعله كان من الالفت حقا �أن املثري الأ�سا�سى برجى التجارة العاملي لي�س �سوى �إ�رصار على �أمر
لهذه ال�شخ�صية وغريها من ال�شخ�صيات اجلهادية ثانوي و�شكلي ال مينع تبعيه التنظيم لهذه القوى
متثل يف �صورة اال�ستعمار التقليدي القدمي القائم التي اعرتفت ب�رضورة التعاون معها وتوظيف
على احتالل «الأر�ض» بالقوة الع�سكرية ،مبا يعني امكانياتها العلمية واملخابراتية ،كما كان ذريعة
عدم جتدد وعي هذه ال�شخ�صيات بحيث يدرك قويه لت�سويق امليديا الغربية لنموذج الإرهابي
�أمناط اال�ستعمار اجلديد الذي وقعت يف �رشاكة امل�سلم الذي يهدد ال�سالم العاملي.
و�إكتفت ب�شكليات «الهوية» كما تراها ،مما يدفعنا وعلى الرغم من �إغراء هذه املو�ضوعية الفكرية
�إىل القول �أن اال�صولية على هذا النحو مل تعد لها لفكرة االدانة �سواء لهذا الطرف �أو ذاك� ،أو حتى
داللة امل�رشوع الن�ضايل «احلقيقي» حني كانت جمرد التعليق ،فان الكاتب مل ينزلق لغواية هذا
امل�ستعمر ( بفتح امليم) �ضد اجلهود
َ ملج�أ يحتمى به «احلجاج» الأيديوجلي وذلك بتغييبه لو�ضعية
اال�ستعمارية الرامية اىل طم�س معامل «الرتاث وم�سخ الراوي العليم الذى ي�صدر الأحكام ويقيم �سلوك
الهوية» ()3 ال�شخ�صيات و�أفكارها ومواقفها ،وا�صطناع و�ضعية
لقد حولت الأ�صولية ال�رصاع من كونه �رصاع بني الراوي امل�شارك يف احلدث والذي يتحول يف بع�ض
262 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
واملنخل الي�شكري وغريهم» �ص ،22وهى مقدمات اال�ستقالل والتبعية كما هو حادث حقيقة �إىل �رصاع
مل تكن تنبىء مبا �سوف ت�ؤول �إليه حياته على يد دينى بني الإ�سالم والإحلاد يف �رصاعها مع القوى
�أبي �سعيد ،غري �أن �شخ�صية ال�سارد حتى وهي على ال�سوفييتية،ثم بني الإ�سالم وامل�سيحية يف �رصاعها
هذه ال�صورة الالهية كانت حتمل من ال�سمات ما مع القوى الأمريكية ،ناهيك عن ال�رصاعات املذهبية
ي�ؤهلها حلياة الزهد واجلهاد التى عا�شها فيما بعد، داخل اال�سالم نف�سه طبقا لر�ؤى بع�ض التنظيمات،
وك�أن هذه احلياة الالهية هى الغواية التى يهرب فهل ميكن القول ب�أن ال�رصاع الذى يحكم الرواية هو
بها من حقيقة نف�سه كما يظهر يف قوله «ك�أنني ما �أطلق عليه روجيه جارودي «�رصاع الأ�صوليات»
كنت �أود الهرب من نف�سي� ،أود �أن �أ�صبح �شخ�صا ال التى مل يجعلها قا�رصة فقط على الأديان بل جعلها
�أعرفه ،لكنه ي�شبه �أبي و�أمي وعمارة واملنخل وكل ت�شمل ما �أ�سماه ب�أ�صولية «العلم» بتقنياته اجلازمة
من �سمعت عنهم يف الق�ص�ص ،كنت يف نهاية الليل ورف�ضة لأمناط املعرفة املخالفة لقوانينه؟
�أقود العربة كرمح انطلق من قو�سه» �ص ،25ولعل هذا �س�ؤال ميكن اختباره من خالل الرواية ،خا�صة
هذا االقتبا�س يو�ضح �أننا �أمام �شخ�صية تعي�ش �أن هذة النزعة الأ�صولية اليقينية ظلت من ال�سمات
خياالتها و�أحالمها �أكرث مما تعي�ش حقيقتها وال فرق التى ت�سيطر على العديد من الف�صائل الدينية
جوهريا بني خياالت و�أحالم هذه احلياة الالهية وال�سيا�سية وتدفعها �إىل ا�ستخدام القوة حتت دعاوى
وخياالت و�أحالم مرحلة حلم الدولة الإ�سالمية، ومربرات خمتلفة ،ولنت�أمل هذه الوقائع التي
يكفي �أنه كان يعي�ش ما ي�سمعه من ق�ص�ص يف تزخر بها الرواية والتي تكاد حتمل داللة واحدة
املرحلتني ،فلم يزد على �أنه ا�ستبدل ب�شخ�صيات رغم اختالف الدوافع واملربرات :الغزو ال�سوفييتي
املرحلة الأوىل �شخ�صيات جهادية تنا�سب املرحلة لأفغان�ستان ،الغزو العراقى للكويت ،اقتتال اجليو�ش
الثانية ،على �أنه من املفيد �أن نت�أمل الت�شبيه الوارد العربية على �أر�ض اليمن ،ا�ستدعاء القوات الأمريكية
يف االقتبا�س ال�سابق حني يقول «كنت يف نهاية للمنطقة العربية ،بحث تنظيم القاعدة عن �أكرث
الليل �أقود العربة كرمح انطلق من قو�سه» فهي الدول تهيئة لإقامة دولة �إ�سالمية تكون منطلقا
�صورة جتمع بني منتجات احلداثة والوعي البدوي لتكوين عامل �إ�سالمي يتجاوز الأقطار والقوميات،
الذي يعي�ش زمن الرمح والقو�س ،مما يعمق القدرة الغزو ال�صهيوين اال�ستيطاين لفل�سطني.
ال�سابقة عن انف�صال الوعي واالحالم واخلياالت عن واحلقيقة �أن الو�صول �إىل «الأ�صولية» الإ�سالمية
واقع احلياة ،مما يدفعنا �إىل القول عموما �أنه لي�س حتديدا ميثل رحلة وعي �شاق تتوازى مع رحلة
من الإميان بايدولوجية ما فح�سب بل احلوار معها �أ�صحابها �أق�صد هذه الأ�صولية �إىل افغان�ستان
الكت�شاف تناق�ضاتها ،ومل يكن التو�سري مبالغا حني وغريها من الأماكن بحثا عن �إمكانيات حتقيق
جعل االيديولوجيا عندما تدخل يف �سياق املقد�س «حلم» العامل الإ�سالمي الواحد ،ف�إذا ما توقفنا �أمام
– مناق�ضة للعلم ،وهذا بالفعل ما ي�سم الأ�صوليات ال�سارد الرئي�سي منوذجا جنده قد مر بطفولة ناعمة
الواردة بالرواية �سواء كانت �إ�سالمية �أو غري و�شباب الهٍ يقول عنه «مل �أكن راغبا يف �أق�صى من
�إ�سالمية ،وبهذا املعنى ي�صبح من الوارد ان يتباهى هذا ،ف�أطياف املحبني الذين همت بهم ميكنني �أن
ال�سارد يف �شيخوخته مع �شخ�صية الر�سول في�صبح �أراها يف البارات وال�صاالت والعرى املنت�رش بطول
الكهف �أ�شبه بالغار ،وي�صبح ما ينطق به �إلهام ًا البالد وعر�ضها (يق�صد مدينة لندن) ميكنني القب�ض
اقرب �إىل الوحي على نحو ما يظهر من هذا احلوار على ب�شار وعمرو بن ربيعة وعمارة بن الوليد
263 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
يقول وا�سيني الأعرج» �أكرث الأ�شكال الفنية جر�أة، بينه وبني جمد الدين «قلت :تريد قاعدة ال�ستقبالهم
وال مقد�س لديها مبا يف ذلك �شكلها الأدبي اخلارجي وتدريبهم ثم توجيههم �إىل �أماكن القتال؟ قال
الذي يتحول با�ستمرار بنيوياً ،تاركا مكا�سبه االوىل :بال�ضبط :قاعدة! ثم �ضحك� ،س�ألته عالم ال�ضحك؟
وفتوحاته للتاريخ « ( )4ومن هنا يتجاور يف هذه قال :كنا نتحدث �سيدي عبداهلل و�أنا عن هذا احللم
الرواية ال�رسد التاريخى الذي يقوم على ر�صد ومل جند الكلمة التى تعرب عما نحلم بها ،وها �أنت
معلومات حقيقية ،وال�رسد التخييلي ،و�رسد الأحالم قد نطقت بها ،قلت :م�صادفة ت�ستحق ال�ضحك حقا،
التى يعي�شها ال�سارد الرئي�سي ،وال�رسد القائم على قال :بل الإلهام» �ص ،137ويف مو�ضع �آخر ي�صبح
التوهمات ،ومن ذلك قوله «ر�أى التماثيل ت�سعى دعا�ؤه �شبيها بدعاء الر�سول «اللهم �إن مل يكن بك
وتتحرك ك�أنها متار�س احلياة ،دقق يف وجه واحد غ�ضب على فال �أبايل» �ص ،327وي�صبح املهدي
منها فوجده ال�سلطان عبد احلميد جال�س ًا على املنتظر عند ال�شيعة موازي ًا حللم الدولة الإ�سالمية
عر�ش اخلالفة يف الأ�ستانة و�أمامه جمال الدين عند الأ�صوليه اجلهادية ،بل �سببا رئي�سا من �أ�سبابها،
الأفغاين» �ص ،122فبغ�ض النظرعما يقال �أن�سنة لأنه هو الذى �سيملأ الأر�ض عد ًال بعد ان ملئت جورا.
اجلمادات وتوظيف تقنيات الفن ال�سنمائي ،ف�إن كما ي�صبح الت�أويل اخلاطىء �أيديولوجية �سلطوية
الأمر كله يقوم على ال�رسد التوهمى الذى يعي�شه زائفة تقوم على توظيف الآيات القر�آنية ل�صاحلها،
ال�سارد بو�صفه واقعا حقيقيا ،كما �أنه ي�ساعد على فحني �شاور املن�صور �أ�صحابه يف قتل �أبي م�سلم
�آلية االنتقاالت الزمنية املتباعدة حيث �أمكنه من اخلر�ساين قالوا «لو كان فيهما �آلهة غري اهلل لف�سدتا»
خالل هذه احليلة الفنية االنتقال �إىل زمن ال�سلطان �ص ،116وحني بلغ مو�سى الهادي نب�أ مقتل
عبد احلميد وجمال الدين الأفغاين ،وهو ما يتوازى �إبراهيم بن عبداهلل قال «اهلل يعلم �أنهم �أحق بها منا،
مع ما �أ�رشت �إليه من �آلية االنتقاالت املكانية،حيث لكنه امللك ............ولو جاءنا ر�سول اهلل وحاربنا
حتولت الأماكن كلها �إىل جمرد �إقامات عابرة. عليه حلاربناه وقتلناه» �ص.116فنحن هنا امام
و�أخريا فنحن امام رواية متميزة ت�ؤكد من خالل عملية �إ�سقاط لوحدانية اهلل على اال�ستبداد والإنفراد
مو�ضوعها وت�شكيلها خ�صو�صية الرواية العربية، بال�سلطة ولي�س �أدل على ذلك من قول احلرا�س الذين
وت�ستحق املزيد من القراءات النقدية التى ت�ستك�شف قتلوا �أبا م�سلم اخلر�ساين للمن�صور «الآن �أ�صبحت
جمالياتها املتنوعة والرثية. اخلليفة وحدك ال �رشيك لك» �ص117
�إن ما �أ�رشت �إليه من تعدد الأ�ساليب داخل الرواية
مراجع: ومزجها ل�سمات امللحمية وال�شعرية والدرامية التي
1ـ « ال�رسد و�أ�سئلة الكينونة» جمع و�إعداد حامت التهامي الفطنا�سي
�صـ 65كتاب دبي العدد 77فرباير 2013
تقوم على تقابالت ال�شخ�صيات و�رصاع القوى
2ـ « �أ�ساطري رجل الثالثاء» �صبحي مو�سى �صـ 16الهيئة امل�رصية املتباينة يجعلنا نقول �أن الرواية ب�صفة عامة هي
العامة للكتاب �سل�سلة كتابات جديدة. الفن الوحيد الذي ال �شكل له� ،أو بتعبري �آخر هي الفن
3ـ « �أثر الإرهاب يف الكتابة الروائية» خملوف عمر جملة عامل الفكر
�صـ 317املجلد الثامن والع�رشون العدد .1999 الوحيد الذي ال يعرف ال�شكل الثابت والنهائى فهى
4ـ « ال�رسد وا�سئلة الكينونة» �صـ 21مرجع �سابق. ن�ص مفتوح على الأجنا�س الأدبية والفنية� ،إنها كما
فحتى �أكرب ثراء لي�س �إال فقرا»� .ضد متعة االمتالك� ،إذن ال مراء �أن املدر�سة الأبيقورية ،ظلت ُت ْع َتبرَ ُ لقرون
يدافع �أبيقور عن متعة الوجود .يف احلالة الأوىل يكون طويلة منذ هورا�س حتى ديدرو ،مرورا مبفكري القرن
املرء عبدا للمال وال ي�ستمتع �إال وهو ي�ستهلك ويتب�ضع، ،17الأحرار ،مدر�سة املتعة بامتياز .لكن خلف هذا
َي ُحوز و ُي َراكم الب�ضاعة ،بينما يف احلالة الثانية بقدر االعتبار ،تتجلى ن َّية مغر�ضة ،تبغي النيل ما �أمكن من
ما نكون مكتفني بدواتنا ،بقدرما ن�ضاعف من فر�ص فل�سفة �أبيقور التي ال ميكن ح�رصها بتاتا يف جمرد هكذا
التواجد ال�سعيد واملرح يف العامل ،مما يعني �أننا بذلك و�صف .ذلك �أن �صاحب الب�ستان مل يكن يف واقع احلال،
نقل�ص من احتماالت التعا�سة و َن ُح ُّد من �إمكانات مييز املتعة عن احلرية.و�إذا كانت املتعة بالن�سبة �إليه
الب�ؤ�س .ف�ضال عما �سلف ،يلزمنا الإ�شارة �أي�ضا� ،إىل هي «�أ�سا�س حتقق اخلري الأ�سمى وبلوغ ال�سعادة «(،)1
�أن خلف حكمة التزهد ،التي ات�صف بها �أبيقور ،ثمة فاحلرية على حد تعبريه هي « :ثمرة االكتفاء الذاتي،
ا�سرتاتيجية ناجعة ،هي ا�سرتاتيجية تفادي الأمل ،التي الأكرث �أهمية»( .)2من ثمة يتبدى �أن اال�ستلذاذ عنده،
عليها تقوم �سيا�سة احلمية املقرتحة جتاه امللذات. م�رشوط قبل كل �شيء �آخر ،باالكتفاء الذاتي ،باعتباره
وهي �سيا�سة متكن �صاحبها من رف�ض لذة تكون مبد أ� فل�سفة احلكيم .والأكيد �أن هذا املبد�أ ،ولئن
مكلفة وباهظة الثمن باعتبارها تجَ ُ ُّر معها عذابات كان البع�ض يربطه بالتزهد ،فهو بالأ�سا�س مو�صول
ال حت�صى .يقت�ضي الأمر ،حتى تغدو احل�صيلة مفيدة، باحلرية .كيف ال؟ ،واحلاجة التي جتعلنا مرهونني
�أن نتقن فن احل�ساب بحيث ُت َر َّجح كفة املتعة على بالغري ،هي يف غالب الأحوال� ،أ�سا�س ا�ستعبادنا
ح�ساب كفة الأمل ؛مما ُي َي�سرِّ علينا بالتايل م�أمورية وعالمة �ضعفنا .على هكذا نحو ،ي�رص �أبيقور� ،صيانة
القبول �أو الرف�ض ،املوافقة �أو العدول .هذا من جهة، للذات ودرءا خلطر العبودية ،على نهج الع ّد الريا�ضي،
لكن هذه الإ�سرتاتيجية ،ال تتوقف عند هذا احلد ،بل القائم على مبد أ� ت�صنيف الرغبات وبالتايل حِ �ساب
ت�ستدعي كذلك ،تعديل عالقتنا بالزمان ،والتحكم ما امللذات حاملا رغبنا يف �إتيانها.كل ذلك ،الغاية منه،
�أمكن يف �أبعاده خا�صة املا�ضي منه وامل�ستقبل �.أما �إمنا هي تفادي التعا�سة والعي�ش على نحو مرح ،مادام
احلا�رض ،فهو جوهر كينونة احلكيم ،والت�شبث به لب �أنه ثمة مابني امللذات والعذابات عالقات مت�شابكة،
الق�ضية .ف�إذا كان التذكر ،يجعلنا ملزمني با�ستح�ضار لي�س فح�سب لأن بع�ض املتع قد تنقلب �إىل �ضدها ،بل
فرتات م�ضت ،والرجاء يدفعنا �إىل ترقب الآتي ،فقوة لكونها تكاد تفقدنا التناغم القبلي ال�رضوري لبلوغ
احلكيم ،تتجلى يف قدرته على التحكم يف ت�صوراته، حالة الهدوء �أو ما يدعوه هو نف�سه بالأتراك�سيا.يجب
�سواء منها ما تعلق باملا�ضي �أو بامل�ستقبل .عليه �أال على املرء �إذن �أن يعمل على ح�رص رغباته ،مبقيا منها
يتذكر مثال� ،إال ما هو ممتع وين�سى كل ما هو مقلق فقط على تلك الطبيعية وال�رضورية ،على اعتبار �أن
.وعلى نف�س املنوال ،ينبغي له �أن ال يرتقب �إال ما الفقر ،بالن�سبة لأبيقور ،لي�س يرجع بالأ�سا�س �إىل ندرة
يفيده مرحا وفرحا .مثلما عليه� ،أي�ضا �أن ينغم�س يف الأ�شياء �أكرث مما يرجع �إىل االحتياجات الغري الطبيعية.
حا�رضه ،و�أن يعي�ش كل يوم بيوم ،وكل حلظة بلحظة، «فكل امتالك ،ثراء بالنظر �إىل ما نحن بحاجة �إليه
وفق �شدرة هورا�س ال�شهرية �« ،Carpe diem:أقطف بحكم الطبيعة ،لكن بالنظر �إىل الرغبات الالحمدودة،
265 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
�أحوج ما نكون لنظريته املتعوية املادية ،للخروج نهارك» .علينا �أن نُ�شَ ِّغل عقولنا ،و�أن ُن َف ِّعل منطق
من م�أزق الالهوت �أوال ،واالنفالت ثانيا من �سطو الإرادة جتاه ال�رضورة ،و�أن ُن َل ِّق َح الطبيعة بالثقافة.
الإيديولوجية الليربالية وبراثن الأ�رس االجتماعي.على كل ذلك ،من �أجل �أن نطرد من النف�س كل ما ي�ستعبدها،
هذا النحو ينبغي �أن نعرف� ،أنه مل يكتف بالت�أ�سي�س و من اجل�سد كل ما ي�ؤمله .ع�ش �إذن وفق الطبيعة ،ال
للزمان وفق ميتافزيقا اللحظة احلا�رضة ،بل تعدى وفق �آراء الدوك�سا.هذه هي ن�صيحة احلكيم ،على اعتبار
ذلك ،ف�صاغ �أ�سلوبا فريدا لفن اال�ستلذاذ ،و�أقام نوعا �أن من يعي�ش وفق الأوىل لن يعرف معنى العوز يف
من العالقة التعاقدية النفعية لتي�سري اال�ستمتاع على حياته ،لكن من يعي�ش وفق الدوك�سا ،لن يذوق مهما
نحو متبادل ،ناهيك عن انت�صاره للتحرر الن�سوي على طال به العمر ،طعم الغنى.مع�ضلة العامة ،تتجلى يف
قوامه ال يجب �أن يكون ثمة من فرق مابني اجلن�سني: كونها تعي�ش على اخلرافات وال�شائعات ،وال ترغب
الأنثى والذكر .مثلما نهج� ،أي�ضا ،منطا من االبتكار بالتايل يف �أن ُت َغيرِّ جلدها.و�إذا �صح القول ب�أن كل
الذاتي املرهون بفن العزوبية ،فلم ُي ْع َرف عنه �إطالقا اعتقاد �سجن ل�صاحبه كما �أكد نت�شه ،ف�أبيقور ،يتقاطع
�أي اهتمام بالأ�رسة ،ومل يتزوج قط ،معتربا احلب مع �صاحب فل�سفة املطرقة يف مهمته املثلى التي هي
�سيما منه العاطفي� ،أ�سا�س العذاب والفو�ضى وفقدان هدم الأوثان .كالهما ،عا�شق للحرية حتى النخاع،
احلكيم حلالة الأتراك�سيا لب وجوده من حيث هو كذلك. وال ي�ستطيع �أن ي�ساوم على ح�سابها .لذلك ،مترد كل
واحلالة هاته ،ففي ع�رص عدمي مثل ع�رصنا ،ع�رص منهما ،على الثقافة ال�سائدة �أميا مترد؛ هذا �إن مل نقل،
مو�سوم ب�شتى الأمرا�ض ،بدءا من مر�ض الالهوت، �أن �صاحب الب�ستان قد �سبق �صاحب العود الأبدي ،يف
�أفيون ال�شعوب ،حتى مر�ض الت�سلط والهيمنة ،مرورا اختبار ،نهج التمرد وحمنة الهدم هاته ،بل �أكرث من
بكل مظاهر الغ�ش والنهم ،وال�سعي وراء ال�شهرة والربح ذلك فنت�شه هو من وجد نف�سه ،يغرف من فل�سفة �أبيقور
ال�رسيع�...ألي�س املذهب املتعوي املادي الأبيقوري، يف فرتة من فرتات عمره ،مدركا �أنها ما �سي�سعفه على
مبلج أ� �آمن؟ فالرجل ،جعل من الفل�سفة �إمكانا للعي�ش، ال�شفاء عندما انتابه املر�ض ،وعارفا ب�أن هذه الفل�سفة،
و من الأفكار ،نهجا للمقاومة .فهو من طينة �أولئك ال تتقل�ص يف معرفة عقيمة بل هي تقنية للعي�ش
الذين ينبغي لنا �أن نحياهم ال �أن نقر�أهم فح�سب .ذلك ت�سعف على اللوذ بحياة �سعيدة .لكن ما هي ال�سعادة
ما �أ�ست�شعره ،حاملا �أ�ستعيد ما تبقى لنا من ن�صو�صه بالن�سبة لطبيب نت�شه؟ �أال تكمن يف عدم اخلوف لي�س
�أو ن�صو�ص تالمذته وبالأخ�ص ق�صيدة لوقراتو�س. من الآلهة فح�سب بل وكذلك من املوت؟ من �أجل ذلك
بحيث �رسعان ما َت ْنطَ ِر ُح َعل ََّي �أ�سئلة عديدة ،من قبيل علينا �إذن �أن نعمل جاهدين على تبديد الأ�ساطري،
:كيف ميكن للعالقات العاطفية �أن تقوم؟ على �أي نحو التي تكاد تف�صلنا عن ذواتنا وت�سلب �إرادتنا .فلنتعاط
ن�ستطيع �أن نحب ،دومنا الإجهاز على حريتنا؟كيف الدواء ،ولنت�شبع بالفطنة ،التي هي بنظر �أبيقور �أف�ضل
ِّ�ص عالقاتنا اجلن�سية وغريها من احلزن والك�آبة؟ ُن َخل ُ من الفل�سفة ذاتها ،مادام �أن الفل�سفة عنده ،قبل �أن
كيف با�ستطاعتنا �أن نحيا �سعداء ،يف ظل �سيادة تكون فل�سفة متعة ،فهي فل�سفة حرية كما �أ�سلفنا
املنطق الليربايل الوح�شي ،وهيمنة لغة ال�سوق؟ كيف وذلك ب�أكرث من معنى� .أولها �أنها عملت على جمابهة
ميكننا �أن نقاوم �آليات التفقري وخمططات اال�ستعباد الأفالطونية وامتداداتها ،وثانيها كونها عار�ضت
التي نكابدها كل يوم ،وكل �ساعة؟ فكرة القدر التي �شكلت �صلب فل�سفة الرواقيني وثالثها
احلا�صل �أن روعة ن�صو�ص �أبيقور ،تتجلى �أول ما �أنها واجهت مبد أ� احلتمية الذي قال به دميقريط�س.
تتجلى ،يف كونها ن�صو�ص محُ َ ِّف َزة ،ب�سيطة لكن عميقة، و�إذا كان َه ُّم الرجل هو حترير النا�س من �أ�رس اخلرافات
�إنها �أ�شبه ما تكون بغداءْ � ،إن مل يقتلك ُيقويك .فهو املرتبطة بالدين ،وترهات الأعراف االجتماعية،
حينما يتكلم عن املتعة ،مييز ما بني املتعة ال�شعبوية فذلك لي�س �إال لأنه يدرك �أميا �إدراك� ،أنها �أكرب �أعداء
واملتعة امليتافزيقية ،قا�صدا التقعيد لنهج يف احلياة احلرية .هاهنا تكمن راهنية �أبيقور� .إذ ،نحن اليوم
266 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
جديد للحياة ،ت�صب يف ال�سعادة وتن�أى بنا عن احلزن . تتقوى فيه ذواتنا ،ويزداد معه كمالنا .فالنا�س ولئن
�صحيح �أنه مل يقل ب�أن الرب ال وجود له ،لكنه مع ذلك، كانت ترغب بطبعها يف اال�ستمتاع وتنزع نزوع
فقد َح َّد من جربوته .هكذا نالحظ كيف �أكد على �أن اال�ستلذاذ؛ فهي لي�ست على نف�س اخلط من حيث القدرة
الآلهة ،ال دخل لها يف �أمور النا�س ،و�أن الروح تفنى، على بناء الذات ونحث �أ�سلوب خا�ص يف احلياة .ملاذا؟
مما يعني �ضمنيا �أال وجود ال جلهنم وال للجنة ،وملَّا لأنها مل تت�سلح بعد مبا يكفي من حكمة ال�سعادة التي
كان الأمر كذلك ،فمن ال�رضورة مبكان ،التخل�ص من �ش َّيدها �صاحب الب�ستان ومل َت ْغرف قط من و�صفة الدواء
هاج�س اخلوف ،الذي م�صدره االعتقاد باملاورائيات الرباعي التي �أقرها �أبيقور .نورد هذا القول ،لأن كال
والإح�سا�س بالذنب يف كل ما نحن ب�صدد �إتيانه يف منا ينبغي �أن يعرث له يف م�ساره ،على �أ�سلوب يقويه
احلياة� .إن الرجل وا�ضح يف ت�صوره للكون وما ينبغي ونهج ي�سعفه على املزيد من ال�سعادة يف الوجود.ذلك
�أن تكون عليه ت�صوراتنا جتاهه ،دومنا لف �أو دوران. �أن ق�رص احلياة وعدم قابليتها للتكرار ،تفرت�ض منا �أن
وثمة خطورة مذهبه املادي والذري ،على اعتباره نحرت�س ما �أمكن يف كل �أمور الدنيا ،و �أال ننقاد دومنا
ككل املذاهب املادية ،ال ي�ست�سيغ القبول بالرتهات �إعمال للفكر ،وراء ال�شائع من اخلرافات وال�سائد من
الدينية .لذلك �أي�ضا ،يقول عنه نت�شه يف كتابه �ضد االعتقادات .علينا �أن منار�س حقنا يف االرتياب و�أن
امل�سيح « :علينا �أن نقر أ� لوقراتو�س ،حتى نفهم� ،ضد نعمل ما �أمكن على و�ضع كل الآراء يف حمك ال�س�ؤال،
من كان �أبيقور يت�صارع �.إنه مل يكن ي�صارع الوثنية، و�أن ُن َغ ْر ِبلَها مب�صفاة ال�شك .يف هذا ال�سياق ،واعتبارا
بل امل�سيحية ،باعتبارها ما يف�سد النفو�س بوا�سطة لقيمة احلياة �أوال ،و لغالء كل حلظة من حلظاتها ثانيا،
مفاهيم اخلطيئة والعقاب واخللود»( .)3وعلى نحو ما يدعونا �أبيقور �إىل العي�ش دومنا عراقيل �أو م�ضيعة
فعل �صاحب �أفول الأ�صنام ،عمل �أبيقور على �إ�سقاط للوقت ،وفق و�صفته الرباعية ال�شهرية ،التي تتلخ�ص
الأوثان واحدا تلو الآخر ،كا�شفا عن زيف الأقنعة ،و فيما يلي :
مفندا �إيديولوجيا غريزة املوت« .فاملوت الذي يبدو �-1إن الآلهة ال تكرتث ب�أمورنا وال ينبغي لنا �أن
مرة �أخرى� ،أخطر ال�رشور ،لي�س �إال وهما ،لأنه لي�س نخ�شاها .
يحلُّ ،فاحلياة ال
�شيئا طاملا احلياة ت�ستمر؛ لكنه حاملا ُ -2علينا �أال نهاب املوت ،مادام �أنه عندما منوت ال
توجد بعد :هكذا فال �سلطان له ال على الأحياء وال على وجود لنا بعد.
الأموات ؛ الأوائل ال يح�سون برعبه بعد ،بينما الآخرون �-3إن الرغبات الطبيعية (كاجلوع والعط�ش والوقاية
يف من�أى عن كل ت�أثريه ،لأن ال وجود لهم بعد»(.)4 من الربد )...رغبات �سهلة الإ�شباع ،بل حتى عدم
املوت ،طبعا ،جمرد رعب ،يزرعه التيولوجيون يف �إ�شباعها (وهذا حال الرغبة اجلن�سية �سيما عندما ال
�أذهاننا ،و ُي�سكنونه يف ت�صوراتنا ق�صد النيل من يكون لدينا ع�شيق/ع�شيقة ،يف امل�ستوى) ال ي�ؤذي (وقد
قدراتنا يف الوجود ،والتقلي�ص ما �أمكن ،من فر�ص نلج أ� �إىل الريا�ضة �أو الأعمال اليدوية للتخفيف من
احلياة ال�سعيدة حيث تزداد قوتنا وتنفتح �أمامنا حدتها).
�إمكانات جديدة للعي�ش� .إن الوعاظ الدينيني و�أن�صار �-4إن الآالم احلالية بو�سعنا الق�ضاء عليها وتبديدها
الالهوت ،إ� ْذ يكرهون العقل واملعرفة ويعار�ضون كل بف�ضل الذكريات اجلميلة.
تقدم طبي �أو تطور علمي وينبذون املتعة و الفرح، ومن خالل هذا ،العالج ،الذي نحته ديوجني الإينواندي
فذلك لي�س �إال لأنهم �أ�سعد ما يكونون باجلهل وال�شقاء حوايل 120م ،على حائط (طوله 80م وعلوه 4م
؛ و�أنعم ما يكونون بالت�أخر والتخلف؛ وال عجب يف وعر�ضه 1م) ببلدة �إينواندا التي تقع على بعد 45كلم
ذلك ،لأن من طبيعة الأمور� ،أن تنقلب �إىل �ضدها، يف ال�شمال ال�رشقي ملدينة فتحية برتكيا ،وذلك بغاية
�سيما حاملا يي�أ�س املرء من ال�شفاء ،و ال يلقى بديال �إ�شفاء النا�س من �أوهامها ،قلت من خالل هذا العالج،
ال�ستعادة ال�صحة .على �إثر ،هكذا نزوع مر�ضي ،ومن يتبدى �أن �أبيقور ،كان يروم عرب فل�سفته التقعيد لفهم
267 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
احلاذق ل�صاحب الب�ستان ،القائم على مناه�ضته لفكرة فرط الهذيان التيولوجي ،اب ُتكِرت الآخرة بتفخيماتها
القدر التقليدية ،انت�صارا للحرية الإن�سانية�.آيته يف حتى ال يبقى �أحد من بني �آدم ينظر �إىل الواقع كما
ذلك ،كون القول بال�رضورة املطلقة ،تف�سد الأخالق ،و هو ويلتفت �إىل َق َدره مواجها �إياه وجها لوجه .و�إذا
جتعل �أنف�سنا يف ا�ضطراب و�أمل م�ستمر�.إن للحرية �أعداء كانت امل�سيحية على حد تعبري نت�شه ،وعلى مقا�سها
بنظر احلكيم�.أولها القدر ،ثانيها الإكراهات الطبيعية � -أ�ضيف -كل �أديان التوحيد» ،يف �أم�س احلاجة
التي نحن م�شمولني بها .ثالثها اخلرافات التي ن�ؤمن للمر�ض متاما مثلما احل�ضارة الهلينية كانت يف
بها .بدهي �إذن �أن يت�صدى لفكرة ال�رضورة ،بحكم �أنه �أم�س احلاجة لل�صحة» ؛ف َه ُّم �أبيقور ،خالفا لذلك ،هو
لي�س ثمة من �رضورة للعي�ش وفق ال�رضورة.مثلما هو �أن يجعل كل واحد منا يعي�ش «ك�إله بني الب�رش»(.)5
بديهي �أي�ضا �أن يناه�ض كل قول بالعناية الإلهية �إذ لذلك مكث يف�رس الطبيعة وي�رشح الأخالق ويو�ضح
»:لي�س هنالك بالتايل �أي �شيء ميكنه (يق�صد الكون) قواعد املعرفة .فعمل ،على تفكيك �رصح التيولوجيا،
�أن يتحول �إليه ،مثلما لي�س هنالك �أي �شيء خارجه، التي با�سم الرب �أجربت الإن�سانية على الزحف ،وبا�سم
ميكنه �أن ُي ؤَ�ثِّر عليه ،ف ُي َغيرِّ ه»( )7؛ وبالتايل فالرب الأخالق قادتها من �أنفها طيلة قرون .كيف؟ بتبنيه
ال دخل له مبجريات العامل ،ولي�س ين�شغل يف �شيء لت�صور مادي للكون ،ين�سحب فيه الرب من عامل الب�رش،
بهموم الب�رش حتى يعاقبهم �أو يحا�سبهم�.أما الروح، فال يكرتث يف �شيء لأمرهم .البد لنا �إذن ،ا�ستيعابا
فلئن كان ُيق ُِّر بوجودها ،فهو مافتئ ،خالفا لأفالطون لفل�سفته� ،أن ن�ستح�رض ،نظرته الذرية للكون ،و�أن
كما لأر�سطو ،يلح على �أنها ذات طبيعة ذرية �أي �أنها نفكر معه ،كفزيائي وطبيب ،كعامل ميكانيكا و�ضليع
لي�ست كائنا ال ج�سميا ،على اعتبار �أن الفراغ وحده يف الأخالق ،لأن يف عامل �أبيقور ال�شيء يوجد خارج
هو الالج�سمي.بناء عليه ،فال وجود لغائية من وراء املادة والفراغ اخلالدين.كل �شيء عنده خا�ضع لقدر
خلق الكون ،والروح متوت لأنها ج�سم مركب من ذرات التن�سيق البنيوي.ذلك �أن الكون ،بح�سبه قدمي و�أزيل،
قابلة لأن تنحل؛نقطة �إىل ال�سطر.معنى ذلك ،ملن يرغب �أي �أن العامل كان و�سيبقى دائما مثلما كان «فال�شيء
يف املزيد� ،أن حقيقة هذا العامل� ،إمنا تكمن فيه ،وال يولد من ال�شيء ،لأنه لو كان بو�سع الأ�شياء �أن تولد
ينبغي علينا �أن نبحث له عن علة خارجة عنه.فليذهب دومنا حاجة للبذور ،لكان بو�سع كل �شيء �أن يولد من
جتار املاورائيات� ،إذن �إىل اجلحيم ،لوحدهم� ،أما من كل �شيء «( . )6هذا املنطق ال ِعلِّي ،جعله كذلك يلح على
�سرب �أغوار احلكمة الأبيقورية ،فال خوف عليه وال هم �أن الكون مل ُي ْخلَق بال�صدفة مثلما زعم دميقريط�س ،بل
يحزنون ؛لأنه كعا�شق لقدره ،ال يعرف يف هذه احلياة، كان نتيجة اجلاذبية ،التي هي ال�سبب يف �سقوط الذرات
كما �أكد �أبيقور يف �شذرة له� ،إال «�أن يتفل�سف و�أن («�شتاء الذرات» بتعبري لوقراتو�س) ،من �أعلى �إىل حتت،
ي�ضحك و�أن يهتم ببيته». على نحو م�ستقيم .فحدث �أن انزاح بع�ضها عن امل�سار
الهوام�ش: العمودي ،مما �أدى �إىل وقوع الت�صادم� ،أو «الكلينامني»
Epicure à Ménecée ,128, Traduction par ( )1 بلغة لوقراتو�س ،لت�صاغ بالتايل ،حلمة الوجود على
.)Jacques Georges Chauffepié,Lefevre,1840(pp.487-493
.Sentences Vaticanes,77 ()2 نحو ما هي عليه وتت�شكل الظواهر.يف هذا املبد�أ ،الذي
Friedrich Nietzsche, L’Antéchrist,traduit de () 3 هو الكلينامني� ،أو انحراف الذرات ،يعرث �أبيقور على
.l’allemand par Jean-ClaudeHémery,Aph.58.éd. Gallimard
. Epicure à Ménecée ,125 ()4
�ضالته ،لتف�سري مبد أ� احلركة احلرة ،التي ُت َك�سرِّ قوانني
.Idem, 135 () 5 القدر ،وتف ِّند مبد�أ ال�رضورة الدميقريط�سي� .ضد النزعة
(Lettre à Hérodote,38. Trad. par Octave Hamelin,Revue )6 امليكانيكة الذرية ،التي تقر باحلتمية الفزيائية ،نرى
.de Métaphysique et de Morale,18,1910.P.397-410
.Idem.39 () 7 �أن �أبيقور ،هو �أول من قال بالالحتمية� ،أو ما ي�سمى
اليوم باالحتمال .املغزى واملراد �إمنا هو التب�رص
نظر القارئ املدقق �إىل الرتا�سل الداليل بني بنية يبدو ح�ضور اجل�سد يف ديوان (مثل �شفرة �سكني)
العنوان وح�ضور مفرداته يف ثالثة موا�ضع من املنت ح�ضورا طاغ ًيا مهيم ًنا ،بحيث
ً لل�شاعرة جناة علي
ال�شعري. ال ميكن لأية قراءة عميقة تنخرط يف ت�أمل الديوان
املو�ضع الأول يف ن�ص عدو امل�سيح: �أن تفلت من �أ�رس ذلك احل�ضور اجل�سدي بدرجاته
مل ين�شغل �أبدا بعيونها /التي انت�صبت من الرغبة املتفاوتة ،وتنوعاته املت�شابكة ،وعالئقه املتوا�شجة،
فيه /هي �أي�ضا ال تفهم /ما الذي ال يجعلها /حني بدءا من طبيعة اجل�سد البيولوجية وتورطه التاريخي ً
�شفرات� /صدئ ًة ب�صدرها /تربط بينه وبني« / ٍ تنزع مع ح�سا�سية اللحظة الراهنة ،حيث القمع واال�ستباحة
عدو امل�سيح «()1 وقتل فاعلية احلوا�س والنزف امل�ستمر والتحجر
�إذ ترد مفردة « �شفرات « ب�صيغة اجلمع التى تت�صادى ومرورا بعالئق اجل�سد بالآخر الذكوري، ً اجلامد،
مع �صيغتها الإفرادية على غالف الديوان ،لكنها ت�أتي والأماكن الليلية �أو مالذات الهروب التي تتحول يف
هنا يف �إطار �إدانة الآخر الذكوري ،الذي ينتهك اجل�سد الت�أويل الأخري �إىل قبور زجاجية ،يقبع اجل�سد فيها
الأنثوي ب�شفراته ال�صدئة يف �إمياءة من ال�شاعرة وانتهاء مبحاولة �صياغة
ً ملتفًا ببيا�ض ي�شبه العدم،
�إىل �أن ممار�سة احلب تظل فعال ج�سديا ال ينطوي فل�سفة للأمل ت�صبح يف ت�أويل ال�شاعرة – �رضورة ال
على م�شاعر الألفة �أو املودة ،التي قد حتفل ب�شوق غنى عنها لر�ؤية احلياة وفهم العامل.
العينني املتجدد للقاء املحبة املفعم بالدفء ،ومن كما
و�إذا كان «اجل�سد» هو التجلي احل�سي الأبرز ًّ
ثم ال يبقى �إال الربودة التي تنتهي �إىل �صد أ� مال�صق وكيفًا يف املنت ال�شعري ،ف�إن عنوان الديوان يعد
للج�سد الأنثوي امل�ستباح من قبل الذكر الذي يتجلى أي�ضا ذا طبيعة ح�سية حادة ،تنه�ض على ثنائية � ً
عدوا للم�سيح ؛ حيث التجرد التام يف الن�ص بو�صفه ًّ قائما على
ً احل�ضور والغياب ؛ بحيث يبدو العنوان
من �سمات الرحمة واملودة والت�سامح والإح�سان التي بنية ت�شبيهية ،نلمح فيها ح�ضور �أداة الت�شبيه القدمية
حتيل �إليها داللة مفردة امل�سيح . (مثل) وامل�شبه به (�شفرة �سكني) مع غياب امل�شبه
واملو�ضع الثاين يف ن�ص (ملاذا ال يذبحها مرة الذي �آثرت ال�شاعرة �أن تخفيه م�ستثمرة بالغة احلذف
واحدة) : ؛ لتعطى جلملتها الت�شبيهية الب�سيطة رحابة ت�أويلية
يكفيها الآن -فقط � /-أن تت�أمل عينيه ال�ضيقتني/ منب�سطة تنع�ش ذهن املتلقي ليقوم بدوره الفاعل يف
ونظارته الطبية ال�سميكة - /التي تزيده ق�سوة /- البحث عن امل�شبه و�صياغة جملته الت�شبيهية اخلا�صة
قبلها� /أو حني
واحلياء الذي ال يقطعه� /شيء /حني ُي ِّ به ،وبدهي �أن هذا الأمر ال يتم �إال بعد االنتهاء من
يغرز �سكينه الباردة /بني �رشايينها املتقطعة /دون قراءة املنت ال�شعري ب�أكمله ،ورمبا و�ضع املتلقي
�أن ت�س�أله /ملاذا ال يذبحها /مرة «واحدة»� /أو حتى �صياغات من نوعية :احلياة مثل �شفرة �سكني �أو
يجدد /يف القتل؟!()2 ق�صائدي مثل �شفرة �سكني �أو جتاربي مثل �شفرة
�إذا ت�أتى مفردة «ال�سكني» مقرتنة بالنعت« /الباردة» �سكني ،لكن �إعادة الت�أمل يف ثنايا الق�صائد �ستلفت
269 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
العاهة امل�ستدمية لتتمكن الأنثى من فهم العامل �أو مثلما �أتت مفردة ال�شفرات مقرتنة بالنعت /ال�صدئة؛
ر�ؤيته بعمق ،وهي ر�ؤية تكاد تالم�س �أفق الفل�سفة لي�ؤ�رش ت�شابه املركبني الو�صفيني واحتادهما الداليل
املازوكية وتتجادل معها بطرائق خمتلفة ،ت�صل على ت�شابه ال�سياق الكلي الذي وردت فيه املفردتان
�إىل حد ا�ستح�ضار نقي�ضها ال�سادي ،كما �سرنى يف ( ال�شفرات – ال�سكني ) بحيث نلمح الآخر الذكوري
بنية الديوان الذي يطل بعمق على جتربة �أنثى مثقفة ذاته بنظارته ال�سميكة التي تزيده ق�سوة على حد
تتحرك بوعي تاريخي فل�سفي يف عامل مدين حديث، تعبري ال�شاعرة – وهو ذاته عدو امل�سيح يف الق�صيدة
جتدل فيه عالئقها ب�شخو�صه و�أماكنه و�أ�شيائه ، عرب ال�سابقة.
ح�سا�سية مغايرة لأفق االغرتاب الرومانتيكي الذي أي�ضا طبيعة العالقة اجل�سدية التى ميار�س ونر�صد � ً
تنتجه الذوات احل�سا�سة عادة عند لقائها بالعامل فيها الرجل انتهاكه للج�سد الأنثوي بالق�سوة ذاتها
املتجهم الالمبايل ، وما تلبث �أن ت�ست�شعر العزلة وبالربودة ذاتها ،لكن املفارقة هذه املرة �أن اجل�سد
واالنطواء ،ومتار�س فعل الت�أمل �أو الت�أمل دون �أن الأنثوي قد بد�أ يف االنحدار ناحية اخل�ضوع ؛ لذلك
تتجذر يف العامل �أو حتى ترتك جل�سدها التحرك فيه، القمع الذكوري بحيث انح�رصت �أمنيته الأخرية
كما فعلت جناة يف التعامل مع عاملها ،و�أنتجت ما يف احللم بالقتل النهائي للتخل�ص من احلياة �أو
ميكن �أن نطلق عليه �شعرية الكتابة باجل�سد ،وهى حتى التمني العاجز للتجديد يف طريقة الذبح !! مع
�شعرية تعتمد لدى �شاعرتنا على ح�ضور البنية مالحظة �أن هاتني الأمنيتني قد ظلتا حبي�ستي تيار
احلكائية ،بت�سل�سلها ال�رسدي املرتابط والولع بر�صد وعي �صامت عاجز حتى عن التحرك �إىل ف�ضاء البوح.
املفارقات يف مقابل غياب التكثيف املجازي والت�أنق املو�ضع الثالث يف ن�ص الق�صاب:
ال�صياغي ،واالكتفاء بالتق�شف البالغي ،واالتكاء على �أظنه مل يكن يق�صد� /أن ي�صنع لها عاهةً /حني كان
بالغة ال�صور الت�شبيهية واال�ستعارية الب�سيطة. يدربها /على الغرام /مهنته القدمية - /فقط /-هي
تقول جناة يف ن�ص (الفُرجة) الذي ي�ستثمر عنوانه التي غلب ْت ُه /وجعلت يديه /ك�شفر ِة �سكني/
الوعي ال�شعبي بفكرة امل�شاهدة املرتبطة بالف�ضيحة: حقيقي/
ٍّ حني كان ي�ضمها� /إىل �صدره /ب�شوقٍ
حتولت �إىل فُرجةٍ /دون �أن تدرى /ومبرور الوقت/ ْ لكنها -البائ�سة /-هل كان ميكنها ح ًّقا� /أن ترى
تزداد بالهة()4 ري لها الطريق()3
العامل جي ًدا - /دون عاهة /-تن ُ
�إذ يتجلى اجل�سد يف املفتتح ال�شعري ال�سابق باعتباره �إذ يكاد يتماهى ا�ستح�ضار الرتكيب (ك�شفرة �سكني)
منظورا متار�س عليه عيون العامل فعل القمع
ً مو�ضوعا
ً مع العنوان (مثل �شفرة �سكني) با�ستثناء تبادل
الب�رصي – �إن جاز التعبري – لتف�ضح مكنون الذات املواقع بني كاف الت�شبيه والأداة الت�شبيهية (مثل)،
ال�شاعرة وخبيئة نف�سها يف مواجهة الأخر الذكورى: وهو انحراف �صياغي �ضئيل ال يكاد ي�ؤثر يف �أفق
ي�صطدم /مبالحمه الباردِ/
ُ كانت تخ�شى ظلها /حني الداللة الكلية التى يبدو �سياقها العام يف االقتبا�س
وعينيه ال�ضيقتني /وال تعرف كيف تهرب /من ال�سابق مرتا�س ًال مع املو�ضعني ال�سابقني� ،إذ نلمح
ابت�سامته /التي ت�سخر من �أي� /شيء تقابله /وال ح�ضور العالقة اجل�سدية التي نرى فيها اجل�سد
من تلك الرع�شة /التي تق�سمها ن�صفني /،وتختبئ يف الن�سوي منتهكا بال�شفرات الذكورية احلادة �أو الهيمنة
جلدها()5 الغرامية التي ت�أخذ �شكل التعليم الفظ.
وكما ا�ستثمرت ال�شاعرة الوعي ال�شعبي يف داللة لكن الالفت للنظر هذه املرة� ،أن ال�شاعرة قد حتركت
العنوان /الفرجة ، ف�إنها متعن يف توظيف هذا الوعي من �إطار ال�رسد ال�شعري املبني على �صياغة املفارقة
عرب كنايتني تت�آزران لر�سم عالج اجل�سد املرتع�ش بني الفعل الذكوري والفعل الن�سوي �إىل حماولة
(كانت تخ�شى ظلها – وتختبئ يف جلدها) ؛ لتتجلى �صياغة فل�سفة تربيرية تتعاطف مع ال�صنيع الذكوري،
بو�ضوح ثنائية اجل�سد الأنثوي اخلائف املتعرث يف وتنه�ض على الإقرار بحتمية حدوث الأمل الفادح �أو
270 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الأول يف �إطار ا�ستح�ضار ال�شاعرة للعالقة الت�أويلية مقابل اجل�سد الذكورى القاهر ال�ساخر :
املتبادلة بني وعي الآخر الذكوري بالأنثى الظاهرة، مل تعد تده�شها الآن /فرحته الزائدة /حني يتل�ص�ص/
التي تتجلى حا�سة الب�رص لديها جتليا مناوئا لكل على تلك العالمات /التي و�ضعها مبهارة /قرب
الكائنات الذكورية املناه�ضة ،ووعي الأنثى الباطنة جمرى البئرين()6
بذاتها وج�سدها وخجلها القدمي امل�صاحب لتوترها لكن هذا « اجل�سد الأنثوي اخلجول» �سيفتقد ده�شة
الدائم �إذا �أراد الآخرون حتريك ا�سمها املوازى اخلوف ورع�شة اخلجل ،رمبا ب�سبب اعتياده الفعل
لكينونتها من ال�صمت �إىل ال�صخب� ، أو حتريك ج�سدها اجل�سدي املتكرر الذي يقوم به البطل ،وهو ما ت�شي به
-الذي تتوهم بفعل املمار�سات االجتماعية القامعة الفجوة ال�رسدية املعنوية (مل تعد تده�شها الآن) ،و�إن
�أنها حتمله كجرمية دائمة �أو خطيئة �رسمدية -من كنت �أوثر �أن تقوم ال�شاعرة بعمل متثيل ب�رصي لها
اخلفاء �إىل الإعالن . م�ستفيدة من �إمكانات الت�شكيل الطباعي ،عرب داللة
مل يكن يراها �سوى /طفلة متتلك عينني /حائرتني/ الفراغ املنقوط �أو فراغ البيا�ض :
حتفران بق�سوة /يف كل كائن /تقابله /هي التي / �أما هي /كتلميذ خائب طب ًعا /مل تكن تت�أمل �أب ًدا/
ترتعد من /ا�سمها� /إذا نطقه �أحدهم /على نحو / يوما /على بعد خطوة()7 حال ال�صيد الذي كانً /
�صاخب /وتغ�ضب من الأوالد� /إن حكوا عن �صدرها/ �إن هذه الفجوة الزمانية قد �أهلت ال�شاعرة لرت�صد
الفاتن()9 املفارقة بني حال التجربة يف بكارتها الأوىل،
�إن هذا اجل�سد الأنثوي �سيتحول �إىل متثال بفعل أوتار
وحالها مع اخلربة املتمر�سة ،وك�أنها تعزف ب� ٍ
املكا�شفة الت�أويلية التى رمبا ف�ضحت �سلوكً ا عدوانيا جديدة وب�أنامل ن�سوية خمتلفة على ثنائية البكارة
غري م�شعور مبربراته : والتجريب ،التي �سبق �أن عزف وليم بليك عليها ،و�أعاد
ظلت واقفة كتمثال /بليد /تتابعه()10 �صالح عبد ال�صبور �إنتاجها ب�شكل مغاير يف �أحالم
�صورا �أخرى لتجليات اجل�سد ً وبو�سعنا �أن نلتقط الفار�س القدمي:
الأنثوي عرب ت�صفح املنت ال�شعري ،لنجد يف الق�صيدة لكنها تعرف جي ًدا� /أنه ال �أحد يحتملها� /سوى هذه
الأوىل (�ساعي الربيد) �أن اجل�سد يتجلى بو�صفه جثة احلانات القدمية املظلمة /التي �أدمنت الذهاب/ ِ
م�ستباحا نازفًا:
ً حتلق حولها روح املوات �أو حي ًزا �إليها /مع �أولئك الأحياء /امليتني /لترثثر معهم/
مل يكت�شف �أنها /جثة باهتة /تت�أمله – فقط /بعينني عن البدانة التي� /ستبتلعها هذا ال�شتاء()8
�شاردتني()11 و�إذا كانت ال�شاعرة مل تقتطع عالقتها الإبداعية
بينما يتجلى اجل�سد يف ق�صيدة (�رضورة �أن تعرف باملوروث ال�شعري احلديث ،وا�ستح�رضت �صورة
حمكما:
ً ح�صارا
ً حما�رصا
ً مقموعا
ً فرويد والكان) الأحياء املوتى �أو الأبطال الع�رصيني املهزومني،
احل�صار/
َ كنت – فقط – �أقاوم /يديه /اللتني �أحكمتا التي كانت تيمة حمورية يف �أغلب ن�صو�ص �إليوت
جي ًدا /حول ج�سدي /ج�سدي الذي /ال طائل من الإبداعية ،ف�إنها يف الوقت ذاته تخل�ص لهمها
وجوده()12 الإبداعي ور�ؤيتها اخلا�صة ،عرب ح�ضور ملمح البدانة
جريحا هرب ً ويف ن�ص (�إليكرتا) يتجلى بو�صفه وهاج�سا خميفًا يقبع
ً هما م�ؤر ًقا
اجل�سدية باعتباره ًّ
بعد معركة حربية ،وك�أنه يرتا�سل مع داللة احليز يف خامتة الن�ص ال�شعري م�ؤذ ًنا بتجدد الأرق اجل�سدي
املحا�رص يف الن�ص ال�سابق ،وينتهي به احلال �إىل املال�صق ،الذي ال تبدو فيه م�ساحات من االنف�صال
حياة معطلة تندثر فيها فاعلية احلوا�س وتتيب�س قد جتعلها تداوره مثلما داورت فعل القهر الذكوري
مرونة الأع�ضاء: باملناورة والهروب ،والتخفي يف احلانات القدمية
كانت تهرب كلما /ا�ستدرجها بثقة /للم�شهد الأخري/ املظلمة.
وت�سخر منه /كلما حدثها عن اليكرتا« /قرينتها �إن هذا الهم اجل�سدي املالزم �سريتد بنا �إىل زمن ال�صبا
271 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الأب املفتقد: وخزات غائرةٍ يف/
ٍ القدمية» /تلك التي منحتها/
ويرد هذا امللمح يف �إطار ثنائية مقاومة القمع الر�أ�س /وعلمتها كيف حتيا /ب�أع�ضا ٍء معطلة()13
اجل�سدي واحلنني �إىل الروح الأبوية الغائبة. ج�سديا للأنا
ًّ ويف ن�ص (الغرمية) نكاد نرى ت�شاب ًها
كنت فقط – �أقاوم /يديه /اللتني �أحكمتا احل�صار/ ال�شاعرة وغرميتها ،وهو ت�شابه يحيل �إىل منطقة من
جي ًدا /حول ج�سدي /ج�سدي الذي /ال طائل من التعاطف الإن�ساين على طريقة (�إن امل�صائب يجمعن
وجوده()16 امل�صابينا) ،و�إن تفردت الذات ال�شاعرة باقرتافها
فال�سطور ال�سابقة تهيئ لتجلي �صورة الأب يف الن�ص كتابة ال�شعر بو�صفها موازية للأرق املعريف ،والقدرة
بعد ذلك التخييل املجازي الذي عقدته ال�شاعرة على ر�ؤية امل�أ�ساة وفل�سفتها ،والتحرك عرب الوعي
متكئ ًة على �صنيع ا�ستبدايل ،و�ضعت فيه مفردات العميق بها:
املعجم احلربي (�أقاوم – �أحكمنا -احل�صار) بد ًال من كانت ت�شبهها يف /كل �شيء /العينني العميقتني/
مفردات املعجم العاطفي يف مفارقة خاطفة بني ما احلوا�س التي خربها /احلب /،اجل�سد الذي �أدركه/
هو كائن وما ينبغي �أن يكون ،تهيئ الأنا ال�شاعرة العمى /لكن على �أية حال /غرميتها /كانت �أكرث
لأن جتدل ثنائية احلنني الالهث امل�صدوم بيقني «ال براءة /منها /وال تكتب ال�شعر()14
جدوى حماوالت احلديث مع الأب» ،وامل�ست�سلم ليقني �إن جتليات اجل�سد الأنثوي التي ك�شف عنها الت�صفح
«الهروب �إىل املقاهي واحلانات». العابر للمنت ال�شعري ال ميكن �أن ُتتخيل – ب�أية ٍ
حال
كنت �أرمم �آخر /ما تبقى منه /و�أنا �أنب�ش حائطَ / ُ من الأحوال – مبعزل عن العالئق التي ين�سجها ذلك
البيتِ /الذي يعلو بق�سوة /بح ًثا عن ثقب واحدٍ� /أكلم اجل�سد ،بحيث تقطع القراءة املت�أنية ب�أن �صورة
منه �أبي�« /أبي الذي يف ال�سماء» /انتظرته �سني ًنا/ اجل�سد �أو بالأحرى جتلياته الب�رصية املختلفة (اجل�سد
-دون فائدة /-هارب ًة من �أ�شباحه� /إىل املقاهي املرتع�ش – اجل�سد النازف -التمثال املتحجر -اجلثة
الباردة /يف ليايل ال�شتاء /و�إىل البارات /القدمية/ الباهتة – احليز املحا�رص – اجل�سد الأعمى – اجل�سد
التي �أجل�س فيها()17 املتقيح بال�صديد – اجل�سد امل�ستباح بال�شفرات
ال�صدئة – اجل�سد امل�شوه بالوخزات والندوب
-3حتول اجل�سد �إىل جماز رمزي: الغائرة) .تكاد ت�صب – عند التحليل العميق – يف
�إن اجل�سد الذي �أخفق يف التحول �إىل روح تنعم ب�ؤرة داللية واحدة ت�ستقطبها فكرة واحدة هي القمع
بدفء التوا�صل مع روح الأب الغائبة �سيتجلى يف الذكوري ب�أ�شكاله املتباينة ،لكن �أمناط اال�ستجابة �أو
ن�ص (�ساعى الربيد) باعتباره جما ًزا يبتعد عن جوهر حماوالت املناوءة التي جترتحها الذات ال�شاعرة �إزاء
جمازيا باه ًتا
ًّ احلقيقة� ،أو يظل يف �أف�ضل الأحوال ظ ًّال تلك املمار�سات القامعة ،هي ما يك�سب ال�رسد ال�شعري
لبطل هو يف حد ذاته ظ َّل للبطل احلقيقي يف رواية مذاقه اخلا�ص يف �إطار تنوعات الفعل الن�سوي ،التي
بابلو نريودا التي حتمل ا�سم �ساعي الربيد ،وك�أنه �سنقوم بر�صدها يف ال�صفحات التالية:
املجاز الذي يبعدنا خطوتني عن احلقيقة على طريقة
�أفالطون يف النظر �إىل فن ال�شعر: -1الهروب �إىل احلانات الليلية:
كان م�شغوال ب�أن يعلمها - /مبهارة املحرتفني طب ًعا وهو ملمح �شاهدناه بتج ٍّل الفت يف ن�ص (الفرجة)
/-كيف ترتجم اال�ستعارات /التي تقبع حولها /يف م�صوغا بيقني معريف ينتهي �إىل حتمية العالقة بني
ً
دوما /دون �أن تعرف/ ركن /،كانت تخ�شاهاً / كل ٍ اجل�سد الن�سوي واحلانات القدمية:
�أنها �صارت ت�شبه /بب�ؤ�سها /ماريو « �ساعي لكنها تعرف جي ًدا� /أنه ال �أحد يحتملها� /سوى هذه
الربيد» /و�أن اجلال�س بجوارها - /هو نف�سه /-كان احلانات /القدمية املظلمة()15
ا�ستعار ًة /عن �شيء ال ي�أتي()18 -2املقاومة والهروب املقرتن باحلنني �إىل روح
272 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
لأوا�صل خطتي التي /بد�أ ُتها /منذ ال�صباح /لتعذيب �إذ يتجلى اجل�سد الن�سوي الذي ينزف ببطء – كما
احلمقى - /احلمقى الذين �أح�سدهم /من كل قلبي/ و�صفته ال�شاعرة يف الأ�سطر ال�سابقة لذلك االقتبا�س
على �سذاجتهم()20 مقهورا حتت هيمنة ثقافية ميار�س فيها الذكرً –
لكن �إعادة الت�أمل يف �سياق الن�ص رمبا جعلتنا متاما عن
يف غافل ً فعل التثقيف با�ستعرا�ض احرتا ٍّ
ن�ستح�رض النقي�ض املازوكي للنزعة ال�سادية، ذلك اجل�سد بوجعه الإن�ساين ونزفه ال�رسمدي الذي
جزءا من تعذيب الأبرياء والنبالء �أو ون�ست�شعر �أن ً يكاد يعادل ت�رسب الروح من م�سام اجل�سد الواقع يف
احلمقى وفق الت�أويل الظاهري لل�شاعرة ،يظل مبعنى فخ االغرتاب املجازي الذي يف�ضحه تيار الوعي �أو
جزءا من جلد الذات �أو بالأحرى تعذيب من املعاين ً الكتابة ال�صامتة التي تتجلى فيها الذات ال�شاعرة
اجلانب النبيل فيها ؛ لأن الذات ال�شاعرة ال تزال بو�صفها �شبيهة «ماريو» �ساعي الربيد يف رواية
تتدرب على ال�رش ، مما يعني �أنه �سلوك طارئ ولي�س نريودا ويتجلى الذكر املتعامل املتثاقف – وفق وعي
نزعة �أ�صيلة ،وحت�سد احلمقى ال�ساذجني مما يدل الأنثى ال�صامت باعتباره ا�ستعارة بعيدة حلقيقة
على ا�ستمرارية الأمل امل�ؤرق ،واحلنني امل�ضمر لزمن مفارقة ت�ستع�صي على التج�سد يف �شخ�صه الواقعي.
الرباءة الأوىل ،والنبل القدمي .
وبالرغم من احتدام ال�رصاع داخل الذات ال�شاعرة، -4املناورة والهجوم والتهكم:
ف�إنه لن يجعلها تذهب من �أحد الطرفني �إىل الآخر ؛ بل �إذا كانت الذات ال�شاعرة قد ا�ست�شعرت �ض�آلتها يف
�ستمعن يف �إكمال خطتها العدوانية منتقم ًة من ذاتها ن�ص (�ساعي الربيد) �إىل احلد الذي �أ�ضحت فيه ظال
القدمية ومن الآخرين يف �آن واحد ، لأن احلنني �إىل للظل ف�إنه من البدهي �أن تنتهب الفر�صة ملناو�شة
م�شاعر املحبة هو حنني �إىل ال�ضعف ،املرذول الذي ال الفري�سة ال�ساذجة �أو البطل النبيل الذي يبدو مفتق ًدا
ينبغي ملن تريد �أن حتيا يف ع�رصنا الراهن �أن تظهره للوعي بح�سا�سية اللحظة الراهنة ،ك�أنه قد قدم من
و�إال حا�رصتها الهزائم التي حتاول �أن توقف مدها زمن مغاير لزمننا الراهن الذي �ألقى بظالله القامتة
مرة �أخرى: على اجل�سد الن�سوي املناوئ:
و�س�أكون رحيمةً /معهم /و�أهيل عليهم الرتاب/ �أظنك جئت من /القرن ال�ساد�س ع�رش /و�إال ملاذا
بنف�سي /ثم �أ�ضع الورود التيْ � /أح�رض َتها /من �أجلي/ تدربت اليوم
ُ أ�رسفت /يف النبل؟! /لن ت�صدق �أنني/
َ �
على قلبهم - /والتي ف�صلتها عن� /أج�سادهم – /منذ مبا /يكفي /على ال�رش؟ /لذا �س�أزيح بهدوء/
قليل /على �أمل �أن� /أراها /على حقيقتها()21 �آثار ابت�سامتك /الطيبةِ /التي تخرتقني /ويدك التي
�إن ال�شاعرة تختم ن�صها ب�إحكام نربة التهكم و�إعالء بها /رحمةٌ /عن يدي()19
�سلطة الق�سوة حمول ًة داللة الورد من الورد الرومان�سي �إن اجل�سد الن�سوي املتورط يف عمق حلظته التاريخية
قرين املحبة �إىل الورد اجلنائزي قرين املوت. واملتمر�س ب�رصاعاته ال�سابقة �سيتعامل بق�سوةٍ فائقة
ويف هذا الإطار من املمكن �أن نفهم «فل�سفة الأمل» مع البطل اال�ستثنائي الرحيم بني �أغلب �شخو�ص املنت
التي جعلتها الذات ال�شاعرة قرينة لفهم العامل يف أ�سلوبيا مباغ ًتا
ًّ نهجا �
ال�شعري ؛ �إذ تنتهج ال�شاعرة ً
ن�ص الق�صاب ،الذي ينه�ض على منطق الت�شفي يف يقو�ض �أفق االن�سجام املتوقع بني الفعل /االبت�سامة
ال�صديقة التي �أنهكتها ممار�سات اجلزار اجل�سدية: الطبية واللم�سة احلانية من اليد الرحيمة ورد الفعل/
كان عليها �أن ت�شكره /ال �أن تلعنه هكذا� /أظنه مل يكن الإزاحة الباردة للم�شاعر الدافئة!! لي�شي ذلك ال�صنيع
يق�صد� /أن ي�صنع لها عاهةً /حني كان يدربها /على بنزعة �سادية مولعة بتعذيب الأبرياء وال�سخرية منهم
الغرام ()22 والإفراط يف ال�سلوك العدواين جتاههم على طريقة
(البقية يف موقع املجلة باالنرتنت) الكل باطل:
273 نزوى العدد - 75يوليو 2013
بيزنطة والإ�سالم ..
من كتاب «اليهود واملال والعامل» جلاك �أتايل
ترجمة� :سليمة �صالح لوكام
ناقدة واكادميية من اجلزائر
وبالتجارة يف امليناء ،وقد غيرّ وا �ألقاب عائالتهم مع انعطافة الألفية الأوىل ،وبينما كانت بغداد ت�ؤول
ف�صارت هيلينية ،و�صاروا يقر�أون الكتابات �إىل انهيار ،كانت الق�سطنطينية متلك ك ّل امل�ؤهالت
املق ّد�سة وي ؤ� ّدون طقو�سهم الدينية باليونانية ،وهم لت�صبح مركز اقت�صاد العامل :ملتقى يجمع بني
يولون عناية �أكرث لتعليقات حاخاماتهم على ن�ص �آ�سيا و�أفريقيا ،بني الغرب وبكني ،لت�صبح املدينة
التوراة فقط ،بل �إنهم كانوا يحكمون يف النزاعات احلا�رضةمع العا�صمة ال�صينية من بني �أكرب مدن
فيما بينهم ح�سب قوانني االمرباطورية. العامل ،فهي متلك املال والب�ضائع والف�ضاء والقوة
فر يهود �آخرون من بغداد التي بعد �سنة ّ ،1050 الع�سكرية وال�شبكات التجارية.
كانت تنهار ،وقدموا �إىل العا�صمة البيزنطية ،لك ّنهم وعلى الرغم من ذلك ،مل تنجح الق�سطنطينية يف
ف�شلوا يف التعاي�ش بعد �أن اكت�شفوا � ّأن طقو�سهم ب�سط نفوذها على بالد الإ�سالم ب�سبب غياب روح
مما
تختلف مع تلك التي ميار�سها «الرومانيوت» ّ املجابهة لدى نخبها املثقفة التي �أغرقت يف
بريوقراطيتها ،وا�ستمر�أت حياتها ال�سعيدة املرفهة،
ف�صار �شللها يف تزايد بفعل �إمعانها يف طريقة
عي�شها تلك ،مدفوعة بحنينها �إىل الفرتة الهيلينية.
كان اليهود يعي�شون يف الق�سطنطينية فيما
بينهم ،ويعملون لأجل اجلميع ،فقد كانوا ي�شتغلون
والفراء والن�سيج والتجارة وجلب ّ بال�صباغة
الب�ضائع وال�سم�رسة يف ك ّل �شيء ،و�أحيانا يجلبون
الثياب واملجوهرات �إىل البالط ،والقلّة القليلة منهم
يحرتفون � ّإما قر�ض الأموال ،و� ّإما التمويل ،وهنا
�صارت االمرباطورية البيزنطية حتتكم على �شبكتها
اخلا�صة.
و منذ عهد االمرباطور «جو�ستينيان ،انربى جماعة
من العربانيني ،وهم «الرومانيوت» ،لالندماج يف
الروح اليونانية على وجه اخل�صو�ص حتى يتم
قبولهم ب�شكل �أف�ضل.
و ي�شتغل ه�ؤالء بالأ�سا�س باحلرف وامل�صوغات،
274 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
وكما يف � ّأي مكان ،يف ذلك الوقت� ،صار اليهود جعل االمرباطور «�ألك�سي�س كومبيان» يقوم ببناء
يف بالد الإ�سالم ،جمربين على �أداء �صلواتهم حيي الطائفتني ،وظلّت هاتان جدار يف�صل بني ّ
يف عزلة ،ومن جهة �أخرى ،مل يعد عددهم يف دار �سويا لكنهما ال ت�صليان يف الطائفتان ت�شتغالن ّ
اخلالفة يتجاوز مليون �شخ�ص ،فارحتل بع�ضهم معبد واحد ،ونادرا ما يح�صل الزواج بينهما .مل يكن
�إىل اال�سكندرية� ،أو اتجّ ه �صوب اجلاليات ال�صغرية ذلك ان�شقاقا ،و�إنمّ ا م�سافة ثقافية .
العديدة املتناثرة يف �أرا�ضي الإ�سالم. و كان بالد الإ�سالم يف املناطق املجاورة ال تزال
يف حلب واملو�صل ودم�شق والف�سطاط والقريوان اليهودية� ،أي ما يعادل
ّ ت�ضم ثالثة �أرباع اجلالية ّ
وفا�س ،ويف اليمن ويف �إ�سبانيا ،كانت هذه اجلاليات �أكرث من ثالثة ماليني �شخ�ص ،من «قرطبة» �إىل
ت ؤ� ّدي عباداتها كل واحدة منها وفق طريقتها ولكن الو�ضع مل
ّ «كابل» ،وحتى �إىل �أبعد من ذلك،
اخلا�صة ،وقد ظ ّل بع�ضها �أحيانا مل ّدة قرون حتت يعد منا�سبا بالن�سبة �إليهم.
�سلطة �أ�رسة واحدة من التجار املتن ّفذين. يف الق�سطنطينية ،كما يف � ّأي مكان �آخر،كان
لقد عانى ه�ؤالء من الإهانة واال�ضطهاد ،كما حدث اليهود ي�شتغلون بكل املهن امل ّت�صلة بالتجارة
عربي «�أبو
ّ يف فا�س �سنة 1032حيث �أقدم قائد والفالحة واحلرف ،وكانوا يعي�شون معزولني يف
تنيم» على قتل �س ّتة �آالف �شخ�ص� ،أو كما حدث � ّأي مكان حلّوا فيه ،يعي�شون يف زرائب« ،حمميني»
يف مراك�ش ابتداء �سنة 1150حيث ُمنعت اجلالية بدونية على الرغم من ّ ومحُ تقرينُ ،يتعامل معهم
اليهودية التي كانت تقيم هناك منذ �سنة 1062 ّ كون ال ّتجار اليهود هم الذين ي�ضمنون اجلزء الأكرب
من ممار�سة عباداتها يف ظ ّل �سلطة عائلة جديدة من املبادالت بني العاملني الهندي واالطلنطي،
املوحدون.
ّ حاكمة غري مت�ساحمة :وهم وهم الذين يدفعون مواكب قوافلهم ومراكبهم جللب
� ّأما يف فل�سطني ،فكانت الو�ضعية �أكرث ب�ؤ�سا ،مل يكن التوابل من الهند واحلرير من ال�صني.
ثمة من اليهود � اّإل القليل ،وهم � ّإما يف الأكادمييات،
ّ مل يعد للإ�سالم مركز �آخر غري املركز الديني ،جزيرة
وما تبقى منهم كانوا ُيعاملون يف بع�ض املدن على العرب التي طُ رد منها اليهود ،ومل تعد بغداد مدينة
�أ ّنهم �أدنى من م�ستوى الب�رش. اليهودية يف
ّ اليهود الأوىل يف العامل ،كما فقدت
أكرم وفاد ًة ،والأكرث ازدهاراً يف تلك
كان الإ�سالم ال ُ «املدائن» دور �صاحبة الفكر الذي �أ ّدته على امتداد
الفرتة هو ذلك الذي عرفته م�رص التي بقيت نقطة يهودية،
ّ ثمة مدار�س �ألف �سنة من الزمان ،مل يعد ّ
العبور من ال�رشق �إىل الغرب. وق ّل اجنذاب �أ�صحاب املال �إىل اخللفاء ،كما تناق�ص
فابتداء من عام ،1000كفلت العائلة الفاطمية عدد �سكّان بغداد من اليهود ،ففي �سنة ،1168مل
وحرية مل�رص مل يعرف ّ ال�شيعية احلاكمة ازدهارا يهودي ،وح�سب رواية
ّ ي ُعد فيها �أكرث من �أربعني �ألف
تاريخ النيل لهما نظري. الرحالة «بنيامني التوديل» ،الذي ظلّت حكاياته
املتو�سطي ،كان علماء الالهوت ّ يف هذا املجتمع املمتعة تفتقد �إىل الد ّقة التاريخية� ،أ ّنه كانت يف
البيزنطيون وعلماء اليهود يجاورون املفكرين وع�رش
بغداد �آنذاك �أكرث من ثمانية وع�رشين كني�سا َ
امل�سلمني ويحاورونهم ،وكانت اجلاليات اليهودية مدار�س .
�سمى «جنيد»،
يف م�رص تمُ ّثل لدى اخلليفة ب�أحدهم و ُي ّ بعد مرور قرن من الزمان ،وحتديدا يف � ،1258أورد
وهو الذي يفاو�ض من �أجل اجلالية فيما يتعلّق رحالة �آخر �أ ّنه مل يعد يف بغداد �إال �س ّتة وثالثون �ألف
جو من االحرتام ال�سخرة ،يف ّ بال�رضائب ونظام ُّ يهودي يرت ّددون على �ستة ع�رش كني�سا فقط. ّ
275 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
وتويف نور الدين �سنة ،1174وقيل �إ ّنها وفاة املتبادل .وملّا ب�سط الفاطميون نفوذهم على مكّة
طبيعية ،و�أحلق �صالح الدين حكم �سورية مب�رص، واملدينة واملناطق املجاورة لهما� ،صار «جنيد»
وب�سط �سلطانه على جزء من املدائن ،ومن جزيرة الر�سمي عن جاليات فل�سطني ّ القاهرة الناطق
العرب ،وا�ستوىل �سنة 1187على القد�س. و�صقلّية و�شمال �أفريقيا:
مل يتغيرّ و�ضع يهود م�رص ،فقد لبثوا ك�سابق عهدهم، وم َبادلو العمالتو�شارك الفالحون واحلرفيون ُ
� ّإما حرفيني ،و� ّإما جتارا ،وقد �صار �أحدهم ،واملدعو وال�سما�رسة وال�صاغة يف بناء العا�صمة اجلديدة
ب «�أبو البيجرن» طبيب اخلليفة اجلديد ،وتولىّ �آخر (القاهرة) �إىل جانب العا�صمة القدمية (الف�سطاط)،
« �أبو املنجا بن �شحاح» م�س�ؤولية الزراعة ،فبنى ور�سم املعماريون اليهود ت�صميمات جامع الأزهر،
قناة محُ ّولة عن نهر النيل. وحافظ البحارة اليهود مع اليونانيني على نظام
متنور ومت�سامح ،ال �أحد ي�ستطيعيف ظ ّل �إ�سالم كهذاّ ، �شبكة العالقات التجارية التي تربط منذ �ألف
يج�سد الوجوه املتع ّددة ل َق َدر اليهود مثل «مو�سى�أن ّ عام بني ك ّل من اال�سكندرية و�إ�سبانيا و«�صقلية»
بن ميمون» احلاخام والطبيب وم�ست�شار الأمري. و«بيزا»و «�أمالفي»(ميناء نابويل) و«كرفو» (جزيرة
ُولد «ابن ميمون» يف قرطبة �سنة ،1135وملّا بلغ يونانية) وعمان و«كو�شني» (مدينة هندية).
�سن الثالثة ع�رشة ،احت ّل املوحدون املدينة ومنعوا ّ وكان الباعة اليهود هم الأوائل الذين جل�أوا �إىل
اليهود من ت�أدية طقو�سهم التعبدية.وهكذا دخلت ثالثة اخرتاعات ن�سبها التاريخ فيما بعد �إىل
ظاهريا ،وكانت قد َنفَت نف�سها �إىل
ّ �أ�رسته الإ�سالم الإيطاليني:
املغرب ،بعيدا عن الأ�رسة املوحدية املالكة. ال�صكّ (ورقة يق ّدمها امل�شرتي للبائع ل�سداد ثمن
وقد وجد «�آل ميمون» هناك العديد من املثقفني الب�ضاعة ،و ُيذكر عليها ا�سم ك ّل واحد منهما،
الباحثني عن احلرية :م�سلمون مثل «ابن ر�شد» وهو واملو�ضع الذي يوجد فيه املال ،واملبلغ الواجب
من كبار من علّقوا على �أر�سطو ،وقد جاء �إىل مراك�ش دفعه ،و�آية من االجنيل على �سبيل �شفرة تعيني
ا�ستقر �أغلبهم يف «فا�س».
ّ الجئا ،ويهود امل�شرتي).
هناك در�س مو�سى بن ميمون ،وهو اليهودي حول الدفع ،واملحا�سبة ور�سالة ال�رصف ملّا ُي ّ
�رسه ،التلمود والطب والفل�سفات اليونانية يف ّ بالطريقة املزدوجة لت�سجيل حركات ديونهما.
والإ�سالمية ،فيكتب الحقا « :ال يوجد توحيد �أكرث لكن الفرتة ال�شيعية الفاطمية كانت ق�صرية ،ففي ّ
من �صفاء الإ�سالم،».و كان يف الثانية والع�رشين �سنة ،1164وب�سبب قلّة في�ضان وادي النيل ،كانت
حرر ميثاقا عن « الرزنامة». حني ّ جر
وعمت جماعة حا ّدة ،وقد ّ املحا�صيل كارثيةّ ،
ويف �سنة � ،1165أحكم املوحدون قب�ضتهم على ذلك �إىل حدوث ا�ضطرابات اقت�صادية وم�شادات يف
املغرب ،و�صار �أداء العبادات اليهودية �أمرا �صعبا القاهرة ،وا�ستدعى اخلليفة ،بعد �أن جتاوزه الأمر،
�رسا.
جدا ،ح ّتى ملّا كانت متار�س ّ ال�س ّن ّي «نور الدين» ،وكان القائد
فرق «�أتابك» حلب ُ
ويف �سنة � ،1165سافر «ابن ميمون� ،إىل اال�سكندرية الكردي «�صالح الدين بن �أيوب» قد �أ�رسع �إىل م�رص
احلرية الذي �ساد م�رص ّ بجو
وا�ستقر فيها مفتونا ّّ ون�صب نف�سه بهدف �إعادة النظام والأمن �إليهاّ ،
�آنذاك ،ولك ّنه وجدها مدينة �آيلة لالنهيار ( مل ُيح�ص الفاطمي «العا�ضد» ،وبعد
ّ بعد ذلك ،وزيرا للخليفة
يهودي).
ّ بنيامني التوديل �أكرث من ثالثة �آالف ني يفال�س ّ
أولوية املذهب ُ
قتله اخلليفة� ،أعاد ن�رش � ّ
كان «ابن ميمون» يف اال�سكندرية قد حلق ب�أخيه القاهرة.
276 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
القرو�ض ،و� ّإما مب�شاركة كل من افتقر للح�صول على الذي �سبقه �إليها طلبا للرثوة عن طريق التجارة يف
عمل على النحو الذي مل يعد فيه حمتاجا �إىل طلب املحيط الهندي ،قبل �أن ميوت غرقا يف البحر الأحمر
معونة �أحد». �سنة � .1169أ�صبح «مو�سى بن ميمون» وريثا �شابا
ومبعنى �آخر ،ال ميكن التغلب على الفقر � اّإل �إذا قام حي
فتزوج وانتقل للعي�ش يف الف�سطاط ،وهو ّ غنياّ ،
الأغنياء بتمويل م�شاريع الفقراء ،ومن جهة �أخرى بالقاهرة تعي�ش فيه غالبية اجلالية اليهودية التي
ي�صري �أمرا �أخالقيا �أن ُنقر�ض من لي�سوا يهودا �إذا تفرغ للبحث يف الالهوت، تقيم بالعا�صمة ،وبه ّ
كان ذلك يف الإمكان ،مع مراعاة عدم ا�ستغالل ويف الطب.
املقرت�ض بن�سب عالية جدا من الفائدة ،كما �إ ّنه ال ويف �سنة � ،1185صار «ابن ميمون» طبيبا
يجوز تقدمي قرو�ض المر�أة وحيدة ق�صد ا�ستعبادها للقا�ضي الفا�ضل وزير �صالح الدين الذي كان قد
( ل�ضمان تبعيتها). لي�ستقر يف دم�شق ،ويف هذه الفرتة كان «ابن ّ ذهب
كون �أبنا�ؤه بعد وفاة «ابن ميمون» �سنة ّ ،1204 ميمون» ي�ستقبل احلاخامات والعلماء امل�سلمني
عائلة حاخامات ،وقادة جاليات ب�سطوا �سلطانهم املولعني بالريا�ضيات اليونانية والعلوم امل�رصية.
على اليهودية يف م�رص ح ّتى غزو البالد من طرف املتنورين الذين
ّ ويف جمع من املثقفني والتجار
العثمانيني �سنة .1517 ارتبكوا لل�صدام الذي حدث بني القر�آن وفكر
وقد بد�أت هذه العائلة مع �صهر �أحد �أبنائه احلاخام �أر�سطو�ُ ،سمع مبن يربهن باللغة العربية على � ّأن
«�أبراهام حانانيل» �أحد الأثرياء الذين ميلكون اليهودية تق ّدم تف�سريا عقالنيا للو�ضع ّ الفل�سفة
م�صنعا لتكرير ال�سكر ،وهو امل�س�ؤول عن جمموع الب�رشي ،وذلك حني كتب كتاب «دليل احلائرين»
املحاكم احلاخامية يف م�رص ،وكان يق�ضي يف وحمينا
ّ نحو �سنة ،1190متجاوزا «كتاب الآباء»
ك ّل املنازعات بني التجار الذين يجلبون التوابل فكر احلاخام (حلاّ ل) ،وكَ َّي َف ك ّل ذلك مع العاملني:
من الهند والتجار الذين ي�أتون باحلرير من ال�صني، اليوناين وامل�سلم ،كما عمل على عقد االن�سجام بني
ويعيدون بيعهما يف �أوروبا. اجلماعي والفردي ،بني العقل والإميان ،بني االجنيل
ويف ظرف ق�صري ُعرفت �أعمال «ابن ميمون» يف و�أر�سطو ،مثلما فعل «ابن ر�شد» يف الإ�سالم.
�أو�ساط اجلاليات الهودية وامل�سيحية ،ف�سافر التجار حر يف ووفق ما يراه «ابن ميمون» فك ّل �إن�سان ّ
بكتبه ،وهكذا ا�ستقى الغرب امل�سيحي من م�رص، �أن يعي�ش الإميان كما يراه ( ميكن و�صف التوراة
وعن طريق هذا املفكّر اليهودي املبادىء الأوىل فقط ب�أ ّنها �إلهيةّ � ،أما بقية القوانني فهي من و�ضع
لأخالقيات الفردية العقالنية ،ومن خالل ذلك ح ّدد الب�رش).
«ابن ميمون» مبادىء ف�ضل الفردية وخلود الروح يف عامل التجار والرحالة هذا ،كان «ابن ميمون»
التي ا�ستوحى منها «توما�س االكويني» فيما بعد، يعي�ش ويدافع عن امل�س�ؤولية الفردية ،وذهب به
كما �أر�سى قيم احلرية وامل�س�ؤولية التي تنبع منها الأمر �إىل اال�ستنتاج التايل� »:إن �أف�ضل �شكل لل�صدقة
�أخالقيات الر�أ�سمالية. هي امل�ساعدةّ � ،إما عن طريق الهبات ،و� ّإما عن طريق
العامل ،بكامل �أدوات وعدد �صدمتها ،وا�ستفزازها، �إن �أي متابع للخطاب الثقايف ،على مدى عامني
من رائحة �شواء �آدمي� ،أوبيئي ،يرتك �أثره الكبرييف ونيف ،منذ ا�شتعال �رشارة البوعزيزي ،وحتى هذه ِّ
نفو�سنا� ،إىل تلك الدرجة التي �رصنا ن�شعريف كل اللحظة ،حتديداً ،حيث تهيمن لغة العنف على املوج
برهة� ،أن �أية حرب جتري يف العامل� ،إمناهي جتري الهادر للأخبار التي تتناقلها وكاالت االنباء،
يف بلداننا ،وبيوتنا ،بل و�أعماقنا.!... وو�سائل الإعالم :املرئي منها ،واملقروء ،وامل�سموع،
ومن املعروف� ،أن متكن احلدث من �أن يكون عاماً، على امل�ستوى العام ،ف�إنه ليجد �أن رائحة البارود،
هم عامة ،يف �أو�سع من �ش�أنه �أن ي�شكل وحدة ّ والدمار ،والدم ،هي التي تت�سيد هاتيك الأخبار،
دائرة ممكنة ،ال�سيما و�أن هذا احلدث� -أية كانت �سواء تلك التي تعتمد على ال�صورة الإلكرتونية،
جغرافيته -الميكن و�ضع �أية �سدود� ،أوجدران بينه �أوالتقليدية� ،إذ باتت تفر�ض نف�سها-بكل ماحتمله
ومتلقيه العاملي ،فقد انهارت �شوكة الرقابات من �أمل و�أ�سى -على ذاكرة كائن العمارة الكونية
امل�صونة ،التي كانت تبت�رساملعلومة ،وتق ِّدمها على الواحدة ،لتجعله م�شدوداً �إىل ما يدوريف حومة
نحو حم َّدد� ،إىل تلك الدرجة التي كان من املمكن الف�ضاء املكاين ،حيث ح�ضور املوت واخلوف
تكوين عددالمتناه من القراءات للحدث الواحد، والتوتر ،يف �أعلى رقم قيا�سي ميكن ت�سجيله هنا،
وهوما بات ينح�رستدريجي ًاً. وطبيعي� ،أن املثقف� ،أي ًا كان ،هو الأكرث تاثراً بهذا
من تعدد القراءات
الواقع ،والأكرث ح�سا�سية ،باعتباره �ضمرياً جمعياً،
يف �صورته النمطية ،يف �أقل تقدير.
�إىل القراءة الواحدة: �إن منظر مقتل طفل �صغري� ،أو تهدم منزل فوق
�إن ثورة االت�صاالت التي �أ�رشنا �إليها�-أعاله- ر�ؤو�س �أ�رسته ،كاملة� ،أو غري ذلك من � َّأمات الأحداث
ا�ستطاعت-بحق�-أن جتري ثورة معرفية موازية الكربى التي جتري يف �أية نقطة من العامل العربي،
يف نطاقها الكوين ،ال�سيما و�أنه مع توافر �إمكان بل والعامل ،مل تعد ت�ؤثر يف حميطها ال�ضيق ،فح�سب،
�إي�صال املعلومة ال�صحيحة ،بكل �صدق� ،إىل متلقيها و�إمنا ت�ؤثر �أبعد من هذا املحيط ،و�أعمق� ،إىل تلك
املعومل-يف احلدود اجلغرافية يف �أقل تقدير -مت الدرجة التي غدت القرية الكونية� ،أو العمارة
التخل�ص من تباينات وجهات النظر ،حيث تقل�ص الكونية ،وغريهما من امل�صطلحات التي باتت تطلق
ذلك البون ال�شا�سع بني وجهات النظر املختلفة، على الكرة الأر�ضية ،التي باتت تتهاوى ،وتت�ضاءل،
حول واقعة حمددة ،معروفة املعطيات الأولية ،وهو وتتقزم ،يف ظل االنت�شار العمودي والأفقي ،لو�سائل
حتول مهم يف م�سار الفكر الإن�ساين ،و�إن كنا هنا الإعالم ،وثورة االت�صاالت� ،إذ �أن ما يجري �أمام
�سنظل يف مواجهة حتديني: �أعيننا ،بل وبات يداهمنا يف بيوتنا ،ومكاتبنا،
-1ر�ؤية النخبة التي تتعامى عن قراءة الوقائع، من م�شاهد �أحداث �ساخنة� ،أليمة ،يف �أي مكان يف
278 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
مقدرة اخلرب الإعالمي ،على ت�شكيل منظومة خا�صة انطالق ًا من دواع منفعية ،ولذلك فهي تعمد �إىل
به ،ت�ستحوذ على درجة عليا من الت�أثريعلى اخلطاب موا�صلة و�سائل التزوير املعريف التي كان يتم
الثقايف العام� ،إذ �أن هناك جت�سرياً بني املعلومة ذات اللجوء �إليها ،من قبل مراكز البحوث وامل�ؤ�س�سات
الطابع العلمي املعريف ،وتلك املعلومة الإخبارية والهيئات التي تخدمها ،بيد �أن ت�أثري مثل هذه الدوائر
اليومية� ،أواللحظية� ،إىل تلك احلال التي بتنا جند يتقو�ض على نحو وا�ضح ،ال�سيما و�أن املتلقي بات َّ
فيها ا�ستبيانات و�أرقام ًا و�إح�صاءات تعتمد على هذه العادي ،يف �أطراف املعمورة ،غدا �صانع ًا للوعي ،من
املعلومة ،ب�أ�شكالها املتعددة ،بل �إن هناك تخوف ًا من خالل طريقة تلقيه له ،وتفاعله معه ،وهوما ميكن
ابتالع ماهو �إعالمي ملا�سواه من م�صادراملعرفة اخت�صاره ،وو�سمه بـ«حتدي ال�سلطة» التي طاملا
الكربى ،بعد �أن غدت العالقة بينهما جد متوازنة، تناولها النقاد والفال�سفة واملثقفون ،يف درا�ساتهم
وكيفية تبادل اال�ستفادة بينهماخالقاً ،رغم وجود العميقة وكان له �أثره الكبري يف اخلطِّ البياين للعالقة
جتيي�ش ال�ستخدام اخلرب� ،ضمن �إطار معريف مزور، بني الإنتلجن�سيا وال�سلطة على مر الع�صور.
وهوما د�أبت ماكينة ال�رش على �أال تتورع عن احلفر يف -2ا�ستمرار بع�ض الأو�ساط العامة ،التي خ�ضع
م�ضامريه ،لتحقيق �أهدافها املعروفة ،على اختالف �أفرادها-فكرياً-وملدد طويلة ،لت�أثريات الإعالم
�أ�شكالها و�أبعادها. امل�ضلل ،بيد �أن مايحدث ،هو�أن هذه الأو�ساط
تتقو�ض -يوم ًا بعد �آخر -بل �إنها �صارت دائرتها َّ
قلق اخلطاب خطاب القلق:
تتفكك ،ال�سيما و�أن �سلطة ال�صورة الإلكرتونية-
واليخفي على متابع ال�ش�أن الثقايف والإبداعي� ،أن غرياملفربكة ،متتلك طاقة �سحرية فاعلة ،م�ؤثرة،
هناك انكفاء وا�ضح ًا يف تفاعل عدد من الأنواع وهي ت�ستند �إىل عمق ا�سرتاتيجي ،الميكن اال�ستهانة
الإبداعية مع طبيعة احلدث ،رغم توتره العايل، به ،البتة ،لأنه ميثل�-أو ًال و�أخرياً -امل�صلحة
و�سخونته ،بل ال�صدع الفظيع الذي يرتكه وراءه ،يف ظ ِّل الب�رشية العامة.
انت�شار�آلة العنف التي حت�صد-الأخ�رضوالياب�س-يف
�آن .حيث �أن النقلة اجلديدة يف تاريخ ثورة االت�صاالت، اهتزاز �صورة اخلطاب «املفربك»:
ا�ستطاعت �أن تنعك�س على كل بقعة يف خريطة العامل، و�إذا كان من �ش�أن ثورة االت�صاالت ،عندما تتاح
فال تنجو �أ�رسة ما ،من الت�أثربظالل هذا احلدث، لها الإمكانات واملناخات ال�صحيحة� ،أن تعيد بناء
بهذا امل�ستوى �أوذاك ،ما خلف وراءه �أعظم �صدمة الإن�سان ،يف ف�ضائه الكوين ،م�سهمة يف تقارب
يف تاريخ الإن�سان ،ال�سيما و�أن عيني هذا الكائن املفاهيم ،وااللتفاف حول املعلومة الدقيقة،
الب�رشي باتتا مفتوحتني على �أو�سع ف�ضاء �أر�ضي، ال�صائبة ،ونبذ مناف�ستها التي المتتلك م�صداقيتها،
أدق الذبذبات ال�صوتية،و�أن �أذنيه مرهونتان لتلقي � َّ وهوما يكون له �أقوى الت�أثرييف الأ�رسة الكونية
وهي توا�صل نقل احلدث ،وهلم جرا بالن�سبة لبقية اجلديدة ،حتى و�إن كان جهاز التلقي ،عند هذا
حوا�سه ،ما يجعل كثريين غري قادرين على ا�ستيعاب املواطن العاملي� ،سيكون يف مواجهة �صنفني من
ما يجري ،حتت وط�أة ال�صدمة الكربى ،بل �إننا ملا نزل املعلومات� :أولهما �سهل التفاعل معه ،وثانيهما
من يهرول ملتابعة الق�ضايا الهام�شية ،النافلة ،ليكون حتول بع�ض تراكمات الر�ؤى ال�سابقة-على اختالف
احل�سا�سة،
ذلك على ح�ساب معاجلة الق�ضايا الكربى َّ بواعثها -دون التفاعل الإيجابي ال�رسيع معها،
و�إذا كان احلديث هنا عن م�ستوى من يتفاعل مع وهوما ميكن لعامل الزمان �أن يزيل الكثريمن العوالق
احلدث يف احلدود الدنيا ،ف�إن خطابه ال يعدو �أن يكون غرياملتما�شية مع الوعي والذائقة الب�رشيني العامني.
انعكا�س ًا ال�ستجابته لل�صدمة ذاتها ،و�إن احلديث عن لقدمرت دورة املعرفة ،مبف�صل ج ّد مهم ،وهومف�صل
َّ
279 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
حلظة وعي فردية ،جماعية ،م�ؤ�س�سية ،جمتمعية، تلك ال�رشائح والتكوينات التي تن�رصف النبهارها
�أكادميية ،قطرية ،كونية ،و�إمنا على منظومة الوعي �أمام ما يتم ،لي�ستدعي-حقاً -وقفات مطولة� ،ضمن
العام ،داخل اجلغرافيا امل�ؤطرة ،وخارجها ،بل وداخل خمترب التحليل والدرا�سة اخلا�صني.
اخلط الزماين املح َّدد ،وخارجه ،على حد �سواء ،لأن
خما�ض امل�صطلح اجلديد:
حلالة الوعي فعل ال�سحر� ،سواء �أمتكنا من تتبع منابعه
وم�صابه ومظانه �أوال ،فالأمر �سيان ،لأن ا�ستجاباتنا �إذا كانت والدة امل�صطلح اجلديد ،تتعلق بدورة الزمان
لها ،ال تت�أثر بدرجة وعينا واكت�شافنا لها ،و�إمنا واحل�ضارة ،على ال�صعد كافة ،الثقافية ،والفكرية،
تغدو خارج كل ذلك� ،سواء �أ�صدرت عنا� ،أو كنا جمرد وال�سيا�سية ،والفنية ،والإبداعية ،والعلمية ،ك�أحد
منفعلني مع ت�أثرياتها العامة. معطيات احلراك الإن�ساين ،وجتلياته ،تبع ذلك ،ف�إنه
�إن احلديث عن عامل امل�صطلح ،لي�ستحق درا�سات ميكن اعتبار ن�ش�أة امل�صطلح ،منذ بداية �إرها�صات
طويلة ،من خالل هذا املنظور-حتديداً -و�إن كنا التفكري لدى الكائن الآدمي� ،أحد مقايي�س تطور الوعي
يف الغالب ،نتوقف �أثناء ا�ستقراءاتنا له ،عند حدود لديه ،حيث �أن �أي �إجناز معريف ،ب�أبعاده ،واجتاهاته،
معجميته ،وا�ستخداماته الوظيفية ،مدر�سياً� ،أو و�أ�شكاله ،املتعددة ،املذكورة ،ليرتجم م�صطلحياً،
�أكادميياً ،بيد �أنه من املمكن-كذلك -معاينة من خالل �إ�ضافة وم�ضة �ضوء� ،أو مفردة ،يف معجم
امل�صطلح يف حلظة �إرها�صاته و متخ�ضاته -خالل امل�صطلحات ،كي ميكن ا�ستقراء تاريخ هذا الوعي،
مير بها ،ولع َّل اللحظة
حلظات التحول الكربى التي ُّ من خالل �سريورة امل�صطلح و�صريورته ،وليكون
املعي�شة ،منذ تبلور مفهوم الغال�سنو�ست ،وترجمته، امل�صطلح حا�ضن ًا حلركة املعرفة ،منذ ت�شكيالتها،
وتفكك االحتاد ال�سوفييتي ،و�سقوط �أحد القطبني ومتظهراتها البدائية ،وحتى اللحظة احلالية التي
العامليني ،وهيمنة �أحدهما �إىل وقت طويل ،و�سقوط ت�شهد فيها ت�شعباتها ،وميادينها الهائلة ،واملختلفة،
جدار برلني-بغ�ض النظر عن تقومياتنا لهذا الفعل �إىل درجة التناق�ض ،والتالغي.
التاريخي الكبري �أو ذاك-ف�إننا �أمام حتوالت هائلة، وبدهي ،وفق هذه التقدمة� ،أن معجمات امل�صطلحات ٌّ
جذرية ،يف م�ستوى وعينا بالأ�شياء ،ال�سيما و�أن املتعددة ،هي عبارة عن م�ؤ�شورات تدلُّ على
التاريخ بات يتعدى �إطاراته م�سبقة ال�صنع ،وكالةً، تلك الفتوحات الفكرية الإبداعية -على اختالف
بل بات ي�سجل مقارباته التدريجية ،من روح املعني جماالتها -والتي حققتها جتربة الآدمي ،وهي
الأول ب�صناعته ،وهذا ما�سي�سهم يف تغيريات جذرية، عالمات حفره يف هاتيك امليادين� ،أية كانت وجهة
تدعونا-يف قادمات الأيام�-أمام وقائع ،وحاالت هذه الأحافري ،ما�ضياً-كما هو احلال يف تناول
جديدة ،ترتجم �أ�سئلة الكائن امل�سلوب ،وحلظته الرتاث والفلكلور�-أو واقع ًا كما هو حال الإجناز
احللمية التي ت�شكلت-جي ًال بعد جيل-يف خمترب العلمي والإبداعي والفكري�-أو م�ستقبالً ،وهو احلامل
وعيه ،ومعاناته ،وحاجاته العليا التي حجرعليها، لكل هذه ال�رضوب ،جمتمعة ،داخ ًال يف �إطارها كلُّ
طويالً ،ك�أحد �أ�شكال القهر الباهظة التي بات يرف�ض احتمال يت�ساوق مع العوامل التي ت�شكل امل�صطلح،
دفعها ،و�إن كان �سيقدم لقاء ذلك �رضيبته الكربى، ك�إ�شارة �سيميائية ،مل تت�شكل اعتباط ًا البتة.
مادام �أنه لي�س لدى املرء �أغلى من حياته البتة.!... و�إذا كان ف�ضاء امل�صطلح مفتوح ًا على انعكا�سات
ومن هنا ،ف�إن يف تناولنا ملو�ضوعة خما�ضات دورة الزمان ،يف اجتاهاتها الثالثة� ،أو �أبعادها
امل�صطلح اجلديد ،ت�أكيداً على �أمر ج ّد مهم ،وهو الثالثة ،وهي اجتاهات و�أبعاد ال ميكن �أن تنف�صل عن
�أن الآفاق لي�ست م�سدودة قط ،كما يتوهم بع�ض بع�ضها بع�ضاً ،وذلك لأن لتفاعالتها الداخلية ت�أثريها
املت�شائمني ،و�إن احلياة املفتوحة على كل جديد، العميق لي�س على امل�صطلح كمنتج ،مت ت�شكيله �ضمن
280 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
م�ضطراً �أن يعي�ش بعيداً عن �سواه� ،سواء �أكان يف قريته، و�إننا على موعد –دائم-مع ما هو جديد مع املنجز
�أو ال�شارع الذي ي�سكنه� ،أويف حيه� ،أويف مدينته� ،أويف الإن�ساين ،و�إن �رشيط الزمان الذي �شهد والدة بداية
بلده القطري ،حيث احلدود القائمة ،مابني امل�شرتك حالة الوعي ،فهو م�ستمر ،يف توفري �سبل ا�ستمرارية
العام ،واخل�صو�صية �ضمن الأ�رسة الواحدة ،وهو ما الوعي ،على اعتبار الوعي تو�أم الوجود واحلياة
كان يرتب غربة حقيقية بني �أبناء هذه املجتمعات، والتجربة ،و�إننا على موعد مع مواليد م�صطلحية
حيث كان كل منها يعي�ش يف عزلته ،و�إن كنا لنجد جديدة� ،ستتم ت�سمياتهم وفق درجات �إجنازاتها
�أن التعوي�ض عن هذه العزلة ،يتم من خالل الرتكيز املتعددة ،يف زمن التحوالت الأعظم.!.......
على الإطار النظري اجلامع الذي مل ت�صمد ه�شا�شته، نحوخطاب ثقايف
يف �أمثلة كونية كثرية ،وذلك لأن العامل النظري ،مل يف م�ستوى الأ�سئلة الراهنة:
تتوافر له ظروف التطبيق الفعلي ،بل كان يتماهى يف
�إهاب ال�شعار ،الذي يتم فر�ضه ،عمودياً ،و�أفقياً ،من من ميعن النظر ،يف جممل التحوالت الكربى التي
ين -ف�إنه لواجد ،بال �شك� ،أن الكثريتتم-على نحو كو ُِّّ
دون �أن يكون ناجم ًا عن قناعات �ضمنية ،تعد هي
من املق ّدمات التي طاملا كان يعتمد عليها ،من
ال ّأ�س الرئي�س ،والعمود الفقري ،يف ما لو مت تقبلها
قبل،يف �صياغات ر�ؤاه ،وا�ستنتاجاته ،و�سلوكه ،قد
على نحو روحي� ،ضمني ،عرب الإميان احلقيقي بها،
طر�أت عليها تغريات وتبدالت كثرية ،وذلك من خالل
بعيداً عن �أية �سطوة �أو �سلطة.
طبيعة جملة الو�شائج امل�ستجدة التي تربط بالآخر،
ولقد �أتاحت امليديولوجيا اجلديدة ،يف نقلتها
يف ظل االنفتاح اجلغرايف اجلديد� ،ضمن ما ن�صطلح
طراً ،يفالعظمى ،وهي الثورة الأ�سبق ،والأكربَّ ، عليه ،بـ«�سكان العمارة الواحدة» حيث �أن التوا�صل
الت�أثري-عميقاً -يف العامل الروحي للكائن العاملي، مع الآخرَّ � ،أي ًا كان ،بات يتم عرب احلوا�س الكاملة
من دون �أن يدرك ،و�إن كنا-هنا�-أمام �إيجابيات ما، تتم من
للإن�سان ،بل �إن الفا�صل ال َّزماين الذي كانت ُّ
بيد �أن هناك-يف املقابل-خماطر كثرية ،البد من خالله عملية التوا�صل االجتماعي ،قد و�صلت �إىل
ين
�أن يتم االنتباه �إليها ،وذلك من خالل ا�ستقراء كو ّ «درجة ال�صفر ،فما عاد العامل الزماين ي�سهم يف
عام ،لت�أثريات �إمرباطورية الإعالم الكونية ،يكون تراخي التوا�صل� ،أوفر�ض القطيعة ،وبدهي �أن مثل
لكل �أ�صحاب اخل�صو�صيات ح�ضورهم ،و�رشاكتهم، هذه التغريات اجلذرية لتنعك�س على طريقة تفكري
كي يح�صنوا �أنف�سهم �أمام واقع املحو املحدق على الكائن الآدمي� ،أينما كان.
نحو جدي. �إن ا�شرتاك حا�سة النظر ،يف تلقي ال�صورة الإلكرتونية،
وت�أ�سي�ساً ،على كل ما �سبق ،ف�إن العامل قد بات- على نحو وا�سع ،من �ش�أنه �أن ي�ؤ�س�س ملرحلة جديدة،
بحق -يف ربع القرن الأخري-وب�شكل �أو�ضح- من العالقات بني املجتمعات الإن�سانية التي امحَّ ت
�أمام ت�أثريات كثرية ،يخ�ضع لها روحياً ،وفكرياً، احلدود ،واحلواجر بينها ،وباتت تعي�ش على امتداد
و �سايكولوجياً ،وهو ما بات يرتك �أثره العميق الأربع والع�رشين �ساعة يف اليوم ،هاج�س الروح
يف عامل الإن�سان ،بل �إنه مع اندياح دائرة الت�أثري اجلماعية ،حيث �أن م�شاركة الآخر� ،أي ًا كان ،يف �أمله،
�إىل احل ِّد الأعظمي ،ف�إن الباب بات مفتوح ًا �أمام و�أمله ،يف فرحه ،وحزنه ،يف هزائمه ،وانت�صاراته،
�صياغة»خطاب جديد» ،متفاعل ،وناجم ،عن كل يف انك�ساراته و�أحالمه ،بات �أمراً واقع ًا ال مفر منه،
مثل هذه املعطيات واملقدمات التي ي�شهدها ،بل وهو �أمر جد مهم يف تغيري طريقة الر�ؤية ،يف ظل هذا
يعي�شها العامل� ،أجمع ،وهو�أرومة «النظرية» الكونية، الواقع اجلديد الذي يلقي بظالله يف كل مكان.
�أو»النظرية» نف�سها!... الب ّد من االعرتاف� ،أن الإن�سان-يف ما قبل -كان
281 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متثيل الآخر فـي رواية
«روائح ماري كلري»
حممد بوعزة
باحث و�أكادميي من املغرب
حتديدا لأنها حتب الر�سائل والطرود والربقيات وكل ت�شخ�ص رواية «روائح ماري كلري »1للروائي
ما له عالقة بالربيد منذ �صغرها)16( ). التون�سي احلبيب ال�ساملي ،املقيم يف فرن�سا ،ق�صة
ذات يوم يف مقهى بباري�س ،وبينما حمفوظ م�ستغرق حب يف باري�س بني حمفوظ� ،شاب ينحدر من قرية
يف القراءة ،يلفت نظره وجه ماري كلري يف املر�آة «املخاليف» بتون�س ،وماري كلري فتاة فرن�سية
املقابلة للطاولة التي يجل�س فيها .كانت جتل�س .حمفوظ ي�شتغل ليال يف اال�ستقباالت يف فندق
خلفه وهو ي�سرتق النظر �إليها يف املر�آة .وبفعل ميلكه مهاجر جزائري ،ويف النهار ي�شتغل ك�أ�ستاذ
قانون اجلذب ،بد أ� يهتم بها (وحني رفعت ر�أ�سي من متعاقد يف اجلامعة الفرن�سية يلقي درو�سا يف الأدب
جديد بعد وقت طويل بد�أت �أهتم بها ..العنق الطويل العربي .ا�ستقر يف املهجر الفرن�سي ،لأنه يخاف
امل�ستقيم هو �أول ما لفت انتباهي..ولكن بالرغم من العودة �إىل بلده تون�س ،فيتم احلجز على جواز �سفره
ذلك �شعرت ب�شيء يجتذبني يف هذا الوجه املدور.. (كنت �أخ�شى �إن عدت �إىل تون�س �أن �أبقى حمبو�سا
ركزت ب�رصي على وجهها .وكلما نظرت �إليه ازددت هناك لفرتة طويلة و�أن �أنقطع دفعة واحدة وب�شكل
حاد عن زيارة باري�س ،فقد كانوا يحجزون جوازات
كل الذين يعودون �إىل تون�س بعد فرتة طويلة من
الإقامة خارجها للت�أكد من عقولهم مل تتلوث و�أن
حبهم للوطن ال يزال �صادقا) (.)15
ماري كلري� ،شابة جامعية جتاوزت الثالثني
(انقطعت عن درا�سة التاريخ واجلغرافيا يف جامعة
نانتيز من دون �أن تكمل اللي�سان�س ،لأنه مل تعد
تريد �أن ت�صبح �أ�ستاذة مثلما كانت حتلم بذلك.
عينت منذ �أ�شهر قليلة موظفة يف دائرة الربيد
والربق والهاتف يف �شارع مونبار�س بعد جناحها
يف مناظرة للوظيفة العمومية .اختارت العمل يف
الربيد لأن القطاع العام ي�ضمن لها خالفا للقطاع
اخلا�ص ال�شغل طوال حياتها ..فماري كلري ال حتب
�أن جتد نف�سها يف يوم من الأيام عاطلة عن العمل..
كان ب�إمكانها مثال �أن تعرث على �شغل يف القطاع
العام له عالقة مبا در�سته يف اجلامعة بعامل الكتب
واملدار�س� .أمينة مكتبة مثال .لكنها اختارت الربيد
282 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
لتناوله .بعد فرتة ق�صرية �أ�صبحت �أكرث حر�صا مني اجنذابا �إليه.).
على االغت�سال قبل تناول �أي �شيء�( « .ص)6/5 يبت�سم لها ،وترد عليه بابت�سامة ،ينتقل �إىل طاولتها،
يف التفاعل مع هذا الأفق اجلديد الذي تطرحه زمنية ثم ي�رشعان يف الكالم ك�إجراء تد�شيني حلكاية حب
االختالف الثقايف ،تعي�ش الذات جتربة اكت�شاف تبد�أ بتبادل النظرات( .يف ذلك اللقاء الأول ويف ذلك
الآخر ،وعرب هذه التجربة املعا�شة بوعي مزدوج، املقهى الذي دلفت �إليه م�صادفة علمت �أ�شياء كثرية
تتم �إعادة بناء الذات يف �ضوء يف خربات متبادلة. عن �أول امر�أة حقيقية يف حياتي. )16( ).
ويف �سياق هذا الوعي املزدوج الذي يدرك العامل من من هذا اللقاء /ال�صدفة تن�ش�أ بينهما عالقة حب
�رشفة االنفتاح ،يتم حتويل الغرابة �إىل �ألفة. حقيقية ،حيث تقرر ماري مع تعمق ال�صداقة
يف بداية العالقة ي�ستغرب حمفوظ �إ�رصار ماري بينهما،االنتقال للعي�ش معه يف بيته ،وتبد أ� حكاية
كلري على اخلروج لتناول الطعام خارج البيت، احلب�( :أحب وجه ماري كلري ال ب�سبب ال�شفتني اللتني
وال ويفهم هذا االحتفاء اجلماعي بالطعام ،لأنه كنت �أ�شتهيهما با�ستمرار ،وال لأنه ينطوي على قدر
يختلف عن عاداته الأ�صلية ،لكنه مع عي�ش هذه من اجلمال ،و�إمنا لأنه مدور �أنثوي وخ�صو�صا
التجربة اجلديدة وتواليها� ،سيكت�سب خربات جديدة مريح .منه ي�شع خليط من الألفة والعفوية والهدوء
� .إ�ضافة �إىل خربته الأ�صلية� ،سينفتح على عامل والذكاء� .أحيانا �أنظر �إليه ف�أ�شعر كما لو �أين �أنظر
الفن وامل�رسح وال�سينما .و�سي�شكل هذا االنفتاح ثراء �إىل وجه طفلة ال وجه امر�أة جتاوزت الثالثني�( ).ص
ملداركه و�إ�ضافة نوعية خلربته (:يف بع�ض الأحيان )9/8
تبدي رغبة وا�ضحة يف ق�ضاء ال�سهرة خارج البيت. تنمو هذه العالقة ب�شكل طبيعي مفعم باحلب
وبالرغم من �أين ال �أحتم�س كثريا لذلك..اكت�شفت وال�شفافية والألفة ،لكن مع مرور ال�شهور ،وبفعل
ب�رسعة �أن ما ت�سميه «اخلروج» �شيء �أ�سا�سي بالن�سبة قانون الرتابة ،يتعر�ض م�سار العالقة لبع�ض
�إليها...ال�شيء الوحيد الذي يزعجني هو الذهاب التوترات والفجوات ،حيث تطفو على �سطح العالقة
�إىل مطعم ،ف�أنا مل �أفهم كل هذا االحتفاء اجلماعي بع�ض االختالفات التي مت �إرجا�ؤها يف غمرة ن�شوة
بالطعام الذي من املفرو�ض �أن يتناوله الإن�سان احلب وده�شة الإعجاب .تتطور هذه االختالفات
بتوا�ضع بل وب�شيء من االحت�شام لأنه نعمة ربي وتقع القطيعة �أحيانا بينهما ،ورغم حماوالت ترميم
كما تردد �أمي ..لكن ينبغي �أن �أ�شري اىل �أن اخلروج العالقة من طرفهما� ،إال �أنها تنتهي �إىل الفراق.
�أفادين� ،إذ �أنه جعلني �أكت�شف �أهمية ال�سينما التي و�إذا كانت بع�ض مظاهر االختالف الثقايف بني
�رصت معجبا بها منذ ذلك الوقت ،متاما مثلما كنت العا�شقني تتجلى يف طرائق العي�ش ،مثل املطبخ،
معجبا ب�شعر ال�صعاليك املغمورين»�( .ص)33/32 والعالقة باجل�سد والبيئة ،والنباتات ،واالحتفال
�إنها جتربة امتزاج الآفاق التي تعا�ش يف زمنية بالعطل ،ف�إن هذا االختالف الثقايف مل ميثل عائقا
االختالف الثقايف بني الآن (�أكت�شف )..وهناك (كنت يف توا�صل الطرفني ،بل �شكل «ف�ضاء ثالثا»2
معجبا). بتعبري «هومي بابا» لإنتاج خربات تبادلية �أغنت
العالقة بينهما ،مبا قدمته من �أفق جديد لالنفتاح
تفكيك الن�سق :من حكاية الث�أر �إىل حكاية احلب على ثقافة الآخر « :ملا تعمقت �صداقتنا و�صارت
على نقي�ض الرواية احل�ضارية ت�شخ�ص رواية حميمية �أكرث من �أي وقت م�ضى� .أبديت ده�شتي.
«روائح ماري كلري» عالقة احلب بني حمفوظ و�شيئا ف�شيئا �أقنعتها ب�أن تتخلى عن هذه العادة
وماري ،خارج ن�سق « ال�شفرة الكولونيالية» التي ال�سيئة .الطعام �شيء مقد�س .الطعام نعمة ربي كما
فر�ضت جمالياتها املانوية على �سيا�سات التمثيل، تردد �أمي كنت �أقول لها .وال بد �أن نكون نظيفني
283 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
يف امليرتوبول « من ورطة االغرتاب الكولونيايل، مبا جعل الذات يف الرواية احل�ضارية ت�ؤكد هويتها
«�أي عدم يقني املوقع الروحي املفرو�ض نتيجة يف م�سار ال�رصاع القائم مع القوى الكولونيالية،
التمايز بني املركز والطرف»)5(. وت�أكيد اختالفاتها الأنطلوجية واالب�ستيملوجية
�إنه يقيم يف باري�س منذ ع�رش �سنوات على تعرفه مع فرو�ض املركز الإمرباطوري .وب�سبب ذلك ،تبدو
على ماري كلري ،يعي�ش فيها ب�شكل طبيعي، رواية «ماري كلري» غري معنية بتفكيك �أر�شيف
مت�أقلما مع �إيقاعها ومنط العي�ش فيها وزمنيتها الكولونيالية ، decolonizationالذي ميثل رهان الرواية
الكو�سموبوليتية� ،إال �أن هذا التكيف مل ميح من احل�ضارية ،مبا يقت�ضيه من طرح ا�ستنطاقات
ذاكرته طفولته وم�سقط ر�أ�سه يف تون�س .ففي حلظات وتفكيكات لكثري من الت�شييدات التي ترتكز عليها
ال�صمت والفتور بينه وبني ماري كلري ،كان يلج�أ �إىل تواريخ ال�رشق والغرب.
ا�ستعادة طفولته يف «قرية املخاليف» بتون�س ،كنوع و�إذا كانت الرواية احل�ضارية يف �سياق متوقعها
من املالذ الرمزي ملواجهة برودة حلظة احلا�رض . على م�سافة اب�ستيمولوجية من الغرب ،اتخذت من
وال يعاين حمفوظ �أية م�شكلة يف وجوده بالغرب. ال�رسد �إ�سرتاتيجية م�ضادة «للرد بالكتابة( »)3على
يعي�ش حياة عادية يف املجتمع الفرن�سي ،دون حقد �أطروحات الغرب ،ف�إن بطل رواية «روائح ماري
تاريخي ،مكبل يف اال�ستيهامات الكولونيالية� ،أو كلري» يك�رس هذه امل�سافة ،ويعي�ش جتربته العاطفية
وعي تلقائي واقع يف �إغراء انبهارات �ساذجة. يف الغرب متحررا من تواريخ الكولونيالية ،بحيث
بامل�صادفة االعتباطية يتورط حمفوظ يف حب يتحرر ال�رسد من ثقل التاريخ و ين�ساب يف خفة
ماري كلري ب�سحر جاذبية ملتب�سة ،ال ت�سلم �سوى ه�شا�شة جوانية ،غري حمكومة ب�سطوة الن�سق،
مبنطقها اخلا�ص ،غري معنية بلعبة �رصاع ال�رشق تتطور يف �شكل انتقاالت مفاجئة يحكمها منطق
والغرب يف الرواية احل�ضارية .ميار�س عالقة احلب التجاذبات ،الذي يفر�ضه تذبذب االنفعاالت
حمررا من جدل القهر الكولونيايل والعنف اجلن�سي والأفعال وردود الفعل يف كل ق�صة حب بني رجل
.وبالتايل ال يقع يف لعبة املثاقفة امليرتوبولية، وامر�أة.
وي�سلم مبنطقها ،بتجني�س عملية املثاقفة ،والقبول ولأن املحكي يف «روائح ماري كلري» يتحرر من
ال�شعوريا « ،على الأقل ب�أن يقيم عالقة ت�ساو ومتاه �سلطة الن�سق ،ف�إن احلب كعالقة �إن�سانية �أ�صيلة،
بني الثقافة والرجولة»..)6(. يعو�ض �صورة العنف اجلن�سي الذي هيمن يف الرواية
خالفا لهذا املنطق ال�رشقي الفحويل ،ال يقع حمفوظ احل�ضارية ،التي مثل فيها العنف «رمزا لل�رصاع،
مثل «م�صطفي �سعيد» يف �رشاك وهم يختلق �صورة حيث ال يتحقق االلتحام �إال بالدمار( »)4لكن رواية
جمن�سة للعالقات بني احل�ضارات ،حتول العالقة مع « روائح ماري كلري « ب�إحاللها جماز احلب حمل
الغرب �إىل عالقة جن�سية ،تقوم بت�أنيث الغرب يف جماز العنف ،ت�ؤكد �أن التفاعل يحدث عرب احلياة
مقابل ذكورة ال�رشق على قاعدة التفوق اجلن�سي امل�شرتكة يف �سياق االنفتاح واخلربات املتبادلة
للرجل ال�رشقي الفحل .فالعالقة بني حمفوظ وماري التي يج�سدها عامل احلب بني حمفوظ وماري كلري.
كلري تروى يف جوانبها الإن�سانية الفردية امل�رشقة، ال يعيد حمفوظ متثيل دور «البطل احل�ضاري» ،لأن
كعالقة حب «مبا هو هبة املرء للذات وجل�سده ،هو ق�صة احلب تروى يف ن�سق النموذج الفردي ،جمردة
�شيء مقد�س ،م�ستبعد من التبادل ال�سلعي ،تفرت�ض من �رصاع ال�رشق والغرب ،وال ي�سند له فيها دور
وتنتج عالقات دائمة وغري م�ؤقتة»)7(. البطل ال�رشقي الفحل الذي يث�أر جلروح �أمته للدفاع
يف عالقة احلب كعامل ي�ستبدل منطق التبادل ال�سلعي عن تراثها و�أ�صالتها .وهو على نقي�ض «م�صطفي
مبنطق التبادل الإن�ساين ،تبنى العالقة بني الرجل �سعيد» بطل «مو�سم الهجرة �إىل ال�شمال» ،ال يعاين
284 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
و�إذا ما كان بطل الرواية احل�ضارية ،ب�سبب وط�أة واملر�أة يف �أفق م�شرتك على قيم امل�ساواة والقبول
الإح�سا�س بالقهر الكولونيايل «يلوذ مبا�ضيه والرتا�ضي املتبادل ،بغ�ض النظر عن �سيا�سات
احل�ضاري الذي يفرت�ض فيه �أنه ينم هو الآخر عن اجلن�س ،واختالف املرجعيات الثقافية.
رجولة .ويبعث الرتاث الأدبي القومي ،الذي كان قبل وبا�شرتاع هذا الأفق الإن�ساين الذي حتيل عليه
ال�صدمة الكولونيالية ،ن�سيا من�سيا ،يخامر مثقف حكاية احلب بني حمفوظ وماري كلري يف العالقة
امل�ستعمرة ال�سابقة �شعور مزهو بالرجولة ،هو مع الآخر ،يتحرر حمفوظ من الوعي الق�ضيبي
ب�أم�س احلاجة �إليه �إزاء �سيادة الثقافة املرتوبولية الذي حكم �سلوك البطل احل�ضاري ،وجعله يت�رصف
« )11(.ف�إن رواية « روائح ماري كلري « تغري م�سار على �أن جميع ن�ساء الغرب مباحات له .و«�أن كل
العودة نحو املا�ضي ،من العودة �إىل التاريخ القومي امر�أة بي�ضاء م�شتهاة ،ونقاء ب�رشتها دعوة دائمة
والرتاث� ،إىل العودة �إىل �سرية الذات والذكريات لالغت�صاب ،»8لأنه يريد �أن يث�أر لنف�سه ورجولته
ال�شخ�صية. وح�ضارته.
ويف الوقت الذي تتخذ فيه العودة �إىل املا�ضي يف يقود فعل �أن�سنة العالقة مع الآخر �إىل جتريدها من
الرواية احل�ضارية م�سارا ن�سقيا« ،على نحو �سياقي عالقات الهيمنة الكولونيالية والذكورية ،وهذا ما
عرب ا�ستح�ضار نظريه الغائب يف الرتاث ،لأنه يبدو يتيح تفادي �إنتاج الن�سق الفحويل املوجه لعالقة
وا�ضحا �أن من خالل هذا الغائب فح�سب ،ومتكني البطل احل�ضاري باملر�أة القائم على «ت�سليمه ب�أن
الدال عليه ،تكت�سب الذات هويتها ،ويكت�سب خطابها العالقات بني الأمم واحل�ضارات هي كالعالقة
م�رشوعيته( ».)12ت�ؤكد رواية «روائح ماري كلري» القائمة واقعا بني الرجل واملر�أة :عالقة قوة وحتكم
�أن الذات تكت�سب هويتها ال�رسدية من ذاتيتها . و�سيطرة ،وبالتايل ا�ست�سالم ور�ضوخ ومعاناة.
وبذلك ت�ستبدل النموذج الكلي الن�سقي بالنموذج فكان �أن تبنى بدوره الت�صور املرتوبويل القائل ب�أن
الفردي ال�شخ�صي. املثاقفة جمامعة»9.
يف �سياق هذه الإجراءات التحويلية ،تتم �إزاحة يف خروجه على هذا الن�سق الفحويل ،يبدو حمفوظ
العالقات اجلن�سية التي حتكمت يف ت�شكيل وعي على خالف م�صطفي �سعيد يف «مو�سم الهجرة
الذات بالآخر ،وتنميط �صور التمثيل .و بدل العالقات لل�شمال» ،حري�صا على حب ماري كلري� ،شديد احلذر
الكولونيالية املجن�سة التي فر�ضت تعار�ض من كل ما قد ي�صدر عنه من �سلوك ي�ضايقها ( ينبغي
اال�سرتاتيجيات ال�رسدية (�رشق /غرب ،مركز/ �أن �أقول هنا �إن ح�ضور ماري كلري الدائم يف بيتي
هام�ش) يف حبكة الرواية احل�ضارية من جهة ،و جعلني يف ال�شهور الأوىل �سعيدا �إىل درجة كنت
جتني�س العالقات الثقافية (ذكورة� /أنوثة) ب�إ�ضفاء �أخ�شى معها �أن تتحول هذه ال�سعادة �إىل نقي�ضها.
م�ضمون جن�سي على وعي الذات ومتثيالت الآخر مل يحدث �أن �أحبتني امر�أة كما �أحبتني ماري كلري).
من جهة ثانية ،تنزاح رواية «روائح ماري كلري» (�ص� .)20إنه معني فقط ب�سعادته ال�صغرى ،وغري
نحو م�رسحة عالقة احلب ،كحالة « تعليق للعنف معني مثل م�صطفي �سعيد بالث�أر احل�ضاري لأمته،
الرمزي »13ب�شكليه احل�ضاري والذكوري .احلب وال « ينق�ض على كل امر�أة تتاح له دون متييز وبال
مبا هو حالة �أ�سمى ملا ي�سميه بورديو «اقت�صاد اختيار . »10.وهذا ما ي�شكل حتوال يف متثيل الآخر
التبادالت الرمزية املحمولة �إىل ذروة قوتها والتي من العالقات املجن�سة �إىل العالقات امل�ؤن�سنة على
�شكلها الأ�سمى ،ومبا هو هبة املرء للذات وجل�سده، م�ستوى �سيا�سات التمثيل ،ومن ال�رسديات الكربى
هو �شيء مقد�س ،م�ستبعد من التبادل ال�سلعي ،والتي �إىل النموذج الفردي على م�ستوى اال�سرتاتيجيات
لكونها تفرت�ض وتنتج عالقات دائمة وغري م�ؤقتة، ال�رسدية.
285 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
ل�سيكولوجية ال�ضعف ،التي ت�شكل م�صدر �إرباك فهي تتعار�ض مع تبادالت �سوق العمل مبا هي
ملحفوظ يف عالقته بج�سده ومباري كلري . �صفقات م�ؤقتة و�آلية بح�رص املعنى»14...
و�إذا كان البطل الفحل يبني �أ�سطورته على �سمة وخالفا ملنطق القوة الكولونيالية ،ت�شخ�ص الرواية
التفوق اجلن�سي ،ف�إن حمفوظ ب�سبب ته�شم �صورة لعبة احلب من خالل منطق اله�شا�شة ،الذي يفر�ض
اجل�سد يجد نف�سه يف و�ضع مربك وم�شو�ش ،يخلق على العا�شقني بناء عامل م�شرتك قائم على �سريورة
له عقدة نق�ص .ففي احل�ضور الطاغي جل�سد ماري من التحوالت يف الكينونة والهوية ،تفرت�ض �سل�سلة
كلري يبدو مرتددا غري واثق من نف�سه ،يف حالة قلق، من التنازالت والت�شييدات اجلديدة ،يفر�ضها عامل
يهج�س كيف ير�ضيها ج�سديا ،على خالف ال�صورة احلب ،بو�صفه تعليقا لعالقات الهيمنة والقوة،
املت�سيدة واملت�سلطة للبطل الفحل .غري �أن جتربته و�إحالال ملنطق عالقات االعرتاف املتبادل .احلب
العاطفية مع ماري كلري مبا فيها من حب حقيقي، مبا هو جت�سيد «لهذا العامل املغلق واملكتفي ذاتيا
وعمق �إن�ساين م�ؤ�س�س -كما بينا على اقت�صاد على الوجه الأكمل،الذي هو �سل�سلة متوا�صلة من
تباديل للخربات � ،-سيغري من �شكل عالقته بج�سده (التغيريات والتحوالت يف منط الكينونة والوجود)
النحيل ،امل�ؤ�س�سة على موروث ذكوري ،بحيث من املعجزات :عامل الالعنف الذي يجعل من �إر�ساء
�ستجعله جتربة احلب يكت�شف �أن اجلن�س ال عالقة له عالقات قائمة على التبادلية الكاملة ممكنا،
بالقوة ( ك�أن ج�سدي يولد من جديد�..إال �أن املثري حقا والذي ي�سمح بالتنازل وت�سليم الذات واالعرتاف
هو �أين �رصت �أرى ج�سدي ب�شكل خمتلف...قبل ذلك املتبادل الذي ي�سمح كما يقول �سارتر ،ب�أن ي�شعر
كنت معقدا ب�سبب هذا اجل�سد النحيل الرقيق اله�ش. املرء ب�أن «مربر وجوده» م�ضطلع به حتى يف �أكرث
ال �أنتظر منه الكثري .وال �أعول عليه يف اللحظات خ�صو�صياته عر�ضية �أو �أ�شده �سلبية ،يف وبوا�سطة
احلرجة واحلا�سمة .كنت �أت�أمل يف �رسي و�أنا �أ�سمع �إطالق االعتباطية العتباطية لقاء ما(لأنه كان هو،
ما يرويه الرجال حويل عما يفعلونه للن�ساء� .شيئا لأنني كنت �أنا) .،عامل الرتفع الذي يجعل عالقات
ف�شيئا �أقنعت نف�سي ب�أن �شيئا ما ينق�صني يف هذا منزوعة من الذرائعية ممكنا وقائما على �سعادة
املجال�( ».ص)83 منح ال�سعادة .ويجد يف �إعجاب الآخر ،وال �سيما
�إن جتربة احلب ،بو�صفها عاملا بينيا يقوم على �أمام الإعجاب الذي يحدثه ،مربرات ال تن�ضب لأن
خربات تبادلية� ،ستغري هذا الوعي الذكوري يده�ش)15.
املوروث ،بحيث �سيتحول ال�شعور بالعقدة والنق�ص �أ�سلبة �صورة الفحل :من الذكوري �إىل الأنثوي
�إىل �شعور بالزهو ( .ويرافق كل هذا �إح�سا�س ب�شيء يعجب حمفوظ مباري كلري ،ويعرب عن �إعجابه كطفل
من الزهو .فلأول مرة يف حياتي �أ�شعر �أنني قادر منده�ش ،يكت�شف العامل لأول مرة ،وال يت�رصف
على �أن �أ�شبع امر�أة�( ).ص)83 كبطل �رشقي يرد بق�ضيبه على الآخر .ويف �صريورته
يف مقابل تباهي الفحل بقوة ج�سده ،ال يجد حمفوظ طفال ،يخ�ضع ملنطق اله�شا�شة ،ويج�سد جمموعة
حرجا يف البوح به�شا�شة ج�سده ،وال يعترب ذلك عيبا من التمثيالت التي تناق�ض �صورة الفحولة .ف�إذا
ي�ستوجب الت�سرت عليه� (.إال �أن املثري حقا هو �أين كانت عالقة البطل احل�ضاري داخل ن�سق الفحولة
�رصت �أرى ج�سدي ب�شكل خمتلف �أتلم�سه دون �أي تتميز بخا�صية االمتالء التي حتددها �سمات القوة
�إح�سا�س باحلرج� .أنظر �إليه بدون خجل� .أحتدث عنه وال�سطوة ،ف�إن عالقة حمفوظ بج�سده تقدم �صورة
بجر�أة وبدون مواربة). بارودية للج�سد الفحل .تبد�أ هذه الباروديا بته�شيم
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) �إطار اجل�سد يف �صورة مهتزة بالآلة التفكيكية
286 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ال�شاعر فتحي عبداهلل
روح �إن�سانية تفي�ض بالأمل
عبد النبي فرج
كاتب وروائي من م�رص
املوتى الذين /خطروا ب�شقتي /و�أنا غائب ت�سعى �شعرية فتحي عبد اهلل منذ ديوانه الأول «راعي
قالت :ذو ال�شال الأبي�ض /هم�س بنومني/وترك �صحيفة املياه» �إىل االنحياز �إيل كل ما هو جوهري �إن�ساين
الأعمال /مملوءة باخلطوط /ومل �أعرف كم جنازة/ بامتياز دون �أن حتفل بكونها تعرب عن الهام�ش �أو
حملها للم�صلني /لكنه �/أو�صى مبراقبة الأ�شجار / املنت �سواء كانوا رعاة �أو زراعا ،قاطعي طريق �أو
وزيارة املحافل /رمبا /نعرث على هواء جديد ل�صو�صا ،عماال �أو مهند�سني ،معربا عن عامل الريف
هذا الن�ص منوذج دال على ما �أريد �أن �أقوله ،من هو امل�ستقر .هذا العامل مبا يحفل به من طقو�س ح�صاد
ذو ال�شال الأبي�ض ،و�أي �صحيفة ،وما هو املدون وري وزراعة وت�ضامن �إن�ساين يفر�ضه املجتمع
فيها ،وما داللة هذا اجلملة ،خطروا ب�شقتي ،ومن هم الزراعي ..ولذلك جاءت هذه ال�شعرية وك�أنها نتاج
املوتى و�أي جنازة ،قد يكون الن�ص يف جوهره ب�سيط ت�أثري هذا املكان فكان بها قدر عال من ان�سيابية
جدا ،وهو �أن ال�شاعر مطارد،هارب من الع�س�س ،وهذه البناء وب�ساطة اللغة وغناها احل�سي امل�ستمد من
اللقاء مت مع زوجته،ب�صورة ما،يف مكان م�أمون، �أغاين الفلكلور �أو ال�شعراء ال�شعبيني والذين كانوا
«قبل �أن �أنام» وهذا حوار عادي ي�س�أل زوجته ،عن يلعبون دورا قويا وم�ؤثرا يف وعي الأجيال ال�سابقة
املخربين،ويت�ساءل عن التهم اجلديدة املوجهة له، قبل �أن تلعب امليديا هذا ،والدور .حتى العنف الذي
ولكن من �أو�صى مبراقبة الأ�شجار وما هو املحفل ميثل رافدا �أ�سا�سيا من روافد �شعرية فتحي عبد اهلل
الذي يحوي هواء جديد؟ ،هل هو ينتمي جلماعة �رسية جاء مكتوما يرف�ض �أن يخد�ش هذا العامل ال�سحري،
مناه�ضة للدولة وهل لقاء جماعته ميثل هواء جديد، وهذا الديوان جتربة مهمة لأنه ا�ستطاع يقل�ص
قد ،وقد يكون كل ما قلناه هراء وان ما يدور داخل الأداء الزاعق ،القعقعة ،ال�صهيل ،املبا�رش ،الفا�ضح،
دهاليز الن�ص� ،شيء �أخر متاماً� ،أما الق�سم الآخر من ل�صالح الأداء الهام�س ،الأداء الذي هو يومي وال
الديوان فهو يتناول جتربة �أعرفها بحكم �صداقتي يف�صح ،وينق�سم الديوان �إىل ق�سمني� ،رسد متقطع
لل�شاعر وكان قد ق�ضى �سبعة ع�رش يوم ًا او ثمانية الهث لتجربته اليومية يف اجلامعة ،يف املقهى ،على
ع�رش يوم ًا يف امل�ست�شفي مرافق ًا لأبيه �أثناء اجراء ر�صيف احلياة ،يلتقط �شخو�صا ويعيد ترتيب امل�شهد
عملية جراحية له حيث كان �سيتم قطع رجله بعد من جديد قاطع ًا مع هذا الوقائعية الب�سيطة ،ليخرجها
�أ�صابته بداء ال�سكري ،هذه التجربة امل�ؤملة ،ر�صدها بعد ذلك يف �إطار جديد ،يف مناخات جديدة،من خالل
ال�شاعر يف مقاطع ،عذبه� ،شجيه ،خمتنق ًا يبحث عن روحه القلقة ،وهنا ي�أتي دور اخليال املده�ش الذي
خمرج ،ولذلك تكرث يف الن�صو�ص ،مفردة هواء ،وهو يهند�س امل�شاهد ،يف �إطار رمزي �أ�شبه باملتاهة،
عنوان لق�صيدة من الديوان ،الهواء م�شاركتى الأخرية ولوال �أ�سماء واقعيه ،مثل ،الزوجة ،ن�رسين واملقهى
�،أبى ي�سمع التعاليم /وينع�س دون مرارة /لأنه حني وغريها لتحول الن�ص ملتاهة مغلقة ،م�شفره ،متاما
راقب اجلوهرة/،وجد التما�سيح ت�أكلٌ/،دون مائدة/، قبل �أن �أنام � /س�ألت زوجتي عن �ساعي /الربيد ،وعدد
287 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
لأنهم مهوو�سون /ولي�س لديهم القوة /الكافية /لأن والفطريات ت�شبه ال�ساللة /وال جماز بني الكحول/،
يرتكونى /و�أنا مللت من ال�رصاخ /و املبارزة والأع�شاب /القمي�ص من �أنبوبةٍ /لأخري
ان هذا ديوان انفجار دالالت حتت حم�صول لغوي ورائحة» عبد اهلل» مل جتد/ما�شيته /ف�أخذت نومها
�ضنني ال ميكن ت�صوره ،فتحت كل لفظة ،تكمن بني /حرامه واخل�شب ،/
ت�أويالت ال ح�رص لها ،فلتنظر للعنوان �سعادة مت�أخرة، ثم خرج منذ ديوانه الثاين �سعادة مت�أخرة عن هذا
وتقر�أ الديوان ،هل هناك �سعادة من الأ�سا�س� ،أم �أن العامل الزراعي �إيل عامل املدينة مبا حتفل به من
هناك روحا منهكة ،ترزح حتت وط�أة �أمل مم�ض ،بداية عنف وق�سوة وقتل وفقدان للرباءة يفر�ضها املجتمع
من الإهداء �إىل �أمي� ،صاحبة ال�سعادة الذي مل تعرف ال�صناعي احلديث وبدل �أن ت�صيبه املدينة بنوع
ما حدث يل يف الق�سوة الأخرية يف �أق�صى درجاته من النكو�ص لي�رشد �إيل ظالل امليتافيزيقا �أندفع
الدفاع عن الذات ،ذاته تعي�ش يف بلد يعاين القهر، برباءة احلاملني واخلياليني العظام� ,إيل حماولة
العنف،الإرهاب ،الفقر ،وانعدام العدالة ،وك�شاعر، تدمري املدينة ,وبناء مدينة متخيلة بعد�سة كامريا
مق�صى ،حمذوف من امل�شهد ال�شعري يف ظل م�ؤ�س�سة ور�ؤية خمرج �سينمائي ,ولذلك جاء الديوان عبارة,
ثقافية� ،إرهابية ,بولي�سية ،ع�صابية تتفنن يف تعذيب عن م�شاهد ق�صرية ترتاوح بني احلادة ،والناعمة
الغري مدجن ًا تدجين ًا كام ًال بحيل �شيطانية� ،أن دور م�ستخدما تقنية الفيديو كليب،ولذلك جاء عبارة عن
هذه امل�ؤ�س�سة يف ت�صحري امل�شهد الثقايف ال يقل م�شاهد ق�صرية حمكومة وم�ضفرة ،وك�أنها قطعة
�إجرام ًا وانحطاطا عن انحطاط وزارة الداخلية بل هى موزاييكو يكون عماد هذه املدينة احلرية والعدالة
الأكرث عنف لأنها متار�س عنفا رمزيا قا�سيا جتاه املطلقة هذه احلرية ،التي تكفل العدالة لكل الب�رش
ذوات فردية بطبيعتها ه�شة وي�سهل ك�رسها ،وهذا مبن ,فيهم اخللعاء واملهم�شون،وال�ساقطون من
املقطع اعتربه داال عن حجم املعاناة من اجلماعة املجتمع وق�سوته .وال ميكن فهم هذا الديوان وهذا
الثقافية املتواطئ مع ال�سلطة الفا�سدة. العنف الكارثى ،املتوح�شة ،الراديكالية ،والذي تركز
مل يعلنوا عن زفايف /يف املنا�سب /من الأيام / حول املو�ضوع دون اهتمام يذكر يف ال�شكل ف�شكل
و�أرجعوا ذلك �/إىل �أنى م�صاب /بحمى قريبة �أخذتها الق�صيدة ثابت منذ ديوانه راع املياه؟ ,ملاذا؟ لأنه
من �أبقاري. ميقت الزخارف ,يكره احليل الفارغة ،يكره ال�شكالنية
يجب �أن نتذكر طقو�س العرب لالحتفال بتد�شني يف العمق ،يريد �أن ي�صل ملا يريد كالطلقة ،يف خط
ال�شاعر املوهوب حيث تقام الوالئم وتذبح الذبائح م�ستقيم ،كاملطوي يف عنق �صنم� ،أله ،متبجع ،فارغ،
يف وجود ال�شعراء املخ�رضمني ،وهكذا يكت�سب �رشعية انه �شاعر ميقت ،الأكروبات البهلوانية ،التزيني،
وجوده ك�شاعر. التو�شية ،هذا ال�شاعر /روح الطفل ،الذي يت�صور نف�سه
هذا الديوان لي�س دفاع ًا فردي ُا عن الذات ،ولكنه دفاع قادراً على مواجهة العامل ،حتطيم الأ�صنام ببلطة،
عن الذات اجلمعية املهدرة �ضد اخل�صي� ،أنه ديوان الذي يقف كمخرج فاعل وقادر على �صناعة حياة
مقاوم بامتياز �ضد كل � /شذاذ الآفاق /ال�سلطويني بديلة ليقذف يف وجوهنا مب�شاهدة �شديدة الق�سوة
/املهيمنني � /ضد التنكيل به ودفعه �إىل احلائط 2 لكى ننتبه حلجم الكارثة ،يك�شف عن نف�سه املعذبة /
املحبة ،يف ق�صيدته� ،أبريل �أيها الطيب /،ف�أ�رصخ /
روافد ثالثة �أ�سا�سية بلورة ر�ؤية ال�شاعر �أبريل �أيها الطيب /بقرات �أبي /يف حاجة �إىل دواء /
-1ال�رسيالية :لقد حطمت ال�رسيالية احلدود والأطر و�أوالدي م�صابون ب�أمرا�ض الكالب /وحليتي طويلة
القومية ،انها ثورة جذرية� ،ضد الأطر� ،ضد التقاليد، /و�أحبها هكذا /لأنني وحيد /و�أفعاىل كلها /يل /
�ضد امل�ستقر� ،ضد الأعراف� ،ضد ال�سائد ،اتكاء على ولكي تزيح هذا الركام ال�صلب الظاهري ،لتكت�شف
منجز فرويد يف �أهمية احللم ،ت�سفيه العقل ،واعتماد عمق ه�شا�شة الذات ال�شعرية عليك �أن تقرا
288 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الكاوبوي و راعى البقر ،مو�سيقى الروك ،التاجنو، الكتابة الآلية لإلهام العقل الباطني املرتوك على
اجلاز ،ورغم ذلك تظل كلمات حمدودة ال تزيد عن �سجيته ل�رسد احللم ،ولذلك تفتقد الق�صيدة عند
ع�رش كلمات ،كما انه يعترب هذه اللغة جزءا من ال�رسياىل للمنطق وتربز ال�صورة كعن�رص م�شع،
مرياثه الكوين ,ورغم ذلك يتهم ال�شاعر ب�أنه تغريبي فاعل وت�صبح الق�صيدة عدة م�شاهد� ،شظايا� ،أنوار،
م�ستلب ،ع�رش كلمات يف ديوان من � 100صفحة، التماعات ،موزاييك على القاري �أن يعيد ترتيبها
يحفل بلغة نقية ع�رصية ،دالة،مثل ،احل�صاد ،البقر، كما ي�شاء ،فلي�س لل�رسيايل الأ�صيل �أن يعطي �صورة
الروحانيني ،الإيقاع ،القطار ،املقهى ،ال�سعادة، مكتملة �أو معنى كامال جاهزا ،بل عليه �أن يتعامل مع
تاجر اخلردة،القطيع ،اخليول ،احلار�س ،خلخال �أمه، الن�ص على �أنه جمموعة من الرموز الباطنية ،وعليه
احلروب ،القر�آن ،الأزهار� ،أنبياء ،ال�صحراء،القوارب، �أن يكت�شفها �أو ي�ؤولها كما يريد هو ،كما ان ال�رسيالية
املعزون،الرباري ،الكعبة،
ٌ الكتان ،ال�رضيح ،،ال�صالة، متجد احلرب وتعلى من قيمة القتل والهدم ،وقد جاء
ال�سهول ،ال�شعري ،اجلبال ،املنازل ,البو�ص،القمح، يف البيان الثانى لل�رسيالية ،على ل�سان بريتون ()1
الغناء ،املحارب،الهالل،الإن�شاد ،ف�رسيالية فتحي «من مقومات اب�سط عمل �رسياىل �أن ت�شهر امل�سد�سات،
عبداهلل ،ان لغة ال�شاعر لغة �صافية ،لغة نقية ،رغم يف ال�شارع وتطلق النار ع�شوائي ًا قدر امل�ستطاع بني
كونه ا�ستفاد من ال�رسيالية العاملية ولكنها �رسيالية اجلماهري» ولذلك حتفل ن�صو�ص ال�شاعر فتحى عبداهلل
خا�صة به� ،رسيالية م�صهوره داخلة ولذلك كثري من والبلطة ،وامل�صارعني،
بالقتل واجلثث وامل�سد�سات ٌ
�سمات �شعرية فتحي �ضد ال�رسيالية يف ال�صميم، والزوجة التي ت�أكل حلم زوجها ،والعنف ،ان
منها فكرة الفن فالق�صيدة بنت تراث الفن ال�شعري، ال�رسيالية داعية ،هدم ،داعية تفكيك ،داعية انتهاك
وهذا مهم لأن ال�رسيالية� ،ضد الفن ،و�ضد ال�شكل حرمات� ،أق�صى �أمانيه الو�صول حلالة م�شاعة لي�س
الثابت و�ضد الغنائية،و�ضد ال�شفافية املنمقة ،فلتقر�أ هناك قوانني �أو �أعراف م�شاعة مطلقة ،حرية مطلقة،
ديوان ،اثر البكاء والحظ الإيقاع الراق�ص حد الإن�شاد، لل�سحاقيات ،اللوطيون ،اخللعاء ،منتهكى زنا حمارم،
املو�سيقى الناعمة ،اللغة ال�سل�سة� ،أقر�أ ،الر�سائل عادة لنقر�أ من ق�صيدة �سعادة كربى:
ال تذكر املوتى ،ن�شيد وذكر م�ستمد من �إيقاعات عندها �سوف ي�ضع ال�سكني/على ذراع �أخته الكربى
احل�رضة التي يقيمها الأولياء وامل�شايخ يف الريف التي تلعب الكونغ فو/وتك�رس كل مر�آه تقابلها/ولو
امل�رصي ويف بلدة ال�شاعر؟ بال�صدفة/حتى امتلأت ال�شقة بالزجاج/وحينما
-2نيت�شه �:أن فل�سفة نيت�شه هى فل�سفة العقل احلر، ي�أخذها�/إىل جواره/يف ال�رسير/ال جتد �أي غ�ضا�ضة...
العقل الواعي ،فل�سفة قلب القيم وحتطيم الأ�صنام، تدمري نواة الأ�رسة والتحلل منها واالندفاع نحو
واخلروج من القيود الذي يرزح حتت نريها الإن�سان، العدمية املطلقة /لكي ي�صبح بطالً /عليه من الآن
ليكون �أكرث خ�ضوعاً ،ولذلك كان نيت�شه �آلة هدم ،هدم �أن يقتل �أمه
القيم البالية ،هدم للم�ستقر ،يعلى من قيمة الإن�سان �إن ال�رسيايل احلق هو من يبتكر لغة جديدة ،لغة بكر،
واختياره كما حرر الفل�سفة ،من اللغة الكهنوتية، مل مت�ضغ ،مل ت�ستهلك مل يتقي�أها اخلراتيت ،ولذلك
الرمزية املغلقة وانفتح على لغة ال�شعر ،لغة احلياة, رف�ض ال�رسياليني �أطالق فوق طبيعة على مذهبهم
ولذلك عندما ترجم �إىل العربية ,حتول ل�رصعة جليل لأنها كلمة موجودة ،وم�ستقره ،وال ميكن �أن تخلق لغة
�شاب من ال�شعراء والفنانني ،كما �أنه يبجل القوة، جديدة �سوى اقتحام مناطق ،جديدة ،جغرافيا بديلة،
وكر�ست �أخالق
حملت لواء الن�ضال �ضد �أخالق ال�سادة َّ مناخات خمتلفة ،ولذلك ميتح ال�شاعر من القامو�س
العبيد ،مبا فيها من �ضعف وعجز،لذلك وقف نيت�شه الغربي يف �سعادة مت�أخرة ومن الرتاث العربى القدمي
تكر�سه من �أفكار ،فدعا موقفه الراف�ض للم�سيحية ,ملا ِّ بعد ذلك يف دواوين ،اثر البكاء ،والر�سائل عادة
جتاوزها ،وبناء �أخالق جديدة تقوم على �إرادة ُ �إىل ال تذكر املوتى ،ولذلك تتناثر ،كلمات مثل ،العبي
289 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
احلاد ،ومل تخرج الق�صيدة عنده عن ثالثة �ضمائر ،قد القوة وقد مت ا�ستخدام فل�سفته لتربير العنف لدى
تقل ولكن ال تزيد ،وخري معرب عن ما نريد �أن نقول النظم الفا�شية وقد ت�أثر ال�رسياليون بفل�سفة نيت�شه
جنده يف ق�صيدة رجل ال�ساونا من «مو�سيقيون لأدوار وكانت زادا وملهما لكثري من �أفكارهم خا�صة فكرة
�صغرية» ،ال�ضمري يف البداية يقوم بالدور الو�صفي: الهدم والعدمية.
بعد حمامها /يف ال�صباح /و�سماع الآيات من/ � – 3إذا كانت ال�رسيالية فتحت وعي ال�شاعر على
القارئ الأعمى /تعود حلجرة البخار /و�آالم املفا�صل مناطق جديدة يف الكتابة ،فعني ال�شاعر الفاح�صة،
ويف منت�صف الق�صيدة دخول ينتقل ال�ضمري ل�شخ�صية للواقع املعي�ش كانت لها �أبلغ الأثر يف تكوين ر�ؤية
لتعرب عن �أحوالها: ال�شاعر ،فال�شاعر مل ينكفئ على ذاته يف عزلة فوقية
ال تكن قا�سيا هكذا /ففي الزيارات الأخرية/ مكتفي بالزاد املعريف العميق ،بل انخرط يف جتربة
مل ت�سمع هذياين /كما تعودت /ومل تتحدث عن معي�شة غاية يف الرثاء ،زاده النا�س من كل الطبقات ،ال
جارتك /التى ت�أكل يف الليل والنهار ي�ستقر ،ينتقل من مكان لآخر ،من مقهى لآخر� ،صديق
ثم يختم الق�صيدة ب�ضمري ليعرب عن �شخ�صية �أخرى اجلميع وعدو اجلميع ،مفرتى عليه ومفرت علينا ,فهو ال
لرتد على املر�أة التي ظهرت يف بداية الق�صيدة: �أخالقي متاما ،ملوث ،خائن ،خمادع ،ماكر� ،,إذا ق�سته
ال ا�سمع �إال �أ�صواتك /يف ال�شارع /او يف املقهى على الف�ضائل واملثل التي يكر�سها املجتمع ،الأخالق
او داخل امل�صعد /فت�أملي ب�سماحة� /أكرث من هذا الزائفة التي تكر�س لل�ضعف واجلنب ،والو�ضاعة حتت
�أن لعبة الأ�صوات املتعددة هي الأ�سا�س يف تعقيد �ستار معان نبيلة وفا�ضلة ،ولكن لو ق�سته بكونه
الق�صيدة لدى ال�شاعر فتحي عبداهلل ومبجرد ما تفكك هذه �شاعرا �رسياليا حقيقيا ،ف�ستكت�شف يف العمق كم هو،
اللعبة اخلبيثة �سي�رشق الن�ص بداللته ،ب�شخو�صه بعوامله فهو هنا مت�سق مع نف�سه متاماً� ،أن ال�رسيايل الأخري
�أن عوامل ال�شاعر فتحي عبداهلل عوامل خمتلفة و�رسية يريد �أن يقدم اجنازا معتدا به باعتباره طهرانيا
وتعرب عن مناطق غام�ضة يف حياتنا ،ال ميكن �أن تظهر و�صوفيا ،عتيدا ودروي�شا.
لنا �سوى يف الأحالم حيث الرباءة والن�صاعة وال�شفافية, �أما ديوان :مو�سيقيون الدوار �صغرية ،فهو ديوان
�أما اخليال لدى ال�شاعر فهو خيال باذخ ،خيال فانتازي الوم�ضات ال�صغرية ،الفال�شات املكثفة الناعمة
خميف ويحتاج لدرا�سة نقدية منف�صلة لتعطيه حقه. وامل�ستفيدة من تقنية الفيديو كليب يجمع فيها بني
3 عنا�رص املكونة للواقع وت�ضفري م�شهد يعرب عن �إيقاع
�أثر البكاء ديوان فارق يف جتربة ال�شاعر فتحي عبد اهلل، املدينة تر�صد ،الراق�صة ،العواد ،املمثل ،العجوز من
فقد مت كتابته �أثر حرب اخلليج الثانية و�سقوط بغداد قيمة كل ماهو ح�سي ،فقد جاء تعبريا عن دور املديا
حتت �رضبات قوي حتالف ال�رش ،يف هذا الديوان الأكرث يف احلياة احلديثة وتعظيم دور اللذة حتى �أدى �إىل
تعقيداً ،والأكرث غمو�ض ًا حتت وابل من الأقنعة والرموز ا�ستالب الإن�سان فغلب عليه العدمية وانعدام اجلدوي،
الذي ي�صعب ت�ضفريها يف �سياق ما ،فكل دواوين يخرجون جماعات� /إىل ال�صيد/ال قوارب /وال �أ�سماك.
فتحي ال�سابقة هناك وحدة الديوان ،حتت راية فكرة كما يعتمد بناء الق�صيدة من خالل �ضمري غائب
يف بداية الق�صيدة يقوم بالدور الو�صفي للم�شهد
مركزية فهو ال يكتب ق�صائد متناثرة ،وقد يكون �سقوط
ثم ي�سلم �إىل راو �آخر دائم ًا ما تكون �شخ�صية داخل
بغداد ،تكئة لي�ستعيد بغداد ،الذي عا�ش فيها فرتة مهمة
امل�شهد لتعرب عن مذاقها الوجودي او تك�شف عن
من حياته ،بغداد ،احللم الآ�رس ب�شخو�صه القريبة �إىل
جانب مظلم من امل�شهد �أو تعلن خربا ما غام�ضا ثم
روحة� ،سعدي ،يو�سف ،تركى ن�صار� ،رسكون بول�س،
يتبعه دائم ًا اجلانب الطقو�سي يف الن�ص ثم يعود مرة
مايكل جاك�سون ،ويتمان ،املوالد والأذكار ،احل�سينيات
�أخرى ال�صوت الأول او �شخ�صية �أخرى لتفل الق�صيدة،
وامل�شاهد الطقو�سي املرعبة.. وهذه ال�سمة املكونة للق�صيدة ،ال تختلف من ق�صيدة
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) لأخري ،وك�أنه يرتب بعناية الن�ص من خالل الذهن
290 نزوى العدد - 75يوليو 2013
«دي�سكوالند» �أ�سعد اجلبوري
وكائنات مملكة الظالم
نـذيـر جعفـر
ناقد وروائي من �سورية
بلغة �أهل ال�صحراء وتكت�سب عاداتهم وتقاليدهم, عنهم ,وقتلهم والتمثيل بجثثهم �سواء كانوا رجاال من
ومن خالل �شبكة العالقات االجتماعية الوا�سعة التي ن�ساء من حمظياته!معارفه وخ�صومه و�أ�صدقائه� ,أم ً
حتيط ب�أمها «�سوين» يف بريوت ,مثل« :الوزير قي�رص �أم وزراء ورجاالت بالط وبرملان ,على نحو ما فعله
فريد وزوجته هالة قي�س �صاحبة غالريي «ال�شمعة بـ«هوال �سك�سن» رئي�سة الربملان التي ق�ضت نحبها
الزرقاء» .وعي�سى املع�شوق مدير وكالة للطريان, غرق ًا على �أثر مناق�شتها لقراراته املت�أ�سلمة يف منع
و�سهاد فواز مديرة لبنك جتاري .و�سعيد وجدي اخلمر و�سواه ,و�إلقائها خطابا �ضده!
الذي يعمل يف جتارة الذهب والتوكيالت البحرية، وتتحول «دي�سكوالند» حتت ظله �إىل م�ستنقع ّ
بالإ�ضافة �إىل الدكتور ممتاز ال�رشقي الذي ميلك للعن�رصية ,ومملكة للكائنات املتوح�شة ,تنذر بفناء
حمطة للتلفزيون وداراً للن�رش .و�صوالجن اجلوزي التي من يعي�شون فيها ,لي�صبح م�صريهم �أ�شبه مب�صري
كانت تتوىل الإ�رشاف على دار الأوبرا �ص.»204 «هنود التافديزين»!
وباختبار ك ٍّل من «�سوين» و�صديقتها «لونا» للغرب ويدخل هذا الن�سق املتعلّق بـ«طورو�س» يف �سياق
وال�رشق يف رحلتهما الطويلة ,تتبادالن الر�سائل التي اخلطاب العجائبي املفارق للواقع واملت�شابك معه يف
تك�شف عن التناق�ض من جهة والتكامل من جهة يتوخى ر�سم �صورة مرعبة للديكتاتور ّ �آن معاً ,الذي
ثانية بني هذين العاملني .ففي الوقت الذي يبدو فيه ال�سادي التكفريي و�إحداث الإثارة والتو ّتر واالنفتاح ّ
وعاطفيا و�ساحرا وم�شتع ًال بالرغبات
ّ روحانيا
ّ ال�رشق على الت�أويل ,وتنمية ال�سرّ د وتو�سيع حدوده ,وك�رس
اجل�سدية التي ال ميكن اخلروج من �أقفا�صها ,ف�إنّ رتابته .فيمنح بذلك دينامية عالية لل ّن�ص يف حتفيز
الغرب ال يعدو �أن يكون يف نظر «لونا» �سوى: خميلة القارئ ,و�إثارة �أ�سئلته ,وا�ستنطاق موقفه ّ
واحلب واملال وال�شهرة
ّ «�شيخوخة مبكرة للم�شاعر الأخالقي والإن�ساين لإدانة هذا النموذج والنفور منه
والرفاه �صّ � .»267أما «�سوين» فرتى ال�رشق والروح ّ �أو لت�سويغه وفهم دوافعه على �أقل تقدير.
والغرب لوحة واحدة يف ق�سمني« :وال ي�صح لن�صف ـ ال ّن�سق الرابع� ,سوين:
اللوحة التهام الن�صف الآخر ،ما دام العدل يق�ضي
ب�رشعية التقا�سم �ص .»268وتعك�س تلك الآراء �شخ�صية «�سوين» حتت عنوان:
ّ ينفتح هذا الن�سق على
و�سواها عن ال�رشق والغرب �صوت الراوي /الكاتب, تقرر الهروب بربع مليون«تراجيديا الهجرة» ,حيث ّ
�شخ�صياته ونربته ولغته �أكرث مما تعك�س منطوق دوالر من اخلزينة العامة مع ابنتها ال�صغرية «مونو»
ّ
الروائية. املثلية «لونا» �إىل
ّ وزوجها «النك�سن» و�صديقتها
ي�صور مواقف �أملانيا ,ومنها �إىل املغرب العربي ,فبريوت .لكن
ويف �سياق هذا الن�سق اال�ست�رشاقي الذي ّ
و�آراء «�سوين» و«لونا» تتواىل �صور الهجرة وت ّت�سع من الأقدار تعاك�سها فتفقد ابنتها على ال�شاطئ ,و ُيعتقل
الغرب �إىل ال�رشق ب�سبب ممار�سات «طورو�س» وتت�شكّل زوجها ,وت�ضطر لل�سفر مع �صديقتها فقط .وكما فرقت
يف املنفي جماعات املعار�ضة ال�سيا�سية وامل�سلّحة الأقدار بني الأم وابنتها جتمعهما من جديد بعدما
الدي�سكوالندية ,املناوئة للحكومة .وتقام الندوات اختطف الغجر «مونو» وذهبوا بها �إىل ال�صحراء.
ّ
واملعار�ض املن ّددة بقرارات وممار�سات «طورو�س», وهناك تلتقي ب�صديقة �أمها «لونا» املرتبطة بال�شاعر
مثل معر�ض «روتي بينك» يف بريوت عن فظاعة «ورد الكعبي» واملغرمة حديث ًا بالغجرية «هديلو»
للتج�س�س على اال�ستبداد يف عهده .كما تت�شكّل حلقات فتدفع بها لل�سفر �إىل بريوت واللقاء ب�أمها عند رجل
ّ
هذه املعار�ضة ورفع التقارير بها �إىل «طورو�س»! الأعمال «بريم داغر».
يك�شف هذا الن�سق عن �صورة اجلنوب العربي يف عيون
ـ الن�سق اخلام�س� :آدم ال�سومري: ال�شمال الإ�سكندنايف ,وعن التفاعل الإن�ساين بينهما
ب�شخ�صية الراوي/
ّ �شخ�صية �آدم ال�سومري
ّ تتماهى من خالل ال�صغرية «مونو» التي �رسعان ما تتح ّدث
293 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
تاريخية ,وتوظيفها ب�أ�شكال خمتلفة على خلفية الكاتب العراقي �أ�سعد اجلبوري نف�سه ,الذي يقتحم
املفارقة ,واملعار�ضة ,واملحاكاة ال�ساخرة(.)1 �صوته الربنامج ال�سرّ دي ,بو�صفه مكلّفا ب�إعادة كتابة
«التحول» يف هذا الن�سق من ّ وميكن معاينة ثيمة رواية �ستيفاين بروك�سن« :قيامة الدينا�صور» التي
حتول «�آدم» �إىل عود ثقاب « :مل «دي�سكوالند» يف ّ مل تعجب الديكتاتور«طورو�س» لأنها مل ت�شتمل على
�أعرف ب�أن ال�شخ�ص الذي �أم�سكني من ذراعي يف ذلك ما يكفي من �صور القتل التي متكنه من زرع الرعب
اليوم ،كان هو حبة الكربيت امل�ستقرة على ر�أ�س عود والهول يف نفو�س مواطنيه« :لقد انتخبتك الكارثة
الثقاب الذي هو �أنا �ص .»374ويف حكاية �آدم عن الآن يا �آدم .ومن �أجل ماذا؟ من �أجل �أن تكمل رواية
حتول �آدم وابنةعالقته بابنة عمه وبكلبه ,وكيف ّ تفوح منها رائحة العنف واال�ستبداد واملوت� .ستكتب
حتول الكلب �إىل ذئب!
عمه �إىل كلبني ينبحان! ثم كيف ّ تاريخ املوتى .لذا عليك تهيئة النف�س لل�سباحة يف
م�شوية! والعاقل �إىل
ّ والطعام �إىل �أفخاذ جنود و�سجناء الدم .فهو احلرب الوحيد الذي �سيتم فيه تدوين طقو�س
جمنون! ثم كيف عاد «�ستيفاين بروك�سن» من املوت الإرهاب و�أحداثه �ص.»290
�إىل احلياة ليكتب �شهادته عن الرواية التي كُ لِّف بها, وبرف�ض «�آدم» لهذه املهمة حت ّل عليه لعنة وزير
وعن «طورو�س» وزمنه وعن�رصيته! كما ميكن معاينة «احلوا�س» ,ومدير �شعبة «ال�صم النطق البكم» اللذين
ثيمة التنا�ص يف ا�ستلهام حكاية «�سندريال» وق�صة أدبية) ليواجه
يدفعان به �إىل الزنزانة (الزريبة ال ّ
�أبي الب�رش «�آدم» وعقابه على خطيئته ,وع�رشات تخيلها
�صنوف التعذيب التي مل ت�سعفه موهبته يف ّ
النماذج التاريخية واملعا�رصة التي تتم ّثل يف �صورة من قبل! بدءا من مترين «نزهة الرباءة» مرورا بتمرين
الديكتاتور «طورو�س» .وبتكامل هاتني الثيمتني: «مكب�س احلرير» ,وانتهاء بتمرين «هم�س املالئكة».
«التحول» و«التنا�ص» وتناغمهما يرتقي الربنامج ّ املرة
وتعك�س �أ�سماء هذه التمارين املفارقة ال�ساخرة ّ
ال�رسدي يف «دي�سوكالند» �إىل م�صاف الفن الرفيع بني داللتها اللغوية وداللتها الواقعية التي تنطوي
املمتع واملح ّفز واملثري. على �ش ّتى �أنواع التعذيب املبتكرة ,و�أعنف االحتقار
ـ ال�صيغ ال�سرديّة: للكائن الب�رشي .وب�سببها يذعن «�آدم ال�سومري»
يف النهاية لكتابة رواية جديدة عن الإمرباطور
تتباين م�ستويات ال�رسد يف «دي�سكوالند» ما بني «طورو�س» حتت عنوان« :دي�سكوالند» وهي الرواية
الواقعية املتم ّثلة يف ت�صوير حياة الأب «مالك», التي بني �أيدينا .والتي و�صلت لنا �إحدى ن�سخها
�شخ�صية وحياة
ّ والفانتازية املتم ّثلة يف ت�صوير امللقاة من يد «طورو�س» وهو برفقة كاتبها «�آدم
«طورو�س» .كما تتباين م�ستويات اللغة ما بني ال�شمال!
ال�سومري» على يخته الذي ميخر عباب بحر ّ
التوا�صلية التي حتر�ص على �إي�صال املعنى
ّ الوظيفية ومن هنا ُي ْد َر ُج هذا الن�سق ال�رسدي يف �سياق «امليتا
املخيلة
ّ املبا�رش ,واملجازية ال�شاعرية التي تطلق أولي ًا لفكرتها و�أ�سبابها
رواية» بو�صفه �رشح ًا � ّ
وتو�سع دوائر داللة ال ّن�ص« :كان الليل يف اخلارج
ّ درج على م�ستوى التخييل يف
معطف ًا ثقي ًال �ص« ,»4الزمن جي�ش طويل يخرتق وظروف كتابتها ,كما ُي َ
�سياق اخلطاب الفانتازي القائم على عدد من الثيمات
جثماين �ص« ,»5كان املث ّنى نهراً �ص« ,»42لوزانا «التحول» و«ال ّتنا�ص» .و ُيعنى املتواترة لعل �أبرزها:
ملونة ّ
برية يف حقل �شا�سع �ص�« ,»83أنت لوحة ّ
زهرة ّ التحول باالنتقال من الواقعي �إىل امليتافيزيقي ,ومن ّ
بالرغبات �ص.»203 املادي� ,أو العك�سّ � .أما التنا�ص ف ُيعنى إىل � الروحي
ّ
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) با�ستلهام املوروث ال�رسدي من ق�ص�ص خيالية,
وحكايات �شعبية ,و�أمثوالت رمزية ,و�شخ�صيات
تفا�ضل بني اللغات� .أي �أن اللغة ال تكت�سي �أهميتها من نكهة الطم�أنينة واملتعة الك�سلى وت�سعى ،بوعي
�إال داخل منطوقها الن�صي؛ و�أن لل�شخ�صيات م�سبق ومق�صود� ،إىل ت�شوي�ش معتاده التخيلي الذي
الق�ص�صية احلق يف انتقاد اللغة التي حتوي �أفكارهم �سي�ست�سلم للجاهز والبدهي� .إذ ما قيمة القراءة كفعل
ور�ؤاهم ،وجت�سد العوامل وفق منظوراتهم؛ ما دامت وكممار�سة� ،إذا مل حترك �أ�شجان القارئ ،وت�شغل
اللغة �أنظمة توا�صلية تختلف باختالف املجموعات ذهنه ،وت�شحنه بالأ�سئلة النقدية من �أجل �إعادة النظر
الب�رشية؛ ح�سب ثقافتها وهمومها و�أ�سئلتها التي ال يف امل�سلمات التي ت�أ�س�ست وفق الرتاكم االعتيادي
تت�شابه البتة .فالن�ص مثله مثل العامل من حقه �أن الطقو�سي؟ تقول الراوية يف بداية �أحد الن�صو�ص:
يت�سع لكل الفئات والأقليات والأعراق واملجموعات. «مل يجر�ؤ �أحد منهم على خرق ال�صمت» ،1وتقول يف
�إن اللغة غري مقد�سة هنا ،وال هي حمتفظة بنقائها: النهاية« :للحكمة ،فعال ،ر�ؤو�س خم�صو�صة تنبت
�إذ تتجاور اللهجة والف�صحى ،الأجنبية واملحلية فيها» .2فمثلما �أن القارئ ي�شعر ب�أن الن�ص ال بداية
يف تعاي�ش تام دومنا �إح�سا�س بالنق�ص �أو الدونية. له ،يخرج من حلبته يف الأخري وهو يح�س ب�أنه ال
ومن مناذج هذا التجاور :العامية املغربيـــــــــة نهاية له ،وما على القارئ �إال �أن ي�ؤ�س�س مقروئيته
(املكتـــــاب ما منو هروب) ،الأمازيغيـــــــة (�أقمو اخلا�صة لبداية الن�ص ونهايته ،بل �أي�ضا لو�سطه،
نينان �سوظ �إ�سوظ) ،الأجنبيـــــة (Vous n›avez بحكم �أنه مطالب ب�إعادة ت�شكيل �صياغة مفرت�ضة
pas le droit de le frapper… La police له تن�سجم مع البداية والنهاية اللتني يقرتحهما.
،)est en routeف�ضال عن اللغة العربية الف�صحى وتتعمق ،عرب املنت ،الر�ؤية التجريبية يف تك�سري
التي تلحم مكونات الن�ص .والأكيد �أن العربية لن خطية ال�رسد وترتيب الأحداث ،حيث ال وجود لنظام
ي�ضريها هذا التعدد اللغوي وهذا الزخم من الأنظمة قار ي�ؤثث البنية .وغالبا ما يثور الرواة على ال�رسد
العالماتية ،بل ي�شكل �إثراء لها ،وتطعيما ملكوناتها. نف�سه ،فت�صبح الكتابة �أقرب ما تكون �إىل الت�أمل
ويعد هذا دفاعا عن تعاي�ش املختلفات وجتاوزها الفل�سفي والنقد املقايل للظواهر ،خا�صة ملّا جتعل
نب لنظرة باختني بدل اجتثاث النقي�ض وتهمي�شه ،وت ٍّ الراوية نف�سها �شخ�صية تقتحم حلبة ال�رصاع را�سمة
حول اخلطاب املهجن �أو البوليفوين. بذلك حدود التوزع وامتالء احلدث ونزول الفكرة
�أما على م�ستوى الق�ضايا املطروقة والظواهر وحترك ال�شخ�صية و�أفق التحول من حالة �إىل حالة،
املتناولة ،فيتجه املنجز �إىل النظرة ال�ساخرة م�صورة نف�سها «�إلها» يتحكم يف العوامل ،ويكب�س
ملنظومة القيم ال�سائدة التي ت�ستند �إىل املوروث �أنفا�س ال�شخو�ص ويوجه �أفكارها وحواراتها (التي
التقليدي يف غياب مطلق للعقل وت�شغيل املنطق. تكون نادرة) .وهذا الو�ضع الذي تربز فيه الراوية
وهو اجتاه يو�ضح عدم ر�ضى الكاتبة عن حالة يخدم فكرة مفادها تقزم ال�شخ�صية الإن�سية ،وتنميط
االطمئنان املخيفة التي يتبناها الإن�سان العربي فكرها ،والدو�س على القيم اجلميلة التي ميليها
جتاه ما يفكر فيه؛ وما ي�ستهلكه من قيم ،وك�أنه الطابع الب�رشي ،حيث �أ�صبح الإن�سان جمرد �شيء
�أجوف خال من العقل .لقد �أدت النظرة القد�سية يف عامل حتتكر فيه املادية كل املجاالت ،وتنتهك
بالإن�سان العربي �إىل اعتبار كل �شيء ثابت يجب الت�شييئية خمتلف �أن�شطة الب�رش ملتهمة بذلك كل ما
�أن ينظر �إليه مثلما َنظر �إليه ال�سابقون دون بذل �أي يحفظ �صورة الب�رش داخل عامل يتعقد يوما عن يوم
جهد لت�شغيل العقل� .إن الإن�سان العربي ،بهكذا فعل، معلنا (نهاية الإن�سان) و(موت امل�ؤلف) واقرتاب
يحيل �أقوى مميزاته الب�رشية على التقاعد الأبدي نهاية الكون وما �إىل ذلك من الر�ؤى الن�سقية...
الذي هو العقل .وهو و�ضع م�أ�سوف عليه تبعا ومل ت�سلم اللغة نف�سها من هذا الدفق النقدي� .إذ ترى
للمنجز ،وهذه هي الر�سالة التي ت�سعى املجموعة املجموعة ،انبثاقا عن �أ�سلوب تعاملها مع اللغة� ،أال
297 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
معنيا �أي�ضا بهذه احلفرية؛ ف�إن �أطروحة املر�أة �أو ما لرت�سيخها ،والأطروحة التي تدافع عنها طيلة م�سار
ي�صطلح عليها البع�ض الن�سوية ()Féminisme امل�رسود.
ال ت�شكل ،عرب الت�صور الذي تقرتحه املجموعة �إال وتبدو الأطروحة الن�صية التي تنتقد الواقع
عن�رصا �ضمن ن�سق متجان�س من الق�ضايا العالقة وتعري ب�سخرية جارحة زيفه واندحار قيمه ،يف
التي ميثل الرجل �أي�ضا جزءا من معادلتها .ذلك �أن جتلي ال�صورة التي تبدو عليها حياة ال�شخو�ص
املر�أة والرجل معا عانيا ،ب�صورة جتعل كال منهما ونف�سياتهم ،ويف اندحار متثالتهم حول العامل،
يبدو �أنه �سبب م�أ�ساة الآخر ،من م�ؤامرة التاريخ ويف رف�ضهم لأحوالهم االجتماعية .ومن هنا،
التي ي�صنعها الإن�سان نف�سه باجرتار �أفكار ور�ؤى كانت النظرة النقدية ال�سلطوية للرواة تت�سع را�سمة،
وتقاليد الآخرين� .إنها جتاوز حمنة اجل�سد الثقايف بذلك ،حدود العالقة بني الراوي وال�شخ�صية والعامل
ككل .ذلك الذي تتفاعل فيه مكونات اللغة ،العادات، والكاتبة ،والتي كلما ات�سعت؛ ازدادت �صور املفارقة
ال�سلوكات ،الأفكار ،اللبا�س ،توا�صل الب�رش ،العلم، والتوج�س وتراجع النزعة الإن�سانية لدى ال�شخو�ص
املحكيات الكربى ،الغرائز ،ال�سيكولوجيا ...وغري من خالل اغتيال عزائمها و�إرادتها وقوتها على
ذلك. التحدي وال�صمود من �أجل اخلال�ص .لقد افتقدت
لقد جنحت فاحتة الطايب يف اقرتاح طبق ق�ص�صي ال�شخ�صيات ،عرب الن�صو�ص ،نكهة االنت�صار .وكان
د�سم �أمام القارئ املتعدد .ولئن كان هذا الطبق قد قدرها الن�صي الذي �سلطه عليها الرواة لإبالغ
ُه ّيئ ،عن ق�صد نقدي ح�سا�س ،ب�صيغة تتعب املتلقي، ر�سالتهم ،هو �أن تكون �أبدا يف ذلة الهزمية ،متجرعة
وت�شغله يف �إعادة تركيب املنت املختل الرتتيب �سخرية العامل من حولها ،متوهمة انت�صاراتها
والتوازن ال�سريوري لبنية املحكي ،ويت�أ�س�س يف �صور مزيفة احل�ضور( :كان دائم البحث عن
على حمكي يتجاوز ال�رسد �إىل النقد والت�أمل ،فقد االنت�صارات ...انت�صار الفريق الوطني يف مباراة
دولية ،حدث الأحداث .عندما ال ي�سعفه الفريق
يجد فيه كل باحث �ضالته :املحكي الإثنوغرايف،
الوطني يلتفت �إىل الفرق اجلهوية ،ينتقل من فريق
اللّ�سني ،التاريخي ،الفل�سفي ،التخطيب ال�رسدي،
�إىل �آخر �إىل �أن ينقذه انت�صار عداء �أو عداءة يف
البعد التداويل ،املنحى ال�سيميائي ...وغريها .ودون
�ألعاب القوى .حتى انت�صاره يف لعبة ال�ضومينو
�شكّ � ،سترثي هذه التجربة ما تراكم ،يف املغرب ويف
ي�صريه حدثا» .3لقد باتت ال�شخ�صية تبحث عن طعم
العامل العربي ،من ح�سا�سيات �رسدية متزج بني
الفوز خارج نطاق الذات واجل�سد ،يف �أي �شيء تراه
التطلعات الداللية للع�رص ،والرهانات التجريبية كفيال بتح�سي�سها بهذه الن�شوة املفقودة.
الق�صة يف �أفق م�سايرة م�سل�سل التطورات
ل�شكل بناء ّ وال �أن�سى الإ�شارة �إىل �أن الكاتبة ،عرب هذه املجموعة،
الالمهادنة التي تع�صف بالعامل. حتاور �أي�ضا اجل�سد ،وحتفر تر�سباته النف�سية
- 1فاحتة الطايب :حكاية تبحث عن عنوان ،...جمموعة ق�ص�صية ،دار العميقة لدى الرواة وال�شخو�ص معا ،وك�أنها تعمل
دال للن�رش والتوزيع ،دم�شق� ،سوريا ،ط2012 ،1 .م� ،ص. 61.
- 2امل�صدر نف�سه� ،ص.63 .
حفريات �أركيولوجية يف ذاكرة هذا اجل�سد .ولئن
- 3فاحتة الطايب ،م�صدر مذكور� ،ص.40 . كان اجل�سد الأنثوي ب�أ�سئلته الف�ضفا�ضة واملتداخلة
«مل يكن يعرف �أن �أجنحته م�صنوعة من ال�شمع كلّما قر�أت ن�صا ق�ص�ص ّيا للكاتبة ب�رشى خلفان �أجد نف�سي
لذا حلّق قريبا من ال�شم�س/ال�شم�س مل تعرف ذلك �أي�ضا/ منبهرا بلغة ال�شعر التي تطفح من جملها املكتنزة ب�ضوئه
لكن اخلوف ت�سلّل من قلب �أبيه/وو�شى به »... يدي
د�ست م� ّؤخرا بني ّ وده�شته ،لذا مل �أفاج أ� حينما ّ
يف ن�ص �آخر نقر�أ: مطبوعا �أنيقا بحجم كفّ اليد �صدر �ضمن من�شورات «بيت
«ثالثة �أطفال/بنتان وولد/ولدان وبنت/طفالن/بنت احلب وال�ضحك» حتت م�س ّمى الغ�شّ ام» حمل عنوان» مظلّة ّ
«ن�صو�ص» وهو تو�صيف �أرادت به الكاتبة ترك الباب
وولد/ولدان �أو بنتان/طفل واحد/ولد�/أو بنت
والقراء لت�صنيف الكتاب ،فهل ماورد يف مفتوحا للنقّاد ّ
هذا ما كانت تهم�س به /وهو ميد لها يده يف الظالم»
املطبوع «ق�ص�ص ق�صرية ج ّدا» نظرا خليوط ال�رسد التي
لو فح�صنا الن�صو�ص املذكورة فح�صا دقيقا نرى � ّإن تربط اجلمل بع�ضها ببع�ض؟ �أم �شعر؟؟ �أم منط �آخر من
عنا�رص ال�رسد متوافرة فيها من �شخو�ص وحوار وبنية الن�ص ّية؟
الكتابة ّ
لكن الكاتبة قامت بغربلة الن�ص وحذف الو�صف حكائ ّيةّ ، يف «توطئة» الذي افتتحت به الإ�صدار تقول ب�رشى :
والتفا�صيل و�أبقت على جوهر البنية ال�رسدية،وبذلك «لأين ال �أعرفني� /صديقتي التي تعرفني جيدا
قالت يل � :أنت حتبني الكتابة �أكرث منه»
وهي «توطئة» حتمل الكثري من املفاتيح ال�رضورية
لقراءة الإ�صدار ،بدء�أ من بناء الن�ص،وهو بناء �شعري،
تف�ضلها
ولي�س انتهاء بالعالقة امل�شيم ّية بالكتابة التي ّ
«الكاتبة» على من حتب ،يف «نريفانا» نقر�أ :
«�أبوها و�أمها /من�شغالن/بكراهية الطريق
وهي على املقعد اخللفي/تداعب امل�صابيح
على زجاج الليل/وتبت�سم»
فالكاتبة هنا تر�سم م�شهدا ،عاد ّيا لرجل وامر�أة يف طريق،
يتح ّدثان يف �أمور �ش ّتى تتعلّق بـ«طريق احلياة» املليء
باملط ّبات ،ثم تنتقل ال�صورة �إىل اخللف حيث جتل�س طفلة
تراقب،من خلل عتمة الأحاديث� ،أ�ضواء امل�صابيح باحثة
عن �ضوء يف �آخر النفق.
وت�ستح�رض حكاية «عبا�س بن فرنا�س» الذي حلم ب�أن
يحلّق يف ال�سماء كما الطائر م�ستعينا ب�أجنحة من ال�شمع
يف ن�ص «و�شاية»دون �أن ت�شري �إىل ذلك ،لك ّنها تلوي عنق
الأ�سطورة لتخرج لنا بحكاية جديدة:
299 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
وتريد �أن تخرج �إىل ذلك الف�ضاء ال�شا�سع :ال�شعر فقد وجلت منطقة ال�شعر القائمة على الإختزال واللمح
ولكن هل ماكتبت ب�رشى خلفان يف �إ�صدارها اجلديد والإ�شارة
ميكن له �أن يقف بعل ّو قامته يف مدائن ال�شعر و يطيل واكتفت بب�ضع كلمات لتكتب ما ي�شبه «الهايكو» الياباين
املكوث فيها؟ الذي يت�ألف من بيت واحد فقط ،مكون من �سبعة ع�رش
تتهرب «ب�رشى» من الإجابة عنه، هذا ال�س�ؤال كثريا ما ّ مقطعا �صوتيا ،ويكتب عادة يف ثالثة �أ�سطر� ،أو الدارمي،
وحني �س�ألتها �إن كانت تنوي الت�سلّل �إىل منطقة ال�شعر، وهو من فنون ال�شعر ال�شعبي العراقي املتداولة يف مناطق
وهي منطقة تنظر لها بعني الهيبة ،نفت ذلك ب�ش ّدة واكتفت الفرات الأو�سط وجنوبه ويقوم هذا الفن على اختزال
بو�ضع ا�صبعها على مفردة «ن�صو�ص»؟ املعنى �أو التجربة ال�شعور ّية يف بيت واحد هو مبثابة
�أم ي�ص ّنف حتت م�س ّمى «ن�ص مفتوح» كما فعلت يف ق�صيدة كاملة
كتابها «غبار» الذي نظر �إليه د.غالب املطّ لبي « ن�ص كقول ال�شاعر �« :أرد ان�شدك وارجوك �صارحني ياهواي/
نرثي عايل اللغة حتاول الكاتبة فيه �صنع «قول جميل» تذكرين لوغ�صيت من ت�رشب املــاي»
من غري اهتمام مق�صود باجلن�س الذي ينتمي اليه ذلك �أو ق�صيدة «الوم�ضة» وهي «�أمنوذج �شعري مبا تكتنزه
القول و قبل الدخول يف تف�صيالت البنى ال�رسدية التي من ملفوظات قليلة ،ذات دالالت كثرية ،و�إيحاءات
حتكم الن�ص» ور�أى « �أن من املمكن لنا اي�ضا �أن ننظر خ�صبة،تتخ َّلق من ذاتها ،وعلى ذاتها،يف حركة ب�ؤر ّية
اليه على إ� ّنه جمموعة من الر�سائل املكتوبة بلغة نرثية مكثفة ،ومتوترة ،ونامية مع كل قراءة» كما يرى د.حممود
عالية مفعمة بالطاقة ال�شعرية ،لكن ذلك ال مينع �أن ننظر جابر عبا�س ،يف مقال من�شور بجريدة «الفينيق» بعدد
�إليه على �أ ّنه ن�ص �رسدي حمكوم بهيمنة عنا�رص �رسدية �صدر يف 2000-9-1م �أو الق�صيدة الق�صرية التي
�أ�سا�س ّية مثل الراوي ،واملروي له ،والتبئري والأفعال، ح ّددها الناقد هريبرت ريديف كتابه (ال�شكل يف الق�صيدة
واملكان ،والزمان ال�رسدي» احلديثة) بقوله «عندما ميكن ح�رص املحتوى بدفقة فكرية
ف�إذا كانت «ب�رشى خلفان «قد وقفت يف «غبار» مبنطقة واحدة وا�ضحة البداية والنهاية،بحيث تبدو يف وحدة
و�سطى بني ال�شعر وال�رسد ف إ� ّنها يف �إ�صدارها اجلديد ب ّينة،عندها ميكن القول �أننا �أمام الق�صيدة الق�صرية»
جعلت الكفّة متيل كثريا باجتاه عامل الكتابة ال�شعر ّية و�أرى � ّإن ب�رشى خلفان ،مع �سعة �إطّ العها،وهي قارئة
متخلّية عن الكثري من التفا�صيل التي حتكم الكتابة ج ّيدة لل�شعر و�سواه ،حني كتبت ن�صو�ص «مظلّة احلب
ن�صها من بلب املعنى وجوهره خملّ�صة ّ ال�رسد ّية لتم�سك ّ وال�ضحك» ،مل ت�ضع يف ذهنها �شكال مع ّينا ،لت�سري على
الكثري من زوائد و�شحوم اللغة ،كقولها يف «مطر» املقطع نهجه ،لك ّنها تل ّب�ست �إحدى �شخ�ص ّيات ق�ص�صها ونطقت
الذي ا�ستقت منه عنوان الإ�صدار ،وهو عنوان دال وي�شكّل بل�سانها ،لتكثّف جتربة �شعور ّية عاطف ّية ،جل�أت يف
مفتاحا مه ّما لقراءة الإ�صدار ،فمن خالل اللعب بثالث �صياغتها لها �إىل ف�ضاء تعبريي ،يعلو على التفا�صيل،
مفردات «احلب»« ،ال�ضحك»« ،مظلّة» � ّأ�س�ست عاملا ي ّت�سع ومثل هكذا جتربة ال يليق بها � اّإل ال�شعر الذي يتيح جماال
للكثري من التفا�صيل : لتد�س به �أ�رسار بطلتها ،التي تختلط ب�أ�رسارها ّ وا�سعا
«يف ال�ضحك /انفتح احلب /حتى� /صار مظلة» ال�شخ�ص ّية ،ب�أق ّل ماميكن من املفردات ،ح ّتى �إ ّنها حني
وي�صل االختزال،والإقت�صاد باملفردات� ،أق�صاهما يف قر�أت بيت املعري:
قولها: تعب كلّها احلياة فال �أعجب � اّإل من راغب بازدياد
«كانت لل�صورة �سطوة /لذا مل يلم�س ج�سد املعنى» اكتفت منه ب�شظية م�ؤلّفة من كلمتني من البيت ال�شهري
�أو يف «هي» : لتحيل �إليه ولتبني فكرتها :
تند�س بعيدا /خ�شية الرذاذ»/ « امر�أة تغزل الغيم /لكنها ّ «تعب كلها /......فافتح يل باب اخلروج� /إليك»
أجرب النجاح �أبدا�/أ�ستعري �أو كما يف «�إدمان» «/لأين مل � ّ وهو الن�ص الأخري يف الإ�صدار فك أ� ّنها تعبت من الكتابة
300 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
يف درج املطبخ/هناك �أي�ضا هذه الأبواب/التي ال تكف الن�شوة من الف�شل»� /أو «/....تعب كلها/......فافتح يل باب
عن �إر�سال قبل /الوداع�/إذا/ملاذا كل هذا العناء/يف اخلروج�/إليك»
حت�ضري /امل�أدبة؟»�/أو كما «ديجيتال»�/أفكر يف ا�ستبدال واجلمل التي ذكرت ت�شبه «التوقيعات» ،وهي من �ألوان
ذاكرتي /...بواحدة جديدة ....../ترى هل بقي ما يكفي/ الكتابة التي انت�رشت يف الع�رصين الأموي ،والعبا�سي،
من الوقت /لتعبئتها؟ ومنها التوقيع الذي بعثه اخلليفة عمر بن عبدالعزيز(ر�ض)
وتلج�أ الكاتبة ب�رشى خلفان �إىل التكرار وهو «�رشط �إىل �أحد ع ّماله « لقد كرث �شاكوك وق ّل �شاكروك ...ف�إما
كمال» كما يرى د .حممد مفتاح يف كتابه «اخلطاب اعتدلت و�إما اعتزلت»
«لعب
ٌ «حم�س ٌن» �أو
ِّ ال�شعري (ا�سرتاتيج ّية التنا�ص) « �أو � ّإن عناية الكاتبة ب�رشى خلفان ب�أناقة اللغة هي التي
لغوي» بقولها:
ّ جعلتها هائمة يف براري ال�شعر،ويف حوار �أجريته معها
«كان يقلقه وجهها يف املر�آة/كان يقلقه تكورها بني ملجلة «دبي الثقاف ّية» �س�ألتها عن لغة ال�شعر التي نراها
يدي اهلل/يف ال�سجود/كان يقلقه الكتاب الذي تقر�أه/لكن تطفو دوما على �سطح ن�صو�صها ف�أجابتني قائلة « للغة
�أكرث ما كان يقلقه/تلك الع�صافري ال�صغرية/التي تنقر غوايتها ،ونحن اجليل الذي تربى على متجيد ال�شعر
نافذتها كل �صباح»/او«/...ملأت حقيبتي بتذكارات كديوان للعرب ،جند �أنف�سنا �أحيانا وقد وقعنا يف فخاخ
الغد/وم�ضت/ملأت �أرداين بكريات البلور/وم�ضت/ اللغة ال�شعرية التي قد ال تزيد من عمق الن�ص الق�ص�صي
ملأت �أحذيتي باجتاهات الريح/وم�ضت/ملأت روحي بل ت�ضيف عليه جمالية اللغة ،التي ال ت�شفع وحدها
باخلراف ال�صغرية ال�سوداء/وم�ضت/ملأت دموعي لكتابة ن�ص ق�ص�صي جيد»
باملناديل ون�صو�ص الكاتبة «رفرفة» و«غبار» و«�صائد الفرا�شات
وم�ضت/ملأتني باالنتظار /وم�ضت» احلزين» ت�سري يف منطقة فيها الكثري من ماء ال�شعر الذي
ففي الن�ص الأخري تقوم مفردة «وم�ضت» بربط مفا�صل يغلّف خطوط ال�رسد ،والوا�ضح � ّإن د ّوامة الأ�سئلة التي
الن�ص و�شد ّ بنيته وي�أتي العنوان ليكون جزءا ال يتجز�أ من وجدت ب�رشى نف�سها مك ّبلة بها هي التي جعلتها تلج أ�
الن�ص ومن ال�صعب ف�صله عنه ف�إذا ف�صلناه �ضاع املعنى لل�شعر،وهي �أ�سئلة �شائكة تتربعم عن �أ�سئلة ت ّت�صل بحرية
�أو جرى ت�سطيحه كما يف «موت» حيث تقول : كون ّية كربى:
وثري هذا الفرا�ش/حتى �أين ال �أجر�ؤ /على التفكري يف / «لو �أنني عدت ثانية /هل �س�أخلق على هيئة �شجرة
النوم �أم فرا�شة؟» /و« /....ما الذي مل �أتقنه بعد /احلب �أم
�أو يف ن�ص «ليلى» حيث يحيلنا العنوان �إىل حكاية الن�سيان؟»« /....... /قلبها كموج البحر /ملاذا يخافه
الأطفال املعروفة»ليلى والذئب» لك ّنها ت�صيغ حكاية ال�صيادون� /إذا ما َه ّم باحت�ضانهم!»......... /
جديدة فليلى «ب�رشى خلفان» كربت و ك�رست الطوق حني «هل من املمكن� /أن يتم فعل الن�سيان /دون �أن يبقى
�أرادت لها �أن تخرج ملالقاة الذئب : جزء منه �أ�سري الرتدد؟»«/......../ترى /هل �سيخرتع
«منذ �أن ت�سلّل الراعي �إىل غرفتها�/أدركها �شبق الذئب/لذا العبث و�سائل �أخرى/كي يتمكن مني؟�«/......./إذا كنت
�رسقت ال�سلّة /من ج ّدتها /وخرجت لتالقيه» حتبني/فلماذا �إذا/ال �أ�شبهني يف ال�صور التي
� ّإن «مظلّة »..ب�رشى خلفان بن�صو�صها املكثّفة ،التي التقطتها يل البارحة؟»�«/............./إذ ما توقفت عن حبك
تتج ّول يف حدائق العاطفة ،وبلغة هام�سة ،م�ش ّعة باملعاين الآن/هل �أ�ستطيع الرجوع �إىل البيت؟»
،وبقطع الإ�صدار الذي يو�ضع باجليب ،فجاء من�سجما مع وقد ي�أتي ال�س�ؤال مبا�رشا �أو تختتم به الن�ص لتخلق نوعا
�شكل الن�ص ،تكون،من دون ق�صد ،قطعت �شوطا من م�سافة من التمهيد :
لت�صل �إىل القارىء الذي ان�رصف عن الكتاب . «هناك دوما ما هو �أكرث� /أو �أقل�/أ�صغر �/أو �أكرب/من
توقعاتنا/هناك دوما/مفاج�أة غري �رضورية /تختبئ
301 نزوى العدد - 75يوليو 2013
من ن�ص الواقع �إىل واقعية الن�ص :
«لون املطر» ملحمد عبد الويل �أمنوذجاً
حممد حممدالعديني
كاتب من اليمن
املقابلة ؟ �إنها وا�ضحة كل ّ الو�ضوح ,بكل ّ تفا�صيلها (اللغة – التي هي نظام �إ�شارات مبني بناء ً
,ر�أيت كل ّ البحار ,و�سمعت كل ّ احلكايات ).. اجتماعياً -هي نف�سها واقع مادي)
وعرب منطية ال�صور املجازية وتقليديتها املعتمدة ميخائيل باختني ( )1
على املبالغة والأ�سطرة �( :صمت خرايف , ..تلك �آخر يف معر�ض الإجابة عن �س�ؤال يتعلق بالق�صة
أت�صور حدوثها � .. ,صوت الأمطار �أ�سطورة كنت � ّ الق�صرية حتدثت �إيزابيال الليندي عن �صعوبة كتابة
يخيل �إيل ّ ك�أنه هدير جنود يزحفون �إىل العذب ّ هذا اجلن�س وعن توا�شجه الع�ضوي املتني بال�شعر()2
الهدف ..,ميزقون ال�صمت واجلنب ..,واملاء مي�ضي ,وهو ماي�ؤكده–كذلك – ك ّتاب ونقاد �آخرون )3 (,
من حتتهم بعيدا ً ,كثعبان �أ�سطوري خرج من وما يجدر التنويه �إليه يف مفتتح ومطلع قراءتنا
�أعماق اجلبال بعد �سجن دام قرونا ً .. لهذا الن�ص .
يف ال�صوت الثاين جتنح اللغة �إىل التن�سيب (الن�سبية) ينتظم الق�صة �صوتان ( لغويان ) متجادالن :ال�ضوء
والتع ّدد اللغوي والت�أنث وت�رشع يف التخلّ�ص من واملاء يتحاور فيهما التاريخ والإن�سان ,الفن
مطلقيتها الواحدة وعنفوانها البالغي امل�ؤ�سطر وال�رضورة ,الواقع واملثال ,الذكوري والأنثوي(,
وك�رس منطيتها ال�رسدية من خالل ر�ؤية �رسدية القمر والبندقية ) فتنة الأر�ض وغوايتها وواجب
داخلية ذاتية م�صحوبة بتقنيات ظاهرة الوعي الكفاح املقد�س والت�ضحية .
احلديث( )5كالفال�ش باك (التذكّ ر) وااليجاز يف ال�صوت الأول يلتقي عنف االيديولوجيا بعنف
واحلذف القائم على الفراغات الن�صية .تنه�ض اللغة عرب �أحادية ال�صوت وطغيان �صفته الذكورية
هذه الر�ؤية على اعرتافات (الأنا) وتعزيز ح�ضورها (يخيل �إيل ك�أنه هدير جنود يزحفون �إىل ّ اجلمعية :
الفردي وحمدودية معرفتها و على بوحها العاطفي الهدف ..,تنا�سوا كل �شيء ,حتى وجودهم � ,إنهم
وك�شفها عن عواملها الداخلية العميقة و�سخريتها: يندفعون ,كل واحد يت�شجع لأن �آخرين بجانبه ,
( ..ماكان �أغباين! ,لعلّها تعتربين بطال ً ,وتنتظر لوكان وحيدا ً لفر ولكنهم جموع � ..,أتدري �إنهم �أكرث
م ّني �أن �أحكي لها �أ�ساطري عن بطوالتي � ,إنها لن من �شخ�ص واحد ..ولكوننا جمموعة فنحن النخاف
ت�صدق ب�أنني �أرجتف عند �سماع طلق ناري ,وك�أن �..إنه احلما�س ,حتدثت يف الوطنية حتى مل النا�س ..,
الر�صا�ص ينغر�س يف �أعماقي � ,أنت �أكرب م ّني ,لقد كثريون قالوا يل تطوع ,تطوع وتطوعت).
ر�أيت عوامل ف�سيحة ,ولعلّك ت�سخر م ّني الآن �..أما �أنا وعرب هيمنة الر�ؤية ال�رسدية اخلارجية امل�ؤكَ دة
جمرد طفل ..اليجيد �سوى ..و�ضحك بحزن – �أنا ّ بوثوقية الراوي و�شمولية معرفته (( :)4ع�رشون
احل�ساب والكتابة و ..التحدث عن الوطنية بحما�س عاما ً ذقت فيها كل ّ �شيء � .. ,أال تالحظ قمم اجلبال
302 نزوى العدد - 75يوليو 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
ف�أ�صبح لديه (لون( مو�ضوعي ) ال ت�شعر به �إ ّال �أجوف ..قال يل والدها ال تخف �..,أنا هنا ..,وقال
عندما توده) ,لون اللغة ,الكلمات والأ�شياء حني الأ�صدقاء ,نحن هنا ..وها �أنذا ,كنت م�ستعجال ً يف
تتجرد من دالالتها املعجمية وامتثالها الال ّ مرة� .ضحك قراري - .قاتلت من قبل ,ورمبا �أكرث من ّ
مو�ضوعي وعاداتنا ال�سلطوية التي �ضاعفت عزلة مربر�,أما
البحار قائال ً :ومع �أكرث من جهة ,وبدون ّ
اللغة واغرتابها والواقعيتها و�ساهمت يف �أدجلتها اليوم ف�أنا �أحارب من �أجل �شيء ..رمبا كان ذلك هو
� ( ,إن تقولب التعبري هو واقع �سيا�سي ,وهو ال�صورة لون املطر وكان الوادي من حتتهما مي�ضي بعيدا ً
وقد فقد قوته الأ�سطورية ,كان هادئا ً ,ال �أحد فيهم
العظمى لاليديولوجيا ) ( . )7و(ازدهار الرواية
يعرف من �أين يبتدئ وال من �أين ينتهي .. ,فقدت
(الق�صة) مرتبط ,دوما ً بتحلّل الأن�ساق اللفظية
رجولتي يف �أح�ضان امر�أة �صادفتها).
االيديولوجية امل�ستقرة ,فاللغة التي كانت قدميا ومن خالل ا�ستقواء الناحية الت�صويرية والدرامية
ً جت�سيدا ً اليجادل , كالت�شبيه�( :إن ّ طعم احلياة �أ�شعر به هنا على ل�ساين..
ووحيدا ً للمعنى وللحقيقة ,قد �صارت �أحد عند كل طلقة ر�صا�ص � ..,شيء كانا يح�سان بدبيب
افرتا�ضات املعنى املمكنة) ) 8 (. �أقدامه يتقدم كن�صل حاد يزرع املوت) واال�ستعارة
وبذلك تكون الق�صة قد ح ّققت تع ّدديتها ال�صوتية الت�رصيحية( :يف يدي وريقات خ�رضاء وحمراء)
احلوارية ,وا�ستطاعت �أن تعبرّ عن الوعي الكُا ليلي والكناية( :مل �أكن قد بعت ذراعي لأحد) ,وكذلك
ملطلقية لغة واحدة ووحيدة , ّ للغة الذي (برف�ضه ن�ستطيع تلّم�س البعد الدراماتيكي ال�رسدي يف ارتباط
وتخلّيه عن اعتبارها مبثابة املركز الوحيد اللفظي حتول ال�شخ�صيات من العبثي �إىل الواقعي �أو م�سار ّ
والداليل للعامل االيديولوجي ,يقر ّ بتع ّدد اللغات من واقع اال�ستالب اجلمعي �إىل واقع التحقق الفردي
بلحظة اجنالء الوهم (حلظة انف�صام الأفكار عن
الإجتماعية وقابليتها لأن ت�صري لغات ن�سبية
وحتولها �إىل �أحداث نف�سية � ,أي �إىل مثل
ّ العامل ,
غريية ) 9( ).
عليا .عندئذ تفقد الفردية طابعها الع�ضوي الذي
الهوام�ش : يجعل منها واقعا ً غري �إ�شكايل ,فت�صري هي نف�سها
الق�ص�صية ( الأر�ض يا�سلمى ) ملحمد عبد
ّ -ق�صة ق�صرية �ضمن املجموعة غاية نف�سها ,لأنها تكت�شف �أن ماهو جوهري ,يوجد
الويل ,طبعة دار العودة ,بريوت 1986م الأعمال الكاملة .
-1النظرية الأدبية املعا�رصة ,رامان يلدن ,ترجمة �سعيد الغامني امل�ؤ�س�سة بداخلها) ) 6(.
العربية . وتلم�س ذلك �أي�ضا ً ,و�أثره التعددي اللغوي الناجع,ّ
للدرا�سات والن�رش ,1996الطبعة الأوىل �.ص 31و. 32
-2جملة نوافذ �,إ�صدارات النادي الأدبي بجدة ,العدد ,40حمرم 1433ه
التحوالت �أو التغيرّ ات الداللية للدوال
ّ م�سار يف
دي�سمرب 2011م�,ص48ومابعدها . اللفظية ذات ال�سمة �أو النزعة الب�ؤرية يف الن�ص؛
-3تهجني االجتاه يف �رسد ما بعد احلداثة ,د�.آمنة يو�سف ,امل�ؤ�س�سة العربية
فـ(الغربة) مل تعد تقت�رص داللتها على االنتقال
للدرا�سات والن�رش ,الطبعة الأوىل 2012م�,ص 36و. 37
-4املرجع نف�سه �,ص17و. 18 املادي يف حدود املكان ,بل �صارت اغرتابا ً
-5املرجع نف�سه �,ص. 22 وجوديا ً يف الوعي وتغريبا ً دالليا ً يف اللغة (هل
برادة ,دار ر�ؤيةّ حممد ,ترجمة باختني ميخائيل -6اخلطاب الروائي ,
,الطبعة الأوىل �ص. 19 تعرف معنى الغربة؟ مل �أكن �أعرفها ولكني لقيتها
-7لذة الن�ص ,روالن بارت ,امل�رشوع القومي للرتجمة الطبعة الثانية1998م على �رسير تلك املر�أة يف تلك الليلة ,قبالتها
�,ص. 46
-8اخلطاب الروائي ,مرجع �سابق �,ص. 242
كانت كاذبة) و(املطر) دخل نطاق جتربة الت�أويل
-9املرجع نف�سه �,ص 236 . الظاهراتي ال�سيميائي.
303 نزوى العدد - 75يوليو 2013
ليــة ثقافيــة
ف�سسسليــة
جمـلـة ف�
A Cultural Quarterly in Arabic
Editor - in - Chief
Saif Al Rahbi
Email: saif@alrahbi. info
P. O. Box: 855, Postal Code: 117. Al-Wadi Al-Kabir
Sultanate of Oman. Tel: 24601608 Fax: 24694254
Managing Editor
Talib Al Mamari
Directed By
Khalaf Al Abri
Email: khalf301@hotmail. com
ا إ�شـــــــارات
دقاء الكتاب وال أدباء والفنانني بباا أن موادهم
نتوجه ا إىل ال أ�أ�شششدقاء
الها بالربيد االلكرتوين( )Emailيكون على العناوين: إر�ششالها
يف حالة ا إر�ش
nizwa99@omantel. net. om
nizwa99@nizwa. com
-املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل ا إىل ا أية جهة ا أخرى للن�رش
أ�سحابها
سحابها وا إال �سنوقف -ا آ�سفني -التعامل مع ا أ�س
وا
ـالهـا بالربيـد االلكتــروين
إر�ششـالهـا
شـل ا إر�ش
ويف�ششـل
ب ال آيل ..ويف�
باحلا�شششب
لة تطبع باحلا� املر�شششلة
املواد املر�
ل�رسورات
ل�رس
رسخا�شششعع ل�
ياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال ا أو غريه خا� -ترتيب املواد يف ��شششياقها
تن�رس
رس ن�رست ا أو مل تن�
ن�رس
رس واء ن�
حابها ��شششواء
فنيـة وا إخراجية -املواد التي ترد للمجلة ل ترد ل أ�أ�شششحابها
�شدار.
شدار.
لية اال�ش
ف�شششلية
بب ف�
ب�شششبب
بيا ب�
ن�شششبيا
ملقيا�صص زمني طويل ن�
تخ�شششعع ملقيا�
وا أحيانا تخ�
-املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين.
عنوان نزوى على �شبكة النرتنت
www. nizwa. com
رس والعالن
والن�رس
حافة والن�
لل�شششحافة
مان لل�
طبعت مبطابع :مموو ؤ�شؤ�ش�ش�ش�ششةة ُععمان
لطنة عمان قط ،الرمز الربيدي � 100ش
�ششلطنة �ص .ب 974 :م�ش
م�ششقط،
هاتف البدالة - 24649444 :ص
فاك�ص24649508 :
العالنات :العمانية لالعالن والعالقات العامة
24649411 مبا�رس- 24649401 :
رس
مبا�رس
لطنة عمان �ص .ب 3303 :روي ،الرمز الربيدي � 112ش
�ششلطنة
Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR
PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING
P. O. Box, 974. Postal Code: 100. Muscat. Sultanate of Oman
Tel:24649444 - Fax. : 24649508
Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS
Tell: 24649411, 24649401
P. O. Box 3303. P. C. 112 Ruwi Sultanate of Oman
�لعـــدد �خلام�ض و�ل�سبعـــون
شان 1434هـ
رم�ششان
يوليو 2013م -رم�
304