You are on page 1of 304

‫‪N I Z W A‬‬

‫ف�صلية ثقافية‬
‫ت�صـــدر عــن‪:‬‬
‫م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة‬
‫والن�شر واالعالن‬
‫الرئي�س التنفيذي‬
‫د‪�.‬إبراهيم بن �أحمد الكندي‬
‫رئي�س التحرير‬
‫�ســـــيف الرحـــبي‬
‫مدير التحـرير‬
‫طــالب املعمـري‬
‫من�سقا التحـرير‬
‫يحيى الناعبي‬
‫هدى حمد‬
‫اال�شراف الفني واالخراج‬
‫خلف العربي‬ ‫الأ�ســـعار‪:‬‬
‫�سلطنة عُمان ريال واحـد ‪ -‬الإمــارات ‪ 10‬دراهم ‪ -‬قطــر ‪ 15‬رياال ‪ -‬البحـرين ‪ 1.5‬دينــار ‪ -‬الكويت‬
‫العــدد الثامن وال�سـبعـون‬ ‫‪ 1.5‬دين ــار ‪ -‬ال�سـعودية ‪ 15‬ريــاال ‪ -‬الأردن ‪ 1.5‬دينار ‪� -‬سوريا ‪ 75‬لرية ‪ -‬لبنان ‪ 3000‬لرية ‪-‬‬
‫ابريل ‪ 2014‬م ‪ -‬جمادى الثاين ‪ 1435‬هـ‬ ‫م�ص ـ ــر ‪ 4‬جنيهات ‪ -‬ال�ســودان ‪ 125‬جنيهـا ‪ -‬تونــ�س دينــاران ‪ -‬اجلــزائـر ‪ 125‬دين ـ ــارا ‪ -‬ليبي ــا‬
‫‪ 1.5‬دينار ‪ -‬املغرب ‪ 20‬درهما ‪ -‬اليمن ‪ 90‬رياال ‪ -‬اململكة املتحدة جنيهان ‪ -‬امريكا ‪ 3‬دوالرات ‪-‬‬
‫عنوان املرا�سلة‪:‬‬ ‫فرن�سا وايطـ ــاليـا ‪ 4‬يورر‪.‬‬
‫اال�شرتاكات ال�سنوية‪:‬‬
‫�ص‪.‬ب ‪ 855‬الرمز الربيدي‪117 :‬‬
‫للأفراد‪ 5 :‬رياالت عُمانية‪ ،‬للم�ؤ�س�سات‪ 10 :‬رياالت عمانية‪ -‬تراجع ق�سيمة اال�شرتاك‪.‬‬
‫الوادي الكبري‪ ،‬م�سقط ‪� -‬سـلطنة عُمان‬ ‫وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة �إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى العنوان التايل‪:‬‬
‫هاتف‪)00968 ( 24601608 :‬‬ ‫م�ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر واالعالن �ص‪.‬ب‪ - 3002 :‬الرمز الربيدي ‪ 112‬روي ‪� -‬سلطنة عُمان‪.‬‬
‫فاك�س‪)00968( 24694254 :‬‬ ‫املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش‬
‫و� إال �سنـــوقـف ‪ � -‬آ�سـفـــيـن ‪ -‬التعـــامــل مــع � أ�صحــابهـا‬
‫‪Email: nizwa99@nizwa.com‬‬ ‫(على �أال تزيد الدرا�سات عن ع�رش �صفحات واملتابعات عن �أربع �صفحات فقط)‬
‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬ ‫‪ -‬يف حالة االقتبا�س من املجلة ‪ ،‬يرجى اال�شارة اىل امل�صدر ‪-‬‬
‫املحتويــات‬
‫‪4‬‬ ‫‪ v‬افتتاحية‪:‬‬
‫‪ -‬الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�رسيعة ‪� :‬سيف الرحبي‪.‬‬

‫‪16‬‬ ‫العمانية ‪ -‬العثمانية‪:‬‬


‫‪ v‬الوثائق ودورها يف �إبراز العالقات ُ‬
‫تركية بنت حمد الفار�سي‬ ‫ ‬

‫‪30‬‬ ‫‪ v‬درا�ســات‪:‬‬
‫‪ -‬ال�رصاع على الرتاث‪ -‬عبداالله بلقزيز‪ -‬جورج اورويل‪� :‬رسديات‬
‫الرعب والهزمية امام اال�ستبداد‪ :‬زهري الذوادي‪ -‬فل�سطني املفقودة‬
‫‪ -‬حممد اال�سعد ‪ -‬الدالالت الأ�سلوبية البنيوية بني اجلرجاين‬
‫وريفاتر‪ :‬طاطة بن قرماز‪� -‬أليوت والرع�شة ‪ -‬فرانك كريمود‬
‫ترجمة‪ :‬غريب ا�سكندر ‪ -‬ال�شعر ‪ ..‬املكان ونب�ض املطلق‪ :‬يحيى بن‬
‫الوليد ‪ -‬بالغة الفراغ يف �سياق ما بعد احلداثي‪ :‬ابراهيم حممود ‪-‬‬
‫اجل�سد و�شبيهه يف الرواية العربية احلديثة‪ :‬منى ظاهر ‪ -‬االنحياز‬
‫�إىل الأ�صل يف �أعمال �شاكر نوري ال�رسدية‪ :‬ر�شيد بنحيدو‪.‬‬

‫وازن‪ .‬عبــــده وازن‪ -‬مفيــد‪116‬‬ ‫عبـــــــــده‬


‫عقل العويـــط‪-‬‬
‫امللـف مـــن �إعــــداد‪ :‬‬
‫\ امل�شاركون يف امللف ‪:‬‬
‫‪v‬‬

‫جنـــم ‪ -‬عبيدو با�شا ‪ -‬جمانـة حداد‪� -‬سيـف الرحـبي‪ -‬هـــــدى‬


‫حمــــد‪ -‬يحــــــيى الناعـــــبي‪.‬‬

‫‪128‬‬ ‫‪ v‬حـــوارات‪:‬‬
‫‪ -‬حممد ال�رسغيني‪ :‬خالد الدهيبة‬
‫‪ -‬رميوند كارفر‪ :‬كلود غرميال ترجمة‪ :‬جناح اجلبيلي‬
‫‪ -‬ف�ضيلة الفاروق ‪ -‬ابراهيم احلجري ‬

‫‪180‬‬ ‫‪ v‬م�ســــــــرح‪:‬‬
‫‪ -‬م�رسحية «اجلمهور» للوركا ترجمة‪ :‬عبدال�سالم م�صباح‬
‫‪ -‬يو�سف العاين‪� :‬ضياء خ�ضري‪.‬‬

‫^‬ ‫^ تر�سل املقاالت با�سم رئيـ�س التحريــر‪ ..‬و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا‬
‫‪198‬‬ ‫‪ v‬ت�شكــــــــيل‪:‬‬
‫‪ -‬الت�شكيليون وامكانيات احليل الفنية واحلياتية‪ :‬بدر املعمري‪.‬‬

‫‪206‬‬ ‫‪� v‬سيـــــــــنما‪:‬‬

‫‪ -‬بوري�س با�سرتناك‪ :‬ال�شاعر يف مواجهة االرهاب‪ -‬ح�سونة‬


‫امل�صباحي ‪.‬‬

‫‪214‬‬ ‫‪� v‬شعــــــــــــر‪:‬‬


‫‪ -‬ق�صائد من ال�شعر الرتكي املعا�رص‪ :‬ترجمة‪� :‬سعيد بوكرامي‪� -‬شم�س‬
‫العتبة‪ :‬عزيز احلاكم‪ -‬ق�صائد‪ :‬جناة علي‪ -‬ال احد ينتظر يف موقف‬
‫احلافالت‪ :‬حممد عبيد‪ -‬ق�صائد‪ :‬ا�سماعيل فقيه‪ -‬جمازات‪ :‬معاوية‬
‫الرواحي االمر يعنيك‪ :‬منذر العيني‪ -‬فال ‪ ،‬ال ‪ :‬طالب املعمري‪.‬‬

‫‪232‬‬ ‫‪ v‬ن�صـــــو�ص‪:‬‬
‫‪ -‬ماري ندياي‪ :‬ثالث ن�ساء قويات ‪-‬حممد املزديوي‪ -‬البيت‬
‫‪ -‬حممد اليحيائي‪ -‬ع ّلي�سة ‪ -‬حياة الراي�س‪ -‬احلياة قفزا‪ :‬عادل‬
‫اخلزام‪ -‬يف مديح ال�ضجر ‪ -‬حممود الرحبي‪� -‬شب الكوبا ‪ -‬ن�ضال‬
‫حمارنة‪� -‬شجرة النارجن العجوز ‪ -‬عبداهلل خليفة الغافري‪.‬‬

‫‪256‬‬ ‫‪ v‬متابعات ور�ؤى‪:‬‬


‫‪�« -‬أرواح هائمة» لكمال العيادي‪� :‬شاكر عبداحلميد‪ -‬مواجهة ال�صورة‬
‫الوردية لزجنبار ملحمد املحروقي‪ :‬هـ‪.‬ح ‪« -‬عودة للكتابة بقلم‬
‫ر�صا�ص» ملحمد احلارثي‪ :‬حمود ال�شكيلي‪ -‬مفهوم االن�سان االعلى‬
‫يف كتاب «هكذا تكلم زراد�شت» ترجمة‪ :‬احل�سن عالج‪ -‬اللغة العربية‬
‫ودعوى حتيز �ضد املر�أة‪ :‬خالد العب�سي‪« -‬يغلق الباب على �ضجر»‬
‫لبا�سمة العنزي‪ :‬فاطمة بن حممود ‪�« -‬شجر الليف» ملحمد العامري‪:‬‬
‫حممد ال�سمهوري‪ -‬ح�سيب الكيايل‪ :‬نذير جعفر ‪« -‬التبا�سات» للخطاب‬
‫املزروعي‪ :‬ر�شا �أحمد‪« -‬ب�رصياثا» ملحمد خ�ضري‪ :‬علي عبداالمري‬
‫�صالح‪ -‬رواية «�سريك عمار» ل�سعيد علو�ش‪ :‬اكرام عبدي‪ -‬ايفان‬
‫كليما مرتجما‪ :‬حممد احلجريي‪« -‬ملح» لبدرية اال�سماعيلي‪ :‬هـ‪.‬ح‪-‬‬
‫الكتابات ال�صخرية يف ُعمان‪ :‬عبدالرزاق الربيعي‪.‬‬

‫^‬ ‫املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها‪ ،‬واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من �آراء‬ ‫^‬
‫من �أعمال الفنان عبدالر�سول �سلمان ‪ -‬الكويت‬

‫‪4‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن‬
‫عربة املوت ال�سريعة‬
‫حتلم باخلروج �إىل الهواء الطلق‬ ‫و�صف �أمل ِه‬
‫َ‬ ‫ال ي�ستطيع‬
‫واحلرية‬
‫ّ‬ ‫ال ي�ستطيع و�صف �أمل العامل‬
‫‪jhj‬‬ ‫واملذبحة‬
‫يتعث‬ ‫ويعجز عن مالم�سة‬
‫ُمغرم ًا بنف�سه (بنف�سها)‬ ‫ال�سماء الغائمة‬
‫حمدق ًا يف �صورته‪)...‬‬
‫(نر�سي�س ِّ‬ ‫واحلنني �إىل املطلق‬
‫ذاك الذاهب �إىل حتفه‬ ‫وحني ي�ش ُد من عزمه كمقاتل‬
‫عرب والئم املرايا والوجوه‪..‬‬ ‫يف حلظة االقتحام‬
‫‪jhj‬‬
‫يتعث يف �شباك الكلمات‬ ‫رّ‬
‫يتعث يف �شرِاك عنكبوت‬ ‫رّ‬
‫ي�شن الزمن غاراته دائما‪ ،‬ال تكاد تهد�أ هذه الغارات‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫�سام‪..‬‬ ‫ّ‬
‫يف النوم واليقظة‪ ،‬يف لهاث اللذ ِة واجل��ري نحو‬
‫‪jhj‬‬
‫الال�شيء ويف املنامات‪ ..‬كل �شيء يذكر بالزمن‪،‬‬
‫حني جاءته الهزائم واالنهيارات‬
‫وع�لام��ا ِت��ه وت�ضاري�سه‪ ،‬جتاعيد الن�رس تذكر‬
‫ترتى من كل ٍ‬
‫جهة و�صوب‪..‬‬
‫فرخه وهما‬‫باقرتاب �شيخوخته حني يحدق فيه ُ‬
‫خاطبها قائ ًال‪:‬‬
‫ه�ضبة‪ ..‬كل �شيء يذكر‬ ‫قمة �أو َ‬ ‫ي�سرتيحان على ّ‬ ‫ِ‬
‫مالك ومايل‬
‫الع�صي على التعريف‪ ..‬يق�صف �أعمار الب�رش‬‫ّ‬ ‫بهذا‬
‫(�أنا امليت) حتى قبل �أن‬
‫النخل الذي مل يعد ي�ستطيع مواجهة‬ ‫ُ‬ ‫وال�شجر‪ ،‬ذلك‬
‫تولدي يف الزمان‬
‫الريح فيحدودب وينحني حتى االنك�سار النهائي‪..‬‬
‫الزمن‪ ،‬الزمن‪ ،‬كل �شيء يذكر به وب�سطوته العادلة‪،‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫ففي املح�صلة الأخ�ي�رة الكل واق��ع حت��ت هذه‬ ‫�أيها الرجل املدفوع على َعربة‬
‫الهيمنة املراوغة وال�رش�سة وهذه ال�سطوة التي‬ ‫ُقعدين‬
‫امل َ‬
‫يتجدد عنفوانها وحيويتها با�ستمرار‪ ،‬كل �شيء‬ ‫ّ‬ ‫يف �أعماقي ح�شود مثلك‬
‫‪5‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اىل كنوت �أوديجارد‬ ‫يذكر به‪ ،‬الأماكن‪ ،‬وجوه الب�رش‪� ..‬آه كم كانت هذه‬
‫غبار هي الكائنات‪ ،‬منه ب���د�أت‪ ،‬و�إل��ي��ه ت�صري‪،‬‬ ‫�ضاجة بالأحبة واحليوات‬ ‫ّ‬ ‫الأماكن‪ ،‬هذه البيوت‪،‬‬
‫و�أعمالها جميعها‪ ,‬جمبول ٌة من الغبار‪ ،‬ولو اتخذت‬ ‫التي طواها الغياب حتت جناحه املعتم‪ ،‬كم كانت‬
‫مظاهر البذخ وال�صالبة‪.‬‬ ‫هذه الأ�شجار مورقة تعربها الف�صول ونرى يف‬
‫الغبار الغبار‬ ‫مراياها وجوهنا املتدفقة باحلياة‪ ،‬هذه ال�سهول‬
‫الهباء الهباء‬ ‫وتلك اجل��ب��ال التي تت�سلقها الآزال كالوعول‬
‫يف امل�سرية احلزينة‪ ،‬نع ّفر وجوه بع�ضنا و�أرواحنا‬ ‫ال�شبِقة‪..‬‬
‫بالوحل والغبار واالف�ترا���س‪( ..‬احليوانات �أقل‬ ‫ي�شن ال��زم��ن غ��ارات��ه يف اليقظة وال��ن��وم‪ ،‬يف‬
‫الأح�ل�ام ح�ين نغرق يف مياهها امل�ضطربة‬
‫ال�ضيق‬
‫ّ‬ ‫ق�سوة بالطبع) تتبع غرائزها يف املنحى‬
‫بالوحدة والأزمنة‪ ،‬دوم ًا جند تلك الوجوه التي‬
‫البيولوجية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لوادي الطرائد والفرائ�س‪ ...‬حاجتها‬
‫طواها الغياب والن�سيان‪ ،‬يف مكان ما على نحو‬
‫ومن ثم ال�صمت وال�سكون وال�سفاد‪ ،‬الب�رش يذهبون‬
‫من �صحو وغيم يو�شك �أن يكون مظلم ًا‪ ،‬جنري‬
‫ال�سيد �صانع الأرومة‬
‫بعيدا يف هتك حرمة الغبار‪ّ ،‬‬
‫باجتاهها لكن ما �أن نقرتب حتى تتال�شى يف‬
‫وامل�صري‪ ،‬بعيداً يذهبون يف التعفري واالفرتا�س‬
‫الغيم وال�ضباب‪ ..‬تلك امل��دن والطرقات التي‬
‫بالكلمات والأ�سلحة املهيبة‪ ،‬التي تنتمي يف‬
‫ال تف�ضي �إىل �شيء‪ ،‬مت�ضي فيها هائما من‬
‫نهاية املطاف �إىل الأرومة نف�سها‪� ،‬أرومة الهباء‬
‫غ�ير ه��دف‪ ،‬ودائ��م��ا هناك البحث ع��ن املنزل‬
‫والغبار والرباز‪...‬‬
‫االف�ترا���ض��ي‪ ،‬مت�ضي نحوه لكن ما ان تقرتب‬
‫ال �شيء يدثر عري هذا امل�سكني يف هذا اال�سطبل‬
‫منه حتى تكت�شف �أنك �أ�ضعت املفاتيح‪ ..‬تبقى‬
‫الدموي ال�شا�سع يف ال�صحراء امل�صنوعة من �شقاء‬
‫هكذا هائما يف الطرقات والأماكن التي ال يدل‬
‫وغبار‪ ،‬وال حتى ورق��ة ت�سقط من �شجرة ميتة‪،‬‬
‫الغريب وال يلقي حتى �إمياءة حتية‬
‫َ‬ ‫الغريب‬
‫ُ‬ ‫فيها‬
‫الورقة الأخرية من ال�شجرة التي خ�ضّ تها الرياح‬
‫نحوه‪ ..‬لكن ب�رضبة احللم اخلاطفة‪ ،‬تعرث على‬
‫العاتية واجلفاف‪.‬‬
‫املفاتيح يف زقاق ما‪ ،‬ترك�ض ج ِذ ًال نحو املنزل‪،‬‬
‫‪jhj‬‬ ‫لكن الطرق ال تقودك اليه‪ ،‬تعرث رمبا على مكان‪،‬‬
‫ال �أعرف ماذا يخبئ هذا امل�ساء يف هذه املدينة‪،‬‬ ‫على ما ي�شبه منزل‪ ،‬احللم والواقع‪ ،‬لكنه لي�س‬
‫عدا احل��زن والك�آبة‪� ...‬أتطلع يف وج��وه الغرباء‬ ‫هو يقينا‪ ،‬مرتبك ًا تتعرث ممعنا يف الغرق والتيه‪..‬‬
‫وال�سياح املعفرة بالوحل والغبار واملازوت‪ ،‬يف‬ ‫الزمن الزمن ‪ ..‬مركبة املوت ال�رسيعة‪..‬‬
‫�شاخت ون�ساء يتخبطن يف عنف‬ ‫ْ‬ ‫جذوع �أ�شجار‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪6‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫‪s‬‬ ‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رحلت حيوات طواها الن�سيان‪� ،‬أحب ًة‬


‫ُ‬ ‫�أرى �أينما‬ ‫ٍ‬
‫ظلمة مريعة‪ ..‬ال �أعرف ماذا يخبئ يل هذا امل�ساء‪،‬‬
‫غيبهم املوت‪ ...‬وكارثة جتعل الأج ّنة عالقة يف‬ ‫ّ‬ ‫بعد ف��راق (ن��ا��صر وع���زان) بالأم�س م��رّا على‬
‫�أرح��ام الأمهات الدامية‪ ..‬فال �أرى �إال احلقيقة‬ ‫مكتبي‪ ،‬كانت �صورهم تعلو رفوف الكتب‪� ،‬ضحكا‬
‫�ساطع ًة يف برزخ املغيب‪.‬‬ ‫من فرط املفاج�أة‪ ،‬كان الفرح النا�ضح كغناء نبع‬
‫‪jhj‬‬
‫جبلي يف الوجوه الربيئة‪ ،‬يغمر الكون مبوجة‬
‫من ر�ضا وحنان‪ ..‬وكانت ر�سوماتهما تعلو �إطار‬
‫كفي �أيتها امل��ر�أة عن ترجيعك التب�شريي الذي‬ ‫ّ‬ ‫ال�صور حديق ًة من الفو�ضى والورود يف تفتحها‬
‫ميزق �أكرث احليوانات �إذعان ًا وطم�أنينة‪ ..‬ك ّفي عن‬
‫ال�صباحي الأول‪� ..‬أ�شار (نا�رص) �أن �أرفع �صورته‬
‫ترديدك الدائم‪:‬‬
‫ففعلت‪ ،‬كان وجودها‬ ‫ُ‬ ‫�إىل �أعلى رف يف املكتبة‪،‬‬
‫(الأمور طيبة‪ ...‬كل �شيء على ما يرام)‬
‫�أجمل هكذا‪ .‬وعزان يت�شعبط على �إفريز النافذة‪،‬‬
‫الأمور طيبة يرددها «اخلليجيون» كثريا‪ ،‬مبنا�سبة‬
‫ب�صخب يحيي الع�صافري امل��رف��رف��ة والغيوم‬
‫ومن غريها‪ ...‬كفي �أكرمينا ب�صمتك املفقود‪/‬‬
‫املو�شكة على املطر يف �سماء ُعمان‪..‬‬
‫فالأمور مل تكن كذلك يف يوم من الأيام ولن تكون‪.‬‬
‫ال �أعرف ماذا يخبئ امل�ساء وكذلك ال�صباح والليل‬
‫‪jhj‬‬ ‫بعيداً عنكما يف هذا ال�صقع البعيد‪..‬‬
‫نحن الذين ُوجدنا على هذه الأر�ض‪ ،‬لنويف نذوراً‬ ‫‪jhj‬‬

‫قطعتها الآلهة على نف�سها‪ ،‬بعقاب خملوقاتها‪..‬‬ ‫حني يرحل املرء عن من يحب‪ ،‬من منبذه البعيد‪،‬‬
‫�أين منها‪ ،‬عقاب(بروميثو�س) �سارق نار الآلهة‬ ‫بلهفة‪ ،‬ي�س�أل وبكل الو�سائل الكثرية املتاحة‬
‫و�رسها احل�صني‪ ،‬وهو م�صلوب على‬ ‫ِّ‬ ‫االغريقية‬
‫ّ‬ ‫للتوا�صل الأث�يري (كيف �أحوالكم‪ ،‬هل اجلميع‬
‫�صخرة يف جبال القفقا�س الذي ما فتئ (الرخ)‬ ‫بخري‪� ،‬أنا بخري واحلمدهلل‪ ،‬قريبا �س�أكون معكم)‪،‬‬
‫الكبد والأح�شاء‪ ،‬على مدار الأحقاب‪.‬‬‫ينه�ش منه َ‬ ‫كذلك حتى يف احلروب ‪ ،‬بوثوقية ي�س�أل ولهفة‪،‬‬
‫و�إذ ي�رشف على النهاية ويلوح خيط فجر املوت‬ ‫وه��و ال يعرف �أو يتظاهر بعدم املعرفة‪ ،‬مبا‬
‫وحيوية‬
‫ّ‬ ‫املخ ّل�ص‪ ،‬يتجدد كب ُده ويكون �أكرث ن�ضار ًة‬ ‫يخبئه القدر العاتي ك�إع�صار غام�ض ينفجر يف‬
‫تتجدد جلود‬
‫ّ‬ ‫لت�شغيل دورات العذاب الأوىل ‪ ..‬كما‬ ‫�أي حلظة ومكان‪ ،‬ما تخبئه العناية التي تنقلب‬
‫الع�صاة يف اجلحيم ليعي�شوا دورات الأمل والتنكيل‬ ‫�إىل انتقام يطيح بر�ؤو�س اجلميع‪ ،‬يبعرث الأحبة‬
‫التي ال مت ّل وال تك ّل من �رصاخ ال�ضحايا و�أنني‬ ‫�أ�شالء وغباراً‪ .‬هذه العناية التي ُ�صنع الكائن على‬
‫املنكوبني‪ ،‬وتقول هل من مزيد‪..‬؟‬ ‫�صورتها من ق�سوة وخيانة ون��زوع �أ�صلي �إىل‬
‫‪jhj‬‬ ‫املحو واالفرتا�س‪..‬‬
‫‪7‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أيقنت �أن روحك انحازت �إىل مطلق ال�رش كخيار‬ ‫واجتهدت‪� ،‬سافرت و�أقمت‪ ،‬ال �شيء‬
‫َ‬ ‫حاولت‬
‫َ‬ ‫مهما‬
‫تعد تفل�سف ب�شكل �سخيف �أعمالك‬ ‫وحيد‪ .‬مل ْ‬ ‫يغري نظرة هذا القطيع الب�رشي املوغل يف الدناءة‬
‫الإج��رام� ّ�ي��ة يف حمكوميك‪ .‬لقد ج��اءك الك�شف‬ ‫والنميمة جتاهك كي تعي�ش بهدوء و�سالم‪ ..‬ال‬
‫ك�إ�رشاقة مبهرة‪ ،‬اجنلت من �أك��وام اخلطابات‬ ‫الر�أفة وال احلب والدماثة‪ ..‬وال الق�سوة واحلذر‬
‫والتربيرات‪ ...‬والأ�سخف حلم العالج والنجاة‪..‬‬ ‫والو�ضوح ال�صارم‪ ..‬هو هكذا ُخلق لتعذيبك‬
‫احلقيقية متوحداً مع‬
‫ّ‬ ‫هكذا من�سجم ًا مع نوازعك‬ ‫خ�ضم املتاهة‬
‫ّ‬ ‫ودفعك �إىل الهروب الدائم‪ ،‬يف‬
‫�ضحاياك توحد النا�سك باملطلق‪..‬‬ ‫والالمكان‪.‬‬
‫‪jhj‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫�أب�رصت �ضوءاً يعرب الظالم‪ ،‬يف �آخر النفق‪� ،‬أيقنت‬ ‫بغيابكما (�أيتها القطرة ال�صافية التي انف�صلت‬
‫�أن املجرم ق��ادم مع �أ�سلحته‪ ،‬ذلك هو ال�ضوء‬ ‫ع��ن نهر اجل��ح��ي��م) �أع���زي نف�سي بالنظر �إىل‬
‫الوحيد‪ ،‬املقبل بف�أ�سه احل��ج��ري �أو بندقيته‬ ‫ال�سحب املتدافعة يف‬
‫الأ�شجار والفرا�شات وهذه ُ‬
‫أوتوماتيكية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫يرف على ع�شه يف‬
‫غري اجتاه‪ ،‬وعلى مقربة طائر ّ‬
‫‪jhj‬‬
‫أبدية‪ ،‬انكما ت�شبهان‬
‫غدران ال�شجرة بهناءة ال ّ‬
‫هذه احليوات‪ ،‬وت�شبهكما‪ ،‬يف �إنعا�ش الغبطة‬
‫قال يل ‪� :‬س�أن�سحب من احلياة �س�ألته‪� ،‬إىل �أين؟‬
‫واللطافة يف نفو�س �أ�ضناها الأمل والتحديق يف‬
‫قال ال �أع��رف على الأغلب �س�أقذف نف�سي يف‬
‫الع َدم املاثل يف كل التفا�صيل واملخلوقات‪.‬‬
‫َ‬
‫اليم الهائج‪ ،‬من غري ع��ودة‪� ،‬أو من‬‫�أعماق هذا ّ‬
‫�أعلى منحدر �سحيق مه�شم ًا ر�أ�سي بني ال�صخور‪...‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫�ضحية تفل�سف جماين بالن�سبة‬ ‫ّ‬ ‫عرفت �أنه وقع‬ ‫�أيتها اللحظة‪ ،‬الهنيهة التي تو�شك على االنفراط‬
‫لذلك ال��ذي ط��وح ب��ه الأمل وال��ق��رف بعيداً يف‬ ‫على عجل‪ ،‬غبطة الكائن العابر ال��ذي ال يحلم‬
‫الكهوف التي يتوحد فيها‪ ،‬املوت واحلياة احلب‬ ‫أبدية‪.‬‬
‫ب�شيء وال يفكر يف ال ّ‬
‫والكراهية‪ ،‬كهوف �أ�سالفنا الدينا�صورات و�سائر‬ ‫‪jhj‬‬
‫الزواحف والأ�سماك والقرود‪.‬‬
‫ال �شيء يبهج ويبعث احلبور يف نف�سك التي مل‬
‫‪jhj‬‬
‫تعد تبحث عن �شيء‪ ،‬عدا �رصاخ الثكاىل ولعنات‬ ‫ْ‬
‫ال �شيء مي�ضي يف هذا العامل‪ ،‬ال �شيء يتحرك‪،‬‬ ‫مل�ساقة �إىل مع�سكرات االعتقال واملوت‪.‬‬
‫احل�شود ا ُ‬
‫اجلاذبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ق��وان�ين احل��رك��ة وال�����ض��وء‪ ،‬ق��وان�ين‬ ‫تتنف�سه مع قهوة ال�صباح ونبيذ امل�ساء‪ ،‬حينذاك‬
‫‪8‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سوداء‪� ،‬ست�صافحك بالطيبة اخلبيثة نف�سها‪،‬‬ ‫الأر�ض والف�ضاء‪...‬الخ تعطلت‪ ..‬احلركة الوحيدة‬
‫ُ�س ِمية الزعاف‪� ،‬أينما كنت‪ ،‬حتى يف قلب الأبد‬ ‫م�ضي الكائن‬
‫ّ‬ ‫اجلديرة بالتبجيل والتعظيم هي‬
‫املزعوم‪� ،‬ستت�سلل �إىل نومك البحري‪� ،‬إىل ال�شاطئ‬ ‫يف حركته ال�رسيعة �إىل اال�ضمحالل الأكيد‪..‬‬
‫والأ�شجار‪� ،‬إىل لهفة الطفل وهو يحاول امل�شي‪،‬‬ ‫نظرية بلهاء‪� ،‬أمام هذه احلقيقة‬
‫ّ‬ ‫كل حركة تبدو‬
‫تعد �أ�شعاراً‪� ،‬إمنا‬
‫�إىل �أ�شعارك وكتاباتك‪ ،‬التي مل ْ‬ ‫الوحيدة ال�صادمة‪.‬‬
‫جهنمية‬
‫ّ‬ ‫كلمات‪ -‬كائنات طالعة من �أعماق‬ ‫‪jhj‬‬

‫�وع‬
‫مظلمة‪� ،‬سافحة دم��اء ���س��وداء‪� ،‬أن��ه��ار دم� ٍ‬ ‫ال نكره �شيئا �إال ونعود �إليه �أكرث نهم ًا من ذي‬
‫م�سكونة بالزالزل واالنهيارات‪.‬‬
‫قبل‪ ...‬رمبا لأننا كائنات ُخلقنا من طينة الغباء‬
‫‪jhj‬‬ ‫والعبقرية �إال‬
‫ّ‬ ‫واالت�ضاع‪ ،‬وم��ا ادع��اء ال��ذك��اء‬
‫نعم �أنت املنبوذ الزائل املهزوم الذي تطاردك‬ ‫أ�صلية‪.‬‬
‫حتريف للطبيعة ال ّ‬
‫اجلد الأكرب‪ ...‬وال �أمل وال‬
‫لعنات اخلليقة‪ ،‬بط�ش ّ‬ ‫‪jhj‬‬

‫مال َذ‪.‬‬ ‫�إنني ال �أكتب �أدب ًا او فكراً‪ ،‬ذلك �صعب بالن�سبة‬


‫‪jhj‬‬ ‫يل‪ .‬وال �أمتلك موهبة الكتاب البارعني وتقنياتهم‬
‫ينوح الطائر حول �أفراخه الوليدة‪ ،‬مولو ًال على‬ ‫الذكية‪ ...‬فقط‪� ،‬أف��رغ حمولة ناء بها‬‫ّ‬ ‫وحيلهم‬
‫ع�شه الذي بناه غ�صن ًا غ�صن ًا‪ ،‬يرتفع نواحه‪� ،‬إىل‬ ‫هذا الليل العتيق‪� ،‬إرث ًا داخلي ًا راكمه الأ�سالف‬
‫�صماء قاحلة‪ ...‬ينوح الطائر حمد�س ًا‬ ‫من الغيابات واجل��راح‪� ،‬أنواع ًا جديدة من الدم‬
‫�سقف �سماء ّ‬
‫بالإع�صار القادم الو�شيك الذي مل تر�صده مناظري‬ ‫املتخث والقيء‪..‬‬
‫رّ‬
‫الفلكيني و�أبراجهم العالية‪.‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫ال �أرى يف هذه الأر���ض الثكلى‪� ،‬إال �أث��ر اللعنة‬


‫الأوىل ‪ ،‬عالمتها امل�سجلة يف �صلب م�بررات‬
‫العمانية‪،‬‬
‫املرويات ُ‬
‫ّ‬ ‫ما تفت�أ �صورة ذلك الثور يف‬
‫الوجود‪ ...‬وال �شيء يذكر‪ ،‬حتى ك�أثر �شاحب‪� ،‬أو‬
‫ثور اجلفاف والقحط‪ ،‬حني ا�شتد هالك الزرع‬
‫�شبح ناحل ميرق يف الظالم القا�سي‪ ،‬بالنعيم‬
‫خيته‪ ،‬كانت القائلة‬‫وال�رضع والن�سل‪ ...‬قطع ّ‬ ‫واحلبور الذي كان والذي �سيكون‪.‬‬
‫يف �أوجها‪ ،‬حني غمره ذلك الإ��شراق احلزين‪..‬‬
‫ذهب �إىل �آخر الوادي حيث تقع منابع الأفالج‬ ‫‪jhj‬‬

‫اجلا ّفة‪ ...‬وجدوه �شاخ�ص ًا نحو ال�سماء‪ ،‬والدموع‪،‬‬ ‫تلك ال��وج��وه امل��ك��ف��ه��رة‪ ،‬املل ّفعة ب�أكفانها‬
‫‪9‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪jhj‬‬ ‫�شالل الدموع متلأ الوادي يف �صالة ا�ست�سقاء �إىل‬


‫كان املاء مالذه‪ ،‬ح�ضنه احلميم من قيظ العامل‪،‬‬ ‫العلي القدير‪..‬‬
‫ّ‬
‫كان حبيبته الأوىل‪ ،‬رائحة الطلع يف تفتحاته‬ ‫�أتخيل نف�سي �أحيان ًا انني ذلك الثور‪� ،‬أحلم �أن‬
‫الربي يف اجلبل الأخ�رض‬ ‫ّ‬ ‫الندية‪ ،‬رائحة الزعرت‬ ‫ّ‬ ‫�أكونه‪� ،‬أو �أكون احلكاية ‪ ،‬ظل الثور واحلقيقة‪.‬‬
‫إل��ه وروح‪...‬‬‫و�أ�شجار البتوال‪ .‬ك��ان قب�س من � ٍ‬ ‫‪jhj‬‬

‫نزلت على روح��ه وكامل حوا�سّ ه‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬


‫وك�صاعقة‬
‫�إنـا نــورد الرايــات بيـ�ضـ ًا‬
‫تبخرت‬ ‫وهو يبحر يف ليل �أحالم املياه‪ ،‬ك�أمنا ّ‬ ‫ون�صدرهن ُحمرا قد روينا‬ ‫ ‬
‫املد �إىل كوكب �آخر‬ ‫املحطات والبحار وارتفع ُّ‬ ‫ملأنا الرب حتى �ضاق منا‬
‫هاجرت‬
‫ْ‬ ‫ا�ستحالت قاع ًا �صف�صف ًا‪..‬‬
‫ْ‬ ‫حيث الأر�ض‬
‫وماء البحر منلـ�ؤه �سفينا‬ ‫ ‬
‫أودت بها املعجزات العلمية واخلطايا ال�سبع‬ ‫�أو � ْ‬ ‫وماذا بعد يا قاتل امللوك‪ ،‬ويف طليعتهم «م�رضط‬
‫أطبقت على عنق العامل يف ر�ؤيا يوح ّنا‪.‬‬ ‫التي � ْ‬ ‫احلجر الأ�صم» عمرو بن هند ماذا بعد يا حفيد‬
‫يعد يبحر يف حلم املياه‪ ،‬جنا ِنها‬ ‫مل ْ‬ ‫املهلهل ‪ ،‬الزير �سامل‪ ،‬وكليب الفار�س امللك الذي‬
‫وحزنها العميقٍ ‪..‬‬
‫ال ُي�شق له غبار؟ ماذا �ستفعل بكل هذا؟ لقد حتقق‬
‫�صار �أكرث وحد ًة‬
‫ذرية املجد وال�رشف‬‫حلمك عرب ذريتك العتيدة‪ّ ،‬‬
‫�أكرث متاهة وظلم ًة‬
‫والكرامة ‪ ...‬لقد ملأت الآفاق‪ ،‬الف�ضاء والبحار‪،‬‬
‫�أكرث انهياراً وانعدام حيلة‬
‫لكن بالدمع والهزائم واالنهيارات‪.‬‬
‫‪jhj‬‬
‫‪jhj‬‬
‫وق��ف الأب �أم��ام �أطفاله وعائلته ال�شهيدة‪،‬‬
‫تخيل رب��ط��ات العنق‪،‬‬
‫َم��ن ذل��ك الأري���ب ال��ذي ّ‬
‫وقف ويف يده ما تبقى من �أحلفة و�أ�سمال بعد‬
‫ان�شوطات وم�شانق‪ ...‬هيت�شكوك‪ ..‬على الأرجح‪.‬‬
‫طول ح�صار خانق‪ ،‬ليحمي العائلة املذبوحة‬
‫أ�شالء �صغري ًة‪،‬‬
‫من الوريد �إىل الوريد ‪ ،‬املمزقة � ً‬
‫‪jhj‬‬

‫رمبا مازالت تنب�ض فيها بع�ض عروق‪ ،‬املم ّزقة‬ ‫املوثقة �أمام اجلالد‪ ،‬كيف‬
‫العني العزالء الوحيدة َ‬
‫باحلقد الرخي�ص املرتاكم وال�سكاكني واحلراب‪..‬‬ ‫تواجه املخرز‪ ،‬كيف تروم الدفاع عن وجودها‪،‬‬
‫لي�صد ح��رارة ال�شم�س عن العائلة‬
‫ّ‬ ‫وق��ف الأب‬ ‫هبة اهلل؟‬
‫املذبوحة‪ .‬البد �أن الواقعة �أُ ْ‬
‫جنزت يف ع ّز ال�صيف‬ ‫�أي �شجاعة ‪ ،‬عدالة‪ ،‬حقيقة‪ ،‬تفيد يف مثل هذا‬
‫والقائلة وعار التواط�ؤ وال�صمت‪..‬‬ ‫املوقف؟ �أي حقيقة ت�رشق وت�صنع املعجزة؟‬
‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خ�ضم‬
‫ّ‬ ‫اجلميع عدا �شجرة وحيدة يف‬
‫ُ‬ ‫لقد ن�سيني‬ ‫الأب امل��ن��ك��وب م���اذا يعمل يف ه���ذه احل��ال��ة‬
‫ال�صحراء‬ ‫املحت�شدة بالأمل والفجيعة‪ ،‬حيث تعجز جميع‬
‫مورق ًة و�سط الليل واليباب‪:‬‬ ‫لغات الكون عن حماولة و�صفها واالقرتاب من‬
‫�إنها ذاكرة النهر واحلياة‬ ‫تخوم جاللها املهيب‪...‬‬
‫‪jhj‬‬
‫تلك كانت حكاية واقعية من �آالف حكايات‬
‫ال�سورية املتنا�سلة يف الزمان واملكان‬
‫ّ‬ ‫املجزرة‬
‫ظ ّل يحفر يف جرح امل�سافة‬
‫واملهجر من �أحد �أحياء حم�ص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫– رواها الكاتب‬
‫حتى تال�شى من غري �أث ٍر‬
‫نور الدين الها�شمي‪.‬‬
‫يف هيجان الف�ضاء والن�سيان‬
‫‪jhj‬‬
‫‪jhj‬‬

‫احل�شود تهتف جل ّالديِها وقتلتها‬


‫ص�رت ك��ل ���ش��يء‪ :‬يقول‬‫الن�سيان‪ ،‬الن�سيان‪َ �� ،‬‬
‫احلرية يعبدونها كوثن �أو �إله‬
‫ّ‬ ‫ط ّالب‬
‫العجوز ل�صديقه القدمي‪ ..‬الن�سيان يا �صاحبي‬
‫امل�ؤمنون يعبدون خالقهم طمع ًا يف ثواب‬
‫هدية الزمن الوحيدة اجلديرة‬ ‫ملن ي�ستطيع‪ ،‬هو ّ‬
‫�أو خوف ًا من عقاب‬
‫�ص�رت �أن�����س��ى وج��وه‬
‫بالتبجيل واالم��ت��ن��ان (�� ُ‬
‫الأ�صدقاء‪ ،‬الأقارب‪�ُ ،‬سحناتهم مالحمهم‪ ،‬ال �أكاد‬ ‫الع�شاق احلاملون ي ّق ِد�سون ّ‬
‫احلب وال�شعر‪،‬‬
‫ِ‬
‫التوحد والعناق‬
‫�أفرق بني وجه و�آخر �أن�سى الطُ رقات‪ ،‬والع�صا التي‬
‫يحدقون يف ال�سدمي الأول‬ ‫دميون ّ‬ ‫الع ّ‬ ‫َ‬
‫تدلني يف متاهاتها‪� ،‬أن�سى حتى �أ�سماء �أوالدي‬
‫وتلك التي كانت حبيبتي)‪..‬‬ ‫للخليقة‬
‫‪jhj‬‬
‫‪jhj‬‬

‫ن�سيان ن�سيان‪� ،‬أي��ام تتلوها �أي��ام و�أزم���ان‪،‬‬ ‫�إىل طاغور‬ ‫ ‬


‫ع�شب الذاكرة‬
‫َ‬ ‫قطعان الوح�ش ال�ضاري تق�ضم‬ ‫املتدفق عرب الأودي��ة الوح�شية‬
‫ّ‬ ‫حني ينظر النهر‬
‫حتى قعر الهاوية‪..‬‬ ‫والقنوات‬
‫‪jhj‬‬ ‫النهر امل ْغدق على الأر�ض والب�رش‬
‫ن�سيان يقطع حبل ال�سرُّ ة بني الكائن والعذاب‪،‬‬ ‫الطحلب والن�سيان‬
‫ُ‬ ‫جف وعاله‬ ‫وقد ّ‬
‫فيت �إىل الياب�سة‪،‬‬
‫ن�سيان ال�سمكة للماء‪ ،‬بعد �أن ُن ْ‬ ‫بت�أوه يقول‪ :‬لقد م� ّ�ت لكن روح��ي‪ ،‬روح املياه‬
‫ن�سيان الليل ل�شقاء النهار‪ .‬ن�سيان الظلمة لل�ضوء ‪،‬‬ ‫���سري��ة م��ا زال���ت ت����سري يف ع���روق الأر����ض‬
‫ال� ِّ‬
‫بعد انطفاء ال�سجني يف زنزانته‪ .‬ن�سيان املحارب‬ ‫والكائنات‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�شفيه من مر�ضه العابر والظالم‬ ‫اخلرف واجلنون‪..‬‬


‫ُ‬ ‫لأهوال املجزرة‪ ،‬حني يداهمه‬
‫‪jhj‬‬
‫ن�سيان معقود على نوا�صيه اخلال�ص مثل الفناء‬
‫واال�ضمحالل‪..‬‬
‫يف ذل��ك اليوم ال�شتوي‪� ،‬أ�صطحب (نا�رص) �إىل‬
‫ميجد نف�سه وال يتذكر �شيئ ًا من ما�ضي‬
‫ن�سيان ّ‬
‫البحر‪ ،‬بحر (العذيبة) الذي كان هادراً ومزبداً‪...‬‬
‫ال�ضحية واالنهيار‪..‬‬
‫خ�شيت �أن‬
‫ُ‬ ‫بحرية الطفولة و�شغبها حتى‬‫ّ‬ ‫رك�ض‬ ‫‪jhj‬‬
‫ي�ضيع مني بني الأثالم والثغور‪ ،‬حتى عاد حامال‬
‫الي�سارية املمثلة‬
‫ّ‬ ‫(فالن�سيا ردجريف) النا�شطة‬
‫وحمار‪ ،‬وتلك الأحجار التي ت�شكلت عرب‬ ‫طرح بحر ّ‬ ‫َ‬ ‫(ح�رضت تكرميك‬
‫ُ‬ ‫الطليعية طويلة الطلة والقامة‬
‫الأوق��ات‪ ،‬ب�أ�شكال ومتاثيل‪ ،‬من نحت الطبيعة‬
‫ذات زمن يف مهرجان دم�شق الدويل) �أراك اللحظة‬
‫بعبقريتها الفريدة‪..‬‬
‫يف م�شهد على ال�شا�شة وقد نال الزمن وال�شيخوخة‬
‫نزل امل�ساء‪ ،‬وكانت الغيوم ترتاك�ض وال�بروق‬
‫اخلفية التي ت�شع من عينيك‬
‫ّ‬ ‫القوة‬
‫منك‪ ،‬رغم تلك ّ‬
‫ت�ضيء ذ�ؤبات الليل‪ ..‬وهناك يف البعيد ناقالت‬ ‫املنطفئتني‪.‬‬
‫نفط عمالقة متجهة �إىل ديار احل�ضارة‪� ،‬أ�ضوا�ؤها‬ ‫‪jhj‬‬
‫و�صفريها يختلط مع جلَبة الرعود والربوق‪.‬‬
‫ع �زّان‪ ،‬ع �زّان‪ ،‬هذه حلظة نومك‪ ،‬وعيناك ن�صف‬
‫قال نا�رص‪ :‬انظر بابا (ال�صبح دخل يف الليل والليل‬
‫من�سية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذئب يف ٍ‬
‫بواد‬ ‫مفتوحتني مثل جرو ٍ‬
‫�صار �صبحاً) من فرط لفح ال�بروق و�رسحانها‬
‫قبل نومك بقليل ت�صخب �صائحا‪ ،‬راف�ض ًا كل‬
‫يف الف�ضاء املرتامي واملكان‪ ...‬بالطبع‪ ،‬مل يقر�أ‬ ‫�شيء‪ ،‬حتى تهد�أ يف نومك ال��ذي ما زال وردي� ًا‬
‫نا�رص (�أبا متام) وال يعرفه‪ .‬لكن الطفولة بخيالها‬ ‫عميقاً‪..‬‬
‫اجلامح‪ ،‬مبا قبل املعرفة‪ ...‬جمال ما قبل املعرفة‬
‫‪jhj‬‬
‫مرئياته‬
‫ّ‬ ‫برية الكائن الأوىل‪ ،‬جمال‬ ‫وال��وع��ي‪ّ .‬‬
‫الطازجة‪ ،‬حد�سة البدئي مثل ان�سان ما قبل‬ ‫الربكان نائم منذ زمن‬
‫التاريخ‪ ،‬الذي �ستدمره املعرفة الحق ًا مهما كانت‬ ‫يتلوى با�شتياق‬
‫ّ‬
‫عظمتها‪...‬‬ ‫منتظراً حلظة االنفجار‪..‬‬
‫ثمة ا�ستعارة ل�صورة ال�شاعر العبا�سي يف موقعة‬ ‫‪jhj‬‬

‫(عمورية)‪..‬‬
‫ّ‬ ‫�رسّ ة امر�أة‬
‫تلك �صورة ح��رب وم��ع��ارك‪ ،‬وه��ذه �صورة بحر‬ ‫ت�ضيء القمر يف خ�سوفه الليلي‬
‫ٍ‬
‫وطفولة و�سالم‪.‬‬ ‫واجلمال‬
‫َ‬ ‫متنحه النور‬
‫‪12‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫امل�سورة بجبال‬
‫ّ‬ ‫الوادي على مدار الأعوام‪ ..‬القرية‬ ‫‪jhj‬‬

‫اىل املتنبي‬ ‫ ‬
‫الذاكرة والطفولة والأحالم‪.‬‬
‫�أ�صخر ٌة ر�أ�سي هذا ال�صباح؟‬
‫‪jhj‬‬
‫ال يحركه الن�سيم الع ْذب ‪ ،‬وال الن�ساء الفاتنات‪ ،‬ال‬
‫وحيداً ي�أكل الرجل العجوز حتت ال�شجرة‪ ،‬حممو ًال‬ ‫خراب العامل وال الذكريات‬
‫على ذكريات العائلة والأوالد والأحفاد الذين‬ ‫�صخر ٌة‬
‫ق�ضوا يف املعارك واحلروب‪..‬‬ ‫جلمود �صخر يرت ّنح يف �سقوطه من ذروة (جبل‬
‫بالكاد ي�ستطيع اب��ت�لاع اللقمة‪ ،‬ك����ْسررْ ة اخلبز‬ ‫الفج) حتى �أعماق ذلك الوادي ال�سحيق‪..‬‬ ‫ّ‬
‫�سد رم��ق‪ ،‬غارق ًا يف‬ ‫بالزيت‪ ،‬بالكاد ي�ستطيع ّ‬ ‫‪jhj‬‬
‫هاوية الأعماق والأمل‪..‬‬
‫مرنان) وتلك‬
‫ُ‬ ‫تلك املرابع (التي كان حاديهن‬
‫‪jhj‬‬
‫الأ�شجار املزهرة‪� ،‬أحالتها الأعا�صري �إىل �أ�سمال‬
‫ما�ض يف هذه‬‫قالت له ال�شجرة‪� :‬إىل �أي��ن �أن��ت ٍ‬ ‫�أقوام بائدة‪.‬‬
‫ركبت‬
‫الرحلة الطويلة التي بال ا�سرتاحة وال نهاية؟ َ‬
‫‪jhj‬‬

‫يف �سبيلها كل الو�سائل واملوا�صالت‪ ،‬من اجلمال‬ ‫ثمة جبل يت�سلل م��ن �شغاف ال��ذاك��رة املل ّفعة‬
‫واحلمري‪ ،‬حتى القطارات والطائرات وجت�شّ مت كل‬ ‫باحلُجب والدماء‪� ..‬أراه اللحظة يف و�ضوح ي�شبه‬
‫م�سالك اخلطر واملوت‪ ،‬وال من �أمل و�صولٍ يلوح‬ ‫ال�صبية يت�س ّلقون �أ�ضالع‬‫الأ���ص��ل‪ ،‬حني ك��ان ِ‬
‫يف الأفق‪..‬‬ ‫�صخوره احل��ادة ومنحنياتها من الأ�سفل �إىل‬
‫تحت ج��ذوري امللت ّفة‬
‫إب��ق معي‪ ،‬ب�صحبتي‪َ ،‬ف َ‬ ‫� َ‬ ‫الأعلى ‪ ،‬حني تظهر قمم �أخ��رى تتنا�سل حتى‬
‫كغيوم حبلى دائما بالأمطار‪ ،‬رمبا جتد �ضالتك‬ ‫الالنهاية‪ ،‬يرتد منها الب�رص خا�سئاً‪ ..‬ومن الأعلى‬
‫أرا�ض‬
‫ال�سحرة يف � ٍ‬ ‫املن�شودة‪ ،‬كنزك الذي طمره‬ ‫ملخ َتلف الطيور‬ ‫�إىل ال�سفح حيث ُتن�صب ال�شباك ِ‬
‫َ‬
‫وعرة م�ستحيلة‪..‬‬ ‫(ال�صبا)‬
‫ّ‬ ‫الربية املقيمة واملهاجرة‪ ،‬خا�صة طيور‬
‫ّ‬
‫التي تنزل من الأع��ايل يف برد �شتاء (ال�رصدا)‬
‫‪jhj‬‬
‫يعلق بع�ضها مثنى وثالث يف امل�شابك‬ ‫�أ�رساباً‪ْ ،‬‬
‫بنت‬
‫تلك الف�صيلة النادرة من طيور الأدب‪ ،‬وقد ْ‬ ‫اجلبلية ومكرها‬‫ّ‬ ‫املن�صوبة بحنكة الطفولة‬
‫�أع�شا�شها و�سط خرائب �أكوان منقر�ضة ويف اخليال‬ ‫الربيء‪ ..‬وحتت ال�سفح تقع القرية الغافية وك�أمنا‬
‫العابر للهواج�س والأزم��ات‪ ..‬ها هي احلرب من‬ ‫خارج الزمن والتاريخ‪ ،‬ب�صفوف نخيلها البا�سقة‬
‫جديد‪ ،‬تقرتب من منازل الأحالم على ال�شواطئ‬ ‫و�أفالجها اخل�صيبة التي تت�آخى مع (غيول)‬
‫‪13‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حام ًال تلك النربة‬ ‫املعزولة‪ ،‬بعيداً عن العامل وقطعان الب�رش‪.‬‬


‫من �أملٍ وحنني‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪jhj‬‬
‫�أ�صدقاء ‪� ،‬أ�صدقاء نحلم باللقيا‪ ،‬باملرح وعودة الزمن‬
‫هذه الفتاة التي تقدم يل القهوة‪� ،‬أي ٍ‬
‫وجه للر�ضا‬ ‫الأول‪ ،‬ما �إن يتحقق ذلك حتى نتمنى على الفور‬
‫حلمته ليلة البارحة‪� ،‬أو‬
‫والب�شا�شة‪� ،‬أي حلم �سعيد ْ‬ ‫�صحب َة الأبال�سة وال�شياطني يف ِظالل جه ّنم الوارفة‪.‬‬
‫حلم يقظة فردو�سي جعلها على هذا النحو من‬ ‫‪jhj‬‬

‫مالئكية؟‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طيبة‬
‫قالت ال�شجرة جلارتها ال�شجرة‪� :‬أمتنى للغيمة �أن‬
‫‪jhj‬‬ ‫ِ‬
‫أغ�صانك‬ ‫الحظت بع�ض �‬
‫ُ‬ ‫متطر يف واحتك قبلي‪ ..‬فقد‬
‫�أيها الطائر على فرع ال�شجرة الهرمة‬ ‫�آخذاً يف اال�صفرار‪ ،‬يا �صديقة احلب الأزيل‪..‬‬
‫قلب ال�صحراء وال�ضمري‬
‫هذا ال�صياح الذي ميزق َ‬ ‫‪jhj‬‬

‫هذا ال�صياح اجلارف‬


‫نواحكن‪ ،‬يا بنات �آوى‪ ،‬خالئق الفجيعة والغمو�ض‬
‫املاموث‬
‫ُ‬ ‫على �أفراخك وقد ده�سهم‬
‫يف اجلبال البعيدة‪ ،‬حب ٌل‪ ،‬يالحقني عرب امل�سافات‬
‫العائد �إىل احلياة قبل قليل‪..‬‬
‫ملتف على عنقي‪� ،‬أنا�شيط م�صري‪.‬‬
‫والآماد ٌ‬
‫‪jhj‬‬
‫‪jhj‬‬

‫وجهك �أيها الذئب الك�سري‬


‫�أك���واخ مهجورة‪ ،‬ك��ان� ْ�ت ذات ده��ر‪ ،‬ل�صيادين‬
‫وقد انهالت عليك العزلة‬ ‫�أ�شاو�س‪ ،‬ال يخ�شون العوا�صف والبحار‪.‬‬
‫وال�سنون‬ ‫ت�صطفق الريح يف جنباتها‬
‫ال يقل حزنا‬ ‫على �شاطئ (الغربة) القدمي‬
‫عن ذلك احلامل من �أجل الكرامة‬ ‫ب�شباك مهرتئة‬
‫واحلرية‬
‫ّ‬ ‫املهدورة‬ ‫وجماديف مك�سورة‬
‫وقد خذله العامل والرفاق‬ ‫كالب مذعورة ال تتوقف عن النباح‬
‫و�صار �رشيداً‪ ،‬بني املغاور والكهوف‬ ‫ك�أنها بانتظار الغائبني الذين لن‬
‫العون الإلهي‬
‫َ‬ ‫يتو�سل‬ ‫يعودوا �أبداً‬
‫واملالذ‪..‬‬ ‫لكن النباح ما زال على حا ِله‬
‫‪jhj‬‬ ‫منذ بدء اخلليقة‬
‫‪14‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫الزمن ‪ ،‬الزمن عربة املوت ال�سريعة‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رددها الأدباء وكذلك‬


‫ّ‬ ‫�أيها الرجاء‪� ،‬أيها الأمل‬
‫املوتى وال�ضباع‪..‬‬ ‫ذهبت بعيداً‬
‫َ‬ ‫وقد‬
‫‪jhj‬‬ ‫عن اجلديرين بك‬
‫عليك �أن تختفي من املعاجم واحلياة‬
‫رغم �صخب الأقوام‬
‫وترتك هذه البالد التي ِ‬
‫ب�سعة الكون والتابوت‬
‫وقعقعة ال�سالح‬
‫رغم الرطانات‬ ‫ترتكها هكذا‪...‬‬
‫والأنا�شيد‬ ‫مقرب ًة عارية الكفن والعظام‬
‫مل ي�سمع‬ ‫الهوج‬
‫ت�سفوها الرياح ُ‬
‫�إال �صوت الغافة والنبع‬ ‫من كل الكواكب واجلهات‬

‫‪jhj‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫تت�رضع اخلالئق‬ ‫تلب�س الأ�شياء واحليوات‬


‫يف ليل النجوم والفراغ‬ ‫�أحلى ُحلة وجمالٍ‬
‫تتو�سل �إىل بارئها‬ ‫حلظة االنف�صال والرحيل‪..‬‬
‫وهي تتدىل من حبال مق�صلة ال مرئية‪.‬‬ ‫بداهة طاملا‬

‫�سيف الرحبي‬

‫�إ�شارات وردت يف الن�ص‬


‫عمورية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ال�شعرية حول موقعة‬
‫ّ‬ ‫‪� j‬أبو متام ‪ ،‬يف ملحمته‬ ‫مرنان) �إ�شارة �إىل بيت ال�شاعر‬
‫ُ‬ ‫‪( j‬تلك املرابع حاديهن‬
‫غادرت فيها بهيم الليل وهو �ضحى‬ ‫العماين الكبري �أبي م�سلم البهالين‪:‬‬
‫ُ‬
‫اللهب‬
‫ِ‬ ‫�صبح مــن‬
‫ٌ‬ ‫ي�شلّه و�سطها‬ ‫ ‬ ‫تلك البوارق حاديهن مرنان‬
‫رغبت‬
‫ْ‬ ‫حتى ك�أن جالبيب الدجى‬ ‫و�سنان‬
‫ُ‬ ‫فما لطرفك يا ذا ال�شجو‬ ‫ ‬
‫تغب‬
‫عن لونها وك�أن ال�شم�س مل ِ‬ ‫ ‬ ‫‪ j‬م�سجد الفج‪ :‬م�سجد يف قرية �رسور بوادي �سمائل‪.‬‬
‫الغيول‪ :‬جمع غيل املياه املتبقية بعد �سيالن الأودية‬ ‫‪ j‬نا�رص وعزان‪ :‬ابنا كاتب هذه الكلمات‪.‬‬
‫وال�شعاب وهي مياه جارية‪.‬‬ ‫‪�( j‬أ�صخر ٌة ر�أ�سي هذا ال�صباح) ا�شارة �إىل بيت �أبي الطيب‪:‬‬
‫�أ�صخرة �أنا مايل ال حتركني‬
‫هذي الأغاين وال هذي الأغــاري ُد‬ ‫ ‬

‫‪15‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫قراءات‬

‫خمطوط يف علم الفلك للم�ؤلف ال ُعماين عبدالرحمن عمر‪..‬‬

‫‪16‬‬
‫الوثائق ودورها فـي‬
‫�إبراز العالقات العُمانية ‪ -‬العثمانية‬
‫\‬
‫تركية بنت حمد الفار�سي‬

‫ت�شكل الوثيقة مبا فيها من تاريخ‪ ،‬ومن وقائع م�ستم�سك معرفة لظروف تلك‬
‫املرحلة التي دونت فيها ك�شاهد اثبات‪ ،‬حيث تتقاطع معها امل�شرتكات وامل�صالح‪.‬‬
‫اذاً الوثيقة مهمة كونها ال�سجل التاريخي لإبراز �أية عالقة يف وقتها الزماين‬
‫وحميطها اجلغرايف‪.‬‬
‫فـ‪/‬عمان غنية بتاريخها وب�إرثها احل�ضاري وعالقاتها مبحيطها العربي ‪/‬اال�سالمي‬
‫وكذلك مع الغري‪ ،‬حيث ي�سود تلك العالقة االحرتام والتقدير‪.‬‬
‫وما هذه الوثائق التي نعر�ضها �إال في�ض من غي�ض لتبيان �أهمية الوثيقة كم�ستم�سك‬
‫ح�ضاري يف الكتابة عن هذا املكان االقليمي‪ ،‬بتاريخ وجغرافيا عريقني ترتكزان‬
‫على حقائق مدونة‪...‬‬

‫‪17‬‬ ‫باحثة وكاتبة من ُعمان‬ ‫\‬


‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حيث اهلك وباء الطاعون �أعدادا كثرية من ال�سكان يف‬ ‫الوثيقة الأوىل‬
‫بغداد والب�رصة عام ‪1773‬م‪ ،‬والظروف التي تعر�ضت‬ ‫(م�صدر الوثيقة‪ :‬الأر�شيف العثماين ب�إ�سطنبول)‬
‫لها الب�رصة من جانب ثالث‪ ،‬فقد حاولت قبيلة بني‬ ‫تاريخ الوثيقة ‪ :‬بدون تاريخ‬
‫كعب ال�سيطرة على الب�رصة‪ ،‬و�أر�سلت �أ�سطوال لق�صف‬ ‫عنوان الوثيقة ‪ :‬ر�سالة عربية و�صلت �إىل ال�صدر‬
‫الب�رصة(‪ ،)1‬فقد كانت كل من الدولة العثمانية وفار�س‬ ‫الأعظم للدولة العلية من حاكم م�سقط وعمان ردا‬
‫ت��دع��ي �سيطرتها على قبيلة بني كعب واملناطق‬ ‫على ر�سالته �إليه حول نق�ض الفر�س العهد وامليثاق‬
‫املجاورة لها من �شط العرب لكن قبيلة بني كعب‬ ‫مع الدولة العلية واعتدائهم على الب�رصة العثمانية‪.‬‬
‫كانت ال تعرتف ب�أي من ال�سلطتني فكانت تناور كل‬ ‫تعترب هذه الر�سالة ردا على ر�سالة قد �أر�سلها ال�صدر‬
‫من الدولتني يف �سبيل احل�صول على ا�ستقاللها(‪.)2‬‬ ‫الأعظم �إىل الإمام احمد بن �سعيد‪ ،‬وتدور �أحداث الوثيقة‬
‫وميكننا �أن ن�ستعر�ض الأ�سباب التي دفعت كرمي خان‬ ‫حول الغزو الفار�سي للب�رصة ‪1779-1775‬م‪ ،‬حيث‬
‫الزند ل�شن حملته �ضد الب�رصة ‪:‬‬ ‫ازدادت طموحات كرمي خان الزند ابان �ضعف ال�سلطة‬
‫�أوال ‪ :‬ازده���ار جت��ارة الب�رصة ومناف�ستها للموانئ‬ ‫العثمانية على الواليات العربية التابعة لها‪ ،‬خا�صة‬
‫الفار�سية خا�صة بعد �إغ�لاق �رشكة الهند ال�رشقية‬ ‫الب�رصة والتي كانت متثل �أهمية كبرية بالن�سبة لكرمي‬
‫الربيطانية مقرها التجاري يف ميناء بو�شهر ب�سبب‬ ‫خان الزند م�ستغال �ضعف ال�سيطرة العثمانية عليها‬
‫اخلالف الذي دب بني كرمي خان الزند وبني االجنليز‬ ‫من جانب وانت�شار وب��اء الطاعون من جانب �آخر‪،‬‬
‫الأمر الذي دفع االجنليز ل�سحب‬
‫جت��ارت��ه��م م���ن ب��و���ش��ه��ر �إىل‬
‫الب�رصة (‪.)3‬‬
‫ثانيا ‪��� :‬س��وء املعاملة التي‬
‫يتعر�ض لها الرعايا الفر�س‬
‫من ال��زوار وال�شيعة والتجار‪،‬‬
‫وال�رضائب التي تفر�ض عليهم‬
‫اث��ن��اء ذه��اب��ه��م �إىل الأم��اك��ن‬
‫املقد�سة يف العراق من النجف‬
‫وكربالء(‪ .)4‬فقد كانت الر�سوم‬
‫وال�رضائب التي فر�ضها وايل‬
‫بغداد على الزوار الفر�س خمالفا‬
‫ملعاهدة ك��ردان املعقودة يف‬
‫يوليو ‪1746‬م مع ن��ادر �شاة‪،‬‬
‫والتي تن�ص على حرية مرور‬
‫ال�شيعة ال��ف��ر���س يف �أرا���ض��ي‬
‫العراق العثمانية(‪.)5‬‬
‫ثالثا ‪ :‬رغبة الفر�س منذ �أيام‬
‫ن���ادر ���ش��اة االع��ت�راف ال��دول��ة‬
‫العثمانية باملذهب اجلعفري‬
‫جنبا �إىل ج��ن��ب م��ع م��ذاه��ب‬
‫ال�سنة الأربعة‪ ،‬وقد كان نادر‬ ‫الوثيقة الأوىل‬
‫�شاة يعلم بان املذهب ال�شيعي‬
‫‪18‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واخليالة عند م�صب نهر ال�صويب احد روافد �شط العرب‪،‬‬ ‫م�س�ؤول �إىل حد كبري عن تدهور البالد وعزلتها عن‬
‫و�أر�سل �صادق خان مبعوثا �إىل القبائل العربية واليهود‬ ‫جريانها‪ ،‬ولذلك ادعى بان املذهب اجلعفري خمالف‬
‫ومت�سلم الب�رصة والربيطانيني للتفاو�ض معه حول‬ ‫للمذهب ال�شيعي‪ ،‬كما �أن اعتناق فار�س للمذهب ال�سني‬
‫افتداء املدينة حيث طلبوا مبلغ ‪200000‬روبية(‪.)11‬‬ ‫كان امراً �صعب ًا لهم‪ ،‬ولذلك طلب من الدولة العلية حال‬
‫وقد كانت جميع هذه الأح��داث هي حمل ذكر ال�صدر‬ ‫و�سطا وهو االع�تراف باملذهب اجلعفري مع مذاهب‬
‫الأعظم وال�سلطان العثماين يف مرا�سالتهم مع الإمام‬ ‫ال�سنة �إال ان الدولة العلية رف�ضت مطلبهم ملا يف ذلك‬
‫احمد بن �سعيد‪ ،‬وقد �أو�ضح الإمام احمد بن �سعيد يف‬ ‫االمر من حماذير �رشعية(‪.)6‬‬
‫هذه الوثيقة ا�ستياءه من ت�رصف الفر�س �ضد الدولة‬ ‫رابعا ‪ :‬رف�ض الدولة العثمانية واملتمثلة يف وايل بغداد‬
‫العثمانية واختتم ر�سالته ب�أنه يف انتظار الرد وانه‬ ‫الوقوف مع كرمي خان الزند ل�شن حملة �ضد عمان‪ ،‬فمن‬
‫م�ستعد للإ�سهام يف احلركة الع�سكرية �ضد الفر�س‪.‬‬ ‫املعروف ان العالقات بني فار�س وعمان �سادها نوع‬
‫من التوتر‪ ،‬حيث كانت �سيا�سة كرمي خان الزند تهدف‬
‫الوثيقة الثانية‬ ‫�إىل ب�سط نفوذه يف مناطق اخلليج العربي‪ ،‬وقد كانت‬
‫(م�صدر الوثيقة ‪ :‬الأر�شيف العثماين با�سطنبول)‬ ‫عمان هي العائق الوحيد �أمام طموحاته‪ ،‬ف��أراد �أن‬
‫يعيد ال�سيطرة الفار�سية على عمان كما كان �أيام نادر‬
‫رقم الوثيقة ‪3808‬‬
‫�شاه‪ ،‬فبحث كرمي خان الزند عن حليفا له لي�ساعده يف‬
‫تاريخ الوثيقة ‪ 6 :‬جمادى الآخر ‪1191‬هـ ‪1777 /‬م‬
‫توجيه حملته �ضد عمان(‪.)7‬‬
‫مو�ضوع الوثيقة ‪ /‬ر�سالة من ال�سلطان العثماين‬
‫ف�أر�سل �إىل الدولة العثمانية عام ‪1774‬م واملتمثلة‬
‫عبداحلميد الأول �إىل الإمام احمد بن �سعيد‬
‫يف وايل بغداد يطلب منه امل�ساعدة يف �شن حمله �ضد‬
‫تعترب هذه الوثيقة من �أه��م الوثائق العمانية التي‬ ‫عمان‪ ،‬فرف�ض وايل بغداد طلبه مما اغ�ضب ذلك كرمي‬
‫تعك�س طبيعة العالقات العمانية العثمانية من اجلانب‬ ‫خان الزند‪ ،‬فرتاجع عن حملته لعمان ووجهها �إىل‬
‫ال�سيا�سي‪ ،‬وذلك ملا احتوتها من معلومات وحقائق‬ ‫الب�رصة‪ ،‬وهذا ما وجدناه يف وثيقة عمانية نادرة وهي‬
‫مغايرة للكثري من احلقائق التي �أورده��ا الكتاب عند‬ ‫ر�سالة من الإمام احمد بن �سعيد �إىل ال�سلطان العثماين‬
‫كتابتهم ملو�ضوع النجدة العمانية للب�رصة‪ ،‬وميكننا‬ ‫عبداحلميد الأول يقول فيها (�أن العجم طلبوا من‬
‫ان نلقي ال�ضوء على النقاط الهامة جدا والتي احتوتها‬ ‫املتوفى عمر با�شا وايل بغداد ال�سماح لهم باملرور من‬
‫الوثيقة و �أ�ضافت الكثري للتاريخ العماين‪.‬‬ ‫الب�رصة �إىل عمان وتعهدوا بعدم االعتداء عليها و�إيقاع‬
‫�أوال ‪ :‬اختلفت امل�صادر يف ذكر قيادة الأ�سطول فتذكر‬ ‫�أي �رضر وخ�سائر فيها وملا مل ي�سمح لهم بذلك جعلوه‬
‫بع�ض امل�صادر بان الأ�سطول العماين كان بقيادة‬ ‫�سببا وذريعة لإجراءاتهم‪.)8()...‬‬
‫الإمام احمد بن �سعيد(‪ ،)12‬بينما تذكر م�صادر �أخرى ب�أن‬ ‫وق��د كانت وجهه نظر العثمانيني ب��ان بقاء عمان‬
‫قيادة اجلي�ش كانت البناء الإمام احمد بن �سعيد قي�س‬ ‫دولة قوية من �ش�أنه �أن يحد من تعاظم نفوذ الفر�س‬
‫و�سيف ومعهما ال�شيخ ماجد بن �سعيد(‪ )13‬حيث كان‬ ‫يف اخلليج العربي‪ ،‬فم�صالح الدولة العثمانية تتفق مع‬
‫ال�شيخ ثامر بن عبداهلل ال�سعدون �شيخ قبيلة املنتفق يف‬ ‫م�صالح عمان �رشكائهم يف التجارة(‪ ،)9‬كما �أن كرمي‬
‫مقدمة م�ستقبلي الأ�سطول العماين(‪.)14‬‬ ‫خان الزند كان يرى بان احتالل الب�رصة يعنى توجيه‬
‫و�أو�ضحت هذه الوثيقة بان قيادة الأ�سطول العماين‬ ‫�رضبة قا�ضية لالقت�صاد العماين والذي يعتمد اعتمادا‬
‫كانت لل�سيد هالل بن الإم��ام احمد بن �سعيد ولي�س‬ ‫كبريا على جتارته مع الب�رصة(‪.)10‬‬
‫الإمام احمد بن �سعيد نف�سه‪.‬‬ ‫وخ�لال تلك الأح����داث و�صلت اخ��ب��ار �إىل الوكالة‬
‫ثانيا ‪ /‬بينت الوثيقة اجلهة التي �أر�سلت لطلب النجدة‬ ‫الربيطانية يف الب�رصة يف ‪ 15‬يناير ‪1775‬م تفيد ب�أن‬
‫من الإم��ام احمد بن �سعيد‪ ،‬فقد اختلفت العديد من‬ ‫جي�شا فار�سيا خرج من �شرياز متجها �إىل الب�رصة‪ ،‬وكان‬
‫امل�صادر يف ذكر اجلهة التي طلبت النجدة من االمام‬ ‫قوامه كما و�صفه لورمير ‪ 30000‬مقاتل من امل�شاة‬
‫‪19‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫احمد‪ ،‬فتذكر بع�ض امل�صادر‬
‫بان اه��اىل الب�رصة هم الذين‬
‫طلبوا النجدة من الإمام احمد‬
‫ب��ن ���س��ع��ي��د(‪ ،)15‬بينما �أ���ش��ارت‬
‫م�صادر مغايرة ب��ان مت�سلم‬
‫الب�رصة �سليمان �آغا هو الذي‬
‫طلب النجدة من الإم��ام احمد‬
‫بن �سعيد(‪.)16‬‬
‫�إال �أن ه��ذه الوثيقة �أو�ضحت‬
‫ان وايل بغداد عمر با�شا هو‬
‫الذي �أر�سل ر�سالة �إىل الإمام‬
‫اح��م��د ب��ن �سعيد ي�ستنجد به‬
‫بعد �أن وجد نف�سه عاجزا عن‬
‫�إر�سال املدد �إىل مت�سلم الب�رصة‬
‫�سليمان �آغا‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬او�ضحت الوثيقة اال�سباب‬
‫احلقيقية ل��ع��ودة اال���س��ط��ول‬
‫العماين بقيادة االمام هالل بن‬
‫االم��ام �سعيد‪ ،‬فعندما خرجت‬
‫احلملة اخذت موقعها على �شط‬
‫العرب غري ان الأ�سطول العماين‬
‫وجد الفر�س قد ن�صبوا �سل�سلة‬
‫ح��دي��دي��ة ليمنعوا اال�سطول‬
‫ال��ع��م��اين م��ن دخ���ول الب�رصة‬
‫وب��ف�����ض��ل �سفينة ال��رح��م��اين‬
‫ا�ستطاع اال�سطول العماين قطع‬
‫ال�سل�سلة احلديدة التي اقامها‬
‫الفر�س على مدخل �شط العرب‬
‫(‪)17‬‬
‫فتمكنوا من دخول الب�رصة‬
‫وقد متكن اهايل الب�رصة(‪ )18‬من‬
‫احل�صول على كميات من امل�ؤن‬
‫والذخرية مكنتهم من موا�صلة‬
‫احل��رب وع��ززت �صمودهم يف‬
‫وجه عدوهم الفار�سي‪.‬‬
‫�إال ان اال���س��ط��ول ال��ع��م��اين مل‬
‫ي�ستمر يف موقعه طويال بل‬
‫ا�ضطر للرجوع اىل عمان لي�س‬
‫لبعد اال���س��ط��ول ع��ن ق��واع��ده‬ ‫الوثيقة الثانية‬
‫‪20‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سلطان كتابا لالمام احمد يعتذر منه ملا ح�صل‬ ‫احلربية وال خلوف االمام من قيام الفر�س بالهجوم‬
‫يف حق ال�سيد هالل بن االمام احمد بن �سعيد‪ ،‬حيث‬ ‫على عمان كما تذكر امل�صادر(‪ )19‬بل كما و�ضحته‬
‫او�ضح له ان ذلك كان خارجا عن علم ودراية الدولة‬ ‫هذه الوثيقة من �سوء املعاملة التي تعر�ض لها ال�سيد‬
‫العثمانية‪ ،‬وقد اغ�ضب هذا الت�رصف الدولة العلية‬ ‫(‪)20‬‬
‫هالل بن االمام من قبل م�صطفى با�شا وايل بغداد‬
‫فعزل ال�سلطان م�صطفى با�شا ثم امر بقتله‪ ،‬كما طلب‬ ‫بعد مقتل عمر با�شا ‪ -‬حيث يذكر ال�سلطان العثماين‬
‫ال�سلطان من االم��ام احمد ار�سال املراكب واملواكب‬ ‫يف ر�سالته لالمام احمد بن �سعيد انه(ملا احاط الع�سكر‬
‫مرة اخرى لتخلي�ص الب�رصة من احل�صار الفار�سي‪.‬‬ ‫الرواف�ض الب�رصة املحرو�سة كتب عمر با�شا املتوفى‬
‫كتابا اىل االم��ام االعظم وا�ستمد منه‪ ،‬ار�سل جنله‬
‫الوثيقة الثالثة‬ ‫النجيب �إعانة للم�سلمني مع �سفن م�شحونة باملجاهدين‬
‫ر�سالة من ال�سلطان العثماين عبد احلميد االول اىل‬ ‫وف�صل ما وقع من االم��ور العجيبة التي �صدرت من‬
‫االمام احمد بن �سعيد وهي باللغة العربية‪/‬تاريخ‬ ‫م�صطفى با�شا‪ ،‬من احلركات الرديئة و�سوء االدب يف‬
‫الوثيقة اوائ��ل ذي احلجة ‪1193‬ه��ـ ‪ 1779/‬م رقم‬ ‫حق االمري هالل ا�سعده اهلل تعاىل ورجعته متكدرا اىل‬
‫البحث ‪� 3811‬صـ‪94‬‬ ‫جانب م�سقط مرة اخرى )‪.‬‬
‫ا�ستهل ال�سلطان عبداحلميد االول ر�سالته بال�س�ؤال‬ ‫فقد ار�سل ال�سلطان العثماين م�صطفى با�شا اىل وايل‬
‫واالطمئنان على اح��وال االم��ام احمد بن �سعيد‪ ،‬كما‬ ‫بغداد عمر با�شا لي�ساعده يف حماربة الفر�س ومن‬
‫او�ضح ال�سلطان العثماين يف ر�سالته ‪ -‬والتي ي�سودها‬ ‫امل��ؤك��د ب��ان م�صطفى با�شا ق��د ارت�شى م��ن جانب‬
‫اال�سلوب الأدبي الراقي يف التعبري ‪ -‬االو�ضاع التي‬ ‫الفر�س حيث طلب من القوات املع�سكرة يف بغداد ان‬
‫حدثت يف الب�رصة اعقاب وفاة كرمي خان الزند ‪1779‬م‬ ‫ترجع �إىل اماكنها اال�صلية وزعم انه عقد �صلحا مع‬
‫يخربه بان ع�ساكر الدولة الرتكية كانت �ستتدفق اىل‬ ‫كرمي خان ووعده ب�أنه �سوف ين�سحب من الب�رصة كما‬
‫ايران لوال ان �صادق خان اخو كرمي خان ترك الب�رصة‬ ‫ترددت اال�شاعات بعزل عمر با�شا وايل بغداد فكانت‬
‫ل��وك�لاء ال��دول��ة العلية وطلب ال�صلح م��ن ال�سلطان‬ ‫لهذه اال�شاعات اكرب االثر يف �إحباط معنويات القوات‬
‫العثماين وبرر ان ما فعله مل يكن ب�أمر منه بل كان‬ ‫امل��وج��ودة يف بغداد و�إح��ب��اط هممهم فهرب الكثري‬
‫ب�أمر من اخيه الفا�سق وان حادثة الب�رصة مل يعلم بها‬ ‫منهم ومتكنت جماعة م�صطفى با�شا من قتل عمر‬
‫اهايل ايران فحدثت بدون علمهم وجعل �صادق خان‬ ‫با�شا وايل بغداد وتعاون م�صطفى با�شا مع الفر�س‬
‫يتو�سل اىل ال�سلطان العثماين لطلب العفو وال�صلح وذلك‬ ‫واراد م�ساعدتهم يف اال�ستيالء على الب�رصة ولذلك كتب‬
‫من اجل اهايل ايران من العجزة وامل�ساكني واالطفال‪،‬‬ ‫م�صطفى با�شا اىل مت�سلم الب�رصة يخربه ان املدد من‬
‫مما جعل ال�سلطان العثماين يوافق على ال�صلح ب�رشط‬ ‫الدولة بطيء ف�أمامك خياران اما ان تعقد �صلحا مع‬
‫ان يثبتوا يف توبتهم للدولة العلية‪ ،‬اما اذا رجعوا اىل‬ ‫الفر�س واما ان ت�سلم الب�رصة‪ .‬كما ار�سل اىل ال�سلطان‬
‫افعالهم ف�سوف ت�ضطر الدولة العلية لو�ضع حد �صارم‬ ‫العثماين ر�سالة يخربه ب�أن ال�صلح مع الفر�س قد مت‬
‫لهم‪ ،‬وقد اخرب ال�سلطان العثماين االمام احمد بن �سعيد‬ ‫وقد تفرقت جيو�شهم من الب�رصة وعادت اىل اماكنها‪،‬‬
‫بطبيعة ال�صلح الذي حدث بني �صادق خان وبني الدولة‬ ‫وعندما علم �سليمان اغا مبا اخربه به م�صطفى با�شا‬
‫العلية وذكر ال�سلطان العثماين االمام احمد بن �سعيد‬ ‫اجتمع مع اعيان الب�رصة وا�ضطروا ان ي�سلموا الب�رصة‬
‫بال�صداقة القائمة بينهما وانهم اخ�ص ا�صدقائهم‬ ‫للفر�س يف ‪1190‬هـ \‪ 1776‬مـ بعد ح�صار دام ‪14‬‬
‫باملحبة وامل�صافاة فلم يروا من اهل عمان واالمام‬ ‫�شهرا ‪ .‬وقد كان للدور الكبري الذي قام به �سليمان �آغا‬
‫اال االخال�ص واملودة وهذه املحبة ال تتغري بالدهور‬ ‫م�ستلم الب�رصة دور اكرب يف ت�سليم املدينة (‪. )21‬‬
‫وال�سنني‪ ،‬كما او�ضح له ال�سلطان انه لو حاول احد من‬ ‫وقد ا�ستاء ال�سلطان العثماين عبداحلميد االول من‬
‫الفر�س العدوان على عمان‪ ،‬فلهم الويل والثبور من‬ ‫املوقف الذي نهجه م�صطفى با�شا اجتاه ال�سيد هالل بن‬
‫الدولة العلية‪ ،‬ولو حاولوا اي�ضا التجاوز بحدود املمالك‬ ‫االمام احمد بن �سعيد قائد اال�سطول العماين‪ ،‬وا�صدر‬
‫‪21‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املحرو�سة فال تتوقف جيو�ش‬
‫الدولة العلية من اجلريان اىل‬
‫ديارهم‪.‬‬
‫وقد طلب ال�سلطان العثماين يف‬
‫نهاية ر�سالته املوافقة بار�سال‬
‫كتاب اىل وايل بغداد والب�رصة‬
‫�سليمان با�شا يبني فيه حوادث‬
‫من ثبتت توبتهم من جماعة‬
‫�صادق خ��ان ويخربه ب�أخبار‬
‫ايران‪ ،‬وكانه يطلب من االمام ان‬
‫يتتبع االو�ضاع يف ايران ملا يف‬
‫ذلك من اهمية كربى ال�ستتباب‬
‫االمن يف عمان وممالك الدولة‬
‫العلية على حد �سواء‪.‬‬
‫واملتمعن ج��ي��دا يف الوثيقة‬
‫يجد ح�سن العالقات الودية‬
‫وال�����ص��داق��ة ب�ي�ن ال�����س��ل��ط��ان‬
‫العثماين واالم����ام اح��م��د بن‬
‫�سعيد‪ ،‬كما نالحظ حر�ص الدولة‬
‫العثمانية على بقاء عمان دولة‬
‫قوية لدور ا�ساطيلها البحرية‬
‫ال��ت��ي حت��ق��ق االم���ن يف مياه‬
‫اخلليج العربي‪.‬‬

‫الوثيقة الرابعة‬
‫ر�سالة امر من حممد علي با�شا‬
‫اىل امني جمرك جدة باملبالغة‬
‫يف االح��ت��ف��اء ب��ام��ام م�سقط‬
‫ال�سيد �سعيد بن �سلطان عند‬
‫عودته من املدينة املنورة اىل‬
‫جدة‪.‬‬
‫ت��اري��خ الوثيقة ‪ 2‬ذي القعدة‬
‫‪ 1239‬ه��ـ‪ 29/‬يونيو ‪ 1824‬مـ‬
‫رقم الوثيقة ‪437‬‬
‫امل�صدر‪ /‬دار الوثائق القومية‬
‫القاهرة رقم املجموعة ‪.3‬‬
‫الوثيقة الثالثة‬
‫ارتبط ال�سيد �سعيد بن �سلطان‬
‫‪22‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فكانت عالقة العثمانيني مع املذهب االبا�ضي قائمة‬ ‫بعالقات مع والي��ات الدولة العثمانية خا�صة م�رص‬
‫على االحرتام و التقدير‪ ،‬والدليل على ذلك تلك املجال�س‬ ‫والب�رصة اذ تعترب هذه الواليات مبثابة حلقة الو�صل‬
‫العلمية التي ك��ان يعقدها والة ال��دول��ة العثمانية‬ ‫بني �سالطني عمان و�سالطني الدولة العثمانية‪ ،‬وقد‬
‫ملناق�شة امل�شاكل وال�شكاوى فيدعون حل�ضورها‬ ‫حاول ا��شراف احلجاز اقامة عالقات ودية مع ال�سيد‬
‫علماء االبا�ضية يف اجلزائر كما كانوا يدعون حل�ضور‬ ‫�سعيد بن �سلطان �سواء �سمات امرا من والة م�رص الن‬
‫جمال�س املناظرة واملناق�شة يف امل�سائل اخلالفية بني‬ ‫احلجاز كان تابعا ل�سلطة وايل م�رص‪ ،‬او تقديرا منهم‬
‫املذاهب وقد كان العامل االبا�ضي ابو يعقوب يو�سف‬ ‫حلكام عمان نتيجة للعالقات االقت�صادية وامل�صالح‬
‫حممد امل�صدعي يف نظر الدولة العثمانية ميثل الزعيم‬ ‫ال�سيا�سية التي كانت تربطهم‪ ،‬فعندما اجته ال�سيد �سعيد‬
‫االبا�ضي يف املغرب اال�سالمي(‪.)25‬‬ ‫بن �سلطان اىل مكة الداء فري�ضة احلج عام ‪1824‬مـ‬
‫الوثيقة اخلام�سة‬ ‫يرافقه القا�ضي حميي الدين القحطاين ممثل املذهب‬
‫ال�سني يف �رشق افريقيا‪ ،‬فقد ا�ستقبل فيها ا�ستقباال‬
‫م�صدرها دار الوثائق القومية القاهرة‬ ‫كبريا من قبل الوايل الرتكي و�رشيف مكة(‪ .)22‬كما اح�سن‬
‫رقم املجموعة ‪7:‬‬
‫�رشيف مكة يحيى بن �رسور ا�ستقبال ال�سيد �سعيد بن‬
‫تاريخها ‪ 11‬ذي القعدة ‪ 16‬يناير‪1840‬م‬
‫�سلطان واطلقت املدافع يف جدة عندما اقرتبت مركبة‬
‫ر�سالة عربية من ال�سيد �سعيدبن �سلطان اىل احمد با�شا‬
‫ليفريول من امليناء‪ ،‬وقد انفق ال�سيد �سعيد امواال طائلة‬
‫يطلب منه ار�سال رجل مدفعي خلفا عن املتوفى لديه‪.‬‬
‫وق��د ا�ستهل ال�سيد �سعيد ر�سالته بعبارات الدعاء‬ ‫يف هذه الرحلة وقد عاد بالهدايا من �رشيف مكة(‪.)23‬‬
‫واملديح‪ ،‬وابالغه عن ا�ستتباب االمر يف عمان ويعرب‬ ‫وبذكر ر�ؤوف �سعيد بان ال�سيد �سعيد ا�ستقبل ا�ستقبال‬
‫له عن امله يف دوام املرا�سالت واعالمه مبا يبدو له‬ ‫الفاحتني عند نزوله بر احلجاز وقد اق��ام له الوايل‬
‫احمد با�شا من املهمات يف تلك اجلهات لق�ضائها‪.‬‬ ‫الرتكي حفل تكرمي يف جدة وقد حظي مبقابلة �رشيف‬
‫تعك�س هذه الوثيقة العالقات التعاون الع�سكري القائم‬ ‫مكة‪ ،‬وقد ظل ال�سيد �سعيد طوال مو�سم احلج يف مو�ضع‬
‫بني عمان والدولة العثمانية‪ ،‬حيث كان هناك تعاون‬ ‫احلفاوة والتكرمي واالع��ج��اب والده�شة وذل��ك البهه‬
‫ع�سكري وا�ضح بني الدولتني‪ ،‬فقد ار�سل ال�سيد �سعيد بن‬ ‫احلا�شية التي معه وفخامة مظهره(‪ .)24‬على الرغم‬
‫�سلطان ر�سالة اىل احمد با�شا(‪ )26‬حمافظ مكة وحاكم‬ ‫من ان ال�سيد �سعيد كان ينتمي ملذهب خمالف للوايل‬
‫احلجاز‪ ،‬ي�ستهلها بعبارات املديح والدعاء ويطلب منه‬ ‫الرتكي و�رشيف مكة والعثمانيني جميعا اال ان ذلك مل‬
‫ار�سال رجل مدفعي بدال من املدفعي املتوفى الذي كان‬ ‫يرث اي خالف بني الطرفني‪ ،‬فقد كان احرتام وتقدير‬
‫معه‪ ،‬حيث او�ضح ال�سيد �سعيد يف ر�سالته انه بحاجة‬ ‫الدولة العثمانية للمذهب االبا�ضي مل يقت�رص على‬
‫اىل رجل مدفعي يتميز بال�شهرة‬ ‫عمان فح�سب بل �شمل بالد املغرب واجلزائر العثمانية‬
‫واخل�برة يف ه��ذا املجال وهو‬
‫ما اعتاده من الدولة العثمانية‪،‬‬
‫وقد كان ال�سيد �سعيد بن �سلطان‬
‫ي�ستعني يف بع�ض االح��ي��ان‬
‫ب��ال��دول��ة العثمانية الم���داده‬
‫بالكوادر الع�سكرية وبذلك فهو‬
‫دائ���م االت�����ص��ال باحمد با�شا‬
‫حم��اف��ظ احل��ج��از‪ ،‬وق��د ار�سل‬
‫احمد با�شا اىل با�ست معاون‬ ‫الوثيقة الرابعة‬
‫جناب اخل��دي��وي ر�سالة مرفق‬
‫‪23‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بها خ��ط��اب ال�سلطان �سعيد‬
‫(من �رس ع�سكر اىل احلجاز اىل‬
‫با�ستامعاون جناب اخلديوي‬
‫ب��ان��ه ج���اء م��ن ام���ام م�سقط‬
‫كتاب يطلب فيه ان ير�سل له‬
‫رجال مدفعيا حيث ان املدفعي‬
‫ال���ذي ك��ان ع��ن��ده ت��ويف وان��ه‬
‫�سيقوم باملرتب الذي خ�ص�ص‬
‫له) وقد �ضمن كتابه بخطاب‬
‫ال�سيد �سعيد وق��د كتب با�ستا‬
‫معاون جناب اخلديوي ر�سالة‬
‫اىل احمد با�شا ي�أمره ان يبعث‬
‫لالمام �سعيد رجال مدفعيا بناء‬
‫على طلبه (‪.)27‬‬
‫وميكن القول ان قرب احلجاز‬
‫العثمانية م��ن ع��م��ان‪ ،‬ك��ان‬
‫له دور كبري لوجود التعاون‬
‫الع�سكري بينهما‪.‬‬
‫الوثيقة ال�ساد�سة‬
‫دار الوثائق القومية بالقاهرة‬
‫ر�سالة من اجلناب العايل اىل‬
‫�أحمد با�شا �رس ع�سكر االقطار‬
‫احلجازية دف�تر الوثيقة ‪64‬‬
‫رقم املجموعة ‪ 3‬تاريخ الوثيقة‬
‫‪ 10‬رجب ‪1251‬هـ \ ‪ 1‬نوفمرب‬
‫‪1835‬م‬
‫مو�ضوعها\ر�سالة من اجلناب‬
‫العايل ايل �رسع�سكر االقطار‬
‫احلجازية (حاكم عام احلجاز)‬
‫ح��ول جلب الغالل من م�سقط‬
‫اىل احلجاز لتوفرها يف تلك‬
‫اجلهات وتوفريا للنفقات نقلها‬
‫عن طريق الق�صيم‪.‬‬
‫تو�ضح هذة الوثيقة ايجابيات‬
‫ن��ق��ل ال��غ�لال ايل احل��ج��از من‬
‫جهة م�سقط فقد كانت القوات‬ ‫الوثيقة اخلام�سة‬
‫العثمانية املوجودة يف احلجاز‬
‫‪24‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الوثيقة ال�سابعة‬ ‫ت�ستورد الغالل من جهة م�سقط‪ ،‬ومن ثم تنقلها اىل جدة‬
‫ار�شيف الباب العايل‪:‬‬ ‫لتقوم ببيعها هناك‪ ،‬حيث ان الغالل التي كانت تر�سل‬
‫ادارة داخلية‪ ،‬رقم الوثيقة ‪.14646‬‬ ‫اىل احلجاز من الق�صيم يف اقليم جند كانت مكلفة جدا‬
‫ر�سالة من ال�سيد �سعيد بن �سلطان اىل مع�شوق‬ ‫بالن�سبة للعثمانيني‪ ،‬وقد كانت الغالل من م�سقط تنقل‬
‫با�شا – مت�رصف ايالة الب�رصة) – تاريخ ‪29‬‬ ‫من م�سقط اىل جدة ويتحمل العمانيون كلفة النقل عن‬
‫رجب ‪1267‬هـ ‪ 10 /‬مايو ‪1851‬م‬ ‫طريق ال�سفن‪ ،‬ثم يتم نقلها من جدة اىل اجلهات التي‬
‫‪ -‬ر�سالة من ال�سيد ثويني بن �سعيد بن �سلطان اىل‬ ‫توجد بها القوات العثمانية واملتمثله يف قوات حممد‬
‫مع�شوق با�شا مت�رصف ايالة الب�رصة بتاريخ ‪14‬‬ ‫علي با�شا‪ ،‬حيث يقوم العمانيون اي�ضا بدفع التكلفة هذا‬
‫�شوال ‪1266‬هـ‪.‬‬ ‫ف�ضال عن التكاليف التي تقع اثناء عمليات النقل‪ ،‬فهي‬
‫كان ال�سلطان العثماين عبد املجيد االول يراقب دخول‬ ‫عملية مكلفة جدا لهم ولذلك وجدوا ب�أن نقلها عن طريق‬
‫ال�سيد �سعيد بن �سلطان يف عالقات مع �سائر الدول‬ ‫م�سقط اقل تكلفة من امل�صاريف التي كانت تدخل عن‬
‫على الرغم من تظاهره بامليل اىل الدولة العثمانية‬ ‫طريق الق�صيم‪ ،‬كما انها �سهلة النقل‪ ،‬وقد ذكر اجلناب‬
‫حيث كانت عالقات ال�سيد �سعيد بن �سلطان مع‬ ‫العايل عندما ار�سل اىل �أحمد با�شا يخربه ان جهات‬
‫القوى االوروبية عالقة جيدة فقد تعددت عالقاته مع‬ ‫م�سقط والب�رصة لهم �سفن جتارية كثرية وان اهلها‬
‫بريطانيا وفرن�سا وامريكا وتعددت م�صاحله‪ ،‬فعقد‬ ‫رجال يعرفون كيف ي�ؤدون اعمالهم‪ ،‬كما امره ان ير�سل‬
‫العديد من االتفاقيات التجارية بينه وبني االجنليز‬ ‫كتابا اىل االمام �سعيد بن �سلطان ليخربة بذلك من اجل‬
‫حيث كانت م�سقط اهم املوانئ يف اخلليج العربي من‬ ‫ت�سهيل عمليات نفل الغالل من م�سقط اىل احلجاز‪.‬‬
‫الناحية التجارية واال�سرتاتيجية(‪.)30‬‬ ‫وميكننا القول بان القوات العثمانية املتواجدة فى‬
‫ف�أر�سل ال�سلطان العثماين عبداملجيد االول عام‬ ‫احلجاز كانت تعتمد اعتمادا كبريا على االدوات‬
‫‪1851‬م ر�سالة اىل مت�رصف الب�رصة مع�شوق با�شا‬ ‫والعتاد الع�سكري من عمان‪ ،‬حيث يذكر احد اجلنود‬
‫ي�أمره بالقيام بدرا�سة الهم القوى البارزة يف اخلليج‬ ‫العثمانيني يف م��ذك��رات��ه ان م�سقط ك��ان��ت اه��م‬
‫العربي ومن اهمها �سلطان عمان وذلك من اجل مد‬ ‫م�ستودعات العتاد الع�سكري يف احلجاز(‪ .)28‬ونتيجة‬
‫ج�سور التعاون مع ال�سيد �سعيد بن �سلطان م�ستغال‬ ‫الزده���ار ق��وة عمان البحرية وال��ع�لاق��ات الطيبة‬
‫عدم التوافق بني ال�سيد �سعيد واالجنليز بخ�صو�ص‬ ‫التي كانت تربط عمان بالدولة العثمانية فقد توىل‬
‫منع جتارة الرقيق‪ ،‬فجمع مع�شوق با�شا معلوماته من‬ ‫العمانيون نقل احلجاج من افغان�ستان وبلدان ا�سيا‬
‫التجار الذين يرتادون موانئ الب�رصة وعمان وار�سل‬ ‫الو�سطى على ال�سفن العمانية من بالدهم حتى بالد‬
‫اىل ال�سلطان العثماين عبداملجيد االول بتفا�صيل‬ ‫احلجاز العثمانية لأداء فري�ضة احلج(‪..)29‬‬
‫الدرا�سة التي قام بها واو�ضح‬
‫ب�أن عالقات ال�سيد �سعيد مع‬
‫بريطانيا وامن��ا ه��ي متاتية‬
‫من العالقات التجارية بني‬
‫الهند وعمان والتي قامت منذ‬
‫القدم عندما �أ�صبحت الهند‬
‫م�ستعمرة بريطانية فكان البد‬
‫من ان تقوم العالقات الودية‬
‫وامل�صالح امل�شرتكة بني عمان‬
‫وبريطانيا (‪.)31‬‬ ‫الوثيقة ال�ساد�سة‬
‫‪25‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ول��ذل��ك ار���س��ل مع�شوق با�شا‬
‫ر���س��ال��ت�ين االوىل اىل ال�سيد‬
‫�سعيد‪ ،‬والثانية اىل ابنه ثويني‬
‫الذي كان ينوب عنه يف م�سقط‬
‫اثناء غياب وال��ده يف �رشقي‬
‫افريقيا‪ ،‬ولذلك كانت الوثيقتان‬
‫ال�سابقتان ردا على ر�سالتني‬
‫االوىل ار�سلها مع�شوق با�شا اىل‬
‫ال�سيد �سعيد والثانية اىل ال�سيد‬
‫ثويني ابن ال�سيد �سعيد ويت�ضح‬
‫ان هناك ت�شابها وا�ضحا بني‬
‫ر�سالة ال�سيد �سعيد ور�سالة‬
‫ال�سيد ثويني‪ ،‬فقد ا�ستهل ال�سيد‬
‫�سعيد ر�سالتة بعبارات املديح‬
‫وال�����س���ؤال ع��ن اح����وال ال���ذات‬
‫وعرب عن �سعادته و�رسوره من‬
‫الر�سالة التي ار�سلها مع�شوق‬
‫با�شا اىل ال�سيد �سعيد وقد‬
‫اختتم ر�سالته بدوام املرا�سالت‬
‫واخ��ب��اره ب�سالمة ال��ذات‪ ،‬وقد‬
‫او�ضح اي�ضا يف ر�سالته ب�أن‬
‫املحبة والعالقات الودية بني‬
‫البلدين ثابتة االرك����ان وال‬
‫ي�شوبها كدر‪.‬‬
‫ام��ا ر�سالة ال�سيد ثويني فقد‬
‫كانت بتاريخ ‪� 14‬شوال فقد‬
‫ب��د�أه��ا اي�ضا بعبارات امل��دح‬
‫وال�س�ؤال عن اخلاطر‪ ،‬كما قدم‬
‫�شكره وتقديرة للر�سالة التي‬
‫قدمها مع�شوق با�شا اىل ال�سيد‬
‫ثويني وق��دم تهنئته لو�صول‬
‫مع�شوق با�شا الدارة ايالة‬
‫الب�رصة وملحقاتها وقبائل‬
‫املنتفق‪ ،‬كما او���ض��ح ال�سيد‬
‫ثويني ��سروره الكبري لو�صول‬
‫مع�شوق با�شا لهذا املن�صب‪ ،‬وقد‬
‫او�ضح ب ��أن العالقات الودية‬ ‫الوثيقة ال�سابعة‬
‫وامل��ح��ب��ة ب�ين ال��ب��ل��دي��ن ثابتة‬
‫‪26‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ويخربه بان كل �شيء هادئ من جانبه ويعلمه عن‬ ‫االرك��ان ال يغريها �شيء وال ي�شوبها كدر وقد اخربه‬
‫رغبته يف زيارة بالده واالجتماع به م�ؤكدا على �أوا�رص‬ ‫ب�أنه انتظر رد الر�ساله من والده ال�سيد �سعيد وارفق‬
‫الأخوة الإ�سالمية (‪.)33‬‬ ‫الر�سالتني معا‪ ،‬وقد ختم ر�سالته ب��دوام املرا�سالت‬
‫وبالفعل قام ال�سيد برغ�ش بزيارة مل�رص عند عودته‬ ‫و��شرح اح��وال ال��ذات واملت�أمل جيدا للوثيقتني يجد‬
‫من �أوروب��ا‪ ،‬حيث قابله خديوي م�رص باملزيد من‬ ‫الت�شابه الوا�ضح بينهما‪ ،‬كما نالحظ ا�ستخدام كل من‬
‫احلفاوة والإكرام والتبجيل وقد و�صل ال�سيد يرغ�ش‬ ‫ال�سيد �سعيد وال�سيد ثويني بع�ض االلفاظ املتوا�ضعة‬
‫على منت مركب اجنليزي‪ ،‬حيث تزامن و�صوله مع‬ ‫مثل الواثق باهلل عبده ال�سيد �سعيد‪ ،‬وقد حر�ص ال�سيد‬
‫وفاة احد �أفراد الأ�رسة احلاكمة من �أقارب اخلديوي‬ ‫�سعيد يف مرا�سالته على ا�ستخدام العديد من االلقاب‬
‫�إ�سماعيل‪ ،‬ف�شارك ال�سلطان برغ�ش يف ت�شييع جنازة‬ ‫املركبة وااللقاب املتوا�ضعة (‪ .)32‬وهذا ما جنده يف‬
‫املتوفى وح�ضور الدفن‪ ،‬وقد كان قبطان املركب‬ ‫العديد من مرا�سالت حكام عمان مع �سالطني الدولة‬
‫االجنليزي لديه مهمات �أخرى‪ ،‬فاخربه اخلديوي �أن‬ ‫العثمانية العثمانيني‪.‬‬
‫ي�سمح لقبطان املركب بالذهاب وانه �سوف يتكفل‬
‫ب�إعادته �إىل زجنبار (‪.)34‬‬
‫الوثيقة الثامنة‬
‫وبالفعل جهز اخلديوي �إ�سماعيل بارجة م�رصية لتنقله‬ ‫م�صدر الوثيقة‪ :‬الهيئة العامة للمخطوطات والوثائق‬
‫من ميناء ال�سوي�س �إىل زجنبار عن طريق عدن‪ ،‬كما قدم‬ ‫العمانية‬
‫له العديد من الهدايا ومن �ضمنها جمموعة من الأ�سلحة‬ ‫تاريخ الوثيقة ‪1883/5/21 :‬م‬
‫والكتب (‪.)35‬‬ ‫رقم الوثيقة ‪276‬‬
‫وقد خرج ال�سيد برغ�ش ورجاله �إىل حمطة �سكة احلديد‬ ‫عنوان الوثيقة ‪ /‬ر�سالة من وزارة الداخلية �إىل ال�صدارة‬
‫وكان اخلديوي و�أبنا�ؤه يف مقدمة مودعي ال�سلطان‬ ‫العظمى بخ�صو�ص منح عدد من احلكام ني�شانات عثمانية‬
‫برغ�ش ثم اجت��ه �إىل الزقازيق وم��ن ثم �إىل مدينه‬ ‫وهم ال�سيد برغ�ش بن �سعيد حاكم زجنبار ني�شان عثماين‬
‫ال�سوي�س وملا و�صلوا �إىل ال�سوي�س �أطلق اجلنود ‪21‬‬ ‫�أول مر�صع‪ ،‬وال�سيد تركي حاكم م�سقط ني�شان عثماين‬
‫طلقة ترحيبا بقدوم ال�سلطان برغ�ش وقد كان وايل‬ ‫�أول‪ ،‬و�أمري ال�شحر واملكال ني�شان عثماين‪ ،‬و�أمري ح�رضموت‬
‫ال�سوي�س وحمافظ املدينة وكبار امل�س�ؤولني يف مقدمة‬ ‫ني�شان عثماين‪.‬‬
‫م�ستقبلي ال�سلطان ثم انتقل �إىل البارجة التي �أعدها‬ ‫تعك�س هذه الوثيقة عالقة عمان بالدولة العثمانية يف‬
‫خديوي م�رص لتنقله �إىل زجنبار مرورا مبيناء عدن‪،‬‬ ‫فرتتي حكم ال�سلطان برغ�ش بن �سعيد‪ ،‬وال�سلطان تركي‬
‫وبعد خم�سة �أيام و�صل �إيل ميناء عدن‪ ،‬حيث �أطلقت‬ ‫بن �سعيد‪.‬‬
‫البوارج الربيطانية ‪21‬طلقة ترحيبا بو�صول ال�سلطان‬ ‫فقد ارتبط ال�سلطان برغ�ش بعالقات جيدة مب�رص‬
‫�إىل عدن (‪.)36‬‬ ‫العثمانية‪ ،‬حيث �أر�سل ر�سالة �إىل اخلديوي �إ�سماعيل‬
‫ويف عدن ح�رض القن�صل الربيطاين ملالقاة ال�سلطان‬ ‫(‪1863‬م ‪1879-‬م) ‪ ،‬ي�ستهلها بال�س�ؤال عن اخلاطر‪،‬‬
‫ب��رغ�����ش‪ ،‬ح��ي��ث اخ��ب�ره ب ��أن��ه‬
‫م�أمور من قبل حكومته بان‬
‫ي�أمر ال�سلطان برغ�ش بالنزول‬
‫م��ن البارجة الأت���راك ويركب‬
‫املركب االجنليزي‪ ،‬وقد رف�ض‬
‫ال�سلطان برغ�ش ذل��ك وبعد‬
‫مناق�شات طويلة مل ير ال�سلطان‬
‫برغ�ش حال غري املوافقة‪ ،‬فنزل‬
‫من بارجة الأتراك التي �أعدها‬ ‫الوثيقة الثامنة‬
‫‪27‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اللون‪ ،‬لفت من حوله قطعة قما�ش بي�ضاء مطرزة‪،‬‬ ‫خديوي م�رص وركب املركب االجنليزي بعد �أن بقي عدة‬
‫واىل جانبة �شخ�ص تركي اخ��ر يبيع القما�ش‪،‬حيث‬ ‫�أيام يف عدن‪ ،‬وقد خ�شي قبطان بارجة اخلديوي العودة‬
‫كان يدخن الغليون ويبيع جتارته التي كانت عبارة‬ ‫قبل الو�صول �إىل زجنبار‪ ،‬ف�أخرب ال�سلطان برغ�ش �أن‬
‫عن اقم�شة الكتان والقطن ومالب�س اخ��رى �صوفية‬ ‫يكتب له كتابا للخديوي �إ�سماعيل‪ ،‬يبني فيه انه نزل‬
‫وحريرية م�صنوعة من املخمل وهي اقم�شة غالية‬ ‫من البارجة الرتكية عن ر�ضا نف�سه‪ ،‬فكتب ال�سلطان‬
‫الثمن‪ ،‬وقد اعجب لوكر من اال�سلوب الراقي للتجار‬ ‫برغ�ش ذلك ومنح قبطان البارجة الرتكية ني�شانا من‬
‫االتراك يف م�سقط فقد كانوا يعاملون زبائنهم بكل ادب‬ ‫الدرجة الثالثة ( الكوكب الدري ) (‪.)37‬‬
‫واحرتام(‪.)41‬‬ ‫ومن املالحظ هنا دور بريطانيا الوا�ضح يف �إثارة‬
‫وميكن القول بان مرور ال�سفن العثمانية اىل ميناء‬ ‫اخل�لاف بني م�رص وزجنبار خ�شية قيام �أي تعاون‬
‫م�سقط‪ ،‬ووج��ود التجار االت��راك داخل ا�سواقها‪ ،‬دليل‬ ‫�إ�سالمي وعربي‪ ،‬رغبة لتحقيق امل�صالح الربيطانية‬
‫وا�ضح على العالقات االقت�صادية التي كانت تربط بني‬ ‫فى املنطقة‪ .‬وقد كانت زيارة ال�سلطان برغ�ش مل�رص‬
‫عمان وتركيا خالل تلك الفرتة‪.‬‬ ‫دليال وا�ضحا لعمق العالقات بينه وبني الأتراك‪ ،‬كما‬
‫اال ان العالقات ال�سيا�سية بني ال�سلطان تركي وبني‬ ‫�أن منح ال�سلطان برغ�ش لقبطان البارجة الرتكية‬
‫العثمانيني‪ ،‬تعر�ضت للتوتر يف بع�ض االحيان‪ ،‬فقد‬ ‫ني�شانا من الدرجة الثالثة ( الكوكب الدري ) لهو داللة‬
‫كان يف عالقة ال�سلطان تركي باالتراك الذين يحتك‬ ‫وا�ضحة على تقدير ال�سلطان برغ�ش للأتراك‪� ،‬أن اخلالف‬
‫بهم بها �شيء من ال�شدة‪ ،‬مما ا�ستدعى االم��ر لتدخل‬ ‫الذي دب بينهم �إمنا كان خارجا عن �إرادة ال�سيد برغ�ش‬
‫احلكومة الربيطانية اىل �رضورة ان يكون اكرث حذرا‬ ‫وب�ضغط من احلكومة الربيطانية‪.‬‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬وقد قام االتراك بني عامي ‪-1875‬‬ ‫وعندما و�صل القبطان �إىل م�رص اخرب خديوي م�رص‬
‫مبا ح��دث مما اغ�ضب ه��ذا الت�رصف خديوي م�رص‪،‬‬
‫‪1888‬م بت�شجيع ادعاءات الف�ضل بن علوي المتالك‬
‫واعتربه نق�صا حلكومته وانتهاكا حلرمتها(‪ .)38‬حيث‬
‫ظفار وانتزاعها م��ن �سلطنة ع��م��ان(‪ ،)42‬فقد ار�سل‬
‫جهز اخلديوي �أ�سطوال واحتل فيه بنادر ال�صومال‬
‫الف�ضل بن علوي ر�سالة لل�سلطان تركي ي�صف نف�سه‬ ‫التي كانت تابعة حلكومة ال�سلطان برغ�ش‪ ،‬وقد اخرب‬
‫فيها بحاكم ظفار يف ظل حكم الباب العايل‪ ،‬واو�صى‬ ‫ال�سلطان برغ�ش احلكومة الربيطانية ف�أر�سلت مدرعتني‬
‫بال�شيخ عو�ض بن عبداهلل وو�صف بانه من رعايا‬ ‫حربيتني لهذه البنادر وقد ار�سل اخلديوي كتابا �إىل‬
‫االتراك لكي ي�شمله ال�سلطان برعايته‪ ،‬واغ�ضبت هذه‬ ‫جنوده ي�أمرهم بالعودة اىل م�رص‪ ،‬اال ان عالقات‬
‫الر�سالة ال�سلطان تركي فار�سل ر�سالة اىل حكومة الهند‬ ‫ال�سلطان برغ�ش مب�رص ظلت ودية بدليل عدم تلقي افراد‬
‫ليخربهم بذلك وهنا نالحظ املوقف الربيطاين الذي‬ ‫اجلي�ش امل�رصي �أي �سوء يف زجنبار وهم يف يف طريق‬
‫دائما يت�رصف وفقا مل�صالح بريطانيا اال�ستعمارية‪،‬‬ ‫عودتهم من ال�صومال اىل م�رص الحتياجهم للفحم من‬
‫فخ�شيت بريطانيا من طموحات الف�ضل بن علوي‬ ‫زجنبار‪ ،‬وقد جتولوا يف �شوارع مدينة زجنبار بعد ان‬
‫يف ذلك املكان كما خ�شيت من تو�سع وامتداد النفوذ‬ ‫�أدوا �صالة اجلمعة (‪.)39‬‬
‫الرتكي على ال�ساحل اجلنوبي ل�شبه اجلزيرة العربية‪،‬‬ ‫كما ارتبط االتراك بعالقات مع ال�سلطان تركي بن �سعيد‬
‫وبالفعل ت�رصفت بريطانيا وفقا ملا يخدم م�صلحتها‬ ‫بعالقات �سيا�سية واقت�صادية‪ ،‬فيذكر لورمير بان �سفن‬
‫اال�ستعمارية‪ ،‬ف�أر�سلت ر�سالة اىل ال�سفري االجنليزي‬ ‫النقل العثمانية املتجهة اىل الب�رصة او القادمة منها‬
‫بالق�سطنطينية بحجة انه يحتج وي�ستنكر فيها االعمال‬ ‫كانت تر�سو بني احلني والآخر يف ميناء م�سقط (‪.)40‬‬
‫التي يقوم بها الف�ضل بن علوي يف ظفار‪ ،‬على الرغم‬ ‫كما ذكر الرحالة االمريكي لوكر والذي زار م�سقط ابان‬
‫من ان بريطانيا تعلم ب��ان الف�ضل بن علوي كان‬ ‫حكم ال�سلطان تركي بن �سعيد بان ا�سواق م�سقط كانت‬
‫يت�رصف بعلم من الدولة العثمانية‪ ،‬وقد �شكلت ق�ضية‬ ‫مق�سمة اىل جمموعة من املخازن‪ ،‬كما كان يوجد به‬
‫ظفار مو�ضوعات لعدة مقاالت يف جريدة االعتدال‬ ‫ق�سم تركي كبري يديره �شخ�ص تركي يرتدي ثوبا انيقا‬
‫(‪٫)43‬‬
‫العربية ال�صادرة يف الق�سطنطينية‬ ‫ف�ضفا�ضا وله اكمام عري�ضة وعلى ر�أ�سه طربو�ش احمر‬
‫‪28‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الوثائق ودورها يف ابراز العالقات العمانية العثمانية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ص‪ ، 155 - 149‬حول م�صطفى با�شا راجع الب�رصي‪ ،‬عثمان بن �سند‪.‬‬


‫مطالع ال�سعود‪.‬حتقيق عماد عبدال�سالم و�سهيلة القي�سي‪ ،‬وزارة الثقافة‬
‫الهوام�ش‬
‫والإعالم‪ :،‬بغداد ‪ :‬ب‪.‬ت‪� ،‬ص ‪. 83‬‬ ‫‪� -1‬أم�ين‪ ،‬عبد الأم�ير‪ .‬امل�صالح الربيطانية يف اخلليج‪ .‬ترجمة ها�شم‬
‫‪ -21‬كركويل‪ ،‬مرجع �سابق‪��� ،‬ص‪ ،15‬حول حما�رصة الفر�س للب�رصة‬ ‫كاظم الزم‪ ،‬مطبعة الإر���ش��اد‪ ،‬بغداد ‪1977 :‬م‪� ،‬ص ‪ ،181-180‬حول‬
‫ودفاع مت�سلم الب�رصة �سليمان اغا‪ ،‬انظر احلاج‪ ،‬املرجع ال�سابق �ص‪.244‬‬ ‫وباء الطاعون راجع لورمير‪ ،‬ال�سجل التاريخي للخليج وعمان و�أوا�سط‬
‫‪ -22‬الفار�سي‪ ،‬عبداهلل بن �صالح‪ .‬البو�سعيديون حكام زجنبار‪ .‬ترجمة‬ ‫اجلزيرة العربية‪ ،‬ترجمة جامعة ال�سلطان قابو�س‪ ،‬دار غاريت للن�رش ‪ ،‬لندن‬
‫حممد امني عبداهلل‪ ،‬وزارة الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬م�سقط ‪� ،1980 :‬ص‬ ‫‪1995 :‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬م ‪� ،5‬ص ‪.148‬‬
‫‪.148‬‬ ‫‪ -2‬احل��اج‪ ،‬عزيز‪ .‬العالقات العمانية العراقية عرب التاريخ‪ .‬ط ا‪ ،‬دار‬
‫‪ -23‬عبداهلل‪ ،‬امارات ال�ساحل وعمان‪� ،‬ص ‪.22‬‬ ‫احلكمة‪ ،‬لندن ‪ 2003 :‬م‪� ،‬ص‪،235- 234‬‬
‫‪.1880 – 1795 Kelly , J.B. Britain and the Persian Gulf ,‬‬
‫‪ -24‬روث‪ ،‬رودول��ف �سعيد‪ .‬ال�سيد �سعيد بن �سلطان ‪1856 -1791‬م‪.‬‬ ‫‪p39,1968 , oxford‬‬
‫ترجمة عبد املجيد القي�سي‪ ،‬الدار العربية للمو�سوعات‪ ،‬بريوت‪1988 :‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬احمد‪� ،‬إبراهيم خليل و مراد ‪ .‬خليل علي‪ .‬تركيا و �إيران يف التاريخ‬
‫�ص ‪87‬‬ ‫احلديث واملعا�رص‪ .‬دار الكتب للطباعة والن�رش املو�صل‪� ،‬ص‪ ،58‬ويل�سون‪،‬‬
‫‪ -25‬معمر‪ ،‬علي يحيى‪ ،‬االبا�ضية يف اجلزائر ‪ .‬ط ‪ ،1‬مطبعة الدعوة‬ ‫لفتانت كولونيل‪ .‬تاريخ اخلليج ‪ .‬ترجمة حممد �أمني عبداهلل‪ ،‬ط‪ ،3‬وزارة‬
‫اال�سالمية‪ ،‬القاهرة‪1979 : ،‬م‪�،‬ص‪.339‬‬ ‫الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬م�سقط ‪1409 :‬هـ ‪1988 /‬م‪� ،‬ص‪.155‬‬
‫‪ -26‬احمد با�شا هو حمافظ مكة وحاكم احلجاز‪ ،‬وكان قائدا جليو�ش‬ ‫‪ -4‬وزارة الإعالم‪ ،‬عمان يف التاريخ ‪ .‬دار �إميل للن�رش‪ ،‬لندن ‪1995 :‬م‪،‬‬
‫حممد علي يف اجلزيرة العربية انظر عبدالرحيم‪ ،‬عبدالرحمن عبدالرحيم‪.‬‬ ‫�ص‪442‬‬
‫حممد علي وثائق �شبه اجلزيرة العربية‪ .‬ط‪ ،2‬دار الكتاب اجلامعي‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪ -5‬العابد ‪ .‬الب�رصة يف �سنوات املحنة ‪1779-1775‬م‪ ،‬جملة املورد‪،‬‬
‫‪ ،1986 :‬ج‪� ،2‬ص ‪.36‬‬ ‫العدد ‪ ،3‬م ‪ ،14‬بغداد ‪1985:‬م‪� ،‬ص‪.39‬‬
‫‪ -27‬دار الوثائق القومية بالقاهرة‪ ،‬ر�سالة من �رس ع�سكر احلجاز اىل با�ش‬ ‫‪ -6‬االر�شيف العثماين با�سطنبول‪ ،‬رقم الوثيقة ‪ ،201‬تاريخ الوثيقة‬
‫معاون جناب اخلديوي حمفظة رقم ‪ 269‬عابرين تاريخ ‪ 19‬جمادي االول‬ ‫‪�11‬شعبان ‪1156‬هـ ‪1743 /‬م‪ ،‬ر�سالة من ح�سن على خان االيراين ايل‬
‫‪.1256‬‬ ‫احمد با�شا تتعلق بال�صلح بني البلدين ملو�ضوع رف�ض الدولة العلية‬
‫‪ -28‬ح�سني‪ ،‬ح�سني‪ .‬مذكرات جندي عثماين يف جن��د‪ .‬ترجمة �سهيل‬ ‫االعرتاف باملذهب اجلعفري كمذهب خام�س بجانب مذاهب ال�سنة االربعة‪.‬‬
‫�صابان‪ ،‬ط‪ ،1‬مطبعة كتب‪ ،‬بريوت‪2003:‬م‪� ،‬ص‪.35‬‬ ‫‪ -7‬لونكريك‪� ،‬ستيفن هم�سلي‪� .‬أربعة قرون من تاريخ العراق احلديث‪.‬‬
‫‪-28‬‬ ‫ترجمه جعفر اخلياط‪ ،‬ط ‪ ،6‬بغداد ‪1985 :‬م‪�،‬ص‪201‬‬
‫‪Allen , Calvin. Seyyids&Sultan Politics & trade in Muscat‬‬
‫‪Ph.D ,University of , 1914 – 1785 under the Al Busied‬‬ ‫‪ -8‬الأر�شيف العثماين با�سطنبول ‪ :‬رقم البحث ‪ ،3860‬تاريخ الوثيقة‬
‫‪p35 ,78 19,Washington‬‬ ‫�أوا�سط ذي القعدة ‪1193‬هـ ( ر�سالة من االمام احمد بن �سعيد �إىل ال�سلطان‬
‫‪ -30‬روث‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪ ،170-149‬الداوود‪ ،‬حممود علي‪ .‬الأ�صول‬ ‫العثماين)‪.‬‬
‫التاريخية لق�ضية عمان‪.‬املجلة امل�رصية للدرا�سات التاريخية‪ ،‬م ‪،12‬‬ ‫‪� -9‬أمني‪ ،‬عبد الأمري حممد‪ .‬القوى البحرية يف اخلليج العربي يف القرن‬
‫‪1964‬م‪� ،‬ص‪� ،179 -170‬ص ‪.58‬‬ ‫الثامن ع�رش‪ .‬بغداد ‪1966 :‬م‪� ،‬ص‪ ،63‬العابد‪ ،‬الب�رصة يف �سنوات املحنة‬
‫‪ -31‬ال�سيناين الب�ستاين‪ ،‬مهدي جواد‪ .‬وثائق عثمانية غري من�شوره عن‬ ‫�ص ‪.40‬‬
‫الب�رصة و�صالتها باخلليج العربي �أوا�سط القرن ‪ 19‬م‪ ،‬جملة الوثيقة ‪،‬‬ ‫‪ -10‬لورمير‪ ،‬م�صدر �سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬م‪� ،2‬ص‪.152 ،149،151‬‬
‫العدد ‪ 9 ،17‬ذو احلجة ‪ 1410‬هـ ‪ /‬يوليو‪ ،‬البحرين‪1990 :‬م‪� ،‬ص‪.113‬‬ ‫‪ -11‬نف�سه‪� ،‬ص ‪160 ،155،156‬‬
‫‪ -32‬حول االلقاب راجع‪ ،‬الفار�سي‪ ،‬تركية‪ ،‬العالقات العمانية العثمانية‪.‬‬ ‫‪ -12‬عبدا هلل‪ ،‬حممد مر�سي‪� .‬إمارات ال�ساحل وعمان والدولة ال�سعودية‬
‫ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬كلية االداب‪ ،‬جامعة ال�سلطان قابو�س‪ ،‬م�سقط‪2006 :‬م‬ ‫الأوىل‪ .‬املكتب امل�رصي احلديث‪ ،‬القاهرة ‪� ،1978 :‬ص‪.85‬‬
‫�صــ ‪.114 – 113‬‬ ‫‪ -13‬م�ؤلف جمهول‪ ،‬تاريخ عمان ن�رش �ضمن الف�صل االخري من كتاب‬
‫‪ - 33‬الأر�شيف الوطني الزجنباري‪ ،‬ر�سالة من ال�سيد برغ�ش اىل اخلديوي‬ ‫االزكوي‪� ،‬رسحان‪ .‬تاريخ عمان املقتب�س من كتاب ك�شف الغمة اجلامع‬
‫�إ�سماعيل خديوي م�رص‪ ،‬تاريخ الوثيقة ‪1292‬ه‪ ،‬ن�رش �ضمن ر�سالة‬ ‫الخبار االم��ة‪ .‬حتقيق عبداملجيد القي�سي‪ ،‬ط ‪ ،3‬وزارة ال�تراث القومي‬
‫ماج�ستري‪ ،‬اللمكي‪ ،‬ليلي‪.‬التاريخ ال�سيا�سي واحل�ضاري لزجنبار يف عهد‬ ‫والثقافة‪ ،‬م�سقط ‪1992:‬م �ص‪159‬‬
‫ال�سلطان برغ�ش بن �سعيد ‪1888 -1870‬م‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬كلية االداب‪،‬‬ ‫‪ -14‬م�ؤلف جمهول‪ ،‬تاريخ عمان‪� ،‬ص‪ ،1 59‬وزارة االعالم‪ ،‬عمان يف‬
‫جامعة ال�سلطان قابو�س‪ ،‬م�سقط ‪2006:‬م‪. ،‬‬ ‫التاريخ‪�،‬ص‪ ،444‬جابر‪ ،‬فا�ضل‪ .‬عمان يف عهد الإمام احمد بن �سعيد‪،‬‬
‫‪ -34‬املغريي‪� ،‬سعيد بن علي‪ .‬جهينة الأخبار يف تاريخ زجنبار‪ .‬حتقيق‬ ‫ر�سالة ماج�ستري ق�سم التاريخ‪ ،‬كلية الرتبية‪ ،‬جامعة بغداد ‪1988:‬م‪،‬‬
‫حممد ال�صليبي‪ ،‬ط ‪ ،4‬وزارة الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬م�سقط ‪� ،2001‬ص‬ ‫�ض‪.130‬‬
‫‪.366‬‬ ‫‪ -15‬اب��ن رزي���ق‪ ،‬حميد ب��ن حم��م��د‪ .‬الفتح امل��ب�ين يف ���س�يرة ال�سادة‬
‫‪ - 35‬قا�سم‪ ،‬جمال زكريا‪ .‬الأ�صول التاريخية للعالقات العربية الإفريقية‪.‬‬ ‫البو�سعيديني‪ .‬حتقيق عبد املنعم عامر و حممد مر�سي عبدا هلل‪ ،‬ط ‪ ،5‬وزارة‬
‫من�شورات معهد البحوث والدرا�سات العليا‪ ،‬القاهرة‪1975 :‬م‪� ،‬ص‪.213‬‬ ‫الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬م�سقط‪ 1422 :‬هـ ‪2001 /‬م‪� ،‬ص‪ ،327‬م�ؤلف‬
‫‪� - 36‬سعيد‪ ،‬زاهر‪ .‬تنزيه الأب�صار والأفكار يف رحلة �سلطان زجنبار‪ .‬رتبة‬ ‫جمهول‪� ،‬ص‪.158‬‬
‫لوي�س �صابوجني‪ ،‬وزارة الرتاث القومي والثقافة‪� ،‬سلطنه عمان‪1981 :‬م‪،‬‬ ‫‪ -16‬حنظل‪ ،‬فالح‪ .‬املف�صل يف تاريخ الإمارات‪2 .‬ج‪ ،‬دار الفكر للطباعة‬
‫�ص‪.230‬‬ ‫والن�رش ‪ :‬ابو ظبي ‪ :‬ب ت ‪� ،‬ص‪ ،229‬نوار‪ ،،‬عبدالعزيز �سلمان‪ .‬داوود با�شا ‪.‬‬
‫‪ - 37‬املغريي‪ ،‬م�صدر �سابق‪�،‬ص‪.367 -366‬‬ ‫دار الكتاب العربي للثقافة والن�رش‪1967 ،‬م‪� ،‬ص‪. 223‬‬
‫‪� - 38‬سعيد‪ ،‬تنزيه االب�صار‪� ،‬ص‪.231‬‬ ‫‪ -17‬اب��ن رزي��ق‪ ،‬حميد بن حممد‪ .‬ال�صحيفه القحطانية ‪� .‬صورة من‬
‫‪ - 39‬املغريي‪ ،‬جهينة الأخبار‪� ،‬ص‪387-361‬‬ ‫املخطوط مبكتبة ال�سيد حممد بن احمد البو�سعيدي‪ ،‬ج‪� 2‬ص ‪.914‬‬
‫‪ - 40‬لورمير‪ ،‬م�صدر �سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬م‪� ،2‬ص‪269‬‬ ‫‪ -18‬امني القوى البحرية يف اخلليج �ص ‪.73‬‬
‫‪.Locker, With Star And Crescent , Philadelphia -41‬‬ ‫‪ -19‬امني‪ ،‬القوى البحرية يف اخلليج‪� ،‬ص‪.73‬‬
‫‪ -42‬لورمير‪ ،‬م�صدر �سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬م‪� ،2‬ص ‪269‬‬ ‫‪ -20‬كركويل‪ ،‬دوحة الوزراء يف معرفة وقائع بغداد الزوراء‪ .‬ترجمةمو�سى‬
‫‪ -43‬لورمير‪ ،‬م�صدر �سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬م‪� ،3‬ص ‪. 50 ،45 ،44‬‬ ‫كاظم نور�س‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بريوت ‪ :‬ب‪ .‬ت‪،‬‬

‫‪29‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫درا�سات‬

‫ال�رصاع الفكري‬

‫‪30‬‬
‫ال�صراع‬
‫على الرتاث‬
‫\‬
‫عبد الإله بلقزيز‬

‫منذ بد أ� انتباه املفكرين والكتاب العرب �إىل تراث الإ�سالم الثقايف‪ ،‬وكان ذلك‬
‫يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬بد أ� التفكري يف ذلك الرتاث‪ ،‬والكتابة‬
‫فيه وحوله‪ ،‬يحتل م�ساح ًة معت رََبة من هواج�س الوعي العربي املعا�رص‪ ،‬ومن‬
‫جغرافيا الكتابة والت�أليف و�أغرا�ضهما‪ .‬مل تكن �إ�شكالية الرتاث قد ُولدت‪ ،‬يف‬
‫الوعي العربي‪ ،‬حني كان النه�ضويون الأُ ّول (الطهطاوي‪ ،‬التون�سي‪ )...‬يو�شحون‬
‫مقاالتهم ب�أفكا ٍر تنويرية من العهد الإ�سالمي الكال�سيكي‪ ،‬ك�ش�أن خري الدين وابن‬
‫�أبي ال�ضياف مع كتابات ابن خلدون و�أفكاره‪� ،‬أو حني كان حممد عبده ي�ستعيد‬
‫اجلداليات الكالمية الإ�سالمية يف ر�سالته عن التوحيد‪ ،‬وي�ستعيد قواعد املقا�صد‬
‫عند ال�شاطبي ليجدد الفقه‪ ،‬ويحرّره من قيود القيا�س‪ .‬بل �إن هذه الإ�شكالية مل‬
‫تكن قد ُولِدت بعد حني كتب فرح �أَنْطُ ون كتابه عن ابن ر�شد(‪ ، )1‬و�إن كان هذا‬
‫إ�سالمي‪� ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫عربي حديث يف درا�سة الرتاث (النظري) العربي‪-‬ال‬
‫ّ‬ ‫فكري‬
‫ٍّ‬ ‫ن�ص‬
‫�أ ّول ٍّ‬
‫حني كتب جرجي زيدان ِ�س ْفر ُه املو�سوعي عن تاريخ التمدن يف الإ�سالم (‪ .)2‬بل‬
‫�إن الإ�شكالي َة عينَها مل تولَد حني بد أ� اجليل الليربايل‪-‬جيل طه ح�سني وحممد‬
‫ح�سني هيكل و�أحمد �أمني‪-‬يكتب يف املو�ضوع يف حقبة ما بني احلربني‪.‬‬

‫نف�سه تاريخي ‪ ..‬والرتاث‬


‫املق َّد�س ُ‬
‫كائن تاريخي �صامت‬

‫\ مفكر من املغرب‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫أمر ُه يف ال�ستينيات‪ .‬وميكن‪ ،‬للدقة‪� ،‬أن نقول �إنه‬ ‫� ُ‬ ‫غري �أن ان�شغال ه�ؤالء جميعا باملو�ضوع‪ ،‬والكتابة‬
‫يتحول بع ُد �إىل �إ�شكالية؛ كان �س�ؤا ًال‬
‫ّ‬ ‫كان �س�ؤاالً‪ ،‬ومل‬ ‫فيه‪َ ،‬م َّثل اللحظة الت�أ�سي�سية يف �صلة الوعي العربي‬
‫مدار ُه على العالقة بالأنا‪ ،‬باملرياث احل�ضاري‬ ‫ُ‬ ‫بامل�س�ألة‪ .‬وهي عي ُنها اللحظة التي فتحت �أف ًقا‬
‫والثقايف‪ ،‬وما كان �س�ؤا ًال عن عالقة الأنا الراهنة‬ ‫و�إمكا ًنا �أمام والدة �إ�شكالية الرتاث يف الفكر العربي‬
‫بالأنا التاريخية‪ ،‬ثم بالآخر‪ ،‬من منظور حاجات‬ ‫املعا�رص‪.‬‬
‫الراهن‪ ،‬وال كان الهدف منه منازعة روايةٍ لروايةٍ‬ ‫ُولِدت هذه الإ�شكالية‪ ،‬يف الفكر العربي املعا�رص‪،‬‬
‫عن ذلك التاريخ الثقايف‪ ،‬مثلما بات عليه �أمره حني‬ ‫على َن ْح ٍو بالغ الو�ضوح‪ ،‬يف �ستينيات القرن‬
‫حتول �إىل �إ�شكالية‪.‬‬‫َّ‬ ‫الع�رشين املا�ضي‪ ،‬و�إن �س َب َق ميال َدها ق ْد ٌر ملحوظ‬
‫ن�سلّم ب�أن من غري ال�سهل التمييز بني حلظتينْ‬ ‫من الإحلاح على مو�ضوع الرتاث يف الت�أليف العربي‬
‫من االهتمام بالرتاث الفكري‪-‬الإ�سالمي‪ ،‬يف الفكر‬ ‫لدى َجم َهرة كبرية من الباحثني العرب‪ .‬وتن�رصف‬
‫العربي املعا�رص‪ ،‬لأن الثانية منهما تبدو‪ ،‬للقارئ‬ ‫املالحظ ُة هذه �إىل التنبيه �إىل الفارق بني ظاهرة‬
‫فيها من خارج‪ ،‬وك�أنها امتدا ٌد للأوىل وتطوير‪ :‬يف‬ ‫االهتمام بالرتاث‪ ،‬وهي قد بد�أت مبكرة‪ ،‬وبني ميالد‬
‫املو�ضوعات‪ ،‬كما يف الر�ؤية واملنهج‪.‬‬ ‫�إ�شكالية الرتاث‪ ،‬وهي �أتت مت�أخر ًة‪-‬‬
‫غري �أن قلي ًال من الوقوف على بع�ض‬ ‫ك ّل ٍ‬
‫ح�سبان للرتاث‬ ‫ن�سبيا‪ -‬عن بدء االن�شغال به؛ ذلك �أنه‬ ‫ًّ‬
‫ظواهر املوجة الثانية من االهتمام‬ ‫مادة فوق التاريخ‪� ،‬أو‬ ‫اهتمام بق�ضية فكرية‬ ‫ٍ‬ ‫لي�س من �ش�أن � ّأي‬
‫بالرتاث‪ ،‬وبع�ض �أ�سئلتها ال�رصيحة‬ ‫الكم‬
‫ما �أن ي� ّؤ�س�س �إ�شكالية و� ْإن َبل ََغ من ِّ‬
‫وال�ضمنية‪ ،‬ناهيك باالنتباه �إىل �ش ّدة‬
‫عابرة للتاريخ‪ ،‬يعترب‬ ‫والكثاف ِة مبل ًغا‪ .‬واحلق �أن عناية باحثني‬
‫الإقبال على ميدان الدرا�سات الرتاثية‬ ‫�ضربًا من النظرة‬ ‫عرب كرث بق�ضية الرتاث‪ ،‬طيلة الن�صف‬
‫وتاريخ الفكر‪ُ ،‬يطْ لعنا على حقيقة �أننا‬ ‫امليتافيزيقية‪ ،‬غري‬ ‫الأول من القرن الع�رشين‪ ،‬مل ينجم منها‬
‫�أمام �إ�شكاليةٍ جديدة‪� ،‬أمام طفرة نوعية‬ ‫كم من الت�أليف وفري‪ ،‬ما خال يف حاالت‬ ‫ٌّ‬
‫التاريخية‪ ،‬لتاريخ‬ ‫فكرية قليلة (عبد الرحمن بدوي‪ ،‬علي‬
‫يف عالقة الوعي العربي باملوروث‬
‫الثقايف‪ ،‬ويف النظرة �إىل مو�ضوع‬ ‫الأفكار واملجتمعات‪.‬‬ ‫كم‬‫�سامي الن�شار‪� ،‬شوقي �ضيف‪ ،)...‬وهو ٌّ‬
‫رهان معريف‬ ‫ٍ‬ ‫الرتاث بو�صفه مو�ضوع‬ ‫قيا�س ُه بوفرة ما ظهر منه منذ‬ ‫ال ميكن ُ‬
‫واجتماعي على امل�ستقبل‪.‬‬ ‫الن�صف الثاين من ال�ستينيات؛ حني بد�أت الإ�شكالي ُة‬
‫يف التبلور‪.‬‬
‫�أو ًال‪ :‬الرتاث كر�أ�سمالٍ رمزي‬ ‫الفارق كبري بني االهتمام بالرتاث وميالد‬ ‫َ‬ ‫قلنا �إن‬
‫يف مقابل نظرة و�ضعانية‪ ،‬علموية‪� ،‬إىل تراث‬ ‫هوى‬
‫ً‬ ‫والفارق هذا �إمنا هو بني‬ ‫ُ‬ ‫�إ�شكالية الرتاث‪.‬‬
‫ما�ض طوا ُه التاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫جزءا من‬
‫ً‬ ‫الإ�سالم بو�صفه‬ ‫ثقايف وبني �س� ٍؤال ا�سرتاتِيجي يف املعرفة والفكر‪...‬‬
‫والتطور‪ ،‬وبو�صفه رجع �ص ًدى لدعوات حمافظةٍ‬ ‫معرفيا بدرا�سة‬
‫ًّ‬ ‫واملجتمع ا�ستطرا ًدا؛ فالذين ا ْن َه ُّموا‬
‫ورجعية يائ�سة ال ميكن �إخمادها �إ ّال مبزي ٍد من‬ ‫التاريخ الثقايف والفكري الكال�سيكي‪ ،‬قبل عقد‬
‫القطيعة مع ذلك الرتاث‪ ،‬تبلورت نظر ٌة �أخرى جديدة‬ ‫ال�ستينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬كانوا يفكّرون‬
‫�إليه‪ ،‬منذ عقد ال�ستينيات من القرن الع�رشين‪،‬‬ ‫اخت�صا�ص علمي هو تاريخ الفكر‪� ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫داخل نطاق‬
‫راهني ُته جتاهالً‪،‬‬
‫َّ‬ ‫مبا هو مو�ضوع راهن ال تق َبل‬ ‫التاريخ الثقايف‪ ،‬ك�أ�ساتذة جامعات‪� ،‬أو كباحثني‬
‫�رصاع ونزاع‪ ،‬داخل املجتمع‬ ‫ٍ‬ ‫ومبا هو َم ْوطن‬ ‫خمت�صني‪ .‬مل يكن �س�ؤال الرتاث عندهم قد فر�ض‬
‫قوى متعددة امل�شارب‬ ‫و�ساحة الفكر والثقافة‪ ،‬بني ً‬ ‫نف�سه ك�س� ٍؤال �سيا�سي‪-‬معريف‪ ،‬مثلما �أم�سى عليه‬ ‫َ‬
‫‪32‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫التجديدية‪ ،‬من حيث انتهوا‪ ،‬من�ساقني وراء الوهم‬ ‫واخليارات وامل�صالح‪ ،‬ال �سبيل �إ ّال �إىل االنخراط‬
‫ب�أن ليرباليتهم كانت ناق�صة‪ ،‬متذبذبة‪ ،‬وغري‬ ‫فيه‪ ،‬وخو�ضه‪ ،‬من قِ َبل من كانوا ي�ست�صغرون �ش�أنه‬
‫حا�سمة يف انحيازاتها احلداثية‪.‬‬ ‫من مثقفي احلداثة و�أقالمها‪ .‬ومن امل�ؤكد �أن هذه‬
‫ت ّثله �صريورة‬
‫التحول الذي مُ َ‬
‫َّ‬ ‫لنقر�أ عالمات هذا‬ ‫النظرة اجلديدة ت�صحيحية ملغالطات كربى َو َقع‬
‫الرتاث ر�أ�سما ًال ًّ‬
‫رمزيا بر�سم املنازعة‪.‬‬ ‫فيها الي�سار والتقدميون ودعاة احلداثة‪ ،‬و� َّأولها‬
‫قوامها‬ ‫تلك اليقينية احلاكمة للفكر عندهم‪ ،‬والتي ُ‬
‫‪ -1‬الطلب على الرتاث‬ ‫ولولبي‪،‬‬ ‫متعرج‬ ‫التطور مت�صاعد متق ّدم‪ ،‬ال‬ ‫�أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يف مقابل ظاهرة الطلب على �أفكار احلداثة‬ ‫و�أن التقدم قانون مو�ضوعي يفر�ض �أحكامه يف‬
‫الغربية‪ ،‬ومدار�سها وتياراتها‪ ،‬من لدن املثقفني‬ ‫املجتمع والفكر‪ ،‬ولي�س من �سبيل �إىل �إعادة التاريخ‬
‫العرب يف �سنوات الأربعينيات‪ ،‬وما تالها �إىل‬ ‫�إىل الوراء‪.‬‬
‫تعرف فيها‬ ‫َّ‬ ‫حدود نهاية ال�ستينيات‪ ،‬والتي‬ ‫يتعلق الأمر‪ ،‬هنا‪ ،‬مبراجعة حا�سمة‪ ،‬يف منطلقاتها‬
‫اجلمهور العربي القارئ على الو�ضعية‪ ،‬والو�ضعية‬ ‫على الأقل‪ ،‬لر�ؤية داروينية �إىل التاريخ والثقافة‬
‫املنطقية‪ ،‬والوجودية‪ ،‬والبنيوية‪ ،‬والتحليل النف�سي‪،‬‬ ‫وقع الي�سار واحلداثيون يف �شرِ َ اكها‪ ،‬لفرتةٍ من‬
‫واملارك�سية‪...‬الخ‪ّ � ،‬إما من طريق‬ ‫الزمن‪ ،‬قبل �أن تك ّذبها الوقائع‪ ،‬وي�صحو‬
‫الرتجمة التي ازدهرت ومت�أ�س�ست‪� ،‬أو من‬ ‫الرتاث حمايد يف‬ ‫هول نتائجها‪ :‬يف‬ ‫اجلميع‪-‬فج�أ ًة‪ -‬على ْ‬
‫طريق الت�أليف املهجو�س بنقل معطيات‬ ‫ذاته‪ ،‬يرقد‬ ‫الفكر كما يف املجتمع على ال�سواء‪ .‬و� ّأول‬
‫هذه النظريات (‪� )3‬إىل اجلمهور‪( ،...‬يف‬ ‫ما ك ّذبها �أن التطور �إياه َح َمل مفاج�أ َة‬
‫–بدءا من‬
‫ً‬ ‫مقابل ذلك كلّه)‪� ،‬سن�شهد‬ ‫يف الكتب‪،‬‬ ‫عودة التقليد‪ ،‬وثقافته‪ ،‬وقيمه‪� ،‬إىل‬
‫الن�صف الثاين من ال�ستينيات‪ -‬موجة‬ ‫وقد يرقد يف‬ ‫والفكري‪ ،‬و�أن العودة‬
‫ّ‬ ‫النظام االجتماعي‬
‫�أخرى معاك�سة‪ ،‬هي موجة الطلب‬ ‫الذاكرة اجلمْعية‬ ‫تلك بدت �أعلى من � ّأي تو ُّق ٍع حني جت�سدت‬
‫على الرتاث‪ :‬على ن�صو�صه الفكرية‪،‬‬ ‫يف �صعود خطابات الهوية والأ�صالة‬
‫وعلى ق�ضاياه و�أ�سئلته والإ�شكاليات‪،‬‬ ‫بعد انكفاءةٍ مديدة كانت �سادرة فيها‪.‬‬
‫و�ستحتل م�سائله‪-‬منذ ذلك احلني‪ -‬م�ساح ًة كربى‬ ‫أ�سمال‬
‫فرطوا بر� ٍ‬ ‫انتبه احلداثيون‪ ،‬مت�أخرين‪� ،‬إىل �أنهم َّ‬
‫يف الكتابة والدر�س اجلامعي والن�رش‪ .‬ولي�س معنى‬ ‫حم�أة اندفاع ِة وعيهم‬ ‫رمزي‪ ،‬هو الرتاث‪ ،‬يف ْ‬ ‫ّ‬ ‫ثقايف‬
‫ذلك‪� ،‬أن ظاهرة الطلب على فكر احلداثة �ستنح�رس �أو‬ ‫أفكار و�ضعية متطرفة‪ ،‬و�أن هذا التفريط‬ ‫نحو الأخذ ب� ٍ‬
‫تزول‪ ،‬فهي ا�ستمرت يف �سنوات ال�سبعينيات‪ ،‬ولكن‬ ‫رم ُهم من ا�ستثمار ذلك الر�أ�سمال الرمزي‬ ‫يح ْ‬
‫مل ْ‬
‫ب�إيقاع �أبط أ� من ذي قبل‪ ،‬وانح�رصت‪�-‬أو كادت �أن‬ ‫فقط‪ ،‬و�إمنا �سمح لغريهم با�ستمالكه‪ .‬وامل�شكلة يف‬
‫تنح�رص‪-‬وراء �أ�سوار اجلامعة �أو يف بيئات حزبية‬ ‫ذلك االنتباه أ� َّنه َب َدا حا ًّدا يف مواجهة حقيقتينْ‬
‫(ي�سارية) �أخذت من املارك�سية ايديولوجيتها‬ ‫أوالهما �أن خ�صو�صهم ملأوا الفراغ‬ ‫متالزمتني‪ُ � :‬‬
‫ال�سيا�سية ‪ ،‬ال فل�سفتها‪� ،‬أو منهجها الفكري‪ .‬بل �إن‬ ‫الطوعي‪ ،‬وفر�ضوا من‬ ‫ّ‬ ‫الثقايف‪ ،‬الذي خ َّل َف ُه غيا ُبهم‬
‫أدوارا بالغة الأهمية يف‬
‫بع�ض �أولئك الذين �أ ّدوا � ً‬ ‫ركاما يت َع�سرَّ تبدي ُده‪ ،‬وثانيهما‬ ‫ً‬ ‫الر�ؤى والروايات‬
‫ترجمة عيون الفكر العربي �إىل الل�سان العربي‪� ،‬أو‬ ‫�أن �أ�سالفهم النه�ضويني كانوا �أح َّد �إدراكً ا منهم‬
‫تعرف مبدار�سه وتياراته‪ ،‬مثل زكي‬ ‫و�ضعوا م�ؤلفات ِّ‬ ‫لأهمية ذلك الر�أ�سمال‪ ،‬حني ان�رصفوا‪-‬يف حقبة‬
‫حتولوا عن ذلك �إىل درا�سة الرتاث ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫جنيب حممود‪َّ ،‬‬ ‫ما بني احلربني‪�-‬إىل اال�شتغال عليه‪ ،‬و‪-‬بالتايل‪-‬‬
‫مل تكن ظاهرة الطلب املتزايد على الرتاث من‬ ‫فقد عجزوا �أن ي�ست�أنفوا «مغامرتهم» الفكرية‬
‫‪33‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫موجات متالحق ًة من‬ ‫ٍ‬ ‫مو�ضوعا جماع ًيا �أطلق‬
‫ً‬ ‫قبالً‪� ،‬أي مل‬
‫طرف واحد‪ ،‬مثلما كان عليه �أمرها ْ‬
‫ال�رصاع عليه‪� ،‬أي من ال�رصاع على حيازة الن�صيب‬ ‫تعودوا االت�صال‬ ‫ت�أت من جانب �أولئك الذين َّ‬
‫الأكرب فيه‪ ،‬بل من �أجل احتكاره‪ ،‬يف احل ّد الأعلى من‬ ‫مب�صادره‪ ،‬والتفكري فيه‪ ،‬والكتابة يف مو�ضوعاته‪،‬‬
‫الطموح‪� ،‬أو من �أجل فر�ض هيمنة الر�ؤية عليه من‬ ‫من مثقفي الأ�صالة‪ ،‬و�إمنا هي �أتت �شامل ًة تيارات‬
‫هذا الفريق �أو ذاك‪ ،‬يف ح ٍّد �أدنى من ذلك الطموح‪.‬‬ ‫الفكر العربي كافة‪ ،‬خا�صة التيارات الآخذة بفكرة‬
‫�إن �شك ًال من احلرب الأهلية الثقافية اندلع‪ ،‬يف الفكر‬ ‫احلداثة‪� .‬إ ْذ مل يكن تف�صي ًال �أن تزدهر ق�ضية الرتاث‬
‫العربي‪ ،‬حليازة هذا الر�أ�سمال الرمزي؛ الحتكاره �أو‬ ‫يف ت�أليف جمهرة كبرية من املثقفني والباحثني‬
‫بررها الوعي املتزايد بالأدوار‬ ‫ال�سيطرة عليه‪ .‬لقد َّ‬ ‫العرب‪ ،‬ليرباليني ومارك�سيني‪ ،‬فال�سفة‪ ،‬وم�ؤرخني‪،‬‬
‫الكبرية التي ميكن ال�ستغالل هذا الر�أ�سمال �أن‬ ‫وعلماء اجتماع‪ ،‬وال كان تف�صي ًال �أن يزدهر در�س‬
‫واجتماعيا‪ ،‬ومبا ميكن �أن ينجم‬
‫ًّ‬ ‫ثقافيا‬
‫ًّ‬ ‫ينه�ض بها‬ ‫الإ�سالميات يف اجلامعات‪ ،‬و�أن ي�ستقطب اهتمام‬
‫من ذلك اال�ستغالل من عظيم العائدات والفوائد‪ .‬ولقد‬ ‫�آالف الطلبة والباحثني‪ ،‬في�رصفهم �إىل ت�سجيل‬
‫ميكن �أن ُي ْقر�أ تاريخ الدرا�سات الرتاثية املعا�رص‪،‬‬ ‫�أطروحاتهم اجلامعية يف مو�ضوعات ذات �صلة‬
‫عاما الأخرية‪ ،‬بو�صفه‬ ‫خالل الأربعني ً‬ ‫بتاريخ الفكر الإ�سالمي الكال�سيكي‪،‬‬
‫لي�س للما�ضي‪ ،‬تلك‬
‫تاريخ ال�رصاع على متلُّك هذا الر�أ�سمال‬ ‫والفكر العربي احلديث واملعا�رص‪ .‬مثلما‬
‫ال�سلطة الذاتية‬
‫واحتكاره‪ ،‬وتعظيم الفوائد‪-‬الثقافية‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫مل يكن تف�صي ًال �أن يزدهر ن�رش‬
‫واالجتماعية‪-‬الناجمة من النجاح‬ ‫رَ‬ ‫الرتاثي‪ ،‬والإقبال ال�شديد عليه من القراء‪،‬‬
‫املفت�ضة على‬
‫يف حتقيق ذلك امل�سعى‪ .‬بهذا املعنى‪،‬‬ ‫و�أن يزدهر حتقيق الن�صو�ص‪ :‬مببادرات‬
‫احلا�ضر‪ ،‬و�إمنا‬
‫َي َ�سع الباحث �أن يرى يف ظاهرة الطلب‬ ‫فردية‪� ،‬أو بوازع �أكادميي جامعي‪� ،‬أو‬
‫�سلطته م�ستمدة من‬
‫املتزايد على الرتاث‪ ،‬ظاهرة مزدوجة‬ ‫بتكليف من بع�ض دور الن�رش‪ ،‬و�إن يعاد‬‫ٍ‬
‫الطبيعة‪ :‬ثقافية و�سيا�سية يف الآن عينه‪.‬‬ ‫االعتبار �إىل الرتاث الفكري النه�ضوي‬
‫حا�ض ٍر ي�ستدعيه‬ ‫العربي‪ ،‬يف القرن التا�سع ع�رش وبدايات‬
‫‪ -2‬املا�ضي واحلا�ضر يف عالقة‬ ‫ب�ش ّدة‬ ‫القرن الع�رشين‪ ،‬فيحظى بالتحقيق‬
‫�إ�شكالية‬ ‫والن�رش والدر�س‪.‬‬
‫من يت�أمل يف م�شهد االجتماع والثقافة يف البالد‬ ‫طلب �شديد على الرتاث‪،‬‬ ‫�سميناه‪ٌ ،‬‬‫�إنه فعالً‪ ،‬وكما َّ‬
‫العربية اليوم‪ ،‬بل منذ عقود خلت‪َ ،‬يلْحظ عود ًة‬ ‫نوهنا‪ ،‬دخول احلداثيني‬ ‫الأظْ َه ُر يف ظاهراته‪ ،‬مثلما ّ‬
‫كثيفة للتقليد وظواهره‪ ،‬ولن ْزعات الإحياء‪،‬‬ ‫ميدان هذا الطلب على نحو ال �سابق له يف التاريخ‬
‫وطغيا ًنا ملحوظً ا لقيم املوروث االجتماعي‪،‬‬ ‫احلديث واملعا�رص للثقافة العربية‪ .‬ولقد ن�ش�أت‬
‫نح ٍو يوحي ب�أن‬ ‫والأنرثوبولوجي‪ ،‬والثقايف‪ ،‬على ْ‬ ‫وجراء‬
‫ّ‬ ‫جراء هذه الظاهرة‪،‬‬ ‫وقائع فكرية جديدة ّ‬
‫حقبة التحديث ال�سيا�سي واالقت�صادي‪ ،‬واحلداثة‬ ‫أهمها‬
‫تع ُّدد الوافدين على ميدان درا�سات الرتاث‪ّ � ،‬‬
‫الفكرية والثقافية‪ ،‬مل تكن �أكرث من برهةٍ من الزمن‬ ‫�أن املو�ضوع مل ي ُعد‪-‬منذ ذلك احلني‪ -‬ملْكية‬
‫م�ست‪ ،‬مبفاعيلها‪ ،‬جيلني �أو ثالثة‪ ،‬ومل تدخل �إ ّال‬
‫َّ‬ ‫ح�رصية لفريق ثقايف واحد‪ ،‬مثلما كان عليه الأمر‬
‫يف بيئات اجتماعية �ضيقة وحمدودة‪ ،‬وغال ًبا‬ ‫يف املا�ضي‪ ،‬و�إمنا ا�ستحال �إىل –�أو هو �أَ ْو َ�شك على‬
‫أي�ضا‪ ،‬ب�أن ذلك‬
‫يف احلوا�رض الكربى‪ .‬وقد يوحي‪ً � ،‬‬ ‫�أن ي�ستحيل �إىل‪-‬ملْكية جماعية تتقا�سم حيازتها‬
‫التحديث مل يتناول بت�أثريه �سوى الق�شور وال�سطوح‬ ‫تيارات الفكر العربي كافة‪ ،‬و ِ�إ ْن ِب�أ ْن ِ�صبةٍ متفاوتة‪.‬‬
‫اخلارجية‪ ،‬ومل ينفذ �إىل العميق من ُبنى املجتمع‬ ‫ثم � ّإن من تلك الوقائع (اجلديدة) �أن �صريورة الرتاث‬
‫‪34‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ذي مو�ضوع‪� ،‬أو هو ي�أخذنا‪-‬للدقة‪� -‬إىل �إعادة‬ ‫تربره؛ فلقد‬


‫والفكر‪ .‬ولهذا الإحياء قرائنه التي ّ‬
‫�صوغه بعد حتريره من املنطق ال�ضمني الذي‬ ‫تراجعت عالقات املواطنة واالنتماء الوطني‪ ،‬التي‬
‫يحكمه‪ ،‬ومن الفر�ضية الت�أ�سي�سية اخلاطئة التي‬ ‫اقرتنت مبيالد الدولة الوطنية احلديثة و�سيا�سات‬
‫يقوم عليها؛ فمنطق ال�س�ؤال ي�سلِّم ب�أن املا�ضي قاب ٌل‬ ‫الإدماج االجتماعي (من خالل الإدماج االقت�صادي‬
‫تاريخه �إىل ما بعده‪ ،‬فيفي�ض على‬ ‫َ‬ ‫لأن يتجاوز‬ ‫لتحل حملّها العالقات‬ ‫والتعليم الوطني‪...‬الخ)‪ُ ،‬‬
‫�أزمنة �أخرى الحقة‪� ،‬أو هو ي�سلم ب�أن حا�رض العرب‬ ‫(القبلي‬
‫ّ‬ ‫الع�صبوية القائمة على روابط الن�سب الأهلي‬
‫ما�ض ممت ّد مل ينقطع بعد‪.‬‬ ‫لي�س �أكرث من حلظةٍ من ٍ‬ ‫والع�شائري واملناطقي)‪ ،‬وعلى الروابط الدينية‪:‬‬
‫ممن‬ ‫وهي فر�ضية خاطئة على الرغم من �أن الكثري ّ‬ ‫الطائفية واملذهبية‪ .‬وتراجعت الطبيعة «الوطنية»‬
‫تناولوا الرتاث والتاريخ الثقايف العربي بالدر�س‪،‬‬ ‫الأفقية لل�سلطة‪ ،‬مبا هي �سلطة طبقة اجتماعية‬
‫من الباحثني العرب املعا�رصين‪� ،‬أخذوا بها‪ ،‬و�سلّموا‬ ‫(�إقطاعية‪� ،‬أو كومربادورية‪� ،‬أو برجوازية �صغرية)‪،‬‬
‫مبنطوقها‪ ،‬وا�شتغلوا على مقت�ضى نتائجها �أو نتائج‬ ‫لتتحول �إىل �سلطة فئوية (طائفية �أو مذهبية �أو‬
‫القول بها(‪.)5‬‬ ‫ع�شائرية �أو عائلية‪ .)...‬وتراجع الفكر التحرري‬
‫ذاتي‬
‫ّ‬ ‫لي�س للما�ضي‪ ،‬للرتاث (� ّأي تراث)‪� ،‬سلطان‬ ‫والنقدي‪ ،‬ونزعات االنفتاح على العامل والثقافات‬
‫من نف�سه‪ ،‬حتى و�إن كان مكتن ًزا‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬لي�سود الفكر االجرتاري‪،‬‬
‫عابرا للزمان؛‬ ‫ً‬ ‫مب�ضمون قدا�سي يبدو‬
‫ٍ‬ ‫ال فكر يقبل‬ ‫ومنازع االنكفاء على العامل اخلارجي‪،‬‬
‫نف�سه تاريخي‪� ،‬أي ُي َعا�ش‬ ‫فاملق َّد�س ُ‬ ‫الفهم من‬ ‫والت�رشنق الذاتي‪ ،‬ورف�ض التاريخ من‬
‫يف تواريخ متنوعة وخمتلفة‪ ،‬ويت�أقلم‬ ‫وراء التم�سك بـ«�أ�صالة» معيارية مطلقة‬
‫فيها مع البيئات االجتماعية والثقافية‬ ‫دون قراءة‬ ‫ومتعالية عن الزمان واملكان والتغيرّ ‪.‬‬
‫عي�ش وك�أنه ثابت‬ ‫َ‬ ‫والنف�سية‪ ،‬و� ْإن هو‬ ‫تاريخه الذي‬ ‫وباجلملة‪َ ،‬ب َد ِت احلقب ُة هذه وك�أنها‬
‫ال يتغيرّ ‪ ،‬وال َيل َْح ُقه ُم َ�ضاف خارجي‪،‬‬ ‫تطوّر فيه‬ ‫لتكر�س �سلطان املا�ضي‬ ‫تطوي ما قبلها ّ‬
‫الب�رشي‬
‫ّ‬ ‫بالن�سبة �إىل امل�ؤمنني‪ّ � .‬أما‬ ‫والرتاث يف الن�سيج الإجمايل للمجتمع‪.‬‬
‫يف‬‫يف الرتاث‪ ،‬وهو الأكرث (�أي الثقا ّ‬ ‫ملاذا ميلك املا�ضي ك ّل هذا ال�سلطان‬
‫أنرثوبولوجي)‪ ،‬فالتاريخية فيه �أظهر‬ ‫ّ‬ ‫والفكري وال‬
‫ّ‬ ‫الطاغي يف حا�رض العرب االجتماعي والثقايف؟‬
‫ح�سبان‬ ‫ٍ‬ ‫من التاريخية يف املق ّد�س‪ .‬ولذلك يبدو ك ّل‬ ‫ومن �أين ي�ستم ّد كل هذه القوة‪ ،‬وك ّل هذه القدرة على‬
‫للرتاث مادة فوق التاريخ‪� ،‬أو عابرة للتاريخ‪� ،‬رض ًبا‬ ‫«اخلروج من تاريخه»‪ ،‬ومتديد �إقامته يف �أزمنة‬
‫من النظرة امليتافيزيقية‪ ،‬غري التاريخية‪ ،‬لتاريخ‬ ‫�أخرى؟‬
‫الأفكار واملجتمعات‪.‬‬ ‫ربمَّ ا َب َدا �أن هذا ال�س�ؤال هو ما � َّأ�س�س لن�ش�أة �إ�شكالية‬
‫الرتاث حمايد يف ذاته‪ ،‬يرقد يف الكتب‪ ،‬وقد‬ ‫وبرر للباحثني‬ ‫الرتاث يف الفكر العربي املعا�رص‪َّ ،‬‬
‫اجلمعية‪ .‬ولقد يعي�شه النا�س‪� ،‬أو‬ ‫يرقد يف الذاكرة ْ‬ ‫�أن ين�رصفوا �إىل االنهمام به ذلك النحو من االنهمام‬
‫بع�ضا من رموزه ومعطياته‪ ،‬كما يعي�شون‬ ‫يعي�شون ً‬ ‫ون�رشا‪ ،‬منذ‬
‫ً‬ ‫الذي ن�شهد ظواهره‪ ،‬كتاب ًة وت�أليفًا‬
‫حا�رضهم ومعطيات حا�رضهم‪ ،‬من دون �أن ي�شعروا‬ ‫واحلق �أن الأمر كذلك‬ ‫ّ‬ ‫عاما‪.‬‬
‫ما ينيف على �أربعني ً‬
‫بالتناق�ض‪ .‬بل �إنهم ال ي�شعرون بالتناق�ض لأنهم‬ ‫وعي م�شدوه بظاهرة عودة املوروث‬ ‫بالن�سبة �إىل ٍ‬
‫ُيخ�ضعون ذلك املا�ضي حلا�رضهم فيعي�شونه‬ ‫�إىل م�رسح تاريخنا الراهن‪� ،‬أي �إىل وعي يكتفي‬
‫كجزء من يومياتهم‪ .‬ولقد ميكنهم �أن ينقطعوا عنه‬ ‫من الظاهرة مبالحظة ظاهرها‪ .‬غري �أن بع�ض‬
‫�إن مل يكن يف حا�رضهم ما يحملهم على االنقطاع‬ ‫ري‬
‫التمحي�ص والتحليل ي�أخذنا �إىل اعتبار ال�س�ؤال غ َ‬
‫‪35‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫نف�سها لأن رهانات‬
‫عابد اجلابري‪ ،‬و�إمنا هي تفر�ض َ‬ ‫�إليه‪ ،‬وا�ستدعائه بكثافة كبرية‪ .‬الرتاث‪ ،‬بهذا املعنى‪،‬‬
‫ثقافية معا�رصة تركب مركب املا�ضي والرتاث‬ ‫كائن تاريخي �صامت‪ ،‬والنا�س ُه ْم من يخرجونه‬
‫لك�سب معاركها يف احلا�رض‪ .‬كان ذلك �ش�أن فريقٍ ‪،‬‬ ‫قول للإمام‬ ‫من �صمته و ُي ْنطِ ُقو َنه �أو ينطقوا به‪ ،‬على ٍ‬
‫يف املجتمع الثقايف العربي‪ ،‬حاول �أن يفر�ض هذا‬ ‫دفتيه حني‬ ‫علي بن �أبي طالب عن امل�صحف بني ْ‬ ‫ّ‬
‫اخليار‪ ،‬يف النظر �إىل م�سائل الراهن‪ ،‬ويحتكر متثيلَه‬ ‫ُي ْنطِ ُقه الرجال‪ .‬ولذلك‪ ،‬ف�إن الطلب على الرتاث‪ ،‬يف‬
‫تنبه‪-‬ولو‬‫والقول فيه‪ ،‬لكنه �أم�سى �ش�أن فريق �آخر َّ‬ ‫فكرنا املعا�رص‪ ،‬ظاهرة جتد تف�سريها يف حا�رضنا‬
‫أخرا‪� -‬إىل خطورة املعركة على الرموز‪ ،‬ف�آثر‬ ‫مت� ً‬ ‫التاريخي ال يف قوة الرتاث ونفوذه و�سلطانه يف‬
‫االنخراط فيها بد ًال من الإعرا�ض عنها‪ :‬مثلما فعلَ‬ ‫العقول والنفو�س كما ُيظَ ن‪.‬‬
‫قب ًال ودفع الثمن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫انتبه مهدي عامل‪ ،‬مبك ًّرا‪� ،‬إىل هذه احلقيقة حني‬
‫كتب (‪ )6‬يف جدلية العالقة بني احلا�رض واملا�ضي‬
‫‪ -3‬اال�ستيالء على الرتاث‬ ‫منب ًها �إىل �أنها «�أكرث تعقي ًدا من �أن تكون ب�سيطة‬ ‫ِّ‬
‫خي�ضت معركةٌ‪ ،‬وتخا�ض منذ ذلك احلني‪ ،‬على‬ ‫بني قدمي وجديد‪� ،‬أو تخلّف وتق ُّدم‪ ،‬يتحددان بعالقة‬
‫فكريينْ ‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ثقافيينْ وخطابني‬‫َّ‬ ‫الرتاث بني فريقني‬ ‫التتابع بينهما»‪ .‬وعلى ذلك ف�إن «م�شكلة املوقف‬
‫خطاب الأ�صالة وخطاب احلداثة‪ .‬مل يكن الرتاث‬ ‫من الرتاث‪ ...‬م�شكلة الفكر احلا�رض‪ ،‬ولي�س م�شكلة‬
‫واح ًدا عند ه�ؤالء و�أولئك؛ كان لك ّل منهما تراثه‬ ‫الفكر املا�ضي‪ ،‬لأن العالقة بني الإثنني تتحدد‬
‫الذي ارت�ضاه لنف�سه‪ .‬وكان عليه‪ ،‬يف الوقت عينِه‪� ،‬أن‬ ‫بال�شكل الذي ينظر فيه الفكر احلا�رض �إىل عالقته‬
‫خا�صا به‪-‬‬‫يح�س ُبه ترا ًثا له ًّ‬ ‫يدافع عن تراثه ‪�-‬أو ما َ‬ ‫بالفكر املا�ضي‪� ،‬أي بال�شكل الذي يتك�شف فيه الفكر‬
‫يف وجه خ�صمه الثقايف‪ ،‬و�أن ي�س ّفه تراث خ�صمه‬ ‫هذا للفكر ذاك‪ ،‬لي�س من واقعه هو‪ ،‬بل من واقع‬
‫�أو يبتخ�س قدره ويك�شف عن وجوه الت�أخر فيه‪،‬‬ ‫حا�رض هو واقع الفكر احلا�رض نف�سه‪ .‬معنى هذا �أن‬
‫وبرانيته عن‬ ‫بع�ض قارئ له‪� ،‬أو عن هرطقته ّ‬ ‫عند ٍ‬ ‫الفكر املا�ضي ال يتحدد‪ ،‬يف هذه العالقة‪ ،‬بذاته‪ ،‬بل‬
‫اتخذت‬
‫ِ‬ ‫بع�ض �آخر قارئ‪ .‬ولقد‬ ‫�أ�صول الإ�سالم‪ ،‬عند ٍ‬ ‫بهذا الفكر احلا�رض الذي يحدده‪ .‬منطق هذا التحديد‬
‫�رصاع بني قراءتينْ ‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫املعركةُ‪ ،‬يف احلالينْ ‪� ،‬شكل‬ ‫�رضوري لأنه منطق الزمان نف�سه‪ ،‬فلي�س من‬
‫�أجل حتقيق هيمن ِة روايةٍ بعينها عن ذلك الرتاث‪،‬‬ ‫املمكن‪ ،‬على الإطالق‪ ،‬النظر يف املا�ضي‪� ،‬أو �إليه‪،‬‬
‫ودح�ض الرواية الأخرى التي تزاحمها على �ساحة‬ ‫�إال من احلا�رض»‪ .‬وهكذا نت�أدى مع مهدي عامل �إىل‬
‫�رصاعا بني قراءتني‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫املعنى‪ .‬ولأنها كانت‬ ‫ا�ستنتاج مفاده �أن «م�شكلة الرتاث لي�ست تراثية‪ ،‬إ� ِذ‬
‫على كل واحدة �أن تت�سلح بالأدوات كافة لتع ّزر من‬ ‫مو�ضوعا لذاته‪ ،‬بل هي م�شكلة‬ ‫ً‬ ‫الرتاث لي�س بذاته‬
‫فر�ص غلبتها و�شيوعها‪ .‬ومن الطبيعي �أن يكون‬ ‫هذا الفكر العربي املعا�رص الذي به ي�صري الرتاث‬
‫مما ُي ْح َ�سب يف نطاق الفكر‪.‬‬ ‫رث يف تلك الأدوات ّ‬ ‫الأك ُ‬ ‫مو�ضوعا له»(‪.)7‬‬
‫لكن ذلك لي�س وحده ما ا�س ُت ْعمِ ل يف ذلك ال�رصاع؛‬ ‫لي�س للما�ضي‪� ،‬إذن‪ ،‬تلك ال�سلطة الذاتية املفترَ �ضة‬
‫ري فكرية‪ ،‬و�أُ ْعمِ لَت فيه � ٌ‬
‫أدوات‬ ‫فلقد تخلَّلته �أفعالٌ غ ُ‬ ‫على احلا�رض‪ ،‬و�إمنا �سلطته م�ستمدة من حا� ٍرض‬
‫فكري‪� ،‬أو هكذا‬‫ّ‬ ‫ري فكرية‪ ،‬و� ْإن هو ظ ّل ُيطِ ل ك�رصاع‬ ‫غ ُ‬ ‫ي�ستدعيه ب�ش ّدة‪ ،‬ويعي�ش نف�سه –كحا�ضرِ ٍ ‪ -‬من‬
‫جمهور عري�ض‬ ‫ٍ‬ ‫على الأقل كان يقع ا�ستقبالُه لدى‬ ‫خالل رمزية ذلك املا�ضي‪ ،‬ومن طريق ا�ستعارة‬
‫قراء املقاالت املت�صارعة على الرتاث‪.‬‬ ‫من ّ‬ ‫واقع يعجز ذلك‬ ‫مفرداته وم�شكالته وتنزيلها على ٍ‬
‫أ�ساليب عي َنها يف‬ ‫َ‬ ‫تو�سل التياران‪ ،‬واخلطابان‪ ،‬ال‬ ‫َّ‬ ‫احلا�رض عن مواجهته بلغته وم�شكالته املطابِقة‪! ‬‬
‫«قراءة» التاريخ الثقايف والفكري؛ الكال�سيكي‬ ‫نف�سها‬‫معنى للقول �إن م�س�ألة الرتاث فر�ضت َ‬ ‫ً‬ ‫لذلك ال‬
‫واحلديث (وال ّأول منهما على نح ٍو خا�ص)‪ ،‬وتناف�سا‬ ‫على الثقافة العربية لأن هذه الثقافة راكدة‪� ،‬أو لأن‬
‫يف ا�ستخدامها اال�ستخدام الأفعل؛ تظهري حلْظَ ات‬ ‫معا�رصا لنا‪ ،‬مثلما يقول حممد‬
‫ً‬ ‫ذلك الرتاث ما زال‬
‫‪36‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫عن الرتاث �ض ّد التيار الرتاثوي الغالب‪ ،‬على نح ٍو‬ ‫ون�صو�ص فكرية وتغييب غريها �أو احلطّ من‬
‫متحرك‪،‬‬‫ّ‬ ‫دفاعي‬
‫ّ‬ ‫حتول معه ذلك التجذيف �إىل موقف‬ ‫ّ‬ ‫مكانتها يف تاريخ الفكر‪ ،‬ت�أويل املعطيات الرتاثية‬
‫قابل لتوليد دينامي ِة مت ُّث ٍل جديد للرتاث يف املجتمع‬
‫ٍ‬ ‫يف �ضوء مطالب معا�رصة‪� ،‬إ�سقاط �أفكار نا�شئة يف‬
‫الثقايف‪ ،‬ويف املجتمع القارئ‪ ،‬يف الوطن العربي‪،‬‬ ‫الن�ص الرتاثي‪� ،‬إخراج املعطى‬ ‫ّ‬ ‫البيئة الراهنة على‬
‫متوا�ضع‪ -‬من املزاحمة‬ ‫ٍ‬ ‫وعلى حتقيق ح ٍّد‪-‬ولو‬ ‫الرتاثي (=م�ضمونه الفكري‪ ،‬نظام لغته الداليل‪،‬‬
‫لرواية الأ�صاليني‪.‬‬ ‫مفاهيمه الكال�سيكية‪ )...‬من تاريخيته‪ ،‬ومن‬
‫ما الذي تعنيه �إرادة اال�ستيالء على الرتاث‪ ،‬املا�ضي؟‬ ‫حدود الأفق املعريف الناظم له‪ ،‬و�إدخاله يف لعبة‬
‫ال�ضمني الذي ي� ّؤ�س�سها ويتن َّزل منها‬
‫ّ‬ ‫ما الهدف‬ ‫ال�صالحية فوق‪-‬التاريخية‪...‬الخ‪ .‬مل تكن الأدوات‬
‫منزلة الدافع؟‬ ‫والأ�ساليب متكافئة بني تيار ْين‪-‬وخطابني‪-‬‬
‫اال�ستيالء على املا�ضي بات‪ ،‬اليوم‪� ،‬أعني منذ‬ ‫متفاوتينْ يف درجة العالقة بالرتاث‪ ،‬ويف كثافة‬
‫انطالق معركته الكربى يف �ستينيات القرن‬ ‫النظرة االيديولوجية والالتاريخية لدى ك ّل منهما؛‬
‫الع�رشين‪� ،‬أق�رص طريق �إىل اال�ستيالء على احلا�رض‪.‬‬ ‫فلقد كان التيار الأ�صايل �أ�ش َّد �صل ًة بالرتاث من‬
‫من ينت�رص يف معركة الأول‪� ،‬أو يك�سب اجلول َة الأك َ‬
‫رب‬ ‫التيار احلداثي‪ ،‬وكانت قدر ُته على �إنطاق املا�ضي‬
‫فيها‪ ،‬ينت�رص يف احلا�رض ‪� ،‬أو يوفر النت�صاره‬ ‫الغر�ض‬
‫ِ‬ ‫مبا يريد �أعلى من قدرة خ�صمه على �إتيان‬
‫يف احلا�رض �أ�سبا َب ُه الدافعة‪ .‬واالنت�صار هذا‪ ،‬يف‬ ‫عينهِ‪ ،‬ناهيك ب�أن لعبة ال�رصاع ذاك جتري يف ملعبه‪،‬‬
‫يف فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫خطاب ثقا ّ‬
‫ٍ‬ ‫انت�صار‬
‫َ‬ ‫احلا�رض‪ ،‬لي�س‬ ‫وهو ي�ستطيع‪-‬لذلك ال�سبب‪� -‬أن يتحكم يف قواعدها‪،‬‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫�سيا�سي � ً‬
‫ّ‬ ‫وموقع‬
‫ٍ‬ ‫خطاب �سيا�سي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫انت�صار‬
‫ُ‬ ‫هو‬ ‫ميه �أن يفعل‪ .‬ومع‬ ‫كما يف خيوطها‪� ،‬أكرث مما ميلك غر ُ‬
‫وهذا هو‪ ،‬بالذات‪ ،‬معنى �صريورة الرتاث ر�أ�سما ًال يف‬ ‫ذلك‪ ،‬ورغم َم َواطن القوة واالمتياز التي احتفظ بها‬
‫النزاع االجتماعي الداخلي‪ ،‬مطلو ًبا فيه مرغو ًبا‪ ،‬ال‬ ‫خطاب الأ�صالة‪ ،‬يف مطالعة تراث الإ�سالم الثقايف‪،‬‬
‫من �أجل الرتاث يف ح ّد ذاته؛ من �أجل فهمه ودرا�سته‬ ‫بتفوق �أدوات ال ّأول‪ ،‬و�إمنا‬‫مل ي�سلِّم خطاب احلداثة ُّ‬
‫على النحو املطابِق كما ُي ْز َعم‪ ،‬بل من �أجل توظيفه‬ ‫ان�رصف �إىل منازعته العمل بها و�إعمالها‪! ‬‬
‫يف املعركة على ال�سلطة الثقافية وال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫�إن هذه املعركة الكربى‪ ،‬التي عا�شها الفكر العربي‬
‫على ال�سواء‪ .‬ومن نافل القول �إن �أوار هذه املعركة‬ ‫املعا�رص‪ ،‬وما زال يعي�شها اليوم‪ ،‬حتت عنوان قراءة‬
‫توظيف‬
‫ٍ‬ ‫ا�شت ّد اليوم‪� ،‬أكرث من ذي قبل‪ ،‬يف �سياق‬ ‫الرتاث‪ ،‬وفهمه‪ ،‬و�إعادة بناء معطياته يف وعينا‬
‫�سيا�سي غري م�سبوق لذلك الر�أ�سمال‪-‬الرتاثي‬ ‫ّ‬ ‫املعا�رص‪ ،‬لي�ست‪-‬يف املح�صلة الأخرية‪�-‬أكرث من‬
‫والديني‪-‬يف معمعان ال�رصاعات اجلارية‪.‬‬ ‫معركة هادفة �إىل اال�ستيالء على الرتاث؛ �إىل احتكار‬
‫ت�أويله‪ ،‬وفر�ض الرواية «ال�صحيحة» عنه‪ ،‬من قِ بل‬
‫ثان ًيا‪ :‬الو�ضع االعتباري مل�س�ألة الرتاث‬ ‫فريقيها املنخرطينْ فيها‪ .‬ومن بداهات‬ ‫ْ‬ ‫كل من‬ ‫ٍ‬
‫من املفرت�ض �أن م�س�ألة الرتاث م�س�أل ٌة فكرية‬ ‫الأمور‪ ،‬يف معركةٍ فكرية من هذا ال�رضب‪� ،‬أن‬
‫يف املقام الأول‪ ،‬و�إن ال�رصاع عليه �رصاع بني‬ ‫اال�ستيالء على مو�ضوع ال يكون �أو يتحقق من دون‬
‫ر�أيني وقراءتني يختلفان يف املنطلقات الفكرية‪،‬‬ ‫ح�رصيا‪ ،‬و�إخراجه‬‫ًّ‬ ‫احتكارا‬
‫ً‬ ‫احتكار ملكية معناه‬
‫واملفاهيم‪ ،‬و�أدوات التحليل‪ ،‬وامل�صادر النظرية‪،‬‬ ‫من التناف�س الذي ُت َزاحِ ُم فيه رواي ٌة رواي ًة �أخرى‪،‬‬
‫والأهداف املعرفية‪ ،‬وما يف معنى ذلك‪ .‬ول�سنا ننفي‬ ‫فيمتنع‪-‬بتلك املزاحمة‪-‬ا�ستيالء‪ .‬ومع �أن اال�ستيالء‬
‫�أن �شيئ ًا من ذلك ينطوي عليه ال�رصاع على الرتاث‬ ‫واالحتكار مل يت�أ َّتيا‪-‬حتى الآن‪-‬لطالب ٍمن طالبها‪،‬‬
‫يف الفكر العربي املعا�رص‪ ،‬مثلما انطوى عليه اجلدل‬ ‫توازن بينهما‪-‬لأن هذا‬ ‫ٌ‬ ‫امتناع ُه لي�س م�أتا ُه‬
‫َ‬ ‫�إ ّال �أن‬
‫حول الأ�صالة واملعا�رصة‪ ،‬القدمي واحلديث‪ ،‬يف‬ ‫خمت ّل منذ البداية ل�صالح فريق الأ�صالة‪-‬و�إمنا هو‬
‫الفكر النه�ضوي العربي بني من�صف القرن التا�سع‬ ‫ن�سبي يف جتذيف رواي ِة احلداثيني‬ ‫ّ‬ ‫ح�صيلة جناح‬
‫‪37‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أجزاء منه بعينها‪ ،‬واال�شتغال عليها مبا هي‪-‬‬ ‫ع�رش ومنت�صف القرن الع�رشين‪ .‬وهذا يعني �أننا‬
‫يف زعمهم‪-‬املادة التمثيلية لكلّي ِة ذلك الرتاث‪� ،‬أو‬ ‫ل�سنا ننفي �أن يكون هناك نوع من املطابقة بني‬
‫اللحظة «الأ�صيلة»فيه‪� ،‬أو الوجه امل�رشق منه‪...‬الخ‪.‬‬ ‫الو�ضع االعتباري والنظري ‪statut théorique‬‬
‫كثري من احلَطِّ‬
‫ٌ‬ ‫ويف مقابل هذا االنتقاء‪ ،‬كان يقع‬ ‫مل�س�ألة الرتاث‪ ،‬وبني و�ضعها يف الواقع املو�ضوعي‪،‬‬
‫ْظات ثقافية �أخرى‪ ،‬ومن النقد ال�رصيح لها‬ ‫من حل ٍ‬ ‫ويف التداول الفكري العربي املعا�رص‪ .‬لكن هذه‬
‫«برانية»‪« ،‬مد�سو�سة»‪« ،‬غري �أ�صيلة»‪،‬‬ ‫بو�صفها حلظ ًة ّ‬ ‫املطابقة ظلت جزئية‪ ،‬ومل ت�شمل �سائر حاالت‬
‫بع�ض‪� ،‬أو بو�صفها حلظة «رجعية»‪،‬‬ ‫« ِب ْدعوية»‪ ...‬عند ٍ‬ ‫اجلدل يف املو�ضوع؛ ف�أكرث ذلك اجلدل مل يتو�سل‬
‫«متحجرة»‪« ،‬ظالمية»‪ ...‬عند بع�ض �آخر‪ .‬والغالب‬ ‫�أدوات الفكر ومفرداته‪ ،‬ومل يتناول من مو�ضوع‬
‫على هذا الت�شنيع �أن الذين �أتوه مل يطَّ لعوا‪ ،‬مبا يكفي‪،‬‬ ‫الرتاث �إ ّال ما وجد فيه ُب ْغ َي َته‪ ،‬وما �أ�سعفه يف ك�سب‬
‫على الق�سم املنقود وامل َُ�ش َّنع عليه‪ ،‬لأنه ‪-‬بب�ساطة‪-‬‬ ‫ق�ضية راهنة غ ِري ثقافية‪ ،‬يف جوهرها‪ ،‬و�إن هي‬ ‫ٍ‬
‫ال يدخل �ضمن «تراثهم» اخلا�ص‪ ،‬والفرعي‪ ،‬الذي‬ ‫بع�ضا من الأدوات الثقافية‪ .‬ولقد‬ ‫ا�ستخدمت لنف�سها ً‬
‫خ�صوا به �أنف�سهم‪! ‬‬
‫ّ‬ ‫نتيجة‪� ،‬سيكون‬
‫ٍ‬ ‫ت�أخذنا هذه املالحظة �إىل ا�ستنتاج‬
‫حتركت انتقائية احلداثيني على �إيقاع انتقائية‬ ‫علينا �أن نربهن عليها‪ ،‬ومفادها �أن م�ستوى التدخل‬
‫الأ�صاليني؛ حني ازدهر االهتمام ب�أفكار ال�سلف‪،‬‬ ‫ونوعا‪-‬‬
‫أعلى‪-‬كما ً‬
‫ًّ‬ ‫االيديولوجي يف جدل الرتاث ظ ّل �‬
‫وبالأ�شعرية يف العقيدة‪ ،‬عند ه�ؤالء‪ُ ،‬و ِج َد يف‬ ‫يف فيه؛ �إن كان‬ ‫الفكري واملعر ّ‬
‫ّ‬ ‫من م�ستوى التدخل‬
‫احلداثيني من � ْأح َيى �أفكار املعتزلة يف العدل وحرية‬ ‫على �صعيد املنطلقات والأهداف‪� ،‬أو على �صعيد‬
‫الإرادة الإن�سانية‪ ،‬وطف َِق يبحث يف جذور العقالنية‬ ‫أجنز من درا�سات يف هذا‬ ‫امل�ضمون الفكري لمِ َا � ِ‬
‫يف الإ�سالم عندهم (‪ . )8‬وحني تكاثرت درا�سات‬ ‫امليدان‪ .‬ولقد كان لذلك الت�ضخم االيديولوجي �أثره‬
‫الأ�صاليني للفقه‪ ،‬و�أ�صول الفقه‪ ،‬واحلديث‪ ،‬وعلوم‬ ‫ال�سلبي على ميدان الدرا�سات الرتاثية‪ ،‬مل يكد ينتبه‬
‫حول احلداثيون بو�صلتهم نحو الفل�سفة‬ ‫القر�آن‪َّ ،‬‬ ‫�إىل �سو ِئ ِه إ� ّال القليل ممن ا�شتغلوا يف هذا امليدان‪.‬‬
‫واملنطق والعلوم ‪،‬وكادوا �أن يح�رصوا البحث فيها‪.‬‬
‫(‪)9‬‬

‫وحني بد أ� �صعود احلركات الإ�سالمية‪ ،‬يف �أوائل عقد‬ ‫‪ -1‬يف ت�سيي�س م�س�ألة الرتاث‬
‫حلف �سيا�سي مع النظم‬ ‫ال�سبعينيات‪ ،‬ي�أخذ �شكل ٍ‬ ‫ملقاربة الرتاث‪ ،‬من موقع نظر ايديولوجي‪ ،‬وجوه‬
‫أفكارا ع َّدها الي�ساريون‬
‫العربية �ض ّد الي�سار‪ ،‬وين�رش � ً‬ ‫ع ّدة �أظهرها‪-‬يف ما يعنينا يف ال�سياق الذي نحن‬
‫رجعية‪ ،‬ازدهرت‪-‬يف خطاب احلداثيني‪ -‬لعبة‬ ‫فيه‪-‬ثالثة وجوه‪ :‬االنتقائية‪ ،‬والإ�سقاط التاريخي‪،‬‬
‫البحث للثورة (املعا�رصة) عن جذورها يف الرتاث‪،‬‬ ‫الفج يف اجلدل ال�سيا�سي‪.‬‬
‫والتوظيف ّ‬
‫فان�رصف دار�سون كرث �إىل الكتابة يف تاريخ‬ ‫�أ‪-‬طغت نزعة انتقائية حادة يف عالقة الدار�سني‬
‫احلركات الثورية يف �إ�سالم العهد الكال�سيكي‪،‬‬ ‫العرب للرتاث بهذا الرتاث‪ .‬وهي انتقائية ا�شرتك‬
‫والتعريف بحركات اخلوارج‪ ،‬وال�شيعة‪ ،‬والقرامطة‪،‬‬ ‫دعا ُة الأ�صالة مع دعاة احلداثة يف العمل بها‬
‫وثورة الزجن‪...‬الخ(‪ .)10‬وهكذا كان اخلطاب احلداثي‬ ‫يف ما كتبوه يف املو�ضوع‪ ،‬و� ِإن اختلفتِ الأن�صبة‬
‫يف الرتاث يجيب عن �أ�سئلة وحتديات يطرحها عليه‬ ‫منهجا ثاب ًتا يف التفكري (عند‬
‫ً‬ ‫بني َمن كانت عنده‬
‫خطاب الأ�صالة‪ ،‬ولكن ب�أدواته عينها‪ :‬االنتقائية‪.‬‬ ‫الأ�صاليني خا�صة)‪ ،‬ومن انزلق �إليها حتت وط�أة‬
‫على �أن االنتقائية‪ ،‬يف خطاب الي�سار يف الرتاث‪،‬‬ ‫احلاجات االيديولوجية (كما عند احلداثيني)‪ .‬مل‬
‫تغ َّذت من انحيازات فكرية لديه �إىل تيارات‬ ‫يلتفت �أح ٌد‪ ،‬من ه�ؤالء ومن �أولئك‪� ،‬إىل الرتاث يف‬
‫ومدار�س وميادين بحثية يف الفكر الغربي الذي‬ ‫قابل للق�سمة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ري‬
‫ثقافيا غ َ‬
‫ًّ‬ ‫كلّيته‪� ،‬أي بو�صفه ك ًّال‬
‫م�صدرا؛ فحني ازدهرت علوم االجتماع‬ ‫ً‬ ‫كان له‬ ‫مثلما تفر�ض ذلك مقت�ضيات البحث العلمي‪ ،‬و�إمنا‬
‫والأنرثوبولوجيا‪ ،‬وعلم التاريخ (خا�صة مع مدر�سة‬ ‫ان�رصفوا جمي ًعا‪-‬بدرجات متفاوتة‪�-‬إىل اقتطاع‬
‫‪38‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ون�سب مينح بهما ال�رشعية لنف�سه؛ ربمّ ا يف‬ ‫ٍ‬ ‫ج ٍّد �أعلى‬ ‫«احلوليات»)‪ ،‬يف �سنوات اخلم�سينيات وال�ستينيات‪،‬‬
‫نقي�ض يبحث عنها خ�صمه الثقايف‬ ‫ٍ‬ ‫مقابل �رشعيةٍ‬ ‫يف �أوروبا‪ ،‬ازدهر االهتمام بابن خلدون يف درا�سات‬
‫العلمي يقت�ضي الن�سبية‬ ‫ّ‬ ‫وال�سيا�سي‪ .‬و�إذا كان الواجب‬ ‫وتناه َب ْت ُه فئات ثالث من الدار�سني (علماء‬
‫َ‬ ‫احلداثيني‪،‬‬
‫يف الأحكام‪ ،‬وعدم تعميمها‪ ،‬واالعرتاف ب�أن هذا‬ ‫االجتماع‪ ،‬وامل�ؤرخني‪ ،‬والفال�سفة ‪ .‬وعندما‬
‫(‪)11‬‬

‫جميع َمن‬‫َ‬ ‫منهجا �شام ًال‬


‫ً‬ ‫امل�سلك الإ�سقاطي مل يكن‬ ‫انت�رشت املارك�سية واملنهج املادي التاريخي‪،‬‬
‫كتبوا يف ميدان درا�سات الرتاث‪ ،‬و�أن من ه�ؤالء َمن‬ ‫يف اجلامعات العربية وامل�ؤ�س�سات الثقافية‪� ،‬أوائل‬
‫ومت�سك بالر�ؤية‬
‫تحَ َ ّرى التقاليد العلمية املو�ضوعية‪َّ ،‬‬ ‫ال�سبعينيات‪ ،‬ان�رصف باحثون عرب �إىل الكتابة يف‬
‫التاريخية �إىل املادة الرتاثية‪ ،‬ف�إن معظم امل�شتغلني‬ ‫اجلذور املادية يف الفل�سفة العربية‪-‬الإ�سالمية(‪.)12‬‬
‫يف هذا املجال مل َي ْ�سلَم من �آفة الإ�سقاطات؛ �سواء‬ ‫�أما حني انتع�ش االهتمام بعلوم اللغة والل�سانيات‬
‫�أتى ذلك واع ًيا � َّأي � ْأم ٍر ي�أتيه‪� ،‬أو ح�صل له على نح ٍو‬ ‫والبنيوية‪،‬بت�أثري من املدار�س الغربية‪ ،‬فلم يرتدد‬
‫موعى به‪.‬‬
‫غ ِري ً‬ ‫باحثون كرث يف االن�رصاف �إىل الرتاث‪ ،‬بح ًثا عن‬
‫ت�ساوي �شي ًئا‬
‫َ‬ ‫ما كان ملثل هذه الإ�سقاطات �أن‬ ‫جذور هذه البنيوية يف نظرية ال َّنظم عند اجلرجاين‬
‫يف ميزان املعرفة؛ فهي بدت يف �شكل مترين‬ ‫مثالً‪ .‬ويف هذه الأحوال كافة‪ ،‬ظلت االنتقائية �سيدة‬
‫ايديولوجي على �إدخال الرتاث يف لعبة امل�ضاربة‬ ‫املوقف يف النظر �إىل الرتاث‪ ،‬والعالقة به‪.‬‬
‫الثقافية وال�سيا�سية اجلارية‪ .‬كان الهدف‪-‬معل ًنا �أو‬ ‫ب‪ -‬اقرتن بهذه االنتقائية‪ ،‬من ِز ٌع �إ�سقاطي يف النظر‬
‫وخ ْل ُعها على مقاالت‬ ‫م�ضمرا‪-‬هو ت�أ�سي�س ال�رشعية َ‬ ‫ً‬ ‫�إىل املادة الرتاثية املنتقاة‪ ،‬ويف قراءتها‪ .‬والإ�سقاط‬
‫�سماه‬
‫معا�رصة با�سم التاريخية و«الت�أ�صيل»‪� ،‬أو ما ّ‬ ‫بزمني ِة‬
‫َّ‬ ‫فع ٌل «معريف» غري تاريخي‪ ،‬لأنه ال يعرتف‬
‫املرحوم حممد عابد اجلابري «ال ّت ْب ِي َئة»‪ .‬كان يراد‬ ‫كثريا‬
‫بحيزاتها التاريخية‪ ،‬وهو ً‬ ‫الأفكار‪ ،‬وارتباطها ّ‬
‫لأفكار احلداثة �أن تف�شو وتنت�رش من طريق َو ْ�صلها‬ ‫ما يقر�أها بعني احلا�رض‪ ،‬ومفردات احلا�رض‪ ،‬من‬
‫معا�رصا‪� ،‬أو مل ي ْن َته تاريخ‬
‫ً‬ ‫مبورث ُق ِّدم بو�صفة‬ ‫ٍ‬ ‫دون مراعاة الفوا�صل الزمنية واملعرفية بني �أم�س‬
‫�صالحيته على الأقل‪ .‬ولي�س هذا من ال ّدر�س العلمي‬ ‫واليوم‪ ! ‬هكذا ُقرئ عمران ابن خلدون بو�صفه مقدمة‬
‫تو�سل املناهج احلديثة؛ ذلك �أن ق�ضيته‬ ‫و�إن هو َّ‬ ‫� ّإما لعلم االجتماع‪� ،‬أو للمادية التاريخية‪ .‬و ُقرئت‬
‫تقع يف دائرةٍ �أخرى غري دائرة قراءة الرتاث لفهمه‪،‬‬ ‫الأر�سطية العربية‪ ،‬بل الأفالطينية العربية‪ ،‬وك�أنها‬
‫و�إعادة بناء تاريخه يف الوعي‪ ،‬مبا هي حاجة‬ ‫حتمل جراثيم النظرة املادية �إىل العامل‪ .‬وجيء‬
‫معرفية ال ت�ستطيع ثقاف ٌة ما �أن ت�ستغني عنها �إال‬ ‫بابن ر�شد �إىل ع�رصنا ل ُت ْب َنى العقالنية على مداميك‬
‫بعد الإ�شباع منها‪� .‬إنها تقع يف دائرة ا�ستثمار ذلك‬ ‫وع َّد املعتزلة رواد فكرة احلرية يف التاريخ‪.‬‬ ‫فل�سفته‪ُ .‬‬
‫الرتاث لأهداف �أخرى‪ :‬ايديولوجية و�سيا�سية‪.‬‬ ‫و ُبحِ ث عن جذور النزعة الإن�سانية (الإن�سانوية)‬
‫ج‪ -‬طغت‪ ،‬يف بيئة الدار�سني العرب للرتاث‪ ،‬فكر ٌة‬ ‫يف كتابات �أبي حيان التوحيدي‪ ،‬وابن م�سكويه‪،‬‬
‫موجه ٌة تف�سرّ الكثري من ظواهره التي تدعو �إىل‬ ‫ِّ‬ ‫للن�ص‬‫ويحيى ابن عدي‪ .‬وطُ لِب من الت�أويل الكالمي ّ‬
‫النقد‪ ،‬هي فكرة توظيف الرتاث خلدمة ق�ضايا يف‬ ‫الديني �أن يكون �شاه ًدا على ميالدٍ مبكّر للت�أويالت‬
‫احلا�رض‪ :‬ثقافية‪ ،‬و�سيا�سية‪ ،‬واجتماعية‪ .‬من نافلة‬ ‫احلدثية (الهرمينوطيقا)‪ .‬و�أُ ِري َد للمجتمع املكّي‬
‫القول �إن عبارة «التوظيف» تكفي‪ ،‬يف ح ّد ذاتها‪،‬‬ ‫انق�سام‬
‫ٍ‬ ‫جمتمع‬
‫َ‬ ‫ال ُقر�شي‪� ،‬إبان الدعوة‪� ،‬أن يكون‬
‫ل ُتخ ِرج م�س�ألة الرتاث من جمال املعرفة‪ ،‬والفهم‪،‬‬ ‫طبقي حتى ت�شتغل عليه �أدوات التحليل املارك�سي‬
‫واال�ستيعاء‪� ،‬إىل جمال اال�ستغالل واال�ستثمار‬ ‫واحتيج �إىل حركات‬
‫َ‬ ‫ا�ستنتاجات اليوم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وتحَ ِ َّق عليه‬
‫االجتماعي‪ .‬ولي�س من �شك يف �أن الذين ان�ساقوا‪،‬‬ ‫ال ُبغاة واخلوارج و�إىل املذاهب املغالية من �أجل‬
‫من الباحثني احلداثيني العرب‪ ،‬وراء هذا الإغراء غري‬ ‫«ت�أ�صيل» الثورة‪...‬الخ‪! ‬‬
‫املعريف‪� ،‬إمنا فعلوا ذلك حتت وط�أة االجنذاب �إىل‬ ‫كان ك ّل ذي طِ ْل َبةٍ معا�رصة يبحث له يف الرتاث عن‬
‫‪39‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أن الإ�سالم هو احللّ‪ ،‬وتلك �سرية الأ�صاليني من‬ ‫لع َبةٍ � ّأ�س�سها اخلطاب الأ�صايل‪ ،‬و�أمعن فيها طويالً‪،‬‬
‫الأجيال كافة؛ وفريق ان�رصف �إىل بيان النقي�ض‪،‬‬ ‫وبرع يف �أدائها‪ .‬وهو ما يك�شف عن درجة انحبا�س‬
‫و�إقامة الدليل على �أن الإ�سالم هو امل�شكلة‪ ،‬وتلك‬ ‫خطاب احلداثة يف نطاق الطَّ ْوق الإ�شكايل خلطاب‬
‫مقالة احلداثيني �أو ق�سم غري قليل منهم‪ .‬واحلال �إن‬ ‫الأ�صالة‪ .‬ولعلهم وجدوا فيها منا�سبة للخروج من‬
‫الإ�سالم‪ ،‬كما تبينَّ لر�ضوان ال�سيد‪ ،‬ال هذا وال ذاك‪،‬‬ ‫دفاعي ُمزمِ ن‪ُ ،‬و ِ�ضعوا فيه‪� ،‬أو و�ضعوا �أنف�سهم‬
‫ّ‬ ‫موقع‬
‫ٍ‬
‫بناء � ّأي من الفر�ضني عليه؛ �إ ِذ امل�شكل ُة‬ ‫وال يحو ُز ُ‬ ‫فيه ب�سبب غربتهم عن الرتاث‪ .‬لكنهم �أخط�أوا قراءة‬
‫واالجتماعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال�سيا�سي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف واقعنا وحا�رضنا‪:‬‬ ‫�سبيل ذلك اخلروج‪ ،‬من طريق اختزالهم الرتاث �إىل‬
‫دي �إليه‪ ،‬ولي�س‬ ‫أي�ضا‪ِ � -‬إن اه ُت َ‬ ‫يف‪ ،‬واحل ّل فيه‪ً �-‬‬ ‫والثقا ّ‬ ‫اجتماعي يف‬
‫ّ‬ ‫جمرد و�سيلة من و�سائل تعزيز مرك ٍز‬ ‫ّ‬
‫تعليق امل�س�ألة عل م�شجب الإ�سالم‪ ،‬والرتاث‪� ،‬إ ّال‬ ‫احلا�رض‪� ،‬أو خدمة ق�ضة ايديولوجية لهم فيه‪.‬‬
‫�شك ًال من �أ�شكال الهروب من َج ْبه م�شكالت اليوم‪:‬‬ ‫على �أن القائلني بتوظيف الرتاث‪� ،‬أو ال�سالكني م�سلك‬
‫وامل�ستعارة‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف ميادينها الفعلية‪ ،‬ال ا ُ‬
‫مل ْف َت َعلة‬ ‫ي�رصح‬
‫ّ‬ ‫ذلك التوظيف من دون ق�صد‪ ،‬فريقان‪ :‬فريق‬
‫واحلق �أن الفكر َة هذه وجيهة‪ ،‬وهي ترتجم‬ ‫ُّ‬ ‫ب�أهدافه ال�سيا�سية‪ ،‬وال يتحرج يف الإعالن عنها ‪،‬‬
‫(‪)13‬‬

‫نظر ًة ر�صين ًة ومتما�سكة �إىل مو�ضوع الدرا�سات‬ ‫معرفيا‪� ،‬أي ا�ستثمار‬ ‫ًّ‬ ‫وفريق يبتغي توظيف الرتاث‬
‫عموما‪ -‬و�إىل ما �شابها‬ ‫ً‬ ‫الإ�سالمية‪-‬والرتاثية‬ ‫حيا فيه من �أجل توطينه‪ .‬وقد يجتمع‬ ‫ما تب َّقى ًّ‬
‫مداخالت اختلط فيها حابل املعرفة بنابل‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫الرهانان م ًعا يف عمل الدار�س الواحد‪ ،‬ف َي ْقرن الهدف‬
‫االيديولوجيا‪ ،‬و�ضاع‪-‬يف ت�ضاعيف اخللط ذاك‪-‬‬ ‫ال�سيا�سي بالهدف املعريف(‪ .)14‬و�إذا كان التوظيف‬
‫الهدف من الدر�س العلمي للرتاث‪ :‬املعرفة والفهم‬ ‫ُ‬ ‫ال�سيا�سي املبا�رش ي� ّؤ�س�س القولَ يف الرتاث على‬
‫وح�سن القراءة‪� .‬إننا ال نبغي من الرتاث إ� ّال ما يف‬ ‫ُ‬ ‫املماحكة اجلدالية‪ ،‬وامل�ضاربة االيديولوجية‪ ،‬ف�إن‬
‫ميه‬ ‫ُ‬ ‫تقد‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫�س‬
‫ََ ُ‬ ‫ي‬ ‫والذي‬ ‫لنا؛‬ ‫يقدمه‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫الرتاث‬ ‫ذلك‬ ‫و�سع‬ ‫معرفيا ينتهي ب�أ�صحابه‪ُ ،‬حك ًْما‪� ،‬إىل نزعة‬‫ًّ‬ ‫توظيفه‬
‫والفكري يف تاريخيته غ ِري‬ ‫ّ‬ ‫هو معطا ُه الثقايف‬ ‫وي�صب ر�صي َده الفكري‪-‬بال َّت ِب َعة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫حم َدثة‪،‬‬‫تراثوية ْ‬
‫و�ص َل ُتنا به هي �صل ُة الباحث ب� ّأي‬ ‫القابلة للتجاهل‪ِ .‬‬ ‫يف م�صلحة خطاب الأ�صالة‪ ،‬حتى و� ْإن هو َج َنح‬
‫�أثر فكري م�ضى‪ ،‬ال يريد منه �أكرث من فهمه على‬ ‫لنقده ب�أ�ش ّد عبارات النقد‪! ‬‬
‫ال�صلة‬ ‫�أف�ضل نح ٍو ممكن‪ .‬ومن ال�صحيح �أن هذه ّ‬ ‫لقد دفعت درا�سات الرتاث العربي الإ�سالمي ثم ًنا‬
‫به‪ ،‬يف حالتنا‪ ،‬لي�ست باردة ك�صلتنا بثقافة قدمية‬ ‫جراء اجنرار كثري من الدار�سني �إىل ت�سيي�س‬ ‫باهظً ا ّ‬
‫�أجنبية‪ ،‬و�إمنا فيها من احلميمية ال�شيء الكثري‪ .‬لكن‬ ‫الرتاث‪� ،‬أو �إخ�ضاع النظر فيه لأغرا�ض �سيا�سية‬
‫أي�ضا‪� ،‬أنها تكون �أدعى �إىل املو�ضوعية‬ ‫ال�صحيح‪ً � ،‬‬ ‫وايديولوجية‪ .‬و�أفدح الأثمان املق َّدمة �إ�ضاع ُة اجلَهد‬
‫التجرد من الأهواء‬ ‫ّ‬ ‫جناحا يف‬‫ً‬ ‫كلّما �أحرزت‬ ‫والوقت يف ق�ضيةٍ لي�ست من املعرفة والبحث العلمي‬
‫واالنحيازات‪� ،‬أو من الرغبة يف قتل الأب‪.‬‬ ‫يف �شيء‪� .‬أما �أ�سو�أ النتائج‪ ،‬املرتتبة على ذلك‪ ،‬فهي‬
‫من نافل القول �إن �أح ًدا ال ميلك �أن مينع �أح ًدا من‬ ‫تعزيز موقع خ�صومهم الأ�صاليني؛ ذلك �أن �أعظم‬
‫م�ستودع‬
‫ُ‬ ‫م�ستودع حلول‪� ،‬أو‬
‫ُ‬ ‫�أن ُيعامِ ل الرتاث وك�أنه‬ ‫خدمة ي�سديها الدار�سون احلداثيون له�ؤالء هي �إنتاج‬
‫م�شكالت‪ ،‬و�أن يخو�ض يف «قراءته» على هذا‬ ‫خطاب ايديولوجي يف الرتاث؛ �أي عدم �إخ�ضاعه‬
‫املقت�ضى؛ فيتناول معطياته بانتقائية ايديولوجية‪،‬‬ ‫للبحث العلمي الذي ال يريده الأ�صاليون‪ .‬وحني‬
‫ويجنح للإ�سقاطات يف اال�ستنتاجات والأحكام‪،‬‬ ‫تكون املعركة ايديولوجية بني الفريقني‪ ،‬يكون‬
‫و ُيخ�ضع املادة «املقروءة» للتوظيف االيديولوجي‬ ‫احلداثيون هم اخلا�رسين فيها‪ ،‬لأن �أ�سباب ك�سب‬
‫وال�سيا�سي‪...‬الخ‪ ،‬فذلك من م�ألوف العمل يف ميدان‬ ‫الأ�صاليني لها موفورة لهم‪ ...‬يف الرتاث نف�سه‪! ‬‬
‫درا�سات الرتاث‪ ،‬عند الرتاثيني كما عند خ�صومهم‪.‬‬ ‫ال�سيد �أن الدار�سني‬ ‫ّ‬ ‫يف قولةٍ م�أثورة لر�ضوان‬
‫حق ه�ؤالء و�أولئك‪ ،‬يف معاملة الرتاث ذلك‬ ‫غري �أن ّ‬ ‫بهمةٍ ‪ ،‬ليثبت‬ ‫العرب للرتاث فريقان؛ فريق ا�شتغل‪َّ ،‬‬
‫‪40‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الرتاث‪� ،‬أو يف تاريخ الفكر؛ ذلك �أن ق�ضيتهم خمتلفة‬ ‫النحو من املعاملة‪ ،‬ال يبني مكا ًنا للبحث العلمي‪،‬‬
‫متاما‪ ،‬وال تنتمي �إىل ميدان البحث العلمي‪ ،‬وميكن‬ ‫ً‬ ‫ر‪-‬علميا‪ -‬ملاذا كان الطلب على الدرا�سات‬ ‫ًّ‬ ‫يرب‬
‫وال ِّ‬
‫البحث عنها يف مكان �آخر (ال�رصاع االيديولوجي‬ ‫أهم من‬ ‫�سيا�سيا‪ .‬وال ّ‬
‫ًّ‬ ‫يربره‬
‫الرتاثية �شدي ًدا‪ :‬و�إن كان ّ‬
‫مثال)‪ ،‬وب ِإ�عمال �أدوات حتليل �أخرى مثل علم‬ ‫ذلك‪� ،‬أنه يفر�ض جتاوز هذا النمط من مقاربة الرتاث‬
‫االجتماع الثقايف‪...‬‬ ‫ومطالب من خارج دائرته‪ ،‬ومن خارج دائرة‬ ‫َ‬ ‫ب�أ�سئلةٍ‬
‫�إذا كانت م�شكالت الرتاث هي الإ�سم امل�ستعار‬ ‫عموما‪ .‬و�إذا كان لنا �أن‬ ‫ً‬ ‫البحث العلمي واملعرفة‬
‫مل�شكالت الباحثني يف الرتاث‪� ،‬أي م�شكالت احلا�رض‬ ‫نعرتف ب�أن قِ ّل ًة قليلة من الباحثني العرب ان�رصف‬
‫تنبهنا �إىل حقيقة بالغة‬ ‫ال م�شكالت املا�ضي‪ ،‬ف�إنها ّ‬ ‫عن هذا النمط من التفكري يف الرتاث‪ ،‬وان�رصف �إىل‬
‫الأهمية‪ ،‬يف م�ضمار فهم هذا املنحى الذي �أخذ ْته‬ ‫البحث فيه؛ من حيث هو مو�ضوع ينتمي �إىل دائرة‬
‫الدرا�سات الرتاثية يف الفكر العربي املعا�رص‪ ،‬وهي‬ ‫التاريخ الثقايف‪� ،‬أو تاريخ الفكر‪ ،‬ف�إن االعرتاف هذا‬
‫نف�سها على الوعي‬ ‫�أن هذه امل�شكالت ما فر�ضت َ‬ ‫ي�صطدم بحقيقة �أن الكرثة الكاثرة من دار�سي الرتاث‬
‫العربي‪ ،‬يف �صورة م�شكالت يطرحها الرتاث‪� ،‬إ ّال لأنها‬ ‫العربي الإ�سالمي‪ ،‬الكال�سيكي واحلديث‪ ،‬لي�س من‬
‫واجتماعيا‬
‫ًّ‬ ‫�سيا�سيا‬
‫ًّ‬ ‫تاريخيا عنها‪:‬‬
‫ًّ‬ ‫مل َتل ًْق جوا ًبا‬ ‫هذا املذهب وامل�رشب‪ ،‬وت�أثري كتاباتها يف اجلمهور‬
‫وثقافيا‪ ،‬يف تاريخنا احلديث واملعا�رص‪ .‬وهي‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫القارئ �أنفذ و� ْأوكد‪ ! ‬و‪-‬بالتايل‪-‬ف�إن حظوظ ذيوع‬
‫لذلك ال�سبب‪ ،‬ظلت مع َّل َقة وقابلة لفر�ض نف�سها من‬ ‫وف�شوها يف املتلقني �أكرب‪ ،‬خا�صة‬ ‫ّ‬ ‫هذه «القراءة»‬
‫جديد‪ .‬ولي�س للرتاث‪ ،‬يف حد ذاته‪ ،‬ن�صيب كبري �أو‬ ‫و�أن املعظم‪ ،‬من ه�ؤالء الدار�سني‪ ،‬جامعيون ي�رشفون‬
‫�صغري يف توليد تلك امل�شكالت املعلقة‪،‬‬ ‫على بحوث و�أطروحات يف املو�ضوع‪،‬‬
‫�أو يف �إعاقة امل�سعى �إىل اجلواب عنها‪،‬‬
‫بني نزعت ّي‬ ‫وي�ؤ ّثرون يف الأجيال اجلديدة من‬
‫لأنها‪-‬بكل ب�ساطة‪ -‬م�شكالت حديثة‪،‬‬ ‫تبجيل الرتاث‬ ‫الدار�سني‪.‬‬
‫و ِل َدت من �أح�شاء التجربة التاريخية‬ ‫واحتقاره‬ ‫نقطة االنطالق‪ ،‬يف نقد هذه الأطروحات‬
‫احلديثة لل ّأمة منذ القرن التا�سع ع�رش‪.‬‬ ‫الدائرة يف فلك ثنائية‪ :‬امل�شكلة‪/‬احلل‪،‬‬
‫وقد يكون يف قلب تلك امل�شكالت‪ ،‬التي ينبهنا‬ ‫هي الت�سليم النظري ب�أن الرتاث حمايد يف عالقته‬
‫�إليها االهتمام بالرتاث‪ ،‬م�شكلة الإ�صالح الديني‪،‬‬ ‫بنا كمادة مدرو�سة؛ فال هو �ضدنا‪ ،‬وال هو يف‬
‫والعالقة امل�ضطربة بني جمتمعات امل�سلمني‪،‬‬ ‫�صاحلنا ‪ ،‬و�أننا نحن‪-‬الدار�سني �أعني‪ -‬من يهدر‬
‫وخا�صة ثقافتهم‪ ،‬واحلداثة‪...‬الخ‪ ،‬وهي التي ت�ستنفر‬ ‫فيورطه يف معارك‬ ‫حيا َد ُه‪� ،‬أو يخرجه عن حياده‪ِّ ،‬‬
‫الدار�سني للرتاث للخو�ض يف �أ�سئلة غري دقيقة‪،‬‬ ‫احلا�رض‪ :‬الثقافية وال�سيا�سية‪ .‬و�إذا كان يبدو‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫حتى ال نقول زائفة‪ ،‬وتدفعهم �إىل ت�سخري الرتاث‬ ‫وكابحا‪ ،‬عند فريق‪ ،‬وح ًّال ومرج ًعا‬ ‫ً‬ ‫م�شكلة وعائ ًقا‬
‫للإجابة عنها‪.‬‬ ‫ومال ًذا‪ ،‬عند فريقٍ �آخر‪ ،‬فلأن الأول �أراده م�شكلةً‪،‬‬
‫يبد�أ البحث العلمي يف الرتاث من القطع املعريف‬ ‫و�أراده الثاين حالًّ‪ ،‬ولي�س لأن يف الرتاث نف�سه‪ ،‬من‬
‫مع ثالث ن ْزعات م�ؤذية للمو�ضوع �شديد الأذى‪:‬‬ ‫حيث هو تراث‪ ،‬عنا�رص امل�شكلة وعنا�رص احللّ‪� .‬إن‬
‫النزعة التبجيلية للرتاث‪ ،‬وهي ال�سائدة يف‬ ‫الدار�سني العرب للرتاث‪ ،‬وللإ�سالم‪ُ ،‬ه ْم يطرحون‬
‫�أو�ساط الرتاثويني‪ ،‬املتم�سكني بفر�ضية جاهزية‬ ‫م�شكالتهم على الرتاث‪ ،‬وعلى الإ�سالم‪ ،‬ولي�س هم‬
‫الرتاث ليق ّدم �أجوبة‪�-‬أو مواد �أجوبة‪-‬مل�شكالت‬ ‫َمن يطرحون م�شكالته عليهم كما يعتقدون‪ ،‬ويبنون‬
‫الع�رص؛ والنزعة االحتقارية للرتاث‪ ،‬املنطلقة من‬ ‫�أن�سا ًقا من التفكري على اعتقادهم‪ .‬و�إذا كان َي َ�س ُعنا‬
‫نظرة عدمية‪ ،‬و�إعدامية‪ ،‬له‪ ،‬واملتم�سكة بفر�ضية‬ ‫�أن نتبينَّ ‪ ،‬بالتحليل التاريخي النقدي‪ ،‬الأ�سباب التي‬
‫�أن امل�ستقبل يبد�أ من القطيعة مع املا�ضي؛ ثم‬ ‫حتملهم على مثل ذلك االعتقاد‪ ،‬فلي�س من املربر‬
‫النزعة اال�ستثمارية للرتاث‪ ،‬التي ي�شرتك يف الأخذ‬ ‫علميا النظر �إىل ما يكتبونه بح�سبانه درا�سات يف‬ ‫ًّ‬
‫‪41‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫بها دعاة الأ�صالة ودعاة احلداثة على ال�سواء‪،‬‬
‫ركود الزمن الثقايف العربي‪ .‬ومع �أنه ي�سوقها يف معر�ض بيانه ظاهرة‬
‫اال�شتغال التكراري لنظام املعرفة يف الثقافة العربية‪.‬‬
‫منذ ع�رص التدوين‪ ،‬ومع �أن املقاربة االيبي�ستيمولوجية‪ ،‬التي‬ ‫واملتم�سكة بفر�ضية �أن الرتاث جبهة �رصاع‪ :‬ثقايف‬
‫اعتمدها‪ ،‬ت�سمح بالظن بثبات وركود االيبي�ستيمات ‪Epistémés‬‬ ‫وايديولوجي‪ ،‬ومادة لال�ستغالل ل�صالح هذا املوقع‬
‫(نظم املعرفة) يف ثقافة ما‪ ،‬إ� ّال �أن وراء هذا الثبات الظاهر حركة يف‬
‫تطور الفقه املالكي‪-‬‬ ‫تطور النظم تلك‪ ،‬وهي عينها التي تف�سرّ ملاذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أو ذاك‪ .‬لي�س الرتاث مق َّد ً�سا‪ ،‬وال ُم َد َّن ً�سا‪ ،‬وال َحلَبة‬
‫مثال‪ -‬من مالك �إىل ال�شاطبي‪ ،‬والكالم من وا�صل بن عطاء �إىل القا�ضي‬ ‫مواجهة؛ �إنه مو�ضوع للمعرفة فح�سب‪� ،‬أو هكذا‬
‫عبد اجلبار‪ ،‬والفل�سفة من الفارابي �إىل ابن ر�شد‪...‬الخ‪� .‬أنظر‪ :‬حممد عابد‬
‫اجلابري؛ تكوين العقل العربي (بريوت؛ مركز درا�سات الوحدة العربية)‪.‬‬ ‫ينبغي �أن ت�ستقيم عالقة الباحث به؛ وهو‪-‬من‬
‫(?) �إن �إ�سالم اجليل ال ّأول غري �إ�سالم العهد العبا�سي �أو العهد الفاطمي‬
‫الختالف البيئة‪ .‬والإ�سالم احل�رضي غري الإ�سالم البدوي‪ .‬الن�صو�ص‬ ‫� َأ�س ٍف‪ -‬ما مل ي�أخذ به �إال القليل من دار�سيه‪.‬‬
‫والتعاليم هي هي نف�سها‪ ،‬لكن التلقي خمتلف‪ ،‬وقد تختلف الطقو�س‬ ‫حرجا يف �أن‬‫ً‬ ‫ال يجد الباحثون الغربيون‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫وال�شعائر بال َّتبِعة‪ .‬وما يقال عن الإ�سالم ي�صدق على امل�سيحية‬
‫واليهودية وتواريخها املختلفة‪.‬‬ ‫يدر�سوا الرتاث الفل�سفي الإغريقي‪� ،‬أو الرتاث القانوين‬
‫مهدي عامل‪� ،‬أزمة احل�ضارة العربية �أم �أزمة الربجوازيات العربية؟‬ ‫الروماين‪� ،‬أو الرتاث الديني والفكري امل�سيحي‬
‫بريوت؛ دار الفارابي‪ ،‬ط ‪� ،2002 ،7‬ص ‪112.6‬‬
‫‪ - 7‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪( 177-175‬الت�شديد يف الن�ص) ويف مكان‬ ‫الو�سيط‪� ،‬أو فكر ع�رص النه�ضة الأوروبية‪� ،‬أو الرتاث‬
‫�آخر من كتابه‪ ،‬يذهب �إىل نقد الأطروحات التي َت ْقرن ظاهرة التخلف‬ ‫الأنواري وفكر احلداثة‪...‬الخ‪ .‬وهم ال يفعلون ذلك‬
‫بهيمنة الرتاث‪ ،‬معيدا العالقة �إىل جدليتها ال�صحيحة‪ ،‬قائالً‪« :‬لي�س‬
‫«الرتاث»‪ ،‬يف وجوده احلا�رض هذا‪� ،‬سب ًبا «للتخلف»‪ ،‬بل وليد هذا‬ ‫التما�سا منه لأجوبةٍ عن م�شكالت ع�رصهم‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ً‬
‫التخلف‪� ،‬أي �أثر له»‪ .‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.59‬‬
‫(?) حدثت متغريات دراماتيكية جديدة‪ ،‬منذ مطلع القرن احلادي‬ ‫لأن البحث فيه يقع يف �صلب �صناعتهم و«مهنتهم»‬
‫والع�رشين‪ ،‬يف �صورة ال�رصاع على الرتاث‪ ،‬ويف �صدام �إرادات اال�ستيالء‬ ‫فكري بامتياز‪ ،‬وال�س�ؤال‬ ‫ّ‬ ‫كباحثني؛ �إ ِذ املو�ضوع‬
‫ا�سرتاتيجيا‬
‫ًّ‬ ‫عليه‪ ،‬اختل بها توازن القوى بني اخلطابني‪ ،‬اختالال‬
‫ُر�ص‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫الغ�ضون‪-‬‬ ‫فادحا‪ ،‬ل�صالح خطاب الأ�صالة‪ ،‬الذي تعاظمت‪-‬يف‬ ‫ً‬
‫علمي بامتياز‪ ،‬وهو ينتمي‬ ‫ّ‬ ‫احلامل على البحث فيه‬
‫ف�شُ ّوه وانت�شاره‪ .‬ولكن‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬لي�س من طريق الدرا�سات الرتاثية‪،‬‬ ‫�إىل تاريخ الفكر‪ :‬حيث ال فكر يقبل الفهم من دون‬
‫قبالً‪ ،‬و�إمنا من طريق االقتحام‬ ‫والبحث‪ ،‬واملناظرة‪ ،‬كما كان الأمر ْ‬
‫التلفزيوين (الف�ضائي) خلطاب الأ�صالة يوميات النا�س ووعيهم‪ ،‬نتيجة‬ ‫تطور فيه‪ .‬ثم �إن املو�ضوع‪-‬و�إن‬ ‫قراءة تاريخه الذي ّ‬
‫الر ْيعي الذي احت�ضن‬ ‫احللف الع�ضوي بني قوى الأ�صالة وقوى املال َّ‬ ‫مفتوحا من وجهة‬‫ً‬ ‫كان مطرو ًقا و�أُ ْ�شبِع بح ًثا‪-‬يظل‬
‫اخلطاب �إياه‪ ،‬ووفّر له و�سائط النفوذ وال�شيوع‪ ،‬قبل �أن يحت�ضن قواه‬ ‫َ‬
‫ال�سيا�سية‪ ،‬وميكّن لها رقاب املجتمعات والدول يف البلدان العربية‪،‬‬ ‫نظر البحث العلمي؛ ف�أدوات البحث تتج ّدد‪ ،‬وتتطور‪،‬‬
‫منذ مطلع العقد الثاين من هذا القرن‪ ،‬يف �سياق ما ُع ِرف با�سم «الربيع‬ ‫وبالتايل تغتني القراءة �أكرث‪ .‬لذلك يزدهر الدر�س‬
‫العربي»‪! ‬‬
‫‪ -8‬ح�سن حنفي‪ ،‬وحممد عابد اجلابري‪ ،‬وحممد عمارة‪ ،‬من �أوائل من‬ ‫العلمي للرتاث‪ ،‬يف الت�أليف الفكري ويف العمل‬
‫ان�رصفوا �إىل �إعادة اخلطاب االعتزايل وتظهريه‪ ،‬وبيان الوجه العقالين‬
‫فيه‪� .‬أما حممد �أركون فلم يحتفل فيه �سوى مب�س�ألة خلق القر�آن‪،‬‬ ‫الأكادميي اجلامعي‪ ،‬يف جمتمعات الغرب املعا�رص‪،‬‬
‫الت�صالها بهاج�س القراءة الت�أويلة للن�ص القر�آين عنده‪ .‬فيما ان�رصف‬ ‫من دون �أن يعي�ش الفكر الغربي �إ�شكالية الرتاث‪ :‬كما‬
‫ن�رص حامد �أبو زيد‪ ،‬بعدهم بعقد ون�صف‪� ،‬إىل االهتمام ب�آلية الت�أويل‬
‫يف اخلطاب االعتزايل‪.‬‬ ‫يعي�شها الفكر العربي منذ قرن �أو يزيد‪.‬‬
‫‪ -9‬مل يكن غري ًبا �أن �أوىل درا�سات الباحثني يف الرتاث‪ ،‬من احلداثيني‪،‬‬
‫كانت يف الرتاث الفل�سفي العربي (حممد �أركون‪ ،‬حممد عابد اجلابري‪،‬‬
‫طيب تيزيني‪ ،)...‬ويف الرتاث العلمي (ر�شدي را�شد)‬
‫الهوام�ش‬
‫‪ -10‬كتب حممود �إ�سماعيل يف‪ :‬تاريخ احلركات ال�رسية يف الإ�سالم‪،‬‬ ‫‪ - 1‬فرح �أنطون‪ ،‬ابن ر�شد وفل�سفته‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الفارابي‪.‬‬
‫و�أحمد عبا�س �صالح يف‪ :‬اليمني والي�سار يف الإ�سالم‪ ،‬وغايل �شكري‬ ‫(?) �أ�ش ّدد هنا على عبارة «الرتاث النظري» لأن االهتمام بالرتاث‬
‫يف‪ :‬الثورة والرتاث‪...‬‬ ‫الأدبي بد�أ‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬بفرتة غري ق�صرية‪.‬‬
‫‪ -11‬كتب كثريون عن ابن خلدون‪ ،‬و�أجنزت حوله �أطروحات جامعية‬ ‫‪ - 2‬جرجي زيدان‪ ،‬تاريخ التمدن الإ�سالمي‪ .‬بريوت؛ دار مكتبة احلياة‪،‬‬
‫عديدة‪ :‬يف اجلامعات الغربية والعربية‪.‬‬ ‫جز�آن [د ت]‪.‬‬
‫‪ -12‬من �أبرز الدرا�سات التي �أجنزت درا�سات حم�سن مهدي‬ ‫‪ - 3‬كان �سالمة مو�سى قد بد�أ هذا التقليد‪ ،‬بعقود‪ ،‬قبل �أن تبد�أ موجته‬
‫ن�صار‪ ،‬وعلي �أومليل (بالفرن�سية)‪ ،‬وحممد‬ ‫الكربى الثانية مع زكي جنيب حممود وعبد الرحمن بدوي‪ ،‬و�آخرين‪،‬‬
‫(باالنكليزية)‪ ،‬ونا�صيف ّ‬ ‫منذ بدايات الأربعينيات‪.‬‬
‫عابد اجلابري (بالعربية)‪ ،‬وعزيز العظمة (باالنكليزية)‪.‬‬
‫كما فعل طيب تيزيني وح�سني مروة‪.‬‬ ‫عرف‪،‬‬‫َّ‬ ‫الذي‬ ‫طرابي�شي‪،‬‬ ‫جورج‬ ‫احلداثة‬ ‫مثقفي‬ ‫من‬ ‫‪� - 4‬آخر من َف َعل ذلك‬
‫‪ -13‬ي�صدق ذلك‪� ،‬إىل ح ّد كبري‪ ،‬على طيب تيزيني‪ ،‬وح�سني مروة‪،‬‬ ‫عاما‪ ،‬بالتحليل النف�سي واملارك�سية‪ ،‬قبل �أن ت�شغله ق�ضايا‬ ‫قبل �أربعني ً‬
‫وح�سن حنفي‪ ،‬وخليل عبد الكرمي‪...‬‬ ‫عاما الأخرية‪ .‬ويبدو �أنه خطا يف املو�ضوع خطوة‬ ‫الرتاث يف الع�رشين ً‬
‫‪ -14‬ذلك ما ميثله حممد عابد اجلابري‪ ،‬وما عرب عنه‪ ،‬بو�ضوح‪ ،‬يف‬ ‫علمية ملحوظة‪ ،‬متجاو ًزا املناظرة ال�سجالية‪� ،‬إىل التحليل النقدي‬
‫مقدمة كتابه‪ :‬نحن والرتاث (بريوت؛ مركز درا�سات الوحدة العربية)‪.‬‬ ‫ال�سنة ‪ ،‬بريوت‪:‬‬
‫الر�صني للن�ص الرتاثي‪� .‬أنظر له‪ :‬جورج طرابي�شي �إ�سالم َُّّ‬
‫دار ال�ساقي‪.‬‬
‫‪ - 5‬هذه‪ ،‬مث ًال حال املرحوم حممد عابد اجلابري يف ت�سليمه بفر�ضية‬
‫‪42‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫جورج �أورويل ‪:‬‬
‫�سرديات الرعب والهزمية �أمام اال�ستبداد‬
‫\‬
‫زهيـــر الذوادي‬

‫�إىل ايرنرييو �سميناتوري (‪)Me Irnerio Seminatore‬‬


‫�أطلق حممود دروي�ش‪ ،‬يوما ما‪ ،‬وهو ير�صد �سل�سلة طويلة من اخليبات التي ذاقها‬
‫العرب منذ عقود‪� ،‬س�ؤاال م�ؤملا ‪ :‬مباذا �سوف نحلم‪ ،‬حني نعود من احللم وقد علمنا‬
‫�أن مرمي مل تكن عذراء ‪ ...‬؟‬
‫عندما يتح ّول احللم �إىل كابو�س تتزعزع القناعات و�أ�س�س العقائد وت�صبح املرارة‬
‫طعما للحياة ‪ ...‬ذلك ما ح�صل �إىل جورج �أورويل (‪ )1950-1903‬يف �آخر حياته‪.‬‬
‫لكن �أورويل اختار �أن ي�ؤمل نف�سه �أكرث‪ ،‬حيث �أنه بقي وفيا ب�شكل عام �إىل القيم التي‬
‫اعتنقها يف �شبابه ودفعته �إىل جتارب مريرة وحزينة يف امل�ستعمرات (بورما) ويف‬
‫ميادين الثورات (ا�سبانيا)‪ ،‬و�إىل ن�ضاالت دون بو�صلة يف بع�ض الدول الأوروبية‬
‫ليكت�شف مثل عدد غري قليل من رفاقه و�أ�صدقائه �أن الثوار الذين ائتمنوا على‬
‫م�صري احللم وعلى اجناز �آماله حت ّولوا �إىل قتلة ماكرين الن�سانية االن�سان التي‬
‫كانت منطلق امل�رشوع التحرّري للثورة‪.‬‬

‫الدكتاتورية اذا مل تعار�ضها مقاومة فهي م�ؤهلة‬


‫لالنت�صار يف �أي مكان يف العامل‬

‫‪43‬‬ ‫\ ناقد واكادميي من تون�س‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تامة ب�أن نزع القناع الواقي عن‬ ‫بت على قناعة ّ‬ ‫وقد خل�ص جورج �أورويل (ا�سمه الأ�صلي اريك‬
‫خرافة ال�سوفييت‪� ،‬أمر �رضوري ان كنا نريد حقا‬ ‫�أرثور بلري)‪ ،‬وعلى �أ�سا�س وفائه للمعتقد الثوري‬
‫اعادة احلياة �إىل احلركة اال�شرتاكية»‪.‬‬ ‫(اال�شرتاكي املارك�سي)‪� ،‬إىل �رضورة مقاومة‬
‫املهم حتليل مدى جناح �أورويل يف‬ ‫ّ‬ ‫ولي�س من‬ ‫االنحراف ال�ستاليني �صلب التيار ال�شيوعي‬
‫امل�ساهمة يف عملية اعادة احلياة �إىل احلركة‬ ‫باعتباره جت�سيدا خليانة الثورة ح�سب التو�صيف‬
‫اال�شرتاكية‪ .‬لكن ميكن اجلزم �أنه جنح – عرب االبداع‬ ‫الرتوت�سكي الذي تعاطف معه �أورويل‪.‬‬
‫الأدبي – يف �أن ي�ؤكد �أن ال�شيوعية ال�ستالينية كانت‬ ‫وقد انفجر ذلك املوقف املقاوم �إىل ح ّد القبول‬
‫ت�شكل نقي�ضا حللم احلرية والعدل‪ .‬وهو جنح يف ذلك‬ ‫مببدا التعامل مع خ�صوم منظومة الثورة‪ ،‬عامليا‪،‬‬
‫على وجه اخل�صو�ص يف روايتي «‪ »1984‬و«مزرعة‬ ‫مبنا�سبة «الالئحة» ال�شهرية التي كتبها �أورويل‬
‫احليوانات»‪ .‬وهو قد عمق الوعي ب�أن معاداة الفا�شية‬ ‫ووجهها �إىل �صديقته (الرتوت�سكية املتعاملة مع‬
‫ال ت�ستقيم بدون مناه�ضة كل �أ�شكال اال�ستبداد (مبا‬ ‫املخابرات الربيطانية �ضد ال�شيوعيني ال�ستالنيني‬
‫يف ذلك ال�شيوعية ال�ستالينية)‪ ،‬و�أنه ال ميكن القبول‬ ‫يف بريطانيا)‪.‬‬
‫مببد�أ اخلروج من دكتاتورية للدخول يف �أخرى‬ ‫فقد اعترب �أورويل �أنه من الواجب الثوري �أن ت�سلم‬
‫مماثلة يف جوهرها وخمتلفة يف �شكلها‪.‬‬ ‫�سيليا كريوان تلك الالئحة �إىل الأجهزة الربيطانية‬
‫وقد ر�سم جورج �أورويل يف روايته‬ ‫يف رواية ‪1984‬‬ ‫مل�ساعدتها على مقاومة «ال�شيوعية»‬
‫«‪� »1984‬صورة للم�ستقبل املرعب الذي‬ ‫التحرري للب�رشية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي �أف�سدت احللم‬
‫�سوف تواجهه جماهري و�شعوب �أجنزت‬ ‫احلزب ال هدف‬ ‫كان جورج �أورويل‪ ،‬حني و�ضع‬
‫ثورة �شعبية وكانت تروم حتقيق مبادئ‬ ‫له �سوى‬ ‫«الالئحة» (‪ )1949‬يف نهاية حياته‬
‫احلرية والعدالة االجتماعية وباقي‬ ‫احلكم من‬ ‫وهو �أقبل على ذلك رغم تفاقم افرازات‬
‫احلقوق االن�سانية لتجد نف�سها قابعة‬ ‫املاكارثية الأمريكية ومناخات احلرب‬
‫حتت جربوت طغيان �أ�ش ّد مما �سبقه‪.‬‬ ‫�أجل احلكم‬ ‫الباردة معتربا �أن قتلة احللم �أخطر من‬
‫وكان �أورويل – عرب روايته ‪ ،»1984« :‬قد قطع مع‬ ‫مناه�ضيه التقليديني ومتبعا يف مبادرته مواقف‬
‫املنحى ال�رسدي النقدي ازاء ا�ستبداد الثوار وغدرهم‬ ‫�صديقه الروائي �أرتور كو�ستالر الذي �أفحم حمالت‬
‫برفاقهم القدامى الذين بقوا �أوفياء للمبادئ التي‬ ‫كل الي�ساريني الأوروبيني القدامى يف حماربتهم‬
‫انطلقت على �أ�سا�سها الثورات التي �صاغها �أرتور‬ ‫ل�ستالني عرب رواياته وكتبة مثل الكتاب الذي و�ضعه‬
‫كو�ستالر يف روايته املرعبة «ال�صفر واملطلق» �أو‬ ‫مبعية �أغنا�ستيو �سيلوين �ضد �ستالني واملو�سوم بـ‬
‫فيكتور �سارج (‪ )1947-1980‬خ�صو�صا يف روايته‬ ‫«االله الذي هوى»‪.‬‬
‫«ق�ضية طواالف» و«منت�صف الليل يف القرن»‪ .‬فقد‬ ‫مل يكن الت�شهري بال�ستالينية‪ ،‬بالن�سبة جلورج �أورويل‬
‫�صاغ �أورويل �رسده‪ ،‬مثل بانيت اي�سرتاتي يف‬ ‫عالمة جلوءا �إىل اليمني املتطرف واملت�أمرك‪ ،‬بل �أنه‬
‫رواياته احلزينة �أو �ألك�سندر �سوجلينت�سني الذي‬ ‫�سعى �إىل اعادة احلياة �إىل الأمل يف احلرية والعدل‬
‫اعتنى بر�صد جزئيات احلياة الب�رشية حتت وط�أة‬ ‫االجتماعي معتربا يف ذات احلني �أن ال�ستالينية‬
‫اال�ستبداد املطلق‪.‬‬ ‫والفا�شية الأوروبية واليمينية املاكارتية الأمريكية‬
‫وبقدر ما تتناول العملية ال�رسدية لدى �أولئك‬ ‫هي وجوه متع ّددة لظاهرة واحدة وم�ؤكدا ملا‬
‫الكتاب ر�صد مت ّدد افرازات اال�ستبداد يف خمتلف‬ ‫ذهب اليه �سنة ‪ 1947‬حني ت�أليفه لرواية «مزرعة‬
‫جوانب حياة النا�س‪ ،‬بقدر ما تر�سم رعب القهر‬ ‫احليوانات» بقوله ‪« :‬خالل ال�سنوات الع�رش الأخرية‬
‫‪44‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫وقيميا‪ .‬فال العقل وال الذاكرة ينفعان يف جتنب‬ ‫لل�رشط االن�ساين وحتطيم �أركانه يف �أ�صغر جزئياتها‪.‬‬
‫ظلمات ذلك الطريق ‪ ...‬ذلك هو العامل املرعب الذي‬ ‫فان ر�سم كو�ستلري (ال�صفر واملطلق) وفيكتور �سارح‬
‫ر�سمه جورج �أورويل مبا ي�شمله من قهر للمجتمع‬ ‫(ق�ضية طوالف) خطوط الف�صل بني م�شاهدة ت�آكل‬
‫ومن ت�شويه لالن�سان‪( .‬لقد كان العنوان الأ�صلي‬ ‫قوى الثورة وانق�سام �صفوفها بني م�ستبدين با�سم‬
‫الذي و�ضعه �أورويل لرواية ‪ 1984‬هو «االن�سان‬ ‫الثورة لأنهم ثاروا من اجل ا�ستبداد جديد �أو بديل‬
‫الأخري يف �أوروبا»)‪.‬‬ ‫وبني منا�ضلني ظنوا �أن ال�سيا�سة حقل ممار�سة‬
‫لقيم نبيلة ر ّددها الفال�سفة والنخب والب�رش وطالبوا‬
‫‪� : 1984 -1‬أورويل وانبثاق احلياة املرعبة‬ ‫بتفعيلها‪ ،‬فان فيكتور �سارج قد د�شن منحى �آخر‬
‫مل يفهم كل من روبات�شوف وطواالف ما حدث لكل‬ ‫لل�رسد الناقد ال�ستبداد الثوار يف رواية «املدينة‬
‫منهما‪ ،‬وما جرى يف بلديهما ويف �صريورة الثورة‬ ‫املقهورة» التي �صورت خ�ضوع جمهور النا�س –‬
‫التي �شارك كل منهما يف �صنعها ويف انت�صارها‬ ‫عرب تقنيات اقناع حمكمة – مل�شيئة حكام يقولون‬
‫حتى تنتهي بهما �إىل املوت‪� .‬أ�صبحت الدنيا‬ ‫تتحول‬
‫ّ‬ ‫ما ال يفعلون ويفعلون ما ال يقولون حتى‬
‫بالن�سبة لكل منهما مت�شي على ر�أ�سها وانقلبت‬ ‫احلياة حتت وط�أة نفوذهم �إىل قلق ورعب وارهاب‬
‫مقايي�سها و�أ�س�سها حتى �أن روبات�شوف‬ ‫اجرامي‪ ،‬وفو�ضى �إىل ح ّد �أن ت�ؤول �إىل‬
‫قبل اعدامه‪� ،‬أراد تالوة ن�شيد «الأممية»‬ ‫يف رواية ‪1984‬‬ ‫«ليل �رضوري» مات فيه االن�سان داخل‬
‫فبد�أه من النهاية مغيرّ ا املفردات‬ ‫«وباالخ االكرب»‬ ‫كل ان�سان ح�سب كالم فيكتور �سارج‪.‬‬
‫تارة والأحرف �ضمن املفردات مما‬ ‫قد تتغلب‬ ‫م�شى جورج �أورويل يف خطى فيكتور‬
‫جعله عاجزا على مالءمة الكلمات مع‬ ‫�سارج وجتاوزه يف ر�صده وحتليله‬
‫املو�سيقى‪ .‬كل منهما اعترب �أنه يطل على‬ ‫قوة الوهم‬ ‫لآفات القهر يف رواية «‪ »1984‬لي�ؤكد‬
‫فراغ ال معنى له‪ ،‬وال منطق فيه و�أن‬ ‫على حيوية‬ ‫�أن ع�رص موت االن�سان قد ح ّل لأن‬
‫التهم املوجهة لكل منهما ال �أ�سا�س لها‬ ‫العقل‬ ‫اال�ستبداد �أ�صبح قادرا على قتل الأمل‬
‫التم�سك‬
‫ّ‬ ‫حيث ي�ؤاخذ الواحد منهما على‬ ‫واملقاومة‪ .‬كذلك ينت�صب قانون‬
‫مببادئ م�شرتكة مع من يوجه لهما االتهام – �أي‬ ‫الكذب ك�أ�سا�س لعالقة احلاكم باملحكوم ‪ :‬يكذب‬
‫الرفاق القدامى – الذين ا�ستعملوا �ضد كل منهما‬ ‫احلاكم لأنه قوي ومتجرب وحقيقته الكاذبة هي‬
‫�أب�شع الأ�ساليب التي كان خ�صوم ن�ضال حزبيهما‬ ‫احلقيقة الوحيدة‪ ،‬ويكذب املحكوم خوفا وخوفه‬
‫قبل الثورة (ال�شيوعية) التي حافظت على �أجهزة‬ ‫هو احلقيقة الوحيدة ‪ :‬وت�صبح ال�سيا�سة مزيجا من‬
‫و�أ�ساليب و�صيغ التحقيق والتعذيب واال�ستنطاق‬ ‫الكذب واخلوف لأن اال�ستبداد (با�سم الثورة �أو �أي‬
‫واملحاكمة والرجال الذين برعوا يف ذلك ما�ضيا ‪...‬‬ ‫�شعار �آخر) ال ينتج يوميا اال مزيدا من احلاجة �إىل‬
‫فقد �أراد �أرتور كو�ستلري وفيكتور �سارج �أن ي�ؤكد �أن‬ ‫مفر‬
‫الكذب واخلوف‪ .‬ازاء جناعة اخلوف والكذب‪ ،‬ال ّ‬
‫الثورة حتولت �إىل نقي�ضها و�أن �أف�سد عنا�رص الثورة‬ ‫للم�ستبد من زيادة انتاج و�صناعة اخلوف والكذب‪،‬‬
‫ح�صدوا ثمارها ووظفوا امكانياتهم اجلديدة �ضد‬ ‫مفر للخا�ضع لال�ستبداد من الرتفيع يف ن�سبة‬ ‫وال ّ‬
‫من �صدقوا القول والفعل والن�ضال وكل من ت�شبث‬ ‫كذبه وخوفه حتى ي�سلم من جربوت الطغيان‪ .‬ينتج‬
‫بالقيم واملبادئ التي انطلقت من �أجلها الثورة‬ ‫امل�ستبد �آليات اال�ستبداد (الكذب والتخويف) فينتج‬
‫(البل�شفية) ليخل�ص – كو�ستلري (بعد وفاة �سارج) –‬ ‫اخلا�ضع لال�ستبداد �آليات التكيف مع اال�ستبداد‬
‫�إىل الر�أي القائل ب� ّأن الثورة كانت خدعة تاريخية‬ ‫(الكذب واخلوف) ‪ ...‬كذلك يف�سد االن�سان معنويا‬
‫‪45‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�ساهرة على احرتام القانون والنظام العام ‪ ...‬تلك‬ ‫وجرمية جماعية يف حق من �شارك فيها �أوال ويف‬
‫الوزارات ال�شاخمة املوزعة يف �أنحاء لندن الرمادية‬ ‫حق البالد التي ح�صلت فيها لي�صل يف النهاية �إىل‬
‫التي ال تنع�ش الروح والقلوب والتي ال تغري القاطن‬ ‫اعتبار �أن الثورة – عموما – مف�سدة للتاريخ‪.‬‬
‫فيها على التجوال �أو اال�ستمتاع ‪...‬‬ ‫�أما جورج �أورويل فهو اجته وجهة �أخرى‪ ،‬حيث �أنه‬
‫وقد جنح ون�ستون �سميث يف مغالطة �شا�شة املراقبة‬ ‫مل يتوقف �أمام خيبة الثوار النزهاء وم�صائرهم‬
‫(حلياة النا�س العامة واخلا�صة) املثبتة يف بيته‬ ‫بل و�سع �أفق ر�ؤيته ليبينّ الفرق ال�شا�سع بني احللم‬
‫ال�صغري ليجل�س يف مكان �آمن ويبد�أ يف كتابة‬ ‫املنجر با�سمه معتمدا مقاربة‬‫ّ‬ ‫الثوري والواقع‬
‫مذكراته – �رسيا – على هوام�ش �صفحات كتاب‬ ‫ا�ست�رشافية تبحث فيما ميكن �أن ت�ؤول اليه م�ستقبال‬
‫احلرة يف املدينة‪.‬‬
‫قدمي ا�شرتاه يف ال�سوق ّ‬ ‫انحرافات املنجز بالن�سبة للحلم الأ�صلي‪ .‬كذلك‬
‫دونه ون�ستون يف مذكراته التي بد�أها يوم‬ ‫و� ّأول ما ّ‬ ‫تولدت ال�صورة الواقعية – العجائبية ملجتمع‬
‫‪ 1984/4/4‬هو م�شهد انتباهه �إىل وجه الفتاة‬ ‫الثورة التي ر�سمها �أورويل يف روايته «‪»1984‬‬
‫ال�شابة جويل التي ملحها خالل ح�صة «دقيقتني‬ ‫والتي برزت �شكال وم�ضمونا كفاجعة تاريخية‬
‫تخ�ص�ص للتهجم على �أعداء‬ ‫للكراهية» اليومية التي ّ‬ ‫�رضبت الواقع والوعي‪ ،‬انها رواية ر�سمت الرعب‬
‫احلزب (انغ�سو ‪ :‬اال�شرتاكية االجنليزية ‪ )...‬وجويل‬ ‫كنمط للحياة ‪...‬‬
‫ع�ضو نا�شط يف «رابطة معاداة الن�شاط‬ ‫ال�سلطة‬ ‫بعد خروجه من العمل يف «وزارة‬
‫اجلن�سي» وهي ال بد �أن تكون جا�سو�سة‬ ‫احلقيقة» ذات م�ساء بارد ودون االهتمام‬
‫للحزب – ح�سب ون�ستون – تعمل ملراقبة‬
‫الدكتاتورية‬ ‫بالالفتة الكربى التي تغطي اجلدران يف‬
‫هذا الأخري ومراقبة �أوبراين الذي �شارك‬ ‫حتول �أعداءها‬ ‫طريقه �إىل بيته والتي كتب عليها «الأخ‬
‫يف فعاليات الدقيقتني املذكورتني رغم‬ ‫�إىل ب�شر‬ ‫الأكرب يرقبك» عاد ون�ستون �سميث بطل‬
‫اعتقاد ون�ستون �أنه ينتمي �إىل جماعة‬ ‫رواية «‪� »1984‬إىل بيته وهو يفكر كيف‬
‫«الأخوة» املناه�ضة للخط ال�سائد يف‬
‫حمطمني‬ ‫يراوغ مكر ال�شا�شة التلفزية املل�صقة‬
‫هياكل احلزب‪.‬‬ ‫باجلدار الداخلي يف ال�شقة والتي تبث دعاية احلزب‬
‫يف الف�صل الأول من الرواية و�ضع �أورويل االطار‬ ‫ب�شكل م�سرت�سل ودون انقطاع وتراقب وت�سجل كل‬
‫اجلغرايف للرواية الذي اختاره عمدا يف �أحد بلدان‬ ‫�أقوال و�أفعال ال�سكان يف بيوتهم دون �أن يتمكنوا‬
‫�أوروبا املتق ّدمة ليفهم النا�س � ّأن م�صري ‪ 1984‬ال‬ ‫من اطفائها �أو ا�سكاتها واحلال �أنها مرتبطة‬
‫ي�ستثني �أي بلد �أو جمتمع يف العامل ب�أ�رسه‪ .‬و�أ�شار‬ ‫مبا�رشة مبقرات «�رشطة التفكري» القريبة (على بعد‬
‫املكونات ال�سيا�سية واملعنوية للمناخ‬ ‫ّ‬ ‫�أورويل �إىل‬ ‫كيلومرت واحد) من مقر «وزارة احلقيقة» املزرك�ش‬
‫الذي تت�شكل من خاللها الأحداث دون مق ّدمات �أو‬ ‫بال�شعارات الأ�سا�سية الثالثة للحزب ‪« :‬احلرب هي‬
‫يدمر مقومات حلم‬ ‫تهيئة ك�أمنا التيار الذي كان ّ‬ ‫ال�سلم» و«احلرية هي العبودية» و«اجلهل هو القوة»‬
‫التغيري من �أجل احلرية والعدل وحقوق النا�س ال‬ ‫‪ ...‬وتبا�رش «وزارة احلقيقة» ن�شاطها عرب تنظيم‬
‫ميكن �أن يتوقف اال لين�سف كل جزئيات االن�سان‬ ‫الرتفيه واالعالم والرتبية والفنون اجلميلة ‪� ...‬أي‬
‫وحياته‪ .‬وي�صبح الأطفال حرا�سا ومراقبني (حل�ساب‬ ‫�أنها ت�ساهم يف �صياغة الذوق والر�أي العامني‬
‫احلزب) ل�صفاء عقيدة والديهم ال�سيا�سية ومدى‬ ‫وتهيئ عقليات اجلمهور ليتفاعل مع عمل «وزارة‬
‫التزامهم باملبادئ املعلنة ر�سميا من قبل «القيادة‬ ‫ال�سلم» التي تدير �ش�ؤون احلروب و«وزارة الوفرة»‬
‫الثورية» ‪ :‬كذلك يتج�س�س الأبناء على الوالدين‬ ‫املنكبة على ال�ش�أن االقت�صادي و«وزارة احلب»‬
‫‪46‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ان كان قد كر�س حياته و�شبابه للحزب ثم افتعال‬ ‫ويتج�س�س الوالدان على �صيغ و�أ�شكال جت�س�س الأبناء‬
‫وثائق تثبت وجوده وم�سريته الوهمية – احلقيقية‪.‬‬ ‫عليهما لينتج عن ذلك منط جديد لل�سعادة العائلية‪.‬‬
‫ويعرف ون�ستون �سميث �أنه قد يطلب منه يوما ما‬ ‫وميتزج الرعب بالواقع واحللم بالذكرى فت�ضيع‬
‫�أن ميحي الرفيق �أوجيلفي من تاريخ احلزب وتلك‬ ‫خيوط اال�ستيعاب لدى ون�ستون وباقي �أهايل لندن‬
‫مهمة معتادة وتو�سم بعملية «ثقب الذاكرة» حتى‬ ‫املتنعمني اجباريا مبزايا نظام �سيا�سي تفتقر �أ�س�سه‬
‫ويقرر‬
‫ّ‬ ‫وان كانت الذاكرة املعنية كذبة مفتعلة‪.‬‬ ‫�إىل عالقة مع كل واقع عقالين‪ .‬وبينما كان ون�ستون‬
‫ون�ستون �أال يفكر يف عمله لأن اخلطوة الثانية يف‬ ‫ي�شارك يف احل�صة الريا�ضية اليومية واالجبارية‬
‫عملية التفكري هي االنخراط يف ت�آمر �ض ّد احلزب‪.‬‬ ‫(بعد العمل) داعبت فكره ذكريات طفولته واحلرب‬
‫قمة االرتداد �أي �إىل‬
‫وي�صل هذا الوعي ال�سلبي �إىل ّ‬ ‫التي انطلقت بني بالده (�أو�سيانيا) �ض ّد بلدان �أخرى‬
‫قاع اخل�ضوع امل�ست�سلم �إىل منطق القهر يف تفاعل‬ ‫ومل تنته بعد لكنه تنبه �إىل فداحة اخلطر الذي و�ضع‬
‫ون�ستون �سميث مع �صديقه �سيم العامل يف م�صلحة‬ ‫نف�سه فيه بتلك الذكريات حيث �أنه يعرف �أن الذكرى‬
‫الأبحاث والذي كان يعمل على اعداد الن�رشة‬ ‫تقود �إىل التفكري و«جرمية التفكري ال جتلب املوت‬
‫احلادية ع�رش للغة «الر�سمية» وهي «اللغة اجلديدة»‬ ‫بل �أنها املوت بذاته ‪ »...‬ح�سب تعليمات احلزب‬
‫التي �أقرتها ال�سلطة وو�سمتها بـ«النفوالنغ»‪ .‬كان‬ ‫ال�رصيحة‪ .‬لذلك عندما �أعلمته ال�شا�شة بعد عودته‬
‫�سيم ي�ستبطن حزنا وخوفا عميقني وال‬ ‫�إىل بيته عن انفجار احلرب بني بالده‬
‫يروم االنحياز �إىل �أي مقاومة لأنه كان‬ ‫ر�سم �أوريل‬ ‫(�أو�سيانيا) و(�أورانيا) بعد �أن كانت‬
‫على يقني ان �سنة ‪� 2050‬سوف ت�شهد‬ ‫يف رواية ‪1984‬‬ ‫�أو�سيانيا (منذ �سنوات قليلة) يف حرب‬
‫انتفاء تام للغة البالد وتعوي�ضها بنوفو‬ ‫�ضد �آ�ستازيا‪ ،‬مل ي�ستنتج ون�ستون �سميث‬
‫النغ وذلك ل�سبب بديهي حيث جنحت‬
‫مالمح خيبة‬ ‫من الأمر �سوى كونه جمربا بالغد �إىل‬
‫اللغة اجلديدة يف تغييب بع�ض املفردات‬ ‫الفكر‬ ‫اعادة كتابة املقاالت القدمية واملن�شورة‬
‫والكلمات واملفاهيم العريقة وتعوي�ضها‬ ‫يف جملة «تامي» ليجعل حتاليل املا�ضي‬
‫مبفردات وكلمات ومفاهيم جديدة ق�صد ت�ضييق‬ ‫متالئمة مع الأحداث ال�سيا�سية اجلارية باعتبار �أن‬
‫حدود الفكر وتقلي�ص عدد الكلمات باملئات حتى‬ ‫الر�شيف ال ميكن �أن يكون مفيدا اال اذا كان مطابقا‬
‫ي�صبح التفكري – عرب الكلمات ودالالتها املعهودة‬ ‫للحقائق اجلديدة التي يقرها احلزب وللتوقعات‬
‫– يرتاجع ويتوجه �إىل دوائر و�آفاق �أخرى حتيط بها‬ ‫التي ير�سمها للم�ستقبل ح�سب توجيهات «الأخ‬
‫وتعرب عنها مفردات ومفاهيم جديدة‪ .‬وحتى ال يجد‬ ‫الأكرب»‪ .‬كذلك فقد ح�صل لون�ستون �أن �أعاد كتابة‬
‫كل من �سيم وون�ستون �سميث نف�سه يف م�أزق تقييم‬ ‫بع�ض املقاالت القدمية واملن�شورة منذ �سنوات‬
‫الو�ضع ال�سيا�سي يف البالد يقبالن طلب �صديقهما‬ ‫مرة حتى تكون من�سجمة‬ ‫�أكرث من اثنتي ع�رشة ّ‬
‫بار�سون (الذي �سوف يتم اعتقاله الحقا من قبل‬ ‫مع اخلطاب الراهن للحزب وقائده الأكرب‪ .‬كل ذلك‬
‫ال�رشطة ال�سيا�سية على �أ�سا�س �شهادة �أبنائه �ضده‬ ‫خدمة يف احلزب و�سعيا �إىل تقويته وتطهريه‪ .‬حيث‬
‫باعتباره مناه�ضا للنظام وللحزب) بالتربع بربع‬ ‫متحى �أحداث و�شخ�صيات من التاريخ وتخلق �أو‬
‫�أجرتيهما ال�شهرية لدعم «�أ�سبوع الكراهية» �ضد‬ ‫تفتعل �أخرى يحتاج احلزب وجودها لفرتة مثلما‬
‫التطوع لتحقيق �أهدافه‬
‫ّ‬ ‫خ�صوم النظام ومن �أجل‬ ‫وقع ذلك حني �أمر ون�ستون بافتعال وجود منا�ضل‬
‫االجتماعية واالقت�صادية‪ .‬وقد يحيلنا �سلوك كل من‬ ‫ثوري عظيم (الرفيق �أوجيلفي) يكون قد ا�ست�شهد‬
‫بار�سون و�سيم وون�ستون �إىل ممار�سات الآالف (من‬ ‫يف اجلبهة وهم مل يبلغ �سن الثالثة والع�رشين بعد‬
‫‪47‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫التي حتوم حول اجنازات «‪ ...‬الثورة ‪.»...‬‬ ‫الكوادر يف الأحزاب الثورية والوطنية يف خمتلف‬
‫ومدمر‪ ،‬لكن ال�شكوك يف‬ ‫ّ‬ ‫ان عامل ال�شكوك قا�س‬ ‫حتول ثوري �أ�س�ست‬ ‫البلدان التي عرفت جتارب ّ‬
‫كل �أوجه العامل تاريخا ون�ضاالت و�أفكار وب�رش‬ ‫نظم ا�ستبدادية‪ .‬ازاء جويل‪ ،‬كانت مواقف ون�ستون‬
‫و�أحداثا وحقائقا وكذبا �أكرث ق�ساوة و�أعمق دمارا‪.‬‬ ‫مزدوجة فهو بادر باالبتعاد عنها يف البداية لأنه‬
‫ان ما حيرّ ون�ستون هو الوقوف عند احل ّد بني ما هو‬ ‫ّ‬ ‫كان معتقدا يف كونها جا�سو�سة ل�صالح احلزب‬
‫حقيقة وما هو عك�سها‪ ،‬ليخل�ص (يف الف�صل ال�سابع‬ ‫و«لوزارة احلقيقة» حتاول االيقاع به وتوريطه‬
‫املهم لي�س يف البقاء‬
‫ّ‬ ‫من الرواية) �إىل القناعة يف �أن‬ ‫يف عمل ت�آمري لكنه يقع يف حبها رغم �أن �سجله‬
‫حيا بل يف البقاء ان�سانا ‪ ...‬رغما عن احلزب ‪...‬‬ ‫يف ذلك املجال �سلبي بعد ف�شل زواجه من كاترين‬
‫حب جنوين مع جويل التي تبوح‬ ‫يقع ون�ستون يف ّ‬ ‫وتعرثه يف عالقة جن�سية مع موم�س و�أ�صبح‬
‫له بكراهيتها الالحمدودة للحزب رغم تفانيها يف‬ ‫�شخ�صا م�سرتابا غري �صالح لنموذج العائلة التي‬
‫خدمته (يف مندوبية الروايات وبخا�صة يف م�صلحة‬ ‫يدعو اليها احلزب الذي ال يقبل بزواج ع�ضوين‬
‫البورنو�ساك �أي امل�صلحة التي تنتج ق�ص�صا‬ ‫من بني منخرطيه اال بعد درا�سة امل�س�ألة يف جلنة‬
‫عاطفية �شبه اباحية جلمهور العمال) ‪ ...‬وينخرط‬ ‫خا�صة التي ترف�ض ال�سماح بزواج الأ�شخا�ص الذي‬
‫ون�ستون وجويل يف عالقة غرامية �رسية مل يكن من‬ ‫لهم جاذبية جن�سية بع�ضهم لبع�ض‪ .‬فالزواج يف‬
‫حرة‬
‫املمكن �أن يقبل بها احلزب لأنها ّ‬ ‫�ألبريكامو‪:‬‬ ‫�أوي�سانيا‪ ،‬يهدف يف املقام الأول �إىل‬
‫ودون ا�ست�شارة م�سبقة مما دفعهما �إىل‬ ‫اجناب �أبناء يف خدمة احلزب‪ ،‬واذا قبل‬
‫االنزواء واالبتعاد عن الأن�شطة العامة‬
‫اال�ستبداد‬ ‫احلزب بطالق ون�ستون وكاترين ب�سبب‬
‫والر�سمية واكرتاء غرفة خا�صة بهما‬ ‫ال ي�صبح حلواً‬ ‫عدم االجناب فهو لن يقبل بزواجه من‬
‫لدى ال�سيد �شارينغتون ‪ ...‬بالرغم من �أن‬ ‫�إذا ما مزج‬ ‫جويل ب�سبب ن�شوء وتطور عالقاتهما‬
‫بوادر ارتفاع ن�سق القمع قد بد�أت تت�أكد‬ ‫خارج �رشعية احلزب‪.‬‬
‫وتقرتب من حلقة معارفهما‪ .‬فقد اختفى‬
‫ب�شعارات ثورية‬ ‫لكن‪ ،‬عندما يت�أمل ون�ستون �رشوط‬
‫�سيم فج�أة‪ ،‬واختفت كل احلجج التي تثبت �أنه وجد‬ ‫حياته اخلا�صة تفوق الأ�سئلة التي تطغى على فهمه‬
‫يوما ما‪ ،‬لكن �أوبراين بد أ� �سعي للتقرب من ون�ستون‬ ‫الأجوبة املمكن احل�صول عليها لذلك يجد نف�سه‬
‫وجويل وباح لهما ب�أنه مت�آمر �ضد احلزب رغم‬ ‫مائال �إىل االنزواء واحلال �أنه يعرف �أن االنزواء‬
‫انتمائه �إىل جهازه الداخلي فيلتزم ون�ستون وجويل‬ ‫ميكن �أن يقود �إىل انحراف ايديولوجي لدى �أع�ضاء‬
‫بالعمل معه للت�آمر �ضد احلزب‪.‬‬ ‫احلزب املدعويني دائما للم�شاركة يف برامج الرتفيه‬
‫لكن ت�سارع �أحداث احلرب التي تخو�ضها �أو�سيانيا‬ ‫اجلماعية املنظمة مثل تلك التي ت�شارك فيها‬
‫�ضد �أورازيا لت�صبح حربا بني �أو�سيانيا و�آ�ستازيا‬ ‫اجلماهري العمالية ال�شغوفة مبهرجانات الينا�صيب‬
‫وتنقلب �أورازيا حليفة لأو�سيانيا‪ ،‬كل ذلك �أنهك‬ ‫التي ينظمها احلزب والتي يفوز بها عدد هائل من‬
‫ون�ستون الذي اجرب على العمل ثماين ع�رشة �ساعة‬ ‫العمال الوهميون �أي الذين مل يولدوا اطالقا ‪...‬‬
‫يوميا العادة كتابة الوثائق واملقاالت والتحاليل‬ ‫ازاء ذلك يتعمق ال�شعور بالريب ويت�سع ال�شك لدى‬
‫املن�شورة يف ال�صحافة الر�سمية خالل اخلم�س‬ ‫ون�ستون يف م�صداقية كل ما يراه وكل ما ي�سمعه‬
‫�سنوات الأخرية لتثبيت فكرة ال�صداقة العريقة بني‬ ‫حتى �أنه �شك يف �صحة التحليل القائل ب�أن الثورة‬
‫�أو�سيانيا و�أورازيا و�صياغة �صورة جديدة لآ�ستازيا‬ ‫ق�ضت على الر�أ�سمالية ونتائجها �إىل درجة ال�شك يف‬
‫عدوة منذ الأزل ‪ ...‬وال يجد ون�ستون من‬ ‫كدولة ّ‬ ‫هل الر�أ�سمالية وجدت فعال �أم ال ف�ضال على ال�شكوك‬
‫‪48‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫دائم احل�ضور و�شامل العلم وفائق اجلربوت‪ .‬ومبا‬ ‫و�سيلة للرتفيه عن نف�سه من عناد العمل املنهك‬
‫�أن احلزب هو الدولة �أو �أنه �أقوى من الدولة فهو‬ ‫الذي ت�ستوجبه حمالت الدعائية التي فر�ضتها‬
‫يهيكل م�س�ألة مركز القرار يف هياكله حيث �أنه‬ ‫الظروف اجلديدة (حرب �أو�سيانيا �ضد �أ�ستازيا)‬
‫يخ�ضع‪ ،‬يف احلقيقة‪� ،‬إىل مركز النفوذ احلقيقي فيه ‪:‬‬ ‫وفعاليات «�أ�سبوع الكراهية» �ضد �أعداء احلزب‪،‬‬
‫«احلزب الداخلي» وهو مركز �رسي وغري حم ّدد الهوية‬ ‫�سوى قراءة الكتاب الذي �أعاره اياه �أوبراين والذي‬
‫والنوامي�س ‪...‬‬ ‫الأفه اميانويل غولد�شتيان زعيم املت�آمرين �ضد‬
‫ومن خالل جتربته املهنية‪ ،‬فهم ون�ستون �أن الع�ضو‬ ‫احلزب من داخل احلزب‪.‬‬
‫الفذ يف احلزب هو ذلك االن�سان القادر �أن يوقف‬ ‫يف ذلك الكتاب يجد ون�ستون �صورة للعامل ولبالده‬
‫تت�رسب اليه فكرة �سلبية �أو خطرية‬
‫ّ‬ ‫ذهنه قبل �أن‬ ‫وللحزب الذي ي�سو�سها‪ .‬تتداخل قراءة ون�ستون‬
‫على م�صلحة «الأخ الأكرب»‪ .‬وقد و�سمت «اللغة‬ ‫ل�صفحات كتاب غولد�شتاين والأفكار التي تولدت‬
‫اجلديدة» تلك امللكة بـ«توقف اجلرمية» وتلك كلمة‬ ‫عنه نتيجة للممار�سة اليومية وامللمو�سة التي‬
‫جديدة يف القامو�س مثل كلمة «�أ�سود‬ ‫كان منخرطا فيها‪ ،‬وت�رصيحاته‬
‫و�أبي�ض» وهي تعني �أن يكون منا�ضل‬ ‫جورج �أورويل‪:‬‬ ‫وا�ستنتاجاته التي ي�رشك فيها جويل‬
‫احلزب قادرا على االعتقاد يف �أي �شيء‬ ‫�أثناء اللقاء بها يف غرفته البائ�سة‬
‫ونقي�ضه‪ .‬ان التغيري الدائم واملتج ّدد‬
‫عندما يلتزم‬ ‫التي تنتهك �أدبا�شها فئران ترعبه‪ .‬وقد‬
‫لت�أويل احلقائق ومعاين التاريخ‬ ‫كاتب يف احلقل‬ ‫برع �أورويل يف ذلك املزج بني خمتلف‬
‫املا�ضي لي�س ممكنا خارج ملكة «الفكر‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬فعليه‬ ‫م�ستويات �رسده حيث �أن حدود تلك‬
‫املزدوج» الذي ي�سمح للذهن ب�أن يكون‬ ‫امل�ستويات تنتقل لتعمق ال�صورة القامتة‬
‫حمافظا على معتقدين متناق�ضني يف‬
‫القيام بذلك‬ ‫مل�آالت الثورة والفرازات اال�ستبداد‬
‫ذات احلني و�أن يقبل بهما‪.‬‬ ‫كمواطن‪� ،‬أي‬ ‫اجلديد با�سم الثورة و�أيديولوجياتها‬
‫كل ذلك التحليل املرعب الذي قر�أه‬ ‫ككائن ب�شري‬ ‫املجنونة‪.‬‬
‫ون�ستون بني دفتي الكتاب والذي علق‬ ‫تفاعل ون�ستون ايجابيا مع ما جاء يف‬
‫عليه (باملوافقة دائما ‪� )...‬إىل جويل‬
‫ولي�س ككاتب‬ ‫كتاب غولد�شتاين حول �سيا�سة احلزب‪،‬‬
‫املرافقة له �أثناء تلك القراءة‪ ،‬كل ذلك الت�رشيح‬ ‫حيث �أنه اعتقد مثلما بينه حتليل غولد�شتاين ب�أن‬
‫للواقع والذي كان – تاريخيا – مبثابة التنب ؤ� –‬ ‫منع امللكية اخلا�صة والفردية �سمح بتمركز م�صادر‬
‫كان مبثابة التعبري عما كان قد تو�صل اليه ون�ستون‬ ‫الثورة يف فئة اجتماعية عليا وقليلة العدد تنتمي‬
‫من وعي وقناعة وا�ستنتاجات �إىل درجة �أن القارئ‬ ‫�إىل احلزب وتتج ّدد دون انفتاح على الأو�ساط‬
‫للف�صل التا�سع من رواية «‪ »1984‬ال يفرق بني‬ ‫االجتماعية الأخرى عرب تربية حازمة للأطفال‬
‫تعاليق ون�ستون و�آرائه وبني تلك التي كان يكت�شفها‬ ‫بهوية من‬
‫ّ‬ ‫يهتم‬
‫ّ‬ ‫يتم اختيارهم فاحلزب ال‬‫الذين ّ‬
‫يف كتاب زعيم املعار�ضني للحزب ‪...‬‬ ‫ينتمي اليه بل مبركزية دوره وبحجم قوته وت�أثريه‬
‫قامت جويل قبل �أن ينهي ون�ستون كالمه‬ ‫على �أ�سا�س هرمية النفوذ و�شبكات الت�أطري‪ .‬ويعلم‬
‫وقبل �أن يبد أ� يف قراءة �أهم الف�صول يف كتاب‬ ‫ون�ستون �أن �أع�ضاء احلزب مراقبون من قبل «�رشطة‬
‫غولد�شتاين وهو الف�صل املتعلق بالأ�سباب التي‬ ‫التفكري» منذ والدتهم �إىل يوم وفاتهم‪ .‬واحلزب لي�س‬
‫جتعل احلزب يقاوم ب�رشا�سة حتقيق امل�ساواة بني‬ ‫جمموعة اجتماعية متناثرة بل هو �صنف اجتماعي‬
‫الب�رش التي كانت يف البدايات �أ�صل م�ضمون فل�سفته‬ ‫خا�ص وقوي ومع�صوم من اخلط�أ ميثله (الأخ الأكرب)‬
‫‪49‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫على االذالل واالخ�ضاع قهرا‪ ،‬و�أن املجتمع املثايل‬ ‫االجتماعية والتاريخية ‪...‬‬
‫لكل ذلك ال ميكن �أن يقوم اال على مبد�أ الكراهية‪.‬‬ ‫�أفاق كل من ون�سون وجويل على وقع �سقوط لوحة‬
‫فاحلزب هو �أداة لالكراه واملجتمع جمال للكراهية‪.‬‬ ‫حائطية ك�شفت �شا�شة كانت مثبتة خلفها لرتاقبهما‪،‬‬
‫ولي�س من حل ملتهم باملعار�ضة للحزب اال العودة‬ ‫قبل �أن يقع القاء القب�ض عليهما من طرف �صاحب‬
‫�إىل احلظرية عرب الدرا�سة واال�ستيعاب والقبول ‪...‬‬ ‫البيت (ال�سيد �شارينغتون) الذي مل يكن عامال م�سنا‬
‫وهي خال�صة ا�ستنتجها ون�ستون قبل �أن يك�شفها‬ ‫ومناه�ضا للحزب بل انه �شاب ع�ضو نا�شط يف‬
‫له �أوبراين لكنه يت�شبث مبوقفه احلاقد على «الأخ‬ ‫«�رشطة الأفكار»‪.‬‬
‫الأكرب» مما يقوده �إىل «القاعة ‪ »101‬وعذابها الذي‬ ‫وتبد أ� رحلة العذاب والتعذيب واال�ستنطاق بالن�سبة‬
‫ال ميكن و�صفه حتى يرت ّد وينقلب على معتقداته‬ ‫لون�ستون تذكرنا باملناخات والأ�ساليب التي‬
‫وعن جويل التي ماتت عواطفه نحوها كما ماتت‬ ‫و�صفها كو�ستلري يف رواية «ال�صفر واملطلق» و�آرتور‬
‫كراهيته «للأخ الأكرب» وللحزب ليجد نف�سه – يف‬ ‫لندن يف رواية «االعرتاف ‪ »...‬وفيكتور �سارج يف‬
‫النهاية – قد انت�رص على نف�سه – مب�ساعدة التعذيب‬ ‫عدد من رواياته املجمعة يف �سل�سلة حتت عنوان‬
‫والتنكيل – ف�أ�صبح من �أن�صار «الأخ الأكرب»‬ ‫«الثوريون»(‪.)1‬‬
‫وحمبا ملا كرهه ‪...‬‬
‫ّ‬ ‫أحب يف املا�ضي‬ ‫وكارها ملا � ّ‬ ‫مل يكن ون�ستون يعتقد �أن درجة التعذيب و�أ�شكال‬
‫وكل ذلك هل هو ي�شكل هزمية �أمام القهر واال�ستبداد‬ ‫تعر�ض اليها كانت ممكنة يف التخيل‬ ‫التنكيل التي ّ‬
‫لقوة احلياة‪� ،‬أم رغبة يف البقاء �أم اعالنا‬
‫�أم انت�صارا ّ‬ ‫ف�ضال على الواقع‪ .‬وقد زاد وجعه حينما اكت�شف �أن‬
‫ملوت االن�سان احلر ‪ ...‬؟ يت�ساءل �أورويل عن كل ذلك‬ ‫�صديقه �أوبراين لي�س من �أع�ضاء املعار�ضة للحزب‬
‫مت�أمال يف عمق الدمار الذي يحدثه رعب الهزمية‬ ‫بل �أنه �أحد امل�رشفني على القمع يف احلزب وهو‬
‫�أمام اال�ستبداد‪ ،‬ورعب ف�ساد الثورات املنقلبة على‬ ‫امل�س�ؤول الأول على مقاومة «جرائم الفكر» يف‬
‫�أهدافها الأ�صلية ‪...‬‬ ‫قيادة احلزب و�أنه من �أ�رشف على تعذيبه بالو�سائل‬
‫الكهربائية ‪ ...‬وقد �أفهم �أوبراين �ضحيته �أن الهدف‬
‫‪ -2‬قهر املجتمع ‪...‬‬ ‫من التعذيب لي�س قتله بل تدمري كل قدرة لديه على‬
‫انهزم ون�ستون وهو معتقد �أنه انت�رص على نف�سه �أو على‬ ‫املقاومة‪ ،‬لذلك اعرتف ون�ستون بعدد ال يح�صى من‬
‫ما يحيط به من معوقات‪ .‬تبدلت م�شاعر ومعتقدات‬ ‫اجلرائم الوهمية التي قبل بها احلزب ل ّأن ال فرق‬
‫ون�ستون لت�صبح على عك�س ما كانت عليه عرب رحلته‬ ‫يوجد بني اجلرمية كفعل �أو كفكرة عابرة‪ .‬واحلزب‬
‫مع القهر والقمع والتعذيب واخليبات التي مل ي�ستبطن‬ ‫ح�سب �أوبراين ال يقبل بال�شهداء بل هو يعمل على‬
‫منها �سوى �أنه كان على خط�أ مطلق منذ البداية ‪...‬‬ ‫حتويل �أعدائه �إىل ب�رش حمطمني ال ميكن لهم‬
‫فمن هو املنت�رص احلقيقي يف كل ذلك ‪« :‬الأخ الأكرب»‬ ‫العودة �إىل طريق املعار�ضة �أبدا‪ .‬وقد �أعلم �أوبراين‬
‫(احلزب احلاكم) �أم املواطن الأ�صغر (ون�ستون) ؟‪! ‬‬ ‫ون�ستون �أن جويل اعرتفت بجرائمها و�أبلغت عنه‬
‫ر�سم جورج �أورويل يف رواية «‪ »1984‬مالمح‬ ‫تفا�صيل ت�آمره على احلزب و�أنها ان�سجمت جم ّددا‬
‫التحرر االجتماعي وال�سيا�سي‬
‫ّ‬ ‫اخليبة ال�ساحقة حللم‬ ‫مع توجهاته‪ .‬وان كان �أوبراين قد ا�ستخل�ص من‬
‫والفكري ومالمح هزمية االن�سان املقاوم لال�ستبداد‬ ‫عمليات التحقيق مع ون�ستون �أن هذا الأخري حالة‬
‫يف الع�صور احلديثة‪ ،‬منتجا بذلك ر�ؤية مت�شائمة‬ ‫�صعبة ال خمرج له منها اال باعدام �صديقه العدو‬
‫التطور التاريخي‬
‫ّ‬ ‫تقر بعبثية‬
‫حول م�ستقبل الب�رش ّ‬ ‫فهو ف�رس لون�ستون �أن احلزب ال هدف له �سوى‬
‫وبقدرة االن�سان على تدمري ان�سانيته بعد �سلبه‬ ‫احلكم من �أجل احلكم‪ .‬و�أن احلكم يقوم على القدرة‬
‫‪50‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ال يختلف يف طبيعته و�أهدافه مع امل�رشوع امل�ضاد‬ ‫حريته من قبل �سلطة الدولة (خا�صة وان كانت هذه‬
‫له (اال�ستعماري والر�أ�سمايل) بل �أنه �أف�ضع لأنه‬ ‫الأخرية ترفع �شعار حتريره ‪.)...‬‬
‫يتلحف برايات الثورة والقيم‪ .‬وعلى �أ�سا�س ذلك‬ ‫توحي لنا قراءة بدايات رواية «‪� »1984‬أن �أفق‬
‫ا�ستنتج �أورويل حتمية هزمية امل�رشوع التي‬ ‫التحرر من اال�ستبداد ممكنا وتقودنا نهايتها‬ ‫ّ‬
‫عا�رصها وذهب �إىل التفكري يف ماهية الأ�سباب‬ ‫�إىل الت�سليم با�ستحالته ب�سبب «اختالل» موازين‬
‫التي �أنتجت تلك الهزمية‪.‬‬ ‫القوى بني املجتمع والدولة يف الع�صور الراهنة‪.‬‬
‫وقد بينّ جورج �أورويل �أن قهر املجتمع هو و�سيلة‬ ‫و�أورويل ينخرط يف ا�ستخال�صاته (النقدية) فيما‬
‫انت�صار اال�ستبداد عامة و�أنظمة احلكم ال�شمويل على‬ ‫ح�صل للتيار االن�سانوي يف الفكر الأوروبي منذ‬
‫وجه اخل�صو�ص‪ .‬لذلك فهو ي�شري مطوال �إىل الرعب‬ ‫اندالع احلرب العاملية الأوىل وحتى قبل ذلك‬
‫الذي ي�ستبطنه ون�ستون و�أ�صدقائه من جراء مراقبة‬ ‫ونعني منذ انطالق امل�سرية اال�ستعمارية الغربية‬
‫«الأخ الأكرب» وال�شا�شة املراقبة و�أجهزة احلزب‬ ‫(يف مراحلها املختلفة ومنذ مطلع القرن ال�ساد�س‬
‫مبختلف اخت�صا�صاتها (احلقيقة‪ ،‬الفكر‪ ،‬الكراهية‬ ‫ع�رش ‪ ،)...‬يعلم �أورويل حقيقة الثمن الذي دفعته‬
‫تخ�ص‬
‫ّ‬ ‫‪ )...‬التي تتجمع لديها كل املعلومات التي‬ ‫الب�رشية خالل مراحل ا�ستعمار �أوروبا لأمريكا‬
‫م�شاعر و�أفكار و�أفعال املناه�ضني للحزب وقياداته‪.‬‬ ‫ال�شمالية واجلنوبية والفريقيا حيث تكفينا قراءة‬
‫�أما املل�صقات التي ي�شاهدها كل �سكان «لندن» يف‬ ‫ما كتبه الق�س بارتولومي دي ال�س ك�سا�س حول‬
‫كل �شوارع و�أنهج املدينة والقائلة «الأخ الأكرب‬ ‫ذلك لنتمعن البون ال�شا�سع بني تعاليم الديانة‬
‫ينظر اليكم» ‪ ...‬فهي تثري �شعورين �أولهما احلماية‬ ‫امل�سيحية وما اقرتفه الكونك�ستادور الرافعني‬
‫وثانيهما املراقبة الدائمة‪ .‬كذلك ي�صبح املجتمع غري‬ ‫�شعارات م�ستوحاة من تعاليم الكني�سة ور�سالة‬
‫قادر على االبتعاد واال�ستقالل عن «احلاكم»‪ .‬وقد‬ ‫امل�سيح ‪ ...‬وقد عا�رص �أورويل ف�شل جهود التيار‬
‫�أورد �أورويل منوذجا لل�شعور املحبط الذي عرب عنه‬ ‫الفكري وال�سيا�سي االن�سانوي (الأوروبي) من �أجل‬
‫ون�ستون‪« :‬على القطع املالية‪ ،‬والطوابع الربيدية‪،‬‬ ‫انهاء احلرب العاملية الأوىل – ب�أقل الأ�رضار –‬
‫والكتب والالفتات‪ ،‬واملل�صقات وعلب ال�سجائر‪ ،‬يف‬ ‫ومن �أجل منع قيام احلرب الكونية الثانية بعد‬
‫كل مكان ترى تلك العينني التي تنظر اليك وت�سمع‬ ‫�أن ف�شل يف الت�ص ّدي ل�صعود الفا�شية (االيطالية)‬
‫ذلك ال�صوت الذي يلفك ‪ ...‬خالل نومك �أو غفوتك‪ ،‬يف‬ ‫والنازية (الأملانية) والع�سكرتارية (اليابانية) ويف‬
‫العمل �أو عند الأكل‪ ،‬يف الداخل �أو خارج البيت‪ ،‬يف‬ ‫انهاء النظم اال�ستعمارية الغربية (منذ اعالن مبادئ‬
‫احلمام �أو يف الفرا�ش‪� ،‬أنك ال متلك �شيئا �سوى بع�ض‬ ‫الرئي�س الأمريكي ول�سن ‪ .)1916‬و�أخريا وملا كانت‬
‫ال�سنتمرات املكعبة من خمك ‪ )4(»...‬لكن العقل وكل‬ ‫�شعارات الثورة اال�شرتاكية تب�رش ب�صباحات جديدة‬
‫الطاقة الذهنية ت�سقط يف النهاية وتعجز عن مقاومة‬ ‫للب�رشية‪ ،‬فان �أورويل مثل عدد كبري من كبار مثقفي‬
‫ال�سيل اجلارف من الدعاية ال�سيا�سية ل�صالح احلزب‬ ‫�أوروبا الذين تعاطفوا يف البداية معها‪ ،‬تبينوا من‬
‫(احلاكم وامل�سيطر ‪ )...‬لأن ايقاع التفكري ي�صبح‬ ‫ف�ساد م�ساراتها وانحرافها على احللم اجلميل‪ .‬كذلك‬
‫من�سوبا على ذلك الت�أطري املحكم والت�ضييق املربمج‬ ‫حاول جورج �أورويل �أن يج�سد قناعاته يف الدعم‬
‫ملجاالت احلرية املحتملة‪ .‬وعلى �أ�سا�س ذلك ي�صبح‬ ‫للن�ضال املناه�ض لال�ستعمار الربيطاين يف �آ�سيا‬
‫املقموع واملقهور واملهزوم (�سيا�سيا واجتماعيا‬ ‫(حيث ولد يف الهند �سنة ‪ 1902‬وبروما حيث عا�ش‬
‫واقت�صاديا) �أ�سا�سا هيكليا ال�ستمرار ن�سق اال�ستبداد‬ ‫وا�شتغل)(‪ )1‬ويف امل�شاركة يف الثورة اال�سبانية(‪،)3‬‬
‫قوة ذات قابلية‬ ‫ويتحول املجتمع من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شمويل‬ ‫لكنه خل�ص �إىل �أن امل�رشوع ال�شيوعي (ال�ستاليني)‬
‫‪51‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫االقرار بالطبيعة الربانية للحاكم (مثل الفراعنة‬ ‫ملقاومة الطغيان �إىل جمال العادة انتاجه لأنه‬
‫امل�رصيني) وبالطبيعة الدينية لواجب خ�ضوع‬ ‫وعي با�ستحالة تغيري الأ�شياء والأو�ضاع‪.‬‬
‫املجتمع مل�شيئته‪ .‬وان مل يتطرق �أورويل �إىل‬ ‫كان الف�ضاء االجتماعي حتت حكم الأنظمة‬
‫الطابع �شبه الديني مل�س�ألة خ�ضوع املجتمع للدولة‬ ‫اال�ستبدادية التقليدية جماال للمقاومة وملج أ�‬
‫امل�ستبدة وحزبها وقد اتبعه �سوجلينت�سني الحقا يف‬ ‫املقاومني‪ ،‬لكن النمط اال�ستبدادي اجلديد (والناجم‬
‫م�ؤلفه «�أرخبيل الغوالغ» يف ذات املقاربة لكنهما‬ ‫عن ثورات �أيديولوجية) يختلف يف «جوهره»‬
‫ا�شرتكا يف اال�شارة �إىل �أن فكرة «دولة القانون»‬ ‫(ح�سب عبارة الفيل�سوفة الأملانية حنة ارندت)‬
‫تتنزل يف حيز الالمفكر فيه �ضمن �رشوط اال�ستبداد‬ ‫عن الأمناط املعهودة يف التاريخ القدمي وقد يعود‬
‫ال�شمويل الذي واجهه كل منهما‪.‬‬ ‫ذلك �إىل �أن اال�ستبداد اجلديد جاء نتيجة لثورات‬
‫ال يقبل احلكم ال�شمويل تع ّدد الآراء واختالفها‪ ،‬حيث �أن‬ ‫�أيديولوجية �أ�س�ست نظرة للعامل و�سمها كارل بوبر‬
‫«الأخ الأكرب» يفكر ويقرر نيابة عن اجلميع‪ .‬وان �أ�شار‬ ‫بـ«امليتافيزيقيا التاريخانية» والتي توقف عند‬
‫مونت�سكيو ان خطر تغ ّول ال�سلطة التنفيذية على باقي‬ ‫مالحمها لدى �سل�سلة من فال�سفة ال�سيا�سة من‬
‫ال�سلطات (الت�رشيعية والق�ضائية)‪ ،‬فان الك�سي توكفيل‬ ‫�أفالطون �إىل هيغل ومارك�س‪.‬‬
‫اعتمد نظرة �أكرث انفتاحا على الواقع االجتماعي وعلى‬ ‫تخلى ون�ستون يف نهاية الرواية (‪ )1984‬عن‬
‫الذهنيات التي تنخرط يف التح ّوالت التاريخية (مبا فيها‬ ‫حترر املجتمع من قب�ضة‬‫وهمه املتعلق بامكانية ّ‬
‫التحوالت الثورية) والتي بحكم ت�أكيدها على م�ساواة‬ ‫الدولة و�أجهزتها القمعية والأيديولوجية ح�سب‬
‫كل النا�س يف احلقوق (وحتى يف الواجبات) قادرة‬ ‫عبارة �أنطونيو غرام�شي لكن خ�ضوع املجتمع‬
‫على االن�سياق يف م�سارات ا�ستبدادية تلغي االختالف‬ ‫�أمر غري ارادي بل هو خ�ضوع م�ؤقت �أو ايهام‬
‫والتناف�س‪ .‬وذلك ما ذهبت اليه حنه �أرندت بعد درا�ستها‬ ‫باخل�ضوع �أو ت�أقلم مع واقع القهر‪ ،‬و�أنظمة احلكم‬
‫للثورتني الفرن�سية والأمريكية يف م�ؤلفه الغزير «حماولة‬ ‫اال�ستبدادية – منذ القدم – تقبل بذلك الو�ضع‬
‫يف الثورة» لتخل�ص �إىل ا�ستنتاج �أن اال�ستبداد ميكن �أن‬ ‫ب�شيء من اخلبث والبالهة يف ذات احلني حيث �أنها‬
‫ينت�صب على �أر�ضية مبادئ التح ّرر االجتماعي م�ؤ�س�سة‬ ‫ال تثق بنزاهة عالمات خ�ضوع املجتمع من ناحية‬
‫بذلك ما ب ّينته �أبحاث تيدا �سكوبول من �أن نتيجة الثورات‬ ‫وتنت�شئ بانت�صارها عليه من ناحية �أخرى‪ .‬وقد‬
‫كانت دائما تقوية لبنى الدولة وهياكلها على ح�ساب‬ ‫قاد ذلك ال�شعور املزدوج �إىل نوع من االنف�صام‬
‫املجتمعات وقواها مما ميكن �أن يفتح املجال �إىل بروز‬ ‫يف اخلطاب واملمار�سة اال�ستبدادية حاول �أورويل‬
‫�أمناط جديدة من الطغيان ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫�أن يفككها يف كل �أعماله ال�رسدية (مثل روايتي‬
‫و�أفزع جورج �أورويل القراء حني �أكد � ّأن العائلة‬ ‫«‪ »1984‬و«حديقة احليوانات») وقد خلـّل جورج‬
‫تتحول �إىل امتداد لهياكل القمع واملراقبة‬ ‫ّ‬ ‫ميكن �أن‬ ‫بوردو ظاهرة االنف�صام ال�سيا�سي والقانوين للنظام‬
‫البولي�سية‪ .‬وقد جاء يف رواية ‪ 1984‬و�صف �شبه‬ ‫ال�سوفييتي معتربا �أنه ال�سمة الرئي�سية للأنظمة‬
‫تقريري (يذكرنا مبا و�صل الينا من حقائق يف‬ ‫ال�شمولية‪ ،‬لكن �أبحاث كارل فيتفوجيل حول‬
‫�أن�شطة «الت�شبيه الهيتلريية» ‪ )...‬عن دور الأطفال‬ ‫«اال�ستبداد ال�رشقي» �أكدت منذ مطلع اخلم�سينيات �أن‬
‫املعا�ضد لعمل «�رشطة الفكر» و«رابطة ال�شبان»‬ ‫القطيعة بني املجتمع (اخلا�ضع واملقهور) والدولة‬
‫ملمار�سة نوع من اجلو�س�سة على �أفكار ومواقف‬ ‫(امل�ستبدة) قد ت�صل يف بع�ض احلاالت (خا�صة يف‬
‫�أوليائهم وجريانهم وابالغ �أجهزة احلزب بذلك‪.‬‬ ‫املجتمعات املائية ح�سب عبارة فيتفوجيل) التي‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫متلك فيها الدولة جميع قوى وو�سائل االنتاج �إىل‬
‫‪52‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫فل�سطني‬
‫املفقـــــــــودة‬
‫\‬
‫حممد الأ�سعد‬

‫يف مقدمة كتابه «اختالق �إ�رسائيل قدمية ‪� ..‬إخرا�س التاريخ الفل�سطيني»‪،‬‬


‫العقبات التي واجهته‬ ‫ِ‬ ‫ي�ضع امل�ؤرخُ اال�سكتلندي «كيث وايتالم» على ر� ِأ�س‬
‫يف تعامل ِه مع وقائع منطقتنا املادية والأيديولوجية والدينية ما �أطلقَ عليه‬
‫مو�ضوعات التاريخ‬
‫ِ‬ ‫م�صطلح «اخلطاب التوراتي»(‪ .)1‬كان ت�ص ّور ُه �أن االلتفات �إىل‬
‫ترياق م�ضادٍ للتواريخ‬ ‫ٍ‬ ‫واال�ستيطان واجلغرافية الب�رشية واالقت�صاد كفي ٌل ب�إيجا ِد‬
‫املوروثات التوراتية املهيمنة على‬ ‫ِ‬ ‫املعتمدة يف الغرب لإ�رسائي َل قدمية تقوم على‬
‫الدرا�سات التوراتية منذ القرن التا�سع ع�رش ‪� ،‬إال �أن م�رشوع ًا كبرياً بهذا احلجم مل‬
‫يكن حمكوم ًا بالف�شل فقط لأن ال�سيطرة على مادةٍ ذات مدى وا�سع مثل هذا تتجاوز‬
‫قدرات فردٍ واحد ‪ ،‬بل لأنه واج َه م�شكلة �أعمقَ هي �أن م�رشوع ًا مثل هذا عليه‬ ‫ِ‬
‫مواجهة عقبة كبرية ويتغلب عليها ‪ ،‬تلك هي «خطاب الدرا�سات التوراتية» الذي‬
‫هو جز ٌء من �شبك ِة عملٍ بحثي معقدة ح ّدد �إدوارد �سعيد هويتها بو�صفها «خطاب ًا‬
‫الواقع‬
‫َ‬ ‫ا�ست�رشاقي ًا»(‪� .)2‬أي ذلك اخلطاب الذي ال يخلق معرف ًة فقط ‪ ،‬بل يخلق �أي�ض ًا‬
‫الواقع املختلق تراث ًا‬
‫ُ‬ ‫الذي قام لي�صفه ‪ ،‬ومبرور الزمن تخلق هذه املعرف ُة وهذا‬
‫يتحكم يف �أي باحثٍ يقتحم جماله‪.‬‬

‫هو�س الهوتي توراتي تقاط َع مع م�شروع‬


‫تركيب من ٍ‬
‫ا�ستعماري غربي طم�س ما�ضي فل�سطني وحا�ضرها‬

‫‪53‬‬ ‫\ �شاعر وروائي من فل�سطني‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بارزاً ‪� ،‬أعني الأمريكي «وليم فوك�س �آلربايت»‪ ،‬فيكتب‬ ‫توراتي‬
‫ٌّ‬ ‫اخلطاب املتع ّدد الوجوه ُولد �رشقٌ‬ ‫ِ‬ ‫يف هذا‬
‫وهو يدخل القد�س يف العام ‪ ، 1919‬بعد االحتالل‬ ‫الن�ص الالهوتي (التوراة) مب�ضامين ِه‬ ‫منطلقه هيمنة ّ‬
‫الربيطاين‪:‬‬ ‫الثقافية وال�سيا�سية ‪ ،‬ال وقائع اجلغرافية الطبيعية‬
‫«�إن الأر�ض التي انفتحت �أمام عيني هي ذاتها الأر�ض‬ ‫آثار وامل�صادر التاريخية‬ ‫والب�رشية التي تدل عليها ال ُ‬
‫التي �شاهدها الآباء العربيون» (‪.)7‬‬ ‫املوثوقة ‪� ،‬رشقٌ تظ ّل فيه فل�سطني �أر�ض ًا خالية طيلة‬
‫بل ويو�سع من مدى هذا الوهم الالهوتي ‪ ،‬فيغطي‬ ‫�أكرث من �ألفي عام يف انتظار عودة «اليهود» �إليها (‪.)3‬‬
‫جغرافية �شا�سعة وزمنا �أكرث ات�ساع ًا ‪ ،‬في�صبح علم‬ ‫وتقدم يوميات الوافدين الغربيني على فل�سطني ‪،‬‬
‫�آثاره �شامال ملا ي�سميه « كل الأرا�ضي التوراتية‬ ‫آثار ور�سامني وع�سكريني ‪� ..‬إلخ‬ ‫�شعرا َء وحكام ًا وعلما َء � ٍ‬
‫املمتدة من الهند �إىل �إ�سبانيا ‪ ،‬ومن جنوب رو�سيا �إىل‬ ‫الن�صي وت�شري �إىل قب�ض ِة‬ ‫‪� ،‬صورة عن بوادر هذا النهج ّ‬
‫جنوبي اجلزيرة العربية ‪ ،‬وي�ضم زمنيا تاريخ هذه‬ ‫الغربي الذي ال ي�ستطيع‬ ‫ِّ‬ ‫العقل‬
‫ِ‬ ‫الالهوت املحكمة على‬
‫الأرا�ضي كلها منذ ع�رشة �آالف عام قبل امليالد ‪ ،‬بل‬ ‫مقابلة فل�سطني إ� ّال عرب �شبك ٍة من الق�ص�ص التوراتي‬
‫و�أقدم من ذلك ‪ ،‬و�صوال �إىل الزمن الراهن» (‪. )8‬‬ ‫‪ ،‬بل ومي�ضي يف �سبيل ت�أكيد معتقداته الالهوتية �إىل‬
‫ولكن هذه القب�ضة الالهوتية املحكمة على تاريخ‬ ‫آثار �آخر يدعى «علم الآثار التوراتي «‬ ‫علم � ٍ‬‫اخرتاع ِ‬
‫فل�سطني يف املا�ضي واحلا�رض ‪ ،‬بكل ما رافقها وتالها‬ ‫حتكمه ر�ؤيا م�سبقة وغاية ي�سعى �إليها ‪ ،‬وال تغيرّ ر�ؤياه‬
‫من حفريات عن الآثار وحتويل ق�ص�ص عن املا�ضي‬ ‫وغايته �أية مكت�شفات �أثرية �أو مناهج علمية حديثة ‪،‬‬
‫�إىل «�أحداث تاريخية وقعت يف املا�ضي»‪ ،‬مل تكن جمرد‬ ‫ر�ؤيا م�سبقة تتخيل وجو َد جوه ٍر ثابتٍ يف هذه الأر�ض‬
‫جزء من اخلطاب الإ�ست�رشاقي الذي و�صفه �إدوارد‬ ‫‪ ،‬وغاية م�سبقة �أي�ض ًا تقوم على �إعادة هذا اجلوهر‬
‫�سعيد ‪ ،‬بل ومل تكن تعبرياً عاديا عن «اال�ست�رشاق»‬ ‫املفقود وحمو كل وجود يناق�ض الر�ؤيا اخليالية ‪،‬‬
‫بل �أ�ضفت «طابع ًا رومان�سي ًا على جانب من جوانب‬ ‫�سواء كان �سكان ًا او مدن ًا �أو مالمح طبوغرافية (‪.)4‬‬
‫املعتقد الديني الغربي ‪ ،‬ليحل حمل ال�رشق «الو�ضيع»‬ ‫يكتب ال�شاعر الفرن�سي «�ألفون�س دي المارتني» يف‬
‫و«الغريب»‪.‬‬ ‫كتاب «رحلة �إىل ال�رشق « هذه ال�سطور ‪:‬‬
‫يالحظ الباحث الأمريكي «لورن�س ديفيد�سن» �إن‬ ‫ع�شت يف القد�س ‪� ،‬أنا ال�شاعر املتوا�ضع الذي‬ ‫ُ‬ ‫«لو‬
‫م�رسح علم الآثار الذي �أقامه علماء �آثار �أطلقوا على‬ ‫الخرتت مكان �إقامتي‬ ‫ُ‬ ‫زمن منحط و�صامت ‪،‬‬ ‫ُوجد يف ٍ‬
‫�أنف�سهم ا�سم «علماء �آثار التوراة»‪ ،‬و�صحافة كانت‬ ‫اختار فيه «داود»‬ ‫َ‬ ‫ومتكئي احلجري يف املكان الذي‬
‫م�صدر القارئ الغربي عن كل ما يعرفه عن فل�سطني‬ ‫مكانه ومتك�أه يف «�صهيون»‪� .‬إنه �أجمل م�شهد يف‬
‫منذ احتلها الربيطانيون بالقوة الع�سكرية يف العام‬ ‫اليهودية وفل�سطني واجلليل ‪ ،‬فعلى الي�سار هنا القد�س‬
‫‪ 1917‬بهدف �إقامة م�ستعمرة على طريق من طرق‬ ‫بهيكلها و�رصوحها التي كان مب�ستطاع امللك �أن ينظر‬
‫تو�سعهم الإمرباطوري ‪� ،‬إن هذا امل�رسح ‪:‬‬ ‫�إليها ملي ًا دون �أن ُيرى»(‪.)5‬‬
‫«ا�ستبدل قدمي ًا يهوديا‪/‬م�سيحيا ُرفع �إىل م�ستوى‬ ‫ويكتب الأمري النم�ساوي «ردولف» الذي زار فل�سطني‬
‫املثال ح�سب طلب اال�ستهالك الغربي بجز ٍء من ما�ضي‬ ‫يف �سبعينات القرن التا�سع ع�رش ‪:‬‬
‫ال�رشق ‪� ،‬أي فل�سطني‪ .‬وبهذا املعنى كان هذا خطوة‬ ‫«اخلطوة الأوىل على تربة الأرا�ضي املقد�سة ُتذكّ ر‪ ،‬يف‬
‫تتجاوز «اال�ست�رشاق» بالقدر نف�سه الذي متثل فيه‬ ‫بذكريات احلكم املن�ضبط للمملكة اليهودية‬ ‫ِ‬ ‫املدن‪،‬‬
‫�صورة الأر�ض املقد�سة الالهوتية جتاوزاً ل�صورتها‬ ‫وحكمة امللك �سليمان ‪ ..‬كما ُتذكّ ر بال�صور الريفية التي‬
‫الواقعية ؛ �إن الأمر مبجمله حمو «الآخر» ال�رشقي‪.‬‬ ‫ترفرف حولنا ونحن‬ ‫ُ‬ ‫متر �أمام عني العقل ‪ ،‬والتي كانت‬
‫وي�شري هذا الذهاب �إىل مابعد‪ -‬الإ�ست�رشاق يف تركيزه‬ ‫نقر�أ الكتاب املقد�س يف طفولتنا» ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫على فل�سطني �إىل �أن الغرب نظر �إىل هذه املنطقة‬ ‫ويكرر الر�ؤيا نف�سها من كان ُينظر �إليه يف الن�صف‬
‫كم�ستعمرة طبيعية له على خالف م�رص الربيطانية‬ ‫الأول من القرن الع�رشين بو�صفه عا َمل �آثار وم�ؤرخ ًا‬
‫‪54‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫لتوفري �سند �أخالقي للغزوات اال�ستعمارية يف �أفريقيا‬ ‫و�سوريا الفرن�سية؛ لقد كانت فل�سطني يف نظره جزءا‬
‫و�آ�سيا و�أ�سرتاليا والأمريكيتني»(‪.)12‬‬ ‫من وقف �أعطاه اهلل للغرب ومتت �إعادة اال�ستيالء‬
‫ومن الأمثلة الدالة التي يذكرها ‪ ،‬ا�ستخدام �سفر يو�شع‬ ‫عليه»(‪.)9‬‬
‫التوراتي لتربير اال�ستعمار الربيطاين اليرلندا ‪ ،‬حيث‬ ‫وي�ضيف هذا الباحث ‪:‬‬
‫ماثل الربوت�ستانت الإجنليز االيرلنديني الكاثوليك‬ ‫«بينما كان ال�صهاينة يعملون مادي ًا على حتويل‬
‫بالوثنيني الكنعانيني‪ .‬وخالل القرنني ال�سابع ع�رش‬ ‫فل�سطني �إىل ما �سماه الربيطانيون «وطنا قوميا‬
‫والثامن ع�رش د�أب وعاظ الإجنليز يف م�ستعمرات العامل‬ ‫يهودياً»‪ ،‬كان عمل علماء الآثار كما غطته و�سائط‬
‫اجلديد على مماثلة �سكان �أمريكا الأ�صليني بالعماليق‬ ‫الإعالم الأمريكية‪ ،‬ونيويورك تاميز بخا�صة ‪،‬‬
‫والكنعانيني والفل�ستيني الذين يجب �أن يتحولوا �إىل‬ ‫ي�ساهم نف�سي ًا يف حتويل الأر�ض املقد�سة �إىل �أر�ض‬
‫امل�سيحية ‪� ،‬أو يجب �إبادتهم �إن رف�ضوا (‪.)13‬‬ ‫يهودية»(‪.)10‬‬
‫وي�ؤكد هذا الرتابط بني الالهوت التوراتي واحلركة‬ ‫وقبل احتالل فل�سطني‪ ،‬ومنذ اللحظة الأوىل التي ن� أش�‬
‫اال�ستعمارية ‪ ،‬ومنوذجه قائم الآن يف فل�سطني ‪ ،‬على‬ ‫فيها «�صندوق ا�ستك�شاف فل�سطني» الربيطاين يف‬
‫اجلوهر اال�ستعماري للأن�شطة املتنوعة التي كان‬ ‫العام ‪ ،1865‬و�سط حما�س جماهريي كبري ورعاية‬
‫مو�ضوعها فل�سطني ؛ التنقيبات الأثرية ‪ ،‬واختالق‬ ‫ملكية ‪ ،‬افتتح �أ�سقف يورك �أول اجتماع ت�أ�سي�سي‬
‫ا�رسائيل قدمية تكون �سندا الحتالل‬ ‫فل�سطني يف نظر‬ ‫لل�صندوق بهذه الكلمات ‪:‬‬
‫الأر�ض بالقوة وا�صطناع �إ�رسائيل حديثة‬ ‫«هذا البلد فل�سطني ينتمي لكم ويل‪� .‬إنه‬
‫‪ ،‬وطم�س ما�ضي فل�سطني وحا�رضها يف‬ ‫الغرب جزء من‬ ‫لنا من حيث اجلوهر ‪ ،‬وقد ُمنح لأب‬
‫وقت واحد مع ًا وحموها من ذاكرة ثقافات‬ ‫وقف �أعطاه اهلل‬ ‫�إ�رسائيل بهذه الكلمات «�إم�ش يف الأر�ض‬
‫ال�شعوب الغربية وال�رشقية على حد �سواء‪.‬‬ ‫طوال وعر�ض ًا لأنني �س�أعطيها لك»‪ ،‬وما‬
‫اخلطاب‬
‫ُ‬ ‫ولكن �إذا كان مفهوم ًا �أن ي�سيطر‬ ‫لهم ومتت‬ ‫نريده نحن هو �أن ن�سري يف فل�سطني طوال‬
‫جماالت البحث والإعالم‬ ‫ِ‬ ‫التوراتي على‬ ‫�إعادة اال�ستيالء‬ ‫وعر�ض ًا لأن هذه الأر�ض �أعطيت لنا ‪� ..‬إنها‬
‫والرتبية يف الغرب ‪ ،‬و�إذا كان مفهوم ًا‬ ‫الأر�ض التي علينا �أن ننظر �إليها نظرة‬
‫ال�سبب الذي يجعل الغربي ب�سبب تربيته‬
‫عليه‬ ‫وطنية �صادقة مثلما ننظر �إىل هذه اجنلرتا‬
‫الالهوتية امل�ضلِّلة يرى يف فل�سطني �أر�ض ًا خالية‬ ‫القدمية العزيزة التي نحبها حب ًا جماً»(‪.)11‬‬
‫تنتظر «�شعباً» يعود �إليها ‪ ،‬فمن غري املفهوم �أن جند‬ ‫[[[‬
‫هذا اخلطاب يب�سط هيمنته على العقلية العربية يف‬ ‫هو�س الهوتي توراتي تقاط َع‬
‫كل هذا الرتكيب من ٍ‬
‫عدة جماالت ‪ ،‬وبخا�صة يف جمال التاريخ والتعاليم‬ ‫م�رشوع ا�ستعماري غربي ‪ ،‬يكاد يكون �سمة عامة‬
‫ٍ‬ ‫مع‬
‫الدينية ‪ ،‬وو�سائط الإعالم وكتب الباحثني‪ .‬فكثريا ما‬ ‫�سمات حركة اال�ستيطان اال�ستعماري يف عدد‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ن�صادف الق�ص�ص التوراتية تدور على �أل�سنة خطباء‬ ‫من مناطق العامل ومل يكن خا�صا بفل�سطني وحدها‪.‬‬
‫م�ساجد م�سلمني يفتقرون �إىل �أب�سط املعارف الأل�سنية‬ ‫ويلخ�ص الباحث الفل�سطيني نور الدين م�صاحلة هذه‬
‫والتاريخية واالجتماعية ‪ ،‬بل وعلم الأديان املقارن‬ ‫ال�سمة اجلامعة بالقول ‪:‬‬
‫‪ ،‬وجندها تتغلغل يف و�سائط �إعالم ف�ضائية وا�سعة‬ ‫«�إن كل منظومة م�رشوعات اال�ستيطان اال�ستعماري‬
‫االنت�شار جتهل حتى الآن �أن كل ما حفل به الن�صف‬ ‫الغربي يف الأزمنة احلديثة ا�ستخدمت روايات التوراة‬
‫الأول من القرن الع�رشين من تزوير للوقائع التاريخية‬ ‫الكربى‪ .‬وا�ستعمل �سفر اخلروج ‪ ،‬الأول والثاين الأكرث‬
‫وتف�سري الهوتي لآثار املنطقة العربية ‪ ،‬وفل�سطني‬ ‫�أهمية بني كتب التوراة العربية ‪ ،‬على نطاق وا�سع‬
‫أبحاث عدد كبري‬
‫بالذات ‪ ،‬قد ثبت بطالنه وزيفه يف � ِ‬ ‫كرواية‪�/‬إطار لال�ستعمار الغربي ور�سالته «التمدينية»‬
‫من العلماء والباحثني الغربيني والعرب‪.‬‬ ‫املزعومة ‪ ،‬بينما ا�ستخدمت ن�صو�ص توراتية �أخرى‬
‫‪55‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الظاهرة لي�ست جديدة ‪ ،‬بل رافقت البحث الأثري‬ ‫بل واملفارقة العجيبة �أن يخ�ضع املرتجمون العرب‬
‫والتاريخي يف �أر�ضنا منذ بدايات التنقيب يف الأر�ض‬ ‫لقوالب الذهنية الغربية الالهوتية ‪ ،‬فما �أن يرد ا�سم‬
‫يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�رش‪ .‬لن نح�رص‬ ‫مدينة توراتية مثل «جريي�شو» يف الكتابات الغربية‬
‫كل وقائع التلفيق والتزوير هنا ‪ ،‬وهي عديدة ‪ ،‬بل‬ ‫‪ ،‬وال�صهيونية منها بخا�صة ‪ ،‬حتى ي�سارع املرتجم‬
‫�سنكتفي بوقائع �شهرية ودالة‪.‬‬ ‫فيرتجمها �إىل «�أريحا»‪ ،‬وتزداد �رسعته حني يرد ا�سم‬
‫�أول واقعة مثرية كانت تلفيق وجود ح�ضارة تدعى‬ ‫«�أور�شليم» فيرتجمه �إىل القد�س‪ .‬ومل تفلت من هذا حتى‬
‫«ح�ضارة م�ؤاب» لتن�سجم مع ما يعتقد توراتيون �أنه‬ ‫«املو�سوعة الفل�سطينية» ب�أجزائها الأربعة التي �أ�ضافت‬
‫ي�ؤكد تاريخية ق�ص�صهم‪ .‬بد أ� هذه الواقعة تاجر عاديات‬ ‫�إىل اجلغرافية الفل�سطينية مدن ًا ومواقع ال وجود لها‬
‫بولندي يدعى «مو�س�س �شابريا» �أقام يف القد�س دكانا‬ ‫�إال يف التوراة ‪ ،‬وال دليل �أثري على وجودها على‬
‫يف العام ‪ 1862‬لبيع العاديات الأثرية لل�سائحني‪.‬‬ ‫الأر�ض الفل�سطينية(‪ .)14‬ومن يت�صفح هذه املو�سوعة‬
‫وقي�ض لهذا امللفق �أن تكون له �صلة باملفاو�ضات التي‬ ‫التي ن�رشت يف العام ‪ ، 1984‬ي�شعر �أنها بحاجة �إىل‬
‫دارت للح�صول على حج ٍر �أُكت�شف �آنذاك يف �أرا�ضي‬ ‫مراجعة جذرية يف �ضوء الأبحاث النقدية اجلادة التي‬
‫�رشق الأردن ‪� ،‬شمال الكرك حتديداً ‪ ،‬بني الفرن�سيني‬ ‫حررت اجلغرافية الفل�سطينية والتاريخ الفل�سطيني من‬
‫والأملان والربيطانيني والقبائل املحلية التي اكت�شف‬ ‫قب�ضة اخلطاب التوراتي وق�ص�صه التي عاملها وا�ضعو‬
‫احلجر الذي ُعرف يف الأدبيات‬ ‫ُ‬ ‫احلجر يف �أرا�ضيها‪ .‬هذا‬ ‫املو�سوعة معاملة الوقائع التاريخية‪.‬‬
‫الغربية با�سم «حجر م�ؤاب» كان يحمل نق�ش ًا بالكتابة‬ ‫�صحيح �أن امل�رسح الذي �أقامه �أ�صحاب اخلطاب‬
‫الكنعانية يروي فيه ملكُ قرية يدعى «مي�شع» �أخبار‬ ‫التوراتي ‪ ،‬وح�شدوا على خ�شبته كل ما �أمكنهم من‬
‫حروبه مع ملك قرية �أخرى يدعى «عومري»‪ ،‬ولأن ا�سم‬ ‫�صور متثيلية لفل�سطني ‪ ،‬قد متكن من العقلية الغربية ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫هذا الأخري وارد يف التوراة �أُعترب الن�ص املكتوب ن�ص ًا‬ ‫وجنح يف مد الهجمات الع�سكرية بر�أي عام وا�سع يقف‬
‫تاريخي ًا ي�ؤكد ق�صة من ق�ص�ص التوراة‪ .‬ولكن قراءة‬ ‫وراءها ‪� ،‬إال �أن هذا امل�رسح بد�أ يتهاوى منذ �سبعينات‬
‫قام بها د‪ .‬كمال ال�صليبي ومن بعده توما�س توم�سن‪،‬‬ ‫القرن املا�ضي ‪ ،‬وبد أ� باحثون متميزون يك�شفون �أبعاد‬
‫�أظهرت �أن ال �صلة لهذا احلجر بفل�سطني التاريخية‪.‬‬ ‫ت�ضليل وتزييف وا�سعة يف جمال التاريخ والآثار حلقت‬
‫من جانبه ك�شف الأول عن �أن هناك �إ�ساءة ترجمة‬ ‫بفل�سطني والبلدان العربية عامة‪� .‬أبرز العاملني يف هذا‬
‫للنق�ش من الكنعانية �إىل العربية ‪ ،‬حولت ا�سم قرية‬ ‫املجال هو الباحث الأمريكي «توما�س توم�سن» الذي‬
‫«�أم الياب» �إىل مرتفعات «م�ؤاب»‪ ،‬و�أن �أ�سماء القرى‬ ‫تو�صل ‪ ،‬هو وجمموعة من الباحثني الآخرين ‪ ،‬ومن‬
‫الواردة يف النق�ش ميكن العثور عليها يف مرتفعات‬ ‫مواقع علمية خمتلفة ‪� ،‬إىل «انهيار النظرة القائلة‬
‫الطائف احلجازية(‪ .)18‬اما الثاين فقد م�ضى �إىل ما هو‬ ‫ب�أن التوراة وثيقة تاريخية»‪ .‬و�أن «ق�ضية البحث عن‬
‫�أبعد ‪ ،‬فقد قر�أ يف النق�ش ن�ص ًا يرجع �إىل تراث الق�ص‬ ‫الأ�صول التي هيمنت على البحث املعا�رص يف التوراة‬
‫الأدبي النمطي عند ملوك املا�ضي ‪ ،‬ومتجيدا لهم بكل‬ ‫�إمنا تنتمي �إىل الالهوت ال �إىل التاريخ»(‪.)15‬‬
‫ومعتقدات �أ�سطورية ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ما يحفل به هذا الرتاث من �أخيل ٍة‬ ‫من املفيد هنا االلتفات �إىل ظاهرة رافقت اختالق‬
‫ومل ير للحجر قيمة كم�صدر تاريخي لدرا�سة من �أطلقوا‬ ‫�إ�رسائي َل قدمية و�إخرا�س التاريخ الفل�سطيني ‪ ،‬و»‬
‫عليهم ت�سمية «امل�ؤابيني» و«الإ�رسائيليني»(‪.)19‬‬ ‫�إن�شاء الق�سم الأكرب من تاريخ فل�سطني القدمي ب�إقحام‬
‫يف �ضوء الإ�شاعات الأوىل عن احلجر والقراءة اخلاطئة‬ ‫(‪)16‬‬
‫الق�ص�ص التوراتي « على حد تعبري توما�س توم�سن‬
‫للنق�ش املكتوب عليه‪ ،‬بد�أ �شابريا وم�ساعد له خزاف‬ ‫ثم «تهاوي هذه الرتكيبة امل�صطنعة كبيتٍ من ورق»‬
‫يدعى «�سامل القاري» ‪ ،‬باختالق عدد كبري من التماثيل‬ ‫كما ي�ضيف توم�سن �أي�ضا (‪)17‬؛ تلك هي ظاهرة تلفيق‬
‫كتابات م�ستن�سخة‬
‫ٍ‬ ‫الطينية والأوعية والقطع نق�شا عليها‬ ‫وتزوير الآثار واللجوء �إىل �أي و�سيلة لتعزيز ال�رسديات‬
‫من نقو�ش ذلك احلجر والزعم ب�أنها �آثار ح�ضارة تدعى‬ ‫الالهوتية وحتويلها من ثم �إىل وقائع تاريخية‪ .‬هذه‬
‫‪56‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫� َإرم ّية تقول «يعقوب بن يو�سف �شقيق ال�سيد امل�سيح»‬ ‫«ح�ضارة م�ؤاب»‪ .‬وقام هذا بحمالت يدفن خاللها هو‬
‫وعن زيف نق�ش من يدعى «يهو�آ�ش» الذي قيل انه‬ ‫وم�ساعده ما اختلقاه من عاديات لي�صار �إىل احلفر‬
‫يحكي ق�صة �إ�صالحات يف املعبد يف �أور�شليم‪.‬‬ ‫والك�شف عنها يف ما بعد‪ .‬واقتنت عدة متاحف مثل‬
‫�أطلقت ال�صحافة على املحاكمة التي جرت يف العام‬ ‫وطرح عدد‬‫َ‬ ‫متحف برلني �آالف ًا من هذه القطع امللفقة ‪،‬‬
‫‪ 2005‬لهذه احللقة املكونة من خم�سة �أفراد ‪� ،‬أربعة‬ ‫نظريات عن هذه احل�ضارة‪ .‬ولكن حتري ًا‬ ‫ٍ‬ ‫من «العلماء»‬
‫منهم جتار عاديات �أثرية ‪ ،‬واثنان هما ‪« ،‬غوالن»‬ ‫قام به عد ٌد من الباحثني ‪ ،‬ومنهم الفرن�سي «كلريمون»‬
‫�صاحب خمترب يجري فيه تلفيق الآثار يف تل �أبيب‪،‬‬ ‫�أو�صلتهم �إىل م�صد ِر التلفيق بل و�إىل املكان الذي كان‬
‫و�آخر كان ي�شغل من�صب رئي�س خمترب العاديات يف‬ ‫امللفقان يجلبان منه الطني ل�صناعة هذه التماثيل‬
‫متحف �إ�رسائيل‪ .‬على �أن الالفت للنظر هو م�شاركة‬ ‫والأوعية‪ .‬و�أقر �شابريا بعد ممانعة بالتلفيق �إال �أنه زعم‬
‫�أ�ساتذة من �أمثال الفرن�سي قارئ النقو�ش ال�سامية‬ ‫�أن �سامل القاري اخلزاف هو الذي كان يخدعه (‪.)20‬‬
‫«�أندريه لومييه»‪ ،‬ودوريات بحثية و�صحف بارزة يف‬ ‫امللفق االخر الذي مار�س تلفيقا �رصيحا كان عامل‬
‫تلقف ما كانت تلفقه هذه احللقة ‪ ،‬والرتويج له على‬ ‫الآثار وامل�ؤرخ وامل�ست�رشق وليم فوك�س �آلربايت‪ .‬وبني‬
‫�أنه « �آثار �أ�صيلة ال يتطرق �إىل �أ�صالتها ال�شك»‪ ،‬وخلق‬ ‫ما قام به ‪� ،‬إ�ضافة كلمات على نق�ش مكت�شف يف تل‬
‫دائرة جماهريية وا�سعة تهلل لهذه الآثار امللفقة ‪ ،‬ثم‬ ‫الدوير القريب من قرية فل�سطينية تدعى «�أم القي�س»‬
‫ي�أتي بعد ذلك دور الف�ضائيات مثل ال�سي‪.‬‬ ‫املفارقة العجيبة �أن‬ ‫ُنقل ا�سمه مع حتوير ا�سم القرية‪ ،‬حني‬
‫�أن‪�.‬أن‪ ،‬و�إن‪.‬بي‪�.‬سي‪ ،‬و �سي‪.‬بي‪�.‬أ�س وغريها‬ ‫يقر�أ باحلروف الالتينية «�أم لك�س»‪� ،‬إىل‬
‫يف تقدمي تقارير مثرية(‪.)22‬‬ ‫يخ�ضع املرتجمون‬ ‫«الخي�ش « التوراتية‪ .‬ما فعله �آلربايت �أنه‬
‫�أمثال هذه الق�ص�ص ‪ ،‬ومنها هذه الأخرية‬ ‫العرب لقوالب‬ ‫تناول نق�ش ًا ُطم�ست بع�ض كلماته مكت�شفا‬
‫‪ ،‬تبد�أ عادة ب�إطالق �أبواق االنت�صار‬ ‫يف هذا التل باللغة الكنعانية يقول «‬
‫الروحي ثم تنتهي كمهزلة ‪� ،‬ش�أنها يف‬ ‫الذهنية‬ ‫موالي‪� ...‬أن ال تكتب ‪ ..‬فعلت هكذا ‪� ..‬سلم»‪،‬‬
‫ذلك كل تلفيقات اخلطاب التوراتي التي‬ ‫الغربية‬ ‫و�أ�ضاف �إليه وحوره لي�صبح «والآن يا‬
‫ت�ساقطت واحدة بعد �أخرى طيلة ال�سنوات‬ ‫الالهوتية‬ ‫موالي هل لك ان تكتب لهم قائال ملاذا‬
‫املا�ضية‪.‬‬ ‫فعلتم هكذا ب�أور�شليم ؟»‪ ،‬ون�رش ما لفقه يف‬
‫وال يتوقف الأمر عند تلفيق وتزوير �آثار ت�سعى �إىل �إثبات‬ ‫العام ‪ 1941‬حتت عنوان «ر�سائل الخي�ش بعد خم�س‬
‫تاريخية ق�ص�ص الهوتية ‪ ،‬وال عند ن�سبة كل ما يخرج‬ ‫�سنوات»(‪.)21‬‬
‫من الأر�ض الفل�سطينية �إىل «�إ�رسائيل قدمية» مفرت�ضة‪،‬‬ ‫على �أن �أكرث ف�ضائح التلفيق التوراتي دوي ًا حدث‬
‫بل ميتد �إىل توظيف الق�ص�ص اخليايل واملكت�شفات‬ ‫منذ وقت قريب ‪ ،‬وتناقلت ال�صحافة الغربية جمرياته‬
‫العلمية على حد �سواء‪ .‬ففي �ستينيات و�سبعينات القرن‬ ‫بتو�سع‪ .‬بد أ� رفع ال�ستار عن هذا امل�رسح ب�إعالن �صدر‬
‫وروايات ا�ستثمرت‬
‫ٌ‬ ‫ق�ص�ص خيايل‬
‫ٌ‬ ‫الع�رشين انت�رش‬ ‫عن ما يدعى متحف �إ�رسائيل ب�أن «الرمانة العاجية»‬
‫واقعة غزو الف�ضاء والو�صول �إىل القمر وتزايد فر�ص‬ ‫التي ميتلكها ‪ ،‬وهي قطعة يفرت�ض �أنها حتمل نق�ش ًا‬
‫و�صول الإن�سان �إىل كواكب بعيدة ‪ ،‬وافرت�ض كتابها‬ ‫يدل على عالقتها مبا ي�سمى معبد �سليمان ‪ ،‬هي قطعة‬
‫�أن من املمكن �أن تكون كائنات ف�ضائية متقدمة‬ ‫ملفقة‪ .‬بعد ذلك ب�أ�سابيع قليلة حتركت ما ت�سمى وزارة‬
‫علميا زارت الأر�ض يف الأزمنة ال�سحيقة ‪ ،‬و�أن �شعوب‬ ‫العدل الإ�رسائيلية ووجهت اتهامات بالتلفيق �إىل‬
‫تلك الأزمنة البدائية ر�أت من الزائرين �أعاجيب مل‬ ‫حلقة من خم�سة �أفراد يتزعمها «اوديد غوالن»‪ ،‬وذلك‬
‫ت�ستطع و�صفها بدقة فرتكت لنا �أخبار تلك الكائنات‬ ‫بعد ما يقارب ‪� 18‬شهراً من ك�شف الأو�ساط العلمية‬
‫ومنجزاتها ‪ ،‬مثل بناء الأهرامات وال�رصوح العمالقة‬ ‫يف متاحف عاملية عن زيف ما يدعى «�صندوق عظام‬
‫‪ ،‬يف �أ�ساطريها ومالحمها وق�ص�صها الدينية‪ ،‬بل‬ ‫حلفظ عظام املوتى «الذي نق�ش عليه «غوالن» كلمات‬
‫‪57‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الك�رس الربكانية التي تعود �إىل ‪ 3595‬ق‪.‬م حتى �سارع‬ ‫وم�ضى بع�ضهم ‪ ،‬تعزيزاً لفر�ضياته ‪� ،‬إىل القول �إن‬
‫�إىل اخلروج بنظرية مفادها «ان �أحداث اخلروج وقعت‬ ‫التوراة ت�ضمنت �إ�شارات �إىل الكائنات الف�ضائية‬
‫ما بني ‪� 250‬إىل ‪� 200‬سنة قبل التواريخ املعتمدة‬ ‫ومراكبها الطائرة (‪ )23‬وهنا وجد بع�ض املهوو�سني‬
‫تقليدي ًا ‪� ،‬أي �أنها وقعت يف العام ‪ 1477‬ق‪.‬م(‪.)27‬‬ ‫بتحويل الالهوتي التوراتي �إىل تاريخي فر�صتهم‬
‫وتروي جملة «علم» االكت�شاف بالطريقة نف�سها ‪،‬‬ ‫�أي�ضا‪ .‬يف العام ‪ 1956‬كان مو�س�س‪.‬ك‪ .‬جي�سوب‪ ،‬عامل‬
‫ولكنها ت�ضيف �شيئا يف�رس �سبب هذا الربط بني ثورة‬ ‫فيزياء الف�ضاء كما يقال ‪ ،‬قد ن�رش كتاب ًا حتت عنوان‬
‫بركان على بعد ‪ 800‬كيلومرت ووجود ك�رس بركانية‬ ‫«ال�صحون الطائرة والتوراة» جاء فيه ‪:‬‬
‫يف الدلتا وبني ما يقال عن خروج بني �إ�رسائيل من‬ ‫«ينبع الكثري من ال�شك يف �صحة الق�ص�ص التوراتية‬
‫«م�رص»(‪.)28‬‬ ‫من انعدام احتمال وقوع الأحداث والتنب�ؤات الواردة‬
‫ونالحظ على هذا النهج «العلمي» �أن �أ�صحابه‬ ‫فيها ‪ ،‬ولكن وجود كائنات ف�ضائية ذكية ‪ ،‬واحتمال‬
‫يتجاهلون متام ًا ‪� ،‬أو يجهلون �إذا �أردنا الدقة ‪� ،‬أن ال‬ ‫�أن يكون هناك عرق متفوق قد ا�ستخدم و�سائل مالحة‬
‫وجود لدليل �أثري ‪ ،‬ال يف النقو�ش القبطية وال يف لغة‬ ‫جوية ينا�سب كل ال�رشوط التي نحن قادرون على‬
‫�أهلها على وجود جماعة اخلروج يف �أر�ض قبط يف‬ ‫ن�سبتها �إىل ال�صحون الطائرة ‪ ،‬مما يجعل الأحداث‬
‫�أي ع�رص من ع�صورها ‪ ،‬و�أن �إل�صاق مرتجمي التوراة‬ ‫الواردة يف التوراة معقولة»(‪.)24‬‬
‫ال�سبعينية �إىل اليونانية ا�سم «م�رصمي» ب�أر�ض القبط‬ ‫والتقط عامل رو�سي �آخر هذه الو�صفة ‪ ،‬كما التقطها‬
‫(‪ ،)Egypt‬لت�صري �أر�ض القبط هي «م�رصمي» التوراتية‬ ‫�آخرون ‪« ،‬فافرت�ض وجود عالقة مبا�رشة بني بع�ض‬
‫هو الذي يقف وراء كل هذه التخيالت(‪.)29‬‬ ‫الأحداث املو�صوفة يف التوراة وزيارات الكائنات‬
‫الف�ضائية للأر�ض»(‪.)25‬‬
‫�أين نحن من كل هذا؟‬ ‫وعلى �صعيد ا�ستغالل املكت�شفات العلمية وزجها يف‬
‫مل يفقدنا اخلطاب التوراتي ما�ضي فل�سطني فقط ‪ ،‬بل‬ ‫�سياق ت�أكيد الق�ص�ص الأ�سطورية ‪ ،‬لفت نظرنا �إقدام‬
‫امتدت �شبكته �إىل حا�رضها �أي�ض ًا ‪ ،‬وحاولت بجهود‬ ‫جمالت علمية على ن�رش مقاالت ت�سعى ب�أي طريقة‬
‫م�ستميتة ومتوا�صلة خنق املكان الفل�سطيني ‪ ،‬فاعتدت‬ ‫ممكنة لإثبات واقعية �أحداث �أ�سطورية �سجلها كتبة‬
‫على �سماته و�أ�سمائه ‪ ،‬وفعلت الأمر نف�سه بالإن�سان‬ ‫التوراة‪ .‬من هذه املجالت جملة «العامل اجلديد» ‪ .‬تن�رش‬
‫الفل�سطيني ‪ ،‬فاعتدت على �شخ�صيته الإن�سانية‬ ‫هذه املجلة ما يلي مبنا�سبة اكت�شاف رماد بركاين يف‬
‫وحاولت ت�شويه واقعه االجتماعي واالقت�صادي‬ ‫دلتا نهر النيل ‪:‬‬
‫والثقايف ‪ ،‬و�سلبه �أمناطه املعمارية و�أزياءه و�أغانيه‪.‬‬ ‫« الآن ‪ ،‬وبعد العثور على رماد بركان «�سانتوريني»‬
‫على �صعيد االعتداء على املكان ‪ ،‬ن�ستح�رض هنا �شهادة‬ ‫يف روا�سب دلتا النيل ‪ ،‬فهذا يعني ان الظالم الذي‬
‫عامل الآثار االيرلندي «روبرت �آلك�ساندر �ستيوارت ماك‬ ‫�سببته ثورة الربكان رمبا امتد �إىل م�رص‪ .‬وي�شري هذا‬
‫�آل�سرت» الذي كان �أول من نقل �إلينا �أخبار خريطة‬ ‫االكت�شاف اجلديد �إىل ان «�سانتوريني» رمبا كان‬
‫الأمريكي «�إدوارد روبن�سون» التي و�ضعها لفل�سطني‬ ‫م�س�ؤوال عن «احتجاب ال�شم�س» الذي ت�شري �إليه عدة‬
‫خالل رحلتني ‪ ،‬الأوىل يف العام ‪ ، 1838‬والثانية يف‬ ‫وثائق قدمية مبا فيها �سفر اخلروج التوراتي الذي‬
‫العام ‪ ، 1852‬فنرث عليها �أ�سماء �أماكن غري موجودة‬ ‫ي�شري �إىل «ظلمات على الأر�ض» ‪ .‬ولأن امل�سافة بني‬
‫�إال يف التوراة ‪ ،‬وحما �أ�سماء املدن الفل�سطينية‪.‬‬ ‫موقع االنفجار ودلتا النيل هي فقط ‪ 800‬كيلومرت ‪،‬‬
‫يقول «ماك �آل�سرت»‪:‬‬ ‫ف�إن علماء الآثار وعلماء طبقات الأر�ض ا�ستنتجوا �أن‬
‫«�سافر (�إدوارد روبن�سون) من القاهرة ‪ ،‬عرب �سيناء ‪،‬‬ ‫من املمكن �أن ت�صل الغيوم �إىل م�رص »(‪.)26‬‬
‫قاطع ًا حدود فل�سطني ‪ ،‬ووجد نف�سه يف «بري�شيبا» ‪.‬‬ ‫وح�سب هذه املجلة ‪ ،‬ما �أن �سمع �أحد املهوو�سني ب�إثبات‬
‫كانت توقعاته متوا�ضعة ‪ ،‬ومقا�صده �أي�ض ًا ‪� ،‬إال �أنه‬ ‫تاريخية الرواية الالهوتية يف جامعة هوبكنز بق�صة‬
‫‪58‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫املقد�سة كان �أكرث جاذبية بكثري من واقعها الراهن‬ ‫جنى حم�صوال وفرياً غري اعتيادي‪ .‬وخالل �شهرين‬
‫بالن�سبة للم�ستك�شفني والزائرين‪ .‬ومن هنا بد�أ علماء‬ ‫جتول يف البلد ؛ التوراة يف يده ‪ ،‬متتبع ًا كل املالمح‬
‫الآثار الغربيون منذ خم�سينيات القرن التا�سع ع�رش‬ ‫الأر�ضية (الطوبوغرافيا) التي توفرها �صفحاتها ‪،‬‬
‫التنقيب يف الأر�ض للعثور على �أدلة ملمو�سة تدل على‬ ‫وملحق ًا بها ملحوظات مبا ح�صل عليه من معارف‬
‫ذلك اجلوهر املفرت�ض»(‪.)33‬‬ ‫خالل درا�سته الأولية للأدب ‪ ..‬اهتماماته كانت‬
‫ووفق املبد�أ نف�سه �سار كتاب الرحالت والفنانون‬ ‫حمددة ب�رصامة ‪ ،‬فكر�س نف�سه ملا توحي به توراته‬
‫والع�سكريون الذين �أ�رشنا �إليهم �آنفاً‪ .‬و�سيتابع‬ ‫من مالمح للأر�ض‪ .‬كان علم الآثار بالن�سبة له ثانوي ًا‬
‫ال�صهاينة املحتلون ر�سم اخلرائط ‪ ،‬واغتيال الأ�سماء‬ ‫‪ ،‬ومل يقرتب من التاريخ الطبيعي والق�ص�ص ال�شعبية‬
‫الفل�سطينية طيلة ال�سنوات املا�ضية وحتى الوقت‬ ‫وفروع الدرا�سة الأخرى �إال عر�ضاً‪ .‬كان هدفه الرئي�س‬
‫الراهن‪.‬‬ ‫التعرف على املواقع التوراتية معتمداً اعتمادا رئي�س ًا‬
‫يتحدث ال�صهيوين «مريون بنفن�ستي» بتفا�صيل‬ ‫على ما تبقى من �أ�سماء الأمكنة القدمية يف الكالم‬
‫دقيقة عن عمل احلركة ال�صهيونية قبل �أن تتمكن‬ ‫املعا�رص»(‪.)30‬‬
‫من ا�ستعمار فل�سطني وبعد ذلك ‪ ،‬على تغيري �أ�سماء‬ ‫على هذا النهج ‪ ،‬يعلق «�آل�سرت» بالقول‪:‬‬
‫املواقع اجلغرافية الفل�سطينية ‪ ،‬ويلفت نظره �أن‬ ‫« نعرف الآن �أن هذا �أ�سا�س من اخلطورة مبكان‬
‫الزعيم ال�صهيوين «بن غوريون» اهتم يف العام ‪1949‬‬ ‫االعتماد عليه كحجة ‪ ،‬فمثل هذا التعرف يحتاج �إىل‬
‫اهتماما ملحوظ ًا بتكوين جلنة من ت�سعة باحثني يف‬ ‫امتحان بو�سائل �أخرى ‪ ،‬وهناك �أدلة على �أن �أ�سماء‬
‫حقول ر�سم اخلرائط وعلم الآثار واجلغرافية والتاريخ‬ ‫الأمكنة مل تكن ثابتة بال تغيري يف البقعة ذاتها‬
‫‪ ،‬مهمتها ت�سمية ت�ضاري�س الأر�ض الفل�سطينية ومدنها‬ ‫خالل م�سار ع�صور طويلة تف�صلنا عن ع�رص التوراة ‪،‬‬
‫وقراها ب�أ�سماء عربية(‪.)34‬‬ ‫مي متاثال زائفا مع ا�سم معا�رص‪،‬‬ ‫و�أحيان ًا يحمل ا�س ٌم قد ٌ‬
‫وبخا�صة حني ُيكتب بحروف �أوروبية ‪ ،‬ويخفي عن‬
‫يقول «بنفن�ستي» بو�ضوح ‪:‬‬ ‫املرء غري اليقظ تعار�ض ًا فقهيا لغويا تاماً»(‪.)31‬‬
‫«متاما ‪ ،‬مثلما عبرّ ْت اجلمعية اجلغرافية امللكية‬ ‫كان هذا يف العام ‪ ، 1925‬ولكن الكاتب «�إدوارد‬
‫الربيطانية ‪ ،‬ب�أبحاثها وحمالتها يف قلب �أفريقيا‬ ‫فوك�س» يوجه يف زمن قريب من زمننا هذا نقداً‬
‫وكندا ‪ ،‬عن الرغبة الربيطانية يف معرفة العامل من‬ ‫جوهريا لعمل «روبن�سون» وح�صاده «الوفري»‬
‫�أجل اال�ستيالء عليه و�ضمه �إىل الإمرباطورية ‪ ،‬عربت‬ ‫فيكتب ‪:‬‬
‫جمعية ا�ستك�شاف �إ�رسائيل عن الطموح اليهودي‬ ‫«مل يقت�رص عمل «روبن�سون» على انتهاك مبد أ� �أويل‬
‫المتالك �أر�ض الأجداد» (‪.)35‬‬ ‫من «مبادئ اجلغرافية و�ضعه قدمي ًا جغرايف وفلكي‬
‫هذا الزعم تكر�س يف ما �سماه «انت�صار اخلريطة»‪،‬‬ ‫القرن الثاين امليالدي بطليمو�س ‪ ،‬املبد�أ القائل ب�أن‬
‫ويعني انت�صار خريطة �أبيه التي يقول �إنها «حولت‬ ‫الت�ضاري�س الأر�ضية �أكرث �أهمية من اخلريطة ‪ ،‬حني‬
‫متلك الأر�ض الرمزي �إىل متلك واقعي يف الكتب‬ ‫قدم اخلريطة التوراتية على الت�ضاري�س الأر�ضية ‪ ،‬بل‬
‫املدر�سية التي و�ضعها»(‪.)36‬‬ ‫ارتكب ت�شويه ًا خطرياً ‪ ،‬وهو عدم االهتمام ب�أي �شيء‬
‫�أما على �صعيد االعتداء على الإن�سان الفل�سطيني‬ ‫يف فل�سطني وتاريخها ال �ش�أن له بتوراته»(‪.)32‬‬
‫واغتيال ثقافته وتاريخه وجمتمعه‪ ،‬فنجد بني �أيدينا‬ ‫ويف�رس «نيل �آ�رش �سلربمان»‪ ،‬بعد �أن يروي من جانبه‬
‫�آخر ن�سخة �أعادت �إنتاج اخلطاب التوراتي‪ ،‬لي�س‬ ‫�أي�ض ًا حكاية ر�سام اخلريطة وم�ساعده «�إيلي �سمث»‬
‫بتعابريه القدمية التي قامت على �أ�ساطري «الأر�ض‬ ‫‪ ،‬دوافع طم�س الواقع اجلغرايف والإن�ساين الراهن‬
‫اخلالية» ‪ ،‬وجتاهل وجود ال�شعب الفل�سطيني وطم�س‬ ‫والقدمي بالقول ‪:‬‬
‫حا�رضه يف و�سائط الإعالم الغربية ‪ ،‬بل بن�سخة معدلة‬ ‫« �إن جوهراً تاريخي ًا اعتقدوا �إنه �سمة مالزمة للأر�ض‬
‫‪59‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫العودة �إىل وطنهم ؟ �أم �ستكون م�صاحلة بني الل�ص‬ ‫قوامها «متثيل» الفل�سطيني يف حتقيقات من يطلقون‬
‫و�صاحب البيت والأر�ض املحروم من العودة �إىل‬ ‫عليهم «امل�ؤرخون اجلدد» تتناول املذابح ال�صهيونية‬
‫بيته و�أر�ضه؟‬ ‫وهدم البيوت وت�رشيد الفل�سطينيني يف العام ‪.1948‬‬
‫من جانبها ‪ ،‬تتناول الباحثة «راحيال مزراحي» بعداً‬ ‫هذه ال�صورة التمثيلية التي بد�أت تظهر يف ثمانينيات‬
‫�آخر من �أبعاد اغتيال الإن�ساين الفل�سطيني يف �أطروحة‬ ‫القرن الع�رشين تركز على التاريخ الفل�سطيني املعا�رص‬
‫لها يتمثل يف �رسقة تراثه و�إيهام العامل �إنه تراث‬ ‫وتقارنه بالواقع التاريخي على الأر�ض كما يذهب‬
‫يهودي قدمي‪ .‬تكتب «راحيال»‪:‬‬ ‫�إىل ذلك «حاييم جريبر» يف مقالته «ال�صهيونية‬
‫«ميكن الإ�شارة �إىل ثالث مراحل يف عملية �رسقة‬ ‫واال�ست�رشاق والفل�سطينيني»‪ .‬ولكنها تقدم �صورة غري‬
‫الرتاث الفل�سطيني‪ .‬يف املرحلة الأوىل قامت احلركة‬ ‫واقعية خمتلقة تن�سجم مع رغبات الدفاع عن اغت�صاب‬
‫ال�صهيونية ‪ ،‬وبعد ذلك دولة �إ�رسائيل ‪ ،‬بجهود كبرية‬ ‫الأر�ض وت�رشيد الفل�سطينيني مواربة‪ ،‬عمادها ثالثة‬
‫لربط ثقافة مهاجريها الأوروبيني بالرتاث املحلي‬ ‫انحرافات ا�ست�رشاقية يحملها الرتاث ال�صهيوين هي‬
‫الذي هو جزء ال يتجز أ� من تراث املنطقة العربية ‪،‬‬ ‫كما يف�صلها «جريبر»‪:‬‬
‫وذلك يف �إطار �إدعاء «عودة �شعب �أ�صلي �إىل وطنه‬ ‫«�أن الفل�سطينيني مل تكن تربطهم رابطة وطنية �أو‬
‫بعد �ألفي عام»‪ ،‬فقامت ب�رسقة عنا�رص خمتلفة‬ ‫قومية ‪ ،‬و�أن املجتمع الفل�سطيني كان جمتمع ًا بدائي ًا‬
‫من الرتاث الفل�سطيني وتوزيعها يف العامل كرتاث‬ ‫متخلف ًا ‪ ،‬و�أن انهيار الفل�سطينيني يف العام ‪1948‬‬
‫يهودي قدمي‪ .‬ويف املرحلة الثانية ‪ ،‬بعد العام‬ ‫�سببه خلل مت�أ�صل يف جمتمعهم ‪.)37(» ..‬‬
‫‪ ، 1967‬جتند املثقف الإ�رسائيلي لتمثيل ال�رصاع‬ ‫ويقدم «جريبر» نقداً لهذا اخلطاب وملمثله الأبرز «بني‬
‫بني �إ�رسائيل و�شعب فل�سطني ك�رصاع متماثل ‪،‬‬ ‫مور�س» ‪ ،‬بالتدقيق يف الوقائع التاريخية التي تنق�ض‬
‫لي�سند اخلطاب الر�سمي الذي تبناه الي�سار الأبي�ض‬ ‫هذا االنحراف ‪ ،‬الوقائع التي تدل بو�ضوح على وجود‬
‫الذي يدعو �إىل الدولتني ل�شعبني‪ .‬ويف هذه املرحلة‬ ‫جمتمع متطور �آخذ بالنمو ‪� ،‬سيا�سيا وتعليميا و�إداري ًا‬
‫مت عر�ض ومتثيل املثقف الإ�رسائيلي ك�إن�سان‬ ‫واقت�صادي ًا ‪ ،‬على العك�س متاما من هذه ال�صورة‬
‫تقدمي ومعار�ض لالحتالل (طبع ًا احتالل �أرا�ضي‬ ‫التمثيلية ‪ ،‬و�إن اال�ستعمار الربيطاين هو امل�س�ؤول‬
‫‪ 1967‬فقط �أو �أقل من ذلك) واجلندي الإ�رسائيلي‬ ‫عن متزيق املجتمع الفل�سطيني بالوح�شية الع�سكرية‬
‫ك�ضحية لهذا االحتالل‪� .‬أما يف املرحلة الثالثة ‪،‬‬ ‫وتهيئة �أر�ضية �إقامة امل�ستعمرة ال�صهيونية (‪.)38‬‬
‫منذ نهاية الت�سعينات �أ�سا�س ًا ‪ ،‬فنجد اعرتاف ًا تام ًا‬ ‫على �أن املالحظ �أن «جريبر» هذا ال يقدم م�ساهمته‬
‫بعملية التطهري العرقي لفل�سطني ‪� ،‬أي نكبة فل�سطني‬ ‫هذه من «منطلق مناوئي لل�صهيونية �أو حتى ملا‬
‫‪ ،‬واعرتاف ًا بتوظيف املثقف الإ�رسائيلي يف �إطاره»‬ ‫تدعى مابعدــ ال�صهيونية «كما يقول ‪ ،‬بل يقدمه‬
‫(‪� .)40‬أي اال�ستيالء هذه املرة حتى على رواية النكبة‬ ‫كموقف «نقد ذاتي يتبناه كجزء من �إدراك عميق ب�أن‬
‫ومتثيلها ‪ ،‬و�إخرا�س ال�صوت الفل�سطيني‪.‬‬ ‫عملية امل�صاحلة بني �شعبني يعي�شان يف الأر�ض‬
‫عن املا�ضي الذي طواه الن�سيان وا�ستوىل عليه‬ ‫املقد�سة �ستتطلب مراجعة �شاملة وم�ؤملة ملا�ضي‬
‫التوراتيون ‪ ،‬ينقل «كيث وايتالم» عن الباحث الأمريكي‬ ‫كل طرف ملا�ضي الآخر »(‪ )39‬ثم ال مي�ضي �إىل �أبعد‬
‫«فيليب ديفز» قوله يف العام ‪�« 1992‬إن �إ�رسائيل‬ ‫من ذلك ‪� ،‬إىل جذر نكبة فل�سطني يف �رسقة الأر�ض‬
‫الدرا�سات التوراتية القدمية هي �إن�شاء بحثي يقوم على‬ ‫الفل�سطينية والإبادة والت�رشيد املتوا�صلني ل�سكانها‬
‫قراءة خاطئة للموروثات التوراتية ومنقطع ال�صلة‬ ‫الفل�سطينيني وحتويلهم �إىل الجئني منذ �أكرث من‬
‫بالواقع التاريخي»(‪ ،)41‬وينتقد من جانب �آخر كتابات‬ ‫�ستني عام ًا وحتى الآن ‪ ،‬و�إقامة كيان ا�ستعماري‬
‫�إدوارد �سعيد حول الن�ضال الفل�سطيني املعا�رص من‬ ‫�أطلقوا عليه ا�سم «�إ�رسائيل»‪ .‬فهل �ستت�ضمن هذه‬
‫�أجل فل�سطني لكونها مل ت�أخذ يف ح�سبانها «خطاب‬ ‫املراجعة ال�شاملة االعرتاف بحق الفل�سطينيني يف‬
‫‪60‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫التي هيمنت على ما�ضيها وحا�رضها قوى خارجية‬ ‫الدرا�سات التوراتية» الذي هو جزء من خطاب‬
‫غزت الأر�ض �أوال ‪ ،‬ثم �أعادت كتابة التاريخ لتظهر يف‬ ‫«اال�ست�رشاق»‪.‬‬
‫ذلك التاريخ انها املالكة احلقيقية للأر�ض»(‪.)43‬‬
‫ثم يقرر بو�ضوح ‪:‬‬
‫يقول «وايتالم»‪:‬‬
‫« وايتالم حمق متام ًا يف نقد كتاباتي حول الن�ضال‬ ‫البحث الإ�رسائيلي املعا�رص بتاريخ‬ ‫ُ‬ ‫«لقد اهتم‬
‫الفل�سطيني املعا�رص من �أجل فل�سطني لكونها مل تلتفت‬ ‫�إ�رسائي َل القدمية كُ تب على نطاق وا�سع من منظور‬
‫ب�أي �شكل من الأ�شكال �إىل خطاب الدرا�سات التوراتية‪.‬‬ ‫غربي ا�ست�رشاقي بو�صفه التعبري القدمي عن الدولة‬
‫يقول وايتالم �إن هذا اخلطاب كان فعال جزءا من‬ ‫املعا�رصة و�سكانها اليهود‪ .‬ومل تنتج عن تنامي‬
‫خطاب اال�ست�رشاق الذي تخيل الأوروبيون مبوجبه‬ ‫الوطنية الفل�سطينية حماولة للمطالبة باملا�ضي ت�شبه‬
‫ومثلوا ال�رشق الأبدي كما رغبوا يف ر�ؤيته ‪ ،‬ولي�س‬ ‫حركات املطالبة با�ستعادة املا�ضي يف الهند و�أفريقيا‬
‫كما كان �أو كما ي�ؤمن �سكانه‪ .‬ومن هنا ف�إن الدرا�سات‬ ‫و�أ�سرتاليا‪ .‬امل�شكلة هنا هي �أن فكرة «تاريخ فل�سطيني»‬
‫التوراتية التي اختلقت �إ�رسائيل ‪ ،‬تلك املعزولة عن‬ ‫انح�رصت بالفرتة املعا�رصة يف حماولة ل�صياغة‬
‫بيئتها ‪ ،‬مع فر�ضية �أنها جاءت باحل�ضارة والتقدم �إىل‬ ‫و�إي�ضاح روايات كينونة وطنية يف وجه فقدان الأر�ض‬
‫املنطقة ‪� ،‬أعادت الأيديولوجية ال�صهيونية فر�ضها ‪،‬‬ ‫واملنفى‪ .‬الأمر كما لو �أنه مت التخلي عن املا�ضي القدمي‬
‫و�أعادت فر�ضها امل�صالح الغربية يف جذور ما�ضيها‬ ‫لإ�رسائيل والغرب‪ .‬املقال اخلتامي لكتاب �إدوارد �سعيد‬
‫هي‪ .‬وي�ستنتج وايتالم «�إال �أن هذا اخلطاب �أق�صى‬ ‫« �إلقاء امل�س�ؤولية على ال�ضحايا ‪ :‬الدرا�سة الزائفة‬
‫الغالبية العظمى من �سكان املنطقة»‪ .‬نعم هو خطاب‬ ‫وق�ضية فل�سطني» (ملحة عن ال�شعب الفل�سطيني)‪ ،‬يبد أ�‬
‫وما�ض يف وقت‬ ‫ٍ‬ ‫أر�ض‬
‫قوة «جردت الفل�سطينيني من � ٍ‬ ‫مبالحظة �أن فل�سطني كانت وطن ًا حل�ضارة رائعة‬
‫واحد معاً»(‪.)44‬‬ ‫«قبل قرون من �أول هجرة لقبائل عربية �إىل املنطقة»‬
‫و�أخرياً‪ ،‬جند يف كلمات كتبها «توما�س تومب�سن» يف‬ ‫‪ .‬ومر �سعيد على منجزات هذه احل�ضارة وطبيعتها‬
‫كتابه «التوراة يف التاريخ» جال ًء ملا بد�أ يت�ضح �أمام‬ ‫مرورا خاطف ًا بب�ضعة جمل ‪ ،‬بينما تركت فرتة هجرة‬
‫�أعني الباحثني الذين حترروا من قب�ضة الالهوت‪:‬‬ ‫الإ�رسائيليني ‪ ،‬وهي �صورة مت التخلي عنها الآن كما‬
‫«ينبع التاريخ اجلديد ل�سكان فل�سطني وبداياتهم‬ ‫�سرنى يف ال�سطور الالحقة ‪ ،‬لإ�رسائيل من دون �إ�ضافة‬
‫الغارقة يف القدم مبجمله تقريب ًا من �أبحاث �أل�سنية‬ ‫تعليق ‪ ،‬ثم يركز امل�شاركون يف الكتاب على تاريخ‬
‫و�أثرية متت خالل اخلم�سني عام ًا املا�ضية‪ .‬ويقدم هذا‬ ‫فل�سطني منذ الفتح العربي‪/‬الإ�سالمي يف القرن ال�سابع‬
‫التاريخ �صورة غري م�ألوفة جذري ًا ‪ ،‬وبالغة الختالف‬ ‫امليالدي حتى الزمن الراهن‪� .‬إن الفرتة املمتدة حتديدا‬
‫عن الر�ؤية التوراتية ‪ ،‬كما �سيجد ك ّتاب التوراة �صعوبة‬ ‫من �أواخر ع�رص الربونز �إىل الفرتة الرومانية هي التي‬
‫بالغة يف التعرف عليها ‪ ،‬لأن ما يدركونه بو�صفه‬ ‫حتتاج �إىل املطالبة بها وا�ستعادتها ومنحها �صوت ًا‬
‫«تاريخاً» كان روايات خيالية تاريخية عن املا�ضي ‪،‬‬ ‫يف تاريخ فل�سطني»(‪.)42‬‬
‫ا�ستخدموا فيها �أي مادة ت�صل �إىل �أيديهم ‪ ،‬وما نتعلمه‬ ‫ويجدر بنا هنا �أن نقدر لإدوارد �سعيد �أمانته ونزاهته‬
‫حني نقر�أهم لي�س معطيات عن �أي مرحلة قدمية من‬ ‫الفكرية حني تناول ما طرحه «وايتالم» يف مقالة‬
‫مراحل املا�ضي ‪ ،‬بل مقالة مبا يفكرون فيه وما فهموه‬ ‫له حملت عنوان « اخرتاع وذاكرة ومكان» يف العام‬
‫على �أنه ينتمي �إىل هذا النوع الأدبي الذي يكتبونه ‪،‬‬ ‫‪ ، 2000‬فتبنى ما طرحه «وايتالم» و�أ�ضاف �إليه ‪:‬‬
‫وال تفيدنا هذه الن�صو�ص تاريخي ًا �إال مبا تت�ضمنه‬ ‫« �إن املعركة الأكرب التي يخو�ضها الفل�سطينيون ك�شعب‬
‫عن حا�رض امل�ؤلف وعن املعرفة املتوفرة لديه ولدى‬ ‫رمبا هي حول احلق يف حا�رض متذكر ‪ ،‬ومع احلا�رض‬
‫معا�رصيه‪ .‬وهكذا ف�إن فهمنا للما�ضي جمرب على‬ ‫احلق يف متلك وا�ستعادة واقع تاريخي جماعي ‪..‬‬
‫التغري كلي ًا (‪.)45‬‬ ‫هنالك معركة مماثلة خا�ضتها كل ال�شعوب امل�ستعمرة‬
‫‪61‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ درا�سات‬..‫ درا�سات‬..‫درا�سات‬
s
s
s :‫هوام�ش‬
Kamal Salibi, The bible Came from Arabia, Pan – 18
Books, London, 1985, p.70 Keith W. Whitelam, The Invention of Ancient Israel.. -1
Thompson, op.cit. p.8-14 – 19 & The silencing of Palestinian history, Routledge, London
Hershel Shanks, Fakes: How Moses Shapira forged -20 New York, 1996, p.1
an entire Civilization, Archaeology Odyssey Magazine Ibid .p.1 -2
Volume 5. No>5), 2002, sep/Oct. pp.33-41( Neil Asher Silberman, Desolation and Restoration: The-3
W.F. Albright, The Lachish Letters after five years, -21 ,Impact of the biblical Concept on Near Eastern Archaeology
Bulletin of the American Schools of Oriental research. The Biblical Archaeologist, Vol.44,No. 2 (June 1991) p.77
No.82 (Apr. 1941), p.22 ‫ كيف قر�أوا الألواح وكتبوا‬: ‫ �أنظر كتابي «م�ست�رشقون يف علم الآثار‬-4
Archaeology, A publication of the Archaeological In� -222 ‫ بريوت ـ‬، ‫ الدار العربية للعلوم نا�رشون & ودار م�سعى‬، ‫التاريخ‬
stitute of America, Volume 58, No.2, March/April 2002 8 ‫ �ص‬،2010 ، ‫الكويت‬
Erich Von Daniken, Chariots of the Gods: was God an -23 ، ‫ خمتارات من كتاب رحلة �إىل ال�رشق‬، ‫ �ألفون�س دي المارتني‬-5
astronaut? , Effone Electronic Press, 2002, pp.48-50 ‫ علي عقلة‬.‫ مراجعة واختيار د‬، ‫ جمال �شحيد وماري طوق‬.‫ترجمة د‬
)Translation copy right 1969(
‫ م�ؤ�س�سة جائزة عبد العزيز �سعود البابطني‬، ‫ �إلهام كالب‬.‫عر�سان و د‬
& Roland Story, The Space-Gods revealed, Barnes -24
315 ‫ �ص‬، 2006 ، ‫ الكويت‬، ‫للإبداع ال�شعري‬
Noble Books, New York, 1976, p.14
، ‫ اجلزء الثالث‬،)‫ رحلة الأمري ردولف �إىل ال�رشق (م�رص والقد�س‬-6
Ibid.p.20 -25
‫ الهيئة امل�رصية العامة‬، ‫ عبد الرحمن عبد اهلل ال�شيخ‬.‫ترجمة ودرا�سة د‬
New Scientist, 15 May, 1986 -26 17-16 ‫ �ص‬،1996 ، ‫للكتاب‬
.Ibid -27 ,Jack M. Sasson, Albright as an Orientalist -7
Science, June, 1986 -28 ,The Biblical Archaeologist, Vol.56, No. 1 (Mar. 1993) p.6
‫ �سل�سلة عندما نطق‬، ‫ اختطاف جغرافيا الأنبياء‬:‫ – نداء ال�رساة‬29 Published by: American Schools of Oriental Research
2006 ‫ الطبعة الثانية‬، ‫ البحرين‬، ‫ جمعية التجديد الثقافية‬، ‫ال�رساة‬ Frank M. Cross, W.F. Albright’s View of Biblical Ar� -8
133 ‫ �ص‬، chaeology and the Methodology, The Biblical Archaeolo�
R.A. Macalister, A Century of Excavation in Pales� – 300 gist, Vol.36, No.1 (Feb. 1973), p. 2
tine, The religious Tract Society, London, 1925, p. 22 Lawrence Davidson, Biblical Archaeology and the – 9
Printed by WM. Clowes & Sons, LTD Press: Shaping American Perceptions of Palestine in the
Ibid, p.22 -31 .first Decade of the Mandate, The Biblical Archaeology
Edward Fox, op.cit. p.53 – 32 Vol.59, No.2 ( June 1996) p.113
Silberman, op.cit. p. 78 – 33 Ibid. p. 112 – 10
Meron Benvincity, Sacred Landscape: The buried His� – 344 Edward Fox, The Murder of Albert Glock – 11
tory of the Holy Land since 1948, University of California and the Archaeology of the holy Land, Harper
Press, Berkeley, Los Angeles and London, 2002, p.13 55 .p ,2001 ,Collins Publishers
Ibid.p.13 – 35 Nur Masalha, Naji Al-Ali, Edward Said and Civil -12
Ibid.p.12– 36 Liberation Theology in Palestine: Contextual, Indigenous
Haim Gerber, Zionism , Orientalsim and the Palestin� -377 and Decolonising Methodologies, Holy Land Studies 11.2
ians, Journal of Palestine Studies, Vol.33, No.1 (Autumn (2012) p.110
pp.23-41 ,)2003 Ibid. p 110 -13
.Ibid -38 ‫ هيئة‬، ‫ اجلزء الأول‬، ‫ الق�سم العام‬: ‫ املو�سوعة الفل�سطينية‬-14
.Ibid-39 ، 166 ، 37 ‫ ال�صفحات‬، ‫ الطبعة الأوىل‬، ‫ دم�شق‬، ‫املو�سوعة الفل�سطينية‬
‫ �رسقة رواية النكبة ب�أيدي الأكادمييا‬،‫ راحيال مزراحي‬-40 ‫ وبخا�صة ال�صفحة‬، ‫ على �سبيل املثال ال احل�رص‬.. 253 ، 194 ، 182
http://www.ajras.org ،‫ موقع �أجرا�س العودة‬2008 ،‫الإ�رسائيلية‬ ‫الأخرية التي حتت�شد ب�أ�سماء مدن توراتية فر�ضها ال�صهاينة على‬
Whitelam, op.cit.p.3 -41 .ً‫مواقع جغرافية يف فل�سطني تع�سفا واعتباطا‬
Ibid.p.7-8 -42 Thomas L. Thompson, The bible in History: How – 15
Edward said, Invention, Memory and Place, Critical -43 writers create a past, Jonathan Cape, London, 1999, p.15
Inquiry, Vol.26, No.2 (Winter 2000) p.184 ‫ حوار عن تاريخ فل�سطني القدمية بني العلم واخلرافات والأ�ساطري‬-16
Ibid. p.187-44 ‫ جريدة‬،‫ �أجرى احلوار مع امل�ؤرخ توما�س توم�سن الكاتب زياد منى‬،
Thompson,op.cit.p.103 -45 21 ‫ �ص‬، 2001 ‫ مار�س‬19 ، 13882 ‫ العدد‬، « ‫«احلياة‬
21 ‫ �ص‬، ‫ امل�صدر ال�سابق‬-17

62 2014 ‫ ابريل‬- 78 ‫نزوى العدد‬


‫الدالالت الأ�سلوبية البنيوية‬
‫بني عبدالقاهراجلرجاين وميكائيل ريفاتر‬
‫\‬
‫طاطـة بن قـرماز‬

‫تت�شاكل �أ�سلبة التفكري النقدي يف مو�ضوع الأ�سلوب ‪ ،‬فلي�س ثمة انقطاع بني قدمي‬
‫وحمدث �أو بني لغة ولغة فال�سياق التفكريي يف حقل الدرا�سات الأ�سلوبية يكاد‬
‫يتّفق يف جميع امل�ضامري‪،‬ويت�شاكل يف ك ّل الر�ؤى لذلك فالعلماء الأ�سلوبيون تراهم‬
‫يبحثون موا�ضيع متداخلة متناغمة ومتكاملة يكمل فكر هذا الناقد فكر الآخر‬
‫ويوفيه حقه من النظر والتفتي�ش ‪ ،‬لذلك فلي�س م�ستغربا �أن يتوافى تفكري عبدالقاهر‬
‫اجلرجاين البالغي مع تفكري ميكائيل ريفاتر الأ�سلوبي من حيث تركيزهما معا‬
‫على املتلقي وتخويله فطنة اال�ستقراء الإبداعي القائم با�ستظهار خفايا الإبداع‬
‫يف النّ�ص التي تلتقي يف النهو�ض با�ستجالء الظواهر الأ�سلوبية الكامنة اخلفية‬
‫الن�ص ‪ ،‬وال ميكن ال�سري يف اجتاه تفتيق جماليات الأ�سلوب �إالّ با�ستثمار عن�رص‬
‫يف ّ‬
‫ال�سياق الأ�سلوبي �أوال�سياق الفني الذي هو عن�رص �أ�سا�سي يف ت�شكيل الظاهرة‬
‫الأ�سلوبية‪ ،‬من حيث متثيله للخ�صو�صية الإبداعية مل�ؤلف دون الآخر يف ن�سجه‬
‫للكالم ن�سجا منظما وخرقه للم�ؤلوف خرقا فنيا‪.‬‬

‫اجلرجاين وريفاتر‪ :‬على القارئ االجتهاد‬


‫لتحديد العالقات امل�شفرة يف الن�ص‬

‫‪63‬‬ ‫ناقدة واكادميية من اجلزائر‪.‬‬ ‫\‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و�إذا كان من خلل �أو نق�ص يذكر يف هذا املو�ضع‬ ‫مالمح التلقي لدى عبدالقاهر اجلرجاين‪:‬‬
‫من تداول منهج التحليل الأ�سلوبي البنيوي ‪ ،‬ف�إ ّنه‬ ‫يعترب عبدالقاهر اجلرجاين يف عداد البالعيني‬
‫يكون جديرا بنا لفت االنتباه �إىل بع�ض الإ�شكال‬ ‫ال�سباقني �إىل التنقيب عن الفعاليات الإبالغية‬
‫الذي �ساد التفكري البالغي النقدي الأدبي العربي‬ ‫عول بك ّل و�ضوح على ا�ستثمار قوى‬
‫القدمي ‪ ،‬وبالتحديد عندما �ساد منهج التخطيء‬ ‫التوا�صلية حيث ّ‬
‫التلقي يف �إثراء املادة اللّغوية الإبالغية ‪ ،‬وخاطب‬
‫بع�ض القراءات النقدية العربية القدمية نعتقد � ّأن‬
‫املتلقي يف موا�ضع عديدة من كتاب دالئل الإعجاز‬
‫مر ّد االرتباك يف املو�ضوع م ّت�صل ب�سوء تقدير‬ ‫(‪)1‬‬
‫�سامعا وناظرا ومت�ص ّفحا وقارئا ‪.‬‬
‫بع�ض الدار�سني مل�س�ألتي مفهومية اخلطاب من‬
‫فاملتلقي املبدع هو من يقوم با�ستقراء مكونات‬
‫ا�ستحالتها ‪ ،‬وذلك ما عبرّ عنه الآمدي(‪ )6‬حني و�ضع‬
‫اخلطاب اللّغوية واكت�شاف خفاياه أل ّنه يف نظر‬
‫عنوانا يف املوازنة �أ�سماه �أخطاء �أبي متام يف‬
‫التنبه �إىل مكان اخلبء ليطلبه‬ ‫عبدالقاهر موكول به ّ‬
‫اللّفظ واملعنى واحلقيقة � ّأن الألفاظ دالة بطبيعة‬
‫‪ ،‬ومو�ضع الدفني ليبحث عنه(‪ ، )2‬ل ّأن اللّغة يف العرف‬
‫�صدورها النف�سي على اعتبار � ّأن ك�شف قناع املعنى‬
‫البالغي العربي مِ لْكُ ال�سامع وهي طيعة له ‪.‬‬
‫مرهون مبدى مهارة القارئ يف ابتكار‬
‫املتلقي املبدع هو‬ ‫وكذلك ي ّت�سق تفكري عبدالقاهر الأ�سلوبي‬
‫القراءات والت�أويالت التي يولّدها التف ّهم‬
‫امل�ستطرف وقد خلّ�ص الآمدي فو�ضى‬ ‫مع �سعي التنظري يف هذا احلقل مثلما‬
‫من يقوم‬ ‫هم جممعون عليه من حيث ا�شرتاط‬
‫التطوع يف ابتكار �أ�ساليب البديع يف‬ ‫ّ‬
‫�سو�أة الوقوع يف املحال‪.‬‬ ‫با�ستقراء‬ ‫�إدراك العالقات الرتابطية بني ال َك ِل ِم‬
‫لقد �أ�شاد ميكائيل ريفاتر بدور‬
‫(‪)7‬‬ ‫مكونات اخلطاب‬ ‫‪ ،‬فالت�شاكل الوظيفي هو املف�رسة يف‬
‫�ضوئه خمتلف الرتابطات اللّفظية حيث‬
‫القارئ الذي ي�سهم من وجهة نظره‬ ‫ال ّلغوية‬ ‫ال نظم يف الكالم وال تن�سيق ( ‪ ...‬حتى‬
‫يف ك�شف وحتديد الوقائع الأ�سلوبية‬
‫املرتبطة بعملية التلقي انطالقا من‬ ‫واكت�شاف خفاياه‬ ‫يعلق بع�ضها ببع�ض ويبنى بع�ضها على‬
‫قوله‪ :‬ال دخان بدون نار ‪ ،‬حيث يتداول‬ ‫بع�ض ‪ ،‬ويجعل �سبب هذه من �سبب تلك‬
‫ال�ضمني باملعلن �أي جهات الكالم‬ ‫‪.)3()...‬‬
‫الن�ص ففي كالمه على مو�ضوع‬ ‫ّ‬ ‫نتيجة ملثري يف‬ ‫فالفطن البالغية واملهارات الفنية التي ميتلكها‬
‫�إجراءات التحليل‪ ،‬ذهب ريفاتر �إىل � ّأن دار�س‬ ‫�ص الداخلية وبنيته‬ ‫القارئ مدخل لك�شف �أ�رسار ال ّن ّ‬
‫ي�سجل مالحظات عن ردود فعل القارئ‬ ‫الأ�سلوب ّ‬ ‫‪ ،‬ل ّأن ( ‪...‬من حذق ال�شاعر �أن يوقع املعنى يف نف�س‬
‫جمرد م ؤ��شرّ ات لعنا�رص‬
‫م�ستخدما �إياها على أ� ّنها ّ‬ ‫يتوهم يف بدء الأمر‬ ‫ال�سامع �إيقاعا مينعه به من �أن ّ‬
‫(‪)8‬‬
‫لها �أثرها يف البنية ‪.‬‬ ‫ثم ين�رصف �إىل املراد ‪، )...‬‬
‫(‪)4‬‬
‫�شيئا غري املراد ‪ّ ،‬‬
‫لقد �أحاط عبدالقاهر اجلرجاين بهذا املكتنف‬
‫(‪)9‬‬ ‫فالعنا�رص البنائية املرافقة حل�س الإن�شاء الأ�سلوبي‬
‫يتمخ�ض عن �إنتاج الأ�ساليب‬ ‫ّ‬ ‫البالغي الذي‬ ‫الت�شخ�ص والظهور ال بق�صد التنميط‬ ‫ّ‬ ‫من طبيعتها‬
‫والعبارات حني قال‪ ...( :‬واعلم �أ ّنك ال ت�شفي الغلّة‬ ‫�ص‬‫والتو�صل �إىل �أ�رسار ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫التذوق (‪...‬‬
‫ّ‬ ‫بل من �أجل‬
‫وال تنتهي �إىل ثلج اليقني حتى تتجاوز ح ّد العلم‬ ‫الداخلية وبنياته مي ّثل القراءة ال�صحيحة التي‬
‫مف�صال ‪ ،‬وحتى ال‬ ‫ّ‬ ‫بال�شيء جممال �إىل العلم به‬ ‫تتوخاها البنيوية ‪ ،‬وجتعلها مدار منهجها التحليلي‬ ‫ّ‬
‫يقنعك �إ ّال النظر يف زواياه ‪ ،‬والتغلغل يف مكامنه‬ ‫�ص‬ ‫الذي يجعل من القارئ ال�سلطة التابعة ل�سلطة ال ّن ّ‬
‫تتبع املاء حتى عرف منبعه ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وحتى تكون كمن ّ‬ ‫‪.)5()...‬‬
‫‪64‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الذوق والعبقرية‬
‫(‪)14‬‬
‫وانتهى يف البحث عن جوهر العود الذي ي�صنع فيه‬
‫ميتاز اخلطاب الإبداعي با�شتماله على بوادر‬ ‫�إىل �أن يعرف منبته ‪ ،‬وجمرى عروق ال�شجر الذي هو‬
‫�إخبارية توا�صلية ترتتب وفق طبيعة م�ؤان�سة‬ ‫منه ‪.)...‬‬
‫يبتغيها املن�شئ وينتويها ‪ ،‬يتنامى هذا التعزيز‬ ‫ي�ستوي عبدالقاهر مع ريفاتر يف طلبهما معا بذل‬
‫التوا�صلي بني طريف اخلطاب املن�شئ وال�سامع �أو‬ ‫االجتهاد من قبل املتلقي بغية التو�صل �إىل حتديد‬
‫التوحد واالن�سجام لأنهما‬‫ّ‬ ‫القارئ �إىل درجة من‬ ‫�ص ‪ ،‬والرتكيز على القارئ‬ ‫العالمات امل�شفرة يف ال ّن ّ‬
‫ي�شرتكان يف ف�ضل التفهم والإفهام‪ ،‬فالتوافق‬ ‫املتحكّم يف مهارة اال�ستقراء حيث يجب مراعاة ك ّل‬
‫االنفعايل بني الطرفني يغدو مبثابة الأداة امل�ساعدة‬ ‫(‪)10‬‬
‫كلمة وفق مرجعياتها املعجمية ‪.‬‬
‫على تف ّهم �آليات اخلطاب الفني‪ ،‬فالتوقعات البالغية‬ ‫يحث عبدالقاهر املتلقي على اقتفاء �أثر املعاين‬ ‫ّ‬
‫�أو الإيقاعية التي تغلف بالغة اخلطاب تغدو مبثابة‬ ‫املخب�أة بني العرو�ض البالغية‬ ‫ّ‬ ‫والدالالت‬
‫املثريات التي بف�ضل تنا�سب معطياتها‬ ‫اخلطاب الأدبي‬ ‫والأ�سلوبية التي تنه�ض ال متناهية بني‬
‫البنائية ت�سهل على املتلقي االنخراط‬ ‫ظالل العبارات ( ‪ ...‬ل ّأن املزايا التي‬
‫يف جماذبات توقعها‪،‬لأنه �أي القارئ‬ ‫الفني الناجح هو‬ ‫وت�صور لهم‬‫ّ‬ ‫حتتاج �أن تعلمهم مكانها‬
‫يعمل على جلب املعاين من خالل‬ ‫الذي ال يقول ك ّل‬ ‫�ش�أنها �أمورا خفية ومعاين روحانية �أنت‬
‫ت�أويله للن�ص عن طريق حماولته ودون‬ ‫�شيء داخل ال ّلغة‬ ‫ال ت�ستطيع �أن تنبه ال�سامع لها وتحَ دث‬
‫(‪)15‬‬
‫كلل الك�شف عن النية الأ�صلية للكاتب‬ ‫مهي�أ لإدراكها‬ ‫له علما بها ح ّتى يكون ّ‬
‫لذا نرى ب� ّأن اخلطاب الأدبي الفني‬ ‫اخلطية املنطوقة‬ ‫وتكون فيه طبيعة قابلة لها ‪ ،‬ويكون‬
‫الناجح هو الذي ال يقول ك ّل �شيء داخل‬ ‫بل هو ذلك اخلطاب‬ ‫له ذوق وقريحة ‪ ،‬يجد لهما يف نف�سه‬
‫اللّغة اخلطية املنطوقة بل هو ذلك‬ ‫الذي تتع ّزز قواه‬ ‫�إح�سا�سا ب� ّأن من �ش�أن هذه الوجوه‬
‫اخلطاب الذي تتع ّزز قواه الدالة مبختلف‬ ‫والفروق �أن ُت ْع َر�ض فيها املزية على‬
‫الدعامات الإيقاعية الناه�ضة على‬ ‫الدالة مبختلف‬ ‫اجلملة‪ ، )11()...‬فال�صياغة البالغية تعني‬
‫الن�ص ‪.‬‬
‫جنبات ّ‬ ‫الدعامات الإيقاعية‬ ‫يف بع�ض ما تعني (‪� ...‬إعادة ت�شكيل‬
‫تتفرد القراءة بكونها مداخلة طارئة‬ ‫الناه�ضة على‬ ‫حاالت املتلقي العاطفية وبخا�صة‬
‫ملقول اخلطاب ت�ستطيع �أن تلهم الكثري‬ ‫عما قد ي�صاحبه من ت�أثري �أو ل ّذة‬ ‫التعبري ّ‬
‫من امل�ستجدات الداللية التي هي حم�ض‬ ‫الن�ص‬
‫جنبات ّ‬ ‫�أو حالة انفعالية ‪. )...‬‬
‫(‪)12‬‬

‫انطباع حر ّي�ستك�شفها القارئ من خالل‬ ‫ميكن تلخي�ص مقومات الفهم والتف ّهم‬
‫ن�شاط خميلته ‪،‬فهو ( ‪...‬يعمد �إىل �إعادة بناء الن�ص‬ ‫لدى عبدالقاهر يف امل�ستندات التالية ‪ :‬التهيئة‬
‫من جديد متجاوزا بدلك بنيته الداللية الأوىل �إىل‬ ‫النف�سية �أو ا�ستعداد املتلقي وهي التي ميكن ت�سميتها‬
‫بنيات �أخرى �أعمق يتم دلك من خالل عملية احلفر‬ ‫قوى التف ّهم ‪ ،‬ثم القابلية الطبيعية الفطرية للإدراك‬
‫(‪)16‬‬
‫والتنقيب يف م�ستويات الن�ص‪.‬‬ ‫‪ ،‬فعامال ال ّذوق والقريحة ‪ ،‬فهذه الثالثة يلخ�صها‬
‫احل�س يف‬
‫ّ‬ ‫يف�ضي �إعمال ال ّذوق الفني �إىل توجيه‬ ‫عبدالقاهر يف م�صطلح واحد هو �آلة الفهم(‪.)13‬‬
‫ويتم هذا الفعل عن طريق‬ ‫ت�صور الأ�شكال البنائية ّ‬ ‫حيث نلفي تعويل ميكائيل ريفاتر‪،‬على الأ�سباب‬
‫توظيف احلد�س الذي يحفظ للعبارات واجلمل‬ ‫ذاتها امل�سهمة يف توليد الدالالت والنهو�ض بها‬
‫تتح�س�س‬
‫ّ‬ ‫اللّغوية خ�صو�صيتها البنائية والعرب‬ ‫من قبل املتلقي حني ركز على عاملني مهمني‬
‫ابتداع الأ�ساليب والعبارات وتن�سبها �إىل مبتكريها‬ ‫م�ساعدين على تفهم الن�ص وا�ستقرائه هما عامال‬
‫‪65‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫للقارئ حيث ين�ضوي ت�شفري الر�سالة حتت ت�أثريات‬ ‫حتى ت�صبح مبثابة �شهادة امليالد على وجود الذات‬
‫فنية وجمالية �أي الوظيفة ال�شعرية املعتمدة هي‬ ‫املبدعة و�شخ�صانيتها بل وزيادة على هذا ف� ّإن‬
‫املعيار الأ�سا�سي يف التحكّم يف تقييم العالمة(‪. )20‬‬ ‫العرب حتتفل بابتكار املعاين فت� ّؤرخ ن�سبتها �إىل‬
‫ولل ّتدليل على م�صداقية هذا التجاذب علينا �أن‬ ‫خمرتعيها(‪.)17‬‬
‫نر ّدد دائما املقولة العربية املنا�سبة يف املو�ضوع‬ ‫ففي التعاطي ال�شعري الأثر احلا�سم يف تبني‬
‫متام لأحد متلقيه ‪ :‬مل ال تقول من‬ ‫حماورة �أبي ّ‬ ‫الأ�ساليب االرجتالية الطريفة التي ال �شبيه لها يف‬
‫ال�شعر ما يفهم ؟ فقال له‪ :‬و�أنت مل ال تفهم من‬ ‫ّ‬ ‫واقعي املمار�سة والتعاطي ‪ ،‬لذلك ف� ّإن لغة ال�شعر‬
‫ال�شعر ما يقال؟ ‪ ،‬مع علم الطرفني �أن لغة ال�شعر‬
‫(‪)21‬‬
‫ّ‬ ‫لغة ا�ستجداد تبعا ملا تتم ّتع به من االنقذاف‬
‫تربره طبيعة‬‫تكفل للطرفني م�صداقية التواجد الذي ّ‬ ‫ال�رسدي امل�ستند �إىل فورة التداعي وحما�سته‪.‬‬
‫ال�شعر أل ّنها ال تقبل �سوى التعبريات القابلة‬ ‫لغة ّ‬ ‫ميثل املتلقي يف الدرا�سات الأ�سلوبية احلديثة طرفا‬
‫(‪)22‬‬
‫لل ّتو�صيل ‪.‬‬ ‫بارزا يف عملية التوا�صل والإبالغ بل دوره (‪...‬مهم‬
‫وجند لعبدالقاهر اجلرجاين �أكرث من ر�أي يتما�شى‬ ‫وم�ؤثر فكما ال يوجد ن�ص بال من�شئ كذلك لي�س‬
‫مع التخريجات الأ�سلوبية لريفاتر يف‬ ‫ثمة �إفهام �أو ت�أثري �أو تو�صيل بال قارئ‬
‫تف ّهم الأدوات و الو�سائل املنهجية التي‬ ‫مهادنة بني‬ ‫فهو احلكم على اجلودة �أو الرداءة وهو‬
‫ي�ستعان بها يف التقاط اخل�صائ�ص‬ ‫املن�شئ واملتل ّقي‬ ‫الفي�صل يف قبول الن�ص �أو رف�ضه‪)...‬‬
‫الأ�سلوبية للكالم‪ ،‬فما (‪ ...‬ك ّل فكر يهتدي‬ ‫(‪ ، )18‬لكن ريفاتر ال تهمه الأحكام التي‬
‫�إىل وجه الك�شف عما ا�شتمل عليه ‪ ،‬وال‬
‫حيث يوهم ك ّل‬ ‫ي�صدرها القارئ بقدر ما يهمه من ذلك‬
‫ك ّل خاطر ي�ؤذن له يف الو�صول �إليه ‪،‬‬ ‫منهما نف�سه‬ ‫حتديد الوقائع الأ�سلوبية الكامنة يف‬
‫�شق ال�صدفة ويكون‬‫فما ك ّل �أحد يفلح يف ّ‬ ‫ب�إخمال الآخر‬ ‫الن�ص ‪.‬لأن الن�ص من منظور ريفاتر‬
‫يف ذلك من �أجل املعرفة ‪. )...‬‬
‫(‪)23‬‬
‫مكتوب يف روح القارئ(‪.)19‬‬
‫ينبني التذاذ املتلقي للخطاب‬
‫يف كثري من‬ ‫ال ميكن �أن حتتجب عن �أنظارنا‬
‫ح�سب تقدير عبدالقاهر م�رشوطا بعملية‬ ‫التح ّدي‬ ‫تلك احلوافز الإبداعية التي ين�شدها‬
‫التنقيب والتفتي�ش عن العنا�رص الفنية‬ ‫ك ّل من املن�شئ والقارئ على ال�سواء ‪،‬‬
‫غري املتوقعة امل�شكلة جلماليات اخلطاب الفني مثل‬ ‫ثمة �رضوبا كثرية‬ ‫حيز املمار�سة � ّأن ّ‬
‫حيث يثبت يف ّ‬
‫عن�رص اال�ستغراب(‪ )24‬الناجت عن �صدمة املفاج�أة‬ ‫من املناف�سة والت�سامي وال�سباق يتخلّل الرابطة‬
‫املتحينة يف �سياق ا�ستقراء املكونات ‪ ،‬وجند‬ ‫بالتفوق‬
‫ّ‬ ‫التوا�صلية بني طريف اخلطاب فالإيالع‬
‫الرجلني ‪ :‬عبدالقاهر وريفاتر يتفقان يف مبد�أ بث‬ ‫روح ثابتة يحتكم �إليها يف ك ّل �إن�شاء �أو قراءة ‪،‬‬
‫الغرابة واملفاج�أة(‪ )25‬يف مقروئية اخلطاب ‪ ،‬فهذه‬ ‫فلعبة التحايز التي ت�سكن الو�سط الرتا�سلي تلهم ك ّال‬
‫احلوافز الفنية بح�سن تقدير مكامنها من اخلطاب‬ ‫من الطرفني طبيعة من الت�سامي وال�شعور بالعبقرية‬
‫الفن واجلمال ‪ ،‬ويح�سن بنا الت�أريخ‬ ‫تتع ّزز بالغة ّ‬ ‫والتفوق نعتقد �أ ّنها املولدة للقيم البالغية الأ�سلوبية‬
‫ّ‬
‫لأوليات االهتمام مببد�أ املفاج�أة بالإ�شادة ب�سهم‬ ‫واملنتجة لها ‪.‬‬
‫ابن طباطبا الذي و�سم هذا الف�ضل البالغي مبوقع‬ ‫فال مهادنة بني املن�شئ واملتل ّقي حيث يوهم‬
‫الب�رشى الذي يقوم يف جوهره بتوافر �آليات ا�ستفزاز‬ ‫ك ّل منهما نف�سه ب�إخمال الآخر يف كثري من التح ّدي‬
‫املتلقي وجره �إىل ك�شف خيوط اللعبة البالغية‬ ‫فمن الثابت �أن لي�س هناك توافق مبدئي بني امل ؤ�لّف‬
‫(‪)26‬‬
‫املنطوية عليها بالغة اخلطاب‪.‬‬ ‫وامل�ستقبل يف ت�شفري الر�سالة وبني ا�ستقبالها‬
‫‪66‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫تطرق ميكائيل ريفاتر �إىل الرتكيز على ما ي�سميه‬ ‫ّ‬ ‫وعلى �أوثق تقدير ‪،‬ف� ّإن البالغيني العرب �أعطوا‬
‫عول عليه‬‫القارئ العمدة ‪ Archilecteur :‬الذي ّ‬ ‫مبد�أ التدرج يف مداخلة خبايا اخلطاب وخفاياه بعدا‬
‫كثريا و�أقحمه يف ك�شف الوقائع الأ�سلوبية وفكّ‬ ‫تفكرييا بالغا (‪ ...‬ف�إن ال�شيء �إذا ح�صل كمال العلم‬
‫(‪)30‬‬
‫�شفرة الر�سالة الأدبية ‪.‬‬ ‫به مل يتق ّدم ح�صول اللّذة به �أمل ‪ ،‬و�إذا ح�صل ال�شعور‬
‫ونت�صور � ّأن هذا القارئ النموذجي الذي حتتفل به‬ ‫ّ‬ ‫ت�شوقت النف�س �إىل العلم باملجهول‬ ‫به من وجه ّ‬
‫ر�ؤية ريفاتر متم ّتع بفطنة ثقافية كفيلة ب�أن متنحه‬ ‫فيح�صل لها ب�سبب املعلوم ل ّذة ‪ ،‬وب�سبب حرمانها‬
‫قيمة �أدبية يغدو معها م� ّؤهال للتقييم والتخريج مبا‬ ‫ثم �إذ ح�صل لها العلم به ح�صلت لها‬ ‫عن الباقي �أمل ‪ّ ،‬‬
‫يعني امتالكه �أدوات ال ّت�أثري يف �سلطة اخلطاب عن‬ ‫ل ّذة �أخرى ‪ ،‬واللذة ُعقيب الأمل �أقوى من اللّذة التي مل‬
‫طريق �أهليته لبذل جهود التخريج وال ّت�أويل وخا�صة‬ ‫يتق ّدمها �أمل ‪.)27()...‬‬
‫�أن ريفاتر ركز على م�س�ألتي الذوق والعبقرية اللتني‬ ‫ثمة طاقات‬‫يك�شف عبدالقاهر اجلرجاين عن � ّأن ّ‬
‫ي�ستعني بهما القارئ يف ت�أويله للن�ص(‪ ، )31‬وقد‬ ‫روحية ت�أويلية الب ّد من اال�ستعانة بها يف بذل‬
‫تكون العبقرية التى ق�صدها ريفاتر‬ ‫البالغي لكل خ�صو�صية‬ ‫ّ‬ ‫قوى التف ّهم‬
‫هي الفطنة البالغية التي �أ�شاد بها‬
‫ريفاتر مبثابة‬ ‫تعبريية ‪ ،‬فاالنفعال بالقيم التعبريية‬
‫عبدالقاهر التي ينبغي توفرها يف‬ ‫الرائد الذي فتق‬ ‫لي�ست يف متناول ك ّل ح�س ‪ ،‬وكذا ف� ّإن‬
‫املتلقي املتميز‪ ،‬ونعتقد ب� ّأن هذا القارئ‬ ‫البحث الأ�سلوبي‬ ‫اخلواطر تتفاوت يف مقدرتها وكفاءتها‬
‫ال ب ّد من �أن يتوافر على م�صداقية �أدبية‬ ‫يف التنبه للحيل الرتكيبية التوقيعية‬
‫يكون بها �رشيكا لنتاجت حياة اخلطاب‬
‫البنيوي ‪ ،‬يعزى‬ ‫يت�شخ�ص بها االنب�صام الأ�سلوبي‬ ‫ّ‬ ‫التي‬
‫(‪ ..‬فا�ستمرار الت�أثريات الأ�سلوبية‬ ‫�إليه هذا اال�ستنباط‬ ‫فاملتلقي الفنان املتف ّهم هو الذي‬
‫عرب ال ّزمن وتلقي ال�شعر يف ك ّل حلظة‬ ‫الإبداعي الذي‬ ‫املكملة‬
‫ّ‬ ‫ي�ضطلع ببذل قوى اال�ستنباط‬
‫يتوقفان متاما على القارئ(‪ ،)32‬وهذا‬ ‫لبنية اخلطاب البالغية من خالل العمل‬
‫يعني �أن الوازع احلا�سم لي�س يف الإجراء‬
‫فتح للح�ضارة‬ ‫على النفخ يف روحه‪.‬‬
‫و�إمنا هو يف اال�ستعداد املعريف الذي‬ ‫ال ّلغوية ف�ضاءات‬ ‫فال�سمات الأ�سلوبية ت�ستنه�ضها فطنة‬
‫ي�سكن روح املتل ّقي ‪ ،‬لذلك اعترب القارئ‬ ‫التنوع واال�ستجداد‬ ‫التلقي البالغية يف ذهن القارئ عن‬
‫حمورا للدرا�سات الأ�سلوبية (فريفاتر‬ ‫طريق االنتباه للعنا�رص اللّغوية املكونة‬
‫�صاحب ر�صيد كبري من الآراء حول القراءة حيث‬ ‫والبانية للخطاب ‪ ،‬التي �إذا قام بتحليلها تو�صل �إىل‬
‫�ص ‪ ،‬حني دعا الكاتب‬ ‫طالب املتلقي بفكّ �شفرة ال ّن ّ‬ ‫دالالت و�سمات خا�صة تربز التميز الأ�سلوبي يف‬
‫ن�صه ‪.)33()...‬‬‫لت�شفري ّ‬ ‫(‪)28‬‬
‫بنية اخلطاب التعبريية‪.‬‬
‫ثم طال اهتمام ريفاتر ليقول ب�رضب من‬ ‫ّ‬
‫امل�شاكلة لهذه املبادئ يف تق�سيم القارئ وت�صنيفه‬ ‫فاعلية التل ّقي من منظور ريفاتر‪:‬‬
‫فثمة قارئ عمدة ‪ ،‬وقارئ‬ ‫ح�سب الذوق واملقدرة ّ‬ ‫لقد �سعى‪ riffaterre‬ريفاتر �إىل ا�ستخدام فعل‬
‫متو�سط‪ ،‬وقارئ عادي(‪ ،)34‬ومن العرب من �أ�سمى‬ ‫ّ‬ ‫التلقي بجعله معيارا لتحديد الوقائع الأ�سلوبية‬
‫زخم الربط بني طريف الرتا�سل بالوجوه الكثرية‬ ‫يف القول الأدبي فالأذواق �إذا كانت متغرية وكان‬
‫التي تقع بني م�ستويني توا�صليني م�ستوى �أعلى هو‬ ‫لك ّل قارئ �أحكامه امل�سبقة اخلا�صة ف� ّإن امل�شكلة‬
‫تدنى حلق‬
‫املتفوق و�آخر �أدنى هو املنحطّ الذي �إذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتبينّ عندئذ يف حتويل ردود الفعل الذاتية �إىل �أداة‬
‫(‪)35‬‬
‫ب�أ�صوات احليوانات‪.‬‬ ‫مو�ضوعية للتحليل‪. )29(.‬‬
‫‪67‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إىل املربرات الإيقاعية الدقيقة التواجد �أن يولّد‬ ‫وا�ستيفاء ملوا�صفات التلقي ف�إن لكل �أ�سلوب‬
‫ثمة �أ�سلوبيته ‪ ،‬نرى‬ ‫خ�صو�صية بنية اخلطاب ومن ّ‬ ‫درجة من الوعي يف التلقي ‪ ،‬فالأ�سلوب املتدين‬
‫هذا على �أ ّنه نف�سه الذي قال به اجلاحظ حني ف�ضل‬ ‫ي�ضطلع بالإخبار ‪ ،‬واملتو�سط منه يقوم بالإمتاع ‪،‬‬
‫بنية النرث املبدوء على الق�صدية النرثية على �شعرية‬ ‫(‪)36‬‬
‫و�أما الأ�سلوب الرفيع فغايته الت�أثري ‪.‬‬
‫ال�شعر املرتجم ولع ّل تربيره يف ذلك عائد �إىل مدى‬ ‫وبهذا يكون ميكائيل ريفاتر مبثابة الرائد الذي فتق‬
‫(‪)39‬‬
‫ترابط الكلم وتال�ؤمه وتالحم �أجزائه‪.‬‬ ‫البحث الأ�سلوبي البنيوي ‪ ،‬يعزى �إليه هذا اال�ستنباط‬
‫تنبه عبدالقاهر اجلرجاين �إىل قيمة‬ ‫ومن جانب �آخر ّ‬ ‫الإبداعي الذي فتح للح�ضارة اللّغوية ف�ضاءات‬
‫متو�ضع الكلمة �أي حملها من ال�سياق يف �إنتاج القيم‬ ‫التنوع واال�ستجداد‪.‬‬
‫النظمية بحيث تكون �إ�صابة توقيع حملها م�سهما‬ ‫ين�صب على اال�ضطالع‬ ‫ّ‬ ‫فالإبداع البالغي احلديث‬
‫يف �إ�ضفاء البهجة والإينا�س على املادة اللّغوية‬ ‫بنقل الر�ؤية النقدية من الدر�س اللّغوي املح ّدد‬
‫‪ ،‬ويكون جميع هذا بحيث(‪ ...‬ترى الكلمة تروقك‬ ‫�إىل مقاربة الغايات النقدية الفكرية التي تعنى‬
‫ثم تراها بعينها تثقل عليك‬ ‫وت�ؤن�سك يف مو�ضع ‪ّ ،‬‬ ‫بالق�ضايا الكربى من مثل الأ�سلوب وال�صورة‬
‫وتوح�شك يف مو�ضع �آخر‪. )...‬‬
‫(‪)40‬‬ ‫(‪)37‬‬
‫الأدبية ‪.‬‬
‫ي�سدي ح�سن التموقع الن�سقي قيمة‬ ‫اجته عبدالقاهر‬ ‫ولو ت� ّأملنا الداللة اجلوهرية العميقة‬
‫تت�شخ�ص ‪ ،‬وتربز �إىل درجة‬ ‫ّ‬ ‫جمالية‬ ‫اجلرجاين �إىل‬ ‫ملعنى ال�سياق والت�ساوق �ألفينا جدواه‬
‫من الإتقان ك�أ ّنها مادة وزنية تعرف‬ ‫م ّت�صال بداللة الوجهة واالتجّ اه ‪،‬‬
‫بال�سالمة �أو االنك�سار ‪ ،‬لذلك �أحلقنا القيم‬
‫الت�أكيد على‬ ‫وحقيقة ف� ّإن االنتظام الطبيعي لتوايل‬
‫الأ�سلوبية بقيم التوقيع والتوزيع بناء‬ ‫التحام عنا�صر‬ ‫احلروف والوحدات اللّغوية امل�شكلة‬
‫على ما ي�ستلزمه �إتقان �صناعة الأ�ساليب‬ ‫اخلطاب وت�شابكها‬ ‫منها يقت�ضي ن�سقا تراتبيا ينتظم فيه‬
‫لذلك ال�سبب ربط عبدالقاهر فاعليتها‬ ‫العن�رص التايل الحقا بالعن�رص الذي‬
‫يتج�سد‬ ‫البنائية مبردود نف�سي انفعايل‬
‫يف الك�شف عن‬ ‫�سبقه ‪ ،‬وهذا لوحده كفيل ب�أن يولّد‬
‫ّ‬
‫يف ال�شعور الغامر احتفاال ب�إ�صابة تلك‬ ‫مزيتها الأ�سلوبية‬ ‫عناية برتاتبية املوا ّد اللّغوية ‪ ،‬فاللّغة‬
‫املقادير التوقيعية اخلا�صة ج ّدا(‪. )41‬‬ ‫حني تتملّك متعاطيها تفر�ض عليه‬
‫احل�س با�ستخبار املوا ّد اللّغوية يف‬ ‫ّ‬ ‫يرتكز عمل‬ ‫طبيعة تالزمية ت�صريه كامل�أ�سور ال ي�ستطيع الفكاك‬
‫حيز‬
‫جمالها النف�سي االنفعايل قبل �أن تخرج �إىل ّ‬ ‫من جاذبية تداعيها يف اللّ�سان وال�سمع معا ‪.‬‬
‫ال�صوت والإ�شارة‪ ،‬فالتقديرات البنائية هي التي‬ ‫� ّإن االحتكام �إىل �سلطة الن�سق يف الكالم امل ّت�سق‬
‫يع ّدلها �إخراجيا ومتنحها الو�ضعية الأ�سلوبية‬ ‫ا ّت�ساقا فنيا �أمر واقعي ت�ص ّدقه طبيعة املنطق‬
‫امل�ست�ساغة ل�سانيا و�سماعيا‪ ،‬ولذلك يعترب (البناء‬ ‫فالكالم يزدحم يف �صدر املتكلم وبحبوحة نف�سه‬
‫الأ�سلوبي لأي ن�ص هو يف احلقيقة نتاج تتابع‬ ‫قبل �أن يجد �سبيله لالنتظام وفق خ�صائ�ص تركيبية‬
‫عنا�رص مميزة تتقابل فيه مع عنا�رص غري مميزة‪)...‬‬ ‫نظمية قد ال ي�أتي العقل �أي الوعي على ت�شخي�ص‬
‫(‪ .)42‬هذا وقد يعني بالعنا�رص املميزة املو�سومة‬ ‫حقيقتها الروحية‪.‬‬
‫واملعلَّمة وغري املميزة بالعنا�رص غري املو�سومة يف‬ ‫متتلك ال�صيغة الإن�شائية �إحكامها البنائي من خالل‬
‫�ص ‪.‬‬
‫ال ّن ّ‬ ‫الرتابط الوظيفي للمكونات اللّغوية وتناجت الف�ضل‬
‫لقد اجته عبدالقاهر اجلرجاين �إىل الت�أكيد على‬ ‫بني كلمه وح�صوله من جمموعها عرب العنا�رص‬
‫التحام عنا�رص اخلطاب وت�شابكها يف الك�شف عن‬ ‫والوحدات(‪ )38‬ي�ستطيع التالزم الن�سقي املحتكم‬
‫‪68‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫طبيعيا الحتمال �إنتاج ال�سياقات الأ�سلوبية يف‬ ‫مزيتها الأ�سلوبية يف الطرح ال�سابق م�ستندا �إىل‬
‫توليد املعاين ‪ ،‬وذلك راجع �إىل كونها غنية باملوا ّد‬ ‫الذائقة اللّغوية وال ّنظر العميق ملكونات الن�ص‬
‫ال�صوتية وال�رصفية والنحوية وهي جمتمعة مت�آزرة‬ ‫الإيقاعية فهي �سلوك قرائي ف ّني ال يهتدي �إىل‬
‫احل�س ي�ستعني بال�صنوف اللّ�سانية ال�سماعية‬ ‫ّ‬ ‫جتعل‬ ‫ح�س فني قمني بذلك‪.‬‬ ‫�إتقانه �سوى ّ‬
‫‪ ،‬فالقاعدة النحوية ذاتها يف اللّغة العربية تتم ّتع‬ ‫�أ�سلوبية ال�سياق‪:‬‬
‫ب�سيا�سة وكيا�سة وريا�ضة جتعل املادة اللّغوية‬ ‫يف�ضل عبدالقاهر اجلرجاين غريه من البالغيني‬ ‫ٌ‬
‫تلني وتعذب مما�شية مع متطلبات االنتظام الفني‬ ‫العرب يف كونه تناول �أثر ال�سياق يف �إنتاج الأ�سلبة‬
‫للأ�ساليب التعبريية‪( ،‬فالظاهرة ال ميكن �أن تفهم‬ ‫و�إخراج الكالم �إىل معان خا�صة جدا التي يفر�ضها‬
‫منعزلة ‪ ،‬و�إنمّ ا تفهم فقط بدرا�سة ت�شاكالتها‬ ‫ال�سياق باعتباره ال�ضابط الداليل حلركة املعنى‪،43‬‬
‫وت�أثرياتها وعالقاتها املتبادلة ‪ ،‬وي�ساعد على جعل‬ ‫و قد �أعطى عبدالقاهر ال�سياق وظيفية فاعلة الّئقة‬
‫بناء العمل كله متما�سكا ومي ّدنا بقراءة مرتابطة‬ ‫به حني قال‪� ...( )44(:‬أن لي�س كالمنا فيما يفهم من‬
‫(‪)46‬‬
‫للك ّل )‪.‬‬ ‫لفظتني مفردتني نحو قعد وجل�س ولكن فيما فهم‬
‫مي�ضي عبدالقاهر يف منهاج امل�شاكلة بني‬
‫(‪)47‬‬
‫من جمموع كالم وجمموع كالم �آخر)‪.‬‬
‫�صناعة الن�سيج وبني ن�ساجة الأ�ساليب‬ ‫ي�سدي تفاعل املتجاورات اللّفظية‬
‫اللّغوية قائال‪( :‬واعلم � ّأن من الكالم‬
‫ي�شرتط ال ّلغويون‬ ‫فائدة بالغية تتولد خالل موا�ضع‬
‫ما �أنت ترى املزية يف نظمه واحل�سن‬ ‫العرب املبد�أ‬ ‫الكلم وتتك�شف ‪ ،‬فمثلما تتفاعل �أ�صوات‬
‫وين�ضم‬
‫ّ‬ ‫كاالجزاء من ال�صبغ تتالحق‬ ‫اجلملي �شرطا‬ ‫احلروف ‪ ،‬تتوافى الأ�ساليب والعبارات‬
‫بع�ضها �إىل بع�ض حتى تكرث يف العني‬ ‫‪ ،‬مثل اللّغة يف ذلك مثل جمرى املاء‬
‫ف�أنت لذلك ال تكرب �ش�أن �صاحبه وال‬
‫حا�سما لدخول‬ ‫يحتفر االلتواءات ويفرتع ال�سبل‬
‫تق�ضي له باحلذق والأ�ستاذية و�سعة‬ ‫الكالم يف‬ ‫وال�سياقات‪.‬‬
‫الذرع و�ش ّدة امل ّنة حتى ت�ستويف القطعة‬ ‫اعتبار الكالم‬ ‫تذوب ك ّل من نحوية اللّغة و�رصفيتها‬
‫وت�أتي على ع ّدة �أبيات ‪.)...‬‬ ‫ومعجميتها من�صهرة �ضمن قاعدة‬
‫انطالقا من هذه املقاربات النقدية‬ ‫التناجت الأ�سلوبي من خالل القوانني‬
‫مل�ساهمة ال�سياق يف ت�شخي�ص الوظيفة الأ�سلوبية‬ ‫احل�س الف ّني املن�شئ ملختلف‬
‫الإيقاعية التي يحد�سها ّ‬
‫يتبينّ لنا � ّأن اال�ستطالة يف الكالم باعتدال ور�صانة‬ ‫البالغات ‪ .‬فالعمل يف دقائق املوا ّد اللّغوية مرتوك‬
‫مولّدة للأ�سلبة ‪ ،‬وبالعك�س من ذلك ف� ّإن تقا�رص‬ ‫احل�س باعتباره قادرا على التغلغل �إىل مكامن‬ ‫لفطنة ّ‬
‫الكالم وتقطّ عه غري مفيد يف املو�ضوع وال هو ذو‬ ‫تلك املوا ّد وتقدير مقت�ضياتها االنفعالية امل�شكلة‬
‫جدوى ‪ ،‬فاال�ستطالة يف احلديث �أو الكتابة ب�رشط‬ ‫التعبريي‪ ،‬لأن‬
‫ّ‬ ‫يف نهاية املطاف جلمالية املوقف‬
‫احل�س الن�شاط يف تقدير‬ ‫ّ‬ ‫االعتدال يف ذلك تلهم‬ ‫ال�سياق الأ�سلوبي ميثل ‪ .‬امللمح اخلا�ص والب�صمة‬
‫الأبنية ‪ ،‬وبث �أ�صناف التالوين ال�سياقية ‪..( ،‬‬ ‫التي متيز كل كاتب �أو �أديب عن الآخر‪ ،‬ويظهر هذا‬
‫فالكلمة الواحدة ال ت�شجو وال حتزن وال تتملّك قلب‬ ‫ال�سياق يف الن�صو�ص ال�شعرية �أو النرثية‪ ،‬ويتميز‬
‫ال�سامع ‪ ،‬و�إنمّ ا ذلك فيما طال من الكالم ‪ ،‬و�أمتع‬ ‫بخ�صو�صية اخللق الفني‪ ،‬والطاقات ال�سياقية‬
‫�سامعيه بعذوبة م�ستمعه ور ّقة حوا�شيه )(‪.)48‬‬ ‫واللغوية وال�صوتية والداللية اخلا�صة التي متثل‬
‫وربمّ ا لهذه احلاجة ال�سياقية التي تقت�ضيها بناء‬ ‫انحرافا فنيا)(‪.)45‬‬
‫الأ�ساليب اللغوية ارتبط جمال ال�شعر باالعتدال بني‬ ‫مهي�أة‬
‫لعلّنا ال نغايل �إن نحن قلنا ‪ّ � :‬إن اللّغة العربية ّ‬
‫‪69‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الكلمة بكلمة �أخرى جماورة من جهة املعنى ‪ ،‬حيث‬ ‫للح�س ن�شاط جماذبة‬ ‫ّ‬ ‫الإطالة والتق�صري مبا توفر‬
‫يعترب هذا �أهم جانب يف بحث عبدالقاهر من خالل‬ ‫الكالم ‪ ،‬وكذلك ربمّ ا يكون لذات ال�سبب ا�شرتطوا يف‬
‫�إحلاحه ال�شديد على فكرة العالقات التي تنطوي‬ ‫التق�صيد �أ ّال يق ّل عن �سبعة �أو ع�رشة �أبيات ‪ ،‬يقولون‬
‫على حركة �إبداع م�ستمرة يف اللّغة ترجع �إىل موقع‬ ‫بهذا مبا ميكن �أن يفهم منه � ّأن احل�س اللّغوي بك ّل‬
‫(‪)52‬‬
‫الكلمة من ال�سياق وعالقاتها به ‪.‬‬ ‫م�ستتبعاته الن�شاطية من ل�سان و�سماع وت�صور‬
‫التعبريي �أو املحطّ ة‬
‫ّ‬ ‫ي�أخذ ال�سياق معنى النف�س‬ ‫وتخييل ال ي�ستوي على جا ّدة االرجتال �إ ّال �إذا توافر‬
‫املتميزة بخ�صو�صيتها الأ�سلوبية ‪ ،‬يطغى‬ ‫ّ‬ ‫التعبريية‬ ‫احليز القابل حلمل متطلبات التكرار والتفا�ضل ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫هذا االمتياز اللغوي حتى يكون مدعاة �إىل تع ّدد‬ ‫والتفريع والت�شقيق هي م�ستلزمات بنائية ي�ستعني‬
‫ال�سياقات الأ�سلوبية ( ‪ ...‬وهذا ما يف�سرّ كيف تكت�سب‬ ‫فيها املن�شئ ب�آليات ترقيم ف�صول الكالم ‪ ،‬يبلغ بنا‬
‫الوحدة اللّغوية ت�أثريها الأ�سلوبي �أو تفقده بح�سب‬ ‫مب�سوغات �إنتاج‬ ‫ّ‬ ‫الكم اللّفظي‬
‫هذا التداول لعالقة ّ‬
‫حملّها من ال�سياق ‪ ،‬ويف�سرّ االختالف يف ال�سياقات‬ ‫ال�سياقات الأ�سلوبية مبلغ القول‪ّ � :‬إن (‪ ...‬الكالم‬
‫كيف � ّأن ك ّل جتاوز للقاعدة يف اال�ستعمال العادي‬ ‫املتقطّ ع الأجزاء املنبرت الرتاكيب غري ملذوذ ‪ ،‬وال‬
‫لي�س حتما حدثا �أ�سلوبيا ‪ ،‬وكيف � ّأن ك ّل ت�أثري‬ ‫(‪)49‬‬
‫م�ستحلى‪.)...‬‬
‫�أ�سلوبي لي�س بال�رضورة خروجا عن القاعدة �أو‬ ‫ي�شرتط اللّغويون العرب املبد أ� اجلملي �رشطا حا�سما‬
‫عدوال عن النمط يف التعبري ‪.)53( )...‬‬ ‫لدخول الكالم يف اعتبار الكالم ‪ ،‬فاجلملة الواحدة‬
‫ترقى الوظيفة ال�سياقية للأ�ساليب التعبريية �إىل درجة‬ ‫احلر‬
‫قابلة حلمل التوقيعات الداللية لذلك نرى ال�شعر ّ‬
‫�أن ت�ضحى معلما بنائيا ميكن اعتماده عالمة لتمييز‬ ‫�أي �شعر التفعيلة معتمدا هذا النمط يف اال�ستعمال‬
‫املحطات التعبريية يف اخلطاب الأدبي‪ ،‬حيث ت�صبح‬ ‫اللّغوي فالنطق باحلرف الواحد مثلما هي الأفعال‬
‫فيه العينات اللّغوية ال�سياقية التي تنطوي عليها‬ ‫امل�رصفة �إىل الأمر من مثل وعى ووقى ميج النطق بها‬
‫الوحدات اللّغوية قابلة للمعاينة والت�شخي�ص وا�ستزادة‬ ‫م�رصفة �إىل مفرد املذكر‪ِ :‬ق ‪ِ ،‬ع فهذا القدر من النطق‬
‫لتف�سري امل�ؤثرات ال�سياقية على الظاهرة الأ�سلوبية ‪.‬‬ ‫ال يعذب وال يرقّ فاللّ�سان يكد حل ّدته وتقا�رص ما ّدته‬
‫وقد يبدو من االعتباط اعتداد بع�ض الكتاب مبخالفة‬ ‫الل�سانية ‪ ،‬والأذن ت�شمئ ّز ب�سماعه نظرا حل ّدة �صكّه لها ‪،‬‬
‫الأمناط التعبريية التقليدية ‪ ،‬واخلروج على قواعد‬ ‫لذلك ف� ّإن �أعدل الأبنية الثالثي باعتباره ي�سمح بحرية‬
‫متحال وتطلبا للأ�سلبة فالأ�سلوب ينبني على‬ ‫اللّغة ّ‬ ‫وتو�سطا وتقفية �أو �إعرابا(‪.)50‬‬
‫مراوحة اللّ�سان ابتداء ّ‬
‫تلبية املن�شئ ل�رشوط اللّغة التي يرتقبها القارئ‬ ‫متتلك اللّفظة قيمتها ال�سياقية من خالل �إتقان‬
‫الفطن(‪.)54‬‬ ‫حيزها �ضمن انتظام الكمية املعجمية‬ ‫احل�س لتوقيع ّ‬ ‫ّ‬
‫و�إذا جئنا �إىل ا�ستثمار الر�أي ال�سابق وجب علينا‬ ‫املوظّ فة يف اخلطاب ‪ ...( ،‬وهل قالوا ‪ :‬لفظة متمكّنة‬
‫الإبقاء على م�صداقية لغة ال�شعر و�أهليتها ال�ستنتاج‬ ‫ومقبولة ويف خالفة ‪ :‬قلقة ونابية وم�ستكرهة �إ ّال‬
‫الأ�ساليب �أكرث من غريها من النماذج الأدبية‬ ‫وغر�ضهم �أن يعبرّ وا بالتمكّن عن ح�سن اال ّتفاق‬
‫الفن‬
‫الأخرى ‪ ،‬ولي�س ذلك واقعا �إ ّال لكون لغة هذا ّ‬ ‫بني هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق وبالتنب ؤ�‬
‫م� ّؤججة يف طبعها حممولة على جملة من املح ّفزات‬ ‫عن �سوء التال�ؤم ‪ ،‬و� ّأن الأوىل مل تلِق بالثانية يف‬
‫البنائية كالوزن والإيقاع والت�صوير والتخييل تكون‬ ‫معناها و� ّأن ال�سابقة مل ت�صلح �أن تكون لفقا للتالية‬
‫هذه مبثابة املنا�سبات البنائية الداعية ال�ستجالب‬ ‫(‪)51‬‬
‫يف م�ؤ ّداها‪.)...‬‬
‫امل�ستج ّدات البالغية ‪ ،‬الحتوائها على تراكيب‬ ‫يبدو لنا بعد ا�ستخال�ص ال�سياقات التفكريية‬
‫�سياقية خا�صة جدا‪ ،‬فهناك من يعترب ال�سياق (‪...‬‬ ‫لعبدالقاهر اجلرجاين �أ ّنه يركّ ز كثريا على عالقة‬
‫‪70‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫‪ (:‬ال�سياق الأ�سلوبي هو تلك املقابالت الوظيفية يف‬ ‫عامال مهما يف حتديد حمتوى الق�ضية لإمارات‬
‫اللّغة والتي ت� ّؤ�س�س بنية لغوية حمتملة)(‪.)59‬‬ ‫معينة من نقو�ش الكالم يف منا�سبات خمتلفة من‬
‫يرى ريفاتر �أن القارئ ي�ستفيد من ال�سياق الأ�سلوبي‬ ‫ال ّنطق)‪. 55‬‬
‫الذي يحتكم �إىل جمموعة من الأ�ساليب املم ّدة‬ ‫معنى هذا � ّأن حقيقة الن�شاط الأ�سلوبي �أكرث ما يكون‬
‫القارئ مبوجة من املعاين ‪ ،‬تلك املعاين ميكن �أن‬ ‫يف االرجتاالت ال املكتوبات ‪ ،‬ل ّأن فعل التدوين من‬
‫تكون جديدة يكت�شفها القارئ وال يت�صورها امل�ؤلّف‪.‬‬ ‫احل�س‬
‫ّ‬ ‫طبيعته �أن ي�ضعف قوى االرجتال ‪ ،‬وي�ش ّتت‬
‫(‪ ، )60‬ل ّأن البنية الداللية يف نظره ال تكون خفية �أو‬ ‫ويثنيه عن مطالب الإن�شاء ‪.‬‬
‫�ص ‪ ،‬بل تكون ظاهرة ومتجلية يف‬ ‫�ضمنية يف ال ّن ّ‬ ‫يعتقد بع�ض النقاد �أن ال�سياق الأ�سلوبي يظهر يف‬
‫الوقائع الأ�سلوبية ‪ ،‬وبهذا االن�ضباط البنائي‬
‫(‪)61‬‬
‫الن�صو�ص ال�شعرية والنرثية �أكرث منه يف اللّغة‬
‫الذي ت�سديه الأ�سلبة للقيم التعبريية يبدو الن�سق‬ ‫العادية نظرا ملا يتطلبه ال�شعر والنرث الفني من قوة‬
‫الأ�سلوبي طبيعة امتيازية ترتفع بالظاهرة اللّغوية‬ ‫وقوة التوارد الداليل ‪ ،‬لذلك‬
‫الن�سج وجدارة البناء ّ‬
‫من م�ستوياتها الب�سيطة �إىل ما هو متميز و�أرقى‪.‬‬ ‫يرى �إىل ال�سياق الأ�سلوبي على �أ ّنه طاقة �إبداعية‬
‫�إن الظاهرة الأ�سلوبية من هذا املنظور هي طبيعة‬ ‫و�إنتاجية م�ؤهلة ال�ستنتاج وابتكار الرتاكيب‬
‫�إيقاعية تتجاوز املكونات البنائية الأخرى للغة‬ ‫(‪)56‬‬
‫اللّغوية اجلديدة ‪.‬‬
‫‪ ،‬لتدخل م�ستويات من التعامل الفني‬
‫اجلمايل اخلادم لت�شخي�ص اخل�صو�صية‬
‫لكل لغة‬ ‫ال�سياق الأ�سلوبي لدى ريفاتر‪:‬‬
‫الإبداعية ‪ ،‬و�إذا فالأدب �شعره �أو نرثه‬ ‫خ�صو�صياتها‬ ‫يعترب ريفاتر يف نظر هرني�ش بليث‬
‫(‪)57‬‬

‫ال ميكن �أن يحوز درجات الإبداع التي‬ ‫املمثل الأملع للأ�سلوبية ال�سياقية ‪ ،‬البالغية‪ ..‬واحل�س‬
‫يتل ّهف املتلقون �إىل مطالعتها يف ف�صول‬
‫يتجر�أ الأديب‬ ‫الإبداع الأدبي إ� ّال بعد �أن‬
‫املفارقة اللغوي هو‬ ‫وهذا حينما �أ�شار ريفاتر �إىل‬
‫ن�صي متو ّقع‬
‫الناجتة عن �إدراك عن�رص ّ‬
‫ّ‬
‫يف تبني اخل�صو�صيات الت�شكيلية للغة‬ ‫متبوع بعن�رص غري متو ّقع ‪ ،‬فالأول غري اجلامع بينهما‬
‫اخلطاب الأدبي ‪.‬‬ ‫املو�سوم وهو ال�سياق الأ�صغر ‪ ،‬والثاين‬
‫يرى ريفاتر �أنه ال ميكن ل ّأي عن�رص من عنا�رص‬ ‫املو�سوم وهو ال�سياق الأكرب حيث يقت�ضي العمل‬
‫الن�ص �أن ي�شكّل بنية ما مل يكن هذا العن�رص مو�ضوع‬ ‫ّ‬ ‫�ضمن ا�ستجابة الطبع البالغي لدى ريفاتر ملجاذبة‬
‫انتقاء يفر�ضه على �إدراك القارئ ‪ ،‬لهذا تتجلى‬
‫(‪)62‬‬ ‫الفائدة الأ�سلوبية التي ر�أينا ذاتها لدى عبدالقاهر‪،‬‬
‫القيم الأ�سلوبية مبثابة البنية الإيقاعية امل�ستهدفة‪،‬‬ ‫ب�أ�سلوبية ال�سياق‪Contexte sty� :‬‬ ‫قائال �أي ريفارتر‬
‫(‪)58‬‬

‫فالأ�سلوب من حيث غوايته الفنية التي ي�شيعها‬ ‫‪ listique‬وال�سياق الأ�سلوبي يف نظره لي�س مركبا لأ ّنه‬
‫يتق�صده‬
‫ّ‬ ‫يف مقروئية اخلطاب يرت ّد مطلبا بنائيا‬ ‫ال يعتمد على �سياق من الأفعال التي حت ّد من و�ضع‬
‫املن�شئون‪ ،‬ويتحرى لذته اللّ�سانية ال�سماعية املتلقون‪.‬‬ ‫ع ّدة مفاهيم مل�صطلح واحد ‪ ،‬و�إنمّ ا يرتكز ال�سياق‬
‫وب�إزاء التوجيهات الأ�سلوبية امل ّت�ضحة معاملها‬ ‫الأ�سلوبي على اجلانب الل�ساين من خالل تلك الوحدة‬
‫يف اخلطاب يقوم القارئ با�ستحداث معاين جديدة‬ ‫التي تف�صل املعنى عن الآخر من متوقعه الرئي�سي‬
‫�ص من خالل‬ ‫حيث يعيد (‪ ...‬ت�شكيل جزئيات ال ّن ّ‬ ‫يف الرتكيب ‪ ،‬فالقيمة الأ�سلوبية لل�سياق تكمن يف‬
‫عملية القراءة فرتاه يحلّل ويوازن ويقارن بينها ‪،‬‬ ‫نظام العالقات املوجودة بني الوحدات الل�سانية‬
‫مما يك�سبها �أبعادا جديدة ودالالت مل تكن من قبل‬ ‫ّ‬ ‫بحيث ال يكون �أي �أثر �أ�سلوبي �إ ّال من خالل ما‬
‫(‪)63‬‬
‫‪.)...‬‬ ‫ينتجه تركيب الوحدات ‪ ،‬ويقول ريفاتر ب�أ�سلوب ٌ�آخر‬
‫‪71‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ي�أتي ال�شاعر بحركة مغايرة ينتقل فيها من موقف‬ ‫وحقيقة ف� ّإن ا�ستنتاج املعاين �رشكة بني النا�س‬
‫مما يخلق نوعا من التو ّتر‬ ‫�إىل موقف �آخر م�ضا ّد ّ‬ ‫وتتك�شف ملن �أوتي من القراءة‬
‫ّ‬ ‫ت�ستجيب لطالبها‬
‫والن�شاط فينبثق عن ذلك داللة وا�سعة ويفتح �آفاق‬ ‫�أدوات ا�ستنها�ضها من �أكوان اخلطاب ‪ ،‬فامل�ستويات‬
‫(‪)67‬‬
‫الإيحاء واخليال‪.)...‬‬ ‫التفهمية يهدي بع�ضها �إىل بع�ض وفق ن�سق ارتقائي‬
‫وكذلك نح�سب �أن ك ّل حركة حيوية قائمة على‬ ‫يكون املعنى النحوي هو املبد�أ واملنطلق تقوم عليه‬
‫قوتها من تفاعل احلركة‬ ‫متوجية ت�ستم ّد ّ‬ ‫طبيعة ّ‬ ‫الداللة الأولية الب�سيطة لتنه�ض بعد ذلك امل�ستويات‬
‫مع ال�سكون ‪ ،‬واالنب�ساط مع االنقبا�ض فبتعادل‬ ‫الداللية الت�أويلية من خالل ا�ستقراء خمتلف الأدوات‬
‫متواليات االنب�ساط واالنقبا�ض ‪ ،‬واحلركة وال�سكون‬ ‫اللّغوية التي هي متممات الكالم وتفا�ضله تفريعا‬
‫تتم الوظيفة احل�سية وت�ستويف �رشوطها النف�سية‬ ‫ّ‬ ‫وت�شعيبا وحذفا وتلويحا املفيدة جميعها الإحالة‬
‫( ف� ّإن لل ّنفو�س يف تقارن املتماثالت وت�شافعها‬ ‫على امل�ستويات الداللية الداخلة يف اعتبار معنى‬
‫واملت�شابهات واملت�ضادات وما جرى جمراها‬ ‫املعنى وهو جمال ينفتح �إىل ما ال نهاية حدد‬
‫حتريكا و�إيالعا باالنفعال �إىل مقت�ضى الكالم ‪،‬‬
‫(‪)64‬‬
‫منتهاه البالغيون العرب بالإعجاز‪.‬‬
‫�ستح�س َنني املتماثلني‬
‫َ‬ ‫ل ّأن تنا�رص احل�سن يف المُ‬ ‫�أ�سلوبية ال ّت�ضا ّد ‪:‬‬
‫واملت�شابهني �أمكن من النف�س موقعا من �سنوح‬
‫لكل موقف تعبريي م�ستلزمات نظمية هي التي حت ّدد‬
‫ذلك لها يف �شيء واحد ‪ ...‬فلذلك كان موقع املعاين‬
‫طبيعة التعالق بني الوحدات اللّغوية وهي التي عادة‬
‫(‪)68‬‬
‫املتقابالت من النف�س عجيبا)‪.‬‬
‫ما ُيل َْج�أُ �إليها يف تربير الأثر الأ�سلوبي للكالم ‪ ،‬هذا‬
‫مل يهمل عبدالقاهر(‪ )69‬وظيفة بناء ال�سياق ال�ض ّدي‬
‫أقره‬ ‫املربر الب ّد من �أن يتوافر على ن�سق انتظامي � ّ‬‫ّ‬
‫من حيث ارت�آها عبارة عن نقل الكالم يف معناه (‪...‬‬
‫البالغيون العرب القدامى والأ�سلوبيون الغربيون‬
‫عن �صورة �إىل �صورة من غري �أن تغيرّ من لفظه �شيئا‬
‫كذلك ‪ ،‬فهذا �أبو حيان التوحيدي ي�سميه ‪ :‬ال�سياقة‬
‫حتول كلمة عن مكانها �إىل مكان �آخر وهو الذي‬ ‫‪� ،‬أو ّ‬ ‫(‪ ،)65‬والنا�س عادة ما يعرتفون ب�سلطة النظام‬
‫و�سع جمال ال ّت�أويل والتف�سري حتى �صاروا يت� ّأولون‬ ‫ّ‬ ‫التتابعي للألفاظ متجاذبة متداعية فيقولون ‪:‬‬
‫يف الكالم الواحد ت�أويلني �أو �أكرث ‪ ،‬ويف�سرّ ون البيت‬
‫ا�ستدعاه �سياق احلديث ‪ ،‬وك�أ ّنه قوى غالّبة تفر�ض‬
‫الواحد ع ّدة تفا�سري ‪. )...‬‬
‫نف�سها على املتكلم فال ي�ستطيع دفعها عن �أن حتت ّل‬
‫بلغ عبدالقاهر(‪ )70‬مبزية بنية الت�ضاد �إىل �أن قال‪:‬‬
‫مو�ضعا بني مرتادفات الكالم وال�سياق فعال قوة‬
‫(‪ ..‬ف� ّإن الأ�شياء تزداد بيانا بالأ�ضداد ‪ ، )...‬ونرى‬ ‫تعمل على حتريك تركيب الكالم لتناجت الدالالت‪.‬‬
‫� ّأن هذا املبد�أ را�سخ يف قاعدة االنفعال البالغي‬ ‫� ّإن ما هو ثابت يف الطبيعة والأعراف � ّأن الن�شاط‬
‫ثابت ل ّأن مبد�أ اال�ستعارة قائم على املوازنة بني‬ ‫احل�سي مرهون بكيفيات �إعماله يف تتبع‬
‫طرفني �أحدهما �أقوى و�أ�سلم و�أجنع من الآخر لذلك‬ ‫احل�س‬ ‫املتناق�ضات والتعامل معها (‪ ،)66‬ف� ّإن طبيعة‬
‫ّ‬
‫فاال�ستعارة تكاد تزيد على معادلة ‪� :‬إحلاق ناق�ص‬ ‫الب�رشي �أ ّال مي�ضي على �سنن واحد ‪ ،‬وال ت�أ�رسه‬
‫بتام ‪ ،‬لذلك وا�ستجابة لهذا املطلب البنائي الطبيعي‬ ‫ّ‬ ‫ي�صح هذا ويثبت حتى ك أ� ّنه مل ُيخلق‬ ‫طريقة ثابتة‬
‫ّ‬
‫(‪ ...‬فكما يح�سن ت�ألّف احلروف املتفاوتة كذلك‬ ‫لهذا الإكراه ‪ ،‬ومل يفطم على هذا االحتبا�س يف‬
‫يح�سن تتابع الأحوال املتغايرة على اعتدال وقرب‬ ‫ن�شاطه التفاعلي ‪ ،‬والنف�س تنزاع �إىل املت�ضادات‬
‫ال على �إيغال يف البعد )(‪. )71‬‬ ‫فطريا حيث (تكمن جماليات املقابلة يف خلق‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫نوع من املفاج�أة �أو الغرابة �أو كبري ال�سعادة ب�أن‬
‫‪72‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫�أليوت‬
‫والرع�شـــــة‬
‫\‬
‫فرانك كريمود‪ -‬ترجمة غريب ا�سكندر‬

‫مل يكن تيني�سون ال�شاعر الذي كان تي �أ�س �أليوت يكن له الكثري من احلب‪ ،‬مع �أن‬
‫اليوت كان ح�صيف ًا ومعتد ًال يف تقييماته‪« :‬عنده ثالث �سمات يندر اجتماعها �إال‬
‫عند ال�شعراء العظام‪ :‬الغزارة والتنوع واملقدرة التامة»‪( .‬يعني �أليوت «يجب �أن‬
‫يكونوا مثل دانتي»)‪ .‬و«كانت عنده �أف�ضل �أذن من �أي �شاعر �إجنليزي منذ ميلتون»‬
‫– ر�أي يفقد حما�سته عندما نتذكر ما قاله �أليوت يف مكان �آخر عن ميلتون‪.‬‬
‫(امتالك �أذن ممتازة لي�س كافي ًا)‪ .‬وعندما يدخل �أليوت اىل تفا�صيل تيني�سون‪ ،‬مث ًال‬
‫في ُمود ‪ ،Maud‬يجد الكثري مما ال يحبه‪ ،‬معلن ًا «هذيانات عا�شق على حافة اجلنون»‬
‫و»خوارات عدوانية» ولأنها «زائفة»‪ :‬تف�شل «يف �أن جتعل ج�سد املرء ين�سل‬
‫منه ب�صدق»‪ .‬ولكن يف ذكرى ‪ In Memoriam‬يختلف الأمر؛ فهناك فقط يجد �أليوت �أن‬
‫تيني�سون ينجز «تعبرياً كام ًال»‪ .‬وي�صدر با�رصار تام حتذيره املعروف‪ :‬يجب �أن‬
‫تكون الق�صيدة «مفهومة ككل»‪.‬‬

‫كلمة «الرع�شة» تنتمي �إىل الذعر واخلوف واللذة‬


‫وخرق الطبيعة وهي �أي�ضا كم�صطلح نقدي للمديح‬

‫‪73‬‬ ‫\ �شاعر ومرتجم من العراق‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪� ،Huysmans‬أحد �أتباع بودلري‪ ،‬الذي ي�ستحق �أن‬ ‫�إال �أنه‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬يجوز لنا �أن نتذكر هذا‬
‫ي�صل عمله �ضد الطبيعة ‪ A Rebours‬اىل القائمة‬ ‫اجلزء من �شعر تيني�سون‪:‬‬
‫الق�صرية لأية م�سابقة ارتعا�ش‪ ،‬خ�صو�ص ًا عندما‬ ‫أقف مرة �أخرى اىل جانبه‬‫بيت معتم‪ُ � ،‬‬
‫يقدم ‪ fremir‬دعم ًا اىل ‪ .frissonner‬وقد ا�ستعان‬
‫او�سكار وايلد‪ ،‬بو�صفه معجب ًا بهي�سمان�س �أي�ضاً‪،‬‬
‫هنا يف هذا ال�شارع الطويل الكريه‬
‫بالـ«رع�شة» يف �صورة دوريان غراي‪ .‬وتوجد‬ ‫عند الأبواب‪ ،‬حيث قلبي كان معتاداً على‬
‫�أمثلة كثرية عن الرع�شة يف تعبريات عادية مثل‬ ‫اخلفقان‬
‫«�أرتع�ش من الفكرة» �أو «رع�شة مرت خالل»‪،‬و�أي ًا‬ ‫ب�رسعة كبرية‪ ،‬بانتظار يد‪،‬‬
‫كان الأمر فهذه الأمثلة تبني بب�ساطة �أن هذه‬ ‫يد للم�صافحة ال �أكرث –‬
‫الكلمة عر�ضة للتب�سيط على رغم قوتها الأ�صيلة‪.‬‬ ‫ام�سكني‪ ،‬ف�أنا ال �أ�ستطيع النوم‪،‬‬
‫ولكن بقيت الكلمة قادرة على تو�صيف هول �أو‬ ‫و�أن�سل مثل �شيء مذنب‬
‫حتى جمال ا�ستجابة ج�سد ما اىل حمفز عنيف‪.‬‬ ‫يف ال�صباح الباكر اىل الباب‪.‬‬
‫و�أعجب �أليوت بال�صدمة واملفاج�أة‪ ،‬وبحث عن‬ ‫فهو لي�س هنا؛ بل هو بعيد‬
‫مميزاتهما يف �شعره اخلا�ص‪ ،‬وحكم على جناح‬ ‫و�ضجيج احلياة يبد�أ من جديد‬
‫�آخرين‪ ،‬كما فعل مع تيني�سون‪ ،‬يف تقدميهما‪.‬‬ ‫حيث يخرق رذاذ املطر‬
‫ويتكلم باتر ‪ Pater‬عن ميل كولريدج اىل «اخلارق‬ ‫املت�ساقط على ال�شارع الأجرد اليوم ال�شاحب‪.‬‬
‫للطبيعة» بو�صفه «حنين ًا اىل الرع�شة التي‬ ‫يقول �أليوت «هذا �شعر عظيم‪ ،‬فيه اقت�صاد يف‬
‫�أ�سعفت‪ ،‬ب�شكل مبا�رش‪،‬املدر�سة الرومانتيكية‬ ‫الكلماتواح�سا�س عامريتبط مبكان حمدد؛ وهو‬
‫ب�أملانيا وا�شتقاقاتها ب�إنكلرتا وفرن�سا»‪� .‬إال �أن‬ ‫مينحني الرع�شة ‪ shudder‬التي ف�شل ُتفي احل�صول‬
‫ارتعا�ش ًا مراوغ ًا بع�ض ال�شيء يرد يف ق�صيدة‬ ‫عليها يف مودككل»‪ .‬ومن امل�ستغرب �أن ت�صدر‬
‫كري�ستبال ‪ Christable‬لكولريدج‪:‬‬ ‫«رع�شة» من الوقور �أليوت‪ ،‬حتى لو كانت التجربة‬
‫حتت القنديل انحنت ال�سيدة‬ ‫التي ي�شري اليها قد تكون م�ألوفة متام ًا يف بع�ض‬
‫وببطء قلّبت عينيها‬ ‫�أ�شكالها‪ .‬وهو بالت�أكيد قد مر بتلك التجربة �أو‬
‫�سحبت نف�س ًا عالي ًا‬ ‫ب�شيء ما و�ضعه �أو و�ضعنا يف مناخها‪ .‬وقد‬
‫مثل �أمرئ مرتع�ش‬ ‫ت�ستعمل الكلمة كمعادل لـ«‪( »frisson‬ويبدو �أنه‬
‫ثم حلت الطوق من حتت �صدرها‪:‬‬ ‫لي�س مبقدور املعجميني جتنب ‪ shudder‬عند‬
‫ردا�ؤها احلريري‬ ‫تعريفهم ‪ .)frisson‬وميكننا القول �إن ا�ستدانة هذا‬
‫قمي�صها الداخلي‬ ‫املعنى جاءت من الفرن�سية‪ ،‬فعلى الأرجح كان‬
‫�سقطاعلى قدميها‬ ‫ال�شعراء الإنكليز يف تلك ال�سنوات يت�أثرون‪ ،‬كما‬
‫وبديا للعيان‬ ‫هي احلال مع �أليوت‪ ،‬ببودلري وغريه‪ .‬وعندما‬
‫انظر! �صدرها ون�صف جانبها –‬ ‫رف�ض قراءة ت�سعينيات القرن الثامن ع�رش‬
‫م�شهد كاحللم‪ ،‬ال يو�صف!‬ ‫لبودلري‪ ،‬جعل �أليوت من نف�سه بالفعل مف�رسه‬
‫�آه وقِ ها! وقِ كري�ستبال اجلميلة!‬ ‫الرئي�س بو�صفه م�ؤلف ًا �أخالقي ًا عنيف ًا ف�ض ًال عن‬
‫عما حدث الحقاً‪ ،‬لكن تلك الرع�شة اىل‬ ‫ومل نخرب ّ‬ ‫كونه �شاعر «املدينة القبيحة ‪»l’mmonde cite‬؛‬
‫جانب التفا�صيل الأخرى توحي ب�أن كري�ستبال‬ ‫الكتاب الذي له ح�صته من الأهوال والرع�شات‬
‫رمبا كانت على و�شك �أن تخو�ض جتربة ت�سيء‬ ‫والأ�شباح‪.‬وكان �أليوت معجب ًا بهي�سمان�س‬
‫‪74‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫اىلرومانتيكيتها‪ .‬وقد جتد الن�سخ املبتذلة ملثل ومن ثم‪ ،‬في�سهل ت�صور �أن فعل القراءة هو فعل‬
‫هذه اللقاءات مكان ًا لها يف «جمالت الفظاعة» يالزمه ارتعا�ش‪ ،‬ويبدو ذلك يف �سياق تعليقات‬
‫االمريكية وكذلك يف الكتابات املنحدرة من بو �أليوت على تلك الأبيات من يف ذكرى‪ .‬ويبدو�أنه‬
‫‪ .Poe‬وطبق ًا لويكيبيديا‪،‬فهذه املجالت تعرف بالكاد قد ا�ستعمل كلمة «رع�شة»‪ ،‬ولكن كان‬
‫ا�ستعماله لها يتعلق دائم ًا على الأرجح بتجارب‬ ‫جتاري ًا بـ «جمالت الإثارة»‪.‬‬
‫وميكن لأودن‪ ،‬يف ليلة باردة بربوك�سل‪� ،‬أن يحقق ال يف�ضل املرء املرور بها‪ ،‬وتتناق�ض تقريب ًا‬
‫ذلك متحدي ًا الربد بالرع�شة اللبيدية‪« :‬وبخم�سني مع حلظات الن�شوة‪ .‬ويقول «يف م�رسح منت�صف‬
‫�سيك�سب حق ًا غريب ًا ‪ /‬حا�ضن ًا املدينة القرن ال�سابع ع�رش امل�شاك�س حترك فكر‬ ‫ُ‬ ‫فرنك ًا‬
‫املرتع�شة بني ذراعيه»‪ .‬و�سمع ُتمن مدة قريبة �شك�سبري و�شعوره وجتربته ال�شخ�صية املثرية‬
‫�شخ�ص ًا يقر أ� دراكوال يف الراديو بنكهة تبدو لالرتعا�شكل على انفراد ومن دون ت�شويه»‪ .‬فما‬
‫وك�أنهارع�شة ت�ستمر اىل حني قطافها‪.‬وبروزها هي الكيفية التي عرف بها �أليوت عن جتربة‬
‫يف جماليات �أدورنو يبني ا�ستعمالهاالتخ�ص�صي‪� .‬شك�سبري «ال�شخ�صية املثرية لالرتعا�ش»؟ ويقني‬
‫�أليوت ب�أن معرفة ال�شاعر تت�أتى من‬ ‫والأكرث �إثارة يف هذا ال�سياق تعليقات‬
‫النداء الباطني ‪ ،vocation‬برغم �أن هذا‬ ‫ينظر‬ ‫البايولوجي‬ ‫دارون على ف�سلجة الرع�شة املدونة‬
‫املفهوم عر�ضة للهجوم‪� ،‬سيتفق مع‬ ‫يف التعبري العاطفي يف الإن�سان اىل الرع�شة‪،‬‬
‫ً ما ي�سميه رونالد ت�شوت�شارد ‪Schuchard‬‬ ‫واحليوان (‪ )1872‬الذي يحوي‬
‫يف كتابه املالك املعتم عند �أليوت‬
‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫كثري‬ ‫�شيوعها‬ ‫رغم‬ ‫ف�صالًحتت عنوان «مفاج�أة‪ -‬ده�شة‪-‬‬
‫«ال�صلة الوثيقة يف �شعر �أليوت بني‬ ‫ألة‬ ‫�‬ ‫م�س‬ ‫بو�صفها‬ ‫خوف‪ -‬رعب»‪ .‬ومن بني اال�ستجابات‬
‫حلظات الن�شوة النادرة وحلظات‬ ‫عاطفية‬ ‫حلافزمنا�سب ما رفع احلاجبني‬
‫الرعب املتواترة»‪ .‬ويحدد �أليوت‬ ‫جداً‬ ‫ونتوء ال�شفتني وانت�صاب ال�شعر‬
‫ح�ضور اللحظات الأخرية يف رواية‬ ‫وتقل�ص ع�ضلة الـبالزما‪ .‬وتقل�ص‬
‫ت�شارل�س ويليمز ع�شية عيد جميع‬ ‫ً‬ ‫هذه الع�ضلة التي تتمدد على طول تهتم عميقا‬
‫الرتقوة يف �أعلى كل جانب من العنق ب�أفعال اخليال القدي�سني حيث يدعي ب�أنه لي�س هناك‬
‫«ا�ستغالل لقوى فوق طبيعية من �أجل‬ ‫ميكن �أن يغري من املالمح كثرياً‪:‬‬
‫رع�شة فورية»‪ .‬نعم ثمة �صور رعب‬ ‫�إذ ينخف�ض اخلد ويت�سع ب�ؤب ؤ� العني‬
‫وهلم جرا‪ .‬فال�شعور الأويل باخلوف �أو ت�صور تنتجها الرع�شة يف م�رسحية �أليوت جمع �شمل‬
‫�شيء ما مرعب عادة ما يثريان رع�شة وتقل�ص العائلة؛ �أ�شكال من الكوابي�س والرغبة لكن بني‬
‫البالزما ب�شكل عفوي‪ .‬ومن دون اال�ست�شهاد الفينة والفينة يتحرك ك ّل �شيء نحو م�ستوى‬
‫بدارون‪ ،‬يعرف معجم �أك�سفورد للغة االجنليزية �أعمق؛ حيث الرع�شة ‪ ،‬كما يف ع�شية عيد جميع‬
‫هذه الكلمة ب�أنها �سلوك ع�ضلي ينم عن ا�ستجابة القدي�سني‪ ،‬لي�ست «فورية» بل هي بالأحرى‬
‫ما خلوف �أورعب�أو �أمل‪� ،‬أو اخلوف من هذا الأمل‪ ،‬وا�سطة للدخول اىل حمفزات خمتلفة‪� ،‬أو رمبا‬
‫ن�شوة‪� ،‬أو ذاكرة لن�شوات متعددة‪.‬‬ ‫�أو �أمل الآخرين‪� ،‬أو الغ�ضب‪� ،‬أو اال�شمئزاز �أحياناً‪.‬‬
‫ويبدو �أن البايولوجي ينظر اىل الرع�شة‪ ،‬على ومن الوا�ضح �أن كلمة «رع�شة» تنتمي اىل‬
‫رغم �شيوعها كثرياً‪ ،‬بو�صفها م�س�ألة عاطفية جداً جمموعة كلمات ت�شمل «خوف» و«رعب» وترتبط‬
‫تهتم عميق ًا ب�أفعال اخليال‪ ،‬ف�ض ًال عن اهتمامها با�ستجابة ج�سدية قوية‪ .‬ويف مقالة حديثة عن‬
‫ب�أكرث ردود الأفعال عادية مثل الربد �أو اخلوف‪ .‬فران�س�س بيكون يف نيويورك ريفيو �أوف بوك�س‬
‫‪75‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وبهجة» يف «�أغنية حب �سانت �سيبا�ستيان»‪،‬‬ ‫يعيد فيها جون ريت�شارد�سون اىل الأذهان ب�أن‬
‫ونر�سي�سو�س الذي «ذعر من جماله « يف «موت‬ ‫هدف لوحاته عن �صديقه جورج داير هو ر�سمه‬
‫�سانت نر�سي�سو�س» ‪ .‬وكانت هناك فنتازيا قاتلة‬ ‫يف «حالة متوترة»‪ ،‬وي�ضيف �أن معجبة �أخربته‬
‫يف جمع �شمل العائلة‪ .‬و�شخ�صية �سويني‪ ،‬التي‬ ‫�أن اللوحات بالفعل انتجت «رع�شة عميقة»‪.‬‬
‫تظهر يف ق�صائد عديدة‪� ،‬شخ�صية كابو�سية‪،‬‬ ‫وو�صف الرع�شة باال�ستجابة اجل�سدية العنيفة مع‬
‫ون�ساء كانتري بريي يف جرمية قتل يف‬ ‫العامل اجلن�سي القوي �سيذكرنا حتم ًا بق�صيدة‬
‫الكاتدرائية املليئات بالذعر للغاية‪:‬‬ ‫ييت�س «ليدا والبجعة»‪:‬‬
‫ما هذه الرائحة الكريهة‪ ،‬البخار؟ ال�ضوء‬ ‫رع�شةيف الأع�ضاء التنا�سلية تن� أش� هناك‬
‫الأخ�رض الداكن من غيمة على �شجرة ياب�سة؟‬ ‫حيث اجلدار املك�سور‬
‫ترتفع الأر�ض كي ت�ضع ذرية اجلحيم‪ .‬ما هذا‬ ‫الربج وال�سقف املحرتقان‬
‫الطل اللزج الذي يت�شكل على ظهر يدي؟‬ ‫وموت �أجاممنون‬
‫ف�أليوت كان متح�س�س اًلتجليات خارقة للطبيعة‬ ‫ويف ق�صيدة قدمية‪« ،‬عن �إمر�أة»‪ ،‬ربط ييت�س يف‬
‫بعينها‪ ،‬ولأنواع من الذعر م�سببة للرع�شة‪ .‬ويجب‬ ‫�صورة م�ؤثرة �شدة العالقة بني �سليمان وبلقي�س‬
‫�أن ن�س�أل الأن �س�ؤا ًال �أكرث �صعوبة‪ :‬ملاذا �أثرت‬ ‫مع رع�شة احلديد املتفجرة عند نقله من النار اىل‬
‫تلك الأبيات من «يف ذكرى» ب�أليوت ب�شكل‬ ‫املاء‪:‬‬
‫ا�ستثنائي وجعلته ي�ستعمل «الرع�شة» م�صطلح ًا‬ ‫�شدة �شهوتهما‬
‫نقدي ًا للمديح؟ و�سنقول بالطبع �أن فيكتور هوغو‬ ‫جعلتهما يتمددان بنعا�س‬
‫فعل ذلك من قبل عندما �أخرب بودلري �أنه بكتابته‬ ‫فاملتعة ت�أتي مع النوم‬
‫�أزهار ال�رش ‪ Les Fleurs du mal‬كان قد ابدع «‪un frisson‬‬ ‫والرع�شة جعلت منهما واحداً ‪...‬‬
‫‪ nouveau‬رع�شة جديد ًة» وكثري منا يتذكر تلك الأيام‬ ‫وبينما «ليدا والبجعة» ق�صيدة رع�شة حديثة‬
‫التي كان م�صطلح «الرع�شة امليتافيزيقية» يتداول‬ ‫عظيمة‪� ،‬إال �أن الرع�شة الواردة فيها هي ا�ستجابة‬
‫فيها يف النقا�ش عن دون ‪ Donne‬ومعا�رصيه‪.‬‬ ‫جن�سية لر�ؤيا نبوئية‪ ،‬والغراء هو كذلك بدوره نوع‬
‫ولكن يف مقطع «يف ذكرى» مل تكن الرع�شة‬ ‫من �أنواع الب�شارة‪ .‬و ُت�صاحب الرع�شة اجلن�سية‬
‫ميتافيزيقية‪ .‬وعلى حد علمي‪ ،‬ففي مقاله الوحيد‬ ‫�أو مُتثل بدمار كوين؛ اجلدار املك�سور وال�سقف‬
‫عن تيني�سون كان �أليوت يق�صد‪ ،‬بالت�أكيد‪،‬الثناء‪.‬‬ ‫املحروق وبرج طروادة‪ ،‬و«موت �أجاممنون»‪.‬‬
‫والإ�شارة الأوىل على احلما�سة كانت لبيت �أو‬ ‫و�سن�شعر بهذه الفاجعة يف عودتنا اىل �أج�سادنا‬
‫ُ‬
‫�شذرة من بيت من «ماريانا» التي يعتقد �أنها‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬رع�شاتنا الداخلية‪ .‬فال ُتفهم حادثة‬
‫تقدم �شيئ ًا ما «جديداً للغاية»‪« :‬الذبابة الزرقاء‬ ‫تاريخية �ضخمة بهذا العر�ض الكارثي اال هناك‪.‬‬
‫قد غنت على زجاج النافذة»‪ .‬وحتى تلك الآن ف�إن‬ ‫فكلمة مثل هذه مل تعلن �آني ًا عن م�شاعر جن�سية‬
‫ال�شاب تيني�سون قد تفوق بو�صفه نظّ اماً‪� ،‬إال �أن‬ ‫قوية‪� ،‬إال �أن طموح ييت�س الهائل يتطلب مثل هذا‬
‫ن�سبة�صفات العظمة �إليه كانت من دون ا�ستحاق‬ ‫املعنى‪ .‬ورمبا ت�ستمد معناها من خزين عميق‬
‫تام لها‪ .‬ومع ذلك يقول �أليوت �أن هذا البيت �أو‬ ‫من االحا�سي�س التي تتعلق بالقلق وال�شعور‬
‫ال�شذرة «تكفي لإخبارنا �أن �شيئ ًا مهم ًا فيها»‪.‬‬ ‫بالذنب يف مرحلة ال�صبا‪.‬‬
‫ومبا �أنلهذا البيت مميزات عديدة ووا�ضحة‪ ،‬منها‬ ‫ومن ثم‪ ،‬ماذا بخ�صو�ص رع�شة �أليوت؟ و�شعره‬
‫�أنه ينقل املالنخوليا ب�صورة مميزة‪ ،‬واملزاج القلق‬ ‫يقدم �أمثلة عديدة عن الذعر والفزع وخرق‬
‫لالنتظار؛ ورمبا ي�صح القول‪ ،‬كما يقول اليوت‪� ،‬إن‬ ‫الطبيعة‪ .‬ففي ق�صائده الأوىل كان هناك «تعذيب‬
‫‪76‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ت�أثريه يعتمد يف النهاية على قراءة «‪ »sung‬من يف ذكرى يثري اعجابنا تعبري «�شيء ُم ْذنِب»‪،‬‬
‫بد ًال من «غ ّنى ‪ .»sang‬فهذا البيت ينتمي اىل امل�أخوذ من وردزورث – لكن �أبيات وردزورث‬
‫ق�صيدة جيدة ت�ستحق املديح ككل؛ ولكن ما يزال عن «الغرائز العليا‪ ،‬التي كانت قبل حياتنا‬
‫هناك �شيء ما مييزها‪ ،‬وهو‪� :‬إنها فر�ضت نف�سها‪ .‬الفانية‪ /‬ارتع�شت مثل �شيء مذنب أُ�خِ ذ فج�أة» ال‬
‫والتف�سري الوحيد الذي قدمه �أليوت هو �أن «�شيئ ًا ت�شفع لنف�سها الآن‪ ،‬فلم تعد هناك «حقائق تقوم‪/‬‬
‫كي تبقى اىل الأبد»‪ .‬وا�شارة تيني�سون امل�شذبة‬ ‫مهماًفيها»‪.‬‬
‫و�أ�رص �أليوت بقوة على وجوب معاجلة الن�صو�ص كانت جديرة بتقدير �أليوت نف�سه‪ ،‬وعلى هذا النحو‬
‫بو�صفها كالً‪ ،‬م�شرياً اىل هذه امل�س�ألة بو�ضوح فثمة معنى مزدوج لـ «بل هو بعيد»‪ ،‬حيث نبد�أ‬
‫يف مقاربته يف ذكرى‪ ،‬كما فعل متام ًا يف بحث عرب حتديد ا�شارة غياب �صديق تيني�سون �آرثر‬
‫قدمه عام ‪ 1929‬عن دانتي‪« :‬ق�صيدة دانتي هاالم الذي كتبت هذه الق�صيدة يف ذكراه‪ .‬ولكن‬
‫ق�صيدة متكاملة ‪ ...‬يجب عليك يف النهاية �أن �رسعان ما ينتقل تعبري «بل هو بعيد» اىل جملة‬
‫تفهم كل �أجزاء الق�صيدة من �أجل �أن تفهم �أي جزء �أخرى‪ ،‬فما ُي�سمع يف الأخري هو «�ضجيج احلياة»‪.‬‬
‫منها»‪� ،‬أو «ال ميكننا ا�ستخال�ص الداللة النهائية ويف النهاية‪ ،‬ف�إننا نواجه تعا�سة ال�ضجيج‪ ،‬املطر‬
‫البارد وال�شارع الكئيب؛ ونواجه كذلك‬ ‫لأي جزء من دون معرفة الكل»؛ كلمة «رع�شة»‬
‫يف رباعية التفاعيل االخرية انحراف‬ ‫عقيدة رمبا تعلمها من بودلري عندما‬
‫مو�ضع كلمتي «الأجرد» و«ال�شاحب»‪،‬‬ ‫اىل‬ ‫تنتمي‬ ‫طبقهاعلى ك ّل �أزهار ال�رش‪�« :‬أكرر‬
‫يجب �أن ُيحكم على الكتاب بو�صفه جمموعة كلمات و�أي�ض ًا الرع�شة الأخرية‪ .‬وكان عند‬
‫كالًّ»‪ .‬ولكن «الذبابة الزرقاء قدغنت ت�شمل «خوف» �أليوت نوع من ف�سلجة ال�شعر‪ .‬ففي‬
‫حما�رضته «ثالثة �أ�صوات لل�شعر»‬ ‫على زجاج النافذة»؛ بيت واحد ُقدِر‬
‫اتفق مع غوتفريد بني ‪Gottfried Benn‬‬ ‫على مميزاته اخلا�صة؛ بيت �صاف اىل و«رعب» وترتبط‬
‫درجة �أن تغيري جزء منه �سيغري من با�ستجابة ج�سدية يف حديثه عن اجتماع افرتا�ضي بني‬
‫«جرثومة االبداع» واللغة؛ �إذ لي�س‬ ‫حالته الأ�صلية‪ .‬ومع �أنه ال �شيء قيل‬
‫مبقدور ال�شاعر «معرفة الكلمات التي‬
‫قوية‬ ‫�رصاحة ب�ش�أن هذه الق�صيدة املمتازة‬
‫يريدها حتى يجدها»‪.‬والق�صيدة‬ ‫ككل ما عدا �أنه ال ينبغي لنا تف�ضيل‬
‫بع�ض املقاطع على الأخرى‪� ،‬أو جناهر باختيار الوليدة عبء يتبعه ارتياح ما بعد الوالدة‪:‬‬
‫«عينة مقبولة»‪ .‬ومع ذلك ف�إن املقاطع التي فال�شاعر «رمبا مير بحالة من االرهاق‪ ،‬ومن‬
‫اختارها �أليوت‪ ،‬و�أبياتها التي تنتج الرع�شة‪،‬قد الر�ضا‪ ،‬ومن التربئة‪ ،‬ومن �شيء ما يقرتب كثرياً‬
‫عوملت ب�شكل فردي كما هو وا�ضح‪ ،‬واختيارها من التدمري»‪ .‬وهنا جند مزيج ًا رائع ًا من الر�ضا‬
‫يربره ا�سهامها يف جتربة الي�أ�س الديني (الذي املادي والروحي ويقرتب من الب�رشي‪ ،‬ويجب‬
‫ينطبق على كل الق�صيدة) وتربره كذلك مهارتها �أن نتذكر ب�أن هذه اال�ستعارة التوليدية التي‬
‫الفنية التي يجب �أن تدر�س يف حاالتها اخلا�صة‪ ،‬لها ظالل والدة خطرة ت�سبب االرتعا�ش‪ .‬واتفق‬
‫�أليوت مع هاو�سمان ‪ Houseman‬يف كالمه عن �صلة‬ ‫ورمبا �سيكافئها القارئ برع�شة االكت�شاف‪.‬‬
‫وتكمن �أهمية �أليوت النقدية‪ ،‬يف نظري‪ ،‬يف املر�ض بالإبداع؛ فعالج امللنخوليا‪ ،‬مثالً‪ ،‬طوره‬
‫ا�ستجاباته الرائعة للخ�صو�صية التي تنطوي فنانو ع�رص النه�ضة‪.‬‬
‫عليها مثل هذه احلاالت‪ ،‬ولي�س يف قلقه من وقد �أجمل �أليوت هذه االعرا�ض يف قراءة ابداعية‬
‫الكمال الفل�سفي �أو الالهوتي‪ .‬ويف مقطع اقتب�سته �أخرى‪ .‬فيقول يف ر�سالة اىل �ستيفن �سبندر عن‬
‫‪77‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كلمة «حمرية» مرة �أخرى يف مقال لأليوت عن‬ ‫املو�ضوع نف�سه �أ�صبحت م�شهورة منذ ن�رشها‬
‫تورنيور ن�رش فيما بعد يف كتابه بحث ًا عن �آلهة‬ ‫يف عام ‪« :1966‬حتى لو �أن اللحظة املُحرية‬
‫غريبة‪� .‬إال �أنه �ألقى ال�ضوء عليها �أكرث يف ر�سالته‬ ‫هي فقط َمن ي�ؤخذ يف احل�سبان؛ ينبغي �أن تقطع‬
‫املذكورة اىل �سبيندر حيث «اللحظة املحرية»‬ ‫الأمل من نف�سك‪ ،‬ومن ثم ا�شفها‪ ،‬ويف اللحظة‬
‫هي حلظة واحدة يخ�ضع خاللها القارئ اىل �إثارة‬ ‫الثالثة �سيكون عندك �شيء ماتقوله‪ ،‬وقبل �أن‬
‫املقطع ورع�شته‪ ،‬وبعد ذلك يجب على الناقد �أن‬ ‫تن�سى متام ًا كال اال�ست�سالم والعالج‪ ،‬فلن تكون‬
‫واعرتف ب�أن‬
‫ُ‬ ‫يخرج من ال�سحر ويت�أمل جتربته‪.‬‬ ‫بالطبع النف�س البليلة �أبداً كحالها من قبل»‪.‬‬
‫�أليوت عمل وفق هذه القاعدة‪ .‬وميكننا تقدمي‬ ‫و�ستقودنا «اللحظة املحرية» اىل الت�سا�ؤل عن‬
‫�أ�سباب ٌا�أخرى عن �شغف �أليوت الكبري بـكلمة‬ ‫�رضورة �أن يقطع القارئ الأمل من نف�سه! ووجد‬
‫«حمرية» منها‪،‬على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬ال�شعور‬ ‫�أليوت هذا التعبري خالل درا�ساته املبكرة املفيدة‬
‫بالف�ساد اجلن�سي لأن العامل اجلن�سي وتبعاته‬ ‫والرائعة يف الدراما اجليم�سية‪ .‬وهنا بع�ض‬
‫تقع هنا �ضمن منطقة االعرتا�ض والت�أديب‪.‬‬ ‫أوميدلت)‪،‬‬
‫نُ‬ ‫الأ�سطر من تراجيديا املنتقم لتونيور (�‬
‫ف�أليوت �أراد لأ�شخا�صه العظماء �أن يتعذبوا جراء‬ ‫وهذه الأ�سطر معروفة الآن الهتمام �أليوت بها‪،‬‬
‫�أخطائهم‪ :‬برونيتو وفران�شي�سكا يف اجلحيم‪،‬‬ ‫ولأنه �أ�شار اىل �أهميتها يف الوقت نف�سه؛ فهي‬
‫والزوجة املخطئة يف �إمر�أة قتلت بلطف‪ ،‬ويف‬ ‫معروفة فقط للقارئ الذي له اهتمام خا�ص مبا‬
‫ن�صو�ص بودلري‪.‬‬ ‫�سمى �أحيانا الكتابة «الرمزية ‪»decadent‬؛ وكما‬ ‫ُي ّ‬
‫ومن الوا�ضح �أن �أليوت كان قادرا ٌ على �أن ميط‬ ‫قال ف�إن هذا «املقطع الغريب اىل حد ما جدير‬
‫نظرية �شاملة تخت�ص بال�شعر والنقد مع ًا على‬ ‫بعناية جديدة»‪:‬‬
‫كلمة م�رسوقة‪ ،‬لكنها متتلك قوة االرتعا�ش‪.‬‬ ‫هل تن�رش دودة القز خيوطها ال�صفراء من �أجلكم؟‬
‫واختطاف مثل هذه الكلمة يرتبط بالرع�شة‬ ‫هل حتطم نف�سهامن �أجلكم؟‬
‫و�إال ملاذا ي�رسقها؟ وعلى مقربة من نهاية‬ ‫هل تباع �ألقاب ال�سادة كي ت�صان �ألقاب ال�سيدات‬
‫«جريون�شون» نقر�أ عن «دي بلحاج‪ ،‬فري�سكا‪،‬‬ ‫من �أجل م�صلحة بائ�سةللحظة حمرية؟‬
‫ال�سيدة كاميل‪ ،‬هامت‪ /‬اىل �أبعد من طوفان‬ ‫يخاطب املتكلم هنا �شخ�ص ًا ما؛ ومن بني‬
‫الدب املرتع�ش‪/‬يف ذرات مت�شظية»‪ .‬هذا الدب‬ ‫الكلمات التي نطقها جذبت كلمة «حمري ة �‪be‬‬
‫وجد‪ ،‬كما‬ ‫هو ا�سترياد �آخر من القرن ال�سابع ع�رش ِ‬ ‫‪� »wildering‬أليوت التي مل يكن لها تربير ن�صي‬
‫بينّ �أليوت يف كتابه فائدة ال�شعر وفائدة النقد‪،‬‬ ‫–فالأ�صل هو كلمة «‪� bewitching‬ساحرة»‪ .‬ولكن‬
‫يف بو�سي دامبوا جلورج ت�شامبان‪« :‬طر اىل حيث‬ ‫�أليوت وجد �أن «حمرية» كلمة �أكرث غنى ف�رشع‬
‫ي�شعر النا�س‪ /‬حيث جذع ال�شجرة املحرتق‪،‬‬ ‫ب�رسقتها‪ .‬وح�سب ظني‪ ،‬ف�إن ال�سند الن�صي الوحيد‬
‫و�أولئك الذين يعانون‪ /‬حتت عربة الدب الثلجي»‪.‬‬ ‫لكلمة «حمرية» قدمه الباحث الفيكتوري املزور‬
‫الحظ �أن دب ت�شامبان «ثلجي» بينما دب �أليوت‬ ‫جون باين كولري‪ ،‬وبو�سعنا القول �إن �أليوت‬
‫«مرتع�ش»‪ .‬ويقال �أن كوكبة الدب «تدور حول‬ ‫اختار هذه القراءة التي يعرف �أنها مزيفة ال‬
‫القطب»؛ يف طوفان بارد وثلجي‪ .‬وي�ستح�رض‬ ‫ل�شيء �إال لأنه يف�ضلها‪( .‬حتتاج مثل هذه القراءة‬
‫ت�شامبان هنا نقي�ضي احلر والربد‪ .‬وبطل �سينيكا‪،‬‬ ‫اىل �رشعية‪ ،‬و�أليوت كان عنده بع�ض منها‪ :‬ينظر‬
‫يف فقرة من م�رسحية جنون هرق ل �‪Hercules Fu‬‬ ‫قبول املعاجم االجنليزية كلمة ‪juvescence‬؛ اخلط أ�‬
‫‪ rens‬التي تنبع من جذر تلك اال�شارات‪ ،‬ي�س�أل» �أين‬ ‫الذي مل ي�صححه �أبداً؛ فينبغي �أن تغيري اللغة‬
‫�أنا؟هل �أنا حتت ال�شم�س امل�رشقة‪� ،‬أم حتت حمور‬ ‫من نف�سها كي ت�سمح بدخول املح َدث)‪ .‬وظهرت‬
‫‪78‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الدب اجلليدي؟وت�شامبان قدم «ثلجي» يف مقابل «�رشك جمالها املتني» ل�شك�سبري‪.‬‬


‫«جليدي»؛ �إال �أن �أليوت بف�ضل انحرافه املعتاد ومل يكن املقطع الذي �أقتب�سه �أليوت من م�رسحية‬
‫عن الأ�صل ي�صل من دون �شك اىل فكرة �أن يكون ميدلتون‪ ،‬ومعناه �أي�ضاً‪� ،‬صحيح ًا متاماً؛ فقد‬
‫حول �أليوت الكالم لأهدافه اخلا�صة‪ .‬فال�صحيح‬ ‫الدب بارداً و«مرتع�شاً»‪.‬‬
‫ور�صدنا لأليوت وهو يقتب�س �أو ي�سيء اقتبا�س �أن ال�سطر الأول «‪ »I am that of your blood‬ولي�س‬
‫املقطع نف�سه مراراً وتكراراً ي�ؤكد لنا �صدمته من «‪( »I that am of your blood‬كما عند �أليوت)‪ .‬وتبع ًا‬
‫الأ�صول ‪ ،‬وكما هو وا�ضح يف املرحلة الأوىل من لذلك يفرت�ض �أليوت يف تف�ضيله الن�سخة اخلط�أ‬
‫و�صفته‪ :‬ا�ست�سالم‪ ،‬ثم ت�أمل‪ ،‬ثم عمل �شيء ما �أن تلك الأ�سطر عن �رشف العائلة‪ ،‬بينما القراءة‬
‫عنه‪ .‬وتربز تلك التعديالت «ال�شعراء املحرتفون ال�صحيحة جتعل الأمر وا�ضح ًا ب�أن يف بال‬
‫ي�رسقون» يف طرق �أخرى �أكرث متيزاً‪ .‬وعلى �سبيل بياتري�س‪-‬جوانا �شيئ ًا خمتلفاً‪ :‬ف�سفك دمها ي�شبه‬
‫املثال‪ ،‬هنا مقطع مف�ضل �آخر ولكن هذه املرة من فعل �إراقة الدماء‪ ،‬الف�صد‪ ،‬عملية فتح الوريد طبياً‪،‬‬
‫اخلائن مليدلتون‪ .‬ففي نهاية امل�رسحيةوعندما ولي�س دم ًا ي�ضحى به لإر�ضاء �رشف العائلة‪.‬‬
‫فجرف املجاري مقداراً ما من الدم الفا�سد من‬ ‫يخ�رس الكل تخاطب بياتر�س‪-‬جوانا �أبيها‪:‬‬
‫�ش�أنه امل�ساعدة يف العالج‪ .‬وقد �أ�ضعف اخلط�أ‬ ‫�أنا دمك ذلك الذي �أُخِ ذ منك‬
‫املقطع وقلل من قوة «امتيازه»‬ ‫فمن �أجل �صحتك؛ ال تبحث عنه بعد‬
‫بربطه ب�شكل �ضيق مع «الدم» مبعنى‬ ‫ا�ستجابة‬ ‫«الرع�شة»‬ ‫الآن‬
‫ال�رشف؛ ولكن عندما نقر�أه «‪I am that of‬‬ ‫ج�سدية‬ ‫والقه على الأر�ض دومنا اكرتاث‬
‫‪ »your blood‬يكون لـهذا «االمتياز» قوة‬ ‫مع‬ ‫عنيفة‬ ‫دع املجاري العامة تق�ضي على‬
‫ميتافيزيقية‪ .‬ويظهر الأمر نف�سه كذلك‬ ‫وجاهته‪.‬‬
‫يف «العنقاء وال�سلحفاة» مع فكرة‬ ‫العامل‬ ‫والآن بعد �أن عرفنا ما عرفنا‪ ،‬ميكننا‬
‫�إدراك الكيفية التي كانت عليها ردة اجلن�سي القوي «امتيازان‪ ،‬دومنا انف�صال»‪� .‬أي‪ :‬بدد‬
‫الدم‪ ،‬واجعله ميتزج من دون متييز‬ ‫فعل �أليوت (ارتعا�شية على ما �أعتقد)‬
‫مع ما حتتويه املجاري؛ «املجاري‬ ‫على هذا اخلطاب الالفت‪ .‬فيقتب�سه‬
‫ب�إعجاب يف بحثه عن ميدلتون ويحيل اىل �سياقه العامة» التي ت�رصف �أو�ساخ املدينة ب�أكملها‪.‬‬
‫أعرتف ب�أن القراءة «اخلاطئة» حتوم قريب ًا مني‪.‬‬
‫يف �أمكنة �أخرى مثل «التقاليد واملوهبة الفردية» � ُ‬
‫و«فيليب ما�سنجر»‪ .‬وقد �أعجبته �رصاحة اللغة وقد تكون الرع�شة الأوىل‪�،‬أحياناً‪ ،‬قوية لدرجة‬
‫التي ا�ستعملت لت�ؤكد ذنب بياتر�س‪-‬جوانا‪ ،‬وربطه هز قب�ضة القارئ على اللغة التي يتفاعل معها‪.‬‬
‫يف ال�سطر الأخري بني «املجاري» و«الوجاهة» وهكذا ي�سيء �أليوت اقتبا�س ميدلتون مرة �أخرى‬
‫معاً‪ .‬فالتفرد البغي�ض للمرء يف مواجهة فكرة يف امل�شهد نف�سه من اخلائن‪ :‬دي فلوري�س «�أنا‬
‫الآخر الغام�ضة ميكنهاحل�صول على مرتبة �أحب هذه املر�أة على رغم قلبها» يقر�أه «على‬
‫عالية يف �أية مناف�سة من مناف�سات الرع�شة‪ .‬رغم قلبي»‪ .‬وهناك �أخطاء �أخرى �أقل �إثارة؛ فهي‬
‫وقد كانت ميزة حت�سب لأليوت يف �أنه دائم ًا من النوع الذي ت�صنعه القراءات العنيفة الأخرى‬
‫ميدح‪« :‬ذلك التغيري الطفيف امل�ستمر للغة‪ ،‬حيث ال �سيما تلك املتح�صنة مبواقع دفاعية‪.‬‬
‫تتجاور الكلمات يف تراكيب جديدة ومفاجئة على وميكن �أن تنتج الرع�شة بو�ساطة �صدمة اال�ستعارة‬
‫الت�صور ‪،conceit‬الذي‬
‫ّ‬ ‫الدوام»‪ ،‬وي�سمح بان�صهار «فكرتني متباينتني �أو – يف �شكلها املتطرف‪،‬‬
‫�أكرث» يف تركيب واحد‪ ،‬كما هي احلال‪ ،‬مثالً‪ ،‬يف �صنف ب�صورة خطرية بو�صفه م�سبب ًا للقهقهة‬
‫‪79‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الأخذ بعني االعتبار الرباعة‪� .‬إال �أنه كانت لدون‪،‬‬ ‫�أكرث منه للرع�شة‪ .‬وكما عرف الدكتور جون�سون‬
‫بالت�أكيد‪ ،‬قوة يف تعميق الت�صورات امل�سلية‬ ‫الت�صور «امليتافيزيقي» رمبا‬
‫ّ‬ ‫والآخرون‪ ،‬ف�إن‬
‫وحتويلها اىل ق�صائد ذات �أعماق وتعقيدات‬ ‫يكون �أكرث قلي ًال من مزحة �أو وم�ضة من الطرافة‪.‬‬
‫فذة؛ ق�صائد يف م�صاف «مقطوعة ليلية عن عيد‬ ‫ولن�أخذ املثال الأول الذي ي�أتي اىل الذهن وهو‬
‫القدي�سة لو�سي» �أنا املولود ثانية‪ /‬من الغياب‪،‬‬ ‫عندما ي�صف ابراهام كويل ‪ Abraham Cowley‬مقتل‬
‫الظالم‪ ،‬املوت؛ �أ�شياء مل تكن»؛ فثمة عدم يفكر‬ ‫�أبيل على يد كني يف ق�صيدته امللحمية ‪:Davideis‬‬
‫بطريقته اخلا�صة كي ي�صري وجوداً �أبعد من �أي‬ ‫«ر�أيته يقذف احلجر‪ ،‬كما لو �أنه كان يعني ‪ /‬يف‬
‫«عدم عادي»‪:‬‬ ‫الوقت نف�سه جرميته ومتثاله»‪ .‬فهذه الرباعة ال‬
‫ًكنت‬
‫لو عدم ًا عاديا ُ‬ ‫ت�ستدعي الرع�شة‪� ،‬إنها براعة فح�سب‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫مثل خيال‪ ،‬مثل �ضوء‪،‬‬ ‫ت�صورات متتلك درجة عالية من اجلمال‬ ‫فهناك ّ‬
‫ج�سداًكما ينبغي �أن يكون‬ ‫واجلدية‪ .‬ويف يوم من الأيام‪ ،‬وقعت عيناي‬
‫لكنني مل �أكن‬ ‫ت�صور خيايل ب�آلية طريفة لكنها‬ ‫م�صادفة على ّ‬
‫ومل ت�رشق �شم�سي من جديد‪.‬‬ ‫جادة ب�شكل مذهل‪ .‬يقول توم غون ‪ Thom Gunn‬يف‬
‫وب�شكل مذهل �سمح مزاج املرحلة �أن جتمع‬ ‫ق�صيدةت�أملية طويلة ن�رشت فقط يف كتابه ‪Boss‬‬
‫ق�صائد �سوداوية وغنية يف �آن كهذه الق�صيدة‪� ،‬أو‬ ‫‪ Cupid‬يف عام ‪:2000‬‬
‫«هواء ومالئكة»‪ ،‬و�أخرى تبدو �أنها جمرد ق�صائد‬ ‫�صورة واحدة تدفقت‬
‫اجتماعية تتخللها نكات جن�سية عن املجتمع‪،‬‬ ‫والت�صقت بالر�أ�س العنيد‪:‬‬
‫لي�ست �أقل ذكاء بل �أقل �سوداودية‪ ،‬يف البحث عن‬ ‫مثل ناي خجول‬
‫القهقهة �أكرث من الرع�شة‪.‬‬ ‫امل ِْ�سعر الذي التقط ْته‬
‫�إال �أن �أليوت فقد حبه لدون لأن حبه لدانتي‬ ‫يف فمها‬
‫ا�ستحوذ عليه‪ .‬وي�ؤكد تعاطفه مع ذلك ال�شاعر‬ ‫تنف�ست ثقوبه املرتا�صفة‬
‫اقراره بالتلمذة ملعظم حياته‪ .‬ورمبا �سي�ضع‬ ‫وامتلأت باملو�سيقى‬
‫دانتي يف مقابل غوته‪� ،‬أو �أكرث من ذلك بقليل‬ ‫حتى �صمتت‪.‬‬
‫يف مقابل �شك�سبري‪ .‬واجناز �أليوت مل يكن منح‬ ‫ال �أعرف �إذا ما كانت مِ �ساعر الغاز ال تزال موجودة‪.‬‬
‫القارئ االجنليزي فكرة وا�ضحة عن عظمة‬ ‫فما كتب لهذه النكتة القا�سية – بالت�أكيد �أنها‬
‫دانتي بو�صفه �شاعراً فح�سب‪ ،‬بل تو�ضيح الكيفية‬ ‫ت�صوراً ميتافيزيقياً–النجاح‬‫ّ‬ ‫ت�صلح �أن تكون‬
‫التي ت�صاحب فيها اال�ستعارة ال�رسد كي تنتج‬ ‫هو �أن م�سعر النار ي�ستدعي الناي يف �شكله‬
‫ق�صائد ايطالية ُم َعدة لتجهيز ما حدده هو من‬ ‫الذي يتخلله �صف من الثقوب‪ ،‬غري �أنالغاز يف‬
‫مراحل االدراك ال�شعري كافة‪ .‬فمن الوا�ضح �أن‬ ‫مثل هذه احلال‪ ،‬ال التنف�س الب�رشي‪ ،‬تدفق خالل‬
‫جترب ارتعا�ش الرغبة عندما كتب عن لقاء‬ ‫�أليو ّ‬ ‫الثقوب يف الفم املنتحر يف مو�سيقى �صامتة‬
‫دانتي ا�ستاذه القدمي برونيتو التيني يف الن�شيد‬ ‫رهيبة‪ .‬هذا جاد للغاية وبعيد جداً عن �أن يكون‬
‫‪ 15‬من اجلحيم‪.‬ويقال �أن برونيتو ويف حالة من‬ ‫مزحة‪.‬‬
‫االحباط يف اجلحيم كان ي�شبه �أحد اولئك الذين‬ ‫والحظ �أحد ما �أن �أليوت �سيجد بيت ًا مثل بيت دون‬
‫يت�سابقون من �أجل الراية اخل�رضاء يف فريونا؛‬ ‫«�سوار �شعر �ساطع حول اجل�سد» �شديد الإغواء‪.‬‬
‫«ومنهم بدا كالذي يفوز‪ ،‬ولي�س كالذي يخ�رس»‪.‬‬ ‫ويف مراحل �أخرى منعمل دون يحتمل �أن جند‬
‫وبالن�سبة اىل جناح هذه ال�صورة ال�شعرية التي‬ ‫�أن انتاج الرع�شة يقل فيه ل�صالح االبت�سامة‪ ،‬مع‬
‫‪80‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ت�صور حالة الكربياء خالل االحباط‪ ،‬والتي الأخري من �أنطونيو وكليوباترا‪ ،‬يقارن �أليوت‬
‫قدمت كما يبدو ك�صورة زائدة �أو زخرفية‪ ،‬قال معاجلة �شك�سبري ملو�ضوع موت كليوباترا‬
‫�أليوت �أنه مل يكن «مهي أً� لالقتبا�س �أو اال�شارة»‪ .‬ب�أبيات كتبها دراي َدن عن املو�ضوع نف�سه يف‬
‫ف�أكت�شفها لنف�سه ولنا منوه ًا �أنها متتلك «�صفة م�رسحيته كل �شيء من �أجل احلب‪ .‬وقد اعتمد‬
‫الده�شة التي �رصح بو ‪ Poe‬ب�أنها �أ�سا�سية كال الكاتبني على كتاببلوتارك ‪ Plutarch‬حياة‬
‫لل�شعر»‪ .‬وت�سبب الده�شة ردة فعل مثل الرع�شة‪ .‬انطونيو‪ .‬كليوباترا ميتة‪ .‬ففي ن�سخة �شك�سبري‬
‫ويقول �أليوت «ال يحتاج املرء �أن يعرف كل �شيء يدخل جندي روماين لريى امللكة ميتة وي�س�أل‬
‫عن �سباق يخ�ص لفافة من القما�ش الأخ�رض‪ ،‬مرافقة كليوباترا‪ ،‬ت�شارمني‪« :‬ما العمل هنا‪،‬‬
‫ت�شارمني؟ هل مت الأمر على �أح�سن �صورة؟ ترد‬ ‫حتى ت�رضبه هذه الأبيات»‪.‬‬
‫وكنت على و�شك �أن �أجنح يف جتنب كلمة ت�شارمني‪ :‬مت الأمر على �أح�سن �صورة‪ ،‬ويليق‬ ‫ُ‬
‫«ت�رضبه»‪ ،‬لوال �أن ال�شاعر الذي ا�ستعملها كان ب�أمرية‪� /‬سليلة ملوك ملكيني كرث‪�/‬آه‪� ،‬أيها‬
‫يعزو �أهمية كبرية للحظة املبكرة الأوىل التي اجلندي! ثم متوت هي �أي�ضاً‪ .‬بينما يجعل درايدن‬
‫هي فريدة يف �صدمتها وده�شتها وحتى رعبها ت�شارمني تجُ يب كالآتي‪ :‬نعم‪ ،‬مت على �أح�سن‬
‫�صورة‪ ،‬ومثلما �آخر ملكة‪ /‬ل�ساللتها‬ ‫‪ ...‬حلظة ال ميكن ن�سيانها �أبداً‪ ،‬ومع‬
‫العظيمة‪� .‬س�أتبعها»‪.‬‬ ‫تنتج‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ميكن‬ ‫ذلك ال ميكن �إعادتهابالتمام والكمال‪،‬‬
‫ولعلنا نتفق على �أنه �إذا كانت هناك‬ ‫الرع�شة‬ ‫و�ستكون بال �أهمية �إذا مل تبق حية على‬
‫«�رضبة»ها هنا فهي يف الكلمات‬ ‫مدى املجموع الأكربللتجربة‪ ،‬وذلك‬
‫الآتية «�آه‪� ،‬أيها اجلندي!» وينظر �أليوت‬ ‫�صدمة‬ ‫بو�ساطة‬ ‫عرب عي�شها داخل ال�شعور الأعمق‪.‬‬
‫باحرتام اىل ن�سخة دراي َدن التي لي�س‬ ‫وميكن للمرء التخل�ص من �أكرثية اال�ستعارة يف‬
‫فيها «�آه‪� ،‬أيها اجلندي!»؛ الكلمات التي‬ ‫�شكلها‬ ‫الق�صائد ويبقى على قيد احلياة‪ ،‬كما‬
‫�أ�ضافها �شك�سبري اىل بلوتارك‪ .‬و»مل‬ ‫ميكن له التخل�ص من �أكرثية طموحاته‬
‫�أمتكن من نف�سي»‪ .‬ويقول �أليوت‪� :‬ص ْغ‬ ‫املتطرف‬ ‫االن�سانية ويبقى حياً‪� .‬إال �أنه معدانتيال‬
‫بالكلمات الفرق الذي ا�شعر به يف هذا‬ ‫ي�سع املرء �سوى الأمل يف �أن يبقى اىل‬
‫نهاية املطاف‪ .‬وهذا ثناء رائع لي�س فقط لل�شعر املقطع اذا كانت تلك الكلمات «�آه‪� ،‬أيها اجلندي!»‬
‫الذي �سبب ال�رضبة التي �سببت الرع�شة فح�سب‪ ،‬بل قد م�سحت‪ .‬ولكنني �أعرف ب�أن هذا الفرق ال ميكن‬
‫�صنعه �سوى �شك�سبري‪ .‬ويعلق كري�ستوفر ريك�س‬ ‫للكمال الذي فر�ض مكانه‪.‬‬
‫و�أفرت�ض‪ ،‬وهذا طبيعي‪ ،‬ب�أن اهتمام ال�شعراء ‪ Ricks‬على هذا ب�أنه �إذا «كان له التمثيل‬
‫بالقوى العليا‪� ،‬سيمنح بع�ضهم ولي�س كلهم مبقطع واحد من �أليوت للتدليل على �أنه كان‬
‫حلظات من الرع�شة‪ .‬كما هو الأمر مع مقطع ناقداً عظيماً»‪ ،‬لكان هذا املقطع‪.‬‬
‫برونيتو‪ .‬ومن املفرت�ض �أن تكون تلك الأبيات فهذا ثناء كبري يجيزه على الأكرث وجود بع�ض‬
‫معروفة اىل درجة كبرية يف �أوا�سط اجلمهور الرع�شات‪ .‬ولكن هناك م�س�ألة لها �أهمية �أكرب‬
‫املثقف بايطاليا‪ .‬ولهذا الأمر �أهميته �إذ ميكن تثريها الكلمات الآتية‪« :‬مت الأمر على �أح�سن‬
‫لالعتياد املفرط منع الرع�شة اىل حد �أن «غداً �صورة‪ ،‬ويليق ب�أمرية‪�/‬سليلة ملوك ملكيني كرث»‪.‬‬
‫وغداً وغداً» قد تقل�صت‪ ،‬بالن�سبة الينا‪ ،‬اىل مثل‪ .‬فلي�ست هناك حاجة لو�صف امللوك بامللكيني؛‬
‫فهم ي�صبحون ملكيني عندما يتم اقرارهم كملوك‪.‬‬ ‫ف�إننا نحتاج اىل مل�سة من ال�رسية‪.‬‬
‫ويف مقطع رائع يحتوي �أبيات ًا ت�صور امل�شهد ولكن «ملكيني» كانت زيادة رائعة مكنت البيت‬
‫‪81‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�شخ�صيات اجلميلة وامللعونة مع ًا كانت مو�ضع‬ ‫من ال�رضبة‪ .‬وعند بلوتارك كانت «ملوك نبالء»‬
‫�إعجابه‪ ،‬وت�أتي عنده يف ن�سق الهوتي)‪ ،‬ويدعي‬ ‫زيادة لي�ست جيدة مبا فيه الكفاية؛ وكانت‬
‫�أن قراءة م�رسحية �شك�سبري كاملة متكننا من‬ ‫مالحظة اجلندي �ضبابية‪�« :‬أحد اجلنود (ناظراً‬
‫احل�صول على القدر نف�سه يف ما يخ�ص الق�صة‬ ‫لت�شارمني) قال بغ�ضب لها هل مت الأمر على‬
‫نف�سها‪ .‬وعلى الأكرث‪ ،‬فيبدو �أن الأ�سا�س الذي بنى‬ ‫�أح�سن وجه؟»‪ ،‬بينما جندي �شك�سبري م�ضطرب‬
‫عليه هذا االعتقاد هو �أن كل الكوميديا يت�ألف من‬ ‫ولكن ال يبدو عليه الغ�ضب‪ .‬وهذا امل�شهد‪ ،‬كما‬
‫قطعة واحدة‪ ،‬بينما ي�صعب العثور على منوذج‬ ‫فهمه �شك�سبري جيداً‪ ،‬مثل حلظة نقدية يف تاريخ‬
‫يف ب�ساط �شك�سبري ب�سبب نطاق م�رسحياته‬ ‫العامل ورمبا كان اجلندي الروماين ب�ضمنها‪ .‬وقد‬
‫وتنوعها‪ ،‬والتي‪ ،‬كما يعتقد �أليوت‪ ،‬يجب النظر‬ ‫يكون اجلندي عن�رصاً جوهري ًا يف فعل الرع�شة‪.‬‬
‫اليها بو�صفها عم ًال عظيم ًا واحداً‪ .‬وواقع الأمر‬ ‫وعلى الأرجح �أن �رشوح كلمات ت�شارمني‬
‫كما يبدو يل �أن تلك املقارنات الدانتية تبعد‬ ‫وت�أوهاتها �ستكون معقدة ومعمقة‪.‬‬
‫االهتمام عن مقاطع �شك�سبريية مثل ردة فعل‬ ‫وعندنا مثال �آخر قريب من ختام امل�رسحية‬
‫�أوكتافيو�س على ج�سد كليوباترا‪.‬‬ ‫يبني حاجة �أليوت اىل مثل هذه تعليقات �أليوت‪.‬‬
‫وبالت�أكيد‪ ،‬ف�إن هذه الأبيات دليل قوي على‬ ‫فعندما ي�شاهد �أوكتافيو�س ج�سد امللكة يقول‬
‫العبقرية بقدر قوة كلمات ت�شارمني اىل اجلندي‪.‬‬ ‫متعجباً‪:‬‬
‫ويتحدث بلوتارك عن خيبة �أمل �أوكتافيو�س يف‬ ‫�آه �أيها ال�ضعف النبيل!‬
‫فقدان كليوباترا احلية‪ ،‬ونقل �شك�سبري كلماته‬ ‫لو كانوا �رشبوا ال�سم‬
‫يف �شعر يعرب عن الفقدان وبلغة جتمع ردة فعل‬ ‫لظهرعلى �شكل انتفاخ خارجي‬
‫�ضابط يبحث عن دليل يتعلق بق�ضية املوت من‬ ‫لكنها تبدو كنائمة‬
‫جهة �أوىل‪ ،‬ومن جهة �أخرى ف�إن ق�رص التعبري‬ ‫كما لو �أنها �ست�أ�رس �أنطونيو �آخر‬
‫كان ميكن �أن يبطل �صدمته‪« :‬كما لو �أنها �ست�أ�رس‬ ‫يف �رشك جمالها املتني‪.‬‬
‫�أنطونيو �آخر‪ /‬يف �رشك جمالها املتني»‪ .‬وكما‬ ‫ويخربنا بلوتارك �أن القي�رص‪ ،‬برغم ما حدث‪،‬‬
‫يبدو‪ ،‬ف�إن عنف ًا مايقلّ�ص اللغة التي‪ ،‬كما �أ�شار‬ ‫كان «حزين ًا اىل درجة عجيبة» ملوت كليوباترا؛‬
‫�أليوت‪ ،‬تقدم «ان�صهاراً ‪ ...‬يف تعبري واحد» لـ‬ ‫«وتعجب من نبل عقلها و�شجاعتها»‪ .‬وملناق�شة‬
‫«النطباعني خمتلفني �أو �أكرث»‪ .‬وحق ًا ميكننا‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬يذكرنا �أليوت بداية مبقطع مف�ضل‬
‫�أن نفكر بـ«اجلمال» بو�صفه �رشكاً‪� ،‬أما اللعبة‬ ‫�آخر مناجلحيم‪ :‬ح�شد يف اجلحيم يحدق يف دانتي‬
‫اجلن�سية مع �أنطونيو فقد خرجت بعيداً وب�شكل‬ ‫«كخياط عجوز يحدق يف ثقب �إبرته»‪� .‬إنه بيت‬
‫مفاجئ عن �أن تكون ا�ستعارة عادية‪ .‬ويقر‬ ‫مده�ش‪ ،‬ذكرنا به كذلك ييت�س وبرع�شة بع�ض‬
‫اليوت ب�أن �صورة �شك�سبري «من�سوجة متام ًا يف‬ ‫ال�شيء‪.‬‬
‫ن�سيج الفكر»؛ ويدرك‪ ،‬بالتاكيد‪ ،‬قوة تلك الأبيات‬ ‫ولكن �أليوت يقول �إن «الغاية من هذا النوع من‬
‫وتعقيدها‪« :‬فقد ا�ستح�رضت كل قوى كليوباترا‬ ‫الت�شبيه هي‪ ،‬فقط‪ ،‬جلعلنا ر�ؤية امل�شهد ب�صورة‬
‫الكارثية على النا�س واالمرباطوريات»‪ .‬ومع‬ ‫�أكرث حتديداً»‪ .‬ومن ثم يقتب�س �أبيات �شك�سبري‬
‫ذلك‪ ،‬يف�ضل �أليوت عمل دانتي لأنه يحوي ما‬ ‫مبتغي ًا تبيان اختالفها عن �أبيات دانتي يف‬
‫يدعوه «ال�رضورة العقالنية»؛ الأمر الذي يفتقده‬ ‫كونها لي�ست تف�سريية و«مرتهلة ‪.»expansive‬‬
‫عند �شك�سبري‪.‬‬ ‫ويعرب �أليوت‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عن اعجابه بق�صة‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫الحظت‪ ،‬فيظهر �أن‬
‫ُ‬ ‫باولو وفران�شي�سكا (وكما‬
‫‪82‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ال�شعر‪...‬‬
‫املكان ونب�ض املطلق‬
‫\‬
‫يحيى بن الوليد‬

‫املكان عالمة مائزة ودالة على الإن�سان يف دروب ان�شقاقاته وانعماقاته ب�أ�سئلة‬
‫الوجود ودالالت الإن�سان يف الوقت ذاته؛ ذلك �أن عالقة هذا الأخري باملكان تتجاوز‬
‫حدود «الإقامة ال�سالبة» نحو «الت�أثر املتبادل» الذي ي�صل ما بني الطرفني‬
‫معا ويف �إطار من «الثقافة» التي تظل «املخترب»‪ ،‬الأوحد‪ ،‬واملتفرد‪ ،‬لت�شكالت‬
‫الإن�سان يف والداته امل�سرت�سلة طاملا �أن هذا الأخري ال يولد مرة واحدة فقط كما‬
‫يقول �صاحب رائعة «مائة عام من العزلة» الروائي الأ�شهر غابرييل غار�سيا‬
‫ماركيز‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل �أن الإن�سان‪ ،‬وقبل �أن يكون �أي �شيء من الأ�شياء‪ ،‬وقبل‬
‫�أن يعطى له �أي و�صف من الأو�صاف‪ ،‬وما �أكرثها‪ ،‬يظل‪ ،‬وكما قيل‪ ،‬وابتداء‪« ،‬كائنا‬
‫يف حيز مكاين» ي�ضفي عليه خوا�صا مميزة بالنظر �إىل تفاوت امل�سافات واللغات‬
‫والثقافات التي تف�رس تعدد الأمكنة بل وتعدد املكان الواحد يف �أحيان �إذا جاز‬
‫احلديث عن «بوليفونية املكان»‪.‬‬

‫ال تفارق النمذجة املكانية‪ ,‬م�س�ألة البناء‪ ،‬بناء املكان‪.‬‬


‫املكان بالن�سبة للإن�سان لي�س «حيزا فيزيقيا»‪،‬‬
‫و�إمنا هو «حقيقة معا�شة»‪.‬‬

‫‪83‬‬ ‫\ ناقد واكادميي من املغرب‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والعالقات»‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل �أن املكان كا�شف‬ ‫وكما �أن عالقة الإن�سان باملكان‪ ،‬وهو ما‬
‫عن ت�شكل املجتمع ككل‪« ،‬ف�ضائيا»‪ .‬ولعل هذا ما‬ ‫نكون قد مهدنا له قبل قليل‪ ،‬تبدو قائمة على‬
‫يف�ضي بنا �إىل ما ي�سميه «النقد الثقايف» بـ»الإقليم‬ ‫ذلك النوع من «االنغرا�س العمودي» الذي‬
‫الثقايف» الذي يظل مميزا للمجتمع‪� ،‬أو بالأحرى‬ ‫يخرتق طبقات املكان رغم ال�سطحية الظاهرة‬
‫«الهويات» الفردية واجلماعية‪ ،‬رغم دعاوى‬ ‫واخلادعة التي توهمنا بها الأمكنة ذاتها‬
‫«العوملة» يف تن�صي�صها‪ ،‬وعلى م�ستوى املكان‬ ‫نتيجة ت�أثري الإقامة الباردة فيها‪ .‬واملكان‪،‬‬
‫ذاته‪ ،‬على «الف�ضاء العوملي» الذي هو قرين ت�آكل �أو‬ ‫كما قال عنه مرتجم «جمالية املكان»‬
‫فقدان الأمكنة بل والإ�رصار على حمو اجلغرافيات‬ ‫الروائي غالب هل�سا‪ ،‬يف �إحدى مقاالته‪،‬‬
‫الثقافية ب�سبب من «�إ�سرتاتيجيتها» القائمة على‬ ‫«قدر» بالن�سبة للإن�سان‪.‬‬
‫«�سيا�سة» «التفكيك» و«التمزيق»‪.‬‬ ‫ولذلك فالأهم �أن «يعي�ش» الإن�سان مع املكان ال �أن‬
‫وعالقة الإن�سان باملكان لي�ست �أحادية البعد‪ ،‬و�إمنا‬ ‫يعي�ش فوقه‪ ،‬ببالدته املتكل�سة واملعهودة‪ ،‬ودون �أن‬
‫هي معقدة الأطراف طاملا �أنها حمكومة بو�سائط‬ ‫ين�صت �إىل �أعماقه‪ .‬بكالم �آخر‪ :‬املكان لي�س حيزا‬
‫متعددة جديرة بالت�أثري على املكان ذاته وهي‬ ‫جغرافيا �أو هند�سيا معزوال عن ق�ضايا الإن�سان التي‬
‫تنقله �إىل جمال جتلي الظاهرة الإن�سانية‪ .‬و�أول ما‬ ‫هي ق�ضايا الوجود واملعرفة والإبداع واحلرية‪...‬‬
‫ي�صادفنا‪ ،‬هنا‪« ،‬اللغة» التي هي جمال ان�شقاق الأنا‬ ‫�إلخ‪.‬‬
‫وت�صعيدها؛ اللغة ــ هذا «اللويتنان» �أو «الوح�ش‬ ‫املكان امتداد للكائن وبالقدر نف�سه هو انعماق‬
‫الأ�سطوري» املخيف الذي خلقه الإن�سان غري‬ ‫ب�أم�شاج و�رشايني هذا الأخري‪ .‬وهو‪ ،‬بدوره‪« ،‬يرى»؛‬
‫�أنه �رسعان ما �سيطر على هذا الأخري‪ .‬اللغة التي‬ ‫لكن بـ«عني الإن�سان املبدع»‪« ،‬العني الالقطة» التي‬
‫متار�س‪ ،‬وانطالقا من «�سلطة الت�سمية»‪« ،‬حتويال»‬ ‫عادة ما متجدها الفينومينولوجيا‪ :‬فينومينولوجيا‬
‫على املكان‪ ،‬بل وجتعل هذا الأخري ممهورا بنداءات‬ ‫الإدراك تعيينا‪.‬‬
‫الإن�سان‪ .‬غري �أن ما يخول اللغة �أن تزاول هذا‬ ‫وعلى م�ستوى �آخر ثمة من ميو�ضع املكان يف‬
‫«التحويل» هو «الأن�ساق الثقافية» التي تندغم‬ ‫�صميم الفكر الإن�ساين ذاته‪ ،‬الفكر الذي هو عالمة‬
‫فيها‪ ،‬وجتعلها ــ بالتايل ــ «تدخال» يف «العامل»‬ ‫على حر�ص الإن�سان على االنخراط يف التاريخ‬
‫و«اجرتاحا» لـ«عوامل» �أخرى هي �أ�شبه بتلك النقطة‬ ‫اعتمادا على �آليات «الت�أثري» و«التوجيه» ت�أكيدا‬
‫التي ي�صعب ر�صدها يف الدائرة‪ .‬ويف هذا الإطار‬ ‫الفعال يف الآفاق املتنوعة التي‬ ‫ملبد أ� احل�ضور ّ‬
‫ميكن الإ�شارة �إىل الأديان والأ�ساطري والفنون‬ ‫يبدعها الإن�سان ذاته يف دنيا الوجود الأخاذة التي‬
‫والفل�سفات التي ت�شكل‪ ،‬ح�سب يوري لومتان‪،‬‬ ‫ت�ستوعبه وت�ستهويه يف �آن واحد‪ .‬ويف ال�سياق نف�سه‬
‫«�أنظمة النمذجة الثانوية» جنبا �إىل جنب «نظام‬ ‫ال يبدو غريبا �أن ي�شدد البع�ض على �أن الإن�سان يفكر‬
‫النمذجة الأوىل» الذي متثله اللغة‪ .‬ومن ت�ضافر‬ ‫باملكان‪ ،‬وبكل ما ينطوي عليه مثل هذا الت�صور‬
‫هذين النظامني تتك�شف «النمذجة املكانية» التي‬ ‫من ت�أكيد على مركزية املكان على م�ستوى �سرب‬
‫ال تفارق بدورها‪ ،‬ويف ت�صور بوري لومتان دائما‪،‬‬ ‫�أغوار الذات الإن�سانية‪ .‬ثم �إنه حتى «البنيوية» التي‬
‫يف كتابة «بنية العمل الفني»‪ ،‬م�شكالت املو�ضوع‬ ‫كثريا ما �شددنا عليها‪ ،‬من قبل‪ ،‬وعلى «رطانها»‬
‫واملنظور‪.‬‬ ‫حتديدا‪ ،‬وال�سيما يف ثقافتنا املغلوبة وامل�ستلبة‪،‬‬
‫وال تفارق «النمذجة املكانية» «م�س�ألة البناء»‪،‬‬ ‫بل واعتربناها «فل�سفة موت الإن�سان»‪ ،‬ن�صت على‬
‫«بناء املكان»‪ .‬واملكان بالن�سبة للإن�سان لي�س‬ ‫�أن الع�رص الذي نعي�ش فيه هو «ع�رص الأمكنة‬
‫‪84‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ذاته‪ ،‬و�إمنا ت�أثري هذا ال�شيء‪ ،‬وهنا يتدخل التخييل‬ ‫«حيزا فيزيقيا»‪ ،‬و�إمنا هو «حقيقة معا�شة»‪.‬‬
‫والت�أويل يف عمليات الإدراك‪ .‬ولذلك ال تفيد مفردات‬ ‫والإن�سان بدوره يحر�ص على بناء مكانه وعلى‬
‫املكان معنى واحدا وموحدا‪� ،‬إنها قرينة الدالالت‬ ‫�شاكلة ذلك الطائر الذي يبني ع�شه (بيته) بطريقته‬
‫املتفا�ضلة ال املتواكبة �أو املتكاملة‪ .‬و�إذا جاز �أن‬ ‫املخ�صو�صة التي ال تزال الهند�سة (العلم)‪ ،‬وحتى‬
‫نوظف لغة املناطقة‪ :‬املكان متوحد على م�ستوى‬ ‫الآن‪ ،‬عاجزة عن �إدراك �رس الدقة البادية يف هذا‬
‫الأعيان‪ ،‬غري �أنه خمتلف على م�ستوى الأذهان‪.‬‬ ‫البناء‪ .‬و«الإن�سان قادر على �صنع كل �شيء عدا ع�ش‬
‫ومعنى ما �سلف �أن املكان ال يح�رض يف م�ستوى‬ ‫الطائر» كما يقول املثل الذي يذكرنا به غا�ستون‬
‫واحد‪ ،‬و�إمنا يف م�ستويات متعددة‪ .‬وهذا االختالف‬ ‫با�شالر يف كتابه الإ�شكايل �سالف الذكر «جمالية‬
‫يت�أكد‪� ،‬أكرث‪ ،‬يف «الت�شكيل»‪« :‬ت�شكيل املكان»‪،‬‬ ‫املكان» (‪ .)1957‬ومهما كان ف�إن الإن�سان بدوره‬
‫وال�سيما داخل الإبداع‪ ،‬ال�شعر تعيينا‪ ،‬الذي هو مدار‬ ‫ي�سعى �إىل ت�أثيث مكانه بطرائق ال تخلو من تدخل‬
‫هذه الدرا�سة‪ .‬وم�صدر االختالف‪ ،‬هنا‪ ،‬هو اللغة التي‬ ‫«اخليال اخلالق»‪ .‬يقول با�شالر يف الكتاب نف�سه‪:‬‬
‫كنا قد حتدثنا عنها‪ .‬ومن هذه الناحية‬ ‫«�إن املكان الذي ينجذب نحوه اخليال ال‬
‫يح�رض املكان يف �أ�شكال خمتلفة‬ ‫«الإدراك» هو‬ ‫ميكن �أن يبقى مكانا ال مباليا‪ ،‬ذا �أبعاد‬
‫تبعا الختالف لغات �أو مرجعيات‬ ‫هند�سية وح�سب‪ .‬فهو مكان قد عا�ش‬
‫ال�شعراء‪ .‬غري �أنه‪ ،‬وقبل �أن ن�رشع يف‬ ‫بوابة تعالق‬ ‫فيه ب�رش لي�س ب�شكل مو�ضوعي فقط‪ ،‬بل‬
‫مو�ضوع ال�صلة التي ت�صل ما بني‬ ‫الإن�سان مع املكان‪،‬‬ ‫بكل ما يف اخليال من حتيز» (الرتجمة‬
‫ال�شعر واملكان‪ ،‬ال ب�أ�س من �أن نختم‬ ‫فال وجود‬ ‫العربية‪� ،‬ص‪ .)31‬ودون �أن نتغافل‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫بـ«الت�أثري» الذي يعقب عمليات الإدراك‬ ‫عن �أن هذا اخليال ال يخلو من �صالت مع‬
‫و�إواليات الت�شكيل‪ .‬فاملكان‪ ،‬ورغم‬ ‫لهذا الأخري‬ ‫�سحر الثقافة التي يتحدر منها الإن�سان‬
‫التحويل الذي يزاوله عليه الإن�سان‪،‬‬ ‫يف معزل عن‬ ‫والتي تت�رسب يف م�سلكيات هذا الأخري‬
‫يظل م�صدر ت�أثريات الحقة ب�سبب من‬ ‫الإدراك‪.‬‬ ‫املميزة‪ .‬وكل ذلك حتى ال نح�رص الثقافة‬
‫التبا�سه بالفكر الإن�ساين‪ .‬فالإن�سان‬ ‫يف جمال املكتوب فقط‪ ،‬املكتوب �أو‬
‫ي�صوغ املكان وبالقدر نف�سه ي�صوغه املكان؛ ثمة‬ ‫الكتابة التي اعتربت جالبة للف�ساد يف ت�صور بع�ض‬
‫نوع من «اللعب املر�آوي املتبادل»‪.‬‬ ‫املجتمعات البدائية‪.‬‬
‫وعلى الرغم من االنفجار النظري الهائل الذي‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن «الإدراك» هو بوابة تعالق‬
‫�صار عالمة على الع�رص الذي نعي�ش فيه فال تزال‬ ‫الإن�سان مع املكان‪ ،‬فال وجود لهذا الأخري يف‬
‫النظريات النقدية القدمية حتافظ على راهنيتها‬ ‫معزل عن الإدراك‪ .‬وكما قيل فالإن�سان يدرك العامل‬
‫الإب�ستيمولوجية وجناعتها املعرفية اجللية‪.‬‬ ‫�إدراكا ب�رصيا‪ ...‬وعلى هذا امل�ستوى الأخري‪ ،‬وكما‬
‫ومن ثوابت ال�شعرية الأر�سطية القدمية �أن الأدب‬ ‫يقول يوري لومتان‪ ،‬ميكن اعتبار املبد�أ الإيقوين‪،‬‬
‫«حماكاة»؛ و«املحاكاة»‪ ،‬هنا‪ ،‬لـ«�أفعال» الإن�سان‬ ‫وال�صفة الب�رصية‪ ،‬من اخل�صائ�ص الأ�صلية للأن�ساق‬
‫التي تظل حمكومة بزمان متزمن ومكان مت�أطر‪.‬‬ ‫اللغوية‪ .‬غري �أن ال�سند الب�رصي ذاته ال يفيد البتة‬
‫وعلى هذا امل�ستوى يظل �س�ؤال النوع الأدبي املهيمن‬ ‫�أي نوع من الإدراك املوحد‪� ،‬أو حتى املتجان�س‪،‬‬
‫�س�ؤاال م�صاحبا �أو حمايثا يف تاريخ الأدب‪ .‬ويف‬ ‫للمكان؛ ول�سنا يف حاجة‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل الت�أكيد على‬
‫�ضوء التنابذ الذي يطبع العالقة بني الأنواع الأدبية‬ ‫�أن الب�رص هو �أ�ضعف احلوا�س كما قيل‪ .‬وتعلمنا‬
‫ال يبدو غريبا �أن يتم الت�شديد على النوع الروائي‪،‬‬ ‫الفينومينولوجيا �أن الأهم لي�س هو ال�شيء يف حد‬
‫‪85‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وبعد هذا التحليق النظري‪ ،‬الذي كان بالإمكان‬ ‫بل و�أن يتم اعتبار الزمن الذي نعي�ش فيه «زمن‬
‫�أن يطول �أكرث‪ ،‬ميكن القول‪ ،‬ويف حال الق�صيدة‬ ‫الرواية»‪ .‬بل �صار مفهوم «زمن الرواية» يف �شكل‬
‫املعا�رصة باملغرب‪ ،‬ب�أن املكان يظل حا�رضا‪،‬‬ ‫م�سلمة نقدية وفكرية لدى العديد من نقاد الأدب‪.‬‬
‫وب�شكل ملحوظ‪ ،‬يف �أم�شاج هذه الأخرية‪ ...‬بل‬ ‫وبالن�سبة للعرب ال يبدو غريبا كذلك �أن تعد الرواية‬
‫�إنه كان وراء �إك�ساب الق�صيدة نف�سها �رضبا من‬ ‫«ديوان العرب اجلديد» وعلى ما يومئ �إليه هذا‬
‫«اخل�صو�صية»‪ ،‬لكن �رشيطة الدفاع عن اخل�صو�صية‬ ‫احلكم من �إنزال لل�شعر من تربعه على عر�ش الأنواع‬
‫التي ال ت�سعى �إىل مناطحة «الكونية» و«�آفاق‬ ‫الأدبية‪ .‬ومن هذه الناحية كثريا ما مت الت�شديد‬
‫الع�رص»‪ .‬فال جمال‪ ،‬هنا‪ ،‬لـ«الت�سييج احل�ضاري»‬ ‫على �أهمية الرواية من ناحية �صلتها باملكان‬
‫و«الت�صوف القومي» وغري ذلك من الدعاوى التي‬ ‫ذاته‪ ،‬وال�سيما من ناحية �صلتها بـ«املدينة»؛ فهي‬
‫جتعلنا خارج الإن�صات ملا يحدث يف العامل الذي‬ ‫«بنت املدينة» و«نرث املدينة»‪ ،‬بـ«�أحيائها اخللفية»‬
‫من حولنا‪ .‬ووعي يف هذا احلجم‪ ،‬وانطالقا من ال�شعر‬ ‫و«الأمامية»‪.‬‬
‫الذي هو «جتربة معرفية و�أنطولوجية» يف الأ�سا�س‪،‬‬ ‫ومهما كان ت�صور البع�ض للمكان من �أنه عن�رص‬
‫ال ميكن للمكان �أن ي�ضطلع به من خارج دائرة‬ ‫من العنا�رص التكوينية للعمل الأدبي فـ�إنه (�أي‬
‫«ال�شكل» باعتباره «�إرادة للقول» التي هي «�إرادة‬ ‫املكان) يظل‪ ،‬ويف جانب �أهم منه‪« ،‬خلفية»‬
‫الإن�سان غري الأخري» �إذا جازت لغة اجلينيالوجيا‪.‬‬ ‫للأحداث ويف الوقت ذاته يظل «معادال كنائيا»‬
‫ومن ثم ميكن فهم التبا�س املكان‪ ،‬ومبفرداته‬ ‫لل�شخ�صيات التي ت�ؤدي هذه الأحداث‪ .‬والظاهر‬
‫املتناثرة وم�ستوياته املتباينة‪ ،‬باحللم واجل�سدانية‬ ‫�أن ال�شعر‪ ،‬وعلى �صعيد ت�شابكه مع املكان‪ ،‬يفارق‬
‫والهذيان‪ ...‬ويف مقابل ذلك ت�صديه‪ ،‬وانطالقا من‬ ‫دالالت «املطابقة» ودالالت ال�سعي �إىل الك�شف عن‬
‫ارتقائه مل�ستوى الكلمة‪ ،‬الكلمات‪ ،‬ل�سدمي اخليبة‬ ‫«امل�ستور» و«املقموع»‪ ...‬وعن «القاع االجتماعي»‬
‫و�أدغال ال�رش املح�ض‪.‬‬ ‫و«التحويل املجتمعي امللمو�س»‪ ...‬وغري ذلك من‬
‫وقبل تدبر هذه الدالالت ال ب�أ�س من �أن �شري �إىل‬ ‫الدالالت التي تقع يف الأ�سا�س املقوالتي والت�صوري‬
‫ذلك ال�رضب من «الوعي املنق�سم» الذي يتج�سد‬ ‫للنوع الروائي‪ .‬فال�شعر جمال للتعبري عن دالالت‬
‫على �صعيد املكان ذاته حني يفر�ض هذا الأخري‬ ‫مغايرة حتوم حول مقولة «الإح�سا�س باملكان» التي‬
‫ذاته على الق�صيدة قبل �أن ي�صبح مو�ضوعا لها‪ .‬وال‬ ‫ا�ستخل�صها مارتن هايدجر من انهمامه الفل�سفي‬
‫نق�صد‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل ال�شعر من حيث هو «م�سكن»‪ ،‬وال‬ ‫الفينومينولوجي بال�شعر يف بع�ض مناذجه العاملية‬
‫�إىل «ال�صورة ال�شعرية»‪� ،‬أو «�سقوف املجاز» تبعا‬ ‫الباذخة‪ .‬والإح�سا�س‪ ،‬ويف حال ال�شعر دائما‪ ،‬ال‬
‫لعنوان عبد ال�سالم املو�ساوي‪ ،‬باعتبارها �أمكنة‬ ‫يفارق دالالت الوجود واملعرفة واالحتمال‪ ...‬لكن‬
‫فرعية تعزز املكان العام‪ .‬املكان‪ ،‬الذي نق�صد �إليه‪،‬‬ ‫�رشيطة االرتقاء به �إىل جمال «اللغة» �أو «انب�ساط‬
‫يقع يف �صميم «ال�شكل» الذي �سلفت الإ�شارة �إليه‬ ‫التكلم» كما ي�سميه هايدجر نف�سه‪ ،‬مما ي�ضاعف من‬
‫قبل قليل‪ .‬وعلى هذا امل�ستوى فقد فر�ضت «ال�صفحة‬ ‫�أهمية هذا الإح�سا�س‪ .‬وكل ذلك يف املنظور الذي‬
‫ال�شعرية» ذاتها‪ ،‬بقوة‪ ،‬و�إن يف مرحلة �سابقة‪ ،‬على‬ ‫يف�ضي بالدالالت ال�سالفة �إىل دائرة جمابهة ال�صد أ�‬
‫ال�شاعر املعا�رص باملغرب؛ وكل ذلك من خالل‬ ‫والت�أجيل وامل�صادرة واملحو والن�سيان‪ ...‬وكل ذلك‬
‫«م�شكلة اخلط» ودور هذا الأخري على م�ستوى �إ�رشاك‬ ‫�أي�ضا يف املدار الذي ي�صل ما بني الإدراك والت�شكيل‬
‫«العني» يف «الإنتاجية الداللية» للن�ص‪ .‬وكان‬ ‫والت�أثري‪ ،‬باالعتماد على �آليات الرتميز والتقنيع‬
‫النقا�ش‪ ،‬وحول امل�شكلة نف�سها‪ ،‬قد تفجر‪ ،‬ومن‬ ‫تارة و�آليات اال�ستعادة واملناقلة تارة �أخرى‪.‬‬
‫‪86‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫ي�ستوقفنا عمل املجاطي «الفرو�سية» (‪ )1987‬الذي‬ ‫جديد‪ ،‬ويف ال�صحافة املكتوبة‪ ،‬ملنا�سبة �إ�صدار‬
‫�ضم ق�صائد كان �صاحبها قد ن�رشها ما بني ‪1962‬‬ ‫الراحل حممد املاكري لدار�سته الرائدة «ال�شكل‬
‫و‪ 1977‬ما عدا ق�صيدة واحدة «احلروف» (‪.)1985‬‬ ‫وجه فيها انتقادات‬ ‫واخلطاب» (‪ )1991‬التي ّ‬
‫ق�صائد كا�شفة‪ ،‬ومبراكزها الداللية‪ ،‬عن التبا�س‪� ،‬أو‬ ‫دالة للتجربة الكاليغرافية باملغرب وال�سيما من‬
‫متف�صل‪ ،‬ال�شعر باملكان‪ .‬ويف هذا املنظور نقر�أ عن‬ ‫ناحية «انغالقها» وارتباطها بـ«رغبات �أفراد»‬
‫«دار لقمان عام ‪ »1965‬و«قراءة يف النهر املتجمد»‬ ‫وعدم «ا�ستجابتها» لتبدالت املجتمع والثقافة‪...‬‬
‫«مل�صقات على ظهر املهراز» و«القد�س» و»كتابة‬ ‫غري �أن النقا�ش‪ ،‬ويف جانبه الأكرب‪ ،‬وللأ�سف‪ ،‬كان‬
‫على �شاطئ طنجة» و»�سبتة» و«الدار البي�ضاء»‬ ‫عقيما ب�سبب من ت�شحيمات �أنا البع�ض الزائدة بل‬
‫و«اخلمارة»‪� ...‬إلخ‪ .‬يبدو جليا‪� ،‬إذا‪ ،‬وانطالقا من‬ ‫واملتقيحة التي �سارت يف اجتاه ادعاء حترير «اخلط‬
‫العناوين يف �سعيها �إىل توجيه القراءة‪ ،‬مدى هيمنة‬ ‫املغربي» من «كبته ال�سحيق»‪ ،‬مما كان له ت�أثريه‬
‫املكان‪ ،‬هذا �إذا ما مل نعترب املكان «�رشارة» دفق‬ ‫على م�ستوى «اختبار» هذا «اخلط» من خارج دائرة‬
‫الإبداع يف حال «الفرو�سية»‪ .‬غري‬ ‫«الظرفية» التي كانت قد الزمت التعاطي‬
‫�أن املكان‪ ،‬يف العمل‪ ،‬حمكوم بفهم‬ ‫املكان يظل‪ ،‬يف‬ ‫له من قبل‪� .‬إجماال ف�إن النقا�ش حول اخلط‬
‫متعني‪� ...‬إنه «رمز» و«قناع»‪.‬‬ ‫قد يف�ضي بنا �إىل جمال �أو�سع ومت�شعب‬
‫و�إذا كان عمل املجاطي «الفرو�سية»‬
‫جانب �أهم منه‪،‬‬ ‫بالنظر �إىل جتاوزه مل�ستويات اللون نحو‬
‫كا�شف عن نربة مغربية وعربية ف�إن‬ ‫«خلفية» للأحداث‬ ‫الأ�شكال اللفظية وغري اللفظية‪ ،‬الهند�سية‬
‫عمل جمايله حممد اخلمار الكنوين‬ ‫ويف الوقت ذاته‬ ‫وغري الهند�سية‪ .‬غري �أن ال�س�ؤال غري املفكر‬
‫«رماد ه�سبريي�س»‪ ،‬ال�صادر يف العام‬ ‫فيه‪ ،‬هنا‪ ،‬و�سواء فيما يتعلق باخلط يف‬
‫نف�سه‪ ،‬واحلاوي لق�صائد كتب �أغلبها‬
‫يظل «معادال كنائيا»‬ ‫الق�صيدة �أو بـ«الق�صيدة الب�رصية» ككل‪،‬‬
‫ما بني ‪ 1965‬و‪ ،1972‬كا�شف عن‬ ‫لل�شخ�صيات التي‬ ‫هو يف مدى التبا�س املكان‪ /‬ال�صفحة‬
‫نربة مغايرة تند�س‪ ،‬ورغم بع�ض‬ ‫ت�ؤدي هذه‬ ‫�أو الت�شكيل املكاين لل�صفحة ب�سبل‬
‫الإ�شارات �إىل �أمكنة طبيعية‪ ،‬يف �صميم‬ ‫«ا�ستقطار املعنى»‪ .‬هذا لكي ال نتحدث‬
‫«الأ�سطورة»‪ .‬وهذا ما يت�أكد بدءا من‬
‫الأحداث‬ ‫عن تلك «الالعقالنية التدمريية» التي‬
‫العنوان «رماد ه�سبريي�س» الذي ا�ستخل�صه ال�شاعر‪،‬‬ ‫�سعى البع�ض‪ ،‬وال يزال‪� ،‬إىل التلويح بها‪ .‬فال�شاعر‬
‫وكما يثبت ذلك يف �أحد هوام�شه‪ ،‬من «حدائق‬ ‫املغربي‪ ،‬هنا‪ ،‬كانت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬وما عدا يف مناذج‬
‫ه�سبريي�س» الأ�سطورية مبدينته (الق�رص الكبري)‪.‬‬ ‫معدودة جدا منه‪ ،‬تنق�صه تلك «املطرقة» التي كان‬
‫و�أما «الرماد» فهو دال على مدلول «اخلراب» الذي‬ ‫كلما تقدم بها زراد�شت‪ ،‬وهو يهدم اجلبل‪� ،‬إال وكان‬
‫يلوي بـ«�صحراء الذات» الذي يرد عليه ال�شاعر‬ ‫ينحت �أو ير�سم لنف�سه �صورة الإله التي هو �صورته‪.‬‬
‫بالإبداع املتحدر من «امليثولوجيا القدمية» التي‬ ‫وغاية القول‪ ،‬هنا‪ :‬ثمة بون بني «الالمعنى»‬
‫يجردها‪ ،‬وبلحمة ودمه‪ ،‬ال بذهنه‪ ،‬من م�ستواها‬ ‫و«ب�ؤ�س املعرفة والإن�سان»‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل �أنه‬
‫املعجمي ال�سطحي املقحم ويجعلها ــ بالتايل‬ ‫ال يزال هناك �أكرث من �س�ؤال حول مدى �إفادة ال�شعر‬
‫ــ تت�رسب يف دوران املراكز الداللية التي تلوي‬ ‫املعا�رص باملغرب من «التحول املر�آوي» الذي هو‬
‫بالف�ضاء الداليل للن�ص‪.‬‬ ‫قرين «احلداثة امل�شهدية»‪.‬‬
‫ويف ال�سياق نف�سه ثمة �أمكنة �أخرى ل�شعراء جايلوا‬ ‫ويفر�ض املكان ذاته منذ الأعمال الأوىل الدالة‬
‫املجاطي والكنوين ويف �إطار من تلك املرحلة‬ ‫على ال�شعر املعا�رص باملغرب‪ .‬ومن هذه الناحية‬
‫‪87‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أن ال�شاعر‪ ،‬ويف �إطار من «فك االلتبا�س» بني ال�شاعر‬ ‫املف�صلية يف التاريخ احلديث واملعا�رص للمغرب‪.‬‬
‫ذاته والناقد‪� ،‬سعى‪ ،‬وعلى �صعيد الق�صيدة ذاتها‪،‬‬ ‫غري �أن الق�صائد التي تغنت بتلك الأمكنة تال�شت‬
‫�إىل توريط «ال�صفحة»‪�« ،‬صفحته» �أو بالأحرى‬ ‫قبل تال�شي الأمكنة نف�سها‪ .‬ويبدو جليا �أننا نق�صد‬
‫«�صفحاته»‪ ،‬يف تفعيل �أن�ساغ الإبداع‪ .‬و�أعماله‪،‬‬ ‫�إىل «الأمكنة ــ الأقنعة» التي كانت م�شدودة �إىل‬
‫ال�شعرية‪ ،‬وترجماته كذلك‪ ،‬املن�شورة‪ ،‬وبح�س النا�رش‬ ‫حبال «االيدولوجيا الوثوقية» التي كانت ت�ستبق‬
‫�أي�ضا‪ ،‬دالة على هذا االختيار �أو اال�سرتاتيجية‪ .‬هذا‬ ‫الفعل ال�شعري ذاته بل وجتعل من هذا الأخري‬
‫و�إن كان ال�س�ؤال‪ ،‬و�سواء يف حال بني�س �أو �سواه من‬ ‫جمرد «و�سيط» لها يف «�ساحة املواجهة الزاعقة»‬
‫«التجريبيني»‪ ،‬يظل مطروحا‪ ،‬وب�إحلاح‪ ،‬حول مدى‬ ‫التي كانت‪ ،‬وقتذاك‪ ،‬رديفا لـ«الثقافة» يف اتكائها‪،‬‬
‫التبا�س هذا االختيار بالإبداع مبعناه املطلق؟ �أم‬ ‫املطلق‪ ،‬على مفاهيم ع�ضوية يف مقدمها «�أحالم‬
‫�أنه ال يعدو �أن يكون جمرد رغبة يف �إحاطة الن�ص‬ ‫الثورة» و«مقولة التغيري»‪ .‬ويكفي �أن ن�شري‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫بالكثري من اللغط؟‬ ‫�إىل «الربج العنيد» الذي كان يتخندق فيه �سواء‬
‫غري �أن بني�س ال يح�رص ت�صوره للمكان يف املكان‬ ‫�صاحب العمل الراحل حممد الوديع الأ�سفي (‪1923‬‬
‫الن�صي‪ .‬ومن هذه الناحية فهو ال يت�صور ال�شعر‬ ‫ــ ‪� )2004‬أو غريه من ال�شعراء من املجايلني له‬
‫جمرد «لغة» فقط‪ ،‬وهو ما «يتهمه» البع�ض بها‪.‬‬ ‫�أو الالحقني عليه يف ذلك «الأفق»‪� ،‬أو بالأحرى‬
‫«�إن ال�شعر [والكالم له] �أو�سع من �أن ي�شتغل على‬ ‫«النفق»‪ ،‬الإيديولوجي الالهب‪ ،‬الذي �شغل الفرتة‬
‫اللغة مبفردها‪ .‬فهو �إىل مكانه الوثني ي�ستعجل‬ ‫املمتدة من ال�ستينيات ال�صاعدة �إىل ال�سبعينيات‬
‫الرجوع» («كتابة املحو»‪� ،‬ص‪ .)88‬وقبل �أن نخل�ص‬ ‫النازلة‪.‬‬
‫�إىل «املكان الوثني» ال ب�أ�س من �أن ن�شري �إىل‬ ‫ويف احلق ف�إن ال�شعر املعا�رص باملغرب �سي�أخذ‬
‫«املكان الفيزيقي» الذي جند �أكرث من �إ�شارة له يف‬ ‫منحى �آخر مع ما �ست�سميه الآلة النقدية بـ«جيل‬
‫�شعر ال�شاعر وبدءا من عمله الأول «ما قبل الكالم»‬ ‫ال�سبعينيات» الذي �سيحيط جتربته بكثري من‬
‫(‪ )1969‬الذي خ�ص فيه فا�س بن�ص «من �صور‬ ‫«النقا�ش»‪ .‬وال نعتقد يف جدوى ر�صد التبدل الذي‬
‫املدينة» ال يخلو من نربة �سيابية وي�ستهله قائال‪:‬‬ ‫كان يف �أ�سا�س هذا املنحى يف معزل عن ا�ستح�ضار‬
‫يدي بني ن�سيمك املعطار‪ /‬لأعرف ما‬ ‫«د�س�ست َّ‬ ‫املكان وطرائق ان�سيابه يف الق�صيدة‪ .‬وقد قاد‬
‫يخبئه النحا�س» (�ص‪� .)77‬إال �أن مثل هذه الإ�شارات‬ ‫انفتاح بع�ض �أ�سماء اجليل على ال�شعر الغربي‪،‬‬
‫ال تغطي‪ ،‬وب�سبب من الت�صور امل�سبق لل�شعر‪ ،‬على‬ ‫والفرن�سي بوجه خا�ص‪ ،‬ودومنا �أي قطيعة مع‬
‫«البعد امليتانقدي» للمكان يف «م�رشوع» بني�س‬ ‫الرتاث‪� ،‬إىل التفكري يف ذلك النوع من الت�شكيل‬
‫ال�شعري‪ .‬ويف هذا ال�صدد ميكن �أن ن�صل‪ ،‬ومن جوانب‬ ‫املكاين لل�صفحة الذي �سلفت الإ�شارة �إليه‪ .‬وال‬
‫عديدة‪ ،‬بني كتابته النقدية وكتابته ال�شعرية‪ .‬ومن‬ ‫يخفى �أنه كان ملحمد بني�س دور ال ينكر على هذا‬
‫ثم ف�إنه ميكن قراءة عناوينه‪ ،‬و�سواء ال�سابقة مثل‬ ‫امل�ستوى‪ ،‬خ�صو�صا و�أنه عاد‪ ،‬يف �أطروحته الالحقة‬
‫«ورقة البهاء» (‪ )1988‬و«هبة الفراغ» (‪� )1992‬أو‬ ‫حول «ال�شعر العربي احلديث»‪ ،‬يف اجلزء الثالث منها‬
‫الالحقة مثل «املكان الوثني» (‪ ،)1996‬باعتبارها‬ ‫واملكر�س لـ»ال�شعر املعا�رص» (‪� ،)1990‬إىل التو�سيع‬
‫«امتدادا» لن�صو�صه النقدية املوازية املت�ضمنة يف‬ ‫املكثف يف املو�ضوع نف�سه ومن خالل ما �أ�سماه‪،‬‬
‫«كتابة املحو» (‪ .)1994‬ويهمنا �أن ن�شدد‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫وباال�ستناد �إىل النقد الفرن�سي املعا�رص‪ ،‬بـ«املكان‬
‫على «املكان الوثني» الذي هو يف ت�صوره «املكان‬ ‫الن�صي» الذي هو قرين «ال�صفحة املتعددة» تبعا‬
‫ال�شعري بامتياز» والذي ي�سعى �إىل �أن يرقى به‬ ‫لتو�صيف هرني ميو�شنيك الذي يحيل عليه‪ .‬والأهم‬
‫‪88‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫املاء»‪« :‬ثمةَ‪ /‬حيث ك ٌّل قطرةٍ ‪ /‬حميط»‪.‬‬ ‫ال�شاعر �إىل دائرة «املحو» التي ال تفارق بدورها‬
‫وقبل �أن نختم بـ«الالمكان» لدى ال�شعراء الذين‬ ‫دوائر «الهباء» و«الفراغ» و«احللزون» و«الهذيان»‬
‫يفيدون من الت�صوف ي�ستوقفنا �شاعر �آخر‪� ،‬سبعيني‪،‬‬ ‫و«الهاوية» و«الن�سيان» و«املوت»‪� ...‬إلخ‪ .‬ذلك هو‬
‫تك�شف جتربته عن تعلق كبري باملكان املتمثل‬ ‫«املكان الذهني» الذي «يبقى» فيه �صاحبه‪� ،‬أخذا‬
‫باملدينة التي يقيم فيها‪ ،‬مدينة �أ�صيلة ال�صغرية‬ ‫بعنوان عمله (الأخري) «هناك تبقى» الذي يذكرنا‪،‬‬
‫الغافية على �شاطئ الأطل�سي‪ .‬ونق�صد‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل‬ ‫وهنا «ت�أثري» �أو «تدخل» املقروء مرة �أخرى‪،‬‬
‫ال�شاعر املهدي �أخريف الذي ا�ستهل جتربته‬ ‫بـ«دايزن» (�أو «الكائن‪ ،‬هنا») هايدجر ال�شهري‪.‬‬
‫مبجموعته ال�شعرية املعنونة بـ«باب البحر»‬ ‫وتك�شف جتربة ال�شاعر الأبرز حممد بنطلحة‪ ،‬ومن‬
‫(‪ )1983‬الذي هو �إحدى الأمكنة البارزة باملدينة‬ ‫ناحية املكان‪� ،‬أو بالأدق «الالمكان» كما �سنو�ضح‬
‫بل والدالة على ذاكرتها الرثية‪ .‬وال يتوقف �صاحب‬ ‫بعد حني‪ ،‬عن «�أفق مغاير»‪ ...‬وال�سيما من ناحية‬
‫املجموعة عند هذا املكان فقط‪ ،‬و�إمنا ي�ستدرج‬ ‫الق�صيدة ذاتها التي يجعل منها �صاحبها «املحك»‬
‫�أمكنة �أخرى �إىل بوتقة ان�صهار ال�شعري‪ .‬وهو‬ ‫الأ�سا�س للإبداع مبعناه اجلذري امل�صمت‪ .‬وجتدر‬
‫ما �سيعاوده‪ ،‬و�إن بحدة �أقل‪ ،‬يف �أعماله الالحقة‬ ‫املالحظة �إىل �أن ال�شاعر ين�رش‪ ،‬وعلى فرتات‬
‫«�سماء خفي�ضة» (‪ )1989‬و«ترانيم‬ ‫متباعدة‪ ،‬ن�صو�صا نقدية مفتوحة‪،‬‬
‫لت�سلية البحر» (‪ )1992‬و«�شم�س �أوىل»‬ ‫املكان يفر�ض‬ ‫كثيفة وبارقة‪ ،‬وقبل ذلك فهو �صاحب‬
‫(‪ ...)1995‬بل �إنه �سيتعاطى لأمكنة‬ ‫�أطروحة حول ال�شعر‪ ،‬غري �أنه ي�رص‪،‬‬
‫املدينة‪ ،‬ووجوهها‪ ،‬من خالل �أعمال‬
‫ذاته على‬ ‫وهنا يكمن فهمه املغاير لل�شعر‪ ،‬على �أن‬
‫نرثية موازية‪ ،‬و«النرث ف�ضاح لل�شعراء»‬ ‫الق�صيدة قبل‬ ‫ميايز ما بني النقد وال�شعر‪ .‬ونق�صد‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫كما قال اجلاحظ منذ زمان‪ ،‬على‬ ‫�أن ي�صبح‬ ‫�إىل النقد مبعناه املنهجي واملدرو�س‪،‬‬
‫نحو ما جند‪ ،‬وبوجه خا�ص‪ ،‬يف عمله‬ ‫بل وال�شخ�صي الت�سويقي يف �أحيان‬
‫«حديث ومغزل» (‪ .)2000‬ويبقى �أن‬
‫مو�ضوعا لها‬ ‫كثرية‪ ،‬مما ي�شو�ش على الإبداع ويجعل‬
‫نختم‪ ،‬يف حال جتربة ال�شاعر‪� ،‬أن �أهم ما مييزها‪،‬‬ ‫منه جمرد «مترين لغوي �أجوف»‪ .‬وتكون احل�صيلة‬
‫ومن ناحية التعاطي للمكان‪ ،‬هو «اال�ستعادة» التي‬ ‫«�شاعرا من الدرجة الثانية»‪ ،‬وــ يف مقابل ذلك ــ‬
‫تلتب�س‪ ،‬يف �أحيان كثرية‪ ،‬بـ«عني الكامريا»‪ .‬غري �أن‬ ‫«ناقدا جنتلمانا» �إذا جاز التو�صيف الأنكلو�سك�سوين‪.‬‬
‫اال�ستعادة‪ ،‬هنا‪« ،‬ر�ؤية» ال «تقنية»؛ ولذلك فاملكان‪،‬‬ ‫�أجل �إننا ال نعدم ت�صورا متعينا لل�شعر لدى بنطلحة‬
‫يف جتربته‪« ،‬م�صفى» و«هارموين»‪.‬‬ ‫ومبوجبه يتك�شف نوع من التمجيد لـ«العماء»‬
‫وتف�ضي بنا «اال�ستعادة» �إىل «اليومي» الذي ي�سعى‬ ‫و«ال�سدوم» و«فخاخ املعنى»‪ ...‬غري �أن‬ ‫َ‬ ‫و«الغبار»‬
‫�شعراء ق�صيدة النرث �إىل «التقاط» نب�ضه و�صوغه‬ ‫هذا الت�صور �أو املقروء يت�رسب يف �أن�ساغ الق�صيدة‬
‫بالتايل يف ق�صائدهم ال�شعرية الدالة عليهم‪ .‬ويف‬ ‫�أو ف�ضاء الداللة‪� .‬إجماال �إن احلديث عن بنطلحة‪،‬‬
‫هذا ال�صدد ميكن الت�شديد على جتربة ال�شاعر ح�سن‬ ‫ال�شاعر الذي �آثر‪ ،‬وعلى �شاكلة جده الفني بودلري‪،‬‬
‫جنمي وال�سيما من ناحية جمموعته الرابعة «حياة‬ ‫«�أن يعي�ش بعينني مغم�ضتني»‪ ،‬ال ميكنه �إال �أن‬
‫�صغرية» (‪ )1995‬التي حتفل بالأمكنة ال�صغرية‬ ‫يطول �أكرث و�أكرث‪ ...‬ولذلك ميكن �أن نختم‪ ،‬يف حاله‪،‬‬
‫وعلى النحو الكا�شف عن ال�شاعر من حيث هو‬ ‫ب�أن «فطنة الأعمى» (والتو�صيف له ومقتب�س من‬
‫«كائن مديني» وعن الق�صيدة من حيث هي «عمل‬ ‫«�سدوم») جعلته يتعاىل على «املكان» نحو نب�ض‬
‫انطباعي»‪ .‬وال داعي للتو�سيع يف «انحياز» ال�شاعر‬ ‫«املطلق» و«الالمتناهي»‪ ...‬وكما يقول يف «بعك�س‬
‫‪89‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املجرات هي الوجه الآخر لـ«�أنخاب» ال�شاعرة وفاء‬ ‫النظري لـ«الف�ضاء» الذي �أف�ضى به �إىل �إجناز درا�سته‬
‫العمراين‪ ،‬و«فاكهة الليل» ل�صالح بو�رسيف‪ ،‬و»امر�أة‬ ‫املو�سومة بـ«�شعرية الف�ضاء ال�شعري» (‪.)2000‬‬
‫من �أق�صى الريح» لإدري�س عي�سى‪ ...‬وكل ذلك يف‬ ‫ويف ال�سياق نف�سه‪� ،‬سياق ق�صيدة النرث‪ ،‬ومدى‬
‫املنظور الذي ال يفارق البحث املحموم عن ذلك‬ ‫�صلتها باملكان‪ ،‬ميكن �أن ن�شري �إىل جتربة ال�شاعر‬
‫النوع من «الكوثر» �أو «الرحيق الإلهي» الذي يتطلع‬ ‫جالل احلكماوي املت�ضمنة يف جمموعتيه «�شهادة‬
‫�إليه ال�شاعر بع�صا املت�صوف وقلب ال�شاعر‪ ،‬وكل‬ ‫عزوبة» (‪ )1997‬و«اذهبوا قليال �إىل ال�سينما»‬
‫ذلك �أي�ضا يف املدار الكا�شف عن «االنت�شاء الروحي»‬ ‫(‪ )2005‬الكا�شفتني عن ال�شاعر من حيث هو الآخر‬
‫الذي يبلغ يف �أحيان حد «الإغماءة ال�صوفية»‬ ‫«كائن مديني» لكن على نحو «عوملي» هذه املرة‪.‬‬
‫و«النزيف ال�صويف»‪ .‬ومع �أن الت�صوف تيار عام‪،‬‬ ‫ومن هذه الناحية ميكن ت�أطري جتربته‪ ،‬وعلى �صعيد‬
‫ف�إن لكل واحد من ال�شعراء ت�صوفه اخلا�ص به» كما‬ ‫املكان‪� ،‬ضمن ما ينعته الناقد الهندي هومي بهابها‬
‫قال �إح�سان عبا�س يف درا�سته «اجتاهات ال�شعر‬ ‫بـ«الف�ضاء الثالث» القائم على «التهجني» الذي هو‬
‫العربي املعا�رص» (�ص‪ .)160‬لكن دون �أن نتغافل‬ ‫نتيجة تداخل ثقافة الداخل واخلرج‪ .‬وال�شاعر‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫عن �س�ؤال «التحقق الن�صي» للمنت ال�صويف يف‬ ‫ال «يقاوم» �أو «يرف�ض» كما تن�ص على ذلك «نظرية‬
‫ال�شعر املعا�رص باملغرب‪ ،‬ذلك «التحقق» الذي هو‬ ‫اخلطاب ما بعد الكولونيايل» التي يتحدر منها‬
‫جدير ب�أن ي�ضمن ات�صال وانف�صال ال�شعر والت�صوف‬ ‫مفهوم «الف�ضاء الثالث»؛ �إنه «�سعيد» بـ«الف�ضاء‬
‫يف الوقت ذاته‪.‬‬ ‫العوملي» و«اخليال العوملي»‪.‬‬
‫وخال�صة القول فاملكان‪ ،‬وبعد كل هذا التقدير‬ ‫ويبلغ املكان «حراكه»‪ ،‬ب�شكل �أو�ضح‪ ،‬يف الأعمال‬
‫النقدي والفل�سفي‪ ،‬ال يعدو �أن يكون �سوى عن�رص‬ ‫التي تفيد‪ ،‬وبتفاوت‪ ،‬من «الت�صوف» �أو «قارة‬
‫�ضمن العنا�رص الأخرى التكوينية للعمل الأدبي‪.‬‬ ‫الت�صوف»‪ .‬وتلك هي «رع�شات املكان» التي‬
‫غري �أن �أهميته تكمن يف كون �أنه يك�شف ما ال تك�شفه‬ ‫يعنى بها ال�شاعر حممد عنبية احلمري يف عمله‬
‫العنا�رص الأخرى الباقية يف �سلم التحليل والتقومي‪،‬‬ ‫املو�سوم بالعنوان نف�سه (‪ .)1996‬فاملكان‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫وكل ذلك حتى ال ن�سقط يف النظرة اجلزئية �أو‬ ‫مر�آة لرع�شات ال�شاعر يف ظم�أه الروحي ويف دنيا‬
‫البع�ضية التي ال تفي بالنظر �إىل العمل ال�شعري يف‬ ‫اخليال اجلانح واخلالق‪ .‬على �أن ما ي�سميه كل من‬
‫جماع عنا�رصه التي ت�صل ما بني املاهية والأداة‬ ‫غتاري ودولوز بـ»الأر�ض املتحركة» هو ما ميكن‬
‫والوظيفة‪ .‬غري �أن النظرة البع�ضية‪ ،‬التي ي�ؤدي‬ ‫�أن نلم�س له بع�ض التجلي يف «ولع بالأر�ض» الذي‬
‫داللتها املكان‪ ،‬هنا‪ ،‬تظل خطوة دالة‪ ،‬و�رضورية‪،‬‬ ‫جز�أه �صاحبه ال�شاعر حممد ال�صابر �إىل جز�أين‪.‬‬
‫على طريق النظرة املتكاملة ذاتها‪ ،‬لأن املكان من‬ ‫يتقوم على هذه الأر�ض �إال لكي‬ ‫�إال �أن ال�شاعر ال ّ‬
‫«احلقائق الكربى» التي متنح الق�صائد فر�صة �أن‬ ‫يعرج‪ ،‬وبدافع من ارحتاالت ال�صويف املثابر على‬
‫تقر�أ و�أن تعا�ش يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫الو�صول �إىل حلظة الك�شف‪� ،‬إىل «املجرات» بنجومها‬
‫الكثرية التي ال يتميز بع�ضها عن بع�ض‪ .‬وهذه‬

‫‪90‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫بالغة الفراغ‬
‫يف �سياق ما بعد احلداثي‬
‫\‬
‫�إبراهيم حممود‬

‫تكلم با�سمك اخلا�ص ال با�سم �أحد �آخر‪ ،‬لكن حذار من اال�ستمرار يف التكلم وك�أنك‬
‫الواحد نف�سه‪� ،‬إمنا ما �أنت عليه الآن‪ ،‬مل تكن كذلك قبل قليل طبع ًا‪ ،‬ولن تكون هكذا‬
‫وهم يعنيك وحدك‪ ،‬لتكون الهوية‬ ‫بعد حني‪� ،‬إن االعتقاد بان�سجامك الذاتي جمرد ْ‬
‫التي تلوذ بها جمرد �شكل‪ ،‬و�أن ما يعنيك على معرفة نف�سه هو املتعدد فيك‪،‬‬
‫وحيث يكون عقلك �أبعد من كونه اجلدير بالنظر �إليه باملطلق‪ ،‬ففيه من الالمعقول‬
‫ما فيه من املعقول و�أكرث‪..‬‬
‫واعلم �أنك ريا�ضي ويف داخله فنان‪ ،‬يتباهى بكينونته يف ع�رص املعلوماتية‬
‫املتفجر‪ ،‬وله فر�صة ظهور فيه‪.‬‬
‫و�إذا تكلمت فال حتاول متثيل غريك‪ ،‬وال تتكلم وملء ذاتك �شعور بكلية واقعك‪،‬‬
‫�إنها بدورها يف غاية الت�شظي‪ :‬التناثر‪ ،‬وبالتايل ف�إن االختالف املتحول بدوره هو‬
‫عالمتك الفارقة‪.‬‬
‫تق�صيه �أو مقاربته يف‬
‫تلك هي ال�سمات الأهم ملا بعد احلداثي‪ ،‬كما هو املمكن ّ‬
‫�سجلّه الذي ي�شمله فنون ًا ب�رصية عدة‪ :‬م�رسح ًا وعمارة‪ ،‬ومو�سيقى‪ ،‬و�سينما‪،‬‬
‫وات�صاالت‪ ،‬و�أدب ًا‪ ،‬وفنون ًا (يف الر�سم والنحت)‪ ،‬ورق�ص ًا‪.‬‬

‫من �أين ي�أتي الفراغ؟ حيث يكون موجود ًا �أ�سا�س ًا‪� ,‬أننا‬
‫نعي�ش الكوين فينا بف�ضيلة من ف�ضائله‬

‫‪91‬‬ ‫باحث من �سورية‬ ‫\‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أين�شتاين ن�سبيته‪ ،‬بقدر ما ن�شهد عودة ال�سف�سطائي‬ ‫�إن �إن�سان اليوم ومنذ عقود عدة �إمنا راهن ًا �أكرث‪ ،‬ممثل‬
‫�صحبة �أفالطون بجوار كانط ونيت�شه‪� ،‬أو ابن �سينا‬ ‫دون ت�سمية‪ ،‬فنان دون عر�ض مبا�رش‪� ،‬إعالمي حيث‬
‫�صحبة الغزايل‪ ،‬لأن الفراغ املو�سوم هذا ي�شري �إليهم‬ ‫يتكلم يف مكان عام وكاتب يف حالة خلوة وم�رسحي‬
‫جميعاً‪.‬‬ ‫يف تعدد حواراته �إمنا املك�شوف غالب ًا يف احلاالت‬
‫�إن متابعة مت أ� ّنية لهذه البالغة امل�ستحدثة‪ :‬بالغة‬ ‫كافة‪.‬‬
‫الفراغ ترينا التحول االنعطايف يف تاريخنا ومغزاه‪.‬‬ ‫معرف‬
‫رمبا يعني ذلك ومنذ البداية املفرت�ضة �أنه ّ‬
‫بني كائنني ‪ :‬ريا�ضي ميوقعه وفني يبتدعه بتلوينات‬
‫هذا الفراغ ال�شديد احل�سية‬ ‫جمة‪.‬‬
‫من �أين ي�أتي الفراغ؟ حيث يكون موجوداً‬ ‫�إنه يتوافق وما ي�شغله زمكاني ًا يف فراغ‬
‫�أ�سا�ساً‪ ،‬ولي�س باعتباره افرتا�ضاً‪ .‬التاريخ‬ ‫ن�شهد عود ًة معلومة‬ ‫ما‪ ،‬وما مي َنح له من فراغ يف ق�سمة �إبداعه‬
‫يعلمنا بحقيقة وجوده‪ ،‬لكنه التاريخ‬ ‫ومق َّدرة لإقليد�س‬ ‫�أو عطاء رمزي ما!‬
‫الذي يل َزم با�ست�شارة اجلغرافيا‪ ،‬حيث‬
‫الزمن يف ن�سبه التاريخي يتقطع ويرتاءى‬
‫م�شاطراً �أين�شتاين‬ ‫نعم‪� ،‬إن الكا�شف الالفت يف هذه العالمة‬
‫الفارقة هو الفراغ‪ ،‬ال بل بالغته كما‬
‫يف �إهاب جغرايف‪� ،‬إذ يكون املكان‪،‬حيث‬ ‫ن�سبيته‪ ،‬بقدر‬ ‫هو املثار يف العلوم الإن�سانية‪ ،‬وعلوم‬
‫�إن الريا�ضيات مهما بلغت جتريداً تكون‬ ‫ما ن�شهد عودة‬ ‫التقانة‪ ،‬ليطوى تاريخ طويل من‬
‫ممهورة بق�سمة مكانية‪ ،‬والفني هو‬ ‫ال�سف�سطائي �صحبة‬ ‫املطلقيات فيما �أخذنا به علم ًا نظري ًا‬
‫�ضمريها!‬ ‫وعملي ًا كما لو �أننا �إزاء جردة كاملة‬
‫متحرين الفراغ و�صلته بنا‬ ‫لنذهب بعيداً‬
‫�أفالطون بجوار‬
‫ّ‬ ‫لكل ما مت �إجنازه وت�صنيفه‪ ،‬و�إعادة نظر‬
‫�أو �أهميته احليوية لنا‪ ،‬وكيف �أننا نعي�ش‬ ‫كانط ونيت�شه‪� ،‬أو‬ ‫يف تاريخنا الثقايف واحل�ضاري دخو ًال‬
‫الكوين فينا بف�ضيلة من ف�ضائل الفراغ‪،‬‬ ‫ابن �سينا �صحبة‬ ‫يف عهدة كونية مغايرة ملا كان‪ ،‬حتى‬
‫كيف �أننا نفكر ونح�سن التفكري‪ ،‬ال بل‬ ‫الغزايل‪ ،‬لأن الفراغ‬ ‫بالن�سبة للإن�سان ذاته‪ ،‬فال يعود يف‬
‫ونبحث عن املختلف �إبداعي ًا عرب الفراغ‪،‬‬ ‫املو�سوم هذا ي�شري‬ ‫الو�سع احلديث عن �سلف وخلف‪ ،‬و�إمنا‬
‫حيث جند �إن ما نقر�أه عما هو حداثي‪،‬‬ ‫�إليهم جميعاً‬ ‫م�ساءلة ال�سلف عن حقيقة ما ين�سبه �إليه‬
‫وفيما يخ�ص الكتابة الفكرية �أو الفل�سفية‬ ‫�أو توقيفه‪ ،‬وك�أن اخللف ي�ؤ�س�س ل�سلف‬
‫وما يدور يف �إطارها‪ ،‬ي�ستمد العزمية‬ ‫من نوع خمتلف كلياً‪� ،‬رسعان ما يخل‬
‫ومي ّهد لوجوده مبع َّية فراغية مبا �أن الفراغ ي�ستحيل‬ ‫بالعهد‪ ،‬انطالق ًا من هذا االنف�صال القائم والذي‬
‫معرف‬‫فناً‪ ،‬ال بل ال يكون ف ٌّن مبعناه الوا�سع �إال وهو َّ‬ ‫ح�سيته و�سخونته وقابليته‬ ‫يرتجم بالفراغ وهو يف ّ‬ ‫َ‬
‫به فراغياً!‬ ‫للدر�س‪ ،‬لكن دون �أن يعني ما تقدم �أن التايل مغاير‬
‫رمبا كان يف جدل امللء والفراغ ‪،vide et plein‬‬ ‫لل�سابق يكون خالي ًا من املطلقيات �أو مما ي�صله‬
‫يقربنا من ذائقة الفراغ وال�شعور با�ستثنائيته‪.‬‬
‫ما ّ‬ ‫جراء متحوالت ما كان‬ ‫بها لكنها الرقابة الذاتية َّ‬
‫�إنه احلوار مثلما �أنه ال�رصاع بني ملء فائ�ض وفراغ‬ ‫وم�ستجداته‪� ،‬أي عربه وقدرتها على تفعيل املقاربة‬
‫ناف�ض‪ ،‬بني ذيوع الريا�ضي ب�إحداثياته وجتلّي الفني‬ ‫والتعرية املبا�رشتني بغية الأف�ضل‪.‬‬
‫با�ستلهاماته‪ ،‬واحل�صيلة العملية من كل ذلك‪ ،‬تبع ًا‬ ‫ن�شهد هنا عود ًة معلومة ومق َّدرة لإقليد�س م�شاطراً‬
‫‪92‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫�أ�شمل من الكون املنتظم‪ ،‬ولذا ف�إن الفو�ضى �أو�سع من‬ ‫للقيم املعتمدة ومواقعها يف املجتمع‪..‬‬
‫النظام‪ ،)..‬ومن ثم( ميكن �أن ي�صري الكاو�س عدم ًا �أو‬ ‫يرجع بنا �إىل قرابة خم�سة وع�رشين قرناً‪� ،‬إىل‬ ‫هذا ِ‬
‫�أي �شيء كامن‪ ،‬موتا �أو امتالكا ح�سب توفر الإرادة‬ ‫ال�صينيني والفل�سفة التاوية ودور الفراغ يف ن�ش�أة‬
‫�أو غيابها‪ ..‬والرمز الدال على هذا الغياب‪ ،‬على هذا‬ ‫ين‪.‬‬
‫الكو ّ‬
‫الوجود غري املدرك هو النقطة‪ ..‬ونعني بها النقطة‬ ‫( الفراغ هو �أ�سا�س الأونطولوجيا التاوية‪ .‬فما كان‬
‫الريا�ضية �أي ال�صفر‪ ،)..‬وهذه النقطة متثل الرمادي‬ ‫قبل ال�سماء‪ -‬الأر�ض هو العدم‪ ،‬الال�شيء‪ ،‬الفراغ‪،)..‬‬
‫يف جمعه بني الأ�سود والأبي�ض وبينهما تكون قائمة‬ ‫عك�سه امللء‪ ،‬ويف الفراغ يكون املعنى‪ ،‬يكون‬ ‫ويكون َ‬
‫الألوان‪� ،‬إمنا تتواجد الثنائيات‪ ،‬ومن النقطة يربز‬ ‫جمال الر�ؤية والذهاب بالتفكري بعيداً يف تخيل‬
‫اخلط‪ ،‬وبه يكون الت�شكيل وهو يف مواجهة دائمة‬ ‫العامل‪ ،‬وت�صور الكائن‪ ،‬وبتعبري» الو‪ -‬تزو» التاوي‬
‫مع ال�سطح( عندما ي�صطدم �شكل خطي ب�شكل م�ستو‬ ‫املعبرّ الفعلي عن الفراغ وقد�سيته بالذات( ال تعي�ش‬
‫ٍ‪� ،‬أي �سطح ما‪ ،‬يلعب اخلط دور العن�رص الإيجابي‪،‬‬ ‫الع�رشة �آالف كائن �إال مدموجة يف احلركة الكربى‬
‫ويلعب ال�سطح امل�ستوي الدور املقابل �أي‬ ‫التي يقوم بها الفراغ الذي يدخلها‪.‬‬
‫ال�سلبي‪ .‬اخلط كعن�رص موجب يلعب دوره‬
‫يف املعرتك‬ ‫جتويف ال�سماء‪ -‬الأر�ض ي�ستقبل احلياة‪،‬‬
‫املهاجم‬
‫َ‬ ‫بطريقتني‪� :‬إما �أنه يق�سم ال�شكل‬ ‫الإبداعي ولو‬ ‫�إنها العقدة احليوية‪ ،‬املركز احلي‪ ،‬مكان‬
‫�إىل جزءين‪� ،‬أو يتجاوز ذلك‪ ..‬يف�صل‬ ‫يف خانة التفل�سف‬ ‫ت�شكل ال�سيولة‪ ،‬مكان التبادالت‪.)1()..‬‬
‫�أجزاءه عن بع�ضها)‪� ،‬إن ذلك ما يعيدنا‬ ‫�أو الفكر الأكرث‬ ‫تتجلى التوازنات ويتبلور املعنى من‬
‫�إىل حوار قائم‪� ،‬إذ تكون احلياة كما يكون‬ ‫خالل ح�ضور فراغي لي�س فراغاً‪� ،‬إمنا‬
‫املوت‪ ،‬ولكن املمكن ذكره هو العائد �إىل‬
‫تنويراً من الداخل‪،‬‬ ‫ي�شهد على عامل املختلف �أبداً‪ ،‬يف ر�ؤية‬
‫الفراغ بالذات‪ ،‬وفعله يف الت�صوير وتذوق‬ ‫يعمّد الفراغ‬ ‫كل �شيء وهو يف ن�سق مفهومي خا�ص‬
‫الفني‪ ،‬و( الفراغ الذي نر�سمه على �سطح‬ ‫مفاهيمه من خالل‬ ‫به‪ ،‬ل ُيتمكَّن من حتديد عالقته ب�سواه‬
‫اللوحة هو فراغ تخيلي‪..)2()..‬‬ ‫ا�ستعارات فنية‬ ‫ومبحيطه‪ ،‬وال�صيني كما يظهر ي�أخذ‬
‫عرابيته يف الدفع بالعلوم‬ ‫ك�أن الفن يثبت َّ‬ ‫الوجود باعتباره و�صفة فنية ولديه‬
‫الإن�سانية وحتى العلوم املح�ضة �إىل �أن تتمايز‪� ،‬أن‬ ‫جرعات دورية تقوية لعالقته بذاته وو�سطه الطبيعي‪..‬‬
‫تتقابل ويف كل منها ما ي�شدها �إىل الأخرى‪ ،‬وذلك‬ ‫ولكن االكت�شاف الكبري واملفارقة املثرية جتلّيا فيما‬
‫على �أر�ضية اختالفية دون �أن تتوقف عن الت�شكل‬ ‫جاء به متعدد املواهب‪ :‬الأملاين بول كلي «‪-1879‬‬
‫والتحول‪ ،‬وبالتايل ف�إن فكرة ال�صريورة تبدو فناً‪،‬‬ ‫‪ ،»1940‬فهو كاتب وناقد وفنان معروف‪ ،‬ورمبا �أمكن‬
‫ر�سماً‪� ،‬أو حدث ًا فني ًا ب�رصي ًا بامتياز‪ ،‬ولذاكرتنا ذائقة‬ ‫القول ب�أن ما انطلق منه تراءى وهو يف جتريديته‬
‫لونية فارعة هنا‪.‬‬ ‫املتقنة �أي �أنه هو ذو عمق فراغي‪ ،‬هو الت�أهل بعزمية‬
‫ي�سمي زمنه احل�سابي‬ ‫يدخل احلدث يف الزمن‪� ،‬أو ّ‬ ‫فراغية‪� ،‬أي وهو يجمع بني الريا�ضي والفني‪� ،‬أو يعيد‬
‫والفني‪ ،‬من خالل نوع الأثر‪ ،‬تكون حداثته ت�صاعدياً‪.‬‬ ‫الريا�ضي �إىل �أ�صل تليد له‪ :‬اخلط وما ن� أش� عنه اخلط‪،‬‬
‫وما �أثري هنا هو بغية الربط بني ما عا�شه الإن�سان‬ ‫حيث الت�صوير كان �أ�سا�س لقاء الإن�سان بالعامل ‪.‬‬
‫قدمي ًا دون �أن نعرف ما هو متداول عن الهند�سة‬ ‫كانت الفو�ضى( �أو ال�سدمي الذي يركز عليه دولوز كثرياً‬
‫الفراغية‪ ،‬والثقوب ال�سوداء‪ ،‬والكاو�س يف مفهومه‬ ‫الحقاً)‪ ،‬هي املنطلق‪ ،‬ولديه �أن( �أي نظام هو وجود‬
‫‪93‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ثقافة‪ ،‬وتاريخ تفكري يف الثقافة وم�ساءلة حول‬ ‫الأ�شد حداثة‪ ،‬ويف مقاربة الن�صو�ص نقدي ًا ويف‬
‫حقيقتها‪.‬‬ ‫توخي احلذر حلظة التعر�ض لأي مفهوم باعتباره‬
‫�إن الأباعد والأقارب م�س�ألة �صياغة‪� ،‬أما احلقيقة‬ ‫متعدد الأجنا�س والوجوه ومنفتحا على اجلديد‪ ،‬وما‬
‫فم�س�ألة طي للم�سافة كرمى الرتائي واملكا�شفة �أكرث‪..‬‬ ‫يعي�شه �إن�سان اليوم‪� ،‬أو ما مي ّثله الإن�سان من تنوعات‬
‫ال حت�صى يف تاريخه املجهول واملعلوم‪ ،‬والفراغات‬
‫ونعي الفراغ‬
‫مي�شيل فوكو ُ‬ ‫التي كانت �سبب ًا يف �سل�سلة انتقاالته �أو ارحتاالته بني‬
‫ذلك ما ميكن مقاربته عند مي�شيل فوكو «‪-1926‬‬ ‫املعاين‪ ،‬وطرح القيم املختلفة كما لو �أنه املختلَف‬
‫‪ .»1984‬عزي ٌز هو مفهوم االنف�صال ونحن ب�صدد‬ ‫عليه �أ�ص ًال ال امل�ؤتلف �أو ًال!‬
‫الفراغ‪.‬‬ ‫�إن قراءة متب�رصة لذاتها ت�ستهدي بالفراغ حتفّزنا‬
‫االنف�صال لي�س �أكرث من �أخذ الفراغ وما فيه من‬ ‫على لقاء من هم بعيدون عنا جغرافي ًا وزماني ًا‬
‫تقاطعات وتوترات واختالالت وانزياحات حيث ال‬ ‫وبتفاوت‪ ،‬ومعاينة من هم قريبون منا جداً‪ ،‬وهم‬
‫يعود ُينظَ ر يف التاريخ كخطاطة‪ ،‬ومن زاوية ثابتة‪،‬‬ ‫ي�سمحون لنا باملزيد من التعارف ولكل منا ما يعاين‬
‫وقيمة كلية‪� ،‬أو فردانية جمردة‪ ،‬وتبع ًا لذلك جند‬ ‫فيه حدود متايزه‪..‬‬
‫�أنه من بني النتائج الالفتة يف ذلك هو ( �أن مفهوم‬ ‫ويف املعرتك الإبداعي ولو يف خانة التفل�سف �أو الفكر‬
‫االنف�صال �أ�صبح يحتل مكانة كربى يف فروع املعرفة‬ ‫يعمد الفراغ مفاهيمه من‬ ‫الأكرث تنويراً من الداخل‪ّ ،‬‬
‫التاريخية‪.)3()..‬‬ ‫خالل ا�ستعارات فنية ي�سهل حت�س�سها �أو ت�صورها‪،‬‬
‫�إن نف�ض مفهوم التاريخ يف هذا املنحى‪ ،‬ي�ضعنا يف‬ ‫ف�أفالطون جعل الف ّني م�ضمراً داخله ليح�سن التكلم‬
‫مواجهة ما يجب �أن يتولده التوجه اجلديد يف التاريخ‪.‬‬ ‫ب�صورة �أف�ضل‪ ،‬والفارابي مل ي�سلّم نف�سه للفل�سفي‬
‫�إذ ال يعود اخلطاب الذي ميثل ما هو تاريخي‪ ،‬يف‬ ‫فيه دون تطرية مفرداته وهو يف باعه املو�سيقي‬
‫كليانيته‪ ،‬وجمعيته وفرادته م�رضب املثل و�س�ؤدد‬ ‫الطويل‪ ،‬حيث يح�رض اللون ال�صوتي‪ ،‬وهيجل ما كان‬
‫العقالنية �ضمن ًا يف متا�سك الفكر املزعوم وما يمُ �ضى‬ ‫يف و�سعه تدوين �أو بناء مكتبة فل�سفية دون الدخول‬
‫عليه با�سمه‪� ،‬إمنا يكون ن�سيج ًا مل�ؤه الثقوب على‬ ‫يف م�ساومة حم�سوبة مع اجلمال وعائلته العريقة‬
‫تكون خطابها( فالت�شكيلة‬ ‫م�ستوى العبارات التي ّ‬ ‫يف الر�سم وال�شعر واملو�سيقى والنحت‪ ،‬وهيدجر مل‬
‫اخلطابية‪ ،‬لي�ست كلية متنامية ذات دينامية �أو �سكون‬ ‫يكن يف و�سعه الدخول يف التجريد والتالعب باللغة‬
‫خا�صني بها‪ ،‬حتمل يف �أح�شائها‪ ،‬يف �شكل خطاب مل‬ ‫رغبة يف الأكرث �إيفاء باملعنى‪ ،‬دون اال�ستئثار مبا هو‬
‫ي�صغ بعد‪ ،‬ما لن تقوله �أو ما مل تقله بعد‪� ،‬أو ما لو‬ ‫ح�سي‪� ،‬أو مهني �أي( التقانة)‪ ،‬ولنا يف ال�شعر والر�سم‬
‫قيل لناق�ض �أقوالها‪ ،‬لي�ست �إنبات ًا �أو والدة ع�سرية‪ ،‬بل‬ ‫ما يعيننا يف املكا�شفة الفل�سفية وبنيتها عنده‪ ،‬وهذا‬
‫هي توزع للتبعرثات والفراغات والفجوات واحلدود‬ ‫ي�شمل نيت�شه ومو�سيقاه و�شاعريته املتخللة ملا �سطَّ ره‬
‫والتقطعات‪.)4()..‬‬ ‫فكرياً‪..‬الخ‪� ،‬إنه الفراغ الذي يحتفى به تاريخياً‪ ،‬وما‬
‫�إن تغليب الف�صل باعتباره مبد�أ على الو�صل بو�صفه‬ ‫زال وب�صيغ �شتى‪..‬‬
‫قاعدة �إلزام والتزام �أخالقية و�سلطوية‪ ،‬يندرج‬ ‫ولكن التعر�ض للفراغ يف احلالة هذه �أ�شبه مبكا�شفة‬
‫وينخرط يف نطاق ا�ستنفاري‪ ،‬بدعوى �أنه مل يعد‬ ‫بنية ثقافة كاملة وكيف ت�شكَّل تاريخها و�أين‪ .‬ثمة‬
‫بالإمكان االنتظار‪ ،‬لأن ما وراء الو�صل ثمة اهرتاءات‬ ‫�سعي �إىل قراءة التاريخ من زاوية خمتلفة‪ ،‬هو تاريخ‬
‫‪94‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫العقل يف تاريخ طويل با�سم الإيديولوجيا اللغوية �أو‬ ‫ونخر قيم‪.‬‬


‫الأعراقية‪� ،‬أو تعبرياً عن مركزية الإن�سان كونياً‪.‬‬ ‫وميكن اعتبار القرن التا�سع ع�رش بداية ا�ستيالد‬
‫ويف منت هذا احلدث الكبري حيث ال�شعور ي�صعد‬ ‫الكارثي‪ ،‬حيث احلداثة مار�ست تنوميها املغناطي�سي‬
‫بكائنه �إىل الأعلى وهو يعي�ش انهياره كقيمة فاعلة‪،‬‬ ‫كما يظهر على امل�أخوذين ببدعتها يف عقل ال يخطئ‪،‬‬
‫يتعمق الفراغ بقدر ما ي�سخن من الداخل‪� ،‬أي ما يتهدد‬ ‫وجماعة مرتا�صة حقيقة ال تتجز�أ( �إن جمتمع القرن‬
‫العقل يف �أ�صوله ال�رصاطية وثوابته الهوائية( فلم‬ ‫التا�سع ع�رش» البورجوازي»‪ ،‬الذي ال يزال جمتمعنا‬
‫يعد اليوم التفكري �إال داخل الفراغ الذي يرتكه وراءه‬ ‫واملتفجر)(‪.)5‬‬
‫ّ‬ ‫املفجر‬
‫ّ‬ ‫دون �شك‪ ،‬هو جمتمع االنحراف‬
‫الإن�سان املندثر‪ .‬ذلك �أن هذا الفراغ ال ي�شكل نق�صاً‪.‬‬ ‫يف �ضوء امل�سطور واملمكن الت�شديد عليه هنا‪ ،‬يتم‬
‫فلي�س هو �أكرث �أو �أقل من �إعادة انت�شار لف�سحة يت�سنى‬ ‫التوجه �إىل املوقع الأكرث ح�سا�سية وقابلية للمكا�شفة‪،‬‬
‫فيها التفكري جمدداً‪.)8()..‬‬ ‫�أو للت�صوير‪ ،‬و�أعني بذلك مفهوم» ال�سلطة» املل َغز‬
‫هذا النيت�شوي يف مقامه وكالمه‪ ،‬يحاول متثيل‬ ‫كثرياً‪ ،‬عندما ينظَ ر �إليها على �أنها لي�ست مركزية‪� ،‬أي‬
‫ين�سب‬
‫الفكر يف تطرفه �أو ع�صاميته املثلى‪� ،‬إمنا فيما َ‬ ‫جماعية كلية االن�سجام‪ ،‬ت�أكيداً على حكمة املختلف‬
‫�إليه وحده على عتبة االختالف الكربى‬ ‫يف مبد�أ االنف�صال‪ ،‬لتتم بعرثة ال�سلطة‬
‫وب�صفته واحداً‪ ،‬دون �أن يعزل نف�سه عن‬ ‫التعر�ض للفراغ‬ ‫وت�سمية ورثتها‪ ،‬فال يكون هناك حمروم‬
‫جمتمعه‪� ،‬شعوراً منه �أن الأ�شياء مل تعد‬ ‫يف احلالة هذه‬ ‫منها( فال�سلطة لي�ست م�ؤ�س�سة‪ ،‬ولي�ست‬
‫تتحمل �أ�سماءها و�صفاتها‪ ،‬ولأن الإن�سان‬ ‫�أ�شبه مبكا�شفة بنية‬ ‫بنية‪ ،‬ولي�ست قدرة معينة يتمتع بها‬
‫امل�أمول واملوعود ب�إجناز امل�أمول هذا‬ ‫البع�ض‪� .‬إنها اال�سم الذي يطلق على و�ضع‬
‫هو يف طور التال�شي �إن مل يتنبه له‬
‫ثقافة كاملة‬ ‫ا�سرتاتيجي معقد يف جمتمع معني‪.)6()..‬‬
‫املعنيون ب�ش�ؤون العقل واملجتمع‪ ،‬وهم ال‬ ‫وكيف ت�ش َّكل‬ ‫يعجل بالقول فيما ينه ُّم به الإن�سان‬‫�إن ما ّ‬
‫بد �أن يكونوا خمتلفني حيث (�إن الإن�سان‬ ‫تاريخها‬ ‫وهو يف فخ حداثته‪ ،‬هو م�ساءلة القول‬
‫الذي برز يف �أوائل القرن التا�سع ع�رش هو‬ ‫وم�صدره م�آله‪ ،‬حلظة النظر �إىل الوراء‬
‫�إن�سان « منزوع التاريخ» ‪.)9()déshistorisé‬‬ ‫وامل�صري الذي ينتظره‪ ،‬كونه خالف ما كان يتداول‬
‫الإن�سان الذي يلي الإله اخلا�ص ذاك الذي �أعلن نيت�شه‬ ‫يف �سياق الفكر الكال�سيكي‪ ،‬لأن احلياة تكون �سبقته‬
‫حداده الكوين من باب االنعطافة الكونية‪� ،‬أو للدخول‬ ‫كما �أنها تتجاوزه‪ ،‬وهذا هو الفراغ الكبري الذي ال يتم‬
‫يف جمال ثقافة مغايرة‪ ،‬ولي�س لأن الإله تال�شى كلياً‪،‬‬ ‫حت�س�سه وهو �سهل املقاربة( �إذ ال يكت�شف الإن�سان‬
‫�إنه احلدث الأبرز يف ثقافة قلَّ�صت من م�ساحة الفني‪،‬‬ ‫ذاته �إال مرتبط ًا �سلف ًا بتاريخية قائمة �أ�صالً‪ :‬فهو‬
‫و أُ�عطي الرقم الوجاهة ال�ضاربة بنفوذها هنا وهناك‪،‬‬ ‫لي�س يف �أي وقت من الأوقات معا�رصاً لهذا الأ�صل‬
‫ليكون الإن�سان �إف�صاح ًا عن عدمية م�ضاعفة‪ ،‬عن‬ ‫الذي يرت�سم من خالل زمن الأ�شياء ويتوارى‪ ،‬فعندما‬
‫جرد كلي ًا من �رشط‬ ‫ذلك االنقرا�ض العائد للفن وقد ّ‬ ‫يحاول �أن يحدد نف�سه ككائن حي‪ ،‬ال يكت�شف بدايته‬
‫توالده‪ ،‬ليكون الفراغ قربي ًا �إن جاز التعبري‪ ،‬وما‬ ‫اخلا�صة �إال على خلفية من احلياة ن�ش�أت هي ذاتها‬
‫فيه من �إحلاح على �رضورة التباعد بني مكونات‬ ‫قبله بكثري‪..)7().‬‬
‫الريا�ضي احتفاء بالفني ولزوم ح�ضوره والعناية به‬ ‫�إنها �رضب من اال�ستحالة املقدامة مبحال ميتلك وفرة‬
‫على �صعيد الب�صرية!‬ ‫كافية خلرق الوهمي فيه‪� ،‬أو ما �صري عقيدة جمدت‬
‫‪95‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مواقعها من االختالف وحِ كمانية املختلف باملقابل‪.‬‬ ‫لعلها العتبة املطلقة لتاريخ ب�رشي‪ ،‬تاريخ انت�صاراته‪،‬‬
‫وحيث يربز الفني فيما هو مرئي �أو ممكن ال�شعور به‬ ‫ال يعود الإن�سان يف مقدوره حتمل تبعات الآخرين‬
‫فاع ًال يف توليد املختلفات وتهذيب النفو�س �أكرث!‬ ‫وقد تراكمت �أخطا�ؤهم �أو ا�ستفحلت عدوى التفكري‬
‫�إن املجتمع الذي يتوقف عنده فوكو‪ ،‬هذا املفكر‬ ‫يف امل�سار الأكرث كارثية من جهة النتائج واملردود‬
‫االب�ستيمي‪ ،‬ال يخفى عليه طابعه الر�أ�سمايل‪،‬‬ ‫القيمي‪.‬‬
‫والر�أ�سمالية هنا لي�ست حاملة التاريخ يف مداه الوا�سع‬ ‫ولعل ا�ستعاد ًة ملناخات كتابه املتعلق باجلنون‪،‬‬
‫تكون تاريخاً‪� ،‬إمنا هو مد معني فيه ومرحلة‬ ‫ومذ َّ‬ ‫�سنة ‪ ،1961‬تربز لنا مدى رهانه على اجلنون مبعنى‬
‫حم�سوبة‪ ،‬ولكي يعطي الأمل يف االمتداد بنظامه‪ ،‬ال بد‬ ‫املغاير ملا هو �سائد‪� ،‬إن جنون فوكو هو �رضبة الرند‬
‫من تعري�ضه لأكرث ال�صدمات حدة‪ ،‬وكما هو املعهود‬ ‫املعتربة‪ ،‬احلا�صل على جزة ال�صوف الذهبية‪ ،‬حيث ال‬
‫يف الر�أ�سمالية كبنية ثقافية �رصاعية تتوخى البحث‬ ‫يجر�ؤ �آخرون على جمرد التفكري فيها‪ ،‬وهي مغامرة‬
‫املقوم الأمثل لها وفيها‪ ،‬فيكون املغاير حم�سوم ًا‬‫عن ّ‬ ‫جديرة بالت�أمل يف بنيتها لأن الذي يفكّر به هنا‬
‫ل�صاحلها ال عليها‪.‬‬ ‫ومتحري �أ�صولها يف �سلبيتها‪� ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫رحالة الفراغات‬
‫ن�سب ال�صورة يف كتاباته‬ ‫امللون الأدبي كما هو َ‬ ‫�إن ّ‬ ‫املموهة‪� ،‬إذ يكون املجتمع‬‫َّ‬ ‫ممعن النظر يف الهاوية‬
‫احل�سي‪ ،‬وهو الذي ي�ستجيب‬ ‫ّ‬ ‫ي�سجل له هذا الأثر‬ ‫ّ‬ ‫يف انحدار‪� ،‬إنه �شاعر �أو فنان �أو موهوب ي�شتعل‬
‫خلا�صية االنف�صال‪� ،‬أي بالغة الفراغ الذي يقابل‬ ‫من داخله‪ ،‬جنون اعتباري و�أي اعتبار‪ ،‬يثمر معرفة‬
‫م�سامات اجل�سد وتهويته من الداخل‪� .‬إننا �إزاء حمية‬ ‫وجمال ر�ؤية قياماتية �أر�ضية يف ملمحها‪ ،‬من نوع‬
‫�صحية تبتغي تعري�ض اجل�سد املجتمعي ملا من �ش�أنه‬ ‫نيت�شه وفان جوخ‪ ،‬و�آرتو ودي �ساد و�آخرين‪ ،‬جنون‬
‫تدعيم قواه الع�ضوية �أو احلية على ال�صعيد الداليل‪.‬‬ ‫عروق الذهب يف الأر�ض ال�صلبة واملعتمة‪� ،‬أي ما‬
‫ومن ال�صعب �إن مل يكن م�ستحي ًال مقاربة الن�ص‬ ‫ي�ضاد االت�صال والقطيعي‪ ،‬ن�شدان ًا لزمن �أقل عدداً‬
‫الفوكوي دون م�ؤازرة من اللغة يف وجهها اال�ستعاري‪.‬‬ ‫وجراء هذا الفتح‬ ‫يف ال�ضحايا واملمتلكات‪ ،‬ولهذا‪َّ ،‬‬
‫اجلنوين املندفع‪ ،‬فـ( �إن العمل الفني يفتح‪ ،‬من خالل‬
‫جيل دولوز ومرايا الفراغ‬ ‫اجلنون الذي يوقفه‪ ،‬فراغاً‪ ،‬زمن ًا لل�صمت‪� ،‬س�ؤا ًال دون‬
‫هذا الفراغ املحتمى به �أو املن�شود يف بنية الن�ص ما‬ ‫جواب‪� ،‬إنه ي�ستثري متزق ًا دون م�صاحلة حيث العامل‬
‫بعد احلداثي �إن تعمقنا يف مفهومه‪ ،‬ي�ستوقفنا عند‬ ‫مكره على الت�سا�ؤل‪..)10()..‬‬
‫جيل دولوز «‪� »1995-1926‬صحبة فليك�س غتاري‪،‬‬ ‫يف ال�صيغة الكال�سيكية للتاريخ وهو �أوربي‪ ،‬وللثقافة‬
‫وخ�صو�ص ًا يف كتابهما الرئي�س (ما هي الفل�سفة)‪،‬‬ ‫وهي �أوربية‪ ،‬وللم�أمول وهو �أوربي �أي�ضاً‪ ،‬ال جند‬
‫�إنه الكتاب الذي ت�شقه فراغات طو ًال وعر�ضاً‪ ،‬بقدر‬ ‫�أنف�سنا خارج فراغه اللماح‪� ،‬إمنا نكون معنيني به‬
‫ما يربز الفراغ كمفهوم مبثابة حراثة حقل و�إعداده‬ ‫يقرب ما بني احلدود‬ ‫ويف عامل اليوم‪ ،‬لأن ثمة ما ّ‬
‫للبذار الحقاً‪.‬‬ ‫يعمق الفراغات‬ ‫�أو امل�سافات‪ ،‬ويف الآن عينه ما ّ‬
‫نحن يف حقل اال�ستعارة اجلغرافية والريا�ضية معاً‪،‬‬ ‫يف الو�سط املت�ضايق هذا‪ ،‬ويحفّز على املزيد من‬
‫حيث امل�سطح �أبعد من كونه �سطح ًا م�ستوياً‪ ،‬تيمن ًا مبا‬ ‫�رضوب املقاومة اخلا�صة تلك التي ال ت�ستنزف دماء‬
‫هو م�شاع حديث ًا عن انتفاء وجود امل�ستقيم بالكامل‪،‬‬ ‫�أو حتر�ض على احلرب‪ ،‬لأن و�سائل املواجهة مدمرة‬
‫عرب كروية الأر�ض ون�سبية ح�ضورها كونياً‪� ،‬إذ �إن‬ ‫ب�شكل غري م�سبوق‪� ،‬إمنا يع ّزز جملة القوى وهي يف‬
‫‪96‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫حميطه‪ ،‬وعلى قدر م�ؤهالته‪ ،‬لأن ال�سدميي يبقى دون‬ ‫قراءة ( �إن املفاهيم الفل�سفية هي كليات مت�شظية)‪،‬‬
‫ان�رصاف‪ ،‬ما �أن ت�ستجد حالة‪� ،‬أن يكون �أثر فني �أو‬ ‫وما ي�ستح�رضه الت�شظي من تنا�سل فراغات طبع ًا‬
‫فكري‪ ،‬حتى ميار�س عمله يف التغري �إخال�ص ًا ملبد�أه‬ ‫وكذلك( �إن املفاهيم �أ�شبه باملوجات املتعددة التي‬
‫�أي لل�صريورة‪ ،‬فنحن ن�شهد �رصاع ًا �إذاً( �إن ال�سدمي‬ ‫تعلو وتهبط)‪ ،‬ومن ثم ي�أتي امل�سطّ ح لي�س ّهل تقبل‬
‫يعمل �سدميي ًا ويبدد كل متا�سك يف الالمتناهي‪.)12()..‬‬ ‫الفكرة املطروحة‪ ،‬وهو ( ي�ضم احلركات الالمتناهية‬
‫يعرف بالكائن الغام�ض �أو‬ ‫هذا املحتفى به �سدميياً‪ّ ،‬‬ ‫التي جتتازه ومن ثم تعود‪ ،).‬لتكون م�شكلة الفكر‬
‫الطفل وهو يلعب عالي ًا داخل دولوز و�صاحبه‪� ،‬أي‬ ‫كامنة يف ال�رسعة الالمتناهية وهذه تكون من خالل‬
‫بذلك الفنان‪ :‬الر�سام‪ ،‬ال�شاعر‪ ،‬املو�سيقي‪ ،‬بهاردي‬ ‫و�سط ذاتي احلركة النهائي ًا �أي ( �إىل امل�سطح‪� ،‬إىل‬
‫ورامو وغوغان وكلي وبي�سوا وكاندن�سكي‪..‬الخ‪� ،‬إنها‬ ‫الفراغ‪� ،‬إىل الأفق‪.)11()..‬‬
‫�أطياف ت�شتعل كرموز يف عامل ما بعد احلداثة‪ ،‬طاملا‬ ‫ي�ستعان باجلغرافيا‪� ،‬أي ب�إحداثياتها‪� ،‬سعي ًا �إىل تعطيل‬
‫�أن الو�ضع له �صلة بالتنوع‪ ،‬باملزيد من تعميق �أثر‬ ‫عمل املعطّ ل يف املطلقيات �أو اليقينيات يف الفكر‪،‬‬
‫املختلف‪.‬‬ ‫وخروج ًا �إىل العامل وما فيه من تنوع‪ ،‬حيث ال تتوقف‬
‫�إنها العني على كل حال‪ ،‬حيث يعمل‬ ‫ومن ال�صعب‬ ‫النقطة وهي يف متحولها اخلطي‪ ،‬واخلط‬
‫اللحم الدافئ والطري والرائي ملو�ضوعه‬ ‫يف مناو�شة ال�سطح ور�سم الأ�شكال‪ ،‬كما‬
‫وهو ذاته مو�ضوع يف اجل�سد املتوتر‬
‫�إن مل يكن‬ ‫هو الفن اجلدير بالت�سمية‪ ،‬وك�أن التاريخ‬
‫ب�أحا�سي�سه‪ ،‬ويكون الفراغ م�سامات‬ ‫م�ستحي ًال مقاربة‬ ‫ما هو كائن‪ ،‬ما كان �سالفاً‪.‬‬
‫تهوية وت�سوية يف �آن‪ ،‬وال ميكن اال�ستهانة‬ ‫الن�ص الفوكوي دون‬ ‫يح�رض الو‪ -‬تزو‪ ،‬معه �أو يف �إثره بول‬
‫�إذاً بالفراغ يف هذا املنحى( فحتى الفراغ‬ ‫م�ؤازرة من‬ ‫كلي‪ ،‬ويف كل منهما موعد مع املختلف‬
‫هو �إح�سا�س‪ ،)..‬ين�ساب القول فراغي ًا‬ ‫مع مديح فراغه‪ ،‬لأن اللحظة احلداثية‬
‫وهو ممهور بالإح�سا�س‪ ،‬كما يف مثال‬
‫اللغة يف وجهها‬ ‫وهي حتدد زمنها اخلا�ص تتوقف على‬
‫تو�ضيحي عرب اللوحة‪ ،‬وح�ضور ال�صيني‬ ‫اال�ستعاري‬ ‫مقدار العطاء‪ ،‬على ه َبة الكائن الفني‪،‬‬
‫ت�أكيداً على بالغة مت�أ�صلة( فاللوحة ميكن �أن تكون‬ ‫ودولوز ومعه غتاري م�أخوذان بع�صا ال�ساحر‬
‫ممتلئة كلياً‪� ،‬إىل حد �أنه حتى الهواء ال مير عربها‪،‬‬ ‫التاريخي �أو ًال و�أخرياً‪ ،‬باخلط الذي يتخذ م�سارات‪:‬‬
‫فهي لي�ست عم ًال فنياً‪ ،‬كما يقول الر�سام ال�صيني‪� ،‬إال‬ ‫ا�ستقامات م�ؤقتة وانك�سارات كثرية ليعا َين ظله‬
‫�إذا �أبقت على ما يكفي من الفراغات جلعل اخليول‬ ‫يف كل مرة‪ ،‬ويف الظل يكون التذكري مببد أ� الت�شكيل‬
‫تعدو فيها( على الأقل من خالل تنوع امل�سطحات‪)..‬‬ ‫بالأبي�ض والأ�سود املتداخلني‪.‬‬
‫(‪..)13‬‬ ‫�إن ال�سدميي كما يف العهدة التاوية �أو الفنية لدى‬
‫هذا الكائن امل�شعور بخطوط حلمية‪ ،‬هو الذي يف�سح‬ ‫كلي‪ ،‬وبتح�سينات وحتويالت تتنا�سب وم�ستجدات‬
‫املجال وا�سع ًا ملعرفة الفراغ وما ي�ؤتى منه‪ ،‬وليكون‬ ‫الراهن‪ ،‬يقف يف الواجهة‪ ،‬ك�أن ال�سدميي يطمئن‬
‫يف التجريد بلوغ مرام ما‪ ،‬لأن رغبة من الرغبات‬ ‫�صاحبه الفنان يف روحه �إىل �أن ال �شيء يوقفه‪،‬‬
‫التي طال انتظارها كما يظهر‪ ،‬قد حتققت وهي �أن‬ ‫حيث الكون يرتاءى هالماً‪ ،‬مادة خاماً‪ ،‬وما عليه �إال‬
‫يجد الإن�سان املتعلم‪ ،‬الإن�سان الواعي حليوية اللحمي‬ ‫�أن يغم�س ري�شته الأ�سطورية يف الو�سط‪ ،‬وي�سطّ ر �أو‬
‫فيه �أمام اكت�شاف هو حقيقة‪� ،‬أي ما يلغي عن التجريد‬ ‫يخطط �أن يكون هو ذاته يف مقام املنغم�س مب�ؤثرات‬
‫‪97‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫الأر�ضي‪.‬‬ ‫كما هو مفكَّر فيه‪ ،‬جتريديته وتلم�س كثافة العامل‬
‫املتعدد يف �سياق ما بعد احلداثي‪ ،‬ملاذا ين�شد �إىل‬ ‫داخله‪ ،‬وقد نزع عنه حلمه و�صار ممكن ًا تبني داخله‪،‬‬
‫اجلذمور ‪�( rhizome‬إن اجلذمور ك�ساق حتت الأر�ض‬ ‫وما يف هذا التوجه من حتفيز على البقاء باملزيد‬
‫يتميز قطع ًا عن اجلذور واجلذيرات‪� ،)16()..‬إنها والدة‬ ‫�إبداعياً( فالر�سم التجريدي هو �إح�سا�س‪ ،‬وال �شيء غري‬
‫كائن جديد‪ ،‬و�آخر مغاير للتايل يف جدل املختلف!‬ ‫�إح�سا�س‪.)14().‬‬
‫لي�س هذا فح�سب‪ ،‬و�إمنا هو الإحلاح على مبد�أ التجاوز‬ ‫وهذا التمادي‪ -‬رمبا‪ -‬مع خا�صية الفراغ‪ ،‬واملزيد‬
‫لذات املكان‪ ،‬وطم�س الظل الذاتي والعمل الد�ؤوب على‬ ‫من الأمثلة احل�سية حماولة لت�أهيل التجريد‪ ،‬لقراءة‬
‫�إبراز ظل �آخر‪ ،‬جل�سد �آخر ال ينفك عا�شق ًا للمغاير فيه‬ ‫الالمرئي داخله‪ ،‬جلعل الفراغ الذي طال �أمد انتظاره‬
‫ويف العامل الذي يتجاوز حدود النظر وال�سمع‪..‬‬ ‫رصح به خالف املت�صور‬ ‫هو الآخر‪ ،‬ذلك الفاعل امل� َّ‬
‫�إنه الفكر املنبثق من الأعماق واخلريطة‪ ،‬وباعتبارها‬ ‫عنه‪ ،‬كما هو النظر �إىل الفن وقد جتاوز به اللحمي‬
‫خريطة تع ّزز ملا بعد حداثيتها‪ ،‬هي تقاي�ض على ما‬ ‫لقابليته للزوال‪� ،‬أو باعتباره النقلة الأوىل للقفزة �إىل‬
‫خفي وقابل للإثارة والغواية‪ ،‬واجلذمور داخل يف‬ ‫الداخل‪� ،‬إىل بيت اجل�سد‪ ،‬حيث يكون البني منوذج ًا‬
‫لعبة املفكر ال الفيل�سوف كما يظهر‪ ،‬لأن ثمة تاريخ ًا‬ ‫للمكا�شفة وتخيل الكوين والتحليق باجل�سد عالياً‪،‬‬
‫ال ي�سلم من املطاعن �أو املثالب‪ ،‬نظراً ملمار�سات‬ ‫لتكون العمارة معتربة (الفن يبد�أ‪ ،‬لي�س مع اللحم‬
‫من�سوبة �إليها على ال�صعيد الإيديولوجي كما لو �أن‬ ‫اجل�سم‪ ،‬و�إمنا مع البيت‪ ،‬ولذلك فالعمارة هي �أول‬
‫جمرد ترك العمل يف عهدة الفل�سفة‪� ،‬إعالن عن توقيف‬ ‫الفنون‪.)15()..‬‬
‫العمل با�سمها‪� ،‬أو طي �صفحتها كلياً‪ .‬وبالتايل ف�إننا‬ ‫ذلك يكون مبثابة التخطيط غري املنجز �أبداً لفكرة‬
‫جند �أنف�سنا يف الأعماق يف عمل منجمي �أ�رشف على‬ ‫تن�ش�أ وتتكون يف الف�ضاء الالمتناهي‪ ،‬هي ذاتها‬
‫النفاد‪ ،‬و�صار ال بد من تغيري اجلهة واملكان( اجلذمور‬ ‫الإن�سان وقد جتاوز حدود مدينته‪ ،‬حدوده اللحمية‬
‫هو �شيء مغاير‪� ،‬إنه خريطة ولي�س ر�سماً‪ ،‬و�ضع‬ ‫و�أناه‪ ،‬وهتف لل�سدمي‪� :‬أن انفذ داخلي‪ ،‬ليكون له تكوين‬
‫اخلريطة ولي�س الن�سخ‪..)17()..‬‬ ‫�آخر ومتجدد‪.‬‬
‫لعله تثبيت املتاهة وهي معلومة‪ ،‬مع �سبق الإ�رصار‬ ‫يتحقق اجلغرايف فيه بو�صفه يتعدى الأر�ضي‪� ،‬إنه‬
‫على �أن ثمة ما يغري بالإقامة داخلها‪ ،‬مبا �أن مفهوم‬ ‫الف�ضائي‪ ،‬الفلكي‪� ،‬صنعة امليثولوجي يف العمق‪،‬‬
‫اجلديد دائم االنبثاق �أو التبلور‪ ،‬فالفعل اجلذموري‬ ‫يتلم�س يف‬
‫تدر�س يف الفل�سفة‪ ،‬عندما َّ‬ ‫وتلك ميزة مل َ‬
‫ي�شق الأر�ض كما ي�سحب الرطوبة ويتنف�سها من‬ ‫امليثولوجي ما هو م�ش َّدد عليه خارج الأر�ضي‪ ،‬ما‬
‫الداخل‪ ،‬كما �أنه ي�صعد عالي ًا مبادته وين�رش �أثرها‬ ‫يتجاوز الغالف اجلوي‪ ،‬ومقاربة �أجواز الف�ضاء ولو‬
‫يف املحيط‪� ،‬إنها بالغة �أخرى للفراغ‪ ،‬وكيف �أن القلم‬ ‫تخيلياً‪� ،‬إنه �سدمي ال�سدمي‪� ،‬إبداع ملجهول باعث على‬
‫وهو يتحرك يف بيا�ض القرطا�س‪� ،‬أن الأ�صابع وهي‬ ‫اللذة‪.‬‬
‫حتت�ضن القلم‪ ،‬يتمثل اجلذموري‪ ،‬وي�ضمن العاملني‪:‬‬ ‫ك�أنيّ باملع ّزز للتجريد كما هو م�شاع عنه خط�أ‪،‬‬
‫ما حتت الأر�ض وما يعلوها‪ ،‬فاجلذمور مفهوم نباتي‬ ‫احل�سي املبتذل‪ ،‬ومعانقة حلقيقة‬ ‫تخل�ص من وط�أة ّ‬
‫وا�ستنباتي‪ ،‬ولكنه ينبه �إىل �أن عدم منو اجلذمور‬ ‫تتخللنا‪..‬‬
‫مبثابة نعي لل�شجرة‪.‬‬ ‫ويف النقطة هذه‪ ،‬وعرب مفهوم اخلط ال�سحري ي�أتي‬
‫�إنها عالقة �أفقية وعمودية‪ ،‬بني توجه �سلفي ال ينغلق‬ ‫مفهوم التعدد‪ :‬جذموري ًا وهو يف من�ش�أه النباتي‬
‫‪98‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫والكاتب‪ ،‬كلما ترتبت عن اخلط النغمي الرنة‪� ،‬أو عن‬ ‫على نف�سه‪ ،‬ون�شاط خلَفي اليعادي خلَفه‪ ،‬بقدر ما‬
‫اخلط املح�ض املر�سوم اللون‪� ،‬أو عن اخلط املكتوب‬ ‫يحاول تلقي الدر�س منه وتعديله‪ ،‬ليرتك هو من‬
‫ال�صوت الوا�ضح‪..)19()...‬‬ ‫وي�سميه تعزيزاً جلمالية‬
‫ّ‬ ‫جهته ب�صمته على ما يعنيه‬
‫يقربنا من‬ ‫�إن التوقف الإجرائي عند مفهوم اخلط‪ّ ،‬‬ ‫االختالف‪.‬‬
‫هذا املولَّه بالت�ضاري�س ولعبة عنا�رصها داخل‬ ‫ي�ستقر أ� يف هذا اخلطاب اجلذموري‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬ ‫ذلك ما‬
‫مفهوم الكتابة‪ ،‬حيث العني الناظرة تتفنن يف التقاط‬ ‫معا َين فراغياً( اجلذمور ال يبد�أ وال ينتهي‪� ،‬إنه دائم ًا‬
‫امل�ؤثرات‪ ،‬ولأن لعبة اخلطوط تداخل مع خطوط‬ ‫يف الو�سط‪ ،‬بني الأ�شياء‪ ،‬بني الكينونة فا�صل زمني‪،‬‬
‫املوا�صالت وهي جوية وبرية وبحرية كما �أن املتاح‬ ‫بنوة‪ ،‬لكن اجلذمور حتالف‪ ،‬بامل�صاهرة‬ ‫ال�شجرة ّ‬
‫�سلكه ف�ضائي ًا وبري ًا ومائياً‪ ،‬يثري �شهية الكاتب �أو‬ ‫فقط‪.)18().‬‬
‫املفكر يف ممار�سة لعبته تلك الكامنة يف ا�ستقدام‬ ‫معمق‪ ،‬در�س‬ ‫�إنها م�ؤا�ساة التاريخ بح�شد جغرايف َّ‬
‫العن�رص اجلغرايف وثراء �أبعاده‪ ،‬و�إبقاء مدينة الفكر‬ ‫الطبيعي غري املعا َين جيداً‪ ،‬و�إنعا�ش التاريخ وهو‬
‫مفتوحة من جهاته كافة‪.‬‬ ‫اقت�صادي و�سيا�سي واجتماعي وثقايف‪ ،‬مل ال�شمل‬
‫�إنها الر�ؤية ما بعد احلداثية التي ال ترتك‬ ‫لعائلة الإنا�سة‪ ،‬دون الإغفال عن تلك‬
‫�صغرية �أو كبرية �إال وتتلم�س فيها ومي�ض‬ ‫يف و�سع قارئ‬ ‫اخل�صو�صية املهدورة كثرياً‪.‬‬
‫فكرة ما �أو عامل ت�أثري يف بنية العبارة‬ ‫دولوز �أن ي�ست�شعر‬ ‫�إنه اعرتاف ما ب�أ�صل ال يلغى‪� ،‬أو ينكَر‬
‫�أو التنويع يف املو�ضوع‪ ،‬واخلط يبقى هو‬ ‫رهاب الثبات‬ ‫قيمياً‪ ،‬عرب الإعالء من مقام الأب‬
‫املن�شود لأنه ي�صل ما بني بداية ما ولو‬ ‫وجنابته �أو �سلطته الرمزية‪ ،‬باملعنى‬
‫�أنها افرتا�ضية‪ ،‬ونهاية تكون ك�سابقتها‬
‫يف املكان‪� ،‬أو‬ ‫الإخ�صابي‪ ،‬حيث ال�شكل ال�شجري يالزم‬
‫مهما تو�سعت امل�سافة‪ ،‬حيث الثغرات �أو‬ ‫النمطية يف‬ ‫متخيلنا باعتباره ترطيب ًا للمناخ‪،‬‬
‫الثغور ال تعر�ضه لقلق التيه �أو التفكك‪.‬‬ ‫التفكري‬ ‫للو�سط‪ ،‬كما هي البنية وهي م�شدود‬
‫هذا ينطبق حتى على الال�شعوري( ينبغي‬ ‫بجهاتها �إىل بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬من خالل‬
‫�أن يكون حتليل الال�شعور جغرافي ًا عو�ض �أن يكون‬ ‫مقومات وجودها‪ ،‬فليتولد ما يتولد تعظيم ًا للمفهوم‬
‫تاريخاً)(‪.)20‬‬ ‫هنا‪.‬‬
‫يف اجلغرافيا ميكن النظر من مواقع خمتلفة‪ ،‬وتنوع‬ ‫دولوز يع�شق الو�صف لأن فيه ما ميكنه من النظر‬
‫اخليارات �أ�سهل مما هو يف التاريخ نظراً ملفهومه‬ ‫يف حميطه‪ ،‬حيث الفل�سفة مرهونة باخلط‪ ،‬رهينته‬
‫التجريدي‪� ،‬أو ل�ضغط املعتقد �أو �سلطة القواعد التي‬ ‫مبعنى‪ ،‬طاملا �أن �أي حترك على هيئة �أو�صاف �أو‬
‫تلزم كاتبه ب�رضورة مراعاة خطوط معينة ح�رصاً‪.‬‬ ‫حمفزات معنوية‪� ،‬أو ر�ؤو�س �أقالم يف انتظار بدء ما‬
‫يف اجلغرافيا تتنوع العوامل‪� ،‬إذ ميكن التخفي‪ ،‬الر�صد‪،‬‬ ‫ج ٍّم اخليارات هو الذي ي�شي مبكنون الفل�سفة خارج‬
‫تخيل القمة واحل�ضي�ض وما بينهما والتفكر الإبداعي‪،‬‬ ‫الكلي �أو الثابت مكانياً‪ ،‬لتكون الفل�سفة رع�شة الروح‬
‫ومن ثمة �إمكان نقله �إىل الورق‪ ،‬وهذا ذو ن�سب طبيعي‪،‬‬ ‫يف ج�سد ال يتوقف هو الآخر عن االهتزاز‪ ،‬عن �إر�سال‬
‫�شجري‪ ،‬واملد بال�سطر عميق ًا وهو ينوء حتت �ضغط‬ ‫بث يخ�ص نوعية احلياة وبدعتها داخله وهي متتد‬
‫الكلمات الأكرث قدرة على توقيف القارئ‪ ،‬جتاوب ًا من‬ ‫خارج ًا وتتنوع( كون الفل�سفة تولد �أو ُتنتج من‬
‫املنثور‪� .‬إنه التحرك برعاية الفراغات وا�ستلهاماتها!‬ ‫اخلارج من طرف الفنان الت�شكيلي واملو�سيقي‬
‫‪99‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ما يحفّزه على �أن ثمة اكت�شاف ًا يلي �سواه‪� ،‬أن بيت‬ ‫ولكن يجب �أن ي� َؤخذ يف االعتبار على �أن دولوز ال‬
‫الكائن وهو ج�سده ي�ستحيل ف�ضاء وقد تراءت دقائقه‬ ‫يكون �إال حيث يكون التنويع يف جهات الأر�ض كما‬
‫�أو �صغائره‪.‬‬ ‫يف‬
‫لعل يف هذا االرحتال املتعدد الو�سائل ما ي�ست�أثر به‬ ‫جماالتها احلية من �سهل وجبل وغابة وبحر‪..‬الخ‪ ،‬فما‬
‫انطالق ًا من اللذة القارة يف �أ�صل الفراغ وهو ال يثبت‪،‬‬ ‫هو �شجري وهو ي�شدنا �إىل الغابة وكثافتها وحر�ص‬
‫لأن كل ما يجعله ن�صب عينيه هذا املابعد احلداثي‬ ‫كل نوع �شجري على « هويته» النباتية‪ ،‬تربز ال�صحراء‬
‫�ضمن ًا ميهد ملا ميكن �أن يكون �أكرث ا�ست�ساغة ورحابة‪.‬‬ ‫لتمار�س ح�ضورها املختلف‪� ،‬إمنا على خلفية ثقافية‪،‬‬
‫جاك دريدا والفراغ حدثاً‬ ‫حيث تلعب اال�ستعارة لعبتها الكربى عرب �إمعان النظر‬
‫يف فراغاتها الدقيقة‪ ،‬عندما نقر�أ( �إننا �صحاري‪،‬‬
‫وهذا ما ي�صبو �إليه جاك دريدا»‪»2007-1930‬‬ ‫لكننا معمرون لقبائل وحيوانات ونباتات‪ ،‬ونق�ضي‬
‫نف�سه‪ ،‬عرب مفهومه التفكيكي خلا�صية االختالف‬ ‫وقت ًا يف ترتيب هذه القبائل و�إعادة و�ضعها‪ ،‬ويف‬
‫و�صلته الالفتة بالفراغ‪ :‬فراغ الأثر واملنتظر من‬ ‫تنحية بع�ضها و�إغناء البع�ض الآخر‪ ،).‬ومن ثم (�إن‬
‫الفراغ �ضمناً‪ ،‬والذي من �أ�سا�سياته الفاعلة يف‬ ‫ال�صحراء والتجريب على ذواتنا هما هويتنا الوحيدة‪،‬‬
‫تو�سيم عامله مبا هو تنوعي �أو اختاليف‪ :‬الإرجاء‪،‬‬ ‫هما حظنا الوحيد يف كل الت�آليف التي تقطننا‪ .‬ويقال‬
‫�أي �إن احلقيقة ما يكونها �أماماً‪� ،‬أو داخالً‪ ،‬ون�سبي ًا‬ ‫لنا هنا‪ :‬ل�ستم �أ�سياداً ولكنكم مع ذلك �أكرث م�ضايقة‪.‬‬
‫دائم ًا يف كل ما ميكن التفكري فيه‪ ،‬واال�سم الذي‬ ‫كم نود �شيئ ًا �آخر)(‪..)21‬‬
‫يحدد �شيئ ًا ما يفتتح ثغوره �أو يعاين بنا فراغاته‬ ‫يف و�سع قارئ دولوز �أن ي�ست�شعر رهاب الثبات يف‬
‫ذات ال�صلة مبا هو جزمي‪ ،‬وما يتوخى خارج‬ ‫املكان‪� ،‬أو النمطية يف التفكري ويف �رضب �أمثلة لها‬
‫الت�أطري( نحن نرى �أن اال�سم‪ .‬وخ�صو�ص ًا ما يطلق‬ ‫ذات االجتاه اليتيم‪ ،‬حيث �إن هذا اجلمع بني متنوعات‬
‫دائم يف �سل�سلة �أو يف نظام‬ ‫عليه ا�سم العلم‪� .‬أ�سري ٌ‬ ‫الأر�ض‪ ،‬كما هو الف�ضاء حماولة ر�أب ال�صدوع الكربى‪،‬‬
‫من االختالفات‪ .‬وال ي�صبح ت�سمية �إال عندما ميكن‬ ‫والتقلي�ص من هول الفراغات التي ت�شكل عبئ ًا �أو وزراً‬
‫ت�سجيله يف داخل ت�شكيل‪.)22()..‬‬ ‫على املعنى‪ ،‬وحتول دون الإبداع �أو ر�ؤية الأجمل‪.‬‬
‫حيز العالقات االجتماعية �أو الثقافية ال ميكن‬ ‫ويف ّ‬ ‫دولوز رحالة بقدر ما يكون هاوي غو�ص‪� ،‬أو قاطع‬
‫احلديث عما هو منجز نهائياً‪� ،‬إمنا الناق�ص والداعي‬ ‫م�سافات ومكت�شف جماهيل كما يعلمنا بذلك ن�صه‬
‫�إىل �رضورة الإكمال املتتابع �أو ما يبقى فراغ ًا‬ ‫وهو يف غاية التلون والتحول‪� ،‬إميان ًا فكري ًا خا�صة‬
‫هو العالمة الفارقة لأي مو�ضوع يطرح للنقا�ش‬ ‫منه‪ ،‬على �أن الالمتناهي هو موطن الكاتب الفعلي‪..‬‬
‫(فجوهر املكمل غريب يتمثل يف �أال يكون للمكمل‬ ‫لقارئ دولوز كما تقدم �أن يعي�ش فورة اللحظة الفنية‬
‫�أي طبيعة جوهرية‪ ،‬وبالتايل ميكن له دائم ًا « �أال‬ ‫يف كتاباته‪ ،‬حتى وهو يحاول مقاربة فكرية عميقة‬
‫يحدث»‪.)23( )..‬‬ ‫لغريه من منط �شديد اخل�صو�صية هو نيت�شه �أو غريه‪،‬‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫لعل يف هذا التغيري اجلغرايف اجلهوي �أو الف�ضائي‬

‫‪100‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫اجل�سد و�شبيهه‬
‫يف الرواية العربية احلديثة‬
‫\‬
‫منى ظاهر‬

‫يعترب بع�ض الباحثني �أ ّن تناول الكاتبات العرب ّيات للعالقة املثل ّية الأنثوية يف‬
‫ن�صو�صه ّن ي�أتي يف م�ستويني‪� ،‬أحدهما‪� :‬إ ّن هذه العالقة هي احتجاج ومقاومة �ض ّد‬
‫العربي‪ ،‬وثانيهما‪ :‬تعترب هذه العالقة بدي ًال‬
‫ّ‬ ‫جتاهل الرّجال للنّ�ساء يف املجتمع‬
‫للعالقة مع الرّجال‪ ،‬حيث ا ّن النّ�ساء يف العالقة املثل ّية يبقني �صاحبات ال ّدور‬
‫الف ّعال والنّ�شِ ط (‪67 .pp ,2006 ,Taha‬؛ �صفّوري‪� ،2008 ،‬ص ‪.)202‬‬
‫على �سبيل املثال‪ ،‬ت�أتي رواية م�سك الغزال للكاتبة اللبنان ّية حنان ال�شيخ لتبينّ‬
‫ا ّن توظيف املثل ّية اجلن�س ّية النّ�سائ ّية هدفه مقاومة الأعراف املجتمع ّية الذّكور ّية‪،‬‬
‫واالحتجاج على �إهمال الزّوج المر�أته وان�شغاله يف ال�سعي وراء املال والعمل‪،‬‬
‫العربي‪ .‬حتكي‬‫ّ‬ ‫وال ّت�أكيد على دور النّ�ساء الف ّعال واختالل دور الرّجال يف املجتمع‬
‫الرّواية عن نور املر�أة اخلليج ّية الّتي تعاين من غياب زوجها �صالح امل�س�ؤول يف‬
‫ال ّدولة الن�شغاله بالتّجارة يف �أرجاء العامل‪ .‬و�سهى الّتي ت�أتي مع زوجها با�سم �إىل‬
‫�إحدى دول اخلليج هر ًبا من احلرب يف لبنان و�سع ًيا نحو حياة �أف�ضل‪ .‬تن�ش�أ عالقة‬
‫ال�سباحة‪.‬‬
‫بني نور و�سهى‪ ،‬بعد �أن تداوم �سهى على زيارة نور كي تعلّمها فنون ّ‬

‫توظيف اجل�سد كمقيا�س لرتدي الأو�ضاع‬


‫االجتماعية واالقت�صادية فـي جمتمع �شرقي مغلق‬

‫‪101‬‬ ‫كاتبة وباحثة من فل�سطني‬ ‫\‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�ساقي يف‬ ‫‪s‬‬ ‫ال�صادرة عن دار ّ‬ ‫عودية زينب حفني ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫تنجح نور يف ا�ستمالة معلّمتها �سهى نحو ممار�سة‬
‫عودية‬ ‫ال�س ّ‬ ‫بريوت ‪ .2006‬ورواية الآخرون للكاتبة ّ‬ ‫توج�س �سهى يف‬ ‫تتطور مع ال ّأيام‪ ،‬رغم ّ‬ ‫ّ‬ ‫جن�سية‬
‫ّ‬
‫ال�ساقي يف بريوت‬ ‫ال�صادرة عن دار ّ‬ ‫�صبا احلرز ّ‬ ‫مثلية كن�ساء �أخريات‪ ،‬لك ّنها‬ ‫ّ‬ ‫كونها‬ ‫إنكار‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫البداية‬
‫ورية �سمر يزبك رائحة‬ ‫ال�س ّ‬
‫‪ .2006‬ورواية الكاتبة ّ‬ ‫اخلليجي‬
‫ّ‬ ‫املجتمع‬ ‫يف‬ ‫مثليتها هذه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ت�ؤكّ د � ّأن‬
‫ال�صادرة عن دار الآداب يف بريوت ‪.2008‬‬ ‫القرفة ّ‬ ‫للحر ّية لأ ّنها تنجذب‬ ‫ّ‬ ‫املنغلق‪ ،‬هي متن ّف�س م�ؤ ّقت‬
‫اللبنانية رحاب �ضاهر ال نقاب‬ ‫ّ‬ ‫حفية‬
‫ال�ص ّ‬ ‫رواية ّ‬ ‫للرجال‪.‬‬ ‫بطبيعتها ّ‬
‫خا�ص يف بريوت ‪.2008‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�صادرة بن�رش‬ ‫لل�شم�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫تقول �سهى وهي ت�صف ممار�ستها‬
‫اللبنانية‬ ‫ّ‬ ‫ورواية ن�ساء يو�سف للكاتبة وال ّنا�رشة‬ ‫ّرت كما يف الواقع � ّأن‬ ‫تقبلني وما فك ُ‬ ‫الأوىل «نور ّ‬
‫ال�صادرة عن دار الآداب يف بريوت‬ ‫كريدية ّ‬ ‫ّ‬ ‫لينا‬ ‫الرجل واملر�أة‪ ،‬بل مت ّنيت املزيد‪،‬‬ ‫القبل هي بني ّ‬
‫ال�سوداء للكاتبة‬ ‫‪ .2012‬ورواية احلمامة بعباءتها ّ‬ ‫وكانت نور كلّما و�صلت نقطة يف ج�سدي �أيقظتها‬
‫ال�صادرة عن دار نينوى يف‬ ‫عودية ليلى عقيل ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫(ال�شيخ‪� ،1988 ،‬ص ‪.)47‬‬ ‫وتركتها قلقة» ّ‬
‫اللبنانية �سحر‬ ‫ّ‬ ‫للكاتبة‬ ‫مينا‬ ‫ورواية‬ ‫‪.2012‬‬ ‫دم�شق‬ ‫عودية زينب حفني‬ ‫ال�س ّ‬ ‫� ّأما رواية مالمح للكاتبة ّ‬
‫ال�صادرة عن دار الآداب يف بريوت ‪.2012‬‬ ‫مندور ّ‬ ‫�سائية‬‫املثلية ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫منوذجا للعالقات‬ ‫ً‬ ‫ف إ� ّنها تعطي‬
‫رواياتهن‬
‫ّ‬ ‫�إ�ضافة �إىل � ّأن عد ًدا من الكاتبات وظّ فن يف‬ ‫الرجل‪،‬‬ ‫الّتي تن�ش�أ كبديل وتعوي�ض عن العالقة مع ّ‬
‫جانبي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حموري �أو‬
‫ّ‬ ‫جالية ب�شكل‬ ‫الر ّ‬ ‫اجلن�سية ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫وذلك حينما تحُ رم املر�أة من ال ّزواج فتعاين من‬
‫نذكر منها على �سبيل املثال ال احل�رص روايتني‪:‬‬ ‫�ضحية لالغت�صاب‪ .‬فهند‬ ‫ّ‬ ‫الوحدة �أو حينما تقع‬
‫ال�س ّمان‬ ‫ورية غادة ّ‬ ‫ال�س ّ‬
‫رواية بريوت ‪ 75‬للكاتبة ّ‬ ‫قررت‬ ‫ثريا بعد �أن ّ‬ ‫جن�سية مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ترتبط بعالقة‬
‫ال�س ّمان يف بريوت‬ ‫ال�صادرة عن من�شورات غادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعرفها‬ ‫ال�سابقة ال ّزواج‪ ،‬مع العلم �أ ّنها من ّ‬ ‫ع�شيقتها ّ‬
‫اللبنانية هدى‬ ‫ّ‬ ‫للكاتبة‬ ‫حك‬ ‫ال�ض‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫ح‬
‫َ َ‬ ‫ورواية‬ ‫‪.1975‬‬ ‫مثلية بعد‬ ‫ثريا‪ّ � .‬أما �سماهر فتهرب �إىل عالقة ّ‬ ‫على ّ‬
‫الر ّي�س يف لندن‬ ‫ّ‬ ‫ريا�ض‬ ‫دار‬ ‫عن‬ ‫ال�صادرة‬ ‫بركات ّ‬ ‫�سن العا�رشة ومل ّدة خم�س‬ ‫�أن اغت�صبها والدها منذ ّ‬
‫‪.1990‬‬ ‫وت�رصح‪« :‬لو‬ ‫ّ‬ ‫ال�سجن‪.‬‬ ‫زجه يف ّ‬ ‫ويتم ّ‬ ‫�سنوات‪ ،‬ت�شكوه ّ‬
‫اجلن�سية عند ه�ؤالء‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫وقد جاء توظيف‬ ‫الرجال جميعهم يف حفرة‬ ‫كان الأمر بيدي لألقيت ّ‬
‫االجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫الكاتبات كانعكا�س لرت ّدي الأو�ضاع‬ ‫و�أ�رضمت ال ّنار فيها» (حفني‪� ،2006 ،‬ص ‪.)113‬‬
‫القوي‬
‫ّ‬ ‫واالقت�صادية‪ .‬ففيه ت�صوير ال�ستغالل‬ ‫ّ‬ ‫�سائية احلديثة الّتي تناولت‬ ‫الروايات ال ّن ّ‬ ‫من بني ّ‬
‫املثلية‬ ‫ّ‬ ‫والغني للفقري‪ ،‬لتغدو العالقة‬ ‫ّ‬ ‫لل�ضعيف‬ ‫ّ‬ ‫حموري �أو ب�شكل‬ ‫ّ‬ ‫�سائية ب�شكل‬ ‫اجلن�سية ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬
‫�سيد‪/‬فاعل‪/‬رجل وعبد‪/‬خامل‪/‬‬ ‫اجلن�سية عالقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫حبات ال ّنفتالني‬ ‫جانبي وفق زمن �صدورها‪ :‬رواية ّ‬ ‫ّ‬
‫اب‬ ‫ّ‬ ‫ال�ش‬
‫ّ‬ ‫فرح‬ ‫يذهب‬ ‫‪75‬‬ ‫بريوت‬ ‫رواية‬ ‫ففي‬ ‫امر�أة‪.‬‬ ‫ال�صادرة عن دار‬ ‫ّ‬ ‫ممدوح‬ ‫عالية‬ ‫ة‬ ‫العراقي‬
‫ّ‬ ‫للكاتبة‬
‫يل �إىل بريوت‬ ‫الرجو ّ‬ ‫ال�صوت العذب ّ‬ ‫القروي ذو ّ‬ ‫ّ‬ ‫العامة للكتاب يف القاهرة‬ ‫ّ‬ ‫ة‬‫امل�رصي‬
‫ّ‬ ‫ف�صول والهيئة‬
‫ليح�صل على امل�ساعدة من قريبه ني�شان‪ ،‬كي‬ ‫اللبنانية حنان‬ ‫ّ‬ ‫‪ .1986‬ورواية م�سك الغزال للكاتبة‬
‫للرجولة‪.‬‬ ‫ينت�شله من الفقر وي�صنع منه مطر ًبا ّ‬ ‫ال�صادرة عن دار الآداب يف بريوت ‪.1988‬‬ ‫ال�شيخ ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�شديدة يف‬ ‫في�ستغ ّل ني�شان حاجته للمال ورغبته ّ‬ ‫امل�رصية‬‫ّ‬ ‫ورواية ج ّنات و�إبلي�س للكاتبة والباحثة‬
‫ال�شهرة‪ ،‬ليجعله �أداة لإ�شباع رغباته‬ ‫الو�صول �إىل ّ‬ ‫ال�صادرة عن دار الآداب يف بريوت‬ ‫ال�سعداوي ّ‬ ‫نوال ّ‬
‫اجلن�سية يف مقابل حتقيق �أحالمه‪� ،‬إذ يقول له‬ ‫ّ‬ ‫ورية‬ ‫ال�س ّ‬ ‫‪ .1992‬ورواية بنات حارتنا للكاتبة ّ‬
‫ال�شهرة؟ [‪...‬‬ ‫ني�شان بو�ضوح‪« :‬هل تعرف ال ّثمن‪ ،‬ثمن ّ‬ ‫ال�صادرة عن من�شورات اتحّ اد الك ّتاب‬ ‫مالحة اخلاين ّ‬
‫[ هل �أنت على ا�ستعداد لدفعه؟ الطّ اعة � ّأوالً‪ ...‬الطّ اعة‬ ‫العرب يف دم�شق ‪ .1998‬ورواية �أنا هي �أنتِ للكاتبة‬
‫(ال�س ّمان‪� ،1975 ،‬ص ‪.)44‬‬ ‫املطلقة يل» ّ‬ ‫ال�صادرة عن دار ريا�ض‬ ‫اللبنانية �إلهام من�صور ّ‬ ‫ّ‬
‫أح�س‬ ‫الراوي ر ّد فعل فرح على ما �سمعه‪ ،‬فقد � ّ‬ ‫ي�صف ّ‬ ‫الر ّي�س يف بريوت ‪ .2000‬ورواية مالمح للكاتبة‬ ‫ّ‬
‫‪102‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫�ضيقني‪ ،‬ت�سكنه �أنوثة دفينة م�ست�سلمة تتناق�ض‬ ‫ّ‬ ‫و�صارما «مثل‬ ‫ً‬ ‫�رش�سا‬
‫ً‬ ‫� ّأن يف �صوت ني�شان �شي ًئا‬
‫�رسا �إىل‬
‫ال�سائد‪ .‬وهو مييل ًّ‬ ‫كوري ّ‬ ‫وعنف ال ّنظام ال ّذ ّ‬ ‫«ال�سريك» على �أج�ساد احليوانات‬ ‫ال�سياط يف ّ‬ ‫فرقعة ّ‬
‫أحب ابن‬ ‫وطباعا‪� ،‬إذ � ّ‬ ‫ً‬ ‫ال ّذكور املختلفني عنه بنية‬ ‫يتحول فرح من‬ ‫ّ‬ ‫�أثناء ال ّتدريب» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)44‬‬
‫جريانه ناجي ابن بريوت الربيء والأنيق والّذي‬ ‫املثلية مع‬ ‫ّ‬ ‫الرجولة �إىل رجل ميار�س‬ ‫رجل مكتمل ّ‬
‫ي�سقط مي ًتا بر�صا�صة جاءته من �رشق بريوت‪« :‬بعد‬ ‫نف�سية متنعه من �إقامة‬ ‫ّ‬ ‫�سيده‪ ،‬ويعاين من حالة‬ ‫ّ‬
‫مقتل ناجي ما عاد جل�سد خليل من �أخ �أو مثيل‬ ‫جن�سيا‪ .‬وت�شري‬ ‫ًّ‬ ‫عالقة مع امر�أة‪ ،‬ليغدو رج ًال عاج ًزا‬
‫ثم يقع يف غرام‬ ‫قريب» (بركات‪� ،1990 ،‬ص ‪ّ .)89‬‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫يتحول‪ ،‬يف عالقته‬ ‫ّ‬ ‫ال�س ّمان �إىل � ّأن فرح‬
‫غادة ّ‬
‫الريف الو�سيم والالهي‬ ‫عمه يو�سف القادم من ّ‬ ‫ابن ّ‬ ‫بني�شان‪ ،‬من �رشيك غري فاعل �إىل حيوان م�ستعبد من‬
‫مع فتيان من عمره‪ ،‬والّذي ي�سقط مي ًتا بر�صا�صة‬ ‫إن�سانية ‪,2008 ,Al-Samman(.‬‬ ‫ّ‬ ‫�سيده عرب عالقة ال �‬ ‫ّ‬
‫قادمة من غرب بريوت‪ .‬وبعد مقتله «مل يعد ج�سد‬ ‫الرواية‪،‬‬ ‫حول يكتمل يف نهاية ّ‬ ‫‪ )280.p‬وهذا ال ّت ّ‬
‫خليل ي�سري معه �إىل � ّأي مكان» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)172‬‬ ‫حينما يعوي فرح مثل كلب مذبوح على اجلمهور‬
‫وهكذا يكون ملوت ناجي ويو�سف الأثر الكبري‬ ‫بد ًال من الغناء‪ ،‬ل ُينقل بعدها �إىل م�ست�شفى الأمرا�ض‬
‫على خليل‪� ،‬إذ ي�شعر بعزلة كبرية �إثر غيابهما‪ ،‬كما‬ ‫العقلية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويتحرر من �صورتني ع�شقهما وال ي�ستطيع �أن يكون‬ ‫ّ‬ ‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫فت�صور‬
‫ّ‬ ‫ال�ضحك‬ ‫� ّأما رواية َح َجر ّ‬
‫والقوة والأناقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالو�سامة‬ ‫ّى‬ ‫ل‬ ‫يتح‬ ‫ال‬ ‫فهو‬ ‫مثلهما‪،‬‬ ‫جالية ب�شكل مغاير‪� ،‬إذ يعترب ك ّل من براين‬ ‫الر ّ‬ ‫ّ‬
‫والرواية بالأ�سا�س ت�ستثمر احلرب‬ ‫ّ‬ ‫وال�س ّمان � ّأن‬ ‫ّ‬ ‫‪Brian‬‬ ‫‪Whitaker‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ويتاكر‬
‫كخلفية لأحداثها وما يعتمل‬ ‫ّ‬ ‫أهلية‬
‫ال ّ‬ ‫روايات الرجال‬ ‫الروايات القليلة الّتي‬ ‫الرواية من ّ‬ ‫هذه ّ‬
‫�شخ�صياتها‪ ،‬مبا يف هذه احلرب‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫�أقل جر�أة‬ ‫اخلية‬
‫املثلية ال ّد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرغبة‬ ‫جنحت بتوظيف ّ‬
‫وطبقية وف�صائل‬ ‫ّ‬ ‫وطائفية‬
‫ّ‬ ‫مذهبية‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫الرجال‪ .‬فالكاتبة جتعل القارئ‬ ‫بني ّ‬
‫حتول مكان‬ ‫ّ‬ ‫م�سلّحة‪ .‬وك� ّأن احلرب‬ ‫من روايات‬ ‫يتعاطف مع بطلها خليل يف جناحه‬
‫الإقامة بريوت �إىل مكان للعبور‪ ،‬وتنقل‬ ‫الكاتبات‬ ‫ويف حزنه على ف�شله ب�أ�سلوب ب�سيط‬
‫احلب واجلمال �إىل‬ ‫الب�رشية من ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطّ بائع‬ ‫اجلن�سي‬
‫ّ‬ ‫وناجع‪ .‬فهي تتناول اختالفه‬
‫يتحول �إىل‬ ‫ّ‬ ‫القبح والكراهية‪ .‬فوجه ناجي امله ّذب‬ ‫اخلية منذ‬ ‫اجليني ورغبته ال ّد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنابع من تكوينه‬
‫ال�ضعفاء‪.‬‬ ‫�شخ�صية العري�س امل�س�ؤول عن م�صائب ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرواية‪ ،‬دون ال ّتعبري عن �إح�سا�سه بالإثم �أو‬ ‫بداية ّ‬
‫املتورط يف‬ ‫ّ‬ ‫وبد ًال من يو�سف الو�سيم يظهر «الأخ»‬ ‫مثليته‪ ،‬ودون اللجوء �إىل � ّأي �أو�صاف‬ ‫مناق�شة �أ�سباب ّ‬
‫عمليات تهريب احل�شي�ش والأفيون امل�ص ّنع مقابل‬ ‫ّ‬ ‫اجلن�سية‪ .‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫�رصيحة حول ممار�ساته‬
‫�شحنات الأ�سلحة‪ ،‬وو�ساطة مع �إ�رسائيل‪ ،‬والّذي‬ ‫داخلي‬
‫ّ‬ ‫املثلية ال ّنابعة من اختيار‬ ‫ّ‬ ‫ال ّتناول للميول‬
‫الرجال و ُيعجبه خليل‬ ‫مييل بدوره �إىل معا�رشة ّ‬ ‫العربية املعا�رصة‬ ‫ّ‬ ‫الروايات‬ ‫�شخ�صي مل تعاجله ّ‬ ‫ّ‬
‫ويع�شقه‪� ،‬إذ يخاطبه وهو ينظر �إليه بعينني �شبقتني‬ ‫الّتي كتبها رجال ون�ساء يف �سنوات ال ّت�سعني من‬
‫علي �أن �أ�سافر منذ �شهر لك ّنك ت�شلّني مل �أعد‬ ‫«كان ّ‬ ‫القرن الع�رشين (ويتاكر‪� ،2007 ،‬ص ‪115‬؛ ‪Al-(.‬‬
‫قادرا على احلركة‪ .‬ما زلت �أ� ّؤجل من �أجل �أن �أراك»‬ ‫ً‬ ‫‪Samman, 2008, pp.293- 294‬‬
‫(ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)225‬‬ ‫دراج �إىل � ّأن خليل مي ّثل‬ ‫باملقابل ي�شري في�صل ّ‬
‫يتحول خليل من‬ ‫ّ‬ ‫وال�سيا�سة‪،‬‬
‫وهكذا وبفعل احلرب ّ‬ ‫الإن�سان اخلنثى‪ ،‬املخلوق الهجني‪ ،‬الّذي �أ�ضاع‬
‫ذكوري مقهور وفقري‪� ،‬إىل رجل‬ ‫ّ‬ ‫أنثوي ال‬
‫ريفي � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ت�ستقر‬
‫ّ‬ ‫ال ّذكر الّذي مل يكنه و�أخط�أ الأنثى الّتي مل‬
‫بالكراهية اخلال�صة ب�شاربني كثيفني‬ ‫ّ‬ ‫�سم‬ ‫ت‬
‫قوي ّ‬
‫ي‬ ‫ّ‬ ‫فيه‪ .‬ففي لطفه امل�سامل ما يوحي ب�أنثى ويف ر ّقته‬
‫ومنكبني عري�ضني و�ساقني طويلتني‪ ،‬يخالط �سادة‬ ‫والرواية‬‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫(دراج‪ ،‬نزوى)‪.‬‬ ‫ال�صامتة ما ينفي ال ّذكر ّ‬ ‫ّ‬
‫ومرافق‪ ،‬ذَكَ ٍر‬ ‫و�سيارة ُ‬ ‫احلرب وينعم بثياب جديدة ّ‬ ‫�أ�ص ًال ت�صف خليل ب�أ ّنه ذو �ساقني ق�صريتني وكتفني‬
‫‪103‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�صادرة‬ ‫‪s‬‬
‫امل�رصي �صنع اهلل ابراهيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان يل للكاتب‬ ‫ميار�س ذكورته عرب عنفه واغت�صابه جلارته الّتي‬
‫العربي ‪ ،2003‬والّتي تتناول‬ ‫ّ‬ ‫عن دار امل�ستقبل‬ ‫تعيل طفلها‪ ،‬والّتي كان يقول لنف�سه �ساب ًقا عنها‬
‫املثلية ب�ش ّقيها؛ رواية تيموليلت‪� :‬سرية وحجر‬ ‫ّ‬ ‫«فيها �شيء ي�شبهني هذه املر�أة‪ .‬فيها �شيء من‬
‫إلكرتونيا‬
‫َّ‬ ‫�‬ ‫ن�رشها‬ ‫ّتي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫خالد‬ ‫حم�سن‬ ‫ين‬
‫ّ‬ ‫ودا‬ ‫ال�س‬
‫ّ‬ ‫للكاتب‬ ‫الرجال ال �أ�ستطيع و�ضع �إ�صبعي عليه» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص‬ ‫ّ‬
‫يف موقع �سودانيز �أونالين ‪2005‬؛ رواية واحة‬‫(‪)6‬‬
‫‪.)216‬‬
‫ال�صادرة عن‬ ‫امل�رصي بهاء طاهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغروب للكاتب‬ ‫ترو�ضه‬‫يفي اخلنثى قبل �أن ّ‬ ‫الر ّ‬
‫دراج � ّأن خليل ّ‬
‫يعترب ّ‬
‫(‪)7‬‬
‫بطي‬
‫دار ال�شرّ وق يف القاهرة ‪2007‬؛ رواية ال ّن ّ‬ ‫زعيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫احلرب‪ ،‬بقي كما كان خنثى‪ ،‬بعد �أن �أ�صبح‬
‫ال�صادرة عن دار‬ ‫امل�رصي يو�سف زيدان ّ‬ ‫ّ‬ ‫للكاتب‬ ‫لأ ّنه �ساوى بني ال ّذكورة واالغت�صاب‪ ،‬وبني ال ّذكورة‬
‫ال�شرّ وق يف القاهرة ‪.2010‬‬ ‫�سويا يف‬
‫يا�سية‪ .‬فهو مل يكن ًّ‬
‫ال�س ّ‬
‫والرجولة ّ‬
‫املغت�صبة ّ‬
‫جالية الّتي توظّ ف‬ ‫الر ّ‬ ‫الروايات ّ‬ ‫وعند االلتفات �إىل ّ‬ ‫(دراج‪،‬‬
‫�سويا يف ج�سده اجلديد ّ‬‫ج�سده القدمي ومل يعد ًّ‬
‫�سائية‪ ،‬نقف عند رواية بريوت‬ ‫اجلن�سية ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫نزوى)‪ )1(.‬يف حني ت�ؤكّ د الكاتبة هدى بركات‪ ،‬يف‬
‫أهلية يف‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫احلرب‬ ‫أحداث‬ ‫�‬ ‫ت�ستثمر‬ ‫ّتي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بريوت‬ ‫مثلي‬
‫ّ‬ ‫�أحد حواراتها‪ ،‬على � ّأن خليل هو �شخ�ص‬
‫جن�سية بني مليا‬ ‫ّ‬ ‫مثلية‬
‫ت�صور عالقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫بريوت‪ .‬وهي‬ ‫ملثليته «ب�سبب تعريف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫يف مرحلة �إنكار‬
‫الرجل‬ ‫لتعو�ض �إهمال ّ‬ ‫وجميلة‪ .‬وت�أتي هذه العالقة ّ‬ ‫االجتماعي على البحث عن‬
‫ّ‬ ‫ال�ضغط‬
‫للرجولة‪� .‬أجربه ّ‬
‫ّ‬
‫ولتقو�ض دوره يف املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫لزوجته وغيابه عنها‪،‬‬ ‫الرجولة من خالل اغت�صاب �إحدى اجلارات» ((‪Had�(.‬‬ ‫ّ‬
‫أبوي‪ .‬فها هي مليا تعاين من غياب زوجها‪ ،‬مدير‬ ‫ال ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫‪dad, 2005, Issue‬‬
‫امل�ستمر‪ .‬وجميلة‬ ‫ّ‬ ‫ال�صائغ و�سفره‬ ‫دار ال ّن�رش‪ ،‬عدنان ّ‬ ‫الرجال‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬ف� ّإن عد ًدا من الك ّتاب ّ‬
‫قويتني‪ ،‬كما‬ ‫رجوليتني ّ‬ ‫ّ‬ ‫الّتي تكربها �س ًّنا متلك يدين‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫العربية املعا�رصة‬ ‫ّ‬ ‫تناولوا يف رواياتهم‬
‫الراوي القادم من القاهرة‪ ،‬الكاتب الّذي‬ ‫ي�صفهما ّ‬ ‫حموري �أو‬ ‫ّ‬ ‫�سائية‪ ،‬ب�شكل‬ ‫جالية وال ّن ّ‬ ‫الر ّ‬ ‫اجلن�سية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ويتحم�س له‬‫ّ‬ ‫يبحث عن نا�رش ليطبع خمطوط كتابه‪،‬‬ ‫جانبي‪ .‬وكانت طبيعة ت�صويرهم لتلك العالقات‬ ‫ّ‬
‫عدنان (�أنظر‪/‬ي ابراهيم‪� ،1984 ،‬ص ‪.)250‬‬ ‫�رشقية منغلقة‬ ‫ّ‬ ‫املثلية الّتي حتدث يف جمتمعات‬ ‫ّ‬
‫بوا�سطة هاتني اليدين متنح جميلة ع�شيقتها‬ ‫املثلية‬‫ّ‬ ‫ومتزمتة م�شابهة لطبيعة تناول العالقات‬ ‫ّ‬
‫م�رصة على �أن تدافع عن‬ ‫ّ‬ ‫والراحة‪ ،‬وتظ ّل‬ ‫الطّ م�أنينة ّ‬ ‫عموما‪ ،‬مبا‬ ‫ً‬ ‫�سائي‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫أدب‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫�سائي‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫جالي‬
‫الر ّ‬ ‫ّ‬
‫الراوي الذي يقيم‬ ‫الرواية ّ‬ ‫عالقتهما‪� ،‬إذ حت ّذر بطل ّ‬ ‫د‪/‬قوي‪/‬قاهر‬ ‫ّ‬ ‫�سي‬
‫ّ‬ ‫�سيطرة‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫أي�ض‬
‫ً‬ ‫�‬ ‫العالقات‬ ‫تلك‬ ‫يف‬
‫جن�سية مع ع�شيقتها‪ ،‬وتطلب منه �أن يرتكها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عالقة‬ ‫حممد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على عبد‪�/‬ضعيف‪/‬مقهور (انظر‪/‬ي مث ًال‬
‫وتقول له‪�« :‬أ�ستاذ‪� .‬أنت لك حياتك يف القاهرة‪ .‬و�أنا‬ ‫العربية نت ؛ �‪Al-Sam‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ّ‬ ‫ج�سد ال ّثقاةفة(‪)3‬؛ املحارب‪،‬‬
‫لي�س عندي غري مليا‪� .‬إ ّنها كائن رقيق يحتاج �إىل‬ ‫‪ .)man, 2008, pp.277, 297‬ومع ذلك فقد ظلّت روايات‬
‫رعاية كاملة وحنان فائق‪ .‬ولي�س هناك من يفهمها‬ ‫الرجال �أق ّل جر�أة من روايات الكاتبات الّتي وظّ فت‬ ‫ّ‬
‫ويحبها مثلي‪ .‬لكن �أحيا ًنا يحدث �شيء ال‬ ‫ّ‬ ‫ويق ّدرها‬ ‫�سائي كما‬ ‫الرجايل وال ّن(‪ّ )5‬‬ ‫اجلن�سية ب�ش ّقيها ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬
‫�أفهمه‪ .‬لنقل حماولة لإثبات الأنوثة �أو القدرة على‬ ‫يذكر �شاكر ال ّنابل�سي (ال ّنابل�سي‪� ،‬أمان)‪.‬‬
‫الرجال‪� .‬أو ربمّ ا‪ .‬امللل» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)250‬‬ ‫اجتذاب ّ‬ ‫املثلية‬ ‫ّ‬ ‫الرجال الّتي تناولت‬ ‫ومن بني روايات ّ‬
‫مثلية‪،‬‬
‫الراوي ب� ّأن مليا قد ال تكون ّ‬ ‫وبدوره يف�سرّ ّ‬ ‫الروايات ال ّتالية وفق‬ ‫�سائية نورد هنا ّ‬ ‫اجلن�سية ال ّن ّ‬
‫ّ‬
‫للرجال ولل ّن�ساء على ح ّد �سواء‪:‬‬ ‫فقد تكون ميولها ّ‬ ‫امل�رصي‬
‫ّ‬ ‫زمن �صدورها‪ :‬رواية بريوت بريوت للكاتب‬
‫«ربمّ ا كانت تنتمي للعاملني» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)250‬‬ ‫العربي‬
‫ّ‬ ‫ال�صادرة عن دار امل�ستقبل‬ ‫�صنع اهلل ابراهيم ّ‬
‫فتعلّق جميلة‪« :‬حمتمل‪ .‬لك ّني مل �أفقد الأمل يف �أن‬ ‫يف القاهرة ‪1984‬؛ رواية حالة �شغف للكاتب‬
‫متاما لعاملي» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)250‬‬ ‫�أك�سبها ً‬ ‫عطية يف‬ ‫ال�صادرة عن دار ّ‬ ‫ال�سوري نهاد �سريي�س ّ‬ ‫ّ‬
‫مثلية مليا مكت�سبة‬ ‫جملة جميلة هذه ت�ؤكّ د على � ّأن ّ‬ ‫بريوت ودم�شق ‪1998‬؛ رواية �أمريكانلّي‪� -‬أمري‬
‫‪104‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫الرجال يف عالقتهم بال ّن�ساء‪:‬‬ ‫عند ّ‬ ‫من الظّ روف املحيطة بها‪ .‬ومليا نف�سها ت�ؤكّ د ذلك‬
‫حتب‪.‬‬‫حتب امر�أة هذا معناه �أ ّنها تتفانى يف َمن ّ‬ ‫«� ْأن ّ‬ ‫الراوي حينما ي�صارحها ب�أ ّنه‬ ‫يف حوارها مع ّ‬
‫يحبون‬ ‫الرجال ّ‬ ‫بال �سبب وبال هدف �أو م�صلحة‪ّ .‬‬ ‫على علم بعالقتها مع جميلة‪ .‬فتقول �إ ّنها متار�س‬
‫حتب لتعطي‪..‬‬ ‫أنانيون‪ّ � ،‬أما املر�أة فهي ّ‬ ‫املر�أة لأ ّنهم � ّ‬ ‫أنانيتهم‬
‫الرجال و� ّ‬ ‫املثلية هرو ًبا من فظاظة ّ‬ ‫ّ‬
‫الرجل ي�أخذ ويرهن م�ستقبل املر�أة له فقط‪� .‬إ ّنه‬ ‫ّ‬ ‫ين‪ .‬حياته‬ ‫الرجل اللبنا ّ‬ ‫وغرورهم «�أنت ال تعرف ّ‬
‫يجعلها حتبل لتلد له الأطفال‪ ،‬يجعلها تخدمه يف‬ ‫بال�سباق‪.‬‬
‫كلّها تدور حول ت�سديد الأق�ساط‪ ،‬واللحاق ّ‬
‫البيت‪ ،‬فتطبخ له وتكن�س وت�سهر على راحته‪ّ � .‬أما‬ ‫و�إجناب ولد يحمل ا�سمه الكرمي» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)258‬‬
‫حتب املر�أة امر�أة‬ ‫راحتها هي فال قيمة لها‪ .‬عندما ّ‬ ‫أجلكن» (ن‪.‬م‪،.‬‬‫الراوي‪�« :‬إ ّنه يفعل ذلك من � ّ‬ ‫يجيبها ّ‬
‫احلب‪ ..‬بال �أطفال‪،‬‬ ‫احلب‪ ،‬وفقط ّ‬ ‫�أخرى فالهدف هو ّ‬ ‫تف�ضل العالقة املغايرة‬ ‫�ص ‪ .)258‬فت�ؤكّ د له �أ ّنها ّ‬
‫بع�ضا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واالثنتان تتعاونان وتخدمان بع�ضهما‬ ‫دائما‪ .‬على العموم‬ ‫للجن�س‪�« :‬أعرف‪ .‬ولهذا �أعود �إليه ً‬
‫املت�صوفة»‬ ‫ّ‬ ‫حب‬‫حبنا ي�شبه ّ‬ ‫ال�صايف‪ّ ..‬‬ ‫احلب ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّنه‬ ‫الرجال» (ن‪.‬م‪� ،.‬ص ‪.)258‬‬ ‫أف�ضل ّ‬ ‫�أنا � ّ‬
‫(�سريي�س‪� ،1998 ،‬ص ‪.)88 -87‬‬ ‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫� ّأما رواية حالة �شغف فتوظّ ف‬
‫الرواية يف‬ ‫الرغم من جر�أة ّ‬ ‫ال�س ّمان ب�أ ّنه على ّ‬ ‫وتعلّق ّ‬ ‫حموري‪ .‬وهي تو ّثق ظاهرة «بنات‬ ‫ّ‬ ‫�سائية ب�شكل‬ ‫ال ّن ّ‬
‫�سائية ب�شكل �رصيح‪،‬‬ ‫اجلن�سية ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫توظيف‬ ‫الع�رشة» الّتي انت�رشت يف �أو�ساط «العوامل»‪-‬‬
‫الرواية ال زالت حم�صورة يف هيمنة ال ّذكور‬ ‫�إ ّال � ّأن ّ‬ ‫والراق�صات والعازفات‪ ،‬يف حلب‬ ‫ال ّن�ساء املغ ّنيات ّ‬
‫ثنائيات‬ ‫ّ‬ ‫الغريية‪ ،‬ويف‬
‫ّ‬ ‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫والرغبة‬ ‫ّ‬ ‫يف �سوريا‪ ،‬يف ال ّثالثينات من القرن‬
‫�سحاقية‬
‫ّ‬ ‫وتقاطبية‪ :‬امر�أة‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ديخوتومية‬
‫ّ‬ ‫عندما حتبّ املر�أة‬ ‫الرواية على حكايات‬ ‫الع�رشين‪ .‬فتطلعنا ّ‬
‫وخاملة‪ -‬فاعلة ‪Al-Samman, 2008,‬‬ ‫كثرية عن «بنات الع�رشة» الالتي‬
‫مثلية بهرية ملتب�سة‬ ‫ّ‬ ‫‪ .))p. 304‬فمث ًال‬ ‫امر�أة �أخرى‬ ‫الرق�ص والغناء والعزف‪،‬‬ ‫ي�ستهويهن ّ‬‫ّ‬
‫اجتماعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫داخلية وظروف‬ ‫ّ‬ ‫بني رغبة‬ ‫فالهدف‬ ‫ويحيني حفالت ال ّزفاف والطّ رب يف‬
‫�صبي‬
‫ّ‬ ‫تربت منذ �صغرها على �أ ّنها‬ ‫فقد ّ‬ ‫هو احلبّ‬ ‫بيوت ن�ساء علية القوم واملقاهي‬
‫وتزعمت �صبيان احلارة الّذين‬ ‫ّ‬ ‫ذكر‪،‬‬ ‫واحلمامات يف جمتمع يف�صل بني‬ ‫ّ‬
‫كانوا ينادونها � ّإما «�أبو �صطيف» �أو‬ ‫مثلية‬
‫ّ‬ ‫عالقات‬ ‫أقمن‬
‫َ‬ ‫�‬ ‫فقد‬ ‫اجلن�سني‪.‬‬
‫قررت عند بلوغها �أن تع�شق ال ّن�ساء‬ ‫«�صبحي»‪ .‬وقد ّ‬ ‫إيروتيكية خ ّف ّية وملتب�سة �أتاحها‬‫ّ‬ ‫ن�سائية ب�أجواء �‬ ‫ّ‬
‫الرجال وت�شمئ ّز من �أج�سادهم‪،‬‬ ‫لأ ّنها ال ترتاح مع ّ‬ ‫ال�ضوء على‬ ‫انغالق هذا املجتمع‪� .‬إ�ضافة �إىل ت�سليط ّ‬
‫ال�شابات العذراوات الالتي مل ميار�سن � ّأية‬ ‫ّ‬ ‫وف�ضلت‬
‫ّ‬ ‫م�شاعر الغرية وعذاب الع�شق‪ ،‬وحماولة ال ّدفاع عن‬
‫عالقة مغايرة للجن�س‪ .‬وتعلّمت �أن متنع �رشيكتها‬ ‫العالقة مع ال�شرّ يكة و�إبعاد املناف�سني من ال ّذكور‬
‫من اخلروج خوفًا من هربها يف مرحلة ما مع رجل‪،‬‬ ‫والإناث‪.‬‬
‫كما ح�صل مع بديعة‪ُّ � -‬أم وداد‪� -‬إحدى مع�شوقاتها‬ ‫ال�شغف املطلق بني العا�شقتني‬ ‫الرواية تركّ ز على ّ‬ ‫هذه ّ‬
‫ال�سابقات الّتي هربت مع حبيبها‪ .‬كما و�ألغت بهرية‬ ‫ّ‬ ‫وجن�سيا‪ ،‬وعي�شهما حتت �سقف واحد‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫روحيا‬‫ًّ‬
‫بالرجال حينما مار�ست الغناء‬ ‫ّ‬ ‫هت‬ ‫وت�شب‬
‫ّ‬ ‫أنوثتها‬ ‫�‬ ‫ي�سمى العِ�رشة‪ .‬و�أف�ضل و�صف لظاهرة‬ ‫ّ‬ ‫ما‬ ‫وهذا‬
‫مع فرقتها‪ ،‬فقد «اعتادت �أن تقف على اخل�شبة‬ ‫خ�صيات‬‫ال�ش ّ‬ ‫«بنات العِ�رشة» جاء على ل�سان �إحدى ّ‬
‫الرجال‪ ،‬ويف بع�ض الأحيان‬ ‫وهي ترتدي ثياب ّ‬ ‫الرواية‪ ،‬وهي املغ ّن ّية‪� ،‬صاحبة الفرقة‬ ‫املركزية يف ّ‬ ‫ّ‬
‫طربو�شا على ر�أ�سها‪� ،‬أو تر�سم �شاربني‬ ‫ً‬ ‫كانت ت�ضع‬ ‫املتيمة بوداد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بهرية‬ ‫اخلوجة‬ ‫ة‪،‬‬ ‫�سائي‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫املو�سيقي‬
‫ّ‬
‫ودائما كانت ت�شكل وردة بي�ضاء يف‬ ‫ً‬ ‫مفتولني‪،‬‬ ‫تقربها منها‪ ،‬وتبعدها عن عامل‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫حتاول‬ ‫والّتي‬
‫كوري‬
‫عروة �سرتتها‪ .‬كانت قد ا�شتهرت مبزاجها ال ّذ ّ‬ ‫ماهية‬
‫ّ‬ ‫الرجال امل�سحورين بجمالها‪ .‬فتقارن بني‬ ‫ّ‬
‫ذاك‪ ،‬وهذا بال ّذات ما جعل ن�ساء املدينة مينت فيها‬ ‫احلب‬
‫وماهية ّ‬‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫احلب عند ال ّن�ساء يف العالقة‬ ‫ّ‬
‫‪105‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫ويعبدنها» (�سريي�س‪� ،1998 ،‬ص ‪.)36‬‬
‫�سوي (‪-1980‬‬
‫�شعرية ال�سرّ د ال ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫حممد قا�سم (‪،)2008‬‬ ‫‪� -‬صفّوري‪ّ ،‬‬
‫العربية‬
‫ّ‬ ‫اللغة‬ ‫ق�سم‬ ‫ة‪-‬‬ ‫إن�ساني‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫العلم‬ ‫ة‬ ‫ّي‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫حيفا‪:‬‬ ‫‪ ،)2007‬جامعة‬
‫و�آدابها‪.‬‬
‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫للمثلية‬
‫ّ‬ ‫من هنا ي ّت�ضح � ّأن تناول الكاتبات‬
‫واملثليات‬
‫ّ‬ ‫املثليني‬
‫ّ‬ ‫احلب املمنوع‪ -‬حياة‬ ‫‪ -‬ويتاكر‪ ،‬براين (‪ّ ،)2007‬‬ ‫�سائية‪ ،‬ي�شبه بالعموم تناول الأدباء‬ ‫جالية وال ّن ّ‬ ‫الر ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�ساقي‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫يف ال�شرّ ق الأو�سط‪( ،‬ترجمة‪ :‬ف‪� .‬إبراهيم)‪ ،‬بريوت‪ :‬دار ّ‬
‫�سائية‪ ،‬من‬ ‫ّ ّ‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫جالي‬
‫ّ ّ ّ‬ ‫الر‬ ‫ة‬ ‫اجلن�سي‬ ‫ة‬ ‫للمثلي‬
‫ّ‬ ‫جال‬ ‫الر‬
‫ّ‬
‫غالبية هذه الأعمال‬ ‫ّ‬ ‫اجلن�سية يف‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫ان‬
‫حيث ّ‬
‫املراجع الإجنليزيّة‬ ‫نف�سية‬
‫عر�ض العتداءات ّ‬ ‫هي �أمر مكت�سب ناجت عن ال ّت ّ‬
‫‪Al-Samman, Hanadi (2008), «Out of the Closet: -‬‬
‫‪Representation of Homosexuals and Lesbians in Modern‬‬
‫وج�سدية يف �سن الطّ فولة‪� ،‬أو �أ ّنها نابعة من �أ�سباب‬ ‫ّ‬
‫‪Arabic Literature», Journal of Arabic Literature, Vol. 39,‬‬ ‫�رشقية‬
‫ّ‬ ‫جمتمعات‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫واجتماعي‬
‫ّ‬ ‫ة‬‫واقت�صادي‬
‫ّ‬ ‫طبقية‬ ‫ّ‬
‫‪.pp 270-310‬‬
‫ * �‪Haddad, Mark (2005), «Interview with Hoda Bara‬‬ ‫املثلية بني‬ ‫ّ‬ ‫ومتزمتة‪ .‬كما � ّأن هذه العالقة‬ ‫ّ‬ ‫منغلقة‬
‫‪.kat», Barra magazine (Helem, Beirut), Issue 1‬‬
‫* ‪Taha, Ibrahim (2006), «Beware men, They Are All‬‬
‫د‪/‬قوي‪/‬قاهر‪/‬فاعل على‬ ‫ّ‬ ‫�سي‬
‫ت�صور �سيطرة ّ‬ ‫الطّ رفني ّ‬
‫‪Wild Animals- Arabic Feminist Literature: Challenge,‬‬ ‫عبد‪�/‬ضعيف‪/‬مقهور‪/‬خامل‪ .‬وقليلة هي الأعمال‬
‫‪Fight, and Repudiation», Al-Karmil: Studies in Arabic‬‬
‫‪Language and Literature, ed. by Shimon Ballas Haifa:‬‬ ‫اجلن�سية على �أ ّنها مو�ضوع‬ ‫ّ‬ ‫املثلية‬
‫ّ‬ ‫الّتي تتعامل مع‬
‫‪.University of Haifa, Vol. 27, pp 25-71‬‬
‫اجلن�سية‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬ ‫فطري يجعل من �صاحب‬ ‫ّ‬ ‫جيني‬ ‫ّ‬
‫املراجع الإلكرتون ّية‬ ‫حائرا بني جمتمع‬ ‫ً‬ ‫أنثى‪-‬‬ ‫�‬ ‫أم‬ ‫�‬ ‫كان‬ ‫ا‬ ‫ذكر‬
‫ً‬ ‫ة‪-‬‬ ‫املثلي‬
‫ّ‬
‫تداع �إىل تاريخ ال وجود‬
‫هويته‪ ،‬وبني نوازعه و�شهواته الّتي ت�ضغط‬ ‫ّ‬ ‫يرف�ض‬
‫دراج‪ ،‬في�صل‪« ،‬هدى بركات‪ :‬من تاريخ ُم ٍ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ف�صلية‪ ،‬ع ‪ ،36‬دخول املوقع‪:‬‬‫ّ‬ ‫ثقافية‬
‫ّ‬ ‫أدبية‬
‫له»‪ ،‬نزوى‪ -‬جملّة � ّ‬ ‫عليه ب�ش ّدة‪ ،‬فيعي�ش حالة من الالتوازن واخلوف‪.‬‬
‫‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=2884 2013/1/5‬‬ ‫من ناحية �أخرى ف� ّإن تناول الكاتبات للعالقة‬
‫عودية»‪،‬‬
‫ال�س ّ‬‫اجلن�سية يف ّ‬ ‫املثلية‬ ‫ت�صور واقع‬
‫‪ -‬املحارب‪� ،‬سعد‪« ،‬رواية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثلية الأنثوية ي�أتي يف م�ستويني‪ ،‬ال ّأول‪ّ � -‬إن هذه‬ ‫ّ‬
‫العربية نت‪ ،‬دخول املوقع‪http://www.alarabiya. 2013/1/2 :‬‬ ‫ّ‬
‫‪net/articles/2007/09/05/38709.html‬‬ ‫الرجال‬ ‫ّ‬ ‫جتاهل‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫�ض‬ ‫ومقاومة‬ ‫احتجاج‬ ‫هي‬ ‫العالقة‬
‫روائي جديد»‪ ،‬ج�سد ال ّثقافة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اجلن�سي يف عمل‬
‫ّ‬ ‫«ال�شذوذ‬
‫حممد‪� ،‬أ�سد‪ّ ،‬‬
‫‪ّ -‬‬ ‫كوري‪.‬‬
‫ّ ّ ّ‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫العربي‬ ‫و�إهمالهم لل ّن�ساء يف املجتمع‬
‫دخول املوقع‪http://aljsad.com/forum36/ 2013/1/2 :‬‬ ‫وتعوي�ضا عن‬ ‫وال ّثاين‪ :‬تعترب هذه العالقة بدي ًال‬
‫ً‬
‫‪thread71216‬‬
‫املحرم»‪،‬‬ ‫�سوية وتابوهات ال ّثالوث‬ ‫ان ال ّن�ساء يف العالقة‬ ‫الرجال‪ ،‬حيث ّ‬ ‫العالقة مع ّ‬
‫ّ‬ ‫«الرواية ال ّن ّ‬
‫ابل�سي‪� ،‬شاكر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ال ّن‬
‫إلكرتونية‪ ،‬دخول املوقع‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اليومية ال‬
‫ّ‬ ‫�أمان نق ًال عن جريدة �إيالف‬ ‫الفعال وال ّن�شِ ط‬ ‫ّ‬ ‫املثلية يبقني �صاحبات ال ّدور‬ ‫ّ‬
‫�‪http://www.amanjordan.org/a-news/wm‬‬ ‫‪2011/1/277‬‬ ‫الرجولة‬ ‫ّ‬ ‫اختالل‬ ‫على‬ ‫دن‬ ‫ؤكّ‬‫�‬ ‫وي‬ ‫جل‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫دور‬ ‫�ضن‬ ‫ويقو‬
‫ّ‬
‫‪view.php?ArtID=22727‬‬
‫يتعرى اجل�سد �أمام مر�آته‪:‬‬
‫جراء الهزائم‬ ‫ونية ّ‬ ‫وال�شعور بال ّد ّ‬ ‫العربية وخيبة �أملها ّ‬ ‫ّ‬
‫أكادميية بعنوان «حينما ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ف�صل من درا�سة �‬
‫�سائية‬
‫الرواية ال ّن ّ‬
‫أنثوية يف ّ‬
‫اجلن�سية ال ّ‬
‫ّ‬ ‫واملثلية‬
‫ّ‬ ‫أنثوي‬
‫توظيف اجل�سد ال ّ‬
‫يا�سي‪.‬‬
‫وال�س ّ‬ ‫االقت�صادي ّ‬‫ّ‬ ‫على امل�ستويني‬
‫العربية احلديثة» ‪.2013‬‬
‫ّ‬
‫‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=2884 -1‬‬ ‫املراجع العرب ّية‬
‫‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=2884 -2‬‬ ‫‪� -‬إبراهيم‪� ،‬صنع اهلل (‪ ،)1984‬بريوت بريوت‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار امل�ستقبل‬
‫‪http://aljsad.com/forum36/thread71216 -3‬‬ ‫العربي‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ّ‬
‫‪http://www.alarabiya.net/articles/2007/09/05/38709.html -4‬‬ ‫الر ّي�س‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ال�ضحك‪ ،‬لندن‪ :‬دار ريا�ض ّ‬
‫‪ -‬بركات‪ ،‬هدى (‪َ ،)1990‬ح َجر ّ‬
‫‪http://www.amanjordan.org/a-news/wmview.php?ArtID=22727 -5‬‬ ‫ال�ساقي‪.‬‬
‫‪ -‬حفني‪ ،‬زينب (‪ ،)2006‬مالمح‪ ،‬بريوت‪ :‬دار ّ‬
‫‪http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi? -6‬‬ ‫ال�س ّمان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غادة‬ ‫من�شورات‬ ‫ال�س ّمان‪ ،‬غادة (‪ ،)1975‬بريوت ‪ ،75‬بريوت‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪=seq=msg&board=85&msg=1176490221&page=48&pb‬‬ ‫ط‪.1‬‬
‫�سائية فيها‬
‫واملثلية ال ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫تاريخية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�شخ�صيات و�أحداث‬
‫ّ‬ ‫‪ -7‬ت�ستند �إىل‬ ‫عطية‪ ،‬ط‪.1‬‬‫‪� -‬سريي�س‪ ،‬نهاد (‪ ،)1998‬حالة �شغف‪ ،‬بريوت ودم�شق‪ :‬دار ّ‬
‫اجل�سدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العاطفي �أكرث من‬
‫ّ‬ ‫وا�ضحة يف اجلانب‬ ‫ال�شيخ‪ ،‬حنان (‪ ،)1988‬م�سك الغزال‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الآداب‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ّ -‬‬

‫‪106‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫االنحياز �إىل الأ�صل‬
‫يف �أعمال �شاكر نوري ال�سردية ‪ -‬رواية «�شامان» ‪ -‬منوذجا‬
‫\‬
‫د‪ .‬ر�شيد بنحدو‬

‫تثري قراءة «�شامان» للروائي العراقي املغرتب بدبي �شاكر نوري ‪� ،‬إح�سا�سا‬
‫بارتباك ملتب�س ال يفت أ� ينبهم من �صفحة �إىل �أخرى‪ ،‬خملفا يف النف�س مزيجا نادرا‬
‫من الإعجاب واملتعة‪ .‬فك�أن الرواية تخفي حتت ان�سيابية �صفحاتها انطباعا لذيذا‬
‫غري م�ستبني بالعدم والفقدان‪ :‬خرب ما ُيت�شوق �إىل �سماعه من غري ان يتم‪ ،‬حدث‬
‫ما ُينتظر وقوعه دون �أن يقع‪ ،‬حق ما مغت�صب ُيتاق �إىل ا�ستعادته بال جدوى‪،‬‬
‫�شيء ما �ضائع عبثا ُيبحث عنه‪ ! ‬على مثال ذلك « الزمن ال�ضائع» الذي ا�ستنفد‬
‫مار�سيل برو�ست عبقريته و�أفنى حياته بحثا عنه من غري �أن يعرث عليه‪ ،‬لأن‬
‫وجوده حمايث لأغوار ذاته الدميا�سية‪ .‬بل هو متاما االنطباع الذي يت�أكد فعال‬
‫بانغالق ن�ص الرواية على �صدى قول امل�ؤلف – ال�سارد‪ ،‬بعد �أن باء البحث عن‬
‫«تيقنت �أن �شامان موجود يف كل مكان (‪� )...‬شامان يعي�ش يف‬
‫ُ‬ ‫�شامان بالف�شل ‪:‬‬
‫كل واحد منا �أينما كان (‪� )...‬س�أظل �أبحث عنه يف �أعماق ذاتي» ( �ص ‪.)233‬‬

‫ا�شتغاالت �إبداعية تتعزز بقراءات وبعالقات‬


‫حقيقية ومتخيلة‬

‫‪107‬‬ ‫\ ناقد ومرتجم من املغرب‬


‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تنا�ص جعلت روايته تتخلق يف رحم رواية‬ ‫ّ‬ ‫عالقة‬ ‫كنت من الذين تروقهم الروايات التي تتفنن‬‫لذا‪ ،‬ف�إذا َ‬
‫مي�سور �صقر‪ .‬فوحدها ال�صدفة‪ ،‬ال �أكرث وال �أقل ‪ ،‬ما‬ ‫يف ت�صوير م�ساعي الإن�سان اخلائبة – لي�س هذا‬
‫جعل �إحداهما متت ب�صلة ثانوية واهية �إىل الأخرى‪.‬‬ ‫كنت �أي�ضا وخا�صة ممن ت�ستهويهم‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل و�إذا َ‬
‫التنا�ص؟ �ستكون هذه الكلمة ال�سحرية قد طر�أت‬ ‫تلك الروايات التي تت�أنق يف تباهيها بني ن�صو�ص‬
‫على ذهنك مثل بارقة �شاردة‪ .‬كيف الو�صاحب‬ ‫العامل ب�أنها لي�ست مبتدعة من عدم �أو على غري‬
‫« �شامان» مقتنع – كما �أنت متاما‪ ،‬ال عجب من‬ ‫مثال �سابق‪.‬‬
‫هذا‪ -! ‬ب�أن ن�صو�ص العامل تتداعى فيما بينها يف‬ ‫ويف تلبي�س الواقع باخليال ‪ ،‬ويف حتبيك الأحداث‬
‫توارد حر وتلقائي خارج �إرادة م�ؤلفيها؟ فهو ال‬ ‫املحكية على خلفية ديكور ا�ستثنائي يجاوز حد‬
‫يخفي والءه املطلق لأحد تعاليم جوليا كري�ستيفا‬ ‫العجب‪ ،‬ويف كهربة اللغة بهريمي�سية ال�شعر‪ ،‬ويف‬
‫و روالن بارث الأ�سا�سية‪ ،‬وهو �أن �أي ن�ص‪ ،‬مهما‬ ‫تعليق زمنها الداخلي بنامو�س العود الأبدي‬
‫�أوحى ب�أنه �أ�صيل وا ّدعى ب�أنه مبتدع من فراغ‪،‬‬ ‫للأ�شياء‪ ،‬و�سوى هذا وذاك من �أ�ساليب ال�رسد الرائق‬
‫لي�س �سوى كتابة جديدة لن�ص �آخر �سابق‪ .‬لكن ‪...‬‬ ‫ال�شائق‪ ،‬فال �شك يف �أنك واجد �ضالتك يف رواية‬
‫�أنى لك – �ستت�ساءل‪� -‬أن تعرف كنه هذا الن�ص الذي‬ ‫«�شامان»‪.‬‬
‫�سبق رواية « �شامان» يف ال�سل�سلة الزمنية‪! ‬‬ ‫بل و�أنك ذلك القارئ النموذجي الذي كان �شاكر‬
‫�إن ما يثري االندها�ش واالن�شداه حقا هو �أن الرواية‬ ‫نوري يراهن على وجوده وهو عاكف على توليف‬
‫وتدبر �أن ت�شهر هذا الن�ص الآخر‬‫تعمد ّ‬
‫اختارت ب�سبق ّ‬ ‫ف�صولها الت�سعة والع�رشين يف خلوة �صوفية‪! ‬‬
‫بكل جر�أة‪ ،‬معفيا �إياك من عناء تخمينه‪� .‬أال يغازل‬ ‫قارئ منوذجي �أنت �إذن‪ ! ‬وبهذه ال�صفة‪ُ ،‬يفرت�ض فيك‬
‫«�شامان» «موبيك ديك» يف ا�ستعرائية �سافرة نادرة؟‬ ‫�أن تكون لك كفاية مو�سوعية تخولك �أن ت�ستح�رض‪،‬‬
‫�أما وجه الندرة هذه‪ ،‬فهو �أن �شاكر نوري – خالفا‬ ‫يف �أثناء قراءتك للرواية‪ ،‬ما �سبق لك ان قر�أته‬
‫ملعظم الروائيني الذي يحر�صون على �إخفاء الأ�صول‬ ‫من روايات‪ .‬فال عجب‪ ،‬واحلال هذه‪ ،‬من �أن ذهنك‬
‫الن�صية التي ي�ستوحون منها رواياتهم‪ ،‬تفاديا‬ ‫�ستتبادر �إليه فورا رواية �سابقة ت�شرتك رواية �شاكر‬
‫لتهمة ال�رسقة وال�سلخ‪ -‬ال يتورع عن الإيحاء‪ ،‬بكل‬ ‫نوري معها يف الإحالة على نف�س احلدث الذي‪ ،‬على‬
‫زهو وخيالء‪ ،‬ب�أن روايته قد انكتبت يف كنف رواية‬ ‫رغم هام�شيته الن�سبية يف بناء احلبكة الدرامية‪،‬‬
‫الكاتب الأمريكي هريمان ميلفيل ( ‪)1891-1819‬‬ ‫ماكان ممكنا لدينامية ال�رسد �أن تتحرك بدونه‪.‬‬
‫ال�شهرية‪ ،)1851 ( » Moby Dick « :‬فهو يجهر‬ ‫يتعلق الأمر يف هذه الرواية ال�سابقة با�ضطرار عبدة‬
‫بانتمائها اجلنيالوجي �إىل �ساللة «موبي ديك»‪،‬‬ ‫زجنية �إىل الهجرة �إىل القاهرة مع �أ�رسة م�شغلها‪،‬‬
‫التي تنت�سب �إليها كذلك رواية «‪The Old man ‬‬ ‫وهو حاكم �إمارة ال�شارقة الذي انقلب �ضده ابن‬
‫‪«( » and the sea‬العجوز والبحر» ‪ )1952‬للكاتب‬ ‫عمه مب�ساعدة الإجنليز‪ .‬ولأنك قارئ منوذجي‪ ،‬ذو‬
‫الأمريكي �إرن�ست هيمنجواي (‪� .)1961- 1899‬إنها‬ ‫خربة باملنت الروائي العربي‪ ،‬ف�رسعان ما عرفت �أن‬
‫�ساللة الروايات التي ت�صور ف�شل مغامرات الإن�سان‬ ‫املق�صود بهذه الرواية لي�س �سوى «ريحانة» ملي�سون‬
‫يف م�صارعته للحيوان‪ ،‬على خلفية ف�ضاء طبيعي‬ ‫�صقر (من�شورات دار الهالل‪ ،‬القاهرة ‪ .)2003 ،‬ويف‬
‫موح�ش ال حدود لرحابته وق�سوته‪� ،‬أكان بحرا �أم‬ ‫رواية «�شامان» يتعلق الأمر كذلك با�ضطرار �أمري‬
‫غابة �أم �سماء �أم �صحراء �إلخ‪.‬‬ ‫�سعودي �إىل الهجرة �إىل باري�س بعد �أن قتل والده‬
‫تتعدد يف «�شامان» املواقع التي يومئ فيها امل�ؤلف‬ ‫يف �أعقاب انقالب دبره �ضده ابن اخته‪.‬‬
‫�إىل «موبي ديك»‪ .‬فهو مثال يعرتف‪ ،‬متخفيا وراء‬ ‫هي �إذن – قلت يف نف�سك – حم�ض عالقة �أنيكدوتية‬
‫ال�سارد‪ ،‬ب�أن رواية هريمان ميلفيل هي روايته‬ ‫هذه التي توجد بني الن�صني والتي قد التكون‬
‫الأثرية التي ت�ؤان�سه �أينما حل وارحتل ‪ )...( »:‬حامال‬ ‫خطرت ببال �شاكر نوري نف�سه‪ .‬فهي مثال لي�ست‬
‫‪108‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫« موبي ديك» ب�أنه اعرتاف �ضمني ا�ستباقي من‬ ‫معي كتابي املف�ضل‪ :‬رواية « موبي ديك» �أعيد‬
‫لدن �شاكر نوري بال�رسقة الأدبية يلتم�س من ورائه‬ ‫قراءتها مرات ومرات‪ ،‬مت�أمال املحيط الأطل�سي حيث‬
‫ظرف تخفيف عنه‪! ‬‬ ‫دارت �أحداث هذه الرواية العظيمة‪ .‬كلما قر�أتها‪،‬‬
‫وبطبيعة احلال كذلك‪ ،‬وحيث �إنك قارئ منوذجي‬ ‫اكت�شفت فيها �أ�شياء جديدة» ( �ص ‪)93‬‬
‫بامتياز‪ ،‬تخوله خربته الأدبية وذائقته اجلمالية‬ ‫وحني �س�أله الأمري �إيهاب ‪ »:‬يجب �أن نرتاح قليال‪.‬‬
‫�أن يتفطن �إىل ما يوم�أ له �إمياء يف ما بني ال�سطور‪،‬‬ ‫ماذا �ستفعل �أنت؟» �أجابه ‪� »:‬س�أقر�أ قليال‪.‬‬
‫ف�إن تلك الإ�شارات �إىل رواية ميلفيل – وهي‬ ‫‪ -‬ماذا �ستقر�أ؟ روايتك املف�ضلة؟‬
‫�إ�شارات متعددة تنب�ض بذكاء ودهاء ينمان عن‬ ‫‪� -‬أجل‪ .‬موبي ديك»( �ص ‪)200‬‬
‫وعي عميق مبفهوم التنا�ص وبرهاناته – �رسعان‬ ‫فما كان من الأمري‪ ،‬بعد �أن قر أ� عليه ال�سارد ف�صوال‬
‫ما �ست�ؤولها من حيث هي دعوة مبطنة لك لتمعن‬ ‫من الرواية‪� ،‬إال �أن �رشع يتقم�ص �شخ�صية �آخاب‬
‫نظرك فيها‪� .‬إنها بحق بنيات نداء م�شفرنة ت�ستحثك‬ ‫الذي خابت حماولته ا�صطياد موبي ديك‪ ،‬حوت‬
‫تنا�ص «‬
‫ّ‬ ‫على �أن تق ّدر باحلد�س والتخمني كيفية‬ ‫الأطل�سي‪ ،‬بحر الظلمات‪ ،‬مثلما ف�شل هو يف القب�ض‬
‫�شامان» مع « موبي ديك»‪ ،‬ال �سيما �أن الأمر هنا‬ ‫على �شامان‪� ،‬صقر ال�صحراء‪ – »:‬هل �أنا �آخاب �آخر‬
‫يتعلق ب�شكل خا�ص من التنا�ص‪ .‬ذلك �أن‬ ‫يطارد �شامان كما طارد هو موبي‬
‫�شاكر نوري‪ ،‬بقدر والئه لتعاليم جوليا‬ ‫�شاكر نوري‬ ‫ديك؟»‬
‫كري�ستيفا وروالن بارث كما تقدم‪،‬‬ ‫فريد عليه ال�سارد موا�سيا �إياه‪:‬‬
‫يجهر كذلك بوالئه للعامل الفيزيائي‬ ‫يجهر بانتماء‬ ‫«‪� -‬آخاب ‪ ،‬بطل رواية « موبي ديك»‪،‬‬
‫�أنطوان ال الفوازيي‪ ،‬الذي يعتقد جازما‬ ‫روايته‬ ‫يبدو �سجينا لفرديته وذاتيته‪ ،‬ين�صب‬
‫ب�أن « ال �شيء يخلق نف�سه بنف�سه من‬ ‫نف�سه ظهريا مطلقا للحقيقة‪.‬‬
‫عدم لينقطع فيما بعد �أثره‪ ،‬بل كل �شيء‬
‫اجلنيالوجي �إىل‬ ‫‪ -‬هل تعتقد �أنني �أ�شبه �آخاب؟‬
‫يتعر�ض للتبدل با�ستمرار»‪.‬‬ ‫�ساللة‬ ‫‪� -‬أنت ل�ست �سجينا لفرديتك وذاتيتك‪.‬‬
‫التبدل؟ هي ذي ال�شفرة ال�سحرية التي‬ ‫«موبي ديك»‬ ‫بينما �آخاب كان» ( �ص – �ص – ‪-204‬‬
‫يتعني عليك كذلك تفكيكها لتنفذ �إىل‬ ‫‪)205‬‬
‫« �شامان»‪ ! ‬ذلك �أن الرواية مل يخلقها‬ ‫وعندما كانا ينت�شيان من نبيذ‬
‫امل�ؤلف من فراغ ‪ ،‬بل على مثال رواية « موبي ديك»‬ ‫�سوفينيون‪ ،‬فهما ال ين�سيان ترنني ك�أ�سيهما يف‬
‫بالذات‪ ،‬التي خ�ضعت ( هل يف غفلة عنه؟) لتبدل‬ ‫�صحة رواية ميلفيل‪:‬‬
‫مكيافيلي يجعلها‪ ،‬بعد �أن تظاهرت بتنا�سلها من‬ ‫« انت�شى هنا وبد�أ ي�صيح‪:‬‬
‫�صلب رواية ميلفيل‪ ،‬تنزاح عنها‪ ،‬حتقيقا للتفرد‪،‬‬ ‫‪ -‬نخب �آخاب‪! ‬‬
‫بقدر ما تنحاز �إليها من غري تفرد‪ .‬فالتنا�ص هنا‬ ‫‪ -‬نخب موبي ديك‪� ( »! ‬ص ‪)219‬‬
‫�إذن موقوف التنفيذ �أو متقل�ص الأثر‪.‬‬ ‫وقد بلغ هيام امل�ؤلف – ال�سارد بهذه الرواية «‬
‫هكذا �إذن �ستعمد �إىل عقد ال مقارنة دقيقة بني‬ ‫العظيمة» حدا جعله يفكر يف كتابة رواية عن‬
‫الن�صني – جتنبا لأحكام قيمة قد ت�ضمر تف�ضيل‬ ‫�صديقه الأمري « �أجمع فيها �شامان مع موبي ديك‪،‬‬
‫�إحداهما على الأخر – بل جمرد مقاي�سة تقنية‬ ‫ال�صحراء بالبحر‪� ،‬آخاب بالأمري �إيهاب‪� ،‬إ�سماعيل‬
‫ظاهرية بينهما كفيلة ب�إبراز �صريورة ذلك التبدل‬ ‫بيو�سف البازيار» (�ص‪)220 .‬‬
‫الذي عطل �سريورة �رسيان التنا�ص يف الف�ضاء‬ ‫بطبيعة احلال‪� ،‬سيوجد بني القراء ذوي النوايا غري‬
‫الن�صي ال�شامل لرواية « �شامان»‪� .‬ستالحظ مثال �أن‬ ‫احل�سنة ‪� -‬أوالئك الذين يكتفون بت�صفح الكتب بحثا‬
‫�شاكر نوري اختار لروايته عنوانا على مقا�س عنوان‬ ‫عن ف�ضائح ما – من �سي�ؤول هذا الإعجاب برواية‬
‫‪109‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫من خالل مقاي�سة دقيقة نبيهة‪� ،‬سي�سرتعي انتباهك‬ ‫رواية ميلفيل‪ :‬كلمة واحدة تبدو يف كال احلالتني‬
‫�أن ميلفيل يهدي روايته �إىل مواطنه‪ ،‬الروائي‬ ‫بريئة يف واحديتها‪ ،‬واقفة على احلياد يف داللتها‪.‬‬
‫ناثاييل هاوثورن (‪ ،)1864-1804‬الذي بلغ‬ ‫لكنها يف واقع الأمر تنب�ض بالتوتر لكون احلبكة‬
‫�إعجابه به وبرواياته حد هذا البوح ب�أن « التعرف‬ ‫الدرامية لكل من الروايتني تنخزل فيها‪.‬‬
‫عليك �أقنعني‪� ،‬أكرث من التوراة‪ ،‬بخلود الإن�سان‬ ‫كما �ستكت�شف �أنهما ت�شرتكان يف الإيحاء بجو‬
‫�إىل الأبد من غري فناء» ‪ ،‬والذي كان يغبطه على «‬ ‫نف�سي �ضاغط خانق مفعم بالي�أ�س والإحباط لدى‬
‫�سال�سة �أ�سلوبه ورقته»‪� .‬أما نوري‪ ،‬فيهدي روايته �إىل‬ ‫بطليها‪ ،‬الأمري �إيهاب من جهة و�آخاب من جهة‬
‫« �صديقي املبحر �ضد التيار دائما‪� ،‬أبو بدر‪ ،‬الأمري‬ ‫�أخرى‪ .‬فالأول ف�شل يف العثور على �صقره املدعو‬
‫طالل �آل ر�شيد‪� ،‬أطال اهلل عمره‪� ،‬أهديه روايتي‪،‬‬ ‫�شامان‪ ،‬الذي �ضاع منه �ضمن ممتلكات �أخرى على‬
‫ا�ستوحيتها من ق�صة حياته �أثناء �صداقتنا املديدة‬ ‫�أثر االنقالب الذي �أطاح بعر�ش والده‪ ،‬والثاين ف�شل‬
‫يف باري�س»‪.‬‬ ‫يف القب�ض على حوت �رش�س �ضخم يدعى موبي ديك‬
‫وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن هوية املهدى �إليه‪ ،‬التي‬ ‫لكي ينتقم منه‪ ،‬لأنه ق�ضم �إحدى رجليه‪.‬‬
‫قد تبدو عدمية الأثر‪ ،‬تك�شف يف الواقع عن �أمر ال‬ ‫ثم �إن الروايتني تتوافقان يف كونهما معا م�ستودعني‬
‫يخلو من �أهمية‪ ،‬وهو �أن كال من ميلفيل ونوري‬ ‫مو�سوعيني لإفادات علمية‪ ،‬دقيقة و�ضافية‪ ،‬عن‬
‫يراهن يف روايته على غاية خمتلفة‪ :‬ف�إذا كان الأول‬ ‫كل من �صقور ال�صحراء وحيتان البحار‪ :‬هيئاتهاو‬
‫ي�سعى‪ ،‬ولو بغري �إرادة منه‪� ،‬إىل م�ضاهاة �أ�سلوب‬ ‫�أ�صنافها وطباعها و�أحوالها وعاداتها ونزواتها‪ ‬‬
‫مواطنه‪ ،‬ف�إن الثاين �سيبذل جهده من �أجل �أن تكون‬ ‫و�شيمها �إلخ‪ .‬وكذا امل�صطلحات اخلا�صة املتداولة‬
‫روايته �ضد التيار‪� ،‬أي �ضد �إغراء النيابة عن �صديقه‬ ‫بني �صياديها و�أدوات �صيدها ومواقيتها واحليل‬
‫يف كتابة �سريته الذاتية‪ « ،‬لأنني ل�ست ال�شخ�ص‬ ‫امل�ستعملة فيه �إلخ‪.‬‬
‫املنا�سب لإجناز هذه املهمة»‪� ( .‬ص ‪ )34‬فهو‬ ‫و�إذا �أ�ضفت �إىل هذا وذاك ترميز كل من الروايتني‬
‫يرب�أ بنف�سه عن ت�سخري موهبته الأدبية وقريحته‬ ‫�إىل حالة عدم الر�ضى الفادحة التي تدفع الإن�سان‬
‫الإبداعية ملجرد تدوين حياة �شخ�ص �آخر‪ ،‬حتى ولو‬ ‫�إىل البحث امل�ضني عما يحقق تعاليه على ذاته‬
‫كانت حياة �صديقه‪ « ! ‬لأنني بب�ساطة ل�ست مولعا‬ ‫وجتاوزه لو�ضعه الب�رشي من غري �أن ينجح م�سعاه‪،‬‬
‫بال�سري الذاتية بقدر ما �أنا مولع مبا ا�صنعه منها»‬ ‫ف�ستكون قد ا�ستنفدت �أوجه التماثل بينهما الن�سبي‬
‫( �ص ‪.)34‬‬ ‫غري املطلق‪ ،‬التي كانت‪ ،‬لو تعددت وامتدت ن�صيا‪،‬‬
‫ماذا ي�سعه �أن ي�صنع منها؟ �إذا �أجبت عن هذا ال�س�ؤال‬ ‫�ستجعل التنا�ص تاما غري منقو�ص‪.‬‬
‫امل�ضمر‪ ،‬ف�ستكون قد �أجبت عن هذين ال�س�ؤالني‪ :‬ما‬ ‫ثم ها �أنت �ستعاين كيف �أن رواية « �شامان» ‪ ،‬بعد‬
‫الذي يحدث حني يتم ر�صد واقع ما ( حياة �شخ�ص‬ ‫�أن �أوحت ب�أنها مدينة بوجودها‪ ،‬يف حدود ما‪،‬‬
‫مثال) باملقلوب؟ ما الذي يغري روائيا ما ( �شاكر‬ ‫لرواية « موبي ديك»‪� ،‬رسعان ما �ستعطيك انطباعا‬
‫نوري مثال) بتبئري اهتمامه ال على وجه حدث‬ ‫عك�سيا قويا ب�أنها ال تنفك ت�شري �إىل قطع كل �صلة‬
‫حقيقي ما (‪)son endroit‬بل على ظهره (‪son‬‬ ‫بهذه الرواية‪ ،‬ال �سيما �أن �أوجه التباين بينهما‬
‫‪)envers‬؟‬ ‫كثرية‪ .‬ويعزى هذا التباين �إىل �أن ن�ص « �شامان» ‪،‬‬
‫ت�ستهل « �شامان متخيلها احلكائي بقول ال�سارد –‬ ‫تبعا ال�سرتاتيجية ا�ستبدالية‪� ،‬شن على رواية « موبي‬
‫امل�ؤلف ‪ »:‬هكذا بد أ� كل �شيء من مقهى غويا بباري�س‬ ‫ديك» غارات حتويلية حتريفية خولته‪ ،‬من جانب‪،‬‬
‫لينتهي يف ال�صحراء»‪� ( .‬ص ‪ )21‬وتختمه بقوله‪»:‬‬ ‫�أن يبني متخيله احلكائي الذاتي مبعزل عنها‪،‬‬
‫�س�ألت النادل‪ ،‬ف�أجابني ب�أنه �سافر �إىل بريوت‬ ‫وجعلت هذه‪ ،‬من جانب �آخر ‪ ،‬ترتد �إىل الوراء‪ ،‬فاقدة‬
‫وترك باري�س»‪� ( .‬ص ‪ )231‬وبني املقهى الباري�سي‬ ‫كل �سلطة عليه‪.‬‬
‫‪110‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫واال�ستقرار يف فرن�سا طيلة �أكرث من خم�سني عاما‪.‬‬ ‫وبريوت‪ ،‬وقعت �أحداث ا�ستثنائية ال لأنها خارقة‬
‫ولأن « كل ما هو غري مكتوب ال وجود له» ( �ص ‪)45‬‬ ‫للعادي وامل�ألوف‪ ،‬بل لأن ال�سارد توالها بخياله‬
‫حتويرا لقول فريجينا وولف‪Nothing has « ‬‬ ‫و�أخ�ضعها ملفاتن التخريف والهل�سنة‪ .‬هو ذا متاما‬
‫‪happend as long as it has not been‬‬ ‫ما �صنعه من حياة �صديقه‪� ! ‬أما �إ�سماعيل‪ ،‬ال�سارد‬
‫‪ » written about‬فقد انتذر �شاكر نوري على‬ ‫يف « موبي ديك» فهو يروي ق�صة �آخاب كما هي‪� ،‬أي‬
‫نف�سه‪ ،‬وفاء بال�صداقة التي ربطته بالأمري‪� ،‬أن‬ ‫من غري �أفاويه اال�ستيهام وبدون توابل اال�ستخيال‪.‬‬
‫يدون ق�صته ال يف �شكل �سرية باهتة مملة‪ ،‬بل يف‬ ‫هكذا بد�أ كل �شيء �إذن‪ :‬ي�صل ال�سارد ذات يوم‬
‫هيئة رواية الكالروايات‪ :‬رواية مذهلة �آ�رسة يتلب�س‬ ‫�إىل مقهى غويا الراقي الذي اعتاد �أن يرتدد عليه‬
‫فيها الواقعي باملتخيل‪ ،‬وتزدوج فيها الأهواء‬ ‫منذ �أعوام خلت‪ .‬فج�أة تناهت �إىل �سمعه نقرات‬
‫الذاتية بالت�أمالت امليطافيزيقية‪ ،‬نا�سجا له �صورة‬ ‫حتدث �صوتا ن�شازا‪ « :‬لوال تلك النقرات ملا انتبهت‬
‫افرتا�ضية تك�شف عن لواعجه ورغباته ونزواته‬ ‫لهذا الرجل الوقور يف جل�سته وهندامه»‪�( .‬ص‬
‫احلميمة �أح�سن مما كانت �ستكون لو عر�ضها يف‬ ‫‪ )25‬كم يحلو يل �أن �أ�شبه هذه النقرات املتتالية‬
‫�صيغة �أوطوبيوغرافية خال�صة‪� ،‬صورة ال ميكن‬ ‫توهمها بيتهوفن يف‬ ‫بخبطات القدر املحتوم التي ّ‬
‫للقارئ �إال �أن يتواد ويتعاطف معه‪.‬‬ ‫احلركة الأوىل لل�سامفونية اخلام�سة‪ ! ‬ال �سيما �أن‬
‫كل �شيء بد�أ من مقهى غويا احلقيقي‪،‬‬ ‫انتباهه لذلك الرجل « امللغز املده�ش»‬
‫املوجود يف « نويي �سور�سني» �أحد �أرقى‬ ‫ميلفيل ونوري‬ ‫ومعا�رشته طيلة �سبعة �أعوام مل يكونا‬
‫�أحياء باري�س‪ ،‬واملطل على �شارع �شارل‬ ‫يراهنان‬ ‫من غري �أثر يف حياته‪ ،‬ما جعل قدره‬
‫ديغول‪ ،‬حيث كان الأمري يبوح للم�ؤلف‬ ‫ال�شخ�صي يرتبط طوال هذه املدة بقدر‬
‫بق�صته‪ ،‬لينتهي يف �صحراء م�ستوهمة‬ ‫على‬ ‫الرجل الذي يقول عنه ‪� »:‬شعرت ب�أن‬
‫اندلقت �صورتها يف متام بذخها الرائع‬ ‫غاية‬ ‫هذا الرجل من الأ�شخا�ص الذين يريدون‬
‫واملروع ال من الإدراك احل�سي لل�سارد‬ ‫جتاوز قدرهم»‪� ( .‬ص ‪ )34‬وهل كان‬
‫– امل�ؤلف‪ ،‬بل من خميلته املهتاجة‬
‫خمتلفة‬ ‫ميكن له �سوى �أن ي�ستجيب لقوة �سحره‬
‫بالعجب العجاب‪ »:‬هل كان هذا يتطلب‬ ‫وجاذبيته باكت�ساب مودته‪ « :‬ك�أننا‬
‫هيجان الذهن �أثناء احلكي؟»( �ص ‪)23‬‬ ‫خلقنا ل�صداقة لي�ست عابرة» ( �ص ‪ )34‬والت�ضامن‬
‫بلى‪ ،‬قلت يف نف�سك‪ ! ‬ولأنك تعرف �أن �شاكر نوري‬ ‫معه يف حمنته التي �رسعان ما باح �إليه بها بكل‬
‫حكّاء ماهر‪ ،‬و�أن له فوق هذا خربة عميقة بتقنيات‬ ‫عفوية بعد �أن وثق به وارتاح �إىل لطف م�ؤان�سته يف‬
‫احلكي ال�سينمائي ( فهو حا�صل على الدكتوراه يف‬ ‫�أوقات �إن�شاد ال�شعر واالنت�شاء وال�سلوان؟‬
‫ال�سينما وامل�رسح من جامعة ال�سوربون التي عمل‬ ‫هو رجل ال كالرجال‪ ! ‬حني كان �شاكر نوري‪ ،‬طوال‬
‫بها �أ�ستاذا لل�سينما العربية‪ ،)! ‬فقد خمنت �أنه وظف‬ ‫�سبعة وع�رشين عاما ( بني ‪1977‬و ‪ ،)2004‬يعي�ش‬
‫ب�إتقان تقنية الـ (‪ )Cross fading‬حتقيقا لهذا‬ ‫بوهيميته يف باري�س ( هل هي حم�ض �صدفة �أن‬
‫املرور االفرتا�ضي من ف�ضاء املقهى �إىل ف�ضاء‬ ‫يفيد لقبه – نوري – الغجري؟)‪ ،‬كان هو يداري‬
‫ال�صحراء‪� ،‬أي من عامل احلقيقة �إىل عامل اخليال‪.‬‬ ‫لوعة االغرتاب عن �إمارته ال�سليبة ب�أن يعترب نف�سه «‬
‫لكن لهذه التقنية يف رواية « �شامان» وجها �آخر ‪:‬‬ ‫مواطنا كونيا يف برج بابل»‪� ( .‬ص ‪ )36‬ا�سمه طالل‬
‫ف�إذا كان املق�صود بها يف الكتابة ال�سينمائية هو‬ ‫�آل ر�شيد‪� ،‬أمري �سعودي كان �سيتوىل حكم �إمارة‬
‫بث ال�شوا�ش و �إ�شاعة ال�ضبابية يف م�شهد معني‬ ‫جبل �شمر بحائل بعد والده حممد الطالل �آل ر�شيد‪،‬‬
‫يرتتب عنهما تدخل م�شهد �آخر يف الن�سيج احلكائي‬ ‫لوال �أن هذا الأخري قد مت اغتياله عقب انقالب غا�شم‬
‫يلغي نهائيا وبالتدرج امل�شهد ال�سابق‪ ،‬وذلك بغاية‬ ‫عليه‪ ،‬ما ا�ضطره �إىل الرحيل‪ ،‬بعد ت�شتت �أ�رسته‪،‬‬
‫‪111‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ذات معذبة ( ‪ )...‬يواجه �رشخا النهاية له يف خراب‬ ‫ا�ستعادة حدث ما�ض‪ ،‬ف�إنها تعني لدى �شاكر نوري‬
‫وانهيار و�ضياع» ( �ص – �ص ‪ )86-85‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫حلول ف�ضاء حمل ف�ضاء �آخر من غري �إق�صاء ذاك‬
‫« ظل مت�شبتا بحلمه ( ا�سرتجاع �إمارته) الذي ي�شبه‬ ‫لهذا ي�شكل نهائي‪ ،‬ال �سيما �أن ثمة عالقة كنائية‬
‫الأحالم يف الرتاجيديات اليونانية» ( �ص ‪)120‬‬ ‫قوية تربط بينهما من خالل تركيز كل منهما على‬
‫ماذا كانت النتيجة �ستكون لو �أن �شاكر نوري كتب‬ ‫�شخ�صية الأمري املحورية‪ .‬فالأمر �إذن يتعلق مبجرد‬
‫رواية يحكي فيها بالتف�صيل ظروف امل�ؤامرة على‬ ‫توقف م�ؤقت لل�رسد الكرونولوجي �رسعان ما‬
‫عر�ش والد الأمري واغتياله وت�شتت �شمل �أ�رسته‬ ‫�سي�ست�أنف جريانه املنطقي العادي‪ .‬واحلا�صل هو‬
‫وغربته يف باري�س وتعاطيه للخمر واجلن�س‬ ‫�أن الرواية‪ ،‬من مطلعها �إىل مقطعها ‪ ،‬تقوم ‪ ،‬بت�صميم‬
‫والقمار؟ ال �شك يف �أنها كانت �ستكون رواية فجة‬ ‫حمكم ومدرو�س بح�ساب‪ ،‬على مبد�إ هذا التناوب‬
‫مفتقرة �إىل الأ�صالة �أو ‪ ،‬يف �أح�سن الأحوال‪ ،‬رواية‬ ‫العجيب بني الف�ضاءين‪ -‬املقهى وال�صحراء – ما‬
‫ميلودرامية ت�ستجيب النتظارات ذوي االنفعاالت‬ ‫يغريني بتحوير قول امل�ؤلف – ال�سارد‪ »:‬هكذا بد أ�‬
‫‪ . bon marché‬كانت �ستكون رواية ذات‬ ‫كل �شيء من مقهى غويا لينتهي يف ال�صحراء»(‬
‫ن�سبة عالية من النرثية والنيوءة‪ ! ‬لهذا قال‪ ،‬بحق‬ ‫�ص ‪ )21‬ليتحول �إىل‪ « :‬بد أ� كل �شيء من مقهى غويا‬
‫و�صواب‪ ،‬على ل�سان �سارده �إنه مولع بـت�صنيع ال�سري‬ ‫لينتهي يف ال�صحراء ليعود �إىل املقهى ثم يرجع �إىل‬
‫الذاتية ب�إعدادها وت�شكيلها‪� ،‬أي �إخ�ضاعها بال�ضبط‬ ‫ال�صحراء لي�ست�أنف يف املقهى قبل �أن ي�ؤوب �إىل‬
‫لو�ساطات ثالث ت�سعفه وحدها على �إنتاج �أثر فني‬ ‫وهلم دورانا مدوخا يف حلقة �رسدية‬‫ّ‬ ‫ال�صحراء ‪»....‬‬
‫جميل ينتمي �إىل حقل الأدب‪ ،‬وهي التخييل �أ�ستعيد‬ ‫مغلقة‪! ‬‬
‫ق�صة الأمري و�أ�ضفي عليها من خيايل الكثري (�ص‬ ‫ولعلك تكون قد تفطنت �إىل �أن �شخ�ص الأمري –‬
‫‪ )220‬والهذيان‪« :‬وهل ميكن يل �أن �أتعامل مع‬ ‫بعد �أن تغري ا�سم �إمارته يف الرواية من « �إمارة‬
‫ق�صته بدون هذيان‪ ‬؟» ( �ص ‪ )220.‬والأ�سطرة‪»:‬‬ ‫جبل �شمر» �إىل « �إمارة جانني»‪ ،‬التي ال وجود لها‬
‫علي �أن �أ�ضفي عليها كل ما هو �أ�سطوري»‪.‬‬ ‫وجب ّ‬ ‫حقيقيا يف اخلرائط – قد ت�أثر هو الآخر بذلك العبور‬
‫(�ص ‪.)216‬‬ ‫اال�ستعاري الالنهائي بني الواقع واخليال‪ ،‬حيث عمد‬
‫هكذا �أمكن له �أن ين�صب ديكورا يكون على قد‬ ‫امل�ؤلف �إىل تخييله كذلك با�ستبدال ا�سمه احلقيقي‪،‬‬
‫البحث امللحمي الوهمي الذي �سينذر له الأمري‬ ‫وهو ( الأمري) طالل �آل ر�شيد‪ ،‬با�سم م�ستعار‪ ،‬وهو (‬
‫�إيهاب نف�سه ووقته وثروته‪ ،‬وكذا يف م�ستوى‬ ‫الأمري) �إيهاب‪ ،‬بل �أي�ضا وخا�صة �إىل �أ�سطرته من‬
‫النزوات والأهواء التي حتركه‪ .‬وهل هناك �أح�سن‬ ‫خالل �إ�ضفاء �أبعاد تراجيدية عليه‪ .‬فهو مثال ال هم‬
‫من ال�صحراء ف�ضاء الحتواء كل هذا لكي تكون‪ ،‬من‬ ‫له غري االنتقام ممن قتلوا والده ‪� :‬أمنيتي هي �أال‬
‫جانب �أول‪ ،‬مقابال تناظريا لف�ضاء املقهى ال�ضيق‪،‬‬ ‫حملني والدي م�س�ؤولية‬‫�أموت يف فرا�شي (‪ )...‬فقد ّ‬
‫ولتكون‪ ،‬من جانب ثان‪ ،‬دليال �آخر غري �أخري على‬ ‫ال تزال ت�ؤرقني ليل نهار‪ :‬ا�ستعادة �إمارة جانني من‬
‫انزياح رواية «�شامان» عن رواية ميلفيل من خالل‬ ‫�أيدي الغزاة‪� ( .‬ص ‪ )43‬كما �أنه عر�ضة با�ستمرار‬
‫ا�ستبدالها ف�ضاء �أوقيانو�س‪ ،‬حيث تدور �أحداث «‬ ‫النفعاالت ورغبات وم�شاعر قوية ال طاقة للإن�سان‬
‫موبي ديك»‪ ،‬بف�ضاء ال�صحراء‪ ،‬ولكي تكون‪last ،‬‬ ‫العادي بها‪ ،‬ما جعل ال�سارد ي�صفه بـ ئاملم�سو�س»‪:‬‬
‫تخول �شاكر نوري �أن‬‫‪ ،but not least‬ذريعة ّ‬ ‫تهز الآالم املربحة كيانه ( ‪ )...‬وعيناه تتوقدان‬
‫ين�ضم بجدارة �إىل كوكبة املبدعني املولعني بقراءة‬ ‫بوهج يحمل الغمو�ض والأمل واحللم‪ ،‬حتى راودين‬
‫ال�صحراء �شعريا وكتابتها روائيا؟ كوكبة ت�ضم‬ ‫ال�شك‪ ،‬و�أنا �أ�ستمع �إليه‪� ،‬إن هذا الرجل مم�سو�س‬
‫عربيا �إبراهيم الكوين وعبد الرحمن منيف و�صربي‬ ‫وبحاجة �إىل عالج �رسيري اختلطت يف ذهنه عوامل‬
‫مو�سى الخ‪ ،‬وت�ضم عامليا �أونغاريتي وكونراد‬ ‫الواقع واخليال ورغبات جهنمية �آتية من �أعماق‬
‫‪112‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫خطه البيا�ض؟» (�ص‪ ،)100 .‬بل �إىل درجة التذاوت‬ ‫ولوكليزيو وبوزاتي الخ‪.‬‬
‫معه‪« :‬متاهى مع �شامان» ( �ص‪ )139 .‬على نحو‬ ‫كل �شيء بد�أ من مقهى غويا حيث حكى الأمري لل�سارد‬
‫�أ�صبحت عالقته به «لي�ست عالقة بني �سيد وعبد‪،‬‬ ‫كيف �أن الثوار‪� ،‬صبيحة ذلك اليوم امل�ش�ؤوم‪ ،‬هجموا‬
‫بل بني �أمري ونبيل‪ ،‬ملك وملك‪� ،‬أحدهما على الأر�ض‬ ‫على الق�رص امللكي واقتحموا غرفة ال�صقارين‪،‬‬
‫والآخر يف ال�سماء» (�ص‪� )194 .‬إنها «عالقة �رسية‬ ‫مروعني ال�صقور ب�إطالق الر�صا�ص من بنادقهم‪،‬‬
‫بينهما‪ ،‬لغة خا�صة‪� ،‬إ�شارات و�ألغاز»‪�( .‬ص‪)77 .‬‬ ‫وقتلوا بع�ضا منها‪ ،‬فيما هرب البع�ض الآخر من‬
‫ورغبة من �شاكر نوري يف تقوية الأثر العاطفي‬ ‫والكوات «‪�( ،‬ص‪ )47 .‬وكان من بينها‬ ‫ّ‬ ‫النوافذ‬
‫لهذه العالقة الوثيقة بينهما‪ ،‬فقد ت�صور �أن كال‬ ‫�صقره الأثري �شامان‪ .‬وكل �شيء انتهى يف ال�صحراء‬
‫منهما ر�شم الآخر بعالمة يف ج�سمه هي مبثابة وعد‬ ‫التي قرر الأمري �أن ينظم فيها‪ ،‬حتى الرمق الأخري‪،‬‬
‫بالوفاء والإخال�ص وعدم خيانة �أحدهما للآخر‪،‬‬ ‫حمالت بحث «قد متتد �إىل �أيام و�أ�شهر ورمبا �سنني‪،‬‬
‫حيث �أن�شب �شامان خمالبه يف كف الأمري الي�رسى‪،‬‬ ‫ولي�س �أمامنا �إال �أن ن�ستعيد �شامان‪ .‬هذا الطري ال‬
‫الذي بادله هذه العالمة بو�شم عالمة حتت جناحه‬ ‫مثيل له»‪�( ،‬ص‪.)133.‬‬
‫الأي�رس‪« ،‬ال ميكن �أن تزيلها ال �أمطار �آ�سيا وال رياح‬ ‫وحتى يكون فعال ال مثيل له‪ ،‬فقد عمد امل�ؤلف ـ‬
‫اجلزيرة العربية كلها»‪�( .‬ص‪« )88 .‬ال‬ ‫ال�سارد �إىل منحه من ال�صفات ما يجعله‬
‫يزال اجلرح يف كفه الي�رسى بارزا كو�شم‬ ‫رواية �آ�سرة يتلب�س‬ ‫ناب�ضا باملفارقة‪ :‬فهو يزهو بني الطيور‬
‫ملت�صق بجلده‪� ،‬أثر ال ميحى (‪ )...‬كما‬ ‫فيها الواقعي‬ ‫التي من جن�سه بتعاليه عليها من خالل‬
‫ترك هو الآخر عالمته حتت جناحه‬ ‫باملتخيل‪،‬‬ ‫حيازته لقدرات وخ�صال تتجاوز نطاق‬
‫الأي�رس (‪ )...‬ك�أنه ي�ست�شعر �ضياعه» (�ص‪.‬‬ ‫الإدراك واخلربة‪ .‬فهو مثال «ذو م�شاعر‬
‫‪.)226-225‬‬ ‫وتزدوج فيها‬ ‫تعلو على الو�صف‪ ،‬ترتبط بلب العاطفة‬
‫هل حقا‪ ‬وقع كل هذا يف الواقع امللمو�س؟‬ ‫الأهواء الذاتية‬ ‫وجوهر الزمان والعنفوان»‪�( .‬ص‪.‬‬
‫�إن احلقيقة الوحيدة هي الأمري جال�سا يف‬ ‫‪ )102‬كما �أنه «عزيز النف�س والأنفة‪،‬‬
‫مقهى غويا يدخن غليونه‪ ،‬برفقة �شاكر‬ ‫بالت�أمالت‬ ‫�شديد الإح�سا�س» (�ص‪ ،)76 .‬ال ميكن‬
‫نوري من�صتا �إليه يروي فقدان �إمارته‬ ‫امليتافيزيقية‬ ‫للمرء �أن يطيل التحديق يف عينيه «لأن‬
‫وجلوءه �إىل فرن�سا‪ ،‬مغرتبا يف فنادقها‬ ‫ثبات نظراته يجعلك ترتع�ش �أمام كل‬
‫الفخمة وكازينوهاتها الباذخة و�شواطئها الزاهية‪،‬‬ ‫املعاين التي تنبثق من عينيه يف ال�صالبة واملكر‬
‫م�ستغرقا يف مونولوغ داخلي متوا�صل ميني نف�سه‬ ‫والدهاء»‪�( .‬ص‪ )82 .‬لكل هذا‪� ،‬أ�صبح «�أكرب �شغف يف‬
‫ب�أخذ ث�أر والده املغتال وا�ستعادة مملكته‪ .‬وماعدا‬ ‫حياة الأمري �إيهاب‪ ،‬ي�ساوي عنده كل مناجم الذهب‬
‫هذه احلقيقة‪ ،‬فهو من حم�ض ابتداع خميلة نوري‬ ‫و�أمالك الكون»‪�( .‬ص‪ )135 .‬بل �أ�صبح يرمز �إىل‬
‫�شاكر اخل�صيبة املهتاجة‪ .‬فال وجود ل�صقر ا�سمه‬ ‫�إمارة جانني ال�ضائعة نف�سها‪ ،‬بحيث يكون العثور‬
‫�شامان‪ .‬والأمري مل ينظم حمالت بحث حقيقية للعثور‬ ‫عليه ا�سرتجاعا لها‪�« :‬شامان رمز ململكته الوهمية‬
‫عليه‪ .‬وال�صقار يو�سف البازيار‪ ،‬قائد هذه احلمالت‬ ‫االفرتا�ضية التي �شيدها من الآمال ال�ضائعة»‪�( .‬ص‪.‬‬
‫الوهمية‪ ،‬وحمقق املخطوطات حول ال�صقور نور‬ ‫‪ )106‬فالأمري «لي�س مهوو�سا بال�صقور بل مهوو�سا‬
‫الدين‪ ،‬واخليام املن�سوجة من ال�شعر حيث يفرت�ش‬ ‫ب�إمارته التي يرمز لها ب�صقره �شامان» (�ص‪.‬‬
‫ال�صقارون الأر�ض وي�سندون ظهورهم �إىل و�سائد‬ ‫‪ .)108‬لهذا لي�س غريبا �أن يبلغ تعلقه به �إىل درجة‬
‫حمراء من الري�ش يدخنون التبغ ويحت�سون القهوة‬ ‫الو�سوا�س‪« :‬يا �إلهي‪ ! ‬كيف ميكن لرجل مثل الأمري‬
‫وي�أكلون الثمر الطازج ويلب�سون احلرير ويتبادلون‬ ‫�إيهاب �أن يتعلق ب�صقر تائه و�إمارة �ضائعة وهو‬
‫�أبيات ال�شعر مرجتلة ويعزفون الناي‪ ،‬والأمري حملقا‬ ‫يقطع �شوارع باري�س ببذلته الأنيقة و�شعر ر�أ�سه‬
‫‪113‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و�أعتقد �أن ما خول �شاكر نوري �إنتاج مثل هذا‬ ‫يف �أعايل ال�سماء على جناحي �شامان‪ ،‬وال�صحراء‬
‫اخلطاب الت�أملي حول �أهمية اخليال يف �إبداع‬ ‫نف�سها جماال لهذا البحث امل�ستوهم عن �شامان‬
‫الرواية هو �أنه جعل من نف�سه �شخ�صية روائية‪.‬‬ ‫�إلخ‪ ،‬كل هذا و�سواه مما تعج به ف�صول الرواية من‬
‫فهو �إذن �سارد للحكاية ب�ضمري املتكلم من داخل‬ ‫�أحداث و�أ�شخا�ص وطيور و�أماكن وكثبان رمل لي�س‬
‫احلكاية نف�سها (‪ .)intradiégétique‬لكن لي�س‬ ‫غري افرتاءات وافرتا�ضات تفتق عنها ذهن امل�ؤلف ـ‬
‫على منوال بع�ض الروائيني الذين يتدخلون مبنتهى‬ ‫ال�سارد الطافح بالر�ؤى والهل�سنات‪.‬‬
‫الطي�ش وال�سف�سفة والرعونة يف الن�سيج الن�صي‬ ‫لقد �أوحت له موهبته اال�ستخيالية �أن يتخذ ق�صة‬
‫لرواياتهم ليدلوا مثال ب�آرائهم حول مو�ضوع ما‬ ‫الأمري احلقيقية جمرد منطلق وذريعة لإرخاء‬
‫�أو ليربروا �سلوكات �شخ�صياتهم �أو ليبثوا مواعظ‬ ‫العنان للعب روائي باذخ نادر‪ ،‬باعتباره �رشطا‬
‫�أخالقية مبتذلة‪� ! ‬إنه بالأحرى �سارد متورط يف‬ ‫الزما وكافيا لكل �إبداع حق‪ .‬واملكر كل املكر هو‬
‫الأحداث من غري حياد وال مو�ضوعية‪� .‬ألي�س هو‬ ‫�أن �شاكر نوري ُيخ�ضع هذا اللعب الروائي لنوع من‬
‫ال�صديق احلميم للأمري �إيهاب الذي يناجيه يف‬ ‫الت�أمل اال�ستبطاين والفح�ص النقدي داخل ن�ص‬
‫حلظات ي�أ�سه وحزنه‪ ،‬وينادمه على ال�رشاب‪،‬‬ ‫«�شامان» متاما‪ ،‬وذلك على نحو يبدو معه وك�أنه‬
‫وي�أمتنه على �أ�رساره وهواج�سه و�أحالمه‪ ،‬وي�شاركه‬ ‫(�أي امل�ؤلف) ي�ستقيل من العامل احلكائي لروايته من‬
‫يف حمالت ال�صيد االفرتا�ضية بحثا عن �صقره؟‬ ‫�أجل �أن ينتج خطابا ميطا‪ -‬حكائيا ينظر �إىل هذا‬
‫�ألي�س هو القائل‪« :‬جذبني �إىل عامله و�أ�صبحت‬ ‫العامل وي�ؤوله من منظوره الذاتي‪.‬‬
‫حياتي حياته‪ ،‬عزاءه الأول والأخري»؟ (�ص‪.)121 .‬‬ ‫ففي ت�صوره �أن الوفاء بق�صة �صديقه الأمري ال‬
‫كل �شيء يف مقهى جويا غويا بد�أ �إذن‪ ،‬ويف ال�صحراء‬ ‫يتطلب �رسد �أحداثها كما وقعت حرفيا يف حكاية‬
‫انتهى على نغمات مل�ؤها اخليبة والأ�سى والإحباط‪.‬‬ ‫علي �أن‬
‫واحدة‪ ،‬لأن «حكاية واحدة ال تكفي‪ .‬لذا ّ‬
‫هكذا �شاء �شاكر نوري �أن تنغلق روايته على �صدى‬ ‫�أ�ضاعف احلكاية»‪�( .‬ص‪ )23 .‬وما هذه احلكاية‬
‫هذه احلقيقة‪� :‬شامان جمرد وهم‪« .‬ف�إىل متى نطارد‬ ‫امل�ضاعفة �سوى تلك التي انثالت من خميلة �شاكر‬
‫الوهم يا ترى؟ �أل�سنا غارقني يف وهم البحث عن‬ ‫نوري «امل�سحور بالكلمة واملكان» (�ص‪« )31 .‬يف‬
‫�شامان؟» (�ص‪�« )144.‬ألي�ست فكرة حمقاء �أن يفكر‬ ‫متاهة ذهنية متتزج فيها الأ�سطورة باخليال»‪،‬‬
‫الأمري با�ستعادة �شامان؟» انق�شع الوهم �إذن‪ ،‬وال مفر‬ ‫(�ص‪ )9.‬لأن «حياة الأمري ال ميكن ا�ستعادتها �إال يف‬
‫من مواجهة الواقع‪« :‬هل ي�سعدين �أن �أعود �أدراجي‬ ‫املخيلة»‪�( .‬ص‪ )96 .‬وهل كان بو�سعه غري �أن يذعن‬
‫�إىل الواقع الفظ‪ ،‬القا�سي‪ ،‬غري القابل للتحمل؟» (�ص‪.‬‬ ‫لفتنة اخليال؟ «فال �أحد ميتلك اجلر�أة لأن يقف �ضد‬
‫‪ )210‬وهل �أمامه خيار �آخر غري هذا؟ لذلك «وبعد‬ ‫اخليال‪ .‬حتى متلبدو الأحا�سي�س ال ميكنهم الوقوف‬
‫مرور كل هذه ال�سنوات‪ ،‬نفد �صربي‪ .‬وكما انخرطت‬ ‫�أمامه» (�ص‪ )127 .‬ال�سيما �أنه يجعل «احلكاية‬
‫يف عامل الأمري‪� ،‬أردت اخلروج منه» (�ص ـ �ص‬ ‫تتفرع �إىل حكايات‪ ،‬والق�صة �إىل ق�ص�ص‪ ،‬والرواية‬
‫‪ .)229-228‬وقد خرج منه فعال مثلما قد يكون‬ ‫�إىل روايات‪ ،‬ال �أحد ميكنه الإم�ساك بخيوطها �أو‬
‫خرج الأمري نف�سه من عامله هذا‪ ،‬هاجرا باري�س نحو‬ ‫ال�سيطرة عليها»‪�( .‬ص‪� )169 .‬إنه كاحلمى «التي‬
‫بريوت‪ ،‬حيث يقيم �أهله مغرتبني‪.‬‬ ‫حتيل احلكايات �إىل هلو�سة‪ ،‬واملنطق �إىل هذيان»‬
‫هما �إذن ف�ضاءان يتناوبان على طوبوغرافية‬ ‫(�ص‪ )188 .‬والتي جتعل «كل حكاية جتر حكاية‬
‫الرواية‪ :‬املقهى حيزا واقعيا يرتدد عليه امل�ؤلف ـ‬ ‫�أخرى‪ ،‬وهكذا» ‪� ( . .‬ص‪ )213 .‬فاخليال �إذن « نعمة‬
‫ال�سارد لي�ستودعه الأمري �إيهاب ق�صته‪ ،‬وال�صحراء‬ ‫روحية النظري لها» ( �ص ‪� )228.‬أ�سعفته على «�إعادة‬
‫حيزا افرتا�ضيا حيث تخيل حمالت مطاردة ال�صقارة‬ ‫بناء ق�صة الأمري من الأحالم‪ ،‬ومل ال من الأوهام»‬
‫ل�شامان اخلائبة‪ .‬وهما �أي�ضا حركتان تداولهما‬ ‫(�ص‪.)215 .‬‬
‫‪114‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬

‫والطيف يف حرف‪! ‬‬ ‫امل�ؤلف ـ ال�سارد‪ ،‬مرة ها هو يف املقهى ف�ضاء‬


‫لرن مثال كيف �أن ال�سارد ـ وهو الذي خرب «�أج�ساد‬ ‫حمدودا حم�صورا يوحى باالختناق‪ ،‬ومرة ها هو يف‬
‫الن�ساء العارية على رمل ال�شاطئ ليت�شبعن بال�شم�س»‬ ‫ال�صحراء ف�ضاء ال حد لرحابته‪ .‬لكنهما �أي�ضا لغتان‬
‫(�ص‪ )92 .‬ـ يتخيل كثبان الرمل‪ ،‬ذات الأ�شكال‬ ‫ال تنفكان تتبادالن املواقع تنا�سبا مع خ�صو�صية‬
‫املثرية للغرائز‪ ،‬يف هيئة «نهود ال�صحراء العذراء»‬ ‫كل ف�ضاء وكل حركة‪ :‬تارة لغة تقريرية تتكفل ب�رسد‬
‫(�ص‪ ،)174 :‬وي�شببه ال�صحراء نف�سها بـ«عباءة‬ ‫ق�صة الأمري كما وقعت‪ ،‬وتارة لغة انفعالية تتوىل‬
‫الأنبياء» (�ص‪� .)89 .‬أما الرياح فقد «بثت الرعب‬ ‫هذه الق�صة كما مل تقع‪� ،‬أو بالأحرى كما وقعت‬
‫يف كل حبة رمل ونفختها حتى حولتها �إىل متاهة‪،‬‬ ‫يف الوهم واخليال‪ .‬و�شتان بني اللغتني‪ ! ‬وت�ستحوذ‬
‫غور‪� ،‬ساعة رملية‪ ،‬جر�س‪� ،‬أغنية‪� ،‬صدى‪�( .‬ص‪)172 .‬‬ ‫الثانية‪� ،‬أي لغة الوجدان‪ ،‬على �أكرب م�ساحة يف ن�ص‬
‫كما �أنه يرهف �سمعه اللتقاط «�أ�صوات ال�صمت»‬ ‫الرواية‪� ،‬أي ما يزيد على �أكرث من ثلثيه‪! ‬‬
‫املطبق‪�( .‬ص‪ )17 .‬وحني ي�شتد عليه احلر وتت�شو�ش‬ ‫كم مرة �أمكن لك �أن ت�ضبط �شاكر نوري متلب�سا بغواية‬
‫عليه املرئيات‪ ،‬ف�إن «الب�رش يظهرون‬ ‫‪ ،‬لغة ال�شعر‪� ،‬أ�سمى اللغات م�ستقطرا من‬
‫له مثل متاثيل �شمعية تتحرك»‪�( .‬ص‪.‬‬ ‫�أوحت له‬ ‫حبيبات الرمل �صورا جذابة وا�ستعارات‬
‫‪ )19‬وحيث �إن �شامان يتخيل له راق�صا‬ ‫موهبته‬ ‫فاتنة‪ ،‬هي وحدها الكفيلة باحتواء‬
‫�شاديا يف كل مكان‪.‬‬ ‫اال�ستخيالية‬ ‫ال�صحراء جماال باهرا وهيبة مروعة‬
‫ف�إن «�أن�شودته ـ وهو ي�شق جبال الثلج‬ ‫ووح�شة م�ؤن�سة و�صمتا ناطقا‪ ! ‬بالفعل‪،‬‬
‫بجناحيه وي�شكل بحركاتهما الكثبان‬ ‫اتخاذ ق�صة‬ ‫يحلو له بني فينة و�أخرى �أن ير�صع‬
‫الرملية التي مل تتوقف عن �أخذ الأ�شكال‬ ‫الأمري احلقيقية‬ ‫ج�سدانية الن�ص ب�شذرات متوترة تنب�ض‬
‫تلو الأخرى ـ تتناهى �إىل �سمعه من بطن‬ ‫بهريمي�سية ال�شعر وغنائية الهذيان‬
‫الوادي مثل طائر ر�سول يتبارى مع‬ ‫وهذا جمرد منطلق‬ ‫وحميمية الوجدان‪� ،‬شذرات معب�أة بقوة‬
‫النجوم‪ ،‬ي�سبقها‪ ،‬يجمع كل �أ�ضوائها‬ ‫وذريعة لإرخاء‬ ‫ا�ستكناهية ت�سعفه على الغو�ص �إىل‬
‫لينري كتل الظالم التي تلف ال�صحراء‬ ‫�أعماق الطبيعة ال�صحراوية الدميا�سية‬
‫التي تربق وتنذر مبا هو �آت» (�ص‪.‬‬
‫العنان للعب‬
‫بحثا عن جواهرها‪ ،‬وبقوة ا�ستكهانية‬
‫‪� )127‬إلخ‬ ‫روائي باذخ ونادر‬ ‫ت�ؤهله للتنب�ؤ ب�أ�رسار ظواهرها و�أحوالها‪.‬‬
‫�ستنوه مبهارة �شاكر نوري يف‬‫ّ‬ ‫ولعلك‬ ‫كم يلذ لك ـ لو كان الأمر ممكنا ـ �أن‬
‫تدبري هذه الرتكيبة املانوية العجيبة للرواية‪ ،‬التي‬ ‫ت�ست�شهد مبقاطع كثرية من «�شامان تقول حو�شية‬
‫تعار�ضت فيها املقهى مع ال�صحراء‪ ،‬وتواجد فيها‬ ‫ال�صحراء �أو خداع ال�رساب �أو فتنة الواحات �أو بهاء‬
‫ال�سارد بني «هنا» املقهى و «هناك» ال�صحراء‪،‬‬ ‫رق�صات ال�صقور‬
‫وتقابلت فيها لغة النرث مع لغة ال�شعر‪ .‬علما ب�أن‬ ‫يف ال�سماء �أو �سيمفونية الرياح �أو دوخة الزوابع‬
‫رهانه من هذه الرتكيبة كان هو �أن يجعلك‪� ،‬أنت‬ ‫�أو لغز اخلطوط والأ�شكال التي يخلفها هيجان‬
‫القارئ النموذجي‪ ،‬حت�س �إح�سا�سا عميقا باخلفقان‬ ‫الرمل على ج�سد الكثبان �إلخ‪ ! ‬كل هذا يف وجازة‬
‫الدرامي للرواية كما بكثافتها التخييلية‪ ،‬و�أي�ضا‬ ‫رهيفة ناعمة تروم تكثيف عامل ال�صحراء يف رواية‪،‬‬
‫وخا�صة ببالغة ال�صمت‪.‬‬ ‫والرواية يف ف�صل‪ ،‬والف�صل يف م�شهد‪ ،‬وامل�شهد يف‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫�شذرة‪ ،‬وال�شذرة يف ا�ستعارة‪ ،‬واال�ستعارة يف طيف‪،‬‬

‫‪115‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫امللف‬
‫بول �شاوول‪..‬‬
‫يهز جرة اللغة فت�سري الرع�شة يف الن�ص‬

‫بول �شاوول‪..‬‬

‫\ امللـف مـــن �إعــــداد‪ :‬عبـــــــــده وازن‬


‫\ امل�شاركون يف امللف‪ :‬عقل العويـــط‪-‬عبــــده وازن‪ -‬مفيــد جنـــم‬
‫عبيدو با�شا ‪ -‬جمانـة حداد‪� -‬سيـف الرحـبي‬ ‫ ‬
‫‪ -‬هـــــدى حمــــد‪ -‬يحــــــيى الناعـــــبي‬ ‫ ‬

‫‪116‬‬
‫�صاح ُب لغته ال�شعرية‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ي�شق الطرق الوعرة �أمام الق�صيدة العربية‬
‫\‬
‫عقل العويط‬

‫منذ ديوانه الأول‪ ،‬بل قبل ديوانه الأول‪ ،‬مذ كان يف اجلامعة‪ ،‬ومما ن�رشه من على‬
‫�صفحات «امللحق» الأدبي جلريدة «النهار» البريوتية‪ ،‬كان بول �شاوول يكتب‬
‫خطواته كمن ال يريد �أن يتطلع �إىل وراء‪ .‬ما�شي ًا ك�أنه مي�شي يف �أر�ض بكر‪ .‬لكن‬
‫عيونه التي يف �أعماق ر�أ�سه‪ ،‬كانت ترى كل �شيء‪ ،‬وتكتنز كل �شيء‪ ،‬وحتفظ كل‬
‫�شيء‪ ،‬وتختزن كل �شيء‪ ،‬م�سرت�شد ًة‪ ،‬ماخ�ضةً‪ ،‬ماحية‪ ،‬ومولِّدة‪.‬‬
‫من ذاته الأدبية �أوالً‪ ،‬ومن الأدب اللبناين والعربي‪ ،‬قدميه واحلديث‪� ،‬إىل الأدب‬
‫الفرن�سي خ�صو�صاً‪ ،‬فالآداب العاملية املرتجمة‪ ،‬قدميها وجديدها‪ ،‬كان ال�شاعر‬
‫يجول ويتفقد‪ ،‬ال مي ّل وال يرتوي‪ ،‬بل يعط�ش وي�ستزيد‪ ،‬قارئاً‪ ،‬متفح�صاً‪ ،‬م�ستلهماً‪،‬‬
‫منواً �شقياً‪ ،‬ممتلئ ًا من‬
‫مرت�شفاً‪ ،‬ماخ�ضاً‪ ،‬ها�ضماً‪ ،‬حتى ليبدو يف هذا كله‪ ،‬ينمو ّ‬
‫تاريخه‪ ،‬ومن تواريخ غريه‪ ،‬عائ�ش ًا حا�رضه‪ ،‬وحا�رض غريه‪ ،‬خمترباً الكيمياء يف‬
‫توازناتها وعجائبها املتخالطة‪ ،‬ناز ًال �إىل جحيمها‪ ،‬حمرتقاً‪ّ ،‬‬
‫جممراً‪ ،‬متطلع ًا �إىل‬
‫م�ستقبله‪ ،‬وم�ستقبل لغته‪� ،‬آخذاً يف م�سريته ذكاء الدروب التي اجتيزت‪ ،‬وخرباتها‪،‬‬

‫ثمة جتارب وخمطوطات مل يك�شف عنها‬


‫النقاب بعد‬

‫‪117‬‬ ‫\ �شاعر وكاتب من لبنان‬


‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املتنافرة‪ .‬هذه الثقافات بقدر ما تغ ّذيه‪ ،‬ت�ضعه �أمام‬ ‫وتراكماتها‪ ،‬و�أنواعها‪ ،‬ليبد�أ ال من ال �شيء‪،‬‬
‫التحدي الكبري‪ :‬كيف ميكن اخلروج بعد التمرغ يف‬ ‫مكان �آخ��ر‪ ،‬هو ح�صيلة ك ّل �شيء‪،‬‬‫ٍ‬ ‫بل من‬
‫هذه الثقافات جديداً‪ ،‬بهويتي‪ ،‬ولغتي‪ ،‬و�صنيعي؟‬ ‫لكنه �شيء �آخ��ر‪ ،‬هو ذات��ه‪ ،‬و�إن���ا�ؤه‪ .‬وهو‬
‫يف غ��م��رة ه��ذه ال��ت��ح��دي ال��ك��ب�ير‪ ،‬ميكن مو�ضعة‬
‫مو�ضعه يف اللغة ال�شعرية‪.‬‬
‫التجربة ال�شعرية الكليانية لبول �شاوول‪ .‬خارج هذا‬
‫هذا ال�شيء الآخر‪ ،‬الذي هو ذاته‪ ،‬يف انفتاحها على‬
‫الفهم‪ ،‬من املجحف الدخول عليه من ثغرة جانبية‪،‬‬
‫الكلياين املتعدد‪ ،‬ي�رسي �رسيان ًا يف اللغة التي‬
‫وامل��راوح��ة فيها‪ .‬كل دخ��ول جزئي يبقي القارئ‬
‫املتنوع‬
‫ّ‬ ‫يتعاطاها‪ ،‬حتى لي�صري �إياها‪ ،‬بالتعدد‬
‫الداخل يف اجلزئي من �شعرية ���ش��اوول‪ ،‬ويجعله‬
‫الذي يكتنفه واح ٌد ين�سج اخليوط‪ ،‬ويولّدها‪ ،‬بع�ضها‬
‫يطي�ش عن امل�سرية ال�شعرية املتكاملة‪.‬‬
‫من بع�ض‪ ،‬ال لتت�شابه بل لتكون �آخ��ر‪ ،‬دوم �اً‪ ،‬من‬
‫�أذك��ر �أن بداياته الأوىل‪ ،‬كانت تت�أ�س�س على هذه‬
‫املفهومات املتالقية �أنهرها‪ ،‬و�أمواجها‪ ،‬وغيومها‪،‬‬ ‫دون �أن تفقد ال�صلة مبرجعيتها الينبوعية الأمومية‪،‬‬
‫وتراباتها‪ ،‬تالقي ًا ال يكتفي‪ ،‬بل يتطلع‪ .‬كان يكفيه‬ ‫وهي اللغة‪ ،‬التي ت�سيل‪ ،‬فتتدفق حيناً‪ ،‬وحين ًا تتفجر‪،‬‬
‫�أن يتطلع �إىل �أكرث‪ ،‬كي يعرف �أن عليه �أن يكون �أكرث‪.‬‬ ‫وحين ًا بت�ؤدة‪ ،‬وحين ًا تتقطّ ر‪ ،‬وحين ًا ت�سرت�سل‪ ،‬وحين ًا‬
‫و�آخر‪ .‬هكذا‪ ،‬راح ينعم وميعن‪ ،‬من�رصف ًا �إىل غايته‬ ‫مقطوفة قطفاً‪ ،‬وحين ًا تراثية‪ ،‬وحين ًا ما بعد حديثة‪،‬‬
‫ال�شعرية‪ ،‬وهي باللغة‪ ،‬وفيها‪� ،‬ش�أن املهمومني‬ ‫وحين ًا ماجنة‪ ،‬مهلو�سة‪ ،‬وحين ًا م�شغولة باحرتاف‬
‫ب�أفعال اخللق‪ ،‬كاملقلعجي حيناً‪ ،‬كاجلوهرجي حين ًا‬ ‫ال�صابرين على نزع ال�شوائب نزع ًا د�ؤوباً‪ ،‬ال ُيرى‬
‫�آخر‪ ،‬كالأم الر�ؤوم يف �أكرث من مو�ضع‪ ،‬وكالع�شيق‪.‬‬ ‫باالنتباه فح�سب بل باخلدر �أي�ضاً‪.‬‬
‫ه��ذه م�شقة كبرية ال ت�ؤخذ م�ساراتها باالنفعال‬ ‫ي�شق الدروب‪ ،‬لكنه‬‫منذ البدايات‪ ،‬راح بول �شاوول ّ‬
‫الهينّ ‪ ،‬بل بال�سهر الد�ؤوب على اللغة‪ ،‬ومراودتها‪،‬‬ ‫ال يبد أ� من عدم‪ .‬فهو مل يكن يريد ذلك الزعم اللغوي‬
‫بالكيمياء دائماً‪ ،‬باللطف املتب�رص حيناً‪ ،‬بالذكاء‬ ‫العدمي الالجمدي‪ ،‬ومل يكن يبتغيه‪ ،‬بل يريد كل‬
‫اجلواين املك ّثف �أحياناً‪ ،‬وبالعنف ‪ -‬مِل ال! – �أحيان ًا‬ ‫�رس‬
‫�شيء‪� ،‬ش�أنه يف هذا �ش�أن العارفني املختربين ّ‬
‫�أخرى‪ .‬بل �أي�ض ًا بال�سهر الد�ؤوب يف دواخل اللغة‪،‬‬ ‫اللغات والثقافات واحل�ضارات‪ .‬ه ��ؤالء عارفون‬
‫بالو�سائل والو�سائط املذكورة كلها‪ ،‬مع ًا ويف �آن‬ ‫متنبهون القطون للإ�شارات‪ ،‬ال يثنيهم �شيء وال‬
‫واحد‪ ،‬متعاطي ًا �إياها‪ ،‬كمن يتعاطى تب�رصاً لي�س‬ ‫ويتهجنوا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ينكبون لينهلوا ويعرفوا‪،‬‬ ‫يخافون �شيئاً‪ّ .‬‬
‫من ال�سهل النفاذ �إىل �أعماقه‪� ،‬إ ّال بالدربة والعقل‬ ‫ويتخالطوا‪ ،‬ويولدوا من جديد‪ .‬لكن الواحد من ه�ؤالء‪،‬‬
‫وال�صرب على �إعمال املفاتيح يف الأبواب والأج�سام‬ ‫يتعرف �إىل ما�ضيه الأدبي‪،‬‬ ‫وهو هنا بول �شاوول‪� ،‬إذ ّ‬
‫والنوافذ‪ ،‬ليكون الدخول من امل�سارب ومن الب�ؤر‪،‬‬ ‫وما�ضي غريه املتعدد‪ ،‬ويختربهما‪ ،‬وينهل منهما‪،‬‬
‫ومما ال ميكن �إب�صاره باحلوا�س‪ ،‬ومبا حتت ال�سطح‪،‬‬ ‫ويتهجن بهما‪ ،‬يعرف يف الآن‬ ‫ّ‬ ‫ويتخالط معهما‪،‬‬
‫مما ي�رسي يف �رشايني اللغة‪ ،‬وم�سامها‪.‬‬ ‫نف�سه‪ ،‬كيف ينحرف عنهما‪ ،‬لي�صنع �شيئ ًا خمتلفاً‪.‬‬
‫يعتقد القارئ غري املتفح�ص والعليم‪� ،‬أو يرتاءى له‪،‬‬ ‫هذا االختالف هو مكانته‪ ،‬وهو لغته‪ ،‬وهو �صنيعه‪،‬‬
‫�أن ال�شاعر و�صل‪ ،‬لكن هيهات‪ ،‬فهو ال يرمي �أ�رشعته‬ ‫و�إن مرتاكماً‪ .‬لأنه عندما يفوح‪ ،‬يفوح متفتح ًا من‬
‫على �شاطئ‪ ،‬و�إن طلب اال�سرتاحة‪ .‬حتى ليعتقد هذا‬ ‫تراكماته‪ ،‬لكن كما تفوح وردة خمتلفة‪ ،‬فريدة‪ ،‬يف‬
‫القارئ �أن ال�شاعر يقلع �أحياناً‪ ،‬موهم ًا �إياه بن�صب‬ ‫اخل�ضم الكبري‪.‬‬
‫ّ‬
‫اخل�ضم ف�إنه ال ير�ضخ‬
‫ّ‬ ‫يهب �إىل‬
‫الأ�رشعة‪ ،‬لكنه �إذ ّ‬ ‫هذا �أح��د �أ��سرار بول �شاوول‪ .‬فهو �سليل ثقافاته‬
‫لنو‪ .‬يف احلالني يتعاطى املقاربة ال�شعرية تعاطي ًا‬ ‫ّ‬ ‫الغزيرة‪ ،‬الغفرية‪ ،‬املختلفة‪ ،‬ال�سحيقة‪ ،‬املت�آلفة‪،‬‬
‫‪118‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫مطرياً‪،‬‬
‫لكن ّ‬ ‫املدر�سة اللبنانية و�آفاقها امل�ؤن�سنة‪ْ ،‬‬ ‫جريئ ًا متجرئ ًا �صبوراً وئيداً‪ .‬ذلك‪ ،‬يف احلالني‪ ،‬ال‬
‫يل �أكيد‪ ،‬من غري �أن ُي�ستدرج‬ ‫طموح جما ّ‬
‫ٍ‬ ‫م�ش ّذباً‪ ،‬على‬ ‫تهور وال عن بطء‪ .‬وال عن ارتخاء بل عن‬ ‫ينم عن ّ‬ ‫ّ‬
‫فخاخ جمانية ترتطم بالعدم لرتت ّد وتطي�ش يف‬ ‫ٍ‬ ‫�إىل‬ ‫�إ�سال�س‪ .‬وال عن كبت بل عن ان�شداد ع�صب‪ .‬وال عن‬
‫الالجدوى‪ .‬على هذا‪ ،‬هو يف بدايته املن�شورة كتاباً‪،‬‬ ‫تنغيم بل عن �إرهاف‪ .‬بل عن �أ�سلو َبني يف الت�سديد‪،‬‬
‫اجلم‪ ،‬من�ش ٌد ال‬
‫خمتطٌّ طريق ًا يعرف �أنه مثق ٌل بالإرث ّ‬ ‫حتى ليمار�س �شعريته ممار�س ًة من املطارح كلها‪،‬‬
‫على طريقة املن�شدين‪ ،‬بل على طريقته اخلا�صة التي‬ ‫ومن االختبارات كلها‪.‬‬
‫�ستتخذ يف ما بعد هوي ًة �شخ�صانية ال ي�صعب على‬ ‫وعليه‪ ،‬من �ش�أن ه��ذه ال��ق��راءة �أن تقرتح �إمكان‬
‫ومكوناتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القارئ �أن يتبينّ مالحمها وخ�صائ�صها‬ ‫توقف القارئ املتفح�ص عند ثالثة مداخل‪ ،‬وال ب ّد‬
‫يف الوجه الثاين من الن�شيد‪ ،‬ندخل مع ال�شاعر على‬ ‫قراء �آخرون مداخل �إ�ضافية لولوج عامل‬ ‫�أن يجرتح ّ‬
‫البعد الرتاجيدي الفجائعي‪ ،‬يف ما ميكن اعتباره‬ ‫بول �شاوول اللغوي ال�شعري‪ :‬الن�شيد العايل ب�ش ّقيه‬
‫عم ًال �إن�شادي ًا �أ���س��ود‪ ،‬يت�ساوى مع ق�صائد كبار‬ ‫الغنائي والرتاجيدي‪ ،‬التقطري‪ ،‬وا�ستدراج الرتاث �إىل‬
‫ال�شعراء العامليني الذين جعلوا من حياتهم الفردية‬ ‫م�ستقبليته اللغوية‪.‬‬
‫واجلماعية التي هي فري�سة احل��روب‬ ‫يف املداخل الثالثة ه��ذه‪ ،‬ال انف�صام‪،‬‬
‫واالق��ت��ت��االت‪ ،‬وليم ًة لل�شعر الأ���س� َ�ود‪،‬‬ ‫كاملقلعجي حيناً‪،‬‬ ‫وال قطيعة‪ ،‬بل تكامل‪ ،‬وت�شييد‪ ،‬حيث‬
‫املجمر‪ ،‬امللعون‪ ،‬واخلالّق‪.‬‬
‫َّ‬ ‫التنوع ازده��اء‪ ،‬وحيث الت�ألق يف كل‬
‫�إىل �أن يتالقى هذان النوعان يف النهر‬
‫كاجلوهرجي‬ ‫حدب ال يف�ضي �إىل خروج على �سكة‪� ،‬أو‬
‫ال�شعري الكبري‪ ،‬املتجلي يف اخل�برة‬ ‫حيناً �آخر‪ ،‬كالأم‬ ‫�إىل ن�شاذ‪ ،‬بل �إىل عمارة‪ .‬وهي عمارة‬
‫واالختزال والت�ضميخ والرتهيف‪ ،‬حيث‬ ‫الر�ؤوم يف �أكرث‬ ‫مكونات بنيتها هذه املداخل‬ ‫تتالقى يف ّ‬
‫تذهب ك ٌّل من الغنائية العالية‪ ،‬وتلك‬ ‫الثالثة‪ ،‬لت�ؤلف ك ًّال معمارياً‪ ،‬كالكليانية‬
‫ال�����س��وداء اجلحيمية‪� ،‬صوب احلفر يف‬ ‫من مو�ضع‪،‬‬ ‫الأورك�سرتالية‪ ،‬التي تقتن�ص ال وتري ًة‬
‫الأعماق املعمقة‪ ،‬ليكون ديوانه‪�« ،‬أوراق‬ ‫وكالع�شيق‬ ‫واحدة‪ ،‬بل جمملها‪ ،‬املتناق�ض ظاهراً‪،‬‬
‫الغائب»‪ ،‬خال�صة هذا النوع البالغ مداه‬ ‫املن�سجم واملتكامل باطناً‪.‬‬
‫الأكف أ� يف اغرتاب ال�شاعر اغرتاب ًا �أ�شبه‬
‫بان�رساب اللبان والبخور يف داخل �رشايني ذاته‬
‫يف الن�شيد‬
‫وداخل �رشايني لغته‪ ،‬وهما واح ٌد �أحد‪.‬‬ ‫م�رشع‬
‫ّ‬ ‫الن�شيد على م�ستويني‪ ،‬عند �شاوول‪ ،‬واحد‬
‫على ال�سال�سة املفتتنة بالغنائية الداخلية اخلفرة‬
‫يف التقطري‬ ‫��ان على امللحمة‬‫(�أي��ه��ا الطاعن يف امل���وت)‪ ،‬وث� ٍ‬
‫لكن ال�شاعر واحد‪� ،‬أكان يف الن�شيد �أم يف «نقي�ضه»‬ ‫الأبوكاليبتية ال�سوداء (بو�صلة ال��دم)‪ .‬يف االول‪،‬‬
‫الظاهري‪ .‬و«النقي�ض» املزعوم هذا‪ ،‬لي�س نقي�ض ًا �إ ّال‬ ‫ع�شق و�أن�سنة ملطّ فان ببهاء اجلمالية اللبنانية‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ي�شف الكالم‬ ‫على امل�ستوى ال�شكالين البحت‪ ،‬حيث ّ‬ ‫الرقيقة‪ ،‬الندية‪ ،‬الأنيقة‪ ،‬املرتفعة‪ ،‬املمو�سقة‪،‬‬
‫لي�صري ت�شفيف ًا بل غاللة غيمية ال ُت َلم�س �إال بالعقل‪،‬‬ ‫املو ّقعة ب�أورك�سرتا الداخل الروحي‪ ،‬حيث يتهادى‬
‫�أو ما تناهى من احلوا�س‪ .‬وهذا يكون يف التقطري‬ ‫املعجم امل�ؤن�سن م�سرت ّقاً‪ ،‬جاحماً‪ ،‬بخيالء‪ ،‬وحيث‬
‫الهائل‪ ،‬الذي ال يت�شبه به �شيء �سوى ما يفعله �أهل‬ ‫يحلو للجملة ال�شعرية �أن تتغاوى بطالوتها‪ .‬ها هنا‪،‬‬
‫العنب الذين يد�أبون على تخلي�ص عنبهم من حوا�شيه‬ ‫العلو الإن�شادي‪ ،‬يبد�أ‬
‫ّ‬ ‫يف ال�سال�سة والطالوة‪ ،‬ويف‬
‫وذيوله‪ ،‬فال يبقى �سوى اجلوهر املع ّتق يف �أعماق‬ ‫ال�شاعر م�شواره‪ ،‬حممو ًال ب�إرثه الأدبي ّ‬
‫اجلم‪� ،‬إرث‬
‫‪119‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫على املتعارف عليه فيها‪ ،‬على الرتاكيب‪ ،‬على‬ ‫اخلابية وهي طبقات البئر التحتية من كل ماء زالل‪.‬‬
‫اخل�صو�صية الأل�سنية‪ ،‬ولكن من دون �أن يطي�ش‬ ‫�أما الو�صول �إىل هذا املع ّتق ال�صعب‪ ،‬البالغ امل�شقة‪،‬‬
‫�سهمه خارج �رصف اللغة ونحوها‪ .‬ميتلئ برتاثية‬ ‫فال يكون بوقتٍ واح � ٍد وال بوقتني‪ ،‬بل باجتماع‬
‫اللغة‪ ،‬ليه ّز �شجرتها ه ّزاً مرع�شاً‪ ،‬فت�رسي الرع�شة يف‬ ‫الأوقات كلها‪ ،‬و�أكاد �أقول خارج كل وقت‪ ،‬متام ًا‬
‫الأو�صال‪ ،‬ك�أن مقاربة اللغة فعل جن�سي بامتياز‪.‬‬ ‫كحال هذا النوع من الكتابة التي تكاد تكون خلواً‬
‫بل ت�صبح اللغة هي اجلن�س بذاته‪ ،‬هي الفاعل وهي‬ ‫من الكالم‪ .‬ك�أن تكون يف ن�سيمه‪ ،‬ويف القليل القليل‬
‫املفعول به‪ ،‬وهي الع�شيق وهي الع�شيقة‪ ،‬يف اندماج‬ ‫منه‪ .‬تريد �أيها القارئ ت�شبيه ًا يعبرّ عن هذا النوع؟‬
‫ال�شاعر بلغته اندماج ًا «تاريخانياً»‪ ،‬م�ستدرج ًا‬ ‫خذه‪� :‬إنه كمثل نظرةٍ قاتلة‪ ،‬حيث ال كالم‪ .‬و�إذا ن ّدت‬
‫�إرثها اجلن�سي‪ ،‬ت�شكي ًال ومعجماً‪� ،‬إىل ج�سمانية‬ ‫كلمة �أو اثنتان‪� ،‬أو ثالث‪ ،،‬ف�إنها تكاد تنهدم يف غيم‬
‫اللغة احلا�رضة يف الأفق الأدبي الأكرث تعبرياً عن‬ ‫الكالم‪ ،‬يف هيواله اجل�سمانية ال�شفيفة املقطّ رة‪،‬‬
‫التجا�رس واملغامرة‪.‬‬ ‫حيث يتقدم ال�شاعر يف براهينه اللغوية‪ ،‬متمثل ًة‬
‫�إعمال اجل�سم يف اجل�سم‪ .‬هذا ما يفعله �شاوول بلغته‬ ‫يف ان�رصاف الوجدان عن القول الن�شيدي العايل‬
‫ال�شعرية يف هذه التجربة‪ ،‬املنزلقة يف متاهات‬ ‫�إىل كثيفه القليل املخت�رص‪ ،‬امل�ص ّفى‪ ،‬املتوهج‪،‬‬
‫خطورتها‪ ،‬من دون �أن ي�ست�شعر رهبةً‪ ،‬بل ُيقدِم كما‬ ‫الالمعقول �إ ّال بالعقل امل�ص ّفى‪.‬‬
‫يفعل ال�سابح يف ف�ضا ٍء لغوي‪ ،‬فيه من املا�ضي بقدر‬ ‫يهمني يف �شكل خا�ص �أن �أق��ف ه��ذا التوجه يف‬ ‫ّ‬
‫ما فيه من الالما�ضي‪.‬‬ ‫الت�صور التحليلي ل�شعرية التقطري على ديوانني عند‬
‫ماذا �أقول عن اختباراته الأخرى‪« ،‬موت نر�سي�س»‪،‬‬ ‫�شاوول‪« :‬وجه ي�سقط وال ي�صل»‪ ،‬و«الهواء ال�شاغر»‪.‬‬
‫هنا ي�ستطيع ال�شعر �أن يحيا عاري ًا يف جوهره‪ .‬وكم‬
‫نفاد الأح���وال»‪« ،‬عندما كانت الأر����ض �صلبة»‪،‬‬
‫هي �صعبةٌ‪ ،‬بل م�ستحيلةٌ‪ ،‬هذه املهمة‪ .‬حيث يتالقى‬
‫«منديل عطيل»‪ ،‬و�سواها؟ جوابي �إنها متالقية هنا‬
‫ال��وج��دان اللطيف باملتجوهر‪ ،‬امل��و ّق��ع‪ ،‬امل�شدود‬
‫وهناك وهنالك‪ ،‬يف تالقي املداخل الثالثة امل�شار‬
‫ي�شيد‬
‫الع�صب‪ ،‬وحيث اخليال اال�ستعاري الرهيف ّ‬
‫�إليها‪ ،‬وانغما�س الواحد منها يف الآخر‪ .‬فهي ت�أخذ‬
‫عمارة �أ�شبه ما تكون بلون الهواء‪.‬‬
‫من هذا املدخل لتذهب متكئة على ذاك‪ ،‬موحي ًة‬
‫ب�أنها تكتفي‪ ،‬لكن ال تكتفي‪ .‬وهكذا‪.‬‬ ‫فـي ا�ستدراج الرتاث‬
‫و�إذا كان من اخت�صار يغني عن الإطالة‪ ،‬ف�إن جتربة‬ ‫�أ�صعب ما يكون الفعل اللغوي‪ ،‬هو �أن جتعل الرتاثي‬
‫ب��ول ���ش��اوول املتوا�صلة‪ ،‬والنائمة على جتارب‬ ‫منه ي�ضاهي احلداثة حداثويةً‪ .‬بل ي�صريها‪ ،‬مازج ًا‬
‫وخمطوطات مل يك�شف النقاب عنها حتى الآن‪،‬‬ ‫ج�سمني ي�أنفان مبدئي ًا‬‫َ‬ ‫يف كيمياء االخ��ت��ب��ار‪،‬‬
‫ُتخت�صرَ ب�أنه يدخل على اللغة ال�شعرية ال ليبا�رش‬ ‫التالقي‪ ،‬لكنهما يتالقيان ويت�آلفان‪ ،‬ويتزاوجان‪،‬‬
‫لي�شق بالتجارب املطروقة وغري‬ ‫ّ‬ ‫جمل ًة �سابقة‪ ،‬بل‬ ‫ويتجامعان‪ ،‬وينت�شيان‪ ،‬وي��ع��اودان ال��ك� ّ�رة‪ ،‬يف‬
‫املطروقة‪ ،‬ال��دروب الوعرة واخلطرية‪ ،‬التي تفتح‬ ‫جملة طويلة‪ ،‬متالحقة‪ ،‬متوالدة‪ ،‬متنا�سلة‪ ،‬و�صو ًال‬
‫للق�صيدة العربية �آفاق ًا متنحها �أن تنمو وتتجدد‪.‬‬ ‫�إىل اللغة‪ ،‬ال �إىل �شيء �آخر‪ .‬اللغة‪ ،‬باعتبارها غاية‬
‫�سرناه قريب ًا يف جتارب جديدة‪ ،‬و�سنعكف عليها‪،‬‬ ‫ع�شقية يف ذاتها‪ .‬هذا ما يفعله �شاوول يف ديوانه‪،‬‬
‫كمن مل ي�سبق له �أن عكف على نبع‪.‬‬ ‫«ك�شهر طويل من الع�شق»‪ ،‬متجرئ ًا على البنية‪،‬‬

‫‪120‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫عندما ا�ستعاد بول �شاوول‬


‫ما�ضيه لي�شهد على خواء العامل‬
‫\‬
‫عبده وازن‬

‫خمت�رصة وكامدة وك�أن ال�شاعر ال يتذكر زمنه الأول‬ ‫ميثل ديوان «�أوراق الغائب» لل�شاعر بول �شاوول‬
‫�إال لريثيه‪ .‬هو ال يحتفل به وال يجعله مالذاً للهروب‬ ‫مفرتقا يف م�ساره ال�شعري اوال ثم يف م�سرية ال�شعر‬
‫وال عن�رصاً للمواجهة‪� .‬إنه يتذكر ما�ضيه مدرك ًا فقده‬ ‫العربي احلديث‪� ،‬سواء يف مقاربته ال�شعرية اجلديدة‬
‫اياه‪ .‬وهو ال ينه�ض يف وجدانه �إال كلحظة ذكرى‪،‬‬ ‫للذات ب�صفتها عن�رصا تكوينيا ام يف لغته املتجلية‬
‫ذكرى �أليمة وحارقة‪ .‬ولي�س ا�ستدعاء املا�ضي هنا‬ ‫يف ثنائية احل�ضور والغياب‪ .‬هنا ع��ودة اىل هذا‬
‫ا�سرتجاع ًا لزمن الفطرة وال�براءة اللتني فقدهما‬ ‫الديوان وعامله‪.‬‬
‫العامل بل هو وعي تراجيدي لذلك الزمن الذي ما‬ ‫ي�سرتجع ال�شاعر ب��ول �شاوول يف كتابه «�أوراق‬
‫برح قائم ًا يف الذات والذاكرة‪.‬‬ ‫الغائب» مالمح من ما�ضيه اخلا�ص وال�شعري‬
‫وال�شاعر ال يلج�أ اىل ما�ضيه ليواجه حا�رضه بل‬ ‫ليكتب �سرية ذاتية تختلف عن مبد أ� ال�سرية اختالف ًا‬
‫وا�ضحاً‪ .‬فهو �إذ ي�ستعيد ما�ضيه �إمنا يختزله اختزا ًال‬
‫يوحدهما �شعري ًا جاع ًال املا�ضي الوجه الآخ��ر‬
‫�شعري ًا فال يبقى منه �إال ذاك املناخ ال�سحري‪ .‬وهو‬
‫للحا�رض الغائب‪ .‬ال يعيد �شاوول اكت�شاف ما�ضيه‬
‫�إذ يكتب �سريته‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬امنا ميحوها متخلي ًا عن‬
‫ليتوهم جمال امل�ستقبل‪ ،‬كما عبرّ ال�شاعر اراغون‪،‬‬
‫التفا�صيل التي تعكف عنها لغته �أ�صالً‪.‬‬
‫بل لي�شهد على خواء العامل و�ض�آلة احلا�رض‪ .‬لذلك‬
‫ان��ه��ا ���س�يرة ���ش��ع��ري��ة ق��ب��ل ان‬
‫ت��ك��ون ���س�يرة ذات��ي��ة‪ .‬ذاك ان‬
‫ع���امل ب���ول ����ش���اوول ح��ا��ضر‬
‫يف «�أوراق الغائب» ح�ضوراً‬
‫خم��ت��ز ًال وم�ضيئاً‪ .‬فال�شاعر‬
‫ال���ذي ي�سرتجع زم��ن��ه الأول‬
‫يعيد �صوغه يف لغة ال تخفي‬
‫حنينها اىل ما�ضيها اخلا�ص‬
‫وج���ذوره���ا‪ ،‬ل��ك� ّ�ن احل��ن�ين اىل‬
‫املا�ضي ل��ن يكون ت��ك��راراً له‬
‫وللغته بل �سيكون حافزاً على‬
‫ا�ستعادة املا�ضي وتخطيه يف‬
‫وقت واحد‪.‬‬
‫هكذا حت�رض ���ص��ورة املا�ضي‬
‫‪121‬‬ ‫\ �شاعر وناقد من لبنان‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الق�صيدة بها ف�إنها ال تتبدى �إال كمجموع هند�سي‬ ‫ي�سرتجع ما�ضيه يف لغة ال تعرف ال�ب�راءة وال‬
‫تتنا�سق حركاته وايقاعاته الداخلية‪ ،‬وتتوازن‬ ‫الفطرة‪ ،‬حتى وان بدت على حال من النقاء الداخلي‪.‬‬
‫وتتجاوب اجزا�ؤه املختلفة‪ .‬وتقوم وحدة الق�صيدة‬ ‫واملا�ضي هو زمن م�ستعاد ولي�س زمن ًا خمتلقاً‪.‬‬
‫– اكرث ما تقوم – على اللعبة احلاذقة يف ا�ستدعاء‬ ‫واللغة التي ت�سرتجعه حتذر مزالقه متام ًا وتتحا�شى‬
‫امل��ف��ردات والعبارات والرتاكيب ون�سجها ن�سج ًا‬ ‫عن ا�رشاكه‪.‬‬
‫متيناً‪ ،‬ولي�س التكرار والرتجيع �إال تعبرياً وا�ضح ًا‬ ‫وال غرابة ان يطل ال�شاعر ال��ذي يتذكر ما�ضيه‬
‫عن متا�سك الق�صيدة ووحدتها‪ .‬وي��ويل ال�شاعر‬ ‫اخلا�ص على ما�ضيه ال�شعري وان يت�أمل عامله‬
‫االيقاع الداخلي اهتمام ًا كبرياً جاع ًال اياه خيط ًا‬ ‫الرحب احلافل بالأوهام واحلقائق والر�ؤى‪ .‬وعرف‬
‫من اخليوط الأ�سا�سية التي جتمع �أجزاء الق�صيدة‪.‬‬ ‫�شاوول جيداً كيف يدمج املا�ضي اخلا�ص باملا�ضي‬
‫يف «�أوراق الغائب»‪ ،‬يوا�صل �شاوول جتربته وير�سخ‬ ‫ال�شعري دجم ًا �سحري ًا ف�إذا �سريته الذاتية جزء من‬
‫لغته التي «وج��ده��ا»‪ ،‬لي�س بال�صدفة طبعاً‪ ،‬امنا‬ ‫ذاكرته ال�شعرية‪.‬‬
‫عرب البحث والتجريب‪ .‬وموا�صلة التجربة ال تعني‬ ‫مييل كتاب «�أوراق الغائب» اىل ان يكون ق�صيدة‬
‫تكرارها وال تكرار ادواتها بل هي تطوير لها وار�ساء‬ ‫واح��دة‪ .‬فاملقاطع ال�صغرية التي ت�ؤلف الكتاب‬
‫ملعاملها‪ .‬وال�شاعر ال يخون لغته وعامله �إال بقدر‬ ‫تنف�صل وتتوا�صل‪ ،‬يجمع بينها مناخ �شعري واحد‪،‬‬
‫ما يكون وفي ًا لهما‪ .‬وقد ي�صعب عليه‬ ‫ولغة واحدة ومعجم متنا�سق املفردات‬
‫ان يتخلى ع��ن ج���ذوره ال�ضاربة يف‬
‫«�أوراق الغائب»‬ ‫وال���دالالت‪ .‬وترتبط املقاطع بع�ضها‬
‫عمق كيانه‪ .‬لذلك رمبا ال تبدو ق�صيدة‬ ‫يخت�صر عامل‬ ‫ببع�ض ارتباط ال�صوت بال�صدى ف�إذا‬
‫«�أوراق الغائب» غريبة عن عامل �شاوول‬ ‫بول و�أ�سئلته‬ ‫يكمل الآخر وفق حركة داخلية‬ ‫املقطع ّ‬
‫الرحب وال املعجم ال�شعري الذي تعتمده‬ ‫تن�ساب ان�سياباً‪ .‬وال يخفي ال�شاعر نزعته‬
‫الق�صيدة يبدو غريبا‪ ،‬وال لغتها‪ ،‬بل‬ ‫ولغته‬ ‫«البنائية» فهو يبني ق�صيدته مقطع ًا‬
‫ان الق�صيدة تخت�رص ما�ضي ًا بكامله‪:‬‬ ‫مقطع ًا معتمداً طريقة خا�صة قائمة على‬
‫�شخ�صي ًا و�شعرياً‪� .‬إال ان ال�شاعر يبتعد هنا عن‬ ‫لعبة التوازي والتكرار الدائري و�سواهما من عنا�رص‬
‫الطابع التجريبي ال�رصف م�ست�سلم ًا حلاالت غنائية‬ ‫ق�صيدة النرث‪.‬‬
‫ناجمة عن ا�ستعادة املا�ضي يف حلظة �صفائه‪.‬‬ ‫�إال ان �شاوول ال يجعل ق�صيدته منغلقة على نف�سها‬
‫ال تخفي ق�صيدة �شاوول �شغفها الغنائي وال نزعتها‬ ‫وعلى بنيتها (كبع�ض ق�صائد النرث) بل ي�رشعها‬
‫الهند�سية اي�ضاً‪� .‬رس هذه الق�صيدة انها ا�ستطاعت‬ ‫امام احتماالت اللغة ال�شعرية و�رساباتها‪� .‬صحيح‬
‫ان توحد بني اجتاهني خمتلفني توحيداً عميقاً‪ :‬بني‬ ‫ان الق�صيدة هي ق�صيدة «الكيان ال�شكلي» (كما‬
‫البناء املتنا�سق واملن�ضبط والتلقائية الداخلية‪.‬‬ ‫تعبرّ �سوزان برنار) لكن هذا الكيان قابل لالخرتاق‬
‫ف��إذا هي �صنيع هند�سي ولغوي‪ ،‬و�صنيع جمايل‬ ‫ال�شعري لأن��ه يج�سد اللقاء املحتمل ب�ين نظام‬
‫وغنائي‪� .‬إال ان غنائية ال�شاعر داخلية ومرهفة‪ .‬انها‬ ‫الق�صيدة وحرية ال�شعر اي بني نزعتني متناق�ضتني‪:‬‬
‫غنائية الغياب‪ ،‬غنائية املوت ال احلياة‪ ،‬غنائية‬ ‫الهند�سة والتلقائية‪ .‬وال�شاعر ال يف�صح عن لعبته‬
‫اخل�رسان واالنكفاء‪ .‬انها الوجه الآخر لل�صمت الذي‬ ‫مقدار ما يخفيها وال ي�صقل لغته �إال ليبعد عنها خطر‬
‫ي�سعى اليه �شعر �شاوول عموماً‪ .‬اما الطابع الهند�سي‬ ‫االفتعال واجلفاف‪ .‬ولغته كلما ان�صهرت اجتهت‬
‫الذي ي�ؤلف البعد الثاين للق�صيدة فهو خفي بدوره‬ ‫نحو الكثري من ال�شفافية‪ .‬وكلما ا�شتد ح�ضورها‬
‫وداخلي النه �شكل من ا�شكال الغياب‪.‬‬ ‫ا�شتد غيابها‪ .‬وعلى رغم احلرية ال�شعرية التي تتمتع‬
‫‪122‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫وداخلية (بح�سب مقولة رامبو «كيميائية الكلمة»)‪،‬‬ ‫عامل «�أوراق الغائب» هو عامل الغياب بامتياز‪.‬‬
‫ولي�س االنتقال من املخاطب اىل الغائب اىل املتكلم‬ ‫�صحيح ان معجم ه��ذا العامل يف دالالت��ه الأوىل‬
‫انتقا ًال زمني ًا ملمو�س ًا بل هو انتقال حلمي و�صويف‬ ‫ينتمي اىل الواقع احل�سي‪� ،‬إال انه �رسعان ما يتحرر‬
‫(يف املعنى غري الديني)‪ .‬فالأنا هو والهو انت والأنت‬ ‫حا�سيته‪� .‬ألي�س ال�شعر «معرفة‬ ‫ّ‬ ‫�شعري ًا من �أ��سر‬
‫انا وهو معاً‪ .‬هكذا تتخلى ال�ضمائر عن وظيفتها‬ ‫خالقة للواقع» كما يقول رينه �شار؟ ال�شعر اذن‬
‫النحوية لت�صبح كائن ًا ملتب�س الطبيعة مرتاوح ًا بني‬ ‫يوقظ النواحي الغائبة واملظلمة للعامل‪ ،‬يك�شف عن‬
‫ح�ضور وغياب‪ .‬فالأنا كما يعبرّ موري�س بالن�شو ال‬ ‫اجزائه اخلفية وي�ضيء ليله‪ .‬بقول الكاتب الفرن�سي‬
‫جتد نف�سها �إال حني تغرق يف حياد «الهو»‪.‬‬ ‫موري�س بالن�شو‪« :‬الكتابة هي اال�ست�سالم لفتنة‬
‫يخيم جو جنائري على عامل الق�صيدة‪.‬‬ ‫ال غرابة ان ّ‬ ‫غياب الزمن»‪ .‬و�شعر �شاوول لي�س �إال ا�ست�سالم ًا‬
‫فاملا�ضي الذي ي�سرتجعه ال�شاعر مدعاة للرثاء‪.‬‬ ‫لذاك الغياب «الذي ي�ضيء بال رحمة»‪ .‬انه الغياب‬
‫املا�ضي حلظة ولّت من غري رجعة ومل يبق منها‬ ‫ال��ذي يجعل اجل�سد مفتقداً حوا�سه والكالم‪« :‬يف‬
‫�سوى التماعها يف الذاكرة والوجدان‪ .‬ويتجلى اجلو‬ ‫الغرفة ال يك�شف اجل�سد مداه‪ /‬يعوزه هواء وحوا�س‬
‫اجلنائري من خالل املعجم الذي ي�ؤلف جزءاً كبرياً‬ ‫او ان ي�ستبقيه كالم»‪ .‬والغائب هو ذاك التي يعجز‬
‫من عامل الق�صيدة وم�شهديتها‪ ،‬وهو معجم يجاهر‬ ‫عن ان مييز بني «ان يفتح يديه ويرى نافذة»‪ .‬انها‬
‫بطابعه اجلنائزي‪« :‬امل��وت��ى يبحثون‬ ‫فتنة الغياب التي جتعل الغياب «تكراراً‬
‫عن جروحهم»‪ ،‬يقول ال�شاعر‪« :‬املوتى‬
‫ق�صيدته‬ ‫ملا مل يكن» كما يقول ال�شاعر‪ .‬واذا‬
‫يهم�سون اعمارهم عليك وي�ب�ردون»‪،‬‬ ‫مُ�شرعة على‬ ‫ا�ستطاع الغياب ان يوجد ما مل يوجد‬
‫«امل���وت���ى ي��ت�����س��ام��رون يف احل��دي��ق��ة‬
‫احتماالت اللغة‬ ‫فلأنه احلقيقة القائمة على النفي‪ .‬يقف‬
‫وت�سمعهم»‪.‬‬ ‫«الغائب» ام��ام امل��ر�آة لي�س�أل‪« :‬كيف‬
‫ويف وط���أة امل��وت ال��ذي يحل كذكرى‬ ‫ال�شعرية‬ ‫تت�سع املر�أة‪ /‬لكل هذا الإحماء»‪ .‬املر�أة‬
‫يف احلا�رض ي�ستعيد ال�شاعر مالمح من‬ ‫دليل على الغائب وغيابه اذ انها قادرة‬
‫ما�ضيه‪ .‬لكنها ا�ستعادة �صورية تقطع الذكريات‬ ‫على جعل اللحظة الراهنة حلظة غري زمنية وحلظة‬
‫والأح�لام‪ .‬فاملا�ضي لي�س �إال �سل�سلة �صور وهمية‬ ‫املكان حلظة المكانية‪.‬‬
‫وحقيقية تخت�رص مراحل خمتلفة من زمن مهدد‬ ‫بل ان الغياب ال��ذي يحياه الكائن داخلي ًا يجعل‬
‫بغيابه (مل تعد اال�شياء كما تركتها‪ ،‬يقول ال�شاعر)‪.‬‬ ‫«الأنا» �آخر (على تعبري رامبو ال�شهري) واملخاطب‬
‫ولعل ال�صورة الأنقى من ذاك املا�ضي البعيد هي‬ ‫غائب ًا واملتكلم خماطباً‪ .‬وع��رف ���ش��اوول كيف‬
‫�صورة الطفل «الذي ذهب ومل يعد»‪ .‬يعيد ال�شاعر‬ ‫يوظف جتربة ال�ضمائر املرتاوحة ح�ضورا وغيابا‬
‫�صوغ الزمن الطفويل من خالل املكان الطفويل‪،‬‬ ‫ف�إذا هو يخاطب نف�سه حين ًا خماطبته للآخر‪ ،‬وحين ًا‬
‫ف�إذا املا�ضي (الأول) م�شهد يرتدد يف الذاكرة عرب‬ ‫خماطبة للغائب‪ ،‬وحين ًا يدع «الأنا» تقول �صمته‪:‬‬
‫تردد عنا�رصه و�أ�شيائه‪ ،‬ك�أن يقول ال�شاعر‪�« :‬شجرة‬ ‫«حملوين» يقول ال�شاعر م�ضيفاً‪« :‬جرحي قادهم يف‬
‫كينا تلمع من طفولتي وت��ذوب يف ال��ه��واء»‪ .‬لكن‬ ‫حطام الهواء»‪ .‬ويقول �أي�ضاً‪« :‬يف م حت ّدق عيناك؟»‪،‬‬
‫الطفولة لي�ست مثاراً للن�سيان وا�سرتجاع ًا للرباءة‬ ‫م�ضيفاً‪« :‬خطى من ك�سور ان تفتح ظلمة وتن�ساها‬
‫املفقودة فقط‪ ،‬بل هي ذك��رى �أليمة ق��ادرة على‬ ‫ام��ام��ك»‪ .‬ويقول‪« :‬ل��ون واح��د ال ي��راه»‪ ،‬وي�ضيف‪:‬‬
‫دمج املا�ضي واحلا�رض دجم� ًا م�أ�سوياً‪ ،‬فالطفل‬ ‫«��سري��ره يحفظ رائ��ح��ت��ه الأخ��ي��رة»‪ .‬لي�س لعبة‬
‫الذي يتذكره ال�شاعر امنا «من دمعة مر�آته» �أو هو»‬ ‫«ال�ضمائر» جمرد لعبة تركيبية بل هي «كيميائية»‬
‫‪123‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جوهرها الغائب و�سحرها الداخلي‪ .‬فال�شعر بح�سب‬ ‫يت�سلق �شجرة با�سقة من الهواء» وكلما ت�سلقها‬
‫ر�ؤيته‪ ،‬ال ينه�ض �إال عرب حاالت ال�صفاء وال�شفافية‪.‬‬ ‫لكن ذاك الطفل «كانت‬‫«�سقطت اوراقها من عينيه»‪ّ .‬‬
‫والق�صيدة ال تقوم �إال على االختزال والكثافة يف‬ ‫يداه تنفخان غيوم ًا يف ال�سماء لتتبعاها»‪ .‬انه طفل‬
‫املعنى اللغوي والداخلي‪.‬وهكذا تتخل�ص ق�صيدة‬ ‫«البيت املرتوك هناك‪ ،‬بيت الأم�س»‪.‬‬
‫���ش��اوول م��ن زوائ���د ال��ك�لام واغ����راءات الف�صاحة‬ ‫�إال ان املا�ضي ال ت�صنعه الطفولة فقط بل املر�أة‬
‫وتخت�رص ن�سيجها حمافظة على افعالها الداخلية‪.‬‬ ‫اي�ض ًا واحلرب وكلتاهما (امل��ر�أة واحل��رب) قطبان‬
‫ويركز ال�شاعر على ال�صورة ال�شعرية اكرث مما يركز‬ ‫ا�سا�سيان يف جتربته ال�شعرية‪ .‬واذا طغت احلرب‬
‫على ال�صورة البالغية‪ .‬فال�صورة ال�شعرية ذات‬ ‫�سابق ًا على كتابه «بو�صلة الدم» ف�إنها هنا حت�رض‬
‫خلفية «كيميائية» (رامبو)‪ ،‬وغالب ًا ما تنجم عن‬ ‫ح�ضوراً طيفي ًا اي كجزء من �سرية ناق�صة‪ .‬وترتدد‬
‫«العمل ال�صايف للمخيلة املطلقة» (كما يعبرّ ال�شاعر‬ ‫ا�صداء احلرب عرب مفردات وعبارات لي�ست غريبة‬
‫الفرن�سي ري��ف��ردي) وعلى التئام الأ���ض��داد‪ .‬هكذا‬ ‫عن عامل ال�شاعر (بو�صلة الدم) كاملدن املحروقة‬
‫حتمل ال�صورة ل��دى �شاوول دالالت كثرية لأنها‬ ‫واجلموع و«الأح�صنة املذبوحة التي تتدحرج من‬
‫تخت�رص الأوج��ه البالغية (كالإ�ستعارة والت�شبيه‬ ‫اعايل �صهيلها» و«املحاربون الذين يحت�رضون‬
‫واملجاز املر�سل‪ )...‬يف ن�سيج داخلي متحرر من‬ ‫يف بداياتهم»‪ .‬انها احلرب كذكرى‪ ،‬كذكرى وفعل‬
‫حدود الت�صنيف‪ .‬وال�صور ال�شعرية تتواىل توالي ًا‬ ‫م�أ�سويني مل يرتكا �إال جروح ًا وحروق ًا يف اجل�سد‬
‫ملحوظاً‪ ،‬ك�أنها‪ ،‬كالإيقاعات الداخلية‪،‬‬ ‫�شغف ق�صيدته‬ ‫والهواء‪� .‬أما املر�أة فال تبدو غريبة عن‬
‫خا�ضعة ل�سياق بنائي متنا�سق‪�« :‬أ�شجار‬ ‫ال�سرية الذاتية التي يكتبها ال�شاعر‬
‫ترثثر مبياههم ال�سابقة»‪ ،‬يقول ال�شاعر‬
‫غنائي ونزعته‬ ‫ماحي ًا تفا�صيلها‪ .‬انها ام��ر�أة غائبة‬
‫�أو‪« :‬تتمدد �شبيه انفا�سك‪� /‬شبيه ان‬ ‫هند�سية‬ ‫بدورها‪ ،‬ال حت�رض �إال مبقدار ما يتيح لها‬
‫يتكرر اجل���دار عليك‪� /‬شبيه ان تفتح‬ ‫غيابها ان حت�رض‪ ،‬تخت�رصها عالمات‬
‫يديك‪ /‬وتتكرر» او‪« :‬خطى من ك�سور ان تفتح ظلمة‬ ‫ح�سي وروح��ي لآثارها‬ ‫قليلة لي�ست �سوى رج��ع ّ‬
‫وتن�ساها امامك» او‪« :‬ام�شي ب�صوت منخف�ض منذ‬ ‫املحفورة يف الذاكرة واجل�سد والعني‪ .‬يخاطبها‬
‫عدة ا�شجار»‪ ،‬او «دمعه ي�سبق عينيه حتى ال�صباح»‪.‬‬ ‫ال�شاعر خماطبته لإمر�أة رحلت‪ ،‬المر�أة ا�ضحت طيف ًا‬
‫تلتئم الأ���ض��داد والثنائيات يف ق�صيدة «�أوراق‬ ‫�آ�رساً‪�« :‬أح�صيت ايامك وانت حت ّدقني يف الباب» يقول‬
‫الغائب»‪ ،‬ويغيب احلا�رض يف املا�ضي وي�أخذ الواحد‬ ‫ال�شاعر انها ام��ر�أة ثانية «يف هواء ال�صف�صافة»‪.‬‬
‫�صفة الكل (دمعة واحدة ال حت�صى على وجهه) والكل‬ ‫تبت�سم يف العتمة «كما تفتح نافذة بعيدة» ويزداد‬
‫(تكمل الدمعة وجه ًا ن�سيته) وي�صبح‬ ‫ّ‬ ‫�صفة اجل��زء‬ ‫«دمعها دمعاً»‪ .‬انها جزء من املا�ضي‪ ،‬من احلا�رض‬
‫ال�صمت ج�سد الكالم والكالم �شاهداً على الغياب‪.‬‬ ‫امل�سكون باملا�ضي‪ .‬لكنها لن تكون «امل�ستقبل» كما‬
‫يخت�رص كتاب «�أوراق الغائب» عامل بول �شاوول‬ ‫يعبرّ ال�شاعر الفرن�سي بول ايلوار �إال مقدار ما يكون‬
‫ال�شعري الذي د�أب منذ �سنوات طويلة على بلورته‪،‬‬ ‫امل�ستقبل �صنو ما�ضيها‪.‬‬
‫ويختزل �أ�سئلته ولغته ويج�سد حتوالته العميقة‪ ،‬هذه‬ ‫يويل بول �شاوول لغته اعتناء كبرياً ويغرب يف‬
‫التحوالت التي و�سمت �شاعرا وجيال يف �آن واحد‪.‬‬ ‫بلورتها وتهذيبها تهذيب ًا �شعرياً‪ ،‬باحث ًا عن‬

‫‪124‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ن�صو�ص بول �شاوول‬
‫امل�سرحية‬
‫\‬
‫عبيدو با�شا‬

‫ن�صو�ص غري معروفة‪ .‬الأب��رز «م�رسحية عربية»‪.‬‬ ‫ال حبك م ��ؤام��رات وال د�سائ�س وال خيانات يف‬
‫كتبها على �أن تقدمها جمموعة من املمثلني العرب‪،‬‬ ‫ن�صو�ص بول �شاوول امل�رسحية‪ .‬ال نوامي�س وال‬
‫ب�إخراج ف�ؤاد ال�شطي‪ ،‬غري �أن اجتياح العراق للكويت‪،‬‬ ‫طرائق بالكتابة‪ ،‬وهي تخو�ض بروحها اخلا�صة‬
‫ما لبث �أن �أطاح امل�رشوع‪ .‬‬ ‫بالقتل والعهر‪ ،‬القتل ال�سيا�سي والعهر ال�سيا�سي‪.‬‬
‫بن�صو�صه تداخالت وتع�شقات جمة بينها وبني‬ ‫القتل االجتماعي والعهر االجتماعي‪ .‬ال تتمحور‬
‫ال�شعر‪  .‬بال�شعر م�رسح وبامل�رسح �شعر‪ .‬ثقافة‬ ‫م�رسحياته‪ ،‬بالهم�س‪ ،‬حول ذلك‪� .‬آلياته الفنية‪ ،‬ت�شري‬
‫ت�شجع على خلق �ضد االدعاء وامل�سمية والت�شويه‪ .‬ال‬ ‫�إىل الإ�ضطرابات وال�رصاعات يف ذوات الآخرين‪،‬‬
‫متاع فحولة هنا‪� .‬إنها تر�سيمات ن�صو�ص الأ�سفار‬ ‫بكتابة امل�رسحي جتربته ال�شخ�صية امل�ؤثرة على‬
‫اخلا�صة بال�شاعر‪ .‬لي�ست �صعبة مالحظة الن�سق‬ ‫�أل�سنة الأبطال الآخرين‪ .‬الثابت �أن �شاوول يقت�صد‬
‫يف ن�صو�ص بول �شاوول امل�رسحية‪ .‬لي�ست �صعبة‬ ‫ح�ضور ال�شخ�صيات على من�صات م�رسحياته‬
‫مالحظة الن�سق يف ن�صو�ص بول �شاوول ال�شعرية‪.‬‬ ‫املتخيلة‪ .‬ال تقوده الأزمة االقت�صادية �إىل ذلك‪ .‬ال‬
‫« �أحيان ًا ت�سقط‪ /‬لأنك‪ /‬تختار مكان ًا ت�سقط فيه‪/‬‬ ‫تقوده �أعرا�ض التج�سيد �أو الت�صوير ‪ .‬تقوده العوامل‬
‫�أحيان ًا ال ت�سقط ‪ /‬لأنك ال جتد مكان ًا ت�سقط فيه(‬ ‫التاريخية والثقافية باجتاه الإقت�صاد على �صعيد‬
‫وج��ه ي�سقط وال ي�صل)‪ .‬ال اف�لات وال مطالعة‪ .‬ال‬ ‫ح�ضور ال�شخ�صيات على الورق‪ ،‬بانتظار �صعودها‬
‫انفالت وال مطالعة‪ .‬تخلق ن�صي‪ ،‬باحتماالت كثرية‪.‬‬ ‫علو الأ�ساليب امل�رسحية املتنوعة‪ .‬يقوده ال�شعر �إىل‬
‫احتماالت الت�صوير والت�شكيل وامل�رسحة والإمياء ‪.‬‬ ‫الإقت�صاد‪ .‬يقوده التكثيف بال�شعر �إىل االقت�صاد‪.‬‬
‫ال�شعر يف باب �أول‪ .‬ثم ‪ ،‬ي�أتي ما ي�أتي بدون اجرتار‪،‬‬ ‫لأن كتابة ‪ ‬الكتابة عند ال�شاعر وامل�رسحي‪ ،‬كتابة‬
‫ما دامت الرتددات والرتدادات اللغوية‪ ،‬تعيد تقدمي‬ ‫�أخ��رى‪ .‬ال تعني كتابة الكتابة‪� ،‬إال الكتابة على‬
‫الأمنوذج احلي ‪ ،‬على الت�أكيد والعبث‪ .‬لأن ن�صو�ص‬ ‫الكتابة‪ .‬ي�سمى ذلك بالكتابة الثانية �أو الثالثة‪.‬‬
‫بول �شاوول‪ ،‬ن�صو�ص برملان النا�س‪ ،‬ال�ضائعني‪،‬‬ ‫وهكذا‪ .‬هكذا‪ ،‬ي�شعرن الوعي ‪ ،‬وعي ال�شاعر اجلمايل‬
‫احلائرين ‪ ،‬املهددين‪ ،‬املياومني باخلوف والقلق‪،‬‬ ‫‪ ،‬دائماً‪ .‬ال ميكر ال�شاعر هنا‪ ،‬حني ال ميار�س احلرام‬
‫اجلزعني �أمام التبدالت العنيفة يف خرائط العامل‬ ‫بامل�رسح‪� ،‬إذ يعقب على الأح���داث ب�صوت واحد‬
‫املمهورة باملفاج�آت العظيمة‪ .‬يكرر امل�رسحي‪،‬‬ ‫على ل�سانيني‪ .‬الكل واحد يف ن�صو�ص بول �شاوول‬
‫لكي ي�ؤكد‪ .‬هذا �أوالً‪ .‬ثانياً‪ ،‬يقوم التكرار على حمور‬ ‫امل�رسحية‪ « .‬الزائر» و«فنا�ص ياقنا�ص» و«�صارت‬
‫العبث‪ .‬ذلك �أن التكرار م�شغل العبث الأثري‪ ،‬كما هو‬ ‫ال�ساعة خم�سة» و«الزائر»‪ .‬ال ينق�ص هذا من قوة‬
‫لدى بيكت ويوني�سكو بالتحديد‪ .‬‬ ‫الدراما بالن�صو�ص ال�شاوولية‪ ،‬ذلك �أنها موجودة‪،‬‬
‫ب��ول ���ش��اوول بيكتي ال��ه��وى (ت��رج��م ل��ه بانتظار‬ ‫�إذا ما احت�سبت الدراما يف كرثة الأ�شخا�ص‪ ،‬يف‬
‫‪125‬‬ ‫\ م�رسحي وكاتب من لبنان‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف ن�صو�ص بول �شاوول‪ ،‬غري �إنها لي�ست مركزية‪.‬‬ ‫غودو) ‪ .‬ال يخفي الرجل ذلك‪ ،‬حني يكتب ن�صو�صه‬
‫لذا‪ ،‬ال ي�ستطيع الناقد حتديد ن�صو�صه يف مرجعية‬ ‫ب�إح�سا�سه‪ ،‬من نقطة القمة يف ن�صو�ص بيكت‪ .‬كاتب‬
‫�أو م�ساحة �أو �إط��ار ‪ ،‬لأنها جتمع بني الأ�صالة‬ ‫ن�صو�ص البيا�ض يف امل�رسح‪ ،‬حيث تو�صل �إىل‬
‫والذاتية الق�صوى والإ�ستقالل‪ .‬ب�أعماله‪ ،‬روح‬ ‫كتابة ن�صو�صه الأخرية بالإ�شارات واملالحظات‬
‫البنيوية وال�رسيالية والرمزية والدادية والتعبريية‪،‬‬ ‫اخلا�صة بالإخراج‪ .‬م�رسحي بيا�ض‪ ،‬يقابله �شاعر‬
‫من غري انت�ساب �إىل واحد من املناهج هذه‪ .‬ن�صه‬ ‫بيا�ض يكتب للم�رسح‪ .‬الطيب‪ ،‬عند بول �شاوول ‪� ،‬أنه‬
‫خا�ص‪ .‬ن�ص �صعب‪ ،‬مغلق على القراءات الإبداعية‬ ‫كلما كتب ن�صاً‪� ،‬أقنع نف�سه‪ ،‬ب�أن �أجمل الن�صو�ص‪،‬‬
‫بالكثري من الأحيان‪ .‬ن�ص ي�شبه كاتبه‪ .‬ن�ص ثقافة‬ ‫هي الن�صو�ص غري املكتوبة‪ .‬ن�صو�ص مل تكتب بعد‪.‬‬
‫يف امل�رسح‪ ،‬ن�ص ثقايف‪ ،‬ن�ص ثقافوي يف حلظات‬ ‫ثم �أنه يكتب باملمحاة بالكثري من الأوقات‪ .‬بالزائر‬
‫املبارزة الثقافية يف الكتابة اخلا�صة على غري‬ ‫(ريا�ض جنيب الري�س) ‪ ،‬ما يتكرر دائم ًا يف ن�صو�صه‪.‬‬
‫هدى الآخرين‪ ،‬املاثلني بن�صو�صهم فوق م�شاجب‬ ‫«انتبه دائم ًا �إىل ما وراء كالمك»‪ .‬م��اوراء الكالم‬
‫التجربة امل�رسحية يف لبنان والعامل العربي‪ .‬‬ ‫ميحو الكالم‪ .‬ميحو �صناعة الكالم‪� .‬إ�شارة �أخرى‪� ،‬إىل‬
‫احللبة �أمن��وذج �ساطع‪ ،‬على كتابة ن�ص‪ ،‬مبدع ‪،‬‬ ‫ح�ضور ال�صمت‪ ،‬حتى يف حلظات الكالم‪ .‬ال تقرتب‬
‫�شامل ‪ ،‬يقدم معطيات متعددة ومتنوعة لر�ؤية‬ ‫ن�صو�ص ال�شاعر اللبناين يف امل�رسح �إال من ن�صو�ص‬
‫الفنان لفنه‪ ،‬القائمة على رف�ض التيمات‬ ‫امل�سارح الطليعية‪ .‬يذكر يكتاباته‪� ،‬أن‬
‫والقوالب والأن�ساق اجلاهزة‪ ،‬لربجمات‬
‫بول �شا�ؤول‪..‬‬ ‫البو�صلة ال تقود �إىل امل�سارح الكربى‬
‫العمل الفني‪ .‬الأب��رز ‪ ،‬رف�ض الإحرتاف‬ ‫�شاعر بيا�ض‬ ‫وامل�سارح العامة‪ ،‬تقود بال�رضورة �إىل‬
‫املهني يف كتابة الن�ص امل�رسحي‪ ،‬لأن‬ ‫م�سارح اجليب‪ .‬م�سارح �صغرية خا�صة‬
‫احلرفة يف الكتابة عند ب��ول �شاوول‪،‬‬
‫يكتب‬ ‫بالن�صو�ص ال��ط��ائ��رة ف��وق ف�ضاءات‬
‫حرفة كتابة ال�شعر ال كتابة امل�رسح‪.‬‬ ‫للم�سرح‬ ‫الالمعقول والعبث والطليعة‪ .‬ال متتلك‬
‫م��ا مينح جتربة الكتابة يف امل�رسح‬ ‫الن�صو�ص‪� ،‬سوى جتريب عالقتها بتلك‬
‫حلظاتها اخلاطفة الواقفة دائم ًا على �شفا الفجيعة‪.‬‬ ‫الأج�سام اجلديدة (ن�صو�ص العبث) يف �ستينيات‬
‫قوة ‪ ‬الن�ص‪ ،‬ال من حرفته‪ ،‬من �أدبيته‪� .‬أدبية �ضد‬ ‫القرن الع�رشين‪ .‬متح�ضها عمراً �أبي�ض �آخر‪ ،‬بكتابة‪،‬‬
‫الإن�شاء ال الأدب‪ .‬لأن الأدب يف «احللبة» �أدب كتابة‬ ‫�أقرب �إىل ال�صك من الكتابة‪.‬‬
‫امل�شهد بالتجريب الب�رصي‪ ،‬ما يدفع الن�ص �إىل �أن‬ ‫ال تواكب ن�صو�ص ب��ول �شاوول ن�صو�ص م�رسح‬
‫يقرتح العمل على روحه الإقت�صادية‪ ،‬ب�سينوغرافيا‪،‬‬ ‫العبث �أو الالمعقول فقط‪� ،‬إذ جتد فيها نهراً من‬
‫�أ�شبه بر�سم امل�شاهد على القما�ش‪ .‬هكذا‪ ،‬قاد ف�ؤاد‬ ‫العروق املتفجرة ‪ ،‬بح�ضوراتها ال�رسية والعلنية‪.‬‬
‫نعيم زوجته املمثلة ن�ضال الأ�شقر ورفيق علي �أحمد‬ ‫عندها‪ ،‬يفتح عيون ن�صو�صه على التجديد‪ .‬جتدد‬
‫‪� ،‬إىل ممار�سة الأناقة باللعب بامل�رسحية الفا�ضحة‬ ‫ن�صو�ص بول �شاوول يف الن�صو�ص القدمية‪ ،‬باجتاه‬
‫واملعرية الأحوال والهزائم اللبنانية حتت �شمو�سها‪،‬‬ ‫ما بعد حداثوي‪  .‬ال ميزج بني ال�شعر وامل�رسح‪ ،‬لأنه‬
‫امل�شعلة امل�شاهد بالأ�سئلة ال بالإ�ستنتاجات‪.‬‬ ‫يداخل بينهما‪ ،‬بدون اخت�صار م�سافات‪ .‬حيث يقيم‬
‫يختزل كل �شيء يف ن�صو�ص بول �شاوول‪ ،‬يختزل‬ ‫ال�شعر يف امل�رسح ويقيم امل�رسح يف ال�شعر‪ .‬هكذا‬
‫الن�ص الن�ص‪ ،‬غري �أنه ال يخت�رص ح�ضور اجلمهور‪،‬‬ ‫يوقد ن�صو�صه‪ .‬يوقد الن�ص امل�رسحي بروح ال�شعر‬
‫بغري املعنى املقولب للكلمة‪ .‬لأن اجلمهور معجزة‬ ‫‪ ،‬بلعبة مرايا متعاك�سة‪ .‬تذهب التجربة ‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل‬
‫ن�ص بول �شاوول‪ .‬جمهور �صوت �أو�صوتني‪ ،‬بح�ضور‬ ‫حد تدمري املركز واملرجعيات‪ .‬ثمة مرجعية غائمة‬
‫‪126‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫دادائ��ي‪  .‬حيث ال يطرح بديالً‪ ،‬ال يريد بدي ًال ‪� ،‬إذ‬ ‫قامات منك�سة‪ ،‬كما يف « احللبة» مع ال�شخ�صيات‬
‫ي�سري �إىل تدمري كل ما هو �سائد ومتعارف عليه من‬ ‫الأربع بوجوهها املخفية بالفتك‪� .‬سوف يردنا هذا‬
‫مقوالت وامناط ومفاهيم ‪� ،‬أمام الوجود الإن�ساين‪.‬‬ ‫�إىل �شعره‪ « .‬كيف نفتك بالوجوه ال�ساكنة خلف‬
‫تلك رغبة الكاتب بن�صو�صه‪ ،‬امل�شغولة بالنمنمة‪.‬‬ ‫الأقنعة»‪ .‬ال ي�ستعر�ض �شعره يف ن�صو�صه امل�رسحية‪،‬‬
‫بالزائر‪ ،‬يجري حديث بني �أني�س وحليم‪ .‬حليم‪:‬‬ ‫�إذ تنوجد الأوىل كمرجع ال ي�ستغنى عنه‪ .‬جملة من‬
‫زوجة �أحد �أقربائي �أدخلت ال�رشيط الكهربائي يف‬ ‫ق�صيدة تخت�رص ح�ضور �أربع �شخ�صيات مقنعة يف‬
‫�أذن زوجها وهو نائم‪ / .‬حليم‪ :‬هاملت حديث‪/‬‬ ‫م�رسحية (لعبت امل�رسحية يف قرب�ص �أو ًال ‪ ،‬ثم على‬
‫اني�س‪ :‬فتكهرب ومات‪ / .‬حليم‪� :‬أ�ضاء قبل �أن ميوت‬ ‫خ�شبة م�رسح اجلان دارك‪ ،‬و�سط الأح��داث الكربى‬
‫‪� /‬أني�س‪� :‬أو بعد �أن مات ‪ /‬حليم‪ :‬عليك �أن جتد حالً‪،‬‬ ‫يف تاريخ لبنان احلديث‪ .‬توقفت عرو�ضها يف �سعري‬
‫ال بد من حل حل‪ ،‬هل فكرت بحل»‪ .‬التكرار ت�أكيد‪،‬‬ ‫«حرب التحرير» والإنقالب على مي�شال عون يف‬
‫يطّ يف الت�أكيد ب�صالح النمنمنة‪ .‬طلب احلل ابتعاد‬ ‫الق�رص اجلمهوري ببعبدا)‪ .‬‬
‫عن احلل‪ .‬بال�صفحة الأربعني‪ ،‬مقطع �آخر ي�ؤكد قلة‬ ‫�شخ�صيتان‪ ،‬دائم ًا �شخ�صيتان‪ .‬الباقي‪ ،‬لزوم ما يلزم‪.‬‬
‫احلرج ‪ ‬من التكرار‪ ،‬لأنه يف موقع �أو مو�ضع وظيفي‪.‬‬ ‫ال �أكرث وال �أقل‪ .‬يتكرر الأمر دائماً‪ ،‬كدقات ال�ساعة‪.‬‬
‫ي�ستفتي ح�ضور العبث‪ ،‬ويبني الإيقاع‬ ‫يبد أ� الواقع‬ ‫�شيء يتكرر يف الوقت وال يكررالوقت‪.‬‬
‫على ال��ع��ب��ارة‪ .‬ل��ن ي����ؤدي ذل��ك �إال �إىل‬ ‫�إن��ه��ا ال�����س��اع��ة امل��ع��ل��ق��ة ع��ل��ى اجل���دار‬
‫املفزع والب�شع‪�  ،‬إىل مقطع من احلياة‬ ‫كجزء �أ�سا�سي‬ ‫واحل��ائ��ط‪� .‬إنها ن�صو�ص ب��ول �شاوول‬
‫اليومية‪ .‬هذه من مفردات بول �شاوول‬ ‫بالعمل‪ ،‬ثم ال‬ ‫املعلقة على الوقت والأزمنة املبحوحة‬
‫الإيقاعي‪ ،‬العارف ب�أن ال �شيء خارج‬ ‫بالرتاب‪ « .‬فنا�ص ياقنا�ص» ال حتوي‬
‫الإي��ق��اع‪ .‬يبني الإي��ق��اع ح�ضوره على‬
‫يلبث العبث �أن‬ ‫�إال على القدر القليل من الدراما‪ .‬ن�ص‬
‫ا�ستدراج احلدث( ال�شنق) ‪ ‬يف « الزائر» ‪،‬‬ ‫يحقق انت�صاره‬ ‫بول �شاوول �ضد الدراما‪ .‬هذا ‪ ،‬موقف‬
‫على التنا�ص امل�شهدي يف « فنا�ص يا‬ ‫الباهر عليه‬ ‫ثقايف �أي�ضاً‪ ،‬مت� ٍأت من متابعة وجتربة‪.‬‬
‫قنا�ص» ‪ ،‬على التقابل يف احللبة‪ ،‬على‬ ‫ذلك �أن �شاوول �ساهم بكتابة الكثري من‬
‫ال�شهادة يف «�صارت ال�ساعة خم�سة»‪ .‬‬ ‫ال�سيناريوهات التلفزيونية وال�سينمائية‪� .‬أرفعها‪.‬‬
‫ال يهاب ب��ول ���ش��اوول �شيئ ًا يف كتابة ن�صو�صه‪.‬‬ ‫كتب حوار فيلم « بريوت يا بريوت « ملارون بغدادي‬
‫يعريها �شخ�صيته‪ .‬يعريها حركته‪ .‬حركة من حركة‪،‬‬ ‫و«ال�سنوات ال�ضائعة» ‪ ،‬واحدة من �أجمل الدرامات‬
‫حركات من حركة على حركة‪ .‬يجزىء الواقع‪ ،‬لكي‬ ‫التلفزيونية بتاريخ الإنتاج العربي ‪ ،‬ب�إخراج الناقد‬
‫ي�ضحي ال��واق��ع �ضد الواقعية‪ .‬يبد أ� ال��واق��ع كجزء‬ ‫واملخرج التلفزيوين امل�رصي‪ ،‬املقيم يف لبنان ‪،‬‬
‫�أ�سا�سي بالعمل‪ ،‬ثم ال يلبث العبث �أن يحقق انت�صاره‬ ‫�سمري ن�رصي‪ .‬كل ال�شخ�صيات �شخ�صية واحدة‪ .‬ال‬
‫الباهر عليه‪ ،‬ب�أدوات الواقع نف�سها‪ .‬ال�شعر من الواقع‪.‬‬ ‫يخون القنا�ص مهنته بالن�ص امل�رسحي‪ ،‬يخون‬
‫(الدم �رس �صاحبه‪ /‬الزائر)‪ .‬ما ال يدع �أي جمال لل�شك‪.‬‬ ‫ان�سانيته‪ .‬ال يقن�ص على العابر �أو على املا�شي‬
‫�أني�س‪ :‬ق��ر�أت مقا ًال يقول �أن تك�سري الأ�شياء يخفي‬ ‫على ال�سطح باملقابل‪ ،‬يقن�ص املدينة‪ ،‬يقن�ص روح‬
‫رغبة بالإنتحار‪ / .‬حليم‪ :‬الإنتحار؟ الإنتحار ؟ ومن‬ ‫املدينة‪ ،‬جوهر ح�ضور املدينة يف التاريخ والأدب‬
‫يتحدث عن الإنتحار؟ ‪� /‬أني�س ‪� :‬أو القتل‪ /.‬حليم‪ :‬من‬ ‫والثقافة‪ .‬القن�ص لعنة غام�ضة‪ ،‬ت�شعل القبائلية يف‬
‫يتحدث عن القتل(‪� .)...‬أثناء حالقة ذقنك ترى فج�أة‬ ‫املدينة �ضد روح احل�رض ‪� ،‬ضد ال��روح احل�رضية‪.‬‬
‫رقبتك‪ ،‬وفج�أة حت�سها ل�شخ�ص �آخر‪� ،‬أو لكائن �آخر‪.‬‬ ‫منت الن�ص‪ ،‬منت دادائي عند �شاوول‪ .‬جوهر كتابته‬
‫‪127‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫غري م�سطح يف احلالني‪ .‬م�رسح نحت باللغة‪� ،‬إذا ما‬ ‫تراها فج�أة تب�ص يف امل��ر�آة‪ .‬ترفع ال�شفرة‪ .‬مترر‬
‫دورنا الكالم على الفنون الت�شكيلية‪ .‬‬ ‫�أ�صبعها عليك‪ .‬على ملعانها‪ .‬على طول ن�صلها‪ .‬هكذا‬
‫خ�صو�صية ن�صو�ص بول �شاوول من خ�صو�صيته‬ ‫برفق‪ .‬ترفعها �إىل حدود عينيك‪ .‬فنزو ًال �إىل فمك‪،‬‬
‫ال�شخ�صية‪ .‬هذه �سحرها‪� .‬سحرها من قدر كاتبها‪ .‬ال‬ ‫ف�إىل رقبتك‪ .‬ترى كل �شيء من خاللها‪ .‬وتدرك مدى‬
‫يقيم الن�ص ح�ضوره على مفاهيم الفرجة امل�رسحية‪.‬‬ ‫جمالها‪ .‬رمب��ا عندها بالذات تخاف من الأفعال‬
‫يرتك الأخ�يرة للمخرجني‪ .‬يرتك الفرجة لأ�صحاب‬ ‫الهام�شية‪� « .‬سمة تطبيقية‪ ،‬تبني الأ�شياء على نبذ‬
‫الفرجة‪ .‬الن�صو�ص مهواة بالفراغات‪ .‬ال �شيء �إال‬ ‫املبادئ والأنظمة التقليدية وامل�صطلحات الفنية‬
‫ال�سلفية‪ .‬م�صطلحات ال ��ضرورة لها يف ن�صو�ص‬
‫بع�ض املالحظات‪ .‬عندها‪ ،‬يرتفع الن�ص بعنا�رصه‬
‫�شاوول‪ .‬لأن امل�صطلح هو الن�ص الكامل هنا‪ ،‬ال‬
‫الطازجة على طزاجة الإخ���راج‪ ،‬ال على امل�صوغ‬
‫امل�صطلح يف اجلملة‪ .‬يتوا�صل الكالم حتى يلتحم‬
‫امل�صطنع‪ .‬ال على ال�صنيعة‪ ،‬بل على الر�ؤية‪ .‬الأ�سا�س‪،‬‬ ‫�إىل حد الذوبان‪ ،‬بالف�ضاء العام للم�رسحية �أو الن�ص‬
‫هنا‪ ،‬امل�صوغات التعبريية املتوازية‪ .‬واقع كامل ‪،‬‬ ‫امل�رسحي‪ .‬يلغي �شاوول بذلك امل�سافات‪ .‬امل�سافة‬
‫وهم كامل ‪ ،‬خيال كامل‪ ،‬بن�صو�ص بول �شاوول‪،‬‬ ‫بني امل�رسح واحلياة‪ ،‬بني امل�رسح والنا�س ‪ ،‬بني‬
‫القائم على ا�شكال العالقات املدينية‪ ،‬على املدينة‪ ،‬ال‬ ‫امل�رسح وكل ال�رشعيات امل�ضادة للم�رسح‪ .‬حتتل‬
‫على �أطرافها‪ .‬م�رسح منفلت من التقانني امل�رسحية‪.‬‬ ‫ال��روح ال�ساتريية ن�رص�ص امل�رسحي وال�شاعر‪ ،‬ال‬
‫م�رسح بني حربني‪ ،‬بن�صو�ص حياة كاملة خمتزلة‬ ‫من ح�ضور الرق�ص الغرائبي وال الغناء‪ .‬من تبادل‬
‫ب�سرية �شخ�صني �أو �شخ�ص �أو طيف على هيئة‬ ‫النكات‪ .‬التنكيت‪ ،‬جوقة ب��ول �شاوول الأث�يرة يف‬
‫جتل �شعري‪ ،‬ال يقوم يف مقام الإله‪ .‬ن�ص‬ ‫�شخ�ص �أو ٍ‬ ‫امل�رسح واحلياة‪ .‬نوع من الكوميديا اخلا�صة‪ .‬لن‬
‫�شاوول‪ ،‬ن�ص يقرتب من دون ق�صد من الهابننغ‪.‬‬ ‫تلزم الن�صو�ص ال�شاوولية اجلمهور باجللو�س‪ .‬لن‬
‫ما يقوم على مواقف ال تتكرر مرتني‪ ،‬ب�شيء ي�شبه‬ ‫تقدم له متع ًا ترفيهية �صغرى‪ ،‬حتى يف اللمحات‬
‫التلقائية باملجتمعات الغنية باملعاين‪ .‬احتفال‬ ‫الكوميدية‪ .‬ال مكت�سبات �صغرية يف ن�صو�ص بول‬
‫الثقافة بنف�سها يف ن�صو�ص الكاتب‪ .‬ن�صو�ص �ضد‬ ‫�شاوول‪ .‬امل�رسح يف الن�ص‪� .‬إما امل�رسح �إو ال �شيء‪.‬‬
‫الفودفيل وروح املنوعات والثقافات ال�شعبية‪ .‬ال‬ ‫هذه معادلة الن�ص عند الكاتب‪ ،‬املقل بالكتابة‪ .‬لأن‬
‫كتابته ال تقوم على املالحظات العادية‪ .‬وال على‬
‫احتفاء بالرتفيه‪ .‬خلق باخليال الإجتماعي‪ ،‬باخليال‬
‫تقليدها‪� .‬سوف يالحظ ذلك‪ ،‬كل من يعرف الكاتب‪.‬‬
‫الثقايف‪ ،‬ي�ضمن مهمة العر�ض الأ�سا�سية‪ .‬ن�صو�ص‬
‫مولد املالحظة ال ناقلها‪ .‬ال حركة ا�صالح‬ ‫�إذ �أن��ه ّ‬
‫متمردة‪ ،‬تريد التمهيد جلديد‪ ،‬يحتاج �إىل كتابة‬ ‫كربى‪� ،‬إذ يداخل الكاتب بني احلياة والكتابة‪.‬كتابته‬
‫ن�صو�ص على ن�صو�ص‪ ،‬حتى ت�صيب الن�صو�ص‬ ‫وحياته‪  .‬هكذا يح�رض �شكر اهلل اجل��ر يف احلياة‬
‫مفاهيم الت�أ�سي�س ومعانيها‪ .‬ن�صو�ص حممومة‬ ‫والكتابة‪ .‬هكذا حت�رض جل�سات �شاوول مع الأ�صدقاء‬
‫بالعبث‪� .‬صحيح‪ .‬غري �أنه ال عبث بيكت وال �آرابال وال‬ ‫يف م�رسحه‪ .‬مروياته العادية‪ ،‬مي�رسحها�شاوول‬
‫�آداموف وال يون�سكو وال �شحادة‪ .‬العبث عبث نف�سه‪،‬‬ ‫بن�صو�صه‪ .‬من �شخ�صية �إىل حركة �إىل ن�سيج‪ ،‬من‬
‫عبث بول �شاوول‪ .‬‬ ‫و�ضعيات وق�ضايا منفرجة على التحقيق‪ .‬فكر‬
‫وذاكرة‪ .‬م�رسح خارج العلبة ويف العلبة ب�آن‪ .‬م�رسح‬

‫‪128‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫بول �شاوول‪:‬‬
‫�أفق �آخر للكتابة ال�شعرية‬
‫ج�سد �صارخ يف برية الع�شق‬
‫\‬
‫مفيد جنم‬
‫مغامرة �شعرية تنفتح على �أ�سئلة الذات الوجودية‬ ‫يكت�سب الن�ص ال�شعري عند بول �شاوول حداثته‪ ،‬من‬
‫وقلقها ووعيها املعذب‪ ،‬يف �أكرث حاالتها ا�ستبطانا‬ ‫خالل جمموعة من العالمات اجلديدة‪ ،‬التي تن�ش�أ‬
‫لها‪ ،‬وتكثيفا ملعناها بو�صفها حماولة اندغام بني‬ ‫عن العالقات اجلديدة التي تقيمها اللغة فيما بينها‪،‬‬
‫ج�سدين يجعالن من الع�شق و�سيلتهما للتعايل على‬ ‫على م�ستوى الدوال واملدلوالت والت�شكيل النابع من‬
‫�رشطهما ال��وج��ودي‪ ،‬ويف الآن نف�سه للتعبري عن‬ ‫ر�ؤية خمتلفة‪ ،‬ت�ؤ�س�س لعقد جديد مع الكتابة ال�شعرية‬
‫يقني �ضائع يبحث عن معادله الوجودي ال�ضائع يف‬ ‫ومغامرتها احلداثية‪ ،‬التي تنفتح على �أفق التجريب‬
‫مغامرة حمكومة ب�شعور باهظ بالزمن‪.‬‬ ‫والبحث عن جماليات جديدة‪ ،‬م�ستفيدة يف ذلك من‬
‫ي�شكل عنوان الديوان بو�صفه جماع الوحدة الداللية‬ ‫�أ�شكال الكتابة الأخرى التي تقيم تنا�صها معها‪ ،‬على‬
‫الكربى لن�صو�ص الديوان مفتاحا ت�أويليا‪ ،‬ينه�ض‬ ‫م�ستوى تقنيات وو�سائل التعبري فيها‪ ،‬ويف املقدمة‬
‫بوظيفة الربط بني املتلقي ون�صو�ص العمل‪ ،‬وذلك‬ ‫منها تقنية ال�رسد‪ ،‬التي تغدو عالمة فارقة عابرة‬
‫من خالل بنيته الداللية والنحوية‪ ،‬التي تت�ضمن‬ ‫حلدود التجني�س الأدبي‪� ،‬إىل جانب عالمات �أخرى‬
‫حذفا ي�ؤدي �إىل الغمو�ض ب�سبب عدم اكتمال املعنى‬ ‫تظهر من خالل تداخل الأ�صوات وال�ضمائر وتعدد‬
‫يف بنية العنوان‪ ،‬التي تت�ألف من �شبه جملة( ك�شهر‬ ‫م�ستويات اللغة يف املعجم ال�شعري ومرجعياتها‪،‬‬
‫طويل من الع�شق) �إذ يتم حذف امل�شبه يف هذه اجلملة‪،‬‬
‫التي يرتحل معها وعي الذات ال�شعرية يف ف�ضاءات‬
‫والإبقاء على امل�شبه به‪ ،‬مقرتنا ب�أداة الت�شبيه التي‬
‫التخييل‪ ،‬وذاكرة الكتابة الع�شقية والإيروتيكية التي‬
‫ت�رصح به‪ .‬تتجاوز الكتابة‬‫ّ‬ ‫حتيل بدورها دون �أن‬
‫حتفر فيها‪ ،‬وتعيد بناءها على م�ستوى �أعلى‪ ،‬يف‬
‫اجلديدة لهذه الن�صو�ص يف مقرتحها الن�صي بنية‬
‫الن�ص وعالقات االنزياح التي يقيمها على م�ستويات‬ ‫�إط��ار مغامرة الكتابة وجمالياتها على امل�ستوى‬
‫عديدة‪� ،‬إىل �أف��ق الكتابة �أو املكان الطباعي‪ ،‬من‬ ‫الوجودي الإن�ساين‪ ،‬و�أ�سئلته الغائرة يف عمق هذا‬
‫حيث �شكل الكتابة التي تتزاحم فيها امل�ساحات‬ ‫الوعي الإن�ساين‪.‬‬
‫ال�سوداء للكلمات‪ ،‬على ح�ساب م�ساحات الهام�ش‬ ‫و�إذا كان من ال�صعب تناول جتربة غنية ومركبة‬
‫الأبي�ض ال��ذي يتقل�ص كثريا‪ ،‬للداللة على كثافة‬ ‫كتجربة بول �شاوول‪ ،‬عمرها يتجاوز الأربعني عاما‬
‫حالة ال�شعور بتلك التجربة‪ ،‬و�سطوة ح�ضورها من‬ ‫يف مقال نقدي‪ ،‬مهما حاولنا التكثيف والإيجاز‪،‬‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى لكي تقيم تعالقها مع الكتابة‬ ‫ف�إن التوقف مع جتربته يف ديوانه ك�شهر طويل من‬
‫النرثية ملغية احلدود بينها وبني الكتابة النرثية‪،‬‬ ‫الع�شق‪ ،‬ميكن �أن ي�ساعدنا يف الك�شف عن جانب مهم‬
‫التي يتدعم ح�ضورها الفاعل على م�ستوى تقنيات‬ ‫من ا�سرتاتيجية الكتابة ال�شعرية وحتوالتها‪ ،‬يف‬
‫‪129‬‬ ‫�سورية‬
‫ّ‬ ‫\ ناقد وكاتب من‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫على تف�صيل الإجمال‪ ،‬وا�ستطراد التداعي والتف�سري‪،‬‬ ‫الكتابة و�أدوات��ه��ا التعبريية‪ ،‬من خ�لال ا�ستخدام‬
‫كما يف قوله‪:‬‬ ‫ال�رسد واملنولوج والت�سطري واال�ستطراد وا�ستخدام‬
‫�إذ ما الذي ي�سود هذا الف�ضاء اخلايل‬ ‫�أحرف الربط �أو �إ�سقاطها عن عملية الربط بني اجلمل‬
‫والبدنني خِ ْرقتي زمن بائر‬ ‫‪ .‬يف هذه الن�صو�ص املفردة لتجربة الع�شق ينه�ض‬
‫وم�شتقات الأ�شياء ذات ال�سطوة‪ ،‬والهواء املتبلد‪ ،‬بعد‬ ‫اجل�سد كب�ؤرة تتكثف فيها ومعها معاين اللذة والعدم‪،‬‬
‫البدد‬ ‫الت�ألق واحل�رسة‪ ،‬ك�أن هذا الع�شق ميتد كوتر م�شدود‬
‫مغادرة احلوا�س �شفقها امللتهب‪.‬‬ ‫بقوة بني طريف قو�س هذه املعادلة ال�شاقة لوجود‬
‫ومن املالمح الأ�سلوبية الأخ��رى التي تهيمن على‬ ‫حمكوم بالقدر‪ ،‬ال ي�ستطيع الع�شق �أن يحرر وعي‬
‫ن�صو�ص العمل ا�ستخدام النرب �أو الت�ضعيف‪ ،‬الذي‬ ‫ال��ذات ال�شقي من �سطوة ح�ضوره‪ .‬التنا�ص الذي‬
‫يهدف �إىل زيادة يف املبنى ولفت نظر املتلقي �إىل‬ ‫تقيمه الكتابة ال�شعرية مع �شكل الكتابة النرثية‬
‫الكلمة‪� ،‬إىل جانب اال�ستخدام املكثف للتكرار الناق�ص‬ ‫و�أدواتها‪ ،‬يت�سع من املبنى �إىل املعنى‪ ،‬حيث تقيم‬
‫الذي ي�أتي يف و�سط الكالم‪ ،‬بو�صفه �أداة للتعبري عن‬ ‫التجربة تنا�صها مع تراث الع�شق والأدب الإيروتيكي‬
‫كثافة ح�ضور احلالة ال�شعورية به عند ال�شاعر‪� ،‬إىل‬ ‫يف مدونات ال�رسد والنرث العربية القدمية‪ ،‬وهو ما‬
‫جانب وظيفته يف تعميق �شعور املتلقي به‪ ،‬وحتقيق‬ ‫ميكن �أن يلحظه املتلقي يف تنوع وتعدد م�ستويات‬
‫�أهداف �إيقاعية ون�صية‪:‬‬ ‫مفردات املعجم ال�شعري يف ن�صو�ص هذا الديوان‪،‬‬
‫تقبلني علّي ك�شهر طويل من الع�شق‬ ‫التي تتوزع على �أربعة م�ستويات( �ألفاظ حديثة‬
‫ك�شهر طويل من الع�شاق‬ ‫وق��دمي��ة‪ ،‬عامية م�ستعارة و�أجنبية) يف حماولة‬
‫�أنهدم عليك �شهرا طويال من الع�شق‪.‬‬ ‫الخرتاق طبقات معجم الع�شق الرثي والعابر للغات‬
‫يف هذا املقطع يالحظ التقابل على م�ستوى �صيغة‬ ‫والثقافات الأخ��رى‪ ،‬بهدف �إقامة حوار جامع بني‬
‫الأفعال امل�ضارعة‪ ،‬التي يحقق تكرار ا�ستخدامها منوا‬ ‫خطابات الع�شق يف هذه الن�صو�ص ون�صو�ص الع�شق‬
‫يف ف�ضاء الق�صيدة وزمنها‪ .‬لكن ثمة داللتني خمتلفني‬ ‫الأخ��رى‪ ،‬بحيث تتحول الكتابة �إىل حفر يف ذاكرة‬
‫يحملهما معنى الفعل الأول‪ ،‬الدال على �ضمري امل�ؤنث‬ ‫الع�شق وتاريخه ومعانيه‪ ،‬بو�صفه املحيط الذي‬
‫الغائب( تقبلني)‪ ،‬الذي يقابله الفعل الدال على �ضمري‬ ‫ت�صب فيه كل الأنهار‪.‬‬
‫املتكلم يف ال�سطر الثالث( �أنهدم عليك)بحيث توحي‬ ‫تتنوع تقنيات الكتابة يف ن�صو�ص هذا العمل‪ ،‬بحيث‬
‫�صيغة الأفعال بطبيعة العالقة‪ ،‬التي حتكم و�ضع كل‬ ‫متنح بنيتها مالمح خا�صة‪ ،‬تعك�س هاج�س التجريب‬
‫منهما داخل هذا الف�ضاء الع�شقي‪ ،‬وهو و�ضع يدل‬ ‫والتجديد‪ ،‬كما يف �آخر ق�صيدتني من ق�صائد الديوان‪،‬‬
‫على التباين واالختالف‪ .‬يف �ضوء هذه اخل�صائ�ص‬ ‫يقوم بنا�ؤهما على ا�ستخدام تقنية احلوار الدرامي‬
‫املميزة للقول وما ي�سعى للإيحاء به‪ ،‬لكي يدخل‬ ‫ال��ذي يحاول ال�شاعر من خاللها جت��اوز �أحادية‬
‫املتلقي كطرف يف هذه العالقة‪ ،‬ف��إن جتربة هذا‬ ‫ال�صوت �أو �ضمري املتكلم املفرد يف الق�صيدة‪ ،‬الذي‬
‫الديون تتطلب قراءتها �سيمولوجيا ونحويا و�أ�سلوبيا‪،‬‬ ‫يهيمن عادة على اخلطاب ال�شعري‪ ،‬ب�صورة ينتقل‬
‫لكي ي�ستطيع الدار�س الك�شف عن خ�صو�صية القول‪،‬‬ ‫فيها اخلطاب من م�ستوى ارتباطه الوثيق ب�ضمري‬
‫والوقوف على بنيتها اال�ستعارية واخلطابية‪ ،‬التي‬ ‫املتكلم �إىل م�ستوى تعدد الأ�صوات‪ .‬كذلك تتميز بنية‬
‫يكرث فيها ا�ستخدام ال�ضمائر املت�صلة للداللة على‬ ‫اخلطاب ال�شعري باال�ستطراد‪ ،‬الذي يتم معه حذف‬
‫االت�صال واحلميمية يف عالقة الع�شق‪ ،‬التي توحد‬ ‫�أدوات الربط كواو العطف‪� ،‬إىل جانب ا�ستخدام �صيغة‬
‫بينها‪ ،‬يف جدل الذات والآخر‪ /‬امل�ؤنث‪ ،‬وجدل اجلن�س‬ ‫الرتاكم املركب الذي تطغى فيه مفردة اجل�سد �أو ما‬
‫وامل��وت يف هذه التجربة الأنطولوجية‪ ،‬املحكومة‬ ‫يحيل �إليها‪� ،‬إىل جانب احل�شد الرتاتبي الذي ي�شتمل‬
‫‪130‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫كما يف ق�صيدة الديوان الثانية ن�ساء التي تتقل�ص‬ ‫بهما( اهتزك‪� ،‬أ�ضمك �إيلَّ‪ ،‬تكاثرينني و�أكاثرك‪.)..‬‬
‫فيها م�ساحة ال�سواد لتت�سع م�ساحة الهام�ش الأبي�ض‪،‬‬ ‫تهيمن ثيمة اجل�سد و�سريورته على امل�شهد ال�شعري‬
‫يف حني �أن ا�ستخدام ال�شاعر للرتقيم‪ ،‬والذي يحمل‬ ‫���س��واء م��ن خ�لال ا�ستنطاقه‪� ،‬أو احل���وار م��ع��ه‪� ،‬أو‬
‫داللة كمية ال يحول دون وحدة الن�ص‪ ،‬الذي ي�ستخدم‬ ‫ا�ستظهار عالماته الأيقونية �أو الكتابة به ومعه بلغة‬
‫ال�شاعر يف مفتتح كل مقطع من مقاطع الق�صيدة‬ ‫يتداخل فيها املعنوي واحل�سي‪ ،‬الوجودي الإن�ساين‬
‫�صيغة جمع امل�ؤنث ال�سامل ونون الن�سوة‪ ،‬باعتباره‬ ‫والذاتي بحاالته ومتغرياته املحكومة بح�س موجع‬
‫حماولة لتكثيف ح�ضور �صورة اجل�سد امل�ؤنث يف‬ ‫مبحدوديته وب�س�ؤال الوجود املعذب‪:‬‬
‫حتوالته وحاالته املختلفة‪ ،‬التي تتوزع بني توهجه‬ ‫هكذا ومن ذلك الن�شيد اخلال�ص‬
‫وخريفه‪ ،‬وح�رسته و�أ���س�راره‪ .‬وال تختلف ق�صيدة‬ ‫عدم اللذاذات وما تخليه نثارا‬
‫�أحوال اجل�سد التي ي�شكل عنوانها حمورا دالليا يظل‬ ‫يف مفازات الوقت املعروق‪.‬‬
‫الن�ص يدور حوله عن الن�صو�ص الأخ��رى‪ ،‬من حيث‬ ‫‪.......‬‬
‫ا�ستح�ضار كثافة احل�ضور الطاغي للج�سدين يف‬ ‫ما الذي يتك ّهنه اجل�سد يف متا�ساته وانف�صاالته‪� ،‬أو‬
‫حلظة اندماجهما وت�شتتهما‪� ،‬أو يف حلظة‬ ‫ي�ستمليه �آن �شلوا‬
‫وعيهما الوجودي احلزين‪ ،‬كما يتجلى يف‬ ‫«ك�شهر طويل‬ ‫ناب�ضا‪ ،‬وغيابا م�سلوال من ح�ضور كثيف‪.‬‬
‫تبدد الزمن وبرودة الظالل التي ترخيها‬ ‫من الع�شق»‬ ‫متتد هذه الثنائية املتقابلة املحكومة‬
‫عليهما �شمو�س ه���ذا ال��ع��امل احل��زي��ن‪،‬‬ ‫ب��ج��دل ال��ع�لاق��ة �إىل ثنائية احل�ضور‬
‫واملفتوح على الغياب والوح�شة والعزلة‪:‬‬ ‫ينه�ض اجل�سد‬ ‫والغياب‪ ،‬كعالمتني دالتني على طبيعة‬
‫‪ -‬كنت �أمامي كليلة �سابقة‬ ‫كب�ؤرة تتكثف‬ ‫التجربة الوجودية للكائن الإن�ساين‪،‬‬
‫‪ -‬لكنك ح�ضنتني وكدت تبكي‬ ‫بو�صفها جتربة حمكومة بالنق�صان‪ .‬و�إذا‬
‫‪ -‬مل يغلق �أحد الأبواب خلفنا‪.‬‬ ‫فيها ومعها‬ ‫كان �ضمري املتكلم هو ال�ضمري املهيمن‬
‫تتجلى حداثة الن�ص ال�شعري على م�ستوى‬ ‫معاين اللذة‬ ‫على اخل��ط��اب‪ ،‬ف����إن �ضمري املخاطب‬
‫بنيته اال�ستعارية‪ ،‬يف حماولة حترير‬ ‫يتوزع على �أكرث من �ضمري‪ ،‬هما �ضمري‬
‫العالقات القائمة بني احلوا�س والأ�شياء‬ ‫والعدم‬ ‫امل�ؤنث املخاطب‪ ،‬و�ضمري الأنا الأخرى‬
‫من منطقية العالقة ومرجعيتها احل�سية‬ ‫يف ت�شظي الذات وانق�سامها على ذاتها‬
‫ب�صورة تغدو فيه لغة اال�ستعارة لغة جديدة داخل‬ ‫يف حوار الذات مع نف�سها‪ ،‬بهدف ا�ستبطان معاين‬
‫اللغة‪ ،‬لي�س بهدف خلف �شعور بالغرابة وح�سب‪ ،‬بل‬ ‫هذه التجربة وتكثيف �أ�سئلتها التي يحاول �شاوول‬
‫لإعادة بناء �صورة الأ�شياء والعامل على نحو مغاير‬ ‫من خاللها �أن يتلم�س حدود الوجود والعدم‪ ،‬وهو‬
‫للم�ألوف‪ .‬هنا يلعب التخييل ال�شعري دوره الكبري‬ ‫ي��روم جغرافية اجل�سد امل�شحون باللذات يف �أكرث‬
‫يف عملية البناء اجلديدة للغة وال�صورة ال�شعرية �أو‬ ‫حلظاته �شبقا واندفاعا‪ ،‬بينما يحتفي اجل�سد الآخر‬
‫امل�شهدية ال�شعرية‪ ،‬التي جندها يف ن�صو�ص الديوان‬ ‫ببهاء اللحظة التي متتد بات�ساعها‪ ،‬وتنغلق على‬
‫حمكومة بانزياحات متعددة‪ ،‬يف مقدمتها انزياح‬ ‫وجودهما الطافح بالرغبة‪:‬‬
‫املعاين �أو ال�صفات عن املو�صوف‪ ،‬وانزياح ال�صمت‬ ‫وعندها ك�� ْأن �أ�صابني �شميم اله�ضبة‪� ،‬أو هزهزك‬
‫الدال على االنقطاع يف الكالم( غبار يغ�سل اليدين‪-‬‬ ‫متلمل الطبائع اخلفية‬
‫عتمة واحدة عارية ت�رشق من كل اجلهات‪� -‬شمو�س‬ ‫تع ّدين‪ -‬كمن يغلق بواباته كلها‪� -‬سنوات من الليل‬
‫ترخي بظاللها‪ -‬كيف تربق الأوراق بخريفها‪� -‬سماء‬ ‫املبلول‪.‬‬
‫تتنف�س ب�صي�ص نيازك‪.)..‬‬ ‫تتباين �أ�شكال الكتابة بني ن�ص و�آخر يف هذا الديوان‪،‬‬
‫‪131‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال تخون املهرج احلزين‬


‫�إال �ضحكاته‬
‫\‬
‫جمانة حداد‬

‫ �إىل بول �شاوول‬

‫لدت لتكون عبقاً‪.‬‬


‫ُو َ‬
‫لدت والد ًة لتكون؛ بركان ًا على �شفة؛ يداً‬
‫ُو َ‬
‫تنجبكَ من ذاتكَ ك ّل �صباح؛ و�سبب ًا للبحر‪.‬‬
‫أنت‪،‬‬‫مثلما الظلُ برهان ال�شجرة‪ ،‬هكذا � َ‬
‫برهانكَ ‪ .‬تعي�ش التبا�سكَ وتتعلّم حكمة �أن‬
‫العودة‪ .‬لأن ال كربياء‪ ،‬وال عودة‪.‬‬ ‫تتحرر منه‪ ،‬ال به‪ .‬حكمة �أن‬ ‫حتبه‪ .‬حكمة �أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ورحم للمت�ساقطني‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قلبكَ جب ٌل للمت�سلقني‪،‬‬ ‫مبعزل عنك‪ ،‬كمثل مط ٍر ال يدين‬
‫ٍ‬ ‫ترتكه يتحقق‬
‫قلبكَ لك ّل ما‪ ،‬ك ّل َمن عداك‪.‬‬ ‫للغيمة ب�شيء‪ .‬ويعرف‪.‬‬
‫الكلمات؟ حم�ض م�صادفة يف دربكَ ‪ .‬يظ ّنونها‬ ‫أنت وحدكَ ‪،‬‬
‫كلما م�شى ليلٌ‪ ،‬يبقى لكَ منه‪ ،‬لكَ � َ‬
‫أنت من‬‫أنت � َ‬
‫امل�سرية وهي حادث ال�سري‪َ � .‬‬ ‫�ضوء لرتويه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫دونها‪.‬‬ ‫الأفق يف حلقكَ مك�سور‪ ،‬لكن ال �أحد يغ ّني‬
‫كائن �صغري‪.‬‬
‫�أ�سمعكَ �أيها ال�شاعر تقول‪ :‬الدمع ٌ‬ ‫ال�سماء مثلما تغ ّنيها‪ .‬تغيرّ قدركَ كلما‬
‫�صغري �أي�ضاً‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أخت �صغرية‪ .‬ال�شعر‬
‫ال ُ‬ ‫كتبت ق�صيد ًة‪ ،‬ووحدتكَ معطفكَ �ضد احلياة‪.‬‬ ‫َ‬
‫مت�ضغ يف طريانكَ خبز العا�صفة‪ ،‬وترتك‬
‫احلزين �إال �ضحكا ُته‪.‬‬
‫َ‬ ‫املهر َج‬
‫ّ‬ ‫وال تخون‬
‫عظامكَ القدمية ترتاكم على كتفيكَ ‪ .‬ال ثقل‪،‬‬
‫�أيها ال�شاعر‪ ،‬يعوق �سفركَ ‪ .‬وال كربياء تعوق‬

‫‪132‬‬ ‫\ �شاعرة ومرتجمة من لبنان‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫�سطوح ‪ ،‬بول �شاوول‬


‫و�أعماقه‬ ‫ ‬
‫�سيف الرحبي‬

‫جيئ ًة وذهاب ًا ‪ ،‬مع قليل من الأ�سفار و�أقل‬ ‫من تلك ال�سطوح التي يقع فيها (منزل) بول‬
‫القليل من الأ�صدقاء ‪ ،‬مرتح ًال دائما‪ ،‬يخو�ض‬ ‫�شاوول ‪ ،‬كان ميكن �أن نرى البحر البريوتي‬
‫حروبه اخلا�صة العد ّمية على الأرجح ‪ ،‬يف‬ ‫ب�سفنه وقواربه ‪ ،‬من ناحية كورني�ش املنارة‬
‫املخيلة واللغة التي ال ت�ستقر على حال ‪،‬‬ ‫‪� ،‬ساطع ًا يزحف نحوك بقدمني حافيتني‬
‫دائخ ًة مرت ّنح ًة ‪ ،‬من فرط حيويتها وحمولتها‬ ‫جرّحتهما احلروب والنكبات‪.‬‬
‫العتَمة والهوام وحطام‬
‫و�سط َ‬
‫َ‬ ‫الدالل ّية املبحرة‬
‫لكن العمارة ال�ضخمة التي نه�ضت فج�أة ‪،‬‬
‫امل�ستقبل‪.‬‬
‫و�أحالت امل�شهد الف�سيح �إىل تهومي وذكرى ‪.‬‬
‫من كتاب �إىل �آخ��ر منذ مطلع ال�سبعينات‬ ‫و�أحاله بول �إىل جزء من ذاكرة الأدب الكبري‬
‫وحتى (من غري اثر يذكر ) ( دفرت �سيجارة)‬ ‫وذاك��رة املدينة ‪،‬يف كتب متن ّوعة الأمن��اط‬
‫ا�ستطراداً (ملنديل ُعطيل) حت�س �أنك داخل �إىل‬ ‫والأ�ساليب ‪� ،‬شعراً وم�رسح ًا ‪ ،‬نرثاً وترجم ًة‬
‫غابي ال رجعة منه �إىل حيث انطلقت ‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫متاه‬ ‫ونقداً ‪ ،‬كتب ًا ال ت�شبه �إال نف�سها وهي مت�ضي‬
‫اخلطر يزحف من كل اجلهات ‪ .‬اخلطر اجلمايل‬ ‫كا�رسة �أي احتمال �أو توقع ‪� ،‬صوب �أفق جمهول‬
‫املحدق والذي ال يروم هدف ًا وال غاي ًة �إال هدف‬ ‫با�ستمرار ‪.‬‬
‫الإقدام وغاية الإبحار البهيج ِ يف قلب حركة‬
‫ك�أمنا التجريب واملغامرة لدى �شاوول ‪ ،‬لي�س‬
‫الكائن واملدينة ‪ ،‬وهو يف هذا على نقي�ض‬
‫تلك املقوالت الربانية التي ا�ستُهلكت ‪ ،‬ح ّد‬
‫�أ�سالفه الفينيق ّيني يف الإبحار واملغامرة‪.‬‬
‫االبتذال ‪ ،‬و�إمنا هي لهاث الذات وجموحها ‪،‬‬
‫خائن الإرث وال�ساللة وهي اخليانة املوجبة‬ ‫تلك الذات املنطوية وامل�شتبكة بتاريخ ال يلد‬
‫على �أي مثقف حقيقي �أن ميار�سها (ذلك ما‬ ‫�إال اخليبات واالنك�سار ‪.‬‬
‫فعله مثقفون كثريون يف لبنان) ‪ .‬يوا�صل بول‬
‫خيانة ال�ساللة احل ّية املحيطة ‪ ،‬هو املاروين‬ ‫ذلك ما يدفع العبارة �إىل احلافة واالنفجار‬
‫القادم من جبل لبنان ‪ ،‬يقطن وحيداً منذ‬ ‫الداليل الع�صي على النمط والت�صنيف ‪.‬‬
‫مطلع حياته يف املناطق التي ُ�صنفت طائفي ًا‬ ‫بول الذي يركن �إىل روتني احلياة اليومية‬
‫بالإ�سالمية ‪ .‬مع كل تلك احلروب االهل ّية التي‬ ‫من منزل ال�سطوح ذاك‪� ،‬إىل املقهى واجلريدة‪،‬‬
‫‪133‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وزن ًا ‪ ،‬ويف �أي مكان عربي وغريه ‪ ،‬عدا للمادة‬ ‫كان فيها القتل واخلطف وال�سحل على الهو ّية ‪،‬‬
‫املقرونة بالفظاظة و�إعدام الذوق ‪.‬‬ ‫مل يغادر هذه املنطقة ال �إىل م�ضارب الع�شرية‬
‫ذلك ال��ذوق اجلمايل النابع من حب �أ�صيل‬ ‫والطائفة وال �إىل غريها من �أحزاب وتكتالت ‪.‬‬
‫للحياة ‪ ،‬والذي هو قرينة م�شرتكة لدى كافة‬ ‫ظل ال�شاعر احلر النبيل ي�سكن لبنانه اخلا�ص‬
‫اللبنانيني ‪ ،‬وهنا تكمن املفارقة ‪ .‬وهذه كما‬ ‫ال��ذي حلم به بعيداً عن ح��روب البغ�ضاء‬
‫يقول م�ؤرخو الأدب جزء من ن�سيج الرتاجيديا‬ ‫واالنحطاط ‪.‬‬
‫يف التاريخ وامل�رسح‪.‬‬ ‫ظل ي�سكن هذه املنطقة التي �ألفها و�أحبها ح َّد‬
‫�سالم ًا يا ب��ول ‪ ،‬و�أن��ت ت�ستعيد حيويتك‬ ‫التوحد ‪ .‬حتى حني يكون املكان كله حمقون ًا‬
‫الروح ّية واجل�سد ّية بعد فرتة خروجك من‬ ‫بنُذر احلرب وم�ستنقعات الدم ‪ ،‬كان يقول‬
‫حتت مب�ضع اجلرّاح ‪ ،‬نحو منفاك العايل الذي‬ ‫(�شوف �سيف �شو جونا ع ْذب وحنون)‬
‫�صنعته ب ّدقة واحكام ‪،‬‬
‫َ‬ ‫هو جوهر وجودك‪ ،‬وقد‬ ‫ظل ي�سكن تلك العمارة التي ُ�سدت جهتها‬
‫قلعة ً ح�صينة ال ي�ستطيع الأعداء املدججون‬ ‫البحر ّية ‪ ،‬فح ّول ال�سطح �إىل حديقة (حديقة‬
‫اقتحامها‪.‬‬ ‫املنفى العايل) كتابه الأخري ‪ ،‬الذي «ي�ؤرخ»‬
‫ولنا �أن نتخيل وجودك بيننا يف املقهى غالب ًا‪،‬‬ ‫�شعراً وروح ًا لهذه احلديقة التي �صنعها يف‬
‫أحلت الوجود مبنحاه احل�سي اليومي �أو‬ ‫وقد � َ‬ ‫الوعي واخليال يف واقع �أ�صبح حما�رصاً من‬
‫حتى ذلك املطلق املتعايل‪� ،‬إىل �ضحكة حمبة‬ ‫كل اجلهات ‪.‬‬
‫ونكتة �سوداء عابرة‪.‬‬ ‫ح�صار احلروب ووح�شية املال الذي ال يقيم‬

‫بول �شاوول مع ال�شاعر �سيف الرحبي‬

‫‪134‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫بول �شاوول‪:‬‬
‫كان ميكن �أن �أكون جناراً‬
‫لكن ال�شعر �أخذين فـي اجتاه �آخر‬
‫حاورته‪ :‬هدى حمد‬

‫عرفت �أنه ال ميكن العثور عليه‬


‫ُ‬ ‫أردت موعدا حلوار مع ال�شاعر بول �شاوول‬
‫عندما � ُ‬
‫�إال يف ثالثة �أماكن املكتب والبيت واملقهى‪ ،‬وكان ثالثها هو الأجدى باجللو�س‬
‫معه‪ ،‬التقيت به يف مقهاه ـ مقهى «لينا�س» ـ الذي ال يغادره �إال يوم اخلمي�س ‪.‬‬
‫منذ الرابعة ع�رشة من عمره كان بول يهرب من املدر�سة �إىل املقهى‪�« ،‬أجل�س‬
‫يف املقهى وهو ممتلئ بالنا�س‪ ،‬ومع ذلك �أكون وحدي عادة‪� ،‬أق�صد املقهى‬
‫�صباحا قبل �أن ي�أتي من �أعرفهم‪ ،‬و�أق�صده ليال بعد �أن يذهبوا‪ ،‬هذه العزلة‬
‫امل�أهولة �أحبها»‪.‬‬

‫عدم حاجة املجتمع لل�شعر �أراها حماي ًة له‬


‫�أ�سهل �شيء على ال�شاعر �أن يقلد نف�سه‬

‫‪135‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫ق�صيدة كل يوم‪.‬‬ ‫‪ uu‬يف كل مرحلة من مراحل كتابتك لل�شعر‪ ،‬كان‬
‫م�رشوع كتابة ق�صيدة بالن�سبة يل م�رشوع داخلي‪،‬‬ ‫هنالك جتريب جديد‪ ،‬يف فرتة من الفرتات كنت‬
‫وم�رشوع لغوي‪ ،‬وقائم على فعل التجريب‪ ،‬بهذا‬ ‫ت�شتغل على البيا�ض الذي ي�سمح للقارئ �أن يفت�ش‬
‫املعنى امل�س�ألة لي�ست �سهلة كما يظن البع�ض‪.‬‬ ‫عن ت�أويله اخلا�ص للم�ساحات الفارغة‪ ،‬الحقا‬
‫كنت �أقلد‬
‫�أ�سهل �شيء على ال�شاعر �أن ُيقلد نف�سه‪ ،‬ولو ُ‬ ‫بد�أت بتجريب �آخر‪« ،‬ك�شهر طويل من الع�شق» َ‬
‫مل‬
‫نف�سي كما يفعل الكثري من ال�شعراء‪ ،‬لكان عندي‬ ‫ت�سمح بوجود م�ساحات البيا�ض‪� ..‬أنت تُ�صدر ديوانا‬
‫جل�ست من الآن حتى‬‫ُ‬ ‫اليوم خم�سون ديوانا‪ .‬فلو‬ ‫ثم تنقلب عليه‪..‬هل هي خطوات مدرو�سة �أم نتاج‬
‫ال�صباح‪ ،‬ميكنني �أن اكتب كتابة ت�شبه «وجه ي�سقط‬ ‫ال�صدفة؟‬
‫وال ي�صل»‪� ،‬أو ت�شبه «ك�شهر طويل من الع�شق»‪ ،‬وهذا‬ ‫‪ -‬كل كتاب هو نفي للذات‪ ،‬وحماولة لك�رس �أي‬
‫ما ال �أريده‪ ،‬لأن الكتابة وفق الكتابة ال�سابقة �أمر‬ ‫قولبة ذاتية يف ال�شعر‪ ،‬عندما اكتب الكتاب �أعي�ش‬
‫�سهل جدا‪ ،‬ومفاتيحها متوفرة‪ ،‬كمن يكت�شف طريقا‬ ‫نوعا من االنتظار والإ�صغاء‪ ،‬كمن ينتظر اللحظة‬
‫وي�سلكه �إىل الأبد‪ ،‬هكذا �أ�شبه �أولئك الذين يكتبون‬ ‫التي تخرج فيها تلك الرتاكمات‪� ،‬أي �أكون م�ستعدا‬
‫ب�أ�سلوب واحد‪ .‬متوت الق�صيدة متوت الكلمات‪،‬‬ ‫عندما يئن �أوان الكتاب لإخراج الداخل‪ ،‬وعندما‬
‫تهرتىء ‪ ،‬ت�صطدم باجل�سد‪ ،‬واحلوا�س‪،‬‬ ‫�أقول اال�ستعداد �أعني اال�ستعداد النف�سي‬
‫ومتر من فوقها‪ ،‬هذا هو ما جافيته‪،‬‬ ‫ال فوارق‬ ‫واالجتماعي والأهم اال�ستعداد الثقايف‬
‫واخرتت الطريق ال�صعب‪ .‬كل جتربة‬ ‫ُ‬ ‫جوهرية بني‬ ‫واللغوي‪ ،‬فال يجب �أن تفاجئنا جتربة‬
‫اكتبها ت�صبح ورائي‪ .‬الن�سيان هو الفعل‬ ‫من جتاربنا فتكون �أقوى م ّنا‪ ،‬على‬
‫التجريبي بامتياز‪ .‬الن�سيان هو فعل‬ ‫العمودي‬ ‫طريقة ال�رسياليني �أو الرومنطيقيني‪،‬‬
‫الذاكرة االيجابية‪ .‬ق�صيدة البيا�ض هي‬ ‫والتفعيلي‬ ‫وهذا اال�ستعداد يتيح �أوال و�أخريا‬
‫نوعا ما الق�صيدة الناق�صة‪ ،‬الق�صيدة‬ ‫اال�شتغال على املواد الأولية‪ ،‬فكل بداية‬
‫املوحية �أو الق�صيدة التي بع�ضها فوق‬ ‫وق�صيدة النرث‬ ‫هي ا�شتغال على مواد �أولية‪� .‬أنا ال �أومن‬
‫ال�سطح و�أكرثها يف قعر املاء‪ .‬عندما‬ ‫بالتدفقات الأولية فقط‪� ،‬أ�ؤمن �أن هذه‬
‫أ�صدرت كتابي «بيا�ض» فوجئت بهجوم اجلميع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫التدفقات‪ ،‬هذه االنفجارات‪ ،‬هذه الرتاكمات‪ ،‬ينبغي‬
‫بول �شا�ؤول يكتب ق�صيدة من �سطرين �أو �أربع‬ ‫�أن جتد اللغة اجلديدة واملنا�سبة لها‪.‬‬
‫كلمات‪ ،‬و�أكرث االنتقادات ت�أتي من الرواد الذين‬ ‫‪� uu‬إذا �أنت ت�صطاد لغتك‪ ،‬ولي�س اللغة هي من‬
‫مل يعودوا يرودون �إال �أنف�سهم‪ .‬البع�ض ممن لديهم‬ ‫ت�صطادك؟‬
‫ح�س اللطائف وال�شفافية عرفوا �أن هذا طريق جديد‪.‬‬ ‫‪-‬بالت�أكيد ال�شاعر هو الذي ي�صطاد لغته‪ ،‬وال �أف�ضل‬
‫ومنذ ‪ 78‬وحتى اليوم نعرف جيدا �أن ال�شعر العربي‬ ‫كلمة ا�صطياد لأنها ذات معنى حلظي‪ ،‬و�إمنا �أف�ضل‬
‫بدت تطغى عليه الق�صائد الق�صرية والبيا�ض‪،‬‬ ‫كلمة اال�شتغال‪.‬‬
‫ومعنى ذلك �أن البيا�ض لي�س زخرفا‪� ،‬إنه جزء من‬ ‫ال�شعر فن �صعب‪ ،‬والق�صيدة عندي م�رشوع قد ي�ستمر‬
‫الكالم‪ ،‬اجلزء املكمل‪ ،‬واملوحي‪ ،‬والكالم الآخر الذي‬ ‫�إىل �سنوات مثل «�أوراق الغائب»‪ ،‬كتبتها على مدى‬
‫يكمله القارئ وينتجه‪ ،‬و�إذا كان البيا�ض هو جزء‬ ‫�ست �سنوات‪ ،‬وكانت عبارة عن ‪� 600‬صفحة‪ ،‬وبعد‬
‫من البنية يعني ذلك �أنه جزء من �إيقاع الق�صيدة‪،‬‬ ‫�إعادة اال�شتغال عليها‪ ،‬وتكثيفها تبقى منها ‪70‬‬
‫ولي�س جزءا من بنية ال�شكل كما يفرت�ض البع�ض‪.‬‬ ‫�صفحة فقط‪ .‬امل�س�ألة لي�ست جمرد البحث عن تعبري‬
‫متاما كالر�سام عندما ي�رضب اللوحة ب�رضبتني �أو‬ ‫للحالة التي نعي�شها‪ ،‬و�إال لتمكن ال�شاعر من كتابة‬
‫‪136‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ uu‬ال�سيجارة التي مل تفارقك يف عملك اجلماعي‬ ‫ثالث‪ ،‬ويرتك حولها الفراغ الذي ينتمي �أي�ضا لبنية‬
‫�أو عزلتك‪ ،‬هل كانت ت�ستحق منك كتابا «دفرت‬ ‫اللوحة‪ ،‬ويعرب عن ال�صمت‪ ،‬وهو لي�س �صمت الأ�شياء‬
‫�سيجارة»؟ �أمل تكن جمازفة‪ ،‬ورهانا �صعبا �أن‬ ‫امليتة‪ ،‬و�إمنا �صمت الأ�شياء احلية‪.‬‬
‫ت�شتغل على هذه املفردة الب�سيطة‪ ،‬وحتركها �ضمن‬ ‫‪ uu‬تكتفي بالبيت واملكتب واملقهى‪ ،‬هل كان هذا‬
‫موا�ضيع كثرية؟‬ ‫هو خيارك ال�شخ�صي‪� ،‬أم ما فر�ضته عليك احلرب؟‬
‫‪ -‬هذا الكتاب من �أجمل ما كتبت‪ .‬نعم كان جمازفة‬ ‫كنت �أتزعم احلركة‬ ‫‪ -‬االثنان معا‪ .‬قبل احلرب ُ‬
‫كبرية‪ ،‬عندما يكتب ال�شاعر عن احلب‪ ،‬فلديه موا�ضيع‬ ‫الطالبية‪ ،‬وقائدا من قوادها‪ .‬و�أم�شي يف املظاهرات‪،‬‬
‫كتبت عن احلب منذ خم�سة �آالف �أو ع�رشة �آالف من‬ ‫و�أدخل ال�سجن‪ ،‬و�أتعر�ض لل�رضب‪ .‬وكانت حياتي‬
‫ال�سنوات‪ ،‬ي�ستند �إليها‪ ،‬و ُيقاب�سها‪ ،‬وموا�ضيع �أخرى‬ ‫م�شرتكة يف االجتماعات‪� ،‬أتقا�سم اللقمة مع‬
‫عن املوت‪ ،‬وعن الدين‪� ،‬أما مع ال�سيجارة فلي�س‬ ‫الأ�صحاب‪ ،‬وال�سهر‪ ،‬والندوات‪ .‬كنت يف الهواء الطلق‪،‬‬
‫هنالك �أي �شاعر جتر�أ �أن يكتب كتابا عنها‪� ،‬إال ب�ضعة‬ ‫�ضمن حياة جماعية‪ .‬كان املجتمع معنا وقتها‪،‬‬
‫�سطور‪ .‬هذا يعني �أن املجازفة يف �أن تبد�أ من ال�صفر‪،‬‬ ‫وكان اخلارج �آمنا‪ .‬لكن احلرب دمرت هذا اخلارج‪.‬‬
‫من ج�سمك‪ ،‬من ال�سيجارة التي بيدك ومن احلياة‪،‬‬ ‫الر�صيف �أ�صبح قاتال‪� .‬أ�صبح لدى النا�س عنف ب�سبب‬
‫ولي�س من الثقافة‪ .‬مل ي�سبقني �أحد �إليها لأت�أثر به‪،‬‬ ‫الطائفية‪ ،‬التع�صب‪ ،‬املعارك‪ ،‬و�أنا تعاي�شت مع كل‬
‫وهذه هي الوعورة وال�صعوبة‪.‬‬ ‫الن�سيان‬ ‫احلروب‪ ،‬ومل َتفُتنِْ �أي حرب‪ .‬هذا اخلارج‬
‫‪ uu‬ما الذي دفعك �إذا ملو�ضوع‬ ‫�أو املجتمع �أ�صيب بتحوالت خميفة‬
‫ال�سيجارة‪ ،‬فرادة املو�ضوع؟‬ ‫هو فعل‬ ‫جدا‪ .‬مل يعد هذا املجتمع هو احلليف �أو‬
‫‪ -‬عندما كنت مدير حترير يف جريدة‬ ‫جتريبي‬ ‫ال�صديق‪ ،‬و�إمنا �أ�صبح هو الإلغاء‪.‬‬
‫ال�سفري‪ ،‬ن�رش خرب عن مكافحة التدخني‪،‬‬ ‫‪ uu‬لهذا �أ�صبحت العزلة‪ ،‬املكان الأكرث‬
‫فكتبت �أين �ضد مكافحة التدخني منذ‬ ‫بامتياز‬ ‫�أمنا لك؟‬
‫�سنة ‪ ، 96‬وعلى ذلك كربت الفكرة‪،‬‬ ‫‪ -‬الداخل لي�س هو الأمان فقط‪ ،‬و�إمنا‬
‫وتطورت �إىل كتاب كامل عنها‪ .‬حلمي �أن اكتب‬ ‫امللج�أ متاما كما لو �أن هنالك كولريا‪ ،‬فيعود الإن�سان‬
‫عن الكر�سي والطاولة‪ ،‬واملنف�ضة لي�س من باب‬ ‫ليو�صد �أبوابه جيدا يف الداخل‪ .‬لكن هذا ال يعني �أن‬
‫ت�أثراتي‪ ،‬و�إمنا من باب �أين ال �أملك �شيئا يف هذه‬ ‫العزلة تعني الهروب من املواجهة‪ .‬بالعك�س العزلة‬
‫احلياة �سوى متاعي املتنقل معي‪ .‬النظارة‪ ،‬الوالعة‪،‬‬ ‫كانت جزءا من املواجهة‪ .‬يف �أيام العزلة كنت اكتب‬
‫ال�سيجارة‪ ،‬املنف�ضة‪ ،‬املفاتيح‪ .‬هذه م�ؤنتي منذ ‪45‬‬ ‫مقاالت‪ ،‬ويومها ا�صطدمت بعائلتي‪ ،‬وطائفتي‪،‬‬
‫�سنة‪ ،‬مل تتغري‪ ،‬ومل تزد ومل تنق�ص‪ .‬هذا الذخر هو‬ ‫وا�صطدمت باملكان الذي ع�شت فيه ا�صطداما‬
‫الذي �أتعاي�ش معه �إ�ضافة �إىل طاولتي والكر�سي‬ ‫فكريا‪ ،‬لأين كنت ي�ساريا‪ ،‬ومع الق�ضية الفل�سطينية‪،‬‬
‫واللمبة التي ت�ضيئني‪ ،‬والورق الذي �أحب‪ ،‬اتفقد‬ ‫وهوجمت‪ ،‬لذا �أنا هنا‬
‫ُ‬ ‫خطفت‬
‫ُ‬ ‫و�ضد �إ�رسائيل ومازلت‪.‬‬
‫الورقة كمن يتفقد الأر�ض قبل �أن يزرعها‪� .‬أو امر�أة‬ ‫منذ ثالثني عاما‪ ،‬وقد اخرتت هذا ال�شكل حلياتي‪.‬‬
‫قبل �أن يلم�سها‪� ،‬أحيانا تعاندين‪ ،‬و�أحيانا تندلق‬ ‫هذه العزلة نوع من املقاومة‪ ،‬والتغلغل يف �ضمري‬
‫علي‪ ،‬وتعطيني نف�سها ب�سهولة‪ .‬الورقة هي �أجمل ما‬ ‫ّ‬ ‫املجتمع‪ ،‬و�أنت بعيدا عنه‪ .‬بعيدا عن االحتكاكات‪.‬‬
‫�أحمله معي‪ .‬وكما يرى الواحد نف�سه يف املر�آة �أرى‬ ‫يف هذه العزلة‪ ،‬كتبت كثريا ومزقت كثريا‪ ،‬و�أحببت‬
‫نف�سي يف الورق‪.‬‬ ‫كثريا‪ ،‬وخاب �أملي كثريا وكانت ال�سيجارة هي‬
‫نعم مو�ضوع ال�سيجارة �صعب‪� ،‬إال �أن �سيجارة اليوم‬ ‫الرفيقة التي مل تفارقني �أبدا‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫�أ�شياء خارج عمري‪.‬‬ ‫لي�ست ك�سيجارة الأم�س‪ ،‬لأنها مرتبطة باملزاج‬
‫كان الفرح الأول هو فرح الوالدة‪ ،‬فرح طفولتي يف‬ ‫والعاطفة وامل�شاعر‪ ،‬باجل�سم واحلوا�س‪ ،‬بالقرف‬
‫زمن �آخر‪ .‬حماولة االقرتاب من جماالت الكبار‪،‬‬ ‫واحلب‪ .‬الأ�شياء من حولنا هي مرايانا احلقيقية يف‬
‫كان فرحا بالدخول �إىل مرحلة جديدة‪� .‬أما فرح‬ ‫احلياة‪ ،‬لذا ت�ستحق �أن نكتب عنها‪.‬‬
‫اليوم فهو خمتلف‪ ،‬وهو ال يرتبط كثريا بالن�رش يف‬ ‫‪ uu‬تعلمت النجارة واحلدادة وتف�صيل الربادي قبل‬
‫ال�صحف �أو املجالت‪ ،‬وال يرتبط بالن�رش عرب دور‬ ‫�أن تتعلم ال�شعر؟‬
‫الن�رش‪ ،‬و�إمنا بك�رس الكتابة ال�سابقة‪� .‬أنا �أحافظ على‬ ‫‪« -‬ي�ضحك» ‪ .‬كان عمري ‪� 12‬سنة‪ ،‬ذهبت �إىل‬
‫فرحي الآن بالتجديد‪.‬‬ ‫مدر�سة «لل�صنايعية» لأتعلم حرفة‪� ،‬إىل الآن ال تزال‬
‫‪ uu‬كنت تردد‪ ،‬املنرب هو �إرهاب ال�شعر‪ ،‬لكن قناعتك‬ ‫�أ�صابعي حمروقة‪ ،‬كنت �أهرب كل يوم‪� ،‬أمي ت�صنع‬
‫اليوم تغريت‪ ،‬ووقفت على منرب يف باري�س‪ ،‬وقر�أت‬ ‫يل الطعام‪ ،‬ف�آخذه معي �إىل «الأحرا�ش»‪ ،‬و�أعود يف‬
‫ال�شعر؟‬ ‫اخلام�سة متعبا من الدر�س‪� .‬أر�سلوا من املدر�سة‬
‫‪ -‬ال مل تتغري قناعتي �أبدا‪ .‬طوال‪� 40‬سنة كنت‬ ‫يخربون والدي �أين مل �أذهب �إىل املدر�سة مدة ثالثة‬
‫�أرف�ض امل�شاركة باملهرجانات‪ ،‬و�أرف�ض �أن �أ�صعد‬ ‫�أ�شهر‪.‬‬
‫�إىل املن�صة‪ ،‬وكنت �أقول‪ :‬الكتاب هو‬ ‫كنت‬
‫وقتها بد� ُأت �أحب ال�شعر‪ ،‬و�أذكر �أين ُ‬
‫املكان الوحيد لل�شعر‪ ،‬عرب القراءة‪.‬‬ ‫�أحلم بالكتابة‬ ‫�أقر�أ لـ جربان خليل جربان‪� .‬س�ألني‬
‫لأن ج�سد‪ ،‬و�صوت ال�شاعر �إما �أن ي�شوه‬ ‫عن الكر�سي‬ ‫والدي عن ذلك‪ ،‬قلت له‪ :‬ل�ست �سعيدا‬
‫الق�صيدة‪ ،‬و�إما �أن ُيجملها‪ .‬ف�إذا كان‬ ‫يف املدر�سة‪ ،‬فنقلني �إىل مدر�سة �أخرى‪،‬‬
‫ال�شاعر ُيح�سن الإلقاء رفع من ح�ضور‬ ‫والطاولة‬ ‫وكان هذا هو �أهم �شيء فعلته يف حياتي‬
‫ق�صيدته‪ ،‬و�إن مل يكن يح�سن الإلقاء‬ ‫واملنف�ضة‬ ‫كلها‪� .‬أفكر لو �أين ا�ستمررت يف تلك‬
‫ف�إنه �سي�شوه الق�صيدة‪ ،‬و�إن كانت جيدة‪.‬‬ ‫لكنت اليوم جنارا �أو حدادا �أو‬
‫املدر�سة‪ُ ،‬‬
‫البياتي وال�سياب مل يكونا يجيدان �إلقاء‬ ‫والوالعة‪..‬‬ ‫كهربائيا‪ ،‬كان موقفا �شجاعا مني ومن‬
‫الق�صائد‪ ،‬وال خليل حاوي �أي�ضا‪ .‬ال�شاعر‬ ‫�أبي ومن �أمي �أي�ضا‪ .‬لقد انقذين اهلل و�أنقذ‬
‫�أمني نخلة هذا ال�شاعر الكبري عندما ي�صعد �إىل‬ ‫الآخرين من جنارتي‪ ،‬وحدادتي‪.‬‬
‫املنرب بالكاد ُي�سمع �صوته‪ .‬بينما نزار قباين و�سعيد‬ ‫‪ uu‬يف �سن اخلام�سة ع�رشة‪ ،‬نُ�رش لك لأول مرة يف‬
‫عقل من �شعراء املنابر بامتياز‪.‬‬ ‫جملة احلكمة «مناجاة عجوز» و«�أوراق اخلريف»‪،‬‬
‫بالن�سبة يل‪ ،‬املنرب هو �إرهاب ميار�س على الق�صيدة‪،‬‬ ‫كيف كان فرحك الأول‪ ،‬وكيف تقارنه بفرح اليوم‬
‫و�إرهاب على النا�س �أي�ضا‪.‬‬ ‫عندما تن�رش ديوانا؟ هل يت�شابه الفرح؟‬
‫�أحاول منذ بداياتي جاهدا �أن اكتب الق�صيدة املركبة‬ ‫‪ -‬مل يكن فرحي الأول ب�سبب الن�رش فقط‪ ،‬ولكن لأنهم‬
‫التي حتتاج �إىل قراءة‪ ،‬وتفتيح واكت�شاف‪ ،‬و�إعادة‬ ‫و�ضعوا ا�سمي على الغالف‪ ،‬مع �أ�سماء كبرية يف‬
‫قراءتها جمددا‪ ،‬وهذه الأمور غري مي�رسة �سماعيا‪.‬‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬كانت ق�صيدة عن جدي الذي كان ثقيل‬
‫لأن املنرب يجعل ال�صوت والإلقاء هو امل�ستوى الأول‬ ‫الدم‪ ،‬كتبتها و�أر�سلتها بالربيد‪ ،‬ومل �أكن �أعرف �أحدا‬
‫للق�صيدة‪ ،‬ولي�ست اللغة‪ ،‬وكذلك ج�سد ال�شاعر ي�صبح‬ ‫مبجلة احلكمة‪ .‬ثم �أردفتها بق�صيدة �أخرى «�أوراق‬
‫م�ستوى �سابق للق�صيدة‪.‬‬ ‫اخلريف»‪ ،‬وعندما �أتذكر الآن �أ�شعر بالغرابة ملاذا‬
‫�أنا الآن وبعد ‪ 40‬عاما من الرف�ض‪� ،‬أتفرج على‬ ‫كتبت‪ ،‬و�أنا يف تلك ال�سن ال�صغرية عن اجلد العجوز‪،‬‬
‫زمالئي من جيل ال�سبعينيات والثمانينيات‪ ،‬الذين‬ ‫وعن اخلريف الذي ي�شري �إىل الت�ساقط واالنتهاء!‬
‫‪138‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫العماين‪ .‬وال�شاعر يت�أثر بكل �شيء‪ .‬لقد قر�أت ما كتب‬ ‫مل يرتكوا منربا �إال وقفوا عليه‪ ،‬حتى �أولئك الذين‬
‫ولدي ما ميكن �أن ا�سميه‬
‫ّ‬ ‫عن امل�رسح‪ ،‬وكتبت عنه‪.‬‬ ‫ال �شعرهم �شعر منربي‪ ،‬وال يجيدون الوقوف على‬
‫بالثقافة املثلثة‪( :‬العر�ض والن�ص والنقد)‪ .‬وهذا ما‬ ‫املنرب‪ ،‬وال يعينهم �شكلهم �أو �صوتهم على الوقوف‬
‫ال ميكن �أن �أنكر �أنه �أثر يف �شعري‪ .‬مثال كتاب «نفاذ‬ ‫�أمام اجلمهور!‬
‫الأحوال» كتاب �شعري ينتهي بنهاية م�رسحية‪.‬‬ ‫�شخ�صيا مل �أقم ب�أي ن�شاط يف لبنان‪ ،‬ال بندوة‪ ،‬وال‬
‫«دفرت �سيجارة» ينتهي �أي�ضا بنهاية م�رسحية‪،‬‬ ‫ب�أم�سية وال ب�أي �شيء �آخر‪ .‬رف�ضت حتى تكرميي يف‬
‫لدي حوارات �شعرية ب�إيقاع م�رسحي‪� .‬أي�ضا �شعري‬ ‫ّ‬ ‫لبنان‪.‬‬
‫مت�أثر كثريا بال�سينما‪ ،‬ف�أنا من الذين يتابعون‬ ‫ولكن يف باري�س �أنا ابن م�رسح‪ ،‬وكاتب م�رسحي‪،‬‬
‫كتبت م�سل�سالت للتلفزيون‪ ،‬قبل‬ ‫ُ‬ ‫ال�سينما كثريا‪ .‬وقد‬ ‫وترجمت كتبا لـم�رسحيني كبار‪ .‬لذا �أنا عندما اقر�أ‬‫ُ‬
‫�أن ي�صبح التلفزيون تافها ويعر�ض «احلاج متويل»‬ ‫ال�شعر �أم�رسح ال�شعر‪ ،‬وال �ألقيه‪ .‬امل�رسحة هي نقل‬
‫و«باب احلارة» وغريها من التفاهات‪.‬‬ ‫ال�شعر من مكان لآخر �أو الدخول �إىل جوهر الق�صيدة‪،‬‬
‫ال�شاعر يت�أثر بكل �شيء‪ ،‬بامر�أة‪ ،‬ب�شجرة‪ ،‬بال�شعر‬ ‫من مكان �آخر من امل�رسح‪ ،‬لأن امل�رسح بد أ� بال�شعر‪.‬‬
‫وال�شعراء‪.‬‬ ‫لدي الآن خم�س دعوات للقاهرة والأردن واملغرب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫‪ uu‬ال ميكننا �أي�ضا �أن نتجاهل دور‬ ‫وغريها‪ ،‬ولكن �أنا ال �ألبي الدعوات‬
‫الرتجمة يف �إثراء �شعرك وم�رسحك؟‬ ‫كتبتُ‬ ‫التي يح�رضها مثال �أربعون �شاعرا‪� ،‬أو‬
‫‪ -‬الرتجمة هي مطبخي اخلا�ص الذي‬ ‫ثالثون �شاعرا‪.‬‬
‫�أعد فيه ن�صا جديدا‪ ،‬فالرتجمة لي�ست‬ ‫للتليفزيون قبل‬ ‫يف باري�س جاءتني �أنا و�شاعرين دعوة‪،‬‬
‫نقال �آليا‪ ،‬ال بد من تفكيك الن�ص‪ ،‬و�إعادة‬ ‫�أن ُي�سيطر عليه‬ ‫فقدمت �شعري عرب م�رسحة ال�شعر‪،‬‬
‫تركيبه‪.‬‬ ‫مبعنى �أن �صوتي يكون تف�سريا للغة‪،‬‬
‫�أكرر دائما‪( :‬كلما كرث �آبائي كرثت‬ ‫احلاج متويل‬ ‫واملعنى واحلالة‪ ،‬لغة م�رسحية داخل‬
‫والداتي)‪ ،‬على عك�س ما يرددون من‬ ‫اللغة ال�شعرية‪ ،‬وهذا �أمر �صعب للغاية‪،‬‬
‫�أ�سطورة تافهة ب�رضورة قتل الأب‪ ،‬كما‬ ‫تتطلب �أن يكون لدى ال�شاعر ملكة احلركة‪ ،‬وال�صوت‬
‫قالت نظرية فرويد‪( ،‬احلقيقة هذا املُنظر ما هو �إال‬ ‫وامل�رسحة والدرا�سة �أي�ضا‪ .‬لي�صبح ال�شاعر بالتايل‬
‫كذبة كبرية)‪.‬‬ ‫ج�سما للغة‪.‬‬
‫ترجمت ما يربو على ‪� 6‬آالف ق�صيدة من ال�شعر‬ ‫ُ‬ ‫عندما �أ�صعد �إىل املنرب �أق�سم الق�صيدة‪،‬‬
‫الفرن�سي‪ ،‬وغري الفرن�سي ‪.‬‬ ‫كال�سنوجرافيا‪ ،‬هنا فراغ هنا �صمت‪ ،‬هنا جملة‬
‫ويحدث العك�س �أي�ضا‪ ،‬ك�أن ي�ستفيد م�رسحي من لغة‬ ‫واحدة‪ ،‬هنا قطع اجلملة‪�..‬إىل �آخره‪ .‬تفكيك الق�صيدة‬
‫ال�شعر من حيث القدرة على اختزال وتطويع اللغة‪.‬‬ ‫تفكيكا م�رسحيا‪.‬‬
‫اللغة �أقوى من ال�شعر عند ال�سورياليني‪ ،‬بينما عند‬ ‫‪ uu‬مبا �أنك ف�رست لنا الآن‪ ،‬كيف خدم امل�رسح‬
‫الرومنطقيني ال�شاعر يتلقى الق�صيدة وهو نائم‪،‬‬ ‫ال�شعر‪� ،‬أ�س�ألك‪ :‬كيف خدم ال�شعر امل�رسح؟‬
‫وعندما يقوم �صباحا يكتبها‪.‬‬ ‫‪ -‬كثريا طبعا‪� .‬أنا قارئ لفن امل�رسح العربي‬
‫ال�شاعر يت�أثر بكل �شيء حوله‪ ،‬من دون �أن يعرف‬ ‫والأجنبي‪ ،‬وحا�رض ما يقارب ‪ 800‬عمل م�رسحي‪،‬‬
‫جيدا ذلك‪ ،‬لكن الآخر هو من يكت�شفه‪ ،‬بع�ض ال�شعراء‬ ‫منذ عام ‪ 1971‬مبا فيها امل�رسح العماين‪ .‬الذي‬
‫امل�ساكني يقولون مثال‪� :‬أنا مل �أث�أثر ب�أحد قبلي‪،‬‬ ‫يقدم �أحيانا‪ ،‬و�أحيانا �أخرى ال يقدم‪ ،‬فهو م�رسح‬
‫واحلقيقة هذا الكالم �ضد ال�شعر متاما‪.‬‬ ‫يفتقر �إىل اال�ستمرارية‪ .‬ويل �أ�صدقاء من امل�رسح‬
‫‪139‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الع�شق»‪ ،‬تواجدت فيه ن�سمات من القدمي ل�صناعة‬ ‫مرة قلت‪� :‬أنا �أترجم لأ�شكر كل الذين �صنعوا‬ ‫ذات ّ‬
‫بيت جديد‪ ،‬يومها ال�شاعر �أحمد بزون قال‪ :‬هذا �أول‬ ‫ال�شعر‪ ،‬املوتى من �ألف عام �أو �أكرث �أو �أقل‪� .‬أ�شكرهم‬
‫حدث �شعري منذ ثالثني عاما‪ .‬وهنالك من قابل‬ ‫بالت�أكيد على حلظات املتعة‪ ،‬والت�أثر‪ ،‬وتكوين‬
‫هذه التجربة بالهجوم‪.‬‬ ‫�شخ�صيتي‪.‬‬
‫يف نف�س الفرتة‪ ،‬وكما ا�شتغلت على الرتاث ا�شتغلت‬ ‫«اكتب كثريا اقر�أ كثريا ان�رش قليال»‪ ،‬هذه‬ ‫ُ‬ ‫‪uu‬‬
‫على مادة �أخرى وجديدة‪« ،‬دفرت �سيجارة»‪ .‬لكل‬ ‫العبارة تنطبق عليك كثريا‪ ،‬بالرغم من �أننا نعرف‬
‫كتاب حياته اخلا�صة‪� .‬أنا ال �أ�ؤكد الذات‪� .‬أنا �أنفيها‬ ‫من خالل �أ�صدقائك �أنك تخفي من الق�صائد اجلاهزة‪،‬‬
‫با�ستمرار‪ ،‬و�أعدمها با�ستمرار‪.‬‬ ‫�أكرث رمبا مما ن�رشت �إىل الآن؟‬
‫‪ uu‬مبا �أنك جئت على ذكر من هاجموك‪ ،‬فقد �صدر‬ ‫‪ -‬قبل �أن �أن�رش «ك�شهر طويل من الع�شق»‪ ،‬و»نفاذ‬
‫لك كتاب عن دار الري�س ردا على �أدوني�س‪ ،‬والحقا‬ ‫الأحوال» و«منديل عطيل»‪ ،‬كانت هنالك �سبع‬
‫عادت املياه �إىل جماريها‪ ،‬وم�ؤخرا �أي�ضا بعد احلوار‬ ‫�سنوات متتالية مل �أن�رش فيها كلمة واحدة‪ .‬لي�س‬
‫الذي قام به عبده وازن مع �أدوني�س يف جريدة‬ ‫لأين �أتريث‪ ،‬ولكن لأن الق�صيدة م�رشوع طويل‪ ،‬وال‬
‫احلياة‪ ،‬كتبت ردا عليه يف جريدة امل�ستقبل‪ ،‬وال‬ ‫ميكنني �أن �أراهن كل يوم على كتابة ق�صيدة‪ .‬بع�ض‬
‫�أدري �إن كنت �سنت�رشه يف كتاب جمددا؟‬ ‫ال�شعراء يقولون اكتب كل يوم كما �أتنف�س‪ ،‬و�أنا �أقول‬
‫‪� -‬أنا و�أدوني�س كنا �أ�صدقاء مقربني‪.‬‬ ‫لهم‪»:‬ا�صنعوا فالفل �أح�سن»‪.‬‬
‫وهذا ال�رصاع �شيء طبيعي‪� .‬أنا ال �أدافع‬
‫امل�سرح‬ ‫ال�شعر م�رشوع طويل يحتاج �إىل ن�ضج‪،‬‬
‫عن نف�سي عندما �أرد عليه‪ ،‬فالتاريخ‬ ‫العماين‬ ‫لدي بالفعل �أربعة‬ ‫فهو لي�س زجال‪ّ .‬‬
‫ي�شهد على جمريات الأمور‪ ،‬عندما يوجد‬ ‫دواوين جاهزة‪� ،‬سحبتها من املطبعة‪،‬‬
‫اختلف مع‬
‫ُ‬ ‫من ينافق ويكذب ويلفق‪.‬‬
‫يفتقر‬ ‫و�أرجعتها �إىل البيت‪.‬‬
‫�أدوني�س منذ ما يقارب الـ ‪ 33‬عاما‪ .‬مل‬ ‫لال�ستمرارية‬ ‫‪ uu‬تبدو لعبة الكتابة لديك معكو�سة‪،‬‬
‫نختلف على ال�شعر بقدر ما اختلفنا على‬ ‫ف�أنت يف البدايات ابتعدت كثريا عن‬
‫بع�ض التفا�صيل‪� .‬أتذكر �أدوني�س منذ �أيام اجلامعة‪.‬‬ ‫الرتاث ال�شعري العربي‪ ،‬وبد�أت باكرا مع ق�صيدة‬
‫كنت �ضد ال�شاعر الذي ي�ستخدم �شاعرا �آخر‪ ،‬فال�شعر‬ ‫ُ‬ ‫النرث‪ ،‬و�أ�شكال �أخرى من التجريب‪ ،‬وم�ؤخرا عادت‬
‫مع احلرية‪� ،‬أدوني�س كان لديه من ي�ستعبدهم‪،‬‬ ‫دواوينك لال�ستفادة من خمزون الرتاث العربي؟‬
‫وي�سكرهم لكي ميجدوه‪ ،‬وهذا اختيارهم‪ ،‬ولكني‬ ‫�أنا مل ابتعد �أبدا عن الرتاث العربي‪ ،‬ولكني ا�شتغلت‬
‫اعتقد �أن العالقة بال�شعر عالقة حرية‪ ،‬ولي�ست‬ ‫ا�شتغلت يف البدايات‬
‫ُ‬ ‫على التجريب كما ذكرت‪.‬‬
‫عالقة ا�ستعباد‪ .‬لذا �أتعامل مع ال�شباب بجدية‪ ،‬افتح‬ ‫على ديوان «بو�صلة الدم»‪ ،‬العنف الرتاجيدي‬
‫لهم مكتبتي لكي يقر�أوا‪ ،‬وال �أجعلهم �ضمن حا�شيتي‪.‬‬ ‫الذي ي�أتي من الداخل‪ ،‬بينما الق�صيدة �صامتة من‬
‫بينما �أدوني�س م�صاب بهذا املر�ض‪.‬‬ ‫اخلارج‪ .‬ق�صيدة عن احلرب‪ ،‬ولكنها لي�ست للجماهري‬
‫هو يحاربني بطريقته يف اخلفاء‪ ،‬و�أنا واجهته‬ ‫العري�ضة‪.‬‬
‫بطريقتي التي هي ال�رصاحة والعلن‪ .‬ال توجد مرة‬ ‫ثم ا�شتغلت على «ميتة تذكارية»‪ ،‬وبعدها «موت‬
‫ا�ستغللت فيها موقعي كمدير يف الأق�سام الثقافية يف‬ ‫نر�سي�س»‪ :‬حب وجن�س وعربدة وجنون‪ .‬ثم «�أوراق‬
‫خمتلف اجلرائد ال�سفري وامل�ستقبل‪ ،‬لن�رش االنتقادات‬ ‫الغائب»‪..‬الخ‪ .‬كل كتاب لي�س له عالقة مبا قبله‪.‬‬
‫التي توجه �ضده‪ ،‬ومل �أمنع ن�رش خرب عن كتاباته‪.‬‬ ‫�أنا خريج �أدب عربي‪ ،‬وخمت�ص باللغة‪ ،‬والفقه‪،‬‬
‫�أنا �أفهم �أن �شخ�صا مثال ال يعجبه �شعري‪ ،‬ولكن‬ ‫والكتب الدينية‪ ،‬لذا يف ديواين «ك�شهر طويل من‬
‫‪140‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫�إنها �أزمة كل �شيء‪ ..‬املال‪ ،‬اجلمهور‪ ،‬التفرغ‪� ،‬أزمة‬ ‫ال �أفهم �أن واحدا يدعي �أنه �شاعر‪ ،‬يرف�ض مقاالت‬
‫تلفزيون‪ ،‬ازمة حتول الزمن‪ ،‬حتى ال�سينما تراجعت‬ ‫عني �أو مينع خربا له عالقة بي‪ .‬الق�سم الثقايف ملك‬
‫يف لبنان‪ ،‬وقد �أغلق بع�ضها‪ .‬ثم ت�أتي امل�شكلة‬ ‫للنا�س‪ ،‬ولي�س ملكا للح�سد والغرية‪.‬‬
‫الأهم الدميقراطية واحلرية‪ ،‬والتمويل‪ ،‬ال يوجد‬ ‫ل�ست مهتما بن�رش �سجاالتي‪ ،‬بقدر ما �أنا مهتم‬ ‫ُ‬
‫م�رسح بدون مال‪ .‬امل�رسح ال يظهر وهو على الورق‬ ‫بق�صيدة النرث‪ ،‬بامل�رسح بالنقد‪ ،‬ال�شعر املرتجم‪،‬‬
‫كما الق�صة وال�شعر‪ ،‬و�إمنا عندما يقف الن�ص على‬ ‫القراءة‪ ،‬وحاليا �أنا اكتب مقاال �سيا�سيا فكريا يف‬
‫اخل�شبة‪.‬‬ ‫ال�صفحة الأوىل‪.‬‬
‫�أول يوم الفتتاح العر�ض‪ ،‬ونظرا للدعوات متتلىء‬ ‫‪ uu‬مبا �أنك جئت على ذكر مقالك ال�سيا�سي‪ ،‬هل‬
‫املقاعد‪ ،‬ويف اليوم التايل ال ي�أتي �أحد‪ .‬مل يعد‬ ‫ي�صفُ مقالك حقا مع �صوت ال�سلطة؟‬
‫اجلمهور يح�رض امل�رسح اجلاد‪ ،‬وال امل�رسح الدويل‪.‬‬ ‫‪ -‬من قال هذا الكالم؟ و�أي �سلطة ؟‬
‫يف �أوروبا‪�،‬أمريكا تدعمهم الدولة �إ�ضافة �إىل توفر‬ ‫�أنا �أ�صف �إىل جانب مبادئي‪� ،‬إىل جانب الثوابت‪� .‬أي‬
‫املجتمع املدين‪ .‬نحن العرب يف ال�سبعينيات كُ نا‬ ‫�سلطة؟‬
‫يف بداية خروجنا من الو�ضع ال�سائد‪ ،‬من التخلف‪،‬‬ ‫عندما كان حزب اهلل يحارب يف اجلنوب‪� ،‬ضد‬
‫بينما اليوم يعود املجتمع �إىل التقوقع‪ ،‬ورف�ض‬ ‫�إ�رسائيل‪ ،‬مل يكتب �أحد مل�ؤازرتهم بقدر ما كتبت‬
‫احلداثة‪ .‬املجتمع �أ�صبح يرف�ض احلرية‪،‬‬ ‫كتبت عن املقاومة الوطنية ق�صيدة‬ ‫ُ‬ ‫�أنا‪.‬‬
‫وي�صنع حريته على طريقته اخلا�صة‪.‬‬ ‫�أقول لبع�ض‬ ‫طويلة جدا‪ ،‬و ق�صة طويلة عن �أطفال‬
‫وهنالك تع�صب ديني هو �ضد الدين‬ ‫ال�شعراء‪:‬‬ ‫غزة‪ .‬حزب اهلل حرر اجلنوب نعم‪ ،‬ولكن‬
‫�أ�صال‪ .‬الطائفية �ضد الدين‪ .‬املجتمع فقد‬ ‫�أ�صبح يريد �أن يتدخل بالأمور ال�سيا�سية‪.‬‬
‫الثقة باحلداثة والتنوير والتكنولوجيا‪،‬‬ ‫ا�صنعوا فالفل‬ ‫ب�أي حق؟ لذا �أ�صبح من حقي �أن �أقول‬
‫املدن العربية «مزيفة» اليوم‪ ،‬وخمرتعة‪.‬‬ ‫�أح�سن‬ ‫لهذا احلزب‪� ،‬إن ر�ؤيتك للواقع اللبناين‬
‫حتى املر�أة يريدون �أن يرجعوها �إىل ما‬ ‫تختلف عن ر�ؤيتي الآن‪.‬‬
‫كانت عليه �سابقا با�سم احلرية‪ ،‬والرجل �أي�ضا‪.‬‬ ‫ل�ست مع �أحد‪� ،‬أنا مع الثوابت منذ �أربعني عاما‪ .‬مع‬‫ُ‬
‫امل�رسح هو جزء من هذه التحوالت‪ ،‬لذا فقد �أ�صيب‪.‬‬ ‫التحرير ومع معاداة �إ�رسائيل و�أ�صف مع من ي�صف‬
‫كما هو حال ال�سينما �أي�ضا كان ينتج يف ال�سابق‬ ‫مع هذا الهدف‪ .‬والدليل �أين ال �أملك �شربا واحدا يف‬
‫يف م�رص يف الثالثينيات ما يقارب ‪ 130‬فيلما ‪،‬‬ ‫هذا البلد‪ ،‬ف�أي �سلطة تلك التي �أ�صف معها!‬
‫بينما ينتج الآن ع�رشة �أو �سبعة �أفالم!‪ ،‬يديرها‬ ‫‪ uu‬لنبتعد عن ال�سيا�سة‪ ،‬ولرنجع قليال �إىل امل�رسح‬
‫حممد هنيدي‪ ،‬اللمبي حممد �سعد‪ ،‬نادية اجلندي‪،‬‬ ‫‪..‬كيف تراه اليوم؟‬
‫�سمري غامن‪ ،‬بينما �أفالم بتوقيع حممد خان‪ ،‬خريي‬ ‫‪� -‬إذا بقي امل�رسح على هذه احلال ف�إنه يف طريقه‬
‫ب�شارة مثال لي�س لها جمهور! ال�سينما حمتاجة‬ ‫�إىل االنقرا�ض‪ .‬امل�رسح يف حالة مزرية جدا‪ ،‬يف‬
‫لإعادة ر�ؤية‪ .‬كما هو الأمر يف التلفاز‪ ،‬امل�سل�سالت‬ ‫ال�سبعينيات والثمانينيات يف القاهرة‪ ،‬وبغداد كان‬
‫العربية �ضد اجلمهور‪ ،‬و�ضد احلياة‪ ،‬و�ضد التاريخ‪،‬‬ ‫ُيقدم على الأقل ‪ 30‬م�رسحية عربية‪ .‬امل�رسح اليوم‬
‫و�ضد الواقع‪ .‬لقد كان امل�رسح �آخر منطقة متبقية‬ ‫كامللك لري يف م�رسحية �شك�سبري تركه اجلميع‪ ،‬و�أول‬
‫متبق للحرية‪� ،‬إال �أنه وحيد‬
‫ٍّ‬ ‫لالحتجاج‪� ،‬آخر مكان‬ ‫من تخلى عنه �أهله‪ ،‬خ�صو�صا امل�رسح التجريبي‬
‫والدولة ال تقف معه‪.‬‬ ‫امل�رسح اجلاد‪ .‬النا�س فقدوا �صلتهم حتى مع‬
‫‪ uu‬عندما تقول �أن ق�صيدة النرث ا�ستمدت نظريتها‬ ‫امل�رسح التجاري‪.‬‬
‫‪141‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و�صل ال�شعر �إىل �أماكن بعيدة جدا لأنه ور�شة‬ ‫من �سوزان برنار‪� ،‬أو من الن�صو�ص الفرن�سية‪ ،‬هل تقر‬
‫م�رشوع كبري و�ضخم‪ .‬مغامرة روحية و�إن�سانية‪.‬‬ ‫بوجود قطيعة بني ق�صيدة النرث املمار�سة اليوم‪،‬‬
‫ق�صيدة النرث كم�ستوى هي �أكرب من الق�صيدة نف�سها‪.‬‬ ‫وبني ق�صيدة الرتاث العربي؟‬
‫لي�س هنالك اليوم ما ي�سمى بق�صيدة النرث �أو ال�شعر‪..‬‬ ‫‪ -‬يف �سنة ‪ ،1971‬عملت �أول ر�سالة �أكادميية عن‬
‫مبعنى �أننا ال ميكن �أن نوقف الق�صيدة عن معنى‬ ‫ق�صيدة النرث‪ .‬وقتها كان قد �صدر كتاب �سوزان‬
‫حمدد‪.‬‬ ‫برنار‪ .‬ادوني�س و�أن�سي احلاج ترجما من الكتاب �أول‬
‫‪ uu‬هل �أنت مت�أكد من �أن «ال�شعر العربي اليوم‬ ‫�رشوط ق�صيدة النرث من برنار‪� .‬أدوني�س مل ي�رش �إىل‬
‫يعي�ش ع�رصه الذهبي»؟‬ ‫املرجع على اعتبار �أنه ر�أيه اخلا�ص الذي ا�ستنبطه‬
‫جيلنا كان مقيدا بالنظريات‪ ،‬بينما �شعراء اليوم‬ ‫من الرتجمة‪ .‬و�أن�سي احلاج �أملح �إىل الكتاب‪ ،‬ولكن‬
‫ال�شباب من القاهرة �إىل بريوت �إىل �سوريا �إىل‬ ‫�أنا ا�ستندت �إىل كتابها كمرجع مع كتب �أخرى‪.‬‬
‫ال�سعودية �إىل تون�س واملغرب‪�،‬أزاحوا الأيديولوجيا‪،‬‬ ‫لنتعرف �أوال على ما فعلت برنار �أخذت الن�صو�ص‬
‫ومل يعد لديهم رواد يقفون على ر�ؤو�سهم كالأ�صنام‬ ‫ال�شعرية الفرن�سية من �أيام بودلري‪ ،‬وحتى ذلك‬
‫(�أدوني�س �أو غري �أدوني�س)‪ .‬لي�سوا معنيني باملدار�س‬ ‫الوقت‪ ،‬وا�ستنبطت منها �رشوط ق�صيدة النرث‬
‫ال�شعرية الكثرية‪ ،‬كل �شاعر لديه مدر�سته‬ ‫الفرن�سية‪� .‬أدوني�س و�أن�سي احلاج حاوال‬
‫اخلا�صة‪ .‬مل يعد هنالك كاتب رديء‬
‫�أدوني�س‬ ‫تطبيق النظرية قبل �أن يكون لنا تراث‬
‫يكتب عن ق�ضية مهمة وي�صبح مهما‪.‬‬ ‫ُيحاربني يف‬ ‫فيها‪� .‬صعنا؟؟؟؟؟؟ �أوزان لق�صيدة مل تولد‬
‫من مبد�أ �أن القيمة ت�أتي من املو�ضوع‬ ‫بعد‪ .‬كمن يكتب عن امر�أة قبل �أن يراها‪.‬‬
‫ولي�س من الن�ص‪ ،‬لأجل �أن يكون بوقا‬
‫اخلفاء و�أنا‬ ‫وكمن يعمل خطة زراعية يف لبنان‪،‬‬
‫للق�ضية والق�ضية متجده‪..‬هذا �أي�ضا‬ ‫�أواجهه‬ ‫ويحاول �سكان �سيبرييا تطبيقها‪ .‬من‬
‫انتهى‪ .‬مل تعد هنالك ثورة وق�ضايا‬ ‫الأكيد �أنها لن تنفع‪.‬‬
‫ومنرب‪.‬‬
‫يف العلن‬ ‫�إذا قلنا �أن عمر ق�صيدة النرث العربية‬
‫امل�س�ألة الآن‪ :‬هل تعرف الكتابة �أم ال‪..‬لذا‬ ‫اليوم ‪� 100‬سنة على اعتبار �أن ما كتبه‬
‫�أ�صبح ال�شعر اليوم �أجمل و�أ�صعب‪.‬‬ ‫جربان خليل جربان‪ ،‬و�أبو حيان التوحيدي‪،‬و�أمني‬
‫‪ uu‬على مر التاريح مرّت الق�صيدة بتحوالت كبرية‬ ‫الريحاين وال�صوفيون‪� ،‬أ�صبح من املمكن الآن �أن‬
‫من الوزن والقافية �إىل �شعر التفعيلة �إىل ق�صيدة‬ ‫نح�رض هذه الن�صو�ص‪ ،‬ونحاول درا�ستها‪.‬‬
‫النرث‪ ،‬هل �ستقف الق�صيدة عند هذه املرحلة �أم‬ ‫الفراهيدي عندما �صنع الأوزان �صنعها من‬
‫تراهن على حتوالت م�ستقبلية للق�صيدة؟‬ ‫الن�صو�ص العربية‪ .‬لذا ال ميكن �أن ي�أتي �شخ�ص‬
‫‪ -‬طبعا �أراهن‪.‬‬ ‫من فرن�سا ويطبقها على الن�صو�ص الفرن�سية‪ .‬ما‬
‫قبل ‪ 30‬عاما كنت �أردد �أن ق�صيدة النرث هي �آخر‬ ‫فعله احلاج و�أدوني�س �أنهما �أح�رضا �أوزانا فرن�سية‬
‫املطاف‪ ،‬ووقعت يف خط�أ احلتمية‪ .‬لي�س هنالك‬ ‫وحاولوا تطبيقها على الق�صيدة العربية‪ ،‬وهذا �أكرب‬
‫فوارق جوهرية بني ال�شعر العمودي و�شعر التفعيلة‬ ‫خط�أ‪ .‬النظرية ال ت�أتي قبل الن�ص و�إمنا بعده‪.‬‬
‫وق�صيدة النرث‪ ،‬فيمكنني �أن �أكتب �أحدها غدا‪� ،‬أو‬ ‫لي�س هنالك فارق بني النرث ال�شعري‪ ،‬وق�صيدة‬
‫�أ�صوغ الثالثة يف ق�صيدة واحدة‪� ،‬ضمن خلطة‬ ‫النرث‪ .‬لذا اعترب كتاب «النبي» جلربان ق�صيدة نرث‪،‬‬
‫ملحمية كبرية‪ ،‬وكم من اجلنون‪.‬‬ ‫اعترب «هتاف الأودية» لأمني الريحاين ق�صيدة نرث‪،‬‬
‫لو جاء �شاعر عمودي م�ستقبال‪ ،‬وقرر �أن ي�شتغل على‬ ‫وبع�ض �أجزاء �أبو حيان التوحيدي �شعر نرث‪.‬‬
‫‪142‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ uu‬عدم حاجة املجتمع لل�شعر حماية له؟‬ ‫جتريب جديد على الق�صيدة العمودية على اللغة‪،‬‬
‫‪ -‬طبعا‪� .‬أهم �شاعر عربي الآن لو ا�ستثنينا حممود‬ ‫وعلى التكوين‪ ،‬قد يخرج بق�صيدة جميلة‪ ،‬وخمتلفة‪.‬‬
‫دروي�ش‪ ،‬اليبيع ما يقارب ‪ 200‬ن�سخة لـ‪ 300‬مليون‬ ‫و�صلت اليوم �إىل قناعة �أن هذه التق�سيمات تق�سيمات‬
‫عربي‪ .‬طبعا بعيدا عن فكرة التواقيع التي يقوم بها‬ ‫وهمية‪ .‬ال يجب �أن نقد�س ق�صيدة النرث‪ ،‬وال التفعيلة‪،‬‬
‫بع�ض الكتاب ‪ .‬على فكرة �أنا يف حياتي كلها مل‬ ‫وال نقد�س الوزن‪ .‬يجب �أن تكون هذه و�سائل لأبعد‬
‫�أقم بعمل حفل توقيع واحد)‪� ،‬أكرب �شاعر فرن�سي ال‬ ‫منها‪ ،‬لتكوين ُبنى وهياكل جديدة‪.‬‬
‫يبيع �أكرث من ‪ 400‬ن�سخة‪ .‬ال�شعر هو خمرية الثقافة‪،‬‬ ‫امل�شكلة �أن من ا�شتغلوا على الوزن والقافية اختنقوا‬
‫والعوملة ال ت�ستهدف ال�شعر لأنه غري مربح بالن�سبة‬ ‫واختفوا‪ ،‬لهذا �أ�صبحت م�ساحة ق�صيدة النرث �أكرب‪.‬‬
‫لها‪ .‬مثل ع�شبة رقيقة خرجت خلف �صخرة وال �أحد‬ ‫بع�ض �شعراء التفعيلة يكتبون جيدا من مثل حممد‬
‫يراها‪� ،‬أو ي�شمها‪ .‬فهي لي�ست خيار ا �أو بطاطا‪.‬‬ ‫�شم�س الدين الذي يحاول التجديد‪� ،‬سعيد عقل‪،‬‬
‫ما ي�ؤخذ على ال�شعر احلديث �أنقذه‪ .‬فبما �أن جمهور‬ ‫�صالح لبكي‪ ،‬علي حممود طه من م�رص‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫ال�شاعر اليوم ال يزيدون عن الع�رشة‪ ،‬فهو لي�س‬ ‫لي�س ال�شكل هو العائق �أمام من يكتب �شعر التفعيلة‪،‬‬
‫م�ضطرا لأن يتنازل لأحد‪.‬‬ ‫و�إمنا توقفهم عن التجديد‪.‬‬
‫‪� uu‬إذا ملن يكتب؟‬ ‫‪� uu‬أال تظن �أنك ظلمت الرواية عندما قلت ال�شعر‬
‫‪ -‬فرناندو بي�سوا ن�رش كتابا �صغريا يف‬ ‫�أقل بيعا من الرواية‪ ،‬لأن الرواية متت‬
‫ال�شعر‪ ،‬وبعد �أن مات‪ ،‬وجدوا حقائب‬ ‫املنرب هو‬ ‫عوملتها‪ ،‬وخ�ضعت ملنطق اال�ستهالك‬
‫معب�أة بال�شعر‪ .‬لأن ال�شعر هو جزء من‬ ‫�إرهاب‬ ‫بينما ال�شعر مادة غري ا�ستهالكية؟‬
‫حياته‪� .‬إمييلي ديكن�سون ن�رشت �ست‬ ‫‪ -‬جابر ع�صفور �صديقي يقول �إننا‬
‫ق�صائد‪ ،‬وبعد موتها اكت�شفوا �صناديق‬ ‫مُيار�س‬ ‫نعي�ش يف زمن الرواية‪ ،‬وهذا الكالم‬
‫�شعرها‪ .‬ال�شعر بدون هدف‪ ،‬من الذات �إىل‬ ‫على الق�صيدة‬ ‫خط�أ ف�إذا كان املعيار �أن الرواية تبيع‬
‫الذات‪ .‬من املوت �إىل املوت‪� .‬إنه املوت‬ ‫�أكرث‪ ،‬فطوال عمرها وهي تبيع �أكرث‬
‫اخلالد‪ .‬ال�شعر ال مي�شي‪ ،‬بينما الرواية تتحرك من‬ ‫من ال�شعر‪ .‬رامبو باع ‪ 3‬ن�سخ فقط من �أحد كتبه‪،‬‬
‫هنا �إىل هناك‪.‬‬ ‫ماالرمي ‪ ،‬باع ‪ 37‬ن�سخة فقط‪ ،‬وم�شى يف جنازة‬
‫لكن الرواية اليوم هي املهددة باملوت ولي�س‬ ‫بودلري كلب ورجالن‪.‬‬
‫ال�شعر لأنها وقعت يف اال�ستهالك‪ .‬الرواية معلبة‪،‬‬ ‫يف الوقت نف�سه كان بلزاك‪ ،‬دي�ستوف�سكي‪،‬‬
‫وهدفها الت�سليع‪ .‬ال�شعر يف عزلته العالية‪ ،‬والرواية‬ ‫وتولي�ستوي تباع لهم الكتب ب�شكل جيد‪ ،‬لأن الرواية‬
‫يف ح�ضورها اجلماهريي املنخف�ض‪ ،‬مع بع�ض‬ ‫اجتماعية �أكرث‪ ،‬وتن�رش يف اجلرائد‪.‬‬
‫اال�ستثناءات من مثل هدى بركات‪ ،‬ربيع جابر‪،‬‬ ‫العوملة ال ت�صل لل�شعر لأنه غري مربح‪ .‬ما حمى‬
‫علوية �صبح‪.‬‬ ‫ال�شعر �أن املجتمع مل يعد بحاجة �إليه‪.‬‬

‫‪143‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫بول �شاوول‪..‬‬
‫دائما ما ازدهر يف اخلطر‬
‫حاوره‪ :‬يحيى الناعبي‬

‫من خلف نظارته ال�شم�سية جتد هدوءه خمتزال خلف ظالمها‪ ،‬وما �أن ينتحيها‬
‫جانبا تربز عالمات احلزن وال�سخرية ال�سوداء‪ ،‬حيث �إن لعينيه بريقا حني يقب�ض‬
‫على فكرة ينت�رص لها‪ ،‬فيخاتلك باال�سرت�سال حولها حتى و�إن كنتما تتحدثان يف‬
‫مو�ضوع �آخر خ�شية �أن ت�ضيع منه‪ .‬وبالتايل يعتربك موثقا لفكرته‪ ،‬وكما لو �أنه‬
‫ن�رس ي�صطاد فري�سته ليهبها للآخرين‪.‬‬
‫فعندما اكت�شف غار�سيا ماركيز الوحدة الوراثية وا�ست�شعر يف �أعماقه الفراغ‬
‫العميق والإح�سا�س يف مواجهة �سجن احلياة جند �أن بول �شاوول له الأمل نف�سه‬
‫و�أن عليه �أن يكت�شف خملوقاته اخلرافية ويدافع عنها حتى يثبت هويتها‪ ،‬ولكنها‬
‫مل تكن يف العمل الروائي بل يف الرتجمة وامل�رسح وال�شعر والعمل ال�سيا�سي‬
‫الذي كان ميثل جدارا �صلبا يحاول فيه تك�سري �أجزائه من اجل الأدب‪ ،‬وخ�صو�صا‬
‫�أنه عا�رص فرتة التحوالت ال�سيا�سية الكبرية يف وطننا العربي ابتداء من الأحزاب‬
‫املتعددة ثم متركزها يف احلزب الواحد احلاكم �إىل �أن تنتهي بالتعددية الطائفية‬
‫واملذهبية‪..‬‬

‫ال�شاعر ال ي�صنع تاريخ املر�أة و�إمنا هي‬


‫من ت�صنع ال�شاعر‬

‫‪144‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ولذلك كم ت�ضحكنا بع�ض الآراء التي تقول �إن الن�ساء‬ ‫ولو عدنا �إىل كتابه دفرت �سيجارة جند عامل الوحدة‬
‫مت�شابهات وكمن ير�سم عنهن لوحة من خميلته‬ ‫يق�سو على كتابنا كثرياً ويبد�أ يف خماطبة خملوقات‬
‫الفقرية حول جتربة ب�سيطة‪ ،‬فاملر�أة هي الفرادة‬ ‫�أخرى بو�سائل افرتا�ضية تكون بطلتها رفيقة دربه‬
‫والتجربة واملزاج والبيئة والتاريخ‪ ،‬وهي ي�صنعها‬ ‫« ال�سيجارة»‪ ،‬حيث ما تبقى له من حوار واقعي‬
‫تاريخها ولي�س تاريخ الآخرين‪ ،‬ولذلك فال�شاعر ال‬ ‫افرتا�ضي من املحيط اخلانق برتابته وهمجيته‪،‬‬
‫ي�صنع تاريخ املر�أة كما ي ّدعي البع�ض و�إمنا هي‬ ‫ورغم ذلك ي�شعر �أن هذه الرتابة هي عامله الوجودي‬
‫من ت�صنع ال�شاعر‪� ،‬إذا كان لأحد منهما �أن ي�صنع‬ ‫الذي ال يطيق عنه‪ ،‬فبالرغم من جدوله اليومي‬
‫االخر‪ ،‬بل �أن املر�أة هي التي تختار الرجل وهي‬ ‫بني ال�شقة واملقهى وجريدة امل�ستقبل‪ ،‬هي عامله‬
‫مبثابة عقل العامل ولي�س كما يظن الرجل يف �أنه‬ ‫اليومي �إال �أنها مت ّثل منطلق كتاباته وترجماته‪،‬‬
‫هو من يختارها بغرائزه الرجولية‪ .‬و�أعترب ديواين‬ ‫والتي تتوقف حني يغادر هذا الروتني‪ ،‬فال ي�ستطيع‬
‫يل‬
‫«ك�شهر طويل من الع�شق» جتربة جديدة بالن�سبة إ� ّ‬ ‫الكتابة يف ال�سفر �أو الإقامة خارج جدوله البريوتي‪.‬‬
‫يف البنية ال�شعرية التي يختلط فيها النف�س القدمي‬ ‫‪ n n‬الكتابة عن املر�أة و�أول جمموعة �شعرية‬
‫واجلديد بطريقة خمتلفة‪ ،‬لأنني ربطت احلروب‬ ‫مكتملة حولها ومل ت�صدر؟‬
‫واملر�أة بالغرائز التاريخية �أي باللغة يف بدائيتها‬ ‫‪ -‬كتبت عن املر�أة كثريا ولكنني ال ميكن �أن �أكتب‬
‫وال�شهوات واملوت واللذة واملغامرة‬
‫عنها ككائن جمرد يف ال�شعر �أو كق�ضية‪،‬‬
‫كل يف بدائيته ولهذا فقد �أخذ مني هذا‬ ‫اكتب على حافة‬ ‫رمبا �س�أكتب عنها مقالة حول حرية‬
‫الكتاب حيزا كبريا عند من قر�أوه �أو‬
‫كتبوا عنه ومنهم اعتربه من �أهم حدث‬ ‫خطر اللغة‬ ‫املر�أة وحقوقها �أو غريها من املوا�ضيع‬
‫التي متثل ق�ضايا معينة يف املجتمع‪،‬‬
‫�شعري منذ ثالثني عاما حني �صدوره‬ ‫وكتبي ال ت�شبه‬ ‫�أما عن عمل �شعري ما يخ�ص املر�أة‬
‫�أمثال الناقد �أحمد بزون وال�شاعر �شوقي‬
‫بزيع وغريهم‪ ،‬فهناك �رضبة �صعبة يف‬ ‫بع�ضها‬ ‫فال ميكن �أن تكتب عنها �إال من خالل‬
‫تركيبته‪ ،‬وبنيته مكونة من طبقات وراء‬ ‫جتربة مع امر�أة معينة بكافة نواحي‬
‫طبقات وال ميكن �أن تقر�أه مرة واحدة‪.‬‬ ‫احلياة يف امل�شاعر واملعي�ش واجلنون وغريه مما‬
‫‪ n n‬ولكن ملاذا مل تن�رش ديوانك ال�شعري الأول الذي‬ ‫يخ�ص االت�صال املبا�رش معها‪ ،‬ولذلك فالكتابة‬
‫ميثل بعمق جتربة مبا�رشة مع املر�أة؟‬ ‫عن املر�أة يف بريوت تختلف عن الكتابة عنها يف‬
‫‪ -‬كان هذا يف بداية ال�سبعينات وهو ديوان كامل‬ ‫باري�س كبلد هادئ مل يعرف احلروب منذ مدة طويلة‬
‫كنت �أ�ضعته ملدة ثالثني عاما وفج�أة اجده بني‬ ‫بينما بريوت فاملوت هو الرفيق الأول على امتداد‬
‫كهوف الكتب واللوحات يف بيتي التي ت�ضيعني‬ ‫خم�سة وثالثني عاما‪ ،‬ولذلك فحتى املوت كنت‬
‫�أنا فيها �أحيانا‪ ،‬فبيتي هو مكتبة ت�شبهني‪ ،‬فبيت‬ ‫�أجده �أحيانا �رشيط توا�صل بيني وبني املر�أة بل‬
‫ال�شاعر ي�شبهه‪ ،‬على خالف بيت رجل الأعمال‪.‬‬ ‫يف �أعماقنا �أحيانا‪ ،‬كما هي ال�شهوة والرغبة واحلب‬
‫‪ n n‬وماذا ميثل البيت لل�شاعر؟‬ ‫والعنف‪ ،‬خمتلطا بالورود والهدايا وبالكرا�سي‬
‫‪ -‬بيتك هو ج�سمك‪ ,‬كما �ألب�س ما �أ�شتهي من‬ ‫والطاوالت وما حتتويه من قبالت بيننا‪ ،‬وكذلك من‬
‫املالب�س‪� ،‬ألب�س بيتي و�أحيانا بيتي يلب�سني‪،‬‬ ‫ال�صعب علي �أن �أكتب عن املر�أة خارج عالقة احلب‬
‫و�رسيري يلب�سني و�أ�صبح جزءا واحدا مع الطاولة‬ ‫�أو خارج التجربة بعموميتها‪ ،‬ولذلك لي�س هناك ما‬
‫والكر�سي وملبة الإ�ضاءة ومع النوافذ‪ ،‬لأنك حني‬ ‫ي�سمى الكتابة عن املر�أة بل هناك امر�أة وكل منها‬
‫تفتح النافذة وك�أمنا تفتح رئتيك‪ ،‬فرتى من خاللها‬ ‫تتمتع باختالف متاما كالأزهار وكال�شجر والغيوم‪،‬‬
‫‪145‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫طيف كل �شيء ووقفت �ضد امل�سلك‬ ‫اخلطر حيث ّ‬ ‫الغيوم وك�أنها تنظر �إىل يديك‪ ،‬والكتاب يف البيت‬
‫الكونتوين لأحزاب الطائفة و�ضد كل من يريد �أن‬ ‫هو ان�ضمام عفوي وج�سدي ومادي وروحي‪ ،‬فهو‬
‫يعمل دويلة �ضمن الدولة اللبنانية كوليد جنبالط‬ ‫يل كائن ولي�س جمموعة �أوراق متاما كما‬ ‫بالن�سبة �إ ّ‬
‫وحزب الكتائب وحزب اهلل ‪� .‬إذن ما يهمني �أوال‬ ‫لو �أنني �أجتول يف غابة و�أراها جمموعة �أ�شجار‪،‬‬
‫هو لبنان ثم العروبة ف�أنا عروبي حتى العظم وقد‬ ‫وكائنات حية ت�سمعني وحت�س معي فنت�آلف‬
‫تربيت يف بيئة بها �سنة و�شيعة ودروز وفل�سطينيون‬ ‫يف ق�صة حب وكره وهذه كلها ت�شمل موا�ضيع‬
‫و�أرمن‪ ،‬فقد �أجنبتني �أمي مع تو�أم �آخر ويف تلك‬ ‫حياتية عدة‪ ،‬فعلى �سبيل املثال ال �أرى احليوانات‬
‫الفرتة تعذر وجود �أغذية االطفال املعلبة‪ ,‬فكانت‬ ‫باملعنى القدمي واملتداول بل �أراها كائنات حية‬
‫�أمي ت�ضطر �إىل �أن تذهب �إىل امر�أة �أخرى لرت�ضعني‬ ‫ت�شبه الإن�سان‪ ،‬وهذه هي النظرة ال�شعرية للعامل‪،‬‬
‫مع طفلها‪ ،‬لذا فقد ر�ضعت من �أمهات �شيعة و�سنة‬ ‫حتى يف كتاباتي ال�سيا�سية التي غالبا ما تكون‬
‫وغجر وغريها‪ ،‬فكل هذه الطوائف يف دمي وهم‬ ‫عنيفة و�رش�سة وخطرة ب�سبب مواقفي فيها والتي‬
‫�أخوتي بالر�ضاعة‪ ،‬فكيف �أكون �ضدهم وكيف يل‬ ‫�أرف�ض من خاللها �أن �أطلب مقابلها ثمنا‪ .‬بالرغم‬
‫�أن �أكون طائفيا‪ ،‬و�أنا بيلوجيا �ضد‬ ‫من �أن ال�شعراء يف غالبيتهم عودونا �أن‬
‫الطائفية‪� .‬إىل جانب اجلامعة اللبنانية‬ ‫بعد ع�شرين‬ ‫يقب�ضوا ثمنا مقابل مواقفهم ال�سيا�سية‪،‬‬
‫التي كنت فيها من القيادات الكربى يف‬ ‫واملجانية يف الكتابة من �أجل احلرية‬
‫الثورات الطالبية التي تعر�ضت خاللها‬
‫عاما من الكتابة‬ ‫والدميوقراطية والإن�سان هي التي ال‬
‫لل�رضب وال�سجن من قبل ال�سلطات‪،‬‬ ‫اجلماهريية‪،‬‬ ‫تطلب �شيئا لنف�سها‪ ،‬و�أنا ال �أزدهر �إال‬
‫ولي�س جديدا عندما �أقول لك �أنني �أزدهر‬ ‫يف اخلطر‪ ،‬وقد واجهت يف ال�سبعينات‬
‫يف اخلطر لأنني كنت �أكتب دائما فيه‪،‬‬
‫�أ�صبح دروي�ش‬ ‫من القرن املا�ضي ميلي�شيات طائفتي‬
‫فقد كنت بني امليل�شيات امل�سيحية و�أنا‬ ‫هو الذي يكتب‬ ‫عندما اخط�أوا وارتكبوا جمازر يف حق‬
‫�أكتب �ضدها‪ ،‬و�ضد يا�رس عرفات عندما‬ ‫ق�صيدته ولي�س‬ ‫الفل�سطينيني ووقفت يف وجه عائلتي‬
‫كان م�سيطرا يف بريوت وبد�أ ينحرف عن‬ ‫كلهم ومت اختطايف من قبل امليلي�شيات‬
‫ق�ضيته ويتدخل يف ال�ش�ؤون اللبنانية‪،‬‬ ‫اجلمهور‬ ‫امل�سيحية وهوجمت يف منزيل فهربت‬
‫و�أيدت املقاومة الوطنية عندما كانت‬ ‫�إىل بريوت منذ ثالثة وثالثني عاما‬
‫تخل�ص مل�رشوعها وكذلك �أيدت مقاومة حزب‬ ‫وما زلت هنا‪ ،‬مبعنى �أن التوتاليتارية العائلية‬
‫اهلل عندما كان مقاوما و�رصت �ضده عندما حمل‬ ‫والطائفية هي مقتلة الإن�سان الفرد واحلرية‬
‫ال�سالح و�صار يهددين ويريد �أن يحكم البالد‪ ،‬و�أن‬ ‫وت�صبح ك�أنك جزءا من قطيع وهذا مناف لل�شاعر‬
‫تكون معار�ضا ل�سيا�سة حزب اهلل ال يعني �أنك �ضد‬ ‫الذي يتمتع بحريته ال�سيا�سية متتعه بحرية التنف�س‪.‬‬
‫ال�شيعة‪ ،‬فه�ؤالء �أهلي و�أخوتي وهم لبنانيون وعرب‬ ‫‪ n n‬مبعنى �أنك هربت من الرهاب العائلي والطائفي‬
‫قبل كل �شيء‪ ،‬وهذا ما �أريده فدائما �أكتب على حافة‬ ‫ملواجهة اخلطر املبا�رش ملواقفك ال�سيا�سية‬
‫اخلطر حتى حني يحذرين �أ�صدقائي من نتائج هذه‬ ‫واحلزبية ببريوت؟‬
‫املواجهة‪ ،‬دائما يكون ردي ب�أين ل�ست �أف�ضل ممن‬ ‫‪ -‬الكتابة هنا كموقف‪ ,‬وقد كتبت �ضد امليلي�شيات‬
‫ا�ست�شهدوا من �أجل احلرية يف هذا البلد ويف العامل‬ ‫عندما كان املارك�سيون والقوميون والليرباليون‬
‫العربي كله‪ ،‬فل�ست �أف�ضل ممن ماتوا يف ميدان‬ ‫والعلمانيون تركوا كل هذا املواقع لين�ضموا �إىل‬
‫التحرير مب�رص �أو تون�س �أو يف ليبيا �أو اليمن �أو‬ ‫طائفيتهم‪ ,‬كنت �أنا عك�سهم يف موقف الهجرة‬
‫يف �سوريا �أو حتى يف فرن�سا عندما كانت الثورة‬ ‫امل�ضاد �إىل مكان فيه كل الطوائف وهنا مكمن‬
‫‪146‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫حني كان العك�س عند حممود دروي�ش لأنه انقلب‬ ‫الفرن�سية �أوي مكان على مدى التاريخ فهناك ثورة‬
‫على ذاته بعد ع�رشين عاما من الكتابة اجلماهريية‪،‬‬ ‫من �أجل حرية الإن�سان‪ ،‬وهي لي�ست ق�ضية خا�صة‬
‫لذا فبعد «اجلدارية» و«�رسير الغريبة» �أ�صبح حممود‬ ‫ول�ست معنيا بها وحدي وامنا هي ق�ضية الإن�سانية‬
‫دروي�ش هو الذي يكتب الق�صيدة ولي�س اجلمهور وال‬ ‫كلها‪ ،‬وقد ولدنا �أحرارا‪ ،‬هكذا علّمنا عمر بن اخلطّ اب‬
‫الق�ضية‪ ،‬فانبثقت فرديته بعد �أن كانت مطمو�سة يف‬ ‫يف مقولته امل�شهورة‪ ،‬واخلطر هو جزء من اللغة‬
‫ق�ضية وحتول من �شاعر ق�ضية �إىل �شاعر ق�صيدة‪.‬‬ ‫ف�أنا ال �أكتب �إال على حا ّفة خطر اللغة‪ ،‬وهذا يعني‬
‫‪ n n‬وهذا ما حدث عندما �رصح ب�أنه لي�س �شاعر‬ ‫�أنه لي�س عندي �أي كتاب ي�شبه الآخر‪ ،‬فكل كتاب‬
‫ق�ضية يف فرتة مت�أخرة من حياته؟‬ ‫وعلي �أنا �أي�ضا‪ ،‬قد‬
‫ّ‬ ‫هو جمازفة وخطر على اللغة‬
‫‪ -‬هذا غري مهم فهو جمرد تف�صيل بدليل �أنه كتب‬ ‫�أف�شل وال �أف�شل وقد �أ�سقط وال �أ�سقط‪ ,‬ولهذا يقال‬
‫عن حممد الدرة بعد ذلك وما يهم يف حالته تلك هي‬ ‫عن ال�شعر �أنه جتربة وجميل �أن يف�شل ال�شاعر يف‬
‫الكتب التي انتجها‪ ،‬وكنت قد اختلفت مع حممود‬ ‫ق�صيدة و�أن ينجح يف ق�صيدة �أخرى‪ ،‬وهذا عموما‬
‫دروي�ش عام ‪ 82‬من القرن املا�ضي‪ ،‬وهاجمني �أنا‬ ‫حال ال�شعراء والروائيني والفنانني‪ ،‬حتى �شك�سبري‬
‫مع ال�شاعر عبا�س بي�ضون عندما كتب «�أنقذونا من‬ ‫لديه م�رسحيات رديئة �أحيانا‪.‬‬
‫هذا ال�شعر» ورددنا عليه‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫‪ n n‬لذلك هناك بداخلك طفل ال يكرب‬
‫�سكننا بجوار بع�ض �إال �أنه كان ينق�صه‬ ‫الفيل�سوف‬ ‫باخلربة ؟‬
‫ال�سالم بيننا‪ ،‬ونتجنب �أحدنا الآخر �إىل‬ ‫يتحول فـي فكره‪،‬‬ ‫‪ -‬التجربة مبعناها الوا�سع هي‬
‫�أن �أ�صدر «اجلدارية» و بعدها «�رسير‬ ‫لكل جتربة ان�سانية جتربة لغوية‪،‬‬
‫الغريبة»‪ ،‬وكان يل لقاء �صحفي يف تلك‬ ‫وال�شاعر يتحول‬ ‫والذين كانوا ي�رصخون يف ال�ستينات‬
‫الفرتة مع احدى ال�صحف‪ ،‬ف�أعلنت بها‬ ‫بكل حوا�سه‬ ‫وال�سبعينات �أنهم دمروا اللغة ودمروا‬
‫ب�أن حممود دروي�ش بد�أ مرحلة جديدة‬ ‫الرتاث ودمروا كل �شيء‪ ،‬اكت�شفنا �أن‬
‫وق�صيدة جديدة‪ ،‬وبعد تلك املقابلة‬ ‫وفكره وج�سده‬ ‫�أعمالهم كانت دون الرتاث فال �أحد‬
‫التقينا بالقاهرة و�صار بيننا حديث‬ ‫وعواطفه‬ ‫يغلب اللغة وال �أحد يغلب الرتاث وال �أحد‬
‫م�ستف�رسا عن �سبب ما �أعلنته باملقابلة‬ ‫يغلب احلوا�س وال اجل�سد وال العقل لأنها‬
‫فقلت له �أنت ال�شاعر العربي الوحيد الذي تطور يف‬ ‫جميعا �إرث‪ ،‬فتطور الإن�سان بيولوجيا عرب الع�صور‬
‫ق�صيدته وجددها وبد�أ يغري من مرحلته للجديد‪،‬‬ ‫هي عبارة عن جتارب كل جتربة لها خوا�صها‬
‫واي�ضا هو الوحيد من بني الكثري من ال�شعراء ممن‬ ‫وفرادتها‪ ،‬وبالتايل ينبغي على ال�شاعر �أن يبد�أ‬
‫ديوانهم الأول لي�س �أهم من دواوينهم الالحقة بل‬ ‫كل جتربة وك�أنها جتربته الأوىل‪ ،‬ولذلك فب�إمكاين‬
‫هي �سل�سلة متجددة ومتطورة‪ ،‬ومنها �أ�صبحنا من‬ ‫الآن �أن �أكتب يف حلظتي هذه ع�رشين �صفحة من‬
‫�أهم الأ�صحاب‪ ،‬وما ا�ستدرجني لهذا احلديث هو‬ ‫كتابي «ك�شهر طويل من الع�شق» لأن مفاتيحه معي‬
‫مثال بع�ض ممن يدعون ب�أنهم كبار ال�شعراء جتد‬ ‫ولكن ال ميكنني ذلك‪ ،‬لأن كل كتاب �أ�صدره �أن�ساه‬
‫�أن �أول ديوان �شعري لهم هو �أهم عمل لتجربتهم‬ ‫وك�أنني دفنته‪ ،‬فالكتاب هو مقربة الن�ص �أو كلقيط‬
‫من �أمثال حممد املاغوط «حزن يف �ضوء القمر»‬ ‫يرتك بجانب اجلامع �أو الكني�سة �أو ال�شارع في�صبح‬
‫و �أحمد عبداملعطي حجازي يف ديوانه «مدينة بال‬ ‫ملك غريك‪ ،‬وعليك �أن تبحث عن غريه وال �أن تقلده‬
‫قلب» وان�سي احلاج يف ديوانه «لن» و�سعيد عقل‬ ‫ف�أ�سهل �شيء عند ال�شاعر �أن يقلد نف�سه وهناك‬
‫يف ديوانه «قدمو�س» و�صالح لبكي يف ق�صيدته‬ ‫�شعراء قلدوا �أنف�سهم �أمثال ال�شاعر �سعيد عقل فهو‬
‫«�أرجوحة القمر»‪ ،‬فمعنى ذلك �أنهم مل يتجاوزوا‬ ‫منذ خم�سني عاما كان �شاعرا كبريا وقد انتهى‪ ،‬يف‬
‫‪147‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أنني عندما �أ�صدرت �أول ديوان يل «�أيها الطاعن يف‬ ‫�أنف�سهم‪ ،‬مبعنى �أن ه�ؤالء اكت�شفوا طريقا وظلوا‬
‫املوت» اخرتت من مئات الق�صائد �ستة ق�صائد فقط‪,‬‬ ‫ي�سلكونها طوال حياتهم‪ ،‬و�أ�صبحت اللغة خارج‬
‫�أما عن ديواين الثاين «بو�صلة الدم» ا�شتغلته ثالثا‬ ‫اجل�سد واالنفعال و�صارت الكتابة عقدة �آلية‪ ،‬يف‬
‫و�سبعني مرة‪ ،‬فكان �ستمائة �صفحة و�صار اربعني‬ ‫حني �أن الكتابة يجب �أن تكون ك�رسا لهذه العقدة‪،‬‬
‫�صفحة‪ ،‬كذلك ا�شتغلت على ديوان «�أوراق الغائب»‬ ‫وهذا ما �أو�ضحته ملحمود دروي�ش‪ ،‬وباملجمل العام‬
‫�ست �سنوات لأن ال�شعر هو فن احلذف‪ ،‬ولي�س فن‬ ‫هو م�شكلة ال�شعر العربي‪ ،‬فال�شعراء العرب ي�شيخون‬
‫الإ�ضافة فقط‪ ،‬وينبغي على ال�شاعر �أن يكون قا�سيا‬ ‫يف الثالثينات والأربعينات لأنهم ميتنعون عن‬
‫على نف�سه‪ ،‬فبدل �أن يحذف القارئ اجلملة يجب �أن‬ ‫القراءة واالنخراط يف املجتمع وغرف جتاربهم‬
‫يتم حذفها من ال�شاعر برغم �صعوبته مثلما ي�سلخ‬ ‫ويقعون يف الرنج�سية العقيمة وتكرث لغة الأنا‬
‫جلده وترمي ما تكتبه يف الق�صيدة مثلما ترمي جزءا‬ ‫لديهم‪ ،‬ولكن هناك نرج�سية نظرة متفتحة وهي‬
‫من ج�سدك ولكن يف املقابل هي زوائد‪ ،‬حتى عندما‬ ‫الرنج�سية اجلماعية الكونية بدال عن الرنج�سية‬
‫تفي�ض يف ن�ص طويل‪ ،‬فال�شاعر ال ينبغي �أن يغرقه‬ ‫الفردية املري�ضة‪ ,‬ولذا فهناك �أ�سو�أ ما ن�سمعه �أحيانا‬
‫طوفان اللغة‪ ،‬وال طوفان التجربة‪ ،‬فال�سورياليون‬ ‫�أن يقال هذا لي�س ب�شاعر وهذا �أعظم �شاعر وهذا �أكرب‬
‫هم رومنطيقيون وال�شعر عندهم ينزل من ربة‬ ‫�شاعر‪ ،‬وهذه كلمات دالة على جاهليتها مبعنى �أنه‬
‫الإلهام كامال ويفي�ض لالوعي ‪.‬‬ ‫عندما يكون هناك تنوع يف ال�شعر ال‬
‫‪ n n‬هذا يعني �أن ال�شاعر هو ناقد لن�صه؟‬
‫كلما كرث‬ ‫ميكن �أن تقارن ب�شاعر يختلف عن �شاعر‬
‫‪ -‬كل �شاعر ناقد و�أ�سو أ� ال�شعراء و�أكربهم‬ ‫�آبائي الذين اقر أ�‬ ‫و�أن تقيمه برتك نقاط مثل ما يحدث‬
‫خطرا عندما يفقد النقد الذاتي على نف�سه‪،‬‬ ‫يف تقييم ملكات اجلمال‪� ،‬أي �أن ت�ضع‬
‫وعندما يظن �أن كل ما يكتبه جيدا فهذا‬
‫لهم‪..‬‬ ‫موا�صفات جاهزة ل�شاعر ليكون هناك‬
‫معناه �أنه يعلن نهايته‪ ،‬ولهذا فقد كنت‬ ‫كرثة والداتي‬ ‫مفا�ضلة بينهم وهذا �ضد ال�شعر‪ ،‬متاما‬
‫�أحيانا ابد�أ بق�صيدة �أو بن�ص �سنة �أو‬ ‫كما هي املدار�س ال�شعرية كلها �ضد‬
‫�سنتني ويوما ما اكت�شف ب�أنه رديء‬
‫للن�ص‬ ‫ال�شعر من الدادائية للرمزية لل�سوريالية‬
‫�أرميه‪ ،‬لذا فقد ن�رشت مبا ن�سبته ع�رشة‬ ‫لأن ال�شعر �س�ؤال وهذه النظريات و�ضعت‬
‫باملائة مما كتبت‪ ،‬فالنقد الذاتي يكمن يف �إعادة‬ ‫قبل ال�شعر وو�ضعت �أجوبة �سحقت ال�شعر و�أخرجت‬
‫النظر بالكتابة‪ ,‬لذلك حتتاج �إىل �إعداد الدفق الأول‬ ‫منها روادا ولذلك �أ�سو أ� ظاهرة يف العامل العربي‬
‫لبناء ت�ضع من خالله الأ�سا�سيات وهو ال يكتمل مرة‬ ‫هي بروز الرواد فال�شاعر الأوحد متاما مثل القائد‬
‫واحدة‪ ،‬ولذلك �أنا ممن يخافون من الق�صيدة املكتوبة‬ ‫الأوحد وهذا ما ميثل عقل الإيديولوجيا وي�شبه‬
‫لأول مرة‪ ،‬ويجب �إعادة كتابتها لتزيل نقاط ال�ضعف‬ ‫متاما العقل الديني وكل ايديولوجيات القرن‬
‫فيها‪ ،‬فالق�صيدة ال تولد دفقة واحدة‪ ،‬وهنا يجب �أن‬ ‫الع�رشين هي ايديولوجيات دينية وخ�صو�صا‬
‫يراجع ال�شاعر لق�صيدته كي يحيلها �إىل كائن يتنف�س‬ ‫املارك�سية والوجودية كما هو �سارتر واملدار�س‬
‫بكل حوا�سه‪.‬‬ ‫امل�رسحية كما عند بريخت فهو �صاحب عقل ديني‬
‫‪ n n‬ولكن ماذا عن حتوالت ال�شاعر يف مواقفه‬ ‫لأنه ي�ضع �أجوبة قبل الن�ص وي�ضع بيانا بوجوب‬
‫ال�سيا�سية والأيديولوجية �أو حتى العاطفية مثال؟‬ ‫كتابة الن�ص كما لو كان و�صايا دينية‪.‬‬
‫‪ -‬ال�شاعر يتحول ككائن ولي�س يف فكره فالفيل�سوف‬ ‫‪� n n‬إذن كان غياب جمموعتك الأوىل ب�سبب �ضياعه‬
‫هو فقط من يتحول يف فكره‪ ،‬فالعقل ميثل جزءا‬ ‫بني الكتب يف الأرفف؟‬
‫كبريا من الكتابة ولكن معه احلوا�س واجل�سد‬ ‫‪ -‬كنت �صعبا جدا واحلقيقة هو مل يقنعني يوما‪ ,‬حتى‬
‫‪148‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫والهام�شي من ق�صيدته‪ ،‬ت�ساعد على �أن تقلل �إمكانية‬ ‫والعاطفة واملعرفة والتجربة جتتمع جميعها يف‬
‫عما كتبت‪ ،‬لأن العار�ض ال�سيا�سي ال بد �أن‬ ‫الندم ّ‬ ‫خلق الذائقة لتقوم عليها الق�صيدة‪ ،‬والعقل وحده‬
‫يتحول لظاهرة دائمة �أو للغة ال متوت مع احلدث‪،‬‬ ‫ال ي�ستطيع خلق عمل �شعري‪ ،‬وبالتايل ب�إمكانك‬
‫والتحول ال يكمن عند ال�سيا�سي فقط بل هو ممزوج‬ ‫كتابة ن�ص �سيا�سي‪ ،‬ولكن يجب �أن متر ال�سيا�سة‬
‫مع التحول الفكري والعاطفي �أي�ضا فجميعها‬ ‫عرب احلوا�س‪ ،‬حتول الإدراكات الفكرية وال�سياقية‬
‫مادة واحدة من ال�شاعر‪ ،‬لها ارتباط بالواقع‬ ‫�إىل ادراك �شعوري وحوا�سية وج�سدية و�إال ي�صبح‬
‫وبالتناق�ضات االجتماعية والتاريخية والدينية‬ ‫الن�ص كمقال �سيا�سي �أو خطاب‪.‬‬
‫والطائفية فكلها ت�شكل موقفا �سيا�سيا متعلقا بجزء‬ ‫‪� n n‬إذن يكمن احلذر لديك عند كتابة الق�صيدة‬
‫�صغري من حتولك الكامل‪ ،‬و�أنا ل�ست �شاعرا باملعنى‬ ‫بتجمع كل احلوا�س؟‬
‫ال�سيا�سي �أو �أيديولوجي ولكن الأيديولوجيا هي‬ ‫‪ -‬لأن ال�شاعر ال يكتب بيديه وال بعينيه وال ب�أذنيه‪،‬‬
‫تربطني بزمان معني ميكن �أن مت اختزاله �أو‬ ‫يجب ان تكون الكتابة بكامل حوا�س ج�سدك‪ ،‬فعندما‬
‫جتاوزه‪ ،‬فعلى �سبيل املثال هناك من كتب عن‬ ‫تكتب عن املر�أة ال ت�ستطيع الكتابة عن اجل�سد‬
‫اال�شرتاكية اللينينية واملارك�سية انتهت‬ ‫كل نه�ضة عندما‬ ‫مف�صوال عنها‪� ،‬أي لال�ستهالك فقط‪ ،‬كما‬
‫ق�صائدهم مع املرحلة‪ ،‬كذلك هناك من‬ ‫هي طريقة نزار قباين بل البد الكتابة‬
‫كتب عن املقاومة الفل�سطينية بطريقة‬ ‫تنتج نف�سها‬ ‫عنها ككائن مركب طبقات فوق طبقات‬
‫يومية خطابية ذهبت خطاباتهم مع‬ ‫ت�ستنقع وهذا ما‬ ‫بتناق�ضاتها املختلفة‪ ،‬فكل يوم عند‬
‫ذهاب احلدث الذي كتبوا عنه‪ ،‬وهذا ما‬ ‫املر�أة مكون من ف�صول �أربعة‪� ،‬ضعف‬
‫حتدثت عنه �سابقا بالن�سبة ملحمود‬ ‫ي�سمى الأ�صولية‪،‬‬ ‫وجنون وحكمة وقوة وهذا ما يجعل‬
‫دروي�ش �أنه جتاوز احلدث �إىل الداخل‬ ‫�أي نتاج فكر‬ ‫عالقة ال�شاعر باملر�أة مكتملة‪ ،‬فالكتابة‬
‫و�أ�صبح املنفى بالداخل‪ ،‬ولي�س فقط يف‬ ‫عنها لي�ست �ضمن حدود نهائية يتم‬
‫املكان‪ ،‬ويف الكائن ولي�س يف ال�سيا�سة‬ ‫يقف عند مرحلة‬ ‫ر�سمها‪ ،‬فاملر�أة غابة كلما توغلت فيها‪،‬‬
‫فقط‪ ،‬ويف الغربة ولي�س يف الظلم �أي�ضا‪،‬‬ ‫معينة ويريد �أن‬ ‫اكت�شفت �أنا جديدة فيها يحمل تاريخا‬
‫و�أ�صبحت املقاومة داخلية ولي�ست‬ ‫جديدا‪ ،‬وق�سوة جديدة و�أي�ضا ينابيع‬
‫خارجية فقط‪ .،‬وهذا ال يعني �أن الداخلي‬
‫ينتجها �إىل الأبد‬ ‫و�أنهر جديدة‪ ،‬وهذا كله يكمن يف الكالم‬
‫مف�صول عن اخلارجي‪ ،‬ولكن الكتابة‬ ‫اجلديد لديها و�أي�ضا يف ال�صمت الآخر‬
‫يجب �أن تنطلق عرب معرفته ليتحقق هدفه‪ ،‬وما‬ ‫لديها‪ ،‬فهي عميقة مثل ال�سيا�سة ولذلك فلقاء الرجل‬
‫�أريد الو�صول �إليه ب�أن التحول ال يحدث فقط من‬ ‫باملر�أة مثل غابتني تلتقيان �أو غيمتني �أو مدينتني‪،‬‬
‫احلدث اخلارجي ولكن �أي�ضا من احلدث الثقايف‪،‬‬ ‫وهذا ي�صعب على كل منهما بتحويل الآخر �إىل كائن‬
‫ولذلك كل ما قر�أت كتابا معينا ي�ضيف �إىل حياتي‬ ‫لي�سهل الكتابة عنه‪ ،‬فاملر�أة لي�ست متثاال �أو كر�سيا‪،‬‬
‫حياتا �أخرى و�أ�صبح جزءا من لغته‪ ،‬وقد �سمعت مرة‬ ‫و�إذا كان الكر�سي الذي يجل�س ال�شاعر عليه يتحول‬
‫من يحكي �أنه خرج من العدم ولي�س مت�أثرا ب�أحد‪.‬‬ ‫�إىل كائنا‪ ،‬فما بالك باملر�أة ‪.‬‬
‫حتى �أي�ضا جماعة جملة �شعر كانوا يتحدثون بنف�س‬ ‫‪ n n‬ولكن هناك من يكتب ق�صيدة ما �أو ي�صدر‬
‫الفكرة‪ ،‬ويرف�ضون احلديث عن ت�أثرهم ب�شاعر‪ ,‬و�أنا‬ ‫ديوانا معينا ثم يعتذر بعد ذلك عن كتابته ب�سبب‬
‫عندما �س�ألت عن الت�أثر �أجبت ب�أنه كلما كرث �آبائي‬ ‫حتوالته الفكرية �أو ال�سيا�سية �أو غريه �أين تكمن‬
‫كرثة والداتي‪ ،‬و�أنا حاليا �أترجم كتابا عن ال�شاعر‬ ‫ال�شعرية يف ذلك؟‬
‫بابلو نريودا كما ترجمت ملئات ال�شعراء حيث‬ ‫‪ -‬من حق ال�شاعر �أن يحذف الطارىء واليومي‬
‫‪149‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أنه مل يكن هناك رواد‪ .‬وا�صال ال يوجد م�صطلح‬ ‫�أنني ترجمت حوايل ع�رشة �آالف ق�صيدة‪ ,‬وه�ؤالء‬
‫الريادة لأنه وراء كل من يدعي الريادة هناك رائد‬ ‫�صاروا جزءا من كتاباتي‪ ،‬وهي من ت�ساعدين يف‬
‫قبله ا�ستقى منه‪ ،‬وهناك �أمثلة يف �شعرائنا العرب‬ ‫كيفية التعامل مع احلدث ال�سيا�سي �أو العاطفي �أو‬
‫الرواد كما يدعون رواد غرب‪ ،‬ف�أدوني�س ورا�ؤه‬ ‫ت�سخر �إىل �أدوات‪ ،‬ولذلك قراءاتي‬
‫اجلن�سي‪ ،‬وكلها ّ‬
‫�سان جون بري�س والنفري ونيت�شه‪ ,‬و�أن�سي احلاج‬ ‫للفل�سفة وامل�رسح والروايات العاملية والعربية‬
‫ورا�ؤه ال�سورياليني و�أنطونان �أرتو وال�سياب وراءه‬ ‫وكذلك قراءتي املتفح�صة للقر�آن الكرمي ولي�س‬
‫ت ‪� .‬س �أليوت واليا�س �شبكه ورا�ؤه بودلري‪ ،‬وال�شعر‬ ‫للحفظ مرات كثرية بالإ�ضافة �إىل ترجماتي ت�صبح‬
‫العربي احلديث عمره فقط مائة عام فقط‪ ،‬فنحن‬ ‫�أدواتي لكتابة الن�ص �أيا كان جن�سه‪ ،‬كذلك تعمقي‬
‫بد�أنا االنفتاح على الغرب يف القرن التا�سع ع�رش‪،‬‬ ‫يف معرفة الرتاث العربي‪ ،‬وحماوالتي منذ خم�سة‬
‫وهي متثل نه�ضتنا وكل نه�ضة ال ميكن‬ ‫ع�رش عاما ل�سد الفراغ الفل�سفي ومل‬
‫�أن تنهل �إال بانفتاحها على الآخر‪ ،‬ولو‬ ‫�إذا ك ّنا نرغب يف‬ ‫�أمتكن لأنني مل �أهتم بالفل�سفة كثريا بل‬
‫حتدثنا عن امل�رسح الفرن�سي فقد كان‬ ‫البحث عن ال�شعر‬ ‫كان امل�رسح وال�شعر وال�سيا�سة هي جل‬
‫يف القرن ال�سابع ع�رش م�رسحا يونانيا‬ ‫اهتمامي ولكن �أ�ستطيع �أن �أتلم�س ما‬
‫�أر�سطويا ثم قام فيكتور هوجو بعمل‬ ‫الذي يعرب عن‬ ‫يجري يف الفكر العاملي اليوم‪ ،‬و�أنا ممن‬
‫نقلة ف�أ�صبح م�رسحا مت�أثرا ب�شك�سبري‬ ‫التحوالت الفكرية‬ ‫ال يطبقون مقولة فوات الأوان‪ ،‬فمثال‬
‫وكذلك �أي�ضا ت�أثر الرومان باليونانيني‪،‬‬ ‫الروائية �إميلي برونتي كان عمرها‬
‫والأمريكان ت�أثروا ب�أوروبا‪ ،‬حتى‬ ‫وال�سيا�سية‬ ‫�أربعة وثمانني عاما عندما ذهبت �إىل‬
‫د�ستورهم من �صنع الفرن�سي الفاييت‪,‬‬ ‫واالجتماعية‬ ‫�إحدى الدول كي تتعلم لغتهم وتكتب‬
‫وثورة النه�ضة العربية من نتاج �أوروبا‬ ‫بها‪ ،‬وهنا جتد �أن الكاتب الغربي �شاعر‬
‫وخ�صو�صا فرن�سا ولوالها لك ّنا ما زلنا‬ ‫والهام�شية‬ ‫وروائي بالرغم من عمره الت�سعيني على‬
‫نكتب ب�صيغة املتنبي‪ ،‬ولذلك كل نه�ضة‬ ‫والطبقات ال�سفلى‬ ‫�سبيل املثال ولكنه كما لو �أنه يكتب وهو‬
‫عندما تنتج نف�سها ت�ستنقع وهذا ما‬ ‫يف الع�رشين‪ ،‬و�أي�ضا جند �أن رينيه �شار‬
‫ي�سمى الأ�صولية‪� ،‬أي نتاج فكر يقف عند‬ ‫ف�سنجده يف �ألف‬ ‫مات وعمره ثالثة وثمانني عاما ولكنهم‬
‫مرحلة معينة ويريد �أن ينتجها �إىل الأبد‪،‬‬ ‫ليلة وليلة ولي�س‬ ‫اكت�شفوا �أن لديه ثالثة دواوين �شعر ومن‬
‫فت�ستنقع ومتوت مثل بحرية تنقطع عنها‬ ‫�أعظم ما كتب بعد �أن توفى‪ ،‬وكذلك ويف‬
‫املجاري‪ ،‬وهذا ما �أدى يف مرحلتنا‬ ‫عند املتنبي‬ ‫وقتنا املعا�رص هناك �شاعر فرن�سي‬
‫التي اجتهت للأ�صولية وال�سلفية‪ .‬ولذلك‬ ‫ا�سمه كلون�سييه يبلغ من العمر مائة‬
‫مل نكن ن�صنع �شعرا عظيما لوال ت�أثرنا بالآخر ويف‬ ‫عام ومل يكتب حتى الآن �سوى ثالثة دواوين ولكن‬
‫مرحلتنا احلالية لوال ت�أثرنا بالفكر وبالرواية ملا‬ ‫�شعراءنا العرب جتد �أن �شاعرا بعمر �أربعني عاما‬
‫و�صلنا �إىل الق�صيدة احلالية حتى يف د�ساترينا‬ ‫ويقيمهم‬
‫ّ‬ ‫ين�صب نف�سه زعيما لل�شعراء الأ�صغر منه‬
‫ال�سيا�سية نتاج الغرب‪ ,‬وكذلك عند املدار�س الفنية‬ ‫وي�صبح �إقطاعيا يطلب منهم الكتابة عنه وتكرميه‬
‫فهي عرب ج�رس املدار�س الأجنبية‪ ،‬وهذا �إ�ضافة‬ ‫لدرجة القدا�سة‪ ،‬ولكن ال�شعر �ضد فكرة التقدي�س‬
‫بالطبع على �أن ال نتخذه ككتل مغلقة وتعيد انتاجه‬ ‫و�ضد ال�صنمية‪ ,‬و�أ�سو أ� ما تناوله ال�شاعر العربي هو‬
‫ولكن يجب تفكيك الن�صو�ص الغربية حتى تتحول‬ ‫فكرة الرواد فعظمة ال�شعر اليوم بالعامل ب�أنه مل يعد‬
‫�إىل مفردات تعيد �صياغتها لتمر عرب ثقافتنا وتراثنا‬ ‫هناك رواد يف العامل‪ ،‬وقد ترجمت �أنطولوجيات‬
‫العربي وتفا�صيل حياتنا اليومية لت�صبح جزءا م ّنا‪,‬‬ ‫�شعرية عن الأملانية واليابانية وغريها وما وجدته‬
‫‪150‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫يف ع�رصه‪ ،‬مبعنى �أن الو�صايا كتبت بعده وهذا‬ ‫وهذا موجود عند الآخرين فمثال لو رجعنا �إىل ثقافة‬
‫ما قاله امل�ؤرخون اجلدد عند اليهود‪ ،‬ولذا فكل هذا‬ ‫بودلري جند �أنها مت�أثرة بادغار �آالن بو ‪.‬‬
‫التاريخ ي�شكّل �إطارنا ومن اجلاهلية التي يفرت�ض‬ ‫ولو عدنا �إىل الع�صور العبا�سية الأول والثاين والثالث‬
‫�أنها ت�شكل ج�سدا واحدا‪ ،‬مع الع�صور الالحقة كما‬ ‫والرابع كان يف الأول �أبو نوا�س و�أبو متام وبالرابع‬
‫ت�شكّلت هي من الأزمنة ال�سابقة‪.‬‬ ‫كان فيه �أبو العالء واملتنبي و�أبو فرا�س وغريهم)‪,‬‬
‫ولذلك من ال�رضورة على كل كاتب مبختلف‬ ‫وهذا كله نتاج مزيج من احل�ضارة الفار�سية‬
‫الأجنا�س �أن يرجع �إىل �أمهات الكتب ك�ألف ليلة‬ ‫واليونانية والبيزنطية ترجموا الفارابي واوجدوا‬
‫وليلة مثال‪ ،‬فقد ذكر الروائي الكولومبي جابرييل‬ ‫ابن ر�شد باملغرب وابن خلدون اي�ضا‪ ،‬وهذا �ساعد‬
‫ماركيز انه قر�أها �إحدى وع�رشين مرة‪ ،‬وبورخي�س‬ ‫يف رفد املعارف وا�ستمراريته‪ ،‬ولذلك عندما نتحدث‬
‫ذكر �أنه قر�أها �ست ع�رشة مرة ونحن غالبية كتابنا‬ ‫عن تراث اجلاهلية وكيف مت م�سحه والتعتيم عليه‬
‫مل يهتم بها باعتقادهم �أنها ال ت�ستحق القراءة لعدم‬ ‫فيما بعد‪� ،‬أثر على ثقافتنا لأنها كانت �سل�سلة �سابقة‬
‫اهميتها‪ ،‬وقد هوجمت يف ثمانينات‬ ‫يف �آخر ع�شرين‬ ‫لرتاثنا ما بعد الإ�سالم لها ت�أثريها‪،‬‬
‫القرن املا�ضي عندما قلت ب�أنه �إذا‬ ‫فتماثيل اجلاهلية مت هدمها وهي لي�ست‬
‫ك ّنا نرغب يف البحث عن ال�شعر الذي‬ ‫عاما حتول‬ ‫ظاهرة م�ستحدثة بل هي على الطريقة‬
‫يعرب عن التحوالت الفكرية وال�سيا�سية‬ ‫الفال�سفة‬ ‫ال�سلفية لرف�ض املو�سيقى وتكفريها‪.‬‬
‫واالجتماعية والهام�شية والطبقات‬ ‫ولكن كانت هناك ممالك وح�ضارات‬
‫ال�سفلى ف�سنجده يف �ألف ليلة وليلة‬ ‫العقالنيون �إىل‬ ‫بديانات خمتلفة كالإجنيل والتوراة‪,‬‬
‫ولي�س عند املتنبي وال عند ابو فرا�س‬ ‫فقهاء‪ ،‬و�أ�صبح‬ ‫جاء الإ�سالم بعدها لي�س لينفيها بل‬
‫ورمبا قليال عند �أبي نوا�س لأنهم �شعراء‬ ‫ليدخلها يف �صلب الدين‪ ،‬ويف �صلب‬
‫بالط وكانوا يكتبون بح�سب ذوقه‬ ‫حديثهم فقط‬ ‫طقو�سه و�أركانه ولذلك هناك مناذج‬
‫فالتحوالت اللغوية مل تتم يف ال�شعر‬ ‫يعتمد على‬ ‫عدة لت�رشيعات ا�سالمية �أخذت �أ�صولها‬
‫وهو مل يتغري كثريا من اجلاهلية �إىل‬ ‫عن اليهودية كالرجم واخلتان ومنع‬
‫الع�رص العبا�سي �إال بالتف�صيل‪ ،‬بينما‬ ‫احلوار امل�سيحي‬ ‫الت�صوير واملو�سيقى النظرة الدونية‬
‫النرث الذي ت�ضمن �شعرا فهو الذي عك�س‬ ‫اال�سالمي‬ ‫للمر�أة وف�صلها عن الرجل‪ ,‬حتى الطواف‬
‫كل هذه التحوالت وانفتحت اللغة على‬ ‫كان منذ اجلاهلية فالكعبة مل تكن منذ‬
‫اللغات الأخرى و�صارت هناك اللغات العامية لأنها‬ ‫عهد النبي حممد بل هي �سابقة منذ �آالف ال�سنني‪،‬‬
‫تداخلت مع اللغات الأخرى‪.‬‬ ‫ولكن الإ�سالم جاء لتقييمها وفق متطلبات املرحلة‬
‫‪ n n‬كانت قوى الأحزاب مزدهرة وقوية يف‬ ‫ولذلك �أول ما نزل القر�آن كان بدعوة للقراءة عندما‬
‫ال�سبعينات والثمانينات بالوطن العربي ‪ ..‬ماذا‬ ‫بد أ� بكلمة «�إقر�أ» وكذلك التوراة كانت ن�صو�صها‬
‫تبقى منها الآن؟‬ ‫م�ستقاة من كتب بالد الرافدين كن�شيد الأنا�شيد‬
‫‪ -‬بالطبع مل يتبق منها �شيء‪ ,‬فقد كانت القوى‬ ‫وجلجام�ش‪ ،‬و�إذن فالقر�آن هو الكتاب الوحيد الذي‬
‫احلزبية يف م�رص ولبنان متثل احلركات الثورية‪،‬‬ ‫دعا �إىل املعرفة بالكتب ال�سابقة عرب دعوته للنبي‬
‫وكانت منبعها الأول يف اجلامعة الأمريكية‪ ،‬ولذلك‬ ‫بكلمة «�إقر�أ»‪ ،‬وهذا ما ي�ؤكد �أن القر�آن لي�س �شفويا‬
‫الكثري من ر�ؤ�ساء اجلمهوريات خرجوا من اجلامعة‬ ‫‪ .‬وكذلك لو رجعنا لو�صايا النبي مو�سى ي�شك يف‬
‫الأمريكية وحتى القومية العربية كان رافدها‬ ‫ن�سبها �إليه حيث يقال ب�أن اللغة املكتوبة بها هي‬
‫الأول من هناك ومن روادها بلبنان جورج حب�ش‬ ‫حديثة ما يقارب �ستمائة عام عن اللغة التي كانت‬
‫‪151‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫احلاج وهو ما يعرف باملطب الأيديولوجي‪ ،‬ولذلك‬ ‫وق�سطنطني رزيق‪ ،‬فكانت هناك حركة حزبية‬
‫فالأ�صولية الإ�سالمية نبع منها الأ�صولية الدينية‬ ‫�ضخمة جدا ولذلك تعترب بريوت يف تلك املرحلة‬
‫والطائفية وهذه اي�ضا لها عالقة ب�سبب الأ�صولية‬ ‫خمتربا للفكر العاملي حيث ت�ضم املارك�سية‬
‫احلداثية العلمانية‪ ،‬وهناك عالقة جدلية بينهما لأنه‬ ‫واملاوية والرتوت�سكية والقومية العربية والقومية‬
‫يف �آخر ع�رشين عاما حتول الفال�سفة العقالنيون‬ ‫اللبنانية والليربالية ومنظمات ا�سالمية‪ ،‬وكانت كل‬
‫�إىل فقهاء‪ ،‬و�أ�صبح حديثهم فقط يعتمد على احلوار‬ ‫هذه التعددية هي خال�صة حركة �سيا�سية فكرية‬
‫امل�سيحي الإ�سالمي و�أي�ضا حول بع�ض الأفكار التي‬ ‫ب�أ�ضلع متعددة‪ ,‬وهذه التعددية الفكرية هي منبع‬
‫�أ�صبحت بعيدة عن ما ميور به املجتمع من حتوالت‪،‬‬ ‫احلركة ال�سيا�سية‪ ،‬وما حدث مع تال�شي احلركات‬
‫وهذا ينطبق �أي�ضا على ال�شعراء والك ّتاب‪ ،‬بينما‬ ‫والأحزاب ال�سيا�سية ظهر ع�رص الطغاة العرب‪،‬‬
‫ال�شارع يعي�ش �أق�سى حاالت القمع والفقر والتجهيل‬ ‫لأنهم حولوا �أفكار واجتاهات الأحزاب �إيل جزيء‬
‫دون �أن يلتفت �إليه ه�ؤالء‪ ،‬فبات الفقيه‬ ‫الثورة العربية‬ ‫�صغري من الفكرة تخدم م�صاحلهم‬
‫�سيا�سيا ومفكرا‪ ،‬وهذا �أو�صلنا �إىل هذه‬ ‫ال�شخ�صية وبالتايل ماتت احلياة‬
‫املرحلة من االنحطاط‪ ،‬وكثريا ما كتبت‬ ‫هي املر�أة‬ ‫الثقافية مبفهومها احلقيقي فلم تكن‬
‫حول هذه املوا�ضيع و�أهمها ما كتبته‬ ‫الوحيدة التي‬ ‫هناك حياة ثقافية يف عهدهم‪ ،‬التي هي‬
‫عن حتول املفكرين �إىل فقهاء والعك�س‪،‬‬ ‫�أ�سا�س احلياة ال�سيا�سية وتداول ال�سلطة‬
‫وعمق‬
‫وهذا مما �رضب الفكرة العلمانية ّ‬ ‫ت�شغلني حاليا‪،‬‬ ‫وخلق املعار�ضة واملواالة وت�صارعت‬
‫الفكرة الأ�صولية‪ ،‬فمعظم املفكرين‬ ‫وقد �سحبت‬ ‫الأفكار اليمينية والي�سارية واملارك�سية‬
‫ال يزال حديثهم عن الذات الإلهية‪،‬‬ ‫والقومية العربية وغريها‪ ،‬وبالتايل‬
‫وموا�ضيع تداولت بجدل كثريا‪ ،‬يف حني‬ ‫ثالثة كتب عن‬ ‫�سعى الر�ؤ�ساء العرب �إىل �إلغاء ك ّل هذه‬
‫�أن ق�ضايا ال�شارع العربي احلقيقية‬ ‫الن�شر حاليا‪،‬‬ ‫الأحزاب لتموت الفكرة عند �شعوبهم‬
‫مهملة‪ ،‬ف�ساهم ذلك يف طم�س كل‬ ‫وتتحول �سيا�ستهم �إىل �آلة قمعية تقتل‬
‫احلركات ال�سيا�سية و�ساعدوا الأنظمة‬ ‫لأنني �أ�شعر �أنني‬ ‫الفكر املتعدد وامل�ستنري عند ال�شعوب‪،‬‬
‫على تقوية القب�ضة يف الفكر الأحادي‪،‬‬ ‫مل �أوف حق هذه‬ ‫�أو ت�ستخدم كذريعة قمعية ولذلك �سعى‬
‫فتحولت احلركات الفكرية والفل�سفية‬ ‫ر�ؤ�ساء الدول العربية �إىل �إلغاء النقابات‬
‫والنقدية يف جمتمعاتنا العربية �إىل‬ ‫الثورات‬ ‫والأحزاب‪ ،‬ف�أ�صبحت جمتمعاتهم‬
‫�سف�سطائية‪ ،‬وا�صبحت الكتابة النقدية‬ ‫مفرغة م�صحوبة بالفقر واجلهل والقمع‬
‫�سواء البنيوية �أو التفكيكية وما قبل الأل�سنية وغريها‬ ‫وتو�سعت دائرة القتل وال�سجون والظلم مما �أدى‬
‫�أقنعة للهروب من الواقع‪ ،‬ولهذا مل ي�ست�شعر املثقفون‬ ‫�إىل ظهور الأحزاب الإ�سالمية املت�شددة لأن هذه‬
‫مبا حدث يف ال�شارع �أثناء الربيع العربي‪ ،‬لأنهم‬ ‫ال�شعوب تبحث عن ملج�أ فكري تعود �إليه ومل يكن‬
‫كانوا مبكان �آخر ال يعلمون مبا يحدث يف الر�صيف‬ ‫امامهم �سوى الأحزاب الإ�سالمية ولأنهم مل يجدوا ما‬
‫الهام�شي ملجتمعاتهم‪ ،‬وكانوا مثل املنظمات‬ ‫يلوذون به من نقابات و�أحزاب‪ ،‬ف�شكّلت تلك العزلة‬
‫املا�سونية يحاورون الكتب‪ ،‬وانف�صلوا عن املجتمع‬ ‫منعطفا خطريا يف تاريخ ال�شعوب العربية‪ ،‬وتو�سعت‬
‫حتى باغتهم بدرو�س لن ين�سوها و�أولها حني نبههم‬ ‫حوزة احلركات الأ�صولية اال�سالمية وامل�سيحية يف‬
‫بعدم وجودهم وغيبهم‪.‬‬ ‫العامل العربي‪ ،‬التي جاءت من الأ�صولية احلداثية‪،‬‬
‫‪ n n‬وما �سبب انزوائهم عن ال�شارع وهم من يدعون‬ ‫فاحلداثة كما عرفناها بال�شعر هي حداثة �أ�صولية‪،‬‬
‫�أنهم حملة همومه؟‬ ‫وقع فيها الكثريون من بينهم �أدوني�س و�أن�سي‬
‫‪152‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫�أول طريق التغيري للثورات‪ ،‬فال نن�سى افتقار وعى‬ ‫‪ -‬بب�ساطة لأنهم كانوا عبيد الأنظمة‪ ،‬والغالبية‬
‫ال�شعوب العربية لل�سيا�سة قبل الثورات‪ ،‬ون�سبة ‪%40‬‬ ‫منهم كانوا خمابرات وعمالء لها‪ ،‬ومنهم من تلقى‬
‫منهم �أميون‪ ،‬الفقر هو �شبح وجودي يف حياتهم‪،‬‬ ‫�أمواال طائلة على ح�ساب ق�ضاياهم‪ ،‬و�أ�صبحوا‬
‫وفوق كل ذلك غياب �أفق الإعالم احلر والنقابات‪،‬‬ ‫يدافعون عنها‪ ،‬وعندما جاء الربيع العربي وثورة‬
‫وتابو احلديث عن ال�سيا�سة طبعا‪ ،‬فاخلطوة الأوىل‬ ‫ال�شباب انقلبوا على الأنظمة وبع�ضهم من ادعى‬
‫عظيمة جدا‪ ،‬وال نطالب ب�أكرث من ذلك‪ ،‬لأن ما ظهر‬ ‫ب�أنه تنب�أ بالثورات العربية‪.‬‬
‫على ال�سطح هو روا�سب �أنظمة ا�ستبدادية‪ ،‬ولذلك‬ ‫‪ n n‬وهل �سيبد�أون يف ا�ستغاللها االن بعد الثورات‬
‫يجب االنتظار لأن الدميقراطية قائمة على التجارب‬ ‫عرب نتاجاتهم؟‬
‫اخلط�أ وت�صويبها‪.‬‬ ‫‪� -‬أعتقد �أن احلديث عن ذلك مبكرا جدا‪ ،‬لأن‬
‫‪ n n‬ما ر�أيك مبن وقف يف وجه ثورات بلدانهم‬ ‫الدكتاتورية ت�صنع مرة واحدة بينما الثورات تتجدد‬
‫مبقاالت هجوميه وت�رصيحات �صادمة وهم من �أهم‬ ‫يوميا‪ ،‬فعلى �سبيل املثال بد�أت الثورة الفرن�سية‬
‫مبدعيها ك�أدوني�س مثال ؟‬ ‫عام ‪ 1779‬م و�سقط البا�ستيل حتى ا�ستقرت ‪,1840‬‬
‫‪� -‬أنا عاهدت نف�سي �سابقا ب�أن ال �أتعر�ض لأدوني�س‬ ‫لأن الدكتاتورية ال حتتاج �إىل نقد ذاتها‪ ،‬بينما‬
‫بعد �أن ا�شتد عليه املر�ض‪ ،‬ولكن عندما نراجع مواقف‬ ‫الثورة مدر�سة جتديدية وهذا ما ن�شاهده يف م�رص‬
‫�أدوني�س ال�سابقة جند �أنه قد �أ ّيد ثورة اخلميني‪ ،‬وكتب‬ ‫وتون�س وليبيا ولذلك فهي �ست�ستقر يوما ما ولكن‬
‫فيه ق�صيدة «الغرب مات» التي تقول يف‬ ‫لي�س بال�رسعة التي يت�صورها الآخر‪،‬‬
‫مطلعها‪:‬‬ ‫ال�شعر غالبا‬ ‫وال يجب احلكم عليها الآن‪ ،‬وبالتايل‬
‫�أفقٌ ثور ٌة والطغاة �شتات‬ ‫ف�إن الكتب احلالية التي تخرج عن هذه‬
‫ما يخ�سر‬ ‫الثورات ال مت ّثل واقعها‪ ،‬فالكتابة حولها‬
‫كيف �أروي لإيران ح ّبي‬
‫والذي يف زفريي‬ ‫لأنه حامل‬ ‫ال تزال مبكرة‪.‬‬
‫والذي يف �شهيقي تعجز عن قوله الكلمات؟‬ ‫و�أنا �شاركت مع متظاهري ميدان‬
‫ولذلك فموقف �أدوني�س طائفي بحت يف حني هو‬ ‫التحرير مرتني تقريبا‪ ،‬وعندما و�صل الإخوان �إىل‬
‫يفرت�ض من يحارب الطائفية‪ ،‬وعندما رف�ض يف‬ ‫ال�سلطة منعوا كتابي «دفرت �سيجارة» التي �أعادت‬
‫مقاالته خروج الثورات من اجلوامع‪ ،‬وك�أمنا هناك‬ ‫طباعته هيئة ق�صور الثقافة‪ ،‬وحتدثت يف مقابلة‬
‫�أماكن �أخرى بديلة ي�ستطيع �أن يخرج منها النا�س‬ ‫تلفزيونية علنا ب�أنني �سوف �أو ّقع كتابي مبيدان‬
‫فكل ال�شوارع حتت عيون الأمن‪ ،‬وهذا ما يرجع‬ ‫التحرير‪ ،‬لأين م�ؤمن بفكرة �أهمية ودور املتظاهرين‪،‬‬
‫الأ�سباب التي حتدثت عنها �سابقا حول قمع الأحزاب‬ ‫وهذا جزء من الدور الذي يقوم به الكاتب‪.‬‬
‫والنقابات واللجوء �إىل امل�ساجد كمالذ �أخري‪ ،‬ولو‬ ‫وبالعودة �إىل الكتب التي تن�رش الآن عن الثورات‬
‫تطرقنا �إىل م�رص يف مقاومتها لال�ستعمار االجنليزي‬ ‫العربية غالبيتها �سطحية جتارية‪ ،‬رمبا بد�أت مالمح‬
‫عام ‪ 1920‬م كانت من اجلوامع والكنائ�س‪ ،‬ولذلك‬ ‫الثورات يف حترر ال�شارع قليال‪ ،‬ف�أ�صبح احلكم‬
‫فلي�س مهما من �أين تخرج الثورة‪ ،‬بل املهم فيها‬ ‫الفردي غائبا قليال‪ ،‬وحزب احلكم الواحد انتفى من‬
‫ما ميثله املكان من رمزية لهذه الثورة‪ ،‬و�أن يحول‬ ‫الوجود‪ ،‬والدليل على ذلك هو �أن ال�شارع هو الذي‬
‫املكان الديني �إىل مكان مدين‪ ،‬ولو عدنا �إىل النظام‬ ‫�أ�سقط الإخوان امل�سلمني‪ ،‬وحاليا هو من ي�ضغط‬
‫ال�سوري حاليا فقد ايد الثورة امل�ضادة للإخوان‬ ‫من �أجل ت�أليف حكومة جديدة ومت قبوله‪ ،‬ولذلك‬
‫امل�سلمني‪ ،‬كونه يطرح نف�سه انه علماين يف حني‬ ‫فبمجرد حترر ال�شارع انك�رس اخلوف‪ ،‬وهو بداية‬
‫الواقع هو طائفي‪ ،‬ولكن يحدث ذلك من �أجل حمل‬ ‫التغيري وعندما نتحدث عن عامني يعني �أننا يف‬
‫‪153‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�س�ؤول عن العامل كله بظلمه وفقره‪ ،‬و�أنا رهاين‬ ‫الغرب على ال�سنة‪ ،‬ولكن العامل على دراية مبا يحدث‬
‫الآن من�صب لهذه الثورات‪ ،‬وقد كتبت �أربع ق�صائد‬ ‫وخ�صو�صا الغرب فهو من ي�صنع التناحر الطائفي‬
‫واحدة عن �أطفال غزة‪ ،‬والأخرى عن �أطفال الثورات‬ ‫التي يعززها البع�ض وذلك من �أجل ا�ضعاف دور‬
‫العربية‪ ،‬وثالثة عن �أطفال الثورة ال�سورية والأخرية‬ ‫الثورات‪ ،‬ولذلك لو عدنا ملن وراء حركة حما�س‬
‫عن �أطفال الكيماوي‪ ،‬وكتابتي كانت كمن يب�صق‬ ‫وم�ؤ�س�سها جند �أنها �إ�رسائيل وذلك من �أجل حماربة‬
‫دما حول ه�ؤالء‪ ،‬فهي ال حتتوي جماليات بقدر ما‬ ‫يا�رس عرفات والق�ضاء على املقاومة الفل�سطينية‬
‫كانت معب�أة بجنون اللغة التي توازي عنف االخر‪.‬‬ ‫احلقيقية‪ ،‬واي�ضا �أزاحت الثورة ال�سورية عن �ستار‬
‫فمن ي�صدق �أن ه�ؤالء الزعماء ي�سقطون بع�ضهم يف‬ ‫نوايا هذه احلركة‪ ،‬ودعنا نتحدث �أي�ضا عن ت�أ�سي�س‬
‫�أيام وبع�ضهم يف �أ�شهر‪ ،‬فه�ؤالء زرعوا يف نفو�س‬ ‫القاعدة ودور املخابرات الأمريكي يف دعمها‬
‫�شعوبهم اخلوف والرهبة حتى يف م�س�ألة التفكري‬ ‫ب�أفغان�ستان �إبان احلرب الباردة بينهما‪ ،‬ولذلك فكل‬
‫ب�أنهم ميوتون وينتهون م�ستبعدة من خميلة ال�شارع‬ ‫ظواهر التطرف الديني �سببه ا�رسائيل واملخابرات‬
‫العربي‪ ،‬ومن ي�صدق �أنه بثورة ‪� 14‬آذار اللبنانية‬ ‫الأمريكية والغرب‪ .‬ولذلك عند العودة �إىل �أدوني�س‬
‫ين�سحب اجلي�ش ال�سوري من لبنان‪ ،‬ولذلك �أرى �أن‬ ‫نالحظ �أنه مع ظهور الثورات ال�سورية �أ�صبح �ضد‬
‫بريوت هي �أوىل من وقفت �ضد الظلم يف املرحلة‬ ‫كل الثورات العربية‪ ،‬من �أجل خدمة الثورة ال�سورية‪،‬‬
‫العربية املت�أخرة‪ ،‬حيث ان ‪ %40‬من‬ ‫لأنه ابن النظام ال�سوري‪ ،‬وهو لديه‬
‫ال�شعب خرج متظاهرا لرفع الظلم الذي‬ ‫من مادة الفقر‬ ‫و�ضعه اخلا�ص‪.‬‬
‫كان ي�سببه اجلي�ش ال�سوري‪ ،‬ولذلك ف�إن‬ ‫طلعت الثورات‪،‬‬ ‫‪ n n‬ما هو عملك احلايل الذي ت�شتغل‬
‫الثورات العربية ب�سلميتها �أرعبت الأنظمة‬ ‫عليه الآن؟‬
‫الباط�شة‪ ،‬و�أدخلتها يف حالة ه�سترييا‬ ‫وظهرت الأجنا�س‬ ‫‪ -‬حاليا �أفكر بعمل م�رسحي‪ ،‬حول‬
‫حرب باملدرعات والطائرات والأ�سلحة‬ ‫الأدبية من رواية‬ ‫مرحلة الثورة العربية ولذلك فهي �أخذت‬
‫الثقيلة‪ ،‬وهذا ما جنده يف النظام ال�سوري‬ ‫تركيزي بعيدا عن ال�شعر واملر�أة فالثورة‬
‫حيث �أنه الآن يف حالة موت �رسيري لأنه‬ ‫و�شعر وم�سرح‬ ‫العربية هي املر�أة الوحيدة التي ت�شغلني‬
‫�سقط منذ �أول مظاهرة يف �سوريا‪.‬‬ ‫حاليا‪ ،‬وقد �سحبت ثالثة كتب عن الن�رش‬
‫ولذلك فالكتابة ال تكتمل عندما تكون م�شاعرك‬ ‫حاليا‪ ،‬لأنني �أ�شعر �أنني مل �أوف حق هذه الثورات‬
‫م�شتتة مبكان �آخر فت�شعر ك�أمنا تكرر ذاتك كما‬ ‫التي تخرج مبئات الآالف وت�ضحي ب�أرواحها‬
‫لو �أنك تتحدث عن �إح�سا�س بعيد جدا عن واقعك‪،‬‬ ‫جماعات‪ ،‬ولذلك كل �شاعر عربي مهما �شعر ب�أنه‬
‫فالكتاب يف هكذا منا�سبات ميوت قبل والدته‪،‬‬ ‫كبريا ب�شعره يظل اح�سا�س القزم يف داخله �أمام هذه‬
‫ويحرتق قبل ان يتنف�س‪.‬‬ ‫الثورات‪ ،‬ورغم ذلك �أن ال �أدعو الآخر بعدم الكتابة‬
‫‪� n n‬أنت ممن ال يهتمون ب�شكل الق�صيدة وهذا حاله‬ ‫املغايرة‪ ،‬بل هو ر�أيي يف بول �شاوول �أما ما يحدث‬
‫كثريا متداولة يف الكتابات احلديثة فهل هذا �سببه‬ ‫ومل �أ�ستطع �أن �أجمع بني كتابة احلب وبني الثورة‬
‫غياب النقد ؟‬ ‫العربية‪.‬‬
‫‪ -‬بالن�سبة للنقد ال اعتقد �أنه غائب بل هو موجود‬ ‫‪ n n‬والق�صيدة ؟‬
‫وحا�رض و�إن كان بن�سب‪ ،‬وهناك كتب نقدية كثرية‪،‬‬ ‫‪ -‬لي�س دورها يف الوقت احلايل لأن ال�شعر غالبا‬
‫ولكن هناك من يعترب �أن ق�صيدة النرث لي�ست �شعرا‬ ‫ما يخ�رس لأنه حامل‪ ،‬و�أ�سو�أ �شيء عند ال�شاعر عندما‬
‫وخ�صو�صا يف م�رص‪ ،‬ومن بينهم ال�شاعر �أحمد عبد‬ ‫ي�شعر �أنه ربح‪ ،‬لأن ال�شاعر على قدر �إح�سا�سه‬
‫املعطي حجازي‪ ،‬يف الوقت الذي يكتب فيه ق�صيدة‬ ‫باالنت�صار ي�شعر ب�أن حلمه مل يكتمل بعد ولذلك‬
‫النرث بن�سبة ‪ %90‬من ال�شعراء‪ ،‬منذ الت�سعينات وحتى‬ ‫فهو يالحق مراحل عميقه جدا و�سوداوية‪ ،‬وهو‬
‫‪154‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بول �شاوول‪ ..‬بول �شاوول‪..‬‬
‫‪s‬‬

‫ومايرهولد وبريتون يف ال�شعر والكثري من التجارب‪،‬‬ ‫الآن‪ ،‬وقد �أخط�أت �أنا منذ ثالثني عاما عندما قلت �إن‬
‫فقد �أ�صبحت التجريبية ت�ؤدي �إىل جمالية مفتوحة‪،‬‬ ‫ق�صيدة النرث هي �آخر املطاف‪ ،‬وانها التعبري الوحيد‬
‫والتجريب هو الذي يخلق النظرية العابرة ولي�ست‬ ‫عن احلا�رض‪ ،‬ولذلك وقعت فيما وقع به �آخرون عندما‬
‫الثابتة وكل كتاب يتجاوز بكتاب �آخر‪ ،‬وهنا ي�أتي‬ ‫رف�ضوا �سلفا ق�صيدة النرث وامكاناتها‪ ،‬و�أنا �أهنئ‬
‫عمل الناقد بتحليل النظرية التي و�ضعها امل�ؤلف يف‬ ‫ال�شاعر الذي يكتب بطريقة كال�سيكية ولكن بر�صانة‬
‫كتابه وهناك يتم التمييز بني الن�ص ال�رسدي وال�شعر‬ ‫ال�شعر وجمالياتها‪ ،‬وحتى �أي�ضا بالتفعيلة‪ .‬ولكن �أن‬
‫بح�سب ر�ؤية القارئ او الناقد‪ ،‬و�أجد �أن التجريبية‬ ‫ي�أتي �شاعر دون احمد �شوقي �أو �سعيد عقل فنعتذر‬
‫هي م�ستقبل الكتابة وهي املجهول وال�س�ؤال‬ ‫عنه‪ ،‬ولذلك دائما ما يعود �إىل ال�شاعر يف ق�صيدته‪،‬‬
‫بينما النظرية هي املعلوم واجلواب و�أ�صبحت من‬ ‫وباملقابل لي�س كل �شعراء ق�صيدة النرث كبار‪ ،‬متاما‬
‫املا�ضي‪ ،‬وعلى ال�شاعر �أن يجد نف�سه وهو ال يعلم‬ ‫كال�شعراء العموديني‪ ،‬فع�رشات الألوف منهم مل يبق‬
‫ماذا يكتب من حيث ال�شكل‪ ،‬وبتجربتي اخلا�صة‬ ‫�سوى الع�رشات فقط‪ ،‬ممن خلدوا بق�صائدهم وهذا‬
‫بقيت �سبعة �أعوام مل �أكتب �شيئا‪� ،‬أما من ي�ستند على‬ ‫ما ينطبق لق�صيدة النرث‪ ،‬فهذه معركة تف�صيلية غري‬
‫نظرية معينة فهو يعمل �إىل تطبيقها ولن ي�ساعده‬ ‫مهمة‪ ،‬فما يعني ال�شاعر االن ويف هذه املرحلة �أكرث‬
‫ذلك يف تطوير كتابته‪.‬‬ ‫حرية مما ك ّنا عليه يف فرتة اخلم�سينات وال�ستينات‬
‫‪ n n‬لذلك جند �أحيانا عند الكتابة ب�أن‬ ‫وال�سبعينات لأنه جاء بعد ع�رص زوال‬
‫هناك من يبتدئ مب�رشوع �أدبي معني‬ ‫الأنظمة ال�سابقة‬ ‫املدار�س والأيديولوجيات‪ ،‬وزوال‬
‫وخالله يتحول �إىل جن�س �آخر؟‬ ‫مل ترتك �أي‬ ‫البيانات اجلاهزة لل�شعر «املينوفي�ستو»‪،‬‬
‫‪ -‬نعم يحدث ذلك وبتجربتي ال�شخ�صية‬ ‫و�صارت كلمة ال�شعر مل تعد موجودة �إال‬
‫ككاتب وناقد م�رسحي‪ ،‬كتبت عن‬ ‫�أداة ل�شعوبها‬ ‫بعد الن�ص‪ ،‬وغياب املوا�صفات والأ�شكال‬
‫ثمامنائة م�رسحية حتى الآن وترجمت‬ ‫يف هوية الن�ص‪ ،‬و�أ�صبح من يحددها هو‬
‫حوايل ع�رشين عمال م�رسحيا‪ ،‬وهذا‬
‫حتى تتحرك‬ ‫القارئ ولي�س ال�شاعر‪.‬‬
‫�أفادين كثريا يف كتابة بنية الن�ص‬ ‫ال�ستعمالها‬ ‫‪ n n‬لذلك اختلطت الأجنا�س الأدبية ؟‬
‫امل�رسحي مكتمل بحيث ال يكون نافرا‬ ‫‪ -‬اختلطت ومل تختلط‪ ،‬هناك من يكتب‬
‫�أو جتميعيا‪ ،‬وهذا ينطبق �أي�ضا على ال�سينما فلها‬ ‫ن�ص يحتوي �شكليا بني الق�صيدة وال�رسد‪ ،‬وبالتايل‬
‫دورها �أي�ضا حتت ما ي�سمى بالثقافة ال�شاملة‬ ‫من يحدد جمالياته هو القارئ يف املرتبة الأوىل‬
‫وغريها من الأجنا�س الأدبية‪.‬‬ ‫وهذا ال يعني �أن ال�شاعر ال يعي �شكل كتابته‪،‬‬
‫‪ n n‬ما �أثر غياب الطبقة الو�سطى واملعنية بالقيم‬ ‫بل هي حماولته لكتابة ن�ص قوي‪ ،‬و�أنا حاليا‬
‫والثقافة عند ال�شعوب العربية؟‬ ‫�أعمل على انطولوجيا لل�شعراء الفرن�سيني ال�شباب‬
‫‪ -‬طبعا أ� ّثرت‪ .‬ولكن هناك �أمثلة عك�ست نظرية‬ ‫واكت�شفت �أن ال�شعر و�صل لديهم يف مناطق جديدة‬
‫الطبقة الو�سطى ففي رو�سيا بالقرن التا�سع ع�رش‪،‬‬ ‫ال نعلم عنها يف ال�شعر العربي‪ ،‬وكذلك �أي�ضا يف‬
‫كان الفقر يغطي رقعة كبرية عند ال�شعب‪ ،‬ولكن‬ ‫الن�ص امل�رسحي فقد انتهت مرحلة بريخت ولويجي‬
‫عندما نقر�أ ق�ص�ص الكاتب �أنطوان ت�شيخوف جند‬ ‫برياندلو وغروتوف�سكي وغريهم‪ ،‬و�أ�صبح هناك ن�ص‬
‫�أنه من قعر ذلك الفقر �أوجد �أدبا ر�صينا وقويا‪،‬‬ ‫جديد وعقلية خمتلفة‪ ،‬و�أ�صبحت مناطق الكتابة‬
‫وكذلك تول�ستوي الذي كان يوزع من �أمواله للفقراء‬ ‫متعددة وحلّت التجريبية حمل النظرية‪ ،‬فكان على‬
‫وغريهم‪ ،‬وهذا يعني �أن الأعمال القوية تخرج من‬ ‫�سبيل املثال بامل�رسح عمل غروتوف�سكي حول‬
‫و�سط املجتمعات الفقرية‪..‬‬ ‫�صناعة م�رسح الفقري‪ ،‬ولكن �صناعته جاءت بعد‬
‫(البقية مبوقع املجلة علىاالنرتنت)‬ ‫و�ضع القواعد والنظريات‪ ،‬كذلك �ستان�سالف�سكي‬
‫‪155‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حــوارات‬

‫حممد ال�رسغيني‬

‫‪156‬‬
‫حممد ال�سرغيني‬
‫�شاعر يقر�أ ال�صخب بغري لغته‬
‫\‬
‫حاوره‪ :‬خالد الدهيبة‬

‫ولد حممد ال�رسغيني مبدينة فا�س �سنة ‪ ،1930‬وتابع درا�ساته العليا بجامعة‬
‫بغداد ثم بال�سوربون‪ ،‬لي�شتغل بعدها �أ�ستاذا بكلية الآداب بفا�س‪ .‬وهو يجمع بني‬
‫الإبداع ال�شعري �إىل جانب الرتجمة من الفرن�سية (حما�رضات يف ال�سيميولوجيا)‬
‫والإ�سبانية (�أغنية القطار ال�شبح)‪ ،‬وقد �أ�صدرت وزارة الثقافة م�ؤخرا �أعماله‬
‫ال�شعرية الكاملة يف ثالثة جملدات ‪ ،‬كما �أنه توج �سنة ‪ 2012‬بجائزة املغرب‬
‫يف فئة ال�شعر‪ ..‬وي�شكل هذا اللقاء به فر�صة للحديث عن جتربته ال�شعرية الغنية‪،‬‬
‫فهو �أحد �أبرز رواد التحديث ال�شعري يف املغرب‪ ،‬و�أهم عالمات التجديد املتوا�صل‬
‫واملكذِّب لأ�سطورة الأجيال الأدبية ‪.‬‬

‫‪ v‬ال َبدَاءة وال م�سلّمات تقف يف وجه ال�شعر‬


‫الذي من مبادئه و�ضع الأ�سئلة احلرجة‬

‫‪157‬‬ ‫\ �شاعر من املغرب‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هذه اخلطوات فيحلو يل �أن �أعترب �أن الق�صيدة‬ ‫‪ vv‬كيف تتخلّق الق�صيدة لديكم‪ ،‬هل هي تنا�سل‬
‫تت�شكّل من «جينات» يحفل َرحِ ُم ال�شاعر بها قادرة‬ ‫من كلمة �أو دندنة بلحن‪� ،‬أم �أ ّنها تت�شكّل من تركيب‬
‫ذاتي ًا‬
‫باطني ًا وعلى حماية نف�سها ّ‬ ‫ّ‬ ‫على التنا�سل‬ ‫مقاطع تكتب على فرتات خمتلفة‪� ،‬أم �أ ّنها تبنى على‬
‫من االنقرا�ض الذي يهددها‪ .‬هذه «اجلينات» منها‬ ‫خمطّط �سابق للكتابة ؟‬
‫ما يتغ ّذى بالعقل الواعي‪ ،‬ومنها ما �أ�سا�سه العقل‬ ‫قد يكون تنا�سل الق�صيدة من كلمة توقظ يف احلال‬
‫الباطن ‪ subconscient le‬ومنها الدافع �إليه الواقع‬ ‫ما كان كامن ًا يف الالّوعي من الهواج�س والتذكارات‬
‫املتخيل ُي ْ�س َقطُ �أحدهما على الآخر‬
‫ّ‬ ‫احلي �أو الواقع‬‫ّ‬ ‫امل�ضي يف اخرتاق‬ ‫ّ‬ ‫حميل ًة عليهما وحم ّفز ًة على‬
‫الثالثية‬
‫ّ‬ ‫أبعاد‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إدماج‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫وذلك‬ ‫ة‪،‬‬‫وتلقائي‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫بعفوي‬
‫ّ‬ ‫يل‬‫ين ال ّأو ّ‬
‫�آفاقهما‪ ،‬وهذا يوافق مرحلة الفهم الوجدا ّ‬
‫مما ي�سمح يل مبمار�سة‬ ‫ّ‬ ‫واحدة‬ ‫حلظة‬ ‫يف‬ ‫للزمن‬ ‫ال�ضامن لالرمتاء دون خوف يف �أح�ضان املغامرة‪،‬‬
‫عمليتي اال�ستح�ضار والإرها�ص خارج املعقول‬ ‫ّ‬ ‫مغامرة االنتماء �إىل ال�شعر‪ .‬وقد تكون الدندنة بلحن‬
‫وداخل الالمعقول‪� ،‬أو فيما بينهما �أو يف �أحدهما‬ ‫يلح على الذاكرة الرتباطه بحدث فاعل فيها‪ ،‬منبعث‬ ‫ّ‬
‫دون الآخر‪� ،‬إذ ال َب َداءِة وال م�سلّمات تقف يف وجه‬ ‫عنها متكام ًال م�ستوفي ًا لعنا�رص ال�شجى الذي‬
‫ال�شعر الذي من مبادئه و�ضع الأ�سئلة احلرجة‬ ‫هو بادرة املخا�ض والطلق والو�ضع‪ ،‬وهذا يوافق‬
‫بذريعة �إعادة النظر يف الأ�شياء من �أجل جعلها‬ ‫مرحلة ر�سوخ الفعل ال�شعري يف الوعي ال�شاعر على‬
‫العامة وفق خمطّ ط خا�ضع‬ ‫ّ‬ ‫من�سجم ًة مع ال�صريورة‬ ‫ال�شعرية على �صلة‬‫ّ‬ ‫الفاعلية‬
‫ّ‬ ‫أ� ّنه َق َد ُر ُه‪ .‬وهنا ت�صبح‬
‫لقناعة ال�شاعر‪.‬‬ ‫حميمية بالفنون جميعا تفعل فيها وتتوا�شج معها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫�أ�سارع �إىل دح�ض ‪ vv‬ق�صيدة «و�صايا ماموث مل‬ ‫ويف مرحلة الإجناز تت�شكّل الق�صيدة يف‬
‫نظريّة الإلهام يف ينقر�ض» التي اختتم بها اجلزء الثالث‬ ‫منو اجلنني‬‫بتدرج �شبيه بتدرج ّ‬ ‫الالّوعي ّ‬
‫ن�صها خمتلف ًا‬
‫من �أعمالكم الكاملة جاء ّ‬ ‫يف الرحم‪ ،‬غري � ّأن الت�شبيه هنا غري‬
‫يف الديوان الذي ن�رش بعد ذلك وحمل‬ ‫كتابة ال�شعر‬ ‫تام‪� ،‬إذ � ّأن ت�شكّل اجلنني خا�ضع ملعيار‬ ‫ّ‬
‫العنوان ذاته‪ .‬فكيف تنظرون �إىل تدخّ ل‬ ‫زمن ممت ّد التنامي‪ ،‬يف حني � ّأن ت�شكّل‬
‫الن�ص بعد ن�رشه ب�إعادة كتابته حذف ًا‬ ‫الق�صيدة خا�ضع ملعيار حلظوي بعمر مفاج�أة‬
‫ال�شاعر يف ّ‬
‫�أو �إ�ضافة ؟‬ ‫�رسيعة العبور‪ .‬وكما يحدث �أن ي ّتخذ هذا الإجناز‬
‫جمع مقاطع كتبت يف �أوقات خمتلفة‪ ،‬يحدث �أي�ض ًا‬
‫�شعري �سبق ن�رشه يف و�ضع‬ ‫ٍّ‬ ‫ن�ص‬‫�أعتقد �أن حياة ٍّ‬ ‫�أن ي ّتخذ و�ضع خمطّ ط �سابق تبنى عليه الق�صيدة‪،‬‬
‫ن�ص �آخر ن�رش بعده ويحمل نف�س‬ ‫ت�ستمر يف ٍّ‬
‫ّ‬ ‫معينّ‬ ‫ين يف‬ ‫ويف هذه احلالة‪ ،‬ال داعي لإقحام منظور وجدا ّ‬
‫اال�سم وفيه من احلذف والإ�ضافة ما لي�س يف‬ ‫خا�صة �إذا كان ال�شاعر‬
‫�سابقه‪ّ � .‬إن ذلك راجع �إىل ا�ستمرار مفعوله يف قرارة‬ ‫ال�شعري‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫�صلب �إجناز الفعل‬
‫مقتنع ًا ب�رضورة كتابة �شعر بكر يتخطّ ى فيه املنوال‬
‫العملية �إ ّال �إذا كان‬
‫ّ‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬لذا ال �ضري من هذه‬ ‫بن�ص رائج‪.‬‬
‫وجدانية‪ ،‬وهو ما يناق�ض‬ ‫ال�شعرية ذا قدا�سة‬ ‫مفهوم‬ ‫والنموذج واالنبهار ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتدرج‬
‫ك ّل هذه الطقو�س �سبق يل �أن مررت منها ّ‬
‫الوجدانية‬
‫ّ‬ ‫ل�شعرية تقف من هذه‬ ‫ّ‬ ‫املفهوم املعا�رص‬ ‫ال�شعرية يف ذهني ب�سبب‬ ‫لتطور مفهوم‬ ‫طبق ًا‬
‫الت�رصف قام‬ ‫موقف النقي�ض من نقي�ضه‪ .‬مثل هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫العام بدءاً من الأفق‬ ‫ّ‬ ‫حماولة الإملام بحالة ال�شعر‬
‫به «ت‪� .‬إ�س‪� .‬إيليوت» يف ق�صيدته «الأر�ض اليباب»‬ ‫وانتهاء بالآفاق الأخرى‬ ‫ال�ضيق الذي �أتن ّف�س هواءه‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بعد �أن عر�ضها على ال�شاعر الأمريكي «�إزرا باوند»‪.‬‬ ‫التو�صل �إليها‪ .‬كلُّ ذلك عرب م�سافة‬ ‫يل‬ ‫أتيح‬ ‫�‬ ‫التي‬ ‫تلك‬
‫ّ‬
‫ال�سوري «�أدوني�س»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرة ال�شاعر‬‫وقام به غري ما ّ‬ ‫زمنية متت ّد من انطالق � ّأول خطوات املغامرة �إىل‬ ‫ّ‬
‫ت�ستمر‬
‫ّ‬ ‫الن�ص بن�رشه بل‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا فال تنقطع حياة‬ ‫الآن وعمرها يربو على �س ّتني �سنة‪ّ � .‬أما الآن وبعد‬
‫باحلرفية و�إن مبتابعة نف�س‬‫ّ‬ ‫يف ن�صو�ص مقبلة �إن‬
‫‪158‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫�إذ ال ي�ستع�صي التوا�صل و�سبل الو�صول �إىل اللغات‬ ‫يح�سه من يدمن‬ ‫الن�ص ال ّأول‪ ،‬وهذا هو ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫خطّ ة‬
‫الثانوية‪ .‬هذا وهذه‬‫ّ‬ ‫أجنبية متو ّفرة منذ الدرا�سة‬ ‫ال ّ‬ ‫قراءة «حممود دروي�ش» �أ�سلوب ًا ولغ ًة وداللة‪ .‬ال‬
‫كالن�ص الواحد ال ت�سيء‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية فيما هو‬ ‫ّ‬ ‫دية‬‫التع ّد ّ‬ ‫التدخل �إذا كان يف �صالح �إكمال‬ ‫ّ‬ ‫�ضري �إذن من هذا‬
‫الن�ص ل�سبب ب�سيط هو �أن‬ ‫ّ‬ ‫ان�سجامية هذا‬
‫ّ‬ ‫�أبداً �إىل‬ ‫الن�ص �إىل بلورتها‪ .‬ولعل‬ ‫العامة التي يهدف ّ‬ ‫ّ‬ ‫الر�ؤية‬
‫من�صب على املحتوى‪ ،‬لأن ال�شكل‬ ‫ّ‬ ‫احلق‬
‫االن�سجام ّ‬ ‫ما قمت به يف «الو�صايا» كان راجع ًا �إىل النف�س‬
‫ال يراد لنف�سه‪ ،‬بل خلدمة هذا املحتوى على عك�س‬ ‫للن�ص‪ ،‬ذلك النف�س الذي بدا يل غري‬ ‫ّ‬ ‫يف»‬
‫«الأوطوغرا ّ‬
‫بال�صياغة �أكرث‬
‫ّ‬ ‫املنظور البالغي القدمي املحتفي‬ ‫تتمة‬
‫تام يف الن�رش ال ّأول‪ ،‬فهو �إذن يف حاجة �إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫من احتفائه بامل�ضامني‪ .‬قدمي ًا كان بع�ض �شعراء‬ ‫�شعري ًا كامالً‪ .‬هذا و�سبق‬
‫ّ‬ ‫حني �أجنزت �أ�صبحت عم ًال‬
‫بازدواجية‬
‫ّ‬ ‫الفر�س يكتبون ن�صو�ص ًا‬ ‫�أجنح �إىل‬ ‫مرات متع ّددة‬ ‫يل �أن مار�ست هذا العمل ّ‬
‫لغوية ت�صل يف بع�ض الأحيان �إىل كتابة‬ ‫وب�شكلني اثنني‪ :‬ب�شكل �إعادة القراءة من‬
‫بالفار�سية و�أعجازها‬ ‫ّ‬ ‫�صدور ق�صيدة‬ ‫الفرن�سيّة ب�سبب‬ ‫�أجل حتيني بع�ض الن�صو�ص‪ ،‬وب�شكل‬
‫بالعربية‪ ،‬و�إذا علم � ّأن «�إيزرا باوند»‬ ‫ّ‬ ‫ا ّت�ساع �صدرها‬ ‫العربية‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫�إعادة كتابها بغري اللغة‬
‫�أدخل يف بع�ض ق�صائده ما كان تعلّمه‬ ‫ما فعلته بديواين‪« :‬فا�س من �أعلى قمم‬
‫آ�سيوية‪ ،‬و�أن «ت‪�.‬إ�س‪.‬‬ ‫من بع�ض اللغات ال ّ‬
‫للتعبري‬ ‫بالفرن�سية‬ ‫االحتيال»‪ .‬ذاك الذي كتبته‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والالتينية يف‬
‫ّ‬ ‫الفرن�سية‬
‫ّ‬ ‫�إليوت» �أدمج‬ ‫�أكرث جر أ� ًة‬ ‫ون�رشته بنف�س العنوان‪� ،‬أي‪:‬‬
‫ق�صيدته «�أربعاء الرماد»‪ ،‬و� ّأن «بابلو‬
‫الفرن�سية‬ ‫نريودا» �أثبت بع�ض التعابري‬
‫و�إيروتيق ّي ًة‬ ‫‪.Fès, de la plus haute cime des ruses‬‬
‫ّ‬ ‫‪� vv‬أال تعتربون التدخّ ل اللغوي يف‬
‫العام»‪ ،‬و� ّأن «خورخي لوي�س‬ ‫ّ‬ ‫يف ق�صيدته «الغناء‬
‫إ�سبانية بجمل‬ ‫و�شح بع�ض ق�صائده ال‬ ‫بع�ض �إبداعاتكم ال�شعر ّية حينما جتيء بع�ض‬
‫ّ‬ ‫بورخي�س» ّ‬
‫أملانية‪� ،‬إذا علم ك ّل‬ ‫املقاطع مكتوبة بالفرن�س ّية �أو بالإ�سبان ّية �أو‬
‫أجنليزية �أوال ّ‬‫ّ‬ ‫الفرن�سية �أوال‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫باالجنليز ّية عائق ًا مينع القارئ غري العارف بهذه‬
‫ال�شعرية املعا�رصة‬
‫ّ‬ ‫هذا ف�سوف يدرك الإن�سان �أن‬
‫انية‪ ،‬ولذلك فك ّل‬ ‫الن�ص والإحاطة‬
‫اللغات �أو ب�إحداها من التوا�صل مع ّ‬
‫معرفة تنه�ض عليها ثقافة كل ّّي ّ‬
‫�إقحامها يف فهم‬ ‫الن�ص ّي ؟‬
‫بان�سجام ّيته يف كامل ت�شكّلها ّ‬
‫ين فات �أوانه‬ ‫وجدا ّ‬ ‫من واجب املتل ّقي املعا�رص الذي قدره يف ال�شعر‬
‫مربر له اليوم‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫يلم ب�أكرث‬
‫جمرد قارىء لل�شعر �أن ّ‬ ‫�أكان �شاعراً �أم ّ‬
‫هنا ال ب ّد من‬ ‫الفعلي‬
‫ّ‬ ‫من لغة واحدة �إملام ًا ي�سمح له باالندماج‬
‫الإ�شارة �إىل �أن هذه‬ ‫العامة التي تتعاون على بنائها‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعرية‬
‫ّ‬ ‫يف م�سار‬
‫دية م�رشوعة‬ ‫التع ّد ّ‬ ‫مما ي� ّؤهله‬
‫اللغات املعا�رصة املختلفة جميعها‪ّ ،‬‬
‫�إذا مل يق�صد بها‬ ‫عمومية الثقافة‬‫ّ‬ ‫خ�صو�صية ثقافته يف‬
‫ّ‬ ‫لإدماج‬
‫التعامل والتباهي‪،‬‬ ‫والعام ال جمال‬
‫ّ‬ ‫اخلا�ص‬
‫ّ‬ ‫الكل ّّية‪ .‬بهذا االحتكاك بني‬
‫�إذا مل يق�صد بها‬ ‫ثالثيها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثنائي اللغة �أو‬
‫ّ‬ ‫ن�ص‬‫للتهيب من كتابة ّ‬ ‫ّ‬
‫تعجيز املتل ّقي‬ ‫بذريعة �أن املتلقي ي�ستع�صي عليه التوا�صل مع هذا‬
‫و�إبهاره‪� ،‬إذا مل‬ ‫الن�ص املتع ّدد اللغة‪ ،‬علم ًا �أن اللغات يف هذه اللحظة‬‫ّ‬
‫يق�صد بها ارتكاب‬ ‫املعا�رصة مي�سورة التناول كاملعاين املطروحة يف‬
‫ين‬
‫املجا ّ‬
‫ّ‬ ‫الغمو�ض‬ ‫ملح ًا‬
‫الطريق على ر�أي اجلاحظ‪� .‬إذا كان هذا القارئ ّ‬
‫ل�ضعف‬ ‫إخفاء‬
‫� ً‬ ‫على حتقيق التوا�صل مع هذا النوع من ال�شعر‪ ،‬فما‬
‫الن�ص‪� .‬ألي�س أ� ّننا‬ ‫ّ‬ ‫عليه �إ ّال �أن يدين ق�صوره و�أن يعمل على ترميمه‪،‬‬
‫‪159‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وتتو�سع وتتوا�شج‬ ‫ّ‬ ‫تزداد �رسعته يوم ًا عن يوم‬ ‫العادي ن�ستعمل �أكرث من‬ ‫ّ‬ ‫اليومي‬
‫ّ‬ ‫يف لغة اخلطاب‬
‫لكن ك ّل ذلك‬ ‫وتنوع االبتكارات املتعلّقة به‪ّ .‬‬ ‫بتكاثر ّ‬ ‫تامة؟ ذاك حال ال�شاعر الذي‬ ‫بعفوية ّ‬
‫ّ‬ ‫لغة واحدة‬
‫�إن �ضمن التوا�صل ال�رسيع ف�إ ّنه مل ي�ستطع بعد �أن‬ ‫الن�ص فيثبتها كما‬ ‫تتبلور يف ذهنه فكرة بغري لغة ّ‬
‫يقف يف وجه «ح�ضارة الكتاب» املعتمدة على‬ ‫وردت يف ذهنه‪� .‬أنت الذي تكتب �شعراً من اليمني‬
‫الق�صبي‬
‫ّ‬ ‫ال�صينيني و�أنواع الأقالم من‬‫ّ‬ ‫احلرب والورق‬ ‫العاملية التي‬
‫ّ‬ ‫ال�شعرية‬
‫ّ‬ ‫�إىل الي�سار ت�ساهم يف تطوير‬
‫وانتهاء �إىل‬
‫ً‬ ‫ين مروراً بري�ش الطواوي�س‬ ‫فاخليزرا ّ‬ ‫تكتب من الي�سار �إىل اليمني �أو التي تكتب باللغة‬
‫وتقنية الطباعة املعا�رصة‪ ،‬وذلك‬ ‫ّ‬ ‫اجلاف‬
‫ّ‬ ‫قلم احلرب‬ ‫عمودي ًا‬
‫ّ‬ ‫اليابانية تكتب‬
‫ّ‬ ‫إيديوغرافية» كاللغة‬
‫ّ‬ ‫«ال‬
‫ل�سبب ب�سيط هو �أن املكتوب حياته ما ّد ّية ملمو�سة‪،‬‬ ‫من الفوق نزو ًال �إىل التحت‪ .‬وبالن�سبة �إيلّ‪ ،‬فقد كنت‬
‫و� ّأن «املرت ّنـت» حياته رهينة بلحظة االطالع عليه‪،‬‬ ‫العربية التي ترعرعت يف مناخ‬ ‫ّ‬ ‫وال �أزال �أعتقد �أن‬
‫تخمد جذوته مبا�رشة بعد العلم به‪ .‬على �أن هذا‬ ‫ديني لغة عفيفة (حتى يف الذي �أثر عنها‬ ‫ّ‬ ‫أخالقي‬
‫ّ‬ ‫�‬
‫ال ينفي � ّأن هذا «املرت ّنت» و�سيلة ناجعة لذيوع‬ ‫من ق�صائد الهجاء املقذع العاري) �أرب�أ بها عن �أن‬
‫مهمة التعارف بني املبدعني يف‬ ‫ال�صيت وت�سهيل ّ‬ ‫إيروتيقيةً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعراء و�‬
‫ً‬ ‫ت�ستعمل يف م�ضامني �أكرث جر�أ ًة‬
‫�ش ّتى تخوم الكون‪ ،‬لكن ما ميكث يف �أر�ض ال�شعر‬ ‫الفرن�سية التي ت�ستطيع �أن تعفيني من‬ ‫ّ‬ ‫لذا �أجنح �إىل‬
‫لي�س هو ال�صيت الوا�سع والتعارف ال�سهل‪ ،‬بل هو ما‬ ‫هذا ال�ضيق ب�سبب ا ّت�ساع �صدرها للتعبري عن مثل‬
‫ميكن �أن يق ّدم من خدمة ناجزة للفعل‬ ‫هذه املواقف‪( .‬ح ّتى مع ن�شوئها يف �إطار‬
‫واخلا�ص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال�شعري على م�ستوييه العام‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعريّة‬ ‫الهوتي قبل وبعد ع�رص الأنوار) وحني‬ ‫ّ‬
‫مهمة موكول �أمرها �إىل �شيء �آخر‬ ‫تلك ّ‬ ‫املعا�صرة‬ ‫مما يتيحه‬ ‫يتعلّق الأمر باال�ستفادة ّ‬
‫غري ال�صيت والتعارف‪ ،‬مهمة موكولة‬ ‫ال�صور من �أ�سماء النباتات‬ ‫ّ‬ ‫يل بناء‬
‫�إىل الفناء يف هذا الفعل باعتباره علّة‬
‫معرفة تنه�ض‬ ‫املختلفة واحليوانات املتع ّددة �أرتكز‬
‫وجود ال�شاعر‪ ،‬وذلك ما ال يتح ّقق �إ ّال مع‬ ‫عليها ثقافة‬ ‫إ�سبانية‬
‫ّ‬ ‫الفرن�سية وال‬
‫ّ‬ ‫على ما يف اللغتني‬
‫وعرب الكتاب‪ .‬من عيوب «الأنرتنيت»‬
‫مهمة الن�رش‬
‫ك ّليّانيّة‬ ‫معجمي �أكان �أ�صله التينيا �أم‬ ‫ّ‬ ‫من ثراء‬
‫�أ ّنه بالإ�ضافة �إىل ت�سهيل ّ‬ ‫غري التيني‪ ،‬من كان يدمن قراءة �شعر‬
‫ال�رسيع ف�إ ّنه يقرتح على مدمنه يف نف�س‬ ‫«�سان جون بري�س» يدرك ما ملجازاته وا�ستعاراته‬
‫الآن جماالت �أخرى بعيدة عن عامل ال�شعر قريبة من‬ ‫من عمق مر ّده �إىل بناء �صوره على �أ�سا�س ا�ستغالله‬
‫ن�سمي‬
‫ّ‬ ‫ي�صح �أن‬
‫ّ‬ ‫إيرو�سية»‪ .‬هذا وال‬
‫ّ‬ ‫عامل اللهو و«ال‬ ‫املرجانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�أ�سماء �أحياء البحر من �أنواع الأ�سماك‬
‫أنرتنيتية» التي يخو�ض غمارها‬ ‫ّ‬ ‫عملية الن�رش «ال‬‫ّ‬ ‫ومن كان يدمن قراءة روايات «غربييل غار�سيا‬
‫الرقمية �صفة‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫رقمي‬
‫ّ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫جترب‬ ‫ال�شعراء‬ ‫من‬ ‫كثري‬ ‫ماركيز» يدرك مدى اال�ستفادة من معجم النباتات‬
‫علمية �إن الم�ست الأجهزة فهي ال تالم�س‬ ‫ّ‬ ‫تقنية‬
‫ّ‬ ‫ال�صور الأبكار‬
‫ّ‬ ‫اال�ستوائيتني يف ا�ستقاء‬
‫ّ‬ ‫والطيور‬
‫جتربة ال�شاعر الذي ين�رش �شعره عربها وال ت ؤ� ّثر‬ ‫احلية املعا�رصة‪،‬‬ ‫وانعكا�سها على قامو�س احلياة ّ‬
‫فيها‪ ،‬هي و�سيلة ال غاية‪� .‬إ ّنها مع �ضمانها و�سيلة‬ ‫ذاك الذي جند عنت ًا ونحن نريد التعبري عليه باللغة‬
‫االنت�شار ت�سيء �إىل هذا االنت�شار نف�سه‪ ،‬ب�سبب �أ ّنها ال‬ ‫العربية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ت�ضع معايري تتطلّب تو ّفر املن�شور على احل ّد الأدنى‬
‫الفنية لأنها ال تتحكّم يف هذا املن�شور‬ ‫من القيمة‬
‫‪ vv‬ما هي الآفاق التي ميكن لل�شعر �أن ي�صل �إليها‬
‫ّ‬ ‫يف ع�رص «الأنرتنت»‪ ،‬وما هو ر�أيكم يف التجارب‬
‫الذي يتحكّم فيه طالب الن�رش نف�سه‪.‬‬
‫الرقم ّية التي يخو�ضها بع�ض ال�شعراء ؟‬
‫‪ vv‬ما ذا عن �صلة ال�شعر بالفنون الأخرى‪ ،‬وب� ّأي‬ ‫هي �آفاق من االت�ساع وال�شمول بحيث يعجز الذهن‬
‫�شكل ميكنه �أن يفيدها �أو ي�ستفيد منها بح�سب‬ ‫وخا�صة من حيث هذا التوا�صل الذي‬ ‫ت�صورها‬
‫ّ‬ ‫عن ّ‬
‫‪160‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫زيادة على فقرها يف‬ ‫يحركها ّ‬ ‫ل ّأن االرتزاق هو ما ّ‬ ‫جتربتكم كمث ّقف مهت ّم بالت�شكيل وكف ّنان مبدع‬
‫التقاط اللحظات الدالّة يف حياة املغرب الذي تنتمي‬ ‫متع ّدد املواهب له �إ�سهامات يف امل�رسح‪ ،‬واهتمام‬
‫يف عند �أ�صحابها‪.‬‬ ‫�إليه ب�سبب الفقر املعر ّ‬ ‫باملو�سيقى ؟‬
‫�إن العالقة و�شيجة بني ال�شعر وغريه من الفنون‪،‬‬ ‫ملحناً‪ ،‬ومل يتق ّدم يل‬ ‫مو�سيقي ًا وال مغ ّن ّي ًا وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ل�ست‬
‫مهم من روافد‬ ‫ّ‬ ‫وتتلخ�ص يف � ّأن هذه الفنون رافد‬ ‫ّ‬ ‫حمب‬‫ّ‬ ‫كلف باملو�سيقى‬ ‫ك ّل ذلك �أو بع�ضه‪� ،‬إنمّ ا �أنا ٌ‬
‫وامل�رسحية‬
‫ّ‬ ‫الت�شكيلية‬
‫ّ‬ ‫ب�رصي مع الفنون‬
‫ّ‬ ‫ال�شعر‪ ،‬رافد‬ ‫الكال�سيكية «رام�سكي كور�ساكوف» ومن‬ ‫ّ‬ ‫لها‪ .‬من‬
‫الروائي‬
‫ّ‬ ‫غذائي مع املو�سيقى وال�رسد‬ ‫ّ‬ ‫ورافد‬ ‫ال�شعبية القدمية «الفالمينكو» ل ّأن ثراءهما مع ًا‬ ‫ّ‬
‫أدبية ورافد‬ ‫لغوي مع الفنون ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫والق�ص�صي ورافد‬
‫ّ‬ ‫م�ستوحى من �سحر ال�رشق وهو ح�ضارتي‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬
‫ال�سوريالية‬
‫ّ‬ ‫مع‬ ‫إيحائي‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫أنه‬ ‫ل‬ ‫لغوي‬
‫ّ‬ ‫فوق‬ ‫�أعتقد �أن حياة‬ ‫«اجلاز» ك ًّال من «�سيدين بي�شيت»‬
‫(ر�سم ًا �أو �شعراً �أو م�رسحا) تلك التي‬ ‫و«بيني بينيت» و«لوي�س �أرم �سرتونغ»‪،‬‬
‫ي�صح‬
‫ّ‬ ‫مما فوق الواقع‪.‬‬ ‫متتح �صورها ّ‬
‫ن�ص ٍّ‬
‫�شعري �سبق‬ ‫ٍّ‬ ‫إفريقيتي‪،‬‬ ‫لأن يف �أنغام ه�ؤالء بع�ض ًا من �‬
‫ّ‬
‫�إذن �أن تكون العالقة بني ال�شعر وغريه‬ ‫ن�شره يف و�ضع‬ ‫الوطنية «جيل جياللة»‬ ‫ّ‬ ‫ومن املو�سيقى‬
‫لكن هذا‬ ‫من الفنون عالقة تابع مبتبوع‪ّ ،‬‬ ‫معي ت�ستم ّر يف‬‫نّ‬ ‫و«نا�س الغيوان» لو مل ي�سقطا يف مهواة‬
‫التابع واملتبوع يتبادالن املواقع حتى‬ ‫االرجتال واالرتزاق‪ّ � .‬أما ما عدا ما‬
‫ليمكن القول ب�أ ّنه ال غنى لأحدهما عن‬ ‫ٍّ‬
‫ن�ص �آخر‬ ‫ذكرته فال يغريني وال �أجد نف�سي فيه‪.‬‬
‫�شعرية‬ ‫ّ‬ ‫الآخر‪ .‬نالحظ �أ ّننا نتح ّدث عن‬ ‫ن�شر بعده‬ ‫وفيما يتعلّق بامل�رسح ف�أنا �أي�ض ًا كلف‬
‫و�شعرية‬ ‫ّ‬ ‫و�شعرية املو�سيقى‬ ‫ّ‬ ‫الت�شكيل‬ ‫الطالئعي الذي‬
‫ّ‬ ‫وخا�صة منه امل�رسح‬ ‫ّ‬ ‫به‬
‫و�شعرية امل�رسح كتاب ًة‬ ‫ّ‬ ‫والق�ص�صي‬
‫ّ‬ ‫الروائي‬
‫ّ‬ ‫ال�رسد‬ ‫م�رسحية حتذو حذو‬‫ّ‬ ‫إ�سبانية‬
‫ّ‬ ‫�سبق �أن ترجمت عن ال‬
‫وت�شخي�ص ًا وعر�ض ًا و�إنار ًة وديكوراً‪.‬‬ ‫أغنية القطار ال�شبح �أو احلبل‬ ‫هذا االتجّ اه بعنوان‪ّ �« :‬‬
‫انطالق ًا من بواعث‬ ‫إبداعي‬ ‫املته ّدل» ن�رشت يف الكويت‪ ،‬وهي لـ«فريناندو‬
‫‪ vv‬يتحرّك الفعل ال ّ‬ ‫عبثية‬ ‫مليلية‪ ،‬ول ّأن‬ ‫� ّأرابال» لأ ّنه ازداد يف مدينة‬
‫الذاتي �أو ا�ستثمار‬
‫ّ‬ ‫خمتلفة‪ ،‬قد يكون التخييل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اال�ستجابة لوقائع‬ ‫اخللف ّية الثقاف ّية للمبدع �أو‬ ‫م�رسحه ج ّد هادفة على م�ستوى امل�رسحة والأ�سلوب‬
‫الع�رص بع�ضها‪ .‬وقد‬ ‫العبثي وانعكا�سهما على �إدانة الواقع‬ ‫ّ‬ ‫الهازيء‬
‫يكون املكان واحداً‬ ‫«الفرانكونية»‪ .‬ويف‬
‫ّ‬ ‫املهرتيء الذي عا�شته �إ�سبانيا‬
‫منها‪ ،‬فما موقعه من‬ ‫�إطار الت�شكيل ف�إ ّنني كنت وال �أزال كلف ًا بالتجريد‬
‫وخا�صة منه ما كان ذا‬ ‫ّ‬ ‫يف خمتلف اتجّ اهاته‪،‬‬
‫جتربتكم ال�شعر ّية‬
‫�صلة با�ستكناه الالوعي‪ ،‬من �أجل هذا الكلف‬
‫الطويلة؟ وهل كان‬
‫بالفرن�سية كتاب ًا �صغري احلجم عن الت�شكيل‬ ‫ّ‬ ‫كتبت‬
‫ال�شعري‬
‫ّ‬ ‫مولّدا للقول‬
‫التجريدي املغربي �أ�رشت فيه �إىل اتجّ اهاته و�أ�صولها‬ ‫ّ‬
‫يف بع�ض �إبداعاتكم‬
‫الغربية‪ ،‬ومن �سوء حظي �أن هذا الكتاب طبع مليئا‬ ‫ّ‬
‫؟‬
‫املطبعية جعل الفائدة‬ ‫ّ‬ ‫أخطاء‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫يح�صى‬ ‫مبا ال‬
‫التخييل النابع من‬ ‫منه غري مي�سورة‪ .‬وبالن�سبة �إىل ال�سينما فال �أزال �إىل‬
‫ذاتية خا�صة‬
‫�رشوط ّ‬ ‫إيطالية وبع�ض‬ ‫الواقعية اجلديدة ال‬ ‫الآن كلف ًا ب�سينما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بال�شاعر هو ما‬ ‫ين وخا�صة يف‬ ‫«بينييل» الإ�سبا ّ‬ ‫مالحمها يف �إخراج‬
‫ّ‬
‫�شعريته‬
‫ّ‬ ‫يفيء على‬ ‫بال�سيد املاري�شال»‪ّ � .‬أما هذه الفورة‬ ‫�رشيطه «مرحب ًا‬
‫ّ‬
‫و�شاعريته نكهة‬
‫ّ‬ ‫ال�سينمائية الأخرية يف املغرب فال �أكاد �ألتفت �إليها‬ ‫ّ‬
‫خا�صة بفعل التكرار‬
‫ّ‬
‫‪161‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التي تخلخل بواطن ال�شاعر كلّما �أحالته على �أحداث‬ ‫تتدخل يف مناء وتكرار‬ ‫ّ‬ ‫ومنو التجربة وتكاملها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫�سابقة ما كانت لتقع يف غري هذا املكان وحده‪.‬‬ ‫اخللفية الثقافية التي ينطلق منها‬ ‫ّ‬ ‫هذا التخييل‬
‫خ�صو�صية ارتباط املكان بواقع معينّ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هناك �إذن‬ ‫ال�شاعر يف تنا�سقها مع احلدث مو�ضوع التجربة‬
‫املا�ضي وهو‬ ‫ّ‬ ‫احليز الذي اكتنف‬ ‫ّ‬ ‫�ألي�س �أ ّنه ذلك‬ ‫التدخل يقت�ضي تغليب‬ ‫ّ‬ ‫املعبرّ عنها �شعراً‪ .‬هذا‬
‫الآن يكتنف احلا�رض الراهن و�سوف ال يك ّل �أبداً عن‬ ‫جانب املنطق على جانب الوجدان يف فهم ال�شعر‬
‫احتواء الآتي جميعه‪.‬‬ ‫الن�سبية‬
‫ّ‬ ‫ويف ممار�سة كتابته‪� ،‬أي �أ ّنه يخرق قانون‬
‫وبالن�سبة �إيلّ‪ ،‬فاملكان كيفما كان مو ّل ٌد للقول‬ ‫حني ي�ضمن للعقل م�ساحة دونها م�ساحة الوجدان‬
‫حق الت�شوي�ش‬ ‫ال�شعري‪� ،‬إذا كان �صاخب ًا فلل�صخب ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا دون تغييب الن�سبة القليلة ب�إ�ضافة ف�ضاء منها‬
‫وللت�شوي�ش فعل اكت�شاف النقي�ض‪ ،‬و�إذا افتقد عن�رص‬ ‫�إىل الن�سبة الكثرية‪ .‬توازن عجيب يلعب نف�س دور‬
‫جمالية‬
‫ّ‬ ‫االن�سجام فلهذا االفتقاد القدرة على ك�شف‬ ‫الأبازير التي ت�ستعمل مبقدار ما تتح ّقق معه النكهة‬
‫القبح‪ ،‬وما دمت ال �أ�صلح ل�شيء غري كتابة ال�شعر فمن‬ ‫اخلا�صة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املطلوبة‬
‫أتقرى مالمح‬ ‫مهمتي �أن �أقر�أ ال�صخب بغري لغته و�أن � ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطوعية لواقع اللحظة‬ ‫ّ‬ ‫هناك �أي�ض ًا تلك اال�ستجابة‬
‫علي‬ ‫الظاهر‪.‬‬ ‫الن�شوز‬ ‫هذا‬ ‫وراء‬ ‫ة‬ ‫املختفي‬
‫ّ‬ ‫االن�سجام‬ ‫يتم التفاعل معها ح ّتى لت�صبح هاج�س‬ ‫املعي�شة ّ‬
‫ّ‬
‫�أن �أبحث عن الن�سق فيما ال يتو ّفر على ن�سق‪ .‬على‬ ‫يتحول‪ .‬ال �أعني بهذا‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر منها ينطلق وعنها ال‬
‫حوا�سي كلها لي�س‬ ‫ّ‬ ‫�أن املكان الذي يوقظ‬ ‫ثانية يف عباب‬ ‫مرة ّ‬ ‫الفج ّ‬
‫الكالم ال�سقوط ّ‬
‫املا�ضوية‬‫ّ‬ ‫غري ذلك املحتفظ بدالالته‬ ‫ال�شعر يخرق‬ ‫اال�شرتاكي‬
‫ّ‬ ‫نظرية االلتزام يف �ش ّقيها‬ ‫ّ‬
‫ال�شعبية‬
‫ّ‬ ‫القدمية‪ :‬جامع الفنا والأحياء‬ ‫قانون الن�سبيّة‬ ‫نظرية �أق�صت ال�شاعر‬ ‫ّ‬ ‫والوجودي‪ ،‬فتلك‬
‫ال�شعبية‬
‫ّ‬ ‫خلفه يف مراك�ش‪ ،‬املدن القدمية‬ ‫و�أحلّت حملّة لوحة الإ�شهار‪� .‬أعني بذلك‬
‫يف ك ّل من فا�س وتطوان وال�شاون‬
‫حني ي�ضمن للعقل‬ ‫داخلي ًا‬
‫ّ‬ ‫�أن ال�شاعر الذي يعي�ش ا�ضطراب ًا‬
‫ووزان‪ ،‬البحر الذي يريق تالبيبه بوقار‬ ‫م�ساحة دونها‬ ‫مطالب ب�أن ينقله �إلينا ب�صفة جتعلنا‬
‫على اجلديدة وال�صويرة و�آ�سفي‪ ،‬ولوال‬ ‫منقولني �إليه حالّني فيه‪ ،‬وهذا ما‬
‫م�ساحة الوجدان‬ ‫ين اليوم منبعث ًا‬ ‫نالحظه يف ال�شعر الكو ّ‬
‫«الأمركة» املجه�ضة لأ�ضفت «�أغادير»‬
‫البحرية الرائعة‪.‬‬ ‫�إىل هذه املدن‬ ‫�شابة دلّتنا على �أ ّنها �أقدر‬ ‫من مواهب ّ‬
‫ّ‬
‫خ�صو�صيات هذا‬
‫ّ‬ ‫من اجليل ال�سابق على التقاط‬
‫‪ vv‬هناك من يعترب بع�ض املدن �أمكنة تتم ّيز عن‬ ‫معميات‬‫الع�رص الرقمي وخو�ض غمار م�شاكله وفكّ ّ‬
‫حمجة‬
‫غريها بكونها ف�ضاءات كتابة‪ ،‬حيث �أ�صبحت ّ‬ ‫املزية ال يختلف املغرب عن غريه‬ ‫�أ�رساره‪ ،‬ويف هذه ّ‬
‫للمبدعني وك�أ ّنهم على موعد مع الإلهام فيها‪� .‬إذا‬ ‫من البلدان‪.‬‬
‫كنتم توافقون على هذا الر�أي‪ ،‬فما هي بع�ض هذه‬ ‫وهناك �أي�ض ًا ذلك الأثر البارز الذي ي�شكّله املكان‬
‫املدن بح�سب جتربتكم ؟‬ ‫مر ًة بارتباطه بالزمن – وقد كان‬ ‫على ال�شاعر‪ّ ،‬‬
‫نظرية الإلهام يف كتابة ال�شعر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�أ�سارع �إىل دح�ض‬ ‫وال يزال الأمر كذلك منذ مقوالت «�أر�سطو» الع�رش‬
‫النظرية التي تفر�ض وجود �شيطان ال�شعر‬ ‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫حيث يالزم املكان الزمان ح ّتى ال ف�صل بينهما‪- ،‬‬
‫�سحري ًا يوحى‬
‫ّ‬ ‫ووادي عبقر‪ ،‬لأنها تعترب ال�شعر فع ًال‬ ‫ومر ًة ثالثة‬
‫مكانيته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومر ًة �أخرى بارتباطه ب�صميم‬ ‫ّ‬
‫به �إىل ملهم ُقد َِح زناد الإلهام يف بواطنه دون‬ ‫بارتباطه بحيوات الآخرين الذين هم يف احلقيقة‬
‫ممن تخطاهم زمن ومكان هذا الإلهام‪ .‬نحن‬ ‫غريه ّ‬ ‫اخلا�صة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ت�صوراته‬‫ّ‬ ‫مناذج ي�ستوحي ال�شاعر منها‬
‫الآن نكتب ال�شعر ا�ستجابة ملا فينا من اال�ستعداد‬ ‫جمالية املكان كما ر�آها «جا�ستون با�شالر»‬ ‫ّ‬ ‫لي�ست‬
‫لكتابته‪ ،‬ويف هذا املجال يتفاوت من�سوب هذا‬ ‫يف كتابه بنف�س هذا العنوان منظوراً �إليها من زاوية‬
‫اال�ستعداد بني �شاعر و�آخر‪ .‬نحن الآن نكتب �شعراً‬ ‫«فينومينولوجية»‪ ،‬و�إنمّ ا هي يف تلك االرتعا�شة‬ ‫ّ‬
‫‪162‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫ع�ضوية يف الفعل ال�شعري لأ ّنها من �أ�س�س بنائه‬ ‫ّ‬ ‫النمو والتكامل‬‫ّ‬ ‫تدرج يف‬
‫واعني ب�أ ّننا منار�س عم ًال ّ‬
‫وكتابته‪ ،‬بل �أ ّنها لتهبه يف كثري من الأحيان نكهة‬ ‫ح ّد �أن �أ�صبح و�سيلتنا املمكنة يف ك�شف خمازي هذا‬
‫الفنية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متيزه عن غريه من �أنواع الكتابة‬ ‫خا�صة ّ‬ ‫ّ‬ ‫العامل الذي نتعاي�ش فيه‪ .‬نحن الآن نكتب �شعراً يكاد‬
‫� ّأما اال�ستغراب فهو ح�شو �إن مل يكن لغواً زائداً لأنه‬ ‫�أن يكون ملا ّد ّيته ُروا�ؤُها املح�سو�س امللمو�س ب�سبب‬
‫ال�شعري وغالب ّا ما يق�صد‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستدعى من خارج الفعل‬ ‫«امليتافيزيقية»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نظرية الإلهام‬
‫من قطعه ال�صلة مع ّ‬
‫ين‪( .‬كالتفقري املتكلّف يف ق�صيدة‬ ‫املجا ّ‬
‫به التغمي�ض ّ‬ ‫نحن الآن نكتب �شعراً ومنلك القدرة على ا�ستدعائه‬
‫داللياً) فمن‬ ‫ّ‬ ‫تبدو فقراتها غري مر ّتبة وغري من�سجمة‬ ‫في�سارع �إىل احل�ضور حيث نحن‪� ،‬أ ّنى كانت الظروف‬
‫م�رشوعيتها بان�سجامها مع‬ ‫ّ‬ ‫حيث تكت�سب الغرابة‬ ‫احلميمية التي‬
‫ّ‬ ‫والأحوال لأ ّننا جعلناه و�سيلتنا‬
‫الق�صيدة يبدو معها اال�ستغراب نا�زشاً متنافراً وغري‬ ‫تقربنا من العامل وتدلّنا على �أ ّننا الرا�صدون حلاالت‬ ‫ّ‬
‫م�رشوع ب�سبب قلق و�ضعه فيها وعدم مالءمته‬ ‫طفوه ور�سوبه‪.‬‬‫ّ‬
‫لتناميها يف ذهن املتل ّقي‪ .‬هناك �شيء �آخر ذو عالقة‬ ‫معين ًا‬
‫ّ‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫مكان‬ ‫يجعلون‬ ‫الذين‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫العك�س‬ ‫على‬ ‫�أنا‬
‫باملتل ّقي الذي يجمع الغرابة واال�ستغراب يف مدلول‬ ‫«موحياً» لل�شعر حم ّفزاً على كتابته‪ ،‬لأ ّنني ال �أعترب‬ ‫ّ‬
‫واحد يرف�ضه جمل ًة وتف�صيالً‪� .‬إذا �صادفه ال�صواب‬ ‫مو�سمي ًا له �أوقاته الفارغة و�أوقاته املليئة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعر‬
‫كراهية اال�ستغراب فقد جافاه يف فهمه حلقيقة‬ ‫ّ‬ ‫يف‬ ‫ينبغي �أن تكون كتابة ال�شعر حتت �سلطة ال�شاعر‬
‫يف و� ّإما ناجت عن‬ ‫الغرابة‪ ،‬وذلك منه ق�صور � ّإما معر ّ‬ ‫ميار�سها يف ك ّل الأمكنة والأزمنة‪ ،‬و�إ ّال ف�سوف‬
‫عدم ا�ستجابة ذوقه �إىل نوع من الكتابة‬ ‫يب ّـياً» ي�ستنه�ض همته‬ ‫يكون ال�شاعر «هِ ِّ‬
‫واحلق‬
‫ّ‬ ‫ظهرت عليه �سمات هذه الغرابة‪.‬‬
‫املكان‬ ‫املن�شطات وهو قابع �أمام‬ ‫ّ‬ ‫بتناول‬
‫�أن ال�شعر ذلك الفن املثقل يف املا�ضي‬ ‫كيفما كان‬ ‫بحر «ال�صويرة» �أو مت�سكّع يف مغاوير‬
‫اللغوية من م�ساحة‬
‫وعرو�ضية‪،‬‬ ‫بالغية‬
‫ّ‬
‫وتقنيات‬
‫بعلوم الأداة‬
‫معجمية‬
‫مو ّل ٌد للقول‬ ‫«طنجة» م�ستعين ًا على �إح�ضار الإلهام‬
‫بزهر اخل�شخا�ش‪ .‬كتابة ال�شعر ي�سبقها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫�شكالنية وبحوث‬ ‫ّ‬ ‫مبناهج‬ ‫احلا�رض‬ ‫ويف‬ ‫ّ‬
‫ال�شعري‬ ‫انفعال تكرث مظاهره يف املجتمعات‬
‫يف الإيقاع واختالف يف املدار�س‬ ‫والنامية واملت�ص ّنعة حيث‬ ‫ّ‬ ‫املتخلّفة‬
‫تعودت‬ ‫واالجتاهات‪ ،‬يبدو يل ع�سري اله�ضم على من ّ‬ ‫املخازي وا�ضحة ال يحتاج ر�صدها والتقاطها �إىل‬
‫معدته اجرتار الطبيخ القابل للتناول ال�رسيع‪ .‬ولع ّل‬ ‫ومقبالت‪ .‬كتابة ال�شعر وليدة الر�ؤية‬ ‫ّ‬ ‫�أفاويه و�أبازير‬
‫الذي زاد الأمر ح ّدة هو �شيوع فكرة االلتزام التي‬ ‫يف غالب الأحيان ووليدة الر�ؤى يف �أقلّها القليل‪.‬‬
‫نخبويته التي هي‬ ‫ّ‬ ‫جماهريية ال�شعر ونبذت‬
‫ّ‬ ‫دعت �إىل‬ ‫الثقافية التي تدمج‬‫ّ‬ ‫اخللفية‬
‫ّ‬ ‫كتابة ال�شعر وليدة‬
‫علميته‬ ‫له يف خمتلف اللغات وعديد الأزمنة ب�سبب ّ‬ ‫�أبعاد الزمن الثالثة �إدماج ًا كما لو �أ ّنها خارجة‬
‫التي ال تلني �إ ّال للذين مالوا �إليها وغا�صوا يف‬ ‫من رحم واحد يف نف�س اللحظة‪ ،‬وهو ما يبطل ذلك‬
‫جمالها ومل يكتفوا من الغنيمة بالإياب وجرابهم‬ ‫أولوية‬
‫«الكرونولوجي» الذي ي�سمح بال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرتتيب‬
‫فارغ‪ ،‬بل عادوا منها بزاد وفري جعلهم يكتبون‬ ‫للمتق ّدم والأيلولة للمت� ّأخر‪.‬‬
‫ال�شعر ويربطون قدرهم به‪ .‬هل ميكن �أن تعزى‬ ‫‪ vv‬يجد فئة من القراء �صعوبة يف قراءة بع�ض‬
‫ين ال�شائع‬ ‫كراهية الغرابة �إىل ذلك الفهم الوجدا ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إبداعاتك ال�شعرية‪ ،‬فكيف تنظرون �إىل مبد�أ الغرابة‬
‫والرعوية‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫الفرو�سي‬
‫ّ‬ ‫زمن‬ ‫عن‬ ‫ال�شعر‬ ‫انف�صال‬ ‫منذ‬ ‫يف ال�شعر ؟‬
‫مما نتج‬ ‫انية‪ّ ،‬‬ ‫اجلو ّ‬
‫الذاتية ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتحامه بالأحا�سي�س‬
‫� ّإن مر ّد الغرابة يف ال�شعر �إىل املتل ّقي ال �إىل ال�شاعر‪.‬‬
‫للفن ؟‬
‫الفن ّ‬ ‫نظرية ّ‬ ‫عنه �شيوع ّ‬ ‫على � ّأن هناك فرق ًا بني الغرابة واال�ستغراب‪ .‬الغرابة‬
‫ذاك ما �أراه ‪.‬‬
‫(ويعبرّ عنها النقد القدمي واحلديث بالغمو�ض)‬

‫‪163‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫رميوند كارفر �أمهر الق�صا�صني الأمريكيني‬

‫‪164‬‬
‫رميوند كارفر‪:‬‬
‫لدي ما يكفي من الت�شا�ؤم يف كتابة الق�ص�ص‬
‫\‬
‫ترجمة‪ :‬جناح اجلبيلي‬

‫رميوند كارفر (‪ )1988-1938‬قا�ص و�شاعر �أمريكي يعد من �أمهر الق�صا�صني‬


‫الأمريكان يف �أواخر القرن الع�رشين وله دور كبري يف تن�شيط الق�صة الق�صرية‬
‫يف الثمانينيات‪ .‬ولد وتربى يف �شمال غرب البا�سفيك وق�ضى معظم طفولته‬
‫يف ياكيما بوالية وا�شنطن‪ .‬انتقل �إىل كاليفورنيا عام ‪ 1958‬وبد أ� الكتابة بداية‬
‫ال�ستينيات‪ .‬وعمل خاللها حمرراً للكتب املنهجية وحما�رضاً ومعلم ًا بينما كان‬
‫يكتب وين�رش عدة ق�ص�ص ق�صرية‪� .‬صدر كتابه الأول «�أرق ال�شتاء» عام ‪.1970‬‬
‫و�صدرت جمموعته الق�ص�صية الأوىل عام ‪�« 1976‬أال ت�صمتون رجا ًء؟» �إذ ر�سخت‬
‫مكانته وظهرت بع�ض من ثيماتها‪� :‬إدمان الكحول والفقر والنا�س العاديون يف‬
‫مواقف عادية لكنها يائ�سة‪.‬‬

‫�أنا �شاهد على عدم تفا�ؤلية احلياة الأمريكية‬ ‫‪v‬‬

‫‪165‬‬ ‫\ كاتب ومرتجم من العراق‪.‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أن الت�أثري واحد‪ .‬هناك �ضغط يف اللغة والعاطفة مل‬ ‫در�س الكتابة الإبداعية وكتب ال�شعر و�أطلق‬‫ّ‬
‫يوجد يف الرواية غالب ًا ما �أقول �أن الق�صة الق�صرية‬ ‫عليه لقب «االختزايل» (‪ )Minimalist‬ق�ص�صه‬
‫والق�صيدة �أقرب الواحدة منها �إىل الأخرى مما بني‬ ‫الواقعية اخلالية من الزوائد وكان يقارن‬
‫الق�صة الق�صرية والرواية‪.‬‬
‫ب�أرن�ست همنجواي و�أنطون ت�شيخوف‪ .‬يف‬
‫�أواخر ال�سبعينيات احتاج كارفر �إىل دخول ‪ vv‬وهل مدخلك �إىل م�شكلة ال�صورة بالطريقة‬
‫امل�شفى �أربع مرات خالل �أربع �سنوات ب�سبب نف�سها؟‬
‫‪�-‬أوه‪ ،‬ال�صورة‪� .‬أنت تعلم‪ ،‬ال �أ�شعر كما قال يل �أحدهم‬ ‫الإدمان ال�شديد على الكحول‪ .‬ويف منت�صف‬
‫ب�أين �أركز ق�صائدي �أو ق�ص�صي على �صورة معينة‬ ‫الثمانينات تخل�ص من الإدم���ان وكان‬
‫– ال�صور تنبع من الق�صة ولي�س بطريقة �أخرى‪ .‬ال‬ ‫يكتب طوال الوقت وتزوج من ال�شاعرة ت�س‬
‫�أ�ؤمن مب�صطلحات ال�صورة حني �أكتب‪.‬‬ ‫غاالغر وكانت زوجته الثانية‪ .‬وتويف يف‬
‫اخلم�سني من عمره ب�سبب �رسطان الرئة وقد ‪ vv‬يف �أي تقليد �شعري ت�ضع نف�سك؟‬
‫‪-‬دعنا نرى‪ ..‬ال �أهتم بواال�س �ستيفنز‪.‬‬
‫ن�رشت جمموعته الثانية « من �أين �أت�صل؟»‬
‫�أن��ا �أح��ب وليم كارلو�س وليمز‪� .‬أحب‬ ‫ب��ع��د وف��ات��ه ع���ام ‪ .1989‬كما‬
‫ال �أحب‬ ‫ن�رشت له جمموعتان �شعريتان‬
‫ربروت فرو�ست والكثري من املعا�رصين‬
‫مثل غ���االواي كيتل و و‪���.‬س‪.‬م�يروي��ن‪،‬‬
‫يتكلم‬ ‫أن‬‫�‬ ‫يف الثمانينيات‪.‬‬
‫تيد هيوز‪� ،‬سي كي وليمز روبرت ها�س‬ ‫النا�س يف‬
‫‪ vv‬مل��اذا اخ�ترت كتابة الق�ص�ص‬
‫والكثري من ال�شعراء املعا�رصين‪ .‬هناك‬ ‫ال�سرد بال‬ ‫الق�صرية دون الرواية ؟‬
‫نه�ضة حقيقية يف ال��والي��ات املتحدة‬
‫الآن يف ال�شعر و�أي�ض ًا يف النرث بالأخ�ص‬
‫�سبب‬ ‫‪-‬ظ���روف احل��ي��اة‪ .‬كنت �شاب ًا �صغرياً‬
‫بني كتاب الق�ص�ص الق�صرية‪.‬‬ ‫وت��زوج��ت يف الثامنة ع����شرة وكانت‬
‫لدي‬
‫زوجتي يف ال�سابعة ع�رشة حام ًال‪ .‬مل يكن ّ‬
‫‪ vv‬مثالً؟‬ ‫علي �أن �أعمل طوال الوقت كي‬ ‫املال الكايف وكان ّ‬
‫‪-‬هناك الكثري من امل�ؤلفات اجليدة الآن يف �أمريكا‪.‬‬ ‫يولد طفلنا‪ .‬وكان من ال�رضوري �أن �أذهب �إىل الكلية‬
‫�إن��ه وق��ت جيد للكتاب‪ .‬الق�ص�ص الق�صرية تباع‬ ‫لتعلم الكتابة وكان من امل�ستحيل بب�ساطة ال�رشوع‬
‫ب�صورة �أف�ضل‪ .‬هناك الكثري من املواهب‪ .‬حررت‬ ‫ب�شيء ي�أخذ مني �سنتني �أو ثالثا‪ .‬لهذا كر�ست نف�سي‬
‫�أنطولوجيا �أف�ضل الق�ص�ص الق�صرية الأمريكية عام‬ ‫لكتابة الق�صائد والق�ص�ص الق�صرية‪.‬كنت �أ�ستطيع‬
‫‪ 1986‬واكت�شفت كتاب ًا مل �أ�سمع بهم �إطالقا كلهم‬ ‫�أن �أجل�س �إىل املن�ضدة و�أبد�أ و�أنتهي بجل�سة واحدة‪.‬‬
‫ممتازون‪ .‬ومن بني املعا�رصيت يعجبني ريت�شارد‬
‫ف���ورد وتوبيا�س وول���ف وه��و ك��ات��ب م��ن ال��درج��ة‬ ‫‪ vv‬هل تعد نف�سك �شاعراً جيداً بقدر ما �أنت كاتب‬
‫الأوىل وجني �آن فيليب�س يف بع�ض ق�ص�صها و�آن‬ ‫ق�صة ق�صرية وما هي العالقة بني �شعرك ونرثك؟‬
‫بيتي وباري هانا وكري�س بايل وهارولد برودكي‬ ‫‪-‬ق�ص�صي م��ع��روف��ة لكني نف�سي �أح���ب ال�شعر‪.‬‬
‫وبع�ض ق�ص�ص جون �أبدايك وجوري�س كريول �أوت�س‬ ‫وال��ع�لاق��ة؟ ف����إن ق�ص�صي وق�����ص��ائ��دي ق�صرية‬
‫والأجنليزي �أي��ان مكوين‪ .‬هناك كاتب �شاب �أحب‬ ‫(ي�ضحك)‪� .‬أكتبها بالطريقة نف�سها و�أ�ستطيع �أن �أقول‬
‫‪166‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫واالخت�صار دون الكثري من العواطف‪ .‬ويف �آخر‬ ‫ق�ص�صه هو لآمي همبل وري�شارد ييت�س الذي عا�ش‬
‫كتاب يل «كاتدرائية» الق�ص�ص جمالها �أو�سع‪� .‬إنها‬ ‫يف فرن�سا منذ اخلم�سينيات‪.‬‬
‫�أكرث امتالء وقوة و�أكرث تطوراً وتب�رش بالأمل‪.‬‬
‫‪ vv‬هل تفكر يف كتابة رواية؟‬
‫‪ vv‬هل كان ذلك مق�صوداً؟‬ ‫‪-‬ح�سنا‪ .‬هذه الأيام �أ�ستطيع �أن �أكتب ما �أريد لي�س‬
‫‪-‬ال مل �أق�صده‪ .‬ال يوجد لدي برنامج حم��دد‪ .‬لكن‬ ‫الق�ص�ص فح�سب‪ ،‬لهذا فرمبا �س�أكتبها‪� .‬أنا حالي ًا‬
‫الظروف احلياتية تغريت‪ .‬توقفت عن اخلمر‪ .‬و�أنا‬ ‫�أوقع عقداً ملجموعة ق�ص�صية جديدة‪� .‬أغلبها جرت‬
‫الآن �أكرث وعداً ب�أين �أتطور‪ .‬ال �أعلم اعتقد‬ ‫كتابته و�ستظهر يف يناير‪ .‬وبعد ذلك‬
‫�أن من املهم ب���أن الكاتب يتغري و�أن‬ ‫�أنقح ن�صو�صي‬ ‫�س�أرى‪ .‬بعد جمموعتي الق�ص�صية الأوىل‬
‫هناك تطوراً طبيعي ًا ولي�س ق��راراً‪ .‬لهذا‬ ‫‪� 15‬أو ‪20‬‬ ‫�أراد مني اجلميع �أن �أكتب رواية‪ .‬هناك‬
‫حني �أنهي كتاب ًا ال �أكتب �أي �شيء ملدة‬ ‫الكثري من ال�ضغوط‪ .‬حتى �أنني قبلت‬
‫�ستة �أ�شهر عدا بع�ض ال�شعر واملقالة‪.‬‬
‫مرة قبل‬ ‫وتوجهت لكتابة رواي��ة‪ .‬وبد ًال من ذلك‬
‫ن�شرها‬ ‫كتبت ق�ص�ص ًا ق�صرية‪ .‬ال �أعلم‪� .‬أفكر الآن‬
‫‪ vv‬حني تكتب ق�ص�صك هل يف ذهنك‬ ‫بق�صة �أط��ول على �أية حال‪ .‬قد تتحول‬
‫فكرة املجموعة التي ت�صبح فيما بعد خمتارات؟‬ ‫�إىل رواية‪ .‬لكني ال �أ�شعر ب�أي حافز لكتابة رواية‪.‬‬
‫�أو �أنك تعتربها م�ستقلة بع�ضها عن الآخر؟‬ ‫�س�أكتب ما �أرغب بكتابته‪� .‬أحب احلرية التي �أح�صل‬
‫‪ -‬ال �أفكر بها كمجموعة‪� .‬أكتبها وتدريجي ًا تتخذ‬ ‫عليها الآن‪ .‬لقد كتبت �شعراً ومقاالت و�سريا ذاتية‬
‫فكرة الكل �صيغتها‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا عن جون غاردنر الذي كان ا�ستاذي وعن �أبي‬
‫وم�شكالتي مع الإدم��ان على الكحول الذي تغلبت‬
‫‪ vv‬كيف تختار عناوين جماميعك؟‬ ‫عليه عام ‪ .1977‬ويف اللحظة التي يكون منها‬
‫‪ -‬عادة ما يكون عنوان �أف�ضل ق�صة‪ .‬لكنه �أي�ض ًا‬ ‫نا�رشي يف بالغ ال�رسور تكون مبيعات ق�ص�صي‬
‫ال���ع���ن���وان الأك��ث�ر‬ ‫جيدة‪.‬‬
‫�إث�������ارة‪ .‬ف��ع��ن��وان‬
‫«ع��م نتحدث حني‬ ‫‪ vv‬ما ال�سبب يف �أن ق�ص�صك الأخرية قد متت‬
‫نتحدث عن احلب»‬ ‫ترجمتها يف فرن�سا بد ًال من ق�ص�صك الأوىل؟‬
‫هو عنوان ال يقاوم‪.‬‬ ‫‪-‬ح�����س��ن��ا‪ .‬ال��ف��ائ��دة ه��ي �أن ق�ص�ص جمموعة‬
‫«كاتدرائية» متطورة �أكرث و�أن الكتاب اجلديد �سوف‬
‫‪ vv‬م��اذا تف�ضل‬ ‫يجذب القراء الذين مل ينجذبوا �إىل جمموعة «عم‬
‫من ق�ص�صك؟‬ ‫نتحدث حني نتحدث عن احلب»‪ .‬يف النهاية‪ ،‬ال �أعلم‬
‫‪ -‬ق�����������ص�����ة‬ ‫‪ ..‬نعم اعتقد �أن النا�رش قد اتخذ قراراً �صحيح ًا‪.‬‬
‫«ك���ات���درائ���ي���ة» و‬
‫«������ش�����يء ���ص��غ�ير‬ ‫‪ vv‬لهذا تعتقد ب�أن بني كتابك الأول والأخري قد‬
‫جيد»‪ .‬هناك الكثري‬ ‫غريت طريقتك يف الكتابة؟‬
‫من الق�ص�ص التي‬ ‫‪ -‬نعم‪ .‬الكثري‪� .‬أ�سلوبي �أكرث امتالء و�أكرث وفرة‪ .‬يف‬
‫مل �أع��د �أحبها الآن‬ ‫كتابي الثاين «عم نتكلم‪ »..‬يف غاية الق�رص وال�ضغط‬
‫‪167‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ما‪� .‬إنها ق�صة �إيجابية و�أحبها كثرياً لذلك ال�سبب‪.‬‬ ‫لكني ال �أقول لك ما هي‪� .‬س�أن�رش ق�ص�صا خمتارة‬
‫يقول النا�س �إنها جماز ل�شيء �آخر‪ ،‬للفن‪ ،‬ل�صنع‪..‬‬ ‫لكنها بالت�أكيد لي�س جمموعة كاملة لق�ص�صي‪.‬‬
‫لكن كال‪ .‬فكرت حول التما�س الفيزيائي ليد الرجل‬
‫الأعمى بيده‪� .‬إنها كلها خيالية‪ .‬مل يحدث �شيء‬ ‫‪ vv‬ق�صة «�شيء �صغري جيد» هي نتاج �إعادة‬
‫يل �أبداً من هذا القبيل‪ .‬ح�سنا‪ .‬كان هناك اكت�شاف‬ ‫«عم‬
‫كتابة ق�صة �سابقة «احلمام» يف جمموعة ّ‬
‫رائع‪ .‬وال�شيء نف�سه حدث يف ق�صة «ال�شيء ال�صغري‬ ‫نتحدث‪»..‬‬
‫اجليد»‪ .‬الوالدان هما مع اخلباز‪ .‬ال �أود �أن �أقول ب�أن‬ ‫‪-‬نعم‪ .‬ظهرت «احلمام» يف جملة وفازت بجائزة‬
‫هذه الق�صة ترتقي بالروح‪ ،‬لكن حتى مع ذلك فهي‬ ‫مل �أعد �أتذكرها‪ .‬لكن الق�صة �أ�ضجرتني‪ .‬بدت غري‬
‫تنتهي مبالحظة �إيجابية‪ .‬الزوجان ق��ادران على‬ ‫منتهية بالن�سبة يل‪ .‬كانت هناك ما زال��ت �أ�شياء‬
‫تقبل املوت لطفلهما‪ .‬ذلك �شيء �إيجابي‪ .‬الق�صتان‬ ‫يجب �أن تقال‪ .‬وحني كنت �أكتب «كاتدرائية» (مل‬
‫تنتهيان مبالحظة �إيجابية‪ ،‬و�أنا �أحب ذلك كثرياً‪.‬‬ ‫�أكتب كتاب ًا �أ�رسع من ذلك الكتاب ودعني �أقل لك‬
‫�س�أكون �سعيداً لو �أن هاتني الق�صتني تدومان‪.‬‬ ‫ب�أنه ا�ستغرق فقط ثمانية ع�رشة �شهراً)‪ ،‬حدثت �أمور‬
‫يل‪ .‬بدت يل ق�صة «كاتدرائية» تختلف كلي ًا عن كل‬
‫‪ vv‬هل عنا�رص ال�سرية الذاتية مهمة يف ق�ص�صك؟‬ ‫ما كتبته �سابق ًا‪ .‬كنت يف فرتة الوفرة‪ .‬نظرت �إىل‬
‫�إنها بالن�سبة للكتاب الذين يروقون يل‬ ‫تكتب يعني‬ ‫ق�صة «احلمام» ووجدتها ت�شبه لوحة‬
‫غالب ًا‪ :‬موبا�سان‪ ،‬ت�شيخوف‪ ،‬يجب �أن‬ ‫غري مكتملة‪ .‬لهذا رجعت �إليها وكتبتها‬
‫تنبع الق�ص�ص من مكان ما‪ .‬على �أية‬
‫�أن تقول‬ ‫م��رة �أخ���رى‪� .‬إن��ه��ا �أف�ضل الآن بكثري‪.‬‬
‫ح��ال‪ ،‬تلك هي الق�ص�ص التي �أود �أن‬ ‫الأ�شياء التي‬ ‫و�أحدهم �صنع فيلم ًا منها‪ ،‬زميل من‬
‫�أروي��ه��ا‪ .‬يجب �أن تكون هناك خطوط‬ ‫مل يقلها‬ ‫هوليود‪ .‬اال�سرتاليون �أي�ض ًا �صنعوا‬
‫مرجعية ت�أتي من العامل احلقيقي‪.‬‬ ‫فيلم ًا من ق�صة «ري�ش»‪ .‬لقد ر�أيت الفيلم‬
‫الآخرون‬ ‫الأول وبداً جيداً وكذلك الفيلم الثاين‪ .‬لقد‬
‫‪ vv‬ذلك ي�صدق عليك حني تكتب‪،‬‬ ‫و�ضعوا طقم اال�سنان يف الطاوو�س‪� .‬إنه‬
‫لكن هل تعتقد ب�أن �سريتك ميكن �أن تفيد القارئ؟‬ ‫م�س ّل جداً‪.‬‬
‫‪-‬كال‪� .‬إطالق ًا‪ .‬فقط ا�ستعملت عنا�رص ال�سرية الذاتية‪،‬‬
‫�شيء‪� ،‬صورة ‪ ،‬جملة �سمعتها‪� ،‬شيئا ر�أيته‪� ،‬أو فعلته‪.‬‬ ‫‪� vv‬أال حتدثنا عن النهايات يف ق�ص�صك؟ نهاية‬
‫ثم حاولت �أن �أحوله �إىل �شيء �آخر‪ .‬نعم هناك �شيء من‬ ‫ق�صة «كاتدرائية» مثالً؟‬
‫ال�سرية الذاتية‪ ،‬و�آمل الكثري من اخليال‪ .‬هناك دائم ًا‬ ‫‪-‬ح�سنا‪ .‬ال�شخ�صية تلك تقف متام ًا �ضد النا�س‬
‫عن�رص �صغري يطلق �رشارة‪ ،‬بالن�سبة لفيليب روث‬ ‫العميان‪ .‬تتغري‪ .‬تكرب‪ .‬مل �أكتب ق�صة مثلها أ�ب��داً‪.‬‬
‫�أو تول�ستوي‪ ،‬موبا�سان‪ ،‬الكتاب الذين يروقون يل‪.‬‬ ‫�إنها الق�صة الأوىل التي كتبتها بعد �إنهاء ق�صة‬
‫الق�ص�ص ال تنبع من اجلو الرقيق‪ .‬ثمة �رشارة‪ ،‬وتلك‬ ‫«ع��م نتحدث‪ »..‬ثم �س�أ�سمح ل�ستة �أ�شهر كي متر‬
‫هي نوع الق�صة الذي يثري اهتمامي‪ .‬مث ًال يف ق�صة «‬ ‫وحني كتبت تلك الق�صة �شعرت �أنها خمتلفة جداً‪.‬‬
‫البدين» زوجتي الأوىل‪ ،‬عملت كنادلة وعادت للبيت‬ ‫�شعرت بزخم ق��وي يف كتابتها وذل��ك ال يحدث‬
‫يف �إحدى الليايل و�أخربتني ب�أنها كانت لديها زبون‬ ‫مع �أي ق�صة‪ .‬لكني �شعرت �أين �أنقر على �شيء ما‪.‬‬
‫هو رجل �ضخم كان يتحدث لنف�سه ب�صيغة اجلمع‬ ‫�شعرت �أن هناك �شيئ ًا مثرياً‪ .‬الرجل املب�رص يتغري‪.‬‬
‫لل�شخ�ص الأول (نحن) ‪« :‬نود املزيد من اخلبز‪ .‬نحن‬ ‫ي�ضع نف�سه مكان الرجل الأعمى‪ .‬الق�صة ت�ؤكد �شيئ ًا‬
‫‪168‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫‪ vv‬هال حدثتنا عن ثيماتك؟‬ ‫ذاهبون لأخذ حلوى خا�صة»‪ .‬ذلك �أده�شني‪ .‬وجدت‬
‫‪ -‬ال بد للكاتب من �أن يتحدث عن الأم��ور املهمة‬ ‫ذلك �شيئ ًا ا�ستثنائي ًا‪ .‬وتلك هي ال�رشارة التي �أطلقت‬
‫بالن�سبة له‪ .‬وكما تعلم لقد تعلمت يف اجلامعات‬ ‫الق�صة‪ .‬كتبت تلك الق�صة بعد عدة �سنوات لكني مل‬
‫يف احلقيقة حوايل ‪� 13‬سنة‪ .‬وكان لدي وقت هناك‬ ‫�أن�س ما �أخربتني به زوجتي فيما بعد‪ .‬جل�ست للعمل‬
‫للأعمال الأخرى ومل �أكتب ق�صة مفردة عن احلياة‬ ‫و�س�ألت نف�سي ما هي الطريقة ال�صحيحة لكتابة هذه‬
‫اجلامعية لأنها جتربة مل ترتك �أي عالمة على حياتي‬ ‫الق�صة‪ .‬كان قراراً واعي ًا‪ .‬قررت �أن اكتبها من وجهة‬
‫العاطفية‪� .‬أميل �إىل الرجوع �إىل الزمن والنا�س الذين‬ ‫نظر النادلة ال زوجتي بل النادلة‪.‬‬
‫�أعرفهم جيداً حني كنت �صغرياً والذين‬
‫ل��دي‪ .‬بع�ض من‬ ‫تركوا انطباع ًا قوي ًا‬
‫الك ّتاب‬ ‫‪ vv‬ونهاية الق�صة �إذ تقول املر�أة ب�أن‬
‫ّ‬ ‫حياتها على و�شك �أن تتغري فكيف‬
‫ق�ص�صي املت�أخرة تتعامل مع املديرين‪.‬‬ ‫كذابون‬ ‫تف�رس ذلك؟‬
‫( مث ًال ق�صة «كل من كان ي�ستعمل هذا‬ ‫كبار‬ ‫‪ -‬ال �أف�رسها‪ .‬هناك �أي�ض ًا وددت �أن‬
‫الفرا�ش» يف جملة «نيويوركر» حيث‬
‫�أ�ضعها كنهاية �إيجابية رمبا‪.‬‬
‫كان النا�س يناق�شون الأمور وهي ال�شخ�صيات التي‬
‫مل �أطرحها �أبداً يف ق�ص�صي املبكرة) �إنه رجل �أعمال‬ ‫‪� vv‬إنها ق�صة ب�صيغة احلا�رض؟‬
‫الخ‪ .‬لكن �أغلب النا�س يف ق�ص�صي م�ساكني حائرون‬ ‫‪ -‬نعم‪ .‬تلك هي ال�صيغة التي ب��دت منا�سبة يل‪.‬‬
‫ذلك �صحيح‪.‬االقت�صاد �شيء مهم ‪ ..‬ال �أ�شعر �أين كاتب‬ ‫الق�ص�ص الأربع �أو اخلم�س التي ن�رشتها م�ؤخراً يف‬
‫�سيا�سي وم�ؤخراً هاجمني نقاد اجلناح اليميني يف‬ ‫جملة «ذ نيويوركر» هي ب�صيغة احلا�رض‪.‬ال �أعرف‬
‫الواليات املتحدة الذين وجهوا لومهم يل ب�سبب‬ ‫ال�سبب‪� .‬إنه قرار اتخذته دون �أن �أعرف ال�سبب‪ .‬جزء‬
‫لدي ما‬
‫عدم ر�سم �صورة �أكرث تفا�ؤ ًال لأمريكا وب�أين ّ‬ ‫من القرار �صنع نف�سه لكني ال �أود �أن �أقودك لتعتقد‬
‫يكفي من الت�شا�ؤم يف كتابة الق�ص�ص عن النا�س‬ ‫ب�أنه �شيء غام�ض‪ .‬تلك هي الطريقة التي تكونت بها‪.‬‬
‫ال��ذي��ن مل ي��ح��رزوا‬
‫النجاح‪ .‬لكن هذه‬ ‫‪ vv‬هل حاولت �أن تكتب بامل�صطلح الأمريكي؟‬
‫احليوات هي ن�شطة‬ ‫��دي �إ�صغاء جيدا‬ ‫‪-‬بالت�أكيد‪ .‬يقال �أحيان ًا ب���أن ل ّ‬
‫مثل �أولئك النا�س‬ ‫ج��را‪ .‬بالت�أكيد ال اعتقد �أن النا�س‬ ‫للحوار وهلم ّ‬
‫املخاطرين‪ .‬نعم‪،‬‬ ‫يتكلمون بالطريقة ال��ت��ي �أتكلم ب��ه��ا‪� .‬إن���ه مثل‬
‫�أت��خ��ذ م��ن البطالة‬ ‫همنغواي ويقال �أي�ض ًا ب�أنه كان لديه �إ�صغاء جيد‬
‫وم�����ش��اك��ل امل���ال‬ ‫لكنه اكت�شفها كلها‪ .‬النا�س ال يتكلمون بتلك الطريقة‬
‫وامل�شاكل املادية‬ ‫�إطالقا‪� .‬إنها م�س�ألة �إيقاع‪.‬‬
‫ك��م��ا يف احل���ي���اة‪.‬‬
‫النا�س قلقون حول‬ ‫‪ vv‬ما �أهمية �أن تلحق احلوار يف ق�ص�صك؟‬
‫�إيجارهم و�أطفالهم‬ ‫‪� -‬إن��ه �شيء مهم‪ .‬يجب تقدمي احلبكة �أو تنوير‬
‫وحياتهم املنزلية‪.‬‬ ‫ال�شخ�صية الخ‪ .‬ال �أحب �أن يتكلم النا�س بال �سبب‬
‫ذل��ك أ�م��ر�أ���س��ا���س��ي‪.‬‬ ‫لكني يف الواقع �أحب احل��وار بني النا�س الذين ال‬
‫تلك ه��ي الطريقة‬ ‫ي�صغي �أحدهم �إىل الآخر‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ vv‬من هم الك ّتاب الذين يثريون اهتمامك؟‬ ‫التي يعي�ش بها ‪� %90-80‬أو اهلل يعلم كم عدد النا�س‬
‫‪ -‬حني كنت �أعمل يف التدري�س اخ�ترت الكتاب‬ ‫الذين يعي�شون‪� .‬أكتب ق�ص�ص ًا عن النا�س املغمورين‬
‫الذين �أودهم والذين هم مفيدون يل ككاتب �شاب‪.‬‬ ‫الذين ال يوجد لديهم �شخ�ص ليتحدثوا معهم‪� .‬أنا‬
‫فلوبري حكاياته ور�سائله‪ .‬موبا�سان (الذي كتبت‬ ‫نوع من ال�شاهد �إ�ضافة �إىل �أن تلك هي احلياة التي‬
‫عنه ق�صيدة « ا�س�أله») ت�شيخوف وفالنري �أوكونور‬ ‫�أعي�شها بنف�سي ملدة طويلة‪ .‬ال �أرى نف�سي كناطق بل‬
‫ورواية لوليم غا�س ومقاالته النقدية و�أيدورا ولتي‪...‬‬ ‫�شاهد على هذه احليوات‪� .‬إين كاتب‪.‬‬

‫‪ vv‬وهمنغواي الذي غالب ًا ما تقارن به؟‬ ‫‪ vv‬كيف تكتب ق�ص�صك وكيف تنهيها؟‬
‫‪-‬قر�أت الكثري من كتاباته‪ .‬حني كنت يف التا�سعة‬ ‫‪-‬بالن�سبة �إىل النهاية ف�إن الكاتب يجب �أن ميتلك‬
‫ع�رشة �أو الع�رشين قر�أت الكثري منه وكان همنغواي‬ ‫ح�س ًا درام��ي�� ًا‪ .‬يجب �أن ال ت�صل ب�شكل معجز �إىل‬
‫جزءاً مما قر�أت‪� .‬أثار همنغواي اهتمامي �أكرث من‬ ‫النهاية‪� .‬أن��ك تعرث على النهاية ح�ين تنقحها‪.‬‬
‫فوكرن مث ًال الذي كنت �أق��راه يف الوقت نف�سه‪� .‬أنا‬ ‫وبالن�سبة يل ف���إين �أنقح ‪� 15‬أو ‪ 20‬م��رة‪ .‬احتفظ‬
‫مت�أكد �أين تعلمت من همنغواي ال �شك يف ذلك‬ ‫بامل�سودات املختلفة‪ ..‬مل �أفعل هذا الأمر يف املا�ضي‬
‫وبالأخ�ص من �أعماله الأوىل‪� .‬أحب تلك الأعمال‪.‬‬ ‫بل الآن ب�سبب جمعي الكتب‪� .‬أحب اجلهد اجل�سدي يف‬
‫�إذا ما قورنت معه فذلك �رشف يل‪ .‬بالن�سبة يل جمل‬ ‫لدي طابعي‬‫الكتابة‪ .‬ال �أمتلك جهاز طباعة لكني ّ‬
‫همنغواي �شعرية‪ .‬هناك �إيقاع‪�.‬أ�ستطيع �أن �أعيد قراءة‬ ‫يعطيني ن�صو�ص ًا م�صححة نظيفة‪ ...‬ثم �أنقحها‪.‬‬
‫ق�ص�صه الأوىل و�أجدها رائعة كما هي دائما �أنها‬ ‫�أعاد تول�ستوي كتابة احلرب وال�سالم �سبع مرات‬
‫تثري حما�سي كثرياً على الدوام‪� .‬إنها كتابة عجيبة‪.‬‬ ‫وظل ينقحها حتى الدقيقة الأخرية قبل الطبع‪ .‬ر�أيت‬
‫قال ان النرث معمار و�أن عهد الباروك انتهى‪ .‬ذلك‬ ‫�صوراً فوتوغرافية من امل�سودات! يروقني االهتمام‬
‫ينا�سبني‪ .‬قال فلوبري ال�شيء نف�سه‪ ،‬تلك الكلمات‬ ‫بالعمل كي يكون جيداً‪.‬‬
‫ت�شبه الأحجار التي منها يبني املرء جداراً‪ .‬اعتقد‬
‫بذلك متام ًا‪ .‬ال �أحب الكتاب املهملني الذين ال حتمل‬ ‫‪� vv‬إذن بالت�أكيد ال تود كريواك الذي زعم �أنه‬
‫كتاباتهم توتراً عاطفي ًا وهي مراوغة ومتقلقلة‪.‬‬ ‫كتب رواي��ة «على الطريق» بجل�سة واح��دة‬
‫م�ستمرة على الطابعة �أو على رولة �ضخمة من‬
‫‪ vv‬لكنك �أنت بنف�سك تتحدث الكثري عن الأ�رسار‬ ‫الورق؟‬
‫وال تقول ما هي‪ .‬ثمة �إحباط م�ؤكد للقارئ ب�سبب‬ ‫‪ -‬نعم على الرغم من �أين �أحب رواية «على الطريق»‬
‫التفكك �أو دعنا نقول عدم الرتابط يف نهايات‬ ‫كثرياً‪ .‬لكن لي�س بقية �أعماله‪� .‬إنها غري قابلة للقراءة‬
‫ق�ص�صك‪� .‬إنك حتبط قراءك‪.‬‬ ‫وقد �شاخت على نحو �سيئ‪.‬‬
‫‪-‬حتى ال �أعلم �إن كنت �أعرف الطريقة التي تكتب‬
‫لدي برنامج‪ .‬ثمة‬ ‫‪ vv‬ورمبا كان كريواك يكذب‪.‬‬
‫بها الق�ص�ص‪ .‬ف�أنا �أكتب ولي�س ّ‬
‫نا�س من النا�س القادرين على قول الق�صة يتقدمون‬ ‫‪ -‬نعم‪ .‬الكتاب كذابون كبار(ي�ضحك)‬
‫وي�صلون �إىل �أعلى نقطة وهكذا‪ .‬و�أنا نف�سي ال �أعلم‪.‬‬
‫�أكتب النوع الأف�ضل من الق�ص�ص التي �أ�ستطيع‬ ‫‪ vv‬ب�ضمنهم �أنت؟‬
‫كتابتها‪ ...‬على الق�صة �أن تك�شف �شيئ ًا ولي�س كل‬ ‫‪( -‬ي�ضحك)‪ .‬يا �إلهي كال‪� .‬أنا اال�ستثناء الوحيد‪.‬‬
‫‪170‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫�أوكونور قالت ب�أن الكتابة اكت�شاف‪ .‬مل تعرف ما‬ ‫�شيء‪ .‬يجب �أن يكون هناك لغز معني يف الق�صة‪ .‬ال‬
‫�سوف يحدث من جملة �إىل �أخرى‪.‬‬ ‫�أحب �أن �أ�صيب القارئ بالإحباط لكن �صحيح �أنا‬
‫لكن كما قلت �إنك ال تبلغ النهاية ب�شكل �إعجازي‪.‬‬ ‫�أخلق توقع ًا لكني ال �أحققه‪.‬‬
‫عليك �أن متتلك ح�س ًا درامي ًا‪ .‬وتكت�شف النهاية يف‬ ‫‪ vv‬هل تعتقد �أن هناك اختال�س النظر يف‬
‫الكتابة �أو بالأحرى يف �إعادة الكتابة مبا �أنك ت�ؤمن‬ ‫ق�ص�صك؟ ثمة غالب ًا نا�س يتج�س�سون على �آخرين‬
‫بثبات يف �إعادة الكتابة‪ .‬يف �إعادة الكتابة مبا �أن‬ ‫وهم م�سحورون بحياة جريانهم‪.‬‬
‫ثيمة الكلمة جتعلني قلق ًا قلي ًال دعني �أقول ب�أن ح�س‬
‫�إعادة كتابة الق�صة وح�س الق�صة حينئذ يتغري قلي ًال‬ ‫‪�-‬صحيح‪ .‬لكن ميكن القول �أن كل الق�ص�ص هكذا‪.‬‬
‫يف كل مرة‪.‬‬ ‫�أن تكتب يعني �أن تقول الأ�شياء التي مل يقلها‬
‫الآخ���رون ب�صورة اعتيادية للنا�س‪�(.‬ضحك) يف‬
‫‪ vv‬هل جتاري ما يكتب الآن يف فرن�سا؟ ‬ ‫ق�صة «جريان» هناك تل�ص�ص ويف ق�صة «الفكرة»‬
‫‪-‬كال منذ «الرواية اجلديدة» لكن يبدو �أن الق�ص�ص‬ ‫�أي�ض ًا مع الزوجني الأكرب �سن ًا‪ ،‬االتهام اجلن�سي‪ .‬نعم‬
‫الق�صرية ال تلقى ال�شعبية يف فرن�سا‪� .‬أخربوين ب�أنه‬ ‫فعال‪ .‬ويف ق�صة «اجلريان» بعد ر�ؤية �شقة اجلريان‬
‫يف ال�سنة الأخ�يرة ن�رشت بالكاد ع�رشة كتب من‬ ‫الزوجان مثاران جن�سي ًا‪.‬‬
‫الق�ص�ص‪ .‬ما هي امل�شكلة؟ مع �أ�سالف موبا�سان‪.‬‬ ‫‪ vv‬يبدو اجلن�س يف ق�ص�صك مم ًال �أو يثريه‬
‫هام�ش‪:‬‬ ‫مراقبة احلياة اخلا�صة للآخرين‪ .‬مث ًال يف ق�صتي‬
‫مقابلة �أجراها‪ :‬ال�صحفي الفرن�سي كلود غرميال �أثناء زيارة كارفر‬
‫«ري�ش» و «جريان»‪....‬‬
‫لباري�س عام ‪1987‬‬ ‫‪ -‬لكن هناك الكثري من اجلن�س يف ق�ص�صي‪ .‬الق�ص�ص‬
‫يف غاية الربود وهكذا اجلن�س‪� .‬إنه بارد ولي�س حاراً‪.‬‬
‫�صحيح �أن اجلن�س يف ق�ص�صي �إذا ما وجد يحدث‬
‫�رساًُ �أو ب�صورة �آلية‪ ..‬لكني ال �أعلم‪.‬‬
‫‪ vv‬يف ق�صة «الفكرة» ت�ضع �شيئني مع ًا يبدو‬
‫�أنهما ال يتوافقان‪ :‬الزوجان اللذان يتل�ص�صان‬
‫على جريانهما والنمل حتت احلو�ض‪ .‬ف�أنت ت�ضع‬
‫�شيئني ال يبدو �أن بينهما �أي رابط‬
‫بد‬
‫‪-‬نعم ولكن العالقة تبدو م�ستحيلة ولكنها ال ّ‬
‫منها‪ .‬ال �أعلم كيف �أف�رسها‪ .‬مرة �أخرى ف�أنا لي�س‬
‫لدي برنامج حني �أكتب هذه الق�ص�ص‪ .‬بد�أت الق�صة‬ ‫ّ‬
‫دون �أن �أعرف �أين كنت �أدخل فيها النمل‪ .‬حني �أبد�أ‬
‫لدي �أ�سالف‬
‫العمل ال �أعرف �إىل �أين �أنا ذاهب‪ .‬لكني ّ‬
‫المعون يف هذا االعتبار‪ .‬حني �سئل همنغواي يف‬
‫�أحد الأيام �إن كان يعرف كيف ينهي الق�ص�ص حني‬
‫لدي فكرة»‪ .‬كذلك فالنري‬ ‫يبد�أها قال‪« :‬كال لي�س ّ‬
‫‪171‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ف�ضيلة الفاروق‬

‫‪172‬‬
‫ف�ضيلة الفاروق‪:‬‬
‫الأحداث ال تن�ضب ما دامت الذاكرة بها جراح‬
‫\‬
‫حاورها‪� :‬إبراهيم احلجري‬

‫منذ �إطاللتها املتميزة يف عامل ال�رسد‪ ،‬ظلت اجلزائرية ف�ضيلة الفاروق تثري ف�ضول‬
‫املتتبعني والقراء‪ ،‬يف �صفوف الن�ساء والرجال‪ ،‬ومع �أنها تنت�رص للمر�أة �ضد الرجل‬
‫يف �إطار مهاجمة ما ي�سمى باملجتمع الذكوري الذي كر�س ثقافة وتقاليد مقيدة‬
‫للكائن الن�سوي‪ ،‬غري �أن الطريقة املمتعة والأ�سلوب الآ�رس اللذين تنهجهما يف احلكي‪،‬‬
‫جعلت كل من يقر أ� لها يظل متعلقا بكل ما ت�صدره من جديد‪ ،‬نظرا ملا تتميز به من‬
‫تلقائية يف البوح وت�شخي�ص الأحا�سي�س الفردية واجلماعية‪ ،‬وتو�صيف الو�ضعيات‬
‫الإن�سانية اخلبيئة التي تتكل�س يف الذاكرة والذهن‪ .‬ال تفكر يف طبيعة اخلطاب‬
‫الروائي‪ ،‬وال يهمها القالب الذي تفرغ فيه �سيولتها ال�رسدية‪ ،‬بل �إنها متتع�ض من‬
‫الوعي امل�سبق ب�أ�شكال الكتابة وم�سوغاتها‪...‬‬

‫‪ v‬ال �أحتمل �أن �أرتدي قناعا‪،‬‬


‫وال �أحتمل �أن �أعي�ش حياتني‬

‫‪173‬‬ ‫\ روائي وناقد من املغرب‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اخت�صا�صي العلمي وقراءاتي العلمية ميزت تفكريي‬ ‫حت�س �أن ما بجعبتها من حكي ال ين�ضب �أبدا ما‬
‫عن غريي‪ ،‬فروايتي الأخرية مل يفهمها الأغلبية لأنها‬ ‫دام جراب التجربة حابال بالوقائع والأحداث‪،‬‬
‫ترتكز على فكرة علمية‪.‬‬ ‫وما دامت الذاكرة حمتفظة ب�آثار اجلراح‬
‫ومع هذا لن �أخفيك �رسا‪ ،‬بعد معاناتي الطويلة يف العامل‬ ‫املا�ضية التي دونت زمان الطفولة بريف‬
‫العربي‪ ،‬وما يحدث فيه‪ ،‬متنيت لو ذهبت الخت�صا�ص‬ ‫اجلزائر وجبال الأورا�س‪ .‬وبالرغم من كونها‬
‫�آخر غري الأدب‪.‬‬ ‫تلح على م�س�ألة الذاتية يف العمل الروائي؛‬
‫ف�إن الإقبال الوا�سع على رواياتها باملعار�ض ‪ v‬لكل كاتب قناعان‪ ،‬قناع ميار�س به حياته‬
‫العربية للكتاب؛ دليل على �أن جتربتها تت�سع االجتماعية ويتفاعل به مع النا�س‪ ،‬وقناع يخلو به‬
‫لتطول التجربة الإن�سانية برمتها‪ ،‬وي�صري �إىل ذاته و�إىل عوامله اجلوانية‪ ،‬ي�سائلها وت�سائله؛‬
‫العمل الروائي‪ ،‬بالتايل‪ ،‬فور ن�رشه عمال وينازعها وتنازعه‪ ،‬بحثا عن حلظة الإ�رشاق التي‬
‫جمعيا يخت�رص امل�سافات بني �شخو�ص احلياة تنتج ن�صو�صا‪ ،‬وهذا الأمر ال يتحقق �إال باالبتعاد‬
‫والواقع‪ ،‬وبانف�صاله عن �صاحبه يتخذ �شكل عن م�شو�شات املحيط الرباين‪ .‬فكيف متيزين بني‬
‫كائن م�ستقل يتنف�س �أهوية جديدة وي�سافر هذين القناعني يف ممار�ستك للكتابة �أو بعبارة‬
‫يف الثقافات‪ .‬يف هذا احلوار املاتع‪ ،‬تفتح �أخرى متى تنتهي الإن�سانة لتبد�أ الكاتبة �أم �أنهما‬
‫تظالن ملتحمتني حتى �إبان الإ�رشاق‬ ‫الروائية ف�ضيلة الفاروق قلبها‬
‫الأدبي؟‬ ‫نف�سي‬ ‫أنتقد‬ ‫�‬
‫حول مطبخ الكتابة لديها‪ ،‬وحول‬
‫‪-‬عندي م�شكلة عوي�صة يا �إبراهيم‪ ،‬فقد‬ ‫نف�سي؛‬ ‫أمام‬ ‫�‬ ‫بق�سوة‬ ‫عالقتها ببلدها اجلزائر‪ ،‬و�إقامتها‬
‫�أ�صبحت �أعتقد �أن ما نعي�شه حياة وهمية‪،‬‬ ‫كما �أمام‬ ‫يف بريوت‪ ،‬متحدثة عن عواملها‬
‫ت�شبه الأفالم والروايات‪ ،‬الواقع كان‬
‫آخرين‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫وهواج�سها وطموحاتها يف عامل‬
‫حقيقيا‪� ،‬إىل �أن ع�شت �أول جتربة فقدان‪،‬‬ ‫عربي �رسيع التحول‪.‬‬
‫املوت غري نظرتي للأمور‪ ،‬و�أتعاي�ش مع‬ ‫و�أمام الإعالم‬ ‫‪ v‬جئتِ �إىل عامل الأدب من رحاب‬
‫ف�ضيلة الكاتبة وف�ضيلة الإن�سانة‪ ،‬لكن يف �رصاع‬ ‫العلوم احلقة‪ ،‬حيث كنتِ متخ�ص�صة يف الطب قبل‬
‫م�ستمر‪ .‬ي ّدعي �أغلب الكتاب �أنهم مت�صاحلون مع‬ ‫�أن تغريي م�سارك �إىل جمال الأدب‪ ،‬مثلما �أن الو�سط‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬ويقدمون �صورة جميلة عنهم للرتويج لأدبهم‪،‬‬ ‫الذي ن�ش�أت فيه هو و�سط علم ومعرفة‪ .‬ما ال�رس‬
‫�إال �أنا‪� ،‬أنتقد نف�سي بق�سوة �أمام نف�سي؛ كما �أمام الآخرين‬ ‫يف هذا التميز عن طبيعة التكوين‪ ،‬وعن اهتمامات‬
‫و�أمام الإعالم‪ ،‬و�أك�شف عن هذا ال�رصاع وك�أن الكتابة‬ ‫ال�ساللة؟‬
‫عندي جمرد توثيق ملا يحدث يل وما �أعي�شه وما �أراه‬ ‫‪ -‬ال �أعتربه �رسا‪ ،‬فالإن�سان ابن بيئته‪ ،‬ويف بيئتي‬
‫وحتى ما يدور يف ر�أ�سي‪� .‬أنا ال �أحتمل �أن �أرتدي قناعا‪،‬‬ ‫الكثري من الكتب‪ ،‬من ال�شعر‪ ،‬ومن الق�ص�ص واحلوارات‪.‬‬
‫وال �أحتمل �أن �أعي�ش حياتني‪ ...‬لأن احلياة‪ ،‬بالن�سبة يل‪،‬‬ ‫�أظن �أين ق�ضيت طفولة رائعة يف كنف �أبي الذي ر ّباين‪،‬‬
‫جمرد رواية �أخرى يكتبها اخلالق على ذوقه‪ ...‬و�أنا‬ ‫�سواء يف حمله ال�صغري لبيع الأحذية‪� ،‬أو يف البيت‪ ،‬فقد‬
‫�أقوم بالدور حتى ينهيها‪ .‬طريقة هادئة مللء فراغاتها‪.‬‬ ‫كان رفاق الثورة يجتمعون عنده ويحكون ق�ص�صا‬
‫‪ v‬لكل كاتب طقو�سه يف التقاط نفائ�سه الروائية‬ ‫رائعة عن ثورة اجلزائر‪ ،‬يف بيتنا كنت الطفلة الوحيدة‬
‫والإبداعية‪ .‬هال حتدثيننا عن طقو�سك يف ولوج‬ ‫يف البيت‪ ،‬ولأن اجلميع يكربين �سنا ب�سنوات كثرية؛‬
‫عوامل ال�رسد والكتابة؟‬ ‫فقد ن�ضجت قبل الوقت‪ ،‬و�شاركت الكبار اهتماماتهم‬
‫‪ -‬ال توجد طقو�س‪ ،‬حربي احلقيقي موجود يف اجلزائر‪،‬‬ ‫بطريقتي‪ ،‬و�أحببت الق�ص من هذه الأجواء‪ ...‬ولعل‬
‫‪174‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫�ش�ساعة من فن الق�صة الذي بد�أت به م�شواري الأدبي‪.‬‬ ‫مت�أملة لأن جمتمعي يعي�ش مغ�شو�شا‪ ،‬بعيدا عن م�ستوى‬
‫‪ v‬يعتق ُد كثري من املهتمني �أ ّن الع�رص ع�رص رواية‪،‬‬ ‫احرتام الإن�سان ب�سنوات �ضوئية‪ .‬كلما زرت اجلزائر‬
‫و أ� ّن الأجنا�س الأخرى بد�أت ترتاجع بعد �أن كانت‬ ‫�أعود مبواد كثرية متلأ ر�أ�سي‪ .‬ع�شت ظروفا �صعبة يف‬
‫خا�صة‬
‫هي التي تت�ص ّدر املنابر وحلقات النقا�ش‪ّ ،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬لكنها مل حتفزين على الكتابة بقدر ما حتفزين‬
‫ال�شعر والق�صة‪ .‬ما ر�أيك؟‬ ‫اجلزائر‪ ،‬فبريوت‪ ،‬بالن�سبة يل مدينة احلياة الدنيا‪،‬‬
‫‪ -‬جائزة نوبل للآداب قلبت هذه النظرية‪ ،‬و�أعادت‬ ‫�أ�ستن�شق فيها حريتي ك�أنثى‪ ....‬وحني �أكتب ت�ستهلكني‬
‫الق�صة والأق�صو�صة �إىل الواجهة من جديد‪ ،‬ومع هذا‬ ‫ال�صحافة لأعي�ش‪ ...‬الق�ضايا الكربى تفر�ضها اجلزائر‬
‫يل حتليلي اخلا�ص ملا يحدث‪ ،‬نحن جمتمعات ال تقر�أ‪،‬‬ ‫علي فر�ضا‪ ،‬وبا�ستفزاز كبري حتى �أكتبها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وم�ؤ�س�سات الن�رش يف �أغلبها تتعامل مع الكتب وكتابها‬ ‫‪ v‬قبل �أن ت�ستوي موهبة الكتابة ال�رسدية لديك‬
‫بقلة احرتام‪ ،‬والقارئ العربي «م�صيبة �سودة» لأنه ال‬ ‫وتقف �شاخمة على رجلني من نحا�س‪ ،‬جربت فنونا‬
‫يقر�أ‪ ،‬بل يحاكم الكاتب‪� ...‬إنه ع�رص الرواية؛ رمبا يف‬ ‫�أخرى؛ مثل الت�شكيل‪ ،‬الغناء‪ ،‬وال�صحافة‪ ...‬حيث‬
‫بلدان ت�صدر �سنويا مئات العناوين وتن�ضب‪ ،‬وحت ّول‬ ‫كنت مبدعة متعددة‪ ،‬فكيف ا�ستطاع اجلن�س الروائي‬
‫روايات كثرية �إىل �أفالم وم�سل�سالت‪� ...‬أما �أن نتحدث‬ ‫�أن يختارك �أم �أنك �أنت من اختاره مع �سبق الإ�رصار‬
‫عن ع�رص للرواية عندنا حيث يعترب بع�ض الكتاب‬ ‫والرت�صد؟‬
‫الأكرث مبيعا �أن طبعة من ‪ 500‬ن�سخة‬ ‫‪ -‬تبدو احلكاية غريبة نوعا ما‪ ،‬فقد ع�شت‬
‫تعترب طبعة حمرتمة؛ فيما تقدم �أرقام‬ ‫كنت �أكتب‬ ‫حياة طليقة يف قريتي ال�صغرية �آري�س يف‬
‫لل�صحافة كلها مزورة؛ فهذا قمة الب�ؤ�س‪.‬‬ ‫لأداوي نف�سي‬ ‫قلب جبال الأورا�س‪ ،‬وهذه القرية فجرت‬
‫�إن كنت تريد احلقيقة بدون �أي رتو�شات‬ ‫كل مواهبي‪ ،‬وحتى حني انتقلت لق�سنطينة‬
‫فالع�رص العربي ع�رص �إرهاب بالدرجة‬
‫و�أجد توازين‬ ‫للدرا�سة اجلامعية والعي�ش مع عائلتي‬
‫الأوىل‪ ،‬ع�رص اخلوف‪ ،‬وع�رص التوح�ش‬ ‫الذي فقدته‪...‬‬ ‫البيولوجية (�أمي و�أبي واخوتي) وجدت‬
‫واالنق�ضا�ض على الإن�سانية مبخالب من‬ ‫ما ي�ساعد ملمار�سة كل مواهبي‪ ...‬امل�شكلة‬
‫حديد‪.‬‬ ‫بد�أت حني ح ّول التيار الإ�سالمي املتطرف و�رصاعه‬
‫ال�شعوب التي تقر�أ وت�صغي للمو�سيقى وجتعل �أنواع‬ ‫مع النظام يف الت�سعينيات من القرن املا�ضي؛ حياتنا‬
‫دمرت جينات «ال ّتوح�شن»‬‫الفنون غذا ًء يوميا لها �شعوب ّ‬ ‫�إىل جحيم‪ ،‬فغادرت �إىل بريوت‪ ،‬وهناك تزوجت وع�شت‬
‫يف داخلها‪ ،‬و�أن�سنت م�ستقبلها‪� ،‬أما نحن فال يجب �أن‬ ‫مع حماتي حياة �أغلب ف�صولها ت�شبه حياة �أي �سيدة‬
‫نحلم ب�أننا يف ع�رص الرواية �أو ع�رص الدراما‪� ،‬أو ع�رص‬ ‫بيت‪ ،‬ال جتد وقتا حتى لتهت ّم بنف�سها‪ ،‬فكانت الكتابة‬
‫الأنرتنت �أو ع�رص العوملة‪� .‬أعتذر عن ت�شا�ؤمي‪ ،‬لكنني‬ ‫لقارئ وهمي ت�شبه البوح ب�أوجاعي وبخيباتي ل�صديق‬
‫�أ�صف ما �أراه‪.‬‬ ‫حميم‪ ...‬كنت �أكتب لأداوي نف�سي و�أجد توازين الذي‬
‫‪ v‬تتبو أ� ق�ضية املر�أة يف كتاباتك ن�صيب الأ�سد‬ ‫فقدته‪ ...‬بعد ا�صطدامي بواقع خمتلف متاما عما ع�شته‬
‫من حيث الأطروحة الداللية والفكرية ومن حيث‬ ‫يف اجلزائر‪ :‬ثقافة �أخرى‪ ،‬طوائف‪ ،‬ديانات‪ ...‬و�أ�شياء‬
‫الت�صور الر�ؤيوي‪ .‬هل تعتقدين �أن الكتابة ميكن �أن‬ ‫�أخرى ي�ضيق املقام لذكرها‪ ...‬بد�أت �أكت�شف العامل‬
‫متنح لق�ضية املر�أة قيمة م�ضافة �إذا ما اعتربنا‬ ‫خارج ف�ضاء احلزب الواحد والدين الواحد والطائفة‬
‫الو�ضع االعتباري للكاتب يف العامل العربي ب�صفة‬ ‫الواحدة والفكر الواحد ال�ضيق‪ ...‬كان بو ّدي �أن �أثرثر‪،‬‬
‫عامة؟‬ ‫لكن يف الغربة قد يكون ثمن الرثثرة باهظا‪ ،‬فوجدتني‬
‫‪ -‬حني تكتب الرواية يف جمتمعنا ف�أنت تخاطب ن�سبة‬ ‫�أذهب للكتابة و�أختار الرواية عن قناعة لأنها �أكرث‬
‫‪175‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫لف �أو دوران‪.‬‬
‫ما يحدث بال�ضبط دون ّ‬ ‫قليلة جدا من القراء‪ ،‬وهذا يعني �أن الأمل يف �إحداث �أي‬
‫‪ v‬تكتبني ال�رسد بلغة رقراقة ت�صل �أحيانا �إىل‬ ‫تغيري فيه يبدو �شبه م�ستحيل‪ ،‬ومع هذا قد نوقظ وعي‬
‫م�ستوى ال�شعر مع �أن الأدبيات النقدية تقول‬ ‫املر�أة �شيئا ف�شيئا حتى تعي �أن م�س�ؤوليتها كبرية لبناء‬
‫بكون هذا النزوع يحيد بطبيعة ال�رسد الروائي عن‬ ‫جمتمع �صحي خال من الأمرا�ض التي نعاين منها‪.‬‬
‫م�ساره‪ .‬كيف حتققني هذا الزواج �شبه الكاثوليكي‬ ‫أكتب عن املظامل التي‬‫وهذه مل تكن فكرتي حني بد� ُأت � ُ‬
‫بني ال�شعر والرواية؟‬ ‫كتبت عن مواجعي ومن الظلم‬ ‫تتعر�ض لها املر�أة‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬هو خيار لي�س �إ ّال‪ ،‬فال�صور اللغوية اجلميلة ت�أ�رسين‪،‬‬ ‫أتعر�ض له ك�أنثى يف جمتمع ذكوري يفرح حني‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫الذي‬
‫علي فر�ضا �أحيانا‪� ،‬أ�سمعها تنبعث‬ ‫كنت �أجه ُلها‪.‬‬
‫ي�ؤذي املر�أة ويحقّرها و ُيذلّها لأ�سباب ُ‬
‫وهي تفر�ض نف�سها ّ‬
‫من قعر ر�أ�سي ف�أدونها حتى ال ت�ضيع‪ .‬قد يبدو الأمر‬ ‫كنت يف الع�رشين حني بد� ُأت هذه الطريق ‪ ،‬الآن‪ ،‬وبعد‬ ‫ُ‬
‫كنوع من اال�ست�سالم الذاتي جلن ّية ال�شعر‪� ،‬أو لقوة �أخرى‬
‫ٍ‬ ‫جتربة جتاوزت الـ ‪� 25‬سنة يف ميدان الكتابة والتعاطي‬
‫جمهولة جتعلني �أكتب‪ ،‬لكنها احلقيقة‪ .‬لقد ف�شلت متاما‬ ‫مع احلياة‪ ،‬اكت�شفت �أن جزءا كبريا من امل�س�ؤولية يقع‬
‫يف �أن �أكتب �أطروحتي بلغة �أكادميية حم�ضة‪ ،‬وهذا‬ ‫بيت‬
‫على عاتق املر�أة نف�سها‪ ،‬فهي تربي �أوالدها كما ُر ْ‬
‫لأن الغالب على لغتي هو �شذرات ال�شعر‪ّ � .‬أما ال�رسد فقد‬ ‫هي‪ ،‬فرت ّبى ابنها ليكون وح�شا‪ ،‬وابنتها لتكون �ضحية‪،‬‬
‫كان هواية وال يزال‪ ،‬حتى يف جمال�سي‬ ‫مع �أن الرتبية يف ال�صغر كاحلفر على‬
‫العادية مع الأ�صدقاء والأهل‪ ،‬ب�إمكاين �أن‬
‫مل �أحب النظريات‬ ‫احلجر‪ ،‬وب�إمكانها �أن تربي �أجياال جميلة‬
‫�أجعل احلديث ين�صب كله حويل‪� ،‬أو �أحتكم‬ ‫التي توجه الكاتب‬ ‫ت�ستمتع باحلياة‪ ،‬ب�شكل طبيعي‪ ،‬دون‬
‫�أنا يف م�سارات احلديث‪ .‬وكما ترى �أنا ال‬ ‫لبناء ن�صه‪ ،‬وقد‬ ‫ت�شويه للذات الربيئة التي خلقنا عليها‬
‫�أعطيك جوابا تقنيا‪� ،‬أنا �أخربك مبا يحدث‬ ‫جميعا‪.‬‬
‫معي‪ ،‬لأين �أجهل متاما من �أين ت�أتيني‬ ‫ر�أيت فيها دوما‬ ‫‪ v‬يت�شكل ال�رسد الروائي لديك من‬
‫هذه القدرة حلياكة ن�سيج واحد بخيطان‬ ‫�أقفا�صا حت ّد من‬ ‫تقاطعات اليومي التخييلي‪ ،‬وتنبثق‬
‫خمتلفة‪.‬‬ ‫�ش�ساعة املخيلة‬ ‫الر�ؤية الفكرية من الذاتي لتنتقل يف‬
‫تفوقت كثريٌ من الن�ساء الروائيات‬
‫ْ‬ ‫‪v‬‬ ‫ح�سن تخل�ص جميل �إىل اجلمعي‪،‬‬
‫على الذكور الروائيني يف حتقيق االنت�شار والتداول‬ ‫وبالتايل فتجربة الذات ما هي �سواء مر�آة ملا‬
‫والقراءة‪ .‬ويرجع بع�ض النقاد الظاهرة �إىل اجلر�أة‬ ‫يعي�شه الآخرون‪ .‬كيف يتحقق لديك هذا االنتقال‬
‫يف ك�شف احلميميات و�رضب الطابوهات وو�صف‬ ‫على م�ستوى ال�صوغ الفني؟‬
‫اجل�سد الأنثوي‪ .‬هل تعتقدين �أن هذه الأ�شياء وحدها‬ ‫‪ -‬مل �أتعلّم �أي تقنية للكتابة‪ ،‬فقط كنت �أقر�أ‪ ،‬وحني‬
‫ت�صنع رواية جيدة؟‬ ‫بد�أت �أكتب وجدتني �أكتب ما يعجبني كقارئة‪ ،‬مل �أحب‬
‫‪� -‬أنا �أعتقد �أن احلياة لن تنجح بت�صورات الذكور‬ ‫النظريات التي توجه الكاتب لبناء ن�صه‪ ،‬وقد ر�أيت فيها‬
‫فقط‪ ،‬وال ب�إدارتهم فقط‪ ،‬وال مبخططاتهم فقط‪ ...‬العامل‬ ‫دوما �أقفا�صا حت ّد من �ش�ساعة املخيلة‪ ،‬لهذا فما �أكتبه‬
‫الغربي مل ينجح حتى خرجت الن�ساء للعمل‪ ،‬ونا�ضلن‬ ‫هو جمموع ال�صور التي تتخ ّزن يف ذاكرتي يوميا‪،‬‬
‫من �أجل حقوقهن‪ ،‬عاد التوازن للحياة عندهم‪ّ � ،‬أما نحن‬ ‫وتعيد املخيلة ترتيبها لتنتج ق�ص�صا م�شابهة‪ ،‬لأنه من‬
‫فما نزال ن� ُّرص �أن نوزع الأدوار ح�سب مفهومنا اخلا�ص‬ ‫امل�ستحيل �أن نعيد بناء الواقع كما هو‪ِ .‬ح َي ُل الكتابة‬
‫للذكورة والأنوثة‪ .‬يف جمتمعنا ن�ؤمن �أن الأ�سد حيوان‬ ‫تبد�أ من حلظة مواجهة البيا�ض مللئه‪ ،‬فتبد�أ عمليات‬
‫متوح�ش ي�أكل الب�رش ويبتلع الأطفال يف لقمة واحدة‪،‬‬ ‫ا�سرتجاع تليها عملية مونتاج وتركيب وحبك ب�أدوات‬
‫مع �أننا ق�ضينا على الأ�سد حتى يف غاباتنا ومل يعد له‬ ‫لغوية يجب �أن تنا�سب اللوحة التي نريد ت�شكيلها‪ .‬هذا‬
‫‪176‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫عندنا يبدو باهتا‪ ،‬مع �أننا منلك طاقات مهمة على جميع‬ ‫�أثر يف حياتنا اليومية‪ .‬لكن يف العامل الغربي الأ�سد قد‬
‫الأ�صعدة‪ .‬من جهة ظلم املغاربي نف�سه كثريا بالتعامل‬ ‫يكون حيوانا م�سليا‪ ،‬ويتحكم فيه رجل ي�صغره حجما‬
‫مع كل ما هو م�رشقي بهالة من التقدي�س‪ ،‬وبذلك منح‬ ‫ثالث مرات‪ .‬هذه املفاهيم هي التي جعلت بع�ض‬
‫لنف�سه مكانة �أقل بكثري من غريه‪ ...‬غري ذلك‪ ،‬زرت �أكرث‬ ‫املثقفني ي�صابون بال�صدمة حني ت�صدر امر�أة ن�صا‬
‫من بلد عربي و�أعرف متاما �أن بريوت هي املدينة‬ ‫جميال‪ ،‬فالبدوي ال�صغري الذي يقبع يف ر�أ�س «املثقف»‬
‫العربية الوحيدة املتميزة ثقافيا‪ ،‬مل�رص �أي�ضا ب�صمتها‬ ‫ويت�أمل �أنثاه العاجزة يرف�ض �أن ينتقل �إىل زمنه‬
‫اخلا�صة‪ ،‬والآن حتاول دبي �أن ترتبع على عر�ش الثقافة‬ ‫احلا�رض‪ ،‬تفوق الن�ساء لي�س حدثا غريبا‪ ،‬لقد فتحت‬
‫العربية‪ ،‬مع �أين �أرى من بعيد �أن بغداد هي املدينة التي‬ ‫املدار�س للإناث‪ ،‬وتخرجن من اجلامعات‪ ،‬وعددهن‬
‫ظلمها اجلميع‪ ،‬لأنها ظلت حتتفي بالثقافة حتى وهي‬ ‫هائل يفوق عدد الذكور �أحيانا‪ ،‬فكيف ن�ستغرب �أن‬
‫حتت ردم احلرب واالنفجارات‪ ،‬ما يزال العراقي يقر أ�‬ ‫جند كاتبات وطبيبات ومهند�سات ومتخ�ص�صات يف‬
‫رغم كل الإ�ساءات التي �سببتها له احلرب‪ .‬هذه املقدمة‬ ‫جماالت كثرية‪...‬‬
‫هي لأقول �أننا يف املغرب العربي ال نقر�أ‪ ،‬نحن منلك‬ ‫�أما عن ال�شق الثاين من �س�ؤالك فهو الظلم بعينه للمر�أة‬
‫طاقات �إبداعية حتارب ب�شتى الو�سائل‪ ،‬والقارئ �شبه‬ ‫و�إبداعاتها‪ .‬فكيف نقبل ما يكتبه الرجال عن تفا�صيل‬
‫منعدم و�إن وجد فن�سبة كبرية منه حتاكم الكاتب‪ّ � .‬أما‬ ‫احلياة كلها مبا يف ذلك جتريد املر�أة من �إن�سانيتها‪،‬‬
‫عن املهرجانات التي حتاول الدول �أن تنظمها ف�أراها‬ ‫وتعريتها‪ ،‬وو�صفها ب�أحقر ال�صفات‪ ،‬وال نقبل ما تكتبه‬
‫م�ضيعة للوقت واملال معا‪ ،‬رمبا يف‬ ‫ِح َي ُل الكتابة‬ ‫املر�أة ب�سبب متاعبها التي تعود �أ�سبابها‬
‫املغرب الو�ضع يختلف‪ ،‬لأين مل �أزره ومل أ� َر‬ ‫كلها �إىل ج�سدها؟ لقد كتب �أغلب كتابنا‬
‫بعيني ما يحدث‪ .‬لكني �أعرف من املكتبات‬ ‫تبد أ� من‬ ‫العرب عن «العاهرات» كبطالت لأعمالهم‪،‬‬
‫العربية �أن النقد يف املغرب منتع�ش‬ ‫حلظة مواجهة‬ ‫و�صفوا املواخري من الداخل ليده�شوننا‬
‫ومتقدم كثريا عن غريه‪ ،‬وحركة الإبداع‬ ‫رمبا‪ ،‬و�صفوا �أجزاء من مغامراتهم‬
‫متطورة والأجواء الثقافية كما �أ�سمع من‬
‫البيا�ض مللئه‬
‫ال�شخ�صية داخل تلك املزابل ومنحوا جوائز‬
‫�أ�صدقائي �أف�ضل بكثري منا يف اجلزائر ومن جرياننا يف‬ ‫مهمة على �إجنازاتهم‪ ،‬الآن حني تكتب املر�أة وتقول‬
‫تون�س؛ خا�صة بعد ما ي�س ّمى «بالثورة‪ »...‬ويف ليبيا‪!...‬‬ ‫ال لهذا الأدب‪ ،‬و�أن لها م�شاعر‪ ،‬ورغبات‪ ،‬و�أن ج�سدها‬
‫‪ُ v‬يقال ب�أن الكاتبات املغاربيات هن ال�سباقات‬ ‫يف�صل لنا‬
‫لي�س �أكرث من غطاء جميل لروحها‪ ،‬ي�أتي من ّ‬
‫يف اجلر�أة على البوح‬ ‫ر�ؤية ظاملة لأدبها‪...‬هذا لي�س عدال يا �صديقي‪ ،‬وعلى‬
‫وفتح علب �سوداء‬ ‫الكاتبات �أن ال ي�صنب بالذعر حني تالحقهن ُت َه ٌم من‬
‫كانت من املحرمات يف‬ ‫هذا النوع‪ ،‬على رجالنا �أن يتعلموا �أن �أج�سادنا هبة‬
‫جمال الكتابة ال�رسدية؛‬ ‫�سماوية ولي�ست عورة وال عيبا وال خطيئة‪ ،‬ومن ي� ّرص‬
‫خا�صة بالن�سبة للمر�أة‬ ‫على و�صفها بهذه احلقارات فليعتب على «اهلل» لأن‬
‫العربية‪ ،‬قبل �أن تقتفي‪،‬‬ ‫خا�صة يف جمتمع‬
‫فيما بعد‪ ،‬الكاتبات‬ ‫املر�أة مل تخلق نف�سها بهذا ال�شكل ّ‬
‫متخلف مثل جمتمعنا‪.‬‬
‫امل�رشقيات �أثرهن يف‬
‫اقتحام امل�سكوت عنه‪.‬‬ ‫‪ v‬ما تعليقك على امل�شهد الروائي املغاربي بالنظر‬
‫ما ر�أيك؟‬ ‫�إىل متوقعه �ضمن امل�شهد الروائي العربي؟‬
‫‪� -‬أوال املغاربيات ل�سن‬ ‫‪ -‬الإعالم املغاربي �ضعيف‪� ،‬سواء يف تون�س �أو يف‬
‫�سباقات‪ ،‬فجر�أة مي‬ ‫اجلزائر �أو يف املغرب‪ ،‬وهذا ما يجعل امل�شهد الثقايف‬
‫‪177‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عليه‪ .‬وهذا ير�سخ �صورة الكبت املتجذرة يف الرجل‬ ‫زيادة وليلى بعلبكي‪ ،‬وغادة ال�سمان و�أخريات ي�شهد‬
‫العربي والتي تتحكم‪ -‬للأ�سف‪ -‬يف كل ت�رصفاته‬ ‫لها‪ ،‬املغرب الكبري كان يرزح حتت نري اال�ستعمار يف‬
‫جتاه املر�أة‪ ،‬وبالتايل مرايا نقدها وقراءة �أعمالها‪.‬‬ ‫الوقت الذي كانت فيه الن�ساء يف بالد ال�شام ويف م�رص‬
‫�أال ترين �أن هذا العامل ي�ؤثر على �أثر النقد وخريطة‬ ‫يعقدن �صالونات �أدبية وي�صدرن جمالت‪ .‬من الغرور �أن‬
‫املواقع بالن�سبة للكثري من الن�ساء املبدعات؟‬ ‫نظن �أننا �سباقات‪ .‬ليلى بعلبكي حوكمت ودفعت ثمن‬
‫‪ -‬نعم هذا ما ذكرته �سابقا‪ ،‬لكن ليكن‪ .‬لدينا �أمل يف‬ ‫جر�أتها خم�سني �سنة من ال�صمت‪ ،‬وهذا ثمن ال ي�ستهان‬
‫�أجيال قادمة تختلف عن هذا اجليل اجلائع‪� .‬شخ�صيا‬ ‫به‪ ،‬ومن الإجحاف �أن نن�ساه‪ ،‬نحن �أمتمنا الطريق‪ ،‬ولأن‬
‫لدي �أمل‪ ،‬لأنه �سلفا هناك ا�ستثناءات‪...‬‬
‫ّ‬ ‫جمتمعنا املغاربي منغلق �أكرث فقد �صدم �أكرث وظن �أن‬
‫‪ v‬بالرغم من كونك تقيمني يف لبنان بعيدا عن‬ ‫ما تكتبه املر�أة املغاربية �شيء خارق وخارج عن باب‬
‫وع�ش الطفولة «اجلزائر»‪ ،‬تظل روحك‬ ‫ّ‬ ‫أ� ّم الر�أ�س‬ ‫احلياء واخلجل‪ .‬حتى م�صطلح امل�سكوت عنه يبدو يل‬
‫اخلفيفة حتلق يف براريها وفيافيها‪ ،‬مدنها وقراها‪،‬‬ ‫ف�ضفا�ضا حني ي�ستعمل بو�صف �أدب املر�أة‪ ،‬فنحن ن�سمع‬
‫وذلك عرب اال�ستناد �إىل الذاكرة وتقنيات الفال�ش‪-‬‬ ‫يوميا يف �شوارعنا «العظيمة» �شتائم وكلمات بذيئة‬
‫باك‪ ،‬والعودة �إىل مرحلة الطفولة وبداية ت�شكل‬ ‫توجه للمر�أة ب�صوت عال واجلميع موافق على ذلك‪،‬‬
‫الوعي بالعامل‪ ...‬ما حدود ت�أثري الف�ضاء الأ�صلي‬ ‫فج�أة حني تكتب كاتبة �إحدى هذه الكلمات يف كتاب‬
‫«اجلزائر» الذي فيه تَ�شكلت خميلتك‬ ‫من ‪ 400‬كلمة «نظيفة» تتهم �أنها اخرتقت‬
‫و�صقلت موهبتك‪ ،‬والف�ضاء‬ ‫الإبداعية ُ‬
‫�أنا �أعتقد‬ ‫املمنوع وك�شفت امل�ستور وجتاوزت‬
‫امل�ستقبل «لبنان» الذي منحك �أفقا �آخر‬ ‫�أن احلياة‬ ‫اخلطوط احلمر واقتحمت امل�سكوت عنه!!!‬
‫للحرية والتفاعل واالنت�شار؛ يف ر�سم‬ ‫لن تنجح‬ ‫متى كان م�سكوتا عنه ونحن نباركه حني‬
‫مالمح العمل الروائي و�أفاق ت�شكله‬ ‫يقال ب�صوت عال يف �شوارعنا؟ �أنا ال‬
‫لديك؟‬ ‫بت�صورات‬ ‫�أفهم هذه االزدواجية يف احلقيقة‪ ...‬نحن‬
‫‪ -‬اجلزائر حمربتي‪ ،‬وال �شيء يعو�ضها‬ ‫الذكور فقط‬ ‫نكتب املوجود‪ .‬و�إىل يومنا هذا مل �أر امر�أة‬
‫ال يف قلبي وال يف خميلتي‪ ،‬لكن كان يلزمني ف�ضاء‬ ‫�أخربتنا ب�شيء ال نعرفه يف العلن‪.‬‬
‫بدون ق�ضبان �أعي�ش فيه و�أت�صالح فيه مع �أنوثتي‪ ،‬لهذا‬ ‫‪ v‬كثري من الروائيات العربيات بنني �شهرتهن �أوال‬
‫غادرت �إىل لبنان‪ .‬بالن�سبة يل كالهما يك ّمل بع�ض‪،‬‬ ‫على م�ستوى املظهر اجل�سدي «املو�ضة وال�صورة»‬
‫فال �أظنني كنت �س�أكون ما �أنا عليه اليوم لو ع�شت يف‬ ‫وثانيا على م�ستوى �رضب الطابوهات‪ .‬هل يف نظرك‬
‫اجلزائر فقط �أو يف لبنان فقط‪.‬‬ ‫يجب اختزال املر�أة يف هذين املظهرين اللذين ال‬
‫‪� v‬أية �آفاق للكتابة الروائية العربية يف ع�رص‬ ‫يحققان جوهر العملية الفنية؟‬
‫الرقمية والت�ساهل يف الن�رش؟ وما حدود مقاومة‬ ‫‪ -‬ال �أدري مباذا �س�أجيبك‪ ،‬امل�شكلة لي�ست يف املر�أة‪،‬‬
‫الفن الراقي لقيم الزيف والتف�سخ واالنحالل يف‬ ‫بل يف الرجل الذي كان �سباقا يف ميدان الأدب والن�رش‬
‫ع�رص التهافت املادي واندحار الهويات ال�صغرية؟‬ ‫والإعالم والنقد وهو من يقيم‪� ،‬أما �أن يختار اجلميلة‬
‫‪ -‬ما ي�صيب الكاتب الآن �سي�صيب الكاتبة‪ ،‬عامل‬ ‫الغبية الأنيقة فهذه لي�ست م�شكلة املر�أة بل م�شكلة‬
‫الأنرتنت والن�رش الإلكرتوين �سمح للجميع لينت�رش‪،‬‬ ‫الرجل الذي يفرت�ض �أنه مثقف؛ ويجب �أن يتعامل مع‬
‫و�أظن �أننا ن�شهد مولد فئة كبرية من القراء مع الزمن‬ ‫املر�أة مبا يحويه ر�أ�سها‪ ،‬و ُيق ّيمها من خالل �إبداعها‪.‬‬
‫�ستن�ضج‪� ،‬أتوقع ذلك‪ ،‬و�ستتغربل؛ لي�صبح لدينا قراء‬ ‫‪ v‬يقال ب�أن الكثري من الرجال ال ينظرون �إىل ما‬
‫ذوو توجهات متنوعة‪ .‬لقد الحظنا �أن هناك �إقباال‬ ‫تفعل املر�أة بل �إىل �أ�سفل الكر�سي الذي جتل�س‬
‫‪178‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬

‫والإن�سان يبحث عن �أجوبة ع ّما يتعلق بج�سده‪ ،‬لكننا‬ ‫على روايات معينة مع �أنها فا�شلة‪ ،‬ت�شبه جمموعات‬
‫ن�ستغرب‪ ،‬ويا للأ�سف‪ ،‬حني يطرح الأدب هذه الأ�سئلة‪،‬‬ ‫«�أرلوكان» ال�شهرية‪ ،‬وهذه ظاهرة �صحية فعلى الأقل‬
‫وحني يبحث يف ثنايا هذا اجل�سد عن الأ�رسار الغريزية‬ ‫هناك من يقر�أ‪ ...‬فقط يخيفني الع�رص الإلكرتوين‬
‫والروحية والفكرية وغريها ي�صطدم بالعراقيل‪،‬‬ ‫لأنه ال يحمي حقوق امل�ؤلف‪ ،‬ويدمر الكاتب تدمريا‬
‫وباالتهامات‪ ...‬مع �أن الأدب هو اللبنة الأ�سا�سية لكل‬ ‫كبريا‪ ،‬وهذا يعود‪� ،‬أ�سا�سا‪� ،‬إىل �أن الكتاب والنا�رشين‬
‫مبني على الكلمة‪ ،‬وبالكلمة بد أ�‬
‫العلوم‪ ،‬ذلك �أن الأدب ّ‬ ‫�أنف�سهم غري جا ّدين حلماية �أنف�سهم من القر�صنة‪،‬‬
‫كل �شيء‪ .‬بالن�سبة يل‪ ،‬من الأف�ضل �أن يكت�شف املرء‬ ‫وما يخيف �أكرث هو �أننا نعمل جاهدين جميعا على‬
‫الكثري عن احلياة من الأدب‪ ،‬على �أن يجرفه ف�ضوله‬ ‫مت�سوال فيما كنا نتوقع �أن �إقبال القارئ‬
‫ّ‬ ‫جعل الكاتب‬
‫ملعرفتها بتجارب فا�شلة �رسدت يف الكتب م�سبقا‪� ،‬أو‬ ‫�سيح�سن من‬
‫ّ‬ ‫على الأنرتنت �أكرث من الكتاب الورقي‬
‫عن طريق و�سائل كثرية تقدم بال�صورة وال�صوت �أجزاء‬ ‫و�ضعه‪.‬‬
‫م�شوهة من احلياة‪.‬‬‫‪ v‬من حلظة الختال�س احلب‪ ،‬مرورا بـ«مزاج‬
‫مراهقة»‪ ،‬و«تاء اخلجل» وو�صوال �إىل «�أقاليم ‪ v‬ت�ستندين يف كتاباتك ال�رسدية �إىل املادة‬
‫اخلوف» ما الذي حتقق وما الذي مل يتحقق بعد املرجعية؛ و�إىل ال�سري‪-‬ذاتي؛ و�إىل النّطع ال�صعبة‬
‫يف الذاكرة‪ .‬متى ينتهي الذاتي يف‬ ‫من امل�رشوع ال�رسدي الكبري لف�ضيلة‬
‫كتاباتك ليبد�أ املتخيل �أو متى ينتهي‬ ‫كنت‬ ‫أظنني‬‫�‬ ‫ال‬ ‫الفاروق؟‬
‫املتخيل ليبد أ� الذاتي؟‬ ‫‪ -‬هل ت�صدقني �إن قلت لك �إين �أ�شعر �س�أكون ما �أنا‬
‫‪� -‬إن مل نكتب عن جتاربنا‪ ،‬فبماذا �سنفيد‬ ‫عليه اليوم لو‬ ‫�أين مل �أقل �شيئا بعد‪ ،‬الق�ضايا عالقة يف‬
‫القارئ؟ �إن مل نر�سم �أحالمنا وتوقعاتنا‬ ‫حلقي والوقت �ضيق لعر�ضها جميعها‬
‫وحتليالتنا ملا نعي�شه فما فائدة ما نكتبه؟‬ ‫ع�شت يف اجلزائر‬ ‫يف روايات‪ ،‬كل ما �أمتناه هو �أن يتوفر‬
‫�إن مل يكن �أدبنا ف ّعاال يف تغيري ذوات‬ ‫فقط �أو يف‬ ‫لدي مكان للكتابة‪ ،‬لأن هذا ما �أفتقده‬
‫الآخرين‪ ،‬ومنحهم �آماال‪ ،‬فما جدوى ما‬ ‫يعج‬
‫يف الو�سط الذي �أعي�ش فيه‪ ،‬ر�أ�سي ّ‬
‫نقوم به ككتاب؟ �إن مل نخاطب القارئ‬
‫لبنان فقط‬
‫ولدي خمطوطات مل �أمت ْمها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بامل�شاريع‪،‬‬
‫ك�صديق حميم فما جدوى ما نكتبه؟ �إن الإقناع يف‬ ‫لدي‪ ،‬على الأقل‪،‬‬‫�أكتب و�أفقد الرغبة يف �إمتام ال ّن�ص‪ّ ،‬‬
‫الأدب ي�أتي من اجلانب الذاتي للكاتب‪ ،‬والإمتاع‬ ‫خم�سة ن�صو�ص غري مكتملة وهذا ي�ؤملني جدا‪ .‬لكني‬
‫ي�أتي من املخيلة‪ ،‬وبني‬ ‫�س�أعمل جاهدة لأفرغ ر�أ�سي من احلكايات التي ت�سكنه‪،‬‬
‫الإمتاع والإقناع هناك‬ ‫ع�سى �أن �أرتاح لأنها حتدث �ضجيجا كبريا فيه‪.‬‬
‫روابط مهمة هي �أدوات‬
‫الكاتب اخلا�صة حلبك‬ ‫‪ v‬ي�شكل اجل�سد الإن�ساين مبا ميتلكه من مقومات‬
‫ق�صته وبنائها وبناء‬
‫الرغبة واملقاومة وال�صدود‪� ...‬أهم ان�شغاالتك‬
‫ال�رسدية‪ ،‬فهل هذا ي�شكل ت�ساوقا مع اهتماماتِ‬
‫تف�صيالتها ‪ ،‬وهي‬
‫اجتاهات �أخرى باجل�سد الآدمي مثل الفنون‬‫ٍ‬
‫تختلف من كاتب لآخر‪،‬‬ ‫الت�شكيلية‪� ...‬أم هو امتثال ل�س�ؤال هوياتي ّ‬
‫يق�ض‬
‫بالن�سبة يل؛ طفولتي لها‬
‫م�ضجع الذات منذ زمن �رسمدي؟‬
‫ت�أثري كبري على كل م�سار‬
‫حياتي‪ ،‬وحت�رض‪ ،‬ب�شكل‬ ‫‪ -‬اجل�سد الإن�ساين �أعجوبة اخللق كلها‪ ،‬كائن يختلف‬
‫قوي‪ ،‬حني �أكتب‪.‬‬ ‫عن كل الكائنات التي خلقها اهلل‪ ،‬تركيبة غريبة ال‬
‫ميكن اخت�صارها يف تعريف �صغري‪ ،‬ومنذ بدء اخلليقة‬
‫‪179‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫م�سرح‬

‫فيديريكو غار�سيا لوركا‬

‫‪180‬‬
‫لوحتــان‬
‫م ـ ــن‬
‫م�سـرحيـة‬
‫اجلمهـــــور‬
‫لفيديريكو غار�سيا لوركا‬
‫\‬
‫ترجمها عن اال�سبانية عبدال�سالم م�صباح‬

‫حني و�صل غار�سيا لوركا عام‪� 1929‬إىل نيويورك تارك ًا خلفه جتارب على خ�شبة امل�سارح‬
‫الإ�سبانية ف�شل عمله امل�رسحي «رقية الفرا�شة» عام‪ ،1920‬ولكنه جنح يف الدراما التاريخية‬
‫«مريانة بينيدا» التي عر�ضت لأول مرة عام‪1927‬على خ�شبة م�رسح «غويا» برب�شلونة‪ ،‬وقد‬
‫�صمم �سالفدرو دايل ديكورها‪...‬مل يكن قد �أ�صبح بع ُد امل�ؤَلِّف امل�رسحي املتكر�س للجمهور‬
‫العري�ض الذي �سوف يكونه عام ‪�1933‬إثر عر�ض م�رسحية «عر�س الدم» لأول مرة‪ ،‬و�إن كان‬
‫ك�شاعر يح�س بثقل امل�س�ؤولية بعد جناح «الديوان الغجري» الذي مت طبعه عام‪...1928‬هذا‬
‫النجاح الذي يحاول ت�صنيفه لـ«�شاعر غجري» مرتبط ب�رضورة �سيكولوجية للتغيري‪ ،‬وبتجارب‬
‫يف اجلمالية اجلديدة ذات الت�أثريية ال�رسيالية (النرث ال�شعري‪ ،‬القدي�سة لوثيا والقدي�س الزور‪،‬‬
‫ال�سباحة الغارقة‪ ،‬انتحار يف الإ�سكندرية‪ ،‬مذبحة الأبرياء وذبح القدي�س املعمدان‪� ،‬إىل جانب‬
‫عمله امل�رسحي ال�صغري «نزهة بو�ستري كايطون» الذي كتبه عام‪ )1925‬حدا به �إىل التعبري‬
‫بلغة جديدة التي ‪ -‬يف ال�شعر‪ -‬متخ�ضت عن جمموعة �إبداعات املختارة يف ق�سمها الكبري‬
‫من ديوان «�شاعر يف نيويورك»‪ ،‬ويف امل�رسح عن م�رسحية «اجلمهور»‪ ،‬وهو عمل انتهى من‬
‫كتابة م�سودته الأوىل يف ‪.1930/08/22‬‬

‫‪181‬‬ ‫\ �شاعر ومرتجم من املغرب‪.‬‬


‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫اللوحة الأويل‬ ‫هذه اللغة اجلديدة كانت حتمل عدوى من‬
‫(غرفة املخرج‪ .‬املخرج جال�س مرتدي ًا ال�سرتة‪.‬‬ ‫اجلمالية ال�رسيالية التي كانت تتجذر بقوة‬
‫ديكور �أزرق ‪ .‬يد كبرية مر�سومة على اجلدار‪ .‬النوافذ‬ ‫يف الن�ص الفني الإ�سباين العائد �إىل نهايات‬
‫عبارة عن �شا�شة للت�صوير �أل�شعاعي)‬ ‫الع�رشينيات‪ ،‬ومع ذلك ف�إن تلخي�ص معنى‬
‫اخلـــــادم ‪� :‬سيدي‬ ‫م�رسحية «اجلمهور» يف هذا املنظور الوحيد‬
‫املخــــرج ‪ :‬ماذا ؟‬ ‫�سي�ضفي عليها تب�سيطا ال حتتويه‪ ،‬ف�إذا �أمكن‬
‫اخلـــــادم ‪ :‬ها قد و�صل اجلمهور‬ ‫تعريف هذا العمل من خالل �سمة‪ ،‬ف�سيكون‬
‫املخــــرج ‪ :‬فليدخل‬ ‫ذلك من جراء العنا�رص التي ت�ؤلفه‪.‬يف هذا‬
‫(تدخل �أربعة �أح�صنة بي�ضاء)‬ ‫العمل املركب واملتلقي للت�أثريات الطليعية‬
‫املخــــرج ‪ :‬م��اذا تريدون؟(تنفخ الأح�صنة يف‬ ‫والكال�سيكية يتبني مدى �شموليته‪ ،‬ومدى‬
‫كنت �إن�سانا قادرا على التنهد‪.‬‬
‫�أبواقها) هذا يكون لو َ‬ ‫ا�ستيعابه �أكرث من �أي عمل �آخر من �أعماله‬
‫م�رسحي �سيكون دائم ًا يف الهواء الطلق‪ .‬تكفيني‬ ‫امل�رسحية‬
‫حقنة �صغرية‪ ،‬حقنة‬ ‫يف م�رسحية «اجلمهور» ترى �أ�صداء‬
‫واح��دة‪ .‬اخرجوا من هنا‪ .‬اخرجي من بيتي �أيتها‬ ‫�رسيالية‪ ،‬خا�صة �رسيالية جان كوكتو‪ ،‬لكن‬
‫الأح�صنة‪ ،‬لقد هيئ الفرا�ش للنوم‬ ‫كذلك �رسيالية لويجي بريانديلو وميغيل‬
‫مع الأح�صنة (باكيا) يا�أح�صنتي ال�صغري‪.‬‬ ‫دي �أونامونو ووليام �شيك�سبري وغوتة‬
‫الأح�صنــة ‪( :‬تبكي) من �أجل ثالثمائة ب�سيطة‪ ،‬من‬
‫وكالديرون دي ال باركا‪...‬يف �صفحاتها كان‬
‫�أجل مائتي ب�سيطة‪ ،‬من �أجل �صحن ح�ساء‪ ،‬من �أجل‬
‫العامل احلميم امل�ؤلف ميتزج بت�أمالته حول‬
‫قارورة عطر فارغة‪ ،‬من �أجل لعابك‪ ،‬من �أجل قالمة‬
‫امل�رسح‪ ،‬كما كان الفن واحلياة مندجمني‬
‫�أظفارك‬
‫يف هذه املرحلة من �إبداعه الأدبي‪...‬هذا‬
‫املخــــرج ‪ :‬اخرجوا! اخرجوا! اخرجوا! (يدق اجلر�س)‬
‫العمل ميكن اعتباره �رضوريا �ضمن م�سريته‬
‫الأح�صنــة ‪ :‬من �أجل ال �شيء! من قبل كانت قدماك‬
‫تفوحان‪ ،‬وكانت لنا �سنوات ثالث ‪ .‬كنا ننتظر يف‬
‫ككاتب‪.‬‬
‫املرحا�ض‪ ...‬ننتظر خلف الأبواب ثم بللنا �رسيرك‬ ‫هذا العمل‪� ،‬إذن‪ ،‬هو عبارة عن عملية الت�أكيد‬
‫بالدموع‪.‬‬ ‫الذاتي والفني الذي ال ميكن �أن نتغا�ضى‬
‫(يدخل اخلادم)‬ ‫عنه عند حتليل امل�رسحية‪ ،‬وكذلك مل يكن‬
‫املخــــرج ‪ :‬ناولني ال�سوط‬ ‫يف ا�ستطاعة امل�ؤَلِف جتنبه‪� ،‬إنه االنفجار‬
‫الأح�صنــة ‪ :‬وكانت �أحذيتك خماطة بالعرق‪ ،‬لكن كنا‬ ‫اللوركاوي الأكرث �أ�صالة‪ ،‬والأكرث نقاء الذي‬
‫نفهم �أن العالقة كانت نف�سها للقمر مع التفاحات‬ ‫ر�أى النور بني عامي ‪ 1930/1929‬مدفوعا‬
‫العفنة فوق الع�شب‬ ‫بالنزعات ال�رسيالية اجلديدة والنيويوكية‪،‬‬
‫املخــــرج ‪( :‬للخادم) افتح الأبواب!‪.‬‬ ‫وكان كذلك عميق التجذر مبا هو �أكرث‬
‫الأح�صنــة ‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪�.‬إن هذا مرعب!‪ ،‬إ�ن��ك مغطى‬ ‫تعريفية لدا م�ؤلفها‪ ،‬ولدا ال ُك َّتاب امل�رسحيني‬
‫بالوبر‪ ،‬وت�أكل جري احليطان التي لي�ست ملكك‪.‬‬ ‫الكبار والكال�سيكيني منهم واملعا�رصين‪.‬‬
‫‪182‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫يدخل ثالثة رجال الب�سني‪.‬‬ ‫اخلـــادم ‪ :‬لن �أفتح الباب‪ ،‬ال �أري��د �أن �أخ��رج من‬
‫بدالت «الفراك» مت�شابهني جدا‪ ،‬بلحى غامقة )‬ ‫امل�رسح‪.‬‬
‫الرجــل‪ : 1‬هل ح�رضتك مدير م�رسح الهواء الطلق؟‬ ‫املخــــرج ‪( :‬ي�رضبه) افتح!‬
‫املخــرج ‪ :‬يف خدمة ح�رضتك‪.‬‬ ‫(تخرج الأح�صنة �أبواقها الطويلة املذهبةـ وترق�ص‬
‫الرجـــل‪ :1‬جئنا لنهنئك على م�رسحيتك الأخرية‪.‬‬ ‫ببطء على �صوت غنائها)‬
‫املخــرج ‪� :‬شكراً‪.‬‬ ‫احل�صــان‪ :1‬فظيع‬
‫الرجــل‪ : 3‬كانت �أ�صيلة‪.‬‬ ‫الأح�صنـة‪ 2‬و‪ 3‬و‪ :4‬ظفيع‬
‫الرجــــل‪ : 1‬ياله من عنوان «روميو وجولييت»‪.‬‬ ‫احل�صــان‪ :1‬مرعب‬
‫يتحابان‬
‫َّ‬ ‫املخــــرج ‪ :‬رجل وامر�أة‬ ‫الأح�صنـة‪ 2‬و‪ 3‬و‪ :4‬مربع‬
‫الرجــــل‪ : 1‬ميكن �أن يكون روميو طائراً‪ ،‬وجولييت‬ ‫(يفتح اخلادم الباب)‬
‫ميكنها �أن تكون حجراً‪...‬ميكن �أن يكون‬ ‫املخــــرج ‪ :‬م�رسح يف الهواء الطلق! اخرجوا‪ ،‬هيا!‬
‫حب َة ملح وجولييت خريطة‪...‬‬ ‫روميو َّ‬ ‫م�رسح يف الهواء الطلق‪ .‬اخرجوا من هنا‪.‬‬
‫املخــــرج ‪ :‬لكن �أبدا لن يكونا غري روميو وجولييت‬ ‫(تخرج الأح�صنة) (للخادم) ا�ستمر‪...‬‬
‫الرجــــل‪ : 1‬ومتحابني‪� .‬أتعتقد �أنهما كانا متحابني؟‬ ‫(يجل�س املخرج خلف النافذة)‬
‫ال‪...‬ل�ست يف �أعماقهما‬
‫ُ‬ ‫املخــــرج ‪:‬‬ ‫اخلـــادم ‪�:‬سيدي‬
‫أعلنت ذلك‪..‬‬
‫أنت نف�سك � َ‬ ‫الرجــــل‪ : 1‬كفى!‪ .‬كفى! ‪َ � .‬‬ ‫املخــرج ‪ :‬ماذا؟‬
‫الرجــــل‪( : 2‬للرجل الأول)�رس بحذر‪ ،‬اخلط أ� خط�أك‪..‬‬ ‫اخلـــادم ‪:‬اجلمهور‬
‫أتيت �إىل باب امل�سارح؟ يف‬ ‫ملاذا � َ‬ ‫املخـرج ‪ :‬فليدخل‬
‫�إمكانك �أن تنادي غابة‪...‬فمن ال�سهل �أن تفتح �صخب‬ ‫(املخرج يغري �شعره امل�ستعار الأ�شقر ب�آخر �أ�سود‪.‬‬

‫‪183‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مهجورة‪ .‬ويف �أمريكا كان ذات يوم �شاب �شنقه‬ ‫ن�سغها لأذنيك‪...‬لكن‬ ‫ْ‬
‫قناع من خ�صيتيه‪..‬‬ ‫امل�رسح‪...‬‬
‫الرجــــل‪ : 1‬رائع!‬ ‫الرجــــل‪� : 1‬إنه يف امل�سارح حيث يجب �أن تنادي‪،‬‬
‫الرجــــل‪ : 2‬ملاذا مل تقل هذا يف امل�رسح؟‬ ‫�إنه للم�سارح من �أجل‪...‬‬
‫الرجــــل‪� : 3‬أهذه بداية ن�ص؟‪.‬‬ ‫الرجــــل‪ : 3‬لكي تعرف حقيقة املقابر‬
‫املخــرج ‪ :‬على كل حال نهاية‬ ‫الرجـــــل‪ :1‬مقابر مب��ن��ارات غ��ازي��ة و�إع�لان��ات‪،‬‬
‫الرجــل‪ : 3‬نهاية �سببها اخلوف‪..‬‬ ‫و�صفوف طويلة من الكرا�سي‬
‫املخـرج ‪� :‬إنه وا�ضح‪� ،‬أيها ال�سيد‪.‬ال يعتقد ح�رضتك‬ ‫املخــــرج ‪� :‬أيها ال�سادة‪...‬‬
‫�أنني قادر على �إخراج القناع �إىل اخل�شبة‬ ‫الرجــــل‪ : 1‬نعم‪ ،‬نعم‪...‬يامدير م�رسح الهواء الطلق‪،‬‬
‫الرجــل‪َ : 1‬‬
‫مل ال؟‬ ‫يام�ؤلف روميو وجولييت‪..‬‬
‫املخــرج ‪ :‬والأخالق؟ ومعدة املتفرجني؟‬ ‫الرجــــل‪ : 2‬ياح�رضة املدير‪ :‬ترى كيف كان روميو‬
‫ال��رج��ـ��ـ��ل‪ : 1‬ه��ن��اك �أن��ا���س ي��ت��ق��ي���أون ح�ين يقلب‬ ‫يبول؟ �ألي�س جميال ر�ؤية روميو وهو يبول‪.‬‬
‫الإخطبوط‪ ،‬و�آخرون ي�شحبون حني ي�سمعون‬ ‫كم مرة تظاهر برمي نف�سه من الربج ليكون �أ�سري‬
‫النطق‪ ،‬بنية مق�صودة‪ ،‬كلمة ال�رسطان‪ ،‬لكن ح�رضتك‬ ‫كوميديا عذابه؟ ماذا كان يجري‬
‫يعرف �أن �ضد هذا يوجد ال�صفيح واجلب�س وامليكا‪،‬‬ ‫�سيدي املدير حني مل يحدث �شيء؟ والقرب؟ ملاذا مل‬
‫ويف احلالة الأخرية يوجد الكارطون الذي هو يف‬ ‫ينزل ح�رضتك ُ�سلم القرب يف النهاية؟ كان يف �إمكان‬
‫متناول جميع احلظوظ كو�سيلة تعبريية‪(...‬يقف)‬ ‫ح�رضتك �أن ترى مالكا يحمل ع�ضو روميو طاملا‬
‫لكن ح�رضتك ال يريد �إال خداعنا‪ ،‬خداعنا لكي ي�ستمر‬ ‫قلت لك‬‫ترك الآخر ع�ضوه الذي كان يرافقه‪...‬و�إذا ُ‬
‫كل �شيء كما كان‪� .‬أن يكون من امل�ستحيل م�ساعدة‬ ‫�أن ال�شخ�صية الرئي�سية يف امل�رسحية كانت الزهرة‬
‫املوتى‪ .‬لكنها‬ ‫امل�سمومة‪ .‬ما ر�أي ح�رضتك؟ �أجب‪...‬‬
‫غلطتك يف كون الذباب قد �سقط على �أربعة �آالف من‬ ‫املخــــرج ‪� :‬أيها ال�سادة‪ ،‬لي�ست تلك هي امل�شكلة‪.‬‬
‫علي‬
‫ك�ؤو�س ع�صري الربتقال كنت قد هي�أتها‪ .‬ومرة َّ‬ ‫الرجـــــل‪( :1‬مقاطعا) ال يوجد م�شكل �آخ��ر‪ ،‬لكن‬
‫�أن �أبد أ� بقطع اجلذور‪...‬‬ ‫اجلميع �سيكون من واجبنا �أن ُنقرب امل�رسح‬
‫املخـرج ‪( :‬ناه�ضا) �أنا ال �أجادلك �أيها ال�سيد‪ ،‬لكن‬ ‫علي �أن �أطلق على نف�سي ر�صا�صة‬ ‫و�سيكون َّ‬
‫أح�رضت عم ًال جديدا؟‬
‫َ‬ ‫ماذا تريد مني؟ �أ�‬ ‫الرجــــل‪ : 2‬غونثالو !‬
‫الرجــل‪� : 1‬أي�ضن ح�رضتك �أن هناك عم ٌل �آخر جديد‬ ‫الرجــــل‪ : 1‬كيف؟‬
‫مع نحن بلحانا‪...‬وح�رضتك؟‬ ‫(�صمت)‬
‫املخــرج ‪ :‬و�أنا؟‬ ‫املخــرج ‪( :‬متفاعال) لكن ال �أ�ستطيع‪� ،‬سوف ينهار‬
‫الرجــل‪ : 1‬نعم‪...‬ح�رضتك‬ ‫كل �شيء‪� ،‬سيبقى �أطفايل عمياناً‪ ،‬وبعد ذلك‪:‬ماذا‬
‫الرجــل‪ : 2‬غونثالو !‬ ‫�س�أفعل مع اجلمهور؟ ماذا �س�أفعل مع اجلمهور �إذا‬
‫تعرفت على كل‬‫ُ‬ ‫الرجــل‪( : 1‬ناظرا �إىل املخرج) لقد‬ ‫نزعت حافة اجل�رس؟‬
‫ُ‬
‫�شيء و�أ�ضنني �أرى ذلك ال�صباح حني �أ�رسنا �أرنباً‪،‬‬ ‫�سي�أتي القناع ليلتهمني‪ .‬ر�أي��ت ذات م��رة رجال‬
‫كان �أعجوبة يف ال�رسعة‪ ،‬يف حمفظة �صغرية للكتب‪.‬‬ ‫التهم ُه القناع‪� .‬شباب املدينة الأكرث قوة برماحهم‬ ‫َ‬
‫و�ضعت وردتني على �أذنيك يف �أول يوم‬ ‫َ‬ ‫ومرة �أخرى‬ ‫الدامية ُيدخلون يف م�ؤخرته كرات كبرية من جرائد‬
‫‪184‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫احرقها (الرجل الأول ي�شعل ع��ود ثقاب ويحرق‬ ‫الكت�شافك ت�رسيحة ذات مفرق يف الو�سط‪..‬و�أنت‪ ،‬هل‬
‫الأوراق املالية) مل �أر �أبدا كيف تختفي الر�سوم يف‬ ‫علي؟‬
‫تعرفت َّ‬
‫َ‬
‫اللهب‪� .‬ألديك مزيدا من املال؟ ما �أفقرك ياغونثالو!‬ ‫املخــــرج ‪ :‬لي�س هذا هو الن�ص‪ ،‬باهلل عليك (�صارخا)‬
‫و�أحمر �شفاهي‪� ،‬ألي�س لديك �أحمر �شفاه؟ �إنه ملل‪.‬‬ ‫ِ�إلي َنا ! ِ�إلي َنا ! (يجري نحو الباب)‬
‫الرجــــل ‪( :2‬يف خجل) لدي �أحمر �شفاه (يخرجه من‬ ‫أحببت �أم‬
‫علي �أن �آخذك �إىل اخل�شبة � َ‬ ‫الرجــــل‪ : 1‬لكن َّ‬
‫حتت حليته ويقدمه له)‬ ‫كرهت‪...‬لقد عذبتني كثرياً‪...‬ب�رسعة !‬ ‫َ‬
‫املخـــرج ‪�:‬شكراً‪.‬لكن‪.‬لكن‪� ،‬أن��ت �أي�ضا هنا؟ �إىل‬ ‫احلاجز! احلاجز!‬
‫زلت تتحمله‬ ‫احلاجز! �أنت �أي�ضا �إىل احلاجز‪ .‬وما َ‬ ‫(ال��رج��ل الثالث يخرج احلاجز وي�ضعه و�سط‬
‫غونثالو؟‬ ‫امل�رسح)‬
‫(امل��خ��رج يدفع الرجل الثاين بعنف‪ ،‬فتظهر من‬ ‫املخــــرج ‪( :‬باكيا) يجب �أن يراين اجلمهور‪� .‬سينهار‬
‫الطرف الآخر للحاجر امر�أ ٌة ترتدي �رسوال منامة‬ ‫عر�ضت �أح�سن م�أ�ساة لهذه الفرتة‪ .‬لكن‬
‫ُ‬ ‫م�رسحي‪ .‬لقد‬
‫�أ�سود‪ ،‬وعلى ر�أ�سها �إكليل من �شقائق النعمان‪ .‬حتمل‬ ‫الآن‪!...‬‬
‫يف يدها مرقب ًا للم�رسح مغطى ب�شارب �أ�شقر‪ ،‬ت�ضعه‬ ‫( ترن �أبواق الأح�صنة‪ .‬الرجل الأول يتجه �إىل العمق‬
‫فوق فمها يف بع�ض حلظات الدراما)‬ ‫ويفتح الباب)‬
‫الرجــــل ‪ ( :2‬بجفاف) �أعطني �أحمر ال�شفاه‪.‬‬ ‫الرجــــل‪ :1‬ادخلوا معنا‪.‬لكم دور يف امل�أ�ساة‪.‬ادخلوا‬
‫ها‪...‬يامكْ�سِ يمِ يلْيانا‪ ،‬يا �إمراطورة‬ ‫َ‬ ‫املخــــرج ‪ :‬ها‪ ،‬ها‪،‬‬ ‫جميعاَ(للمخرج) و�أنت ُم ْر من خلف احلاجز‬
‫ِريا‪ ،‬ايتها املر�أة ال�رشيرة!‬
‫با ْفي ّ‬ ‫(الرجالن الثاين والثالث يدفعان املخرج‪ .‬فيمر عرب‬
‫الرجــــل‪( : 2‬وا�ضعا ال�شارب فوق �شفتيه) �أو�صيك‬ ‫�شاب يرتدي حلة‬‫احلاجز‪ ،‬ثم يظهر من زاوية �أخرى ٌ‬
‫بقليل من ال�صمت‪.‬‬ ‫بي�ضاء مع تلبيب �أبي�ض حول العنق‪.‬تقوم بالدور‬
‫املخــــرج ‪� :‬أيتها املر�أة ال�رشيرة! ‪� .‬إِلِي َنا! �إِلِي َنا!‬ ‫ممثلةحتمل قيثارا �صغرياً �أ�سود)‬
‫علي ِ إ�لِي َنا‪.‬‬
‫الرجــــل‪�( : 1‬صارخا) ال تنادي َّ‬
‫مل ال؟ لقد �أحبتني كثريا حني كان‬ ‫املخــــرج ‪ :‬و َ‬ ‫الرجــــل ‪� : 1‬أنريكي!�إنريكي! (يغطي وجهه بيديه)‬
‫م�رسحي يف الهواء الطلق‪� ..‬إِلِي َنا!‬ ‫الرجــــل ‪ : 2‬ال جتعلني �أمر عرب احلاجز‪ .‬غونثالو ال‬
‫(تخرج �إِلِينَا من الي�سار الب�سة على الطريقة‬ ‫تزعجني!‬
‫الإغريقية‪ .‬حاجباها زرقاوان‪� ،‬شعرها ابي�ض‬ ‫املخــــرج ‪( :‬باردا وينقر الأوتار) غونثالو‪� ،‬س�أب�صق‬
‫ورجالها من ج�ص‪ ،‬لبا�سها مفتوح ًكليا من الأمام‪،‬‬ ‫عليك كثريا‪� .‬أري��د �أن �أب�صق عليك‪ ،‬و�أن �أم�� ِّزق لك‬
‫فتظهر ع�ضالتها املغطاة ب�شبكة وردية‬ ‫«الفراك» مبق�ص �صغري‪ .‬اعطني حريراً و�إبرة‪� ،‬أريد‬
‫م�ضغوطة‪ .‬الرجل الثاين ي�ضع ال�شارب على �شفتيه)‬ ‫�أن �أطرز‪ .‬الو�شم ال‬
‫�إِلِينـــــــــا ‪:‬مرة �أخرى كذلك‪.‬‬ ‫يعجبني‪ .‬لكن �أريد �أن �أطرز لك باحلرير‪...‬‬
‫املخــــرج ‪ :‬مرة �أخرى‪.‬‬ ‫الرجــــل ‪ :3‬تف�ضلوا باجللو�س حيث تريدون‬
‫الرجـــل ‪� : 3‬إِلِينا‪ ،‬ملاذا خرجتِ ؟ ملاذا خرجتِ �إن‬ ‫الرجــــل ‪( :1‬باكيا) �أنريكي!�إنريكي!‬
‫كنتِ لن حتبيني؟‬ ‫املخــــرج ‪:‬‬
‫إِ�لِينــــــــا ‪:‬من قال لك ذلك؟ لكن‪ ،‬ملاذا حتبني كثريا؟‬ ‫�س�أطرزك على اللحم‪ ،‬ويعجبني �أن �أراك نائما على‬
‫وخرجت مع ن�ساء‬ ‫َ‬ ‫�أُ َق ِّبلُ رجليك �إذا �أنت عاقبتني‬ ‫ال�سطح القرميدي‪ .‬كم عندك من نقود يف اجليب؟‬
‫‪185‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫اللوحة الثانية‬ ‫ُأ�خريات‪.‬لكنك تعذبني كثريا‪،‬تعذبني وح��دي‪ .‬من‬
‫�أطـــالل رومانيــة‬ ‫الالزم �أن تنتهي عالقتنا مرة واحدة‪.‬‬
‫أغ�صان حمراء‪ ،‬يجل�س فوق‬ ‫ٍ‬ ‫(متثال مغطى كُ لي ًا ب�‬ ‫املخــــرج ‪( :‬للرجل الثالث) و�أن��ا‪� ،‬أال تذكرين؟ �أال‬
‫تاج العمود عازف ًا ناي ًا‪ .‬متثال �آخر‬ ‫تتذكر �أظافري املنزوعة؟ كيف تتعرف على ن�ساء‬
‫مغطى ب�أجرا�س ذهبية يرق�ص يف و�سط اخل�شبة)‬ ‫�أخريات ومل �أتعرف عليك‪ .‬ملاذا ا�ستدعي ُتك �إِلِينا؟‬
‫حتولت �إىل �سحابة ؟‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪:‬لو‬ ‫ملاذا ا�ستدعي ُتك ياعذابي؟‬
‫حتولت �أنا �إىل عني‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأغ�صان‪:‬‬ ‫جولييتـــــ ‪( :‬للرجل الثالث) اذهب معه! واعرتف‬
‫حتولت �إىل خراء؟‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪:‬لو‬ ‫يل باحلقيقة التي تخفيها عني‪ .‬ال يهمني �أن تكون‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬حتولت �أنا �إىل ذبابة‬ ‫ومنت معه‬ ‫َ‬ ‫�سكران ًا وتريد تربير نف�سك‪ .‬لكنك َق َّبل َته‬
‫متثال الأجرا�س ‪:‬لو حتولت �إىل َ�ش َعر؟‬ ‫على نف�س الفرا�ش‬
‫أغ�صان‪:‬حتولت �أنا �إىل ُق ْبلة‬‫ُ‬ ‫متثال ال‬
‫الرجــــل ‪� : 3‬إِلِينا!‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬لو حتولت �إىل �صدر؟‬
‫‪:‬حتولت �أنا �إىل �رش�شف �أبي�ض‬ ‫متثال الأجرا�س‬ ‫(يجتاز �رسيعا احلاجز ويظهر دون حلية‪� ،‬شاحب‬
‫ُ‬
‫�صوتــــــــــــــــ ‪( :‬ب�سخرية) برافو!‬ ‫الوجه ويحمل يف يده �سوطا‪،‬‬
‫متثال الأجرا�س ‪:‬و�إذا حتولت �إىل �سمكة قمرية‬ ‫و�إ�سوارة مب�سامري ذهبية)‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬حتولت �أنا �إىل �سكني‬ ‫أنت دائما‬ ‫الرجــــل ‪( : 3‬ي�رضب املخرج بال�سوط) � َ‬
‫متثال الأجرا�س ‪(:‬يتوقف عن الرق�ص) لكن‪ ،‬ملاذا؟‬ ‫تتكلم‪� ،‬أنت دائما تكذب‪ ،‬الآن �س�أنتهي معك دون‬
‫مل ال ت� ِأت معي �إىل حيث �آخذك �إن‬ ‫ملاذا تعذبني؟ َ‬ ‫�شفقة �أو رحمة‪.‬‬
‫حتولت‬
‫َ‬ ‫حتولت �إىل �سمكة ذهبية‬ ‫ُ‬ ‫كنت حتبني؟ لو‬ ‫الأح�صنـة ‪ :‬الرحمة! الرحمة!‬
‫�أنت �إىل موجة �أو طحلب‪ ،‬و�إذا كنت راغب ًا يف �شيء‬ ‫ِ�إلِينـــــــا ‪:‬يف �إمكانك �أن ت�ستمر يف �رضبه قرن ًا‬
‫حتولت �أنت �إىل بدر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مل ال ت�شتهي تقبيلي؟‬ ‫جد بعيد‪َ ،‬‬
‫كامال‪ ،‬ومع ذلك لن �أثق بك (الرجل الثالث‬
‫لكن �إىل �سكني! �إنك �ست�ستمتع ب�أن تقاطع رق�صي‪،‬‬
‫والرق�ص هو الطريقة الوحيدة لأحبك‪.‬‬ ‫يتجه نحو �إِلِينا وي�شد على مع�صميها) ب�إمكانك �أن‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬حني تطوف بال�رسير وبباقي‬ ‫تبقى قرنا كامال‪ ،‬و�أن تنزع �أ�صابعي بكما�شة‪ ،‬ومع‬
‫�أ�شياء البيت‪� ،‬أتبعك‪ ،‬لكن لن �أتبعك �إىل �أمكنة‬ ‫ذلك لن جتعلني �أ�صدر أ� َّن ًة واحدة‪.‬‬
‫حتولت‬
‫َ‬ ‫حيث حتاول �أخذي و�أنت ممتلئ فطنة‪� .‬إن‬ ‫الرجـل ‪� : 3‬سرنى من ي�ستطيع �أن يتحمل �أكرث!‬
‫�إىل �سمكة قمرية �س�أفتحك ب�سكني‪ ،‬لأين ال �شيء‬ ‫�إِلِينـــــــا ‪�:‬أنا‪...‬ودائم ًا �أنا (يظهر اخلادم)‬
‫�أكرث من ذلك‪ ،‬رجل �أكرث رجولة من �آدم‪ ،‬و�أريدك �أن‬ ‫�إِلِينـــــــا ‪:‬خذين ب�رسعة من هنا‪ .‬خذين معك‪ .‬خذين!‬
‫تكون �أكرث رجولة مني‪� ،‬أكرث رجولة‪ ،‬بحيث ال ُي�سمع‬ ‫(اخل���ادم مي��ر خلف احل��اج��ز وي��خ��رج كما دخ��ل)‬
‫ل�ست رجال‪.‬‬ ‫حفيف يف الأغ�صان حني متر‪ ،‬لكنك َ‬ ‫خذين!خذين بعيدا جداً (اخلادم يحملها بني ذراعيه)‬
‫هربت �إىل القمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لكنت قد‬‫مل �أمتلك هذا املزمار ُ‬ ‫لو ْ‬
‫املخــرج ‪ :‬ميكننا �أن نبد�أ‪.‬‬
‫ب�شاالت مطرزة وقطرات دم امر�أة‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫�إىلالقمر املغطى‬
‫لت �إىل منلة؟‬ ‫الرجــل ‪ :1‬متى تريد؟‬
‫حتو ُ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪( :‬خجوال) و�إذا َّ‬
‫حتولت �إىل تراب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأغ�صان‪( :‬ن�شيطا)‬ ‫الأح�صنـة ‪ :‬الرحمة! الرحمة!‬
‫حتولت �إىل تراب؟‬
‫ُ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�( :‬أكرث قوة) و�إذا‬ ‫(الأح�صنة تنفخ يف �أبواقها الطويلة‪ .‬ال�شخ�صيات‬
‫حتولت �إىل ماء‪.‬‬‫ُ‬ ‫متثال الأغ�صان‪� ( :‬أكرث �ضعفا)‬ ‫يف �أماكنهم ثابت ٌة)‬
‫لت �إىل ماء؟‬ ‫حتو ُ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪(:‬مرتع�شا) و�إذا َّ‬ ‫(�ستـــــــــــــارة)‬
‫‪186‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫غ�صن ًا مهما كان �صغرياً‪...‬عمالق‪ ،‬عمالق‪ ،‬عمالق‬ ‫متثال الأغ�صان‪( :‬مغمى عليه) حتولت �إىل �سمكة‬
‫�إىل حد �أنني �أ�ستطيع طرز وردة على ظفر ر�ضيع‪...‬‬ ‫قمرية‪.‬‬
‫متثال الأغ�صان‪� :‬إنني �أنتظر الليل‪ ،‬مهموما ببيا�ض‬ ‫متثال الأجرا�س ‪( :‬مرتعدا) و�إذا حتولت �إىل �سمكة‬
‫الأطالل لأ�ستطيع الزحف على قدميك‬ ‫قمرية‬
‫مل تقول يل هذا؟ �أنت الذي‬ ‫متثال الأجرا�س ‪:‬ال‪ ،‬ال‪َ .‬‬ ‫حتولت �إىل �سكني‪� ،‬إىل‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأغ�صان‪( :‬واقفا)‬
‫أل�ست رجالً؟‬
‫يجب �أن ترغمني على فعله‪َ � ،‬‬ ‫�سكني حادة خالل �أربعة ف�صول ربيعية طويلة‪.‬‬
‫رجل �أكرث من رجولة �آدم؟‬ ‫متثال الأجرا�س ‪ :‬خذين �إىل احلمام و�أغرقني‪�،‬إنها‬
‫متثال الأغ�صان‪( :‬ي�سقط �أر�ضاً) �آه!‪� ،‬آه!‬ ‫الطريقة الوحيدة لكن ت��راين عاريا‪� .‬أتعتقد �أنني‬
‫حتولت‬
‫ُ‬ ‫ب�صوت خافت) و�إذا‬ ‫ِ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪(:‬مقرتب ًا‬ ‫�أخاف الدم؟ �إنني �أعرف طريقة ال�سيطرة عليك‪� .‬أتظن‬
‫�إىل تاج العمود؟‬ ‫�إنني ال �أعرف؟‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬يا �إلهي!‬ ‫حتولت �إىل‬
‫ُ‬ ‫قلت «�إذا‬
‫�أحتكَّم فيك بحيث لو �أنني ُ‬
‫متثال الأجرا�س‪� :‬أنت �ستتحول �إىل تاج العمود ال‬ ‫«حتولت �إىل كي�س بطارخ‬ ‫ُ‬ ‫�سمكة قمرية» �أجبتني‬
‫غري‪ ،‬بعد ذلك �ست�أتي ِ�إلِينا �إىل فرا�شي‪.‬‬ ‫�صغرية متثال الأغ�صان‪ :‬خذ ف�أ�س ًا وابرت �ساقي‪،‬‬
‫ِإ�ل ِينا‪ ،‬ياحبيبتي!‪ ،‬بينما �أنت حتت الو�سائد‪ ،‬ممددا تر�شح‬ ‫اترك ح�رشات اخلراب ت�أتي و�أذهب لأين �أحتقرك‪...‬‬
‫عرقا‪ ،‬عرق لي�س عرقك‪� ،‬إنه عرق احلوذيني والوقَّادين‬ ‫كنت �أمتنى �أن تغور �إىل قاع احل�ضي�ض‪� .‬أب�صق عليك‬ ‫ُ‬
‫والأط��ب��اء جرحى ال�رسطان‪ ،‬ثم �س�أحتول �إىل �سمكة‬ ‫مطمئن �إذا‬
‫ٌ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪� :‬أتريد ذلك؟ وداعاً‪� ،‬إنني‬
‫قمرية‪ ،‬و�أنت لن ُت�صبح �أكرث من علبة بذرة �صغرية‬ ‫حبا‪ ،‬مزيدا‬‫وجدت ّ‬
‫ُ‬ ‫نزلت عرب الأطالل‬
‫تنتقل من يد �إىل يد‬ ‫من احلب‪...‬‬
‫متثال الأغ�صان‪� :‬آه !‪...‬‬ ‫متثال الأغ�صان‪( :‬مهموماً) �إىل �أين �ستذهب؟ �إىل �أين‬
‫متثال الأجرا�س ‪:‬مرة �أخ��رى ؟ مرة �أخ��رى تبكي ؟‬ ‫أنت ذاهب؟‬ ‫� َ‬
‫�س�أكون مرغما على �أن �أفقد وعيي لكي‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�:‬أال ترغب يف ذهابي؟‬
‫ي�أتي الفالحون‪ ،‬و�أنادي الزنوج‪ ،‬الزنوج اجلرحى‬ ‫متثال الأغ�صان‪( :‬ب�صوت �ضعيف) ال‪ ،‬ال تذهب‪..‬و�إذا‬
‫ال�ضخام بخناجر �أليكّات املت�صارعة ليل نهار مع‬ ‫حتولت �إىل حبة رمل؟‬
‫ُ‬
‫وحل الأنهار‪ .‬انه�ض عن الأر�ض �أيها اجلبان‪.‬‬ ‫‪:‬حتولت �إىل �سوط‬
‫ُ‬ ‫متثال الأجرا�س‬
‫ال�سباك وكلفته ب�صنع �سل�سلة‪.‬‬ ‫كنت يف بيت َّ‬ ‫بالأم�س ُ‬ ‫حتولت �إىل كي�س بطارخ‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأغ�صان‪ :‬و�إذا‬
‫ال تبتعد عني! �سل�سلة‪،‬‬ ‫�صغرية؟‬
‫وبقيت الليلَ كلَّه �أبكي حيث كانت ت�ؤلمِ ني الر�صغني‬ ‫ُ‬ ‫�سوط‬
‫ٍ‬ ‫��ت �إىل �سوط �آخ���ر‪،‬‬ ‫متثال الأج��را���س ‪:‬حت��ول ُ‬
‫تقيدين (متثال الأغ�صان ينفخ‬ ‫ِّ‬ ‫تكن‬ ‫مل‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫والكعبني‪،‬‬ ‫م�صنوع من �أوتار قيثارة‬
‫يف �صفارة ف�ضية) ماذا تفعل؟ (ترن ال�صفارة مرة‬ ‫متثال الأغ�صان‪ :‬ال جتلدين‬
‫وقت للفرار‪.‬‬ ‫لدي ٌ‬ ‫�أخرى) �أعرف رغبتك َّ‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�:‬سوط م�صنوع من احلبال الغليظة‬
‫متثال الأغ�صان‪( :‬واقفا) اهرب �إن �شئت‪.‬‬ ‫لل�سفينة‬
‫متثال الأجرا�س ‪�:‬س�أدافع عن نف�سي بالأع�شاب‬ ‫متثال الأغ�صان‪ :‬ال ت�رضب بطني‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬جرب الدفاع عن نف�سك‪.‬‬ ‫متثال الأجرا�س ‪� :‬سوط م�صنوع من �أ�سدية �سحلية‬
‫(ترن ال�صفارة‪ .‬ي�سقط من ال�سقف طفل الب�س ًا �شبكة‬ ‫ُّ‬ ‫متثال الأغ�صان‪� :‬سترتكني �أخرياً �أعمى‬
‫حمراء)‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�:‬أعمى‪ ،‬لأنك ل�ست رجال‪ .‬نعم‪� ،‬أنا‬
‫طفــــــــــــــل ‪ :‬الإمرباطور!‪ .‬الإمرباطور!‪ .‬الإمرباطور!‪.‬‬ ‫رجل‪ ،‬رجل‪ ،‬رجل �إىل ح ِّد �أنني �أفقد وعيي‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬الإمرباطور!‪.‬‬ ‫حني ي�ستيقظ ال�صيادون‪،‬رجل‪ ،‬رجل �إىل حد �أنني‬
‫متثال الأجرا�س ‪�:‬س�أتقم�ص �شخ�صيتك‪ .‬ال تف�ضح‬ ‫�أ�شعر ب���أمل ح��ادٍ يف الأ�سنان حني يك�سرِّ �أحدهم‬
‫‪187‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�:‬أنا‪ ،‬يا�سيدي‬ ‫نف�سك‪ ،‬ذاك �سيكلفني حياتي‬
‫الإمرباطــــــور ‪ :‬الواحد هو الواحد‪ ،‬ودائما واحد‪ .‬لقد‬ ‫طفــــــــــــــل ‪ :‬الإمرباطور!‪ .‬الإمرباطور!‪ .‬الإمرباطور!‪.‬‬
‫ذبحت �أكرث من �أربعني �شابا رف�ضوا قوله‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متثال الأجرا�س‪ :‬كل ما بيننا كان لعبة‪ ،‬فلنلعب‪.‬‬
‫قائـــد املائـــة ‪( :‬با�صقا) الواحد هو الواحد‪ ،‬وال‬ ‫والآن �س�أخدم الإمرباطور مقلدا �صوتك‪.‬ميكنك‬
‫�شيء غري الواحد‬ ‫�أن تتم َّد َد خلف تاج العمود ال�ضخم ذاك‪ .‬مل �أكن قد‬
‫الإمرباطــــــور ‪ :‬وال يوجد اثنان‪.‬‬ ‫قلته لك �أبداً‪ .‬هناك بقرة تطبخ الطعام للجنود‪..‬‬
‫قائـــد املائـــة ‪ :‬لو ُوجد اثنان ملا بحث الإمرباطور‬ ‫متثال الأغ�صان‪ :‬الإمرباطور!‪ .‬مل يعد هناك جمال‬
‫عرب الطرقات‪.‬‬ ‫أح�س�ست‬
‫ُ‬ ‫مزقت خيط العنكبوت‪ ،‬بحيث �‬ ‫ُ‬ ‫للخال�ص‪ ،‬لقد‬
‫الإمرباطــــــور ‪�( :‬إىل قائد املائة) انزع ثيابهما‬ ‫رجلي الكبريتني ت�صبحان �صغريتني وكريهتني‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫�أن‬
‫متثال الأج��را���س ‪�:‬سيدي‪� ،‬أن��ا هو الواحد‪� ،‬أم��ا هذا‬ ‫متثال الأجرا�س ‪� :‬أريد قليال من ال�شاي‪� .‬أين ميكن‬
‫فمت�سول الأطالل‪ ،‬يتغذى باجلذور‬ ‫العثور على م�رشوب دافئ يف هذا اخلراب؟‬
‫الإمرباطــــــور ‪ :‬ابتعد‪.‬‬ ‫طفــــــــــــــل ‪( :‬ع��ل��ى الأر������ض) الإم�ب�راط���ور!‪.‬‬
‫متثال الأغ�صان‪� :‬أنت تعرفني‪� ،‬أنت تعرف من �أنا‬ ‫الإمرباطور!‪ .‬الإمرباطور!‪.‬‬
‫(يتجرد من الأغ�صان فيبدو عاريا‪� ،‬أبي�ض كاجلب�س)‬ ‫(يرن نفري ويظهر �إمرباطور الرومان ي�صحبه قائد‬
‫الإمرباطــــــور ‪( :‬يعانقه) الواحد هو الواحد‬ ‫رداء �أ�صفر وب�رشة رمادية‪ .‬خلفهما‬ ‫املائة يرتدي ً‬
‫فتحت‬
‫ُ‬ ‫قبلتني‬‫متثال الأغ�صان‪ :‬ودائم ًا واحد‪� .‬إذا َّ‬ ‫ت�سري الأح�صنة الأربعة ب�أبواقها‪ .‬يتجه الطفل نحو‬
‫فمي لكي تغرز �سيفك يف عنقي‪ ،‬بعد ذلك‪.‬‬ ‫الإمرباطور‪ ،‬ي�أخذه هذا بني ذراعيه ويختفيان بني‬
‫الإمرباطــــــور ‪:‬هكذا �س�أفعل‪.‬‬ ‫تيجان الأغ�صان)‬
‫متثال الأغ�صان‪ :‬وات��رك من �أجل احلب ر�أ�سي يف‬ ‫قائـــد املائـــة ‪ :‬الإمرباطور يبحث عن واحد‬
‫اخلرائب‪ .‬ر�أ�س الواحد الذي كان دائما واحد‪.‬‬ ‫متثال الأغ�صان‪ :‬الواحد هو �أنا‬
‫الإمرباطــــــور ‪( :‬متنهداً) واحد‪.‬‬ ‫متثال الأجرا�س ‪ :‬الواحد هو �أنا‬
‫قائـــد املائـــة ‪(:‬للإمرباطور) �إنه �صعب‪ ،‬لكن ها هو‬ ‫قائـــد املائـــة ‪� :‬أيكما هو الواحد ؟‬
‫ذا‪.‬‬ ‫متثال الأغ�صان‪� :‬أنا‬
‫متثال الأغ�صان‪� :‬إنه لك‪ ،‬لكن لن ت�ستطيع امتالكه‪.‬‬ ‫متثال الأجرا�س ‪�:‬أنا‬
‫متثال الأجرا�س ‪�:‬إنها خيانة!‪� .‬إنه غدر!‪.‬‬ ‫قائـــد املائـــة ‪� :‬سيكت�شف الإمرباطور من منكما‬
‫قائـــد املائـــة ‪:‬اخر�سي �أيتها الف�أرة العجوز!‪ .‬ياابن‬ ‫الواحد‪ ،‬ب�سكِّني �أو َب ْ�ص َقة‪..‬ملعونة كل ذريتكم‬
‫املكن�سة‪.‬‬ ‫ب�سبب جرمكم �أطوي الطرقات‪ ،‬و�أنام فوق الرمال‪.‬‬
‫متثال الأجرا�س ‪:‬غونثالو‪� ،‬ساعدين!‪ .‬غونثالو!‪.‬‬ ‫زوجتي جميلة كجبل‪ ،‬تلد يف �أربعة �أو خم�سة �أمكنة‬
‫(متثال الأجرا�س يجذب عمودا‪ ،‬وهذا ينحني على‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬وت�شخر يف وقت الظهرية حتت الأ�شجار‬
‫حاجز �أبي�ض للم�شهد الأول‪ .‬م��ن اخللف يخرج‬ ‫ل��دي �أكرث‪...‬ملعونة‬
‫َّ‬ ‫عندي مائة طفل‪ ،‬و�سيكون‬
‫الرجال الثالثة امللتحون ومعهم املخرج)‬ ‫ذريتكم !‪.‬‬
‫َّ‬
‫الرجــــــــــــــل‪:1‬خيانة!‪.‬‬ ‫(يب�صق قائد املائة ويغني‪� .‬رصاخ طويل وعميق‬
‫متثال الأجرا�س ‪:‬لقد خاننا!‪.‬‬ ‫ُي�سمع خلف الأعمدة‪.‬‬
‫املخــــــــــــرج ‪:‬غدر!‪.‬‬ ‫يظهر الإم�براط��ور ما�سحا جبينه ‪ .‬يخلع قفازيه‬
‫( الإمرباطور يعانق متثال الأغ�صان)‬ ‫الأ�سودين ثم قفازين �أحمرين‬
‫فتبدو يده نا�صعة البيا�ض)‬
‫(�ستـــــــــــــارة)‬ ‫ ‬
‫الإمرباطــــــور ‪ (:‬يف فتور) من منكما الواحد؟‬

‫‪188‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫يو�سف العاين‬
‫وتاريخ امل�سرح يف العراق‬
‫\‬
‫�ضيــاء خ�ضيـــر‬

‫كتب يو�سف العاين يف املرحلة التي �سبقت الثورة العراقية عام (‪ )1958‬جمموعة‬
‫من امل�رسحيات االجتماعية الق�صرية التي يغلب على �أكرثها الطابع الكوميدي‬
‫ال�ساخر‪ .‬وقد القت هذه امل�رسحيات منذ البداية �إقبا ًال �شعبي ًا منقطع النظري‪ .‬و�أعيد‬
‫متثيلها مراراً يف بغداد واملُحافظات العراقية الأخرى ‪.‬‬
‫ومن هذه امل�رسحيات ‪:‬‬
‫‪3‬ـ �أكبادنا ‪1953‬‬ ‫وحبه �سوده ‪ 1952‬‬
‫‪1‬ـ ر�أ�س ال�شليلة ‪2 1951‬ـ حرمل ّ‬
‫‪6‬ـ �ستة دراهم ‪1954‬‬ ‫ ‬‫‪4‬ـ ت�ؤمر بيك‪5 1953‬ـ فلو�س الدواء ‪1954‬‬
‫‪7‬ـ �آين �أمك يا �شاكر ‪. 1955‬‬

‫جناح م�سرحياته يرجع �إىل فكر التجديد وااللتزام‬

‫‪189‬‬ ‫\ ناقد واكادميي من العراق‪.‬‬


‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الدرامية كانت امتدادا للمناخ ال�سيا�سي اخلانق الذي‬ ‫و�أكرث هذه امل�رسحيات ذات لغة �شعبية‬
‫هيمن على البالد يف �أعقاب انتفا�ضة كانون الأول‬ ‫ب�سيطة‪ ،‬ولكنها ال تخلو من عمق يف دالالتها‬
‫(‪ ) 1941‬التي قادها اجلي�ش ورئي�س الوزراء ر�شيد‬ ‫ووعي بال�رضورات الفنية للكتابة امل�رسحية‬
‫عايل الكيالين ًّ�ضد االحتالل الإجنليزي‪ ،‬والعائلة‬ ‫و�أهدافها االجتماعية‪ .‬وهي جتمع بني الب�ساطة‬
‫امللكية احلاكمة‪ .‬وقد كان ف�شل هذه االنتفا�ضة‬ ‫والرمز‪ .‬ومو�ضوعاتها قريبة من فهم النا�س‪،‬‬
‫وهرب زعمائها �سببا من الأ�سباب التي جعلت ال�سلطة‬ ‫و�شخ�صياتُها وا�ضحة ال تخ�ضع لظروف طارئة‬
‫ت�شتد يف مقاومة التيار ال�شعبي والأحزاب الوطنية‪،‬‬ ‫‪ ،‬و ال ملوا�صفات جاهزة‪ .‬والفعل الدرامي فيها‬
‫وال�سيما الي�سارية منها‪ ،‬وو�ضع م�صائر النا�س بيد‬ ‫ينمو على نحو طبيعي وفق م�سرية مرتابطة لكل‬
‫الفئات الرجعية والإقطاعيني و الوجهاء ‪.‬‬ ‫مكونات العمل امل�رسحي ‪.‬‬
‫وجناح م�رسحيات العاين على امل�ستوى ال�شعبي راجع‬
‫وهكذا‪ ،‬تخلّ�صت هذه امل�رسحيات لأول مرة رمبا‪،‬‬
‫�إىل �أنها حاولت �أن تعر�ض ب�صدق الواقعني ‪ :‬واقع‬
‫من جتميع احلاالت وافتعال الأحداث ومالم�سة واقع‬
‫ب�سطاء النا�س‪ ،‬وواقع الدولة و�أجهزتها وما يحيط‬
‫النا�س وبع�ض م�شكالتهم وت�صوراتهم مبا فيها من‬
‫بها‪ ،‬وما فيها من ف�ساد وفقدان للعدالة‪.‬‬
‫حيوية يف اللغة ورغبة يف التغيري والتطلع �إليه‪.‬‬
‫مو�ضوعا‬
‫ً‬ ‫ففي (ر�أ�س ال�شليلة) يعر�ض علينا العاين‬
‫ولذلك اعتربت هذه املرحلة يف م�رسح العاين مرحلة‬
‫�شعبيا هو ك�شف البريوقراطية التي‬
‫تع�شع�ش يف دوائر الدولة‪ .‬حيث يتجاهل‬ ‫لالجتاه الواقعي االنتقادي يف م�سرحياته‬ ‫ت�أ�سي�سية‬
‫امل�رسح العراقي‪.‬‬
‫املوظفون بت ُّعمد م�شكالت الب�سطاء من‬
‫والعاين يجمع يف هذا امل�رسح بني تدور �أحداثها النا�س ‪ ،‬ويهتمون‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬مبن‬
‫الواقعية يف العر�ض والت�صوير‪ ،‬مع بني حياة النا�س يحمل كارت التو�صية‪ .‬وينهي العاين‬
‫م�رسحيته هذه ب�أن ينتقم �أحد املراجعني‬ ‫�شيء من الكوميديا النابعة من ت�صادم‬
‫املواقف‪ ،‬و الهادفة �إىل ال�سخرية من الب�سطاء وواقع املنهكني لنف�سه ب�أن يعرث على بطاقة‬
‫تو�صية �سقطت من جيب مراجع �أخر‪،‬‬ ‫النظام االجتماعي القائم‪ .‬وهو �أمر برع‬
‫الدولة‬ ‫فيه العاين كاتبا وممثال براعة كبرية‪.‬‬
‫فيقدمها �إىل املدير ويكون لها فعل ال�سحر‬
‫يف االهتمام به و اجناز معاملته ‪.‬‬ ‫وبذلك يكون العاين قد �أ�ضاف دماء جديدة �إىل احلركة‬
‫ونف�س ال�شئ يحدث تقريبا يف م�رسحيتني �أخريني‬ ‫امل�رسحية يف العراق‪ .‬وهو �أمر كانت هذه احلركة‬
‫للعاين كتبهما عام ‪ 1954‬هما (�ستة دراهم) و(فلو�س‬ ‫ب�أ�شد احلاجة �إليه بعد �إغراقها يف احلديث عن الوقائع‬
‫الدوا = الدواء)‪ .‬ففي امل�رسحية الأوىل يفتتح امل�شهد‬ ‫التاريخية املا�ضية‪ ،‬واملو�ضوعات الرومان�سية‬
‫الأول على ثالثة مراجعني يف غرفة االنتظار‬ ‫املحلقة على ال�صعيد الأخالقي ذي الطبيعة الإن�شائية‬
‫بعيادة �أحد الأطباء ‪� ،‬أحدهم �أخر�س ‪ ،‬و الآخر امر�أة‬ ‫�أو النظرية احلاملة ‪.‬‬
‫حتمل طفلة مري�ضة ‪ ،‬والثالث مراجع ال ميلك ثمن‬ ‫وكما يقول علي الراعي‪ ،‬فان وجود كاتب كبري م�س�ألة‬
‫الفح�ص كامالً‪ ،‬لأنه يعتقد �أن عيادة الطبيب ملحقة‬ ‫�رضورية للحياة امل�رسحية يف �أي بلد‪ .‬ففي م�رص‪،‬‬
‫بامل�ست�شفى احلكومي الذي ر�أى الطبيب نف�سه يعمل‬ ‫مثال ‪ ،‬كان هذا الكاتب هو توفيق احلكيم الذي متتع‬
‫فيه‪ .‬وحني يرف�ض الطبيب �أن يتقا�ضى �أجرة ناق�ص ًا‬ ‫باملوهبة واال�ستمرارية معاً‪� .‬أما يف العراق فكان هذا‬
‫ي�ضطر املراجع امل�سكني �أن يذهب �إىل بيته بحثا عن‬ ‫الكاتب هو يو�سف العاين الذي �ضمن لنف�سه �رشطي‬
‫الدراهم ال�ستة الناق�صة‪ .‬ولكن قبل �أن يغادر العيادة‬ ‫توفيق احلكيم‪ :‬املوهبة واال�ستمرار‪ ،‬وزاد عليما �شيئا‬
‫ينتهز فر�صة ان�شغال الطبيب فليلتقط من فوق مكتبه‬ ‫�آخر مهم‪ ،‬و هو التمثيل؛ فهو �أقرب من غريه �إىل رجل‬
‫بطاقة دعوة حلفلة �ساهرة كان الطبيب قد تعب يف‬ ‫امل�رسح ‪)1( .‬‬
‫احل�صول عليها‪ ،‬يلتقطها ثم يعود والنقود يف جيبه‬ ‫والفرتة الزمنية التي ا�ستهل فيها العاين كتابته‬
‫‪190‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫واخلارجي‪� .‬إنه ي�ضع لأول ّمرة فكرة الن�ضال يف موقع‬ ‫ليلقيها �أمام الطبيب مع البطاقة املمزقة انتقام ًا من‬
‫ال�صدام مع ال�سلطة‪ .‬وملخل�ص امل�رسحية يتمثل يف ‪:‬‬ ‫غطر�سة الطبيب وقلة �إن�سانيته‪.‬‬
‫عائلة عراقية تتكون من �أم و�أبنائها الثالثة ‪.‬الأول‬ ‫قوية‬ ‫�إن �شخ�صية الطبيب يف هذه امل�رسحية تنت�صب ّ‬
‫(�شاكر) ُقتل يف ال�سجن‪ ،‬ولكن �صورته ُت�سيطر‬ ‫كريهة كما �شاء لها امل�ؤلف‪ .‬يف حني تقف ال�شخ�صيات‬
‫على امل�شهد طيلة امل�رسحية‪ .‬وها هو االبن الثاين‬ ‫الأخرى‪ ،‬مثل �شخ�صية �صربي خادم الطبيب لتم ِّثل‬
‫(�سعدي) ُيقاد �إىل ال�سجن �إي�ض ًا ب�سب ا�شرتاكه يف‬ ‫كل الف�ضائل والطيبة التي تنق�ص خ�صمها‪ .‬و�شخ�صية‬
‫�إحدى املُظاهرات‪� .‬أما ابنة العائلة الوحيدة (كوثر)‬ ‫هذا اخلادم خ�صو�ص ًا مثال للطيبة وحب اخلري والتعلّق‬
‫حتركاتها تظل تمُ ّثل‬ ‫فتختبئ‪ ،‬ولكن عملها ال�سرّ ي و ّ‬ ‫بالنا�س حتى �إذا كانوا من طبقة اجتماعية �أخرى‪،‬‬
‫كل �إمكانيات امل�ستقبل بالن�سبة لهذه العائلة‪� .‬أما‬ ‫رباها‬ ‫ومن خ�صومه‪ .‬فهو مثال يحب ابنة الطبيب التي ّ‬
‫(�أم �شاكر) فتقف‪ ،‬بقامتها املديدة و�إميانها الذي ال‬ ‫و �أ�صبح ال يطيق فراقها‪ .‬يف حني �أن الطبيب وابنته‬
‫يتزعزع بحتمية الثورة الوطنية و�رضورة انت�صارها‬ ‫يطردانه من الدار ‪ ،‬ويقابالن �إخال�صه و حبه ب�ضحالة‬
‫ل ُتم َّثل منوذج ًا جديداً للمر�أة العراقية‪ ...‬منوذج ال ينثني‬ ‫عاطفية غري م�ستغربة من �أمثالهما‪ .‬وذلك الن �صربي‬
‫وال ُيذلّ ‪ ،‬بل يجعل كل هذه املواجهات الدامية طريق ًا‬ ‫كان ال�سبب يف �سقوط كلب الآن�سة ابنة الطبيب و ك�رس‬
‫النت�صاره‪� .‬إنها تهتف بلهجتها العراقية املحببة (�آين‬ ‫رجله ‪ ،‬مع �أن اخلادم كان قد �سقط هو الآخر مع الكلب‬
‫�أمك يا �شاكر)‪ ،‬لن ينالوا مني‪ ،‬ولن �أ ّدخر يف �سبيل‬ ‫و �أ�صيب �أي�ضا‪ .‬وهكذا ال ي�شفع له حبه و�إخال�صه‬
‫الوطن �أي �شيء ‪...‬‬ ‫لأنه اعتدى على �إحدى قيم الطبقة الربجوازية التي‬
‫ويف �إ�رصارها وو�ضوح موقفها يكون العاين قد‬ ‫يخدمها ‪ :‬ت ُّعلقها ال�شديد بالكالب ‪.‬‬
‫ا�ستجمع تاريخ ًا طوي ًال للن�ضال الوطني العراقي‬ ‫ف�إذا و�صلنا عام ‪ 1955‬ف�إننا نبلغ مرحلة مهمة من‬
‫ممث ًال بهذه ال�شخ�صية ال�شعبية التي حتملت �أعباء‬ ‫مراحل تطور العاين‪ .‬ففي هذا العام كتب م�رسحيته‬
‫الن�ضال جي ًال بعد جيل وحاولت �أن تعبرّ عنه‪� .‬إنها �أم‬ ‫املعروفة (�أنا �أمك يا �شاكر) ‪ .‬وهي م�رسحية‬
‫للجميع كما يبدو من حوارها مع الطبيب ف�ؤاد �صديق‬ ‫�سيا�سية بامتياز‪ .‬وفيها يدخل ب ّقوة وج�سارة يف قلب‬
‫العائلة الذي تعتربه ابنها‪ ،‬كما �أن �شاكر و�سعدي‬ ‫املعركة الوطنية التي كانت تدور يف العراق �إذ ذاك‬
‫وكوثر �أبنا�ؤها‪.‬‬ ‫لتحقيق التحرر واال�ستقالل على ال�صعيدين الداخلي‬

‫‪191‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ن�سمعه ونعرفه عنه ال ي�أتي عن طريقه هو نف�سه‪ .‬هذا‬ ‫�أما يف اجلانب الآخر فيقف اخلال اجلبان (قادر)‬
‫ف�ض ًال عن الت�شابهات العامة التي تنتظم امل�رسحيتني‪.‬‬ ‫واب ُنه اجلا�سو�س اللذان ميالئان ال�سلطة وي�سكتان على‬
‫واملتمثلة �أ�سا�سا بالنموذج الفردي القادر على �إعطاء‬ ‫اال�ضطهاد الذي تتعر�ض له عائلة �أم �شاكر‪ ،‬حر�ص ًا‬
‫املثال على مقاومة النظام ال�سيا�سي القائم‪.‬‬ ‫على م�صاحلهما‪.‬‬
‫�إن كل هذه التماثالت بني امل�رسحية العراقية والرو�سية‬ ‫ويقب�ض البولي�س على كوثر بعد �أن خرجت من‬
‫مل ت� ِأت اعتباطا‪.‬لأن العاين كان قد اطلع على رواية‬ ‫خمبئها بعد �سماعها مبقتل �أخيها الثاين فن ال�سجن‪.‬‬
‫غوركي وامل�رسحية امل�أخوذة عنها وت أ�ثِّر بها‪ .‬ولكن‬ ‫وعند ذاك تقف (�أم �شاكر) وحيده �إال من جارتها (�أم‬
‫عمل العاين يحتفظ مع ذلك ب�أ�صالته‪ .‬فمثلما كانت‬ ‫�صادق) التي تقف معها ت�ساندها يف حمنتها‪.‬‬
‫بولوجيا بطلة غوركي رو�سية ‪ ،‬ظلت �أم �شاكر يو�سف‬ ‫هكذا ُيعرب العاين يف هذه امل�رسحية وغريها عن‬
‫العاين من حلم ودم عراقيني‪)2( .‬‬ ‫تفا�ؤله ب�إمكانية التغيرّ ‪ .‬ويحاول �أن يكتب‪ ،‬بطريقته‪،‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فرغم �أن �أعمال يو�سف العاين املكتوبة قبل‬ ‫تاريخ ن�ضال ال�شعب العراقي قبل الثورة‪.‬‬
‫الثورة العراقية عام ‪ 1958‬قد لقيت �إقبا ًال لدى عر�ضها‬ ‫غري �أنه يجب االعرتاف به �أن هذا اللون اجلديد من‬
‫بعد الثورة ال يقل حما�سا عن ذلك الذي لقيته قبلها‪،‬‬ ‫امل�رسحيات كان يجمل معه بع�ض عوامل ال�ضعف‬
‫ف�إنها مل تكن كافية للتعبري عن روح املرحلة التي‬ ‫�أي�ضا‪� .‬إذ مل يكن يخلو من مواقف ميلودرامية وعاطفية‪،‬‬
‫تلتها‪ ،‬وعن التغريات الدراماتيكية التي حدثت يف بنية‬ ‫و �أحيانا من روح �شعاريه لفظية‪ .‬كما �أن العاين مل‬
‫املجتمع العراقي فيما بعد‪ .‬ف�ض ًال عن �أن هذه الأعمال‬ ‫يخرج فيه متاما من ثنائية اخلري وال�رش املعروفة‬
‫نف�سها كانت ت�شكو‪ ،‬كما �أو�ضحنا‪ ،‬من نواق�ص عديدة‬ ‫يف امل�رسحية امليلودرامية العراقية والعربية على‬
‫على امل�ستويني الفني والآيديولوجي‪.‬‬ ‫�صعيد بناء ال�شخ�صية �أو املواقف العامة‪ .‬مع ان املرء‬
‫لقد كان على يو�سف العاين �أن يعاود الكتابة‪ ،‬غري‬ ‫يظل ي�شعر رغم ذلك �أن امل�ؤلف �سيكون قادراً على‬
‫�أنه‪ ،‬ومثل غريه من الكتاب العراقيني‪ ،‬ما كان لديه‬ ‫كتاب ٍة درامية �أعمق و�أكرث خ�صوبة‪ ،‬و�أن هذه ميكن‬
‫يف حينها ما يقوله غري �أن يهتف (�أه ًال باحلياة)‪ .‬وهو‬ ‫�أن متثل البداية احلقيقية لإنتاج م�رسحي عراقي �أكرث‬
‫عنوان �أول م�رسحية كتبها بعد الثورة‪.‬‬ ‫ن�ضجا وتوازنا ومعرفة مب�سالك الدراما اجلادة‪ .‬وهو‬
‫وهي م�رسحية لي�ست جديدة متاماً‪ ،‬ال يف تاريخ‬ ‫ما �سيفعلُه يو�سف العاين‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬يف م�رسحياته‬
‫كتابتها‪ ،‬وال يف مو�ضوعها‪ .‬فقد بد أ� العاين بكتابتها‬ ‫الهامة التي �سيكتبها عقب ‪ 1958‬بعد �أن تزداد جترب ُته‬
‫عام ‪ 1957‬يف منفاه باليبزغ ب�أملانيا ال�رشقية‪ ،‬ثم‬ ‫إطالعه على بع�ض مناذج امل�رسح العربي‬ ‫ويتعمق � ُ‬
‫َّ‬
‫�أكملها بعد الثورة وقدمتها فرقة امل�رسح الفني احلديث‬ ‫والأوربي �أو بع�ض جوانبه‪.‬‬
‫ببغداد عام ‪ 1960‬وا�شرتك امل�ؤلف نف�سه يف متثيل �أحد‬ ‫�أما يف م�رسحيته املتقدم ذكرها ف�إن �أثر الدراما‬
‫الأدوار فيها‪.‬‬ ‫الأوروبية فيها يظل عاماً‪ ،‬و�إن كان امل�ؤلف نف�سه‬
‫وملخ�ص امل�رسحية �أن جا�سو�س ًا �رشيراً‪ ،‬ا�سمه (عطا)‬ ‫ال يخفي ت�أثره بالواقعيني الرو�س خ�صو�ص ًا مك�سيم‬
‫يحاول الزواج من ابنة عمه الفتاة الطيبة الربيئة فوزية‪.‬‬ ‫غوركي يف روايته (الأم) وامل�رسحية امل�أخوذة عنها‬
‫فيوافق �أبوها مكره ًا على هذا الزواج احرتام ًا للتقاليد‪.‬‬ ‫من قبل الكاتب الأملاين بروتولد بريخت‪ .‬ومن الوا�ضح‬
‫مع �أنه يعرف �أن الفتاة تكره ( عطا ) النحطاطه وف�ساده‪،‬‬ ‫�أن العاين قد حاول �أن يجعل من �أم �شاكر مقاب ًال‬
‫من ناحية‪ ،‬ولأنها ترتبط‪ ،‬من ناحية �أخرى‪ ،‬بعالقة حب‬ ‫لبولوجيا ‪ pelaguee‬يف امل�رسحية الرو�سية ‪�..‬أما كوثر‬
‫مع �صديق لأخيها ا�سمه رجب‪ .‬وكفتاة �رشقية تخ�ضع‬ ‫فتحتل موقعا مقابال لـ ‪ sachemlea‬املنا�ضلة يف احلزب‪،‬‬
‫(فوزية) يف النهاية لإرادة �أبيها‪ .‬غري �أن �أخاها يرف�ض‬ ‫عري مثلها واقع الت�سلط‬ ‫والتي تحُ اول كوثر �أن ُت ّ‬
‫هذا الزواج رف�ض ًا قاطعاً‪ ،‬وي�شجع �أخته على الرف�ض‬ ‫والف�ساد داخل النظام ال�سيا�سي واالجتماعي القائم ‪.‬‬
‫وال�صمود‪ .‬فما كان من ( عطا ) �إال �أن حتول من خاطب‬ ‫�أما �سعدي امل�سجون مثل ‪ Pavel‬فيحتل‪ ،‬هو الآخر‪ ،‬موقعا‬
‫متودد �إىل عدو منتقم ‪ .‬فهو ي�ستخدم و�سائله اخلبيثة‬ ‫مركزيا يف امل�رسحية العراقية حتى �إذا كان �أغلب ما‬
‫‪192‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫وكانت الفرتة الواقعة بني ‪� 1967 – 1963‬أطول فرتة‬ ‫العتقال فوزي و�إر�ساله �إىل ال�سجن بدعوى �أنه مناه�ض‬
‫يق�ضيها العاين خارج العراق و�أ�شدها �صعوبة‪ .‬وهو‬ ‫لل�سلطة التي يعمل (عطا) حل�سابها ‪.‬‬
‫نف�سه يحدثنا عن هذه الفرتة من حياته قائالً‪:‬‬ ‫وتتخاذل الفتاة وت�ضعف �إرادتها حتى تكاد ت�ست�سلم‬
‫« خرجت من العراق �إىل بريوت ‪� .‬أيامي الأوىل كانت‬ ‫لالبتزاز وتفكر جدي ًا يف الزواج من ابن عمها �إنقاذاً‬
‫�أ�سود �أيام ‪ ..‬عاطل بال عمل ‪� ..‬أمتلكني خاطر ب�أنني‬ ‫لأخيها‪ .‬غري �أن الرف�ض ي�أتي هذه املرة من الأب‬
‫عاجز ال حمالة عن الكتابة �أو التمثيل ‪ ..‬الوقت خريف ‪..‬‬ ‫الذي يغري موقفه ويعيد الفتاة �إىل �صالبتها‪ ،‬فتعاود‬
‫هل يكون هو خريفي �أي�ضاً»(‪)15‬‬ ‫الرف�ض رغم ال�ضغوط الكبرية التي ميار�سها ابن عمها‬
‫هكذا كانت الأزمة مزدوجة عند الكاتب ورجل امل�رسح‪.‬‬ ‫واملحيطون به لإجبار الفتاة على الزواج �ض ّد �إرادتها ‪.‬‬
‫�أزمة مو�ضوعية يتعر�ض لها البلد‪ ،‬و�أزمة ذاتية يتعر�ض‬ ‫وحني يبد أ� ف�صل امل�رسحية اخلام�س ت�شعر فوزية‬
‫لها كاتب يبحث عن �إيجاد طريقة للتعبري ب�شكل جديد‪.‬‬ ‫باالنت�صار‪ ،‬وتعد العدة للزواج من حبيبها ال�سابق‬
‫فقد �أح�س العاين �أن �أ�سلوبه ال�سابق القائم على ال�سخرية‬ ‫رجب‪ .‬لأن الثورة قد انت�رصت وحطمت النظام القدمي‪،‬‬
‫وف�ضح عيوب املجتمع واالنت�صار للطبقات امل�سحوقة‬ ‫و�أطلقت �رساح فوزي ورفاقه من ال�سجن‪ .‬وجاء دور‬
‫فيه‪ ،‬مل يعد كافياً‪ .‬وكان ال ب ّد لأ�سلوب العاين �أن يخ�ضع‬ ‫اجلا�سو�س ( عطا ) ليقع حتت رحمة فوزي الذي �صار‬
‫للت�أثري الذي مار�سته عليه التجارب امل�رسحية العربية‬ ‫ي�شغل من�صب ًا يف الإدارة احلكومية اجلديدة ي�ستطيع‬
‫والأوربية التي عا�شها وقر أ� عنها يف هذه الفرتة من‬ ‫معه �أن ير�سل ( عطا ) �إىل ال�سجن ‪.‬‬
‫حياته‪ .‬وكان �أبرز هذه التجارب التي مار�ست على‬ ‫مو�ضوع امل�رسحية‪� ،‬إذن‪ ،‬وكما ذكرنا ‪ ،‬لي�س جديداً‬
‫العاين ت�أثري كبريا ً يتمثل يف اثنني هما‪:‬‬ ‫‪ .‬ففوزية تكاد تكون امتداداً لكوثر بطلة العاين يف‬
‫ـ م�رسح الرحابنة يف لبنان‪ ،‬حيث عمل العاين معهم‬ ‫(�أنا �أمك يا �شاكر) التي �سبقت درا�ستها يف الف�صل‬
‫فرتة من الوقت‬ ‫ال�سابق‪ .‬ولوال العامل اخلارجي املتمثل بالثورة التي‬
‫تعرف عليه عن كثب خالل‬ ‫ـ وم�رسح يربخت‪ ،‬الذي ّ‬ ‫�أطلقت (فوزي) من ال�سجن لكان من املمكن �أن تنتهي‬
‫�إقامته يف برلني ال�رشقية فرتات متقطعة‪.‬‬ ‫امل�رسحية نهاية تراجيدية كتلك التي انتهت �إليها‬
‫وقد ظهر هذا الت�أثري‪ ،‬وال �سيما الربيختي‪ ،‬يف �أعمال‬ ‫امل�رسحية ال�سابقة؛ و�إن كنا نرى �أن دائرة ال�رصاع هنا‬
‫العاين التالية‪ ،‬وخ�صو�صا يف م�رسحيتيه اللتني كتبهما‬ ‫�أو�سع‪ ،‬واحلوار الق�صري املوظف بذكاء خلدمة التطور‬
‫فيما بعد‪ ،‬وحظيتا بنجاح كبري واعتربتا خطوة مهمة‬ ‫الدرامي يجعل هذه امل�رسحية �أكرث اقرتاب ًا من املفهوم‬
‫لي�س يف م�رسح العاين فقط‪ ،‬و�إمنا يف امل�رسح العراقي‬ ‫احلديث للدراما؛ على الرغم من �أن وجود ( الثورة ) يف‬
‫كله �أي�ضا‪ ،‬ونعني بهما (املفتاح) و(اخلرابة)‪)16(.‬‬ ‫الف�صل الأخري‪ ،‬وما تبعه من تبدل �رسيع يف املواقف‪،‬‬
‫غري �أنه يلزمنا‪ ،‬قبل �أن نتناول هاتني امل�رسحيتني‬ ‫كان عن�رصاً خارجياً‪ ،‬ومل ينبع من التطور الداخلي يف‬
‫بالدرا�سة‪� ،‬أن ن�شري �إىل م�رسحية �أخرى كتبها العاين‬ ‫امل�رسحية‪ .‬بحيث يبدو �أن الهدف من الإ�شارة �إليه قد‬
‫قبل كتابته لهاتني امل�رسحيتني‪ .‬وهذه امل�رسحية‬ ‫جاء لإدخال تعديل جوهري يف تطور العقدة و�إنهاء‬
‫هي (�صورة جديدة) التي تعترب مرحلة �إنتقالية يف‬ ‫امل�رسحية نهاية �سعيدة و�إيجاد حل للأزمة االجتماعية‬
‫التطور الدرامي لهذا الكاتب‪ ..‬مرحلة مراوحة بني‬ ‫التي ناق�شتها امل�رسحية ‪.‬‬
‫�أ�سلوبه التقليدي القدمي‪ ،‬و�أ�سلوبه اجلديد املت�أثر ببع�ض‬ ‫وقد �أثبت التطور الالحق للأحداث �أن مثل هذا احلل‬
‫االجتاهات الأدبية احلديثة يف الدراما‪.‬‬ ‫م�ؤقت وم�صنوع فعالً‪ .‬فالثورة مل حتدث التغيري املن�شود‬
‫كتب العاين �صورة جديدة عام ‪ 1964‬وقدمتها فرقة‬ ‫يف الرتكيبة االجتماعية والنف�سية القائمة ‪.‬‬
‫امل�رسح الفني احلديث عام ‪ 1967‬بعد عودته �إىل بغداد‪.‬‬ ‫وقد جاء انفجار ال�رصاع بني �أطراف احلركة الوطنية‬
‫والفكرة التي ا�ستولت على العاين يف هذه امل�رسحية‬ ‫لي�ؤكد ه�شا�شة احللول املطروحة يف مثل هذه‬
‫هي ق�ضية ال�رصاع بني القدمي واجلديد التي عاجلها‬ ‫امل�رسحية‪ .‬وهو ما �أجرب يو�سف العاين على ال�صمت �أو ًال‬
‫الكاتب يف �أكرث من ن�ص من ن�صو�صه‪ .‬غري �أن امل�ؤلف‬ ‫‪ ،‬ثم مغادرة البالد ثانياً‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تنتهي بها الأحداث �إىل امل�صاحلة التقليدية بني االبن‬ ‫املرة مالحقة تطور‬ ‫كان م�شغو ًال‪ ،‬وهو يحاول هذه ّ‬
‫و�أبيه واملحيطني بهما‪.‬‬ ‫املجتمع العراقي‪ ،‬بتو�ضيح حقيقة م�ؤداها‪� :‬أن القدمي‬
‫وحني تعلق يف غرفة اال�ستقبال بالدار (�صورة جديدة)‬ ‫ال يحافظ على قدمه‪ ،‬كما �أن اجلديد ال ي�ستطيع �أن يلغي‬
‫للعائلة بدل ال�صورة القدمية التي �سقطت وانك�رست‪،‬‬ ‫القدمي‪ .‬وال ب ّد من جعل اخل�شبة ميدان ًا لل�رصاع بينهما‪.‬‬
‫ي�شعر امل�شاهد برغبة الكاتب يف الإ�شارة �إىل التبدل‬ ‫�إنه يعر�ض لنا يف هذه الدراما �رشيحتني اجتماعيتني‬
‫الذي ح�صل يف حميط العائلة‪ .‬وهو تبدل لي�س من ال�سهل‬ ‫خمتلفتني داخل عائلة واحدة‪:‬‬
‫االقتناع به‪ ،‬لأن ال�صورة ظلت جتمع اجلديد والقدمي يف‬ ‫�أب من الطبقة املتو�سطة ذو تقاليد �رشقية �صارمة‪،‬‬
‫�إطار واحد‪ :‬االبن و�أبيه و�أمه‪ ،‬ثم ابنة العائلة وخطيبها‬ ‫وابن �شاب متطلع للجديد‪ ،‬ويحاول �أن ينظر �إىل احلياة‬
‫الذي كان مرفو�ض ًا من قبل الأب ب�سبب �آرائه التحررية‪.‬‬ ‫مبنظار �آخر‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ف�إن امل�رسحية تقدم يف �أ�سلوب بنائها‪ ،‬كما‬ ‫وتبد�أ امل�شكلة حني يرف�ض الأب فكرة االبن يف‬
‫ذكرنا‪� ،‬إرها�ص ًا بت�أ ّثر العاين مب�رسح بريخت امللحمي‬ ‫اال�ستقالل عن �أبيه بفتح متجر جديد �إىل جانب متجر‬
‫ب�شكل خا�ص‪ .‬هذا الت�أثر الذي �سيربز ب�شكل �أكرب يف‬ ‫العائلة‪ ،‬ويرى يف هذا العمل تهديداً له‪ .‬يف حني يحاول‬
‫م�رسحيتيه املهمتني اللتني �سبقت الإ�شارة �إليهما‪،‬‬ ‫االبن‪ ،‬عبثاً‪� ،‬إقناع �أبيه �أن ا�ستقالله الأقت�صادي لي�س‬
‫�أعني (املفتاح) و(اخلرابة) ‪.‬‬ ‫تهديداً له‪ ،‬وال �إلغاء لتقاليد العائلة يف التعاون والعمل‬
‫ففي هاتني امل�رسحيتني خ�صو�ص ًا م ّد العاين بب�رصه‬ ‫امل�شرتك‪ .‬بل هو حماولة للتطور و�إظهار القدرة الذاتية‬
‫�إىل الرتاث الثقايف والفولكلوري العراقي‪ ،‬موزع ًا مادته‬ ‫�أمام الآخرين‪.‬‬
‫الدرامية الوا�سعة على م�شاهد تركيبية متداخلة وممتدة‬ ‫ويرتافق هذا ال�رصاع ذو الطابع املادي مع �رصاع‬
‫يف الزمان واملكان‪� .‬إننا ال جند هنا البناء التقليدي‬ ‫�آخر ذي طابع فكري و�سيا�سي يدور بني االبن و�أبيه‪.‬‬
‫الرتاجي ‪ -‬كوميدي الذي برع العاين يف �إنتاجه‬ ‫وامل�رسحية ال تقدم ذلك بطريقة مبا�رشة‪ ،‬بل تدجمه‪،‬‬
‫والت�أليف بني عنا�رصه يف املرحلة ال�سابقة‪ ،‬وا�ست ّل‬ ‫على طريقة العاين‪ ،‬باجلو العائلي ومالب�ساته ( خطبة‬
‫�أغلب �شخ�صياته من احلياة اليومية‪ .‬بل جند م�رسح ًا ذا‬ ‫‪ ،‬زواج ‪ ،‬ممانعة ) ‪.‬‬
‫طبيعة درامية �أو�سع و�أغنى‪ .‬ومفهوم العقدة التقليدية‬ ‫واجلديد يف هذا العمل‪ ،‬على م�ستوى امل�ضمون‬
‫يختفي ليحل حمله بناء ملحمي ذو طبيعة ايديولوجيه‬ ‫واملحتوى االجتماعي وال�سيا�سي‪ ،‬هو �أن امل�ؤلف نقل‬
‫وتعليمية وا�ضحة‪ .‬كما �أن عنا�رص النقد وال�سخرية‬ ‫ال�رصاع �إىل داخل العائلة العراقية‪ ،‬بعد �أن كانت هذه‬
‫موجودان �أي�ضاً‪ ،‬ولكن لي�س على الطريقة االنطباعية‪،‬‬ ‫العائلة كلها ب�شيوخها و�شبابها �ضد ال�سلطة‪� .‬أي �أن‬
‫الطبيعية ال�سابقة‪ ،‬و�إمنا على �أ�سا�س النقد املبني على‬ ‫ميدان ال�رصاع �أ�صبح داخلي ًا بعد �أن �أنتفت‪ ،‬ولو على‬
‫موقف فكري ملتزم ب�شكل �أكرث و�ضوح ًا وحتديداً‪.‬‬ ‫نحو م�ؤقت‪� ،‬رضورات املواجهة مع ال�سلطة بقيام‬
‫وقبل �أن ندر�س هاتني امل�رسحيتني ال ب ّد �أن نذكر �شيئ ًا‬ ‫الثورة التي ق�ضت على النظام القدمي‪.‬‬
‫عن عالقة العاين مب�رسح بريخت‪.‬‬ ‫�أما على م�ستوى ال�شكل‪ ،‬فاجلديد يف هذا العمل يتمثل‬
‫�إذ يرجع تاريخ �أول مرة ر�أى فيها العاين م�رسحية‬ ‫يف تق�سيمه �إىل لوحات‪ ،‬يحمل كل منها عنوان ًا منف�ص ًال‬
‫لربيخت تقدم باللغة الأملانية �إىل عام ‪ ، 1958‬حينما‬ ‫‪ ( :‬امل�شكلة‪ ،‬اخلطوبة‪ ،‬العقدة‪ ،‬ال�ضوء‪ ،‬املوقف‪ ،‬الزواج‪،‬‬
‫ر�أى م�رسحية بريختية على م�رسح برلني‪ ،‬وقد ذهل‬ ‫النتيجة‪.)..‬‬
‫العاين خ�صو�ص ًا ب�أداء املمثلة( هيلينا فايكل) زوجة‬ ‫و�إذا كان هذا التكنيك يحمل‪ ،‬كما يقول د‪ .‬جميل ن�صيف‪،‬‬
‫بريخت ‪ ،‬وهي ت�ؤدي دوراً يف هذه امل�رسحية‪.‬‬ ‫نفَ�س ًا بريختياً‪ ،‬ف�إن امل�رسحية مل تتجاوز ذلك �إىل ما هو‬
‫يقول العاين بهذا ال�صدد ‪:‬‬ ‫�أكرث‪ .‬فهذه اللوحات وعناوينها مل تغيرّ تغييرّ اً جذري ًا يف‬
‫« كان على و�أنا �أ�شاهد الأداء الفذ لهذه املمثلة �أن �أم�سح‬ ‫البناء التقليدي للم�رسحية‪ .‬فهي لي�ست م�ستقلة متاماً‪،‬‬
‫من ر�أ�سي كل ما تعلمته من مبادئ التمثيل والإخراج‬ ‫وكل لوحة �أو ف�صل من ف�صول امل�رسحية ميهد للف�صل‬
‫ال�ساذجة»‪.‬‬ ‫الذي يليه حتى الف�صل ال�سابع �أو اللوحة ال�سابعة التي‬
‫‪194‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫م�سرحية املفتاح‬ ‫وقد دامت �صلة العاين بهذا امل�رسح فرتة طويلة ‪،‬‬
‫يف هذا العمل املهم يلم�س املتتبع لتطور م�رسح العاين‬ ‫وربطته مع هيلينا فايكل �صادقة متينة‪ .‬ولعل من‬
‫�أن ما �أخذه من م�رسح بريخت وبع�ض التجارب احلديثة‬ ‫املفيد �أن تنقل هنا جزءاً من احلوار الذي دار بينه وبني‬
‫الأخرى يف امل�رسح الأوروبي والعربي موظف يف هذه‬ ‫هذه املمثلة الأملانية يف �أول لقاء بينهما لنتعرف على‬
‫امل�رسحية‪ .‬فقد �أكت�سب امل�ؤلف من م�رسح الرحابنة يف‬ ‫ال�سبب الذي ي�شده �إىل م�رسح بريخت ‪:‬‬
‫لبنان طاقة التعبري بال�شعر ال�شعبي وا�ستخدام الغناء‬ ‫«ـ ملاذا تريد التعرف على م�رسح بريخت ؟‬
‫يف البناء الدرامي‪ .‬واكت�سب من بريخت‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫لأنه م�رسح تقدمي وجديد ‪.‬‬
‫ما تقدم‪ ،‬طريقة ا�ستخدام الأ�سطورة واحلكاية ال�شعبية‬ ‫و�سيا�سي‪.‬‬
‫يف الت�أليف الدرامي‪ .‬وفهم من قراءته وم�شاهداته‬ ‫بال�ضبط‪.‬‬
‫للم�سارح الأوربية احلديثة‪� ،‬أن املادة ال�سيا�سية ال تقدم‬ ‫وهل متار�س ال�سيا�سة ‪.‬‬
‫بال�رضورة على نحو مبا�رش‪ ،‬و�إمنا ميكن �أن تقدم حتت‬ ‫ال�سيا�سة جزء من حياتنا ‪ .‬والفن ال بد �أن ي�شمل كل‬
‫غطاء رمزي ‪ ،‬من �ش�أنه �أن يعمق امل�ضمون‪ ،‬وال ي�سبب‬ ‫جماالت احلياة‪)17(».‬‬
‫للم�ؤلف حرج ًا مع الرقابة‪ .‬وهو �أمر كان �رضوري ًا يف‬ ‫ومن بريخت تعلّم العاين �أي�ضا �أن امل�رسح يجب يثري‬
‫الفرتة التي قدمت فيها امل�رسحية من قبل فرقة امل�رسح‬ ‫الرغبة يف امل�شاهدين للتعرف على الواقع دون احلاجة‬
‫الفني احلديث ببغداد عام ‪� .1968‬أي بعد عام واحد من‬ ‫�إىل تقدمي �صور كثرية عنه؛ و�أن على امل�رسح توفري‬
‫حرب حزيران مع ا�رسائيل التي اعتربت نتيجتها هزمية‬ ‫متعة الإح�سا�س بالرغبة لتغيري هذا الواقع‪ .‬ويجب �أن‬
‫لالنظمة العربية كلها‪.‬‬ ‫ال يكتفي امل�شاهد بالتفرج ال�سلبي على م�شهد حترير‬
‫فمثل غريه من املثقفني عا�ش العاين حمنة افتقاد‬ ‫برومثيو�س من �أغالله‪ ،‬بل يجب �أن نح�س – كما يقول–‬
‫احلرية والدميقراطية يف البالد‪ .‬ومثل غريه كان يعلق‬ ‫ب�رضورة امل�شاركة يف حتريره‪ )18(.‬ومن �أجل ذلك‬
‫�آما ًال كبرية على ثورة متوز ‪ .1958‬لكن الثورة انحرفت‬ ‫كان على العاين �أن ي�ستخدم تكنيك التغريب الربيختي‬
‫عن م�سارها و�أ�صابها ما �أ�صابها‪ .‬بحيث بدا الأفق‬ ‫املعروف‪.‬‬
‫م�سدوداً‪�،‬أحيان ًا ‪� ،‬أمام الكاتب‪ ،‬واحلياة عقيمة‪.‬‬ ‫« هذا التغريب ‪ -‬يقول العاين – هو و�ضع فا�صل بني‬
‫وما يعر�ضه علينا العاين يف هذا العمل هو ق�صة‬ ‫اخل�شبة وال�صالة‪ ،‬ومتكني امل�شاهد من ممار�سة النقد‬
‫الزوجني العقيمني اللذين عجز العلم احلديث (علم‬ ‫ملا يجري على اخل�شبة»‪.‬‬
‫�أوروبا والعامل املتح�رض عموما) �أن يعطيهما جواب ًا‬ ‫ولكي يتوفر �رشط التغريب هذا فال بد للممثل �أن يرف�ض‬
‫الو�سائل التقليدية يف التمثيل‪� .‬أي تلك التي حت ّتم عليه‬
‫االندماج الكامل بالدور الذي ميثله‪ .‬وهو‪� ،‬أي التغريب‪،‬‬
‫ال يثري يف ر�أي العاين ذهن امل�شاهد دون �أن تتوفر‬
‫للممثل دقة املالحظة والإتقان العايل للحركة‪ .‬عند‬
‫ذاك فقط‪ ،‬ميكن �أن يتحول التغريب �إىل �أ�سلوب فني و�إىل‬
‫ينبوع لل�رسور‪ .‬والتعليم يف امل�رسح ‪ -‬ي�ضيف العاين –‬
‫ممكن حيث تكون الت�سلية ممكنة‪)19( .‬‬
‫هذه املفاهيم وغريها من التي �أخذها العاين عن م�رسح‬
‫بريخت امللحمي �ستجد انعكا�سها لي�س يف امل�رسحيات‬
‫التي �سيكتبها العاين فيما بعد ‪ ،‬بل �سيحاول تطبيقها‬
‫يف بع�ض الأدوار املهمة التي �سيلعبها يف بع�ض‬
‫م�رسحيات بريخت التي قدمت يف بغداد يف مرحلة‬
‫الحقة‪ ،‬كما �سرنى ذلك فيما بعد‪.‬‬
‫‪195‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هذه الأغنية ال�شعبية �شائعة يف العراق يرددها‬ ‫�شافي ًا لعقمهما‪ ،‬فانطلقا يف رحلة طويلة قادتهما �إىل‬
‫الأطفال دون �أن يعرفوا معناها متاماً‪ .‬ولها نظائر يف‬ ‫�أعماق الرتاث‪ ،‬بحث ًا عن حكمة الأجداد‪ .‬هذه احلكمة‬
‫بلدان عربية كثرية‪ .‬وال�سل�سلة الطويلة من الوعود التي‬ ‫التي تقول �إن الأجداد وحدهم قادرون على �أن يهبوهما‬
‫حتملها الأغنية ال تقود �إىل الهدف الذي ين�شده حريان‬ ‫ما عجز العلم احلديث عن �إعطائهما �إياه‪.‬‬
‫وحريه‪� :‬أن يكون لهما طفل و�أن يتمتع هذا الطفل‬ ‫�إنها‪� ،‬إذن‪ ،‬ق�صة الزمن ال�صعب الذي حتول فيه كل �شيء‬
‫ب�ضمانات كافية حينما يكرب‪ .‬ومرحلة بعد مرحلة‬ ‫�إىل جفاف وعقم‪ .‬وعلى العك�س من م�رسحياته ال�سابقة‪،‬‬
‫يكت�شف الزوجان العقيمان �أنهما يطاردان الأوهام‪.‬‬ ‫جعل العاين التاريخ االجتماعي العام ميدان ًا لل�رصاع‪.‬‬
‫وحني يح�صالن يف النهاية على املفتاح الذي يفتحان‬ ‫و�أ�صبح ال�صدام واقع ًا لي�س بني الأبناء والآباء داخل‬
‫به ال�صندوق يجدانه فارغاً‪.‬‬ ‫العائلة الواحدة‪ ،‬بل بينهم وبني القوى االجتماعية‬
‫ولكن و�سط هذه اخليبة ينبثق فج�أة نور جديد‪.‬‬ ‫املت�سلطة يف احلا�رض واملا�ضي‪.‬‬
‫يقول حريان ‪ « :‬قلت ال فائدة لن �أجنب طف ًال دون‬ ‫بطال امل�رسحية (حريان) و (حريه) يحاوالن يف‬
‫�ضمان‪ ،‬فتفاجئه الزوجة قائلة ‪� :‬إن الطفل هنا !» ‪.‬‬ ‫رحلتهما داخل الرتاث الفولكلوري وال�شعبي‪ ،‬الرجوع‬
‫فقد حملت به ( حريه ) �أثناء البحث دون �أن تدري‪ .‬وحني‬ ‫�إىل الأ�صول‪.‬‬
‫علمت به �أخفت اخلرب عن زوجها فرتة من الوقت‪ .‬والآن‬ ‫�أما مرافقهما (نوار) الذي ميثل ال�شباب امل�ؤمن ب�سحر‬
‫وقد و�صل الطفل‪ ،‬رغم كل �شيء‪ ،‬فقد وجب على الثالثة‪:‬‬ ‫العلم‪ ،‬فيظل عاجزاً عن �إقناعهما ب�سلوك طريقه‪ .‬ومع‬
‫حريان وحريه ونوار �أن يغريوا من �أ�ساليبهم يف احلياة‪.‬‬ ‫ذلك فهو ين�ساق معهما يف رحلتهما الطويلة يف‬
‫عليهم �أن ي�رسعوا ملواجهة املوقف اجلديد‪ .‬وتنتهي‬ ‫املا�ضي دون �أن يكون مقتنع ًا مبا يحاوالن‪.‬‬
‫امل�رسحية والكل يرك�ض فوق اخل�شبة‪ :‬الباحثون‬ ‫يفتتح العاين عمله هذا ب�أغنية �شعبية معروفة‪ ،‬ت�شكل‬
‫الثالثة ‪ ،‬واحل ّداد ‪ ،‬و�صاحب الثور‪ ،‬وكل من �أ�شرتك يف‬ ‫قراءتها وفهمها مفتاح ًا لفهم هذا العمل ‪:‬‬
‫امل�رسحية من الأحياء‪ ،‬ما عدا الو�صيفة‪ .‬فهي تظل‬ ‫(يا خ�شيبة نودي نودي‬
‫جامدة بال حركة لأنها‪ ،‬وكما ي�سميها امل�ؤلف‪ ،‬ال تنتمي‬
‫‪ ‬وديني على جدودي‬
‫�إىل امل�ستقبل الذي يرك�ض ه�ؤالء باجتاهه‪.‬‬
‫‪ ‬وجدودي بطرف عكا‬
‫ولقد �أراد الكاتب �أن يقول هنا ‪� :‬إن املا�ضي وحكمة‬
‫الأجداد وحدهما مل يعودا قادرين على �إيجاد احلل لعقم‬ ‫‪ ‬يعطوين ثوب وكعكة‬
‫احلياة التي نعي�ش فيها‪ .‬وما دام الأمل الذي ميثله رمز‬ ‫‪ ‬والكعكة وين �أ�ضمها‬
‫الطفل موجوداً‪ ،‬فال ب ّد �أن نوا�صل البحث باجتاه �آخر‪.‬‬ ‫‪� ‬أ�ضمها ب�صنيديقي‬
‫واملزج بني �سحر املا�ضي وك�آبة احلا�رض هو الذي‬ ‫‪ ‬وال�صندوق يحتاج مفتاح‬
‫يعطي‪ ،‬على كل حال‪ ،‬لهذا العمل جاذبيته اخلا�صة‪.‬‬ ‫‪ ‬واملفتاح عند احلداد‬
‫والتي ت�ستع�صي �أحيان ًا على التلخي�ص‪ .‬فهي رحلة‬ ‫‪ ‬واحلداد يحتاج فلو�س‬
‫بحث عن الذات املفقودة مو�ضوعة يف �إطار عر�ض‬ ‫‪ ‬والفلو�س بجيب العرو�س‬
‫م�رسحي ناجح‪ .‬ويبقى الهدف هو نف�سه الذي بحث‬ ‫‪ ‬والعرو�س باحلمام‬
‫عنه يو�سف العاين يف م�رسحياته االجتماعية ال�سابقة‪:‬‬
‫‪ ‬واحلمام يحتاج قنديل‬
‫الإن�سان ويحثه عن طريق يتقدم فيه خطوة �أخرى �إىل‬
‫الأمام‪ .‬والن�رص دائم ًا مكفول لهذا الأن�سان يف النهاية‪.‬‬ ‫‪ ‬والقنديل ببطن البري‬
‫وك�أنه‪ ،‬هذه املرة ‪ ،‬لي�س ن�رصاً �سه ًال كالذي عرفناه‬ ‫‪ ‬والبري يحتاج حبيل‬
‫يف امل�رسحيات االجتماعية ال�سابقة‪ .‬و�إمنا هو ن�رص‬ ‫‪ ‬واحلبل عند الق�صاب‬
‫�صعب‪ ،‬وال يكفي فيه بذل اجلهد‪ ،‬و�إمنا ال مندوحة فيه‬ ‫‪ ‬والق�صاب يحتاج‪...‬‬
‫من اختيار الطريق ال�صحيح‪ ،‬وتوفري و�سائل الو�صول‬ ‫‪ ......... ‬الخ )!!‬
‫‪196‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬

‫واملعلقه ‪ .....‬انك�رست‬ ‫�إليه‪.‬‬


‫يا مني ‪ ......‬يدوايني‬ ‫هذا خمل�ص �شديد لهذا العمل الدرامي الذي �أعتمد فيه‬
‫يا طالع ال�شجره‬ ‫امل�ؤلف على �أغنية �شعبية‪.‬‬
‫هاتلي معاك ‪ ......‬بقره‬ ‫ولننظر الأن كيف جرى ا�ستغالل هذه الأغنية‪،‬‬
‫حتلب ‪ ..........‬تع�شيني‬ ‫فامل�رسحية مق�سمة ح�سب هذه الأغنية – احلكاية �إىل‬
‫فى الكوره ‪....‬ا�صلها‪� ....‬صيني‬ ‫ثالثة �أق�سام رئي�سية‪:‬‬
‫والكوره دي ‪ ..‬انك�رست‬ ‫‪ -1‬الق�سم الأول ‪ :‬توجيه الدعوة �إىل الأجداد للم�ساعدة‬
‫يامني ‪ ,,,,,,,,,‬يع�شينى‬ ‫يف �إيجاد حل للعقم الذي تك�شف عنه الزوجة يف بداية‬
‫م�شيت لبيت اهلل‬ ‫امل�رسحية ‪.‬‬
‫لقيت حبيب اهلل‬ ‫‪ -2‬الق�سم الثاين ‪ :‬يت�ضمن رحلة البحث الطويلة بني‬
‫قاعد على منرب‬ ‫�سل�سلة من الوعود واملراحل املختلفة التي يحيل �أحدها‬
‫للآخر‪ .‬وعلى هذا الق�سم بنى امل�ؤلف اللوحات الأ�سا�سية‬
‫حتته ب�ساط اخ�رض ‪� ..‬إلخ»‬
‫يف عمله‪ .‬والرتابط املوجود بني هذه اللوحات املعتمدة‬
‫فهل يجوز لنا �أن نقول ب�أن العاين قد ت�أثر يف اختياره‬
‫على احلكاية ال�شعبية ميكن �أن يعك�س مفهوم الرتابط‬
‫للأغنية ال�شعبية العراقية بامل�ؤلف امل�رصي؟‬
‫االجتماعي و�رضورة التعاون بني اجلميع للو�صول �إىل‬
‫�إن ذلك ممكن �إذا عرفنا �أن امل�ؤلفني كليهما قد �أنخرطا‬
‫الهدف النهائي‪ .‬ولكن اخليبة املرتتبة على اكت�شاف �أن‬
‫يف التناق�ضات الرتاجيدية الواقعة بني احلياة واملوت‬
‫ال�صندوق مو�ضع البحث كان فارغاً‪ ،‬يربز ال�س�ؤال امللح‬
‫واحلا�رض واملا�ضي يف احلياة العربية مبا تنطوي عليه‬
‫عن جدوى البحث �إذا مل يكن هدف الطريق امل�ؤدي �إليه‬
‫من عقم وافتقاد لل�شعور بالأمان‪ .‬وقد كان كالهما‬
‫وا�ضحا‪.‬‬
‫حري�ص ًا على �أن يرينا �أن البحث عن ح ّل للخروج‬
‫‪� -3‬أما الق�سم الثالث والأخري‪ ،‬ففيه دعوة و�أمل ‪ .‬ويتم ّثل‬
‫من الأزمة اخلانقة كان حماط ًا يف حينها بال�شك‬ ‫يف احلكاية ب�سقوط املطر وظهور احل�شي�ش يف الب�ستان‪،‬‬
‫والالجدوى‪ ،‬حتى �إذا كانت قراءة العملني تك�شف‬ ‫ومبعادلة املو�ضوعي ( الطفل ) الذي ينبت �أخرياً يف‬
‫لنا �أي�ض ًا عن فروق كبرية بينهما‪ .‬ففي حني ُت�ص ّنف‬ ‫�أح�شاء ( حرية ) الباحثة عن هذا الأمل‪.‬‬
‫م�رسحية احلكيم �ضمن م�رسح العبث‪ ،‬يتجه العاين‪،‬‬ ‫ويف تعليقه على ال�سبب الذي دفعه الختيار هذه‬
‫كما ر�أينا‪ ،‬ب�أب�صاره �إىل م�رسح بريخت امللحمي‪ ،‬حيث‬ ‫الأغنية يقول العاين ‪:‬‬
‫الرتكيز يجري على النواحي الفكرية والآيديولوجية ‪،‬‬ ‫«باختياري لهذه الأغنية‪ ،‬التي مل يكن �أحد يفهم‬
‫ولي�س �إىل بيان العبث والالجدوى الكامنة يف الو�ضع‬ ‫م�ضمونها متام ًا �أن �أ�سقط الوهم الذي �سحر ب�صائرنا‬
‫الب�رشي جملةً‪ ،‬ويف حال �إجناب الزوجة ب�شكل خا�ص‪،‬‬ ‫طويالً‪ .‬هذا الوهم الذي يحملنا على البحث عن �أ�شياء ال‬
‫كما يتبدى يف حوار الزوج مع الدروي�ش يف امل�رسحية‬ ‫وجود لها يف الواقع»‪)21(.‬‬
‫امل�رصية ‪:‬‬ ‫وهذا التعليق يذكرنا‪ ،‬على نحو مده�ش ‪ ،‬بال�سبب‬
‫«الزوج ‪ :‬حياتها كانت عبثا ‪�...‬أ�سقطت ثمرتها ‪ ....‬ومل‬ ‫الذي دفع توفيق احلكيم الختيار تلك الأغنية ال�شعبية‬
‫تع�ش �إال على وهم الأمومة‬ ‫امل�رصية التي بنى عليها هو الآخر م�رسحيته (يا طالع‬
‫الدروي�ش ‪� :‬إنها لي�ست عبثا‪..‬مادمت �ستقدمها غداء �شهيا‬ ‫ال�شجرة) ‪:‬‬
‫ل�شجرتك‪.‬‬ ‫«طالع ال�شجره‬
‫الزوج ‪� :‬صدقت من هده الوجهة هى نافعة‪.‬‬ ‫هاتلي معاك ‪ .......‬بقره‬
‫الدروي�ش ‪� :‬إذا كان هناك عبث ففي حياة ال�شجرة‪.‬‬ ‫حتلب ‪ .......‬وتديني‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫باملعلقه ‪ ...........‬ال�صيني‬

‫‪197‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ت�شكيل‬

‫من �أعمال الفنان فريمري‪ -‬هولندا‬

‫‪198‬‬
‫الوجه الآخر للوحة‬
‫الت�شكيليون و�إمكانيات احليل الفنية‬
‫\‬
‫بدر حممد املعمري‬

‫�سرية الفنان وعطا�ؤه الفني ا�شبه ب�صورة مكونة من ق�صا�صات �صغرية ‪ ،‬ولر�ؤية هذه‬
‫ال�صورة يتحتم علينا اعادة ما تناثر من هذه الق�صا�صات‪ .‬ال �شك ان معظم متذوقي‬
‫الفنون من العامة خ�صو�ص ًا مت ال�سيطرة عليهم بتلك «ال�صورة املثالية» التي وجدت‬
‫لنف�سها خمدع ًا بني جنبات كتب النقد والتذوق الفني ف�أ�صبحت مبثابة الكتب املقد�سة‬
‫التي قُدر لها ان ال تُخ َد�ش �سواء من رجل ال�شارع العادي او املتذوق املخت�ص‪ .‬لهذا‬
‫جند ان «ابت�سامة املوناليزا» الغام�ضة ا�صبحت «مفتاح احلل» لتعليل �سيطرتها‬
‫على امل�شهد الت�شكيلي عند احلديث عن رائعة دافن�شي الأ�شهر ‪ ،‬مع انني �أعتقد �أن وفاة‬
‫الفتاة بعد عدة �أ�شهر من امتام اللوحة ب�سبب ورم خبيث وزيادة ن�سب الكل�سرتول وما‬
‫�شكلته الوفاة من هاله درامية كبرية يف ع�رصها �أجدر ب�أن يحت�سب �سبب ًا يف تربعها‬
‫على �أدمغة اجلمهور يف زمننا احلا�رض‪ .‬يف احلقيقة �أن «االحكام املقولبة» هي اكرث‬
‫من يبعث على االحباط وهو �أمر �سئمته �شخ�صي ًا كمحا�رض ي�صطدم دائم ًا مع تالمذته‬
‫ب�سبب غياب التجديد يف قراءة الفنانني و�أعمالهم الفنية بالرغم من كرثة البحوث‬
‫الفنية املتدفقة التي تلغي الأبجديات املوروثة وت�أتي بغريها‪.‬‬

‫قراءة لتاريخ الذات واال�شتغال الفني‬ ‫‪v‬‬

‫‪199‬‬ ‫\ كاتب و�أكادميي من ُعمان‪.‬‬


‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اعمال فنية خالدة‪ .‬لكن ما قد يتبادر �إىل ذهن املتذوق‬ ‫�إن الفنان العاملي جان فان �آيك (‪ )Jan Van Eyck‬الذي‬
‫هو احلالة التي عا�شها دافن�شي ذاته من الناحية‬ ‫ظهر قبل ع�رص النه�ضة �أنتج �إعما ًال فنية ذات طابع‬
‫النف�سية ‪ ،‬فاملجتمع الكاثوليكي لن يقبل ب�شذوذية‬ ‫كال�سيكي مثري‪ ،‬حيث �إن دقة الفنان جعلته ذا �صيت‬
‫الفنان وبالتايل وجب علية �إخفاء تلك امل�ؤ�رشات‪،‬‬ ‫م�سموع ومنهم من اعتربه ممهداً لفن ع�رص النه�ضة‬
‫و�إخفاء تلك امل�ؤ�رشات من جانب �آخر قد تكون �أثرت‬ ‫االوروبي ‪� .‬إال �إن تلك الدقة التي ظهرت بها �أعماله‬
‫يف عطاءه الفني كون جانبه الروحي الداخلي �سيكون‬ ‫كانت قد متت با�ستخدام املرايا والأدوات الب�رصية‬
‫يف �رصاع تام مع من حوله‪ .‬وباخت�صار �إذا كانت هذه‬ ‫كالعد�سات املحدبة وغريها‪ ،‬ومل يكن الفنان يتحلى‬
‫التكهنات �صحيحة‪ ،‬ف�أن الفنان ال حمالة قد نقل الينا‬ ‫باملهارة الكافية التي �أعتقد النقاد انه ميلكها‪ .‬لقد‬
‫�إعما ًال فنية ‪ -‬على االقل ‪ -‬ال تعرب عن ذاته متاماً!‬ ‫�أكد لنا هذه احلقيقة كل من الفنان الربيطاين ديفد‬
‫ومل يكن معا�رصه مايكل �أجنلو (‪ )Michelangelo‬بحال‬ ‫هوكني (‪ )David Hockney‬ومواطنه الفيزيائي ت�شارلز‬
‫�أح�سن‪ ،‬فقد نقلت �ألينا املدونات التاريخية �صورة‬ ‫فالكو (‪ )Charles Falco‬اللذان اعتربا �أن الفنان قد ح�صل‬
‫�شخ�صية قامتة املالمح لهذا النحات امل�صور‪ ،‬ف�أن‬ ‫على مكانته الرفيعة يف الو�سط الفني مبجموعة من‬
‫�أقل ما و�صف به هو الغرور والفوقية وكراهية‬ ‫احليل الب�رصية وبالتايل ميكن ان ٌيطلق عليه لقب‬
‫املناف�سني وحتقريهم‪ .‬وعندما �أدرك مقدرته الفذة‬ ‫«حمتال» خ�صو�صا اذا ما ادركنا �أن «الدقة يف نقل‬
‫يف النحت وعلم ان دافن�شي ال ي�صل �إىل تلك املهارة‬ ‫الطبيعة» كانت هي معيار تقدير الفن و الفنانني يف‬
‫�أعلن فوقية النحت على الت�صوير ليعلن من وراء ذلك‬ ‫تلك املرحلة‪.‬‬
‫فوقيته على دافن�شي‪ .‬حتى بلغ به الغرور انه عندما‬ ‫و�إذا كانت نبوءة عامل النف�س �سيجموند فرويد حول‬
‫�أمت عمله النحتي «مو�سى» اخذ املطرقة وبد�أ ي�رضب‬ ‫ليناردو دافن�شي (‪ )Leonardo Da Vinci‬يف كونه ينتمي‬
‫على ركبة التمثال بخفة ويقول ‪ :‬انطق يا مو�سى ! وما‬ ‫�إىل مثيلي اجلن�س �صحيحة ‪ ،‬وهو الأمر الذي ورد يف‬
‫ان اختلف معه الفنان العاملي بيرتو توريجاين (‪Pietro‬‬ ‫الدرا�سة التي ن�رشها فرويد يف عام ‪ ،1910‬ف�أن ذلك‬
‫‪ ،)Torrigiano‬اال وهال عليه �أجنلو بال�شتائم والتحقري و‬ ‫قد ي�ؤثر على بع�ض معطيات النقد التي �سيواجهها‬
‫مل يرتدد توريجاين حلظة يف �رضب �أجنلو على وجهه‬ ‫دافن�شي وفنه‪ .‬ال ي�ستطيع احد �إن ينكر �إن دافن�شي كان‬
‫‪ ،‬حتى احدث ك�رسا يف �أنفه ‪ ،‬وظهر ذلك الك�رس جلي ًا‬ ‫فنان ًا كاثوليكي ًا يف موا�ضيعه ‪ ،‬فكان الإجنيل معينة‬
‫يف اللوحة ال�شخ�صية للفنان التي ر�سمها �أجنلو بيديه‪.‬‬ ‫الذي ال ين�ضب يف حتويل الإحداث الدرامية الدينية �إىل‬

‫لوحات الفنانني من اليمني اىل الي�سار ‪ :‬جان فان �آيك ‪ ،‬كارافاجيو ‪ ،‬و رمربانت‪.‬‬
‫‪200‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬

‫كانت مثا ًال على توازن الظل والنور قد ت�أثرت بطبقات‬ ‫لقد �سجل لنا التاريخ الفني حكاية فنان قاتل مل‬
‫من الورني�ش عملت بال�صدفة على حت�سني و�ضع الظل‬ ‫يتوان حلظة عن قتل غالم �صغري يعمل مرت ًال للجوقة‬
‫والنور يف العمل‪ ،‬وكان العاملون على اقتناء �أعماله‬ ‫يف الكني�سة‪ ،‬فمن يكون ذلك الفنان غري االيطايل‬
‫ي�ضيفون طبقات الورني�ش للحفاظ على اللوحة من‬ ‫كارافاجيو (‪ .)Caravaggio‬كان كارافاجيو �سخي ًا جداً‬
‫التلف‪� .‬إال ان لهذه اللوحة يف الواقع ا�سما �آخر غري‬ ‫على مظهره كما لو كان منحدراً من طبقة �أر�ستقراطية‬
‫الذي يتم تداوله حاليا ح�سب مذكرات رامربانت‪ .‬ان‬ ‫خمملية‪ .‬ولكن هذا ال�سخي يف املظهر كان بخي ًال على‬
‫ا�سم هذا العمل هو( (�‪The Company of Captain Frans Ban‬‬ ‫فنه‪ ،‬فال يتوانى عن ا�ستخدام مفر�ش الطاولة لري�سم‬
‫‪ ،)ning Cocq‬وعندما مت �إزالة طبقات الورني�ش بعد‬ ‫عليه بد ًال من �رشاء قما�ش الر�سم الذي ال يتعدى ثمنه‬
‫ان تطورت عملية ترميم االعمال الفنية بعد احلرب‬ ‫قيمة املعطف الذي يلب�سه‪ .‬و عندما قتل فتى اجلوقة‬
‫العاملية الثانية ‪،‬ظهر النور �أكرث طغاء من الظل ‪ ،‬فهل‬ ‫رانيكو توما�سوين (‪ )Ranuccio Tommasoni‬ا�ستطاع‬
‫يكون لطبقات الورني�ش دور يف تر�سيخ ا�سم رمربانت‬ ‫الفنان الهرب خارج املدينة لفرتة لي�ست ق�صرية وقد‬
‫وتتويجه ملكا للظل والنور يف تلك املرحلة من تاريخ‬ ‫�ساعده جمموعة من ا�صدقائه بتعتيم اخباره‪ ،‬حتى‬
‫اوروبا الفني ؟!‬ ‫�إن املدونات التاريخية تذكر لنا ان جوائز مغرية مت‬
‫�إما مواطنه فريمري (‪ )Vermeer‬فقد �أثبتت كثري من‬ ‫عر�ضها على من ي�أتي ب�أخباره‪ .‬ولكن مما يثري اجلدل‬
‫الدرا�سات �أنة كان طائفي التفكري والنزعة ‪ ،‬فقد كانت‬ ‫حول كارافاجيو �أنه عندما �صور لوحته «داوود يحمل‬
‫زوجة �أبية دائما ما ت�شوه املذهب الربوت�ستانتي‬ ‫ر�أ�س جالوت» (‪ )David with the head of Goliath‬انه قد‬
‫النا�شئ وت�صوره له كما لو كان حتريفا للم�سيحية‬ ‫ر�سم �صورته يف القاتل واملقتول يف تلك اللوحة ‪،‬‬
‫الكاثوليكية‪ .‬كان يعتقد ان زيادة عدد امل�ؤمنني‬ ‫فكان وجه داوود هو وجه كارافاجيو �شاب ًا وكان ر�أ�س‬
‫باملذهب الكاثوليكي هو احلل ملواجهة املذهب‬ ‫جالوت هو وجه كارافاجيو كبرياً‪ ،‬فهل يكون ذلك‬
‫الربوت�ستانتي ‪ ،‬الأمر الذي دفع الفنان �إىل ان يقوم‬ ‫مبثابة اعرتاف �ضمني باجلرمية يف الوقت ال�ضائع‪.‬‬
‫بواجبه جتاه الكاثوليكية ب�إجناب اكرب عدد من‬ ‫لقد �أطلق على الفنان الهولندي رمربانت (‪)Rembrant‬‬
‫الأطفال‪ ،‬ف�أجنب ‪ 11‬طف ًال من زوجته و�أربعة �آخرين‬ ‫لقب «ملك الظل والنور» وذلك لقدرته على �إحداث توازن‬
‫من خادمته‪ ،‬وهي نف�س الفتاة (ذات حلق الل�ؤل�ؤة) التي‬ ‫درامي بني املناطق امل�ضيئة واملناطق املظلمة يف‬
‫ر�سمها يف �أوج احرتافه‪ .‬يبدو �إن ذلك كان وا�ضحا يف‬ ‫العمل الفني‪� .‬إال �إن �أ�شهر لوحاته (‪ )Night watch‬والتي‬

‫لوحات الفنانني من اليمني اىل الي�سار ‪ :‬فريمري ‪ ،‬و فران�ش�سكو جويا ‪ ،‬و لوي�س دافيد‪.‬‬

‫‪201‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪The Death‬‬ ‫لوحات توجت الثورة الفرن�سية كلوحة (‬ ‫كثري من لوحات الفنان حيث مل تظهر �صورة «املر�أة‬
‫‪ )of Marat‬والتي �صور فيها موت �صديقه مارات يف‬ ‫احلامل» يف لوحات الت�صوير الأوروبية كما ظهرت‬
‫م�سبحه وهو املنا�ضل الذي �ساند اعمال الثورة �ضد‬ ‫عند فريمري‪.‬‬
‫ع�رص اللوي�سات واالر�ستقراطيني من حولهم‪ .‬لكننا‬ ‫اما فران�ش�سكو جويا (‪ ) Francisco Goya‬اال�سباين والذي‬
‫نفاج أ� ب�أن الفنان نف�سه كان �أعظم فناين بالط نابليون‬ ‫ميكن ان �أطلق عليه ‪ -‬بال مبالغة ‪ -‬لقب «الوطني‬
‫اال�ستبدادي‪ ،‬حتى ان لوحات نابليون ال�شخ�صية كما‬ ‫اخلائن» فقد ق�ضى فرتة طويلة من حياته مدافع ًا عن‬
‫ذكرت املدونات التاريخية ظهرت �أعظم من هيئة‬ ‫حرية ا�سبانيا ومعاداته للمحتل الفرن�سي‪ ،‬وكانت‬
‫نابليون احلقيقة ج�سمانياً‪ ،‬الأمر الذي قد ي�ضيف �صفة‬ ‫لتلك النزعات الوطنية نتائج ذهبية متخ�ضت يف‬
‫املبالغة الكاذبة �إىل تهمة اخليانة للثورة التي ا�شتعلت‬ ‫�إنتاج �أف�ضل �أعماله على الإطالق كلوحة (‪the third of‬‬
‫لتحارب مظاهر العظمة والدكتاتورية‪.‬‬ ‫‪ )May‬التي �صور فيها تع�سف الفرن�سيني يف التعامل‬
‫وللفنان دانيت جربائيل رو�سيتي( (�‪Dante Gabrial Ros‬‬ ‫مع ثوار ا�سبانيا الوطنيني ب�إطالق النار على مقاومي‬
‫‪ )setti‬حكاية �أخرى‪ ،‬فهو الفنان ال�شاعر وهو من‬ ‫االحتالل‪ .‬كانت بال �شك �صورة رائعة للفنان ‪� ،‬إال �أنه‬
‫تعاون مع (‪ )Hunt‬و(‪ )Millais‬لت�أ�سي�س مدر�سة «ما قبل‬ ‫�أعقبها مبرحلة �أخرى متثلت يف اعتباره فنان البالط‬
‫الرفائيلية» الفنية ‪ ،‬وكان له ت�أثري على احلركة الفنية‬ ‫والأ�رسة احلاكمة الفرن�سية التي حتتل بالده‪ ،‬فكان‬
‫االجنليزية التي كانت مت�أثرة باملدر�سة االيطالية دون‬ ‫الر�سام الأول يف ق�رص جوزيف الأخ الأ�صغر لنابليون‬
‫ان ت�ضيف �إليها �أي طابع اجنليزي‪� .‬أحب فتاة مري�ضة‬ ‫وممثل حكم نابليون يف ا�سبانيا‪ ،‬فكيف �سولت له‬
‫تدعى (‪ )Lizzy Siddal‬وكتب فيها جمموعة كبرية‬ ‫نف�سه ان يفعل ذلك؟ والأدهى من ذلك �أنه اعرتف ب�أن‬
‫من ا�شعاره الغزلية وعندما ماتت قرر ان يدفن تلك‬ ‫املال كان ال�سبب الرئي�سي يف توجهه اجلديد الأمر‬
‫اال�شعار مع جثمانها‪ ،‬ومت له ذلك ف�سطر لنف�سه هالة‬ ‫الذي �شكل عالمة مظلمة يف تاريخه‪.‬‬
‫من ال�شهرة و�أ�صبح م�رضب مثل للوفاء يف �أو�ساط‬ ‫نف�س ال�شيء ظهر يف حياة م�ؤ�س�س الكال�سيكية اجلديدة‬
‫املجتمع االجنليزي‪� .‬إال �أنه قرر بعد فرتة من الزمن ان‬ ‫جان لوي�س دفيد (‪ )Jacques-Louis David‬فهو الفنان‬
‫ين�رش كتابا لأ�شعاره فكان عدد الق�صائد التي ميلكها‬ ‫الذي ف�ضل احلياة ال�شعبية والليربالية �ضاربا عر�ض‬
‫ال تكفي لإنتاج الكتاب‪ ،‬فما كان منه �إال الت�سلل لي ًال‬ ‫احلائط مبظاهر االر�ستقراطيني بالرغم من كونه �سليل‬
‫�إىل املقربة وا�ستخراج اال�شعار بعد نب�ش اجلثة لأن‬ ‫عائلة ثرية و خمملية املظاهر‪ .‬يف هذه املرحلة �أنتج‬

‫لوحات الفنانني من اليمني اىل الي�سار ‪ :‬رو�سيتي ‪ ،‬و مانية ‪ ،‬و و�سلر‪.‬‬
‫‪202‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬

‫من ي�شاهد لوحة (الأم) للفنان الأمريكي جيم�س‬ ‫الق�صائد كان مو�ضوعة يف �شعر حمبوبته‪ .‬مت ك�شف‬
‫و�سلر (‪ )James Whisler‬والتي تعترب العالمة البارزة يف‬ ‫حقيقة الأمر من خالل الق�صائد املن�شورة لت�صبح هذه‬
‫تاريخه الفني‪ ،‬رمبا يت�صور مدى قوة االرتباط بني‬ ‫احلادثة م�رضب مثل للخيانة واجل�شع بعد ان كانت‬
‫الولد و�أمه‪ .‬ولكن يف الواقع تنقل لنا املقاالت النقدية‬ ‫عالمة م�رشقة يف تاريخ الفنان‪.‬‬
‫وامل�ؤرخني �صورة خمتلفة لتلك العالقة‪ .‬لقد كانت �أم‬ ‫لقد كان الفنان التعبريي ادوارد مانيه( (�‪Edouard Ma‬‬
‫و�سلر تعمل يف املنزل كنادلة ت�سقي �أ�صدقاء و�سلر‬ ‫‪ )net‬يفتقد �إىل الروح الفنية العالية يف تقبل �آراء نقاد‬
‫اخلمر ب�سبب احلالة املادية التي كان يعانيها الفنان‬ ‫الفن‪ ،‬الأمر الذي قاده �إىل ان يعي�ش �أجواء معكرة دوم ًا‬
‫و�أمه بعد عودتهما من رو�سيا يف املرحلة التي ر�سم‬ ‫مع �رشائح النقد الفني يف املجتمع الفرن�سي‪ .‬كان عليه‬
‫فيها لوحة �إالم‪ .‬لكن لي�س ذلك �سبب ًا يقلل من م�صداقية‬ ‫ان ي�ؤمن ب�أنه ي�سري �إىل بناء املدر�سة التعبريية وهي‬
‫الفنان فهو على الأقل قرر ان ير�سم امه يف الوقت الذي‬ ‫مدر�سة نا�شئة‪ ،‬وبالتايل عليه تقبل �آراء نقدية �صادمة‬
‫كان بو�سعه ان ير�سم �أي ح�سناء كما فعل غريه‪ .‬لكن‬ ‫احيان ًا نظري التغيري الذي �سيطر أ� على الفن العاملي‬
‫امل�شكلة تكمن يف �إدمان الفنان على اخلمر يف الوقت‬ ‫جراء عملية التحول �إىل املدر�سة التعبريية‪ .‬كما �أنه مل‬
‫الذي كانت امة من �أهم املعار�ضني ل�رشب الكحوليات‪،‬‬ ‫يكن رادكالي ًا يف م�ستوى املدر�سة الفنية فقط‪ ،‬و�إمنا‬
‫فاىل �أي مدى �سمح الفنان لنف�سه ان تعمل والدته‬ ‫كان رادكالي ًا يف مو�ضوعاته فر�سم لوحة «اوملبيا»‬
‫�ساقية للكحوليات وهي من �أهم معار�ضي ال�رشب‪ .‬لقد‬ ‫التي كانت مبثابة ال�شعرة التي ق�صمت ظهر البعري‬
‫ذكر الفنان يف مذكراته �أنه يف الوقت الذي كان ير�سم‬ ‫عندما �صور امر�أة ار�ستقراطية بهيئة عارية لتتمثل‬
‫فيه لوحة االم كانت امه حتا�رض ا�صدقاءه يف �أهمية‬ ‫للمتذوقني ك�ساقطة ‪ ،‬ومل تكن تلك اللوحة حتمل �أي‬
‫العزوف عن ال�رشب مما كان ي�شعره بالإحراج‪.‬‬ ‫ر�سالة �سوى ان جلو�س املر�أة عارية بجانب الرجال‬
‫ا�شتهر الفنان كلود مونية (‪ )Claude Monet‬بلوحاته‬ ‫يف الأماكن العامة يعترب جزءاً من احلياة اليومية يف‬
‫ذات املوا�ضيع املكررة واملتعلقة دائم ًا ب�أوراق الليلك‬ ‫باري�س‪� .‬إال ان التاريخ ي�ؤكد لنا �شخ�صيته الرنج�سية‬
‫وت�أثري تناثرها على �سطح املاء حتى بلغ عدد ما‬ ‫التي ال تتقبل �آراء الآخرين عندما قرر مبارزة الناقد‬
‫ر�سمه لهذا املو�ضوع ‪ 250‬لوحة‪ .‬لكن يظهر ال�سبب‬ ‫الفني (‪ )Edmond Duranty‬بال�سيف حتى ان االثنني‬
‫يف اختيار ذلك املو�ضوع من خالل اعرتافه للفنان‬ ‫ا�صيبا يف املبارزة وان احدهما �رصح بعد املبارزة لو‬
‫العاملي ادجار ديجا�س (‪ )Edgar Degas‬يف عام ‪1900‬‬ ‫�أنه امتلك �سيف ًا قوي ًا حاداً لأردى �صاحبه قتيالً!‬

‫لوحات الفنانني من اليمني اىل الي�سار ‪ :‬كلود مونيه ‪ ،‬و هرني رو�سو ‪ ،‬و فان جوخ‪.‬‬

‫‪203‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫الهولندي فن�سنت فان جوخ (‪!) Vincent Van Gogh‬‬ ‫ب�أنه ال يجيد �إال ر�سم اللون الأزرق �أو الألوان الباردة‬
‫�إن العالقة ال�سيئة التي �سادت بني الفنان ادوارد هوبر‬ ‫ب�سبب م�شكلة ب�رصية كان يعاين منها على الدوام‪.‬‬
‫(‪ )Edward Hopper‬وزوجته جو�سفني نف�شن (‪Josephine‬‬ ‫�إال �أنه قام بعملية جراحية لب�رصة يف عام ‪1920‬‬
‫‪ )Nivison‬كانت عالمة مظلمة يف تاريخ الفنان الذي‬ ‫وتكللت بالنجاح ف�أعرتف �أنه يرى اللون الأزرق بعد‬
‫طاملا انت�رص للفن القريب من املتذوق والبعيد عن‬ ‫العملية اجلراحية لي�س بنف�س الت�أثري اجلميل الذي كان‬
‫التكعيبية املفرطة التي �أ�سهمت يف بع�ض الأحيان يف‬ ‫يراه قبل العملية‪ ،‬فاما ان تكون العملية غري ناجحة‬
‫تغييب الثقة عن الفن الت�شكيلي عند املتذوق العادي‬ ‫�أو ان يكون ب�رصه قبل العملية قد اعطاه قدرة على‬
‫‪ .‬لقد ذكر بنف�سه �أنه كان يعتدي عليها بال�رضب‬ ‫ر�ؤية اللون الأزرق ب�صورة �أف�ضل وبالتايل يندرج‬
‫يف الوقت الذي يظهر فيه للجمهور ب�أنه رمز للروح‬ ‫حتت قائمة املحظوظني‪ .‬اجلدير بالذكر ان الفنان كان‬
‫ال�شفافة واملحبة للآخرين‪ .‬لقد ذكرت لنا زوجته �إنها‬ ‫له حظوة كبرية لدى رئي�س الوزراء الفرن�سي يف ذلك‬
‫كانت �أحيان ًا ت�رضب عن الطعام لتثني زوجها عن‬ ‫الوقت (‪ )Georges Clemenceau‬مما كان له بالغ الأثر يف‬
‫االعتداء اجل�سدي عليها والذي مل يتوقف عنة طوال‬ ‫متثيل مونية يف املحافل احلكومية دون الآخرين ممن‬
‫فرتة زواجهما‪.‬‬ ‫عا�رصوه‪.‬‬
‫مل يكن تاريخ الفنان العاملي بابلو بيكا�سو( (�‪Pablo Pi‬‬ ‫�إن �شخ�صية الفنان هرني رو�سو (‪ )Henri Rousseau‬وهو‬
‫‪ )casso‬م�ضيئا يف كل مراحله ‪ ،‬فالتاريخ يذكر لنا �أنه‬ ‫فنان تخ�ص�ص يف اللوحات ذات العالقة بالفن البدائي‬
‫عندما ترك زوجته الأ�شهر «دورا‪ -‬مار» (‪)Dora Maar‬‬ ‫(‪ )Primitive Art‬تكاد تكون الأكرث �إثارة من حيث ال�سجل‬
‫لأجل حمبوبته اجلديدة فران�شيز جوليت( (�‪Francoise Gi‬‬ ‫الإجرامي وعدد مرات دخول ال�سجن‪ .‬كانت بدايته‬
‫‪ )lot‬قد �أهمل ب�شكل تام االهتمام بابنه املراهق باولو‬ ‫عندما �رسق مبلغ ًا من املال لريد اجلميل ملن قدموا‬
‫(‪ )Paulo‬والذي انتهى به احلال �إىل متعاطي كحول وال‬ ‫له امل�ساعدة ووظفوه يف مكتب املحاماة ليجرب‬
‫ميار�س �أي مهنة‪ .‬لكن كان للقدر ان يرد على خط أ�‬ ‫غياهب ال�سجون لأول مرة‪ .‬كان ميكن ان يكون ذلك‬
‫بيكا�سو بخط�أ اكرب‪ ،‬فقد ترك بيكا�سو زوجته اجلديدة‬ ‫در�س ًا كافي ًا �إال �أنه وقبل ان يتوفى بثالث �سنوات يف‬
‫وتفرغ حلبيبته الثالثة جاكلني (‪ ،)Jacqueline‬حتى‬ ‫عام ‪ 1907‬قام بعملية احتيال �ضد احد البنوك ليودع‬
‫ان جوليت تقول يف مذكراتها ان حبيبته الثالثة قد‬ ‫يف ال�سجن وهو يف �سن مت�أخر جداً‪ .‬لعل الكثريين منا‬
‫منعت �أبناء بيكا�سو من ح�ضور جنازة �أبيهم الفنان‪.‬‬ ‫ال يعرف هرني رو�سو‪ ،‬فهو فنان عا�ش مغموراً ومل‬
‫كما ان ت�أثري الفنان على زوجاته الثالث ا�ستمر حتى‬ ‫يك�شف �رس موهبته �إال الفنان اال�سباين بيكا�سو عندما‬
‫وفاته ‪ ،‬فالتاريخ ي�ؤكد �إن الزوجة الثالثة قد �أطلقت‬ ‫زاره يف ال�سجن وقال له ‪« :‬انا و�أنت �أعظم فنانني هذا‬
‫النار على نف�سها ‪ ،‬كما كتبت حفيدته مارين( (�‪Mari‬‬ ‫الع�رص‪� ،‬أنت يف الفن البدائي ‪ ،‬وانا يف الفن احلديث»!‬
‫‪ )na‬ابنة باولو كتابا ذكرت فيه ب�ؤ�س العالقة بينها‬ ‫�إن �أكرث الفنانني �إثارة للجدل هو من تنقل بني عدة‬
‫وبني جدها الفنان التكعيبي بيكا�سو‪ ،‬كما مل ي�سلم‬ ‫وظائف ومل يتقن �أي واحدة منها‪ ،‬ومن قام بقطع‬
‫�أخوها بابليتو (‪ )Pablito‬من تلك العالقة حيث انه قتل‬ ‫�أذنه ملراهنة خا�رسة يف حانة ا�سرت�ضاء ل�صديقته‪،‬‬
‫نف�سه مبادة (‪ )peroxide‬ال�سامة‪ .‬لي�س فقط على ال�صعيد‬ ‫ومن حاول ان يقتل �صديقه الفنان جوجان (‪)Gauguin‬‬
‫االجتماعي الداخلي‪ ،‬لكن بيكا�سو له عالقة ب�سارق‬ ‫يف ليلة مظلمة وقد كانا يف رحلة للر�سم‪ ،‬ومن جرب‬
‫لوحة املوناليزا يف عام ‪ ، 1911‬حيث �إن ال�سارق‬ ‫احلياة يف م�ست�شفى االمرا�ض النف�سية لرتدي �أو�ضاعه‬
‫ابولونيري (‪ )Apollinaire‬كان قبل �رسقة هذه اللوحة قد‬ ‫ال�صحية‪ ،‬ومن تعود �أكل الألوان الزيتية والتي كانت‬
‫�رسق متثالني �صغريين و�أخذهما منه ال�سيد بيكا�سو‪،‬‬ ‫يف مرحلة الثورة ال�صناعية �أكرث �سمية من الأنواع‬
‫الأمر الذي قاد ال�رشطة �إىل بيكا�سو مرة �أخرى عندما‬ ‫املتداولة قبل الثورة وقد ت�سببت يف مر�ضه ح�سب ر�أي‬
‫اكت�شفوا ان ال�سارق هو نف�سه الذي �رسق التمثالني له‬ ‫�أخيه (‪ ، )Theo‬ومن انهي حياته بيده رميا بالر�صا�ص‬
‫عالقة ب�رسقة لوحة املوناليزا‪ ،‬فتم زج االثنني يف‬ ‫يف حقول عباد ال�شم�س التي �صورها لنا مراراً وتكراراً‬
‫ال�سجن!‬ ‫بالألوان امل�رشقة ال�ساخنة‪ ،‬فمن يكون ذلك غري‬
‫‪204‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬

‫يحكي لنا تاريخ الفن ق�صة الفنان مار�سيل دو�شامب‬ ‫يعترب الفنان املك�سيكي ديجو رافريا (‪)Diego Rivera‬‬
‫(‪ )Marcel Duchamp‬الذي ف�ضل عدم اال�ستمرار يف‬ ‫من الفنانني الثوريني الذين عملوا من اجل حرية‬
‫الفن الميانه ب�سقوط الفن وانه بلغ نهايته وا�ستبدله‬ ‫�شعوبهم �إال ان املبالغات التي عمل الفنان على‬
‫بلعبة ال�شطرجن التي �سيطرت عليه لبقية حياته وكان‬ ‫ترويجها حول عظمة االعمال التي قدمها لثورة زباتا‬
‫لهذا ال�سلوك ت�أكيد على �شخ�صية انهزامية تعي�ش يف‬ ‫(‪ )Zapata‬ال�شهرية تكاد تكون مك�شوفة ومن ال�صعب‬
‫داخله‪ .‬لقد كان م�ؤ�س�سا ملا ي�سمى عبثا مبدر�سة الدادا‬ ‫قبولها‪ .‬ففي الوقت الذي ادعى فيه �إن زباتا قد‬
‫(‪ )Dada‬وكانت �أعمالة متثل احتجاجا عملي ًا لو�ضع‬ ‫اختاره ليقوم بعملية اغتيال حاكم املك�سيك امل�ستبد‬
‫الفن يف العقد الثاين من القرن الع�رشين‪ .‬لكن يرى‬ ‫ثبت تاريخيا �أنه كان يتملق للح�صول على بعثة‬
‫بع�ض النقاد ان هناك ما يربر �سلوكه واجتاهاته‬ ‫درا�سية من نف�س احلكومة‪ .‬كما ادعى �أنه الوحيد ممن‬
‫الفنية ب�سبب الو�ضع الذي عا�شته �أوروبا �أثناء احلرب‬ ‫ان�ضموا �إىل ثورة زباتا كان لديه القدرة على تفجري‬
‫العاملية الأوىل حيث �أ�صبح املوت لعبة تتبادلها �أمم‬ ‫قطار بدون ان ي�صيب الركاب الأبرياء ب�أي �أذى‪ ،‬فهل‬
‫�أوروبا دون �أي اكرتاث‪ .‬كما �إن دو�شامب يعد من‬ ‫امتلك ع�صا �سحرية ليختار ال�ضحايا يف حلظة تفجري‬
‫الفنانني الذين ف�شلوا يف بناء حياة زوجية ناجحة ‪،‬‬ ‫قطار ب�أكمله‪ .‬و من خالل مذكراته وما كتب عنه وعن‬
‫ففي الأ�سبوع الأول من الزواج ان�شغل عن زوجته (‪Poor‬‬ ‫زوجته الفنانة فريدا كاهلو (‪ )Frida Kahlo‬نراه ال ميلك‬
‫‪ )Lydie‬بلعب ال�شطرجن ومل ي�ستمر ذلك الزواج يف الواقع‬ ‫الإح�سا�س بتقدير احلياة الزوجية فيعرتف لعرو�سه‬
‫لأكرث من �ستة �أ�شهر‪.‬‬ ‫يف بداية زواجه بها �أنه على عالقة حميمة مع غريها‬
‫�أمثلة كثرية ميكن �إن نطرحها لتك�شف لنا حقائق‬ ‫الأمر الذي يف�رس �سوء العالقة الزوجية بني الفنانني‪.‬‬
‫خفية يختفي من ورائها عمالقة الفن كما لو كانوا‬ ‫و بالرغم من ت�رصيحاته الرنانة يف دعم اال�شرتاكيني‬
‫�أمثلة للكمال والإن�سانية‪ .‬بالطبع اننا ال نتوقع ان جند‬ ‫حتى �أنه كان يحتفل ببع�ض �أعياد الثورة الرو�سية يف‬
‫ان�سانا كامل التكوين من كل النواحي‪� ،‬إال اننا يف نف�س‬ ‫مو�سكو ‪� ،‬إال �أنه كان من �أكرث الفنانني نزعة مادية‬
‫الوقت كمتذوقني لنا احلق يف �سرب خفايا رواد احلركة‬ ‫وال يتوانى عن التعامل مع الر�أ�سماليني �سواء على‬
‫الفنية يف كل الع�صور ‪ ،‬لأن خمرجات الفن والأدب‬ ‫امل�ستوى الفني �أو خارج �إطار الفن حتى طرد من‬
‫‪ -‬دون غريهما من احلقول ‪ -‬تعترب انعكا�سا تاما‬ ‫احلزب اال�شرتاكي ومت ارجاعه �إىل احلزب بعد فرتة‬
‫حلقيقة الفنان والأديب‪.‬‬ ‫من الزمن‪.‬‬

‫لوحات الفنانني من اليمني اىل الي�سار ‪ :‬ادوارد هوبر ‪ ،‬و بيكا�سو‪ ،‬و ديجو رافريا‪ ،‬و مار�سيل دو�شامب‪.‬‬

‫‪205‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫�سينما‬

‫‪ uu‬عندما انتحر ماياكوف�سكي عام‪ ،1930 ‬هرع با�سرتناك �إىل بيته وهو يت�ساءل عن‬
‫الأ�سباب التي دفعته �إىل االنتحاريف الأيّام الأوىل من الربيع‪« :‬كان ممدّدا على جنبه‪،‬‬
‫وجهه �إىل اجلدار‪ . ‬وكان �ضخما‪ ،‬داكن اللون‪ .‬وكان ج�سده ّ‬
‫مغطى حتى ال ّذقن بب�ساط‪.‬‬
‫وكان فمه منفرجا كما يف النوم‪ .‬ولأنه اختار �أن يدير لنا وجهه بنوع من ال�شهامة والأنفة‪،‬‬
‫ف�إنه كان يبدو كما لو �أنه نائم‪ ،‬وم�شدود �إىل �شيء ما‪ ،‬بعيد»‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫بوري�س با�سرتناك‪:‬‬
‫ال�شاعر يف مواجهة الإرهاب‬
‫\‬
‫ح�سونة امل�صباحي‬
‫ّ‬

‫يف التّا�سعة ع�رشة من عمري‪� ،‬شاهدت يف قاعة‪« ‬املونديال»‪ ‬بتون�س العا�صمة‪،‬‬


‫فيلم‪« ‬الدكتور جيفاكو»‪ ‬الذي �أخرجه دافيد ليفني‪ .‬ومل يكن الدافع الأ�سا�سي‬
‫مل�شاهدة الفيلم التعرف على املعاين ال�سيا�س ّية التي ت�ض ّمنها‪ ،‬و� مّإنا املمثل‬
‫القدير عمر ال�رشيف الذي كان قد �أبهرين مع فاتن حمامة يف فيلم «�رصاع يف‬
‫الوادي»‪ ‬الذي �شاهدته و�أنا مراهق على جدار بيت �أحد �أغنياء قرية العال‪. ..‬‬
‫بعد خروجي من قاعة العر�ض‪� ،‬شعرت بحزن عميق يجتاح نف�سي‪ .‬ول�ساعات‬
‫طويلة‪ ،‬تهت يف املدينة دومنا هدف‪ ،‬ويف ذهني ك ّل تلك امل�شاهد امل�أ�ساو ّية التي‬
‫ت�ض ّمنها الفيلم‪:‬احلرب ال�ضارية بني البال�شفة واملنا�شفة‪ ،‬رحلة القطار الطويلة عرب‬
‫�سهوب رو�سيا املغطاة بالثلوج‪ ،‬الليل البارد‪ ،‬وعواء الذئاب‪ ،‬وال�شمعة ال�صغرية‬
‫التي على نورها الباهت يكتب الدكتور جيفاكو ق�صائد ح ّبه لالرا ال�شقراء‪ ،‬الفائقة‬
‫اجلمال‪ .‬ث ّم امل�شهد الأخري الذي �أبدع املخرج يف ت�صويره‪ :‬الدكتور جيفاكو ي�سقط‬
‫م ّيتا على الر�صيف وهو ينادي الرا التي �شاهدها من خالل نافذة الرتاموي يف‬
‫مو�سكو مت�شي على الر�صيف‪ ،‬وتبدو غائبة عما حولها‪.‬‬

‫فيلم «دكتور جيفاكو» جت�سيد لروعة‬


‫الرواية وجمال الإخراج‬
‫‪207‬‬ ‫\ كاتب ومرتجم من تون�س‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ب�ش�ؤون زوجها‪ ،‬و�أطفالها‪ .‬وكانت ق�صرية القامة‪،‬‬ ‫بعد م�شاهدتي للفيلم‪ ،‬قر�أت الرواية بالفرن�سية‪. ‬‬
‫�سمراء‪ ،‬العينني بعينني وا�سعتني‪� ،‬سوداوين‪ .‬ويف‬ ‫وعلي �أن �أعرتف �أنها كانت بالن�سبة يل �أف�ضل من‬ ‫ّ‬
‫ومتدينا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ر‪،‬‬‫ت‬‫ّ‬ ‫التو‬ ‫دائم‬ ‫نحيفا‪،‬‬ ‫الزوج‬ ‫كان‬ ‫احلني‬ ‫بنائها‬ ‫ويف‬ ‫أ�سلوبها‪،‬‬ ‫�‬ ‫يف‬ ‫ت�شبه‬ ‫رواية‬ ‫وهي‬ ‫الفيلم‪.‬‬
‫كانت هي امر�أة هادئة‪ ،‬ناعمة‪،‬ت�شكو من مر�ض يف‬ ‫الف ّني والدرامي تلك الروايات العظيمة‪ ،‬وال�ضخمة‬
‫القلب‪.‬‬ ‫عودنا بها الكتاب الرو�س العمالقة من �أمثال‬ ‫التي ّ‬
‫ويف عام‪،1892 ‬كان ليونيد با�سرتناك �ضمن‬ ‫تول�ستوي ود�ستوي�سفكي‪ .‬ويف ما بعد‪�،‬سوف �أدرك‬
‫جمموعة من الفنانني طلب منهم اجناز بورتريه‬ ‫ج�سد بعمق املرحلة القامتة‬ ‫ان‪« ‬الدكتور جيفاغو» ّ‬
‫للروائي الكبري ليون تول�ستوي لتزيني طبعة فاخرة‬ ‫البل�شفية‪ ،‬وكان رمزا لك ّل الذين عانوا من‬ ‫ّ‬ ‫للثورة‬
‫لرواية «احلرب وال�سلم»‪ .‬وب�سبب جناحه يف العمل‬ ‫ويالتها‪،‬وقتلوا‪ ،‬و�شنقوا‪ ،‬وماتوا كمدا يف �سيبرييا‪،‬‬
‫الفني الذي �أع ّده لذلك‪ ،‬ا�ستقبله تول�ستوي برتحاب‬ ‫�أو يف املحت�شدات من دون ان يعب�أ بهم �أحد‪. ..‬‬
‫كبري‪ ،‬طالبا منه ان يع ّد له جمموعة من البورتريهات‪.‬‬ ‫ومن امل�ؤكّ د �أن بوري�س با�سرتناك كان واحدا من‬
‫ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬ارتبطت عائلة با�سرتناك بعائلة‬ ‫�أولئك املثقفني واملبدعني الأحرار الذين واجهوا‬
‫ا�ستمرت ع�رشين عاما‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ودية‬
‫تول�ستوي بعالقة ّ‬ ‫الت�سلّط ال�شيوعي يف �أب�شع �أ�شكاله وم�ستوياته‪ .‬ورغم‬
‫وكان بوري�س يف الرابعة من عمره‪ ،‬ملّا �شاهد من‬ ‫اخلوف وال�ضغوط‪ ،‬متكّن من ابداع �أعمال عظيمة‬
‫�رشفة بيتهم اجلديد الذي انتقلوا اليه بعد �أن �أ�صبح‬ ‫إن�سانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حية يف الذاكرة ال‬‫�سوف تظ ّل ّ‬
‫ر�ساما م�شهورا‪ ،‬موكب نقل رفاة‬ ‫والده ّ‬ ‫ينتمي بوري�س با�سرتناك �إىل عائلة‬
‫اال�سكندر الثالث من ق�رص الكرملني‬ ‫با�سترناك‬ ‫الفن‪ ،‬والثقافة الراقية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تع�شق‬
‫واللغات‪ . ‬وعندما ولد‪ ،‬وكان ذلك ترعرع في كنف اىل حمطّ ة القطارات‪ .‬وكانت اجلدران‬
‫بال�سواد‪ .‬وك ّل �شيء كان �أ�سود‪:‬‬
‫جملّلة ّ‬ ‫عام‪،1890 ‬كانت مو�سكو ال تزال مدينة‬
‫ال�شوارع‪ ،‬واخليول‪ ،‬ولبا�س الكهنة‪،‬‬
‫المو�سيقى‬ ‫قرو�سطية مت ّزقها تناق�ضات مرعبة‪. ‬‬ ‫ّ‬
‫وال�صفوف‬
‫ّ‬ ‫و�أزياء ال�ضباط واجلنود‪،‬‬ ‫والر�سم‬ ‫ويف �شوارعها و�ساحاتها‪ ،‬كانت تتك ّد�س‬
‫الطويلة للمع ّزين‪ .‬بعد مرور عامني على‬ ‫�شتم‬
‫�أكوام القمامة‪ ،‬ويف هوائها ُي ّ‬
‫ذلك‪،‬مر القي�رص اجلديد من نف�س ال�شارع قادما من‬ ‫ّ‬ ‫روائح روث البغال‪ ،‬واجلياد الثقيلة‪ ،‬وعفن الب�ؤ�ساء‬
‫بطر�سبورغ‪ .‬وكان املوكب يتلألأ حتت ال�شم�س بينما‬ ‫الذين كانوا يعي�شون يف �ألأقبية الباردة‪،‬والأكواخ‬
‫ترن يف جميع انحاء املدينة‪.‬‬ ‫كانت �أجرا�س الكنائ�س ّ‬ ‫املتداعية‪ .‬وكان ال�شارع الذي يقع فيه بيت عائلة‬
‫راح الطفل بوري�س يكرب و�سط املو�سيقى‪ ،‬و�ألوان‬ ‫احليوية واحلركة‪ .‬وطوال النهار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫با�سرتناك‪ ،‬دائم‬
‫اللوحات‪ .‬وكان والده ي�أخذه من حني لآخر اىل‬ ‫كانت ترتفع منه �أ�صوات غريبة‪ ،‬وخمتلفة لأنا�س‬
‫الأتلييه‪ .‬وعندما ي�أتي تول�ستوي‪ ،‬كان الطفل‬ ‫قادمني من جميع �أنحاء بالد رو�سيا املرتامية‬
‫وحب‪ .‬ويف عام‪،1898 ‬‬ ‫ال�صغري ينظر اليه ب�إعجاب ّ‬ ‫الأطراف‪ .‬ويف ما بعد �سوف يتحدث بوري�س‬
‫اختار �صاحب‪�« ‬أ ّنا كاريننا»‪ ‬والد بوري�س لر�سم‬ ‫با�سرتناك عن قوم من التتار يدفعون عربات بها‬
‫غالف روايته اجلديدة‪« :‬يوم احل�رش»‪ .‬ولكي ينجز‬ ‫وذكية»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميتة لها‪« ‬ر�ؤو�س جميلة‬ ‫خيول ّ‬
‫عمله يف هدوء‪ ،‬وراحة بال‪ ،‬عاه هو وعائلته اىل‬ ‫وكان والد بوري�س‪ ،‬ليونيد �أو�سيبوفيت�ش‬
‫�ضيعته بالقرب من‪« ‬طوال»‪ .‬وهكذا متكّن الطفل‬ ‫الطب يف جامعة مو�سكو‬ ‫با�سرتناك قد ترك درا�سة ّ‬
‫من �أن يرى عن كثب ذلك الفنان العمالق‪� ،‬صاحب‬ ‫للر�سم‪ .‬وعد والدة بوري�س‪ ،‬كان يبلغ من‬ ‫ليتفرغ ّ‬‫ّ‬
‫يتجول وحيدا و�سط‬ ‫ّ‬ ‫وهو‬ ‫املهيبة‪،‬‬ ‫البي�ضاء‬ ‫اللحية‬ ‫أزيدروفنا‪،‬‬ ‫�‬ ‫روزاليا‬ ‫زوجته‪،‬‬ ‫وكانت‬ ‫العمر‪28 ‬عاما‪.‬‬
‫ال�سهول والغابات‪،‬حاملا‪ ،‬ومت� ّأمال يف كنه الوجود‪.‬‬ ‫عازفة على البيانو‪ .‬ويف اكرث من منا�سبة‪� ،‬ص ّفقت‬
‫وثمة حدث �آخر �أ ّثر يف با�سرتناك كثريا اال وهو لقا�ؤه‬
‫ّ‬ ‫لها مو�سكو‪ .‬وبعد زواجها‪ ،‬تركت املو�سيقى لتهتم‬
‫‪208‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬

‫يف �أحد ال�شوارع ملعرفة ما كان يحدث‪ ،‬طلع عليه‬ ‫الأول بال�شاعر الأملاين الكبري راينار ماريا ريلكه‬
‫جندي قوقازي �رش�س‪ ،‬و�رضبه بعنف‪ ،‬ف�سقط‬ ‫الذي كان قدقدم اىل مو�سكو عام‪ 1900 ‬لزيارة‬
‫جمروح الوجه‪ .‬بعدها عاد اىل البيت ويف ذهنه ذلك‬ ‫تول�ستوي ب�صحبة �صديقته اجلميلة‪ ،‬املثقفة‬
‫امل�شهد الذي مل ين�سه طوال حياته‪.‬‬ ‫املرموقة‪ ،‬لو �أندريا�س �سالومي‪ .‬ويف ربيع‬
‫�سن الع�رشين‪،‬كان بوري�س با�سرتناك‬ ‫قبل �أن يبلغ ّ‬ ‫عام‪� ،1904 ‬آكرتى والد بوري�س با�سرتناك بيتا يف‬
‫يبدو لأ�صدقائه وك�أنه مكتمل التكوين‪ .‬ومثل والده‪،‬‬ ‫غربي مو�سكو‪ . ‬ومنذ‬‫ّ‬ ‫�إحدى القرى الواقعة جنوب‬
‫كان يتكلّم قليال‪ ،‬وله القدرة على االن�سحاب بهدوء‬ ‫اليوم �ألأول لو�صول العائلة‪� ،‬رسح الفتى يف الغابة‪.‬‬
‫من دون �إحداث � ّأي جلبة‪ ..‬وكان ريلكه من �أوائل‬ ‫فج�أة �سمع مو�سيقى رائعة تنبعث من مكان ما‪. ‬‬
‫وكانت تلك املو�سيقى ل�سكريابني التي �سي�صفها‬
‫اهتم بهم‪ ،‬وقر�أهم بعمق‪ .‬بعده قر�أ‬
‫ّ‬ ‫ال�شعراء الذين‬
‫يف ما بعد ب�أنها �شبيهة بـ«�سقوط املالئكة»‪ .‬ويف‬
‫بلغة غوته التي كان يتقنها‪ ،‬كانط وهيغل‪ .‬ويف‬
‫احلني عاد اىل البيت ليطلب من والده �أن يقدمه‬
‫نف�س الوقت‪� ،‬أتى على م�ؤلّفات ال�شعراء الرو�س‬ ‫اىل �صاحب تلك املو�سيقى الآ�رسة واملده�شة التي‬
‫من �أمثال �أندريه بايلي‪ ،‬و�ألك�سندر بلوك‪ .‬واىل‬ ‫حركت يف نف�سه عواطف وم�شاعر غريبة‪ .‬وهكذا‬ ‫ّ‬
‫واملتنوعة‪ ،‬كان بوري�س‬
‫ّ‬ ‫جانب مطالعاته الكثرية‪،‬‬ ‫�أ�صبح �سكريابني الف ّنان الثالث يف حياة بوري�س‬
‫يتحم�س للجدل الفكري‪ ،‬والفل�سفي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫با�سرتناك‬ ‫�سن الرابعة ع�رشة‪.‬‬‫با�سرتناك وهو مل يبلغ بعد ّ‬
‫أدبية احلامية‪ .‬ويف عام‪،1910 ‬ذات‬ ‫وللمناق�شات ال ّ‬ ‫وذات يوم من � ّأيام ال�شتاء الباردة‪ ،‬وبينما كانت‬
‫فر الكونت تول�ستوي‬ ‫يوم بارد من � ّأيام نوفمرب‪ّ ،- ‬‬ ‫مو�سكو ترجف من الربد‪ ،‬والغربان تنعق على فروع‬
‫الأ�شجار العارية‪ ،‬و�ضع الفتى بوري�س �أمام معلمه‬
‫املو�سيقية التي‬
‫ّ‬ ‫�سكريابني جمموعة من املقطوعات‬
‫املو�سيقي الكبري �إعجابه بها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فلما �أبدى‬
‫نظّ مها‪ّ .‬‬
‫مو�سيقيا؟»‪ .‬غري‬
‫ّ‬ ‫�س�أله بوري�س‪« :‬هل ب�إمكاين �أن اثبح‬
‫�أن جواب املعلّم‪ ،‬الذي �سي�صاب يف ما بعد باجلنون‪،‬‬
‫ويائ�سا‪،‬قرر‬
‫ّ‬ ‫�سطحيا وخ�شنا‪ .‬ويومها‪ ،‬حمبطا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كان‬
‫نهائيا عن املو�سيقى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بوري�س با�سرتناك التخلّي‬
‫وعندما غادر بيت �سكريابني‪ ،‬كان الليل قد هبط‪.‬‬
‫وكانت �أ�ضواء ال�شوارع خافتة‪ .‬ومتذكرا ذلك‪،‬كتب‬
‫بوري�س با�سرتناك يف ما بعد يقول‪« :‬و�أنا �أودعه مل‬
‫ثمة �شيء كان يريد �أن ينطلق‬ ‫�أعرف كيف �أ�شكره‪ّ .‬‬
‫م ّني‪ ،‬وكان يبحث ب�إ�رصار عن منفذ للخروج‪� .‬شيء‬
‫يف داخلي يبكي‪ ،‬ويهلّل جذال وابتهاجا»‪.‬‬
‫وعندما اندلعت ثورة‪ ،1905 ‬كان بوري�س با�سرتناك‬
‫�سن الرابعة ع�رشة‪ .‬ومل يكن يعرف عن العامل‬ ‫قد بلغ ّ‬
‫اخلارجي �شيئا كثريا‪ .‬و�أمام تلك الأحداث املفزعة‪،‬‬
‫والفاجعة الأليمة التي عرفتها رو�سيا‪ ،‬بد�أ الفتى‬
‫ميتلك وعيا �آخر بالنا�س‪ ،‬وبالأ�شياء‪ ،‬متطلّعا اىل‬
‫معرفة‪ ،‬وفهم ما كان يدور وراء اجلدران‪ .‬وخالل‬
‫تلك ال ّأيام الع�صيبة‪ ،‬وبينما كان الفتى يجري‬
‫‪209‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اندلعت عام‪ .1917 ‬وقد �أبدى ا�ستعدادا للدفاع عن‬ ‫من �ضيعته‪� ،‬أو بالأحرى من زوجته التي كان‬
‫�أهدافها النبيلة‪ ،‬غري �أنه �رسعان ما �شعر باخليبة‪.‬‬ ‫يحبها‪ ،‬ويكرهها يف نف�س الوقت‪ .‬ويف القطار‪ ،‬ا�شت ّد‬ ‫ّ‬
‫و�آنطالقا من عام‪� ،1927 ‬أ�صبح با�سرتناك من‬ ‫به املر�ض‪ ،‬فحمله النا�س اىل بيت رئي�س املحطّ ة‪.‬‬
‫�ضمن �أولئك الذين باتوا متي ّقنني من �أن الثورة مل‬ ‫وقدمت زوجته املحبوبة‪ ،‬املكروهة ب�رسعة‪،‬غري �أنه‬
‫ت�أت ب�شيء جديد‪ ،‬و�أن هدف البال�شفة مل يكن غري‬ ‫مل ي�سمح لها مبقابلة زوجها �إ ّال عندما بد�أ يحت�رض‪.‬‬
‫ديكتاتورية على �أنقا�ض احلكم القي�رصي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اقامة‬ ‫وعندئذ طلبت من والد بوري�س با�سرتناك القدوم‬
‫و�شيئا ف�شيئا‪ ،‬بد�أت ق�صائد با�سرتناك تعك�س‬ ‫حا ّال لري�سم �صاحب‪« ‬احلرب وال�سلم»‪ ‬وهو على‬
‫امل�صاعب واملخاطر التي بد�أت رو�سيا ت�صطدم بها‬ ‫فرا�ش املوت‪ .‬وعندما كان والده منهمكا يف عمله‪،‬‬
‫يف ظ ّل �سلطة �ستالني‪ .‬وبينما كان ماياكوف�سكي‬ ‫كان االبن ينظر �شاخ�صا اىل الكونت تول�ستوي وهو‬
‫ي�رصخ يف املعامل‪ ،‬ويف مكاتب احلزب‬ ‫مم ّدد على فرا�ش املوت‪،‬يده على �صدره‪،‬‬
‫حمر�ضا على الثورة‪ ،‬كان‬ ‫ّ‬ ‫البل�شفي‬ ‫حبه للزهور‬ ‫ووجهه هادئ هدوءا غريبا‪.‬‬
‫بوري�س با�سرتناك يبحث يف �ش ّقته‬ ‫اجلامعية‪ ،‬كان‬
‫ّ‬ ‫خالل �سنوات الدرا�سة‬
‫قاده �إلى‬ ‫بوري�س با�سرتناك يخيرّ الذهاب اىل‬
‫ال�صغرية عن معنى الأ�ساطري والأديان‪،‬‬
‫وعن كنه الوجود‪ ،‬وعن بل�سم جلراح‬ ‫حب‬ ‫ال�سريك‪� ،‬أو القيام بجوالت طويلة عرب‬
‫ما بعد الثورة‪ .‬ورغم الإختالف البينّ‬ ‫الأ�ساطير‬ ‫املدينة‪� ،‬أو عرب �أ�سواق الزهور التي كانت‬
‫بينهما‪،‬ف�إن عالقة حميمة جمعت بني‬ ‫روائحها تذكّ ره بـ«�شيء يتال�شى تاركا‬
‫ال�شاعرين‪ .‬ويف حني كان ماياكوف�سكي‬ ‫القديمة‬ ‫حب الزهور �إىل‬ ‫الوعي خاويا»‪ .‬وقد قاده ّ‬
‫�ضخما‪،‬ممتلئا باحلياة‪ ،‬يعطي الأوامر‬ ‫الأ�ساطري القدمية التي �أ�صبحت يف ما‬
‫ر�شا�ش يطلق الر�صا�ص‪،‬‬ ‫للجميع‪ ،‬ويتكلم مثل ّ‬ ‫وال�شعرية‪ .‬بعد‬
‫ّ‬ ‫النرثية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ�سا�سيا لإبداعاته‬
‫ّ‬ ‫بعد منبعا �‬
‫كان بوري�س با�سرتناك خجوال‪ ،‬وهادئا‪ ،‬ور�صينا‪.‬‬ ‫ذلك‪� ،‬أم�ضى با�سرتناك �سنوات يف مدينة ماربوغ‬
‫وعندما انتحر ماياكوف�سكي عام‪،1930 ‬هرع‬ ‫أملانية �آزداد خاللها معرفة بالفل�سفة وال�شعر‪. ‬‬ ‫أ�ل ّ‬
‫با�سرتناك اىل بيته وهو يت�ساءل عن الأ�سباب التي‬ ‫حب يف حياته‪.‬‬ ‫ق�صة ّ‬‫كما �أنه عرف � ّأول ّ‬
‫دفعته اىل الإنتحار يف ال ّأيام االوىل من الربيع‪:‬‬ ‫بعد ماربورغ‪� ،‬سافر بوري�س با�سرتناك اىل ايطاليا‬
‫هاربا من خيباته يف احلب‪ .‬و�أثناء‬
‫رحلته تلك‪ ،‬زار فيني�سيا التي‬
‫فتنته بجمالها ال ّأخاذ‪ ،‬وب�أنوارها‪،‬‬
‫ولياليها ال ّزاهية‪ .‬وقد كتب يقول‪:‬‬
‫ج�سدت ايطاليا بالن�سبة يل ك ّل‬ ‫«لقد ّ‬
‫ما تطمح اليه نفو�سنا دون وعي منذ‬
‫فرتة الطفولة»‪.‬‬
‫إيطالية‬
‫ّ‬ ‫ومن امل�ؤكد �أن رحلته ال‬
‫كانت �شديدة الت�أثري عليه حتى �أنه‬
‫قرر �أن ي�صبح‬ ‫ملّا عاد اىل رو�سيا‪ّ ،‬‬
‫نهائيا عن‬‫ّ‬ ‫�شاعرا‪ ،‬و�أن يتخلّى‬
‫درا�سة الفل�سفة‪ .‬ومثل العديد من‬
‫مث ّقفي‪ ،‬ومبدعي تلك الفرتة‪� ،‬ساند‬
‫البل�شفية التي‬
‫ّ‬ ‫با�سرتناك الثورة‬
‫‪210‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬

‫عن ال�شعر ال عن املر�ض‪� .‬سيكون هناك دائما �شعر‬ ‫«كان مم ّددا على جنبه‪ ،‬وجهه اىل اجلدار‪ . ‬وكان‬
‫يف الع�شب‪،‬وعلينا �أن ننحني لكي نحل على �شيء‬ ‫�ضخما‪ ،‬داكن اللون‪ .‬وكان ج�سده مغطّ ى حتى ال ّذقن‬
‫ما‪ .‬ومن امل�ؤكد �أن الع�شب �شيء ب�سيط‪ .‬لذا لي�س‬ ‫بب�ساط‪ .‬وكان فمه منفرجا كما يف النوم‪ .‬ولأنه‬
‫مطلوبا م ّنا مناق�شة �أمره يف ندوة كهذه‪ّ � . ‬أما ال�شعر‬ ‫اختار �أن يدير لنا وجهه بنوع من ال�شهامة والأنفة‪،‬‬
‫الع�ضوية للكائن الب�رشي ال�سعيد‪ .‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫املهمة‬
‫ّ‬ ‫فهو‬ ‫ف�إنه كان يبدو كما لو �أنه نائم‪ ،‬وم�شدود اىل �شيء‬
‫قوة اللغة‪ .‬وكلّما كان هناك �أنا�س‬ ‫يداهمه بك ّل ّ‬ ‫ما‪ ،‬بعيد»‪.‬‬
‫�سعداء يف هذا العامل‪،‬كلّما �أ�صبح من الي�سري على‬ ‫حتول‬‫ّ‬ ‫مطلع الثالثينيات من القرن املا�ضي‪،‬‬
‫يتحولوا اىل ف ّنانني»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اجلميع �أن‬ ‫أ�سطورية‪ :‬يف بالده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اىل‪�« ‬شخ�صية �‬
‫ّ‬ ‫با�سرتناك‬
‫وكان هدف با�سرتناك من خالل خطابه ذلك‪،‬‬ ‫مع ذلك ظ ّل �شاعرا غام�ضا‪ ،‬ومبهما بالن�سبة اىل‬
‫تذكري النا�س ب�أن هناك ق�ضايا �أخرى �أكرث من‬ ‫بارونات‪« ‬الواقعية‬
‫ّ‬ ‫القراء‪ ،‬ومرفو�ضا من قبل‬
‫الفا�شية‪ .‬ورمبا لهذا ال�سبب‪ ،‬خيرّ‬
‫ّ‬ ‫ق�ضية منها�ضة‬
‫ّ‬ ‫اال�شرتاكية»‪ ‬املدعومني من قبل البال�شفة‪ .‬وكان‬‫ّ‬
‫ال�سوفييت �أن يكون �أكرث‬ ‫خالل م�ؤمتر احتاد الك ّتاب ّ‬ ‫طلبة جامعة مو�سكو يحفظون ق�صائده عن ظهر‬
‫و�ضوحا‪ .‬ويف اخلطاب الذي �ألقاه يف تلك املنا�سبة‪،‬‬ ‫قلب‪ .‬و�شيئا ف�شيئا‪ ،‬راح با�سرتناك يبتعد عن‬
‫هاجم ب�ش ّدة ال مثيل لها �أعداء ال�شعر‪ ،‬و�شعراء املديح‪،‬‬ ‫ثم مل يلبث �أن انزوى يف عامله الذاتي‬ ‫ال�شيوعية‪ّ . ‬‬
‫ّ‬
‫والدعاية الذي يكتبون ق�صائد �شبيهة بـ«ف�ضالت‬ ‫باحثا فيه‪ ،‬ويف الطبيعة عن اجوبة مقنعة‪ ،‬ووا�ضحة‬
‫امليكانيكية»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعامل و�آلآالت‬ ‫للأ�سئلة التي كانت ت� ّؤرقه‪ .‬ويف مطلع الثالثينيات‬
‫يف �شهر يونيو‪ ،1936-‬تويف الكاتب الكبري مك�سيم‬ ‫�أي�ضا‪� ،‬رشع �ستالني يف ت�صفية من كان ي�صفهم‬
‫غوركي الذي ظ ّل حتى اللحظة الأخرية من حياته‬ ‫بـ«�أعداء الثورة»‪ ‬من رجاالت ال�سيا�سة‪ ،‬والفكر‪،‬‬
‫آ�ستقاللية الفنان‪ .‬وبعد وفاته‬
‫ّ‬ ‫مدافعا �رش�سا عن �‬ ‫والثقافة‪ .‬وخالل تلك الفرتة ال�سوداء املو�سومة‬
‫ال�سيا�سيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ب�شهرين‪� ،‬أعدم �ستالني‪ 16 ‬من خ�صومه‬ ‫بالرعب‪ ،‬والقمع‪ ،‬فكر با�سرتنك يف الإنتحار اقتداء‬
‫وكان زيونيفييف‪ ،‬وكامنيف من بينهم‪ .‬ويف‬ ‫ب�صديقه ماياكوف�سكي‪ ،‬غري انه احجم عن ذلك‬
‫عام‪ ،1937 ‬طُ رد من احلزب ال�شيوعي البل�شفي ك ّل‬ ‫م ّتخذا من ال�شعر بل�سما جلراحه‪ .‬ويف م�ؤمتر الكتاب‬
‫من بوخارين‪ ،‬وريكوف‪ .‬وخالل ال�سنتني اللتني‬ ‫للفا�شية الذي �آنعقد يف باري�س عام‬‫ّ‬ ‫املناه�ضني‬
‫????‪ ،‬كان با�سرتناك �ضمن الوفد‬
‫�ضم ك ّتابا كبارا‬
‫ال�سوفييتي الذي ّ‬
‫من �أمثال ا�سحاق بابل‪،‬ونيكوالي‬
‫ينكونوف‪،‬وايليا �أهرمبورغ‪ .‬وبعد �أن‬
‫قدمه �أندريه مالرو للجمهور قائال‬
‫ب�أنه يع ّد من كبار �شعراء الع�رص‪،‬‬
‫مهمة ال�شاعر‬
‫حتدث با�سرتناك عن ّ‬
‫يف املجتمع‪ ،‬من دون �أن يذكر‬
‫مرة واحدة‪ .‬كما حتدث‬‫ال�شيوعية ولو ّ‬
‫ّ‬
‫�أي�ضا عن الع�شب‪،‬وعن ال�سعادة‪،‬وعن‬
‫يتحول فيه جميع النا�س‬
‫ّ‬ ‫اليوم الذي‬
‫اىل ف ّنانني‪ .‬ورمبا لهذا ال�سبب‪،‬‬
‫ال�سوفييتية‬
‫ّ‬ ‫رف�ضت ك ّل ال�صحف‬
‫الإ�شارة اىل كلمته‪� :‬سوف �أح ّدثكم‬
‫‪211‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫خا�صة و�أنه حر�ص دائما‬
‫ّ‬ ‫هذا الرجل‪ ،‬والثناء عليه‬ ‫�أعقبتا ذلك‪� ،‬أعدم العديد من املثقفني‪ ،‬وال�شعراء‪. ‬‬
‫على رف�ض ايديولوجتنا‪ ،‬وتعاليم حزبنا»‪ .‬غري �أن‬ ‫ودافعا بالعنف اىل �أعلى‪ ،‬و�أب�شع مراتبه‪� ،‬أع ّد‬
‫املتعمد‪ ،‬وح�رض‬
‫ّ‬ ‫با�سرتناك مل ير ّد على هذا الهجوم‬ ‫�ستالني الئحة ت� ّؤيد حماكمات الإعدام‪، .‬طالبا‬
‫�أ�شغال امل�ؤمتر وهو �صامت‪.‬‬ ‫من جميع الرو�س امل�صادقة عليها‪ .‬ويف ما بعد‪،‬‬
‫يف �شهر �أبريل‪� ،1954-‬أ�صدر با�سرتناك يف‬ ‫وحتديدا يف عام‪� ،1953 ‬أي بعد وفاة �ستالني‪،‬‬
‫�إحدى اجلرائد خربا �أعلن فيه عن قرب �صدور‬ ‫حتدث با�سرتناك عن تلك املرحلة ال�سوداء قائال‪:‬‬
‫و�رصح قائال‪�« :‬سوف‬
‫ّ‬ ‫روايته‪« ‬الدكتور جيفاكو»‪، ‬‬ ‫«جا�ؤوين ذات يوم بالئحة طالبني م ّني توقيعها‪.‬‬
‫تكون هذه الراواية جاهزة متاما خالل ال�صيف‬ ‫يت�ضمن املوافقة على املحاكمات‬ ‫ّ‬ ‫وكان حمتواها‬
‫القادم‪ .‬وهي تروي الأحداث التي وقعت يف رو�سيا‬ ‫والإعدامات الكثرية يف تلك الفرتة‪ .‬وكانت زوجتي‬
‫بني‪ ،1903 ‬و‪ .1929‬بطلها الدكتور‬ ‫تنتظر طفال‪ .‬وقد بكت من �ش ّدة اخلوف‪.‬‬
‫غري �أين رف�ضت‪ .‬ويف ذلك اليوم‪ ،‬فكرت‪� :‬إيمانه ال�شديد يوري �أندريفيت�ش جيفاكو‪ .‬وهو رجل‬
‫يهتم �أ�سا�سا بامل�سائل التي لها‬
‫ّ‬ ‫حامل‪،‬‬ ‫ال�صمود واملقاومة �أم‬ ‫علي �أن �أحاول ّ‬‫هل ّ‬
‫بال�شعر‬ ‫ال؟ كنت متي ّقنا من �أنهم �سوف يقتلوين‪،‬‬
‫عامة‪ .‬وهو ميوت‬‫�صلة بالفن والإبداع ّ‬
‫عام‪ 1929 ‬تاركا دفاتر‪ ،‬ومالحظات‪،‬‬ ‫�ساعده‬ ‫و�أن دوري قد حان‪ .‬غري �أين كنت م�ستع ّدا‬
‫�شعرية عديدة كان قد كتبها‬‫ّ‬ ‫وق�صائد‬ ‫لذلك‪ .‬كنت �أكره ك ّل ذلك ال ّدم امل�سفوح‪ . ‬على مواجهة‬
‫يف �سنوات ال�شباب»‬ ‫أحتمل حالة‬ ‫ومل يكن با�ستطاعتي �أن � ّ‬
‫قبل ذلك بعام‪� ،‬أي يف عام‪،1953 ‬كان‬
‫موجات‬ ‫والتع�سف التي كانت قد بلغت‬ ‫ّ‬ ‫الإرهاب‬
‫�أق�صى مراتبها‪ .‬غري �أنه مل يحدث �شيء الحقد والح�سد �ستالني قد مات‪ .‬وقد اعتقد البع�ض‬
‫�أن الرقابة �سوف ت�شهد انخفا�ضا‪.‬‬ ‫مما كنت �أتو ّقع»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبذلك متكّنت دور الن�رش من ا�صدار بع�ض الأعمال‬ ‫تعي�شها‬ ‫كانت‬ ‫التي‬ ‫الفواجع‬ ‫ن�سيان‬ ‫وحماوال‬
‫والنرثية التي تنتقد النظام باحت�شام كبري‪.‬‬ ‫ال�شعرية‬ ‫رو�سيا‪ ،‬ان�رصف با�سرتناك اىل الرتجمة‪،‬ونقل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اىل لغة بو�شكني �أعمال هان�س �ساخ�س‪ ،‬وغوته‪،‬‬
‫�شجع با�سرتناك على ار�سال‬ ‫وعلّى ذلك هو الذي ّ‬ ‫و�شيللر‪ ،‬وكالي�ست‪ ،‬و�شك�سبري‪ ،‬وبن جون�سون‪،‬‬
‫روايته املذكورة اىل هيئة الرقابة‪ ،‬غري انه �سارعت‬
‫و�سوينبورن‪ ،‬وكيت�س و�شيللي‪ .‬وعلى مدى �سنوات‬
‫برف�ضها‪ ،‬وا�صفة بطل الرواية‪ ،‬الدكتور جيفاكو‪،‬‬
‫الكونية الثانية‪ ،‬مل يكتب‬ ‫ّ‬ ‫احلرب‬
‫«عبقرية �ستالني»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كلمة واحدة عن‬
‫و«بطوالت اجلي�ش الأحمر»‪ .‬لذلك‬
‫وجد �أعدا�ؤه الفر�صة ملهاجمته‬
‫�أثناء م�ؤمتر الكتاب ال�سوفييت الذي‬
‫انعقد عام‪ .1948 ‬وقد قال �ألك�سندر‬
‫رفادييف املعروف مبواالته املطلقة‬
‫جيدا �أن‬
‫للحزب البل�شفي‪« :‬نحن نعلم ّ‬
‫�أن با�سرتناك عا�ش يف ظ ّل النظام‬
‫ال�سوفييتي‪ ،‬غري �أنه �شاعر فرداين‪.‬‬
‫والنرثية غريبة‬
‫ّ‬ ‫ال�شعرية‬
‫ّ‬ ‫وك ّل �أعماله‬
‫متاما عن املجتمع ال�سوفييتي‪.‬‬
‫ملاذا اذن ن�سمح لأنف�سنا بتمجيد‬
‫‪212‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬

‫بربود‪ ،‬والمباالة‪ .‬والذين زاروه يف تلك الفرتة‪،‬‬ ‫وال�ضائع‪ ،‬واجلبان»‪ .‬ومل يتفاج�أ‬ ‫ّ‬ ‫بـ«املرت ّدد‪،‬‬
‫الحظوا �أنه مل يكن يتحدث بحما�س عن �أعماله‬ ‫با�سرتناك بهذا اجلواب القا�سي بل دفعه نزوال‬
‫ال�شعرية‪� ،‬أنه كان ير ّدد �أن روايته‪« ‬الدكتور‬ ‫ّ‬ ‫عند رغبة الأ�صدقاء‪ ،‬اىل مراجعة بع�ض الفقرات‬
‫جيفاكو»‪ ‬هي التي مت ّثله �أح�سن متثيل‪.‬‬ ‫القراء الرو�س من االطالع‬ ‫والف�صول‪ ،‬بهدف متكني ّ‬
‫مات بوري�س با�سرتناك يف بداية �صيف‪.1960 ‬‬ ‫على الرواية‪ .‬وب�سبب املر�ض والتعب‪ ،‬طلب من‬
‫الر�سمية ح�ضور جنازته‪ .‬غري‬
‫ّ‬ ‫وقد رف�ضت ال�سلطات‬ ‫�صديقه زيلن�سكي القيام بذا العمل‪ .‬وخالل �صيف‬
‫وب�شخ�صيته النبيلة‬
‫ّ‬ ‫�أن مئات املعجبني ب�شعره‪،‬‬ ‫إيطالية‬
‫ّ‬ ‫عام‪ ،1957 ‬ن�رشت جملة‪�« ‬أ�سرب�سو»‪ ‬ال‬
‫كانوا هناك لتوديعه الوداع الأخري‪ .‬وقبل �أن يوارى‬ ‫تت�ضمن مالحظات الدكتور‬ ‫ّ‬ ‫فقرات من الرواية‬
‫جثمانه الرتاب‪� ،‬ألقى �صديقه �شوكوف�سكي خطابا‬ ‫البل�شفية‪ ،‬وعن ارهاب �سنوات‬ ‫ّ‬ ‫جيفاكو عن الثورة‬
‫مقت�ضبا قال فيه‪�« :‬سيظ ّل بوري�س با�سرتناك واحدا‬ ‫أهلية‪ .‬وحاملا و�صل اخلرب اىل ال�سلطات‬ ‫احلرب ال ّ‬
‫الرو�سية‪ّ � .‬إن خالفه مع الع�رص‬
‫ّ‬ ‫من �أعظم �شعراء اللغة‬ ‫ال�سوفييتية‪ ،‬حتركت �أجهزة املخابرات والرقابة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يخ�ص الدولة وحدها‪ .‬لقد كان‬ ‫ّ‬ ‫الذي عا�ش فيه ال‬ ‫لت�شن هجوما عنيفا وقا�سيا على با�سرتناك وا�صفة‬ ‫ّ‬
‫يحلم مبجتمع مغاير‪ .‬وخط�أه هو �أنه �سعى اىل‬ ‫و«الدجال»‪ .‬غري �أن ال�شاعر الكبري‬ ‫ّ‬ ‫بـ«العميل»‪،‬‬ ‫ّاياه‬
‫ال�سري يف نف�س الطريق الذي �سلكه تول�ستوي راف�ضا‬ ‫الذي كان قد بد�أ ي�شيخ‪ ،‬ويتعب ظ ّل هادئا و�صامتا‬
‫ال�رش‪ .‬وداعا بوري�س‬
‫الإميان ب�رضورة القوة ملواجهة ّ‬ ‫الفرن�سية‬
‫ّ‬ ‫كعادته‪ .‬ويف عام‪�،1958 ‬صدرت الطبعة‬
‫با�سرتناك‪ . ..‬نحن ن�شكرك جميع!»‪ .‬بعد ذلك تق ّدم‬ ‫للرواية‪ .‬وكان على با�سرتناك �أن يجيب على �أ�سئلة‬
‫طالب‪،‬و�أن�شد يف خ�شوع ق�صيدة «هاملت»‪ ‬الواردة‬ ‫إيطاليون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفرن�سيون وال‬
‫ّ‬ ‫وجهها له القراء‬ ‫عديدة ّ‬
‫يف رواية‪« ‬الدكتور جيفاكو»‪ ‬والتي يقول فيها‬ ‫ويف ذلك الوقت‪،‬كان مي�ضي وقته يف العمل‪ ،‬ويف‬
‫با�سرتناك‪:‬‬ ‫التجول يف الغابات‪ .‬وكان اميانه ال�شديد بال�شعر‬ ‫ّ‬
‫الريح‪،‬‬
‫َ�س َت ْ�سكُن اجللبة‪ ،‬و�أقف �أنا على ّ‬ ‫والكراهية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احلقد‪،‬‬ ‫موجات‬ ‫مواجهة‬ ‫على‬ ‫ي�ساعده‬
‫�أ�سند ظهري اىل دعامة الباب‬ ‫واحل�سد‪ .‬ويف نف�س العام املذكور‪� ،‬صدرت الرواية‬
‫ال�صدى املخنوق‬‫وبعيدا �أ�سمع ّ‬ ‫إجنليزية يف ك ّل من بريطانيا‪ ،‬والواليات‬ ‫ّ‬ ‫باللغة ال‬
‫لك ّل ما يحدث يف زمني‬ ‫أمريكية‪ ..‬وبذلك وجد الأعداء الفر�صة‬ ‫ّ‬ ‫املتحدة ال‬
‫يومية عليه‪.‬‬
‫ل�شن هجوات ّ‬ ‫�سانحة ّ‬
‫ويف‪� 23 ‬أكتوبر‪� ،1958- ‬أعلنت‬
‫ال�سويدية عن منحها‬ ‫ّ‬ ‫أكادميية‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫جائزة نوبل للآداب لبوري�س‬
‫با�سرتناك‪ ،‬فزاد ذلك يف غ�ضب‬
‫ال�سلطات ال�سوفييتية‪ .‬ويف ال�صحف‬
‫الر�سمية �صدرت مقاالت‬ ‫ّ‬ ‫واملجالّت‬
‫ت�صفه بـ«الثعبان»‪ ،‬و«الع�شبة‬
‫الفا�سدة»‪ ،‬موحية للقراء �أن روايته‬
‫جزء من خمطّ ط كبري ي�ستهدف‬
‫النيل من ال�شيوعية‪ ،‬ومن النظام‬
‫ال�سوفييتي‪ .‬ومرة �أخرى‪ ،‬ظل‬
‫با�سرتناك هادئا و�صامتا‪ ،‬منزويا‬
‫يف �ضيعته‪ ،‬مراقبا امل�شهد املخيف‬
‫‪213‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫�شعـــر‬

‫كابادوكيا ‪ -‬تركيا‬

‫‪214‬‬
‫ق�صائد من ال�شعر‬
‫الرتكي املعا�صر‬
‫\‬
‫ترجمة‪� :‬سعيد بوكرامي‬

‫ا�سطنبول‬ ‫\ عزيز لقمان قاي�سي‬


‫طيور ال�شاطئ‬ ‫ولد ال�شاعر عزيز لقمان قاي�سي ببور برتكيا‬
‫ت�سحبني نحو البحار‬ ‫�سنة ‪ .1949‬خريج املدر�سة العليا للفنون‬
‫كما لو �أين �أرك�ض نحو الأوجاع‬ ‫ال�صناعية بدبلوم هند�سة داخلية �سنة ‪.1975‬‬
‫ا�سطنبول تتلوى من الأمل‬ ‫ت�صميماته الهند�سية القت جناحا كبريا ون�رشت‬
‫و�شيئا ف�شيئا ت�سحقني‬ ‫ب�أهم املجالت املتخ�ص�صة‪ .‬خالل مرحلة‬
‫الوحدة بدونك ‪...‬‬
‫التجنيد الع�سكري �ساهم يف �إنقاذ عدد من‬
‫يف هذه املدينة املظلمة‬
‫التحف الفنية التي عر�ضت فيما بعد مبتحف‬
‫حيث يتخرث دمي‬
‫ماران بب�سيكتا�س‪.‬‬
‫�أراود �أحالمي‬
‫كتب ال�شعر والق�صة منذ الرابعة ع�رشة‬
‫ال�شوارع فارغة بغيابك‬
‫ون�رشت يف خمتلف املجالت واجلرائد‪ .‬كما‬
‫ا�سطنبول ت�أخذك من مدينة اىل مدينة ‪...‬‬
‫اهتمت جميع الأنطلوجيات الرتكية والأجنبية‬
‫‪ ‬هذه املدينة العظيمة املهروقة يف �آالمي‬
‫ب�أ�شعاره وخ�ص�صت لها حيزا مهما‪ .‬كما �شهد‬
‫وطيور ال�شاطئ ت�سحبني‬
‫ال�شاعر الرتكي الكبري �أوميت ي�سار �أغوزكان‬
‫�إىل لياليها املتعبة‬
‫مبوهبته ال�شعرية الكبرية ‪ .‬ن�رش �سنة ‪1975‬‬
‫وهناك ا�سطنبول تهرب هروبا �شامال‬
‫ديوانه الأول حتت عنوان‪« :‬موقف امل�ساءات»‬
‫لأين وحيد بدونك‪.‬‬
‫و�سرية ذاتية �سنة ‪ . 1989‬ومن بني دواوينه‬
‫التي �صدرت منذ �سنوات‪ :‬ل�ست متهما‪ ،‬يا‬
‫مق�صوم الظهر‬
‫�صديقي»‪ .‬كما ن�رش رواية‪« :‬انتزعوا مني ابني‬
‫�أحمل عبء املا�ضي فوق ظهري‬
‫عنوة» ‪...‬‬
‫عابرا هذه الطرقات‬
‫‪215‬‬ ‫\ قا�ص ومرتجم من املغرب‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪jhj‬‬ ‫من �أين �أتيت و�إىل �أين �أ�سري؟‬

‫\ �أتاول بهرام �أوغلو‬ ‫بينما كروم ال�شعر‬


‫التي تغطيها ثلوج االنتظار‬
‫ولد ال�شاعر �أتاول بهرام �أوغلو �سنة ‪1942‬‬
‫تعامل كالدانتيال‬
‫بـ«كاتالكا» �إحدى حمافظات �إ�سطنبول‪� .‬شاعر‬
‫�أنا ال �أعرف كيف‬
‫وكاتب ومرتجم‪ .‬در�س الأدب الرو�سي بجامعة‬
‫�ضحكت من �شدة الأحزان! ‪...‬‬
‫�أنقرة‪ .‬يف �سنة ‪� 1965‬أ�صدر ديوانه الأول ‪ ،‬ثم‬
‫بينما حتوم حويل‬
‫الثاين حتت عنوان‪« :‬يف �أحد الأيام‪ ،‬بالت�أكيد»‪.‬‬
‫برز كمرتجم لكتاب عامليني من لغاتهم‬ ‫كل الأ�شياء املقلقة‬
‫الأ�صلية �إىل اللغتني االجنليزية والرتكية‪� .‬أغنى‬ ‫يف هذا الوقت بالذات‬
‫املكتبة الأدبية العاملية مبا يزيد عن خم�سني‬ ‫�أنا غر�ست الق�صائد‬
‫كتابا بني �شعر ودرا�سة وق�صة وترجمة‪ .‬اعتقل‬ ‫يف حقول احلب‪...‬‬
‫�سنة ‪ 1982‬ب�سبب ت�أ�سي�سه جلمعية ال�سالم‬ ‫ورغم العقارب‬
‫الرتكية‪� .‬أطلق �رساحه بعد ع�رشة �أ�شهر من‬ ‫والأفاعي‬
‫االعتقال‪ .‬حاز جائزة اللوت�س‪ ،‬وجائزة بو�شكني‬ ‫كنت دائم العط�ش‬
‫الرو�سية‪ .‬يعترب �أتاول بهرامو �أوغلو من ال�شعراء‬ ‫حلياة �إن�سانية كرمية‬
‫املرجعيني يف ال�شعر الرتكي املعا�رص‪ .‬ترجمت‬ ‫تخرتق احليطان‬
‫�أعماله �إىل خمتلف لغات العامل‪.‬‬ ‫التي �شيدت بيننا‪...‬‬
‫يوم الزيارة‬ ‫رغم املكائد‬
‫‪ ‬و�ضعوا حاجز احلديد بيني وبني طفلي‬ ‫التي �أ�صابتني ب�شدة‬
‫ابني يف الثانية والن�صف‬ ‫يف كل مرة‬
‫طفلي يريد �أن ين�ضم �إيل‬ ‫كان يبدو يل ج�سيما‬
‫مثل طائر يف قف�ص هزاز‬ ‫�أن ت�صبح �أعمى الأفكار‬
‫و�ضعوا الأ�سالك ال�شائكة بيني وبني طفلي‬ ‫على �أن تكون �أعمى الألوان‪.‬‬
‫فا�صال م�ضاعفا‬ ‫مق�صوم الظهر‬
‫«ال تختبئ يا بابا»‪ ،‬قال طفلي‬ ‫�أحمل عبء املا�ضي فوق ظهري‬
‫يعاتبني بنظرة مقاومة‬ ‫عابرا هذه الطرقات‬
‫يف لهجة اللوم‪ .‬مع نظرتي التي كانت تكافح ‪...‬‬ ‫من �أين �أتيت‬
‫و�ضعوا هوة بيني وبني طفلي‬ ‫و�إىل �أين �أ�سري؟‬
‫‪216‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫منفعل وه�ش يرتفع فج�أة عاليا‪.‬‬ ‫هوة بني الفرح والكراهية‬


‫�صوت زوجتي كابت�سامة‬ ‫و�أنا مثل الأحمق ‪ -‬ما زلت اعتقد‬
‫متخمة بالتفا�ؤل‬ ‫�أنه من امل�ستحيل �أن ن�صبح‬
‫زخم بحنان �أخت‬ ‫ال �إن�سانيني �إىل هذه الدرجة‪.‬‬
‫�صوت والدي على الهاتف‬ ‫ال�سجن الع�سكري مبالتيب ‪1982‬‬
‫خافت‪ ،‬بعيد‪ ،‬لكنه‬ ‫نهاية ال�صيف‬
‫قريب كقلب‪.‬‬ ‫إ�صفر‪ ‬ال�سفرجل وال�شم�س‬
‫� ُّ‬
‫�أ�صوات �إخوتي‬ ‫والنجوم �أكرث بريقا‬
‫يف املنايف‬ ‫والقمر مازال �أكرث برودة‪.‬‬
‫حتييني فج�أة‬ ‫عندما ين�سحب بحر اخلريف‬
‫بها�ؤها ينري الطفولة‬ ‫�صافعا ال�شاطئ‬
‫و�أ�شياء و�أ�شياء �أخرى‬ ‫يزجمر حبا �ضائعا‬
‫�صوت �أمي الذي ن�سيته‬ ‫متتلئ �أعماقي بالأ�سف‬
‫يرن �أحيانا يف �أحالمي‬ ‫على ال�صيف املا�ضي‬
‫�أ�صوات �أ�صدقائي امل�سحوقة‬ ‫كما متتلئ الورقة‬
‫�أريد �أن �أ�سمعها و�أمل�سها‬ ‫البي�ضاء باحلرب‪1992.‬‬
‫كي ال �أفقد �صوتي‬ ‫الأ�صوات‬
‫وال �أتال�شى و�أ�ضمحل‪.‬‬
‫�أ�سري مت�شبثا ب�أ�صوات النا�س‬
‫�أ�صوات تقول ‪:‬‬
‫« �أهتم بنف�سك جيدا»‬ ‫ذراعي كبريتان وح�ضني �شا�سع‬
‫�أ�صوات تقول ‪:‬‬ ‫كي ال �أهلك يف الهاوية‬
‫« كيف حالك؟»‬ ‫�أ�سري مت�شبثا ب�أ�صوات النا�س‬
‫قلقة‪ ،‬مرتعة بال�صداقة‪ ،‬عالية‪،‬‬ ‫كي ال ي�ضيع مني �صوتي‬
‫ج�سيمة‪ ،‬خ�شنة �أو خارقة‬ ‫بني الظلمة املخيفة‬
‫عندما �أكون حمبطا‬ ‫�صوت ابنتي يقول‪ « :‬ماما»‬
‫�أحب �أن �أ�سمع هذه الأ�صوات‬ ‫تخلط بني �صوت « �إ» ب�صوت « �أ»‬
‫التي متنحني ثقة كبرية‬ ‫عندما بالكاد تنطق‪« :‬حبيبي بابا»‬
‫الخرتاق هذه الظلمة‬ ‫مازجة الأفعال الأوىل التي تعلمتها‬
‫التي نعربها جميعا‪ 1981 .‬‬ ‫هذا ال�صوت ال�شبيه بفاكهة خ�رضاء يف غ�صن‬
‫‪217‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫(�إذا كان ال�شهر الذي كان �شعرك ق�صريا جدا)‬ ‫‪jhj‬‬

‫قلنا‪ « :‬قلموا �شجرة العنب» فقلمناها‬ ‫\ �أحمد غوك�سينور �سلبيو �أوغلو‬


‫«جمدوا ظل �شجرة العنب» فمجدناها‬
‫ولد ال�شاعر �أحمد غوك�سينور �سلبيو �أوغلو يف‬
‫ال�سماء تر�شح‬
‫�إ�سطنبول عام ‪ ،1971‬ق�ضى طفولته يف عدد من‬
‫وتتحدث عن املوتى‬ ‫املدن الرتكية‪ .‬تخرج جامعة �إ�سطنبول الفنية‬
‫وهذا يكفي‬ ‫للهند�سة الكهربائية‪�.‬أ�صبح بعد تخرجه من‬
‫لتطهري املعاين جميعها‬ ‫�أع�ضاء هيئة التدري�س‪ .‬حا�صل �أي�ضا على درجة‬
‫الظهرية تبحث عن مكان لها ‬ ‫املاج�ستري يف �إدارة الأعمال من جامعة ا�سطنبول‪.‬‬
‫بني اجلمل‬ ‫بد�أ ن�رش ق�صائده يف املجالت الرتكية ويف دواوين‬
‫كحرف جر م�ضطرب‬ ‫منذ عام ‪ 1990‬ومتيزت ب�أ�سلوب معا�رص ميزج‬
‫نحن قلمنا �أ�سماء الظهرية واحلجارة املبللة‬ ‫بني ال�سوريالية والنرثية ال�شعرية ‪.‬‬
‫وقد ح�رض العديد من ور�ش العمل وال�شعر‬
‫(فعلنا ذلك كي تعي�ش طويال)‬
‫واملهرجانات يف ريغا‪ ،‬فيلنيو�س‪ ،‬ا�سطنبول‪� ،‬أثينا‪،‬‬
‫قلنا‪ « :‬اطووا �أوراق الكرمة» فطويناها‬
‫بلجراد‪ ،‬لوديف‪� ،‬صوفيا وزغرب وكندا ‪.‬ترجمت‬
‫وطبخناها‬ ‫ق�صائده �إىل الإجنليزية‪ ،‬الأملانية‪ ،‬الفرن�سية‪،‬‬
‫‪3‬ـ ال�صيف ج��رذ مبلل‪ ،‬يوليو قرية يف احلجز‬ ‫اليونانية‪ ،‬البلغارية‪ ،‬ال�سويدية‪ ،‬الربتغالية‪،‬‬
‫ال�صحي‪.‬‬ ‫اليابانية‪ ،‬الرومانية‪ ،‬الالتفية‪ ،‬الليتوانية‪،‬‬
‫(ينت�رش املطر كجملة بال نهاية لكتاب حتت‬ ‫املقدونية‪ ،‬ال�رصبية‪ ،‬الكرواتية‪ ،‬والعربية ون�رشت‬
‫عنوان‬ ‫يف املجالت الأدبية املهمة‪.‬‬
‫« ا�ستحالة الذهاب �إىل املدينة»‪)...‬‬ ‫كما قام برتجمة واال�س �ستيفنز‪ ،‬وبول �أو�سرت‬
‫مدينتي هايكو‬ ‫و�أجنز ترجمة خمتارات من الهايكو الياباين‬
‫ب�أربعة �أبيات �شعرية‬ ‫احلديث �إىل اللغة الرتكية‪ ،‬وي�ستعد حاليا لإ�صدار‬
‫تقف و�سط ال�سهل‬ ‫خمتارات من ال�شعر الأمريكي احلديث‪.‬‬
‫كتبت ل��ك ذل��ك ال�صيف‪« :‬ا���ض��ط��ررت ملغادرة‬ ‫�أحمد غوك�سري �سلبيوغلو‬
‫املدر�سة‪ ،‬لأنهم يرغموننا على تغيري �أ�سمائنا»‬ ‫لوتني�ستا‬
‫ذلك ال�صيف كتبت لك‪� « :‬سيجندونني يف اخلدمة‬ ‫‪1‬ـ الثامن والثالثون من يوليو‬
‫الع�سكرية‬ ‫(بالأم�س �أحرقت املعاجم جميعها يف ال�رشفة‬
‫درا�ستي للم�رسح لن تكتمل‪ ،‬انتهى التمثيل على‬ ‫ال �أحد منها يحتوي ا�سمك)‬
‫خ�شبة امل�رسح» ذل��ك ال�صيف كتبت لك ثالث‬ ‫كتب �أن يوليو �شهر �أطول من ال�صيف‬
‫ق�صائد هايكو �إ�ضافية يف ذلك ال�صيف كتبت‬ ‫و�أن ا�سمك �أطول من َ�شعرك‪.‬‬
‫لك على وردة الأزالية ‪ ،‬وكيف ونحن يف نخيم‬ ‫لن �أكتب ا�سمك هنا‪.‬‬
‫فوق ه�ضبة الربقوق للمرة الأوىل بدونك ومادام‬ ‫‪2‬ـ يوليو �أطول من ال�صيف‪.‬‬
‫‪218‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لكنني عرفت ذلك‪ ،‬بعد فوات الأوان‪.‬‬ ‫النا�رش قد رف�ض كتابي فقد كتبت «الأيام عادية‬
‫جدا‪ ،‬كل �شيء جنون‬
‫�شرفة الربج‬ ‫لكننا اعتدنا عليها «‬
‫« أ�ن��ا ال �أخ�شى الأم��وات» قال الرجل‪« ،‬وال من‬ ‫وكتبت «فتحنا زجاجة النبيذ على حاجز الأمواج‪،‬‬
‫العدم‪ ،‬وال من اجلراد الذي قفز على حلم ال�صيف‪،‬‬ ‫واحتفلنا بذكرى اكت�شاف الطبعة الأوىل من‬
‫من الأمطار املفاجئة‪ ،‬ومن �سريك النمل الأحمر‬ ‫كتاب «معهد �ضبط ال�ساعات» قط عمتي تفاقم‬
‫حتت ظل ال�صخرة‪.‬‬ ‫التهاب مفا�صله خالل اخلريف ف�أجربنا على‬
‫يرعبني كثريا غياب الكلمات‬ ‫ترك بيوتنا» وكتبت «يف جميع �أنحاء بالدي‬
‫لهذا �أكتب‪ ،‬بال نهاية �أكتب‪� ،‬أكتب بنف�س الطريقة‬ ‫انهيارات‪ ،‬لكن �أفكاري كلها من �أجلك» مل �أ�ستطع‬
‫التي �أ�شيد بها هذا الربج‬ ‫الكتابة «�أخذوا �أخاك �إىل امللج�أ» اللغة مع�سكر‬
‫بدل البئر القدمية‪ ،‬هذه البئر امللعونة حيث �سقط‬ ‫اعتقال‪ ،‬وب�لادي منجم فارغ �ستبقى درا�ستي‬
‫�أبي ودق عنقه»‬ ‫للم�رسح متوقفة �إىل الأبد‪.‬‬
‫ك��ان ف�صل ال�����ش��ت��اء‪ .‬ق��ط��ار يقطع الأرا���ض��ي‬ ‫‪4‬ـ ثالث ق�صائد هايكو‬
‫املنخف�ضة مثل غاز بيا�ض الثلج داخل م�صباح‬ ‫(ال�صيف عر�ض يف حانة تفوح منها رائحة‬
‫م�سود‪ .‬كان اجلنود املقتادون �إىل اجلبهة‬ ‫ّ‬ ‫زيتي‬ ‫العرق‪ ،‬اخلريف طفلة �صغرية تدلك قدميها وهي‬
‫يتطلعون م��ن ن��واف��ذ ع��رب��ة القطار ويحيون‬ ‫تكرر عر�ضها منتظرة دورها)‬
‫بقبعاتهم قطيع اخليول الربية الراك�ضة بجانب‬
‫حليب يوليو‬
‫القطار‪.‬‬
‫يف ظل التني‬
‫�أطفال يقطعون اخل�شب يف الفناء‪ .‬عربة الت�سوق‬
‫تتنا�سل النحلة باجلندب‬
‫مغرو�سة بني الثلوج‪ ،‬و�صوت املر�أة ال�ضجر‬
‫وهي تعانق الرجل يف ال�رشفة قائلة‪ « :‬يجب �أن‬ ‫�رشبت ثالثة �أكواب‬
‫ترحل» �أق�صد من رتابة ال�شتاء‪.‬‬ ‫الثانية كانت هايكو‬
‫يف اليوم التايل �سقط الرجل من برج وانك�رست‬ ‫املاء حي‬
‫رقبته‪.‬‬ ‫عيناك ع�سليتان‬
‫طرقت املر�أة باب الربج مرارا وتكرارا ويف الوقت‬ ‫لن يكون هذا ال�صيف هادئا‬
‫املعتاد‪،‬‬ ‫تهم�س الك�ستناء الهندية والرياح‪.‬‬
‫يف اليد الأوىل فانو�س‪ ،‬ويف اليد الأخرى مظلة‪،‬‬ ‫‪Lutenitsa -5‬‬
‫مل ت�ستطع احلفاظ على ق�صائده املخطوطة جافة‬ ‫(اللغة تع�ض يوليو‪ ،‬اجل َِمال الزرقاء تعرب‬
‫بني �أ�سنانها‪.‬‬ ‫ليل ال�صحراء‪ ،‬تفرت�سها الغرية من �شعرك)‬
‫خلف ال��ري��اح يختبئ اخل��وف ال��ذي ت�ستن�شقه‬ ‫لوتنيت�سا‪ ،‬لوتنيت�سا‬
‫املر�أة‪.‬‬ ‫ا�سمك يعني �صل�صة الفلفل احللو مع الع�سل‬
‫‪219‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫من �أعمال ر�شا العبديل‪ُ -‬عمان‬

‫�شم�س‬
‫العتبة‬
‫\‬
‫عزيز احلاكم‬

‫وال ذنب يل‬ ‫�أبعث �إليها‬


‫�سوى �أين‬ ‫بقبالتي الع�شواء‬
‫ال �أجيد امل�شي‬ ‫من الطابق الرابع‬
‫يف دروب العميان‬ ‫فت�سقط‬
‫�أخاف �أن‬ ‫فوق ر�أ�س كلو�شار عابر‬
‫هاو‬
‫ي�رسق مني ل�ص ٍ‬ ‫ب�ساحة الأوبرا‬
‫�شم�س العتبة‬ ‫وترديه قتيال ‪،،،‬‬
‫فتقفل الأبواب‬ ‫هل كان الذنب ذنبي‬
‫يف وجهي ‪،،،‬‬ ‫حني �أيقظني �ضيا�ؤها‬
‫ليتني‬ ‫يف كهف العادة‬
‫ما ميمت عنايتي‬ ‫فاغت�سلت من بريق الفجر‬
‫�صوب العتبة‬
‫�أخرجت �شم�سي‬
‫وال فتحت ر�سائل الأحباب‬
‫�إىل العتبة‬
‫لكنت الآن‬
‫وتركت الباب مفتوحا‬
‫�أغط�س قدمي‬
‫كي ال يزورين �أحد ‪،،،‬‬
‫يف �سواقي فرايبورغ‬
‫وازداد انت�شاء بالوجود ‪،،،‬‬ ‫لي�ست يل خلوة واحدة‬
‫‪220‬‬ ‫\ �شاعر من املغرب‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كي �أرتاح‬ ‫ويف امل�ساء‬


‫من كل الق�شدات ؟‬ ‫حينما يحلو الرق�ص‬
‫�أرى النوافذ تفتح‬ ‫يف املرايا العائمة‬
‫على �صدر البحر‬ ‫�أرتكن يف حانة «كارمن»‬
‫فال ي�صفعني الرذاذ‬ ‫مثل �سفاح جبان‬
‫و�أرى وجهي يف �صفحة املوج‬ ‫�أحت�سي دماء اللحظة‬
‫ينمو كالطحلب الأبله‬ ‫وعيناي على �أعناقهن جميعا ‪،،،‬‬
‫فيحلو فرحي باملاء‬ ‫ال �أريد لبائعة الورد الغجرية‬
‫�أن�سى وجهي الذي كان‬ ‫�أن جتيء الآن‬
‫و�أبتكر للبحر �أ�سماء‬ ‫الأحمر يف يدها‬
‫ال عهد للموج بها‬ ‫يراود ظمئي‬
‫تربك القوارب الن�شوى‬ ‫للدماء ال�سارية يف �رشايينها‪،،،‬‬
‫وتد�س الغرية‬ ‫�أم�ضي خارج امل�ساء‬
‫يف �أعني ال�صيادين ‪،،،‬‬ ‫�أتف�سح عاريا‬
‫يف حديقة ال�صعاليك الف�ضالء‬
‫هاهي ذي فو�ضاي الناعمة‬ ‫�أالعب ظلي‬
‫متلأ حوا�سي كلها‬ ‫و�أحلم بامر�أة �سالفية حمقاء‬
‫تعود بي‬ ‫من ريف بافاريا‬
‫�إىل نف�س اخلراب‬ ‫حتملني وتهرب بي‬
‫كي �أنقذ امل�ساء‬ ‫�إىل م�شفى ال�شهوات‬
‫من �سقطاته‬ ‫و�أنا �ألعق نحرها‬
‫و�أعيد للدهر مئزره احلريري‬ ‫مثلما تلعق الق�شدة‬
‫ال �أجل�س يف نف�س الزاوية‬ ‫يف �أحالم اليتامى‬
‫وال �أ�رشب نف�س الك�أ�س‬ ‫و�أنغنغ �ضاحكا‬
‫وال �أ�صدق �شم�س مونبولييه‬ ‫من ت�ساوق ال�صدف ‪،،،‬‬
‫خمافة �أن يجرفني‬ ‫كم �سبيال يلزمني‬
‫�صهيل املا�ضي‬ ‫لرتوي�ض خطاي‬
‫ف�ألوذ للمرة ال�سابعة‬ ‫على نف�س الكبوات ؟‬
‫ب�أح�ضان اخلطيئة ‪،،،‬‬ ‫وكم نحرا �س�ألعق‬

‫‪221‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫من �أعمال �سمر الكعبي‪ُ -‬عمان‬

‫ق�صائــــــد‬
‫\‬
‫جناة علي‬

‫كطفل �صغري‬ ‫الغريب‬


‫هده التعب‬
‫ّ‬ ‫�أنفا�سه احلائرة هي �آخر‬
‫هده احلنني �إىل وطن؟!‬ ‫ّ‬ ‫ما تبقى لها منه‬
‫هيلني‬ ‫يف هذا البيت‬
‫ملاذا ال �أكرهك يا هيلني؟!‬ ‫ت�ضيء بها عتمة ج�سدها ليال‬
‫�أو �أدو�س على ظ ّلك‬
‫حني تتذكر �أن بينهما‬
‫ثم �أم ّثل بجثتك يف �أحالمي‬
‫كما ينبغي لغرمية �رش�سة‬ ‫ع�رش �ساعات‬
‫مثلي‬ ‫من االنتظار املر‪.‬‬
‫كنت على الأقل‬ ‫ك�أنها حتبه !!‬
‫�س�أكتب الق�صيدة‬ ‫هذا الغريب التائه يف بالد اهلل‬
‫و�أنا هادئة‪.‬‬ ‫التي تزداد وح�شة‪.‬‬
‫البد �أنك نائمة الآن‬ ‫يفت�ش له عن وطن‬
‫يف ح�ضنه‬
‫بحجم غيابه‬
‫�أ�سمع �صوتك تت�أوهني‬
‫وبحجم موته البطيء‪.‬‬
‫يا هيلني‬
‫على مقربة من ر�سائله ال�ساخنة يل‬ ‫ملاذا �إذن تق�ضي ليلتها‬
‫عرب حائط اليكرتوين بارد‪.‬‬ ‫يف انتظار �أن يت�سلل‬
‫ملاذا �إذن ينتف�ض ج�سدي‬ ‫�إىل غرفتها‬
‫ب�شدة‬ ‫لينام على �صدرها‬
‫‪222‬‬ ‫\ �شاعرة من م�رص‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�شارع حممد حممود‬ ‫�أمام دموعك احلارقة‬


‫ �إىل �سو�سن ب�شري‬ ‫ك�أنها �شوكة مغروزة‬
‫هنا البيت ولي�س ميدان التحرير‬ ‫يف جلدي‬
‫وغرفة نومي مل تكن يوما‬ ‫هل �صحيح �أنني حني �أنظر‬
‫�شارع حممد حممود‬ ‫�إىل املر�آة‬
‫من �أين ي�أتي الغاز �إذن ؟‬ ‫�س�أراك؟‬
‫ومن �سمح لقنا�صة العيون‬ ‫هكذا �أخربين حبيبي ذات مرة‬
‫�أن تعتلي النوافذ‬ ‫لكن عيوين لي�ست زرقاء‬
‫ومن قال للجنود � ْأن يعربوا‬ ‫وامل�سافة بني ال�شعر والهند�سة‬
‫‪ -‬هكذا‪ -‬بحرية‬ ‫لي�ست هينة على ما يبدو‪.‬‬
‫بالقرب من �رسيري‬ ‫فهل �س�أظل وحدي‬
‫منت�شني برائحة املوت‬ ‫هنا‬
‫وبالفرجة على جثث مكومة‬ ‫يف الطريق بني القاهرة‬
‫قرب �صنايق القمامة‪.‬‬ ‫ووا�شنطن‬
‫لكنني هنا ‪� ..‬أقف وحدي‬ ‫بخيال تائه‬
‫على بعد �سنتيمرتات‬ ‫�أر�سم �صورتك‬
‫من الرعب‬ ‫ثم �أحموها‬
‫أجمع مالمح الأطفال‬ ‫� ّ‬ ‫كتلميذ خائب!!‬
‫بزيهم املدر�سي‬
‫وهم ي�سقطون بخفة‬ ‫مر�آة‬
‫قرب قدمي‬ ‫همممت �أن �أف�ضحها‬
‫لأر�سمهم على احلوائط‬ ‫عند �صديقها املغربي‬
‫يل‬
‫‪-‬وهم يتطلعون إ� َّ‬ ‫تلك التي جتل�س �أمامي‬
‫بن�صف ابت�سامة‪-‬‬ ‫مبت�سمة‬
‫�س�أكتفي الآن مبراقبة‬ ‫‪ -‬كغبية‪-‬‬
‫الهاربني من احلياة‬ ‫من �أتت بكل هذه الوقاحة‬
‫منتظرةعودة �صديقتي الوحيدة‬ ‫التي تلقاين بها‬
‫من ق�رص الدوبارة‬ ‫وتق�ص بها حكايات ملفقة‬
‫لأ�س�ألها‪:‬‬ ‫عن راهبة ت�سكنها؟!!‬
‫من �أين ي�أتي كل هذا الغاز؟‬ ‫ن�سيت �أنني �أتبعها كقرين‬
‫�شاهدت �صدري املثقوب‬‫ْ‬ ‫وهل‬ ‫دائم‬
‫منذ ثالثة �أعوام‬ ‫و�أن القدي�سني‬
‫وك�أنني عدت لتوي من احلرب؟!!‬ ‫ال يكتبون ال�شعر‪.‬‬
‫‪223‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫من �أعمال حممد الرقمي ‪ُ -‬عمان‬

‫ال �أحد ينتظر يف‬


‫موقف احلافالت‬
‫\‬
‫حممد عبيد‬

‫لتبني م�سكنا‬ ‫�أ�سماك البحر لي�ست جميعها للزينة‬


‫يف حقل القمح‬ ‫منذ �أعوام‬
‫ال تهدمه الأقدام‬ ‫مل �أعد �أكتب‬
‫التي ال ترى يف الأعلى‬ ‫عن البي�ض امل�سلوق‬
‫�سوى �سحابة بي�ضاء‬ ‫و�رصت �أكتب عن الأ�سماك امللونة‬
‫كقلب �أمي‬ ‫داخل الأحوا�ض الزجاجية‬
‫وجافة ك�أر�ض قريتنا ‪..‬‬ ‫مل �أعد �شاعرا‬
‫ل�ست حزينا الآن‬ ‫كما ينبغي ل�شاعر‬
‫رغم �أين �أ�ستهلك‬ ‫ي�سكن وحده يف كومة ق�ش‪..‬‬
‫كمية خرافية من البهجة‬ ‫�رصت �أكرث خوفا وحزنا‬
‫و�أبت�سم‬ ‫مل �أعد ذلك النزق‬
‫لأظهر �أ�سناين التي دعكتها‬ ‫بل �رصت تلك ال�سحابة‬
‫�أريدها بي�ضاء‬ ‫التي ال متطر دائما‬
‫لأبت�سم و�أنرث البيا�ض‬ ‫لأن الغيم مثقل‬
‫البيا�ض الذي �أكتب فيه‬ ‫وال�سحابة‬
‫عن �شاعر حزين‬ ‫ال حتمل �إرثا قدميا‬
‫لي�س لديه نافذة‬ ‫ي�شبه الرمل‬
‫ومنذ �أعوام‬ ‫الذي حتتاجه منلة‬
‫‪224‬‬ ‫\ �شاعر من اليمن‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لكنني �س�أر�سم وردة‬ ‫مل يكتب ق�صيدة‬


‫و�أر�سلها �إليك‬ ‫لأن ال�سماء بعيدة‬
‫وحني ت�شمينها‬ ‫و�أ�سماك البحر‬
‫�سيكون ذلك املجنون‬ ‫لي�ست جميعها للزينة ‪..‬‬
‫املدعو حممد عبيد‬ ‫�أدري �أن احلزن بداخلي‬
‫يهم�سلك ‪:‬‬ ‫ال ت�ساويه كذبة �صغرية‬
‫�أحبك ‪....‬‬ ‫من �صديق يكتب‬
‫عن �أرملة وحيدة تدخن كثريا‬ ‫حلبيبة مفرت�ضة‬
‫نحن �إخوة يف الكالم‪ ‬‬ ‫وال يجد من ينتظره‬
‫ولعب الكوت�شينة‪ ‬‬ ‫يف موقف احلافالت !!‬
‫نقت�سم غنائم احلروب‪ ‬‬ ‫مازلت اتزلج و�س�أعود ع�شية عيد امليالد‬
‫وخ�سائر املعارك املفرت�ضة‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي‬
‫نحن الرفاق‪ ‬‬ ‫جبال يك�سوها الثلج‬
‫حني تكون القنينة مبتهجة‪ ‬‬ ‫لأكتب حلبيبتي‬
‫و�أحباب اهلل‪ ‬‬ ‫�إنني ما زلت اتزلج‬
‫حني متتلئ اجلرار بالع�سل‪ ‬‬ ‫و�س�أعود ع�شية عيد امليالد ‪..‬‬
‫نتحدث كثريا‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي عيد ميالد‬
‫عن فوائد احلبة ال�سوداء‪ ‬‬ ‫لأزين ال�شجرة ‪..‬‬
‫وف�ضائل ليايل اخلمي�س‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي �أ�شجار‬
‫حتتفي بالع�صافري ‪..‬‬
‫نحن الذين اختفوا‪ , ‬ذات حرب‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي ع�صافري‬
‫وفقدت خيولهم‪ ‬‬ ‫ال يقتلها ال�صياد ‪..‬‬
‫لكن املوت مل يختطفهم‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي �صياد‬
‫لأن الأ�شجار عالية‪ ‬‬ ‫ال يجيد القن�ص‬
‫�سيكون بو�سع ال�شعراء‪ ‬‬ ‫�أو قبائل ال حت�سن �إكرام‬
‫�أن يكتبوا ق�صائد جديدة‪ ‬‬ ‫القتيل ‪..‬‬
‫عن �أرملة وحيدة‪ ‬‬
‫تدخن كثريا‪ ‬‬ ‫اجلبال يك�سوها البارود‬
‫وترق�ص وحدها يف الليل‪ ‬‬ ‫وال �أحد منا يتذكر ميالده‬
‫ال�شعراء الذين مل تنفثهم‪ ‬‬ ‫والأ�شجار حطب املواقد‬
‫�سيجارة املاغوط‪ ‬‬ ‫والع�صافري طعام الن�رس‬
‫وهو يكتب ديوانه الأخري‪ ‬‬ ‫والدم �رشاب ال�سباع ‪..‬‬
‫ويوقع ا�سمه‪ ‬‬ ‫لي�س يف بالدي‬
‫بعود ثقاب !‪ ‬‬ ‫ورد جوري‬
‫‪225‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫من �أعمال حمد البو�سعيدي ‪ُ -‬عمان‬

‫ق�صـائـد‬
‫\‬
‫�إ�سماعيل فقيه‬

‫يف جمزرة النهار‬ ‫م�سافة‬


‫امر�أة‬ ‫عليكَ �أن مت�شي‬
‫حتى �آخر م�سافة‬
‫امر�أة‬
‫تكوي حظّ ها املجعلك‬ ‫تط ّل‬
‫وقمي�صها الأخري‬ ‫على م�سافات ال تنتهي‬
‫تن�شف �صمتها املبلول باخلطوات‬ ‫يه�شمكَ االنتظار‬
‫قبل �أن ّ‬
‫ّ‬
‫يف يدها �ضباب‬ ‫و ُتغادر‬
‫يقر أ� ا�ضطراري‬ ‫مع الذين اعتذروا عن موتهم‬
‫تركت الرغبة تندلق من �ساقيها‬ ‫عليكَ �أن حتمل جعبة الليل‬
‫وبعرثت �أ�صابعها‬ ‫يف �صدرك‬
‫يف م�صافحة عابرة‬ ‫وتبقى وحيداً‬
‫مع املياه الناطقة‬
‫نقاط ماء‬ ‫بالوقت واحلجر‬
‫ك ّل ظهرية‬ ‫قبل �أن ميحو فجر الأ�صابع‬
‫تعود اىل املنزل‬ ‫ما تبقى يف �أقاليم الغربة‬
‫بعد عمل �شاق‬ ‫عليكَ �أن مت�شي‬
‫تتعرى‬ ‫تعري‬
‫مع التحوالت التي ّ‬
‫تروي ج�سدها باملاء البارد‬ ‫قبل �أن تذبحكَ املفاج�آت‬
‫‪226‬‬ ‫\ �شاعر من لبنان‬
‫‪s‬‬ ‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�ستقر الهواء‬
‫ّ‬ ‫وت�ستلقي على ال�رسير‬
‫�أما يف الأوقات الأخرى‬ ‫ُم�ستمعة اىل مو�سيقى هادئة‬
‫فعاداتي غري م�ستعملة‬ ‫ثم تذوب‬
‫يف حمفظة كبرية‬ ‫يف ُنعا�س بلّوري‬
‫ُمعلّقة يف الف�ضاء‬ ‫وعلى نهديها‬
‫ينتظر‬ ‫نقاط ماء �صغرية‬

‫ما ُيريده‬ ‫م�شاتل العمر‬


‫�أن تبقى خطواتكِ‬ ‫كانت تقف‬
‫ُتبلل ُغربته‬ ‫�أمام ال�شارع الكبري‬
‫تفتح يف جدار ي�أ�سه‬ ‫تراقب الأيام‬
‫نافذة‬ ‫�أو �شاردة‬
‫باب ًا‬ ‫حب كبري‬
‫يف ّ‬
‫وظال ًال‬ ‫وج�سدها يرمي ظالله ال ّذكية‬
‫ما ُيريده‬ ‫ك ّل ما فعلته‬
‫�أن ت�سكبي نظركِ‬ ‫تلك الفتاة‬
‫يف وعاء وحدته‬ ‫املجدولة يف الهواء‬
‫�سيكتفي‬ ‫بقيت �شاخ�صة‬
‫بتلك اخليوط الناعمة‬ ‫متلأ فراغ املكان ب�أنوثتها‬
‫امللون‬
‫وبهذا الوهج ّ‬ ‫تذرف قمحها‬
‫الذي يكتب‬ ‫يف م�شاتل العمر‬
‫�أنفا�س امل�ساء‬
‫ما زال ينتظر‬ ‫�شموع �ضعيفة‬
‫يف حديقة ك�آبته‬ ‫كلّما ا�شتقت �إليكِ‬
‫يتابع قراءة الطيور‬ ‫�أبدو معزو ًال‬
‫يتم�شى يف ممرات خطرة‬ ‫بني �شموع �ضعيفة‬
‫ما زال ينتظر‬ ‫�أو تائه ًا‬
‫حتت هذه املالمح ال�صعبة‬ ‫يف براري الك�سل‪:‬‬
‫يتغذى من �صمتٍ‬ ‫يداي مبللتان بالإعدام‬
‫ي�سبق جميئك‪.‬‬ ‫وعلى بطني‬

‫‪227‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫من �أعمال ر�شاد الوهيبي ‪ُ -‬عمان‬

‫جمازات‬
‫\‬
‫معاوية الرواحي‬

‫‪jhj‬‬ ‫�أغطية ‪..‬‬


‫تلك املر�أة امل�شتهاة ‪..‬‬ ‫ال ُنكران ‪..‬‬
‫حبيبة العقل ‪..‬‬ ‫غطاء على �س�ؤال ‪..‬‬
‫�صديقة القلب ‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫�أغنية �أوىل دائمة‬ ‫�أمام الكتابة �ضباب كثيف‬


‫لذلك اجلدال الأبدي‬ ‫يجعل الر�ؤية وا�ضحة‬
‫بني الرجل واملر�أة‬ ‫ويجعل احلروف‬
‫بني احلب‬ ‫مت�شي‬
‫وال�سالمة ‪..‬‬ ‫ببطء‬
‫‪jhj‬‬
‫بني الهرب‬
‫نن�سلخ ببطء �شديد‬
‫والقرب‬
‫من حب �أغنية نع�شقها ‪..‬‬
‫بني الأ�سئلة الغام�ضة‬
‫يتغري الزمان واملكان علينا‬
‫والإجابات ال�صامتة ‪..‬‬
‫ونرى طعمها يخف �شيئا‬
‫مع كل ذلك ‪..‬‬
‫ف�شيئا ‪..‬‬
‫مع كل �شيء ‪..‬‬ ‫حتى ي�صبح عاديا‬
‫اللحظة ‪..‬‬ ‫مثل املاء ‪..‬‬
‫القبلة ‪ ..‬الكلمة ‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬

‫والرغبة‪..‬‬ ‫الهذونة‪� :‬سخرية جادة من اجلدية ‪..‬‬


‫‪228‬‬ ‫\ كاتب من ُعمان‬
‫من �أعمال ابراهيم البو�سعيدي‪ُ -‬عمان‬

‫الأم ُر‬
‫يعنيكَ‬
‫\‬
‫منذر العيني‬

‫نوان بد ٍء جدي ْد ‪...‬‬ ‫اخلرابات ُع ُ‬‫ُ‬ ‫باكرا من‬ ‫انحدر ً‬ ‫َ‬ ‫مل تمُ طِ ْر ق�صائِدي بع ُد ‪ .‬الطِّ فلُ‬ ‫ْ‬
‫بحان اللّــــــــــه‬‫‪� ‬س َ‬ ‫ُ‬ ‫جتاويف احلكايا فيما املدين ُة تغ�سِ لُ ج�سدها‬ ‫ِ‬
‫تفتح على البح ِر‪.‬‬ ‫أبواب ُت َ�س ِّي ُج املدين َة و املدين ُة ُ‬ ‫‪ ‬ال ُ‬ ‫ال�سجائر‪  .‬لكِ ِوح�ش ٌة يا امر�أ َة‬ ‫أعقاب ّ‬‫العاري من � ِ‬
‫إفريقيةَ‪�  ‬أبوا ُبكِ �ش ّتى‬ ‫ّ‬ ‫تنبح‪« :‬يا �‬ ‫مِ ْن بعي ٍد قرطاج ُ‬ ‫ذهب بنا بعي ًدا ‪.‬‬ ‫�سيان َ‬ ‫البارح ْه ‪ .‬ال ِّن ُ‬
‫َومدخلكِ واحد»‬ ‫تتلب ُد يف ال ّثني ِة‬ ‫أمر يعنيكَ يا طِ ف ْل ‪ .‬الق�صا ِئ ُد َّ‬ ‫ال ُ‬
‫البحر ‪�« :‬صدقتِ يا قرطاج»‬ ‫ُ‬ ‫أجاب‬
‫� َ‬ ‫�إليكَ ‪.‬‬
‫ال�شعر‪...‬‬‫إفريقية ُتو�أم ُ ِّ‬‫َّ‬ ‫لَعم ِري �‬ ‫كتائب‬
‫َ‬ ‫إيقاع الع�سكري ‪� .‬أمطِ ري يا‬ ‫القطرات بد�أت � َ‬ ‫ُ‬
‫زلزل ٌة‬ ‫ُروحي‬
‫احلريةِ‪.‬‬
‫�شارع ّ‬ ‫َ‬ ‫ال َّزلزل ُة ال ّتي ه ّزتني ه ّز ْت �أي�ضا‬ ‫كلمات ‪...‬‬
‫ْ‬ ‫‪� ‬أمطري يا‬
‫اجلوع يك ِف ُن ُه‬
‫ُ‬ ‫مت يه�صرِ ُ حِ ّد َة ال ّثا ِئ ِر و‬ ‫ال�ص ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬اخلرابات‬
‫ُ‬
‫تفزع من‬ ‫ُ‬ ‫الكلمات‬
‫ُ‬ ‫بي�ضاء ُمدهِ َ�ش ٌة و‬ ‫ُ‬ ‫العالمات‬
‫ُ‬ ‫الباي»‬ ‫ْ‬ ‫تر�س ُم وج َه احلقيق ِة ‪ .‬يف « ُترب ِة‬ ‫‪ ‬اخلرابات ُ‬
‫ُ‬
‫أنقا�ض‪.‬‬
‫حتتِ ال ِ‬ ‫ِدارتهِ‪ .‬العبا ُد‬ ‫الوقت دائر ٌة ُتنهكُ ال ّدو َد عِ ن َد ا�ست َ‬ ‫ُ‬
‫ال تكتئِبي يا امر�أتي‪.‬‬ ‫ال�ستار ِة‬‫أ�صفر خيطُ ِّ‬ ‫يح ‪ .‬ال ُ‬ ‫الر ِ‬‫أروق َة ّ‬ ‫توء ُيطال ُِع � ِ‬ ‫ُن ٌ‬
‫أعرف‪...‬‬ ‫� ُ‬ ‫بات ال ّذي نت أَ� ال َآن يف‬ ‫�رسح الأبدي ‪ .‬ال ّن ُ‬ ‫ِلل َْم ِ‬
‫الم‬
‫أبغ�ض احلاللِ يف هذا الظّ ِ‬ ‫هي � ُ‬ ‫ُري ُة َ‬ ‫احل ّ‬ ‫الوقت‬ ‫ُ‬ ‫إيقاع ُه‬
‫ب�ض ي�صع ُد ين ِزلُ ‪ُ � .‬‬ ‫العتبات ُه َو ال ّن ُ‬ ‫ِ‬
‫والربق م�سري ُة حلظ ْه ‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫�صبغ‬
‫َ‬ ‫فاجئَةٍ ِج ْئ َت ُه‬ ‫مع ‪ .‬مِ ْن �أَ ِّي ِ‬ ‫� ّأما َخواتمِ ُ ُه ال َّد ُ‬
‫لي�س هنالكَ م�شك ٌل‬ ‫َ‬ ‫الوج َه و الورق ْه ‪.‬‬
‫‪229‬‬ ‫\ �شاعر من تون�س‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫رض ‪.‬‬
‫حلما �أخ� َ‬
‫و الوع ُد �أ�ضحى ً‬ ‫ال�شهدا ْء‪.‬‬
‫نهج ّ‬ ‫نهج الفق ِر ُ‬ ‫نهج الغِنى ُ‬ ‫تتقاطع ُ‬‫ُ‬ ‫الأن ُه ُج‬
‫مع خطوط‬ ‫الباي» تجَ مع خطوطَ الطُّ ولِ َ‬ ‫ْ‬ ‫« ُترب ُة‬
‫ماء‬
‫ت�رشب َ‬ ‫ُ‬ ‫الرخو ِة‬ ‫‪ ‬يف القع ِر ال ّنبت ُة ب ُِجذورها ّ‬
‫قارور ِة خ�رضاء‬ ‫ي�شمت فينا‪  ‬يا‬ ‫ُ‬ ‫وامل�رسب واح ٌد‪ .‬ال ّدو ُد‬ ‫ُ‬ ‫ر�ض‬ ‫ال َع ِ‬
‫للتو ‪.‬‬
‫رب ْت ِّ‬ ‫ال�سحن ُة �آغ ّ‬ ‫تعرف أ� ّنها م ّيت ًة ال حمال ْه‪ّ  .‬‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫اي» ‪.....‬‬ ‫« َب ْ‬
‫ات‬‫اجلني ُ‬
‫ّ‬ ‫ف�ض فيما‬ ‫الر ِ‬ ‫�صمم ٌة على ّ‬‫دائما ُم ِّ‬ ‫أقدار ً‬ ‫ال ُ‬ ‫الكلمات تت� ّأو ُه على قيثارة» �أوكتافيو باث» ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و‬
‫يدفعنني ِل�شرُ ِب ك� ٍأ�س معها ‪ ،‬عن بع ٍد طب ًعا ‪.‬‬ ‫لي�س هنالكَ ُم�شك ٌل ‪.‬‬ ‫الوطء يا هذا َ‬ ‫َ‬ ‫خف ِّْف‬
‫�شيعنا بفانو�س ِه �إىل البيتِ �صام ًتا‬ ‫بيتهوفن ُي ّ‬
‫ْ‬ ‫موت‪.‬‬‫ٌ‪.‬موت يف ٍ‬ ‫ِزية ٌ‬ ‫طرق جنائ ّ‬ ‫أنهج ٌ‬ ‫ال ُ‬
‫رجا كالعاد ِة ‪.‬‬ ‫محُ ً‬ ‫يتعب ‪...‬‬
‫ع�ش ال ُ‬ ‫حاملُ ال ّن ِ‬
‫القبو جحيم «دانتي»‪  ‬هذه ال ِوقف َة ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ ‬الفول َغا‬
‫يح ‪.‬‬ ‫الر ُ‬
‫تتالع ُب بها ّ‬ ‫َ‬ ‫أحرف‬
‫ال �أم َل باللّقا ِء وال ُ‬ ‫‪ ‬ما بق َِي‬
‫فوق‬
‫�شفري َ‬ ‫�صعب يا «طرفه» و ال�صرِّ اطُ‬ ‫يار‬ ‫ال�شيوعيني القدامى ‪.‬‬ ‫قليلُ من من �أ�سما ِء ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َخ ٌ‬
‫الهاوية ‪.‬‬ ‫احلمراء‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ِكايات‬
‫ِ‬ ‫جو ُه بِندى احل‬ ‫الفولغا َيغ�سِ لُ ّ‬
‫أيي �أن تتق ّد َم ‪.‬‬ ‫َر� ِ‬ ‫ِنائحات‬
‫ِ‬ ‫�شتاق ل‬ ‫امليدان ِبقِبا ِب ِه و نافورات ِه ُم ٌ‬ ‫ُ‬
‫دو ِت احلري ُة بيننا ‪.‬‬ ‫ُجئي ّ‬ ‫«ال ّزاوي ْه» ‪.‬‬
‫قوط ف ٍّ‬ ‫ك�س ِ‬ ‫ُ‬
‫أمر مرتوكٌ لفو�ضى الأقدا ِر ‪.‬‬ ‫ال ُ‬ ‫أ�سماء ُه ‪.‬‬
‫املرتادين � َ‬
‫َ‬ ‫‪ ‬ما �أَوح�شنا ُ‬
‫نحن‬
‫خلف‬‫حتتقن دمها َ‬ ‫ُ‬ ‫فران القام ُة‬
‫َمعمو َد ًة مبا ِء ال ُغ ِ‬ ‫ْ�سيم‬
‫�سب ُح لمِ ك ْ‬ ‫�صب ‪ .‬املِ�ساح ُة ُت ِّ‬ ‫يركع للخِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِنجلُ‬ ‫امل َ‬
‫جاب الغياب ‪...‬‬ ‫حِ ِ‬ ‫وركي‬ ‫ُغ ْ‬
‫أبي�ض و الأ�سو ِد‬
‫بِال ِ‬ ‫لج خاتمِ ُة الي�سار ‪.‬‬ ‫‪ ‬وال ّث ُ‬
‫ال�سودا ِء ‪.‬‬ ‫فيما الكِتاب ُة تند ُِف على‬ ‫أحجار َ‬ ‫َ‬ ‫املعاولُ ُتك�سرّ ُ ال‬ ‫ِ‬
‫ني ّ‬ ‫ني ال ّزيات ِ‬ ‫نت�صف اللّيلِ �سائ ٌل ب َ‬ ‫ِ‬ ‫طار ُم‬‫قِ ُ‬
‫ي�رشح احلالةَ‪.‬‬ ‫عن ال ّنطاقِ الأزي ُز‬ ‫ب ُِحمولت ِه ال ّزائِد ِة ِ‬ ‫مهل‪  ‬ب�آ ْنتِظا ِر ف ْت ٍح �آخ ٍر ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫رب‬ ‫م�آلُها الفولغا‬
‫وهي ت�ص ُغ ُر ع َ‬ ‫ني َ‬ ‫تبدو كالفِط ِر الطّ ا َز ِج ال ّزيات ُ‬
‫خلف مرايا‬ ‫َ‬ ‫جع‬
‫تت�شو ُف ال ّن َ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ساف ِة وال ّذاكر ُة‬ ‫البحر ‪ ...‬فق ٌد‬
‫ْ‬ ‫والفولغا م�آ ُل ُه‬
‫بي�ضاء‪.‬‬
‫ْ‬ ‫كنعانيةٍ‬
‫ّ‬ ‫ن�سيب‬
‫ِ‬ ‫خلف‬
‫�رشق َ‬ ‫وماني ُة ُت ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سحن ُة ّ‬
‫الر‬ ‫ُّ‬
‫«�سو�سةَ» و‬ ‫كيف و�صلنا ُ‬ ‫مل �أفهم ُه ح َّد ال ِآن ُه َو َ‬ ‫ما ْ‬ ‫غابر ْه ‪.‬‬
‫ِدقائق‬
‫َ‬ ‫بخ�س ل‬ ‫بثمن ٍ‬ ‫باعتني ٍ‬ ‫ال�سن ُة �أخذتني بغت ًة َ‬ ‫ِّ‬ ‫الغياب ‪ْ � .‬أي‬
‫ْ‬ ‫جاب‬‫خلف حِ ِ‬ ‫كن �أن نتوا�صلَ َ‬ ‫ه ْل يمُ ُ‬
‫هبلى ‪.‬‬ ‫أقدار باركت ُه‬ ‫نعم ‪ .‬لمِ َ َال ؟ الو�صالُ ال ّذي رف�ضت ُه ال ُ‬ ‫ْ‬
‫للعدم‬
‫ِ‬ ‫تنظر‬
‫ُ‬ ‫رت البوم َة ج ّدتي �إ ْذ‬ ‫‪ُ  ‬ترى هل تذكّ ُ‬ ‫يات املزا ِر ‪.‬‬ ‫ِج ّن ُ‬
‫ِف �صمتي ب�أزي ِز �آخِ ر ِة اللّيلِ ‪.‬‬ ‫ُت�سع ُ‬ ‫القبو « ‪� »capri‬آ�ستحالَ ج ّن ًة جتري من حتتها‬ ‫ُ‬
‫ال�ساع َة ‪.‬‬‫حرام هذ ِه ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وم‬‫ال ّن ُ‬ ‫الأنهار‬

‫‪230‬‬
‫فال‪ ،‬ال‬
‫طالب املعمري‬

‫(الأ�شياء تزداد بيان ًا بالأ�ضداد ‪)..‬‬


‫اجلرجاين‬ ‫ ‬
‫اللعنة عليك‬
‫‪ -‬يا �صديقي ‪-‬‬
‫مل ت�س ْفلِت كلماتك‬
‫ْ‬
‫العظيمة‬
‫لتم�شي عليها الرداءة واالنحطاط‬
‫نت‬
‫نت ‪ ،‬كما ‪ ،‬كُ َ‬ ‫كُ َ‬
‫دق‬
‫وال�ص َ‬
‫طفال ل ْعب ُته الرباءة ِ‬
‫وال�شم�س غافية‬
‫عن البالد‪،‬‬
‫�إكْ رب قليال‬
‫لرتى البقر‬
‫يف كنف الو�سيلة‬ ‫مت�شابه ًا‬
‫لهذا‪ ،‬املا�ضي هو امل�ستقبل‬ ‫وال�س� ُأم حال‬
‫ما�ض‬
‫وامل�ستقبل ٍ‬ ‫الكلمات العتيقة‬
‫غيه وغيبوبته‬ ‫يف ّ‬
‫الغراب ‪..‬‬ ‫وما‪،‬‬ ‫فال‪ ،‬ال‬
‫ُ‬
‫�إال مالكٌ يتنزه‬ ‫يف «البدء» و«النون»‬
‫فوق اجلثث‬ ‫وال قراءة‪ ،‬غري واحدة‪.‬‬
‫يقر�أ نبوءة الطغاة‬ ‫احلياة ‪ -‬يا �صديقي ‪-‬‬
‫وت�ضاري�س خرابهم‬ ‫كتاب «�أمري»‬
‫ُ‬
‫فوق �أر�ض املالئكة‬ ‫بيد املجرمني‬
‫وال�رشق اجلريح‪.‬‬ ‫والغاية‪ ،‬عرجاء‬

‫‪231‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ن�صو�ص‬

‫ماري‪ ‬ندياي‬

‫‪232‬‬
‫ماري‪ ‬ندياي‪:‬‬
‫«ثالث ن�ساء قويات»‬
‫\‬
‫تقدمي وترجمة‪ :‬حممد املزديوي‬

‫تعترب‪ ‬ماري‪ ‬ندياي‪ ،‬الروائية والقا�صة‬


‫والكاتبة امل�رسحية الفرن�سية‪ ،‬التي ولدت‬
‫�سنة ‪ ،1967‬من �أ�صول �سنغالية (الأم‬
‫فرن�سية والأب �سنغايل)‪ ،‬من �أهم املعربين‬
‫عن احل�سا�سية (�أو الكتابة) اجلديدة يف‬
‫الرواية الفرن�سية‪ .‬وعربت عن ن�ضج كبري‬
‫منذ �أعمالها الأوىل‪ ،‬حيث اللغة القوية‬
‫واملوا�ضيع ال�صادمة‪� ،‬إ�ضافة �إىل روح‬
‫االبتكار‪ ،‬دون ن�سيان الدفاع امل�ستميت‬
‫عن الأجانب والغرباء واالختالف‪ ...‬ومل‬
‫َي ْ�سلم الرئي�س �ساركوزي‪ ،‬يف بع�ض مواقفه‬
‫املت�شنجة والطائ�شة من املهاجرين‬
‫والغرباء‪ ،‬من هجماتها التي ال تهادن‪.‬‬
‫وجاءها التتويج املبكر بح�صولها امل�ستحق‬
‫�سنة ‪ 2001‬على جائزة فيمينا‪ ،‬ثم‬
‫وقد �أقامت يف �أملانيا‪« ،‬هربا» (كما �رصحت‬ ‫ح�صولها �سنة ‪ 2009‬على جائزة اجلونكور‬
‫ملجلة ليزانروكيبتيبل الثقافية) من و�صول‬ ‫الفرن�سية (�أهم جائزة �أدبية فرن�سية)‪ ،‬عن‬
‫نيكوال �ساركوزي لل�سلطة يف فرن�سا‪ .‬ولكنها‬ ‫روايتها «ثالث ن�ساء قويات»‪ ،‬ثم ُولوج‬
‫تعود �إىل فرن�سا‪ ،‬من حني �إىل �آخر‪ ،‬بعد �أن‬ ‫م�رسحية لها �إىل الكوميديا الفرن�سية‪� ،‬أعرق‬
‫رف�ض الفرن�سيون جتديد واليته الرئا�سية‪.‬‬ ‫م�رسح فرن�سي على الإطالق‪.‬‬

‫‪233‬‬ ‫\ كاتب ومرتجم من املغرب يقيم يف فرن�سا‬


‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كما لو �أن تلك اجلمل الفظيعة ( ماذا كانت بال�ضبط‬ ‫وهنا ترجمة ملقاطع طويلة من رواية «ثالث‬
‫؟ ) انفجرت يف ر�أ�سه‪ ،‬و هدت كل ما تبقى‪.‬‬ ‫ن�ساء قويات» للروائية‪ ‬ماري ندياي‪ ،‬التي‬
‫هل من العدل �إذن �أن يح�س �أنه مالم �إىل هذا احلد؟‬ ‫�ست�صدر ‪ ‬ترجمتها العربية‪ ،‬قريبا‪� ،‬إن �شاء اهلل‪  .‬‬
‫لو كان فقط ي�ستطيع �أن يثبت �أمام حمكمته الداخلية‬ ‫[من اجلزء الثاين‬
‫�أنه يتوفر على �أ�سباب معقولة جتعله يغ�ضب �إىل ذلك‬ ‫(من ال�صفحة ‪� 95‬إىل ال�صفحة ‪])101‬‬
‫احلد‪ ،‬لكان مبقدوره �أن يندم على انفعاله باعتدال‬
‫‪ ‬طيلة ال�صبيحة‪ ،‬مثل بقايا حلم م�ضن ومذل‪ ،‬مل يفت�أ‬
‫وكان طبعه �سيهد�أ تبعا لذلك‪.‬‬
‫يفكر �أنه كان من الأف�ضل لو مل يحدثها على النحو‬
‫بينما مل يفت�أ خجله احلا�رض واملتهيج يدفعه �إىل‬ ‫الذي فعل‪ ،‬من �أجل م�صلحته‪ ،‬ثم بعد �شد وجذب يف‬
‫احلنق‪.‬‬ ‫عقله القلق‪ ،‬حتولت هذه الفكرة �إىل يقني يف حني‬
‫�آه‪ ،‬كم كان يتوق �إىل ال�سكون‪ ،‬والهدوء!‬ ‫انتهى به الأمر �إىل �أال يتذكر جيدا �سبب ال�شجار ـ هذا‬
‫يتبق منه �سوى �أثر‬
‫احللم امل�ضني واملذل الذي مل ّ‬
‫ملاذا يح�س‪ ،‬بينما الوقت مير وال�شباب اجلميل يبتعد‬
‫طعم مليء باملرارة‪.‬‬
‫عنه‪� ،‬أنها وحدها حياة الآخرين‪ ،‬كل الآخرين حوله‪،‬‬
‫تتقدم ب�شكل طبيعي على طريق منق�شع ي�ضيئه نور‬ ‫مل يكن عليه �أبدا �أن يحدثها على النحو الذي فعل‬
‫�أخري ب�أ�شعة دافئة وحنونة‪ ،‬ال�شيء الذي ي�سمح لهم‪،‬‬ ‫ـ هذا كل ما يعرفه الآن عن ذاك اخل�صام‪  ،‬هذا هو‬
‫لكل ه�ؤالء الرجال يف حميطه‪ ،‬بتخفيف حذرهم‬ ‫ما مينعه من �أن يركز من غري �أن ي�ستطيع �أن ي�أمل‬
‫وتبني موقف مرتاح جتاه احلياة‪ ،‬موقف الذع‬ ‫اال�ستفادة �آجال من ذلك‪ ،‬عندما �سيدخل �إىل البيت‬
‫بطريقة لطيفة‪ ،‬لكن م�شبعا بوعي رزين مفاده �أن‬ ‫ويجدها‪ ،‬هي‪.‬‬
‫علما �أ�سا�سيا �آل �إليهم مثمنا ببطن لني وم�ستو‪،‬‬ ‫لأنه ـ ت�ساءل مرتبكا ـ‪  ‬كيف‪�  ‬سي�سكن �ضمريه �إذا‬
‫و�شعر موحد‪ ،‬و�صحة جيدة‪.‬‬ ‫كانت كل تذكراته‪ ،‬التي حذفت منها �رصاعاتهما‪ ،‬ال ‬
‫هو‪ ،‬رودي‪ ،‬كان يدرك طبيعة ذلك العلم‪ ،‬رغم �أنه‬ ‫تظهر �سوى ذنبه هو‪ ،‬دائما و�أبدا‪ ،‬متاما كما يحدث‬
‫كان يرى �أنه يتقدم بجهد يف طريق ال ي�ستطيع �أي‬ ‫يف الأحالم امل�ضنية واملذلة حيث‪ ،‬مهما قلنا‪،‬‬
‫نور �أخري �أن يخرق كومة الدغل الكثيف الذي يغطيه‪.‬‬ ‫ومهما قررنا‪ ،‬نظل خمطئني ب�شكل ال رجعة فيه؟‬
‫كان يظن نف�سه يفهم‪ ،‬من عمق �ضعفه‪ ،‬التفاهة‬ ‫وكيف ـ فكر �أي�ضا ـ ي�ستطيع �أن يهدئ نف�سه وي�صبح‬
‫الأ�سا�سية لل�شيء الذي يعانيه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬مل يكن‬ ‫رب �أ�رسة موثوق �إذا مل يتو�صل �إىل �أن ي�سكن �ضمريه‪،‬‬
‫ي�ستطيع �أن ي�ستفيد من ذلك احلد�س‪ ،‬تائها كما كان‬ ‫كيف �سي�ستطيع �أن يجعل نف�سه حمبوبا من جديد؟‬
‫يف هوام�ش احلياة احلقيقية‪ ،‬تلك التي ميتلك كل‬ ‫مل يكن عليه حقا �أن يحدثها على النحو الذي فعل‪،‬‬
‫�شخ�ص القدرة على �أن يزنها‪.‬‬ ‫لي�س من حق �أي رجل �أن يفعل‪.‬‬
‫على نحو‪ ،‬كان يقول يف نف�سه �إنه‪ ،‬هو رودي د�سكا�س‪ ،‬‬ ‫لكن ال�سبب الذي دفعه �إىل ترك �شفتيه تطلقان‬
‫مل ي�صل بعد‪ ،‬رغم �سنينه الثالث والأربعني‪� ،‬إىل ذلك‬ ‫كلمات ال يجب �أن ينطق بها رجل من �أ�شد رغباته‬
‫االتزان املرح والظريف‪� ،‬إىل تلك ال�سخرية الوديعة‬ ‫�أن ي�صبح حمبوبا كما من قبل‪ ،‬ال يبدو له وا�ضحا‪،‬‬
‫‪234‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�رسع يف ا�ستباق كل حكم بهذا ال�شكل عن طريق‬ ‫التي يرى �أنها تطبع �أفعال الرجال الآخرين الأكرث‬
‫الإح�سا�س‪ ‬املبهم بكونه حما�سب كل م�صيبة ت�سقط‬ ‫ب�ساطة و�أقوالهم الأكرث اعتيادية‪ ،‬كان يبدو له‬
‫على ر�ؤو�سهم‪.‬‬ ‫�أنهم‪ ،‬جميعهم‪ ،‬يخاطبون‪� ،‬أطفالهم بهدوء وعفوية‪،‬‬
‫�أما بالن�سبة ل�رضبات احلظ النادرة‪ ،‬فكان قد تعود‬ ‫يقر�أون اجلرائد واملجالت باهتمام �ساخر‪ ،‬يفكرون‬
‫على ا�ستقبالها بارتياب‪ ،‬وكان وجهه احلذر يظهر‬ ‫با�ستمتاع يف غذاء الأحد املقبل مع الأ�صدقاء‪،‬‬
‫بجالء �أنه غري م�س�ؤول عن دخول ال�سعادة �إىل‬ ‫والذي من �أجل �إجناحه يجهدون �أنف�سهم ب�سخاء‪،‬‬
‫منزلهم حتى �أن ال �أحد تخطر بباله فكرة تقدمي‬ ‫وابتهاج‪ ،‬دون �أن يبذلوا جمهودا ليخفوا �أنهم بالكاد‬
‫ال�شكر له‪.‬‬ ‫هم خارجون للمرة ال�سبعني‪  ‬من‪  ‬ت�شاجر من �أجل‬
‫�أمور تافهة‪ ،‬من حلم م�ضن ومذل‪ .‬لأنني يف تدهور‬
‫مل يكن رودي جاهال بهذا ال�شيء‪.‬‬
‫كبري‪.‬‬
‫كان يح�س بريبة مقززة ترت�سم على �سحنته يف‬
‫ال �شيء من هذا القبيل كان مت�أتيا له �أبدا‪.‬‬
‫اللحظة التي يقرتح فيها على فانتا‪ ،‬مثال‪� ،‬أو على‬
‫جربيل‪ ،‬الذهاب �إىل املطعم �أو القيام بنزهة يف‬ ‫وملاذا �إذن ـ كان يت�ساءل ـ ملاذا؟‬
‫نادي كانوي‪ ،‬ويرى باملقابل قلقا وا�ضطرابا‬ ‫�أال يكون قد ت�رصف جيدا يف وقت ما‪  ‬ويف حالة ما‬
‫(لدى الطفل الذي يحول نظرته باحثا عن نظرة‬ ‫حيث يكون مهما �أن يكون املرء يف م�ستوى امل�صيبة‬
‫�أمه‪ ،‬لكونه غري قادر على فهم نوايا والده) يكت�سح‬ ‫�أو الفرح‪ ،‬هو م�ستعد للإقرار بذلك‪ ،‬لكن ماذا كانت‬
‫وجهي زوجته وابنه‪  ‬اجلميلني املت�شابهني‪ ،‬ومل يكن‬ ‫امل�صيبة‪� ،‬أين كان الفرح يف احلياة املختزلة التي‬
‫ي�ستطيع حينئذ �أن مينع نف�سه من �أن ي�ؤاخذهما ثم‬ ‫يحياها مع �أ�رسته‪ ،‬وما هي الأو�ضاع اخلا�صة التي‬
‫ي�صبح حانقا ويطلق‪� :‬أل�ستما م�رسورين �أبدا؟ بينما‬ ‫مل ي�ستطع مواجهتها كرجل ال عيب فيه؟‬
‫ي�أخذ وجها الكائنني الوحيدين اللذين يحبهما يف‬ ‫كان يبدو له بالتحديد �أن تعبه الكبري ( مل يكن‬
‫هذا العامل يف االنغالق حينئذ‪ ،‬ويخلوان من �أي‬ ‫هياجه �أقل اعتبارا‪ ،‬كانت فانتا �ستقول م�ستهزئة‪،‬‬
‫تعبري عدا المباالة جتاهه وجتاه كل ما ميكن �أن‬ ‫كان من طبعه �أن يدعي �أنه منته عندما كانت‬
‫يقرتحه من �أجل �إدخال ال�رسور عليهما‪ ،‬ويق�صيان‬ ‫الهوجة ال�صماء الدائمة التي يفر�ضها على �أقربائه‬
‫من حياتهما ومن تفكريهما ومن �أحا�سي�سهما‬ ‫تنهك ه�ؤالء قبل �أي �أحد‪� ،‬ألي�س �صحيحا‪ ،‬رودي؟)‬
‫ب�صمت هذا الرجل‪  ‬املتذمر دائما‪ ،‬والذي ال ميكن‬ ‫ناجت عن كونه يبذل ق�صارى جهده لري�شد طنبورهم‬
‫توقع ما �سيفعل‪ ،‬والذي يفر�ض عليهما حظ تع�س‬ ‫امل�سكني يف االجتاه ال�صحيح وكذلك حمولتهم من‬
‫حتمله بالقرب منهما مثل حطام حلم م�ضن‪ ،‬حلم‬ ‫الأحالم‪  ‬امل�ضنية‪ ،‬الأحالم املهينة‪.‬‬
‫مهني‪ .‬كل ما كان �سيحدث يل حدث‪.‬‬
‫هل تلقى يوما جزاء على رغبته يف �أن يت�رصف على‬
‫�أوقف �سيارته بغتة على جانب الطريق التي ت�ؤدي‬
‫�أف�ضل حال؟‬
‫به كل �صباح مبا�رشة عند ماين‪ ،‬بعد �أن يكون قد مر‬
‫على املدارة التي ينت�صب يف و�سطها‪ ،‬الآن‪ ،‬متثال‬ ‫‪   ‬ال‪ ،‬وال حتى تلقى تهنئة �أو ت�رشيفا �أو اعرتافا‪.‬‬
‫من احلجارة البي�ضاء لرجل عار‪ ،‬ظهره منحن‬ ‫‪   ‬تربئة لفانتا التي يبدو �أنها كانت دائما تن�سب �إليه‬
‫ور�أ�سه منخف�ض وذراعاه ممدودتان نحو الأمام كما‬ ‫ب�صمت الإخفاقات واحلظ العاثر‪ ،‬يعرتف �أنه كان‬
‫‪235‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كان الأمرـ �أخذ يقول يف نف�سه ـ كما لو �أن غوكالن‬ ‫لو كانتا تنتظران بهلع وا�ست�سالم انبجا�س املاء‬
‫ا�ستغل نومه �أو براءته ليجعله يظهر يف �صورة‬ ‫املربمج لر�شه يف بداية ال�صيف‪.‬‬
‫خالعية‪  ‬جعلت غوكالن �أكرث غنى ود�سكا�س �أكرث‬ ‫كان رودي قد تتبع كل خطوة من خطوات �إجناز‬
‫فقرا و�إثارة لل�ضحك ـ كما لو �أن غوكالن مل يخرجه‬ ‫النافورة‪ ،‬كل �صباح‪ ،‬عندما كان يدور ببطء حول‬
‫من حلم م�ضن �سوى ليدخله يف حلم مذل‪.‬‬ ‫املدارة يف �سيارته النيفادا العتيقة‪  ‬قبل �أن يعرج نحو‬
‫مائة �ألف يورو‪ ،‬ال �أ�صدق ذلك‪ ،‬قال لفانتا م�ستهزئا‬ ‫من�ش�آت ماين‪ ،‬ثم حتول ف�ضوله ال�شارد �إىل ا�ضطراب‪،‬‬
‫لكي يخفي ك�آبته‪ .‬ال‪ ،‬حقا‪ ،‬ال �أ�صدق ذلك‪.‬‬ ‫ثم �إىل انزعاج عندما ظن �أنه الحظ ت�شابها طفيفا‬
‫بني وجه التمثال ووجهه (نف�س اجلبهة الكبرية‬
‫ �أية �أهمية‪� ،‬أجابت فانتا‪ ،‬ماذا يكلفك‪� ،‬أنت‪� ،‬أن ينجح‬
‫املربعة وامل�سطحة‪ ،‬نف�س الأنف امل�ستقيم الق�صري‪،‬‬
‫الآخرون‪ ،‬بنف�س الطريقة املزعجة التي �أ�صبحت‬
‫نف�س الفك النافر‪ ،‬نف�س الفم العري�ض‪ ،‬نف�س الذقن‬
‫عادة عندها وهي �أال تنظر �إىل �أية حالة �إال من‬
‫البارز الذي مييز الرجال املتعجرفني الذين يعرفون‬
‫وجهة نظر مرتفعة وحليمة ومتجردة‪ ،‬تاركة رودي‬
‫بال�ضبط �إىل �أين تقودهم خطواتهم الواثقة‪� ،‬ألي�س‬
‫لأفكاره اخل�سي�سة واحل�سودة لأنها مل تعد ترغب يف‬
‫هذا هو‪  ‬ما‪  ‬ي�ضحك �أكرث مما يحزن عندما يكون‬
‫م�شاركته ال يف هاته الأ�شياء‪  ‬وال يف غريها‪ .‬لكنها‬ ‫املرء مكتفيا بالذهاب للكد لدى ماين‪� ،‬ألي�س كذلك‪،‬‬
‫لن ت�ستطيع �أن متنعه من �أن يتذكر‪ ،‬و�أن يذكرها‬ ‫رودي د�سكا�س؟) ثم تزايد كدره عندما ر�أى اجلهاز‬
‫بنربة متو�سلة‪ ،‬بتلك ال�سنوات غري البعيدة عندما‬ ‫التنا�سلي الذي نحته الفنان‪ ،‬الذي كان يحمل ا�سم‬
‫كانت �إحدى �أكرث متعهما‪ ‬تكمن يف �أن يجل�سا جنبا‬ ‫راء‪ .‬غوكالن ويقطن يف اجلوار‪ ،‬بني فخذي بطله‪،‬‬
‫�إىل جنب على ال�رسير‪ ،‬يف عتمة غرفتهما‪ ،‬مثل‬ ‫دافعا رودي �إىل الإح�سا�س بكونه مو�ضوع �سخرية‬
‫رفيقني يدخنان نف�س ال�سيجارة‪ ،‬ويحلالن بدون‬ ‫فظة ب�سبب التناق�ض املثري لل�شفقة بني الهيئة‬
‫ت�سامح ت�رصفات وطباع �أ�صدقائهما وجريانهما‪،‬‬ ‫ال�ضعيفة‪  ‬والعزالء وكي�س اخل�صيتني ال�ضخم‪.‬‬
‫وينهالن من �رصامتهما امل�شرتكة املمزوجة ب�سوء‬ ‫�أ�صبح الآن يتفادى �أن يلقي نظرته املعتادة على‬
‫نية واعية مبفعول املزاح الذي مل يكونا لي�ستطيعا‬ ‫التمثال عندما يدور حول املدارة‪  ‬يف �سيارته‬
‫�أو يجر�آ على الإقدام عليه مع �آخرين‪ ،‬املزاح الذي‬ ‫النيفادا املتلفة‪.‬‬
‫كان‪� ‬شيئا خا�صا بهذا الثنائي الذي يكونانه‬ ‫لكن ردة فعل �سيئة الق�صد كانت توجه �أحيانا نظرته‬
‫بالإ�ضافة �إىل كونهما زوجا وزوجة‪.‬‬ ‫نحو الوجه املعدين الذي كان وجهه‪ ،‬ال�شكل العري�ض ‬
‫كان يريد �أن يرغمها على �أن تتذكر‪ ،‬هي التي تتظاهر‬ ‫والوا�ضح ذي املظهر الرجويل املائل بخوف‪ ،‬ثم نحو‬
‫بت�صديق �أنها مل ت�ستمتع �أبدا معه ـ لكنها مل تكن‪ ،‬ال‪،‬‬ ‫اخل�صيتني الغري متنا�سبتني‪ ،‬وانتهى به الأمر �إىل �أن‬
‫مل تكن �أف�ضل فكرة تخطر له‪ ،‬بنربته املتو�سلة رغما‬ ‫يح�س باحلقد و�شيئا ما بالبغ�ض جتاه غوكالن الذي‬
‫عنه‪� ،‬أن ي�صل به الأمر �إىل �أن يت�سول كي تقبل �أن‬ ‫جنح ـ كان رودي‪  ‬قد قر�أ ذلك يف اجلريدة املحلية ـ‬
‫تالحظ �أن ما كان مل يعد و�أن الرفيق املحبوب الذي‬ ‫يف �أن يبيع عمله للمدينة مبائة �ألف يورو‪.‬‬
‫مت ب�سبب خطئه هو‪.‬‬ ‫كان قد مات بال �شك �إىل الأبد‪ّ ،‬‬ ‫هذا اخلرب جعله يغو�ص يف �ضيق �شديد‪.‬‬

‫‪236‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫من �أعمال عبدالكرمي الهنائي‪ُ -‬عمان‬

‫البيت‬
‫\‬
‫حممد اليحيائي‬

‫�إىل ميينه‪ ،‬كلها �صف واحد �إىل ميينه‪ ،‬والبحر �إىل‬ ‫بني الوهم واحللم والواقع م�سافة واحدة هي الطريق‬
‫ي�ساره‪ ،‬وحده البحر �إىل ي�ساره‪� ،‬شا�سعا ووا�سعا‬ ‫�إىل البيت‪ ،‬ال ت�صل حني ت�صل‪ ،‬ت�صل حني ت�سري وال ‬
‫ووحيدا ميتد مبحاذاة حواري ال�ساحل‪ ،‬احلارة‬ ‫ت�صل‪.‬‬
‫ال�شمال التي وراء ال�سوق ووراء ظهره‪ ،‬واحلارة‬ ‫مرر �أ�صابعه على حروف اجلملة‪ ،‬حت�س�سها حرفا‬
‫الو�سط التي يراها �أمامه تربز من وراء اخلور‬ ‫حرفا‪ ،‬ا�شتمها‪ ،‬تلّم�س الوهم واحللم والواقع وامل�سافة‬
‫واحلارة اجلنوب التي خلف التل‪ ،‬ال يراها‪ ،‬وم�شى‪،‬‬ ‫والطريق والبيت‪ ،‬وا�ستعاد يوم �أخط�أ البيت‪ ،‬يوم مل‬
‫ت�أكد �أنه مي�ضى باجتاه البيت‪ ،‬رفع يده الي�رسى‬ ‫يخطئ‪ ،‬لكنه يوم ظن �أنه و�صل ف�أخط�أ وانحرف‬
‫وت�أكد �أن البحر هناك �إىل ي�ساره‪ ،‬لأنه لو كان البحر‬ ‫وحاد عن م�ساره‪ ،‬ف�أخط�أ البيت‪ .‬كانت الظهرية‬
‫�إىل ميينه يكون يف االجتاه اخلط�أ ويكون يف طريقه‬ ‫خانقة‪ ،‬ال�شم�س ُتع�شي‪ ،‬متلأ الف�ضاء‪ ،‬ك�أن ال�شم�س‬
‫�إىل احلارة ال�شمال بدال من الطريق �إىل البيت‪ ،‬البيت‬ ‫ملّت حبال �ضوئها من كل مكان و�صبتها فوق ر�أ�سه‬
‫يف احلارة اجلنوب واجلنوب �أمامه وال�شمال ورا�ؤه‬ ‫يف حلظة التيه تلك‪ .‬جعل ال�سوق وراءه‪ ،‬دكاكني‬
‫والبحر �إىل ي�ساره‪ ،‬م�شى ونظر �إىل ورائه فر�أى ال�سوق‬ ‫الق�سم ال�رشقي‪� ،‬سوق ال�سمك واخل�ضار وراءه‪ ،‬وجهه‬
‫يبتعد ور�أى الغبار ي�شتعل والبحر يكاد يتبخر حتت‬ ‫�إىل اجلنوب‪ ،‬ت�أكد‪ ،‬يتذكر �أنه ت�أكد �أن وجهه كان‬
‫وابل ال�ضوء الهائل الذي ت�سكبه ال�شم�س‪ ،‬عربت �إىل‬ ‫�إىل اجلنوب و�أن م�ست�شفى احلكومة وفر�ضة اجلمرك‬
‫جواره يف االجتاه املعاك�س قافلة من خم�سة حمري‬ ‫ومبنى املحكمة اجلديد وخمزن التمر ومربط احلمري‬
‫‪237‬‬ ‫\ قا�ص و�إعالمي من ُعمان‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫البيت ي�شبه البيت لكنه لي�س البيت لأن البحر لي�س‬ ‫حمملة بالتمر املن�ضود فت�أكد �أنه يف الطريق �إىل‬
‫�إىل الي�سار‪ ،‬البحر لي�س هنا‪ ،‬ولأن البيت �إىل ميني‬ ‫البيت‪ ،‬قطع احلارة الو�سط ببيوت الطني العتيقة‬
‫البحر ولأن �ساحال رمليا يف�صل البحر عن بيوت‬ ‫وبيوت الإ�سمنت حديثة البناء‪ ،‬عرب خور املراغة‪،‬‬
‫احلارة ولأن ال�ساحل الرملي لي�س هنا‪ ،‬لكن البيت‬ ‫املاء �ضحل �ساخن‪ ،‬و�ضع منجرة �إ�صالح ال�سفن �إىل‬
‫ي�شبه البيت متام ال�شبه‪.‬هل يدو�س احلبة البي�ضاء‬ ‫ميينه‪ ،‬وانعطف ي�سارا‪ ،‬توقف �أمام املبنى املتهالك‬
‫التي يف قلب الدائرة ال�سوداء فتغرد عا�صفري اجلر�س‬ ‫للمدر�سة التي ُهجرت بعد عامني على بنائها ب�سبب‬
‫يف الليوان حتت بيت الدرج؟ ع�صافري الكهرباء التي‬ ‫ت�شققات كبرية �أنذرت بانهيارها يف �أية حلظة‪،‬‬
‫تنام يف علبة بال�ستيك بي�ضاء ذات فتحات �صغرية‬ ‫لكنها بقيت على حالها بت�شققاتها �صامدة مل تنهر‪،‬‬
‫زرعها الكهربائي مب�سمارين حتت بيت الدرج؟‬ ‫ُنزعت �أبوابها ونوافذها و ُتركت مبنى خاليا متهالكا‬
‫هل يدع�ص حبة اجلر�س فتغرد الع�صافري ك�أنها‬ ‫ت�أوي �إليه احلمري ال�سابلةوت�سكنه القطط والكالب‪،‬‬
‫تتعارك وي�سمع �صوت �أمه خارجا من املطبخ �أو‬ ‫ت�أمل املبنى وت�أكد �أكرث �أنه يف الطريق �إىل البيت‬
‫من حتت البيذامة التي على البئر «من يف الباب؟»‬ ‫لأن املدر�سة �إىل ميينه والبحرال يزال �إىل ي�ساره‪،‬‬
‫ثم ي�صله �صوت نعلها على رمل احلو�ش وخ�شخ�شة‬ ‫لكنه حني �صعد التل ونزل باجتاه ال�رضيح حتت‬
‫�أ�ساور الذهب على مع�صميها وهي ت�سحب مرجام‬ ‫فحل النخيل وحوله حر�ش كثيف من �أ�شجار الراك‬
‫الباب من الداخل وي�شتم رائحتها الرطبة القدمية‬ ‫وعليه علم �أخ�رض يتموج حتت �رضبات هواء البحر‪،‬‬
‫ويرى �صفرة ال�صندل املدهون على اجلبني ونظرتها‬ ‫مل يجد البحر �إىل ي�ساره ر�أى مكان البحر �سحابة‬
‫احلنونة واملرتابة معا‪.‬‬ ‫ثقيلة من حقل نخيل كثيف‪ ،‬ور�أى �أمام احلقل �صفا‬
‫دع�ص احلبة البي�ضاء‪ ،‬دع�صها ثالث مرات متتالية‬ ‫من بيوت زرقاء تتموج ور�أى بيتهم بينها‪ ،‬كان �صف‬
‫كعادته فلم ي�سمع تغريد الع�صافري ينبعث من العلبة‬ ‫البيوت �إىل ي�ساره �أمام احلقل‪ ،‬ر�أى بيتا ي�شبه البيت‬
‫البال�ستيك البي�ضاء حتت بيت الدرج ومل ي�صله‬ ‫حتى يكاد يطابقه‪ ،‬غرفتي الإ�سمنت الزرقاوين‬
‫�صوت �أمه من داخل املطبخ �أو من حتت البيذامة‬ ‫والليوان ذي الكورني�ش املفتوح على الهواء‪ ،‬جدار‬
‫التي على البئر وال �صوت نعلها على رملة احلو�ش ‬ ‫احلو�ش الواطي الذي بطول قامة رجل مربوع القامة‬
‫وال خ�شخ�شة �أ�ساور الذهب على مع�صميها ومل ي�شتم‬ ‫واملدهون بال�سماوي الذي ال ي�شبه ال�سماء لكنه‬
‫رائحتها الرطبة القدمية فتيقن �أنه �أخط�أ البيت‪.‬عاد‬ ‫ي�شبه �أكرث لون البحر يف ال�صيف‪� ،‬شفيف‪ ،‬خفيف‬
‫�أدراجه وكان ال�سوق‪ ،‬الذي ال ُيرى خلف تلة ال�رضيح‪،‬‬ ‫الزرقة‪ .‬اقرتب ونظر من فوق جدار احلو�ش‪ ،‬ر�أى رملة‬
‫�إىل ال�شمال‪ .‬ت�أكد �أن وجهه �إىل ال�شمال و�أن البحر‪،‬‬ ‫احلو�ش قدام الليوان‪ ،‬ومدا�سة الأقدام حتت الدرجات‬
‫هذه املرة‪� ،‬إىل ميينه‪ ،‬ر�أى البحر �صامتا �إىل ميينه‬ ‫الثالث وحجرة املطبخ املعزولة �إىل اليمني والبئر‬
‫ومل ير �سحابة النخيل‪ ...‬وم�شى‪.‬‬ ‫و�شجرة البيذام وبيت الدجاج حتت ال�شجرة والدائرة‬
‫فكر وهو يتح�س�س احلروف ك�أنها جنمات يف قالدة‪،‬‬ ‫ال�سوداء واحلبة البي�ضاء البال�ستيك يف قلبها على‬
‫وهم‪.‬‬
‫�أن البيت ٌ‬ ‫كندل الباب واللمبات البي�ضاوية على قرين الباب‪.‬‬

‫‪238‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫ع ّلي�س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ‪..‬‬
‫م�أ�ساة بحجم عظمة « قرطاج»‬
‫\‬
‫حياة الراي�س‬

‫حرفها‬
‫�سماها الفينيقيون «القرية احلديثة» ّ‬ ‫قرية ّ‬ ‫بدايات النهار �أو بدايات التاريخ‪ ...‬من م ّنا يزعم فكّ‬
‫العرب �إىل «قرطاج ّنة»‪.‬‬ ‫اختالط اخليط الأبي�ض‪  ‬من اخليط الأ�سود ‪...‬فجر‬
‫و�أم ّا امل�ؤرخ « �شارل �أندري جوليان» ‪ ‬فهو يرى‪:‬‬ ‫طالع بني احلقيقة واخليال ‪ ...‬ال�شم�س التي تلوح‬
‫« � ّأن بع�ض امل�ستعمرين القادمني من «�صور»‬ ‫يف �أفق ال ّزمن القدمي ت�شبه ال�شم�س التي تغيب ‪.....‬‬
‫و«قرب�ص» الذين تعتربهم الأ�سطورة خط�أ على ما‬ ‫ال�سماوي ‪...‬‬
‫كالهما تولد �أو متوت يف بحر من ال ّدم ّ‬
‫يبدو الجئني هم الذين � ّأ�س�سوا حوايل ‪ 814‬م ‪ .‬يف‬ ‫�أو يف فرا�ش من الورد اخلرايف ‪...‬‬
‫عهد امللك» بيجماليون «قرط حد�شت» �أي مدينة‬ ‫ال�سحر‬
‫ورد «لعلّي�سة» ( �ألي�سار ) القادمة‪  ‬من م�رشق ّ‬
‫حديثة ‪ ،‬يف اخلليج الذي تن�صب فيه ‪ ‬مياه «وادي‬ ‫و منبع الأنبياء ‪.‬‬
‫جمرده» ووادي «ميالت» ملتقى جانبي البحر‬ ‫‪ ‬هناك حيث تت�شابه احلقائق و الأخيلة‪ .‬حيث ال ‬
‫الأبي�ض املتو�سط ‪ .‬ويقال � ّأن �أخت بيجماليون‬ ‫معنى حلقيقة بال خيال ‪...‬حيث ال معنى خليال ال ‬
‫«�صور» هي زعيمتهم ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«علّي�سة» �أو (ديدون) ملكة‬ ‫يبني له بيتا من احلقيقة ‪ ...‬هكذا تبدو «علّي�سة»‬
‫�إ ّال � ّأن وجودها و�إن كان ممكنا فهو م�شكوك فيه‪.‬‬ ‫للنظرة الأوىل ‪ :‬بطلة حتمل قدرا م�أ�ساويا بحجم‬
‫‪ ‬ق�صّ ة هروب ّعلي�سة‪ ‬‬ ‫عظمة قرطاج ‪.‬‬
‫يف الزمن املوغل يف القدم وغري بعيد عن‬ ‫من �أين جاءت ؟ و �إىل �أين م�ضت ؟ ماذا فعلت بقدرها‬
‫�سواحل طروادة ‪ ،‬كانت هناك عدة مدن �صغرية‬ ‫؟ �أو ماذا فعلوا بها ؟ كيف ومن �أين دخلت ذاكرتنا‬
‫يعمها البذخ و الرخاء ‪،‬من بينها مدينة «�صور»‬ ‫؟‪ ...‬من كانت ؟ �أمرية مت�آمرة ‪�..‬أم تاجرة حمتالة‬
‫ّ‬
‫الفينيقية ‪ ،‬املعروفة ــ بني �سكان البحر الأبي�ض ‬ ‫بارة ؟‪�....‬أم ترى ال�شيء‬ ‫؟ ‪...‬قائدة جي�ش �أو زوجة ّ‬
‫املتو�سط ‪ ‬ـ ‪ ‬ب�أهلها ك�أمهر النا�س يف التجارة‪.‬‬ ‫من ك ّل ذلك ؟‪...‬امر�أة ال وجود لها ؟‪ ....‬متثال خيايل‬
‫و�أقدرهم على قيادة ال�سفن و اخرتاق جماهل البحر‪...‬‬ ‫�صنعته الأ�ساطري القدمية‪ ...‬؟‬
‫كان يحكم «�صور» ملك يدعى‪«  ‬نريون» مات بعد �أن‬ ‫‪ ‬يف البدء كانت �صور ‪...‬‬
‫ال�سن ‪.‬‬
‫تقدمت به ّ‬ ‫كتب امل�ؤرخ التون�سي ح�سن ح�سني عبد الوهاب‬
‫خملّفا وراءه ابنني‪ :‬الأول َول ٌد يف احلادية ع�رشة من‬ ‫يقول ‪« :‬ال يعلم على وجه التحقيق متى وكيف‬
‫عمره و ا�سمه « بيجماليون « و الثانية تكربه قليال‬ ‫ت�أ�س�ست «قرطاج ّنة «؟ �إمنا قيل ‪� :‬أن �أمرية فينيقية‬
‫‪ ،‬وهي يف غاية اجلمال و الفتنة ا�سمها «علّي�سة» ‪.‬‬ ‫تدعى « علّي�سة» (ديدون) هاجرت من مدينة «�صور»‬
‫وقد �أو�صى امللك قبل �أن ميوت بان يتم �إ�رشاك ابنيه‬ ‫ونزلت ب�ساحل افريقية مبن كان معها ‪ .‬فا�شرتت‬
‫ال�شعب بعقليته‬‫االثنني يف احلكم من بعده ‪� .‬إ ّال �أن ّ‬ ‫من الرببر القاطنني هناك �ساحة عظيمة �أقامت بها‬
‫‪239‬‬ ‫\ كاتبة وروائية من تون�س‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تطيق �سكنى بيتها الذي يذكرها بك ّل ماهو م�ؤمل‬ ‫الباترياركية مل يكن را�ضيا على ذلك النظام‬
‫ومزعج و�أنها تود الرجوع �إىل الق�رص للإقامة معه‬ ‫و�صية امللك من اعتباره ‪ ،‬و يعزل‬ ‫ّ‬ ‫ور�أى �أن ُي�سقط‬
‫فيه ‪ .‬ف�سقط « بيجماليون» يف الفخ و �أبدى �رسوره‬ ‫«علّي�سة» عن احلكم ويرفع �إىل ال�سلطة «بيجماليون»‬
‫ظن ا ّنه �سي�رضب ع�صفورين‬ ‫بعودة �أخته �إليه ‪ .‬ولعله ّ‬ ‫حميطا � ّإياه بعدد من الأو�صياء و امل�ست�شارين ممن‬
‫بحجر واحد ‪ :‬فلم ي�شك � ّأن �أخته �ستعود �إىل الق�رص‬ ‫كانوا ينا�ضلون �ض ّد م�صالح الطبقة االر�ستقراطية‪ ‬‬
‫ب�أموال «عا�رش با�ص» وهكذا ميكنه �أن يراقبها‬ ‫القدمية ‪.‬‬
‫ويراقب �أموالها عن كثب ‪ ،‬يف انتظار اليوم الذي‬ ‫‪ ‬و �إذ �أُق�صيت «علي�سة» عن احلكم فقد تزوجت خالها‬
‫ي�ضع فيه يده على �أموالها كلها ‪ .‬ف�أر�سل لها خدمه‬ ‫«عا�رشبا�ص» �أو «عا�رشبعل» و هو كبري كهنة ‪ ‬معبد‬
‫مل�ساعدتها على نقل متاعها �إىل الق�رص ‪ .‬ولكن خرب‬ ‫«ملقرط»‪ ،‬وال�شخ�صية الثانية يف املدينة بعد‬
‫امل�ؤامرة �رسى ب�رسعة عجيبة �إىل الق�رص متناهيا‬ ‫امللك مبا�رشة ‪.‬وزعيم املعار�ضني ور�أ�س حربة‪ ‬‬
‫�إىل �سمع ‪« ‬بيجماليون» ‪ ،‬فلم يبق �أمام املت�آمرين‬ ‫ال�ساخطني على نظام احلكم ‪ ‬وكان وافر الرثاء‬
‫�سوى الفرار �آو املوت ‪ .‬فا�ستولوا على ‪ ‬عدد من‬ ‫وميلك كنوزا خرافية‪� .‬أثارت �شهية امللك ال�شاب‬
‫املراكب ورحلوا عن طريق البحر ‪...‬‬ ‫«بيجماليون» وملأت قلبه طمعا وحقدا‪ .‬وملا مل‬
‫وحني �أوغلوا‪  ‬يف البحر �أمرت «علّي�سة» من كان‬ ‫قرر قتل �صهره ‪� .‬إذ زاره‬‫يجد �سبيال لال�ستيالء عليها ّ‬
‫اليم �أكيا�سا ‪ ،‬كانت‬
‫معها من اخلدم بان يلقوا يف ّ‬ ‫يتعبد �أمام املذبح‬
‫فج�أة ذات يوم فوجده قائما ‪ّ ،‬‬
‫�أع ّدتها من قبل وملأتها حجارة ورمال وربطتها‬ ‫املقد�س يف �ساحة ق�رصه ‪ .‬ف�أتاه من خلف وخنقه‬
‫مليا لتوهمهم �أنها حتتوى الأموال التي كانت وما‬ ‫ّ‬ ‫غدرا‪.‬‬
‫تزال مطمع امللك ‪ .‬وفيما راحوا ينفذون �أوامرها‬ ‫ولكنه بحث ون ّقب يف زوايا الق�رص فلم يعرث على‬
‫ويقذفون بالأكيا�س يف قعر البحر �رشعت «علّي�سة»‬ ‫الكنز‪ ،‬ذلك �أن « عا�رش با�ص» ‪،‬كان قد احتاط من‬
‫تبكي وتنادي زوجها «عا�رشبا�ص» ‪ ،‬ب�صوت مل�ؤه‬ ‫ج�شع �صهره امللك ‪ ،‬فدفن كل �أمواله يف �رساديب‬
‫كهدية‬
‫ّ‬ ‫احلزن والأ�سى متو�سلّة �إليه �أن يتقبل منها‬ ‫�رسها غري زوجته «علّي�سة»‪.‬‬ ‫عميقة ال يعرف ّ‬
‫املوتى ‪ ،‬تلك الأموال التي كانت �سببا يف قتله ‪.‬‬ ‫هل كان ذلك طمعا باملال وح�سب؟ لع ّل هناك‬
‫ثم التفتت بعد ذلك �إىل اخلدم وقالت لهم ‪« :‬ها انتم‬ ‫ّ‬ ‫�سببا �آخر يتم ّثل يف بروز «عا�رش با�ص» كمناف�س‬
‫تفرطون يف الأموال التي ما زال «بيجماليون»‬ ‫خطري‪� ،‬أو على �أي حال ‪ ،‬كزعيم لل�ساخطني على‬
‫حري�صا عليها وب�أيديكم تلقونها يف البحر‪،‬‬ ‫وحب‬
‫ّ‬ ‫«بيجماليون» وهكذا يبدو �أن �شهوة املال‬
‫وانتم تعرفون االن �أنكم لو عدمت �إىل «�صور» فان‬ ‫ال�سلطة قد اجتمعا ‪ .‬وحني يجتمع هذا الثنائي يف‬
‫«بيجماليون» �سيقطع �أيديكم و�أل�سنتكم‪ ،‬وي�سلّط‬ ‫هينة ‪.‬‬‫رجل واحد ‪ ،‬ت�صبح �أ�شنع اجلرائم ّ‬
‫عليكم العذاب الأكرب ‪ ،‬فماذا انتم فاعلون ؟‬ ‫وغدت «علي�سة» تنام وت�صبح على بركان من‬
‫يتو�سلون �إليها �أن ترتكهم‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬وهكذا �رشع اخلدم‬ ‫حب االنتقام ‪،‬ال تنتظر �سوى � ّأول فر�صة‬ ‫الغيظ و ّ‬
‫يهاجرون معها �إىل حيث �شاءت ‪.‬‬ ‫ت�سنح لالنفجار والتدفق‪ .‬و�أ�صبح لديها �أكرث من‬
‫فلما بلغه فرارها اهتاج‬ ‫‪ ‬و � ّأما امللك « بيجماليون» ّ‬ ‫حترك‬
‫مربر للتفكري يف افتكاك ال�سلطة‪ .‬وها هي ّ‬
‫غ�ضبا و اعتزم �أن يطاردها �أ ّنى حلّت حتى يظفر بها‬ ‫خيوط م�ؤامرة كربى ت�ستهدف قلب نظام احلكم‬
‫و ُيلحقها بزوجها ‪ ....‬و لكن � ّأمها تو�سلت �إليه �أن يعدل‬ ‫القوية ـ ‪ .‬ودخل يف‬‫ّ‬ ‫ل�صالح ـ العراقة االر�ستقراطية‬
‫عن مطاردتها و التم�ست عنده العفو عنها و الغفران‬ ‫حلفها �أع�ضاء جمل�س ال�شيوخ ور�ؤ�ساء العائالت‬
‫مل�سلكها فا�ستجاب لها ‪ .‬و مل يكن ليفعل ذلك لو مل‬ ‫االر�ستقراطية الكربى و�أعيان �صور‪ ،‬الذين ت�رضروا‬
‫يخف �أن تلحقه لعنة الآلهة و يدركه انتقامها ‪ ...‬وقد‬ ‫من حكم «بيجماليون»‪ .‬ومل تكن «علّي�سة» تفتقر‬
‫العرافون ‪،‬و اخربوه نب�أ املدينة التي �ستن�شئها‬ ‫تنب�أ ّ‬ ‫�إىل الدهاء ‪ .‬ف�أقبلت على �أخيها توهمه �أنها مل تعد‬
‫‪240‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أتباعها بق ّد ذلك اجللد ق ّدا رقيقا ‪ ،‬يف �صورة �سري‬ ‫ال�رش‬


‫�أخته‪  ‬بعد حني و حذروه من مقاومتها ‪ ،‬و�أن ّ‬
‫طويل‪� ،‬أحاط بقطعة اكرب بكثري من التي كانت ٌتظهر‬ ‫ينتظره يف غده �إن مانع يف ت�أ�سي�س هذه املدينة‬
‫االقتناع ‪ ‬بها ‪ .‬لذلك �أطلقوا على ذلك املكان ا�سم‬ ‫‪،‬التي �سيق ّدر لها �أن تكون �أعظم مدن الأر�ض حظّ ا ‪،‬‬
‫«بري�صة» ومعناه باليونانية اجللد ‪.‬‬ ‫و �أوفرها يف القوة ن�صيبا ‪.‬‬
‫وقد توافدت على ذلك املكان ‪ ،‬جموع من البقاع‬ ‫حينما كانت هذه امل�سائل تبحث يف ق�رص امللك‬
‫املجاورة‪ ،‬يجلبهم الأمل ‪ ‬يف الربح ‪ ،‬وعر�ضوا‬ ‫كان املهاجرون قد �أر�سوا على �سواحل» قرب�ص «‬
‫ب�ضائعهم الكثرية وراحوا يبادلونها مع ب�ضائع‬ ‫‪  :‬جزيرة» �أفروديت « �آلهة اجلمال ‪ ،‬حيث ا�ستقبلهم‬
‫ثم ا�ستقروا ب�أنف�سهم يف ذلك‬ ‫الوافدين اجلدد ‪ّ .‬‬ ‫�سكّانها بالرتحاب يف احتفال كبري �شارك فيه جميع‬
‫«الفنيقيني» الذين قطنوا‬
‫ّ‬ ‫املكان‪ :‬و�أتت وفود من‬ ‫الأهايل بالرق�ص و الغناء ‪ .‬و ك�أمنا �أرادت «علّي�سة‬
‫«الفنيقية» القدمية‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫«�أوتيكا» ‪ ،‬وهي امل�ستعمرة‬ ‫« تخليد هذه ال�صداقة الوليدة مع �شعب اجلزيرة‬
‫افريقية بالهدايا ملواطنيهم وح ّثوهم على ت�أ�سي�س‬ ‫بحارتها‪  ‬ب�صبايا قرب�صيات‪،‬‬ ‫فزوجت ثمانني من ّ‬ ‫ّ‬
‫مدينة على ذلك ال�ساحل اجلميل ‪. ‬‬ ‫اختارتهن هي بنف�سها من عذراوات املعبد مبباركة‪ ‬‬
‫و هكذا بد�أوا يحفرون ‪ ،‬لو�ضع �أ�س�س املدينة احلديثة‬ ‫الكاهن ‪ ‬وزفتهن يف عر�س م�شهود ‪ .‬و �أقلعت «‬
‫�سماها اليونانيون «قرخدون»‬ ‫«قرط حد�شت» التي ّ‬ ‫علي�سة « من ميناء قرب�ص يف جمع اكرب‪ ...‬لتحملها‬
‫والرومانيون «قرطاغو» والعرب «قرطاجنة»‬ ‫املراكب �إىل م�صريها املكتوب ‪ .‬حيث نفخت الريح‬
‫ون�سميها اليوم «قرطاج»‪ .‬وتروي الأ�سطورة �أنهم‬ ‫ّ‬ ‫يف قالعها دافعة «علي�سة « �إىل امل�صري املق ّدر‪...‬و مل‬
‫حني ‪ ‬حفروا للوهلة الأويل ‪ ،‬عرثوا على جمجمة‬ ‫يدم ال�سفر طويال �إىل �أن باتوا ذات ليلة و �أ�صبحوا‬
‫ثور فاعتربوا ذلك �ش�ؤما ‪ .‬ووقع االختيار على قطعة‬ ‫فبانت لهم من بعيد �شواطئ افريقية و ك�أنها تتهي�أ‬
‫�أخرى‪ ،‬من الأر�ض جماورة و ملا حفروا هناك عرثوا‬ ‫الحت�ضانهم ‪....‬‬
‫على جمجمة ح�صان‪  ،‬فتفاءلوا به كرمز للقيمة‬ ‫من بقعة مب�ساحة جلد ثور �إىل مملكة تقارع‬
‫والقوة ‪ .‬فكان ذلك هو املكان املالئم ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫احلربية‬
‫ّ‬ ‫الرومان‬
‫وهكذا بنيت «قرطاج»‪.‬‬ ‫‪ ‬و هكذا تقدمت «علي�سة «�أو» ديدون» �إىل �سواحل‬
‫افريقية ‪ ‬ووجدت �أن النا�س فيها مييلون �إىل‬
‫‪ ‬نهاية «علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّي�سة»‬ ‫الغرباء ‪ ‬و يح�سنون ا�ستقبالهم و يقبلون على‬
‫‪ ‬ازدهرت املدينة بعد هذا ‪ ،‬و�شاع �أمرها طوال وعر�ضا‬ ‫التجارة معهم باملقاي�ضة و املعاو�ضة ‪ .‬و �أرادت‬
‫وكان النا�س يت�سابقون يف احلديث عن ملكتها‬ ‫امللكة �آنذاك ‪ ،‬ابتياع قطعة ار�ض‪ ،‬لرتتاح هي و من‬
‫«علّي�سة»‪ .‬و يتبارون يف الكالم عن فتنة جمالها‬ ‫معها من �أتعاب ال�سفر ‪...‬‬
‫وعذوبة �صوتها ور�شاقة قوامها وظرف حديثها ‪،‬‬ ‫و تقول الأ�سطورة ال�شائعة التي كتبها امل�ؤرخ «‬
‫و�إن مل يكونوا قد ر�أوها بعد ‪ .‬وبلغت �أحاديثهم �سمع‪ ‬‬ ‫جو�ستني ‪ّ � « ‬أن «علّي�سة» فاو�ضت حاكم البالد‬
‫«يربا�ص» ‪ :‬ملك «اللوبيني» ف�أر�سل يف طلب ع�رشة‬ ‫ملنحها قطعة ار�ض ‪ ،‬تبني عليها مدينتها ‪،‬غري‬
‫من �أعيان املدينة اجلديدة ‪ .‬وحني مثلوا بني يديه‬ ‫�أن امللك �أبى �أن مينحها �أكرث من م�ساحة جلد ثور‪.‬‬
‫قال لهم ‪« :‬عودوا �إىل ملكتكم‪ ،‬و�سلوها ر�أيها يف‬ ‫فقبلت ذلك �أمام ده�شة مرافقيها ‪� ،‬إال �أن الأمرية‬
‫زواجي بها ‪ ،‬ف�إن �أبت ‪ ،‬فقد وطّ نت العزم على �أن �أثري‬ ‫كانت ت�ضمر خطة ذكية ‪� ،‬ستمكنها من بلوغ غايتها‬
‫يف وجهها حربا طاحنة ‪ ،‬متلأ بالها قلقا و �ضيقا ‪،‬‬ ‫و ت�أ�سي�س واحدة من �أ�شهر املدن ‪ ،‬عرب التاريخ و هي‬
‫وتنتهي مبدينها النا�شئة �إىل اخلراب العاجل» ‪.‬‬ ‫مدينة «قرطاج» ‪.‬‬
‫و�أ�سقط يف يدهم‪ .‬كان ذلك العر�ض و التهديد الذي‬ ‫ين�ص ‪ ‬على‬
‫‪.‬و بعد ح�صول االتفاق على البيع ‪ ،‬الذي ّ‬
‫ت�ضمنه ‪� ،‬أكرب من �أن ‪ ‬ي َبلغوه �إىل ملكتهم دون جمازفة‬
‫ّ‬ ‫�أن يدفع لهم الثمن �أق�ساطا �سنويا‪� ،‬أمرت «علي�سة»‬
‫‪241‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بهالة من الأ�سطورة ‪� .‬أين تنتهي الأ�سطورة ‪،‬و �أين‬ ‫‪ .‬ولكنهم خافوا يف نف�س الوقت �أن ينفذ «يربا�ص»‬
‫يبد�أ التاريخ ؟ ذاك هو ال�س�ؤال ‪ .‬لذا لي�س من ال�سهل‬ ‫وعيده ‪ .‬فلما عادوا �إىل «قرطاج» احتالوا يف عر�ض ‬
‫�أن ن�ضبط بدقة تاريخ و ظروف و �أ�سباب ت�أ�سي�س‬ ‫ذلك املطلب ‪ ،‬على م�سمع علّي�سة ‪ .‬وقالوا لها �إن امللك‬
‫«قرطاج»‪.‬‬ ‫الرببري يبحث عن �شخ�ص يقدر على تهذيب �شعبه ‪.‬‬
‫�إن العديد من املعطيات حول هذا املو�ضوع بلغتنا‬ ‫ثم �أردفوا ‪:‬‬‫وبث �آداب املتمدنني يف رجاله ون�سائه ّ‬ ‫ّ‬
‫عن طريق �أ�شخا�ص �إن مل يكونوا منت�سبني �إىل � ّأمة‬ ‫«ولكن من الذي ير�ضى بهجر �أهله ‪� ،‬إىل �شعب ي�شبه‬
‫معادية ‪« ‬للفنيقيني»‪ ،‬فهم على �أية حال مل يتعاطفوا‬ ‫�أبنا�ؤه الوحو�ش‪ ،‬خ�شونة وجفافا‪ ،‬ليهذب م�شاعرهم‬
‫دوما معهم ‪ .‬من بني امل�ؤرخني القدامى الذين رووا‬ ‫يحمل نف�سه كل هذه امل�شاق‬ ‫و يرقق طباعهم و ّ‬
‫مغامرة «علي�سة» ينبغي �أن نذكر خا�صة ‪« :‬تيمو�س‬ ‫والأتعاب؟ «فالمتهم على تقاع�سهم و�أخذت ت�رشح لهم‬
‫تورومينيون» ‪.‬‬ ‫ب�أن احتمال احلياة الع�سرية والثقيلة يهون يف �سبيل‬
‫هذا الإغريقي ال�صقلي ‪ ،‬الذي عا�ش يف القرن الثالث‬ ‫الوطن ‪ ،‬و�أن ما يعود على ال�شعوب املجاورة من خري‬
‫قبل امليالد ومل تكن «قرطاج» قد حتطّ مت بعد ‪ .‬وال ‬ ‫على يد الفاحتني مرده لهم و مرجع ف�ضله �إليهم ‪.‬‬
‫�شك �أن مكاتباتها ووثائقها كانت لتزال قيد الوجود‪.‬‬ ‫قالوا لها ‪« :‬قد حكمت بل�سانك �أيتها امللكة ومن‬
‫كان بو�سعه قراءة الن�صو�ص «البونيقية» واالت�صال‬ ‫�أ�شار ب�أمر كان �أحرى با ّتباعه و�أطلعوها على‬
‫بـ«القرطاجنيني» �أنف�سهم ملعرفة ق�صة ت�أ�سي�س‬ ‫ر�سالة امللك وب�سطوا لها حقيقة الأمر وما يريد بها ‪.‬‬
‫مدينتهم من املعني ‪ ،‬هل ذلك ما فعل ؟ ال منلك �إجابة‬ ‫ف� ّأح�ست بان كالمها �أوقعها يف ال�رشك ‪ ،‬لأنها كانت‬
‫عن هذا ال�س�ؤال‪ .‬ولكن من امل�ؤكد �أن «تيميو�س» كان‬ ‫تكرب عهدها وحترتم وعدها وتعترب نف�سها مثال‬
‫مرجعا لعدد من امل�ؤرخني و الكتاب و ال�شعراء �أمثال‪:‬‬ ‫اعلي يقتدي به �شعبها ‪.‬و لكنها من جهة �أخرى ال ‬
‫«تروك مببيو�س» و«جو�ستينيو�س» وفرجيليو�س‬ ‫تتج�سم م�شاق‬ ‫ت�ستطيع اال�ستجابة لهذا الإثم ‪.‬فهي مل‬
‫ّ‬
‫ويذكر �أي�ضا يف هذا املجال ‪« :‬مينذرديفزيو�س»‬ ‫تتحمل �أخطار الهجرة وعذاب االغرتاب‬ ‫ال�سفر و مل‬
‫ّ‬
‫بداية القرن الثاين ق‪.‬م الذي ي�ستند يف �شهادته على‬ ‫�إ ّال مر�ضاة لزوجها يف قربه ‪ .‬والتزمت ال�صمت قليال‪.‬‬
‫الوثائق ال�صورية ن�سبة �إىل مدينة �صور ‪.‬‬ ‫ومر بخاطرها طيف زوجها املقتول‪ ،‬فانفجرت‬ ‫ّ‬
‫بق�صة «علّي�سة» من �شكوك فهي‬ ‫ورغم ما يحيط ّ‬ ‫باكية ترثيه مر ّددة ا�سمه ‪ .‬ثم �أعلنت �أنها �سوف‬
‫ال ميكن �أن تكون حم�ض اختالف برمتها‪�.  ‬إذ �أنها‬ ‫تذهب حيث يناديها قدر «قرطاج» ‪ .‬ولكنها طلبت‬
‫ت�ضمنت عنا�رص ال ي�شك يف مرجعيتها التاريخية‬ ‫ّ‬ ‫�آن ميهلوها ثالثة �شهور‪  .‬وحني اقرتب الأجل ‪�،‬أمرت‬
‫مثال ‪ :‬يروي «مينذر دي فزيو�س» عن ملوك �صور‪�،‬أن‬ ‫ب�إقامة كومة كبرية من احلطب يف طرف املدينة‬
‫«بيغماليون «خلف �أباه على العر�ش و انه عا�ش ‪56‬‬ ‫و�أ�شعلت النار فيها وق ّدمت لها القرابني‪ ...‬ثم تقدمت‬
‫عاما ‪ ،‬ق�ضى منها ‪ 47‬يف احلكم و يف ال�سنة ال�سابعة‬ ‫«علّي�سة» من النار وقد ا�ستلّت خنجرا والتفتت �إىل‬
‫من حكمه ‪ ،‬هربت �أخته ‪ ،‬و� ّأ�س�ست على ال�سواحل‬ ‫�شعبها قائلة ‪�« :‬أتطلبون مني �أن اذهب �إىل زوجي؟‬
‫الليبية (�أو اللوبية ) مدينة «قرطاج»‪.‬‬ ‫ها �أنا ذاهبة �إليه»‪.‬‬
‫كذلك عندما تعطي الرواية «لعا�رش با�ص» املرتبة‬
‫ثم غمدت اخلنجر يف �صدرها و�سقطت يف اللهيب ‪.‬‬
‫الثانية يف املدينة ‪ ،‬بعد امللك ‪ ،‬فهذا يعني �أن م�ؤلفها‬
‫�أو م�ؤلفيها ‪ ،‬كانوا يعرفون الأهمية العظمى لديانة‬ ‫‪ ‬الأ�سطورة و التاريخ‬
‫«ملقرط» يف �صور‪ .‬و�أنهم يعرفون �أي�ضا �أن الكهنوت‬ ‫تق�ص �أخبار ت�أ�سي�س «قرطاج»‬ ‫�إن الروايات التي‬
‫ّ‬
‫وراثة يف العامل الفينيقي‪.‬‬ ‫مهمة من الناحية التاريخية ‪�.‬إال ‬
‫تعترب بال �شك ّ‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫�أنها حماطة �أحيانا ب�شيء من الغمو�ض و مكتنفة‬
‫‪242‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫عبور احلياة‬
‫قفــــــزاً‬
‫\‬
‫عادل خزام‬

‫املدى‪� .‬ألقمتني الكال َم حرف ًا حرف ًا ف�صار الن�شي ُد‬ ‫الإهداء‪:‬‬


‫اخل�صام‪ ،‬وك�ستني من‬ ‫ِ‬ ‫مررت يف طرقِ‬ ‫ُ‬ ‫�سالمي كلّما‬ ‫لقلت‪ :‬هذه‬ ‫آدمي ُ‬ ‫لو تنطقُ الرحم ُة �أو يكون لها �شك ٌل � ّ‬
‫الريح‬
‫ُ‬ ‫م�شيت متد ّثراً ال تل�سعني‬ ‫ُ‬ ‫ثياب القناع ِة حتى‬ ‫ِ‬ ‫ورقة خ�رضا َء فكانت‬ ‫ٍ‬ ‫طفوت على نه ِرها مثل‬ ‫ُ‬ ‫�أمي‪..‬‬
‫أر�ض كلّه‪،‬‬
‫لفحها‪� .‬أمي‪ ..‬يف كفِّها عطا ُء ال ِ‬ ‫ت�ضور ُ‬ ‫مهما ّ‬ ‫ال�صخور يف طريق طفولتي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حتميني كلّما نت� ْأت‬
‫ويف عروقها م�صلّى‪.‬‬ ‫غ�ص فمي‬ ‫�رشبت من نبع حليبها ع�س ًال �إىل �أن ّ‬ ‫ُ‬
‫ت�ستمر احليا ُة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ينب�ض كي‬ ‫ُ‬ ‫قلب‬
‫لو كان للحياة ٌ‬ ‫ظهرها‬ ‫ال�ضوء مت�سلّق ًا َ‬ ‫وكنت �أ�صع ُد باجتاه ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالعذوبةِ‪،‬‬
‫ترن يف �صدى‬ ‫خفقة منها ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫قلب �أمي‪ ..‬ك ُّل‬ ‫لقلت‪ :‬هذا ُ‬ ‫ُ‬ ‫رب فوقه نحو غاب ِة‬ ‫الذي انحنى �أمامي ج�رساً لأع َ‬
‫رميت بر�أ�سي‬ ‫ُ‬ ‫امليزان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الكون ويعتدلُ‬ ‫َ‬ ‫فيطرب‬
‫ُ‬ ‫الوجو ِد‬ ‫ثت يف جدائل‬ ‫ت�شب ُ‬
‫االكت�شاف‪ .‬ب�أ�صابعي ال�صغرية ّ‬
‫أيت كيف ت�ستوي الدنيا منا�سبة‬ ‫على �صدرها ور� ُ‬ ‫رب بي يف الريح‬ ‫�شعرها حمتمي ًا من ال�سقوطِ ‪ ،‬وهي تع ُ‬
‫ع�شق‪ ،‬واحتفاالً ال ينتهي �أبداً‪ .‬ي�س�ألني اجلبناء وهم‬ ‫ٍ‬ ‫يطيب‬
‫ُ‬ ‫جرح‬
‫أيام‪ .‬ك ُّل ٍ‬ ‫حقول املط ِر و�شدائد ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫و�سط‬
‫تنام‪� .‬أقولُ ‪ :‬يف‬ ‫اخلوف �أين ُ‬ ‫ِ‬ ‫يرجتفون يف توابيِتِ‬ ‫جتف � ْإن‬‫دمعة ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫م�سحت بيدها عليه ويفْنى‪ ،‬ك ُّل‬ ‫ْ‬ ‫� ْإن‬
‫ندم‬‫انت�رصت على ِ‬ ‫َ‬ ‫كيف‬‫قلب �أمي‪ .‬وي�س�ألني املوتى َ‬ ‫ِ‬ ‫كنت‬ ‫قي ُ‬ ‫ال�ش ّ‬
‫قبلتني لأنا َم‪ .‬و�أنا ّ‬ ‫ابت�سمت يف عيوين �أو ّ‬ ‫ْ‬
‫أمان‪� .‬أقول‪:‬‬
‫جنان � ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ال�سنني وكيف حتيا �سابح ًا يف‬ ‫يوم وهي ت�سعفني‬ ‫�أقف ُز جاه ًال بني احلف ِر‪� ،‬أ�سقط ك َّل ٍ‬
‫بنب�ض �أمي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫�أحيا‬ ‫أنه�ض يف حتدي احلياةِ‪.‬‬ ‫ل َ‬
‫أر�ض وغ ّن ْت �صوت ًا واحداً عذباً‪،‬‬ ‫طيور ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫احت�شدت‬
‫ْ‬ ‫لو‬ ‫للحنان عينان ووج ٌه يبت�س ُم لقلت‪ :‬هذه �أمي‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫لو كان‬
‫اخليال‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كانت تغمرين يف‬ ‫ْ‬ ‫�صوت �أمي‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫لقلت‪ :‬هذا‬ ‫ُ‬ ‫مكرتث‬ ‫ٍ‬ ‫حتت ظاللها �آمناً‪ ،‬غري‬ ‫لعبت َ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شجر ُة التي‬
‫�صوت البكا ِء‬
‫ُ‬ ‫في�ضيع‬
‫ُ‬ ‫ر�ضيع ًا يف َم ْهدِها‪،‬‬ ‫ُتهدهدين ِ‬ ‫من �أين ي�أتي الرزقُ ‪ ،‬وهي مت ُّد �أغ�صا َنها يل بالثما ِر‪.‬‬
‫كربت خمتا ًال‬ ‫ني ُ‬ ‫بلحن الأموم ِة الأزيلّ‪ .‬وح َ‬ ‫كلّما غ ّن ْت ِ‬ ‫أعي�ش �أع�شق ترابها‬ ‫حب ًا ل َ‬ ‫أر�ض ّ‬ ‫تطعمني من ثدي ال ِ‬
‫ياع‪ ،‬كان دعا�ؤها ي�صع ُد لل�سما ِء‬ ‫ال�ض ِ‬ ‫�أخطو نحو ّ‬ ‫دا�ست قدماي يف‬ ‫ْ‬ ‫ارحتلت يف الرباري ومهما‬ ‫ُ‬ ‫مهما‬
‫ال�شوكَ من‬ ‫يزيح ّ‬ ‫ُ‬ ‫�شكل مالكٍ‬ ‫ِ‬ ‫�صوتاً‪ ،‬وي ْنزلُ على‬ ‫املدن الغريبةِ‪..‬و�أمي هي البال ُد التي ي�شتعلُ احلن ُ‬
‫ني‬ ‫ِ‬
‫كيف قطع ُتها وحيداً بال زادٍ‬ ‫أعرف َ‬ ‫روب التي ال � ُ‬ ‫ال ّد ِ‬ ‫اكفهر ْت الغيم ُة فوقَ ر�أ�سي وحا�رصتني‬ ‫ّ‬ ‫�إليها كلّما‬
‫وو�صلت �إىل منتهاها �ساملاً‪ .‬و�أكا ُد �أ ْق�س ُم �أ ّنني كلّما‬ ‫ُ‬ ‫ألهث‬ ‫ذهبت عنها � ُ‬ ‫ُ‬ ‫الق�ضبان ال�صدئ ُة و�شلّت �أجنحتي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أ�سمع �صو َتها‬ ‫وقفت على حاف ِة الدنيا يف البعيدِ‪ُ � ،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف الوجو ِد مف ِّت�ش ًا عن كنوز امللوكِ وتيجانهم‪ ،‬لك ّني‬
‫يناديني‪ :‬تعال‪.‬‬ ‫عرفت � َّأن ك َّل ذهب العامل وجمده‪ ،‬ال ي�ساوي حلظة �أن‬ ‫ُ‬
‫حبل احليا ِة‬ ‫�شيت على ِ‬ ‫ُمتوا ِزن ًا َم ُ‬ ‫متمرغ ًا يف ح�ضنها‪.‬‬ ‫ارمتي ِّ‬
‫كف‪ ،‬والعا ُمل كلّه يف كف‬ ‫�أمي يف ٍ‬ ‫ ال متن لقلت‪ :‬هذه يد �أمي‪ ..‬غ�سلتني‬ ‫ّ‬ ‫لو كان للعطا ِء ي ٌد‬
‫و�أنا �أ�صفّقُ و�أ�صفّر بفمي‬ ‫يف نه ِر عينيها لأرى الوجو َد �أغني ًة وندا ًء حلواً يف‬
‫‪243‬‬ ‫\ �شاعر وقا�ص من دولة االمارات العربية املتحدة‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جمال الكلمات‬ ‫‪s‬‬ ‫ِ‬ ‫ال�شبع يف عيون الباحثني عن‬ ‫و�إثارة ّ‬ ‫غرداً ُمرفرف ًا بجناحني من ري�شِ ها‬
‫ُم ِّ‬
‫منكب ًا على الورق ِة‬ ‫ّ‬ ‫وبديع املعاين‪ .‬و�سيظلُ ّ‬
‫ال�شاعر‬ ‫�أمي‪..‬‬
‫يتحول �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ويجف حربهما الذي‬ ‫َّ‬ ‫تبي�ض عينا ُه‬ ‫َّ‬ ‫حتى‬ ‫قمر على دنياي‪ ،‬و�شم�س‪..‬‬ ‫ٌ‬
‫الكون �إىل الأبدِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كلمات �ش ّتى تتجولُ يف �آفاق‬ ‫ِ‬
‫ا�س‪ ،‬ويف خلوته البعيد ِة‬ ‫يعتزلُ احلكيم‬
‫الف�صل الأول‬
‫املدن وال ّن َ‬ ‫َ‬
‫ني بر�ؤية‬ ‫ُ‬
‫اكت�شاف حوا�سه اخلم�س‪ .‬تبد�أ الع ُ‬ ‫َ‬ ‫يعي ُد‬ ‫�صيف‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫حدث هذا ذات‬
‫فالباب مث ًال‬ ‫ُ‬ ‫دات‪.‬‬‫جمر ٍ‬ ‫الأ�شيا ِء املح�سو�س ِة باعتبارها ّ‬ ‫و�صلت �إىل قرية مات �أهلُها‬‫ُ‬ ‫كنت عط�شان َا حني‬ ‫ُ‬
‫القدري ما‬ ‫ّ‬ ‫إن�سان يف ترحاله‬ ‫ي�صري رمزاً ملحن ِة ال ِ‬ ‫اجلفاف‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جميع ًا ب�سبب‬
‫بني الدخول واخلروج �أو الوقوف منتظراَ على العتبةِ‪.‬‬ ‫أبواب والنواف َذ ولكن مل ي�سمعني‬
‫البيوت وال َ‬ ‫َ‬ ‫طرقت‬
‫ُ‬
‫خ�شبي‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫جمرد حاج ٍز‬ ‫الباب ّ‬ ‫ُ‬ ‫بينما يف املدين ِة يكون‬ ‫�أح ٌد‪..‬‬
‫الباب هل مت ُ�صنعه‬ ‫و�سيظ ّل احلكي ُم يبحث عن حقيقة ِ‬ ‫أ�سندت ظهري �إىل �صخرةٍ‬ ‫حزن و� ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جل�ست يف‬‫ُ‬
‫لكي يفتح‪� ،‬أم ل ُيغلق؟ ويف العزلة �سيدرك احلكيم‬ ‫نبع ماءٍ‪ .‬لك ّني عندما‬‫فتدحرجت‪ ،‬وتدفّقَ من حتتها ُ‬
‫ْ‬
‫مهماً‪� ،‬إنمّ ا ما يعلق يف‬ ‫�أي�ض ًا � ّأن ما ن�سمعه لي�س ّ‬ ‫أ�رشب‪ ،‬وجدتهما يقفان فوقَ ر�أ�سي‬ ‫َ‬ ‫ �‬ ‫لكي‬ ‫انحنيت‬
‫ُ‬
‫اخليال‬
‫ِ‬ ‫نتذوقه يف‬ ‫الوجدان‪ ،‬و� ّأن ما نلم�سه �أو ّ‬ ‫ِ‬ ‫�صدى‬ ‫زمن بعيدٍ‪..‬‬
‫ك�أ ّنهما كانا هنا قبلي من ُذ ٍ‬
‫هو ما يث ُري احلوا�س حتى �أق�صاها‪ ،‬بينما يف حياتنا‬ ‫ّ‬
‫ونتذوقُ �أ�شيا َء كثري ًة ولك ّنها ال ‬ ‫ونلم�س‬ ‫ن�شم‬
‫ال�شاعر واحلكي ُم‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫اليومية ّ‬ ‫ّ‬
‫ني واجلمودِ‪.‬‬ ‫إح�سا�س بالروت ِ‬ ‫ِ‬ ‫تثري فينا �سوى ال‬ ‫كل‪..‬‬
‫ال�ش ِ‬
‫رجالن يت�شابهان يف اجلوه ِر ويختلفان يف ّ‬
‫يف منت�صف الطريق ما بني املعنى‪ ،‬وبني �س�ؤال‬
‫اعر واحلكي ُم وجه ًا لوجه‪ .‬عاب�سان‬ ‫ال�ش ُ‬ ‫احلقيقة‪ .‬يلتقي ّ‬ ‫قال احلكي ُم‪� :‬أنت عط�شان للمعنى‪ ،‬و�ستظ ّل هكذا �إىل‬
‫ولكن خياليهما ي�ضحكان ل ّأن كليهما‬ ‫ّ‬ ‫يف الظاهر‪،‬‬ ‫الأب ِد‬
‫وهم‪ ،‬و�أن الأ�شياء تتغيرّ حتى لو كانت‬ ‫ابت ٌ‬ ‫يدرك � ّأن ال ّث َ‬ ‫اجلمال‬
‫ِ‬ ‫ال�شاعر‪ :‬لن يرويك �سوى‬ ‫قال ّ‬
‫جامد ًة‪ ،‬و�أن احلوا�س تكون خمدوع ًة دائم ًا مبا يطر�أ‬ ‫يرت�شف � ٌّأي منهما قطر ًة‬‫َ‬ ‫وم�ضى االثنان من غري �أن‬
‫تنام يف الأعماقِ‬ ‫أ�صلية ُ‬ ‫ال�سطح‪ ،‬بينما احلقيق ُة ال ّ‬ ‫على ّ‬ ‫عظيمة‪ .‬فمل ُأت ق ِْربتي باملا ِء‬ ‫ٍ‬ ‫وتركاين �أمام حريةٍ‬
‫وال تك�شف عن نف�سها �إال للمنكبني على النب�ش يف‬ ‫أندم يوم ًا‬
‫أزمان معاً‪ .‬و ْمل � ْ‬ ‫وتبعتهما نع ُرب الأمكن َة وال َ‬
‫والتعرف على‬ ‫ِ‬ ‫املعادن النفي�س ِة‬
‫ِ‬ ‫املجاهل الكت�شاف‬ ‫ِ‬ ‫رش‬‫أدركت يف نهايتها �أن الب� َ‬ ‫على هذه الرحل ِة التي � ُ‬
‫عمالقة‬
‫ٍ‬ ‫جوه ِر احليا ِة التي تبدو للحكيم مثل كرةٍ‬ ‫جفاف املعنى حتى وهم �أحياء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ميوتون من‬
‫لل�شاعر‬ ‫فارغة رغم االمتالء الظّ اهر فيها‪ ،‬بينما تبدو ّ‬ ‫ٍ‬ ‫واحلكيم‪ ،‬ولكن �أملكُ تعريف ًا‬ ‫ِ‬ ‫ال �أملكُ و�صف ًا ّ‬
‫لل�شاع ِر‬
‫مليئة باحلروف والكلمات التي‬ ‫ٍ‬ ‫�ضخمة‬
‫ٍ‬ ‫مثل دائرةٍ‬ ‫خمرتع َا لهما كما يلي‪:‬‬
‫لو تنتظ ُم‪� ،‬أو يتجر�أ �أح ٌد على ترتيبها‪ ،‬ف� ّإن دورانها‬ ‫ا�ستخراج املعاين‬
‫َ‬ ‫ال�شاعر على الورق ِة حماو ًال‬ ‫ينكب ّ‬ ‫ُّ‬
‫إيقاعياً‪� .‬أما �إذا اختفى ال�شعرا ُء من‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقر ناعم ًا و�‬ ‫ُ‬ ‫النا�صع البك ِر‪ .‬ومن‬
‫ِ‬ ‫البيا�ض‬
‫ِ‬ ‫العميق ِة املدفون ِة يف‬
‫وجودنا ف�إن دائرة الكلمات رمبا تنفجر‪ ،‬وقد ي�سيل‬ ‫النائم يف‬
‫ِ‬ ‫خد�ش املعنى‬ ‫ِ‬ ‫يذهب �إىل‬
‫ُ‬ ‫غري � ْأن يق�ص َد‪،‬‬
‫حربها الأ�سود ليعمي املعاين كلها‪ .‬وبعد ذلك ال يعو ُد‬ ‫وتركيب معنى جدي ٍد �أو‬ ‫ِ‬ ‫�رسي ِر املا�ضي وتفكيكه‪،‬‬
‫يعرف الأ�شياء من �شكلها الظاهر‪ ،‬ولن يفهم‬ ‫ُ‬ ‫احلكي ُم‬ ‫مكان واح ٍد‬‫ٍ‬ ‫التقت كلما ُتها يف‬ ‫ْ‬ ‫يحدث � ْأن‬
‫ْ‬ ‫جملة مل‬
‫ٍ‬
‫ال�شاعر حني يعرب عن ال�شيء بنقي�ضه‪ ،‬ك�أن‬ ‫ما يعنيه ّ‬ ‫جر ٍاح‪،‬‬‫ال�شاعر �إىل ّ‬ ‫يتحول ّ‬ ‫ّ‬ ‫من قبلُ ‪ ،‬و�سطراً بعد �سط ٍر‬
‫ي�صف عيون املر�أة ب�أنها‪ :‬ال�سهم يخرتق الف�ؤاد‪ .‬بينما‬ ‫ي�سلخ جل َدها‬‫تنزف املعاين القدمي ُة دم ًا عندما ُ‬ ‫حيث ُ‬ ‫ُ‬
‫هي يف الأ�صل عمياء مت�شي بف�ؤاد مك�سور‪.‬‬ ‫بدم وجل ٍد خمتلفني فتول ُد املعاين اجلديدة حي ًة‬ ‫ويب ّدله ٍ‬
‫احلكيم وال�شاعر يفرتقان يف نهاية الطريق‪ ،‬خمتلفينْ ‬ ‫ً ال�ستقبال احلياةِ‪ ،‬وت�صبح قابل ًة لال�ستهالكِ‬ ‫ِ‬ ‫متو ّثبة‬
‫‪244‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على وهج الأغاين التي بال �صدى‪ ،‬وال �أحد يعرف‬ ‫يف االجتاه �صوب احلقيقة‪ ،‬الأول يحمل �س�ؤاله‬
‫ال�شجية‪ .‬لكن من‬ ‫ّ‬ ‫�أين تذهب حكاياتهم ومواويلهم‬ ‫امل�ضي حام ًال‬
‫ّ‬ ‫املعذِب يف العقل‪ ،‬والثاين ي�ستمر يف‬
‫يكت�شف � ّأن اجلهات‬ ‫ُ‬ ‫الرمال‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ينب�ش بيد روحه يف هذه‬ ‫ورقته وهي ال تزال بي�ضاء‪ ،‬بينما ظلاّ هما يلتقيان‬
‫انت�صاف ال�شم�س يف �أفق الهجري‪ ،‬ال فرق‬ ‫ِ‬ ‫تت�ساوى عند‬ ‫على الأر�ض‪� ،‬ضاحكينْ ‪ ،‬وال �أحد يعرف هل هما‬
‫أر�ض كلها نقطة‬ ‫دامت ال ُ‬ ‫بني الذاهبني والقادمني ما ْ‬ ‫عائدان �أم ذاهبان‪.‬؟‬
‫انطالق كبرية‪ .‬ال فرق بني النازلني من تالل الأم�س‬ ‫ٍ‬
‫تتعرج يف متاهة‬ ‫وال�صاعدين عليها‪ .‬كل الدروب‬
‫�أغني ُة ال�صحرا ِء‬
‫ُ‬
‫يهرب‬‫ُ‬ ‫ال�س� ِؤال وتقود �صاحبها �إىل احلتف الذي كان‬ ‫يوم يف عراء ال�صحراء من غري‬ ‫ك ّنا قد م�شينا ن�صف ٍ‬
‫منه‪.‬‬ ‫وكنت مذهو ًال من �رسع ِة‬ ‫ُ‬ ‫بكلمة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫�أن ينطقَ � ٌّأي منهما‬
‫�صباح يف وجه ال�شم�س‬ ‫ٍ‬ ‫� ّأيتها ال�صحرا ُء‪ ..‬تبت�سمني ك َّل‬ ‫احلكيم يف امل�شي على الرمال الناعمة وهو يتكئ‬ ‫ِ‬
‫بال�شعاع‪ ،‬ترمي عباءتها فوق‬ ‫ِ‬ ‫وهي ت�صعد‪ ،‬خمتال ًة‬ ‫رث و�سامةً‬ ‫ال�شاعر وهو �أك ُ‬
‫على ع�صاه امللتوية‪ ،‬بينما ّ‬
‫موجك ومت ّد نورها يف ال�سهول البكر‪ .‬تتبعها الزهرة‬ ‫يلهث كلما �صعدنا على تل �أو هبطناه‪ .‬وقبل‬ ‫و�شباباً‪ُ ،‬‬
‫اجلفاف‪ .‬و�أنتِ تتباهني‬ ‫ِ‬ ‫الربية قبل �أن تذوي يف‬ ‫ّ‬ ‫الغروب اهتدينا �إىل �شجرةٍ ن�صف جرداء جل�سنا‬
‫بالذهب املنثو ِر يف �أفق الدنيا متاع ًا وم�شاع ًا لبهجة‬ ‫ِ‬ ‫حتتها متعبني‪.‬‬
‫العيون التي تعطّ �ش �أ�صحابها وهم يفت�شون يف كتب‬ ‫ِ‬ ‫قال احلكيم‪:‬‬
‫الرمل عن املعنى‪ ،‬وال يجدون �سوى النقاءِ‪ .‬ويقلّبون‬ ‫�أيتها ال�صحرا ُء‪..‬‬
‫الرتاب‪ ،‬وال يظهر لهم �سوى الرم ِز‬ ‫ِ‬ ‫يف �صفحات‬ ‫أمل�س الناع َم‪..‬‬
‫أر�ض ال َ‬ ‫يا جل َد ال ِ‬
‫املحفو ِر يف دالالت التغيري‪ ،‬كلما انزاح ظ ّل واختفى‪،‬‬ ‫يوم من �أث ِر العابرين‬ ‫الرياح لتغ�س َل ظهركِ كل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تهب‬
‫ّ‬
‫مكان جديدٍ‪ .‬ال �شيء ثابت ًا يف‬ ‫ٍ‬ ‫كلما ظهر غريه يف‬ ‫املجاهل‪ ،‬الذين دفنوا �أ�رسارهم يف بطن‬ ‫ِ‬ ‫نحو‬
‫الكون كله‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�رس‬
‫ال�صحراء �سوى قلبها الذي احتوى ّ‬ ‫الغمو�ض وكتبوا مبمحاة الريح �سرية الزوال‪ ،‬غري‬
‫رب ال�سحب اخلفيفة وتذرف‬ ‫� ّأيتها ال�صحرا ُء‪ ..‬تع ُ‬ ‫مكرتثني بفكرة اخللود يف الزمان �أو املكان‪ .‬ومن‬
‫ه ّتانها على خ ّدكِ ال�صايف‪ ،‬لكن الرياح تذروها‬ ‫يع�ش يف ال�صحراء ويعرب �سابح ًا يف بحرها العظيم‪،‬‬ ‫ْ‬
‫العري�ض‬
‫ِ‬ ‫الغمام فوق �صدرك‬ ‫ُ‬ ‫ب�رسعة‪ .‬ثم مير‬
‫ٍ‬ ‫وتفرقها‬ ‫نق�ش‪ ،‬حتى لو كان باحلديد والنار‪ ،‬يزول‬ ‫يدركْ �أن كل ٍ‬
‫قرون‬
‫ليتخلّ�ص من �أحماله الثقيلة فريوي عط�ش ٍ‬ ‫ال حمالة‪ ،‬وكل حماولة للوقوف على رمل متحرك‬
‫تفرعت من جذر ِه �سرية‬ ‫اجلفاف الذي هو �أ�ص ٌل ّ‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫�ستنتهي بالغرقِ ‪ .‬ولذلك ابتدع البدو �أغنية الرتحال‬
‫عني‬
‫النبع‪ .‬وكان املا ُء يظهر مثل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الباحثني عن‬ ‫الأبدي فوق مياهها املتموجة متفوقني على عنا ِد‬
‫عمالقة و�سط ال�صحاري‪ ،‬عني تغم�ض وقت اجلفاف‬ ‫ٍ‬ ‫تعرج‬ ‫الريح وغرورها‪ .‬متتبعني خطوة القمر كلما ّ‬ ‫ِ‬
‫لكنها تعود لتتفتح كلّما طرقت جفونها يد املطر‪.‬‬ ‫يف قو�س ال�سماء ونرث ف�ضته على التالل‪ .‬ومن ي�سكن‬
‫والغريب �أن ال�صحراء قد يخد�شها املاء‪ ،‬وقد يبلل‬ ‫املوت م�ص ُري كل اجلال�سني يف‬ ‫َ‬ ‫يف الرتحال يدرك �أن‬
‫معانيها ازدحام الغيم طوي ًال يف الأفق وان�سداد‬ ‫املكان‬
‫ِ‬ ‫ُحف ِر االنتظار‪� ،‬أولئك الذين �شُ لّت �أرجلهم يف‬
‫ال�شم�س وغياب لفحتها الناعمة‪.‬‬ ‫اجلدران‬
‫ِ‬ ‫الواحدِ‪ ،‬وما عادت عيونهم ترى �سوى‬
‫ال�شاعر‪:‬‬
‫ثم قال ّ‬ ‫وال�شا�شات التي تعر�ض الوهم‪ ،‬وزجاج‬ ‫ِ‬ ‫العاليةِ‪،‬‬
‫أحب ال�شجر َة رمزاً للحيا ِة‬ ‫� ُّ‬ ‫النوافذ املغلقة الذي مينع الن�سمة من دخول البيت‪.‬‬
‫أحب ال�صحرا َء رمزاً لتحدي احليا ِة‬ ‫� ُّ‬ ‫� ّأيتها ال�صحرا ُء‪ ..‬وجهك الذي تغزوه التجاعيد يف‬
‫ومت‪.‬‬
‫غرقت يف عذوبته ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أحب املا َء حتى لو‬ ‫و� ُّ‬ ‫مطلي ًا‬‫ّ‬ ‫�أول الهبوب‪ ،‬يعو ُد �صافي ًا يف الظهرية‪،‬‬
‫ال�شاعر‬
‫ني ّ‬ ‫ع ُ‬ ‫من�ش الرما ِد الذي يخلفه‬ ‫بلمع ِة ال�رساب‪ ،‬خالي ًا من ِ‬
‫ثالث‪..‬‬
‫ك ّنا قد غفونا رمبا ل�ساعتني �أو ٍ‬ ‫املت�سامرون قرب النار يف لياليكِ ال�صافية‪ .‬يتدف�أون‬
‫‪245‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الآفاق بحث ًا عن املرايا التي تعك�س وجوههم‬ ‫عيني لأرى �آالف النجوم نا�صعة يف �سماء‬ ‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫ُ‬
‫احلقيقية‪ .‬ولكن هيهات‪ ،‬من ال يرى الدنيا بعني �شاعر‪،‬‬ ‫ال�شاعر واحلكيم قد �سبقاين يف‬ ‫ال�صحراء‪ .‬وكان ّ‬
‫لن يقر�أ يف كل املرايا �سوى الأقنع ِة التي تراكمها‬ ‫حوار مل �أفهم معناه‪ .‬بعدها‬ ‫ٍ‬ ‫اال�ستيقاظ ودخال يف‬
‫يتعرف �إال على املالمح اخلارجية ملا‬ ‫احلرية‪ ،‬ولن َّ‬ ‫تام يف‬ ‫با�ستغراق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫�صمت وراح كالهما يح ّدق‬ ‫ٌ‬ ‫�ساد‬
‫يظن �أنه هو‪ .‬والب�رش �إمنا يبحثون عن املرايا التي‬ ‫ال�سماءِ‪.‬‬
‫متور وتثور‬
‫تعك�س دواخلهم‪ ،‬عن �صورة الذات التي ُ‬ ‫ال�شاعر يقولُ ‪:‬‬ ‫�سمعت ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫وتتوه يف داخل اجل�سد‪ ،‬وت�شطُّ ب�أفكارها يف متاهة‬ ‫توم�ض جنم ُة احلظِّ عند ا�شتداد احللكة‪ ،‬وقد ت�شتعل‬ ‫ُ‬
‫اليوم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫العقل‪ ،‬وت�صبح �صوت ًا داخلي ًا ن�سمعه طوالَ‬
‫ِ‬ ‫ل�شخ�ص‪ ،‬فريى‬‫ٍ‬ ‫ال�سماء جنوم ًا حني تبت�سم الدنيا‬
‫ولكن ال نعرف م�صدره من �أين‪.‬‬ ‫أبي�ض من �شدة انت�شاء قلبه وامتالء‬ ‫الكون م�ش َّع ًا � َ‬ ‫َ‬
‫الذات يف عمقها‬ ‫�شكل‪ ،‬ل َّأن َ‬
‫ال�صوت �سيظل بال ٍ‬‫ُ‬ ‫هذا‬ ‫ال�شاعر فرح ًا حني‬ ‫باحلب‪ .‬هكذا يقف ُز ّ‬ ‫ِّ‬ ‫جوانح ِه‬
‫هي جوهر حم�ض وخال�ص‪ ،‬جوهر بال �شكل‪ ،‬ولكي‬ ‫يرى جنمة ال�شعر تومئ �إليه من بعي ٍد فيتبع نورها‬
‫نراها‪ ،‬ينبغي لنا �إزاحة جميع الق�شور من �صفحة‬ ‫الكالم فريحل وراء‬ ‫ُ‬ ‫املنعك�س يف قلبه‪ ،‬وقد يغويه‬ ‫ِ‬
‫العقل لي�صري مر آ� ًة �صافي ًة ميكن �أن ينعك�س داخلها‬ ‫املعاين‪ ،‬متتبع ًا �سحر تداخلها ودورانها وك�أنها مرايا‬
‫ال�شاعر البي�ضاء حني‬ ‫الكون كله‪ .‬مر�آة ت�شبه ورقة ّ‬ ‫الكون‪ .‬ك�أن الكلمات حتمل �صورة الدنيا على ورقة‬
‫ير�سم داخلها وجوداً جديداً يتجاوز �شكل الوجود الذي‬ ‫�صغرية‪ ،‬وقد تت�سع هذه الورقة لتحم َل على �سطحها‬
‫نراه‪ .‬هكذا ن�صل �إىل جوهر املعنى‪ ،‬ونقول �إننا نعي�ش ‬ ‫كل �أ�شياء الكون جمموعة يف جملة خمتزلة‪ .‬ويف تلك‬
‫ال�شاعر بخط الكلمات‬ ‫اللحظة ال�ساحرة‪ ،‬حني يبد�أ ّ‬
‫لنتذوق لذَّة الوجود عن طريق فهم معناه‪ ،‬وال يفهم‬
‫الأوىل‪ ،‬تولد حياة جديدة للمعاين‪ ،‬وتتزحزح الكلمات‬
‫ال�شاعر‪ ،‬هذا الذي يعزف نغمة‬ ‫معنى الوجود �سوى ّ‬
‫من قوالبها الياب�سة‪ ،‬لتفتح درب ًا مغايراً يف طريق‬
‫ال�صمت ويجعلها حلنا ي�رسي يف عروق اجلمادات‬
‫فهمنا للحياة‪ .‬وحني ي�صري للحظ جنمة‪ ،‬وي�صري‬
‫�شحت عليه الدنيا‪،‬‬ ‫يب�س‪ ،‬وهو الذي �إن ّ‬ ‫فتورق بعد ٍ‬ ‫ال�شاعر ال ‬
‫للنجمة فم يبت�سم يف �سماء الدنيا‪ ،‬ف�إن ّ‬
‫يبني من �شواردها ق�صوراً يط ُّل من نوافذها الإعجا ُز‪.‬‬ ‫يكتفي بالفُرجة وال�سكوت‪ ،‬بل يذهب لنرث الذهب‬
‫ال�شاعر يف هذا العامل؟؟‬
‫هل تعرفان كيف ولد ّ‬ ‫ري م�ضيئ ًة ويراها‬ ‫يف الزوايا والأفكار املهملة فت�ص ُ‬
‫يرك�ض يف الدروب مع القطعان‬ ‫ُ‬ ‫ال�شاعر‬
‫كان ّ‬ ‫الآخرون ك�أنها ولدت للتو‪ .‬ولو ق ّدر للب�رش جميع ًا �أن‬
‫وال�ضواري‪ ،‬لك َّنه التفت يف ليلة �إىل النجمة وقرر �أن‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬ف�إن العامل �سيكون �أجمل‬ ‫يروا الكون بعني ّ‬
‫ي�سميها «موعد الفجر»‪ ،‬وحني اكتمل البدر يف ات�ساع‬ ‫و�أرحم �ألف مرة مما هو عليه الآن‪� .‬أو ًال �ستختفي الراء‬
‫عيونه‪� ،‬أدرك � ّأن كل النور يف الكون هو انعكا�س لنور‬ ‫من كلمة «احلرب»‪ ،‬وي�صبح القمر جر�س ًا ليلي ًا لنداء‬
‫قلبه �إن �صفا‪ ،‬ولذلك راح ينق�ش على اجلدران ا�سماً ال ‬ ‫اخلوف‬ ‫حجرها‬
‫ُ‬ ‫القلوب التي ّ‬
‫ُ‬ ‫الع�شق‪ .‬و�سوف ترقُّ‬
‫يعرفه النا�س‪ ،‬ويكتب على جبني الكون كلمات هي‬ ‫�سفن‬
‫و�أعمت عيونها الغفلةُ‪ .‬ومن جهة البحر‪� ،‬ست�أتي ُ‬
‫جنوم تظل توم�ض عند ا�شتداد العتمة وتنري للعابرين‬ ‫وبال�شعر وحده‬ ‫ِّ‬ ‫ني لرت�سو يف م�ستقرها الأخري‪.‬‬ ‫احلن ِ‬
‫عقولهم وقلوبهم‪.‬‬ ‫يذوب العنا ُد‪ ،‬وتزهر �أ�سيجة ال�شوك‪ ،‬ويتعطل قطار‬ ‫ُ‬
‫كان الليل قد اكتمل‪ .‬احت�ضن احلكيم ع�صاه‪ ،‬وتو�سد‬ ‫الندم وال ي�صل �أبداً‪.‬‬
‫ال�شاعر الورقة واتخذت �أنا قربتي �سنداً لر�أ�سي الذي‬ ‫ّ‬ ‫م�سكون بالده�شة‪ ،‬وعيونه‬ ‫ٌ‬ ‫ال�شاعر‬ ‫قالَ احلكي ُم‪ّ :‬‬
‫ت�شبع بالكلمات‪ .‬ومننا‬‫ّ‬ ‫املفتوحة تقر�أ كل �شيء‪.‬‬
‫ـــــــــ ــــــــــــــــــــ ـــــــــــ‬ ‫رش �إىل احلياة من باب‬ ‫ال�شاعر‪ :‬نعم‪ ..‬يدخل الب� ُ‬ ‫قالَ ّ‬
‫\ مقطع من كتاب يحمل نف�س العنوان �سي�صدر قريبا‪.‬‬ ‫الده�شة‪ ،‬يغويهم لغ ُز الوجود على احلفر يف رمل‬
‫فراغ‬
‫الغمو�ض‪ ،‬ويدفعهم الغمو�ض �إىل النب�ش يف ِ‬
‫‪246‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫من �أعمال يعقوب الريامي‪ُ -‬عمان‬

‫فـي مديح‬
‫ال�ضجر‬
‫\‬
‫حممود الرحبي‬

‫الأمر بالن�سبة �إىل مقهانا هذا ‪ -‬مكان الو�صول‪( :‬مقهى‬ ‫‪ ‬ه�ؤالء نحن‪� :‬ضابط �رشطة ووكيل وزارة وخبري حاويات‬
‫طريق عمان)‪ .‬وقد بقيت حمطة البنزين على حالها هناك‪،‬‬ ‫يف ميناء مطرح و�أنا مدير دائرة امل�ؤونة بوزارة التجارة ‪.‬‬
‫بيد �أن املقهى الذي كان بقربها غا�ص يف بطن جممع‬ ‫اعتدنا �أن جنتمع يف (ال�سيب)‪ ،‬يف مقهى عتيق يطلق‬
‫جتاري �ضخم بني يف حميطه‪ ،‬بينما مل يعد ملقهانا مكان‬ ‫عليه ( طريق دبي)‪ ،‬تقرقر‪  ‬يف ف�ضائه �أراجيل ال�شي�شة وال ‬
‫للحافالت بقربه‪ ،‬حيث انتقلت جميعها �إىل �إحدى حمطات‬ ‫يتوقف هديرها �إال حني ينت�صب نافخوها �أمام طاوالتهم‬
‫ال�شارع العام بعد تو�سعته‪ ،‬ولكن ا�سمه القدمي ظل ماثال(‬ ‫يف ال�ساعة الثالثة والن�صف بعد منت�صف كل ليلة‪.‬‬
‫مقهى طريق دبي)‪.‬‬ ‫‪�   ‬س�أقطع قليال �شهوة احلديث عن املقهى لأحتدث‬
‫‪ ‬والآن �أعود للحديث عن مقهانا‪ ،‬ولأبد�أ بالنادل العجوز‬ ‫عن ‪ ‬الذاكرة التي تعوم خفية يف هذا املكان‪ ،‬عن �ألبوم‬
‫(الأزرق) والذي عرف بهذا اللقب نظرا لل�سواد ال�شديد‬ ‫�صورها‪:‬‬
‫جللده‪ ،‬وهو ثمانيني يعي�ش وحيدا يف غرفة خ�شبية غري‬ ‫فاملقهى ال توجد �أدنى عالقة ظاهرة له بطريق دبي‬
‫بعيدة عن املقهى‪ ،‬ي�ستعني هو الآخر بخياله وذاكرته‬ ‫وذلك لكونه ‪ ‬بعيدا عن ال�شارع العام مبا يكفي لإثارة‬
‫لي�ؤثث الفراغ وي�ضفي معنى على حا�رضه‪ .‬وهي ‪� -‬أي‬ ‫ابت�سامة �أو ده�شة �أي �سامع جديد با�سمه‪ .‬ولكنه فيما‬
‫ذاكرة الأزرق‪ -‬كثريا ما تكون ا�ستعرا�ضا �صارخا‪ ‬‬ ‫م�ضى من �سنوات – وهنا تبد�أ الذاكرة‪  ‬يف تقليب‬
‫لفحولته الغاربة‪  ‬التي كانت تدور رحى معاركها حول‬ ‫�صفحات �ألبومها‪ -‬كان حمطة للحافالت التي ت�سري‬
‫ن�ساء جمهوالت يدعي ب�أنه عا�رشهن‪  ‬يف الب�رصة‪ ،‬حني‬ ‫ركابها من عمان الداخل �إىل دبي؛ وهناك يف دبي ويف‬
‫كان يعمل يف الكويت وهو �شاب ويت�سلل من هناك غازيا‬ ‫مدينة ديرة بالتحديد كانت تنت�صب حمطة بنزين‪ ،‬وغري‬
‫‪ .‬وقد حذرناه مرارا‪ -‬بنربة بني املزاح واجلد‪ -‬بعدم‬ ‫بعيد عنها مقهى‪  ‬يحمل يف �أحد �شقي ا�سمه – كما هو‬
‫‪247‬‬ ‫\ قا�ص وروائي من ُعمان‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�صباح طويل من الك�آبة وخماطبة اجلدران ال�صماء كما‬ ‫اجلهر بعالقاته تلك‪ ،‬خوفا من �أن يظهر عليه من ي�شنقه‬
‫نعي�ش كمتقاعدين؛ وذلك حني تتجه النظرات امل�شدوهة‬ ‫معلقا �إياه لي�س من رقبته املتغ�ضنة �إمنا من �سنه الوحيد‬
‫قدمي‪ ،‬ما �أن يتعمد الأزرق �أو �أحد رفاقي �إطالق‬
‫ّ‬ ‫ناحية‬ ‫الذي يخرج من فمه ك�أمنا ليعر�ض عزلته‪ .‬وهذا ال�سن‬
‫لقبي من بعيد �أمام عني وم�سمع زبون جديد على املقهى‪.‬‬ ‫يتميز به قيا�سا باللون الفاحم جللده‪ ،‬وهو �شديد احلفاظ‬
‫و�أكون حينها قد �رشعت بالدخول و�أنا �أخطو من �أمامه‬ ‫عليه‪ ،‬وكان م�صدر فخر للأزرق‪ ،‬ومرارا �سمعته يق�سم به‬
‫ما�شيا با�ستقامة باجتاه طاولتي‪ ،‬فري�سل الغريب نظرة‬ ‫�أثناء حاجته لإثبات �أي معلومة غريبة يف �أذهاننا‪  ،‬كما‬
‫نعلي باحثا عن مربرات حية لذلك اللقب‪،‬‬ ‫ده�شى جهة ّ‬ ‫يدعي ب�أنه كثري النظافة به ليحافظ على �سطوع بيا�ضه‪،‬‬
‫حينها �أكون قد �أخفيت‪�  ‬ضحكة ترف�س وت�صطرع يف‬ ‫حيث يبدو ب�سبب ذلك وك�أنه‪  ‬نقطة �ضوء �أو ن�صل قد من‬
‫جويف باحثة عن منفذ‪ ،‬وعيناي ت�سرتقان النظر �إىل‬ ‫ناب فيل‪ .‬كما تكلل وجه الأزرق ابت�سامة ثابتة ال تلبث‬
‫الوجه امل�شدوه للغريب وحدقتيه املفت�شتني عن العاهة‬ ‫�أن تقفز منها �ضحكة‪  ‬ذات �صوت معدين عال‪ ،‬وهي على‬
‫يف رجلي‪ ،‬وما �أن �أ�صل �إىل طاولتي �إال و�أطلق �ضحكا‬ ‫�أهبة اال�ستعداد لالنفجار يف �أدنى موقف عابر‪ .‬لقد كان‬
‫ه�سترييا ينتقل كالعدوى بيننا‪.‬‬ ‫الأزرق باخت�صار �أحد ملح هذا املقهى وتف�صيل هام‬
‫ومع مرور الوقت‪ ،‬الذي غدا طويال لي�س بفعل ثقل الزمن‬ ‫ير�ش �سحرا على املكان‪ ،‬كما �أن فراقه املحتمل ب�سبب كرب‬
‫فح�سب‪� ،‬إمنا �أي�ضا ب�سبب خفوت بريق الألقاب الثقيلة‬ ‫�سنه‪ ،‬ي�ضفي على حياتنا ما ي�شبه �شعورا باقرتاب كارثة‪ .‬‬
‫التي رف�ضنا �أن نقتنع ب�أنها قد �صدئت ما �أن تخلينا‬ ‫ورغم �أن منا�صبنا الرنانة‪ ،‬كما هو احلال مع ا�سم مقهانا‬
‫عن وظائفنا‪ ،‬وفقدت كل �أهمية وفعل‪ ،‬بل وب�رسعة مل‬ ‫ومع الفحولة املزعومة للأزرق‪ ،‬غدت بعد تقاعدنا �أثرا‬
‫نكن نتوقعها‪ .‬ففي ال�سنوات الأوىل من لقائنا الذي‬ ‫بعد عني و�أ�سماء بال �أفعال؛ �إال �أننا كذلك نعتمد على‬
‫مت يف م�صادفات متقطعة‪ ،‬ن�سجته الكرا�سي املرتا�صة‬ ‫الذاكرة يف ر�سم مالمح حياتنا‪ ،‬فال ننادي بع�ضنا �إال من‬
‫للمقهى ب�سبب ق�رص م�ساحته‪ ،‬وكذلك تكرارنا اليومي‬ ‫خالل ردهاتها املن�سية‪ ،‬فنقول ح�رضة ال�ضابط و�سعادة‬
‫عليه كالزمة م�سائية البد منها يف حياتنا‪ ،‬حيث وجدنا‬ ‫الوكيل‪  ‬والأ�ستاذ اخلبري و�أنا يطلق علي الأعرج‪ ،‬رغم �أن‬
‫�أنف�سنا مبرور الوقت �أ�صدقاء‪ ،‬بل حزمة ال يكتمل امل�ساء‬ ‫رجلي �سليمتني‪ ،‬حيث ظل هذا اللقب يالحقني منذ‬ ‫ّ‬ ‫كال‬
‫بدون �أن جتتمع‪.‬‬ ‫بدايات �شبابي‪ ،‬وقد �سميت بالأعرج لأين كنت كذلك‬
‫وظل لقبا ال�ضابط و�صاحب ال�سعادة الوكيل‪ ،‬وهما‬ ‫فيما م�ضى ولوقت ق�صري‪ ،‬وذلك حني �أ�صبت يف حادث‪ ‬‬
‫الع�ضوان الأبرز مكانة بيننا‪ ،‬مع الوقت جمردين من‬ ‫�سيارة كان �صاحبها يعلمني القيادة‪ .‬و قد ظللت �أ�شهرا‬
‫معناهما الفعلي‪ ،‬بل ال يحمالن �أدنى هيبة حتى لدى‬ ‫وحتملت‬
‫ّ‬ ‫�أعاين من عرج وا�ضح يف ر�سغ رجلي الي�رسى‪،‬‬
‫النادل الأدرد الذي كان يتعمد �أن يطلقهما م�شوهني‬ ‫�سخريات هذا اال�سم حينها من باب ترويج مزحة عابرة‪،‬‬
‫وب�صوت عال‪ ،‬فال�سعادة تتحول يف فم الأزرق ‪� ‬إىل ثعادة‪،‬‬ ‫فلماذا �أ�شتغل بتبديد ما لن يكون موجودا يف قادم‬
‫وكذلك ال�ضابط يتحول �إىل ثابط‪� .‬إىل جانب وجود �أمر �آخر‬ ‫رجلي‪  ‬اللتني �ستكونان �سليمتان قريبا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الأيام‪ ،‬حيث �إن‬
‫ي�صعب �إغفاله‪ ،‬وهو حياة كل منا وع�رشات املواقف التي‬ ‫�سيثبنت العك�س‪ ،‬ويطم�سن بالتايل �أدنى �أثر لهذه الكنية‬
‫عربت يف عمله‪� ،‬إىل جانب تفا�صيل عديدة عن معارفه‪،‬‬ ‫الناق�صة‪ .‬ومل �أدرك ب�أين كنت خمطئا باال�ستهانة ب�أمر‬
‫كل ذلك قد ا�ستهلك يف اخلم�س ال�سنوات الأوىل من بقائنا‬ ‫الذاكرة‪� ،‬إال حني ر�أيت‪ -‬بعد �شفائي من العرج‪ -‬هذا اللقب‬
‫يف مقهى طريق دبي‪ ،‬بل �أ�صبح كل منا يحفظ تفا�صيل‬ ‫العجيب وهو يت�سبب يف �إخفاء ا�سمي ووظيفتي ويلت�صق‬
‫الآخر و�أحيانا يكمل عنه ما ينوي اال�سرت�سال فيه‪،‬‬ ‫بحياتي كعاهة ال تعنيني يف �شيء‪ .‬ولكني ا�ست�سلمت‬
‫ويريحه يف حمل دفة احلديث عنه وحتريكها �إىل حني‬ ‫للأمر مع الوقت ما �أن �أعيتني احليل يف دفع اللقب عني‪،‬‬
‫ينتهي من �شفط الكتلة الغليظة من دخان ال�شي�شة والتي‬ ‫خا�صة و�أن دفاعي كان‪  ‬ي�ؤجج من حويل معاندين كرث‬
‫ميكن ملدخنها �أن ي�رشق ويطول �سعاله �إن مل ي�ستطع‬ ‫ي�ستعذبون اجلهر بعرجي‪ .‬بل �أين فوق ذلك �أحببت اال�سم‬
‫املواءمة بني ما يدخل �إىل حلقه من دخان وما يخرج‬ ‫اجلديد خا�صة حني غدا �ضمن ‪ ‬بواعث تزجية الوقت التي‬
‫منه من كالم‪.‬‬ ‫نحتاجها ب�إحلاح يف حياتنا بهذا املقهى‪ .‬فال يوجد ما هو‬
‫نعي�ش حتديا مع ال�صمت‪ ،‬الذي كثريا ما يكون �سيد‬ ‫�أجمل من �أن يبد�أ املرء م�ساءه ب�ضحك عميق جملجل بعد‬
‫‪248‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ -‬بل و�سيزداد الأمر غرابة �إذا حترينا وعلما ب�أنهما ال ‬ ‫املوقف يف لقاءاتنا‪ .‬و�أم�سى كريها‪ ،‬بل عدوا �رش�سا‪ ،‬فنحن‬
‫ميلكان �سوى خيمة اوعري�شة يف �أحد اجلبال‪.‬‬ ‫�صامتون طوال اليوم‪ ،‬وبيوتنا غدت خاوية‪ ،‬والبد للكالم‬
‫‪� -‬أو رمبا ماتت ‪ ‬الراعية قهرا وغما لأنها مل ت�ستطع �أن‬ ‫�أن يجد جمراه يف لقاءاتنا امل�سائية‪ ،‬حيث ن�سلك كل احليل‬
‫جتد م�أوى �صاحلا البنتها‪.‬‬ ‫من �أجل �أن نتحدث‪ ،‬ولكن جماالت احلديث لي�ست عديدة‪،‬‬
‫‪� -‬أو �أنها مل ت�ستطع �أن جتد حتى زوجا لها‪.‬‬ ‫واحلديث يف ال�سيا�سة يقت�ضي احلذر وخفقان القلب‪،‬‬
‫‪ -‬فاكتفت بعنرتنا هذا الذي ر�آها وواعدها وهو يف‬ ‫والريا�ضة بقفزاتها وخفتها لي�ست جامعا الهتماماتنا‪،‬‬
‫طريقه �إلينا‪.‬‬ ‫والبد حينئذ من اختالق �أحاديث من �أي نوع‪ ،‬حتى و�إن‬
‫‪ -‬حدثنا قليال عن عبلة ياعنرته‪.‬‬ ‫اقت�ضى الأمر �إىل �أن تخرج قليال عن �أغلفة الرزانة التي‬
‫‪ -‬حتدث‪ .‬لن نخرب �أحدا‪ .‬فلي�س يف هذه‪  ‬احلياة من ي�ستمع‬ ‫تفر�ضها �أعمارنا‪ ،‬ناهيك عما تبقي من بريق زهيد يكاد‬
‫�إليك غرينا‪.‬‬ ‫يوم�ض من بعيد ملا�ضي منا�صبنا يف الدولة‪.‬‬
‫وحني انتهوا من تعليقاتهم وهذياناتهم وكالمهم الغامز‪،‬‬ ‫فذات م�ساء و�صلت �إىل املقهى مت�أخرا عن عادتي‪ ،‬وما �أن‬
‫اجتهت �أعينهم ناحيتي‪ ،‬منتظرين ب�صمت تربيرا واقعيا‬ ‫جل�ست �إال واجتهت �أعني �أ�صدقائي ناحيتي كال�سهام‪ .‬مل‬
‫لت�أخري‪ ،‬وهي يف احلقيقة دعوة مفتوحة يل ال�ستالم‬ ‫ي�س�ألني �أحد منهم عن �سبب ت�أخري‪ ،‬حيث اعتدنا ت�أجيل‪ ‬‬
‫زمام احلديث و�أخذ ح�صتي كاملة لتعوي�ض ف�سحات‬ ‫مثل ذلك ال�س�ؤال يف حال ت�أخر �أحدنا‪ ،‬وذلك لوجود مت�سع‬
‫ال�صمت التي يفرت�ض �أن غيابي الق�صري قد �أحدثها‪.‬‬ ‫كاف من الوقت لإطالقه‪ ،‬وكذلك لأن تعمد �إطالة م�ساحة‬
‫ورغم هذه العالقة الطويلة بيننا ف�إن �أحدا‪  ‬ال يعرف �شيئا‬ ‫تلك ال�سانحة هي يف �صالح حربنا �ضد ال�صمت‪ ،‬فتكون‬
‫عن عائلة الآخر‪ ،‬بل‪  ‬ال �أحد يجر�ؤ حتى على ذكر الأمر ولو‬ ‫مدعاة لإطالق الظنون املاجنة والتي البد و�أنها تثري‬
‫من بابه املازح‪.‬‬ ‫ال�ضحك وتفتح طريقا �أطول للت�رسية ‪:‬‬
‫و�أكرث ما ميكن طرقه يف هذا ال�سياق‪ ،‬هو �أحداث‬ ‫‪ -‬يبدو �أن �صاحبنا ت�أخر لأنه وجد �شاة يف الطريق فقرر‬
‫امل�سل�سالت التلفزيونية التي �شاهدناها يف ال�صباح‪،‬‬ ‫�رشاءها دون تردد‪.‬‬
‫وهي املعلومة الوحيدة التي تدور عن حياتنا املنزلية‬ ‫‪ -‬هو بالطبع ال يق�صد �أن ي�شرتي ال�شاة‪� ،‬إمنا الراعية‪،‬‬
‫قبل لقائنا يف املقهى؛ م�سل�سلني متتابعني يف العادة يف‬ ‫وغدا �سي�شرتي منها �شاة ثانية وثالثة حتى ي�أتي على‬
‫كل يوم يعر�ضان يف �أوقات الزوال �أو الع�رص ويتابعهما‬ ‫�شياهها جميعا‪.‬‬
‫كل منا بحر�ص‪ ،‬ثم يجرنا احلديث عنهما‪ ،‬ن�ؤول ون�رسد‬ ‫‪ -‬بعد ذلك �ستبد�أ الإثارة حني تكون الراعية نف�سها �ضمن‬
‫ونتنب�أ بنهايات غالبا ما تكون مفتوحة ب�سبب ما ي�شوبها‬ ‫�أمالكه‪.‬‬
‫من تناق�ض و�شتات‪ .‬وكل حديث عن بيوتنا خارج هذه‬ ‫‪ -‬ليكون بذلك قد ملكها وملك �شياهها وا�سرتجع ماله‬
‫امل�سل�سالت‪� ،‬سيغدو‪�  ‬شبيها بذلك احلديث عن ال�سيا�سة‬ ‫فوق ذلك‪.‬‬
‫والذي �سيف�رس بق�صدية التدخل فيما ال �ش�أن لأحدنا به‪،‬‬ ‫‪-‬هل لهذه الراعية �أخوات‪.‬‬
‫حتى وان اكت�سى برداء اخلفة‪ ،‬ذلك الرداء الذي‪�  ‬سيثقل‬ ‫‪ -‬حتى لوكان لديها اخوات فلن يف�صح لنا عن �أمرهن‪،‬‬
‫ب�سبب �سهام اال�ستنكار التي �ستنقذف يف ج�سد كل من‬ ‫و�إال ملا ذهب مبفرده‪.‬‬
‫يجر�ؤ على اخلو�ض يف مثل هذه الأمور‪.‬‬ ‫‪-‬انتهى زمن الراعيات‪ ..‬يا راعيات الغنم فوق اجلبال‪.‬‬
‫ا�ستقبلت با�سما تعليقاتهم املاجنة عن الراعية و�شياهها‪،‬‬ ‫‪ -‬هل تعرف ب�أن املعبيلة‪،‬هو ا�سم لراعية غنم‪.‬‬
‫ومل �أخربهم عن �سبب ت�أخري وعو�ضت ذلك ب�أن �أطلقت‬ ‫‪ -‬كانت ترعى �شياهها مع ابنتها‪ ،‬والإ�سم قبل �إدغامه هو‬
‫عليهم لغزا‪:‬‬ ‫�أم عبيلة‪ ،‬ت�صغري لعبلة‪.‬‬
‫�إذا ذهب �أحدكم اىل جممع جتاري‪ ،‬وقذف بج�سده على‬ ‫‪-‬على �إ�سم عبلة ع�شيقة عنرتة العب�سي‪.‬‬
‫ال�سلم الكهربائي الذي �سي�صعد به �إىل الطابق الرابع‪،‬‬ ‫‪ -‬عنرتة الذي كان يرى عبلة يف مرايا ال�سيوف‪.‬‬
‫وهناك �سوف يبحث عن املحل الذي يبيع �آالت الت�سجيل‬ ‫‪ -‬طبعا لن يخطر يف بالها ب�أنها وابنتها �ستحمالن ا�سم‬
‫وي�شرتي �سماعة‪ ،‬ماذا ميكنه �أن يفعل بها يا ترى؟‬ ‫مدينة كاملة‪� ،‬أرخ�ص �أر�ض �سكنية فيها ت�ساوي ع�رشات‬
‫مل يرث اللغز البارد �أدنى احتجاج من �أ�صدقائي بل‬ ‫الآالف من الرياالت‪.‬‬
‫‪249‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ب�صوت‪ ،‬يتحتم عليه �أن يدفع فاتورة اجلل�سة كاملة‪� ،‬أو‬ ‫ا�ستقبلوه مبتعة و�رشع كل منهم يف �رشح ما ميكن �أن‬
‫يطلق �أمام امللأ‪ ،‬وب�صوت عال‪،‬نهيق جح�ش‪  .‬وكان ب�سبب‬ ‫يفعله بتلك ال�سماعة‪.‬‬
‫ذلك العقاب‪ ،‬يطول اجلدال بيننا حول طبيعة ال�شوكة التي‬ ‫قال ال�ضابط‪� :‬س�أت�سلل يف الليل �إىل ال�صالة‪ ،‬و�أ�ضع‬
‫فجرت بالون ال�صمت‪ ،‬وهل‪  ‬تدخل‪  ‬يف معاين الكالم �أو‬ ‫ال�سماعة على‪�  ‬أذين ثم �س�أطلق �صوتا عاليا‪ ،‬وحني يحدث‬
‫الهم�س �أو الإ�شارة �أم �أنها جمرد �صوت عابر خرج من‬ ‫ذلك يف الليل ف�إنه ي�شبه �شميم العطر‪.‬‬
‫ج�سد �أحدنا دون ق�صد‪.‬‬ ‫وقال م�س�ؤول احلاويات‪ :‬من �أجل هذه ال�سماعة �س�أ�شرتي‬
‫كما ابتدعنا يف �صمتنا لعبة ( حم�صة تخرق اجليب)‪،‬‬ ‫م�سجال وا�ست�أجر قاربا وب�صحبة �أغاين لأبي بكر �سامل‬
‫حيث ن�ضع �أمامنا حفنة من احلم�ص املقلي‪ ،‬ويفتح‬ ‫�س�أق�ضي يوما ال مثيل له يف جزيرة بعيدة‪.‬‬
‫الثالثة �أفواههم‪ ،‬دون الإتيان ب�صوت‪ ،‬وهنا يبد�أ �أحدنا‬ ‫وقال �صاحب ال�سعادة الوكيل‪� :‬س أ� ّدخرها ل�سفرة مقبله‪،‬‬
‫مبحاولة �إدخال حم�صة يف كل فم‪.‬‬ ‫وهناك �أ�ستطيع �أن ا�ستمتع بال�سماعة‪ ،‬وحتى موعد‬
‫تهوي حبة احلم�ص يف الهواء قبل �أن ت�صطدم‪  ‬بجفن‬ ‫�سفري ذاك‪ ،‬ميكنني �أن �أ�ضعها يف �أذين كغطاء يقيهما من‬
‫�أحدنا �أو �أذنه �أو �أرنبة �أنفه ثم تقفز �إىل �شاربيه وذقنه‬ ‫�سماع �صوت �أحد‪.‬‬
‫غري املطوقني بال�شعر‪.‬‬ ‫‪�-‬أما �أنا ف�س�أعلّق عليها كل ما اعرتى حياتي ال�سابقة من‬
‫م�سحنا كل �شعرة يف وجوهنا املطبوعة بالتجاعيد‪ ،‬علينا‬ ‫ف�شل‪.‬‬
‫�أن نراوغ قدر االمكان ثقل الزمن الذي يكر حولنا دون‬ ‫‪� ‬أحكمت �إغالق املعنى يف ذهني وقذفت باجلمل ال�سابقة‬
‫توقف ويف تنا�سخ يندمج فيه الأم�س باليوم‪ ،‬والغد مبا‬ ‫عارية‪ ،‬وذلك حني حذفت ثالث نقاط كانت معلقة فوق‬
‫�شني ال�شماعة‪ ،‬حذفتها وتركت رفاقي معلقني بدورهم‬
‫بعده‪� .‬س�أ�ستثني هنا ال�ضابط الذي ترك م�سحة �شعر يف‬
‫يف الالمعنى‪ ،‬فثالث نقط �صغرية‪� ،‬أو حتى نقطة واحدة‪،‬‬
‫ذقنه واكتفي بحلق �شاربيه‪ ،‬وذلك لأنه كما يقول‪ ،‬ظل‬
‫كفيلة بتبديد املعنى الأ�صلي يف لغتنا‪ .‬مل �أظهر لهم‬
‫ينظر �إىل وجهه يف املر�آة طيلة �سنوات ق�ضاها يف عمله‬
‫تف�سريا‪ ،‬وبدورهم‪  ‬مل يبدو اعرتا�ضا‪ ،‬بل �أر�سلوا �إىل وجهي‪ ‬‬
‫حليق اللحية‪ ،‬وك�أنه ينظر �إىل جثة حليقة‪ .‬وذلك لأنه �سبق‬
‫ق�سمات جامدة ال حتمل تعبريا حمددا‪.‬‬
‫و�أن غ�سل �شابا ت�سبب يف موته �إثر مطاردة‪ .‬حدث ذلك‬
‫وكما ي�سعى راع ب�شياهه يف �صحراء �شا�سعة بحثا عن‬
‫يف بدايات التحاقه بعمله‪ ،‬وكان‪  ‬ال�شاب على ما يبدو يف‬ ‫كلأ‪ ،‬علينا �أال ندخر �أي طريقة متكننا من امل�ضي بحياتنا‪ ‬‬
‫عجلة من �أمره‪ ،‬ورمبا كان يق�صد موعدا مع فتاته‪ ،‬تدفعه‬ ‫دون �أن تكون عبئا ثقيال علينا‪ ،‬لذلك ف�إن �أحد �أهم الطرق‬
‫اللهفة وغري عابه بقوانني الطريق‪ ،‬ذقنه الأمل�س املبثوث‬ ‫التي ابتكرناها يف هذا ال�سبيل‪ ،‬هو التخلي نهائيا عن ثقل‬
‫ببودرة و�سائل المع كانت ت�ضفيان عليه حيوية ا�شتهاء‬ ‫املعنى‪ ،‬فاحلرب �ضد ال�صمت تقت�ضي جتريب كل الأ�سلحة‬
‫احلياة‪ ،‬فالت�صقت هذه ال�صورة يف ذهن ال�رشطي كلوحة‬ ‫التي ميكنها �أن حتدث �أدنى �صوت �أو انفعال‪.‬‬
‫للعذاب ما فتئت معلقة �أمام عينيه‪ .‬فما �أن يحلق ذقنه كل‬ ‫وقد بد�أنا نلتجىء �إىل تلك احليل حني �أو�شك الكالم �أن‬
‫�صباح يف طريقه �إىل ر�أ�س عمله‪ ،‬وهو ما يجب �أن يقوم به‬ ‫ينتهي من جل�ساتنا‪ ،‬و ال�صمت الثقيل �أن يتمكن منا‪ ،‬بل‬
‫�إجباريا‪� ،‬إال ويظهر له �أمام املر�آة طيف ال�شاب امليت وهو‬ ‫حتى تلك الألغاز الغام�ضة التي كنت �ألقيها‪ ،‬من �أمثلة‬
‫يغ�سله قبل طريقه ليدفن‪ ،‬ووجهه النا�صع احلليق‪ .‬لذلك‬ ‫ال�شماعة التي حولتها �إىل �سماعة‪ ،‬مل تعد مع الوقت‬
‫كان قراره الأول حني تقاعد هو �أن مي�سح ذلك الت�شوه يف‬ ‫�سالحا فاعال ميكنه �أن يك�رس �صالدة ال�صمت يف حياتنا‪.‬‬
‫ذهنه ب�إطالق ‪� ‬شيء من �شعر حليته‪.‬‬ ‫‪   ‬فالتج�أنا �إىل جمموعة من اللعب ميكنها �أن جترد‪  ‬ذلك‬
‫وتظل حبة احلم�ص تقفز بني وجه و�آخر �إىل �أن ت�ستقر يف‬ ‫اجلدار من معناه الثقيل وتلب�سه روح فرا�شة‪ ،‬فكنا نلج�أ‬
‫فم �أحدنا‪ ،‬وقد ي�ستغرق الأمر وقتا طويال‪ ،‬حيث �إننا كثريا‬ ‫�إىل بع�ض احليل الطفولية‪ ،‬ك�أن يطلق �أحدنا – يف غمرة‬
‫ما نتعمد قذف احلب بعيدا عن الهدف املفتوح‪  ،‬فتدور‬ ‫�صمت ثقيل‪ -‬عبارة ( �سكت اجلميع وتكلم احلمار قائال)‪ ‬‬
‫الدائرة على كل منا بني الفتح والقذف‪ ،‬ومن تقع يف فمه‬ ‫وكنا حينها مننح الإ�شارات طاقة كاملة للتعبري‪ ،‬ومن‬
‫حم�صة ف�إن عليه كذلك �أن يتكفل مب�صاريف ال�سهرة‪.‬‬ ‫يخطىء فينا ويتكلم‪�  ‬أو ي�أتي ب�أ ّنة �أو �أي حركة م�صحوبة‬

‫‪250‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫�شب الكوبّا‬
‫ْ‬
‫\‬
‫ن�ضال حمارنة‬

‫كانت يداي تتحركان بتوتر بالغ ‪ ،‬تت�شبثان بزوايا قائمة ‪،‬‬ ‫ليلتها كانت طيوري م�سائية ‪ ،‬والطيور امل�سائية دائم ًا‬
‫تقرتبان وتبتعدان مثل �ضلعي مثلث ‪ .‬لو كنت �س�ألتني ‪ »:‬ما‬ ‫ناع�سة �أو �سكرى ‪ .‬كان الأ�سود حا�رضاً بقوة ؛ دوائر داكنة‬
‫أرق�ص‬‫أجبتك دون تردد ‪� »:‬أن � َ‬‫أمنيتك يف الت ِّو واللحظة ؟» ‪ .‬ل َ‬ ‫� ِ‬ ‫عينيك و�ضياء ظلي امل�ستوي يف زاوية املكان ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حول‬
‫كنت �ستخفف ولو قلي ًال من نخز زوايا‬ ‫معك ‪ ».‬رمبا َ‬ ‫فال�س َ‬ ‫أعرفك منذ �ألف عام و�أكرث‬ ‫بدا الزمن يل متقل�ص ًا ‪ ..‬ك�أين � َ‬
‫ا�سرت�سلت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عظامي حني تفتل ج�سدي يف دوائر الهواء ‪ .‬لكنك‬ ‫‪� ..‬ألهذا تبادلنا التمايل نحو اليمني ونحو الي�سار باقرتاب‬
‫بكالم �آخر خمتلف ‪.‬‬ ‫مبهم ؟! قد نكون تالم�سنا بخفة ‪ ،‬ال�أذكر‪!..‬‬
‫كانت ال�سيا�سة قا�سم ًا م�شرتك ًا بيننا ‪ ،‬فقد �صنعت َ‬
‫منك‬ ‫«خم�س دقائق على الواقف ‪ ..‬ال تكفي ‪�« !!..‬أم كانت �ستكفينا‬
‫مقات ًال ‪ .‬و�صنعت مني املتمردة املنبوذة ‪ .‬الآن �أنت وحيد‬ ‫للتمايل نحو الأعلى والأ�سفل ‪!..‬‬
‫لكنك تعرب وتتجاوز‬ ‫لك جماعة ‪ ،‬ت�شبهني �إىل ح ٍد ما ‪َ ..‬‬ ‫لي�س َ‬ ‫أنك ت�شبه ا ُملغريين واملغامرين ‪ ..‬وبع�ض ال�سفلة ! وك�أين‬ ‫ك� َ‬
‫أزمتك تلتجئ دائم ًا‬‫كل يوم ف�ضاءات وم�آزق ‪ .‬وعندما ت�شتد � َ‬ ‫ال �أ�شبه حتى نف�سي ‪� ..‬أ�صابعي �ساخنة ‪ ..‬وعمودي الفقري‬
‫زلت �أمللم خ�ساراتي و�أعافر‬ ‫منبتك ‪ .‬بينما �أنا ما ُ‬ ‫َ‬ ‫�إىل بحر‬ ‫َ‬
‫أ�سبابك ‪.‬‬‫تل ّوى ‪ ..‬هكذا ‪ ..‬ب�‬
‫مرة �ألتجئ �إىل قعر نف�سي ‪ .‬هل‬ ‫مثل قاطرة بخارية ‪ .‬ويف كل ّ‬ ‫وا�صلت روحي ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫كان الأ�سود مو�سيقى ند َّية َ‬
‫أ�صبحت كما �سميتني « امر�أة من عوا�صم» ؟‬ ‫ُ‬ ‫أ�ضعت منبتي و�‬
‫� ُ‬ ‫« هل �سرياودين الكذب عن نف�سي ؟ �أم �سيكون م�ؤذن ًا فوق‬
‫يف ال�سيارة ال�ضيقة والرحبة ‪ .‬ب�رشا�سة قمعتني ومنعتني‬ ‫حوا�سي ال�ست !»‪.‬‬
‫فع�صت �سيجارتي قبل �أن �أ�شعلها ‪ .‬ارجتفت‬ ‫َ‬ ‫من التدخني ‪.‬‬ ‫معك (خم�س دقائقي)‬ ‫أخذت َ‬ ‫تركت يل نغم ًا عميق ًا و� َ‬ ‫بهدوء َ‬
‫غم�ضتك حارقة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فت نحو �أ�صابعي ‪.‬‬ ‫يدي ‪ .‬بلمح الب�رص ‪ ،‬تل ّه َ‬ ‫و�سافرت ‪.‬‬
‫و�أ�صابعي �سكاكني باردة ‪ .‬ت�شمم َتني ‪ .‬ف�رسى دفء رحيم‬ ‫***‬
‫عنك ‪.‬‬‫وابتعدت َ‬
‫ُ‬ ‫يف ج�سمي ‪ُ .‬‬
‫خفت‬ ‫أحر من الفلفل و�أل�سع ‪ ..‬ال�ضحكة‬ ‫َ‬
‫�سالمك � ّ‬ ‫َ‬
‫بوعدك ‪ ..‬كان‬ ‫جئت‬
‫َ‬
‫يل ؟!‬ ‫أتيت من حلم �شارد �ض َّل طريقه إ � ّ‬ ‫كم �أنت �ساحر ! هل � َ‬ ‫َ‬
‫‪ ..‬العبطة ‪ ..‬الإغارة ‪ ..‬التفا�ؤل املالزم لأ�سنانك ‪ ..‬يومها‬
‫خرجت من كتاب ممنوع من التداول ؟! �أجمل جالد ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫�أم‬ ‫قلمك �إال ع ّما �أب ّيته لنف�سي ‪ .‬ومل يت�سع املكان �أو‬ ‫مل يف�صح َ‬
‫تناق�ضك ‪ ..‬و�أنا �أخاف من �سيمياء‬ ‫َ‬ ‫�أجمل حنون ‪ ..‬يرعبني‬ ‫الزمان �إلاّ جلمل خمت�رصة وجريئة قلتها يل ‪.‬‬
‫اجل�سد وانتظارات لزوم ما يلزم ‪� .‬أخاف اللحظات احلارقة‬ ‫يف امل�ساء ان�شغل ع ّنا الأ�صدقاء ‪ ..‬فانطلقنا وحدنا ‪..‬‬
‫واملارقة واملاجنة التي تزحف يف اجللد واللحم ‪ ،‬لأن‬ ‫�سبقناهم �إىل املطعم ‪ ،‬لعلنا ننعم بلحظات مل نخطط لها‬
‫�شفافيتي ت�سحب �أغطيتها ‪.‬‬ ‫فطلبت َ‬
‫منك‬ ‫ُ‬ ‫بك على طريقتي ‪،‬‬ ‫‪ .‬كنت �سعيدة و�أنا �أحتفي َ‬
‫وتركت �أ�سو َد َك يرق�ص يف فجري‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ودعتني مع �صوت الأذان ‪،‬‬ ‫�أن تختار طاولتنا ‪� .‬أجل�ستني قبالتك يف زاوية بعيدة على‬
‫***‬ ‫ظهرك ال�رشفات البانورامية‬ ‫َ‬ ‫وتركت خلف‬‫َ‬ ‫حافة املطعم ‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بعد �شهر تغافلني عودتك مثل قبلتك ‪ .‬تهب�شني كن�رس طائر ‪..‬‬ ‫َ‬
‫والرواد اجلال�سني ‪ .‬ات�سعت �صورتك يف ب�ؤب�ؤ عيني ‪ ..‬فبدا‬
‫تتماهى مع ظلي ‪ ..‬ترفعني من متاعبي ‪ ..‬حتاول �أن تغمرين‬ ‫يل النا�س ‪ ،‬الطاوالت والكرا�سي ت�شكيالت هالمية متماوجة‬
‫(هيال يا وا�سع) ‪ .‬ت�ستوي ق�ضبان يدي وحتجب �رس اجل�سد‪.‬‬ ‫وممتدة ‪.‬‬
‫«ال ُتع ّمدين من جديد يا ‪ ....‬اح ْيني بال �رس مقد�س ‪ .‬ول ّون‬ ‫‪�-‬أنتِ �رصيحة ووا�ضحة جداً ‪.‬‬
‫بنف�سج قلبي ِب َر�شّ ة �أمان»‪.‬‬ ‫‪-‬ق�صدك مك�شوفة !‬‫َ‬
‫أحك خامتي �أرافقُ مارد‬ ‫الليلة يل وحدي ‪� .‬إذ قب َل �أن � َ‬ ‫لك �أرنب ًا جائع ًا يجه ُز نف�سه للق�ضم‬ ‫بدوت َ‬‫�ضحكت ‪ ..‬لأين ُ‬ ‫ُ‬
‫الفانو�س ال�سحري ‪ ،‬وبال �س�ؤال مينحني الفرح ‪ ..‬ي�ستعجلني‬ ‫‪ !..‬حينها مل تلحظ التنني املخنوق يف �صدري منذ �سنوات ‪.‬‬
‫‪251‬‬ ‫\ قا�صة من الأردن‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جديداً فتغدو الغرفة مثلث ًا و�أنا حم�شورة يف زاويته ‪� ،‬أدفع‬ ‫لأحيا ‪ ..‬لأطلق معه الألعاب النارية يف روح الليل ‪ .‬ع�رش ‬
‫بقدمي ‪ .‬تلتف الأ�شباح حول ج�سمي كله ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫احلائط الثالث‬ ‫�ساعات ‪� ..‬أخذنا الكالم معه و�أخذناه لنا مرات ‪� ..‬ضحكنا‬
‫ت�ستدعي ذاكرتي ‪� .‬أفق ُد ثقتي بج�سدي ‪ ..‬تفرت مقاومتي ‪.‬‬ ‫ودخنَّا كثرياً ‪ .‬كا�شفتني �أكرث مما ينبغي‬ ‫كثرياً و�رشبنا كثرياً َّ‬
‫ين‬‫فتبد�أ الأ�شباح بو�ضع الأقفال على مفا�صلي و�شَ عري ‪� ،‬أذ َّ‬ ‫وكا�شفتك من بعيد لبعيد مثل جنمة مثرية تلمع يف �رساب‬ ‫َ‬ ‫‪.‬‬
‫يف‬ ‫‪ ،‬رمو�شي ‪ ،‬رقبتي ‪� ،‬رستي ‪� ..‬إىل �أ�صابع قدمي ‪ ..‬كل ما َّ‬ ‫أجيبك ‪� ..‬أ�سئلة يف وقتها املنا�سب‬ ‫ال�صحراء ‪ .‬ت�س�ألني و� َ‬
‫أنت تفك الزر‬ ‫ي�صبح ثقي ًال حتى دمي ‪� ..‬أتراكم مثل قفَّة ‪ .‬و� َ‬ ‫و�أي�ض ًا يف غري وقتها مثل التدفق الأ�سود املت�ألق حول‬
‫قدمي ‪ .‬ت�ستنفر ‪ ،‬تثني‬ ‫أنت وع�شقته �أنا ‪.‬‬ ‫جفنيك ‪ ،‬لون يف غري مو�ضعه ‪� ..‬أ�ست�أن�سته � َ‬
‫الرابع ‪ ..‬تتحالف جموع الأ�شباح �أمام َّ‬ ‫أمازحك ‪ (....‬لو تعرف ! �أن �أجمل �شب يف العامل هو �شب‬ ‫َ‬ ‫�‬
‫يف ما تبقى من �أقفالها ‪..‬‬ ‫�ساقي ‪ ،‬ت�ضغط ‪ ،‬ت�شتم ‪ ،‬حت�رش َّ‬ ‫ّ‬
‫يجتاحني خدر القهر ‪� .‬أ�صاب بجلطة االغت�صاب ‪ ..‬ب�سكتة‬ ‫الكو ّبا ‪. )..‬‬
‫عيناك كامريا �سينمائية تلتقط �صوراً حلركات‬ ‫َ‬ ‫تتبعني‬
‫اللذة الأبدية ‪ ..‬يتفحم رحمي من الإهانة ‪.‬‬
‫ج�سدي الع�صبية الذي ال يعرف اال�سرتخاء‪ ..‬وكيف �أطلق‬
‫ جبال قلبي تغمرها الثلوج و�سفوحه براري �صنوبر تنتظر‬
‫�ضحكة ه�ستريية ثم �أنو�س فج�أة ‪ .‬ت�ؤنبني ‪ ..‬وت�ستغرب‬
‫ذئبها احلنون ‪ ..‬تقرتب مني ‪ ،‬ت�ستلقي بجانبي ج�سداً عظيم ًا‬ ‫ت�أجيل �إجنازي ‪ ،‬ا�ستهتاري بوقتي ‪..‬‬
‫�صدرك كطفلة �شاخت عيناها‬ ‫َ‬ ‫أحن على‬ ‫�شا�سع ًا بال نهاية ‪ُّ � .‬‬ ‫«دلوعة « ‪.‬‬
‫�سك ‪ .‬يدمدم �شاربك خلف �أذين ‪ .‬نب�ض ال يرد‬ ‫‪� .‬أخفقُ يف تل ّم َ‬ ‫وتقرر يل ‪ ..‬كيف �أمار�س تفا�صيل حياتي اليومية ‪ ..‬دكتاتور‬
‫بقبلتك ‪ .‬ي�ضطرب فمي ‪ .‬ت�ست�شعر‬ ‫َ‬ ‫ال�صدى ‪ُ .‬تد ِر ُك روحي‬ ‫ُمطلق ‪ ،‬يت�سلط من �أجل �إجنازي ‪ ،‬و�أنا ال �أناق�ش ‪ ،‬ال �أعرت�ض‪،‬‬
‫خفوتي ‪ ،‬عطبي ‪ ..‬و�أنا ال �أقدر على القيام �أو اال�ستلقاء ‪.‬‬ ‫�أكتفي بـ(طيب ‪ ..‬خل�ص ‪. )..‬‬
‫أنفا�سك ‪ ،‬ت�ساهم يف روحي برائحتك ‪ ،‬تت�أملني ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫متل�ؤين ب�‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ ونحن ن�صعد الدرج الطويل ‪� .‬سبقتك قليال ‪ ،‬لأختلي بنف�سي‬
‫ج�سدي هرم �صغري مم�سو�س بكهرباء اخلوف ‪ ،‬ينوء بالأقفال‬ ‫عليك ‪ ،‬لأقنعها بجدوى و�أهمية‬ ‫و�أخفف ارتباكها ‪ ،‬لأ�شجعها َ‬
‫باملثلثات املتداخلة ‪ ،‬بتكتكة تلخبط ح�ضور الرغبة ‪.‬‬ ‫اجتياز كل درجات العمارة املرهقة �إىل ال�شقة الأعلى ‪.‬‬
‫جتلدين ذكورتك الفائ�ضة ‪ ،‬و�أنا « �أري ُد �أن �أري ْد ! « وال �أ�ستطيع‬ ‫« �س�أقر�شه مثل حبة عنب ‪ .‬و�س�أطلب منه �أن ي�سحب ري�شاتي‬
‫لك ملف ج�سدي ‪ ،‬تقر�أ ما ت�سترَّ ‪ .‬تتعاطف معي‬ ‫‪ .‬يتك�شف َ‬ ‫ري�شة ري�شة وي�ضمها باقة يف الأ�صابع ‪� ..‬أن يكيل ن�ساءه‬
‫‪ ،‬ينفعل وجهك بعدوانية جتاه ي�أ�سي و�إحباطي ‪ ..‬ينح�رس ‬ ‫مبكيال ‪ ،‬ويكيلني مبكيال �أحمق ‪ ،‬لأين امر�أة خائبة ‪. »......‬‬
‫ال�سواد عن اهليلج عينيك ‪ ..‬ت�صمت املو�سيقا ونحن نعي�ش ‬ ‫فردت ال�ستارة البي�ضاء وجل�ست على طرف‬ ‫�أغلقت النافذة ‪ُ ،‬‬
‫اللحظة املغلقة ‪ .‬يرهقني تف ُّهمك ‪� ..‬أخفي وجهي يف �ضلوعي‬ ‫ال�رسير يف زاوية الغرفة ‪.‬‬
‫و�أ�سحب دموعي �إىل الداخل ‪.‬‬ ‫‪-‬اخلعي حذاءك لرتتاحي ‪.‬‬
‫‪�-‬أنا �آ�سفة ‪..‬‬ ‫‪-‬بعد �أن �أدف�أ قلي ًال ‪.‬‬
‫يدك على فمي ‪ ،‬تقتحم �شفتي ‪ ..‬تعنِّفني ‪ ..‬ترتي جم ًال‬ ‫ ت�ضع َ‬ ‫أغطيك ‪.‬‬
‫‪�-‬س� ِ‬
‫ألتك �أن تطفئ النور ‪.‬‬ ‫بلطفك احلار ترد باب الغرفة ‪� .‬س� َ‬ ‫َ‬
‫�رسيعة متالحقة ‪ ..‬ت�ستهجن �أ�سفي ‪ .‬ت ِرقُّ �رسيع ًا ‪ .‬يتموج‬
‫انعك�س �ضوء ال�شارع على النافذة العري�ضة وبدت ال�ستارة‬
‫ال�سواد من جديد ‪ ،‬يتعمق ‪ ،‬يدكن ‪ .‬حتنو على ظهري ‪ ،‬تغمره‬
‫�أكرث بيا�ض ًا ‪.‬‬
‫�صدرك الوا�سع ‪ ،‬فيعلو زفريه املجنون ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بيدك ‪� .‬أمي ُل نحو‬
‫نقط ال�ضوء نقو�ش �صغرية متناثرة على جبهتك املرتقبة‬
‫ثديك الأي�رس ‪ ،‬يتك ّور ‪ ،‬تتدىل‬ ‫ينتفخ َ‬‫ُ‬ ‫يرف �شعره الكثيف ‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ثنايا ذقنك احلليقة مبهارة ‪ ،‬تك�شف وجل ما قبل‬ ‫‪ ،‬على‬
‫حلمته ‪ ،‬تدر حليب ًا بطعم دب�س اخلرنوب ‪ .‬تفي�ض �أ�صابعك‬ ‫َ‬
‫أ�سئلتك‬ ‫َ‬
‫و�شفتيك و�‬ ‫َ‬
‫�شاربك‬ ‫اقرتابك مني ‪ ..‬هواج�س مت�س‬
‫رحمة �ساحرة تخلخل �أقفال ج�سدي وحت ِّولها رويداً رويداً‬ ‫َ‬
‫جفنيك ‪.‬‬ ‫اخلافتة ‪ .‬تتهادى �إىل �أذين دندنات �ساخنة من‬
‫�إىل �أوراق بي�ضاء ‪.‬‬ ‫َ‬
‫وجهك ‪ .‬تتهي�أ خللع قمي�صك يف ركن‬ ‫َ‬ ‫ت�ستدير ‪� .‬أملح طرف‬
‫�شب الكو ّبا ‪ :‬هو ال�شاب �صاحب القلب الأحمر يف �أوراق‬ ‫الغرفة البعيد ‪.‬‬
‫الكوت�شينة �أو ورق اللعب ‪.‬‬ ‫أنت تفك الزر الأول ‪ ..‬تباغتني �أ�شباح ال ت�شبه الظالل ‪،‬‬ ‫و� َ‬
‫هيال يا وا�سع ‪� :‬أغنية للفنانة فريوز‬ ‫تلج من حفيف ال�ستارة البي�ضاء ‪ ،‬من خلف احلائط املوازي‬
‫كاتبة من الأردن‬ ‫لل�رسير ‪ ،‬من ال�سقف ‪� ..‬أحجامها غري متنا�سقة ‪ ،‬متاثيل تعوم‬
‫ ‬ ‫يف الهواء ‪ ..‬تخفق حول ر�أ�سي ثم تن�صب �أمامي حائط ًا‬
‫‪252‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫من �أعمال رحمة الهادي‪ُ -‬عمان‬

‫�شجر ُة ال ّنا ِرجن‬


‫العجوز‬
‫\‬
‫عبداهلل خليفة الغافري‬

‫بالطني‪ ،‬وكانت تبحث بدقة عن �شيء ما‪.‬‬ ‫ا�ص ًة بانتظام ٍ يف احلَقل الوا�سع‪.‬‬ ‫كانت الأ�شجار ُمترَ َّ‬
‫كانت رائحتها تنت�رش بني الأحرا�ش وتتغلغل عرب احلقل‪.‬‬ ‫مل َتنوعة َتنت�رش يف �أرجاء احلقل‪.‬‬‫ُ�سالالت من الأ�شجار ا ُ‬
‫رائحة ال ّنارجن كانت تنت�رش بني الأ�شجار وتتجاوز‬ ‫ليمون‪ ،‬فُر�صا ٌد‪�َ ،‬سفَرجل‪ ،‬و�شخاخ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫نخيلٌ‪،‬‬
‫�سِ ياج احلقل امل�صنوع من طني ونباتات �شوكية ياب�سة‬ ‫عال َ�شجر ُة‬
‫ب�شموخ ُم َت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫يف منت�صف احلقل متاما وقفت‬
‫و�أع�شاب و�أ�شياء مهملة‪ .‬وكان ميكن َ�ش ّم رائحة النارجن ‬ ‫ذعها َ�ضخم‪ ،‬وفُروعها املَتينة‬
‫«نا ِر جْن» هائلة احلَجم‪ِ .‬ج ُ‬
‫من م�سافات بعيدة ومن حقول بعيدة‪.‬‬ ‫ممُ تدة يف كل االجتاهات‪ .‬بع�ض الأغ�صان ُعلّقت عليها‬
‫كانت العجوز مت�شي بج�سدها املُمتلئ يف الثوب‬ ‫ال�ضخم ممُ تلئ‬‫�أراجيح ب�سيطة من احلِبال‪ِ .‬جذعها َّ‬
‫الرمادي الف�ضفا�ض الذي َتلطَّ َخ طَ رفه ال�سفلي بالطني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتتو ّزع عليه ُحزو ٌز من �آثار �أ�شياء متنوعة ُربطت وفكّت‬
‫مت�شي بتثاقل ور�أ�سها وجذعها مائل �إىل الأمام قليال‬ ‫منذ زمن‪.‬‬
‫حلفَر ال�صغرية جدا‪ .‬بدت مثل قائ ِد‬ ‫وخلفها َ�ص ٌّف من ا ُ‬ ‫كانت تمَ �شي ب َتثاقل عرب الرتاب املُبت ّل باملاء‪ ،‬تنتقل‬
‫رب عجوز ووقور مي�شي بهدوء ليتفح�ص �أر�ض ‬ ‫َح ٍ‬ ‫بخطواتها الثقيلة بني الأ�شجار ‪ .‬تركز ُعكّازها ال�ضخم‬
‫املعركة ويتبعه جي�ش من النمل الأ�سود‪.‬‬ ‫الباهت اللون امل�صنوع من �شجرة العتم على الأر�ض‪.‬‬
‫الرمادي‬‫كانت العجوز ال تزال مت�شي يف ِردائها َّ‬ ‫كان طرف العكاز يغو�ص داخل الرتاب الطّ يني وتنزعه‬
‫الفَ�ضفا�ض عابِر ًة بني الأ�شجار ال�صغرية والكبرية‪،‬‬ ‫بقوة رافع ًة � ّإياه �إىل الأعلى قليال وملوحة به �إىل الأمام‬
‫َتخرِقُ الطّ ني ب ُعكّازها وهي ُمط ِرق ٌة بر�أ�سها َ�صوب‬ ‫تح�س�س الف�ضاء حذرا من �شيء ما‪ ،‬كما يفعل‬ ‫لكي َت ّ‬
‫الأر�ض بدون �أن ترى �شيئا‪ .‬كانت َمالحمها جامدة‬ ‫ال ُعميان‪ ،‬وقد َخلّفت بفعل عكازها ُحفَرا �صغرية جدا‬
‫رماديتان باهِ َتتان‪ ،‬وتتن ّف�س ب�صعوبة‬ ‫ّ‬ ‫وعيناها‬ ‫على امتداد الطريق التي �سارت فيها‪ .‬كانت مت�شي‬
‫و�شفتاها متقو�ستان مثل هالل مقلوب‪ .‬تو ّقفت فج�أة‬ ‫الرمادي الفَ�ضفا�ض الذي َتلطّ َخ طرفه ال�سفلي‬ ‫بثوبها َّ‬
‫‪253‬‬ ‫\ قا�ص من ُعمان‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و�س َمحت‬‫‪s‬‬
‫أغم�ضت عينيها قليال َ‬ ‫نارجن كبرية قليال‪َ � .‬‬ ‫أ�صدر‬
‫ري�ض و� َ‬ ‫خ�شبي َع ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫بعد �أن �ضرَ ب ُعكّازها على �شيء‬
‫للرائحة الن ّفاذة للنارجن النا�ضج �أن تنفذ �إىل �صد ِرها‪.‬‬ ‫ِطام‬
‫ني ال�سرّ يع الذي �أح َدث ُه ارت ُ‬ ‫الرن ُ‬ ‫رني ًنا خفيفا‪َ .‬ب َدا ّ‬
‫ال�شابة ب�أطراف‬ ‫ال�شجرة ّ‬ ‫وحت�س َ�ست ِجذع ّ‬ ‫ّ‬ ‫رفعت كفَّها‬ ‫يع ِجدا‬ ‫ني ببع�ضهما َ�شبيها ب ٍ‬
‫ِحوار�سرَ ٍ‬ ‫بي ِ‬ ‫ن�رصين اخل ََ�ش ّ‬
‫ِ‬ ‫ال ُع‬
‫�أ�صابعها وو�ضعت كفَّها على جذع ال�شجرة‪.‬كانت رائحة‬ ‫فهوم بني �شخ�صني ُمتق ّدمني يف ال ُعمر‪.‬‬ ‫ولكنه َم ٌ‬
‫النارجن ترتاق�ص �أمام الأنف وتخفُت و َت�ش َتد وتقرتب‬ ‫َب َدت الآن رائحة ال ّنارجن وا�ضحة جدا يف �أق�صى حاالت‬
‫و َتبتعد وك� َّأن الرائحة كانت تحُ اول �أن تقول �شيئا‪.‬‬ ‫انت�شارها يف الف�ضاء‪ ،‬وبدت �أقرب �إىل العجوز مما كانت‪.‬‬
‫ِكريات عن زوجها املُتوفيّ ‬ ‫ٍ‬ ‫وكانت الرائحة تجَ لِب لها ذ‬ ‫ها هي الآن يف ُمواجهة �شجرة النارجن الهائلة‪� .‬إنهما‬
‫منذ �سنوات طويلة وعن ابنِها الوحيد الذي تنتظره منذ‬ ‫متقابلتان‪ .‬تق ّدمت منها قليال لكي تلم�سها بيديها‪.‬‬
‫�أ�شه ٍر طويلة‪ .‬وبينما هي يف هذا الو�ضع من الإغما�ض ‬ ‫ال�شجرة‪ .‬الرائحة ال َن ّفاذة للنارجن ‬ ‫ها هي الآن يف ُمواجهة ّ‬
‫وال ّتذكر‪ ،‬وما زالت عيناها مغم�ضتني وكفُّها على جذع‬ ‫تعرب الف�ضاء �إىل وجه العجوز‪ .‬كانت الرائحة تعرب بدقة‬
‫أ�صابع نحيلةٍ تلم�س كتِفها من‬ ‫َ‬ ‫أح�ست ب�‬ ‫ال�شجرة‪� ،‬إ ْذ � ّ‬ ‫وك�أنها خيوط تنفذ عرب �أنف العجوز �إىل �أعماق ر�أ�سها‪،‬‬
‫اخللف‪،‬ثم َحطَّ ْت َي ٌد خفيف ٌة على كتفها‪.‬‬ ‫وتنفذ �إىل الذاكرة‪.‬ال ّذاكرة املَح�شود ِة بالب�رش وال ّدواب‬
‫يقف‬
‫نحيل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ج�سم‬
‫ٍ‬ ‫َ�ش َهقت وال َتف َتت بِحركة عنيفة �إىل‬ ‫عرفُها �إىل‬ ‫خا�ص‪ ،‬كانت الرائحة ُت ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫والأ�شجار‪ .‬وعلى نحو‬
‫خلفها مبا�رشة‪ .‬خالل ثوان قليلة كانت �شفتاها‬ ‫اخلا�صة ِجدا‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫حلظاتِها‬
‫تنتف�ضان وج�سمها يرتع�ش وعيناها تنفتحان على‬ ‫الريحة من بعيد‪.‬‬ ‫‪ -‬امي ريحة النارجن قوية‪� .‬أنا َ�ش ّميت ِّ‬
‫حارةٍ وكبرية جدا‪َ .‬ب َد ْت كلُّ مالمح احلزن والبكاء‬ ‫دمعة َّ‬ ‫‪ -‬هيه َو ْلدِي‪ .‬ما ت�شوفها النارجنة كبرية واجد‪.‬‬
‫مندفعة من وجهها وج�سمها ب�شكل قوي ومنطلقة فج�أة‬ ‫‪ -‬يعني اماه يوم �أ�شِ مها �أعرف �إين قريب من البيت‬
‫ال�س ُّد ووجد الآن اللحظة‬ ‫رصه ّ‬ ‫مثل وادٍ عظيم ٍ كان َيح� ُ‬ ‫واجد؟‬
‫بكاء م� ّؤجل �أكرث من مرة‬ ‫املنا�سبة لكي ينفجر‪ .‬ك�أنه ٌ‬ ‫توها نا�ضجة اليوم‬ ‫‪ -‬هيه ولدي‪ .‬تعال �أقطفلك نا ِرجنة ّ‬
‫وها هو الآن ينفجر‪.‬‬ ‫وزاهبة حل الأكل‪ ،‬ع�شان تعرف طَ عمها الأ�صلي‪ .‬طَ عمها‬
‫جل�سدها ف�إنه مل َيخرج منها غري‬ ‫رغم ال ّتعبريات الكثري ِة َ‬ ‫ما تقدر تن�ساه‪.‬‬
‫كلمة واحدة « ‪َ ..‬و ْلدِي‪»...‬‬ ‫الرمادي الف�ضفا�ض َتق ُِف ال َآن �أمام جذع‬ ‫العجوز بِثوبِها ّ‬
‫طوقه بقوة‬ ‫وارتمَ ت عليه تغر�س يديها يف ج�سمه‪ ،‬و ُت ّ‬ ‫ال ّنا ِرجنة املُمتلئ ذي احلُزوز‪ .‬وخيوط رائحة النارجن ‬
‫كبرية كما لو �أنها خائفة �أن يختفي اذا �أفلتته‪ .‬وهي‬ ‫تعرب الف�ضاء بينهما وتنفذ �إىل عقلها‪ .‬اقرتبت العجوز‬
‫يف نوبة االحت�ضان والبكاء انتبهت فج�أة اىل وجهه‬ ‫وتتح�س�سها‬
‫َّ‬ ‫ال�شجرة وك�أمنا تريد �أن تلم�سها‬ ‫�أكرث من َّ‬
‫ال�شاحب وعينيه املرهقتني وج�سمه املتعب جدا وك�أنه‬ ‫ّ‬ ‫جلذع املت�ش ّقق‬ ‫مت�سح بيدِها على ا ِ‬
‫ُ‬ ‫بِد ّقة‪ .‬لمَ ََ�ستها‪ ،‬وكانت‬
‫خارج من مذبحة‪ .‬وقبل �أن ت�س�أله انتبهت اىل بقعة دم‬ ‫ب ُهدوء وبِرتكيز وب ُبطء‪ .‬كانت �أطراف �أ�صا ِبعِها مت�شي‬
‫بال�سواد يف‬ ‫ُقب محُ اط َّ‬ ‫قرب كتفه اليمنى تنت�رش حولَ ث ٍ‬ ‫الرطبة يف اجلذع‪ .‬وكانت ال ّذاكر ُة‬ ‫ببطء على ال�شقوق ّ‬
‫د�شدا�شته ا ُ‬
‫ملغبرَ َّ ة‪.‬‬ ‫بحذر وتركيز‪ .‬كانت ال ّذاكرة مت�شي‬ ‫ٍ‬ ‫مت�شي مع الأ�صاب ِِع‬
‫الرمادي الف�ضفا�ض َتق ُِف‬ ‫ما زالت العجوز ِبثو ِبها ّ‬ ‫يوم قائظٍ بعيد‪..‬‬ ‫بها �إىل ٍ‬
‫حلزوز‪ .‬تقف‬ ‫ال َآن �أمام جذع ال ّنا ِرجنة املُمتلئ ذي ا ُ‬ ‫باحي ُم َبك ٍر كعادتها بني �أ�شجار‬ ‫�شاط َ�ص ّ‬ ‫كانت مت�شي ب َن ٍ‬
‫الرمادي‬ ‫هناك بكامل �شيخوختها النا�ضجة يف ثوبها َّ‬ ‫طوات ن�شيطةٍ ‪ ،‬و�ساقاها‬ ‫بخ ٍ‬ ‫احلَقل املُتباعدة‪ .‬كانت تمَ �شي ُ‬
‫الرطب‬ ‫ال�سفلي بالطِّ ني ّ‬ ‫الف�ضفا�ض امللطَّ خ طرفه ّ‬ ‫وا�ض ًحا على �أخاديد احلقلِ‬ ‫أثر َنعلِها ِ‬ ‫مان � َ‬ ‫ر�س ِ‬ ‫ابتان َت ُ‬ ‫ال�ش ّ‬
‫ّ‬
‫أطراف �أ�صابعها‪.‬وتتذكر اليوم‬ ‫ح�س ُ�س جذع النارجنة ب� ِ‬ ‫و َت َت َّ‬ ‫أ�شعة ال�شم�س تت�ساقط بني �أوراق‬ ‫وعلى الترّ اب املُبتل‪ّ � .‬‬
‫قررت‬ ‫ال�سنوات‪ .‬اليوم الذي ّ‬ ‫الذي م�ضت عليه الكث ُري من ّ‬ ‫الأ�شجار الكبرية وترتك ُب َقعا من الظِّ ل على تراب احلقل‬
‫فيه �أن تنتقل من بيت زوجها املُتوفيّ مع ابنها الوحيد‬ ‫ال�سعف‬ ‫فري من ّ‬ ‫َروي باملاء منذ ُ�س َويعات‪ .‬يف يدها َق ٌ‬ ‫امل ِ‬
‫اىل احلقل الذي ورثته من �أبيها الذي و ِرثه من �أبيه‪.‬‬ ‫الرقبة محُ اطة‬ ‫ق�ش بعِدة �ألوان فاقِ عة‪ .‬وفتح ُة ّ‬ ‫وثو ُبها ُمبرَ ٌ‬
‫زوجها الذي مل ي�صلها منه �إال ثوبه الأبي�ض وعِ مامته‪ .‬ما‬ ‫ُ‬ ‫أرجواين َب ّراق‪.‬‬‫بخيوط حريرية ملّاعة ذات لون � ُ‬
‫فن يف اجلبل االخ�رض بني‬ ‫تبقى منه‪ -‬كما �أخربوها‪ُ -‬د َ‬ ‫لت �إىل منت�صف احلقل توقفَّت عند �شجرة‬ ‫و�ص ْ‬ ‫وحني َ‬
‫‪254‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫‪s‬‬ ‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص ‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الفرا�ش الذي كانت ترقد عليه جثة االبن جامدة وباردة‪.‬‬ ‫عنيف للطائرات على‬ ‫ٍ‬ ‫َ�صف‬
‫جل َبلي بعد ق ٍ‬ ‫أحرا�ش الر ّمان ا َ‬
‫ُّ‬ ‫�‬
‫كان مغم�ض العينني وتلوح يف فمه ابت�سامة غريبة‪.‬‬ ‫املقاتلني الثائرين والأ�شجار اجلبل ّية‪.‬‬
‫ل�شخ�ص يتل ّذذ بطَ ع ِم‬‫ٍ‬ ‫وكانت حركة �شفتيه تبدو ك�أنها‬ ‫لتقرتب �أكرث من َ‬
‫�شجرتِها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َم َ�ش ْت العجوز �إىل الأمام ب ُبطء‬
‫حام�ض يف فمه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫�شي ٍء‬ ‫� َأح َّ�ست بقدمها تدفع �شيئا ما ُم َد ّورا و�صغريا‪ .‬تدحرجت‬
‫احلمى وكذلك الهذيان‪.‬‬ ‫طِ وال الأيام التالية انتقلت �إليها ّ‬ ‫نارجن نا�ضجة كانت واقعة على الأر�ض ‬ ‫ٍ‬ ‫�أمامها ثمر ُة‬
‫ابن خالها وزوجته كانا يحاوالن �إفهامها ما يقولونه‪،‬‬ ‫منذ ُم ّدة بدون �أن ينتبه �إليها �أحد لي�أكلها‪ .‬وبينما‬
‫ولكنها كانت ال ت�سمع غري جمل متقطعة كل مرة‪:‬‬ ‫رب الف�ضاء ب ِدقّةٍ ‪ ،‬كانت ال ّذكرى‬ ‫ُخيوط رائحة النارجن تع ُ‬
‫«يا اختي الولد انتقل لرحمة ربه وما جتوز عليه غري‬ ‫رب �إىل املا�ضي وت ّت ِ�ض ُح �أكرث‪..‬‬ ‫تع ُ‬
‫الرحمة‪ ...‬ال تف�ضحينا تراه ال�شيخ بعده ما عرف ال�سالفة‬ ‫« َو ْلدِي‪ ،»..‬و�س َقطَ فج�أة على الأر�ض‪ .‬ا�ستطاعت �أن َت ّلم‬
‫‪ ..‬قريب بيجو نا�س من احلكومة ي�س�ألوا عنه‪ ..‬ولدك كان‬ ‫وت�ستنجد ب�أحد اجلريان الذي ي�صري ابن‬ ‫ِ‬ ‫ا�ضطِ رابها‬
‫�شابة‬
‫يف جي�ش احلكومة وهرب عنهم واحلرب بعدها َّ‬ ‫خالها‪ .‬ظل الَول ُد يرتعِ�ش باحلمى يومني وليلتني‪ .‬كان‬
‫نتلوم يوم‬ ‫يف ظفار‪ ...‬الولد ما مال حرب‪ ..‬ال تخلينا ّ‬ ‫ينام وي�صحو با�ضطراب وال يكادون يتبينون �شيئا من‬
‫د‪ ...‬ال تو ّرطينا كلّنا‪َ ..‬خلّينا‬
‫َ‬ ‫ما بلغنا عنه يوم رجع �شا ِر‬ ‫هذيانه‪ .. « :‬ريحة الدخان قوية‪ ..‬اال�شجار حترتق‪ ..‬احمد‬
‫أح�سنل�ش»‪.‬‬ ‫ندفنه هنا يف ذا املكان عِ ّدالِ�ش � َ‬ ‫و�سعيد تف ّتتوا وانا �شفتهم‪ ..‬العقيد توما�س يتم�سخر‪..‬‬
‫بو�ضوح �أكرث يف احلقل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ف�شى الآن‬‫رائحة النارجن َت َت ّ‬ ‫االر�ض تنفجر عِ ّدالنا‪ ..‬ما اريد احارب‪ ..‬اقدر ارك�ض ‬
‫ال�صبح التي ت َّت�سع رويدا رويدا يف‬ ‫�شم�س ّ‬‫ِ‬ ‫وتنت�رش مثل‬ ‫بعيد‪ ..‬الزم �أرك�ض بعيد‪ ..‬جمرة يف كتفي‪ ..‬اريد اعرف‬
‫ال�ساعات‪.‬‬ ‫مرت ّ‬ ‫املكان وتت�ضح �أكرث كلما ّ‬ ‫�صوبني‪� ..‬سامل؟‬ ‫من خلّوه ي�رضبني يف ظهري‪ ..‬من ّ‬
‫ابتعدت العجوز عن �شجرة النارجن‪ ،‬وبد�أت مت�شي مرة‬ ‫نا�رص؟ حميد؟‪ ..‬عيب عليهم‪ ..‬حرام‪ ..‬حرام»‬
‫الف�ضفا�ض مف ِّت�شة عن‬
‫ُ‬ ‫�أخرى بتثاقل يف ثوبها الرمادي‬ ‫كان ج�سمه النحيل ينتف�ض داخل غرفة الطني طوال‬
‫�شيء ما يف احلقل‪.‬‬ ‫اليومني مثل ري�شة يف الريح‪.‬‬
‫كانت مت�شي بخطى ثقيلة كما لو �أنها تجَ ُّر معها �سني َنها‬ ‫وخلطات‬
‫ُ‬ ‫أع�شاب‬
‫ُ‬ ‫عويذات ابن خالها و�‬ ‫ُ‬ ‫مل ُتفلِح �أدعِ ي ُة و َت‬
‫املا�ضية التي َق َ�ضتها يف ال َعمى واالنتظار والوحدة‬ ‫زوجته يف عالجه‪.‬‬
‫وال ّتذكّ ر‪ .‬كانت مت�شي يف �أر�ض احلقل التي ان َت�رشت‬ ‫يف الليلة الثانية فتح عينيه وجل�س على الفرا�ش ‬
‫بع�ض الأع�شاب‬ ‫عليها �أخاديد و ُبروزات خمتلفة عليها ُ‬ ‫وهو يبت�سم وقال لأمه بهدوء‪�« :‬إمي �أريد ثمرة نارجن ‬
‫ال�صغرية‪.‬‬ ‫نا�ضجة‪ ..‬نزين؟ ‪ ..‬جيبيلي تو نارجنة �إمي‪ ..‬جيبيلي‬
‫وج ُه العجوز املَليء بال ّتجاعيد التي ُت�شبه ُ�شقوقا يف‬ ‫توها نا�ضجة اليوم وزاهبة حل الأكل» ‪َ .‬خ َرجت‬ ‫نا ِرجنة ّ‬
‫تبحث و ُتف ّت�ش ‬
‫ُ‬ ‫طني قدمي‪ ،‬ما زال َيختلِج بينما هي‬ ‫جدا ِر ٍ‬ ‫تبع رائح َة النارجن النفاّذة ذاهب ًة‬ ‫تخبط يف احلقل‪ ،‬و َت ُ‬ ‫َت ّ‬
‫يف احلقل عن �شيء ما ُم�ستخد َِم ًة ُعكا َزها و�أنفَها معا‪.‬‬ ‫ريح خفيفة تلم�س �أغ�صان‬ ‫ال�شجرة‪ .‬كانت ٌ‬ ‫يف اتجّ اه ّ‬
‫حني و�صلت اىل زاوية يف �أق�صى احلقل‪�َ ،‬ضغطَ ت هناك‬ ‫ال�صمت‬ ‫النخيل والأ�شجار و ُت�صدِر َحفيفا خفيفا و�سط ّ‬
‫رابي ب�سيط ُيو�شك �أن َي َتوارى‪َ .‬ت�س ُقطُ‬ ‫روز ُت ّ‬
‫بعكازها على ُب ٍ‬ ‫يفية‪.‬‬
‫ال�ص ّ‬ ‫املُطبِق للّيل ِة ّ‬
‫على ُركبتيها فوق تلك البقعة البارزة من الترّ اب‪ .‬ي�سقط‬ ‫أغ�صان النارجنة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كانت َي ُدها املُرتع�ش ُة مرفوع ًة اىل �‬
‫عكازها بعيدا عنها‪ .‬ال متد يدها لتبحث عن العكاز كما‬ ‫ونحي ُبها الذي حتاول �أن َتك ُتمه َيعلو و َي َتخافت مع‬
‫لو �أنها مل تعد بحاجة �إليه‪ .‬ت�سقط على املكان البارز من‬ ‫مت�سح‬‫�أ�صوات الريح واحلفيف‪ .‬وكانت باليد الأخرى َ‬
‫جهها فَوقه‪.‬‬ ‫احلقل وتغرز �أ�صابعها يف ُترابه و َت�س ُقطُ ب َِو ِ‬ ‫موعها لكي ت�ستطيع �أن ترى ثمار النارجن النا�ضجة‬ ‫ُد َ‬
‫َ�ضفا�ض ينت�رش فوق هذا املكان‬ ‫ُ‬ ‫الرمادي الف‬ ‫ثَو ُبها ّ‬ ‫جيدا‪.‬‬
‫البارز و ُيغطّ يه اىل ح ّد �أنه َيختفي ب�أكمله ِحتت ثَوبها‪.‬‬ ‫حني عادت حاملة ثمرة نارجن واحدة نا�ضجة‪ ،‬دخلت‬
‫تتحرك‪ ،‬وكان ج�سمها البارد واجلامد ملقى على‬ ‫ّ‬ ‫مل تعد‬ ‫�إىل الغرفة املليئة بال�صمت‪ .‬وقفت عند باب الغرفة‬
‫ف�شى َحولَه يف ك ّل‬ ‫ذلك املكان البا ِر ِز ورائح ُة ال ّنارجن َت َت ّ‬ ‫تنظر �إىل الداخل‪ .‬ارتخت يدها و�سقطت ثمرة النارجن ‬
‫االتجّ اهات‪.‬‬ ‫النا�ضجة و�أخذت تتدحرج حتى توقفت عند حافة‬
‫‪255‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‬
‫ور�ؤى‬

‫من �أعمال �سامل الرواحي‪ُ -‬عمان‬

‫‪256‬‬
‫تفكك الهوية وح�ضور الآخر‬
‫قراءة يف «�أرواح هائمة» لـكمال العيادي‬
‫\‬
‫�شاكر عبد احلميد‬

‫يف حديثنا عن الذات والهوية ال بد �أن نتحدث عن‬


‫الآخر‪ ،‬ويف حديثنا عن الذات والآخر‪ ،‬البد و�أن‬
‫نتحدث عن اجل�سد‪ ،‬فاجل�سد هو �ساحة ال�رصاع التي‬
‫تدور بني الذات والآخر‪ ،‬والعقل والروح �ساحتان‬
‫�أخريان‪ .‬وعند حديثنا عن اجل�سد ال بد �أن نتحدث‬
‫عن حاالت هذا اجل�سد وحتوالته‪ ،‬عن حاالته ال�سوية‬
‫وغري ال�سوية‪ ،‬وعن حتوالته الإن�سانية والآلية‬
‫واملادية‪ ،‬عن ال�ضحك والفرح وعن البكاء والأمل‪،‬‬
‫عن العجز املدرك والبارانويا املجنحة عن الهالو�س‬
‫والأوهام والتوهمات والأحالم عن الأرواح الهائمة‬
‫واملهومة يف املكان‪ ،‬عن املكان الذي مل يعد مكان ًة‬
‫ومل يعد يعول عليه (ابن عربي) عن الذات عندما‬
‫تتحول �إىل وح�ش �أو م�سخ �أو �شيطان‪ ،‬وعن وح�شية‬
‫اجل�سد �أو م�سخه و�إفرازاته‪ ،‬عن كونه خميفًا �أو ال‬
‫متنكرا‪ ،‬مقز ًزا‪ ،‬حمجو ًبا‪ ،‬متهدالً‪ ،‬مت�ساقطا‪،‬‬
‫ً‬ ‫�سويا‪،‬‬
‫ًّ‬
‫ح ًيا ومي ًتا‪ ،‬يف �آن واحد‪.‬‬
‫احلديث م�سكونة بالتكنولوجيا والآالت وامليديا‬ ‫وهنا يف هذه املجموعة من الن�صو�ص‪�« :‬أرواح‬
‫وثقافة اال�ستهالك والب�رش الهام�شيني والآخر الذي‬ ‫هائمة» للكتاب العربي من تون�س «كمال العيادي»‬
‫يزورها �أو ي�سكنها‪� ،‬إنها �أماكن غري �أليفة على الرغم‬ ‫جت�سيد لتحوالت الرغبات �إىل خماوف ‪ -‬تبدالت‬
‫من كل مظاهر الود والألفة والتقدم البادية منها‬ ‫تتم يف الال�شعور‪ -‬للمرغوب الذي يتحول �إىل وح�ش‬
‫حيث قد تكون �أعماق املدن �ساحات لال�ضطراب‬ ‫وتهوم‬
‫يقتل �صاحبه فتت�شكل هوية تهيم يف املكان ّ‬
‫و�أماكن لل�سطو وال�رسقة واالغت�صاب وانعدام الأمن‬ ‫فيه‪.‬‬
‫وتكون الذات فيها غري م�ستقرة والهوية غري متزنة‪.‬‬ ‫� ً‬
‫أوال‪ :‬الأرواح الهائمة يف املكان‪:‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬لكننا‪ ،‬يف‬
‫نحن لنا ذواتنا ولنا هوياتنا � ً‬
‫الأحوال جميعها �ضائعون يف متاهة املدينة بني‬ ‫املدن احلديثة �أماكن م�سكونة بالأرواح‪ ،‬لي�ست املدن‬
‫�سكانها املزدحمني املحت�شدين املتدافعني‪ .‬هنا جند‬ ‫احلديثة م�سكونة بالأ�شباح التي كانت يعتقد �أنها‬
‫الأرواح املزدوجة واملنق�سمة وجند الذات املنق�سمة‬ ‫ت�سكن الأماكن املعزولة والبيوت املهجورة واملقابر‬
‫بني هويتني‪ :‬هويتها الأ�صلية التي تنتمي �إليها‬ ‫والق�صور اخلربة والقرى النائية املوح�شة‪ ،‬املدن‬
‫‪257‬‬ ‫\ ناقد واكادميي من م�رص‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫حمبطة ومزدوجة وذات �أخرى �أ�شبه بامل�ستحيالت‬ ‫ومنها جاءت وهويتها املكت�سبة �أو امل�ستعارة التي‬
‫ومن داخل هذا االنق�سام يتولد ذلك القلق الوجودي‪،‬‬ ‫ح�صلت عليها‪ ،‬وكي تعرب الذات م�أزق انق�سام الهوية‬
‫ذلك الذي يعاود الظهور‪ ،‬مرة �أخرى‪ ،‬عندما يوجد‬ ‫هذا وحتاول �أن تتجنب تفككها ف�إنها قد تنكر �أو ًال‬
‫الإن�سان يف براثن حاالت من االنق�سام بني الواقع‬ ‫�أنها تعاين وتواجه العامل بال�سخرية �أو ال�صمت �أو‬
‫واخليال‪ ،‬بني ما يريد‪ ،‬وما ي�صل �إليه من خواء‪ .‬ومع‬ ‫االبتعاد �أو الإغراق يف ال�رشاب �أو االنكفاء على‬
‫هذا القلق يكون انعدام الألفة ويكون �شعور الروح‬ ‫الذات والذكريات وقد تعاين التحوالت اجل�سدية‪،‬‬
‫ب�أنها لي�ست يف بيتها‪ ،‬لي�ست يف مكانها‪ ،‬بل �إنها‬ ‫وحاالت ا�ضطراب الهوية‪ ،‬وظهور التوهمات‬
‫هائمة يف املكان‪ ،‬ثم �إنها حتاول �أن تخرج من‬ ‫والأقران والأ�شباه وتواجه ويالت م�شاعر اخلوف‬
‫هذه احلالة �أو توقفها لأنها ال ت�ستطيع �أن تبقى‬ ‫والقلق وال�شعور بالتهديد والرعب والغربة والغرابة‬
‫دائما �إىل �أ�صلها‪،‬‬ ‫واال�ستالب والعنف والتطرف والإرهاب‪.‬‬
‫دائما‪ ،‬هكذا‪ ،‬هائمة‪ ،‬فهي حتن ً‬ ‫ً‬
‫�إىل جوهرها‪� ،‬إىل كليتها ف�إنها حتاول �أن تخلق‬ ‫هنا �شخ�صيات منق�سمة ما بني الوجود اخلا�ص‬
‫من داخلها كيانات متهومة حتاول �أن جتعلها‬ ‫لهويتها الأ�صلية (التون�سية كما يف الق�ص�ص) وبني‬
‫ت�سكن معها عاملها‪ ،‬هكذا ي�صبح عاملها م�سكو ًنا‬ ‫هويتها املكت�سبة يف �أملانيا‪� ،‬أو رو�سيا‪( ،‬كما تو�ضح‬
‫بالأرواح والأ�شباح‪ ،‬بذلك القرين الغريب‪� ،‬إنه �شيء‬ ‫معظم الق�ص�ص يف هذه املجموعة)‪ .‬هنا �أرواح تنتاب‬
‫يعود من املا�ضي‪ ،‬ما�ضي الذات اخلا�ص بهويتها‬ ‫وتهوم فيه‪ ،‬لكنها تظل‬ ‫املكان‪ ،‬ت�سكن املكان‪ ،‬تزوره ّ‬
‫الكلية ووجودها الأ�صيل‪ ،‬هكذا يكون القرين �شي ًئا‬ ‫أرواحا قلقة قائمة غري م�ستقرة‪ ،‬لأنها‪ ،‬تظل‬‫دائما � ً‬
‫ً‬
‫أرواحا منق�سمة‪ ،‬مزدوجة‪ ،‬مملوءة‬ ‫أي�ضا‪ً � ،‬‬
‫دائما‪ً � ،‬‬
‫ً‬
‫�شخ�صا‬‫ً‬ ‫يعود من املا�ضي وي�سكن احلا�رض‪� ،‬شي ًئا �أو‬
‫باجلروح والقروح وال�شقوق والفراغات والفجوات‬
‫يبدو غري م�ألوف‪ ،‬وم�ألوفًا يف الوقت نف�سه‪ ،‬ينتمي‬
‫الإن�سانية واالجتماعية والوجودية‪ ،‬هنا‪ ،‬يف هذه‬
‫�إىل املا�ضي ويوجد خالل الوقت نف�سه‪ ،‬يف احلا�رض‪،‬‬
‫وتهوم فيها‬‫ّ‬ ‫الأماكن الغريبة التي تقطنها الأرواح‬
‫و�إنه ل�شخ�ص يكرر نف�سه‪ ،‬ويكرر ذاته على نحو‬
‫وتهيم‪ ،‬جند �أن الزمن قد ا�ضطرب و�أ�صبح لي�س كل‬
‫أي�ضا غري ًبا عنها‪ .‬هكذا ي�صبح‬ ‫م�ألوف‪ ،‬لكنه ي�صبح � ً‬ ‫�شيء كما �أ�شار هيجل يف تف�سريه ل�شخ�صية هاملت‬
‫خ�صو�صا عندما‬
‫ً‬ ‫الإن�سان نف�سه يف املدن احلديثة‪،‬‬ ‫«لي�س كما ينبغي �أن يكون»‪.‬‬
‫�شبحا‪� ،‬أو مكا ًنا‬
‫ً‬ ‫يكون‪ ،‬يف الأ�صل‪ ،‬غري ًبا عنها‪،‬‬ ‫هنا �أرواح هائمة‪� ،‬شبحية الطابع‪ ،‬تغادر مكانها‬
‫ت�سكنه الأ�شباح ومل تعد الأ�شباح اخلارجية هي التي‬ ‫الأ�صلي‪ ،‬وتقيم يف مكانها اجلديد وك�أنها تزوره‪،‬‬
‫تخيفه فقط‪ ،‬بل �أ�صبحت ت�صيبه الرعدة من �أفكاره‬ ‫وتزور مكانها الأ�صلي‪ ،‬وك�أنها مل تزل بعد تقيم‬
‫هو‪ ،‬من �أ�شباحه هو‪ ،‬من ذاته هو‪ ،‬من هويته هو‪ ،‬لقد‬ ‫فيه‪ ،‬بل �إنه هو الذي يقيم فيها وي�ستمر معها حتى‬
‫روحا‬‫�أ�صبح هو نف�سه خميفا‪� ،‬أ�صبح قري ًبا لذاته‪ً ،‬‬ ‫عاما (مثل �شخ�صية‬ ‫لو غادرته �أكرث من ثالثني ً‬
‫مهومة يف مكانه ويف غري مكانه‪ ،‬لأن املكان الذي‬ ‫مربوكة اجلوادية)‪ ،‬الأ�صل يف الروح‪ ،‬كما يقول‬
‫يظنه مكانه لي�س مكانه ولي�س مكانه لقد اجتاز‬ ‫ماك�س �ستايرن‪� ،‬أكرث املفكرين الهيجليني ال�شباب‬
‫احلدود واغرتب لكنه ظل يحمل معه مكانه القدمي‬ ‫جوهرا واح ًدا ذات مركز واحد‪،‬‬‫ً‬ ‫راديكالية �أن تكون‬
‫وذكرياته القدمية‪ ،‬عواطفه القدمية‪ ،‬قيمه القدمية‬ ‫ولها مبادئ �أخالقية وعقالنية معينة‪ ،‬تعك�س ذلك‬
‫روحا‬ ‫يف هذا املكان اجلديد‪ ،‬ومن ثم فقد �أ�صبح ً‬ ‫الوجود العام للإن�سان لكن هذا اجلوهر الأخالقي‬
‫تهوم داخل الذات‪ ،‬وذا ًتا تهوم داخل الهوية‪ ،‬وهوية‬ ‫والعقالين �إمنا يطرح ك�أنه مثال مقد�س‪� ،‬شيء‬
‫تهوم داخل املكان‪ ،‬ومثلما تهوم الروح داخل‬ ‫دائما للو�صول �إليه‪ ،‬لكنه‬
‫ينبغي �أن ي�سعى الإن�سان ً‬
‫أي�ضا كما حدث للراوي‬ ‫املكان‪ ،‬ف�إنه يهوم بداخلها � ً‬ ‫ال ي�ستطيع ومن ثم ف�إنه ينق�سم ويتفكك �إىل ذات‬
‫يف ق�صة «�صاحب ربطة العنق اخل�رضاء»‪.‬‬ ‫واقعية ت�سعى وذات مثالية ي�سعى �إليها‪ ،‬ذات عيانية‬
‫‪258‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫كب�ش مر�سوم على ذراعه الي�رسى‪ ،‬و�إىل جانبه قيثار‬ ‫�صاحب ربطة العنق اخل�ضراء‪:‬‬
‫يزعج بهم احلا�رضين كلما عن له ذلك مرد ًدا �أغاين‬ ‫يقول ال�شخ�صية املحورية يف ق�صة «�صاحب ربطة‬
‫مملة �سوقية وال ميتلك �أي موهبة»‪.‬‬ ‫العنق اخل�رضاء»‪« :‬كنت وحي ًدا وحمبطً ا وكان‬
‫كان الراوي يو�شك على اخلروج من احلانة بعد‬ ‫عملي التافه يف ذلك الوقت مب�صنع بروكن الك‬
‫�أن �شعر بالدوار من ال�رشاب واالختناق من رائحة‬ ‫متاما»‬
‫للم�ستح�رضات الكيميائية قد دمر �أع�صابي ً‬
‫دخان ال�سجائر عندما ر�أى ذلك النقي�ض لتلك‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �أنه كان م�ستنزفًا يف �إجراءات الطالق‬
‫جال�سا هناك‪ ،‬قبالته‪ ،‬هاد ًئا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال�شخ�صيات كلها‪ ،‬ر�آه‬ ‫من زوجته‪ ..‬ويقول كذلك‪« :‬كنت حمبطً ا وبي‬
‫و�سيما‪ ،‬نظيفًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وقورا‪� ،‬أني ًقا‪،‬‬
‫ً‬ ‫حمرتما‪،‬‬
‫ً‬ ‫مبت�سما‪،‬‬
‫ً‬ ‫�إح�سا�س ب�أنني كي�س مبتل من البطاطا املتعفنة»‪،‬‬
‫�أ�صيالً‪� ،‬صاد ًقا‪ ،‬حزي ًنا‪ ،‬وهكذا ي�سبغ ال�صفات‬ ‫ثم يذهب �إىل �إحدى احلانات‪ ،‬وهناك يجد طوائف‬
‫الإيجابية كلها عليه فيم�ضي ويوا�صل ال�رشاب‬ ‫من الب�رش التائهني املحبطني املر�ضى‪� ،‬أرواح‬
‫متاما‪ .‬يتفر�س يف‬‫ويقول عنه «كان يت�رصف مثلي ً‬ ‫هائمة‪ ،‬بل �ضائعة �أخرى‪ ،‬ي�صفهم ب�أنهم كانوا‬
‫وجهي بحذر �شديد‪ ،‬حماو ًال عدم لفت انتباهي‪ .‬يبدو‬
‫أي�ضا يف منتهى التفاهة واجلهل والك�آبة وال�ضياع‪،‬‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا وم�صعوقا‪� .‬أح�س�ست ذلك بثقة‬ ‫�أنه كان مرتبكا � ً‬ ‫يوميا موتها‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫«�أكوام نتنة من اللحم الفا�سد تنتظر‬
‫ا�ستغربت لقوتها»‪ ،‬وتتبدل نظرته للمكان وللب�رش‬
‫وهي تتلمظ رغوة البرية البي�ضاء»‪ .‬واحلانة جتل�س‬
‫املوجودين فيه‪ .‬ي�صبحون �أكرث حميمية فريى‬
‫فيها ال�ساقطات الالتي يرحن ويجئن‪ ،‬وهناك‬
‫النادلة جميلة ج ًدا والنادل عطوفا �صاد ًقا نبيالً‪،‬‬
‫منفرا �أ�صبح جمي ًال ورقي ًقا‪ ،‬وتتبدل‬ ‫أي�ضا فرانك هان�س املري�ض بالربو‪ ،‬يجل�س عند‬ ‫� ً‬
‫وكلبه الذي كان ً‬ ‫نف�س الطاولة منذ �أكرث من ع�رشين �سنة‪ .‬الطاولة‬
‫أي�ضا في�صبح «جاك‬ ‫ر�ؤيته للأ�شخا�ص الآخرين � ً‬
‫ت�سيفونيا» عازفا مقبو ًال ومنا�س ًبا للجو العام‪.‬‬ ‫الأخرية ي�سار املطبخ‪ .‬مقابل املرحا�ض مبا�رشة‪،‬‬
‫يظل الراوي ينظر �إىل ذلك ال�شخ�ص الذي كان ينظر‬ ‫وموزر الذي يدعى ب�أنه كان موظفًا مب�صلحة‬
‫�إليه ويرتدي ربطة عنق خ�رضاء مثله‪ ،‬وي�شعر به‬ ‫حكومية‪« ،‬ولكنني مقتنع ب�أنه كان عاطال عن‬
‫ي�ؤازره‪ ،‬ويحميه‪ ،‬ومينعه من ال�سقوط‪ ،‬ويظل ي�سبغ‬ ‫العمل منذ والدته» والذي يظل ي�رشب «منذ موعد‬
‫عليه ال�صفات اجلميلة والنبيلة كلها‪ ،‬وتتداعى يف‬ ‫فتح احلانة حتى �إغالقها»‪ ،‬وهان�س فيرب الذي ظل‬
‫عقله ووجدانه الأفكار والر�ؤى والذكريات والأحالم‬ ‫متظاهرا باملر�ض‬ ‫ً‬ ‫يف م�ست�شفى للأمرا�ض الع�صبية‬
‫التي قد حتققت فقط يف اخليال‪ ،‬يتمنى �أن يحكي‬ ‫حتى طردوه منها وي�ستغل ت�سامح �صندوق الت�أمني‬
‫له عن �ساملة حبيبته وحبه للمطربة هيام يون�س‪،‬‬ ‫للأكل وال�سكن املجاين‪ ،‬و�أوتر الذي يجل�س على‬
‫يف اخليال طب ًعا‪ ،‬ور�سالته التي كتبها لها ويو�شك‬ ‫طاولة تقع مبا�رشة حتت جهاز الألعاب الإلكرتونية‬
‫املقهى �أن يغلق �أبوابه‪ ،‬ثم يدرك من حواره مع‬ ‫التي ال ي�ستعملها �أحد غري �صاحب احلانة �أحيا ًنا‪،‬‬
‫�صاحبه �أنه مل يكن هناك �أحد �آخر غريه يرتدي ربطة‬ ‫و�إمنا يف حالة �سكر مطبق‪ ،‬وهو �إ�ضافة �إىل تعاطيه‬
‫عنق خ�رضاء‪ .‬لقد ر�أى الراوي عبد املجيد ال�سالوي‬ ‫املخدرات‪ ،‬ال يكاد يقوى على فتح عينيه‪ ،‬ورانيه‬
‫قرينه‪ ،‬واملثل – النقي�ض له‪.‬‬ ‫الذي ينظر يف جمع االجتاهات ودون انقطاع‪،‬‬
‫كانت هوية الراوي تو�شك على التفكك واالنق�سام‪:‬‬ ‫يتابع اجلميع ويتحدث على الرغم من معرفته ب�أن‬
‫هوية كانت على م�شارف الوعي‪ ،‬عند منطقة‬ ‫ال �أحد ي�ستمع �إليه‪� ..‬إنه كما يقول الراوي «�أكرثهم‬
‫االزدواج واالنق�سام‪ ،‬عندما ظهر القرين‪ .‬والقرين‬ ‫نذالة وحقارة بل �إنه ح�رشة قذرة عبئت خط أ� يف‬
‫�أو «املثل» يف الت�صورات ال�سيكولوجية والفل�سفية‪،‬‬ ‫هيئة كائن ب�رشي»‪ ،‬ثم واحد من الغجر يدعى «جاك‬
‫نوعا من الأمن ال�سيكلوجي الذي ابتكرته‬ ‫كان �أ�ص ًال ً‬ ‫ف�ضيا ب�أذنه‬
‫ًّ‬ ‫ت�شيفونيا» «يف اخلم�سني‪ ،‬يلب�س قرطً ا‬
‫الذات يف مواجهة عمليات التدمري لها‪� ،‬إنه نوع من‬ ‫ويتباهى بو�شم قبيح المر�أة حولها ثعبان ور�أ�س‬
‫‪259‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫ويتبدل �شقا�ؤها �إىل هنائها و�سعادتها وك�آبتها �إىل‬ ‫الإنكار املفعم بالطاقة لقوة املوت‪ ،‬كما �أن الروح‬
‫بهجتها وحومانها حول املكان ويف املكان �إىل‬ ‫اخلالدة هي القرين الأول للج�سد كما ذكر �أوتورانك‪،‬‬
‫أي�ضا جت�سيد للهوية‬‫وجود م�ستقر مدرك جميل‪ .‬هنا � ً‬ ‫هي ابتكار خا�ص لالزدواج والتكرار‪ ،‬نوع من‬
‫الأخرى‪ ،‬هوية الظل‪� ،‬أو الهوية املزاحة كما ي�سميها‬ ‫اال�ستمرارية واملوا�صلة يف مواجهة احتماالت‬
‫«�أندرووبري» يف كتابة «القرين‪ :‬الر�ؤى املزدوجة‬ ‫االندثار‪ ،‬وقد كانت تلك احلالة املركبة املختلطة‬
‫يف الأدب الأملاين» (‪ ،)2003‬تلك الهوية التي حتل‬ ‫املتكونة من اخلوف من املوت والرغبة يف اخللود‬
‫وتدخل منطقة ما‪� ،‬أو بي ًتا ما‪� ،‬أو وط ًنا‪ ،‬وتزيح‬ ‫هي التي قادت بع�ض ال�شعوب القدمية �إىل تطوير‬
‫�أ�صحابها خارجه‪� ،‬أو على الأقل‪ ،‬تهز ا�ستقرار هذا‬ ‫فن �صناعة ال�صور اخلا�صة باملوتى وجت�سيدها من‬
‫الوطن �أو البيت‪ ،‬ويكون القرين هكذا منتميا‪� ،‬أ�صالً‪،‬‬ ‫خالل مواد حافظة خالدة دائمة‪ .‬وعندما حتركت‬
‫�إىل ما هو خارج املكان‪� ،‬إنه ي�أتي من اخلارج‪ ،‬يحل‬ ‫الثقافة الإن�سانية وتطورت وجتاوزت املعتقدات‬
‫على بيت �أو وطن‪ ،‬وي�سعى من �أجل �إزاحة �أ�صحابه‬ ‫الإحيائية اخلا�صة التي كانت تظن معها �أن كل‬
‫خارجه‪� ،‬أو هكذا ي�شعره �أ�صحاب هذا البيت �أو الوطن‬ ‫�شيء يف العامل م�سكون ب�أرواح خا�صة‪ ،‬ف�إنها‬
‫بذلك‪ .‬رمبا كان هذا بع�ض ما قر يف وجدان الراوي‬ ‫حولت طاقاتها تلك �إىل العامل اخلا�ص باالبتكار‬
‫يف ق�صة «�صاحب ربطة العنق اخل�رضاء» �إنه غريب‬ ‫لل�صور والدمى والأقنعة والأدب وال ُل َع ْب وامل�سوخ‪.‬‬
‫عن املكان‪ ،‬لكنه يحتقر �أ�صحاب املكان الأ�صليني‬ ‫هكذا كان من ال�صعب على هذه الروح �أن تبتعد �أو‬
‫وي�سخر منهم ب�صفات مقزعة حمقرة‪ ،‬وك�أنه هو‬ ‫�شعوريا للكائنات الطيفية‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫تقاوم عملية الإنتاج ال‬
‫قد �صار �صاحب املكان‪ ،‬وك�أنه �أف�ضل منهم‪ ،‬لكنه‬ ‫للأ�شباح والأرواح والأقران‪ ،‬و�أن تقاوم كذلك‬
‫يدرك �أنه لي�س �صاحب هذا املكان‪� ،‬إنه ذات تنتمي‬ ‫االنبعاث لتلك الطاقات الإحيائية القدمية‪ ،‬وهكذا‬
‫�إىل هوية �أخرى‪ ،‬وهويته هنا هوية «مزاحة» �أو‬ ‫أرواحا حتركه كما يف «رحلة‬ ‫ت�صبح للآالت والدمى � ً‬
‫مبعدة عن مكانها الأ�صلي‪ ،‬ويف حماولة منها لأن‬ ‫�إىل اجلحيم» التي �سنتحدث عنها الح ًقا‪� ،‬أو يكون‬
‫جتد لها هوية بديلة لهويتها القدمية‪ ،‬ف�إنها حتاول‬ ‫للذات �أو الروح قرين يقيم معها �أو يجال�سها كما يف‬
‫�أن تزيح �أ�صحاب املكان الأ�صليني وتقيم مكانها‪،‬‬ ‫«�صاحب ربطة العنق اخل�رضاء»‪� .‬إنه جزء من الذات‪،‬‬
‫لكنها �أبد�أ تظل هائمة و�أب ًدا تظل غريبة‪ ،‬و�أب ًدا تظل‬ ‫من ذاكرتها املرتبطة بهويتها‪ ،‬وقد غاب عنها �أو‬
‫�سادرة يف �أوهامها وهالو�سها وغياباتها الإدراكية‬ ‫اختفى �أو انطمر يف �أعماق الال�شعور اخلفية املظلمة‪،‬‬
‫دائما تخلق‬ ‫ً‬ ‫والوجودية والال�شعورية‪ ،‬وتظل‬ ‫لكنه يعود الآن وي�ضيء واقعها‪� ،‬أو بالأحرى‪ ،‬تعيده‬
‫الأوهام‪� .‬إنها ذات مدمرة منق�سمة �أ�شبه بالنتاج‬ ‫هي �إليه من �أجل �أن توقف هذا الدوران املحموم‬
‫اخلرب الذي لفظه بيت مدمر‪ ،‬حمطم‪ ،‬وطن مهزوم‬ ‫لروحها الهائمة‪.‬‬
‫�أو منهوك‪ ،‬حالة من اختالل اخليال وغياب ال�شعور‬ ‫هكذا تكون الذات الأوىل ال�سابقة على ظهور ذلك‬
‫بح�سن احلال �أو التما�سك واال�ستقرار‪� ،‬إقامة دائمة‬ ‫القرين ذا ًتا �شقية منق�سمة قد وقعت يف براثن‬
‫يف الرحيل‪ ،‬وح�ضور دائم يف الغياب‪.‬‬ ‫الك�آبة واالكتئاب‪ ،‬لكنها الآن ت�سعى �إىل البحث‬
‫�أقران وم�سوخ و�أ�شكال هائمة ومهومة وب�رش �أ�شباح‬ ‫عن �آخر‪ ،‬تقوم بالإنتاج لآخر‪ ،‬حتاول �أن حتمي‬
‫وماهم ب�أ�شباح‪ ،‬رموز تتكرر‪ ،‬و�أرواح تهيم‪ ،‬يف‬ ‫نف�سها من خالله‪ ،‬ت�سقط نف�سها عليه‪ ،‬جتد فيه ما‬
‫عامل غارق يف اجلهل والتخلف والبدائية والعنف‬ ‫تفتقده يف نف�سها‪ ،‬جتد فيه ما فقدته يف حياتها‬
‫وال�رشا�سة على الرغم من مما يدعيه من تقدم‬ ‫وافتقدته‪ ،‬جتد فيه هويتها واكتمالها‪ ،‬تكرر ما‬
‫ومدنية‪ ،‬فمع زيادة توق الإن�سان �إىل الو�صول �إىل‬ ‫يقوم به قرينها‪ ،‬تت�أمله‪ ،‬تتطلع �إليه‪ ،‬حتاكيه‪ ،‬تلعب‬
‫نوع من املعرفة العلمية املو�ضوعية حول العامل‪،‬‬ ‫معه‪ ،‬وحتدث عمليات �إبدال و�إحالل و�إزاحة بينها‬
‫ومع تطور العلم وتراكم املعرفة وحتول الآالت‬ ‫وبينه‪ ،‬تتحول حاالتها ال�سلبية �إىل حاالت �إيجابية‪،‬‬
‫‪260‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫من �أركانها كائنات غريبة وخميفة» وقد كان الدور‬ ‫واملنتجات ال�صناعية �إىل وحو�ش م�سيطرة على‬
‫املطلوب وكما �رشحه له ال�سيد «�أوبربارح» �صاحب‬ ‫الإن�سان يف عامل اال�ستهالك هذا الذي بال نهاية‬
‫قناعا‬
‫املبنى الذي تتم فيه هذه العرو�ض �أن يلب�س ً‬ ‫أي�ضا باملتع احل�سية والأعمال‬
‫وال حدود‪ ،‬زاد ولعه � ً‬
‫معي ًنا ويلعب «دور فرايدي ال�سفاح الذي يت�سلل يف‬ ‫اخليالية يف حمادثة منه كما يقال لتعوي�ض ما‬
‫الأحالم ليقطع الأو�صال وميزق الأح�شاء بوح�شية»‬ ‫فقده من حيوية وطبيعية ترتبط بعقله البدائي‬
‫واملكاف�أة منه يورد يف اليوم �إ�ضافة لوجبتني من‬ ‫ب�سبب هيمنة العقل العلمي النمطي الآيل املن�ضبط‬
‫الأكل وامل�رشوبات طب ًعا»‪.‬‬ ‫عليه‪ .‬هكذا ابتكر الإن�سان الألعاب امل�سلية والدمى‬
‫تقع احتفاالت و�أعياد البرية �ضمن الإطار العام‬ ‫املتكلمة املمتعة التي �أحيا ًنا ما تتحول �إىل كائنات‬
‫الحتفاالت احل�صاد والتي رمبا كانت هي الأثر‬ ‫خميفة مرعبة قاتلة‪ ،‬وهذا ما جنده يف ق�صة «رحلة‬
‫احلديث املتبقى من تلك االحتفاالت القدمية التي‬ ‫�إىل اجلحيم»‪.‬‬
‫كانت تتم يف �أوروبا وحتدث عنها ميخائيل باختني‬ ‫رحلة يف اجلحيم‪:‬‬
‫وهو ب�صدد حديثه عن «الكارنفالية» يف كتابه عن‬
‫رابليه وعامله» حيث ذكر باختني �أن الكارنفال‬ ‫هنا ت�صوير للم�شاهد املوجودة يف مدينة للمالهي‪،‬‬
‫كان عي ًدا حتتفل به طائفة الكاثوليك الرومان يف‬ ‫يوجد فيها ما ي�سمى بـ «بيت الرعب» �أو «بيت‬
‫امل�سيحية قبل �أن يبد�أ ال�صوم الكبري و�أن �أ�صل كلمة‬ ‫الأ�شباح» رحلة تتم عرب مدينة اجلحيم هذه فيها‬
‫كارنفال ا�ستبعاد اللحم «�أو �إبعاد �أو االمتناع عن‬ ‫يقوم بدور �شخ�صية من ال�شخ�صيات التي تقوم‬
‫م�سموحا ب�أكله خالل ال�صوم‬
‫ً‬ ‫تناوله حيث مل يكن‬ ‫ب�إفراغ الزوار وبث الرعب يف قلوبهم ي�صف حالته‬
‫الكبري‪ .‬ولكن وقبل �أن يبد�أ ذلك ال�صوم كان الكرنفال‬ ‫ومعاناته من الإفال�س‪ ،‬التام �أو الإفال�س الطالح‪،‬‬
‫تتاح الفر�صة �أو املو�سم للمرح ال�صاخب واالبتهال‬ ‫كما ي�سميه حني ال يجد املرء معه �أي �شيء يقيم‬
‫واالحتفال وال�ضحك و�إقامة الوالئم وارتداء الأقنعة‬ ‫�أوده‪� ،‬أو مير عليه �أ�سبوع و�أ�سابيع يفكر يف كيفية‬
‫والرق�ص‪ .‬ويبد�أ عند التقاء ال�شتاء بال�صيف‪ .‬ويف‬ ‫تدبري ثمن علبة ال�سجائر‪.‬‬
‫الأزمة ال�سابقة على هذه االحتفاالت امل�سيحية‪،‬‬ ‫بعد ا�ستقالته من عمله الأول منذ �شهرين ومع براثن‬
‫تعبريا رمز ًيا كذلك عن‬
‫ً‬ ‫كان هذا االحتفال الكرنفايل‬ ‫تلك الك�آبة املرة» التي الزمته اليوم كله بعد �أن و�صل‬
‫ذوبان الفروق بني الطبقات العليا والدنيا والأغنياء‬ ‫�إىل حالة من الي�أ�س ال�شديد والإفال�س املريع قرر �أن‬
‫والفقراء‪ ،‬الرجال والن�ساء‪ ،‬مثله مثل احتفاالت الآله‬ ‫يذهب �إىل مهرجان �أكتوبر «�أكرب مهرجان لالحتفال‬
‫ديوني�سو�س يف الثقافة الإغريقية والإله باخو�س‬ ‫مبح�صول البرية يف العامل والذي يقام مبدينة‬
‫(�إله اخلمر) يف الثقافة الرومانية‪ ،‬وقد جتلى ذلك‬ ‫ميونيج عا�صمة مقاطعة بافاريا‪� .‬إنه مهرجان‬
‫االمتزاج والتفاعل والذوبان بني كل ما يف�صله‬ ‫احتفايل كبري يحت�شد فيه الب�رش والأغاين والرق�صات‬
‫النوع (ذكر و�أنثى) والطبقة (�أغنياء‪ /‬فقراء) وغري‬ ‫والأ�ضواء‪ ،‬ويتم االحتفاء به بالبرية والدجاج‬
‫ذلك من الفوا�صل يف احتفاالت �شهرية منها �أعياد‬ ‫والإن�سان ومن �أجل املبالغة يف التعبري عن البهجة‬
‫احلمار و�أعياد احلمقى‪ ،‬ورمبا كانت احتفاالت‬ ‫أي�ضا لإثارة اخلوف‬
‫والفرح هناك عرو�ض مثرية � ً‬
‫احل�صاد والبرية �صورها العيادي يف ن�صو�صه‪،‬‬ ‫والفزع‪ ،‬وقد كان ا�سم ذلك العر�ض الذي وجد عمال‬
‫وكما حتدث يف ميونيح هي التجليات الأخرية لتلك‬ ‫فيه رحلة �إىل اجلحيم‪ ،‬وقد كان يتم عرب �أزقة مظلمة‬
‫االحتفاالت‪.‬‬ ‫�أعرفها‪ ،‬وكنت فيما م�ضى �أخ�شاها‪ .‬تركب عربة‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫�سوداء تدخل بك يف دهاليز وممرات �ضيقة تتقافز‬

‫‪261‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫«من الفر�ضاين» ملحمد املحروقي‬
‫مواجهة ال�صورة الوردية لزجنبار‬
‫هـ‪.‬حـــ‬

‫ون�ساء‪ ،‬للتنزه واال�ستمتاع بالوجبات الزجنبارية ويف‬ ‫حرك رغبة حممد املحروقي لل�سفر �إىل زجنبار‬ ‫هنالك ما ّ‬
‫�صدارتها «امل�شاكيك»‪.‬‬ ‫همة ال�شباب‬‫وممبا�سا والرب الأفريقي‪ .‬هنالك ما دفع ّ‬
‫الرحلة الأوىل مع قلة التجربة وحداثة ال�سن وال�شوق‬ ‫فيه لي�صطاد ذاكرة �أندل�س مفقود‪ .‬رمبا هي احلكايات‬
‫اجلامح‪ ،‬رحلة مل تنق�صها الإثارة وال املغامرة وال حتى‬ ‫الأوىل التي �سمعها يف طفولته البكر عن وطن �أ�شبه‬
‫الطي�ش‪ .‬واجلميل فيها �أن تكون وجهتها �إىل مكان ن�شعر‬ ‫ما يكون ب�أ�سطورة‪ .‬رمبا هي �أمه التي كانت ُتغني له‬
‫باجنذاب خا�ص له‪ .‬كما هو �سفر املحروقي �إىل �أر�ض‬ ‫قبل �أن ينام تلك الأغنية ال�سواحيلية وق�صة البنت التي‬
‫القرنفل‪ .‬حيث �أخذته ر�سالة املاج�ستري للبحث عن �شاعر‬ ‫�ألقتها عمتها يف البئر‪ ،‬والتي تتقاطع ق�صتها مع ق�صة‬
‫عمان الأول �أبو م�سلم بن نا�رص البهالبي وغريه من‬ ‫�رشقي افريقيا الذي مل يعد ي�صلنا‬
‫ّ‬ ‫الوجود العماين يف‬
‫�شعراء املهجر‪.‬‬ ‫�سوى �أنينه املتوا�صل ك�أنني الفتاة يف قعر البئر‪� .‬أنني‬
‫ال يبخل علينا املحروقي بح�سه الطريف و�أ�سلوبه ال�ساخر‪.‬‬ ‫بالكاد يلتفت �أحد �إليه‪.‬‬
‫�إذ تبد أ� رحلة الطرافة من تلك امل�سميات الطفولية‪�« ..‬أوالد‬ ‫تكرب يف خيال املحروقي �صورة املهجر اجلميل‪،‬وقد‬
‫ال�شاهي» و«�أوالد ال�سح»‪ ،‬ف�أوالد ال�شاهي قا�صدا ال�شاي‬ ‫تغذى خياله ومنا بف�ضل احلكايات والكتب‪،‬من مثل‬
‫هم العمانيون من مواليد زجنبار‪ ،‬و�أوالد ال�سح قا�صدا‬ ‫كتاب ال�شيخ �سعيد بن علي املغريي «جهينة الأخبار»‬
‫التمر‪ ،‬هم عمانيو املولد‪� .‬إذ ت�أخذ امل�ساجالت جمالها‬ ‫وكتاب ال�سيدة �ساملة بنت �سعيد «مذكرات �أمرية‬
‫بعد كل مباراة حامية يف كرة القدم‪ ،‬وي�شري املحروقي‬ ‫عربية»‪.‬ومن ح�سن حظنا �أن رافق املحروقي بالإ�ضافة‬
‫�إىل � ّأن الهزمية كانت يف الغالب لأبناء ال�سح‪ .‬وللأ�سف‬ ‫�إىل الرفاق‪ ،‬دفرت مذكراته بنف�سجي اللون‪ ،‬لتتحول‬
‫هذه الهزمية ال تتوقف عند لعبة احلارة يف كرة القدم‪،‬‬ ‫رحلته يف �صيف ‪1992‬م �إىل كتاب �شيق جمع فيه‬
‫و�إمنا ميكننا �سحبها على م�ساحة �أكرب من التاريخ‬ ‫أحب �أن ُي�شارك القراء‬
‫املفيد واملمتع والطريف الذي � ّ‬
‫العماين وغ�ص�صه املتوالية بعد جمد عريق‪.‬‬ ‫فيه بعنوان «من الفر�ضاين»‪ .‬وهو كتاب رحالت مهم‬
‫يكرب حممد املحروقي ويجد نف�سه فج�أة «يف مالب�س‬ ‫يف ظل قلّة الكتب التي ت�شي بتاريخ عماين عظيم ُينه�ش‬
‫فريق ال�شاهي»‪ .‬حيث ي�ستقل الطريان ملدة ثماين‬ ‫اليوم بو�سائل كثرية وال �أحد يدافع عنه‪.‬‬
‫�ساعات‪ ،‬ممتلئا قلبه بالقلق واخلوف وبالتم�سك‬ ‫عنوان الكتاب ُيقدم �إ�شارة قوية �إىل متازج العربي‬
‫بامل�ساند وال �شيء ُيطمئنه غري الثقة بالطيار االوروبي‪.‬‬ ‫بالأفريقي لينجب ثقافة �أخرى تت�صل باالثنني بدرجة‬
‫�أول ما �شعر به عندما حطت الطائرة بني اخل�رضة‬ ‫و�شيجة‪ ،‬فكلمة الفر�ضاين التي ا�ستخدمها كعنوان‬
‫والبحر‪� ،‬شعور ببلوع وطن مل يره من قبل ومالقاة �أهل‬ ‫للكتاب هي كلمة �سواحيلية م�أخوذة من اللغة العربية‬
‫ا�شتاق لهم‪ .‬يف تلك اللحظة ا�ستيقظ التاريخ فان�سحب‬ ‫«الفُر�ضة» وهي حمط ال�سفن من البحر‪ .‬كما ورد يف‬
‫اخلوف مل يطل مقامه‪.‬‬ ‫ي�شيع يف الكتابات التاريخية‬
‫ُ‬ ‫القامو�س املحيط وكما‬
‫تتنقل ف�صول الكتاب بني املناطق التي يزورها انطالقا‬ ‫ويف اال�ستخدام اللهجي‪ .‬وهو مكان للرتفيه عن‬
‫من دار ال�سالم �إىل تاليزا وتاجنا وارو�شا وموانزا‬ ‫النف�س على �شاطئ البحر‪ .‬والآن هو مكان لال�ستجمام‬
‫وكياكا وغريها‪ ..‬مل يكن املحروقي وحيدا يف رحلته‬ ‫يق�صده الزوار ُبعيد املغرب‪ ،‬فرادى وجماعات‪ ،‬رجاال‬
‫‪262‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫هذه بل كان و�سط جماعة‪ ،‬ولكنهم منطباع خمتلفة‬


‫بني املغامر وبني من هو خارج هذا املزاج‪ ،‬ولكن‬
‫يف النهاية «فاز باللذة اجل�سور»‪.‬وبينما كان ين�شغل‬
‫اال�صدقاء بكتابة الر�سائل للأهل‪ ،‬ين�شغل املحروقي‬
‫بدفرت مذكراته البنف�سجي‪.‬‬
‫عندما ُي�س�أل املحروقي «من �أين �أنت؟» كان يقول «من‬
‫زجنبار»‪ ,‬وكانت ت�أتيه الأ�سئلة‪« .‬من زجنبار وال تتقن‬
‫ال�سواحيلية»‪ .‬وك�أن املحروقي راغب يف �أن ي�ؤكد على‬
‫جذره التاريخي املهم يف تلك البقعة من الأر�ض و�إن‬
‫مل يكن يجيد ال�سواحيلية كما ينبغي‪ .‬ففي «موانزا»‬
‫يكرب حنني غام�ض فهو املكان الذي ولد فيه �أبواه‬
‫وعا�شا فرتة ق�صرية قبل عودتهما �إىل عمان‪ .‬ففي مطلع‬
‫االربعينات عاد والده‪ ،‬ويف ال�ستينيات عادت والدته‪،‬‬
‫ليكتب لهما لقاء �آخر يف عمان‪ .‬الأمر الذي يجعل من‬
‫زجنبار حمطة غري عابرة يف حياة كثري من العمانيني‪.‬‬
‫لدرجة �أن احلكايات والأغاين ال�سواحيلية كربت مع‬
‫بزمنهاو�سياراتهاوهواتفها‪ ،‬وقد �سخر �أي�ضا من‬ ‫حممد املحروقي وهو من مواليد ُعمان‪ ،‬فلم يكن ميل‬
‫امل�سائل التي حتتاج �إىل حزم قائال‪« :‬وملاذا احلزم؟ ال‬ ‫�سماعها قبل النوم من �أمه‪ .‬كانت احلبل ال�رسي الذي‬
‫نحتاج �إليه يف هذا البلد‪� .‬إنه عملة نادرة»‪.‬‬ ‫ي�شده لذلك املكان‪ .‬ي�سمع عن «موانزا» وعن نهرها‬
‫يتكلم املحروقي ب�إ�سهاب جميل عن عجائب ال�سيارات‬ ‫وخ�رضتها و�أجوائها الغام�ضة‪ .‬وتكفي تلك الإ�شارة‬
‫التي ا�ست�أجروها لقطع امل�سافات‪ »،‬كانت احلافلة‬ ‫الذكية التي �أطلقها املحروقي و�إن كان ظاهرها‬
‫تن�صبنا قياما يف �إحدى اجلوالت‪ ..‬ن�صطدم باملقاعد‬ ‫ماديا‪ ،‬فعندما كان ُيطلب منهم الدفع بالدوالر بدال‬
‫اخل�شنة فيما املياه تت�سلل من ال�سقف»‪ .‬وقد ننفجر‬ ‫من «ال�شلنج» على اعتبار �أنهم من زمرة ال�سياح قال‪:‬‬
‫بال�ضحك ونحن نقر�أ ‪»:‬ال تعتمدعلى كفاءة ال�سيارة و�إمنا‬ ‫«نتوقع �أن ُنعامل معاملة املواطنني‪ ،‬ندفع بال�شلنج‬
‫على ح�سن احلظ»‪ .‬يتحدث عن �سيارة ال تفتح �أبوابها من‬ ‫الرخي�ص بدال من الدوالر املرتفع»‪ .‬وهذا و�إن بدا موقفا‬
‫الداخل وال تنزل نوافذها حتى ميكن للراكب �إخراج يده‬ ‫عابرا كونهم يحملون اجلن�سية العمانية �إال � ّأن دالالته‬
‫وفتح الباب‪ ،‬و�إمنا يطلبون بال�رصاخ والإ�شارات من‬ ‫عميقة‪ ،‬تذهب بنا �إىل � ّأن جذورنا هناك باتت منبتة عن‬
‫املارة �أن يفتحوا لهم‪� .‬أما ال�سيارة الأخرى التي ركبها‬ ‫تربتها اخل�صبة‪.‬‬
‫مع �أ�صحابه والتي تقاعدت زنابر لها «جمع زنربك»‬ ‫ُيواجه املحروقي ال�صورة الذهنية الوردية للجنة التي‬
‫في�صدق عليها قول �أمرئ القي�س «كجلمود �صخر حطه‬ ‫ر�سمها العمانيون ب�صور �أخرى من الواقع‪ .‬فيوجه‬
‫ال�سيل من عل»‪ .‬بل ي�أخذنا �إىل �سخرية فنتازية وهو‬ ‫ال�رضبة الأوىل لإر�شيف زجنبار‪ ،‬فرغم الأهمية العالية‬
‫يقول «�سيارات النقل م�صحوبة مبكيانيكي‪ ،‬ومفهوم‬ ‫ملحتواه �إال �أنه فقري الفهر�سة واحلفظ‪.‬يوجه ال�رضبة‬
‫ال�صيانة الدورية يعني �أنه يتوجب على امليكانيكي‬ ‫الثانية ال�ستهتار النا�س هناك بعامل الوقت‪ .‬الوقت‬
‫�أن يتفقد ال�سيارة يف كل ا�سرتاحة وكلما اقت�ضى احلال‬ ‫عندهم ال يهم‪« .‬قالوا لنا الطريق تقطع يف �ساعة فقط‬
‫وتعطلت عن احلركة»‪ .‬ي�سخر من الوقت الطويل الذي‬ ‫وها نحن نق�ضي يوما ون�صف»‪ .‬النا�س متعاونون ولكن‬
‫ي�ستهلكه �سائقو احلافالت‪-‬الأ�شبه بال�سالحف‪ -‬يف‬ ‫ال يعطونك الإجابة ال�شافية لي�س ُبخال منهم ولكنه‬
‫القيادة‪ .‬فالواحد منهم ي�سوق ب�رسعة ‪ 30‬كيلومرتا‬ ‫م�ستوى تفكريهم املحدود‪ .‬والأطفال هنالك ميار�سون‬
‫مرة لتبادل االخبار‬ ‫يف ال�ساعة‪ .‬بل يتوقف لأكرث من ّ‬ ‫�شقاوتهم‪« ،‬وازجنو واميفا كوفيا» مبعنى البي�ض‬
‫والنكات واالحاديث الودية‪ُ .‬ي�ضحكنا املحروقي وهو‬ ‫يعتمرون القبعات‪ُ .‬يدخلنا املحروقي بلد العجائب‪..‬‬
‫‪263‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫دار ال�سالم قائال‪»:‬و�صلنا دار ال�سالم ولي�ست عندي‬ ‫يقول‪« :‬ي�ستعيذ الواحد منا قبل ركوب ال�سيارة ويدعو اهلل‬
‫بدار ال�سالم‪ .‬عتيقة و�شوارعها رديئة ومملوءة باحلفر»‪.‬‬ ‫�أن يحفظها من �رش ثالثة‪ ،‬ال�شارع والن�شالني ونف�سها»‪.‬‬
‫فالعماين الذي كان يذهب �إىل زجنبار يف �أربعينيات‬ ‫ومل تكن ال�سيارة وحدها العجيبة بل حتى الهاتف‬
‫وخم�سينيات القرن املن�رصم �أو قبل ذلك بعقود‪ ،‬كان‬ ‫عجيب �أي�ضا‪� ،‬إذ اليعمل كباقي الهواتف يف العامل‬
‫يعي�ش ده�شته اخلا�صة‪ .‬فهو ال يعرف يف بلده �سوى بيوت‬ ‫بل له قانونه اخلا�ص‪ .‬تو�ضع العملة يف الأعلى‪.‬‬
‫الطني والأفالج و»املال» مزارع النخيل‪ ،‬وعندما كان‬ ‫ينقطع االت�صال ب�رسعة �أو قد مينحك قرابة الن�صف‬
‫يذهب �إىل زجنبار كان يتفاج أ� بتمدنها وحت�رضها ووفرة‬ ‫�ساعة من دون انقطاع ومن دون �أن ت�ضيف �شلنجا‬
‫مدار�سها وم�ست�شفياتها وخ�رضتها ومزارع «ال�شامبا»‬ ‫واحدا‪ .‬بل الأكرث طرافة �أنهم تكيفوا على التعامل‬
‫فيها ومبانيها و�صحفها وجمالتها وتنوع املهن فيها‪.‬‬ ‫مع اجلهاز‪ ..‬فظرف انقطاعه املتكرر دفعهم �إىل‬
‫بينما هذه ال�صورة الذهنية تنقلب الآن ر�أ�سا على عقب‬ ‫تكثيف الكالم يف كلمة واحدة تعطي ردا حازما‪.‬‬
‫فهذا العماين الذي عا�ش ذاكرة خ�صبة من تاريخ زجنبار‬ ‫ويبدو � ّأن عالقة املحروقي كانت متوترة مع كل و�سائل‬
‫ُيكابد الآن �صدمة ال�صورة‪ ،‬فقد خرج من ُعمان املتطورة‬ ‫املوا�صالت‪ ،‬فقد حتدث عن �إمكانيات الطريان التنزاين‬
‫واملتمدنة عام ‪ ،92‬ل ُي�صدم بواقع حال خمتلف‪.‬‬ ‫ال�ضعيفة‪ ،‬التي بالكاد تت�سع لع�رشين راكبا �أو �أقل‪ ،‬ال‬
‫«الف�ساد االداري ينخر يف عظامه»هكذا قال م�سعود‬ ‫تزيد م�ساحتها من الداخل عن م�ساحة حافلة �صغرية‬
‫الغيثي مدير املعهد اال�سالمي حملال الو�ضع‪ .‬ففي مطب‬ ‫وال يف�صل �شيء بني قائد الطائرة وامل�سافرين‪« ،‬كنا‬
‫انتهاء �صالحية الت�أ�شريات تذكر املحروقي وفاقه قول‬ ‫نراه وهو مي�سك بالفرامل ويتحكم يف ارتفاع الطائرة»‪.‬‬
‫احلكيم‪« ،‬و�إذا لقيت �صعوبة يف مطلب فاحمل �صعوبتها‬ ‫وي�ضيف قائال‪« :‬بقينا بني خوف ورجاء»‪.‬‬
‫علىالدوالر»‪ ،‬وقد ذكر احلكيم الدينار‪ ،‬ولكن الكاتب‬ ‫ال�سخرية الطريفة تتنا�سل وت�ستمر مع علي بابا ورفاقه‬
‫كيفه ليالئم الظرف‪.‬فالعملة ال�صعبة هي التي ي�رست كل‬ ‫احلرامية الذين كادوا �أن ي�ستغلوا عدم معرفة املحروقي‬
‫�شيء‪ .‬وعال �صوت اخلتم ك�رضبات مطرقة‪ .‬فاملطالبة‬ ‫ورفاقه ب�أ�سعار النقل ولكن اهلل كتب لهم النجاة‪ .‬وي�ضعنا‬
‫بحق ال�شاي‪« ،‬الر�شوة او االكرامية» ق�صة �صادفتهم يف‬ ‫املحروقي �أكرث يف ظرف احلياة هناك‪ ،‬فالفنادق كانت‬
‫�أكرث من موقف‪ .‬ويحيل املحروقي ق�صة الر�شاوى لقلة‬ ‫رخي�صة �إال � ّأن ماء اال�ستحمام فيها يدفع �أطرافك لأن‬
‫الرواتب‪� ،‬إذ يتقا�ضى اخلادم عن عمل �شهر كامل ‪3000‬‬ ‫تتجمد‪ .‬وال يفوته الذهاب �إىل حي الفقراء وبيوتهم‬
‫�شلنج �أي ما يوازي ‪ 3‬رياالت عمانية‪.‬‬ ‫التي ي�سكنون فيها وال تعدو �أن تكون �أكواخا من �سعف‬
‫ُيلقي املحروقي �سنارة ال�س�ؤال ال�صعب‪ ،‬والذي كرث من‬ ‫النخيل وقليل منها مبني بالطوب الأحمر و�أ�شكالها‬
‫العمانيني يرتددون �أمامه‪« .‬احلقيقة �أننا النريد �أن ندين‬ ‫جميلة‪ .‬يتحدث �أي�ضا عن املهور املتدنية للن�ساء‪ ،‬وعن‬
‫�أنف�سنا‪ ،‬ولكن كيف حدث �أننا ا�ستعبدنا هذا ال�شعب‪ ،‬وهو‬ ‫�سوقهم قريبا ل�شكل من اال�سواق العمانية ال�شعبية‪.‬‬
‫�صاحب الأر�ض ونحن الغرباء كل هذه الفرتة الزمنية‪،‬‬ ‫يطارد املحروقي التفا�صيل ال�صغرية‪ ،‬في�أخذنا �إىل‬
‫ومل نعرتف بحريته �إال تلبية للمطالب الأجنبية»‪ .‬قال‬ ‫طبق «الوجايل» املُهيب وهو عبارة عن طحني خمفوق‬
‫م�سعود الغيثي ردا على ال�س�ؤال‪« :‬ا�ستعبدناهم عندما‬ ‫باملاء على نار هادئة ويالزم «الوجايل» القا�شع‬
‫ا�ستعبدهم العامل �أجمع‪ ،‬وتركناهم عندما تركهم‬ ‫وهو ال�سمك املجفف واملقلي مع الب�صل والطماطم‬
‫العامل‪ .‬هم الآن يعرفون �أننا نحن ولي�س االجنليز من‬ ‫و»املت�شي�شا» وهي �شجرية خ�رضاء ُتطبخ قليال ثم‬
‫كان �إىلجوار �صفهم»‪ .‬و�أظن � ّأن جواب من هذا القبيل‬ ‫تقلى بال�سمن‪« .‬املهوجو» هو عبارة عن جذور �شجرة‬
‫ي�أخذنا �إىل حتليل �آخر وعميق مل�شهد التواجد العماين‪،‬‬ ‫تعرف «الك�سانفو»‪ .‬لكن املحروقي مل ي�شرت»املدافو»‬
‫�إال � ّأن املحروقي ف�ضل عدم الإ�سهاب فيه‪ .‬و�إن كان قد‬ ‫جوز الهند لأنه مدر للبول يف تلك امل�سافات الطويلة‬
‫�أورد لنا �شهادات من �أبناء املنطقة تدلل على ذلك‪ ،‬فقد‬ ‫التي يقطعونها‪ .‬ومل يعرف تقدير �أعمار ذوي ال�سحنة‬
‫قال له �أحد �أفارقة موانزا‪« ،‬الهنود ين�شغلون بتجارتهم‬ ‫ال�سوداء من الركاب معه‪ ،‬وكان ُيف�ضل الفواكه على‬
‫وال ميتزجون بغريهم‪ ،‬بينما العرب يخالطون الأفارقة‬ ‫الكعك وال�صودا‪.‬‬
‫ويزاوجونهم»‪ .‬وغالبا ما ُيق�صد بكلمة العرب العمانيون‪.‬‬ ‫يعاود املحروقي ن�سف ال�صورة الفانتازية وهو ي�صف‬
‫‪264‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫العمانية العتيقة ذات الطابع العماين الطراز بنوافذها‬ ‫باملقابل ت�صدمنا �أحيانا بع�ض اجلمل التي ُتعلي‬
‫وم�رشبياتها املنقو�شة نق�شا بديعا‪ .‬وما �أن وقع االنقالب‬ ‫من �ش�أن النظرة املتعالية‪ ،‬كما قال ال ُعماين �صاحب‬
‫حتى �أممت احلكومة املنازل واملزارع ووزعتها بال�سوية‬ ‫املحروقي‪�« ،‬إنهم �أحقر خلق اهلل وال داعي ملجاملتهم»‪.‬‬
‫على ُمالكها وبقية ال�سكان‪ .‬وهي الآن تباع �شيئا ف�شيئا‪.‬‬ ‫وجملة �أخرى من قبيل «فهم يف ال�رش اخوان»‪ .‬وي�ضيف‪:‬‬
‫وكم ت�ؤملنا �صورة ال�شيوخ الكبار الذين �أبوا �أن يخلعوا‬ ‫«يف هذه البالد ال ي�أمن الواحد على ال�ساعة يف مع�صمه‬
‫د�شادي�شهم رغم �أن املجد ذهب وغربت �شمو�سه‪.‬‬ ‫وال على املعطف فوق ج�سده»‪ .‬ويبدو يل هذا التعميم‬
‫ويبدو �أن ّ زيارة املحروقي الثانية لزجنبار عام‬ ‫ُمبالغا فيه‪ ،‬ولي�س على درجة كبرية امل�صداقية‪ ،‬حتى‬
‫‪ ،2006‬قد غريت الكثري من االنطباعات التي تولدت‬ ‫و�إن كانت هنالك تنبيهات م�ستمرة ب�رضورة احلذر‪.‬‬
‫يف الزيارة الأوىل‪�»،‬شهدت تغيريات طفيفة للأح�سن‪،‬‬ ‫ولكن �أمام �صور ال مباالتهم وقلة حيلتهم ورغبتهم‬
‫وتغيريات �شا�سعة للأ�سو�أ‪� .‬أم�ست احلياة �أكرث م�شقة‬ ‫يف الر�شاوى‪ُ ،‬يرينا املحروقي الوجه الآخر من الطيبة‬
‫و�إن مع ا�ستقرار ن�سبي‪ .‬الف�ساد والبريوقراطية واجلهل‬ ‫وح�سن املعاملة عندما التقى بالوالد �سعيد و�أوالده‬
‫واملر�ض والفقر كلها كانت بارزة‪ .‬كما �أن هوية زجنبار‬ ‫الذين �أح�سنوا معاملته هو ورفاقه‪ ،‬رغم جفاء اللقاء‬
‫ك�أهم مدينة ا�سالمية متح�رضة على ال�ساحل الأفريقي‬ ‫بداية الأمر‪.‬‬
‫ال�رشقي تواجه �رضبات عنيفة»‪ .‬ويبدو �أي�ضا �أن ّالتغيري‬ ‫التقى حممد املحروقي بعمه يحيى بن را�شد الذي �أخذ‬
‫ال ُيرافق املكان وح�سب فحتى كاتب هذا الكتاب يعرتف‬ ‫يردد عبارة «�أوالدنا جاءوا من بالد العرب على غفلة»‪.‬‬
‫ب�أنه هو الآخر تغري كثريا يف ا�ستقباله للعامل وفرحه‬ ‫وهنالك ت�ساءل املحروقي ملاذا �سمى العمانيون نهر‬
‫باحلياة بينما كان عليه يف �أوائل الع�رشينات وخوامت‬ ‫النيل بالبحر‪ ,‬وعلل الأمر من وجهة نظره قائال‪« :‬رمبا‬
‫الثالثينات‪.‬‬ ‫لأنهم �أتوا من بيئة جافة لي�س بها �أنهار فلم يحفلوا به‬
‫ليت الدفرت البنف�سجي ا�ستوعب تفا�صيل �أكرث‪ ،‬وليته ما‬ ‫كثريا و�سموه بحرا لوفرة مائه‪ .‬على الرغم من �أن جمراه‬
‫�شعرت به و�أنا �أ�صل �إىل ال�صفحة الأخرية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫انتهى‪ ،‬هذا ما‬ ‫لي�س عري�ضا البتة»‪ .‬حكى العم عن احلرب بني اجلارتني‬
‫املحروقي �أي�ضا كان مغتا�ضا لأن دفرته البنف�سجي‬ ‫تنزانيا و�أوغندا وعن الذين ماتوا وطفت جثثهم يف‬
‫ال ي�سجل حلظات من رحلة القن�ص «ال�سفاري»‪ ،‬فيما‬ ‫جمرى النهر‪ .‬ويظهر لنا العم يف هذه الزيارة وجه �آخر‬
‫الذاكرة التي لطاملا تغنى بها ال ت�سعفه لتكوين م�شهد‬ ‫من املعاملة التي بات يلقاها العماين املاكث هنالك‬
‫متكامل‪ .‬رمبا لأننا نعي�ش حلظات ال�سعادة وال نفكر بها‪.‬‬ ‫بعد االنقالب‪ .‬يقول العم بدرجة عالية من الت�أثر «ال‬
‫ولهذا ال�سبب بقيت ال�صفحات اخلا�صة بزيارة ممبا�سا‬ ‫حرمة للعرب �أمواتا وال �أحياء‪ ،‬فاحلكومة تنوي جرف‬
‫بي�ضاء �أي�ضا‪ .‬فال يح�رض منها �سوى لقطات متفرقة‪.‬‬ ‫مقربة �آبائنا الذين ينامون نوما قلقال»‪.‬‬
‫ح�س ال�سخرية ُي�ضفي لذة خا�صةعلىالقراءة‪ .‬تنقالت‬ ‫غالبا ما تركز الكتب والدرا�سات على الأجماد العمانية‬
‫�سهلة ور�شيقة‪ُ ،‬ت�شعر ك�أنك رفيقه يف الرحلة و�أنك ُتكابد‬ ‫يف �رشق �أفريقيا‪ ،‬ولكن املحروقي ينب�ش ويحكي‬
‫مثله برود الأفارقة وعدم مباالتهم بالزمن‪ ،‬وال �شيء‬ ‫عن حال العمانيني هنالك بعد التمرد ‪ ,64‬ف�أموالهم‬
‫ُيكدر عليك متعة القراءة �سوى الأخطاء اللغوية‪ ،‬وليت‬ ‫وحيواتهم ُت�سلب‪ ،‬وهم عر�ضة لال�ستهداف بال �سبب‪،‬‬
‫الكاتب �أعطى هذا الكتاب حقه وقليال من �صربه لكي‬ ‫وعليهم تقدمي الر�شوة املطلوبة بني حني و�آخر‪ .‬ال�س�ؤال‬
‫ال يخفت وهج القراءة ويتعرث �أمامها‪ .‬واملهم �أي�ضا‬ ‫املهم الذي �أطلقه املحروقي يف هذا الكتاب‪ ،‬وبقي‬
‫�أننا نكت�شف ح�س حممد املحروقي الروائي‪ ،‬وليته‬ ‫للأ�سف ال�شديد من دون �إجابات �شافية هو‪« :‬ما الذي‬
‫ُيعيد انتاج خمزونه الرثي عرب الأدب ال�رسدي‪ ،‬ولعلنا‬ ‫ُيبقي �أعمامي �إىل الآن هنا»‪ .‬رمبا لأن الإجابة �شائكة‬
‫ن�شعر بهذه الرغبة عندما يقول‪« :‬عندما �أنظر يف هذه‬ ‫وخانقة‪ .‬فهو املكان الذي �شهد طفولتهم و�شبابهم‪.‬‬
‫الوجوه املتغ�ضنة واملتعبة �أفكر كثريا يف �أنها كانت‬ ‫�أفراحهم و�أحزانهم‪ ،‬وال يربطهم ب ُعمان �سوى احلكايات‬
‫مليئة باحلياة والن�شاط‪ .‬وال�شك يف �أن جتاربهم الرثية‬ ‫التي ي�سمعونها والر�سائل التي ت�صل بني حني و�آخر‪.‬‬
‫والعنيفة يف ان ت�صلح مادة روائية ملحمية»‪.‬‬ ‫يتنقل بنا املحروقي بني �أكرث من جرح وهو يرى البيوت‬

‫‪265‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫بحثا عن ال�صور الأجمل يف‬
‫«عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص» ملحمد احلارثي‬
‫\‬
‫حمود حمد ال�شكيلي‬
‫من بع�ض ن�صو�ص هذه الـ«عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص»‪.‬‬ ‫منذ الوهلة للأوىل لعنوان «عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص» قد‬
‫هكذا يعود ال�شاعر حممد احلارثي بعد �سبع �سنوات من‬ ‫تت�شكل �صورة ذهنية للقارئ‪ ،‬عرب ا�ست�شفاف �إمكانية الولوج‬
‫انقطاع عن ن�رش �شعره‪ ،‬ال عن كتابته طبعا؛ يعود بعمل‬ ‫�إىل اال�شتغال الكتابي‪ ،‬والعودة بهذا اال�شتغال �إىل ت�أ�صيل‬
‫خمتلف عن جتاربه ال�شعرية ال�سابقة‪ ،‬يعود فاحتا حديثا مع‬ ‫الكتابة‪ ،‬ت�أكيدا وعودة �إىل احلرفة التي ميتهنها ال�شاعر حممد‬
‫احلياة ب�أربعة �أقالم؛ هكذا قر�أت �أجزاء الكتاب‪ ،‬تطول ق�صائد‬ ‫احلارثي عرب جممل كتاباته‪.‬‬
‫هذه الأقالم وتق�رص‪ ،‬ف�أول الأقالم وثالثها هما الأطول يف‬ ‫بداياتها مع ال�شعر منذ �أن جعل الكتابة منهج وطريقة حياة؛‬
‫عدد ن�صو�ص كتابه ال�شعري» عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص»‪.‬‬ ‫تفرد يف‬
‫�إىل �أن تفرعت به �أغ�صانها �إىل فنون �أدبية �أخرى؛ ّ‬
‫يف الأول خم�سة ع�رش ن�صا حتاور ذات ال�شاعر؛ �إن�سانا من�شغال‬ ‫بع�ضها مبدعا ومنتجا ما مل ينتجه غريه باحلرفة ذاتها‬
‫باجلملة منعك�سة يف «بحرية الكلمات» هذا ما ت�سعى �إليه‬ ‫التي عرفناه بها يف كتابه حمكي الرحلة امل�رسود بالعني‬
‫الن�صو�ص‪ ،‬بل �إن �أكرث ن�صو�ص جزء القلم الأول تنفتح على‬ ‫واجلناح‪.‬‬
‫ن�صو�ص �أخرى؛ ن�صو�ص �سبقت ن�صو�صه‪ ،‬لت�صري ن�صو�ص‬ ‫جمربا فن الرواية يف جتربته الأوىل» تنقيح املخطوطة»‪،‬‬
‫«عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص» الحقة؛ لأخرى �سابقة‪ ،‬هكذا‬ ‫هذه التي �صدرت العام املا�ضي عن من�شورات اجلمل‪ ،‬جامعا‬
‫ن�صي ًة م�ستقطعة من‬‫ميكن لنا قراءة �أغلبها‪ ،‬خا�صة و�أن عتبة ِّ‬ ‫بع�ض ما ن�رشه من ن�صو�ص يف كتاب مل ي�سمح له وعيه‬
‫ك ّتاب عديدين قر أ� لهم احلارثي كتبا‪ ،‬وظلت بع�ض ن�صو�ص‬ ‫الثقايف العميق �أن تلتب�س عليه �أجنا�سها الأدبية يف «ور�شة‬
‫تلك الكتب عالقة يف متخيله ال�شعري قر�أنها حتت عناوين‬ ‫املا�ضي»‪ .‬معتكفا ل�سنوات طويلة يف حماولة جادة و�صادقة‬
‫�أكرث الن�صو�ص تقريبا‪.‬‬ ‫لإعادة انت�شال البهالين مما القاه من بني وطنه عرب دفن‬
‫يبدو �أن تخل�ص احلارثي من قراءاته؛ ومن تعلق نف�سه بقطع‬ ‫ل�سنوات طويلة‪ ،‬مل يقر أ� العمانيون أ�ث��ره ال�شعري وحياته‬
‫�أدبية‪ /‬نرثية �أو �شعرية‪ /‬رافقت قراءته حمال و�صعب‪ ،‬لذا‬ ‫كما قر�أوها ومازالوا يف كتاب» الآثار ال�شعرية لأبي م�سلم‬
‫راح يعتني مبحاورتها من خالل فتح ن�ص �شعري �آخر جماور‬ ‫البهالين» بتحقيق وو�ضع حوا�ش وتقدمي من ال�شاعر حممد‬
‫وحماور لها‪ ،‬هكذا هو ال�شعر يف جتربة «عودة للكتابة بقلم‬ ‫احلارثي‪.‬‬
‫ر�صا�ص»‪.‬‬ ‫لعل عنوان عمله ال�شعري ال�ساد�س» ع��ودة للكتابة بقلم‬
‫انفتاح على الن�ص‪ ،‬تنوع وث��راء يف ذاك االنفتاح‪ ،‬القدمي‬ ‫ر�صا�ص» يعلي من ت�أكيد العودة �إىل كتابة الن�ص ال�شعري‬
‫العربي حا�رض يف جزء من تلك املحاورات‪ ،‬كذلك هو حال‬ ‫احلديث بقلم الكتابة‪� ،‬إنه هنا لي�س �أي قلم‪ ،‬تظهره العتبة‬
‫ن�ص الغريب القادم عرب الرتجمة حماور وجماور؛ كل هذا‬ ‫الأوىل؛ حمددة نوعه‪.‬‬
‫عرب الكتابة‪ ،‬وت�أكيد العودة �إليها‪� .‬إنها العودة �إىل الن�ص‪،‬‬ ‫�إن يف هذا التحديد ميكننا �أن نرى القلم يف فكرة الكتابة‬
‫واال�شتغال عليه‪.‬‬ ‫و املحو‪ .‬يف فكرة اال�شتغال‪ ،‬ويف حرية بناء الن�ص‪ ،‬عرب‬
‫يف اجلزء الرابع من كتابه هذا ‪ -‬ثالث ن�صو�ص �شعرية مهداة‬ ‫حماولة الو�صول �إىل اخلال�ص منه يف �صورته الأخرية؛ بحثا‬
‫�إىل �أ�صدقاء الكتابة «�سماء عي�سى‪� /‬صالح العامري‪ /‬زاهر‬ ‫عن لغة ال ميكن �إدراك �صورتها الأخ�يرة يف الن�ص‪ ،‬ويف‬
‫الغافري» ‪ -‬تظهر العودة �إىل الن�صو�ص يف �صورة العودة‬ ‫حتويل املكان �إىل ور�شة وجراج للكتابة‪ ،‬لإ�صالح ما ميكن‬
‫�إىل الكتابة وا�ضحة وجلية يف آ�خ��ر الن�صو�ص من خالل‬ ‫�إ�صالحه؛ عرب اللغة‪ ،‬يف تفكيك اجلملة‪ ،‬ويف ر�سم الكلمة‪ ،‬يف‬
‫مالحظتنا للفرتة الزمنية‪ ،‬تلك التي جاء الن�ص فيها بني‬ ‫ا�ستبدال ال�سطر ال�شعري امل�ألوف لعني القارئ؛ جلعله نرثيته‬
‫والدت�ين‪ .‬والدة الن�ص وخروجه من رحم الدفقة ال�شعرية‬ ‫ال�شعرية عر�ضية يف قلب ال�صفحة‪ ،‬لي�س يف طولها املعتاد‪،‬‬
‫الأوىل حتى ظهر يف �صورته النهائية التي و�صلت �إلينا من‬ ‫كما يف ن�صي «التي�س» و«قفلة منحوتة»‪ ،‬ويف عدة مقاطع‬
‫‪266‬‬ ‫\ قا�ص وكاتب من ُعمان‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫لكنه بعد �أن �أثملته‬ ‫خالل قراءة اجلزء الرابع يف «عودة للكتابة بقلم ر�صا�ص»‪.‬‬
‫ال ّ��راح؛ بعد �أن �أثملته‬ ‫يفتتح ن�ص «�صافرة املالك» ن�صو�ص كتاب «عودة للكتابة‬
‫التي واللُّتيا‪..‬‬ ‫بقلم ر�صا�ص» بلحظتني زمنيتني تف�صالن ب�ين ميالد‬
‫مل ي��ل��ب��ث �أن ملك‬ ‫جملتني‪ ،‬زمن اجلملة الأوىل تظهر ال�شاعر م�ستغرقا يف ت�أمل‬
‫ال�شاعر مهمة ح ِّل ِتكَّة‬ ‫ما �صارت �إليه اجلملة‪ ،‬حتى تنبثق املخيلة ال�شعرية باجلملة‬
‫�رسواله املربوطة‬ ‫الثانية‪ ،‬تنتظر ال�شاعر �أن ي�أتي بها‪� ،‬أن يكتبها‪ ،‬لكنه غارق‬
‫وعقد ٍة‬‫ب�أكرث من عقد ٍة ُ‬ ‫يف ت�أمل ما انتهت �إليه جملته الأوىل؛ قبل �أن «يفتح مت�ساح‬
‫ف�ص �سرُ َّ ته‬
‫حتت ِّ‬ ‫الكلمات فكيه اللتهام جنمة قد تتلألأ كما تلأ أل تكرار الالم‬
‫حتى �صار الغالم بعد‬ ‫و�ألفها املهموزة»‪.‬‬
‫حمياها ال يدفع عن‬ ‫هكذا يحاور ال�شاعر ذاته‪ ،‬يحاور قلمه وما يكتب‪ ،‬ما كتبه‬
‫نف�سه‬ ‫الإن�سان قلما قابل للحذف �أو للإ�ضافة‪ ،‬قبل الن�رش مع من‬
‫بينما مفتتح ن�ص‬ ‫يق ِّدر الكلمة املكتوبة‪ ،‬وبعده مع احلارثي يف عمله هذا‬
‫ق��واد اخلليقة ‪ 2‬يبد أ�‬ ‫ال�ضارب يف عمق احلداثة‪� ،‬شكال وم�ضمونا؛ هكذا تعامل‬
‫بهذه الكلمات‪:‬‬ ‫«ق���واد اخلليقة «ف���أع��اده �إلينا مرتني‬ ‫ال�شاعر م��ع ن�صه َّ‬
‫لكن الغالم؛ بعد �أن �أثملته خمرة الرافدين‪ ،‬مل يلبث �أن �أ�سلم‬ ‫ّ‬ ‫متتاليتني بالعنوان ذاته‪ ،‬دون �أن يف�صل بينهما ن�ص �آخر‪،‬‬
‫احل�سن بن هانئ مهمة حل �رسواله املعقود مرتني‬ ‫عدا الت�أكيد الذي جاء بكلمتي( �صياغة ثانية ) حتت �إعادة‬
‫حتى �صار بعد ُحميا الك�أ�س ال يدفع عن نف�سه‬ ‫ن�رش الن�ص يف املرة الالحقة‪ ،‬هنا معا نالحظ ما جاء حتت‬
‫�أخ�يرا؛ ونحن نعيد ق��راءة «ع��ودة للكتابة بقلم ر�صا�ص»‬ ‫بيتي «�أب��و نوا�س» اللذين من بعدهما يبد أ� ن�ص» «ق ّ��واد‬
‫مرات عديدة �سنالحظ ما ميكن �أن �أ�شري �إليه هنا وهو �أن‬ ‫اخلليقة» يف والدت��ه الأوىل‪ ،‬ويف �صياغته الثانية‪ ،‬فقبل‬
‫العنوان بفكرته جنده بني ن�ص �شعري و�آخر يف �أجزاء هذا‬ ‫ت�شكل بدايات الن�ص يف والدته الأوىل نطَّ لع معا على ما جاء‬
‫حتول �أداتها‪،‬‬‫الكتاب‪� ،‬أي يف توالد وتوايل فكرة الكتابة‪ ،‬يف ِّ‬ ‫قواد اخلليقة‪:‬‬ ‫حتت عنوان» ّ‬
‫ويف ا�ستبدالها؛ انت�صارا للكتابة‪ ،‬ففي ن�ص» قارب الكلمات‬ ‫احل�سن بن‬
‫ُ‬ ‫اختتم بهما‬
‫َ‬ ‫حتة – كانا قفل ًة‬ ‫هذان البيتان‪ -‬الفا َ‬
‫ير�سو‪ »..‬ي�ستعا�ض القلم الإلكرتوين بف�أرة ولوحة مفاتيح‬ ‫الم يف قبل ٍة عابرة‪..‬‬‫�شب َب يف �أبياتها ب ُغ ٍ‬
‫هانئ ق�صيدة ّ‬
‫ومعالج كلمات عن قلم الر�صا�ص‪ ،‬وهو �أي�ضا قلم قابل لفكرة‬ ‫وحتت �إعادة ال�صياغة نقر�أ الفكرة ذاتها ب�صياغة ثانية‪:‬‬
‫املحو‪ ،‬يف هذه الق�صيدة لن يعلي ال�شاعر من قيمة القلم‬ ‫البيتان �أع�لاه كانا قفلة اختتم بها �أبو نوا�س واح��دة من‬
‫الإلكرتوين م�ستبدال �إياه ب�آلة كاتبة‪ ،‬تلك التي ا�ستخدمها‬ ‫�شبب فيها بغالم مت َّن َع عليه يف ُقبلة عابرة‪...‬‬ ‫ق�صائده التي َّ‬
‫يف زمن بعيد» راقنا ق�صائد عمودية كنت �أقلِّد فيها ال�شعراء‬ ‫ونحن نالحظ الفرق �سنجد �أن عدد الكلمات قد زاد فيما جاء‬
‫اجلاهليني»‪.‬‬ ‫حتت الن�ص يف والدته الأوىل‪ ،‬مع وجود اختالفات ب�سيطة‬
‫بهكذا �صور ميكن ق��راءة �صورة ال�شاعر فيما يكتب‪ ،‬ومبا‬ ‫�إىل حد ما يف �صياغة بناء اخلطابني‪.‬‬
‫يكتب‪� .‬آلة الكتابة حا�رضة‪ ،‬ببدائيتها القدمية يف الآلة‪ ،‬يف‬ ‫ا�سم الإ�شارة يف الأول ي�ستبدل بامل�صدر املحدد للمكان يف‬
‫القلم ولوحة املفاتيح‪� ،‬إنه ا�شتغال بالكتابة‪ ،‬عرب جتليات‬ ‫وي ْ�س ِقط يف ال�صياغة الثانية كلمة الفاحتة‪،‬‬ ‫كلمة «�أع�لاه»‪ُ ،‬‬
‫الزمن املتكفل بتغيري �أداة الكتابة‪.‬‬ ‫التي بني العار�ضتني‪ ،‬مرة يعلن احلارثي ا�سم ال�شاعر‪ ،‬بينما‬
‫هذا ما فعله القلم بال�شاعر‪ ،‬لكنه مل يعطه ما يريد؛ بل كتب‬ ‫نرى يف الثانية ا�سم ال�شهرة لل�شاعر حا�رضا يف كنيته‪ .‬هكذا‬
‫ما �أراد؛ عرب عودة �إىل الن�ص‪ ،‬كما �أو�ضحت �سابقا‪� ،‬إنها حرية‬ ‫تظهر اللغة حرية ال�شاعر جتاه الكلمات‪ ،‬وانتقاء �أف�ضلها؛‬
‫الكاتب أ�م��ام ال�صورة التي ي�سلِّم بها ن�صه‪ ،‬لي�صل �إىل يد‬ ‫ملحاولة الو�صول �إىل الأجمل‪.‬‬
‫القارئ ب�أدنى اخل�سائر‪.‬‬ ‫مل يكتف ال�شاعر ب�إعادة �صياغة ما �أتى به حتت بيتي احل�سن‬
‫�أختم مقايل هذا مذكِّرا مبا قاله العماد الأ�صفهاين» ت ‪682‬‬ ‫ن�صه «قواد اخلليقة» �إمنا كل بناء الن�ص معادة‬ ‫بن هانئ يف ّ‬
‫أيت �أ ّنه ال يكتب �أحد كتابا يف يومه �إال قال يف غده‪»:‬‬ ‫«�إين ر� ّ‬ ‫�صياغته‪ ،‬هكذا يحافظ ال�شاعر على الفكرة يف الن�صني‪ ،‬ويبني‬
‫لو غيرِّ هذا لكان �أح�سن‪ ،‬ولو ز ِْيد هذا لكان ي�ستح�سن‪ ،‬ولو ق ّدم‬ ‫ن�صه بلغة تظهر �شيئا يف الأول‪ ،‬وتخفي �شيئا يف الثاين‪ .‬معا‬
‫هذا لكان �أف�ضل‪ ،‬ولو ترك هذا لكان �أجمل» وهذا من �أعظم‬ ‫نقر�أ ما ذهبت �إليه‪:‬‬
‫العرب‪ ،‬وهو دليل على ا�ستيالء النق�ص على جملة الب�رشِ‪.‬‬ ‫يبد�أ ن�ص قواد اخلليقة (‪ )1‬هكذا‪:‬‬
‫‪267‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫الإن�سان الأعلى‬
‫يف كتاب «هكذا تكلم زراد�شت»‬
‫\‬
‫ترجمة‪ :‬احل�سن عالج‬ ‫فران�سوا غوفان ‬

‫واحدة من الديانات التوحيدية ال�ضاربة يف القدم‪.‬‬ ‫«يوجد يف حوزتي يف الوقت الراهن �شيء جيد �أزفه‬
‫وبالرغم من ذلك يتوجب على مازدا �أن يقت�سم خلقه‬ ‫�إليك‪:‬فقد قمت بخطوة جريئة ـ و�أعني بالقول واحدا‬
‫[للعامل ] مع ال�رشير �أهرمان ‪ .)9()Ahriman‬يعترب كل‬ ‫من [تلك الكتب] التي �ستكون مفيدة لكم‪ .‬يتعلق‬
‫من اخلري وال�رش يف الغاثا رهانني �ساميني للحياة‪.‬‬ ‫الأمر بعمل �صغري (التتجاوز �صفحاته مائة �صفحة‬
‫قلب القيــم‬
‫مرقونة)‪ ,‬بعنوان هكذا تكلم زراد�شت‪ .‬كتاب للجميع‬
‫«هكذا تكلم زراد�شت» هو على �أي حال �صيغة‬ ‫ولال�أحد‪� .‬إنه»ق�صيدة «‪� ،‬أو»�إجنيل «خام�س(‪� )1‬أو �شيء‬
‫اختارها نيت�شه بغاية �إكمال كل ن�شيد من �أنا�شيد‬
‫(‪)2‬‬
‫�آخر اليوجد له ا�سم بعد‪.‬‬
‫زراد�شتـ(ـه)‪ ,‬ق�صيدة فل�سفية مطولة وفيها تتناوب‬ ‫هذه هي الكيفية‪ ,‬التي قدم بها نيت�شه‪ ,‬يف ‪ 2‬فرباير‬
‫‪� ,18833‬إىل نا�رشه‪� ,‬إرن�ست �شميزنر �‪Ernst Sch‬‬
‫الأبيات‪ ,‬احلوارات‪ ,‬واملواعظ‪ .‬نقطة انطالق الرحلة‬
‫؟ مدينة يطلق عليها «البقرة املرقطة»(‪...)10‬‬ ‫‪ ,( )meitzner‬ماي�صفه ك�أنه «من م�سافة بعيدة يعترب‬
‫نيت�شه يتلهى‪ .‬فاختيار ال�شخ�صية ذاته هو اختيار‬ ‫الأكرث جدية والأكرث مرحا مما �أبدعت‪ ,‬ثم �إنه يف‬
‫�ساخر‪« :‬اختلق زراد�شت هذا اخلط�أ القدري الذي هو‬ ‫متناول اجلميع»‪.‬‬
‫الأخالق ؛ بناء على ذلك عليه �أن يكون �أول من يعرتف‬ ‫�سي�أتيه الإلهام‪ ,‬على حد قوله‪� ,‬أثناء نزهة مبحاذاة‬
‫بخط�إه»‪ ,‬كتب يف هذا هو الإن�سان (‪� .)1888‬صحيح‬ ‫بحرية �سيلفا بالنا‪ ,‬مبقاطعة غريزون (�سوي�رسا)‬
‫�أن الكتاب مل تكن قراءته �سهلة دائما؛ هذا هو حال‬ ‫(‪ .)3‬وقد �أن�ساه الهواء النقي للجبل لقاءه‪ ,‬ما يقارب‬
‫احلكاية ال�شهرية لتحوالت العقل الثالثة(‪ ،)11‬التي مت‬ ‫اخلم�س ع�رشة �سنة فيما بعد‪ ,‬مع امل�ست�رشق �أ�ستاذ‬
‫عر�ضها منذ اال�ستهالل‪� ,‬إدانة تامة مل�رشوعه «يف‬ ‫الفل�سفة هريمان بروكهاو�س ‪)Hermann Brockhaus‬‬
‫قلب كل القيم»‪ .‬كان العقل يف �أول الأمر جمال ـ مل‬ ‫(‪ ,)4‬مرتجم زراد�شت الفار�سي الأ�سطوري ؟ وعلى‬
‫يكن نيت�شه يعرف �أن زراد�شت تعني «حادي جمال»‬ ‫الرغم من ذلك فقد كانت منا�سبة جديرة بالذكر‪:‬‬
‫ـ‪ ,‬حيوان قوي بامتياز‪ ،‬يحمل �أحماال ثقيلة جدا‬ ‫ففي هذا املكان التقى ري�شار فاغرن(‪ )5‬الذي مل تكن‬
‫يف ال�صحراء (رمز العقل الديني التقليدي)‪ .‬التحول‬ ‫�أخته �أوتيليا‪� ,‬سوى زوجة بروكهاو�س‪ ...‬هل اختار‬
‫الثاين‪ :‬ي�صري العقل �أ�سدا‪ ,‬هذا احليوان الذي ي�سعى‬ ‫نيت�شه‪ ,‬على الرغم من ذلك‪ ,‬ربط م�صريه بامل�ؤ�س�س‬
‫�إىل �سلب احلرية وفر�ض �إرادته �ضد كل واجب‪ .‬بيد‬ ‫(‪)6‬‬
‫الأ�سطوري لديانة فار�سية عتيقة؟ عا�ش زراد�شت‬
‫�أن الروح ـ �أ�سد لي�س ب�إمكانه �سوى معار�ضة القيم‪.‬‬ ‫يف ال�رشق الأو�سط بني الألفية الثانية والألفية الأوىل‬
‫فهذه الأخرية هي التي تقوم بتجديد ما يرغب فيه‬ ‫قبل ي�سوع امل�سيح وهو من �سي�ؤلف الغاثا ‪،)7()Gathas‬‬
‫بطريقة غري مبا�رشة‪� .‬إنه «�إنكار �إلهي»‪ ،‬غري قادر‬ ‫الأنا�شيد املقد�سة �إكراما لأهورا مازد ا �‪Ahura Maz‬‬
‫على ابتكار قيمه اخلا�صة‪.‬‬ ‫‪ ،)8()da‬املبدع الأوحد للعامل‪ .‬والزراد�شتية‪ ,‬كديانة‬
‫�سيقول زراد�شت ال�شيء نف�سه يف وقت الحق «الإن�سان‬ ‫�سيعمل على ت�أ�سي�سها �أو �إ�صالحها‪� ,‬ست�شكل �آنئذ‬
‫‪268‬‬ ‫\ مرتجم وكاتب من املغرب‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الأخري»‪ :‬الإن�سان املت�شكك‪ ,‬احلديث‪ ,‬العدمي‪ ,‬الذي‬


‫ي�ؤكد احتقاره لكل القيم واملعتقدات‪ ,‬ولأن «الإله قد‬
‫مات» بالن�سبة له‪ ,‬على �أنه مل ينجح يف �إعطاء معنى‬
‫حلياته‪ .‬على خالف ذلك‪ ,‬ف�إن الطفل‪ ,‬التحول الثالث‬
‫للعقل‪ ,‬يج�سد بالن�سبة لزراد�شت الـ«بيانا مقد�سا»‪.‬‬
‫وهو يف ذات الوقت براءة ون�سيان‪ ,‬فهو التثقل‬
‫كاهله القيم املوجودة‪ ,‬بيد �أنه اليتعني كنقي�ض‬
‫لها وح�سب‪ ,‬مثل الأ�سد‪ .‬يعترب الطفل عقال مرحا‪,‬‬
‫متحررا‪ ,‬يرغب يف �إرادته اخلا�صة‪ ,‬عامله اخلا�ص‪,‬‬
‫«العود الأبدي لكل الأ�شياء»‪.‬‬
‫(‪)12‬‬
‫وجهة الإن�سان الأعلى‬
‫�إن فكرة العود الأبدي(‪ ،)13‬يقول نيت�شه يف هذا هو‬
‫الإن�سان (‪ ،)1888‬هي «ت�صور جوهري» لهكذا تكلم‬
‫زراد�شت‪ .‬وهو القول �أن الكل ـ كل فعل من افعالنا‬
‫و�أفكارنا‪ ,‬كل موقف نحياه ـ يعود من جديد �إىل‬
‫حياته‪ ,‬قيمه‪ ,‬عامله‪ ,‬بعيدا عن �أمر القيم امل�شرتكة‪.‬‬ ‫املماثل‪ .‬وبالت�أكيد‪ ,‬ف�إن م�س�ألة العود الأبدي‪,‬‬
‫ومن بني ف�ضائله‪ ،‬حب الذات ‪ )selbstliebe‬ـ مع‬ ‫يعر�ض لها كتاب العلم املرح (‪ )1882‬بو�صفها‬
‫عدم خلطه بالأنانية‪ ،‬خا�صية املنحط ( واحلياة‪,‬‬ ‫حكمة �سامية‪« :‬كم يلزمك كي حتب احلياة‪ ,‬كما حتب‬
‫ح�سا�سية مفرطة بل �أي�ضا ال�شجاعة وال�صالبة‬ ‫نف�سك حتى الترغب يف �شيء �آخر غري هذا الإثبات‬
‫الالزمة لتحقيق قيمه‪.‬‬ ‫الأبدي ال�سامي‪ »! ‬ومع ذلك‪ ,‬ف�إن ما يهم نيت�شه يف‬
‫الإن�سان الأعلى منعزل تقوده �إرادة القوة ـ الث�أر‪,‬‬ ‫املقام الأول‪ ,‬لي�س �أن كل �شيء يعود كما هو ـ فهذه‬
‫العنف‪ ,‬الهدم تاما‪ .‬ابتكار مرح‪ ,‬قوي‪ ,‬ين�شط‬ ‫الفكرة قدمية [مثل قدم ] العامل‪ ,‬وهو يعرف ذلك ـ‪,‬‬
‫الإن�سان الأعلى ـ الذي الوجود له‪ ! ‬زد على ذلك‬ ‫بل لأن ذلك املنظور ي�سمح لكل واحد بتقومي حياته‬
‫ف�إن نيت�شه مل يح�سب نف�سه مطلقا على هذا النحو‪,‬‬ ‫بالن�سبة لقيمه اخلا�صة‪ :‬فعلى كل واحد منا معرفة‬
‫والزراد�شته‪ .‬وعد نيت�شه نا�رشه بفوز قريب‪ .‬ن�رش‬ ‫ما �إذا كنا نطمح �إىل بعث ما نحن ب�صدد عي�شه‪.‬‬
‫اجلزء الأول من العمل �سنة ‪� .1883‬إنها خدعة‪.‬‬ ‫بدون حاجة �إىل �إله �أو �أخالق لغاية املعرفة‪ .‬لكن‬
‫�سنتان فيما بعد‪� ,‬سي�ؤدي الفيل�سوف ثمن ن�رش اجلزء‬ ‫�أن ير�سخ املرء �أخالقه اخلا�صة‪ ,‬فال �أحد مبقدوره‬
‫الثاين من جيبه‪ .‬قر�أه معادون لل�سامية‪ ,‬اعتقدوا‬ ‫فعل ذلك‪ .‬وعليه ف�إن ر�سالة زراد�شت هي‪ :‬تعليم‬
‫�أنهم بذلك �أماطوا اللثام عن موهبة‪� .‬سوء فهم تام‪.‬‬ ‫النا�س «جميء الإن�سان الأعلى(‪ »)14‬تعني حرفيا‬
‫(‪ )16‬و�صفهم نيت�شه بـ«الأوغاد»‪� .‬أما �أولئك الذين ظنوا‬ ‫«الإن�سان الأعلى»‪ .‬هكذا تكلم زراد�شت هو �أول كتاب‬
‫�أنهم وجدوا يف كتابه نبوءة جديدة‪ ,‬فقد مقتهم‪ .‬ال‬ ‫ي�ستدعي جماوزة الإن�سان‪« :‬الإن�سان حبل من�صوب‬
‫يتحدث هنا نبي‪� ،‬أحد �أولئك الكريهني‪ ,‬كائنات‬ ‫بني احليوان والإن�سان الأعلى‪ ,‬حبل م�شدود فوق‬
‫هجينة مكونة من املر�ض و�إرادة القوة‪ ,‬واملعروفة‬ ‫(‪)15‬‬
‫الهاوية»‪ ,‬ي�رصح زراد�شت يف اال�ستهالل‪.‬‬
‫با�سم م�ؤ�س�سي الأديان(‪ ،)17‬كتب يف هذا هو الإن�سان‪.‬‬ ‫وجهة الإن�سان الأعلى‪ ,‬هي واحلالة هذه �صورة‬
‫ومثلما مت تقدميه وبالرغم من �أن زراد�شتـ(ـه)‬ ‫عالمة مو�ضوعة يف الأفق‪ .‬من يكون؟ «منوذج‬
‫يعترب كتابا «قطعيا»‪« ,‬مقد�سا»‪ ,‬ف�إن لديه �شيئا من‬ ‫جديد»‪ ,‬يكتب نيت�شه‪« ,‬عقل حر» يحدد بنف�سه معنى‬
‫‪269‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫الغرائز‪،‬وحتتفل بالعقل‪ ,‬وتلغي الالعقل واجلنون‪ ,‬وتت�شاءم‬ ‫الإجنيل‪« :‬من بني كل �أعمايل يحتل زراد�شتـ(ـي)‬
‫من ال�ضحك والن�سيان‪ ,‬متجد الك�آبة وال�شفقة وت�ستو�صي‬ ‫موقعا خا�صا ؛ عربه تقدمت �إىل الب�رشية ب�أكرب‬
‫بالرحمة‪ ,‬وترمتي يف �أح�ضان املوجود مبا هو موجود‪,‬‬
‫ومكر�سة ن�سيان الكينونة على حد تعبري هايدغر‪ .‬ويف ذات‬
‫هدية مل ي�سبق لها �أن نالت مثلها �إىل حد الآن‪ .‬هذا‬
‫ال�سياق يقول نيت�شه بخ�صو�ص «�إجنيلـ»ـه اخلام�س‪« :‬لقد‬ ‫الكتاب‪ ,‬بنربته التي تعرب �آالف ال�سنني‪ ,‬لي�س �أعظم‬
‫وهبت الإن�سانية �أعمق كتاب مما يوجد بحوزتها اليوم‪:‬‬ ‫كتاب على الإطالق فح�سب‪ :‬كتاب �أعايل بحق ـ‬
‫زراد�شتي‪ ,‬وعما قريب �س�أكون قد قدمت لها الكتاب الأكرث‬ ‫يبدو الواقع الإن�ساين بكليته راب�ضا على م�سافة‬
‫ا�ستقاللية»‪ .‬غ�سق الأوثان‪.‬فريدريك نيت�شه‪ .‬ترجمة علي‬ ‫خيالية من حتته ـ‪� ,‬إنه �أي�ضا الكتاب الأكرث عمقا‪,‬‬
‫م�صباح من�شورات اجلمل ‪� 2010‬ص ‪ .167‬ويف ال�سياق‬
‫ذاته‪ ,‬يقول نيت�شه �إنه اختار زراد�شت بال�ضبط لكي يجعل‬ ‫كتاب طالع من الأعماق ال�رسية لكنوز احلقيقة ؛‬
‫بطله يقول» العك�س متاما «ملا قاله زراد�شت التاريخي‪.‬‬ ‫بئر التن�ضب حيث التنزل دلو دون �أن ت�صعد ممتلئة‬
‫زراد�شت نيت�شه‪ .‬بيارهيرب �سوفرين‪ .‬ترجمة �أ�سامة احلاج‬ ‫ذهبا وخريا كثريا‪.)18(.‬‬
‫امل�ؤ�س�سة اجلامعية للدرا�سات والن�رش والتوزيع‪ .‬طبعة �أوىل‬ ‫ي�أ�سف كثريا‪� :‬أن ال�أحد طلب منه‪ ,‬كيف به هو امل�ؤلف‪,‬‬
‫‪� .1994‬ص ‪31‬‬
‫يقوم بت�أويل عمله‪« .‬ما من �أحد �س�ألني‪ ,‬يتعني علي‬
‫‪2‬ـ يعترب هذا الن�ص يف �أ�صله ر�سالة بعث بها نيت�شه �إىل‬
‫نا�رشه �أرن�ست �شمايت�سنز بتاريخ الثالث ع�رش من �شهر فرباير‬ ‫�أن �أ�س�أل نف�سي‪ ,‬ما معنى ا�سم زراد�شت يف فم �أول‬
‫‪ .1888‬هكذا تكلم زراد�شت من�شورات اجلمل‪ .‬ترجمة علي‬ ‫ال�أخالقي‪� ».‬أال يعترب الالفهم من حظ ال�شعراء ؟‬
‫م�صباح‪ .‬طبعة �أوىل ‪� 2007‬صفحة ‪.15‬‬
‫الهوام�ش من �إعداد املرتجم‬
‫‪3‬ـ يقول نيت�شه بهذا اخل�صو�ص‪« :‬كنت يومها �أمت�شى داخل‬
‫الغابة على �ضفاف بحرية �سيلفا بالنا ؛ وعلى مقربة من قالب‬ ‫‪1‬ـ كتب نيت�شه �إىل �صديقته مالفيلدا فون مايزنبورغ‪:‬‬
‫�صخري قائم على �شكل هرم غري بعيد من �سورالي توقفت‬ ‫«�إنها ق�صة رائعة‪ :‬لقد حتديت كل الديانات وو�ضعت«كتابا‬
‫لال�سرتاحة‪ .‬هناك جاءتني تلك الفكرة‪ ».‬وي�شري هرني �ألبري‬ ‫مقد�سا» جديدا ! وبكل جدية �أقول �إنه على غاية من اجلد كما‬
‫‪ ,( )Henri Albert‬يف التقدمي الذي خ�ص به ترجمته لكتاب‬ ‫مل ي�سبق لكتاب �آخر �أن يكون‪ ,‬و�إن كان قد ا�ستوعب ال�ضحك‬
‫هكذا تكلم زراد�شت‪� ,‬إىل �أن فكرة زراد�شت تعود عند نيت�شه‬ ‫و�أدجمه داخل الدين»‪ .‬هكذا تكلم زراد�شت �ص ‪15‬‬
‫�إىل ال�سنوات الأوىل �أثناء �إقامته مبدينة بال ال�سوي�رسية‪.‬‬ ‫ال�شك �أن لغة نيت�شه الفل�سفية لغة حتتفل بالهدم والتدمري‬
‫كما توجد عالمات يف املذكرات التي تعود �إىل �سنتي ‪1881‬‬ ‫والتفكيك‪ ,‬لغة التعرف املهادنة �أو تقف عند �أن�صاف احللول‪,‬‬
‫و‪ .1882‬على �أن الت�صور الأ�سا�سي للعمل‪ ,‬جتلى �أثناء �إقامة‬ ‫فهي تتخذ من التحدي ومعانقة ال�صعاب والوقوف على‬
‫نيت�شه ب�إقليم �أونغادينا يف �صائفة ‪ 1881‬حيث التمعت يف‬ ‫حافة الهاوية‪ ,‬حملقة يف الأعايل‪� ,‬أعايل الأجرف وال�صخور‬
‫ذهنه فكرة العود الأبدي‪.‬‬ ‫الناتئة الأكرث خطرا‪...‬ويهدف �إجنيل نيت�شه اخلام�س بلغته‬
‫ويف تلك الأثناء تبلورت الفكرة يف ذهنه‪ :‬وحتمل دفاتر‬ ‫املدمرة �إىل الإرباك والت�شكيك يف كل اليقينيات وخلخلة‬
‫مذكراته وخمطوطاته ل�سنتي ‪ 1881‬و ‪ 1882‬العديد من‬ ‫الثوابث التي ت�أ�س�ست عليها احلقيقة (التي ي�ضعها على الدوام‬
‫الإ�شارات‪ ,‬ثم �إن كتاب «العلم املرح «الذي عمل على ت�أليفه‬ ‫بني ظفرين)‪� ,‬ش�أنها يف ذلك �ش�أن العقل‪ ,‬الإميان‪ ,‬الدين‪,‬‬
‫يف تلك الأثناء يت�ضمن «مائة �إ�شارة عن دنو �شيء المثيل‬ ‫اهلل‪ ,‬احلداثة‪ ,‬التقدم‪ ,‬الأخالق‪ ..‬ونيته يف ذلك كما �سبق‪,‬هي‬
‫له»‪ .‬انظر‪ :‬هكذا تكلم زراد�شت‪ .‬ترجمة هرني �ألبري‪ .‬ن�سخة‬ ‫هدم بناءات هذه الأ�صنام املتداعية وامل�صابة بالأعطاب‬
‫�إليكرتونية‪ :‬بيار هيدالغو‪ ,‬يناير ‪� 2012‬ص ‪11‬‬ ‫واخلراب والأمرا�ض الفتاكة القاتلة‪ ,‬وكل ما يكون ع�سريا‬
‫‪ 4‬ـ هريمان بروكهاو�س ( ‪1806‬ـ ‪ ) 1877‬م�ست�رشق �أملاين‬ ‫على اله�ضم‪ ,‬حتى نتحدث بلغة نيت�شه‪� ..‬إجنيل نيت�شه (هكذا‬
‫‪ 5‬ـ ويلهلم ري�شار فاغرن (‪1806( )Wilhelm Richard Wagner‬ـ‬ ‫تكلم زراد�شت ) �إمنا جاء لكي يخلخل اجلاهز من احلقائق‬
‫‪ )1883‬م�ؤلف مو�سيقي �أملاين يف احلقبة الرومان�سية‪ ,‬وم�ؤلف‬ ‫ويقو�ض املعتقدات ومن �أجل زرع ال�شك يف البديهيات‬
‫خلم�سة ع�رش �أوبريا‪.‬‬ ‫ويرتاب يف كل ما اعترب ه تاريخ الفل�سفة «حقيقة»‪� ،‬إمنا‬
‫‪ 6‬ـ مت ن�سيانه من قبل تاريخ الأديان‪ .‬يعترب مبتكر الديانة‬ ‫هو من وجهة نظر نيت�شه وهم‪ ..‬وي�شكل كتاب هكذا تكلم‬
‫التوحيدية منذ ‪� 3700‬سنة خلت‪ ,‬يعود له الف�ضل يف ظهور‬ ‫زراد�شت �أو �إجنيل نيت�شه اخلام�س‪ ,‬معار�ضة �ساخرة للعهد‬
‫ديانة الإمرباطوريات الفار�سية �إىل حدود ظهور الإ�سالم‪.‬‬ ‫اجلديد الذي د�شن ع�رص امل�سيحية التي يعتربها نيت�شه‬
‫‪ 7‬ـ الغاثا‪ ,‬هي خم�سة �أنا�شيد تن�سب �إىل زراد�شت‪ ,‬والتي ت�شكل‬ ‫�أفالطونية جديدة يف كتابه جنيالوجيا الأخالق‪ ,‬ولكون‬
‫جوهر الديانة الزراد�شتية‪ .‬وقد مت حتريرها بالأفي�ستا القدمية‪,‬‬ ‫�أن امل�سيحية �إمنا �أتت لتذم احلياة وتعدم اجل�سد وتتقزز من‬
‫‪270‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫منزلته‪� .‬أال يقول زراد�شت ويردد منذ بداية الكتاب حتى �آخره‪:‬‬ ‫وتنق�سم �إىل �سبعة ع�رشة ن�شيدا‪ .‬عن موقع‪www.amazon.fr :‬‬
‫«الإن�سان �شيء البد من جتاوزه»‪ .‬فاملعنى وا�ضح هنا‪ .‬يعني‬ ‫‪ 8‬ـ �أهورا مازدا (تعني بالفار�سية‪ :‬رب ـ حكمة) ي�شكل الإله‬
‫�أن زراد�شت يطمح �إىل نوع جديد وكيان خمتلف نوعيا ولي�س‬ ‫املركزي للديانة املزدكية القدمية‪ .‬وبعد الإ�صالح الذي قام‬
‫متفوقا �ضمن النوع نف�سه‪.‬‬ ‫به زراد�شت ل�صالح العبادة املزدكية القدمية‪� ,‬أ�صبح �أهورا‬
‫ويعرف نيت�شه الإن�سان الأعلى يف كتاب»هذا هو الإن�سان‬ ‫مازدا �إلها وحيدا‪ ,‬جمردا ومتعاليا عن الزراد�شتية‪.‬‬
‫«قائال‪� :‬إن عبارة الإن�سان الأعلى ك�صيغة للتعبري عن منوذج‬ ‫‪ 9‬ـ يعترب روحا �رشيرة تتعار�ض مع �أهورا مازدا يف الديانة‬
‫االكتمال الأعلى‪� ,‬أي كنقي�ض للإن�سان «احلديث»‪ ,‬و «الإن�سان‬ ‫الزراد�شتية‪ .‬ويدل ا�سمه على «الفكرة القلقة» �أوالـ«فكرة‬
‫اخلري»‪ ,‬وللم�سيحيني وغريهم من العدميني ـ العبارة التي‬ ‫اخلبيثة»‪ .‬يف البدء خلق �أهورا مازدا‪ ,‬باعتباره �إلها عليا‪,‬‬
‫تتخذ على ل�سان زراد�شت مدمر الأخالق معنى يدعو �إىل‬ ‫روحني متعار�ضني‪( :‬روح خرية‪ ,‬روح مقد�س ) و( روح �رشيرة‬
‫التفكري ـ نراها تفهم يف كل مكان تقريبا وبرباءة تامة طبقا‬ ‫)‪ .‬فيما بعد‪� ,‬سيتم ا�ستبدال الروح اخلرية ب�أهورا مازدا بو�صفه‬
‫للقيم التي تتناق�ض كليا وتلك التي جاء ينادي بها زراد�شت؛‬ ‫مناف�سا لأهرميان‪.‬‬
‫�أعني بذلك كنموذج «مثايل» لنوع راق من الب�رش‪ ,‬ن�صف‬ ‫‪ 10‬ـ �أخذنا هنا برتجمة علي م�صباح الذي ي�شري يف هام�ش‬
‫«قدي�س» ون�صف «عبقري»‪ .‬انظر‪ :‬هذا هو الإن�سان‪ .‬ترجمة‬ ‫ال�صفحة ‪� 64‬إىل �أن ترجمة» البقرة املرقطة «تعني حرفيا»‬
‫علي م�صباح‪ .‬من�شورات اجلمل ‪ .2003‬هام�ش ال�صفحة ‪68‬‬ ‫البقرة امللونة «وهي عبارة �ساخرة من الل�سان ال�شعبي‬
‫يف ذات ال�سياق انظر‪ :‬ت�أويل هايدغر لفكرة الإن�سان الأعلى‪.‬‬ ‫الأملاين وت�ستعمل لت�سمية النواتات العمرانية ال�صغرية ذات‬
‫يف الفل�سفة الأملانية‪ :‬هايدغر �ضد نيت�شه‪ .‬د‪ .‬حممد ال�شيكر‬ ‫الرتكيبة ال�سكانية امللفقة واملتنافرة والتي التتوفر يف‬
‫من�شورات الزمن ‪� 2013‬ص ‪ 80‬ـ ‪81‬‬ ‫�أهاليها خ�صال احل�س املدين والوطني التي متيز احلا�رضة �أو‬
‫‪ 13‬ـ بخ�صو�ص فكرة العود الأبدي ينظر كتاب هذا هو الإن�سان‬ ‫الأمة‪ .‬هكذا تكلم زراد�شت �ص ‪64‬‬
‫�ص ‪ 84‬وكتاب غ�سق الأوثان �أو كيف تتعاطى الفل�سفة قرعا‬ ‫‪ 11‬ـ حتوالت العقل الثالثة‪ :‬حتول العقل �إىل جمل‪ ,‬واجلمل‬
‫باملطرقة‪ .‬ترجمة علي م�صباح‪ .‬من�شورات اجلمل‪� 2010 .‬ص‪:‬‬ ‫�إىل �أ�سد‪ ,‬والأ�سد �إىل طفل بالنهاية‪ .‬انظر ال�صفحات‪61 :‬ـ‬
‫‪ 179‬حيث نقر�أ مايلي‪ ...:‬وبهذا �أالم�س جمددا ذلك املوقع الذي‬ ‫‪ 64‬من كتاب زراد�شت‪ .‬ويف هذا ال�سياق يقول بيار هيرب‬
‫انطلقت منه‪ :‬لقد كان «مولد الرتاجيديا» �أول عملية قلب لكل‬ ‫�سوفرين‪«:‬يبد أ� زراد�شت با�ستعارة تربز �أطوار التحول الثالثة‪:‬‬
‫القيم قمت بها ؛ وبذلك �أجد نف�سي �أقف من جديد فوق الأر�ض‬ ‫يعلم كيف �أن علينا‪� ,‬إذ ننطلق من الطاعة ال�سلبية اخلا�صة‬
‫التي نبتت منها �إرادتي‪ ,‬ومقدرتي‪� ,‬أنا �آخر تالمذة الفيل�سوف‬ ‫باجلمل‪ ,‬املوافق دائما على القبول بالأثقال التي فر�ضها‬
‫ديونيزو�س‪ ,‬ـ �أنا‪ ,‬معلم العود الأبدي‪...‬‬ ‫عليه‪� ,‬أن نقلب �أوال كل حمل القيم‪ ,‬بفظاظة الأ�سد ال�رش�سة‪,‬‬
‫‪ 14‬ـ ينظر بهذا اخل�صو�ص ال�صفحة ‪ 53‬من كتاب هكذا تكلم‬ ‫وننتقل بعد ذلك �إىل خلق قيم جديدة ب�أ�صالة الطفل الربيئة‪».‬‬
‫زراد�شت‬ ‫زراد�شت نيت�شه �ص ‪ 128‬ـ ‪ 129‬ويف نف�س ال�سياق نن�صت‬
‫‪ 15‬ـ انظر‪ :‬ديباجة هكذا تكلم زراد�شت �ص ‪45‬‬ ‫�إىل ت�أويل جيل دولوز‪« :‬اجلمل هواحليوان الذي يحمل عبء‬
‫‪ 16‬ـ يتعلق الأمر بكل �أولئك الذين ت�أولوا نيت�شه بغر�ض ت�شويه‬ ‫القيم ال�سائدة‪� ,‬أثقال الرتبية‪ ,‬والأخالق والثقافة‪ .‬يحطم الأ�سد‬
‫فكره وبالتايل جعله مطابقا لأطروحاتهم املعادية لل�سامية‪,‬‬ ‫التماثيل‪ ,‬يدو�س الأثقال‪ ,‬يتوىل نقد كل القيم ال�سائدة‪� .‬أخريا‬
‫واملتما�شية مع الإيديولوجيا النازية التي يربئ نف�سه منها‪,‬‬ ‫ميتلك الأ�سد �أن ي�صبح طفال‪� ,‬أي لعبا وبداية جديدة‪ ,‬خالقا‬
‫وذلك بنقدها وذمها لأكرث من مرة‪ ,‬ولعل من �ضمن ه�ؤالء‬ ‫لقيم جديدة ومبادئ تقومي جديدة‪ ».‬نيت�شه‪ .‬جيل دولوز‪.‬‬
‫الذين ا�ساءوا �إىل نيت�شه‪ ,‬بتحوير فكره وت�شويهه كي يخدم‬ ‫ترجمة �أ�سامة احلاج امل�ؤ�س�سة اجلامعية للدرا�سات والن�رش‬
‫م�صاحلهم النازية‪� ,‬أخته‪� ,‬إليزابيث فور�سرت نيت�شه‪ ,‬وزوجها‪,‬‬ ‫والتوزيع‪ .‬طبعة �أوىل ‪� .1998‬ص ‪5‬‬
‫وبع�ض القوميني من �أ�صدقاء نيت�شه وتوما�س مان يف‬ ‫‪ 12‬ـ عن الرتجمة‪ :‬يعرتف علي م�صباح يف هام�ش ال�صفحة‬
‫مداخلته ال�شهرية «نيت�شه يف �ضوء جتربتنا التاريخية»‪ .‬انظر‪:‬‬ ‫‪ 40‬من كتاب هكذا تكلم زراد�شت‪ ,‬ب�صعوبة ودقة م�صطلح‬
‫حوار مع علي م�صباح عن موقع‪:‬‬ ‫الإن�سان الأعلى‪ ,‬فقد اختلفت جممل الرتجمات العربية‬
‫‪www.nietzschecircle.com‬‬ ‫يف حماوالتها لإيجاد العبارة املنا�سبة لكلمة ‪uber‬‬
‫‪ 17‬ـ انظر‪ :‬هذا هو الإن�سان �ص ‪10‬‬ ‫‪ ( )mensch‬الأملانية �أو ‪ ( )surhomme‬الفرن�سية‪ .‬كما‬
‫‪ 18‬ـ اعتمدنا هنا ترجمة علي م�صباح‪ .‬انظر‪ :‬هذا هو الإن�سان‬ ‫يذكر القارئ �أي�ضا ب�أن كل الرتجمات متت عرب لغة و�سيطة‪.‬‬
‫�ص ‪10‬‬ ‫لذلك ف�إن عبارة ‪ ( )uber –mensch‬مركبة من ‪)uber‬‬
‫عن املجلة ال�سبوعية الفرن�سية ‪ Le Point‬عدد ممتاز حتت‬ ‫( وتعني» فوق «و» ما فوق «ت�شري �إىل منزلة �أخرى‪� ,‬أي �أن‬
‫عنوان‪ Nietzsche le philosophe de l’anticonformisme :‬عدد‬ ‫املنزلة اجلديدة هي التي تتفوق على على املنزلة القدمية‪,‬‬
‫‪ 14‬يونيو ـ يوليوز ‪.2013‬‬ ‫ولي�س �إن�سان املنزلة القدمية هو املتفوق على بقية ب�رش‬

‫‪271‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫اللغة العربية‬
‫ودعوى حتيّز �ضد املر�أة‬
‫\‬
‫خالد عبد احلليم العب�سي‬

‫حتيز العربية �ض ّد املر�أة‪،‬‬


‫ظواهر لغوية ر�آها دالة على ّ‬ ‫بت�شعباتها �ضمن‬ ‫ّ‬ ‫ت�أتي م�س�ألة (عالقة الفكر باللغة)‬
‫متو�سال‬
‫ّ‬ ‫ومعنى ذلك �أنه يثبت الظاهرة االجتماعية‬ ‫منطقة م�شرتكة بني الل�سانيات وعلم النف�س الإدراكي‪،‬‬
‫بظواهر لغوية‪ ،‬و�س�أجتاوز عن اجلانب االب�ستمولوجي‬ ‫وال تخلو �أي�ضا من ارتباطات بجوانب فل�سفية‪ .‬ما عالقة‬
‫ومتفرع ولي�س ي�صح فيه �إطالق‬‫ّ‬ ‫للق�ضية؛ �إذ الأمر طويل‬ ‫اللغة بالفكر؟ يف �أي اجتاه مي�ضي الت�أثري والت�أثر؟ وما‬
‫الإثبات �أو النفي‪ ،‬و�س�أكتفي يف هذا البحث بالتناول‬ ‫حدود ذلك الت�أثري؟ يف هذا ال�سياق ا�شتهرت (فر�ضية‬
‫املبا�رش للظواهر اللغوية التي انطلق منها الدكتور‬ ‫قرر �أن‬
‫�سابري‪ -‬وورف) (‪ ،)Sapir-Whorf hypothesis‬وهي ُت ّ‬
‫حتيز العربية‬ ‫الغذامي ليثبت مدلوالت ثقافية دالّة على ّ‬ ‫الإن�سان يبقى �أ�سريا حتت رحمة لغته و�أنه ال ي�ستطيع‬
‫–بو�صفها لغة‪� -‬ض ّد املر�أة‪.‬‬ ‫وت�سمى لأجل ذلك‪ :‬احلتمية‬ ‫ّ‬ ‫ر�ؤية العامل �إال من خاللها‪،‬‬
‫نفي‬
‫ومن املهم هنا �أن ن�ؤكّ د �أنه لي�س مرادا لهذا البحث ُ‬ ‫اللغوية (‪.)Linguistic Determinism‬‬
‫وجود مظاهر لغمط قيمة الأنوثة يف الثقافة العربية‪،‬‬ ‫غري �أن ُم�ستجدات البحث الل�ساين قد جتاوزت هذه‬
‫فالتحيز �ضد الأنثى �سلوك �شائع يف احل�ضارات القدمية‬ ‫الفر�ضية‪،‬فلم تعد حتظى بال�صدى الذي كان يحيط‬
‫وعند كثري من ال�شعوب‪ ،‬ولي�ست مظاهره التي ن�شاهدها‬ ‫بها �سالفا‪ .‬قال جفري �سام�سون‪« :‬فكرة حظيت ب�شغف‬
‫اليوم �إال بقايا من ذلك التحيز‪ ،‬ولكني هنا �أنفي �أن تكون‬ ‫مو�سمي يف �أو�ساط الل�سانيني من �شتى املدار�س‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬
‫ال�شواهد اللغوية التي اعتمد عليها الدكتور الغذامي‬ ‫حظيت فعال باهتمام الكثريين ممن مل يكونوا طالبا‬
‫دليال على التمييز �ضد املر�أة‪ ،‬وفيما يلي بيان ذلك‪:‬‬ ‫يدر�سون اللغة مبعنى الكلمة»(‪ ،)1‬وقال �ستيفن بنكر‪:‬‬
‫«ال تبدو فكرة كون اللغات تقولب التفكري ُمقنعة �إال‬
‫�أوال‪ :‬جمع املذكر ال�سامل قلعة ح�صينة‬
‫حني كان العلماء يجهلون كيف يعمل التفكري �أو كيف‬
‫نقل الدكتور الغذامي عبارة �أحد النحاة املعا�رصين‬ ‫ميكن درا�سة الفكر نف�سه‪� .‬أما الآن وقد ا�ستطاع علماء‬
‫–وهو عبا�س ح�سن‪� -‬إذ قال‪« :‬لي�س املراد بالعاقل �أن‬ ‫الإدراك معرفة كيفية التفكري عن الفكر‪ ،‬ف�إن احتمال‬
‫يكون عاقال بالفعل‪ ،‬و�إمنا املراد �أنه من جن�س العاقل‬ ‫كونهما �شيئا واحدا قد ت�ضاءل ب�شكل كبري»(‪ ،)2‬وقال‬
‫كالآدميني واملالئكة‪ ،‬في�شمل املجنون الذي فق َد عقله‪،‬‬ ‫ديفيد ج�ستِ�س‪« :‬لكن التاريخ �أثبت �أن الف�شل كان م�صري‬
‫والطفل ال�صغري الذي مل يظهر �أثر عقله بعد‪ .‬وقد يجمع‬ ‫حماوالت امل�شغوفني التي ت�سعى �إىل اكت�شاف بع�ض‬
‫غري العاقل تنزيال له منزلة العاقل �إذا �صدر منه �أمر ال‬ ‫الروابط بني اللغة والأعراق‪ ،‬وكان ق�صدهم الأول �أن‬
‫يكون �إال من العقالء فيكون جمع مذكر»‪.‬‬ ‫ي�ستنتجوا الب�ساطة العقلية من البنية الب�سيطة‪ ،‬لكن‬
‫وعلّق الدكتور الغذامي على ذلك ب�أنه ُ�سمح للجميع‬ ‫التعقيدات ال�رصفية الرتكيبية ال�شديدة للغات الأمريكية‬
‫باالقرتاب من جمع املذكر �إال امل�ؤنث‪ ،‬فقال‪« :‬هنا يحق‬ ‫الأ�صلية �أدت �إىل �إخفاق هذه الفكرة �إخفاقا مخُ جال»(‪،)3‬‬
‫للمجنون والطفل وكذا احليوان الذكي �أن يدخل قلعة‬ ‫وقال الدكتور حمزة املزيني –من الل�سانيني العرب‪:-‬‬
‫(املذكر ال�سامل)‪� .‬أما الأنثى فال يجوز لها االقرتاب من‬ ‫«مل يع ْد �أح ٌد يحملها على حممل اجلد‪ ،‬ومن الأف�ضل �أن ال‬
‫هذا احلق الذكوري اخلال�ص (ال�سامل)»(‪.)5‬‬ ‫املتطرفة التي م�ضى زمنها»(‪.)4‬‬
‫ّ‬ ‫نناق�ش الأفكار‬
‫حكم‬
‫�إن ت�صوير (جمع املذكر ال�سامل) ب�أنه قلعة ح�صينة ٌ‬ ‫ويف كتابه (املر�أة واللغة) ناق�ش الدكتور عبداهلل الغذامي‬
‫‪272‬‬ ‫\ باحث واكادميي من اليمن‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫والفرعية على �أ�س�س ال �صلة لها بالقيم االجتماعية‬ ‫نب على املالحظة العلمية الدقيقة لتفا�صيل كثرية‬ ‫مل ين ِ‬
‫�أنهم ذهبوا �أي�ضا �إىل �أن املفرد �أ�صل للمثنى واجلمع‪،‬‬ ‫مرتبطة بهذه ال�صيغة ال�رصفية؛ فكل ما يف الأمر �أنها‬
‫لأن الأخريين يحتاجان �إىل عالمة‪ ،‬واملفرد ال يحتاج‬ ‫�رشوط لغوية قائمة على �أهم خا�صية بنيوية للغة‪-‬‬
‫�إليها‪ ،‬ومن �أمثله ذلك �أي�ضا قول النحاة «النكرة �أ�صل‬ ‫امل�سلمات البديهية يف‬
‫ّ‬ ‫االعتباطية‪ ،‬وقد �صار هذا من‬
‫واملعرفة فرع»‪ ،‬و«الأ�صل يف املبتد أ� �أن يكون معرفة»‪،‬‬ ‫البحث الل�ساين احلديث‪.‬‬
‫وقولهم «امل�رصوف �أ�صل واملمنوع من ال�رصف فرع»‪،‬‬ ‫ُح ّجةهذا احلكم ال�سالف هذا �أن من املذكّ ر نف�سه ما ال‬
‫وقولهم «الأ�صل يف احلال �أن يكون نكرة» و«الأ�صل يف‬ ‫يجوز جمعه ب�صيغة جمع املذكر ال�سامل‪ ،‬و�أهم ما نذكره‬
‫�صاحب احلال �أن يكون معرفة»‪ ،‬وقولهم «الأ�صل يف‬ ‫هنا كلمة (رجل)‪ ،‬وهي �أخ�ص كلمة باملفرد املذكر‬
‫الأ�سماء الإعراب»‪ ،‬و«الأ�صل يف الأفعال البناء»‪.‬‬ ‫العاقل؛ �إذ ال يجوز �أن تجُ مع على (رجلون)‪ ،‬و�سيكون‬
‫فهل ميكن �أن يقال �إن كل العبارات ال�سابقة ُبنيت‬ ‫حكما هزليا لو قلنا‪� :‬إن الرجل ُمنع من االقرتاب من‬
‫متحيزون للمعرفة‬
‫ّ‬ ‫حتيز اجتماعي؟ فهل النحاة‬ ‫على ّ‬ ‫قلعة املذكر ال�سامل؟!‬
‫متحيزون للمفرد �ضد املثنى‬ ‫ّ‬ ‫�ضد النكرة؟ وهل هم‬ ‫(نبي)‬
‫والعرب تقول (ر�سول) وجتمعه على ُ(ر ُ�سل)‪ ،‬وتقول ّ‬
‫متحيزون للم�رصوف �ضد املمنوع‬ ‫ّ‬ ‫واجلمع؟ وهل هم‬ ‫وجتمعه على (�أنبياء)‪ ،‬وكذلك (قائد) و(قادة)‪ ،‬ونحوه‬
‫من ال�رصف؟‬ ‫(عظيم) و(عظماء)‪ ،‬فاختارت لكل ما �سلف ‪-‬مما هو‬
‫الق�ضية الثانية‪� :‬أنه ال يبدو يف كالم الدكتور الغذامي‬ ‫جمع التك�سري ال جمع املذكر ال�سامل؛ فهل‬‫مفرد مذكر‪َ -‬‬
‫ني اللغة واللغوي‪ ،‬ف�إنه �إن �أراد اال�ستدالل‬
‫متييز وا�ضح ب َ‬ ‫لنا �أن ن�ستنتج الآن �أن العرب ُتق�صي الر�سل والأنبياء‬
‫بتلك امل�صطلحات والعبارات على �إظهار التحيز‬ ‫والقادة والعظماء عن قلعة املذكر ال�سامل احل�صينة؟! لو‬
‫الالواعي لدى النحاة فهذه ق�ضية‪ ،‬و�إن �أراد بتلك‬ ‫قلنا ذلك ف�أظن �أننا �سنقع يف نتائج ُمغرقة يف الغرابة‬
‫امل�صطلحات والعبارات �إظهار التحيز لدى اللغة العربية‬ ‫وبعيدة كل البعد عن البحث العلمي‪.‬‬
‫نف�سها؛ فهذه ق�ضية �أخرى‪ ،‬واالحتمال الأخري هو ما‬ ‫فاخلال�صة�أن جمع املذكر ال�سامل ق�ضية نحوية لها‬
‫يظهر لنا؛ �إذ ال�سياق الأكرب للكتاب ‪-‬وهو عنوانه‪-‬‬ ‫�رشوطها و�أحكامها اللغوية التي ال ينبغي �أن نربطها‬
‫(املر�أة واللغة)‪.‬‬ ‫مبا ال حتتمله من الدالالت الثقافية‪.‬‬
‫حمل ما ينتقده من عبارات‬ ‫ف ُي�ؤخذ يف هذا ال�سياق �أنه ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬الأ�صلية والفرعية يف النحو العربي‬
‫للنحاة على عاتق اللغة نف�سها؛ فغاب عن كالمه التفريق‬
‫بني اللغة واللغوي؛ بني اللغة �أدا ًة للتوا�صل وبني اللغوي‬ ‫انتقد الدكتور الغذامي يف كتابه (املر�أة واللغة) حتت‬
‫ُمف�سرّ ا للغة ب�أفكاره القابلة للأخذ والرد‪.‬‬ ‫عنوان (الأ�صل التذكري)(‪ )6‬عبارات للنحاة لكونها حتمل‬
‫التحيز الذكوري‪ ،‬ومن مثل مقولة ابن جني‬ ‫ّ‬ ‫م�ضامني‬
‫ثالثا‪ :‬زوج وزوجة‬ ‫«تذكري امل�ؤنث وا�سع جدا لأنه ر ٌّد �إىل الأ�صل»‪.‬‬
‫قال الدكتور الغذامي‪« :‬و�إذا كانت املر�أة العربية تدخل‬ ‫ولنتنبه هنا �إىل ق�ضيتني‪:‬‬
‫مملكة الف�صاحة �إذا تخلت عن تاء الت�أنيث‪ ،‬كما يف‬ ‫الق�ضية الأوىل‪ :‬ال ميكن الذهاب �إىل �أن تلك املقولة‬
‫كلمة زوج‪ ،)7(»...‬وا�ستنتج الدكتور الغذامي يف مو�ضع‬ ‫النحوية حتي ٌزا �ضد الأنثى‪ ،‬لأنها مقوالت ُيراد منها‬
‫الحق –بناء على ق�ضية زوج وزوجة‪� -‬أن تاء الت�أنيث‬ ‫بيان اعتبارات نحوية وتقريب بع�ض الأحكام اللغوية؛‬
‫مناق�ضة للف�صاحة(‪.)8‬‬ ‫لغوي بحت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فالأ�صلية والفرعية هنا ُبنيتا على �أ�سا�س‬
‫الق�ضية امل�شار �إليها هنا هي �إطالق كلمة (زوج) �أو‬ ‫وال �صلة لها بالقيمة االجتماعية و�إن �أوهم كالم بع�ض‬
‫(زوجة) على املر�أة ذات الزوج‪ ،‬ويف البدء نذكر �أن‬ ‫النحاة خالف ذلك؛ فتحديد الأ�صل والفرع مرجعي ُته‬
‫م�صطلح «الف�صاحة» الذي بنى عليه الدكتور الغذامي‬ ‫لغوية بحتة‪ ،‬و�أحد املعايري يف هذا ال�سياق �أن الأ�صل ال‬
‫حكمه من امل�صطلحات التي ي�أباها البحث الل�ساين‬ ‫يحتاج �إىل عالمة والفرع يحتاج �إىل عالمة‪ ،‬فاملذكر ال‬
‫احلديث‪ ،‬لأنه حكم ذوقي قائم علىاالنطباع وال ي�ستند‬ ‫يحتاج �إىل عالمة وامل�ؤنث يحتاج �إىل عالمة‪.‬‬
‫�إىل معيار علمي‪.‬‬ ‫ومما يدل على �أن النحاة بنوا كالمهم يف ق�ضية الأ�صلية‬
‫‪273‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫«الف�صاحة»‪ ،‬لكان الأف�صح يف �سياق الفرائ�ض‬ ‫�أما الفكرة نف�سها فنناق�شها من وجهني‪:‬‬
‫واملواريث ا�ستعمال (زوجة) بتاء الت�أنيث‪ ،‬لأن (زوج)‬ ‫الوجه الأول‪� :‬أن الق�ضية امل�شار �إليها يرتبط بها بعد‬
‫لفظة ُملب�سة بني الذكر والأنثى‪.‬‬ ‫تاريخي وعامل زماين يجب االنتباه �إليهما‪ ،‬ال �سيما �أن‬
‫تخ�صي�ص (زوج) بالذكر و(زوجة) بالأنثى يف‬ ‫ُ‬ ‫وا�ستمر‬ ‫احلكم بالف�صاحة الذي ي�ستند �إليه الدكتور الغذامي �إمنا‬
‫العربية املعا�رصة؛ �إذ ي�سود هذا اال�ستعمال يف �أكرث من‬ ‫�صدر عن �أحد اللغويني القدامى‪.‬‬
‫م�ستوى لغوي (ال�صحافة املرئية واملكتوبة‪ ،‬املناهج‬ ‫يف البدء نقول‪� :‬إن العربية القدمية ا�ستعملت كال اللفظني‬
‫الدرا�سية‪ ،‬القوانني الر�سمية‪ ،‬العامية)‪ ،‬ولن يعدل –‬ ‫(زوج) و(زوجة) للداللة على املر�أة املتزوجة‪ ،‬ويف ل�سان‬
‫فيما �أتوقع‪ -‬عن هذا اال�ستعمال ال�سائد �إال قلة من‬ ‫العرب ن�سبة لفظ (زوج) �إىل احلجازيني‪ ،‬ون�سبة لفظ‬
‫املحافظني املت�أثرين بالثقافة الرتاثية‪.‬‬ ‫(زوجة) �إىل التميميني(‪ ،)9‬وجاء القر�آن الكرمي با�ستعمال‬
‫وبعد ما م�ضى نقول‪� :‬إن ا�ستخراج حكم ثقايف من مدلول‬ ‫(ا�سك ُْن أَ� ْن َت َو َز ْو ُجكَ‬
‫لفظ (زوج) على املر�أة‪ ،‬قال تعاىل‪ْ :‬‬
‫اللغة مثل ا�ستعمال (زوج) و(زوجة) يجب �أن يرتبط‬ ‫ون مِ ْن ُه َما َما‬ ‫الجْ َ َّنةَ) [البقرة‪ ،]35 :‬وقال تعاىل‪َ ( :‬ف َي َت َع َّل ُم َ‬
‫بالع�رص الذي ي�سود فيه ذلك اال�ستعمال‪ ،‬وال ينبغي �أن‬ ‫ُون ِب ِه َبينْ َ المْ َْر ِء َو َز ْو ِجهِ) [البقرة‪ ،]102 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ُيف َِّرق َ‬
‫ننظر �إىل اللغة العربية على �أنها كتلة واحدة �أو ظاهرة‬ ‫َان َز ْو ٍج) [الن�ساء‪.]20 :‬‬ ‫( َو�إِ ْن �أَ َر ْدتمُ ْ ْ‬
‫ا�س ِت ْب َدالَ َز ْو ٍج َمك َ‬
‫ثابتة منذ ع�صور الإ�سالم الأوىل �إىل يومنا هذا؛ وال‬ ‫وال�سائد الأعم يف �أمهات احلديث ال�ستة ا�ستعمال كلمة‬
‫ي�شرتط �أن يكون احلكم اللغوي يف ذلك الع�رص �صاحلا‬ ‫(زوج) على املر�أة‪ ،‬والأمثلة الواردة على خالف ال�سائد‬
‫�إىل يومنا هذا وبعد ‪� 1400‬سنة‪� ،‬إننا بذلك نهمل �أحد‬ ‫قليلة جدا (‪ ،)10‬من ذلك ما ورد يف البخاري (باب كرثة‬
‫احلية؛ �أعني �سمة التطور والتغري‪.‬‬
‫�أهم مظاهر اللغات ّ‬ ‫الن�ساء) قول ابن عبا�س حينما ح�رض يف جنازة ميمونة‬
‫الوجه الثاين‪ :‬يحار الباحث �أمام هذه الأمناط من‬ ‫–ر�ضي اهلل عنها‪« :-‬هذه زوجة النبي �صلى اهلل عليه‬
‫خ�ص�ص العربية �صيغ ًة للمذكر‬ ‫التحكّم؛ فحينما ُت ّ‬ ‫و�سلم ف�إذا رفعتم نع�شها فال تزعزعوها وال تزلزلوها‬
‫أنت)‬
‫و�أخرى للم�ؤنث ك�ضمري املخاطب؛ فللمذكّ ر (� َ‬ ‫وارفقوا»‪ ،‬ويف البخاري (باب �سورة النور) قول ابن‬
‫ت�رص على‬‫ّ‬ ‫و�صم العربية ب�أنها‬
‫وللم ؤ� ّنث (�أنتِ ) ُت ُ‬ ‫عبا�س لعائ�شة –ر�ضي اهلل عنها‪ -‬حني زارها يف‬
‫التمييز والتفريق بني الذكر والأنثى‪ ،‬يف حني ت�ساوي‬ ‫مر�ض موتها «ف�أنت بخري �إن �شاء اهلل زوجة ر�سول اهلل‬
‫بينهما لغات �أخرى كالإجنليزية؛ فت�ضع �صيغة‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم ومل ينكح بكرا غريك ونزل عذرك‬
‫واحدة ُم�شرتكة ل�ضمري املخاطب مذكرا وم�ؤنثا‬ ‫من ال�سماء»‪.‬‬
‫(‪ ،)you‬وحينما يكون الأمر يف العربية �أن الأف�صح‪-‬‬ ‫واعتمادا على اال�ستعمال القر�آين �أطلق بع�ض اللغويني‬
‫ال الواجب‪ -‬ا�ستعمالُ�صيغةٍ م�شرتكة للمذكر وامل�ؤنث‬ ‫العرب حكم الف�صاحة على (زوج)؛ ف�أ�سلوب القر�آن �أحد‬
‫على ال�سواء مثل كلمة (زوج)‪ ،‬ي�أتي ه�ؤالء ليقولوا �إن‬ ‫�أ�س�س اللغويني القدماء يف �إطالق هذا احلكم املعياري‬
‫العربية ت�شرتط لل�صيغة الف�صيحة �أن تتنازل املر�أة عن‬ ‫«الف�صاحة»‪� .‬أما الل�سانيات احلديثة ف�أحكامها �أدق من‬
‫�أنوثتها و�صيغتها اخلا�صة بها!‬ ‫�أحكام القِيمة‪ ،‬واحلكم الذي ينبغي �أن ال ُيتجاوز هو �أن‬
‫ونظري ذلك �أي�ضا قول الدكتور الغذامي «و�إذا ما دخلت‬ ‫يقال �إن اللفظني م�سموعان عن العرب و�إطالق (زوج)‬
‫املر�أة جمال العمل الوظيفي ف�إنها تدخل يف �سياق‬ ‫على ذات الزوج �أكرث �شيوعا من (زوجة)‪ ،‬ومل يرد يف‬
‫التذكري؛ فهي (ع�ضو)‪ ،‬وهي (مدير)‪ ،‬وهي (رئي�س‬ ‫القر�آن غريه‪ ،‬فهو «اال�ستعمال القر�آين»‪.‬‬
‫اجلل�سة)‪ ،‬وهي (�أ�ستاذ م�ساعد)‪ ،‬وهي (حما�رض)‪،)12(»...‬‬ ‫تخ�صي�ص (زوج)‬ ‫ُ‬ ‫�شاع من بعد يف الت�صنيفات الفقهية‬
‫على الرغم من �أن الدكتور الغذامي �إمنا ينقل عن املجمع‬ ‫بالذكر و(زوجة) بالأنثى(‪ ،)11‬لأن هذا التخ�صي�ص ال‬
‫القاهري (�إجازة) و�صف امل�ؤنث باملذكّ ر يف هذه‬ ‫يوقع �أي لب�س بخالف كلمة (زوج) امل�شرتكة بني للذكر‬
‫ال�سياقات‪ ،‬ولي�س (وجوب) ا�ستعمال �صيغة املذكر‪.‬‬ ‫والأنثى‪ ،‬ولو جئنا للمقارنة مثال بني (زوج) و(زوجة)‬
‫وثمة �أبحاث يف الغرب تتناول مثل هذه الق�ضايا‬ ‫عند �إطالقها على امل�ؤنث يف �سياق علم الفرائ�ض‬
‫لتقرتح جت ّنب كل لفظة خمت�صة بالرجل لأنها حتمل‬ ‫لوجدناها كلمة (زوجة) �أن�سب لهذا املقام العلمي‪،‬‬
‫خفيا؛ فمن ذلك اقرتاح ا�ستبدال( (‪police offi‬‬ ‫متييزا ّ‬ ‫ولو ا�ضطررنا �إىل ا�ستعمال ذلك احلكم املعياري‬
‫‪274‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫لالنتقائية‪.‬‬ ‫‪� )cer‬ضابط �رشطة بـ(‪ )policeman‬رجل �رشطة‪ ،‬واقرتاح‬


‫ولو �أ�ضفنا �إىل ما م�ضى ت�سا�ؤال �آخر‪ :‬أ� ُيعقل �أن‬ ‫ا�ستبدال (‪� )person to person‬شخ�صا ل�شخ�ص بـ(‪man to‬‬
‫الكاتبات املذكورات ال ي�ستعملن �أبدا عبارات بال�ضمري‬ ‫‪ )man‬رجال لرجل‪ ،‬واقرتاح ا�ستبدال (‪ )businessman‬رجل‬
‫امل�ؤنث؛ مثل «�إذا كنتِ واثقة من نف�سك �أرغمتِ الآخر‬ ‫�أعمال بـبدائل عدة منها (‪ )business manager‬مدير �أعمال‪،‬‬
‫على احرتامكِ »‪« ،‬املر�أة القوية ت�صنع جيال ال يعرف‬ ‫واقرتاح ا�ستبدال (‪ )fireman‬رجل �إطفاء بـبدائل عدة منها‬
‫ال�ضعف»؟ ال �أت�صور �أن تخلوكتاباتهن من �أمثال‬ ‫(‪ )firefighter‬مكافح احلرائق‪ ،‬واقرتاح ا�ستبدال (‪)mankind‬‬
‫العبارات ال�سابقة؛ ف�إذا كان ذلك واردا‪ ،‬فما ن�سبة هذا‬ ‫بـبدائل عدة منها( (‪ ،)humankind‬واقرتاح ا�ستبدال (�‪chair‬‬
‫الغذامي؟والجواب علميا على ذلك‬
‫َ‬ ‫�إىل ما يذكره الدكتور‬ ‫‪ )man‬بـبدائل عدة منها (‪.)13()chairperson‬‬
‫�إال باال�ستقراءامل�ستويف ل�رشوطه‪� .‬أما الأمثلة املنتقاة‬ ‫فهذه الآراء م�ضمونها اقرتاح �إلغاء م�سميات الوظائف‬
‫فال ُي�ستطاع احلكم بها على �شيء‪.‬‬ ‫املميزة بني الذكر والأنثى‪ ،‬وعندما ُي�صدر املجمع‬
‫الوجه الثاين‪ :‬يرى الدكتور الغذامي �أن الق�ضية �أو احلكم‬ ‫اللغوي قرارا (بجواز) ال (بوجوب) ا�ستعمال �صيغة‬
‫�إذا كانا يف حالة التجريد ف�إن ال�ضمري (هو) ما يهيمن‬ ‫م�شرتكة بني املذكر وامل�ؤنث‪ ،‬جند َمن يقر�أ هذا القرار‬
‫يف كتاباتهن‪ ،‬ولن�سلم �أن ال�ضمري (هو) يظهر يف ذلك‬ ‫ب�أنه حمو ل�شخ�صية املر�أة‪ ،‬وهكذا جند �أنف�سنا �أمام �آراء‬
‫ال�سياق‪ ،‬ولكن الإ�شكال الأكرب‪ :‬ملاذا نوجب �أن يحيل‬ ‫تفتقد �صفة ال�ضبط العملي وثبات املعيار‪.‬‬
‫(هو) على املفرد املذكر‪� :‬أي الرجل‪ ،‬وال جنيز �أن يحيل‬
‫رابعا‪� :‬ضمري اللغة‬
‫مثل هذا ال�ضمري (هو) يف حالة التجريد على (الإن�سان)‬
‫ال�شامل ملفهوم الذكر والأنثى‪.‬‬ ‫حتت هذا العنوان ذكر الدكتور الغذامي الكاتبة نوال‬
‫و�سيتبني متاما هذا الوجه بنقل العبارات نف�سها التي‬ ‫ال�سعداوي‪ ،‬وذكر �أنه يالحظ يف كتابها (الأنثى هي‬
‫ا�ست�شهد بها الدكتور الغذامي للتدليل على ما ذهب �إليه‪.‬‬ ‫الأ�صل) «�أن ال�ضمري اللغوي عندها دائما �ضمري املذكر‬
‫عبارة نوال ال�سعداوي‪�« :‬إن القلق ال يحدث للإن�سان‬ ‫مما يجعلها حتيل �إىل ذكورية الأ�صل اللغوي دون �أن‬
‫�إال �إذا �أ�صبح واعيا بوجوده‪ ،‬و�أن هذا الوجود ميكن �أن‬ ‫ت�شعر»(‪ ،)14‬وذكر مثل ذلك �أي�ضا عن الكاتبة مي زيادة‬
‫يتحطّ م‪ ،‬و�أنه قد يفقد نف�سه وي�صبح ال �شيء‪ ،‬وكلما كان‬ ‫فقال �إنها تقف يف حمفل ن�سوي وتتحدث بو�صفها‬
‫الإن�سان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت‬ ‫امر�أة وتخاطب الن�ساء فيح ّل ال�ضمري املذكر بينهن على‬
‫مقاومته للقوى التي حتاول حتطيمه»(‪.)17‬‬ ‫الرغم من غيابه احل�سي(‪.)15‬‬
‫عبارة مي زيادة‪�« :‬أيتها ال�سيدات‪� )18(...‬أنا املتكلمة‪،‬‬ ‫وي�ضيف الغذامي‪« :‬يحدث هذا عند كل الكاتبات‪،‬‬
‫ولكنكن تعلمن �أن ما يفوه به الفرد فنح�سبه نتاج‬ ‫ال�سمان و�سمرية املانع‬
‫ولقد ا�ستعر�ضت �أعمال غادة ّ‬
‫قريحته وابن �سوانحه‪� ،‬إمنا هو يف احلقيقة خال�صة‬ ‫و�آمال خمتار ور�ضوى عا�شور ورجاء عامل �إ�ضافة‬
‫�شعور اجلماعة‪ ،‬تتجمهر يف نف�سه ويرغم على الإف�صاح‬ ‫�إىل مي زيادة و�سحر خليفة‪ ،‬خ�صي�صا لر�صد �إحاالت‬
‫عنها»(‪.)19‬‬ ‫ال�ضمائر عندهن‪،‬فات�ضحت �سيطرة املذكر يف كل حالة‬
‫يتجلّى الأمر بعد نقل الن�صني �أن امل�س�ألة لي�ست ب�صيغة‬ ‫جتريد»(‪.)16‬‬
‫�رصحت بكلمة‬ ‫ال�ضمري املذكّ ر �أ�صال‪ ،‬بل �إن ال�سعداوي ّ‬ ‫و�سنناق�ش هذه الفكرة من عدة وجوه‪:‬‬
‫�رصحت بكلمة (الفرد)‬ ‫(الإن�سان) مرتني‪ ،‬و�إن زيادة ّ‬
‫مرة‪ ،‬ولي�س هناك ما مينع �أي كاتبة من �إطالق احلكم‬ ‫الوجه الأول‪ :‬ثمة �إ�شكال جوهري يف �إ�صدار الدكتور‬
‫الإن�ساين العام ال�شامل للذكر والأنثى‪.‬‬ ‫الغذامي حلكم عام على �أنه �سمة �أ�سلوبية لأولئكن‬
‫عبارة غادة ال�سمان‪« :‬ما �أروع وما �أ�سو�أ �أن تكون‬ ‫يتلخ�ص الإ�شكال يف كونه ال يذكر يف‬ ‫الكاتبات جميعا‪ّ ،‬‬
‫امر�أة»(‪.)20‬‬ ‫واقع البحث �إال ثالثة �أمثلة لثالث كاتبات (ال�سعداوي‪،‬‬
‫انتقد الدكتور الغذامي العبارة ال�سابقة‪ ،‬ور�أى �أنها تقول‬ ‫زيادة‪ ،‬ال�سمان)‪ ،‬و�إ�صدار مثل هذا احلكم على كاتبة ما‬
‫كلمة الأنوثة ب�ضمري الذكورة‪ ،‬و�أن العبارة كُ تبت حتت‬ ‫ي�ستلزم اال�ستق�صاء التام لأ�ساليبها‪� ،‬أما الأمثلة املفردة‬
‫�سطوة ذكورية خفية‪ ،‬وذهب �أي�ضا �إىل �أن الأ�صل �أن‬ ‫فال تقطع قولَ ك ّل خطيب‪ ،‬وال ي�ؤمن من خ�ضوعها‬
‫‪275‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬ ‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫تقول «�أن تكوين» غري �أن التذكري جاء يف غري حملّه ويف‬
‫‪ -1‬مدار�س الل�سانيات‪ :‬الت�سابق والتطور‪ ،‬جيفري �سام�سون‪ ،‬ترجمة‪:‬‬ ‫غري مقت�ضاه‪.‬‬
‫الدكتور حممد زيادة كبة‪ ،‬جامعة امللك �سعود‪ ،‬الريا�ض‪1997 ،‬م‪� ،‬ص‬
‫‪.79‬‬ ‫و�سنناق�ش ذلك مبا ي�أتي‪:‬‬
‫‪ -2‬الغريزة اللغوية‪� ،‬ستيفن بنكر‪ ،‬ترجمة‪ :‬الدكتور حمزة املزيني‪ ،‬دار‬
‫املريخ‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬ط‪2000 ،1‬م‪� ،‬ص ‪.75‬‬ ‫�أوال‪ :‬ثمة ق�صور يف التحليل اللغوي الذي ذهب‬
‫‪ -3‬داللة ال�شكل يف العربية يف �ضوء اللغات الأوروبية‪ ،‬ديفيد ج�ستِ�س‪،‬‬ ‫�إليه الدكتور الغذامي؛ �إذ جعل �صيغة (تكون ‪/‬‬
‫ترجمة‪ :‬الدكتور حمزة املزيني‪ ،‬مركز امللك في�صل للبحوث والدرا�سات‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬ط‪1425 ،1‬هـ‪� ،‬ص ‪.384-383‬‬ ‫أوجب �أن ُيق ّدر املحذوف مذكّ را‪،‬‬
‫تفعل) للمخاطب‪ ،‬ف� َ‬
‫التحيز اللغوي وق�ضايا �أخرى‪ ،‬الدكتور‪ :‬حمزة بن قبالن املزيني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪-4‬‬ ‫وال�صواب �أن �صيغة امل�ضارع (تفعل) حتتمل املذكر‬
‫ن�سخة �إلكرتونية من�شورة على االنرتنت يف موقع امل�ؤلف ‪www.‬‬
‫‪ almozainy.com‬بتاريخ ‪2010‬م‪� ،‬ص ‪.52‬‬
‫أنت) وحتتمل امل�ؤنث الغائبة (تفعل‬ ‫املخاطب (تفعل � َ‬
‫‪ -5‬املر�أة واللغة‪ ،‬الدكتور عبد اهلل الغذامي‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪،‬‬ ‫هي)‪ ،‬وعلى الثاين يجوز �أن يكون التقدير يف العبارة‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪2006 ،3‬م‪� ،‬ص ‪.25‬‬ ‫«ما �أروع وما�أ�سو�أ �أن تكون [الأنثى] امر�أة»‪.‬‬
‫‪ -6‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -7‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.22‬‬ ‫ثانيا‪ :‬لو جعلنا �أ�صال �صيغة (تفعل) للمخاطب ف�إنه‬
‫‪ -8‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.26‬‬ ‫ال يجب �أن يكون امل�ضمر يف العبارة ال�سابقة (�أيها‬
‫‪ -9‬ينظر ل�سان العرب‪ :‬مادة (ز و ج)‪.‬‬
‫‪ -10‬تو�صلت �إىل ذلك عرب البحث يف املكتبة الإلكرتونية (ال�شاملة)‪.‬‬ ‫الرجل)‪ ،‬بل ميكن �أن يكون (�أيها الإن�سان) –كما‬
‫‪ -11‬تو�صلت �إىل ذلك عرب البحث يف املكتبة الإلكرتونية (ال�شاملة)‪.‬‬ ‫تق ّدم‪ ،-‬والإن�سان �صيغة �شاملة للمذكر وللم�ؤنث‪.‬‬
‫‪ -12‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.21‬‬ ‫فيحتمل �أن الكاتبة �أرادت فعال عموم اخلطاب‬
‫‪ -13‬للمزيد من الأمثلة ميكن االطالع على بحث ‪Sexism in‬‬
‫‪Language‬لكاتبه‪.Xiaolan Lei‬‬ ‫للجن�سني‪ ،‬وقد تق ّدم بيان هذا الوجه فيما �سبق‪،‬‬
‫‪ -14‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.18‬‬ ‫وهذا يجعل للعبارة معنى بالغيا ال يوجد يف غريه؛‬
‫‪ -15‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ -16‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.20-19‬‬ ‫فعبارة «ما �أروع وما �أ�سو أ� �أن تكون [�أيها الإن�سان]‬
‫‪ -17‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.19-18‬‬ ‫امر�أة» فيها ما لي�س يف عبارة «ما �أروع وما �أ�سو أ�‬
‫‪ -18‬االخت�صار من الأ�صل املنقول عنه‪.‬‬
‫‪ -19‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.19‬‬ ‫املوجه‬
‫ّ‬ ‫�أن تكوين [�أيتها الأنثى] امر�أة»‪ ،‬فاخلطاب‬
‫‪ -20‬املر�أة واللغة‪� ،‬ص ‪.20‬‬ ‫للإن�سان ذكرا و�أنثى يجعل امل�شكل َة م�شكلة �إن�سانية‬
‫‪ -21‬ومن حمفوظاتي من كالم الكاتب اليوناين نيكو�سكازنتزاكي «ما‬ ‫ُم�شرتكة تعني االثنني‪� .‬أما حينما يكون اخلطاب‬
‫�أق�سى �أن يولد الإن�سان امر�أة»‪.‬‬
‫‪ -22‬اللغة واجلن�س‪� ،‬ص ‪.111‬‬ ‫موجها للأنثى‪ ،‬ف�إن العبارة حت�رص امل�شكلة بكونها‬ ‫ّ‬
‫م�شكلة �أنثوية ال غري(‪.)21‬‬
‫قيمة‬ ‫ومن اجليد �أن نختم احلديث هنا مبالحظة ّ‬
‫ذكرها الدكتور عي�سى برهومة يف كتابه (اللغة‬
‫واجلن�س) «وي�سلمنا هذا امللمح �إىل �أن اللغة يف‬
‫(هيوليتها) حمايدة‪� ،‬إذ متثل ظاهرة جمردة من‬
‫املحموالت التي قد تلحق بها امل�ؤثرات اخلارجية‪،‬‬
‫ن�سم العربي بالتحيز‪ ،‬ثم نهرع‬ ‫�إذن لي�س باملكنة �أن َ‬
‫�إىل تعديل نظامه اللغوي‪ ،‬فتلك مغالطة منطقية‬
‫كالذي ي�ضع العربة �أمام احل�صان‪ ،‬لأن تعينات‬
‫التحيز تثوي يف ت�ضاعيف الثقافة واملجتمع‪ ،‬ال‬
‫يف جبلة اللغة‪ ،‬وبالتايل يتعني تعديل الثقافة وقيم‬
‫املجتمع لينعك�س ذلك على التحققات اللغوية»(‪.)22‬‬

‫‪276‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫�شعرية الذاكرة اجلريحة‬
‫يف «يُغلق الباب على �ضجر» لبا�سمة العنزي‬
‫\‬
‫فاطمة بن حممود‬

‫تك�شف للغريب و لكن القا�صة با�سمة تقوم بانزياح‬ ‫مما ينبغي الإ�شارة �إليه �أن هناك فرقا بني ال�شعرية‬
‫�شعري جميل و جتعل الباب ُيغلق على �ضجر و ال�ضجر‬ ‫كمكون من مكونات الن�ص الإبداعي ‪ ,‬وال�شعرية‬ ‫ّ‬
‫اح�سا�س ينفرد به االن�سان وهو‪:‬‬ ‫كمنهج نقدي لغوي يقوم على درا�سة العمل الأدبي‬
‫تربم و �ضجر‬‫�ضجرا �أي �ضاق و ّ‬ ‫ال�ضجر لغة‪�َ :‬ض ِج َر ْ‬ ‫لي�شمل جميع عنا�رصه وما ين�ش�أ بينها من عالقات‬
‫املكان �أي �ضاق مبن فيه‪.‬‬ ‫تتوازى وتتقاطع ب�شكل يحدد �سماته الفنية‪.‬‬
‫حتيل داللة ال�ضجر على ال�س�أم و القلق و امللل‪ ,‬كما �أن‬ ‫�أنا ال �أق�صد يف هذه املقالة بال�شعرية املنهج النقدي‬
‫ال�ضيق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال�ضجر يحيل على املكان‬ ‫الذي ن� أش� كغريه �ضمن املناهج النقدية احلديثة و‬
‫و الباب اذ ُيغلق فانه ُيغلق على مكان �ضيق و ُيغلق‬ ‫يتغ ّذى من خالل املقاربات الل�سانية و امنا �أق�صد‬
‫على حالة ملل و �س�أم تزيد من حالة �ضيق املكان‬ ‫ما عناه الناقد االمريكي «رومان جاكب�سون «حتديدا‬
‫التربم من احلياة‪ .‬وهو اذ ُيغلق فاننا‬
‫�ضيق نف�سي يثري ّ‬ ‫عندما �أكد ان «هدف علم االدب لي�س هو الأدب يف‬
‫�أمام افرتفر�ضية انه يغلق و نحن يف الداخل فنواجه‬ ‫عمومه و امنا �أدبيته �أي تلك العنا�رص املحددة التي‬
‫الق�ص طريقة‬
‫عاملا �صغريا حمدودا ملوال بحيث ي�صبح ّ‬ ‫جتعل منه عمال �أدبيا «(‪ )1‬مبعنى ان ما �أعنيه من‬
‫الكاتبة ملواجهة �ضيق املكان و االح�سا�س باالختناق‬ ‫ال�شعرية هنا لي�س املنهج النقدي اللغوي و امنا‬
‫و ت�صبح الكتابة طريقة للتحليق بعيدا عن هذا الباب‬ ‫�أق�صد تلك الظاهرة الفنية و اجلوهرية ل�صناعة اللغة‬
‫الق�ص �أ�سلوب جديد لبناء عامل مواز‬ ‫ّ‬ ‫املغلق‪ ،‬و يكون‬ ‫هوية ما‬
‫ال�شعرية‪ ،‬مبعنى العنا�رص التي جتتمع لتم ّثل ّ‬
‫يزخر باحلياة ويفي�ض باحلما�س و احلركة و ت�صبح‬ ‫للعمل الأدبي فتجعله يقرتب اىل حد كبري من خالل‬
‫الكتابة طريقة جديدة للتعبري عن احلياة الأف�ضل‪.‬‬ ‫الت�شبيهات و اال�ستعارات و ال�صور والتي تلعب عادة‬
‫�شعرية العنوان و التي ت�صنع ب�شكل ما جماليته �أي�ضا‬ ‫دورا كبريا يف كتابة ال�شعر بعيدا عن �أي حكم تقييمي‬
‫يهم بفتح الكتاب و لكن القا�صة قد‬ ‫عندما القارئ ّ‬ ‫بل من منطلق انه ال�سمة الغالبة يف ن�ص ما‪.‬‬
‫م�رصة‬
‫ّ‬ ‫جعلت كتابها ينغلق على �ضجر‪ ،‬هي تبدو‬ ‫�شعرية العنوان‪:‬‬
‫على اخفاء ما يف داخل الغرف مع ما يعنيه الغلق من‬ ‫يعترب عنوان الكتاب عتبة مهمة و �أ�سا�سية ت�شري اىل‬
‫�إحكام و �شدة و ك�أنها ت�ستفز القارئ – من حيث ال‬ ‫عوامل الكاتبة‪ ،‬اختارت القا�صة با�سمة العنزي عنوانا‬
‫يدري ‪� -‬أن يفتح الكتاب لي�ستك�شف بنف�سه ما الذي‬ ‫لكتابها الق�ص�صي « ُيغلق الباب على �ضجر «ي�ضم‬
‫غُ لّق دونه فاذا به يك�شف عن عوامل غريبة و تنفتح‬ ‫ثالثة ع�رشة ق�صة‪ ،‬نالحظ ان الكاتبة عند �صياغتها‬
‫له تفا�صيل حياة مثرية و حكايات مريبة و �شخو�ص‬ ‫بينة و توظّ ف التعبري‬‫للعنوان ت�سته ّل كتابها ب�شعرية ّ‬
‫مهم�شة‪..‬‬
‫مق�صية و ّ‬
‫ّ‬ ‫املجازي يف �صياغة العنوان‪ ,‬نالحظ ان الباب مبا‬
‫لعل ما يح�سب للقا�صة با�سمة العنزي انها ال تقدم‬ ‫هو معطى ح�سي ُيغلق عادة على معطى ح�سي �أي�ضا‬
‫كتابها ب�شكل مبا�رش و ال تطرح ق�ص�صها بي�رس و امنا‬ ‫لكونه ميثل عن�رص الف�صل بني العامل الداخلي للبيت‬
‫تدفع القارئ منذ العتبة االوىل – وهو يقر أ� عنوان‬ ‫و العامل اخلارجي له‪ ،‬فهو ُيغلق على غرف‪ُ ,‬يغلق‬
‫الكتاب – اىل التفكري و ت�ستفز ف�ضوله و لعلها تغريه اذ‬ ‫على �أ�شياء وتفا�صيل وعوامل احلياة الداخلية حتى ال‬
‫‪277‬‬ ‫\ قا�صة وكاتبة من تون�س‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫تطرح العنزي موا�ضيعها لتجعل القارئ يواجه حقيقة‬ ‫اختارت كغالف لكتابها الق�ص�صي لوحة فنية جميلة‬
‫الواقع و يلم�س قاع املجتمع و يبدو ان العنزي ت�ؤمن‬ ‫تنت�رص فيها للجمال‪ ..‬و �أجد القا�صة با�سمة العنزي‬
‫�أن �أف�ضل طريقة الق�صاء الرداءة هي مواجهتها و‬ ‫ت�ستجيب ملا يقوله اندري جيد من �أن العنوان الناجح‬
‫احلديث عنها و �أجنع ح ّل لتجاوز �أزمات املجتمع �أن‬ ‫هو العنوان اال�ستفزازي و لعل ا�ستفزازية العنوان‬
‫نتحدث عن هذه الأزمات‪ ،‬لذلك يبدو �أن العنزي قد‬ ‫تتم ّثل يف هذا التعار�ض بينها و بني قارئها فهي‬
‫اختارت عندما تتحدث عن ظلم املجتمع �أن تنت�رص‬ ‫تغلق الباب بلوحة فنية جميلة جعلتها غالفا لكتابها‬
‫حركت �سواكن النا�س الب�سطاء و‬ ‫للعدالة و عندما ّ‬ ‫و القارئ يفتح الكتاب ليكت�شف عوامل حزينة و موجعة‬
‫املهم�شني فانها تنت�رص اىل حقهم يف احلياة الكرمية‬‫ّ‬ ‫بني دفتيه‪.‬‬
‫وعندما ت�ستعر�ض متظهرات اجلهل القاتل املف�سد‬ ‫�شعرية العتبات‪:‬‬
‫املخرب للنفو�س فانها تنت�رص للمعرفة و‬‫ّ‬ ‫للعقول و‬
‫للوعي امل�ؤ�س�س‪.‬‬ ‫عندما تفتح الكتاب يواجهك بيت �شعري جتعله‬
‫من هذا املنطلق اختارت با�سمة العنزي موا�ضيع‬ ‫القا�صة عتبة �أخرى لولوج عواملها انه مقطع �شعري‬
‫مربرا للحلم بعامل �أف�ضل يبدو ممكنا يف نفق‬
‫ق�ص�صها ّ‬ ‫من ق�صيدة «املالّح القدمي «لل�شاعر االنقليزي �صمويل‬
‫الواقع الذي ت�شتد فيه الأزمات و ترتاكم فيه خملّفات‬ ‫تايلور كولريدج ( ‪ ,) 1834 / 1772‬رمبا حتاول‬
‫اجلهل و الفقر و ت�ضطرب النفو�س فتجعل العنزي الأمل‬ ‫القا�صة �أن تبتعد كثريا عن العوامل ال�ضيقة و الرتيبة‬
‫يف �آخر النفق‪ ..‬و ان كانت ال تقدم حلوال فتلك مهمة‬ ‫و امللولة و ت�ستنجد بال�شعر ليكون مالذها‪ ,‬و تبتعد‬
‫ال�سيا�سي ولكنها ككاتبة اختارت �أن تن�شغل بق�ضايا‬ ‫زمنيا �أكرث عندما تعتمد هذا ال�شاعر االنقليزي من‬
‫غ�صات و‬ ‫زمن قدمي ن�سبيا و لعل لهذا االختيار ال�شعري داللته‬
‫املجتمع‪ ,‬دورها �أن تك�شف ما يف قاعه من ّ‬
‫�أن تب�شرّ بعامل �أف�ضل و �أن تزرع الأمل يف الطريق و‬ ‫عند القا�صة اذ يبدو �أنها تريد من القارئ �أن يت�سلّح‬
‫لعل هذا من �أهم �أدوار الأدب‪.‬‬ ‫باللوحة الفنية كعتبة �أوىل و بال�شعر كعتبة ثانية‬
‫ي�رشع نوافذها و لعله يف هذا‬ ‫ليفتح �أبواب الغرف و ّ‬
‫�شعرية ال�شخو�ص‪:‬‬ ‫االطار ت�صدق املقولة «ان الفن �رضورة حتى ال تقتلنا‬
‫ان ال�شعر كما حدده �أر�سطو هو «فن املحاكاة «و‬ ‫احلقيقة «‪.‬‬
‫�رشاح �أر�سطو ذلك بان‬ ‫قد ف�سرّ لورن�س برينز �أحد ّ‬ ‫�شعرية املوا�ضيع‪:‬‬
‫�أر�سطو كان يعني حماكاة الطبيعة‪ ،‬و �إن هدف الفن‬ ‫�إعتدنا القول �أن من بني �أغرا�ض الكتابة «�أن نحلم‬
‫لي�س فقط حماكاة ما هو حقيقي يف الطبيعة ولكنه‬ ‫النف�س بكل �شيء» بحيث ت�صبح اللحظة ال�شعرية‬
‫حماكاة الكمال املمكن يف الطبيعة �أي�ضا‪ ،‬مبعنى ان‬ ‫هي حلظة خماتلة للواقع و مل�شاكله و لأزماته‪ ,‬فهي‬
‫ال�شعر هو نزوع اىل عامل املثل و بهذا املعنى ميكن‬ ‫طريقة ملواجهة ب�ؤ�س الواقع بخلق عامل بديل ت�صالح‬
‫�أن يكون ال�شاعر كل من يعتقد يف عامل املثل مبا هو‬ ‫فيه الذات ذاتها‪ ،‬و با�سمة العنزي يف كتابها « ُيغلق‬
‫العامل احلقيقي الذي ي�ضم القيم احلقيقية و بالتايل‬ ‫الباب على �ضجر» تقدم ق�ص�صها ب�شعرية وا�ضحة‬
‫ميكن ان ين�سحب هذا التحديد على كل من يعتقد يف‬ ‫عندما تحُ لم النف�س بعامل جديد تتوق له الأنف�س‬
‫تلك القيم الفا�ضلة‪ .‬و عندما ننظر يف ال�شخو�ص التي‬ ‫املوجوعة‪ ،‬فتف�ضح من خالل موا�ضيع كتابها حاالت‬
‫تقدمها با�سمة العنزي نالحظ انها �شخو�ص تهفو اىل‬ ‫تعري‬‫الب�ؤ�س االجتماعي و تك�شف تناق�ضات الواقع و ّ‬
‫عامل مثايل و لعلها تنزع اىل هذا من منطلق ت�أملها‬ ‫مظامل كثرية وهي يف كل ذلك تهدف اىل عامل بديل‬
‫من �شدة الواقع خ�صو�صا و �أننا جند الكاتبة نف�سها‬ ‫للواقع البائ�س وتحُ لم النف�س بالعدالة االجتماعية بني‬
‫تتعامل مع هذه ال�شخ�ص من الداخل �أي انها تقدمهم‬ ‫خمتلف ال�رشائح يف املجتمع و بالتوازن النف�سي بني‬
‫القراء من خالل �أحالمهم و م�شاعرهم املنفلتة‬ ‫اىل ّ‬ ‫الأفراد و باحلظ يوزع بالعدل بني اجلميع‪..‬‬
‫القا�صة تق ّدم العوامل‬
‫ّ‬ ‫و �أنفا�سهم املتقطّ عة مبعنى ان‬ ‫يف كل ق�ص�ص با�سمة العنزي هناك جرح ين ّز و �أمل‬
‫اخلارجية ل�شخو�صها من داخل عواملهم ال�شعورية و‬ ‫عميق و ذاكرة جريحة و �أحالم معطوبة و ذات مهت ّزة‪,‬‬
‫‪278‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫النف�سية و االجتماعية‪.‬‬
‫ميكن �أن نتحدث عن �شخو�ص �شعرية من منطلق‬
‫انها �شخو�ص رهيفة االح�سا�س حتمل همومها و‬
‫مر ال�سنني و متيل اىل التخيل لتت�سترّ عن‬ ‫�أجاعها على ّ‬
‫�سلبيتها و تبالغ يف احللم كطريقة لتعوي�ض واقعها‬
‫البائ�س الذي ال ير�ضيها �أبدا‪ ،‬تبدو هذه املوا�صفات‬
‫العامة ل�شخ�صية �شعرية ( موغلة يف ال�شاعرية مبا‬
‫هو االح�سا�س املرهف ) وفق ما �صاغه لها الوعي‬
‫ال�سائد و التي مل ي�سع �أغلب ال�شعراء على تقوي�ضها �أو‬
‫تعديها بل حافظوا عليها بطريقة �أو ب�أخرى و لعل هذه‬
‫هي ال�سمات الغالبة على كل ال�شخو�ص التي تقدمها‬
‫با�سمة العنزي يف كتابها « ُيغلق على حجر «‪ ،‬انها‬
‫تقدم �شخو�صها و جتعلهم يف حالة تنا�سب واقعهم‬
‫و لأنهم يحتكمون اىل واقع مت�أزم وعالقات مرتبكة‬
‫جتاه العامل الذي يعي�شونه فان هذه ال�شخو�ص تبدو‬
‫مت�أثرة جدا ببيئتها و حتاول الت�أقلم بخجل و ارتباك‬
‫العائلة و ترتكه لتنه�شه الورثة و ت�سافر بحثا عن‬ ‫مع عواملها‪ ..‬و هذا ما يجعل من هذه ال�شخ�صيات يف‬
‫ان�سجامها يف مكان ما‪...‬‬ ‫جمملها ت�صارع �أقدارها و عندما تعجز فانها تطلق‬
‫على غرار هذه ال�شخو�ص ميكن �أن نحدد املالمح‬ ‫للأحالم العنان لتقفز على معوقاتها‪ ..‬و لذلك بدت‬
‫العامة «لل�شخ�صية القاعدية «ان �صح ا�ستئجار هذا‬ ‫«ح�صة‬
‫ّ‬ ‫«ح�صة» الفتاة ال�صغرية اخلر�ساء ( يف ق�صة‬ ‫ّ‬
‫املفهوم من احلقل ال�سو�سيولوجي و اال�ستعانة به يف‬ ‫النائية»�ص ‪ ) 15‬التي �أ�صيبت ب�صدمة اثر حادث �أليم‬
‫قراءة ق�ص�ص با�سمة العنزي �أي حتديد املالمح التي‬ ‫توفيت فيه �أمها و�أي�ضا �أخيها و انتهت مع �أب فقري و‬
‫توحد كل �شخو�ص ق�ص�ص الكاتبة يف الغالب فنالحظ‬ ‫ّ‬ ‫جنية‬
‫تتحول كل ليلة اىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫حمبط فانها ال متلك غري �أن‬
‫انها �شخو�ص رهيفة موغلة يف االح�سا�س حتمل جرحا‬ ‫املهم�شني‬
‫ّ‬ ‫طيبة المرئية تنتقل بني منازل الفقراء و‬ ‫ّ‬
‫يف �أعماقها و تحُ لم النف�س بعامل �أف�ضل‪ ،‬و �أ�ضيف اين‬ ‫خلدمتهم و التخفيف من معاناتهم و م�ساعدتهم على‬
‫�أجد هذه ال�شخ�صيات رغم مالمح ال�ضعف والعجز يف‬ ‫«ح�صة» الفتاة‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة �صعاب حياتهم‪..‬نالحظ ان‬
‫مواجهة �أقدارها االجتماعية و امليتافزيزيقية اال اين‬ ‫تتحول اىل مالك ين�رش‬ ‫ّ‬ ‫الربيئة و ال�صغرية و اخلر�ساء‬
‫ت�ضج باخلري و ت�سعى‬
‫�أجدها �شخ�صيات ايجابية لأنها ّ‬ ‫الفرح بني النا�س‪ ،‬ك�أنها �إله يريد ترميم واقع بائ�س و‬
‫للت�صالح مع ذاتها و التوا�صل مع عاملها وهي يف‬ ‫يب�شرّ باخلري و يقود النا�س اىل عامل �أف�ضل‪..‬‬
‫ذلك تبتعد عن املواجهة العنيفة و تختار احللم ك�أكرث‬ ‫«ح�صة» بعامل �أف�ضل‬ ‫�شخو�ص �أخرى حتلم مثل الطفلة ّ‬
‫الأ�شكال �سلمية ملواجهة الظلم و العن�رصية و الرداءة‪،‬‬ ‫من بينها «ن ّثاج» مثال ( يف ق�صة «لعنة ن ّثاج «�ص‬
‫و لذلك جند هذه ال�شخو�ص حتدث القارئ عن �أحالمها‬ ‫يتحرر من ا�سمه لينعتق من الأحكام‬ ‫ّ‬ ‫‪ ) 69‬يحلم �أن‬
‫ب�صوت مرتفع و لعلها طريقة ذكية ال�ستدراج القارئ‬ ‫املرت�سب يف‬
‫ّ‬ ‫االجتماعية التي ُ�سجن فيه ب�سبب اجلهل‬
‫تت�رسب ثقافة احللم‬
‫ّ‬ ‫�أن يحلم معها �أي�ضا و من ثمة‬ ‫للمهم�شني و املحقورين‪..‬‬
‫ّ‬ ‫قاع الوعي اجلمعي‬
‫مبا هي ثقافة ت�ؤ�س�س لثقافة بديلة �ضد ثقافة الي�أ�س‬ ‫«خلي البال» ( �ص ‪ ) 83‬و الذي‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ضا ال�سارد يف ق�صة‬
‫و االحباط التي يغ ّذيها اجلهل و الظلم و اال�ستبداد و‬ ‫يحلم �أن ت�صل ر�سالته اىل �أ�صحابها و يظل ينتظر الرد‬
‫من هذا املنطلق نتحدث عن �شعرية هذه ال�شخو�ص‬ ‫بقلب واجف‪.‬‬
‫الرهيفة و اخليرّ ة و احلاملة فك�أنها �شخو�ص تبدو‬ ‫بنف�س الرهافة و القدرة من احللم جند الفتاة بطلة‬
‫خارجة من ق�صائد لت�ؤ�س�س لعامل �أف�ضل‪.‬‬ ‫تقرر الرحيل عن بيت‬ ‫ق�صة «�سبعة �أغ�صان»(�ص‪ّ )53‬‬
‫‪279‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬ ‫�أو قولها �ص ‪ ( 54‬من ق�صة «�سبعة �أغ�صان «)‪:‬‬ ‫�شعرية ال�سرد‪:‬‬
‫الهواء الثقيل املحبو�س بني اجلدران الأربعة‬ ‫�إن اللغة الق�ص�صية‪ /‬ال�شعرية عند با�سمة العنزي تتمثل‬
‫لن يجد خمرجا‬ ‫من خالل التالعب بالنظام اللغوي بني االيحائية‬
‫كل �شيئ مدعو اىل جمود �أبدي‬ ‫و املعيارية فتجعل اللغة توحي بحاالت احلزن و‬
‫رنني الهاتف يثري غ�ضبها‬ ‫االحباط و الأمل‪ ,‬مبعنى ان ال�شعرية ال�رسدية تبدو يف‬
‫لن جتيب‪..‬‬ ‫ا�ستعمالها املجاز و توظيفها ل�صور ا�ستعارية‪ ،‬يكفي‬
‫ت�رصف ب�سيط يقت�ضيه طبيعة‬ ‫ّ‬ ‫�أو قولها �ص ‪ 53‬مع‬ ‫�أان تفتح الكتاب على �أية �صفحة حتى تن�ساب �أنهار‬
‫الن�ص املفرت�ض‪:‬‬ ‫من الق�صائد املبثوثة يف كل مكان من �صفحات ال�رسد‬
‫كل م�ساء ي�ضعون قلوبهم قرب �أحذيتهم امل ّت�سخة‬ ‫من ذلك ما تقوله ‪:‬‬
‫يف ال�صباح ينظفون �أحذيتهم يبتلعون قلوبهم الياب�سة‬ ‫«الأبواب ال تفتح عادة لذوي الأ�سماء الباهتة الآتية‬
‫و مي�ضون يف ات�ساخ جديد‪.‬‬ ‫من خارج �سور احلظ و الرثوة و لهث �أ�صحابها يف‬
‫بل ال �أجد نف�سي �أجازف ان قلت اننا ميكن ان جند‬ ‫التمرد» �أو قولها اي�ضا «يتمنون الهداية لالبن‬‫ّ‬ ‫دروب‬
‫ق�صائد ق�صرية جدا تقرتب كثريا من الهايكو عندما‬ ‫ال�شارد بعيدا عن كثبان االهل»( �ص ‪.) 72‬‬
‫تقول مثال يف �ص‬ ‫«�أن تنتظر ع�رشين عاما يعني �أن تو ّدع �شبابها‬
‫ال ميلك �أ�صحاب �ساعات ال�سوات�ش البال�ستيكية‬ ‫املحبو�س يف قنينة»�ص ‪76‬‬
‫هم الزمن و املواعيد املجدولة‪.‬‬‫ّ‬ ‫«لكن �شهقة الأمل ال ت�صل‪ ..‬دموعه تف�رس على �أنها حزن‬
‫و لعل هذه اجلمل ال�رسدية التي تقرتب من الهايكو‬ ‫النجوم الآفلة تتدافع الفرائ�س يف �رشك احلرية تنكم�ش‬
‫تكون كذلك فعال يف قولها ( �ص ‪:)34‬‬ ‫�أع�ضاء ج�سده ال�ضئيل»‪�.‬ص ‪22‬‬
‫ال ّتني يف اللوحة �سئم �سكونه‪.‬‬ ‫«�صحراء �شا�سعة تبتلع حزن ال�شم�س وقت غربها‪,‬‬
‫او قولها ( �ص ‪ )66‬من ق�صة «مفتاح �صدئ «‪:‬‬ ‫تهدي عراءها للحافالت و الأر�صفة يقال انها غدرت‬
‫«ال جديد «تهم�س ال�ستائر للنوافذ �ساخرة ‪.‬‬ ‫بعائلة «بوفالح» يف ال�صيف الكرث ق�سوة قبل ع�رشين‬
‫القفلة‪:‬‬ ‫عاما»‪�.‬ص ‪65‬‬
‫يبدو ان القا�صة الكويتية با�سمة العنزي متيل يف‬ ‫«يف �أما�سي العيد و الأيام ال�سعيدة و الربد اجلميل يبد أ�‬
‫ق�ص�صها �أن تربك القارئ مبوا�ضيعها فاختارت‬ ‫مب�صافحة كفوف احلنني»‪.‬‬
‫املهم�شني وهي ال تقدم ذلك‬ ‫ّ‬ ‫الكتابة مباهي ك�شف عن‬ ‫تبدو القا�صة با�سمة العنزي يف كتابتها ال�رسدية‬
‫مرات كثرية �أن‬ ‫يف �أ�سلوب �رسدي هادئ و امنا اختارت ّ‬ ‫تر�شح بال�شعرية فك�أين �أجدها �شاعرة قد �أخط�أت‬
‫خميبة لأفق‬
‫ته ّز قارئها بخوامت مفاجئة و �صادمة و ّ‬ ‫طريقها اىل الق�ص‪ ،‬بل ال �أغايل ان قلت اننا �أحيانا نعرث‬
‫انتظار القارئ لق�ص�صها و ك�أنها طريقة �أخرى لته ّز‬ ‫على ق�صائد نرثية مبثوثة بني �سهول ال�رسد فبو�صفي‬
‫تطوح بالقارئ‬ ‫الطم�أنينة التي قد يهن�أ بها القارئ و ّ‬ ‫قارئة يكفي ان �أعامل اجلملة ال�رسدية بعقلية نرثية و‬
‫بعيدا عن املتو ّقع و بالتايل تنتهي العنزي اىل ق�ص�ص‬ ‫�أغيرّ يف التوزيع الب�رصي للن�صو�ص حتى �أح�صل على‬
‫واخزة و حميرّ ة و مده�شة و ك�أنها تعترب الكتابة حلظة‬ ‫ن�ص نرثي ممكن من ذلك الفقرة ال�رسدية �ص ‪ ( 53‬من‬
‫ازعاج للقارئ لذلك يبدو انها تت�سلّح مبطرقة نيت�شة‬ ‫ق�صة «�سبعة �أغ�صان» )‪:‬‬
‫الذي يرف�ض الهدوء و الطم�أنينة الزائفة و يدفع قارئه‬ ‫يف م�ست�شفى الطب النف�سي‬
‫اىل �أق�صى تخوم القلق واحلرية‪.‬‬ ‫يطرق الباب برقة‪..‬‬
‫يف ق�صة «يذبل التني» (�ص ‪ ،)33‬و يف ق�صة «�ألعاب‬ ‫تهتز علب الليثيوم يف غرف املمر�ضات‪,‬‬
‫نارية» (�ص ‪ )39‬و لعل �أكرثها اثارة بالن�سبة يل ق�صة‬ ‫يف الداخل‬
‫القا�صة با�سمة‬
‫ّ‬ ‫«�شيخة ال�رساب» (�ص ‪ )75‬حيت تقدم‬ ‫ثمة رجل ي�سعل‬
‫العنزي لوحة عن احلياة االجتماعية يف الكويت تزخر‬ ‫و ال يتوا�صل مع من حوله‬
‫بالأحكام اجلاهزة و تثقل بالعادات و التقاليد التي‬ ‫امله�شم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نظراته كالزجاج‬
‫‪280‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ال�ستدراج القارئ و ايهامه بقوة الن�ص و قد كتب عن‬ ‫ي�سو�سها وعيا ذكوريا ك�أن يكون زواج البنت «�سرتة»‬
‫هذا الدكتور و ال�شاعر التون�سي املن�صف الوهايبي‬ ‫لها و يتقدم الب اىل غرفة ابنته التي تتبعه والكلمات‬
‫يف تفكيكه و �رشحه لكتابات �أحالم م�ستغامني الذي‬ ‫تتداعى يف مقدمة طويلة عن �أهمية العادات و التقاليد‬
‫يعتربها مل تتخلّ�ص من �سطوة �شعرية نزار قباين مما‬ ‫و جت ّهز كلمتها لتقول له فقط «�أرجوك �أبي‪ ,‬ال �أريد‬
‫اوقعها ح�سب ر�أيه يف الكتابة «الكيت�شية « مبا هي‬ ‫الزواج الآن «و ي�سبقها الأب �أنه جاء ين�صحها ان ال‬
‫يو�ضح‬
‫جتميل مفرط للواقع ي�ؤدي اىل االبتعاد عنه و ّ‬ ‫تدخل كلية الهند�سة املختلطة و �أن ترتيث اكرث يف‬
‫الدكتور الوهايبي ذلك بقوله «على �أ�سا�س من‪ ‬جتميع‬ ‫اختياراتها اجلامعية‪ .‬‬
‫الكلمات‪ ‬بطريقة الكيت�ش‪ ،‬حيث كلمة من ال�رشق‬ ‫�شخ�صيا كنت �أتوقع �أن ي�ضعف الأب �أمام الأكدا�س‬
‫و�أخرى من الغرب‪ ،‬فمحاولة �صهرهما يف تركيب‬ ‫املتكلّ�سة للوعي ال�سائد و جبال الأحكام اجلاهزة‬
‫بالنعت �أو بالإ�ضافة‪�« :‬أحزاب البكاء‪/‬لغم احلب ‪/‬‬ ‫و �أن تر�ضخ البنت ل�سطوة الأب و لكن تع�صف الكاتبة‬
‫من�صة ال�سعادة‪/‬م�ساء الولع‪� /‬شهقة الفتحة‪) 2 ( »..‬‬ ‫بانتظارات القارئ و تنت�رص حلق البنت يف الدرا�سة‬
‫تبدو القا�صة با�سمة العنزي حتذق اللعب داخل اللغة‬ ‫ميا يعك�س اخللفية الفكرية التي تنطلق منها الكاتبة و‬
‫و تتعامل معها وفق قواعد الكتابة اجلميلة التي قد‬ ‫التي تتماهى و دور الكتابة مبا هي االنت�صار للوعي‬
‫تنفتح على امناط �أدبية اخرى دون مبالغة و هذا‬ ‫�ضد اجلهل و للخري �ضد اجلهل و ت�ؤ�س�س لثقافة احلياة‬
‫يح�سب لها و لعل احلذر واجب حتى ال ي�أخذ اللعب‬ ‫�ضد عقلية املوت‪.‬‬
‫داخل اللغة اىل حقل الكيت�ش فت�ضيع منها ق�ص�صها‬ ‫ما يقرتب من النقد‪:‬‬
‫اجلميلة‪.‬‬
‫لعل �أ�شد ما لفت انتباهي يف الكتاب الق�ص�صي لبا�سمة‬
‫بقيت مالحظة �أخرية ان تتحكّم القا�صة يف عناوين‬
‫العنزي هي الكتابة وفق روح �شعرية جميلة لعلها‬
‫ق�ص�صها فان كان يبدو طريفا ان تق�سم الق�ص�ص اىل‬
‫تتن ّزل يف اطار انفتاح الأجنا�س على بع�ضها مبا يرثي‬
‫منازل وفق ترقيم ما ( منزل رقم ‪ / 20‬منزل رقم ‪..21‬‬ ‫كل جن�س و يزيد يف عمقه‪ ،‬فمن الطبيعي بل لعله من‬
‫«جنية الفرح «او‬
‫ّ‬ ‫الخ ) و حتت كل ترقيم عنوان مثل‬ ‫الواجب �أن تنفتح الق�صة على ال�شعر و تنفتح الرواية‬
‫«ال�شاهني يف مربطه «�أو «حني ينمو ال�شوك «فقد بدا‬ ‫على ال�سينما وينفتح امل�رسح على الرق�ص الخ‪ ..‬و لعله‬
‫ثقيال ان ت�ضيف عنوانا ثالثا لكل ق�صة ك�أن تقول‬ ‫نالحظ ان الكتابة احلديثة الآن ينفتح فيها ال�رسد‬
‫«البيوت الدامعة تطوي تارخها «�أو «ح�صة النائية «�أو‬ ‫على ال�شعر وعلى الغناء و على الزجل و لذلك يح�سب‬
‫«مربط ال�صخور»‪...‬‬ ‫لبا�سمة العنزي ت�أ ّثرها بالكتابة ال�شعرية على م�ستوى‬
‫غري هذا �أجد جتربة الكتابة عند القا�صة الكويتية‬ ‫االنحيازات و التكثيف اللغوي و ال�صور مبا يجعل من‬
‫با�سمة العنزي جميلة و ثرية ت�ستحق االهتمام و ت�شي‬ ‫ق�ص�صها ذات نكهة لذيذة‪ ،‬و لكن انفتاح ال�رسد على‬
‫مبوهبة ميكنها التطور و اال�ضافة اىل امل�شهد االدبي‬ ‫ال�شعر يحمل نوعا من املجازفة فهي و �إن كانت ميكن‬
‫الكويتي خا�صة و العربي عامة‪.‬‬ ‫�أن توظف الثراء الن�ص و جماليته فانها �أي�ضا ميكن‬
‫===‬ ‫�أن ت�ؤدي به اىل الهالك و ذلك عندما يقرتب الن�ص‬
‫امل�صدر‪:‬‬
‫ُيغلق على �ضجر ‪ /‬با�سمة العنزي‬ ‫من ال�شعرية اىل حد الذي يقطع اخليوط التي ت�ش ّده‬
‫– دار الفارابي بريوت ‪ /‬دار الفرا�شة للن�رش و التوزيع ‪2010‬‬ ‫اىل احلقل الق�ص�صي و تتوه به يف منطقة �أخرى هي‬
‫االحاالت‪:‬‬ ‫�أدب الكيت�ش مبا هي تلك الكتابة ال�رسدية التي تبالغ‬
‫درا�سات يف النقد االدبي احلديث ‪ /‬د‪ .‬حممد �صالح زكي ابو حميدة‬
‫(‪) 2‬‬ ‫كثريا يف �شعريتها حتى انها تتحول اىل لغة ف�ضفا�ضة‬
‫مقالة �أدب الكيت�ش‪� :‬أحالم م�ستغامني ‪ /‬بقلم الن�صف الوهايبي‬ ‫تعو�ض فقرها الداخلي و �ضحالتها بتلك‬ ‫مزوقة ّ‬ ‫ّ‬
‫املنمقة ك�أ�سلوب‬
‫ّ‬ ‫اللغة‬ ‫و‬ ‫اال�ستعارية‬ ‫اجلمل‬ ‫من‬ ‫الهالة‬

‫‪281‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫«�شجرة الليف»‬
‫�سرد الذاكرة لدى حممد العامري‬
‫\‬
‫حممد ال�سمهوري‬

‫الفل�سطينية واجلي�ش االردين مع (ا�رسائيل)‪ .‬ينت�رص‬ ‫خلط ال�شاعر والت�شكيلي االردين حممد العامري ت�رسيد‬
‫االردين للفل�سطيني والفل�سطيني لالردين على عدو ه�ش‬ ‫ذاكرته يف كتابه «�شجرة الليف»‪ ،‬مبا مثل له من‬
‫مكبل باال�صفاد داخل دبابته‪.‬‬ ‫حنني وعودة اىل الوراء يف حماولة لت�صفية ح�ساب مع‬
‫هي تلك القرية التي ولد فيها ال�شاعر حممد العامري‬ ‫جماليات املكان االول‪ ،‬واحلليب وال�شجر والنا�س‪ ،‬كتب‬
‫«القليعات» يف االغوار ال�شمالية‪ ،‬هناك للجمال واخلرافة‬ ‫ال�شاعر العامري احتفاءه بالنباتات واحليوانات والطيور‬
‫و�س�ؤال احلياة لهم معنى خا�ص‪ ،‬وحتت ال�شم�س احلارة‬ ‫والنهر والربتقال الذي كان يقف ليحر�سه ليال مع �شقيقه‬
‫واحلارقة‪ ،‬اجلبال والرتاب وال�سمك اجلاري يف النهر‪،‬‬ ‫علي العامري الذي عاد هو االخر يف وقت �سابق لي�صيد‬
‫كتب ال�شاعر ت�رسيده كما عنونه على كتابه «�شجرة‬ ‫تلك اللحظات بق�صائد حتاكي اللغة والطفل حتت �شم�س‬
‫الليف» ال�صادر عن دار ف�ضاءات للن�رش والتوزيع‪ ،‬ووثق‬ ‫حارقة يف اكرث االماكن انخفا�ضا ومواجهة مع كل �شيء‬
‫لكل من عرفهم يف طفولته ال�صدقاء واقارب واخوة‬ ‫يف االغوار االردنية قرب نهر االردن وبيارات الربتقال‬
‫واب وام واعرا�س‪ ،‬تناولهم بحب ابن املكان ملكانه‪ ،‬هم‬ ‫وافراح النا�س الب�سطاء‪.‬‬
‫ابطاله احلقيقيون‪ ،‬وهم ذاكرته املتوهجه يف ق�صيدته‬ ‫كتب ال�شاعر حممد العامري �سريته يف «�شجرة الليف»‬
‫والوانه‪.‬‬ ‫ممزوجة بح�س الراوي‪ ،‬مل ين�س التفا�صيل‪ ،‬حماوال تقدمي‬
‫املكان حتت �سوط ال�س�ؤال يف ت�رسيد الذاكرة «�شجرة‬ ‫نف�سه مرة اخرى عرب ت�رسيد الذاكرة بلغة فيها من ال�شعر‬
‫الليف»‪ ،‬ال�س�ؤال الوجودي عن معنى �شجرة ال متوت‪،‬‬ ‫وال�رسد ما يكفي الن يتعلق القارىء بالكتاب‪ ،‬ويبد أ�‬
‫وعر�س مير لي�شتبك فيه اجلميع بفرح‪ ،‬عن جبال تقف‬ ‫بحب النباتات واجلبال والنا�س والطيور‪ ،‬يكاد هذا‬
‫خلف النا�س حار�سة لفطنتهم و�صباحاتهم التي ال‬ ‫الكتاب يكون ردا جميال لكل تلك الزهور والنباتات التي‬
‫تعرف اال معنى االر�ض‪ ،‬وما ي�ستجد بعد ذلك تفا�صيل‬ ‫وجدت يف حياة وذاكرة العامري مكانا ال متوت فيه‪.‬‬
‫ب�سيطة يف حياتهم اليومية‪ ،‬تلك ال�شخو�ص التي حاكاها‬ ‫تلك ال�شجرة التي ت�صدرت عنوان الكتاب يعرفها اجلميع‬
‫العامري يف كتابه حتمل �صفات ابطال الرواية الكربى‬ ‫كما يقول العامري «ثمرة غريبة �أ�شبه بنبت �شيطاين‪،‬‬
‫يف احلياة‪ ،‬كلهم كانوا على حبل غ�سيل واحد بالوان‬ ‫ثمرة ال ت�ؤكل‪ ،‬ثمرة كبرية على �شكل كوز الذرة حم�شوة‬
‫�صارت لوحة القرية وخباياها‪ ،‬وللقرية يف �شجرة الليف‬ ‫ب�ألياف ي�صنعون منها ليفة احلمام»‪ ،‬ويف ت�رسيد‬
‫جتليات‪ ،‬فهي الق�ص�ص املكثفة والتي تتحول بفعل الزمن‬ ‫الذاكرة ي�صف ال�شاعر كل �شجرة عاي�شها وكانت جزء من‬
‫اىل ا�سطورة تتفكفك بفعل احلب‪ ،‬لكنها تبقى ع�صية على‬ ‫حقله املمتد‪ ،‬ي�صف الطرقات من املدر�سة اىل البيت من‬
‫التف�سري ما يجعلها وثيقة يتناولها اهل القرية بني احلني‬ ‫البيت اىل بيارة الربتقال‪ ،‬ويف طريقه ي�سجل يف م�شهد‬
‫واالخر‪ ،‬باعتبارها التاريخ ال�شخ�صي لكل واحد منهم‪.‬‬ ‫ب�رصي �صار ثيمه اعماله الت�شكيلية حكاية املكان‬
‫فعلها ال�شاعر حممد العامري يف «�شجرة الليف»‪� ،‬أرخ‬ ‫واجلبال املفتوحة على كل اال�سئلة لطفل كرب ويعود‬
‫لذاكرته وملكانه املكتظ بال�شجر واحلجر واجلبال‬ ‫اىل ذاك املكان طفل ثم يرتكه ليكرب من جديد وي�ضيف‬
‫والنباتات املو�سميات والنهر قرب البيارة‪ ،‬للنا�س الذين‬ ‫اىل ن�صو�صه ق�صيدة توثق م�سقط الر�أ�س واحلليب‬
‫نظروا يف عني عقله وراحوا احياء او اموات‪.‬‬ ‫االول‪ ،‬وامل�شاغبات واحلرب التي وقعت بني املقاومة‬
‫‪282‬‬ ‫\ كاتب من االردن‬
‫عامل ح�سيب ك ّيايل‬
‫الروائـــــي‬
‫\‬
‫نذير جعفر‬

‫ـ العنونة‪:‬‬ ‫كيايل (‪1921‬ـ‪1993‬م) ما بني‬ ‫تنو َع نتاج ح�سيب ّ‬ ‫ّ‬


‫حتمل ك ٌّل من الروايتني عنوان ًا رئي�س ًا واحداً‪« :‬مكاتيب‬ ‫وامل�رسحية‪,‬‬
‫ّ‬ ‫واحلكاية‪,‬‬ ‫والرواية‪,‬‬ ‫الق�صرية‪,‬‬ ‫ة‬ ‫الق�ص‬
‫ّ‬
‫الغرام» و«�أجرا�س البنف�سج ال�صغرية»‪ .‬ولي�س ثمة‬ ‫والترّ جمة‪ .‬ويف الوقت الذي ترك لنا فيه ع�رش جمموعات‬
‫عناوين داخلية كما جرت العادة يف كثري من روايات‬ ‫أدبية �سوى‬‫ق�ص�صية ف�إنه مل ينجز طوال رحلته ال ّ‬ ‫ّ‬
‫املوجة التالية بل ف�صول مر ّقمة يف كلتيهما من (‪� )1‬إىل‬ ‫روايتني‪ ,‬هما‪« :‬مكاتيب الغرام‪1956/‬م» و«�أجرا�س‬
‫رومان�سية‪ ,‬ت�ستهوي‬ ‫حب‬ ‫البنف�سج ال�صغرية‪1970/‬م»‪ّ � .‬أما �آخر �أعماله‪« :‬نعيمة‬
‫ّ‬ ‫(‪ .)23‬وي�شي العنوانان بنزعة ّ‬ ‫ق�ص�صية ولي�س رواية‬ ‫زعفران‪1993/‬م» فهو جمموعة‬
‫القراء وت�ستميلهم‪ .‬و�إ ْذ تتح ّدد داللة‬ ‫ّ‬
‫�رشائح وا�سعة من ّ‬ ‫كما ورد يف غري مو�ضع وموقع من بيان �سريته و�أعماله‪.‬‬
‫عنوان‪« :‬مكاتيب الغرام» يف �صيغته النحوية املتم ّثلة‬
‫تن�شغل الروايتان ـ على الرغم من الفا�صل الزمني‬
‫تتعمق‬
‫ّ‬ ‫يف عالقة الإ�ضافة ويف بنيته امل�ستقلة التي‬
‫بالهم االجتماعي الذي يتم ّثل يف‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫البعيد بينهماـ‬
‫�صي فت�ؤطّ ره وتتناغم معه‬ ‫باالنفتاح على املنت ال ّن ّ‬ ‫العادات والتقاليد‪ ,‬واملر�أة والرجل‪ ,‬والزواج والطالق‪,‬‬
‫وت�ؤكّ د دالالته عرب املكاتيب املتبادلة بني «دالل»‬
‫والعدالة والظلم‪ ,‬والعلم والدين‪ ,‬والكالم والفعل‪,‬‬
‫و«فريد»‪ ,‬ف�إن عنوان‪�« :‬أجرا�س البنف�سج ال�صغرية» ال‬ ‫وال�رشق والغرب‪ ,‬والوفاء واخليانة‪ ,‬وال�رشق والغرب‪,‬‬
‫�صي الذي ي�شري‬ ‫تكتمل داللته �إال باقرتانه بال�سياق ال ّن ّ‬ ‫وغري ذلك مما �أ�ضحى تناوله يف تلك املرحلة من‬
‫� ّأو ًال �إىل عالقة امل�شابهة بني ما ت�شيعه الأ�شعار وما‬ ‫التقليدية الدارجة يف م�رص و�سوريا‬ ‫املو�ضوعات‬
‫ّ‬
‫حمبة‪�« :‬أريده‬
‫ي�ضوع به الأريج يف تلك الأجرا�س من ّ‬ ‫على وجه اخل�صو�ص‪ .‬وي�أتي هذا االن�شغال يف �سياق‬
‫�صوت ًا فيه �شجو‪ ،‬يقر�أ يل �أ�شعاراً كّ لها ابتهال‪� ،‬أ�شعاراً‬ ‫ل�شخ�صياته و�رشطهم الإن�ساين‪ ,‬ونقد‬ ‫الت�صوير الواقعي‬
‫ّ‬
‫ت�ضوع منها املحبة‪ ،‬مثلما ي�ضوع الأريج الوديع من‬ ‫املفاهيم املتخلّفة ال�سائدة يف فكرهم و�سلوكهم‪ ,‬وبيان‬
‫�أجرا�س البنف�سج �ص‪ .»252‬وي�شري ثاني ًا �إىل التماثل بني‬ ‫�سلبياتها‪ ,‬والدعوة املبطّ نة لتجاوزها‪ .‬وهو ما يف�صح‬
‫«�سهام» بو�صفها رمزاً للنقاء والت�ضحية واحلب الكوين‬ ‫عنه ت�صدير رواية‪« :‬مكاتيب الغرام» على ل�سان امل ؤ�لّف‬
‫و�أجرا�س البنف�سج بو�صفها رمزاً للجمال والأريج الإلهي‪:‬‬ ‫وموجها م�سار القراءة‬
‫ّ‬ ‫نف�سه مم ّهداً بذلك لأجواء روايته‪,‬‬
‫«فلنحب‪ ..‬لنحب كونك ويا�سمينك وبنف�سجتك ذات الأرج‬ ‫نحو مو�ضوعه وفكرته‪�« :‬أنا واثق من �أن الظلمة التي‬
‫املحري‪..‬ولنحب النجوم التي تتغامز يف موهن من الليل‬ ‫تتخبط فيها بطلة هذه الرواية حالة طارئة �ستخرج‬
‫عميق ولنحب اخلفقة اخلفرة يف قلب العذراء احلاملة‪.‬‬ ‫منها بناتنا حني ن�شفى كلنا من �آثار القرون‪ ،‬وننطلق‬
‫ولنحبك �أنت �أيتها الإن�سانة التي مرت برو�ضها املونق‬ ‫ترن فيها ال�ضحكات خال�صة‬ ‫جميع ًا يف طريق م�ضيئة ّ‬
‫يد الهلّ �ص‪.»317‬‬ ‫�صافية‪ .‬ولعل هذا ما �أغواين بكتابتها �ص‪.»7‬‬
‫ن�صيهما يحيالن �إىل كثري‬ ‫وبانفتاح العنوانني على ّ‬ ‫الفنية التي يف�صح عنها‬
‫وميكن معاينة عدد من ال ّثيمات ّ‬
‫من العبارات التي تت�ضمنهما يف املنت‪ ,‬وي�شكّالن بذلك‬ ‫الربنامج ال�رسدي وينتظم من خاللها يف الروايتني عرب‪:‬‬
‫طيف ًا وا�سع ًا من الدالالت التي تعمقهما وتثبتهما يف‬ ‫العنونة‪ ,‬و�صيغة الراوي‪ ,‬واللغة‪ ,‬وال ّتنا�ص‪ ,‬والو�صف‪,‬‬
‫وخميلة القارئ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذاكرة‬ ‫والعالقات الزمانية املكانية‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫\ كاتب وناقد من �سورية‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫عازبة بعد زواج �صديقتيها �أميمة �شايف‪ ,‬ونعمة حمدي‪,‬‬ ‫ـ �صيغة الراوي‪:‬‬
‫تبدو الرواية جردة ح�ساب مع قيم املجتمع ال�رشقي‬ ‫يتواىل ال�رسد يف الروايتني عرب �ضمري املتكلم على‬
‫الذكوري‪ ,‬وموقفه املتخلّف من املر�أة‪ ,‬وهو ما ي�شري‬ ‫املركزية «دالل» يف «مكاتيب الغرام»‬ ‫ال�شخ�صية‬ ‫ل�سان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫�إليه امل�ؤلف يف ت�صديره للرواية ويدعو �إىل التخلّ�ص‬ ‫و«ح�سني» يف «�أجرا�س البنف�سج ال�صغرية» ويوهم �ضمري‬
‫لرتن ال�ضحكات خال�صة �صافية على �شفاه دالل‬ ‫منه ّ‬ ‫ال�شخ�صية الروائية‪ ,‬و�صدق �سريتها‬ ‫املتكلّم بواقعية‬
‫ّ‬
‫ومثيالتها‪.‬‬ ‫املَروية‪ .‬وهو ال يكتفي بنقل الأحداث‪� ,‬أو ت�صويرها‪ ,‬بل‬
‫ويف «�أجرا�س البنف�سج ال�صغرية» ينه�ض ال�رسد �أي�ضا‬ ‫ي�شارك يف �صنعها كطرف رئي�س فيها‪ ,‬وبذلك يقف معها‬
‫على ل�سان �ضمري املتكلّم «ح�سني»‪ ,‬ويتعرف القارئ‬ ‫لل�شخ�صية �إمكانية البوح‬
‫ّ‬ ‫ال وراءها‪ ,‬وهذه ال�صيغة تتيح‬
‫من خالله �إىل مدير البنك‪ ,‬و�صديق العمر «عبد املجيد»‪,‬‬ ‫الذاتي يف ا�ستح�ضار ما�ضيها‪ ,‬وعالقتها باحلا�رض‪ ,‬عرب‬
‫وزميلتهما يف البنك «�سهام»‪ ,‬و�أخته �سميحة‪ ,‬وزوجها‬ ‫الذكريات والر�سائل والأ�شعار كما يف «مكاتيب الغرام»‪,‬‬
‫الطبيب مالك‪ ,‬وطفلتهما املتب ّناة �أمل‪ ,‬وخادمتهما‬ ‫�أو عرب التداعيات واحلكايات كما يف «�أجرا�س البنف�سج‬
‫فاطمة‪ ,‬و�أخيه ها�شم‪ ,‬و�أمه‪ ,‬وحبيبته �شارلوت‬ ‫ال�صغرية»‪.‬‬
‫وفتاتي املتعة العابرة‪ :‬علياء و�سلمى‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫اجلرمانية‪,‬‬ ‫فدالل ت�سته ّل ال�رسد يف «مكاتيب الغرام» بالفعل‬
‫والأ�ستاذ ح�سني معلمه يف االبتدائية‪ ,‬وابنه �صبحي‬ ‫«كنت» بادئة من املا�ضي البعيد لطفولتها‬ ‫ُ‬ ‫املا�ضي‬
‫الذي يدر�س الطب يف باري�س‪ ,‬و�أخت �سهام هند‪.‬‬ ‫يف �إحدى الرو�ضات التابعة ملدار�س الراهبات يف‬
‫املحورية بني‬
‫ّ‬ ‫ال�شخ�صية‬
‫ّ‬ ‫�شخ�صية ح�سني‬
‫ّ‬ ‫وتبدو‬ ‫يتعرف القارئ على �أبيها الدكتور‬
‫بريوت‪ ,‬ومن خاللها ّ‬
‫�شخ�صية �سهام‪ ,‬فكالهما‬ ‫ّ‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ,‬وتقابلها‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫ح�سني مالبي‪ ,‬و�أمها‪ ,‬و�أخويها‪ :‬زين العابدين‪ ,‬ور�أفت‪,‬‬
‫�ضحى و�صرب ومل يظفر ب�رشيك العمر‪ .‬وكالهما يعي�ش‬ ‫ّ‬ ‫و�صديقها ف�ؤاد‪ ,‬و�شقيقتيه «�أليكو» و«جوجو»‪ ,‬وع�صام‬
‫حزنه الدفني مبفرده‪ .‬فح�سني ما زال حتت وط�أة حبه‬ ‫�صديق �أمها‪ .‬لكن هذا اال�ستهالل الذي يهيئ القارئ‬
‫تعرف �إليها يف باري�س‪,‬‬ ‫للجرمانية «�شارلوت» التي ّ‬ ‫ال�شخ�صيات املتع ّددة �رسعان‬
‫ّ‬ ‫ملتابعة م�صائر هذه‬
‫و�سهام ما زالت حتت وط�أة �إح�سا�سها بامل�س�ؤولية جتاه‬ ‫ما يبدو نافال وال وظيفة بنائية له‪� ,‬إذ تختفي تلك‬
‫�أ�رستها بعد وفاة �أبيها‪ .‬وعندما تتاح الفر�صة حل�سني‬ ‫مبجرد انتقال دالل و�أ�رستها من بريوت‬‫ّ‬ ‫ال�شخ�صيات‬
‫ّ‬
‫ليقرتب من �سهام يراها مع �أحد املحامني يف ال�سيارة‬ ‫�إىل دم�شق يف الف�صل الثاين من الرواية‪ ,‬ويتم �إخبار‬
‫فتثور غريته ويكت�شف �أخرياً �أن من كان معها لي�س �سوى‬ ‫القارئ عن م�صائرها بعدد من الأ�سطر القليلة‪ ,‬فالأب‬
‫�شقيقها يف الر�ضاعة! وتنتهي الرواية يف بيت �سهام‬ ‫على عالقة متوترة بالأم‪ ,‬والأم ال يعنيها �سوى زينتها‬
‫بح�ضور ح�سني و�صديقه عبد املجيد نهاية مفتوحة‬ ‫وعالقاتها خارج البيت‪ ,‬والأخ الأكرب زين العابدين‬
‫على احتماالت عدة‪ ,‬ي�شي �أحدها بقناعة ح�سني ب�سهام‬ ‫على عالقة بامر�أة م�شبوهة‪ ,‬والأخ الأ�صغر ُي�سجن ب�سبب‬
‫وبراءتها ونقائها ورغبته ب�أن تن�رش عطرها يف �سمائه‬ ‫م�شاجرة يف امللهى‪ ,‬وف�ؤاد �صديق الطفولة ميوت!‬
‫كما تن�رشه �أجرا�س البنف�سج يف حدائق الكون‪.‬‬ ‫رمبا كانت الإ�شارة العابرة �إىل عالقة الأم بع�صام‬
‫ت�سيد �صيغة الراوي املتكلّم يف الروايتني على‬ ‫�إن ّ‬ ‫يف بريوت ثم بالدروي�ش يف دم�شق‪ ,‬و�سلوكها املنايف‬
‫ين «دالل» و«ح�سني» مل مينع من اقتحام عدد من‬ ‫ل�سا ّ‬ ‫للح�شمة‪ ,‬هي املق ّدمة التي �سيبني عليها القارئ النتيجة‬
‫�سيما‬
‫ال�شخ�صيات للربنامج ال�رسدي بني حني و�آخر وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي و�صلت �إليها ابنتها دالل من ال�ضياع وفقدان الأمل‬
‫عندما يتعلّق الأمر برواية حكاية من املوروث‪� ,‬أو ب�إلقاء‬ ‫بعدما خانتها ثلّة ك ّتاب وحمرري جريدة «الندى»‬
‫ق�صيدة‪� ,‬أو قراءة ر�سالة‪ .‬وغالبا ما ي�ؤدي هذا التنويع‬ ‫فتن ّقلت ما بني فريد الذي غدر بها و�سافر يف بعثة �إىل‬
‫�إىل ك�رس رتابة اال�ستطراد اململ الذي يهيمن على كثري‬ ‫باري�س‪ ,‬و�أخيه �سليم الذي تخلى عنها وارتبط ب�سعاد‬
‫من الف�صول ال�رسدية‪.‬‬ ‫الدرباين‪ ,‬و�سامي احلوراين الذي يهجرها ويخطب ابنة‬
‫ـ اللغة‪:‬‬ ‫خالته‪ ,‬وروحي املفتي الرومان�سي احلامل الذي يرتدد‬
‫تتباين م�ستويات اللغة ال�رسدية يف الروايتني ما‬ ‫يف االرتباط بها‪ ,‬وعامل املطبعة �أبي �أحمد الذي يحبها‬
‫بني لغة �إن�شائية مدر�سية ال تخلو �أحيانا من وم�ضات‬ ‫ويتزوج غريها! وبهذه النهاية الدرامية لدالل التي تظل‬
‫‪284‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫لبع�ض ه�ؤالء‪ ,‬وقد يكون التنا�ص عرب ت�ضمني �أ�شعار‬ ‫�شاعرية‪ ,‬كما يف «مكاتيب الغرام»‪�( :‬أنت �أديبة تكتمل‬
‫�أو �أغان من املوروث �أو مقاالت �صحافية‪� ,‬أو مقاطع‬ ‫وتن�رض وتزدهر‪ ,‬ك�أروع ما تكون الزنابق يف عنفوان‬
‫حمرف للروائي‬ ‫من الروايات‪ ,‬كما يف ت�ضمني مقطع ّ‬ ‫الربيع‪ .‬حبذا لو أُ�خِ ذ بيدك يف توقلك الرائع �شعاب الأدب‪،‬‬
‫املعروف يو�سف ال�سباعي من رواية �أ�سماها امل�ؤلف‪:‬‬ ‫كيما تكون لنا �أديبة ملء ال�سمع والف�ؤاد �ص‪ .)33‬وعلى‬
‫(وحتركت �شفتاه‪ ،‬ثم هم�س يف �صوت‬ ‫ّ‬ ‫«ر ّدت الروح»‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نحو ما جاء يف «�أجرا�س البنف�سج ال�صغرية»‪( :‬كان‬
‫ك�أنه فحيح الأفعى‪ ..‬مات لقد مات ال�صبي الأ�شقر‪ ..‬لقد‬ ‫الوقت �ضحى وال�شم�س قد ملأت اجلدار الغربي‪� ،‬شم�س‬
‫قتلته �أمي‪ !..‬و�أغلق عينيه ثم عاد �إىل غيبوبته مرة �أخرى‬ ‫�صبية دافئة مل تزد اجلو ال�صايف �إال عذوبة ت�ست�شعرها‬
‫�ص‪.)17‬‬ ‫يف �سويداء قلبك‪ ..‬وهذه الأن�سام البليلة املعطرة حتملك‬
‫ال�شعرية واملقاالت واحلكم والأمثال‬
‫ّ‬ ‫وكرثة الت�ضمينات‬ ‫وتن�أى بك عن ك ّل نقا�ش‪ ..‬النقا�ش يحتاج �إىل ح�شد‬
‫�سواء �أكانت من ن�سج خيال امل�ؤلف نف�سه �أم لغريه‬ ‫وما �أنت �إ ّال حامل هانئ مبا تتبدد مع ك ّل رع�شة ن�سيم‬
‫هلهلت البنية ال�رسدية و�شتتت انتباه القارئ عن احلدث‬ ‫�ص‪.)268‬‬
‫�سيما �أن ال�رصاع بني‬
‫ال�شخ�صيات وال ّ‬
‫ّ‬ ‫الرئي�س وم�سار‬ ‫حملية‬
‫ّ‬ ‫ولغة وظيفية توا�صلية مط ّعمة بتعبريات‬
‫ال�شخ�صية ونف�سها �أو بينها والعامل املحيط هو يف ح ّده‬ ‫ال�شعبية ال�ساخرة‪ ,‬كما يف «مكاتيب‬ ‫ّ‬ ‫لها دالالتها‬
‫الأدنى ويكاد يختفي يف كثري من الف�صول‪ .‬كما يح ّل‬ ‫الغرام»‪�(:‬س�أطلب �إحالتي على التقاعد‪ .‬ثالثني �سنة‬
‫الإخبار التقريري يف نقل الأحداث وت�صوير ال�شخ�صيات‬ ‫خدمة‪ ،‬و�أراين يف ذنب اخللق‪� .‬أريد فقط �أن �أرى كيف‬
‫بدال من م�رسحتها درامياً‪.‬‬ ‫يتدبرون هذه اجلبال من الأوراق �إذا �أنا تركت الوظيفة‪.‬‬
‫تفو! عندي يف معيتي يا �ست را�سي خم�سة موظفني‪� .‬أي‬
‫ـ الو�صف‪:‬‬
‫�ستي طول النهار قاعدين لقراءة املجالت والروايات‬
‫روايتي‪« :‬مكاتيب الغرام» و«�أجرا�س‬
‫ّ‬ ‫ُيعنى الو�صف يف‬ ‫و�رضاب‬‫ّ‬ ‫الغرامية‪ ،‬واخلناق حول �ستالني وم�صدق‬
‫البنف�سج ال�صغرية» بت�صوير الف�ضاء املكاين و�أ�شكاله‬ ‫ال�سخن‪ ..‬و�أنا مثل حمري احلجارين‪ ،‬ال �أر�ضي البائع وال‬
‫وعنا�رصه املختلفة بق�صد تف�سري عالقة ال�شخ�صية‬ ‫ال�شاري �ص‪.))24/23‬‬
‫ببيئتها ومدى ت�أثريها عليها‪ .‬وتغلب على لغته‬ ‫هذا التناوب بني اللغة الإن�شائية والتوا�صلية املط ّعمة‬
‫التعبريات املجازية‪ ,‬على نحو ما جاء يف و�صف غرفة‬ ‫بالعامية �سواء يف ال�رسد �أم يف امل�شاهد احلوارية‬ ‫ّ‬
‫�سلوى يف «مكاتيب الغرام»‪( :‬وكانت غرفة �سلوى نظيفة‬ ‫ال�شخ�صية‬
‫ّ‬ ‫مبنطوق‬ ‫وعي‬ ‫عن‬ ‫يك�شف‬ ‫الروايتني‬ ‫يف‬ ‫الكثرية‬
‫جداً مرتبة ترتيب ًا بديعاً‪ ،‬لها �رشفة تطل على ق�سم من‬ ‫الروائية‪ ,‬واختالف هذا املنطوق بح�سب م�ستواها‬
‫احلي‪ ،‬املهاجرين‪ ،‬ومتتد �أمامها الغوطة‪ ,‬ثم �أن حي‬ ‫الثقايف واالجتماعي واملهني‪.‬‬
‫امليدان ُيرى منها متغلغالً‪ ،‬مبنائره العتيقة الفاحتة‪،‬‬ ‫ـ التنا�ص‪:‬‬
‫املتلوي‬
‫ّ‬ ‫يف انب�ساط اخل�رضة الداكنة‪ ..‬وكان الدخان‬ ‫وال�شعراء‬ ‫حتفل الروايتان ب�أ�سماء عدد كبري من الك ّتاب ّ‬
‫تلونه الأ�شعة الدامية‬
‫من املداخن البي�ضاء ال يلبث �أن ّ‬ ‫والفنانني واملو�سيقيني العرب والأجانب مبنا�سبة ومن‬
‫تر�شقها ال�شم�س الغاربة‪ ،‬حني يتاح لها االنفالت من‬ ‫غري منا�سبة! بدءاً من رامربانت‪ ,‬غوركي‪ ,‬ت�شيخوف‪,‬‬
‫الغمائم احلافات بها �ص‪ .)93‬كما ُ يعنى الو�صف‬ ‫وانتهاء‬
‫ً‬ ‫�شوبنهور‪ ,‬داروين‪ ,‬نيت�شة‪ ,‬ابن داود الأنطاكي‪.‬‬
‫بت�صوير ال�شخ�صيات مبظهرها اخلارجي (الفيزيقي)‪,‬‬ ‫ب�شوبان‪ ,‬باخ‪ ,‬يو�سف ال�سباعي‪� ,‬إح�سان عبد القدو�س‪,‬‬
‫وعاملها الداخلي (النف�سي) موهم ًا بحقيقتها ومف�سرّ ا‬ ‫�سهيل �إدري�س‪ ,‬املنفلوطي‪ ,‬عبد الوهاب‪� ,‬أم كلثوم‪,‬‬
‫ل�سلوكها‪ ,‬على نحو ما جاء يف و�صف �أميمة �شايف يف‬ ‫دوالفنتني!‬
‫الرواية نف�سها‪:‬‬ ‫ال�شخ�صيات‬
‫ّ‬ ‫وينم ذلك عن نزعة ا�ستعرا�ضية عند‬ ‫ّ‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫التي تتباهى ب�سعة اطالعها وثقافتها! وال تخلو بع�ض‬
‫الف�صول ال�رسدية من تنا�ص مع �أقوال وعبارات ومقاطع‬

‫‪285‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬


‫�أثر الغياب‬
‫يف «التبا�سات» اخلطاب املزروعي‬
‫\‬
‫ر�شا �أحمد‬
‫فاعلة ومهمة يف �إع��ادة ن�صاب الأ�شياء و�صياغة‬ ‫�أذك��ر ليلتها �أن الدمعة قفزت من عينيك كال�شهقة‪،‬‬
‫الوقائع ب�شكل ين�ساب مع الوعي و�إنهاء �سفر الذات يف‬ ‫ف�ساح امللح يف البحر‪ ،‬هذا البحر املمتلئ بالتفا�صيل‬
‫الر�ؤى ميتزج فيها الواقع‬
‫عوامله الكائنة يف عامل من ُ‬ ‫وبالكائنات وبالأ�شياء؛ يالروحي النائحة على‬
‫باخليال‪ .‬كان اخلطاب بارع ًا يف �إلغاء امل�سافة بني‬ ‫�شاهدتها املائلة ! عرق روحك ظل ملتب�سا بوجعي‬
‫الن�ص واحلياة واختياره للب�صمة ال�شعرية ولكن‬ ‫الأزيل م�رشوعان للحزن ج�سدانا املرجتفتان لذة‬
‫بدون �أن تبدو تلك الآليات فاقعة �أو ناتئة يف �سياق‬ ‫ورهبة‪,‬كانا ا�شبه بقول بجارثيال�سو‪�« :‬أغناما ترعى‬
‫القراءات‪ ،‬فذاته الرهيفة اله�شة عاطفي ًا تذوب بني‬ ‫الكلأ بينما الروح تزفر �أنفا�سها»‬
‫الكلمات وال تطفو �أناه ب�أي معنى من املعاين على‬ ‫ما ُء الوجد‪ .‬التبا�سات‪..‬‬
‫�سطح الن�ص‪ .‬وهذه �سمة من �سمات الكائن القادر على‬ ‫ب��دءا �أنها لي�ست ق��راءة نقدية‪ ،‬وال تن�شد ذل��ك‪ ،‬بقدر‬
‫املكا�شفة وا�ستجالء �أغوار نف�سه من خالل اللغة‪ ،‬فهو‬ ‫ما ت�سعى للتنويه بكتاب �أجد �أنه مل ي�أخذ حظه من‬
‫ال يخاف من الأمل‪ ،‬بل يعيد عجنه وت�شكيله يف لغة حد‬ ‫االهتمام رغم ثراء مفرداته وجمالياته الوا�ضحة‪..‬‬
‫التهور‪� .‬إنه كاتب �أحا�سي�س ال مو�ضوعات‪ .‬والكتابة‬ ‫التبا�سات جمموعة ن�صو�ص تتداخل فيها الأجنا�س‬
‫تعني بالن�سبة له حالة من ح��االت تو�سيع ال��ذات‬ ‫الأدبية‪ .‬وان كنت �أراه طافحا بال�صور ال�شعرية ومغرقا‬
‫و�إف�ساح امل��دى لها للح�ضور والتم ّثل‪ .‬وال�رس على‬ ‫يف تفا�صيلها وهذا مار�آه القا�ص اخلطاب املزروعي‬
‫ما �أعتقد يكمن يف كون الذات امل�صعوقة مبفارقات‬ ‫�أن �شعرنة الن�ص لي�س تهمة وال عيبا �رسديا بل هي‬
‫الوجود‪ ،‬كما ميثل وديع بع�ض جتلياتها‪ ،‬تتوحد مع‬ ‫ما ي�سمو �إليها القا�ص �إن �شعرنة الن�ص الق�ص�صي هي‬
‫الأمل داخل الكتابة‪� .‬إنه ال يكتب لكي يتطهر‪ ،‬بل يدلل‬ ‫الإتيان بال�صورة يف �أجمل تراكيبها ولغة عذبة �سل�سة‬
‫مبفردات (العبور والعدم والن�سيان والغياب) التي‬ ‫وحدث ال نتوقعها هي الده�شة هي القب�ض على تالبيب‬
‫هي مبثابة �أيقوناته اللفظية على اعتناقه حرفية‬ ‫املتلقي من �أول كلمة‪� .‬إن �شعرنة لغة الن�ص الق�ص�صي‬
‫اللغة لكي ال ين�سى‪ ،‬و�أحيان ًا ي�ستدعي ذاته وميكِّثها‪.‬‬ ‫قد ت�ؤذي احلدث �أكرث من �أن ت�ضفي �شيئا‪ .‬و�أنا �أوافقه‬
‫�إن��ه يكتب لكي ال يكون جم��رد �شيء‪ ،‬وهنا مكمن‬ ‫متاما بهذه النقطة‪� .‬سلك اخلطاب طريقا ﺨﻣﺘﻠﻔﺎ ﻤﺗﺎﻣﺎ‬
‫الأثر يف ن�صه فمن يقر�أ ا�شاراته و�صوره ال�رسيالية‬ ‫ﻋﻦ ﺍ�ﻵ‌ﺧﺮﻳﻦ‪ ,‬الغياب ﺍﻤﻟﻜﺜف ﺑﺎ�ﻵ‌ﺣﺰﺍﻥ‪ ,‬ﻟﻴﻞ ﺍﺤﻟﺐ‪,‬‬
‫ي�صاب به حتماً‪ ،‬وال يجد تلك الغرائبية املت�أتية من‬ ‫ﻟﻴﻞ ﺍﻤﻟﻮﺕ‪ ,‬ﺍﻟ�ﺴﻔﺮ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪ ﺍﻤﻟﺘ�ﺼﺎﻋﺪ ﻣﻦ ﺭﻭﺡ ﺛﺎﺋﺮﺓ ‪ ,‬ﻻ‌‬
‫الألعاب اللغوية املعتادة يف الن�صو�ص احلديثة بل‬ ‫ﺗ�ﺼﺪ�ﺃ ﻭﻻ‌ ﺗﻨﻄﻔﻰﺀ‪ ,‬ﺑﻞ ﺗﻈﻞ ﻣﺘﻮﺗﺮﺓ ﻭﻣﻨﻜ�ﺮﺴﺓ‪ ,‬ﻣﻐﺮﺘﺑﺔ‬
‫حميمية هي ع�صب ن�صه وحياته‪ .‬فالغياب لي�ست‬ ‫ﻟ�ﻸ‌ﺑﺪ‪� ,‬ﺇﻧﻬﺎ ﺣﺎﻟﺔ ﻓﺮﻳﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟ�ﻀﻴﺎﻉ ﺍﻟ�ﺮﺸ���ﺱ‪ ,‬ﺣﻴﺚ‬
‫ر�ضة وجودية تتولّد عنها فل�سفة‬‫جمرد مفردة‪ .‬بل هي ّ‬ ‫ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻤﻟﺮﺀ ﻣﺘﻠﺒ�ﺴﺎ ﺑﺎ�ﻷ‌�ﺿﺪﺍﺩ‪ ،‬ﺍﻟ�ﺼﻤﺖ ﻭﺍﻟﻔﻮ�ﺿﻰ‪,‬‬
‫جمالية‪ .‬جتليات الغياب وه��ي حت�رض يف الغالب‬ ‫ﺍﺤﻟ�ﻀﻮﺭ ﻭﺍﻟﻐﻴﺎﺏ‪ ,‬ﺍﻤﻟﺮﺋﻲ ﻭﺍﻟﺒﻌﻴﺪ‪ .‬ما مييز بنية الن�ص‬
‫كتجريدات وف�ضاءات حمروثة بالكالم والتو�صيفات‬ ‫يف جمموعة (التبا�سات) للقا�ص اخلطاب املزروعي‬
‫كليانية‬
‫ّ‬ ‫بدون التنويع عليها‪ .‬وهي ال تهيمن على‬ ‫انها بنية ال تخ�ضع ل�رضورات املرجعية ال�سائدة يف‬
‫الن�ص ومناخاته باملعنى الفل�سفي‪� ،‬إمنا كوقائع‪.‬‬ ‫كتابة ال�شعر‪،‬بقدر ما تخ�ضع لوعي القا�ص ونظمه‬
‫امل��ف��ردات‪ ،‬حيث عرب جتربة انعدام املعنى‪ ،‬و�أف��ول‬ ‫االبداعي يف توجيه ال�سلوك نحو غايات متعالية‪,‬‬
‫‪286‬‬ ‫\ �شاعرة من ُعمان‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫وهنا يكمن �رس لغته الكثيفة وعبارته الرمادية التي‬ ‫املتعايل مبخاطبة الذات املطلقة بعبارات دالة حتى‬
‫حتيل �إىل خفة �شعورية ي�صعب تزوير الإيقاع الذي‬ ‫�صار مياهي الغياب بالعدم‪ ،‬كما ت�شري م�سكوكاته‬
‫ي�ضبط ه�سي�سها‪� ،‬أو �إهدار نظام عالقاتها داخل ن�ص‬ ‫اللفظية‪ ،‬وهو ما يعرف نقدي ًا بالقيمة املهيمنة‪� ،‬أو‬
‫مدبر‪� .‬أظنه يحقق يف ن�صه معادلة اجلمال اللفظي‬ ‫اخللية املف�سرّ ة‪ ،‬وهو الأمر الذي يف�رس �أي�ض ًا افتتانه‬
‫املب�سوط ك��رداء ح�سي على جوهر املعاين املخب�أ‬ ‫مبفردة الغياب والتنويع عليها كتعويذة يف �أغلب‬
‫يف املفردات‪ .‬هذه املنادمة للخطاب هل �أعادته �إىل‬ ‫الن�صو�ص‪ ،‬وتعليقها حتى كالفتة على �صدر الن�ص‪/‬‬
‫ال�شعر بعد اجلدل مع ال�رسد؟ رمبا �أعادته �إىل منطقة‬ ‫املجموعة (ماء ُ الوجد) مثالً‪ .‬مت�أتية كحِ لية فنية‬
‫حيوية وجاذبة من ال�شعر‪ ،‬و�ساعده على االنحياز‬ ‫من جدل ي�شبه �شطحة ابن عربي عن احل�ضور اجللي‬
‫يت�شبه به‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�أكرث �إىل جوهر ال�شعر هرب ًا مما ي�شبهه �أو‬ ‫للذات من خالل م��راودات تغييبها‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫ح�سية ال ميكن الفرار من ت�أثرياتها‪،‬‬‫جمرة ّ‬‫لأن ال�شعر ّ‬ ‫�أن (الغياب) لي�س جمرد مفردة للتعبري عن لوعة �أو‬
‫و�شعرية الوجود قدر ال تنوجد يف الن�ص وح�سب‪ ،‬بل‬ ‫حرقة �أو ي�أ�س‪� ،‬إنها عالمة باملعنى ال�سيميائي على‬
‫يف كل جتليات احلياة‪ .‬ن�صو�ص اخلطاب حمر�ضة‪،‬‬ ‫املجوف‪ ،‬وتعني‬‫ّ‬ ‫خوف ال��ذات من الوجود اخل��اوي‬
‫وهو يحفز اخلطاب النقدي الذي ال يعرتف بامل�سافة‬ ‫بتكراريتها‪ ،‬وكرثة الطرق عليها حالة من التعنيف‬
‫بني الن�ص واحلياة بل يوحدهما من خالل القراءة‬ ‫الإيجابي للذات وطم�أنتها يف �آن‪ ،‬حيث حتيل على‬
‫(ع�بر‪ -‬ن�صية) تتخذ من الن�ص منطلق ًا �إىل قلب‬ ‫الدوام �إىل ذات �صامتة‪ ،‬مبهوتة‪ ،‬مفتونة بالبيا�ض‪،‬‬
‫احلياة‪ ،‬وباملقابل ترتد �إىل احلياة من خالل الن�ص‪.‬‬ ‫موعودة بالتال�شي وا إلق��ام��ة على �سطحية العدم‪.‬‬
‫و�أعتقد �أن جتربته جديرة بقراءات متنوعة تتخطى‬ ‫دوما ت�ؤكد �أن الن�ص ال بد �أن ي�شبه مبدعه‪ ..‬هل ن�ص‬
‫الإ�شتباك مبعمارية الن�ص وجمالياته �إىل التما�س‬ ‫اخلطاب ي�شبهه؟ متام ال�شبه‪ ،‬فلي�س ثمة اغرتاب فني‬
‫مع مظهر من مظاهر ال��ذات الإن�سانية املفجوعة‬ ‫�أو نف�سي بينه كمبدع وبني ن�صه‪.‬‬
‫مب�آلها حيث يتمو�ضع فوق امل�شتبهات الأيديولوجية‬ ‫(مري ب�إجتاه ال�ساعة لتبقيني‪ ,‬ال تقفزي على قلبي‬ ‫ُ‬
‫والفئوية والتنميطات الفنية الفارغة‪ .‬هذه الب�صمة‬ ‫؛وال منه‪ ،‬كوين و�سادته التي يبقى بها‪ ،‬لأجل ذلك‬
‫ال�شعرية املتفردة للخطاب هي بالفعل ما �أغ��راين‬ ‫�صنع احلجر ماء رقراق ًا يحيي املوات‪ ،‬ويبقي الزنبق‪.‬‬
‫مبقاربتة‪ ،‬من خالل مقروئية بقدر ما تهبني متعة‬ ‫انكفئ علي قبل الظالم‪ ،‬قبل �أن متر البومات وتذهب‬
‫التلذذ بن�صه ال�شعري‪ ،‬تعرب بي كقارئة �إىل التحاور‬ ‫ب�أ�صابعي‪ .‬ال �شيء غري ال�لا �شيء‪� .‬أحبيني قلي ًال‬
‫مع ذاته ال�شعرية املتكلمة‪� ،‬أي معه ك�إن�سان من خالل‬ ‫بفر�شاة جنوين التي تنبثق كل �صباح‪ ،‬عندما تكون‬
‫حوار بني وع َيينْ �أو انفعالينْ ‪ .‬هناك �أمران حدثا يف‬ ‫بوهيمية‪/‬جمنونة‪ /‬نزقة والتنتمي �إىل �أحد‪.‬ال ت�أ�سفي‬
‫ال�شعر والرواية عندنا‪ ،‬ورمبا عند غرينا‪ .‬فقد تغري‬ ‫على �شيء ك��ان من�سياً‪� ،‬أميطي حجابك احلجري‪،‬‬
‫�شكل ال�شعر وتغريت �صورته واج��راءات��ه اللغوية‬ ‫لت�شمي اليا�سمني؛ وهو يخرج )‬
‫والكتابية منذ وقت طويل‪ ،‬حتديداً منذ جميء ق�صيدة‬ ‫وال يوجد انف�صال بني الذات وبني مو�ضوعه ال�شعري‪.‬‬
‫النرث‪ ،‬كما �أن الرواية راحت تو�سع حدودها وتن�أى‬ ‫فهو ين�رسد �شعراً‪ .‬وينكتب ك�سرية‪ .‬فالأ�صوات بالن�سبة‬
‫عن كونها وعاء حكائي ًا فقط‪ .‬هذا يعني �أن الق�صيدة‬ ‫له‪ ،‬وح�سب قوله‪ ،‬تولد للغناء ال لل�رصاخ‪ ،‬للن�شيد ال‬
‫اقرتبت‪ ،‬مع جميء ق�صيدة النرث حتديداً‪ ،‬من ال�رسد‬ ‫للح�رشجة‪ .‬ومن يقر�أ ن�صه يجده م�سكون ًا بالآهات‬
‫والق�ص كما �أن الرواية‪ ،‬احلديثة خ�صو�صا‪ ،‬مالت‬ ‫واحل�رشجات‪ .‬يكتب ككائن يت�أوه قبالتك‪ ،‬بدون �أدنى‬
‫اىل فعل الكتابة من ميلها ال�سابق اىل احلكاية �أو‬ ‫�إح�سا�س ي�شي بكون امل�شاعر عورة ينبغي مواراتها‪،‬‬
‫احلدوتة‪ .‬ويف فعل الكتابة ميكن توقع ال�شعر واملعرفة‬ ‫فلن�صه �سمة (احلدوث) مبعنى �أن الن�ص عنده يت�شكل‬
‫والتواريخ ال�صغرية والت�أمل يف م�صائر االن�سان يف‬ ‫بانفعاالت �أفقية تبني عن ذات طازجة �شعوري ًا حتدث‬
‫زمن ا�ستفحال القوة واملال والتكنولوجيا واحلروب‪..‬‬ ‫يف الآن واللحظة‪ ،‬حتى مفرداته ال يبدو �أنها من ذلك‬
‫___________________________________________‬
‫‪-‬التبا�ساتجمموعةن�صو�ص�صدرتعنوزارةالرتاثوالثقافةيف�سلطنة‬ ‫النوع الذي يقف طوي ًال �أمام املرايا‪� .‬إنها دفقة الذات‬
‫عمان عام ‪2007‬م‪ .‬والطبعة الثانية �صدرت عن دار الغ�شام هذا العام‪.‬‬ ‫املت�أملة واحلاملة باخلال�ص اجلمعي عرب الفردي‪.‬‬
‫‪287‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫(ب�صرياثا)‬
‫ملحمد خ�ضري‬
‫\‬
‫علي عبد الأمري �صالح‬

‫ف�ضل �أن يبقى «يف مدينةٍ‬ ‫�إذا كان حممد خ�ضري قد ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫فعلية‪ ,‬تخفي حقيقتها حتت ركام من �أنقا�ض التاريخ‬ ‫�إذا �أراد حممد خ�ضري �أن يبقى (مواطن ًا �أبدياً)‪ ,‬ف�إن كتابه‬
‫املتقلب وامل�آ�سي اجلماعية» �ص ‪ 20‬ف�إن كتابه هذا ُيعد‬ ‫(ب�رصياثا) مل ي� أش� �أن يبقى حكراً على القراء الناطقني‬
‫واحداً من �أف�ضل الكتب الأدبية التي تنتمي لهذا النوع‬ ‫بالعربية‪ .‬فها هو ذا وليم م‪ .‬هوجنز يرتجمه �إىل لغةٍ‬
‫والتي كُ تبت عن الب�رصة‪� .‬إذ كتب �أدباء ب�رصيون �آخرون‬ ‫ثانيةٍ ‪ ,‬وي�صبح يف متناول القراء الناطقني باالجنليزية‬
‫ن�صو�ص ًا ُتعنى بالب�رصة خا�ص ًة من مثل كتاب مهدي‬ ‫ورمبا ُيرتجم منها �إىل لغات �أخرى‪ ..‬لقد عرب (ب�رصياثا)‬
‫حممد علي (الب�رصة جنة الب�ستان)‪ ,‬وكتاب طالب عبد‬
‫من �ضفةٍ �إىل �ضفة‪ ,‬و�أ�صبح ملك ًا للقارئ الأوربي �أو‬
‫العزيز (قبل خراب الب�رصة) �أو ُتعنى بالعراق عام ًة من‬
‫الغربي عموماً‪� ..‬إنه يعيد �إىل �أذهاننا كتاب (داغ�ستان‬
‫مثل كتاب ل�ؤي حمزة عبا�س (املكان العراقي ‪ /‬جدل‬
‫بلدي) لر�سول حمزاتوف و(مدن ال مرئية) لإيتالو كالفينو‬
‫الكتابة والتجربة) الذي قام بتحريره وقدم له‪.‬‬
‫و(الطريق �إىل غريكو) لنيكو�س كازنتزاكي و(ح�صيلة‬
‫ال ريب �أن حممد خ�ضري وهو القارئ النهم والكاتب‬
‫رتع) لإيزابيل �أليندي و(ا�سطنبول‪:‬‬ ‫الأيام) و(بلدي املخ َ‬
‫الد�ؤوب فكّر مراراً يف م�س�ألة جتني�س كتابه (ب�رصياثا)‪,‬‬
‫املدينة والذكريات) لأورهان باموق‪ .‬تنتمي هذه الكتب‬
‫ولعه فكر يف عناوين جانبية �أو فرعية له قبل �أن ي�ستقر‬
‫ر�أيه على عنوان (�صورة مدينة)‪ ..‬هذا العنوان الفرعي‪,‬‬ ‫�إىل جن�س �أدبي �صار يكتب فيه كتاب معا�رصون من‬
‫يف ر�أيي‪ ,‬ناجت عن ق�صدية مدرو�سة ومتحي�ص ودراية‬ ‫ال�رشق والغرب ي�رسدون من خالله �سريهم الأدبية و�سري‬
‫وتفكري طويل �أخذ من الق�صا�ص الب�رصي �شهوراً عدة ال‬ ‫مدنهم ومواطنيهم و�أحباءهم وجمايليهم وما واجهوه‬
‫بل �سنوات‪ ,‬حيث �شاء امل�ؤلف �أن ي�سمي نف�سه (املواطن‬ ‫من ويالت وم�صاعب يف حتوالت التاريخ القا�سي‪.‬‬
‫الأبدي) م�ستعيداً يف ذهنه حكاية �سقراط الذي �آثر جترع‬ ‫يتمتع (ب�رصياثا) بخ�صو�صية فريدة‪ ,‬فلي�س هو وثيق ًة‬
‫ال�سم على مغادرة �أثينا‪� .‬آثر حممد خ�ضري �أال يغادر مدينته‬ ‫وال �سرية وال دلي ًال �سياحي ًا ير�شد الأجانب �إىل الأنهار‬
‫طوال �سنوات حياته �إال ا�ضطراراً كي يعيد اكت�شافها‪,‬‬ ‫والب�ساتني والأمكنة التي دمرتها احلروب‪ ,‬فحتى‬
‫يهدمها وي�شيدها من جديد‪ ,‬كي ي�ؤ�سطرها ويحولها �إىل‬ ‫ال�صور الفوتوغرافية التي حواها الكتاب تخفي �أكرث‬
‫مدينة فا�ضلة‪� ,‬أثريية‪ ,‬متخ َّيلة‪ ,‬بحيث يتبادر �إىل �أذهاننا‬ ‫مما تظهر من معامل الب�رصة و�شواهدها من �أنهر و�سفن‬
‫كتاب (مدن ال مرئية) لإيتالو كالفينو‪.‬‬ ‫وقوارب را�سية وب�ساتني نخل و�سواها‪� .‬إنه بح�سب تعبري‬
‫�شاء ر�سول حمزاتوف �أن يتحدث عن بالده وجتاربه‬ ‫روالن بارت (ن�ص مكتوب) يختلف جوهري ًا عن الن�ص‬
‫الأدبية واحلياتية وكذلك جتارب وطقو�س و�أفكار‬ ‫الكال�سيكي‪ ,‬وهو يقت�ضي ت�أوي ًال م�ستمراً ومتغرياً عند‬
‫وطن �صغري‬ ‫ٍ‬ ‫و�أ�شعار مواطنيه وهو الذي يعي�ش يف‬ ‫كل قراءة‪ .‬ولهذا يتحول دور القارئ �إىل دور ايجابي‬
‫تتالقح فيه الثقافات العربية والإ�سالمية والرو�سية‬ ‫ن�شط‪ ,‬حيث ي�شارك (�إن مل يتجاوز) الكاتب يف �إنتاج‬
‫والرتكية ويحمل �شواهد من الع�صور التي كانت فيها‬ ‫الن�ص‪ .‬ومن �صفات هذا الن�ص �إنه يتجاوز الهرمية‬
‫بالده حتت ظل احلكم الإ�سالمي والعثماين قبل �أن‬ ‫العرفية للنوع الأدبي ويت�ألف من مقتطفات ومرجعيات‬
‫ت�صبح جزءاً من (االحتاد ال�سوفييتي ال�سابق)‪ .‬حني يقر�أ‬ ‫و�إحاالت و�صدى �أ�صوات خمتلفة ومن لغات متباينة‪,‬‬
‫املرء (داغ�ستان بلدي) يدور بخلده �أن العامل‪ ,‬بالن�سبة‬ ‫وهو ال ي�سعى �إىل �إبراز احلقيقة ومتثيلها و�إمنا ي�سعى‬
‫لر�سول حمزاتوف‪ ,‬يبد�أ وينتهي بداغ�ستان ؛ وكذلك هو‬ ‫(‪)1‬‬
‫�إىل ن�رش املعنى وتفجريه‪.‬‬
‫‪288‬‬ ‫\ كاتب ومرتجم من العراق‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫خال�صة القول‪ ,‬ميكننا �أن ندرج (ب�رصياثا) �ضمن ما‬ ‫الأمر بالن�سبة ملحمد خ�ضري‪ ,‬فالعامل يبد�أ وينتهي‬
‫ُي�سمى بـ (�أدب املكان) �أو (�رسد املكان)‪ .‬ومع �أن (دار‬ ‫بالب�رصة‪� ..‬إنه ي�ؤمن مبا ورد يف ق�صيدة كفايف يف‬
‫�صنفت كتاب (ا�سطنبول‪ :‬املدينة والذكريات)‬ ‫ْ‬ ‫املدى) قد‬ ‫مفتتح الكتاب‪ ..‬فكل الطرق �ست�ؤدي بك �إىل الب�رصة‪..‬‬
‫باعتباره (مذكرات)‪� ,‬إال ان داراً لبنانية عريقة مثل‬ ‫بت حياتكَ هنا‪ ,‬يف هذه الزاوية ال�صغرية‪,‬‬ ‫«وكما ُخ ّر ْ‬
‫(الفارابي) التي ن�رشت (داغ�ستان بلدي) عدته (رواية)‪,‬‬ ‫ذهبت»‪� .‬ص ‪7‬‬
‫َ‬ ‫فهي خراب �أ ّنى‬
‫فرمبا يكون هذا التجني�س عن�رص جذب تلج أ� �إليه دور‬ ‫الواقع‪ ,‬يوم �أن ن�رش حممد خ�ضري (ب�رصياثا – �صورة‬
‫الن�رش كي تزيد من مبيعاتها‪ ..‬وال�شيء نف�سه قامت‬ ‫مدينة) �سنة ‪ 1993‬يف دار (الأمد) ببغداد‪ ,‬احتار قرا�ؤه‬
‫به (دار املدى) عندما �أطلقت ت�سمية (رواية) على‬ ‫العراقيون والعرب يف م�س�ألة جتني�س كتابه الالفت هذا‪,‬‬
‫كتاب (دلتا فينو�س) لأنايي�س نن‪ ,‬يف حني �أن الن�ص‬ ‫�إذ مل ُيذكر على غالفه �أنه (�سرية) �أو (�سجل) �أو (وثيقة)‬
‫االجنليزي الأ�صلي ُي�شري �إىل كونه (�إيروتيكا) ال غري‪.‬‬ ‫�أو (مذكرات) بل هو (�صورة مدينة) عا�ش فيها امل�ؤلف‬
‫�إنني �أقول هذا مع �أنني مقتنع �أن م�صطلح (رواية) �أ�صبح‬ ‫ومل يغادرها �إال ملاماً‪.‬‬
‫ف�ضفا�ض ًا و�إن هذا اجلن�س الأدبي يت�سع الآن ل�شتى فنون‬ ‫وهذه املرة حيرّ املرتجم هوجنز الذي �آثر (وعلى الأرجح‬
‫الكتابة من �شعر وم�رسح وتاريخ وجغرافية وعلوم‬ ‫�آثرت دار الن�رش) �أن يعده (رواية)‪ ,‬ففي الزاوية اليمنى‬
‫طبيعية وفل�سفة وميثولوجيا ومذكرات وعلم نف�س �إلخ‬ ‫�أ�سفل �صفحة الغالف وردت كلمات ثالث هي‪« :‬رواية‬
‫من الدرا�سات الإن�سانية ناهيك عن الريبورتاج ال�صحفي‬ ‫عربية حديثة ‪« A Modern Arabic Novel‬ويف الأعلى‬
‫واليوميات والر�سائل والر�سائل الإلكرتونية (الإمييالت)‬ ‫«ب�رصياثا – بورتريه مدينة ‪Basrayatha – Portrait of‬‬
‫ور�سائل الهاتف اخللوي التي ُتدعى الر�سائل الن�صية‬ ‫‪ ,« a City‬ويف طبعة �أخرى للكتاب قامت بتنفيذها دار‬
‫�أو الـ ‪ .SMS‬مل تعد ثمة قواعد قارة نهائية يف نطاق‬ ‫ن�رش �أخرى ورد يف �صفحة الغالف الأول‪« :‬ب�رصياثا‬
‫هذا الفن الإبداعي املفتوح على ت�أويالت النهائية‬ ‫– ق�صة مدينة ‪ .»Basrayatha – the Story of a City‬كما‬
‫وقراءات ال حد لها‪ ,‬ولكن البد من توفر �رشط واحد وهو‬ ‫نالحظ �أن هنالك �صورتني فوتوغرافيتني خمتلفتني‬
‫�أن يتحلى كاتبها باملوهبة احلقيقية ف�ض ًال عن توفر‬ ‫للب�رصة بالأبي�ض والأ�سود تعودان على الأرجح �إىل‬
‫الر�ؤية العميقة واخليال اخل�صب بحيث يكون الن�ص‬ ‫قرن م�ضى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫الروائي مقنع ًا للقارئ و�إ�ضاف ًة نوعية يف جن�سه الأدبي‪.‬‬ ‫احلقيقة‪ ,‬د�أب حممد خ�ضري ومنذ بداية م�سريته الأدبية‬
‫يف منت�صف عقد ال�ستينيات من القرن املا�ضي على‬
‫(‪)2‬‬
‫�إثارة اجلدل يف ما يكتب ويبدع من ق�ص�ص ومقاالت‬
‫الرتجمة ن�شاط �إن�ساين ال غنى عنه‪ ,‬ففي عاملنا الوا�سع‬ ‫وجتارب �أدبية حتدث فيها عن ر�ؤيته �إىل العامل وعن‬
‫تعددية لغوية وثقافية ومعرفية هائلة ؛ ويف كل لغة‬ ‫فنه الق�ص�صي الذي ظل خمل�ص ًا له �ش�أنه �ش�أن زميله‬
‫من اللغات ثروات وكنوز �أدبية وفكرية ومعرفية من‬ ‫ال�سوري زكريا تامر (على الرغم من االختالف الكبري‬
‫م�صلحتنا كجن�س ب�رشي �أن نطلع عليها‪ ,‬ون�ستفيد منها ؛‬ ‫بينهما‪� ,‬إبداعاً‪ ,‬و�سلوكاً‪ ,‬وفكراً)‪ ,‬وهذا هو �ش�أن كل‬
‫وهذا يحتم ظهور ن�شاطات ترجمية بني اللغات املختلفة‪,‬‬ ‫عمل خالّق‪ .‬مل ي�ش�أ خ�ضري �أن يجن�س كتابه هذا وترك‬
‫لأن الرتجمة هي القناة الرئي�سة للتوا�صل والتبادل‬ ‫لـ (القارئ النموذجي) �أن يفعل ذلك‪ .‬لقد �شاء الكاتب‬
‫الثقايف بني ال�شعوب والأمم‪ .‬كما �أن الرتجمة مهمة‬ ‫الب�رصي هذه املرة �أي�ض ًا �أن ي�صدم �أفق انتظار القارئ‬
‫ع�سرية‪ ,‬وغالب ًا م�ستحيلة‪ ,‬خا�ص ًة �إذا كان املرتجم ي�ضمر‬ ‫فقدم ن�ص ًا �ساحراً هو مزيج من ال�سرية والذكريات‬
‫قدراً كبرياً من االحرتام واحلب للم�ؤلف الذي يريد �أن ينقل‬ ‫والتجارب الإن�سانية لي�ست اخلا�صة به وحده بل تلك‬
‫عمله الأدبي �إىل لغ ٍة �أخرى‪ .‬كما �أنها مهمة خالقة تتطلب‬ ‫يوم من �أيام‬
‫التي خربها �أبناء جيله‪ ,‬هو املولود يف ٍ‬
‫يف كث ٍري من الأحيان «قفزات على الأمانة»‪ :‬الإح�سا�س‬ ‫في�ض‬
‫‪ ,1942‬خالل احلرب العاملية الثانية‪ ,‬ف�ض ًال عن ٍ‬
‫بالنربة‪ ,‬وفهم ق�صد امل�ؤلف‪ ,‬ونيل احلرية من �أجل‬ ‫من املعلومات التاريخية واجلغرافية والطبوغرافية عن‬
‫التف�سري‪ ,‬وغالباً‪ ,‬الت�صحيح �أو الت�صويب‪.‬‬ ‫مدينته الب�رصة وكذلك ع�صارة قراءاته الأدبية وخرباته‬
‫تروج‪� ,‬أي �أن‬
‫أ�شياء كثري ًة ؛ �أوالً‪� :‬أن ِّ‬
‫�أن ترتجم يعني � ً‬ ‫العميقة يف حقل الكتابة الإبداعية‪.‬‬
‫‪289‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫حاملا تبد أ� دورة الرتجمة – وهي �صفة‪ ,‬وكي ن�ستخدم‬ ‫�شخ�ص �إىل �آخر‪� ,‬أو من‬
‫ٍ‬ ‫جتعل الكالم �أو الن�ص ينتقل من‬
‫(‪)4‬‬
‫كلم ًة �أف�ضل ن�سميها‪� :‬إمكانية ترجمته �إىل لغة �أخرى»‪.‬‬ ‫مكان �إىل �آخر‪� ,‬أي جتعله متداو ًال بني النا�س‪ .‬ثانياً‪� :‬أن‬
‫ٍ‬
‫يف حقيقة الأمر‪� ,‬إن �أي مرتجم قبل �رشوعه برتجمة‬ ‫تنقله من لغةٍ �إىل �أخرى‪ .‬وثالثاً‪� :‬أن تف�رسه‪ .‬ورابعاً‪� :‬أن‬
‫�أي عمل �أدبي‪ :‬ق�صة‪� ,‬شعر‪ ,‬م�رسح‪ ,‬رواية‪ ,‬نقد �أدبي‪,‬‬ ‫جتعله �أ�سهل مناالً‪.‬‬
‫يوميات‪ ,‬مذكرات‪ ,‬البد �أن ي�ضع يف باله امل�س�ألة‬ ‫الواقع‪� ,‬إننا خالل ممار�ستنا للرتجمة الأدبية نختار‬
‫الآتية‪� :‬إن �إعادة �إنتاج كلمات امل�ؤلف و�صوره بنح ٍو‬ ‫ن�سب ًة مئوي ًة قليل ًة من الكتب املن�شورة التي ت�ستحق‬
‫�أمني وخمل�ص تف�ضي بنا �إىل النتيجة احلتمية �أال وهي‬ ‫القراءة فعالً‪� ,‬أو بالأحرى ت�ستحق �إعادة القراءة بلغةٍ‬
‫الت�ضحية باملعنى واجلمال‪ .‬هل املطلوب من املرتجم‬ ‫�أخرى �أو بلغات �أخرى �إذ غالب ًا ما يجري النقل من لغةٍ‬
‫�أن ينقل املعاين فقط الأمر الذي ي�ؤدي �إىل �إفقار العمل‬ ‫دون بها امل�ؤلف‬ ‫و�سيطة وهي حتم ًا لي�ست اللغة التي ّ‬
‫الأدبي‪� ,‬أم �أن عليه �أن ينقل النربة والإيقاع وظالل‬ ‫كتابه �أي �أنها لي�ست لغة الكاتب الأ�صلية التي ُي�صطلح‬
‫املعاين والإيحاءات واال�ستعارات ؟‬ ‫عليها عاد ًة بـ (لغة امل�صدر)‪.‬‬
‫يحتاج املرتجم �إىل ثقافة مو�سوعية وعقلية متفتحة‬ ‫كتاب ُيعتقد ب�أنه‬‫�إن هدف الرتجمة هو تو�سيع مقروئية ٍ‬
‫وخميلة خ�صبة ولغة عالية كي يكون مب�ستطاعه‬ ‫على درجة عالية من الأهمية بحيث ي�ستحق القراءة بـ‬
‫ا�ستيعاب ما يبوح به الن�ص �أو ما ال يبوح به �أو كما‬ ‫(اللغة الهدف)‪.‬‬
‫ُي�سمى بـ (امل�سكوت عنه)‪.‬‬ ‫تقول �سوزان �سونتاج‪« :‬تنظر الآداب العاملية �إىل‬
‫�إن الرتجمة الأدبية‪ ,‬وب�صورةٍ مبجلة‪ ,‬مهمة �أخالقية‬ ‫الرتجمة بو�صفها جهاز الدوران اخلا�ص بها الذي‬
‫تعك�س وت�ضاعف دور الأدب نف�سه‪ ,‬وتهدف �إىل تو�سيع‬ ‫يتعرف كل واحد فيها‬ ‫متكنت بوا�سطته �شعوب الأر�ض �أن ّ‬
‫م�شاركاتنا الوجدانية‪ ,‬وتربية القلب والعقل‪ ,‬وجتعل‬ ‫(‪)3‬‬
‫على الآخر‪ ,‬و�أن يفهم كل �شعب ال�شعوب الأخرى»‪.‬‬
‫املرء م�ستغرق ًا يف حياته العقلية والروحية‪ ,‬ناهيك‬ ‫كما يقول �سهيل جنم‪�« :‬إن الرتجمة تتعدى حدود‬
‫عن اكت�ساب الوعي وتعميقه ب�أن هنالك �أنا�س ًا �آخرين‬ ‫�إثراء لغة وثقافة البلد الذي ت�سهم فيه‪ ,‬وتتعدى جتديد‬
‫موجودين على �سطح كوكبنا‪� ,‬إنهم خمتلفون عنا حتماً‪,‬‬ ‫حياة الن�ص الأ�صلي و�إن�ضاجه‪ ,‬بل وحدود التعبري‬
‫�إال �أن بو�سعنا �أن نتعرف �إليهم ونفهمهم‪ ,‬لأن العدو هو‬ ‫عن العالقات الداخلية بني اللغات ببع�ضها البع�ض‬
‫الذي ال تعرفه وال تفهمه‪ ,‬كما تقول ناتايل حنظل‪.‬‬ ‫وحتليلها وت�صبح مدخ ًال �إىل لغة عاملية‪ .‬وهذا معناه‬
‫والبد لنا ونحن نقوم بعملية الرتجمة �أن ن�أخذ‬ ‫�أنها توفر حا�ضنة ح�ضارية متقدمة للتفاهم الب�رشي‬
‫باحل�سبان الأ�شياء الداخلة واخلارجة‪� ,‬أي مبعنى ما‬ ‫(‪)3‬‬
‫على �أ�سا�س ا�ستيعاب فكر الآخر من دون جتاهله»‪.‬‬
‫الذي ك�سبناه من الرتجمة وما الذي فقدناه من الن�ص‬ ‫يدور بخلدنا‪� ,‬أحياناً‪� ,‬س�ؤال مفاده‪ :‬كيف �سيكون حالنا‬
‫الأ�صلي‪ .‬ال ريب �أن ثمة اختالفات جوهرية بني اللغات‬ ‫لو �أننا مل نقر�أ دوي�ستويف�سكي �أو جان بول �سارتر �أو‬
‫وبني الرتاكيب اللفظية والرموز والإيحاءات واملعاين‬ ‫�شك�سبري �أو بابلو نريودا �أو بورخي�س بلغتنا ؟‬
‫وظالل املعاين واال�ستعارات ناهيك عن الأ�ساليب‬ ‫تقول �سوزان �سونتاج‪�« :‬إن الرتجمة الأدبية فرع من‬
‫والأدوات الإبداعية يف كل لغةٍ من اللغات بالإ�ضافة‬ ‫فروع الأدب‪ ,‬وهو بالت�أكيد فرع رئي�س وجوهري؛‬
‫�إىل االختالفات احل�ضارية بني جمتمع وبلد امل�ؤلف‬ ‫والرتجمة �أبعد ما تكون عن املهمة امليكانيكية‪� .‬إال‬
‫الأ�صلي وجمتمع وبلد املرتجم‪ .‬هذه الأمور كلها ت�ضع‬ ‫�أن ما يجعل الرتجمة م�رشوع ًا معقداً جداً هو �أنها‬
‫املرتجم �أمام م�س�ؤولية �أخالقية و�إن�سانية وح�ضارية‬ ‫تلبي �أهداف ًا متنوعة‪ .‬ثمة متطلبات تنه�ض من طبيعة‬
‫ال ي�ستطيع �أن يتجاوزها �إال بالعمل اجلاد واملثابرة‬ ‫الأدب بو�صفه �شك ًال من �أ�شكال التوا�صل بني ال�شعوب‪.‬‬
‫وا�ست�شارة املعاجم واملو�سوعات والبحث عن املعلومة‬ ‫بعمل ُيعد �رضورياً‪ ,‬كي جنعله‬ ‫هنالك التفوي�ض بالقيام ٍ‬
‫يف �شبكة (االنرتنت)‪.‬‬ ‫معروف ًا لأو�سع جمهور ممكن‪ .‬كما �أن هنالك ال�صعوبة‬
‫كنت �أترجم (طبل من �صفيح) لغونرت‬ ‫قر�أت‪ ,‬يوم �أن ُ‬ ‫العامة للعبور من لغةٍ �إىل �أخرى‪ ,‬والت�صلب اخلا�ص الذي‬
‫غرا�س‪� ,‬أن الأخري كان يلتقي مرتجمي �أعماله الروائية‬ ‫متتاز به ن�صو�ص معينة‪ ,‬والذي ي�شري �إىل �شيء موروث‬
‫�إىل اللغات الأخرى‪ :‬االجنليزية‪ ,‬الفرن�سية‪ ,‬الإيطالية‪,‬‬ ‫يف العمل خارج نوايا م�ؤلفه �أو وعيه‪ ,‬الأمر الذي يظهر‬
‫‪290‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫نحن العراقيني الذين ننتمي خللفية امل�ؤلف الثقافية‬ ‫الإ�سبانية‪ ,‬الرو�سية‪ ,‬الربتغالية �إلخ كي يجيب على‬
‫واالجتماعية والوطنية فهمها فهم ًا كامالً‪ ,‬فما بالكم‬ ‫ا�ستف�ساراتهم لأن بع�ض اجلمل رمبا تكون غام�ضة �أو‬
‫مبرتجم تف�صله عنا م�سافة �شا�سعة من حيث اللغة‬ ‫ملتب�سة �أو ع�صية على الرتجمة‪ .‬ال�شك �أن هذه املمار�سة‬
‫والتاريخ والإرث الثقايف وطريقة التفكري وامل�ستوى‬ ‫�رضورية جداً ومهمة كي نقلل من خ�سائرنا �إىل �أدنى‬
‫احل�ضاري‪ .‬و�أق�صد بذلك تلك اال�شارات املبهمة التي‬ ‫حد وكي ال ن�صاب ب�سوء الفهم ونبتعد كثرياً عن الن�ص‬
‫من املحتمل �أن ُي�ساء فهمها ب�سبب الق�صور الفكري‬ ‫الأ�صلي‪ .‬ف�ض ًال عن ذلك‪ ,‬من خالل �إطالعنا وجدنا‬
‫واملعريف واللغوي‪ ..‬بطبيعة احلال‪ ,‬مل يكن حممد خ�ضري‬ ‫�أن مرتجم ًا واحداً قام بنقل �أعمال غونرت غرا�س من‬
‫متعالي ًا حينما تطرق �إليها‪ ,‬كما مل يكن يق�صد �إيهامنا‬ ‫الأملانية �إىل الإجنليزية‪ ,‬هو رالف مانهامي‪ ,‬وفعلت‬
‫�أو ت�ضليلنا‪� ,‬إمنا جاءت تلك املعلومات والإ�شارات‬ ‫هيلني تري�سي لوي – بورتر ال�شيء نف�سه فيما يتعلق‬
‫كمح�صلة لقراءاته العميقة وثقافته املو�سوعية وتنقيبه‬ ‫بروايات توما�س مان‪.‬‬
‫يف بطون الكتب الرتاثية والتاريخية واجلغرافية‬ ‫وليت هذه املمار�سة تتكرر مع كل عمل �أدبي يجري‬
‫والفل�سفية واقتبا�ساته من دواويني ال�شعراء الب�رصيني‬ ‫ترجمته �إىل لغة ثانية كي نقلل من �أخطاء الرتجمة وكي‬
‫من مثل حممود الربيكان وكاظم احلجاج وح�سني‬ ‫املرتجم ا�ستح�سان القراء ويواظبون على‬ ‫َ‬ ‫ينال العمل‬
‫عبد اللطيف والأجانب كاليوناين ق�سطنطني كفايف‬ ‫مطالعته ب�شغف كما لو �أن العمل الأدبي املرتجم مكتوب‬
‫والفرن�سي بول �إيلوار وكذلك بع�ض الدرا�سات الفكرية‬ ‫بلغتهم الأ�صلية‪� .‬أقول هذا ونحن نعي�ش ثور ًة يف عامل‬
‫والفل�سفية ككتاب (حكمة الغرب) ج ‪ 1‬لربتراند ر�سل‬ ‫االت�صاالت ومن املمكن �أن يتوا�صل املرتجم مع امل�ؤلف‬
‫وكتاب (حماورات �أفالطون) الذي ترجمه زكي جنيب‬ ‫عرب و�سائل االت�صال احلديثة املعروفة للجميع‪.‬‬
‫حممود و�سواها من الدرا�سات والن�صو�ص‪ ,‬ناهيك عن‬ ‫«تطرح ترجمة الأعمال الأدبية التي تتكئ على خلفية‬
‫خرباته الأدبية وحياته الغنية املمتلئة بحيث كان‬ ‫ثقافية‪ ,‬واجتماعية‪ ,‬ودينية‪ ,‬و�إيديولوجية �إ�شكاليات‬
‫ي�شعر وهو مقيم يف الب�رصة ‪ /‬ب�رصياثا �أن العامل يدور‬ ‫تزداد حد ًة عند االنتقال بني لغتني تف�صل بينهما‬
‫من حوله‪� ,‬أي مبعنى �أنه فهم ما يجري يف العامل‪ ,‬واكتنز‬ ‫م�سافة �شا�سعة من حيث الأ�صول وطريقة التفكري‬
‫بالفكر والثقافة العاملية‪ .‬كل هذا �صبه حممد خ�ضري يف‬
‫(‪)5‬‬
‫وحتليل اخلربة الإن�سانية»‪.‬‬
‫قالب �رسدي جميل‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫وك�أمثلة على ذلك‪( :‬الزط) التي ترجمها وليم هوجنز‬
‫من خالل اطالعنا على ترجمة وليم م‪ .‬هوجنز لـكتاب‬
‫�إىل‪ , South African Jats :‬والزجن التي ترجمها �إىل ‪East‬‬
‫(ب�رصياثا) ميكننا �أن ن�ست�شف �أن املرتجم متكن من‬
‫‪ .Africans‬غري �أنه على ما يبدو مل ي�ستوعب عبارة‬
‫تذوق كتاب امل�ؤلف العراقي وتفاعل معه ووقع �أ�سرياً‬ ‫ّ‬
‫(لوال املكدون ما وجد ق�صا�صون) �ص ‪ ،12‬وهي يف‬
‫له‪ ,‬وهو �أمر طبيعي لأن الكتاب غني ومكتنز باملعارف‬
‫الأ�صل جملة تنطوي على الغمو�ض حتى بالن�سبة لنا‬
‫واخلربات الإن�سانية مزج فيه الكاتب الواقع باخليال‪,‬‬
‫نحن القراء العراقيني والعرب‪ .‬ولدى بحثنا عن معنى‬
‫والأ�سطورة بالتاريخ‪ ,‬واجلغرافية بالأنرثوبولوجيا‪,‬‬
‫كلمة (مكدون) تو�صلنا �إىل فهم هذه الكلمة‪ .‬فـ(الكدية)‬
‫واملذكرات بالفل�سفة‪ ,‬وعلم االجتماع بالأ�شعار‪ ,‬فجاء‬
‫(ب�ضم الكاف)‪� :‬شدة الدهر وال�س�ؤال‪ .‬و�أ�صحاب الكدية‬
‫كتابه هذا عم ًال فريداً ورائداً يف �سياق الأدب العراقي‬
‫قوم يتجولون يف البالد املختلفة والأم�صار املتباعدة‬
‫احلديث‪.‬‬
‫يتك�سبون بالأدب تار ًة ويحتالون تار ًة �أخرى على‬
‫و�إننا نكاد جنزم �أن املرتجم هوجنز بذل جمهوداً‬
‫النا�س بحيل ملفقة و�أخرى خمرتعة‪ .‬كما �أن العراقيني‬
‫كبرياً كي ي�ستوعب تفا�صيل الن�ص و�أغواره و�إيحاءاته‬
‫ي�ستخدمون كلمة (مكدي) بلهجتهم الدارجة مبعنى‬
‫ودالالته وا�ستخدم دوال و�إ�شارات وم�صطلحات‬
‫(امل�ستجدي) �أو(املت�سول) �أو (طالب احلاجة)‪.‬‬ ‫ومفاهيم مكافئة ومعادلة لتلك التي �أوردها حممد‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫خ�ضري يف كتابه‪� .‬إال �أن هنالك بع�ض املفردات‬
‫والإ�شارات املبهمة يف الكتاب التي ي�صعب علينا حتى‬
‫‪291‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫البهلوان ولعبة الأقنعة‬
‫يف «�سريك عمار» ل�سعيد علو�ش‬
‫\‬
‫�إكرام عبدي‬

‫من املخاطر وال�صعوبات‪ ،‬لي�ستفز بعنف قراءاتنا‬ ‫أهم الأ�صوات الإبداعية‬


‫يعترب د‪�.‬سعيد علو�ش �أحد � ّ‬
‫القبلية �أو ماي�سميها �ستانلي في�ش بـ«ا�سرتاتيجيات‬ ‫والنقدية يف الوطن العربي؛ يجمع بني الكتابة‬
‫الت�أويل»‪ ،‬على اعتبار �أن القارئ ال ميكن �أن يلج‬ ‫الروائية والكتابة النقدية التي تعتمد على القراءة‬
‫عوامل روايات �سعيد علو�ش خا�صة وباقي الروايات‬ ‫املو�ضوعاتية والت�أويل وهرمينوطيقا الن�صو�ص‪،‬‬
‫الأخرى‪ ،‬ور�أ�سه �صفحة بي�ضاء‪.‬‬ ‫تنتمي �أعماله الروائية �إىل املدر�سة اجلديدة التي‬
‫«�سريك عمار» بني الواقعي والتخييلي‬ ‫ال ت�ستقر على �شكل واحد وثابت‪ ،‬بل متتلك �أ�شكاال‬
‫تعبريية تك�رس كل جاهزية‪ ،‬غري مرتهنة للمقوالت‬
‫ت�ستند رواية «�سريك عمار» �إىل مرجعية تاريخية‬
‫النهائية واملغلقة‪ ،‬وتظل يف بحث د�ؤوب عن �أ�شكال‬
‫واقعية‪ ،‬متمثلة يف م�سار «�سريك �آل عمار» عرب‬
‫جديدة للتعبري بعيدا عن كل منطية و�ضيق �أفق‪،‬‬
‫التاريخ‪ ،‬هو ا�ستناد يلوذ بذاكرة �أيقونية �أدرجها‬
‫�إميانا منه �أن ال�رسد الروائي ال يوثر النمذجة‬
‫الكاتب يف روايته‪ ،‬ذاكرة تفقد جذورها وهويتها عرب‬
‫واال�ستقرار داخل �شكل ثابت‪ ،‬بل يظل مفتوحا على‬
‫التاريخ وت�ستعيد �أفقها عرب خيال الكاتب‪ ،‬ذلك «�أن‬
‫الأمم‪ ،‬مثل ال�رسديات‪ ،‬تفقد جذورها يف خ�ضم الزمان‬ ‫التنوع وتوظيف الأبعاد اللعبية‪ ،‬التي ت�سائل الواقع‬
‫والأ�ساطري وال ت�ستعيد �أفقها �إال يف اخليال» ح�سب‬ ‫وت�شكك يف يقينياته وثوابته‪ ،‬وتلج عامل االحتماالت‬
‫هومي بابا‪ ،‬ليعيد الكاتب عرب �أفق جمايل �إبداعي‬ ‫والاليقني‪ .‬وتنفتح على ف�ضاء ال�س�ؤال الالحمدود‪.‬‬
‫متجدد ما بعد حداثي‪� ،‬صياغة هوية مرتبكة متذبذبة‬ ‫وقد بدا هذا اللعب الروائي وا�ضحا يف روايته‬
‫م�شتتة‪ ،‬ومينحها هوية جديدة‪ ،‬على اعتبار �أن ال�رسد‬ ‫«كاميكاز» ال�صادرة �سنة ‪ 2010‬التي ك�رست «�أفق‬
‫ُيكون الهوية ح�سب بول ريكور‪ ،‬ذاكرة ينع�شها �ألبوم‬ ‫انتظار» املتلقي‪ ،‬حيث ف�ضحت هذا العامل املعقد‬
‫�صور عائلة «�آل عمار» التي عرفها الواقع الفعلي‬ ‫وانتقدته يف الآن ذاته‪ ،‬وحيث التعالق بني �سلطة‬
‫يف الغرب‪ ،‬و�أكدت ح�ضورها يف دول غربية وعربية‬ ‫املال والإعالم وال�سيا�سة مل�سخ احلقيقة‪.‬‬
‫خالل الفرتة الأوىل من القرن الع�رشين‪ ،‬وا�ستطاعت‬ ‫ورواية «�سريك عمار» هي �أي�ضا تك�رس «�أفق انتظار»‬
‫�إدها�ش العامل بعرو�ض فرجوية مثرية‪ ،‬لكن ا�ستنادا‬ ‫القارئ؛ بحيث تت�أ�س�س على بنيات لعبية ت�ستفزنا‬
‫للجن�س الإبداعي الذي مت حتديده على غالف الرواية‪،‬‬ ‫ملمار�سة اللعب‪ ،‬وكتابة ن�ص على ن�ص واملغامرة‬
‫ف�إن الأمر ال يتعلق ب�سرية غريية «لفرقة �آل عمار»‪ ‬وال‬ ‫يف التف�سري والت�أويل الالنهائي على اعتبار �أن‬
‫بتوثيق فوتوغرايف و�إن مت ت�أثيثها ب�صور فوتوغرافية‬ ‫«الن�ص �آلة ك�سولة» كما يقول �أمربتو �إيكو‪ ،‬وقارئ‬
‫لل�سريك ولأبطاله احلقيقيني‪ ،‬بل حكاية «�آل عمار»‬ ‫روايات د‪.‬علو�ش اللعبية‪ ،‬من ال�رضوري وهو يلج‬
‫هي ذلك الإطار الواقعي الذي ت�شكلت من حركاته‬ ‫مغامرة الت�أويل وا�ستنطاق الن�صو�ص‪� ،‬أن ي�صطدم‬
‫ال�سحرية البهلوانية‪� ،‬أف�ضية �إبداعية متخيلة ل�سريك‬ ‫مبتعة القراءة وبالعمق املعريف والفكري الذي ينهل‬
‫�أكرب هو �سريك احلياة‪ .‬هو انزياح �أيقوين ل�سرية «�آل‬ ‫من مرجعيات عدة «دينية‪�,‬سيا�سية‪� ،‬شعرية‪� ،‬شعبية‪،‬‬
‫عمار»‪ ،‬على اعتبار �أن القراءات الالنهائية واملمكنة‬ ‫تاريخية‪ ,»...‬جتعل ت�أويالتنا حذرة وملغومة بالكثري‬
‫‪292‬‬ ‫\ �شاعرة من املغرب‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫للن�ص ال ميكن �أن تتحقق �إال باالنف�صال عن العامل‬


‫احلقيقي ح�سب ديفيد كارتر يف «النظرية الأدبية»‪،‬‬
‫لتتغري مالمح احلكاية وتت�شكل من جديد يف �إطار‬
‫لعبي �ساخر ومتخيل وماكر‪ ،‬حيث اجلد والهزل‪ ،‬وحيث‬
‫اللعب �أ�صدق �أنباء من اجلد‪ ،‬وحيث املحاكاة ال�ساخرة‬
‫واملواقف الهزلية والتوظيف ال�ساخر لأ�سماء بع�ض‬
‫�أعالم ال�سيا�سة والثقافة واملعرفة‪ ،...‬وحيث احلكاية‬
‫املتخيلة للجد الأول «حميمو بن عمار بن القايد»يف‬
‫عرو�ش برج بوعريريج اجلزائرية الذي هاجر �إىل‬
‫فرن�سا رفقة �صديقه الفرن�سي «كامي �أدولفو»‪،‬‬
‫و�أقام يف قرية اللوزير وتزوج من ابنته و�ساعده يف‬
‫الإ�رشاف على ال�ضيعة وال�سريك �إىل �أن ُرزق بـ«دزينة»‬
‫(‪12‬من الأبناء والأحفاد)‪� ،‬أبدعت بفنية عالية يف‬
‫�سريك عمار وحولته �إىل �أ�سطورة‪ ،‬من خالل الكثري من‬
‫العرو�ض املبهرة والتجارب ال�سينمائية والإن�سانية‬
‫الراقية «بهلوان امل�ستعجالت»‪.‬‬
‫�إىل الكثري من احليوانات الوفية‪:‬‬ ‫�أما واقعيا‪ ،‬فقد متكن �أبناء �آل عمار و�أحفاده من‬
‫�إىل �شاطونات الفوازين‬ ‫االندماج بقوة يف املجتمع الفرن�سي‪ ،‬برغم كل‬
‫وبيك بريجي‬ ‫�أخطائهم وزالتهم‪ ،‬ليتم تعميدهم‪ ،‬بحيث مل تعد‬
‫وباك دوبرمان‬ ‫تربطهم باجلزائر الأ�صل �سوى �أ�سماء عربية‪ ،‬ليكت�سب‬
‫الذين لقنوين فنون‬ ‫«�آل عمار» هوية فرجوية �إمتاعية �أكرث منها هوية‬
‫تكليم �صم وخر�س وبكم احلارة‬ ‫قبائلية جزائرية ن�سبة �إىل جدهم الأكرب القايد بن‬
‫التحديق يف النار واحلجر واملاء والهواء‬ ‫القايد‪.‬‬
‫‪(.........................‬االهداء)‬ ‫فنحن �إذن‪� ،‬أمام بنية �رسدية تت�أرجح بني ماهو واقعي‬
‫يف �سريك احلياة الأكرب واملتخيل عند الكاتب‪»،‬الأرزاق‬ ‫وماهو �سحري‪ ،‬لتغدو الرواية �أ�شبه ب»برزخ» ين�سج‬
‫كالأعمار توزع وتنزع‪ ،‬ولك ال�ساعة التي �أنت فيها‪،‬‬ ‫حدودا بني البنيتني الواقعية والتخيلية‪ ،‬وميحوها‬
‫�أنت اليوم بهلوان فريالن وغدا بهلوان مي�شال تورنيي‬ ‫يف الآن نف�سه‪ ،‬لتتماهيا معا يف �إطار واقعي �سحري‪،‬‬
‫وبعد غد بهلوان مت�شائل‪�(« .....‬ص‪ ،) 150‬وال �أحد ي�سلم‬ ‫ا�ستنادا لوظيفتي الف�صل والو�صل الربزخي عند ابن‬
‫من احليوانية ومن مالمح البهلوان‪ ،‬بدءا من القايد‬ ‫عربي‪.‬‬
‫واجلد الأكرب حمو بن حمو «�سليل القر�صان» والذي‬
‫رف�ض م�ساعدة الأمري عبد القادر اجلزائري متذرعا‬ ‫البهلوان ولعبة االقنعة‪:‬‬
‫بـ«�أنفة القبايلي» املوهومة‪« :‬كل العرو�ش التي‬ ‫بخفة ال�ساحر‪ ،‬وب�ألعاب بهلوانية‪ ،‬يفتتح البهلوان‬
‫را�سلها الأمري عبدالقادر م�ستنه�ضا ملواجهة الغاليني‬ ‫الواقف على عتبة الغالف‪ ،‬باب الرواية للولوج �إىل‬
‫ا�ستجابت �أو اعتذرت �إال القايد بن القايد الذي جتاهل‬ ‫�سريك �أكرب هو �سريك احلياة‪ ،‬حيث احليوانات يف‬
‫�أمري الغرب‪�»......‬ص‪ ،21‬لكنه يتحول �إىل بهلوان‬ ‫«الإهداء» تبدو �أ�صدق �أنباء من الإن�سان‪ ،‬وحيث‬
‫تتقافز عليه القردة «فالأ�سد عندما يكرب تتقافز على‬ ‫�صمتها يلقن الإن�سان «حكمة الأولياء»‪ ،‬كما ي�ضمن‬
‫ظهره القردة‪ ،‬هذا ما ردده الفقيه وهو يرى القائد‬ ‫له الت�أمل العميق يف «العنا�رص الأربعة» بدون‬
‫بن القائد يقف �أمام املقيم العام الغايل م�ؤديا �آيات‬ ‫ت�شوي�ش‪ ،‬هي �أن�سنة للحيوان‪ ،‬ليهدي الكاتب روايته‬
‫‪293‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫دينه وتقاليده ورمبا حتى عن لون �شعره‪ ،‬فرحا بهذه‬ ‫الوالء والطاعة للرجال البي�ضان»‪ ،‬ثم تتوهج �صفة‬
‫«البطاقة ال�سحرية» التي �ستدخله للمجتمع الفرن�سي‬ ‫البهلوانية بقوة يف فلذة كبده «حميمو»ابن عمار بن‬
‫من بابه الوا�سع‪ ،‬لكن �رسعان ما تنبه �إىل الوهم الذي‬ ‫القائد‪ ،‬الذي خدم فرن�سا �أكرث من الفرن�سيني �أنف�سهم‪،‬‬
‫يعي�شه‪ ،‬فال هو فرن�سي بكامل حقوقه‪ ،‬وال هو م�سلم‬ ‫هو ي�شبه والده خِ لقة لكن يختلف عنه خلقا‪ ،‬هو حمار‬
‫بكامل تقاليده وعقيدته‪ ،‬وقد يتعر�ض لرف�ض الآخر‬ ‫الطاحونة اال�ستعمارية الفرن�سية يقول «حميمو»‬
‫حتى وهو يف ح�ضن الرثى‪.‬‬ ‫خماطبا احلمار‪�»:‬أنت مثلي ْح َركْ ت وقطعت البحر»‬
‫ان�شطار و�ضياع للهوية �سينقدح زنادها ب�رشا�سة‪،‬‬ ‫�ص ‪ ،75‬هو امتداد للم�ستعمِر يف الأرا�ضي اجلزائرية‪،‬‬
‫ب�سفر «حميمو» �إىل قرية لاللوزير �صحبة «�أدولفو‬ ‫واملت�رشب حتى النخاع بفكره اال�ستعماري‪« ،‬حميمو»‬
‫كامي» خادم فرن�سا املطيع يف �أرا�ضيها امل�ستع َمرة‪،‬‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سة واملركبة يف الرواية‪ ،‬الذي وهنت‬
‫ثم الزواج من ابنته‪ ،‬هي نهاية لكوابي�سه ومتزقه‬ ‫عالقته بهويته وثقافته الأ�صلية �إىل درجة االن�سالخ‪،‬‬
‫الداخلي‪ ،‬وبداية االن�صهار الكلي بالآخر‪ ،‬تقول زوجة‬ ‫ففي حوار للفقيه مع حميمو بعد �إنقاذه من البئر‪:‬‬
‫كامي‪« :‬وبال�ضبط هذا االندماج هو ما يهمني‪ ،‬يبدوا‬ ‫‪�-‬أال تقر�أ �آية الكر�سي!‬
‫�أنه دخل يف اندماج حقيقي معنا»‪ ،‬فكامي بونفو ابن‬ ‫فتلعثم وهو يرد خمدرا‪:‬‬
‫فرن�سا وخادمها البليد‪� ،‬شُ حن يف البداية نحو برج‬ ‫‪ -‬ما �أنا بقارئ‪ ،‬ما قر�أت‪�...‬ص‪14‬‬
‫بوعريريج باجلزائر كـ«بهيمة ربانية م�سيحية يف‬ ‫م�صري ا�ستالبي تام ل�شخ�صية «حميمو»‪ ،‬ين�سجه‬
‫مملكة �أنديجني‪� ،‬أق�صى ما حتمله رقم خدمة مدنية‬ ‫ب�إتقان ظهور املربية الفرن�سية «كاترين دونوف»‬
‫يف م�ستعمرة تدر احلليب»�ص‪ ،35‬لريتدي قناعني‪،‬‬ ‫التي غر�ست يف تربته اله�شة املطواعة قيما فرن�سية‬
‫قناع لكي يتقرب من «الأنديجني» وهم �أهايل‬ ‫دخيلة‪ ،‬يقول ال�سارد عن �أمه ال�رشك�سية‪« :‬وقد تو�سمت‬
‫اجلزائر‪ ،‬وقناع كي ير�ضي الإقامة العامة الفرن�سية‪،‬‬ ‫فيه كل �سمة وهي ت�رشف على تربيته وال تدري كيف‬
‫وا�ستعماله للقناعني معا هو �إر�ضاء مل�صالح فرن�سا‪،‬‬ ‫طلبت من كاترين دونوف تعليمه الغالية وهي تتحني‬
‫لكنه يظل �أكرب بهلوان‪� ،‬سلط عليه ال�سارد كل �سهام‬ ‫�أوقات فراغ الفقيه‪�»...‬ص‪.21‬‬
‫ال�سخرية وامل�سخ‪ ،‬فهو «خنزير «�أوهمته فرن�سا‬ ‫هذا الت�أرجح بني ماهو «مقد�س» و«مدن�س»‪ ،‬يجعل‬
‫باخلدمة املدنية لكنه يف الأ�صل �سيكلف باخلدمة‬ ‫«حميمو» يعي�ش يف كوابي�س دائمة‪ ،‬ويف حالة‬
‫الع�سكرية‪« ،‬واحلق �أن كامي كان يعي�ش بوجهني‬ ‫متزق داخلي بني �أ�صول �إ�سالمية يتم اللوذ بها يف‬
‫ول�سانني منحاه ثقة النديجني واملعمرين على‬ ‫«ملمات املر�ض واملوت والفجيعة»�ص‪ ،21‬وبني‬
‫ال�سواء»�ص‪ .44‬كامي بونفو هو �أي�ضا رجل «بطنة‬ ‫خوفه من الآخر املبهر‪ ،‬وذلك حني يحذره يف حلمه‬
‫ال فطنة»‪ ،‬لكنه �رسعان ما �سي�ستفيق من بطنته‬ ‫«فقري حياتن» من م�صاحبة الكاورية البي�ضان»‬
‫عندما يحدث قتل ثالثة �أ�شخا�ص يف حفل يتحول‬ ‫�ص‪ ،54‬لكن �إغراء الآخر يبدو قويا‪ ،‬ولي�س من ال�سهل‬
‫�إىل م�أ�ساة‪ ،‬ليجد نف�سه متورطا فيما هو �أكرب من‬ ‫االنفالت من �إ�ساره‪ ،‬فبمجرد يقظته �سي�ستنجد بالنبيذ‬
‫جمرد خدمة مدنية‪.‬لينتهي به الأمر يف قرية اللوزير‬ ‫وال�سيجارة كي يطفئ قلقه‪ ،‬لينتهي به الأمر يف �آخر‬
‫الفرن�سية‪ ،‬مت�شبعا بجنون عظمة موهوم‪ ،‬خلقته لديه‬ ‫الرواية‪ ،‬مقطوع الر�أ�س ال�شمعي من طرف «مييني‬
‫�إقامتة اجلربية باجلزائر‪ ،‬هو جنون عظمة فرن�سا‬ ‫مرتف» ‪ ،424‬ويعني به «مييني متطرف» بعد �أن مت‬
‫املت�ضخم والذي مل يربحها �إىل الآن‪ .‬فكامي يعد �أكرب‬ ‫نحث متثاله يف متحف �سريك �آل عمار بفرن�سا‪.‬‬
‫مهرج‪ ،‬لكنه مل يخرج من مهمته خاوي الوفا�ض‪ ،‬بل‬ ‫فحتى ولو ذاب يف كيان الآخر‪� ،‬سيبقى عن�رصا‬
‫عاد �إىل قرية اللوزير بكب�ش فداء ال تربطه ب�أ�صوله‬ ‫دخيال م�شو�شا على الن�سق املجتمعي الفرن�سي‪،‬‬
‫العربية �سوى ا�سم مل يخل من ت�صغري وحتقري من‬ ‫ف»احميمو» يحيل �ضمنيا �إىل ال�شباب املغاربي الذي‬
‫طرف ال�سارد «حميمو»‪.‬‬ ‫يعاين من �رصاع وال ا�ستقرار داخلي‪� ،‬أوهمته الدولة‬
‫�أما «�شقية عمار» فهي �آخر ما تبقى من �ساللة �آل‬ ‫الفرن�سية ب�أنه فرن�سي بحقوق فرن�سية‪ ،‬فتنازل عن‬
‫‪294‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫بل تعمل على عملية الف�ضح والتعرية للم�ستعمِ ر‬ ‫عمار‪« ،‬عا�شقة الكوار»‪�« :،417‬أنا �شقية عمار �آخر‬
‫وامل�ستعمر معا‪ ،‬بنوع من الباروديا �أواملحاكاة‬
‫َ‬ ‫فرع �شجرة �آل عمار يل البحر والرياح الأربع‪� ,‬أنا �آخر‬
‫ال�ساخرة‪.‬‬ ‫ذريتكم التي الت�ضحك لها املرايا وال�سطوح وال حتتفي‬
‫وتعد تقنية امل�سخ من بني التقنيات الفنية التي‬ ‫بها الأ�شباح‪� ,‬أنا من ت�ضع حدا للجاه والباه‪ ,‬مرددة‬
‫وظفها الكاتب بقوة يف روايته‪ ،‬وهي تقنية ا�ستعملها‬ ‫بانت�صار (ال عاهرات وال لوطيات) هذا هو �شعاري‬
‫الغرب وخا�صة جيم�س جوي�س وكافكا‪ ،‬كما وظفها‬ ‫لغزو عامل ما وراء البحر وال�سماء «�ص‪ ،18‬ال تربطها‬
‫بع�ض الكتاب املغاربة كمحمد الهرادي يف روايته‬ ‫ب�أ�صولها القبايلية اجلزائرية �سوى املالمح واال�سم‪،‬‬
‫«�أحالم بقرة»‪ ،‬وحممد زفزاف يف روايته «املر�أة‬ ‫وزيرة يف حكومة «�شاركو»‪ ،‬هي لي�ست «حمبوبة‬
‫والوردة»‪ ،...‬ولها �أ�صول �أ�سطورية خرافية‪ ،‬بحيث‬ ‫ال�ضواحي» كما يتوهم املغاربيون‪ ،‬بل خادمة‬
‫كلما غ�ضبت الآلهة على الأ�رشار مت�سخهم حيوانات‪،‬‬ ‫مطيعة للم�صالح الفرن�سية‪ ،‬هي حتيل رمزيا ل�سيا�سة‬
‫وغ�ضب ال�سارد على بع�ض �شخ�صياته‪ ،‬و�سمه ب�سيماء‬ ‫االنتقاء التي تنهجها فرن�سا‪ ،‬و «منوذجا» حيا‬
‫الق�سوة والغ�ضب‪ ،‬لينزل بهم �سوط عقابه على ال�سواء‬ ‫ل�سيا�سة االندماج القوي حد الذوبان‪ ،‬التي عجزت عن‬
‫م�ستعمِرا كان �أو م�ستع َمرا‪ ،‬بحيث يغدو «حميمو»‬ ‫حتقيقها بع�ض الأقليات املهاجرة من �أ�صول عربية‬
‫حمارا‪ ،‬و»كامي» خنزيرا‪ ،‬وال�سا�سة ب�أقنعة حيوانية‪،...‬‬ ‫وم�سلمة‪ ،‬بل هي «�أمثولة» حية لالنخراط يف املجتمع‬
‫هو نقد قا�س للذات والك�شف عن عيوبها وهفواتها‪،‬‬ ‫امل�ضيف ب�إ�رصار ومب�س�ؤولية دون ال�شعور ب�أي تقزمي‬
‫عو�ض تعليق �أخطائها على �شجرة الآخر‪.‬‬ ‫�أو مركب نق�ص جتاه الآخر‪.‬‬
‫تندرج رواية «�سريك عمار» �ضمن روايات ما بعد‬ ‫ورغم ال�رسد الكرونولوجي املحبك الذي ي�سم بناء‬
‫اال�ستعمار التي ال ميكن قراءتها كقيمة جمالية فقط‬ ‫الرواية‪ ،‬فالرواية ظلت تتو�سل ب�أ�شكال لعبية تك�رس‬
‫و�إغفال القيم الثقافية واالجتماعية وال�سيا�سية التي‬ ‫رتابتها‪ ،‬عرب املواقف الهزلية والتوظيف ال�ساخر‬
‫تر�شح بها‪ ،‬وهذا ما راهنت عليه نظريات ما بعد‬ ‫لأ�سماء بع�ض �أعالم ال�سيا�سة والثقافة واملعرفة‪،‬‬
‫البنيوية الني ت�سللت من القراءة ال�شكالنية للأدب‬ ‫و�رسد مو�شى ببيا�ضات ونقط حذف وب�صمت متناثر‬
‫املت�سمة مبحدوديتها و�ضيق �أفقها‪� ،‬إىل قراءة �أكرث‬ ‫�ضاج‪ ،‬يحر�ض القارئ على ا�ستنطاقه ا�ستنادا طبعا‬
‫رحابة تلتقط م�شهديات �سيا�سية واجتماعية وثقافية‬ ‫�إىل مرجعيات تاريخية ودينية و�سيا�سية وثقافية‪،‬‬
‫وتعيد تر�صي�صها يف �إطار نقدي قا�س و�ساخر يف‬ ‫بحيث يحثنا «�سليل القر�صان» للعودة لتاريخ‬
‫الآن نف�سه‪ ،‬هي رواية تنخرط يف �إطار م�رشوع روائي‬ ‫القر�صنة باملغرب الكبري‪ ،‬وعدم ا�ستجابة القايد‬
‫للكاتب يعمل فيه على انتقاد والئية الذات وامتثاليتها‬ ‫بلقايد للأمري عبد القادر اجلزائري للعودة �إىل تاريخ‬
‫وخنوعها وا�ستالبها‪ ،‬وكذا الوجود اال�ستعماري‬ ‫القبائل بهاته املنطقة‪ ،‬وعالقة كارولينا بـ«ع�شاق‬
‫يف الدول املغاربية‪ ،‬وما ا�ستتبع عن هذا الوجود‬ ‫مالل» حتفزنا لقراءة جديدة للعالقات العربية‬
‫من ت�شوهات وتهجني وان�سالخ عن الأ�صول مثلثها‬ ‫اال�سبانية‪ ،‬و»ل�رصاع الأديان»‪ ،‬وما يكتنفها من‬
‫�شخ�صية «�أحميمو» املت�شبعة بالثقافة اال�ستعمارية‬ ‫تراكمات تاريخية و�سيا�سية ت�ؤثر على هذا اللقاء‬
‫�أح�سن متثيل‪ ،‬وما �أجنب هذا الوجود من و�ضع متوتر‬ ‫احل�ضاري الآين»معركة �أنوال مثال واندحار اجلي�ش‬
‫وم�شو�ش وقلق لأجيال تخلت عن تقاليدها ودينها‬ ‫اال�سباين»‪ ،‬هي دعوة �ضمنية لإماطة اللثام عن‬
‫ومعتقداتها من �أجل وهم االندماج يف الن�سق الثقايف‬ ‫املخبوء يف تاريخنا‪ ،‬وكتابته ب�أقالمنا‪ ،‬عو�ض‬
‫الفرن�سي‪ ،‬لكنها ظلت بالن�سبة لفرن�سا عن�رصا دخيال‬ ‫تركه عر�ضة لنهب الآخر وتزييفه‪ ،‬هو عمل �إبداعي‬
‫مقحما غريبا حتى وهي بني القبور‪.‬‬ ‫ال يحرتف االختالق والإق�صاء وتن�ضيد ذاكرة الأنا‬
‫امل�صدر‪:‬‬ ‫وجتيي�ش املتخيل �ضد الآخر وال الفربكة والتلفيق‬
‫رواية «�سريك عمار»‪� ،‬سعيد علو�ش‪ ،‬دار �أبي رقراق للطباعة والن�رش‪ ،‬الطبعة الأوىل‪.2008.،‬‬ ‫والتالعب مب�شهديات من تاريخ امل�ستعمِ ر‪ ،‬كما‬
‫عهدنا يف كتابات انبج�ست يف �سياق ا�ستعماري‪،‬‬
‫‪295‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫ً‬
‫مرتجما‪...‬‬ ‫ايفان كليما‬
‫روح احلياة واحلب‬
‫\‬
‫حممد احلجريي‬

‫كونديرا على رغم نقاط ت�شابه كبرية بينهما‪� .‬إذ ثمة‬ ‫رغم �أهمية الروائي الت�شيكي �إيفان كليما الناجي من‬
‫وم�ساريهما‬
‫َ‬ ‫هوة عميقة بني طب َعيهما و�أ�صولهما‬ ‫املجازر النازية‪ ،‬لكن ت�أخرت ترجمته �إىل العربية‪.‬‬
‫يف احلياة‪ .‬ولكن هنالك يف الوقت ذاته قرابة‬ ‫يف املدة الأخرية انتبهت دار «التنوير» يف بريوت �إىل‬
‫�شديدة على م�ستوى ا�ستخدام الإرو�سية والكفاح‬ ‫�أهمية كليما بعد مقال كتبه حوله الروائي اللبناين‬
‫�ضد الي�أ�س ال�سيا�سي‪ .‬ومع احرتامه لكونديرا‪� ،‬إال �أن‬ ‫ربيع جابر‪ ،‬و�أ�صدرت التنوير روايتني لكليما الأوىل‬
‫كليما ُيبينّ يف هذا احلوار كيف �أن جتربة كونديرا‬ ‫بعنوان «حب وقمامة»‪ ،‬ترجمة احلارث النبهان‪،‬‬
‫بذاتها تتناق�ض مع موقعه كالطفل املدلل للنظام‬ ‫و»ال قدي�سون وال مالئكة»‪ ،‬ترجمة اميان حرزاهلل‪.‬‬
‫ال�شيوعي حتى العام ‪ .1968‬وي�شري كليما �إىل �أن‬ ‫وبرغم �أن كليما �أحد �أبرز الروائيني الت�شيك‪ ،‬لكنه‬
‫كونديرا يف الفرتة التي بلغ فيها �شهرة عاملية‪،‬‬ ‫مل يعرف �شهرة مواطنه ميالن كونديرا يف الغرب‬
‫كانت الثقافة الت�شيكية تقود �رصاع ًا مريراً �ضد‬ ‫ويف العامل العربي‪ ،‬مع �أنه ال يقل �أهمية عنه‪ ،‬وهو‬
‫النظام التوتاليتاري �شارك فيه املفكرون الذين بقوا‬ ‫مثله �شاهد على �أزمنة �صعبة وعلى �أنظمة قا�سية‬
‫داخل البالد و�أولئك الذين كانوا منفيني‪ ،‬وعانوا‬ ‫وقمعية‪ ،‬وما يجمع بني الروائيني �أنهما يحاوران‬
‫و�ضحوا بحريتهم اخلا�صة ووقتهم و�أحيان ًا‬ ‫ّ‬ ‫كثرياً‬ ‫مواطنهما فرانز كافكا‪ ،‬لكن جاءت �شهرة كونديرا‬
‫بحياتهم‪ ،‬على خالف كونديرا الذي مل يت�ضامن �أبداً‬ ‫على ح�ساب كليما‪ .‬ذهب هذا الأخري �إىل باري�س‪،‬‬
‫معهم ومل ي�شارك يف هذا اجلهد‪ .‬وثمة من يعترب‬ ‫و�سلطت الأ�ضواء عليه يف و�صفه هارب ًا من النظام‬
‫حديث كونديرا عن الرعب ال�ستاليني يبدو نابع ًا‬ ‫التوتاليتاري‪ ،‬وتخلى عن ت�شيكيته وكتب بالفرن�سية‬
‫من �إثم ما‪ ،‬فهل كان ميالن كونديرا �ستالينياً؟‬ ‫وعومِ ل على اعتباره م�ضطهداً وهارب ًا من جحافل‬
‫يف كتابه «كيف ن�صبح كونديرا؟» ال�صادر عن دار‬ ‫القمخ ال�ستاليني‪ .‬ايفان كليما مل يكن من�شقاً‪ ،‬وبقي‬
‫«الرماتان» يعود مارتن رزق �إىل �أعمال كونديرا‬ ‫ي�صارع روح براغ‪ ،‬ف�ضل كنا�سة �شوارع مدينته على‬
‫التي كان ن�رشها يف ت�شيكيا‪ ،‬وهي �أعمال «تخلى»‬ ‫املنفى‪.‬‬
‫كونديرا عنها ومل يذكرها مطلق ًا يف �أعماله الالحقة‪.‬‬ ‫بني كونديرا وكليما ثمة الكثري من املناكفات‪ ،‬ت�شبه‬
‫من هذه الأعمال دواوينه ال�شعرية‪ .‬يبينّ الباحث‬ ‫تلك التي بني يو�سا وماركيز يف جانب من اجلوانب‪،‬‬
‫�أن كونديرا كان �شاعرا «منا�ضال» يكتب مث ًال «�إىل‬ ‫ففي كتاب �أ�صدره الروائي الأمريكي فيليب روث‬
‫�أر�ض �ستالني‪� ،‬سنذهب لنغرف قوتنا»‪ .‬اىل جانب‬ ‫بعنوان «لنتح ّدث يف العمل» لدى دار «غاليمار»‪،‬‬
‫�أنه كان ع�ضواً يف احلزب ال�شيوعي‪ ،‬و�أن فات�سالف‬ ‫وت�ضمن جمموعة حوارات مع كتاب عامليني من‬
‫هافل هاجمه يومها لأنه وجد مواقفه معتدلة يف‬ ‫بينهم �إيفان كليما �إذ ُيقوم هذا الأخري بت�رشيح‬
‫ما يتعلق بربيع براغ‪ .‬اتهم كونديرا بالتعاون مع‬ ‫ال�ساحة الأدبية الت�شيكية من العام ‪ 1950‬وحتى‬
‫ال�رشطة ال�شيوعية ال�رسية‪ ،‬تهمة و�صفها كونديرا‪،‬‬ ‫اليوم‪ ،‬ويقول روث عن كليما ب�أنه نقي�ض مواطنه‬
‫‪296‬‬ ‫\ كاتب من لبنان‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ب�أنها «كذبة» واعتربها «اغتيا ًال لكاتب»‪.‬‬


‫وبغ�ض النظر عن اخلالفات بني الكاتبني الت�شيكيني‪،‬‬
‫يعترب كليما �أحد كبار الروائيني وامل�رسحيني‬
‫الت�شيكيني املناه�ضني للديكتاتورية يف بلدان‬
‫املع�سكر ال�شيوعي(ال�سابق)‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف مرحلة‬
‫«ربيع براغ» عام ‪ .1968‬وينت�سب كليما‪� ،‬إىل عائلة‬
‫مثقفة‪ ،‬اكت�شف ان والديه يهوديني عندما ت�سلم هتلر‬
‫ال�سلطة الأملانية و�أر�سل اىل املعتقل مع �أ�رسته التي‬
‫جنت لكنها عانت من موت �أقرباء و�أ�صدقاء «قتلوا‬
‫بالغاز كح�رشات و�أحرقوا كف�ضالت»‪ .‬ولأنه يهودي‪،‬‬
‫ف�إنه �أم�ضى �أكرث من �سنة يف �أحد املع�سكرات‬
‫النازية قبل �أن يحرره اجلي�ش الأحمر الرو�سي وذلك‬
‫‪ ،1945‬عندما عمل يف م�ست�شفى تعجب زمال�ؤه‬
‫من هدوء �أع�صابه �إزاء اجلثث‪ ،‬لكن �سنوات املعتقل‬
‫منحته القوة‪ ،‬وجناته وهبته التفا�ؤل‪ .‬مع ذلك‬
‫ف�ضل العمل‬ ‫والرحيل عن بالده يف زمن ال�شيوعية‪َّ ،‬‬ ‫بقي اجلوع يف البال‪ .‬وهو يقول �إنه قر�أ �رساً خالل‬
‫يف القمامة على االن�شقاق والرحيل‪ .‬يقول �إنه طوال‬ ‫فرتة الأ�رس تلك‪ ،‬ت�شارل ديكنز وهومريو�س وجول‬
‫‪ 70‬يف املائة من وقته مل يع�ش احلرية‪ ،‬فبعد �سنوات‬ ‫فارن‪ ،‬ليكت�شف فرانز كافكا الحقاً‪« :‬كانت �أول‬
‫النازية الهتلرية الأملانية جاء االحتالل ال�سوفييتي‬ ‫ق�صة قر�أتها لفرانز كافكا‪ ،‬ق�صة ت�ضم املقطوعات‬
‫ال�شعرية الطويلة القليلة التي �أجنزها‪ ،‬وكانت الق�صة‬
‫ال�شيوعي لبالده عقب ربيع براغ يف ‪ ،1968‬ففي‬
‫تتحدث عن رحالة �أراد �ضابط يف �إحدى اجلزر �أن‬
‫تلك الأيام‏‪ ،‬كانت ت�شيكو�سلوفاكيا‏‪ ،‬تئن حتت نري‬
‫يريه �آلة الإعدام الغريبة التي �صنعها مبحبة وتفان‪.‬‬
‫نظام �شمويل ا�ستبدادي‪.‬‏ وكان الروائي‏‪ ،‬مكره ًا‬
‫لكن الآلة تعطلت �أثناء العر�ض و�شعر ال�ضابط بخزي‬
‫ال بط ًال‏‪ ،‬يقبع مرتب�ص ًا يف خندق املن�شقني‏‪.‬‏ ولكن‬
‫كبري جراء هذا‪ ،‬فو�ضع نف�سه على كر�سي الإعدام»‪.‬‬
‫�أبطال رواياته مل يرفعوا راية التمرد‪.‬‏ و�إمنا كانوا‬ ‫اكت�شف كليما قوة الأدب يف املعتقل النازي‪ ،‬هذه‬
‫يكابدون‏‪ ،‬يف �صمت موح�ش‏‏‪ ،‬من �شظف العي�ش‬ ‫الوالدة الثانية ي�سجلها كليما خيالي ًا يف �أكرث من‬
‫وجربوت اال�ستبداد‏‪.‬‏‬ ‫رواية كما يقول ربيع جابر‪.‬‬
‫وعندما جتر�أ �إيفان كليما عام ‏‪ ،1970‬وطالب‬ ‫انت�سب كليما �إىل كلية الآداب يف براغ‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫ب�إلغاء الرقابة على الكتب والثقافة‏‏‪ .‬بادر النظام‬ ‫�صحفياً‪ .‬وعندئذ ا�صطدم بجهاز الرقابة الذي كان‬
‫�إىل منع ن�رش م�ؤلفات كليما الذي كان يكتب لئال‬ ‫قوي ًا يف ظل النظام ال�شيوعي‪ .‬ووقف يف وجه‬
‫ميوت‪ ،‬وي�صف عالقات احلب بطريقة ال ت�شبه �أحداً‪،‬‬ ‫الثقافة اجلدانوفية ال�ستالينية قائالً‪« :‬على الأدب �أن‬
‫وكان �شاهداً على �أزمة �صعبة وقا�سية ومريرة‪،‬‬ ‫يرف�ض �أن يتم ا�ستعماله من �أجل غر�ض ما‪ .‬هناك‬
‫ومل يجد مفراً من �أن يعمل عامل كنا�سة يف �شوارع‬ ‫بالطبع �أو�ضاع خا�صة يجد الأدب نف�سه جمرباً على‬
‫املدينة‏‏‪ .‬ويف ذلك الوقت كان كاتب م�رسحي‬ ‫�أن يكون �أداة ن�ضال مثال‪ ،‬وذلك حني يتم غزو بلد‬
‫المع هو فات�سالف هافيل يعمل �سائق تاك�سي‏‪.،‬‏‬ ‫من قبل جي�ش اجنبي‪� ،‬أو حني يتعر�ض �شعب ما اىل‬
‫واملفارقة �أن احد ابطال رواية «خفة الكائن التي‬ ‫مظامل �أو يجد نف�سه �ضحية لال�ستبداد والإرهاب»‪.‬‬
‫ال حتتمل» مليالن كونديرا يعمل �سائق تاك�سي‪ .‬ثم‬ ‫مل ينجر كليما يف حياته �إىل وهم االن�شقاق‬
‫‪297‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫املرة تلك‪ ،‬نحن نخ�شى �أن نرتكب اخطاء قاتلة‬ ‫جاءت ال�سنوات الطويلة من الدكتاتورية والقمع‬
‫ب�إمكانها ان ت�ؤدي بنا اىل التهلكة عو�ض ان تقربنا‬ ‫قبل «الثورة املخملية» التي اندلعت يف ‪1989‬‬
‫من العدالة ومن احلرية اللتني نحن بحاجة �أكيدة‬ ‫بعد موجة الربوي�سرتيكا اجلوربات�شوفية‪ .‬وطوال‬
‫�إليهما‪ .‬ويف ذاتها‪ ،‬ال ت�ستطيع تلك التجربة الق�صوى‬ ‫هذا املرحلة مل تغب فكرة احلرية �أو الإميان بها‬
‫التي ع�شناها ان تقود اىل احلكمة‪ ،‬ونحن ال نتو�صل‬ ‫واالعتقاد ب�إمكان العثور عليها يف غمار كتابة‬
‫�إىل ذلك اال بعد ان نتخذ امل�سافة ال�رضورية ملعاينة‬ ‫احلقيقة عن ذهن كليما‪.‬‬
‫ما نحن ع�شناه حقاً»‪.‬‬ ‫�إذا كان عام ‪ 1989‬خمملياً‪ ،‬ف�إن كليما يقول‬
‫�إن نهاية ال�ستينات وبداية ال�سبعينات كان �أ�سو أ�‬
‫حب وقمامة‬
‫املراحل‪ ،‬فقد انطلقت الدبابات ال�سوفييتية لت�ضع‬
‫�أ�صدر كليما العديد من الق�ص�ص والروايات‬ ‫نهاية لربيع براغ يف �أغ�سط�س ‪ .1968‬وقد كان‬
‫وامل�رسحيات‪ ،‬وقد تكون �أعماله املرتجمة اىل‬ ‫كليما يف طريقه �إىل الواليات املتحدة لأجل زمالة‬
‫العربية خري معبرّ عن �أعماله‪ ،‬ففي روايته «حب‬ ‫تدري�س يف ميت�شغان‪ ،‬وهزته الأنباء‪ ،‬وعندما انتهت‬
‫وقمامة»‪ ،‬يتحدث �إيفان كليما عن و�ضعه اخلا�ص‬ ‫فرتة التدري�س بعد عام وجد نف�سه حيال قرار‬
‫من خالل كاتب ي�صبح عامل تنظيف بعد �أن مت‬ ‫�صعب يتعلق بالبقاء يف املنفى على نحو ما فعل‬
‫الق�ضاء على «ربيع براغ» عام ‪ ،1968‬ي�سوق ولوجه‬ ‫الكثري من املن�شقني الت�شيك �أو العودة �إىل بالده‪.‬‬
‫يف عامل القمامة على قاعده �أنه «كثريا ما يظن املرء‬ ‫ويتذكر كليما‪« :‬قال اجلميع‪ :‬ال ترجع ف�سري�سلونك‬
‫�أن عقله �سوف يغدو خام ًال �إن هو مل ي�ستطع النظر‬ ‫أح�س ب� ّأن ال معنى لبقائه يف‬‫�إىل �سيبرييا!»‪ .‬لكنه � َّ‬
‫�إىل العامل والنا�س من زاوية جديدة» و«�أن الإحرتام‬ ‫اخلارج باعتباره كاتب ًا وافتقاده لي�س للغة وحدها‪،‬‬
‫ال يناله �إال من ينظفون العامل من القمامة الب�رشية‪:‬‬ ‫و�إمنا للنا�س الذين يفهمهم‪.‬‬
‫ال�رشطة والق�ضاة واملحققون»‪.‬‬ ‫بعد انهيار املنظومة ال�شيوعية‪� ،‬أ�صبح فات�سالف‬
‫يف منت الرواية يح�رض ال�شبح الكافكاوي (ن�سبة �إىل‬ ‫هافيل امل�رسحي واملثقف رئي�س ًا لت�شيكيا‪.‬‏ وحتلّق‬
‫فرانز كافكا)‪� ،‬أو هذا الروائي الت�شيكي الذي عا�ش‬ ‫الكتاب والفنانون من حوله‏‏‪ .‬ومت ن�رش روايات‬
‫مرارة حياته يف براغ يكابد الأحوال البريوقراطية‬ ‫وق�ص�ص �إيفان كليما عام‏‪ ،1990‬وراجت بقوة لكن‬
‫وحمنة الآب القا�سي‪ .‬ما يفعله كليما �أنه يواجه‬ ‫القراء �أ�صيبوا بخيبة �أمل‏‪ ،‬لأن حبكة الروايات مل تنطو‬
‫الواقع القذر والتع�سف‪ ،‬و�أن يجمع عنوان الرواية‬ ‫على مواجهة �سيا�سية حادة مع ال�شيوعية‏‪ .‬مل يكتب‬
‫بني احلب والقمامة فتلك هي املفارقة‪ ،‬الكلمات‬ ‫كليما من �أجل ال�شعارات بل كان يكتب بعمق‪ ،‬ومل‬
‫وحدها تعرب عن مقا�صد الروائي يف و�صفه‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ميت �أدبه من انهيار جدار برلني و�سقوط ال�شيوعية‬
‫«كان ك َّنا�سو (لغة احلمقى) ي�صلون يف مركباتهم‬ ‫بل ا�ستمر حتى الآن �شهادة من الروح ت�صلح لكل‬
‫املزينة بالأعالم‪ ،‬متظاهرين ب�أنهم يكملون ذلك‬ ‫مرحلة‪ .‬ويف عام ‪� 1990‬أي�ضا‪� ،‬أ�صدر �إيفان كليما‬
‫التنظيف الكبري‪ ،‬يكن�سون ذكريات املا�ضي كلها‪،‬‬ ‫كتاب ًا �صغرياً حمل عنوان‪« :‬حماورة يف براغ»‪ ،‬وفيه‬
‫كل ما كان عظيم ًا يف املا�ضي! وعندما يتوقفون‬ ‫يتحاور مع الكاتب االمريكي فيليب روت حول العديد‬
‫فرحني يف مكان يبدو لهم �أنه قد �صار نظيف ًا متاماً‪،‬‬ ‫من الق�ضايا املتعلقة بالأدب وال�سيا�سة والتاريخ‬
‫ي�أتون بواحد من فناين (لغة احلمقى)‪ ،‬بواحد منهم‪،‬‬ ‫والفل�سفة‪ .‬وعن احلقبة ال�شيوعية‪ ،‬واملظامل التي‬
‫فيقيم هنا ن�صب ًا للن�سيان‪ ،‬متثا ًال م�ؤلف ًا من جزمة‬ ‫تعر�ضت لها خاللها ال�شعوب والنخب املثقفة‪ ،‬يقول‬
‫طويلة ومعطف وبنطال وحقيبة‪ ،‬وفوقها كلها‬ ‫كليما‪« :‬ما ع�شناه نحن ك�أ�شخا�ص وكمجموعات‬
‫وجه خالد ال ن�شعر �أن وراءه روح ًا �أو حياة لكنهم‬ ‫كان خارج كل ت�صور عادي وب�إمكانه �أن ُي�ضلّلنا‪،‬‬
‫يعلنونه‪ ،‬وفق العقيدة الر�سمية‪ ،‬وجه فنان �أو مفكر‬ ‫ومدفوعني ب�رضورة ا�ستخال�ص العرب من جتربتنا‬
‫‪298‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫هو غري عادي يف احلياة العادية‪ ،‬ومي�سك احلا�رض‬ ‫�أو عامل �أو �شخ�صية وطنية»‪.‬‬
‫بقب�ضته حتى وهو ي�ستك�شف املا�ضي بالأخرى‪.‬‬ ‫ي�رصح الراوي بخ�شيته من ا�ستخدام كلمة كاتب‬ ‫ّ‬
‫بطلة الرواية كري�ستينا‪ ،‬طبيبة �أ�سنان جتاوزت‬ ‫للإ�شارة �إىل نف�سه‪ ،‬يرت ّدد يف و�صف نف�سه بها‪ ،‬وهو‬
‫الأربعني من عمرها‪ ،‬تعي�ش حياة متوترة وقلقة‪،‬‬ ‫يظن � ّأن على الكاتب �أن يكون يف حكمة‬ ‫الذي كان ّ‬
‫ممزقة بني عملها والرتدد على زوجها ال�سابق‬ ‫الأنبياء ويف نقاوة الق ّدي�سني وندرتهم‪ ،‬و�أن يكون‬
‫الذي �أ�صيب مبر�ض ع�ضال وبات طريح الفرا�ش‪،‬‬ ‫�شجاع ًا ال يعرف اخلوف متام ًا مثل العب ال�سريك‬
‫واالعتناء بابنتها املراهقة التي تكت�شف �أنها باتت‬ ‫الذي يطري قافزاً بني احلبال‪ .‬ويتملّ�ص من الإجابة‬
‫مدمنة خمدرات‪ ،‬وزيارة �أمها التي ت�سكن وحيدة‬ ‫حني ي�س�أله �أحدهم عن عمله‪ ،‬وال يجر�ؤ على التباهي‬
‫وينتابها خوف وقلق كل الوقت‪.‬‬ ‫ويظن �أ ّنه لي�س للمرء يف �أح�سن الأحوال‬
‫ّ‬ ‫ب�أ ّنه كاتب‪،‬‬
‫تبد أ� الرواية ب�إعالن كري�ستينا �أنها قتلت زوجها‬ ‫�إلاّ �أن يقول �إ ّنه قد كتب بع�ض الكتب‪ .‬ويف مو�ضع‬
‫مبثقب للأ�سنان حفرت به ثقب ًا يف ر�أ�سه‪ .‬ولكن حدث‬ ‫�آخر يكتب كليما‪« :‬كتل الأفكار املرمية هي الأكرث‬
‫يلخ�ص رغبتها الداخلية‪:‬‬
‫ذلك يف احللم‪ .‬غري �أنه حلم ّ‬ ‫خطورة بني القمامة كلها‪ ،‬القمامة التي ُتغرقنا‬
‫قتلت زوجي يف الليلة املا�ضية‪ .‬ا�ستخدمت مثقب‬ ‫وتهددنا ب�أنفا�س التحلل املنبعثة منها‪� ،‬إنها تندفع‬
‫�أ�سنان لثقب جمجمته‪ .‬انتظرت لأرى حمامة تخرج‬ ‫من حولنا وتنزلق هابطة منحدرات �أرواحنا‪ ،‬والروح‬
‫من ر�أ�سه‪ ،‬لكن خرج بد ًال منها غراب �أ�سود كبري‪.‬‬ ‫التي تلم�سها تلك الأفكار تروح تذوي و�رسعان ما ال‬
‫ا�ستيقظت مرهقة‪� ،‬أو على نحو �أكرث دقة بال �شهية‬ ‫يراها �أحد حية من جديد»‪ .‬ويف مكان �آخر يو�ضح‪:‬‬
‫للحياة‪ .‬بتقدمي يف ال�سن ت�ضعف �شهيتي للحياة‪.‬‬ ‫«�إن �رشح طريقة الإزالة االقت�صادية الفاعلة للقمامة‬
‫هل �شعرت للحظة ب�شهية مفعمة للحياة؟ ال �أظن‪،‬‬ ‫الب�رشية من هذا العامل على نحو عملي حمكم وفق‬
‫لدي مزيد من القوة»‪.‬‬
‫لكن قطع ًا كان ّ‬ ‫روح زمننا الثوري ووفق �أفكاره و�أهدافه وارد يف‬
‫املذكرات التي كتبها ال�ضابط هو�س‪� ،‬آمر مع�سكر‬
‫حتوالت‬
‫�أو�شفيتز»‪.‬‬
‫روايات كليما‪ ،‬و�إن متحورت مو�ضوعاتها حول‬
‫هاج�س التحول ال�سيا�سي يف بالده وبراغ حتديداً‪،‬‬ ‫ال قدي�سون‬
‫ت�شتمل على خطاب �آخر‪ ،‬ال يقل �أهمية وعمقاً‪،‬‬ ‫ويف روايته «ال قدي�سون وال مالئكة» ي�أخذنا ايفان‬
‫هو خطاب احلياة يف معناه الوا�سع مبا يف ذلك‬ ‫التمرد‬
‫ّ‬ ‫كليما �إىل براغ يف ال�سنوات الأوىل التي تلت‬
‫الديكتاتورية والرقابة واحلب‪ .‬ومغزى الرواية‬ ‫على �آثار الع�رص ال�ستاليني ال�سوفييتي‪ ،‬وتتناول‪،‬‬
‫امل�ؤثر وا�ضح‪ :‬الإيديولوجيا‪ّ � ،‬أي ًا كانت‪ ،‬تف�سد املحيط‬ ‫�ش�أن روايات كليما الأخرى‪ ،‬العي�ش يف براغ‪ ،‬قبل‬
‫الذي يعي�ش فيه الإن�سان‪ .‬يدمن الإن�سان الطغيان‬ ‫الربيع وبعده‪ .‬يكتب كليما بواقعية و�شفافية‪ ،‬ويقدم‬
‫ويفتقده حني يكون كل �شيء طاغياً‪ .‬ما يلفت يف‬ ‫رواية مليئة بامل�شاعر والأحالم واخلوف‪ ...‬هاج�سه‬
‫جتربة كليما الروائية لي�س اجلمالية الروائية التي‬ ‫كيف نتخل�ص من احلقد والأمل واخلوف من دون‬
‫ميلكها‪ ،‬بل ال�شبح الكافكاوي الذي ي�سيطر على‬ ‫�أن يكون متردنا حفرة جديدة‪ ...‬ذلك هو ما يبحث‬
‫�أفكاره و�أفكار معظم الروائيني املهمني يف العامل‪،‬‬ ‫عنه يف الرواية‪� ،‬إذ يقدم �شخ�صيات جت�سد التجان�س‬
‫ك�أن كافكا وجد ليكون نبي الع�رص احلديث يف‬ ‫الأزيل بني العي�ش حتت انظمة قمعية قدمية‬
‫الرواية‪ ،‬فهناك الع�رشات من الفائزين بجائزة نوبل‬ ‫و�صعوبات و�إحباطات عهد احلرية اجلديد‪ ...‬وهي‬
‫للآداب يعتربون كافكا حجر الزاوية يف اعمالهم‬ ‫�صادقة‪ ،‬مقنعة‪ ،‬م�صابة وه�شة‪ ،‬مرتبكة‪ ،‬مفعمة‬
‫و�أفكارهم ونظرتهم اىل الوجود‪.‬‬ ‫باحلياة‪ .‬على غرار �أنطون ت�شيكوف‪ ،‬يربز كليما ما‬
‫‪299‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫«ملح» بدرية الإ�سماعيلي‬
‫يف�ضح عبث املدينة‬
‫هـ‪.‬ح‬
‫واملال وحده �أن تبعد �شبح والدها‪ .‬ذاك الذي يمُ ثل �صلتها‬ ‫لإزالة العفن‪ ،‬والبقع‪ ،‬والروائح ال�سيئة‪ ،‬وملزيد من التعقيم‬
‫بالقرية‪ .‬وهي تعرب عن ا�ستقالليتها املادية وقدرتها على‬ ‫والتلميع والتبيي�ض‪ ،‬تنقع بدرية الإ�سماعيلي حيوات‬
‫االنف�صال عن القرية بقرار �شخ�صي‪ .‬ورغم كل هذه القوة‬ ‫�أبطالها يف الكثري من امللح‪« .‬ملح» هو عنوان جمموعتها‬
‫التي تبدو عليها من الر�سم اخلارجي �إال �أنها �أي�ضا لي�ست‬ ‫الق�ص�صية الأوىل التي ت�شاطرت بطولتها القرية واملدينة‪.‬‬
‫خارج لعبة العبث‪ ،‬فموظف اال�ستقبال ُيذكرها مبوعده‬ ‫�صدرت �ضمن الربنامج الوطني لدعم الكتاب عرب م�ؤ�س�سة‬
‫الغرامي ما �أن ين�رصف والدها‪ ،‬وك�أن القرى يف �صور‬ ‫االنت�شار العربي‪ .‬هكذا جتعل بدرية من املادة ا ُملطهرة‬
‫بدرية اال�سماعيلي هي املرايا الأخرية للنقاء – �أو على‬ ‫ا ُملعقمة الطبيعية معادال مو�ضوعيا لدنا�سة الب�رش‬
‫الأقل هذا ما تبدو عليه خارجيا‪ -‬بينما املدن بحاجة‬ ‫وقدراتهم‪� ،‬أو لعلها �أرادته �ضمادا جلراحها و�أوجاعها‪،‬‬
‫للمزيد من ر�ش امللح على فو�ضاها ومتاهي قيمها‪.‬‬ ‫وخمففا اللتهاباتها واحتقاناتها‪.‬‬
‫�شفتي الفتاة‬
‫ّ‬ ‫يف املدينة �أي�ضا تلتقي قطع الأنانا�س بني‬ ‫نتعرف عرب هذه املجموعة الق�ص�صية على جملة من الن�ساء‬
‫اجلميلة وبني �شاعر يتلو �آخر �أحرف الق�صيدة التي مل‬ ‫اللواتي �أظن �أنهن يف �أم�س احلاجة لـ «امللح»‪� .‬شخ�صيات‬
‫تكتمل بعد‪ ،‬يف ق�صة «الأنانا�س» وما �أن ُينجز كل منهما‬ ‫تراوغ حول منطقة العبث‪ .‬ذاك العبث املجاين الذي ال �شيء‬
‫مهتمه بني �أكل الأنانا�س و �إلقاء الق�صيدة حتى يلتقيان‬ ‫ي�ضبط �إيقاعه‪ ،‬فهو منفلت وجامح‪.‬‬
‫لينعما ببع�ضهما‪ .‬لكن الفتاة �صاحبة الأنانا�س‪ ،‬وما �أن‬ ‫الرجال لي�س لديهم عالقة ثمينة ب�شيء كما يبدو من‬
‫تنهي مهمتها حتى تبد أ� ب�إخفاء دخان �سجائره الذي علق‬ ‫ق�ص�ص هذه املجموعة‪ ،‬فكل �شيء ُمتاح على مداه ال�شا�سع‪،‬‬
‫يف ثيابها وذلك بر�ش املزيد من العطر عليه‪.‬‬ ‫واملتعة هي التي حتدد م�سار خططهم‪ ،‬فهنالك هدف‬
‫كل هذا العبث يكرب يف املدينة ال ُيعلن عن نف�سه �رصاحة‬ ‫وا�ضح‪ ،‬مبتغى‪ ،‬بينما ُتفكر املر�أة دائما يف العبث كو�سيلة‬
‫بل يتوارى خلف �أبواب مواربة‪ ،‬و�إن بدت الق�رشة اخلارجية‬ ‫ت�ؤدي �إىل الهدف‪ .‬فاملر�أة عندما تكت�شف � ّأن الرجل الذي‬
‫ملثل هذه املجتمعات ت�سري وفق قيمها ومبادئها‪� ,‬إال �أنها‬ ‫�أمامها ال يريدها هي لأجلها هي و�إمنا لرغبات التغيري‬
‫تخفي حتت ق�رشتها الرقيقة �أكرث مما تبدي‪ .‬تلك الأ�شياء‬ ‫والتبجح بها �أمام الأ�صدقاء‪ ،‬فهي قد تدلق ال�شاي على‬
‫التي تبقى �رسية بني اثنني‪ .‬فهي «حت�س�ست مكان القُبلة‬ ‫«انتبهت‬
‫ُ‬ ‫د�شدا�شته وتبكي كما ح�صل يف ق�صة «جمنونة»‪،‬‬
‫و�شعرت بفرا�شة ت�ستعد للطريان»‪ .‬بينما هو «حت�س�س‬ ‫�إىل عينيه تلتهمان �أ�صابعها‪ .‬فركت يديها بحرج الأنثى‬
‫�أ�صابعه وقد علق بها طعم ثدييها‪ ،‬فما كان منه �إال �أن‬ ‫عندما تتعرى �أمام غريب»‪.‬‬
‫�أخفى طعمها بال�سيجارة الألف»‪ .‬وهنا نكت�شف الفرق‬ ‫حتى الفتاة القادمة من البلد‪ ،‬يف ق�صة «ا�ستثناء»‪ .‬الراغبة‬
‫الهائل بينهما‪ .‬الرجل واملر�أة‪ .‬فاملر�أة ترتع�ش �أمام فكرة‬ ‫باالنخراط يف حياة املدينة‪ .‬راغبة بحياة ال�صخب‬
‫وتف�صيل – و�إن تقاطع فيه اجلانب املادي باجلانب‬ ‫واملواعيد واحلرية‪ .‬حتى �أن زيارة الوالد القروي لها يف‬
‫املعنوي‪ -‬ينمو ويكرب ويت�صاعد يف خميلتها �إىل �أن‬ ‫مقر عملها �أربكتها وخد�شت ات�ساقها مع فكرة التمدن‪.‬‬
‫تتحول �إىل فرا�شة‪ .‬بينما الرجل يبقى رهن اجلانب املادي‬ ‫فقد اقتحم احلاجز الذي ظلت تلف نف�سها به طويال وقد‬
‫واملح�سو�س يف نظرته للمر�أة‪.‬‬ ‫ا�ستطاعت �أن حتقق احلد الأدنى من اال�ستقرار النف�سي‪.‬‬
‫بل �إن حتى «كومار» الهندي الذي يدخر املال وكابد‬ ‫فهنالك فرق هائل بني املدينة والقرية‪ ،‬فالقرية بعد ال‬
‫االغرتاب وفراق الأهل لأجله‪ ،‬هو الآخر كان راغبا‬ ‫ت�ستوعب بذخ املاكياج والكعب العايل كما ال ت�ستوعب‬
‫بالدخول �إىل عبث املدينة‪ .‬راغبا يف �أن يكون جزءا من‬ ‫خ�صالت ال�شعر امللونة بالأحمر الفاقع املتهدلة على‬
‫اللعبة‪ ،‬فكان راغبا باحل�صول على فتاة من جانب فندق‬ ‫جانبي وجهها وال العباءات امللت�صقة باجل�سد‪.‬‬
‫ّ‬
‫ال�شرياتون فور خروجه من ال�سينما الب�سا طقم املالب�س‬ ‫ولكن هذه املر�أة الفارة من القرية ت�ستطيع بوا�سطة املال‬
‫‪300‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫املميز الذي ا�شرتاه قبل ثالثة �أعياد‪ .‬ولكن مع تقدم الليل‬
‫ت�ضاءلت فر�صه �أمام �أعني اجلميالت‪ .‬هكذا �شعر «كومار»‬
‫فج�أة �أنه خارج اللعبة و�أن املراهقني و�أ�صحاب التكا�سي‬
‫خطفوا منه حلمه‪ .‬رمبا لأنهم �ضمن �رشوط اللهو‪ .‬بينما‬
‫«كومار» ال يزال خارجها‪ .‬فال مانع لديهم من انفاق كل ما‬
‫ح�صلوا عليه يف نهارهم للح�صول على �أج�ساد �أكرث بيا�ضا‬
‫مما هو موجود حتت �أ�سقف منازلهم‪.‬‬
‫مل ت�أت ق�ص�ص بدرية الإ�سماعيلي يف ال�سياق املعتاد‪ .‬الذي‬
‫يروج ل�ضعف املر�أة وجرها �إىل مناطق من اللهو والعبث‬
‫ال ترغب بها‪ ،‬و�إمنا ك�شفت لنا عن ن�ساء يذهنب ب�أرجلهن‬
‫وب�إرادتهن الكاملة نحو اللهو‪ ،‬فهي �أحيانا �رشيكا فيه‪،‬‬
‫و�أحيانا �أخرى تبدو �أكرث من ذلك فهي من ت�ستفز وحتر�ض‬
‫رغبة الرجل فيها‪.‬‬
‫الآخر له‪ ،‬وت�ستمر احلياة بينهما‪ .‬بل وي�رص كل منهما على‬ ‫ولكن هنالك �أي�ضا ن�ساء يذهنب �إىل اللهو لأنهن يرجتفن‬
‫�إخفاء ما هو مت�أكد �أ�صال � ّأن الآخر يعرفه‪ .‬فالت�رصيح‬ ‫من قطار العمر وهو يعرب فوقهن‪ .‬يهم�ش طموحاتهن‬
‫ُمفجع‪ ،‬فحتى و�إن كنا نعرف كل �شيء‪ ،‬ينبغي �أن ال نرتك‬ ‫و�أحالمهن‪�« ،‬ستظل تعريين يف كل ثانية بالقطار الذي‬
‫�أثرا على الأقل‪ .‬رمبا يح�صل ذلك لريمما الق�رشة اخلارجية‬ ‫�سيفوتني و�أنا �س�أدعو عليها يف كل ثانية ب�أن مير القطار‬
‫التي تلف املجتمعات املحافظة‪ .‬لرنمم �أ�سباب بقاء زوجني‬ ‫ليه�شم ر�أ�سها املنفوخ»‪.‬‬
‫حتت �سقف واحد‪« .‬زوجي العزيز �أمتنى يف املرات القادمة‬ ‫كما تك�شف ق�صة «�أنبوب» � ّأن املر�أة ميكن �أن تكون �ألد‬
‫�أن تخفي �آثار عربدتك قبل قدومك �إىل املنزل»‪.‬‬ ‫�أعداء املر�أة‪ ،‬والأكرث دراية مبواطن �ضعفها‪ .‬املر�أة ﻻ ترغب‬
‫حتى � ّأن تلك املر�أة التي ي�رضبها زوجها ال�سكري فتهرب‬ ‫يف مواجهة تقدمها يف العمر خ�صو�صا عندما ال تكون‬
‫وتعود بطفل ال ي�شبه لونها الأ�سمر حملت منه من خياط‬ ‫متزوجة بينما متر �سنواتها ب�ساللة عندما يكون ب�صحبتها‬
‫باك�ستاين‪ .‬هذه الق�صة حدثت يف القرية حيث افرت�ضنا �أن‬ ‫الرجل‪ .‬لكن الرجل رمبا ال يكابد ذات العناء‪ .‬لذا يطول عبث‬
‫العبث فيها �أقل من املدينة ولكنه عبث قليل احليلة وق�صري‬ ‫الرجل‪ ،‬وتقل همة املر�أة لأن توا�صل يف ذات الطريق‪.‬‬
‫اليد ولي�س عبثا اختياريا نابعا من قرار‪.‬‬ ‫كانت هنالك �أي�ضا مر�آة مبدخل بناية‪ ،‬تتمكن بدرية‬
‫ت�ضع بدرية الإ�سماعيلي يدها على جرح �آخر‪ .‬اخلطاب‬ ‫الإ�سماعيلي عرب هذه املر�آة من تغيري عالقات الب�رش‬
‫ا ُملوجه للمر�أة والذي للأ�سف مل يتجاوز ج�سدها‪ ،‬ومل‬ ‫ببع�ضهم البع�ض‪ .‬املر�آة ت�ستوقف النا�س‪ .‬بل املر�آة‬
‫ي�صعد �إىل عقلها‪ ،‬ك�أنها ال تزال تلك الناق�صة‪ ،‬التي ينبغي‬ ‫ت�ساعدهم على ال�ضحك وعلى قول ما لديهم من حكايات‪.‬‬
‫�أن ينح�رص دورها يف «طاعة الزوج العمياء والغ�سل من‬ ‫بل � ّإن بع�ضهم دعا البع�ض الآخر لتناول القهوة‪ .‬املر�آة‬
‫اجلنابة واحلرام واحلالل‪ ،‬والنام�صة واملتنم�صة ودم‬ ‫ك�شفت ا�رسارا كثرية‪ .‬وهناك من كان ي�صلح �إزاره �أمام‬
‫احلي�ض وارتداء اجلوارب الخ»‪ ،‬وهو خطاب ُي�سبب الكثري‬ ‫املر�آة‪ ،‬حتى القطة باتت حتك جلدها بحواف املر�آة‪.‬‬
‫من االنتكا�سات للمر�أة العربية و ُيعيدها �إىل قرون خلت‪،‬‬ ‫فكرت املر�أة بخوف يف ق�صة «�شفاه مطبوعة»‪ ،‬ماذا لو‬
‫عندما يبقى مكتفا يف هذه اخلانة وال ميكنه جتاوزها‪.‬‬ ‫أ� ّنها اكت�شفت القُبلة نف�سها التي تعاونت هي وع�شيقها على‬
‫هكذا تنمو العالقات يف ق�ص�ص بدرية الإ�سماعيلي فال‬ ‫�إزالتها عن ياقة قمي�صه مطبوعة على قمي�ص زوجها؟‬
‫تبقى على منط واحد وال ت�سري على وترية واحدة بل تتبدل‬ ‫ترى ماذا كانت �ستفعل‪ .‬هكذا ت�ضع الإ�سماعيلية بطالتها‬
‫فقد ا�ستغنت الزوجة عن جميع الطقو�س التي رافقتها يف‬ ‫يف قلق ال�س�ؤال‪ ،‬ت�ضعهن يف مواجهة ما يفعلن ماذا لو فُعل‬
‫بداية الزواج من دهن العود وم�ساحيق ترتيب الب�رشة‬ ‫بهن كذا وكذا‪ .‬فل�سنا فقط �أمام منوذج امر�أة تكابد خيانات‬
‫وقم�صان النوم التي تبدي اكرث مما تخفي‪ .‬لأنها تفعل ذلك‬ ‫الزوج‪ ،‬بل زوجة تكابد قلق �أن يك�شف زوجها خيانتها‪.‬‬
‫لي�س لأجل نف�سها و�إمنا لأجل الآخر وعندما يكون جتاوب‬ ‫وتزيد الإ�سماعيلية من جرعة العبث عندما تك�شف عن‬
‫الآخر هزيال فهي تهمل نف�سها بل متوت �أو تلج أ� �إىل نوع‬ ‫خيانة يتواط�أ عليها طرفان‪ .‬يتفاهمان عليها ب�صمت تام‪.‬‬
‫�آخر من اللهو‪.‬‬ ‫فالزوج يخون وهي تخون وكل منهما يربر ذلك بخيانة‬
‫‪301‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫الكتابات ال�صخر ّية‪:‬‬
‫�أ�شجان‪  ‬فوق �صخور عُمان‬
‫\‬
‫عبدالرزاق الربيعي‬
‫الزمان‪� ،‬صامدة يف املكان حيث مكثت تلك الكتابة‬ ‫ال�صخرية مار�سها الإن�سان‬
‫ّ‬ ‫ظاهرة الكتابات والنقو�ش‬
‫املخطوطة بعناية‪ ،‬واحتفظت بتفا�صيلها من نقاط‬ ‫منذ �أقدم الع�صور‪ ،‬ذلك ل ّأن هاج�س الزوال كان يقلقه‪،‬‬
‫وت�شكيل‪ ،‬حتى ليظن الناظر ب�أ ّنها خطت من �أمد قريب‪.‬‬ ‫خ�صو�صا حني �أدرك �أن مايحدث يف احلياة �أكرب مما‬
‫و�رشع �صديقي اخلرو�صي يقر�أ‪  ‬مقطعا من ن�ص‪،‬‬ ‫ميكن �أن ت�ستوعبه الذاكرة‪ ،‬ففي بحثه عن �ضالّه تعني‬
‫يو ّثق حلادثة جرت يف املكان يختلط فيها الواقعي‬ ‫طورها �إىل‬
‫ذاكرته كانت الر�سوم �أوال وبعد دهور ّ‬
‫بالأ�سطوري‪ ،‬ف�س�ألته عن تاريخها‪،‬فقر�أ التاريخ‬ ‫�صورية ثم اختزلها‬
‫ّ‬ ‫الكتابة التي كانت يف البداية‬
‫املكتوب ح�سب التقومي الهجري‪ ،‬بعد ا�سم كاتبه‪،‬‬ ‫هجائية وهذا ما و�صل‬‫ّ‬ ‫جتريدية ثم �أ�صبحت‬
‫ّ‬ ‫لتكون‬
‫فعرفت �أنه يعود �إىل �أكرث من ‪� 400‬سنة خلت!!‪ .‬وهذا‬ ‫�إلينا‪ ،‬ومكث احلامل الذي ي�ضطلع بوزر هذه املهام‪،‬‬
‫يك�سبها حظوة كونه ينقل لنا �أخبار حقبة ا�ضمحلت‬ ‫بحثه‪،‬فتحول من خامة �إىل �أخرى بيد �أن احلجر‬
‫ّ‬ ‫غاية‬
‫بها جذوة الظاهرة التدوينية يف الثقافة الإ�سالمية‬ ‫كان باكورتها ثم انتقل �إىل الطني ثم اجللد‪ ،‬ثم الورق‬
‫عموما والعمانية خ�صو�صا‪ ،‬والتي عادة ما نلج�أ‬ ‫(الربدي)‪ ،‬والكتابة على الرمال م�رضب مثل‪،‬ملن‬
‫يف �سرب �أغوارها ‪ ‬ملدونات الرحالة الأجانب و�آراء‬ ‫يكتب وكتابته مت�ضي �إىل فناء �رسيع‪ ،‬ولع ّل قي�س‬
‫امل�ست�رشقني والأر�شيف الإ�ستعماري‪.‬‬ ‫امللوح عبرّ عن هذا القلق املداف باحلزن واللوعة‬ ‫بن ّ‬
‫وتلك النقو�ش لي�ست �إم�ضاءات �شخ�صية �أو خواطرعابرة‬ ‫بقوله‪:‬‬
‫تدون للذكرى‪ ،‬كالتي نقر�أها على احليطان القدمية‪ ‬‬ ‫ّ‬ ‫ع�شية مايل حيلة غري �إنني‬‫ّ‬
‫املعمرة‪ ،‬بل هي ن�صو�ص توثيقية‬ ‫ّ‬ ‫أ�شجار‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫وجذوع‬ ‫بلقط احل�صى واخلط يف الدار مولع‬
‫ومدونات خربية و�أ�شجان حمفورة على �صخور عمان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أخطّ و�أحمو كل ما قد خططته‬
‫لقد ع ّدها ‪ ‬الباحث يعقوب بن نبهان اخلرو�صي يف‬ ‫بدمعي والغربان حويل وقع‬
‫كتاب» مالمح من تاريخ العوابي عرب الع�صور «الذي‬ ‫لذا كان يتطلّع �إىل كتابة ال متحوها ال ّأيام‪ ،‬فراح يبحث‬
‫متيز‬
‫ثقافية ّ‬
‫ّ‬ ‫�أ�رشف عليه د‪�.‬صالح اخلرو�صي ظاهرة‬ ‫مدونته تبقى حمط �أنظار الأ�سالف‪،‬‬ ‫عن ما ّدة جتعل ّ‬
‫العوابي ووادي بني خرو�ص عن �سواها رغم تواجدها‬ ‫وبعد جتريبه لك ّل تلك اخلامات‪ ،‬وجد �أن النق�ش على‬
‫يف مناطق �أخرى مثل «احلمراء» و«مدحا»‪ ،‬حتمل‬ ‫احلجر هو الأطول مكوثا ور�أى يف �صالدته‪ ,‬ما يجعله‬
‫�سمات ومالمح خا�صة ‪ ‬يندر �أن جندها يف ثقافات‬ ‫�أكرث اطمئنانا‪ ،‬على بقاء مايكتب لأطول م ّدة ممكنة‪،‬‬
‫�أخرى‪� .‬أما مو�ضوعاتها فهناك �آيات من الذكر‬ ‫ال�صخرية التي هي �إرث �إن�ساين جعل‬
‫ّ‬ ‫فكانت الكتابات‬
‫احلكيم‪ ،‬و�أبيات �شعرية و�أخبار لأحداث مرت بها‬ ‫طبيعيا‪ ،‬وحمل اهتمام امل�ؤرخني‬ ‫ّ‬ ‫من املكان متحفا‬
‫عمان ولي�س الوادي فقط‪ ،‬نقر�أ ن�صا فيها مثال‪«  :‬اعلم‬ ‫بعد �أن اختار الإن�سان احلجر كـ(حامل) لتفريغ ما‬
‫�أيها الواقف على هذا الكتاب �أنه وقع يف �آخر �سنة‬ ‫بدواخله من هواج�س و�أ�شجان‪.‬‬
‫‪ 1173‬هـ «يونيو �أو يوليو ‪� »1759‬سيل عظيم بكافة‬ ‫حينما ا�صطحبني الدكتور �صالح بن عامر اخلرو�صي‬
‫عمان ووقع على �أ�صحابها ال�رضر وعطاب يف القيظ‬ ‫�إىل �صخرة كبرية تقع يف وادي بني خرو�ص بالعوابي‬
‫والزرع ومل يبق لهم اال بقدر ما يحتاجون �إليه من‬ ‫لرييني منوذجا لكتابة على ال�صخر‪ ،‬مل تت�أ ّثر بعوادي‬
‫‪302‬‬ ‫\ �شاعر وكاتب من العراق مقيم يف ُعمان‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫التمر والرب واهلل يرزق من ي�شاء بغري ح�ساب‪ .‬ويف �سنة‬


‫‪ 1174‬وقع غالء كثري»‪ .‬ونقر�أ يف ن�ص �آخر‪« :‬اعلم‬
‫�أيها الواقف على هذا الكتاب �أنه وقع علينا يف عام‬
‫‪1271‬هـ (‪1854‬م ) حمل كثري‪ ،‬ومل ي�أخذ �أحد �صاعا‬
‫من الرب وال �شيئا من التمر‪ ،‬والذين خرجوا من بيوتهم‬
‫لطلب الرزق خم�سون رجال‪ ،‬والعاقبة هلل تعاىل»‪.‬‬
‫ويبدو �أن عبارة «اعلم �أيها الواقف‪ »..‬الواردة يف‬
‫بداية كل ن�ص‪ ،‬حتاكي عبارة «�إعلم يرحمك اهلل» التي‬
‫وجدناها مبثوثة يف مدونات الرتاث الإ�سالمي الأول‬
‫والو�سيط‪ ،‬والتي توحي بهواج�س روحانية وموقف‬
‫�صويف‪.‬‬
‫�إىل الت�صنيف الزماين واملكاين وطبيعة احلدث‪ ،‬ثم‬ ‫وقد يكتفي الكاتب بتدوين خرب مقت�ضب‪ ،‬مدفوعا‬
‫متحي�صها نقديا و�إمرارها من مر�شح (حتليل اخلطاب)‪،‬‬ ‫بهاج�س توثيق احلادث‪ ،‬وك�أ ّنه يجعل من ال�صخر‬
‫وهو ما�سوف ينفعنا يف درا�سات تاريخية حقيقية‬ ‫�صحيفة من عنوان واحد‪ ،‬بدون تفا�صيل �أو تعليق‪،‬‬
‫و�إجتماعية تر�صد تطور الظاهرة‪ ،‬ونف�سية ملا يقر�أ‬ ‫حيث يقول «وقع �رضر على �سوق روي‪ ،‬كتبه مبارك‬
‫من �شعور عام وخا�ص يخ�ص احلدث‪ .‬وهذا يجعلنا‬ ‫بن خمي�س بن مبارك اخلرو�صي �سنة ‪ 114‬هـ‬
‫نعدها ثروة تدوينية الي�ستهان بها‪ ،‬وت�أريخا يكاد �أن‬ ‫‪�1759‬أو ‪1760‬م»‬
‫حيا‪ ،‬من حيث �إن الورق يهرتىء والن�سيج يبلى‬ ‫يكون ّ‬ ‫لقد بهرت نقو�ش وادي خرو�ص ال�شعراء‪ ،‬فالغ�رشي‬
‫واخل�شب يحرتق واحليطان تقو�ض‪،‬واجللود تتلف‬ ‫يقول يف و�صف ماكتب يف احلجارة الواقعة على‬
‫وتبيد‪ ،‬لذا جل أ� �إىل احلجر ال�صامد �صمود الأزمنة‪.‬‬ ‫اجلانب الغربي ملدخل وادي بني خرو�ص‪:‬‬
‫اجلو ّية من �أمطار ورياح بد�أت ت�ؤ ّثر‬
‫لكن عوامل التعرية ّ‬ ‫حممد قد �أح�سنت فيما كتبته‬
‫على هذه الكتابات ومع مرور الزمن طم�ست ‪ ‬بع�ض‬ ‫على جانب الوادي بظهر �صفاة‬ ‫ ‬
‫معاملها‪ ،‬لذا �أمتنى من اجلهات امل�س�ؤولة ح�رص هذه‬ ‫مغربا‬
‫عرج ّ‬ ‫�إذا ما �أتيت الفتح ّ‬
‫الكتابات والإهتمام بها‪ ،‬وهذا يدعونا �إىل و�ضع‬ ‫جتده ك�ضوء ال�شم�س الح مبر�آة‬ ‫‪  ‬‬
‫خطة للعناية بها ب�أ�ساليب علمية‪،‬وتنظيم العر�ض‬ ‫كتاب فال تبلى الليايل جديده‪ ‬‬
‫والتهيئة املتحفية للمكان املفتوح‪،‬من خالل �إدارتها‬ ‫بتكـرار � ّأيــام ودورات �ساعـات‬ ‫‪  ‬‬
‫وحرا�ستها‪ ،‬و�إ�ضفاء م�سقفات حامية‪ ،‬وو�ضع حواجز‬ ‫ومل تكن كتابة مثل تلك الن�صو�ص بالأمر الي�سري‪ ،‬بل‬
‫رادعة للعبث واللم�س‪ ،‬مثل و�ضع �ألواح زجاجية يرى‬ ‫احتاجت �إىل جهد ع�ضلي‪ ،‬وجلد‪ ،‬و�أناة‪ ،‬ووعي مثقف‬
‫الن�ص من خاللها‪ ،‬مع و�ضع لوحة جانبية تبني‬ ‫وح�س بيئي وذوق فني وموهبة باخلطوط‪ ،‬ج�سده‬
‫الن�ص بالعربية وترجمتها للغات �أخرى‪ ،‬كي تكون يف‬ ‫الأزميل وقد ر�سم �أخاديده على حميا ال�صخرة‪ ،‬ويقول‬
‫متداول ال�سائحني الأجانب‪� .‬إ�ضافة �إىل تنظيم رحالت‬ ‫اخلرو�صي‪  ،‬م�ستدركا «ومع �إن ا�ستخدام هذه الطريقة‬
‫منظمة لها وال�سيما �أنها التبعد كثريا من م�سقط‪ .‬وكل‬ ‫يكلّف الكاتب وقتا �أطول �إال انها تكفل بقاء اخلط‬
‫تلك النفحات احل�ضارية‪� ،‬إ�ستثمار �إقت�صادي للرتاث‬ ‫فرتة طويلة يقاوم فيها عوامل التعرية اجلوية من‬
‫اليهمل �أو ي�ستغنى عنه يف م�رشوع النه�ضة ال�صاعد‬ ‫�أمطار‪ ،‬وحرارة‪ ،‬و�أتربة‪ ،‬وكان الكتبة يختارون الوجه‬
‫والواعد يف ال�سلطنة‪،‬فحماية هذه الكنوز املك�شوفة‬ ‫امل�ضاد الجتاه مياه الوادي‪ ،‬وذلك خ�شية من ت�أثري‬
‫لرياح الزمن واجب علينا‪ ،‬لتظ ّل تلك الأ�شجان حمفورة‬ ‫املاء عليها»‪.‬‬
‫على حجارة عمان ‪. ‬‬ ‫حري ب�أن تخ�ضع تلك الن�صو�ص بعد نقلها ب�أمنة‬
‫‪303‬‬ ‫نزوى العدد ‪ - 78‬ابريل ‪2014‬‬
‫جمـلـة ف�صليــة ثقافيــة‬
‫‪A Cultural Quarterly in Arabic‬‬
‫‪Editor - in - Chief‬‬
‫‪Saif Al Rahbi‬‬
‫‪Email: saif@alrahbi. info‬‬
‫‪P. O. Box: 855, Postal Code: 117. Al-Wadi Al-Kabir‬‬
‫‪Sultanate of Oman. Tel: 24601608 Fax: 24694254‬‬

‫‪Managing Editor‬‬
‫‪Talib Al Mamari‬‬
‫‪Directed By‬‬
‫‪Khalaf Al Abri‬‬
‫‪Email: khalf301@hotmail. com‬‬

‫� إ�شـــــــارات‬
‫نتوجه � إىل ال أ�صدقاء الكتاب وال أدباء والفنانني ب� أن موادهم‬
‫يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين(‪ )Email‬يكون على العناوين‪:‬‬
‫‪nizwa99@omantel. net. om‬‬
‫‪nizwa99@nizwa. com‬‬
‫‪ -‬املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش‬
‫و� إال �سنوقف ‪ � -‬آ�سفني ‪ -‬التعامل مع � أ�صحابها‬
‫املواد املر�سلة تطبع باحلا�سب ال آيل‪ ..‬ويف�ضـل � إر�سـالهـا بالربيـد االلكتــروين‬
‫‪ -‬ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات‬
‫فنيـة و� إخراجية‪ -‬املواد التي ترد للمجلة ال ترد ل أ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش‬
‫و� أحيانا تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار‪.‬‬
‫‪ -‬املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين‪.‬‬
‫عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت‬
‫‪www. nizwa. com‬‬
‫طبعت مبطابع‪ :‬م� ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة والن�رش واالعالن‬
‫�ص‪ .‬ب‪ 974 :‬م�سقط‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 100‬سلطنة عمان‬
‫هاتف البدالة‪ - 24649444 :‬فاك�س‪24649508 :‬‬
‫االعالنات‪ :‬العمانية لالعالن والعالقات العامة‬
‫‪24649411‬‬ ‫مبا�رش‪- 24649401 :‬‬
‫�ص‪ .‬ب‪ 3303 :‬روي‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عمان‬
‫‪Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR‬‬
‫‪PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING‬‬
‫‪P. O. Box, 974. Postal Code: 100. Muscat. Sultanate of Oman‬‬
‫‪Tel:24649444 - Fax.: 24649508‬‬
‫‪Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS‬‬
‫‪Tell: 24649411, 24649401‬‬
‫‪P. O. Box 3303. P. C. 112 Ruwi Sultanate of Oman‬‬
‫العـــدد الثامن وال�سبعـــون‬
‫ابريل ‪ 2014‬م ‪ -‬جمادى الثاين ‪ 1435‬هـ‬
‫‪304‬‬

You might also like