Professional Documents
Culture Documents
62
ت�صـــدر عــن:
م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة
والن�شر واالعالن العــدد الثـاين وال�سـتون
ابريل 2010م -ربيع الثاين 1431هـ
الرئي�س التنفيذي عنوان املرا�سلة:
�ص.ب 855الرمز الربيدي117 :
عبداهلل بن نا�صر الرحبي الوادي الكبري ،م�سقط � -سـلطنة عُمان
هاتف)00968 ( 24601608:
رئي�س التحرير فاك�س)00968( 24694254 :
Email: nizwa99@nizwa.com
�ســـــيف الرحـــبي nizwa99@omantel.net.om
ال�ســـعار:
أ
مدير التحـرير �سلطنة عُمان ريال واحـد -ا إلمــارات 10
دراهم -قطــر 15رياال -البحـرين 1.5
طــالب املعمـري دينــار -الكويت 1.5دين ــار -ال�سـعودية
15ريــاال -الأردن 1.5دينار � -سوريا
75لرية -لبنان 3000لرية -م�صر 4
اال�شراف الفني واالخراج جنيهات -ال�سودان 125جنيها -تون�س
خلف العربي ديناران -اجلــزائر 125دينـ ــارا -ليبي ــا
1.5دينار -املغرب 20درهما -اليمن 90
رياال -اململكة املتحدة جنيهان -امريكا
3دوالرات -فرن�سا 20فرنكا -ايطـ ــاليـا
4560لرية.
اال�شرتاكات ال�سنوية:
للأ فراد 5 :رياالت عُمانية ،للم� ؤ�س�سات10 :
رياالت عمانية -تراجع ق�سيمة اال�شرتاك.
وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة
� إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى
العنوان التايل:
م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر واالعالن
�ص.ب - 3002 :الرمز الربيدي 112
روي � -سلطنة عُمان.
في هذا العدد
s
s
s
4
الدرا�سـات:
-اال�سالم والليربالية :زكريا املحرمي -م�س�ألة الكالم يف علم
الكالم :ر�شيد يحياوي -مفهوم الكتابة عند حميي الدين بن
عربي :حممد خطاب -ال�شعر يف ح�رضة اجلواهري :عبداحل�سني
�شعبان -قراءة � أخرى يف رواية البي�ضاء ليو�سف ادري�س :خريي
دومة -الأدب املهاجر وخ�صائ�صه :حممد معت�صم -الكينونة يف
ال�شعر العربي املعا�رص :ح�سني حمزة اجلبوري -حممد علي �شم�س
الدين يف ق�صيدة «دموع احلالّج»� :شادية �شقرو�ش -الــ�شــعــر
العمانية اجلديدة :حممد الـرعــوي :حممد بودويك -الكتابة ُ
ال�شحات.
112
لقـــــاءات:
-هريتا مولر :ترجمة� :سعيد بوخليط.
-هالل احلجري :ح�سن املطرو�شي.
�-صالح ال�سنو�سي :عذاب الركابي.
132
فنــــــــون:
-الفوتوغرافيا ال ُعمانية :عبداملنعم احل�سني.
� -سعد املو�سوي ورحلته مع الفن :خالد احللي .
148
م�ســــــــرح:
-ال�رس (م�رسحية �سيكولوجية)� :صالح ح�سن.
-العامل لي�س جمرد �أزرار(مونودراما) :عبدالرزاق الربيعي.
162
�سينمــــــــا:
-عنفوان ال�صورة كو�سيط ل إلبداع عند � أكريا كورو�ساوا ..
«را�شومون» منوذجاً :كامل يو�سف ح�سني.
� -سيناريو فيلم (املغامـرة) ت�أليف و�إخراج �/أنطونيوين ،ترجمة/
حممود علي.
^ ^ تر�سل املقاالت با�سم رئي�س التحرير ..و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا
186
�شعـــــــــــر:
أ�صوات الكلمة لل�شاعر الأرجنتيني غِيريمو �إيبانْييث ترجمة
ُ �-
وتقدمي :حممد � أحمد بني�س -ع�ش ٌق له ملم�س اجلنون! :با�سم
املرعبي -على منت الريح :عزيز احلاكم � -آنية من الفخار :عماد
ف�ؤاد -على بعد انتظا ٍر و� آخر :ن�شوان حم�سن دماج -غائبون
ل�رشاء بطاقات هواتف :ن�رص جميل �شعث -ترجمة � أولية لرقيم
م�سماري :فرج بريقدار -ق�صائد :حممد ميالد� -سالما ً � أيتها
احلمراء كلون الدم الفل�سطيني :مو�سى حوامدة -رحلة �صيد
ال�سمك � أو رجل البنك الفو�ضوي :حممد � آدم -ر�سائل ق�صرية:
ر�شـــا عمــــران -ثياب :ح�سن النواب � -أ�سالك �شائكة وحظر
جتوال :منال � أحمد -غيمة ال هواء يحرّكها وال �سماء لها:
ا�سماعيل فقيه -البحر يبدل قم�صانه :عائ�شة ال�سيفية -حلمت
بك :عزيزة را�شد� -سنوات � :أ�رشف العناين -من مناوراتِ املما�س
والدائرة :يا�رس عثمان.
224
ن�صـــــو�ص:
-جحيم ف�سيح :جولريمو مارتينيز :ت :الربتو ماجنوول ترجمة:
عبداهلل احلرا�صي -ف�صل من رواية االحــتـالل الأمــريـكـي:
ال�صبار:
با�سكال كينيار :ترجمة :حممود عبد الغني -مدينة ّ
عـر�ض
ٌ للكاتب الباك�ستاين :عامر ح�سني ترجمة :رمي داوود-
فــي الظــالم :عبداهلل خليفة -رع�شــة مرور :منذر م�رصي-
يف الربزخ � :أحمد حممد الرحبي� -ساعات املطر :نادية العبد
ال�سعدي -مر� آب ال�ضياع :من�صف بندحمان -بنات احلكايا:
طالب املعمري.
254
متابعــــات:
-النكبة ،النك�سة ،واملخيم! :املتوكل طه -الرواية املغربية
الآن :ح�سن املودن« -ا�سمه الغرام» لعلوية �صبح :مفيد جنم-
العمانية
«ق�سمة الغرماء» ليو�سف القعيد � :أماين ف�ؤاد -الق�صيدة ُ
لعي�سى ال�سليماين :عبا�س عبداحلليم عبا�س -مرييت ابونيام:
ده�شة الفن وال�شعر :يفء نا�رص�« -رسير الأ�ستاذ» :في�صل عبد
احل�سن« -حفلة املوت» لفاطمة ال�شيدية :ر�سول حممد ر�سول -
جنيب خداري يف «يد ال ت�سمعني» :لطيفة بلخري« -الل�سانيات
الن�صية دواعي الت�أ�سي�س والأهمية» :عمران ر�شيد -حممد نا�رص
يف � أوراق ثقافية من ُعمان� :سمرية � أن�ساعد.
^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها ،واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من � آراء ^
درا�سـ ــات
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ا إل�س ــالم
والليبــرالي ـ ــة
زكريا بن خليفة املحرمي
كاتب وطبيب من ُعمان
مع بدايات القرن الع�رشين ظهر جلياً �أن املنظومة ال�سيا�سية على م�ستوى العامل
املتقدم باتت منح�رصة يف نظريتني �سيا�سيتني ال ثالث لهما ،وهما الليربالية
واال�شرتاكية ،ومت عوملة هاتني النظريتني �إىل باقي دول العامل التي �سارت
بالتبعية يف ركاب فل�سفة املحتل ليرباليا كان �أم ا�شرتاكيا .مع بروز ظاهرة
التدين على م�ستوى العامل وو�صول الكثري من التيارات الدينية �إىل �ساحة
ال�رصاع ال�سيا�سي وفق ما مت اال�صطالح عليه بـ(الهوت التحرير) حدثت ثورة
وتوغل ما مت اعتبارهلتغول ّ
ّ تعبوية م�ضادة لهذا الالهوت حتاول الت�صدي
�إيديولوجيات �إق�صائية يف احلرم ال�سيا�سي .مع نهاية القرن الع�رشين ا�ستطاعت
الليربالية التي �أنتحبت الر�أ�سمالية االقت�صادية مزاحمة اال�شرتاكية ال�شيوعية
بل و�إزاحتها وجت�سد هذا احلدث يف �سقوط االحتاد ال�سوفييتي الذي كان �أكرب
قالع اال�شرتاكية ،وتق�سيم يوغو�سالفيا ور�أ�سمالة ال�صني.
wال قد�سية يف ا إل�سالم �سوى للن�ص ا إللهي ،وال ح�صانة فيه �سوى ل�شخ�ص
النبي وهدي حكمته ،أ�ما غريه من الب�رش ف�إنه أي�خذ من قوله ويرد ح�سب
موافقته ومفارقته للن�ص ا إللهي.
فالفكر ا إل�سالمي املطروح لي�س �سوى لفيف قراءات ظل الدين هو الغائب احلا�رض يف ميدان ال�رصاع،
اجتهادية للن�ص ا إللهي ،هذه القراءت املتعددة لي�ست فمع تغييب القوى ال�سيا�سية املتنفذة له من �ساحة
بال�رضورة متجاورة ومتكاملة بل هي يف كثري من الفعل ال�سيا�سي كان حا�رضا ً وفاعالً بقوة يف �ساحة
ا ألحيان مت�ضادة ومت�صادمة ،فممثلو كل قراءة �صناعة الفكر وت�شكيل ثقافة املجتمعات ،بل وكان
يزعمون � أنهم حملة قب�س النور املقد�س وغريهم قابع عامالً حا�سما يف تثوير املجتمعات �ضد االنحرافات
يف ظلمات الهالك وال�ضالل .كثرية هي القراءات ال�سلطوية ليربالية كانت �أم ا�شرتاكية .ا�ستطاع العامل
ا إل�سالمية للن�ص ا إللهي ،فهناك القراءة ال�صوفية، الديني مع بدايات ثورات التحرر الوطني التي ا�شتعلت
وهناك القراءة ال�سلفية بتفرعاتها الثالثة التقليدية يف نهايات احلرب العاملية الثانية �أن يدخل ميدان
وا إلخوانية واجلهادية ،وهناك الطرح ال�شيعي القائم ال�رصاع ال�سيا�سي ،متثل هذا الدخول بداية من خالل
على والية الفقيه والآخر القائم على تكفري � أتباعها، ت�شكيل ا ألحزاب ال�سيا�سية ،ومن ثم مت الدخول عن
وهناك ا إلبا�ضيون وهناك الزيديون .وكل فريق من طريق االخرتاق الديني للمنظومة الليربالية نف�سها ال�سالمي
الفكر إ
ه�ؤالء يزعم � أنه (الفرقة الناجية) و� أن قراءته للن�ص كما ح�صل يف احلزب اجلمهوري ا ألمريكي. املطروح
جتب ما �سواها.
الديني متثل القراءة النهائية التي ّ يقف العامل اليوم ال على عتبة تزاحم التيارات لي�س �سوى
الفكر الليربايل لي�س � أقل ان�شعابا بل رمبا يكون � أعقد ال�سيا�سية الدينية والليربالية وح�سب و�إمنا هو بالفعل لفيف قراءات
ا�شتباكاً من �سالفه ،فهناك الليربالية العلمانية، يكابد ويالت �صدام هائل بني القيم الليربالية والدينية اجتهادية
وهناك الليربالية القومية ،وهناك الليربالية على امل�ستوى الفردي واالجتماعي واالقت�صادي اللهي،
للن�ص إ
الر� أ�سمالية ،وهناك الليربالية ا ألدبية ،وهناك والثقايف والفكري. هذه القراءت
ليربالية ال�شارع! بعد تراجع الي�سار اال�شرتاكي وانح�سار دور الكني�سة املتعددة لي�ست
ك�أي حدث مل ُيعدم ال�رصاع بني الليربالية وا إل�سالم بال�ضرورة
و�إزاحة كل منهما من دائرة املناف�سة الثقافية
عن الر�صد والتحليل وحماولة املقاربة ،و� آخر تلك متجاورة
العاملية مل يبق يف �ساحة ال�رصاع الفكري العاملي غري
املقاربات �أ�سفرت عن ظهور م�صطلح (ا إل�سالم ومتكاملة بل
الليربالية وا إل�سالم .هذا الواقع هو ما عرب عنه البع�ض هي يف كثري
الليربايل) ومت اعتبار حزب العدالة والتنمية الرتكي كربنارد لوي�س و�صموئيل هنتجتون حني حتدثوا عن
�أكرب ممثليه ،وبدرا�سة هذا املفهوم وقراءة جتربة الحيانمن أ
�رصاع احل�ضارات النهائي بني ا إل�سالم والليربالية، مت�ضادة
�أ�صحابه ندرك �أنه ال ي�أ�س�س لنظرية فكرية نا�ضجة و�إن كان فوكوياما قد ح�سم نتيجة ال�رصاع بالقول
بقدر ما يعرب عن حماولة براجماتية لفك اال�شتباك ومت�صادمة
�أن الليربالية الر�أ�سمالية قد �أنهت جميع جوالت
م�ؤقتا بني ا إل�سالم واللبريالية على امل�ستوى ال�سيا�سي
�رصاعها الفكري ب�سحق الفل�سفات ا ألخرى ،و�أن تاريخ
فقط.
ا إلن�سانية انتهى عند فل�سفة الليربالية الر�أ�سمالية!
ما تن�شده جمتمعاتنا العربية اليوم لي�س جمرد
ال�رصاع بني الليربالية وا إل�سالم لي�س �رصاعا افرتا�ضيا
التوفيق التلفيقي ا أل�شبه بد�س الر ؤ�و�س يف الرتاب ،بل
نحن بحاجة ما�سة �إىل ت�رشيح ا ألطروحات جميعها، مفارقا لواقعنا� ،إن جتليات هذا ال�صدام يف عاملنا
وحماولة فهم ا أل�س�س التي تنبني عليها ،ومن ثم العربي غري خافية ،فالعالقات ا أل�رسية التقليدية بد�أت
احلكم واالختيار وانتخاب ا ألف�ضل القادر على البقاء يف التجدد ،والقيم االجتماعية الكال�سيكية بد�أت يف
واال�ستمرارية. التبدد ،وبد� أ داخل ا أل�رسة واملجتمعات حراك �صاخب
باجتاه �إعادة تر�سيم و�صياغة حدود تلك العالقات.
تو�ضيح الوا�ضحات �أما على م�ستوى النخب الثقافية ف�إن ال�صدام الفكري
ق�شع ال�ضباب املخيم على املفاهيم هو ال�سبيل ا ألقرب يتجلى يف اللغة اخلطابية التي جتاوزت حدود احلوار
�إىل ك�شف احلقائق ور�صد امل�ضامني ،وكثريا ً ما ت�سبب واجلدال بالتي هي �أح�سن �إىل لغة التبخي�س والتجريح
اختالف املعاين �إىل تباعد الر ؤ�ى وا ألفكار وبالتايل وال�سباب والقذف.
القطيعة وال�صدام .قد نتوهم يف البدء �أن مفهومي �إن من بني � أهم � أ�سباب ال�صدام العنيف بني ممثلي
ا إل�سالم والليربالية من الو�ضوح واالنك�شاف بحيث ال الليربالية وا إل�سالم يف عاملنا العربي هي تلك
ي�ستلزمان حتديدا ً من جديد ،ورمبا يكون هذا الوهم ال�ضبابية التي تلف كال الفكرين وا ألطروحتني،
نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
«ا ألفراد» حتكم ذاتها ،وتتعاون فقط عندما تعمل حقيقة �أو جزءا ً منها ،بيد �أن الوقائع ت�شري �إىل التبا�س
�رشوط التعاون على حتقيق �أهداف كل من �أطراف بينّ حتى يف حتديد مفهوم ا إل�سالم ف�ضالً عما حتمله
العالقة). داللة م�صطلح الليربالية من هالمية مت التطرق �إليها
�أما امل�ؤ�س�سات ف�إن الليرباليني كما تقول فريجينيا من قبل باحثني كرث ما بني قادح ومادح .فلذا يلزمنا
هيلد يف كتابها «�أخالق العناية» (يقرتحون �أنه علينا بداية حتديد مفهوم ك ٍل من ا إل�سالم والليربالية حتى
�أن نختار مبادئ لت�صميم م�ؤ�س�ساتنا التي �سنقبلها ن�ستبني �سبيل ال�شقاق بينهما ون�ستك�شف طريق الوفاق
ك�أ�شخا�ص �أحرار ومت�ساوين وعقالنيني ونزيهني �إن وجدت.
كلياً .هذه املبادئ وامل�ؤ�س�سات التي نتفق عليها ا إل�سالم هو منهج حياة �إلهي ،جاء لريفع الظلم ويقيم
تعاقديا لتعزيز ال�سعي املعقول �إىل حتقيق م�صاحلنا العدل وين�رش ال�سعادة والرخاء ،د�ستوره الن�ص ا إللهي
نطور �ضمن قيود القوانني الفردية .ون�ستطيع �أن ّ اخلالد املتمثل يف القر� آن ،و�رشائعه و�أحكامه �رشحها
التي تو�صي بها مبادئنا ال�سيا�سية والتي تنفذها النبي الكرمي وفق حكمته فتناقلتها ا ألمة جيال بعد
(ال�سالم
إ م�ؤ�س�ساتنا ال�سيا�سية �أي عالقات اجتماعية وحمبة جيل ،وحني االختالف يف الفهم وثبوت النقل عن
الليربايل) نرغب فيها). النبي يكون الن�صي ا إللهي وحده -ال �سواه -هو
ال ي�أ�س�س �إما ا إلميان ف�إن الليربالية ترى ب�أن ا إلن�سان له حرية احلكم والفي�صل.
اختيار ما ي�ؤمن به ،وهي مع ذلك ت�شدد على �أن ال قد�سية يف ا إل�سالم �سوى للن�ص ا إللهي ،وال ح�صانة
لنظرية ا إلميان يجب �أن يكون فعالً فرديا خال�صا ال يتدخل
فكرية نا�ضجة فيه �سوى ل�شخ�ص النبي وهدي حكمته� ،أما غريه
يف العالقات االجتماعية وال يف نظام ال�سوق وال يف من الب�رش ف�إنه ي�أخذ من قوله ويرد ح�سب موافقته
بقدر ما يعرب امل�ؤ�س�سات العامة وال�سيا�سية. ومفارقته للن�ص ا إللهي.
عن حماولة يرى البع�ض � أن � أول املنظرين لهذه الفل�سفة هو النا�س مت�ساوون يف احلقوق والواجبات كل ح�سب
براجماتية لفك الفيل�سوف ا ألملاين �إميانويل كانط و� أنه � أ�س�سها على كفاءته وا�ستطاعته� .أما العالقات االجتماعية
اال�شتباك م�ؤقتا � أربعة � أ�صول (احلرية ،وا إلرادة ،والتعاقد ،والقانون). واالقت�صادية ف�إنها حمكومة وفق قواعد حرية ا إلرادة،
ال�سالم
بني إ وكما هو مالحظ ف�إن هذه ا أل�صول ا ألربعة لليربالية والرتا�ضي ،والعدالة ،ورفع الظلم ،ودفع ال�رضر،
واللبريالية ال متثل اغرتابا عن � أ�صول ا إل�سالم ولكنها � أي�ضاً والتوثيق ،وال�شفافية ،والتعاون على الرب والتقوى
لي�ست بال�رضورة من�سجمة معه ،فهل احلرية وا إلرادة والتناهي عن ا إلثم والعدوان.
على امل�ستوى الليربالية هي ذاتها احلرية التي �ضمنها ا إل�سالم ،وهل
ال�سيا�سي فقط �أما الليربالية ( )Liberalismفتبد� أ ف�صول حلقاتها مع
التعاقد والقانون الليربايل هو ذات الرتا�ضي وال�رشيعة
� آدم �سميث ( )1790-1723الذي اعترب احلرية
الذي افرت�ضتها ن�صو�ص القر� آن؟ هنا يكمن �شيطان
الفردية وامللكية اخلا�صة حق مطلق ومقد�س ،وتاله
التفا�صيل الذي دائماً ما يجو�س بخيله ورجله ليفجر
ديفيد ريكاردو ( )1823-1772وجون مينارد كينز
فخاخ الت�أويالت املتعار�ضة والتربيرات املتناق�ضة،
و�إن مل ن�ستعذ باهلل منه عن طريق التجرد من ا ألحكام ( )1946-1883املنافح عما ي�سميه «دولة الرعاية»،
القيمية امل�سبقة والقراءات الغائية املرت�صدة فلن وقد تطورت هذه الدعوة �إىل فل�سفة �سيا�سية واجتماعية
نخرج من حلبة التناطح الليربالديني. واقت�صادية قائمة على ا�ستقالل الفرد وحرية اختياره
ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية ،ومن مبد� أ
اال�ستبداد بين الفردانية والجماعتية احلرية هذا تنبع بقية احلقوق كحق االختيار (مبعنى
يرتكز الطرح الديني على اجلماعة (املجتمع وا ألمة) حق احلياة كما ي�شاء الفرد ،ال كما ُي�شاء له ،وحق
بينما يرتكز الطرح الليربايل على الفرد ،روح اجلماعة التعبري عن الذات مبختلف الو�سائل ،وحق البحث عن
وامل�صلحة امل�شرتكة هي ا أل�صل يف الطرح الديني �أما معنى احلياة وفق قناعاته ال وفق ما مُيلى �أو ُيفر�ض
الفردانية وامل�صلحة الذاتية هي العماد التي يقف عليها عليه) ح�سبما جاء يف مو�سوعة ويكيبيديا.
الت�صور الليربايل ،وقد �أ�شار هيجل �إىل هذه املالحظة �أما النظرة الليربالية للعالقات االجتماعية فهي كما
احلا�سمة يف كتابيه «فل�سفة احلقوق» و«فل�سفة الروح» يقول برايان باري يف كتابه «النظرية الليربالية
(انظر �أ�رشف من�صور ( .)www.marxists.orgا ألمر الذي حدا للعدالة»�( :أن املجتمع يت�شكل من وحدات م�ستقلة
نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف الدول االقت�صادية العظمى. بهيجل �إىل تقدمي البديل االجتماعي لليربالية ،وهو ما
الطرح الديني املعا�رص بد� أ يتخل�ص من �دران الفكر
أ تطور الحقاً يف الفل�سفة املارك�سية.
اال�ستبدادي املتوارث جيال عرب جيال ،والذي �صار عند �إن مبد� أ ّي احلرية وا إلرادة يلتقي فيهما الطرح الديني
بع�ض الطوائف ا إل�سالمية خمتلطا بالن�ص اخلال�ص، بذات القدر الذي يفرتق فيهما مع الطرح الليربايل،
الفكر ا إل�سالمي املعا�رص بد� أ يف عملية فرز للن�ص فكال الطرحني قائم على حرية االختيار .احلرية
اخلال�ص بعيدا عن الركام الروائي املفرخ لال�ستبداد، يف املفهوم الليربايل ال يحكمها �سوى القانون� ،أما
لكن ال يزال وجدان بع�ض املدار�س ال�سلفية غري قادر الفهم الديني ملبد� أ احلرية ف�إنه ينت�صب على ت�أطري
على التخلي عن الكثري من ذلك الركام وهو ا ألمر هذا املبد� أ �ضمن منظومة القيم االجتماعية و�أحكام
الذي جتلى يف تنازع املدار�س ال�سلفية بني توجهات ال�رشيعة .وهنا يتجلى جمددا مركزية الفرد يف الطرح
مدافعة عن ا ألنظمة امل�ستبدة و� أخرى مناه�ضة لتلك الليربايل و�ضمور احل�ضور االجتماعي ،بينما يت�ضخم
ا ألنظمة ،والكل ينطلق من الدين ويتحدث با�سمه، احل�ضور اجلماعاتي يف الطرح الديني بحيث ي�صري
فريق ينطلق من الروايات التي خلفها اال�ستبداد و� آخر فاعال بدرجة تقرتب جدا من حاكمية القانون يف
ينطلق من وحي الن�ص اخلال�ص الذي حاول اال�ستبداد الطرح الليربايل .وهذا االختالف يف الر ؤ�ية هو ما
طم�سه. يتجلى يف �صورة ال�صدام بني قيم ا أل�صالة ا إل�سالمية
مبد أ� التعاقد بين الديني والليبرالي: وبني ما حتمله العوملة الثقافية من مفاهيم غريبة
يقوم مبد� أ التعاقد الليربايل على التعاون بني طرفني على احل�س اجلماعي للمجتمعات غري الغربية.
لتحقيق م�صلحة ما .الدين كذلك ي�ؤ�س�س ملبد� أ التعاقد بيد �أن ذلك ال يعني بال�رضورة ف�شل الطرح الليربايل
والتعاون بني ا ألطراف لتحقيق م�صاحلها ،بيد �أن مبد� أ يف تعاطيه مع احلرية ،بل العك�س قد يكون �صحيحا،
التعاقد يف الدين حمكوم ب�أطر ال�رشيعة و�أحكامها، ف�إن الرتكيز على الفرد واعتباره قطب الرحى يف
بينما ا ألمر خمتلف مع الليربالية حيث التعاقدات ت�أ�سي�س مبد� أ احلرية يقل�ص فر�ص ا ألنظمة الفا�سدة
�أقوى �أحيانا من القوانني والقيم وا ألخالق. التي تقمع الفرد با�سم اجلماعة على اال�ستبداد،
للطراف، فح�سب الفل�سفة الليربالية ف�إن العقد ملزم أ وت�ضيق على حرية ا ألفراد مت�سرتة وراء �شعار حماية
ولي�س للدولة �سوى احرتام هذا العقد وعدم التدخل م�صالح اجلماعة.
يف بنوده .الفارق ا أل�سا�س بني العقد يف الت�صويرين �إن الليربالية ال�سيا�سية تقوم على احلكم الدميقراطي،
الديني والليربايل هو �أن الت�صور الديني قائم على فيما كانت ا ألديان وال تزال يف �أغلب ا ألحيان و�سيلة
اعتبار �أحكام ال�رشيعة يف ت�أ�سي�س العقود ،بينما ت�ستخدمها ا ألنظمة امل�ستبدة لتطويع وقمع ال�شعوب،
التعاقد يف الت�صور الليربايل ال يلتزم ب�أية اعتبارات فاال�ستبداد على مر التاريخ قام على احلراب التي
قيمية �سوى ما اتفق عليه �أطراف العقد ،بل ان الت�صور ترفع امل�صاحف والكتب املقد�سة.
القيمي وا ألخالقي لليربالية قائم على مبد� أ احرتام لكن ذلك ال يعني بال�رضورة � أن الدميقراطية
العقود وااللتزام بها ،بحيث ي�صري العقد ذاته -وال الليربالية ح�صينة على اخرتاق اال�ستبداد ،بل � أن
�شيء �سواه -مقد�ساً وال يجوز امل�سا�س به .ت�رسي الليربالية االقت�صادية � أخذت بيد ما � أعطته باليد
عالقة التعاقد يف الت�صور الليربايل على جميع نواحي ا ألخرى ،فهي و�إن � أعطت النا�س حق االقرتاع �إال � أنها
التفاعل الب�رشي ،بداية من ا أل�رسة مرورا بال�سوق قيدتهم يف والءات اقت�صادية يتحكم فيها نخبة من
واملجتمع وانتهاء بالدولة. � أ�صحاب ر ؤ�و�س ا ألموال يوجهون � أ�صوات عمالهم
الدين �أي�ضاً ي�شكل التعاقد بالن�سبة �إليه �أ�سا�س التفاعل باجتاه الريح التي تكد�س لهم مزيدا من ا ألموال،
ا إلن�ساين واالجتماعي بداية من ا أل�رسة وانتهاء ف�صار العامل الب�سيط موجها من قبل مر ؤ�و�سيه
بالدولة ،مع فارق جوهري يتمثل يف �ضبط الدين الختيار ما يرونه منا�سبا مل�صاحلهم ،ويوهمونه
جميع �أنواع هذه التعاقدات وفق منظومة قيم �أخالقية � أن عقد عمله معلق بو�صول هذا ال�شخ�ص � أو ذاك �إىل
و�أحكام قانونية مقد�سة ال يجوز ألحد ا ألطراف وال ال�سلطة ،فلهذا جتد � أن ال�رشكات العمالقة و� أ�صحاب
لكليهما جتاوزها ،بينما القد�سية تتنزل يف حالة ر ؤ�و�س ا ألموال هم من يح�سمون � أمر كر�سي الرئا�سة
نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�إن ُرزق ا ألبوان مبجموعة �أوالد ف�إنه وبح�سب النظرية التعاقد الليربايل على رغبة املتعاقدين ولي�س على
التعاقدية لي�س ا ألبوان م�ضطرين لتقدمي نف�س العناية منظومة القيم ا ألخالقية للمجتمع.
واحلنان �إىل جميع ا ألبناء و�إمنا يكفيهما تقدمي ذلك يظهر جلياً � أن فل�سفة التعاقد الديني والليربايل
�إىل ا ألطفال الذين يظنون �أنهما �سيقومان برعايتهما يتمايز كل منهما عن الآخر بالقدر الذي ي�شرتكان
م�ستقبال حني ي�صالن �إىل �سن العجز واحلاجة �إىل يف االحتفاء مببد� أ التعاقد ،الدين يجعل منظومة
الرعاية ،فالعالقة بني الآباء وا ألبناء لي�ست �سوى القيم ا ألخالقية و� أحكام ال�رشيعة حاكمة على العقد
عالقة (تعاون فقط عندما تعمل �رشوط التعاون على والليربالية جتعل العقد مقد�سا طاغيا على جميع
حتقيق �أهداف كل من �أطراف العالقة) ح�سب القاعدة املنظومات �سواء � أكانت دينية � أم اجتماعية � .أهم
الليربالية ،وهدف الآباء الذي حتدده م�صلحتهم ميزة لهذا الطغيان املقد�س لروح التعاقد الليربايل
التعاقدية وفق النظرة الليربالية هو تربية �أبناء كي على جميع املنظومات وا ألعراف والقوانني هو
يقوموا برعايتهم الحقاً! �أما الدين ف�إن منظومته ت�أكيد ا�ستقاللية الفرد وحرية االختيار .بيد � أن هذه
القيمية منت�صبة على �أ�سا�س مبد� أ الرتاحم والتكافل النزعة الفردانية الطاغية لي�ست حم�صنة �ضد التوح�ش
ا أل�رسي وامل�ساواة بني ا ألبناء �صغارا وكبارا. وا�ستغالل حاجات ال�ضعفاء ،فكثري من العقود
وا ألمر ذاته ين�سحب على العالقة بني الزوج وزوجه، املقد�سة يف االعتبار الليربايل � أطرافها غري متكافئة
فكالهما يتعاقد ح�سب النظرية الليربالية على حتقيق ال يف التفكري وال يف القدرة والت�أثري ،فت�أثري العامل
م�صلحة الطرف الآخر ،وذلك ال يكون وفق قيم وتقاليد الب�سيط اجتاه ال�رشكات العمالقة لي�س هو ذاته ت�أثري
املجتمع و�إمنا بناء على مبد� أ حرية الطرفني ورغبتهما �رشكات عمالقة � أخرى اجتاه بع�ضها بع�ضا ،فلهذا
يف حتقيق م�صالح م�شرتكة كال�سكنى وا إلجناب .بيد ميكن � أن تنحاز بنود العقد بني العامل الب�سيط وبني
�أن هذه النظرية ال متنع �أن يقوم �أي طرف منهما ال�رشكة يف اجتاه الثانية ،بينما ا ألمر قد ال يكون كذلك
ب�إقامة عالقة خارج �إطار الزوجية �إن مل يكن يف بني ال�رشكة و�رشكة م�ساوية لها ،والعامل يف النهاية
ذلك �إ�رضار مب�صلحة الطرف الآخر� ،سواء �أكانت هذه ملزم ببنود العقد دون نظر �إىل منظومة قيم � أو � أحكام
�رسية �أو علنية .ذلك �أن اجلن�س يف العرف غري
العالقة ّ �رشعية ،بينما كفل الدين يف منظومة � أحكامه حقوقاً
املتدين كما يقول مري�سيا �إلياده لي�س �سوى «عم ٍل للعامل وامتيازات حت�صنه من ا�ستغالل � أ�صحاب
في�سيولوجي ،وهو ال يزيد عن �أن يكون عمالً ع�ضوياً ال�رشكات وامل�ؤ�س�سات اجل�شعة.
مهما بلغ عدد املحرمات التي ال تزال تكتنفه ،بينما هناك انتقادات � أخرى مت توجيهها �إىل مبد� أ التعاقد
هو يف نظر املتدين �رس مقد�س �أو احتاد باملقد�س»اهـ. الليربايل ،منها ان مبادئ الليربالية القائمة على
�أما الدين فقد ح�صن العالقة الزوجية ب�سياج من تنمية النزعة الفردية وت�أ�صيلها ملركزية الفرد ،و� أن
القد�سية يف �إطار منظومة من القيم ا ألخالقية العليا حرية االختيار والعالقات التعاقدية القائمة على
مثل املودة والرحمة وا ألمانة وا إلخال�ص وحت�صني امل�صلحة ُتغفل اعتماد الفرد على غريه يف جميع
الفرج وحدّ الزنا. مراحل احلياة ،فا إلن�سان ال يكون م�ستقال قادرا على
ال�صداقة ح�سب نظرية التعاقد الليربالية هي عالقة التعاقد �إال يف فرتة وجيزة من حياته بني الع�رشين
تعاقدية يحقق كل طرف فيها م�صلحة للطرف الآخر، وال�ستني من العمر � أما قبل ذلك وبعد ذلك فهو ال
وهذا الطرح ي�سقط االرتباط مع ال�ضعفاء والفقراء ي�ستطيع يف � أغلب ا ألحيان العي�ش دون اعتماد على
واملر�ضى و�أ�صحاب العاهات فهم غري قادرين على الآخرين ،وحتى يف �سنوات ال�شباب ال يخلو ا إلن�سان
حتقيق �أية م�صلحة حتى ألنف�سهم فكيف بغريهم، من حاالت مر�ض و�ضعف ووهن يحتاج فيها �إىل
بينما ينظر الدين �إىل ال�صداقة باعتبارها قيمة رعاية الآخرين.
�إن�سانية قائمة على احلب والتعاون والت�ضحية كما �أن تب�سيط العالقة بني ا ألفراد واختزالها يف
والوفاء بعيدا عن امل�صالح املجردة. التعاقد بني �شخ�صني حرّين على �أن يحقق �أحدهما
قيمة الوطنية لي�ست حا�رضة يف التعاقد الليربايل م�صلحة للآخر ت�ؤدي �إىل نزع القيم ا إلن�سانية
القائم على حتقيق م�صالح ا ألطراف املتعاقدين، العظمى كقيمة ا ألمومة وا ألبوة ،فعلى �سبيل املثال
نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الدعاية ا إلعالمية لل�سلطة امل�ستبدة يف �صورة ن�صو�ص فالفرد حني يجد م�صلحته مع دولة �أخرى غري وطنه
مقد�سة من�سوبة للنبي عليه ال�سالم. فعالقته مع الوطن تطلق طالقا بائنا ،بل قد ت�ستدعي
يتميز الطرح الديني عامة وا إل�سالمي خا�صة عن الطرح م�صلحته اجلديدة مع الدولة ا ألخرى خيانة الوطن
الليربايل ب�إحاطته التعاقدات ا إلن�سانية واالجتماعية ونقل �أ�رساره� .أما الدين ف�إنه ينظر �إىل املكان (الوطن)
والوطنية ب�سياج مقد�س من القيم وا ألحكام العليا باعتباره مقد�سا ،و�أن كل اعتداء عليه هو اعتداء على
التي تعترب حمرّمة يف وجدان امل�ؤمنني بها ،وهذه مقد�س ،بيد �أن ذلك ال يجرد ا ألديان �أحياناً من وزر
القد�سية الوجدانية تربط احرتام العقود مبو�ضوع خيانة ا ألوطان ل�صالح دول يظنها امل�ؤمنون �أكرث
التقوى �أو ال�ضمري الناب�ض با إلميان ،ف�أي تفريط يف متثيالً للمقد�س من الدول التي ينتمون �إليها .ا إل�سالم
العقد هو بال�رضورة تفريط يف ا إلميان .يف اجلانب �ضبط م�س�ألة الوالء للوطن �أو لغريه وفق قواعد العدالة
الآخر تعاين التعاقدات الليربالية بجانب افتقارها ورفع الظلم وعدم االعتداء ،وعدم ت�ضييع حقوق
للبعد ا إلمياين والعقائدي من �إ�شكالية عدم التكاف�ؤ النا�س ،ف�إن حتققت هذه القواعد اعترب الوالء لغري
بني ا ألطراف ،وهي �إ�شكالية ميكن �أن يرتتب عليها الوطن خيانة ،و�إن فقدت هذه ال�رشوط ف�إن الوالء لغري
ه�ضم حقوق الب�سطاء و�سيطرة ا ألقوياء على مقدرات الوطن �إمنا يكون م�رشوطاً بهدف وحيد وهو حتقيق
ال�ضعفاء ،بجانب �إ�شكالية غياب املرجعية القيمية تلك القواعد ،وحني تتحقق تلك القواعد جمددا �صار
لهذه التعاقدات مما يجعل �أمر احرتام هذه التعاقدات الوالء لغري الوطن خيانة للمقد�س.
مرهونا بوجود القانون النافذ ،وحني ال يح�رض �أما يف �إطار عالقات الدول ببع�ضها ف�إننا نرى
القانون -ل�سبب �أو لآخر -ف�إن �سبيل هذه التعاقدات كيف �أدى عدم الندية بني �أطراف التعاقدات الدولية
معلق بنزوات ا ألفراد و�شهواتهم. �إىل ابتالع القوي لل�ضعيف كما ح�صل �أيام حقبة
اال�ستعمار وكما هو حا�صل الآن من احتالل الدول
ميكن للطرح الديني اال�ستفادة من الطرح الليربايل
القوية للدول ال�ضعيفة وتدخلها يف �ش�ؤونها الداخلية
فيما يتعلق بحرية ا إلرادة وا�ستقالل الفرد ،ولي�س
وا�ستغاللها ملواردها دون قدرة للطرف ال�ضعيف على
املق�صود من ذلك الطعن يف ا إل�سالم واتهامه بعدم
ليكون عالقة ندّية معاالعرتا�ض ب�سبب عدم كفاءته ّ
االحتفاء مب�س�ألة احلرية ،و�إمنا الواقعية حتتم على الطرف القوي.
الباحث ا إلقرار � أن اخلطاب الديني ألغلب املدار�س القول الف�صل
ا إل�سالمية ما زال يكر�س ال�ستبداد احلاكم � أو ا�ستبداد �إن املبادئ الليربالية التي متثل بريقا باهرا ً وجاذبية
احلزب ال�سيا�سي. � آ�رسة مثل احلرية والتعاقد حا�رضة �إجماال ً يف مبادئ
الطرح الليربايل ميكنه �أي�ضاً �أن ي�ستفيد من الطرح ا إل�سالم ،مع تفاوت ظاهر يف ح�ضور هذه املبادئ
الديني خا�صة فيما يتعلق بالثغرات الفنية املرتبطة بني املدار�س ا إل�سالمية املختلفة.
ب�إمكانية اال�ستغالل وعدم الكفاءة يف العقود. ال جدال �أن مبد� أ حرية ا إلرادة وا�ستقالل الفرد يربز
حا�صل القول �أن املجتمعات ا إل�سالمية �ستظل يف الطرح الليربايل ب�أقوى �صور التجلي واحل�ضور،
بحاجة �إىل الطرح الليربايل طاملا مل يتمكن اخلطاب بينما يغي�ض هذا املبد� أ يف �أغلب �أطروحات املدار�س
الديني من تطوير نف�سه والتجرد من ا ألطروحات ا إل�سالمية املعا�رصة� ،إال �أن املالحظ على اخلطاب
العقيمة امل�صادرة حلرية ا ألفراد التي ُتقدم با�سم املعا�رص الذي ي�ضيق على مبد� أ حرية الفرد ويكبله
ا إل�سالم ،و�إىل �أن يتغري هذا اخلطاب وي�صبح �أقرب ب�سال�سل مرويات اخل�ضوع واال�ست�سالم واالنقياد
�إىل روح القر� آن املحررة لعقل الفرد واملطلقة ملداركه لل�سلطة يتعار�ض ب�صورة ظاهرة مع احل�ضور املكثف
واملحرتمة لوجدانه �سيظل الطرح الليربايل قائماً يف ملبد� أ حرية الفرد يف القر� آن ،يف اجلانب الآخر جند
جمتمعاتنا العربية وا إل�سالمية ،بل ورمبا متمددا ً �أن تراث املدار�س ا إل�سالمية التاريخية التي كانت
ألنه ينت�صب على �أ�سا�س مغ ٍر بالقبول واالنت�شار �أال �أقرب �إىل روح القر� آن كاملدر�سة ا إلبا�ضية واملعتزلة
وهو مبد� أ احلرية ،وهو مبد� أ فطري ال ي�ستطيع ا إلن�سان تراث حافل باالحتفاء بحرية الفرد وحماولة الت�صدي
مهما �سحقته � آالت اال�ستبداد �أن يحيا بدونه. حلمالت اال�ستبداد ال�شعواء التي روجتها ماكينة
10 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
wا إليجي« :علم الكالم» �سمي كالما �إما ألنه ب�إزاء املنطق للفال�سفة� ،أو ألن
�أبوابه عنونت �أوال بالكالم يف كذا� ،أو ألن م�س�ألة الكالم �أ�شهر �أجزائه حتى
كرث فيه التناحر وال�سفك فغلب عليه� ،أو ألنه يورث القدرة على الكالم يف
ال�رشعيات ومع اخل�صم» .
11
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
والوعد والوعيد ،واملنزلة بني املنزلتني ،وا ألمر باملعروف و�أورد ا إليجي تعريفا قريبا من تعريف الفارابي ،قال
والنهي عن املنكر( .)7والثالثة ا ألخرية منها ،ميكن �إرجاعه فيه« :والكالم علم يقتدر معه على �إثبات العقائد الدينية،
للتوحيد .ألن و�صف اهلل بالعادل ،يرتتب عليه احلديث عن ب�إيراد احلجج ،ودفع ال�شبهة ،واملراد بالعقائد ما يق�صد به
فعله ،وعن فعل العبد يف تعلقه بفعل اهلل �أو انف�صاله عنه، نف�س االعتقاد دون العمل ،وبالدينية ،املن�سوبة �إىل دين
مبا يقت�ضيه ذلك من ذكر ل�صفات اهلل و�أحكامه. حممد (�ص) ،ف�إن اخل�صم و�إن خط�أناه ال نخرجه من علماء
و�إذا كان مو�ضوع البحث يف علم الكالم ،هو ذات اهلل الكالم»(.)2
و�صفاته و�أفعاله ،فما موقع الكالم �ضمنه ،وملاذا نخو�ض و�إذا كان هذان التعريفان ال يعيِّنان الطرف امل�صيب يف
يف مو�ضوع �إمياين اعتقادي؟ �إن دافعنا لذلك هو �أن هذا �إثبات العقائد من الطرف �صاحب ال�شبه وا ألقوال الزائفة،
العلم يحمل م�صطلح «كالم» يف ت�سميته .ثم �إنه بعد هذا ف�إن ابن خلدون مل يرتدد يف ذلك ،فعني امل�صيب يف
علم يف «الكالم» ،ماهيته وماهية املتكلِّم به� .أما ا أل�صول �أهل ال�سنة ،واملنحرف يف من �سماهم باملبتدعة ،وك�أن
املذكورة فمت�صلة بالكالم مبنية عليه ،ألن «علم الكالم» الفرق التي و�ضعت �أ�صول الكالم وجادلت �أهل ال�سنة،
مادام علما على «قانون ا إل�سالم» ،ف�إن قانون ا إل�سالم غري متكلمة .يقول ابن خلدون معرفا علم الكالم« :هو علم
هو كالم اهلل� ،سواء �أنظر �إليه يف ماهيته ،من جهة �صفاته يت�ضمن احلجاج عن العقائد ا إلميانية با ألدلة العقلية والرد
و�أعرا�ضه� ،أم نظر �إليه يف حمتواه� ،أم نظر �إليه يف �صيغه على املبتدعة املنحرفني يف االعتقادات عن مذاهب ال�سلف
من خرب و�أمر ونهي� ،أم يف حتققه يف الن�ص املتمثل يف و�أهل ال�سنة ،و�رس هذه العقائد ا إلميانية هو التوحيد»(.)3
القر�آن .ولذلك �سمي هذا العلم بالكالم وعلم الكالم�« ،إما ومن املعلوم �أن التوحيد مثل �أهم مو�ضوع يف الكالم
ألن �أظهر م�س�ألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي م�س�ألة االعتزايل ،حتى �سمي �أ�صحابه ب�أهل العدل والتوحيد ،بل
الكالم ،ف�سمي النوع با�سمها ،و�إما ملقابلتهم الفال�سفة يف حتى �سمي علم الكالم نف�سه بعلم التوحيد وال�صفات ،مثلما
ت�سميتهم فنا من فنون علمهم باملنطق ،واملنطق والكالم ()4
�سمي ب�أ�صول الدين والفقه ا ألكرب وعلم النظر واال�ستدالل
مرتادفان» ،كما ذهب �إىل ذلك ال�شهر�ستاين (ت 548هـ)(.)8 بناء على مو�ضوعه �أو منهجه.
ويعلل ا إليجي ت�سمية «علم الكالم» ب�أ�سباب مماثلة وهناك تعريفات �أخرى للكالم حتدده مبو�ضوعه لتف�صل
بقوله�« :إمنا �سمي كالما �إما ألنه ب�إزاء املنطق للفال�سفة، بينه وبني العلوم ا ألخرى الناظرة يف ا إللهيات ،منها
�أو ألن �أبوابه عنونت �أوال بالكالم يف كذا� ،أو ألن م�س�ألة تعريف ال�رشيف اجلرجاين له بقوله« :علم يبحث فيه عن
الكالم �أ�شهر �أجزائه حتى كرث فيه التناحر وال�سفك فغلب ذات اهلل و�صفاته و�أحوال املمكنات من املبد� أ واملعاد على
عليه� ،أو ألنه يورث القدرة على الكالم يف ال�رشعيات ومع قانون ا إل�سالم»( .)5فذِكره «قانون ا إل�سالم» ف�ص ٌل لعلم
اخل�صم»(.)9 الكالم عن الفل�سفة التي تبحث بدورها يف ذات اهلل و�صفاته
لكن القا�ضي عبد النبي ا ألحمد ن َكري ن�سب للتفتزاين تعليال من غري تقيد بقانون ا إل�سالم �رضورة .وقد �أرجع القا�ضي
�آخر ،حجته �أن علم الكالم «�أول ما يجب من العلوم التي ا ألرموي كل مباحث علم الكالم �إىل مو�ضوع البحث يف ذات
�إمنا تعلم وتتعلم بالكالم .ف�أطلق عليه هذا اال�سم لذلك ،ثم اهلل من حيث �صفاته و�أفعاله الدنيوية وا ألخروية و�أحكامه
خ�ص به ومل يطلق على غريه متييزا»(.)10 فيها(� ،)6أي �أن مو�ضوع الكالم هو �أ�صول الدين ا إل�سالمي
وا ألرجح عندنا �أن علة ت�سميته بالكالم وعلم الكالم ،راجعة وما تقت�ضيه ن�رصتها من رد على املخطئني يف فهمها
ال�شتهاره باخلو�ض يف مو�ضوع كالم اهلل حتديدا� .أما من �أ�صحاب املقاالت والطاعنني فيها من �أهل النحل
التعليالت ا ألخرى فلي�ست مقنعة ال�شرتاكه فيها مع علوم وا ألهواء.
�أخرى ،تخو�ض يف مو�ضوع الكالم عامة كاملنطق� ،أو كالم وقد حدد القا�ضي عبد اجلبار يف (املغني)� ،أ�صول الدين يف
العربية كالنحو� ،أو كالم اهلل من جهة اال�ستدالل به على التوحيد والعدل ،جلمعهما بني التكلم يف ذات اهلل و�أفعاله
ا ألحكام ال�رشعية جمملة ،وهو �أ�صول الفقه. و�أفعال العباد .لكنه يف «خمت�رص احل�سنى» ،جعلها �أربعة،
وعالقة الكالم بالفل�سفة كعالقته بالفقه ت�شمل مو�ضوعه لل�صليني املذكورين� ،أ�صلي النبوات وال�رشائع، م�ضيفا أ
ون�ش�أته ،بل منهجه �أي�ضا .و�إذا كان بع�ض املعا�رصين و�إن تفرع ا أل�صالن ا ألخريان من العدل .لكنه يف كتابه
ناق�ش املو�ضوع من زاوية �أ�صالة علم الكالم ون�ش�أته «�رشح ا أل�صول اخلم�سة» ثبت �أ�صول الدين يف ا أل�صول
ا إل�سالمية( ،)11ف�إن �آخرين �أدرجوه �ضمن احلقل الفل�سفي اخلم�سة التي �أخذ بها املعتزلة وهي التوحيد ،والعدل،
12 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أئمة احلديث وال�سنة �آراء مماثلة نقلها �أ�صحابهم كاملنقول عامة ،ب�أن ميزوا يف الفل�سفة ا إل�سالمية ،بني جانبها
عن ال�شافعي ومالك(.)18 اليوناين ،وجانبها الذي �سار على «قانون ا إل�سالم» ،و�إن
غري �أن بع�ض «متعقلتهم» من الذين فطنوا �إىل �أن اال�ستدالل �أخذ يف فهمه وتف�سريه لذلك القانون ب�أ�صول النظر اليوناين،
العقلي نافع يف االنت�صار للملة ،انتقلوا �إىل موقف مغاير �أو طوره بناء على جمادالته الثقافية والفكرية عامة(.)12
يذم ويحرم «كالم» امل�سمني عندهم باملبتدعة ،ويبيح و�إذا كان علم الكالم قد ت�أثر يف بدايته بالديانات وامللل
«الكالم» املنا�رص ملذهبهم املوافق للكتاب وال�سنة ح�سب ا ألخرى كما يتجلى ذلك يف �آراء ال�شيعة واخلوارج
فهمهم لهما .ومن ه�ؤالء ابن ع�ساكر الذي ا�ستدرك بعد �أن خا�صة( ،)1ف�إن ت�أثره بالفل�سفة اليونانية بعد ترجمتها يف
ذم «الكالم» بقوله « :ف�أما املوافق للكتاب وال�سنة ،املو�ضح عهد امل�أمون بالذات ،هو الذي مثل نقلة حقيقية يف درجة
حلقائق ا أل�صول عند الفتنة فهو حممود عند العلماء» .وهو ا�ستخدامه ملناهج االحتجاج واال�ستدالل العقلي ،وبخا�صة
ر�أي البَيهقي �أي�ضا(.)19 عند املعتزلة .وقد �أ�شار عدد من القدماء �إىل ت�أثر املعتزلة
وقد ذهب ابن تيمية �أي�ضا ،يف �إطار مراجعته و«ت�شذيبه» باملنطق والفل�سفة ،كال�شهر�ستاين الذي قال عنهم يف
لبع�ض املواقف املغالية لـ «راف�ضة» ال�سلف� ،إىل القول: معر�ض تتبعه لتاريخ علم الكالم« :ثم طالع بعد ذلك �شيوخ
«وال�سلف مل يذموا جن�س الكالم ،ف�إن كل �آدمي يتكلم ،وال املعتزلة كتب الفال�سفة ،حني ف�رست �أيام امل�أمون ،فخلطت
ق�ضايا الكالم مناهجها مبناهج الكالم ،و�أفردتها فنا من فنون العلم،
ذموا اال�ستدالل والنظر واجلدل مبا بينه اهلل ور�سوله ،بل وال
و�إن كان جمملها ذموا كالما هو حق .بل ذموا الكالم الباطل ،وهو املخالف و�سمتها با�سم الكالم»( .)14كما قال عن النظام« :وقد طالع
اعتقاديا ،ف�إن للكتاب وال�سنة ،وهو املخالف للعقل �أي�ضا»( .)20مع العلم �أن كثريا من كتب الفل�سفة وخلط كالمهم بكالم املعتزلة»(.)15
مرجعيتها �إطالق احلكم يف ذم الكالم وحترميه ثابت عن ال�سلف ،كما ويت�ضح من ر�أي ال�شهر�ستاين �أن املعتزلة هم م�ؤ�س�سو هذا
ال�سيا�سية �أن ن�سبة الباطل ألحمد بن حنبل و�أ�صحابه ثابت �أي�ضا عند العلم وم�سموه بعلم الكالم .كما يتبني منه �أن الفل�سفة
واالجتماعية خمالفيه ممن ر�أوا �أن قولهم هو املطابق للكتاب وال�سنة ،ال اليونانية كان لها ت�أثري كبري فيه .وقد ا�ستغل عدد من
واالقت�صادية قول �أحمد و�أ�صحابه. املتكلمني القدماء والباحثني املعا�رصين عالقة علم الكالم
قامت بدور كبري فم�سائل املتكلمني اختلفوا فيها وتقاتلوا ب�سببها باملجادلة بالفل�سفة للطعن فيه ويف �أهدافه ،كما يتبني من ر�أي حممد
يف ت�أويلهم للقر�آن وال�سيوف .وكثريون منهم حكموا بالكالم وقتلوا ب�سببه. حميي الدين عبد احلميد يف مقدمة ن�رشه لكتاب «مقاالت
ويف �سري املتكلمني وتراجمهم الواردة يف كتب الطبقات ا إل�سالميني» �إذ يقول« :كان املعتزلة �أول من ا�ستعان
وتف�سريه
والرتاجم والفرق واملقاالت وامللل والنحل� ،أمثلة عديدة بالفل�سفة اليونانية وا�ستقوا منها يف ت�أييد نزعاتهم.
لذلك .يقول ال�شهر�ستاين« :واملعتزلة وغريهم من اجلربية ف�أقوال كثرية من �أقوال النظام و�أبي الهذيل واجلاحظ
وال�صفاتية واملختلطة ،منهم الفريقان من املعتزلة وغريهم ،بع�ضها نقل بحت من �أقوال فال�سفة اليونان،
وال�صفاتية ،متقابلتان تقابل الت�ضاد .وكذلك القدرية وبع�ضها ي�ستقي من نبعه ويغرتف من معينه ب�شيء من
واجلربية ،واملرجئة والوعيدية ،وال�شيعة واخلوارج .وهذا التحويل والتعديل(.)16
الت�ضاد بني كل فريق وفريق ،كان حا�صال يف كل زمان. ما قاله حممد حميي الدين مل يكن من باب الو�صف
ولكل فرقة مقالة على حيالها ،وكتب �صنفوها ،ودولة التاريخي ،بل من باب الطعن يف املعتزلة ،فهو يقتدي يف
عاونتهم ،و�صولة طاوعتهم»(.)21 ذلك بعامة �أهل احلديث وال�سنة الذين طعنوا يف الفل�سفة
وق�ضايا الكالم و�إن كان جمملها اعتقاديا ،ف�إن مرجعيتها ويف املعتزلة مربرين بذلك دعواهم �إىل عدم االحتكام
ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية قامت بدور كبري يف للعقل يف ا ألمور االعتقادية.
ت�أويلهم للقر�آن وتف�سريه ،ويف حديثهم عن ذات اهلل و�صفاته ود ْف ُع �أئمة ال�سلف واحلديث للكالم راجع �إما خلوفهم من �نأ
و�أفعاله .فق�ضايا مثل الق�ضاء والقدر والعدل واملنزلة بني يكون االحتكام للعقل م�صدرا إلثارة �شبه تزلزل العقائد� ،أو
املنزلتني والوعد والوعيد وع�صمة ا ألنبياء واللطف ا إللهي لتعجيزهم قوى الب�رش عن �إدراك احلقائق .فلهذين ال�سببني
والك�سب واال�ستطاعة والطاعات واملعا�صي ،مل تناق�ش �أرجع ابن اجلوزي «نهي ال�رشع عن اخلو�ض فيما يثري غبار
مبعزل عن �أفعال العباد وتنازع م�صاحلهم وتقاتلهم حول �شبهة ،وال يقوى على قطع طريقه �إقدام الفهم» ،م�ستندا يف
م�آرب العاجلة .و�إن كان �أقوى مو�ضوع �سيا�سي خا�ضوا ذلك �إىل �أقوال ابن حنبل والبخاري وابن املبارك وعبد اهلل
فيه هو مو�ضوع ا إلمامة. احلنظلي والدارمي ومن واالهم( .)17وكان لغري ه�ؤالء من
13 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ا إل�سالم ...و�أما من خرج من ا إل�سالم �إىل غريه ،و�أظهر ذلك كانت هذه ال�رصاعات املذهبية وال�سيا�سية عامال حا�سما
ف�إنه ي�ستثاب ،ف�إن تاب و�إال قتل(.»)27 يف موقف القدماء من علم الكالم عامة .بحيث اتخذ
ومن املعروف �أن الزندقة �صفة �أطلقت على خمالفي املوقف منه طابعا فكريا وثقافيا ودينيا ،بني من يرف�ضه
اجلماعة ،ب�رصف النظر عن �صحة دينهم .وقد عممت على ومن يتبناه .وا�ستغل عدد من النقليني ،من فقهاء وحمدثني
�أهل العقل واملنطق والفل�سفة من طرف النقليني الذي حمنة ابن حنبل ،لتكفري �أهل الكالم وبخا�صة �أن�صار العقل
تع�سفوا �أحيانا يف االحتجاج بالنقل ،حتى �شبهوا القائلني منهم .وا�ستدل كل طرف على �صواب موقفه بالقر�آن وال�سنة
بخلق القر�آن مب�رشكي قري�ش .وهكذا ف�رسوا كالم اهلل مكفرا الطرف ا آلخر .وكان يف مقدمة الراف�ضني فقهاء �أهل
مبا ال ينا�سبه فاحتجوا بقول الباري تعاىل�« :إن هذا �إال ال�سنة و�أهل احلديث� .أما دعواهم ـ كما ذكرنا ـ فهي �أن
اختالق»( ،)28و«�إن هذا �إال �أ�ساطري ا ألولني»( ،)29و«�إن هذا الكالم بدعة ،ألن اخلائ�ض فيه خارج عن طريق ال�صحابة
وال�سلف ،و�أن ال�صواب هو التم�سك مبا �صدر عنه ال�سلف،
�إال قول ب�رش»( ،)30وتلك �أقوال من�سوبة مل�رشكي قري�ش ،لكن
النقليني ر�أوا فيها مثيال ونظريا لقول اجلهمية� :إن القر�آن وبالقر�آن وال�سنة واجلماعة( .)22ويرد القا�ضي عبد اجلبار
الزندقة �صفة
هذه الدعوى ب�أخرى ،يقرر فيها �أن معرفة اهلل وتوحيده
خملوق( ،)31مع �أن القائلني بخلق القر�آن من املتكلمني، �أطلقت على
وعدله ،لي�س طريقها هو التقليد باخلرب .ألن الباطل فيه
مل يكونوا م�رشكني ،وبخا�صة املعتزلة منهم .بل كانوا كاحلق ،بل طريق �أدلة العقل ،ألن معرفة اهلل واجبة من جهة خمالفي اجلماعة،
�أهل توحيد ن�رصوا الدين با ألدلة العقلية ،لكنهم ا�صطدموا العقل« ،ف�إذا كان املتكلم �إمنا ينبه على هذه ا ألدلة ،ويبطل ب�صرف النظر
باملعرفة التقليدية ال�سائدة .وحني قام املعتزلة برد فعلهم عن �صحة
التكفريي ،ف�أكفروا غري القائلني بخلق القر�آن و�شبهوهم ال�شبه الواردة فيها ،فكيف ي�صح الطعن يف ذلك؟»(.)23
بامللحدة واملج�سمة والكفرة واليهود واملجو�س والن�صارى، بيد �أن نقليي ال�سنة حاربوا العقل .بل عدوا جمرد الكالم يف دينهم .وقد
ت�ضاربت بذلك ا ألدلة والن�صو�ص ،فت�أكد �أن االحتكام للعقل القر�آن بدعة ي�شرتك فيها ال�سائل واملجيب( .)24ثم تعدوا ذلك عممت على �أهل
�إىل التكفري .وخا�صة تكفري القائلني ب�أن كالم اهلل خملوق. العقل واملنطق
يف فهم الدين ال حميد عنه(.)32
فكفرهم ابن حنبل ومالك وال�شافعي وغريهم ،ف�ضال عن والفل�سفة من
ولعل ت�ضارب ر�أيي القدرية املجربة والقدرية املخرية
ا أل�شاعرة ،و�أبطلوا �صلواتهم و�إمامتهم بحجة �أنهم زنادقة طرف النقليني
يف تعيني املق�صود باملجو�س يف قوله الر�سول« :القدرية
مبتدعون فا�سقون و�أهل �أهواء ،ال تقبل �شهادتهم(.)25 الذي تع�سفوا
جمو�س هذه ا ألمة»( ،)33خري مثال على ذلك .فقد �أطلق
ويرتد قول ا أل�شاعرة لر�أي �شيخهم �أبي احل�سن ا أل�شعري.
ال�سنيون وا أل�شاعرة لفظ القدرية على املعتزلة ،بل ذهبوا �أحيانا يف
فقد قال يف كتابه «ا إلبانة عن �أ�صول الديانة»« :من قال
�إىل �أن الر�سول ق�صدهم بتلك الت�سمية ألنهم دانوا بديانة االحتجاج بالنقل
املجو�س لزعمهم �أن اهلل يخلق اخلري ،وال�شيطان يخلق ال�رش، بخلق القر�آن فهو كافر»( .)26وقد �أورد الدارمي (ت 280هـ)
وهو �صفاتي نقلي ،عدة �أقوال لراف�ضة العقل من �أهل ال�سنة
ولزعمهم االنفراد بالقدرة على �أفعالهم دون ربهم(� .)34أما وفقهائهم ورواتهم ،و�أدرجها �ضمن باب �سماه «باب قتل
املعتزلة فكان لهم ر�أي خمالف� .إذ ذهبوا �إىل �أن «القدرية» الزنادقة واجلهمية وا�ستثابتهم من كفرهم» ،ك�أقوال حماد
�صفة �أطلقها عليهم خ�صومهم املجربة امل�شبهة ،و�أن بن زيد وابن املبارك ووكيع ويحيى بن يحيى وابن حنبل
ه�ؤالء هم امل�ستحقون ل�صفة القدرية املق�صودون يف قول و�أبي توبة و�إبراهيم بن �سعد ومالك بن �أن�س وغريهم ممن
الر�سول .وا�ستدل القا�ضي عبد اجلبار على كون املجربة ذكرهم يف الباب املذكور �أو يف «باب االحتجاج يف �إكفار
امل�شبهة هم املق�صودون مبجو�س ا ألمة ،ب�أحاديث من�سوبة اجلهمية».
للر�سول الكرمي ،ك�إجابته عمن �س�أله عن املق�صودين ويالحظ �أن الفقهاء واملحدثني املذكورين ملا مل يجدوا يف
بالقدرية وقوله �إنهم «الذين يع�صون اهلل تعاىل ويقولون: القر�آن وال�سنة ما ينطبق على الق�ضايا الكالمية احلادثة
كان بق�ضاء اهلل وقدره»(.)35 التي كفروا �أ�صحابها ب�سببها ،جل�أوا لت�أويل ظاهري
وقد زاد هذا الت�ضارب يف تف�سري وت�أويل ا ألدلة ال�رشعية، ملعاين الن�صو�ص القر�آنية واحلديث لكي ت�ستجيب لدعواهم.
بظاهرة ح�شو الن�صو�ص ون�سبتها للر�سول ،وخا�صة يف كت�أويل مالك لقول الر�سول الكرمي« :من غري دينه فا�رضبوا
�صفوف عدد من النقليني احلفاظ ورواة احلديث الذين كان عنقه» ،ب�أن معناه «�أن من خرج من ا إل�سالم �إىل غريه مثل
بع�ض �أهل ال�سنة ا ألوائل يتكئ عليهم يف اال�ست�شهاد(.)36 الزنادقة و�أ�شباهها ،ف�إن �أولئك يقتلون وال ي�ستثابون ،ألنه
ويت�صل هذا املو�ضوع مبناهج وطرق املتكلمني يف ال تعرف توبتهم ،و�أنهم قد كانوا ُي�سرِ ُّون الكفر ويعلنون
14 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
كما روى املعتزلة �أخبارا عن وقائع ا�ستدلوا بها اال�ستدالل واال�ست�شهاد واملحاجة ،بني من ي�ستند �إىل اخلرب
على االنت�صار للعقل يف ن�رصة العقيدة( .)41وقد خل�ص والرواية ،وبني من ي�ستدل بالعقل ،وبني من ي�أخذ بالعقل
ال�شهر�ستاين الفروق بني �أهل ال�سنة واملعتزلة من حيث والنقل معا .وهي مناهج وطرق كان لها �أثرها اجللي يف
تقدمي ال�سمع والنقل� ،أو العقل ،يف الواجبات واملعارف موقف املتكلمني من ق�ضية الكالم وحدِّه ،مثلما كان لها
بقوله �« :أما ال�سمع والعقل ،فقال �أهل ال�سنة ،الواجبات �أثرها يف باقي ق�ضايا الكالم� ،سواء منها املت�صلة بكالم
كلها بال�سمع ،واملعارف كلها بالعقل .فالعقل ال يح�سن اهلل وكالم الب�رش� ،أو املت�صلة بق�سمي ال�رشيعة العملي
وال يقبح وال يقت�ضي وال يوجب ،وال�سمع ال يعرف� ،أي ال واالعتقادي.
يوجب املعرفة ،بل يوجب .وقال �أهل العدل ،املعارف كلها وقد ذكر الفارابي من طرق املتكلمني خم�س طرق �سماها
معقولة بالعقل ،واجبة بنظر العقل ،و�شكر املنعم واجب بالوجوه وا آلراء التي تن�رص بها امللل ،وهي:
قبل ورود ال�سمع ،واحل�سن والقبح �صفتان ذاتيتان للح�سن 1ـ النقليون الذين يعطلون العقل والت�أمل والنظر ،ويرون
والقبيح»(.)42 ن�رصة امللة بالت�صديق املطلق والت�سليم التام ،بحجة �أن
وهذا التم�سك بالعقل وتقدميه على ال�سمع ،جعل املعتزلة امللة ال يجوز فيها الكذب ،ب�شهادة املعجزات والن�صو�ص
مبثابة نخبة �أهل النظر يف الفكر ا إل�سالمي .بخالف و�أقوال ال�صادقني ،ألنها وحي �إلهي ،وهي �أرفع رتبة من
مفهوم «اجلماعة» ال�سمعيني الذين �سهلت ب�ساطة خطابهم التفاف العامة حول العقول ا إلن�سية.
ي�أخذ �صفة �آرائهم ،مما جعل مفهوم «اجلماعة» ي�أخذ �صفة ا ألغلبية يف 2ـ امل�ؤولون الذين يتتبعون املح�سو�سات وامل�شهورات
الغلبية يفأ خطاب �أهل ال�سنة الذين برروا به �صواب دعواهم بحجة �أن واملعقوالت لال�ستدالل عليها مبا �رصح به وا�ضع امللة،
خطاب �أهل ال�سنة املعتزلة قلة ال متثل ال�سواد ا ألعظم� ،أي اجلماعة امل�سلمة. وي�ؤولونه لرفع التناق�ض بني الطرفني.
الذين برروا به لكن املعتزلة كان لهم يف هذه امل�س�ألة �أي�ضا ر�أي خمالف، 3ـ املقارنون امل�شنعون ،الذين يقبحون وي�شنعون ملة من
وخا�صة يف ت�صورهم ل�صفة اجلماعة ودور ا ألغلبية وا ألقلية قبح و�شنع ملتهم.
�صواب دعواهم يف ن�رصة الدين .يقول القا�ضي عبد اجلبار« :و�أما اجلماعة، 4ـ املرهبون املفتقرون �إىل احلجاج العقلي الذين ي�سكتون
بحجة �أن املعتزلة فاملراد به ما اجتمعت عليه ا ألمة ،وثبت ذلك من �إجماعها. خ�صمهم بالتخويف والتخجيل.
قلة ال متثل ف�أما ما مل يثبت مما مل يجز التم�سك به ،فهو مبنزلة �أخبار 5ـ املغالطون ال�سوف�سطائيون الذين يرون �أن خ�صمهم
العظم ال�سواد أ ا آلحاد .و�إذا �صح ما ذكرناه من اجلملة ،فاملتم�سك بال�سنة عدو ،يجوز يف �صده اللجوء للكذب واملغالطة(.)37
واجلماعة ،هم �أ�صحابنا واحلمد هلل ،دون ه�ؤالء امل�شنعني، غري �أن �أهم طريقني عرفا يف علم الكالم ،هما طريقا النقل
الذين عند التحقيق ،ال مييزون ما يقولون .وقد روي يف والعقل .فالنقليون احتجوا على �إثبات �آرائهم ودفع �آراء
كتاب «امل�صابيح» ،عن ابن م�سعود �أنه قال :اجلماعة ما خ�صومهم با إلكثار من رواية الن�صو�ص ،ن�صو�ص القر�آن
وافق طاعة اهلل و�إن كان رجال واحدا»(.)43 وال�سنة وال�سلف املنا�رص لهم ،مع تعليقات ب�سيطة لربط
لقد رف�ض القا�ضي عبد اجلبار و�صف املعتزلة بالقلة، املوا�ضيع ببع�ضها( .)38و�أما العقليون ويف مقدمتهم
فعد اجلماعة هي املعتزلة ومن نفى ال�صفات ،و�أنهم املعتزلة فكانوا يتندرون بطريقة النقليني ،ويعتربون
املق�صودون بقول الر�سول« :عليكم بال�سواد ا ألعظم» ،ال �أ�صحابها جاهلني مفحمني عاجزين عن ا إلقناع وحتكيم
معار�ضوهم( .)44بل ذهب �إىل �أن «هذا املذهب هو الذي العقل .وقد �شبههم القا�ضي عبد اجلبار بالعامة ،و�أنهم «�إذا
�أنزل اهلل تعاىل به الكتاب و�أر�سل به الر�سل»( .)45وو�ضع انقطعت بهم احلجة ،جل�أوا �إىل �أنا قد نهينا عن اجلدال و�أن
يف كتابه «ف�ضل االعتزال» ق�سما خا�صا بطبقات املعتزلة املناظرة يف الدين حمرمة»� ،أما �سبيل املعتزلة يف ر�أيه
إلظهار كرثتهم وانت�شارهم يف البالد وكرثة العلماء يف فهو «حملهم على �صحة احلجاج من جهة العقول»( .)39كما
�صفوفهم .لكنه دافع �أي�ضا عن مفهوم ا ألقلية العاملة مقابل يخطئهم القا�ضي عبد اجلبار يف قولهم �إن الكالم بدعة
ا ألغلبية التي قد تكون م�صيبة وقد تكون �ضالة منهمكة يف بقوله�« :أما قولهم �إن الكالم بدعة ،فخط�أ منهم وال يحتج
طريق اجلهالة(.)46 عليها بقول اجلاهل املخطئ ،وطاملا قيل :من جهل ال�شيء
و�سواء �أكان ال�صواب مع املعتزلة �أم مع من �سموا من عاداه .و�أكرث من يعيب ذلك� ،أ�صحاب حمل وتقليد ،ومن
طرفهم بالنابتة وامل�شبهة ،ف�إن ال�صورة احلقيقية ل إل�سالم تبع ا أللف والعادة� ،أو يطلب �أن يكون متبوعا لرئا�سة .وكل
يف الرتاث ا إل�سالمي ال تكتمل �إال بتعدده .ذلك �أن ادعاء ه�ؤالء ال يعتد بطريقتهم»(.)40
15 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الذات .فذهبوا �إىل �أن اهلل عامل قادر حي ،ال بعلم وقدرة الفهم واحلقيقة املطلقني عند كل طرف ،كان فيه �إق�صاء
وحياة بل بنف�سه( .)52لكنهم اختلفوا يف معنى كون اهلل ل آلخر .وقد انتبه قا�ضي الق�ضاة لهذا التعدد و�إن ا�ستغله
قادرا وعاملا ومريدا ،ويف ر�ؤية اهلل وكيفيتها ،وغري ذلك الدعاء ال�صواب وال�رشعية الدينية بقوله�« :إن املرء �إذا
مما �أجملته كتب الطبقات واملقاالت .ولي�س هدفنا �أن نتتبع نظر �إىل ال�سواد ا ألعظم ،الذي هو اخللق الكثري ،ر�أى فيهم
هذه االختالفات ألنها مت�شعبة لي�س بني الفرق الكربى اخلوارج واملرجئة ،ور�أى فيهم ال�شيعة ،و�أ�صحاب احلديث
فح�سب ،بل بني فروعها وفروع فروعها �أي�ضا. الذين يدخل يف مثلهم النابتة ،ويرى فيهم املعتزلة .فكيف
ح�سبنا �أن نذكر ما يهمنا من ذلك جممال ،كما �أورده ابن ي�صح ،ومذاهبهم مت�ضادة� ،أن يتبعهم؟» (.)47
تيمية إل�شارته �إىل املواقف الرئي�سية يف هذه الباب ،مع ويتجلى ذلك التعدد يف كرثة الفرق ا إل�سالمية املذكورة يف
ت�ضمينه ذكر خا�صيتني تت�صالن مب�س�ألة الكالم ،هما م�س�ألة كتب الفرق والطبقات ،حيث يتجاوز عددها �سبعني فرقة،
القيام باملتكلم ،وم�س�ألة امل�شيئة والقدرة .يقول ابن تيمية و�إن كان جلها متفرع من عدد حمدد هو املمثل للتيارات
عن ال�صفات االختيارية التي يندرج �ضمنها الكالم عند ا أل�سا�سية يف علم الكالم .ويف مقدمتها ما ذكره منها
ال�صفاتية« :وهي ا ألمور التي يت�صف بها الرب ـ عز وجل قا�ضي الق�ضاة يف ن�صه ال�سالف ،حيث �سمى منها خم�سا
ـ فتقوم بذاته مب�شيئته وقدرته مثل كالمه و�سمعه وب�رصه �سواء �أكان
هي :اخلوارج واملرجئة وال�شيعة والنابتة واملعتزلة(.)48
وحمبته ور�ضاه ورحمته وغ�ضبه و�سخطه ،ومثل خلقه كما �أجمل ذكرهم �أبو احل�سن ا أل�شعري يف �إحدى ع�رشة فرقة ال�صواب مع
و�إح�سانه وعدله ،ومثل ا�ستوائه وجميئه و�إتيانه ونزوله هي :ال�شيعة ،واخلوارج ،واملرجئة ،واملعتزلة ،واجلهمية، املعتزلة �أم مع
ونحو ذلك من ال�صفات التي نطق بها الكتاب العزيز وال�سنة. وال�رضارية ،واحل�سينية ،والبكرية ،والعامة ،و�أ�صحاب من �سموا من
فاجلهمية ومن وافقهم من املعتزلة وغريهم يقولون :ال احلديث ،والكالبية(.)49 طرفهم بالنابتة
يقوم بذاته �شيء من هذه ال�صفات وال غريها .والكالبية �أما ال�شهر�ستاين ،فح�رص عدد الفرق يف �أربع هي :القدرية وامل�شبهة ،ف�إن
ومن وافقهم من ال�ساملية وغريهم يقولون« :تقوم �صفات وال�صفاتية مبن فيها �أهل ال�سنة وا أل�شاعرة ،واخلوارج ال�صورة احلقيقية
بغري م�شيئته وقدرته» ،ف�أما ما يكون مب�شيئته وقدرته فال وال�شيعة .ثم تنق�سم كل واحدة �إىل فرق فرعية .وقد �أرجع لل�سالم يف
إ
يكون �إال خملوقا منف�صال عنه»(.)53 ال�شهر�ستاين �أ�سباب اختالف هذه الفرق �إىل ا أل�سباب
وترتتب على هذه ا ألقوال ثالثة مواقف هي: ال�سالميالرتاث إ
التالية: ال تكتمل �إال
[ قيام الكالم بذات اهلل مب�شيئته وقدرته. [ ال�صفات والتوحيد
[ قيام الكالم بذاته بدون م�شيئته وقدرته. [ القدر والعدل بتعدده
[ قيامه بغريه مب�شيئته وقدرته. أ أ
[ الوعد والوعيد وال�سماء والحكام
وترتبط هذه املواقف مب�سائل اعرتا�ضية كثرية ،كم�سائل [ ال�سمع والعقل والر�سالة وا ألمانة .
()50
حلول احلوادث بالذات ،والت�شبيه والتج�سيم والتعطيل
والتكلم يف ا ألزل والتكلم مرتني ...وفيما ذهب املعتزلة �إىل وم�س�لة ال�صفات أ
والفعال أ -2الكالم
�أن الكالم فعل ال �صفة ،مت�سك ال�صفاتية بكونه �صفة� ،أخذا حني ننظر يف ا أل�صول التي ذكرها ال�شهر�ستاين ،نلفيها
بظاهر الكتاب وال�سنة .وقالوا �إن « الذات نف�سها املوجودة، ترجع أل�صل �أكرب ،هو ذات اهلل و�صفاته و�أفعاله ،فبتعلق
ال يت�صور �أن تتحقق بال �صفة»( .)54و�سموا نفا َة ال�صفات بهذا ا أل�صل جتادلت الفرق حول مو�ضوع الكالم ،فخ�ضعت
معطل ًة ملا اعتقدوا �أن «حقيقة قولهم تعطيل ذات اهلل مفاهيمهم له .فالذين �أثبتوا هلل �صفات قدمية كالعلم والقدرة
تعاىل»( .)55غري �أنهم تباينوا يف درجة �إثبات تلك ال�صفات واحلياة وا إلرادة وال�سمع والب�رص والكالم واجلالل وا إلكرام
بني التج�سيم والت�شبيه وا إلثبات مع نفي املماثلة .والر�أي واجلود وا إلنعام والعزة والعظمة دون تفريق بني �صفات
ا ألخري قال به ابن تيمية نافيا �أن يكون ال�سلف قال بالت�شبيه الذات و�صفات الفعل مع �إثبات �صفات جربية كاليدين
والتج�سيم .وال�صحيح يف ر�أيه �أن «مذهب ال�سلف وا ألئمة والرجلني دون ت�أويل� ،سموا �صفاتية .والذين نفوا قيام تلك
�إثبات ال�صفات ،ونفي مماثلتها ل�صفة املخلوقات»(.)56 ال�صفات يف الذات �سموا معطلة( .)51ثم اختلفوا يف كيفية
ومن �أمثلة ذلك حديث ابن تيمية عن يديه تعاىل .فقد �أحال �إثبات �أو نفي تلك ال�صفات على طوائف و�آراء ،واجتمعوا يف
�أن تكون يداه من اجلوارح ومن جن�س �أيدي املخلوقني .لكنه �أخرى .ف�أكرث املعتزلة واخلوارج واملرجئة وبع�ض ال�شيعة
�أقر يف الوقت نف�سه �أن له يدين حقيقة ،و�أن يديه تنا�سبان من الزيدية ،يتفقون مثال يف نفي �أن تكون ال�صفات غري
16 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال�صفاتية وامل�شبهة واملج�سمة للكالم بربطه بال�صفات ذاته وت�ستحقان من �صفات الكمال ما ت�سحق الذات(.)57
القائمة بالذات ،وعر�ض خمالفوهم لهذا املو�ضوع بربطه وبذلك �أجرى ابن تيمية كعامة النقليني ال�صفة على ظاهرها
بق�ضيتي التوحيد وا ألفعال وما ات�صل بهما كق�ضيتي و�إن نفى عنها الكيفية والت�شبيه .ويعرت�ض عليه ب�أن يقال
ا إلرادة والعدل .كما �أن ال�صفاتية الذين خالفوا املعتزلة �إن اليد �إما �أن تكون ذات �أ�صابع و�أظافر وحلم ودم فتكون
يف كون الفعل فعال لفاعله ،ا�ستدلوا مبقولتهم هذه لتكري�س جارحة ،والقول بهذا ت�شبيه وجت�سيم� ،أو تكون بخالف
ال�صفة الكالمية للذات ا إللهية� .أما املعتزلة فرببطهم ذلك غري ذات �أ�صابع و�أظافر وحلم ودم .فيكون �إطالق اليد
الكالم بق�ضية التوحيد ،نفوا ات�صاف اهلل به .ألن �إثبات عليها يف هذه احلالة جمازا ،و�أن لها داللة ت�ؤول بها تبعا
�صفة الكالم هلل ،متثل عند املعتزلة �إثباتا لقدميني :ذات اهلل لل�سياق الذي ذكرت فيه .وابن تيمية رف�ض �أن ي�رصف لفظ
و�صفاته .فكان ال بد لهم من �أن ي�ؤولوا و�صف اهلل لذاته اليد للمجاز� .أما م�س�ألة الكالم ف�أكرث تعقيدا ألنها ال حتل
ب�أنه متكلم .فاختلفوا يف كيفية ا�ستحقاق اهلل ل�صفاته ويف باملجاز بل بتف�سري الكيفية مع عدم املماثلة .وارتباطها
عدد ال�صفات امل�ستحقة(.)58 بال�صفات وا ألفعال جنمله يف �أمرين:
ومرد اخلالف بني املعتزلة و�أهل ال�سنة يف مو�ضوع ا ألول� ،أن الذين قالوا بوجود �صفات قدمية �أثبتوا هلل كالما
ال�صفات �إىل �إثبات �أهل ال�سنة لكل ال�صفات املذكورة يف قدميا فانعك�س ذلك على مفهومهم للكالم والتكلم ،وتداخل
كالم اهلل عن ذاته ،مبا فيها ال�صفات التي يت�صف بها الب�رش قولهم بال�صفات القدمية بقولهم يف ا ألفعال.
كالكالم وال�سمع والب�رص� .أما املعتزلة فح�رصوها يف ما الثاين� ،أن الذين نفوا ا�ستقالل ال�صفات عن الذات وا�ستدلوا
ني به اهلل عن �سائر املوجودات ،وهي كونه قادرا عاملا َي ِب ُ على اهلل ب�أفعالهَ ،و َحدُّوا من تبعية �أفعال العباد ألفعال اهلل،
حيا موجودا .و�أرجع القا�ضي عبد اجلبار ال�صفات الثالث ويف مقدمتهم املعتزلة ،فقد عرفوا الكالم و�أقاموا مفهومهم
ا ألخرية ل�صفة القدرة(.)59 للفعال على ال�صفات. له بناء على تقدميهم أ
ثم �إن �أهل ال�سنة �أثبتوا تلك ال�صفات يف غري ذات اهلل .فقالوا: فمرجع الطرفني هو مو�ضوع ذات اهلل �أو �صفاته و�أفعاله
عامل بعلم وقادر بقدرة� .أما املعتزلة ف�أثبتوها بذاته، �إذن .لذلك تداخل مفهوم الكالم بالق�ضايا الكالمية ا ألخرى،
فقالوا :موجود قدمي مقابل املوجود املحدث ،وقالوا :عامل من اعتقادية وعملية� ،إلهية وب�رشية� ،صفاتية وفعلية.
بذاته ،قادر لذاته ،و�أولوا ال�صفات ا ألخرى كت�أويلهم ال�سمع لقد ورد مو�ضوع الكالم �أحيانا ،يف معر�ض حديثهم عن
والب�رص ،مبعنى العلم �أو ا إلدراك. تلك الق�ضايا ،ووردت تلك الق�ضايا �أحيانا �أخرى ،يف معر�ض
وقد ربط القا�ضي عبد اجلبار بني الكالم وق�ضية التوحيد تناولهم ملو�ضوع الكالم والتكلم ،مع تداخل بني ا ألخري
بقوله �إن املعتزلة واجهوا ال�صفاتية ونعتوهم ب�أنهم وبني مو�ضوع القر�آن� ،أقدمي هو �أم خملوق؟ ون�ستدل على
«خارجون عن التوحيد ب�إثبات علم وقدرة مل تزل (�أي ذلك بعدد من م�صادرهم الكالمية التي ن�سعى بوا�سطتها
�أزلية) ،و إلثبات كالم مل يزل ...و�أنهم يف جتويزهم ذلك، للوقوف على بع�ض اخليوط الناظمة �أو الرابطة ملبحث
مبنزلة من قال �إن له ثانيا يف خروجهم من التوحيد .فهذا الكالم مبجموع املباحث الكالمية ،االعتقادية والعملية،
هو ا أل�صل الذي اتفقت عليه املعتزلة)(.)60 و�إن كان هذا العمل لي�س هينا ،ألن املتكلمني بحكم مركزية
�أما ربط املعتزلة للكالم بق�ضايا ا ألفعال ،فن�ستدل عليه مبحث الكالم يف علمهم ،كانوا دائمي ا إل�شارة �إليه يف
�أي�ضا مبا قام به قا�ضي الق�ضاة� ،إذ قرن يف كتابه مباحثهم ا ألخرى ،و�إن �أفردوا له ف�صوال ومباحث خا�صة.
«املجموع يف املحيط بالتكليف» بني ا إلرادة والكالم. لكن هذه الف�صول واملباحث كانت ت�أتي تارة م�ستقلة عن
ففتح الباب الذي خ�ص�صه لـ«حقيقة الكالم» بقوله« :اعلم غريها ،وتندرج تارة �أخرى �ضمن ما هو �أو�سع منها� ،أو
�أن وجه ات�صال هذا الباب بباب ا إلرادة� ،أن الكالم عندنا ترد مندجمة كما ذكرنا مبو�ضوع خلق القر�آن� .إذ ت�ساءل
من جملة �أفعاله كا إلرادة .فال ي�صح كونه مريدا لنف�سه وال املتكلمون عن القر�آن بو�صفه كالم اهلل ،هل كالم اهلل قدمي
ب�إرادة قدمية .بل يتبع كونه مريدا كونه فاعال»(.)61 �أم حمدث؟
فلن الكالم و�أما علة ات�صاله يف كالمهم مبو�ضوع العدل ،أ و ألن اخللفية الكالمية توزعت عند املتكلمني بني ق�ضية
فعل ،و ألن �أفعال اهلل وما يجوز عليه وما ال يجوز ،هو ما ال�صفات وق�ضية ا ألفعال ،ف�إن الفرق ا إل�سالمية جتادلت
خا�ض فيه املعتزلة يف باب العدل .حتى �إن القا�ضي عبد يف مو�ضوع الكالم ،بح�سب كونها �صفاتية �أو م�شبهة
اجلبار يف كتابه «�رشح ا أل�صول اخلم�سة»� ،أدرج احلديث �أو جم�سمة ،وبني كونها موحدة �أو «معطلة» .فعر�ض
17 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املاتريدي ،الذي كان يقول كاملعتزلة ،ب�أن اهلل عامل بذاته، عن «حقيقة الكالم» يف باب العدل �إىل جانب ق�ضايا
حي بذاته ،قادر بذاته ،دون �أن ينفي مثلهم قيام ال�صفات وموا�ضيع �أخرى مثل ،خلق ا ألفعال ،و�أق�سامها ،وحقيقة
بالذات( .)68وت�أثري املاتريدي جلي يف تلميذه �أبي املعني الظلم ،واال�ستطاعة ،وا آلالم ،والتكليف ،واملعجزات ،والقبح
الن�سفي الذي قدم كغريه من معظم ال�صفاتية ق�ضية القدم واحل�سن .ويف «ف�ضل االعتزال» �أدرج الكالم وا إلرادة �ضمن
واحلدوث يف الكالم على باقي ق�ضاياه .كما �أن الن�سفي باب «يف ما اتفقوا عليه من القول بالعدل» .ومن ذلك قوله:
�أثبت الكالم �صفة قائمة بالذات ،قدمية .يقول على ل�سان «ف�أما من يقول يف ما هو فعله ،من الكالم وا إلرادة �إنه لي�س
«�أهل احلق»�« :إن كالم اهلل تعاىل �صفة له �أزلية لي�ست من بفعل ،ففي ذلك خروج من العدل ،ألنه ال بد من �أن يثبت
جن�س احلروف وا أل�صوات وهي �صفة قائمة بذاته منافية الكالم على وجه ي�صح منه تعاىل ،وكذلك ا إلرادة .ويدخل
لل�سكوت وا آلفة من الطفولية واخلر�س»(.)69 فيه الكالم يف املخلوق �أي�ضا .هذا �إذا قالوا بقدم الكالم
و�أن يكون الكالم من جن�س احلروف وا أل�صوات� ،أو �أن يقوم املعقول وا إلرادة املعقولة ،ف�أما �إذا قالوا بقدم ما لي�س هذا
بالذات� ،أو �أن ينايف ال�سكوت وا آلفة واخلر�س ...ق�ضايا �صفته ،فهو دخول يف اجلهاالت»(.)62
اختلف فيها املتكلمون ،ما بني �صفاتية املعاين ،ونق�صد وقد ا�ضطر ال�صفاتية حتت ت�أثري املجادالت االعتزالية،
بهم ا أل�شاعرة ،و�صفاتية الت�شبيه ،ويدخل فيهم عدد من إلدراج الكالم يف باب ا ألفعال للرد عليهم ،و�إن ظل الغالب
�أهل احلديث وعامة �أهل ال�سنة ،و�صفاتية املغايرة ،ونق�صد عليهم ربطه بال�صفات( ،)63كما يتبني من كتاب الغزايل
بهم املعتزلة ،ألنهم و�إن قالوا بال�صفات ،فلم يحتفظوا «االقت�صاد يف االعتقاد» .فقد ذهب �إىل �أن ال�صفات كلها
منها �سوى مبا ا�ستحقه اهلل دون �سائر املوجودات ،من غري قائمة بذات الباري و�أنها قدمية و�أن ا أل�سامي امل�شتقة له
انف�صال لتلك ال�صفات عن ذاته �أو قيامها فيها. من �صفاته� ،صادقة عليه مل تزل .ويف �إطار هذا الت�صور
واجلويني من ا أل�شاعرة الذين ربطوا بني الكالم وبني تناول مو�ضوع الكالم ،ف�أدخله يف «القطب» الثاين من
ال�صفات� ،إذ ذهب �إىل �أن الكالم يف تفا�صيل (الكالم) فرع كتابه فاحتا �إياه بالقول�« :إذ ندعي �أنه �سبحانه قادر عامل
ثبوت كون الباري تعايل متكلما .وحمل نفاة ال�صفات حي مريد �سميع ب�صري متكلم ،فهذه �سبع �صفات»(.)64
«نحلة» نفي الكالم« :مذهب �أهل احلق� ،أن الباري �سبحانه وعر�ض �أبو �سعيد الني�سابوري ملبحث الكالم بعد عر�ضه
وتعاىل متكلم بكالم �أزيل ،ال مفتتح لوجوده ،و�أطبق ملبحث علم اهلل ،ملا بني العلم والكالم من م�سائل م�شرتكة
املنتمون �إىل ا إل�سالم على �إثبات الكالم .ومل ي�رص �إىل دار حولها اجلدال ،كالقدم وال�صفة الزائدة على الذات
نفيه ،ومل ينتحل �أحد يف كونه متكلما نحلة نفاة ال�صفات واحلدوث والتجدد وم�شاركة احلوادث والقيام يف حمل،
يف كونه عاملا قادرا حيا»(.)70 فبد� أ حديثَه عنه ب�إثبات �صفة الكالم القدمي هلل بقوله« :عند
واخلالف بني ال�صفاتية وعامة املعتزلة لي�س يف كون اهلل �أهل احلق� ،أن الباري متكلم بكالم قدمي �أزيل غري مفتتح
متكلما �أم غري متكلم .فقد ذهبت املعتزلة با�ستثناء بع�ض الوجود»( ،)65لينتهي �إىل جمادلة املعتزلة يف ما �أنكروه من
�أئمتهم كعباد بن �سليمان وا إل�سكايف� ،إىل �أن اهلل متكلم(.)71 �صفة القيام يف حمل والقول بقدميني ،فقال« :ال يجوز �أن
واعرت�ض عباد وا إل�سكايف ،بكون �إثبات التكلم هلل� ،إثبات يقال ،العلم غري القدرة وغري الكالم ،وال �أن العلم هو الكالم،
لتفعله. �أو القدرة هي العلم� ،أو العلم هو الذات� ،أو الكالم هو الذات.
�أما �أوجه اخلالف الكربى بني عامة املعتزلة وبني غريهم، ولكن يقال ،الذات موجود وال�صفات موجودات مع الذات
ففي مقدمات ا�ستحقاق اهلل ل�صفة �أو فعل الكالم ،ويف قائمات بالذات .ألنا ن�صف ال�صفات ا ألزلية بالبقاء»(.)66
النتائج املرتتبة عليها� ،أي يف تعريف الكالم واملتكلم وقد ا�ضطر ا أل�شاعرة حتت ت�أثري املعتزلة �إىل تعديل
وحمل الكالم ،واملفاهيم والت�صورات امل�ؤطرة لذلك .فهذه مفهومهم ل�صفة القيام املحلي التي قال بها �أهل ال�سنة،
الق�ضايا اخلالفية بالتحديد هي التي ولدت ما �سمي املحدثني منهم .فحولوا القول يف ال�صفات، وبخا�صة َ
بـ«م�س�ألة الكالم» يف علم الكالم. ومنها القول يف �صفة العلم ،من القول �إن علمه قائم بذاته،
ومن بني ا آلراء املف�رسة لـ «م�س�ألة الكالم» ر�أيان : �إىل القول ب�أنه موجود بذاته ،وهو ر�أى املاتريدية �أي�ضا(.)67
ر� أي ذكره ال�رشيف اجلرجاين يف �رشحه لكتاب للخذ كما �أن عددا من ال�سنيني الذين «تعقلوا» �أي انتقلوا أ
«املواقف»� ،إذ تعني «م�س�ألة الكالم» عنده ق�ضية مبعيار العقل ال الن�ص وحده ،ا�ستعاروا من املعتزلة بع�ض
قدم القر� آن وحدوثه ألنها � أ�شهر � أجزائه و�سبب تدوينه مقوالتهم و�أدجموها يف خطابهم ال�صفاتي ،ك�أبي من�صور
18 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s وم�صدر تناحر وتقاتل املتكلمني(.)72
حميي الدين عبد احلميد .دار احلداثة ،ط � 1985/ص .23
17ـ ابن النجار ( ت 972هـ )� :رشح الكوكب املنري .حتقيق حممد الزحيلي
ونزيه حماد .مكتبة العبيكان .الريا�ض .اململكة العربية ال�سعودية1993 . �أما الر�أي الثاين وهو البن النجار ،ف�إنه و�إن بني مكانة
.85/2 القول يف التنزيل يف علم الكالم .ف�إنه ربط امل�س�ألة
18ـ امل�صدر ال�سابق 50/2ويرجع �أي�ضا لكتاب «درء تعار�ض العقل املذكورة بـ«تبيني مو�ضوع لفظ الكالم ،وما يتناوله لفظ
والنقل» البن تيمية� .ضبط وت�صحيح عبد اللطيف عبد الرحمن .دار الكتب
العلمية .بريوت .لبنان ط ،)5-3(/4 1997/1وينظر �أي�ضا�« :رشح العقيدة الكالم حقيقة �أو جمازا» .فهذه امل�س�ألة يف ر�أي ابن النجار،
الطحاوية» �ص ( 204ـ .)207وذهب �صاحب هذا ال�رشح �إىل القول�« :إمنا هي ما ي�سمى «م�س�ألة الكالم» ألنها «�أعظم م�سائل �أ�صول
�سمي ه�ؤالء� :أهل الكالم ،ألنهم مل يفيدوا علما مل يكن معروفا ،و�إمنا �أتوا الدين ،وهي م�س�ألة طويلة الذيل ،حتى قيل� ،إنه مل ي�سم علم
بزيادة كالم قد ال يفيد .وهو ما ي�رضبونه من القيا�س إلي�ضاح ما علم
باحل�س ،و�إن كان هذا القيا�س و�أمثاله ينتفع به يف مو�ضع �آخر ،ومع الكالم �إال ألجلها ولذلك اختلف فيها �أئمة ا إل�سالم املعتربين
من ينكر احل�س .وكل من قال بر�أيه وذوقه و�سيا�سته مع وجود الن�ص� ،أو املقتدى بهم ،اختالفا كثريا متباينا»(.)73
عار�ض الن�ص باملعقول ،فقد �ضاهى �إبلي�س ،حيث مل ي�سلم ألمر ربه»� .رشح
العقيدة الطحاوية البن �أبي العز احلنفي .املكتب ا إل�سالمي .بريوت .لبنان والر�أيان متكامالن ،ألن بينهما دور� .إذ يوجب القول يف
ط � 1988/9ص .207ومما نقله موفق الدين ابن قدامة املقد�سي يف القر�آن ،القول يف حقيقة الكالم ،كما �أن القول يف حقيقة
هذا الباب« :قال ا إلمام �أحمد :ال يفلح �صاحب كالم �أبدا ،وال ُيرى �أحد نظر الكالم يوجب القول يف القر�آن من جهة القدم واحلدوث.
يف الكالم �إال يف قلبه دغل .وقال ا إلمام ال�شافعي :ما ارتدى �أحد بالكالم
ثم �إن هذين املو�ضوعني تت�صل بهما مو�ضوعات وم�سائل
َاف بهم يف ف�أفلح .وقال حكمي يف �أهل الكالم �أن ي�رضبوا باجلريد ُ
ويط َ
الع�شائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب وال�سنة و�أخذ يف الكالم. �أخرى كالنظر يف ماهية الكالم وحقيقته وتعريفه .وهذا
وقال �أبو يو�سف :من طلب العلم يف الكالم تزندق .وقال �أبو عمر بن عبد يقت�ضي درا�سة مف�صلة حتى نتبني ا أل�صول واملقدمات
الرب� :أجمع �أهل الفقه وا آلثار من جميع �أهل ا ألم�صار �أن �أهل الكالم �أهل
بدع وزيغ وال ُي َعدُّون عند اجلميع يف طبقات العلماء ،و�إمنا العلماء �أهل التي بنى عليها املتكلمون مقاالتهم و�أقوالهم يف الكالم
ا ألثر واملتفقه فيه .وقال �أحمد بن �إ�سحاق املالكي� :أهل ا ألهواء والبدع عند عامة وكالم اهلل خا�صة.
�أ�صحابنا هم �أهل الكالم ،فكل متكلم من �أهل ا ألهواء والبدع� ،أ�شعريا كان
�أم غري �أ�شعري ،ال ُتقبل له �شهادة ويهجر وي�ؤدب على بدعته ،ف�إن متادى الهوام�ش
عليها ا�ستتيب منها» :حترمي النظر يف كتب الكالم ملوفق الدين ابن قدامة 1ـ �إح�صاء العلوم �ص. 41
املقد�سي (ت 620هـ) .حتقيق عبد الرحمن بن حممد �سعيد دم�شقية .دار 2ـ ا إليجي :املواقف .حتقيق عبدالرحمن عمرية .دار اجليل .بريوت .لبنان
عامل الكتب .الريا�ض .اململكة العربية ال�سعودية ط� 1990/1ص(-41 ط . 31/1 ،1997/1و�أورد له التهانوي التعريف التايل« :علم ب�أمور
� .)42أما ر�أي املوفق احلنبلي نف�سه ،فلم ي�شذ عن �آراء من ذكرهم�( .ص )41 يقتدر معه� ،أي يح�صل مع ذلك العلم ح�صوال دائما عاديا قدرة تامة على
من امل�صدر املذكور .وينظر �أحاديث و�أقوال �أخرى يف املو�ضوع :ذم الكالم. �إثبات العقائد الدينية على الغري و�إلزامه �إياه ب�إيراد احلجج ودفع ال�شبه
لعبد اهلل بن حممد بن علي ا ألن�صاري الهروي .حتقيق �سميح دغيم .دار عنها» :ك�شاف ا�صطالحات الفنون .31/1 ،وننظر �أي�ضا :د�ستور العلماء
الفكر اللبناين .ط .1994/1بريوت .لبنان .وخا�صة« :باب لعن املتحدثني للحمد نكري .مادة (كالم). أ
واملتكلمني واملخالفني» ،و«باب يف كراهية �أخذ العلم عن املتكلمني و�أهل 3ـ ابن خلدون :املقدمة ،حتقيق علي عبد الواحد وايف .دار النه�ضة امل�رصية.
البدع « و«باب ذكر �إنكار �أئمة ا إل�سالم ،ما �أخذه املتكلمون يف الدين من القاهرة م�رص .ط . 1069/3 1981/3
ا ألغاليط»� .ص(.)284،291 ،178 4ـ ك�شاف ا�صطالحات الفنون .30/1
19ـ درء التعار�ض .7/4 5ـ التعريفات .مادة (كالم) .وينظر التوقيف على مهمات التعاريف .مادة
20ـ ابن تيمية :جمموع فتاوى ابن تيمية ،جمع وترتيب عبد الرحمن بن (كالم).
قا�سم ،مكتبة املعارف ،الرباط املغرب (د.ت) .147/13 6ـ ك�شاف ا�صطالحات الفنون 31 ( /1ـ ) 32ود�ستور العلماء مادة
21ـ امللل والنحل .38/1 ،ويقول القا�سم بن حممد بن علي الزيدي العلوي (كالم).
املعتزيل (ت 1029هـ) عن ق�ضايا الكالم« :وكرث يف ذلك اخلالف وال�شقاق، 7ـ القا�ضي عبد اجلبار� :رشح ا أل�صول اخلم�سة .حتقيق عبد الكرمي عثمان.
وقل فيه االئتالف واالتفاق» .ينظر كتابه «ا أل�سا�س لعقائد ا ألكيا�س». مكتبة وهبة .القاهرة .م�رص ط � 1996/3ص (.) 123-122
حتقيق �ألبري ن�رصي نادر .دار الطليعة .بريوت .لبنان .ط � 1980/1ص 8ـ ال�شهر�ستاين :امللل والنحل .ت�صحيح وتعليق �أحمد فهمي حممد .دار
.46 الكتب العلمية .بريوت .لبنان ( .د.ت) .23/1
22ـ ف�ضل االعتزال �ص .181 9ـ املواقف 45/1وينظر �رشح ال�رشيف اجلرجاين لذلك بامل�صدر نف�سه
23ـ امل�صدر ال�سابق ،183ويراجع فيه �أي�ضا� :ص ( .)185-184 ،46/1وك�شاف ا�صطالح الفنون .33/1
24ـ �أبو بكر البيهقي :ا أل�سماء وال�صفات .دار الكتب العلمية .بريوت .لبنان 10ـ د�ستور العلماء مادة (كالم).
ط � 1984/1ص .327 11ـ نحيل يف هذا الباب �إىل ر�أي علي �سامي الن�شار يف كتابه « ن�ش�أة الفكر
25ـ ا أل�سماء وال�صفات �ص ( 328ـ )329ود�ستور العلماء ،مادة (كالم). الفل�سفي يف ا إل�سالم « ط /7دار املعارف .م�رص .1977
وحترمي النظر يف كتب الكالم �ص 41وم�س�ألة خلق القر�آن وموقف علماء 12ـ علي ال�شابي :مباحث يف علم الكالم والفل�سفة ،ط /1دار بو�سالمة
القريوان منها .لفهد بن عبد الرحمن بن �سليمان الرومي .مكتبة التوبة. تون�س .من�شورات الكلية الزيتونية لل�رشيعة و�أ�صول الدين .تون�س( .د.ت)
الريا�ض .اململكة العربية ال�سعودية .ط � 1997/2ص(.)41-40 �ص .9
26ـ �أبو احل�سن ا أل�شعري :ا إلبانة عن �أ�صول الديانة .دار الكتاب العربي. 13ـ املرجع ال�سابق �ص (.)153 ،50
بريوت .لبنان .ط � 1990/2ص( )20،56وينظر �أي�ضا :علي ال�شابي : 14امللل والنحل .23/1
مباحث يف علم الكالم والفل�سفة� .ص (.)16-15 15ـ امل�صدر ال�سابق .47/1
27ـ عثمان بن �سعيد الدارمي ال�شافعي :الرد على اجلهمية .من�شورات 16ـ مقدمة حتقيق «مقاالت ا إل�سالميني» ألبي احل�سن ا أل�شعري .للمحقق
19 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
والن�ساك بني املعتزلة وعامة �أهل ال�سنة .ر�سائل اجلاحظ والعلماء والعباد ّ املكتب ا إل�سالمي بدم�شق .ط � 1961/2ص(.)115-114
. 97/3ومما قاله حنابلة اجلماعة ال�سنية يف هذا املو�ضوع ،قول ابن 28ـ �سورة �ص .6/
قدامة« :فنحن �أ�صحاب املقامات الفاخرة ،ولنا �رشف الدنيا وا آلخرة ،ومن 29ـ ا ألنعام .26/
نظر يف كتب العلماء التي �أفردت لذكر ا ألولياء مل يجد فيها� ،إال منا ،ومتى 30ـ املدثر .25/
نقلت الكرامات مل تنقل �إال عنا ،ومتى �أراد واعظ �أو غريه يطيّب جمل�سه 31ـ الرد على اجلهمية �ص ( .)116 ،106
ويزينه ،زينه ب�أخبار بع�ض زهادنا �أو كرامات عبّادنا �أو و�صف علمائنا. 32ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة � .ص ( 776ـ )778وف�ضل االعتزال �ص 152و
ويكْ� َشف
وعند ذكر �صاحلينا تنزل الرحمة وتطيب القلوب وي�ستجاب الدعاء ُ «خلق القر�آن» للجاحظ� ،ضمن جمموع ر�سائله .296/3
البالء» .ينظر كتابه :حترمي النظر يف كتب الكالم� ،ص .40 33ـ امللل والنحل .38/1
47ـ امل�صدر نف�سه �ص .188 34ـ وهذا ر�أي ا أل�شعري كذلك :ا إلبانة �ص ( .)15-14
48ـ ويرجع للكتاب نف�سه �ص .164 35ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص ،775وينظر يف الكتاب نف�سه �ص ( 772
لل�شعري .65/1 49ـ مقاالت ا إل�سالميني أ – )779وف�ضل االعتزال �ص (.)170 - 167
50ـ امللل والنحل .6/1 36ـ ن�ش�أة الفكر الفل�سفي يف ا إل�سالم لعلي �سامي الن�شار �ص ( ،285
51ـ امل�صدر ال�سابق .79/1 .)287
52ـ مقاالت ا إل�سالميني . 224/1 37ـ �إح�صاء العلوم �ص ( 41ـ )43واال�صطالح على هذه الفئات من
53ـ جمموعة الفتاوى البن تيمية .ن�رشة دار الوفاء� .إ�رشاف عامر اجلزار و�ضعنا.
و�أنور الباز .م�رص ط .131/6 1998/2 38ـ ينظر �أمثلة لذلك يف :الرد على اجلهمية للدارمي ،وا أل�سماء وال�صفات
54ـ امل�صدر ال�سابق .198/5 للبيهقي� .أما ال�شعار النقلي ال�سمعي ملذهب �أهل ال�سلف ،فدعوتهم لـ«ا إلقرار
55ـ امل�صدر ال�سابق وال�صفحة نف�سها. والت�سليم ،وترك التعر�ض للت�أويل والتمثيل» ،وال�سكوت عن التف�سري ،ومترير
56ـ نف�سه .199/5 ا آليات وا ألحاديث على ظاهر ما جاءت به .ولهم يف م�أثورهم �أقوال كثرية
57ـ نف�سه 220(/6ـ .)221 على ذلك :ينظر :حترمي النظر �ص( )39-36ومما ذكره املوفق احلنبلي يف
58ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص ( )183-182و مقاالت ا إل�سالميني (/1 كتابه حترمي النظر»:
224ـ241 ( ،)229ـ . )244 « -ال خالف بني �أهل النقل �سنيّهم وبدعيّهم يف �أن مذهب ال�سلف ر�ضي
59ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص.151 اهلل عنهم يف �صفات اهلل �سبحانه وتعاىل ،ا إلقرار بها وا إلمرار لها والت�سليم
60ـ ف�ضل االعتزال �ص .347 لقائلها وترك التعر�ض لتف�سريها»�( .ص.)37-36
61ـ املجموع يف املحيط بالتكليف . 316/1 « -الت�أويل تكلف وحمق وتنطع وكالم باجلهل وتعر�ض للخطر فيما ال
62ـ ف�ضل االعتزال �ص (.)349-348 تدعو �إليه حاجة» �ص .51
63ـ ينظر مثال منهاج �أهل ال�سنة البن تيمية .دار الكتب العلمية.بريوت . � -سئل مالك عن ا�ستواء اهلل تعاىل على العر�ش فقال« :اال�ستواء غري جمهول
لبنان (د.ت) . )127-126 (/1 والكيف غري معقول وا إلميان به واجب وال�س�ؤال عنه بدعة»� .ص .60
64ـ الغزايل :االقت�صاد يف االعتقاد .دار الكتب العلمية .بريوت .لبنان .ط �« -إذا �س�ألنا �سائل عن معنى هذه ا أللفاظ قلنا :ال نزيدك على �ألفاظها
� .1983/1ص .53 معنى ،بل قراءتها تف�سريها من غري معنى بعينه وال تف�سري ً زيادة تفيد
65ـ الغنية يف �أ�صول الدين ألبي �سعيد الني�سابوري ال�شافعي .حتقيق عماد بنف�سه ،ولكن قد علمنا �أن لها معنى يف اجلملة يعلمه املتكلم بها ،فنحن
الدين �أحمد حيدر .ط .1987/1م�ؤ�س�سة الكتب الثقافية .بريوت .لبنان� .ص ن�ؤمن بها بذلك املعنى»� .ص.59
.98 39ـ املجموع يف املحيط بالتكليف ،للقا�ضي عبد اجلبار ن�رشه و�صححه
66ـ امل�صدر ال�سابق �ص .110 ا ألب جني يو�سف هوبن الي�سوعي .املطبعة الكاثولكية .بريوت .332/1
67ـ تب�رصة ا ألدلة يف �أ�صول الدين ألبي املعني الن�سفي .حتقيق كلود وينظر يف مو�ضوع اعتداد املعتزلة بالعقل :ف�ضل االعتزال �ص . 139
�سالمة .من�شورات املعهد العلمي الفرن�سي للدرا�سات العربية بدم�شق. و�رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص (50ـ )76حيث تكلم القا�ضي عبد اجلبار على
�سوريا.)258-257(/1 .1995 . ف�ساد التقليد ،و�صواب ووجوب املعرفة بالنظر.
68ـ امل�صدر ال�سابق .258/1 40ـ ف�ضل االعتزال �ص .184
69ـ امل�صدر نف�سه .259/1وقد ذكر ابن تيمية يف عدد من كتبه ت�أثر 41ـ امل�صدر ال�سابق �ص (.)269-266
الكالبية وا أل�شاعرة وال�ساملية وبع�ض احلنابلة و�أهل ال�سنة واحلديث، 42ـ امللل والنحل .)38ّ-37 ( /1
با أل�صول االعتزالية واتكاءهم عليهم يف مناظرتهم لغريهم .ينظر مثال: 43ـ ف�ضل االعتزال �ص ،186و�ص ،185وقوله يف ( �ص « :)151وكل
جمموعة الفتاوى .طبعة دار الوفاء )331-330(/5ودرء التعار�ض ا ألمة يقولون� :إن اهلل واحد لي�س كمثله �شيء .فامل�شبهة تنق�ض ذلك .ومن
.157/1 نق�ض ما نزل به الكتاب و�صح فيه ذكرنا ،من ال�سنة وا إلجماع ،فهو
70ـ ا إلر�شاد للجويني .حتقيق �أ�سعد متيم .م�ؤ�س�سة الكتب الثقافية .بريوت. خارج عن امللة» .وامل�شبهة عند املعتزلة هم �أهل ال�سنة القائلون ب�إثبات
لبنان .ط � 1985/1ص (.)106 ،114 ال�صفات.
71ـ مقاالت ا إل�سالميني .241/1 44ـ ف�ضل االعتزال �ص .187
72ـ املواقف ل إليجي .46/1 45ـ امل�صدر ال�سابق �ص . 213
73ـ �رشح الكوكب املنري البن النجار .9/2 46ـ امل�صدر املذكور �ص .188وينظر �أي�ضا يف م�س�ألة املفاخرة يف العدد
s
s
s
دون الت�رصيح وعلى ا إل�شارة دون العبارة »:وقال هذه مواقع ننظر منها �إىل فعل الكتابة كما يناق�شه
يل :خفيت يف البيان ،وال�شعور ألهل ال�ستور»( )3وهذا ابن عربي يف � أكرث من منا�سبة .لكن فعل الكتابة
ال�سرت له �سند من حياة اللغة يف حدّ ذاتها ،ومن الن�ص يف حدّ ذاته له ارتباطاته ب�أفعال � أخرى حتددها
املركزي الذي هوالقر� آن الكرمي« :ثم قال يل � :أنظرين الل�سانيات احلديثة يف �شكل نظري بحت ،منها
يف النظم املح�صور ،وهومو�ضع الرمز ،وحمل للغز الكالم ،وهو احلدث ال�ضمني املوجود بالقوة يف كل
ا أل�شياء .ولوعلم � أن يف �شدة الو�ضوح لغز ا أل�شياء، كتابة �إن�سانية � أووجودية ،لكن مقاربة الكالم يف
ورمزها ،ل�سلكوه � .أنزلت الآيات النريات دالئل ذاته � أي�ضا حمفوف بنوع من املخاطر ،يتعلق ا ألمر
ملعان ال تفهم � أبدا»( )4وهوتعبري دقيق عن معاين مبفهوم الكالم ا إللهي �إذا قي�س بالكالم ا إلن�ساين
قد �صاغها النفري بقوة العبارة وجمال البالغة � أوالب�رشي ب�صورة � أو�ضح .الكالم له عالقته بال�صمت
اجلدل بني
يف املواقف واملخاطبات ،مثل قوله« :و� أنا من يف عرفانية ابن عربي ،ألن امل�س�ألة معقودة بتجربة
وراء الل�سان»( )5فكون املعنى الذي تختزله الر ؤ�ية � أكرب هي جتربة الت�صوف التي ال ت�سمح بالتمايز الكالم وال�صمت
العرفانية خافيا وم�ستورا وغائبا د ّل على عجز بني �سائر املفارقات� .سنحاول مناق�شة حدث عند ابن
البيان � أوالل�سان ،ثم ي�صبح ال�صمت �سيد املوقف ملّا الكتابة � أوال يف عالقته بالكالم ،والكالم يف �صوره عربي ي�أخذ
تتجلى احلقائق يف �صورتها القاهرة« :يا عبد من املختلفة والرمزية. ُبعدا فل�سفيا
()6
ر� آين جاز النطق وال�صمت». يف كتابه روح القد�س ،والذي ُيعدُّ وثيقة خا�صة ووجوديا ،فهو
د ّل ا�شتغال ابن عربي على م�ضمون الكالم وال�صمت ملتب�سة بحياة ال�شيخ ال�شخ�صية ،يلفت ابن عربي ينطلق من
بفاعلية � أكرث �إدها�شا للقارئ املعا�رص الذي يرى االنتباه �إىل عالقته بالتكلم � أو بالكالم ،فمن خالل جتربته التي
ب�أن ما تقوله الفل�سفة احلديثة قد ا�ستب�رص به ابن جتربته ال�صوفية الكبرية يبدو له الكالم زائدا عن تظل حية
عربي عن طريق الك�شف ،وهذا ما �سميناه بالتعبري احلاجة� ،إذ املت�صوف يف طريق حتقيقه للمعرفة وواعية بذاتها،
حتدُّها
عن املطلق الذي ت�شرتك فيه ذوات كثرية ال ُ ي�صفو كالمه وتدق عباراته ،وهو يقول يف ذلك:
وتظل � أي�ضا
ا ألمكنة وال ا ألزمنة � ،أوكما قال رودولف � أوتوعن «ف�إين كنت �شديد القهر لنف�سي يف الكالم»( )2وهذا
الت�صوف من حيث هومطلق الزمني وال تاريخ له، يعني � أن التجربة � أكرب من � أن ي�ستوعبها ل�سان املعني الذي ال
�إنه واحد يف الزمان واملكان� )7(.إن ابن عربي يف � أونطق ،فهي تتجاوز حلظة الكالم وت�ستلزم ال�صمت. ين�ضب بالن�سبة
ن�ص �سابق حول احل�ضور والغياب يوحي مب�س�ألة اجلدل بني الكالم وال�صمت عند ابن عربي ي�أخذ �إليه كعارف يف
جتذر املوقف اجلمايل املعا�رص يف الفكر ا إلن�ساين ُبعدا فل�سفيا ووجوديا ،فهو ينطلق من جتربته طريق املعرفة
الذي ي�شتغل بدوره على هذه الثنائية ال�صعبة .نحن التي تظل حية وواعية بذاتها ،وتظل � أي�ضا املعني اللهية التي الإ
�سن�شتغل على م�شهد مهم هوم�شهد نور ال�صمت بطلوع الذي ال ين�ضب بالن�سبة �إليه كعارف يف طريق نطق معها.
جنم ال�سلب الذي يقول يف مقدمته �« :أ�شهدين احلق املعرفة ا إللهية التي ال نطق معها� .إننا من خالل
ال�سل ْ ِب ،ف�أخر�سني،
مب�شهد نور ال�صمت ،وطلوع جنم َ القراءة املتنوعة لبع�ض املتون ال�صوفية البن
فما بقي يف الكون مو�ضع �إال ارتقم بكالمي ،وما عربي خا�صة ،الحظنا مدى الت�أثر ال�شديد ب�صاحب
�سطر كتاب �إال من مادتي و�إلقائي»( )8وهي مقدمة املواقف واملخاطبات الذي ج�سد فكرة ال�صمت يف
تعرب عن حقيقة ال�صمت يف مقابل الكالم .ال�صمت مقابل �شهود املعنى ا إللهي الذي ال كالم معه .لقد
الذي يعني التكلم .فنور ال�صمت ي�أتي من كون عرف كيف ي�ستفيد ابن عربي من غريه ولو بطريق
الكالم �صفة عار�ضة« :فالعبد �صامت بذاته متكلم الرمز وا إلمياء وا إل�شارة البعيدة� .إنه ال ي�رصّح
بالعر�ض»( )9الطرح الذي طرحه ابن عربي يتجاوز بذلك ولكن ن�صه �رصيح مبظاهر الت�أثر ال�شديد.
املعنى التقليدي لل�صمت ،فهو معني بال�صورة ففي كتابه م�شاهد ا أل�رسار القد�سية ومطالع ا ألنوار
الرمزية حيث ال�صمت له ح�ضوره يف الوجود .فالذي ا إللهية +يلمح ابن عربي �إىل عالقة ال�صمت بالكالم
خلق �صفة الكالم هو اهلل ،واملتكلم يف احلقيقة يف جتربته ال�صوفية والتي تت�ضمن بال�رضورة
هو اهلل ألنه خالق هذا الكالم � ،أنطقه اهلل تعاىل جتربة جمالية ال تفارقها ألنها متثل ن�سغها ودمها
فهومتكلم بالعر�ض � ،أما يف حقيقته فهو�صامت .ثم الذي ي�رسي فيها .جتربة امل�شاهد تركز على التلميح
22 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الت�صوف والفكر والفل�سفة �إن مل نقل � أزمنة وجهودا ين�سحب مفهوم ال�صمت جماليا �إىل � أقا�صي � أخرى
و� أجياالً .مقاربة الفل�سفة انطالقا من بع�ض رموزها من العرفان ا ألكربي حيث يتجلى الكالم فقط من
الكربى َت ِعدُنا بالكثري فيما يتعلق بجماليات اللغة حيث كونه م�ؤثرا وفاعال ،وهو ال�صادر عن اهلل
بكل متعلقاتها يف باب العرفان ا إل�سالمي .ودرا�سة اخلالق بقدرة كن« :وعن الكالم �صدرنا وهو قوله:
ابن عربي لهذا ال�ش�أن درا�سة تتفرع على � أوجه كن فكنّا ،فال�صمت حالة عدمية والكالم حالة ْ
�إننا من خالل و� أبواب وتفاريع خمتلفة ،فهومل يناق�ش هذه امل�س�ألة وجودية»( )10ومن هذا الباب فقط تبدو �صورة الكالم
القراءة بطريقة كال�سيكية عادية ،بل ر� أى �إىل � أوجهها من حيث عالقته بالذات ا إللهية م�صدر الوجود،
املتنوعة اخلفية واطلع عليها رمزا و� أ�شار �إىل كل ذلك �إ�شارة، ولي�س املق�صود بالكالم جمرد معناه الطبيعي ،بقدر
لبع�ض املتون وعلى الدار�س حينئذ � أن يتفطن للعبة الكلمات التي � أن املق�صود هو النطق بالكلمة ،وحا�صلها هوعامل
ال�صوفية البن تعيد �صياغة الفكر من منظور جديد. املوجودات .ولو عدنا �إىل ن�ص امل�شهد املذكور
عربي خا�صة، ما هي � أطروحة ابن عربي يف الكالم والكتابة �سابقا لوجدنا � أن فكرة ال�صمت تتجاوز املعطى
الحظنا مدى وال�صمت؟ كيف تتجلى اجلماليات يف امل�سائل التي العام الذي يعرفه النا�س لتتلب�س باملعنى الوجودي
الت�أثر ال�شديد طرحها داخل منظومة العرفان؟ كيف ت�شكلت هذه اخلال�ص الذي يخ�ص الذات ا إلن�سانية وبخا�صة
امل�سائل لت�أخذ �صفة اجلمالية؟ وهل هذه الق�ضايا لها العارف »:ثم قال يل :ال�صمت حقيقتك»( )11وتتجلى
ب�صاحب
راهنيتها وم�ستقبلها؟ كيف ميكن احلديث عن � أبعاد هذه احلقيقة يف حدث الكالم ،وهذا يجعل منطوق
املواقف هذه امل�سائل على امل�ستوى الروحي واملعريف؟ هذه الن�صو�ص ذات طبيعة جدلية ويدخلنا يف عملية
واملخاطبات جملة من ا أل�سئلة التي �ستكون ا إلجابة عنها ت�شكل ت�أويل �رصفة« :ثم قال يل :على الكالم فطرتك ،وهو
الذي ج�سد مادة هذه الدرا�سة .وقد دلّت ال�صفحات ال�سابقة ()12
حقيقة �صمتك .ف�إذا كنت متكلما ف�أنت �صامت».
فكرة ال�صمت ر ؤ�ية تب�سيطية لبع�ض هذه امل�سائل التي �ستظ ّل لو� أمكن العودة �إىل امل�صادر ا أل�سا�سية يف الفكر
يف مقابل �شهود حا�رضة دائما يف �صلب النقا�شات املعا�رصة. الغربي خا�صة جند �صدى كبريا ملثل هذه املعاين
اللهياملعنى إ ملعان
ٍ يف فل�سفة ابن عربي وت�صوفه جند �إرها�صاتٍ منعك�سة يف الكتابات الفل�سفية ذات اجلذور العميقة.
الذي ال كالم عما تد ّل دائما على ما هو� آتٍ .ال يتحدث ابن عربي ّ بع�ض الفال�سفة ممن التزموا خط التفكري يف ا إلن�سان
معه .لقد هوحي يف اللغة
ٌّ م�ضى ب�شكل ميت ،بل ي�ستعمل ما وم�شاغله الق�صوى ،مثل هايدجر ،مل يكتفوا فقط
عرف كيف لكي يتجاوز ع�رصه ،وهذا يربّر حقا مدى االهتمام باحلديث العام عن الق�ضايا التقليدية التي حتدث
الكبري بعرفانيته على جميع امل�ستويات .يف عنها الفكر الب�رشي منذ القدمي ،بل �شعروا باحلاجة
ي�ستفيد ابن الفتوحات املكية جنده يقول عن الكالم« :فما عندنا �إىل التعبري عن امل�شاغل الراهنة وا أل�سا�سية التي
عربي من غريه يف الوجود �صامت � أ�صالً»( � )14أي كل �شيء يتكلم لها عالقة بال�رشط ا إلن�ساين وبخا�صة م�س�ألة اللغة
ولو بطريق بال�رضورة ،و�إن مل يق�صد الكالم فقد ق�صد معنى ()13
التي قال عنها هايدجر ب�أنها« :بيت الكائن».
والمياء
الرمز إ النطق بالداللة ،نطق بالل�سان � أوبغري الل�سان .هكذا �إنها م�س�ألة معقدة ألنها متثل �شبكة من العالقات
وال�شارة
إ يتحدث ابن عربي � أي�ضا يف كتابه امل�شاهد« :تكلمت املتناق�ضة ،ففي اللغة جند الوجود ب�أكمله مبا يف
البعيدة � أو�صمت ف�أنت متكلم»( � )15أو بتعبري هايدجر الذي ذلك الوجود ا إلن�ساين .ونق�صد بالوجود العياين
يتقارب مع مفهوم ابن عربي« :نحن نتكلم با�ستمرار املادي � أواملعنوي ،فعن طريق اللغة يوجد ا إلن�سان،
حتى لومل ننطق بكلمة»( )16والداللة متقاربة �إن مل وهوما كان يعرب عنه ابن عربي يف ق�ضية الكالم
نقل ب�أنها واحدة ،ولكن التعبري عنها خمتلف بح�سب وال�صمت� .إننا نحاول مقاربة م�س�ألة الكتابة عن
موقع كل واحد منهما يف لغته .يحاول ابن عربي طريق م�صادرها ا أل�سا�سية والتي تتمثل � أوال وقبل
� أن يوحي بداللة الوجود الذي يتكلم بال�رضورة. كل �شيء يف الكالم ،والكالم لي�س ظاهرة ب�سيطة
فالعامل مبا فيه من � أ�شياء وموجودات ال ينقطع ميكنها � أن حتلل بكيفية عادية ،بل هو ظاهرة
عن الكالم � أبدا ،فداللته م�ستمرة ما دام موجودا، معقدة له �صلة بالوجود الب�رشي ككل ،والكالم � أي�ضا
وهذا حا�صل ما يراه العارف يف هذا الوجود .فعلى لي�س �صفة ب�رشية بل هو�صفة �إلهية حم�ضة ،وبيان
امل�ستوى اجلمايل نالحظ � أن ابن عربي يو�سع من طبيعة �صفة الكالم ا إللهي معنى ي�ستغرق كتبا يف
23 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الفهم .وهذا ال�سماع الذي يتجاوز ال�صورة التقليدية دائرة املعنى اخلا�ص بالكتابة والكالم وال�صمت
لي�س معطى عاما بل هو خل�صو�ص العارفني الذين بحكم كونه مت�ضمنا يف عملية الكالم والداللة،
ال يتقيدون بال�صورة التي ي�شتغل بها العوام � أو ويجعل هذه الدائرة تنداح �إىل دوائر � أخرى عرب
الغري. القراءة التي ت�ستمر مع القارئ .رمبا يحق لنا � أن
�إن ابن عربي كثريا ما ي�شتغل على املعطيات غري ن�س�أل كيف ميكن � أن يت�شكل فعل الكالم يف الوجود؟
املادية لآليات التفكري عند ا إلن�سان � أو الب�رش عموما، ال �شك � أن بداهة ا إلجابة �ستكون متمحورة حول
معني ب�صورة العارف � أوا إلن�سان الكامل الذي ألنه فعل الكتابة التي يقول عنها ابن عربي ب�شكل � ّأخاذ
ّ يف فل�سفة ابن
اكتملت لديه املعطيات الب�رشية وغري الب�رشية ورمزي« :ف�إن الكتابة � أمر وجودي فال بد � أن يكون
للفهم والتلقي عن ا إلله ،وهذا ما قام ب�رشحه يف ()17
متناهيا». عربي وت�صوفه
مقام متجدد ملا حتدث عن اخلطاب ا إللهي م�ستدال املرحلة اجلديدة يف فعل الكتابة تبد� أ من هذا رها�صات
ٍ جند � إ
ان ِلبَ�شرَ ٍ �أَن ُي َكل ِّ َم ُه اللهَّ ُ � ِإ اَّل َو ْحيًا
بقوله تعاىلَ } :و َما َك َ الوجود الذي يتحدث عنه ابن عربي ب�شكل رمزي. ملعان تدلّ دائما ٍ
ويرْ ِ�س َل َر ُ�سولاً {(ال�شورى،)51/ �أَو ِمن َو َراء ِح َج ٍ
اب � أَ ُ ولكن طبيعة املقاربة لظاهرة الكتابة ال بدّ � أن تبد� أ على ما هو� ٍآت.
مفرقا بني مقامات اخلطاب التي جعلها يف الوحي من املعنى التقليدي للكتابة ،ألن هذا الفعل الرمزي ال يتحدث
� أومن وراء حجاب � أو�إر�سال الر�سل ،ومقام من وراء �سيت�سع ليدل على مفهوم � أو�سع وهي كتابة الوجود ابن عربي
احلجاب يكاد ي�شتبه بالكالم الذي لي�س يف مواد، الذي يت�صل بعامل الداللة ذاتها� ،إذ « :العامل لي�س عما م�ضى
حيث يقول عنه ابن عربي« :و� أما قوله تعاىل }�أَو ِمن فقط مكانا أل�شياء ومواد و� أ�شخا�ص و� أحداث ،ولكنه ّ
ب�شكل ميت،
اب{ فهو خطاب �إلهي يلقيه على ال�سمع َو َراء ِح َج ٍ ()18
�صور دالة من جهة ،ورمزية من جهة � أخرى»
ال على القلب فيدركه من � ألقي عليه فيفهم منه ما و�سنحاول � أن نحيل على ن�ص يف الفتوحات يجمع بل ي�ستعمل ما
ق�صد به من � أ�سمعه ذلك وقد يح�صل له ذلك يف بني داللتني خمتلفتني للكتابة ا�سرتعى انتباه هوحي يف اللغة ٌّ
لكي يتجاوز
�صورة التجلي )22(».والتجلي لي�س �رشطا فيه � أن حمال � أوجه ،وفيه يقول ابن عربي: الدار�سني ،ألنه ّ
يكون قوليا ،والقول نف�سه عند ابن عربي قوالن: «اعلم � أن الكالم على ق�سمني :كالم يف موادّ ت�سمى ع�صره ،وهذا
()23
«قول حال وقول خطاب». حروفاً وهوعلى ق�سمني� :إما مرقومة � أعني احلروف يربر حقاّ
على امل�ستوى الفينومينولوجي ،تبدوالكتابة مرتبطة وت�سمى كتاباً � ،أومتلفظاً بها وت�سمى قوالً وكالماً. مدى االهتمام
بالوجود املادي واحليز احل�سي الذي يت�ضمنها� .إن والنوع الثاين كالم لي�س يف موادّ ،فذاك الكالم الكبري
الكتابة تتناهى ألن الوجود متناهٍ ،وهذا ي�ؤكد مدى الذي ال يكون يف مواد ُيعلم وال يقال فيه يفهم بعرفانيته
ج�سد
ما و�صل �إليه ت�أمل ابن عربي العرفاين الذي ّ فيتعلق به العلم من ال�سامع الذي ال ي�سمع ب� آلة على جميع
معنى الكتابة يف الظاهر الذي تعنيه ،ويف املعنى بحق جمر ٍد عن ا آللة ،كما �إذا كان الكالم
بل ي�سمع ٍ
امل�ستويات
الذي تك�شف عنه وا أل�شياء التي تت�ضمنها .ولوعدنا يف غري مادة فال ي�سمع �إال مبا ينا�سبه» فهو ميز
()19
�إىل الن�ص املركزي الذي ا�ستحالت فيه الكتابة على م�ستوى الكالم بني نوعني � ،أحدهما مت�ضمن
من ر�سم مرقوم خطاً �إىل وجود عيني ،لر� أينا ب�أن يف مادة معلومة ،ف�إذا كان مرقوما فهوالكتابة
املفهوم متفرع عن � أ�صل م�ؤكد عند ال�شيخ ا ألكرب. والرقم هنا هو الت�سطري التي قال عنه بول ريكور:
و�إذا كنا ن�ؤكد على ظاهرة الكتابة يف �صلتها باحل�س «هو تعقل م�ضموين خال�ص لفعل التكلم»( � )20أما
و�سمينا هذا النوع من املقاربة بالفينومينولوجيا �إذا كان �شفويا فهو قول � أوكالم .و� أما الق�سم الثاين
ن�سبة �إىل علم الظواهر � أوالظاهريات ،والت�سمية يف فهو الذي يت�ضمن نوعا من الغمو�ض كما الحظ
احلقيقة تدل على معنى واحد ،فبع�ض الدرا�سات � أحد الدار�سني( )21فقط ألن امل�س�ألة لها عالقة بداللة
تراهن على فكرة ا ألنطولوجيا وهي �صلة الكتابة مادة
النوع الثاين من الكالم الذي ال ي�ستحيل �إىل ّ
بالوجود � ،أومقاربة الكتابة كحدث داخل الوجود � أو�شكل � أو�صورة� .إن عملية الفهم مقرتنة ب�سماعه
ا إلن�ساين« :والوعي بهذه البذرة الوجودية وب�رسيانها دون � آلة وال ي�شرتط فيه � أن توجد و�سيلة �إىل ذلك،
يف املفهوم ويف املفاهيم التي تكوِّن معه �سياجا ألنه يف احلقيقة كالم رمزي يتجاوز معطيات احل�س
نظريا هوما مي ِّكن من حتقيق قراءة ن�سقية تراهن ا إلن�ساين املرتبط بالو�سائل والآالت امل�ؤدية �إىل
24 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حيث اجلماليات والتفا�صيل الفنية املتعلقة بها، على العالقات يف ت�شابكاتها الالنهائية»
()24
بل هي حدث كلي ال ي�شمل ا إلن�سان فقط بل جميع والعالقة هنا هي التفكري يف املتعدد من العنا�رص
املوجودات ،وا إلن�سان نف�سه هوواحد من متعينات الذي يحكم فكرة الكتابة نزوال من الكتابة ا إللهية
الكتابة كباقي ال�صور وا أل�شكال واملتعينات يف �إىل الكتابة ا إلن�سانية� .إذن �سنحاول � أن ن�شخ�ص
هذا الوجود .من هنا يبد� أ التمييز بني � أنواع الكتابة. فكرة الكتابة على امل�ستوى الظاهري ألن ن�ص ابن
ولندع ن�ص ابن عربي نف�سه ي�رشح هذه التفا�صيل عربي يف هذا ا ألمر لي�س فقط مت�شابكا بل هو مدعاة
املهمة يف م�س�ألة الكتابة ،و�ستكون مقاربتنا لها للتفكري اجلاد والت�أويل احل�صيف ،ومعانيه متعددة
مقاربة ن�صية و�صفية �شارحة .قد � أحلنا على املعنى ال تنح�رص فيما هو حم�صور يف املنظومات املعرفية
ا ألول للكتابة كما تعرف يف ال�سياقات ا ألخرى، ا ألخرى كالنقد ا ألدبي والبالغة وعلم الكالم .فهناك
�إن ابن عربي
وحتى يف ال�سياقات احلديثة وا�ستدللنا ببول ريكور ا�ستيعاب حقيقي جلميع هذه املعاين وا ألفكار
كثريا ما حينما يرى �إىل الكتابة كحدث يلتزم بخطية معينة و�إعادة �صياغتها يف معنى جامع لها .ر ؤ�ية الت�شابك
ي�شتغل على وعند ابن عربي ي�سميه بالت�سطري ،فاملفهوم اخلطي هويف احلقيقة ا�ستب�صار بطبيعة العالقات التي
املعطيات غري للكتابة وما يت�ضمنه من مفاهيم �إ�ضافية كالتثبيت حتكم العنا�رص املكونة للفكرة � أوللر ؤ�ية .الكتابة
لليات املادية آ مثال هواملفهوم التقليدي الذي ي�ضبطها ،لكن يف هنا عند ابن عربي تخطت عتبة املفاهيم ودخلت
التفكري عند عرفانية ابن عربي تتجاوز الكتابة هذا املفهوم � أقا�صي التجربة الكلية التي اختربها العارف على
الن�سان � أوإ لت�شمل الوجود بكامله وهنا يكمن حقا ا إلطار امل�ستوى ال�شخ�صي .ما عا�شه ابن عربي كتب عنه،
الب�شر عموما، اجلمايل لها .فجماليات الكتابة لي�س فقط كونها �إنه مر� آة جتربته التي قادها بالك�شف ا إللهي دون
معني لنه أ متعلقة فقط بالقطاع الفني � أو ا ألدبي ،بل كونها االهتمام بالعقل النظري الذي ال ي�ؤدي �إىل �شيء،
ّ ذات �صلة بالوجود ا إلن�ساين ب�شكل عام. والتجربة ال�صوفية عموما هي جتربة بريئة خالية
ب�صورة العارف
ميثل ا إلن�سان حدثا كتابيا �ضمن وجود � أ�شمل ،وهنا من ا ألفكار امل�سبقة � أو املعرفة النظرية ،التجربة
أوالن�سان
� إ لي�س احلرف وحده الذي ميثل �صورة الكتابة يف ال�صوفية بتعبري جورج باتاي« :تولد من اجلهل
الكامل الذي وتظل فيه حتما»( )25وقد � أ�شار ابن عربي نف�سه �إىل
�شكلها اخلطي ا ألفقي ،بل الوجود ا إلن�ساين ومن ثمّ
اكتملت لديه العامل بكامله الذي ُي َعدُّ« :امل�صحف الكبري الذي هذا ا ألمر ب�رصيح العبارة حينما قال« :ومعرفته
املعطيات تاله احلق علينا تالوة حال كما � أن القر� آن تالوة اجلهل به ف�إنها حقيقة العبودية»( )26ونحن ا�ستدللنا
الب�شرية وغري قول عندنا ،فالعامل حروف خمطوطة مرقومة يف بهذا املعنى لنفيد ب�أن حم�صول التجربة لي�س الوعي
الب�شرية للفهم ر ّق الوجود املن�شور ،وال تزال الكتابة فيه دائمة املنطقي للأ �شياء ،ألن ابن عربي يتحدث عن م�سائل
والتلقي � أبدا ال تنتهي )27(».وقد � أملحنا � أن الكتابة تنتمي �إىل ال ي�ؤيدها العقل على ا إلطالق ،بل هي من منبع
الوجود فهي تنتهي بانتهائه ،لكن الكتابة ا إللهية املخيلة الطليقة التي واتت العارف خالل مكا�شفته،
يف �شكلها الرمزي ال تنتهي ألنها دالة على القدرة، وهذا �سبيل من �سبل املعرفة دللنا عليه يف ف�صل
وتركيب ال�صورة هوالذي يعطينا ت�صورا جماليا عن التجربة ال�صوفية عند ابن عربي.
مفهوم الكتابة يف حدّ ذاتها ،وهو � أن اجلامع بني كيف يت�صور ابن عربي الكتابة يف �شكلها املطلق؟
احلدثني هو فعل اخللق وا إلبداع .فالكتابة حدث هل من حمددات مفاهيمية ينطلق منها لت�صوراته؟
�إبداعي يف املقام ا ألول ،حدث يدل على تنا�سل هل ك�شفه كان ُم َ�ؤ�س�سا؟ لعلنا ال نبالغ كثريا �إذا
ال�صور وا أل�شكال وتدفقها من يد املبدع ،وهذا من قلنا ب�أن عرفاينة ابن عربي تتناول م�س�ألة الكتابة
فعل ا ألداة التي يت�شكل بها العامل ويق�صد بها القلم تناوال �شموليا وكليا ،ومن �رضورات املذهب
واليد التي تكتب به .هذه كلها م�سائل متعالقة التناول ال�شمويل للظواهر .ولكن هذه ال�شمولية ال
فيما بينها� .إن ا إلن�سان يف عرفانية ابن عربي ال تلغي التفا�صيل التي متلك � أهمية خا�صة .فالكتابة
يتحدد فقط مبفاهيم خارجة عن ذاته ،بل هو ن�سخة لي�ست ظاهرة متعلقة فقط بحدث ح�ضاري وثقايف
العامل كما يقول( )28ولكنها ت�أخذ �صورة من �شكل يقوم به ا إلن�سان خالفا للكائنات ا ألخرى ،وهي
�شبيه � أعلى منها« :فكل ما يف هذا العامل جزء منه لي�ست تبعا لذلك ميزة فارقة بني الكتاب � أنف�سهم من
25 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s
عدم التحدد � أكرث من الب�رص .هذا من جهة ،ومن بالذات العقل ا ألول ،فعقل عن اهلل ما علمه و� أمره
جهة ثانية فمجال الكتابة ما ينح�رص يف الوجود، � أن يكتب ما علمه يف اللوح املحفوظ الذي خلقه
� أي ما �سمعه القلم من الكالم ا إللهي ،من بدء اخللق ف�سماه قلما ،فمن علمه الذي علمه � أن قال له منه ّ
�إىل يوم القيامة ،وكل هذا الزمن ف�إنه يف احلقيقة � أدبا مع املعلم ما � أكتب هل ما علمتني � أوما متليه
حم�صور ،وما هو حم�صور يتقيد يف �صفحة الكتابة. علي؟ فهذا من � أدب املتعلم �إذا قال له املعلم قوال ّ
ف�ضال عن � أن اال�سم يقوم هو بدوره بعملية التثبيت جممال يطلب التف�صيل فقال له :اكتب ما كان وما
والتقييد ،ألن متعلقه با أل�شياء «وكتب ت�أثري � أ�سمائه قد علمته وما يكون مما � أمليه عليك وهوعلمي يف
فيهم» ويق�صد يف املوجودات التي � أمر بكتابتها .ال خلقي �إىل يوم القيامة ال غري ،فكتب ما يف علمه مما
نكتب دون ا�سم حامل .والب�رص و�إن تقيد فال بدّ � أن كان ،فكتب العماء الذي كان فيه احلق قبل � أن يخلق
يتقيد ب�صورة � أو ب�شكل ،وال�شيء الذي ال �شكل له � أي خلقه وما يحوي عليه ذلك العماء من احلقائق...
ال ا�سم له فهو خارج عن � أ�صل الكتابة كما قررها وكتب وجود ا ألرواح املهيمة وما هيمهم و� أحوالهم
ابن عربي .ت�أتي ال�صورة التي عبرّ بها ابن عربي عن وما هم عليه وذلك كله ليعلمه ،وكتب ت�أثري � أ�سمائه
ابن عربي �صفة القلم حينما قال عنه «منكو�س الر� أ�س» ،وهي فيهم ،وكتب نف�سه ووجوده و�صورة وجوده وما
يتحدث عن
�صورة رمزية معربة عن املجال الب�رصي الذي يحدّ يحوي عليه من العلوم ،وكتب اللوح .فلما فرغ من
م�سائل ال املكتوب ،حتى و�إن كان هذا املكتوب مقيدا مبا هو هذا كله � أملى عليه احلق ما يكون منه �إىل يوم
ي� ؤيدها العقل م�سموع� ،إال ّ � أنه يظل مب�رصا يف املجال الذي يدون القيامة ألن دخول ما ال يتناهى يف الوجود حمال
الطالق، على إ فيه ما مُيلى عليه .منكو�س الر� أ�س ت�رشح حقا معنى فال يكتب ف�إن الكتابة � أمر وجودي فال بدّ � أن يكون
بل هي من منبع التنزيه واالطالق والو�ضوح والو�سع الذي �أُعطي متناهيا ف�أملى عليه احلق تعاىل وكتب القلم منكو�س
املخيلة الطليقة لل�سمع� .سيبقى لنا جمال لكي نتحدث عن ف�ضاء الر� أ�س � أدبا مع املعلم ألن ا إلمالء ال تعلق للب�رص
التي واتت الكتابة كما طرحته بع�ض اجلماليات املعا�رصة به بل متعلق الب�رص ال�شيء الذي يكتب فيه ،وال�سمع
وبخا�صة يف جمال الت�صوير. من القلم هواملتعلق مبا ميليه احلق عليه ،وحقيقة
العارف خالل لقد حتدثنا عن ابن عربي على � أ�سا�س � أنه يكتب ال�سمع � أن ال يتقيد امل�سموع بجهة معينة بخالف
مكا�شفته ،وهذا للم�ستقبل ولي�س متعلقا باملا�ضي .ال �شيء ي�ستهويه الب�رص احل�سي ف�إنه يتقيد �إما بجهة خا�صة معينة
�سبيل من �سبل يف التقاليد الكتابية ال�سابقة� .إنه يكتب وفق اخلربة و�إما باجلهات كلها ،وال�سمع لي�س كذلك ف�إن متعلقه
املعرفة � أو التجربة ال�صوفية التي يح�صل على ثمراتها الكالم ،ف�إن كان املتكلم ذا جهة فذلك راجع �إليه،
من خالل الك�شف الذي ر� أينا �صورة عنه يف ف�صل و�إن كان ال يف جهة وال ذا جهة فذلك راجع �إليه ال
�سابق� .إن ما يدعو �إليه ابن عربي � أو يعرب عنه لي�س لل�سامع ،فال�سمع � أدل يف التنزيه من الب�رص ،و� أخرج
عن نظر ،بل عن ر ؤ�ية وب�صرية ،فهو حمكوم مبجال ()31
عن التقييد و� أو�سع و� أو�ضح يف ا إلطالق».
�شعوري معني ي�ستلهم منه معانيه وك�أنه ُخلق لكي يف الن�ص طبقات من املعنى تك�شف عنها القراءة
يعرب عن الذين �سي�أتون من بعده .هذا ما وجدناه يف ا ألوىل ،والقراءة الثانية �ستك�شف حتما عن طبقات
ال�صور وا أل�شكال التي يعرب عنها يف ف�صل الكتابة. � أخرى � أكرث خفاء .ومنطوق الن�ص يف الظاهر
لقد م�ضى احلديث عن الفرق بني الب�رص وال�سمع يف هو � ّأن الكتابة حت�رصها اجلهة ،فهي مقيدة غري
الكتابة ،وعن الكتابة من حيث هي معنى يرتبط مطلقة وهذه حقيقة القلم .القلم خملوق للكتابة
بالوجود الكلّي الذي يعي�شه ا إلن�سان .بقي � أن نفهم وح�س الكتابة الب�رص والب�رص حم�صور يف اجلهة
ما الوجه الذي ي�ؤ�س�س فعل الكتابة عند ابن عربي؟ التي يكتب فيها «بل متعلق الب�رص ال�شيء الذي
ما امل�ؤديات اجلمالية يف مو�ضوع الكتابة؟ ال �شك يكتب فيه» هكذا يتحدث ابن عربي عن �صفة ما
� أن م�ضمون ا أل�سئلة لي�س املق�صود منه فقط البحث هو مكتوب .املجال الب�رصي هوجمال الكتابة على
عن الكيفيات التي عبرّ بها عن معانيه ،حيث ال كل حال ،ولكن جمال ال�سمع و�إن كان للقلم فهو
تهمنا هنا يف هذا املقام طريقته يف التعبري ،بل ا�ستكتاب � أو كتابة إلمالء �سابق ،ال يتقيد باجلهة
كيف فكر يف هذا املعنى؟ ما حم�صول جهده بل � أو اجلهات على اختالفها .ال�سمع هنا له القدرة على
27 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
هذا الطموح ا ألكربي فعربت عنه ب�صور رمزية ك�شفه العرفاين؟ هذا املق�صود حني ا إلجابة عن
خمتلفة .لقد عرب الناقد موري�س بالن�شو عن معنى ال�س�ؤال .ولي�س اجلدوى من البحث يف ا إلجابة ،بل
الكتاب الآتي الذي ا�شتغل فيه عن غياب ا ألدب ال�س�ؤال الذي يتخلق من خالل الن�صو�ص التي نبحث
و� أعاد �صياغة �س�ؤال الكتابة من منظور الغياب ال فيها ،ألن حلظة ال�س�ؤال هي حلظة القراءة التي انتهت
احل�ضور ،وكانت فكرته تدور حول حتويل الكتابة �إىل احلرية كما يعرب ال�صوفية يف هذا املقام.
�إىل �صيغة �س�ؤال تعني الكاتب يف حدّ ذاته« :كل ال يزال البحث يف الكتابة مو�صوال بالبحث عن
كاتب يجعل من الكتابة ق�ضيته»( )34وهذا ما جعل مت�س اجلانب الباطني فيها ،وهو تفا�صيل � أخرى ّ
بع�ض الدار�سني البن عربي يرى �إىل �إمكانية احلوار جانب يخ�ص حياة ابن عربي و� أمنياته ككاتب
بني ال�شيخ ا ألكرب وبني بع�ض الدرا�سات املعا�رصة جامع للتفا�صيل ،حيث يقول يف �صورة اجلريح الذي
� أمال يف« :حتيني ت�صورات ابن عربي و�إدماجها ي�أمل ما ال ي�ستطيع« :فلو � أعطانا اهلل الكتابة ا إللهية الكتابة حدث
يف الت�أمل اجلديد ،انطالقا من �إعادة بناء هذه � أبرزنا جميع ما يحويه هذا الكتاب على اال�ستيفاء �إبداعي يف
()35
الت�صورات وو�صلها بالزمن الثقايف اجلديد». يف ورقة �صغرية واحدة كما خرج ر�سول اهلل(�ص) الول،املقام أ
ور� أى ب�أن ا إل�شكالية التي تبني هذه الت�صورات بكتابني يف يده بالكتاب ا إللهي الذي لي�س ملخلوق حدث يدل على
تتمثل يف الذات الكاتبة)[(. تعمل ،و� أخرب � أن يف الكتاب الذي يف ميينه � أ�سماء
فيه ُّ تنا�سل ال�صور
ال زلنا ن�أمل يف درا�سة املزيد من التفا�صيل التي � أهل اجلنة و� أ�سماء � آبائهم وقبائلهم وع�شائرهم من أ
وال�شكال
تتعلق بالكتابة وجتربة الت�صوف عند ال�شيخ ا ألكرب، � أول خلقهم �إىل يوم القيامة ،والكتاب الآخر مثله يف وتدفقها من يد
وهي تفا�صيل �ستعرف منعطفا جديدا يف رمزية � أ�سماء � أهل ال�شقاء ،ولوكان ذلك بالكتاب املعهود املبدع ،وهذا
الكتابة وعالقتها باحلياة والوجود معا .وميكننا ما و�سع ورقه املدينة ،فمثل ذلك لووقع لنا � أظهرناه
من فعل أ
الداة
� أن نلخ�ص الباقي يف معنيني مهمني وهما :املحـو يف اللحظة ،وقد ر� أينا تلك الكتابة وهي كاجلنة يف
وا إلثبات ،واملعنى الثاين يتمحور حول داللة ()32
عر�ض احلائط والنار وك�صورة ال�سماء يف املر� آة» التي يت�شكل بها
الكتابة. وامل�س�ألة ت�شبه � أحوا�ض الزهور اليابانية التي حتدث العامل ويق�صد
� أما فيما يتعلق باملحو وا إلثبات فقد كان موقف ابن عنها ال�شاعر الفرن�سي بول كلوديل قيا�سا على بها القلم واليد
عربي جماليا عرفانيا ال يخرج عنهما � أبدا .وم�س�ألة جمموعة من ا ألبيات يف �صفحة تت�ضمنها وقال التي تكتب
الكتابة رمبا هي من امل�سائل ا ألكرث �صعوبة يف عنها ب�أنها احتوت على م�شهد طبيعي كامل يف به .هذه كلها
جمالياته �إذا مل ن�ستثن يف ذلك اخليال ،الرتباطها منمنمة � )33(.أملحنا �إىل مثل هذه التقاطعات لنبني م�سائل متعالقة
بالوجود ،فالكتابة كما ذكرنا لي�ست مفهوما مدى راهنية ابن عربي يف ميزان النقد املعا�رص فيما بينها
تقليديا يدل على حاجة الكاتب �إىل التعبري ،بل و�رصاع الفل�سفات اجلمالية فيما بينها� .إن املعنى
هي فل�سفة خا�صة لها جمالياتها التي جتعلها على م�ستوى املنظور والتحيز والتقييد هومن �ش�أن
منفردة يف �سياق عرفانية ابن عربي .فكما � أن الن�ص الكتابة احلقيقية ،لكن الكتابة ا إللهية تتجاوز
هوناجت عن كتابة القلم فكذلك الوجود ناجت عمّا القدرة الب�رشية مهما � أوتيت من قوة .الكتابة ا إللهية
�سطره القلم ا ألعلى يف اللوح املحفوظ ،ولكن هل ال تنح�رص يف حيز ،ولوكانت ،ملا كان ذلك دليال
ما �س ّطره قابل للمحو كما يحدث عند الكاتب؟ هل على القدرة � أ�صالً� .إن مثل هذا الطموح الذي يرغب
كتابة املحو ت�شكل �إطارا جماليا كما در�سها الغرب فيه ابن عربي كعارف لي�س غريبا عن طبيعته التي
من وجهة نظر ميتافيزيقية؟ تود الو�صول �إىل حلظة املطلق .فمعنى الكتابة الذي
تتلخ�ص فكرة املحو يف مو�ضوع الكتابة يف يراود ال�شيخ ا ألكرب لي�س هوالتعبري فقط بل كفاية
التفرقة الوا�ضحة بني الكتابة ا إلن�سانية والكتابة احليز الب�رصي للكالم� .إن ما تنطق عنه الرغبة
ا إللهية ،بني القلم ا ألعلى وا ألقالم ا ألخرى ،بني الدفينة هو�شيء ي�شبه ما حتاوله الفل�سفات اجلمالية
ت�سطري وت�سطري� .إن مفهوم الكتابة حتى يف اخلطاب املعا�رصة يف �إميانها يف ا أل�شكال التي ال �شكل
النقدي املعا�رص م�س�ؤولة عن فعل التثبيت �سواء لها ،يف ال�صمت خالل الكالم كما عنــد هايدجر
للن�ص � أو للحديث � أو للخطاب ب�شكل عام( )36هي« :ال وموري�س بالن�شو .هذه كلها فل�سفات حاولت مقاربة
28 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املعاين الغيبية ف�ضال عن معنى املداد الذي ر� أيناه ت�ضيف �شيئا على ظاهرة الكالم �سوى التثبيت»
()37
�سابقا هناك معنى الثابت واملتحول يف هذا العامل، فما املعنى الذي ت�أخذه كلمة تثبيت؟ �إن كلمة
وهومعنى دقيق جدا من املعاين الغيبية التي حاول تثبيت يف �سياق عرفانية ابن عربي و�ضمن حديثه
ابن عربي � أن يربط بينها وبني فعل الكتابة ،ونـراه عن الكتابة ا إللهية التي هي كتابة الوجود ،تعني
يقول فـي ذلك« :وذلك � أن القلم الكاتب يف لوح النق�ش على اللوح املحفوظ ما كان وما �سيكون
املحويكتب � أمرا ً ّما وهوزمان اخلاطر الذي يخطر �إىل يوم القيامة« :وكتابته نق�ش ولهذا تثبت فال
للعبد فيه فعل ذلك ا ألمر ثم متحى تلك الكتابة تقبل املحو»( )38هذه الكتابة هي �صيغة لعلم القلم
ميحوها اهلل فيزول ذلك اخلاطر من ذلك ال�شخ�ص الذي هوعلم ا إلجمال والتف�صيل« :والتف�صيل يظهر
ألنه ما ثم رقيقة من هذا اللوح متتد �إىل نف�س هذا بالت�سطري وهوعني ذواته»(� )39إذن فالتثبيت ال
ال�شخ�ص يف عامل الغيب ،ف�إن الرقائق �إىل النفو�س يخرج عن معنيني مهمني هما النق�ش والت�سطري،
من هذه ا أللواح حتدث بحدوث الكتابة وتنقطع ا ألوىل تدل على تثبيت ما يجب تثبيته حلفظه
يعطي ابن مبحوها ،ف�إذا � أب�رص القلم مو�ضعها من اللوح ممحوا ً والثانية تعني كيفية التثبيت .ونالحظ ب�أنها نف�س
عربي داللة كتب غريها مما يتعلق بذلك ا ألمر من الفعل � أو املعاين التي تنطبق على الكتابة الب�رشية� ،سوى يف
الرتك»( )42والقارئ املتمعن للن�ص يجد ب�أن فعل تف�صيل دقيق ومهم يكاد يكون مركزيا يف املفهوم
مهمة للقلم
الكتابة على اللوح داخل ثنائية املحو وا إلثبات العام للكتابة يف � أفقها اجلمايل ،وهذا الفرق يقول
واللوح، فعل جمايل يف املقام ا ألول ألنه يعرب عن مق�صود عنه ابن عربي« :فلو كانت كتابته مثل الكتابة
فكالهما � أمران عما يكتبون ،ولي�س هناك من كاتب يعاين الكتاب ّ باملداد قبلت املحوكما يقبله لوح املحويف عامل
متالزمان من فعال جتربة الكتابة �إال وهو ي�ؤمن �إميانا حقيقيا ب� ّأن الكون بالقلم املخت�ص به الذي هو بني � أ�صبعي
حيث الوجود ما يكتبه هوعني املحو ،وقد قال النفري يف �إحدى الرحمن»( )40فالو�سائل الب�رشية منتهية وزائلة وال
ومن حيث ام ُح � أثر ا أل�سماء فيك
خماطباته« :يا عبدُ قل لقلبك ْ ميكن الت�أكد من ثباتها ،فهي متحولة غري م�ستقرة.
العالقة ،فال با�سمي تثبت حكومته ويفنى معناه به» والتعبري
()43
و� أما كون كتابة املحو تكتب باملداد فلداللة عدم
ميكن � أن نف�صل عن املحو هو تعبري عن التجدد واال�ستمرار ،وكلما ثبات املداد على اللوح ،فت�سطريه غري نق�شه ،هذا
� أحدهما عن كانت الكتابة تتجه �إىل ا إلميان بالفعل ونقي�ضه من جهة ومن جهة ثانية ،يرى ابن عربي � أن املحو
الخرآ كانت � أقدر على اال�ستمرار .لي�س هناك من معنى مرتبط بحاالت الرتدد ا إلن�سانية ،وهو � ْأن ال ثبات
الثبات الذي يقتل فعل ا إلبداع عند ا إلن�سان ،وقد فيما يتعلق بالطبيعة ا إلن�سانية احلقيقة ،ولكن هناك
� أ�ضاف النفري معنى جديدا يف مواقفه�« :إن كتبت طبيعة خا�صة بالقلم ا ألعلى كما �سماه ابن عربي
لغريي حموتك من كتابي و�إن عبرّ ت بغري عبارتي وطبيعة � أخرى ب�سائر ا ألقالم ،وقد �رشح ذلك بقوله:
� أخرجتك من خطابي». «ف� إ ّن الذي كتبه القلم ا ألعلى ال يتبدّلُ ،
و�س ّمي اللوح
()44
كيف ميكن �إحالة هذه امل�سائل الذهنية � أو الغيبية باملحفوظ من املحو فال مُيحى ما ُكتب فيه ،وهذه
على م�سائل علم اجلمال احلديث � أو املعا�رص؟ هل ا ألقالم تكتب يف � ألواح املحووالتثبيت وهوقوله
من ترابطات جتمع بني الف�ضائني :ف�ضاء العرفان ي ُحواللهّ ُ َما َي� َشاء َو ُيثْ ِب ُت{(الرعد،)39/
تعاىل } :مَ ْ
وف�ضاء علم اجلمال يف هذا املجال؟ نحن نظن ب� ّأن ومن هذه ا أللواح تتنزل ال�رشائع وال�صحف والكتب
هناك � أكرث من ترابط يف احلقيقة ،ألن اجلماليات على الر�سل �صلوات اهلل عليهم و�سالمه ،ولهذا يدخل
املعا�رصة ت�شتغل على ما هو غيبي يف احلياة ()41
يف ال�رشائع الن�سخ».
ا إلن�سانية والفنية عموما � أكرث من ا�شتغالها مبا يعطي �رشحا للمحوَ كيف ا�ستطاع ابن عربي � أن
مادي ملمو�س� .إن علم اجلمال يتعامل � أكرث هو ّ وا إلثبات؟ لي�س �رشحا فح�سب بل فهما وت�أويال؟
مع املجرد ،ويحاول � أن يتجاوز الطرح التقليدي لكي نتتبع التف�سري الذي � أعطاه من خالل ما كتب
الذي يختزل كثريا من امل�سائل يف ت�صورات قدمية بخا�صة يف الفتوحات املكية ،جند املعنى الغيبي
وبالية� .صار التجديد �رضورة ق�صوى إليجاد دائما م�سترتا وراء ذلك ،وهذا املعنى الغيبي ال
التوازن احلقيقي بني تطور الفكر وتطور احلياة يلغي املعاين الوجودية ا ألخرى ،ومن بني هذه
29 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
مو�ضوعا ال يقت�رص على فعل فيزيائي هو الت�سطري � أي�ضا .فابن عربي ال يطرح امل�سائل ب�صورة تقليدية
� أو التدوين � أو التثبيت كما تقرره طبيعة ا أل�شياء، وي�ستعيد يف البالغات القدمية ويركن �إىل املا�ضي
�إنه يتعداه �إىل فعل رمزي كما �سميناه يحتاج �إىل ا ألدبي والفني للثقافة العربية ،بل هو مزيج من
قراءة وت�أويل وفهم� .إن معظم الن�صو�ص الواردة ثقافات متداخلة ومتناق�ضة وخمتلفة فيما بينها،
يف الكتابة جندها حقائق ت�رسي يف كيانات � أخرى وقد قام امل�ست�رشق ا إل�سباين � آ�سني بالثيو�س بدرا�سة
خمتلفة كما يقول ابن عربي نف�سه ،ولوجاز لنا � أن امل�صادر يف كتابه حول ابن عربي وقد خل�ص �إىل
ن�ستعري من ابن عربي بع�ض م�صطلحاته وبخا�صة نوع من التكوين العجيب الذي �شكل ذهنية هذا
م�صطلح ال�رسيان لوجناه �صاحلا للتعبري عن العرفاين الكبري وقد قال�« :إن ا إل�سالم – وروحانياته
مقت�ضى ما نحن ب�صدده � ،أوكما قال ابن عربي – قد ن�ش�أ يف و�سط جغرايف – بالد العرب� ،سوريا،
ن�ص َ�سبَ َق اال�ستدالل به« :القلم واللوح � أوليف ٍ م�رص ،فار�س – كان يف الوقت نف�سه قلب احل�ضارة
عامل التدوين والت�سطري وحقيقتهما �ساريتان يف القدمية ،وميدانا لتعاي�ش ا ألفكار الدينية والفل�سفية ابن عربي:
()47
جميع املوجودات علوا ً و�سفالً ومعنى وح�ساً» تباينا»( )45وخلُ�ص فيما بعد �إىل ربط هذه ا ألفكار �إن حلظة
ففعل الكتابة لي�س مقت�رصا على �سببني � أوو�سيلتني فيما بينها من خالل الدرا�سة املقارنة حتى ي�صل الكتابة ت�شبه
هما القلم واللوح بل ت�شمل جميع املوجودات يف �إىل حماولة درا�سة حمي الدين بن عربي درا�سة
حلظة � أخرى
العاملني العلوي وال�سفلي .وقد قال ابن عربي بحق: تليق بفل�سفته وقد قال فيه« :و�إن �شخ�صية ابن
«فاملوجودات كلها كلمات اهلل التي ال تنفد ،ف�إنها عربي الفكرية وال�صوفية القوية لت�سود كل التاريخ موجودة يف
عن« كن «وكن كلمة اهلل )48(».وهنا ميكن � أن نتحدث ()46
احلديث للروحانيات ا إل�سالمية». الطبيعة
عن املعنى الثاين وهو حول الداللة التي يتيحها نحن ا�ستدللنا بهذه الفكرة لتقوية اليقني ب�أن املعنى و�سماها بالنكاح
فعل الكتابة. معان قدمية متتد
ٍ اجلمايل عند ابن عربي ُمرّ َك ٌب من املعنوي بني
�إن معنى الداللة قائم � أ�سا�سا على ما ت�شكله الكتابة يف الزمان واملكان ،وت�ستحيل �إىل معاين متجددة الج�سامأ
من � أهمية عملية يف احلياة ال�صوفية � أو العرفانية. تنفد يف ثقافات خمتلفة عرب قراءتها وت�أويلها. وكان احلا�صل
و� أي�ضا ما تعنيه يف م�ضمونها العام وما ميكنها � أن ف�أمر الكتابة من حيث هي فكرة جمالية يتخطى هوظهور
تد ّل عليه يف ُبعدِها اخلا�ص .وما دمنا قد انطلقنا ال�سياج املعريف لها وي�صل �إىل غاية رمزيتها ،وهذا النتائج يف
من مقدمات معينة يف حتديد مفهوم الكتابة بحكم هوالطرح اجلمايل الذي يتفق والطرح الفل�سفي ،وقد أ
العيان
� أنها نتاج كالم ،فال بدّ من معرفة داللة الكالم، و�ضحه ابن عربي يف �سياق خمتلف متاما دون � أن ّ
املق�صود من املفهومني واحدٌ ،ف�ضال عن كون
َ ألن ي�سمي كما فعل فال�سفة اجلمال عرب الع�صور .وملّا
الكتابة متثل ال�صورة الثانية للكالم من حيث ت�ستمر فاعلية ا ألفكار عرب الزمان نرى ت�أثري ذلك
هونتاج تعبري �إن�ساين عن مقا�صد و� أغرا�ض خمتلفة. يف النقاد الذين �سعوا �إىل نوع من املو�سوعية دون
تكمن الداللة يف الوجود ذاته للكالم � أوللكتابة ،وقد ارتباط ق�رسي بن�شاط معني دون غريه� .إذا ركزنا
عبرّ عنها ابن عربي بلفظ املعنى � أواحلقيقة ،حيث ال فعال على ا إلنتاج اجلمايل الذي �صدر عن ابن عربي
جند الكالم � أو الكتابة منف�صلني عن املعنى ،وقال ك�صويف وعرفاين له قدره ومنزلته ،نرى ب�أنه �إنتاج
يف ذلك ذاكرا العلوم التي تنطوي حتت منزل وزراء مل ي�ستوعب فقط ما له عالقة باملجال الديني بل
املهدي من الباب ال�ساد�س وال�ستني وثالثمائة: ا�ستطاع � أن ي�ستوعب املجال الكوين ،وهذا ما �سمح
علم املعنى الذي جعل الكتابة كالما وحقيق ُة «وفيه ُ بوجود قدر كبري من هام�ش الت�أويل والقراءة احلرة
الكال ِم معلومةٌ عند العقالء» وعدم الف�صل بني
()49
يف ن�صو�ص ابن عربي ،وي�ؤكد لنا من خالل طرحنا
الكالم والكتابة � أوالبحث عن الفوا�صل الدقيقة املتوا�ضع � أن هذه الن�صو�ص لي�ست ذات وجهة دينية
التي تف�صل بينهما هومن لوازم البحث اجلمايل �رصفة بل ذات وجهة ميتافيزيقية.
يف الت�صوف ،فالكالم يف حقيقته هوالذي يتحول ي�صبح مو�ضوع الكتابة مو�ضوعا جماليا ملّا
بفعل التثبيت �إىل كتابة ،ولكنّا جنده هنا حا�صل يكون ذا عالقة بالوجود ب�شكل عام ،مبا يف ذلك
الكتابة ،وتف�سري ابن عربي يوحي بنوع خم�صو�ص الوجود ا إلن�ساين ،ويدخل يف حلقة رمزية جتعله
30 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
التف�صيل ما � أوم�أنا �إليه مل يف العمر به ،فوكلناك من املعنى ا إللهي الذي وجد �صورته يف الكتابة
�إىل نف�سك ال�ستخراج ما فيه من الكنوز ،وهذا �إذا ا ألزلية � أي يف اللوح املحفوظ ليتكلم بها العارف
جعلناه كالماً ،ف�إن � أنزلناه كتاباً فهونظم حروف من خزانة اجلود ا إللهي ،وهنا املوقف له عالقة
رقمية النتظام كلمات النتظام � آيات النتظام �سور مبا يعطيه الك�شف ال�صويف للعارف الوا�صل الذي
كل ذلك عن ميني كاتبة كما كان القول عن َن َف ٍ�س يطلع على خمزون الغيب مكتوبا ومنقو�شا على
رحماين ف�صار ا ألمر على مقدار واحد و�إن اختلفت اللوح ثم ي�صيب به ذويه من خالل كالمه� .صار
ا ألحوال ،ألن حال التلفظ لي�س حال الكتابة ،و�صفة التحول من �ش�أن � أعلى �إىل �ش�أن � أ�سفل ،و�صار للكالم
اليد لي�ست �صفة النَ َف ِ�س ،فكونه كتاباً ك�صورة ولكن ال�ضابط ّ هذه احلظوة واملنزلة على الكتابة،
الظاهر وال�شهادة ،كونه كالماً ك�صورة الباطن هو املعنى اجلامع الذي يجعل الكتابة تتنزل بفعل
والغيب ،ف�أنت بني كثيف ولطيف ،واحلروف على الك�شف �إىل الكالم.
�إن ما يدعو ك ّل وج ٍه كثيف بالن�سبة �إىل ما يحمله من الداللة ت�أتي داللة الكالم � أوالكتابة يف حديث ابن عربي
�إليه ابن عربي على املعنى املو�ضوع له ،واملعنى قد يكون لطيفاً ولغته من خالل بحثه يف نعوت القر� آن الكرمي،
وقد يكون كثيفاً ،لكن الداللة لطيفة على كل وجه ودائما يف الفتوحات املكية ،من الباب اخلام�س
� أو يعرب عنه
وهي التي يحملها احلرف وهي روحه والروح � ألطف والع�رشين وثالثمائة يف معرفة منزل القر� آن من
لي�س عن نظر، ()50
من ال�صورة». احل�رضة املحمدية ،وفيه يحاول التفرقة بني الكالم
بل عن ر�ؤية �سنحاول � أن ن�ستخرج بع�ض الدالالت من هذا الن�ص والكتابة كو�صفني مت�صلني بالقر� آن الكرمي ،وهي
وب�صرية ،فهو الذي تت�ضح فيه بع�ض املعامل اجلمالية فيما يتعلق تفرقة العارف احلري�ص على الداللة العامة �سواء
حمكوم مبجال بداللة الكالم والكتابة .على الرغم من كونه ن�صا تعلق ا ألمر بالقر� آن يف حالة كونه كالما � أو يف
�شعوري معني ا�ستوعب ا ألفقني ال�شفوي والكتابي� ،إال ّ � أن الكالم حالة كونه كتابة ،وال ب�أ�س � أن ن�ستدل بن�صه وهو
ي�ستلهم منه ال يدل على ما هو �شفوي بقدر ما يدل على الفعل طويل يف لفظه حيث يقول« :ف�إذا حتققت ما قرّرناه
معانيه وك�أنه الل�ساين .يقع القر� آن كخطاب بني �صورتني قد ملتل َ ّفظ
تبينت � أن كالم اهلل هو هذا املتلو امل�سموع ا ُ
خلق لكي يعرب ُ حددهما ابن عربي يف: به امل�سمى قر� آناً وتوراة وزبورا ً و�إجنيالً ،فحروفه
[ الكالم /الكتابة تعني مراتب كلمه من حيث مفرداتها ،ثم للكلمة من
عن الذين
[ �صفة النَ َف ِ�س� /صفة اليد حيث جمعيتها معنى لي�س لآحاد حروف الكلمة،
�سي�أتون من [ الظاهر /الباطن فللكلمة � أثر يف نف�س ال�سامع ،لهذا �سميت يف الل�سان
بعده [ ال�شهادة /الغيب العربي م�شتقة من الكلِم وهواجلرح وهو � أثر يف ج�سم
[ الكثيف /اللطيف املكلوم ،كذلك للكلمة � أثر يف نف�س ال�سامع � أعطاه ذلك
هذه جمموع املفارقات التي ت�شكل مفهوم اخلطاب ا ألثر ا�ستعداد ال�سمع لقبول الكالم بو�ساطة الفهم
القر� آين ولكنها تدرجه �ضمن � أفق جمايل وفل�سفي ال بدّ من ذلك ،ف�إذا انتظمت كلمتان ف�صاعدا ً �سمي
خمتلف عن بقية الآفاق التي � أدرج فيها من قب ُل. املجموع � آية � أي عالمة على � أمر مل يعط ذلك ا ألمر
تكمن الداللة �إذن يف توتر هذه املفارقات ،وبخا�صة كل كلمة على انفرادها مثل احلروف مع الكلمة � ،إ ْذ
ملّا نعلم ب�أنها كلها متعلقة باخلطاب القر� آين وال قد تقرّر � ّأن للمجموع حكماً ال يكون ملفردات ذلك
تنف�صل عنه� ،إذ ال ن�ستطيع � أن نختزل القر� آن يف املجموع ،ف�إذا انتظمت الآيات بالغاً ما � أراد املتكلم
جمرد النَ َف�س ،بل هو� أي�ضا من �إنتاج اليمني الكاتبة، � أن يبلغ بها �سمي املجموع �سورة معناها منزلة
والداللة تقع يف هذا التلقي املزدوج ملثل هذا ظهرت عن جمموع هذه الآيات مل تكن الآيات تعطي
اخلطاب الذي جمع بني كل � أنواع املفارقات الل�سانية تلك املنزلة على انفراد كل � آية منها ،ولي�س القر� آن
يف ف�ضاء واحد ،لي�ست امل�س�ألة م�س�ألة ت�ضاد بقدر �سوى ما ذكرناه من �سور و� آيات وكلمات وحروف،
ما هي بناء من عنا�رص خمتلفة ومتنوعة ت�شكل فهذا قد � أعطيتك � أمرا ً كلياً يف القر� آن واملنازل
يف النهاية عاملا واحدا من الدالالت واملعاين .وال تختلف فتختلف الآيات فتختلف الكلمات فيختلف
�ش ّك � أن ابن عربي و�ضع ن�صب عينيه معنى الروحي نظم احلروف ،والقر� آن كبري كثري لوذهبنا نبني على
31 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
- 19ابن عربي :الفتوحات املكية.37/7 ، مقابل ما هو �صوري � أو مادي ،وربط م�س�ألة املعنى
-20بول ريكور :نظرية الت�أويل ،اخلطاب وفائ�ض املعنى ،ترجمة:
�سعيد الغامني ،املركز الثقايف العربي ،الدار البي�ضاء ،بريوت، يف اخلطاب القر� آين ب�صورتني :اللطافة والكثافة،
الطبعة ا ألوىل� ،2003 ،ص .58 ولكن تبقى الداللة من حيث هي ،تنتمي �إىل عامل
-21من�صف عبد احلق :الكتابة والتجربة ال�صوفية� ،ص .22 اللطافة ألنها روح احلرف ،والروح كما قال � ألطف
-22ابن عربي :الفتوحات املكية ،58/6 ،وي�ضيف قائال« :و� أما
علم الرتجمة عن اهلل فذلك لكل من كلمه اهلل يف ا إللقاء والوحي من ال�صورة.
فيكون املرتجم خالفا ل�صور احلروف اللفظية � أواملرقومة التي هوام�ش الدرا�سة:
يوجدها ويكون روح تلك ال�صور كالم اهلل ال غري.58/6 ».
-23ابن عربي :الفتوحات املكية.59/6 ، - 1خالد بلقا�سم :الكتابة والت�صوف عند ابن عربي ،دار توبقال
-24خالد بلقا�سم :الكتابة والت�صوف عند ابن عربي� ،ص .26 للن�رش ،املغرب ،طبعة � أوىل� ،2000 ،ص .19
- 2ابن عربي :روح القد�س يف منا�صحة النف�س ،حتقيق :د .حامد
Georges Bataille : L’expérience intérieure, Tel Gallimard, Paris, -25
طاهر ،الهيئة امل�رصية العامة للكتاب ،م�رص ،الطبعة ا ألوىل ،2006
.2006, p. 15
�ص .284
- 26ابن عربي :الفتوحات املكية.167/1 ، [ هو عبارة عن كتاب ي�سري فيه ابن عربي �سرية عبد اجلبار النفري
27ا -مل�صدر نف�سه.158/1 ، الذي �صاغ مواقفه وخماطباته بطريقة جديدة غري معهودة يف
- 28نف�سه.210/1 ، املنظومة البالغية وا ألدبية ال�سائدة .عبارة عن � أقوال حكمية �شديدة امل�ست�شرق
- 29نف�سه.210/1 ، الرتكيز وكلها رمز و�إ�شارة �إىل معاين باطنية تلخ�ص موقف العارف
- 30نف�سه.329-328/5 ، يف ق�ضايا خمتلفة .وقد اتخذ لها مظهر امل�شهد الذي يخاطب الب�رص
ال�سباين � آ�سني
إ
- 31نف�سه.154/6 ، ويت�صوره اخليال. بالثيو�س� :إن
- 32نف�سه.223-222/3 ، - 3ابن عربي :م�شاهد ا أل�رسار القد�سية ومطالع ا ألنوار ا إللهية،
Paul Claudel : Réflexions sur la poésie, Nrf / Gallimard, Paris, -33 حتقيق� :سعيد عبد الفتاح ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،الطبعة ا ألوىل،
�شخ�صية ابن
.1963, p. 119 � ،2005ص .63 عربي الفكرية
Maurice Blanchot : Le livre à venir, Folio /Essais, Gallimard, -34 4امل�صدر نف�سه� ،ص .63 وال�صوفية
.1995, p. 281 - 5عبد اجلبار النفري :كتاب املواقف ويليه كتاب املخاطبات،
-35خالد بلقا�سم :الكتابة والت�صوف عند ابن عربي� ،ص .103 بتحقيق � أرثر يوحنا � أربري ،من�شورات دارالكتب العلمية ،بريوت، القوية لت�سود
[ يجد الباحث تقاطعات بني ابن عربي وموري�س بالن�شو فيما � ،1997ص .9 كل التاريخ
يتعلق بالذات الكاتبة من منظور فل�سفي وجمايل .الذات التي تغيب، - 6امل�صدر نف�سه� ،ص .164
احلديث
والتي ت�سمع ال�صوت املطلق كما � أملحنا �سابقا .ينظر �ص 106وما Rudolf Otto : Mystique d’Orient et mystique d’Occident, trad. -7
بعدها من املرجع نف�سه. للروحانيات .Jean Gouillard, Petite Bibliothèque Payot /278, Paris, 1996, p. 13
-36بول ريكور :ما هوالن�ص ،ترجمة :عبد اهلل عازار ،جملة العرب ال�سالمية -8ابن عربي :م�شهد ا أل�رسار القد�سية� ،ص .66
والفكر العاملي ،مركز ا إلمناء القومي ،العدد ،12خريف � ،1990ص -9ابن عربي :الفتوحات املكية� ،ضبط وت�صحيح � :أحمد �شم�س
إ
.66 الدين ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،الطبعة الثانية.271/3 ،2006 ،
- 37املرجع نف�سه� ،ص .66 ي�شري الرقم ا ألول �إىل املجلد و الثاين �إىل ال�صفحة.
- 38ابن عربي :الفتوحات املكية.425/3 ، -10ابن عربي :الفتوحات املكية.536/2 ،
- 39امل�صدر نف�سه.425/3 ، -11ابن عربي :م�شهد ا أل�رسار القد�سية� ،ص .66
- 40نف�سه.425/3 ، -12امل�صدر نف�سه� ،ص .66
- 41نف�سه.89/5 ، Martin Heidegger : Lettre sur l’humanisme, trad. Roger Munier, -13
- 42نف�سه.90/5 ،
- 43النفري :كتاب املواقف� ،ص .195 .in Questions III et IV, Tel / Gallimard, Paris, 2008, p 67
- 44امل�صدر نف�سه� ،ص .136 -14ابن عربي :الفتوحات املكية.116/3 ،
� - 45أ�سني بالثيو�س :اين عربي ،حياته ومذهبه ،ترجمه عن -15ابن عربي :م�شاهد ا أل�رسار القد�سية� ،ص .67
ا إل�سبانية :عبد الرحمن بدوي ،مكتبة ا ألجنلوامل�رصية ،القاهرة، Martin Heidegger : Acheminement vers la parole, trad. Jean Beauf 16
6
� ،1965ص .108 fret, Wolfgang Brokmeier, et François Fedier, tel/ Gallimard, Paris,
� - 46أ�سني بالثيو�س :ابن عربي ،حياته ومذهيه� ،ص .109 .2006, p. 13
- 47ابن عربي :الفتوحات املكية.328/5 ، - 17ابن عربي :الفتوحات املكية.154/6 ،
- 48ابن عربي :ف�صو�ص احلكم ،اجلزء ا ألول� ،ص .142 - 18من�صف عبد احلق :الكتابة والتجربة ال�صوفية ،منوذج حميي
- 49ابن عربي :الفتوحات املكية.66/6 ، الدين بن عربي ،من�شورات عكاظ ،الرباط ،الطبعة ا ألوىل� ،1988 ،ص
- 50امل�صدر نف�سه.140/5 ، .63والت�شديد من عند امل�ؤلف.
s
s
s
ال�شعر يف ح�ضرة
اجلواهـ ــري
عبد احل�سني �شعبان
� أديب و� أكادميي من العراق
توطئة
يف ح�رضة اجلواهري ،ال يكاد ال�شعور يفارقك ،وك�أنك تدخل بجالل وهيبة،
مملكة ال�شعر .فكل �شيء يف تلك احل�رضة ينب�ض بال�شعر :اجلواهري بقامته
املديدة ،وف�صاحته ،و� أ�صابعه املمدودة ،يده�شك حني ي�ستح�رض التاريخ،
بق�صيدته العمودية املوروثة وامللونة ب�أطياف احلداثة ،بتحديه وتناق�ضه،
بانفعاالته وردود � أفعاله ،مبعاركه ا ألدبية وخ�صوماته ال�سيا�سية وال�شخ�صية،
يظهر اجلواهري وا�ضحاً كاحلقيقة ،ال يعرف ا ألقنعة وقد امتهن ال�شعر فناً
وذهناً ومزاجاً.
wظل اجلواهري عنيدا ً �أمام ال�س�ؤال� ،ضعيفاً �أمام �إغواء ال�شعر و�إغراء
معمرا ً مثل لبيد العامري ،منفياً مثل املتنبي ،فقد عا�ش الق�صيدةّ .
�أكرث من ثلث عمره يف الغربة ،التي �أرخها يف �سنواته ا ألوىل «بربيد
الغربة» و«يا دجلة اخلري» ،مفكرا ً مثل املعرّي ،حيث ر�صع ق�صائده
باحلكمة واملعرفة.
يرو�ضه �أو ّ
يطوعه الجواهري والح�صري مل ي�ستطع الزمن رغم عادياته �أن ّ
يف �سفره «املجيد» واجه اجلواهري خ�صومات كثرية، �أو يحتويه ،فقد مت ّكن �سلطان ال�شعر منه وامتلكه بكل
و�أثريت حوله وجهات نظر مت�ضاربة .والواقع فقد كان معنى الكلمة ،هكذا ظل �صعباً بل ع�صيّاً ،غري قابل
�شخ�صية �إ�شكالية ،مبعنى تفرّدها الفني وال�شخ�صي للتدجني ،راف�ضاً ،ومقاتالً يف الكثري من ا ألحايني
ومتايزها االبداعي وخ�صائ�صها املتنوعة .ولعل �أبرز يف دروب ا ألدب والفكر والتجديد� .سالحه ال�شعر يف
اخل�صومات التي واجهها هي معركته مع املفكر القومي الهجوم والرتاجع ،وهو درع وقايته من تقلبات الزمن
�ساطع احل�رصي ،ب�سبب مو�ضوع اجلن�سية ،فقد �أمر االخري وغدر ا أليام وهجومات ا ألعادي.
حينما كان مديرا ً عاماً يف وزارة املعارف بف�صله من برحلته ال�شعرية الطويلة ،اخرتق �سرية رجال ومبدعني
وظيفة معلم ابتدائي ،بعد �أن رف�ض تعيينه بوظيفة مدر�س وتاريخ كفاح�« ،صاعدا ً ونازال ً على حد تعبريه» .كان
ثانوي ،لكن امللك في�صل ا ألول� ،سارع لتعيينه �أميناً �شاهدا ً وحا�رضا ً يف ذاكرة ا ألجيال ،فهو جدّ املثقفني
العراقيني ومرجعهم ومرجعيتهم. �إن عمر
لت�رشيفات البالط امللكي ،حلفظ التوازن املختل ب�سبب
جاء من النجف مل ّفحاً بالعباءة ومعتمرا ً بالعمامة اجلواهري هو
نهج «العزل» و�إ�شكالية اجلن�سية العراقية التي �أوجدها
قانون اجلن�سية ا ألول يف العام ،1924والذي مت �سنّه ال�صغرية البي�ضاء ،وبج�سم �ضئيل ،لكنه منت�صب عمر العراق
قبل كتابة الد�ستور العراقي ا ألول ( )1925بت�شجيع مثل نخيل العراق .ومن البيئة النجفية الدواوينية- احلديث ،حيث
و�إ�رشاف من بريطانيا ،ووا�صلت القوانني والتعديالت التلقينية ،ذات املوروث والتقاليد العريقة والقا�سية، اكتملت بداياته
املختلفة النهج التمييزي ذاته. حيث عاي�ش فقهاء النجف ،الذين زاملوا وتتلمذوا على ال�شعرية مع
وقد �أف�صح احل�رصي� ،أن �سبب ف�صل اجلواهري ،هو يد جمال الدين ا ألفغاين بد� أ التمرد ا ألول ،فانطلق ن�شوء وت أ��سي�س
ق�صيدة كان قد ن�رشها ال�شاعر ،يتغزل فيها مب�صايف ليحلّق يف ا ألفق ال�شا�سع ،مثل ن�رس رفرف بجناحيه الدولة العراقية
ايران اجلميلة ،قبل تعيينه ،مما اعترب ت�شكيكاً بالهوية فوق بغداد ،وهو يتطلّع نحو دم�شق والقاهرة وبريوت،
العربية وباملواطنية العراقية ،خ�صو�صاً و�أن بع�ض ثم لي�سرتيح يف باري�س قليالً ،وليبد� أ رحلة املنفى يف العام 1921
�أبناء الفرات ا ألو�سط وال�سيما يف املدن الدينية وجنوب واحلنني التي قاربت ثالثة عقود ونيف كانت حمطتها وكان قد ن�شر
العراق كانوا غري معنيني باحل�صول على اجلن�سية، الرئي�سية براغ الذهبية. ق�صائده االوىل
التي مل يكن لها معنى �آنذاك بل �أن بع�ضهم وافق على رحيل متقطع لكنه متوا�صل ،ظل م�صحوباً بحنينه ع�شية ت أ��سي�سها
اكت�ساب اجلن�سية االيرانية تهرباً من اجلندية ورمبا اىل الوطن الذي حمله يف قلبه ،حتى �صارا متالزمني حيث تدفقت
للح�صول على بع�ض االمتيازات ،لكن انحالل الدولة لبع�ضهما .فقد كان ُيبحر يف ثنايا ا ألحداث وال يعرف مثل ثورة
العثمانية وت�أ�سي�س اململكة العراقية ،افرت�ض �أن يكون املر�سى اال ّ على �شاطئ ال�شعر .وهو امل�سافر الذي الع�شرين
جميع �سكانها مواطنني بالت�أ�سي�س ح�سب معاهدة لوزان تفي�ض منه ا أللوان ،كقو�س قزح ،يف �سماء �رشقية
لعام ،1923لكن جلوء الربيطانيني اىل ت�رشيع قانون مدورة مثل
ترتاق�ص كواكبها بعذوبة ور ّقة متميزةّ ،
للجن�سية وو�ضع درجات (�أ) و(ب) وا�شرتاط احل�صول على خبز تنور عراقي طازج ،ومتدفقة مثل دجلة والفرات
�شهادة للجن�سية ،طال بع�ض الفئات بالتمييز ،ا ألمر الذي و�شط العرب.
انعك�س على بنية الدولة العراقية الحقاً ،وهو ا ألمر الذي �إن عمر اجلواهري هو عمر العراق احلديث ،حيث اكتملت
دفع اجلواهري ثمنه باهظاً منذ وقت مبكر! بداياته ال�شعرية مع ن�شوء وت�أ�سي�س الدولة العراقية
�أما معاركه ا ألخرى فهي احت�سابه على مع�سكر الي�سار يف العام .1921وكان قد ن�رش ق�صائده االوىل ع�شية
العراقي بحكم دفاعه عن املظلومني والفقراء ،رغم �أن ت�أ�سي�سها حيث تدفقت مثل ثورة الع�رشين.
ق�صائده كانت ق�صائد تلب�سها الغيد احل�سان و�أنا�شيد ظل اجلواهري عنيدا ً �أمام ال�س�ؤال� ،ضعيفاً �مام �إغواء
أ
يتغنى بها الوطنيون ملواجهة الظلم اخلارجي واال�ستبداد معمرا ً مثل لبيد العامري ،منفياً
ال�شعر و�إغراء الق�صيدةّ .
الداخلي. مثل املتنبي ،فقد عا�ش �أكرث من ثلث عمره يف الغربة،
و�أخريا ً ف�إن كيد بع�ض خ�صومه ومنهم يف الو�سط ا ألدبي التي �أرخها يف �سنواته ا ألوىل «بربيد الغربة» و«يا
ذاته ،كان �أحد �أ�سباب خ�صوماته ،وذلك ب�سبب اجتاهاته دجلة اخلري» ،مفكرا ً مثل املعرّي ،حيث ر�صع ق�صائده
التجديدية يف الق�صيدة العربية الكال�سيكية ح�سب تعبري باحلكمة واملعرفة.
34 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
اال�ستاذ هادي العلوي ،رغم �أن موقفه ظل متحفظاً �إزاء وحفظ ديوان �أبو العالء املعرّي وكان �شديد االعجاب
بالبحرتي وقر� أ البيان والتبيينّ وكذلك كتب ابن املقفع الق�صيدة احلديثة ومدر�سة التجديد ال�شعري احلديث.
كان احلديث مع اجلواهري ذا �شجون وله متعة خا�صة ،وغريها .ومل يكن عمره يزيد على 12عاماً ،كان �شعوره
خ�صو�صاً عندما يك�شف لك عن خباياه بطريقة طفولية مذ كان طفالً انه يحلّق يف ف�ضاءات �أخرى ويطري اىل
عوامل بعيدة!! لذيذة .فيبد� أ بالتدفق مثل ينبوع .
اللحظة ال�شعرية والدة الق�صيدة
متى حتل اللحظة ال�شعرية على اجلواهري؟ وهو �س�ؤال حني تولد الق�صيدة ي�شعر اجلواهري �أنه يولد من جديد،
ال ميكن �أن نت�صوره مبعزل عن ال�شاعر ،فرمبا ان االمر وقد تكون والدة ع�سرية يف كل ق�صيدة ،لدرجة انه بعد
خمتلف ح�سب املكان والزمان .لكن اال�ستلهام الذاتي االنتهاء منها ي�شعر وك�أنه يكتب ال�شعر ألول مرة (�أي
مهم جداً ،كما يفعل الر�سام حني ي�ستخدم ا أللوان ّ
ويطوع واهلل كما يقول) ويتعجب اجلواهري من ذلك ،مثلما هو
الري�شة� ،أو كما يفعل الروائي حني ي�صف املكان ويتابع البطل امل�رسحي حني يواجه اجلمهور .ففي كل مرة
تفا�صيل �شخ�صياته وحبكته الدرامية ...ا ألمر كان ي�شعر بالرهبة ،وعندما تكتمل الق�صيدة ي�شعر بالن�شوة.
حني تولد وتكتمل ق�صيدة اجلواهري عندما يلحنها ويغنيها .يقول
يالحقه حتى يكاد يهبط عليه بدون �إرادة .فرتاه يغني
الق�صيدة ي�شعر اجلواهري� :إعتدت على ذلك يف النجف منذ البدايات،
اجلواهري �أنه بحرقة وحرارة ،وحني ت�أتيه �إ�شارة غام�ضة ّ
يتفجر غ�ضباً
وميل املكان جنونه ،وكنت �أ�س�أله عن اللحظة ال�شعرية، أ فحني كانت تداهمني الق�صيدة� ،أنزل اىل ال�رسداب� ،أحدو
يولد من جديد، ف�إذا به يجيبني �إن امللكوت يناديه في�ستجيب وتخرج ثم �أطرب و�أدخل بعدها يف ملكوت ال�شعر ،يف عامله
وقد تكون والدة مبعاناة فائقة. متجمالً بال�شكل �أعود اىل
ّ ال�سحري وعندها يكتمل البناء
ع�سرية يف كل وعدت ل�س�ؤاله حول اللحظة ال�شعرية ف�أجاب :اتريدين نف�سي و�أ�ضحك معها �أحياناً� ..أحقاً �إنني كنت هنا!!
ق�صيدة ،لدرجة �أن �أقول لك ي�أتيني الوحي !؟ ال �أدري ماذا � أ ّ
�سميه؟ فقد وي�ضيف اجلواهري يف حوار مع الكاتب من�شور يف
�أنه بعد االنتهاء تفجرت «دجلة اخلري» مبلحميتها املعروفة ،كلّها يف ّ كتابنا :اجلواهري -جدل ال�شعر واحلياة :1997 ،يخيّل
تفجر يف داخلي ّ واحدة ليلة ر ت�صو
ّ براغ، يف واحدة ليلة يل و�أنا �أرق�ص يف باحة الق�صيدة �أن �شيئاً من اجلنون
منها ي�شعر وك�أنه م�سني �أو �أن نوعاً من اخلبل قد اعرتاين� .إن �شيئاً ما
يكتب ال�شعر
ينبوعا ال ير�ضى بالتوقف ،حتى اكتملت ...فماذا ت�سمي قد ّ
ذلك!؟ أ
يحدث ال �عرف كنهه حني تنتابني احلالة و�دخل مملكة أ
ألول مرة ال�شعر� ،أحياناً تراودين حالة هيجان و�رصاخ حتى تهد� أ
الجواهري والتناق�ض االجتماعي
روحي باكتمال الوالدة.
عا�ش اجلواهري يف �صلب املتناق�ضات االجتماعية حيث، يف بغداد كان جارنا ال�سيد حممد جنيب الربيعي رئي�س
البيئة النجفية �شديدة ال�رصامة ،والتقاليد القا�سية ..وقد جمل�س ال�سيادة العراقي بعد ثورة 14متوز (يوليو)
انعك�ست عليه وهو يتخطى احلواجز واملحرّمات ولكن يتعجب هو و�أهله من الذي يجري يف بيتنا ّ ،1958
ب�أثمان باهظة � أحياناً علي الق�صيدة .وعندما ّ وهبطت �صادف ما ذا �أحياناً ،إ
�
وتركت القيود الثقيلة ت�أثرياتها الكبرية عليه ،لكنه يف علي فال اريد أ
كانت �شياطني ال�شعر �و مالئكة الفن تنزل ّ
الوقت نف�سه ا�ستفاد من اخليال القر� آين الذي يفر�ضه ألحد �أن يقطع �سل�سلة �أفكاري واال ّ �أنفجر ...اريد عاملي
الو�سط الديني ،وت�ستطيع �أن تلحظ دون عناء كيف اخلا�ص ،ال �أريد ألي كان �أن ي�شاركني فيه ،حتى العائلة
�أن ق�صائده مر�صعة به با�ستمرار ،بل �إنه ال ي�ستطيع �أدعوها لتذهب اىل �أي مكان.
الفكاك منه .وبالت�أكيد فالرتاث القر� آين ،خ�صب وجميل وب�صدد �شاعريته وكيف �صقلت يقول اجلواهري:
ومغ ٍر ،انه يف الوقت ذاته يوحي بخيال متفجر «جنة ال�شاعرية تولد يف ا ألرحام فمذ كنت جنيناً ،كنت �أ�سكن يف
جتري من حتتها ا ألنهار»!« ،احلور احل�سان» و«طور ح�رضة ال�شعر .لقد كان البيت اجلواهري يحمل �صوجلان
ال�سنني وهذا البلد ا ألمني» ،الزيتون والعنب وما ال�شعر ،حيث مي�سك بقيثارته �أكرث من رمز ،ويكاد ال�شعر
ت�شتهي ،كان هذا هو ا ألفق الذي ي�صبو اليه اجلواهري، يتملّكه منذ ال�صغر ،ورغم �أن العائلة كانت تريده �أن يدر�س
حيث وجده مرة واحدة يف �سفرته العتيدة اىل م�صايف الفقه اال ّ �أن ال�شعر مت ّكن منه .وكان يحفظ دواوين كبار
�إيران التي كتب فيها ق�صيدته ال�شهرية ،والتي جاءت ال�شعراء ،حيث كان برناجمه اليومي هو « حفظ ال�شعر»
35 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
احل�صول على طمع �أو جاه �أو مال .قام بذلك ألنه كان بالبالء عليه ،ب�سبب تف�سريات مغر�ضة.
يعتقد حلظة ذاك ب�أن موقفه �سليم ،و�شعر �أنه يويف دين�أ يقول اجلواهري :حتى �إذا ما ذهبت اىل �إيران لال�صطياف
بعنقه ،خ�صو�صاً وانه وقف مع اجلواهري� ،ضد النعرات ألول مرة يف الع�رشينات كانت اجلبال ال�شاهقة تهزّين،
الع�صبية والطائفية ،التي حاولت النيل منه ومن انتمائه �أما البيئة النجفية فكانت وراء ق�صائدي ،فاحلرمانات
الوطني .ولهذا ردا ً للجميل ،قال ما قال يف «امللك لدي مفهوماً �إن�سانياً نقي�ضاً ورغبة يف
والتزمت ولّدت ّ
ّ
اجلليل» ،كما ي�سميه انت�صارا ً للحق بعد حادثة �ساطع التغيري ،وهو ما رافق ق�صائدي ،وال بدّ هنا من ا إل�شارة
احل�رصي ال�شهرية ،وهذا ال�شعور ظل ي�صاحبه ال�سيما اىل الف�سيف�ساء احل�ضارية والثقافية ملدينة النجف،
االح�سا�س باجلميل وعمل اخلري ورد املعروف ،وا�ستمر بحكم االختالط ألقوام و�شعوب و�آداب متنوعة.
حتى �آخر �أيام حياته. الت�أزم كان خا�صية ال�شاعر فما بالك ب�شاعر مثل
ويف الوقت نف�سه �ضاق ذرعاً بالبالط امللكي ،الذي اجلواهري املبدع واملتميّز ،وكان هذا ديدن دعبل
اخلزاعي وابن الرومي واملعري ،واملتنبي والر�صايف. كان اجلواهري
مل يت�سع له وترك النيابة وفرّط بالوزارة ،التي كانت ابن املتناق�ضات
اال�شارات ت�أتيه لدخولها كمرحلة الحقة ،فقد قرر ي�شعر اجلواهري �أنه يف غ�ضب خالّق ،نتيجة الت�أزم
العارم واجلارف وامل�ضيء ،فهو حتى يف الغزل تكاد والتعار�ضات على
الوقوف يف �صف النا�س مرة واحدة واىل ا ألبد .وقرر كل امل�ستويات
�أن يكون �شاعرا ً ال وزيرا ً �أو حتى رئي�ساً للوزراء .وكان تتلم�س حرارته حني يقول الق�صيدة ،فرتاه عا�شقاً مولهاً
بكل معنى الكلمة. وباملنا�سبة فهو
بع�ض من لب�س العمامة قد و�صل اىل الوزارة ،يف يرغب �أن يقر�أه
حني �أنه نزع العمامة بقناعة ورف�ض عوامل الرخاء التناق�ض والتحدي النا�س ويعرفونه
واالغراء وال�سلطة وا ألبهة واملنافع واختار ان يكون �أعود اىل التناق�ض ،فهل هي �سمة مالزمة للجواهري؟ بذلك� ،أي
« اجلواهري» واجلواهري فقط وذلك يكفيه .لقد اختار فمن ق�صائد االقتحام الثورية اىل ق�صائد املديح� ،أم باعتباره
ال�شعر وك�سب نف�سه والعامل ،وهكذا �سار �شالل حياته �أن « حب احلياة بحب املوت يغريني» على حد قوله.. وليد التناق�ض
الالحقة. كيف يجعل حب احلياة متالزما بحب املوت!؟ هل والتعار�ض،
كان اخلروج من الدائرة ال�صعبة (البالط) ي�سبب �إحراجاً هو ديالكتيك الطبيعة ،كما ن�سميه �أم ماذا؟ ولعل هذا حيث ولد يف
كبريا ً لكن بقاءه كان يعني اندثاره �أو تدجينه ،ال�سيما الهارموين اجلواهري هو من �سمات ق�صائده بامتياز. بيئة متناق�ضة،
وقد بد� أ بالتمرد بق�صائد نارية وغزلية .ويف خروجه و�صب يل قدحاً يا ندميي ولذلك ترى
�ضاجة باحلياة واحلركة والتناق�ض وجد عوامل ف�سيحة، َّ
ّ �أمل ُِ�س احلزن فيه والفرحا ال�صعود والنزول
�أي�ضاً تنتظره!! كان اجلواهري ابن املتناق�ضات والتعار�ضات على لديه وهي حالة
عجيب �أمرك الرجرا ٌ كل امل�ستويات وباملنا�سبة فهو يرغب �أن يقر�أه النا�س �إن�سانية
ج ال جنفاً وال �صددا ويعرفونه بذلك� ،أي باعتباره وليد التناق�ض والتعار�ض،
ت�ضي ُق بعي�ش ٍة رغ ٍد حيث ولد يف بيئة متناق�ضة ،ولذلك ترى ال�صعود والنزول
وتهوى العي�ش َة الرغدا لديه وهي حالة ان�سانية ،ولكنه رغم ذلك مل يكتب يوماً
وال تقوى م�صامد ًة بهدف االنتفاع� ،أو املديح لغر�ض احل�صول على الك�سب،
وتعبُدُ ..ك َّل من َ�ص َمدا ولو فعل ذلك لكان هو غري ما �أ�صبح.
�ألي�س عجيباً هذا التناق�ض .دخل البالط ثم �ضاق به ولعل اجلواهري يف حوارات مع الكاتب كان قد قال لقد
ذرعاً ،و�سعى للنيابة ودخلها ثم ا�ستقال وان�ضم اىل �صف اغت�صبت �ضمريي مرة واحدة يف �إ�شارة اىل ق�صيدة «ته
النا�س بعد معاهدة بورت�سموث عام 1948مع بريطانيا يا ربيع» يف تتويج امللك في�صل الثاين وعاد وعالج
ومقتل �أخيه جعفر ،وتعر�ض خالل حياته حلمالت �شتم املو�ضوع بعد �أيام بكتابة ق�صيدة كفارة وندم ،انه
الذع ،ودناءات و�أراجيف ،لكن ذلك ظل ديدنه يف احلياة، اعرتاف �رصيح دون وجل �أو خوف من �أحد ،بل تلك
حيث كان متحدياً معتدّا ً بنف�سه ،يطلب ا أل�شياء وي�ضجر �إحدى �سجاياه ،حيث كان �شجاعاً يف نقد الذات.
منها ويرتكها بعد �أن ي�سعى اليها: كان «اجلواهري» ُيعرف بال�شاعر الناري ،الثوري،
� أ ِز ْح عن �صد ِر َك الزْ َبدا االقتحامي ،املتوثب ،لكنه هو من كتب �سبع ق�صائد بحق
يبث ما َو َجدا
ودع ُه ُّ
ْ امللك في�صل ا ألول .وفعل ذلك ب�إرادته ودون رغبة يف
36 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قيا�ساً للعهود التي تلت ذلك ،وا�صبحت �شحيحة اىل �أن يقول :
لدرجةاالختناق. أ
تخاف من �ح ٍد ُ �أ�أنت
وقد �أثارت ق�صيدة ها�شم الوتري «ايه عميد الدار» يف م�صانع �أحدا
ٌ �أ�أنت
حزيران (يونيو) � 1949ضجة كربى ولها ق�صة خا�صة، �شجعهم
ْ النا�س � ،أ
َ �أتخ�شى
فقد �ألقيت مبنا�سبة انتخاب الدكتور ها�شم الوتري (وهو يخا ُفك ،مغ�ضباً َح ِردا
عميد الكلية الطبية العراقية) ع�ضوا ً لل�رشف يف اجلمعية هم
وال يعلو َك خريُ ُ
الطبية الربيطانية .وكان اجلو ال�سيا�سي حمتدماً وجاءته ريهم �أبداول�ست بخ ِ
َ
الدعوة للم�شاركة ،لكنه تظاهر بعدم القبول ،ولكنه كما تعرّ�ض اجلواهري خالل حياته اىل حملتني كبريتني
يقول يف حوارات مع الكاتب :كنت �أرق�ص وراء التلفون ا ألوىل ترافقت مع ا أليام االوىل لبدء تدفق النفط
وكنت �أقول جاءت «يا هال بيها» ،فقد كنت قد عزمت على للت�صدير يف بئر باباكركر (كركوك) 1927حني كان
املواجهة .وي�ضيف اجلواهري� :صعدت اىل �سطح الدار �شاباً ،متمرداً ،بهدف نزع هويته الوطنية والقومية كما
وكنت م�ستلقياً على فرا�شي ،لكنني كنت حمتدماً وكانت يذهب اىل ذلك الكاتب ح�سن العلوي ،والثانية بعد ثورة
اال�شارات الغام�ضة ت�أتيني لتزيدين ا�شتعاالً ،فوجدت 14متوز (يوليو) ،1958حني اعترب يف مقدمة مع�سكر
نف�سي منبطحاً �أحدو ،كما هي عادتي ،وعندما و�صلت الي�سار العراقي ،لكن التحدي كان مالزماً ألبي فرات
املورد الذي يبد� أ بـ» �إيه عميد الدار �شكوى �صاحبطفحت ولكنه كان هو الذي يختار خ�صومه ويحدد املعركة
لواعجه فناجى �صاحبا» حتى هتفت زوجتي «�أم و�رشوطها.
جناح» (عوايف �أبو فرات �..أ»كله) وهي عادة ما تقال و�شاعر مبدع كاجلواهري كان يعي�ش يف �صميم االحداث
لعدم االكرتاث بالنتائج وتعني باللهجة العراقية ..ليكن يت�أثر بها وي�ؤثر فيها ،وحتى ،و�إن مل يكن �سيا�سياً فقد
ما يكن وانت تدخل املعركة وتقبل التحدي ،ثم يت�سلق كان مع عامة النا�س وما كانوا يت�أثرون به ،ويتفاعل
اجلواهري قمة التحدي: معهم ،ويحاول �أن يعبرّ عن ت�أثرهم بطريقته اخلا�صة.
علي املغرياتِ م�سيل ًَة ح�شدوا ّ عندما حدثت وثبة كانون الثاين (يناير) � ،1948ضد
لعاب الرذلني رغائبا أ �صغرا ً َ معاهدة بورت�سموث ،ووقعت معركة اجل�رس ال�شهرية،
بالك�أ�س يقرعها ندميٌ مالئ ًا و�سقط �أخوه جعفر ،الذي ا�ست�شهد كان يجد نف�سه بعد
بالوعد منها احلافتني وقاطبا �سبعة �أيام ويف جامع احليدر خانة (� 14شباط/فرباير)
وبتلكم اخللواتِ مت�س ُخ عندها ين�شد:
الرقاب من ال�ضباء ثعالبا ِ ُتل ْ ُع �أتعلم �أم �أنت ال ُ
تعلم
حى «وزيرا» مثلما وب�أ ْن � أ َ
روح ُ�ض ً ب�أن جراح ال�ضحايا ُ
فم
أ
�صبحت عن �م ِر بليل «نائبا» ُ أ � فم لي�س كاملدعي قول ًة ٌ
ظنا ب�أن يدي متدُّ لت�شرتي ولي�س ك�آخر ي�سرتحم
بيع مواهبا املتاع ،و�أن � أ َ
ِ �سقط ي�صيح على املدقعني اجلياع ُ
�أو ق�صيدته يف القاهرة 1951 دماءكم ُتطعموا
ُ ريقوا أ �
خلّــي الدم الغايل ي�سي ُل ويهتف بالنفر املهطعني ُ
مل�سيــل هو القتيـــ ُل �إن ا ُ �أهينوا لئامكم ُتكرموا
هذا الدم املطلول يختــ الفرتة التي �سبقت ثورة 14متوز (يوليو) كانت حامية،
ـــت�رص الطريق به الطويــ ُل حيث ُفر�ضت االحكام العرفية و�أعدمت بع�ض القيادات
�أو ق�صيدته يف م�ؤمتر املحامني العرب ،الذي انعقد يف ال�شيوعية ألول مرة (فهد و�صحبه) � 14شباط(فرباير)
بغداد يف العام ذاته ،التي �أثارت ردود فعل حادة من 1949ومت ت�أ�سي�س احللف الرتكي -الباك�ستاين ومركزه
جانب احلكومة العراقية ،حيث �أقامت الدعوى على مدير بغداد ،1955والذي ُعرف با�سم « حلف بغداد» بدعم
اجلريدة امل�س�ؤول املحامي عبد الرزاق ال�شيخلي ،كما من الغرب .كان التوتر واملواجهة مالزمات لتلك
�أقامتها على اجلواهري ،لكنه مت ا إلفراج عنهما. الفرتة ،وتقل�صت بع�ض الهوام�ش التي كانت موجودة
37 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
خاطب اجلواهري اجلميع و� أ�صابعه ت�ؤ�رش اىل املقاعد �سالم على جاعلني احلتوومنها ٌ :
ا ألمامية: َف ج�رسا ً �إىل املوكب العاب ِر
عليهم
ُ البيوت
َ �أنا حت َفهم �ألج �سالم على مثقل باحلديد ٌ
ب�شتمهم واحلاجبا
ْ �أغري الوليدَ وي�شم ُخ كالقائد الظاف ِر
خ�سئوا :فلم تز ِل الرجول ُة ُحر ًة مع�صميه
القيود على َ َ ك�أ َّن
ت�أبى لها غري ا ألماث ِل خاطبا مفاتيح م�ستقب ٍل زاه ِر
ُ
فديتهم
ْ ال�سواد:
ُ وا ألمثلون ُ
هم �أو الق�صيدة التي �ألقاها يف دم�شق مبنا�سبة االحتفال
با ألرذلني من ال�شرُ ا ِة منا�صبا الت�أبيني لل�شهيد عدنان املالكي عام ،1956وا�ضطر
نفو�س ُه ْم أ
مبملكني الجنبي َ بعدها للبقاء يف دم�شق ،ملا �أثارته من ا�شكاالت والتي
اجلموع مناكبا
ِ على وم�صعدين يقول فيها:
وكانت هذه الق�صيدة �إيذاناً ملعركة كربى ،خ�صو�صاً فت غا�شية اخلنوع ورائي خل ّ ُ
و�أنه كان ي�شعر ب�أزمة نف�سية ،فالتقط ا ألزمة ال�سيا�سية،
لكي يعبرّ عن ا ألزمتني.
قب�س جمر َة ال�شهداءتيت � أ ُ
و� أ ُ
اىل �أن يقول :
وقد �س�أله الكاتب عن ا ألزمة النف�سية التي كان يعاين �أ�ضحية احللف الهجني ب�شارة
منها ف�أجاب: ل َك يف تك�شفِ �سوءة الهجنا ِء
كنت قد و�صلت اىل حافة الفقر احلقيقي ،ومل �أكن �أجد أ
ما ي�سدّ الرمق مع العائلة ،وكنّا ن�ستدين ،لن�أكل ،ب�سبب �أ�سطورة «الحالف» �سوف ّ
ميجها التا
ريخ مثل خرافة «احللفاء»
علي نظرا ً ملواقفي ،فقررت احل�صار ،الذي فر�ضه احلكام ّ لعل العدّة الفكرية وال�سيا�سية مثلت عنا�رص التحدي
�أن �أرفع �صوتي ،ألقرّعهم و�أدعو ل إلجهاز عليهم والثورة
امل�ستمرة التي كان اجلواهري ينزل بها اىل امليدان
�ضدهم .وال �أخفيك �رسا ً �إذا قلت لك �أن زوجتي «�أم جناح»
دون ح�ساب للعواقب� .صحيح ان لكل ق�صيدة ظروفها
م�سه �شيء من اجلنون ،وهي تعرف �أنني قالت رمبا ّ
قررت االقتحام ،وكنت قد ح�ضرّ ت نف�سي لالعتقال بعد ون�ش�أتها لكنه بطبعه احلاد واملت�أزم واملتوتر كان يقود
�إلقاء تلك الق�صيدة. رد الفعل تبعاً حلالته النف�سية .ف�أحياناً يلتقي توتره
ولكنني عندما و�صلت بهدف ا�ستجوابي ا�ستقبلني ال�شخ�صي مع التوتر ال�سيا�سي ،فرتاه يهلل يف داخله،
حاكم التحقيق ،وهنا كانت الده�شة� ،أو املفاج�أة ،عندما يقول ق�صيدته وليكن من بعده الطوفان .ورغم اال�ساءات
�أخربين �أنه معجب ب�شعري .لي�س هذا فح�سب ،بل �إنه وحماوالت النيل منه ،فهو القائل عن نف�سه �أو خماطباً
يحفظ بع�ض �أ�شعاري .وهنا فتح �أدراج مكتبه ،و�أطلعني نف�سه متحدياً:
على بع�ض الق�صائد املحفوظة يف ملف خا�ص ،كان ت�سامي ف�إنك خري النفو�س
قد مت «كب�سها» �أي و�ضع اليد عليها ،عند مداهمة بيوت �إذا قي�س كل على ما انطوى
ال�شيوعيني والي�ساريني ،باعتبارها �أحد امل�ستم�سكات و�أح�سن ما فيك �أن ال�ضمري
اجلرمية .و�أتذكر ق�صيدة « عامل الغد» التي كانوا يتغنّون ي�صيح من القلب� :إين هنا!
بها ،كانت �ضمن امللف. كان اجلواهري هو الذي يبد� أ املعركة ،بل يفر�ضها على
ورغم ال�ضجة التي �أحدثتها ق�صيدة ها�شم الوتري « «ا آلخرين» ،ومل يكن �سهالً � أن يقبل خ�صومه � أو � أعداءه
�إيه عميد الدار» ،فقد مت ا�ستبقاء اجلواهري يف التوقيف ب�سهولة �إن مل يكونوا من العيار الثقيل ،فمن ال ي�ستحق
«فقط» وذلك من باب « االحرتاز» وبكل احرتام و�أدب. � أن يكون خ�صماً له يهمله حتى و�إن حاول النيل منه
ومع اجلواهري ميكن �أن نقول� :إن وزراء ذلك الزمان � أو التعر�ض له .كان اعتداده اجلميل بنف�سه � أقرب اىل
و�سيا�سييه ،مل يكونوا من النوع الذي ي�ستمرئ كتابة الغرور املت�سامي واملتعايل ..انه يرف�ض � أن ينزل اىل
التقارير �أو الظهور مبظهر القبح ،الذي ن�صادفه هذه �ساحة معركة ال يتمتع بها اخل�صم � أو العدو ،بامل�ؤهالت،
ا أليام ،حيث �أ�صبح ا ألمر ظاهرة ب�شعة ،على رغم من التي جتعله خ�صماً � أو عدوا ً له ،كان يريد التكاف� ؤ عند
�أن التعامل معه قد يكون لذر الرماد يف العيون ب�صورة املواجهة � أي�ضاً � ،ألقى اجلواهري ق�صيدته يف حفل تكرمي
مفتعلة �أو ملفقة ،لكنها يف الوقت نف�سه تعرف �أنها الدكتور ها�شم الوتري وبح�ضور كبار م�س�ؤويل الدولة،
38 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
ي�شم s
وقد ربطتني به عالقة خا�صة ،ومل �أقل كلمة واحدة ّ تتعامل مع �شاعر كبري .فرغم منا�صبته العداء للحكام
منها رائحة التملق وكتبت رثائية له عام .1978 اال ّ �أنهم كانوا رحومني به با�ستثناء «الزعيم» عبد الكرمي
تعج َل ب�رشَ طلعت َك ا ألفو ُل
َّ قا�سم ،الوحيد الذي و�ضع القيد يف يديه كما يقول
املوعود غو ُل
َ �شباب َك وغا َل َ مبرارة ،وذلك بعد املماحكة التي دارت بينه وبني الزعيم
ومثل هذا حدث عند كتابة ق�صيدة اىل امللك حممد عبد الكرمي قا�سم.
ال�ساد�س �أو الرئي�س حافظ ا أل�سد �أو امللك ح�سني وغريهم، أ
ولكن قبل ذلك ،فقد حدث ما ي�شبه الفجوة �و الفراغ بني
وذلك تعبريا ً عن اعتزازهم به وتقديرا ً ملواقفهم منه وردا ً اجلواهري وبني ال�شارع �رسعان ما مت ا�ستعادته وذلك
للجميل الذي �أ�سدوه له. بعد ق�صيدة « التتويج» �أيار 1953التي كانت خارج
لقد كانت هجائيات اجلواهري نارية ،كما هو يف حبه ال�سياق ،وهو ما حاول البع�ض النفاذ منه ،ال�سيما
�أي�ضاً ،ففي ق�صيدة ها�شم الوتري ،نرى كيف ي�ضع باال�ساءة للجواهري.
ويوجه ال�سهام عليهم ،وكان �أقطاب ّ اخل�صوم يف زاوية، خيار ال�شعر هو الوحيد!!
احلكم قد �أُخذوا �أخذَ الذين كفروا .وقد م�ضى يف �إلقاء
�إذا كان و�إذا كان اجلواهري قد ترك « املنا�صب» واختار ال�شعر
الق�صيدة حتى النهاية� ،أما لو كنا يف هذه ا أليام كما
اجلواهري قد والكلمة احلرة ،فقد كان فيما كل ما قال وما كتب مل
يقول اجلواهري (حوار مع الكاتب 1985يف دم�شق غري
ترك « املنا�صب» من�شور) ،فقد يكون من البيتني ا ألولنيُ ،ينزل ال�شاعر �أو يغت�صب �ضمريه ،ومل ي�شعر �أنه عك�س قناعاته كما عبرّ
عن ذلك يف حوارات مع الكاتب وما �أورده يف مذكراته
واختار ال�شعر اخلطيب وقد يغيب .بعد �أن �أكمل الق�صيدة ،مزق �أوراقها الحقاً .مع �أن هذه القناعات تتغري بالطبع ،ي�ستثني
والكلمة احلرة، ورماها يف الهواء ،وغادر ،و�إذا به يف معتقله ،يف مديرية عو�ضها مبلحمية �شعرية ذاتية،
التحقيقات اجلنائية ،يفاج�أ بوفد من ال�شباب املتنور من ذلك مرة واحدة ّ
فقد كان فيما وك�أنه يريد اعالن براءته بعد مراجعة قا�سية للنف�س يف
كل ما قال وما ومعه «ق�صا�صات من الق�صيدة املمزقة ،جمموعة من اخلم�سينات ،و�أعني بها ق�صيدة التتويج التي حلقها
حديقة امل�سبح الذي �شهد االحتفال» .ويقول كرمي مروة م�ستدركا يف ق�صيدة كفارة وندم.
كتب مل يغت�صب
انه كان قد جمعها وزار اجلواهري يف معتقله و�سلّمه و�شهاب ـ ويفنى نيز ٌك
�ضمريه ،ومل �إياها مع ناجي جواد ال�ساعاتي ثم ن�رش الق�صيدة يف ُ �ستبقىـ َ
ي�شعر �أنه عك�س غ�ضاب
ُ عرو ٌق �أبيّات الدماء
جريدة التلغراف التي ت�صدر يف بريوت مبعاونة ح�سني وبعد نحو عام كتب :
قناعاته مروة وابنه نزار .
الذيب» فبعد �أن �أغرى فريق �أما ق�صيدة «كما ي�ستكلب خبت لل�شعر � أ ُ
نفا�س
ُ اليا�س
ُ �أم ا�شت َّط بك
من احلاكمني بع�ض طالب املجد الكاذب من امل�أجورين كهذا كان خياره مع النا�س� ،ضد احلاكمني ومل ي�ش�أ �أن
واحلا�سدين ل�شتم اجلواهري كتب هذه الق�صيدة ،التي ت�ؤثر تلك الكبوة على م�ساره املعروف وبجر�أة و�شجاعة
يقول فيها: واجه املوقف ،يف حني كان الكثريون ال يتوقفون
الذيب
ُ ي�ستكلب
ُ كما علي
عدا َّ ملراجعة مواقفهم ولي�سوا معنيني بتقدمي نقد ذاتي اىل
مناط �أعاجيب ببغداد � أ ٌَ خل ٌق اجلمهور.
وبعد هذا املطلع يقول: و�إذا كان البع�ض يلومه �أو ينتقده ألنه كان قد كتب
ت�سعون كلباً عوى خلفي وفوقهم ق�صيدة لهذا الزعيم �أو ذلك امللك �أو القائد ،ف�إنه كان
م�سكوب
ُ �ضوء من القمر املنبوح ينطلق من قناعة ومن رد للجميل مبا فيها ق�صيدته إلبن
انتق�صت
ْ لف فماوقبل �ألف عوى � ٌ
أ البكر حممد حيث يقول اجلواهري يف حوار مع الكاتب:
عاريب
ُ بال�شتم ا أل
ِ «�أبا ّ
حم�سد» « اجلماعة» ويعني «حزب البعث احلاكم» �آنذاك كرّموين
�أو كما يقول يف ق�صيدة يا ابن الثمانني: يف حينها ،وعوملت ب�شكل خا�ص ،وقد كتبت بدافع
�ص�ص
يا «ابن الثمانني»كم عوجلت من َغ ٍ «الوحدة الوطنية» والتئام ال�شمل ،بل �إن ظروف املرحلة
باملغريات فلم ت�رشق ،ومل ِ
مت ِل والواقع ال�سيا�سي ،كانت تفر�ض بع�ض التوجهات .ومل
كم هزَّ دوحك من «قزم» يطاول ُه �أكن يف حينها خارج مزاجي وطموحي� .أما حول ال�شاب
فلم ينل ُه ،ومل تق�رصْ ،ومل يط ِل «حممد» جنل الرئي�س البكر ،فقد قتل يف حادث �سيارة،
39 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
فخرج الزعيم عن حلمه ألول مرة ،وبدون تفكري منه عات» �أن يكون لها
وكم �سعت «� إ ّم ٌ
رد قائالً� :أنت من بقايا نوري ال�سعيد! كان يفرت�ض ما ثار حولك من لغ ٍو ،ومن جد ِل
باجلواهري �أن يقول له� ،أنا فالن� ،أول من كنت حتاول بت
ُ ِْ
�ص ن فقد للبلوى، نانكثبّ ْت َج
م�صاحبته يف لندن ،و�أول من زرته يف البيت ،وحينها لك الكمائ ُن من غد ٍر ،ومن ختَ ِل
يكون الزعيم خا�رسا ً واجلواهري هو الغالب يف هذه جنرال و�شاعر
املعركة ،لكنه كما يقول مل يقل له ذلك ،بل قال له هل
لقد �أخذ املنفى ق�سطه من اجلواهري ال�سيما ب�سبب تع ّكر
ت�أذن يل باخلروج يا �سيادة الزعيم؟ و�أردف بالقول كان اجلواهري
العالقة مع «الزعيم» عبدالكرمي قا�سم حيث بد�أت رحلته
مبا ن�صَّ ه�« :أحتداك و�أمام اجلال�سني� ..أحتداك و�أ�رشت له يطمح اىل ما
ال�شهرية التي امتدت اىل �سبع عجاف على حد تعبريه.
ب�إ�صبعي ..نعم �أحتداك مرة �أخرى »..و�أعتقد �أنني �أرفقتها حتت ال�سطح،
من �أكرث الق�ضايا �إثارة ،هي عالقة �شاعر بجرنال قائد
بيا �سيادة الزعيم عبدالكرمي� ،إن كان لديك الوثائق؟! العمق وهو أ
ولعل هذه احلادثة ،كانت هي ال�سبب يف مغادرة ثورة �أو انقالب .فقد تعرّف اجلواهري على عبدالكرمي
قا�سم يف لندن ،وقد رافقه �إىل طبيب ا أل�سنان ،ملعاجلة والغزر أ
رب
اجلواهري العراق� ..إىل املنفى وكما يقول اجلواهريَّ :
�أ�سنانه ،عندما كان هو يف دورة ع�سكرية ،حيث التقاه والبهى ..يبحث أ
�ضارة نافعة ،مثلما يقولون .رحم اهلل عبد الكرمي قا�سم،
يف ال�سفارة العراقية �آنذاك ،ومرت ا أليام و�سمع بنب�أ
فلو مل تكن له معنا هذه الق�صة ،فقد كنا قبعنا يف العراق، الن�شوة الروحية
«الثورة» و�إذا به يفاج�أ ب�صورة رجل كان قد ن�سي
واهلل العامل ما كان �سيحدث لنا يف ال�سنوات ال�سوداء. التي يريدها
مالحمه ،ف�إذا به «الزعيم» الذي �أطلق عليه «ا ألوحد»
لكنه ا�ضطرنا �إىل «الت�رشد» عن الوطن يف خريف ،1961 من املر�أة ،ويفت�ش
ورمبا للت�رشد املوعود وهي ح�سنة ورمبا ك ّفارة عن فيما بعد ،وركبه الغرور حتى التع�سف. عن حالة احلب
يقول اجلواهري يف حواراته مع الكاتب :ميكن �أن تتعجب
كل ما فعله معنا ،قبل الت�رشد �أنا وزوجتي «�أم جناح» احلقيقي الذي
�إذا قلت لك �أن «الزعيم» كان كثري التهيب يف عالقته مع
وبنتينا خيال وظالل ،وكنت بحكم عالقاتي مع احتادات مل يتذوقه � إ ّ
ال
ا ألدباء وكان �أول بيت زاره يف العراق ،بعد الثورة ،هو
ا ألدباء ،ونقابات ال�صحفيني يف الدول اال�شرتاكية ،فقد
بيتي ،وقد تكررت الزيارات. وهو �شيخ يدلف
� أ ّمنت مقاعد درا�سة ألبنائي يف �صوفيا ومو�سكو وباكو
وعندما بد�أت ا ألمور ت�سوء وبد� أ الزعيم يركب ر�أ�سه
وبراغ ،جزاهم اهلل �ألف خري ،وهكذا كان م�صري فرات نحو اخلم�سني
وينفرد بكل �شيء ،كتب اجلواهري مقالة يف ال�صحيفة
وفالح وجناح وكفاح .رحم اهلل عبد الكرمي قا�سم ،حني مع �أنيتا ،وكانت
رد �إىل ا ألم�صار عجلى التي كان ي�صدرها «الر�أي العام» بعنوان :ماذا يجري حالة احلب
رمانا خلف احلدود وك�أننا ُ
«ب ٌ
يف امليمونة؟ وامليمونة قرية يف جنوب العراق تعر�ضت
ُترزم». املفقود ت�سكن
لهجوم بولي�سي ،انتهكت فيه ا ألعرا�ض ،و�صادف �أن قابل
�إذا كان قا�سم زعيم ال�سلطة ال�سيا�سية والع�سكرية، الروح والعقل،
اجلواهري الزعيم عبدالكرمي قا�سم يف وزارة الدفاع،
فاجلواهري زعيم ال�سلطة الثقافية وا ألدبية يف العراق، وتفتقد اجل�سد
با�سم الهيئة ا إلدارية الحتاد ا ألدباء ،وكان يح�رض معه
فهو رئي�س احتاد ا ألدباء ورئي�ساً لنقابة ال�صحفيني
ال�سيد احلبوبي ،والدكتور �صالح خال�ص ،والفنان يو�سف الذي يعطي
و�شاعر العرب ا ألكرب كما يكنّى! ولكن كيف ل�شاعر مثل
العاين ،والدكتور املخزومي والدكتور علي جواد الطاهر، ملمحا ً �آخر
اجلواهري �أن يرمى خلف احلدود؟ وقد �س�ألته ماذا
و�إذا بالزعيم يخاطب اجلواهري «� ..أ�ستاذ اجلواهري :ماذا
كان هناك؟ زمهرير الغربة �أم فردو�س احلرية؟ و�أجاب للن�شوة وال�سعادة
يجري يف امليمونة؟ »..ويقول اجلواهري كنت �أخ�شى مثل
اجلواهري مع ح�رسة و�أمل :ا إلثنان معاً ..وباللهجة واحلب
هذه املواجهة ،ألنني كنت �أحتا�شاها ،ومل �أحدد املعركة
العراقية �أردف (�أي واهلل) �أي بلى واهلل :كان هناك الفردو�س
بعد .ف�أجبت ب�أدب وقلت له «�سيدي الزعيم �أنا ال �أ�ستطيع
املفقود واملوعود معاً .كانت براغ الذهبية مدينة ا ألبراج
�أن �أدافع عن نف�سي كثريا ً يف هذا املو�ضوع»� .أ�س�ألك فقط
واجلمال� .صحيح �أننا دفعنا �أثماناً باهظة من كراماتنا
�س�ؤاال ً واحداً ،ه ّن بناتك و�أظنهن جئن �إليك وعر�ضن ما
املهانة ،ومن �شماتة ال�شامتني ،وت�ش ّفي املت�شفني ،ولكننا
تعرّ�ضن له« ..مبعنى �أنه مل يكتب ذلك عبثاً ،وقد �أحرج
مع جفاف الغربة ،ك�سبنا حريتنا وحالوة احلياة!
«الزعيم» فهو ال ي�ستطيع �أن يقول له نعم وال يرغب �أن
مع�شوقات الجواهري يقول ال .ثم �أخذ يتهرب من املواجهة.
�أما الغلطة الكربى التي ارتكبها اجلواهري كما يقول :ويف براغ كتب قطعة �شعرية �أ�سماها زوربا ،وهي
هي �إنه خاطب الزعيم« :الثورة وب�رشطة نوري ال�سعيد؟» م�ستوحاة من رواية «زوربا» .كان ذلك عام ،1969
40 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وكعادة ا ألوروبيني يف ذلك الزمان ،حتاول ا إليحاء ،ف�إذا ومما قاله:
مل ت�ستطع تلبية املوعد �أو الطلب ،تقول «رمبا» وعليك دام
وارمتت من �شفق ٍ
�أن تفهم� ،أنها ال ترغب يف الكذب .كنا نتفاهم ببع�ض على ا ألر�ض ِج ٌ
راح..
الكلمات الفرن�سية� ،إ�ضافة �إىل االنكليزية ،التي كان وجراح
ْ
�إملامها بها مثل �إملامي وهو ما �ساعدنا على االنطالق، وتهاوت فوقه..
وحماولة �إفهام كل طرف للطرف ا آلخر ،وا�ستمرت من ِمزَ ِق الغيم..
العالقة ثم انقطعت وتوا�صلت ،ورغم �أنني كنت من مالح
ات ْ �صبيّ ٌ
جانبي م�ستمرا ً يف حبي� ،إال ّ �أنها بد�أت تخفت تدريجياً، أ
كان اجلواهري يطمح اىل ما حتت ال�سطح ،وهو العمق
وعندها عرفت �أن الن�سخة ا أل�صلية �ضاعت ومبعنى عليك وا ألغزر وا ألبهى ..يبحث الن�شوة الروحية التي يريدها من
البحث عن بدل �ضائع! املر�أة ،ويفت�ش عن حالة احلب احلقيقي الذي مل يتذوقه
�أنيتا تلك خلّدها اجلواهري بخم�س ق�صائد يف مقدمتها اال ّ وهو �شيخ يدلف نحو اخلم�سني مع �أنيتا ،وكانت حالة
ملحمة �أنيتا. احلب املفقود ت�سكن الروح والعقل ،وتفتقد اجل�سد الذي
الح يه ُزين
«انيت» َ
َ �إين وجدت يعطي ملمحاً �آخر للن�شوة وال�سعادة واحلب ،و�إذا كان
طيف لوجه ِك ُ
رائع الق�سمات ٌ زوربا يحب احلياة ،ويريد اال�ستمتاع بكل دقيقة فيها.
�سطحه!
م�سح َ �أل ُق «اجلبني» �كاد � ُ
أ أ فاجلواهري يريد �أن يتنف�س مبلء رئتيّه كل حلظة ولي�س
بفمي ،و�أن� ِش ُق عطرَه ب�شذاتي كل دقيقة .يريدها حلظة جنونية بكل حمتوياتها ،واملر�أة
�إىل �أن يقول: عنده �صورة الفرح الذي يتذهب مثل وهج ال�شم�س .كان
ح�سبي وح�سبك �شقوةٌ!وعبادةٌ! هكذا يحلم وقد �أعطته براغ الكثري وهو القائل فيها:
فرغ منك ك�أ ُ�س حياتي �أن لي�س َت ُ ال�شوط من ُع ُمري
َ �أطلتِ
وباملنا�سبة ،فقد ن�رش �شاعرنا اجلواهري هذه الق�صيدة �أطا َل اهلل من ُعمرك
التي كتبت يف �أواخر عام 1948و�أوائل عام 1949 لغت بال�رشِّ
وال ُب ُ
باملقدمة التالية «كان حباً عارماً ال يريد ـ وال يقدر لو وال بال�سوء من خربك
�أراد ـ �أن يقف عند حد ،وكان ك�أنه يتفجر عن «ينبوع» �أما ق�صة ن�ساء اجلواهري ومع�شوقاته� ..أنيتا الباري�سية
ثجاج ..وكان �رس اخلفاء يف هذا الينبوع.. خفي ّ وبارينا البوهيمية ومارو�شكا الت�شيكية؟! فهذا �ش�أن له
رغبات! و� آالم! ومطامح! ..ظلت طوال ثالثني عاماً، عالقة بتفكري اجلواهري.
هي ع�صارة العمر الزاحف! ي�سحق بع�ضها بع�ضاً! كانت �أنيتا من بنات ال�سني من باري�س لها عينان
حتى لو وجد هذا الينبوع املختنق منفذا ً بديالً عنه ملا زرقاوان ،كزرقة ال�سماء �أو البحر ،يف وجهها �شحوب
اختلف ا ألمر بكثري .لقد كان هذا احلب من «الفورة» خفيف ،وعندما كانت حتت�سي ك�أ�س الكونياك ،كانت
و»ال�سورة» لدرجة �أن �صاحبه كان ال يرى يف مالمح خدودها تتورد كما يقول اجلواهري ،ثم ي�ضيف:
املر�أة التي �أحب� ،إال ما يراه العازف املتجرد يف �أنغام ا�ستهوتني و�أنا جال�س يف مقهى ،ف�أخربين �أحد الطالب
قيثارته من �أنها طريق للتعبري و�شعار لالنطالق.. العرب ،ب�أنها كانت تتابعني ،و�أنها �سمعت عني الكثري،
على هذا ال�ضوء تلتقط ال�صورة ال�صادقة لق�صيدة .. وهي معجبة ،وكانت نظرتي تنم عن ارتياح ال يخفيه
«�أنيتا». �شيء ،لقد �أبدت رغبة يف التعرف بي ،و�صاحبتها
ثم � أتبع هذه امللحمة بق�صيدة � أخرى بعنوان �شهرزاد مدة من الزمن ،وكانت هي �سبباً يف حماولة تعلّمي
وهو مرق�ص باري�سي م�ستوحى من اخليال ال�رشقي الفرن�سية ،وكان ذلك مدخالً ملا �سي�أتي .و�صل حبي معها
وحكايات «� ألف ليلة وليلة» .ويقول فيها بخ�صو�ص �إىل اجلنون ،وكانت هذه املر�أة غريبة ا ألطوار وحتمل
� أنيتا: املتناق�ضات ..لكنها ال متاثلني يف املتناق�ضات ،بل يف
�إن وجه الدجى «�أنيتا» جتلـى االختالف والتكامل ،الذي ي�صل حد ال�شذوذ والغرابة.
عن �صباح من ُمقلتيــك �أطــال كانت امر�أة كور�سيكية (من مقاطعة بني �إيطاليا
�أما املقطوعة الثالثة من ق�صيدة انيتا «ذكريات» فقد وفرن�سا) فيها بع�ض العادات القدمية ،كانت �صادقة،
41 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
اجلواهري :كان يف «ماريا» �شيئاً كهربائياً اجتذبتني نظمت بعد فرتة القطيعة ،ويقول فيها:
أ
نحوها ،من �ول نظرة ،كما يقولون .كنا «��رسى» احلب. أ نيت» طيفاً ببايل ال مترّي «� أ ُ
جاءت مع �صاحبتها ،التي ربطتني بها عالقة حب عابرة، ي�سم حلمي ومايل؟ ما لِطيفٍ ُّ
وكانت املقطوعة الرابعة بعنوان «فراق» .وحملت وفج�أة بعد �أن دخلت �إىل ال�شقة� ،أخذتها با ألح�ضان،
املقطوعة اخلام�سة ا�سم «وداع» وقد كتبتها يف باري�س حتى ان امل�سكينة ،التي جاءت لتعرّفها بي ،وكانت قد
ت�أخرت لدفع �أجرة التاك�سي ،فوجئت بحالة االن�سجام يف � 13شباط (فرباير) :1949
التي بيننا .حيث ر�أت مارو�شكا وك�أنها حمامة تعود �إىل ال�سباع
ْ نيت» نزلنا بوادي «� أ ُ
ع�شها ،ويزقزق معها ،ذلك الطائر ال�رشيد ،الذي ظل يغني ذيب حديدَ ال�صرِّ اع بوا ٍد ُي ُ
حتى عادت مع�شوقته! ُيعيرَّ ُ فيه اجلبا ُن ال� ُّشجاع
أ
و�س�لته وماذا فعلت الولى؟ أ الوداع يوم
ُ حان لقد » «� أ ُ
نيت
وقد �س�ألت اجلواهري� :أبا فرات ،ومن كان بدرجة حب
«�أنيتا» ..هل كانت بارينا �أم ماريا «مارو�شكا» ا�سم اكتفت بنظرة حزن ورمبا �سقطت دمعة هادئة ،لكنها
حارة ،على خدها ،ال �أدري ا آلن ،كيف �أُخذت ،رغم �أن ّ الدلع والتحبب؟ .وبعد �أن اعتدل اجلواهري يف جل�سته
عالقتي مع �صديقة مارو�شكا كانت ب�سيطة ..لكنها
وبن�شوة ا�ستذكر تلك ا أليام احللوة على حد تعبريه فقال:
�أ�صيبت بالده�شة ،حني ر�أت هذا الغرام واالن�سجام،
كانت بارينا ..حتلّق يف عامل خا�ص� ،ساحر ومثري،
�صحيح �أنها مل تكن مثالية ،لكنها �أُخذت على حني غرّة،
ع�شقتها فرتة تقارب الثالث �سنوات ،كانت «بنتاً عجيبة كما يقال.
أ أ أ
مثل ��سطورة .وجه م�ضيء وج�سد �فعواين رغم الحزان» ..عندما تعرفت على مارو�شكا ،مل تكن تت�صور هي ومن
أ أ أ
�قرب �إىل اخليال ..جتعلك ت�صدّق ما تقر�ه يف ال�ساطري .معها� ،أنني اكت�شفت ا آلن النموذج« ،املوديل» ،الذي كنت
أ أ
كان �إح�سا�سي نحوها� ،نني �مام �شيء خمتلف من �أبحث عنه ل�سنوات طويلة .كانت تت�صور نزوة �شاعر،
الن�ساء ،تعارفنا يف براغ ،وهي بوهيمية ،و�أقرب �إىل �أو هكذا ت�صور البع�ض .مارو�شكا �إن�سان خمتلف ،فهي
احلياة البوهيمية (التي تقول �إن غرفة كان يتقا�سمها ال ت�شبه بارينا ولي�ست مثل �أنيتا ،هي بب�ساطة امر�أة
عدة �أ�شخا�ص يعي�شون فيها ،ي�أكلون ويجوعون ويحبون طبيعية ،غري متكلفة ،حلوة املع�رش ،وديعة ودافئة ،فيها
الكثري من مزاج ال�شباب وحما�سته وعنفوانه ومرحه، بطريقتهم اخلا�صة).
والدة بارينا ،كانت يابانية وجدّتها على ما �أعتقد ومع ذلك مل تكن �رصيحة دائماً ،كانت مراوغة� ،إنها عامل
�إنكليزية ،من �أ�صل ياباين ،ومل �أكن �أعرف �أي �شيء عن خمتلف ،ت�ضحك حني تراوغ وتندم ،ثم متطرك بحب ال
والدها ..مل حتدثن عنه ،ومن خالل ا ألحاديث املت�أخرة ،مثيل له وتعود وتكرر املراوغة.
عرفت �أنه ق�ضى نحبه� ،إما منتحرا ً �أو مقتوالً ،بظروف وقد كانت ق�صيدة ملّي لهاتيك ملّا ،لفرتة مارو�شكا ،وهي
غام�ضة ،و�صادف �أن تعرّفت عليه قبل يومني من توحي بالفرتة الذهبية من حب ال�شاعر ،فقد نظمها يف
براغ ،عام ،1972ون�رشت يف عام :1973 انتحاره �أو موته.
ويتابع اجلواهري بت�أمل القول :عند موته ،ذهبت لتقدمي ملــــي لهاتيـــــك ملّا
وقرّبـــــي ال�شَّ فتيـــن العزاء �إىل بارينا ،واكت�شفت �أن ال�شقة ممتلئة بالتحف
ال�صينية وال�ساعات الذهبية ،وقلت مع نف�سي ،كيف ملّاً علــــى جمــرتيـن
باملـــوت ملمومتني احتفظ الرجل مبا لديه مع علمي ب�أنه مات معوزاً!
وفهمت من بارينا �أنه مل مي�س هذه ا أل�شياء ألنها من يا حلوة امل�رشبيـــن
من �أين كان ..و�أين �أم بارينا ،حفاظاً على ذكراها ،لكن بارينا بددت ذلك
ومينْ ِ
كذب َب�رسعة على حياتها البوهيمية ،وعلى �أ�صحابها ،دون من �صن ِع ٍ
َ�س ُّموهمــا زهــرتني ندم �أو �أي �أ�سف.
�شعرت فيما بعد �أن بارينا ،تبددت ،طارت ،تال�شت ..ال ولعل هذه الق�صائد تذ ّكر ،بق�صائد «جربيني»
و«النزغة» عندما كان ما يزال اجلواهري يف البالط �أدري �إىل �أين؟
عو�ضت ماريا «مارو�شكا» مكان بارينا؟ يقول امللكي ،خ�صو�صاً و�أنها �شكلت عا�صفة من االنتقادات وهل ّ
42 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يل ،كيف يح�صل ذلك ،وهو عندك (�أي اجلواهري) .هل وا إلحراجات للجواهري لدى امللك في�صل ا ألول ،وكانت
تعلم �أن ذلك غري حمتمل ،قلت له نعم .و�أدركت وعبرَّ ت بحق ،جر�أة ال مثيل لها وعن�رص حتدٍّ ال نظري له؟
عن ذلك باحلرف الواحد� ،سيدي ا�سمح يل �أال ّ �أثقل عليك وقبل ق�صيدة «جربيني» كانت ق�صيدة «الرجعيون»
بعد ا آلن .فزّ امللك وقال ماذا تق�صد؟ قلت له� :أن ال �أ�سيء التي كتبها بعد معار�ضة بع�ض « علماء الدين» لفتح
�إليك بعد هذا .فقال يل :ارجع مكانك. مدر�سة للبنات يف النجف ،بدعاوى «دينية» ،وقد ن�رشت
لكن اجلواهري عاد ون�رش بعدها ق�صيدة جربيني.كيف الق�صيدة يف �صحيفة «العراق» � 26آب (�أغ�سط�س) ،1929
لنا �أن ن�ستعيد تلك ال�صور وتلك ا ألزمان بعد كل الذي والتي يقول يف مطلعها:
ر�أيناه فهل ي�أن�س ا إلن�سان بعد هذه العقود الثقيلة من �ستبقى طويالً هذه ا أل ُ
زمات
ال�سنني ،وقبل ق�صيدة جربيني كانت «النزغة» �أو ليلة ال�صدمات
ُ �إذا مل تق�صرّ ْ عمرَها
الكثري من من ليايل ال�شباب ،التي ن�رشت يف �صحيفة العراق ،هي �إذا مل ينلها م�صلحون بوا�س ٌل
�آراء اجلواهري ا ألخرى يف 18ت�رشين ا ألول (اكتوبر) .1929وكانت جريئون فيما يدَّعون كفا ُة
بب�ساطة ثورة على التقاليد ،حيث قال فيها: وقد �أحدثت تلك الق�صيدة �ضجة كربى ،وا�ستدعاه امللك
متناهية كانت ح�سا�سه كم نفو�س �رشيفة ّ في�صل ا ألول ،الذي �سبب له �إحراجاً كبرياً .حيث كان
عميقة و�صائبة �سحقوه َّن عن طريق اخل�سا�سه بع�ض رجال الدين مقرّبني من امللك في�صل ا ألول ،وكان
وم�ست�شرفة وطباع رقيقة قابلته َّن اجلواهري عنده من املوظفني املقربني �أي�ضاً ،وقد �شعر
للم�ستقبل، ٍ
الليـــايل بغلظـــة و�شــرا�سـه اجلواهري بالغ�ضب ال�شديد ملنع ت�أ�سي�س مدر�سة للبنات
ولكنه يف الوقت �إىل �أن ي�صل �إىل ما يلي: تفجر فوجد نف�سه يف �صميم يف النجف ،ف�رسعان ما ّ
قال يل �صاحبي الظريف ويف املواجهة مع القوى الرجعية والفعاليات التقليدية،
نف�سه مثل جميع
الكف ارتعا�ش ويف الل�سان انحبا�سه ِّ حيث نظم الق�صيدة يف ليلة واحدة وقد ن�رشتها �صحيفة
املعنيني بال�ش�أن �أين
غادرت «ع ِّم ًة» واحتفاظاً َ العراق ،با�سمه ال�رصيح ،بينما ن�رشت «جربيني» با�سم
العام ،مل تكن قلت� :إين طرحتُها يف ال ُكنا�سه م�ستعار ،ولكنه ال يختلف ب�شيء عن ا�سمه ال�رصيح ،ألن
ُ
كل تقديراته وبعد �أيام ن�رش اجلواهري ق�صيدة جربيني يف �صحيفة بغداد ومثقفيها �صاحوا «هذا اجلواهري» ،وحتى امللك
�صحيحة �أو العراق 23ت�رشين ا ألول (�أكتوبر) ،1929وكانت خروجاً في�صل ا ألول ،عارف با�سمه امل�ستعار.
متكاملة وهو مثل على كل ما هو م�ألوف: وقد كان اجلواهري يومها ي�ستخدم ا�سم «ابن �سهل
كل املبدعني، جربيني من قب ِل �أن تزدريني ا ألندل�سي» �أو «طرفة بن العبد»� ،أما البقية فكانت با�سمه
معر�ض
الب�شرّ ، و�إذا مـا ذممتنــي فاهجريني ال�رصيح ورمبا كان ذلك ل�سوء احلظ �أو حل�سن الظن،
للوقوع يف اخلط�أ ويقيناَ �ستندمني على �أنك خ�صو�صاً وانه من العوائل الدينية ا ألوىل يف العراق،
من قبـ ُل كــنتِ مل تعرفينـــي ومن ي�صل �إىل درجة ا إلفتاء واالجتهاد ،فعليه �أن يدر�س
ثم يقول: كتاب «جواهر الكالم» حيث كان ال�شاعر ينتمي اىل
�أنا �ضدُّ اجلمهور يف العي�ش كتاب جلده ا ألقدم حممد ح�سن اجلواهري .
والتفكري طرَّاً ،و�ضدُّ ُه يف الدين ومن املفارقات �أن �صاحب جريدة العراق ،كان �صديقه
كل ما يف احلياة من ُمت ِع العي�ش رزوق غنام ،وهو من حمبي نوري ال�سعيد واملقربني �إليه،
ومـــن لـــذ ٍة بهـــا يزدهينــي لكنه كان جريئاً ونظيفاً ،وتعرّ�ض �إىل امل�ضايقة ب�سبب
التقاليدُ واملداجاة يف النا�س ن�رش ق�صائد اجلواهري ،لقد ا�شتعل ال�شعر يف ر�أ�سي كما
عــــــدو لكــــل ُحــــر فطـــــني
ٌ يقول اجلواهري ،ومل �أبا ِل ب�أنني كنت يف البالط .قال
ويوا�صل القول: يل امللك في�صل ا ألول بعد �أن دخلت عليه َكرُّب (باللهجة
نت فعمدا ً «�إلطميني» �إذا مجَ ُ ُ احلجازية) �أي اقرتب :ابني حممد ،فقلت له �أنا فاهم
�أحترّى املجو َن كي تلطميني منذ �أن طلبتني .قال :ما هذا؟ قلت واهلل �سيدي هذا الذي
ا�ستطالت فمن َ�شعركِ ْ و�إذا ما يدي ح�صل .قال امللك ،ال تن�س ابني حممد (اجلواهري) �أنني
لطفـــــاً بخ�صــلـــــ ٍة قيديـــني م�س�ؤول ،فهل تعلم �أنني تلقيت برقيات من النجف تقول
43 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
جر�أة يف تدقيق مواقفه واعادة النظر فيها وتقدمي نقد احل�سا�سما �أ�شدَّ احتياجة ال�شاعر ّ
ذاتي �شجاع ،خ�صو�صاً و�أنه يعمل يف العلن وحتت �ضوء يوماً ل�ساع ٍة من جنون
ال�شم�س وكل كلمة قالها مدونة ومكتوبة ت�شهد عليها ومل تكن الثورة �ضد ق�صيدة «عريانة» التي نظمها عام
ق�صائده لنحو ثمانية عقود من الزمان. � ،1932أقل من الثورة �ضد جربيني .لكن الفرق ،هو �أنه
�أما بع�ض ال�سيا�سيني املحرتفني ،ف�إنهم كانوا ي�ستبدلون كان قد غادر البالط يف الثانية بعد �أن كان يف الق�صيدة
مواقفهم دون �إ�شارة اىل خط�أ �أو نقد �أو حتى مربر ا ألوىل ما يزال فيه.
لتغيريها لدرجة �أقرب اىل النفاق واملراوغة. يقول يف عريانة:
مل يعرف اجلواهري العمل ال�رسي �أو احلزبي رغم انه �أنتِ تدرين �أنني ذو لَبا َنة
كان ع�ضوا ً يف حزبني هما « حزب االحتاد الوطني» يف املَجانة الهوى ي�ستثري ّ
1946و«احلزب اجلمهوري» (1959برئا�سة عبد الفتاح وقوايف مثل ُح�سنك ملا
ابراهيم) اال ّ �أنه مل يكن �سيا�سياً ومل يكرتث بالتكتيكات تتعرَّين حــــر ًة ُعريـانــــة
ال�سيا�سية وكان قريباً من ال�سيا�سيني ويح�سبون له �ألف يف فال متـ احلب َ َّ
ثار و�إذا ُّ
ح�ساب ويختلفون عليه وي�سعون ال�ستمالته �أو حماربته ـنع � أ َّي احت�شامــــة ثوران ْه ُ
واختلفوا حتى يف مماته ،اال ّ انه مل يكن �سيا�سياً باملعنى �إىل �أن يقول:
امل�ألوف (االحرتايف) ،فهو ال يعرف املناورة �أو حتى والثديني كل رمــانة فـر
« الدبلوما�سية» ،كان يقول ق�صيدته ومي�شي ،وليكن ما الرمانـةُ ختها أ � ب أ � تهز عاء
َ
يكن ،غري عابئ �أحياناً بالتف�سري �أو بالت�أويل. عارياً ظهرك الر�شيق حتب الـ
�سفحك عن بعد فحييني ـعني منه ات�ساقه واتزانـ ْه
حييت َ
ُ
يا دجلة اخلري يا � أ َّم الب�ساتني الجواهري وال�سيا�سة
حييت �سفحك ظم�آناً �ألوذ به
ُ كان اجلواهري �شديد االلت�صاق بال�سيا�سة ورمبا
لوذ احلمائم بني املاء والطني كان الكثريون يعتربونه �سيا�سياً «م�س�ؤوالً» ،و�أحياناً
يا دجلة اخلري يا نبعاً �أفارقه يحاكمونه على هذا اال�سا�س ،ال على �إبداعه وعبقريته
على الكراهة بني احلني واحلني ال�شعرية ،كما �أن الكثريين ال ي�أخذون بنظر االعتبار
�إين وردت عيون املاء �صافية الظروف والتوازنات ال�سيا�سية ،وي�سقطون تقييماتهم على
نبعاً فنبعاً فما كانت لرتويني املا�ضي بعني احلا�رض دون ح�ساب لل�سياق التاريخي،
يا دجلة اخلري قد هانت مطاحمنا لكن الكثري من �آراء اجلواهري بب�ساطة متناهية كانت
حتى ألدنى طماح غري م�ضمون عميقة و�صائبة وم�ست�رشفة للم�ستقبل ،ولكنه يف الوقت
لعل يوماً ع�صوفاً جارفاً عرماً نف�سه مثل جميع املعنيني بال�ش�أن العام ،مل تكن كل
�آتٍ فرت�ضيك عقباه وتر�ضيني.. تقديراته �صحيحة �أو متكاملة وهو مثل كل املبدعني،
عندما تكون يف ح�رضة اجلواهري وي�ستح�رض ال�شعر الب�رش ،معرّ�ض للوقوع يف اخلط�أ.
والتناق�ض والتحدي ف�أنت تكون يف ح�رضة العراق. و�إذا ح�سبنا ذلك مو�ضوعياً ،ف�إن اجلواهري كان �أكرثهم
s
s
s
wمهما تكن حقيقة ما حدث عند ن�رش الرواية ا ألول يف جريدة اجلمهورية
عام ،1959ومهما تكن حقيقة موقف يو�سف �إدري�س يف ذلك الوقت
وبعده ،ومهما يكن موقفنا من هجوم الي�سار على الرواية و�صاحبها ،ف�إن
عاما على ن�رشها ا ألول ،وخارج ال�سياق
تل ّقينا لها ا آلن ،بعد مرور خم�سني ً
التخويني الذي �أحاط بهذا الن�رش ،ميكن �أن ي�سمح بقراءة �أخرى.
s
s
s
عام � .1956إننا هنا وباعرتاف الراوي احلريف� ،أمام و�أحاديثه و�شهاداته � ،إىل �أن �أ�صبحت ً
()10
جزءا من الكتاب،
«ق�صة حب» �أخرى دفينة ،نزلت �إىل ا ألعماق ،وغمرتها بل رمبا �أ�صبحت �أبرز جزء فيه.
ا ألحداث اخلارجية� ،أحداث الثورة والتحرر واملظاهرات ومهما تكن حقيقة ما حدث عند ن�رش الرواية ا ألول يف
والكفاح امل�سلح .لنقل �إنها ق�صة احلب احلقيقية املخبّ�أة جريدة اجلمهورية عام ،1959ومهما تكن حقيقة موقف
بكل تناق�ضاتها ومنحنياتها ا إلن�سانية ،يف مقابل «ق�صة يو�سف �إدري�س يف ذلك الوقت وبعده ،ومهما يكن موقفنا
حب»( )12املن�شورة املعلنة ،التي تعر�ضت بال�رضورة من هجوم الي�سار على الرواية و�صاحبها ،ف�إن تل ّقينا لها
لت�شذيب وتهذيب ،خلّ�صها من الدماء وا ألدران ،وجعلها عاما على ن�رشها ا ألول ،وخارج ا آلن ،بعد مرور خم�سني ً
ق�صة حب ثورية ناجحة ومت�ساوقة مع االجتاه العام. ال�سياق التخويني الذي �أحاط بهذا الن�رش ،ميكن �أن ي�سمح
انتهت احلكاية يف الواقع ،ومر زمن على حدوثها ،ولكن بقراءة �أخرى ،ن�أمل �أن تك�شف عن جوانب �أ�صيلة يف
الراوي �سي�ستعيدها �أمامنا ،على مر�أي وم�سمع منا .وهو الرواية ،رمبا طم�سها هذا ال�سياق امللتب�س كله.
هنا يك�شف لنا عن ق�صة حبه احلقيقية «الدفينة»� ،سيحكي ()2
دائما ،نتابع ف�صول ق�صة لنف�سه �أوال ً ،لكننا حا�رضون معه ً لي�ست رواية «البي�ضاء» جمرد وثيقة تاريخية �أو �سيا�سية
احلب ،ونعي�شها خطوة خطوة ،ونتابع قبل ذلك جوالت عن فرتة حمددة من تاريخ م�رص ،ولي�ست حتى جمرد
املعركة بني الراوي وبني نف�سه املنق�سمة ،حيث ق�صة احلب ال�سياق التخويني وثيقة �شخ�صية من حياة م�ؤلفها ،و�إمنا هي قبل هذا وبعده
املطمورة يف ا ألعماق ،واملحاطة باملخاوف والتناق�ضات ق�صة حب من نوع خا�ص ،يعي�شها بطلها ال�شاب وراويها
الذي ن�شرت
من كل لون. املتكلم «يحيى» ،يف �صورة جوالت متكررة مت�شابهة ،من
ي�ضا فيه الرواية
رواية «البي�ضاء» �إذن لي�ست فقط ق�صة حب ،و�إمنا هي � أ ً معركة طويلة رهيبة بينه وبني نف�سه ،وبينه وبني حبيبته
ق�صة «نف�س» .و�سوف ي�ستدرجنا الراوي بطريقته يف ال�رسد� ،أول مرة ،حاك ٌم ال�رسابيَّة ،ال�سيدة اليونانية البي�ضاء «�سانتي» .تلك هي
حماوالً �إقناعنا ب�أنها لي�ست جمرد ق�صة نف�س حمددة ،بل هي لطبيعة تلقيها حقيقة الرواية التي حتكم بناءها كله� .أما الواقع اخلارجي،
الواحدة ،التي عند كل ن�شر ق�صة نفو�سنا جمي ًعا ،ق�صة النف�س ا إلن�سانية
و�أما التاريخ ب�أماكنه و�شخو�صه و�أحداثه املهمة؛ فموجود
ترتاكم طبقاتها ،والتي تتعدد -ورمبا تتناق�ض � -أدوارها.
من هذا التعدد � -أو التناق�ض -يف «نف�س» يحيى ،بني الكفاح جديد وقراءة هناك يف خلفية هذه املعركة الداخلية� ،إنه وجود يتوارى
الثوري املقدام من ناحية واحلب الرومانتيكي املحجم املرتدد جديدة ونادرا ما يحتل �صدارة امل�شهد الروائي.
ً يف الظل،
من ناحية �أخرى ،بني ا أل�صول الريفية الفقرية اخل�شنة و�إغواء ت�أخذ الرواية من �ول �سطورها� ،شكل االعرتاف .وهو
أ
املدينة الناعمة ،بني ا ألم املخيفة وا ألب احلنون ،بني فظاظة اعرتاف من نوع غريب ،ألن البطل الراوي املتكلم
بوالق وزحامها ال�ضاغط ورقة الزمالك وهدوئها املت�سامح، «يحيى» يديل به لنف�سه ،لي�س يف �شكل مونولوج ،و�إمنا
بني حب رفاق الثورة وحب الوحدة ،بني �صورة العامل يف �شكل «حديث» متدفق �إىل النف�س و�إىل جماعة القراء �أو
املثالية يف ا ألدبيات املارك�سية و�صورته احلقيقية يف ور�ش امل�ستمعني املفرت�ضة ،على طريقة يو�سف �إدري�س املعتمدة
ال�سكك احلديد ،بني القوة وال�ضعف ،بني الروح واجل�سد ،بني يف ال�رسد(� .)11إنه ي�أخذ م�ستمعيه �أو قراءه لكي يعرتفوا معه
الداخل واخلارج ،الباطن والظاهر� . .إلخ -من كل هذا وغريه، ي�ضمهم �إىل عامله ،ينطلق يف احلديث باحلقيقة ،وبعد �أن َّ
ومن �ضمري يحيى املعذب بني املتناق�ضات ،تت�ألف رواية با�سمه وبا�سمهم� ،أي ب�ضمري املتكلم (واملخاطب) اجلمع
«البي�ضاء»� ،أو ق�صة احلب احلقيقية. الذي ن�صادفه مع �أول جملة يف الرواية /االعرتاف :
يف ال�صفحات الثالث ا ألوىل ،وقبل �ن تبد� �حداث الق�صة ،ويف
أ أ أ
«ملاذا نكذب على �أنف�سنا؟
طريقه للقاء الفتاتني ا ألجنبيتني ،اللتني �ست�صبح �إحداهما
�إن لكل منا ق�صة حب دفينة ،و�ضعها يف �أغوار نف�سه،
حبيبته ،كان يحيى – الراوي البطل ال�شاب -يفكر (مع نف�سه
بالطبع) يف ق�صة العمل الثوري اخلطري من ناحية ،وق�صة وكلما م�ضى عليها الزمن دفعها �أكرث و�أكرث �إىل �أعماقه،
احلب والغرام الرومانتيكي من ناحية �أخرى ،ثم ق�صة النف�س وك�أمنا يخاف عليها من الظهور.
معا : و�سوف �أقول لكم كل �شيئا عن ق�صة حبي. .
التي تنطوي على الوجهني ً
رماديا
ًّ «ما زلت �أذكر ذلك اليوم ك�أنه اليوم .كنت �أرتدي معط ًفا ماذا �أقول لكم؟» (�ص .)7
م�رسعا �إذ كان
ً ا�شرتيته� ،أول معطف يف حياتي �أرتديه ،وكنت ت�ضعنا هذه اجلمل االفتتاحية وب�شكل مبا�رش �إزاء افرتا�ض
امليعاد قد �أزف وم�ضت بعده دقائق .ومع هذا ورغم ن�سمات غريب ،البد �أنه ورد اىل ذهن قراء يو�سف �إدري�س ،الذين
الع�رص ال�شتوية والوقت ال�ضيق فقد رحت �أ�س�أل نف�سي ذلك كانوا قد فرغوا للتو من قراءة روايته ال�شهرية «ق�صة حب»
47 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
مل تكن ال�صيغة املهيمنة على الرواية �إذن ،هي �صيغة التوثيق ال�س�ؤال :ترى هل ت�صلح واحدة منهما �أو االثنتان ألحبهما؟ وهل
التاريخي ،وال حتى �صيغة حكي التجارب والوقائع ال�شخ�صية، تقع �إحداهما يف غرامي؟ وهل يكون يل معها ق�صة؟ وكنت �أ�سال
من �أجل ف�ضح رفاق الي�سار ،و�إمنا كانت ال�صيغة املهيمنة نف�سي تلك ا أل�سئلة مع علمي التام �أنها �أ�سئلة ال ي�صح �إلقا�ؤها
�صيغة نف�سية ،هي �أقرب �إىل االعرتاف املفتوح ال�رصيح ،ال من �أو التفكري فيها .فالعمل الذي كنا نقوم به عمل جاد وخطري
�أجل ف�ضح ا آلخرين ،و�إمنا من �أجل ف�ضح الذات والك�شف عن ولي�س فيه �أي مكان �أو ف�سحة للحب والغرام .كنا يف عنفوان
تناق�ضاتها التي ت�صل �إىل حد املر�ض .ومع �أن هذا االعرتاف حربا ال هوادة فيها إلعداد
معركة اال�ستقالل ،وجملتنا تخو�ض ً
الفا�ضح يرتكز على عالقة الراوي بنف�سه وب�سانتي� ،إال �أنه يت�سع ال�شعب للمعركة ،وال جمال للعاملني فيها للتفكري يف غري العمل
لي�شمل تناق�ضات عالقته ب�أهله ورفاقه الثوريني والعمال والكفاح .كل �شيء يجري وك�أنها اخلطة جلي�ش حمكمة .وكل
والن�ساء ا ألخريات� . .إلخ ،ف�ضالً عن متزقاته وعذابات �ضمريه �شيء ينفذ وك�أننا يف خط النار .واملعركة �ضد اال�ستعمار قائمة
و�سط هذا كله. يف كل مكان ،يف ال�سودان وم�رص و�سورية والبالد العربية،
()3 و�شمال �أفريقيا وقرب�ص .وجلماعتنا �أن�صار و�أع�ضاء يف كل الحداث يف أ
ا ألحداث يف رواية البي�ضاء مت�ضي على نحو بالغ الغرابة ح ًّقا؛ قطر من هذه ا ألقطار ،واملجلة ت�صدر يف القاهرة ،ويرتدد رواية البي�ضاء
فنحن ال نكاد نتقدم �إىل ا ألمام من نقطة �إىل نقطة ،و�إمنا ي�أخذ �صداها يف كل عا�صمة من عوا�صم ال�رشق ا ألو�سط .كنت �أعرف مت�ضي على نحو
احلدث الرئي�سي (ق�صة احلب بني يحيى و�سانتي) �شكل دورات هذا كله ،ولكنني هنا �أقول احلقيقة ،فاحلقيقة ي�صح قولها
�أو جوالت متكررة مت�شابهة يف الزمان واملكان وال�شخو�ص. دائما .واحلقيقة �أننا حني نفكر بيننا وبني �أنف�سنا ال نفكر بالغ الغرابة
ً
�إنه امل�شهد نف�سه يتكرر ،تبد� أ به �أحداث الرواية و�إليه تنتهي، فيما ي�صح وما ال ي�صح� ،إننا نفكر فقط فيما نريده ،نفكر بكل ح ًّقا؛ فنحن ال
يف دورة واحدة كبرية ،مكونة من دورات �صغرية مليئة جر�أة بل �أحيا ًنا بكل وقاحة وال يهمنا �شيء� ،إننا فقط حني نكاد نتقدم �إىل
بالتفا�صيل� ،إنه م�شهد اللقاء بني يحيى و�سانتي يف مكان ي�أتي دور التنفيذ نب�رص العقبات االجتماعية القائمة ،وحينئذ المام من نقطة أ
مغلق ،اللقاء ا ألول والثاين يف مطعم باريزيانا ،ثم اللقاء نبد� أ نرتاجع �أو نبد� أ نلف وندور حول العقبات كو�سيلة للتغلب �إىل نقطة ،و�إمنا
الثالث متواجهني وقو ًفا يف قطار يف رحلة ذهاب و�إياب ،ثم عليها ،بيننا وبني �أنف�سنا ال نعد العقبات االجتماعية مقد�سات،
ي�أخذ احلدث
-و�إىل النهاية -وحدهما يف حجرة داخل �شقته ،يف موعد ال �إننا نعدها عقبات فقط ،ولعل هذا هو �رس تقدي�سنا لها �أمام
يتغري وال يتوقف ،الثالثة والن�صف (ال�سبت والثالثاء واخلمي�س النا�س .ولي�س معنى �أين كنت �أفكر يف كل هذا و�أنا يف طريقي الرئي�سي (ق�صة
من كل �أ�سبوع) وب�سيناريو ال يكاد يتغري. �إىل املوعد �أين كنت �أفا ًقا �أو وغدًا ،ألين كنت �أفكر يف مطاحمي احلب بني يحيى
يبد� أ ال�سيناريو بيحيى يف لهفة وانتظار حارقني ،ت�أتي �سانتي اخلا�صة ،فالواقع �أين كنت �أفعل هذا بجزء �صغري من نف�سي، و�سانتي) �شكل
يف موعد الدر�س املزعوم ،يدور حوار ولو بال�صمت ،يحبها �أما �أجزا�ؤها ا ألخرى الكربى فكانت م�شغولة ً
متاما باملجلة دورات �أو جوالت
ويحبها وهي قريبة جدًّا ،وم�ستحيلة جدًّا يف الوقت نف�سه، وبالواجبات جتاهها وبالعمل الذي كنت �أقوم به يف منتهي
متكررة مت�شابهة
يعرتف بحبه وميعن يف االعرتاف ب�أ�شكال متعددة ،من دون �أن اجلد والن�شاط .هذا �شيء وذلك �شيء �آخر خمتلف ،وا إلن�سان
يح�صل على اعرتاف واحد مع �سعيه الذي ال يتوقف ،يجرب كل يفعل ال�شيئني ،ورمبا يفعل ال�شيئني ألنه �إن�سان� ». .ص .9 يف الزمان واملكان
الو�سائل القتحامها وك�رس ق�رشة امل�ستحيل ،ولكن ال �أمل. هكذا بد� أ يحيى من �إدراك ال�شقاق داخل نف�سه ،وقرر �أال يتخلى وال�شخو�ص
وحني ن�صل �إىل �آخر �صفحات هذه الرواية الطويلة ،ال نكاد عن معركة الداخل ل�صالح معركة اخلارج ،وكان احلب هو
نعرف كم مرة حدث هذا اللقاء ،وكم من الزمن قد مر ،وكم امليدان ا ألو�سع وا ألغم�ض خلو�ض تلك املعركة .و�سيتكاثر
من ا ألحداث قد وقع� .إنه م�شهد واحد ملح يكاد يلغي امل�شاهد هذا ال�شقاق ويتوالد يف نف�س يحيى على نحو �رسطاين كلما
ا ألخرى على كرثتها ،ي�ضعها على الهام�ش ،بينما يحتل هو م�ضينا مع ق�صة (�أو معركة) احلب .ومع كل جولة من جوالت
ي�ضا �أن «م�أ�ساة» املنت .ولكننا مع نهاية ا ألحداث ،ندرك � أ ً املعركة ،وكل ف�صل من ف�صول الرواية ،كنا نرى جانبًا جديدًا
كاملة قد ت�شكلت وو�صلت �إىل نهايتها. خ�صو�صا)،
ً من جوانب هذا ال�شقاق :العالقة مع القرية (ا ألم
أ
حديث البطل �إىل نف�سه ،وحديثُه �إلينا� ،كرث
ُ وهذه امل�أ�ساة �ش َّكلها العالقة مع العمال ،العالقة مع حي بوالق ،العالقة مع رفاق
مما �شكلتها ا ألحداث التي وقعت يف اخلارج؛ ألن هذه ا ألحداث الثورة (البارودي و�شوقي) ،العالقة مع العمل ،ويف �صدر كل
(حتى احلدث الرئي�سي :ق�صة احلب) مرت �إلينا من ذاكرته ،وعرب هذا بطبيعة احلال العالقة مع �سانتي.
عينيه ،ومتداخلة مع هذا امل�شهد امل�ستحيل املتكرر .وك�أمنا هي �سيحدثنا الراوي يف موا�ضع كثرية من الرواية عن ا�ستمتاعه
حلم� ،أو �أحداث مل تقع� ،أو قل �إنها وقعت فقط يف داخل البطل مع نف�سه بالطابع «ال�رسِّي»( )13لهذه العالقة مع �سانتي ،وعن
وبينه وبني نف�سه. فقدان هذه العالقة لوزنها وقيمتها �إذا انتقلت �إىل العلن ،بل
ت�سري �أحداث البي�ضاء �إذن يف خطني متداخلني� ،أحدهما -وهو �إنه يناق�ش مع نف�سه ومع قرائه �أحيا ًنا ،اجلانب ا ألوديبي
اخلط ا أل�سا�سي -نف�سي داخلي ،يدور حول نف�سه ،دون �أن يتقدم «املر�ضي» ال�رصيح من هذه العالقة.
48 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
العامل �أن ي�أتي لنجدتي وي�ساعدين أل�ستطيع �أن �أتخل�ص من �إىل ا ألمام ،اللهم �إال مبقدار ما ترتكه هذه الدورات املت�شابهة
عالقتي بها� ،أو على ا ألقل ألقاوم عالقتي بها� ،أقاومها وك�أين من الرتدد والتحليل من �آثار على �شخ�صيتي يحيى و�سانتي،
�أقاوم طاعو ًنا �أبي�ض غري مرئي يتقم�ص روحي�( ».ص .)236 وا آلخر – وهو ثانوي -خط خارجي �سيا�سي اجتماعي،
«�أميكن �أن تو�صلني عالقتي ب�سانتي وحبي لها �إىل هذا الدرك؟ يتقدم ن�سبيًّا �إىل ا ألمام ،بحيث يرتك �آثاره احلتمية على كل
�إىل هذا ال�رسداب املظلم املتعفن الذي �أن�سى فيه نف�سي وقيمي ال�شخ�صيات ،مبن فيها بالطبع يحيى و�سانتي املعزوالن عن
وال �أعود �أحكم على �أعز ا أل�شياء و�أقد�سها �إال من خالل عالقتي حركة اخلارج وامل�ستغرقان يف ق�صتهما.
بها؟ يبد� أ اخلط ا ألول بيحيى و�سانتي ،رجل وامر�أة ي�ستك�شف كل
أ أ أ أ
عذاب ما كنت �ح�سه� ،ب�شع �نواع العذاب� ،إذا �س�لت نف�سي ماذا منهما ا آلخر ،ثم ما يلبثان �أن يدخال يف «�رسداب مظلم» طويل،
�أفعل عذبني ال�س�ؤال ،و�إذا �أجبت عذبتني ا إلجابة ،و�إذا حلمت ال فعل فيه ليحيى (الطبيب وال�صحفي ال�شاب ،ذو ا أل�صول
تعذبت ،و�إذا �شككت �أقا�سي مر الهوان. القروية ،املنتمي �إىل واحدة من احلركات الي�سارية ال�رسية يف
كل قوتي وكل طاقتي و�إرادتي وقدراتي كنت �أجمعها و�أح�شدها القاهرة �أواخر ا ألربعينيات) �إال حتليل الذات ،ثم حتليلها من
و�أحيا بها امل�شكلة حماوال ً �أن �أجد املخرج . .و�أفظع �شيء �أن جديد ،بال �أمل يف الو�صول �إىل نهاية ،وكلما �أمعن يحيى يف
جتمع قواك كلها لتفعل بها ال �شيء ،كياين كله يز�أر ،وكل خلية حتليل نف�سه وحتليل عالقته ب�سانتي كبَّله العجز و�أقعده عن
يف تعوي وت�رصخ ،و�أعت�رص نف�سي كلها و�أفكر و�أخرج من هذا َّ الفعل� .أما �سانتي (ال�شابة اليونانية البي�ضاء ،التي يغرق يحيى
أ
كله بال �شيء ،حتى قارب تفكريي يف نهاية تلك اليام القليلة يف حبها) فال نكاد نعرف عنها ،وال يكاد يحيى نف�سه يعرف
�أن ي�صبح لو ًنا غريبًا من التفكري ،جمرد تفكري مت�صل طويل عنها� ،إال معلومات حمدودة� :أنها تنتمي �إىل �أ�رسة يونانية
لغري ما هدف �أو فكرة ،تفكري على الفا�ضي ،حت�س يف حلظات من حركة ي�سار عاملية ،ت�ساعد احلركات الي�سارية عرب العامل،
()14
�أنه على الفا�ضي و�أنك ال تطحن به فكرة حمددة ،و�إمنا تفري به متزوجة من �أحد مواطنيها اليونانيني بعد ق�صة حب.
عقلك ،ومع هذا ال ت�ستطيع �أن توقفه �أو تكف عنه�(».ص-257 وبرغم هذه املعلومات القليلة ،ورمبا ب�سببها ،تبقى �سانتي
)258 �شخ�صية غام�ضة متناق�ضة غري مفهومة؛ فهي متزوجة من
«ولكن امل�شكلة �أين كنت قد و�صلت �إىل مرحلة الي�أ�س الكامل، رجل حتبه لكنها ت�أتي �إىل يحيى يف �شقته مرتني يف ا أل�سبوع
ي�أ�سي من �أن �أ�شفي منها ،ن�سيت م�شاريعي وخططي ،ن�سيت وبانتظام مده�ش ورغم كل العقبات ،تقرتب معه يف كل دورة
قراري ب�أن ا�ستحوذ عليها و�أهجرها ،حتى مل �أعد �أذكر �أين من دورات اللقاء حتى قرب نقطة الو�صول لكنها ال تريد له �أن
�صممت ذات يوم على الكف عن التعلق بها .كان حنيني ألراها، ي�صل �إىل هذه النقطة ،تنهره حني ي�رصح لها بحبه لكنها تبكي
جمرد �أن �أراها قد �أ�صبح �أقوى من كل �شيء� ،أقوى من غ�ضبي وندما حني يقر� أ عليها ر�سائله امللتهبة� . .إلخ.
حبًّا و�شو ًقا ً
مر�ضا .كان جنو ًنا .كان �شيئًا �أعتى من املر�ضو�ضياعي .كان ً وكلما م�ضينا مع هذا اخلط ،ودخلنا يف تفا�صيل احلدث
ومن اجلنون. وت�شعباته املختلفة ،كنا نكت�شف مع يحيى �أنه ال يعي�ش ق�صة
وليال طويلة ق�ضيتها على مقعد منتزه �أمام منزلها� ،أ�صادق مر�ضا ع�ضاال ً ال برء منه .وحني حب يف احلقيقة ،و�إمنا يواجه ً
حرا�س الليل و�أ�سليهم على �أمل �أن �أراها وهي هابطة من منزلها ن�صل �إىل قرب نهاية الق�صة تتحول �سانتي عند يحيى �إىل
غلى عملها يف ال�صباح .ويف �أحيان كثرية ال �أراها ،ويف �أحيان «غيبوبة» و»طاعون �أبي�ض» و«مر�ض وجنون» .وال ترتكنا
قليلة جدًّا ،نادرة� ،أراها ،و�أرجتف ارجتا ًفا حقيقيًّا� ،أمام �أعني «مم�سو�سا» على باب �سانتي� ،أو ً الرواية �إال بعد �أن نرى يحيى
�أ�صدقائي من احلرا�س ،ملجرد ظهور �شبحها احلبيب يف فتحة «مت�صو ًفا يف عبادتها» وقد حتولت هي �إىل �إله.
الباب. يقول يحيى يف حديثه الذي ال ينقطع �إىل نف�سه و�إلينا:
قطعا أ أ أ
. .انني رغم هذا كله مل �كف عن حبها ولن �كف ،و�ين ً «وبد�أت �أفيق. .
وبالت�أكيد هالك ،وقد بد�أت �أتناول احلبوب املهدئة و�أنام �أو با ألحرى بد�أت مرة �أخرى �أروح يف الغيبوبة التي اعرتتني
باملنومات وا�ستيقظ باملنبهات ،وعقلي كله �أراه ر�أي العني منذ عرفتها ،غيبوبة عالقتي بها ،تلك الغيبوبة التي قطعها
ينف�صل �شيئًا ف�شيئًا عن واقع احلياة ،ويت�صاعد مت�صو ًفا يف لفرتة وجيزة خروج البارودي ،الغيبوبة التي �أ�صبح فيها
عبادتها ،وك�أنها جتردت هي ا ألخرى وو�صلت �إىل معنى اهلل. جمرد كائن ال يربطه باحلياة �إال تلك ال�ساعات القليلة التي
(�ص .)261-260 يق�ضيها يتحدث فيها معها �أو يتخيلها حني تغيب ،ويحلم
�أما اخلط الثاين ،فمع �أنه يبد� أ مثل اخلط ا ألول مع بداية الرواية، بها�(»..ص)230
حني نرى يحيى م�ستغر ًقا يف عمله ال�صحفي يف �إطار حركات أ أ أ أ
« . .وطوال الطريق كنت ��صمم و�ق�سم ،و�لح على نف�سي و��شتمها
الي�سار ،ف�إنه �رسعان ما يتحول �إىل فوا�صل بني جوالت ق�صة و�ألعنها ،و�أطلب من �إرادتي كلها �أن تتجمع ،ومن كياين كله �أن
احلب املمتدة .وبينما كان اخلط ا ألول ي�سري يف م�شاهد داخلية ما�ضي وذكرياتي وكل �شيء يخ�صني يف هذا َّ ينتف�ض ،ومن
49 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
التي هجرها ،وعالقته الوجدانية مع مراتع طفولته ،وم�شاعره متكررة متوالية ،مغلقة يف غالب ا ألحيان على يحيى و�سانتي،
الداخلية �إزاء كل �أ�شيائها ونا�سها� . .إلخ. ف�إن هذا اخلط الثاين ي�سري يف م�شاهد خارجية متغرية منف�صلة،
لكن هذه الق�صة الريفية امل�ستقلة ،لي�ست �سوى م�شهد من العامل ومفتوحة يف الغالب على ف�ضاءات جديدة ،و�إن كانت هي
الداخلي ا ألكرب ليحيى ،وهو العامل الذي حتتله �سانتي ً
متاما؛ ا ألخرى م�شمولة بال�صيغة االعرتافية املهيمنة على اخلطني
�إذ �سنكت�شف يف نهاية امل�شهد �أن ا أليام التي ق�ضاها الراوي جميعا� ،صيغة احلديث �إىل القراء/امل�ستمعني ،ب�ضمري املتكلم ً
يف قريته حم�سوبة وبطيئة ومت�ضي على م�ض�ض ،ال يذكر منها املفرد �أحيا ًنا واملتكلم اجلمع �أحيا ًنا �أخرى.
�سوى �أنها كانت �أيام عيد ،و�أنها كانت قبل يوم ا ألحد املوعود. يف �أول ا�سرتاحة بني لقاءين� ،أو يف �أول فا�صل بني م�شاهد هذا
هذان اليومان �أو الثالثة لي�ست �سوى فا�صل يعود بعده �إىل العر�ض الطويل املتكررة ،ي�أتي م�شهد القرية وا ألهل وا ألم على
اللقاء الدائم املتكرر مع نف�سه ومع �سانتي: وجه اخل�صو�ص:
«مل تتعد ا أليام التي ق�ضيتها يف البلدة يومني �أو ثالثة ،وطوال « . .واتفقنا على �أن يكون املوعد يوم ا ألحد يف ال�ساعة الثالثة
تلك ا أليام كانت �سانتي حتيا معي با�ستمرار ،كنت �أنظر �إىل �أمام �سينما ميامي.
�أبي الطيب و�أخواتي و�أمي والفالحني �أبناء البلدة ،و�أرى الرتاب وكان بيننا وبني ا ألحد عدد من ا أليام.
واملر�ض والفاقة واخلراب و�أقول لنف�سي هناك . .يف مكان ما علي �أن �أ�سافر �إىل بلدتنا .ف�شيء
وكان ثمة عيد قد �أقبل .وكان َّ
من هذه الدنيا جنة �صغرية خمبّ�أة يل ،هناك تلك الفتاة احللوة مقد�س �أن يعود �أبناء القرى الذين ا�ستوطنوا املدن �إىل قراهم
ذات ا إل�شعاعات .هناك �سانتي»(�ص .)43 يف ا ألعياد� ،إنه ال�شيء التقليدي اخلافت الذي ترعرعوا ون�ش�أوا
وهكذا مت�ضي امل�شاهد ا ألخرى املتنوعة لهذا اخلط الثاين يف كنفه.
اخلارجي من ا ألحداث ،كل م�شهد منها يقدم جانبًا من والواقع �أين بد�أت �أ�شتاق للبلدة ولعائلتي ،و آلالف ا أل�شياء
عامل الراوي /البطل /يحيى ،فم�شهد لل�سكن يف حي بوالق التي غادرتها هناك من �صغري ،ذلك ال�شوق الذي �أعرف �أن
(�ص ،)53-52وم�شهد للعمل وظروفه (�ص )60-55وعنرت �ساعة واحدة �أق�ضيها يف القرية تكفي ً
متاما إلطفائه� ،إذ ما
وعبلة واالنتقال �إىل �شقة الزمالك (�ص )89-81واللقاء مع �أكاد �أهبط من القطار وتطالعني ا أل�شجار التي �عرفها والنخيل
أ
ال�صديق القدمي �أحمد �سيف الن�رص(�ص )150-141وخالف الذي كان قبل �أن �أوجد وال يزال يف مكانه من يوم وجدت،
الراوي مع جمموعة املجلة ( )162-142واملواجهة مع والبيوت الرمادية الداكنة التي �أعرف عن قاطنيها كل �شيء ،ما
عمال الور�ش ( )185-174و�إخراج عدد املجلة برغم احلكومة �أكاد �أعود مرة �أخرى �إىل ذلك الهدوء املمدود الذي يرقد ريفنا
( )224-314ثم القب�ض على فتحي �سامل وخروج البارودي يف قاعه ،وما تكاد �آذاين ت�سرتيح من الطنني الذي ال ينقطع
من ال�سجن� . .إلخ. يف املدينة و�أهبط �إىل املكان الذي ال �ضجة فيه وال طنني ،بل
غري �أن ا ألمر امل�ؤكد �أن هذا اخلط الثاين اخلارجي ،تتداخل الهدوء احلافل الكبري ،هدوء يغري بالهدوء ،ويثبط الهمم ،ما
م�شاهده ال�سيا�سية واالجتماعية يف معظم ا ألحوال مع اخلط �أكاد �أطالع كل هذا حتى �أبد� أ �أتناق�ض مع نف�سي. .
ا أل�سا�سي؛ الذي يرتكز يف م�شهد واحد متكرر :ق�صة احلب �سافرت �إىل البلدة �إذن ،وطالعني كل ما �أعرف �سل ًفا �أنه �سوف
املحتدمة بني يحيى و�سانتي .كل هذه امل�شاهد اخلارجية، يطالعني ،مع هذا فللقائنا بالقرية فرحة كفرحة ر�ؤيتنا
ال�سيا�سية واالجتماعية واحلياتية ،كانت م�سكونة متا ًما بق�صة ل�صورنا ونحن �أطفال ،وخل ّطنا �أيام كنا تالمذة يف ابتدائي
احلب الغالبة ،وب�صورة �سانتي وطيفها الذي يقفز فج�أة يف وثانوي .وقوبلت مبا تعودت �أن �أقابل به ،جرى �أخي ال�صغري
ذهن الراوي ،حتى يف �أحرج حلظات ال�رصاع ال�سيا�سي وا ألمني قادما من املحطة وعانقني والتف حول �ساقي ،ثم حني ر�آين ً
مع ال�سلطة؛ فهذا ال�رصاع الداخلي �سيطغى على كل �رصاع انفلت وانطلق يعلن اخلرب ألبي �,أمي وبقية �إخوتي� ». .ص40
خارجي مهما تكن �شدته: ودائما �أذهب
ً دائما �أفتقد �أمي يف مظاهرة الرتحيب بي، كنت ً
«وحني �أ�صبحنا يف ال�شارع ،و�أ�صبح القب�ض على فتحي ودائما تقبل �صلحي على م�ض�ض� »...ص.42 ً �صاحلها، و� أ
�سامل خربًا ي�أخذ طريقه لي�سكن يف هدوء الذاكرة ،و�شوقي هكذا يحكي الراوي مرة واحدة ما كان يحدث مئات املرات عند
بجواري كالعمالق ،وحمفظته البنية الغامقة حتت �إبطه، عودته �إىل قريته ،فتتحول القرية وعاملها والوالدان وا إلخوة
دفعت �سانتي �أثقال ماكنت �أفكر فيه و�أ�ستعيده وخطرت – رغم �أنهم ال ُيذكرون بعد ذلك �إال مرات نادرة � -إىل ركن
يل . .و�ساءلت نف�سي �إن كنت �أحبها حقيقة و�أنا �أحيا يف هذا �أ�سا�سي من عامله الثابت ،ولي�س جمرد م�شهد عار�ض يبهت بعد
اجلو امللبد امل�شحون الذي ي�صبح احلب فيه �شيئًا خمالًّ يعاب مروره.
وي�ستنكر� ،ساءلت نف�سي ،ومل �أحتج ل إلجابة ،كنت كمن ي�ضيق واحلقيقة �ن يو�سف �إدري�س يقدم هذا امل�شهد كله يف �صورة أ
�أحيا ًنا ويرفع ب�رصه ويت�ساءل� :أين ال�سماء . .وال�سماء كبرية ق�صة مكتملة من ق�ص�صه الق�صرية التي عرفناها� ،شيء �أقرب
�ضخمة هائلة ممتدة من �أفق ال بداية له وال نهاية �إىل �أفق ال �إىل ق�صته «اليد الكبرية» ،حيث رحلة ابن القرية عائدًا �إىل قريته
50 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
بينما مل ي�ستخدمه يو�سف ال�شاروين مثالً من قريب �أو بعيد؛ ألن نهاية له وال بداية. .
ق�ضيته كانت هذا البطل الروائي املركب املري�ض الذي خلقه نعم كنت و�أنا ما�ش بجوار �شوقي �أحبها ،و�أنا �أحيا حتت ا ألر�ض
يو�سف �إدري�س يف البي�ضاء( .)17كما �أن �أحدًا مل ي�ستخدم على �أراها . .و�أراها و�أنا �أريد �أن �أراها ،و�أراها و�أنا ال �أريد �أن �أراها.
هذا النحو ،الت�شابه بني يو�سف �إدري�س وكثري من رواة ق�ص�صه .هي �شوقي وحمفظته واملكان الذي كنا ذاهبني �إليه واملجلة
الق�صرية ،مثل «خم�س �ساعات» و» �شيخوخة بدون جنون». وفتحي �سامل وخويف و�شجاعتي ،ولوال �أين مدرك وم�ؤمن �أين
ومع �أن يو�سف �إدري�س نف�سه ي�ؤكد هذا اجلانب ا ألوتوبيوجرايف �س�أراها اليوم ما كنت قد �صحوت من النوم �أو ذهبت للور�ش �أو
يف الرواية� ،سواء يف تقدميه املوجز للرواية� ،أو يف حديثه �إىل احتملت وجودي على ظهر الدنيا حلظة واحدة ،وجلزء على �ألف
كوبر �شويك امل�شار �إليه �ساب ًقا؛ ف�إنه قبل غريه كان يدرك هذا من الثانية. .
الفارق بني امل�ؤلف وال�شخ�صية الروائية ،وقيمة هذه امل�سافة و�أظل يف تلك الدوامة� ،أرى �شوقي بحافظته �أو يكلمني ف�أتذكر
ما �أكثـر ما وردت اجلمالية الفا�صلة بني امل�ؤلف وراويه �أو بطله ،ويدرك – عملي الثوري ،ف�إذا ما تذكرته تذكرت ق�صوري فيه ،والق�صور
كلمة «نف�س» ب�صفته كاتبًا واقعيًّا � -أي �رضر ميكن �أن ي�صيب الرواية حني يذكرين ب�سانتي ،وت�أنيب ال�ضمري الذي ي�صاحب ت�صورها
ُتقر� أ على هذا النحو. يذكرين بتق�صريي ،وتق�صريي يذكرين بها�(»..ص.)219-218
و«نف�سي» يف أ ()4
وكما كان با�ستطاعة النقاد �ن ير�صدوا جوانب من الت�شابه
هذه الرواية، بني يحيى م�صطفي طه بطل الرواية ،وبني امل�ؤلف يو�سف «يحيى م�صطفي طه» هو بطل رواية «البي�ضاء» ،وراويها،
و�سيتحدث يحيى �إدري�س ،ف�إن با�ستطاعة �أي قارئ ا آلن �أن يدرك الفروق الوا�سعة وحمور �أحداثها وق�ضاياها .ولقد �أفا�ض النقاد يف بيان
ريا عن نف�سه كث ً بني ال�شخ�صيتني �إذا �أراد ،و�سوف يجد عو ًنا يف الن�صو�ص العالقة بني هذا البطل/الراوي وبني م�ؤلف الرواية يو�سف
العجيبة ،املكونة املعا�رصة التي تك�شف كيف �أن �أبطال روايات ال�سرية الذاتية �إدري�س .يفتتح �سامي خ�شبة مقالته عن الرواية قائالً�« :إىل
– حتى لو تطابقت �أ�سما�ؤهم مع �أ�سماء امل�ؤلفني – هم حم�ض �أي حد ميكننا الف�صل بني يو�سف �إدري�س وبني يحيى م�صطفي
من عدة �أنف�س
خيال روائي ،يختلف �إىل �أبعد حد عن امل�ؤلفني احلقيقيني. طه ،و�إىل �أي حد ميكننا �أن نطابق بينهما؟ لقد كتب يو�سف
مت�صارعة ،وعن يحيى م�صطفي طه �إذن ،بطل روائي قبل �أي �شيء �آخر .وكل ما �إدري�س رواية «البي�ضاء» ب�ضمري املتكلم ،وجعل بطلها يحيى
�سخطه الدائم ميكن قوله يف هذا ال�صدد �أنه رمبا كان يعك�س جانبًا خفيًّا �أو م�صطفي طه هو راويها ،وجعله طبيبًا مثله يعرف طريقه يف
على هذا الركن �رسيا من ذات امل�ؤلف (يف مقابل اجلانب املعلن الذي عك�سته ًّ �شبابه ا ألول �إىل الكفاح الثوري ال�رسي ،وجعله يجمع بني
�أو ذاك من �أركان رواية ق�صة حب) ،ومن هنا كان التحرج من ن�رش الرواية، الطب وال�صحافة ثم بني الطب وا ألدب .و�إذا كانت حكاية يحيى
وكانت ال�صيغة االعرتافية املهيمنة على �رسدها. لق�صة حبه قد انتهت قبل �أن يتحول نهائيًّا عن الكفاح الثوري
نف�سه ،وعن
يحيى �ساخط �أ�شد ال�سخط على نف�سه ال�ضعيفة املرتددة املتخلية وعن الطب ويتحول �إىل ا ألدب وحده ،ف�إن يو�سف �إدري�س قد
رغبته الدفينة عن ا ألهل وعن الرفاق الثوريني ،واملت�شككة يف اجلميع حتى �أكمل هذه امل�سرية وكتب ق�صة حب يحيى يف �أثنائها»(.)15
يف ترك �أركان يف �أقرب النا�س :ا ألم ،لكنه �أبدًا ال يدين هذه النف�س؛ ألنه يروي �أما فاروق عبد القادر ،فيتجاوز كل الت�شابهات ال�سابقة بني
�أخرى منها تبوح حكايتها من الداخل وب�ضمري املتكلم االعرتايف الوا�ضح، يحيى ويو�سف �إدري�س ،لي�صل �إىل نقطة يراها حا�سمة يف هذا
وتنفعل وحتيا، بل رمبا كان �ضمري املتكلم املعرتف هذا ،واملقرتن ب�ضمري الت�شابه ،يرى فيها �شيئًا �أقرب �إىل التطابق ،ويرى فيها «مفاتيح
املتكلم اجلمع يف كثري من ا ألحوال ،هو الو�سيلة التي دفعنا ثمينة» ت�ساعد يف فهم رواية البي�ضاء ،وفهم «�إبداع يو�سف
بها امل�ؤلف �إىل التعاطف مع بطله وتفهم م�أ�ساته وتناق�ضاته، جميعا» ،وهي العالقة مع ا ألم .يقول»:بعد ً �إدري�س وحياته
ال حماكمته. ن�رش عدة حلقات منها يف جريدة اجلمهورية ،ن�رش يو�سف �إدري�س
يتحدث يحيى عن نف�سه كثريًا وبا�ستفا�ضة ،وميعن يف تقدمي تو�ضيحا حول خلط البع�ض بينه وبني بطل البي�ضاء الذي ً
جوانب حياته من الداخل ومن اخلارج� .أما �سانتي ف�سيرتكها تروى الق�صة على ل�سانه ،ونبه ه�ؤالء �إىل �أن هناك فر ًقا بني
الراوي حتى النهاية لغزًا م�ستع�صيًا على الفهم ،ال تتكلم كثريًا، امل�ؤلف وال�شخ�صية الروائية و�أنه �شخ�صيًّا يعرف خم�سة �أطباء
واملعلومات حولها �شحيحة ،لي�س �سوى ر�ؤية الراوي البطل ميار�سون الكتابة .ولن �أقف هنا عند نقاط الت�شابه «اخلارجي»
املحب ،الذي يخلع عليها هالة �أ�سطورية تزيد من ا�ستع�صائها بينهما ،فكالهما طبيب يعمل بالكتابة ،عرف هذا العمل ال�رسي
وغمو�ضها. ومار�سه ،وكالهما عمل طبيبًا بني العمال ،وكالهما �أقام وفتح
ما �أكرث ما وردت كلمة «نف�س» و«نف�سي» يف هذه الرواية، عيادة يف بوالق� . .إلخ ،لكن نقطة اللقاء الذي ي�صل حد التطابق
و�سيتحدث يحيى كثريًا عن نف�سه العجيبة ،املكونة من عدة �إمنا تتمثل يف العالقة با ألم ،امل�ؤدية ال�ضطراب العالقات
�أنف�س مت�صارعة ،وعن �سخطه الدائم على هذا الركن �أو ذاك التالية باملر�أة وف�سادها»(.)16
من �أركان نف�سه ،وعن رغبته الدفينة يف ترك �أركان �أخرى ومن الوا�ضح �أن الناقدين ي�ستخدمان هذا الت�شابه ،ألنه يخدم
منها تبوح وتنفعل وحتيا ،حتى لو بدت انتهازية �أو غريبة �أو دفاعا عن الي�سار،
ق�ضيتهما وهجومهما على الرواية و�صاحبها ً
51 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ومل �أكن �أكذب يف كال االنفعالني ،كان �أغلب نف�سي يف جنازة وقحة �أو مري�ضة� .إنه ال�رصاع الذي ال ينتهي بني م�ستحيلني� ،أو
حقيقية اقطر لها مرارة و�أملًا ،وذلك اجلزء ال�صغري يف مرح م�ستحيالت متعددة ،كلها تعتمل يف نف�س «يحيى»:
طربا ،وكال االنفعالني ال ي�ستطيع التغلب حقيقي يكاد يهزين ً «� . .أكاد �أمتنى �أال ت�أتي أل�شقى و�أتعذب و�أ�شمت يف ذلك اجلزء
على ا آلخر �أو حموه ،و�رصاعهما وتنافرهما ميزقني ويدميني» من نف�سي ،ذلك اجلزء املتفائل الذي كان ي�ؤكد يل با�ستمرار
(�ص )167 �أنها البد قادمة وي�سخر من خماويف و�شكوكي.
أ أ
« . .كنت كمن يتفرج على نف�س �خرى غري نف�سه ،نف�س �خرى و�أ�صبحت ال�ساعة الثالثة.
حتب بقوة وق�سوة وظم�أ وح�شي ،وحتاول �أن جتد قطرة حب ون�شب يف نف�سي جدل عنيف� .آالف ا أل�شياء ت�ؤكد �أنها قادمة.
متت�صها فال جتد ،فتئن وتعوي وتتلوى ،كنت وك�أين قد �أ�صبحت و�آالف ا أل�شياء ت�ؤكد يل �أنها ذهبت من حياتي �إىل ا ألبد ولن
و�شخ�صا يتفرج وي�ستغرب ،وا ألعجب ً �شخ�صا يعذَّب
ً �شخ�صني. . تعود.
من هذا �أن كليهما يحب �سانتي ،و�أين بكليهما �أحاول �أن �أظفر و�أنا فرح ألين �س�أ�شقى و�أحزن ،وحزين ألين قد �أفرح� ،ساخط
بها»(�ص .)209 على نف�سي �أ�شد ال�سخط ألين تركت �أبي العجوز واخوتي وكل للحب يف نف�س
«وامل�شكلة الكربى �أنني كنت �أنا الذي �صنعت بنف�سي كل هذا، النا�س الذين يحبونني وجئت ملقابلتها ،را�ض عن نف�سي ألين يحيى ق�صة
قيدت نف�سي �إليها ب�إرادتي ،وب�إرادتي �أريد �أن �أك�رس قيودي، نبذت الواجبات اجلوفاء وخرقتها و�أقدمت على عمل �أحقق به
م�ستحيلة،
فمن اين �آتي ب�إرادة يل تلغي �إرادتي ،وكبف �أحطم بنف�سي رغبة هي من حقي �أنا وبجماع نف�سي �أريدها»(�ص .)47-46
بنيا ًنا ال متلك نف�سي �إال �أن تبنيه وت�ستمر تبنيه�( ». .ص -236 علي �أن �أعاملها باعتبار �أنها زوجة ،و�أنا وكذلك للثورة.
« . .فقد ا�صبح واجبًا ّ
.)237 م�ؤمن �أنها لي�ست كذلك ،و�أنا �أ�شك يف �إمياين هذا ،و�أنا حائر يف الق�صتان
()5 هدفها من تذكريي بو�ضعها ،حائر فيها ،وفوق هذا كله وقبل م�ستحيلتان يف
للحب يف نف�س يحيى ق�صة م�ستحيلة ،وكذلك للثورة. متاما �أين ال �أ�ستطيع ان �أمنع نف�سي من طلبهاهذا كله مدرك ً ذاتهما ،ألنهما
الق�صتان م�ستحيلتان يف ذاتهما ،ألنهما �سرِ ِّيتان حتيط بهما كما ال �أ�ستطيع �أن �أمنعها من طلب احلياة والوجود� ،أبدًا مل �أكن
ِ�س ِّريتان حتيط
ال�شكوك والتناق�ضات ،و ألن ما فيهما من �أحداث ومن حوارات �أ�ستطيع حتى لو تبينت مثل �أوديب �أنها �أمي ،ف�شغفي بها كان
�إمنا يقع بني يحيى وبني نف�سه .والق�صتان م�ستحيلتان قد خرج عن �إرادتي� ،أ�صبح كالنار العنيدة املوقدة يف نف�سي، بهما ال�شكوك
ي�ضا فيما يت�صل بطبيعة العالقة بينهما؛ فهما متداخلتان �أ ً كلما حاولت �أن �أخمدها مبانع �أو حائل �أتت عليه ،بل زادتها والتناق�ضات،
ومت�صارعتان بحيث ال ندري من �أين تبد� أ احلركة :من ق�صة املوانع واحلوائل ا�شتعاال ً» (�ص .)72 أ
ولن ما فيهما
احلب �إىل ق�صة الثورة �أم العك�س� ،أيهما ي�ؤثر على ا آلخر� ،أم �أن «وبد�أت �أنفعل و�أكتب ،و�صورة �سانتي يف نف�سي تبتعد وتبتعد، من �أحداث ومن
جميعا ،وهو هذه النف�سً هناك تكوينًا �أعلى يرتك �أثره عليهما �أبعدها ب�إرادتي وك�أين �ساخط عليها وعلى نف�سي وعلى تلك حوارات �إمنا يقع
املنق�سمة الغريبة. ا أليام الطويلة من حياتي التي ق�ضيتها عبثًا ،ق�ضيتها واق ًفا
يحيى غارق �إىل �ذنيه يف حب �سانتي ،يعرتيه ما يعرتي أ يف طريق جانبي �ضيق ال ي�سع �إال عواطفي واحالمي. بني يحيى وبني
املحبني من �أوهام يف كل ق�صة حب ،ف�سانتي بالن�سبة له ولو كان هذا هو الذي حدث بال�ضبط ل�سار كل �شيء كما �أردت، نف�سه
هي الروح ،ورمبا �شيء �أكرب من الروح� ،شيء غام�ض ال ميكن ولكني طوال انفعايل وغ�ضبي و�سخطي كان هناك ،يف ركن ما
و�صفه �أو قوله �أو التعبري عنه: من نف�سي� ،شيء �أكاد �أملحه و�أراه ،عينان �صغريتان متقاربتان
«ومع ذلك لو طلب �أحدهم مني بعد مقابلتي لها �أن �أ�صفها ملا المعتان �ساخرتان ت�ؤكدان يل �أين �أ�ضحك على نف�سي ،و�أين
ا�ستطعت ،فما جدوى الو�صف� .إنه ل�شيء م�ضحك �أن نقر� أ يف �أفتعل ثورتي عليها و�أن �سانتي مل تبتعد من خيايل وال حدث
ق�ص�ص احلب �أن البطل غرق �إىل �آذانه يف حب البطلة ل�شعرها لها �شيء�(»..ص .)79-78
ا أل�سود املتهدل �أو عيونها الع�سلية ذات الرمو�ش الطويلة. أ أ
«كلمات متلعثمة جعلتني �زداد حقدًا على حقدي و�ت�ساءل عن
هراء وتخريفات ،فنحن ال نف�ضل �إن�سا ًنا على �آخر ألن مالمح يف ،وملاذا هي جاحدة ناكرة كنه النف�س التي ت�سريين وتتحكم ّ
هذا �أجمل من مالمح ذلك� ،أو نحب فتاة لعيونها اجلريئة �أو للجميل ،وملاذا ال تق�رص حبها على من يحبونا فعالً ،وبالذات
يل �أننا نحب ا إلن�سان ل�شيء ال اللتفاتاتها الر�شيقة ،يخيل � إ َّ �أولئك الذين ال عمل لهم يف احلياة �إال حبها» (�ص .)99
ن�ستطيع حتديده يف ا إلن�سان ،وا�س�ألوا كل من �أحب ،ماذا �أحببت «ومع هذا ..وبينما كنت �أنهال على نف�سي ب�صفعات داخلية
يف رفيقك ،ودعوه يجيب ،وحققوا له كل ما يقوله يف رفيق مكتومة .بينما نف�سي كلها يف جنازة خجل قائمة ،كان جزء
�آخر ،ف�سوف يظل يقول هناك �شيء ناق�ص لو�س�ألناه عن كنهه فرحا ،جزء �أحاول �إ�سكاته فال �صغري من نف�سي يكاد يرق�ص ً
ملا ا�ستطاع ا إلجابة .ويف كل منا �شيء ال ن�ستطيع حتديده ،هو ي�سكت� ،أحاول �سحقه فال ميوت� ،ب�صق عليه فيزداد ً
مرحا أ
روحه هو جمموع �أجزائه الظاهرة و�أجزائه التي ال تظهر ،دمه، وفجورا ،ويفعل هذا ألن معنى �أنها �أهملت يف عملها طوال ً
�شخ�صيته ،،ظله�( ». .ص.)11-10 تلك املدة �أنها كانت م�شغولة ب�شيء �آخر ،م�شغولة بي ،بي �أنا.
52 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف هذا كله ،ب�أية قوى غيبية تفرز يف دمي كل تلك الكمية َّ « . .مل يكن �إح�سا�سي ي�ستند على غري �أ�سا�س ،ولكنه �أ�سا�س ال
من ا ألدرينالني الذي يجعل قلبي يدق هكذا وينبت العرق من ميكن قوله �أو حكايته �أو التعبري عنه .الت�رصفات والكلمات
جبهتي وتتهدج له �أنفا�سي؟ وملاذا هي وحدها دوناً عن العامل الكبرية الوا�ضحة املحددة املعامل هي فقط التي ميكن �أن
كله�( ».ص.)223 حتكيها �أو تقولها ،ولكن كيف ت�ستطيع �أن حتكي ما ي�صاحب
« . .فقد �أدركت ألول مرة �أنها لي�ست ق�صة حب �أخرى تلك التي تلك الت�رصفات والكلمات ،ا أل�شياء الدقيقة التي ال تظهر �إال
�أواجهها ،ولكنها جتربة حياتي .حقيقة ،كنت �أح�س �أن �صفارة لتتال�شى ،و�إذا تال�شت فال ت�ستطيع ،مهما حاولت� ،أن تعيدها �إىل
البدء قد انطلقت و�أين �أنزل احللبة ألبد� أ �أول �رصاع ين�شب بني الوجود مب�سميات �أو �ألفاظ .كلمة �أ�شكرك مثالً كلمة حمددة تعرب
الواقع وبني ما �أريد» (�ص .)252 عن ت�رصف حمدد ميكن التعبري عنه وت�صوره ،ولكن الطريقة
غري �أن يحيى كان يدرك يف الوقت نف�سه ،كمية العوائق بينه التي تقال بها ،ملعة العني التي قالتها ومقدارها ووجهتها،
وبني حبه ،وهي عوائق داخلية وخارجية يبدو عبورها مكان خروجها وهل جاءت من طرف الل�سان �أم �صدرت عن
م�ستحيالً� .أول هذه العوائق و�أي�رسها �أن يحيى يكت�شف بعد �أول ا ألعماق ،نوع ال�صوت الذي تقال به ورنينه ومداهن ال�رسعة
لقاء مع �سانتي �أنها متزوجة من رجل حتبه ،والعائق الثاين، التي قيلت بها والوقفات التي جاءت �أثناء حروفها ،وت�سبيلة
ي�ضا ،هو عائق الزمالة والعمل امل�شرتك وهو عائق خارجي � أ ً اجلفن التي تتبعها �أو قد ت�سبقها �أو قد ال حتدث �أبدًا ،تلك ا أل�شياء
مع رفاق الثورة الذي مينع منو هذه العالقة يف ظروف طبيعية. الدقيقة التي ال تكفي كل احلوا�س ال�ستقبالها�( ». .ص .)14
�أما �أخطر العوائق و�أ�شدها ا�ستحالة ،فهي العوائق الداخلية. واملهم �أين مل �أرها على حالة واحدة �أبدًا .كان �شكلها يتغري
()18
بني يحيى و�سانتي عائق �أ�شبه ما يكون بالعائق ا ألوديبي ، وجها
على الدوام يف نظري ،ويبدو يل وجهها يف كل دقيقة ً
ونحن ل�سنا يف حاجة �إىل جهد كبري لكي نك�شف عن طبيعة هذا �آخر �أجمل و�أحلى ،حتى بريق عينيها كان يتغري يف كل وم�ضة
العائق ودوره ،ففي موا�ضع كثرية من حديث يحيى الطويل �إىل وكل نظرة ،وكنت مذهوال ً �أحاول عبثًا ان �أحتفظ لها ب�صورة
نف�سه و�إلينا نحن القراء ،يتحدث �رصاحة عن الطبيعة امللتب�سة واحدة ،ولكن �ألوانها تختلط ب�ألوان ،وبيا�ضا يف احمرار دائم
لعالقته ب�أمه وكيف �أثرت على عالقته بكل من تعامل معهن غمو�ضا حبيبًا يلفها ويلف الوقفة ً متغري ،و�سواد ثيابها ي�شع
من الن�ساء( ،)19غري �أن الراوي /البطل يف حديثه املمتد �سي�سخر وجها �أعرفه و�أحفظه ،ومرة �أراه ً راهواللحظة ،ووجهها مرة � أ
-يف الوقت نف�سه – من تلك التف�سريات القائمة على ما ي�سميه وجه ملكة من ملكات التاريخ ،وجه �آلهة من �آلهة اليونان� ،وأ
«علم النف�س امل�ضحك» ،وهو ما يزيد ا ألمر تعقيدًا؛ ألنه يبدو جنية من جنيات ا أل�ساطري ،و�أحيا ًنا وجها جديدًا ً
متاما �أراه
على درجة من الوعي بطبيعة م�شكلته ،ت�سمح له مبراوغة نف�سه، ألول مرة يف حياتي» (�ص )34
ومراوغتنا نحن القراء. ومع ذلك فق�صة احلب بني يحيى و�سانتي لي�ست ك�أي ق�صة
يبدو ا ألمر وك�أن هناك قوة ميتافيزيقية قاهرة متنع يحيى من حب عادية ،والقوة التي جتذبه �إليها �أكرب من �أية قوة �أخرى،
الو�صول اجل�سدي �إىل �سانتي ،برغم كل تلك القوة التي تدفعه �إنها �شيء �أقرب �إىل ال�سحر و�إىل الغيب والظواهر اخلارقة ،قوة
�إليها .و�سيقول لنا يف غري مو�ضع �إن �سانتي كانت بالن�سبة له حتما �إىل املر�ض و�إىل اجلنون : �ست�أخذه ً
�أقرب �إىل املحارم: أ
«كنت �آخر من يعترب �ن ما يدور بيني وبينها �شيء عادي ،كنت
«مل يكن �سهالً ابدًا �أن �أتخطى بقفزة واحدة حواجز منيعة يف قرارة نف�سي م�ؤمنًا �أن ما يحدث يل مل يحدث إلن�سان من
تكاد تعادل تلك التي تقوم بني ا إلن�سان و�أخته ،حواجز قبل ،وك�أنني �أول واحد �شعر بعواطف كهذه جتاه �إن�سانة مثلها،
الزمالة والعمل امل�شرتك ،ولكني كنت �أعتمد على الزمن ومنو و�سانتي يف يقيني كانت ال ميكن �أن تكون جمرد فتاة �أو امر�أة
العالقة�(».ص)30 عادية ،كانت تكاد تقرتب يف نظري من ظاهرة �شاذة ،كائن
و�إىل �أن حتني املقابلة رحت �ت�صور نف�سي و�نا �حقق حلمي
أ أ أ خارق للعادة ،كائن �أح�س ناحيته ب�أحا�سي�س مل �أح�سها قبالً
بنوالها .و�أغرب �شيء �أين مل �أ�ستطع هذا �أبدًا .كنت �أت�صورين جتاه �أية �أنثى �أو جتاه �أي �إن�سان �آخر�( ». .ص )170
جال�سا معها مثالً �أحتدث �إليها� ،أ�ضحك معها� ،أقرتب منها، ً « . .وجوه ت�سبح يف خيايل ،،ووجوه ،و�آذاين فيها �رصخات
نائما معها يف فرا�ش واحد فذلك �أقبلها� ،أما �أن �أت�صور نف�سي ً وطنني وهم�سات . .وهناك . .من �أبعد مكان يف �رشق خيايل بد� أ
�أمر مل �أ�ستطعه .وحني تكرر هذا يف خيايل بد�أت �أفطن �إىل وجه ما يظهر ،ويت�ضح ،ويتكامل ،ويقرتب،كان وجه �سانتي،
احلقيقة الغريبة املذهلة التي مل �أكن قد فطنت بعد �إليها .حتى ورائعا ،بدا جمرد وجه بني �آالف الوجوه ،و�أخذ ً ومبت�سما
ً حيًّا
يف اخليال ال �أ�ستطيع �أن �أت�صور نف�سي يف و�ضع ج�سدي معها. نوره يزداد حتى بد�أت الوجوه التي حوله تظلم ،وظالمها يبهت
كيف هذا؟ كنت �أثور على نف�سي و�أعاندها و�أروح مرة �أخرى ويبهت� ،إىل �أن �أ�صبحت نف�سي �سماء ليلية �صافية لي�س فيها
�أت�صور و�أبد� أ بالكالم معها لكي �أنتهي بالفرا�ش ،ومي�ضي كل م�ضيء غري وجه �سانتي�( ». .ص .)186
�شيء على ما يرام حتى ن�صل �إىل الفرا�ش ،وحينئذ يجمح بي أ
علي هذه املر�ة ال�صغرية وحتدث « . .ب�أية قوى �سحرية ت�ؤثر َّ
53 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف �سيا�سة املجلة واجتاهاتها ونبحث فيها بع�ض م�شكالت عقلي بالقوة وي�أبى امل�ضي وك�أنني �أت�صور نف�سي ً
نائما مع
بالدنا بالطريقة املحلية وباللغة التي يفهمها �شعبنا .وبد�أنا علي ،مع �أمي مثالً �أو �أختي �أو عمتي»(�ص �إحدى املحرمات ّ
نردد �شعارات �أقرب �إىل طبيعتنا وروحنا من ال�شعارات .)152
«العاملية» التقليدية املحفوظة. . «ومل �أكن �أفكر و�أنا �أح�س ،كنت �أدرك هذا بال وعي .كانت �أب�شع
ويف تلك الظروف عرفت �سانتي. جرمية يف نظري �أن �أم�سها ،جمرد م�س ،بكلمة �أو حتى ب�إ�شارة
عرفتها والي�أ�س قد و�صل بي �إىل مرحلة كنت �أكاد �أقرر كل �شف حتى �أتال�شى �إذا كان جمرد �شف و� أ ّ
حلظة �أمتنى فيها �أن � أ ّ
يوم فيها �أن �أقطع �صلتي باملجلة وباملجموعة كلها و�أن �أبد� أ وجودي ال يريحها�( ». .ص .)187
مقتنعا به وب�صحته وم�ؤمنًا ً يف البحث عن طريق �آخر �أكون «وكان ممكنًا �أن ينتف�ض عقلي ويثور ،ويت�صور ما يحلو له من
بفائدته. متاما� .سانتي�أوهام و�أو�ضاع� ،أما �أن �أنفذ هذا ف�شيء م�ستحيل ً
أ
وكل يوم كنت ��ؤجل القرار ،ال بحكم العادة والك�سل فقط ،ولكن كانت �أمامي ،على بعد خطوة واحدة مني� ،أ�ستطيع �أن �أ�شل
ألين – رغم �إمياين املطلق بخط�أ هذا الطريق – �أخاف �أحيا ًنا مقاومتها كلها با�صبعني اثنتني من �أ�صابعي و�أنالها عنوة،ثم
�أن �أكون املخطئ . .وب�رصاحة لي�س هذا كل �شيء»... �أنف�ض يدي منها كما �أريد . .ولكني مل �أكن �أ�ستطيع� ،أبد� أ مل �أكن
جزءا كبريًا من فرحتي كان وحني عرفت �سانتي فرحت ،ولعل ً �أ�ستطيع . .كنت مت�أكدًا �أنها لو غ�ضبت حتى من فعلتي ف�ست�صفح
أ
راجعا �إىل �أنها جعلتني �أ�ؤجل ذلك القرار �إىل البد ،وجعلتني ً عني بعد هذا وتغفر يل. .
رغما عني ،جعلتني �أعود �أمتنى ً كرههأ � كنت طريق ملحبة �أعود كنت م�ؤمنًا بهذا ومت�أكدًا منه ،ولكن ما فائدة ا إلميان به
�أن حتدث املعجزة و�ن ننجح فعالً يف تغيري كل ما كنا نراه
أ والقيود التي تغلني يف مكاين وتربطني �إىل مقعدي �أقوى �ألف
غري قابل للتغيري. . مرة من كل احلقائق التي �أ�ؤمن بها و�أعرفها؟ ما فائدة �إمياين
وهكذا بد�أت يف االجتماعات �أناق�ش و�أجادل و�أنفعل ،وكنت و�أنا كلما �أدركت �أن نوالها �أمر �سهل ال يكلفني �إال فك قيودي،
قبالً قد دفعني الي�أ�س �إىل ح�ضورها �ساكنًا �ساكتًا مطرق كلما �أح�س�ست بالقيود تت�ضاعف وت�ضيق ،وكلما وجدت �سانتي
الر�أ�س . .كنت �آتي �إىل االجتماع و�أنا �أكاد �أنفجر بالثورة». . قريبة مني را�ضية وم�ستعدة ألن تر�ضى ،كلما �أح�س�ست بها
�ص .163 -162 تبعد وتبعد حتى لت�صبح �أبعد من ان �أنالها بب�رصي �أو حتى
وهكذا تقفز ق�صة �سانتي فج�أة يف قلب ق�صة الثورةً ،
متاما كما بخيايل�( ». .ص .)207
بد�أت �صفحات الرواية بق�صة احلب التي ت�شكلت ومنت بعد ذلك ()6
يف قلب ق�صة الثورة. تلك ق�صة احلب امل�ستحيلة التي تنتهي( )20مبا ي�شبه
معا هناك انف�صام بني الداخل واخلارج ،هناك يف الق�صتني ً اجلنون ،فما ق�صة الثورة؟
حب واحتجاج عاجز على احلب ،وهناك ثورة وثورة مكبوتة مع �أن ق�صة الثورة هي ا ألقدم وا أل�سبق يف حياة يحيى ،ومع �أن
متواريا
ً على الثورة .ولقد ظل هذا االنف�صام يف ق�صة الثورة ق�صة احلب هي التي تقطعها ،ف�إن تقدمي الراوي/البطل/يحيى
مف�سحا املجال لق�صة احلب الغامرة وتناق�ضاتها ً �إىل حد ما، للحكاية ي�سري ب�شكل خمتلف؛ فالرواية تبد� أ بق�صة احلب وت�سري
أ
لكي حتتل معظم �صفحات الرواية� ،إىل �ن تفجرت الثورتان وتن�صب عليها ،بحيث تبدو ق�صة الثورة هي الهام�شية معها
معا يف هذا الف�صل احلادي ع�رش. ُّ
العاجزتان امل�ستحيلتان ً وهي التي تقطع ق�صة احلب ال�ساخنة املتوالية املتوترة.
يف اجتماع رفاق املجلة ،ويف قلب املناق�شات املحتدمة فيما متاما حني من�ضي مع الرواية �إىل
بينهم ،ي�ستعيد يحيى كل حكايته مع الثورة ومع احلب ومع ونحن ندرك هذه احلقيقة ً
ما بعد منت�صفها بكثري ،حني يك�شف الراوي وبجملة مفاجئة
نف�سه املنق�سمة .ه�ؤالء هم الرفاق: (يف الف�صل احلادي ع�رش املخ�ص�ص الجتماع جماعة املجلة
-الراوي الذي انتهي للتو من جولة من جوالت معركة احلب الثورية) عن التداخل العجيب بني الق�صتني .الف�صل كله يعر�ض
بينه وبني �سانتي وبينه وبني نف�سه ،جاء �إىل االجتماع مت�أخرًا ل�شكوك الراوي يف نهج رفاقه الثوريني ،وهي �شكوك تظل هي
مرتب ًكا منك�س الر�أ�س ال يزال يف غيبوبته. ا ألخرى بينه وبني نف�سه ،وال تخرج �إىل العلن �إال يف جمل
� -أحمد �شوقي ،رئي�س التحرير ورئي�س االجتماع ،ي�ستغرق نادرة ،ويكاد الراوي يوهمنا �أن معظم �أفراد املجموعة كانت
كالعادة يف ا ألجندة واملواد ،وعلبة �سجائره ا ألمريكية تنطوي نفو�سهم على �شكوك كهذه .ويف �إطار من هذه ال�شكوك
بجواره ي�سحب منها ال�سيجارة بعد ا ألخرى يف �أناقة ترد اجلملة املفاجئة:
وكربياء. وعلى الرغم من �أنني �أنا و�شوقي وكل من كانت حتدثه نف�سه
-فتحي �سامل ،و�سيم املالمح والعينني ،طبيب مثل الراوي ب�أ�شياء كهذه من الزمالء كنا ن�ؤجل حكمنا النهائي على تلك
وكاتب ق�صة متميز ،قليل الكالم كثري االبت�سام. اخلواطر املخيفة �إال �أن هذه اخلواطر كان لها انعكا�سها يف
املادة كاملة مبوقع املجلة)www.nizwa.com( : عملنا فبد� أ حما�سنا للعمل يفرت وبد�أنا نغري تغيريات ال �إرادية
54 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
اب الذين مار�سوا وميار�سون فعل � wأدب «الديا�سبورا» �أ�صحابه هم ال ُكتّ ُ
الكتابة خارج �أوطانهم ،ولغاتهم ا ألم ،يف و�ضعية الال ا�ستقرار ،وبح�س
فجائعي ،و�إح�سا�س باال�ضطهاد واخلوف واالقتالع ،ألنهم يكتبون عن وطن
يف «الذاكرة» �سي�ستوطن بدوره «الورق» ،يكتبون عن �أوطان افرتا�ضية،
وبح�س عنيف بالرف�ض وعدم القدرة على التال ؤ�م واالندماج يف املجتمعات
امل�ضيفة ،وحنني مم�ض �إىل العودة .وال�شك يف �أن الكتابة بهذه امل�شاعر
�ست�ؤثر يف م�ضامني املكتوب ،ويف �صيغ الكتابة ،ويف لغتها ،و�أهدافها.
كتبت فيها ،وتغذي متخيل الثقافة امل�ضيفة، حتاول هذه الدرا�سة ا إلجابة عن �إ�شكالية معرفية
وهي لي�ست � أدبا مغربيا مكتوبا باللغة الفرن�سية، � أدبية يف � آن ،وهي كالتايل« :ما دامت الهجرة
بل هي � أدب فرن�سي كتب بروح مغربية .ونحن لن �رضورة �إن�سانية� ،سواء الداخلية � أو اخلارجية،
نتحدث يف هذه التوطئة عن «الديا�سبورا» فح�سب، الطوعية � أو اجلربية ،الفردية � أو اجلماعية ،فما
لأ ن الأدباء املغاربة الذين كتبوا عن الهجرات � آثارها على املهاجر الكاتب؟ ماذا � أ�ضافت للن�ص
التي عا�شوها مل يحيوا ال�شتات ،كما عا�شه الكتاب ال�رسدي على م�ستوى املو�ضوعات وال�صيغ؟ وما هي
اليهود ،بل كانت دوافعهم حمددة ،والأ وطان التي املفاهيم اجلوهرية التي ترتبط ب�أدب املهاجرين؟
ق�صدوها �صديقة � أو حامية (م�ستعمرة) للوطن الأ م وهل هناك خ�صائ�ص نوعية متيز هذا النمط من
(املغرب) :فرن�سا وا�سبانيا. الكتابة ال�رسدية املغربية خ�صو�صا؟ ثم ماذا بقي
ينق�سم هذا الأ دب من حيث مو�ضوعاته وف�ضائه من � أدب املهجر يف بداية القرن املن�رصم؟».
�إىل � أق�سام كربى،كما تبدت لنا ،كالتايل: كما � أن هذه الدرا�سة �ستحاول قراءة � آثار الهجرة،
[ � أدب مهاجر مندمج. ونوعها يف عدد من الن�صو�ص ال�رسدية املغربية، كثري من
[ � أدب مهاجر مغرتب. الرواية خا�صة .ومن تلك الن�صو�ص ما تطرق الكتابات التي
[ � أدب مهاجر مغامر. للهجرة داخل الوطن الواحد ،وهو ما يعرف بالهجرة حت�سب على
ما � أق�صد �إليه هنا ا إل�شارة �إىل اختالف جوهري يف الداخلية (النزوح) ،حيث يتم االنتقال من القرية � أو أ
«الدب املهاجر»
مفهوم الهجرة عند الأ دباء ،ويعود ذلك �إىل طبيعة املدينة � أو املد�رش �إىل مدينة اقت�صادية � أو �إدارية
تكون
الهجرة وظروفها و� أهدافها ،ويرجع � أي�ضا �إىل كربى لأغرا�ض متنوعة ومتعددة ،ومنها ما تطرق
للهجرة خارج املغرب بغايات خمتلفة كا�ستكمال �إ�ضافات تثـري
طبيعة مرحلة الهجرة ،والبلد املتوجه �إليه ،ويعود
�إىل �شخ�صية الكاتب /الأ ديب التي تلعب دورا هاما الدرا�سة العليا واملتخ�ص�صة � ،أو بغاية االلتحاق اللغة التي
يف ت�شكيل معنى «الهجرة» ،فالكاتب املندمج بالأ �رسة والعائلة � ،أو هربا من ال�ضنك � ،أو طلبا كتبت فيها،
يف املجتمع امل�ضيف ،والقادم �إليه عن طواعية للمنفى االختياري � أو الق�رسي ...وهكذا دواليك. وتغذي
واختيار (رواية «البعيدون» لبهاء الدين الطود) متخيل
الدب المهاجر: /1.1تعريف أ
يكون مفهومه للهجرة خمتلفا عن مفهوم الكاتب الثقافة
الذي يرحل ق�رسا عن بلده خوفا من اال�ضطهاد امل�ضيفة يعرف هذا النمط من الكتابة عامليا حتت م�سمى
اجل�سدي والنف�سي ،وال�سيا�سي � أو االجتماعي (رواية � أدب «الديا�سبورا»( :)diaspora( )1ويق�صد به � أدب
«حراكة» للماحي بينبني ،ورواية «� أن ترحل» «املجموعات التي تعي�ش خارج � أوطانها الأ م»،
للطاهر بنجلون) .لذلك ف�أدب الهجرة اليوم خمتلف اب الذين مار�سوا وميار�سون و� أ�صحابه هم ال ُكتّ ُ
عن «� أدب املهجر» يف بداية القرن املن�رصم ب�شمال فعل الكتابة خارج � أوطانهم ،ولغاتهم الأ م ،يف
وجنوب القارة الأ مريكية. و�ضعية الال ا�ستقرار ،وبح�س فجائعي ،و�إح�سا�س
باال�ضطهاد واخلوف واالقتالع ،لأ نهم يكتبون
/2.1بين � أدب الرحلة أ
والدب المهاجر: عن وطن يف «الذاكرة» �سي�ستوطن بدوره «الورق»،
�إن � أدب الرحلة ( )2()récit de voyageخطاب يقوم على يكتبون عن � أوطان افرتا�ضية ،وبح�س عنيف بالرف�ض
رواية امل�شاهدات ومقارنة العادات والتقاليد فيما وعدم القدرة على التال ؤ�م واالندماج يف املجتمعات
بني البلد الأ م والبلدان املقام بها لفرتة قد تطول امل�ضيفة ،وحنني مم�ض �إىل العودة .وال�شك يف � أن
� أو تق�رص .ولكي يكون خمتلفا عن مذكرات الرحلة الكتابة بهذه امل�شاعر �ست�ؤثر يف م�ضامني املكتوب،
� أو الرحالة البد � أن ي�شتمل على خا�صيتي «ال�رسد ويف �صيغ الكتابة ،ويف لغتها ،و� أهدافها.
والو�صف» .ويتقاطع � أدب الرحلة مع الأ دب املهاجر �إن الأ دب املهاجر لي�س دائما حنينا م�ؤملا ،و�شعورا
� أو «الديا�سبورا» ،يف االنتقال من مكان �إىل � آخر، باالقتالع ،فكثري من الكتابات التي حت�سب على
ويف خا�صيتي ال�رسد والو�صف ،وهو مظهر عام. «الأ دب املهاجر» تكون �إ�ضافات ترثي اللغة التي
56 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
� أو ي�شاهدون «بيالر» تلج املقهى وحيدة ،فيرتقبون � أما املظاهر اجلوهرية التي ت�شكل كل نوع � أدبي
قدومي .هكذا �رصنا م�ألوفني للجميع � .أرفع � أ�صبعي على حدة فهي:
بعد الزوال فت�أتيني قهوتي املف�ضلة و� أ�شري لأ حدهم [ اختالف الدوافع والنتائج.
ليال ف�إذا بك�أ�س نبيذي املختار على مائدتي ،دون [ اختالف العالقة بني الرحالة واملهاجر.
� أن � أ�سمي ما � أطلبه � أو � أريده ،فكلهم تعودوا على [ اختالف املو�ضوعات بني � أدب الرحلة والأ دب
عاداتي ،ول�سبب –رمبا ذكي -مل تط�أ قدماي � أر�ض املهاجر.
مقهى «مانيال» �إال رفقة «بيالر»� ».ص ()52.51 [ اختالف ال�صيغ ال�رسدية.
لكن مل يكن كل كتاب الهجرة الأ وائل على هذه احلال ي�ضاف �إىل ذلك االختالف يف الزمن ،ف�أدب الرحلة
من الوفاق واالطمئنان مع الأ وطان امل�ضيفة ،بل قدمي وقد ارتبط يف البالد العربية بالتح�صيل
هناك من كان ي�شعر بقلق وجودي داخل اللغة الديني والعلمي ثم احلج � ،أما � أدب الهجرة فحديث
التي يكتب بها .فمحمد خري الدين ي�رصح يف � أحد ودعت �إليه دوافع خمتلفة ،بع�ضها مو�ضوعي
حواراته ب�أنه حاول الكتابة باللغة العربية لكنه مل والآخر ذاتي ،كالهروب من الت�ضييق ال�سيا�سي،
ي�ستطع نظرا لتمكن اللغة الفرن�سية منه ،وهي اللغة واالجتماعي � ،أو كما ي�شري �إىل ذلك الطاهر
يتقاطع
التي تعلمها ودر�س بها ،ومل يتمكن بالتايل كتابة بنجلون()3؛ يعود �إىل فقدان ال�صلة بني املهاجر
� أدب الرحلة � أ�شعار كالتي يغنيها املطرب حممد عبد الوهاب، ووطنه الأ م ،مما يدل على الهوة املت�سعة بني
الدب مع أ يقول� »:إن � أول حلظة يف حياتي � ،أعني اللحظة الطرفني ب�سبب غياب الدور الثقايف ،وانح�سار
املهاجر � أو التي قدر علي فيها � أن � أ�صبح كاتبا ،كانت يوم مفهوم الوحدة و�إ�شاعة الال اطمئنان.
«الديا�سبورا»، اكت�شفت ،و� أنا ،بعد ،يف امل�ستوى الثانوي ،حممدا واحلقيقة � أن الهجرة لي�ست واحدة ،ودوافعها خمتلفة
يف االنتقال من عبد الوهاب ،من خالل ما كان يتغني به من ومتنوعة بتنوع الظروف التاريخية التي �صاحبتها،
مكان �إىل � آخر، ق�صائد .ثم قر� أت تلك الق�صائد بالعربية ...يف �شكل وقد � أ�رشت �إليها ،ومنها مثال ،هجرة اجليل الأ ول
ويف خا�صيتي ن�صو�ص ...وقلت يف نف�سي �إن علي � أن � أفعل متاما لال�ستقالل ،الذي وجد نف�سه مرتبطا لغويا وثقافيا
ال�سرد والو�صف كما يفعل عبد الوهاب ...ف�أتغنى � ،أنا � أي�ضا ،بق�صائد بثقافة احلماية الفرن�سية .ف�صار مغرتبا خارج
مكتوبة .غري � أين وجدت غناءها �شاقا ع�سريا .وكنت وداخل وطنه .وقد نعتت � أدب هذا اجليل الرائد
� أجهل بالكثري مما يت�صل باللغة العربية � .أو مل � أكن بـ«� أدب مهاجر مندمج» ،لأنه مل يكن ي�شعر بالغربة
على وجه التحديد � ،أ�ستطيع ا�ستعمالها ،كا�ستعمايل وال باالجتثاث واالقتالع من تربة وطنه الأ م،
الفرن�سية .ولذلك انغم�ست انغما�سا يف اللغة لأ نه وليد مرحلة تاريخية ومل يكن اغرتابه اللغوي
الفرن�سية .)6(»...ويو�ضح هذا التناق�ض الوجودي يف والثقايف � أو يف املكان اختيارا ذاتيا .ويقول
ازدواجية الل�سان الكاتب بن�سامل حمي�ش يف كتابه الطاهر بنجلون عن هذا اجليل ب�أنه كان يقبل على
«الفرنكفونية وم�أ�ساة � أدبنا الفرن�سي» ،فيقول الهجرة لكنه يحمل يف داخله املغرب( .)4وهذا يعني
عن �إدري�س ال�رشيبي »:يف التيو�س( )7حيث يتوفق � أن اجليل الرائد مل يكن منف�صال عن ثقافته العربية
يف و�صف تعا�سة املهاجرين يف �ضواحي املدن وتاريخه الوطني .ي�ضاف �إىل ذلك اجليل الذي
الفرن�سية ،وذلك من خالل حياة ال�شخ�صية الرئي�سية هاجر �إىل بلدان كفرن�سا و�إ�سبانيا من � أجل طلب
«والديك» .وهذه الرواية تعد بحق من � أقوى � أعماله العلم ،ووجد نف�سه بفعل التفاعل واالختالط جزءا
تعبريا عن متزق الكاتب النف�سي والكياين وي�أ�سه من البلد امل�ضيف ،وهو ما يعرب عنه بهاد الدين
من احلياة يف � أوروبا.)8(»... الطود يف روايته «البعيدون»( )5حني �صور ذلك
ويف �سياق �رسدي � آخر يورد بهاد الدين الطود من خالل عالقته ب�صديقته «بيالر» يقول »:غالبا
ر� أيه يف اللغة الثانية ،لغة الكتابة � أو لغة احلديث ما كنت � أتناول فطوري بذات املقهى ،فتلحق بي
يف بلد الغربة ،البلد امل�ضيف ،فيقول...« :ويتدخل «بيالر» � أو � أجدها يف انتظاري يف الركن املعتاد.
«� أرماندو». عندما كان الندل يرونني يت�أكد لهم قدوم «بيالر»،
57 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
والتقدم عندهم ،لكن اخلطاب الذي � أنتجه ه�ؤالء � أتعرف احلقيقة يا �إدري�س� ،إين بالكاد � أخالك
الرحالة مل يكن خطابا �رسديا وو�صفيا متخيال عربيا.
وحمكيا � ،أي مل يكن رواية � أو ق�صة ق�صرية ،ومل يكن -لكنني عربي بقدر ما � أنت �إ�سباين ق�شتايل،
�إبداعا باملعنى احلقيقي للكلمة ،كان جمرد تقارير واعتزازي بانتمائي يعادل تع�صبك النتمائك ،وهذا
تنقل م�شاهدات الرحالة باندها�ش وانبهار مبظاهر � أيها الأ بله يف�صح عن جذورنا امل�شرتكة.
احل�ضارة الغربية ،وب�إعجاب كبري مبكانة املر� أة وانتبه �إىل � أنني لغطت بكالم � أنا نف�سي ال � أ�صدقه،
يف تلك البالد ،وب�أ�شكال املمار�سة ال�سيا�سية التي ف�أية جذور � أ�شرتك فيها مع «� أرماندو» الق�شتايل
تعرتف باحلقوق ال�شخ�صية ،التي متنح الفرد القدرة � أكرث من حالة ت�سكع جتمعنا ،وحتى لغته فقد
على االبتكار وامل�شاركة يف بناء وطنه والتعلق به فر�ضت علي فر�ضا � ،أو ا�ضطررت لتعلمها ا�ضطرارا.
دون قمع � أو ا�ضطهاد... كدت � أقول له ذلك ،بل كدت � أ�ضيف ب�أن اللغة التي اجليل الرائد
يتخاطب بها � أ�شخا�ص من غري تاريخ وثقافة أ
(الول) مل
فكرة االندها�ش واالنبهار �ست�أتي مع اجليل الثاين
الذي �سيهاجر خارج الوطن م�ضطرا ،يطلب مالذا جتمعهم هي لغة داعرة ،لكن لباقتي جعلتني � أكبت يكن منف�صال
غيظي و� ألوذ بال�صمت.)9(». عن ثقافته
يحتمي فيه من القهر اجل�سدي واالجتماعي،
يبني املجتز� أ � أن اللغة لي�ست جمرد و�سيلة � أو � أداة � أو العربية
وال�سيا�سي ،ومن اال�ضطهاد النف�سي .ويحدد
قناة للتوا�صل ،ولي�ست جمردة � ،أي اعتباطية بدون وتاريخه
الطاهر بنجلون( )12ذلك يف الفرتة ما بعد 1971م
مرجعية ثقافية وتاريخية متلأ حمتواها وتعطي الوطني .ي�ضاف
و 1972م حيث عرف املغرب حملة �شعواء على
الكلمات م�ستقلة (املعجم) معانيها احلقيقية �إىل ذلك اجليل
كل من يتبنى � أفكارا خمتلفة ومغايرة لل�سائد. الذي هاجر �إىل
لكن ه�ؤالء املهاجرين � أن�ش�أوا � أدبا طليعيا ،يدعو واملتعددة ،وتعطي اجلمل والن�صو�ص فحواها
بلدان كفرن�سا
�إىل التقدم والعي�ش الكرمي للمواطن داخل وخارج بح�سب تغيري ال�سياقات واملواقف�...إلخ.
و�إ�سبانيا من
الوطن ،مهتدين مبا وجدوا عليه الفرد داخل املهجر هذا النمط من الأدب يختلف عن � أدب الرحلة ،لأ ن
� أجل طلب
املالذ .وهذا يعني � أن ه�ؤالء بدورهم هاجروا وهم الرحالَ َة العرب مل يعانوا من االغرتاب اللغوي َّ العلم ،ووجد
ي�ؤمنون مب�ستقبل الوطن الأ م( ،)13ويحلمون بتغيري والثقايف ،وال حتى يف تغيري كبري يف العادات
نف�سه بفعل
� أمناط عي�شه االجتماعية وال�سيا�سية من اخلارج. والتقاليد ،لأن الرحالة كان يطوف يف البالد العربية
التفاعل
ويحلمون باالرتقاء به �إىل م�صاف الدول التي ا إل�سالمية ،بل كانت رحلته بدافع التح�صيل الديني واالختالط
ا�ست�ضافتهم ووجدوا بها ما كانوا ي�صبون �إليه والعلمي ،وزيارة الديار واملواقع املقد�سة (بيت جزءا من البلد
من العي�ش الكرمي والعمل واحلق يف احلرية :حرية املقد�س ،والكعبة امل�رشفة ق�صد منا�سك احلج) ،و� أن امل�ضيف
التعبري والت�رصف والر� أي .وقد وجد املهاجرون الرحالت التي كانت خارج البالد العربية ا إل�سالمية،
يف البالد الغربية مالذا مما دفعهم �إىل ا إلقامة ولها � أهداف خمتلفة عن الرحالة ال�سابقني مل تظهر
الدائمة � أو الطويلة ،وهو ما يدل على � أن الأ دب الذي �إال مع ع�رص «النه�ضة العربية» يف �صورة بعثات
� أنتجوه -وقد � أنتجوا � أي�ضا � أدبا مقاوما ،وفكرا علمية ،للوقوف على � أ�سباب تخلف البالد العربية
طليعيا �« -أدب مهاجر مندمج». وتقدم البالد الغربية من قبيل رحلة � أحمد فار�س
ال�شدياق «ال�ساق على ال�ساق فيما هو الفارياق»(،)10
/3.1بين كتابة اليوميات وكتابة المذكرات � أو رحلة خري الدين بك التون�سي( ،،،)11حيث وقف
والدب المهاجر:أ
الرحالة على املتغريات العلمية واالختالف اللغوي
يف كتابه «يوميات وت�أمالت يف املنفى»
()14
والثقايف والفكري ،و� أمناط احلياة االجتماعية
ي�صنف فاروق يو�سف ن�صه يف خانة اليوميات، والعالقة بني ال�سائد وامل�سود ،وهكذا.
وي�رصح بذلك يف مقدمة الكتاب ،فيقول(« :ال �شيء، وقد كان املغرب واحدا من الدول العربية التي
ال � أحد)� ،صارت هذه اجلملة عنوانا للجزء الأ ول من � أر�سلت بعثاتها العلمية �إىل البالد الأ وروبية
كتاب يومياتي ،وهو الكتاب الذي فاز بجائزة ابن بالدافع ذاته :الوقوف على � أ�سباب التخلف عندنا
58 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
اليوميات َم ْعنَى الكتابة الوثيقة لأ ن الكاتب
ُ ُت ِ
نا�س ُب بطوطة لأ دب اليوميات لعان 2006التي مينحها
ي�سجل بدقة كل �صغرية وكبرية ،وكل الظواهر املركز العربي للأ دب اجلغرايف -ارتياد الآفاق يف
االجتماعية والثقافية وال�سلوكية التي يراها تختلف (� أبو ظبي) .ذلك لأ ين مل � أكمل كتابته �إال بتحري�ض
عن احلياة يف الوطن الأ م .ويكتب �صاحب اليوميات قوي من لقائي احلا�سم بها .وبالرغم من � أنني ال
بروح اليقني ،لكن الروائي والقا�ص املهاجر يكتب � أزال م�ؤمنا � أن عمال ككتابة اليوميات هو نوع من
بروح املنده�ش ،وبروح الغريب املختلف مهما طال ال�صنيع العبثي� ،إال �إذا افرت�ضنا � أن حياة كائن ما،
به املقام يف البالد امل�ضيفة. هي فر�صة الختبار �سبل فريدة للعي�ش� ،سبل قد
ي�صدر الكاتب املغربي علي � أفيالل ،وهو �صاحب ال تتكرر ،وهي كذلك دائما .فال يت�شابهون .لكل
العديد من الروايات واملجاميع الق�ص�صية ،يف �إن�سان حكايته التي ت�ستحق � أن تروى .غري � أن من
� أعماله عن الر ؤ�ية التوثيقية .فعندما جنرد عن يقرر كتابة يومياته يود � أن يكون موجودا يف كل
فكرةاالندها�ش � أعماله املقومات الأ �سا�س للحكاية ،نح�صل على ما يكتب .يف �إمكانه � أن يقول بي�رس �« :أنا هنا � ،أنا
واالنبهار معلومات تهم العاملني :الوطن الأ م ،وبلد املهجر، موجود يف كل كلمة ،يف كل �إ�شارة ،يف كل فعل».
�ست�أتي مع وتهم بالأ �سا�س االختالف يف العادات وال�سلوك ولكن هل يكفي ذلك الوجود لقول كل �شيء؟.»...
اجليل الثاين ال�شخ�صي ،والظواهر اجلديدة الطارئة .لذلك جند � أوىل املالحظات تتمثل يف اجلمع بني � أدب الرحلة
الذي �سيهاجر فعل التوثيق والتدوين والت�سجيل ،ونقل املعلومات، واليوميات ،حتت م�صطلح الأ دب اجلغرايف املهتم
والأحكام ،واملقارنة ،والو�صف ...من � أهم لبنات باملكان� ،إقامة وانتقاال .وهذا يقرتب � أكرث من
خارج الوطن
ال�رسد عنده .وخري مثال روايته «رق�صات على الرحلة ،بينما اليوميات ف�إنها نوع � أدبي � -شبه
م�ضطرا ،يطلب � أدبي -يقوم على التدوين ب�ضمري املتكلم ،يوما
حافة املوت»(.)16
مالذا يحتمي بيوم لكل الأ حداث التي يراها املدون ذات � أهمية
ميكن القول ب�أن الكتابة ال�رسدية عند علي
فيه من القهر � أفيالل ت�صدر عن ر ؤ�ية واقعية قريبة من معاناة من حيث القيمة التاريخية � أوال ،وال�سيا�سية
اجل�سدي املهاجر،وت�صدر كذلك عن االختالف بني الأ نا واالجتماعية ثم الفنية.
واالجتماعي، والآخر ،بني هنا وهناك .وهو ما قاله بغ�ضب يف وثاين املالحظات � أن الأدب املهاجر يلتقي مع
وال�سيا�سي، حوار مطول مع الناقد �صدوق نور الدين حتت اليوميات يف الكتابة ب�ضمري املتكلم ،فكاتب
ومن اال�ضطهاد عنوان «الرواية احلياة»(.)17 اليوميات ي�شبه كاتب الأدب املهاجر يرغب يف
النف�سي � أن يكون يف كل كلمة يخطها� ،سواء � أكان ما كتبه
/4.1ال�سيرة الذاتية أ
والدب المهاجر:
ينتمي �إىل الكتابة املالذ � أو �إىل الكتابة الوثيقة.
ال�سرية الذاتية نوع � أدبي � آخر يقحم نف�سه يف الأ دب وهو ما يربزه هذا املقطع من «يوميات مهاجر
املهاجر من خالل تقنياته وخ�صائ�صه النوعية. �رسي» للكاتب املغربي ر�شيد نيني ،يقول فيه...« :
فال�سرية الذاتية ،كما يدل عليها ا�سمها ،ترتبط لكن الأ مطار هي �سبب عودتي �إىل الكتابة .عندما
بالذات ،في�صبح التمييز يف ال�رسد بني الكاتب كان اجلو ي�سوء كنا نغادر احلقل ونهرب �إىل � أقرب
اخلارجي املو�ضوعي وبني ال�سارد اللغوي واملتخيل، بار .وهناك ي�رشع الرجال يف ال�رشب ولعب الورق
�صعبا( .)18وال�رسد الذي يكتبه املغاربة املهاجرون بانتظار الأ مطار � .أنا كنت � آخذ ورقة كلينك�س و� أكتب
ال يخلو من نفحات �سري ذاتية � أو من التخييل الذاتي، ما يخطر ببايل .مع مرور الأ مطار انتبهت �إىل � أنني
تتمثل عند عدد منهم يف رغبتهم القوية يف ا إلعالن كنت � أكتب يومياتي .ال � أحد يختار ما ميكن � أن
عن االختالف ،بل حتى التناق�ض ال�صارخ بني يحدث له يف يومه .لكن مب�ستطاع � أي � أحد � أن يحكي
احلياة يف موطنهم الأ �صلي (املغرب) وبني موطن عن يومه .اليوميات بهذا ال�شكل هي الطريقة الأ كرث
ا إلقامة ،و� أق�صد هنا الكتاب الذين اختاروا احلديث ت�سلية إلعادة و�صف جرمية �شنيعة ا�سمها احلياة.
مبا�رشة عن اختالفهم يف امليل والرغبة ،الكتاب �إعادتها ب�شكل انتقائي .بحيث ت�صبح التفا�صيل
حلبْ َ�س َة القلمية ومل يفك
الذين عا�شوا الكتمان ،وا ُ التافهة � أحداثا جديرة بالت�أمل.)15(».
59 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وطنه الأم ،واجتاه لغته العربية ولهجته الدارجة، عقالهم �إال يف ديار الغربة .ه�ؤالء الكتاب يعتربون
يف حال احلديث عن املهاجر الذي ا�ضطرته الفاقة املغرب معقال للطابوهات (املحرمات) وهي طبعا؛
� أو الدرا�سة � أو العمل � أو الزواج � أو ا إلقامة الدائمة �إىل ال�سيا�سة ،والدين ،واجلن�س ،وكل ما يت�صل بهم من
الهجرة .بينما يكون الأ ديب املهاجر الذي يعترب قريب � أو بعيد .ويعد االعرتاف العلني داخل املجتمع
نف�سه خمتلفا ،وم�ضطهدا ومرفو�ضا اجتماعيا باالختالف اجلن�سي جرمية يف اعتقادهم ،لذلك املهاجرون �أن�ش�أوا
و� أخالقيا �شديد احل�سا�سية اجتاه الق�ضايا الفردية ينبغي الكتمان ،والت�سرت وال�صمت .ويعرب عن هذا �أدبا طليعيا ،يدعو
وال�شخ�صية احلميمة .فالأ ول يعلو يف خطابه املوقف ،ومن خالل نوع � أدبي � آخر هو :الر�سالة، �إىلالتقدموالعي�ش
ال�رسدي احلنني �إىل الوطن والأ �صدقاء والأ حباب، الكاتب عبد اهلل الطايع يف ر�سالته /املدخل �إىل الكرمي للمواطن
ويكرث من اال�سرتجاع واال�ستذكار ،وال يتورع يف �صديقته � أيام الدرا�سة بجامعة حممد اخلام�س داخل وخارج
ا�ستعمال الأ لفاظ الدارجة لتهجني لغة الكتابة (غري (�سعاد) ،فيقول ب�ضمري املتكلم � ،أحد � أهم العالمات الوطن ،مهتدين
العربية) وموطن ا إلقامة � أو الغربة ،بينما الثاين الفارزة يف اخلطاب ال�سري ذاتي« :اليوم � أنا جاهل مبا وجدوا عليه
مييل � أكرث يف �صيغه ال�رسدية �إىل البوح واالعرتاف مبا � آلت �إليه ،كذلك ،من جهتها ،فهي جتهل حقيقتي الفرد داخل
والتذمر ،فتكون الكتابة لديه مالذا ،وك�أنه ي�أمل � أن اخلا�صة � .أنا �شاذ جن�سيا .هل تعلم؟ هل تخمن؟ هل املهجر املالذ.
يبد� أ تاريخه ال�شخ�صي من حلظة املغادرة وبداية تتفهم؟ هل تفهمني رغم ال�صمت؟»(.)19 وهذا يعني �أن
الو�صول �إىل العامل اجلديد :العامل احلر!! تعرب �إحدى يف هذه اجلمل املقت�ضبة ،الق�صرية ،ح�ضور كثيف ه�ؤالء بدورهم
ال�شخ�صيات الروائية عند املاحي بينبني يف روايته للأ نا ،للبوح ،للرغبة الدفينة يف االعرتاف للآخر هاجروا وهم
«حرَّاكة» عن هذه الوالدة امل�أمولة يف ال�سياق بال�رس ،ال�رس الذي كان كذلك يف الوطن الأ م ،و� أ�صبح ي�ؤمنون مب�ستقبل
التايل �...« :أما يو�سف ور�ضا و� أنا فقد اعتقدنا ،عن اليوم م�شاعا يف موطن ا إلقامة .و�إذا كانت كتابة الم،الوطن أ
�سذاجة ،ب�أننا �سوف نتع�شى بالت�أكيد يف �إ�سبانيا. اليوميات عند املهاجر كتابة وثيقة ،ف�إن كتابة ويحلمون بتغيري
«تابا�س» مع �رشاب «�سانكريا» ،يف قلب «ق�صف من ّ ال�سرية الرواية � ،أو الرواية ال�سري ذاتية تعد الكتابة �أمناط عي�شه
اجلزيرة اخل�رضاء! بهذه الطريقة �سنحتفل بوالدتنا املالذ. االجتماعية
اجلديدة! كانت هذه كلمات مراد التي مل تكن خالية كثرية هي ت�رصيحات الكتاب التي جعلت من وال�سيا�سية من
من �صفات مبالغة و�صف طعام ما وراء البحر، الكتابة عامة مالذا حتتمي فيه من �ضجيج وعنف اخلارج .ويحلمون
التنوع الال حمدود من امل�أكوالت التي ميكن تذوقها: اخلارج ،وحتتمي فيه من غربة الذات .وقد �سميت باالرتقاء به �إىل
فواكه ريانة غري معروفة يف � أر�ض امل�سلمني ،وكل الكتابة ب»البيت» لأنها «مقام» يتحقق فيه م�صاف الدول
� أنواع اخل�رض التي ت�ستخف بالف�صول ،وحلوم فيها الوجود الفردي (ال�شخ�صي) ،وحيث ميكن للذات � أن التي ا�ست�ضافتهم
طراوة ومذاق ا�ستثنائيان.)20(». تقول نف�سها وحتيى بعيدا عن ا إلكراه اخلارجي يف ووجدوا بها ما
ال�صورة ذاتها وا إلح�سا�س ذاته ببناء تاريخ �شخ�صي املجتمع ،وعادات وتقاليد النا�س و� أعرافهم. كانوا ي�صبون �إليه
جديد بعيدا عن حياة التالفة والفاقة والبطالة والأديب املهاجر يجد يف الكتابة مالذه الذي من العي�ش الكرمي
والأ حالم اخلائرة اخلائبة ،جندها عند الطاهر يحتمي فيه من (غربته) ،وجماال للبوح وميدانا والعمل واحلق
بنجلون يف روايته «� أن ترحل» وقد قام برتجمتها للتفكري والت�أمل واالعرتاف والتدوين علنا� .إن
يف احلرية:
ب�سام حجار ،يقول ال�سارد« :ثم مل يطل الأ مر حتى الكتابة املالذ مبثابة املعادل املو�ضوعي ،و�صورة
حرية التعبري
ا�ستدرج عازل الأحاديث التي كانوا يتبادلونها �إىل ملحا ِو ِر الذي يفتقد �إليه الأ ديب
الآخر امل�أمول ،وا ُ والت�صرف والر�أي
امل�س�ألة التي ت�ستبد بتفكريه � .أن يرحل � .أن يولد من املهاجر .وميكن اعتبار الكتابة املالذ نوعا من
جديد يف مكان � آخر بعيد � .أن يرحل ب�أية و�سيلة � .أن املقاومة وجماهدة النف�س على ال�صرب وال�صمود
ي�شعر ب�أنه نبت له جناحان � .أن يرك�ض على الرمل �ضد كل ما ميكنه � أن يهدد املكونات الأ �سا�س للذات،
�صارخا حريته ملء رئتيه � .أن يعمل � ،أن يحقق � ،أن لالختيار الفردي ،واحلياة اخلا�صة واحلميمة
ينتج � ،أن يتخيل � ،أن ي�صنع �شيئا من حياته.)21(». للأ ديب املهاجر � .أي � أنه يكون على درجة عالية من
فهل ميكن ل إلن�سان � أن يعيد ذاته من جديد وبطريقة احل�سا�سية اجتاه املبادئ التي (تربى عليها) يف
60 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املغرتب فقد وجد نف�سه يف وطن خمتلف بدوافع � أخرى خمتلفة كما يرد لها � أن ت�صري؟ هونري البوري
خمتلفة .مل يهجر وطنه للأ �سباب � أعاله ،ولكن يف كتابة «مديح الهروب» يجزم ب�أن �إعادة احلياة
احلياة االجتماعية ال�صعبة ،وان�سداد � آفاق العمل، من جديد غري ممكن متاما لأ ننا ال ن�ستطيع �إال � أن
والو�ضعية ال�صعبة وامللتب�سة التي � أ�صبحت عليها نكون نحن ،وال ن�ستطيع التحكم يف ال�رشوط التي
العالقة بني ال�شواهد التعليمية واجلامعية و�سوق تكوننا يف ظلها ،وال ن�ستطيع �إعادة تلك اللحظات
العمل ،واختالل الكثري من قوانني احلياة ال�سالفة، الأ�سا�س يف تاريخنا ال�شخ�صي ،وي�ضيف�« ،إن لكل
دفعه كل ذلك نحو البحث عن � آفاق جديدة غري م�سلح �شخ�ص حياته الفريدة ( .)22(»)uniqueنعم ،لي�ست
بالرغبة الذاتية ،وال باللغة الثانية ،ومنط عي�ش فر�ض الرغبة وحدها التي حتقق التغيري ،ولي�س بالهجرة
عليه كما هو حال اجليل الأ ول ،فكان من الالزم � أن ن�ستطيع �إعادة الوالدة ،لكن ميكننا التغيري يف ما
ي�شعر بالغربة والعزلة ،وهما يتنافيان ويتناق�ضان يحيط بنا ،وميكننا «ت�شذيب» � أرواحنا وتهذيبها
مع مفهوم االندماج. بالتفاعل مع ،واالندماج يف املحيط اجلديد ثقافة
لقد تعر�ض مفهوم «االغرتاب» للكثري من التحريف وح�ضارة ،دون م�سخ � أو �سلخ لهوياتنا .هذا ما ت�ؤكد
ن�ش�أ عن حماولة التكييف بينه وبني و�ضعيات عليه زكية داود يف كتابها «مغاربة ال�ضفة الأ خرى»
خمتلفة يف جماالت و� أن�شطة ثقافية وفكرية ومن خالل جتربة جديرة باالنتباه واالهتمام
متنوعة ،وقد وجب التمييز بني مفهومني �سائدين واالحتذاء؛ جتربة جمعية (الهجرة والتنمية)،
لكي نختار واحدا منهما يالئم الو�ضعية املتحدث التي ا�ستطاع من خاللها «املهاجرون لعب � أدوار
عنها .املعنى الأول والذي �سنعتمده مرتبط باجلذر �إيجابية عندما فتحوا فرن�سا على الآفاق الوا�سعة،
اللغوي للكلمة (غ.ر.ب.ة)( � )24أي االنتقال من مكان وا�ستطاعوا ال�شيء ذاته بفتح بلدهم املغرب على
�إىل مكان � آخر ،مع �إح�سا�س بالعزلة ،واالبتعاد الآفاق الأ رحب»(.)23
عن الذات ،والوجود ،وهو مفهوم مرتبط مبعاين �إنها ال�صورة النموذجية لدى الكثري ممن يحلمون
االجتثاث واالقتالع وال�شتات يف الأ ر�ض. بالغرب ويت�صورونه جنة مفقودة ينبغي اكت�شافها،
� أما املعنى الثاين «لالغرتاب» وهو �سائد كذلك وهي نتاج لالختالف القائم بني ثقافات ال�شعوب
يف الدرا�سات الفل�سفية وعلم االجتماعي ،فهو: اخلا�صة واملتوارثة .و�ستعمل روايات غربية على
«اال�ستالب» .والتفريق بني مفهومي «االغرتاب» �إبراز حدة هذه ال�صورة عندما �ستتحول بعد � أحداث
و«اال�ستالب» �رضوري جدا ،لأ نه �سيقودنا �إىل النمط احلادي ع�رش من �سبتمرب 2001م مبدينة نيويورك،
الثالث من � أمناط الهجرة والذي قلنا عنه � أعاله ومنها الروايتان «من يبكي النوار�س؟» للروائية
«الأ دب املهاجر املغامر» الذي يقامر بكينونته، زهرة املن�صوري ،ورواية «�رشقية يف باري�س»
ويقوم ب�إحراق � أوراق هويته الوطنية ،كما � أنه � أدب للأ �ستاذ عبد الكرمي غالب.
منبهر ومنده�ش �إىل حد االنتفاء واالمنحاء .وهو
الدب المغترب أ
والدب الم�ستلب: /5.1أ
� أدب يقف موقف املعادي للبلد الأ م ،لغة و� أدبا
وثقافة ،وتاريخا...بل ال يعترب انت�سابه لوطنه يختلف «الأ دب املهاجر املندمج» عن «الأ دب
الأ م �إال خط�أ فادحا ،وال�سبب يعود �إىل التغيريات املهاجر املغرتب» يف ا إلح�سا�س الذي ي�شمل ف�ضاء
اجلوهرية التي �شملت الفرد يف ذاته ،ولغياب املثل الكتابة ،ومنط العالقة بني الأ ديب املهاجر والبلد
العليا لديه ،وابتعاده عن كل اهتمام �سيا�سي � ،أو امل�ضيف .و� أهم �صورة � أو مفهوم مييز بينهما هو
انف�صاله عن الروابط التاريخية والثقافية بالبالد «االغرتاب».
العربية ،وتراكم حاالت ا إلحباط النف�سي ،وتتابع لقد وجد الأ ديب املهاجر الأ ول يف البالد امل�ضيفة
الهزائم يف هذه البالد من حميطها �إىل خليجها، مالذا �سواء � أكان لغويا وثقافيا � ،أو �سيا�سيا ،وهو
وانت�شار التناق�ض بني الفعل واخلطاب ،وبني الرثوة ما منحه القدرة على التال ؤ�م واالن�سجام داخل
وا إلجناز ،بني الغنى الفاح�ش والفقر الفادح... تلك املجتمعات احلديثة امل�ضيفة � .أما الأ ديب
61 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وقد كتب هذا الأ دب � أدباء مغاربة من داخل وخارج من كان غريبا يف وطنه»(.)27
الدب المهاجر و� أدب المهجر: املغرب ،ويوافق الأدب امل�ستلب ما نطلق عليه عادة /6.1أ
«� أدب الال يقني» .ويعرب عن هذه الو�ضعية امللتب�سة
وال�صعبة التي تدق ناقو�س اخلطر ،القا�ص والباحث هل هناك عالقة بني الأ دب املهاجر والأ دب
املغربي حممد � أمن�صور ،ولعلها خال�صة للعديد من املهجري الذي ظهر بداية القرن الع�رشين؟
البيانات الأ دبية التي رافقت هذه املرحلة ،والتي لكل حركة � أدبية �رشوطها التاريخية واالجتماعية
تخرج منها � أدباء بع�ضهم ف�ضل الهجرة والآخر وال�سيا�سية ،والفكرية والثقافية ،وهذه ال�رشوط
ينتظر الفر�صة ،والبع�ض ف�ضل املكابرة والبقاء حتدد خ�صو�صياتها وخ�صائ�ص الأدب الذي تنتجه.
ليحمل لواء خمتلفا للمثقف الطليعي .يقول � أمن�صور ال ينكر � أحد الدور الطليعي الذي لعبته حركة «� أدب
يف كتابه «�شهوة الق�ص�ص � :أوراق من مفكرة قا�ص املهجر» يف � أمريكا ال�شمالية � أو يف الربازيل ب�أمريكا
جتريبي»« :يبقى � أن ن�شري يف الأ خري �إىل � أن املظهر اجلنوبية ،و� أهم ما متيزت به الطابع الرومان�سي،
الأ �سا�س الذي قد ي�شكل عمق التحوالت جميعا ،والهروب �إىل الطبيعة رف�ضا ملا و�صلت �إليه احلال
يكمن يف حتول مفهوم الق�صة الق�صرية ذاته لدى من تدهور يف املجتمعات العربية ،ومن �رصاع
غالبية كتابها؛ وبالأ خ�ص لدى اجليل اجلديد الذي وتطاحن مذهبي وديني يف بع�ض البلدان العربية.
يكتب ق�صة ق�صرية دون م�سبقات� .إنك جتده غري فهرب النا�س �إىل املنايف البعيدة .و«الهروبية»
معني مبالحم ال�شعب وال مب� آ�سيه ،ال بالوطنية وال نزعة انت�رشت يف � أدب املهجر ،متثلت يف الدعوة
بالطبقية ،وال باملركز وال بالهام�ش ،ال بالتجني�س �إىل العودة �إىل الطبيعة الأم حيث احلرية غري مقيدة،
وال بالواقع املرجعي ،وال ب�سالمة اللغة وال حتى وحيث يجاور الرنج�س املاء الريان ،وحيث الأ طيار
بالتوا�صل � أحيانا ..!!..ومل ال؟! � ..ألي�س من حق املرء حتيا يف ان�سجام مع الأ �شجار...
� أن يكتب ما ي�شاء مبا يف ذلك ق�صة الال توا�صل؟ ..مل تكن الهروبية وحدها ال�صفة املميزة للأ دب
املهجري بداية القرن الع�رشين ،بل كان هناك � أال يكفي الق�صة � أن ت�شبه �صاحبها.)25(»...
نعم� ،إن اجليل املهاجر اجلديد مل يهاجر رغبة يف �إعادة اعتبار للذات وللأ نا ،وللفرد من خالل البحث
العلم � أو العمل � ،أو هاجر حلماية � أفكاره ومبادئه امل�ضني عن احلرية ال�شخ�صية ،واالبتعاد � أكرث عن
من اال�ضطهاد ،بل هاجر هربا من امل�صري املبهم ،التقاليد العتيقة التي ا�ضطهدت النا�س ودفعتهم �إىل
والأ فق امل�سدود( ،)26ومن االنقطاع عن اجلذور .هنا التطاحن ثم النفي «االختياري!».
ينبغي ا إل�شارة �إىل النوع اجلديد الذي ت�شكل لغويا ويرى الدكتور �صابر عبد الدامي ،ب�أن امل�ؤثرات
وقانونيا مع اجليل املهاجر املعا�رص من املغاربة الهامة يف هذه احلركة كانت الأ دبية كاحلركة
ومن خمتلف �شباب العامل العربي وا إلفريقي ،الرومان�سية الغربية ،واملدر�سة الرمزية ،وت�أثر
� أق�صد طبعا مفهوم «الهجرة ال�رسية» � أو «الهجرة � أدبا ؤ�ها بالفل�سفة الهندية والفار�سية �إىل جانب
غري القانونية» وما رافقها من تعابري قا�سية الفل�سفة ا إل�سالمية ،وا�ستفادوا من م�ؤثرات دينية
وتو�صيفات مثل «قوارب املوت» والتعبري املغربي �رشقية غنو�صية � أي�ضا ،وهذا الذي جعل حركتهم
املحلي الأ كرث �إيالما وت�صويرا للحالة «احلريج» تتميز بـ«الت�أمل»(.)28
فهل متيزت حركة الأدب املهاجر احلديثة بالهروبية (باجليم امل�رصية).
مع ذلك �سين�شئ هذا اجليل � أدبا مغامرا ،ال وطن له ،نحو الغاب؟ وهل هي حركة ت�أمل فل�سفي و� أدبي؟
وبال يقني ،وهو � أدب مل يقت�رص على الأ دباء الذين وما مكانة �س�ؤال الذات فيها؟ هل كان مثاال ل�س�ؤال
فروا بجلودهم بعيدا ،خوفا من الفراغ ،ومن �س�ؤال احلرية الفردية؟ وهل هناك غنائية رومان�سية؟
الهوية و�س�ؤال امل�صري اللذين يالحقانهم ،بل �شمل وهل هناك دموع وبكاء وحنني للغاب؟؟؟
كذلك الأدباء يف الداخل ،الذين ي�صدق عليهم قول هذه الأ�سئلة تنبئ باالختالف ،فاحلركة الأ دبية
� أبي حيان التوحيدي ،يف معناه «و� أغرب الغرباء املهاجرة اجلديدة لها خ�صائ�صها الفنية
62 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الهجرة غري ال�سفر ،و� أنها تختلف باختالف الدوافع ومو�ضوعاتها وف�ضا ؤ�ها و� أهدافها .لكن دائما
والأ �سباب -كما � أو�ضحنا � أعاله – وباختالف ح�سب املراحل التي مرت بها الهجرة املغربية:
الوجهة ،واملدة الزمنية اخلا�صة با إلقامة ،ونوع -مرحلة احلماية (جيل احلماية الفرن�سية)
الهجرة (اال�ستقرار الق�صري � أو الطويل � أو الدائم)، -مرحلة االمتداد (البعثات الثقافية ،البحث عن
و�إح�سا�س املهاجر ،ونوع العالقة بالوطن الأ �صل املعرفة)
(احلنني � أو الكره � أو القطيعة) � ،أما امل�سافة يف -مرحلة ال�ستينيات ...الثمانينيات (اال�ضطهاد
املكان فتحدها احلواجز والأ �سالك ال�شائكة واحلدود ال�سيا�سي وا إليديولوجي واالجتماعي)
ال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية... -مرحلة الت�سعينيات والأ لفية الثالثة (احلراكة)
وح�سب ذلك ت�صبح الهجرة كما تدل عليها الن�صو�ص وقد � أنتجت كل مرحلة � أدبها بخ�صائ�ص مميزة
الأ دبية -الرواية– مق�سمة �إىل � أمناط: ونوعية .وميكن هنا �إدراج � أهم اخل�صائ�ص النوعية،
-هجرة داخلية :تكون مرفقة عند املهاجر ب�إح�سا�س التي تربزها الدرا�سات يف هذا الكتاب ،وتلتقي
بالعزلة واالجتثاث واالغرتاب يف املكان والعادات عندها:
والتقاليد (البعد ال ِعرْ ِقي). يف املو�ضوعات (الآخر ،الذات ،الهوية ،املنفى،
-هجرة خارجية :تكون باالنتقال من بلد � أ�صل �إىل العزلة ،الوحدة ،االختالف اللغوي والثقايف
بلد � آخر خمتلف �سيا�سيا وثقافيا وح�ضاريا ولغويا واحل�ضاري ،الت�رشد ،العن�رصية ،اال�ستغالل
بدوافع متنوعة كالعمل ،وطلب العلم ،والنفي... اجلن�سي/اجل�سدي واملايل ،احلنني �إىل الوطن الأ م
-هجرة خارجية :تكون باالنتقال من بلد � أ�صل �إىل «النو�سطاجليا»)... ،
بلد خمتلف �سيا�سيا ،لكنه ي�شرتك مع البلد الأ م يف يف � أ�شكال التعبري (التنا�ص � :أدب الرحلة ،والر�سالة،
الأ بعاد الثقافية واحل�ضارية واللغوية ،مثل الهجرة وال�سرية الذاتية ،والتخييل الذاتي ،واملذكرات،
من املغرب �إىل البلدان العربية. واليوميات)...،
ومن � أهم الن�صو�ص ال�رسدية التي تطرقت للهجرة يف اللغة الأ دبية (التعدد الثقايف ،التداخل اللغوي،
و� آثارها على املهاجر ،كتاب ال�سرية الذاتية لعبد التهجني اللفظي ،تغريب الأ �سلوب ،واملعاين
املجيد بن جلون «يف الطفولة»( .)30وهي ن�ص �رسدي «التعبري») ...
هام جدا ،كونه �سيجيب عن بع�ض الأ �سئلة ال�شائكة يف الر ؤ�ية اجلمالية (الر ؤ�ية الفجائعية /عدم
التي يطرحها الأدب املهاجر ،من قبيل �إ�شكالية القدرة على االندماج ،وال�شعور با إلحباط ،وال�شعور
الذات والآخر ،و� أي�ضا ال�س�ؤال الثقايف واحل�ضاري. بالتخلي والنبذ)...
و�سيلقي كتاب «يف الطفولة» ال�ضوء على العديد يعرتف � أحمد � أبو زيد يف درا�سته «الهجرة و«� أ�سطورة
من الظواهر التاريخية واالجتماعية عرب املالحظة العودة» ».ب�صعوبة تعريف الهجرة فيقول« :قد
واملقارنة واال�ستنتاج(.)31 يكون من ال�صعب و�ضع تعريف دقيق ووا�ضح
وجند كذلك رواية الكاتب والناقد املغربي حممد ومقبول ملفهوم «الهجرة» .ولذا يكتفي الكثريون
برادة «مثل �صيف لن يتكرر»( )32التي تطرق فيها بتعريفها ب�أنها النقلة «الدائمة» � أو االنتقال
ملرحلة الدرا�سة مبدينة القاهرة مب�رص ،حيث � ألقى «الدائم» �إىل مكان يبعد عن املوطن الأ �صلي «بعدا
ال�ضوء على � أمناط احلياة االجتماعية وال�سيا�سية كافيا» .ولكن هذا التعريف � -إن �صح اعتباره
مل�رص اخلم�سينيات من القرن املن�رصم .وقد تعريفا على ا إلطالق -يفتقر �إىل الدقة والو�ضوح
ا�ست�أثرت القاهرة ب�أغلب الن�صو�ص ال�رسدية. فيما يتعلق بالبعد الزماين املتمثل يف كلمة «دائم»
()33
� أما رواية ال�شاعر حممد الأ �شعري «جنوب الروح» والبعد املكاين املتمثل يف عبارة «بعدا كافيا».
فقد قامت على الرحلة والتنقل بني الأ مكنة لكن و�صحيح � أن هيئة الأمم حددت املق�صود باالنتقال
داخل املغرب ،ومل تخل هي � أي�ضا من و�صف الدائم ب�أنه االنتقال الذي ي�ستمر ملدة �سنة واحدة
للأ مكنة و� أهلها وعاداتهم وتقاليدهم. على الأ قل .)29(»...ومع ذلك ميكن االتفاق على � أن
63 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
� )15أفيالل ،علي :رق�صات على حافة املوت .رواية .مطبعة النجاح الهوام�ش:
اجلديدة.
)1تعريف الديا�سبورا � :أدب «املجموعات التي تعي�ش خارج � أوطانها
� )16أفيالل ،علي ونور الدين �صدوق :الرواية واحلياة (حوار) .مطبعة ا ألم».
النجاح اجلديدة .ط 2006 .1م. )2معت�صم ،حممد :خطاب الذات يف ا ألدب العربي .من�شورات دار
)17معت�صم ،حممد :خطاب الذات يف ا ألدب العربي� .سبق ذكره. ا ألمان .ط 2007 .1م .ينظر املدخل من الكتاب.
)18الطايع عبد اهلل� ،ضمن كتابLettres à un jeune marocain chois : 8 )3ينظر �ضمن كتابDe l’ambition à la rigueur, in : Lettres à un :
.sies et présentées par Abdelleh Taia. Seuil. 2009 .jeune marocain choisies et présentées par Abdelleh Taia. Seuil. 2009
)19بينبني ،املاحي :حراكة .رواية .ترجمة ،حممد املزديوي. الكتاب النف�سهAprès les deux coups d’Etat militaries de 1971 et 1972, .
من�شورات اجلمل .ط 2007 .1م. le pays allait sombrer dans une longue nuit lugubre et sans pitié. Notre
)20بنجلون ،الطاهر � :أن ترحل .رواية .ترجمة ،ب�سام حجار. jeunesse a été abimée, désespérée, torture, et certains urent la chance
de s’enfuir et de s’exiler. Aujourd’hui nous savons que cette époque est
من�شورات املركز الثقايف العربي .ط 2007 .1م.
révolue, définitivement. Avant, nous quittions le pays pour échapper à
.Laborit, Honri : Eloge de la fuite )21
la repression mais nous avions le Maroc au Coeur et nous n’imaginions
)22داود ،زكية :مغاربة ال�ضفة ا ألخرى� .سبق ذكره. pas ne pas y revenir. Aujourd’hui des jeunes espérent émigrer légalemf
اب تقول َت َغرَّ َب و ا ْغترَ َ َب مبعنى )23غرب غ ر ب :ال ُغرْ َب ُة اال ْغترِ َ ُ ment ou clandestinement et cherchent à sauver leur peau, leur avenir.
رباء � أي�ضا ا ألباعد يب و ُغ ُر ٌب ب�ضمتني واجلمع ُ َ َ ُ ُ ُ
غ وال اء ب ر غ ال فهو َغ ِر ٌ Les conditions ont change, pas le désespoir. Avanti l fallait attendre un
و ا ْغترَ َ َب فالن �إذا تزوج �إىل غري � أقاربه ويف احلديث (اغترَ ِبوا ال an et plus pour avoir un passeport. Aujourd’hui cela prend quelques
يب النفي عن البلد و �ضووا) وتف�سريه مذكور يف �ض و ى و التَّ ْغ ِر ُ ُت ُ jours. Mais entre-temps, les portes de l’Europe se sont férmées. P 21
� أ ْغرَ َب .املختار ال�صحاح .ن�سخة �إلكرتونية. Lettres à un jeune marocain choisiesnet présentées par Abdelleh Taia.
فالن َعنّا َي ْغ ُر ُب َغرْباً � أي َتنَ َّحى، .Seuil. 2009
الو َطن .و َغرَ َب ٌ اب من َ ال ُغرْ َب ُة :االغترِ ُ
و� أَ ْغرَ ْبتُه و َغرَّ ْبتُه � أي َن َّحيْتُه. )4الطود ،بهاء الدين .البعيدون .رواية .مطبعة بوبليداي -ملتيديا.
وال ُغرْ َب ُة :النَّ َوى البعيد ،يقال�َ :ش َّق ْت بهم ُغرْ َب ُة النَّ َوى. ط 2001 .2م.
القوم :انتَ َووا ،وغايةٌ ُمغ ِربةٌ � أي بعيدة ال�شَّ�أَ ِو .معجم العني. و� أَ ْغرَ َب )5خري الدين ،حممد :زمن الرف�ض .حوارات .ترجمة عبد الرحيم
ُ حزل .من�شورات جذور .ط 2007 .1م.
ن�سخة �إلكرتونية. Chraibi Driss : Les boucs. Roman. Editions Denoel. Paris, 1955 )6
جميع احلقوق حمفوظة ل�رشكة العري�س للكمبيوتر )7حمي�ش ،بن�سامل :الفرنكوفونية وم�أ�ساة � أدبنا الفرن�سي� .سل�سلة
� )24أمن�صور ،حممد� :شهوة الق�ص�ص � ،أوراق من مفكرة قا�ص املعرفة للجميع .العدد � .23ص (2002 .)70م.
جتريبي .من�شورات دار احلرف .ط 2007 .1م. )8البعيدون� .سبق ذكره.
)25نيني ،ر�شيد :يوميات مهاجر �رسي� .سبق ذكره� .ص (.)90.89 )9طرابل�سي ،فواز وعزيز العظمة � :أحمد فار�س ال�شدياق .من�شورات
)26من م�أثور � أبي حيان التوحيدي. ريا�ض الري�س .ط 1995 .1م.
)27عبد الدامي� ،صابر � :أدب املهجر .دار املعارف .ط 1993 .1م. )10التون�سي ،خري الدين � :أقوم امل�سالك يف معرفة � أحوال املمالك.
)28جملة عامل الفكر :الهجرة والهجرة املعاك�سة� .ص ( .)5املجلد من�شورات دار الطليعة .بريوت .ط 1978 .1م.
.7العدد 1986 .2م. )11بنجلون ،الطاهر :ر�سالة ،من الطموح �إىل ال�رصامة� .سبق ذكره.
Daoud, Zakya ; Marocains de l’autre rive. Les Immigrés marocains )12
)29ابن جلون ،عبد املجيد :يف الطفولة� .سرية ذاتية .مكتبة
acteurs du développement durable. Editions Paris-Méditerranée, 2004
املعارف .الرباط .بدون تاريخ. .et Tarik Editions, 2005. Casablanca
)30برادة ،حممد :مثل �صيف لن يتكرر .حمكيات .من�شورات الفنك. )13يو�سف ،فاروق :يوميات وت�أمالت يف املنفى ،مائدة من هواء.
ط 1999 .1م. دار � أمل للن�رش والتوزيع .ط 2008 .1م.
)31ا أل�شعري ،حممد :جنوب الروح .رواية .من�شورات الرابطة .ط .1 )14نيني ،ر�شيد :يوميات مهاجر �رسي .من�شورات عكاظ .ط � .2ص
1996م. (2009 .)102.101م.
s
s
s
الكينونة يف ال�شعر
العربي املعا�صر
ح�سني حمزة اجلبوري
باحث و� أكادميي من العراق
� .1أن درا�سة ال�شعر وحتليله يف �إطار مفهوم فل�سفي ،تبدو �إ�شكالية أل�سباب خمتلفة،
منها �أن«الكينونة» تعد مفهوما دقيقا وعميقا ألنه يتعر�ض لق�ضية الوجود
االن�ساين على نحو عام ،وماهية هذا الوجود؛ فعلى الرغم من ان ال�شاعر يتعامل مع
هذه الق�ضية منذ والدة الق�صيدة؛ اال ان املختلف هنا واال�شكايل اي�ضا ان مفهوم
«الكينونة» هو الذي يقود البحث بح�سب انتاجه الفل�سفي ال�سيما ان هذا املفهوم يدر�س
يف علم النف�س وعلم االجتماع؛ اال اننا نبحث فيه من خالل املنظور الفل�سفي ح�رصا
ومن ثم يبدو ان ثمة �س�ؤاال يطرح نف�سه؛ يقع يف �صميم اال�شكالية ،وهذا ال�س�ؤال �أيفهم
ال�شاعراملعا�رص ويعي هذه الق�ضية الفل�سفية،ومفهوم «الكينونة» بدقته العلمية؛ام
انه يتفاعل معه كما يتفاعل ال�شاعر ويتعامل مع الوجود؟ واملاهية ومعاناة الذات
وت�أملها ازاء وجوده وعالقته مبحيطه الطبيعي واالن�ساين؟ال �شك �أن الف�ضاء الفكري
واحل�ضاري الذي يعي�ش فيه ال�شاعر العربي املعا�رص يق�صي الفل�سفة ؛ ويهم�شها اىل
حد كبري ومن ثم كيف يت�سنى لل�شاعر يف هذا الف�ضاء االطالع والقراءة والتحليل
الذي البد منه إلنتاج وعيه؟
يف اال�ستبداد واما الثانية فانها تتمثل يف احلرية؛ وهي وهنا البد �أن ندرك �أن ال�شاعر العربي املعا�رص ينهل من
مرتبطة بامل�س�ألة االوىل ،فاحلرية تتمف�صل يف اجتاهني االجتاهني؛ اذ ان الرباءة؛ والوالدة ،واملوت ،وامل�صري
ا ألول يتعلق بال�سلطة ال�سيا�سية وم�ؤ�س�ساتها؛ وا ألخرى والفناء ،والعدم ،والقرار ،واالميان و�سريورة الوعي كلها
بال�سلطة امليتافيزيقية وم�ؤ�س�ساتها والعرف الذي يعيق ثيمات الق�صيدة منذ بدايتها االوىل؛ فعالقات ال�شاعر بكل
احلرية فمفردات اال�ستبداد الفردي هي :القدرية والق�سمة ما يحيط به؛ ت�شكل �شذرات الكينونة /الوجود واملوجود/
واملكتوب ومفردات اال�ستبداد اجلماعية /ال�سلطة وال�سوط لذلك فان بع�ض ال�شعراء يعرفون مفهوم الكينونة بدقته
وال�سلطان والرهبة /كل هذه املفردات؛ تقود اىلامل�س�ألة العلمية ،ومن ال�شعراءالكبارمن يتفاعل مع حميطه ،ويدرك
الثالثة ،ونعني بها �إعاقة التقدم/التولد/واالختالف مفردات الوجود ملايتمتع به من فرادة �شعرية؛ ف�ضال عن
()3
والتدجني الفكري والثقايف واالدبي. االطالع الثقايف العام ،ومعاناة العربي ازاء �إ�شكاالته
ان هذه امل�سائل �أ�سهمت يف �إنتاج الال �شعور اجلمعي، احل�ضارية ،فيكون انتاجه ال�شعري جزءا من معاناة �شعبه،
ال�سيا�سي والثقايف واالدبي .فالوعي العربي الذي مثل وروح الع�رص الثقايف واحل�ضاري فنحن ال ن�ستطيع ان
�سطح احلياة العربية واملنظور العياين لها؛ كان نتاجا نقوم بعمل اال �ضمن اطار ع�رصنا وزماننا وبني املحيطني اذا � أردنا تتبع
م�ؤ�س�سا على البنيةالعميقة ،ونعني به الالوعي الفردي بنا )1(،لذا فان معاناة ال�شاعر �شكلت حلظات درامية متثل عالقة أ
الدب
واجلمعي الذي انتج القيم والظواهر ال�سلوكية املختلفة، ابعاد التجربة احل�ضارية واملعاناة الفكرية ،والهزمية بالال�شعور
ومنها الثقافية واالدبية لهذا يعد «املخيال ال�شعري» ال�سيا�سية ،يقول خليل حاوي يف مقدمة ق�صيدته/لعازر
جزءا من هذا النتاج .فاملخيال ال�شعري يت�أ�س�س يف « :1962كنت �صدى انهيار يف م�ستهل الن�ضال فغدوت اجلمعي ،يوجب
املخيال االجتماعي اوال ويت�أ�س�س على تاريخ النوع �ضجيج انهيارات حني تطاولت مراحله»( )2فكانت الق�صيدة ا�ستخدام خطاب
ال�شعري كله ثانيا مبا يت�ضمن من وظيفة واداء و�سلوك العربية املعا�رصة تعاين حلظات /النكد والف�صام /وبدت �شمويل وتكاملي
وبهذا ال�صدد يقول ادوني�س« :فيما كان الوحي يتج�سد يف حمنة ذاتية ومو�ضوعية تفاعال ومتثال للتجربة العربية ويتطلب-
م�ؤ�س�سات ،وكانت امل�ؤ�س�سات ال تنظر اىل ال�شعر اال بو�صفه والع�رص الدرامي وامل�أ�ساوي ،فتعددت اال�صوات يف كذلك-الوقوف
اداة يخدمها كانت تت�أ�س�س يف احلياة العربية اليومية الق�صيدة لتمثل ا�صوات االختالف وال�سلطة واملختلف معها، على خطا بني
عالقات جديدة بني ال�شعر مبعايري وقيم جديدة وكانت و�رصاع املا�ضي وامل�ستقبل .ن�شيد تت�صارع فيه الر ؤ�ى الول تاريخي أ
امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية -الدينية متار�س �سلطتها بو�صفها واملنظورات فكان ال�رصاع بني االنا-االنا ال�شعرية ابرز والخر منطقي آ
احلار�سة االمينة للوحي اال�سالمي الذات يف هذه التن�شئة �سمات الق�صيدة املعا�رصة؛ ومن ثم فان حمنة ال�رصاع هذه
م�ستلبة �سلفا بل الوجود أ
للنا املت�سائلة )4(».هذه القوانني مل تكن نتائجها ترميمية وامنا تت�ضمن ك�شفا وعريا امام
والتقاليد ال�شعرية والنقدية تعد جزءا من �رصاعية الق�صيدة الزمن ،عري االنا-وعري املجموع ،هذه املحنة ال�رصاعية
التي حتاول ان ت�ؤ�س�س ح�ضورا للذات الواعية والراف�ضة جعلت الق�صيدة تنطلق من الداخل ال�ستيعاب اخلارج،
وال�صادمة للم�ؤ�س�سة ،مما ي�شكل �أزمة نقدية؛ تتمثل يف وعادت اىل الداخل حتاور االنا والذات نف�سها؛ تعاركها؛
ح�ضور الفرادة ال�شعرية التي حتاول ان ت�ؤ�س�س لنف�سها وت�صادمهاوتق�صيها وتهم�ش جزءا منها؛ وال تن�رص اجلزء
امنوذجا من خالل وعي كينونة ال�شاعر بفرادته والت�شكل على ا آلخر ،وامنا جتعله ي�سبح مع ال�سريورة للقب�ض على
ال�شعري بحداثته ،وهنا يحدث �إندماج الدراك احلداثه من الكينونة ،فتحلق الق�صيدة يف جتليات الوجود /االزمة
جهة وافرتاق من �أجل التميز من جهة اخرى.فال�شاعر اليح�س والروح و� أ�رسار الوجود واملوجود؛ فتك�شف � أنامل ال�شاعر ان
بال�سعادة يف حالة متاثله مع �شاعر �آخر قدميا ام حديثا، ثمة وجودا حملقا طائرا حتاول اللغة القب�ض عليه ،ولكن
وامناي�شعر ب�رضورة التفرد؛ لذلك تكون �أزمة الكينونة بحثا �سريورة العدم ت�سري يف اجتاه الال عودة وهكذا ت�ستثمر
م�ستمرا عما ي�ستوعب هذه الكينونة التي ت�سهم اللغة يف اللغة �إمكاناتها لتدمري االن�ساق الكال�سيكية املتداولة،
ا�ستيعابها من خالل اللعب وال�صناعة اللغوية االبداعية لتنتج ق�صيدة التفعيلة وق�صيدة النرث حماولة للرق�ص مع
واالجنازية لت�سمية اال�شياء ،واالفعال املجهولة التي لي�س فو�ضى الوجود من �أجل ا�ستدراجه ،ان فو�ضى الوجود
لها �أ�سماء بعد داخل الكينونة ،او يف وعي الكينونة والوجود التي يعيها ال�شاعر العربي املعا�رص ت�ستلهم ازمة االمة
الذي مل ينوجد-بعد-وهذا اللعب –كما يقول هيدغر-يقوم واحلياة العربية التي تعاين من ثالث م�سائل كربى وهذه
على/الرتاوح /واحلوار بني الفكر والقول ال�شعري الذي امل�سائل التي �شغلت الفكر والثقافة العربية وتتمثل االوىل
66 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s مفردات هذين النظامني . ي�سمح للفو�ضى والت�شظي لل�سيطرةعلىم�شهد الروح والذات
فاما النظام النهاري ،فانه يجمع كل ال�صور التي ترمز اىل وادراك الكينونة ،من هنا يكون التفرد وال�سيطرة االبداعية
القوة وال�سلطان برموزها وادواتها ،ال�صوجلان ،وال�سيف، او التجلي االبداعي والتناغم مع اللغة دليل ال�شاعر يف
ويطمح هذا النظام اىلالتفوق و«االنت�صار على املوت االبداع وادراك ا�سباب الوجود وان�شغاالته .
والتمرد على القدر…ومن �صفات النظام النهاري البطولة .2وكان علم النف�س قد حتدث من خالل فرويد ويونغ عن
ووحدانية االله والدفاع عن نقي�ض االطروحة واملثالية الال�شعور الفردي واجلمعي الذي ي�شكل ال�ضمريواملقد�س،
والعقالنية والتجريد والنظام النهاري… نظام ذكوري والذنب والقوانني االجتماعية ،وقد و�سع يونغ مفهوم
يتهاوى �صوب«ال�سكيزوفرينيا» ان مل يعدل كفته النظام ا�ستاذه «فرويد» عن الال�شعور الفردي اىل اجلمعي الذي
ااالنثوي امل�ضاد له �أي النظام الليلي» هو عبارة عن روا�سب دفينة يف النف�س الب�رشية ترجع
واما النظام الليلي ،فهو يجمع ال�صور املعربة عن االلفة، اىل وجود «�آدم وحواء» واخلطيئة االوىل .فكان املوروث
واملحبة واحلميمية ويق�صي �صور النظام االبوي «فال�سقوط والتجارب املختلفة منذ االن�سان االول وتركته من قيم
ي�صري نزوال والليل ي�صري راحة و�سكونا بني اح�ضان االم الع�شرية والقبيلة قد �شكلت الال�شعور اجلمعي؛ ومتخيله
يعاد لالنوثة اعتبارها يف �صورار�ض وليل ي�سبح النظام الذي يتحكم ب�صورة �أو باخرى يف �سلوك الفرد واجلماعة
الليلي يف تناغم االلوان املريحة… انه نظام اليف حميمي حا�رضا وم�ستقبال وي�شكل جزءا من الكينونة «فالغيب..
()8
و�صويف وحلويل». جانب ا�صيل يف كينونتنا»( )5وهذا الال�شعور ي�ؤثر يف
ويت�ضح ان النظام الليلي هو الذي يت�ضمن اخليال ال�شعري الثقافة والفكر واالدب؛ وافاقها التي متتد من املوروث
ومو�ضوعات الفن ،ومن ثم يكون ت�شكيل الق�صيدة يف اىلامل�ستقبل الذي يت�شكل فيه متخيل اجتماعي ممتد من
اطارهذا النظام ،عالوة على بع�ض �صور النظام النهاري املوروث من جهة ومنقطع يف اجتاه متثل احلا�رض من
ال�سيما االنت�صار على املوت والتمرد على القدر؛ وهي جهة اخرى ،فالال�شعور اجلمعي متجدد مع كل جتربة
�سمات عقالنية اىل حد ما ،و�صوفية يف حدها ا آلخر .ومتثل ان�سانية وح�ضارية
مفردات الكينونة ،وذلك يف وعي الذات ،وادراكها ال على واننا اذا اردنا تتبع عالقة االدب بالال�شعور اجلمعي،
�سبيل الثنائية املعروفة «الذات -املو�ضوع»؛ ومع ذلك فان يوجب ا�ستخدام خطاب �شمويل وتكاملي ويتطلب -كذلك-
هذا الت�شاكل والتفاعل بني هذين النظامني وواقع التجربة الوقوف على خطا بني االول تاريخي وا آلخر منطقي .فاما
العربية ،الفردية واجلماعية ،قد �شكلت بنية �رصاعية جديدة التاريخي فانه انتج خطابا مزدحما بالرتاث ،وخميال
لثيمات الق�صيدة وهذه تعطي معاين لكل ما هو «موجود»، االمة الثقايف وال�صوري واما املنطقي فقد حدد اهداف
ك�أن التجربة اجلماعية؛ والال�شعور اجلمعي وال�سيا�سي الرتاث ووظيفته ،واملخيال واملنتج الثقايف وحدوده.وهذا
املنتج لالنظمة الثنائية للمخيال ال�شعري قد انتجت قمعا ()6
ينطبق وي�شمل حداالدب ووظائفه كما ا�شار اليه ادوني�س
للجماعات الب�رشية يف انتاج كينونتها اخلا�صة ،وتقدمي .لذلك نعتقد ان التاريخي واملنطقي يت�شكالن من خالل
�صورة ور ؤ�ية لنف�سها؛ ور ؤ�ية و�صورة للآخر املواجه امرين هما «املخيال االجتماعي» ،و«العقل العربي» الذي
لها �سواء اكان ا آلخر ب�رشا ام ا�شياء طبيعة ،هذه ال�صور يحد احلدود؛ ان املزدوج «املخيال والعقل» افرز امناطا من
كانت متار�س �سلطتها على الال�شعور اجلمعي واملخيال ال�صور ،وا�شكاال خمتلفة �سواء اكان على �صعيد التجربة
االجتماعي ،ون�ستنج من هذا املهاد ان تراث االمم الواقعية ،مبافيها ال�سيا�سي واالقت�صادي والعلمي ام على
وخميالها؛ والوعيها يتحدد يف الظروف املختلفةال�سيا�سية �صعيد الثقايف واالدبي والفكري بو�صفها البنى العليا
واالقت�صادية واالجتماعية والدينية ،لت�شكل على �ضوء هذه العميقة للمجتمع التي ت�شكل وعيه .وقد حدد «جليبارد
الظروف ثيمات املخيال والالوعي ،وال�شك يف ان وعي دوران» املخيال يف نظامني ،ي�شكالن التاريخي واملنطقي،
ا آلخر ومعرفته ت�سهم يف ح�سا�سية تعميق الوعي بالكينونة وميثالن الفكر �أي�ضا ،فمن خالل ت�شغيل هذين النظامني
عند بع�ضهم ،واال�ستالب من ا آلخر الب�رشي «ال�سيما الغربي» ن�ستطيع الوقوف على ابعاد التجربة الذاتية ال�شعرية،
عند بع�ضهم ا آلخر( ،)9من ثم تبدو ال�رضورة يف ادراك ازمة فاملخيال بنظامه الليلي هو الذي ميثل االدب والفن مع
الهوية التي ال تظهر اال يف املجتمعات التي تدخل يف جدلية تفاعل يف حدود ما مع النظام النهاري(.)7وقبل اخلو�ض يف
ا آلخر ،وت�ضعنا هذه الق�ضية مرة اخرى يف �صلب ق�ضية ابعاد التجربة ال�شعرية املعا�رصة البد من ان نقف على
67 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
والت�أويالت ،وهى قوة فكرية وح�ضارية -كما ا�سلفنا- ا�سا�سية يف مفهوم الكينونةعند ال�شاعر العربي ونعني بها
فالتعدد و«الف�صام النكد» له اثره يف طبيعة الكينونة النه احلداثة ال�شعرية ال�سيماعندما ا�صبحت احلداثة تكمن يف
ي�سهم يف انتاج ال�شعورجمعي وادبي وخميال �شعري جديد افق الكينونة واالفق الك�شفي-املعريف لالحاطة بالذات
وباف�آق متغرية ومتنوعة وبر ؤ�يا جديدة ،و لهذا نرى ان وا آلخر ،والعالقة اخلالقة مع ا آلخر بال�رضورة ،النها تنتج
الق�صيدة النا�ضجة والقوية هى التى تتفاعل مع هذا الوعي ان�سانا يعي ما يحيط به من �إ�شكاالت العلم واحلياة.
الكلي با�شكاالته املختلفة واملتنوعة ومبفرداته املت�شظية .3بد�أت النه�ضة العربية يف حماولة مفكري االمة وعلمائها
فتكون الق�صيدة �رصاعية ومت�شظية ال�ستيعاب جدل ادراك ثقافة ا آلخر اال�ستعماري ،و�أدراك اطروحات الفكر
الوجود وهذا ال يعني االنعكا�س وال النقل امنا خلق عامل التقدمي كذلك ،و�سمحت هذه الر ؤ�ية يف تلم�س وجدان االمة،
جديد ومتخيل مل ت�صل اليه الق�صيدة من قبل ،يقول ال�شاعر و�أ�سباب التقدم احل�ضاري فيها وامكاناتها يف االبداع
االملاين املعا�رصجوتفريد« :لي�س هناك واقع خارجي بل كذلك ،لذلك بد�أت القوىوالفعاليات الفكريةوالطبقية؛
هناك وعي �إن�ساين دائم البناء والتعديل ،و�إعادة بناء عوامل التحول اىل فعل الثورة بو�صفه تغيريا ح�ضاريا �شموليا،
جديدة من �صنع �إبداعه»( )11والجل ر�سم هذا العامل املتخيل لكن ا�ساليب احلكم الع�شائرية املتخلفة واال�ساليب
البد من تدمري الن�سق امل�ألوف حتى يف ال�شعر نف�سه ،اذ «»التوتاليتارية» يف احلكم ،وانعدام الدميقراطية ،.ف�ضال
ان ن�سق الق�صيدة العمودية هو غريه يف الن�سق ال�رصاعي عن �ضغط ا آلخر اال�ستعماري واالمربيايل التي حا�رصت
اجلديد واحلداثي .وقد و�صف كلود برنارد ،الكاتب احلداثي الثورات واملجتمع يف اطار الان�ساين و ال اخالقي ،فهذه
«بالقا�ضي» الذى يخترب اللغة «فهو ي�شوهها ويغو�ص يف القوى ومب�سمياتها خمتلفة . ،ا�سهمت يف تخبط قوى الثورة
متاهاتها ال لتدمريها بل لتحقيق تفكيك اخللق الذى يطلق العربية واملجتمع العربي ،.والدخول يف موجهات عنيفة
قوى جديدة من النطق واللفظ وي�ضع القواعد اللغوية مع قوى النكو�ص املختلفةاملحلية والعاملية والدخول يف
امل�ألوفة جانبا ويتو�صل اىل االكت�شاف الذي يعزوه «مي�شيل فو�ضى ادراك مهمات الثورة ،ودورها لذلك بدت م�شكالت
فوكو» اىل احل�ضارة التي تعتق نف�سها من نظام املفاهيم الثورة ما بني التزام باملورث من خالل اال�صالة ومابني
التقليدية وتدرك انه يف االمكان اال�ستغناء عنها»( )12ان هذا االنفتاح على ا آلخر/الغرب ،وهي خيارات امل�سريةالعربية.
التعامل مع اللغة من خالل الر ؤ�ية احلداثية للعامل اق�صى اما اخليار احل�ضاري فهو االنطالق من الواقع الذي تعي�شه
الكثري من املفاهيم الالعقالنية التي كانت �سائدة على االمة والرتاث الذي نحتويه يف �شعورنا عن وعي اومن
الرغم من ان ال�شاعر يتعامل معها ،بل ان ف�ضاء ال�شعر هو دون وعي بفعاليةونظرة ايجابية للحا�رض وامل�ستقبل؛
الالعقالنية واال�سطورية االان وعي ال�شاعر وهويتعامل هذه املحاور معروفة يف حياتنا الفكرية ،اال ان املناهج
مع اال�سطورة ،وقوىالغيب يراد منه القب�ض على جمرة املختلفة يف متثلها لهذه الق�ضايا كان البد لها ان ت�سهم يف
الوجود الالمتناهي الذي يعدم نف�سه ،وينفيها من اجل تطويرهذه الق�ضايا ،وحتدد خيارات التقدم فيها .
�سريورة دائمة فتجعل العامل متعاليا .وال�شاعر «الفاعل» و التعددية التي«افقدت وحدة ال�شخ�صية» كما يقول د.
يلهث وراءه؛ وبيده اداته/اللغة في�ستطيع ال�شاعر حتطيم ح�سن حنفي.وجعلتنا «نعي�ش يف ف�صام /نكد ،فتتقارب
غرور هذا الال متناهي من خالل اللغة ..والقب�ض على ما الثقافات ومناهج التعليم واملذاهب ال�سيا�سة ويق�ضي االمر
مل ينوجد-بعد� .أوير�سم لهذا الذي مل يوجد –بعد خيوطا على الوحدة الوطنية يف املمار�سة وعلى ال�شخ�صية القومية
مب�ستويات لغوية خمتلفة وبان�ساقها املت�شظية؛ فهي ()10
يف النظر»
ت�ستوعب اال�شياء العار�ضة ،وال�شظايا املتنافرة ،و�صور ويبدو ان د .حنفي يعد هذا االمر خ�صي�صة �سلبية –وهذا
ال�سوقة واالبتذال ،ولكن هذه املفردات كلها هي مفردات ما ن�ستنتجه من ن�صه-منطلقا من ان االمة واحدة وينبغي
الوجود واملوجود/الكائن ،ومن ثم تكون مفردات الكينونة ان تكون ثمة ا�سا�سيات م�شرتكه الينبغي التفريط بها وهذا
االن�سانية جزءا من العار�ض واملت�شظي واملتنافر واجلميل، االمر يبدو �صحيحا ،الن هناك تباينا يف تطور املجتمعات
والقبيح والعدل والظلم لالن�سان الكلي الوجود الذي يرت�سم العربية من الناحية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية؛
عليه العامل االكرب والوجود امل�ستمر لل�سريورة والتحول هذا االختالف يف�ضي اىل التنوع والتعدد الفكري واملفهومي
واالنتاج لت�شكيل ذاته وكينونته. وهذا االمر يعد قوة يف العامل املعا�رص.
. 4بعد ان توقفنا يف ال�صفحات ال�سابقة عند الواقع العربي. ان االختالف والتعدد نابعان من تنوع املنظورات
68 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s و�أجنا�س خمتلفة.. والق�صيدة و�سماتها بات من ال�رضوري الوقوف عند
ان حترك الق�صيدة الق�صدي جتاه معطيات الوجود �شكل مفهوم «الكينونة» لكي نحلل الق�صيدة العربية املعا�رصة
عاملا متوهما مكتنزا با آلمال للكائن/املوجود الذي ي�سعى وعالقتها بالكينونة يف مرجعياتها الفل�سفية ،فقد ارتبطت
اىل معرفة ذاته و معرفة العامل الذي يرغب فيه وي�سعى الفل�سفة بوعي االن�سان و�سعت ال�ستيعاب جتربته اليومية
اليه ،ومن ثم فان االدب وال�شعر يقلب املفاهيم امل�ألوفة، وفهم م�صريه وعمله ازاء حتديات الوجود اذ ان االن�سان
ويعك�سها على وجه جديد �أو ي�شكك فيها ألنه م�سكون وجد نف�سه يف عامل معطى �سابقا اال ان حتديات احلياة
با أل�سئلة املقلقة التي ال تقف عند �أفق واحد الن�شغاالت والطبيعة ولدت عنده هاج�سا من اخلوف والقلق من
الوجود ا�صال بهذه اال�سئلة التي حتمل قيما ومفردات االتي ،لهذا بد� أ الوعي ،يتجه اىل ادراك مو�ضوعات العامل
وانفرادات متثل هذا الوجود .لهذا مل يعد لل�شعر ما يعادله وااللتحام به والت�أمل يف مقا�صده .وبد�أت «االنا» املتجهة
يف الواقع( )17فهو عامل خادع ال ي�سعى اىل التملك بقدر ما ()13
اىل ادراك العامل ،واالنتماء اليه؛ تتخذ طريقها اىل وعيه
ي�سعى اىل الفعل باجتاه ال�سريورة ،وهو بهذا الت�صور يكون من هنا �صنعت الفل�سفة مو�ضوعاتها ،و�شكلت املفاهيم لكل
الق�صيدة االدب حفازا «الرادة القوة»(– )18بح�سب تعبري نيت�شه- ما يحيط باالن�سان من قيم واخالق وعقائد .هذه املفاهيم
النا�ضجة والقوية وتلعب اللغة فيه الدور اخلالق لهذا العامل املتخيل اخلالق تفرت�ض مداخل كثرية ومتنوعة و ت�ؤدي بع�ضها اىل بع�ضها
هى التى تتفاعل للوعي والفهم واالرادة .فهي التي تكون الوجود الذي مل ا آلخر فتجعل اجلميع يتجهون نحو قبلة واحدة ،ومن خالل
مع هذا الوعي ينوجد-بعد وهى التي حتفز االن�سان املوجود على البحث هذا التنافذ بينت الفل�سفة حدود تفاعل العقل مع الوعي،
الكلي ب�إ�شكاالته واخللق ،والفعل للو�صول اىل عامل احللم الذي عمل املوجود و�شبكة العالقات بني االفراد ،واجلماعات ف�ضال عن حتديد
املختلفة على ت�شكيله ولكن هذا العامل �رسعان ما يفلت مما يجعل ت�شكيالت ال�سلطة وم�ؤ�س�ساتها وخطابها.كما ان الفل�سفة
واملتنوعة االن�سان يف �سريورة دائمة للفعل واالبداع من اجل العامل تفاعلت مع العلم وتعاملت مع اجنازاته النها ظلت دائما
ومبفرداته الذي مل ينوجد – بعد ،وعليه فان اللغة هي التي تخلق �صدى له ،مع انها «الفل�سفة» �سعت دائما اىل احتواء هذا
م�ضمار املوحى به من قيم ومثل واخطار واخطاء ،واالفعال العلم؛ وعملت على و�ضع املفاهيم له ،وايجاد ال�رشعية له
املت�شظية
التي مل ت�سم بعد وهى «التي تخلق احتمال فقدان الوجود اي�ضا.
فتكون الق�صيدة �أي اخلطر …وهي…تخفي يف ذاتها ولذاتها خطرا دائما �إن اعادة تنظيم التفكري الفل�سفي طوال تاريخ الفل�سفة
�صراعية وهذا اخلطر يكمن يف ان اللغة حتتمل ال�شفافية وال�صعوبة متت با�ستلهام من �سنن التنظيم العلمي ملعارفه وا�سلوب
ومت�شظية ولكنها اي�ضا حتتمل امل�شو�ش وال�شائع»( )19ولذلك كانت التنظيم يف الفكر العلمي نف�سه ويعني هذا ان الفل�سفة
ال�ستيعاب جدل العالقة بني الفل�سفة وال�شعر �رضورية للن�شاطات الفل�سفية ال تقوم وال تفعل اال بات�صالها بالعلم()14وهو ما يفرت�ض
الوجود من جهة ،واالدبية من جهة اخرى. ا�سبقية العلم كما ان الفل�سفة تفاعلت مع االدب علىنحو
لقد ذهب هيدغر اىل ان ال�شعر امنا هو «ان�شغال متوا�ضع عام ،وال�شعر على نحو خا�ص ملا ميتلكه «ال�شعر» من
ولعب بالكلمات ال ترجىمنه اال الرباءة انه/ا�ستح�ضار حرية و�شمولية؛ ي�ستطيع من خاللها جتاوز حدوداملنطق
للآلهة/وذكر للأ�شياء بكينونتها وتا�سي�س للكينونة بالقول اىل افاق رحبة الدراك الوجود والمكانيات ال�شعر التي
والكلمة/انه باخت�صار ا�سا�س تاريخ االن�سان نف�سه وهذا ما تك�رساحلدود؛ وتك�شف ما وراء احلجب فهو ي�ؤ�س�س الوجود
يجعله يف النهاية � أبعد من ان يكون «تنميقا» او«زخرفا» بوا�سطة الكالم( ،)15فهو م�سكن العامل مما يجعله قادرا على
.لذلك كله كان ال�شاعر احلقيقي هومن يلعب دور الو�سيط اجناز التذكر واملتخيل للك�شف عن احلقائق اجلوهرية
بني االلهة والب�رش فيتلقى االمارات القادمة من عامل بقدرات �شبه ال متناهية؛ في�صبح ال�شعر بهذه القدرات
اخللود ويقدمها للفانني»( )20هذه هي املهمات التي حددها وال�سمات ن�شاطا مقد�سا يتمثل الوجود كله ،ويف هذا
هيدغر لل�شعر ،ا�ضفت اهمية على نبوءة ال�شاعر والق�صيدة ال�صدد يقول مي�شيل لريي�س« :كنت قد ا�صبحت ال ا ؤ�من
التي �شغلت اجلدل الفل�سفي منذ بداية اال�سئلة االنطلوجية ب�شيء( )..ولكنني كنت �أتكلم ،بارتياح عن املطلق وعن
الوجودية ،وارتبطت هذه النبوءة يف الفل�سفة احلديثة بافق االبدي»( )16ولهذا بدت الق�صيدة �شاردة يف اجتاه ا�ستيعاب
احلداثة ويف اجتاهني :االول يرتبط بال�صياغةال�شكلية الوجود ،وت�شكيل هذا الوجود الهارب من اليومية اىل اجلدل
الن�صية وا آلخر يف امل�ضامني واملو�ضوعات احلداثية التي الوجودي امل�صريي والباحث عن كينونة هذا الوجود
تك�شف ر ؤ�يا الفنان وال�شاعر ازاء ان�شغاالته الكلية وكذلك وماهيته ،ف�أخذت الق�صيدة تنفتح على �آفاق متنوعة
69 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يت�ضمن ال�سريورة والعمل على �إدراك وفهم حدود العالقة ا�سئلته امل�صريية .لقد ارتبطت ال�صياغات اجلديدة با�سئلة
مبا يحيط به ،فيكون املوجود يف حالة �سريورة دائمة، احلداثة ،و مبفهومات اللغة والدرا�سات الل�سانية احلديثة
وغري مكتملة لهذا فهو مت�سائل؛ وقلق ويبحث عن معنى منذ دو�سو�سري الذي اعطىامكانات كبرية للغة يف خلق
لوجوده فيقذف بنف�سه مع ا آلخرين على الرغم من متيزه االفكار واملعاين ،ويف ك�شف العالقة بني اللغة والعقل
من اجل املعرفة التي هي قوة لهذا الكائن وبهذا يولد لذلك ال وجود لالفكار قبل اللغة فهي منتجا العامل؛ كما ان
املوجود اال�صيل . الدرا�سات الل�سانية اكدت«احلقائق االجتماعية»و«اجلماعية
ومن �أ�سا�سيات الفل�سفة الوجودية فكرة التجاوز وتعني اال�سلوبية» التي ا�شار اليها دوركهامي( )21التي هي الكيانات
«خروج املرء عن ذاته»( )31وتعد هذه الفكرة من اهم �سمات التي ت�ؤلف اللغة ومن ثم فان «اجلماعية اال�سلوبية» ت�صب
املوجود اال�صيل الذي يح�س بالقلق يف تعامله مع ا آلخرين، يف اطار الالوعي املجتمعي النها تك�شف وعي اجلماعة ازاء
ألن ه�ؤالء ا آلخرين يفر�ضون عليه انتماءاتهم وت�صوراتهم الن�سق اللغوي الذي يتحدث فيه املجتمع ،ويكتب فيه .لهذا
مما ي�ؤدي اىل فقدان حريته يف هذا الوجود الذي قذف به منذ يعد االنزياح «العدول عن الن�سق اللغوي يف ال�شعر تفردا التعامل مع اللغة
البداية دون ارادته؛ ومن ثم فانه يقيم عالقاته مع ا آلخرين ذاتيا ويت�ضمن مواجهة االن�سان» ال�شاعر املتفرد لذاته فهو
من خالل الر�ؤية
وهو م�سلوب االرادة؛ و�أن �إ�ستعادته لبع�ض �إرادته ت�سمح له وجود منعزل عن فر�ضية قدمية وكذلك عن املعاين القدمية
باخلروج عن ذاته ،ويعد هذا التفاعل ظاهرة م�أ�ساوية بني وذلك لبناء فر�ضية ومعان جديد. احلداثية للعامل
الرغبة يف احلرية الكاملة؛ والرغبة يف التعامل مع ا آلخرين ان الوجود بو�صفه معيارا يقي�س عليه املوجود وجوده اق�صى الكثري
واالرادات التي تهم�ش حريته من ا آلخرين؛ فيكون البحث وافعاله وبيان ماهيته يرتبط بالزمن «االنوجاد» واحلدث من املفاهيم
عن االختيار قائما يف كل ما يعمل ويفكر فيه ب�أبعادها املنفتح دائما على التقدم اىل االمام( )22وعليه اختلفت الالعقالنية
امل�أ�ساوية فـ«لي�س ثمة وجود ب�رشي دون العامل وبدون الكينونة «االنية» لالن�سانية عن �سائر الكائنات ا آلخرى التي كانت �سائدة
املوجودات ا آلخرى وهكذا جند ان معرفة العامل ومعرفة النها ترتبط بالتكوين املتعايل الذي هو امكان مركزي على الرغم
ا آلخرين مت�ضمنة بالفعل يف فكرة الوجود»( )32وال�شك «لوجود الذات الفعلية» )23(.ويبدو ان هذه االمكانية يف من ان ال�شاعر
ان االختيارات االنعزالية قد جتد تنفيذها يف فكرة اقامة ارتباط «الدازاين» حتمل طابعا ا�رشاقيا و�صوفيا .بالت�أكيد يتعامل معها ،بل
عالقة مع املوجودات واال�شياء والطبيعة الن االغرتاب املمتنع عن البيان الذي يظهر نف�سه بو�صفه عن�رصا
ان ف�ضاء ال�شعر
خيار ان�ساين وهدف يلج�أ اليه االن�سان ،وهو يح�س بالي�أ�س �صوفيا( .)24اما التكوين املتعايل فانه يتعلق بطريقة
من ا آلخر لذلك كان الكائن االن�ساين بائ�سا وممزقا بني املوجود االله ،ومن ثم ي�سعى املوجود/الكائن اىل التجاوز هو الالعقالنية
رغبته يف العي�ش كونيا( )33ورغبته يف التفرد. واالبالل من حلظة احلا�رض )25(:ولهذا اعترب نيت�شه االن�سان واال�سطورية
اما خا�صية «اال�سقاط»( )34فهي فكرة اخرى يف ت�شكيل مظهرا مر�ضيا للحياة( )26فهذا التجاوز مثل دراما عظيمة
الكينونة وتعد عن�رصا ايجابيا ألن املوجود اال�صيل يقوم يف التاريخ وانتج ان�سانا قويا يعمل على جتاوز ذاته دائما
با�سقاط م�ستمر جلزء من وجوده يف العامل؛ ويف�ضي اىل فهو ال يحرتم الوجود ال�ضعيف� ،سواء اكان يف ذاته ام يف
خروجه امل�ستمر عن ذاته ومن ثم ي�سقط ذاته على ما يحيط الكائن املوجود فيه �أو املقابل له .فهو ي�سعى اىل االن�سان
به .وكان هيدغر قد طرح يف كتابه «الوجود والزمان» االعلى «ال�سوبرمان» ويلعب ال�شعراء دورا ا�سا�سيا يف ادراك
انواعا عدة من اال�سقاط كما يقول جون ماكوري منها. ()27
هذا االن�سان االعلى من خالل الرف�ض والنفي والعدم
«�إ�سقاط الذات» و�إ�سقاط الوجود «و�إ�سقاط الفهم» وا �سقاط وكان هيدغر قد ذهب مع ر ؤ�ية نتي�شه العدمية ف�أراد البحث
لالمكانات «وا�سقاط للمعنى» و�إ�سقاط للطبيعة «كما ان عن ماهية املوجود ،وكينونته ا آلنية «الدازاين» ودجمها
هناك ا�سقاطا على االمكانات واملعنى والعامل…وهو يف �سريورة متطورة من الزمن الذي اعي�شه ،وافعل من
الطرح اىل االمام او االلقاء اىل االمام فاملوجود الب�رشي خالله «الزمن خا�صتي» ومن ثم ا�صبح ال�س�ؤال االثري عند
يف جتاوزه لذاته يلقي بنف�سه اىل االمام يف امكاناته..وهو هيدغر( .)28هو كيفية «االنوجاد» بتتابع لفاعلية املوجود
بهذه الطريقة ي�سقط املعنى ويبني عاملا مفهوما»( )35وهذا فالكينونةيف اب�سط تعريفاتها امنا هى ال�سريورة والفاعلية
يعني ان اال�سقاط �شمويل يف تعامل املوجود مع مفردات واحلركة( .)29فتبدو ت�سا ؤ�الت املوجود عن ماهيته ،وماهية
احلياة ومفردات الوجود -املختلفة ال�سقاط اخلا�صة الوجود من �أهم �أ�سئله الكينونة ،النها تبني �صفات
«الدازاين» يف حتققها الفعلي الذي يتحلق حول نظم اال�شياء الوجودواملاهية التي «هي عملية حدوث )30(..وهذا احلدوث
70 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
نيت�شه ،ويلعب الفن واالدب دورا كبريا يف جتاوز هزمية واالدوات وعالقاتها وهو الذي يك�سبها املعنى ألنه ال
االن�سان ليخرج ظافرا منت�رصا( )40لذلك وجد فيل�سوف يرجع اىل �شيء �آخر غري ذاته من هنا فان التحقق الفعلي-
االختالف/نيت�شه/ان الفن يحفز �إرادة القوة على الرغم من بو�صفه امل�صدر النهائي لكينونة املوجود اال�صيل -ي�شمل
ان الفن يزيف الواقع ويخرفه وهذا التزييف واخلداع يجعل عالقته بالتذكر على الرغم من ان هذا التذكر يبدو غام�ضا
من االن�سان يف �سريورة دائمة للو�صول اىل العامل املفرت�ض وم�شو�شا .وتبدو هذه اال�شكالية وا�ضحة يف عالقة الوجود
واملمكن التحقق «ان الفن يخرتع بال�ضبط اكاذيب ترفع بالزمن عند هيدغر(� )36إذ ان املوجدات االن�سانية وحدها
الزائف اىل تلك القوة االثباتية االعلى ويجعل من ارادة قادرة على معرفة ترابط احلياة وهي وحدها التي تتحا�سب
اخلداع �شيئا يثبت نف�سه يف قوة الزائف»( )41ونخل�ص من مع املا�ضي وامل�ستقبل ،مثلما تتحا�سب مع احلا�رض وال
هذا التحديد ملفهوم الفن اىل تفاعله مع الكينونة بو�صفها يتم احل�ساب �إال من خالل احلوار الذي يعد جوهرا يف
�سريورة وفعل جتاوز دائم ف�ضال عن اال�سقاط؛ وارادة الوجود اال�صيل النه يتعلق با آلخر ،والعالقة معه؛ وقد اثار
القوة التي ت�سمح لالن�سان ان يعي ذاته .وذهب هيدغر هذا احلوار اهتمام فال�سفة النظرية النقدية؛ النه يت�شكل
اىل حتديد ماهية العمل الفني من خالل درا�سة العمل يف من نظامني فا�ش�ستي ي�ؤدي اىل انحطاط القيم الفردية
ذاته وجوهره الداخلي للك�شف عن ارادة القوة وماهية وان�سحاب الفرد عن االختالف فاحل�ضارة ال�صناعية تلهي
الكينونة( )42فاجلميل ينطلق من الوجود «فيتمظهر وهو الدازاين «عن ك�شف معنى العامل يف ذاته»( )37مما ي�ؤدي
يحمل واقعا ي�صبح مو�ضوعا ثم تتحول املو�ضوعية اىل اىل االغرتاب الذي هو مف�صل �أ�سا�سي �آخر من مفا�صل
جتربة نعي�شها»( )43ويت�ساءل «هيدغر» ماالذي يتم عمله الوجودية �.أما النظام ا آلخر فهو النظام الدميقراطي الذي
يف العمل الفني؟ ليجيب «انه انفتاح املوجود على وجوده» اعاد االهتمام بقراءة الالوعي الذي يت�ضمن ال وعي الفرد
وهنا يجد ان البحث يف طبقات العمل الفني تعني � أ قتطاع واملجتمع وعالقته بدالالت الرغبة واللذة يف الال�شعور؛
حلم الوجود ،ونب�ضه املتميز؛ ليجعله ج�سدا م�ستقال بذاته وموقع اجلن�س يف �آليات االغراءات احلديثة على اعتبار ان
منف�صال عن غريه من االج�ساد واالفكار .وت�أخذ الكلمة موقع اجلن�س يك�شف عن داللة الفهم والتحوالت املختلفة
ماهيتها من خالل قدرتها على جتديد نف�سها؛ وانتاج للحياة(.)38
ت�سميات الوجود الذي مل ينوجد– بعد ولهذا يت�شكل عامل ان احلديث عن املوت والفناء املرتبطني بالكينونة
جديد يتناغم ،ويعمل مع روح االن�سان وقلقه وت�أمالته فالبد من الت�أكيد � أن هاتني الق�ضيتني مهمتني يف ت�شكيل
ووعيه؛ ومن ثم تت�شكل كينونته التي هي ا�سا�س املوجود/ املوجود اال�صيل �إذ ان املوجود الذي وجد نف�سه مقذوفا
الكائن اال�صيل. اىل احلياة دون ارادته ي�سعى لالختيار الذي يجعله قادرا
.5لقد ان�شغل ال�شاعر العربي املعا�رص بق�ضية التكوين الذي على حتديد م�صريه وي�شعر بامل�س� ؤولية ازاء وجوده ومن
ان�ش�أها و�صورها على نحو فعال؛ ويبد� أ التكوين الوجودي ثم فان االجتاه نحو املوت والعدم ميثل تقريرا مل�صري
بالزمن؛ وينتهي بالت�سا ؤ�ل؛ واالمال يف البحث عن الوجود املوجود وفعله االيجابي يف الوقت نف�سه .ولذلك تت�أ�س�س
والكينونة( .)44فالتاريخ جزء من جتليات وعي االن�سان حلظة تراجيدية للتخل�ص من العدم على� أ�سا�س ان العدم
ال�سيما اذا كان التاريخ يخ�ص النوع الب�رشي والوجود يخلق االن�سان االعلى فقد ذهب نيت�شه اىل ان جتربة
الذي �أحاط بهذا النوع ،و�شكل وعيه ببعده امليتافيزيقي التاريخ مكررة( )39وال يحتمل هذه التجربة اال االقوياء
وبعده املادي ولهذا يطرح ال�شاعر م�رشوعة يف الت�سا ؤ�ل «االن�سان االعلى -ال�سوبرماين» مما يجعل االن�سان القوي
عن ن�ش�أة الوجود لكي ينتمي اليه وليحاول اخلروج يتجاوز روح اخلنوع ويرف�ض اال�ستبداد من �أية جهة كانت
عليه يقول ادوني�س…« :فمن موت اال�شياء تبد� أ حياتها «ال�سلطة الدنيوية»و«ال�سلطة امليتافيزيقية» ويتمرد عليها؛
ومن موت االفكار تبد� أ احلياة )45(»..وقد حمل ديوانه ومن ثم ي�سعى اىل جتاوز عبودية الفناء والعدم .ان هذه
«مفرد ب�صيغة اجلمع» هذين املعنني؛ يف االنتماء االول ا آلفاق؛ واجلدل القائم يف الفل�سفة العدمية –عند هيدغر-
غري االرادي وا آلخر يف نفيه ،والبحث عن والدة جديد، اكدت ازمة االن�سان املعا�رص املتج�سدة بالرغبة واالمال
واالنتماء اليه وعلى الرغم من قناعتنا ان ادوني�س تتبع واالحباط التي ت�شكله احل�ضارة ال�صناعية له ،ولكن
الت�سل�سل الزمنيي على نحو حمافظ يف البداية؛ فان مفردات االن�سان ي�سعىاىل ال�سيطرة على الواقع من خالل دولة
الوجود واملوجود ،الوالدة واحلب واملعرفة واملوت؛ �شتتت اجلمال والفن الرفيع «دولة ديوني�سو�س» علىحد تعبري
71 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الرحب ولكن هذا العامل /ي�صلب /مع �صلب ال�شلمغاين الوعي والت�سل�سل التاريخي اىل قراءة خا�صة ال ميكن ان
وتبقى م�سرية القلق وال�س�ؤال م�رشعة ويظل التجاوز م�ستمرا تكون حمافظة ،ومن ثم جتعله يف خ�ضم ت�سا ؤ�الت كثرية
لينتج �سريورة ر�أى جديد من خالل القرمطي وال�شك ان هذا ومتنوعة؛ ففي م�شهد «التكوين -تخطيطات» يبد� أ ال�شاعر
الن�سب يرتبط بالثورة فيتحول من(علي) اىل(ادوني�س) . بان�شقاق االر�ض وال�سماء..
وميثل هذا التحول انقطاعا من جهة وتوحدا من جهة اخرى «مل تكن االر�ض ج�سدا كانت جرحا
اذ ان (علي) يرمز اىل التق�شف والعدالة وال�شجاعة واالبداع كيف ميكن ال�سفر بني اجل�سد واجلرح
ومن خالل االبداع تتوحد رموز (علي) و(ادوني�س) ان
[ ()46
كيف متكن ا إلقامة؟»
االنقطاع يرتبط بالتتبع التاريخي املحافظ الذي ي�صور و�أخذ اجلرح يتحول اىل ابوين وال�س�ؤال ي�صري ف�ضاء
مفردات الوجود االوىل؛ القذف اىلهذا العامل دون �إرادة « خرج علي
(علي) الطفل. ي�ست�صحب
« اخرج اىل الف�ضاء �أيها الطفل �شم�س البهلول دفرت اخبار تاريخا �رسيا للموت» وي�ستمر
()47
�سمي �شقق الكالم التتبع التاريخي لي�شكل الوعي االول لالن�سان ،فيبد� أ الكائن
()50
لكن ا�سماءه غام�ضة» يف ال�س�ؤال عن القيم الدينية.
ثم يتوحد عندما يعرف االبداع من خالل �إطالعه على «ر�أيت �سجنا يقال له مو�سى وقيل بول�س وقيل م�صطفى/
املذاهب وامللل او يحدد الر ؤ�ية يقول القرمطي: فيه ا�شخا�ص يبكون ت�سيل عيونهم جداول ر�أيت مراكب/
«انا النور ال �شكل يل /وقال�/أنا اال�شكال كلها� /سمع ()48
جتري»
()51
�أدوني�س/ورفع �ساعديه متجيدا» وت�أخذ املذاهب باالن�شقاق؛ وتتعدد ا آلراء
وهكذا يكون العامل /اخل�صب «�أدوني�س» �إذ يتمزق الوجود «يفتي الفقهاء . . . . . . .ي�صلب ال�شلمغاين ويحرق
اىل �شظايا ،ألن هذه ال�شظايا هي ا�سا�س اخل�صب والنمو، يكون من مذهبه
والتكوين ،فين�شغل الوجود ب�أ�سئلة وا�سعة ،التقف عند حدَ اـ.اهلل يحل يف كل �شيء.
يف الوجود كله ،والقلق كله� ،إال �أنه ي�صل اىل قناعة يقينية، ب ـ.خلق ال�ضد ليدل على امل�ضدود
فهو النبي الذي ينبغي االميان به ،النه يطرح تاريخه من حل يف ادم ويف ابلي�س النا�س
خالل زمنه اخلا�ص وكما يقول نيت�شه ،ان القوة يف ن�سيان ج.ـ ال�ضد �أقرب اىل ال�شيء من �شبهه
املا�ضي ،فاالن�سان جاء �صدفة ،و�سمي �صدفة ،وعا�ش يف دـ.اهلل يف كل �أحد باخلاطر الذي يخطر بقلبه
جتربة تقرتح ال�صحيح ،وترتكب اخلط�أ ،ولكي يح�سب موقفه ه ـ .اهلل ا�سم املعنى
اليقيني �إزاء احلياة/الوجود وـ.من احتاج اليه فهو �آله لهذا املعنى ي�ستوجب
« يعطي وقتا ملا يجيء قبل الوقت كل احد اني�سمى �إلها
()52
ملا ال وقت له/يجرهو العار�ض/ويغ�سل املاء» زـ.مالك من ملك نف�سه وعرف اجلن
ووعيا ملاهية الق�صيدة يلج�أ ال�شاعر اىل اللحظة �أو البنية ويقول ال�شلمغاين---
ال�رصاعية بني/االنا /االنا/.../االنا/الوجود/الوجود/ -اتركوا ال�صالة وال�صيام وبقيةالعبارات
هناك ../فهو ال ينتظر من ا آلخر االنتماء اليه ولكنه يعي ال تتناكحوا بعقد
�أنه يحاول معرفة نف�سه وا آلخر؛ لذلك تبدو هذه اليقينية، �أبيحوا الفروج
�رصاعية بني االنا/االنا التي ي�شكلها (االنا ا آلخرى)بالوجود لالن�سان �أن يجامع من ي�شاء
املقابل له لهذا يختزن كل الزمن العام من خالل التاريخ ويقول ال�شلمغاين---
والزمن /خا�صتي/ومن خالل معرفة التجربة التاريخية اقر�أوا كتابي— احلا�سة ال�ساد�سة يف ابطال ال�رشائع
واملذاهب التي ولدت يف هذه التجربة .ومعرفة من�شقيه اجلنة ان تعرفوين
مثل (ال�شلمغاين) ومن ثم �أختزان هذه التجربة واختزالها ()49
النار ان جتهلوين …»
يف وعيه لت�شكيل كينونته يف الكائن املن�شق/الهام�شي هذا املوجود/الكائن ال�شلمغاين وجد نف�سه عقال �أعلى
الذي يطرح ر ؤ�يته التي ت�سعى اىل ت�شكيل عامل جديد .ان يرف�ض ال�سائد وامل�ألوف والعرف ويحاول �إيجاد عامل
هذه الكينونة والقلق عند �أدوني�س .جتعله �شاعرا �آخر ي�سعى جديد متحى فيه القيود واحلدود لالنطالق اىل عامل احلرية
72 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
«�أنت وحيد /يف و�سعك �أن تت�سلى بي حقبا �أخرى/ ،لكنك اىلمعرفة وعي كينونة املوجود من خالل معاينة �شظايا
باتت م�ضجرة/ ،واملدة طالت/ ، ما عدت تريد/.فاللعبة ْ تاريخه لعلها تعينه على ادراك زمنه املتكرر /زمن الكائن
أ
تتمنى �أن تتحرر مني /لكنّك م�شدود/بي/ ،وبقيدي ،ولنك االن�ساين كله «رجل يت�سلى مبا جمعت يده من �شظايا
موجود/بوجودي/ ،تتهيب انهاء اللعبة/ ،وحتاذر �أن تواريخه/ ،ثم يلقي بها يف �أتون «.رجل يتجمع يف رجل
()56
ينفرط العنقود» كان يحبو هنا قبل �سبعة �آالف عام ،ومل يبق منه �سوى
اما ال�شاعر قا�سم حداد فان له يقينيه من اخلارج يف قوله :من اكون؟ «رجل يت�سلى به زمن دائري »،يدور به
ق�صيدته الطويلة (القيامة) حيثما دار« ،يورثه ال�شك يف نف�سه»…واجلنون»()53ولهذا
لقد ان�شغل بدءا بالزمن التاريخي االول لالن�سان؛ ذلك االن�سان الذي يبدو الوجود ك�أنه لعبة تتكررفيها التجارب التي يعمل
ال�شاعر العربي وحده يتحا�سب مع املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل الدراك املوجود كل عمره وهو يبحث فيها من اجل ادراكهاومعرفة
املعا�صر بق�ضية كينونته. �أ�رسارهاومعرفةنف�سه وكينونته من خاللها ،فيظل الت�ساءل
التكوين الذي ( فدخلت /دخلت و�رصت جميع االوقات معا /و�شعرت باين م�ستمرا ولكنها لعبة وتظل كذلك ،فال�شاعر �سامي مهدي
ان�ش�أها و�صورها بدء مل يبد� أ �/رصت جنينا طفال /والرجل الكهل ال�شائخ يك�شف ال�رصاع مع ن�صفه ا آلخرالذي يالحقه ويظل ي�س�أله:
على نحو فعال؛
()57
�رصت /وك�أين مل اولد بعد/ولي�س املوتى وعد» «يف طريقي اىل البيت �أح�س�ست �أن هناك من يتابعني يف
فيحاول معرفة نف�سه وا آلخر لتبدو اليقينية �رصاعية بني الظالم وتقفو خطاه خطاي/فتعرثت من فزع/ ،وتلفت،
ويبد� أ التكوين
ا ألنا/ا ألنا التي ي�شكلها /ا ألنا ا ألخرى /فيلج�أ ال�شاعر اىل �سواي/م ْن يكون �سواك؟م ْن لكنني مل �أجدْ �أحدا يف الطريق ْ
الوجودي احلذف والتلخي�ص الزمني النه يدرك اثر االزمنةيف تكوينه املريب؟م ْن له مثل هذا احل�ضور املراوغ/ ،هذا الف�ضول
بالزمن؛ وينتهي ْ
وانها مت�سلطةعليه ،ولكنه يحاول ان يجعلها معينة له، يكون �سواك»؟!
بالت�سا�ؤل؛ ت�ساعده على معرفة تكوينه من خالل العرف وامليثولوجيا، �أنت تعرفني فوق ما �أنا �أعرف نف�سي/ ،ففيم متثل
واالمال يف البحث ف�ضال عن وعي العلم فهو نطفة ثم جنني وطفل ويدرك دورالرقيب/وتالحقني حيثما �رست /،تزحمني يف ْ
عن الوجود ان املوت وعد عليه وهكذا تت�شكل الكينونة بجعل االن�سان الطريق ..ويف البيت/..يف حجرتي..يف �رسيري/..وت�ؤرقني/
والكينونة. باحثا عن يومياته لت�سجيلها لعلها ت�سهم يف �شغل املكان وتقا�سمني �أرقي ك�ضمريي/وت�سابقني ،حني �أغفو ،اىل
فالتاريخ جزء الذي يعي�شه وبا�ضاءة فردية فيو�سف ال�صائغ يتابع زمنه حلمي/وتطاردفيه ر ؤ�ى ك ّل طيف جميل ؟�/أنت ل�ست
من جتليات وعي اخلا�ص املرتبط با آلخر فهذا الزمن يختلف عن زمن �أية �رشيكا يطالبني بن�صيب له يف ف�ضاء حياتي/وال �شبها
�شخ�صية اخرى فهو ثنائي //كوين– فردي// يل ينازعني يف خ�صائ�ص ذاتي/..فلتدعني وما �أنا �أختاره
االن�سان ال�سيما
«نافذة يف ال�رشفة املفتوحة/تتطلع عرب ال�شارع/لل�شباك ()54
من �سبي ْل/تنتهي بي �إليك وتدخلني ،راغبا ،يف حماك».
اذا كان التاريخ املغلق يف بيت اجلريان/مي�ضي يومان ..يف اليوم الثالث/ فتبدو البنية ال�رصاعية يف الق�صيدة وا�ضحة باالنق�سام بني
يخ�ص النوع ينتبه ال�شباك املغلق/يخرج من جيبه زورق/..يرميه ذات ووجود �شاخ�ص/جم�سد وذات كلية تبحث عن حقيقتها
الب�شري والوجود للنافذة املفتوحة يف بيت اجلريان/لكن الزورق/ي�سقط يف ولكنها غري م�شخ�صة ولكنها باحثة ..فتبدو يل ان هذه الذات
الذي �أحاط بهذا النهر ويغرق ..ت�أكله اال�سماك/…/يف اليوم الرابع /يخرتع تك�شف �سوءات الكائن ال�شاخ�ص ولكن مع كل هذه ال�سوءات
النوع ال�شباك/..طيارة يبعثها للنافذة املفتوحة عرب اال�سالك/.. فان «الدازاين» �أو الذات احلقيقة هي التي تفر�ض وجودها
لكن �..صبيان احلارة/ي�صطادون الطيارة /..فتموت.. (تنتهي بي �إليك وتدخلني راغبا يف حماك) النها هي
وتبقى جثتها يف ال�شارع/..دون حراك/…/يف اليوم املت�سائلة ومن ثم هي التي تدرك كينونتها اوحتاول ذلك.
()58
اخلام�س عند الفجر/..تتعلق بني النافذةاملفتوحة» وتتطور الذات الكلية اىل ذات كليةميتافيزيقية متعالية من
فنلحظ خ�صو�صية زمنه ووعيه الداخلي الذي يجعله جزءا هنا تكون الق�صيدة (امتحان) ال�رصاعية
من ال�شباك بتاريخه وزمنه فاال�سبوع كله انتظار عبثي؛ «ال تكلني ل�سواك�/أنا ما جئتك �إال ألراك�/نت ..كي ت�سمع
أ
فعلى الرغم من احلركة ال�رصاعية املفاج�أة التي جعلت مني ،وترى كم هدّين احلزن/وترى خيب ظني/فيك عمالك
اال�ستعاره تتكرر يف «انتباه ال�شباك/واخرتاع ال�شباك»/ ()55
/حتى مل �أعدْ �أعرف ما ير�ضيك عني».
فان ثمة ا نك�سارا م�أ�ساويا قد حدث ال�سيما ان عبث ولكن املوجود �رسعان ما ميل ويدرك �أن الوجود ما هو اال
االطفال قتل الب�شارة /الطيارة ولكن امل�أ�ساة ا ألكرب هو لعبة م�ضجرة �أما ملاذا هذا ال�ضجر فالن املوجود يتعب من
ما جرى خلف ال�شباك اذ حتولت/زهرة الزنبق/اىل �شوك ا أل�سئلة ،واليجد بدا اال يف احلوار مع الذات املتعالية
73 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف احلقيقة ايجابي جدا النه يك�شف الق�سم الذي ي�ستحق .ويرتك الراوي الت�أمل قائما فهل ان �سيطرة ال�سلطة االبوية
ان ندافع عنه يف االن�سان»( )61وهذا ا ألمر جنده يف هذه اخذت دورها يف حتويل زهرة الزنبق اىل �شوك �أ�سود؟
الق�صيدة ،فهي وان انتهت اىل ال�سلبية ،ولكنها اكدت التمرد وانتزعت الزهرة ،وو�ضع ال�شوك بدال عنها داللة االنتقام،
الدراك كينونة االن�سان املتمرد ولذلك وجدت الق�صيدة وهل اجلانب ا آلخر ترك هذه اللعبة الكربى يف عالقة الرجل
نف�سها تعي�ش �رصاع الرف�ض والنفي والعدم من خالل باملر�أة ؟ اذ من غري املمكن ان ي�ؤول ا آلخر «خلف ال�شباك»
حادثة التاريخ والق�ص�ص الديني واالندماج مع فرادة ذكرا .هذه الثنائية ت�شكل بعدا ت�أمليا عميقا .اذ ان القارىء
ا ألنبياء «متى ميهلنا اجلالد وال�سوط املدمى؟» هذا ال�س�ؤال وال�شاعر يذهب اىل دراك كينونة ال�صدفة وماهيتها فهذا
االزيل �س�ؤال البحث عن الكينونة على الرغم من �سلطة حتول من االمل اىل العدم ولكنه يظل يبحث عن امل�سمى
اجلالد� ،س�ؤال البحث عن ماهية التاريخ .ويظل ال�س�ؤال اجلديد الذي ي�سمح لالن�سان بلملمة �أجزائه او لنقل حماولة
حمريا يف ف�ضاء مغلق: التعرف علىمفردات وجوده فال�شاعر يو�سف اخلال يقول: الرف�ض والتمرد
«ومتى يخجل م�صباح اخلفري /من خمازي العار /ومتى « يف هذا اجلو اخلانق ماذا تفعل؟ تلوي عنقك كالوردة من �صفات
()62
يحت�رض ال�ضوء املقيت /وميوت»/ الذابلة /تت�سقط االخبار من هذه االذاعة وتلك /تتامل يف القوياء التي أ
ولكن الذي ميوت هو االن�سان /ا ملوجود املعذب ويف هذا ال�صحف وتقر� أ ك�أَنك ال تقر� أ �شئيا /تنام لت�صحو على حرير ت�شكل �سمات
املوت ال جند حياة جديدة « كل ما�أعرفه اين اموت /م�ضغة االبواب وحفيف الهواء «على اجلدران» ت�أكل وت�رشب على املوجود أ
ال�صيل
تافهة يف جوف حوت»( )63ألن القوة واجلربوت واملعرفة طرف ل�سانك طعم
لها القدرة على اال ق�صاء ومع ذلك فان االق�صاء �سمح ()59 أ
الرماد /حتامق وك�نك الت�سمع» الذي ال يقبل
لل�شاعر �أن يغور يف �أعماق ذاته فتنثال احلكمة امل�أ�ساوية التي تعلن ا�ستقالة االن�سان ال�سيطرة
« متى يحت�رض ال�ضوء املقيت ألنه لي�س �ضوءا متقدا قادرا ومتنعه عن ال�س�ؤال مبعنى تاريخي كما كان احلال عند والتهمي�ش
على تبديد الظلمة ال�شاملة فهو يعلم يقينا انه يف جوف ادوني�س يقول يو�سف اخلال« :فمن ا�صول اللعبة ان تقول والق�صاء.فهناك إ
()64
احلوت يف جو جحيمي ال�سعري» نعم اوال .فتبقى كاحلاجز املتنقل ال تعرف بو�صفه اال اذا القوياء دائما أ
وي�ضيف د.اح�سان عبا�س « انه مهما يبلغ االن�سان من �شئت وانت طبعا ال ت�شاء ألن امل�شيئة عبء وانت بطل ال وال�ضعفاء واذا
تطور فالبد ان يظل ال�رصاع م�ستمرا بني زمن تاريخي كاالبطال فال تريد ان حتمله بالعر�ض وال بالطول»()60هذا ر�ضي االن�سان
()65
واقعي وزمن ال نهائي ي�سمى اخللود». االلغاء من جهة والطاعة من جهة اخرى اعالن على ب�ضعفه ا�صبح
ويبدو يل ان خلق دائرة االمل يف هذه الق�صيدة يعتمد على رف�ض هذا اال�سلوب احلياتي واالمالء لف�ضاءات املكان فهو �سلعة أ
للقوياء
التمرد ازاء العدم بو�صفه –هنا -فعال �سلبياوتعود هذه يرف�ض الكينونة التي تفر�ض وجودها النه يريد ان يعي�ش
أ
وال�شرار
الر ؤ�ية عند خليل حاوي اىل ر ؤ�ية دينية يقينية ،وحينما ال�سريورة والت�شكل ،ويف هذا االطار تت�شكل �سمة وجدناها
يريد ان ت�ستمر دائرة ال�ضوء ينطلق من ر ؤ�ية دينية اي�ضا عند ادوني�س اي�ضا وهي اليقينية التي ت�شبه احلكمة،
()66
ليقف عند لعازرالذي يظل خالدا وهو خلود ديني والنها يقينية خا�صة فانها تنفتح على ا آلخر عند يو�سف
ان اجلدل وجتربة العدم عند حاوي تنه�ض على التاريخ اخلال املهتم بالق�صيدة الوظيفة /االطروحة ،ومن ثم هي
واال�سطورة كونهما م�صدرا حلقيقية النور ومتطلباته �رصاعية بني ا ألنا/ا ألنا عند ادوني�س وا ألنا /ا آلخر عند
اال�سا�سية لر ؤ�ية ينابيع التكوين واذا كان �إ�سقاط التاريخ اخلال بر� ؤيته الوظيفية.
وتهمي�شه من �سمات احلداثة على نحو عام وابعاده عن �أما خليل حاوي فانه يكت�شف كينونته يف التاريخ والرحلة
ت�شميل ر ؤ�ية احلا�رض وامل�ستقبل فان �أدوني�س واخلال على النحو ميثل التفرد الذي يقوم على االبداع ال�شعري
وحاوي وهم ي�ستوعبون نور التاريخ و�إيجابياته و�سلبياته الذي يدرك ابعاد املا�ساة الكربى للفرد .ففي ق�صيدته/
امنا يعملون على ت�شتيت ال�صورة واحلدث التاريخي اىل يف جوف احلوت /يجد ال�شاعر نف�سه بني اجلالد وال�سوط.
مفردات وجدانية و�شخ�صية لتكون متثيال للوجود من جهة، يرويها بق�صة ق�صرية جدا/ميكرو حكاية/ولكنها ت�ستوعب
وللوجود الفردي من جهة �أخرى؛ وهذا ما يتناوله �سامي جدل الوجود كله ،االذعان والتمرد فق�صة نبي اهلل يون�س /
مهدي الذي يقول: ع /تعد جزءا من جتربة االن�سان وكينونته امام اليقني من
« ك ّل �شيء له حني ن�صغي رنني جهة ،وال�شك والتمرد من جهة �أخرى ازاء القدرة العليا «ان
هذه الباب التمرد الذي يبدو �سلبيا يف الظاهر ألنه ال يخلق �شيئا هو
74 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
كينونة املوجود الذي يندمج مع ا آلخر من خالل مفهوم هذا اجلدار
/التجاوز /لالنطالق اىل عهد جديد يف التكوين. ذلك الرجل املتعرث يف خطوه
« اوقفني عند (عقد الن�صارى) املحقق.. والدم املتقطر من منكبيه
كنت اقول له. وما يف ر�أ�سه من دوار
-وطني … و�صباه..
في�شتمني.. وتلك التي انتظرته طويال
فا�رصخ. ثم تلك
-باخللد عنه.. اقتطفته على غفلة منه
وي�رضبني… وا�ست�أثرت ب�شذاه
فاهتف. ومبن �أجنبت من بنني.
-بال�سجن.. كل �شيء له حني ن�صغي رنني
()69
�صاح –خذوه اىل ال�سجن» وهو ا آلن بعد انق�ضاء ال�سنني
فهذا التلميذ الذي حتول بفعل املعلم اىل �سجني ،يوا�صل مثل كلب عجوز
ح�ضوره لي�شكل ذاتا لتجاوز نف�سه اىل حب ا آلخرين ويربط ينحونه عن جمال�سهم فيويل بعيدا ّ
م�صريه مع ا آلخرين باختيار حر ويقعي على معزل يف الطوار..
« حني قال املعلم (قم) ..وهواخلط�أ االول املتكرر يف كل حني
ربت االر�ض والرنني الذي حني �أ�صغي �إليه
وانتزعت من عراها الوثاق. ()67
بدا كا ألنني».
حني قال املعلم ( قم) واجد ان هناك مفردات عند �شعراء احلداثة العرب ت�شحن
قام الطفل بكل �صور الفرادة لتعرب عن الكينونةوالوجود كله وك�أنها
()70
وخط على اللوح (عا�ش العراق») تلخ�ص هذا الوجود ولهذا ت�أخذ الكلمة يف الق�صيدة احلداثية
فكانت القوة واملعرفة جزءا مهما من تكوين املوجود ا�ستقاللهاالوجودي ،فكانت مفردة /املعلم /يف ق�صيدة
بفرادته والتفاعل مع الوجود من خالل الكلمة التي متثل يو�سف ال�صائغ قد عربت عن هذا الوجود..
الوجود كله لهذا كانت الكلمتان /رف�ضت وانف�صلت /عند « كان �صوت املعلم ي�سبقنا.
ادوني�س ا�ستمرارا الثر املعلم يف تكوين الذات وطريقة -وطني لو �شغلت ..
للتمرد فكلمة /املعلم—التلميذ/ادت اىل ان تكون رحلة ونحن نردد
ك�شف للذات من خالل اخلروج والتفاعل مع م�سميات -باخللد عنه..
جديدة وعامل جديد و�شامل /مثل املاء والهواء./ في�صغي الينا ..
« ودعني جربيل وقال ( حدَ ث مبا رايت) ومي�سح دمعته ،بارتباك،
()71
واختفى الرباق» فن�ضحك..
ثم يقول «..رف�ضت وانف�صلت اهلل…
النني اريد و�صال �آخر وقبوال �آخرمثل-املاء والهواء/يبتكر يبكي…ون�ضحك..
االن�سان وال�سماء/يغري اللحمة وال�سداه والتلوين/ك�أنه حتى ي�ضيق بنا ..فيهم�س
()72
يدخل من جديد/يف �سفر الن�ش�أة والتكوين» -ما بالكم ت�ضحكون ..
هذا الرف�ض والتمرد من �صفات االقوياء التي ت�شكل �سمات �أيها اال�شقياء ال�صغار..
املوجود اال�صيل الذي ال يقبل ال�سيطرة والتهمي�ش وا إلق�صاء. �سي�أتي زمان..
فهناك دائما ا ألقوياء وال�ضعفاء واذا ر�ضي االن�سان ب�ضعفه وا�شغل عنه..
للقوياء وا أل�رشار يقول نيت�شه:ا�صبح �سلعة أ ()68
وانتم �ستبكون»..
«هناك اقوياء و�ضعفاء م�سيطرون وم�سيطر عليهم طيور هذه الكلمة /املعلم/ت�أخذ م�ساحة الزمن /خا�صتي /كله
كا�رسة وحمالن بينهم �صالت مادية غاب عنها ك َل عن�رص فهي التي �أنبتت اجلراح واالمل والقلق والت�أمل لت�شكل
75 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال�سابقة على الرغم من تلك الرحالت �شكلت/اختبارا �أخالقي وهي �صالت احلياة ذاتها وهناك �صالت بني
تر�شيحيا/و�صل من خاللها اىل املعرفة والقوة يف ا ألنواع»( )73وقد و�صف �رسكون بول�ص �سريورة الفعل الذي
رف�ض الوجود القدمي والبحث عن �سريورة جديدة فيدرك ي�ؤرخ ت�أريخ ا ألقوياء وال�ضعفاء ولي�صور من خالله ت�أريخ
هذه ال�سريورة بالب�شارة التي يعلن عن متكنه من معرفة الكينونة يف ق�صيدته /يف تلك االيام/
تبا�رشيهااالوىل.. «يف تلك االيام وهم يحملون العاريات على املحفات/كانوا
«عدت اليكم �شاعرا يف فمه الب�شارة/يقول ما يقول/ يجرفون العبيد بال�شباك من االنهار ليال وحتت/غطاء من
بفطرة حت�س مايف رحم الف�صل /تراه قبل ان يولد يف اال�رسار /…/الطاعة حتت يد ال تق�سط منها/ك�أ�س الرمل
الف�صول»()78وهكذا يبحث نامق عبد ذيب عن هذه الب�شارة ()74
�إال غ�صبا .وهي مبتورة»
ال لكي يهيمن على العامل املوجود من خالل املعرفة ،ولكن أ
ال�شك يف ان الرف�ض والتمرد على امل�لوف ال تكون رغبة
لكي يعرف عامله الذي يعي�شه ولهذا يعمل على /تفريد/ وامنا لذة تتحقق من خالل االرادة لتحقيق الكينونة؛ ولهذا
وبعرثة /العامل لكي يعرف نف�سه فنجد الق�صيدة عنده رف�ض يو�سف اخلال ا إلذعان للعامل بل وبدت دعوته انعزاال
تتحاور مع مفردات حميطه الذي يراها هو ورمبا ال يراها يف جربوته وقوته..
ا آلخرون.. «�أيها ال�شعراء ابتعدوا عني ال ترثوا احدا غلبه املوت /فماذا
«ال�صقا باحلدائق /اخ�رضها يعرتيني/..اخ�رضها اال�سود ينفع الرثاء؟ الرثاء لل�صعاليك ونحن جبابرة .والرثاء للب�رش
باحتماالته/رمبا ينزف الورد يف �شفتي �ضبابه/رمبا ادخن ونحن �آلهة /فابتعدوا عني ايها ال�شعراء واحنوا رقابكم.
امراة ال تراين/رمبا يقفز فر�س الن ِبي بالنبي /ويرتكني اعد ال تنطقوا يف ح�رضة املوت اجلاثم/للملك �صوجلانه
�شعر�أ�صابعي/ورمبا احمِل عربتي بالق�صائد/..هكذا اغني وللراعي ع�صاه ولنا نحن/اجلبابرة قو�س قزح عرب الف�ضاء
()79
له/..هكذا ال يراين» الغائم…/فابتعدوا عني وارحلوا اىل بالد ال قمر فيها/
6ـ.ت�ستمر جتربة �إدراك الكينونة عند ال�شاعر العربي من ()75
نك�سوا �أعالمكم يف القوامي�س واغلقوا ابواب كلماتكم»
خالل وعي العدم بو�صفه فر�صة االن�سان الوحيدة بعد ان اما خليل حاوي في�أخذ تاريخ الفن ال التاريخ ال�سيا�سي
تدحرج من مركز الفعل والقرار اىل الهام�ش يف عامل االلة الر�سمي ليتعرف على �شخ�صية ال�سندباد يف رحلته الثامنة
والتكنولوجيا؛ وبدا االن�سان يف هذا العامل حما�رصا بالعبث ولكي يخو�ض يف ذاته ،وكينونته-وهو يقول« :كان يف
من اخلارج ،مما جعله يبحث عن اخلال�ص يف ذاته ولذاته نيته اال ينزعج عن جمل�سه يف بغداد بعد رحلته ال�سابقة غري
بانعزال عجيب فحاول ان يعرف مفردات الوجود التي كان انه �سمع ذات يوم عن بحارة غامروا يف دنيا مل يعرفها من
ي�ؤمن بها؛ و �شكلت كينونته املهزومة ،وملا كانت الهزمية قبل فكان ان ع�صف به احلنني اىل االبحار مرة ثامنة .ومما
االن�سانية /ازمة اخلط االن�ساين /كبرية .بد� أ االن�سان ي�شكك يحكي عن ال�سندباد يف رحلته هذه انه راح يبحر يف دنيا
مبفردات الوجود تلك وبالقيم امليتافزيقية العليا التي ذاته فكان يقع هنا وهناك على اكدا�س من االمتعة العتيقة
قادته اىل الهزمية من خالل رمز الدروي�ش.. واملفاهيم الرثة .رمى بها جميعا يف البحر ومل ي�أ�سف
«وبكوخي ي�سرتيح الت�ؤامان/..الرب والدهر ال�سحيق…/ على خ�سارة .تعرى حتى بلغ بالعري اىل جوهرفطرته .ثم
وارى ماذا ارى؟/موتا رمادا وحريق…!( )80فالدروي�ش عاد يحمل الينا كنزا ال �شبيه له الكنوز التي اقت�ضتها يف
()81
يرمز اىل «مايف ذاته من عراقة وثبات وحكمة فطرية» رحالته ال�سالفة .والق�صيدة ر�صيد ملا عاناه عرب الزمن يف
ويف اطار هذا الرف�ض والتخلي عن املثل االعلى تنت�رص نهو�ضه من دهاليز ذاته اىل ان عاين ا�رشاقة االنبعاث ومت
�صورة العدمي املكتمل الذي يعي ا َن العدم فر�صته الوحيدة له اليقني»( )76ومابني و�صفه لرحلته ،وتو�صيفه لظواهرها،
امام حما�رصة اجلربوت يقول ال�شاعر جان دمو: واالماكن التي مرَبها وما موجود فيها وعالقتها بالوجود
«مهما �أمعنت يف الت�أمل/فلن يواجهك �سوى فراغ /ال هو والطبيعة فانه يتعرى ويبحث عن التجاوز الذي يهدف اىل
باملخيف وال باجلميل/انه العماء الذي نتج منه الكون / ر�سم حدود الوجود..
ودومنا ان تعلم /قد يقودك اىل جنات او جحائم/مل تخطر «وفورت من عتمتي مناره� /أعاين الوباء التي ت�رصعني َ
ببالك يوما /االحرى الت�سليم باالمر /حتى ال نذهب �ضحايا حينا/فابكي /كيف ال اقوى على الب�شارة ؟�/شهران طال
للدينا�صورات /املحيط بنا ليل نهار /او الذين يجعلونك جتفل ()77
/جفت �شفتي/متى متى ت�سعفني العبارة؟» ال�صمت َ
�صباحا/وانت امام قهوة ال�صباح/طارحني امامك مفاتيح ثم يرف�ض معرفته ال�سابقة من خالل رف�ض كل الرحالت
76 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s العامل ال�صدئة كلها»
()86 ()82
�إرادة = ابداع»
ومن ثم فان العودة الدائمة ،هي تدمري للنق�ص والقوى أ
من هنا ي�سعى املوجود/الكائن اىل ت�ثيث ذاته بو�صفها
االرتكا�سية ال�ضعيفة ،وتدمري للعدم كذلك ،فهي �سريورة لغزا يحاول ان يكت�شفه وي�صوره امام القارىء لكي ي�شارك
انبناء جديدة وم�ستمرة اذ ال يتوقف الكمال واالنبناء عند ا آلخر يف ادراك الكينونة من خالل /االهتمام-واالن�شغال/
حدّ ،لذلك يبدو املوت ماثال يف التدمري الكامل وهذا التدمري با آلخر .وهذا االهتمام اليعني ان ا آلخر /هناك/خارج عنا
يحمل بعدا ايجابيا فاعال. وال «هو و�سيلة ال�شباع ما يجاوز ذاته»( )83امنا هو اندماج،
ان النفي الفاعل والتدمري الفاعل؛ هو و�ضع االرواح القوية وا�سقاط .والتكون هذه احلالة اال يف ق�ضية حميمية
التي تدمر االرتكا�سي يف ذاتها؛ خم�ضعة اياهاالمتحان الكت�شاف منا�صفة الروح والذات مع ا آلخر فلكي ي�شكل،
العودة الدائمة وخم�ضعة ذاتها لهذا االمتحان مع احتمال ويبني على هذا االكت�شاف؛ تنهال عليه االريحية يف �س�ؤال
ان يراد افولها «..ان و�ضع االرواح القوية واالرادات القوية امل�شاركة
ال ميكنها ان تكتفي بحكم ناف فالنفي الفاعل يرتبط «تعايل انا رائح حيث ر�أ�س االبرة/احفر فيه مكانا ي�سع
ت�ستمر جتربة بطبيعتها العميقة …هذه هي الطريقة الوحيدة التي غابة/والغابة ت�سع كوكبا والكوكب ال ي�سع را�سي/هناك
�إدراك الكينونة
()87
ت�صبح بها القوى االرتكا�سية قوى فاعلة» حيث ال احد يتكلم اال الورد معلنا زمن االريج�/..أخذتك/
وهنا تظهر املعرفة لردم ثغرة النق�ص يف الوجود واملوجود ()84
�أخذتك مني الو�صل دمي اىل قلبي…»
عند ال�شاعر وال يقوم هذا االمر اال على ا�سا�س النفي واالثبات وبهذه ان العدمية ترتبط باالن�سان االعلى؛ املتفوق الذي يحاول
العربي من خالل اال�شكالية مثلت ق�صيدة خليل حاوي الر ؤ�ية العدمية يتمثله فهذا االن�سان /املوجود - /ال�سوبرمان- ال�شاعر ان ّ
وعي العدم فق�صيدته «يف جوف احلوت» ج�سدت املعاناة يف مواجهة ميركز ذاته ويظهر يف وعيه ب�ؤرة للثقافة؛ ون�شاطه النوعي
بو�صفه فر�صة العزلة ،فهو يحاول ان يتجاوز عتمة املجهول ..فهو «خيال ومن ابرز جتلياته العراف ممثل العدمية ال�سلبية (نبي �آخر
االن�سان الوحيدة يتحدى /عتمة املجهول وال�رس الكبري»( )88ولكنه يظل العاملني) وهو يبحث عن بحر ي�رشب منه؛ وال�ساحر وهو
بعد �أن تدحرج خياال ،وتوهما مع وجود الرغبة لالنطالق ،ولكن اجلربوت ا إلح�سا�س باخلط�أ «مزورالعملة وماحي الذنوب» «�شيطان
من مركز الفعل والقوة-كما قلنا �سابقا -جتعله «م�ضغة تافهة» وهكذا الك�آبة» ثم اقبح العاملني الذي ميثل العدمية االرتكا�سية
والقراراىلالهام�ش تت�صارع قوى التحدي ( االنا) والقوى العليا (ا آلخر) اما امللكان فهما التقاليد؛ واخالقية هذه التقاليد و«البابا
يف عامل آ
اللة « اترى هل جن ح�سي فانطوى الرعب /ترى عاد ال�صدى االخري» و«املت�سول» الذي اجتاز كل النوع الب�رشي من
عاد الدوار؟من ترى زحزح ()85
االغنياء اىل الفقراء.واخريا ( الظل)
والتكنولوجيا ()89
ليل ال�سجن عن �صدري /وكابو�س اجلدار؟» من هنا � أجد ان ال�شاعر الذي يتلب�س هذه التجليات
فهذه ال�صور التي ت�شكل الوجود ال�صناعي /االيل �شغلت لـ«لالن�سان االعلى» ال يعني انه توقف عن البحث؛
املوجود والوجود برمته ودمرته بال�سجن والت�صنيع امنا يعي ان هذه التجليات تفر�ض عليه البحث عن
واالحباط ومن خالل ا�ستيعاب جدل الوجود املحيط به، الكينونة و�إدراك ازمة الوجود االن�ساين امام هذا اجلربوت
والظهار مركزية الذات يحاول ان يقر� أ ذاته؛ قراءة حنينية- العاملي الذي يبدو وك�أنه ميثل املتعايل وفيه �سمات
ترميمية بيانا ل إلرادة ،والتجربة وربطها بالوعي املتكرر، امليتافيزيقيا املعا�رصة ولهذا يجد ال�شاعر نف�سه مطالبا
والدراك حكاية االن�سان مع جتربته منذ وجوده االول.ويف بردم نواق�ص الكينونة غري املكتملة يف التجربة الوجودية
هذا يتجه ال�شاعر العربي يف اجتاهني االول ايجابي وا آلخر لعالقتهابالعودة الدائمة او االبدية اذ ت� ؤكد هذه العودة ان
�سلبي االول بحث يف �سريورة االكتمال واالنطالق من � أي فعل ان�ساين �إمنا هو تكرار اال ان هذا التكرار امنا هو
جديد؛ وا آلخر بحث يف �سريورة التكوين ولكن تنتهي اىل انتقاء «ان ك�سال يريد عودته الدائمة ال يعود الك�سل نف�سه؛
العبث ومنها اىل احلكمة ،فاالن�سان اليت�شبث بالتذكر وامنا �إن حماقة ،حقارة ،جبانة ،خباثة تريد عودتها الدائمة ،ال
يلج�أ اىل الن�سيان .ففي ق�صيدة فا�ضل العزاوي(�ضياع) تعود احلماقة نف�سها ،احلقارة نف�سها ..فلرن ب�شكل اف�ضل
جند الذات مركزا ال يقبل املهادنة «ماذا تفعل يف هذا كيف تقوم العودة الدائمة هنا باالنتقاء �.إن فكر العودة
الليل املظلم ياعبداهلل؟�-/أ�شعل كربيتا-/هل تبحث عن الدائمة هو الذي ينتقي يجعل من االرادة �شيئا ما كامال�.إن
�شيء؟-/ابحث عن نف�سي� /سقطت مني يف الظلمة حيث فكرة العودة الدائمة يزيل من االرادة كل ما ي�سقط خارج
تراين- /هيا انه�ض يا عبداهلل /كل ثقاب العامل ال يكفي / العودة الدائمة ،يجعل من االرادة �إبداعا ،يحقق املعادلة
77 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املحرمات من اخلط�أ االول الذي ارتكبه االن�سان اىل الرغبة لت�ضيء ظالم الليل اىل نف�سك»
()90
التي احتكرها العابثون؛ وترك العقالء ليعقلونها بركام �إزاء هذه الرغبة يبد� أ املوجود البحث عن مفردات الوجود
العرف واملثل العليا؛ والقوانني فرادة �سامي مهدي ال تدرك التي تتمثل يف احلرية واالنعتاق هذه املفردات تت�صارع
يف �شعره فح�سب وامنا يف م�أ�س�آة الوجود كله �رصاع الوعي بني /االنا-االنا /و/االنا -ا آلخر /او /انا-هو /و/انا-
احلر العظيم مع القيد املقيت الذي يقتل االنبياء وال�رشفاء انت /ويف اطار البحث عن املفردات التي ت�شكل الذات و
«خط�أ ك َل هذا الطراد التذكر يحاول ال�شاعر معرفة احلقيقة عرب الوجود واملوجود
خط�أ كل هذا العناد كله مبا متثله من ما�س�آة هائلة يف ق�صيدة �سامي مهدي
خط�أ (االباء والبنون) فهي مرثية االن�سان ازاء وجوده كله .
خط�أ «مل تعد يف البيوت لنا غرف او متاع.
ك ُل تلك الرقي وال �صور يف جدار .
خط�أ كل تلك املهاد وروائحنا بدلت ب�سواها
خط�أ عمره نحو �سبعة �الف عام من االنقياد
آ و�أطيافنا زجرت
خط�أ كل بيني وبيني وا�ستخف ال�صغار
()92
وقنعته بالرماد» بنا ،وب�أ�شكالنا
ولهذا يفح�ص كل التجربة االن�سانية يفح�ص التكوين االول ثم القوا ب�أ�شيائنا يف القمامة
يكت�شف م�أ�س�آته بطريقة جديدة ال متتثل للعرف ،وال لل�سائد، قبل انق�ضاء النهار .
وال مليتافيزيقيا الر ؤ�ى واالفكار وامنا تتمثل هذه التجربة وها نحن يف احلفر ال�سود �رصعى
االن�سانية يف ذات ال�شاعر وروحه ،لهذا جاء فح�صه لتجربة و�أرواحنا تتخبط يف ظلمات ال�شوارع
التكوين عجيبة عرب مفردات ب�سيطة وعميقة يف االن عينه. ال م�ستقر لها يف مكان
« ذلك الفتق لو مل يكن ال�ستقام ال�سبيل ولي�س لها وجهة للفرار.
وال كان ثمة �صدع ورجع اترانا فعلنا كما يفعلون ؟
وال قاتل وقتيل اترانا قتلنا كما يقتلون ؟
وال بلبلت االل�سن يف البالد منذ �سبعة االف عام ودائرة القتل دوارة
وال انت�رش اخللق يف كل فج والبنون
و�ضل العباد يفتكون ب�آبائهم مرة بعد اخرى
وذلك الفتق كان البداية يف كل خطب جليل و�آبا ؤ�هم ميحون
�أهو اخلط�أ االول االزيل، �أهو �إرث فيورث؟
()93
�أم اخلطر العبقري اجلميل؟!» �أم لعبة ؟
�إن اخلط�أ االول هو الذي حول التجربة الوجودية اىل ()91
�أم جنون؟»
امل�أ�س�آة تتعلم فيها الب�رشية حجة الوعي وحجة القوة ازاء فاذا كان ابلي�س علم الكينونة الوجودية التمرد فان
االخطاء التي تقود اىل فعل الكينونة ،الن هذا اخلط�أ االول �سامي مهدي علم وعرف الكينونة ما�س�آة البديهيات؛
/يف املثيولوجيا/هو الذي جعل املوجود يعي�ش جتربته وعرفها ب�أ�شكال هذه البديهيات و�صور امل�آ�سي فيها ،فلم
على االر�ض؛ و�شكل عالقته بالوجود لتبد� أ �سريورة التكوين تعد الذاكرة يف االبناء ،وال اخللود فيهم وال يف ال�صور
.وهذا اخلط�أ هو الذي قاد اىل احلزن واخلوف من اخلط�أ
فالبديهيات عدمية ال جدوى منها ولكنها تدعو اىل ايجاد
ولكنه هو الذي �سيرَ الوجود اىل االكتمال كينونة االن�سان -املوجود املفرد ال�شغال حياته بكل
« اخائف انت ؟
رغباته .فهذا ال�شعر العظيم ال يتفرد يف ادراك الكينونة
اذن تعال
بالعام وامنا يدركها عرب مفردات بديهية نراها يوميا،
نحول اخلوف اىل ال�س�ؤال
وال نلتفت اليهاوان التفتنا اليها فال ن�ضع وعينا عليها
ونبد� أ البحث عن اجلواب
فهو /ال�شاعر /ي�سمح �أو يرفع ال وعيه ب�إرادته ليرتك لها
املادة كاملة مبوقع املجلة)www.nizwa.com( : حرية هائلة يف االت�ساع ،لتقول كل �شيء من املقد�س اىل
78 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s
ملاذا قابلنا ال�شاعر بعتبة الدمع والتمرد و� أ�سطورة ال�سجن والتعذيب ثم ال�صلب ،مثلما عا�ش متعة
الويل الزنديق ؟ الطوا�سني ،والتجربة الروحية.
[
بتحوالت ؟
ّ وهل تتميز هذه الدموع ولعل وعيه الثقايف الذي عدّ زائفا هو الذي � أدى به
كيف نبني املعنى املبعرث يف الق�صيدة ؟ �إىل التهلكة يف زمانه.
كيف نلملم �شظايا � آهات ال�شاعر املتزندق يهمنا يف هذا املقام ،هو �صياغة العنوان.والذي ّ
املت�صوف؟ فلماذا جاء العنوان بهذه ال�صيغة بالذات؟ «دموع
كيف ن�سرتق املعنى من هذه املتاهة الن�صية؟ احلالّج» ،وهل ا�شتهر احلالّج بالبكاء؟؟
كل هذه ا أل�سئلة وغريها �سيجيب عليها املنت. و�إذا بكى احلالّج يف خلوته رهبة ورغبة � ،أو �إذا
-2في�ض التلقي و�شعرية املنت: دخل ا أل�سواق ين�صح النا�س ،ف� إ ّنه مل يبك عندما
تت�ألف الق�صيدة من اثني ع�رش مقطعا، قوة �صموده، ُق ّطعت � أطرا ُفه قبل �صلبه ،مما يدل على ّ
تتوزع على الفواحت الن�صية التالية: فالبكاء يف هذا املوقف يعد �ضعفا ،واحلالج كان
� -1أعليت دموعي جريئا متيقنا من �صحة ما يقول ،وعلى الرغم من
كي تب�رصها يا � أاهلل لفظ املجتمع له ،وت�صنيفه يف خانة الزنادقة�.إال
. . . . . . . . . . . . . . . .. � أنه كان ناقما على جمتمعه ومتمردا على الطريقة
حج �إىل �سكني حج ويل ّ -2للنا�س ّ و�سمه بالفرادة واحلرية يف ال�صوفية ،وهذا العدول َ
تهدى ا أل�ضاحي و� أهدي مهجتي ودمي» الفكر واملنطق وال�سلوك.
................. فعدّت م�أ�ساته وقتله بتلك الطريقة الب�شعة � ،أ�سطورة:
� -3أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها الويل /الزنديق .
و� أ�سلت بكائي يف الق�صب ثم ملاذا ا�ستح�رض ال�شاعر احلالج دون غريه من
................. املت�صوفة؟ هل هناك �شبيه مل�أ�ساته يف الزمن
� -4أنا �إمام الطوا�سني الراهن؟
وحالّج الزمن الغابر تفي�ض دموع احلالّج من هناك ،من ا ألقا�صي
................. بوابة الزمن الغابر ،وتتدفق طوفانا البعيدة ،من ّ
� -5صليت ببغداد �صالة الدم يغمر الزمن الراهن بغية تطهريه من م� آ�سيه و� أحزانه،
ونرثت بغزة � أوجاعي لعلها النقمة على تناق�ضات الواقع ،والتمرد على
................. �سلطة ا ألعراف الدينية املتطرفة هي التي ابتعثت
-6على �سكة احلديد التي ت�صل احلجاز بفل�سطني حالّج الزمن الغابر.
� أم�شي غري عابىء بالقطار الذي ميرّ �رسيعا احلالج من
َ ي�ستنه�ض «حممد علي �شم�س الدين»ُ
وي�سحقني تخوم ال�صمت �إىل تخوم ال�صحو نحو العوامل
................. املقدّ�سة ،فتتحرّر كثافة مادته اللغوية لتك�شف عن
-7يارب �ضبي م�شى يف التيه مرحتال ال�صويف القابع يف ذاته.
� ألفا وعامني مل يربح على عجل فعندما يجتمع حالج الزمن الغابر بحالّج الزمن
................. الراهن ،ترقى الكلمة وت�صدح �ضد قوى ال�رشّ ،عندما
-8كم دمعة فيك يل ما كنت � أجريها يتمرد التمرد ذاته على قيم التمرد ،تتجلى احلقائق،
وليلة � أفنى فيك � أفنيها» وتولد الرغبة يف املجا بهة
................. يلب�س ال�شاعر بردة احلالّج ليبوح مبكنونات الواقع
-9و� أخريا وجدتك � أيتها ال�شم�س يف � أعايل � أريحا املتع ّفن ،وا�ضعا نف�سه على م�شارف ا إللهي وتخوم
تدورين خائفة على ا أل�سوار. احلرّية ،رافعا وجهه �إىل ال�سماء يبكي امل� آ�سي ،فماذا
................. تقول دموع احلالّج املعا�رص؟
81 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
كونها تفرغ القدمي من حمتواه وت�شحنه بدالالت -10يا غوث �شم�س غياث اهلل غيثني
جديدة ومتفردة. � أنا ال�ضعيف ك�أعناق الرياحني.
�إذ كيف يرتقي الدمع �إىل ال�سماء ويخرق منطق .................
اجلاذبية؟؟ -11ولكن
أ
وكيف ُتعاد المطار �إىل اهلل؟؟ ها �إن � أقحوانة الدم تزهر يف قمي�صك يا» من�صور»
وما املق�صود بالغوث واحلزن ؟؟ و�إبرة املوت العميقة
ال�شك يف � أن ال�شاعر ي�ستنه�ض الغائب �/شطحات .................
احلالج ،ليكتب ال�شاهد/حا�رض الق�صيدة .وي�سل�سل -12كادت �رسائر �رسي � أن تبوح به
حلقات تراكم ا ألمل عرب الزمان واملكان لي�سيّج به ي�سميه».
وكاد خويف عليه ال ّ
�إيقاع اجل�سد الراهن .وانطالقا من مقولة مري�سيا لعل الق�صيدة يف حدّ ذاتها قطرات بكاء مكتوم،
الياد ف�إن العا�شق واملجنون وال�شاعر وحدهم ي�ستعيد بها ال�شاعر الطق�س اجلنائزي للحالج
ميلكون خياال كامال ،ولعل املت�صوف يندرج يف امل�صلوب ،ليقارن بينه وبني الكالم امل�صلوب
خانة العا�شق للذات ا إللهية . واحلقيقة امل�صلوبة يف زخم الواقع � ،أو رمبا هي �إلهام
يتبدى ال�شاعر وليا مت�أملا يف �سياق رمزية تر�شح م�ستمد من «حكمة الليل التي تدير وجه �صاحبها
بطقو�س املوت والت�ضحية ،و�إذا انطلقنا من «احلزن» عن �صحو النهار ومنطق ال�شم�س ،هي انف�صال عن
باملعنى ال�صويف وهو حالة من حاالت املت�صوفة الواقع اليومي و�إيغال يف عوامل الباطن حيث يخفت
و»الغوث «� أعلى درجة من مقامات الت�صوف ف�إن تدريجيا �إيقاع الزمن ا ألر�ضي»()1
ال�شاعر يف هذا ال�سياق حاول � أن يحقق متازجا بني وعندما يخفت هذا الزمن تتعالق امللفوظات بالزمن
البعدين ،فيغدو امل�صطلحان احلزن/الغوث مولدا وربه ،وتبدو
ال�رسمدي ،فتتك�سرّ احلواجز بني العبد ّ
دالليا و�إيقاعيا ،ومعربا بني الذات ال�شاعرة وا إلله، وك�أنها هذيان �صويف وجنون ،وهو � أف�ضل دليل على
والذات وعاملها ،والذات وذاكرتها ،فيمتزج الكيان � أ�صل اجلنون املقدّ�س الذي يعانيه � أ�صحابه اجنذابا
الناطق بالطبيعة وي�ستحيل �سحابة ت�أتي بالغيث كي نحو قوة داخلية علوية يف � آن معا( )2فتتخلّق احلكمة
فيتحول الدمع املعبرّ عنه يف
ّ حتيي ا ألر�ض اليباب، من ال�شعر يف زمن اختالط احلقيقة بالواقع. ،
مفتتح الق�صيدة �إىل رمز للخ�صب والنماء بدل رمزه يقول ال�شاعر:
للحزن والقهر وا ألمل ،ويغدو احلزن موقفا من العامل � أعليت دموعي
حني يفقد العامل بريقه ويت�شح بال�سواد ،ويتحول �إىل كي تب�رصها يا � أاهلل
غيمة ت�ضلل � أفق ال�سماء ،في�شاكل ال�شاعر بحلوله وقلت � أعيد لك ا ألمطار
وامتزاجه بالطبيعة احلالج بحلوله يف الذات ا إللهية فلتن�رش غيمك حيث ت�شاء
يف املنطق ال�صويف ،ولعل الدمع الذي يعتلي ال�سماء ف� إ ّن الغوث يعود �إليك
ال جند له منطقا �إال �إذا ت�شاكل مع البحر يف البنية يل.واحلزن يعود � إ ّ
العميقة كون البحر �سائال ماحلا يتبخر بفعل حرارة ال تتحقق الكتابة �إال �إذا ا�ستبطنت �إمكانية القراءة،
ال�شم�س فيعتلي ا ألفق ويتحول �إىل �سحابة ممطرة، ولعل الن�ص ال�شعري الذي بني � أيدينا ا�ستمدّ �رشعيته
من هذا املنطلق ن�ستطيع � أن نبني من الالمنطق من منظومة �صوفية ،ف�إذا ارتقى املت�صوفة بالرمز
منطقا ،ونقب�ض على معاين لعل � أبرزها يف هذا �إىل م�ستوى امل�صطلح ،ف�إن ال�شاعر ارتقى بالق�صيدة
ال�سياق: رهن�إىل م�ستوى الرمز املجازي اخلا�ص ؛ ألنه ّ
الدمع..........البحر............املطر امل�صطلح ال�صويف ،و مار�س انحرافا داخله وعاد
احلزن.........ال�سحاب.........ا ألمل به من منبعه الروحاين ،ا ألمر الذي جعله ينتقل
الغوث.........الغيمة............الغيث من احلكمة وجماهدة الباطن �إىل احلكمة ال�شعرية
الدمع والبحر واملطر �سوائل حتيل على املاء وهو وجماهدة الواقع ،وهنا بال�ضبط تكمن �شعرية اللغة،
82 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
فهذا االنزياح جعل احلوا�س تنوب عن بع�ضها ،بل طق�س عبور ومبد� أ ا أل�شياء .
�إن الدمع احلقيقي ال يكتمل �إال �إذا اقرتن بال�صوت، واحلزن وال�سحاب والغيمة حتيل على الظلمة التي
وال�سمع ال يكتمل �إال بالب�رص ،وهذا التكامل املعنوي يعقبها انفراج ف�إن ال�شاعر يخلق من الظلمة النور،
هو الذي يعطي لل�شاعر �رشعية البوح من خالل ما ومن القحط دمعا وبحرا ومطرا باحثا عن ا ألمل
يرى وي�سمع عما يب�رصه يف الآفاق. يف التجدد واالنبعاث � ،أو لعله يريد التطهر من دن�س
تخيرّ ال�شاعر وحداته اللغوية ،وركبها تركيبا مينحه مثلما تتطهر ا ألر�ض مباء املطر وتتجدد.
فرادته ،م�ستح�رضا خلفياته املعرفية ،الدينية فمن � أي دن�س يريد � أن يتطهر؟
وا أل�سطورية والتاريخية يف ذاكرته ،فتزدحم ال�صور يقول:
ال تتحقق ال�شعرية من خالل لغته الرتميزية ،وتغاير امل�ألوف و� أنا حني ربطت الريح بخيمة � أوجاعي
الكتابة �إال وتك�سب هويتها وان�سجامها يف �سياق خا�ص بها، جمعت ينابيع ا ألر�ض ففا�ضت من � أملي ّ
�إذا ا�ستبطنت فيت�سم ال�شاعر بالفرادة ،ومن خال تتبع م�سارات هذا � أملي
�إمكانية ال�سيموز جند � أن ال�شاعر يتنا�ص مع � أ�ساطري غارقة قرباين جلمالك ال تغ�ضب
القراءة ،ولعل يو�شح الق�صيدة
يف القدم وال �شك يف � أن ا�ستح�ضارها ّ ف�أنا ل�ست قويا حتى تنهرين باملوت
الن�ص ال�شعري بهالة � أ�سطورية يتحول مبوجبها ال�شاعر �إىل �إله يكفي � أن تر�سل يف طلبي
الذي بني � أيدينا ال�شعر ،ولعل ظالل � أ�سطورة � أبوللو ن�ستمد خيوطها ن�سمة �صيف ف�أوافيك
ا�ستمد �شرعيته
ّ مند�سة يف ت�ضاعيف الق�صيدة،ّ من وحدات � أ�سلوبية وحترك � أوتار املو�سيقى
من منظومة كقوله: ألموت و� أحيا فيك
�صوفية ،ف�إذا «قرباين جلمالك ال تغ�ضب» هذا � أملي
وتيمة اجلمال يتميز بها � أبوللو الذي نفاه ا إلله هذا � أملي خفف من وقع جمالك فوق فمي».
ارتقى املت�صوفة
زيو�س� ،إىل ا ألر�ض ،حيث عمل راعيا عند � أحد ي�ستعيد ال�شاعر مباء الينابيع فعل اخللق املتمثل يف
بالرمز �إىل ملوك الب�رش ،ولكنه كان مميزا ب�أوتاره املو�سيقية �شكل الق�صيدة ،فتت�ضمن رمزية املاء الداللة على
م�ستوى فقد �سحرت ا ألنغام ال�سماوية التي ت�صدر عن ناي االنبعاث والتجدّد ،ألن ال�شاعر يلب�س عندما يتطهر
امل�صطلح ،ف�إن ((� ّأبوللو))�سكان اململكة جميعهم ،ومنه حتول النبوة
بردة ّ
ال�شاعر ارتقى � ّأبوللو من قائد مركبة ال�شم�س �إىل رب ال�شعر والفن وي�شاكل الكالم ال�شعري الوحي ،وي�شاكل ال�شاعر
بالق�صيدة �إىل واملو�سيقى ()3 الر�سل يف دعواتهم� ،إنها �إذن الرغبة املفتوحة للبوح
م�ستوى الرمز فح�ضور � أوتار املو�سيقى وح�ضور اجلمال ،وتيمة بال�رسّ ت�سكن يف توق ا إلن�سان وتدفع به �إىل حتقيق
املجازي اخلا�ص ال�شم�س التي ترتدد خم�س مرات يف مقاطع الق�صيدة، �إن�سانيته يف الكون.
حتيل �إحالة �ضمنية على رب ال�شعر واملو�سيقى، فجملة «� أعليت دموعي كي تب�رصها يا � أاهلل» التي
قوته منه ،ومن �ضياء الذي يحاول ال�شاعر � أن ي�ستمد ّ افتتح ال�شاعر بها الق�صيدة � ،أدت دورا ا�سرتاتيجيا
ال�شم�س التي كان � أبوللو يجرّ عربتها حا�سما يف توجيه الن�ص ،وقدّمت �إ�شارات � أ�سلوبية
«حني ربطت الريح بخيمة � أوجاعي» ،ملفوظ الريح بني عليها الكون التخييلي برمته ،وهو البوح
يحيل على الدمار واخليمة حتيل على ا ألمة العربية وال�رسّ
والوجع يحيل على الوجع العاتي والدمار الذي يلف ألنها خالفت املنطق ال�صويف على الرغم من � أنها
ا ألمة تعلن منذ البداية عن ف�ضاء �صويف دلّنا عليه املكون
والقربان و�سيلة تطهري ،واللغة تطهر املبدع وحتييه املعجمي املذكور �سلفا ،مع � أن �شهوة البوح حمظورة
قوته من رب ال�شعر كي ينت�شله من ألنه ي�ستمد ّ متاما يف املقام ال�صويف ،؛ ألن البوح بال�رسّ هتك
املوت. للقدا�سة ال�صوفية»دمنا يباح �إذا نبوح»
قرباين جلمالك ال تغ�ضب ولكن كلمة «� أعليت دموعي كي تب�رصها»� أ�صلها
فالقربان الب�رشي ميثل نقطة اللقاء بني الب�رشي «� أعليت �صوتي كي ت�سمعه»
83 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
اخللود ،وا ألخذ بيده عرب برزخ املوت نحو عامل � آخر وا إلن�ساين ،لذلك يريد ال�شاعر � أن يقرب نف�سه قربانا
� أكرث بهجة و�سعادة( ،)4ولعل هذا املعنى هو الذي خلال�ص الب�رشية
يتحول مبوجبه املوت من م�صري فردي مظلم �إىل هذا � أملي
مرحلة تطهري وجتديد ،وبالتايل تف�صح ا أل�سطورة هذا � أملي.
من خالل الرمز ال�شعري عن وجه القدم ،ووجه الآن ي�ستقطر ال�شاعر � أمله من خالل الكالم ال�شعري حيث
املزروع يف ال�رسمدية ( )5املتمثل يف مبد� أ اخلال�ص، يعرب به من الغياب �إىل احل�ضور ألنه من�صهر يف
وفهل يبحث ال�شاعر عن املخلّ�ص ذاته كربكان يريد � أن يقذف به �إىل اخلارج ،ف�أنفا�س
يفتتح املقطع الثاين مبقولة احلالج : الق�صيدة ان�صهرت ب� آماله و� آالمه وعقده و� أحالمه
«للنا�س حج ويل حج �إىل �سكني تتفجر ،ألنها
ّ وهي ا آلن موغلة يف الت�سترّ ،تريد � أن
تهدى ا أل�ضاحي و� أهدي مهجتي ودمي»
[
حتولت �إىل �سائل حمرق يتالقى فيه اخلفاء الكامن
مت يعقبها بقوله فيبدو التناغم ال�شعري على نف�س يف جتلي الكلمات ولذلك يت�أوه ال�شاعر ويت�أمل.
الوترية: خفف من وقع جمالك فوق فمي.
يا عابر اجل�سد ال�صحراء خذ بيدي تكت�سب اللغة هويتها وان�سجامها يف �سياقها
وخفف الوطء �إن الوطء يف � أملي اخلا�ص ،فيمتد ال�شاعر �إىل � أقا�صي ا أل�سطورة بحثا
مت�شي و� أم�شي فهل يدري بنا زمن عن زهرة ال�شعر ،فهو كاحللم املو�شح ب�أغاين الوجود
�ساعاته الرمل وا أليام كالعدم اخلالدة ،فينت�شل ال�شاعر عزلته و� أمله عندما يحرّك
يكفي من ا ألر�ض �شرب � أنت حار�سه � أوتار املو�سيقى القادم من عمق ا أل�سطورة احتماء
يطوف حولك �إما طاف باحلرم باجلمال وال�صورة ،واملو�سيقى يقابلها ال�شعر،
تغفو الرمال ف�أ�صحو والرمال مدى وال�شعر ،جمال و�صورة ،فينحت من اللغة والتاريخ
ج�سمي لها البيد لكن الهوى �سقمي .الق�صيدة�.ص1 والرتاث الديني ،لي�ستح�رض هذه التحفة الفنية الدالة
ال�شك يف � أن االتكاء على مقولة احلالج يف فاحتة عليه ،في�ستبطن الك�شف ال�صويف ويبعث احلالّج من
املقطع الثاين حتينّ مرّة � أخرى فكرة القربان ،وهذا مرقده لي�سري معه باملوازات � أو يجعل روح احلالج
النمط التكراري املتولد ب�صيغ خمتلفة يف املقاطع قوة جتربته و�صربه على حت ّل فيه علّه ي�ستمد منه ّ
الالحقة ،يخلق يف ذهن املتلقي م�سارا � آخر من القوة اخلارقة التي امت�صت بالئه � ،أوعلّه ي�ستمد منه ّ
م�سارات الت�أويل ،ألن القربان اجل�سدي مت�أ�سطر الدمع من عينه وهو يف � أق�صى درجات االبتالء،
يف ذهنية الب�رش وا�ستبدل بقرابني حيوانية إلحياء ألن الدمع �ضعف ،واحلالج مل ي�ضعف ،من هنا
الطقو�س ،ولكن ال�شاعر يعيد هذه الفكرة مرّة � أخرى، ت�أتي املفارقة بني احلالج وال�شاعر ،وي�صبح الكالم
ليعود بنا �إىل البدء وفكرة املنقذ « تهدى ا أل�ضاحي ال�شعري مبثابة امتداد ل�صوت احلالج املكمم ،هو
و� أهدي مهجتي ودمي ،خفف الوطء �إن الوطء يف الدمع املكبوت ،هو احلزن املكتوب مبداد الروح،
� أملي ،ج�سمي لها البيد ».....فكل هذه ا إل�شارات حتيل في�صبح ال�شعر �سكنا لل�شاعر ،يحج له لين�سلخ من
على القربان الب�رشي، دن�سه العالق بروحه التي تلوثت وتتلوث مبعاي�شة
وال�س�ؤال املطروح ،ملن يقدم هذا القربان ؟؟؟ حولت
اخل�صي�صة ال�سحرية للغة ّ ّ الواقع ،كما � أن
ال �شك يف � أن ال�شاعر يبني وجودا � آخر موازيا للوجود الدمع �إىل غيث ،وينابيع ،وقدمته يف وحدات � أدبية
ا أل�صلي وير�سم من خالله ما يجب � أن يكون ،ولعل رمزية تعمل على اختزاله ثم تقدميه جمددا للوعي،
«املوت هو املثري ا ألكرب للكتابة ،وبني � أن يكون مما جعل ظالل ا أل�سطورة التموزية تظهر خلف � أ�سوار
املوت مثريا � ،أو � أن يكون غوثا ورحمة يقف ال�شاعر، الرمز ،فيح�رض دومزي –اب�سو ،ابن املاء اخلالّق
وكل ذلك ي�رسبل ا ألقوال وا ألحوال بالغمو�ض، جمدّد طاقة احلياة وحافظ قوى اخل�صوبة ،الذي
()...فال�شعر لي�س �صدى للوجود � ،أو ظالً من ظالله قهر املوت و حرر نف�سه من قوى العامل ا أل�سفل ،وهو
� أو تعبريا ً عنه ،و�إمنا هو وجود � آخر مواز للوجود الوحيد القادر على �إعطاء ا إلن�سان � أمال يف حتقيق
84 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
جلية حتيل عليها الرموز اللغوية املذكورة ،كما ا أل�صلي»()6
حتيلنا � أي�ضا على � أجواء � أ�سطورية حتمل بذور املوت يتمازج اجل�سد القربان ب�أدمي ا ألر�ض فيتمدد لي�صبح
واالنبعاث ،فا إلميان باالنت�صار على قوى املوت �صحراء �شا�سعة برمالها ،وهنا يتنا�ص ال�شاعر مع
وعنا�رص اخلراب ،والت�ضحية فداء للفكرة ،حتيّني � أبي العالء املعرّي يف قوله:
الرموز ا أل�سطورية (متوز ،بعل � ،أدوني�س � ،أوزيري�س)، خ ّفف الوطء قليال فلي�س
التي يغيبها املوت فيعم اجلدب ،ولكنها تعود من � أدمي ا ألر�ض �إال من هذه الج�ساد
أ
عامل ا ألموات فتتجدد احلياة ،وال �شك يف � أن هذه ولعل ال�شاعر با�ستح�ضاره هذه املعاين يريد � أن يعبرّ
الفكرة كانت حا�رضة يف ذهن ال�شاعر وزهو يبني عن املوت الذي يطوف حول الب�رشية .
�صورته ولعل فكرة القربان هنا تعبري عن القتل والدمار،
� أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها...ملاذا؟وما واحلزن القابع يف الذات الب�رشية ،ف�أين الغوث،
املق�صود بال�شم�س؟؟ و� أين اخلال�ص ؟تقدم القرابني الب�رشية كل يوم ل إلله
الكلمات يف � أية لغة ذات وجهني ،وجه داليل يرتبط الب�رشي ،ألن املوازين اختلّت ،والب�رش ت�ألّهوا
باملعاين املبا�رشة للم�سميات ووجه � آخر �سحري ميتزج ال�شاعر بالطبيعة برمتها ،ف�إذا كان ج�سده هو
متلون بظالل متدرجة بني اخلفاء والو�ضوح...فكلمة ّ � أدمي ا ألر�ض ف�إن ع�صري عنبها دمه ،ولعل ال�شاعر
�شم�س تعك�س يف النف�س معاين � أخرى فهي الو�ضوح الفرد يعبرّ عن اجلمع املتمثل يف ال�شعوب املقهورة،
وهي االنتظام وهي ال�صحو والعقل واحلقيقة()7 املظلومة
تكررت ال�شم�س يف املقاطع التالية : املقطع الثالث:
� -أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها � أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها
-و� أخريا وجدتك � أيتها ال�شم�س يف � أعايل � أريحه و� أ�سلت بكائي يف الق�صب
-تدورين خائفة على ا أل�سوار الع�صارونلي�س نبيذا ما يع�رصه ّ
-وتغط�سني يف البحر كربتقالة مري�ضة ولكن في�ض دمي يف العنب
-وما من يو�شع يعيدك من غروبك املب ّكر عمن ي�سقيني املاء �س�أهيم على وجهي � أ�سال ّ
� -أخربيني � أيتها ال�شم�س أ
فال � أ�سمع غري طنني ذباب العراب على الكتب
� -إنني الآن � أرفع يدي نحوك � أيتها ال�شم�س احلبيبة من حويل �سبعة � أنهار
-يا غوث �شم�س غياث ا ألر�ض غيّثني وبحار تذرعها احليتان
-تلقني يف ا ألر�ض �شم�سا غري كابية و� أذناب يخوت من ذهب
التكرار املتواتر لل�شم�س يجعل منها عالمة �سيميائية و� أموت ب�صحرائي عط�شا........
داخل الن�ص ال�شعري تتلون بتلون م�سارات الت�أويل الكلمات
ُ �رشد العقل و� أفلتت
وهي ت�ستدعي مقابال من نف�س جن�سها وميثلّه وج ّن «املتدارك» يف «اخلبب» ُ
القمر، و�س�أقتل � أعلم يقتلني ا ألمراء
�إذا انتقلنا �إىل املعنى ا أل�سطوري جند � أن حكمة و� أ�صلب
ال�شم�س» تدعو �إىل تركيز احلوا�س و�شحذها للتعامل مابني اللد ومكة والنقب
ّ
مع الواقع ب�أعلى كفاية ممكنة «( )8ف�إن هذا الواقع يتحول ال�شعر يف � أرقى م�ستوياته �إىل ترتيلة ومنط من
تع ّفن كامل�ستنقع الآ�سن ،وال ي�ستطيع � أن يعاي�شه ا ألمناط ا أل�سطورية املتكرّرة على مرّ الع�صور ،مييط
ا إلن�سان احلرّ ،الذي ميتلك فكرا م�ستنريا ،لذلك يتحد فيه ال�شاعر اللثام عن كارثية احلوادث املتالحقة،
ال�شاعر ب�إمام الطوا�سني احلالّج ،وي�ستدعي من خالله ليعبرّ عن �رشوخ ا ألمة التي تزداد فواجعها
حكمة القمر ،التي «تدعو �إىل بلبلة احلوا�س اخلارجية يظل الطق�س اجلنائزي طاغياً على املقاطع ،فتت�شح
من � أجل تفتيح احلوا�س الداخلية»( ،)9و�إذا كانت ب�سواد املوت ويتحول الدمع عرب بوابة الق�صب �إىل
حكمة ال�شم�س تدعو �إىل بناء اجل�سد وتوجيهه ألداء نبيذ ثم �إىل دم وهنا تظهر فكرة امل�سيح املخلّ�ص
85 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
من حويل �سبعة � أنهار وظائفه العملية( ،)10ف�إن هذا اجل�سد مات وا ألر�ض
وبحار تذرعها احليتان تعج با ألموات ،وقرابني الب�رش متناثرة على � أر�ض ّ
و� أذناب يخوت من ذهب الب�سيطة كحبات الرمل»ج�سمي لها البيد» ،لذلك
و� أموت ب�صحرائي عط�شا». «تدعو حكمة القمر اجل�سد �إىل اللعب احلرّ� ،إىل الرق�ص
يعي�ش ال�شاعر معاناة مفارقة ملعانات ال�سندباد الذي يجعل اجل�سد مو�ضوعا لنف�سه ،ويعك�س طاقته
البحري ،فمعاناة ال�شاعر ،وال�شعوب العربية هي حموال احلركة املادية �إىل ن�شوة روحية نحو نف�سهاّ ،
معاناة ال�سندباد العربي يف بالد اخلري معاناة الذات ووجد �صويف»()11
ومعاناة جمتمعه ا إلقليمي والعربي ،يبحث عن لذلك يريد ال�شاعر تغييب ال�شم�س حتى ال ت�سطع على
خملّ�ص من ظم�أ الفكر ،وعمى الب�صرية ،والتوهان املكر واخلديعة.
عن املبد� أ احلقيقي ،ألن ال�صحراء مرتبطة بالتيه، ولعل ال�صوت املجلجل من � أعماق ال�شاعر هو
ولعل ا ألنهار والبحار امل�ستح�رضة حتيل على �رصخة غريق يف وحل ا ألمل� ،رصخة مللمت �شتات
البرتول ،الذي ت�سيطر عليه حيتان العامل الدنيوي،، امليثولوجي والتاريخي والفل�سفي والديني لتعبرّ
فاحلقائق جلية ،وال�شاعر فلتت الكلمات من جوفه عن م�أ�ساة ا إلن�سان بعامة والعربي بخا�صة� ،رصخة
ومل ي�ستطع �إم�ساكها لذلك يعرب عن � أقوال �صناع ال�سعر املكتوب بالدم ومداد الروح.
القرار العربي بـ: لئن كانت الق�صيدة هي الدموع امل�ستح�رضة ،ف�إنها
فال � أ�سمع غري طنني ذباب ا ألعراب على الكتب» مكتوبة بقلم الق�صب مبداد الدم املتحول �إىل خمر ثم
ومن خالل هذه املقولة ي�ستح�رض الرف�ض والتنديد �إىل دم ،فينت�شي القارئ بخمر الكلمة فتنجلي � أمامه
واال�ستنكار ،الذي � أ�صبح � أ�سطوانة روتينية ترتدد حقيقة الذات ،و� أمل الذات
على منابر احلكام العرب ،وال�شعوب العربية متوت � أ�سلت بكائي يف الق�صب
عط�شا يف بلدان الرثاء. الع�صارون
لي�س نبيذا ما يع�رصه ّ
ومع ذلك فال�شاعر يدرك � أنه �سيقتله ل�سانه ،كاحلالّج ولكن في�ض دمي يف العنب �.....ص2
متاما الذي قيل عنه «قتله ل�سانه» دم ليكتب به ال�شاعر حزنه، فيتحول مداد القلم �إىل ّ
ألن عقله �رشد وذاب مع ا ألفق الرحب وحترّر من ويتذوق القارئ ثمار اخلمر املعتّق
الواقع وتفتحت � أمامه احلقائق واحلجب وال ي�ستطيع وال�سكر يف هذه احلالة يحيل على ال�صحو فتنجلي
التوقف احلقائق ،وتر�سخ يف الذات ،فتعرف نف�سها ،ألن من
«�رشد العقل و� أفلتت الكلمات ربه ،ويعرف وجع ا إلن�سان ويح�س يعرف نف�سه يعرف ّ
وجن «املتدارك» يف «اخلبب»» به.
تدافع الكالم دون توقف ،لذلك يخاف ال�شاعر � أن لعل في�ض دم ال�شاعر هو هذه الرموز املتناثرة
تختلط الكلمات بـبعـ�ضها مما �سي�صيبها من �رسعة على مقاطع الق�صيدة برمتها ،والفي�ض هو حلظة
خبب املعاين ،ففا�ضت املعاين عن النف�س ،وبالتايل التجلي يف عرف املت�صوّفة ،فريتقي ال�شاعر بالقول
ال ي�ستطيع الل�سان ردعها ،ألن ن�شوة ال�شعر ،وخمر ال�شعري �إىل درجات الكمال واخليال اخلالّق كونه
الكلمات واحللول يف تفا�صيل الق�ضية � أ�سكرت ي�شاكل املت�صوفة ،فيب�رص احلقائق مثلما تنك�شف
ال�شاعر ،فباح باملحظور ف�أدرك � أنه: احلقائق للمت�صوف ،ولكنه يخالف املت�صوّفة
«�س�أقتل � أعلم يقتلني ا ألمراء ويقتدي باحلالّج الذي قتله ل�سانه ،فيبوح با أل�رسار،
و� أ�صلب والبوح با أل�رسار العرفانية � أ�صبح يف زماننا كالبوح
ما بني اللدّ ومكة والنقب» با أل�رسار الدنيوية ،فكل متمرد يريد � أن ينري الب�صائر
يتمزّق ال�شاعر ويخرج هذه الهرتقات ال�صوفية يعاقب بالقتل.لذلك يقول ال�شاعر:
ويبوح مبكنونات النف�س كربكان � أخرج حم�أه عمن ي�سقيني املاء
«�س�أهيم على وجهي � أ�س�أل ّ
ولعلّه �إن مات �سيكون ج�سده هو قربان اخلال�ص، فال � أ�سمع غري طنني ا ألعراب على الكتب
86 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s �إال بريق جنوم يف � أعاليه ف�سنة احلياة � أثبتت � أن الدعوات ال تهزم با ألذى � أبدا.
يلقي على ال�سهل ظالّ من عباءته لذلك �سيقتله ا ألخوة ا ألعداء ،لذلك يحاول ال�شاعر
فينبت الع�شب يف � أق�صى حوا�شيه � أن يكرر فكرة املنقذ مبعان خمتلفة وكما ان النبوة
يكاد يلب�س قلب املاء مب�سمه وحي و�سعي وراء تطهري الب�رشية من الرج�س ،كذلك
فيهطل الغيث �إن �صلّى بواديه ال�شعر ،لذلك ي�شاكل ال�شاعر النبي يو�سف ،ويتنا�ص
نعم �إنه اخلال�ص على يد املخل�ص الذي تنتظره مع ق�صة يو�سف ،لي�ضيفها �إىل حلقة معاناة ا ألبطال
الب�رشية ،ونحن � أي�ضا ال نريد � أن نبوح ،غري � أن ا ألمل ويطلب الغوث من اهلل:
العربي دائما يعلّق على � أبطال ي�شفون غليل ال�شعوب، «ياغوث �شم�س غياث اهلل غيّثني
و� أح�سب � أن اجلميع يعرفهم والتاريخ �سجلهم . � أنا ال�ضعيف ك�أعناق الرياحني
يختم ال�شاعر ق�صيدته با ألمل املنتظر ،ولئن قدّم تلقني يف ا ألر�ض �شم�سا غري كابية
املنقذ ك�إله � أ�سطوري ،ف�إن ن�سيج الق�صيدة برمته كالربق ي�شعل � أح�شاء الب�ساتني
ج�سد � أ�سطورة ا إلله امليت ،مبختلف ال�صيغ
ّ �إين ر� أيت ويل ر ؤ�يا مغامرة
ف�سيزهر دم الب�رشية املهدور بقدوم الربيع ،ويدل جنما ت�ألق يف � أق�صى �رشاييني
عليه زهر ا ألقحوان . ر ؤ�يا � أخاف �إذا ما قلت �سريتها
ولعلنا منذ البداية نلم�س حلوال ومتازجا بني من اخوتي � أن يخونوا � أو يكيدوين
ا إلن�ساين والطبيعي ،فال مبدّل ل�سنّة اهلل ،فاجلدب فاكتم حكايتها يف القرب يا ابتي
يعقبه اخل�صب وال�سنون العجاف يعقبها الغوث، فالورد ينب�ض يف � أ�صل الرباكني».
واملوت تعقبه حياة ،والي�أ�س يعقبه ا ألمل والظالم ق�صة يو�سف يحيل لعل التنا�ص مع م�شهد الر ؤ�يا يف ّ
يعقبه النور والليل يعقبه النهار ،منط يتكرر منذ �إحالة مبا�رشة عن يو�سف الزمن الراهن ،وهو يو�سف
ا ألزل ،والباطل �سيزهق ال حمالة واحلق �سينت�رص املقهور ،يو�سف املنبوذ ،يو�سف الالجئ يو�سف
و�سيتبدد الظالم عن ال�ضمائر . فيتحول من �صيغة ّ املح�صور يف جب ا ألوطان،
�سيهطل الغيث وتتحول الدموع �إىل � أمطار ويخ�رض املفرد �إىل �صيغة اجلمع.
الكون وينتع�ش الع�شب ويحيا النا�س باحلق وتعود ولعل ر ؤ�يا ال�شاعر تب�رش بقرب ظهور املخلّ�ص ،وهو
مركبة ال�شم�س مل�سارها املنتظم . يعلم بل يحاول � أن يتنب�أ بزمن البعث ،ألن �سنة
تعد دموع احلالج مر� آة كا�شفة للمحيط الداخلي احلياة تقت�ضي فال تربعم النبتة �إال �إذا تع ّفنت ،وال
واخلارجي ،حيث خلق ال�شاعر خطابا �صوفيا حمموال ي�رشق ا ألمل �إال �إذا ا�شتدت حلكة ا ألمل :
بنربة م�أ�ساوية ت�سعى من خالل ت�شتت � أ�صواتها «ها � إ ّن � أقحوانة الدّم تزهر يف قمي�صك يا من�صور
�إىل �إعادة بناء الواقع من خالل ترميم ثقوبه، و�إبرة املوت العميقة
ومللمة الوعي العربي املبعرث يف ع�رص �ضاعت فيه متوجة بقطرة جميلة من ماء تطلع من ج�سدك ّ
الب�صرية ،وبني العمى والب�صرية يقبع ال�شعر ا أل�صيل، احلياة»
الذي يقدّم من خالله ال�شاعر املكرّ�س لدور املر�شد ترحل دموع احلالج رحلة �سندبادية يف ج�سد
م�رشوعا � أيديولوجيا متكامال جامعا بني املقد�س الق�صيدة ،وتتحول �إىل ماء احلياة
واملد ّن�س ،ليك�شف من خالل املتناق�ضات عن الذات ومنه ينق�شح احلزن املخيّم الكون التخييلي وت�أتي
اجلمعية ال�ضائعة يف هذه املتاهة الكونية ،حلما اخلامتة الن�صية مفعمة با ألمل:
بالنموذج احل�ضاري البديل وفقا ملا تقرّه قوانني كادت �رسائر �رسّي � أن تبوح به
الطبيعة ونوامي�س الكون و�سنن التدافع ،لذلك تولد وكاد خويف عليه ال ي�سميه
اليوتوبيا وتنتع�ش ا أليديولوجية يف هذا الن�ص ين�أى ويقرب جملوا وم�سترتا
ال�شعري ،لي�صبحا من منظور -فرو يدي –�سلوكا كالغيب � أجمل ما يف الغيب ما فيه
دفاعيا جتاه هذه املتغريات احلا�صلة. من ذا هو الرجل العايل ول�ست � أرى
87 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الحاالت والهوام�ش
إ فرحلة ال�شاعر وارتقا ؤ�ه هي رحلة الفكر الفتي ،الفكر
ّ
-1فرا�س ال�سواح :لغز ع�شتار ،ا أللوهة امل�ؤنثة و� أ�صل الدين اليقظ ،رحلة العارف يف املنطق ال�صويف «ورحلة
وا أل�سطورة ،دار عالء الدين للن�رش والتوزيع والرتجمة ،ط ،8دم�شق، العارف هي رحلة املطلق والبحث عن الكمال
�سوريا � 2002ص.251
-2فرا�س ال�سواح :لغز ع�شتار �ص.252 وت�شوهاته»()12
ّ وجتاوز انحرافات الواقع
� -3سليمان مظهر � ،أ�ساطري من الغرب ،دار ال�رشوق ،ط،1 هكذا يتبدى وجع الكتابة ويت�شظى حقل العبارة
القاهرة� ،2000ص14
-4فرا�س ال�سواح ،ا أل�سطورة واملعنى ،درا�سة يف امليثولوجيا ويتك�سرّ ليُبنى على املفارقة في�صبح الدمع �صوتا
والديانات امل�رشقية ،دار عالء الدين ،ط ،1دم�شق� ،سوريا،2001 داخليا ،وما دام �صوت العقل مغيبا ،فال�شاعر
�ص175
-5املرجع نف�سه �ص176 حاول � أن ي�ستقطب امل�ستمع « ل إل�صغاء ل�صوت
-6حممد علي �شم�س الدين ،اجلنوب حملني ثم حملته ،الثورة: احلكماء الذين حلموا باملدن الفا�ضلة التي مل تنب
حوار مع حممد علي �شم�س الدين ،يومية الثورة ،ت�صدر عن م�ؤ�س�سة حتى الآن ،فال�سيا�سات ا�ستولت على ارث ا ألنبياء
الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�رش ،لقاء ا أل�سبوع 2008/11/12
� أجرت احلوار فادية م�صارع وحولته �إىل رايات للقتال ،وممالك لل�سلب
واحلكماء ّ
الرابط ا إللكرتوين: والنهب»()13
http/thawra.alwehda.gov.sy/_Rint_veiw.asip ?fil Name=95983058200
81111221038 فيبوح ال�شاعر عن مكامنه ويك�شف عن تغريبة
-7فرا�س ال�سواح ،ا أل�سطورة واملعنى ،مرجع �سابق �ص.22 ا إلن�سان وم�صريه العاتي« ،في�ضيع الفارق بني
-8فرا�س ال�سواح ،لغز ع�شتار ،مرجع �سابق �ص.203
-9املرجع نف�سه �ص.203 النبوة باملعنى ال�شامل وال�شعر فيغدو الت�أ�سي�س
-10املرجع نف�سه �ص203 ال�شعري ،ت�أ�سي�سا نبويا بالدرجة ا ألوىل»()14
-11املرجع نف�سه �ص.203 ولئن كانت ا أل�رسار العرفانية ،من الطابوهات،
� -12صدوق نور الدين ،عبد اهلل العروي وحداثة الرواية ،املركز
الثقايف العربي ،ط ،1بريوت لبنان /الدار البي�ضاء املغرب، ف�إن مايحدث يف زماننا ي�شاكلها ،ألن �سنة تكميم
�1994ص.40 ا ألفواه ،كانت وما زالت ،غري مراحل احلياة � أثبتت،
-13حممد عرب� ،رشائع النف�س ،العقل ،الروح ،من�شورات احتاد
الكتاب العرب ،دم�شق� ،سوريا � 2005ص.205 � أن التمرد على ا ألعراف ّ
يفعل وترية احلياة.
-14حممد لطفي اليو�سفي ،حلظة املكا�شفة ال�شعرية و�إطاللة على تفا�صيل كثرية تعج بها ق�صيدة دموع احلالج ،فهي
مدار الرعب ،الدار التون�سية للن�رش ،تون�س�.1998 ،ص.266
مالحظة منفتحة على قراءات عديدة ،فهي ف�سيف�ساء ن�صو�ص
املقال ن�رش يف جملة مقاربات:دورية حمكمة ،دورية حمكمة تعنى قادمة من �سياقات �شتى متمازجة ،متناغمة،
بالبحث العلمي � ،آ�سفي(اململكة املغربية) ،خريف2009
معجونة يف حمك جتربة ال�شاعر ،غارقة يف �شعرية
اللغة والتو�ضيف الرمزي للكلمات املفرغة من
دالالتها ا أل�صلية وامل�شحونة بدالالت تتما�شى
وال�سياق العام للق�صيدة ،و�شعرية التنا�ص ال�صويف
وا أل�سطوري والديني والتاريخي ،جمعت بني حلقات
ا ألمل وا ألمل .
s
s
s
مع االيديليات التي يغلب عليها الطابع الرعوي، وبناء عليهَ ،ع َّولْنَا على تتبع وا�ستق�صاء ال�شعر
� أي االحتفاء بالطبيعة الفاتنة واملو�سيقى العذبة الرعوي ..مفهوما وموا�ضعة وح�ضورا ن�صانيا �إن
ال�صافية واحلب الرعوي التلقائي والب�ساطة ،وال�شعر يف القدمي � أو يف احلديث ،على ما طالته يدنا ،وبلغه
وال�سعادة ..واملبارزة ال�شعرية. �سعينا ،وبحثنا الذي كما � أ�سلفنا -مل َي ْخ ُل من جهد
هكذا ،ونحن نقر� أ � أ�شعار ثيوكريت الرعوية ،ن�ست�شعر وم�شقة و�إعنات بالنظر لتج�شمنا عناء الرتجمة
كل مفاتن البادية ،ومتع العزلة ،ف�إذا ا�ستقرينا بع�ض ال�شخ�صية ،وتقليب ع�رشات الن�صو�ص يف جغرافيات
رعوياته ،وعكفنا على قراءتها ،ف�ستده�شنا حتما متباعدة ولغات خمتلفة ،وم�سارات تاريخية
تعابري و� أو�صاف احلب الرقيقة .يت�ضح ذلك مثال متالحقة ومتفارقة .لكننا نقر -باملقابل� -إفادتنا
يف رعويته الثانية ورعويته ال�سابعة والع�رشين، اجلمة من املادة ال�شعرية الغزيرة التي اطلعنا عليها
وروعيته ال�سابعة ع�رشة ،م�ستفيدا من ال�شعر الغنائي، مبا قدمته لنا من ثراء �شعري وغنى ن�صو�صي،
ومن خمتلف � أ�شكال ا إليليجيا( )2ونرباتها ا ألليمة. ووفرة �صور ،وبهاء �إيقاع ،وعوامل رحيبة � أثثتها تلك
ي�صل تيوكريت يف «رعوياته» �إىل م�ستوى الق�صيدة الن�صو�ص مبا يثلج اخلاطر ،ويجذب وي�شد االنتباه، الرعويات،
امللحمية � ،أفكارا وتعابري و� أو�صافا ،تتمتع بكامل وميتع القلب ،وي�شهي النف�س ،ما دامت الرعويات و»االيديليا»
القوة وا ألناقة ،حتى �إنه يناف�س بندار يف غنائياته ان�شغلت وا ْن َه َّم ْت ب�سحر ا ألمكنة ،وتاقت �إىل ف�ضاءات يف معناها
وهو ي�ضع فيها ذوب روحه»(.)3 فردو�سية ،و� ْأر َكاد َِيا مده�شة ي�سودها احلب والرعي الغريقي: إ
وجدير بالذكر � ،أن هذا ال�شعر املكر�س للب�ساطة وال�شعر واملو�سيقى ..هربا من جحيم � أر�ضي ،وواقع هي «ال�صورة
والعذوبة ،وو�صف حياة الرعاة الهنيئة والالهية ،مل رمادي ُم َ�سيَّج باخلراب. ال�صغرية»
ي�ستقر على م�صطلح واحد يحظى با إلجماع .فنحن وم اجلمع واملنع م� آله �إن كل تعريف للرعوية َي ُر ُ � أو الق�صيدة
واجدون ت�سميات عديدة� ،إن هي � أدت نف�س املعنى اخل�رسان ،ذلك � أن هذا اجلن�س ال�شعري ،قبل � أن يكون
ومنْ�سرَ ِ ًبا كبذور اللقاح � أو الرذاذ الق�صرية،
الذي نحن ب�صدده ،ف�إنها تومئ �إىل ظالل فروق كذلك ،يوجد منثورا ُ ق�صيدة ب�سيطة
داخل ا أل�شعار التي تلب�س �صفة الرعوية .وهي فروق وي ْ�ستَك ُِن كالل�ؤل�ؤ النا�صع يف يف � آداب ا ألمم القدميةَ ،
لها اعتبارها االب�ستمولوجي مهما ت�ضاءلت � أو َعنَّ ْت كتابات ا أل�شوريني والبابليني وامل�رصيني القدماء و�صفية تمُ ِ ُ
ثل
جمرد تنويع على م�سمى واحد .ن�سوق ذلك حجة بني والكنعانيني والكتاب املقد�س –لكنه �سيظهر كجن�س احلياة يف
يدي املبحث حتى ال يو�صم باخللط والتمريغ .ف�إذا �شعري َبينِّ ِ الق�سمات على يد ال�شاعر اليوناين الريف
كانت الت�سميات وا�ضحة بينة يف اللغات ا ألوروبية، اال�سكندري تيوكريت (310ق.م – 250ق.م) الذي
فاحلِريَة وقلة ذات اليد هي م�ؤونتنا ،ونحن نتغيا ترك ديوانا �شعريا �سماه (االيديليا) «ُ »les Idylesترْ ِج َم ْت
القب�ض عليها جميعها .حاولنا اال�ست�سعاف بالرعويات ،و»االيديليا» يف معناها ا إلغريقي :هي
بالثيمات ،كما حاولنا اال�ستنجاد ب�أ�شكالها الوزنية «ال�صورة ال�صغرية» � أو الق�صيدة الق�صرية ،ق�صيدة
وا إليقاعية لنقف على �رس االختالف يف الت�سميات، ب�سيطة و�صفية تمُ ِث ُل احلياة يف الريف .وقد اكت�سبت
عبثا ،فلم نل �إال ف�ضلة بقيت!! االيديليا �صفة الرعوية يف القرنيني الثاين والثالث
فما هي هذه الت�سميات يا ترى؟ �إنها الرعويةLa Past : ف قبل امليالد من خالل � أعمال ال�شعراء ا إلغريق الآتني:
،toraleو�إنها االيديليات les Idyllesكما مار�س كتابتها بيون ،Bionتيوقريط ،وال�صقلي مو�سو�ش»(.)1
تيوكريت ،وترجمت بالرعويات � ،أو الق�صائد غري � أن ثيوكريت �سيكون ا ألظهر وا ألكرث �سموا
الو�صفية ..وهي ،Les Bucoliques :كما مار�سها ال�شاعر من بني ال�شاعرين املذكورين ،ومن بني �شعراء
فرجيل ..ثم هي ،La Pastourelleوال�صيغة ت�صغري Pastor ف � آخرين حاولوا ا�ستخدام النوع ،علما � أن �إيديليات
« ،raleالرعوية ال�صغرية» وهو �شكل �شعري فرن�سي، �شاعر �سرياكوز (ثيوكريت) مل تكن رعوية بالكامل.
ظهر يف القرن الثاين ع�رش امليالدي ،كما ال يخفى. (وباملنا�سبة فالعدد الذي و�صل منها مدونا
و�إيثيمولوجيا :يعني امل�صطلح «الراعية ال�صغرية � أو هو ثالثون ن�صا رعويا) ،ذلك � أن تيوكريت مار�س
ال�شابة» ،وهو نوع �شعري بطلته املركزية :راعية. كتابة التوقيعات واملقطوعات احلكمية واملراثي.
كما ت�سمت الرعويات بـ ،Les Bergeries :وقد ظهرت �إننا جند هذه ا ألجنا�س متداخلة مندغمة � أحيانا
90 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
التيمة ا أل�سا�س التي توجه الن�ص ،وهذه التيمة ال الت�سمية يف بدايات القرن ال�سابع ع�رش على يد
تخرج ،يف الغالب ا ألعم ،عن اخل�شوع � أمام الطبيعة � أحد � أفذاذها ال�شاعر الفرن�سي ركان Racan 1625
به؛ ولي�س � أعذب و� أهن�أ و� أدعى �إىل ال�سكينة واحللم ب�سيطة من �شاعر رعوي ال ي�ستطيع � أن ينظم ما هو
وال�سعـادة من عامل الرعاة ،لذلك نه�ضت الن�صو�ص � أكرب من ذلك .وفيها نرى �سلينو�س نائما خممورا
بهذه املهمة مقرتحة � أمكنة �سحريـة ،وف�ضـاءات يقيده الرعاة بالتاج نف�سه الذي يتزين به فيوافق
مزرك�شة باخل�رضة الزاهية ..واملاء النمري ،وال�شجر على � أن يفدي نف�سه بالغناء� ..إلخ�..إلخ.
الكث وا ألنا�شيد ا ألورفيو�سية ،واحلب الغامر ،احلب يتحدث فرجيليو�س � ،أحيانا ،يف ق�صائده الرعوية
يف كامل بهائه وعفويته وب�ساطته� ،ضدا على واقـع ب�ضمري املتكلم املفرد ،ويذكر � أ�صدقاءه ،وقد �سبقه
معي�ش � أمر من احلنظل! �إىل ذلك ثيوكريتو�س»(.)9
لهذا التقط �شعراء كل الع�صور واللغات هذه املفاهيم تاريخيا ونقديا ،لفتت الرعوية الرابعة لفرجيل،
/ال�صور ،وعكفوا يوقعون باللغة ال�شعرية ،اللغة االنتباه ب�شدة ،حتى قال البع�ض �إنها نبوءة ال�شاعر
ا ألنقى وا أل�صفى ،بناءات باذخة ،بغية توطني بقدوم امل�سيح ليزرع ا ألمان يف جنبات � أر�ض يحرق
املهيمن منها حتى ت�صبح حيوات بديلة موازية � أخ�رضها وياب�سها لهب احلقد وعنف ال�رصاع .وفطنة
للحيوات املرة التي نعي�شها مرغمني .و�إذا كانت القارئ باملعنى ا إليكاوي ،Umberto Ecoقلما تخطئ ما
� أ�سطورة ا ألركاديا ترتد �إىل امليتولوجيا اليونانية، يوازي داللة هذه الرعوية يف ما جاء يف ا أل�صحاح
مبا تعنيه من نعيم و�صفاء و�سالم ،و�إىل امليتولوجيا احلادي ع�رش من �سفر � أ�شعياء :)8-6
الرومانية من ناحية � أخرى ،حاملة معنى ال�سعادة في�سكن الذئب مع اخلروف ويرب�ض.
ا ألبدية للأ ج�سام وا ألرواح لكل من ا ألحياء النمر مع اجلدي والعجل وال�شبل وامل�سمن.
واملوتى � ..أو معنى اجلنة املوعودة املوجودة على معا ،و�صبي �صغري ي�سوقها والبقرة والدبة ترعيان
�ضفاف مراع خ�رضاء يقطعها نهر «الليثي» ،نهر ترب�ض � أوالدهما معا..
الن�سيان حيث يجب � أن ت�أتي كل ا ألرواح لل�رشاب؛ وا أل�سد كالبقر ي�أكل تبنا ،ويلعب الر�ضيع على �رسب
ف�إن اليوتوبيا التي �شكلت بدورها منهال �سعيدا، ال�صل وميد الفطيم يده على جحر ا ألفعوان»(.)10
لل�شعراء الرعويني ،مل تظهر �إال يف القرن ال�ساد�س مرجعيا وتقاطعا دالليا ،ميكن ا إل�شارة � أي�ضا �إىل
ع�رش امليالدي ..وبال�ضبط يف العام ( )1516على مفهوم اليوتوبيا الكامن كالنار الالمرئية يف
يد القدي�س االجنليزي توما�س مور ()1535/1478 ت�ضاعيف ال�شعر الرعوي ،مثلما ي�شار �إىل جنة
فهو مبتكر اليوتوبيا-التي � أ�صبحت م�صطلحا عدن املذكورة يف ا ألديان الثالثة الكربى كجاذب
موطوءا من كرثة التداول اخلاطئ-مبا هي جزيرة جزائي ،ومكافئ متاعي وجمايل للم�ؤمنني ،و�إىل
خيالية ..ال تت�سع �إال للمجتمع املثايل ،القادر على «جنة ال�صاحلني» .» Les champs Elysées :تلك جملة من
حترير نف�سه من �إرغامات الواقع ،والتهافت على املو�ضوعات وال�صور املهيمنة باملعنى ال�شكالين
املاديات وال�شهوات املقيتة .طبعا ،ال ينبغي � أن على كافة الن�صو�ص ال�شعرية املنت�سبة �إىل الرعويات،
التو َماوية من
يغرب عن البال ما تطرحه اليوتوبيا ُّ بدءا من ا إليديليات :الن�صو�ص الو�صفية ،مرورا
نقد ذكي وحمول ،لواقع حال بريطانيا حتت حكم بالبيكوليك :رعويات فرجيل والرعوية ال�صغرى
امللك هرني الثامن. Pastourelleيف الع�صور الو�سيطة ..وانتهاء بع�رص
ولنا بعد الت�أمل � ،أن نقر ب�أثر وت�أثري ا ألفالطونية النه�ضة والع�رص احلديث.عالوة على � أن اجلملة
على توما�س مور ،وعلى غريه ممن تناول املفهوم املفتاح : Locus Amoeunus :املكان العذب ذو اللذاذات،
و�صار به � أبعد حيث الذروة التي تلتب�س بالعقيدة ت�سيدت املعاين ،وكانت يف القلب من املمار�سات
املذهبية َبل ْ َه الدينية. الن�صية الرعوية ،علما � أن املعنى �إياه ا�شتغل على
ومل يفت � أدباء و�شعراء وفنانو ع�رص النه�ضة، مدار القرون حمتفظا بجوهره املكنون و�إن خ�ضع
� أن ينكبوا بدورهم على هذه املفاهيم والثيمات، لتعديالت تزيد � أو تنق�ص وفقا لتحوالت تاريخية
وباخل�صو�ص «ا ألركاديا» جاعلني منها الب�ؤرة معينة ،وا�ستجابة لوعي قرائي ما انفك ين�شحذ
ا أل�سا�س والنواة املركزية التي دارت ن�صو�صهم وي�ستع�صي .فا ألركاديا واليوتوبيا وجنة ال�صاحلني
ال�شعرية والروائية ولوحاتهم الت�شكيلية عليها، هي ميثولوجيات م�رشئبـة �إىل امل�أمول واملحلوم
92 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s ال�سوي�رسي. ِني با ألركاديا عواملهم الفنية حيث التوق �إىل َوا�سِ م َ
�إجنليزيا ويف القرن َ ،19ي ِر ُد على البال متقدما حياة الرباءة والب�ساطة ب�إجمال« :هكذا تعاقبت
ال�شعراء والفنانني املنت�سبني لهذا اجلن�س ا إلبداعي � أعمال ذات خطر يف جمال الرعويات ،و َت َ�س َّم ْت
ان الرعويات، كل من � ألفريد تيني�سون Alfred Tennysonمن خالل كتابه باال�سم امليثي � :أركاديا .نذكر متثيال عمل ا إليطايل:
وهي تن�سج «�إيديليات امللك» (،)1885-1859 : Les Idylles du roi �سنازارو Sannazaroاملو�سوم بـ(� أركادي) (،)1504
عاملها الرعوي ثم �شارل براونينغ Charles Browningمن خالل كتابة وعمل لوتا�س ( l’aminta le tasseا ألمنتا) ( ،)1573وعمل
املو�سوم «الرعويات الدرامية» -1879( Les Idylles dramatiques اال�شاعر االجنيليزي ال�شهري فيليب �سدين (Philip Sidn
بالرباءة ..)1880اللذين � أغدقا على اجلن�س الرعوي غنائية � )neyأركادي � أي�ضا ( ،)1590ثم رعويات �شاعر
والطفولة، بهيجة ال تنكر. الرثيا ( )la pleiadeرون�سار ،Ronsardالذي �صور � أركاديا
تفتح � أ�ضواءها �إننا ،ونحن ن�رسد هذه املفا�صل ا أل�سا�سية لل�شعر � أكرث � أر�ستقراطية ورهافة .وبدءا من القرن ال�سابع
على املقارنة الرعوي تاريخيا ،مل نغفل وكيف يت�أتى لنا ذلك؟ ع�رش امليالدي � ،أ�صبحت ا ألركاديا ت�شغل م�ساحات
م�ساهمات ال�شاعر ا إلجنليزي الكبري �إدموند �سبان�رس �شا�سعة يف � أدب احلب ك�إطار للخيال اجلامح ،وهو
ال�ضمنية
Edmond Spenserمن خالل ن�صه العميق واحلفيل( :رزنامة حال الكاتب الرعوي . Honoré d’urfé
البعيدة عن الراعي) � The shepheards calenderأو ن�صه ال�سحري الد�سم وتظهر «ا ألركاديا» كمو�ضوع �شعري ت�صويري،
الواقع اليومي (ملكة اجلان) ،the Faerie queenو«م�ساهمات ال�شاعر يف لوحات نيكوالبو�سان Nicolas Poussinوكلود
املبتذل، ملتون من خالل ق�صيدته ( Lycidasل�سدا�س) و�شك�سبري لوران ،Claude Lorrainاللذين ا�ستلهما امل�شهد الرعوي
واملنحط، يف كوميدياته الغابية ،وق�صائد الرثاء الرعوية عند من املو�ضوعات الو�صفية املكر�سة للأ ركاديا
واملتهافت كل من �شيلي Shellyو� أرنولد Arnonldوومتن Whitman كماتخيلها ا ألقدمون .فاللوحة ال�شهرية لبو�سان
على املاديات ودلن توما�س .)11( »Dylan Thomas ( Poussinرعاة ا ألركاديا) ،التي حتمل عنوانا فرعيا
الزائلة مبا على � أن يف ا أل�س من هذا ،ويف خلفياته املعيارية (يف النعيم الرعوي ..)In arcadia Ego :وهي تظهر فريقا
يعني اتكا�ؤها مبعية �إيدليات (رعويات) ثيوكريت وبيكوليك من الرعاة منكبا على قراءة توقيعة �شعرية منقو�شة
على احللم (رعويات) فزجيل ،النوع ال�شعري الو�سيط «الرعوية على �شاهدة قرب ،تخرب-بطريقتها -ب�أن حياة الب�رش
ال�صغرى» ذات التيمة املت�شابهة واملتواترة الربيئة يف ا ألركاديا ،ال ت�سمح لهم با إلفالت من
والرفرفة فيما
واملتوارثة يف القرون الو�سطى جميعها :تيمة الفار�س �شبح املوت الذي يتعقبهم .كما �شهد القرن الثامن
هي ترثي واقع الذي ينتوي ويفكر يف اغت�صاب «راعية» ي�صادفها ع�رش امليالدي ،طفرة نوعية لل�شعر الرعوي م�شدودة
احلال .ومن هنا يف مرعى .تتميز الرعويات ال�صغرى بتناوب ال�رسد �إىل املو�ضوعة امليثية «ا ألركاديا» دائما.
� أي�ضا ،تنوعها، واحلوار على معمارها البنائي ،وعلى النقي�ض من وقد متيزت هذه الكتابات الرعوية ب�سمو لغتها
فهي مكنونة «الرعوية الكربى»� ،إذا جاز التعبري ،ف�إن ا ألمكنة وبديع �صورها -وال نن�سى � أنها كانت تكتب
يف ال�سرود ،ويف وال�شخ�صيات يف الرعوية ال�صغرى تكت�سي طابعا للطبقة االر�ستقراطية-كما توهجت مبو�ضوعات
احلوارات ،ويف واقعيا � ،أو يتم ا إليحاء بواقعيته .من هنا ،فعن احلب الالذع الذي جمع بني الراعيني � أ�سرتي Astrée
تو�صيف م�شاهد «رعوية �( Marcabrurآخر القرن الثاين ع�رش امليالدي)، و�سيالدون ،Seladonوحب ديان و�سيلفاندر Diane et
حقيقية � أو تنت�صب مثال �شاهدا يف هذا املجال. Sylbandreاملم�ض ،والوجد احلارق لهيال�س املتهتك
ويف 1285م ،ا�ستطاع الكاتب � آدم دوالهالADAM de : واخلليع الذي ال ي�ستقر على حال.
خيالية
� la halleأن يطوع هذا اجلن�س من خالل م�رسحته لعمل وملا جاء القرن الثامن ع�رش امليالدي ،ت�سنمت
َعنْ َو َن ُه( :لعب روبان ومربون) بف�ضل ما انطوت عليه الرعوية ذرى مل ي�سبق � أن و�صلتها يف القرون
التيمة الرعوية من طاقات ميمية ،وبف�ضل البنية ال�سابقة ،بف�ضل رهافة ذوق القرن ومتدن � أ�صحابه.
ال�شكلية لهذا الن�ص ال�شعري الغنائي ذي ا أل�صوات بل �إن الرعوية �شحنت بخطاب فل�سفي جديد ومنظور
املتعددة»(.)12 متطور � أَ َجدَّ ،ويكفي � أن نذكر �شاعرين كبريين � ،أما
فهذه «الرعوية ال�صغرى» تتحدد ب�شكلها الوزين � أحدهما ففرن�سي وهو � André chenierأندريه �شينيي
كخا�صية مفارقة ومائزة عن الرعويات التي �ستعرف �شاعر القرن بال منازع � ،أما الآخر فهو كِ�سنرَ ْ gessner
ْ
93 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
بحب الفار�س ،والفار�س املذنف بها .وعالوة على حتوال ابتداء من القرن ال�ساد�س ع�رش امليالدي� ،إن
ذلك ،تلعب العنا�رص ال�رسدية � أهمية بالغة يف ن�سج على م�ستوى املحتوى بتج�سري العالقة جمددا مع
خيوط الرعوية ال�صغرى م�ؤطرة حكيها بو�صف عذب رعويات ثيوكريت وفرجيل � ،أو على �صعيد البناء
لف�صل الربيع ،وهموم الراعية ال�ساذجة ،وهي ترفع اللغوي ا ألليجوري والتخييل الذي اقت�ضته اال�ستجابة
َ�ش َكا َتها من عذابات الهوى الذي َبرَّح بها .حتى �إن لنداءات املرحلة التاريخية وم�ستلزمات النه�ضة
الباحث زنك Zinkيقول�« :إن هذا النوع ا ألدبي كانت الفتية« .وهو �شكل يقارب يف وجهه العام وزن
له وظيفة خال�صة ،تتلخ�ص يف التعبري عن الرغبة الغناء امللكي :الذي هو � أحد تنويعات ال�شعر الغزيل.
اجل�سدية ،والتلمظ ال�شهواين كا�سرتاحة ع�سلية بعد فالرعويات ال�صغرى تتكون من � أحد ع�رش �سطرا مل يفت � أدباء
ا�ستنفاذ و�سائط الغزل العذري(.)15 موزعة على ثماين مقاطع يف املذكر ،وت�سع مقاطع و�شعراء وفنانو
� أما بيريبك ( )Pierre Becفو�ضع كرونولوجيا تظهر � أن يف امل�ؤنث ..ف�ضال عن � أن التنويع الوزين يتواتر فيها. ع�صر النه�ضة،
املرحلة التاريخية الفا�صلة بني 1210و ،1240 كما � أن من خ�صائ�ص بنياتها تكرار الالزمة .وب�سبب
� أن ينكبوا
عرفت عهد الغزل العذري يف �شمال فرن�سا ،ورعويات من تغري الوزن فيها من ن�ص �إىل ن�ص � أو داخل الن�ص
�صغرى ذات م�ستوى �شعري عال .وي�ضيف قائال: الواحد ،فقد تعذر تعريف هذا النمط الكتابي تعريفا بدورهم على
لجنا�سي من رعوية Marcabrur «لقد بد� أ هذا التقليد ا أ �شافيا .لذلك اعتمد يف دمغها التمييزي عن باقي هذه املفاهيم
( ..)1140وكان علينا � أن ننتظر �إىل العام ،1200 مل َ�سا ِمتَة ،على م�ضامينها ..وهو ما قام بها أل�شكال ا ُ والثيمات،
لينطلق التقليد ويتطور على يد احلادي ال�شاعر االناقدان :رميون فيدان وكيلهلم مولينيه Vidalو Molin وباخل�صو�ص
اجلوال Jean Bodelوبارت�ش وغريهما .فكل الرعويات .)13(nierفما هي هذه اخل�صو�صايت امل�ضمونية التي «الركاديا»أ
ال�صغرى ا ألخرى كان منطلقها الزمني هو القرن متنحها وجودها املميز ،وكينونتها الفارقة؟ �إنها جاعلني
الثالث ع�رش امليالدي على ال�شكل التايل: –بال �شك-ثوابت تيماتها امل�سكوكة التي تعاورها منها الب� ؤرة
1210-40 -م :املرحلة ا ألر�ستقراطية. �شعراء الع�صور الو�سطى .ومفادها ،فيما يذهب �إليه أ
ال�سا�س والنواة
1240-60-م :املرحلة الربجوازية. فيدال � ،أن عنا�رصها املكونة لبنائها الق�ص�صي ال
املركزية التي
ومل يكد ينتهي القرن املذكور حتى كانت تقاليد تخرج عن اللقاء الدائم لفار�س براعية ،متوددا لها،
ال�شعر الرعوي حتتل �صدارة امل�شهد ال�شعري يف بائحا مبا تكتوي به جوانحه من لظى احلب والهيام. دارت ن�صو�صهم
فرن�سا واجنلرتا ..بينما � أ�صبحت الرعوية ال�صغرى فممانعة الراعية ،وتذكريها الفار�س بالفارق ال�شعرية
� أثرا بعد عني ،و�إن ت�سللت تيمتها ا أل والروائية
�سا�س يف َخ َفرْ االجتماعي ،و� أنها الب�سيطة كما هي ،خلقت للب�سيط
�إىل ا أل�شكال الفلكلورية وا�ستكنت بها .
()16
�صنوها ورفيقها � أال وهو الراعي .ثم �إن التنوع ولوحاتهم
و�سواء وقفنا عند الرعوية ال�صغرى � ،أو عدنا ا ألدراج الوزين ،مل يكن اخلا�صية الوحيدة للرعوية ،بل � أي�ضا الت�شكيلية
�إىل ا إليديليات الثيوكريتية «الق�صائد الو�صفية» � أو ذلك اللعب الطوعي بعنا�رص املحتوى ..وقلب � أدوار عليها
«البي ُكولي ْك» :الرعويات الفرجيلية � ،أو ارمتينا عميقا بع�ض ال�شخ�صيات تك�سريا للنمطية اخلطية املتكل�سة.
نزوال �إىل ليل احل�ضارات � ،أو ا�ستعر�ضنا مذكرين «� أما ا ألمثلة فعديدة متنحها بر�شاقة � أ�شعار ريفيري
باملنجز الرعوي فائق النحت والبناء اللغوي Rivièreوبارت�س و� أوديو Bartsch :و Audieuكما يقول زنك
واال�ستعاري يف ع�رص النه�ضة والقرن الثامن .)14(Zink
ع�رش امليالدي والع�صور احلديثة-ح�سب التق�سيم وغالبا ما ت�سمى هذه الراعية (ماريون � Marion-أو
ا ألوروبي العري�ض -ف�إن الهيمنة املفهومية مارو � Marotأو Perenelleبريينيل) التي ترف�ض الفار�س
تخرتقها جميعها -يف زعمنا -وهي :الهروب من العا�شق ألنه لي�س من طينتها -كما � أ�سلفنا .-وبداهة
املحدودية �إىل الرحابة ا ألفدح ،رحابة ا ألركاديا ف�إن الراعي يحظى يف هذه املعادلة با ألف�ضلية-
واليوتوبيا ،والف�ضاء املرتامي الزاهي اخل�رضة، وغالبا-ما يكون الراعي هو (روبن � ،Robin-أو Perrin
واملرتع بالن�شيد والرذاذ .وهي االحتماء الرحيم –بريان � أوكيو .) guiot
بالغد احلامل � أو املا�ضي امل�أ�سوف عليه ،والب�ساطة وان�سجاما مع مبد� أ التنويع امل�شار �إليه ،ف�إن رعويات
الوديعة ،والرباءة املطلقة .وبعبارة � أوجز :هي مديح � أخرى ُتو�سِ ُع � أحيازها ملو�ضوعة الراعية ا ُ
ملدَلّهة
94 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s الكتابية قبل قرون؟ املا�ضي الذهبي املتخيل ،والنو�ستاجليا املربحة.
احلق �إن اجلن�س الرعوي كنوع � أدبي قائم الذات، ويف هذا يرى �شيللر �« :أن االيديليا هي �صورة عاطفية
�صار خربا وذكرى ،وما بقي منه هو منطه الذي ال�ستعادة احللقة املفقودة بني الطبيعة وبني روح
خ�ضع لتحوالت وت�صورات خمالفة أل�صوله ..من ا إلن�سان»(.)17
دون � أن تقطع مع روحه وجوهره اللذين ا�ست�رشيا يف �إن مفهوم الرباءة يف داللتها الطفولية ،يوجد يف
مناخات كتابية � أخرى �شعرية ونرثية وفنية .كتب القلب من اجلن�س الرعوي ،وهو املفهوم عينه
� أل�سنت فاولر ،Alastain Fowlerمنظر ا ألمناط وا ألجنا�س امل�ستكن يف حماولة ال�شاعر �شيللر وهو ي�صوغ الفرق
لدب يقولLe genre pastorale est mort : le mode pastor « : يف ا أ اجلمايل بني ال�شعر ال�ساذج وال�شعر العاطفي حيث
()20
.» rale perdure ينت�رص للأول باعتباره �صورة الطبيعة يف طفولتها
ولقائل � أن يقول ،وهو مطمئن� ،إن اجلن�س الرعوي وغ�ضا�ضتها وعنفوانها � ،أي ينت�رص ،باحلري ،لل�شعر
التقليدي اختفى باختفاء كبار �شعرائه يف الع�رص الرعوي من دون � أن ينتق�ص من الثاين ،وتلك م�س�ألة
احلديث. معقدة جتد كامل َتبرَ ُّجها املعريف يف ر�سائله �إىل
وال نعدم ا ألمثلة ال�ضاجة يف هذا الباب ..فلو جمايله ال�شاعر غوته ،ومقاالته املاحتة من املنهـل
ا�ستزدنا ،لقفز �إىل الذهن � أي�ضا ،ال�شاعر ا ألمريكي اجلمايل الكانطي دافق العطاء واحلدب التي �شكلت
روبرت فرو�ست ( ..)1963 -1874الذي ظل وفيا بدورها منبعا ثرا للأخوين �شلغل ،وال�شاعر هولدرلن.
جلذوره الرعوية الزراعية يف �سلوكه و�شعره وفل�سفته و�إذا كانت ن�صو�ص ثيوكريت الرعوية بعامة � أقرب ما
يف احلياة .على � أن اختفاء ه�ؤالء وغريهم من م�رسح تكـون �إىل تلك الن�صو�ص التي تعود �إىل زمن موغل
احلياة ،مل ي�ضع حدا لل�شعر الرعوي ،ذلك � أن كثريا يف القدم ،من حيث احتفا� ؤها بالطبيعة واملراعي
من موتيفاته وتيماته حتولت بفعل التطور العام واحلب وا ألنا�شيد« ،ف�إن �شعر الرعـويات يحمل –
بداهة ،مبقية على الن�سغ احلار ،الذي ي�رسي يف �إجماال-يف طياته معنى النقـد والهجاء للواقع من
�شجراتها ،نا�سجة من خيوط الذهب ،و� أوراق الربيع، خالل احلنني �إىل مـا�ض متخيل»(.)18
ما به احتمت من غطر�سة التكنولوجيا ،و�إن يف وهو ما تذهب �إليه الدكتورة نازك �إبراهيم عبد
ع�ش رهيف رقيق يكاد َيتَ َخل َّ ُع ويتفتت لو مل تع�صمه الفتاح حني تقول ...« :فقد ا�ستغل �شعراء هذا اجليل
خفته فيعانق الهواء وا ألثري ! بيد � أن هذه الرهافة، الرعويات( ،تق�صد جيل ع�رص النه�ضة ب�إيطاليا)،
وهذا ال�شفوف ،مل يحوال دون متوقف ال�شعر الرعوي وجعلوا منها � أداة للتعبري عن رغباتهم الثورية
املتحول من ق�ضايا الع�رص ،وما عرفه من �سقوط �ضد الكني�سة الكاثوليكية التي اعتربوها قد اتخذت
اليوتوبيات ،وانهيار ا ألحالم؛ معربا عن انهمام مبادئ التن�سك والزهد من قبل العناد فقط ،و� أنها
وان�شغال وخوف من ا�ست�رشاء اخلراب ،وا�ستفحال قد فر�ضت على معتنقيها ا�ستعبادا كامال لآرائها
الرماد ،وان�سداد الآفاق .حتى قال جوهان ويزينكا ووجهات نظرها .لقد عمد �شعراء هذا اجليل �إىل
�« : Johan Huizingaإن ال�شعر الرعوي يف معناه ال�شامل حرية الفكر و�إىل التمتع بجمال العامل بهجة احلياة
هو �شيء � أكرب من � أن يكون جن�سا � أدبيا وح�سب� ،إنه وملذاتها ،فوجدوا منفذا للتعبري عن رغباتهم يف
احلاجة لرتميم ت�صدعات احلياة»(.)21 الرعوية الكال�سيكية ،لذلك ف�ضلوا ا�ستخدامها»(.)19
وترتيبا عليه � ،أميكن املجازفة بالقول �إن كل � أدب بعد كل هذا ،يثور �س�ؤال � :أما زال لواء املجد معقودا
يتق�صد االحتفاء بقيم اجلمال والعدل واحلرية، لل�شعر الرعوي من خالل هذه الت�سمية � أو تلك؟ � أم � أنه
وينت�سج بناء لغويا ا�ستعاريا باذخا مكر�سا لغد جن�س � أدبي التمع عرب ا ألزمنة وانطف�أ بغتة كالنيزك،
وما�ض ذهبي تغذيه نو�ستاجليا ٍ م�أمول � أقل ب�ؤ�سا، وك�أمنا بفعل فاعل؟ لكننا –دفاعا عن تيماته-
الفقد والطفولة الرائقة � ،أدب يعرب عن الرغبة امل�شتعلة نعار�ض ال�س�ؤال ب�س�ؤال � آخر وهو :و� أين امللحمة
يف ال�سالم وال�سكينة والطبيعة ومدح ا إلن�سان ،مبا وامل�أ�ساة والكوميديا ك�أجنا�س �شعرية كربى؟
هو كينونة وجودية � أرقى ،وانوجاد انطولوجي عليه � أمل ي�صبها ال�ضمور والذبول؟ ويف حالة امللحمة
العول يف ت�أثيث الكون بنعمة احللم ،وزخرفة احلياة تخ�صي�صا � ،أمل تخرج من التداول املعريف واملحاكاة
95 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قب�ضة ا ألر�ضي ،والزائل واملكرور .وقبل هذا وذاك، باخل�رضة الدائمة ،ون�شيد احلب ا ألبدي؟ � أدب كهذا
مل تكن اخلمر مبا هي وجه � آخر لالنفالت من ال�رشط حتققت فيه وبه املقومات املذكورة؛ هل ميكن نعته
املادي ،تعوي�ضا � أو بديال للمر� أة .كانت ،وقد َو َّثنَ َها با ألدب الرعوي؟ � أما نتوء التيمة الرعوية التي � أتينا
ال�شعر اجلاهلي ،وزادها توثينا � أبو نوا�س فيما عليها ب�سطا وحتليال ،فندرك � أنها �صارت �إىل احماء
بعد ،ا�ستكماال للذاذات ،وحتقيقا للفتوة وال�صبا � أو واختفاء وحتول باملعنى ا ألوفيدي� ،إنه املحو الذي
الت�صابي ،والدخول يف طق�س � أركادي حامل مل يكن هو �شغل الكتابة ال�شعرية التي ترتك بال�رضورة
عدوه �سوى الفجر القادم واملهرول ب�ألف عني ،و� ألف ب�صماتها و� آثارها ،ولكن التي متنح القراءة � أثر
موعظة وتهديد بالويل والثبور ،وب�سحب االنتماء �صمت ما ،ومن هذا ال�صمت ي�أتي جزء من اجلاذبية
القبلي! الآ�رسة للكتابات الرعوية ،ولكل كتابة تهفو �إىل
لقد كان ال�شاعر اجلاهلي واعيا مبحدودية الف�ضاء التحرر من النموذجية والنمطية ،وتقيم عر�سا لعوامل
على �ش�ساعته ،وب�ضيق ا ألفق على تراميه ورحابته، الطفولة املتواثبة واحللم ال�ضاحك � ! أم � أن الكل باطل
فاختار عامدا الذهاب �إىل الق�صيدة � ،أي �إىل االنفالت ا ألباطيل ،كل ا ألنهار جتري �إىل البحر ،والبحر لي�س
من �أَ�سرْ ِ واقعه ،واالرتباط -يف املقابل -باللغة، مبلآن!
لغة � أ�سالفه حمققا ب�صنيعه هذا وجوده الرمزي، فهل �سكنت هذه الروح � أطواء ال�شعر العربي القدمي
وخالقا ،من ثمة ،جنة حملوما بها ،تتمظهر من � أو يف ا ألقل رانت على � أخ�ص مناذجه ،و�شكلت � أحد
و�صفِيَّا ،ومن خالل خالل احليوان رفيقا وم�ؤن�سا َ � أبعاده؟
ال�صيد � ألهية وت�صابيا وطفولة .هكذا نفهم رعوية نبادر ونقول �إن ال�شعر اجلاهلي يهج�س بتلك الروح،
ال�شعر اجلاهلي ،وا ألمثلة بهذا ال�صدد ت�سعفنا فال وينت�رص للب�ساطة واحل�سية والفرو�سية � أي�ضا ،التي
� أقل من � أن ن�شري �إىل كتب اجلمهرات واملف�ضليات كانت � أحد مقومات الرعوية يف الع�صور الو�سطى
وا أل�صمعيات وغريها التي حتوي ن�صو�صا بل ا ألوروبية .كما � أن قاع الن�ص ال�شعري اجلاهلي
ف�صو�صا من الزمرد والياقوت واملا�سَ ،ت َعل َّ َق َها َعبرَّ َ بامل�ضمر كثريا وبالت�رصيح قليال عن حنني
التلقي العربي –يف ا ِإل َّبان -قبل � أن يكرم منتخبات دفني ،ونو�ستاجليا حارقة ،وبكائيات ما زالت َت ِر ُّن
منها بتعليقها على � أ�ستار الكعبة � ،أي على حيطان يف �سمع ا أليام ،توقا �إىل � أيام ذهبية خلت ،وتعلقا
اخللود ،و� أ ألبد ال�رسمدي! بنعيم ما فتئ الدهر يهدده بالزوال .وما الن�سيب
ف�إذا تخطينا احلقبةَ ،ت َو َّه َج �شعر الغزل العذري وو�صف الرحلة ..وما يعرت�ضها من � أخطار ،ويحدق
كا أل�سورة يف يد احل�سناء الب�ضة .ونحن نعترب � أن بها من فجاءات وطوارئ� ،إال تقليد رعوي �صار
الغزل العذري � أو بع�ضا منه –يف � أقل تقدير�-شعر �إىل كتابة �شعرية �صاقبت بل متاهت مع املوجود
رعوي يف بنائه وو�صفه ومو�ضوعته ،فهو من حيث ووجود ال�شاعر نف�سه ،م�ستح�رضة �شواخ�ص ترمز
البناء اللغوي ،يت�سم بالعذوبة والب�ساطة والرقة �إىل زمن هارب ،وم�ستدعية طيف املر� أة ،العذبة
ك�شعر ثيوكريت ،ومن حيث الو�صف ،فمكر�س للمر� أة وال�شهية ،خالعة عليها � أجمل ا ألو�صاف املادية
املثال � .أما مو�ضوعته ف�أفالطونية عنوانها الفناء ِب لقاء حتديدا ،ونائ�سة بني ن�صو�ص تقطر لذاذة غ َّ
يف املع�شوق ،واملوت ،عديد املرات يف اليوم ،من ال�شاعر باحلبيبة ،ون�صو�ص تر�شح � أ�سى والتياعا
� أجل النظر �إىل املحبوب ،حتى لك�أن ال�صوفية نهلوا ِب م�سعى خائب .ولنا � أي�ضا � أن ننتبه �إىل � أن طبيعة
غ َّ
من معينه ،وت�رشبوا �صبابات �شعرائه وعذاباتهم. ال�شعر اجلاهلي هي طبيعة رعوية بحكم اجلغرافيا،
كل ذلك ي�ؤطره ف�ضاء �إما �صحراوي � ،أو وادي ذي ومقت�ضى البداوة والقيم اخللقية .و� أن � أعلى مناذج
زرع � ،أو جبل �شهد براءة ال�شاعر واحلبيبة وهما ال�شعر اجلاهلي (املعلقات � أو املذهبات �سيان)
يرعيان الغنم منذ مطلع ال�شم�س �إىل مغربها، جمدت احلب ال�شهوي باعتباره � ،أوال ،اقتنا�صا
ويلعبان باحل�صى تزجية لوقت فارغ ،ثم يخطان للحظات ذهبية ماتعة ،وباعتباره ،ثانيا �إ�شباعا
على نقا الرمل � أحالما وغدا ذهبيا يتالمح يف ا ألفق لعط�شني :عط�ش بيولوجي ،وعط�ش روحي ،به يعلو
الالزوردي ا أل�صفى من عني ديك .ثم ت�أتي الريح ال�شاعر على واقعه الآ�سن ال�صحراوي ،ويتحرر من
96 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
منجز �شعري مغاير َفيُدَخِ ُل ال�شعرية العربية –من بغتة فال تبقي خطوطا وال ر�سوما ،فك�أمنا الريح
ثمة -وهي جذىل� -إىل حرائق ال�شعر وبهاء الن�شيد. نذير �ش�ؤم ،وغراب َبينْ ٍ يتعقبان ال�شاعر و�صبيته.
يف ال�سياق �إياه نعطي الكلمة للناقد العراقي عبد يف كل هذا ال�شعر ،كان الواقع املعطوب حا�رضا بكل
الواحد ل�ؤل�ؤة ،وهو ي�ضع اليد على رعوية ال�سياب يف نتوءاته وت�ضاري�سه لكنه احل�ضور امل�ؤ�سي املرفو�ض
بواكريه[ :حكاية (هالة) الراعية ،وا�سمها الرعوي وغري املرغوب فيه .وذلك واحد من مرامي ال�شعر
�صغ ُِرو َن َها(هيلة) ت�ضيف �شذى �إىل قهوة الرعيانَ ،فيُ َ الرعوي الذي حمل على عاتقه توجيه �سهام النقد
(ه َو ْيلَه) .وهذه جتربة �صادقة � أخرى ال للتحبيب ُ �إىل الواقع فيما هو يتحلل منه ،مب�رشا بغد جميل
تزيد �رشارتها عن جتربة (وفيقة) ال�سابقة. � أو م�ستعيدا ع�رصًا بعيدا َولىَّ ،فيه ما يبعث ال�سعادة
لكنه –هنا -يقول لنا بكل براءة القروي� :إنه كان ويغري باالحتماء وا إلقامة.
الن�ص ال�شعري ُي َقب ِّ ُل ا ألغنام التي كانت (هالة) ترعاها يف � أنحاء يف الع�رص احلديث ،وكنتيجة لالحتكاك بالغرب
باجلاهلي َع رَّ َ (جيكور) ألنه ر� أى راعيته تقبل تلك ا ألغنام ،فراح املتقدم والتثاقف � ،أمكن لل�شعراء � أن يقر� أوا متون
بامل�ضمر كثريا ال�شاعر الفتي يبحث يف الك�أ�س عن ف�ضل يناله: الآخرين بعيون مفتوحة ،وا�ستب�صار �أَلمْ َعِي ،فكان
وبالت�صريح و َقبَّل ْ ُت حتى البهم ملا ر� أيتها � أن احتفى ال�شعر املهجري -ف�ضال عن رومان�سيته-
قليال عن ُت ْقبَ ُل تلك البهـم قبلـة ثائـر بالرعوية م�ستبطنا ر ؤ�يتها وخميالها ،متيحا
فقد � أهتدي يف قبلة �إثر قبلة لل�شعرية العربية -و ألول مرة يف تاريخها-اخلروج
حنني دفني،
�إىل � أثر من ثغرها غري ظاهر �ص َمتَة وخيمتها البالية بالتوجه مل ْ
من �رشنقتها ا ُ
ونو�ستاجليا ويف هذا � أ�صداء من �شعر جمنون بني عامر(.)22 ال�سعيد ر� أ�سا �إىل الطبيعة احلاملةُ ،م َهلِالُ -كطفل
حارقة، فل�سطينيا ،يتقدم امل�شهد ال�شعري ،يف نب�ضه و�سمته � أعادوه �إىل � أبويه -بال�ضفاف والينابيع وا ألودية
وبكائيات ما الرعوي ،كل من حممود دروي�ش و�سميح القا�سم يف والطيور وا ألغنام واملراعي والرباري وال�شجر،
زالت ت َِر ُّن يف � أعمالهما ال�شعرية ا ألوىل حيث الطزاجة والطراوة خمطوفا بلأ الء النجوم وال�سماء واخل�رضة ،وجلني
اليام، �سمع أ والغنائية املكر�سة للأ ر�ض امل�رسوقة ،والف�ضاء املاء ،وبهاء الن�ساء .لقد ظل ال�شعر املهجري املحتفل
توقا �إىل � أيام امل�ستباح� .إن اال�ستق�صاء العميق لعنا�رص الطبيعة بالطبيعة يف غالبية ن�صو�صه ،يوقع عرب مناذجه
ذهبية خلت، الفل�سطينية ،وا�ستدعاء عوامل الطفولة ،وتنزيلها املده�شة ،ن�شيد العودة املرحة �إىل ح�ضن ال�ش�ساعة،
وتعلقا بنعيم املنزلة ا أل�سنى ..كطفولة منتهكة بانتهاك حقها يف ورحم الرحابة ،و� أمومة الغاب ،ملتفعا بالب�ساطة
� أر�ض � آبائها ،وجدها ا ألول كنعان ،لهو -يف نظرنا- والرباءة واحللولية �ضدا على مدنية �إ�سمنتية
ما فتئ الدهر
وثيق ال�صلة..متني ال�سبب بالتجلي الرعوي ،ما دام وط َها ال�رشور .ولنا يف �شعر ُي َ�سوِّ ُرها الفجور ،وتحَ ُ ُ
يهدده بالزوال � أن الرعوية-كما �أَلحْ َ ْفنَا -تدور على الن�ص ال�شعري، جربان خليل جربان( :البدائع والطرائف-ال�سابق-
كما تدور اخليوط على الو�شيعة ،ويف بالنا ،تتداعى املجنون) ،ويف �شعر ميخائيل نعيمة (هم�س اجلفون
املجاميع التالية � :أ �-أوراق الزيتون-عا�شق من والنهر املتجمد) ،ون�سيب عري�ضة (ا ألرواح احلائرة)،
فل�سطني �-آخر الليل-الع�صافري متوت يف اجلليل.. و�إيليا � أبو ما�ضي (اخلمائل واجلداول) ،ور�شيد � أيوب،
�إلخ ملحمود دروي�ش. ويف �شعر ر�شيد �سليم اخلوري ،املهجري اجلنوبي
ب �-أغاين الدروب-قر� آن املوت واليا�سمني �-أحبك امل�شهور بال�شاعر القروي ،لنا يف متونهم ا أل�سا�سية
كما ي�شتهي املوت -جهات الروح�..إلخ بالن�سبة �إىل هذه ،املثال احلي على البعد الرعوي خملوطا-دون
�سميح القا�سم. ريب -بالرومان�سية .كما � أن � أبا القا�سم ال�شابي
أ
لكن ال�شاعر الفل�سطيني الكرث احتفاء بالرعوية مينحنا �سانحة االدعاء بانت�ساب ديوانه اجلميل
الزراعية ..الرعوي بامتياز هو ال�شاعر عز الدين والعذب �( :أغاين احلياة) �إىل جمال ال�شعر الرعوي
اد ُه ثماو َد هذا ال�شكل ال�شعري َو َر َ املنا�رصة ،ألنه َر َ وكذا ال�شاعر امل�رصي حممود ح�سن ا�سماعيل من
با�رشه ممار�سة �شعرية وتنظريا ،وبالتايل ،ف�إنه خالل �( :أغاين الكوخ-وقاب قو�سني).
ك�شف عن مق�صدية ونية توجهت نحو الرعوية. وتتيح بواكري ال�سياب ال�شعرية القول برعوية �شعره
ولعل ذلك � أن يحقق ل�شعره ال�سبق والتميز واالنت�ساب ورومان�سيته يف � آن ،قبل � أن ي�رضب موعدا مع
97 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s
wميكن القول �إن الكتابة العمانية اجلديدة قد �سعت ،بد�أب وا�ضح� ،إىل
ت�شكيل جماليات مغايرة� ،سواء من حيث الثيمات �أو ا أل�ساليب الفنية
الق�ص ونه�ضت على عدد من اال�سرتاتيجيات التي وقفت ّ وتقنيات
الدرا�سة على بع�ضها ،هي� :شعرية التجاور ،ال ا إلزاحة �أو الت�ضاد .كتابة
بقوة اليوميات .كتابة من موقع احللم .كتابة ت�سمو فوق �أ�رس الواقعي،
بحثا عن غرائبية رحبة .كتابة تخلق عاملا افرتا�ضيا بديال .كتابة تلفت
االنتباه بقوة �إىل ق�ضايا املر�أة املعا�رصة .كتابة ت�سعى بد�أب �إىل اخلروج
من هيمنة الن�ص املغلق واالرمتاء يف ف�ضاء الن�ص املفتوح.
معه ال�شعراء العرب املحدَثون مطالَبني ب َطرْق �أبواب �أقول :تبدو يل هذه املهمة �أمرا بالغ ال�صعوبة ،حيث
التجديد �سواء على م�ستوى ال�شكل �أو امل�ضمون ،فتخلّ�ص تت�ضمن �أعداد «�رشفات» وحدها ،يف الفرتة من �أغ�سط�س
البع�ض منهم من �شكل الق�صيدة العمودية وثاروا عليه 2008م حتى �أغ�سط�س 2009م ،قطاعا كبريا جدا من
وانخرطوا يف ق�صيدة التفعيلة بدعوى �أن احلداثة «�شك ٌل» الن�صو�ص اجليدة التي �سوف نحلّل بع�ضها يف ثنايا هذه
قبل �أن تكون «م�ضمونا» دون �أن يدركوا �أن جوهر ال�شعر الدرا�سة .وال يعني هذا اال�ستهالل فرارا من جدوى التجربة
هو «ال�شعرية» ،وراح البع�ض ا آلخر منهم ميار�س الكتابة �أو املحاولة ذاتها� ،أو تقليال من �أهميتها ،وفاعليتها ،بل
يف ال�شكلني ال�شعريني -العمودي والتفعيلة -كمن يقب�ض هو با ألحرى �إدراك خل�صو�صيتها وغوايتها ،وما ميكن �أن
على الع�صا من الو�سط ،وانفرد ا ألقلية منهم مبحاوالت يعرت�ضها من مزالق .لقد كان الدافع ا أل�سا�سي �إىل كتابة
التجريب يف �أر�ض بكر ،مرت ّنحني ما بني النجاح تار ًة مطوال حتت عنوان «قراءة يف ن�صو�ص الباحث مقاال �شهريا ّ
وا إلخفاق تار ًة �أخرى حتى انبثقت ق�صيدة النرث العربية من ا ألدب العماين» يف ا ألربعاء الثاين من كل �شهر هو ت�سعى الق�صيدة
من ب�ؤرة امل�شهد ا إلبداعي ال�شعري العربي املعا�رص، تد�شني ن�ص نقدي ي�سعى �إىل حتقيق �أمرين: العمانية بد�أب
و�أ�صبح لها �شيوخها ومريدوها ون َّقادها .ما نق�صد �إليه �أحدهما :حتليل جماليات الكتابة العمانية اجلديدة �إىل حفر جمرى
من مغزى هذا «الرطان» النظري – ونح�سبه لن ينتهي يف �سياقها ا إلبداعي العربي ب�صفة عامة من ناحية،
�شعري خا�ص
ما دام ا إلبداع العربي متجدّدا؛ ألن التغيرّ هو �سنّة كونية ثم و�ضعها يف �سياقها ا ألعر�ض املت�أثر ببع�ض تيارات
ا إلبداع العاملي من ناحية �أخرى. بها ،ي�ضعها �إىل
مرتبطة بوجود ا إلن�سان ذاته ما دام حيّا وفاعال ،و�رصاع
وثانيهما :عدم خ�ضوع الن�ص النقدي لوظيفة املتابعة جوار ازدهار
ا ألجيال وا ألفكار واملفاهيم ،وحتى �رصاع ا ألنواع �أو
ا ألجنا�س ا ألدبية ،موجود كذلك -هو الت�أكيد على الوعي ال�صحفية التي قد تركن �إىل مبد� أ اال�ست�سهال �أو التعميم، – �أو «انفجار»
بخطورة مفهوم «ال�شعرية» � أو «ا ألدبية» � أو «البويطيقا بل حماولة الباحث اجلادة ر�صد مترّد هذا الن�ص النقدي – ال�سرد العماين
»Poeticsالذي يت�سامى فوق �رصاع ا ألنواع وا ألجنا�س؛ ألنه على نف�سه ،بهدف ا�ستكناه ما يعتور داخل ن�صو�ص ا ألدب املعا�صر� ،سواء
جوهر كل �أدب �سواء كان �شعرا �أو �رسدا ،كما �أنه مفهوم العماين اجلديدة من طاقة خالقة وخيال حرّ وتقنيات �أ�صابت هدفها يف
يت�سامى فوق كل تراتب زمني �أو تعاقب تاريخي. متجدّدة. الحيان بع�ض أ
تتلون
يف هذا ال�سياق ،راحت الق�صيدة العربية املعا�رصة َّ ثانيا� :شعرية ت�ضاد أ�م �إزاحة أ�م تجاور؟ �أو�أخط�أت يف
يف �أ�شكالها كاحلرباء كي تعبرّ عن �رصاعات ا إلن�سان لقد ارتبط مفهوم ال�شعر دائما بو�صفه «ديوان العرب»(،)2 الخر، البع�ض آ
املعا�رص وحتوالته و�أزماته يف �شتّى جماليها ،فاهتمت لذلك ُكت َِب عليه �أن يدخل معارك وحروبا ثقافية ودينية ال بحثا عن
با إلن�سان متعدّد ا ألبعاد بالطبع� ،إن�سان � آين�شتني والن�سبية ناقة له فيها وال جمل ،بل من �أجل �إثبات الذات والبحث قيم جمالية
والفانتوم واال�ستن�ساخ ،ا إلن�سان الذي �أنتجته فل�سفات عن هوية خا�صة� .أق�صد هوية �شعرية ت�ستطيع �أن تلتقط
احلداثة وما بعدها ،ولي�س ا إلن�سان ذو البعد الواحد � -إذا وت�شكيلية مغايرة
النغمات املتنافرة للزمن احلديث كما فعلت الرواية وفنون
تر�سخا�ستعرنا عنوان كتاب هربرت ماركوز -الذي كانت ّ الق�ص ب�صفة عامة يف �أزمنتنا الراهنة .ومن الغريب �أن ّ
لكن ما �أخفق «كثري» له املجتمعات والفل�سفات ال�سابقةّ . يهتزّ كيان ال�شعر العربي ويدرك ال�شعراء املعا�رصون
من ال�شعر يف حتقيقه جنح «بع�ض» فنون ال�رسد يف التعبري خطورة املوقف وخطورة وجودهم ذاته مبجرد �أن ذهب
عنه وتفجريه وتثويره .من هنا� ،أ�صبح ال�شعر احلديث بع�ض الن َّقاد واملبدعني العرب (جنيب حمفوظ ،علي
ب�صفة عامة وال�شعر العربي ب�صفة خا�صة يف و�ضع م�أزوم الراعي ،جابرع�صفور)(� )3إىل و�صف ع�رصنا ب�أنه «ع�رص
مع ّقد. الرواية» ،و�أن زمننا الراهن هو «زمن الرواية ولي�س زمن
لك ّن الظاهرة الالفتة للنظر حقًّا بالن�سبة �إىل َم ْن يت� ّأمل ال�شعر»؛ ألن الرواية قد �أ�صبحت من �أكرث الفنون وا ألجنا�س
توجه كثري من الكتّاب امل�شهد ا إلبداعي العماين هي ّ ا ألدبية قدر ًة على جت�سيد تناق�ضات الزمن احلديث ،وراحت
والكاتبات -يف بداية تكوّنهم ا إلبداعي -نحو � أر�ضية تعبرّ عن �رصاعات ا إلن�سان املعا�رص وحتوالته و�أزماته
ال�شعر العربي املرتامية ا ألطراف ،ثم نراهم ينتقلون �شيئا يف �شتّى جماليها ،فالرواية كانت -و�سوف تزال ،مثلما
والق�ص بعد �إ�صدارهم ال�شعري ّ ف�شيئا �إىل ف�ضاء الرواية و�صفها ميخائيل باختني « -ملحمة الع�رص احلديث»(.)4
ا ألول ورمبا الثاين على ا ألكرث ،وال يعودون �إىل رحم ال�شعر من هنا� ،أ�صبح ال�شعر احلديث ب�صفة عامة وال�شعر العربي
�إال على ا�ستحياء بني حلظة و� أخرى .وقد ي�ست�شعر الباحث ب�صفة خا�صة يف م�أزق ال يح�سد عليه ،وهو م�أزق غدا
100 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املر�أة عرب تراث ديني وثقايف قدمي ي�ضعنا يف مواجهة التوجه نحو جن�س ال�شعر يف البدايات -يف ّ من وراء هذا
املر�أة ا ألوىل (حواء) يف عالقتها املرتبكة بالرجل ا ألول والرت�صد ،حيث ي�سقط
ّ بع�ض ا ألحيان �َ -سبْ َق ا إل�رصار
(� آدم) ،م�ستعريا عبارات قر� آنية دالة ،وحماوال يف الوقت بع�ضهم على �أر�ض الق�صيدة العمودية بجالل ال�شاعر
ذاته خلق �صورة جمالية للعا�شق الذي ال تكبحه عوائق ني بع�صا �ساحر وقلب الذي «هبط ا ألر�ض كال�شعاع ّ
ال�س ّ
عن �سعيه املحموم نحو اتحّ اده مبع�شوقه مهما كان بعد نبي» ،ويقع الثاين يف هوى ق�صيدة التفعيلة فيطارحها ّ
املكان �أو عمق الزمن ،ومهما كانت النتيجة ،فالو�صال هو غرام الكتابة املتحرّرة وفتنة �إيقاع املدينة املراوغ التي
اخلال�ص وامللج�أ واملالذ .يقول: هي «مدينة بال قلب» -بتعبري ال�شاعر �أحمد عبد املعطي
«هل امر�أةٌ �أخرجتك بتفاحتني حجازي -يف �أغلب ا ألحوال ،بينما ي�أبى الثالث �إال �أن
فغبت؟
َ ينهل من رحيق ق�صيدة النرث ويكتوي بغوايتها القاتلة
�أم احلب يبني �رصوح الرمال؟ املقتولة ،غواية اللَّعِب من حيث هو كتابة ،والكتابة
�س�أ ْحطِم قلبي العنيد بو�صفها «بني ًة وعالم ًة ولَعِبًا»( )5كما كان يقول جاك
ديريدا ،من ِّظر التفكيكية ا ألول ،جزائري ا أل�صل ،فرن�سي
و�أرمي خيوط الكالم ّ
ب�سم اخلياط».
لكن ثمة �س�ؤاال �إ�شكاليا يظ ّل معلّقا :ملاذا يلج�أ
وهو �أمر ال ينف�صل عن ما ي�صوره املقطع التايل بعنوان اجلن�سيةّ .
«نداء حنني» الذي ي�ضع املتل ّقي منذ اجلملة ال�شعرية ا ألوىل املبدع �إىل اختيار جن�س �أدبي بعينه دون غريه؟ هل هي
يف تراث ديني ي�ستعني مبفردات «الرباق» و«اليمام» من حاجة جمالية فح�سب؟ �أم حاجة اجتماعية وثقافية؟ �أم
�أجل بلوغ منزلة �أو مقام الو�صل ،ا ألمر الذي ي�ضفي م�سحة هما معا؟
�صوفية على الن�ص: ت�سعى الق�صيدة العمانية بد�أب �إىل حفر جمرى �شعري خا�ص
�ستحن �إىل �سدرة املنتهى �أو ركوب الرباق؟ «متى بها ،ي�ضعها �إىل جوار ازدهار – �أو «انفجار» – ال�رسد
ّ
�أعرّج عرب �سالمي العماين املعا�رص� ،سواء �أ�صابت هدفها يف بع�ض ا ألحيان
لعل ا�شتياقك للقبالت وذكرى املكان و�أخط�أت يف البع�ض ا آلخر ،بحثا عن قيم جمالية وت�شكيلية
حت ّفز فيك الرجوع». مغايرة ت�ضعها على خارطة ا ألدب العربي .من �أجل ذلك،
�أما ثاين النموذجني فهو ق�صيدة «لورا» خلالد املعمري، ترتكن الق�صيدة العمانية �إىل بع�ض اال�سرتاتيجيات التي
وهي ق�صيدة طويلة يتعامل فيها ال�شاعر مع املر�أة �أو ا ألنثى يجب �أن نقف عند بع�ضها ب�شيء من التحليل والت�أويل:
من حيث هي ذات جمرَّدة وغري قابلة للتعيني �أو التج�سيد. أ� -الق�صيدة بو�صفها أ�نثى(:)6
وهو �أمر ي�ضفي على مفهوم احلب معنى تران�سندنتاليا يتمثَّل اجلامع امل�شرتك بني منوذجي عبداهلل الكعبي
(متعاليا)( )7ين�أى به عن التطابق مع امر�أة بعينها .ولعل نود تناولهما هنا نقديا،
وخالد املعمري ال�شعريني اللذين ّ
تردد ال�صيغ ما ي�ؤكد املفهوم الرتان�سندنتايل للحب هو ّ وباخت�صار ،يف تعاملهما مع مفهوم الق�صيدة بو�صفها
اال�ستفهامية الكثرية التي تنحو منحى ا�ستنكاريا وا�ضحا: �أنثى .ف�أول هذين النموذجني ق�صيدة لعبداهلل الكعبي
�أل ِك الف�صول جميعها بعنوان «خم�سة نداءات ال تكفي إلرجاع طائر» .و�أول ما
ولنا انك�سار حكاية يف الظل؟ يلفت النظر هو هيمنة �صفة ا ألنوثة الطاغية على عناوين
ولورا ال جتيب!! املقاطع ال�شعرية التي حتقق وظيفة االت�صال/االنف�صال
ك�أنها عادت تف ّكر يف � آن :نداء �أم ،نداء وطن ،نداء امر�أة ،نداء حنني ،نداء
كيف عا�شقةٌ يداعبها ال�صباح؟ ق�صيدة .فا ألم والوطن واملر�أة واحلنني والق�صيدة كلها
ك�أنني ما كنت �أ�س�أل وجوه متعددة ألنثى الق�صيدة �أو لق�صيدة ا ألنثى بال فارق
كيف عا�شقةٌ ويخجلها ال�صباح؟ كبري.
لت �شيئا من �أغاين الع�شق ألنني ُح ِّم ُ لكن اال�سرتاتيجية ال�شعرية التي تنه�ض بها ق�صيدة
من قامو�سي املجنون الكعبي هي التنا�ص الذي ينفتح معه باب الق�صيدة على
�صمت
ٍ عادت تن�سج ا أل�صداء يف م�رصاعيه ليحيل القارئ �إىل تراث لغوي وعربي وديني
... ... ... ممتد ،ينبغي ا�ستح�ضاره من ذاكرتنا القرائية من �أجل
الف�ضي
ّ كم �أرجوح ٍة قامت تغنّي با�سمك ا�ستنطاقه وحماورته ،حيث يتعامل الكعبي مع �صورة
101 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s ال يزالون ي�سريون ومل ينتبهوا �أفعال الوجود واخللق .وهي ر ؤ�ية متتاح من ف�ضاء حداثي
�أن خيط النور يغويهم �إىل �أر�ض الرمال بالقطع ،تكمن يف قرارة القرار من ق�صيدة العامري ،وال
كم يحنّون �إىل برد لياليهم وهم ي�شوبها �إال ه�شا�شة بع�ض اجلمل ال�شعرية وارتباك املقطع
يتهادون عطا�شا ا ألخري الذي يبدو يل مبتورا وقلقا ،رمبا ب�سبب خط�أ طباعي
بني رم�ضاء التالل». �أو فنّي ،حيث يقول:
�إن املالحظ على ق�صيدة خمي�س قلم الق�صرية ،رغم ما «�شجرة الهواء
تنطوي عليه من جمال الفكرة وطرافتها ،هو لهاثها خلف حني َفن َِي الرتاب من ا ألر�ض
ا إليقاع الذي يكاد ي�سبق ال�صورة ال�شعرية وال يعقبها، �أورثني �أن �أتعلق
ا ألمر الذي ي�ضفي بع�ض الغمو�ض على مفردات ال�صور يف �شجرة الهواء
ال�شعرية وعالقاتها ببع�ضها البع�ض ،فتقع الق�صيدة� ،إىل عيون ا أل�شجار
حد ما ،يف �شكلية وا�ضحة. �أنحني للبذرة
د -ال�شرق بو�صفه مح�ض امر أ�ة: ألنها تذرف عيون ا أل�شجار».
اجللي التي حتمل عنوان ج -كهف المعنى:
ذات ا إليقاع ّ يف ق�صيدتها التفعيلية
«امر�أة واحدة ال تكفي» ،تطرح �سعيدة خاطر الفار�سي
()10
يف ق�صيدته التفعيلية ذات ا إليقاع الوا�ضح املعنونة
ت�صورا ا�ست�رشاقيا للعامل الذي تكتب عنه �أو «تكتبه» �إذا بعنوان «يف �سبيل ال�شم�س»( ،)9يتعامل خمي�س قلم مع وجه
�أردنا الد ّقة ،حيث ترى ال�رشق حم�ض امر�أة؛ �أق�صد �إىل �أن التنا�ص ال�شعري ،حيث تتفاعل ق�صيدته مع ّ � آخر من �أوجه
مرجعيات هذه ال�صورة ال�شعرية ذات جذور ا�ست�رشاقية م�ضمون ق�صة «�أهل الكهف» من حيث هم منوذج للمنفيني
قدمية �أر�ساها كثري من امل�ست�رشقني الذين عرفوا ال�رشق �أو الهاربني من بط�ش التاريخ و�أزمنة اال�ستبداد يف عهد
وراحوا يذيعون �أفكارهم عن �أن املر�أة ال�رشقية ال �صوت دقيانو�س امل�ضطهد للم�سيحية� ،إذا تذ ّكرنا درامية «�أهل
لها مطلقا ميكن �أن يعلو فوق �صوت الرجل (الذكر) ،يف الكهف» لتوفيق احلكيم .لكن َمنْفيّي خمي�س قلم يختلفون
الوقت نف�سه الذين ينظرون نظرة اختزالية ترى يف املر�أة عن منفيّي �أهل الكهف يف كونهم ينتمون �إىل زمن معا�رص.
املر�أة ال�رشقية حم�ض امر�أة �ساحر ًة ،ذات جمال � أ ّخاذ ال �إنهم فتيةٌ � آمنوا بقدراتهم الب�رشية وازدادوا �صالب ًة فوق
ي�ضاهى .لقد �أ�صاب تناق�ض هذه ال�صورة اال�ست�رشاقية َ �صالبتهم حيث راحوا ي�سعون �إىل حتقيق املحال .فال
للمر�أة العربية ق�صيدة �سعيدة خاطر التي راحت ت�صف حمال �أمام قدرة ا إلن�سان الفاعل يف املكان والتاريخ:
املر�أة يف �رشقنا بكونها امر� أ ًة ُخلِقت لكل �شيء ،ومن �أجل «حملوا رائحة الطني و�ساروا للجبا ْل
كل �شيء: كي ي�صيدوا ال�شم�س يف مكمنها
«الن�ساء يف �رشقنا.. ويعودوا باملحال
للن�سل للحرث للبهجة للبهاء من بالد دمها ثلج �سرَ َوا
امر�أة واحدة ال تكفي ال�ستحالب ال�شفاء». يف �سبيل ال�شم�س غابوا
ت�ستعني الق�صيدة مبفردات قر� آنية وا�ضحة (كاحلرث خم�س ًة كانوا وكلبًا َي ْقتَفِي
والن�سل ،ق�صة مو�سى وال�سامري ،فرعون م�رص ويوم آثار الظال ْل».حجرَ الدفء و� َ
الزينة� ... ،إلخ) من �أجل �إ�ضفاء مرجعية دينية وتراثية تتناول الق�صيدة ،كما نرى ،جمموعة من الب�رش املغرتبني
تدعم وجهة النظر التي تن�رسب يف ثنايا الق�صيدة ،والتي يف �أر�ض ال ينتمون �إليها ،لكنهم يف الوقت ذاته ال ي�ألون
يجب الوقوف عندها ب�شيء من التف�صيل .رمبا يبدو للقارئ جهدا يف بذل عرقهم من �أجل حتقيق ما قد �أتوا من �أجله
للوهلة ا ألوىل �أن الق�صيدة �أ�شبه بـ»مانيف�ستو» قد ي�صدر على �أر�ض الواقع� .إنهم قادمون من بالد ثلجية� ،أوروبية
جتمع ن�سائي بهدف مناه�ضة ا ألفكار الذكورية التي ال عن ّ املناخ ،قا�صدون بالد ال�شم�س ذات ال�صحراوات املمتدة،
تزال حتكم جمتمعاتنا العربية ،وال�رشقية ب�شكل عام ،يف لكن ما جمعهم هو وحدة الهدف ،كما �سوف �أو بالد النفطّ .
النظر �إىل املر�أة ،لكن ا ألمر من وجهة نظري يتجاوز هذا يجمعهم م�صري واحد هو قدَر الغرباء:
ا إلدراك املحدود ألبعاد الق�صيدة جماليا ور ؤ�يويا .لذلك، «يف �سبيل ال�شم�س غابوا
حملت ق�صيدتها ما ي�شبه ثنائية ال�صوت (�صوت املر�أة/ قدامهم � أ ُ
حالمهم �ش َّق َق ْت � أ َ
103 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يقول فيه: �صوت الرجل) ،لكنها ثنائية �صوتية ال توحي بتعدّد الر ؤ�ى
«�س�أبتكر امر� ًة من �صدف البحر
أ �أو وجهات النظر التي ت�صدر عنها ا أل�صوات ،بل تك�شف
و�أمنحها عطرا وقحا عن وحدة يف الر ؤ�ية اجلمالية والفكرية تنبع من وجهة
ر�ش على عينيها طنّا من �أ�رسار ال�سحرة و� أ ّ نظر ن�سوية مناه�ضة لوجهة نظر الذكر ،البطريارك �أو
و ألين �س�أموت من الع�شق ا ألب ا ألوحد ،الذي طاملا كان �سببا يف تغييب دور املر�أة
�س�أمنحها �أي�ضا العربية وتهمي�شه قرونا طويلة:
نبي «الن�ساء يف �رشقنا
قلب ّ َ
و ألين �أرجع طفال بني ذراعيها �أمنحها للثكل ..للرتمل ..للقهر ..للتكحل
جبلني من العطف بق�صائد اخلن�ساء ..وحمربة الرثاء».
وتالًّ من قلق الع�شاق». ويف مقابل �صورة املر�أة املقهورة ،املغلوبة على �أمرها،
متتاح �صورة املر�أة يف ق�صيدة املعمري الق�صرية من يح�رض الرجل ال�رشقي بثقله وحمموالته الثقافية والدينية
تربة عمانية وا�ضحة املفردات وا إلحاالت اجلغرافية .فهي بح�س ميل�ؤه
يتم ا�ستدعا ؤ�ه ّ لكن الغريب �أن ّ واالجتماعيةّ .
خملوقة من �أ�صداف بحرية يف منطقة جبلية ت�شبه كثريا التعاطف ،ال النِّ ْقمة واحلنق ،كما هومتو ّقع:
جغرافيا املدن العمانية ال�ساحلية اجلبلية يف � آن .و ألن «الرجال يف �رشقنا..
�صدف البحر وحده لي�س كافيا لبعث احلياة يف املخلوق للهم لل�سجن لنزف الكربياء
للحرب ّ
ال�صَّ دَيف اجلامد ،ف�إن ذات ال�شاعر ،ا إلله �أو اخلالق� ،سوف امر�أة واحدة ال تكفي لرتميم هذا ال�شقاء».
متنحها – �أو «تنفث فيها» -عطرا وقحا؛ �أي عطرا دنيويا هكذ ،يقع الرجل واملر�أة يف جمتمعاتنا حتت مطرقة القهر
وخ�ستها ،وفيه فيه وقاحة الدنيا ورخ�صها ونذالتها ال�ضاربة جذوره يف �أعماق التاريخ .لذلك� ،سيكون املوت
ّ يف �رشقنا «غابة تتكاثر فيها الهموم» ،وي�صبح كالوليد
�إن�سانيتها وغوايتها �أي�ضا .لك َّن كل ما �سيقوم به اخلالق،
املبدع ،حتى ي�صنع ما يريد على عينه � -إذا ا�ستعرنا ي�شب عن الطوق وينجب �أطفاال الذي يكرب ويكرب حتى ّ
عبارات الكتاب املقدّ�س ،من بداية «�سفر التكوين» و»القر� آن من قهر المتنا ٍه لن يكتفي ،بطبيعة احلال ،بامر�أة واحدة
الكرمي» يف قوله تعاىل ملو�سى «ولْتُ ْ�صنَع على عيني» -ال للق�ضاء عليه �أو حتى للتخفيف من حدّته؛ ألن املوت �أبدي
تكفي ل�ضمان حياة املخلوق� ،أو املخلوقة .لذلك� ،سوف يبلغ يوم القيامة:
ير�ش عليها طنًّا من �أ�رسار ال�سحرة حتى ي�ضمن لها البقاء حي ال ميوت
«املوت يف �رشقنا ّ
ّ يتكاثر وحده يعمر البيوت
عمرا مديدا �سوف مينحها مقام «اخللود» .لكن �صفة اخللود
ي�ؤ ّثث بجثثنا مقابر الفناء
التي ت�ضفيها ق�صيدة املعمري على املر�أة تباعد ما بينها
امر�أة واحدة ال تكفي لدفن هذا البالء».
نبي حتى وبني خالقها ،ا إلن�سان ،الذي �سوف مينحها قلب ّ أ
وعلى الرغم مما قد يبدو للقارئ من �ن ق�صيدة �سعيدة
فتهوى من ت�شاء ويهواها يبلغ ا ّت�ساعه الالحمدود ذاتهَ ، خاطر حتمل وجهة نظر �أنثوية �أو ن�سائية يف ر�سم معامل
كل املخلوقات� .أما م�صري خالقها (ا إلن�سان) فهو الفناء يف
�صورة املر�أة العربية �شعريا ،ف�إن هذا الت�صور الذي �أ�رشنا
الع�شق كفناء املت�صوفة يف ذات املحبوب ا ألوحد (اهلل)� ،أو �إليه م�سبقا �رسعان ما يتبدّد �شيئا ف�شيئا ليتك�شَّ ف لنا زيف
على �أقل تقدير ت�ضا ؤ�ل الرجل العا�شق �إزاء املر�أة املع�شوق الر ؤ�ية اال�ست�رشاقية والحتمية الر ؤ�ية الن�سوية؛ ألن ظرفنا
من منظور فرويدي يتحول معه كل رجل �إىل طفل ر�ضيع العربي ظرف خمتلف متاما ،له خ�صو�صياته التاريخية
ينهال على �صدر �أية امر�أة يقع يف هواها؛ ألنه �سوف يرى واحل�ضارية ،ووحدة القهر ال�رشقي والعربي من املحيط
فيها امتدادا طبيعيا ألمه .وحتى تكتمل مفردات �صورة �إىل اخلليج ال تعرتف بتفرقة نظرية �أو فل�سفية بني رجل
خللْق �شعريا� ،سيقوم هذا الطفل الر�ضيع مبنح امر�أته ا َ
جبلني من العطف وتالًّ من قلق الع�شاق .وعلى الرغم من وامر�أة� ،أو ذكر و�أنثى ،فالك ّل يف ّ
الهم العربي �سواء.
تت�سم بكثافة ال�صورة ال�شعرية التي قِ�صرَ الق�صيدة ف�إنها «الخ ْلق» ،و«مديح الك�سل»:
ه -عن َ
ّ
هي �صورة متثيلية من �صور اخللق الذي كان على املعمري يف ق�صيدته النرثية الق�صرية «ابتكار»( ،)11يتعامل عبد
ي�سمي بها ق�صيدته دون مواربة ،فتكون ق�صيدة «خلق» �أن ِّ اهلل املعمري مع امر�أة تخلقها خميّلته ،را�سما لها �سمات
بدال من «ابتكار»: ومالمح بعينها ،عرب مقطع وحيد بالغ االختزال والتكثيف.
104 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
و -الذاكرة بو�صفها ً
وطنا /الوطن بو�صفه ذاكرة: «�س�أخلق امر�أة من �صدف البحر
يف ق�صيدتها الطويلة جدا املعنونة با�سم «ذاكرة و�أمنحها عطرا وقحا
امل�شيمة»( ،)12ت�ؤ ّرخ فاطمة ال�شيدي لوطنها� ،أو لنقل بلغة � ... ... ...إلخ».
تردد املعمري وخوفه من ت�سمية ق�صيدته با�سم لكن ّ
لكن املفهوم �أد ّق :ت�ؤ ّرخ ملفهوم «الوطن» ب�صفة عامةّ .
املركزي الذي يتمحور حوله «وطن» فاطمة ال�شيدي هو «خلق» ،رمبا �سدًّا للذرائع� ،أو ا ّتباعا ملبد� أ «التقية» ،ال يقلّل
«الذّاكرة» ،من حيث هي ت�سجيل وت�أريخ وجغرافيا يف � آن. مما تت�سم به الق�صيدة من قيمة جمالية .ومع ذلك� ،سوف
تنبني ق�صيدة «ذاكرة امل�شيمة» على عدد كبري من يكون املعمري نف�سه �أكرث جر�أة يف مقطوعته التالية حني
لكن ي�صف امر�أته ،من حيث هي متثيل �شعري للمر�أة العربية،
املقطوعات املت�صلة املنف�صلة يف � آن ( 24مقطوعة)ّ .
كالً منها ي�ستق ّل بوجه وحيد من وجوه الوطن املتعدّدة؛ ب�أنها «�أكرث ك�سال من طاولة الغرفة»:
ا ألمر الذي يتحول ب�شعرية الق�صيدة من مدار ق�صيدة نرث «كفتاة نا�ضجة يف الع�رشين
تتحرك بخفة املجاز واخليال حول ا أل�شياء واملفاهيم مرتعة بال�شهوة �أو مثقلة بثمار اهلل
التي كنا نظن �أنها م�ستقرة يف ذاكرتنا (وما نحن �إال تغر�س �أطراف �أ�صابعها يف �صدر �أ�شعر
ت�سعى الق�صة �أو مت�سح ر�أ�س الهرّ الراب�ض مثل مالك
الق�صرية
مدونة تتغيّا التف�صيل خمدوعون)� ،إىل مدار وثيقة �أو ّ
والتق�صي .لذلك� ،سوف تكرث املفردات التي تتخلق منها يتوجب �أن يتنازل هذا الكون الكامل عن �ألعاب طفولته ّ
العمانية بد�أب، ّ
ذاكرة الوطن عند فاطمة ال�شيدي ،بل هي با ألحرى «ذاكرة من �أجلك».
عرب ك َّتابها امل�شيمة» �أو الرّحم ا ألول الذي ال ي�ستطيع كل �إن�سان �إال وال يخفى ،بالطبع ،تلك ا إل�شارات ذات املحموالت اجلن�سية
وكاتباتها اجلدد، �أن يظل مو�صوال به ،مهما ارحتلت به الذات يف الزمان �أو تلمح وال ت�رصّح ،تكني وال تف�صح ،فج�سد الرمزية التي ّ
�إىل �إدراك املكان؛ ألن القطيعة مع الرحم� ،أو االنف�صال عن امل�شيمة، املر�أة حني ين�ضج بال�شهوة �أ�شبه ب�شجرة� ،أو نخلة ،مثقلة
جماليات وقيم هي املوت عينه: بثمارها املدالّة ،وحني تت�أ َّجج بها نريان ال�شبق تغر�س
تتهجى مفردات احلياة. �أ�صابعها يف �صدر الرجل ا أل�شعر ،ذي املالمح ال�صحراوية،
فنية وت�شكيلية -وطني ذاكرة ّ
حتاول �أن ّ
تر�سخ -وطني �أ�صابع تعاقد �أ�صابع احلزن يف حلظة الفقد. �أو الربّية ،فتم�سح ج�سدها يف �أع�ضاء ذكورته كمن ّ
يتم�سح
الب�ضة تتعلَّم لذة العناق؛ �إذ يتداعى -وطني ا ألج�ساد ّ بهرّ بالغ النعومة وا إلح�سا�س بالدفء واحلميمية� .إنها
�أقدامها يف امر�أة �سلبية ،ك�سول ،هي نتاج ت�صورات ذهنية �ش ّكلتها
احلنني.
�أر�ض الكتابة ر�سخ لها تراثنا العربي القدمي �شعرا ونرثا:
-وطني �أ�رسار الرمل الطاهرة خمبوءة يف كريات ثقافة عربية َّ
البداعية إ ال�صحراء. «وملاذا مت�ضني �سنينا كر�شاء (مبخالب عطر �شهوي)
-وطني لغة ال�سالم املرفرف كا ألجنحة، عابث ٍة بحذاء العا�شق
خارطة البيا�ض املتمادي يف عنفوان الفراغ. هل يتنازل عن كل حذاء ميلكه وي�رضب خيمته
-وطني غرف الذاكرة املطف�أة �إال من بقايا �رساج، يف باحة دار �أبيك
�شهي. � ... ...إلخ».
ولذّة عود ّ
-وطني لكنة اللغات تخت�رص م�سافات احلكي، لكنها امر�أة جتمع بني الك�سل وال�رشا�سة ،مبا قد يومئ �إىل
ومتدّ ج�سورا من البهجة بني احلروف، تغيرّ مفردات �صورة املر�أة العربية املعا�رصة عن مثيالتها
� ... ... ...إلخ. يف احلقب ال�سابقة:
وعلى الرغم من تعدّد مفردات �صورة الوطن يف الق�صيدة، «تبدين امر�أة �أكرث ك�سال من طاولة الغرفة
ف�إن ما ي�ستوقف الباحث ،يف غرابة ،هو ال�صورة ا آلتية: و�أ�رش�س من نار نفطية
«وطني �أحاديث املطر ترثثر بني احلقول الفارق �أنك بي�ضاء �أكرث من لون �بي�ض».
أ
�إذ يحر�سها (خيال امل� آتة) والع�صافري ت�ضحك وقد تعني �صفة البيا�ض ،هنا ،يف ظاهرها� ،إ�ضفاء طابع
على �أنفه ،ي�أكله الدود فال ي�ستجري، �إيجابي على املر�أة العربية ،من حيث اجلمال �أو النقاءّ ،
لكن
وا أليدي ي�ش ّققها الغبار على مقربة من ال�سماء؛ �إذ الو�صف ذاته ينطوي ،يف العمق ،على بع�ض املحموالت
ترتفع بالدعاء. ال�سلبية كاخلواء والفراغ وعدم القدرة على اتخاذ موقف
وال�ساقية تدغدغ ا ألنا�شيد فتعلو يف بهجة املزامري». �أو قرار.
105 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
لكن غنائية الق�صيدة عند بدرية الوهيبي يوازيها حترر ّ ال �أعلم يف حقيقة ا ألمر ما عالقة هذه ال�صورة �شديدة
وانعتاق الكتابة من �أ�رس ا إليقاع ،حيث ترمتي يف �أح�ضان امل�رصية -التي ذ ّكرتني بق�صائد �صالح جاهني ا ألوىل
نرثية ال�شعر �أو �شعرية النرث التي حتمل هموم ا إلن�سان من ديوانه «القمر والطني» كما �ألقت بي يف قلب ق�صائد
املعا�رص يف ق�صيدة ق�صرية جدا لعائ�شة ال�سيفي عنوانها ف�ؤاد حدّاد وعبد الرحمن ا ألبنودي ،وكثري من �أجواء
�صديق �ضلوعه الطريق»(:)14
ٍ «عن ق�صائد �شعر العامية امل�رصي -بذاكرة امل�شيمة �أو ذاكرة
كنبي الفرا�شات
«جاحما ّ الوطن عند فاطمة ال�شيدي .ولي�ست هذه نظرة �شوفينينة
دعه ير ّتب ما ي�شتهيه املدى للمدى تتكئ عليها مرجعيات القراءة لدى الباحث ،بل �أق�صد �إىل
وال�صديق ملا ي�شتهيه ال�صديق �أن مرجعية ال�صورة ال�شعرية متتاح ،هنا ،من بيئة خمتلفة،
قل له: بيئة زراعية با أل�سا�س فيها «خيال امل� آتة» ،و»ال�ساقية»
�إن قلبك يا �صاحبي قد ت�ضيق الكمنجات عنه و»املزامري» ،بحيث تبدو يل مفردات ال�صورة ال تت�صل �إال
ولكنني ال �أ�ضيق». بقطاع �صغري من قطاعات اجلغرافيا العمانية.
مدونة ال�شعر العماين ،دون
هكذا ،تتجاور «ال�شعريات» يف ّ قد يرتاءى للباحث �أن هذه الق�صيدة ُكتِبَ ْت من خارج
�أن تزيح �إحداها ا ألخرى ،كما �سوف تتجاور ال�رسديات الوطن� ،إذا ا�ستدعينا عنوان مذكرات �إدوارد �سعيد Out Of
وتتقاطع يف ف�ضاء �أدب عماين جديد ي ّطرد يوما بعد يوم، بح�س نو�ستاجلي وا�ضح يوازي �إح�سا�س املنفيني ،Place
ّ
واعيا بخ�صو�صية جتربته وحمليتها ،غري غافل �أبدا عن تت�ضام مفردات �صورة الوطن ومالعب واملغرتبني ،حيث
ّ
�إدراك التغيرّ ات اجلمالية والثقافية التي تطر� أ على ا إلبداع ال�صبا وال�شباب وتن�شط الذاكرة ال�شخ�صية والذاكرة
العربي ب�صفة عامة. القرائية �أي�ضا ،وتتحول �صورة البيت املتوا�ضع ،على
ثالثا� :سرديات ق�ص�صية جديدة: م�ستوى الواقع� ،إىل «جنّة» ت�سكن قاع املخيّلة ،وال ميكن
ا�ستئ�صالها بحال� .إنها كتابة تقوم -كما �سبق �أن ذكرنا
ت�سعى الق�صة الق�صرية العمانية بد�أب ،عرب كتَّابها
-على منطق التداعي احلر �أكرث من كونها كتابة �إبداعية
وكاتباتها اجلدد� ،إىل �إدراك جماليات وقيم فنية وت�شكيلية
تخل�ص ملفهوم اجلن�س ا ألدبي الذي ي�ؤ ّطرها� ،شعرا كان �أو
تر�سخ �أقدامها يف �أر�ض الكتابة ا إلبداعيةحتاول �أن ّ نرثا.
الق�ص�صية العربية املمتدة منذ �سنوات و�سنوات .و ألن ّ
فن
تلم�س ىلإ � ت�سعى اجلديدة العمانية الق�صيدة تزال ال
الق�صة الق�صرية فن بالغ التعقيد واالختزال والتكثيف، ّ
جماليتها ،يف �إطار غنائية حمبّبة �إىل النف�س بالن�سبة �إىل
ف�ضال عن عدم ا�ستجابته ل�شكل جمايل بعينه �أو قيود نوعية
بعينها� ،إذا ما فكرنا يف نظرية ا ألنواع ا ألدبية بدءا من الكثريين من كتَّاب ق�صيدة التفعيلة ،حتديدا ،ومتذوقيها.
�أر�سطو يف حديثه عن الفن الدرامي والفن الغنائي والفن فال�شعراء «دافئون كق�صيدة»( )13كما تخربنا بدرية
امللحمي ،ولي�س انتهاء بناقد مثل ميخائيل باختني حني، الوهيبي؛ ألن:
كان يتحدث عن «ا أل�سلوب بو�صفه النوع» -ف�إن كل ق�صة «ال�شاعر ج�سم نوراين
ق�صرية متميزة يف حد ذاتها ت�ستطيع �أن تخلق قانونا (�أو ال يع�شق �إال ا أل�سماء العظمى
«�أورجانون») ميثّل مدخال جيدا للناقد �أو القارئ اخلبري ... ... ...
،Super Readerكما يقول �أ�صحاب نظريات القراءة والتل ّقي. ال�شاعر وطن �شبحي
ال يعرف غري ال�سري �إىل �أر�ض الكلمات
أ�� -سردية الحلم: ينـزف
يف ق�صته «مكان � آخر متل�ؤه اخل�رضة»( ،)15يتعامل معاوية حرفا حرفا
الرواحي مع احللم بو�صفه مدخال �رسديا رحبا ميكن �أن فلتهد� أ روح الليل
يخ ّفف من وط�أة الواقع الغريب واملتناق�ض وامل�ؤمل. وروح القرب
فالراوي �شاب ي�سكن مع �أمه يف بيت متوا�ضع ،و�إىل جواره وروح ال�شاعر
م�ساحة �أر�ض خالء هي عبارة عن فناء يحيط به �سور، وليبد� أ هذا ا آلن ي�صلّي
ي�ستخدمه ا ألطفال ملمار�سة اللعب ،يف حني ي�ستخدمها كي تنبت يف الروح
ا ألهايل مقرب ًة لدفن املوتى من �صغار ا ألطفال .يحلم ق�صيدة».
106 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
هاربة وببطنها عقارب �صغرية .مررت بجوار �أفعى الراوي ال�شاب بحياة رغدة ي�صبح فيها م�س�ؤوال عن �رشكة
هر�ست ر�أ�سها بحجر وعدت للحفر ( )...انفجرت ا أل�سئلة ومدربا يف الوقت نف�سه للمنتخب ّ ات�صاالت معروفة،
يف ر�أ�سي ومل �أعد �أعرف ما الذي ينبغي �أن ُيفعل بامليت. الوطني لكرة القدم .وتكون ا ألم �سببا يف �إقامة عالقة بني
وهل هو ميت ؟ �أم �أن روحه مل تخلق بعد ؟ وهل �أ�ضع ر�أ�سه دعى «زينة» ،ابنة اجلريان ،التي �أكملت الراوي وفتاة ُت َ
باجتاه القبلة �أم العك�س؟ طوفان من ا أل�سئلة قاطعه بكاء مدر�سة ب�إحدى املدار�س .لكن زينة تعليمها وراحت تعمل ّ
�ضئيل ( )...ر�أيت يدًا ب�ضة �صغرية تخرج من اللفافة وتزيح ت�سقط يف اخلطيئة قبل �أن تتزوج من الراوي الذي يجد
املالءة بغ�ضب ،عال ال�رصاخ� .شعرت بال�صمم من علوه. نف�سه مرغما -حتت �إحلاح �أمه -على حمل امل�س�ؤولية
يل ببنانه».
�سمعت الطفل ي�رصخ ،وي�شري � إ َّ عنها بدال من �أبيها الذي كان م�سافرا للخارج بحثا عن
مل يكن ثمة �سبيل �أمام الراوي ال�شاب �سوى دفن اجلنني املتعة والن�ساء .يكت�شف الراوي يف نف�سه حبا عميقا لزينة
ودفن �صوته معه ،يف م�شهد تراجيدي ينـزّ ك� آبة ومرارة. ابنة اجلريان وتعاطفا معها يف الوقت ذاته ،كما يكت�شف
ي�ضفي مثل هذا الفعل الذي يقوم به الراوي على الق�صة �أمر املقربة العجيبة التي تقع بجوار بيتهم ،ومل يكن
�أبعادا واقعية ت�ؤ ّكد على �أن ما يواجهه الب�رش من م�شكالت يعلم عنها �شيئا من قبل طوال تلك ال�سنوات؛ ألنه كان
و� آالم ومعوقات البد من مواجهته بحزم و�صالبة مهما يت�صورها -كغريه من ال�صبيان -جمرد حديقة جرداء
كان الثمن ،ك�أن لدغة العقرب ال�صفراء للراوي (الحظ ال نفع فيها.
داللة اللون ا أل�صفر التي تت�ضاد مع هيمنة اللون ا ألخ�رض تبدو حبكة الق�صة عند معاوية الرواحي حبكة ب�سيطة من
رد العتبار هذا اجلنني الذي ال ذنب له يف ف�ضاء الق�صة) ّ الناحية التقنية ،لكن �إ�ضفاءه بع�ض اللم�سات الغرائبية
يف دخول احلياة لثوان معدودات ثم اخلروج منها بهذه �إىل حد ما بحيث يتداخل الواقع واحللم ،يف ف�ضاء الق�صة،
الطريقة امل�أ�ساوية .لذلك ،كانت �أ�شجار املقربة تخ�رضّ �أمر من �ش�أنه �أن يخفف من �ضيق احليّز �أو الف�ضاء املغلَّف
تردد �صوت امل�ؤ ّذن ،بينما جثة الطفل قد �أينعت �أوراقا مع ّ بطعم املوت الذي تتناوله الق�صة :فا ألر�ض املجاورة
ُخ�ضرْ ا ،جتاوبا مع اجلو اجلنائزي الذي �أودى بحياة للبيت مليئة با أل�شجار اخل�رضاء املورقة طوال العام ك�أنها
ال�صغري داخل الرتاب: اجلنة التي ال تذبل �أبدا ،كما تقول �أمه:
«مع ت�صاعد �صوت �أذان املغرب كنت �أحدّق يف املقربة «�سبحان اهلل .هذه ا ألر�ض ال ماء ي�سقيها وال مطر ي�سقط،
املواجهة للبيت ...مع �صوت �إقامة ال�صالة كانت �أ�شجار ولكن �أ�شجارها دائمة اخل�رضة .البد �أن ذلك لطف من ربك
املقربة تخ�رضّ وتخ�رضّ ،وع�شب رائع يغطي القبور ّ
با ألطفال املدفونني بها .واهلل لو مل يكن بها غري ا ألطفال
ال�صغرية بهدوء وت�ؤدة».
ملا كانت اال �سيحاً مقفراً».
هكذا ،تنه�ض �رسدية الق�صة الق�صرية عند معاوية
مثل هذه ال�صورة ال�رسدية-الو�صفية ت�ضفي مل�سات
الرواحي على ذلك الت�ضافر ال�شفيف بني احللم والواقع،
ر�ض هي اجلنة واملقربة يف � آن ،فا ألطفال حني غرائبية أل ٍ
فما حدث كله مل يكن �إال يف ذهن الراوي وخميلته فح�سب،
أ
ميوتون �صغارا – يف الت�صور ال�شعبي عند �غلب املجتمعات
�أو ك�أننا كنا ب�صدد ق�صة بني قو�سني كبريين ،ق�صة ي�صبح
العربية – يتحولون �إىل ع�صافري حتلّق يف �سماوات اجلنّة:
فيها احللم مدخال �رسديا ملجابهة �إحباطات الواقع املقفر
وغرائبيته التي ت�ضع الراوي ،ال�شاب ،احلالمِ ،يف طريق «قومي ف�إن اهلل �سيجعل منه طريا من طيور اجلنة .قومي
زينة ابنة اجلريان ك�أنها قدره املقدور. يا امر�أة ِّ
ووحدي اهلل».
يتحول بدوره ،يف نهاية املطاف� ،إىل ّ لك َّن الراوي �سوف
ب -ال�سرد من (عن) موقع «الهام�ش»: ح ّفاَر للقبور �أو �إىل «دافن موتى»:
ح�سبما هو معروف يف فنون ال�رسد ،و�أالعيب ّ
الق�ص ،قد «غر�ست �أ�صابعي يف قطعة اللحم � .أ ُ
م�سكت قطعة اللحم ُ
يتغري �أحيانا موقع ال�سارد �أو الراوي تبعا لتغري وجهة واحت�ضنتها بهدوء .رجوت اهلل �أن ينقذين و�ن ي�ساحمني.
أ
النظر التي يريد الكاتب �أن ّ
ي�صور لنا من خاللها عامله قر�أت �سورتني ف�سكنت قليال».
الق�ص�صي� ،أو يقتطع لنا قطاعا من قطاعاته ،كما يف يذهب الراوي �إىل املقربة ليدفن اجلنني ،ابن اخلطيئة ،وابن
ق�ص�ص «العار�ض»( )16حلنان املنذرية ،و«علبة ..علبتان.. زينة �أي�ضا ،يف باطن ا ألر�ض ،خال�صا من العار الذي �سوف
ثالث علب»( )17ملاهر الزدجايل ،و«�ألوان»( )18ألمل يلحق مبحبوبته زينة:
املغيزوي .يف ق�صة حنان املنذرية ،تتحدث الراوية عن وجلَد .لدغتني عقرب �صفراء وان�سلت «بد�أت �أحفر به�ستريية َ
107 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أنت وتبيعني ب�أرخ�ص ا ألثمان ،ولكن دعني �أ�رسّ يف �أذنك «عار�ض �أزياء»� ،أو «موديل» ،يقوم بدور متثيلي ب�سيط
�أن احلانة املوجودة يف هذا الفندق من �أف�ضل احلانات يف �إعالن تليفزيوين عن م�سابقة تنظمها �إحدى �رشكات
املوجودة يف املنطقة .ويف هذه احلانة راق�صات عربيات... املياه الغازية .ويقوم �شخ�ص ،ممثل -يبدو من خالل
ال تفتح فمك هكذا ..نعم عربيات وجميالت وميكنك ببع�ض تنم عن تدنيّ
مالب�سه املتوا�ضعة و�سيارته املتهالكة التي ّ
النقود �أن تنام معهن بعد ال�سهرة الغنائية الراق�صة.»... طبقته االجتماعية -ب�أداء دور متثيلي يعبرّ عن �شخ�صية
املهم�ش يذهب �أدراج الرياح، َّ لكن حلم هذا ال�شخ�ص ّ مر ّفهة تبدو عليها �سيماء الرثاء من خالل املالب�س الفخمة
حني ينوي �أن يدخل �أحد الفنادق ويطلب زجاجة برية احلاد بني
ّ وال�سيارة الفارهة .وعلى حافة هذا التناق�ض
مثلجة وي�ستمتع مب�شهد الراق�صات العربيات وينتهي املمثِّل واملمثَّل ،ال�شخ�ص الواقعي والدور املتخيَّل ،يقف
به ا ألمر �رصيع الغواين يف �سيارة �إ�سعاف وهو يهذي العار�ض �أو املوديل يف عر�ض ال�شارع و�سط النهار ،حيث
«علبة ..علبتان ..ثالث علب» ،ألنه مل يكن ينتمي بالفعل االزدحام اخلانق يف مدينة كبرية ،هي م�سقط غالبا،
�إىل هذه الطبقة بكل ممار�ساتها احلياتية .لذلك ي�سقط وال�شم�س تدنو من الر ؤ�و�س ،لي�ستقبل مكاملة تليفونية يبدو
�رصيع اللذة بفعل ال�صدمة ا ألوىل له يف حياته .فقانون �أنها بالغة ا ألهمية ،حيث ترت�سم على وجهه انفعاالت �شتّى
اللذة الذي تنطلق منه �أيديولوجيا الراوي هو الوجه ا آلخر جعلته يقف ب�سيارته م�شدوها و�سط الزحام .و�إذا به ينزل
من قانون الطبقة التي ال تعرف املهادنة مع املتطفلني من �سيارته وجميع العربات ت�صدر �صفارات �إنذارها له
ممن يحاولون ت�سلّق جدرانها ال�شاهقة التي ت�شبه جدران بينما هو يف عامل � آخر متاما ،حتى �إنه ين�سى قواعد املرور؛
الزنازين وال�سجون اخلانقة. ألنه تل َّقى خرب فوزه باجلائزة الكربى.
النا آ
والخر: ج� -سردية أ على الرغم من ب�ساطة الق�صة وب�ساطة بنائها ال�رسدي
()19
يتناول حممد العرميي يف ق�صته الق�صرية « َتيْ َمه» ف�إنها ت�رضب على �أكرث من قيمة اجتماعية ،منها التباين
عالقة ال�رشق بالغرب� ،أو ا ألنا با آلخر ،بطريقة مكثّفة احلاد بني �أفراد املجتمعات العربية .فالعار�ض، ّ الطبقي
ودالّة �إىل حد بعيد ،تذ ّكرنا بن�صو�ص كتّاب كبار تناولوا �أو املمثل� ،أو املوديل ،متوا�ضع احلال وا ألجر والطموح
الق�ضية نف�سها� ،أ�شهرهم بالطبع الطيب �صالح ،و�سهيل يف مقابل ال�شخ�ص الذي ميثله العار�ض فنيا من حيث هو
�إدري�س وبهاء طاهر وغريهم ،مع مراعاة الفروق الفنّية ثم فهو ا ألحق يف الفوز ابن طبقة مميزة اجتماعيا ،ومن َّ
واجلمالية والتاريخية بكل ت�أكيد. باجلائزة الكربى ،من وجهة نظر الراوي وح�سب قانون
م�سعود ها�شم ،بطل الق�صة العرميي� ،شاب عماين من �أ�رسة املجتمعات املعا�رصة التي ال تعرف �سوى لغة ر�أ�س املال
مت ابتعاثه التي �سوف تزيد بالطبع من و�ضعيات «الت�شيّ�ؤ» الذي
متوا�ضعة تعمل يف زراعة النخيل واملاجنو ،وقد ّ
_ نظرا لتفوقه _ ال�ستكمال درا�سة البكالوريو�س يف منحة تعانيه جمتمعاتنا ا آلن.
درا�سية للجنوب ا ألمريكي .وهناك التقي بفتاة بي�ضاء من وال تبتعد ق�صة ماهر الزدجايل كثريا عن ذلك املنظور
�أ�رسة بالغة الرثاء تدعى «جينفر ىل هيز» .وهنا ،ميكن الق�ص�صي امل�ستخدم يف ق�صة حنان املنذرية .فالفقري
مالحظة التقابالت التي يعقدها الراوي-امل�ؤلف بني املت�سول الذي يجمع علب املياه الغازية من �أكوام ّ
مفردات :املكان ،الطبقة ،اللون�..،إلخ .كما �أن ا�سم جنيفر القمامة ،ويبيعها كل �أ�سبوع ببع�ض الرياالت التي تعينه
يحيلنا ،بطريقة �أو ب�أخرى� ،إىل رواية بهاء طاهر «احلب يف حتمل �أعباء احلياة ،هو منوذج ل�شخ�ص هام�شي � آخر على ّ
املنفى» .يتعرف م�سعود على جنيفر وال يرتكها حلظة ،يف يحيا على احلافة من جمتمعاتنا العربية .يحلم هذا ال�شخ�ص
�إطار من عالقة ت�شوبها انتهازية �أو م�صلحة ما: املهم�ش ،بتناول زجاجية برية حقيقية مثلجة الهام�شي� ،أو َّ
«مثلما كان يفعل طالب دول العامل الثالث الذين كانوا بدال من ارت�شاف بع�ض ما يتب َّقى من قطرات �ساخنة بفعل
ي�أتون �إىل �أمريكا هربا من الفقر واجلوع وبهدف احل�صول �شم�س ال�صحراء ،حيث يتخيل نف�سه يف حوار �أ�شبه بحوار
لحالم Land على اجلن�سية ا ألمريكية ...يف «�أر�ض الفر�ص وا أ ال�سكارى مع �إحدى الزجاجات التي تبوح له ب�أ�رسارها:
.»of Opportunities and Dreams «�إنني �أعي�ش مرحلتني من حياتي .املرحلة ا ألوىل �أعي�ش
ويف الوقت الذي يقرر م�سعود الزواج من جنيفر والعودة علي اجلميع ويعاملونني معاملة معززة مكرّمة يتهافت ّ
يفاج�أ بال�صدمة احل�ضارية بها �إىل بلدته «تيمه» ،نراه َ امللوك .املرحلة الثانية بعد �أن يفرغ ال�شخ�ص حمتويات
التي حتول بينه وبني �إمكان العي�ش يف وطنه ال�رشقي جويف يف جوفه عندها �أ�صبح قمامة ال قيمة يل لت�أخذين
108 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
رت �ساعات ذلك اليوم بكل و�ضوح ،وبرزت كل «تذ ّك ُ مرة �أخرى �أو التكيف مع ظرفه وموا�ضعاته االجتماعية
أ
التفا�صيل دفعة واحدة يف تد ّفق م�ستمر مل ��ستطع والثقافية ،فيقرر �رسيعا الذهاب �إىل مدينة م�سقط الكبرية
�إيقافه.».. بو�صفها حمطة انتقالية �سوف ينتقل منها �إىل �أمريكا
وما نريد الت�أكيد عليه يف هذه الق�صة ،رغم كونها ق�صة مرة �أخرى ،ولفرتة طويلة من الزمن ،يعود بعدها ب�سنوات
عادية ،لي�س احلديث عن املوت ،بل احلديث عن ت�أثري و�سنوات �إىل «تيمه» ،وحيدا ،كالعائد من منفى �إىل منفى:
وجهة نظر ال�سارد يف اللغة ال�رسدية ،ومن ثم الت�أثري يف «عاد وحيدا يحمل �شهادة ماج�ستري ويحتفظ يف جيبه
املتل ّقي: ب�صورة طفلة �صغرية� :سمراء الب�رشة ..زرقاء العينني
حاولت املرور من بينها ُ «بيت خالتي يكت ّظ ب�أج�ساد عديدة، وا�سمها «تيمه».
ب�صعوبة .تو َّق ْف ُت كثريا و�أنا و�أرى قطعة قما�ش بي�ضاء هكذا ،تطرح ق�صة العرميي عددا من املفاهيم التي تنه�ض
يت�شبّث بها �أحد الرجال ب�إ�رصار غريب وامر�أة تناوله عدة على �إحداث نوع من التنا�ص مع بع�ض �رسديات ا ألنا
زجاجات من عطور خمتلفة ت�شبه العطور التي ت�ضعها وا آلخر العربية� ،أذكر منها على �سبيل املثال ق�صة الطيب
جدتي على ج�سدها الهزيل.».. �صالح الق�صرية جدا «�سوزان وعلي» ،و�أق�صد حتديدا �إىل
�سوف يتحول هذا اللون ا ألبي�ض يف ذاكرة الفتاة �إىل رمز ال�شابني اللذين مل ي�ستطيعا الزواج �أو االلتقاء عند نقطة
للموت ب�سطوته وهيمنته وثقله على النفو�س(:)22 ما رغم حبهما ال�شديد لبع�ضهما البع�ض بحكم الظرف
«مل �أمن يف تلك الليلة .حاولت تذ ّكر وجه «خمي�س» مرارا، اجلغرايف والثقايف املختلف (علي /اخلرطوم� ،سوزان/
لكن اللون ا ألبي�ض طغى على معامله ( .)...كرهت ا آلن لندن) .يقول راوي ق�صة الطيب �صالح:
املوت .بد� أ ُت �أمقت اللون ا ألبي�ض وزجاجات العطر.».. «عاد علي �إىل بلده� .أخذا يرتا�سالن:
�إذا كانت «تفا�صيل» �أمل املغيزوي تتعامل مع املوت «لكنني �أحبك يا علي».
بو�صفه قدرا مقدورا ال فكاك من �أ�رسه ،وتر�سم مالحمه «و�أنا �أحبك يا �سوزان ،لكن.»...
من وجهة نظر �ساردة هي طفلة ال حول لها �أو قوة �إزاء �ستة �أ�شهر .كتبت تقول« :قابلت رجال� .س�أتزوجه».
حدث قب َل بداي ِتهِ» كتب يقول« :لكنني �أحبك يا �سوزان».
«موت َ جللَل ،ف�إن ن�صهذا احلدث ا َ
()23
ٌ وانقطعت الر�سائل.
أ
لعبداهلل حبيب ي�سعى �إىل مقاومة املوت �ي�ضا ومناه�ضته
ب�شتّى الطرق من وجهة نظر الكبار ،ولو على �سبيل ال�رسد. يفكر بها يف غالب ا ألحيان .وتفكر به من حني آلخر.
فقد حاول «املغدور» -كما ي�صفه راوي الق�صة � -أن لكن.)20( ...
وال يخفى ،بالطبع� ،أن العرميي يطرح هنا منوذجا خمتلفا
يتخل�ص من �سطوة ا ألب ،لكنه وقع يف َ�س ْطوات � أُ َخر :ف�شل
عن منوذج الطيب �صالح ،لكننا �أردنا ا إل�شارة �إىل الفكرة
يف التدريب الع�سكري ،و�أخذ ينتقل يف رحلة احلياة اليومية
الرئي�سية التي ي�ؤكد عليها ن�ص العرميي وهي �أنه ال تزال
القا�سية من مدينة �إىل مدينة ،ومن عا�صمة �إىل �أخرى .لقد
ثمة مفاهيم ثقافية متجذّرة يف وعي العربي ،من قبيل �أن
عا�ش ،باخت�صار ،حياة املنف ِّي حتى ا�ستقرّ به املقام يف
زواج ال�رشقي بغربية �أمر ت�شوبه بع�ض ا إل�شكاالت ما مل
غرفة بائ�سة مظلمة عدمية التكييف وذات دخان �أ�صفر
ين�صهرا يف ن�سيج واحد .من هنا ،ال يبقى مل�سعود (امتداد
كثيف وغبار يخرتق ال�صدر ،حتى نال منه املر�ض لدرجة علي) �سوى حم�ض �صورة لفتاة �صغرية �سمراء ا�سمها
ال ُبرْ َء منها ،وانتقل به ا ألهل من م�ست�شفى �إىل � آخر دون «تيمه» هي ابنته غالبا .يعود م�سعود منفردا �إىل وطنه
جدوى .عندئذ ،مل يكن �أمامه �سوى احلكي عن كل �شيء ،عن تاركا زوجته جنيفر (امتداد �سوزان) وابنته «تيمه» هناك
احلياة واملر�أة واجلن�س واملمر�ضات البدينات ،فت�شبّثت يف �أر�ض الفر�ص وا ألحالم مكتفيا ب�صورة ،حم�ض �صورة
مبقومات احلياة و�أعرا�ضها ،يف الوقت الذي كان خميّلته ّ �صغرية.
ج�سده مي�ضي بخطى حثيثة يف االجتاه املعاك�س ،نحو
القرب .هكذا يحدّثنا الراوي م�ستخدما �ضمري املخا َطب، د� -سردية الموت:
بكل ما يحمله من حميمية وم�ساءلة للذات ومكا�شفة ترفع يف ق�صتها الق�صرية «تفا�صيل»( ،)21تتناول �أمل املغيزوي
احلجب ما بني الراوي واملروي عليه: ثيمة املوت من وجهة نظر طفلة �صغرية ميوت �أحد
كنت حت�سد خميلته اخلالقة «كنت �سعيدا معه وله لدرجة �أن َك ََ فت�صور لنا وقع فعل املوت على الطفلة-الراوية
ّ �أقاربها،
على املهرجان اجلن�سي الروماين الذي يقيمه بكل هذه خالل �أحداث يوم كامل:
109 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
خطف املوت ابنه .هكذا ،بغتة ،اقتن�ص املوت يحيى/االبن الزندقة واملجون واجلنون يف غرفته البي�ضاء ال�صغرية يف
يف حادثة ملعونة ترتك ا ألب بعدها فري�سة للموت والزوال يح�س �أحد مبا يف
بيت املوت واملر�ض من دون �أن يعلم �أو ّ
والكوابي�س ،ا ألمر الذي احتار معه اجلريان فلم يعرفوا كيف الب�ضة .لقد ن�سي كل �شيء ،واغرتب عن كل ذلك ممر�ضته ّ
ينادونه بعد موت ابنه ،حتى ن�صحتهم واحدة من �أرباب فمرْ َحى لذاكرته �ألف َمرْ َحى».
�شيء �إال اجلن�سَ .
الب�صرية ممن تعمل يف جزّ ا ألع�شاب وتنظيف احلقول منها هـ� -سردية الذاكرة:
وبيعها ملالّك املوا�شي:
«�سموه يحيى على ا�سم ابنه� ،سيحل مع الوقت �شيء من ي�ستعني عبد العزيز الفار�سي ،يف ق�صته «مطر �صباحي»(،)24
ّ با�ستدعاءات الذاكرة الطفولية التي ت�ستدعي م�شاهد ال�صبا،
�سعادة يف قلبه ،و�سيحيا الغائب يف داخله وينمو .ثم
�أ�ضافت وهي تتقدم رافعة جمزّها الذي �سطعت �سنّته: حيث تالميذ املدار�س يحتفلون ب�سقوط ا ألمطار من �أجل
جميعكم ال يعلم ب�أن لكل ا�سم روحا تالحقه وال ميكن �أن يعودوا مبكرا �إىل بيوتهم ،وقد يتغيبون يوما �أو يومني
�إخفا ؤ�ها حتى باملوت». دون تقريع �إدراة املدر�سة بحجة ال�شوارع والطني� .سوف
من هنا� ،أ�صبح �أبو يحيى رجال غريب ا ألطوار ،يخرج يف يجد الباحث يف ق�صة الفار�سي �أن ثمة راويني :را ٍو �أول
�أكرث �أوقاته �أرقا ،يذرع الوادي ذهابا و�إيابا ،ثم ي�صعد هو من يفتتح الق�صة وينهيها ،يجل�س على مقهى �ألطاف،
اجلبل ويبد� أ يف احلفر وال�صخب دون كلل ،حتى تتال�شى مغرتب من �أجل الدرا�سة �أو العمل يف بلد عربي ،هو دبي
�أوجاعه هربا �أمام ال�ضجيج ا ألكرث قوة يف داخله .غري �أن غالبا .يقول الراوي ا ألول:
الكثريين من �أهل البلدة «غدوا مع الوقت يدركون ،ب�صرب، «كان املطر الهادئ يغ�سل ال�شارع كما تفعل الدموع
�رس التعب و�رس ا أل�سماء القدمية و�أفعالها». بالروح املتعبة ،والقطرات املت�ساقطة على واجهة مطعم
�ألطاف جتعل كل �شيء متماهيا �أمام اجلال�سني بالداخل،
و� -سردية غرائبية: كذاكرة حب قدمي مل يفقد لذته رغم اجلروح التي خلفها ()...
يف ن�صه الذي يحمل عنوان «الطفل والكلب»( ،)26يقدّم لنا ر�أيتني طالبا يف االبتدائية».
يعقوب اخلنب�شي موتيفة حكائية عجيبة تتلخ�ص يف �أن الذاكرة� ،إذن هي ال�ضابط الذي ي�ضبط �إيقاع ال�رسد يف
�سيدة عمانية ممن يدّعني الرفاهية كغريهن من ن�ساء ق�صة «مطر �صباحي»� .أما الراوي الثاين فهو �صبي يحكي
املجمعات
ّ تت�سوق داخل �أحد
ّ العرب املعا�رصات كانت لنا بطزاجة موقفه مع �سائق البا�ص «خليفوه» ،حني تركه
التجارية الكربى يف العا�صمة ،حيث جنون ال�رشاء الذي باملدر�سة ذلك اليوم املطري ،فعزم ال�صبي على مغامرة
ي�صيب ا ألفراد في�سيل لعابهم ا�ستجابة لربيق ال�سلعة كلما العودة وحيدا و�سط برك ا ألمطار وخملفاته .يبد� أ الراوي
دخلوا �أحد هذه املراكز التجارية ،فيقررون يف احلال الثاين يف �رسد تفا�صيل حكايته منذ جملة «ر�أيتني طالبا
�رشاءها بغ�ض النظر عن كونها مفيدة �أو غري مفيدة دون يف االبتدائية »...حتى يتوقف �سيالن الذاكرة الذي يقطعه
فارق كبري( .)27الغريب يف ا ألمر �أن هذه ال�سيدة كانت �صوت �ألطاف� ،صبي املقهى ،هنا-ا آلن ،حني يقول:
تربط يد ابنها اليمنى برباط هو يف ا أل�سا�س رباط للكالب «� -أرباب ..تريد �شاي زيادة؟» .
واحليوانات ،بحيث كانت جترّه من يده خلفها يف ق�سوة « -متام يا �ألطاف ..جيب �شاي زيادة دام املطر بعده
رهيبة ك�أنها ال تعرف عن ا ألمومة �شيئا بعد� .سوف يظ ّل ينـزل».
الطفل ي�ستجدي � أ ّمه حتى تف ّك القيود من يديه بينما هي �إذا كانت �رسدية الذاكرة يف ق�صة الفار�سي حتتفي
منهمكة يف متابعة ال�سلع «تكتفي ب�شدّ اللجام �أكرث وحتول با�ستدعاءات ذاكرة طفولية ،ف�إن �رسدية حممود الرحبي،
ب�رصها نحو ا أل�صناف وا ألنواع املعرو�ضة» .ال ي�ستطيع يف ق�صته «فعل ا أل�سماء القدمية»( ،)25تنحو منحى خمتلفا،
الراوي يف هذا ال�سياق �سوى متابعة ا ألمر «خوفا من يقرتب من بع�ض املالمح الغرائبية التي ي�ضفيها راويه على
عواقب �أخرى تنتج بعد ذلك عن النقا�ش» مع �أمثال ه�ؤالء. احلدث وعلى ال�شخ�صيات .ف�أبو يحيى �شخ�صية ت�ستحق �أن
وكل ما ميلكه يف نهاية املطاف هو ا�ستنكاره ال�شديد تكون �شخ�صية روائية بحق ،رغم ق�رص الق�صة وتكثيفها.
وتعاطفه فح�سب مع و�ضعية الطفل ،وذلك �أ�ضعف ا إلميان. فبعد �أن كان يتباهى بابنه الذي كان �سببا مبا�رشا من
ورغم من ب�ساطة هذه «املوتيفة» احلكائية التي نحا بها �أ�سباب م�صاحلته مع العامل وتغيري ا�سمه من «تاعب» ،بكل
راويها منحى وثائقيا �سوف يبتعد بها كثريا عن جماليات ما يحمله من معاين ال�شقاء والدونية� ،إىل «�أبو يحيى» ،بكل
الق�صة الق�صرية وبالغة �رسديتها ،فهي ق�صة بالغة الداللة ما ينطوي عليه اال�سم من دالالت احلياة والبقاء واحللم،
110 نزوى العدد / 62ابريل 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s على �أن واقعنا العربي واقع متخم حدّ االنفجار مبا يفوق الهوام�ش
-1املق�صود باحل�سا�سية اجلديدة ،هنا ،التفاف عدد من الكتابات «اخليايل» �أو «الغرائبي» ،الذي يبلغ حدّ ال�سحر.
والن�صو�ص ،يف �إطار جن�س �إبداعي ما ،يف ثقافة ما ،حول جملة من ثمة وجه ثان لهذه الغرائبية يتناوله حممود الرحبي يف
اخل�صائ�ص اجلمالية واالجتماعية والثقافية التي ي�صدرون عنها يف
كتاباتهم ،بحيث ت�ش ّكل ر ؤ�يتهم للعامل ،يف �إطار فهم خا�ص للفن (من ن�صه الطويل «درب امل�سحورة»( ،)28حيث يقدّم لنا عاملا ّ
حيث املاهية وا ألداة والوظيفة) ،ا ألمر الذي يجعل من كتاباتهم تيارا يقرتب من مالمح كتابة «الواقعية ال�سحرية» ،لكنها
يعمل بقوة على تغيري مفهومي «ا إلبداع» و»التل ّقي» معا .وهذه الظاهرة
الفتة لنظر الباحث املهتم بدرا�سة ال�رسد العماين ،حتديدا يف ال�سنوات لي�ست واقعية �سحرية متعالية على الواقع املعي�ش �أبدا� ،أو
الع�رش ا ألخرية .ويف هذا ال�سياق ميكن ت�أ ّمل ن�صو�ص كل جمموعة كبرية مفارقة له كلي ًة ،بل واقعية منغم�سة يف الرتبة العمانية
من كتّاب ال�رسد العماين من اجليل اجلديد� :سليمان املعمري ،عبد العزيز
الفار�سي ،مازن حبيب ،يحيى املنذري ،حممود الرحبي ،ب�رشى خلفان، حتى النخاع� .أق�صد �إىل كونها واقعية ت�ستعني مبفردات
هدى اجلهوري� ..،إلخ. اجلغرافيا العمانية من �أفالج ونخيل وبيوت قدمية
عن مفهوم «احل�سا�سية اجلديدة يف الكتابة امل�رصية يف ال�ستينيات» ،انظر:
�صربي حافظ :جماليات احل�سا�سية والتغري الثقايف ،جملة «ف�صول» ،الهيئة و�صحراوات ممتدة مترح فيه الثعابني وجتوب وديانها
امل�رصية العامة للكتاب� ،سبتمرب 1986م. النعاج والدواب ،وفوق كل هذا وذاك �أطفال يرتنحون
حدث موا ٍز لتحول مفهوم � -2إزاحة مفهوم الكتابة ملفهوم الق�صيدة ٌ
الديوان �إىل املجموعة ال�شعرية. ويتقافزون هنا وهناك ،وطيور وح�رشات وزواحف،
-3راجع �أعداد جملة «ف�صول» الثالثة عن «زمن الرواية» (�أعداد� :شتاء متل امل�شهد الق�ص�صي عند حممود وكائنات المتناهية أ
1993م ،ربيع 1993م� ،صيف 1993م) .وقد كنت � آنذاك �أحدث حمرّر
باملجلة -التي كان جابر ع�صفور ير�أ�س حتريرها -مع جمموعة من الرحبي الذي يبدو ن�صه – كغريه من ن�صو�صه -حمتفيا
�شباب النقاد والباحثني واملبدعني يف م�رص :ح�سني حمودة ،فاطمة قنديل، باللغة احتفاء �صوفيا ك�أنه ن�ص توثيقي ،ف�ضال عن
حازم �شحاتة� ،صالح را�شد ،علي عفيفي.
-4هذه العبارة متواترة يف �أغلب ن�صو�ص باختني ،مثل «الكلمة يف كونه ن�صا �إبداعيا متميزا .ويف قلب هذا امل�شهد املحت�شد
الرواية»« ،امللحمة والرواية»�« ،شعرية دو�ستويف�سكي»« ،رابليه وعامله». بت�ضاري�س البيئة العمانية ،يكمن فعل املوت الذي يجاور
-5جاك ديريدا :البنية ،العالمة ،اللعب يف خطاب العلوم ا إلن�سانية ،ترجمة
جابر ع�صفور ،ف�صول� ،شتاء .1993 �صخب احلياة وعنفوانها .و�إىل جوار فعل املوت ،ت�أتي
-6راجع :ملحق «�رشفات» ،جريدة عمان� ،أعداد �شهر �سبتمرب 2008م. قوة ال�سحر و»التغييب» التي �سوف نقف على حتليلها يف
ال�سمو من حيثّ -7الرتان�سندنتالية :م�صطلح ا�ستعمله كانط مبعنى
الوجود ،ومن حيث املعرفة �أي�ضا� .أي حني تطلق ال�صور الفكرية �إىل ما بعد الف�صل اخلام�س من هذا الكتاب.
التجربة .راجع :مراد وهبة :املعجم الفل�سفي ،دار الثقافة اجلديدة ،القاهرة، �إذن ،ميكن القول �إجماال �إن الكتابة العمانية اجلديدة قد
1977م� ،ص.465 ،430 ،417 :
-8راجع «�رشفات»� 8 ،أكتوبر2008 ،م. �سعت ،بد�أب وا�ضح� ،إىل ت�شكيل جماليات مغايرة� ،سواء من
-9راجع «�رشفات»� 8 ،أكتوبر2008 ،م.
�« -10رشفات»� 22 ،أكتوبر2008 ،م. حيث الثيمات �أو ا أل�ساليب الفنية وتقنيات ّ
الق�ص (و�إن كان
�« -11رشفات» 5 ،نوفمرب2008 ،م. ا ألمر يحتاج من الباحثني �إىل درا�سات نقدية وتاريخية
-12راجع ق�صيدة فاطمة ال�شيدي يف «�رشفات» 19 ،نوفمرب2008 ،م. تتابع تطور تقنيات ال�رسد العماين ب�صفة خا�صة ،مقارنة
-13راجع ق�صيدة بدرة الوهيبي يف «�رشفات» 25 ،مار�س2009 ،م.
-14راجع ق�صيدة عائ�شة ال�سيفية يف «�رشفات» 4 ،مار�س2009 ،م. بني ال�سنوات الع�رش ا ألخرية من القرن الع�رشين ،والعقد
�« -15رشفات»� 3 ،سبتمرب 2008م. ا ألول من ا أللفية اجلديدة) ،ا ألمر الذي �ش ّكل ما �أ�سميناه
�« -16رشفات»� 3 ،سبتمرب2008 ،م.
�« -17رشفات»� 3 ،سبتمرب2008 ،م. «ح�سا�سية جديدة» ،نه�ضت على عدد من اال�سرتاتيجيات
�« -18رشفات»� 17 ،سبتمرب2008 ،م. التي وقفت الدرا�سة على بع�ضها ،هي� :شعرية التجاور ،ال
�« -19رشفات»� 24 ،سبتمرب2008 ،م.
-20الطيب �صالح� ،ضو البيت ،مريود ،دومة ود حامد� ،سل�سلة � آفاق الكتابة، ا إلزاحة �أو الت�ضاد .كتابة بقوة اليوميات .كتابة من موقع
عدد ،36الهيئة العامة لق�صور الثقافة ،القاهرة� ،2000 ،ص.280 احللم .كتابة ت�سمو فوق �أ�رس الواقعي ،بحثا عن غرائبية
�« -21رشفات» 12 ،نوفمرب2008 ،م.
مت توظيف هذه الثيمة نف�سها مبهارة يف الفيلم ال�سينمائي العماين ّ -22 رحبة .كتابة تخلق عاملا افرتا�ضيا بديال .كتابة تلفت
الق�صري «بيا�ض» الذي حاز على عدد كبري من اجلوائز املحلية والعربية االنتباه بقوة �إىل ق�ضايا املر�أة املعا�رصة .كتابة ت�سعى
والدولية.
�« -23رشفات» 5 ،نوفمرب 2008م. بد�أب �إىل اخلروج من هيمنة الن�ص املغلق واالرمتاء يف
-24راجع�« :رشفات» 4 ،مار�س2009 ،م. ف�ضاء الن�ص املفتوح� .. ،إلخ.
-25راجع «�رشفات» ،العدد 18 ،مار�س2009 ،م.
-26راجع ق�صة يعقوب اخلنب�شي يف «�رشفات» 4 ،دي�سمرب2008 ،م.
-27كلمتا «ا�ستجابة» و»مثري» تذكرانني يف هذا ال�سياق بالتجربة
املعروفة لعامل النف�س ال�شهري «بافلوف» �صاحب «نظرية االرتباط ال�رشطي
الكال�سيكي» ،حني جعل ف�أر التجربة يربط بني �صوت اجلر�س وقدوم الطعام
في�سيل لعابه مبجرد �سماع �صوت اجلر�س حتى و�إن مل ي�أتِ الطعام.
-28راجع «درب امل�سحورة» ملحمود الرحبي يف «�رشفات»4 ،
دي�سمرب2008 ،م.
111 نزوى العدد / 62ابريل 2010
لقاءات
هريتــا مولــــر:
علي م�ؤ�س�سة نوبل عدم �إدالئي ب�أي ت�صريح..
� lأخذت ّ
lحتما � ،أنا مبتهجة ،لكنني ل�ست من النوع الذي يهتف
فرحا .خا�صة ،ال � أريد لهذه اجلائزة � أن تغريين
112
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
يف هذا احلوار اال�ستثنائي مع الروائية أالملانية املُتوجة بنوبل ل�سنة ،2009
تتذكر طفولتها ببلدها رومانيا وكذا عالقتها أ
بالدب.
هريتا مولر� ،صاحبة ج�سم �ضئيل ،طائر �صغري جدا و�شاحب كثريا ،يك�سوه ري�ش
�أ�سود حذاء� ،رسوال ،قمي�ص تنبثق منه عينان وا�سعتان وقلقتان .مبت�سمة ،لكنها
م�ضطربة �إىل حد �أن كل كيانها ،يظهر ك أ�نه ممتد على حبل� .أنا يف غاية التوتر،
تهم�س وهي تفتح باب منزلها الكبري املتواجد و�سط برلني .Berlinجد «مرهقة»،
بعد انق�ضاء �أ�سابيع على �إعالن فوزها بجائزة نوبل للأ دب �شهر �أكتوبر ،بحيث
مل تعد تتحمل قط �سماع �أي تعليق بهذا ال�صدد .قطعا ،تلح على ا ألمر،وهي ت�سري
بخطوات متثاقلة و�سط �أر�ضية خ�شبية تلمع بطالء الربنيق ،ولالحتفاظ بقواها
حتى تتخل�ص من و�ضع يفزعها ويخلق لديها ال�ضجر ،قررت �إجراء حوار �صحفي
واحد ،مع ال�صحافة الدولية ،ال غري( ،با�ستثناء ،ال�سويدية) قبل ت�سلمها للجائزة
مبدينة �ستوكهومل .Stockholm
113
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ترف�ض التقاط �صور لها ،موقف يذكرها بلحظات انطباعكم حينما تلقيتم خرب ح�صولكم على
اال�ستنطاق التي � أ�رشفت عليها عنا�رص جهاز البولي�س جائزة نوبل للأدب؟
حلظتها ،مل � أفكر يف � أي �شيء ومل � أتفوه ب�أية كلمة. ال�رسي الروماين «ال�سيكوريتات» � ،la securitateأيام
�سعادة غامرة هي تقريبا م�أ�ساة كربى � :أعجز عن تواجدها برومانيا ،فقط كلي�شيات �سلبية �أُخذت لها
علي م�ؤ�س�سة نوبل عدم � أثناء اللقاء ال�صحايف � .أي�ضا ،وهي بالكاد جال�سة
فهم ما جرى .وقد عاتبت ّ
�إدالئي ب�أي ت�رصيح .حتما � ،أنا مبتهجة لكنني على مقعد وطيئ �صنعه ن�سيج رمادي ،تطالب
ل�ست من النوع الذي يهتف فرحا .خا�صة ،ال � أريد الروائية ب�صوت خمتنق �شيئا ما � ،أن ال ي�ستغرق
لهاته اجلائزة � أن تغريين .يف رومانيا ،جعلت اللقاء � أكرث من ن�صف �ساعة« :و�ضع يتناق�ض مع
اليومي خوفا من املوت .ولكي ،ال � أنبطح ،حاولت طبيعتي ،ف�أنا � أف�ضل � أن � أختلي بنف�سي كي � أكتب� .إن
جعل وقائع حمددة تبدو ك�أنها عادية .ينبغي � ،أن حياتي اخلا�صة وعملي ،ل�ست يف م�ستوى التعبري
حتافظ على متا�سكك حتى ال تتحطم .بالتايل ،عملت عنهما ب�شكل � آخر» .على امتداد املكان من حولها،
تلقائيا على ت�صنيف ا أل�شياء حقا دخل ر� أ�سي ،بقدر فوق الطاوالت والكرا�سي ،بل وخلف بع�ض ا ألثاث،
خطورة حظ كهذا ،حدث بغتة يف م�سار حياتي. دبو�س .كلمات ثم تنت�رش قطع ورقية تنا�سب حجم ُّ � أن متانة ال�صور
� أعرف املوقع الذي ن�سبته له� :إنه بجانبي .ل�ست � أنا كلمات باللغة الرومانية ،اقتطعت من جرائد� ،ستنجز التي ت�سكنها
من جنح� ،إنها م�ؤلفاتي. بها «مل�صقاتها» � أو مبعنى ثان ق�صائد.
وتالزمها،
nداخل � أي و�سط عائلي تربيتم؟ هل كان للكتب ولدت هريتا مولر � Herta Mullerسنة 1953برومانيا،
حيزا؟ وحتديدا منطقة ت�سمى» ،le Banatتت�سم بطابعها �ساعدت
مل يكن من وجود للكتب يف منزلنا .تويف � أبي و� أنا اجلرماين ،لذلك تكتب مولر باللغة ا ألملانية. الروائية على
�صغرية جدا � ،أما � أمي فقد كانت ت�شتغل يف احلقول مثل � أغلب � أهل وطنها ،الذين �سعوا �إىل الفرار من هزم اخلجل
طيلة اليوم .ذلك � أن منطقتنا امل�سماة « »le Banatعبارة ديكتاتورية الرئي�س ت�ساو�سي�سكو ،فقط تركت وع�صبية املزاج
عن � أر�ض م�ستوية و�سهل ،حتيط به القرى الزراعية. رومانيا نحو � أملانيا �سنة ،1987بعد � أن الحقها ثم اخلوف
الوحيد ،الذي � أمتلك مكتبة ،كان � أن � أحد � أعمامي، وراقبها هذا النظام املعار�ضة له لفرتة طويلة .كل
�صاحب القناعة النازية .مكتبة ،احتوت بالت�أكيد م�رشوعها الت�أليفي جمموعات �شعرية 22 ،رواية
على خمتلف م�ؤلفات الفكر النازي ،فقد ات�صف ُترجمت منها حتى ا آلن ثالثة ن�صو�ص �إىل الفرن�سية
بكونه �إيديولوجيا قرويا جمنونا .حينما مات يف و�ست�صدر غاليمار Gallimardالعمل املقبل �شهر � أكتوبر
«�ساحة القتال» �سنة ،1945وو�صل الرو�س الذين 2010ينطوي على خا�صية ا�ضطهاد «حطمها» كما
اقرتفوا كل � أنواع الفظاعة داخل قريتنا ،حتولت تقول.
جدتي �إىل كائن مرعوب � .أ�سا ؤ�وا التقدير ،كي مييزوا عناوين مثل[ :الثعلب هو قبل ذلك �صياد] (�سوي
املورطة من غريها ،ف�ألقوا بها كلها يف ِّ بني الكتب [ ،])1990ا إلن�سان � ،أكرب ن�صاب على وجه ا ألر�ض
موقد ،مما منحهم �إمكانية التدف�ؤ فرتة يومني .لقد (فوليو)][ ،الدعوة( ،ميتيلي .])2001م�ؤلفات
ع�شنا ،رعبا �شديدا. غريبة وجميلة ،حيث يكت�سي معها الو�صف الغارق
nا�صطدمتم مع البولي�س ال�رسي الروماين ،قبل يف النرثية م�سالك عجيبة توحي بطريقة خارقة
بداية م�رشوعكم ا إل�صداري ،بحيث طلب منكم، ويقوم على قوة ا�ستح�ضار زخم لغة فاتنة ،تعرب
تزويده مبعلومات عن � أن�شطة بع�ض � أ�صدقائكم � أحيانا عن �شتى م�ضامينها كتابة � أو �شفهيا .كما،
املثقفني يف منطقتكم « ،»le Banatلذلك طردمت من لو � أن متانة ال�صور التي ت�سكنها وتالزمها�،ساعدت
امل�صنع الذي ت�شتغلون فيه .هل� ،شكلت الكتابة الروائية على هزم اخلجل وع�صبية املزاج ثم اخلوف.
منذ البداية� ،صيغة للمقاومة؟ � أي�ضا ينبغي على الكلمات قطعا اكت�ساح امليدان،
حلظة التعليم الثانوي ،و� أنا يف �سن املراهقة يف مواجهة املوت .نتيجة لكل ذلك ،ا�ستغرق احلوار
والفتوة ،كتبت جمموعة ق�صائد ،لكن ذات يوم قلت � أخريا� ،ساعتني ون�صف.
لنف�سي« :هذا يكفي ،كل العامل ب�إمكانه � أن يفعل ما nال�سيدة هريتا مولر ،Herta Mullerما هو � أول
114 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s � أقوم به» .ثم توقفت .ومل � أعاود ا ألمر� ،إال بعد مرور
� أو بيرت هاندك Peter Handkيف بداياته قبل � أن ي�صبح
�سيا�سيا ال ُيحتمل .لقد ابتغيت � ،أن � أعي�ش بطريقة فرتة طويلة .لكن بني الزمانني � ،أ�صبحت واحدة من
جتيز يل �صداقة ه�ؤالء ا أل�شخا�ص على الرغم من مريدي حلقة املثقفني امل�سماة � آنذاك بـl،Aktions :
والعراء �شكل �إثما � .أعتقد � ،أن الطبيعة � أف�ضل م�ؤ�رش داخل معتقل ،ت�سود فيه ال�سيطرة الع�سكرية ،نتحول
الختزال حياتنا :جل املواد الطبيعية ،تعاود الكرّة من � أفراد �إىل � أرقام .واحلال � أنه ،بقدر ما منلك
مع ف�صول كل �سنة� ،إال ج�سدنا فلن يعود � أبدا ،فقد ا أل�شياء ب�شكل � أقل ،نحدد املو�ضوعات � أكرث .العمل.
منحه اهلل لنا خالل زمان معني ويطلب منا ت�سليمه بدوره ي�صري واحدا ،حتى املواد التي ن�شتغل بها،
�إياه ثانية � .أترون ،انعدمت لدي م�ؤلفات حكائية، احلجر � أو الفحمُ .تغت�صب ذواتنا ،ثم يلزمنا � أن نتحدد
ف�أن�ش�أتها بنف�سي. ثانية .ا أل�شياء ت�سمح بذلك .يت�أتى لنا ت�شخي�صها
nاملوت قائم با�ستمرار بني طيات � أقوالكم...؟ كي منو�ضع ذواتنا � .أول ،ما ت�صدمنا به و�ضعية
نعم ،املوت هنا وقد � أخافتني على الدوام � .أثناء القهر ،تكمن يف هذا اال�ستعباد املطلق� .إبان حكم
طفولتي ،ت�ساءلت على الدوام« :هل �س�أموت للتو؟». النازيني ،كان ينبغي على اليهود الرحيل والتخلي
كلما� ،سقطت دودة على كتفي .املوت مهولة ،قد عن كل �شيء .يجب � أن نت�صور داللة الو�ضع ،مبعنى
تفتك بك متى � أرادت. � أن تلقى يف العامل دون حماية ما .فا أل�شياء حتمينا
nابتعدمت كثريا عن الواقعية ،باملعنى ربرة � أكرث .كما ،تنفرد بخا�صيةوجتعل حياتنا ُم ّ
املعتاد للمفهوم .اختيار الق�صيدة واملتخيَّل بل كونها جتعلنا ن�صمد .ت�أملوا ،ركام النظارات
العجائبي � أحيانا .هل ،هي طريقة لالقرتاب من وا ألحذية التي عرثنا عليها يف املعتقل النازي
احلقيقة؟ « .»Auschwitzهذا القدح املتمو�ضع فوق الطاولة ،قد
ال � أعرف ما هي احلقيقة � ،أو با ألحرى � أفهمها كما ي�ستمر لفرتة طويلة قيا�سا لعمرنا� ،رشيطة � أن ال
تتجلى يف احلياة اليومية � :أن تعرف� ،إذا كان �شخ�ص يك�رسه �شخ�ص ما � .أفق� ،صغري للأ بدية .هذا يرعبني
ما ،يكذب عليك � أو يقول احلقيقة � .أمقت ،الكذب ن�سبيا ،من ناحية � أخرى � .أحيانا ،تغمرين ال�سعادة
واخليانة واخلداع ،مبعنى كل ما يتعار�ض مع حينما يتك�رس ال�شيء :نحتاج قليال �إىل التباري يف
احلقيقة .فيما يتعلق با ألدب ،تنبني احلقيقة عرب هاته احلياة !
كل ا ألجزاء� ،إنه خيال يقودنا �إىل � أثره .حني ،نكتب nح�ضور الطبيعة ثابت يف ن�صو�صكم ،مبا
نعرث على � أ�شياء ،مل يدركها اليومي بعد ثم ت�صري فيها تلك التي توظف املدينة كف�ضاء لها ،مثلما
حقيقة ،فالكتابة تنه�ض على قواعدها اخلا�صة ال�ش�أن مع عملكم .]La convocation[ :ما هي � أهمية
امل�صطنعة .غري � أن ،احلياة ت�سخر من الكتابة ،ول�سنا الطبيعة لديكم ،وملاذا متنحونها و�صفا كهذا؟
يف حاجة للعي�ش كي نكتب� .إنه متثيل �إميائي :ن�ؤ�س�س ال�سيما ال�سماء� ،إنها عن�رص رئي�سي.
حقيقة ،ونكت�شف بها ممكنات � أخرى غري متوقعة. � أنا طفلة قروية ،وحيدة � :أي�ضا ،ع�شت دائما يف
تكمن املفارقة ،يف � أن كنه اخليال � أف�ضل ما يتطابق عزلة مع املناظر الطبيعية ،من حقل �إىل حقل،
مع حقيقة كهاته� .شيء غريب لكنه جميل ،وهو ما � أرعى ا ألبقار .يف تلك احلقبة ،مل تكن لدي كلمات
حتمل الكتابة ،ألنني ال � أحب � أن
مينحني �إمكانية ّ كي � أعرب عن � أحا�سي�سي ،وجدت املنظر الطبيعي
� أكتب ،لي�س لدي ثقة يف اللغة. ُمهدِّدا ،ف�أقول مع نف�سي� :سيبتلعنا .يغدينا ،لكنني
nما �سبب هذا االرتياب �إزاء اللغة؟ �شاهدت � أي�ضا كيف مات النا�س حتت � أقدامه.
وملاذا االطمئنان �إليها؟ فاللغة جمرد انعكا�س ملن نقتات من الطبيعة ،ويف يوم من ا أليام �ستفرت�سنا.
يتكلمها .وبقدر حقيقتها تلك ،فهي ال �شيء ،لكن داخل جوف ا ألر�ض� ،سنتحول �إىل نباتات ،نوع
بو�سعنا � أن نخلق بها � أي �شيء .لقد عانينا جميعا من اال�ستمرارية .تقول العقيدة امل�سيحية« :اهلل يف
من هذا الو�ضع فرتة الديكتاتورية :ج�سدت اللغة، كل مكان» .حقا� ،إنه ا ألول! فهو يحيط مبا ن�صنعه.
� أف�ضل و�سيلة خلداع العامل .حني ت�صمت ،ي�صعب وتقريبا كل �شيء خطيئة� .شخ�صيا ،مل � أكن � أبدا عند
عليك � أن تكذب .بالتايل ،يتم االرتياب يف ال�صمت امل�ستوى املطلوب .على امتداد الطبيعة ،تعلو ال�سماء
� أكرث من الكذب. احلرة فوق ر� أ�سي ،بالتايل يراقبني اهلل .و� أنا وحيدة
nثقل الكلمات وكذا ح�ضور لغة اخل�شب كما برفقة � أبقاري ،كان بو�سعي � أن � أخلع ثيابي و� أ�سبح
يعرب عنها النظام ال�سيا�سي ،يربزان دائما يف يف النهر (الدانوب) ،لكني مل � أفعل ،فاهلل ي�شاهدين،
116 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
كتاباتكم�ُ .شيِّد �إنتاجكم عرب الت�سلل �إىل لغات �سلفا .يدخل يف هذا ا إلطار � أي�ضا ،ح�ساب � أردت
خمتلفة مثل ا ألملانية � أو الرومانية كلغة ت�صفيته مع اللغة الرومانية ،فقد عجزت عن الكتابة
بها ،لكن عن طريق تلك العملية عدت قادرة و� أردت ر�سمية؟
لغة اخل�شب � أ�شعرتني بتقزز حقيقي .وجدت هوة ،تقدمي دليل هذا التحقق.
بني اخلطابات التي تدعي التقدم و�سعادة ال�شعب n ،املنفى ،االجتثات ،الرحيل ،حا�رضة جدا يف
ثم ا ألفراد ونحن نالحظ كيف يتحطمون ! ينتابني عملكم ،كيف تعاي�شتم منذ ،1987مع �إقامتكم
ااجلنون عندما � أقر� أ كتاب فيكتور كليمبريير Victب�أملانيا الغربية؟ هل � أثر الو�ضع على كتابتكم؟
tor Klempererعن لغة الرايخ الثالث � ،أدركت ب�أن ما هو � أ�سا�سي� ،إح�سا�سي ب�أنني جنوت .انتهت
ال�شخ�صيات الديكتاتورية توظف دائما نف�س خ�شيتي من القتل ،على الرغم من ا�ستمرار تهديدات
اال�سرتاتيجية ،خمتلف الكلمات التي ي�ستعملونها بولي�س ال�سيكوريتات .La securitateقلت لنف�سي« :لقد
بال قيمة ،يهدفون فقط �إىل الت�ضليل ،هكذا توخيت رحلت � ،أنا بعيدة الآن» ،مما غري طريقتي على
� أن ال تخرتقني لغتهم وهو ما � أحاوله � أي�ضا راهنا م�ستوى الكتابة .يف رومانيا �ساد اخلوف من ا إلقدام
يف مواجهة ا إل�شهار � :أبذل قدر امل�ستطاع كي ال على اقتحام املنازل وتفتي�شها ،بالتايل ا�ستلزم
ل�ست ا ألمر �إخفاء كل �شيء � ،أما هنا ال حاجة لذلك .لي�ست، � أنقاد وراءه.
� أنا من nلغتكم اخلا�صة � ،ألي�ست يف نهاية املطاف ،امل�سافة وحدها ،هي التي تبدّل ا أل�شياء ،بل الزمان:
جنح، مت�رشدة ،خلقت حيزها الذاتي وهي تن�ساب بني بقدر ما نبتعد زمانيا ،ف�إن امل�سافة اجلغرافية ال
�إنها تعمل �إال على م�ضاعفة ا إلبعاد الزماين .جل الوقائع الثقافات؟
يف قريتي اجلميع يتكلم ا ألملانية ،غري الطبيب التي نحياها ،ت�أخذ داللة خمتلفة حينما نبلغ
م� ؤلفاتي وال�رشطي� .شخ�صيتان ،نف�ضل � أن ال تكون لنا �صلة ال�شيخوخة ،بحيث ننظر �إليها ب�شكل مغاير .كل ما
بهما .تعلمت اللغة الرومانية يف �سن اخلام�سة ع�رش له قيمة يف احلياة ،يتغري جمراه � .أ�شياء هائلة ت�صري
جراء قراءتي للكتب ،فوقفت على جمالية �صيغها �صغرية ،كذلك الذات ،تتمو�ضع بكيفية � أخرى .بهذا
وعباراتها ال�شعرية وتبني يل مدى ان�سجامها مع ال�صدد ،مل يبدِّل الرحيل � أي �شيء .هو ا ألفق ذاته،
مزاجي قيا�سا للأ ملانية .مثال � ،أ�سماء النباتات حتى لو بقيت يف رومانيا.
ونوعية ا أل�شياء :زهرة الزنبق ،ت�ؤنثها اللغة nهل من و�سيلة للت�صالح مع املا�ضي؟
ا ألملانية ،لكنها ذكورية يف الرومانية ،ا ألمر ينطبق الذكريات؟ � أهي الكتابة؟
كذلك على الورد .فيما بعد ،تكونت لدي �صورة ال � أحتاج �إىل اطمئنان داخلي ،بل � أجهل معناها .وال
خمتلفة عن املعطيات و�صار للنباتات وجه � آخر� .شخ�ص ميكنه ذلك .جميعنا ينطوي على � أحا�سي�س
كل �شيء ميتلك منحيني ،فهم تر�سخ يف دماغي .تت�أرجح حدتها ،كما � أنها تنزاح وتتحول .يظهر يل،
لذلك حلظة الكتابة ،حت�رض ال�صورة الرومانية خلف االطمئنان الداخلي عقيم وم�ضجر ،ثم �إين ال � أت�صارع
مع ذاتي ،ف�أ�صل م�شاكلي ينبعث من الرباين. الكلمة ا ألملانية .ا إلثنان ،مرتابطان.
nعملكم ا ألول باللغة الرومانية� ،صدر مت�أخرا nهي �إذن ق�صة حب بينكم ورومانيا ،ميزتها
وحتديدا �سنة ،2005فلماذا هذا االنتقال �إىل نهاية �سيئة؟
ال ،لي�س الت�صور كذلك ،لقد حطموين هناك .لو مكثت الرومانية عرب بوابة الق�صيدة؟
و� أمكنني � أن � أعاين ما حدث بعد �سقوط جدار برلني، كنت يف رومانيا ،وا�ضطررت �إىل ال�سفر على منت
أل�صابني اجلنون .عندما و�صلت �إىل � أملانيا ،عجزت القطار ،ألن � أو�سكار با�ستيور � Oskar pastiorأراد � أخدي
عن الف�صل بني ال�ضحك والدموع .عانيت من � أق�صى �إىل بيت والديه � .أحد ا أل�صدقاء ،حمل لنا حفنة
حاالت القلق� .ضياع ،ل�ست معتادة على قول ذلك، جرائد عملنا على تقليب �صفحاتها بغاية الت�سلية.
لكني منهارة � ،أدرك ا ألمر. وحينما عدت �إىل برلني � ،Berlinرشعت يف تقطيعها
هام�ش واال�ستئنا�س بلعبة ل�صق الكلمات ،ثم جنحت اخلطة.
.le Monde: 4 décembre 2009, Page9 \- �إنه منوذج ،للكتابة انطالقا من كلمات موجودة
117 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
هالل احلجري
حول ا ألدب وتلك اجلبال التي كانت
�أغذية للن�سور
حاوره :ح�سن املطرو�شي
�شاعر من ُعمان
s
s
s
والنخيل ،واجلبال ،واملدر .وكنت يف خطوات ال�صبا ن�ست�ضيف الدكتور هالل احلجري يف هذا احلوار
�أذرع هذه ا أللوان بحرية مطلقة .وال �أ�ستطيع ا آلن �أن الذي يتحدث من خالله عن ر ؤ�اه وجتربته وذكرياته
�أجزم ب�أن واحدا منها دون ا آلخر كان له الت�أثري ا ألعظم طفال ويافعا ومغرتبا وغريبا و�شاعرا� ،إىل غري
على جتربتي ال�شعرية� .صحيح �أن ال�صحراء حا�رضة ذلك من ا ألوراق التي يخرجها هالل احلجري من
بقوة يف بع�ض الق�صائد .و�صحيح �أين يف طفولتي حقيبته للمرة ا ألوىل...
وملت جيوبي بالرمل .و�صحيح تقلبت على الكثبان أ uuثمة ظالل لطفولة غام�ضة تلوح يف ق�صيدتك..
�أين على م�ستوى االهتمام والبحث �أنحاز �إىل ال�صحراء طفولة تت�شكل يف ف�ضاء الذكرى واحلزن ..هل لك �أن
بثيماتها املختلفة ،وقد قمت برتجمة ن�صو�ص عديدة تر�سم مالمح هذه الطفولة على نحو �أكرث و�ضوحا؟
من ا ألدب ا إلجنليزي مت�س الربع اخلايل خ�صو�صا على طفولتي ا ألوىل احلقيقية كانت رائعة ،ت�شكلت يف ف�ضاء
م�ستوى ال�شعر ،والرواية ،و�أدب الرحالت .و�صحيح من احلرية ال �أملكها يف طفولتي املت�أخرة! طفولة ما
�أي�ضا �أين �أ�شعر ا آلن يف هذه املرحلة ب�رضورة �إغراق كانت تعني �أكرث من اللعب منذ بزوغ الفجر يف القرية
الكون يف عباب الربع اخلايل لتطهريه من ا ألحقاد حتى م�أوى الطيور �إىل �أع�شا�شها .كنت و�أترابي يف تلك
وال�رصاعات .ولكن مع ذلك ،تده�شني �أي�ضا جبال املرحلة نهيمن على معاهد الفرح بكل �ألوانها...نت�سابق
الن يف�أ�شعر آ عمان ب�ألوانها وتكويناتها املختلفة ،خا�صة اجلبل على جذوع النخل �صعودا �إىل القمم...نهوي بدراجاتنا
هذه املرحلة ا ألخ�رض ،ب�سحره ،ومغيباته ،وعنفوانه ،وبنت كرومه، الهوائية عرب املنحدرات ال�سحيقة...نغو�ص يف ا ألفالج
ب�ضرورة �إغراق وتاريخه ،ورعيانه .و�أرى �أن هذه اجلبال العظيمة حتديا بطول ا ألنفا�س...نتزحلق على الرمال ب�صدورنا
الكون يف عباب حتفظ للمكان توازنه ،و�أ�شعر �أن العمانيني ي�ستمدون العارية...نخطف الزغاليل من �أوكارها يف اخلرائب
خلودهم وثباتهم منها .حني �أنظر �إىل جبل يف عمان، والقالع...ن�صطاد اجلراد على مواقد النريان...نت�سلق
الربع اخلايل يغمرين �إح�سا�س بال�سمو ،وا ألمن ،والهيبة .ويف حلظات �أ�شجار املاجنو يف َح ّمارة القيظ...منتطي احلمري ال�ضالة
لتطهريه ما �أتخيل �أن هذه اجلبال كانت يف ا ألزمان ال�سحيقة حتت وهج الظهرية...نقتحم ال�سواقي �ساعة القيلولة...
الحقاد من أ غذاء للن�سور ،تنقبها من قممها ،ولذلك جاءت مقطمة نرتب�ص بغزالن الفالة يوم يردن ا ألفالج يف ال�صيف...
وال�صراعات من �أطرافها كقطع من الكعك! نت�ضارب بالع�صي ثم نلعب بالرند...نلعب كرة القدم
�إذن مل تكن ال�صحراء وحدها التي لونت خميلتي ،و�إمنا لعب من الباعة يف حفاة حتى تت�شقق �أقدامنا...ن�رسق الُّ َ
�ساهمت اجلبال ،والنخيل� ،أي�ضا يف نحتها وتلوينها. ا ألعياد ...نبالغ يف تزيني دراجاتنا كي يكرتيها �أطفال
uuحملت �صحراءك امل�شم�سة �إىل �سماوات �أوروبا ال�صحراء ...نتعلق باجلرافات وهي تر�صف �شوارع
بثلوجها وغيومها املاطرة ,لتتجاور كل هذه الطقو�س القرية...جنمع قطع غيار ال�سيارات التالفة لنكون منها
يف ذات مفردة ..كيف اجتزت �صقيع الغربة تلك؟ لعبا غريبة..
غربة الدرا�سة يف �أمريكا وبريطانيا ،كانت مزيجا من كل هذه الطفولة املزنرة بالفرح ،ع�شتها بجنونها،
الفرح واحلزن� .أنا القادم من ال�صحراء العربية ،كيف ويقينها ،برباءتها وخبثها ،ب�ضحكها وبكائها ،برخائها
تت�سع يل تلك ا ألجواء املكفهرة؟ مل يكن الت�سا ؤ�ل يتعلق وحرمانها ،بحزمها وانفالتها ،ولكنها مل تكن يوما
بالطق�س والطبيعة .كال ،بل يتعلق بالثقافة ،واللغة، طفولة وحيدة وعزالء..بل كانت مدججة با أل�صدقاء
واللون ،وهي �أمور لي�س من ال�سهل ان�سجامها يف بلدان وا ألتراب!
تع�صف بها م�شاعر العن�رصية ،والتفوق احل�ضاري، uuال�صحراء ماثلة لديك ..حا�رضة ب�صخبها
والقوة اال�ستعمارية ،و�رصاع ال�رشق والغرب ،وال�صور وهواجرها وحدائها و�شجرياتها وقوافلها الظاعنة..
النمطية حول �شعوب العامل الثالث .املفارقة حتدث، �أهو احلنني الذي يقذف بكل هذه التالل �إىل �صحوك؟
ألننا ننطلق من جمتمعات منفتحة على ا آلخر ،ا آلخر فتحت عيني على احلياة يف قرية الوا�صل ،وهي �ضلع
املختلف عنا لونا ،ودينا ،وعرقا ،ولغة .هنا يف عمان يف خا�رصة الربع اخلايل ،حيث رمال ال�رشقية ت�شكل
مثال اعتدنا تقبل ا آلخر ا ألجنبي ،بت�سامح ال نظري له، امتدادا وجوديا لهذا القفر اليباب .ومع ذلك ،تتعانق
�شهد به معظم الرحالة ا ألوروبيني الذين قدموا �إىل هذه يف هذه القرية �ألوان اجلغرافيا ب�شكل غرائبي مده�ش؛
املنطقة قدميا وحديثا .وحينما نرحل �إىل �أمريكا �أو الذهبي ،وا ألخ�رض ،والرمادي ،وا ألبي�ض ،ممثلة الرمال،
119 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
�أوروبا ،نتوقع ال �شعوريا املعاملة باملثل ،وهنا تكمن و� أك�سفورد ا�سرتيت� ،إىل ل�سرت ا�سكوير ،و� أجوارد رود،
املفارقة وال�صدمة .والرحالة الربيطاين ويلفرد ثي�سجر ،كنت � أ�سحق عط�ش ال�صحراء حتت قدمي ،ويف غ�ضون
ي�سجل ب�شفافية باهرة ،مثل هذه ال�صدمات الثقافية ،ذلك � ،أبحث عن املعرفة ،و� أكتب ال�شعر.
يقول يف كتابه «الرمال العربية»« :بالفعل� ،إن �أ�سو� أ uuتت�أمل ,وت�ستذكر ,وحتدق يف املدى عرب
وحدة هي �أن تكون وحيدا يف ح�شد من النا�س .لقد نوافذ ال�شعر ,لك�أنك تبحث عن خال�ص ما � ..أي
كنت وحيدا يف املدر�سة ،ويف املدن ا ألوروبية ،حيث خال�ص ذاك الذي تهبه لك الق�صيدة؟
لكنني مل �أكن وحيد �أبدا بني العرب .يدرك ال�شعراء جيدا �أنه لوال كتابة الق�صيدة النتحروا! ّ مل �أكن �أعرف �أحدا،
لقد جئت �إىل بالدهم حيث كنت غريبا ،وقد م�شيت يف ال�شعر مينحنا رغبة يف احلياة ،يجمل لنا الوجود رغم ال�شعر �أحيانا،
ال�سوق فحيّاين �صاحب حم ّل ،ودعاين للجلو�س بجانبه ت�شوهاته وقبحه .وهذا يف ر�أيي �أهم من فكرة «التطهري» ّ بالن�سبة يل،
يف حملّه ،وطلب يل ال� ّشاي .ثم تقدّم �أنا�س � آخرون ا ألر�سطية ،التي يرى من خاللها �شيخ الفال�سفة �أن �ضرب من العبث
وان�ضموا �إلينا� .س�ألوين من �أكون ،ومن �أين جئت ،ال�شعر يجعل ال�شاعر متزنا يف احلياة ،ومن�سجما مع ّ اجلميل ،كاللعب
و�أ�سئلة �أخرى غري حمدودة ال ينبغي �أن ن�س�ألها نحن املجتمع .حتيق بك ملمات الدهر ،ويعت�رصك ا أل�سى، يف الطفولة:
غريبا �أبدا .وقد دعاين �أحدهم للغداء ،ويف الغداء قابلت وت�رشف على املوت ،وفج�أة ت�رشق يف روحك احلياة بناء املكعبات
عربا � آخرين ،حيث دعاين �شخ�ص � آخر منهم للع�شاء .عرب كلمة� ،أو مقطع� ،أو ق�صيدة ،فما الذي يحدث؟ �أعتقد وهدمها ،جمع
وقد ت�ساءلت بحزن كيف �سيكون �شعور العرب الذين �أنها غواية اخللق .ال�شعر يجعلنا نتعاىل على الوجود، أ
ال�صداف ثم
حل َميّا ،ت�رسي يف مفا�صلك ،فتتعاظم نف�سك ،وتطل ن�ش�أوا على هذه التقاليد لو �أنهم زاروا �إجنلرتا ،ومتنيت كما ا ُ
�أنهم �سيدركون �أننا غري ودودين جتاه بع�ضنا البع�ض ،على العامل بروح الزاهد يف كل �شيء! رميها ،ا�صطياد
امل�س�ألة لي�ست تنظريا ،هي حقيقة ملمو�سة ،تكتب عن متاما كما ميكن �أن نبدو لهم». الع�صافري ثم
على �أنني هنا ال �أعمم ،فلم تكن ال�سنوات ا ألربع التي املوت فتتخل�ص من هواج�س االنتحار ،تكتب عن �إطالقها ،الرك�ض
ق�ضيتها يف بريطانيا كلها بهذه ال�صورة .حدثت هذه احلزن فتكفكف دموعك ،تكتب عن حرمان احلب فتنقذ وراء الفرا�شات،
امل�شاعر بالوحدة والن�أي يف ال�سنة ا ألوىل ،لكنني بعد املع�شوق ،تكتب عن ال�ضياع لتقرتب من اهلل ،تكتب عن اللعب بالرند،
ذلك ت�أقلمت حني اقرتبت �أكرث من املجتمع الربيطاين ،انحطاط ا أل ّمة لكي ال تفجر نف�سك فيها! وهكذا تكون
وتفهمت االختالفات الثقافية بني العرب وا إلجنليز ،و مع ذلك� ،أنا ال �أختزل ال�شعر يف هذه «الوظيفة» .ال�شعر الق�صيدة لعبة
وتو�صلت �إىل قناعة� ،أمتنى �أال تكون خمطئة ،وهي �أحيانا ،بالن�سبة يل� ،رضب من العبث اجلميل ،كاللعب طفولية عابثة،
�أن �صمت ا إلجنليز وعدم مبادرتهم �إىل االختالط يف الطفولة :بناء املكعبات وهدمها ،جمع ا أل�صداف ثم
ال ت�سوقها
با ألجانب ،لي�س مردها العن�رصية بال�رضورة ،و�إمنا رميها ،ا�صطياد الع�صافري ثم �إطالقها ،الرك�ض وراء
هي طبيعة متوارثة جتري يف دمائهم منذ قدمي الزمن ،الفرا�شات ،اللعب بالرند ،وهكذا تكون الق�صيدة لعبة �إال الرباءة،
وال تقت�رص على تعاملهم مع الغرباء ،و�إمنا ت�شمل طفولية عابثة ،ال ت�سوقها �إال الرباءة ،والرغبة يف والرغبة يف
�سلوكهم جتاه بع�ضهم البع�ض .يظل ا إلجنليزي نائيا اكت�شاف املجهول. اكت�شاف املجهول
بنف�سه ،حرونا ،يرقبك ب�أناة و�صمت ،غري مندفع يف وقد يت�صور البع�ض �أن هذه اللعبة �سهلة وجمانية،
م�شاعره وعالقاته ،حتى يثق بك ،وحينها ينك�رس الثلج ،ولكنها يف احلقيقة ،عزيزة وباهظة الثمن .لي�ست
للطفال -ال�شعراء ا أل�شقياء ،ال�صعاليك وت�صيب منه �صديقا حميما ميطرك ب�أ�سئلته وتطلعه متاحة �إال أ
الذين ي�ؤمنون بقول �أولهم: ملعرفتك.
باب القوايف ك�أمنا
ِ على بيت
ُ أ � حلظات الفرح مل تكن قليلة يف بريطانيا ،ق�ضيت
الو ْح ِ�ش ُنزَّعا
َ من باْ سرِ � بها داجي أ � �سنوات ممتعة يف حت�صيل املعرفة ،واكت�شاف املجهول.
و� أذكر � أن لندن على وجه اخل�صو�ص ،كانت م�رسحا uuالق�صيدة �إعادة ت�شكيل للذات ,ومواجهة مع
يل للت�أمل ،واحلرية ،والثقافة .هناك يف تلك املدينة العامل بخرابه ودماره وويالته وكوارثه ..هل ترى
العظيمة � ،أيقنت � أن الرغبة هي قمر الكائن ،ي�ضيء به � أن الق�صيدة ت�ستوعب كل ذلك؟
غياهب الروح ،وي�ستهدي به يف عتمات الغربة .من نعم ..ت�ستوعب الق�صيدة كل هذه املواجهات� ،رشط �أال
نهر التاميز� ،إىل املكتبة الربيطانية� ،إىل كلية �ساو�س تقع يف فخ املبا�رشة واخلطابة وال�ضجيج .مل يكن ال�شعر
120 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
كما تثبت �سريته يف كتب ا ألدب .ولكن هذه الر ؤ�ية اجليد يف ا ألدب العربي ،منذ اجلاهلية حتى اليوم� ،إال
�أي�ضا ينبغي �أال تكون مطية لذوي النفو�س املري�ضة، مواجهة ورف�ضا للعامل ،مبعناه الع�شائري �ضد الفردي،
والعقول ال�ساذجة ،يف تر�صدهم لغرائز ا إلن�سان يف ومبعناه اخلانع �ضد الثائر ،ومبعناه ال�سائد �ضد
ا ألدب والفن ،و�إدانة املبدعني من خاللها .منهج �سقيم النوعي ،ومبعناه القدمي �ضد اجلديد .ال�شاعر امر ؤ� القي�س
كهذا ،لن يدع جماال للكتابة عن امل�سكوت عنه يف واقع مل يكن من�ضويا حتت �إبط القبيلة .كان �ضد التابو
احلياة .وقد �شاعت هذه القراءات اخلاطئة يف ع�رصنا القبلي ،مبحافظته ،وقمعه ،ولذلك اتهمته �سلطة النقد
لل�سف ،حيث �أدين بع�ض الكتاب يف العامل احلديث ،أ القدمية ب�أنه كان َ
«يتَ َع ّهر يف �شِ ْع ِره» .وقد مثلت جتربة
العربي بتهم متخيلة تتعلق برتويج اجلن�س ،و�إف�ساد ال�شعراء ال�صعاليك ،بتمردها على النظام الع�شائري،
املجتمع. يف الع�رص اجلاهلي مرحلة م�ضيئة يف ال�شعر العربي،
ويبدو �أن العرب القدماء كانوا �أكرث ن�ضجا ،وفهما ،يف على م�ستويي ال�شكل وامل�ضمون .فنجد يف �أ�شعار عروة
تذوق ال�شعر ،فلم نقر� أ لفقيه �أو عامل ر�أيا يكفر فيه �أبا بن الورد ،ورفاقه� ،صيحات الرف�ض للفقر ،واجلوع،
نوا�س� ،أو ب�شارا ،على كرثة ما قااله من �شعر يف اخلمر والظلم ،واال�ستبداد ،والتفرقة العن�رصية .وقد ان�سحب
والغرائز .بل خالفا لذلك ،وجدنا بحر ا ألمة عبد اهلل بن هذا الرف�ض لي�شمل تقاليد الق�صيدة العربية الكال�سيكية،
� أعتقد � أن عبا�س ،وهو من هو يف علمه وورعه ،ين�صت لل�شاعر مثل الت�رصيع ،واملقدمات الطللية ،واملعلقات الطوال،
الق�صيدة عمر بن �أبي ربيعة يف امل�سجد احلرام ،وهو ين�شده ومدح ال�شيوخ ،ليحل حملها ال�شعر ال�رسدي ،والوحدة
لي�ست ق�صيدته الرائية ،التي يقول فيها: املو�ضوعية للق�صيدة ،واملقطوعات الق�صار ،ومدح
انعكا�سا، كنت �أتـّقي
و كان مجِ َ نـّي ،دون من ُ الذات ورفاق الدرب.
و�إمنا هي وم ْع�صرِ ُ كاعبان ُ
ِ �شخو�ص،
ٍ ثالث
ُ وظلت الق�صيدة امل�شاغبة يف الع�رصين ا ألموي
وكذلك �أي�ضا فهم م�شائخ ا إلبا�ضية القدماء ال�شعر ،حيث والعبا�سي ،عند م�سلم بن الوليد ،وب�شار ،و�أبي نوا�س،
الرغبات
مل يدينوا �شاعرا بالف�سق لت�شبيبه باملر�أة� ،أو لتغنيه و�أبي متام ،واملتنبي ،و� آخرين ،هي ا ألعمق فنيا ،وا ألكرث
والحالم أ خلودا عرب التاريخ .يف �أ�شعارهم انت�صار للذات ،وتعظيم
باخلمر ،رغم كرثة ما نقر� أ من هذا ال�شعر يف دواوين
ذاتها ال�شعر العماين .فلم ن�سمع �أحدا منهم �أدان ال�شاعر �أبا للذة ،ورف�ض لل�سائد ،وفتح جديد يف اللغة ،وا أل�سلوب،
م�سلم البهالين ،يف قوله: وا إليقاع .وقد اتك�أت الق�صيدة العربية احلديثة على هذا
وقالت
ْ دنت ثغرَها مني ف�أ ْ ا إلرث امل�ضيء ،يف م�رشوعها ملواجهة قوى الظالم
ال�رشوق
ِ متتّ ْع بي �إىل وقتِ والتخلف يف ع�رصنا هذا ،وتعاطيها مع جتارب مماثلة
يف ا آلداب العاملية.
م�ص وردة وجنتيها فبت � أ ُّ
ُ
ر�شف جمرَ مب�سِ مِها ال�رشي ِق و� أ ُ �إذن ال�شعر لي�س �سكونا ،بل هو قلق ،وت�سا ؤ�ل ،ورف�ض،
و قد وظف بع�ض ال�صور يف �شعره مما لو قالها غريه وحتد ،و�إعادة �صياغة للعامل.
التهمه �أهل اجلهل بالكفر ,حيث يقول: uuرغبات كثرية تتداخل يف ن�سيجك ال�شعري
ع�رصت لكم من خمرة اهلل �صفوها ُ وت�أتي �رصيحة حينا ,ومتوارية حينا � آخر� ..إىل
ال�سكر م�أثما
ُ فما كرا, �س
ُ بها فموتوا � أي مدى تكون الق�صيدة انعكا�سا لرغباتنا وتوقنا
لقد هـام �أهـل اال�ستقامـة قبلنـا و� أحالمنا املقبورة؟
بها فانت�شـوا بيــن اخلليقـــة ُهيـّمـا �أعتقد �أن الق�صيدة لي�ست انعكا�سا ،و�إمنا هي الرغبات
ويقول �أي�ضا: وا ألحالم ذاتها .وال �أتفق مع مدر�سة التحليل النف�سي
ال�رشاب �رشابي
ُ َم ْن كمثلي وذا الفرويدية ،التي تف�رس ا إلبداع يف �ضوء التنفي�س عن
والنبيـّو َن كــلـهم نِدْمــــاين رغبات مكبوتة ،و�أحالم كامنة يف الالوعي .هناك
هام قبلي به اخلليـ ُل ومو�سى رغبات كثرية ،ال جمال لتعوي�ضها ،نعي�شها ،ونكتبها
و�صاحب القـر� ِآن
ُ ثم عي�سى يف � آن معا.
وهناك �أمثلة كثرية ل�شعراء عمانيني ،وغري عمانيني. و�أبو نوا�س حني تتبع خيوط غرائزه �شعريا ،مل يكن
يقول ال�شاعر العامل �إبراهيم بن قي�س احل�رضمي: يفتقدها يف واقع حياته ،بل عا�شها الرجل بتفا�صيلها،
121 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
�أم�شاج من حلمة احلياة اليومية .قد تقدح يف ذهنك مالت ُت�سائلنـي� ,إذ مثلها ي�سـ ُل ْ
لقطة �شعرية� ،أو �صورة� ،أو مقطع� ،أو ق�صيدة ،و�أنت يف لفاظهــا ع�ســـ ُل خـــــود خدلـّجـــةٌ � أ ُ ٌ
ال�سوق� ،أو يف املقهى� ،أو يف القطار� ،أو يف الطائرة، العاج �صفو ُته ِ والثدي مث ُل ملي ِح
حيث �صخب احلياة عارم ،ويكاد يتخطفك النا�س من ال�شم�س م�شتع ُل
ِ كلون منها وال�صدر
ُ
كل جانب .ولي�س هذا ارجتاال لل�شعر ،كما كان يفعله راب ُيتَ ْعـت ُِعها لكـ ْن لها ك َفـ ٌل ٍ
قدماء العرب ،ولكنه ا�ست�سالم لعفوية اخللق ،وقب�ض القيــام وجيـــدٌ زانــه النبـ ُل
ِ عــــند
ل�رشارة ال�شعر قبل �أن تنطفئ. ويقول �أي�ضا:
uuزاهد يف حلمك ,حتى لتت�ضاءل �أحالمك من طيف فكيف �إذا عن ك� ْشحِ ها انح ّل د ِْر ُعها
امر�أة �إىل فخذ دجاجة� ..أهكذا تت�صاغر ا ألحالم؟ رتجــرج
ِ مل
ومئزرها عن َع ْج ِزها ا ُ ُ
املهم �أن نحلم ،وقيمة احللم ال�شعري ال تكمن يف حجم ويقول خلف بن �سنان الغافري وهو من فقهاء وعلماء
املحلوم به ،و�إمنا يف �صدق احللم ذاته .يف ال�شعر ال القرن احلادي ع�رش الهجري: ويبدو �أن العرب
نحلم بالق�صور ،والرثوة ،والرفاهية ،ولكنا نحلم اذا ما تثنـ ّ ْت يف املال قال �صاحبي القدماء كانوا
باحلياة ،حتى ولو كان قوامها طيف امر�أة� ،أو فخذ منـام
ُ يطــيب
ُ علــى فقـ ِد هـــذي ال
رهبـان لبنـا َن � آثـروا فلو �شامها �أكثـر ن�ضجا،
دجاجة! ُ
لقد حلم ال�شاعر العربي منذ اجلاهلية حتى اليوم بالثورة الغرام وهامواِ هواها و�ساحوا يف وفهما ،يف تذوق
واملجد ،فما الذي حتقق غري هذا اخل�رسان املبني! �أكرب أ
uuتفر منك الكلمات ,فتلج� لعزلتك الكثيفة بحثا عن ال�شعر ،فلم نقر� أ
ال�شعراء العرب ،قذفت �أحالمهم يف وجوههم� .أولهم رفة جناح �أو طيف امر�أة ..ما الذي تكت�شفه بانتظارك لفقيه �أو عامل
امر ؤ� القي�س ،الذي يقول: يف �أدغال العزلة املوح�شة؟ ر�أيا يكفر فيه �أبا
فت يف ا آلفاق حتّى طو ُلقد ّ العزلة معبد ال�شعراء والفال�سفة .لطاملا تغنى ال�شعراء
نوا�س� ،أو ب�شارا،
رجعت من الغنيم ِة با إل ِ
ياب ُ العرب بالعزلة ،وامتدحوها ب�أنها من �سمات العلماء،
وقد حلم املتنبي ب�شيء عظيم ،مل يف�صح عنه ا�ست�صغارا وقد عرب عنها املعري ب�شيء من نرج�سية ال�شاعر ،حني على كثـرة ما
ملن حوله من املت�سلقني واخلذلة: قال: قااله من �شعر يف
نت يف كل بلدة يقولون يل ما � أ َ �صحابهاَ أ � ة
ُ الوحد �ش وحِ
ال ُت ُ اخلمر والغرائز.
وما تبتغي؟ ما �أبتغي َج ّل � أ ْن ُي ْ�س َمى � إ ّن �سهيال وحده فا ِر ُد
ولكنه يف نهاية احللم رجع خمذوال: و قد عظم املت�صوفة القدماء �أمر اخللوة� ،أو العزلة ،حتى
خذت من الدنيا؟ و�أعجبها ماذا � أ ُ �أن ا إلمام الغزايل �أفرد لها ف�صال يف كتابه «�إحياء علوم
حم�سـود
ُ �أين مبــا �أنـــا بـــاكٍ منــــه الدين» .وال �أبحث هنا عن ت�رشيع للعزلة بهذا الكالم،
وت�ستمر دوامة خذالن ا ألحالم يف ال�شعر العربي ،حتى ولكني � أ ؤ��س�س لها كخيار نخبوي� ،أفاء �إليه الر�سل،
الع�رص احلديث .يقول حممد املاغوط: والفال�سفة ،وال�صوفية ،وال�شعراء ،منذ بدء اخلليقة.
«كنت �أحلم بجلباب خمطط بالذهب يف العزلة ،ف�ضاء للقراءة ،والكتابة ،والت�أمل ،وجلد
وجواد ينهب يف الكروم والتالل احلجرية الذات ،وتطهريها من �أدران االختالط بالدهماء .ومع
�أما ا آلن ذلك ،ال �أرى كما يعتقد ثلة من ا ألدباء� ،أن العزلة هي
و�أنا �أت�سكع حتت نور امل�صابيح بال�رضورة معني ا إلبداع وينبوع ال�شعر .ال �أميل �إىل
�أنتقل كالعواهر من �شارع �إىل �شارع هذه الفكرة ،بل �أحتقرها �أحيانا ،ألن حلظات ا إلبداع ال
�أ�شتهي جرمية وا�سعة تقبل التكييف .ا إلبداع م�س من العبقرية ،فكيف نكيفه
و�سفينة بي�ضاء ،تقلني بني نهديها املاحلني، بزمن ما �أو مكان ما .ويحلو هنا لبع�ض املت�شاعرين
�إىل بالد بعيدة». �أن يقول لك� :أنا ال ينزل علي �إلهام ال�شعر �إال يف �سكون
�إذن مل يبق �أمامي �إال �أن �أحلم بال�سفر ،ومغيّبات اجلبل الليل حني �أكون وحيدا ،وي�سرت�سل يف التنظري حول
ا ألخ�رض ،والقراءة يف املقاهي ،والغط�س يف رباعيات هذا .بالن�سبة يل هذا وهم ،ألن يف ت�رصيحات الكثري
اخليّام ،والتيه يف الربع اخلايل ،والث�أر من كل �شيء يف من ا ألدباء العامليني ما يثبت �أن ال�شعر ،خا�صة،
122 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ا إل�سالم من �أمثال كعب بن مالك ،وعبداهلل بن رواحة، حمامات الطائرات ،والغرق يف �شرَ ْق �ألف ليلة وليلة.
ّ
وح�سان بن ثابت ان�رصفوا عن رواء ال�شعر ومائه �إىل uuمالك بن فهم ,وابن خلدون ,واخليام ,
جفاف املثل وا ألخالق ،ف�أطلق مقولته ال�شهرية «ال�شعر و�إرم ذات العماد وغريها � ..أ�سماء و� أمكنة تطل
نكد بابه ال�رش ،ف�إذا دخل يف اخلري �ضعف ،هذا ح�سان عرب حروفك يف و�ضاءة متناهية � ..أتراك ت�ستنطق
بن ثابت فحل من فحول اجلاهلية ،فلما جاء ا إل�سالم املا�ضي حني تق�رص � أبجديات اللحظة عن البوح؟
�سقط �شعره» .وهذه النظرة الثاقبة املبكرة يف النقد ال مفر من التاريخ� .أ�شعر �أحيانا ،كما �شعر املتنبي
العربي ت�ؤ�س�س جلدالنا يف النقد احلديث حول ال�شعر واملاغوط ،ب�أن املا�ضي هو الزمن املثايل للحياة.
الواقعي وال�شعر الذاتي ،وهل ال�شعر مر� آة املجتمع �أم يقول املتنبي:
«مر� آة الروح وحدها» كما تن�ص يف �س�ؤالك .و�أجدين �أتى الزما َن بنوه يف �شبيبته
�أنحاز �إىل �أن ال�شعر هو احلياة ،كل احلياة بتفا�صيلها هم ،و�أتيناه على الهرَ ِم
ال�صغرية والكبرية ،الغثة والثمينة .املر� آوية لي�ست ف�سرَ ّ ْ
و ي�ؤكد املاغوط نف�س ا إلح�سا�س:
كافية ألن ن�صف بها ال�شعر ،هذا الزئبق الذي فلت جئت مت�أخرا �إىل هذا العامل
«لقد ُ
من بني �أنامل جميع النقاد يف العامل ،ومل ي�ستطيعوا كان ينبغي
ا إلم�ساك به .وحني يكون ال�شعر هو احلياة ينبغي �أن �أن �أخلق
ي�أخذ �شمولها� ،ضيقها ،ات�ساقها ،تلونها ،فرحها، مع �أولئك الرومانتيكيني القدامى
حزنها ،قيمها ،رذائلها� ،إالهها� ،شيطانها ،و�ضوحها، ذوي اللحى املتهدلة ،والياقات التي ي�أكلها العث
غمو�ضها� ،سكرها� ،صحوها.... �أ�سكن يف غرفة من القرميد ا ألحمر».
ما من �شيء ميكن �أن يحيط مبجال ال�شعر .ال�شعر �أكرب ويتعزز هذا ا إلح�سا�س ا آلن ،على وجه اخل�صو�ص ،يف
من االلتزام .االلتزام �أيدولوجيا ،عقيدة ،حزب� ،سيا�سة، غمرة االنحطاط اخللقي ،الذي يغمر العامل ،ببط�شه،
�إ�سالم� ،شيوعية ،قومية .وال�شعر نقي�ض كل هذه وابتزازه ،وال �إن�سانيته .ويف ق�صيدة يف «هذا الليل
املفاهيم .مل يفلح من حاول �أن ي�ؤدلج ال�شعر� ،أو يجعل يل» ،ر�سمت �صورة لـ«� إ َرم» على �أنها هي النجاة،
له ر�سالة هادفة ،ال ا إل�سالميون ،وال ال�شيوعيون ،وال ت�صلح منفى لل�شعراء و� آخرة لهم .ورغم �أن هذا الت�صور
القوميون� .ست�صفق اجلماهري البلهاء كثريا لناظم يعزف للزمان واملكان ،ت�صور رومان�سي ،بعيد عن الواقع� ،إال
على وتر ال�سيا�سة� ،أو الدين ،ويجعل من ق�ضايا فل�سطني �أنه ال حميد عنه .وما حاجتنا �إىل واقع مرتهل ،عجوز،
والعراق ولبنان و�أفغان�ستان والبو�سنة والهر�سك ،غطاء ن�شهد فيه انهيارا �شامال للح�ضارة ،مبعناها القيمي،
لعجزه عن احلفر يف �صخر ال�شعر ومكابدته .ولكن كل وا ألخالقي؟ �إن بع�ض الفال�سفة جن من هول ما ر�أى
ما يفعله مكاء وت�صدية� ،سيذهب �أدراج الرياح. من تدهور الب�رشية �إىل �أق�صى دركات احل�ضي�ض.
uuتدير ظهرك حلرائق العامل ,وحتدق يف uuا�ست�أثرت بالليل كله لك ,ونحن نهب هذا
مر� آة الروح وحدها ..ملاذا يغ�ض ال�شاعر طرفه الف�ضاء لن�شيدك ..فما الذي �ستقوله َع ِجال يف
عن كل هذه ا إلنهيارات يف جدران احلياة؟ (هذا ارتباك الغياب؟
مزيدا من احلزن.. ال�س�ؤال �سيكون �ضمن التحقيق حول ال�شاعر وااللتزام
ما من �شجرة ,والتهمة املوجهة لل�شعراء ب�أمن بعيدون عن هموم
�ستع�صمني من ا ألمة)
�س�أ�ستعني ب�شيخنا ا أل�صمعي يف ا إلجابة على �س�ؤالك،
هذا الطوفان وهو الذي واجه الق�ضية نف�سها منذ قرون بعيدة .ت�صدى
غري هذا الناقد املثري للجدل لل�ضعف الذي ع�صف بجموح
حزين الطويل! ال�شعر العربي حني جاء ا إل�سالم .فقد ر�أى �شعراء �صدر
�صالح ال�سنو�سي
�أقع خارج �صخب و�أ�ضواء
(ع�صائب) امل�شهد الثقايف العربي
حاوره :عذاب الركابي
ناقد و�أكادميي من العراق يقيم يف ليبيا
s
s
s
الكتابة جمبولة ٌ باملعاناةِ يف مقايل عن روايت ِه «حلق الريح» ال�صادرة عن «دار لذة
وهو املقال الوحيد الذي كت َِب عن الهالل» امل�رصيةَ ..
متنف�س ..والبديل ٌ َ الكاتبة ن
ّ أ � البع�ض
ُ يرى uu
(الروائي د� .صالح
ّ روايت ِه يف ليبيا،كما � أخربين ُ
قلت:
الهم العروبي لعامل ٍ � أكرثَ حرية ..وهدوءا ..و� أمانا ..و� آخرو َن القومي،ويربز ال�سنو�سي يعلو عنده النب�ض
ّ
هو الر� ؤيا والن�سيج الذي تبنى علي ِّه يرونها الهواء َ ..واللذة واملتعة الكربى ..قل يل بو�ضوح ٍ ،ب ْل َ
عند �صدورها الكثري من ملاذا الكتابة؟ ب ْل ملاذا تكتب؟ َ أثارت، � التي � أعماله الروائية
قلته،
ا أل�سئلة والنقا�شات على امتداد ال�ساحة الثقافية الليبية � -أعتقدُ � ّأن الكتابة فيها بع�ض من هذا الذي ُ
والعربية) -كتابي« :العزف بالكلمات»�-ص .167هذا فهي متنف�س بالن�سبة للكاتب ،مثلما هي القراءة
جعله ي�ستهجن الرواية العربية التي متعة بالن�سب ِة للمتلقي ،غري � ّأن لذة الكاتب ِة بالن�سبة ُ النب�ض القومي
وبني لذة املعاناة تكتب خ�صي�صا لذهن املتلقي الغربي ،فا�ضحا الروائيني
العرب الذين يكتبون بهذا ا أل�سلوب كي يتبناهم الغرب للكاتب هي لذة جمبولة باملعاناةَ ، ُ
ومتعة التلقي يتخلق ج�رس من الوقائع والأوهام ْ َ
فقط ،ولعابهم ي�سيل على جوائزه التي يلونها حرب
تعربه امل�شاعر واالنثياالت واحلقائق والتوقعات ُ حقد ِه على قيمنا ..ومقد�ساتنا ..وفكرنا ..و� أخالقنا وحتّى
بني الطرفني ،فلعل هذا اجل�رس الذي ي�ضع املتبادلة َ � أحالمنا!!..
هو الذي ي�صبح َ املتلقي، ولي�س املبدع أوىلل ا لبنته تتعدد لديه فنون الكتابة ،وهوالأ�ستاذ ،والباحث
يل
الأكادميي يف االقت�صاد ..،وعلم االجتماع ال�سيا�سي يف ما بعد � أحد الدوافع احلقيقية للكتابةِ .بالن�سبة � إ ّ
لي�س �صحيحا القول � ّأن الكاتب يكتب دون � أن يفكر َ وكاتب مقال ناجح ..وهادف ..،هادئ الر� أي� ..صايف
مادته التاريخ ،اختار يف املتلقي ،فبالرغم من � ّأن املبدع يظل يف وحدت ِه ُ الفكرة�..شديد الو�ضوح،ولأن
(عواطفه م�شدودة من�شغال بالن�ص وبعوامله ،ويبدو وك� ّأنه وحيد �إال ُ الرواية كمتنف�س ،ويعرتف ب� ّأن:
َ � ّأن املتلقي يظل دائما حا�رضا يف نهاية امل�شهد، دون أدبية ل ا أجنا�س ل تعربه ك ّل ا
ُ للرواية) ،ألنّهاٌ :
(ن�ص
ف�أنت عندما ت�شطب كلمة � أو بيتا من ق�صيدتك، يفقد هويته). � ْأن َ
وهو جال�س عن روايت ِه الوىل «متى يفي�ض الوادي» ال�صادرة عام أ
1980كتب الناقدالكبري الراحل د .غايل �شكري يقول � :أو ي�شطب الروائي عدة جمل من الن�ص َ
بان هناك وحده ،ف�أنه يعرتف بوعي � أو بدون وعي ّ
هو �رشيكا قد ال يرى يف هذا البيت � أو هذ ِه اجلملة قيمة (وك�أنيّ ب�صالح ال�سنو�سي على �صعيد البناء الروائي َ
� أحد االمتدادات احلية لرتاث جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�س
معا � ..ن �صالح ال�سنو�سي من � أبناء الواقعية اجلديدة �ذا �إبداعية ،ورغم � أن قرار ال�شطب � أو ا إل�ضافة يتخذه
إ إ
�شئت..و� ّأنه ابن لرتاث الرواية العربية احلديثة �إذا �شئت املبدع يف خلوته� ،إال � ّأن ذلك التقييم يجري ح�سب
ُ ٌ
� أي�ضا ،غري � أنه قب َل ذل َك وبعده ،قبل ا ألبوة وبعد البنوة معايري ذوقية وجمالية ومفاهيم وت�صورات � أفرزتها
هو �صوت فنّي متميزٌ ،ل َه �شخ�صيته ا ألدبية امل�ستقلة ،ول ُه الثقافة امل�شرتكة بينه وبني املتلقي االفرتا�ضي َ
الق�صة – د .غايل الذي يجل�س يف نهاية امل�شهد منتظرا ما يتدفق ب ِه ال�سخي) -ق�صتي مع ّ ّ العطاء على قدرة
ٌ
ج�رس احلقائق والأوهام .فهذا اجل�رس التوا�صلي هو �شكري -دم�شق -30يناير1980-م.
الذي يغذي الكتابة ،فال ت�صبح جمرد فعل ٍ عبثي �صدر للروائي د� .صالح ال�سنو�سي: َ
يدور يف الفراغ ،بل يجعلها فعال ي�شارك يف خلق 1980 الوادي-رواية يفي�ض متى -
العامل والت�أثري فيه. -غدا تزورنا اخليول – ق�ص�ص 1984
-لقاء على اجل�رس القدمي -رواية 1992
رجل ال تتوافر فيه �إال معايري ٌ أ�نا � -سرية � آخر بني هالل -رواية1999
البداع إ و�شروط -حلق الريح -رواية 2002
ل ُه � أعمال ق�ص�صية وروائية حتت الطبع ..كما �صدر له
ثالثة كتب يف الفكرواالجتماع وال�سيا�سة »:العرب من uuاقت�صاد ..مقال �سيا�سي ..ق�ص�ص ق�صرية..
أنت يف �رضوري بال انتهاء � ..أي َن � َ
ّ روايات� ،صخب احلداثة �إىل العوملة»2000-
«العوملة � أفق مفتوح و�إرث يثري املخاوف» 2003 -كلّ هذا؟ وم ْن ا ألقرب �إليك؟؟
أظن انك تبالغ ،فالق�ص�ص الق�صرية ملْ � أعدْ � أكتبها و«امل�أزق العربي غياب الفعل اجلماعي وعنف ا ألقلية» ّ �-
منذ الثمانينات ،وكان ذلك خالل مرحلة حياتي يف – 2004جميعها �صدرت يف القاهرة.
125 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
والدعاية بالن�سبة للم�شهد الثقايف العربي ،وهذا تعج بال�صحف واملجالت باري�س التي كانت يومها ّ
تعمدك
الطرفان هما ال�سلطة والغرب � ،أي ينبغي � أن ّ ل�ست �صاحب عمود، ُ العربية � ،أما املقاالت ف�أنا
ال�سلطة العربية � ،أو يتبناك الغرب الثقايف لأ�سباب وال رئي�س حترير ل�صفحة يف � ّأي مطبوعة ليبية
�سيا�سية ،وال � أحد من هذين الطرفني يعتربين �صديقا وال عربية ،وكل ما هناك � أنني � أكتب مقاال �شهريا
حمقان يف ذلك.
ِ له وال من رجالهِ ،وهماُ باالتفاق مع اجلزيرة – نت ،ولكن ما � أده�شني َ
هو
غياب الفعل اجلماعي أ� ّدى �إىل حديثك عن ال�صخب ال�رضوري بال انتهاء ،وك�أنك
ال تعرفني ،ف�أنا ال يكاد يعرفني جاري القاطن
انق�سام املثقفني
يف البيت املقابل لبيتي يف مدينة بنغازي ،فلي�س
العربي..
ّ يعد مقنعا للمواطن مل ُ uuالفعل الثقايف ْ حويل �صخب و� ّأي � أ�ضواء على ال�ساحة الثقافية
وهو يعي�ش الكوارث املتالحقة – كما يعرب جربا َ الليبية � .أما امل�شهد الثقايف العربي ،ف�أنا رج ٌل ال
�إبراهيم جربا ..قل يل ملاذا؟وكيف ننتج؟ تتوافر في ِه ال�رشوط واملعايري غري ا إلبداعية التي
ثقافة هادفة ..ومقنعة؟ ماذا تقرتح؟� أال ترى � أ ّن تتطلبها الأ�ضواء وال�صخب واملزامري على م�رسح ان امل�شهد
ّ
العديد من مثقفينا يظهرون �سلبية مقيتة ..وال هذا امل�شهد ..كنت � أقول � ّأن امل�شهد الثقايف العربي الثقايف العربي
مباالة جارحة جرّاء ما يحدث على � أر�ض الواقع.. هو �إعادة �إنتاج للم�شهد ال�سيا�سي بكل مرجعياته َ هو �إعادة
تكون أن � فيلزمك والغنيمة، الع�صبة بينها من التي َ
هيمنة � أجنبية ..تبعية ..احتالل ..وغياب مدن َ �إنتاج للم�شهد
بكاملها ..ما � أ�سباب هذ ِه ال�سلبية؟ وما � أهدافها؟ماذا جزءا من �إحدى �شلل � أوع�صائب هذا امل�شهد ،ولكي
تكون ع�ضوا يف هذ ِه الع�صبة فيجب � أن تكون من ال�سيا�سي بكل
ت�سمّي هذا النوع من املثقفني؟
ذكرته -ا إلجابة على هذا ال�س�ؤال تعيدين �إىل ما �سبق الذين � أ�صابهم �شيء من في�ض غنيمة ال�سلطة حتّى مرجعياته
ُ
يف كتابي الذي �صدر منذ � أربع �سنوات عن مركز ت�ستطيع � أن تتبادل املنافع وامل�صالح يف �سوق هذا التي من
درا�سات الأهرام – القاهرة بعنوان «امل�أزق العربي.. امل�شهد الثقايف العربي ،و� أن ت�ستكب النقاد وت�ؤجر بينها الع�صبة
غياب الفعل اجلماعي وعنف ا ألقلية» ،فغياب روح الطبالني واملرتجمني ،ولكي ي�صيبك �شيء من هذا والغنيمة
الفعل اجلماعي لدى الأغلبية ال�ساحقة يف املجتمع فالبد � أن تكون منخرطا يف رتل ال�سلطات العربية
العربي لأ�سباب ال ي�سمح �سياق حديثنا هنا ل�رشحها ول�ست منُ � أو منافقا معها ،وهذه � أمور ال � أ�صلح لها
وحتليلهاّ � ،أدت �إىل انق�سام املثقفني الذين تت�ساءل رجالها ،ولهذا ف�أنا � أقع خارج �صخب و� أ�ضواء هذا
عن دورهم �إىل خم�س فئات ،الأوىل تلوذ بال�صمت امل�شهد ..فهل �سبق ل َك � أن علمت � أو قر� أت � أنني مدعوٌ
حتا�شيا منها لل�صدام مع �سلطات باغية يف جمتمع لدي كتب لي�ست أي معر�ض كتاب عربي ،رغم � أنني ّ ل ّ
فاقد لروح الفعل اجلماعي �.أما الفئة الثانية فقد �سيئة معرو�ضة يف هذ ِه املعار�ض التي � ألتقي فيها
اختارت املنفى والهروب من � أوطانٍها ولها � أ�سبابها، ب�أنا�س ،الكثري منهم لي�سوا � أق ّل مني �سوءا ،ومع ذلك
� أما الفئة الثالثة وهي الأغلبية فقد اختارت طريقا فهم �ضيوف ُمبجلون ..ه ْل �سمعت � أنني �شاركت
يوائم بني م�صاحلها وم�صالح النظام من ناحية يف ندوة من ندوات هذا امل�شهد ،رغم � أنني باحث
وحماولة �إحداث تغيري من داخل النظام � ،أي � أنها متت ا�ست�ضافتي يف ما بات � أكادميي � أي�ضا؟ ه ْل ّ
انخرطت مع النظام ال�سيا�سي بعد � أن يئ�ست من يعرف بعوا�صم الثقافة العربية؟ و� أنني � أجزم ب�أنك
قدرة اجلماعة على فر�ض �إرادتها ،بينما ر� أت الفئة ال ت�ستطيع � أن تثبت � أنني ُدعيت يف � ّأي من ُم�ؤمترات
الرابعة ،يف ظل عجز اجلماعة عن � أداء دورها � أنه الرواية العربية ،رغم � أنني � أكتب الرواية ،و�صدرت
يح ّق لها � أن حتاول اال�ستفادة من حماية الف�ضاء يل عدة روايات ،مهما تدنت قيمتها فلن تكون � أق ّل
ا إلعالمي وال�سيا�سي الغربي يف ع�رص العوملة قيمة من روايات � آخرين تتبناها ع�صائب امل�شهد
باعتباره ف�ضاء �ضاغطا – متى � أراد -على ال�سلطات الثقايف العربي ،وتدق حولها الطبول واملزامري،
العربية � أكرث من جمتمعها العاجز ،غري � أن ثمن وترتجم �إىل لغات اجلن والأن�س.
هو � أن يراعي هذا املثقف يف خطابه جملة ذلك َ يا �صديقي هناك طرفان هما م�صدر ال�ضوء وال�صخب
126 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
لتوظيف الظاهرة ،على الأغلب � أن هرني ميللر قد من املواقف وااللتزامات التي تتناغم مع م�صالح
�شتم ال�سيا�سة ولكنه ملْ يتطرق �إىل الثقافة ،ولكن ت�سميه � أنت الهيمنة
ومواقف الغرب من � أمثال ما ّ
الثقافة هي � أي�ضا لي�ست بريئة ،وقد تكون هي والتبعية واالحتالل و�ضياع الأم�صار واملدن � .أما
امل�س�ؤولة عن كثري ما ن�سميه كوارث ال�سيا�سة ،لأن الفئة اخلام�سة وهي الأقلية فقد اختارت الوقوف
� أي حراك �سيا�سي يلزمه ت�أويل ثقايف ،فاطالق �صفة تعتقده ر� أيها ور� أي
ُ يف وجه ال�سلطة والدفاع عما
ال�رشير وا إلرهابي واملتع�صب واملتخلف �ضمن ا ألغلبية العاجزة ،وذلك بقبولها الت�ضحية ودفع
م�رشوع �سيا�سي يلزمه �إرثا ثقافيا ثاويا يف ال�ضمري الثمن اعتقادا منها � أن ذلك �سيدفع غالبية اجلماعة
اجلمعي ،لكي يعطي امل�صداقية ال�رضورية لتحريك �إىل االنخراط يف الفعل اجلماعي غري � أن � أحداث
� آليات هذا امل�رشوع .فاال�ستعمار الغربي الع�سكري الواقع العربي � أثبتت عدم �صحة هذ ِه التوقعات ،فبدا
أعتقد � ّأن
ُ � وال�سيا�سي كان يتوك�أ � أي�ضا على ع�صا ثقافية ،بل حال ه�ؤالء الذين ذهبوا �إىل حد الت�ضحية� ،شبيها
الرواية العن�رصية هي ظاهرة ثقافية احت�ضنتها ال�سيا�سة، بحال �شخ�ص يخالف نظام ال�سري فتده�سه �سيارة
العربية ال فمعظم منظري العرقية يتو�سلون الثقافة يف الدفاع م�رسعة يف منطقة مظلمة من الطريق العام.
عن ر ؤ�يتهم التي تبنتها ال�سيا�سة ف�سريج جوبينو، � أظن � أنني – يا�صديقي – قد حاولت ،ب�رصف النظر
ينق�صها �شيء
وبوفون ،و� أرن�ست رينان وغريهم هم � أبناء ثقافة عن التوفيق من عدمه � ،أن � أجيب على ت�سا ؤ�التك
من مقومات تراه من �سلبية
ولي�سوا � أبناء �سيا�سة ،والهوية والقومية والدين حول نوعية املثقفني العرب وما ُ
الرواية يف والأيديولوجيا كلها � أح�صنة ثقافية ميتطيها فر�سان مقيتة وال مباالة ،و� أكرر � أبحث عن غياب روح الفعل
بقية � أجزاء ال�سيا�سة� ،صحيح � أن ال�سيا�سة كعلم حديث الن�ش�أة، اجلماعي لدى غالبية اجلماعة ،فهو خلف كل هذ ِه
الخرى،العامل أ ولكنها ك�أفعال و�سلوكيات هي قدمية غري � أنها الظواهر وتلك الكوارث ..ال �شك � ّأن القارئ �سيت�ساءل
ولكنّها تعاين كانت وال تزال حتتاج �إىل عون الثقافة ..و� أخالك عن ا أل�سباب الكامنة خلف فقدان هذ ِه الروحَ ،
وهو
من ظرف �شديد تخالفني حول � أثر الثقافة يف تردي � أو�ضاعنا ت�سا ؤ�ل منطقي وم�رشوع ولكنني ال � أ�ستطيع � أن
ال�سيا�سية العربية ،فغياب روح الفعل اجلماعي � أعيد رواية كتاب بكامله ،وهو الكتاب الذي ال � أظن
الوط�أة ،وهو
بك ّل ما ميثله من خراب �سيا�سي ،يجد الكثري من قد �سمع به معظم القراء العرب ،لأنه مل حتتف به
غياب حرية � أ�سبابه يف ثقافة العجز والتواكل وال�صرب واخل�ضوع ع�صائب امل�شهد الثقايف العربي،وبالتايل مل ي�سمع
التعبري واخلال�ص الفردي التي لها جميعها مرجعياتها يف ب ِه املتلقي العربي �ضحية الطبول واملزامري.
الثقافة العاملة والثقافة ال�شعبية .واخريا � أقول لك الثقافة هي امل�س�ؤولة عن كثري ٍ
كان ثمة تغري فال بد � أن يحدث يف الثقافة � أوال !!
�إذا َ من كوارث ال�سيا�سة
كل أ
الجنا�س ن�ص تعرب ُه ّ
الرواية ٌ
الروائي ا ألمريكي – هرني ميللر�( :إنني
ّ uuيقو ُل
أ
الدبية دون أ�ن يفقد هويته � أعد ّ ال�سيا�سة عاملا خبيثا ..متعفنا �إىل � أبعد حدّ..
�إننا ال ن�ص ُل �إىل � ّأي تقدم عن طريق ال�سيا�سة� ..إنّها uuالرواية تاريخ ..وذاكرة ..وخمزون ..وتراكم
تف�سدُ ك ّل �شيء )..ملاذا بر� أيك؟و� أيهما ا أل�صح :ثقافة فكري وحياتي؟كيف ّ
تعرف الرواية و� أنت الروائي
الكبري!؟ ال�سيا�سة � ْأم �سيا�سة الثقافة؟
-ب�إمكاين � أن � أحتدث عن الرواية وال � أعرّفها، -ثقافة ال�سيا�سة و�سيا�سة الثقافة كلها تعبريات
فالتعريف بالن�سبة �إىل � أكادميي مثلي يح�رص تدور حول مو�ضوع واحد ب�رصف النظر عن الت�أخري
ويقيد املعنى ،ولكن �س�ؤالك يحا�رصين ويحا�رص والتقدمي وامل�ضاف وامل�ضاف �إليه ،فاملق�صود ح�سب
الرواية ويطلب �إجابة حمددة ولهذا �س�أقول لك ظني هو االختيار بني توظيف ال�سيا�سة يف الثقافة
أعتربه � أنا خال�صا
ُ تعتربه � أنت تعريفا ،وما �
ُ ما � أو العك�س،وعلينا ان ن�سلم بان هناك عالقات �سببية
تعربه ك ّل
ُ من ال�س�ؤال ،فالرواية« :هي الن�ص الذي بني الثقافة وال�سيا�سة ،فاالثنان ي�شرتكان يف ما
الأجنا�س الأدبية دون � أن يفقدَ هويته»..فهي ف�ضاء ن�سميه يف العلوم ال�سيا�سية بالبعد اال�سرتاتيجي
ّ
127 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
�إىل ال�شعر واملو�سيقى والر�سم والفل�سفة والنقد، تعربه ال�سيا�سة وال�شعر والتاريخ وعلم النف�س وعلم
و� أنا ال � أريد للرواية � أن ترتبع وحدها على م�رسح واحلب والكراهية والواقعّ االجتماع وال�رش واخلري
ا إلبداع ا إلن�ساين ألن ذلك يعني نهايتها ،فالرواية واخليال ،ومع ذلك ف�إنك تقبل عليها باعتبارها
يف نظري ال ميكن � أن حتافظ على هويتها ومتيزها رواية وال تتوقع � أنك تقر� أ كتابا يف علم النف�س � أو
�إال يف وجود ك ّل تلك ال�رضوب الأخرى من ا إلبداع يف ال�سيا�سة ،بل تظل ذلك الن�ص الذي يجرت يف
التي تتغذي ويغذي ك ّل منهما الآخر � .أقو ُل لك – داخله ك ّل تلك اخللطة دون � أن يفقد بنيته ال�رسدية
و� أنت ال�شاعر� -إنني � أحيانا اظل � أبحث عن �إ�شباع و� أن�ساق عوامله ،ودون � أن ينفلت وي�سقط يف املبتذل
نف�سي وذوقي وجمايل حلالة وجدانية تنتابني ،وال ململ ودون � أن تفارقه لذة التوا�صل ،..ولهذا ف�إن ا ُ
� أجد ذلك �إال يف بيتٍ � أو بيتني من ال�شعر ولي�س يف الن�ص الذي يفقد هويته وي�صبح جمرد احتطاب
� أعظم رواية !!..ما � أريد � أن � أكرر قوله ب�صيغ ٍة � أخرى ومعان مر�صو�صة ومتجاورة ،هو ٍ ملو�ضوعات
هو � أن فكرة �ألأحادية � أمر يخيفني ،وال يدعوين �إىل َ عندي – ولعله عند الغالبية العظمى -لي�س برواية ان مو�ضوع
الفرح حتّى لو كان مو�ضوعها هو اللذة واجلمال، و�إمنا ينطبق عليه املثل الليبي الدارج «كالم ال ر� أ�س الرواية هو
فالوحدانية ميكن � أن ت�ستوعبها الألوهية باعتبارها فاز باجلوائز على اعتبار � أنه
له وال ذيل» ..حتّى و�إن َ
ُ الذي يفر�ض
فكرة جمردة ومتعالية � ،أما � أن تنزل �إىل الأر�ض يف رواية لأ�سباب �سيا�سية ولي�ست �إبداعية ،ومهما نال � أ�سلوب كتابته،
�شكل مادي ،ف�إن ذلك ال � أظن � ّأنه يدعو �إىل البهج ِة من تقري�ض من قبل نقاد وكتبة م�ؤجرين ،ويعانون
وانا مع اللغة
وال�رسور!!.. يتبناه الغرب!!..
ُ من عقد نق�ص جتاه ك ّل ما
ال�شعرية
الرواية ُ العربية متتلك ّ
كل مقومات �إنّ عواطفي م�شدودة �إىل الرواية يف الكتابة
(ول�سوف تكت�سح الرواية الرواية العاملية uuتقو ُل – �سانت بيف:
ُ َ الروائية،
uuوكيف تقيم الرواية العربية؟ َمن ِم َن ا أل�سماء ُ ك ّل �شيء)..ويقول ميالن كونديرا يف كتابه – ف ّن ولكنني ل�ست
تقر� أ؟ولمِ ْن تنجذب؟ وت�شعر � أنه ي�ضيف �شيئا لهذا الرواية �( :إ ّن ال�سبب الوحيد لوجود الرواية ألنّها مع ال�شعر يف
الفن العظيم؟ وما ت�أثري الرواية الغربية على تقول �شيئا ال ميكن � أ ْن تقوله �سوى الرواية) ..ملاذا الرواية
الرواية العربية وعلى � أ�سلوب روائيينا؟؟ الرواية دون غريها من بقية الفنون؟
� -أعتقدُ � ّأن الرواية العربية ال ينق�صها �شيء من أن هذا � -أنا ال � أف�ضل تعابري من قبيل االكت�ساح ل ّ
مقومات الرواية يف بقية � أجزاء العامل الأخرى، التعبري يف لغتنا العربية يعني ظهوره هيمنة �شيء
ولكنّها تعاين من ظرف �شديد الوط�أة ،وهو غياب واحد واختفاء ما عداه ،ونحن يف عاملنا العربي
حرية التعبري ،فالكبت ال�سيا�سي واالجتماعي نعاين من ثقافة االكت�ساح ..فعلى �صعيد ال�سيا�سة
واملمنوعات واملحرمات كلها متثل عوائق � أمام يكت�سح احلاكم م�رسح ال�سيا�سة ،فتختفي ال�شعوب
م�سريتها ،وت�ؤثر ب�شكل � أو ب� آخر يف انطالقتها، ..وكذلك ا ألمر بالن�سبة للفن وا ألدب وغريها ،فهنا
ي�ضع حمددات ت�ؤدي �إىل ت�ضييق ُ باعتبار ذلك مكت�سحينِ (بفتح ال�سنيَ دائما مكت�سح ،والبقية
أمام املبدع .وقد يقو ُل البع�ض � أن الف�ضاء املمتد � َ واحلاء)�..إنني ما � أزال يف معر�ض ا إلجابة عن �س�ؤالك
الكبت � أي�ضا يولد ا إلبداع ،وهذا �صحيح �إىل حدٍّ ما، و�إن ا�ستخدمت ت�سميات لي�س من بينها الرواية ،و� أنا
ولكن يف حالة الأو�ضاع العربية ف�إن اخلروج على �شخ�صيا � أكتب الرواية ومعظم َمن يعرفونني يطلقون
هذ ِه املحرمات وال �سيما ال�سيا�سي منها ،باهظ الثمن لدي م�ؤلفات يف علم علّي �صفة الروائي رغم � أنني ّ
ومهلك ،وال ت�ستطيع � أن تطلب من كل الروائيني � أن االجتماع ال�سيا�سي والبحث الأكادميي،ولهذا ف�أنني
يتحولوا �إىل � أبطال و�شهداء ،وهم � أ�صال � أبناء ثقافة � أجد عواطفي م�شدودة �إىل الرواية ،ولعل ذلك يرجع
العجز ،وينتمون �إىل جمتمعات فاقدة لروح الفعل � أي�ضا �إىل كوين ع�شقت الرواية وكتبتها قبل � أن اعرف
اجلماعي ،ف�أنت قد تكتب رواية ولكنك تخاف � أن � أجنا�س الكتابة الأخرى ..ورغم ذلك ف�أنني ال � أريد
تن�رشها ،ألنك قد تفقد حياتك ،وهذا ال �شك ي�شكل � أن تكت�سح الرواية ك ّل �شيء ،فا إلن�سان يف حاج ٍة
128 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
االتكاء على م�رشوعية وم�صداقية م�ستمدة من � أزمة للمبدع العربي.
ا ألدب الغربي لتع�ضيد ن�صو�ص يريدها � أ�صحابها نعم قد ي�ستطيع البع�ض من الذين يعي�شون خارج
رواياتٍ ،وهي يف نظري لي�ست كذلك .ولكن ك ّل العامل العربي � أن يكتبوا بحرية � أكرث ،ولكن ذلك يظل
هذ ِه ا إل�شكاليات وامل� آخذ ال ميكن � أن تخت�رص عمل � أفراد قليلني ،وقد تكون قدراتهم ا إلبداعية
الرواية العربية ،فهناك �إبداع وعطاء والتزام ونب�ض متوا�ضعة مقارنة بقدرات اخلائفني املرتددين ،فهذا
حياة!!.. دن خوف ،مينح ه�ؤالء الظرف � ،أق�صد حرية الكتابة َ
الرواية الليبية والبداع الليبي
م�ستقبل الرواية إ
ميزات قد يكون غريهم من الرهائن يف الوطن � أجدر
لي�ست ا�ستثناء منهم بها ..يف ظل ظروف متكافئة .هكذا � أرى الرواية
البداع العربي
مرهون مب�ستقبل إ
من الرواية العربية وغريها من �رضوب ا إلبداع �ضمن هذه
uuوالرواية الليبية التي � أ�صبحت � أكرث � أنواع االعتبارات واملحاذير � .أما من الناحية ا إلبداعية،
العربية،
ا إلبداع الليبي نفوذا ..وانت�شارا ..ورواجا للقارئ فلي�ست هناك رواية عربية واحدة ،ب ْل هناك تعدد،
فهي تالقي الليبي والعربي ..كيف تقر� أ م�ستقبلها؟ هل تذكر وهناك ن�صو�ص يح�سبها البع�ض روايات ..،وهناك
العوائق نف�سها بع�ض ا أل�سماء الهامة !؟؟ م�أخذان – يف نظري – على الرواية العربية ،وهما
من ممنوعات -الرواية الليبية لي�ست ا�ستثناء من الرواية العربية، ي�سيئان �إليها ولعلها � أكرث خطرا من فقدان حرية
وحمرمات، فهي تالقي العوائق نف�سها من ممنوعات وحمرمات، التعبري � .أول هذين امل�أخذين هو � ّأن هناك عددا
المركذلك أ كذلك الأمر بالن�سبة مل�ستقبلها ،ف�أنا ال � أ�ست�رشف لها متزايدا من الروائيني العرب يكتبون ويف ذهنهم
بالن�سبة م�ستقبال خا�صا بها معزوال عن م�ستقبل ا إلبداع يف ولي�س العربي ،وبالتايل فهم َ املتلقي الغربي،
املنطقة العربية � .أما م�س�ألة االنت�شار والرواج عربيا، يكتبون عن مو�ضوعات ي�أملون � أن يتبناها الغرب
مل�ستقبلها ،ف�أنا
ف�أعتقد – ولعلني خمطئ -ب�أن املبدعني الليبيني ال�سيا�سي ،في�ؤدي ذلك �إىل تبنيهم من قبل الغرب
ال � أ�ست�شرف لها تظلمه قدراته ،ولكن الثقايف ب�أ�ضوائه وجوائزه ومظلته ا إلعالمية ،ولهذا
ُ بع�ضهم ظلمته اجلغرافيا وملْ
م�ستقبال خا�صا بعد ثورة االت�صاالت التي �شهدها العامل يف نهاية فهناك ظاهرة تدافع يف هذا االجتاه ،وك ّل يحدوه
بها معزوال الألفية الثانية ،يبدو يل � أن هناك تقل�صا يف امل�سافة الأمل ب�أن يقع معه ما وقع مع قلة عمدهم الغرب
عن م�ستقبل التي كانت تف�صل بني ما كان ي�سمى مركز العامل كروائيني كبار وعامليني ،ورغم � أن تبني الغرب
البداع يفإ العربي و� أطرافه � .أعتقد � أنني قر� أت ك ّل َم ْن كتبوا هو لأ�سباب �سيا�سية ولي�ست �إبداعية� ،إال � أنهمله�ؤالء َ
املنطقة الرواية يف ليبيا ،ومعظمهم،ولهذا ف�أنا ال بد � أن � أذكر يفر�ضون � أنف�سهم على ال�ساحة الثقافية العربية التي
دون ترتيب ،ودون حكم لك � أ�سماء من قر� أت لهم َ تعاين من عقدة نق�ص مزمنة جتاه ك ّل ما ي�أتي من
العربية
ألن ذلك مهمة املتلقي ولي�ست مهمة روائي يتعامل جهة الغرب ،وهي عقدة ال �شك لها � أ�سبابها احلقيقية
بنف�س الب�ضاعة .لقد قر� أت لأحمد �إبراهيم الفقيه، واملو�ضوعية ،ولهذا فان الغالبية العظمى من النقاد
وخليفة ح�سني م�صطفى ،وحممد الأ�صفر ،و�سامل العرب وامل�ؤ�س�سات الثقافية العربية ال ميلكون �إال
الهنداوي ،وعبد الر�سول العريبي ،وحممد عقيلة تبني ه�ؤالء باعتبارهم عامليني ،وهي باملنا�سبة
العمامي ،وجنوى بن �شتوان ،و� أحمد الفيتوري، �صفة ال تطلق على الروائيني يف الآداب الأخرى
ويو�سف �إبراهيم .لقد قر� أت له�ؤالء جميعا وا�ستفدت مهما بلغت قمة �إبداعهم ،ب ْل يذكرون ب�أ�سمائهم
مما قر� أت لهم. دون اقرتانها ب�صفة العاملي � .أما َمن ي�شككون يف
القيمة ا إلبداعية له�ؤالء العامليني العرب فانهم � أقلية
أ�نا مع اللغة ال�شعرية يف الكتابة الروائية
تغني خارج ال�رسب ح�سودة وهام�شية�.إن البحث عن
uuفازت رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون مو�ضوعات قد تالقي قبوال لدى الغرب يجعل هذا
بجائزة «غونكور» الفرن�سية لكونها ال�شعري.. النوع من الرواية العربية ال تلتقط هذه املو�ضوعات
قل يل ماذا ي�ضيف ال�شعر للرواية؟ وما مدى ت�أثري ولي�س املتلقي العربي!!..
َ �إال من � أجل متلق ٍ � آخر
ال�شعر على روايات �صالح ال�سنو�سي؟ هو حماولة � أما امل�أخذ الثاين على الرواية العربية َ
129 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
� أخرج املخرج اليوناين الأ�صل «كو�ستا كافرا�س» � -أعتقدُ � أن مو�ضوع الرواية هو الذي يفر�ض � أ�سلوب
يف الثمانينات �رشيطا �سينمائيا عن الفل�سطينيني كتابته ،وانا مع اللغة ال�شعرية يف الكتابة الروائية،
يف �إ�رسائيل وكان بطل الفيلم فل�سطينيا .كان عنوان ولكنني ل�ست مع ال�شعر يف الرواية (� أعني ال�شعر
الفيلم(حنا.ك) ،وقد �سنحت يل الفر�صة � أن � ألتقي بهذا حتديدا) ،ولي�س لغته ،فا�ستخدام ال�شعر � أو �إقحامه
املخرج �ضمن عدد من الطلبة من زمالئي يف معهد يف �سياق الن�ص الروائي من � أجل التغطية على عجز
ا إلخراج ال�سينمائي يف باري�س ،وبعد � أن انتهى الراوي يف االحتفاظ بخيط احلدث الروائي ،فذلك
اللقاء ذهبت لأ�س�أله على انفراد :ملاذا جعل البطل يف ر� أيي جمرد احتطاب � أعواد خ�شب من غابة ال�شعر
الفل�سطيني يحمل ندبة كبرية ت�شوه وجهه ب�شكل ٍ إلنقاذ م�رشوع بيت متهاو ٍ .عندما كتبت رواية «�سرية
ملفتٍ للنظر ،ف�ضحك ممازحا ،وهو يرد علي � :أتريدين � آخر بني هالل» ولعلك الحظت ذلك،ف�إن مو�ضوعها
ّ
� أن � أجعل البطل فل�سطينيا وو�سيما � أي�ضا؟ فنجاح فر�ض لغة �شعرية ،ولكنني مل ا�ستنجد بقوايف ال�شعر
الفيلم قد ال يتحمل كل ذلك !! لقد خل�ص «كو�ستا لكي � أخفي عجزي عن االحتفاظ مب�سار تدفق احلدث
كافرا�س» امل�س�ألة يف جملتني .فالعرب بالن�سبة الروائي � .أعود �إىل رواية «ليلة القدر» � ،أنا � أ�شك
للمتلقي الغربي اليزالون قوما � أكرث ما يثريون كثريا يف � أن تكون جائزة «الغونكور» قد ُمنحت
لديه هو ال�شفقة ولي�س ا إلعجاب � .أعود ف�أقول لك � أن للرواية ب�سبب كونها ال�شعري ،وهذا لي�س تبخي�سا
�شعرية الطاهر بن جلون التي لي�ست حمل �شك ٍ عندي للغة ال�شعر التي كتبت بها ،ف�أنا � أناق�ش �سبب منح
مل تكن يف نظري خلف � أية جائزة ح�صل عليها � ،أو ولي�س �شعرية الرواية ،فالطاهر بن جلون َ اجلائزة،
�سيح�صل عليها ،فلو فر�ضنا � أنه كتب رواية عن بد� أ الكتابة �شاعرا باللغة الفرن�سية ،فهي لغته حتى
م�أ�ساة فتاة فل�سطينية � أثناء م�شهد الدم والنار الذي � أنه ترك ق�سم الفل�سفة بكلية الآداب يف املغرب
�صنعته �إ�رسائيل يف غزة ف�أنني على يقني من � أنه احتجاجا على تعريب الدرا�سة بالق�سم ،وبالتايل
لن حتتفي بها م�ؤ�س�سات الغرب الثقايف ،ولن مينحه فان لغته ال�شعرية � أمر متحقق ،ولكن الرواية حتتاج
الر ؤ��ساء ا ألو�سمة عن هذه الرواية مهما � أوغل الطاهر �إىل مو�ضوع � أو حدث روائي و�إال � أ�صبحت ديوان
بن جلون يف �شعريته وجتاوز ماالرميه ،وبودلري، �شعر .ومو�ضوع «ليلة القدر» يتناول �إحدى ق�ضايا
ورون�سار. العادات والتقاليد ال�سيئة يف الثقافة العربية،
uuمتى نقر� أ لك عمال �صادرا عن دار ن�رش ٍ ليبية؟ فالرواية ا�ستكمال لرواية «طفل الرمال» ،وهي ق�صة
كيف قر� أ النقاد الليبيون والعرب رواياتك؟ ه ْل الأنثى التي � أراد � أبوها � أن تكون ذكرا لأنه لديه ثماين
� أخذت حقّك من النقد؟ � أعني ه ْل � أن�صفك النقاد يف بنات ،وبالتايل � أعطاها ا�سم «احمد» ثم � أ�صبح � أحمد
روايتك اخلم�س ال�صادرة عن دور ن�رش ٍ عربية؟ كيف يف رواية «ليلة القدر» زهور � أي عادت �إىل � أنوثتها،
ا�ستقبلها القاريء الليبي وال�صحافة الثقافية؟ حب ذكر �إىل � آخر الرواية.ال �شك � أن مثل
ووقعت يف ّ
-هذا يف احلقيقة لي�س ب�س�ؤال ولكنه دعوة غري هذه املو�ضوعات تعترب � أكرث جاذبية بالن�سبة
بريئة منك لل�شكوى من جانبي � أظن انني � أجبت عن للمتلقي الغربي عموما نظرا ملا فيها من غرابة
جزء من هذا ال�س�ؤال يف معر�ض �إجابتي عن ال�س�ؤال وتعار�ض مطلق مع مفاهيم وقيم ثقافتهم ،وهي
الثاين بخ�صو�ص ال�صخب. � أي�ضا ت�ؤكد ال�صورة املتلقاة من �إرثهم الثقايف عن
�إنا ال � أطالب � أحدا من النقاد � أن ين�صفني �شخ�صيا، ه�ؤالء القوم ،وبالتايل فال ت�صدم � أحكامهم امل�سبقة
بل يلتفت �إىل الن�صو�ص ولي�س �إىل الأ�سماء ،فما وال ت�ستفز عقولهم ،بل تثري ف�ضولهم و�سخريتهم
يجري يف امل�شهد الثقايف العربي الآن هو الدوران وتعطي م�صداقية لكل ما تلقوه عن ثقافتهم ،فلي�س
حول � أ�سماء معينة رغم � أن الكثري منها �إبداعيا هناك عمل �إبداعي عربي معر�ض للف�شل يف الغرب
�شحمها ورم. � أكرث من ذلك العمل الذي ي�صدم مفاهيم وت�صورات
اعرتف ب�أنني ال � أمتلك ال�رشوط غري ا إلبداعية التي و� أحكام املتلقي الغربي عن العرب� .س�أذكر لك
جتعل هذا امل�شهد يويل اهتماما بكتاباتي ،ف�أنا حادثة طريفة لعلها لها عالقة بهذا املو�ضوع ،فقد
130 نزوى العدد / 62ابريل 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
التي يرتب�ص مبثلها غريي من الكتاب العرب كما قلت لك �شخ�ص غري مفيد مبفهوم �سوق املنافع
م�ستغلني جهل وت�سلط الرقيب العربي ليجعلوا من وامل�صالح املتبادلة يف امل�شهد الثقايف العربي � ،أما
ن�صو�ص متوا�ضعة �إبداعيا ،مو�ضوعا �إعالميا يلهث الن�ص وحده لي�س هو ال�سلعة القابلة للتداول يف هذا
خلفه املتلقي ويبحث عنه ،فانا دائما � أتوقع من ال�سوق.
القارئ � أن يبحث عن رواياتي ألنها جديرة بالقراءة هناك بالطبع نفر قليل من النقاد الذين � أولوا
ولي�س فقط لأنها ممنوعة. اهتماما بكتابتي ولكن معظمهم يقع خارج
رواية �سرية � آخر بني هالل هي رواية اللغة ال�شعرية �صخب امل�شهد الثقايف الع�صبوي العربي ولهذا
ولكنها � أي�ضا رواية الالجئ ال�سيا�سي العربي يف فقد ظل املتلقي العربي الذي هو �ضحية الدعاية
باري�س � ،أي رواية املنفي ،فبطل الرواية لي�ست له والربوباقاندا وا إل�شهار – كحال املتلقي يف كثري
جن�سية وا�سمه عدنان وال ميكن ن�سبته �إىل � أي بلد من � أنحاء العامل – م�شدودا �إىل ما يجري على
عربي ف�أي متلق عربي �سيح�سبه ذلك الرجل الذي امل�رسح امل�ضيء ماعدا � أقلية قد تلتفت من حني
فرّ من قريتهم � أو مدينتهم ذات يوم قبل القب�ض لآخر �إىل الأماكن املحرومة من ال�ضوء ،ولكنهم يف
عليه ،وهو � أي�ضا ال�شاعر الذي يرف�ض � أن يعاملوه النهاية � أقلية ت�ضيع � أ�صواتهم و�سط �صخب الدفوف
يف الغرب بالتعايل والدونية ولكنه يف الوقت نف�سه العالية واملزامري حتى �إن البع�ض منهم قد ي�ساوره
مهزوم ح�ضاريا و�سيا�سيا ومل ي�ستطع فوق كل ذلك ال�شك ب�أنه قد اكت�شف �شيئا قيما يف عتمة الزاوية
� أن يعو�ض هذه الهزائم بغزوات جن�سية يف بالد املن�سية.
الغرب كما يفعل � أبطال روايات املنفى العربية ففي ليبيا – على �سبيل املثال -مل يكتب عن رواية
جميعها. حلق الريح �سوى مقال واحد ويف الوطن العربي
ولو قي�ض لهذه الرواية � أن حتمل ا�سم بهاء الطاهر � أو – ح�سب علمي -مل يكتب عنها �سوى مقالني ،وهى
يو�سف �إدري�س � أو الطيب �صالح – على �سيبل املثال رواية ميثولوجيا الرعاة والقبيلة التي ت�صبح دولة
– ملا اخط�أ الكثريون ممن قر� أوها يف عنوانها وهو النموذج الذي يتماهى مع التاريخ ال�سيا�سي
و� أ�سموها «�سرية بني هالل» بدال من �سرية � آخر بني العربي ،فلو حملت هذه الرواية ا�سم � أحد � أولئك
هالل ،وهذا �إن دل على �شيء ف�إمنا يدل على �سطوة املعتمدين يف امل�شهد الثقايف العربي ب�رشوطه
امل�شهد الثقايف الع�صبوي العربي على ذاكرتنا، وموا�صفاتها التي ال � أمتلكها ،جلعلوا منها منوذجا
فيجعلنا نن�سى حتى الذي نعرفه جيدا طاملا مل ومرجعية ولنالت االهتمام الذي ت�ستحقه بني
تتبنه ع�صائب امل�شهد الثقايف العربي ،ف�أنا ال � أتوقع الروايات العربية.
� أن تقع مثل هذه ا ألخطاء مع «احلب يف املنفي «� أو عندما �صدرت رواية �سرية � آخر بني هالل عن دار
«احلي الالتيني» رغم � أنهما ال يتميزان ب�شيء عن الهالل امل�رصية ،منع الرقيب الليبي تداول الرواية-
�سرية � آخر بني هالل. � أول �صدورها -ومع ذلك مل � أقفز على هذه الفر�صة
132
فنــون ..فنــون ..فنــون
s
s
s
الفوتوغرافيا ال ُعمانية
بني الواقع والطموح
()2009 - 1970
عبداملنعم احل�سني
� أكادميي وم�صور ُعماين
تهدف هذه الدرا�سة �إىل حتليل واقع الت�صوير ال�ضوئي يف عمان وم�ؤ�رشات
امل�ستقبل يف �ضوء املعطيات الراهنة .تبد� أ الدرا�سة ب�رسد تاريخي حول ما
تو�صلت �إليه امل�صادر من معلومات حتكي ق�صة ال�صورة وبدايتها يف عمان يف
فرتة ال�ستينيات وال�سبعينيات حتديداً .بعد ذلك يقدم الباحث البداية امل�ؤ�س�ساتية
لفن الت�صوير ال�ضوئي يف عمان من خالل جماعة الت�صوير بالنادي الثقايف
يف فرتة الثمانينيات .مع مطلع الت�سعينيات وافتتاح اجلمعية العمانية للفنون
الت�شكيلية �أ�صبح للت�صوير كيان م�ؤ�س�سي �أكرث تنظيماً .ينتقل الباحث بعد ذلك
�إىل بع�ض امل�ؤ�س�سات التي تهتم مبجال الت�صوير ال�ضوئي وهي جماعة الت�صوير
بجامعة ال�سلطان قابو�س والكليات التطبيقية التابعة لوزارة التعليم العايل
والنادي العلمي التابع لوزارة الرتاث والثقافة .كما تر�صد هذه الدرا�سة عالقة
الت�صوير ال�ضوئي بالفنون املعا�رصة من خالل التجارب املختلفة .يحاول
الباحث يف نهاية الدرا�سة �أن يقدم خطة ا�سرتاتيجية لن�رش الثقافة الب�رصية
وتنمية الذائقة الفنية بال�سلطنة يف امل�ستقبل.
133
البدايات
مل ت�رش امل�صادر التي �سعى اىل متابعتها الباحث عن وجود
منتظم وم�ؤ�س�س للت�صوير ال�ضوئي يف عمان ال من حيث
امل�ؤ�س�سات احلكومية �أو حتى ا ألندية واملراكز ال�شبابية.
ت�صوير :حممد الو�ضاحي ُ -عمان
s
s
s
ومنذ ال�سنة ا ألوىل إل�شهار النادي ،ان�ضم اىل االحتاد الدويل
لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب) .حيث �شارك �أع�ضاء النادي
يف عدة معار�ض وم�ؤمترات دولية من بينها البينايل الدويل
لفن الت�صوير .بد�أت �أوىل امل�شاركات عام 1995يف ا�سبانيا
s
s
s
هذا اللقب قبول �أعمالهم يف امل�سابقات واملعار�ض الدولية
والتي يرعاها ا إلحتاد الدويل حيث �أن قبول ا ألعمال يف هذه
املعار�ض مير على جلان حتكيم فنية دولية .
وهذا الو�سام هو �إعرتاف ر�سمي من ا إلحتاد الدويل بالفنان
ويكون هذا اللقب مالزما إل�سم امل�صور يف جميع امل�شاركات
s
s
s
يرغب يف تطوير امكاناته يف الت�صوير ال�ضوئي(.)4
الكلية التقنية (وزارة القوى العاملة) ()2009-2005
تعد الكلية التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة الكلية
الوحيدة املتخ�ص�صة التي متنح �شهادة �أكادميية يف الت�صوير
ال�ضوئي كدبلوم يف الت�صوير مدته �سنتان .بد�أت الكلية بق�سم
s
s
s
خامتة:
حتدثت هذه الدرا�سة عن جتربة �سلطنة عمان يف
جمال الت�صوير ال�ضوئي من خالل درا�سة و�صفية
حتليلية للواقع وتطلعات امل�ستقبل .بد�أت بالتاريخ
�سعد املو�سوي
توا�صل حميمي مع الرتاث والأ �سطورة
خـالــد احلـــ ِّلي
�شاعر من العراق يقيم يف �أ�سرتاليا
منذ �أن حل يف �أ�سرتاليا عام � ،1995أخذ الفنان العراقي �سعد املو�سوي ي�ستقطب
اهتمام الأ و�ساط الفنية الأ �سرتالية ب�شكل مطرد وملحوظ ،لي�شيع عرب �أعماله
املتفردة الده�شة واالنبهار لدى الأ �سرتاليني ،على نحو حميمي و�أثري ،منطلق ًا
يف ذلك من خ�صو�صياته الإ بداعية وت�رشبه برتاث ح�ضارات وادي الرافدين،
ومتابعته لأ هم التطورات يف الفنون الت�شكيلية العاملية.
�إن ت�أكيدي على الت�شخي�ص املكاين يف � أعمايل ،هو وحدة مكملة ال ميكن
اال�ستغناء عنها يف � أغلب نتاجاتي .فاملكان هو ج�سد اللوحة ،والزمن هو
تعبري عن الذاكرة والروح ،وباحتادهما يتمثل الوجود الفني.
s
s
s وعلى الرغم من وجود الفنان يف � أ�سرتاليا منذ
قوا�سم م�شرتكة
تثري اهتمام املتلقني فرتة غري ق�صرية ن�سبياً ،وانفتاحه على خمتلف
التجارب والتوجهات الفنية ،ف�إنه ظل متم�سكاً
[ بلغ عدد املعار�ض التي � أقامها � أو �شارك فيها بخ�صو�صياته ومفاهيمه ا إلبداعية الذاتية ،دون
الفنان املو�سوي خالل وجوده يف � أ�سرتاليا ع�رشة االنتماء �إىل � أية مدر�سة � أو حركة فنية تقليدية
معار�ض ..ترى ما هو � أهم ما �شدّ ا أل�سرتاليني �إىل � أو معا�رصة ،وبقي م�ستقالً ب�أ�ساليبه وتقنياته،
� أعماله ..؟ كما هو م�ستقل فكرياً و�سيا�سياً عن � أي حركة
عندما نطرح هذا ال�س�ؤال على الفنان جنده يقول: حزبية � أو �سيا�سية � أو مذهبية.
رمبا تكون –وب�شكل عام -اجلدّة واخل�صو�صية و� أ�سرتاليا هي املحطة الثالثة من حمطات
والرباعة يف ا�ستخدام الري�شة واللون من القوا�سم الفنان احلياتية وا إلبداعية ،ولكنه يف � أي
امل�شرتكة التي تثري �إعجاب جمهور ما بفنان حمطة من هذه املحطات ،مل يتغيرّ فيه �إميانه
ما .ولكن تبقى هنالك تفا�صيل � أخرى كثرية قد بحرية العقل ،وحرية الفن ،وقناعته ب�أن الفن
يكت�شفها املتلقي يف هذا العمل � أو ذاك ..تفا�صيل هو الالانتماء ،وهو مترد على املربعات وا ألطر
جوهرية تتعلق بالعمل وما يختزنه من جتارب التي ي�صنعها الآخرون.
ور ؤ�ى قد ال تبدو جلية للجميع وفق نف�س الت�أثري كانت املحطة ا ألوىل للفنان هي العراق ،حيث تخرج
وبنف�س امل�ستوى .ومع �شعوري باحلرج «� أو يف � أكادميية الفنون اجلميلة ببغداد-فرع الر�سم
عام ،1990بعد � أن �شارك يف العديد من
املعار�ض الت�شكيلية داخل العراق .وكان
قد فتح عينيه على الدنيا يف مدينة
النا�رصية قريباً من العا�صمة ال�سومرية
العريقة � أور وزقورتها ال�شهرية.
� أما املحطة الثانية فقد متثلت مبكوثه
يف اململكة العربية ال�سعودية بني
عامي 1991و 1995حيث �شارك يف
�ستة معار�ض ت�شكيلية هناك ،وا�شرتت
منظمة ا ألمم املتحدة بع�ض � أعماله.
كما �شارك عام 1994يف معر�ض
ت�شكيلي ب�سوي�رسا ملنا�سبة يوم الالجئ
العاملي.
ويف حمطته الثالثة � أ�سرتاليا ،حيث يعي�ش
منذ عام 1995وحتى الآن ،وجد نف�سه
يحن �إىل �سماواته ا ألوىل ،و�إىل ّ وهو
جذوره املمتدة عرب الزمن منذ فجر
التاريخ ،يحمل � ألواحه وم�سالته على
� أكتافه ،ويعرب ا ألم�صار والقارات ،منفيّاً
يعرّف العامل بح�ضارته ..ح�ضارة وادي
الرافدين العريقة.
لوحة بعنوان «ر� أ�س وغيمة»
143 نزوى العدد / 62ابريل 2010
فنــون ..فنــون ..فنــون
s
s
s
ال�صغرية ..حماقاته الطفولية ،ممزوجاً كالتنب اخلجل �إن �شئتم» لدى احلديث عن نف�سي ،ف�إنني
مع طينها .ومن هنا تنطلق ت�أمالت وتداعيات ثرة وب�شكل تلقائي � أكر�س كل طاقاتي لعك�س العاطفة
وجميلة. وت�أثرياتها داخلي �إىل � آخر املديات التي ميكن � أن
كان الفنان يف ال�سنوات ا ألوىل من عمره ،يحفر � أ�صل �إليها .وقد وجدت � أن املتلقني كانوا ي�ؤكدون
وينب�ش ا ألر�ض بعفوية ا ألطفال ،وكان هنالك ثمة دائماً على اخل�صو�صية يف � أعمايل ،وهكذا � أجدهم
أ�شياء وحيواتٍ
هاج�س بداخله ،يوحي ب�أن هنالك � ً يلجون بلهفة مناخات احلوار والت�سا ؤ�ل .وميكن
مدفونة حتت ا ألر�ض .كان � أ�صدقا ؤ�ه ممن كانوا لدي هي لي�ست انطباعاً
يف عمره يلعبون ،ويحفرون ا ألر�ض � أي�ضاً ،لكنهم � أن � أقول هنا � أن اللوحة ّ
ب�رصياً � ،أو تكوينات هند�سية ،بل هي عالقات
كانوا يبحثون عن � أ�شياء ع�رصية ك�أ�سالك احلديد ح�سية وروحية وم�شاهد دراماتيكية .هي الت�صاق
وبقايا ا ألملنيوم � أو القطع البال�ستيكية لي�صنعوا ّ
كل دواخلي بامل�شاهد واالن�صهار � أمامه ب�أعماق
منها � ألعابهم الطفولية .ومع � أن الفنان املو�سوي
ا إلبداع الفني املفعمة با ألمل ،الفرح ،الن�شوة،
كان �صغرياً ،فانه كان يختلف عن � أترابه يف بحثه
اجلرح ،الغ�ضب ،احلب ،وكل امل�شاعر التي تفعل
حتت ا ألر�ض ،فقد كان يبحث عن «حبل �رسته»،
وعن جذوره مع القدم ،وكان ينهمك يف البحث فعلها العميق يف الفكر والقلب والروح.
ع�سى � أن يعرث على فخاريات قدمية � ،أو � ألواح � أو طفولة الفنان
بقايا لعظام � أجداده ال�سومريني .وكانت ع�رشات ثر ال ين�ضب
منب ٌع ٌّ
ا أل�سئلة حتا�رص عقله الطفويل � آنذاك ،حول بداية
اخللق ،وحول مالمح ا ألجداد القدامى ،و�إن كانت مل يغادر الفنان طفولته بعد ،فهي منبع ثر ال ين�ضب
ت�شبه مالمح مانحن عليه اليوم .لقد كان الطفل للر ؤ�ى والت�أمالت واالنثياالت ا إلبداعية .ويف لقاء
�سعد يلعب بالطني عاد ًة لي�شكل منه منحوتات مع الفنان تابعنا ت�أثريات طفولته ور ؤ�اه ونحن
أل�شخا�ص وحيوانات وكائنات � أخرى ،يجففها حتت جنل�س بني ع�رشات اللوحات التي تزدحم بها �شقته
ال�شم�س ،ثم يلقي بها بعد � أن جتف �إىل نار التنور، يف منطقة كولن وود بوالية فكتوريا ا أل�سرتالية
ثم ينظفها ،لكي يعر�ضها على � أهله و� أ�صدقائه. «عا�صمتها ملبورن» .يقول الفنان املو�سوي � أنه ولد
ونحن ن�سرب مع الفنان � أغوار من طني زقورة � أور ،و� أنه عا�ش طفولته � ..أ�شياءه
طفولته البعيدة ،يقول بعد حلظات
ت�أمل :كنت � أح�س منذ طفولتي ب�أن
الطني هو وحدة الوجود ،وبدايات
اخللق والكينونة .ومن هنا كنت
� أمتعن يف الرتاب ،و� أمدّ ب�رصي نحو
ا ألفق متح�س�ساً عناق الرتاب مع
ال�سماء ،فيرت�سخ يف � أعماقي هاج�س
العالقة ما بني «العودة والرحيل،
� أو الرحيل والعودة» ،ويتمخ�ض يف
مفاهيمي � أن البدايات هي اجلذور،
و� أن حتى الكائنات الطائرة
التي و�شجت الف�ضاء مبداراتها،
تهوي بعفوية �إىل الرتاب .كما
لوحة عنوانها الفنان بـ «�شموع للحياة»
144 نزوى العدد / 62ابريل 2010
فنــون ..فنــون ..فنــون
s
s
s
ا�سرتاليا ا أل�صليني «ا ألبوريجنيني» يت�أمل رموزهم � أن الكائنات املائية ،وهي متخر � أعماق املياه،
وي�ستمع �إىل مو�سيقاهم وتراتيلهم يف ا ألقا�صي ومتار�س طقو�سها يف الرحم ا ألزرق ،هي ا ألخرى
ا أل�سرتالية .كما ميكن � أن جتد كلكام�ش غريباً يف تعود �إىل الرحيل � ،أو ترحل �إىل العودة ..مثلها مثل
حمطات � أنفاق لندن. املوجودات ا ألر�ضية وتفا�صيلها ،وحتى الكائنات
� أما بالن�سبة لـ «البعد املكاين» ،فهنالك يف الواقع املاورائية �سواء يف خميالتنا � أو �سواء يف الواقع
الالمرئي ،تعوم يف دوائرها ،تعود � أو ترحل .ك ّل
و�شائج تربط الزمن كحركة مع الكتلة � أو مع املكان،
هذه الهواج�س ت�شكل الهم الرئي�سي يف ذاكرتي
انطالقاً من مفهوم فل�سفة «فن النحت» كعالقة
كمنفي من تربته ا ألوىل.
قائمة مابني الكتلة والف�ضاء� .إن ت�أكيدي على
الت�شخي�ص املكاين يف � أعمايل ،هو وحدة مكملة ال �سد اللوحةج َ
املكان َ
ميكن اال�ستغناء عنها يف � أغلب نتاجاتي .فاملكان والزمن جت�سيد للذاكرة
هو ج�سد اللوحة ،والزمن هو تعبري عن الذاكرة [ للح�ضور الزماين والبعد املكاين م�سارات ت�أخذ
والروح ،وباحتادهما يتمثل الوجود الفني. � أ�شكاال ً عميقة الدالالت يف � أعمالك ..ما هي
مكنونات هذا احل�ضور ،وكيف يتفاعل
يف داخلك ..؟
-يقول الفنان وهو يجيب على هذا
ال�س�ؤال� :إنني � أتق�صى عميقاً يف الزمان
كحركة ارحتالية ،متتد � أحياناً �إىل ما
قبل التاريخ � ،أو تتج�سد هذه املرحلة
الزمنية � أو تلك � أحياناً يف ح�ضور � آين
يو�شح املو�ضوع الفني � أي�ضاً،
معا�رصّ ،
حتى و�إن كان غري مرتبط با ألطر
الزمانية ،ويبقى امل�شاهد يف ت�سا ؤ�ل
عن زمن احلدث � ،أو حتى عن �إلغائية
الزمن.
الزمن موجود يف � أعمايل كجز ٍء
� أ�سا�سي منها ،ف�أنا على �سبيل املثال،
عندما � أج�سد �شخ�صية كلكام�ش ذلك
ا إلله/امللك ال�سومري الذي قام قبل
� أكرث من خم�سة � آالف �سنة بـ «رحلة
اخللود» ،وهو يحمل م�سالته وو�صاياه
باحثاً عن «ع�شبة اخللود» ،جتدين على
�صعيد � آخر � أ ؤ�كد على احل�ضور املعا�رص
لـ«الزمن» ،وحتديث �شخ�صية كلكام�ش،
الذي قد جتده يف بع�ض � أعمايل الجئاً
يف خميمات العراقيني الذين غادروا
وطنهم ق�رساً � ،أو متحاورا ً مع �سكان
«متوز وع�شتار» يف لوحة زيتية
145 نزوى العدد / 62ابريل 2010
فنــون ..فنــون ..فنــون
s
s
s
s
s
s
مع روح الع�رص عرب ثراء هائل من املوا�ضيع، رحلتها ورحلة الفنان مع احلياة.
الطال�سم ،احلكايات ،الرموز .وبدا لنا وا�ضحاً � أن �إن مفردات العمل الفني الت�شكيلي تتكون عادة
الفنان يعالج الرتاث ويرتبط به وفق رغبته � أو من � أ�س�س ومنطلقات تتمثل بـ :البناء ،ال�شكل،
حاجته �إىل ا�ستلهام لغة ودراما الرتاث ،ليج�سدها التقنية ،اللون ،الكتلة ،التوزيع ،ا إلن�شاء املوازنة،
بوحدات فنية وب�رصية .ويف هذا ا إلطار اعتمد على التوزيع .ويف � أعمال الفنان املو�سوي جتتمع كل
احل�ضارات القدمية ،والرموز املحلية ،واالعتقادات هذه العنا�رص ،وتتج�سد باقتدار ومتيز ،ولكننا
املاورائية كرتاث ينبع من عالقة الفرد و� أ�شيائه ال جند هذه املفردات مت�ساوية فيها ،بل جند � أن
باملحيط .وهو يرى � أن قناعات النا�س القدمية عن هنالك تفاوتاً عرب الطرح الفني � أحيانا� ،إذ جنده
الك�سوف ،واملوا�سم ،والتقومي ،والظواهر ،والبحث مثالً يعطي ا ألولوية لعن�رص � أو عن�رصين يكون
عن �إجابات للأ �سئلة الطبيعية التي ت�شغل � أذهان ح�ضورهما متفوقاً يف �إطار طبيعة التجربة � ،أما
النا�س ،هي � أ�ساطري كانت بدايات خللق مفاهيم بقية العنا�رص فيكون وجودها ملمو�ساً ووا�ضحاً،
روحية ودينية يرتبط بها ا إلن�سان. لكن ب�شكل ثانوي.
وهكذا جند املو�ضوع وا إلن�شاء
يطغيان على العمل الفني � أحياناً ،مع
بقاء ح�ضور اللون مكمالً ،وجند � أحياناً
� أخرى هيمنة اللون ،وظهور التقنية
ب�إثارة وو�ضوح على ح�ساب املو�ضوع
الذي ي�أتي مكمالً هو الآخر.
وتربز من خالل ا ألعمال وا�ضحة
� أمامنا م�ساعي الفنان إللغاء التفاوت
و�إعطاء التكامل ملفردات جمتمعة
العمل الفني ،وهذا يف الواقع هو ما
� أدركناه من خالل م�شاهدة � أعماله
ا ألخرية التي حاول فيها حتقيق ت�سا ٍو
للوحدات واملفردات معاً يف العمل
الفني.
ا�ستخال�ص القيم
التعبريية والفنية
ومن اخلال�صات ا ألخرية التي نخرج
بها بعد زيارتنا للفنان واطالعنا على
مناذج كثرية ألعمال له � أجنزها خالل
فرتات خمتلفة� ،إن ا�ستخدام الرتاث
وا أل�سطورة لديه هو ا�ستخال�ص للقيم
التعبريية والرمزية.
وقد جت�سد � أمامنا ب�شكل جلي ا�ستلهامه
للرتاث وتوظيفه ب�شكل ذكي يتناغم
لوحة عنوانها «ذاكرة وجدار»
148
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ال�سـ ــر
(م�سرحية �سيكولوجية)
ت أ�ليف � :صالح ح�سن
كاتب و�شاعر من العراق يقيم يف هولندا
مونيكا � آه ..روزا العزيزة ..دعيني احمل عنك.. هناك قنينة نبيذ فارغة على الطاولة وعلبتا �سجائر
..روزا (تقبلها) اتركيها� ..س�أنقلها اىل املطبخ مبا�رشة مارلبورو .جتل�س مونيكا اىل جوار الطاولة..
تذهبان اىل املطبخ وت�ضعان ا أل�شياء وتعودان اىل تتناول علبة ال�سجائر فتجدها فارغة تدع�سها وترميها
ال�صالة على ا ألر�ض بغ�ضب وتفتح العلبة االخرى.
ىمونيكا تعايل ..ا�سرتيحي... تدخن بعمق تتناول قنينة النبيذ وحتركها �أمام ناظريها).
..روزا كيف ت�شعرين؟ مونيكا (ك�أنها حتدث نف�سها) قنينة نبيذ كاملة وعلبة
..مونيكا اوه� ..أنت تعرفني ذلك ..املغ�ص املزعج و� آالم مارلبورو كاملة..
الظهر ..وعدم ال�شهية ..ال اعرف ..يف مثل هذه ا ألوقات والعادة ال�شهرية ت�أتي قبل موعدها (ت�ضحك بطريقة
�أ�صبح �سيئة الطبع ..اوه ..ان�سي املو�ضوع �أرجوك ..بكم م�ؤملة) وغدا عيد ميالدي ..يالها من �سعادة
ت�سوقتي؟ ..وفوق ذلك علي ان �أت�سوق وان اطبخ وان انظف البيت
..روزا (تبحث يف جيبها عن و�صل الت�سوق) � آه ..هذا هو (فج�أة) مونيكا اخر�سي ..كفى
تقدمه لها وقبل ان ت�أخذه مونيكا ت�سحبه �صمت ق�صري
روزا -اللعنة ما �أتع�سني؟! مونيكا ..اهدئي رجاء (�صمت) اجل ..اهدئي كل �شيء
..مونيكا ماذا؟ �سيكون على ما يرام..
..روزا لقد ن�سيت ان ا�شرتي لك هدية ! أ
(تطفئ ال�سيجارة وتذهب لتقف �مام املر� آة حترك �شعرها
..مونيكا اوه ..ال تهتمي عزيزتي ..لقد فعلت الكثري من عدة مرات ..تكلم �صورتها)
اجلي ..اعتربي الت�سوق هدية ..ثم انك �ستطبخني بدال عني مونيكا� ..أنت امر�أة لطيفة� ..ألي�س كذلك؟!
..انني اجد ذلك حقا اف�ضل هدية. ح�سنا ..ما هي امل�شكلة ..ها؟ قنينة نبيذ وعلبة مارلبورو؟
..روزا حقا؟ ثالثة �أيام �سباحة .انتهى .العادة ال�شهرية؟ ما الغريب يف
..مونيكا انني اعني ذلك بكل ت�أكيد ا ألمر؟
...روزا � آه ..يا الهي ..ا�ستطيع ان اطبخ االن و�ضمريي أ أ
هذه لي�ست املرة الويل التي ت�تي فيها العادة ال�شهرية
مرتاح( .تنه�ض باجتاه املطبخ) قبل موعدها؟
..مونيكا هل اعد لك ك�أ�سا من النبيذ؟ �أنت م�ضحكة مونيكا ..ال ت�صنعي من (احلبة قبة)
..روزا نعم ..ب�رسور (تتناول ك�أ�س النبيذ ومت�ضي اىل اعرف ..اعرف ..ال تكملي ..اعرف انك ال تطبخني حينما
املطبخ) ت�أتيك العادة ال�شهرية ..ألنك ال تطيقني رائحة الطبخ ..هذه
..مونيكا (بعد قليل) اذا احتجت اية م�ساعدة عليك ان ب�سيطة اي�ضا ..انظري..
تناديني.. (تذهب اىل التلفون)
..روزا �س�أفعل(...تذهب مونيكا لتغيري مالب�سها وتعود بعد هلو روزا ..كيف حالك ...انا متعبة قليال ...ال ..ال ..ل�ست
قليل وهي ترتدي بنطلونا وقمي�صا ا�سود �شفافا .تقف �أمام مري�ضة ولكن هذه اللعنة التي حلت علي قبل موعدها
املر� آة وتدور حول نف�سها .تنادي روزا) ب�أ�سبوع انت تعرفني ...بال�ضبط...
..مونيكا روزا؟ هل تعنني ذلك حقا؟ عظيم جدا ..اذن يف ال�ساعة ال�ساد�سة...؟
روزا (من املطبخ) نعم؟.. منا�سب جدا ..ماذا ينبغي علي ان اهيء لك؟
مونيكا تعايل اىل هنا رجاء.. �ست�شرتين �أنت كل �شيء؟ يا الهي ..كم �أنت رائعة وطيبة..
..روزا (قادمة من املطبخ) نعم ..ماذا هناك. �أنت امر�أة حقيقية.
..مونيكا (وهي ماتزال تدور حول نف�سها) هل ترين �شيئا (ظالم)
هنا (ت�شري اىل م�ؤخرتها)؟.. يف اليوم التايل ..يف بيت مونيكا نف�سه ..ال�ساعة ال�ساد�سة
روزا نعم� ..أري م�ؤخرتك !.. اال خم�س دقائق .مونيكا جال�سة ت�شاهد التلفزيون وعلى
مونيكا انا ال امزح ..طبعا ترين م�ؤخرتي .اعني هل ان الطاولة قنينة نبيذ.
ال�ضمادة وا�ضحة؟؟ يدق جر�س الباب.
..روزا انا ارى �شيئا واحدا فقط هو ان م�ؤخرتك جميلة مونيكا تطفئ التلفزيون وتذهب لتفتح الباب .تدخل روزا
حقا ..وان هذا الديك الذي ي�سمى ريت�شارد ال ي�ستحق ان الهثة وهي حتمل كي�سني كبريين
150 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
..روزا ما هذا؟ (تنه�ض ..تت�شمم جو الغرفة) اللعنة.. يلم�سها.
..روزا (عائدة من املطبخ وهي تتنف�س بعمق) حل�سن احلظ ..مونيكا ما حكاية الديك هذا؟ لندا و�أنت..
انني تذكرت يف الوقت املنا�سب ..لوال ذلك لتحول عيد ..روزا (تقاطعها) لقد كانت فكرتي( ..ت�ضحك وهي تعود
ميالد مونيكا اىل كارثة ..وقد ت�صاب باجلنون ..احلمد اىل املطبخ).
هلل .هه ..هه ..يبقى الرز فقط ..ع�رش دقائق كافية لطبخه. ..مونيكا (تعود اىل املر� آة مرة اخرى وهي تدور حول نف�سها.
(�صمت ق�صري) اخريا جتل�س وتفتح التلفزيون ..ت�شعر انها غري مرتاحة..
من ا ألف�ضل ان �أهيئ كل �شيء من االن لكي اطمئن تنه�ض ..تعدل ال�ضمادة حتت البنطلون ثم جتل�س ..تبحث
�شخ�صيا� ..ستعود مونيكا من جديد لت�س�ألني عن م�ؤخرتها يف القنوات عن برنامج معني ..ت�سمع مو�سيقى راق�صة
(تتجه اىل املطبخ) �رسيعة ..تتناول ك�أ�س النبيذ وت�رشب).
..مونيكا (تدخل حاملة كعكة) روزا ..روزا ..عزيزتي ..هل ..روزا (من املطبخ) مونيكا....
كل �شيء على ما يرام؟ مونيكا نعم..
(ت�ضع الكعكة على الطاولة وتخلع �سرتتها) ..روزا هل لديك فلفل حار احمر؟..
..روزا (من املطبخ) نعم ..كل �شيء جاهز ..هل جلبت مونيكا ماذا تقولني؟ احمر؟ �أ ..اجل يف غرفة النوم.
الكعكة؟ ..روزا (قادمة) هل لديك ...اخف�ضي ال�صوت قليال ..هل
مونيكا ا�شرتيت نوعا اخر من ال�شا�ش (ت�ضحك بفرح) هذا لديك فلفل حار احمر؟
النوع الذي يدخل ...لن يظهر اي �شيء ..ا�ستطيع االن ان ..مونيكا فلفل !!..
ارتدي تنورة (تذهب لتغري مالب�سها) روزا (با�ستغراب) اجل فلفل..
..روزا (تهز ر�أ�سها وتعود اىل املطبخ) أ أ
..مونيكا عذرا عزيزتي ..ظننته �شيئا اخر ..� ..� ..لدي فلفل..
..مونيكا – (تعود من غرفة النوم وقد ارتدت تنورة �ضيقة نعم ولكنني ال اعرف ان كان احمر او ا�صفر ..او...
وق�صرية وو�ضعت مكياجا اكرث من العادة ت�صب لنف�سها ..روزا ا�صفر او احمر ال فرق ..ولكن اين هو؟..
ك�أ�سا من النبيذ وت�رشب جرعة كبرية .يدق جر�س الباب) مونيكا انه بالت�أكيد يف املطبخ..
..مونيكا (تفتح الباب .تدخل لندا وبيدها هدية) ..روزا (بلطف) و�أين تظنيني كنت؟
هلو لندا (تقبلها) ..مونيكا روزا انا � آ�سفة حقا (تذهبان اىل املطبخ .ثم
أ
..لندا � آه ..يالها من كعكة جميلة املنظر (تت�شمم �جواء تعود مونيكا اىل ال�صالة وهي حتاول تعديل ال�شا�ش .جتل�س
الغرفة) �أ�شم رائحة طعام طيبة ...ماذا طبخت لنا �أيتها وترت�شف من النبيذ وهي تقلب القنوات من جديد .ثم تقفز
اجلميلة؟ فج�أة)
روزا (تظهر من املطبخ وتفاجئها) هري هريي ! ..مونيكا روزا ..روزا ..روزا (قادمة من املطبخ) نعم..
..لندا � آه ..روزا ..ال ا�صدق (تهرع اليها وتقبلها) ..مونيكا (بعجلة) روزا ..لقد ن�سيت ان ا�شرتي الكعكة..
..روزا (اىل مونيكا) كل �شيء جاهز ..هل نح�رض الطعام؟ �س�أذهب اىل ال�سوق ..لن ات�أخر ..خم�س دقائق فقط ..ح�سنا؟
..لندا (�سعيدة) نعم ..لنح�رض الهري هريي ..هل لفظته كم ال�ساعة االن؟ �ستف�ضحنا لندا اذا مل جتد كعكة.
�صح؟ (اىل روزا).. ..روزا اهدئي حبيبتي ..لدينا ما يكفي من الوقت.
مونيكا لن�رشب قليال( ..ال ..لندا) اال تفكرين ب�شيء � آخر غري ..مونيكا (ترتدي �سرتتها امام املر� آة) روزا ..انظري ..هل
الطعام؟ تبدو علي العادة ال�شهرية؟
لندا عزيزتي مونيكا ..انا � آ�سفة لذلك ..انت تعرفني انني ال ..روزا اذهبي ب�رسعة و�إال �ضاع الوقت (تعود م�رسعة اىل
اطبخ.. املطبخ)
انني ال � آكل غري اجلنب والبي�ض واحللويات ..معدتي ..مونيكا (تغادر).
(جافت) من هذا االكل ...على كل حال ا�ستطيع ان انتظر. ..روزا ـ) قادمة من املطبخ وهي تغني حاملة �صحنا
..روزا يالك من م�سكينة ..اعدك انني �سوف اعلمك الطبخ من الكرزات ..جتل�س وتبد� أ بتقليب قنوات التلفزيون ..بعد
مهما كلف االمر. دقيقة يرن التلفون ..تنه�ض روزا لرتد ولكنها تغري ر�أيها.
..مونيكا ح�سنا عزيزتي ..اجلبي ك�أ�سا من املطبخ.. تعود للجلو�س وتبد� أ من جديد بتقليب القنوات ..بعد فرتة
�سن�رشب قليال ثم ن�أكل ..روزا ..تعايل اجل�سي ..انت حقا ق�صرية
151 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
..روزا ابوك؟ هل تعنني ان �أباك مل ي�شرت لك �أبدا قطعة من �صديقة رائعة ..ال اعرف كيف ا�شكرك ..اجلبي ك�أ�سك انت
ال�شكوالتا؟ اي�ضا.
مونيكا (بحزن �شديد) وال امي.. ..روزا (ال ..لندا) انا �س�أح�رض ذلك ..اذهبي وا�سرتيحي.
..لندا ولكن اباك مات قبل اكرث من ثالثني عاما؟ (لندا جتل�س).
..مونيكا كانا يت�شاجران طيلة الوقت ..وكنت ا�صاب برعب ..مونيكا اراك هادئة؟ ماذا هناك؟
�شديد من جراء �رصاخهما.. ..لندا ماذا؟
بعد كل �شجار كان ابي يخرج من البيت وامي تبد� أ بتناول ..مونيكا اليوم مل ت�ضحكي ابدا..
الكحول.. ..لندا انت ال تدعني احدا ي�ضحك (بتربم) ثم انني جائعة..
ولكنني كنت ابقى مرعوبة وال ا�ستطيع ان اتوقف عن ..مونيكا (ت�ضحك) �سن�أكل الكعكة اوال ..هل ينا�سبك ذلك؟
البكاء مما ي�صيب امي باجلنون فت�رصخ بي ..لندا (تكركر) نعم ..كوين لطيفة هكذا ..روزا ..روزا..
(اذهبي اىل غرفتك ..اذهبي اىل اجلحيم) ..كنت اتكور يف تعايل..
ال�رسير وابكي ب�صمت طيلة الليل. ..روزا (قادمة وهي حتمل عددا من ال�شموع .اىل مونيكا)
(�صمت) كم �شمعة تريدين ان ا�ضع يف الكعكة؟..
كم مرة حاولت ان الفت انتباههما اىل و�ضعي ..ولكنهما مونيكا ثالثة تكفي ..ما ر�أيك لندا؟
مل يعرياين اي انتباه ..مرة قررت ان ال اذهب اىل املدر�سة ..لندا انت بد�أت االن بالثالثة وا ألربعني ..يعني انك مازلت
وبقيت يف الفرا�ش ..مل ي�س�ألني اي منهما ماذا بك؟ هل انت يف الثانية وا ألربعني �صح؟ يعني ان عمرك ا آلن اثنان
مري�ضة؟ ملاذا ال تريدين الذهاب اىل املدر�سة؟ و�أربعون عاما ويوم واحد ..اذن ميكن ان ن�ضع �شمعتني.
كانا يت�رصفان وك�أنني غري موجودة ..كنت يف العا�رشة ماذا تقولني روزا؟
ومل اكن اعرف ب�أي طريقة ا�ستطيع ان اجعلهما يهتمان ..روزا مونيكا ..اثنتان ام ثالث؟
بي ..كنت ابكي فقط.. ..مونيكا ح�سنا ..لندا على حق ..لن�ضع �شمعتني.
مبجرد ان يبد� أ بال�شجار ابد� بالبكاء ..مل اكن اعرف ماذا
أ ..روزا �شمعتني (تغرز �شمعتني يف الكعكة وتوقدهما)
افعل.. مونيكا� ..صبي لنا النبيذ ولنحتفل باملر�أة التي لديها
(�صمت) اجمل م�ؤخرة يف العامل.
.ثم قررا ان ير�سالين اىل مدر�سة داخلية ..امي هي التي ..لندا (تكركر)
قررت ان اذهب اىل املدر�سة الداخلية�( ..صمت طويل) ..مونيكا (ت�صب لهن النبيذ وهي تو�شك على البكاء..
مل تكن مدر�سة ..بل كانت �سجنا ..كنت ا�شعر بوحدة �شديدة يرفعن الك�ؤو�س ويبد�أن با ألغنية التقليدية عن عيد امليالد
..يف كل عطلة من نهاية اال�سبوع كان الكثري من ا آلباء ثم ينه�ضن إلطفاء ال�شموع)
وا ألمهات ي�أتون ألخذ �أطفالهم لكي يق�ضوا العطلة يف ..لندا (تخرج الهدية وتقدمها اىل مونيكا) مربوك عزيزتي
البيت (تقبلها) تف�ضلي..
أ أ أ
..اال انا ..مل يكن �بي او �مي ي�تيان لزيارتي.. ..مونيكا �شكرا( ..تفتح العلبة) اوه ..ال ..يا الهي( ..ن�شاهد
احيانا متر ثالثة ا�شهر دون ان ي�أتي احد لزيارتي ..لذلك �أنواعا خمتلفة من ال�شكوالتا الفاخرة)
كنت ابقى يف الغرفة وحيدة ..لندا عزيزتي مونيكا ..امل تعجبك الهدية؟
..وكنت يف يوم ا ألحد اح�صل على قطعة �شكوالتا �صغرية ..مونيكا على العك�س ..انها اف�ضل هدية �أتلقاها ..ولكنني
جدا من امل�رشفة يف املدر�سة كنت امتنى ان يقدمها يل �شخ�ص اخر.
..مرة واحدة يف اال�سبوع ..ويف يوم ا ألحد فقط�(.صمت) ..روزا ريت�شارد؟
مل تكن مدر�سة ..لقد كانت �سجنا حقيقيا ..مونيكا (بحزن) ال..
..ذات يوم جاءت امي لزيارتي وكان معها رجل غريب مل ..لندا (با�ستغراب) من اذن؟
�أره �أبدا من قبل ..قالت انه �صديقي ..قلت لها و�أبي؟ ..مونيكا �شخ�ص لن ي�ستطيع ان يقدمها بعد ا آلن ..النه
قالت لقد تطلقنا قبل �شهرين .ومل ار ابي بعد ذلك ابدا مات (ت�رشب ك�أ�س النبيذ دفعة واحدة )
(تبكي) ..لندا مات؟ من؟..
..قالت ميكنك بعد ان تنهي هذه ال�سنة العودة اىل البيت مونيكا ابي..
152 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
بجملة واحدة ...اعني ...ح�سنا.. ولكنني رف�ضت ب�شدة..
عندما تكون الفتاة يف ال�سابعة ع�رشة تكون ا ألمور خمتلفة (تبكي)
متاما ..هذا ما كنت ا�شعر به على االقل.. �إنني �أت�ساءل حتى هذه اللحظة ان كان لها قلب؟
عندما جاءين احلي�ض ألول مرة اعتقدت انني �س�أموت ..مل (�صمت)
تكن لدي اية فكرة عن االمر بعد ذلك علمت عمتي انني �أعي�ش يف مدر�سة داخلية فجاءت
..لكن امي قالت :يجب ان تفرحي ايتها ال�سيدة ال�صغرية و�أ�رصت ان اذهب للعي�ش معها
يجب ان ت�صلي للرب.. ..لقد كانت طيبة ولكنها مل تكن متلك الوقت الكايف
من االن ف�صاعدا �سيكون لكل �شيء مذاق الع�سل� ..ستكونني لتمنحني ذلك الدفء الذي كنت احتاجه
�أمر�أة ..قالت ..امر�أة.. ..تركتني افعل ما �أ�شاء ..يف اخلام�سة ع�رشة بد�أت �أدخن
�شيء عظيم ان تكوين امر�أة ..ولكنني كنت �صغرية و�ضئيلة.. احل�شي�ش واعبث مع ال�شبان..
يف الثالثة ع�رشة فقط.. ( روزا تبد� أ البكاء ب�صمت وهي ت�ؤدي عالمة ال�صليب
أ
كيف يل ان ا�صبح امر�ة وانا بهذا احلجم.. وحتاول ان تغلق اذنيها ..بينما لندا حتاول ان جتل�س الدب
فعلت امل�ستحيل من اجل ان اجعل اثدائي تبدو كبرية ..ثم ب�شكل �صحيح ولكنه يقع على وجهه)
بد�أت ا�ضع احمر ال�شفاه.. كنت انتقل من �شاب ألخر ألنني كنت ال اثق ب�أي واحد
ولكن الفتيات وا ألوالد كانوا ي�سخرون مني ..مل اكن اهتم منهم ..وهذا ما جعلني ال اثق ب�أي رجل
ملا يقولونه ..كنت اجيبهم( ..بغ�ضب) ...دائما كان لدي رجل ثان ..حتى عندما يكون لدي
اذهبوا اىل اجلحيم انني امر�أة ..لقد �أ�صبحت امر�أة ..ومل اعد �صديق..
العب معهم او اكلمهم.. كنت احتاج اىل املزيد من الكالم اللطيف واالهتمام الذي
كنت اق�ضي معظم الوقت امام املر� آة ..ارتدي هذا القمي�ص يوليه الرجال اىل الن�ساء..
واغريه ..وارتدي هذا الف�ستان واغريه ذلك الكالم الذي يقوله الرجال عندما ي�شاهدون امر�أة
..وهكذا ...وكانت امي تالحظ ذلك جميلة..
وكانت يف كل مرة تريد ان تقول �شيئا ..ولكنها كانت كنت ا�ستجيب ب�رسعة ملثل هذا الكالم وكنت على ا�ستعداد
حترك ر�أ�سها يف الهواء ومت�ضي من�سحبة اىل املطبخ. للذهاب اىل الفرا�ش مع اي �شخ�ص يقول يل كالما دافئا
اما الفتيات االكرب مني �سنا فقد ك ّن (ت�ضحك ك�أنها تبكي) وجميال
الادري ..هل بدافع ال�شفقة ..ام بدافع الف�ضول ي�ستمعن ايل (تبكي) ولكنني مل اكن اثق ب�أي رجل ..لذلك �رسعان ما
ويقدمن الن�صائح.. يفقد هذا الكالم حرارته بالن�سبة يل مما ي�ضطرين للبحث
واحدة تقول ال تتبعي االوالد هكذا ..دعيهم هم يفعلون عن �أ�شخا�ص � آخرين..
ذلك.. .لقد فكرت كثريا ان ا�صبح عاهرة( .تبكي ب�شدة)
ولكن مل يكن هناك احد يتبعني ..واخرى تقول ام�سحي ..روزا (ب�صوت خفي�ض وهي تغلق �أذنيها) يا الهي..
احمر ال�شفاه ألنك تبدين كالفزاعة البليدة. الرحمة.
اما الثالثة فقد كانت اكرثهن ذكاء ..لقد قالت يل كالما لندا ( -حتاول ان جتل�س الدب)..
كثريا مل ا�سمع به من قبل ..كالما جميال وغري مفهوم مونيكا كنت اعمل يف منظمة املعاقني عقليا حينما قررت
..كانت تقول :ال ت�صبح الفتاة امر�أة اال عندما ت�صبح اماً.. ان ا�صبح عاهرة ..
لقد اعجبني هذا الكالم كثريا.. كنت اعمل مع رجال كا ألطفال وانتهزت الفر�صة ومار�ست
حتى انني ظللت اردده بيني وبني نف�سي كثريا دون ان اجلن�س معهم جميعا.
اعيه متاما.
ا�شد ما كان ي�ؤملني هو انني كنت �ضئيلة احلجم بينما .. امل�شهد الثالث
كانت هناك فتيات �صغريات ا�صغر مني بال�سن ك ّن يتمتعن ..روزا (تنه�ض ..برتدد وهي تغلق اذنيها بني فرتة و�أخرى)
بقامات طويلة وب�أرداف ممتلئة وم�ستديرة. امل�س�ألة معقدة قليال..
(�صمت) ال ..ال امل�س�ألة لي�ست معقدة ..بل �إنني انا امل�شو�شة..
.عندما ا�صبحت يف ال�سابعة ع�رشة �رصت اكرث طوال �إنني �أمتني لو انني ا�ستطيع ان اخت�رص امل�س�ألة كلها
153 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
احيانا عندما يحاول ان ي�رشب املاء من النافورة.. وامتالء وبد� أ ال�شبان ينظرون ايل نظرات لها مذاق الع�سل..
و�أحيانا ب�سبب التبول.. نظرات كانت جتعلني احلق اىل ال�سماء خ�صو�صا انني مل
مل اكن �أفارقه وال حلظة واحدة.. اكن ارتدي ال�سوتيان
كان اخوتي اخلم�سة م�شغولني يف املزرعة ومل يكن لديهم ..اردت ان اثبت للجميع انني ال ا�ستخدم القطن ألجعل
الوقت للعناية به ..كانوا يهتمون باخلنازير �أكرث مما اثدائي كبرية..
يهتمون بي او به.. اردت ان اثبت للجميع انني املك اثداء كبرية ككل الن�ساء
كان االوالد ينادونني لكي العب معهم ..ولكنني كنت ال الكامالت
ا�ستطيع اللعب معهم ..ألنهم ي�سخرون من بيرت ..كم مرة ..ذات يوم تعرفت على �شاب يكربين بخم�س �سنوات ..وبعد
وبختني امي النني تركتهم ي�سخرون منه … (�صمت) اقل من ا�سبوع قال انه يريد ان يتزوجني..
ثم بد� أ ا ألوالد ي�سخرون مني انا اي�ضا ..بد�أوا ينادونني (ام ولكن بعد �شهر ون�صف وحني علم انني حامل اختفى
بيرت ..كيف حال بيرت ..امازال يتبول يف ح�ضنك)؟ فج�أة ومل اجد له اثرا ..قالوا انه يعي�ش يف العا�صمة يف
(تبكي) ..كنت الفتاة الوحيدة يف العائلة ..وكانت امي تقول براماريبو
انني يجب ان �أتعلم من �أالن كيف اعتني باالوالد.. فذهبت اىل هناك ابحث عنه بال طائل..
لقد تزوجت من ابي بوقت مبكر و�أجنبت له �سبعة ابناء.. نفد املال القليل الذي كنت املكه وبد�أت بطني تكرب فقررت
�أرادت ان اكون مثلها ..كانت كل يوم تطبخ وتنظف البيت ان ال �أعود اىل �أهلي مهما كلف االمر الن الف�ضيحة �ستحطم
وتغ�سل املالب�س وت�ساعد اي�ضا يف املزرعة مل يكن لديها حياة ابي وامي..
الوقت لت�س�ألني ان كنت احتاج اىل �شيء ..مل تكن ت�س�أل اال (ت�شعر باال�سف)
عن بيرت.. حل�سن احلظ انني وجدت عمال يف احدى ال�رشكات
لقد كنت يف الرابعة ع�رشة.. الهولندية..
ولكن مل يكن احد ينظر ايل كفتاة ..كان ال�شبان ي�سخرون قلت ملدير ال�رشكة كم كان رجال طيبا ان زوجي مري�ض
مني ..الن مالب�سي كانت تتلطخ بالطني ب�سبب بيرت.. جدا وينبغي ان يتعالج ولكننا ال منلك املال الكايف..
كان مظهري مريعا دائما( ..تبكي) كنت �أبدو بنظرهم كم كنت كاذبة (تبكي) لقد كنت اكذب عليه طوال الوقت..
معوقة اي�ضا.. (ت�ستمر بالبكاء)..
�أردت ان �أ�ضع حدا لل�سخرية اليومية التي كنت اتعر�ض لها وبعد يومني من الوالدة عدت اىل العمل ..قال �صاحب
(تبكي) ال�رشكة
..ملاذا جئت؟ اذهبي واعتني بالطفل ..فقلت له لقد تركته
كنت عادة اخذ بيرت لكي يلعب قرب النافورة..
عند امي تعتني به..
كان يحب ان ي�رشب املاء من النافورة..
(تبكي بحرقة) واحلقيقة ..احلقيقة انني تركته امام باب
( تختنق) احدى العمارات وهربت.
وكنت ا�ضطر لالم�ساك به من خ�رصه لكي ي�ستطيع ان (ويبقى �صوت بكاء روزا ي�سمع لعدة ثوان).. ...
ي�رشب دون ان ي�سقط يف املاء
ألنه اذا �سقط لن ي�ستطيع احلراك و�سينغمر وجهه باملاء امل�شهد الرابع
ولن ي�ستطيع ان يتنف�س ..يف ذلك اليوم منذ خم�سة وع�رشين عاما وانا احتفظ بهذا الدب ..خم�سة
(تبد� أ باالهتزاز) وع�رشين عاما و�أنا �أحاول ان اجعله يجل�س ..ولكنه ي�سقط
اراد كعادته ..اراد ان ي�رشب املاء من ..من النافورة.. دائما (حتاول ان جتل�س الدب ولكنه ي�سقط على وجهه)
تركته.. دائما على وجهه
تركته يذهب لوحده ..وان�شغلت ب�إزالة الطني عن مالب�سي … (حتاول ان حتب�س البكاء ..تتنف�س بعمق)
(تبد� أ ببكاء ه�ستريي) يف القرية كان ي�سقط على ا ألر�ض الرطبة ويتلوث وجهه
بعد قليل ناديته ..بيرت ..كفى لقد �رشبت كثريا ..لكنه مل بالطني ف�أ�ضطر اىل تنظيفه..
يتحرك.. كنت جمربة طيلة الوقت على العناية به ..كثريا ما كانت
ظل منكفئا على وجهه ..لقد تركته ميوت يف النافورة. مالب�سه تبتل..
154 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
جم ّر َد �أ ْز َرار
ال َعا ُمل ليْ َ�س َ
( ُمو ُنود َر َاما)
الربيع ّي
ِ زاق
بدالر ِ
ّ ت أ� ِليفَ :ع
�شاعر وكاتب من العراق يقيم يف ُعمان
«تقرع � أجرا�س الكنائ�س» �س َعلى ربعينيّاتِ َيجلِ ُ يف ا أل َ عن رج ٍل ْ ال�ستار ْ ُ «يفتَ ُح ُ
ون ببرَ يد َِك نع ْم � ,أنا عندَ َوعدِي�َ ،سي ُك ُ نع ْمَ ، املمثل َ : خ�ص ّي وب َ�ش ِ ا�س ٍ
ُ َ ُ ح ز ها ج
ِ و ة
َ َ َْ َ ع م �ش ب
ِ كت َ مل ا لى ع
َم َ َ
ب، كت
ان �ص ِحيف ِتنَا َك َ يف َ �س � إ ّن َيو ِمي ْ اعة ,ال تنْ َ بعدَ َ�س َ كتبطح املَكتَ ِب َو ٌ �ض َ�س َ تع ِر ُ َو ها ِت ٌف ن ّقال َو َ�شا�شةٌ ْ
الو َر ِقيّة ال يزَا ُل َيتبَ ُع ال�ص َحاف ِة َ يف ّ العم ُل ْ َ�شا ّقاَ ،و َ نيحلا ِئ ِط َ�ساعةٌ َكبريَةٌِ ,ح َ أورا ٌق ُمبعرثَةٌَ ،علَى ا َ َو� َ
وف بظر ِوم ُ أنت محَ ُك ٌ ِمية التّقلِيد ِّيةَ ،و� َ ا ألن ِظ َمة ال َقد َ و�سط اعة ْ جل ْم ُهور َد ّقاتِ ّ
ال�س َ �ضَ ،ي ْ�س َم ُع ا ُ العرْ َُيبْدَ� أ َ
من البدّ ْ وعاتِ ،لذَا ُ ني النّ�شرْ ِ َواملطبُ َ قوان ِ املَطبَ َعة َو َ يالن ع ْقرَب ملمث ِل َم َع َم ِ ج�سدُ ا ُ تماي ُل َ ال ّظالمَ ،ي َ
ورة وووو �ص َ كلم ٍة َوك ّل َحرْ ٍف َو ُ راج َع ِة ك ِّل َ ُم َ �س نه ِم ٌك ِبالت� ُّأم ِل َي ِر ّن َجرَ ُ وهو ُم َ اع ِة ال ُ�شعو ِر ّياً َ ال�س َ
ّ
بالن�سبَة لنَا املَ�س�ألة ْ ال�صوت« :يقاطعه �ضاحكا» الها ِت ِف» َ
ملنا َف َ�س ُة جلدي ِد فا ُ ُ � ْأر َحم ،لكنّا ُنطا ِل ُب َدا ِئ َما ِبا َ ملمثل � :ألو ا ُ
فالوقت َبدَ� أ ُ ترك َك َم َع اال�س ِتفتاَ ِء وماً أل ُ َ�شديدَةٌُ ،ع ُم َ ري
خل ِ �ساء ا َ �صوت َ :م ُ َ
المة.
ال�س َ ُيد ِر ُكنا � ,أمتنّى ل َك َوقتاً َطيّبا َم َع ّ �ساء النّور َ ُ :م املمثل
«يغلق الهاتف». المة ُ ألف َ�س َ مع � ِ املمثل�ُ :شكرا ً ل َك َ ال�صوت :ك ّل َعا ٍم َو� أنتُم ِبخيرْ ٍ
ال�سنَة» يردد اء ر� ِأ�س ّ نوان «ا�س ِتفتَ ُ حمل ُع َ يفتَ ُح َملفاً َ ألف َخيرْ أنت ِب� ِ :و� َ املمثل َ
وهو ي�شري باملاو�س على كلمات تظهر على ال�شا�شة ال�صوتَ :ه ْل تذ ّكرْ َت ِني؟
التي تعك�س �سطح املكتب : الذي َ�سلّم ِني ُ�س�ؤا َل ا�س ِتفتَا ِء ال�ص ُح ِف ّي ْ املمثلَ :ن َعمّ ،
–نح ُن ْ نهاية ك ّل �سن ٍة اعتَدْنا � ْأن نطرَ َح َ مع
َ ال�سنَة
َر� ِأ�س ّ
نيَ ِ
ف ثق مل
ُ ا ى َ ل عْ ِ َ - م ال ع ل إ ا ل
ِ ِ
ئ �سا ومل َ َ ْ َيف لني ِ
غ �شت ا ُ اب ُة َجاهِ زَ ًة ون ا إل َج َ أمتنّى � ْأن ت ُك َ ال�صوت:بال�ضب ِطَ � , ّ
تتناو ُل � أبرَ َز ا ألحدَاثِ َ ني � أ�س ِئلة دبا ِء َوالفنا ِن َ َوا أل َ ننوي ن�رشَ اال�س ِتفتَا ِء ْ ا ّ ن ن أ
ل آنِ ل ا ن ِ
اع ٍة َ
م ِخال َل َ�س َ
ً
اب ِة على ُ�س�ؤا ِل التلطف با إل َج َ َ نرجوالثقافيّة َوالفنيّ ِة ُ جلديدِ، العا ِم ا َ من بد ِء َ ال�ساع ِة ا أل ْولىَ ْ يف ّ � إ ِلكرتُو ِنيّاً ْ
يف ت�صلنا ا إل َجاب ُة ْ �ص ِحيفتنَا اال ِلكرتُونيّة علَى � ْأن ِ َ قت َعلى َم ْو ِع ِد التّ�سلِي ِم َوملْ َيبْ َق َو ٌ
العام.َ َ َ من ة ري خ ِ أ
ل ا اعة ال�س
َ ُ َ ّ ة نهاي اه أق�ص � ٍ
د ِ
ع مو عن � أمثَا ِل هذِه ا أل ْ�سئل َ ِة يب ْ املمثل :اعتَدْ ُت � ْأن � ِأج َ
ال�س�ؤال: من َيتكثّ ُف العا ِم ،أل ّن الزّ َ من َ ال�ساعاتِ ا أل ِخريَة َ يف ّ ْ
عن م�ستَوى � َأدا ِئ َك هذا الر�ضى ْ َ را�ض ك ّل أنت ٍ هل � َ بحر َك ِة الزّم ِن «تنطلق دقات ال�ساعة» َوالتف ِكريُ َ
العام؟ َ كون ُمر ّكزا ً َي ُ
ابةَ ....ولَ ِك ْن َ َ ج ل
إ ا أ � أبد � أن
ْ � علي
ّ ذن
ْ �إ قت ُيد ِر ُكنَا َومو ِعدُ حتدِيثِ الو َ لكن َ ال�صوت :هذا َجيِّدَّ ،
ِيء
�صوت عبدالوهاب البياتي :من � ْأي َن َيبتد ُ ف �ص ِحيف ِتنَا اال ِلكرتُو ِنيّة قدْ � أ ِز َ َ
155 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
اروا َما ت� َشا ؤ� َن تختَ ُ �صوت ال� ّشاعربودلري :ل ُك ْم � ْأن ْ ُ ملغنّي ا ُ
ني َعلَى َد َر ٍج ات َمرَّةٍَ ،وكنتُ ْم َواق ِف َ ْ َ ذ
َ , م ُ ت ظ ق
َ ي َ ا�ست َو� إ ِن وهو يمُ ِ�س ُك قلبَ ُه؟ َ
يف ُغرَ ِف ُكم ري � ْأو َعلَى ُع� ْش ِب َقبرْ ٍ � ْأخ�ضرَْ � ,أو كنتُ ْم ْ َق ِ�ص ٍ يب؟
يف ال َغ ِ من �رشْف ٍة ْ ْ
َو�س َط ُعزل ٍة َكئيبَ ٍة تاء؟» ّ ْ ش ال� ِ � أم صرْ
ق�
�ض ُع ُف كم َبد� أ َي ْ رت � ّأن ُ�سكرَ ْ و�ش َع مُ ْ َ نعم البدّ � ْأن � أحدّ َد نقطة ا إلن ِطالقِ ُ ...نق َطة ال ِبدَ َاية... َ
اعة ال�س ، ور ف �ص الع ة, م ج ن ال ة، ج ا� ُ ّ َ َ ْ َ
و مل ا ، يح الر وا ل أ س� ال�س�ؤا َل ب�ش ْك ٍل نف� أال � ا ن علي هال، م أ.... � أبد � أين � من
ُ ْ ُ َ ّ َ َ ّ ْ َ سرّ َ ُ َ ْ َ َ َ
اعة؟ ال�س َ وه:ك ِم ّ ا�س�ألُ ُ لي�سس�ؤال َيبدُو �سهال ،لكنّه َ حيح � ّأن ال� َ �ص ٌ طح ّيَ ، َ�س ِ
ور
النج َمة َوالع�ص ُف َ وجة َو ْ اله َواء َواملَ َ َو َ�سيُجيبُ ُكم َ �صح ِف ّي َي�شت ِغ ُل َ يت�صو ُر َهاّ التي
ْ ال�س ُهول ِة بهذِه ُ َ
اعة: ال�س َ َو ّ ال�ضغ ِط ّ بِ ِ
ء ا َ �شي أ
ل ا مع
َ ل
ُ ام يتع
َ ونية ُ كرت ِ
ل ا ٍ
ة يف ِ
�صح ِب
تثملوا حتَّى ال ُت�ص ِب ُحوا َعبيدا ً يمُ ِع ُن كي َ قت ْ الو ُ حان َ َ زرا ِر !! َعلى ا أل َ
يف تعذِي ِب ِهم الزّ ُ ْ من من ِفكرَ ٍة أو�س ُع ْ العاملُ � َ أزرارَ ، لي�س مجُ رَّ َد � َ فالعاملُ َ
خل ْم ِرِ ،بال� ّش ْع ِرْ � ,أو بال َف ِ�ضيلَة ادةِ ،با َ اثملوا ِبال َه َو َ َ لن �شعة ،لَكن ِني ْ العاملُ َكلِ َمةٌ ُم َّ تقدَ ُح برَ� ِأ�س َ�شا ِعرَ ،
ون» كما ت� َشا ؤ� َ َ زاج ِه اال ِلكرتُونيِ ّ ال�ص َح ِفي ُي�سيرّنيِ ْ وف َق ِم ِ � َأد َع هذَا ّ
نحن قدْ ث ِملنَا ِب ِ�ش ْع ِر ُبودلريْ ! َث ِملنَا بدَ ِ
بيب ُ ا هَ املمثل: الق�ص واللّ�ص ِق القا ِئ ِم علَى املَل ّفاتِ ال ّطائرَة َو ِ
يف ه ِذ ِه اللّيل َ ِة ،محُ ِب ٌط مي ُر ب�سرُ َع ِة البرَ ْقِ ْ الزّم ِن ُ َ ّ
و وه يف « ُكو َكل»! َوت�شغي ِل محُ رّكِ البَحثِ ْ
�صاالتِ يف النّ َوادِي َوالفنَا ِدقِ َو َ العاملُ ْ يحتَ ِف َل َ � ْأن ْ من ُوقو ِع ِه ! ان ْ ثو ٍ اج ٍل ُين�شرَ ُ َب ْعدَ َ َوخبرَ َع ِ
يل ِ�سوى لي�س ْ �س َوحدِي هنَا َو َ ينما � أجلِ ُ ق�ص َب َ الرّ ِ قراءة لمِ َا ات َو َ مراج َع ٌ العاملُ َيا َعاملْ ..ت� ّأم ٌل َو َ َ
تتال�شى َ�شيئاً ف�شيئاً التي ِلأ ِ
َ معة ْ هذِه ال� ّش َ �ص ُلَ ،وقفزَة ذِهنيّةٌ ل َما ِم« ,يقفز في�سقط َ�سيَ ْح ُ
موع!
أحب ال� ّش َ كنت � ّ كم ُ ْ ذرونيِ ،ال � ِأجيدُ ال َقفزَ ،رُبمَّ َا اع ُ على ا ألر�ض» � ِآ�سفْ ،
يف
القا�س ِم ْ ِ عر�س
ِ يف
كانت ْ ْ ا ه
َ َُت ل أ�شع � ةٍ ع
َْ م �ش َ ل ُ � ّأو ار ممُ تَلِئَاً �ص َ ل�س ُت َبهلَواناً ،ر ْغ َم � َّأن َعاملنَا َ أل َن ِن ْي ْ
حل َ�سينيّة العزاءاتِ ا َ َ حتدِيدَاً، ِبالبَهلَوا َناتِ ،البَهلَوا َناتِ اال ِلكرتُو ِنيَّة ْ
�صفيح �صغريَ ٍة ٍ ِ
ة علب يف
وكنّا ْ ّ َ ُ َ ْ
ا ه �ضع ن ل ِ ي ل ال يف ود �إلىَ ُ�س�ؤا ِلنَا، نع ُ «دقات متوا�صلة لل�ساعة» ُ
ال�صفي ِح ثم نث ُق ُب علبَ َة ّ يات َها ْ يح َح َ ِلئَال ُتط ِفئ الرّ ُ «ي�رسح بعيدا ويتحرك من كر�سيه الذي ينوء
�س كي ال َتختَ ِن َق ال� ّش ْم َعة َوتظ ّل تتنَ ّف َ ري ْ امل�سا ِم ِ ِب َ بحمله»
يح:ن�ص َ ني البيوتِ َو ِ ني َوننتق َل َب َ ا ألو ْك ُ�س ِج َ تو ّج ْهيف َم ِعدتي أل َ ظم�أ َ�شديدٍِ ...ب ُحرق ٍة ْ �,آ�آ�آ�آ� ْآه � ْأ�ش َع ُر ِب َ
� أ�صوات من اخلارج : أ�س َما ٍء َبا ِردٍ« ,ينه�ض من � ِإىل البرَ َّا ِد أل�رشَ َب ك� َ
يخلّي َرا ِعي البَيت �آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ� آمني اهلل ْ َ مكانه ي�رشب ماء»
�سما ِعيل �آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ� آمني بجا ِه اهللِ َو� إ َ وحاً الل ِت َها ِمي ! ال�س�ؤا ِل ال َيزا ُل مفتُ َ ف ُّك ّ
اء ف� إ ّن رم َ كان � أهل ُ َها ُك َ التي � إ َذا َ ْ بواب فتفتح ا أل ُ َ طوا َل�ستوى � َأدا ِئي َ عن ُم َ ا�ض ك ّل ال ِر�ضى ْ ه ْل � أ َنا َر ٍ
ال�صغريَة ّ َ ة ي ِ
ن ِ
د ع َ مل ا النقود
َ و
َ َ لوى حل
َ ا ا َ ن َن�صيبَ العام؟ َ
الء
أهلها ُب َخ َ كان � َ َو� إ ْن َ �ضو ِء ب
ِ
َ َ ْ َ ي ِ
ف أكت � �س ي... ِ
ن ي ع
َ قُ ر
ِ تحً ة
ُ اد
َّ حل
َ ا ة اء
ا إل َ َ
�ض
اب و�سخوا عتَبَة البَ ِ �صوت � أج�ش :قلنا لَ ُك ْم ال ُت ّ ال� ّش ْم َع ِة.
الد ال� ّشوا ِر ِع َيا« ...ر�شقة ماء ذرة َيا � ْأو َ ب�أقدَا ِم ُك ُم ال َق َ يفق�س �إح ِتفاليِ ٍ ْ ... يف َط ٍ يج َعل ِني ْ مع ِة ْ ت� ُّأم ُل ال� ّش َ
قوية ت�سقط املمثل � أر�ضا» كما يب» َ وبةٍ ...حتّى ال َن� ْش ُعرَ « ِبث َق ِل الزّم ِن الرّهِ ِ َغيبُ َ
ر�شقونا باملاء خل ْم ِر � ْأو ِبال� ّشع ِر يقو ُل ُبود ِلري الدّا ِعي � ِإلىَ الثّ َمالَ ِة « ِبا َ
الو ِ�سخ َما َذا َ�س�أقو ُل كم َ مبا ِئ ُ ابي َ ِ
�صوت طفلَ :بللتُم ثيَ ْ � أو ِبال َف�ضيل َ ِة»
156 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ايةٌ ال ُتدْ َر ُك ،يردد : ف�س َغ َ الرِّ�ضى َع ِن النّ ِ أل ّمي؟ اهلل ْ ينتَ ِقم ِمن ُك ْم
يب َكليلةٌ عن ك ِّل َع ٍ وعني الرّ�ضى ْ ٌ كان و�س َم َ املمثل «للجمهور» :لحِ ُ ْ�س ِن احل ّظ � ّأن املَ ِ
اوياال�سخ ِط تبد ِْي املَ َ�س َ ني ّ َول ِك ّن َع َ كنت َعائدا ً �ض ُتَ ،ب ْعدَ َ�سنواتٍ َعديدَة ُ �صيفاً َو�إال ّ ملَ ِر ْ َ
ال�س�ؤا ِل ينبَ ِغ ْي � ْأن اب ٍة دقي َق ٍة َع ْن َهذا ّ لكتاب ِة � إ َج َ َ من ا أل ّيا ِم ِ َ م ِ
د القا بِ ً ا مفكر و
َ َ َ ً ا اهم �س , رب ِ حل
َ ا من َ
لكن َم ْهال..ل َقدْ َه َجر ُت َها، ، ي تِ ا يمِ و ي دفرت ع
اج َ � َأر ِ نتها الثّا ِمنَة ,كانتِ َْ ُ ْ ََْ َ َ �س ت ل دخ قد ب ر حل ا كانتِ َو
ْ َ َ ّ ْ
عاد ًة ممُ َ ل ّ ًة ..بدَ� ْأت ممُ ِت َعة أ�صبح ْت َ كتابة اليَو ِميّاتِ � َ َ الذين
َ حت�سبنَ َّ حلدا ِد «وال لون ا ِ ترتد ِْي َ ان َ حلي َط ُ ا ِ
يف فل ِك لت ْ َ ُ خ َ د ً اَ ئ ي شَ ف� ً ا َ ئ �شي ن ْ ِ
ك ل ٍ، د دي ج ٍ
ك� ّأي ْ َ
ء �شي يف َ�سبي ِل اهللِ � ْأم َواتاً ب ْل � أحيَاءٌ عندَ َر ّب ِه ْم ُق ِتلُوا ْ
فا�صي ِل من تكرَا ِر َت ِ ال�س�أ ِم َوالتّكرَا ِر الذي ت�ست ِمدّ ُه ْ ّ «ننعى �إلي ُك ُم ال�شهيدَ َ ظيم
الع ُ دق اهلل ُ َ �ص َ قون»َ .. ُير َز َ
ف�س َك ك ّل � ّأيا ِمي ،فرتَكتُ َها ..مم ٌل � ْأن تحُ ِ�صي علَى َن ِ ف�س َها بارة َن َ الالفتات تكرّ ُر ال ِع َ ُ ع�رشات
ُ البط َل»......
ْ ْ
مع الزّم ِن ام ُل َ تتع َ نها َ كما � إ َ �صا ِد ٍر َو َوا ِردٍ! َ نف�س َ ٍ اجت تاريخاً َجديدَاً ،حتّى َر ْ َ ا�سماً َجديدَا ً َو ت�ضع َ َو ُ
نان ابه ك� ْأ�س ِ و�صاً � ّأن � َأيامنَا تت� َش ُ �ص َ ب� َشك ٍل � أف ِق ّيُ ،خ ُ وداء !! ال�س َ خل ّط َوبي ِع ا ألق ِم� َشة ّ ِمهن ُة ا َ
اد ألخ َطا ِء ا أل ْم ِ�س» َح ْ�س َب وم ام ِتدَ ٌ مل�ش ِط! َو«اليَ َ ا ِ ديق �ص ٍ من ُو ُجو ِد ا�س ِم َ كنت التَ ِه ُم الالفتاتِ َخو َفا ْ ُ
ُروجيه َجارود ِْي جاج ِة َ ز
ُ فتح
َ ِ
ة ار
ّ َ مل ا د
َ ُأح � ي ّ ن مِ لبَ طَ أة � فج ْ ، يب ٍ ر
ِ � ْأو ق
يع � ْأن � ْأع�صرُ َ ذا ِكرَ ِت ْي، لكنني � أ�ستَ ِط ُ ْ من املَاءِ ،كانتِ الرّ�شقة ري َ ور َ�شقني ِب�إنا ٍء َكب ٍ النافذَة َ
�ض ِ�شك�س ِبري كما َيفترَ ِ ُ العق ِل» َ �س َ «حا ِر ُ الذاكرَ ُة َ حني
عن عيُونيِ َ ،و َ مب ْ�س ِح املَا ِء ْ ان�شغلت َ ُ ُمبَاغتة لذَا
أي�ضاً
تخون � َ ُ نهاي ِة نا�سب ِة َ �ض َحك َوقا َل :هذ ِه بمِ َ هما َو َجد ُته َي ْ فتحتُ َ ْ
يحاً َم َع ُك ْم َ صرَ َ � أكون � أن
عل َ َّ ْ � ي تتباد ُل َر�شقاتِ َ ا�س
َ ُ ّ َ ن ال جدت و ل
ٍ قلي د بع
حل ِ ْ ، رب ا َ
من َبين ُكم ِقرّاءٌ وا�ض َحاً َوج ِريئَاً َم َع ُكم فبالتّ�أ ِكي ِد ْ َو ِ كان الد ِم يبللنا املَا ِء َوالك ُل يبل ّ ُل ال ُك َّل ،قب َل ذلك َ
يل
ْ زن. حل ُ القهر وا ُ َو ُ
عندما � أخ�سرَ ُ قا ِرئاً فهذا َي ْع ِن ْي �إنني � أخ�سرَ ُ ُركنَاً َو َ ا�ض ك ّل أنت َر ٍ «يرتدد �صوت ال�صحفي» :هل � َ
يفيف َق�صرْ ِ م ِن ٍ ْ العام؟ �ستوى � َأدا ِئ َك هذَا َ عن ُم َ الر�ضى ْ
مع َ دقِ ال�ص
ّ على �ص َ ْ ٌ ر ح ِ هو ئ ِ ر
ِ ا ق ال
ْ ُ َ َ ى ل ع �ص احلر كان أت�صو ُرَ ،ما َ كنت � َّ مما ُ أ�صع ُب ّ عبَ � ، �ص ٌ �س�ؤا ٌل َ
النف�س ِ درا�ستنَا أ�ستهني ِب ِه � ،أذ ُك ُر � أننَا ِخال َل َ َ ينب ِغ ْي � ْأن �
كون �صا ِد َقاً أ
أكون �صاد َقا َم َع نف�س ْي ل َ ِ ينب ِغ ْي � ْأن � َ ني و�صوننا ب�أال َن�ستَ ِه َ ون ُي ُ ملعل ّ ُم َ كان ا ُ االب ِتدَائيّ ِة َ
مع ال ُقرَّا ِء لكي يب نبدَ� أ با أل�س ِئل َ ِة ّ ِ
َ ال�سهلة ْ حني نجُ ُ ال َو َ ب� ّأي ُ�س�ؤ ٍ
ني َ ُ ِ
ع أ�ست � أنا � و
َ ً ا �صادق أكون
َ � أن
ْ � ميكنني كيف َ ذن�إ ْ ال َن�ستن ِفدَ طاقتنا َعلى الرتْكي ِز بالبدْ ِء با أل�س ِئل ِة
بذَا ِكرَة َبد� ْأت َت ْهرَم؟ التو�ضي ِح ِ من
نطلب املَزيدَ َ ُ حني
ال�صعبَةَ ،و َ ّ
�ض؟ من قا َل � ّأن الذاكرَة ال تمَ رَ ُ ْ بن �شدّا ٍد َُ ُ ة عنرت ل ِ
ئ �س
َ ً َ َُ ُْ ُ َ ، م ك ل ح أ�رش � �س ، ا ن ح�س املعلم:
أرقام َه َوا ِت ِف � أ�صدِقا ِئ ْي َ � ر
ُّ ك أتذ � كنتُ نواتٍ �س
قب َ َ ل رض ُب ِ أ� � : أجاب � ف كيف تظ َف ُر ِب�أعدَائ َك؟ َ يوماً :
أن�سى العم ِلَ ،و�شيئاً ف�شيئَا َبد� ُأت � َ تي و ُزمال ِء َ خو ْ َو� إ َ جاعَ ،وهكذا قلب ال� ُش ِ لها ُ رت ِعدُ َ �رضبة َي َ َ ان
جلبَ َ ا َ
قلت :ا أل�صد ُ
ِقاء قام � أ�صدِقا ِئ ْي � ّأوالًُ ، يت � ْأر َ !فن�س ُ ِ يجعلنا النف�س َو َ ِ الب�سي ُط ي�ضا ِع ُف الثقة ِب فال�س�ؤال ِ ُ
الءحليا ِة َويب َقى ُز َم ُ وب ا َ يف ُد ُر ِ يمَ ْ ِ�ضي ك ٌل � ِإىل ِج َه ٍة ْ اح، َ َ َ ِ النج من اثقون و َ َ َ ُ َ نحن و ان ح ِ
ت االم يدان
دخ َ َ م ل
ُ َن ُ
در ِرز ِق ْي َوا أله ُل َد ِمي �ص ُ فالع َم ُل َم ْ َ الع َم ِل َوا أله ِل َ كما َيعل َ ُم واج َهاتِ َ مل َ يف ا ُ النف�س ُّي ُم ِه ٌم ْ ِ فالعا ِم ُل َ
َوحل ِم ْي يع.جل ِ ُ م ا َ
�سيان علَى � ْأرقا ِم ُز َمال ِء َ
الع َم ِل زح َف النّ ُ فج�أة َ ان � ،إ ّن ُه يف ام ِت َح ٍ ل�س ُت ْ لكنني ْ ْ «املمثل ي�ستدرك»
اللقاء ِب ِه ْم ورة لي ال�رضُ َ نهم � أ�صدِقاءٌ � ْأملَت َع ّ ملَ ال؟ � إ ُ ل�ص ِحيف ٍة الكرتو ِنية رغم � أن م�س�ألة ِي َ ا�س ِتفتَاءٌ َعاد ٌ
َ ُ ّ َْ ّ َ ْ َ
157 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
�ستوى � أدا ِئك َهذا عن ُم َ ا�ض ك ّل ال ِر�ضى ْ أنت َر ٍ ه ْل � َ يته َعلي ِهم مثلما � أمل َ ُ َ
العام؟ َ ملْ � أخرتْ ُه ْم
ال�شيَة في ِه وق ِد اخرت ُته أل ّن ُه ا�ضح َوب�سي ٌط ِ َ ٌ و ل ُ ا ؤ س� ال� علي
ار ُه ْم َّ وملْ يقع اختيَ ُ
كتبمن ُك ِل َما َ جمالْ ، الب�ساطة ُ ُعم ٌق َو َ َب�سي ٌطَ ... ورات احليَا ِة هي �رضُ ُ �إنمّ ا َ
ق�صيدَة ملن � أحبَبْ ُت ِ كنت � َأر ّد ُد ْ العاط َف ِة ُ يف َ ال� ّشعرَ ُاء ْ �سوى � ْأرقا ِم ا أل ْه ِل ذن ملْ يب َق َ �إ ْ
�سودة َي ِج ُب«م َّ اته ُ لرَ ُ�سول َحمزا ُتوف الذي َيعتبرِ ُ َحيَ ُ � ألوِ � ...أخ ْي
يها» ...كلنَا َحيَاتنَا عادة النّظ ِر ِف َ يح َها َو� إ َ �صح ُ َت ِ حلا ُل؟ كيف ا َ َ
ني َو� آخرَ نجُ ْ ِري وبني ح ٍ َ �سو ّدة َقا ِبلةٌ إل َعادِة النظ ِر ُم َ يبدُو � أن َك م�ش ُغو ٌل
وذاك
كان هذا َ ت�صحيحاتٍ ..هذا َم ُ َ عليها َتعديالتٍ َ ،و َ � ِآ�سف
�سو ّدة... ْ ُ َ م ن ك
ُ ت ْ مل ة َ يد ِ
الق�ص كَ تل ن
ّ كِ ل ... ذاك
َ مكان
ُ بوقتٍ � َآخرَ �س� ّأت ِ�ص ُل َ
مفخو ٍر!!
� إ ّنها َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ٍ ُ
ح و ل ى ل ع ة نقو�ش م ا أنه � ك و ة كتوب م َمرحبَاً � أخ ِت ْي
ال�ص َو ِر َواملعانيِ ْ ،لكنّ َها َع ِمي َقة... ون � إ ّنها َب ِ�سي َطة ّ �سرتَ َ يف املطبَ ِخ؟ هل � أنتِ ْ
أرد ُدها َعلى م�سامعها : كنت � أحف ُظ َها َو� ّ ُ � ِآ�س ٌف جدا ً
ألف مل � ٌ العا ِ
َ هذا يف
ْ كانْ َ ن إ � وف: ت
َ ُ مزا ح �سول ر
ُ َ �صوت نا�س ٍب الوقت غريُ ُم ِ ُ
من الرّجا ِل َ � أغلق اخلط
كي َيخ ِطبُوك ْ ك و نح
ُ َ ْ َ ون مي�ض أن�سى �صاالتي ِبا أل ْه ِل َوبد� ُأت � َ و�شيئا ف�شيئاً قلتِ ّات َ
بني ه�ؤال ِء الرّجا ِل َر�سو ْل َحمزا ُتوف فاعل ِم ْي � ّأن َ َه َوا ِت َف ُهم
هناك َمائة ِم َن الرّجا ِل َ ان
� إ ْن َك َ ان
الن�سيَ َ لعن اهلل ُ ْ َ
الدماء ل َظى َخ ُجو ٌل ورين ِب ُحب ِك َو َ م� ُأ�س َ اب؟ ملَاذا هذَا ا إل�س ِه ُ
جلبَال ينه ْم َرج ُل ا ِ يلوح َب ُ َ�س ُ كان ُي ْ�س ِه ُب َويط ِن ُباح ِظَ ، جل ِ من جدِّ َنا ا َ تعلّمتُه ْ
دعى َر ُ�سول َحمزا ُتوف َجامحِ َ اً ُي َ منكان ْ َ الذي
ْ ني»
ان َوالتب ِي ُ كتابه «البيَ ُ َ � أتذ ّك ُر
من الرّ َجا ِل هناك ع�رشَةٌ َ َ كان
� إ ْن َ الطالب
ِ كان � أحدُجلا ِم ِعيّةَ ، درا�س ِتنَا ا َ �ضم ِن ُمقرّراتِ َ ِ
ب�صدْ ٍق َيع� َشقو َنك ِ من َمدين ٍة نحن ننت ِق ُل ْ ني َو ُ �صفحتَ ِ �ص ْف َحة � ْأو َ َيقرَ� أ َ
يب
دون � ْأن يخافوا الل ّ ِه َ َ ،ومن َحدثٍ �إىل َحدثٍ ال �إىل � َآخرَ ْ �إلىَ � ْأخرَى و ِم ْن َح ٍ
ينه ُم َر ُ�سول َحمزا ُتوف �سيُ ِط ّل ُمبتَ ِه َجا َب ُ ن�شع ُر ِباملل ِل ي ُقو ُل � أ�ستاذنا ا أل ْ�شيَ ُب : حني ُ َو َ
احد هناك ِ�س َوى َر ُجل َو ِ َ � إ ْن ملْ َي ُعدْ كان َر ُجال العرَ ِب ّيَ , البيان َِ اح ُظ � أمريُ جل ِ � -إ ّن ُه ا َ
َما َزا َل مجَ نوناً ِب ُحبّ ِك و�سو ِعياً لذا ترَو َنه ُي ْ�س ِه ُب َويط ِن ُب و� أنا �صرِ ْ ُت ُم ُ
جلبَال فاعل َ ِم ْي � إ ّن ُه َر ُجل ا ِ ِمثل َ ُه
قمم الغيُو ِم من َ ه َّل ْ ا�س ْي بالزم ِن ح�س ِأطلت علي ُك ْم ،يبدُو � إ ّن � إ َ معذرة � ُ
ذاك ُيدْ َعى َر ُ�سول َحمزا ُتوف ابي حتّى املَر� أة من � َأح ٍد ُ
يطر ُق َب ْ يل ْ فلي�س ْ َ َت َو ّق َف
ناك
� إ ْن ملْ َي ُعد � َأحدٌ ُه َ �ضع َحدا ً جلنو ِننَا كانت ...قرّ ْرنا � ْأن َن َ ْ ال ِت ْي
وفله ِ يه َواكِ كاملَ ُ ْ ال�س ْه ِل َوال البَ ِ�سيط كن ِبال َقرا ِر ّ ملْ َي ْ
بي يه
ً ْ ُ ٍ َ َ ٍ غ وب غر من ا حزن ثرَ ُ ك أ � أنتِ و� كان ينب ِغ ْي � ْأن ُي ْح َ�س َم لكنّه َ
لت
توف َح ْ حل َ ان ا ُ فاعل ِم ْي ّ لها َو ِنهايتُ َها َ�سائبَة َي ِج ُب � ْأن كه ِذ ِه ال بدْ َء َ َعالقةٌ َ
اله�ضبَة َ حتت
َو َ لها َحدَا ً ن�ض َع َ َ
يف ُح�ض ِن اجلبَا ِل هناك ْ َ ني
فو�ضعنَا باتفاقِ الطرَف ِ َ
158 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ورحيل بني ا ألقمار د َفنُوا َر ُ�سول َحمزا ُتوف
ني؟ املمثل:ماذا َتع ِن َ ت�سعدُ عندَ َما َ الللللللللللللللللللللللللله...كم كانت
يف وم ْن َي ِ�سريُ ْ اجهة َ ، حل ُب ُم َو َ نع ْم ا ُ �صوت املر� أةَ : م�سا ِم ِع َها
وكنت � أكرِّ ُره على َ ُ �ص ! � أ�س ِم ُع َها هذا النَ ّ
�سوى َما منه َ مل َمرَّ ُد ال ينل ُ ظ ِّل َحائطٍ �صرَ ُحه ا ُ قم ِة
يف ّ ن�ض َح ُك و ْ طع ٍم ْ يف َم َ وذات مر ٍة �س�ألتُ َها َوكنا ْ َ
من غبَا ِر ال�شرُ ُفاتِ ،وقدْ َخن َق يت�ساق ُط علَى َر� ِأ�س ِه ْ َ البهج ِة :ه ْل � أنتِ َرا�ضيَة َع ِني؟ َ
ار... َ ُ بغُ ال ا َ ن ب ح
ُ ق
َ خن ب�شدة» «ت�سعل ار
َ ُ ب غ
ُ ال ا َ ن ُحبَّ �سكتت
ْ
ار «يتال�شى ال�صوت» خن َق ُحبَنَا ال ُغبَ ُ ِ ِ
ال�س�ؤا َل :ه ْل � َرا�ضيَة َعن ْي؟ أنتِ � أعدْ ُت ّ
ار �إلىَ املمثل :بعد ذل َك ملْ نلتَقِ �،أخذَ َها ال ُغبَ ُ �صوت املر� أة :ملاذا َت ْ�س�أ ُل؟
الذكرياتَِ يف البَدْ ِء ظننْ ُت ّ
ان �ضان َرج ٍل � َآخرَْ ، � ْأح ِ ال
املمثل:ال َ�ش ْيء� ،إنمّ َا مجُ َ رّ ُد ُ�س�ؤ ٍ
داخلي عان َما ُخ ِن َقت ِب ِ املرّ َة َ�ستخ ِنق ِن ْي ،لكنّ َها �سرُ ْ َ اع أنت علَى ا�س ِت ْعدَا ٍد َ
ل�س َم ِ �صوت املر� أة :وهل � َ
تبخرَّ ْت تل َك املَرْ� أ ُة َو َ ابة؟ا إل َج َ
َوكل ّ َما كا َن ْت َت ْ�س�أل ِن ْي � ِّأم ْي عنْ َها � أقو ُل املمثل :لو ملْ � أ ُك ْن كذل َك ملْ � ْأ�س�أل ِك
املمثل � :إ ّن َها � ...إ ّن َها �....إ ّن َها ُم َ�سا ِفرَة عجبَ َكلن ُت ِ لكن � إ َجابتي رُبمّ َا ْ �صوت املر� أةّ :
ا�سم ْع منّي َيا َولد ِْي َهذ ِه يل ا ألمَ : قالت ْ ْ وذات َيو ٍم َ املمثل َ :كيف؟ ه ْل َتعنني.......؟
ل�س ُت َرا�ضيَة َعنْ َك ْ ْ ي ِ
ن ن إ � ة... مالكلِ َ هو َج َوا ِبي أة:بال�ضب ِط ،هذا َ َ �صوت املر�
ألتها
وغ َو َ�س� َ وقفت َكاملَلدُ ِ ُ املمثل : ال�ضح ُك .....ت َك َّو َر ُت املمثل «للجمهور» :فج�أ ًة هدَ� أ ّ
املمثل :ملَاذا َيا � ِّأم ْي؟ وح ْي َوانط َف� ُأت على ُر ِ
تكون َما ت ِريدُ َ لن
�سوف ْ ا ألم :ألنك َ �صوت املر� أة :ملَاذا َ�س َك َّت؟
كيف؟
املمثل َ : ال�سما ِء � َأحل ُق يف ّ كنت ْ قع ِمن ِك هذَا ! ُ أتو ْ
املمثل :ملْ � َ
حتزَ ُن علَى ا ألم :ألن َك ال تفرَ ُح بالذ ِْي ي�أ ِت ْي َوال ْ الف�ضا ِء َوال َآن ناحي ِه َعلى امتدَا ِد َ مث َل طائ ٍر َيف ِر ُد َج َ
الذ ِْي َيذْ َه ُب �صيَّا ٍد � أ�سق َط ْ
تني �صا�ص ِة َ َ جو َاب ِك ِمث ُل ُر أ�شع ُر � ّأن َ � ُ
طي ال َغيْ ِب يف ِّ ار ْت � ّأمي ْ و�ص َ املمثل «للجمهور» َ يحة جل ِر َ رب َيا ِئ َي ا َ � ْأر�ضاً ُم�ضرَ َّ َجاً بك ِ
الالمبَاالة حتّى ُ ال�س ُن َكبرِ َتِ كلما َتقدَّ َم بي ِ َو َ أق�صدُأكن � ِ �صوت املر� أة «م�صحوبا ببكاء» :مل � ْ
َ
حكاية َ كاي ِت ْي ت� ْش ِب ُه ار ْت ِح َ �ص َ � ْأ�صبَ َح ْت فل�س َفة َ علي َهذا � َأبدَاً ...لقدْ َ�س�ألتَ ِن ْي ...لي�س َ�س ْهالً َّ َ �إيذَ َاء َك
ال�صي ِن ّي الح ِ ال َف ِ َو� َأجبت َك
ال�صي ِن ِّي؟ الفالح ِ ِ اي ِة ه ْل َ�سمعتُم ِبح َك َ ا�صة �ص َ املمثلَ � :أجبت ِن ْي ِب ُر َ
«�صوت رنة هاتف» لي�س �إال ّ جواباً َ كان َ �صوت املر� أةَ :
ق�صريَةٌ لي�س َهاتفاً � ...إ ّنه ِر َ�سالةٌ ِ َ املمثل :هذا اب ُي�س ِعد ْ
ين ماع َج َو ٍ أحب َ�س َ كنت � ُ املمثل :لكنَ ِن ْيُ ،
نها مجُ َ رّ ُد تذ ِكريٌ... ال�ص ُح ِفي اال ِلكرتُونيِ ّ �..إ َ ُ منَ �صوت املر� أة :ال � أريدُ � ْأن � أخدَ َع َك
كلماتٍ :ال تقل ْق يل بالرَ ّد علي ِه ب� ْأر َب ِع َ ا�سم ُحوا ْ َ املمثل «ينفعل» :ولمِ َاذا ُك ُّل هذَا؟
..مت
َّ ل
ُ ا �س َّ ْ َر ل
إ ا مت ال... �س ر
ْ َ إ � ... ِك
َ د ي رب
ِ ب ابَ ُ اجلو ون
َ�سي ُ ك
ُ �صمت يت�سلل �صوت املغني كاظم ال�ساهر وهو
الفالح
ِ كاي َة يم....ح�سناً لنُ ْك ِمل� ،س�أر ِوي ل ُك ْم ِح َ الت�سلِ ُ ْ يغني «�إين خريتك فاختاري»
كمتُها ِّ َ َ حِ و ي أم � ه ب
ِ ش � ت ة
ٌَ َ َ ٌ ُ ْ ط �سي ب ة كاي ح ِ ها ِ ِّ إ َّ
ن � ي ِ
ن ي ال�ص ملغنّي: ا�سمع ما َذا َيقو ُل ا ُ ْ �صوت �إمر� أة :
كاية َق ِ�صريَة ت� ْش ِبه ال � أباليتي...ال تتململوا � ...إ ّنها ِح َ �صوت كاظم ال�ساهر :احلب مواجهة كربى
ف.. قت � أ ِز َ الو َ يها ب�سرُ ْ َعة أل َّن َ َو ُم�سلِيَّة�َ ...س�أر ِو َ �إبحار �ضد التيار
اجب ُم ِه ٌم ف�أنا يل َو ٌ اقيها و ْ وال�شم َعة بدَ� ْأت َتلت ِه ُم َ�س َ ْ �صلب وعذاب ودموع
159 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
قوية ,فما َذا تعتَ ِقدُون ُه َو فا ِع ٌل؟ ملْ ري ٍة َّ ِجيَا ٍد َب َّ ...و َي ِج ُب اب َ جل َو ِ ال�ص ُح ِف ّي اال ِلكرتُونيِ ّ بتَ ْ�سلِي ِم ا َ َو َعدْ ُت ُ
اء على املَار ِة ولمَ ....لق ِد �ش املَ َ طرباً وملْ ي ِر ّ �ص َ ير ُق ْ لكم
يها ْ أكون عندَ َو ْعدِي لذا َ�س� َأحا ِو ُل � ْأن � أر ِو َ � ْأن � َ
نومه, ليوا�ص َل َ ِ من َر� ِأ�س ِه َو َ
عاد �صغريَ ٍة ْ بهز ٍة َ اكت َفى َ من الوقتِ َوال ُي�سا ُل لكي ال � أف ِقدَ املَزيدَ َ باق ِت َ
اب ْ �ض ٍ
لكنه ملْ َيهن�أ بنو ِم ِه طويالً ُ «يطلق �صوت �شخري» اع الود ِ ملحة َ ال�شم َعة لت ُك ْن هذ ِه َ ْ من قطرَاتِ الكثريُ ْ
يطرقون علي ِه ان ُ جلريَ ِ أ�صوات ا ِ َ �ساع ٍة َ�س ِمع � فبَ ْعدَ َ متاع يف «ا إل ِ التوحيد ِّي ْ ِ ان
كان يفع ُل � ُأبو َحيّ َ كما َ
نف. اب ِب ُع ٍ البَ َ نه � ْأع َطى الذي � ْأحرَ َق كتبَ ُه أل ُ ان�س ِة» � أبو َحيَّان ْ َوامل�ؤ َ
الح ال َطي ِّ ُبّ �،أي ري � َأ�صاب َك � ّأيها ال َف ُ اجلريانّ � :أي َخ ٍ من ك ِّل َ�ش ْي ٍء ....لندَ ِع التَ ْو ِحيد ِّي َجانباً َولكنّه ُح ِر َم ْ
زن، حل ِ من ا ُ اهو اخلريُ قد َح َّل ببي ِت َك َبدال ً َ ُب�رشَى ! َه َ ...احلكاية َ�ساد ِتي َ ال�صي ِن ّي الح ِ كاية ال َف ُ َونر ِو ْي ِح َ
الفالح الطي ِّ ُب !» ُ َهنيئاً ل َك � ّأيها يف احلق ِل َوال يمَ ْلِ ُك َمن يعمل ْ ري َ فالح فق ٍ عن ٍ تتحدُث ْ َ
من َيدْ ِري». الفالح ر� َأ�سه وقا َل« :رُبمّ اْ ، ُ فهزّ يف َ ُ َ ُ ْ ه د عِ ا �س ي كان ٍ
د حي و َ ان
ٍ �ص
َ حِ ى و ِ
ُح ِ ُ َ َ
�س ا ني الد م طا
فرط من ِ وابه ْ �ص َ ان َوظنوا � إ ّنه فقدَ َ جلريَ ُ ا�ست ْغرَب ا ِ حل ْق ِل « تظهر على ال�شا�شة �صورة م�ضببة أعما ِل ا َ � َ
ني ده� َشتَ ُه ْم ! الفرَ ِحَ ،وان�رصَفوا ُمت�أ ِب ِط َ حل�صان ميتطيه فالح
جليا ِد الفالح � َأحدَ ا ِ ِ يف اليوم الثالثِ � أ�سرْ َج ُ
ابن �ص ْهو َة ري َها ِد َئة َي ْعتَلِ ْي َ الح ال َفق ِ يام على ال َف ِ مرَتِ ا أل ُ
عن ألقاه ْ اد و� ُ جل َو ُ جمح ا َ اء ُهَ ،ف َ البرَ َّية َو َحاو َل ام ِت َط َ الذي ْ باح البَاك ِر ليَ ِ�ص َل احلق َل ال�ص ِ يف ّ �صا ِن ِه ْ ِح َ
اقه. ظه ِر ِه َو ُك�سرِ َ ْت َ�س ُ ْ روب ال� ّش ْم ِ�س محُ َ ّمالً ود قب َل ُغ ِ يع ُ َيعم ُل ِب ِه بن� َشاطٍ َو ُ
ني: ِ ل قائ ه ن و وا�س ي انه ري ج ِ
ه لي � فجاء �صا ِنه �ض ُع َها علَى َظ ْه ِر ِح َ التي َي َ ِ
َ َ ُ ُ ُ َ ِ إ َ ِبالغال ِل ْ
الفالح ُ ها أي � ك ب
َ ْ ُ َ ّْ َ ّ ت ل ح ةٍ �صيب م من ا له يا اجلريان: �صان «�صوت �صهيل ح�صان حل َ وذات َي ْو ٍم َهرَ َب ا ِ َ
كان علي َك � ْأن تعلّق � َّأم �سكني ،لقدْ � َأ�صابتك َعينْ ٌَ ، ُ ا ِ
مل ووقع � أقدام وفو�ضى ثم ي�سود �صمت مطبق»
حل َ�سدَ. عن َبيت َك ا َ يون لت ْط ِر َد ْ َ�سب ِع ُع ٍ يف ُم�صيبَ ِت ِه يوا�سو َنه ْ اء َ انه ِع� َش ً اء �إليْ ِه ِجريَ ُ فج َ َ
من يد ِر ْي». فهز الفالح ر� أ�سه وقال« :رُبمَّ َاْ ، ني: َ ِ ل قائ
ل�سوقِ
مهمة ْ يف ّ أمور التجني ِد ْ جاء َم� ُ يف اليَو ِم الرّاب ِع َ انه � ،إ ّنه � ْأمرٌ مز ِع ٌج، ُ َ ُ �ص ح ِ د ِ
ق يف �سكني
ُ ِ
مل ا ل
ُ الرج
ُ
احلني
َ �صللجيْ ِ�ش ،ف�أخذ َم ْن َو َجدَ ُه ْم َ القري ِة َ َ بابَ�ش ِ من ُم ِ�صيبَ ٍة َ ْ ا له يا اهلل ب
ِ ال
إ ّ � قوة ال و
َ ْ َ ل و ح ال ، حزين
ٌ َو
الفالح.
ِ اب
الع�سك ِر َّية وطرَ َق َب َ للخدْ َمة َ ِ لت ِب َك». َح ْ
�صوت الوط ِن ُ الفالح،ُ أخر ْج � ّأيها م�أمور التجنيدُ � : الفالح يهز ر� أ�سه ويقول:
ينادِي َك. «ربمّ َاَ ،م ْن َيدْ ِر ْي».
يحتاج �إىل � ْأج َ�سا ٍد ق ِو ّي ٍة ُ �صوت الوط ِن ُ الفالح: نح ُن اعدت َك؟ ق ْل َوال تتَ َحرَّ ْجْ ، -هل يمُ ْكننَا ُم َ�س َ
يخ َه ِر ٍم؟ طن ب� َش ٍ الو ُ فماذا َي ْف َعل َ ملالقا ِت ِه َ لتخ ُرج ُ ْ � ْأخ َوة
الح َ َ ٌ َ ٌ �ص لد و ك لدي ... ك ُ ُ د نق�ص ِ ال حن َ ُ ن التجنيد: أمور م� �ض َحك الفالح َي ْ ُ
الوط ِن. خلدْ َمة َ ِ ْ ِ...لقد هلل ا ب
ِ ال إ � ة
َ قو
َ ال وَ ل َ حو ال اجلريان: أ�صوات �
دته لوج َ م�س َ جئت با أل ِ َ كنت قدْ لو َ نع ْمْ ، الفالحَ : نيمل�س ِك ُ �صو َاب ُه ....الرّ ُج ُل ا ِ �س ...فقدَ َ اب الرَ ُج َل َم ٌ � َأ�ص َ
اج �إىل َرج ٍل طن يحتَ ُ فالو ُ َ للو َط ِن َو ِ�س ُ
واه, �صالحِ َاً َ َ .....كيف َ بالهين ِة َ لي�س ْت قله � .....إ ّن َها ُم�صيبَة َ فقدَ َع ُ
ني كا ِملتنيِ . ب�ساق ِ َ �سيتدَ ّب ُر � أمرَ ُه؟ َكيف؟
تع ِني؟ ْ اذا م
َ التجنيد: أمور م� يف اليَو ِم التاليِ ْ «� أ�صوات جياد متلأ املمثل :و ْ
ادخل طن � أ ْكرثَ ممِ َّا ينبَ ِغيُ ، الو ُ الفالح :لقدْ ت� َّأخرَ َ !خرج ليَ ْ�ستطلِ َع َ الفالح � ْأ�ص َوات ِجيَا ٍد ُ امل�رسح» َ�س ِم َع
لح �ص ُ جل َواد ال َي ْ الذي َج َعلَتْ ُه َ�سقط َة ا َ الولدَ ْ لت� َشاهِ دَ َ فون َماذا َو َجد؟ هههههههههه لقدْ َو َجد أتع ِر َ ا أل ْمرَْ � ،
�إال للنّو ِم علَى ال�سرَ ي ِر. لي�س هذا ف َق ْط َب ْل َم َع ُه ِ�ستّة عاد �إلي ِهَ ... ان قدْ َ �ص َ حل َ ا ِ
160 نزوى العدد / 62ابريل 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
اعاتِ َوا أل ّيا ِم َوا أل ّ�سابي ِع َوال� ّش ُهو ِر ...ك�أ َن ِن ْي ال�س َ
َو ّ اق الع ُجوز َوتبَّ ْت َ�س ُ م�أمور التجنيد:تباً ل َك � ّأيها َ
كيف بلغنَا وبَ ... كنت طفالً � ْأد ُر ُج علَى الدُ ُر ِ با أل ْم ِ�س ُ معاطر َم ْعرَك ٍة َ فال�ساق املك�سور ُة ال تجَبرِ ُ َخ ِ ُ اب ِن َك،
التي ِ ِِ العدُ ِّو.
يف َكبرِ َنا؟ ال � َأ�صد ُِق هذه التّ َجاعيدَ ْ َما بلغنا؟ َك َ
اق
َ
ال�ص ُح ِفي أمور َوعدْ بعدَ � ْأن تك�سرِ َ َ�س َ � امل ها أي �
َ ْ ّب اذه : الفالح
َزح َف ْت علَى َخا ِر َطة َو ْج ِهيَ ...و َي ْ�س�أل ِن ْي ُّ اهاتِ «ي�ضحك» الع يف
ُ
اوى نت�س
ين َع ْن «لوك» َجدِيد !!! � ّأي «لوك»؟ اال ِلكرتُو ّ َ َ ْ الوط ِن ،عندَ َها َ َ
�س َ
ههههههه.
ا�ص أر�ضي ِهَ ...ه�ؤال ِء ا أل ْ�ش َخ ُ مع ذل َك ال ُبدّ � ْأن � ِ
الح قهقهاتِ ال َف ِ ان جلريَ ُ املمثل :وعندَ َما َ�س ِم َع ا ِ
ادةٌ ال ت ِق ُف له ُم � ِ َ
أل�سنَة َح ّ ونُ ... ون مخُ ي ُف َ اال ِلكرتُونيّ َ َجاءوا �إل ِي ِه ُيهنئُو َنه.
نهم وعاتٍ � ...إ ُ انني َمطبُ َ قو ُ قابة َوال َ بوج ِه َها ِر َ َ الفالح
ُ :من َحق َك � ْأن تفرَ َح َوت�سعدَ � ّأيها اجلريان ْ
زيفةٍ... يعاتٍ ُم ّ الهوا ِء بتو ِق َ يف َ �سمومهم ْ ون ُ ين�رشُ َ حلرْب. من ا َ فاخلريُ � َأ�صاب َك َوجنا َولدُك َ
وم َواحدٌ ولون َوامل� ْشتُ ُ جم ُه َ ون َو ْ ون ك ِثريُ َ امت َ ال� ّش ُ الح َر� َأ�سه َوقا َل« :رُبمَّ َاَ ،م ْن فهزّ ال َف ُ املمثل َ :
ا�ص ُح َبال� َشبكة ا�سم َك النَ ِ وف ...غدا ً َ�سيُل ّط ُخ ُ مع ُر ٌ َو ْ َيدْ ِري».
«يرن جر�س الهاتف».
ال�صفاتِ !! أ�سو� أ ّ ب� َ
ال�ص ُح ِف ّي االلكرتُونيِ ّ: املمثل �:أووووووووووووه � إ ّن ُه ُ
أظهرَ بـ«لوك» منا�سبَة � ,أريدُ � ْأن � َ ِ �صور ٍة عن ُ له ْ أل ْب َح ْث ُ
�ألُو
ورة؟ ال�ص َورة؟ � ْأو ه ِذ ِه ُ ال�ص ََجدِيد ما َر� ُأيكم ِب َهذ ِه ُ أظن � إ ّن َك ال َآن م�ستغر ٌق قاطع ِت َكّ � ، مل َ عفوا ً ُ ال�صوتَ :
ور َة �أكثرَ َ. ال�ص َلكنَ ِني � ِأح ُب هذ ِه ُ تبعث تن�س � ْأن كتبتَ ،ح َ�سناً ،ال راج َعة َما
كانت تحُ ِ بُ َها قب َل � ْأن نفترَ ِ َق للأ َبدِ... َ َ َ مب َ ُ
ْ ورةال�ص َهذ ِه ُ ا�ص ًة خ ديثة ح ة ور �ص ه ز تنج
ِ حني لف
َ ِ
مل ا مع
(يت�صل باملحرر) َ َّ ُ ُ ًَ َ َ َ
ودة َعلى « ُكو َكل» �صحيف ِتنَ َ ُ ُ َ ِ َ ُ َ
وج مل ا ك ر و �ص يع م ِ فج ا، ِب ِ
بها... �صور ًة ممُ يّز ًة � ...أريدٌ ر� َأي َك َ ألو...اخرتْ ُت ُ � ْ التميُّزَ. نحن ِ
نن�شدُ َ دميةَ ،و ُ َق َ
جل َواب.. جن ُز ا َثها َحاالً ...ال َتقلَق�َ ...س�أ ِ �س� ْأب َع َ رش
يتم بن� ِ التميّزَ � إ ّنه ُ تفه ُم َ املمثل ّ � :أي متيّز؟ ه ْل َ
« يغلق اخلط» ور ٍة َجديدَة؟هذا َف ْه ٌم محَ ْ دود َوقا�صرِ ٌ. �ص َ ُ
التميُّزَ � ،إ ّن ُه َح ٌق هِ ل م ع يف د ِ
ن�ش ي ل الك ال�صوت:
روج ا ألفكا ِر � ْأمرٌ ظن � ّأن ُخ َ اح � ,إ ّن ُه َي ُ لح ٌ هذا الرّ ُج ُل ِم َ َ َ َ ْ ُ ُ ُ
ي�س َم ْع ِبـ«� إ ّن ِف َكرَ ًة واحدَ ًة َن ِ نتميَّزْ ِب َخبرَ ٍ َجدِيدٍ ،يمُ ّكننا � ْأن نتَ َميّ َز وع ،ف�إذا ملْ َ َم�شرْ ُ ٌ
أف�ض ُل
اج َح ًة � َ ب�سي ٌط ! �أملْ ْ
ملل َّفاتِ »؟ بني ا ِ من َحيا ٍة َ ْ
هي ثقا َفة وم َ ثم � إ ّن ثقافتنا اليَ َ ب�صور ٍة َجدِيدةٍّ ، ُ
ج�سدُ تل َك ال ِفكرَ َة ! مر مرتُو ٌك ل َك، ُ أ
ل ا ، لَ ي أطِ � أن
ُ ْ � أريد � ال ا موم
ُ َ ُ ًَ ع ة، ور ال�ص
الذي ُي ِّ
اب ْ جل َو ِعن ذل َك ا َ أبح ُث ْ � أنا � َ الم ِة ال�س ع م ٍ، ة اع �س ِ
�صف ِ
ن من � أنت ِظ ُر املَ َ
َ َ ّ َ َ لف َ ّ ْ ل أق � بعد
ائي ُمكرَ ٍر � أريدُ فح َة ِبكال ٍم �إن� َش ٍ ال�ص َ ال � أريدُ � ْأن � َأملأ ّ «يغلق الهاتف».
جل َواب � ْأن« ....ي�سمع � أ�صوات أ�ضع َب�صم ِت ْي َعلى ا َ � ْأن � َ العاملُ
قت يتحدّ ُث!؟ ه ِل َ عن � ّأي تمَ يّ ٍز َ املمثل :التميّز !!! ْ
الو َ اجرا�س � أعياد امليالد» ما َهذا؟ َيبْدُو � ّأن َ حاولنَا تجَ ِمي َل و�شوب؟ َم ْه َما َ ورة ُمعدّلةٌ ِبالفو ُت ُ �ص َ ُ
للج َواب؟
ورةٌ َ هناك �ضرَ َ َ كني ه ْل أدر ْ � َ ون اغ ِبعيُ ٍ
يف الفرَ ِ مل ف�إننا َنظ ّل ُنحدّ ُق ْ العا ِ حِ ِ
ئ ا قب
َ َ
(يغلق الهاتف ويطفيء ال�شمعة� .....إظالم ي�سدل وب ِب�سرُ ْ َعة � أ ْكبرَ ... ُ ذ ت ة ع م شّ ال� اهي ه ِئة... د �ص
ُ َْ َ َ َ
ال�ستار). ان الدّقا ِئ ِق ري
َ سرْ َ َ َ َ َ ج ع أ� � ا م ... وب ُ ُ ذ ت ق
ُ ِ
ئ الدقا َو
162
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
للبداع
عنفوان ال�صورة كو�سيط إ
عند �أكريا كورو�ساوا
«را�شومون» منوذجاً
كامل يو�سف ح�سني
كاتب ومرتجم من م�رص
يعد املخرج ال�سينمائي الياباين �أكريا كورو�ساوا ،الذي ولد عام 1910
ورحل عن عاملنا يف عام ،1998واحداً من �أهم املخرجني الذين عرفتهم
الطالق ،ومن املعتقد �أن فوز فيلمه «را�شومون» ال�سينما اليابانية على إ
باجلائزة الكربى يف مهرجان البندقية ال�سينمائي عام 1951كان هو
املدخل الذي من خالله انفتح املجال لتعرف العامل على ال�سينما اليابانية
ومنجزها الفني الكبري .وعلى الرغم من �أن االهتمام العاملي ب إ�بداع
كورو�ساوا و�صل �إىل ذروته قبل ربع قرن من الزمان� ،إال �أنه يعود اليوم
ليتجدد بقوة ،مع �صدور العديد من الكتب عنه ،و�إعادة �إطالق �أعماله يف
�إ�صدارات حديثة متعددة على امتداد العامل ،با�ستخدام �أحدث منجزات
تقنيات العر�ض الرقمية.
wكورو�ساوا« :يعجز الب�رش عن �أن يكونوا �صادقني مع ذواتهم حيال
�أنف�سهم ،فهم ال ي�ستطيعون احلديث عن �أنف�سهم من دون جتميل،
وهذا ال�سيناريو ي�صور مثل ه�ؤالء الب�رش ،النوعية التي ال ميكنها �أن
توا�صل البقاء من دون �أكاذيب جتعلهم يح�سون ب�أنهم �أنا�س �أف�ضل
مما هم عليه حقاً .بل انه يظهر هذا االحتياج املفعم باخلطيئة �إىل
الزيف املت�ضمن للمجاملة وهو مي�ضي �إىل ما وراء القرب.
163
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
�إننا نعرف � أن كورو�ساوا قد در�س فن الر�سم ،و� أراد كتاب � أ�صدرته الدائرة الثقافية بال�شارقة عام 2004
االنطالق يف حياة عملية تعتمد على ا إلبداع من مع مقدمة بقلمي تقع يف � 16صفحة كاملة.
خالل هذا الفن ،ولكنه ا�ضطر للتخلي عن الر�سم مهنة يف البدء كانت ال�صورة
وم�سار حياة ،ليطرق � أبواب العمل يف ال�سينما منذ عام
الذين تابعوا ،بحب وتعاطف � ،أفالم � أكريا كورو�ساوا
1935بالتحاقه ب�رشكة «بي�.سي�.إل» كم�ساعد خمرج
البد � أنهم يعرفون � أنه منذ فيلمه الروائي ا ألول
متدرب .ولكن الر�سم �سيظل مهيمناً على حياته ،حتى
«�سان�شريو �سوجاتا» الذي � أطلقه عام � 1934أظهر
أ
لي�صل به المر �إىل حتويل �سيناريوهات � أفالمه ،التي متكناً واقتدارا ً كبريين يف التعامل مع الو�سيط
كان يكتبها � أو ي�شارك يف كتابتها� ،إىل لوحات ،قبل ا إلبداعي الذي يطل عربه ،فال جمال لرتدد البدايات،
وال لتقليد الآخرين ،وما نراه من �إبداع يف اال�شتغال الو�صول �إىل مرحلة البدء يف الت�صوير.
لهذا ،بال�ضبط ،ف�إننا نهتم هنا بعنفوان ال�صورة على ا أل�سلوب يف هذا الفيلم املبكر مرده العكوف
كو�سيط ل إلبداع عند � أكريا كورو�ساوا ،مع اهتمام خا�ص على �شكل ب�رصي قوي وعميق يبحث عن م�ضمون � أو
بهذا اجلانب على نحو ما جتلى يف فيلمه ال�شهري حمتوى منا�سب.
«را�شومون» املقتب�س من ق�صتني للروائي والقا�ص ومنذ البداية ،ف�إن كورو�ساوا ال يفعل ما كانت
الياباين الكبري رايونو�سوكي � أكوتاجاوا ،هما «يف هوليوود تقدمه يف ا ألربعينيات� ،سواء يف حركة
غابة» و«را�شومون» ،وقد كان االهتمام بهذا العمل الكامريا � أو القطع � أو املونتاج ،حقاً �إن حركة
هو ،على وجه الدقة ،ما دفعني �إىل ترجمة جمموعة الكامريا تنطلق ابتداء ألنها تقدمها حركة ال�شخ�صية،
«را�شومون» التي ت�ضم هاتني الق�صتني ،وتقدميها يف وهي تقوم مبتابعة هذه احلركة ،متاماً كما يف
التقليد الهوليوودي .ولكن كورو�ساوا بعد ذلك يرتك
ال�شخ�صية التي � أطلقت حركتها التتبع ا ألوىل الذي
تقوم به الكامريا ،ويعمد �إىل �إطالة االطار املتحرك
�إىل � أن ي�ضم ال�شخ�صية .وعمليات التكرار وا إلرجاع
لهذه اللقطة �ستمهد للكامريا التتبعية �إىل درجة
تتجاوز � أي �شيء جنده يف � أي فيلم � أمريكي يعود �إىل
ا ألربعينيات.
هكذا ف�إن كامريا كور�ساوا ،منذ البداية ،تتحرك
ب�شكل خمتلف ،بطريقة تكاد تكون طقو�سية تقريباً،
وتكرر وتعيد تكرار منطها اال�ستهاليل .ومن املحتم
� أن النتيجة هي �صورة خمتلفة ،عما تقدمه ال�سينما
اليابانية نف�سها من خالل خمرجني يابانيني
� آخرين ،و� أي�ضاً خمتلفة عما تقدمه هوليوود.
هذه ال�صورة املختلفة �ست�صبح � أحد العنا�رص ا ألكرث
� أهمية التي ترتبط ب�سينما � أكريا كورو�ساوا ،متاماً
كما �سنجد �صورة خمتلفة ،بلغة فنية � أخرى ،عند
يا�سوجريو � أوزو.
هذه ال�صورة �ستحلق �إىل ذروة رفيعة يف العديد
من � أفالم كور�ساوا ،كما �سنجدها يف «ال�ساموراي
ال�سبعة» ويف «ران» ويف العديد من � أفالم املخرج
الياباين الكبري ا ألخرى.
لكن ما يعنينا هنا � أن نتوقف عنده طويالً بالت�أمل
164 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
الفيلم ا أل�سلوب الذي مت توظيفه بعد ذلك مرارا ً وتكرارا ً وحماولة التحليل والفهم هو ال�صورة كما تتجلى لنا
يف ال�سينما العاملية ،والذي يتوازى مع � أ�سلوب يف «را�شومون».
«تيار الوعي» يف الرواية ،حيث تتذكر ال�شخ�صيات أ
دعنا نالحظ ابتداء � أنه �ش�ن كل عمل فني عظيم ف�إن
املجموعة ذاتها من ا ألحداث � ،أي االغت�صاب وما «را�شومون» ال مينح � أ�رساره ب�سهولة ،لكنه قد يكون
يبدو � أنه جرمية قتل ،يف � أطر خمتلفة ب�صورة ملفتة من املفيد هنا � أن نتوقف عند ما يقوله كورو�ساوا
للنظر. نف�سه يف كتابه «ما ي�شبه املذكرات» ،حيث ي�صارحنا،
وقد ال يعلم كثريون من ع�شاق فن كورو�ساوا � أنه قد وك�أمنا يف ملحة ت�أمل ،يف حلظة �شجن ،يف التفاتة
� أراد «را�شومون» � أ�صالً فيلما �صامتاً ،وملا كان هذا هاربة من �رصامة الفنان الذي يجيد ال�صمت خارج
متعذرا ً �إىل حد اال�ستحالة ،فقد بادر �إىل تقدمي ثاين �إطار � أفالمه ،مبا يلي:
� أف�ضل خيار ،وهو الفيلم املاثل بني � أيدينا اليوم. «يعجز الب�رش عن � أن يكونوا �صادقني مع ذواتهم
ويف هذا ال�صدد يقول كورو�ساوا: حيال � أنف�سهم ،فهم ال ي�ستطيعون احلديث عن � أنف�سهم
«�إنني � أحب ا ألفالم ال�صامتة ،وقد � أحببتها دوماً، من دون جتميل ،وهذا ال�سيناريو ي�صور مثل ه�ؤالء
وهي غالباً � أجمل بكثري من ا ألفالم الناطقة .ورمبا الب�رش ،النوعية التي ال ميكنها � أن توا�صل البقاء من
يتعني � أن تكون كذلك .وعلى � أي حال فقد � أردت دون � أكاذيب جتعلهم يح�سون ب�أنهم � أنا�س � أف�ضل
ا�ستعادة بع�ض هذا اجلمال .و� أتذكر � أنني فكرت يف مما هم عليه حقاً .بل � أنه يظهر هذا االحتياج املفعم
هذا ا ألمر بهذه الطريقة� :إن � أحد ا أل�ساليب الفنية لفن باخلطيئة �إىل الزيف املت�ضمن للمجاملة وهو مي�ضي
الر�سم احلديث هو التب�سيط ،وبالتايل فالبد يل من �إىل ما وراء القرب ،فحتى ال�شخ�صية التي متوت ال
تب�سيط هذا الفيلم». ميكنها � أن تتخلى عن � أكاذيبها عندما تتحدث عن
من هذا املنطق نحن � أمام جمموعة مهمة من حياتها عرب و�سيط روحاين� .إن ا ألنانية خطيئة يحملها
املالحظات حول عنفوان ال�صورة كو�سيط ل إلبداع يف الكائن الب�رشي معه منذ امليالد ،وهي اخلطيئة ا ألكرث
هذا الفيلم: �صعوبة من حيث �إمكانية التخل�ص منها».
� -أوالً :عنفوان ال�صورة ك�أداة إلعادة اكت�شاف جوهر هذا هو اجلوهر� ،إذن ،ولكن كيف ينتقل �إلينا ب�رصيا
ما تعنيه ال�سينما ــ يعتقد الكثري من النقاد � أنه رمبا عرب هذا الو�سيط الفني املراوغ الذي ن�سميه ال�سينما؟
منذ �إيزن�شتاين ومورانو مل يقدر ألي فيلم � أن يبتكر يف هذا الفيلم نحن على موعد مع �ساموراي وزوجته
�رسده من خالل �صور �شديدة العنفوان بال هوادة على مي�ضيان يف رحلة يف منطقة نائية ،حيث ي�صادفان
قاطع الطريق تاجو مارو ،ويعقب هذا اللقاء م�رصع
ال�ساموراي واغت�صاب الزوجة.
هذه الق�صة ،التي تبدو لنا ألول وهلة وا�ضحة
وب�سيطة ،تروي لنا عرب � أكرث من منظور ،فهناك
الرواية كما يقدمها لنا حطاب ت�صادف وجوده يف
املنطقة ،وثمة �شهادة كاهن بوذي جواب � آفاق ،ومن
ثم �شهادة ال�رشطي الذي � ألقى القب�ض على تاجومارو،
ثم ر ؤ�ية حماة ال�ساموراي للأ حداث ،وهناك اعرتاف
تاجو مارو ،ورواية الزوجة ،و� أخريا ً ت�أتي ق�صة القتيل
على نحو ما رويت من خالل و�سيط روحي.
مرة � أخرى كيف ينقل لنا هذا امل�ضمون املعقد علي
ال�صعيد الب�رصي؟
تداخالت النور والظل
�إننا نعرف � أن � أكريا كورو�ساوا ا�ستخدم يف حتقيق هذا
165 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
يف الفيلم لتوظيف تداخل النور والظل يف ال�صور نحو ما حث يف «را�شومون» ،حيث تبدو ال�صور حقاً
املتتابعة يف الغابة .وتبدو هذه ال�صور اقتحاماً كما لو كانت تعيد اكت�شاف جوهر املق�صود بال�سينما.
فريدا ً من نوعه يف ال�سينما العاملية للغابة ،وهي ويف �ضوء هذا يبادر بو�سلي جروثر يف نقده للفيلم
التجربة التي �سيكررها كورو�ساوا ،بلغة فنية خمتلفة يف مقال مطول يف �صحيفة «نيويورك تاميز» �إىل
يف فيلم «در�سو � أوزاال» الذي حققه عام 1975يف ا إل�شارة �إىل � أن« :كل من ي�شاهد الفيلم �سيذهله علي
غابات �سيبرييا .ولكن هذه ال�صور يف تتابعها الهادر الفور جمال الت�صوير ور�شاقته واال�ستخدام البارع
لي�ست اقتحاماً للغابة وحدها ،فنماذج النور والظل لنور الغابة وظلها لتحقيق تنوع من الت�أثريات
يف تداخلها � أراد بها كورو�ساوا � أن توحي بنوع من الب�رصية القوية والرهيفة» .وي�ستع�صي على الن�سيان
املتاهة الروحية والعاطفية .وبالتايل فم�شاهدتها حقاً الو�صف الذي ا�ستخدمه جي�سي زون�رس يف
ولوج للقلب والغابة معاً .ويف هذا ال�صدد يقول مراجعة فيلم «را�شومون» الواردة يف كتاب دونالد
كورو�ساوا« :هذه النب�ضات القريبة للقلب الب�رشي رايت�شي «را�شومون يف الب�ؤرة» حيث ي�صف زون�رس
�سيتم التعبري عنها من خالل ا�ستخدام تالعب مق�صود الفيلم ب�أنه�« :سيمفونية من الب�رص ،ال�صوت ،النور
بالنور والظل .ويف الفيلم ف�إن النا�س الذين ي�ضلون والظل».
يف � أغوار قلوبهم �سي�رضبون �ضائعني يف برية � أكرث -ثانياً :تداخل النور والظل متاهة روحية وعاطفية
ات�ساعاً ،ولذا فقد نقلت موقع الت�صوير �إىل غابة مق�صودة ــ ترجع جوانب من ال�شعور بال�صدمة
� أكرب» .هكذا ف�إنه كما قال كورو�ساوا نف�سه ف�إن � ألغاز يف تلقي هذا الفي�ض من ال�صور املتتابعة يف
الفيلم هي � ألغاز القلب الب�رشي ،ولي�ست � ألغاز ال�صورة «را�شومون» �إىل اجلهد الكبري الذي بذله الفريق الفني
نف�سها ،وهذه نقطة بالغة ا ألهمية يف فهم ال�صورة
كما يقدمها «را�شومون».
-ثالثاً :عنفوان ال�صورة لي�س مق�صودا ً لذاته و�إمنا
يوظف لتو�صيل املعلومات ال�رسدية وحتقيق
الت� أثري العاطفي عرب الت�صوير ــ � أوحى عنفوان
ال�صورة يف هذا الفيلم ،الذي ي�صفه البع�ض ب�أنه و�صل
�إىل حد العدوانية ،لبع�ض امل�شاهدين ب�أنه مق�صود يف
حد ذاته ،وهذا بالطبع لي�س �صحيحاً ،ففي هذا الفيلم
نحن على موعد مع متتاليات طويلة من ال�صور ركبت
كمقاطع ب�رصية خال�صة � ،أو على نحو ما ما كان
هيت�شكوك ي�سميها «ال�سينما اخلال�صة» � ،أي متتاليات
ال�صور التي تو�صل املعلومات ال�رسدية ،والتي حتقق
ت�أثريا ً عاطفياً من خالل ال�صور ح�رصاً .واحلوار يف
هذه امل�شاهد ي�صل �إىل حده ا ألدنى � أو يغيب كلية.
ونتوقف هنا ب�صفة خا�صة عند متتالية ال�صور
الطويلة امل�ؤلفة من ت�سع ع�رشة لقطة ،والتي تقدم
لنا بالتف�صيل اللمحة ا ألوىل التي ي�شاهد فيها قاطع
الطريق تاجومارو املر� أة وال�ساموراي يف الغابة ،حيث
تتوا�صل هذه املتتالية بال حوار ،فيما كور�ساوا ينقل
لنا عرب ال�صورة حر النهار ال�شديد ،وجاذبية املر� أة
الغام�ضة ،وتظاهر تاجو مارو بال�ضجر الذي يخفي
ا�شتهاءه للمر� أة ،ومتدد حركة الكامريا ا إلطار بحيث
166 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
حيث يعرب نهريا ً قفزاً ،وينحني متجنباً غ�صناً يعرت�ض تلتقط ديناميات التوتر واخلوف والغ�ضب ،وت�صور
طريقه ،ويعرب ج�رسا ً من اجلبال وكتل اخل�شب ،وهو خط ب�رص تاجومارو املتنقل فيما الزوجان مي�ضيان
ال يدرك هذه ا أل�شياء ب�صورة واعية ،و�إمنا ينزلق عرب ا أل�شجار .ونتوقف طويالً � أي�ضاً عند متتالية
فوقها ا�ستجابة حلالة باطنية .والكامريا التتبعية اللقطات التي تظهر احلطاب وهو ي�سري يف الغابة
تقلد �إيقاعات �سريه وطوبوغرافية الغابة ،وبالتايل قبيل عثوره على � أداة اجلرمية ،حيث تت�ألف املتتالية
فهي م�ؤ�رش �شكالين لهذه احلالة .لكن ا�ستغراقه يف من خم�س ع�رشة لقطة ،جميعها لقطات تتبعية،
التفكري ينك�رس عندما يكت�شف � أداة اجلرمية .وفيما بحيث ت�صبح يف النهاية �إي�ضاحا مطوال ً لقدرات
يعرث على عدة قبعات وحافظة متيمة وحبل وجثة الكامريا املتحركة .ويقوم كورو�ساوا بقطع متداخل
� أخرياً ،ف�إنه ينطلق يف العدو مرتبكاً وقد �سيطر على لقطات تتبعية منخف�ضة الزاوية للأ �شجار ،والتي
اخلوف عليه .وبينما يقوم بهذه االكت�شافات تتوقف من خاللها تن�سل ال�شم�س ب�صورة متقطعة ولقطات
اللقطات التتبعية ،ذلك � أن ا أل�شياء قد � أزعجته وجعلته تتبعية من زاوية مرتفعة للحطاب وهو يتحرك يف
عقالنيا ،وقد عاد ذهنه للعمل ،وفقد ا�ستجابته احل�سية الغابة ولقطات �شديدة القرب لل�شخ�صية بكامريا
واحلد�سية للغابة .وينعك�س هذا التغري يف االنتقال تقوم بالتتبع من ا ألمام واخللف .وتعد هذه اللقطات
من الكامريا املتحركة �إىل اللقطات الثابتة التي من � أكرث اللقطات ح�سية و�إيحاء بحركة الكامريا يف
ت�سجل اكت�شافات ا أل�شياء واجلثة .وهكذا فقد تغريت تاريخ ال�سينما العاملية ،واملتتالية بكاملها لها قوة
متتالية اللقطات على امل�ستوى ال�شكلي والدرامي من تنومي مغناطي�سي مذهلة .ويرجع جانب كبري من
احلركة احل�سية �إىل منظور االهتمام الثابت وال�ضيق، ت�أثري هذه املتتالية �إىل ال�صمت الذي ي�سودها� ،إىل
من اال�ستجابات احلد�سية املنتمية �إىل و�ضعية الزن غياب احلوار ،و�إىل الت�أثري ال�صوتي ا إليقاعي البديع
�إىل املنظور املق�سم واملت�صلب للعقل املنطقي. الذي يعد امل�صاحب الوحيد لل�صور .وهناك متتاليات
-خام�ساً :عنفوان ال�صورة يف مواجهة ا أل�ساليب � أخرى من اللقطات ت�شمل مقاطع من احلوار ،ولكنها
اللغوية ــ من املهم � أن نالحظ يف «را�شومون» توظيف من نوعية خا�صة للغاية ،ومنها على �سبيل املثال
عنفوان ال�صورة لي�شكل اختالال ً مق�صودا ً يف التنا�سب تذكر الكاهن ا ألول للقاء الزوجني يف الغابة وتقرير
مع ا أل�ساليب اللغوية التي يوظفها الفيلم .و� أح�سب رجل ال�رشطة عن العثور على تاجومارو وقد � ألقاه
� أنني كنت حمظوظاً عندما ح�صلت على ن�سخة للفيلم اجلواد عن �صهوته فتمدد على ا ألر�ض �إىل جوار النهر
وال�صورة التي يقدمها تاجو مارو نف�سه عن امتطائه
من جمموعة كرايترييون ال�شهرية خالل وجودي يف
اجلواد وتوقفه لل�رشب .ونالحظ � أن احلوار الذي ي�شكل
احلد ا ألدنى ال ي�ؤطر للغة تذكر ،ولي�س متزامناً مع
ال�صورة واحلدث.
الثـراء والرحابة
-رابعاً :عنفوان ال�صورة ك�أداة للرثاء والرحابة ــ
حر�ص كورو�ساوا علي � أن يجمع بني عنفوان ال�صورة
يف «را�شومون» وب�صفة خا�صة املتتاليات امللتقطة
يف الغابة وبني �إبقاء احلوار يف احلد ا ألدنى ،مما
يتيح الرتكيز على �إبداع �صور تتميز يف � آن بالرثاء
والرحابة .ومن ا ألمثلة البارزة يف هذا ال�صدد املتتالية
التي مي�ضي احلطاب عربها �شاقاً طريقة يف الغابة.
حيث يقوم كورو�ساوا ب�صياغة � أمناط حركة الكامريا
بحيث ت�صبح معمار ال�رسد ،وتولد الرمز ،وهكذا نرى
احلطاب ي�ستجيب ب�صورة حد�سية إليقاعات الغابة،
167 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
ب�رضاوة ويبكيان تبدو لغتهما غريبة من خالل كيوتو ،معقل الثقافة التقليدية يف اليابان وعا�صمة
طابعها التجاوزي ذاته .هكذا ف�إن امل�ألوف ت�سلب منه ا إلمرباطورية علي امتداد � أكرث من � ألف عام ،وهي
� ألفته بالطريقة التي ق�صدها الناقد ال�شكالين فيكتور الن�سخة التي تتميز ب�صورة و� أ�صوات م�ستعادة
�شكلوف�سكي .هنا بال�ضبط يوجد كورو�ساوا اختالال ً رقمياً .فكما هي احلال يف ال�سينما ال�صامته جند يف
بني الب�رصي وبني ا أل�ساليب اللفظية ،حيث يعمد «را�شومون» � أن احلركة ت�صبح جت�سيدا لل�رسد وم�ؤ�رشا
�إىل الت�شديد على املتتاليات الب�رصية اخلال�صة ،يف �رضوريا للحاالت االنفعالية والنف�سية .والعواطف هنا
مواجهة ا�ستخدام و�صفي للغة ،حيث يبدو جلياً عدم يتم ا إلعراب عنها باحلركة من خالل تخارجها عرب
االت�ساق بني اجلانبني ،ف�أ�سلوب التمثيل املغرق يف � أداء م�ؤ�سلب ،وقد كان � أ�سلوب ا ألداء املت�سم بالعر�ض
جتاوزه ينتزع الكالم انتزاعاً من ال�سياق الطبيعي. واملبالغة مو�ضع جدل حمتدم لدى عر�ض الفيلم
وتالعبات كورو�ساوا بال�صورة واحلوار يف هذا الفيلم
للمرة ا ألوىل يف الغرب .وا أل�سلوب التب�سيطي املنتمي
تقدم لنا مناذج من ذلك امليل يف الفن الياباين نحو
�إىل ال�سينما ال�صامتة الذي � أراد كورو�ساوا العودة �إليه
التعقيد املتطرف مع العنا�رص غري املتجان�سة التي
تو�ضع يف عالقات معقدة .هكذا جند � أنف�سنا � أمام �شمل ا ألداء العري�ض وا إلمياءات املبالغ فيها التي
عنفوان ال�صور املتدفقة وهي تت�صادم مع ه�سترييا جلبها تو�شريو مفوين �إىل �شخ�صية تاجومارو وجلبته
� ألوان ا ألداء .وال يرتدد بع�ض النقاد ،ومنهم �ستيفن مات�شيكو كايو �إىل �شخ�صية الزوجة ما�ساجو .ولكن
برن�س يف كتابه «كامريا املحارب� :سينما � أكريا كورو�ساوا يعالج � أي�ضاً اللغة التي تبنياها مبا ي�شدد
كورو�ساوا» يف القول �إن االختالل بني اجلانبني هو على رحابتها وغرابتها ،فينما ي�رصخان وي�صيحان
مبثابة جوهر هذا الفيلم .وهو ي�شري يف هذا ال�صدد
�إىل � أن جرميتي قتل ال�ساموراي واغت�صاب زوجته
ترويان ب�أربع طرق خمتلفة ،ويعاد لفظياً بناء
هيكل العامل الع�ضوي للأ حداث وا أل�شياء ،ولكن اللغة
و�سيط ال �سبيل لالعتماد عليه ،فالق�ص�ص ال تتطابق،
والتناق�ضات واالختالفات ت�سود بني الكلمة والواقعة.
و«العالقة الداخلية» بني الكلمة والواقع يتم �إنكارها.
وهذا االنف�صال االت�صايل ينظر �إليه يف الفيلم من
خالل املفاهيم االنطولوجية باعتباره ف�ضاء يتجذر
فيه ال�رش واخلطيئة الب�رشيان .وعدم ا�ستيعاب اللغة
لعامل الوقائع هو ق�صة تدور حول ال�سقوط الب�رشي
�إىل عامل �شوهه التباين والتعدد.
انح�سار عنفوان ال�صورة
� -ساد�ساً :عندما ينح�رس عنفوان ال�صورة :كل من
�شاهد «را�شومون» ،بحب وتعاطف ،يعرف � أن هذا
العنفوان يف �صوره املتتابعة الي�سود الفيلم كله،
و�إمنا هو ينح�رس عن م�شاهد بعينها يف الفيلم ،رمبا
كانت � أبرزها م�شاهد بوابة را�شومون التي ت�ؤطر
ال�رسد ،فاملرء ال يحتاج �إىل كثري من التعمق يف حتليل
هذه امل�شاهد لكي يدرك � أنها مت �إجنازها باملفاهيم
التقليدية ،حيث يغيب االهتمام الكبري ب�إعادة بناء
العالقات بني ال�صورة وال�صوت الذي تابعناه طويالً،
168 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
جناح الفيلم يف مهرجان البندقية يف �صدر الن�صف فال�صوت يف م�شاهد البوابة يدعم ال�صور ال � أقل وال
الثاين من القرن الع�رشين مرده �إىل تناغمه اجللي مع � أكرث وال يتم تطوير �رصاع يذكر بني ما نراه وما تقوله
التيارات املعا�رصة � آنذاك يف الفكر والفن ا ألوروبيني، ال�شخ�صيات ،واالنف�صال بني ال�صورة واللغة اللفظية
وب�صفة خا�صة مع الفل�سفة الوجودية. هو يف � أف�ضل ا ألحوال ميل � أو اجتاه يتلقى تطويرا ً غري
وقد نظر �إىل الفيلم كذلك كحليف مفيد من قبل من مكتمل يف هذه امل�شاهد .هكذا ف�إن املفارقات و� ألوان
كانوا يخو�ضون ،يف ذلك الوقت ،غمار ن�ضال حمتدم الت�ضارب هنا تنبع من ال�شخ�صية ولي�س من ال�شكل
لتكري�س قيمة ال�سينما باعتبارها فناً م�ؤثراً ،متاماً الفني .ويذهب بع�ض النقاد الذين انتقدوا «را�شومون»
كما �ستكون عليه احلال يف � أواخر اخلم�سينيات ب�شدة �إىل � أنه هنا بال�ضبط يف هذه امل�شاهد املتعلقة
بالن�سبة ألفالم برجمان ،ف�إن «را�شومون» قد َّ
فجر ببوابة را�شومون ميكن طرح و�ضعية الفيلم كعمل من
قدرا ً هائالً من النقا�ش والتعقيب حول ما نظر �إليه على � أعمال ال�سينما احلداثية مو�ضع الت�سا ؤ�ل.
� أنه رموزه ا أل�سا�سية � ،أعنى بوابة را�شومون العتيدة، هذه النقطة ا ألخرية املتعلقة بالت�سا ؤ�ل عن و�ضعية
املطر ،الغابة ،الوليد الذي يتم �إنقاذه وتداخالت النور «را�شومون» كعمل من � أعمال ال�سينما احلداثية تظل،
والظل على امتداد اندياح ال�صور الهادرة التي يت�شكل يف اعتقادي ،مو�ضع نقا�ش ،فجزء من ثراء هذا الفيلم
منها الفيلم. هو قدرته على �إثارة هذه النوعية من املناق�شات علي
يف اعتقادي � أن هذه الرموز نف�سها ،وخا�صة ما يتعلق وجه التحديد.
باجلانب الب�رصي منها ،تعد �شديدة ا ألهمية ،يف هذا وقد كان املخرج الياباين الكبري نف�سه �شديد االهتمام
املنعطف الذي مير به العامل اليوم ،والذي يحتدم فيه بال�صورة يف م�شاهد بوابة را�شومون على وجه
ال�رصاع بني تيارات فكرية ت�شدد على مفاهيم نهاية التحديد ،فقد كان حري�صاً على � أن تربز الكامريا
التاريخ و�رصاع احل�ضارات ،والعنف املطلق ك�أداة الطابع ال�رصحي والعمالق للبوابة ،وذهب �إىل حد
للحركة ال�سيا�سية و�إعادة ت�شكيل م�صائر الدول و� أقدار ت�صور �إمكانية توظيف ت�صوير ال�شم�س لتحقيق هذا
ال�شعوب ،وبني تيارات ت�ؤكد على حتالف احل�ضارات
الغر�ض .وهو يقول يف كتابه «ما ي�شبه املذكرات» �إن
والطابع ا إلن�ساين وا إلت�صايل للعامل اليوم قبل الغد،
ذلك كان مثار قلق كبري بالن�سبة له ،حيث � أنه �سبق له
وت�شدد على ا ألهمية الق�صوى للقاء الب�رص والب�صرية
اتخاذ قرار باعتماد تداخل النور والظالل يف الغابة
وال�ضمري ا إلن�ساين ،وتدعو �إىل تف�سري �إن�ساين رحب
كنغمة ب�رصية رئي�سية يف الفيلم ب�أ�رسه ،ومن ناحية
للوجود ب�أ�رسه.
� أخرى ففي تلك ا أليام كان توجيه الكامريا �إىل ال�شم�س
مندرجاً يف املحرمات الفنية ،ولكن هذا بال�ضبط ما
مت حتديه.
� أياً كانت ا إل�شادات واالنتقادات التي توجه �إىل
«را�شومون» ،ف�إنه يظل �صحيحاً � أن جانباً لي�س
بالي�سري من هذه وتلك ي�ستمد من ال�صورة علي
نحو ما قدمها لنا كورو�ساوا يف هذا الفيلم ،وعلى
وجه الدقة من عنفوانها ،الذي ر� أينا � أن البع�ض ال
يرتدد يف و�صفه بالعدوانية ،ومن طبيعة العالقة
بني ال�صورة وال�صوت.
� أخرياً ،بقيت نقطة مهمة يتعني الت�شديد عليها هنا،
فنحن نعلم � أن ا ألهمية الفنية والثقافية التي يتمتع
بها «را�شومون» تتجاوز بكثري و�ضعيته كفيلم ،ألنه
� أ�صبح جت�سيدا ً للمفهوم الثقايف العام املتعلق بن�سبية
احلقيقية .ومن امل�ؤكد � أن جانباً لي�س بالهني من
169 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
s
s
s
�سيناريو فيلم
(املغام ـ ـ ــرة)
ترجمة :حممــود عــلي أ
ت�ليف و�إخراج :مايكل أ�جنلو أ�نطونيوين
كاتب وناقد �سينمائي من م�رص
فيلم «املغامرة» هو � أول فيلم روائي طويل للمخرج «مايكل � أجنلو � أنطونيوين».
قدم بعده � أفالم مثل الليل ـ 1961ـ واخل�سوف ( )62وال�صحراء احلمراء ()63
وانفجار ( )63وغريها من عالمات ال�سينما ا إليطالية والعاملية .ومع ذلك يعترب
كثري من النقاد هي � أهم � أفالمه و� أكرثها تعبريا عن هواج�سه وع�رصه .وكان عمال ً
كبريا ً ف�إن ظاهرة غري باطنه ...مليئ بالدالالت النف�سية واالجتماعية لأبطاله...
ولع�رصه .ذلك � أن ق�صته تبدو كرواية بولي�سية.
[ متثيل:
-جربييل فرزيني � . . . .ساندرو -مونيكا فيتي . . . .كالوديا
-دومينيك بالن�شا . . . .جوليا -ليا ما �ساري � . . . .آنا
-جيم�س �أدمز . . . .كواردو -رينزو ريكي . . . .والد �آنا
� -أيزمريالدار ر�سكويل . . . .باتري�سيا -ليليو لوتازي . . . .رميوندو
-دورثي دي بوليولو . . . .جلوريا بيكنز -جيوفاين برتوت�شي . . . .جوفريدو
املغامـــــرة مقدمـــة
انطونيوين جمموعة من ا أل�صدقاء يف رحلة ترفيهية الحدى اجلزر
أ
-1لقطة طويلة ،يوم �صيفي م�شم�س �نا فتاة يف اخلام�سة ا إليطالية دف ًعا لل�س�أم وتزجية الفراغ ،تكت�شف اختفاء
والع�رشون ت�سري يف �ساحة �أمام فيال فخمة حتى تتوقف �إحداهن هي «� آنا» .وت�صبح مهمة املجموعة هي البحث
عند مدخل ال�ساحة .تلتفت هي �إليها ثم ت�سمع �صوت عنها ..خا�صة بطلي الفيلم� ...صديقتها كالوديا ،وع�شيقها
والدها فتتجه نحوه. �ساندرو ومن ثم ي�صبح ال�س�ؤال � ...أين ذهبت؟ وماذا حدث
[ا ألب (خارج ال�صورة) :لن مير وقت طويل حتى تخلو لها؟ هل هي حية � أم ميتة؟ لكن املخرج ال يجيب على
هذه الفيلال من �سكانها بعد �أن كانت يوماً ما. مثل هذه ا أل�سئلة ول�سبب ب�سيط هو � أنه ال يقدم فيلما
-2لقطة متو�سط – الوالد يقف متحدثاً مع �أحد العاملني بولي�سيا ...بل حتليال نف�سيا ألغوار بطليه...لع�رصه .بل
ومن خلفهما حقول و�أر�ض مفرو�شة باحل�صى – ومن وي�صبح عن�رص الت�شويق هنا لي�س يف البداية مع اختفاء
بعيد منزل قدمي بالقرب منه مبنى جديد. � آنا بل ويف النهاية � أكرث حيث يكت�شف � أ�شياء ال عالقة
العامل� :رسعان ما ي�شغله �سكان. لها بالفتاة املختفية ،بل بطبيعة العالقات ا إلن�سانية
ا ألب( :م�شريا ً باجلريدة) :ال �شك يف هذا. يف ع�رصنا من فقدان التوا�صل بني الب�رش .وهي مغامرة
العامل :نعم� ..أنت حمق ..وداعاً يا �سيدي [يغادر لي�ست للبطلة كالوديا ب�صفة خا�صة ..لكن للطبقة
املكان] الربجوازية التي ت� ؤلف غالبية فريق الرحلة� ...إال من
ا ألب :مع ال�سالمة يا عزيزي (يلتفت نحو � آنا) كالوديا يف م�شهد ق�رص ا ألمرية يطلب � أحدهم � أن يتحول
� آنا( :خارج ال�صورة) ها �أنت ..كنت �أبحث عنك! الق�رص �إىل م�ست�شفى للعالج النف�سي فرتد عليه يف تهكم..
[�أثناء ذلك يتحدث االثنان وظهر كل منهما للآخر.. � أنه كذلك فعال!
نادرا ما تلتقي عيناهما). � أننا ل�سنا ب�إزاء �رسد تقليدي ذي بداية وو�سط ونهاية،
ا ألب( :ت�صورت �إنك غادرت املكان)
بل مقاطع من م�شاهد احلياة .حياة باردة ..كل �شيء
� آنا :لي�س ا آلن يا والدي
فيها حتول �إىل متع ح�سية تخلو من جوهر احلياة احلق.
ا ألب� :أما زالوا يرتدون قبعات التجارة التي يكتب عليها
اجلن�س هو حمورها ـ م�شهد ال�صيديل وزوجته ـ فتاة
ا�سم اليخت؟
أ أ الليل ـ عالقة «� آنا» مع �ساندرو جوليا والر�سام ـ موقف
� آنا (تغطية) كال يا �بي ..مل يعد المر كذلك.
ا ألب :ومتى �ستغادرين؟ � أهل القرية من كالوديا.
� آنا :خالل �أربعة وخم�سة �أيام هذا اخلواء يعرب عنه انطونيوين بلوحة � أخرى عرب
ا ألب :ح�سناً ..معنى هذا �أنني �س�أق�ضي عطالت ا أل�سبوع املكان ..مدن مهجورة ..جبال و�صخور و� أمواج و�سماء
وحيداً ..ويجب التعود على هذا من ا آلن. تعرب عن نفو�س ما حولها من خالل كامريا جتيد ر�سم
� آنا :تتعود على ماذا؟ الظالل وما بينها من تباينات .و�إذا كانت �شخ�صية
ا ألب :على الراحة ..لي�س فقط كدبلوما�سي يعتزل اخلدمة. �ساندرو قد حتددت منذ البداية ثم من خالل حديثه عن
بل ك�أب �أي�ضاً! نف�سه وطموحاته الدفينة ،ف�إن كالوديا � أكرث تعقي ًدا منه.
� آنا (معرت�ضة :مل تقل هذا؟ وو�ضوحا...
ً انها لغز الفيلم احلقيقي .فهي � أكرثهم �صدقًا
ا ألب :ألن هذا حقيقي ،فبعد ثالث ع�رشة �سنة من كتمان �إال � أن �سلوكها يحمل من التناق�ضات ما تعجز عن حلها
احلقيقة فال �أقل من �أن �أقولها إلبنتي. عرب هذه املغامرة .فما هي عالقتها احلقيقة بـ«� آنا»؟
� آنا :وهل هناك حقائق �أخرى تريد �أن تقولها؟ هل هي عالقة طبيعية ...خا�صة و� أنها ترى فيها نف�سها
-3لقطة متو�سطة على ا ألب. عندما ت�ضع الباروكة ال�سوداء! وما �رس اجنذابها الدفني
ا ألب� :أنت تعرفني! لـ�ساندرو الذي تفجر مع اختفاء �صديقتها؟ وهل �ستوا�صل
-4لقطة قريبة متو�سطة – � آنا يف مواجهته. حياتها مع «�ساندرو» رغم اكت�شافها خيانته؟
� آنا :لذا �أريدك �أن ت�صفح عني (تتوقف حلظة ثم تتجه ا إلجابة الكاملة ال تطرحها نهاية الفيلم .لذا يظل ال�س� ؤال
نحوه) الوداع ..يا �أبي. الكبري معلّقاً ويف ملعب .امل�شاهد من هنا يكت�سب الفيلم
-5نقطة متو�سطة� :سائق مير من خلف ا ألب يحمل � أي�ضا � أهميته.
172 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
يبد� آن يف العودة لل�سيارة .وفج�أة �صوت رجل ينادي حقائب وكالوديا ت�سري خلفه .وهي �شقراء من نف�س عمر
«� آنا» ينظران نحو املبنى. � آنا التي تقرتب من والدها وتطبع قبلة على خده.
-11لقطة طويلة� .ساندو يطل من النافذة ملوحاً وهو ا ألب� :إنه لن يتزوجك �أبدا ً يا ابنتي.
يبت�سم .وهما تنظران نحوه يف خلفية ال�صورة. � آنا :مهما يكن ..و�أنا ال �أريد الزواج منه
�ساندرو� :س�أنزل حاالً. ا ألب (ي�ست�سلمان) :ال فرق( ..يبتعد) الوداع �أثناء �سريه
-12لقطة قريبة متو�سطة � :آنا يعرتيها �إح�سا�س جديد ببطء مبتعدا ً مير على كالوديا التي تبت�سم له وحتييه ثم
ومت�سك بذراع كالوديا وت�رسع نحو املنزل. تتجه نحو «� آنا»
-13لقطة متو�سطة ملدخل مبنى .وعلى مبعدة منه باب كالودويا :هل انتظرت طويالً؟ � آ�سفة ..لكن �( ..أنا ال جتيب
يف�ضي �إىل امليدان .تدخل � آنا ال�صالة وت�رسع بال�صعود فهي متعن النظر يف �أبيها)
�إىل الدرج ،كالوديا يف اخلارج تنتظر. أ
-6لقطة قريبة من خلفهما وقد ابتعد الب .وفج�أة
-14لقطة متو�سطة ل�شقة �ساندرو حوائطها من اجل�ص تذهب «� آنا» �إىل ال�سيارة ومن ورائها كالوديا ويركبان.
مكد�سة بالكتب والت�صميمات – يعرب الغرفة ب�رسعة وهو للمام نحو ال�سائق) :الفارو� ..أ�رسع � آنا( :وهي تتكئ أ
يعيد تركيب ا أل�شياء. فالوقت مت�أخر( .ال�سيارة يف الطريق – مزج)
-15لقطة متو�سطة :ي�ضع فوطة من احلمام � ،آنا ت�رسع -7لقطة متو�سطة من خلف ال�سيارة املك�شوفة وهي متر
بال�صعود �إىل الغرفة وما �أن ت�صل حتى يتعانقان ثم �رسيعاً على مناظر طبيعية ومبان.
يفرتقان وهي تتفح�صه بدقة. أ
-8لقطة طويلة مليدان يبدو خاليا من �على� ..إال من
ت�سري حتى منت�صف الغرفة ثم ت�ستدير وتنظر نحوه �سيارة �سبور بي�ضاء وثالث راهبات يعربن يف وقار.
ثانية ،ثم تتجه نحو من�ضدة ت�ضع عليها حقيبتها وتتجه �سيارة «� آنا» تقرتب من ال�سيارة �أمام حمل �صغري قدمي
ناحية نافذة ال�رشفة� ،ساندرو يتقدم يف �شك �إىل و�سط و�إن يكن مودرن .املر�أتان وال�سائق تنزالن من ال�سيارة
الغرفة بينما تتمعنه «� آنا» ثانية يف حماولة للحكم -9لقطة متو�سط ..كالوديا تتكئ على �سيارة «� آنا»
عليه. وتنظر ألعلى املبنى.
-16لقطة متو�سطة� :ساندرو يواجهها يف �شيء من كالوديا� :س�أنتظر هنا..
ال�شك يف �صمتها ونظراتها. � آنا تبتعد عن ال�سيارة �إىل اجلانب ا آلخر للميدان
أ أ
�ساندرو (يهز كتفيه يف ال مباالة) هل حتبني �ن �قف كالوديا� :إىل �أين �ستذهبني؟
�أمامك بروفيل»؟ � آنا( :بك� آبة)� :إىل البار� ..أنا عط�شانة.
(ي�ضع حقيبتة �أر�ضاً ويقف يف و�ضع �ساخر). كالوديا (يف ده�شة) :وهناك رجل مل تريه منذ �شهر ..؟
� آنا تتوقف .تنظر خلفها �إىل املحل يف غ�ضب ثم تبتعد.
� آنا :ومن �س�أ�سعد بلقائه اليوم
كالوديا :لكننا يف عجلة( .. :تتوقف ثم ت�ست�سلم لنزواتها)..
�أوه ..ح�سناً ..وداعاً( .تعود �إىل ال�سيارة تتناول حقيبة
يدها).
� آنا (خارج ال�صورة) :الفراق �صعب
كالوديا :تلتف نحوها فج�أة.
-10لقطة متو�سطة – � آنا ت�سري بحزن ممزوج بالعاطفة
م�ستغرقة يف التفكري.
� آنا :هذا �صحيح � ..أنت تعلمني (تتكئ على ال�سيارة) �أن
من ال�صعب الرتكيز عندما يكون �شخ�ص هنا (ت�شري/
هو بعيد عنه� .إال �أنه �شيء جميل .ألنك على ا ألقل �سوف
تفكرين فيما تريدين ..هل فهمت ما �أريد .لكن عندما
يتواجد �شخ�ص ما �أمامك ..وكل �شيء على ما يرام ..
(تقرتب من كالوديا وتلم�س مرفقها ثم بنوع من ال�سخط
والغ�ضب) :هيا تعود ..تعايل..
173 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
على ا إلطالق. -17لقطة قريبة متو�سطة � :آنا تنظر �إليه دون اهتمام).
(كالوديا ت�سري يف اخللفية ومتر على عاملني يتفح�صان -18لقطة متو�سطة :بال مباالة ..يتخلى عن و�ضعه.
لوحة .يتجه �إحدهما للآخر قائالً: �ساندرو� :إيه احلكاية؟ (يتجه نحوها) هل حدث مني
عامل� :أمامه الكثري للنجاح. �شيء؟
«كالوديا» تبت�سم لهذه التعليقات وتتوقف لت�شاهد -19لقطة قريبة متو�سطة � :آنا ت�ستدير حوله ببطء ويف
اللوحة. �صمت ثم تبد� أ يف خلع مالب�سها وهي تنظر خلفها لرتى
-27لقطة طويلة :من خارج النافذة اخللفية ل�شقة رد فعله.
�ساندرو و�ستائرها تتطاير يف الهواء� ..أ�سفل تخرج �ساندرو :لكن �صديقتك تنتظر �أ�سفل.
كالوديا من �صالة الر�سم �إىل �رشفة ونتظر ألعلى من � آنا� :سوف تنتظر (تتجه ناحية غرفة النوم وهو يتبعها).
اجتاه النافذة. -20لقطة متو�سطة � :آنا يف غرفة النوم ،ومن خالل
-28لقطة متو�سطة :كالوديا تتكئ على �سياج ال�رشفة ق�ضبان هيكل ال�رسير نراها تخلع ثيابها� .ساندرو
يف حماولة لر ؤ�ية ما يجرى يف النافذة العلوية. يتوجه نحوها وهي بالقمي�ص الداخلي حتى ي�أخذها
-29لقطة قريبة �« :آنا ترفع ر�أ�سها من فوق املخدع ح�ضانهاوي َق ِبلها.
ُ بني � أ
تتطلع نحو �ساندرو والذي يقبلها بحما�س دون �أن -21لقطة طويلة� :أثناء عناقهما نرى كالوديا من
ي�ستثريها عليها حتى ا آلن� .إنه غري مدرك مبا ت�شعر به. خالل نافذة الغرفة تتم�شى يف ال�ساحة� .ساندرو يتجه
-30لقطة طويلة :كالوديا – تعود �إىل املر�سم. ناحية النافذة.
-31ت�سري بداخل الهوينا م�ستغرقة يف التفكري .تتطلع -22لقطة متو�سطة �« ..آنا» يف انتظار عودته ترقد على
ألعلى يف حماولة ملعرفة �سبب ت�أخريهما ..ثم تبت�سم. ال�رسير.
-32لقطة قريبة� :ساندرو و� آنا» ..تنظر �إليه بغيظ مكتوم أ
-23لقطة طويلة :يف ال�ساحة( .كالوديا تنظر لعلى
يعرب عن ا ألمل واحلنني معاً. يف اجتاه نافذة غرفة النوم وتلحظ «�ساندرو» وهو يغلق
-33لقطة طويلة �أ�سفل مدخل مبنى �ساندرو. ال�ستارة.
كالوديا تعود �إىل ال�ساحة ثانية تتقدم نحو الباب -24لقطة متو�سطة� :ساندرو يتجه ناحية ال�رسير.
ا ألمامي وتلقي نظرة على الداخل ثم تغلق الباب (مزج) «كالوديا» ميكن ر ؤ�يتها من خالل فتحة �صغرية ،من
-34لقطة طويلة � ...سيارة مك�شوفة حول منحنى يف �ستارة النافذة.
الطريق وت�شق طريقها �إىل بعيد. -25لقطة قريبة متو�سطة� :ساندرو يرمتي فوق «� آنا»
-35لقطة قريبة متو�سطة �إىل املقعد ا ألمامي لل�سيارة ويقبلها بحنان ،يتوقف ويرفع ر�أ�سه ويربت على
املك�شوفة «� آنا» تتو�سط كالوديا و�ساندرو الذي يقود... �شعرها.
وقد ا�ستغرقت متاما يف �أفكارها .اختفاء �ساندرو :كيف حالك؟
-36اختفاء �إىل لقطة طويلة �إىل مياه �ساكنة و�سط � آنا (ب�ضيق) :قطيعة!
جزيرة �أثيوليان» قرب �ساحل �صقلية .هرمية ال�شكل �ساندرو :ملاذا؟
تبدو «�سلويت» من بعيد ،يف اخللفية قارب جتاري يتجه أ
� آنا (ب�سخط متزايد)� :وه ..ملاذا؟ ملاذا؟ ملاذا؟
نحوها. تلقي بنف�سها على �صدره يف �ضيق من عدم �إدراكه
-37لقطة متو�سطة :بحار يف م�ؤخرة يخت يع�رص للموقف وعجزها عن التعبري ب�رصاحة عما تريد.
�أ�سفنجة. يحت�ضنها للحظة ثم ي�ضحك ويبت�سم ويتعانقان يف.
-38لقطة متو�سطة :كالوديا جتل�س على �أحد جوانب -26لقطة متو�سطة :كالوديا تدخل مو�سمة فتى .تتفرج
اليخت وقد عقدت ركبتيها يف �صدرها .ت�ستدير وتنظر بال مباالة وت�سري خلف حاجز عليه ر�سومات ويف
�إىل البحر. مواجهتها �أمريكيان يف نقا�ض حول �إحدى الر�سوم.
-39لقطة طويلة ملياه البحر ال�ساكنة – ال�سمك يتقافذ الرجل (با إلجنليزية) ما ر�أيك �أنت؟
يف املاء. املر�أة :لوحة داعرة جداً ..وهويحة .وال �أعتقد �أن من
-40لقطة متو�سطة« :رميوندو نائماً حتت �أ�شعة ال�شم�س ير�سمها يفهم يف ا أللوان.
فوق اليخت ،بجواره كلب يدفعه بعيداً. رجل (بحما�س)� :أوافقك الر�أي.
رميوندو :ابتعد! الكامريا حتر�سها م�ساحة كبرية جدا ً ثم ال �شيء ..ال �شيء
174 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
-47لقطة قريبة � :آنا تنظر نحو �ساندرو الراقد على �إنه ي�شعر بالقلق« .كورارد» �أكرب �سناً� ..أ�صلع ذو �شارب
ظهره وتقبله وقد �أراحت جندها فوق جبهته حلظة.. دقيق ي�صعد ال�سالمل خلفه ويقف بجواره يف امل�ؤخرة
ينف�صالن� .ساندرو ينظر نحو التواء حيث منحدر �صخري متطلعاً ناحية البحر� .أما «جوليا» فهي يف الثالثينيات
يف اخللفية تبدو حارة الطبع ..ت�صعد بجواره.
�ساندرو :هل �سنذهب لل�سباحة؟ -41لقطة قريبة متو�سطة لـ «كورادو» و«جوليا».
ينه�ض ويتناول قمي�صه متجهاً حيث يقف ا آلخرون يف جوليا (وهي تتطلع نحو البحر)� :إن البحر يف نعومة
م�ؤخرة املركب. الزيت.
كالوديا :لي�س هنا� ..إنه مكان خميف. كوارادو (وظهره نحوها)� :إنني �أكره عقد مثل هذه
-48لقطة طويلة من اليخت املتحرك. املقارنات.
جوليا (خارج ال�صورة) :كل هذه اجلزر.. حلظة �صمت �« ..آنا» تخرج من الكابينة خلفهم.
-49لقطة قريبة متو�سطة ..كورادو ،جوليا و«� آنا» يف � آنا� :صباح اخلري
امل�ؤخرة ينظرون نحو املاء. كوارادو � :صباح اخلري
جوليا :لقد تعر�ض املكان لرباكني يوماً ما.. «� آنا :تنظر �إىل كالوديا!
كورادو :البد �أن هناك معلومة علمية ال تعرفينها «� آنا» كالوديا!
جغرافياً. كالوديا( :يف اخللفية وهي ت�شري �إىلالبحر) :هل �شاهدت
جوليا تنظر نحو ثم تنفجر يف �ضحكة ع�صبية). هذا املنظر؟
كالوديا (خارج ال�صورة) :ما ا�سمه؟ هل تعرفني؟ (تنه�ض وت�سري على حافة �سطح القارب يف الطريق
كورادو :البد �أنه با�سيلوزو» �إليها وهي على و�شك التزحلق)� ..أوه( ..ت�ستعيد توازنها
-50لقطة قريبة – كالوديا تقف يف املقدمة تتطلع ويتعانقان).
نحو اجلزيرة. -42لقطة متو�سطة لكليهما ..ر�أ�س رميوندو يف مقدمة
كالوديا :با�سيلوزو ..يبدو �أنه ا�سم �سمكة. اليخت.
-51نف�س اللقطة 49 كالوديا :هل منت جيداً؟
كواردو و(م�شرياً) :فعالً ..هذا املكان ي�سمى ال�سمك � آنا :ال ب�أ�س ،ذهبت للفرا�ش ليلة �أم�س �أفكر يف �أ�شياء
ا ألبي�ض. كثرية �إال �أن النوم ا�ستغرقني.
-52لقطة قريبة متو�سطة �( :آنا تبدو قلقة). كالوديا :ال �أعرف كيف ينام ا إلن�سان و�سط كل هذا� ..إذ مل
� آنا :يا �إلهي ..يا له من ملل ..عالم ماذا تتناق�شون. يتوقفوا من �أحداث جلية.
رميوندو :مل �أمن جيداً.
�ساندرو (خارج ال�صورة) :مرحباً
(يلتفتون نحوه)
-43لقطة متو�سطة (�ساندرو وهو يقف يف غرفة
القيادة ..تنه�ض كالوديا وتتجه نحوه.
-44لقطة قريبة �« ..آنا» تتطلع �إىل املاء ..ثم تلتفت نحو
�ساندرو.
-45لقطة متو�سطة�« :ساندرو» يخرج من الغرفة وينام
راقدا ً فوق املق�صورة (الكابينة) �« .آنا» تتجه نحوه –
ي�ضع ر�أ�سه على �صدرها ويبد� أ يف قراءة جملة.
� آنا :يجب �أن تعر�ض ج�سمك لل�شم�س.
يتطلع �إليها مبت�سماً ويلقي باملجلة يف الهواء).
-46لقطة طويلة� ..صفحات املجلة تتطاير يف الهواء
على جانب اليخت .الكامريا يف حركة (بان) �إىل امل�ؤخرة
لرنى كالوديا جتل�س هناك .ومع طريان الورق من حولها
تبدي عالمة اعرتا�ض وهي تتابع طريانها بعيداً.
175 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
(باتري�سيا ت�سري يف لقطة قريبة) -53لقطة متو�سطة :تخلع مالب�سها وتتناول غطاء
باتري�سيا هذه اجلزر ت�صيبني باالكتئاب فهي تبدو الر�أ�س وتنه�ض ناحية حافة اليخت� .ساندرا ،كالوديا»
(معزولة تبت�سم مع اقرتاب الكلب نحوها ،حتمله وتنزل يراقبنها.
�أ�سفل الكابينة). �ساندرا � :آنا!!
-63لقطة متو�سطة ...جوليا تعوم على ظهرها ..بعيدا -54لقطة قريبة
عن �ساندرو و(� آنا) ويف اخللفية اجلزيرة ال�صخرية. كورا دو» ويحاول منعها بعد فوات ا ألوان حيث تغط�س
جوليا� :ساندرو� ...إىل �أين (� آنا) ذاهبة؟ يف املاء و�رسعان ما تختفي دومنا �أثر..
�ساندرو :ا�س�أليها. -55لقطة قريبة� :.ساندرو ينظر �إىل املاء يف ده�شة ثم
-64لقطة متو�سطة ...طوف من املطاط يقوده بحار يلقي مبن�شفته جانباً.
لينتقل كورادر �إىل ال�شاطئ. -56لقطة طويلة :يغط�س يف املاء ويعوم يف �إثرها.
البحار :مل �أعمل على �شيء �سوى هذه الزوارق الغافرة.. -57لقطة متو�سطة :رميوندو يدق اجلر�س يف ك�سل.
رغم �أن العمل فيها �أ�صعب. -58لقطة طويلة – كورادو وجوليا وكالوديا يقفون
كورادو� :صحيح ؟ وملاذا؟ يف م�ؤخرة القارب بينما يوا�صل رميوندو دق اجلر�س.
البحار :ألن �أ�صحابها لي�س لهم مواعيد حمددة ..وكمثال رميوند .. :ال�سيدات يح�رضن هنا.
علينا �أن نوا�صل ا إلبحار طوال الليل ...بال وقت للنوم.. جوليا ت�ضحك �ضحكتها يف نرفزة – ينزل �أحدهم �إىل
لكني �أف�ضل هذا عن غريه. املاء �سلماً -الن�سوة يخلعن غطاء ر�أ�س العوم.
احلوار يخت�ض ويتال�شى مع اقرتابهما من �شاطئ كالوديا (�إىل رميوندو) :توقف ..توقف
اجلزيرة. -59لقطة طويلة من فوق جزيرة �صخرية قريبة من
-65لقطة متو�سطة لـ (� آنا) تعوم وحدها. القارب.
(� آنا ت�رصخ) :انقذوين � ...سمك القر�ش � ...سمك القر�ش. -60لقطة متو�سطة :الكامريا تتحرك مع جوليا التي
-66لقطة متو�سطة� ...ساندرو يطفو على املاء يف ك�سل ت�سيح يف اجتاه كالوديا.
ي�ستدير ويتجه �إليها. -61لقطة متو�سطة :على اليخت حيث تخرج من الكابينة
البحار (من بعيد) :ال تتحركي � ...سنيورا ...ال تتحركي .. امر�أة جميلة يف ا ألربعينات وهي ترتدي ثوباً �شفافاً.
�أبقي مكانك � ...أبقي مكانك . باتري�سيا :رميوندو؟
-67لقطة متو�سطة �« :آنا» ت�رضب بيدها يف املاء وهي أ
رميوندو (خارج ال�صورة) :باتري�سيا� ..نا هنا!
ت�صيح :ال تقرتب باتري�سيا :ملاذا توقفنا؟
تبدو غري قادرة على ال�سباحة ،ي�صل �إليها �ساندرو ويلف رميوندو (خارج ال�صورة)� ،أال تريدين العوم؟
ذراعيه حولها. أ
باتري�سيا لقد حلمت حلماً بخ�صو�ص العوم ..اذهب �نت.
�ساندرو �:آنا (يجفر بها بعيداً). رميوند ي�ست�أنف ال�سباحة
-68لقطة متو�سطة فوق اليخت« ،باتري�سيا» ت�شاهد باتري�سيا ::رميوندو� :سيدتي( ..يقبل يدها)
بحارا ً ي�ساعد جوليا وكالوديا على ال�صعود. باتري�سيا� :أحتب ال�صيد حتت املاء؟
-69لطقة طويلة« ..كورادو» على ال�شاطئ. رميوندو (يهز كتفه :بل �أكرهه ..وما حيلتي؟
-70لقطة قريبة ..جوليا ت�صيح: (يتجه �إىل جانب اليخت وينزل بنف�سه يف املاء و�أثناء
جوليا :يوجد �سمك القر�ش هنا (ت�شري بيدها) ال تتحرك. ابتعاده يقول ب�صوت عال :من الذي قال ب�أن ا إلن�سان
-71نف�س اللقطة .69 كان يعي�ش �أ�صالً يف املاء؟
«كواردو» (�صائحاً) :من الذي يتحرك؟ وي�ضع قناعة يف املاء وي�سبح بعيدا ً ثم يغط�س حتت
-72لقطة متو�سطة ..باتري�سيا وكالوديا ،وجوليا، املاء.
يراقنب �أثناء م�ساعدة البحار «� آنا» و�ساندرو» يف ال�صعود -62لقطة متو�سطة :باتري�سيا تقف يف م�ؤخرة القارب
�إىل ال�سطح. تتطلع ناحية البحر .ت�سمع �صوتا من بعيد.
كالوديا (�إىل � آنا) كيف عرفت �أن هناك �سمك قر�ش؟ هل �صوت (خارج ال�صورة) :ناوليني العلم .
�أقرتب منك؟ (تتلفت حواليها).
«� آنا» ب�رسعة يف تهجم ..وكالوديا من ورائها. �صوت (خارج ال�صورة)؛ �سوف �أغر�سه فوق اجلزيرة
176 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
(وكما �أن املو�ضوع قد انتهى) ..ال تهتمي ..فكل �شيء باتري�سيا �إن وجدها و�أ�سنانها فظيعة.
قد انتهى ا آلن. � -73آنا وكالوديا لقطة متو�سطة داخل الكابينة يتبعهما
كالوديا :هكذا تت�رصفني دائماً ..وال �أفهمك ..،ال �أفهم �ساندرو �« .آنا» تتحمل وهي تتجنب نظراتهما.
الهدف من هذا ..ح�سناً ..هل �ستذهب؟ �ساندرو � :آنا ..هل تريدين بع�ض ال�رشاب؟
(كالوديا تغادر املكان و� آنا تنظر �إليها يف غ�ضب. (تخلع غطاء الر�أ�س يقومان بتجفيفها باملن�شفة).
و�سيجارة يف فمها ثم ت�ضع البلوزة ال�سوداء يف �شنطة باتري�سيا تقف عند الباب ت�شاهدها يجري.
كالوديا). � آنا (وقد �ضايقها اهتمامهم الزائد بها)
-76لقطة متو�سطة ..باتري�سيا جتل�س يف الكابينة �أمام -ال ..ال �شيء ..لقد انتهى كل �شيء ا آلن� ..أريد فقط
مائدة �صغرية تت�سلى به با أللعاب املتقاطعة. ا�ستبدال مالب�سي ألنني �أ�شعر بالربد ..هذا كل ما هناك.
-77لقطة متو�سطة من �أ�سفل ..باتري�سيا يف مقدمة � -ساندرو :هذا �صحيح
ال�صورة بينما ت�ستند كالوديا» على باب الكابينة. ً ال فع ال�صيف � -آنا لقد انتهى زمن
كالوديا :هل �ستذهبني �إىل ال�شاطئ؟ باتري�سيا (خارج ال�صورة)؛ لكن �أين ذهبت �سمكة القر�ش..
باتري�سيا :وهل ت�سمون تلك ال�صخور �شاطئا؟ هذا ما يثري ده�شتي؟
(رميوند يظهر عند مدخل الكابينة). ويغلق الباب ،كالوديا تخلع ُ الكابينة �ساندرو يرتك
باتري�سيا (تتطلع نحوه) :هل مازلت ت�سبح؟ �أال تعلم �أن قبعة اال�ستحمام ومت�شط �شعرها � :آنا حتكم �إغالق الباب
حولنا �سمك القر�ش؟ وتتناول ثوباً من خزانتها .وجتل�س فوق �رسير وقد
(رميوندو يدخل مارا ً بكالوديا يف ده�شة). ا�ستعادت هدوءها فج�أة وهي تبت�سم لكالوديا.
رميوندو� :سمك القر�ش؟ (يجل�س حول املن�ضدة مبالب�س -74كالوديا تنظر نحها يف حرية من ابت�سامتها.
الغط�س ويخلع قفازه) تق�صدين ..هال حتاولني �أن تقويل كالوديا� :أيه احلكاية؟
�أنني معر�ض للموت؟ «� آنا» تبت�سم مزحة .كالوديا تخلع حمالة املايوه .بينما
(كالوديا ت�ضحك وهي جال�سة عند الباب بينما جل�س توا�صل � آنا ابت�سامتها ،الكامريا يف حركة �أفقية (بان)
رميوندو على ميني باتري�سيا وهو يحملق فيها بغباء)؟ �إىل «� آنا» فقط ،ثم مت�سك بلوزتني وترفعهما ألعلى وهي
باتري�سيا (متعبة) :ماذا تريد؟ � آنا.؟ يف هذه ال�ساعة! توا�صل ال�ضحك.
(توا�صل لعبة ا أللغاز دون �أن تنظر �إليه). � آنا� :أيهما ارتدى؟ هذا؟ �أم ذاك؟ (تعر�ضهما على
كالوديا :وداعاً (تنه�ض) كالوديا).
باتري�سيا :كال ..ال تن�رصيف� ..إنها ق�صة رائعة. كالوديا (ت�شري على ا أل�سود) :هذا جميل
� آنا» ملاذا ال جتربيه عليك؟
كالوديا تلب�سه ثم تتجه ناحية احلمام لرتى �صورتها
يف املر�أة ثم تعاود النظر نحو � آنا» التي تقرتب من باب
غرفة احلمام.
� آنا� :إنه �أجمل عليك مني ..احتفظي به.
كالوديا (تبت�سم) :ال ميكن.
-75لقطة قريبة وكالوديا تبت�سم ثانية .ت�ستدير وتخلع
مالب�س ال�سباحة وترتدي مالب�سها ،كالوديا تقف
بجوارها وترتدي مالب�سها هي ا ألخرى ..وظهريهما
للكامريا.
� آنا :هل تعلمني �أن ق�صة �سمك القر�ش مل تكن �سوى
مزحة.
كالوديا (تلتفت نحوها بده�شة) :نكتة؟
� آنا :نعم
كالوديا :لكن ملاذا.
� آنا (يف �ضيق) :هكذا كان ا ألمر ..لي�س �إال ..
177 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
�ساندرو (يلقي بها جانباً وي�صعد اجلبل وراء «� آنا»). رميوندو ينظر من حتت املن�ضدة على �ساقها فتمد له
-84لقطة متو�سطة ..بحار يح�رض عرب املعرب يحمل �ساقاً.
�سلة. باتري�سيا :ح�سناً ..كهذه؟ هل ر�أيتها؟ هل ا�سرتحت؟
كالوديا (خارج ال�صورة) مده�ش (تتناول حبة فاكهة يومئ بر�أ�سه موافقاً وينه�ض.
من ال�سلة وتناول البحار قبعتها وتعود �إىل اجلزيرة. -78لقطة قريبة متو�سطة ..باتري�سيا ورميوندو يخلع
-85لقطة متو�سطة« ..كورادو» ي�سري مبتعدا ً فوق قمي�صه ويتجه نحوها ببطء .تتنهد يف �سخط بعيدا ً عنه.
ال�صخور. يركع على ركبته بجوارها وي�ضع يده داخل ثوبها وقد
كالوديا (خارج ال�صورة)« :كورادو» � ..أتريد واحدة؟ بدا عليها امللل.
كورادو (ي�شري للفاكهة) �أنها الطريقة الوحيدة لتح�رض باتري�سيا� :أنت يائ�س حلد ما ..قل يل ب�رصاحة.
معنا باتري�سيا. رميوندو (يهز ر�أ�سه) :كال ..يف احلقيقة
كالوديا تدخل �إطار ال�صورة وتقدم له الفاكهة. باتري�سيا (تتجه نحو كالوديا) :ما ر�أيك يف رميوندو.
كالوديا� :إنني معجبة بك. كالوديا (خارج ال�صورة)؛ فا�سد �إىل حد ما.
كورادو :و�أكرث من �سمك القر�ش؟ باتري�سيا( :ب�سخرية)؛ ماذا؟ كيف تقولني هذا عنه؟ كال..
كالوديا :كال ..فال وجه للمقارنة بينكما. �إنه طفل.
-86نقطة متو�سطة جلوليا ترقد على املالءة وهي رميوندو :ال تتمادي يف هذا ..باتري�سيا� ..أنني �أف�ضل �أن
تتطلع ألعلى وهي ت�سمع كورادو. �أكون فا�سداً� ..إال �إن كنت حتبني ا ألطفال.
كورادو (خارج ال�صورة) :ملاذا ال ت�أتني معي للفرجة؟ باتري�سيا� :أنت تعلم �أنني ال �أحب �أحدا ً املهم هذا ويتجه
كالوديا (خارج ال�صورة) :وماذا هناك ألراه؟ رميوندو نحو كالوديا م�شرياً�إىل باتري�سيا� ،إن كانت
(جوليا تنه�ض وتنظر نحوهما بحب ا�ستطالع. هناك امر�أة قادرة على الف�سق والفجور واخليانة فهي..
-87لقطة متو�سطة ل�ساندرو وهو يت�سلق �سل�سلة �صخور �إال �أنها �صادقة و�أمينة ..ب�سبب الك�سل والق�صور الذاتي.
والكامريا تتابعه يف لقطة (بان) («كالوديا تبت�سم �أثناء اندفاعه يف الغ�ضب).
أ
�ساندرو يداعب �شعرها لكنها تبعده ب�س�م. -79لقطة قريبة متو�سطة ..باتري�سيا ت�ضحك وتلتفت
�ساندرو (يجل�س بجانبها) :لكن مل هذا احلديث دائماً.. نحو كالوديا.
حديث ..حديث؟ باتري�سيا� :إنه الوحيد الذي ي�سليني ..بجانب كلبي!.
-88لقطة قريبة متو�سطة وهي تبتعد عنه. -80لقطة قريبة ..كالوديا تنه�ض وتغادر املكان.
�ساندرا� :صدقيني ..الكالم لن يجدي �شيئاً ..بل يعقد كالوديا :هل �سنذهب لل�شاطئ؟
ا ألمور� ..إنني �أحبك� ..أال يكفي هذا؟ تتمعنه بنظراتها وهو -81لقطة متو�سطة� :ساندرو و� آنا» فوق �شاطئ �صخري
يتحدث لكنها تبتعد عنه كلما اقرتب منها. من اجلزيرة بينما يقف كواردو �أمامهما.
� آنا :كال ..لي�س هذا بكاف (تتوقف) �أود �أن �أخلو لنف�سي كواردو :يوجد هنا بع�ض ا آلثار القدمية يجب م�شاهدتها
بع�ض الوقت. (ي�صعد ال�صخور للقاء جوليا) هل تذكرين؟
أ آ
�ساندرو (مم�سكاً بيدها) :لكنك قلت الن �ن �شهرا ً جوليا تفر�ش مالءة على ا ألر�ض.
بدوين.... كواردو :من ا ألف�ضل �أن تنامي ..ف�أي �شيء يجعل قلبك
� آنا (بعاطفة)� :أق�صد �أطول� ..شهرين� ،سنة وثالث �سنوات. يخفق.
(تنه�ض مبتعدة وهو يتابعها يف حرية. -82لقطة متو�سطة «كالوديا» ت�سري فوق معرب من
-89لقطة قريبة � ..آنا ت�ستند على �صخرة وظهرها اليخث �إىل ال�شاطئ.
ل�ساندرو «كورادو وجوليا» يت�سكعان يف خلفية كورادو (خارج ال�صورة) :كل �شيء هنا جميل.
ال�صورة. كالوديا تغم�س يدها يف املاء وهي حتدث نف�سها.
� آنا :نعم� ..أعرف �أن هذا �سخف و�أنني غري �سعيدة باملرة، كالوديا :كان لطيفاً!
�شعوري ب�أنني �س�أفقدك يعذبني (تلتفت نحوه) ومع هذا.. جوليا (خارج ال�صورة) عمن تتحدثني؟
مل �أعد �أ�شعر بك. كالوديا :عن �سمك القر�ش.
كورادو (خارج ال�صورة) :خرائب و�أطالل قدمية جداً. -83لقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو يقف فوق اجلبل
(�ساندو ي�صل �إىل «� آنا» التي تقف على ال�صخور بعيدا ً وبيده �رش�شف.
178 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
-96لقطة طويلة ل�ساندرو يرقد وحده على ال�صخور. عنهم).
-97لقطة متو�سطة� ..أحد البحارة يقرتب من كورادو. � آنا� :ساندرو ..لقد مر �شهور طويل منذ ر�أيتك � آخر مرة.
البحار :علينا �أن نبتعد ا آلن عن هنا. بحيث تعودت غيابك.
كورادو :ملاذا؟ �ساندرو (بخفة)� :إح�سا�س معتاد� ،سوف تتعودين عليه
البحار :البحر هائج هنا. (تبعدا)
-98لقطة متو�سطة ..لكالوديا تقرتب منهما. � آنا( :خارج ال�صورة) :لكنها زادت هذه املرة.
كالوديا :وماذا عن «� آنا». �ساندرو� :إذن� ..سوف ي�ستغرق ا ألمر وقتاً لتعتادي عليه.
كورادو :ال �أعرف. � آنا (تقرتب �أكرث منه) :كال ..حقيقة ..البد �أن نتناق�ش يف
�صوت (من خارج ال�صورة) :يبدو �أنه قارب الكامريا هذا املو�ضوع� ..أم �أنك مازلت على قناعة ب�أننا مل يفهم
تتابع كالوديا وهي تتقدم ا آلخرين .تالحظ �أمامها كل منا ا آلخر باملرة.
«�ساندرو» وقد ا�ستلقى فوق ال�صخور. �ساندرو� :سوف يكون لدينا الوقت الكايف للحديث فيما
كالوديا (تنادي) �ساندرو� ..أين � آنا؟ �ساندرو (ينه�ض بعد� ..سوف نتزوج� ..إذن �أمامنا وقت لهذا احلديث.
ويتلفت حواليه) :كانت هنا .كالوديا جتري نحو (� آنا متعبة تتحول عنه وجتل�س على �صخرة)
ا آلخرين)� :ألي�ست على ظهر اليخت. � آنا :وماذا تعني بزواجنا؟ ال �شيء� ..إننا حتى ا آلن نعي�ش
البحار (خارج ال�صورة) :ال �أعرف يا �سيدتي. معاً كما لو كنا زوجني� ،ألي�س كذلك؟ �إن جوليا وكورادو
�ساندرو مي�شي مبحاذاة املاء – كالوديا تنظر نحو يبدوان كزوجني.
اليخت. �ساندرو يقرتب منها ويداعب �شعورها ثانية.
-99لقطة متو�سطة ..باتري�سيا ورميوندو داخل الكابينة �ساندرو :حتى �أم�س ..يف منزيل؟ هل كان هذا �شعورك
م�شغوالت بالكلمات املتقاطعة ..والكلب على فخذ حينئذ؟
باتري�سيا. -90لقطة قريبة �« ..آنا» تتحول عنه غا�ضبة .وتتفح�صه
كالوديا (من خارج ال�صورة بوهن) :با تري�سيا ..هل يف �صمت.
«� آنا» هنا؟ � آنا (بنعومة)� :إنك دائماً تقلل من كل �شيء االثنان يف
رميوندو يذهب �إىل ال�سطح باحثاً ..بينما جتل�س باتري�سيا حلظة �صمت� .ساندرو يت�سلل مبتعدا ً يف �شبه ابت�سامة
م�ستغرقة يف حل الكلمات املتقاطعة. ويلقي بح�صاة يف املاء.
رميوندو (من خارج منادياً) �:آنا � ..آنا «� آنا» ت�ضع ذقنها على �صخرة وظهرها ل�ساندرو .يبدو
-100لقطة متو�سطة� ..ساندرو ي�سري يف املقدمة باحثاً عليها الغ�صب ،تلتفت يف مواجهته �إال �أنه يتمدد �ساندا
ظهره على �صخرة مغم�ضاً عينيه (مزج)
-91لقطة طويلة ..جانب من منحدر �صخري ينتهي
بالبحر ،من بعيد يبدو قارب يقرتب من اجلزيرة.
-92لقطة قريبة متو�سطة ..جوليا» نائمة فوق ال�صخور
– ت�ستيقظ وتتطلع �إىل ال�سماء بينما مير كورادو.
جوليا :يبدو �أن اجلو �سيتغري.
كورادو (يلتفت نحوها) :جوليا � ..أرجوك ..ال تت�رصيف
كمدر�سة ..ألنني �س�أعرف هذا بنف�سي( .متجهة بر�أ�سها
بعيداً).
-93لقطة طويلة من فوق �سل�سلة ال�صخور وتطل على
البحر كالوديا ت�سري فوقها وهي حتمل حذاءها تغم�س
قدمها يف املاء.
-94لقطة طويلة ..تداعب املاء بتكامل موا�صلة
�صريها.
-95لقطة قريبة متو�سطة ..كورادو وجوليا كما يف
اللقطة .92كورادو ال يجد ما يقوله ويوا�صل �سريه.
179 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
-113لقطة قريبة متو�سطة ..جوليا تتوقف وتنظر بني ال�صخور ،يتحرك يف لقطة قريبة من قلق وحرية.
نحوه يف خيبة �أمل وتوا�صل ال�سري. رميوندو (من خارج ب�صوت واهن) لي�ست هنا �ساندرو
-114لقطة قريبة ،كالوديا تهز ر�أ�سها ب�أ�سى ثم جتل�س (مبرارة)� :أهكذا تت�رصف ت�رصفات تخرجك عن طورك.
على ال�صخور ،ت�صفف �شعرها بيدها من الهواء وتعبث -101لقطة طويلة ..كالوديا تراقب �ساندرو وهو ي�صعد
يف �رشود بنبتة �صغرية تنمو بني ال�صخور� ..أخريا ً تنه�ض ال�صخور �إىل �أر�ض عالية ،ت�ستدير وتنظر نحو البحر ثم
ثانية. ت�سري خلفه ومن ورائها كورادو وجوليا.
� -115ساندرو ي�سري يف لقطة متو�سطة ،ي�سمع �صوت -102لقطة طويلة ..ه�ضبة �صخرية �شا�سعة متثل �أعلى
نفري قارب يف اخللفية ،ي�ستدير ناحية ال�صوت ..ثم جزء من جزيرة «لي�سكا بيانكو»� .ساندرو ي�شق طريقه
يتحرك نحو كوخ مبني يف ال�صخر. ويقف �صائحاً و�سط الطريق.
-116لقطة متو�سطة� ..ساندرو يحاول فتح الباب دون �ساندرو � :آنا( ..يتقدم)
جدوى .يرتاجع للخلف يائ�ساً. -103لقطة طويلة من �أعلى ل�صدغ عميق بني ال�صخور،
-117لقطة متو�سطة ..يغادر الكوخ وي�صعد ال�صخور بحر هائج ي�رضب ال�صخور بعنف� ،ساندرو يلقي نظرة
«كالوديا» و«كورادو» يقرتبان من الكوخ من اجلانب على ال�صدغ ثم يبتعد ،الكامريا يف حركة (ثلث) ألعلى
ا آلخر. نظر عام على اجلزيرة .كالوديا تبحث عن ُبعد والبحر
كالوديا� :ساندرو� ..أمل تعرث على �شيء؟ من خلفها.
-118نقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو ي�ستدير ويهز -104لقطة قريبة متو�سطة وكالوديا بعيدا ً عن الكامريا
ر�أ�سه يف ي�أ�س ومي�شي .تبدو جزر �أخرى يف اخللفية تربط حزام ف�ستانها ..ومن ورائها كورادو وجوليا..
(مزج) ومو�سيقى يف اخللفية.
أ
-119لقطة طويلة من �على كالوديا وهي ت�سري فوق أ
جوليا :ومع هذا فهي جزيرة رائعة� ..لي�ست كذلك؟ (وهم
ال�صخور قرب البحر ومياهه ت�صطخب �أ�سفل. يوا�صلون ال�سري).
-120لقطة طويلة – الكامريا (بان) عرب ال�صخور ثم -105لقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو يتطلع �إىل البحر
تهبط �أ�سفل (ثلث) �إىل ال�صدغ املظلم داخل اله�ضبة. ثم ي�ستدير ومي�سح بعينيه �إىل اجلزيرة ..ثم البحر من
كالوديا (تنادي خارج ال�صورة) � :آنا .. ناحية نهاية اله�ضبة ..ومنها �إىل اله�ضبة ثانية.
-121نقطة طويلة ..ت�ست�سلم وت�صعد ال�صخور نحو �أر�ض -106لقطة قريبة� ..ساندرو ينظر �أ�سفل � ..إىل البحر.
اله�ضبة. -107لقطة طويلة ..عن ُبعد يبدو «كورادو» و»جوليا»
-122لقطة طويلة للكوخ ،يبدو �شخ�ص «�سلويت» من و»كالوديا» ي�سريون فوق ال�صخور .و�ساندرو يتقدمهم.
بعيد ي�سري يف اجلزيرة. �ساندرو (منادياً) :هل عرثمت عليها؟
-123لقطة قريبة – «كواردو» يتطلع نحو البحر و�شعر كالوديا تهز كتفها بالرف�ض� .ساندرو يوا�صل طريقه.
ر�أ�سه اخلفيف يتطاير يف الهواء. -108لقطة قريبة متو�سطة جمرياً وهي ت�سري يف نقطة
و�س ُحب تتجمع يف -124لقطة طويلة على البحر ُ قريبة.
ال�سماء الكامريا (ثلث) ببطء ألعلى نحو ال�سماء املنذرة «جوليا» (ت�صيح) � :آنا..
بعا�صفة. -109لقطة قريبة متو�سطة – «كالوديا» توا�صل بحثها
-125لقطة قريبة – كورادو يتطلع نحو ال�سماء ثم الكامريا يف حركة (بان) معها ثم تظهر جزيرة عن ُبعد.
أل�سفل نحو العا�صفة. -110لقطة قريبة «كورادو» يدر�س قوقعة كبرية ثم
-126لقطة طويلة لهبوب عا�صفة. يلقي بها ويوا�صل الطريق.
-127لقطة متو�سطة� ..صخرة �ضخمة ت�سقط من فوق -111نقطة متو�سطة جلزء � آخر من اجلزيرة – «جوليا»
اله�ضبة ومتر بـ«كالوديا» التي تتابع �سقوطها يف جتري بال هدف ثم تتوقف تنظر نحو �شخ�ص يبدو عن
املاء. ُبعد.
-128لقطة متو�سطة من �أ�سفل كالوديا جتل�س وتنظر -112نقطة متو�سطة ..الكامريا يف حركة (بان) مع
أل�سفل ..تنه�ض ثم تنادي ثانية «� آنا». «كواردو» �أثناء �سريه ،و»جوليا» تبدو من بعيد تتقدم
-129لقطة طويلة ،عن ُبعد امر�أة تعرب اله�ضبة ثم تهبط نحوه ..لكن ما �أن يراها حتى ي�ستدير وي�سري يف االجتاه
من فوق ال�صخور وتختفي. املعاك�س.
180 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
جوليا (تتجه �إليه) :ملاذا؟ وما يحدث لو �أمطرت..؟ -130نقطة قريبة « ..كالوديا» حتدق عرب اجلزيرة
-138لقطة قريبة متو�سطة «كورادو». وتبد� أ يف اجلري.
كورادو( ،بغ�ضبه امل�ألوف� ،سوف �أ�شرتي مظلة (يلتفت -131لقطة قريبة ..كالوديا جتري عرب اله�ضبة حيث
نحو �ساندرو الذي يتجه نحوه). �شاهدت اختفاء املر�أة.
-139لقطة متو�سطة« :كالوديا» تقف يف جانب، -132نقطة قريبة ..تتوقف وقد تزايدت خيبة �أملها.
«باتري�سيا» تذهب �إليها ..لكنها تبتعد كما لو كانت كالوديا« :جوليا»!
تخ�شى �أن ي�ضطروها للذهاب معهم. -133لقطة قريبة ..جوليا تتطلع �إىل البحر ..ثم تنظر
كالوديا (بحزم) :لن �أغادر املكان (تعطيهم جميعاً �إىل كالوديا وت�صعد ال�صخور للحاق بها.
ظهرها). جوليا :هل ر�أيت؟ هل ر�أيت كيف يعاملني؟
-140لقطة متو�سطة ..كالوديا يف املقدمة ..واجلميع كالوديا :من؟
يف خلفية ال�صورة. جوليا :كورادو ..كل ت�رصفاته اليوم �إهانة يل.
كورادو( :يتقدم نحوها) :كالوديا � ..أدرك �رس بقائك .. كالوديا تنظر �إليها يف �شك ثم تتوجه نحوها فج�أة
ولكن يوجد منا اثنان هنا. قائلة« ..جوليا» يف لهجة اعرتا�ض ،جوليا تتطلع �إليها
�ساندرو :و�أي�ضاً ..وجودك هنا ..ال �أق�صد جرح م�شاعرك.. دون �أن تفهم.
ومن ا ألف�ضل �صحبتهم. -134لقطة متو�سطة من فوق اليخت� ،ساندرو يتفح�ص
-141لقطة متو�سطة ..املجموعة كلها تراقب كالوديا ال�صخور �أثناء �سري املركب على طول ال�شاطئ ..ي�سمع
التي ابتعدت عنهم� ،ساندرو وكورادو يذهبان �إليها بينما �صوت رجل ينادي �»:آنا» ويظهر كورادو على ال�شاطئ.
رميوند مي�سك بيد باتري�سيا ملغادرة املكان (نزح) كورادو ينادي على �ساندرو� :ساندرو� ..ساندرو (ي�شري
-142لقطة متو�سطة ..كالوديا ت�صعد على حافة نحو املاء ،هنا توجد ا آلثار ،وكورادو ي�صعد �إىل �أر�ض
اجلزيرة ..تنظر �إىل البحر. �أعلى ،الكامريا يف حركة (بان) للي�سار �إىل جزيرة �أخرى
-143لقطة متو�سطة�« ..ساندرو» «وكورادو» ي�صالن بعيدة« ،باتري�سيا» والبحار يقفان يحدقان نحوها.
�إىل الكوخ� ،ساندرو يدفع الباب بقوة ليفتح ،كالوديا -135لقطة متو�سطة ..فوق �أر�ض اله�ضبة ..وكالوديا
تلحق بهم. مازالت توا�صل البحث وهي تنادي «� آنا» بينما «جوليا»
-144لقطة متو�سطة داخل الكوخ� ،ساندرو يدخل يتبعه تت�سكع يف اخللفية.
ا آلخران .املكان مظلم وي�شعل عود ثقاب. -136لقطة طويلة ..منظر من فوق �سطح املاء� ،ساندرو
�ساندرو :اللعنة ..لقد ن�سينا �أن نطلب منهم ترك م�صباح.. ي�سري يف املقدمة ثم يقف �صامتاً يزن �شفتيه وي�ستدير
ليواجه اجلماعة ،جوليا ..كورادو ..باتري�سيا ورميوندو..
وقد بدا عليهم القلق وامللل والربد.
�ساندرو :فلنكن عمليني� ..أف�ضل �شيء هو �أن يذهب
بع�ضنا �إىل �أقرب جزيرة ،فالبد من وجود مركز �رشطة
هناك و�إخبارهم بفقد «� آنا» .و�س�أظل هنا ..رمبا قد
يحدث �شيء..
-137لقطة قريبة متو�سطة :كورادو وجوليا وباتري�سيا
التي مازالت حتمل كلبها .ينظرون �إليه.
كورادو :هيا نذهب ..بدال ً من �إ�ضاعة الوقت (يتحركون).
باتري�سيا (�إىل البحار) كم ي�ستغرق للذهاب والعودة
ثانية؟
(البحار)� :ساعتني ..لو وجدنا �أحدا ً من باناريا» ..و�أكرث
لو ا�ضطررنا للذهب �إىل «ليباري» ..وكل هذا يتوقف على
حالة البحر.
رميوندو :نعم ،البحر.
كورادو (خارج ال�صورة)� :سوف �أبقى هنا مع �ساندرو.
181 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
(با إلجنليزية) :هذا �شقيقي� ..صديقي ..وعمي ،وهذه �أمي � آه ..ها هو م�صباح.
(با إليطالية) وجدتي ..يا لها من �أيام جميلة. (ي�شعل امل�صباح ويبد�أون يف البحث داخل الغرفة دون
�ساندرو :لكن من �أين �أتيت؟ لقد فت�شنا كل مكان. العثور على �شيء ذي بال.
العجوز :من باناريا (يتحرك ي�سارا ً بعد �ساندرو) -145لقطة قريبة ..كورادو يخلع قبعته ويتجه نحو
كورادو (يتجه نحوه)� :إذن كنت من ر�أيناه ال�ساعة كالوديا التي اتخذت مكاناً منعزال ً عنهم يف �أحد
الثانية .لقد �شاهدت فاريا مير. ا ألركان ،تتقدم �إىل منت�صف الغرفة.
العجوز (يخرج �أ�شياء من حقيبته) :رمبا كان هناك �أربعة كالوديا (تومئ بر�أ�سها عالمة موافقة)� :إنها مازالت
�أو خم�سة مراكب. حية� ..أنا مت�أكدة من هذا ..وحتى ق�صة �سمك القر�ش التي
كورادو :بعد الظهر؟ حدثت هذا ال�صباح( ...االثنني يتجهان ب�رسعة نحوها).
العجوز :كال ..يف ال�صباح .ملاذا؟ ماذا حدث؟ كالوديا :مل تكن حقيقية.
-154لقطة قريبة متو�سطة� ..ساندرو يتمعن يف �ساندرو (بحدة) :وملاذا مل تقويل هذا من قبل؟
العجوز. كالوديا :لكن ..ال �أعرف
�ساندرو :ال �شيء ..ال �شيء. أ
(تتجه �إليه ،مل يكن يبدو �أن المر ي�ستحق ذكره ..كانت
«كالوديا» تنظر �إىل �ساندرو يف ده�شة. ت�ضحك.
كالوديا :وملاذا ال تخربه (�إىل العجوز لقد فقدنا واحدة كورادو :ح�سناً ..كل ما نريد التو�صل �إليه هو �رس اختالفها
كانت معنا. تلك الق�ضية ..ماذا كانت تعني؟
-155لقطة متو�سطة ..كالودياو�ساندرو والعجوز. -146لقطة متو�سطة ..كالوديا ت�شري وجتل�س كالوديا
العجوز :اختفت؟ هل غرقت؟ �إىل �ساندرو) ..رمبا يجب �أن ن�س�أله.
كالوديا :كال ..اختفت فقط ..وال نعرف كيف حدث هذا. �ساندرو (خارج)� :أنا؟
�ساندرو� :إنه خط�أ ..قولبها ..هكذا تفكرين؟ -147لقطة متو�سطة لـ �ساندرو وكورادو
«كالوديا» (ت�سري حوله) :بدال ً من قلقك عما �أفكر فيه.. كالوديا (خارج ال�صورة) :نعم
كان من ا ألف�ضل �أن حتاول فهم فيما كانت «� آنا» تفكر أ
كورادو :ملاذا هل ت�شاجرمتا؟ � آ�سف ..ال �ريد اتهامك..
فيه. لكن هذا �أمر هام.
-156لقطة قريبة متو�سطة للرجل العجوز وكورادو. �ساندرو :جمرد مناق�شة عادية يف قلق يبتعد عن كورادو
العجوز :هل بحثتم خلف املنزل؟ رمبا تكون قد �سقطت ويجل�س ..ال�شيء الوحيد ،الذي �أتذكره متاماً هو قولها
من فوق ال�صخور. ب�أنها تريد �أن تخلو بنف�سها.
-157لقطة قريبة متو�سطة �ساندرو يقرتب من -148لقطة قريبة متو�سطة ..كالوديا جتل�س وقد عقدت
«كالوديا» ليقول �شيئاً لكنها تبتعد عنه. ذراعيها.
العجوز (خارج ال�صورة) :حدث مثل هذا منذ �شهر م�ضى كالوديا بازدراء :وكيف تف�رس ما حدث؟
مع حمل ..وبحث عنه طول النهار حتى �سمعت �صوته -149لقطة قريبة متو�سطة� ..ساندرو يتجاهل ال�س�ؤال
م�ساء ..ويبدو �أنه كان قد �ضل الطريق. �إال �إنه ينظر �إليها بامتعا�ض.
-158لقطة طويلة ..كالوديا جتري هاربة من الكوخ -150لقطة قريبة متو�سطة ..كورادو يخلع �سرتته
�إىل عا�صفة ممطرة. ويجل�س بجوارها ،الثالثة يف �صمت� ،صوت خارج الباب
-159لقطة قريبة متو�سطة ..ت�صعد فوق ه�ضبة �صغرية يتطلعون نحوه.
من منطقة مرتفعة من اجلزيرة وتنادي يف ي�أ�س �« .آنا.. -151لقطة قريبة متو�سطة� ..ساندرو ينه�ض ببطء.
� آنا» -152لقطة متو�سطة ..كورادو وكالوديا وعيونهما على
كورادو يخرج خلفها ي�ضع يده على كتفها ويقودها الباب حيث يدخل رجل عجوز.
بلطف نحو الكوخ. �ساندرو :هل �أنت مالك هذا املكان؟
كورادو :تعايل ..تعايل (مزج) العجوز :كال � ..أ�صحابه يف ا�سرتاليا ..لقد كنت هناك
-160لقطة قريبة ..كالوديا نائمة يف الكوخ ..ت�ستيقظ.. �أي�ضاً ..لثالثني عاماً (با إلجنليزية) وهذه �صوري.
ال تدري �أين هي ..ثم ترى كورادو»جال�ساً بكل مالب�سه -153لقطة قريبة متو�سطة ..العجوز يقف بجوار حائط
يف �أحد ا ألركان ..تتلفح ببطانية حول كتفيها وتنه�ض معلق عليه �صور عديدة باهتة ،ي�شري �إىل كل منها العجوز
182 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
العجوز :هناك العديد من القوارب من هذه املنطقة يف ببطء.
مثل هذا الوقت �صيفاً. -161لقطة قريبة متو�سطة .تفتح باب الكوخ ،ال�شم�س
(�ساندرو يدفعه يف غ�ضب) �ساندرو :وملاذا ا�ستيقاظك ت�رشق على البحر و�صفري الريح يرتدد �صداه بني
مبكرا ً هكذا؟ ال�صخور ،تتعجل اخلروج �إىل الباب رغم الربد والرطوبة
العجوز :هل اخلام�سة �صباحاً مبكرة؟ ثم تعود للداخل.
�ساندرو يتخلى عنه مبتعدا ً والعجوز يتبعه �صامتاً. -162لقطة قريبة متو�سطة ..تلتقط ثوبها لتت�أكد من
-172لقطة متو�سطة من خلف كالوديا� .ساندرو ي�صعد جفافه ثم تلقي به �أر�ضاً وتتجه نحو حقيبتها وتتناول
ال�صخور يف اجتاهها .ت�ستدير مبتعدة عنه .يقرتب منها البلوزة ال�سوداء التي كانت «� آنا» قد منحتها لها.
ببطء بقلب حزين -163لقطة قريبة ،الكامريا ترتفع من البلوزة �إىل وجه
تبد� أ مو�سيقى كالوديا احلزين.
-173لقطة متو�سطة– كالوديا تتوقف وتغ�سل وجهها -164لقطة طويلة ..ماء البحر يتحطم فوق ال�صخور على
ويدها يف بحرية ماء ب�أحد ال�شقوق ال�صخرية �ساندرو �ضوء النهار .الكامريا (بان) عرب ال�صخور نحو «�ساندرو»
يتقدم من خلفها بهدوء ويجل�س ،جتفف وجهها مبنديل الذي وقف يت�أمل البحر ،ي�صعد ألعلى ثم يتوقف ويجل�س
وتفاج�أ بوجوده كل منها ينظر للآخر ..ثم تبد� أ يف لربهة ثم ي�ستدير وكالوديا تقرتب منه.
الت�سلق تاركة �إياه. �ساندرو :كيف حالك؟ �أت�شعرين بتح�سن �أف�ضل؟
-174لقطة قريبة متو�سطة� ..أثناء ذهابها تتل�ص�ص كالوديا :اعذرين ملا حدث ليلة �أم�س.
قليالً وما �أن يراها حتى يبت�سم. -165لقطة قريبة متو�سطة على �ساندرو
-175لقطة قريبة متو�سطة ..كالوديا تنظر �إليه يف �ساندرو :هل حتبني «� آنا» كثرياً� ،ألي�س كذلك؟
حماولة ملعرفة نواياه. كالوديا (خارج) :جداً.
-176لقطة قريبة متو�سطة ..مي�سك بها ورغم �أنها �ساندرو ينظر ناحية ا ألر�ض ،ثم يقف خلفها يف حرية
ا�ستعادت توازنها �إال �أنها تبعد يده عنها. حماوال ً تقديرً املوقف.
-177لقطة قريبة متو�سطة ..كالوديا تنظر �إليه باحتقار أ
�ساندرو :نعم ..ومازالت ..كانت تتفاعل مع حبنا لها� ..نا
وترتكة وهو يتبعها. و�أنت وحتى والدها ..ب�شكل ما مل تكن كافية ..وال تعني
-178لقطة طويلة ..قارب يقرتب من اجلزيرة ،كالوديا لها �شيئا.
تتحرك �إىل مقدمة الكادر وخلفها �ساندرو يقفان يتابعان -166لقطة طويلة ..للبحر واجلزيرة حتت وهج �شم�س
وظهرهما للكامريا (مزج) ال�صباح ،الكامريا (بان) ببطء وال �شيء يبدو يف ا ألفق.
كالوديا :ال �أعرف ماذا كان به ب�إمكاين ..لتجنب كل
هذا.
-167لقطة قريبة ..ل�ساندرو وكالوديا .يقفان ها
�صامتني وعيونهما يف كل مكان بحثاً عن دافع
للحديث.
-168لقطة طويلة على البحر ..الكامريا يف حركة (بان)
تتبع كالوديا وهي ت�سري وحيدة يف بحثها �ساندرو يف
لقطة قريبة يراقبها باهتمام كبري.
-169لقطة طويلة ..العجوز يت�سلق ال�صخور.
-170لقطة قريبة� ..ساندرو يتجه نحو العجوز ويف
اخللفية كالوديا تراقب.
-171لقطة متو�سطة ..العجوز ي�شق طريقه بني ال�صخور
نحو �ساندرو الذي يجذبه من قمي�صه بخ�شونة.
�ساندرو :ملن هذا القارب؟
العجوز� :أي قارب؟
�ساندرو (بعنف)� ..أمل ت�سمع �صوته منذ دقيقة؟
183 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
(خارج ال�صورة) :هل ت�سمح لو .... -179لقطة طويلة من �أعلى اله�ضبة .زورق يقرتب،
-191لقطة متو�سطة� ..ساندرو ينظر نحوهما. جمموعة قليلة من النا�س مبا فيهم ال�رشطة تقف فوق
�ساندرو (خارج) هل ميكن لـ «رميوندو» بالذهاب معه؟ ال�صخور ،ال�رشطة تنظر نحو رجل وقد ربط بحبال ثقيلة
-192نف�س اللقطة ال�سابقة. يتفح�ص ال�شاطئ.
باتري�سيا :وملاذا ت�س�ألني؟ مدير ال�رشطة (�صائحاً) .. ،بارتولو ..ماذا هناك؟
أ أ
كالوديا �إىل �ساندرو باخت�صار :ميكنك �ن تذهب �نت -180لقطة طويلة من �أ�سفل ..ال�رشطة يقف فوق ال�صخور
�أي�ضاً. كورادو وجوليا يف املكان� .ساندرو ي�أتي ب�رسعة.
-193لقطة متو�سطة للثالثة� ..ساندرو يرتدد من بارتولو (خارج) :ال �شيء ؟؟ .ال �شيء.
مالحظتها يف حلظة من �صمت. -181كما يف اللقطة .179
�ساندرو :نعم ..هذا �أف�ضل .بالت�أكيد. -182لقطة لـ «جوليا» و»كورادو» ومدير ال�رشطة.
كالوديا تبتعد وهي تع�ض �شفتيها. كورادو :ال تنظر نحوي هكذا مار�شال ..ومهما كان
�ساندرو غا�ضباً وي�سري يف االجتاه ا آلخر باتري�سيا جتل�س تفكريك ..فلم �أ�صنع �شيئاً.
بجوار كالوديا. مدير ال�رشطة يهز كتفه كما لو �أن هذا مل يخطر بباله.
أ
باتري�سيا� :إنني �تعجب من �ساندرو ..فهو يبدو غاية يف -183لقطة متو�سطة من �أعلى ..كالوديا تقف وحيدة
الهدوء. تنظر أل�سفل نحو �صدع كبري بني ال�صخور.
كالوديا :هادئاً ،انه ال يبدو يل كذلك ..فهو مل ينم طوال -184لقطة متو�سطة� ،ساندرو ينزل جرياً بني ال�صخور.
الليل. يرى كالوديا – ويبدو عليه الرتدد يف التحدث �إليها.
-194لقطة طويلة« ،رميوندو» ي�شق طريقه عرب -185لقطة متو�سطة ،كالوديا ت�ستدير وتراه ،و�رسعان
ال�صخور حامالً (ترمد�س) ،ومع �سماعه اجلماعة يقرتب ما تهرب منه �إىل اجلهة ا ألخرى.
�أحد الغطا�سني يحمل فازة. -186لقطة طويلة ..توا�صل طريقها عرب ال�صخور حيث
رميوندو :ما هذا؟ جتل�س باتري�سيا .يف اخللفية �ساندرو ي�ستدير مبتعداً.
الغطا�س� :إناء �أثري، -187لقطة طويلة من �أعلى ..اثنان من الغطا�سني
يوجد مدينة كاملة هناك يف ا ألعماق بها الكثري من يبحثان عن جثة «� آنا» يف البحر .باتري�سيا حتمل الكلب
هذه ا أل�شياء ي�سلمها لـ «باتري�سيا» تتحرك �إىل املقدمة وترى امل�شهد �أ�سفل.
باتري�سيا (�إىل رميوند يف �سخرية)� :أنت مبهور بها �ألي�س باتري�سيا (�إىل كالوديا) � :آمل �أال يعرثون عليها ..فرمبا
كذلك؟ (تعطيه �إىل كورادو) يجدونها ميتة!
كورادو� :أريني �إياه. -188لقطة قريبة متو�سطة ،كالوديا منهارة ..تبكي
باتري�سيا :ترى �إىل �أي قرن يرجع هذا ا إلناء؟ جوليا بحرارة .باتري�سيا توا�سيها يف �صمت� ،ساندرو ورجل
ت�أتي ب�رسعة. ال�رشطة يح�رضان من خلفهما ،كالوديا تدير ظهرها
جوليا (مبتهجة) :هل ميكننا االحتفاظ به؟ حتاول جمع �شتات نف�سها.
الكامريا يف حركة (بان) ت�ضم كالوديا و�ساندرو من تيارا مير
ً هناك ن أ � يقول فهو باتري�سيا.. �ساندرو :ا�سمعي ..
خلفهم مبا�رشة. عرب اجلزيرة �إىل غريها (يخرجان من الكادر والكامريا
كواردو :بكل ت�أكيد (ي�سلمها ا إلناء) تركز على كالوديا التي جتفف دموعها) ول�ست مت�أكدا ً
باتري�سيا (�إىل �ساندرو)� :ألي�س مفرو�ضاً �ن تذهب معهم؟
أ �أيهما ..على ا ألقل ..هناك �شيء ما � ..ألي�س كذلك؟
�ساندرو :الفازة ال ي�ستحق رئي�س ال�رشطة يقول �أنه �سري�سل واحدا ً �أو اثنني من
-195لقطة قريبة� ..ساندرو وكالوديا وهي تبتعد عنه. رجاله لبحث املو�ضوع...
-196لقطة متو�سطة :كالوديا ت�سري يف �صمت «رميوندو» -189لقطة قريبة متو�سطة� ..ساندرو يجل�س على
ينظر �إىل اخللف لر ؤ�يتها وي�سقط �إناء الزهور. �صخرة.
-197لقطة قريبة ..تتحطم على ال�صخور. �ساندرو� :إنك ال تعرف كيف...
-198لقطة قريبة :رميوندو ينظر أل�سفل باتري�سيا -190لقطة متو�سطة ..باتري�سيا وكالوديا يف �صمت
(خارج ال�صورة) :ياللعار! رميوند يومئ يف حزن �ساخر. و�إن كانت كل منها ينظر يف اجتاه خمتلف �ساندرو
184 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
رميوند :مل يعد ا ألمر جمدياً (ي�شري �إىل بع�ض احلا�رضين
مير عليهم.
أ
�صوت من القارب :لقد و�صلتنا فورا ً �خبارا ً مهمة! يف اجلموعة).
ال�ضابط على ال�شاطئ :ما هي؟ �صوت (خارج ال�صورة)� :إنه والد «� آنا»!
البحار :لقد قب�ضوا على قارب م�شتبه به يبعد �أمياال ً -199لقطة طويلة� ،سيارة م�رسعة نحو ال�شاطئ،
قليلة عن هنا ،و�سي�ستجوب ركابه يف ميالزو». �أ�صوات ال�سيارات – مزج.
-200لقطة طويلة :املجموعة جتل�س قلقة فوق ال�صخور،
مدير ال�رشطة :علينا �إذن الذهاب هناك لرنى ب�أنف�سنا.
كالوديا تت�سلق �أر�ضا مرتفعة مارة على �رشطي يحييها،
ال�ضابط :بالطبع
ي�ستديران ويغادران املكان تتوقف وت�سلم الكتب لرجل ال نراه جيداً.
-210لقطة طويلة ..العجوز يجل�س وحيدا ً فوق ال�صخور. كالوديا :وجدتها يف �شنطته «� آنا»
مدير ال�رشطة يتحرك يف مقدمة ال�صورة وينظر �إليه ،ثم �إنها تعرف �أنه والد «� آنا» الذي ينظر �إىل البلوزة ال�سوداء
التي ترتديها والتي �أعطتها لها «� آنا» ،يبدو عليها
ي�ستدير يبتعد مفكراً.
-211لقطة متو�سطة ..كورادو ووالد � آنا يهبطان أل�سفل االرتباك.
نحو املاء. كالوديا :نعم� ..إنها بلوزتها
كورادو :هل �سمعت؟ ماذا �ستفعل؟ أ
-201لقطة متو�سطة لكالوديا والب.
كالوديا :لقد �أعطتني �إياه �أم�س ،وقد وجدته يف حقيبتي.
ا ألب :كل �شيء مب�شيئة اهلل.
أ
�ساندرو (خارج ال�صورة)� :صحيح ..و�إن كنت �رى من مل �أكن �أريده ..لكن لي�س لدي ما �أرتديه هذا ال�صباح..
� آ�سفة (يتقدم نحوها ويربت على كتفها م�صدقاً كالمها.
ال�رضوري الذهاب �إىل ميالزو.
كالوديا تعر�ض عليه ال ُكتُب ثانية.
-212لقطة قريبة (�ساندرو من خلف وكالوديا
-202لقطة قريبة :الكتب يف يده ،يتفح�صها بعناية ثم
ت�ستمع).
يعيد �إليها واحدا ويحتفظ با آلخر وهو ا إلجنيل ويخرج
�ساندرو � :آ�سف ل�رصاحتي ..لكن حاول �أن تتفهم.
من ال�صورة.
-213لقطة متو�سطة للوالد وكورادو و�ساندرو . -203لقطة قريبة – كالوديا تنظر �إليه يف خوف.
�ساندرو :لقد كنت �أقرب �إن�سان �إليها.
والد � آنا (خارج ال�صورة)� :إن الكتاب يعني �أنها ت�ؤمن
الوالد (وهو ي�سبقه) حتى و�إن �صح هذا ف�إنها يف حاجة باهلل� ..ألي�س كذلك؟
يل قبل �أن تكون يف حاجة �إليك.
-204لقطة متو�سطة لكالوديا والد «� آنا» ،يف اخللفية
...يتبع املادة كاملة مبوقع املجلة)www.nizwa.com( : كورادو وجوليا يراقبان املوقف.
ا ألب .. :وهذا ي�ؤكد عدم انتحارها.
كالوديا ت�ضغط بيدها على فمها م�صدومة وجتري بعيدا ً
عنه �إىل �أ�سفل التل.
-205لقطة طويلة ..تقرتب طائرة هليوكوبرت من
اجلزيرة ومتر من فوقهم.
-206لقطة متو�سطة وا ألب يقف يتفح�ص ا إلجنيل يف
يده ثم ي�ضعه فوق �صخرة ويغادر املكان.
-207لقطة طويلة للطائرة وهي ت�ستدير وتهبط فوق
ه�ضبة مرتفعة مثرية عا�صفة من الرتاب .اجلميع يهرع
نحوها ،يخرج منها رجالن ..ا ألول يديل بتقريره �إىل
مدير ال�رشطة والثاين والد «� آنا»
-208لقطة متو�سطة وا ألب يتحدث مع الطيار.
ا ألب� :شكرا ً هلل (ثم يبتعد فج�أة).
-209لقطة متو�سطة ،يف املقدمة� ..ساندرو وكوراردو
و�ضابط ال�رشطة يتطلعون من ال�شاطئ �إىل قارب �رشطة
185 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شعر
186
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
ُ
الظالل الناطقة �صوات الكلمة أ�و
أ� ُ
لل�شاعر أالرجنتيني غِ يريمو �إيبا ْنييث
ترجمة وتقدمي :حممد أ�حمد بني�س
�شاعر من املغرب
ُيعد ال�شاعر الأرحنتيني ِغ ٍيريمو �إيبا ْنييث Guillerm /ما فتئ يبتعد �شيئا ف�شيئا ،م�ضاعفا بذلك م�أ�ساة
ي � mo Ibiiezأحد � أبرز � أ�سماء امل�شهد ال�شعري الأرجنتيني ا إلن�سان و�ض� آلته � أمام �سطوة وجربوت الوجود
املعا�رص .ولد مبدينة رو�ساريو �سنة .1949وقد ،رغم توهمه � أحيانا بعك�س ذلك .يقول ال�شاعر:
� أ�صدر العديد من امل�ؤلفات ال�شعرية والنرثية منهاِ � :أ�ص ُل ا�ستجاب ًة
«� أزمنة» « .1968اجلدران» « . 1970ق�صيدة ل�صوتي هذا،
أ�صوات الكلمة � أو الظال ُل لكن بعيدا
ُ الكائن» �« . 1986
الناطقة» « .1992فن الن�سيان» .2000كما
ي�رشف على «املجلة الدولية لل�شعر» التي ت�صدر عني.
منذ �سنة .1993وتعترب جمموعته «� أ�صوات الكلمة �إن احل�ضور الأونطولوجي والأبدي للكلمة على
� أو الظالل الناطقة» � أحد � أبرز � أعماله؛ ف��ضافة �ىل امتداد تاريخ ا إلن�سانية ،يحولها �إىل �إيقاع متوا�صل
إ إ
كونها �شكلت انعطافة مميزة يف م�ساره ال�شعري ،للوجود واحلياة والأ�شياء .فجميع الكلمات ،على
فقد ترجمت لأكرث من لغة .ونقدم هنا ترجمة اختالف خ�صائ�صها ال�صوتية والداللية ،هي � أفق
ال�صوت احلميمي مقتحماُ عربية لبع�ض مقاطع هذه املجموعة التي �صدرت م�رشع ينت�رش من خالله
عن دار «خولْغاريا » مبدينة رو�ساريو �سنة 1992جماهل موغلة يف العتمة والعماء.ويف �ضوء ذلك
كله ،ميكن القول � أن هذا العمل قد عك�س �إىل حد ،قبل � أن ت�صدر يف طبعات � أخرى.
ي�ستند هذا العمل �إىل خ�صائ�ص كثرية � أبرزها بعيد ،بع�ض جوانب قدرة الذات ال�شاعرة على
االحتفاء بالكلمة من خالل منح ده�شة ا إلن�صات بناء وت�شكيل �شعرية جتعل من الكلمة ،بكل � ألقـها
العميق لنب�ضها ،ومالحقة اال�ستعارات وال�صور البدائي � ،أ�صال للأ �شياء ومربرا لها.
التي ت�شتعل حملقة يف اجتاه التخوم البعيدة
d d d
للخيال ا إلن�ساين .ومن خالل هذه الن�صو�ص
«يعرف ال�شجر ُ الق�صرية والر�شيقة ،حتتفي الذات باغرتابها
الأبدي � أمام رعب الكلمة ،مما ي�ضيف ثراء دالليا من ثمراته» .
ورمزيا ،يعززه ا�ستح�ضار �صور �شعرية تت�سم رجل و�شاعر
بالالنهائية والعمق والفداحة؛ �إنه الرثاء الذي تعرفت عليهما
تنتجه خميلة متنح لنف�سها «متع َة» مالحقة � أمل يف حركتهما ال�صامتة.
187
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
d d d
� أو ال�شاعر،
لترتك ا�سمك
ْ بل كن الأغنية.
على �ضفة النهار. d d d
فلن تكون ال � أقل وال � أكرث لبلوغ نداء الطائر
من �إن�سان. هل يحتاج الأمر
d d d لبعثٍ � أم تقليد.
ْ
بالكاد يرتك
� أثرَ اخلطوة d d d
وتت�رسب،
ُ فت�شحب
ُ لم مثل الريحَت َك ْ
تخفت.
ُ ثم مثل الطيور.
d d d أ�صواتها
َ هي متنح �
يف طيف املر� آة �صدى الزمن،
آخر عبارة عن ظل يخف ُق. ال ُ وتزف امل�ستقب َل.
ُ
فقط هذا الظ ُل، d d d
s
s
s
ع�ش ٌق له ملم�س اجلنون!
با�ســـم املرعـبي
�شاعر من العراق يقيم يف ال�سويد
بيُ�رس ثمار احلاح � أع�ضائي على تذ ّكر مايتناثر 1ـ الوردة امل�ستحيلة
من تفا�صي َل ذهبية لك�سل ج�سدك الدائب يف حتت هذه الورقة � ،أخفي منابع نب�ضي التي
اعداد ع�سل تعلق به � أخيلتي ،وم�صائد لري�شي ت�سلك طريق ا�سمك وتتهدّج بحروفه ،دمعة،
يتق�صف حتت وط�أة نظرتك ال�صارخة ّ الذي دمعة ،حيث ال � أعود � أميّز بني وقع قلبي و
ب� آ�سمينا يختلطان كاملاء واملاء � أو كالرمل وقع رائحتك يف حلمي حني جتدل � أنفا�سي
والرمل ،فلن�رشب نخب اندياحنا كموجتني يف
حماي �إىل نبع غيومك الباردة وتقود �شظايا ّ
ح�ضن انذهالنا الذي يتو ّقد ب�أنفا�سنا امل�ؤاتية،
واملتّ�شحة بع�سل ال�ضوء ،فتحملني مراياك
تهب �رشاعاً يحمل بعيدا ً زورقي الراهن فرياكِ ّ ،
ّ علوه �إال ّ يف هوائك ،فمدّي يل الهواء
طريا ً يفقد ّ
املليء ب�أمكنتك املختل�سة من �ضجيج العيون.
أربي قامتك و� أحر�سها ب�شهقة يدي لريتفع قلبي فوق � أرياف تبتنيها � أهدابي
عالياً حيث � ّ ملياه حلمك وثمار جنماتك الناع�سة ،ولتنحدر
و�سائر � أع�ضائي املرتملة دون مل�سة عافية
مر� آك وحيث � أهند�س � ّأيامي و� أر�صفها لقدميك الأنهار مبهرجان كائناتها �إىل � أقدام دارتنا،
احلافيتني كالنوم فال تركلي نعا�س � أزمنتي، تتملّق قامة حمبّتنا الوارفة وت�ستجدي � أ�شجار
املزرق حني ي�سيل على مع�صميك لرييك حلمي الفتنا كي تتقلّد ال�صحراء ظ ّل �شغفنا امل�ضيء
ّ
كقمر يجلد يف ليايل الرمال. كحزام زحل وحليب املجرّة.
يوحد قامتينا ُغ ّطي يف نومك ودفء نظرتي التي حتر�سك،
خذي ال�شمعة وار�سمي � أفقاً ّ لأغ ّط يف حلمي الذي � أفر�شه لأن�سكابك و� أرهنه
املبتلّتني مباء نظراتنا ،فكم ا�ستحممت بنظراتي
املرت ّفقة ب�أع�ضائك ...لنا النبع دائماً والأزهار تذب عنلأع�ضائك ..فرت ّفقي مبياهي وهي ّ
التي حتاكي ج�سدينا ال�ساطعني يف ريف �ضفتيك الأ�شنات وحطام الزوارق ودعيها
لتهب الطبيعة وفية تقرتحه � أع�شابك ال�سمراء، اليربي الأ�رشعة والّ تنبت �رشاعي يف هواء
ّ الأمواج لت�صطب َغ رايتي ب�شم�س ذابلة تذكيها
برية �صداع ي�ش ّق الأغاين والأيدي كال�شاي يف ّ
احلميمة امل�ست�سلمة لنعا�سها كالقطط. زرقة � أ�صابعي الالهثة ،وهي ترى �إىل مداك
قد � أن�سى ما �س�أتذ ّكره ذات �صباح نا�صع ومبتل امل�شع بفاكهة تقرتحها عيناك يف فتور ّ
أوزة عن بيتك الذي يجاور يدي وملم�س كال ّ الظهرية � أو �شلل امل�ساء ف�أ�شدّ قلبي �إىل �سواحلك
جنوين ف�أجنز � أرقي املفتوح على اغما�ضتك الريا وامل�سترتة ب�أع�شابها الرخيمة لتم�سحي ّ
لأجل � أن تبقى � أهدابك � أطول من بايل ولأجل بزيت ولهك امل�ضيىء ما اعرتاين من دخان
�سوداء � أكرث يف بيا�ض
َ � أن تبقى تلم�سي الدروب ـ ال�رساب ملياه وغبار خالل ّ
يتقن البيا�ض ولأجل ان توقظ يدي حني �شفقك املنحني .وتنحنني لألتقاط املحار،
ت�سرت�سل يف انذهالها � أمام تدفقك بالبط لأرى �صوت لهفتي ي�سيل على � أقوا�س نعا�سك
والع�سل الأزرق. امل�رشئب ...و� أنحني من حنيني ،فتلتقطني
191 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
يا ينبوعاً انبثق يف �صد� أ � ّأيامي حرّري � أ�صابعي من ال�سهو وال�سجائر لتعدّ
يا جمر ًة يف ارتعا�ش لغتي، الأغ�صان واملوجة لطفوكِ وت�ستعني باحلرير
ان قلبي اكرة باب مهجور مل مي�س�سه � أحد بعدك ّ بوهج نعا�سك يت�صاعد ك�أبخرة الذهب لال�شادة َ
� أو قبلك، يف �سماء حتت�شد بغيوم الف�ضة وك�ؤو�س الع�شب.
فافتحيني � ..أنت ال�سحر الذي يفتحني ويغلقني يرتبك حربي وهو يرى �إىل زرقة � أو خ�رضة
يا نبعي وحجارتي متوجك املليء كالأ�سفنج والأعزل كاجل�سد � أو
ا�سقيني يا ك�أ�سي و�ساقيتي كيدي حني تومىء والت�صل..
خذيني �إىل بركة ان�شداهنا لنحتفظ ب�شيء من دائما ال و�صول يا عرب َة الأ�سى وهذه اجلراح
رذاذ احللم �سك ٌك التو�صل والتنتهي واجل�سد �سفر � أو م�سافر
ارتبيف � ّأيام تتموج ،تزوغ كالزئبق ،كمثلكّ .
لنباهي به رمالنا
رائحتك الأثرية وعادات � أ�صابعك ،انحياز
نقطيني بربيعك لأعرّي الأ�شجار من غبارها، عينيك ونكهة �صوتك على �رش�شف ال�صمت
قربيني من جنمة �شفتيك الفاغمة ،لأرك�ض يف الذي يحر�ضني على فرك الزعفران واالبتهال
م�سارب حلمي احلمى ليت�صاعد وهجك لتوابل نعا�سك يف
يا حملومة قلبي ّ
نافورات ع�سل وف�ضة ت�ؤازر نحا�سي ال�ساطع
يا موا�سم الفرا�شة واخ�رضار الندى أخمنك خل�سة لأتيقن يف �صيف جنوين الأ�صفرّ � .
امل�شعة
ّ يا � ألوان ر ؤ�اي مرعى ُي�ضمر احلليب والوعيد الأخ�رض اندالعك
كم �س�أبكي يف �ضمور احلدائق وازرقاق � أطرايف ً
حل�صاين الكئيب.
و�سهوم هوائي وتخ� ّشب لياليي دون فجر
يديك 2ـ جمرة اللغة
............... يف ظالم وح�شتك � ،أعلّق قلبي �رساجاً � ،أفر�ش
� أنا بريدٌ ال ي�صل و�رشاع يختنق يف مداه �سجادة ،فجو�سي ياغزالة..
العمر ّ
وانتظار ينتظر دعيني � أتن� ّشق رطوبة الع�شب وتنف�س الأرياف
يف وتختنق يف الأ�صائل.
هبّي من وردتك لتندثر ال�شوارع ّ دعي غيومك ُتغيّب � أكوان الدخان وال�ضجيج
رمايل على �ساحل قلبي
واحرتاق الأ�سفلت وعيون الكالب النابحة
هبّي من در�سك لتنك�رس زجاجة ذاكرتي ................
املدر�سية وتلتئم مر� آة املراعي الزرقاء و� أعرث يف غياهب لياليي املتوح�شة وا�صطفاق الأبواب
على ك�رسة ريف ،خلف �سياج املدر�سة... ّ
وال�شبابيك يف قلبي وجنون ال�ستائر والقطط
� أ�س�ألك ،ع�شباً ق�صريا ً وقمي�صاً � أن�رشه كالأفق النائحة يف الريح � ،آملني من � أطرايف و� أ�رصّ
دموعي وتهدّجي � ،أ�شحذ ظ ّل � ألقك ياجوهرتي،
ف�أنا مر�صود من احلجارة والرمل ،من العاقول م�ستمطرا ً لوناً لرماد هذا القلب ،م�ستمطرا ً
وال�سموم خرب�شة منك لدفرتي املوقوف لتعنيف الريح
�س
خذي بيدي �إىل هواء مل يمُ ّ والغبار..
علّنا نقع على �صورتنا يف مر� آته. يا جوهرة عمري احلطبي
192 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�آنية من الفخار
عماد ف ؤ�اد
�شاعر م�رصي مقيم يف بلجيكا
خناجر م�سنون ٌة ُ ت�سقطُ عرفت امر�أ ًة ُ كلَّما
م�سمم ٌة وخناجر َّ ُ الفخا ِر و�مالته ميين ًا أ نيةٍ من َّ م�سكت قلبي ك آ� ِّ ْ �أ
عنات
رب الطَّ ِ ُ تخت وخناجر
ُ وي�ساراً
املالب�س
ِ حتت غد ِر خمب� ًة َ أ وه َي َّ ْ بعنف كنخلةٍ عاليةٍ ه َّزته ٍ
ورقي ٌة
َّ وطائرات
ُ بر خياطةٍ مطارق و�أ ُ ُ ت�سقطُ خات وال َّنوى واحلجار ِة ِ رمته بال�صرَّ
و�س وف ؤ� ُ الكالم
ْ وناع ِم
وكتب
ٌ وندهات مبتور ٌة ُ بواب جرا�س و�أدعي ٌة و�أ ٌ ٌ ع�شا�ش و�أ ٌ فت�سقطُ �أ
و�صخور
ٌ بري ٌة ونباتات ِّ ُ مغلَّق ٌة
ال�صخو ِر
ارات كربت هكذا يف �شقوقِ ُّ و�صب ُ َّ تبغ
ولفافات ٍ
ُ ورماح
ٌ ت�سقطُ مزاليج ونب ٌل
وح�صى م�س َّنن ٌة ً ورم ٌل لفر�س
حدوات ٍ ٍ ربعو�أ ُ
وندوب
ٌ ولغات ُ وفر�سٌ
وح وهي تل ُدين أ
خيزران و�رصخ ُة � ِّمي ْ ٍ وع�صا
الر َ
يخرب�ش ُّ ُ وهو و�صوت «فريو َز» ْ ُ
أ
و�صفع ُة �بي على خ ِّدي الي� ِرس أ ودم الطُّ فول ِة البك ِر حني �سقطُّ ُت ُ
مين الذي مل �أُدره له �أبداً وخ ِّدي أال ِ فرا�شات احلقلِ ِ خلف و�أنا �أعدو َ
وي�سقطُ وفرائ�سُ طيور جارح ٌة وطرائ ُد ٌ ت�سقطُ
هده ٌد ا�صون
َ وق َّن
وحي ٌد باليان من كرث ِة امل�شي ِ ونعالن ِ
ع�ش َ�ش َّ لكلب ج َّدي نياب �أربعةٍ ِ ثر �أ ٍ و�أ ُ
يف ني
ركبتي اليافعت ِ َّ مثبت ٌة يف َّ
�آخ ِر ملون ٌة َّ �سماكٌ و�أ
عتمةٍ ا�صطد ُتها �صغرياً ب�سنانري اجلهالةِ...
ممكنةٍ ... وجثث طازج ٌة ٌ زهور جا َّف ٌة ٌ ت�سقطُ
عرفت امر�أ ًة ُ كلَّما قالم ح ٍرب و�أ ُ
روح روحِ ُه �أ وكمانات
ُ
م�سكت قلبي وع�رصته ح َّتى ين َّز َ ْ ات وممر ة مهجور وطرق د وحي وناي ادون
�إال �أنتِ ٌ َّ ُ ٌ ٌ ٌ و�صي َ َّ
معتِم ٌة
الفخا ِر قلبي الذي ي�شبه �آني ًة من َّ حي أ
مالَ وح َده وحلم ٌّ
ٌ هازيج وق�صائ ُد و�صبايا ُ و�شموع و� ٌ
جائع
ٍ ذئب
ُ ٍ وعواءات غام�ضات
ٍ لن�سوةٍ و�شاالت
ٌ
بني يديكِ .
وخفافي�ش
ُ لطفلٍ ة ٌ طري و�أناملُ
dالن�ص من جمموعة �شعرية ت�صدر قريب ًا يف بريوت . العنكبوت
ِ مزين ٌة بخيطِ و�شقوق َّ ٌ
193 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
حتى ي�ستعيد يوليوز براءته ثم �أم�ضي عاريا
ويرق�ص املجانني فوق كتفي على منت حورية �سبطاء
رق�صة الندم العظمى. حتى حدائق فر�ساي
ها قد �ضقت ذرعا بهذا الكون ع�ساين �أ�صادف ظل» �نطوانيت «
أ
و�صار يل يف ال�صحو ي أ��س وهي ترقد يف حجر ع�شيقها الدامناركي
ويف ال�سكر ي أ��سان ف أ�درك حينها
وا�ستفحل بي �أن الهوى عاهة جليلة
وهن التبعرث بني أالما�سي و�أن ال�شبق احلليم
وا�سود ثلجي يف عيون امر�أة �إرث نزيه ...
ال جتيد الغناء على �صدور اليتامى d d d
وال حتلو دموعها يا �سماء
�إال يف عز الربيع. انفرجي قليال
d d d
كي �أرى فيك نف�سي
لن �أذهب �إىل كولورادو عاتية كمرايا الليل .
ولن �أمزق ر�سائل « تو�سياتا « لي�ست بي رغبة يف النعا�س
ولن �أوهم «�ساندرا» بالهجران بي ،فقط � ،شهوة
ولن �أفتح قلبي بعد آ
الن العت�صار أالرق
للبوءات املعمدات مباء اخلرافة واحت�سائه عند الفجر
ولن �أحزن على �أرحام «�ألدوموبار» من �رصة جنية بلهاء
حني تفت�ضها تقا�سمني �رسير ال�ضجر
خمالب رجال هاربني من �ضوء الوجود من دون �أ�سى
�س أ�حتفظ وتبوح يل ب أ��رسارها العادية
يف ظل هذه التهي ؤ�ات و�أنا ال �أ�سمع �سوى نفيخ �صور
يزداد قربا
ب�صورة زاهد احلي
وهو يبرت ل�سانه �أمام امللأ كلما فتحت ب�صريتي
على �ضوء ال�سهر
ويهديه المر�أة
�أطعمته ال�صمت امل�سموم �أنا املفتون بال�شقرة
يف �صحن اجلريان ... وما يحف بها من تهلكات
d d d �أ�شحذ قدمي
يا �سماء على م�صقل الهروب
انفرجي قليال و�أعرف �أن الدمع ال يكفي
يف �صفحة هذا امل�ساء املطري لدفن اخلديعة
كي �أرى نف�سي و�أين �س أ�ظل هنا
وقد حتولت �إىل غ�صن جمروف واقفا على خن�رصي
195 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
ر�ض ،اغربوا هي ا أل ُ مرهقةٌ كقارئتي َ للم�أربية ..منذ �صار �أبي جديرا ً بالرحي ِل �إىل
ويرجع الباقون! َ ن�سرتيح
َ كي طارئ
ٍ قتال
ٍ
كان �أبي جديراً... ملْ يرج ِع الباقون حتى الآن،
ثم ال �أدري ،،احلكاي ُة رمبا مل تكتمل التف ّ ذكر -بالنيابة عنه -كيف لكنّي �س�أ ُ
�أو مل ت ُق ْل �شيئاً �أكيدا ً بعدُ، العاجي
ِّ حو َل يقينِها
كتب: و أل ْ «اخرتت»....
ُ حاو َل � أ ْن يقو َل َ
«يدٌ ال ت�ستطيع خليقةٌ بال� ِّشعر» ْبرُ ُ تع وهي ، ة
ُ خري لأ ا ِ
ه بندقيت ة
ُ طلق ه
ُ ْ ل مته ملْ
� أبد� أُ هكذا اه قلْبَ ْه �سم ُ طائ�شاً ّ
ال ب�أ�س فيما �سوف �أ�رسُ ُد حينها حزن، هداه -ح�سب ال�شائعات -لها ،فلم � أ ْ �أ ُ
�ستغفرها و�أكرث..
ُ للم�أربية من حماقاتٍ وكذّ ْب ُت البقيّ َة..
البدء ..با�س ِم امل�أربيةِ كان يا ما ُ «ثم كان اختار..َ قلت :مل متهل ْ ُه ماذا غريَ �أين ُ
كان» �سكت ،ثم كان اللي ُل. فالتفتَ ْت أل َ
�ستلعن با�س ِم ك ِّل ن�سا ِء هذا العا ِ
مل ُ قارئتي هل �أحرى بقارئتي الوحيد ِة � أ ْن ُتعيدَ -نياب ًة
ا�ست�سلم َن طوعاً للحداثيّني- ْ - عني وعنه-
اكتفت بق�صيد ٍة لن ْ �سواهن
ّ فكر َة �أنها امر�أةٌ ق�صيد ًة �ستطو ُل،
تنتهي.. هذا ما �أحاو ُل �أجتدي ِه ال َآن
لكنّا ّاتفقنا -منذ �صار �أبي جديرا ً بانتظار
تكن �أنثى هي مل ْ َ امل�أربية-
متاماً منذ �صار �أبي جديرا ً بالرحيل �س�ألْتُها يرجعَ الباب ،حتى ِ نوارب خلف هذا َ � أ ْن
هل ت�ستح ّقني الذي ال �أ�ستحق ال َآن؟ الباقون.
مل ترتُ ْك طفولتَها �رسيعاً مثلما هي عاد ُة قارئتي الوحيد ُة مل تكن �أنثى ولن،
ا إلغواءِ، اقرتب ُت من الق�صيدة ْ �أدري بهذا �إذ �أكون قد
�ستكربان
ِ احلديث -ولو قليالً -عن يدي ِن َ � آثرَتِ �أو كما قد يفعل ال�شعراء �أحياناً بقارئهم,,
الورد
َ وتقطفان
ِ �شيء يعنيها ،أل�س�أ َل: َ و�أدري �أنها ال
قل ْ ُت لمِ َ ْن انتظار
ُ ير ْقكِ :ق�صيدتي؟ اللي ُل؟ � أ ّي �شي ٍء مل ُ
وامل�أربي ُة حو�صرِ َ ْت امل�أربيةِ؟
الغرباء عنها
َ و�أبي هناك يقات ُل ك ّل هذا احل�ش ِو � إ ْن مل ي�ستح ّق ِك فاتركيه..
يرجع الباقون ،فاقرتبي لنلح َق ُ ثم قد ال من �أم ِر ذكر حينها ما كان ْ ومر ًة حاولْ ُت � ،أ ُ
بالن�ضا ِل الفذِّ املحاولةِ..
فاقرتب ْت بعيدا ً َ ال�شعراء
ُ اغربوا عن وجهها يا �أيها
197 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
ونهدْتِ �أكرثَ� ،أكرثَ: نطفاء املرُّ يف عيني َك يا ُ فعالم هذا ا إل
«�رصواح»*
ودم جتيد البذ َل ٍ بفائ�ض �شهوةٍ ِ امر�أةٌ
رداء،
�صبح َت وحدك يف الن�ضال ويف الق�ضية..؟ �أم � أ ْ
وا إل َ قيل يل :
تفه من �سذاج ِة عا�شقِي ِك يدٌ حتاو ُل � أ ْن ت�ؤثِّ َث �أ ُ وطن وذاكر ٍة تنم عن ٍ «القردعي»* ّ ّ جراح
ُ كانت
حت َفها و�أكرثَ،
مهات على ل�سان �صحيح ما تقول ا أل ُ ٌ هل
بق�صيد ٍة لن تنتهي الذاهبني
ري فيكِ ،يا امر� أ ًة من القتلى �إال �إىل حتْ ٍف �أخ ٍ ومل يعودوا بعدُ حتى الآن
ناه كا ألحقا ِد جيالً بعد � آخرَ، مكان ماٍ �شهداء ما زالوا هنالك يف َ عن
ويا مر�ضاً توار ْث ُ نهم ارتعا�شتُنا مع امل َط ِر، و� أ ُ
منذ ال �أدري الزه ِر،
التفاتتُنا �إىل َ
و� أنتِ هناك حترتفني ُعرْ َيك ِ�صاب،
امل�سافات اخل ُ ُ
املدر�سي ،الف�سح ُة، ُّ الثياب
ُ ،زُ اخلب الغيم ُة،
مر ًة وطناً ا إلغفاء ُة،
للوط ِء
ومراتٍ �رسيرا ً جاهزاًْ غنيات...
ُ الدر�س ،احلكايا ،ا أل ُ
تزو َج من ِك حتى الآن رب ّ كم ق ٍ هم ُه ْم و� أ ّن ْ
قربٌ واحدٌ يكفي ما تزال خطاهم ا ألوىل ّ
حتف
جرا�س ما ٍء يف �ضمري ال�صخر. ك�أنها � أ ُ
كون �أنا الوحيدَ �رصخ :لن � أ َ أل َ خوف وال قد تكفي الق�صيد ُة ،وهي ُتلقى دومنا ٍ
ول�ست �أو َل من يخون �أباه فيك.. وج ٍل
ُ
وال �أي ٍد ت�ص ّف ُق كي يهبّوا دفع ًة من ك ِّل �شي ٍء
و� أنتِ � أنتِ ! رصهم. واثقني بن� ِ
�أكان ح ّقاً
الف�ضح �أن ِك اللغ ُة التي ال ت�ستح ٌّق للم�أربية..
َ هذا ْ قربُ �أبي على بع ِد انتظا ٍر منكِ ،ي�صلح
ها�أنذا اقرت ْفتُ ِك فكر ًة
النتظا ٍر � آخرَ
ون�سيت حتى كيف �أبد�أُها ُ اقرتبي � أ ِو ابتعدي
انتهيت بها وال كيف معادل ًة � أ ِو امر� أ ًة
ُ ن�ساء كنتِ مدائن �أو
هباء �أم ق�صيدة.. ً َ
ً تكون �سِ واكِ
ُ ال ة
َ حلظ اق
ِ ش �
ُ ّ الع ة ِ ِ�سذاج يا ل
لياله ْم ُ
• �رصواح :جبل يقع يف حمافظة م�أرب ويا ل ِك
• ال�شهيد علي نا�رص القردعي � :أحد ثوار ثورة 48م توىل قتل ا إلمام �صبوتِ كبائعاتِ كلما اقرتفوكِ ذاكر ًة و�أجياال ً ْ
يحيى و� أعدم يف �سجن حجة. هوى
ً
199 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
ل�شراء بطاقات هواتف
ِ غائبون الليلة �أي�ضاً:
وهذه الليل َة عندي لعينيك خربٌ جديد: قارب �إذا �أتى الطوفان)!!
ٌ (البيت
ُ
ربحت اجلول َة يف لعبة الورق .ع�رش ُة قلوب ُ �أ�شياء المعة
حب التم ّغ ِط يف وجه ال�صديق. حمراء منحتني ّ
ني يف الهواء� :شاعرٌ من اثنان يطحنا احلن َ ِ
�ضطراري ،هذا الليل � ،أ َن ّ ذهاب ِك ا إل َ �س�أخربُ
واقعي طيّب من «دار فور». «غزة» ورج ٌل
عاد نظرتي �إىل ال�ساعة؛ �صوتك الذي � أ َ
ّ قابلت املر� آ َة عرَ�ضاً وهي ِ عيني التي دلي ُل
لك ّل واح ٍد منّا ل ْكنَته التي َتتَ�رصّ ُف بلغ ِة :Grethe ّ
در�س ِة املَرحة. مفتاح الزجاجة لالمع ُ تبحث عن � ِأ�شياء � أ ّولها: ُ
مل ّ
ا ُ
كجناح طائرة يف نافلة ال�سحاب.
كع َب يده بركبته التي ال ت�صلّي، هو ي�رضب ْ
بخار ال�شاي عن حلظة التخمني. وينفخ يدي �ضطراري ،هذا الليل � ،أ ّن َ ّ �س�أخربُ ذهابك ا إل
َ مركب على جبل. ال�صافنة فوق ركبتي
القلوب على اخل�شب ِة ،ويف ِ و�أنا �أحدّ ُق يف كومة ٌ
مناف�ض الغائبني ل�رشاء بطاقات هواتف من رت عم ِ
�ضطراري عن ريح ّ ّ ذهابك ا إل َ و�س�أخربُ
وراء اجلبل. بر�سوم جلبتْها ٍ امل�ساف َة بني وجهي ووجه ِك
من كراري�س ال�صغا ِر:
قرت ب�إظفر حتت الطاول ِة ،و َن ُ
لقيت بيدي َ حني � أ ُ مم�سو�س ال�شفيف ،وح�صا ٌن جر�س ببُحة اللون
خم َن الرج ُل ٌ ِ ٌ
ال�شاه ِد على مف�صل ِر ْجلها؛ ّ من رقبته مبا ي�شبه طري ّقاً من ظ ّل مت�شي عليه
الواقعي الطيّ ُب
ّ احليا ُة
الع�رش ِة قلوب ،قبل بداية يء ورقة َ �أين �أخبّ ُ ريا�ضي؛ على �أ�سما ِء رواف ِده تقع محُ ّملة بنه ٍر
اجلولة! ّ
عمد ك ّل �أ�شيائي يف يديك، حد�س ُي ّ ٌ هدايا ُيغلّفها
و�أولها :مفتاح الزجاجة الالمع كجناح طائرة ألقابل ال�شهداء يف يدك
ُ
للعقاب،
ِ ة
َ الق�صيد وا عد
ُ ّ ي نأ � حرى أ
ل ا ال�سحاب!... يف نافلة
الوطني � أ َ
رواح ّ دفع ْت يف عيدها أل ّن مدين ًة َ ال ندم يف الق�صيدة
موتاها ألك�شاك الورود ،وتثاءبت �أثناء �إيقاد
الليلة �أي�ضاً� ،س�أخربُ طري َق القدْ�س التي ال�شموع!
نام مب ّكرا؛يام � أ ُالنار � أ ّما �أنا من غري �رشّ هذه ا أل ِ تق�صدينها غدا ً �أن ال ندم يف الق�صيدة؛ أل ّن َ
زرعت
ْ يدك التي ال�شهداء يف ِ
َ وطهرته من ألقاب َل التي حرَقت �أ�صابعي �أبعدَ ْت فمي ّ
وردا ً َم�شاعاً ليتامى ذلك البلد ال�صغري! دم ا ألخطاء.
�صغريت ِكلهبوب يف رجوع ِك �أو أل�صحو على عجل احلياة �أكتب عن َ ٍ و�أحتاج �أن �أقول
�سطوع الواقفة َك َح ّل �إىل جانب ِك، َ حلرّ �ضطراريَ ،ق َ�س َم بخ�صل ِة َ�شع ِر ِك ا ُ ّ ا إل
تطلع من ر ْكبتك!وورد ُة َ�شع ِرها ُ جبهتك اجلميلة � أ ّن:
ا�سرتاح ولكي تك�سبي �ضح َك احلياة بجانبي� ،إنتقي يل َ ل�سان �إمرا ٍة ت�شبهك للمل يف ٍ ثمة تاريخ أ
�صوتاً غريباً من ل�سا ِنها، على �سطح ل�ساين ،قبل �أ�صباغ ال�رشاب.
ور َة احللوى �أثناء جتريب اللغ ِة. لوح لكتاب ِة �أ�سماء ال�شهداء وهو َيحم ُل بل ّ َ حتى بعد القهو ِة هو ٌ
جترف الليل ،وتق�ضم التفاحة ،ثم قويل وا�ضحكي: ُ �سنان بي�ضاء ب�أ ٍ
«هذا هو ا�سمك» يف مذاق ابنتي! وتقدح ..وهي َتط�أ حافة الفنجان! ُ
201 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
الليل هو الليل والليل ما يت�أمل
والنهار هو النهار هكذا �شجرة احلياة
كل تعريف � آخر وهكذا ظاللها.
لي�س �إال مقاربة واهمة. قال الرابع ع�رش:
قال احلادي والع�رشون: �أحدهما ي�شبه الرحِ م
�أعفني يا �سيدي �أعني الرحمة
ال ليل وال نهار والثاين ي�شبه ال...
�إذ ال نهار وال ليل �أ�ستغفر الآلهة.
ولكن الب�رش يحاولون... قال اخلام�س ع�رش:
قال الثاين والع�رشون: كنت تعلمنا احلكمة �إذا َ
النهار ما تراه يف الليل
والليل ما يراك. فهو احلكيم
قال الثالث والع�رشون: والنهار �أحمق.
كالهما ال�صالة جهرا ً قال ال�ساد�س ع�رش:
للأ ب الدهر هما زوجان
م�ضمرة.
َ وكالهما �شتيمة لكل منهما �أطواره
قال ا ألخري: وال يقبالن طالقاً.
ليل القطب ال�شمايل قال ال�سابع ع�رش:
غري ليل �صحارانا الليل طِ باق النهار
ونهاراته غري نهاراتها على نحو ما
لك ٍّل معناه ومبناه مثلما ال�صمت طِ باق الكالم
فما الذي ترمي �إليه يا �سيدي؟! على نحو ما.
تنهدَ احلكيمّ
و�رشب ما ي�شبه نخب ًا قال الثامن ع�رش:
ثم �أ�ضاف: النهار �سجني مظلوم
والليل طاغية.
تقطر روحي حزناً
على َم ْن ف ِهم قال التا�سع ع�رش:
� أ َّما من مل يفهم ل�ص مك�شوف الليل ٌّ
فطوبى له. مموه
ل�ص َّ والنهار ٌّ
�إذهبوا �إىل �أنف�سكم �ألي�س الزمن ل�صاً؟
تعود َّن �إيل.
وال ُ قال الع�رشون:
ق�ص ـ ــائد
حممـــد ميـــالد
�شاعر من تون�س
s
s
s
�شيء غري جثة تطفو بني ال�صمت والرنني .ال أ�حد ط ّيات بيا�ض
ال�سود �سواي .يف قلب املح ْرقة يرى يف �ضوئي أ
ووقفتُ أ�مام جثة نهار �آخر .هل يطفئ الرنني ظلمة
أ��شتهي مل ْم�س النار .ف�أي موت يحفظ رمادي ،أ�دخر
الخاديد ت�أكل أ�حداقي، فيه ناري الهاربة؟ من هذه أ كانت تنتظرين؟
تتف�سخ نب�ضاتُ اليد يف واتك�أتُ على وقفتي .الرائحة نف�سها يف الثياب.
�صخب البيا�ضّ . ُ حيلتي
ك�أنني أ��سمع أ
الر�ض املع�ش�ش
غ�ضون املاء ف�أجر ُر أ��سماء من�س ّية ،بهجة حرمان.
تتموج يف العروق وبيا�ض يف هناك طريدة أ�خرى ّ حتت حلاء ال�شجر البعيد قبل أ�ن ميوت .ك�أن هذه
للبواب طور الوالدة تنوء به الظالل اجلريحة .أ الوردة تدربني على ما �ستقول يف أ�ق�صى الذبول.
يتلون املوت بال�صهيل ال�ضواء الراجفةّ . تهم�س أ عيني ك ْمدة الرتاب خطفتهُما من ألين خ�شيت على َّ
املكظوم .خلف حدائق الليل حتملق �إلينا ال�صباحات و�شف دمي حتى ر أ�يت
ّ الغبطة اجلاثمة على القلب.
امل�ضرج
ُ املُر ْبد ُة مثل طيور عابرة .أ�يها احلج ُر ال�صدقاء .يف قبلة عابرة ما مل تلده بع ُد �صرخات أ
ال�سوار ويف القبور ،ما ب�أ�سمائنا وامل�أ�سو ُر يف أ أ�تلفتُ حلظة اجلي�شان ،ووقفتُ أ�نتظر ما لن أ�تع ّرف
َ
نر�ضعك جنوما زلنا نندف لك أ��صابعنا حاملني ب�أن عليه يف هذا ال�ضجيج .ال تق ْل ر أ�يتُ ،ليقر أ�ك َ
عماك
ُت�ضلنا. الح�شاء ،وال ظل غائر يف أ أ�وال .كتبتُ من أ�جل ّ
s
s
s
الطيور التي ظلت تطري بعد خيانة ال�سماء لي�ست آ
الفات �رشاً مطلقا
الطيور التي مل ترجتف من لعبة املوت �سينمو الربتقال هناك
الطيور التي مل ُتخِ فْها ال�صواريخ �سيكرب الناجون من املذبحة
ومل تك�رس �أجنحتها الطائرات، �سيكرب جرحنا �سنة جديدة
لكننا لن ُنقلع عن أالمل
ح�سن ًا لن َنقلع �شجر احلنني جلبل الكرمل
مت�سع من الوقت لتقطيب اجلراح
ٌ لدينا لبحر عكا و�سماء يافا
مت�سع من الوقت لت�شذيب التفا�صيل ٌ لرتاب الرملة البي�ضاء
�ستبد�أ احلكاية من �أولها لن نقلع عن ر ؤ�يا ال�سماء وفي ًة لع�شاقها
نرفع �سقف بيتنا قليال حاني ًة لبيوتها أالر�ضية و�أبنائها الب�سطاء.
نقر�ص خ َّد الهواء ح�سن ًا
فريجتف الكون من جديد. �ستبقى الطيور لنا
رجل البنك الفو�ضوي الذي يعرف �أنه ال ينق�صه رجل البنك الفو�ضوي
الغرام الذي يقب�ض على قططه يف امل�ساء
�أو امليكروبا�ص ويجل�س اىل �شموعه ال�سوداء
لكي ي�ؤ�س�س لدورة ر�أ�س املال لي�أكل حلم امر�أته يف النهار
و�أثرها احلا�سم يف لعبة التاريخ هل يزيف ميزانيته
�أم ي�ضحك على الهواء وهو مير من خالل �أنبوبة واجلغرافيا
الفو�ضوي ما�صة
ابن ماء ال�سماء على اجلدران؟
الذي ين�رش ميزانياته رجل البنك الذي ي�ضبط النقود متلب�سة
ودفاتر ح�ساباته على ا ألر�صفة وهي متار�س البغاء يف بئر ال�سلم
ويف الليل يعلق مالب�سها الداخلية على ال�رشفات واجلدران
وفوق �أ�سطح البيوت املت�آكلة حتى ال ت�صيبها ويف اعلى نقطة فوق ال�سطوح
العثة والعمارات
�أو ت�أكلها الفئران وذلك بدال من علم الدولة الر�سمي
من فرط ما �أعمل فيها م�صباحه الذي يكاد زيته وبعد �أن يفرغ من كل ذلك متاما
ي�ضيء يجل�س اىل عادياته
ولو مل مت�س�سه النار وموداته
رجل البنك الفو�ضوي ليقر� أ نهج البالغة لالمام علي
الذي يومل لكتائب الغبار �أمنياته و�رشح ابن �أبي احلديد
ور�أ�س املال لكارل مارك�س والفتوحات املكية ومالب�ساته التي ال تنتهي �إال عند حدود
الر�أ�سمالية املتوح�شة ومقاتل الطالبيني و�ألف ليلة وليلة
وا أل�صولية اجلديدة ورجوع ال�شيخ اىل �صباه
وحروب الردة الخ ...الخ
وعندما يخيفه النعا�س �أو ت�أخذه �سنة من النوم وكتائب الرب املقد�سة
وهي تدافع عن االله اجلديد ال يجد ما يفعله �أو يعول عليه
يف ادارة ا أل�صول �سوى �أن يربط حذاءه
وتخلي الدولة عن دورها احلا�سم اىل رجل ال�رسير
ل�صالح جمموع من الفئران ال�ضالة خ�شية ان يفقده يف ال�صباح
والكالب املتوح�شة التي تنام يف مراحي�ض وهو واقف على حمطة البا�ص العمومية
ال�سلطة ليل نهار يف انتظار حافلة تقله اىل ال�سماء ال�سابعة!!
208 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
لل�سيد الو ت�سو يف كفة فيما تبحث لنف�سها عن موطئ قدم
وا أل�صول واخل�صوم يف كفة حتت �أحذية اليانكي
ويغلق عليها يف اخلزينة امل�سلحة باملفاتيح و�أعالم البيت ا ألبي�ض
خ�شية �أن ي�رسقها الل�صو�ص مع العمالت التي ترفرف دائما
الورقية على م�ؤخرة ر ؤ��ساء العامل الثالث
وعمالء الـ CIAفيما العلوج ا ألمريكان ي�شعلون وال يفرج عنها �إال بق�سيمة ال�صادر
والوارد احلرائق املدوية
بانتظار ان يفتح جنته املوعودة يف قبة ا إلمام علي
لرجال ا ألعمال وا ألهواز
وال�رشكات متعددة اجلن�سية ومدينة الر�شيد
على �أن ي�صدر مر�سوما �إلهيا يف نهاية ا ألمر وي�ستبدلون الكتاب املقد�س
بطرد الفقراء واملعوزين من جنته املوعودة بوثيقة الدم والفا�صوليا
هذه ما الذي يفعله رجل البنك الفو�ضوي
�سوى �أن يجل�س يف ركن الغرفة ليعوي كالكالب رجل البنك
ذو العوينات والقطط
الذي ي�ضع املونوكل على طرف �أنفه لكي ينظر بينما العاهرة زوجته
اىل العامل ت�أخذ يف تلوين فخذيها بالبطاط�س واللفت
من خالل ما�ضيه الذي �أكلته ال�صدقات وكافة العمالت ا ألجنبية
ثم تبد� أ يف التمرين اليومي على �رضب �صورته والتربعات
وال يب�رص �إال تلك املخلوقات الرثة التي ت�سري يف التي تنام على �أر�ضية الغرفة
ال�شوارع اجلانبية ذات الرائحة الزنخه با ألحذية
كا ألوبئة وا ألرانب املجففة وهي تفت�ش يف والقباقيب ال ل�شيء
�صناديق الزبالة �إال لتتعلم كيف متار�س اليوجا
عن لقمة �سائغة �أو وجبة د�سمة من وجبات �أبناء بعد �أن فقدت االت�صال
الذوات اجلن�سي بالتاريخ
الل�صو�ص اجلدد للوطن واجلغرافيا
واخلونة فيما ت�ضع يف �سوتياناتها املزرك�شة
اجلوا�سي�س �أوراق الدوالر املزورة
رجل البنك الفو�ضوي ومت�سح بها مراحي�ض ال�سكك احلديدية
الذي ي�سكر يف امل�ساء على طاولة من ق�ش انتقاما من احلرا�س اجلدد للهيكل
وخيانات وعمالء الـCIA
ويحلم بن�ساء جوبا اال�سطوريات املختنقات وجرناالت �أمريكا املتوح�شة
بال�شهوة اللب�ؤة
والزنوجة رجل البنك الفو�ضوي
وال ي�ضع يف ثالجاته ا ألمريكية ا ألتوماتك الذي ي�ضع التعاليم املقد�سة
209 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
وال ي�شري اليه �إال ب�سبابته التي تت�آكل كقاتل �إال �صورة �أرن�ستو جيفارا �أو موت�سي توجن
ول�ص وهو م�سجى على طاولة من خ�شب وحنانات
و�سوف يقلب الليل يف �أول مقلب زبالة ي�صادفه فيما ما يبك الدم من رئتيه
الليل ذلك املجهول ذو العتمة والقبعات وحول فتحتي ا ألنف الر�صا�صيتني
الذي يتعدده دائما بالكوابي�س وال�سجن حتى ال تقلقه الكوابي�س
فيما يرتك لرغباته الورقية التي تظهر وب�رضاوة وال يت�سنى له النوم �إال بعد ان يتناول ك�أ�سني من
على م�ؤخرة كارل مارك�س الفودكا امللوثة با ألرغفة اجلائعة
ومارتن لوثر كنج وحليب ا ألمهات
وال�سيدة مرمي فيما يعيد تخطيط العامل بحيث يجعل ا ألعايل
و�سوف ي�ضع � آالف الدوالرات املزيفة كذلك �أ�سافل!
بني �شفتي رائعة ليوناردو دافن�شي- مل ال يحب�س رجل البنك الفو�ضوي
اجليوكاندا- كافة كوابي�سه التي تطارده على الع�شاء يف قف�ص
حتى ال تعود تغمز له بعينيها اللعوبتني كمحرتفة من احلديد والرخام
دعارة ر�سمية ويلقي بها حتت �أرجل املارة
ولكي ي�ضع تلك االبت�سامة اللعينة حتت حذائه وينزل باملايوه وال�سوتيان لكي ميار�س ريا�ضة
وليب�صق على العامل من بني �رسواله العدو وال�سباحة فوق بحرية من ا ألحالم
و�رشفة م�ؤخرته الكرتونية
مل ال يجرب رجل البنك الفو�ضوي التي قن�صها من القيمة امل�ضافة للعدالة
�أن ي�ضع � آلة عد النقود �أمام �سلفادور دايل والديون املعدومة
والكتاب املقد�س و�أ�صحاب العمالت امل�رضوبة
و�أن ي�ضع املكن�سة الكهربائية فوق ر�أ�س هيجل وجتار املخدرات
والقدي�س بول�س الر�سول وكافة غا�سلي ا ألموال على م�ستوى العامل
ومل ال يجرب �أن ي�صنع من النهر قطعة فلني لكي ال ي�صاب بع�رس يف اله�ضم
تطفو �أو التبول الال�إرادي �أو حتى
على �سطح الذاكرة تطاله النو�ستاجليا
ومل ال يجفف تلك الزهور اال�صطناعية رجل البنك الفو�ضوي
التي تنبت على املائدة اىل جواره الذي ي�ضع النهار� -أخريا -يف �سلة جانبية على
ويجعل منها �شوارع وابنية ت�صلح اليواء القطط مائدة القمار
ال�ضالة ومي�سك ب�سكينه القوية
و�أبناء الكالب ثم يقطع رقبته قطعة قطعة
بكافة فريو�ساتهم امللوثة بفقر الدم وال يرتك �سوى بيو�ضه التي تتعفن كقطعة
والغرغرينا خردة
مل ال يقول ان هذه احلياة �صندل �أو يعلقها على عمود نور يف و�سط ال�شارع
و�أن الليل عدة مقاه حتى ال يعود ذلك النهار قادرا على املواجهة
على قارعة البيمار�ستانات �أو ال�رصاع الطبقي
210 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
وجترها ثالث خيول �أو جورب بثمانية �أزواج
وحوذي �أعمى و�رسوال
هل له �أن يقلق نف�سه �أخريا بكل تلك ا ألكاذيب ال ل�شيء �إال ليزن ا ألر�ض عن بعد بق�صبة من
هواء امللونة
ويقي�س امل�سافة ما بني املجرة واملجرة عن العدل واحلرية
بقلم ر�صا�ص وتدخل الرب احلا�سم يف التاريخ
وعدة مكعبات من ن�شارة وفحم مل ال يقول لنف�سه وهو يربط حذاءه
أ
ليكت�شف يف نهاية المر �أنا – هو – �أنا
ان ال�سماء �صندل وكما قال الرب ملو�سى وهو يهبه التوراة
والليل جورب �أهبه الذي �أهبه
بثمانية �أرواح!! مل ال يجرب رجل البنك الفو�ضوي كذلك
�أن ي�صنع من الكر�سي � آنية للزهور
ومل ال يجفف ال�شم�س التي تت�سلل �إليه من فرج
البيوت
حتت خمداته
ويف الليل يقف على ا ألر�صفة املبللة باخليبة
ليبيعها كتاجر خردة
�أو يجعل منها امر�أة تتبول على الر�صيف
الفو�ضوي رجل البنك
الذي يرى ان العامل ال �شيء �سوف يزرر ياقة
قمي�صه بعنكبوتات �ضخمة
و�سالحف
وينزل اىل �أر�ض ال�شارع ليب�رش بح�ضارة
ا ألنقا�ض والت�آكالت
رجل البنك الفو�ضوي
الذي يقب�ض على قططه يف امل�ساء
وي�أكل حلم امر�أته يف النهار
وعندما حتني �ساعته �سوف يهتف
يا لها من نهاية تع�سة
مل�رسحية ال تريد �أن تنتهي
ورمبا يعدل من و�ضع العامل
لي�ضع املوت قدام احلياة
ت�صوير ر�شاد الوهيبي ُ -عمان �أو ي�رص املاء يف �رصة
و�سوف يطلع اىل ال�سماء ال�سابعة يف عربة من
زجاج وق�ش
211 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
ر�سائل ق�صرية
ر�شـــا عمــــران
�شاعرة من �سورية
s
s
s
_ �رسير م�ؤجل منذ � أن ا�ستدل الربق 6
على نافذتي و انزلق حتت قمي�ص نومي
كيف � أن احلياة حفيف باهت لأفكار
ما الذي تعرفه عن احلزن ؟؟؟
مطف�أة
-ما تبقى من الك�أ�س � أ�سكبه على ج�سدي و
� أمتتم تعاويذ قدمية احفظها فين�ضح جلدي كيف � أن الأفكار قليل من جلد
بالنحيب ين�سلخ عن الكالم
ما الذي تعرفينه عن الك� آبة ؟؟؟؟ كيف � أن الكالم بع�ض هاالت حول الذاكرة
� -سيجارة وحيدة يف علبة فرغت للتو� ,صمت كيف � أن الذاكرة جمرد لغز يتنف�س املوت
حيادي ،حزن حيادي ،انتظار حيادي ، كيف � أن املوت ....
جدران حيادية ,,وراء الباب املغلق ثمة ج�سد هنا غم�ست ري�شتي بالأ�صفر
ي�ستدعي ظالال باهتة في�سقط يف اخلواء و دغدغت �سواد اللوحة
ما الذي تعرفه عن ..........؟؟؟ فكرت و � أنا � أكتب ل ِك
-ما الذي تعرفينه عن .......؟؟؟ 7
�ساد الفراغ فج�أة
حني ان�سابت كلمات واهنة باجتاه الهواء -ما الذي تعرفه عن ال�صمت ؟؟
-رجل وحيد ت�ؤرقه نقطة ماء وحيدة � أكرث و �سقط ظالن عن اخلط امل�ستقيم
بينما بالكاد وقعا من نهر يدخل ج�سدا مليئا باحلجارة
كان للكالم اجلديد � أن يفتح عينيه ما الذي تعرفينه عن الوح�شة ؟؟؟؟؟
ثـيـــاب
ح�ســـن النــــواب
�شاعر من العراق يقيم يف ا�سرتاليا
ال�صعلوك ثوب ال�صعاليك
بو�صلة املدينة .
()1
()6
ألنه
ال�صعلوك هبط
طري �سهوا
ولكن بجناحني من
من تراب . اجلنة
()7 على
رغيف اخلبز ا ألر�ض
الي�شعر با ألمل �صار �صعلوكا .
ويكون �سعيدا ()2
حني تق�ضمه �أ�سنان املو�سيقى
ال�صعاليك . التي ن�سمعها
()8 يف � آخر الليل
�أحيانا �إمنا هي
يهطل املطر خطى ال�صعاليك .
ال لكي ي�سقي الزرع ()3
�إمنا لي�ستحم بقطراته مدينة بال �صعلوك
ال�صعاليك . تعني
()9 �أغنية بال حلن .
قطرة عرق ()4
�سقطت من جبني احلدائق
�صعلوك كادح
التي الي�ؤمها ال�صعاليك
مل تذهب اىل ا ألر�ض
يذبل جنيلها .
�إنها �صعدت
لت�صبح جنمة ()5
214 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
()6 يف ال�سماء .
وراء جنازتهم ()10
المت�شي غري النقود
ال�صعلوك
واللعنات .
اليذهب اىل احلالق
()7 ألنه يخ�شى على جناحيه .
يكرهون الثقافة ثوب الربجوازي
ألنها تك�شف �سوءاتهم
ويع�شقون اجلهل ()1
ألنه �صديقهم . نقودهم
()8 قطرات عرق
من جبني الكادحني .
حني ت�سقط دمعة
من عيونهم ()2
يتحمل جحيمها ألن قلوبهم
الكادحون . من ق�صب
نرى جيوبهم
()9 ملأ ى بالورق .
يكرهون ال�شفقة
()3
�أكرث مما ميقتون
ال�رضائب . حرام !!
ْ حتى طعامهم
ألنهم ي�أكلونه
()10 مبالعق من ذهب .
ق�صورهم من عظامنا ()4
وثروتهم
من عرق جباهنا الدوالر قبلتهم
وكرو�شهم و�صالة القمار
معبدهم .
من حلم �أكتافنا
وحني نطلب �أجورنا منهم ()5
يتنا�سون كدحنا الحاجة لهم
وب�أنوفهم معنا بفردو�س ال�سماء
يتحدثون ألنهم
ويرتكوننا بال قوت �شيدوها
والهم يحزنون . على ا ألر�ض .
215 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
قم�صان ُه !
البَح ُر ..يبدّل َ
ّ
ال�سيــفية َ
عائ�شــة
�شاعرة من ُعمان
مي
�صديقي َد ْ ْ ات البحر أ
بالغن َي ِ ُ ُيجامِ لني
وم �ضمائر َنا ُ جن
ُ ا ن
َ ت�شتهي ا كم
َ ني راق�ص
َ فلنكن
ْ ف أ� ُ
�شهق ..
ني
. .نا�سك ِ دمي عاري ًا ري ْ البحر ُقم�صـَان ُه لي�ص َ ُ ه ْل ب ّدلَ
حجرا النرّ ِد مي ! َ �أنا و َد ْ �صديق؟
ْ �صاحب �أو ٍ ككمان بال
ٍ ري �أ َنا و�أ�ص َ
فلنلم ب َقايا
ّ النبوات �أجمع َها . . ّ ت�سقطُ م ّنا للمرايا تغ ّن ْي البحر �أكثرَ من طفلةٍ َ َ �أف َه ُم
املنايف مبندِيلِ �أق َدارنا �شجار
ُ ين الظ ّل � . .أو تتوكّ أ� �أ ني يهجر ْ و�أفهم ُه ح َ
االت
قرون الغ َز ِِ �صفائح �أ�سفار َنا ْ
يف وند�س بيت�رشين ْ َ
َ ّ
كي ريق على البح ِر ْ .. من دمعةٍ �س أ� ُ رث ْ لي�س �أك َ َ
�شربين ع ّنا
َ الوحي
ُ يرتفع
ِ النبوة / ت�سقطُ م ّنا ّ أ
و�سم�سافَة �أفواه َنا وك ؤ� ِ املوت ع ّنا َ ُ و َيرتفِع ملحي
ْ تقي��أ ّ
البحر
ُ رس
لكي يك� َ زجاج ْ ٍ �سوى وت ٍر من ولي�س َ َ
مي ِة اله ِز َ بي
الرملِ ْ جمجمة َ ّ َ
قم�صان ُه ليقولَ ل َنا : البحر َ ُ ه ْل ب ّدل
ظلّكم حزنكُم ..
موت . . �س أ� ُ
يتعرى َّ من َدمي ين . . و�أنا ْ الدروب تعا�رش ْ ُ
كما ت�شت ُهون فلتكُونوا َ يحم�سِ ٌ
املوا�سم/ َ الغجرية ِ البحر بالزرق ِة ويقذفني
َّ ُ ْ
ني/ ِ منت�شي ني �سبطَ انهم ؛ ني ب أ�ح َز ِ حتاج �رسب ًا من الغج ِر ال َثمل َ �أ ُ
ق�ص/ للر ِ ني ّ حذائ ِ أل�صل ّْي
م�سبحة ً لل�صال ِة َ تنب أ� التي مل ّ كالنور�سات ْ َ ك آ�خ ِر �آله ِة البح ِر . .
غنيات؟
ِ أ
بال البحر
ُ لنا ملَاذا يجامِ مبقت ِل َها بع ُد
يجف ب أ��ضالع َنا �صوت َنا ّ وملّا َن�شِ ْخ � . .أ ْو ان والكم ِ
َ فمي
ني ْ ذيب الق�صي َدة ب َ حتاج بلّورة ً أل َ �أ ُ
الغجري ال َقدمي؟ ّ العجو ِز
s
s
s
�سنوات ....
أ��شــرف العــناين
�شاعر من م�رص
s
s
s
م�سقط ر� أ�سه
تلك املناطق احلرجة على حدود � أرواحنا نعدك :ال مهرب لنا ،معنا هزائمنا � ،..أوتادنا،..
�رشّقنا ثم � أننا لن نخدع القبور باحلكايات املعادة :
غرّبنا فقط �سنتمدد هنا � أو هناك ككلمات قدمية ،
حتايلنا على عالمات الطريق مغربين من معارك ال �ش�أن لنا فيها
� أبناء �شيبة نحن الذين جئنا هكذا بغري تخطيط نعد ال�شاي
،.. ونرتك الأكواب باردة وممتلئة
وبغري تخطيط تع�صف بنا احلياة !!! فتعرف طوابري النمل � أننا م�شغولون بالتحديق
يف كل مرة مل يكن لنا يد يف بع�ضنا البع�ض
زورنا مالحمنا ثم ,.........
ابت�سمنا مبرارة ل�رشطي املرور -وبال �رضورة – نفرد عظامنا ,
لل�سماء التي مل تهتم . � أرواحنا هي الأخرى مفا�صلها تتفكك ،
حاولنا � أن نفهم -ظانني � أننا فعلنا ما علينا – نغلق � أبوابنا
رفعنا ر ؤ�و�سنا كذئاب نحيلة حتارب ال�صحراء �شبابيكنا يف وجه ال�صدفة
دون ق�صد يف وجه احلياة ...
وحدنا كنا هنا احليطان التي تدربنا خلفها على الن�سيان
وحدنا بقينا هنا �سميكة
لي�س � أكرث . قلوبنا لي�س من ال�صواب ا�ستعمالها هكذا يف
رائحة العرق يف قم�صاننا ا�ستعماالت رخي�صة
� أحذيتنا املغربة بفعل الي�أ�س ناق�صون ناق�صون !!!
وك�أننا واثقون من حياتنا من يتهمنا بذلك ؟؟؟؟
من وجودنا وما ذنبنا �إذا كانت � أرحام � أمهاتنا �ضيقة لهذا
من حجارة العدم حيث بغري توقف تنهار فوق احلد ؟؟؟؟
ر ؤ�و�سنا ثم � أننا �سافرنا ،..
بع�ضنا كان ي�سخر مبرارة جندنا � أقدامنا لأن مت�شي طويالً ،..
ي�ضع خوذة من عتبة �إىل عتبة ، ..
ويق�ضم خبزه النا�شف من نهار �إىل نهار ،..
لكننا جميعاً ت�سمرنا � أمام املقابر �إىل ليل بذيول طويلة يعلق جنومه هكذا حول
�شاركنا يف جنازات مل تكن لنا � أعناقنا
ثم � أنهم ب�صعوبة � أفلحوا يف عد نهداتنا التي كتمائم حتفظنا من احلياة !!!!!
� أمطرت بالقرب من تلك الذكرى متنا كثريا ً ،..
ن�سياننا هو الآخر كان ينتظر دوره ويف كل مرة كان نق�صنا يقل
وما حدث هو � أننا هربنا من كل ذلك يزيد
� أعطينا ظهورنا لكلمات ال نعلم كيف احتملت لكنه ظل هناك
كل هذا اخللود مل ين�سحب � أبدا ً من ملعبه املف�ضل
221 نزوى العدد / 62ابريل 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
� أي�ضاً ..الفم املفتوح ..الأ�صحاب «ك�أن �شيئاً مل يكن» :كان ب�إمكاننا � أن نفهم
كما تقول الكتب ..احلبيبات ..ال�شعوب املرتوكة غري � أنه الوهم مهمازنا الذي حترك كنميمة
على خري ..احلماقة بغري نيّة ٍ .. لك�سب املزيد من الأ�صدقاء
اخلوف ..الطعام ..احلكمة ..ال�شجاعة كما هكذا وب�رضبة ٍعمياء من خيال ٍميت ٍ
طفل بعكازين ..املوت على �سبيل الدعابة .. عدنا حمملني ب�أرقام الهواتف
عالمات الطرق من غري � أن تفهم جيوبنا ب�أننا جمرد غيمة
..الرمال ..احل�صى ..حجارة الي�أ�س ..الأمومة �ستعرب �رسيعاً
..الذات بكل عاهاتها ..ال�شتاء ..النهود التي م�سافرون بال متاع ٍ ،..
ق�صدها � أن تكون لنا ..الغيوم ..احلوا�س .. لو كان � آبا ؤ�نا ببناطيل جينز لعلمونا
ا ألحالم ..ال�شم�س كلما تقافزت فوق ر ؤ�و�سنا من قال � أننا �سنهاتف طوب الأر�ض :
ن�ؤكد له � أننا هنا
كمهرج فا�شل ..اخلمر جمهورنا الرخي�ص ..
ن�أكل جيدا ً ،..
الر� أفة ..النجوم على �سبيل احل�رص ..القمر على ندخن جيدا ً ،..
�سبيل احل�رسة ..احلرية دون ق�صد ..املوم�سات
نتو�سد ظهور ن�سائنا كفحول معلوفة جيدا ً
..املناعة ..منافينا الوفية رغم ذلك � ..شبابيكنا ماهرون وممتلئون :
� ..أغ�شية البكارة ..خل�سات ال�صوم عن النميمة انه التواتر الأمل�س الذي يجعلهم � أي�ضاً يتخفون
,,احلروف ال�رشيفة ..ظالمنا الهند�سي ..الهواء خلف � أيامهم
..هم�سات املحبني القيا�سية ..الع�شم ..التبغ .. يختفون حتت ت�رصف ال�صدفة
�صحرا ؤ�نا هي الأخرى ..احل�شمة ..ال�صقيع .. اللغة غري طاهرة كما نعرف كل يوم ،..
كل �شرب ..كل �سنتيمرت مربع : .. دروبنا ..قلوبنا ..املحطات البعيدة ..الكرا�سي
برباءة نعرف � أننا �ضحينا العمياء ..ال�سماوات ..الدموع
�ضحينا وانتهى الأمر ... املو�سيقى ..الكتابة حتت �ضغط عال ٍ � ..أخطا ؤ�نا
s
s
s
له:قالت ُ اجلنون
ُ حني ا�ستبدَّ ِب ِه َ
قدر
يت لو َ �أر� أ َ تنهدت:
علي، هئت ل ْك» «ما ُ
الزمان َّ ُ
بي ا أل ُ
قدار، همت َ �أو ّ حيث البداياتِ و�أتته من ُ
�صار الت�شظي �أو َ الربيئ ْة
�سيدا ً فوقي، وكذا � -إذا كانت منابتُها
ماذا هنالك ينتظرْ؟ معادل ًة �صحيح ْة -
آالف املما�ساتِ ون � َ �س�أ ُك ُ تكون حا ُل الدائر ْةُ
الكبري ْة مولَّهٌ
املما�س َ ِ �شيطان
َ لكن
َّ
تذكر �أنني قد ُ
كنت ل�ست ُ �أو َ بالطي�ش،
ِ
خطاً م�ستقيماً نزاق، وا أل ِ
فانثنيت عليك عطفاً ُ واملَ ْك ِر املعب�ِأ من
الع�شاق
ِ باركت فيك براء َة ُ اجلنون
ْ حماقاتِ
يوم ظننتُها َ و ألنها والد ُة ا ألوتا ِر،
بكرا ً لدي ْك وا ألقطا ِر،
امل�سكون
ُ يا �أيها جاذب ُة املما�ساتِ
زق املعت ِق، بالنَّ ِ العظيم ِة نحوها
واحلماق ْة العيب
َ رف�ضت � أ
الروح
ِ نور
ه ْل �ض َّل ُ املما�س، ِ
فيك طري َق ُه تو�سلت
ْ
فظننت �أنيِّ قد َ بال�صمت جاراً،
خون معادل ْة �أ ُ والخَ َ َفرْ
التقريب
ُ مل ُي ْغ ِرها وتقاطرت
ْ
�أو طيْ ُ�ش الريا�ض ْة؟ حزناً
ني
على جب ِل ال�سن ِ
223 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صو�ص
224
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
جحيم ف�سيح
للكاتب أ
الرجنتيني :جولريمو مارتينيز
ترجمة :عبداهلل احلرا�صي ماجنوول
ِ الجنليزية� :ألربتو
ترجمها من اال�سبانية �إىل إ
كاتب و�أكادميي من عُ مان
انعزال �رسفينو مل يكن مرده �إال �إىل اخلجل � ،أما ال�سيدة «القرية ال�صغرية جحيم ف�سيح»
الفرن�سية فلعلها كانت يف غاية التكرب والعنجهية. مثل � أرجنتيني
جاءا من املدينة الكبرية ال�صيف املا�ضي ،يف بداية حينما تخلو البقالة من الزبائن ،وال ت�سمع فيها �سوى
املو�سم ،وحينما فتح �رسفينو حمل احلالقة � أتذكر طنني الذباب كثريا ً ما ي�أتي على بايل ذلك ال�شاب الذي
� أنني ظننت � أنه �سوف ي�رض بعمل ملخور العجوز لأنه الطالق والذي مل يذكره � أحد يف مل نعرف ا�سمه على إ
كان يحمل دبلوما يف احلالقة ،كما � أنه فاز بجائزة البلدة مرّة � أخرى .ولأ�سباب ال � أ�ستطيع تف�سري كنهها
يف م�سابقة احلالقة الق�صرية ،وكان يف حمله جمفف كنت دائماً � أتذكره بهيئته التي ر� أيناه فيها لأول مرّة:
ير�ش خال�صات اخل�ضار يف دوار ،وكان ّ وكر�سي ّ �شعر مبالب�سه املغربّة ،وبلحيته املنفو�شة ،وعلى الأخ�ص
ّ
فروة ر� أ�س الزبون ،بل � أنه كان ير�ش بع�ض اللو�شن ب�شعره الأ�شعث الطويل الذي غطى عينيه تقريباً .ولأن
الكف عن ذلك .كما � أنك جتد ّ عليك �إن مل تطلب منه الوقت كان مطلع الربيع فقد ظننت � أنه كان �شخ�صاً
الرف يف حمل �رسفينو � أحدث املجالت ّ دائماً يف متجهاً جنوباً لأجل التخييم � .أخذ بع�ض علب الطعام
الريا�ضية ،وفوق هذا كله كانت هناك ال�سيدة و�شيئاً من القهوة ،وفيما كنت � أعدّ فاتورة ح�سابه نظر
الفرن�سية .واحلقيقة � أنني مل � أعرف قط ملاذا �سماها �إىل انعكا�س �صورته على النافذة ،و� أزاح �شعره عن
النا�س ال�سيدة الفرن�سية ،ومل � أحاول � أبدا ً معرفة ذلك– جبهته ،و�س�ألني �إن كان هناك حلاّ ق يف البلدة.
ولو حاولت لكنت �س�أ�شعر بخيبة الأمل حينما � أعرف يف تلك الأيام كان هناك حالقان يف بونتي فيجو.
� أن ال�سيدة الفرن�سية قد ولدت على �سبيل املثال يف � أدرك الآن ب�أنه له كان قد ذهب �إىل حمل ملخور
باهيا بالنكا ،بل والأدهى والأمر � أنها ولدت يف بلدة العجوز ملا التقى � أبدا ً بال�سيدة الفرن�سية ،وملا انت�رش
�صغرية مثل هذه البلدة .و� أيا كانت حقيقة الأمر فاين القيل والقال عنهما� .إال � أن حمل ملخور كان يف
مل � ألت ِق بامر� أة مثلها .لرمبا كان �سبب اجللبة حولها الطرف الآخر من البلدة ،ومل � أكن � أعلم الغيب ف�أحد�س
�صداراً ،بل انها حتى يف ال�شتاء هو � أنها مل تكن تلب�س ِ مبا حدث بعدها.
مل تكن ترتدي � أي �شيء حتت �سرتتها .ورمبا كان وما حدث هو � أنني � أر�سلته �إىل حمل �رسفينو ،ويبدو
هذا ب�سبب ظهورها املعتاد يف حمل احلالقة مرتدية � أن ال�سيدة الفرن�سية جاءت فيما كان �رسفينو يحلق
� أقل املالب�س ووقوفها � أمام املر� آة لت�ضع م�ساحيق له �شعره .نظرت ال�سيدة الفرن�سية �إىل ال�شاب بذات
التجميل على وجهها � ،أمام � أعني اجلميع .غري � أن الطريقة التي تنظر بها �إىل كل الرجال ،وهنا بد� أت
الأمر مل يكن له عالقة بهذا كله .كان هناك � أمرٌ يتعلق الق�صة اللعينة ،حيث � أن ال�شاب قرر � أن يقيم يف البلدة،
بال�سيدة الفرن�سية � أكرث �إرباكاً من ج�سمها الذي بدا وكلنا فكرنا يف الأمر ذاته � :أنه بقي ب�سببها.
دائماً مثريا يف املالب�س التي كانت ترتديها ،بل � أكرث مرّ عام منذ � أن جاء �رسفينو وزوجته �إىل بونتي
�إثارة من انخفا�ض فتحة �صدرها ،فقد كانت حتدق فيجو ،ومل نعرف الكثري عنهما ،ومل يكونا يختلطان
يف عينيك بثبات حتى � أنه يكون � أمامك �إال � أن تخف�ض مع � أي � أحد يف البلدة ،وهو � أمر كان يتحدث عنه كل
غراء ،وتغمرانك ب�رصك ،وكانت عيناها تفي�ضان � إ ً �سكان البلدة بحنق وغ�ضب .وحتى ال نظلم النا�س ف�إن
225 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
تهيمان يف الف�ضاء ،وكان يقف لفرتة طويلة ،وهو بالأمل ،غري � أن عينيها كانتا يحمالن � أي�ضاً ومي�ضاً
ي�شحذ �شفرة احلالقة � ،أو يطقطق باملق�ص لفرتة هازئاً ،وك�أمنا متتحنك ،وهي تعرف � أنك ال تقوى على
ترده �إىل العامل
طويلة ،حتى � أنك ت�ضطر لأن ت�سعل كي ّ حتديها ،وك�أنها قد � أيقنت ب�أنه ال يوجد يف البلدة كلها
الواقعي .باغته مرّة � أو مرتني وهو يحدق يف املر� آة من ي�ستطيع � أن ي�سمو �إىل م�ستوى رغباتها اجلاحمة.
يف ال�سيدة الفرن�سية ب�شغف �صامت مكثّف ،وك�أنه هو كانت تثرينا �إذا ً بعينيها ،ثم ،ت�سخر منا حينما
نف�سه مل يكن م�صدقاً ب�أن هذه املر� أة زوجته .كان تن�سحب بعينيها.
تلك النظرات املغرمة التي ال �شك يف �صدقها متل�ؤنا كان كل هذا يحدث � أمام �رسفينو الذي مل يكن يبدو
بال�شفقة عليه. � أنه كان يالحظ � أي �شيء مما كان يحدث ،فقد كان
يف اجلانب الآخر كان من الي�سري علينا كذلك � أن منحنياً خلف رقابنا مطقطقاً مبق�صه يف الهواء بني
ندين ال�سيدة الفرن�سية ،قبل كل �شيء لأن رجال البلدة فينة و� أخرى.
املتزوجني والعوان�س الباحثات عن � أزواج قد احتدوا نعم .كانت ال�سيدة الفرن�سية ت�شكل يف البداية � أف�ضل
منذ البداية �ضد فتحة �صدرها املخيفة .غري � أن العديد دعاية ملحل �رسفينو ،وكان حمله مزدحماً بالزبائن
من الرجال كانوا ممتع�ضني من ال�سيدة الفرن�سية، يف الأ�شهر الأوىل .غري � أن ال�صواب قد جانبني فيما
خ�صو�صاً � أ ؤ�لئك الذين كانوا م�شهورين مبهاراتهم يف يتعلق مبلخور ،فلم يكن الرجل العجوز مغفالً ،بل
جذب الن�ساء يف بونتي فيجو مثل نيل�سن اليهودي � أخذ يغري زبائنه القدماء فيعودون �إليه �شيئاً ب�شيء.
– � أ ؤ�لئك الرجال الذي مل يتعودوا � أن تتجاهلهم امر� أة، الباحية فقد متكن من احل�صول على بع�ض املجالت إ
فكيف ب�أن ت�أتي امر� أة فتهز� أ منهم وتتالعب بهم؟ التي منعها الع�سكر يف تلك الأيام ،وحينما ح ّل ك�أ�س
وحدث ب�أن كل � أحاديث البلدة كانت تتجه يف نهاية العامل بعد ذلك جمع كل مدخراته وا�شرتى تلفازا ً
املطاف �صوب املر� أة الفرن�سية وع�شيقها ال�شاب ،رمبا ملوناً ،وكان هذا � أول تلفاز ملون يف البلدة .ثم � أخذ
لأن ك�أ�س العامل قد انتهى ،ومل تتبق موا�ضيع يتحدث يقول لكل من ي�سمعه ب�أنه ال يوجد حلاّ ق للرجال يف
عنها النا�س � ،أو لعله ب�سبب ندرة الف�ضائح يف البلدة. بونتي فيجو �إال حلاّ ق واحد ال غري � ،أما �رسفينو فكان
وقد كنت � أ�سمع من حيث كنت � أجل�س خلف طاولة حلاّ ق املخنثني.
احل�ساب يف املحل نف�س احلديث يتكرر ويتكرر :ما ر� آه �إال � أن حد�سي يقول يل ب�أن الكثريين عادوا �إىل حمل
نيل�سن مرّة ذات ليلة على ال�شاطئ (كانت ليلة باردة، ملخور مرّة � أخرى ب�سبب ال�سيدة الفرن�سية ،حيث ال
ومع ذلك فقد كانا عاريني و� أكيد � أنهما قد تعاطيا ي�ستطيع �إال القليل من الرجال � أن يقبلوا � أن تهز� أ منهم
خمدرات لأنهما فعال �شيئاً ما مبقدور نيل�سن و�صفه، � أمر� أة � أو � أن تذلّهم لفرتة طويلة.
حتى بني الرجال � أنف�سهم ويف غياب الن�ساء) ،وما وكما كنت � أقول فقد بقي ال�شاب� ،إذ ن�صب خيمة يف
قالته � أرملة ا�سبينوزا (ب�أنها من نافذة بيتها كانت �ضواحي البلدة ،خلف الكثبان ،لي�س بعيدا ً من بيت
دائماً ما ت�سمع �ضحكاً و� أنيناً ي�أتي من خيمة ال�شاب، � أرملة ا�سبينوزا .ومل يكن ي�أتي �إىل البقالة �إال نادراً،
وكان هذا �صوت ج�سدين ملت�صقني يتدحرجان) ،وما وحينما كان ي�أتي كان ي�شرتي � أغرا�ضاً كثري ًة ،تكفيه
� أخربنا العجوز الأكرب �سناً يف � آل فيدال (ذات ليلة يف ملدة � أ�سبوعني � أو �شهر� .إال � أنه كان يزور احللاّ ق يف
حمل احلالقة ،هناك � أمامه و� أمام �رسفينو .)....ترى كل يوم.
من يعرف مقدار ال�صدق يف كل هذا القيل والقال!! ولأنه كان من ال�صعب ت�صديق � أنه مل يكن يذهب
وذات يوم � أن عرفنا ب�أن ال�شاب وال�سيدة الفرن�سية قد �إىل هناك �إال لقراءة اجلرائد الريا�ضية فقد � أخذ النا�س
اختفيا � .أعني � أن ال�شاب مل يعد يظهر � أبداً ،ومل يرَ � أحدٌ ي�شعرون بال�شفقة على �رسفينو ،فكان اجلميع حزيناً
ال�سيدة الفرن�سية ال يف حمل احلالقة وال يف املم�شى لأجله يف البدء .واحلقيقة � أنه كان من ال�صعب � أال
على ال�شاطئ حيث اعتادت امل�شي .كان � أول ما تبادر ت�شعر باحلزن لأجل �رسفينو ،فوجهه كان وجه
�إىل � أذهاننا � أنهما هربا معاً .والعجيب � أن الن�ساء � أبدين مالك وابت�سامته كانت ب�سيطة ،كما هو حال النا�س
ا�ستعدادا ً مل�ساحمة ال�سيدة الفرن�سية على فعلتها هذه، اخلجولني دائماً .مل يكن يتحدث �إال قليالً ،وكان
رمبا لأن فكرة الهروب فكرة رومان�سية � أو لأن تلك عامل متعرج بعيد ،وكانت عيناه يبدو � أنه يغرق يف ٍ
226 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
الرملة هجومها .قالت ب�أنها ال ميكن � أن حتى ا�ست�أنفت أ الغواء اخلطرة مل تعد موجودة .كن يقلن ب�أن �سيدة إ
ت�صدق هراء �رسفينو وخداعه ،و� أننا لن نرى تلك املر� أة من الوا�ضح � أن هناك �شيئاً خاطئاً يف ذلك الزواج،
امل�سكينة مرّة � أخرى .وب�صوت خفي�ض � أ�رصت ب�أن هناك فقد كان �رسفينو � أكرب منها كثرياً ،كما � أن ال�شاب كان
قاتالً طليقاً يف بونتي فيجو ،و� أن � أي �شخ�ص منا قد بالغ الو�سامة ...وبقهقهات مكتومة يعرتفن ب�أنهن
يكون �ضحيته القادمة. كن مكانها.
كن �سيهربن مثلها لو ّ
مرّ � أ�سبوع ،ثم تاله �شهر ،ومل تعد ال�سيدة الفرن�سية .ومل ويف ع�رص � أحد الأيام حينما كانت الن�ساء يتحدثن
يعد ال�شاب � أي�ضاً .وبد� أ � أطفال البلدة ي�ستخدمون خيمته عن هذا املو�ضوع قالت ارملة ا�سبينوزا التي ت�صادف
يف لعبة رعاة البقر والهنود احلمر ،وانق�سمت بونتي وجودها يف حمل البقالة ب�صوت غام�ض ب�أنها تعتقد
فيجو �إىل مع�سكرين :معك�رس املقتنعني ب�أن �رسفينو ب�أن �شيئاً � أخطر بكثري قد حدث ،فقد كان ال�شاب كما
املكون منا نحن الذين كنا نعتقد جمرم ،واملع�سكر الآخر ّ نعرف جميعاً قد ن�صب خيمته بالقرب من بيتها،
ب�أن املر� أة الفرن�سية �سوف تعود ،وكان عددنا يتناق�ص وعلى الرغم من � أنها ،مثلنا جميعاً ،مل تره لأيام �إال
ويتناق�ص .كنا ن�سمع ب�أن �رسفينو قد قطع حلقوم ال�شاب � أن اخليمة ما زالت يف مكانها ،ويبدو من الغريب
المهات ب�شفرة حينما كان يحلق له �شعره ،ومنعت أ جدا ً – كررت «من الغريب جداً» – � أنهما مل يحمال
� أطفالهن من اللعب يف ال�شارع الذي يقع فيه حمل اخليمة معهما .قال � أحد احلا�رضين ب�أنه ينبغي �إبالغ
احلالقة وطلنب من � أزواجهن احلالقة عند ملخور� .إال � أن ال�رشطة ،ودمدمت املر� أة ب�أنه من الواجب على � أهل
الغريب � أن �رسفينو مل يكن حمروماً من من الزبائن :كان البلدة � أن يراقبوا �رسفينو كذلك .تذكرت � أنني غ�ضبت
ال�شباب يجر� أون الواحد بعد الآخر على الذهاب واجللو�س ولكني مل � أعرف كيف � أ�ستجيب ملا كان يدور من
يف كر�سي احلالق املدان ويطلبون احلالقة بال�شفرة، حديث :كان قانوين هو � أال � أدخل يف جدال مع الزبائن.
و� أ�صبح �إحدى رموز الرجولة � أن ي�صفف ال�شباب �شعرهم بد� أت بالقول بهدوء ب�أنه ال ينبغي اتهام � أي ان�سان
للأ على عند �رسفينو. دون دليل ،وب�أين � أرى ب�أنه من امل�ستحيل � أن يقوم
وحينما �س�ألنا عن ال�سيدة الفرن�سية كان �رسفينو يكرر �رسفينو ،ب�أن يقوم �شخ�ص مثل �رسفينو بـ ...غري � أن
على م�سامعنا ذات الق�صة عن � أبيها املري�ض ،وهي ق�صة الأرملة قاطعتني قائلة ب�أنه من املعروف ب�أن النا�س
مل يعد ي�صدقها � أحد .توقف النا�س عن حتيته ،و�سمعنا اخلجولني واالنطوائيني قد يتحولون �إىل � أ�شخا�ص يف
ب�أن � أرملة ا�سبينوزا قد � أبلغت ال�رشطة ب�رضورة �إلقاء غاية اخلطورة �إن مت التمادي يف �شيء �ضدهم.
القب�ض على �رسفينو غري � أن املفت�ش � أجابها ب�أن ال�رشطة كان حديثنا يدور يف حي�ص بي�ص حني ظهر �رسفينو
ال ت�ستطيع فعل �شيء �إال بعد العثور على اجلثتني. فج�أة عند باب البقالة.
بد� أ �سكان البلدة يحزرون حول مكان اجلثث ،فقال البع�ض ح ّل باجلميع �صمت عميق :ال بد � أنه عرف ب�أننا كنا
� أن �رسفينو قد دفن اجلثتني حتت فناء داره ،وقال نتحدث عنه ،ألن اجلميع خف�ضوا نظرهم � أو نظروا يف
� آخرون � أنه قد قطع اجلثث � إ َرباً ورماها يف البحر ،وهكذا اجتاه � آخر .ر� أيته وقد � أحمر وجهه خجالً ،وبدا يل � ،أكرث
ا�ستحال �رسفينو �شيئا ب�شيء يف خيال �سكان البلدة �إىل من � أي وقت �سابق ،مثل طفل عاجز مل يحاول � أبدا ً � أن
وح�ش يزداد خطورة يوماً بيوم. يكرب .وحينما � أعطاين طلبه الحظت ب�أن قائمة اخل�ضار
ويف حمل البقالة وعلى �إثر �سماع نف�س احلديث مرة بعد والفواكه �صغرية وب�أنه مل يطلب الروب .وحينما كان
� أخرى بد� أت � أ�شعر برهبة ُخرافية ،و�شعرت ب�أن كل هذه الرملة فج�أة عن ال�سيدة الفرن�سية. يدفع احل�ساب �س�ألته أ
الحاديث غري املنتهية �سوف حتبل يف نهاية املطاف أ � أحمر �رسفينو خجالً مرة � أخرى ،ولكن بهدوء هذه
الثناء بدا وك�أن � أرملة ا�سبينوزا خرجت ب�أمر فظيع .يف أ املرة ،وكانه قد �شعر بالتقدير من هذا االهتمام الكبري.
عن طورها و� أ�صابها م�س من اجلنون ،حيث � أخذت يف قال ب�أن زوجته قد �سافرت �إىل املدينة لتعتني ب�أبيها
احلفر يف كل مكان ،م�سلحة مبجرفة � أطفال تافهة، الذي كان مري�ضاً جداً ،و� أنها �رسعان ما �ستعود ،رمبا
وت�صيح ب�أعلى �صوتها � أنها لن ت�شعر بالراحة �إال بعد خالل � أ�سبوع .وحينما كان يتحدث ت�سلل �إىل وجوه
العثور على اجلثث. اجلميع �شعور غريب ،وجدت �صعوبة يف التعبري عنه يف
ويف يوم ما ،عرثت على اجلثث. المل .وما � أن غادر �رسفينو البداية � :أنه ال�شعور بخيبة أ
227 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
مل ينظر الآخرون �إىل اجلثة �إال قليالً ،بل عادوا �إىل الوىل يف �شهر نوفمرب .دخلت اليام أ كان ع�رص يوم من أ
جمارفهم ،بحما�سة ،باحثني عن ال�سيدة الفرن�سية ،غري الرملة �إىل املحل و�س�ألت �إن كان لدي � أي جمارف، أ
� أين ذهبت �إىل اجلثة و� أجربت نف�سي على التدقيق فيها.عال ي�سمعه اجلميع ،قالت ب�أن املفت�ش قد ثم وب�صوت ٍ
ثقب
بني عيني اجلثة املليئتني بالرمال كان هناك ٌ � أر�سلها بحثاً عن املجارف وعن متطوعني حلفر الكثبان
خلف اجل�رس .ثم � أخذت تتحدث ببطء وتخرج كلمة بعد
� أ�سود .انها لي�ست جثة ال�شاب.
المر مثل القفز � أخرى قائلة � أنها ر� أت هناك ب�أم عينها كلباً يلتهم يدا ً
ا�ستدرت كي � أنبه املفت�ش �إىل هذا .كان أ
�إىل عمق عامل الكوابي�س ،فقد كان اجلميع يخرجون المر � آدمية� .رست رجفة يف كل ج�سمي ،ففج�أة حتول أ
الر�ض تنبت جثثاً .ومع كل �رضبة جمرفة �إىل حقيقة ،وفيما كنت � أبحث عن املجارف وفيما
جثثاً ،وك�أن أ
كنت � أقفل املحل كنت � أ�سمع ،دون � أن � أ�صدق حتى الآن،
كان هناك ر� أ�س يتدحرج من احلفرة � أو جذع �إن�سان ممُ َثَّل
به .و� أينما ذهبت بب�رصك كانت هناك جثث ومزيد من احلديث املرعب« :الكلب»« ،اجلثة»« ،يد � آدمية».
الرملة امل�سرية ،بفخر .كنت � أم�شي متثاقالً يف
اجلثث ،ور ؤ�و�س ومزيد من الر ؤ�و�س. قادت أ
جعلني الرعب � أرك�ض من مكان لآخر ،ومل � أكن قادرا ً اخللف ،حامالً املجارف .نظرت �إىل الآخرين ور� أيت
على التفكري ،وال على الفهم حتى ر� أيت �إن�ساناً خمرماً ذات الوجوه ،النا�س الذين كانوا ي�أتون �إىل املحل ل�رشاء
بطلقات نارية ،وبعيدا ً ر� أيت ر� أ�ساً مع�صوب العينني.البا�ستا وال�شاي .نظرت حويل ومل � أجد � أن �شيئاً قد تغري،
المر .نظرت �إىل املفت�ش فوجدته قد ال �شعور بالرعب وال �صمت غري متوقع .كان ع�رص يوم
عندها � أدركت أ
المر كذلك ،و� أمر اجلميع بالبقاء يف � أماكنهم ،و� أال مثل بقية الآيام ،يف نف�س ال�ساعة العقيمة اجلدوى التي
� أدرك أ
الن�سان من قيلولته .حتتنا ا�صطفت البيوت
يتحركوا ،وذهب �إىل البلدة ألخذ � أوامر ر ؤ��سائه. ي�ستيقظ فيها إ
يف الوقت الذي ذهب فيه حتى رجع مل � أتذكر �إال نباح يف خط متناق�ص الطول ،والبحر ذاته ،على مبعدة ،بدا
الرملة التي الكلب املتوا�صل ،ورائحة املوت ،وم�شهد أريفياً م�ستكيناً .لوهلة ظننت اين قد فهمت م�شاعر عدم
الطفال بني اجلثث ،طالبة منا اال�ستمرار الت�صديق يف داخلي ،ب�أن �شيئاً من قبيل هذا ال ميكن � أن
حتفر مبجرفة أ
ألنا مل نعرث بعد على ال�سيدة الفرن�سية .حينما عاد املفت�ش يقع هنا ،لي�س يف بونتي فيجو.
كان منت�صب القامة مهيباً مثل �شخ�ص على � أهبة حينما و�صلنا �إىل الكثبان ،مل يكن املفت�ش قد عرث على
الوامر. �شيء حتى الآن .كان يحفر مك�شوف ال�صدر ،وكانت
اال�ستعداد لتقدمي أ
وقف � أمامنا و� أخربنا ب�أن ندفع اجلثث ثانية ،مثلما الر�ض بكل قوة � .أ�شار جمرفته ترتفع وتهوي على أ
�إ�شارة مبهمة حوله ،فوزعت املجارف وغر�ست جمرفتي
وجدناها .عدنا جميعاً �إىل جمارفنا ،دون � أن يجر ؤ� � أحد
ال�سلم .لفرتة مل يكن هناك
على النطق ببنت �شفة. يف البقعة التي بدت لعيني أ
وعندما غطى الرمل اجلثث متلكني �شك يف � أن يكون � أي �صوت �سوى �صوت �رضبات معدن املجرفة اجلاف
ال�شاب من بني هذه اجلثث .كان الكلب ينبح ويقفز وهو يهوي على الرمل .بد� أت � أفقد خويف من املجرفة
الر�ض كاملجنون .ثم ر� أينا املفت�ش ،بركبة الرملة رمبا تكون قد � أخط�أت ،وب�أن الق�صة
ويهوي �إىل أ و� أفكر ب�أن أ
الر�ض ،وم�سد�سه يف يده � .أطلق ر�صا�صة واحدة. التي � أتت بها مل تكن حقيقية ،حينما �سمعنا �صوت نباح
على أ
�سقط الكلب ميتاً .ثم تقدم خطوتني ،وامل�سد�س يف يده، الرملة .خملوق م�سكني هزيل هائج � .أنه الكلب الذي ر� أته أ
اجل�سم يدور راك�ضاً هائجاً حولنا .حاول املفت�ش طرده
ودفع جثة الكلب ،كي ندفنها � أي�ضاً .وقبل � أن نعود للبلدة،
عما ر� أينا ،وكتب � أ�سماء كل من كان برميه بقطع الطوب لكن الكلب كان يعود مرة وثانية
� أمرنا � أال نحدِّث � أحدا ً ّ
وثالثة ،بل كاد يف حلظة من اللحظات � أن يقفز ومي�سك
هناك ،واحدا ً واحداً.
عادت ال�سيدة الفرن�سية بعد عدة � أيام ،بعد � أن �شفي � أبوها بخناق املفت�ش.
عندها � أدركنا ب�أن هذا هو املكان بالفعل .عاد املفت�ش
متاماً .ومل نذكر ال�شاب � أبدا ً مرة ثانية � ،أما خيمته فقد
للحفر مرة ثانية � ،أ�رسع ف�أ�رسع .كانت حما�سته ُمعد َِية،
�سرُ ِ َقت ما � أن ح ّل مو�سم العطل.
�إذ حتركت املجارف يف حركة من�سجمة ،وفج�أة �رصخ
املفت�ش قائالً ب�أنه قد هوى مبجرفته على �شيء ما .حفر (ن�رشت الرتجمة االجنليزية يف جملة «ذ نيو يوركر» عدد 27
ابريل .)2009 � أكرث وظهرت للعيان اجلثة أ
الوىل.
228 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
(\)
االح ـتـالل الأ مــريـكـي
ترجمة :حممود عبد الغني با�سكال كينيار
�شاعر من املغرب
مونغ تقدمي
متى تنتـهي احلرب؟ ا�ستعمر �سكان «�أورليان» من طرف ولد با�سكال كينيارد عام 1948يف فرينويل ،مبنطقة ا ألور.يقيم يف
باري�س يف تفرغ تام للكتابة منذ .1994در�س يف جامعة فان�سن ،
الثنتي ع�رشة طيلة ال�سلتيني واجلرمان والرومان ب�آلهتهم إ ويف املدر�سة التطبيقية للدرا�سات العليا للعلوم االجتماعية .در�س
الالن ،والفرجنيني، خم�سة قرون .ومن طرف الوندال ،و آ � أي�ضا مادة « � أ�صول الرواية القدمية» � .أ�س�س مع الرئي�س الفرن�سي
الجنليز و أالملان و أالمريكيني .يف نظرة والنورمانديني ،و إ ال�سابق «فران�سوا ميرتان» مهرجان ا ألوبرا وامل�رسح الباروكي
املر�أة .يف أاليدي التي ميدها االخوة ،يف �صوت أالب بفر�ساي .وهو � أي�ضا ع�ضو هيئة القراءة لدى دار ن�رش غاليمار.
املزجمر ،يف كل واحدة من العالقات االجتماعية ،هناك ن�ش�أ كينيارد بهافر .عا�ش طفولة �صعبة ومنطوية .مالت � أذواقه منذ
�شيء من العدو مازال ماكثا� .شيء ما يريد �أن يواجه� .شيء املراهقة �إىل املو�سيقى ،و �إىل اللغتني الالتينية واليونانية وا آلداب
القدمية ..يف �سنة 1968تابع درا�سته يف الفل�سفة بنانتري .ويف
ما يريد �أن يقتل .هدف جمهوداتنا لي�س �أن ن�صبح �سعداء، 1969ن�رش عند دار «ماركور دي فران�س» بحثه الفل�سفي ا ألول عن
�أن ن�شيخ يف الدفء ،ومنوت بال معاناة .هدف جمهوداتنا « �سا�شري مازو�ش» .لكن كان البد من روايتي « �صالون ورمتبورغ»
�أن ن�صل �إىل الليل �أحياء .يف «مونغ» يوم 15يونيو 1429 ( )1986و « � أدراج �شامبورد» ( )1989كي ينال �شهرة وا�سعة بني
،حتت االحتالل أالجنليزي ،ا�ستعاد جان دارك القنطرة من القراء .ويف عام 2002حاز جائزة «غونكور» ال�شهرية.
جي�ش العدو .ويف «مونغ» يوم 17يوليوز ،1959حتت ب�أ�سلوب ينتمي �إىل واقعية الرواية احلديثة ،حيث كل �شيء م�سمى
وحمدد ،وبذلك الغمو�ض الذي يطبع حكايات املغامرات ،كتب كينيارد
االحتالل أالمريكي ،متنى �شخ�ص ما ،فج�أة ،موت املر�أة رواية «االحتالل ا ألمريكي».رواية فرن�سا احلقيقية يف نهاية اخلم�سينات
التي يحـب. ،من خالل تقدمي مدينة �صغرية ولد على �أر�ضها ع�شق «ماري_جوزي
هو ابن بيطري .كان ا�سمه «باتريك كاريون» يف ال�سن فري» لباتريك كاريون .املراهقان اللذان �سيعي�شان وقائع �إقامة الثكنات
الثامنة ع�رش .كان االبن الوحيد .ولد �سنة 1941حتت ا ألمريكية على ا ألر�ض الفرن�سية�.أر�ضهما� .أر�ض حبهما ا أل�صلي املتوحد.
االحتالل أالملاين .ويف �سنة 1943ا�ستوىل أالملان على فنقر� أ ا إلغراء الذي ت�رشع يف ممار�سته عليهما ال�سيارات وا أللب�سة
واملو�سيقى الغريبة التي تبد� أ يف الت�شوي�ش على حبهما امل�صاب باحلمى
الطابق أالول من املنزل العائلي. والذي ينتهي بانحدار خميف نحو املوت .وما ذلك كله �سوى ا�ستعارة
مل يكن الدكتور «كاريون» يتحدث كثريا ،كان ميلك �سيارة ملحمية عن ا إلن�سان الذي �أ�صبح عبدا ل�صورته املتعددة واملت�شظية
«جوفاكاتر» عتيقة ،ويرتدي يف كل الف�صول بدالت من ب�سبب دخول الغريب �إىل عامله و�إقامته على �أر�ض روحه.
املخمل امل�ضلع ،ويع�شق ،ب�شكل طبيعي زوجته ،مهنته، ال يحكي كينيارد ذكريات �شبابه عن اجلنود ا ألمريكيني يف فرن�سا،
ابنه ،الغابات ،احليوانات ،ذكريات احلرب ،التبغ أال�سود، وما � أحدثته من تغيريات على �ساكنة املنطقة .فهو ال يتذكر �شيئا من
ذلك ألنه ولد مت�أخرا ،يف �سنة � .1948إنه ،بكل ب�ساطة ،وكما يعرف
الربد ،رائحة الطني و أالوراق امليتة التي ت�رص من اجلمود، ذلك قرا� ؤه ونقاده ونا�رشوه ،يقدم مادة روائية ليبلغ � أ�سمى هدف
وي�ستمع �إىل �إذاعة «د�.س.ف» (.)T.S.F ميكن � أن يحققه الفن الروائي :تقدمي وتقليب الوجوه وال�صور .وجوه
كان يقطن �أمام الكني�سة .للبيت حديقة �صغرية �أمامية و�صور احلقيقة الذاتية واالجتماعية والتاريخية.فكينيارد عندما
زينتها ال�سيدة «كاريون» با ألزهار ،ومينع اللعب فيها .ال يتحدث عن عواطف �شخ�صياته � ،أو عن جزر ورمال منطقة «ال لوار»
حتب ال�سيدة «كاريون» �أن يناديها ماما ،بل �أمي .كان ألم ،ف�إن ال�صور تتزاحم يف ذهن القارئ .ألننا ن�شهد ،ب�شكل جماعي ،على
«باتريك كاريون» ج�سد متناغم وفارع .وقد �أ�صبحت عوراء ع�رص االحتالل ا ألمريكي لكل �شيء بهدف ت�سليع احلياة .وا�ستهالل
الرواية بجمل عن احتالل منطقة»مونغ» لي�س حدثا فقط بل هو حالة
على �إثر حادثة وقعت لها �سنة 1943عندما كانت تعبئ تقدم لنا نتيجة يف غاية ا ألهمية»:لي�س للأمريكيني وجود �آخر غري
موقد الطبخ بالفحم� .رشارة قفزت و�أ�صابتها� .أيامها ا�ستعاد وجودهم ا أل�سطوري» ح�سب تعبري «بيري لوباب»(لوموند � 14،أكتوبر
اجلند الرو�س «كور�سك»� .أبقت على جفنها أالمين مغم�ضا . « .)1994االحتالل ا ألمريكي» رواية غري مريحة ،وال ترحم � أولئك
مل تكن تلك هي امل�صيبة الدائمة .كان قوامها عاليا� ،شعرها املجانني الذين ي�ضطرهم �ضعفهم �إىل ال�سعي �إىل القوة.
229 \ الف�صل االول من رواية حتمل نف�س اال�سم.
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
مبلل يف قفاز مبلل .املحفظة على الظهر والر�أ�سان خمب�آن ك�ستنائي ،وجهها مليء بال�صفاء املمزوج با ألمل ،نعزو �إليه
يف القناع ال�صويف .كانا يهيئان واجباتهما املدر�سية معا جمموعة من التجارب .كانت تختار تيابها بعناية فائقة،
على مائدة أالكل الدائرية يف مطبخ «�آل فري» ،حتت �ضوء و�سط الفو�ضى التي تطبع الن�ساء القاطنات يف القرية .كانت
م�صباح معلق .كانا يتبادالن الطعام اخلفيف ،وي�ستعريان غالبا ما ترتدي �سرتة �شفافة مع ف�ستان مقور على �شكل ،V
م�سطريتهما من بع�ضهما ويقت�سمان املمحاة .عندما ربط و�صدار �ضيق .قامتها وا�ضحة جدا وتنورتها تغطي ن�صف
«باتريك» و «ماري جو�سي فري» �أو�ضاع �ضيقهما كانا قد ربلة ال�ساق .كانت غالبا ما تقر� أ جمالت ت�صدر يف باري�س.
ربطا حياتيهما .كانت �أم «باتريك» تعزل نف�سها �أحيانا يف حولت الغرفة �إىل مكتبة كانت تغلق بابها لتختلي بنف�سها،
«�أورليان» �أو كانت تغلق باب غرفتها عليها.كانت نادرا ما وكانت متنع زوجها وابنها من الدخول.
ترى طفلها ،كارهة نف�سها ب�سبب عينها املفقودة ،حماولة �أن كانت ال�سيدة «كاريون» متيل ب�شكل طبيعي �إىل العزلة ،مع
العجاب رغم ذلك ،باذلة ق�صاراها �أن تعي�ش .والدكتور تثري إ أالتواب ،والتنورات والرغبة ،والكتب و أالزهار ،ورائحة
«كاريون» يجوب منطقة الـ«�سولون» وهو وراء مقود �سيارته أالزهار ،واللقاء مع أالزهار وال�صمت.
للفرا�س ،و أالبقار واخلنازير.
«جوفاكاتر» ،مكر�سا حياته أ خلف الدار هناك حديقة ممتدة غري مزروعة ومليئة بالرمال
ويف امل�ساء ،عندما يعود �إىل البيت ،ال يكون له القلب الذي تطل على نهر «لوار» ،الذي ربط على �ضفته قارب �أ�سود م�سطح
يهتم بابنه .ذات يوم طلب من «باتريك» �أن يزوره يف وجهته قوة التيار نحو اجلزيرة ،حيث كان للطفل احلق يف
«كلريي» .دخل �أحد الفالحني وهو يدفع ح�صانا �إىل اخللف اللعب ومرافقة زميلته ال�صغرية يف املدر�سة.
لي�ضع له املكباح احلديدي ،كان ي�رصخ بقوة .بد� أ الدكتور [[[
«كاريون» ببذلته الرمادية و»باتريك» الذي تلمع عيناه يف ا�سمها «ماري جو�سي فري» .ابنة �صاحب دكان لبيع اخلرداوات
ربط �أرجل احل�صان� .شدا املحزم اجللدي حول خا�رصيه .دفع للب «فري» خم�س فتيات .غادرته زوجته يف «مونغ» .كان أ
الدكتور املكباح يف اجتاه �أفقي ومد �إىل «باتريك» كالبة دون �أن تخربه ،حتى �أنها مل ترتك له كلمة واحدة ،يف ليلة
أالنف وقال له �أن ي�أخذ مكـانه عند ر�أ�س احليوان املطروح من ليايل ما بعد احلرب� ،سنة .1947وبعد مرور ثمانية
�أر�ضا� .رصخ الدكتور «كاريون» يف وجه ابنه: �أيام �أخربت با ألمر �صاحبة �صيدلية عرب الهاتف .يتلخ�ص
�« --ضع الكالبة يف �أنفه»! �إخبارها يف جملتني :لن تعود ،وعليه �أن يهتم با ألطفال.
�ضغط «باتريك» بعنف على منخر احل�صان .وفج�أة قطع «ماري جو�سي فري» هي �آخر العنقود .بقيت طفلتان تعي�شان
الدكتور «كاريون» �أع�ضاء احليوان التنا�سلية ليكر�سه مع والدهما ،فوق الدكان .بداية
للفالحة. يجب اجتياز ممر طويل ومظلم رائحته مزعجة ،يحاذي
[[[ م�ستودع اخلرداوات ،قبل �صعود الدرج الذي ي�ؤدي �إىل
�إذن ،العامل كان غري العامل .يف بداية اخلم�سينات ،عندما �أ�صبح الطابق.
للطفال احلق يف الذهاب �إىل املدر�سة على منت الدراجات أ ال تفرتق «ماري جو�سي فيري» وباتريك كاريون» منذ
الهوائية ،كانوا ي�رضبون املوعد يف بيت ال�صيد «كلريي»، الطفولة .كانا يلعبان يف ال�شارع ،يف ال�ساحة ،يف احلديقة
على اجلهة أالخرى من القنطرة ،على الرمل الك�ستنائي ،وراء اخللفية ،حتت ال�سقيفة ،على طول ال�ضفاف .كانا يذهبان معا
الق�صب .يف الربيع ،عندما ي�صبح الرمل �أكرث رطوبة ووحولة، �إىل املدر�سة .كانا يرافقان بع�ضهما �إىل تعلم امل�سيحية يف
كانوا يجل�سون على امل�صطبة احلجرية يف بيت ال�صيادين، �إحدى القاعات ال�سفلى يف احل�صن.
الذي كان عبارة عن جناح لرتبية ال�صقور .فتته مياه أالمطار يبدو �أن أالم �أخفت عند طفلتها ،عندما تركتها ،كل املعرفة.
و نخره الزبد .مياه نهر الـ «لوار» ،يف كل �سورات غ�ضبها، �صباح الغد ،بعد �أن غادرتهم �أمهم يف الليل بدون ا�ستئذان
تنخر حجرتي اجللو�س ال�صغريتني. ،دنت «ماري جو�سي فيري» ب�شفتيها اجلافتني من وجنة
قبل �أن يتعلم متتمة �أوىل الكلمات ،كان «باتريك» قد تلقى «باتريك» .وعندما التفت نحوها كان للطفلة ال�شجاعة ل�ضغط
الب�صمة البطيئة والالحمدودة للنهر الذي ي�سارع بال نهاية �شفتيها على فم «باتريك» ،كما يفعل الكبار ،ثم �ضمته �إليها
ميله باخلوف نحو «نانت» ونحو البحر .كل هيجان أ وبكت .كانا يبلغان ال�ساد�سة من عمرهما .يف ذلك ال�صباح،
واحلما�س .لقد كان ذلك انتحار أالر�ض حتت ال�سماء ،ي�صمت يف الفجر الندي والبارد ،تعاهدا على حب �أزيل :كانا يبكيان
اهلل �أمام «نوي»* ،Noeفقال له�« :س�أبيد الرجال فوق �سطح وينتحبان� .أوثقا قفازاتهما الباردة ،ورك�ضا يف اجتاه
أالر�ض ألنني ندمت على خلقهم .لقد �أمرت بطوفان لن يفلت املدر�سة .كانت ترافقه يف كل أالما�سي ،يـدا يف يد ،قفاز
230 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
أالغ�صان .يغوران داخلها ويخفيان القارب امل�سطح الكبري منه �شيء».
املقطرن الذي يخفيه باتريك يف �أ�سفل احلديقة اخللفية. لل�شكال ،وهذا االمت�صا�ص ،وهذا االبتالع �إن هذا الدفن أ
وحدها اخليول التي جتر القوارب امل�سطحة و�شباك ال�صيد، لل�شياء االعتيادية طيلة �سنوات ،كل ذلك قد عاد .وهذه أ
ألنهم �ساروا بها نحو البحر ،ت�شعر بح�ضور أالطفال على ال�ش�ساعة �أ�صابت اجلميع بالفزع .اجلمال كان يف ذروته
ال�ضفة .كانت ت�صهل على طريق العبور الذي يحاذي �أ�شجار والدمار الذي يلي هذا اجلمال كان غري متوقع.
الدلب يف املنتزه العام. عندما حل الغ�ضب كان ال�صغريان يف �أعلى ال�سور ،مل�شاهدة
الدارات املركزية التي توحد �أوربا الكربى. Sharpeتعني �أعظم إ اختفاء احلقول وال�ضفاف واجلزر واملنتزهات العامة
يف ذلك الوقت كانت تطلق كلمة «جينز» على البنطلونات وال�شوارع ال�صاعدة ،والبيوت التي على حافة املاء .ال�شم�س
ذات امل�سامري� .سبعة وع�رشون �ألف جندي �أمريكي وعائالتهم هبطت وغربت يف املاء الذي يبلل كل �شيء.
يعي�شون يف فرن�سا .وطريان القوات أالمريكية يتوفر على وب�سبب حرارة ال�شم�س تدثر الوادي بالبخار ال�صاعد من املاء
�إحدى ع�رش قاعدة يف العا�صمة .جمموع القوات الع�سكرية الذي كان يت�شكل حتت أال�شعة أالخرية .أال�سقف ،الكنائ�س،
أالمريكية �أقامت مع�سكراتها يف� :شريبورغ ،فوفيل� ،إيفرو، أال�شجار ،املراعي وال�سنابل كانت تهتز �شيئا ف�شيئا و�سط لون
�إيتان ،روكانكور ،ميرت ،بري�ست ،نان�سي ،فريدون ودروك�س. الدم .بد� أ هذا الدم يتخذ لونا �أ�سود .ماهو الدم الذي ال ي�سود
يف �شامبوري وفال�سبورغ ،نانت وباري�س .يف �أوريل وتول. ؟ املالب�س بليت .أال�صوات تغريت .املرايا مكثت .ق�ضبان
يف �شاتوروك�س وكابتيو� ،شومونت ،بو�ساك ،بواتيي� ،شومور، احلدائق و�أ�سلحة احلرب �صد�أت .الليل �أكل العامل .وحده احلقد
�شينون� ،إينغراد ،كروا – �شابو ،تروا –فونتان ،الرو�شيل� ،شيز، اليلة �إىل الزوال .االنتقام يحدد الهدف على �أنقذ الرغبة آ
�ساران ،البراكون ،مونغ .قيادتان عليتان اقت�سمتا املنطقة: مر أاليام .ترف�ض ماري جو�سي اللعب يف م�أدبة أالطفال.
من جهة قيادة الواليات املتحدة يف و�سط �أوربا مبع�سكر ماري جو�سي �أق�صيت من الركوع ومن دفع «دينكي تويز»
«لوج» ،قرب �سان_ جريمان – �أون –الي .ومن جهة �أخرى على الطرق الرملية التي ير�سمها «باتريك» .كانت تف�ضل �أن
قوة منطقة االت�صال ،القاعدة التموينية بالن�سبة ألوربا كلها، تتبادل أالحالم وهي حممومة .مل تكن تلك أالحالم �سوى
وا�ستقرت يف «�أورليان» .ع�رشة �آالف جندي �أمريكي ا�ستقروا �أ�سماء �أدوات ومالب�س و مدن بعيدة :نانت ،دراجات ال�سباق،
يف املنطقة املحيطة مبا�رشة بـ «�أورليان». باري�س ،جوارب ،م�شغلة �أ�سطوانات.
عند الغروب يتم �إخراج قمامة مع�سكر «مونغ» خارج ال�سور توجد يف جنوب «مونغ» ثالث جزر .اجلزيرة الواقعة يف
امل�سنن .ذات ليلة ،نقب باتريك يف القمامة. اجلنوب ال�رشقي ت�سمى جزيرة ال�صف�صاف .من الربيع �إىل
[[[ اخلريف ،يكون عاملهم احلقيقي هو �أيادي املياه امليتة يف
قرف�ص باتريك يف الظلمة ،خلف ال�سياج .حتت القمر ر�أى نهر «لوار» .هيجان ال�ضفة أالخرى .ال�صيد يف التيارات.
املع�سكر الدائري وانعكا�سات ال�ضوء على �صفيحة احلديد املعابر احلجرية امل�صطحة .روائح النعناع املفلفل امل�سحوق
املتموجة .فج�أة �سمع �صوت حمرك .خب�أ دراجته يف احلفرة، حتت أالرجل .التوت الذي يقطف مبد اليد حتى تت�أمل ،لتجنب
وح�رش نف�سه وراء �أرومة �أ�شجار� ،أمام �سياج املع�سكر بال�ضبط، ال�سقوط يف دغل ال�شوك العري�ض.
وبقي ينتظر ال�سيارة حتى متر. يتبادل الطفالن التهام اللحم العجيب حلبات ك�ستناء املاء
مرت �سيارة «جيب» تابعة ل�رشطة القوات امل�سلحة. ،التي جرداها من ق�رشتها اللزجة ،ي�ضعانها بني أال�سنان
�أ�رسع باتريك نحو القمامات احلديدية الكبرية .وبد� أ ينقب الرا�ضعة ،مت يف الثـقـوب التي خلفتها أال�سنان التي �سقطت،
ب�سـرعة .ويف �صباح الغد �أخرب «ماري جو�سي» بغ�ضبه. ثم بني أال�سنان الثنية .كانا ي�صطادان بال�شباك و�أحيانا
كان على م�شارف ال�سن العا�رشة .اجتاحت القوات أالمريكية بع�صي طويلة على �ساحل اجلزر .كانت تكره �أن مت�سك يف
«تيانغ يانغ» .وال�صينية اجتاحت الـ«تيبت» �.أما القوات راحة يدها هذه أالج�سام التي تهتز وترتك فوق اجللد دبقا
الفرن�سية فقد ا�ستولت على «هاو – بينه» � .أمرته «ماري تبقى رائحته القوية م�ستمرة رغم غ�سلها بال�صابون .كانت
– جو�سي» ب�أن يلتحق بها يوم غد � ،ستنتظره على مقعد يف ماري جو�سي تعدم ال�سمكات ،مثلما كانت تنفر من ال�سيارات
بيت ال�صيادين. ال�صغرية .يحفر باتريك يف الرمل وي�شيد كوخا عميقا �شبيها
[[[ بذلك الذي مزقته احلرب الكربى.
بد�أت قطرات املطر الثقيلة ت�سقط على املاء .تتحطم ببطء فوق ال �شيء يخفي الكوخ ب�شكل �أف�ضل غري �أ�شجار ال�صف�صاف.
�صفحته .كانت منطقة «لوار» رمادية .واجلو دافئ وثقيل. فوق جرف اجلزيرة ،ي�صبحان غري مرئيني كليا بفعل �ستائر
231 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
و�شو�شت ماري – جو�سي: والقطرات ت�سقط فوق الدراجتني املو�ضوعتني واحدة فوق
«هل جلبت معك خرب الدبيحة ؟» �أخرى على ع�شب ال�ضفة .كانت ماري -جو�سي جال�سة فوق
�أخرج باتريك من جيب �رسواله ال�صويف قطعتي خبز �خذهما
أ مقعد قدمي .جنبها قفتان مفتوحتان م�صنوعتان من �أغ�صان
من الكاهن ومدهما ملاري –جو�سي� .أخذت منهما ماري- ال�سوخر .كانت ماري – جو�سي تت�أمل «باتريك» الذي يرتدي
جو�سي واحدة ،ومدتها �أمامها بيديها االثنتني .وفعل مثلها �رسواال ق�صريا ،يحفر ثقبا وقد ظهرت تقطيبة على وجهه.
باتريك. توقف عن حفر أالر�ض .نظر �إىل ماري جو�سي بعبو�س ،وقال
مدا معا القطعتني �أمامهما بوقار .همت ماري –جو�سي �إن الثقب عميق مبا يكفي .نظرت �إليه ماري –جو�سي بدورها،
وجفناها �إىل �أ�سفل: عيناها تلمعان ،وقالت« :اتفقنا ؟ اتفقنا؟».
«نحن االثنان وال �أحد غرينا». هز باتريك ر�أ�سه بفتور .وعندما ر�أت �أنه موافق ،قفزت
-نحن االثنان وال �أحد غرينا .ردد باتريك. ماري جو�سي من املقعد �إىل الع�شب ،وهي مت�سك بالقفتني
� -سنذهب �إىل �أمريكا .قالت ماري –جو�سي. املوجودتني جنبها.
� -سنذهب �إىل �أمريكا. أ
رمى «باتريك» مدراته فوق الر�ض الرطبة التي كان يقلبها.
« -افتح� »! أمرته ماري – جو�سي. فت�ش الطفالن يف القفتني ،وبد� أ يرميان يف احلفرة طنجرات
فتح باتريك فمه ف�أدخلت قطعة اخلبز بني �شفتيه. �صغرية ،م�شواة حديدية ،علبة بهارات كرتونية� ،سيارات
وبدوره مد باتريك القطعة التي مي�سكها ومررها بني �شفتي �صغرية من نوع «دينكي تويز» ،جنودا ،رجال درك من
ماري –جو�سي التي �أبقت جفنيها �إىل �أ�سفل .وبعينيها البال�ستيك .و�أخريا رمى باتريك ،ب�سخط ،جاذب ال�سيارة
املغلقتني دائما ،مدت يديها و�أم�سكت متح�س�سة يدي باتريك أالمامي امل�صنوع من احلديد أالبي�ض ،لعبته املف�ضلة وهو
للر�ض رائحة قوية و�ضمتهما بني يديها .بعد املطر �أ�صبح أ طفل ،رمى كل ذلك يف احلفرة التي ردمها بعد ذلك باملدراة.
جدا ،تكاد تكون منفرة .ويف أالخري فتحا معا عيونهما بقوة. وط�أت ماري –جو�سي أالر�ض اله�شة حتت املطر� ،صدر عنها
[[[ �صياحا خافتا .الطفالن متحم�سان وهما يقفزان فوق احلفرة
ا�ست�سلم الطفالن للمتعة التي �شعرا بها �أثناء ذهابهما و�إيابهما التي ردمها باترك.
يف الليل ،ت�سكعا� .رسقا .النب�ش املقيت وامل�ضطرب يف مزابل فج�أة وهي تقفز� ،صدمت ماري –جو�سي حديد املدراة التي
املع�سكر �أثناء جميء الليل �أو حتت ال�شم�س الالهبة� ،أمر كان مي�سكها باتريك� .رصخت .وجمدا يف مكانهما.
يثريهما .كانا يذهبان �إىل البحث عن أالقم�صة العجيبة، وهي جاثمة على قدميها فوق أالر�ض� ،شمرت تنورتها بيديها
و أالقم�صة القطنية ،و قناين الكوكاكوال الفارغة ،و�أقم�صة املخدو�شتني ،و�أظافرها مليئة بالرتاب� ،أظهرت لباتريك
�أوك�سفورد ذات الياقات املزررة ،والبلودجني نوع «لوفي�س». اللون أالزرق واجلرح ال�صغري الذي �أحدثه حديد املدراة على
فال يجدانها� ،أو ال يخرجان من البقايا �إال مزقاتها .ورغم فخذها.
ذلك يدق قلباهما �إىل حد التوقف ،فال يجنيان �سوى علب نظر باتريك �إىل فخذ ماري -جو�سي الطويل و أالبي�ض .انحنى
الغ�سول املك�سورة ،وب�ضعة خرق غري قابلة للبا�س ،وجوارب عليها .عندها خف�ضت ماري –جو�سي تنورتها .فتحت يديها،
ممزقة ،وبع�ض �أعداد جريدة «� »Lifeأو ،Racing News فان�سدل �شعرها الطويل أال�سود املبلل باملطر فوق كتفيها
ومطويات البيع عرب املرا�سلة ،وبع�ض جمالت الر�سوم مبهابة ،فو�شو�شت له:
املتحركة امللطخة .يخبئان كل ذلك ب�رسعة يف حقائب ورقية «اجل�س على ركبتيك مثلي»!
جنت بنف�سها من القذارة. قرف�ص �أمامها ،وهو يغرز ركبتيه العاريتني يف الرتاب
قطعت ماري – جو�سي �شموعا جديدة جلبتها من دكان املقلب.
والدها ،وو�ضعتها يف عنق قناين الكوكاكوال الفارغة التي « �أنظر!» قالت.
يعودان بها �إىل الكوخ. مدت يديها ب�شكل كامل ،وفتحت كفيها .توقف املطر وهي
يقال يف ذلك الزمن �إن الكوكاكوال �سم ي�صيب باجلنون. م�ستغرقة يف احلديث .رفع باتريك ر�أ�سه نحو ال�سماء ،ف�سقطت
كانا يجمعان قناين الكوكاكوال الفارغة وي�صنعان منها �آخر قطرة مطر على وجنته.
م�صابيح ،مل يكونا يعرفان حتى مذاقها .كان أالب «فري» «�أنا �أحتكم يف ال�سماء» هم�ست.
ي�ؤكد �أنه �أبدا لن جتد هذه القنينات ال�صغرية املليئة بالغاز �سمعا من جديد �صوت نهر الـ«لوار» وهو يجري على طول
مكانا لها فوق رفوف متجره. ال�ضفة.
232 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
ي�سبب له رعبا غام�ضا ال يهد�أ. كانا يلقيان بنف�سهما يف العوامل أالمريكية ،كما كانت
«�أحتاج م�ساعدتك» ،قال له. أالرواح الورعة تلقي بنف�سها قدميا يف عامل الدين .كانا
فطلب منه �أن ينوب عنه يف التحدث مع املزارعات العجائز ينقالن الفردو�س �إىل غرب العامل .وكانت ماري-جو�سي فري
اللواتي مينت يف �أطراف القرية �أو يف الغرف الباردة اخلا�صة جتد فردو�سها يف �ألوهية كهانها الذين �أ�صبحوا :الكونغ�ستري
بالن�ساء .ما �أن �أجرى باتريك املكاملة ،حتى �أخذ منه الق�س والقنابل والنجوم .كانت ترتبط بن�ساء �إجنليزيات بخيوط من
الهاتف ببطء .وهو مرعوب قرب فمه.هو الذي مل يع�ش حياة الجنليزيات. حرير .فانف�صلت ماري –جو�سي عن إ
متبذلة ،غمغم و�ضاع و�سط الكلمات. بد� أ ينجذبان بح�ضارة خمتبئة وراء ال�رشفات ،وال مي�سكان
�أ�صبح باتريك كاريون طفل املذبح املف�ضل لدى القدي�س بني �أ�صابعهما �سوى بالبقايا .كانا يتبادالن أالحالم يف
«مونرتيت»� ،إىل درجة �أنه يف ال�سنوات التالية كان ق�س مونغ غمرة احلمى .ومل تكن تلك أالحالم �سوى �أ�سماء �أدوات
ي�رشفه بكل الطرق املمكنة .وعندما بلغ ال�سن الثانية ع�رش، ومالب�س ،ومدن بعيدة :جاز� ،آلة كهربائية لطحن اخلبز،
يف �سنة ، 1953يف وقت كانت فيه القوات أالمريكية تغادر هوليوود ،ماركوري ،1953مربد كيلفيناتور ،نيويورك.
كوريا ،وفيما بد�أت القوات ال�سوفييتية تق�صف أالملان يف الجنليزية وعلى طريقة ماري_ جو�سي ،بد� أ باتريك يف تعلم إ
برلني ،كلفه بحمل املبخرة .ولقب حامل املبخرة يطلق على حتت �أغ�صان �شجرة ال�صف�صاف ،بدعوى �أنه ال ي�ستطيع
الطفل احلامل للبخور جيئة وذهابا ،هابطا الدرجات نحو انتظار دخوله �إىل الق�سم ال�ساد�س� .ساعدته ماري_ جو�سي
اجلموع ،والذي يحرك ب�شكل مفاجئ ونبيل املبخرة التي المكان على �أن ي�ضفي على �إجنلزيته نربة �أمريكية مل يكن يف إ
تثري �إعجاب �أنف اخللود. مقاومتها ،ولكنها كانت ت�شكل جانبا �سلبيا :لقد اخرتعتها.
[[[ كانا ي�ساعدان بع�ضهما حتى يتمكنا من فهم مطويات البيع
يف يوم من �أيام �سنة ، 1954عندما علم من الراديو �أن ال�شارات يف الر�سوم املتحركة عرب املرا�سلة والتمكن من فهم إ
الفرن�سيني غادروا الهند ،دفع الق�س «مونرتيت» باب البقالة التي افتتنا بها كما لو �أن اهلل �أوحى للمرة أالخرية بكالمه �إىل
،بوجه يبدو عليه االنفعال ،وعينني �شفافتني ،وخيطيته ذات �أر�ض فقاعات الر�سوم املتحركة.
العروة ال�سوداء تتدىل من طرف يده .يف نهاية تلك الظهرية بد� أ اهلل يفقد الر�ضا .نقل اهلل عدم الر�ضا هذا على ل�سان ق�سه.
كانت ماري_جو�سي ت�سهر على الدكان رفقة باتريك. وهي طفلة كانت ماري –جو�سي تـجد متعتها يف لعب دور
«�أيها ال�صغري ،قال له � ،أحتاج �إىل م�ساعدتك». البائعة يف دكان والدها� ،إىل جانب �أختها بريجيت التي
كان باتريك ي�ضع يده على الهاتف قرب ال�صندوق م�سجل تقوم مقام �أمها يف املتجر.
ال�سلع. يف البداية رف�ضت �أن يتم تعيينها من طرف �أختها لتقف
«ال ،قال له الق�س ،لقثد قررت �أن �أجعل منك قائد طق�س �أمام �صندوق املال ،و�أن تكون جمربة على بيع ب�ضاعة
كبري». قروية ،بعد �أن تكون قد ارتدت البذلة املخ�ص�صة لذلك .ي�أتي
كانت تلك هي �أعلى درجة ميكن �أن يطمح �إليها .قائد الطق�س الق�س «مونرتيت» ،مرتديا جبة �سوداء ،ليبتاع �أوراق النعناع
الكبري هو رجل الدين الذي يقود االحتفاالت التعبدية رفقة و�أزهار البابوجن لتهييء نقيع امل�ساء.
الكاء املتحكم يف عمليات جمع امل�ؤمنني .هو من مي�سك إ كان رجال ق�صري القامة ،نحيفا وي�شبه راهبا مروفنجيا(،)1
ال�سجود ،ويوجه عازف أالرغن واحلاجب .هو من يقود كان له وجه م�أ�ساوي مثل �أولئك الذين ر�أى أالطفال �أ�شباحهم
الخرين الذين يقفون يف اجلوقة .هو حركات أالطفال آ تت�آكل يف �أورقه الكنائ�س القدمية يف القرية .كان ي�ضع �إكليله
من يخف�ض الوجه ،هو �أي�ضا من يرفع غيمة البخور من بنف�سه على ر�أ�سه �إىل درجة �أنه كان يبدو �أ�صلع تقريبا طيلة
بني يدي حامل املبخرة .هو من يعلن توبته و�سط اخلوف �شهرين وجمجمته ت�سيل دما .له عينان �شاحبتان .كان ق�س
وال�صمت املحيطان باجلرمية التي ارتكبت يف جنة عدن ، «مونغ» يخاف من النا�س كما لو �أنهم حيوانات .نادى على
وهو يدندن �شيئا ف�شيئا بال�صالة ،ويرفع الن�شيد ،ويخ�ضب «باتريك كاريون» حل�ضور قدا�س الفجر .يف ال�ساد�سة �إال ع�رش
جراح اهلل. دقائق يقرع جر�س باب املنزل ،بني أالزهار ،و�سط ال�ضباب
أ
الذت مونغ بال�صمت حتت وط�ة احلرب العاملية الثانية. ال�صاعد من النهر خمرتقا كل �شيء.
ال�سكان �صمتوا �إىل أالبد ألن الرعب مل يكل طيلة �سنوات. عندما ينتهي القدا�س يتناول الق�س «مونرتيت» الفطور يف
لقد عرفوا أالملان. الدير رفقة باتريك .مار�سيل ت�سهر على خدمتهم .طلب الق�س
...يتبع املادة كاملة مبوقع املجلة ()www.nizwa.com من باتريك �أن ي�ساعده يف �إجراء مكاملة هاتفية ،ألن الهاتف
233 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
مدينة ال�صبار
ترجمة :رمي داوود للكاتب الباك�ستاين :عامر ح�سني
(] )
مرتجمة من ُعمان
زوجها يف الثالثينيات ،يف اجلزء القدمي من املدينة ،بجوار حب «نورية» حني ر� آها مت�شي على اجلمر .مت توزيع وقع يف ّ
البحر� .أطلقنا على بيتها ا�سم «مدينة ال�صبّار». قطع الفحم امل�شتعلة على احل�شائ�ش ال�صيفية اجلافة ،وم�شت
الخر ،من «راوال كان لها ع�شي ٌق ي�أتي لزيارتها بني احلني و آ الخريات.عليها �أ�رسع من العذراوات أ
بيندي» ..حيث يعي�ش مع زوجته. مل يكن من املفرت�ض �أن يكون متواجدا ً هناك ،لكنه كان يراقب
«ميهري» امر�أة طويلة ،لها ب�رشة �شاحبة و�شعر فاحم ق�صري، احلدث من وراء �شجرة اللوز.
ال�سود ت�صففه بدهانات المعة .ترتدي اثواباً من ال�شيفون أ عربت بخطواتها فوق اجلمر ،ثم تعر�ضت إلغماءة.
ليالً� ،أما نهاراً ،فكانت ف�ساتينها من الدانتيال البي�ضاء .تلب�س (كانت «�سكينة» عط�شى .ذهب «عبا�س» للبحث عن املاء،
معها قفازات و�أو�شحة من اللون ذاته. �أطلقوا عليه ال�سهام .قتل «قا�سم» ليلة عر�سه .عاد ح�صان
الخر من املدينة بني كل ب�ضعة �أ�سابيع ،كانت تعرب �إىل الطرف آ «احل�سني» وقد �أغرقته الدماء ..دون �صاحبه).
تتعمد �أن جتعل زوجة «طاهر» تراها، لزيارتنا .كنا نعلم �أنها ّ تهب الرياح ال�صحراوية ال�ساخنة طوال اليوم .تت�ساقط الطيور ّ
وهي تدخل �إىل منزلنا. الر�ض يف الليلة العا�رشة من �شهر حمرّم .ت�صطبغ ال�سماء على أ
قبل ع�رش �سنوات ،كانت تبحث البنها عن عرو�س ،من �ضمن بالدماء .يبكي عليهم جميعاً حتى حتمرّ عيناه .لكنه مل يب ِك ،
بنات عائلتها يف «حيدر � آباد» .و�أخرياً ..ا�ستقر ر�أيها على فتاة �أبداً ،باحلرقة التي بكى بها على «نورية».
بنت يف ال�سابعة ع�رش من عمرهان تدعى من عائلة زوجهاٌ . العمة «ميهري» �أن تزرع حديقتها مبختلف �أنواع حاولت ّ
«نزار زهرة» .غيرّ ت ا�سم العرو�س �إىل «ت�شاند» ،ألنه كان لها الزهور الوردية والزرقاء واحلمراء ،وبالورد اجلوري القاين.
وجه م�ضيء كالقمر. الربية
لكن كل النباتات كانت تذبل هناك .وحدها الزهور ّ
تيقنت «ميهري» من �أن البنها حظاً وافراً ..القرتانه مبثل هذه تردد
ظلت ّ و�شجريات ال�صبّار التي كانت تنمو يف ذلك املكانّ .
العرو�س .لكن حظ «ت�شاند» نف�سها -من جانب � آخر -مل يكن الر�ض املاحلة والرياح الرملية �أن ال�سبب هو ال�صحراء .و�أن أ
بالوفرة ذاتها� ..إذ �أوقعها يف الزواج من رجل يحب الوي�سكي هي التي تقتل النباتات يف جميع �أنحاء املدينة.
اجليد� ..أكرث من حبه لفرا�ش الزوجية. ومع ذلك ..كانت حديقة «ت�شاند» تفي�ض با أللوان املتعددة،
حتولت الفتاة الهادئة �إىل امر�أة �شديدة الك�سل .ورغم انزعاج ّ وال�شجريات املقلّمة بعناية ،و�أ�شجار الفاكهة التي تتدلىّ منها
حماتها من عاداتها اجلديدة� ،إال �أنها ظلت ت�ستيقظ من نوعها ثمار املاجنو اخل�رضاء ،وحبّات البابايا الكبرية.
من انت�صاف النهار ،ثم مت�ضي بقية �ساعات الظهرية يف لعب كانت «ميهري» -او البيجوم «ميهر تاج �شاه» -يف حقيقة
الدومينو .مع حلول امل�ساء ،كانت تقطع حديقة منزلها جيئ ًة عمتنا.
عمة «نورية» فقط ،ولي�ست ّ المر ّأ
وذهاباً ،وهي تعبث مب�سبحة ال�صالة ب�أ�صابعها ،يف انتظار كانت �أرملة �شقيق جدّنا ،الذي قتله اليابانيون يف ماليزيا
عودة زوجها. عام ،1944حني كانت يف الثانية والثالثني.
�إال �أنه مل يكن يعود للمنزل �إال بعد انت�صاف الليل ،حني كان مل نعرفه �إال من خالل �صورته ال�ضخمة ،املعلقة على جدار
�صوت حمرّك �سيارته املرتفع يختطفنا من �أعماق �أحالمنا. حمملة
ّ منزلها .يف كل �إجازة ،كانت �أ�رستها تزور قربه
الحاد ،كنا نلعب بجوار البحريات .هناك اثنتان: يف �أيام آ با ألزهار والبخور ،كما لو كان قدي�ساً.
الخرى خ�رضاء .كانوا ي�سقون البحرية واحدة زرقاء ،و أ كان لها ثالثة ابناء :ابنةٌ تقيم مع زوجها يف ال�صني ،حيث
اخل�رضاء «� آكلة الب�رش» ..اذ كانت تتعدّد بها حوادث الغرق. يعمل يف �سفارتنا هناك .وابن يدعى «طاهر» ،يعي�ش يف
قال النا�س ان الع�شاق اليائ�سني ،والزوجات التعي�سات ،كانوا املنزل املقابل لنا� .أما �أ�صغر �أبنائها« ،ماهر» ،حبيب قلبها
يتعمدون الذهاب �إليها ملنحها حيواتهم البائ�سة. ّ الجازة ونور عينيها ،فكان يدر�س يف اجنلرتا ،وال يعود �إال ّ يف إ
نلعب عادة بجوار البحرية الزرقاء ،ون�سبح� -أحياناً -يف ال�صيفية فقط.
مياهها ،التي ت�صل �إىل � آذاننا تقريباً ،رغم ان ذلك كان ممنوعاً تعي�ش «ميهري» يف بيت كبري جداً ،حماط با ألبراج .بناه
234 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
ال�صغرية معها �سي�سليها بطبيعة احلال. ال�صابة بالتيفود او الدفترييا. علينا� .إال �أننا مل نكن تخ�شى إ
ومل نفهم اي�ضا ملاذا طلبت �أم البنت �أن تذهب بها �إىل «ت�شاند»، «قمران» .عمري ت�سع �سنوات .عيناي رماديتان، ا�سمي ْ
وبخا�صة ان العالقة بينها وزوجة ابنها كانت متوترة جداً، ال�سمرة .ت�أتي «نورية» �إىل هنا ب�صحبة �أوالد ُ �شديدة وب�رشتي
بعد �أن �أجربت «ميهري» «ت�شاند» على �إجها�ض حملها الثالث، ابن عمتها» «ماهنور» التي متاثلني يف العمر ،و«ميهريار»
عا�شق ما.
ٍ و�أ�شاعت ان اجلنني كان نتيجة عالقة عابرة مع الذي كان يف الثامنة .انهما �أقاربي �أنا �أي�ضاً.
عقب تلك احلادثة ،تو�سلت «ت�شاند» لـ»طاهر» ان يغادرا مملكة الحيان ،كان «با�س»� -شقيق «ت�شاند» -ين�ضم يف بع�ض أ
الخر من والدته ،ليعي�شا يف املنزل الذي بنته يف الطرف آ �إلينا .كان فتى يف الثالثة ع�رش.
املدينة. «نورية» يف احلادية ع�رش من عمرها .جتل�س على ال�ضفة
وافقت «ت�شاند» على �أخذ ابنة «�سادية» ،وقامت برتبيتها املغطاة بالع�شب ،ت�ضع عقودا ً من الزهور ،وهي تغني:
مع طفليها «ماهنور» و«ميهريار»واكتفت البنت بالعي�ش يف ال�صداء�أنا ذاهبة ألالحق ظالل أ
العمال املنزلية الظل ..بهدوء ،وحر�صت على امل�ساعدة يف أ يف البلد التي تغني فيها الفرا�شات
اخلفيفة ،وكانت تذهب �إىل احدى املدار�س اخلريية القريبة أ أ
ال�سنان املدببة ..وال�شعر ال�شعث� ..نفك مت�سخ -يا �أم أ
من املنزل ،حيث تعلمت احلياكة والطهي ،وت�سجيل احل�سابات القدام املفلطحة ال�سمينة ..من ورائحتك كريهة جداً .يا �أم أ
بخط منمق جميل. �سيتزوجك يا «نورية»؟
مع مرور الوقت ،ا�ستحال اال�سم الرباق الذي منحه لها والدها: � -أنا �س�أتزوج «نورية».
«نور �أف�شان»� -أو «ناثرة النور» �إىل ا�سم عادي «..نورية». � -ألب�سوا العري�س ثيابه �إذن ،وزينوه بالذهب ،فقد جاءت
-هل ميكنك حقا �سماع غناء الفرا�شات ،يا «نورية»؟ عرو�سه �شبيهة الفيل.
� -أحياناً.. ميرّغون وجهي بالطني ،و�شعر «نورية» كذلك ،ثم يدفعونها
� -إىل �أي مدى ميكن مالحقة ال�صدى ،يا «نورية»؟ �إىل املاء� .أتبعها .حل�صوات البحرية ملم�س الرخام الناعم حتت
� -إىل احلد الذي ت�سمح به �أنفا�سك. �أقدامنا.
-هل �ستتزويجينني حني نكرب؟ كان لـ«ميهر تاج» �أخ .يظن اجلميع ان «علي زامني» قد تويف.
-يا لك من ولد �سخيف! انتظر و�سوف نرى.. لكن احلقيقة انه قد اختفى فج�أة ذات يوم ،تاركاً خلفه ابناً
� -أرجوك.. وابنة ،وزوجة �شقراء بعينني وا�سعتني.
� -س�أفعل� ،إن كنت تريد مني ذلك. ال�صل فتاة هندو�سية ،تخلى عنها �أهلها �سمعنا انها كانت يف أ
على �شاطئ البحر ،جتل�س «نورية» على الرمال البي�ضاء حني عربوا احلدود �إىل الهند ،عقب االنف�صال.
املبللة .تغمر �أ�صابع قدميها يف املاء ،وهي تراقب رذاذ العمة «ميهري» يف �أحد املخيّمات ،من خالل عملها قابلتها ّ
المواج املتالطمة .ت�ستمع �إىل البحر وهو يغني .تظن �أنه يحمل أ الطفال غري املرغوب اخلريي يف م�ساعدة الن�ساء الفقريات و أ
لها ر�سائل مكتوبة على �أمواجه .يقول لها البحر �أن عري�ساً بهم .حني قالت الفتاة انه لي�س لديها مكان تذهب اليه.
ينتظرك .وجهه مغطى بالزهور .ج�سدها مثقل باملجوهرات العمة اىل منزلها ،وجعلتها رئي�سة للخدم� ،إذ بدا ا�صطحبتها ّ
الغماء .ي�سكبون احلليب على الذهبية ،حتى تو�شك على إ وا�ضحاً انها كانت قد تلّقت قدرا ً ال ب�أ�س به من التعليم.
فرا�ش من الف�ضة.
ٍ على قدميها ..ت�ستيقظ كل �صباح غريت العمة ا�سم الفتاة �إىل «�سادية».
�أحمل لها �أ�صدافاً �شفيفة ،وجنمة بحر ميتة ،وقوقعة كبرية لت�ضعها ر�أى «علي زامني» ،الذي كان قد عاد منذ فرتة ق�صرية من
على �أذنها قبيل نومها كل ليلة ،فترتمن لها ب�أغنيات البحر. «حيدر � آباد» ،الفتاة يف منزل �شقيقته .وقع يف هواها منذ
�رشاع وحيد� .ألوانه جتمع بنيٌ الفق الرمادي البعيد ،يبحر يف أ الوىل .ثم تزوجها ..رغم معار�ضة «ميهري» ال�شديدة. اللحظة أ
ال�صفر.الزرق و أ
الحمر و أ أ بعد �أعوام ..عقب ان اختفى ذات ليلة ،د ّقت «�سادية» �أبواب
للخالة «ت�شاند» �صديقة عراقية �سمينة ،ا�سمها «فرخندة». «ميهري» طلباً للم�ساعدة .قالت انها قد وجدت لنف�سها
ميكنها قراءة الطالع عن طريق التمعن يف �أوراق ال�شاي عمالً كموظفة يف احدى �رشكات الطريان ،وانها قد �أحلقت
الكواب ،وبقايا النب املرت�سبة يف فناجني املتبقية يف قعر أ ابنها مبدر�سة داخلية للبنني؛ �إال انها بحاجة �إىل من يتولىّ
القهوة. رعاية ابنتها� ،إذ لي�س مبقدورها ان تتحمل م�صاريف نف�سها،
أ
اجلو غائم اليوم �إال �ن �شهر مايو �شديد احلرارة للدرجة التي والطفلني معاً.
جتعل مياه البحر تقرتب من الغليان ،ونكاد نتمنى لو �أننا مل مل نفهم �أبدا ً ملاذا رف�ضت العمة «ميهري» �أن تتوىل رعاية
نخرج. الطفلة .كانت تقيم مبفرها يف ذلك البيت الكبري ،وكان وجود
235 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�سالحاً. ت�ستلقي ال�سيدات على كرا�سي ال�شاطئ الطويلة .يدخ َّن �سجائر
� -س�أ�صبح بطالً من �أجلك� .س�أ�شرتي م�سد�ساً. بنكهة النعناع ،ويحت�سني �أكواباً من القهوة املحالة باحلليب
� -سخيف! املكثف.
� -أعيدي �إذن جنمة البحر ،و�أ�صدايف كذلك. تنادي «فرخندة» على «نورية» ،الغارقة يف �أحالمها مع مياه
يف ال�سابعة ع�رش ،تتحول «نورية» �إىل كائن ح�سي جذاب ،رغم البحر:
�ضفريتيها الطويلتني املليئتني بزيت ال�شعر ،ورغم الثياب -تعايل يا �صغريتي ،دعيني �أخربك من �ستتزوجني..
القطنية القدمية غري املكوية .مت�ضي وقتاً طويالً يف قراءة تقول «ت�شاند» ،كما يردد �أطفالها عاد ًة« :من �سيتزوج نورية؟».
الروايات العاطفية ذات االغلفة الزاهية الالمعة ،والتي تدور وت�ضيف�« :إنها عدمية اجلمال».
كلها حول فتيات يدعني «نائلة» �أو «رمانة» ..يتيمات �أو ت�صيح «فرخندة» با�ستنكار ،وهي تت�أمل قوام الفتاة الطويلة
فارقهن �أهاليهن بعد االنف�صال ،ال يتوقفن عن �سكب الدموع ذات اخلم�سة ع�رش عاماً« :عدمية اجلمال؟! ..تردف�« :إنها
�إىل �أبناء �أعمامهن الذين يحاربون من �أجل �أر�ضهم و�أمتهم. رائعة».
تزوج «ماهر» .اقرتن بفتاة اجنليزية من «�إلفورد» .قابلها يف توجه كالمها للفتاة« :تعايل واجل�سي هنا واعطني كفك .نعم..
«البار» الذي ميلكه والدها. هكذا ..ارى رجالً طويل القامة .ب�رشته �سمراء يحمل م�سد�ساً يف
�أح�رضها لبلده لتقابل �أ�رسته .ا�سمها «بريندا» .بدا وا�ضحاً انها يده .انه يحارب من �أجل وطنه .جندي �شجاع.»..
حامل يف �شهورها أ
الوىل. الفكار ال�سخيفة يف ر�أ�س تقاطعها «ت�شاند»« :ال تزرعي أ
ت�ستقبلها «ميهري» بربود �شديد ..تزودنا بتعاليم تتبعها اذا البنت».
ما ا�ضطررنا للتعامل معها؛ ك�أن نتعمد ا�شعارها ب�أنها كائن هنا ..ميكنني �أنا ان �أخربك مبا حدث بعد ذلك ،فقد كنت �أراقب
�شديد الغرابة واالختالف ،عند احلديث معها. املوقف ،و�أنا �أ�سبح على مقربة من ال�شاطئ:
مل نبذل �أي جمهود حلملها على ال�شعور بذلك ..فثيابها اقرتبت �سيارة فخمة ذات نوافذ مغطاة ب�ستائر �سوداء ،من
اللوان – والتي قامت امل�صنوعة من النايلون الرخي�ص فاقع أ كوخنا .وثب الرجل الطويل الذي كان يقودها من مقعده،
«ميهري» باهدائها لها� -إىل جانب ب�رشتها التي حتولت �إىل العمة «ميهري» كفرا�شة ،من �رشنقة ليفتح �أحد �أبوابها .خرجت ّ
الحمر ،حتت �شم�س يونيو احلارقة ،ولهجتها االجنليزية اللون أ ال�سيارة املكيفة ،املعطرة بروائح الليمون.
القحة ،والتي ف�شلت معها يف نطق �أ�سماء �أفراد العائلة، ّ بدت �أنيقة ،و�شديدة النظافة ..كعادتها دوماً .ترتدي ثوباً من
وبخا�صة املركبة منها ..كانت جميعها �أ�سباباً كافية جلعل قما�ش الـ«جورجيت» ،لونه بنف�سجي فاحت.
الفتاة امل�سكينة تبدو كمخلوق عجيب ،ال ينتمي للمكان بتاتاً. �شبكت ذراعها يف ذراع ال�شاب ،و�سارا معاً باجتاهنا.
كنا – جميعاً -موقنني بان هذه الزيجة لن ت�ستمر طويالً، قالت لزوجة ابنها ،على الفور« :مل �أكن اعلم انكم �ست�ستخدمون
فف�ضائح «ماهر» وعالقاته اجلريئة املتعددة ،قبل �سفره، الكوخ اليوم» .ظهر ال�ضيق ال�شديد يف نربات �صوتها ،وتكلفت
كانت �أ�سطورية. ابت�سامة م�صطنعة لكن «ت�شاند» مل تكن ت�ستمع �إليها .كانت قد
ال�رسة بت�سفريه �أ�صالً بعد �أن تعر�ض ل�رضب مربح، فقد قامت أ قفزت من مقعدها و�ألقت بذراعيها البي�ضاوين الرائعني حول
مرتني ،من �أ�صدقاء له ،بعد قيامه باال�ستيالء على قلوب رقبة ال�شاب ال�سمراء.
وم�شاعر حبيباتهم .كما كان قد تلقى تهديدا ً بالقتل من �أحد ال�صغر لزوجها «ماهر». كان ال�شقيق أ
الزواج املخدوعني. أ رفعها بذراعيه ،ودار بها ،وانطلقا يقهقهان.
أ
بعد ذلك� ..سمعنا �ن «ميهري» قد وعدت عرو�س ابنها مببلغ راقبت وجه «نورية» .انفرجت �شفتاها املرتع�شتان ،فظهرت
مايل �ضخم �رشيطة �أن تعود لبلدها .وملّحت احلماة لكنتها �أ�سنانها الالمعة� ،ألقت رمو�شها الكثيفة بظاللها على خدّيها.
ب�أنها ميكنها �أن تفتح لنف�سها «بارا» خا�صا لها ،بتلك بدت كما لو كانت يف غيبوبة� ..أو انها – فقط – م�ستغرقة يف
الموال. أ دعاء حار.
رف�ضت املر�أة العر�ض بكربياء ،و�رسعان ما غادرت مع � -أين ميكنك �سماع الفرا�شات وهي تغني يا «نورية»؟
زوجها ..عائدين �إىل اجنلرتا. -يا لك من ولد �سخيف! ..كيف يل ان �أعلم؟!
ا�ستقرا -كما بلغنا -يف «ا�سك�س»؛ حيث عمل «ماهر» ،مت�سلحاً ال�صداء يا «نورية»؟ -كم يبلغ طول ظالل أ
ب�شهادته من جامعة «كامربدج» ،كمحا�سب قانوين. -يف طول �أنفك القبيح يا غبي..
ذاك العام ،كنا جميعاً مغرمني بفكرة احلب .مل نعد ن�ستمع � -ألن تتزوجيني يا «نورية»؟
الجنبية ،بل بد�أنا يف اال�ستمتاع ب�صوت «ظاهرة الغاين أ �إىل أ � -أمل ت�سمع ما قالته اخلالة «فرخندة»؟ �س�أتزوج جندياً يحمل
236 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
تردد �أل�سنة بع�ض اجلريان اخلبثاء« :حني ينظر طاهر» �إىل ّ ال�شواق .و�أ�صبحنا نحفظ �سيد» وهي تتغنى بعبارات الوجد و أ
ابنة خاله ال�صبية ..فان النريان تت�أجج يف عينيه .و«ت�شاند» �أبياتاً من �أ�شعار «فايز»( )1الغزلية.
تخ�شى غرميتها. الخري ،قبل �أن نغادر �إىل جامعاتنا االجنليزية. كان ذلك عامنا أ
العداد جلهاز عر�سها .جتل�س بهدوء يكاد تبد� أ «نورية» يف إ كان من املقرر �أن تدر�س «ماهنور» الفل�سفة يف «كامربدج»،
يثري امللل فيمن حولها لتثبت املرايا ال�صغرية وحبّات اخلرز وان يدر�س «مهريار» االقت�صاد يف لندن .كما �صمم �أبي ان
الربّاقة على �أو�شحتها ،وتخيط ال�رشائط املذهبة العري�ضة �ألتحق بكلية احلقوق� .أما «نورية» فكانت �ستبقى مع «ت�شاند»،
على �أطراف �أثوابها ،وتطرز ورودا ً باخليوط امللونة على فوط و�أعلنت �أنها �ست�صبح خياطة.
ال�سفرة و�أغطية الو�سائد. الزهار البي�ضاء على �سيقانها املت�سلقة جلدار منزلنا، تتفتح أ
تواظب على �أداء ال�صلوات. ت�أتي «ميهري» لتلقي عليها نظرة.
«عبا�س» وريث ثروة طائلة ،نغيظها بالقول �أنها �ست�صبح يتو�سط ال�سماء قمر �أحمر �ضخم ،كم�شكاة زجاجية.
عما قريب زوجة غنية وبدينة ،تتزين بالكثري من املجوهرات ّ تدلف «نورية» �إىل احلديقة بثياب بي�ضاء نا�صعة ..كحورية
ال�ضخمة. يف لوحة فنية ..حتمل �صينية تفرت�شها زهور الرنج�س ،تعلوها
حني ت�أتي «فرخندة» للزيارة ،ت�س�أل «نورية» ان كان «عبا�س» ك�ؤو�س �رشاب الورد و�أطباق متنوعة من احللوى.
بطباعه اللطيفة الهادئة هو من تريد حقاً.. تناف�س يف بهائها الزهور البي�ضاء والقمر امل�ضيء.
فعلت الكثري من
ْ لقد جتيب الفتاة :انها رغبة اخلالة «ت�شاند». «ميهري» التي مل تبت�سم يف وجه ابنة �شقيقها قط ،ومل تقل لها
�أجلي .انه الن�صيب و�إرادة اهلل ،بال �شك .ثم انك انت من �أخربين كلمة طيبة �أبداً ..راحت الليلة تتمعن فيها ،كم�ش ٍرت يختار عجالً
ب�أنني �س�أتزوج جندياً. يف �سوق املا�شية.
�أتغنى ألغيظها� :أين ذهب بطلك ال�شجاع يا نورية؟ ..بعيداً.. عقب مرور �شهر رم�ضان ،حني ا�ستحال القمر �إىل هالل من
بعيييداً.. الف�ضة ..عاد «عبا�س» �شقيق «ت�شاند» من �أكادمييته الع�سكرية، ّ
الن يا «كامي»؟ خمن ماذا �أفعل آ ّ - الفالم ،ويلب�س ليم�ضي العيد مع �أ�رسته .يدندن ب�أغاين أ
-ماذا يا «نورية»؟ قم�صاناً ملونة �ضيقة ذات ياقات طويلة مع بنطلونات وا�سعة
يل �أنني �سمعت �صدى ّ ا ويخيل الفرا�شات، � -أن�صت �إىل غناء ال�ساقني ..ترفرف يف الهواء حني يقفز عن دراجته النارية.
الظالل �أي�ضاً ..هل ترغب يف �أن ت�أتي معي؟ �شعره ق�صري ،ألنه جندي.
-ما هذا الهراء يا «نورية»؟! ..غناء فرا�شات؟!! نظرة واحدة منه �إىل «نورية» ،التي ترتدي ثياب «ت�شاند»
-كان من املقرر �أن تتزوج «نورية» يف �شهر نوفمرب .تذكرت الفخمة القدمية ،ب�شعرها البني وب�رشتها الذهبية ،و�أردافها
العمة «ميهر تاج» �صلة القربى فج�أة ،ف�أعلنت« :انها ابنة العري�ضة ..تغرقه يف بحر اال�شتياق العا�صف.
لوحت ب�أ�صابعها التي حتت�ضن اخي احلبيب رغم كل �شيء»ّ . كان قد بد� أ يذوب توقاً اليها ،منذ ان ر� آها ت�سري على اجلمر يف
�سيجارة «�سوبراين» ،و�أ�ضافت�« :ستخرج كعرو�س من بيتي �أنا. �شهر حمرم املا�ضي.
القرب اليها من بقية �أفراد بيتي هو منزلها احلقيقي ..ألنني أ العمال املنزلية� ،أجزم يقول «عبا�س» :تبدو كفتاة تتقن أ
العائلة». �أنها جتيد الطهي ترد «ت�شاند» :وجودها يريحني .انها ابنتي
تنا�ست وجود �أم الفتاة. الثانية .مزاجية �أحياناً .لكنها ت�ستطيع بكل ت�أكيد� ..أعني
كانت حمقة يف طلبها بع�ض ال�شيء ..فلم يكن من الالئق �أن ت�ستطيع الطهي.
تعي�ش الفتاة مع خطيبها حتت �سقف واحد ،قبيل زواجهما. أ
-هل هي خمطوبة؟ ..كنت �ت�ساءل ما اذا...
وافقت «ت�شاند» على م�ض�ض .بررت موافقتها ب�أنها ال تريد �أن المر� ،أن «ت�شاند» �ستعار�ض ،و�أنها لن تقبل ظننا ،يف بادئ أ
تثقل على «�سادية» امل�سكينة ب�إر�سال ابنتها لها ،لتعي�ش معها �أن ت�ستحوذ �أخرى على م�شاعر �أخيها .لكنها – على العك�س من
حي «ناظم � آباد» البائ�س. يف ّ ذلك -توافق على الفور .تن�صح �شقيقها ،فقط ،باالنتظار لعام
ر ّتبت «نورية» ثيابها و�أغرا�ضها يف عدة حقائب ،وغادرت �أو اثنني قبل الزواج ،ألنه وعرو�سه ال يزاالن �صغريين .تطلب
يف �سيارة عمتها ،التي حملتها �إىل اجلهة الثانية من كرات�شي، منه ان يعود بعد �شهر �أو �شهرين ومعه خامت اخلطبة.
لتعي�ش منها يف ق�رصها املطل على البحر. عما �إذا كانت توافق على اخلطبة ،تومئ حني ي�س�ألون «نورية» ّ
مل ن�ستطع �أن نتخيلها بعيدة عن «ت�شاند» ..يف ذلك البيت الفخم بر�أ�سها يف �صمت وقد ثبتت عينيها الع�سليتني على ��صابع
أ
البعيد « ..مدينة ال�صبّار». قدميها امل�صبوغتني باحلنّة.
ال�ضحى.مل نرها ثانية ،حتى حلول عيد أ مر�صع بالياقوت.يعود «عبا�س» بخامت من الذهبّ ،
237 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
تقود «ت�شاند» �سيارتها باجتاه ق�رص «ميهري» .كانت – كان «ماهر» قد عاد ليزور والدته ،دون زوجته غري املرغوب
للغرابة ال�شديدة -يف غاية الهدوء. بوجودها ،بعد انق�ضاء ثالثة �أو �أربعة �أعوام على مغادرته.
هناك ..قالت ب�أنها تفهم جيدا ً ما خططت له تلك التنني العجوز: املتموج الذي يالم�س كتفيه.
ّ بدا �شديد الو�سامة ،ب�شعره
انها ت�ستخدم الفتاة اليتيمة كطعم ال�صطياد ابنها احلبيب، �ألقى ب�سرتته املخملية البنف�سجية على ذراعه ،وراح ّ
يق�ص
و�إعادته �إىل �أح�ضانها ،بعيدا ً عن زوجته أ
الجنبية. علينا نوادر وحكايات عن لندن ال�صاخبة.
اليدي تراقب ما يحدث .وت�ساءلت: �أعلنت �أنها لن تقف مكتوفة أ كان قد �أتى للغداء معنا ،م�صطحباً والدته و«نورية».
هل تظن «نورية» �أن احلياة جمموعة من الق�ص�ص الرومان�سية لونت بع�ض تبدلت «نورية»� .أحاط �شعرها الفاحت ،الذي ّ
البلهاء ..كتلك التي تقر�أها يف كتب «را�ضية بات»؟ خ�صالته باللون الذهبي ،بوجهها ..ب�شكل جميل .زينت عينيها
حذرتها ب�أنها �ستتجرع مرارة احلقيقة ،حني يغادرها «ماهر».. بكحل وظالل جفون من اللون الفريوزي .متا�شى مكياجها مع
راجعاً �إىل زوجته. الزرق ،الذي ك�شف عن كتفني المعني وخ�رص عار ،حتت ثوبها أ
قالت لـ«نورية» و«ميهري» ب�أن ب�إمكانهما االحتفاظ بكل غاللة من قما�ش ال�شيفون اخلفيف.
الهدايا التي �أعطيت للفتاة ،عدا خامت اخلطبة .تريد ا�ستعادته هم�ست لها «ت�شاند» بغيظ �شديد« :ما الذي فعلته بنف�سك؟!..
ألنه �صيغ من قطعة ذهب خا�صة بوالدتها الراحلة. تبدين كبغي».
ت�ساءلت �أخرياً :ما الذي فعله «عبا�س» لي�ستحق ذلك؟ ..وهل تبدل «ماهر» �أي�ضاً.
هذه هي الطريقة التي تظهر فيها «نورية» امتنانها لكل احلب �أ�صبح رجالً م�سحوراً.
الذي منحتها �إياه على مرّ أ
العوام؟ جنحت الرغبة وال�شباب ،فيما ف�شلت فيه �أموال «ميهري»
حني ناولت «ت�شاند» اخلامت �إىل �أخيها ،قال« :كان عليك �أن وخططها اللئيمة.
المر يل .كنت �س�أجعلها ترى احلقيقة ،وتدرك ب�أنها لن ترتكي أ القاويل التي ال يتوقف كالعادة ،هناك العديد من الق�ص�ص و أ
تكون �أبدا ً �سعيدة مع ذلك احليوان». النا�س عن ترديدها.
د�س اخلامت يف جيبه ،وانطلق على دراجته النارية. ّ ت�رسبت احلكايات من الق�رص الكبري وو�صلت الينا يف بيوتنا
مل يعد ذلك اليوم. البعيدة« :ماهر» الو�سيم منح قلبه وكل م�شاعره �إىل ابنة خاله
�أخربتنا «ت�شاند» فيما بعد ،بانه حني عاد للمنزل ..قال لها اجلميلة «نور �أف�شان» ،انهما معا يف كل �أنحاء املدينة .ال
ب�أنه قد ر�أى «نورية» .لكنه مل يخربها �أين قابلها بال�ضبط. يفرتقان ابداً .يرتددان على الفنادق وامل�سابح ،ويخرجان يف
ثم انخرط يف بكاء مرير. رحالت �إىل الريف ،ويذهبان معاً �إىل �شاطئ البحر.
قالت ب�أنها مل تره �أبدا ً يبكي بتلك الطريقة .و�أكدت ب�أنه يف كل علّق البع�ض بان الق�صة خمزية .و�أنه مل مي�ض وقت طويل على
عام يبكي من فرط حبّه للح�سني وعبا�س وقا�سم� ،إال �أن دموعه خطبة الفتاة اليتيمة ..فكيف جتر ؤ� على هذه الت�رصفات؟
املن�سابة هذه املرّة بدت كما لو كانت ممتزجة بالدم. الخر« :وماذا يف ذلك؟ ..وماذا ان كان «ماهر» ت�ساءل البع�ض آ
«هابيل» و«قابيل» .هكذا �شعرنا حني بد�أت احلرب املفرو�ضة يكربها بع�رش �سنوات؟ ..انه ال يزال يف الثامنة والع�رشين فقط.
المر بوفاة علينا فر�ضاً .كنا �أخوين يتقاتالن ،و�سينتهي أ �أمامه عمرٌ ب�أكمله ،وحياة عري�ضة؟.
�أحدهما. المر منذ البداية.كانوا ي�ضيفون« :هكذا كان ينبغي �أن يتم أ
امتلت ال�سفن بال�صبية الذين مت نقلهم عرب البحر والرب، أ الجنبية التي ال نعرف لها �أ�صل وال ف�صل، �سيرتك زوجته أ
ليقاتلوا ويحاربوا من �أجل �أر�ض مل يروها ،وللحفاظ على جمد وي�أتي لي�ستقر يف بلده مع ابنة خاله».
�أمة كان انف�صالها مقدرا ً وحمتوماً. المر.مل نعرف قط كيف اكت�شف «عبا�س» أ
�أخذ «عبا�س» �رشقاً� ،إىل احلدود البورمية. رمبا ات�صلت به «نورية» ،او رمبا كتبت له ر�سالة بخطها
تت�ساءل «ت�شاند» :ملاذا يحملون �أبناءنا واخوتنا عرب �أرا�ضي اجلميل ،بعبارات اجنليزية ر�سمية ،تخربه فيها ب�أنها لن
العداء ،ليمنعوا بلدا ً بعيدا ً غريباً من تغيري ا�سمه؟ أ ميكنها الزواج منه ،وان احلياة قد دفعتها لتغيري خططها.
كرب ،وبالء.. وانها � آ�سفة ال�ضطرارها للنكث بوعودها له ،ولكن ال ميكنها ان
كربالء.. ت�ستمر يف العي�ش داخل كذبة.
الخبار الواردة من اجلبهة �سيئة .تتحول بعد ذلك �إىل أ
ال�سو�أ. أ المر ،وي�أبى ان لكن «عبا�س» يرف�ض �أن يخربنا كيف مت أ
و�صلت الربقية ليالً: ي�ستمع �إىل �أي كلمة تقال �ضدّها.
«ي�رشفنا �أن نبلغكم با�ست�شهاد �شقيقكم �سيد عبا�س حيدر». �صف «ت�شاند» ،ونقاطع «ماهر» و«نورية»، نقف كلنا يف ّ
مل تت�رصف «ت�شاند» كما توقعنا ،ك�أخت بطل ،مل تت�رصف متاماً.
238 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
الثالثة ،ا�ستوقفتها يد مل�ست كتفها .التفتت لرتى امر�أة يف الر�ض وراحت متزق ثيابها بهدوء وكرامة؛ بل ارمتت على أ
اواخر الثالثينيات� .أنيقة� ،شقراء ،تتحلى بقطع قليلة من وت�شدّ �شعرها ،وت�رضب بيدها على �صدرها.
املجوهرات� .س�ألتها املر�أة�« :أال تتذكرينني؟»� ..أ�ضافت�« :أنا مل تنطق بكلمة .لكننا كنا مت�أمكدين من انها كانت – يف
قريبتك ..نور �أف�شان ..نورية» .احت�ضنتها وقبّلتها .وقبل �أن �رسّها -تلعن القادة ،وحروبهم؛ وتلعن «نورية» املرّة تلو
تقرتب �سيارتها التي يقودها �سائق من مدخل النادي ،قامت الخرى ،ألنها كانت �ش�ؤماً على �أخيها احلبيب. أ
بتعريف �أختي �إىل زوجها .تتذكر �أختي انه رجل و�سيم ،يكرب �أما «نورية» ..فيقولون ب�أنها حني �سمعت النب�أ ،قامت بك�رس
«نورية» ب�سنوات قليلة فقط. ال�ساور الزجاجية امللونة التي كانت تلب�سها ،ثم �أم�ضت ثالث أ
الل�سنة� -أرمالً ،بل مطلقاً فقط� ،أم�ضىمل يكن – كما تناقلت أ ليال يف حجرتها ،ال تفعل �شيئاً �سوى ال�صالة.
�أعواماً يف دبي ،لكنه مل يطلقها قط� ،أو ير�سلها �إىل منزل �أمها. الزهار والورود �أن عقب ذلك ،غادرت بيت عمتها ،حيث ت�أتي أ
قالت �أختي �أي�ضا �أن �شخ�صية «نورية» يف ذلك اللقاء ذكرتها تنمو ،دون �أن ترتك ولو ر�سالة لـ«ماهر» .مل تعد �إىل «مدينة
ب�أحد � آخر ..لكنها -هي نف�سها -مل ت�ستطع حتديد ذلك ال�صبّار» �أبداً ،بعد ذلك.
ال�شخ�ص. �سارت طويالً ،ثم ا�ست�أجرت عربة حملتها ملنزل «ت�شاند» كان
�أحلم �أحياناً انني يف مكان «عبا�س»� :نا ال�شخ�ص الذي ترف�ضه
أ البيت ممتلئاً باملعزيات .مل تدخل .كانت تدرك انه مل يعد
يل .وجهها �شديد ال�شحوب ،ومغطى بالدموع. «نورية» .ت�أتي � إ ّ بيتها .ذهبت �إىل �أمها و�شقيقها� ..إىل احلياة التي تركتها منذ
الر�ض يف احلديقة .مت�سك بيدي .تطلب مني �نأ جتل�س على أ ت�سعة �أعوام،اىل ال�شقة القدمية الواقعة على �أطراف املدينة.
�أ�ساحمها ،وان نظل �أ�صدقاء ..كما كنا منذ طفولتنا. الول ،الذي قال النا�س انها كانت حبلى .ي�ؤكدون ان طفلها أ
ت�ضع يدي على خدّها املبلل .تذكرين ب�أغنيات الفرا�شات، المر ابن «ماهر». ن�سبته لزوجها ،كان يف واقع أ
وبا أل�صداء والظالل ,لكنني �أنظر �إليها بجمود ،ثم �أ�شيح قال � آخرون ب�أنها �أنهت حملها بعملية �إجها�ض ،مثل «ت�شاند»
بوجهي عنها. قبل كل تلك أ
العوام.
�أقول ب�صوت غري م�سموع�« :ساحميني يا نورية .انا ال �أفهم كل ما نعرفه انها وافقت على �أول خاطب د ّق بابها .تزوجته
المور .انني �صغري جداً .ال ميكنني �أن �أ�ستمر يف مثل هذه أ بعد �أ�سابيع قليلة� .سمعنا �أنه �شيخ كبري وارمل ،عرثت عليه
�صداقتك» .ثم انطلق يف الليل على دراجتي النارية ب�رسعة. �أمها يف �أعمدة اعالنات الزواج ب�إحدى اجلرائد .وقالوا �أن
�أتوجه �إىل ال�شاطئ� .أترك دراجتي هناك ،و�أخو�ض يف �أمواج يخ�ص عددهم القوال فيمالديه عدة �أبناء ،ولكن ت�ضاربت أ
البحر. ّ
بال�ضبط.
هكذا يعرف رجال ال�رشطة �أين يبحثون عن «عبا�س» بال�ضبط، مل يح�رض � أ ّي منا حفل الزفاف ،واكتفى بع�ضنا ب�إر�سال
حني ي�شاهدون دراجته امللقاة على ال�شاطئ .وبعد عدّة �أيام، الهدايا.
ت�شوهت
يخرج ال�صيادون ج�سده من املاء .كانت مالحمه قد ّ عاد «ماهر» �إىل زوجته يف «�إلفورد» ،وا�ستقر هناك ل�سنوات
وت� آكلت .كان خامت «نورية» ال يزال م�ستقرا ً داخل جيبه. طويلة .ثم اختلفت معه «بريندا» ،فطردته من املنزل ،حمتفظة
ذه ق�صة �أخرى ،مل يذهب فيها «عبا�س» �إىل احلرب .ألنه مل ب�أمواله وبناته .رجع �إىل كرات�شي ليقيم مع «ميهر تاج» .ترك
ي�ستطع �أبدا ً �أن يفهم �أ�سبابها ودوافعها. وحول «بيت ال�صبار» �إىل كلية علمية.
هذه هي الق�صة احلقيقية ،يف الواقع ،لكن نهايتها باردة املحا�سبة القانونيةّ ،
ا�ستمرت قطيعة «ت�شاند» و«ماهنور» و«ميهريار» لـ«نورية» مل
الق�ص واحلكي؛ لذلك اخرتت �أن ّ وكئيبة .و�أنا رجل حرفتي يتبادل �أي منهم معها كلمة واحدة ،حتى بعد وفاة «ت�شاند»-
�أجعله بطالً حربياً ..ال ولدا ً �ساذجاً يتباكى على حبّه ال�ضائع، تتم �أعوامها أ
الربعني.
ومينح حياته للبحر. املفاجئة -قبيل ان ّ
اختارت «ميهري» ا�سلوب ال�صمت والقطيعة �أي�ضاً.
هل ت�شعر ،مثلي ،باملياه املاحلة تن�ساب عرب هذه ال�صفحات؟ �سمعنا ،بعد عدّة �أعوام ،ب�أن زوج «نورية» قد طلقها ،و�أعادها
الهوام�ش �إىل منزل والدتها ،وانه ا�ستوىل على جميع جموهراتها ،و�أنها
-1فايز �أحمد فايز� :شاعر �أوردو باك�ستاين ( -)1984 -1911املرتجمة. واجهت بعد ذلك �أياماً طويلة من ال�شقاء ،نا�ضلت فيها لرتبي
-2ناد اجتماعي يف كرات�شي ،ت�أ�س�س عام (.)1871 طفليها دون م�ساعدة من �أحد.
] ولد «عامر ح�سني» يف مدينة كرات�شي بباك�ستان عام .1955انتقل �إىل خربت �شقيقتي ب�أنني �أكتب هذه الق�صة ،تذكرت
لندن عام .1970يدر�س مادة الكتابة االبداعية يف جامعة �ساوثاميتون. ولكن حني � أ ُ
الخر» �« ،أرق» « ،تركواز» ،كما
من �أعماله « :مر�آة لل�شم�س»« ،هذا امللح آ ما يلي:
�أ�صدر كتاباً بعنوان «كاهاين» وهي جمموعة ق�ص�صية لعدد من الكاتبات قبل ع�رش �سنوات ،كانت يف نادي ال�سند( )2ظهرية �أحد �أيام
الباك�ستانيات. العوام �شهر ابريل .وفيما كانت تالحق ابنتها ال�صغرية ذات أ
239 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
غدوت مهماً. َ نف�سك .و� أنت جاء من حافة الأزقة التي تكاد ت�سقط يف البحر .من َ
أر�سلت برقي ًة َ أعرف بال�ضبط ماذا تريد� ، -لكن مل � ْ عيون ال�سم ِك امليتِ . ُ فيها ت�ضيء
ُ التي الدروب
ِ تلك
عظيم لن ٌ م�رشوع
ٌ غام�ض ًة؛ (�صديقي العزيز ثمة وجد � أنوارا ً وجدراناً عالية و� أرواحاً حمبو�س ًة و� أ�شجارا ً
يتحقق بدونك � .أح�رضْ حاالً!). متدنية.
عيون من ٍ ىل �
ُ إ ل العيا لالورق يف يدهِ ،وحتو َ ُ تكرم�ش
َّ احذر من الأزهار! ْ �سيدي : الكهفُ قال
خر ٍز م�ضي ٍء يف روعهِ. �شامخ، ٍ أمام بيتٍ
اجلر�س وهو يف حديق ٍة َغناءَ � ، َ قرع
َ
عقود م�سرتخيةٌ هنا ،غرف ُة مكتب ٍة وا�سع ٍة تبدو من ٌ البيت بكا�شفاتٍ حارقة. ُ ليه إ � تطلع
َ
ٌ أبناء � يتحقق. ومل ً ال طوي به حلم
ٌ َ �شيء الزجاج، وراء ورق ال�شج ِر امل�صف ِر تكن يف جعبت ِه تعاويذٌ ،ور� أى َ مل ْ
أ�شجار تت�ساق ُط ُ مثل الأقحوان يف خريفِ العم ِر وال وخيوطاً من الف�ض ِة على �شك ِل ح�رشاتٍ �ضارية.
رماداً. رب ُ يتقدمها فوقه،
ُ وانهمرت العائل ُة ْ الباب
ُ فـُتح
امل�ضيف : ُ قا َل مام الر�سمي إل ِ ُّ الكاتب
ُ البيت ،رفي ُق درب ِه ال�سابق،
أنت من امل�شاركاتِ كر�ست � أهميتي من العزل ِة و� َ ُ � -أنا الزيت من ك ِل م�سامهِ، َ ي�ضخ
ُ الع�رص ،ج�سدٌ كبريٌ
الكلمات
ُ أمور ؟
جرت ال ُ الرهيب ِة امل�ؤملةِ ،ف�أنظرْ كيف ْ حميم
ٌ احت�ضانه
ُ �صلعته مهيبةٌ، ُ ابت�سامته �شفافةٌ، ُ
اجلميل ُة ت�أتي من � أنها ٍر خمتلفة! وقوي.
حلت جلدي يف عي�ش مريح؟! و� أنا الذي َ ُ
�س ٍ (� أي �سنوات مل نلتق. ٌ م�ضت
ْ ! لهي -يا � إ
ال�شوارع!) .التقيا مراتٍ وام�ض ٍة يف مقاهٍ ،يف طائراتٍ دت بيننا الدروب. � -أجل َب ُع ْ
لعوا�صم بعيد ٍة يقر� آن �شيئاً من الورق، َ أجواء
تخرتق ال َ ُ يحدث ذلك؟ هل بيننا �إ�شاراتِ مرو ٍر ُ -وملاذا
النا�س يفرقون ُ ْ يعد ومل ٍ،ة واحد الحتفاالتٍ مي�ضيان حمراء؟
والدم.
ِ رببني احل ِ ألوان خمتلفة. -بل � ٌ
املو�ضوع كعادتك � .أال تريدُ � أن ِ على هجمت
َ -لقد ثرياتٌ ،ٌ ة فخم ٌ كثرية كرا�س
ٍ وا�سعة، ةٍ �صال �أُدخ َل يف
تعرق � أال ُ ت�رشب �شيئاً ؟ هات احللوى يا منري � .أنت َ ت�سرتيح على �سواع ِد ُ تتدىل بحنو لل�سجاد ،نوافذٌ
البارد ؟!
ُ الهواء
ُ ك َ ي�صل نب�ضات مو�سيقيةٌ ٌ احلديق ِة واملزهرياتِ الناب�ضة.
نوبات الربوِّ ال تفارقني. ُ - على � أ�صاب ِع البيانو يف احلجر ِة القريبة.
والرتاب كلُها ُ والدخان
ُ -ال�شق ُق ال�ضيق ُة والأزق ُة و�س �شيطانيةٌ من وتدفقت ر ؤ� ٌ ْ فج�أ ًة ر� أى � أدغاالً.
ت�سبب هذا وغريه. ُ حواف ال�شجر. ِ
دخان
ُ أعي�ش ب�شق ٍة يف عم ِق حار ٍة مكتظة. -نعمُ � . �سعداء بوحدتِنا؟! َ نكن
الكهف � :أمل ْ ُ قال
والدكاكني التي هي � أكرثُ من ُ والور�ش،
ُ ال�سياراتِ ، دون مراقبت ِه تناثروا والبنات الذين كربوا من ِ ُ أوالد
ال ُ
النعال .مل � أعدْ � أحتم ُل هناك! غدت مطاط حي .الزوج ُة التي ْ ٌ على الكرا�سي ك�أنهم
-بعدَ ك ِل هذا الن�رش؟! دخان موقدِها الغازي ُ هيكالً عظمياً ال يزا ُل يت�صاعدُ
�ضح َك. أ�شباح وقتلى .مل يب ْق فيها �سوى عينني على هيئ ِة � ٍ
بع�ضهم يتطلعون فيهِ ،يلتفتون نحو ِ َ العيا ُل كانوا كبريتني تت�سعان ملرو ِر بواخ ٍر كثرية.
يهم�سون كلمات ِه بده�شةٍ. َ البع�ض،ِ امل�ضيف:
ُ قال
يك�سب الن�رشُ ! ُ تعرف ماذا َ � -أنت لتخرج من عزل ٍة رهيب ٍة فر�ضتَها على َ -دعوت َك
240 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
تهديدات ٌ ال�صلب .بدا ك�أنها ِ وجهه �إىل البال�ستك ُ أوالد �إىل الداخ ِل وهم يرق�صون ذهبت الزوج ُة وال ُ ْ
عا�ش مثل عمر ِه وبدا نائياً عن َ الذي �صاحبه
ُ . غريب ٌ
ة املكان موح�شاً � أكرث. ُ معاً ،غدا
يحفر يف كائنات ِه الغرائبيةِ ،وال ي�ضاي ُق ُ العام
ِ الو�س ِخ يتطلع فيه مت�سائالً. ُ
أذهله بهذ ِه القفز ِة يف � أحداً ،ويح�ص ُل على جوائزُ � ، � -أعرف �إن َك م�ستعجل ،لكن الق�ضي َة كبريةٌ وخطريةٌ.
هو ِة الغاز. جتل�س طويالً لت�صغي وتفكر. َ ال بد � أن
�صوته فج�أة: ُ ارتفع
َ كانت العائل ُة تط ُل بر ؤ�و�سِ ها من ورا ِء الزجاج.
-هذا �إيحاءٌ غريُ مقبول ! �صمت عمي ٌق .ر� أى ٌ حدث
انقطعت و�شو�ش ُة املو�سيقىَ . ْ
-هذا تقريرٌ بواقع َك ال�صحي ! �صاح التليفون َ . ٌ أخاديد � ظهرتْ . َ جتعد وقد ِ
ه زميل وجه
َ
-وبعد ؟! و�صمت فح�أ ًة. َ ة
ً فج�أ
العر�ض ؟َ تعرف
َ � -أال تريد � أن املوقف يوتره. ُ بد� أ
� -ألي�س هذا هو العر�ض ؟ وي�رشب القهو َة بتلذ ٍذ ُ �صار مي�ض ُغ احللوى َ �صاحبه
ُ
-التفا�صي ُل هي املهم ُة كما يف الأدب. مزعج.
-وما هي هذه التفا�صيل ،هل �س�أغدو وزيرا ً ؟! رئي�س الدولةِ، َ ، الرئي�س
َ أن � هي �صاحبي يا ة
ُ الق�ضي -
ترميم ِ ت�رشف على ُ -بل � أهم من وزي ٍر و� أرفع� .سوف يريدك � أن تعم َل معه ! َ
الق�رص الأثري القدمي ولن تقو َل �إن هذا يحتاج �إىل كاد � أن ي�ضحك � .أهذه هي الق�ضي ُة اخلطري ُة ؟ وهذا َ
�سيقوم ُ وتعر�ض للغبا ِر والأ�صباغ ،بل ٍ نزول ميداين ٍ حلاح ،ومنذ ُ الإ و الفجر، يف املخيف
ُ املبكر
ُ ل
ُ االت�صا
ال�رشاف عن إ �سوى ك
َ علي ولي�س كبري، طاقم
ٌ هذا بك ِل كان مهتماً به ؟! �صاحبه يت�صل ؟ ومتى َ ُ متى كان
ري ذي هواء نقي. أنت يف بيتٍ كب ٍ ُبع ٍد و� َ يعرف غريَ ُه حقيق ًة ،فمنذ ْ يعرف هذا الرئي�س الذي مل ُ
يعرف هذ الق�رصَ جيداً .هو حتفةٌ معماريةٌ قدمية، ُ الوطني يف املدر�س ِة و� أن�شدَ له َّ العلم
َ ورفع
َ وعى � أن
لكنه �أُهم َل لعقو ٍد طويلة ،وحتو َل �إىل معه ٍد مر ًة ثم فوق البيوتِ والأ�شياءِ. أ�سه َ كانت ال توجدُ �سوى ر� ُ
�صار مركزا ً وا�سعاً لل�رشطة .وكان مقرا ً لذكرياتٍ َ وجروح ُه �إىلَ ه َُق أعما � و ه
�رسب َ ُ
جلد َ والآن هو كه ٌل،
ول�شباب مي�ضي ٍ ومدن مرعوب ٍة ٍ أ�شباح
مرير ٍة ول ٍ أبي�ض الكثيفِ الورق ،ومل َي ُعدْ �سوى � أن يطريَ ب�شعر ِه ال ِ
تظهر و� أنا�شي ٍد مدوي ٍة ُ يف الليل ويتوارى وجلنازاتٍ �إىل �سما ِء الغيوم.
و� أ�شيا ٍء خميف ٍة � أخرى ! يعري هذا الرج َل وعاملَ ُه َّ تكن له ق�ضيةٌ �سوى � أن ومل ْ
نرجعه
ُ منهم. َ الق�رص هذا َ ن�ستعيد -هي فر�صةٌ � أن أوراقه يف ك ِل مكان ،لكن ُ � فت�رسبت
ْ ، ه
َُ أقبيت � و ه
َُ ودهاليز
والدم الياب�س من َ الرمم
َ �إىل ع�رص ِه الذهبي .نزي ُل هذه ويت�ضخمان
ِ ويكربان
ِ مي�ضيان
ِ الرئي�س ومملكتَ ُه ظال َ
ذكريات ُ اختفت
ْ النا�س وقد ُ على جدرانه � .أن ميرَ به كلماته قادر ًة على ُ خميف حتى مل تعدْ ٍ على نح ٍو
آثار
جلب لك املهند�سون والعما ُل ال َ الأ�شباح � .أن َي َ وجاءت � أجيا ٌل ال تعرفه ،وامتلأ العاملُ ْ اللحاق بهما، ِ
والورق املخب�أَ يف الغريان َ ر
ِ أظاف ال احلديثة حلفرياتِ م�رشف على ٌ آن ال وهو ِ،ة املعتم ة
ِ أجهز ال ج
ِ ب�ضجي
وحتت البالط. يتمتع باحلياة. ْ ومل املوتِ ،
ابت�سم ب�أمل. َ �صاحبه مل يقر� أ الكثريَ مما كتبه. ُ �إن فاجع:
ٍ قا َل بهدو ٍء
در�س فيه � أي عالق ٍة مريع ٍة عا�شها مع ذلك الق�رصَ ، -مل يب ْق يف العم ِر �شيءٌ و� أنا عاجزٌ عن العمل .ف�أي
كتب املدير متهماً �إياه بتمزي ِق ٍ ُ وحب�سه
ُ وهو معهدٌ وغريب هذا ؟! ٍ عر�ض مت�أخ ٍر ٍ
مير
عا�ش فيه �سنوات مروعة ! كان حني ُ ثمينة .ثم َ اندفعت مو�سيقى قويةٌ مفاجئةٌ ثم خفتت. ْ
الدمع يف عينيه ُ يرتقرق
ُ بقرب ِه وهو يف م�شي الكهول ِة بي�ضاء يف
َ ة
ٍ أردي � ب لُ مث تـ
ِ ُ الزجاج وراء
َ ة
ُ العائل كانت
ْ
رش الق�سا ِة التافهني وب�صا ُقهم عليه �رضبات الب� ِ ُ ! حتولت �إىل � أ�شباح. ْ ِ. ة املتقلب ر
ِ أنوا ال ذاتِ ة
ِ احلجر
ظلت لوحاتٍ حي ًة تك�ش ُط جلدَ ُه بتوت ٍر كل يوم وبال ْ تعي�ش يف ال�شق ِة ُ أنت ت�ستطيع � أن ترف�ضَ � . َ -ال
أ�شباح وانت�رش حربه حتى غطى على ال ِ ُ توقف .وتدف َق أوجاع ،لديك �سلةٌ من ُ ال�صغري ِة وحيداً .جتتاح َك ال
الغبار
ُ و�سكنه
ُ يف العامل و� أحي َّل الق�رصُ للتقاع ِد الأمرا�ض.
الرئي�س يت�ضاء ُل كان ُ والذكريات الأليمة .وفيما كان ُ يتطلع �إلي ِه بقوةٍ .حتو َل ُ آخر
حدق فيه منزعجاً .ال ُ َ
241 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
رص فعالً ري الق� ِ � -أنت مل تفهمني .هي فر�صةٌ لتغي ِ ويزور القاد َة وامل�ؤمترات ُ يظهر يف �صحفِ ال ِ
أر�ض ُ هو
ولكن لي�س لتغيريي. املثرية.
-مل � أفهم ؟! وقال على نح ٍو مفاجئ:
ري الديكورات ،لكن ك َل �شي ٍء ِ بتغي يقوم
ُ الرئي�س
ُ - -هي فر�صةٌ ثمينةٌ !
ألقيت نظر ًة على الق�رص الأثري، �صار متعفناً ،لو � أن َك � َ ألي�س كذلك � ،أنت توافقني �إذن !! َ �-
وتوارت �صار م�أوى للمدمنني واملجرمني، يكتب له التما�ساً لكن مل .ً ا �شديد للرئي�س
ِ كرهه كان
ْ لعرفت �إنه َ َ ْ ُ
آثار القدمي ُة اجلميلة. ال ُ
زوجته بال�رسطان ووجدَ ر�صيدَ ُه فارغاً، ُ �صيبت
ْ حني � أُ
ير�سم التفا�صي َل املروع َة ولكن املو�سيقى وراح كتب � أخري ًا
َ ليه. �
ؤ إدي � ت كلها كانت ة
ً كثري ً ا أبواب � طرق
َ
ُ يرجوه فيها امل�ساعد َة ب�صفت ِه رئي�ساً للدولة ة ر�سال
تدور حول ت�صاعدت فج�أ ًة وبقو ٍة ً
ال�شخو�ص ُ ُ وراحت
ْ ْ أرواح املواطنني ! فح�ص َل على م�ساعد ٍة
ُ
بع�ضها يف حرك ٍة عا�صفة. وم�س�ؤوال ً عن � ِ
-هذه فر�صةٌ ل َك لكي ت�سرتيح بع�ض الوقت � .أعتربها حبيبته
ُ دخلت
ْ مالي ٍة تكفي لتذكرة طائرة ،يف حني
للعالج من ك ِل هذه كراهيته
ُ تعمقت
ْ ممراتِ الغا ِز وك�ش ِط ال�شعر واجللد.
ِ �إ�سرتاح َة املحارب .فر�صةٌ وغدت هو ًة كبري ًة بينهما كوابي�س حتى �صارت
الكلمات كثريا ً بني ُ تتغري أمرا�ض وال�ضغوط .مل ِ ال ْ َ
حار ٍة نازفة وبيتٍ مريح ! مملوء ًة باجلثثِ وال�رصخاتِ املروعة.
-ال ! ثمة فر ٌق كبريٌ.
الرئي�س يف القه ِر ت�رصخون وحني ُ -حني مي�ضي
دور ال�شهي ِد يتحو ُل تغ�ضبون .ق ْل �إنك ال تريدَ � أن تغريَ َ
نف�س ُه وغريَه .يتلذ ُذ يعذب َ ُ دور امل�صلوب ،الذي احليَ ،
الفرح ِ رص
ِ ع� مع تنتهي أنت � أ�سواط. ال و ء
ِ الدما مبناظ ِر
واالحتفاالتِ البهيجة .لقد فلقتنا مبو�ضوعات َك التي
ألي�س ثمة �شيءٌ �سوى املا�ضي والأمل والقهر، ال تتغريَ � .
هناك َ ثمة ! به ً ا خمتنق واحد كتاب
ٍ ةِ بقراء اكتفيت
� أمل ،ثمة حياةٌ جدديدةٌ ممكنة !
فوق فمهِ ،حاو َل جثمت َ ْ ازدادت املو�سيقى عنفاً، ْ
ٌ هدوء حدث
َ ثم ِ،ه �شفتي فتمزقت
ْ ي�رسب كلماتٍ َ � أن
وحدقت ْ كلها، جاءت �إلي ِه َ ْ ر�صا�صي ،وك�أن العائل َة
وحتاوطه
ُ مباعون على ر� أ�سه، ٍ و�رضبته
ُ فيه الزوج ُة
رص
وغا�ص يف ردهاتِ الق� ِ َ ِهم ت بقب�ضا ال�شباب
ُ
أ�سنانه يف يدهِ. ُ و�
أ�شباح يف نف�سه ،ال ُ ُ الهدوء
ُ لكن مل يكن ثم َة �شيءٌ.
�صاحبه و� أح�رضَ �رشاباً .دف َق ك�أ�س ًا ُ نه�ضَ � أمكنتِها.
يوم تعب يف احلارةِ ،ك ُل ٍ �رسيعاً يف جوفهِ ،وهو قد َ
امل�ضيء
ُ الكهف
ُ هناك، ولكنه حرٌ ُ �رصاخ وقذارةٌ، ٌ
وي�ستلف الع�صافريَ من ُ الكلمات
ُ ق
ُ تتدف ، غرفته
ُ هو
ال�شخو�ص العجيب ِة ِ ال�شواطئ واحلدائق ،و�شبكةٌ من ِ
وت�سلفه ال�سم َك واخل�رضوات، ُ ً ا و�ضحك ة
حتيطه � ً
أ�سئل ُ
ال�شهداء
ُ ومعها به، ط ُ حتي ة
ُ اجلري وهذه �سنواتٌ
وذكريات الأه ِل.
ُ أوىل ال الكتب
ِ ق
ُ و�صنادي ة
ُ والزوج
حاو َل � أن يتكلم.
يعرفه .مل ُ يقوله ل�صاحب ِه الذي ال ُ يكن لدي ِه ما لكن مل ْ ت�صوير � :سامل الورديُ -عمان
كتاب ُه عن الق�رص. يقر� أ َ
242 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s رع�شــة مرور
منــذر م�صـــري
�شاعر من �سورية
�أو �سكتة ،حماط بعدة غالالت �إن �أزحت غاللة �ستظهر لك غاللة «ليكن احلب قاطع طريقك»..
�أخرى وهكذا ..فهي لن ت�سمح لك بالدخول �إىل �أعماقها ..تتباهى كان �ضحى ذلك اليوم ربيعاً خال�صاً ،و�أحدا ً رائعاً ال ي�ضاهى..
وتت�رشف بوجودك على موائدها ..بذخ غري ُم�رسف� ،أطباق كثرية
وحمامها منوعة ُتقدّم على التوايل والطبق ال يعدو لقيمات..
غ�صة اخلوف ..قوة الالحل.. �أزال ارتباك االحتماالت و�أبقى لنا ّ
ُ اخللل الذي نراه جيدا ً وال ن�ستطيع �إ�صالحه..
ي�أكل نقراً ..نقراً. أ
وكان جمرد وجود َك يف هوائي يعني يل �ن احلياة حمتملة..
خف ظالً� ..أ�سري و�صدري مفتوح على النهر
كنت �أبدو � أ ّ
يف مدينت َك ُ الهانة .فخطفتني من نفق كنت تراين كل يوم �أ�شحب و�أذبل من إ َ
الطويل املن�ساب .ال �أتلفت ..وال �أنظر خلفي ..ا�ستمتع بامل�شي يف ال نهاية له و�آويتني.
و�سط البلد ،وباجللو�س على مقاهي الر�صيف� ..أ�رسع كثريا ً يف مل �أ�ضمرْ الرحيل يوماً ..بل هي الدنيا الداعرة ،و�أهلي ،الذين
عبور ال�شارع املجنون بال�سيارات ..ال �أدقق يف وجوه ّ
املارة.. قتلوا �أرواحهم وعلقوها على رقبتي .فا�ستوى الرحيل مع ذبح
دائماً م�ستعجلة� ..أجري ..ألحلق� !..إيقاعي متدفق ..مهي�أة �أمومتي ،وخنق اختياراتي ،ومواجهة مواجعي كما �أحب و�أرغب:
ال�ستيعاب أالفكار والقف�شات املباغتة ..جاهزة للرد الفوري «�أن �أنهي بح�سم �رشاكة زواجي الفا�شلة».
على �أدق التعليقات.. جف ماء ج�سدي وانحدرت مرة �أخرى على �صخور ال هكذا ّ
�شهور الغياب الكثرية مل تفرت حلظة الفي�ضان فما زالت قدمي الالم ..عاطلة عن العمل� ..أ�ستعري لقمتي و�أنام على �رسير ترمم آ
يخب يفهناك غافية يف ثنية ج�سدك احلميم .ومازلت ح�صاناً ّ أ
قدمي ..وال �متلك من
�صدري وي�شهق. م�ؤقت ..ال م�ستقر يل ،مكاين فقط ما حتت ّ
العامل �سوى احلب ،وقلماً مازال يهتز..
�أ�سريُ يف وادي �أحالم اليقظة ..تطل �ضحكتك وعينا َك ال�صغريتان يا حلظي� !..أنا �سليلة �شيوخ الع�شرية الرثية !..البنت املتمردة
العميقتان بحزن مرتاكم� .أخت�رصُ نف�سي و�أرتدي يديك� .أرمي على �رشيكها أالزيل ..أالر�ستقراطية املفخخة بفقري وعجزي!
طفولتي الفائ�ضة فوق �صدرك العري�ض ال�ضامر .تخطف وجعي مل تب َق عطفة يف مدن املنايف �إال ومرّغت روحي� ..رشيدة و�أنفي
و�أ�سحب اللوعة من عينيك. �شامخ !..وحيدة �أعالج �صد� أ ج�سدي كالعادة بقف ٍل ٍ
قا�س ينتظر
�شوهت كاهلي .وثقل يرهقني الوقت ..تناوب أاليام كدمات ّ مفتاحك الغام�ض الرحمة.
كوة �شجرتي الزمن م�سخ �أع�ضائي� .أكور �صقيع الثلج و�أد�سه يف ّ منذ ذلك الربيع و�أنا �أعي�ش ورطة االنتظار بر�ضى� .أتتبع حد�سي..
فوق �ألغامك املزروعة .كل ليل ..ي�ستعيد طيفك حرائقي� ..أعبئ هت �صدر َك يوماً بجبلها.. فقط حد�سي يف مدينة �أحبها� ..شبّ ُ
امتلت غرفتي بال�صناديق، فوراين يف �صندوق م�ضغوط حتى أ دم�شق الغانية املتزنة ..يحاورين و�ضوح نهارها الغارق يف
و�أخذت حيزا ً كبريا ً من �رسيري� .أنام م�شدودة ..موتورة� ..أحتجم اخلباء .ويتلوين ليلها �رصخة �صامتة مكتومة� ..أع�شقها� ،أتدله
كتلة من القلق ..حتزّ عنقي الكوابي�س� .أفيق دامعة .ج�سدي بها� .أما هي فال تع�شقني .تدللني بن�سيمها اجلاف .وتعللني
مقبو�ض ومائل للزرقة ..قابل للقتل بال رحمة ..ي�أتيني �صوتك بنجمة قمرها .وتغمرين ب�أ�شجارها ويا�سمينها .ترفعني �إىل
الغارق يف البعاد ..تهدهدين �أطياف يديك كي �أنام من جديد.. �سمائها وقبل �أن �أهوي تلقفني من خويف و�ضياعي .ت�سرت�ضيني
هكذا ..تتناوب دورات هالكي مرات ومرات. بح�ضن قا�سيونهاُ .ت َقبلّني بتوتها ال�شامي القاين وتقول يل
�أ�شتاق َك ... ..وا�شتياق َك حمنتي.. مزهوة ماكرة« :تك ْفنيني ..تقبرْ يني.»..
«ل�ست يائ�ساً من �إمكانية اللقاء.»..
تكاتبني ُ متنيت
ُ تلك هي دم�شق حبة اجلانرك اخل�رضاء اللذيذة التي
أ
ر�سائلي في�ض من الوراق ..ف�ضف�ضتي لك �إدمان.. قدومك �إليها .مدينة لي�ست برّاقة وال مرتامية .تاجرة حمايدة..
عندما �أجل�س فوق �سفوح جبال الواقع .و�سط �سياج ُمي�أ�س ي�ضمنا متكتلة على نف�سها مت�شابكة كدروب حاراتها� ..صامدة منذ
ملنا امللل وال جدوى أال�شياء جميعاً .نحن حمبطو أالرواح .أ أالزل على مفرتق طرق العامل القدمي ..متحايلة حتى على الزمن
باخلرائب .حماطون ب�ضغط التفاهة واملناهج املقررة ..ال نقوى من �أجل بقائها ..لكنها ..حنونة ..حنونة ..مثل يد منب�سطة
على الع�صيان .فنطوي �أحالمنا يف كرا�سات اللعنة وحمرقة مفتوحة ،خطوطها واهية وعميقة .و�أبوابها مواربة ن�صف
ال�صحافة� .أتعرث و�سط ال�سياج� ..أ�سقط على ركبتي مع كل فر�صة اليقاع ال ي�صيبه ت�رسّع مفتوحة ون�صف مغلقة .قلبها من�ضبط إ
243 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
و(تفاحة �آدم) النافرة ..ي�ؤنبني نحولك ال�صارخ ..ف�ألعن نف�سي عمل ت�ضيع� .أذهب �إىل �صديقتي الوحيدة فتندبني دموعي بني
وزمني.. يديها.
�أتعلق بكتفيك.. قد �أبدو طيبة وجميلة وجريئة� ..أحث �أ�صدقائي على االلتفات
بلباقة �سياحية و�أخالقية يطلبون منا مغادرة املكان� .ضاقت الجتهادي فال يلتفتون �إال جلنون �ضحكتي وورود ف�ساتيني
علينا الدنيا ،حتى الغرفة املُلتب�سة ب�أرقامها لفظتنا ،فلم يب َق يلحون ..فريف�ض داخلي .يحفرون خدو�ش وم�شيتي املتمايلةّ .
لنا �سوى مكان �ضيق ي�شبه الزنزانة ،ع�رصّي بكل تف�صيالته، أالذى يف روحي ألن ج�سدي ال يكذب� .أ�صحابي املقربون
فتحت الباب.
َ �رسيع وخمنوق بتوقيت م�ضبوط� .أطل �ضوء ال�سهم. ال�س ّم يف ك�أ�سي ويقولون يل: م�شانق متحفزة ..متلهفة ،ي�ضعون ُ
زهزهت لنا أالنوار .دخلنا با�سمني ،وقفنا متقابلني .حت�س�ست «ال ت�رشبي الثمالة» .ليت�ش ّفوا مبوتي البطيء .بتودد ،يغرفون يل
�أ�صابع َك طرف وجهي ..بد� أ ُت �أت�شمم في َك رائحة اخلبز ال�ساخن الن�صائح« :تخففي منه ..يا راهبة! .حاويل ..يا مت�صوفة! .مار�سي
و�شفتك تقرتب من خدي� .أنذرنا املكان و ُفتح الباب .مل متنحنا لعبة اال�ستبدال واال�ستدالل مثلنا ..ال حت�سمي وال تبرتي ..اتركي
منجد �شهرتها يف �أعطال الكهرباء. لعالقاتك ذيوالً وقفازات .اقتلي روحك ،و�إن مل ت�ستطيعي على
هذه املدينة الفر�صة كي ّ
أ أ
لو تعطل بنا امل�صعد كنا �سنخلع �قالمنا ونكتب بها ��شواقاً أالقل احفظيها يف ثالجة ..ت�صاحلي مع العامل .دوري حول ذاتك
و�أحالماً ال ت�ؤذي �أحداً. فقط فمنك يبتدئ الكون وعندك ينتهي.»..
املر�أة التي تتفتت �شوقاً وفقدا ً ،تتلف ،ال جتد يف املدينة م�أوى �صبحت مري�ضة بكَ؟! �أمتاهى مع قرين تلبّ�س روحي� !.م هي
أ ُ هل � أ
ي�ضمك لها.. خبايا طفولة �سحيقة وغام�ضة!
هذه املدينة لي�س لها كتف نتكئ عليه ،جبالها بعيدة عن قلبها من يفهم �رس اجل�سد؟! ومن يف�رس كنه �صدى الرغبة املبهم..
القدمي .تركنا متثال �صالح الدين ،تخطينا ال�سور .غريبان يف جريانها ودفقها� ..أو توقفها فج�أة؟! وهل هناك �سياالت يف
زقاق مدينة عريقة ،نلوذ ب�أنف�سنا من ب�شاعة الربد و أالنوار .تهي�أ الروح تمُ �سك بج�رس اجل�سد ..لو قطعناها نفقد ماهية اجل�سد؟!
يل يف البداية �أننا ن�سري فوق كف مفتوح خطوطه معلومة وا�ضحة ليتك تراين و�أنا �أتعلم امل�شي ب�أ�سلوب جديد! .كيف �أدو�س ق�رشة
املوز دون �أن �أنزلق!.
لنا .دفء العتمة يخفف من حدة ال�صقيع .مل ن�شعر باخلوف ،كنّا أ أ
بت �خ�شى حروف كلمات ر�سالتك الخرية مهزوزة م�ضطربةُّ ..
فقط نح�س باهتزاز ما قادم ،قد يكون من �شبابيكها الواطئة،
عليك مني ..ال �أعرف كيف احتملتني ومازلت حتتملني؟! ف�أنا
�أو من طيف الوزير قراقو�ش .ولعله من ارتعا�ش �أ�صابع الكف اجلناية التي ارتكبها العامل بحق نف�سه وبحق آ
الخرين!
الذي من�شي عليه .كانت خطواتنا غري م�ستقيمة وغري ثابتة. هل �أتعبك منديلي ال�صغري املطرز بدماء �أ�صابعي ورائحتي!؟
ندور ن�صف دورة و�أحياناً دورة كاملة ،مثل جياد تتقافز يف كان البد �أن �أهديك �شيئاً ما عا�صفاً حاراً ..حنوناً ونزقاً مني..
ممر �ضيق ،نتبادل مواقعنا دون اتفاق م�سبق ،نت�ضاحك ،نتالم�س يوماً ما �ستُنهيني هذه الرومان�سية ..وهذا ال�شغف ب�ساعديك
ابتعدت عن َك قليالً وجدت حزام معطف َك يف يدي! طوال ُ ،عندما املمتدين من قارتك �إىل قارتي� ..أو �سيقتلني طيف ذلك الطريان
معرفتي بك مل �أر َك فرحاً هكذا ..كان القمر يرتبك يف وجه َك كنت �أمترجح يف رقة لطف ج�سدك ال�سحري على الفرا�ش ال�ضيقُ ..
الطفويل ال�ضاحك .ونعناع روحي يغمر �إبطيكَ. النحيل وعنف ع�شقك و�شهوتك ..كان ج�سمي مثل نبتة ( أالر�ضي
كحل الليل جانح لكننا ربطنا م�شاعرنا بخيوط ال�صرب وتابعنا نت حتت�شد فوقي وبداخلي.. �شوكي) طيباً و�صعباً وناخزاً ..و� أ َ
�سرينا على ر�ؤو�س �أ�صابع احلذر ،ال �أذكر �أننا حتدثنا مبو�ضوع تهف ه ّفاً خفيفاً ..تتواجد بقوة .بينما يختفي وزن َك الفيزيائي.. ُّ
جاد �أو غري جاد .يبدو �أننا قلنا جمالً متناثرة لي�س لها عالقة تتخللني مثل ترو�س �آلة الزمن ..تدخل يف فراغاتي ..تتع�شق يف
ببع�ضها البع�ض.. روحي ..ترفرفني عرب الع�صور ..وتقبع حتت �أدمتي حتى أ
امتل ُت
�ضاجة..
ّ يقاعاتها إ � ثقيلة خطوات �سمعنا اقرتبت من بك ..فهلَل َْت �أع�صاب حوا�سي جمتمعة معاً..
تراجعنا عن م�شوار �سعادتنا ..عائدين من حيث �أتينا ..بعدها ردت �ن �حتفظ بطقو�سأ أ مل �أغت�سل بعدها ..ألكرث من ع�رشين يوماً � ..أ ُ
ق�ضينا �أيام وجودك باجللو�س وامل�سامرة التقليدية يف املطاعم حبك يف ج�سمي طويالً..
والنوادي.. ا�شتياقك هاويتي ..وانتظارك �أرق ..هذيان ..ذئاب جتتمع حويل..
�آخر ليلة� ..أغادر َك دون وداع� ..أتر ُك �ضحكتي يف عينيك �سالماً.. تعوي ..وتقرتب وجلة ..تخيفها �شهب نار ج�سدي ..فتنهزم تاركة
�أم�شي وحيدة فوق الكف املنب�سط ..ي�ضج الفقد يف ر�أ�سي وي�سحب دمي يحرتق و�شفتي تتفحم.
دموعي العميقة ..يهتز الكف ..حتتويني اليد ..ت�ضمني أال�صابع.. «و�صلت منذ دقائق ..انتظركِ ». ُ يف الهاتف �صوتك بهار حارق..
ت�ضغط ..حت�رشين ..ت�ضغط �أكرث ..تع�رصين بحنانها املراوغ.. مفاج�أتك الذعة......
�أختنق و�أنا وحيدة متاماً. تلم�س خدك الغائر.. حت�ضنني ب�أجمل �ضحكة يف العاملُ � ..
أ
244 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s (\)
فـ ــي الب ـ ــرزخ
أ�حمد حممد الرحبي
قا�ص من ُعمان
� -شخ�ص طيب و�سرتتاح �إليه بال �شك! اخلروج فجرا والتعرف على حار�س الفراغ
حتدث ال�ضابط ب�سهولة مل ي�ستطع فهم بواعثها � :أهي ثبت عقارب �ساعته على الثانية ع�رشة والن�صف ح�سب
الن�ساين وت�شي ب�سلوكه العام � أم حقيقية تنم عن طبعه إ توقيت م�سقط .املطار يو�شك � أن يكون مهجورا ،ما
مفربكة تظهر ما ال ت�ضمر! على � أية حال ،ومهما كانت جعله يتخلى عن ترف الولوج عرب ال�شباك املخ�ص�ص
نوايا ال�ضابط ،فقد وجد نف�سه يف مواجهة اقتحام فج للمواطنني � أمثاله .مع ذلك ت�أخر خروجه من املطار
وو�سط فو�ضى ال تعنيه ب�شيء .ولكنه حتمل مرة � أخرى حتى هبوط الفجر.
ما يلقى عليه ودفن تذمره بني طيات التعب الذي حط عندما جاء دوره � ،أم�سك املوظف بجوازه ليختفي بني
عليه� .ساعة احلائط ت�شري �إىل الثانية وال�ضابط م�سرت�سل ت�ضاري�س يديه الهائلتني � .أ�شار له وابت�سامة تنام حتت
يف حديث � أ�شبه بتحقيق ودي! كان هناك يف عمق وجهه ال�شحيم ،باالبتعاد عن الطابور واالنتظار ريثما
الغرفة �رشطيان يتابعان عملهما الآيل وينقران على
ينتهي من بقية امل�سافرين .وقت ق�صري حتى غادر
لوحات الكتابة ،وبني احلني والآخر يبت�سمان بتهذيب
جميع من جاءوا معه ،واملوظف ال�سمني ذهب بجوازه
ماكر للحديث الدائر� .شا�شات املراقبة املثبتة عن ميني
�إىل �إحدى الغرف ،فخيم ال�صمت على املكان و� أ�صبح
ال�ضابط و�شماله تفتح نوافذ �إىل الفراغ املهيمن على
� أركان املطار ،الفراغ الذي ظل قرين ال�ضابط كلما ر� آه مهجورا .ثمة غرابة يف �إجراء املوظف ،فهو قادم �إىل
بعدها .وكان �إرهاقه قد حتول �إىل نعا�س راود � أطراف بلده وال �شيء ي�ستوجب �إيقافه! ال فائدة من مماطلة
جفنيه ،حني ذكر ال�ضابط املوقف الذي قال �إنه �سينتقم رجال املطار ...هذا � أمر يعرفه جيدا .وقف يراقب
لنف�سه منه ،فحلت رجفة يف ف�ضاء الغرفة � أماطت عنه الفراغ وينتظر ،وقد ت�أخر املوظف وقتا جعله ي�شعر
غاللة الو�سن .حدث ذلك قبل خم�سة ع�رش عاما يف ب�أنه بد� أ يخاف .وقبل � أن ي�ستجيب كلية ل�شعوره ،ر� آه
املغرب التي كانت �إحدى حمطات � أ�سفاره العبثية � ،أو قادما واالبت�سامة تتمطى على وجهه .قاده من يده �إىل
فرتة �رشوده يف البلدان كما � أ�صبح ي�سميها .ففي م�ساء الغرفة ...وفيها دوى �صوت املفاج�أة!
�شتوي قار�س ،وبينما كان يذرع �شارع حممد اخلام�س المن � -أمل � أقل ب�أين �س�أردها لك يوما !؟ (�صاح �ضابط أ
بالرباط جيئة وذهابا� ،شبه م�رشد ،عاطل ومفل�س وحانق وهو ي�رضب بيديه على الطاولة)
على و�ضعه يف احلياة ..وفيما كان ير�سل نظرات حادة حتولت ابت�سامة املوظف �إىل �ضحك �صار يرتطم بكل
�إىل الواجهات الزجاجية للمحال ،ابت�سم له القدر من �شيء حوله .وحتركت � أمواج ال�شحم حتت مالب�سه
بني ثنايا رواد � أحد املقاهي .ارتفعت يد ولوحت تدعوه وت�ضخمت حتى � أو�شكت على اجتياح الغرفة الف�سيحة.
للدخول .كانت اليد ل�صاحب له جاء �سائحا مع � أحدهم. مل ي�ش�أ � أن يف�سد عليهما اللعب ويبدي عدم اكرتاثه
قبل الدعوة ،كما قبل فيما بعد هدية القدر وال�سياحة بال�رشك الذي ال بد قد � أنفقا وقتا لن�صبه � .أعطى نف�سه
الرغيدة املدفوعة من جيب �صاحبه � .أما � أحدهم ذاك لعناق ال�ضابط وت�سامح ما بو�سعه على ال�ضحك منه،
فهو هذا ال�ضابط الذي �سيبدو له دائما كحار�س للفراغ، �ضاربا ال�صفح حلقيقة � أنه ال يتذكر البتة � أن ال�ضابط
والذي �صار ي�ستعيد الوقائع القدمية وك�أنه يعلق على قال له يوما ب�أنه �سريدها �إليه! بل ال ي�ستطيع فعال
م�شاهد حتدث � أمام عينيه .ترك ال�رشطيان النقر على حتديد املكان والزمان الذي ر� آه فيه � ...أما ا�سمه فقد
الآلة وحتفزا لل�سماع ،وحفرت االبت�سامة على وجهيهما قر� أه للتو مكتوبا على ال�رشيط املخيط يف �سرتته!! وبعد
خطوطا غائرة .حا�رصاه بالنظر حتى خيل له � أن �ضوء � أن � أنهكه ال�ضحك ،بدر على املوظف وك�أنه تذكر فج�أة
الغرفة امل�شع مكد�س عليه لوحده! �ضخامة ج�سده و�شعر بثقله! حمل بدنه وان�سحب من
-هل تذكر املقلب الذي �أكلته منك و�صاحبك؟ � آه ..لو �أنه الغرفة �صامتا حزينا.
245 \ جــزء مــــــن روايـــــة.
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
s
s
s
الوىل كانت ابنة خالتي ،زوجتها يل املرحومة حبة البلح!! .أ �إىل هنا !
�أمي .م�سكينة ،كانت �أطول بقليل من يدي ،و�أرق منها بكثري. حتدث املوظف وهو يراقب حركاته املنفعلة ،ولكن �صاحبنا
لقد باعت الوالدة كل ما تركه لنا املرحوم الوالد و�أطعمته مل يكن ي�سمع �سوى �صوت الريح وح�رشجة املوج ،م�أ�سورا
زوج خالتي .كان ال بد �أن تر�شيه ذلك املهر ،فلي�س من �أب باحلياة لدرجة �أ�شعلت غيظ رجل املطار .فك�أنه �صار مغبونا
ي�ضع ابنته حتت كارثة مثلي باملجان .اخلامتة �أن �ضلوع حياله� .أو ك�أن مرح الرجل ال�سافر ،و�ضعه يف م�رسح ال يزيد
البنت تك�رست مبحاوالتي يف ا�صطياد �شيء منها ،ولوال �سرت دوره فيه عن دور املتفرج البليد! وحتى يتالفى الغرق يف
ربك أل�صبحت يف حكم الغيب .طلقتها وهي يف امل�ست�شفى، ذلك الو�ضع الذي مل يح�سب مقدارا لكرامته ،جل�أ �إىل الكالم
وبعد �أ�سبوع ماتت الوالدة� .أما الثانية فجلبتها من اخلارج. و�أطلق العنان ل�ضغط عواطفه.
بكماء ويعلم اهلل �أن لها دراية بالرجال! ولكن �صربها يل كان -لقد قر�أت كل ما ن�رشته من مقاالت وتابعت حواراتك يف
يفوق �شكي بها مبراحل .تخيل �أنني كنت �أ�سمعها ت�ستغيث الف�ضائيات .ومع احرتامي ال�شديد� ،إال �أنكم تعزفون على نف�س
حتتي حتى يتحول عو ؤا�ها �إىل حروف منطوقة!! خفت منها الوتر اململ� ،أنت ورفاقك املعار�ضون.
الن ال �شيء� .أدبرها وتعقدت ،ف�أر�سلتها �إىل حيث جاءت .و آ قال ذلك بنزعة عدوانية �ضغطت على ج�سمه فنزل يف الرمل
ب�أفالم اجلن�س �إىل �أن ي�أتي موعد إ
الجازة ال�سنوية وال�سفر... �أكرث ،غري �أنه وب�رضبة واحدة ،فتح لنف�سه خرما كبريا يف جدار
وهناك يحلها احلالّل!. امل�رسح! وعندما جتلى كالمه على الرجل ،فظهرت العكرة على
قال وهو ي�ضغط على جبينه: ماء �سعادته ،تلقف ردة الفعل تلك وم�ضى ي�شدها على خانوق
� -إنه داهية هذا ال�ضابط .ين�صب الكمائن للم�سافرين كما الرجل ،متم�سكا ومنت�شيا بالفر�صة الثمينة.
فعل معك ،مع ذلك ال يجر ؤ� � أحد على حما�سبته .طبعا هو � -إنكم مغرورون .تظنون ب�أنكم متثلون احلقيقة .ال بل تظنون
دقيق ومن�ضبط يف عمله وله �إجنازات عظيمة يف � أمن ب�أنكم احلقيقة نف�سها� .أما البقية من كل هذه املاليني فيتمرغون
املطار واكت�شاف عمليات التهريب ،وهو من � أدخل � أجهزة يف الوحل وال معنى حلياتهم .يا �أخي �إن كنتم منا�ضلني ونحن
الف�صاح عنها. املراقبة الفائقة ،و� أ�شياء � أخرى ال يجوز يل إ قطيع من أالميني والفقراء مثلما تكررون بال ملل ،فلماذا ال
ولكنه ميار�س هوايته اخلطرية يف ت�صيد امل�سافرين بحرية نراكم ون�سمعكم �إال عرب الف�ضائيات؟ احلياة هنا على أالر�ض
مطلقة ،ال تكبحه ال�شكاوى التي وردت ملدير املطار من و أالوطان التي ال تنا�سب مقا�ساتكم وهي بني النا�س الذين
�شخ�صيات وقعت يف �شباكه .كيف � أقنع املدير ،مثلما قال تكرهونهم بال ذنب ولي�ست يف أالثري القاحل حيث تعي�شون.
لنا � ،أن هوايته تلك تدريبات مهمة تقع يف �صميم عمله!؟ ف�إما �أن تنزلوا ب�صفة نهائية �إىل أالر�ض التي نقف عليها �أو
� أعتقد � أحيانا � أنه جمنون ،ولكنه مع ذلك داهية .لعلك عي�شوا وموتوا هناك فنحن ال ن�صدق �شيئا مما تزعمون.
�صدقت ق�صته عنك و� أخذت ت�شكك يف نف�سك! اجلميع ي�صدقه كان املوج يهرول �إىل املوظف ثم ين�سحب عائدا بعد �أن يقذف
رغوته حول احلفرتني اللتني �أطبقتا على قدميه .وكانت ال�شم�س
وك�أمنا بفعل �سحر ،وعندما يبطل ال�سحر يقدمون ال�شكاوى
الفق القريب وملع �شعاعها على حبات العرق قد �سطعت يف أ
�ضده � أو يختفون بح�رستهم � .أنا مل � أبق ل�سماع ما قاله لك،
النا�ضحة من حلم وجهه .وقف ي�ستمع �إليه ويتابع عربدة
فقد مللت م�رسحياته .اكتفيت بتنفيذ � أوامره و� أداء دوري
ال�صغاء �إىل ال�صوت العواطف فيه ،وكان حينها قادرا على إ
كما خطط ور�سم � .أريد � أن � أقدم اعتذاري على ذلك ،ولكن ما
امل�ستعار الذي ظل يهدر من فمه ،وف�صله عن ج�سمه .مد �إليه
العمل فهو ال�ضابط و� أمره مطاع كما تعلم .لقد بقي حري�صا يده ليعينه على اخلروج من احلفرة.
على تطوير هوايته واالعتناء بها خري عناية .كان يوكل أ أ
فل�ساعدك �إذا على ال�صعود �إىل الر�ض �يها الوح�ش!. -أ
ملر ؤ�و�سيه تخويف و�إحراج م�سافرين يختارهم بنف�سه من وحني �سار بجواره �شطرا طويال من ال�شاطئ ،مطمئنا من
�شا�شات املراقبة ،بينما يظل يف الغرفة يتمتع مبر� آهم .بد� أ الحاديث التي طرحها تخليه عن حروده ،وم�ستمعا ل�شتى أ
باختيار م�سافرين من � أقاربه ومعارفه .كان ي�أمن بذلك المواج يف و�ضوحها واندفاعها، بنكهة �سليمة ،و�سليقة ت�شبه أ
خط العودة لو � أن طارئا حدث على اللعبة وافت�ضح � أمره. حينها ت�أكد له حد�سه ال�سابق ب�ن الذي تهجم عليه ،م�ستخدما
أ
ولكنه مع املثابرة ،وا�ستيالء الهواية على تفكريه� ،صار يعد ل�سان املوظف� ،شخ�ص بعينه ،وب�أنه ،ومنذ اللحظة ،معنيا
اخلطط ويجهز مكائده �سلفا ،م�ستفيدا من �شتى امل�صادر ب�إيجاده ...ومواجهته.
المر مبلغا خطريا .فبعد � أنالعلمية واخليالية .وقد بلغ به أ
ت�رسب � أمره �إىل معارفه وكادت لعبته تتحطم ،دخل مرحلة بع�ض ما حتدث به موظف املطار بل�سانه
� أخرى � .أخذ ي�صطاد من بني امل�سافرين �ضحية جمهولة .كان قال تاركا ميينه على مو�ضع ق�ضيبه:
يتعقبها على ال�شا�شة ويراقب حتركاتها بكثب ثم ي�صدر � أمره -هذا هو ال�سبب يا �أ�ستاذ! .ج�سم بعري وهذا ال�شيء بحجم
247 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
الن �إىل مكان ال يرحب بك! رمبا وعدوك مبن�صب! �أنك تعود آ المن .ومع تزايد خربته ودرايته بنف�سيات ال�ضحايا، ألفراد أ
هل وعدوك مبن�صب يا �أ�ستاذ؟؟ ال يهمني �إن كان كذلك ،فهذا ازداد جوعه ،ف�صار يبحث عن �ضحايا جدد ،وينتقي من
�ش�أنك ،ولكنك �ستندم .و�ستتعب من الندم ،ويف النهاية �ستعتاد الكرث عنادا وخربة بال�سفر وي�أمر ب�إح�ضارهم �إليه الوجوه أ
عليه .ال �أعرف �إن كان أ
المر كما �أفكر �أم غري ذلك! وب�أية حال الوىل. وجها لوجه .ثم انتقل بعدها �إىل م�سافري الدرجة أ
لدي اقرتاح قد ينا�سبك .فكرت به بينما �أنت نائم كطفل� ،وأ � أخريا ،وهذا ما جرى معك � ،أخذ يغطي عينيه بيد وبا�صبع من
رمبا قبل ذلك! لقد �أ�شفقت من ر ؤ�يتك واقفا خارج املطار ال الخرى ي�صوب على ال�شا�شة ...وهي ذروة املراحل التي اليد أ
تعرف ما تنتظر� .إنه ل�شيء م�ؤمل �أن ال يكون هناك م�ستقبلون. و�صل �إليها حتى الآن.
�أنا �أكرث من يفهم هذا ال�شعور ،وقد ر�أيت الكثري من الهائمني قال وهو يرمي نظره جتاه البحر:
يف �أر�ض املطار ومل �أكن �أبخل ب�شئ من �أجلهم� .إنهم �أخوتي -مل �أكذب عليك عندما قلت �أين �س� آتي �إىل هنا حتى لو مل
ال�شقاء يا �أ�ستاذ� .أو�صلتهم حيث �شاءوا ،ومن كان يريد أ تخربين بذلك ،فهذا هو طريقي اليومي و�أنا عائد من الدوام.
املبيت وما �إىل ذلك من �إجراءات ،دبرت له ما يريد .بع�ضهم �أحب البحر وهو �صديقي و�أني�سي يف هذه احلياة� .أنا �إن�سان
كان يحرج مني ويدفع �أجر تعبي ،ولكي �أريحهم من احلرج، تائه .وحيد� .أتقا�سم حياتي مع �أنا�س ال جتمعني بهم عالقة
كنت � آخذ ما تي�رس� .أعتقد �أنك توافقني على هذه املعاملة! لن �سوى �رضورة البقاء� .أما ت�سليتي الوحيدة فهي القراءة� .أقر� أ
�أطيل عليك ،واقرتاحي هو �أن تقبل دعوتي لل�سكن يف مكان كل �شيء يقع يف يدي .بد�أت هذه الهواية و�أنا �صغري ب�سبب
مريح ال يكلف الكثري .لدينا بيت من ثالثة طوابق يقع يف ج�سمي الذي حرمني من اللعب .كنت �أقر� أ مع �أين ال �أحب
حي جديد .لي�س بيتي ولكني امل�س�ؤول عنه� .سيكون �سكنك يف الن �أقر� أ كل ما ميكن قراءته و�أ�صبح القراءة و�أكره املدر�سة .و آ
ّ
الطابق العلوي� .شقة من غرفتني و�صالون وبقية املرفقات. الول� .أقر� أ يف جميع املجاالت ،ولكن لو النرتنت بيتي أ إ
الخرين.لها �سلمها اخلا�ص فهي م�ستقلة متاما عن الطابقني آ �س�ألتني عن ا�سم كاتب واحد لفكرت طويال قبل �أن �أجيب...
هناك �سطح جعلناه حديقة ،ومنه ميكنك م�شاهدة البحر فهو وقد ال �أجيبك! �أقر� أ كا ألعمى وال �أ�شعر مبتعة وال �أح�صل على
لي�س ببعيد عن املكان .العم �سيلبي كل احتياجاتك وما عليك فكرة .قر�أت مرة كتابا عن فوائد القراءة ،وكان الكتاب الوحيد
لطلبه �سوى ال�ضغط على زر اجلر�س... الذي مل �أمته آلخره� .شعرت مبلل منه ويف العادة ال ينتابني
�أي �شعور عند القراءة .رمبا يكون ذلك ب�سبب الن�سيان �أو عدم
العـــم
الرتكيز ،فانا �أقر� أ ال�صفحة و�أكون قد ن�سيت ما قبلها� .أحيانا
�أحرا�ش ع�شبية �صغرية تفرقت حول الدار فباعدتها عن اقر� أ نف�س الكتاب �أكرث من مرة وال انتبه �إال عندما ي�س�ألني �أحد
الوىل ،و�أثاثها َيعد حميطها .ال�شقة جميلة عند الوهلة أ الزمالء :هيه ..هل عدت لقراءة هذا الكتاب!؟ لذلك تركت قراءة
با�سرتخاء هادئ مديد .ولكنها (مع ذلك) ال توحي ب�سهولة الكتب وتفرغت للمقاالت ما �أن �سمحوا لنا ا�ستخدام االنرتنت
الت� آلف معها .ثمة � آثار تفر�ض ملكيتها على املكان وتت�شبث �ساعات الدوام .و�أحمد اهلل �أن املقاالت فيه تتجدد كل يوم،
بحق البقاء فيه� .أ�شياء منتقاة برغبة غيورة ،ت�ؤكد �أن ال�شقة و�إال وجدتني �أواظب على قراءة نف�س املواد �إىل أ
البد.
لها �أ�صحابها الغائبون .ولكن كم عدد �أولئك املالّك!؟ لوحة �س�أل وهو ينظر يف عينيه:
احل�صان ذات الر�سم املبتذل ،ت�شي عن ذوق ال يلتقي بذوق -ملاذا عدت يا �أ�ستاذ بعد كل هذه الغيبة؟ �أذكر �أنك كنت
املزهرية امل�صنوعة من �صدفة عمالقة ،التي بدورها ال حديث البالد قبل ب�ضع �سنوات ،وكان كل من يعرفك ،يذكرك
متت �صلة ب�أزهارها البال�ستيكية .منف�ضة �سجائر معدنية باخلري ويعتربك بطال حتارب يف وجه الظلم والف�ساد وانتهاك
مطعوجة اجلوانب وك�أمنا عن عمد! ال�ستائر حتمل � آثار اعتداء احلقوق .هناك الكثريون ممن رفعوا مقالك العظيم «اعتقال
خ�شن ،ولكن كرب حجمها ،ورمبا لونها ال�ساطع �أي�ضا ،ت�سرتا القانون» �شعارا لهم وكان م�رسح حديثهم لزمان .بعدها مل
على اجلزء املخرب منها! ال�سجاد ،جمموعة الكرا�سي ،ال�رسير تعد موجودا ومل يعد �أحد يذكرك باخلري .تبدلت هنا �أ�شياء
والو�سائد والبطانيات ،كلها حتمل ب�صمات ت�شهد ب�أ�صحابها. وجرى ماء كثري ،وكان النا�س ينتظرون ما �ستقول ،ولكن
�إال �أنها ،ويا للح�رسة ،كانت �أ�سرية �أفعال النظافة الفتاكة، القاويل وقطعوا �شيئا مما حدث مل يحرك قلمك! قالوا عنك أ
فك�أنها و�ضعت حيال عدو ال يرحم! وما م�شهد �سالل القمامة النحلمك ب�أقالمهم و�أل�سنتهم ...ثم �أن الن�سيان طواك .تعود آ
املوزعة يف كل زاوية ،واملطهرات التي �أفرد لها دوالب خا�ص، بهوية ال يعرفها وال يفهما �أحد! لقد قر�أنا مقاالتك وبحوثك
وع�صي املكان�س امل�صفوفة كحر�س م�ستنفر� ،إال قتل دائم ألي الخرية عن التلوث احل�ضاري وحياة املو�سيقى والثقافة أ
�أثر ينبئ �أو ذكرى حتاول �أن تنبعث .وهي نف�سها النظافة التي امليتة ومل نفهم منها �شيئا .ملاذا تهني قلمك ونف�سك ،وقد
تريد طم�أنة ال�ساكن اجلديد ب�أن �أحدا ال ي�شاركه املكان. الجدر بك لو بقيت �صامتا!؟ مع ذلك ف�أكرث ما يحريين كان أ
248 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
عزمه .قرر اخلروج من غري �أن يهتم بتحديد وجهته .عند باب فكر ب�أنه تعجل املوافقة على اقرتاح موظف املطار ،وب�أنه
البناية التقى برجل تتبعه امر�أة جمللة بعباءة �سوداء ،وقد �أثار فعل ذلك يف غفلة منه ،ما جعله يرتاجع عن فرز �أ�شيائه
ريبته �أن الرجل ،وعلى غري �سمت النا�س هنا ،مل يبد اهتماما وترتيبها يف �أماكنها املفرت�ضة ،مف�ضال بقاءها يف احلقيبة.
به ومل يلق بالتحية .بعد خطوات �سمع من ينادي عليه .كان كان العم قد فرغ من كن�س �أر�ضية احلديقة ووقف بباب ال�شقة
العم يجرى متعرثا بخطواته .قال با�سما ومعاتبا: حاجبا دخول ال�ضوء .ولكن �أي عم هو!؟ �إن عمره ال يتعدى
-كان عليك يا �أ�ستاذ �أن تخربين عما تريد أل�شرتيه لك! منت�صف الثالثني ،مربوع القامة وكر�ش تربز بف�ضول فا�ضح.
� -أنا خارج ألجتول يا عم ،و�أعدك ب�أين �س�أبلغك لو احتجت �أما مالمح وجهه والتعابري التي ال تكاد ت�ستقر فيه ،فتظهر
ل�شيء. من البالدة �أكرث من �أي �شيء � آخر .مع ذلك ،وبعد كل �شيء،
-كنت نائما عندما �صعدت �إليك فلم �أرغب ب�إزعاجك .من تبقى اللحية التي فا�ضت على �صدره وقد وخطها ال�شيب،
امل�ؤكد �أنك جائع! هل تريد �أن �أ�شرتي لك �شيئا من ال�سوبر الن�سان .ويظهر جليا �أن ذلك الع�ضو هي امليزة الفارقة لهذا إ
ماركت و�أنا عائد من امل�سجد؟ الرخو يعني �صاحبه � -أميا عون -على حتمل احلياة وتذليل
يبدو �أنه ال يعرف �شيئا غري ال�سوبر ماركت وامل�سجد .ولكي �صعابها ...وهو �أي�ضا ما �أنعم عليه بلقب العم.
ي�سحبه �إىل حديث � آخر� ،س�أله عن الرجل واملر�أة اللذين ر� آهما -هل ت�أمر ب�شيء يا �أ�ستاذ؟
لتوه .ظهر �أنه بوغت بال�س�ؤال� .صمت حلظة حاول خاللها �أن � -شكرا يا عم .ال �أريد �شيئا.
ي�ستعيد االبت�سامة التي هربت من وجهه ،ولكن حليته اهتزت -دق على اجلر�س لو رغبت ب�شئ .ولكن �أرجوك ،لي�س يف وقت
وخرج الكالم منه كل�سان من لهب. ال�صالة.
� -إنهم �شياطني ي�أوون يف ذلك البيت امللعون .الرحمة يا رب -وا�ضح يا عم.
ومنك الغفران. -هل �أذهب يا �أ�ستاذ؟ رمبا تريد �شيئا من ال�سوبرماركت
أ
�صمت هذه املرة بحزم ،ومل يكن من احلكمة � آنئذ �ن تثار �أح�رضه لك و�أنا قادم من امل�سجد!
حفيظته ب�س�ؤال � آخر .م�شى بجواره منتظرا �أن يبادر بالكالم -ال �شكرا� ...شكرا يا عم.
من تلقاء نف�سه ،وكان التحول الذي طر� أ على مالمح العم -عموما اجلر�س بجوارك .لو �أردت �شيئا ا�ضغط عليه! �أنا
هو �أكرث ما �أده�شه .فبعد �أن كانت البالدة ت�سبح على وجهه، ذاهب لل�صالة.
الن بعنف وكربياء .هلل وكرب وا�ستعاذ وحوقل �أخذت تختلج آ تلك�أ قليال قبل �أن ين�رصف .ولكنه عاد يتحرك يف احلديقة،
ولكنه مل يلبث �أن عاد �إىل ثوبه القدمي. وظل هكذا حتى غدا وا�ضحا �أنه ال ينوي املغادرة قبل �أن ُتفهم
� -أنا على باب اهلل يا �أ�ستاذ .وواهلل لوال احلاجة ملا بقيت يف الخري� .أخذ�إ�شاراته حق الفهم ويبلغ مراده ...وهو ما ناله يف أ
بيت اخلطيئة حلظة واحده .لدي خم�سة �أبناء و�أعيل �أخوتي بعطف �شديد ما �أعطي �إياه من نقود وم�ضى �ساحبا ظله.
و�أخواتي� .إين م�ضطر على التعامل مع �أولئك الفجرة ،فال الخرى ب� آثار ال�سكان الغائبني. حتتفظ احلديقة هي أ
�شهادة لدي ألعمل يف مكان � آخر ولو حتى فرّا�ش �أو ناطور ولكن �شتان بني هذه وما كان يف الداخل .فال مكن�سة العم
مزرعة .ولكني �أحمد اهلل الذي فتح يل بابا �أطهر به ذنوبي ا�ستطاعت �أن تخفيها وال مبيداته متكنت منها .والنظافة التي
ف�أنا م�ؤذن امل�سجد. ال�شياء هناك ،تتوا�ضع هنا ،بل و ُتنتهك مع كل ن�سمة خنقت أ
-ولكن قل يل ،من هم �أولئك ال�شياطني الذين ذكرتهم وماذا الغ�صان هواء ومع كل ح�رشة تطري من نبتة �إىل �أخرى �أو مع أ
يعملون؟ الوراق وهي ت�سقط بال مباالة .وح�سب املرء �أن وهي متيل و أ
أ أ أ
-رجاء ��ستاذ ،ال تعود �إىل هذه ال�سئلة مرة �خرى! �نا ذاهبأ ي�ستلقي على الكنبة املتحركة وي�ستمع �إىل �رصيرها ال�صدء
لل�صالة وال �أريد �أن �أنق�ض و�ضوئي. الذي ين�صهر فيه �ألف �صوت ،لي�شعر با ألج�ساد التي تعاقبت
المر يهمني ف�أنا �أي�ضا �أ�سكن يف البيت. -ولكن أ على املكان.
-ال تتدخل يف �شيء ولن يحدث لك �شيء .هذه هي القاعدة يف عاوده النعا�س على الكنبة ،وقبل �أن ي�ست�سلم للنوم� ،سمع
البيت بل ويف البالد كلها. الذان وعرف منه �صوت العم. أ
اقرتبا من امل�سجد ومل يعد ثمة باب للحديث .دعاه لل�صالة،
ولكنه تعذر بجواب كان قد �أعده �سلفا. بيت ال�شياطني
-لقد �صليت �سفرا. ا�ستقبله ما �أن فتح عينيه ال�س�ؤال الذي ينتظر امل�سافرين على
-وهل تريد �أن �أ�شرتي لك �شيئا من ال�سوبر ماركت و�أنا عائد �أ�رستهم اجلديدة� :أين �أنا؟ وبعد �أن �أنهكه ال�س�ؤال برهة ،ومثلما
�إىل البيت؟ يحدث عادة ،حت�س�س يقظة م�ضاعفة و�شعر بطراوة نف�سه وقوة
249 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�ساعات املطر
نادية العبد ال�سعدية
كاتبة من ُعمان
� أ�سماء عدا � أرقام كانت مكتوبة .حاولت � أن � أعرف كانت الدنيا �ساعتها متطر �شدين من ذراعي بقوة
رقم ال�شقة التي ت�سكنها .ال تزال كلمات �صديقي ترن لنبتعد عن املكان وعن املطر حتى ال يرانا � أحد
خرجت من ال�سجن � أخربين � أن زوجتك ُ يف � أذين عندما ونحن نحملق يف هذا املكان .واملطر يزداد غزارة.
مت تطليقها من قبل املحكمة ،لأنها ال تعرف عنك كان مم�سكا بذراعي ب�شدة مل � أكن � أ�شعر به فقد �شلت
�شيئا ،فقد كنت غائبا ً �سنة ون�صف .والآن مر على حركتي .وتفكريي من�صب على املنظر الذي ر� أيته
خروجي �شهر كامل دون � أن تدري .لكن كان عليها � أمامي .كيف يقولون �إنها غادرت وهي هنا ومعها
� أن تنتظرين قليال لتعرف �سبب غيابي كل تلك املدة. طفلها؟ ..كل ما قيل كذب .ملاذا يقولون � أن الطفل
رغم � أنها كانت تعرف � أنني كنت م�سافرا للخارج مات .وهو بني ذراعيها � ،أخربين كيف ذلك؟ � أنا مت� أكد
إلكمال بع�ض الأبحاث العلمية .وهناك حدثت يل � أنها هي � أين ال � أخطئها حتى لو كانت بني ماليني
م�شكلة مل يكن يل يد فيها ومت حب�سي على � أثرها النا�س� .رسنا م�سافة طويلة � أو هكذا � أظن .فلم � أ�شعر
عاما ون�صف .جترعت تلك الأيام مبرارتها ليكت�شف بج�سدي وهو يرمتي على � أحد مقاعد املقهى .ولكن
بعد ذلك � أنني بريء من التهم املن�سوبة يل ...فج� أة ما جعلني � أ�صحو ،ك� أ�س املاء الذي دلقه �صديقي على
قطعت حبل � أفكاري وكتمت � أنفا�سي و� أنا � أ�سمع وجهي م�سحت وجهي و� أنا � أ�ستعيد امل�شهد الذي مر
بكاء طفل ينبعث من �إحدى الغرف املقابلة ،تتبعت بي منذ حلظه � أو حلظات � .أنا مت� أكد � أنها هي � .أجابني
ال�صوت وقلبي يخفق ب�شدة ومتنيت � أن يكون هو �صديقي وهو يتناول وجهي � :أجل � أنها هي والطفل
�صاحب هذا البكاء العذب .عمر �شمعتي الأوىل التي الذي بني ذراعيها هو ابنك عمر .ردت يف ذهول عمر!
لن تنطفئ .اقرتبت من الباب وطرقته بحذر وقلبي � أجبني � :أجل ا�سمه عمر ،وعال مل ت�سافر � أبدا �إىل � أي
يخفق ب�شدة لكن دون جدوى مل يفتح � أحد كدت متتمت يف ذهول وعيناي تذرفان الدمع�:إذا ُ مكان.
� أي� أ�س لوال �صوت �رصير الباب ينفتح بخفة � .أجل � أنه كيف قيل يل انه مات وهو على قيد احلياة؟ .رد علي
� أخوها عمار � أنني � أعرفه من خالل عينيه الثاقبتني وهو يجل�س بالقرب مني:فعلوا ذلك لكي يبعدوك عن
وجثته ال�ضخمة .حاولت � أن � أدفع الباب و� أنا � أ�صيح عال � .أطبقت على يده متو�سال �:أرجوك خذين �إليهما.
فيه � أن يفتح يل لأرى عال وعمر .تعبت و خرجت حاول تهدئتي ،لكني � أ�رصرت عليه � .أم�سك ذراعي
من ذاك املكان غا�ضبا ا�ستقبلني �صديقي عند بداية من جديد ،وقادين �إىل ذلك املكان .وقتها قد توقف
امل�صعد:ماذا حدث هل وجدتها؟ � أطرقت ر� أ�سي لقد املطر .كنت قد ر� أيتها منذ حلظات تدلف �إىل ذلك
عرفت � أين ت�سكن .رد علي �إذا ر� أيتها وحتدثت معها املبنى الكبري ،لكني مل � أكن � أعرف .نف�ضت را�سي.
� ألي�س كذلك� .رصخت يف وجهه :ال � أنها ال تزال ت�سكن نظر �إيل قائال هل مت� أكد � أنك تريد � أن تدخل �إىل هذا
هنا ومل � أرها لكنني ر� أيت � أخاها وهو يو�صد الباب املبنى وال�صعود �إىل هناك؟ � .أجبته � :أجل يكفي � أنني
بجثته ال�ضخمة و�سمعت بكاء عمر الذي قد �شطرين تعذبت كل تلك املدة .حاول ن�صحي ومنعي من
�إىل ن�صفني .وهنا بد� أت عيناي ت�ضيقان وبد� أت املجازفة ..ولكني � أ�رصرت على الذهاب� .صاح بي
دموعي من جديد تغ�سل مرارة الأيام .من جديد و� أنا � أ�صعد الدرج :لن � أدلف معك �إىل الداخل ولن � أحلق
جذبني �صديقي من ذراعي قائال :هوّن عليك البد بك ،حتى ولو حدث لك �شيء تذكر ذلك .كانت كلماته
و� أن هناك طريقه إلقناع عال بالتحدث معك. تختفي و� أنا � أ�صعد الدرج .كان امل�صعد ال يزال مغلقا
� أجبت وقد حتم�ست للفكرة � :أتعتقد � أن هناك � أمال ً يف انتظرت طويال ،مما ا�ضطرين ل�صعود الدرج .مت� أكد
رجوع عال وعمر �إيل؟ .هز ر� أ�سه با إليجاب قلت له و� أنا � أنها ر� أتني و� أنا � أقف مذهوال .كنت قد توقفت عند
� أنظر �إىل املبنى� :إذا لنحاول ثانية وتكون برفقتي �صفني من ال�شقق كلها مت�شابهة مل يكن عليها � أي
250 نزوى العدد / 62ابريل 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�إليه ي� أتيني لأحت�ضنه و� أحتويه حلرماين �إياه مدة هذه املرة ابت�سم بخبث وت� أبط ذراعي قائال :ا�سمح
تلك الفرتة �،أحمله لأول مره نظر �إيل با�ستغراب لكنه ابت�سمت وت� أبط
ُ يل هذه املرة � أن � أتدخل �إذا لزم الأمر.
مل يبك كبقية الأطفال بل � أخذ ينظر �إىل عيني اللتني ذراعه و�صعدنا معا �إىل حيث ال�شقة طرقت الباب
اغرورقتا بالدموع احت�ضنتهُ يف قوه وقبلته يف وكلي رجاء � أن يفتح الباب مل يطل بنا االنتظار فقد
وغفلت لربهة
ُ حرارة ،وهنا � أخذ بالبكاء فبكينا معا خرج عمار بجثته ال�ضخمة �صارخا يف وجهنا :ماذا
مع ال�صغري � أعو�ض احلرمان الذي افتقدناه معا. تريدان؟ � .أم�سكت � أع�صابي ورددت عليه � أال تعرفني..
ما هي �إال حلظات ووجدت عال تنظر �إيل وقد جثت � أنا عدنان زوج ...قاطعني يف �رصامة � أنت � ..أال تفهم
بالقرب مني :هل ما يقوله �صديقك �صحيح � أنك كنت عال لي�ست زوجتك الآن .رددت يف ارتباك لكنني مل
بال�سجن طيلة تلك الفرتة نظرت �إليه يف ابت�سامة � أطلقها برغبتي ...قاطعني مرة � أخرى يف �رصامة:
ثم التفت �إليها قائال � أجل� ..إن كنت تريدين معرفة ماذا تريد الآن؟ .قلت وقد وجدت الفر�صة منا�سبة:
احلقيقة .هزت ر� أ�سها با إليجاب هنا �شعرت � أن كل � أريد ابني الذي ادعيتم � أنه مات وهو ال يزال على
�شيء �سيعود كما كان و� أن الأمور ت�سري ل�صاحلي. قيد احلياة � .أراد � أن يقول �شيئا لكن �سمع �صوت عال
وبد� أت � أ�رسد ق�صتي منذ البداية ووجدتهم ين�صتون من الداخل تقول :دعه يدخل يا عمار لريى ابنه.
�إيل يف اهتمام عندها وجدت عمار ي�صافحني يف هنا مل � أمتالك نف�سي من الفرح .نظر �إلينا عميقا ثم
حرارة ووجدت �صديقي يربت على كتفي مهنئا، � أ�شار �إيل بالدخول ارتبك �صديقي لكنني � أم�سكت يده
بينما � أخذت عال تالعب ال�صغري ودموع الفرحة ودلفنا �إىل الداخل هناك كانت تقف ويف يدها حتمل
تغ�سل وجهها اجلميل .نظرت �إليهما يف فرح وحمدت ال�صغري كما لو � أنني � أراها لأول مرة وقفت م�شدوها
اهلل انهما قد عادا �إيل و�شعرت بالفرح كدولة � أعيدت لفرتة قبل � أن تقول يل يف برود :هذا ابنك عمر.
�إليها � أجمادها. اقرتبت و� أنا � أراه لأول مره جثوت و� أنا � أفتح ذراعي
مر�آب ال�ضياع
من�صــف بندحمــان
قا�ص من املغرب
يرعب املر�أتني الذميمتني ،وجههما يدفع للهروب يدخالن احلانة مت أ�بطني كتبهما وجمالتهما كما
وحالتهما تثري الغثيان .يحطم وجهه �أي�ضا .ينب�ش يح�صل عادة يف اخلزانات �أويف اجلامعات .املكان
الخرون يلطفون اجلو بروائح ب أ�ظافره ،يهيج جرحه .آ مر�آب حتول بقدرة قادر �إىل ف�ضاء يتهافت عليه
�سجائرهم وب�سمتهم الباهتة. اليائ�سون واملحبطون .الرجال وحيدون معزولون كما
هذا الرجل الذي يقـف وحده يف ال�سعري ينال عقابه، يحدث يف احلروب �أو يف احلمامات .ال من رفيقات
رجل ال ت�شمله املغفرة .يوقد النار ويجلب احلطب . �أو حبيبات �أو زوجات .فقط هناك امر�أتان بائ�ستان
ذاك الذي حطم وجهه. تثريان التقزز ،ت�صيبان املرء بالدوار والغثيان.
مل �صدره ور�أ�سه .يندفع كل �أحدهم يجل�س قربنا ،أ -زوجتك طاهرة �أيها احلقري؟
حلظة نحو احلمام كحامل بلغها الطمث .يوا�صل -ا�صمتي يا عاهرة ،يا �سافلة
�رشابه ومرحا�ضه �.سيجارته وحدها تلمع .ي أ�خد -انظر اىل نف�سك ،حالتك تعافها الدواب.
جريدتي دون ا�ستئذان ،يت�صفحها ثم يبد�أ خطابه. أ
تغريت �سحنة الرجل ،كمن تلقى خربا فاجعا � ،دى
يلعن اجلميع �صحافة وكتابا مديرين وزراء وحكام. ثمن ف�شله وخرج م�رسعا.
�أبواق زائفة ت�صم آ
الدان. اجلعة تتقاذفها أالفواه ،برودتها ت�شعل النار وت ؤ�جج
هو الوحيد الدي ميلك �صوته. الغ�ضب ،توقظ الفواجع.
�أرفع ر�أ�سي نحوه،يقول جل�سا يف مكان �ضيق حما�رص كما يح�صل يف
� -أنت �أي�ضا ،ال ترفع ر�أ�سك� ،أنا من يرفع ر�أ�سه. الف�ضاءات العامة حيث يراب�ض القلق ويطل اجلنون.
�سيجارته وبطنه يتحديان زيفه. رجل يعانق رجال ،يقبله ،يعرب له عن حبه وتقديره،
-ال�شخ�ص الذي هرع �إىل منزله ذات م�ساء .منزله يغلف �شذوذه� .شخ�ص هادئ يقرتب من �صديقه ،يهم�س
والثاث ،ال ي�ضع يديه والوالد أ اخلايل من الزوجة أ له؛ ع�شيقان ينعمان.
على �أذنيه.ال يزال من�صتا ل�سخرية اجلدران .ي�شاركها يدخل الرجل �إىل بيته ،يجد البيت فارغا من الزوجة
�سعادتها وت�شاركه �أحزانه. والثاث .أالر�ض واجلدران ت�ضحك عاليا. والوالد أأ
� -صديقي ي�رشب من ك أ��سه وعيناه تتحجران. ي�ضع يديه على �أذنيه ،يتعاىل ال�ضحك ،يتقل�ص
للخرين ،حوا�سه جتوب احلانة ،ترت�صد موليا ظهره آ وجوده.
أالحداث. أ
�أحدهم يلعب الفليبري ،يداري وحدته .ك�ي �إن�سان
-هو اللحظة يتابع خطواتي ميد يده لي�شذب احلكاية، متح�رض ،يحمل قنينته و�سيجارته بني �شفتيه ،يتقن
يقلب تربتها .ونحن ندخل احلانة ،كنا نبحث عن حلظة اللعبة.
تغفو فيها احلكايات .حبي�سة الروح كيف تغفو. الرجل الذي قبل �صديقه ،يتحول يف حلظة �إىل وح�ش
كا�رس؛ يحطم وجه ال�صديق ،يك�رس زجاج الكونتوار،
s
s
s
بنات احلكايا..
طالب املعمري
قالت� :شيما ل�صديقتها وردة :حبيبتي يف املرة الليلة تلك قبل الليلة الكربى فكرت «وردة» ب�أنها
القادمة عليك � أن حتبلي خارج احلدود فرمبا �ستحاول جاهدة � أن ت�ستقطب زوجها على غري العادة
تتغري �شخ�صيات الرواية ويت�شكل احلكي وال�رسد مبغناطي�س الرغبة واال�شتهاء وب�أن تع�رصه ع�رصا ً
من غري �سرية «املع�رصات»( )jالتي تطفح بها كالليمونة الطازجة وهو �سلوك رتبت له با�ستثناء
رواياتك ال�سابقات �إىل عمل � أكرث اهتماماً بتقنيات خا�ص يف مرتني �سابقتني ،بحيث ان حمولته
ال�رسد وتعدد الأ�صوات وف�ضاءات املكان وعذابات البي�ضاء املتدفقة ثخينة ولزجة يف نف�س الآن ،وهذا
ال�شخ�صيات و ..و ..و. مطلوب لعمل ا�ستثنائي رهني ب�أن ميلأ املجرى
..وردة :بنربة غا�ضبة ،عزيزتي ،الواقع عندنا غري ،ال اللولبي لطاقة خالّقة م�ستقبال وهو ما رتبت له
يحتاج �إىل معاطف الآخرين فنحن لدينا من احلكايا بقدرة املر� أة العارفة..
والكالم امل ْطمر ما يكفي لقول الكثري � ،أ�سبوع واحد اليجابي ،لكن إ الكيد بهذا يعلم �سلطان زوجها مل
والرواية بني دفتي كتاب ان كان لدي ِك الوقت. – ثمة� -إ�شارات خفية � أح�س بها وهي � أن وردة قبل
فـ ..احلكاوي ،متلأ � ،سحارة من احلارة .هل – هن- � أوان اللحظة املنتظرة تلك راوغت وتعللت ب�أ�سباب
اجلفاء اجل�سدي بينهما ملدة � أ�سبوعني مل يعتدها
تلك اللواتي يف البالد الأخرى � أح�سن منا؟! يكتنب
�سلطان �إال يف مرتني �سابقتني ،لكن ذاك الوقت غري
� أي�ضا حكاوي وحكايا ..بالن�سبة يل قليالً من الرتو�ش
هذا الوقت ،حيث مل يرث انتباهه كثرياً.
على ال�شخ�صيات و�ضبط لغوي وهكذا الرواية تنتظر
ت�سعة � أ�شهر مرت �رسيعاً � أجنبت وردة «بنات احلكايا»
قارئاً وعندما � أحتاج �إىل ما ينق�صني فالقوامي�س روايتها الثالثة وابنتها احلقيقية «ريتا».
اللغوية مبحاذاة ال�رسير من � أجل تقوية احلوار واللغة وردة تخطط ل�سريتها الكتابية بدقة عن رفيقات
ال�شعرية ،وما عدا ذلك ال زيادة وال نق�صان عن �سرية عمرها مع ما ي�شوب مالحمها و�سلوكها من هدوء �إال
الل�سان. ما تخفيه حتت غطاء ال�شيلة عما ي�ؤطره غري العطر
االبت�سامة متلأ ثغرها وهي توقع «بنات احلكايا» �إىل احلرب.
روايتها الثالثة مبعر�ض الكتاب الدويل ،لكن يدها وهي بهذا تقول – :بني ذاتها املرايا ..انها املرايا..
الأخرى تتح�س�س -ب�شكل ال �إرادي -م�سار النطفة يعلم زوجها بفرحها بهذه التو� أمة الأدبية والأمومية
اخلبيئة ك�شعور بنداء جديد� ،إىل � أين؟ -تقول- ويعلم � أكرث ب�أهمية التو� أمة احلياتية بني وردة وما
�سي�سري هذا احلد�س بي يا ترى؟ لكنها ،وهي جتول �سيجنيه هو من تراكم وظيفي ,فكل رواية جديدة فوق
بنظرها يف عيون من يحطن بها من زميالت -قالت رفوف معر�ض الكتاب هي مبثابة ترقية له .فمع ما
يف خاطرها -هل � أ�ستطيع � أن ا�ستحلب احلكايا ككل يعي�ش من تناق�ضات البداوة واحل�ضارة فهو يقول � أنا
مرة لأجنب من الكالم ،كالماً لروايتي القادمة. براجماتي ..تعي�ش و� أعي�ش والباقي على اهلل.
254
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
النكبـة ،النك�سـة،
واملخي ــم!
املتوكـــل طـــــه
�شاعر من فل�سطني
عن تنفيذ املمكن منها ،وهذا «املمكن» عادة ما ي�ضيق النكبة التي حلقت بال�شعب الفل�سطيني العام 1948هي
ويقل كلما تقدمنا يف الزمن .امل�ستعمِر عادة ما ال ي�ؤمن الذروة لع�رص اال�ستعمار ا ألوروبي الكال�سيكي الذي
باملطلق ،وامل�ستعمِر عادة ما ي�ضيق بالقوانني الثابتة. انح�رس يف القارات اخلم�س بعد احلرب العاملية الثانية،
يف وا�ستثنائي ،ولهذا فهو يبحث عن الظريف امل�ستعمِر ظر ّ وكانت �إ�رسائيل التي قامت يف نهاية تلك احلرب هي
واال�ستثنائي دائماً يف كل �شيء. نتاج انقالب التاريخ وانعطافه .يف انقالبات التاريخ
النكبة هي �إ�رسائيل التي قامت على �أر�ضنا ،ومعها كل وانعطافاته الدراماتيكية تظهر �شعوب جديدة ودول
ذلك ا إلرث اال�ستعماري االبي�ض ،ال ميكن لل�صهيونية جديدة و� أفكار جديدة .احلرب العاملية الثانية التي � أنهت
�أن تنكر كونها �إرثاً ا�ستعمارياً �أبي�ض ،ال�صهيونية التي اال�ستعمار االبي�ض ا ألوروبي القدمي ب�شكل � أو ب� آخر،
االدعاء انها ثورة على اال�ستعمار والكراهية حتاول ّ كانت هي امل�رسح ال�سيا�سي والعقائدي الذي ا�ستغلته
والتوهم .هي بب�ساطة ّ املر�ض د قوع
َُ والتمييز والفوبيا احلركة ال�صهيونية ومن يدعمها علناً و�رساً ،اقليمياً
جزء من هذه املنظومة التي �سقطت ذات يوم ،امل�ستعمِر ودولياً ،لتقيم لها وطناً على ح�ساب ال�شعب الفل�سطيني
ي�سقط ألنه يت� آكل من الداخل ،و ألنه يخ�رس دائماً ،و ألنه وعلى ح�ساب � أر�ضه ووجوده و�إجنازاته وجذوره
ال ي�ستطيع توليف حكايته كل يوم ومن ثم يجد مربراتها وثقافته ،وهكذا كانت النكبة يف معناها الب�سيط
وم�سوغاتها ،االحتالل بقدر قابليته لل�سقوط والت� آكل بقدر واملبا�رش ،االقتالع والطرد ومن ثم ا إلحالل .النكبة هي
كونه مكلفاً لي�س ملن يقع عليهم االحتالل و�إمنا ألولئك اقتالع �شعب وطرده من ار�ضه بالقوة ،ولكنها اي�ضاً
الذين يقومون بفعل االحتالل ،ومن هنا كان االحتالل �إحالل �شعب مكان � آخر� .إن هذه الكلمات على مبا�رشتها
� آيالً لل�سقوط دائماً ،مزعزع االركان دائماً ،ال يجد وال وب�ساطتها وامكانية فهمها ،هي بب�ساطة اي�ضاً جرمية
ميكن �أن يجد راحة �أو �أمناً �أو طم�أنينة ،حتى تلك ا ألنواع ان�سانية بكامل املعاين واملفاهيم واملعايري .و ألن
را�ض بعيدة و�شعوب من ا إلحتالالت التي كانت يف � أ ٍ النكبة حدثت � أو وقعت يف التاريخ � ،أي ميكن ر�صدها
بدائية� .إن تلك الدوافع التي �أهابت بالرئي�س االمريكي و توثيقها � ،أو ألنها حدثت دون �ضجيج � ،أو ألنها حدثت
كارتر ومن ثم كلينتون ال�ستقبال ممثلي الهنود احلمر ثم مَت ا�ستيعابها من العامل � ،أو ألنها حدثت دون � أن
يف البيت االبي�ض هي ذات الدوافع التي نر�صدها يف نف�س تتحول �إىل حدث فريد يف التاريخ � ،أو ألن العامل الغربي
�أي ل�ص مهما بلغ ذلك الل�ص من مواقع �أو �إجنازات .ال اال�ستعماري نظر �إىل ما حدث باعتباره جزءا ً من العقيدة
ميكن قتل احلقائق .وال ميكن ا إللتفاف عليها ،وال ميكن وال�سلوك االبي�ض اال�ستعماري ،ف�إن النكبة بهذا املعنى،
تزييفها ،نحن هنا نتحدث عن قوانني ولي�س جمرد حتولت بقدرة قادر �إىل ق�ضية �إن�سانية وفرّغت من
متنيات �أو تخمينات. معانيها الكارثية وا ألخالقية ،حتولت النكبة يف عرف
النكبة هي اخليانة اي�ضاً� ،إن در�س النكبة من نواحيها امل�ستعمِر – على � أنواعه – �إىل م�شكلة جوعى وعراة،
املختلفة ،ومن م�صادر خمتلفة ،ومن وجهات نظر ولهذا � أو ألن هذا كذلك ،فقد مت تفريغ قرار 194من
خمتلفة ،تفزعنا متاماً كما حدثت �أول مرة ،لقد حدثت م�ضامينه كلها ،وحتولت احلقوق �إىل م�صالح ،وا�ستبدلت
النكبة لي�س ألن ال�صهاينة كانوا �أقوى �أو �أكرث عددا ً �أو املبادىء برتجمتها ،وبدال ً عن احلديث عن جماعة ذات
�أح�سن جتهيزا ً �أو �أد ّق خططاً وتخطيطاً ،بالعك�س من حقوق ال ميكن االنتقا�ص منها �صار احلديث يجري
255 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
والنبوءة ونهاية التاريخ .وملاذا ال تكون �إ�رسائيل اجلديدة ذلك متاماً ،كانوا �أ�ضعف منا ،واقل عدداً ،و�أكرث خوفاً،
�إ�شارة على نهاية التاريخ ؟! و�أكرث فرقة ،وهذا الكالم ال نقوله بدون �إثبات �أو برهان،
النكبة تعني وقف التطور الطبيعي لل�شعب الفل�سطيني لنقر� أ ما كتبه م�ؤرخوهم عن تلك الفرتة ،و�سرتى العجب
ومن ثم ت�شويهه وت�رشيده ،وحتويله من �شعب كان ميكن العجاب� ،ستجد �أن النخبة العربية ،النخبة ال�سيا�سية
ملالحقني �أن يفعل املعجزات على �أر�ضه� ،إىل �شعب من ا ُ واالقت�صادية واالجتماعية كانت نخبة مري�ضة وم�شوهة
واجلوع وامل�شبوهني يف منافيهم القريبة والبعيدة ،حتول مرتبطة ،كانت نخبة عميلة ،ب�أق�سى ما يف الكلمة من
ال�شعب الفل�سطيني يف معظمه �إىل �أفراد بال هويات وبال معنى .اجليو�ش ال�سبعة التي قيل �إنها قاتلت على �أر�ض
روابط ،حتولوا فج�أ ًة �إىل الجئني� ،إن و�ضع «الجىء» فل�سطني مل ُتقاتل ال�صهاينة ومل تت�صدّ للهجاناه �أبداً،
و�ضع ال �إن�ساين ،وال طبيعي ،وال حقيقي �أي�ضاً� .إن اجليو�ش ال�سبعة كانت ترت�صد بع�ضها البع�ض ،وتنفذ
و�ضع «الجىء» الذي �أ�صبح و�صفاً للفل�سطيني يعني �أن �سيا�سات مت�شككة ومتوج�سة ،كانت اجليو�ش ال�سبعة
الفل�سطينيني عليهم �أن يطوروا جمتمعاً � آخر يف الهواء، تعبريا ً عن انق�سام العامل العربي وتعدد اجتاهاته ،ولهذا
وبني الفراغات ،وبني ا أل�سيجة وحتت اخليام ،ومن ثم مل يكن من العجب �أن ال ي�سقط من تلك اجليو�ش جمتمعة
يف مدن االحزمة الفقرية ،ويف ا إلزدحام والفقر والظلم، �أكرث من � 650شهيداً ،نحن هنا ال نتحدث عن اجلماهري
ومل يكن من امل�ستغرب �أن ي�صطدم املخيم مبا حوله من التي كانت على ا�ستعداد لفعل العجائب -وباملنا�سبة
عوا�صم �أو مدن .ال ميكن تطوير هوية وجمتمع يف الفراغ، ف�إن القادة العرب يف تلك االثناء طلبوا من ال�شعب
�أو يف الهواء� ،أو بني ا أل�سيجة ،وال ميكن تطوير �أو تطور الفل�سطيني �أن ال ي�شارك يف ما �أ�سموه بالعمليات ،وذلك
جمتمع حتت احل�صار وحتت املالحقة وحتت ال�شبهة من �أجل حتييد تلك اجلماهري ،حتييد اجلماهري ظ ّل تكتيكاً
ودائرتها .النكبة تعني �أن ال�شعب الفل�سطيني كان عليه �أن متبعاً يف احلروب العربية با�ستثناء العدوان الثالثي
يبد� أ من ال�صفر ،و�أن يعيد ت�شكيل ذاته يف �أماكن متعددة، على م�رص العام – 1956نحن هنا نتحدث عن النخبة
وكان عليه �أن يرمم هذه ال�صورة من خمتلف االمكنة، املعطوبة التي مل ت�ستطع �أن حتتمل التاريخ وال انعطافه.
ذات ال�شعب الفل�سطيني وهويته �أ�صبحت – ب�سبب النكبة كانت النكبة بهذا املعنى ،هي اخليانة .يف بع�ض ا ألحيان
لي�س اال – ذاتاً متعددة وهوية تت�أثر بالزمان واملكان. �أرى �أن الهزمية هي خيانة ب�شكل من اال�شكال.
�إن الرابط الوحيد ا آلن بني كل الفل�سطينيني هو فل�سطني والنكبة حلقة من حلقات الغزو الغربي اال�ستعماري
فقط ،ذلك �أن املنفى لي�س جمرد نزهة ولي�س جمرد ال�صليبي ،اذ ال ميكنني �أن �أف�صل بني موجات الغزو
�إقامة م�ؤقتة ،املنفى له ب�صمات ،وله �ضغوط ،وله قدرة ا إلفرجني وبني موجة اال�ستعمار ال�صهيوين على بالدنا،
على �إعادة الت�شكيل يف بع�ض االحيان ،بناء املنفى ال�صهاينة هم غرب ،هم علمانيون ،هم متدينون ،ي�أخذون
يعيد ت�شكيل فل�سطني ذاتها� .إن فل�سطني التي يحلم بها دعمهم من الغرب ويتل ّقون �أموالهم وعتادهم من الغرب،
فل�سطينيو لبنان غري تلك التي يحلم بها فل�سطينيو ال�ضفة والغرب ال ينتقدهم وال يخالفهم وال يعار�ضهم وال
والقطاع �إىل ح ٍد كيرب. يحرجهم .ال�صهاينة بهذا املعنى هم غرب ا�ستعماري
النكبة هي املنفى القا�سي الفارم الذي يجعل من الوطن �صليبي لي�س �إال ،و ألن ذلك كذلك ،ف�إن ال�صهيونية تفعل
خياال ً �أندل�سياً كامالً �أو يقدمه بطريقة �أخرى .املنفى لي�س ما فعلته كل موجة من موجات الغزو ال�سابق ،لقد بنت
�سهالً ،ولي�س جمرد مكان� .إنه ثقافة. ال�صهيونية �أ�سوارها و�سياجاتها و�أبراجها و�أ�شهرت
والنكبة هي الن�ضال ،هي حركة التحرر الوطني ،وهي �أ�سلحتها وطردت واقتلعت و�صادرت واحتقرت ،متاماً
يتحمله �أبناء ال�شعب الفل�سطيني يف �أن يقاتلوا
الَ َقدر الذي ّ ككل م�ستعمر غا ِز غريب� .إن النكبة – وخا�صة �أنها تتعلق
االحتالل و�أن يطردوه و�أن يعيدوا ا ألمور �إىل ن�صابها� .إن ب�أر�ض فل�سطني – تعني �أنها حققت – ولو ب�شكل جزئي
�رصاعاً و�صل عامه املائة هذه ا أليام يعني �أن االحتالل – ما ف�شلت به احلروب ال�صليبية ومن ثم اال�ستعمار
لي�س جمرد تغيري �سلطات ،و�إمنا هو املوت الز ؤ�ام. ا ألوروبي التقليدي ،وبقول قد يبدو فيه جتر ؤ� وتعجل،
النكبة �أي�ضاً ف�ضيحة العامل ا ألخالقية وجرح الكون ف�إن النكبة هي هدية الغرب ا ألخرية للمنطقة و�شعوبها
النازف ،الدال على انتفاء العدالة ا ألر�ضية ،وف�شل ما ودينها وتاريخها� .إن قيام �إ�رسائيل – مبا يف ذلك من
�سمى باملجتمع الدويل يف حل الق�ضية ملدة تزيد على ُي ّ ا�ستثارة للنبوءات وامل�شاعر الدينية – يعني حتقيق الوعد
256 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ف�ضيحة مدوية اكرث دوياً و�ضجيجاً من النكبة .النك�سة – �ستني عاماً ،وعدم قدرة الليربالية الغربية يف حل ا إل�شكال
وهي هزمية مرّة ب�أبعاد خطرية وقد ر�سمت املنطقة حتى ألنها �أي هذه الليربالية – جزء من امل�شكلة ولي�س جزءا ً
هذه اللحظة – كانت بداية القبول ب�إ�رسائيل والتعامل من احلل� ،أو ألنها �سبب امل�شكلة .بكلمة �أخرى� ،إن النكبة
للمر الواقع الذي فر�ضته .النك�سة معها واخل�ضوع أ بحد ذاتها دليل على مدى العطب الذي يلحق ومييز هذه
كانت ف�ضيحة ألن االنظمة التي واجهتها ّادعت القومية الليربالية ،ويف مدخل � آخر ،ف�إن هذه الليربالية ال ميكن
واال�شرتاكية واجلماهريية واجلاهزية ،على عك�س ا ألنظمة لها �أن َُتِ�سوق لنا �أفكارها النيرّ ة �أو املتنّورة! فالليربالية
التي واجهت ال�صهيونية العام ،1948كانت ف�ضيحة كاذبة وخمادعة ومنافقة ،وال ميكن �أبدا ً اعتبار �أن العامل
�أي�ضاً ألن االنظمة العربية العام 1967كانت تخدع ي�صل �إىل ذروته ا ألخالقية وال�سيا�سة معتمدا ً على هذه
بالقول �أنها �أتت لتعرب عن املطامح وا آلمال والتطلعات الليربالية ،وبهذا مل يخطىء فقط هيجل ولكن فوكوياما
القومية والوحدوية والعروبية ،على عك�س ا ألنظمة عام �أي�ضاً ،كالهما اعتقد �أن الليربالية الغربية كفيلة بتحقيق
1948التي كانت مر َتهنة ب�أوامر امل�ستعمِر العلني �أو ال�سعادة والعدالة واالكتفاء ،وكالهما مل يرَ اجلانب
اخلفي .كانت النك�سة ف�ضيحة ال تغتفر ألن انظمة عام ا أل�سود والقبيح لهذه الليربالية .ا ألول ر�أى ذلك يتحقق
� 1967أتت �إىل �سدة احلكم على �أ�سا�س من نكبة عام يف نابليون وبرو�سيا الذي �أراد ا�ستعمار بالدنا والثاين
1948ومن �أجل جتاوزها وت�صحيحها لكنها �سقطت يف ر� آها يف الواليات املتحدة التي تريد �أَن حتكم العامل
ذات الهوة بطريقة �أكرث قبحاً و�أكرث ف�ضائحية. وت�ضبطه.
�ضياع القد�س فيما �سمي بالنك�سة ي�شبه العقاب اجلماعي والنكبة هي �أي�ضاً دليل عجز النظام العربي ودليل ف�شله
الذي يحل با ألمة �إن مل يكن العقاب كله والعذاب كله ودليل انق�سامه وتفتته ،عندما ت�ضيع فل�سطني عاد ًة
واملرارة كلها والهزمية والذل والهوان .و�إن ا�ستعادة ما تكون البالد العربية وجماهريها يف �أ�سو� أ احلاالت،
القد�س تعني امتالك كل ذلك دفعة واحدة ،و�أُبعد يف القول وعندما ُت�ستعاد فل�سطني عاد ًة ما يرافق ذلك تغيريات
القول �إن ا�ستعادة القد�س هي ال�رشط الوحيد من �أجل �أن عميقة جتري على م�ستوى النخبة والقاعدة ،هكذا تعلمنا
حتيا ا ألمة حياة طبيعية ت�ستطيع فيها �أن تتنف�س الهواء الدرو�س املا�ضية� .ضياع فل�سطني و�إعادتها عملية �صعبة
وت�أكل الطعام .احلياة بدون القد�س ناق�صة وال ت�ستحق وطويلة ومريرة ،تدخل فيها ا ألنظمة وال�شعوب يف �أتون
�أن تكون احلياة بدون القد�س كريهة و�ضيقة وال �سبيل من جمريات التاريخ يتم فيها خروج اخلبث وبقاء ما ينفع
�إىل اال�ستمتاع ب�شيء. النا�س ,ولهذا ف�إن النكبة التي حلت بال�شعب الفل�سطيني
�إن �ضياع القد�س ال يعني �ضياعها فقط ،بل يعني �أي�ض ًا هي دليل اخلراب والف�شل وغياب العلم وانعدام ا إلميان.
عمان ودم�شق والقاهرة ومكة ،و�ضياع القد�س ال تهديد ّ ويف هذا ال�صدد ،ميكن القول �أنه اذا كانت النكبة قد
يعني ت�رشيد ال�شعب الفل�سطيني �أو قمعه �أو منعه من اقتلعت �شعباً من �أر�ضه مقابل ا�ستيطان �شعب � آخر فيها،
التطور ،ولكنه �أي�ضاً يعني جتويع ال�شعب العربي وح�صاره ف�إن النك�سة العام 1967و�سقوط القد�س كانت �أ�شد و�أنكى
ومنعه من التطور وامتالك �أ�سباب القوة ،ذلك �أن �إ�رسائيل و�أمرّ� ،إن �سقوط القد�س ال يعني �سقوط غرناطة �أو �سقوط
ال متنع ال�شعب الفل�سطيني حقوقه وتطوره ،و�إمنا تقوم بغداد �أو اال�ستيالء على دم�شق� ،سقوط القد�س عادة ما
�أي�ضاً بتجفيف �أ�سباب القوة واملنعة يف دول املحيط، يرمز �إىل خراب و�ضياع ورخاوة وعدم �أهلية َم ْن ت�ضيع
حتى تقوى �إ�رسائيل وي�ضعف من حولها ،وحتى تنمو منهم البالد .القد�س لي�ست ككل املدن� .إن احتالل ا ألماكن
�إ�رسائيل وميوت من حولها ،اذن �ضياع القد�س ال يعني املقد�سة يعني �سقوط الكرامة والعزّة� ،إن تدني�س املقد�س
�ضياع مدينة بل �ضياع م�ستقبل اي�ضاً. هو قمة الهزمية ،ولهذا نفهم ملاذا �شارك �صالح الدين
ولهذا ف�إن النك�سة مبعناها وجتلياتها و� آثارها ونتائجها االيوبي بنف�سه يف غ�سل امل�سجد االق�صى مباء الورد بعد
�أ�شد م�ضا�ضة من النكبة و�أعمق مرارة و�أ�شد وط�أة. احتالله ملدة تزيد عن ثمانني عاماً .النكبة – يف �إحدى
�إن النكبة ومن بعدها النك�سة وما رافقهما من �ضعف معانيها – �ضعف ا ألنظمة وخيانتها وعدم قدرتها على
�شعب ُم�رش ٍد
وف�شل عربي ،قد حولتا ال�شعب الفل�سطيني �إىل ٍ التن�سيق �أو امل�شاركة ،ولكن النك�سة – يف احدى معانيها
وم�شتت ،ومور�ست عليه عمليات التهمي�ش والتغييب �أي�ضاً – �إن تلك ا ألنظمة مل تفقد ال�رشعية فقط و�إمنا فقدت
والنكران والتجرمي و�سحب ال�رشعيات والتعريفات عنه. الرغبة يف العمل �أو حتى اال�ستعداد له .النك�سة كانت
257 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
خا�صة – �أُجرب الفل�سطيني الالجىء – كرهاً �أو طواعية �إن هذه ا آلليات املختلفة التي مار�سها ال�صديق قبل العدو
– على �أن يحدد انتماءاته وخياراته .ولكن ،وبذات الوقت، حولت ال�شعب الفل�سطيني عملياً �إىل �شعب فريد ،وتنبع
ف�إن الق�ضية الفل�سطينية لي�ست ق�ضيتنا فقط ،وعليه ،ف�إن فرادته من قدرته على ال�صمود �أمام كل هذه العمليات
املخيم يتعر�ض لكثري من ا إلغراءات �أو ا إلجراءات �أو التي ت�شارك فيها قوى ذات جربوت وطغيان .تنبع فرادة
ا آلليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد �أو حتى هذا ال�شعب من قدرته على الثورة – بغ�ض النظر ا آلن ّ
عما
االختيار وخا�صة بعد �أن انكف�أ املدّ الثوري والقومي وال �أف�ضت �إليه هذه الثورة .-
نقول انهزم. فرادة ال�شعب الفل�سطيني يف قدرته على حتويل اخليمة من
املخيم ال�صامد ،خمزون الثورة اال�سرتاتيجي ،حامل خيمة جلوء �إىل خيمة ثوار ،وحتويل املنفى لي�س �إىل مكان
امل�شعل و�شاهد املرحلة ومعلم االجيال ،ومعلم ا أليام للنجاح �أو النجاة بل �إىل مكان لال�ستعداد واالحت�شاد،
وق�سم
اي�ضاً ،الذي طور له لغة خا�صة وم�صطلحات خا�صةّ ، وحتويل امل�أ�ساة �إىل حكاية مل تكتمل ومل تكتب نهايتها،
و�سمى ا أل�شياء من جديد، فئاته و�أعاد ربط ما انقطعّ ، وحتويل الهزمية �إىل م�شارف الطريق امل�ؤدية �إىل الن�رص،
و�أرغم املدينة ومن ثم القريب والغريب على ا إلعرتاف به وحتول ال�شعب الفل�سطيني �شاهدا ً – بعد �أن كان �شهيدا ً –
والتعامل معه ،هذا املخيم كان لزاماً عليه �أن ي�صطدم على ا�ستحالة التعاي�ش مع امل�رشوع ال�صهيوين التو�سعي
مبا حوله� ،شاء �أم مل ي�ش�أ� ،ألثورة خيار �صعب ،وهي واالحتاليل وا إلحاليل اي�ضاً.
خيار جمنون وال عقالين اي�ضاً ،الثورة وجدان ،والثورة وبهذا ال�صدد ف�إن املخيم – كوحدة اجتماعية واقت�صادية
ال ح�سابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟ و�سيا�سية وبالتايل �أ�صبحت ذات مالمح ثقافية – ّ
يت�صدر
– وعندما اختار املخيم ا�صطدم مبا حوله �رسيعاً ،ومن الكالم وي�أخذ الكالم كله .فاملخيم ك�إفراز ونتيجة للنكبة
هنا تعلم املخيم �أن يكون متوج�ساً و�شكاكاً وال يثق ،و�إذا املعول عليه ،مبعنى ،وقعت على ّ والنك�سة �أ�صبح هو
كان املخيم �أر�ضية خ�صبة وطبيعية للم�شاعر القوية �ضد �أبنائه و�أجياله املتعاقبة �أن يتحملوا ويحملوا الر�سالة
�إ�رسائيل ،ف�إنه طور �أي�ضاً م�شاعر متناق�ضة جتاه املحيط و�أن يجعلوا ال�شعلة م�ضاءة وعالية .ووقع املخيم –
الذي يحيا فيه �أملخيم املعزول واملمنوع والفقري والذي نتيجة لذلك ،بني �شفرات المُ طلق و�شفرات الن�سبي ،ما بني
طور عقلية خا�صة ،هي يحيا مبنطقة الرماد يف كل �شيءّ ، متطلبات الثورة وف�ضائها وبني متطلبات الواقع و�ضيقه.
متوج�سة و�شكاكة وقريبة ّ عقلية الالجىء ،وهي عقلية املخيم الذي يقع يف منطقة الرماد يف كل �شيء ،جغرافياً
من ا إلميان املطلق دائماً ،عقلية الالجىء لي�ست فيها – بكونه قريباً من املدينة ولكنه لي�س منها – وثقافياً-
ت�سويات كثرية ،وهي �أقل جدال ً و�أقل رغبة يف الكالم ،هي باعتباره غريباً عن الن�سيج االجتماعي وممنوعاً من
عقلية حتيا على حافة القرب ،لي�س �أ�سو� أ من املنفى ،ولي�س ا إلندماج فيه – واقت�صادياً – باعتبار �أن موارده ت�أتي
�أ�سو� أ من النكران ،ولي�س �أ�سو� أ من الفقر ،املخيم مل يعد جاهزة وهو ممنوع من االنخراط يف الدورة ا إلنتاجية
يزعج �إ�رسائيل فقط .املخيم قنبلة �سيا�سية� ،صحيح �إىل – و�سيا�سياً – باعتباره ممنوعاً من امل�شاركة والتمثيل
حد كبري ،ولكنه �أي�ضاً قنبلة اجتماعية� .إن �أذكى ا ألنظمة وا إلنتخاب – كل ذلك جعل من املخيم ينق�سم على ذاته،
التي حتاول ال�سيطرة �أو تذويب �أو دمج املخيم �أو حتويله ويدخل يف متاهات من التعريف و�إعادة التعريف،
من نار حترق �إىل نار ُيطبخ عليها مل ت�صل �إىل جناح �أكيد الثورة كانت حالً ولكنها لي�ست كل احللول ،وخا�صة
ونهائي .مرة �أخرى ،املخيم مل يعد يزعج �إ�رسائيل فقط، بعد انكفائها .املخيم – وهو و�ضع ا�ستثنائي يف تطور
ومن هنا ،ف�إن حل الق�ضية الفل�سطينية هي �أولوية عربية، موزع بني املجتمعات و�سلوكها – منق�سم على ذاته ألنه ّ
لي�س فقط من منطلقات �سيا�سية و�أخالقية و�أمنية ،و�إمنا االنتماءات ومو ّزع بني الوالءات ومو ّزع بني ا ألمكنة،
من منطلقات اجتماعية �رصفة .وال �أق�صد هنا يف احلديث ومرّة �أخرى ،املنفى لي�س مكاناً وح�سب ،املنفى جتربة
�أن يتحرك املخيم كله باجتاه معني ،بل يكفي �أن يكون مهيظة وقا�سية – ويف الوقت الذي يجرب فيه الالجىء
ليدمر املخيم �أو ليثري املحيط هناك «عب�سي» واحد ّ على تعريف نف�سه بقوة وتطرف ،ف�إنه �أي املنفى – قادر
ويدمره .وال �أريد �أن �أ�سرت�سل يف ا ألمثلة التي ت�ؤكد الكالم
ّ على �إجبار �أو �إقناع الالجىء بفقدان هويته �أو التخلي
�إىل ح ٍد كبري� ،أو على االقل ال تنفيه. قا�س وقاطع كحدّ ال�سيف ،واملخيم عنها طواعية .املنفى ٍ
يجب االعرتاف بقوة و�رصامة �أن املخيم م�شكلة اجتماعية – باعتباره لي�س �أفرادا ً و�إمنا وحدة اجتماعية و�سيا�سية
258 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
هي حالة م�شبوهة �أو مدانة �أ�صالً� ،إن و�ضعاً كهذا – و�إن و�صحية ،وحتى ال ُنفهم خط�أ – بنيّة ح�سنة �أو غري ح�سنة
مت ا�ستيعابه ب�شكل �أو ب� آخر –ا�ستمر ب�شكل �أو ب�أخر – و�إن ّ – ف�إن املخيم يجب �أن يزول ويختفي عن الوجود ألن
مت – تدجينه ب�شكل �أو ب� آخر – ال ميكن له �أن ي�ستمر. و� إ ْن ّ �سكانه يجب – وهنا �أكتب «يجب» بخط كبري و�ألفظها
�إن بيت ال�صفيح لي�س �أف�ضل حاال ً من خيمة ،1948و�إن مبلء الفم – �أن يعودوا �إىل ديارهم و�أوطانهم التي ُه ّجروا
معونات وكالة الغوث التي تتناق�ص �سنة بعد �سنة لن منها ،هذا هو واجب النا�س ا آلن ،وواجب ا ألجيال املقبلة
تكون بديالً عن �أحالم عري�ضة ،و�إن التطامن �أو ال�سكون �أي�ضاً ،ومن ين�سى هذا احلق �أو يفرط فيه ف�إنه عملياً يقبل
�أو اخل�ضوع ألوامر املحيط وقوانينه لن ت�سود �إىل ا ألبد، �أن ي�أتي االثيوبي �إىل فل�سطني وي�أخذ كامل احلقوق ،فيما
خا�صة �إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع املجاين يحرم على امر�أة فل�سطينية �أن تعود �إىل وطنها لتعي�ش ّ
وقبول �إ�رسائيل بالكامل دون �إيجاد حل ألكرث من خم�سة مع زوجها و�أطفالها – اقر�أوا قانون العودة ا إل�رسائيلي
ماليني فل�سطيني موزعني ما بني بيوت �صفيحية �أو للعام 1952و 1972والتعديالت التي �أجريت عليه يف
�صحارى بعيدة �أو جماهل ال ي�صل �إليها الربيد. الثمانينيات والت�سعينيات لرتوا مدى العن�رصية ومدى
وكلما تقدمنا يف الزمن ،ف�إن م�شكلة املخيم – متعددة اال�ستعداد القانوين ملنع العرب الفل�سطينيني من البقاء
امل�ستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم ،لي�ست فقط يف �أوطانهم .-ولكن وبعد ت�أكيد هذا احلق مبا ال لبُ�س
ب�سبب � إ آللية اخلا�صة بتطور املخيم وتعدد خياراته ،و�إمنا فيه ،فان املخيم الذي يحيا اليومي والن�سبي ومتطلبات
�أي�ضاً – وبذات الدرجة من القوة – ب�سبب �أزمة �أو �أزمات احلياة اليومية من �أكل و�رشب وتعليم و�صحة وعمل
ا ألنظمة التي تعي�ش �ضمن حدودها تلك املخيمات. وت�أمينات اجتماعية و�صحية و�أ�شكال �سلوك متغرية
� إ ّن ا ألنظمة التي تعي�ش �أزمات خمتلفة تتعمق يوماً بعد ومرجتلة ،هذا املخيم الذي يعي�ش على املطلق ولكنه
يوم ،وهي �أزمات اقت�صادية و�سيا�سية ،ولبنان تعطينا م�ضطر �إىل التعامل مع الن�سبي ،يتحول �شيئاً ف�شيئاً –
وخا�صة بعد اتفاق �أو�سلو وتغيرّ العامل وجناح العوملة
مثاال ً منا�سباً فيما ميكن للمقدمات والنتائج �أن تكون.
وانكفاء الثورات وتراجع ال�شعارات وخفوت اال�صوات عن
�إن جت�سد ال�سلطة الوطنية يف ال�ضفة والقطاع – �أو يف
العودة �أو م�ضامينها احلقيقية – ف�إن املخيم يتحول �إىل
ال�ضفة فقط يف هذه ا ألثناء – مل ي�ساعد حتى اللحظة يف
م�شكلة وعبء حقيقي ،لي�س على ال�سلطة الوطنية وح�سب،
حل �ضائقة املخيم ،بل على العك�س من ذلك� ،إذ �أن جت�سد و�إمنا على ا ألنظمة التي تعي�ش فيها تلك املخيمات .ال
ال�سلطة الوطنية بدا وك�أنه حل نهائي ملو�ضوع املخيم، ميكن ح�سم املخيم يف نهاية ا ألمر .عقلية الالجىء الذي
ومن هنا ،ازدادت حدة املو�ضوع ،وزاد �ضغطه ال�شديد يحيا على ا ألحالم وي�ضطر �إىل البحث عن لقمة اخلبز
على الوعي والوجدان ،فهل ينتظر �سكان املخيمات منفى �سيطور �سلوكاً غري متوقع ،هذا الكالم يعني بب�ساطة
�أبديا� ،أم جتني�سا �أم توطينا �أم تعوي�ضا �أم عودة جمزوءة. � أ ّن �إ�رسائيل وغري �إ�رسائيل جمربون على حل الق�ضية
هذه ا أل�سئلة مل تكن يف املا�ضي ،وهي ا آلن حا�رضة الفل�سطينية ،فالهزمية حتى و�إن توالت لن ت�ؤدي �إىل خلق
بقوة ،ا ألمر الذي يزيد من حدة وتطرف امل�س�ألة ،ونحن عالقة غرامية مع املحتل ،والفقر والنكران لن يحول
هنا نتحدث عن عقلية الالجىء – والالجىء لي�س مهاجرا املجروحني �إىل قدي�سني يدعون �إىل حمبة العدو الذي نقدم
وال مغامرا وال م�ستوطنا ،-وقلنا �إنها عقلية تطرّف �أكرث له اخلد ا ألمين لي�صفعه .ومهما بدا الكالم قا�سياً ولكني
مهادنة ،وعقلية ُتبدي ما ال ُتعلن ،و�إن تهديدمنها عقلية ُ �أرجو �أن ُيفهم بواقعيته و�أهدافه البعيدة ،ف�أنا عملياً
املخيم بخيارات متعددة وخمتلفة �ضمن �أزمات متالحقة لوح بالقدرات التي ر�أينا بع�ضها وتلك التي مل ن�شاهد �أ ّ
و�ضغوطات من جهات متعددة ،كل ذلك يدفع ا ألمر �إىل بعد ،والتي ميكن للمخيم �أن يجرتحها ما مل تحُ ّل الق�ضية
عنق الزجاجة .و�إذا كانت النكبة ومن بعدها النك�سة ومن الفل�سطينية ،وبعيدا ً عن فذلكات ا ألكادمييني ورغبتهم
بعدها الهزائم وا ألزمات ثم التفتيت و االنق�سام ،قد �أ�رضّت يف الو�صف والتبويب والفهر�سة ومن ثم اال�ستخال�صات،
وحو�رص ،ف�إننا ا آلن على �أبواب وعذب ُ باملخيم ،ف�ضرُ ب َّ ف�إن املخيمات التي ت�صبح عناوين للبالد والثورة
مرحلة جديدةُ ،ت َْقبل فيها �إ�رسائيل وتن�ش�أ معها العالقات، واحلنني ،تتحول بفعل الزمن �إىل مواطنني من درجة �أقل
فيما يغرق املخيم بوحله �أكرث ف�أكرث� ،إذن ،فا ألمر �شديد... ويح�صلون على حقوق وواجبات �أقل� ،أي �أن ُجرح الطرد
�شديد ،وعلينا االنتباه. ي�ضاف �إليه جرح النكران والتهمي�ش ،وك�أ ّن حالة اللجوء
259 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
s
s
s
حافظ على اجلانب احلكائي يف الرواية دون �أن مينعه ذلك من ا�ستثمار تعني طرقا جديدة يف بناء احلكاية وقولها،كما تعني �أننا
ا أل�شكال احللمية والفانطا�ستيكية واال�ستيهامية ،وا�ستدعاء البنيات �رصنا ندرك الذات �أو العامل �أو التاريخ بطريقة �أو بر ؤ�ية مغايرة
اللعبية ،و�إلبا�س البنية ال�رسدية ظالل الر� ؤيا ال�شعرية. للم�ألوف يف الروايات التقليدية؟
-2بد� أ مبارك ربيع يكتب الق�صة الق�صرية منذ بداية ال�ستينات ،و��صدر
أ وميكن �أن ن�صوغ ذلك االفرتا�ض بطريقة �أخرى� :أال ميكن �أن ن�صف
روايته ا ألوىل «الطيبون «�سنة ،1972تلتها �أعمال ق�ص�صية وروائية اللحظة الراهنة ،بالن�سبة �إىل الرواية باملغرب ،ب�أنها حلظة انتقال
عديدة على مرّ العقود وال�سنوات ،قلّـما التفتنا �إىل ما قدّمته على م�ستوى وحتول ،رمبا يف اجتاه رواية يبدو �أنها من�شغلة يف الوقت ذاته ب�س�ؤال
تطوير �أدوات ال�رسد وو�سائله الفنية. الكتابة كما ب�س�ؤال احلكاية .فبف�ضل �إ�سهامات الكتّاب ،من ا ألجيال
وبالنظر �إىل روايته� :أيام جبلية ،ن�سجل يف البداية �نها رواية حتاول
أ ال�سابقة �أو الالحقة ،مل يعد ا ألدب الروائي اليوم يكتفي بكتابة ال
�أن ت�ؤ�س�س معرفة مبا يجري داخل املجتمع املغربي يف الزمن احلا�رض( تن�شغل �إال بذاتها ،ومل يعد يقت�صد يف احلديث ال عن العامل االجتماعي
زمن التحوالت الداخلية ،ويف عالقتها بالتحوالت التي يفر�ضها نظام والنف�سي ،وال عن ال�شيء ال�سيا�سي .وبعبارة �أو�ضح ،فقد بد�أت الرواية
العوملة) .والالفت للنظر لي�س ارتباط الرواية بواقع املجتمع املغربي باملغرب تعرف ،منذ �سنوات ،حلظة انتقال وحتول ،وهي على ما يبدو
يف الزمن احلا�رض فح�سب ،بل هو نهجها اجلديد يف قول هذا الواقع حلظة حتول يف اجتاه البحث عن توازن بني االن�شغال ب�س�ؤال الكتابة
�أي�ضا .وبعبارة �أخرى ،فالروائي لي�س من�شغال مب�شاكل العامل االجتماعي
دون الت�ضحية باحلكاية� ،أو لنقل يف اجتاه ت�أ�صيل التجريب دون
فقط ،بل هو من�شغل ،ورمبا با أل�سا�س ،مب�شاكل الكتابة ال�رسدية .وهو ما
التفريط يف �أ�صول التخييل التي بدونها ال ميكن احلديث عن �شيء
ي�سمح بالقول �إن مبارك ربيع يعطي ا ألولوية للكتابة باعتبارها تنتج
ا�سمه رواية.
حكاية ما ،تنتج م�ضامني جديدة ترتبط بالتحوالت والظواهر اجلديدة
وقبل �أن نتوقف ��سا�سا عند بع�ض الروايات احلديثة ال�صدور لبع�ض
أ
يف املجتمع املغربي املعا�رص(التهريب ،االجتار يف املخدرات ،الدعارة،
الكتّاب من جيل الكتّاب الذي د� ّشن قبل عقدين �أو �أكرث حركة التجديد
تهجري الفتيات ،احلريك ،االجتار يف العقار العتيق الرتاثي وا ألثري
يف املدن العتيقة ،ت�أثريات العوملة .)...لكنه باملقابل ،المينح ا ألولوية �أو التجريب ،ويحاول اليوم �أن يدفع الرواية يف اجتاه ان�شغال مزدوج
للحكاية على ح�ساب الكتابة ،فان�شغاله ب�س�ؤال الكتابة وا�ضح يف هذا متوازن بهذين ال�س�ؤالني ا أل�سا�سني� :س�ؤال الكتابة(كيف نكتب؟) ،و�س�ؤال
ن�سجـل �أن اجليل اجلديد الذي بد� أاحلكاية(ماذا نكتب؟) ،ينبغي �أن ّ
العمل الروائي ،كما يف �أعمال روائية �سابقة.
وبعبارة �أخرى ،فا ألمر يف رواية �أيام جبلية مل يعد يتعلق ب�رسد حكاية الكتابة يف الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة هو جيل يتميّـز بالتعدد
ما فح�سب ،بل يتعلق باال�شتغال على النظام ال�رسدي الذي �ستتولّـد عنه والتنوع ،ويغني اليوم بالفعل ا ألدب الروائي املكتوب باللغة العربية
احلكاية ،بالطريقة التي تعمل على حتويل الن�ص �إىل �سل�سالت وجمزوءات ب�شخ�صيات ومو�ضوعات من منط جديد ،وبا�شتغال جديد على الذات
وقطائع ومقاطع وحمكيات ذاتية وغريية ،حمكيات ب�ضمائر خمتلفة واملجتمع والتاريخ ،وبعمله من �أجل �أن ي�ستعيد العمل الروائي قدراته
وبلغات متعددة ،ب�شكل يتقدم به العمل ا ألدبي ك�أنه جمرد عنا�رص على �إظهار احل�ضور الفعلي ملرجعه(الذات ،املجتمع ،التاريخ ،)..دون �أن
مو�ضوع ،فهو يت�ألف من مواد متفرقة ومنف�صلة. يهمل االن�شغال بطرائق التخييل و�أ�شكال ال�رسد وجماليات القول.
وال يتعلق ا ألمر ب�أالعيب �شكلية من دون معنى �أو وظيفة ،ذلك ألن هذا نقرتح �أن نتوقف يف هذه املحاولة عند عملني روائيني حديثني لروائيني
اللعب على م�ستوى ال�شكل ي�ؤ�س�س �أو هو ب�صدد البحث عن ت�أ�سي�س طريقة من ا ألجيال التي بد�أت الكتابة منذ عقود ،ومازالت ترثي احلقل الروائي
جديدة يف �إدراك الواقع� ،إذ مل تعد هناك �سلطة ال�رسد �أو اخلطاب باملعنى املغربي ب�إ�سهاماتها .وال�س�ؤال الذي ي�شغلنا هو :ماذا عن �أعمال حديثة
التقليدي ،ومل يعد هناك ذلك ال�سارد الواحد العامل بكل �شيء علم اليقني، لكتّاب من ا ألجيال ال�سابقة؟ ،على �أن �صورة الرواية املغربية ا آلن لن
وتبدو وظيفة ال�شهادة ك�أنها هي املو�ضوعة �أكرث مو�ضع ال�س�ؤال ،لي�س تكتمل �إال بالنظر يف روايات الكتّاب اجلدد ،الرجال والن�ساء منهم ،وطرح
ألن بالرواية �شهادات ل�شخ�صيات عديدة فح�سب ،بل ألنه ميكن اعتبار ال�س�ؤال ا آلخر :ماذا عن �أعمال الكتّاب اجلدد الذين بد�أوا الكتابة يف
ما يقوله ال�سارد الرئي�سي نف�سه �شهادة �أي�ضا ،ال تكفي لوحدها من �أجل الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة؟وهذا ال�س�ؤال هو ما نتمنى �أن ت�سمح
بناء �صورة ما عن املو�ضوع. الظروف باال�شتغال عليه م�ستقبال حتى نقدم �صورة متكاملة تقريبية
ونقرتح التوقف قليال عند بع�ض خ�صائ�ص الرواية من ناحية بنائها عن الرواية املغربية يف حتوالتها الراهنة.
الفني ودالالته ،ومن ناحية �أ�ساليبها يف ت�شخي�ص العوامل الذهنية �أما ا آلن ،فالرواية ا ألوىل التي نقرتحها هي رواية� :أيام جبلية ال�صادرة
والنف�سية يف عالقاتها املعقدة بالعوامل االجتماعية اخلارجية. �سنة 2003للأ�ستاذ مبارك ربيع الذي لعبت رواياته على مر ّ العقود
2ــ� 1أول ما يلفت النظر يف رواية «�أيام جبلية «هو بنا ؤ�ها الفنّـي :يت�ألّـف دورا فعاال يف تطوير طرائق ال�رسد الروائي و�أ�شكاله باملغرب ،وخا�صة
الن�ص من واحد و�ستني جمزوءة مرقمة ،وتت�صدر كل جمزوءة �شذرة هي ما يتعلق بالتحليل النف�سي لل�شخ�صيات وا�ستنطاق العوامل النف�سية
يف �شكل ق�صا�صة خربية ،وتتخلل املجزوءات ن�صو�ص �أو مقاطع من و�إعادة النظر يف �أ�ساليب ال�رسد وتقنياته ،كما يف عالقة ال�سارد
ن�صو�ص غري مرقمة ،وهي عبارة عن �شهادات قدمتها بع�ض �شخ�صيات وال�شخ�صية ،بتفكيك �أحادية ال�صوت ال�رسدي ،ودفعه يف اجتاه االزدواج
الرواية ،وتنتهي الرواية بوثائق ملحقة(قرار اداري ،ر�سالة).وهكذا يبدو واالنق�سام والتعدد.
الن�ص الروائي ك�أنه ينتهك التما�سك الروائي امل�ألوف ،وي�ؤ�س�س منطقا والرواية الثانية هي رواية :دم الوعول ال�صادرة �سنة 2005للأ�ستاذ
�رسديا مغايرا ن�صطلح على ت�سميته منطق التجاور والتناظر. حممد عز الدين التازي الذي متيزت رواياته ال�سابقة والالحقة باالنتماء
أ
مل يعد الن�ص الروائي يقوم على الوحدة والتما�سك باملعنى امل�لوف، �إىل التحديث والتجريب دون �أن تكون غايته تدمري احلكاية متاما .فقد
261 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ميكن القول �إن الرواية يف النهاية قد ك�شفت النقاب عن بع�ض ما يجري، بل �إنه وحدة تت�أ�س�س على التعدد والتفكك ،وتبدو الرواية يف جمموعها
عن بع�ض املخبوء وامل�سكوت عنه ،لكنها رواية ال تدعي �أنها امتلكت ك�أنها جمع من �أ�شياء خمتلفة :ميكن لل�شذرات التي تت�صدر جمزوءات
احلقيقة كلها ،ورمبا �أن غايتها لي�س بال�رضورة هو امتالك احلقيقة، ن�صا له ا�ستقالليته الن�سبية، املحكي املركزي �أن ت�ؤلف يف جمموعها ّ
قدرما يبدو �أن من�شغلة ب�س�ؤال �آخر هو :ماذا عن احلقيقة عندما تكون وهو يتقدم يف �شكل ن�ص �إخباري �إعالمي مو�ضوعه الوحيد هو :ماذا
متمنعة م�ستحيلة؟ ماذا عن البحث والتحقيق الذي قد ينتهي �إىل الف�شل؟ وقع للقطار يف ر�أ�س اجلبل؟ ،وال نعرف ال�شيء الكثري عن �صاحب هذا
ماذا عن طرق البحث وو�سائله ومناهجه؟ �أينبغي �أن منار�س البحث الن�ص وم�صدره ،قد يكون هو ال�سارد املكلف بالبحث والتحقيق �أو
والتحقيق كما ميار�سه حممود ال�سارد الرئي�س� ،أم علينا �أن نذهب بعيدا املركز الذي كلفه بتلك املهمة� ،أو قد يكون جهة ما ،فكل �شذرة ت�أتي
يف البحث عن احلقيقة كما فعلت رفيقته حبيبة؟ م�صدرة وخمتومة باحلروف ا ألوىل �أو بحروف ترمز �إىل �صاحب الن�ص
غالبا ما تنطلق قراءاتنا ملحكيات البحث من فكرة مفادها �أن �إنتاج وم�صدره .وهناك من جهة ثانية املحكي املركزي الذي يت�ألف من
معنى يقت�ضي تفكيك لغز وحلّه ،ومن فكرة � أ ّن هناك حقيقة ما يف مكان جمزوءات مرقمة وغري خا�ضعة بال�رضورة ملنطق اخلطية والت�سل�سل
ما ،و� أ ّن بحثا ما ميكنه �أن يك�شف «احلقيقة « .لكن قليال ما نت�ساءل :ماذا والتتابع ،ومو�ضوعه �أكرث ات�ساعا وتفرعا وراهنية :ماذا يقع بر�أ�س
عن حمكيات البحث التي ال تبلغ «احلقيقة « ،وغايتها لي�ست �أن ت�صل �إىل اجلبل؟ ماذا يقع بالدرب الوراين يف ر�أ�س اجلبل؟ وما عالقة الدرب
«احلقيقة « ،بل �أن تظهر «احلقيقة «متمنعة م�ستحيلة ،فاحتة بذلك �أعني الوراين مبا يقع يف مراك�ش �أو يف �شمال املغرب؟ ،وهو حمكي يتكفل
القرّاء على احتماالت متعددة ملتب�سة حميرّ ة ،كا�شفة خمتلف ال�صعوبات ب�رسده باللغة العربية الف�صيحة �سارد م�شارك يف ا ألحداث هو حممود
واملخاطر واملزالق التي تنتظر كل باحث عن املعرفة واحلقيقة؟ (وهو نف�سه ال�شخ�صية الفاعلة املكلفة مبهمة البحث والتحقيق ،دون �أن
ا ألهم يف رواية �أيام جبلية �أنها انتهت �إىل �أن البحث عن حقيقة ما يكون ال�شخ�صية الوحيدة التي متار�س البحث والتحقيق ،فهناك رفيقته
يجري يف ر�أ�س اجلبل هو «مهمة وانتهت �أو �أو�شكت بو�صولها �إىل حبيبة ،وهناك اجلهات ا ألمنية) ،مع وجود جمزوءات قليلة تتكفل
الباب امل�سدود ...املوارب على ا أل�صح ..يكفي �أن ت�صل الباب ،حتى لو ب�رسدها �إحدى ال�شخ�صيات وباللغة العربية العامية (�شخ�صية الوادي).
كان م�سدودا ،ثمة دائما من ي�أتي ليدفع الباب ...بكيفية ما ،واملوارب وهناك من جهة ثالثة �شهادات ال�شخ�صيات التي تتقدم يف �شكل ن�صو�ص
نهاية نفق �أو ...بداية ...بل انه بداية نفق جديد مع �صعوبات جديدة»... �أو مقاطع من ن�صو�ص ،وهي غري مرقمة ،و تتخلل جمزوءات املحكي
(�ص .)336 املركزي ،وكل �شخ�صية تقدم �شهادتها بل�سانها ولهجتها ،ومو�ضوع
أ أ
2 -2املالحظ �ن رواية �يام جبلية انطلقت من �س�ؤال مو�ضوعي :ماذا يهم حدث القطار كما قد يهم ما يقع بر�أ�س اجلبل. ال�شهادة ّ
وقع �أو يقع يف ر�أ�س اجلبل؟ وانتهت ب�س�ؤال ذاتي :ماذا يربطني حقا بر�أ�س وتتقدم الرواية ،يف جمموعها ،يف �شكل حمكي بحث وحتقيق يف حدث
اجلبل(�ص .)336 القطار �أو يف ما يجري داخل جمتمع ر�أ�س اجلبل .وما ير�سمه البحث
ويك�شف ال�س�ؤاالن �أن مو�ضوع ال�رسد يف هذه الرواية مل يكن العامل والتحقيق داخل نظام املحكي هو التقدم نحو معرفة ما ،فهناك معرفة
اخلارجي املو�ضوعي فح�سب ،بل والعامل الذاتي لل�سارد و ل�شخ�صياته. ما قادمة .واجلديد هنا �أن الرواية ال تنتهي بذلك االنفتاح ال�شامل
�أي �أن الكاتب ال يكتفي مبعاينة الواقع اخلارجي املعطى ،بل مينح �رسد والكلّي الذي غالبا ما تنتهي به حمكيات البحث والتحقيق .فا ألمور
العوامل الداخلية والنف�سية مكانة هامة ،واعيا بالطابع الرتكيبي املعقد املتعلقة بحدث القطار �أو بر�أ�س اجلبل �أو بالدرب الوراين �أو ب�شمال
الذي يربط بني اخلارج والداخل ،بني الذات واملجتمع ،ويجعل كل معرفة املغرب مل تت�ضح كل الو�ضوح ،وبقيت �أ�شياء كثرية غام�ضة .وال�سارد
�أو حقيقة ذات طابع ن�سبي. الباحث املحقق وجد نف�سه �أمام جمتمع مغلق منغلق ي�صعب الو�صول
والواقع �أن ما مييز روايات مبارك ربيع هو تقنياتها ومناهجها يف �إىل كامل �أ�رساره وحقائقه .و�شهادات ال�شخ�صيات ال تقدم ال�شيء الكثري
التحليل النف�سي والتغلغل يف �أغوار النفو�س للك�شف عما يجري من �أو املهم الذي ي�ساعد على الو�صول �إىل حقيقة ما يجري يف ر�أ�س اجلبل
دقيق ا ألحا�سي�س .واخلا�صية املركزية يف روايات الكاتب هو احل�ضور �أو ما جرى للقطار يف ر�أ�س اجلبل .وحبيبة ،رفيقة ال�سارد ،التي توغلت
القوي والنوعي أل�ساليب وطرائق ت�شخي�ص العامل الذهني والنف�سي، يف البحث والتحقيق ،وا�ستعارت لها ا�سما ،وان�ضمت �إىل جمتمع الدرب
وبا ألخ�ص منها املونولوج الداخلي ،هذا الذي ي�ستثمره الكاتب يف �أيام الوراين ،وبد�أت تكت�شف حقيقة ما يجري ،فقد انتهت الرواية دون �أن
جبلية بطريقة جتعل القارئ يجد �صعوبة يف الف�صل بني املحكي بح�رص نعرف �شيئا عن م�صريها� ،إال �أن جتربتها يف البحث والتحقيق حمفوفة
املعنى واملونولوج الداخلي ،وتبدو الرواية يف �أجزاء كثرية منها ،ان مل بالكثري من املخاطر واملزالق.
يكن يف �أغلبها ،ك�أنها مونولوج داخلي متوا�صل ،فالقارئ يجد نف�سه منذ يف رواية �أيام جبلية ،يجد القارئ نف�سه �مام حكاية ال ميلك ال�سارد كل
أ
ال�سطور ا ألوىل ملجزوءة من جمزوءات الن�ص( املجزوءة � 37أو املجزوءة �أطرافها و�أ�رسارها .فاحلكاية ملغزة حمرية ،وتثري من ا أل�سئلة �أكرث مما
� 44أو املجزوءة )56داخل فكر ال�شخ�صية ،واملجرى الالمنقطع لهذا تقدم من ا ألجوبة .وكلما تقدم القارئ يف القراءة� ،إال و� أ ّ
ح�س ب�أن احلكاية
الفكر هو الذي يريه ما تفعله ال�شخ�صية وما يحدث لها ،ب�شكل يتزامن ال تتقدم ،و�أن البحث والتحقيق مل يربح مكانه ،و�أن ال�سارد مل ينجح يف
به الكالم الداخلي والفعل اخلارجي ،ما ي�ضطرب يف العامل الداخلي وما معرفة ما يجري وما يقع ،ففي ال�صفحة 245من الرواية التي تت�ألف
يجري يف العامل اخلارجي. من � 350صفحة ،جند ال�سارد املكلف بالبحث والتحقيق ي�س�أل �أكرث من
ويح�رض املونولوج الداخلي يف خمتلف �أ�شكاله و�ألوانه� ،إال �أن ال�شكل مرة« :ماذا يجري؟» ،وي�رصح ب�أنه مل يعد يعرف ،بل انه مل يكن يعرف
ا ألكرث ح�ضورا يف روايات مبارك ربيع ،ويف رواية �أيام جبلية با أل�سا�س، �شيئا �أ�صال .ورمبا �أن ما تعرفه حبيبة �أو دليلة �أكرث و�أهم مما يعرفه
هو املونولوج امل�رسود .وهو �أكرث �أ�شكال املونولوج الداخلي تعقيدا ال�سارد نف�سه.
262 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
اللغات وا أل�صوات ،بال�شكل الذي يجعله يرتجم عالقات ال�شك واالرتياب وثراء ،ألنه ي�شري �إىل انتماء الكالم �إىل املحكي كالم ال�سارد كما ي�ؤكد
التي تطبع موقف ال�شخ�صية من ذاتها كما من العامل وا آلخرين ،ويجعله على انتمائه يف الوقت ذاته �إىل االقتبا�س �أي �إىل كالم ال�شخ�صية.
يعمل على ت�شعيب احلقيقة وتن�سيبها ،فاحلقيقة ال ميلكها �صوت واحد، وميكن �أن نختزل قيمة املونولوج امل�رسود يف كونه يدفع �إىل م�ساءلة
بل ا أل�صح �أن احلقيقة ال تكون �إال بني �أ�صوات تتحاور وتتجادل. العالقة بني ال�سارد وال�شخ�صية ،واىل البحث عن �أ�شكال �رسدية تكون
� - 3أ�صدر حممد عز الدين التازي من �أوا�سط ال�سبعينات �إىل حدود قادرة على جعل ح�ضور ا آلخر ملمو�سا� ،أي تقنية قادرة على �أن متنح
�سنة 2007ت�سعة �أعمال ق�ص�صية وثمانية ع�رش عمال روائيا .وال تتميز ال�شخ�صيات املحورية وجودا م�ستقال ،لي�س من خالل ر�سائلها و�شهاداتها
�أعماله ال�رسدية ،والروائية خا�صة ،بغزارتها فح�سب ،بل وبنوعيتها، فقط ،بل و�أ�سا�سا من خالل املحكيات النف�سية واملونولوجات الداخلية،
فهي من ا ألعمال الرائدة يف التجديد والتجريب .ونقرتح التوقف قليال وخا�صة منها املونولوجات امل�رسودة التي ي�صعب فيها التمييز بني
عند �إحدى رواياته احلديثة :دم الوعول التي �صدرت �سنة 2005من اجل �صوت ال�شخ�صية و�صوت ال�سارد والف�صل بينهما.
ا�ستك�شاف بع�ض خ�صائ�صها املو�ضوعاتية واجلمالية. وال تخفى خ�صوبة هذا االجتاه الفنّي الذي يت�أ�س�س على املزج بني
� 1 -3أول هذه اخل�صائ�ص هذه املتعلقة ببناء الن�ص ال�رسدي و�شكله ا أل�صوات ،و�ضبط تقاطعها ،والتحرر من املنظور املهيمن واخلطاب
الفنّي ،فالرواية هنا ال تقوم على الوحدة والتما�سك التقليديني ،بل نحن املر ّكز ،من �أجل �إ�سماع اهتزازات و�شظايا ا أل�صوات ا ألخرى ،وبال�شكل
�أمام رواية تتوزع �إىل روايات فرعية ،وهذه الروايات املتفرعة هي التي الذي يحدث مفعوال بوليفونيا يجعل القارئ ي�سمع �أ�صداء �أ�صوات تتعدد
ت�شكل يف جمموعها الرواية. وتتنا�سل ،تتجادل وتتحاور ،تتناق�ض وتتعار�ض.
تت�ألف رواية دم الوعول من �سبعة �بواب ،مو�ضوعها واحد هو :ماذا عن
أ و�إجماال ،ي�سمح املونولوج امل�رسود باحلد ّ من �سلطة ال�سارد ب�ضمري
ا إل�شاعة التي تقول �إن رجال ي�شتغل ممر�ضا يف م�صحة عقلية ا�سمه عبد الغائب وهيمنته ،ويحوّله �إىل �سارد �أكرث قربا من ال�شخ�صية ،و�أكرث
الرحيم ا ألزرق قد حتول �إىل قزم؟ ولكن لكل باب �سارده و�شكله ال�رسدي تعاطفا معها ،وهو ما يجعل اخلطاب ي�أتي مزدوجا متداخال،
وطريقته يف معاجلة املو�ضوع وغاياته من ذلك. يجمع بني ال�سارد وال�شخ�صية يف الوقت نف�سه ،ك�أن اخلطاب ال
ي�أتي الباب ا ألول يف �شكل بحث وحتقيق ،وال�ضابط م�صطفى التواتي ميكن �أن يكون �إال ثنائيا ،ال �أحاديا ،مزدوج ال�صوت ومتعدّده.
هو املحقق وال�سارد يف هذا الباب ،وهو يجعلنا نتوقف عند مفرت�ضات ويتميّـز املونولوج امل�رسود ببنيته االنفعالية ،ولهجته احلميمية،
البحث ا ألمني البولي�سي ومقت�ضياته وغاياته وطرقه يف معاجلة ولغته امل�ضطربة املتقطع ّة ،فهو يقدم في�ضا من اال�ستفهامات
ا إل�شاعات. والتعجبات والتكرارات والبيا�ضات واالنقطاعات املفاجئة والتلميحات
وي�أتي الباب الثاين يف �شكل الروبورتاج التلفزيزين الذي يحاول مقدم واال�ضمارات ...وهو بهذا ي�سمح ب�إبراز النف�س امل�ضطربة والفكر املبلبل
الربنامج التلفزيوين عبا�س املرادي اجنازه حول عبد الرحيم ا ألزرق وال�رشخ الداخلي.
الذي ي�شاع �أنه حتول �إىل قزم .وبطبيعة احلال ،ومفرت�ضات ومقت�ضيات من الوا�ضح �أن قوة الكتابة الروائية يف �أيام جبلية تعود �إىل هذه القوة
التحقيق ا إلعالمي التلفزيوين غريها يف حتقيقات و�أبحاث اجلهات الداللية التي جاءت نتيجة التن�ضيد التلفظي وتهجني اخلطاب وجتاور
ا ألمنية. �أو تداخل م�ستويات تلفظية متعددة ،بع�ضها يتعلق بال�سارد وبع�ضها
�أما الباب الثالث فهو كما جاء يف الكلمات التي ت�صدرته عبارة عن ا آلخر ب�شخ�صية من ال�شخ�صيات ،واحلدود التي تف�صل بني ا ألجواء
رواية لكل من مرمي طليقة عبد الرحيم وولديه عبد الغني وبديعة ،وهو التلفظية لل�سارد وا ألجواء التلفظية لل�شخ�صيات تكاد تنمحي بوا�سطة
ما يعني عمليا رواية تتفرع �إىل ثالث روايات ،الواحدة بل�سان الطليقة �أ�شكال لفظية تت�صف باالزدواجية� ،أهمها املونولوج امل�رسود الذي
والثانية بل�سان الولد والثالثة بل�سان البنت ،وما يجمعها هو املو�ضوع: ميزج بني �أ�صوات متعددة ،وين�سج مفعوال بوليفونيا يجعل القارئ �أمام
عبد الرحيم ا ألزرق ،ا ألب والزوج �سابقا ،وهي جمموعها رواية «تف�ضح ن�ص روائي يتحرر من �صوت ال�سارد املهيمن وخطابه املركز من �أجل
الكثري من �أ�رسار العائلة «(�ص .)47 �إ�سماع �أ�صوات متعددة وقد تكون متعار�ضة.
وي�شمل الباب الرابع روايتني �إ�ضافيتني لكل من ال�ضابط م�صطفى و�إجماال ،ينبغي �أن ن�سجل ب�أن �أيام جبلية هي ،يف جمموعها ،رواية
التواتي ومقدم الربنامج التلفزيوين عبا�س املرادي� .أما الباب اخلام�س توظف �أ�شكاال �رسدية متعددة :املحكي الوقائعي اخلارجي ،املحكي
فهو الذي يحكي فيه عبد الرحيم ا ألزرق حكايته بل�سانه .يف حني يدور النف�سي مبختلف �ألوانه ،املونولوج الداخلي مبختلف �أ�شكاله ،ر�سائل
البابان ال�ساد�س وال�سابع حول احلياة يف امل�صحة العقلية التي ي�شتغل ال�شخ�صيات و�شهاداتها ..بطريقة �سمحت بالتقليل من �سيطرة ال�سارد،
فيها عبد الرحيم ممر�ضا. وف�سح املجال �أمام ال�شخ�صيات لتحتل مقدمة امل�شهد ال�رسدي وحت ّل
وهكذا ،فمو�ضوع الرواية يف جمموعها واحد :ا إل�شاعة املتداولة حول حم ّل ال�سارد ،وهو ما قد ي�سمح ب�إحداث �رشخ يف �صلب �أحادية ال�سارد
عبد الرحيم ا ألزرق� ،إال �أن الن�ص الروائي ال يت�ألف من رواية واحدة حول التقليدي ووحدانيته.
املو�ضوع ،بل يقدم جمموعة من الروايات حول املو�ضوع الواحد(الرواية يف رواية �أيام جبلية ،جند حمكيات ب�ضمري املتكلم وحمكيات ب�ضمري
ا ألمنية ،الرواية ا إلعالمية ،الرواية العائلية ،الرواية ال�شخ�صية .)...وبهذا الغائب ،جند حمكيات وقائعية خارجية وحمكيات نف�سية داخلية،
ال�شكل الفني يتفكك الن�ص الروائي ويتعدد ،ويتفكك ال�سارد ويتعدد، ويح�صل التناوب �أو التداخل بني املحكي واملونولوج ،بني �صوت ال�سارد
وتخ�ضع املعرفة واحلقيقة آلليتي التذويت والتن�سيب. و�صوت ال�شخ�صية ،بني خطاب ال�سارد و�شهادات ور�سائل ال�شخ�صيات،
لقد امنحى ال�سارد الواحد العامل بكل �شيء ب�أق�صى درجة ممكنة تاركا بني ال�رسد ال�شفوي ال�شعبي وبني ال�رسد العربي الف�صيح ،ويح�رض ال�شعر
املكان لوعي ال�شخ�صية املك�شوف ،فلم تعد ال�شخ�صية ت�ؤدي وظيفة والزجل ،بال�شكل الذي يجعل هذا التناوب �أو التداخل يولّـد حمكيا متعدد
263 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
واملعرفية والتداولية. «الفعل «فح�سب ،بل �إنها ت�أخذ مبادرة الكالم واحلكي مربزة موقفها
وبالرغم من � أ ّن الكاتبني ينتميان �إىل جيلني خمتلفني ،وميار�سان ودوافعها و�شكوكها و�أ�سئلتها ،تعالج املو�ضوع من زاوية نظرها وتبعا
الكتابة منذ عقود ،وبالرغم من وجود خ�صائ�ص متيّز جتربة كل واحد لدوافعها و�أهدافها.
منهما ،فان املالحظ �أن روايتيهما اللتني �أ�صدراهما يف بداية ا أللفية 2 -3يف البداية ،يبدو �أن كل �شيء ي�شتغل على �أ�سا�س �إ�شاعة البد من
اجلديدة ت�شرتكان يف خ�صائ�ص نراها هامة .فهما معا ت�شتغالن على تو�ضيحها وتف�سريها .وانخرطت �شخ�صيات عديدة يف م�رشوع كبري
البناء الفني للعمل الروائي ،وت�ستدعيان البنيات اللعبية االنتهاكية، للتف�سري والتو�ضيح ،متار�س البحث والتحقيق ،االفرتا�ض والتحليل،
وتوظفان �أ�شكاال و�أ�ساليب جديدة يف احلكي وال�رسد والتخييل ،وتعمالن، التفكيك و�إعادة البناء ،رواية ا أل�شياء من زاوية نظر معينة .وكلما تقدم
�إىل هذا احلدّ �أو ذاك ،على تفجري الن�ص الروائي مبعناه التقليدي ،ب�شكل املحكي كان االنطباع ب�أننا نتقدم نحو معرفة ما� .إال �أنه يف النهاية،
يبدو معه ك�أن هناك قواعد جديدة للكتابة وميثاقا للقراءة جديد. مت ح�سمه ،وال نعرف هل ا إل�شاعة �صحيحة �أم يبدو ك�أن ال�شيء قد ّ
وفوق ذلك ،فقد اختارت الروايتان ،كل واحدة بطريقتها� ،شكال �رسديا خمتلقة ،والندري يف النهاية �أيتعلق ا ألمر بحكاية واقعية �أم بحكاية
حمددا هو �شكل حمكيات البحث والتحقيق .وهذا ما ي�شري �إىل �أن الرواية خمتلقة ،وي�صعب احل�سم ما �إذا ا ألمر يجري داخل امل�صحة العقلية �أم
املغربية ا آلن تريد �أن تعرف ،تريد �أن ت�ؤ�س�س معرفة حول ا إلن�سان خارجها ،وما �إذا كانت ال�شخ�صيات والرواة من عقالء النا�س �أم من
وجمتمعه وتاريخه وم�صريه� ،أو �أنها با أل�سا�س تريدنا �أن نفكر يف �سبل جمانينهم ،وما �إذا كانت احلكاية يف جمموعها حقيقية وواقعية �أم �أنها
ت�أ�سي�س معرفة بذواتنا و�أو�ساطنا وعواملنا وم�صائرنا. مفتعلة متخيلة وجهها اال�ستعاري والرمزي هو ا ألكرث �أهمية؟
والالفت للنظر �أن كل رواية من الروايتني ال تدعي �أنها متتلك املعرفة لي�ست الـكـتـابـة الــروائــية عند حممد عز الدين التازي جمرّد
الكاملة �أو احلقيقة املطلقة حول ا إلن�سان �أو املجتمع �أو التاريخ .وهذا �إبالغ حقيقة ما �أو نقل الواقع املعطى كما هو ،قدر ما هي م�ساءلة
بال�شك حتول جديد يف الرواية املغربية ،فا ألدب الروائي مل يعد يعمل «احلقيقة» والنظر �إىل ماوراء الواقع املعطى ،ب�شكل يجعل من
ل�صالح �إيديولوجية معينة ،ومل تعد الرواية تدافع عن دعوى �أو �أطروحة، الـتـخـيـيـل مــر�آة نـقـديــة ملا يقدّم عـلـى �أنه «احلقيقة» يف
بل �إن الرواية ا آلن تركب ال�شك ،وتقول االحتمال واالفرتا�ض ،ومتار�س عامل من التوافقات واال�صطالحات .فبوا�سطة الكتابة الروائية
اللعب وال�سخرية ،وتبدو ك�أنها ت�سبح يف الاليقني. ميكن اختبار العقل وال�ش ّك يف عقائده وال�سخرية من م�سكوكاته و
ويجد هذا التحول تف�سريه يف ظل التحوالت الكربى التي يعرفها جمتمعنا يقينياته ،وا إلن�صات �إىل خطاب اجلنون ،وممار�سة اللعب ،والدخول
والعامل من حوله� .شيء ما بد� أ ينك�رس منذ �أوا�سط ال�سبعينات �أو �أواخرها، �إىل عامل االحتماالت واالفرتا�ضات ،والنظر �إىل «احلقيقة» على
وتفجر يف الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة� .ست�صاب االيدولوجيا �أنه م�شكوك يف �أمرها ،و�أن كل �شيء ي�سبح يف ف�ضاء الاليقني.
ّ
وبعبارة �أخرى ،فالرواية يف جمموعها تقع بني الإ�شاعة واحلقيقة،
كما �ست�صاب ا ألن�ساق الفكرية والت�شييدات النظرية الكربى .و�أ�ضحت
هناك �أزمة عامة تعرفها خطابات اليقني ،وهناك عجز يف �صناعة بني الوهم واحلقيقة ،بني الواقع واالفرتا�ض .ويبدو ك�أن ا ألهم لي�س هو
البحث يف �صحة ما ي�شاع ،بل البحث يف �أبعاده اال�ستعارية والرمزية،
ا ألمل واليوتوبيا ،وهناك �أزمة تعي�شها املثل ال�سيا�سية .ولن تكون هذه
وك�شف الوجه ا آلخر ،امل�أ�ساوي ،ل إلن�سان واملجتمع ،يف زمن �شاعت فيه
التحوالت دون ت�أثري على ا ألدب ،والروائي منه با ألخ�ص.
مت�س جوهر ا إلن�سان� :إن�سانيته .فبرتكيزها
التحوالت وامل�سوخات التي ّ
يف الروايتني معا ،يبدو ا ألمر ك�أن املعرفة معرفة ما يجري وما يقع يف
على حتول ا إلن�سان �إىل كائن قزمي ،تطرح الرواية م�س�ألة الهوية ،فهناك
املجتمع �أمر غري قابل ل إلدراك ،ومل يعد ال�سارد ميتلك تلك ال�سلطة التي
عالقة وثيقة بني امل�سخ والهوية ،ذلك ألن امل�سخ ي�ؤلف �شكل �إدراك
ت�سمح له بت�أليف حقيقة العامل ،فالعامل �أ�ضحى �أكرث متنّـعا وانغالقا ومتثّل للقدر ال�شخ�صي ل إلن�سان يف �أكرث اللحظات ت�أزما من حياته
وا�ستحالة ،ما يقع فيه هو �أ�شبه بالغرائب والعجائب� ،أ�شبه ب�شيء غري وحياة جمتمعه.
واقعي ،م�ستحيل احلدوث ،و�أقرب �إىل اجلنون .وا ألدب الروائي يكت�سحه التنتمي روايات حممد عز الدين التازي �إىل هذه الن�صو�ص الروائية التي
ال�ش ّك وال�سخرية والاليقني ،يحاول �أن ي�ستعيد مكانته داخل العوامل تكتفي بت�سجيل الواقع ون�سخه ،بل تنتمي �إىل هذا النوع ا آلخر من ا ألدب
ا ألدبية والثقافية واملرجعية ،بنوع جديد من االلتزام ،لكن بعيدا عن ال�رسدي الذي يعترب فرانز كافكا من كتّابه الكبار يف الع�رص احلديث،
ا إليديولوجيات االحتوائية القاهرة واملحاوالت املثالية احلاملة التي وهو النوع الذي يعمد �إىل كتابة ما يف ذواتنا ووجودنا وعواملنا
هيمنت على ا ألدب يف عقود �سابقة .وروايات عديدة �صدرت يف ال�سنوات النف�سية واالجتماعية من غرابة مقلقة ،وذلك با�ستخدام الفانطا�ستيك
ا ألخرية لكتّاب من �أجيال خمتلفة� ،سابقة والحقة ،تنحو هذا املنحى واالنفتاح على الالواقعي واملتخيل وا ألحالم واال�ستيهامات وتوظيف
اجلديد� ،أذكر منها رواية املخدوعون ألحمد املديني ،وخطبة الوداع اال�ستعارة والرتميز ولعبة املرايا واملحاكاة ال�ساخرة وتعدد ا أل�صوات
لعبد احلي مودن ،ومدارج الهبوط جللول القا�سمي ،وعندما يبكي الرجال واملنظورات ال�رسدية...
لوفاء مليح...
يف روايات حممد عز الدين التازي ،ال�شك نكون �أمام كتابة تقول واقعنا
وزماننا وم�صرينا ،ولكن بطريقة الواقعية المعقولة ت�أكيدا على غرابة
�إحاالت:
مبارك ربيع� :أيام جبلية ،مطبعة النجاح اجلديدة ،الدار البي�ضاء ،املغرب، عما هو م�ألوف و�إن�ساين.
الواقع املرعبة املقلقة املتحولة ّ
.2003 جيال أ
ل ا من مغربيني لكاتبني الروائيني -4انطالقا من هذين العملني
حممد عز الدين التازي :دم الوعول ،من�شورات �سليكي �إخوان ،طنجة، القول ميكن والكتابة، نتاج ل
إ ا يف هامة جتربة ال�سابقة ،راكم كل منهما
�إن الرواية باملغرب ت�سري نحو خلق توازن بني خمتلف وظائفها اجلمالية املغرب.2005 ،
264 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
علوية �صبح
فـي «ا�سمه الغرام»
مفيـــد جنــــم
كاتب من �سورية
والقدرة على التعرف �إىل ال�شخ�صيات التي تكتب عن حتاول علوية ال�صبح يف روايتها اجلديدة «ا�سمه الغرام»
حيواتها وا إلجابة عن كل ا أل�سئلة املحرية حول اختفاء �أن تقيم ات�صالها بني روايتها اجلديدة وروايتيها
نهال و�أ�سبابه وقدرة الكتابة على اال�ستهداء �إىل احلياة ال�سابقتني على �أكرث من �صعيد �سواء على م�ستوى لعبة
التي عا�شتها. ال�رسد التي تفتتح بها روايتها حول اختفاء بطلة الرواية
ولكن �إذا كانت متعة احلكي هي التي قادت نهال يف نهال وظهورها املفاجئ ثم اختفائها والبحث عنها� ،أو
عامل الكالم ل�رسد حكاية غرامها ل�صديقتها �سعاد، من حيث ا إل�شارات التي ترد على ل�سان الراوية �إىل تلك
ف�إن الكتابة التي تبقى حمكومة بقوانينها الداخلية الروايتني و�شخ�صيات �أبطالها �ضمن تلك اللعبة التي
تظل ناق�صة عن متثل جميع جوانب حياة �شخ�صياتها تتعدد فيها �شخ�صيات الرواة يف حني تكون الكتابة
والتعرف عليها كاملة كما تقول نهال للكاتبة �أثناء و�سيلة ملقاومة املوت والن�سيان ما يجعل ال�رسد هنا
حوارهما املتخيل حول كتابة ق�صة حياتها حيث ترى مبثابة ذاكرة للحياة التي تعي�شها البطلة ومعها جمموعة
يف الكتابة عنها و�سيلة للتعرف على تلك احلياة التي من الن�ساء اللواتي ينتمني �إىل الطبقة املثقفة من املجتمع
عا�شتها من جديد �أي�ضا( �سمعت �صوتها ال�ساخر يقول ويع�شن �أ�شكاال خمتلفة من العالقة مع �أج�سادهن و�ضمنا
يل :مني قلّك حتى لو عرفتيني وقت طويل حتعرفيني مع ا آلخر /الرجل والغرام تعك�س ر�ؤى ومواقف متباينة.
بالكامل لتكتبي عني .قومي اكتبي و�إنت وعم تكتبي رح ولعل عنوان الرواية مبا يحمله من دالالت تف�صح عن
ت�صريي ت�ستهدي وميكن بت�صريي تعرفيني وما تن�سي تلك العالقة من احلب التي تعي�شها املر�أة يف عالقتها مع
�إنه الكتابة داميا ناق�صة)�ص .6وعلى الرغم مما تعانيه الرجل ي�شكل مفتاحا للدخول �إىل عامل الرواية الذي تنفرد
الكتابة من نق�صان ف�إنها متثل للكاتبة ولبطلة الرواية فيه املر�أة ببطولتها ومو�ضوعها يف حماولة ال�ستبطان
نهال حاجة وجودية تقاوم فيها موتها وتنقذ م�صريها ذلك العامل الرثي من الداخل والك�شف عن ت�أثري عالقات
من الن�سيان. الواقع االجتماعي عليه ،وكيفية انخراط املر�أة فيه
والتعامل معه ما يجعل اجل�سد هو بطل الرواية احلقيقي املر� أة واجل�سد
يف جتلياته وتعبرياته وا�شرتاطاته وحتوالته وغرامه.
ا�سماء وحيوات كثرية ألكرث من ت�سع ن�ساء تتداخل م�صائرهن
و�أقدارهن وحيواتهن التي ت�ضيء جوانب خمتلفة من عامل بني الكتابة واحلكي
الن�ساء اخلا�ص ومن عالقتهن املتباينة يف معانيها ي�شكل عنوان الرواية الذي يت�ألف من جملة ا�سمية حذف
و�أ�شكالها مع �أج�سادهن ،حيث ترتبط حيوات تلك ال�شخ�صيات مبتد�أها عالمة دالة فهو يختزل على م�ستوى بنيته
ويف مقدمتها �شخ�صية بطلة الرواية باجل�سد بو�صفه الف�ضاء الداللية حمتوى الرواية امل�شغولة مبقاربة تلك العالقة
ا ألنثوي اخلا�ص الذي تنفتح عليه تلك احليوات منذ بداية اخلا�صة التي تربط املر�أة مع ج�سدها منذ طفولتها
ظهور عالمات ا ألنوثة فيه مرورا بتفتحه ومنوه حتى اكتمال وحتى تفتحها ا ألنثوي و�شعورها باالجنذاب العاطفي
�شكله ا ألنثوي ،حيث تتخذ تلك العالقة املحكومة مبحددات نحو الرجل والذي ا�سمه الغرام كما ت�سميه بطلة الرواية
اجتماعية وثقافية ووعي ذاتي �أ�شكاال ً متعددة من احلب يف و�صفها للحالة التي تعي�شها �صديقتها جتاه الرجل.
وال�شعور بغناه وجماله �إىل كره والنفور منه ب�سبب ال�سيما لكن الرواية تطرح منذ البداية ق�ضايا �أخرى تت�صل
من قبل الن�ساء التقليديات( حتِّريين عالقة البنات ب�أج�سادهن. مبو�ضوع الكتابة واحلكي والكتابة واملوت والكتابة
265 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ل�صديقتها �سعاد التي تعاين من م�شاكل كثرية مع زوجها الذي �أرى كيف يتعاملن معها ،مرة ك�أنها �أكفان ،ومرات ك�أنها
تزوجت منه من غري حب( ويل هيدا جوزك بعد بدو ي�سكرلك �أ�شياء ال تخ�صهن ،تفر�ض عليهن فر�ضا منذ الوالدة .يخفن
�رشايني قلبك .م�ش عم مبزح قومي روحي حبي احلب بيفتح منها يف ا أليام العادية ويكرهنا وينفرن منها �أثناء العادة
�رشايني القلب ولك يا �أختي �إذا ع�شقت مرة بال�شهر بت�صريي ال�شهرية .ت�صفها عمتي رقية بـ«عادة ال�ش�ؤم والبالوي
مثل احل�صان �إنت بتعريف �إنه الن�سوان ما ما بيختربوا �إال ملن وامل�صايب» وتنعتها �أمي بالنجا�سة) �ص .88لكن بطلة
قلنب ما بعود يح�س وما بعودوا يحبوا وال بيعملوا عالقة). الرواية تظل �أكرث ال�شخ�صيات ا ألنثوية يف الرواية حبا فائقا
ي�أخذ الغرام يف هذه العالقة مع تقدم العمر معاين جديدة جل�سدها و�شعورا بقيمته ومواطنه اجلميلة نظرا لكونه جزءا
عند املر�أة يعك�س �شعورها بالن�ضوج والتعقل الذي ي�صاحبه من حياتها التي حتبها �أي�ضا ،ما يدفعها ملنحه اهتمامها
حتول يف عالقتها به جتعل اجل�سد الذي م�سكونا باجلموح الدائم والت�صالح معه حتى يف احلاالت التي تندفع فيها
واجلنون يتخلى عن ت�سيده ووحدانيته كقطب تدور حوله وراء غريزتها( ج�سمي الذي �أحبه حبا هائال حبي حلياتي.
حياتها كلها ا ألمر الذي يجعل هذا الغرام يتخذ معنى ا ألن�س علي وعلى هاين حتى حني أ أ
كنت �ح�سب �نه نظيف وكرمي ّ
الرقيق كما ت�سميه نهال ل�صديقتها �سعاد( �إنه ا ألن�س يا �سعاد �أقمت عالقات عابرة مل �أ�شعر �أين امتهنته) �ص .26لذلك فهي
ا ألن�س الرقيق يف الغرام ملا نتقدم يف العمر الذي يجعلك تتجاوز امل�شاكل التي تعاين منها املر�أة بعد دخولها �سن
ت�شفني ويفتح عينيك على دنيا اجل�سد ملا نتقدم يف العمر) الي�أ�س حيث تندفع وراء غرامها بعد جتدد عالقتها مع حبيب
�ص .285وعلى خالف نهال يبدو �شقيقها الذي ميار�س عليها عمرها هاين بل هي ت�شعر بال�سعادة بالعمر الذي بلغته كما
�سلطته وقمعه منخرطا يف البحث عن لذته بحرية تامة حتى كانت �سعيدة به فيما م�ضى .وال تختلف �صديقتها عزيزة يف
يف �أو�ساط الن�ساء املوم�سات ما يف�ضح واقع احلال الذي موقفها من العالقة مع اجل�سد عنها �إذ هي تربط بني معنى
يحكم عالقات هذا الواقع الذكوري وقيمه االجتماعية التي حياة املر�أة واالعرتاف بج�سدها وحمبته والعناية به ،يف
جتعل الرجل رغم انتمائه ال�سيا�سي الذي يفرت�ض وجود وعي حني تتخذ العالقة مع اجل�سد عند �شخ�صيات �أخرى �أ�شكاال
مبعنى احلرية وامل�ساواة يفعل ما يريد يف الوقت الذي ميار�س خمتلفة �إما بفعل طبيعة ال�شخ�صية الباحثة عن اللذة واملال
رقابته وظلمه على �شقيقته بو�صفه حار�س القيم وا ألخالق. ك�شخ�صية( منى) �أو اخليبة يف العالقة مع الرجل مثال عزيزة
وتلعب املر� آة يف حياة نهال املغرومة بج�سدها دورا مهما �أو النزوع املثلي عند نادين وثريا.
على �صعيد تلك العالقة اجلدلية ودالالتها املرتبطة بعالقة يحول اختالف الدين بني زواج نهال من هاين لكن ذلك ال ينق�ص
هاين املغروم به حتى �أنه ال يرى يف تلك العالقة احلميمة من م�شاعر الغرام حتى بعد �أن يتزوج كل منهما �إذ جند نهال
�سواه ما يزيد يف �شدة �إعجابها واعنزازها به وتبجيله وهي على م�ستوى العالقة اجل�سدية مع زوجها تعي�ش انف�صاما
التي تعي�ش ا�صال عالقتها ا إليجابية جدا معه. ك�أن ج�سدها معه هو المر�أة �أخرى على خالف عالقته مع
يتميز الزمان يف الرواية بحركته احللزونية التي ت�سمح هاين الذي ميثل غرام حياتها( مل �أ�شعر ب�أين �أعطيه ج�سدي� ،أو
للكاتبة باحلركة واالنتقال بني �أزمنة خمتلفة .وبغية �أنه ي�أخذ منه �شيئا .كنت �أ�شعر ب�أنه يعرِّفني �إليه ،كما �أعرّفه
ا إلقناع بواقعية �أحداثها ت�ستخدم يف كثري من موا�ضع ال�رسد �إىل ج�سده) �ص .150ولعل هذا امل�ستوى من العالقة املميزة
التحديدات الزمنية مثل حرب متوز وربيع �سنة 2005كما بني نهال وج�سدها وبني ج�سدها وحالة الغرام التي تعي�شها
ت�ستخدم �أ�سماء �أمكنة واقعية يف بريوت واجلنوب .تعاين لغة هي ما ت�شكل حمر�ضا ج�سديا للراوية يدفعه للتمرد عليها
الرواية من م�شكلة حقيقية فهذه اللغة التي تتوزع بني اللغة عندما ت�أخذ نهال باحلديث �إليها عن الغرام.
املحكية يف حوار �شخ�صياتها واللغة الف�صحي امل�ستخدمة يف
اجل�سد املغروم
ال�رسد احلكائي كانت حتتاج �إىل تدقيق ومراجعة ب�سبب كرثة
ا ألخطاء اللغوية والنحوية التي وقعت فيها والتي �أ�ساءت �إىل يعي�ش اجل�سد ا ألنثوي عند نهال �أجمل حلظات تدفقه وتوهجه
جماليات تلك اللغة التي رمبا كان من �أ�سباب عرثاتها يف وجنونه و�صدقه وكرمه يف حالة الغرام التي ال ميكن ف�صله
هذه الرواية رغبة الكاتبة يف تف�صيح اللغة العامية بهدف عنها ك�أن هذا الغرام قدره ومفتاح �أ�رساره وجماله ومعنى
جعل الرواية مقروءة من فئات اجتماعية خمتلفة� ،إال �أن ذلك وجوده لذلك فهي تهبه حياتها وجتعله معنى وجودها،
ال يربر تلك ا ألخطاء املتكررة خا�صة و�أن هذه الرواية هي بل هي حتث �صديقاتها عليه بو�صفه �شفاء للروح واجل�سد
جتربتها الرابعة يف الكتابة الروائية. وم�صدرا لل�شعور باحليوية والطاقة وال�سعادة كما تقول عزيزة
266 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يو�سف القعيد
فـي «ق�سمة الغرماء»
أ�مـــاين فــــ�ؤاد
كاتبة واكادميية من م�رص
و�أت�صور �أن النهاية التي ارت�ضاها الروائي لعمله ك�أنها يواجه الروائي «يو�سف القعيد» يف عمله ا ألخري «ق�سمة
للزمات حقنة بها مادة ملوثة ،لعالقة جن�سية مرخية أ الغرماء» م�أ�ساة واقع املجتمع امل�رصي الراهن الذي
التي يعي�شها ال�شخو�ص الرئي�سية بالرواية� ،إنه نوع من يطبق بخناقة على كل امل�رصيني ،وتنتهك �أظافره احلادة
اال�سرتخاء قبل االنفجارات التي يتنب�أ بها الروائي للمجتمع ال�شخ�صية امل�رصية وت�سفك دماءها ،يف انحدار لكثري من
يف حالته الراهنة. قيم العدل والت�سامح واملحبة.
ولقد �سيطرت على هذه الرواية بنية الت�شتت واالنف�صال يناو�ش الكاتب امل�سكوت عنه ،ويفجر عن طريق ال�رسد
والفرقة لتعرب عن ا ألو�ضاع املرتدية التي � آل �إليها حال خمزوناً تاريخياً من القهر والكبت ومعاناة الف�ساد ،ير�صد
املجتمع امل�رصي ،ولذا وظف الروائي �أدواته اجلمالية التوج�س واخلوف واحلرمان الذي يرقد يف قلب الذات
والفنية بداخل التكنيك ال�رسدي لتج�سد هذه احلالة امل�رصية امل�سلمة وامل�سيحية ،كما ي�صور العداء واالنف�صال
من الت�شظي واالنف�صال والفرقة الكائنة بني عنا�رص الذي بات يحكم العالقة بينهما بعد التغريات والتحوالت
امل�رصيني. التي حدثت باملجتمع ،منذ ارتفاع نربة اخلطاب التحري�ضي
تخري الروائي �أن يكون ال�رسد على ل�سان �أ�صوات متعددة الذي متار�سه اجلماعات امل�سلمة املت�شددة �ضد امل�سيحيني،
متداخلة ،وم َّكن كل �صوت من �أن يعر�ض واقعه ور ؤ�يته ومنذ الت�صحر والبداوة وا إلفراغ املتعمد الذي مور�س على
للمور واحلقائق اجلارية بحياتهم ،و�أحب �أن �أ�شري �إىل �أنه أ كيان ا إلن�سان امل�رصي بعد ثورة يوليو 1952م.
دائماً ما تزداد فكرة امل�س�ؤولية املجتمعية عمقاً فنياً ،وثقالً وي�شري الكاتب يف هذه الرواية �إىل مفارقة �شديدة ال�سخرية
يف وعي املبدع� ،إذا ما اقرتنت ب�أداته اجلمالية. واملرارة متار�س تعرية كل القيود والعراقيل واملعوقات،
ولقد عربت ا أل�صوات عن وجهات نظر �أ�صحابها جتاه التي تر�سبت طبقة فوق �أخرى ،حتى �أقامت �سدا ً بني
ق�ضايا املجتمع ،يف �صورة حتمل قدرة الروائي ،وجهاده عن�رصي تكوين هذا املجتمع :امل�سيحيني وامل�سلمني،
املخل�ص؛ ليعرب عن كل طرف من طريف ال�رصاع الرئي�سي ويلوح ب�أنه حتت الطبيعة الف�سيولوجية وال�سيكولوجية
بهذه الرواية ،امل�رصي امل�سيحي ،وامل�رصي امل�سلم ،كل للنوع الب�رشي الواحد ،وا أل�صل ا إلن�ساين املتوحد بغرائزه
منهما بتحوالته التي طر�أت مبجتمعه ،وجعلتهم جميعاً وحاجاته ،قبل ا ألديان والت�صنيفات وا ألعراف والتقاليد،
�شخو�صاً متطورة على م�ستوى فنية الرواية ،هي �شخو�ص تنهار كل هذه ال�سدود املجتمعية العامة ،واملحاذير الذاتية
متطورة لي�س بذواتها وقدرتها على الفعل وت�سيري ا ألمور اخلا�صة ،ويبقى ا إلن�سان يف عوز �إىل ا إلن�سان رجالً كان
وفق ر ؤ�يتها ،لكن ب�سريها بقوة دفع خارجية ،ت�سيطر على �أو امر�أة ،م�سيحياً �أو م�سلماً� ،صغريا ً �أو كبرياً� .ش َّكل الروائي
املجتمع من عنا�رص لها قدرة الت�أثري يف ا آلخرين ،بثقل ذلك من خالل عالقة ج�سدية خارجة على كل ا ألعراف
�أماكنهم ال�سلطوية� ،أو قدراتهم االقت�صادية� ،أو قدراتهم التي جهدت ا ألديان والتقاليد يف و�ضعها ،عالقة هروب
على �إلغاء العقول ،حتت تعامل قا�رص وبدائي مع مفهوم �إىل اجلن�س �أنهى بها الكاتب عمله ،يف �رصخة منذرة ت�شهد
ا ألديان. الوقوع يف هاوية اجلن�س الفو�ضوي ،الذي تنهدم فيه كل
وللروائي «يو�سف القعيد» عبقرية الك�شف واملواجهة، �أ�شكال التوافق واالت�ساق واملالءمة بني طرفيه ،وتبقى به
له قدرته على اجلهر بالر�أي والدفاع عنه واال�ستم�ساك فقط حماولة هزمية الفقر والو�ضع االقت�صادي املرتدي
باملواقف ،قدرته على تعرية امل�سكوت عنه و�شجاعة طرح ب�شكل مز ٍر ،هزمية امل�صائب والعوز وا ألحزان واحلاجات
احلقائق. الب�رشية التي ال �سبيل لتحقيقها يف �صورها الطبيعية.
267 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
تر�صد التناق�ضات بني حياته التي يعي�شها كالطريد وبني كل ودعنا ا آلن من بع�ض امل�شكالت الفنية العار�ضة التي �شابت
املظاهر االجتماعية املطرفة حوله يقول عنه �إكرامي« :مل �أفقية ال�رسد ،والتي �س�أ�شري �إليها يف حينها �إال �أن للروائي
ي�ستطع ماجد �إخفاء ده�شته .بلع ريقه �أكرث من مرة .وجعل قدرة �صياغة مناذج ب�رشية ذات امتدادات و�أعماق تاريخية
التحديق عينه �أكرب ما يف وجهه .و�أذناه طالتا .كان يقاوم ونف�سية على درجة كبرية من الن�ضج الفني ،ولقد وظف
االهتمام ،ولكنه مل يقدر «(�ص ،)33وتقول مهرة عن ماجد: الكاتب ال�رسد اخلا�ص بكل منوذج ب�رشي ليكر�س وي�ؤكد على
يف� .أدرك عمق النظرات «تركز كيانه يف عينني حتدقان َّ هذه االنف�صالية التي باتت �سمة لواقع احلياة باملجتمع
هروباً من اللحظة املفاجئة»(�ص ،)234نلمح هنا التطلع امل�رصي.
ور�صد املتناق�ضات وحماولة الهروب �إىل اللذة احل�سية. ال�شخو�ص وتنوع ال�سرد
كما ي�ضيق ماجد با ألبواب وت�شكل له قلقاً من نوع خا�ص،
و�أت�صور يف ذلك داللة على عدم ثقته يف املجهول و�شعور عدّ يو�سف القعيد �شخ�صية ماجد بطالً رئي�سياً للعمل الرئي�سي
باخلوف يتملكه من كل ما ميثل نوعاً من الغمو�ض ،يقول بالرغم من �أنه �شخ�صية مفعول بها ولي�ست فاعالً ،و�أت�صور
ماجد...»:ماذا جرى للنا�س ؟! يف البلد التي جئت منه ،تظل �أنه قد وفق يف هذا االختيار:
�أبواب ال�شقق مفتوحة طوال النهار وجزءا ً من الليل �صحيح �أن �أوالً :ألنه ميثل امل�ستقبل ،الذي ي�ضع عليه الروائي عينيه؛
�أمي تقول دائماً �إن الباب املغلق يرد القدر امل�ستعجل ،ولكن لريى من خالله املجتمع وكيف ميكن �أن تتطور ا ألو�ضاع به،
مل يعي�ش النا�س وراء كل هذه ا ألبواب املغلقة ؟» (�ص،)39 فمن خالله ي�صوغ نظرة ا�ست�رشافية م�ستقبلية.
وتتعدد ا إل�شارة يف الرواية عن �ضيقه با ألبواب يف موا�ضع ثانياً -:ألنه الطرف الذي يقع عليه �أعباء وتبعات �أخطاء
متعددة منها بيت �إكرامي ومهرة. كثرية حدثت بهذا املجتمع ،كما مثل جوهر ال�رصاع بهذا
ومن املفرت�ض �أن «ماجد» �أحد العنا�رص ال�شابة اجلادة العمل .امل�سيحي ال�شاب الذي �أحاطته ال�ضغوط املجتمعية
املتفوقة ،وبالرغم من ذلك ميار�س املجتمع طرده له ،فهو والنف�سية من كل اجلوانب.
�شاب متفوق يف كلية الهند�سة ،ميكن �أن ينبئ مب�ستقبل المع فحني يجتمع لل�شخ�صية �إنتما ؤ�ها ألقلية مهم�شة ،والفقر
وبرغم هذا يعي�ش كالطريد املراقب الذي يبقى منتهى �أمله والعوز واجلوع ،وي�سيطر ال�ضياع نتيجة تخلي ا ألب «عبود»
الهجرة من هذا املجتمع ل�شعوره ب�أنه كيان م�ضطهد ،ميار�س عنه وعن �أمه «مرام» وهجرته �إىل اخلارج دون �أن يعرف
�ضده النفور واال�ستعالء عليه. �شيئاً عنه ،حني يفتقد كل ما ميثله الوطن والبيت من الدفء
ويبربع الروائي يف ت�شكيل �شخو�صه الورقية ،لي�س من خالل وا ألمان واخل�صو�صية ،وحني يرى يف كليته وبني �أ�صدقائه
و�صفه للمالمح اخلارحية واالعتناء بكل التفا�صيل ال�شكلية ويف املجتمع من حوله كل املغريات وو�سائل الرتف التي
�إال ما ي�أتي عر�ضاً ،ولي�س من خالل تربُّعه املجاين بو�صف يفتقدها ،ي�صبح منتهى �أمله م�شاهدة فيلم «�سك�س» يهرب
املالمح النف�سية وتدخله بت�شكيلها ق�رساً ،لكنه ينرث نتفاً فيه من عامل ال ي�أمن فيه يومه �أو غده يراهن على اللحظة
ت�صويرية بني ثنايا ال�رسد منها يدرك املتلقي ما حتمله هذه املعي�شة فقط والتي يقتن�ص فيها �أية متعة حتى و�إن ات�سمت
االنطباعات التي تديل بها ال�شخو�ص وحتكيها عن نف�سها، بالعبثية.
�أو من خالل ا ألو�صاف التي تعلق بها بع�ض ال�شخو�ص على ولقد مثلت «مرام» والدة ماجد ال�سند الوحيد له يقول« :نحن
فعل ا آلخرين ،ويتكرر ذلك مع �أ�صوات الرواية جميعها مثل متال�صقان ووحيدان ،ال �أحد لها �سواي وال �سند يل غريها»..
ت�صوير الروائي ملاجد ب�أنه �أ�صبح عينني كبريين �أو كراهيته (�ص )7وبرغم الهزة العنيفة التي ا�صابت �شخ�صيتها �إال �أنها
للبواب� ،أو افتنان مهرة باملرايا ،ومن �ش�أن هذه التقنية دفع أ متا�سكت من �أجله.
املتلقي �إىل تخليق هذه النماذج مع الروائي ،ومعاي�شته لها يقول ماجد «..الغريب �أنني �ضبطت نف�سي �أنفذ ما تقوله برغم
بغمو�ض �شفيف حمبب.ٍ وت�شكيل مالحمها ال�شكلية والنف�سية عدم اقتناعي به�(».ص)12
وللكاتب مهارة غم�س الكائنات الروائية يف نخاع الواقع ج�سد الروائي «ماجد» �شخ�صية ي�ضيق بها حا�رضها وتهرب
وتفا�صيله ال�صغرية ،مهارة ر�صد عالقة ال�شخو�ص با أل�شياء هي منه ،كما �أنها التعرف لها م�ستقبالً �سوى �أوهام تتك�شف
والظواهر البيئية فيما حولهم ،فهو يتعامل مع الكائن باحلياة ا ألحداث عن ا�ستحالتها.
دون االرتقاء ب�شخو�صه ملا فوق الواقع ،ير�صد تناق�ضاتهم، يخرج ماجد عن هذا الطوق الذي �أحاطته به �أمه ويتحول
حلظات ال�ضعف والقوة ،غرائزهم ،فبقدر ما ي�صور �أحالم كيانه يف مرحلة ال�شباب التي يعي�شها �إىل عينني كبريتني
268 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يف عمله ،عن طريق اجلوامع من حوله ،وكل من يحيطون به ماجد يف الهجرة �إىل �أبيه ،وانتظار تخرجه لي�صبح مهند�ساً
يف مدينته ب�أ�سيوط ،ثم يقرر الهجرة �أوالً �إىل القاهرة ،ثم �إىل قادرا ً على �إعالة نف�سه ووالدته ،يحكي عن لهفته و�إ�رصاره
خارج البالد متاماً. على ر ؤ�ية �رشيط فيلم «ال�سك�س» ،وماله من داللة رمزية
تبدو �شخ�صية عبود كما ين�سج مالحمها الروائي� ،شخ�صية عن رغبته يف التلهي عن واقعه ،وي�أ�سه من كل ما حوله� .إن
طموحة ال تنتهي طموحاتها ب�سقف حمدد ،و�صويل ،ونفعي ر�صد وت�سجيل هذه اللحظات املرتددة والبينية بني ا ألقطاب
التوجهات ،ن�ست�شف ذلك من �أحالمه التي �ضاق فيها بزواجه �أو الثنائيات املختلفة واملتناق�ضة �أو املتجاورة بالنف�س
املبكر من «مرام» ومتنيه لو كان قد تزوج بابنة �صاحب الب�رشية ،هي ما مييز براعة الروائي ،فامل�شاهد ا ألخرية يف
ال�رشكة ،ثم وفاته مبر�ض خبيث ويرث هو كل هذا الكيان�(»..ص الرواية التي عنونها الروائي مبهرة ثم ماجد وطريقة تقطيع
.)141.140 الن�ص التي تعرب على �أنه يف �أ�شد اللحظات الت�صاقاً وحميمية
يبدو �أي�ضاً من خالل �ضيقه بزوجته .بعد عدم �إجنابها لطفله هناك انف�صاالً وتوترا ً والتي تراوحت ك�أنها كامريا تر�صد
تكون اختاً ملاجد� ،أطماعه يف مهرة ،عدم اكرتاثه ب�أ�رسته خطني متوازيني ماجد ثم مهرة وتنتقل بينهما يف حركتني
وهجرته دونهما وتركهم دون ت�أمني حقيقي (�ص،)152 متالزمتني ر ؤ�ية خارجية �شاملة للم�شهد ،ثم عد�سة «»Clos
وبرغم اعرتا�ضه ومناق�شته للمثل القائل�« :إن جالك الطوفان تنفذ �إىل داخل كل منهما وتردداته ،بني رغباته اجلاحمة،
حط ابنك حتت رجليك» �إال �إنه ي�صنع ذات ال�صنيع ،با إل�ضافة وما ميكن �أن يكون بالفعل ،تر�صد يف منولوج داخلي كل
ج�سده الروائي �إىل �أنانية عبود ومتحوره حول ذاته ،وقد َّ العوائق القائمة بينهما ،من كونها م�سلمة وهو م�سيحي ،من
غري متدين بطبعه ،جل�أ �إىل الكني�سة حني جل�أ طلباً للمان
أ كونها يف �سن �أمه تقريباً ،كما تر�صد الرغبات امل�شتعلة يف
وامل�ساعدة ،الكني�سة التي مل يبدو موقفها قوياً مع �أفرادها. كل منهما.
من خالل �شخ�صية عبود امل�رصي امل�سيحي يواجه الروائي ويف ظل الظروف املحيطة مباجد من الطبيعي �أن تفتقد
كثريا ً من ا ألفكار واالدعاءات واحلقائق التي ت�صدر عن بع�ض للمور لذا ت�أتي ت�رصفاته و�أفعاله ال�شخ�صية الر ؤ�ية العميقة أ
التوجهات ا إل�سالمية ا أل�صولية املغالية ،وال يخ�شى الكاتب بعيدة عن املنطق �أو املعقول فبعد العالقة اجلن�سية ال�ساخنة
الدفاع عن امل�ضطهدين ،وتعرية ما يحتاج �إىل �إعادة الغربلة بينه ومهرة ،يقول �ضارباً عر�ض احلائط بكل االعتبارات:
يف عقيدة امل�سلمني. للبد� .سيطلب منها كتابه ك�شف ح�ساب «قرر البقاء هنا أ
يقول عبود عن امل�سلمني «...امتنعوا عن العمل وقت ال�صالة، مبا �أنفقته عليه حتى ينجح..ويتحول من �ضيف �إىل رب
مع �أنني �أ�سمعهم يقولون �إن دينهم يعترب العمل عبادة .ما �أكرث �أ�رسة»(.)270
ما يقولون .هل يف حياتهم �سوى الكالم�(»..ص� )144أو قوله: ثم ال يلبث �أن ت�سيطر �أمه واملبلغ الذي كان من املفرت�ض
«�إطالق اللحية قذارة»(�ص� )147أو «نوم الظامل عبادة». �أن يت�سلمه من مهرة على واقعه بعد خفوت النزوة ،يقول
ويتمتع الروائي بحيدة حمببة ،ففي املواقع التي ت�أخذ على الروائي« :كب�س عليه ذهول عندما اكت�شف �أنه ن�سى مو�ضوع
�أي طرف من طريف ال�رصاع ،وال تخ�ضع ا ألمور حينها �إىل املبلغ ،حاول منع خياله من الت�سلل �إىل تذكر �أمه ،وحاول
العدل ي�سلط عليها ال�ضوء في�شري يف (�ص� )146إىل �صفقات �أن�(»..ص� ،)271إن هذا التقطيع واالنتقاالت املتوازية،
ا ألمر املبا�رش من املعونة ا ألمريكية لبع�ض ال�رشكات التي ومراوحة ال�رسد بني الديالوج واملونولوج جت�سد هذا الرتدد
ميتلكها امل�سيحيون .فمن خالل ال�شخو�ص يعر�ض للحقائق اخلارجي بني ال�شخو�ص ،كما تر�صد الرتدد الداخلي يف
احلياتية بني طريف ال�رصاع التي تكر�س وت�أجج االنف�صال ذواتهم.
ولي�س الدمج بينهما. -فجر ا ألزمة بهذه الرواية ما حدث مع «عبود جرج�س» حني
وي�شري الروائي بذكاء فني من خالل �شخو�ص العمل �إىل حورب من جهة عمله من بع�ض العنا�رص امل�سلمة لتفوقه
ظاهرة خطرية تكر�س لهذه االنف�صاالت التي حتدث بني طريف يف عمله و توليه للمن�صب الثاين يف ال�رشكة التي ميتلكها
التكوين الن�سيجي لهذا املجتمع ،وهي ظاهرة ال�سيا�سات م�سيحي ،لكن �أغلبية العاملني بها م�سلمون ،ويجابه «عبود»
احلكومية املائعة ،ق�صرية النظر ،التي تن�ساق وراء م�سايرة مبو�ضوع ال والية مل�سيحي على م�سلم« :هكذا �أمرنا ا إل�سالم»
الطرف الذي ميثل الغلبة يف هذا املجتمع ،والر�ضوخ له. كنت املق�صود باخلطابات�(.ص.)141
فمهمة النخبة �أو ال�سلطة يف �أي جمتمع توعيته وقيادته، يتعر�ض عبود للتهديد ،والرتويع بال�رضب ،ثم التهديد بخطف
ال االن�سياق وراء العامة وا ألغلبية بانتزاع ا إلعجاب �أو ابنه وزوجته� ،أو قذف وجهها مباء النار �أو بقتله ،ثم يحا�رص
269 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
بهم ،يقول ماجد معلقاً على حكي �أمه ووقوفها �أمام حمل املهادنة ،وبقاء الو�ضع على ما هو عليه ،دون معاجلة
لبيع «حلوم اخلنازير»..« :كنت �أريد �أن �أتركها حتكي لعلها حقيقية للم�شكالت بني الطرفني ،تلك النخبة �أو ال�سلطة التي
ت�سرتيح ،ويف الوقت نف�سه �أفكر يف االن�رصاف .رمبا كان مل َتتً َخ َّل عن تراثها ال�شمويل ،ومل تكف عن مهادنة الفكر
الوقوف طويالً �أمام املحل خطراً ،ويلفت نظر النا�س .خيَّل الغوغائي غري املعتدل ،ا�ستطاع الروائي �أن ي�صور هذا من
�إليه �أن املحل رمبا يكون حتت احلرا�سة�(»..ص ،)25ي�صور خالل �شخ�صية �ضابط الوحدة ب�أ�سيوط الذي �صورته مرام
الكاتب ح�سا�سية امل�سيحي لكل ت�رصف وتوج�سه من رد فعل بك�أنه عامل اجتماع ،والذي ن�صحهم باالبتعاد والهجرة عن
ا أل�صوليني امل�سلمني. موطن النزاع ،دون �أن يقدم حالً جذرياً� ،أو رغبته يف مواجهة
أ
يقول «م�صطفى» زوج «مهرة» ال�سابق ،و�حد �ضباط ال�سلطة، الطرف ا ألكرث عددا ً �أو ت�أثريا ً �أو قوة.
تعليقاً على زيارة مهرة له تطلب م�ساعدته« :لو كنت يف متثل هذا �أي�ضاً يف موقف الكني�سة الداعي �إىل عدم املواجهة،
اخلدمة ألبلغت عنها ،ولكن اجلهات اجلديدة التي �أت�أهب �أو ال�صمت جتاه ما يتعر�ض له �أفرادها ،هذا املوقف النكو�صي
للعمل معها �أكرث حر�صاً على البلد ،وهم الذين �سيقومون الذي عمل به امل�سيحيون� ،أو فر�ض عليهم مع التاريخ ،والذي
بعمل الالزم جتاهها)219(».. ال يت�صف با إليجابية �أو املحافظة على حقوق املواطنة
ي�ؤثر هذا الطق�س االرتيابي على العالقات بني ا أل�شخا�ص، العادلة يف هذا الوطن.
فيفتقدون معاين �إن�سانية �شديدة ال�سمو مثل ا ألمان والثقة يف ولذا يربر موقف الدولة ،والكني�سة ،ونخب املواجهة ،اختيار
ا آلخرين ،مثل التعاطف وم�ساعدة الغري ،فتت�صدع العالقات عبود لهذا املجهول اخلارجي الذي ر�أى فيه ملج�أ ومنقذا ً له،
وتتحول �إىل �أ�سباب قلق ا إلن�سان ،وحتوله �إىل احليوانية برغم �إبهامه وق�سوته ،فهي مقامرة اختارها هروباً من حقوقه
وعالقات الغابة وت�ؤجج لالنف�صال بني اجلميع. امل�سلوبة ،وحياته وحياة �أ�رسته املهددة بهذا املجتمع.
يقول �إكرامي �صديق ماجد« :كان الوقت الذي ق�ضيته مع و�أت�صور �أن ال�رصاع بهذه الرواية كان �سيزداد احتداماً لو
ماجد ق�صرياً ،ق�ضيناه معاً يف حماوالت مثقلة بالتواط�ؤ �أن الروائي �أ�شار �إىل جمموعات املتطرفني امل�سيحيني،
والت� آمر .فهذا جزء من نف�سية من هم يف مثل �سننا و�سلوكهم. واملواجهات التي حتدث باملجتمع امل�رصي بالفعل ،فكما
حتى ا ألمور التي من حقنا ممار�ستها علناً و�أمام اجلميع، يوجد تطرف يف معتنقي ا إل�سالم ،يوجد �أي�ضاً يف معتنقي
جند �سعادة خا�صة يف االختباء بها عن ا ألعني ونحن امل�سيحية تطرف م�سيحي يعد رد فعل ملا عاناه امل�سيحيون
منار�سها»�(.ص.)34 يف تاريخ احل�ضارة العربية ،حتى �إن كتب التاريخ تذكر �أن
أ
وتبدو ق�ضية افتقاد احلرية حتى على امل�ستوى ال�رسي م�ؤثرا ً املوايل برغم دخولهم ا إل�سالم كانوا يدفعون اجلزية تعنتاً من
فعاالً يف تكوين مناذج ب�رشية مراوغة ،هاربة من املواجهة، القائمني على ا ألمر من امل�سلمني.
�أو الت�رصيح برغباتها وعي�شها يف و�ضع �صحي غري مالئم. ولذا يبدو اخلوف �أي�ضاً بطالً من �أبطال هذا العمل الروائي،
وين�ضغط زمن الق�صة الفعلي يف يومني لذا ت�أتي حتوالت اخلوف امل�سيطر على جميع ال�شخو�ص بالعمل كل منهم يقع
ال�شخو�ص من خالل �أ�صواتهم و�رسدهم اال�سرتجاعي حتت طائلته ب�أ�شكال متباينة ،ومن املفارقات ال�ساخرة �أنه
عن ذواتهم� ،أو من خالل ا أل�صوات ا ألخرى وهي حتكي يف دولة تتحكم بها منظومة �أمنية �شديدة الوط�أة تفرز هذه
انطباعاتها عن ا آلخرين ،هذا االنف�صال التداخلي الذي ي�ؤديه النماذج التي ت�شعر �أن هناك من يتل�ص�ص عليها ،وينتظر �أقل
ماجد وعبود ومرام وم�صطفى ومهرة هو حتمي فر�ضته ا إل�شارات ال�صادرة عنها َعرَ�ضاً للق�ضاء عليها وا إلطاحة بها،
�أحوال املجتمع امل�رصي املحتقن دينياً ،كما فر�ضت التداخل وال يختلف يف هذا ا ألمر امل�سلم �أو امل�سيحي لكن االختالف
وحدة ا ألر�ض والتاريخ والهواية. يقع يف الدرجة فقط ،بد� أ اخلوف يف هذه الرواية وك�أنه كيان
وتت�أرجح �شخ�صية مهرة بني �شخ�صية ورقية واقعية ،وبني جم�سد نتيجة وط�أة وجوده يف �أجواء العمل. مادي ّ ً
كونها رمزا ً �شفيفاً ي�سقطه الروائي على «م�رص» من خالل عند قراءتي للعمل بدت بع�ض الفقرات وك�أن �سطورها
�رسد يقرتب من الفانتازيا يف �سبعة مقاطع على ل�سان ترتع�ش و�أن هناك نب�ضاً يت�سارع ،وبت�شكك يف كل من حوله،
«اجلرنال عفارم». وعددت ذلك من توفيق الروائي يف اختيار �أ�سلوبه وتقنياته،
ي�ش َّكل املبدع «مهرة» فنانة اعتزلت الفن واجتهت �إىل لتبيان تلك احلالة املرعبة التي بات عليها ال�شخو�ص يف هذا
احلجاب واالعتكاف يف بيتها� ،ش�أن هذه الظاهرة التي املجتمع ،حتى �إنه يف �أب�سط املظاهر واملمار�سات احلياتية
تكررت يف املجتمع امل�رصي ،حني علت ا أل�صوات ا أل�صولية احلرة ،هناك توج�س من ال�شخو�ص من كل املحيطني
270 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
وال�رشيط الذي �أيقظ بداخلها كل الرغبات اجلن�سية التي �سبق بتحرمي الفنون ،وعمل املر�أة بكل �صوره ،ومن خالل حكي
�أن عا�شتها مع زوجها ال�سابق م�صطفى ،وغريه من الرجال. ا�سرتجاعي يف حلظة مواجهة مهرة لنف�سها وما � آلت �إليه
يف ذروة �أزمة مهرة بعد �أن قررت الذهاب مل�صطفى لطلب حياتها ،يعر�ض الروائي تاريخ ال�شخ�صية وحتوالتها
العون منه وهي يف �رشفة منزلها ،وحني ارتداء مالب�سها، ليعطي منوذجاً ل�شخ�صية متطورة ،فتاة جميلة �صعيدية لها
ويف الطريق �إليه ،تتداعى يف ذاكرتها ا ألحداث التي عا�شتها طموحات بارتفاع ال�سماء تنتقل �إىل القاهرة لتعمل مذيعة ثم
وجعلتها متر بتلك التحوالت يف م�شاهد مقطعة بطريقة ممثلة وفنانة ا�ستعرا�ضية ،وتنال ال�شهرة وا إلعجاب ،نرج�سية
�سينمائية متوازية ت�ضفي احلركية والرثاء على الن�ص. الهوى تع�شق ذاتها وجمالها وت�أثريها على ا آلخرين ،ترف�ض
تقع مهرة فري�سة حلاجتها ورغبتها ،وتغيرّ م�صطفى ،وفكره الزواج والقيود لتتفرغ لذاتها وفنها ،ثم تقع يف حبال
الذي حتول بعد ان�ضمامه لهذه اجلماعات املتطرفة من االرتباط ب�أحد �ضباط احلي�ش «م�صطفى» -ولنا هنا �أن
امل�سلمني ،فتجد ذاتها منغم�سة يف عالقة جن�سية حمرمة، نالحظ هذا ا إل�سقاط -وترف�ض ا إلجناب منه لرغبتها يف
وغري الئقة ،وتنذر بدمار حتمي. املحافظة على ج�سدها وجمالها ولرف�ضها للقيود ،ثم تنف�صل
تعد �شخ�صية «مهرة» منوذجاً لل�شخو�ص املتطورة ا إليجابية عنه لهذه ا أل�سباب ولعدم تكيُّفها مع م�ؤ�س�سة الزواج ،جتمع
التى ت�سعى دائماً �إىل التغيري ،والبحث عن ذاتها ،التي تعرب كل ما متتلكه لت�ضعه يف �إحدى �رشكات توظيف ا ألموال
عن �إرادتها احلقيقية ،كما �أنها ال ت�ستكني للآخرين ،وحتاول مع رف�ضها لكثري من العالقات ال�شائنة التي يطمع فيها
مراجعة �أو�ضاعها و�أفكارها ب�صورة م�ستمرة ونا�ضجة، ا آلخرون ،من ذوي احليثية« :رجال �أعمال يف لبا�س ديني
ترف�ض «مهرة» ما �أ�صبحت عليه بعد حجابها واعتزالها الفن �أو �سيا�سيني �أو جتار خمدرات ،تنح�رس عنها ا أل�ضواء رويدا ً
واملجتمع ،ت�ضيق بحياة الظل واحلجاب واالن�سحاب ،فتثور وال تتطور فنياً فت�ستجيب لعر�ض اعتزال الفن»« :الذي هو
يف داخلها رغباتها ،فت�ست�سلم لتلك النـزوة التي �سيطرت حرام يف ا ألول ويف ا آلخر�(».ص ،)172يف �سبيل وعد مل
عليها مع ماجد ،لكن نهاية الرواية ت�شي برتاجع وعودة، يتحقق مب�ساعدتها إلقامة م�رشوع تعي�ش من دخله ،وتخ�رس
لي�س عن يقني لديها مبا �سارت عليه �أحوالها ا ألخرية ،لكن مهرة حتوي�شة العمر» يف �أكذوبة �رشكات توظيف ا ألموال،
عن ا�ست�سالم ألو�ضاعها و�أو�ضاع املجتمع حولها ،يقول تعي�ش مهرة هذه املرحلة وبداخلها عدم اقتناع مبا اختارته
الروائي يف ا أل�سطر ا ألخرية« :كانت مهرة تبحث عن حجابها. لنف�سها تقول بعد حياة العزلة�« :أ�شعر بحنني يو�شك �أن ي�صل
�إىل الوجع ،للم�شاركة يف ما يدور ببلدي ،مهما كانت العزلة
وكان ماجد يبحث عن �أوراقه التي ما عاد يتذكر �أين و�ضعها.
التي فر�ضتها على نف�سي»(�ص.)174
مل يبحث عن �صليبه ألنه كان قد باعه يف �أيام ال�ضيق»...
تقرن مهرة بني �أو�ضاعها التي حتولت �إىل ا أل�سو� أ وبني
(�ص ،)271وهنا يبقى امل�ؤلف نهاية عمله مفتوحة حتتمل
احلجاب تقول« :ابتداء من احلجاب الذي حجب الر ؤ�ية
الت�أويالت واالفرتا�ضات املتعددة ،كما توحي بتلك الق�سمة
عن عقلي»(�ص ،)166وتتباكى على ال�شهرة والرفاهية
للغرماء التي هي عنوان هذا العمل الروائي ،والتي يعريها
وا أل�صدقاء القدامى تقول وا�صفة اجلماعات ا إل�سالمية يف
الروائي يف جذورها البعيدة بهذا امل�شهد ا ألخري من العمل. معر�ض حديثها عن �أ�صدقائها ال�سابقني «�أحاول ا�ستبدالهم
عادة ما يرتك املبدعون خيوط درامية مبهمة يف �أعمالهم بكائنات الظل؛ بنواب ال�ضمري ،وكالء اهلل �سبحانه وتعاىل
الروائية ،برغم �أنهم يعمدون �إىل توغلها وانت�شارها ،وجعلها على ا ألر�ض .من يعملون يف ال�صمت والظالم باعتبارهم
تتفرع يف �أكرث من موقع بالرواية ،لكنه الوجود ال�شفيف الذي �أ�صحاب ا ألمر باملعروف والنهي عن املنكر .كم تغريت
ال نعرف �أبعاده مكتملة� ،أو حقيقته امل�ؤكدة. يامهرة؟ �أمل تقويل عنهم ذات يوم� ،إنهم ل�صو�ص البهجة؟
ين�سج «يو�سف القعيد» من عالقة «مهرة» «بعبود» هذا اخليط
الدرامي امللتب�س الذي يدعو القارئ يف العديد من الفقرات �إىل
و�سرُ َداق ا ألفراح؟ والذين يحاولون ت�أميم التماعه احلياة يف
تخلَّيق دراما خيالية ،ي�صوغها أ
ليمل بها هذه الفجوات املن�شطة �أعني ا ألطفال؟ �أحاول �أن �أ�صبح جزءا ً من الن�ساء املغطيات
ل إلبداع عند القارئ ،وخلق حالة خفية من الت�شويق ،والدخول باملالب�س ال�سوداء ...للمر�أة والبيا�ض للرجل مع �أن املر�أة
ا ألكرث �شغفاً بالعمل ،كما �أنه يرتكه وبداخله �س�ؤال يجيب عليه حياة؛ والرجل قد يدمرها�( »..ص.)177
باحتماالت فيظل العمل له حياة بداخل القارئ ،يظل ينب�ض وال تواجه مهرة كارثة �أو �أزمة ثالثية« :الولد الذي يتفجر بداخلها
يتنا�ساه ب�سهولة. ف�ضول جتاهه نتيجة للحرمان الذي تعانيه ،واملبلغ الذي
(املادة تن�شر كاملة مبوقع املجلة)www.nizwa.com : امتدت يدها عليه وبددته؛ نتيجة �أزمتها املالية امل�ستمرة،
271 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
عي�سى ال�سليماين..
ال�صورة ال�شعرية للق�صيدة ال ُعمانية
عبا�س عبداحلليم عبا�س
باحث و� أكادميي من الأردن
فيه النقاد ،فلم يقف التفكري عند كونها جمازا ً �أو ا�ستعارة ،بل تظل ال�صورة ال�شعرية هي جوهر ال�شعر ،فمنذ اجلاحظ (ت
هي �أبعد من ذلك ..ا ألمر الذي حدا بامل�ؤلف ملناق�شة م�صطلحية 255هـ) وو�صفه ال�شعر ب�أنه �رضب من الن�سج وجن�س من
ملفهوم ال�صورة عرب ر�ؤيتها احلديثة التي تعتمد اعتمادا كبريا الت�صوير �إىل �أحدث الر�ؤى النقدية يف خائلية ال�شعر وطاقاته
على طاقتها الفنية من خالل ممار�سة العمل ال�شعري. الت�صويرية ،ال تزال البحوث والدرا�سات ترتى يف مو�ضوع
وللو�صول �إىل هذا البعد� ،سعى الدكتور عي�سى ال�سليماين للبحث ال�صورة واخليال يف الن�ص ال�شعري ،وطبيعة القوى املنتجة
عن فهم �أعمق و�أدق لل�صورة ومتثالتها يف �آفاق الق�صيدة لهذه الطاقة املبدعة..
العمانية احلديثة؛ من خالل �أمنوذج لعله ميثل تلك الر�ؤية، وبالرغم من اختالف منهجيات التناول ،وتعدد اجتاهات
فيما �أجنز من �أبحاث يف ذلك ،فلم يجد �سوى درا�سات انزاحت الدار�سني ومذاهبهم ف�إن درا�سة ال�صورة ال�شعرية متثّل مو�ضوعاً
عن متثل ذلك البعد الفني لل�صورة يف زمن الدرا�سة ومنهجها، نقدياً ح�سا�ساً يف �إطار الفهم والت�أويل ،ومتثل كذلك �إ�ضاءة
لكونها �سلكت طريقاً غري الذي �سلكه هو نف�سه� ،إذ اتخذت تلك مهمة يك�شف بها الناقد عوامل املبدع الداخلية ،و�أ�رسار الكون
الدرا�سات لنف�سها مناهج و�صفها يف مكانها من هذه الدرا�سة، ا إلبداعي لديه .وعلى هذا قامت درا�سات نقدية عديدة ،عربية
لي�ستنتج �أنها يف جمموعها مل تقف عند بنيات ومكونات تلك وغربية ،قدمية وحديثة ..وما «�أ�رسار البالغة» و«دالئل ا إلعجاز»
ال�صورة التي نطمح �إليها؛ مما �شجعه على قراءة الق�صيدة لعبدالقاهر اجلرجاين (471هـ) ،ومنهاج البلغاء و�رساج ا ألدباء
العمانية ،قراءة تفاع ٍل مع الن�ص ،لكونه عالقة جدلية بني حلازم القرطاجني (684هـ ) �إال �أمثلة وا�ضحة على االهتمام
املبدع واملتلقي. العميق باملخيلة ال�شعرية ونقدها.
لقد �سعت هذه الدرا�سة – كما يقول كاتبها -لك�شف الطاقات أ
ويف نقدنا العربي احلديث ميكن ا إل�شارة �إىل بع�ض المثلة
اجلمالية التي تخفيها الق�صيدة ،والتي ت�ستطيع �إثارة ده�شة البحثية اجلادة يف هذا اجلانب كدرا�سة م�صطفى نا�صف
املتلقي ،و�إبراز العواطف من كوامنها ،مع ال�سعي لتربير تلك «ال�صورة ا ألدبية» وعمل جابر ع�صفور املميز «ال�صورة الفنية
الده�شة ،وبيان �أثرها الفني. يف الرتاث النقدي والبالغي عند العرب» ودرا�سة عبدالقادر
�إن عملية اقتحام الن�ص ،تتطلب �أدوات ومناهج متعددة ،قد الرباعي «ال�صورة الفنية يف �شعر �أبي متام» وغريها� .أما
تكون بنيوية� ،أو �سيميائية� ،أو �أ�سلوبية� ،أو تف�سريية� ،أو لغوية� ،أو الدرا�سات الغربية حول ال�صورة يف ال�شعر ف�أكرث مما تعد
تاريخية� ،أو �إح�صائية� ،أو غريها ،وميكن لب�ضهم �أن ي�سمي ذلك وحت�صى.
باملنهج التكاملي� ،إذ �إن الدمج بني هذه املناهج هدفه الو�صول وهذه الدرا�سة ال�صادرة عام 2008للدكتور عي�سى ال�سليماين
�إىل الغاية التي من �أجلها يقتحم الن�ص ،ولتربير تلك الده�شة ت�سعى ل إلجابة عن �س�ؤال جوهري لعله ميثل عمقها ومركز
اجلمالية والفنية التي �أحدثها ،مع �رضورة ا إلفادة من تلك ق�ضاياها ،كما يجيب عن مفهوم الدرا�سة الذي ي�شكل جدلية
الفعالة يف النقد املعا�رص ،و�صوالً لل�صورة ا ألدوات ا إلجرائية ّ العالقة بني النظر والتطبيق ،وبني ال�شاهد وا�ستنتاج التحليل،
ال�شعرية بكل مكوناتها ،ومن تلك ا ألدوات: وبني الظاهر والباطن ،ثم �أخريا ً بني البنية ال�سطحية بكل
التوازي /واالنزياح /وامل�شابهة /واملجاورة ت�شكالتها للر�سالة ،و بنيتها العميقة التي حتدد انتماءها
والت�شاكل /والتماثل /والتجان�س للزمان واملكان العمانيني يف ع�رص ال�شاعر والق�صيدة وذاكرة
فهذه ا ألدوات مل تظهر ب�شكلها النظري ،بقدر ما اتخذت ك�دوات
أ الباحث ،وهو يحفر يف املعلوم من �أجل معلوم �آخر ،لعله اجلواب
�إجرائية كا�شفة للن�ص حمققة للب�ؤر الدالة ،وبذلك �أ�صبحت يف نهاية هذا العمل النقدي املتخ�ص�ص.
عوامل م�ساعدة. وبناء على هذا فقد تردد يف ذاكرة امل�ؤلف معنى ال�صورة
�إن الق�صيدة العمانية احلديثة يف م�ستواها الذاتي واجلماعي، ال�شعرية ،فهل ال�صورة هي الت�شبيه� ،أم اال�ستعارة� ،أم املجاز...؟
عك�ست الواقع االجتماعي وال�سيا�سي والثقايف ،وما ارتبط به �إن البحث املت�أين قد ك�شف اللثام عن معنى ال�صورة الذي اختلف
272 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ال�صدر ،والت�رصيع». من م�ؤثرات ،لذلك جند �صورتها متاهت مع املا�ضي ،وارتبطت
وناق�ش الف�صل الثاين اجلوانب الرتكيبية املكونة للق�صيدة باحلا�رض رغبة يف ا�ست�رشاف امل�ستقبل.
يف ثالثة مباحث� :أولها قانون «التقدمي والت�أخري» وثانيها: فهي � إ ّما تعبري عن احلا�رض بلغة املا�ضي وخ�صائ�صه يف
«الف�صل والو�صل» وثالثهما« :البنية االعرتا�ضية» لكونها بنى اجرتار متماثل يف دواله .و� إ ّما �أن تكون هذه الق�صيدة قدمية،
تركيبية ارتبطت بداللة الر�ؤية للن�ص. لكنها ت�سعى عن طريق التقليد واملحاكاة والتفاعل مع احلا�رض،
�أما الف�صل الثالث فقد اخت�ص باجلانب التخييلي ،وتناوله �إىل حماولة االنعتاق من قيد التقليد ،والتطلع �إىل التجديد .و�إما
الباحث عرب مبحثني: تعبريٌ عن الذات ال�شاعرة وما يرتبط بها من �أحا�سي�س وجدانية
-1مرجعية ال�صورة. موحية واعدة بالتجديد �شكالً وم�ضموناً.
-2ثم �أبعادها الت�صويرية. وعليه فقد �سعى هذا العمل حتت عنوانه احلايل ال�صورة ال�شعرية
و�أما الف�صل الرابع فقد اخت�ص بامل�ستوى املعجمي؛ ليكون العمانية لبناء تلك العنا�رص املكونة لل�صورة يف بناء الق�صيدة ُ
جزءا ً مهماً يف بناء الق�صيدة ،كما �أنه يعك�س امل�ستويات ال�شعرية يف بنية الق�صيدة العمانية احلديثة منذ « 1900وحتى
املختلفة لواقع الق�صيدة ،دينية وثقافية واجتماعية واقت�صادية 1980م» من خالل مدخل ومهاد و�سبعة ف�صول.
وتاريخية؛ ولتداخل هذه اجلوانب يف الق�صيدة العمانية انطلق فاملدخل مثّل ملحة موجزة للو�ضع التي كانت تعي�شه الق�صيدة
الباحث يف درا�سته من خالل مبحثني :ا ألفقي ،والعمودي. يف تفاعل مع الظروف ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية
وقد و�صل �إىل الف�صل اخلام�س الذي اهتم بالوظيفة الداللية والثقافية ،ثم وقفة مركزة ومتعجلة فتح امل�ؤلف منها نافذة
امل�صورة من خالل خم�سة مباحث متثلت يف ا ألبنية ا آلتية: على الدرا�سات املنجزة حتى زمن الدرا�سة 2009م.
النامي ،الدائري ،املركزي ،املتكرر ،الت�ضاد� ،إذ �إن هذه ا ألبنية و� أ ّما املهاد فقد تناول املعنى الوظيفي الذي تقوم به ال�صورة
ت�شكل ر�ؤية متكاملة للمحاور ا أل�سا�سية التي تدور حولها ثمة ثنائية بني ال�صورة والداللة ،وهذه ر�ؤية ال�شعرية� ،إذ لي�س ّ
الق�صيدة العمانية ،منطلقة من الرتكيب ومنتهية بالوظيفة. أ
نقدية بحاجة للمناق�شة ،مثلما �ن ال�صورة تتحقق من كونها
وي�أتي الف�صل ال�ساد�س لري�سم �صورة (هيكلة الق�صيدة) ،من خالل ر�ؤية �شعرية قائمة على تالحم البنى الداللية ا ألخرى «�إيقاع،
املقدمات ال�شعرية ب�أنواعها ووحداتها اجلزئية والتطورات التي تركيب ،تخييل» فهي نتائج لتلك العنا�رص جمتمعة ،و�إال ّ كانت
طر�أت على هذه املقدمات من تقليد �أو جتديد ،كما ر�صد املبحث جمرد �إثارة الده�شة والزينة.
الثاين املتواليات ال�شعرية التي ُق ّ�سمت �إىل ثالثة �أق�سام :ثانوية، أ
وت�أتي الف�صول ال�سبعة لت�شكل البناء ال�سا�س للدرا�سة ،حيث
ومو�ضوعاتية ،ومكثفة .هذه املتواليات �أبانت مدى الرتابط بني و�ضح الف�صل ا ألول ما �أ�سماه الدار�س «ال�صورة ا إليقاعية» ّ
ا ألن�سجة الداخلية على م�ستوى الق�صيدة ،كما �أن ذلك الرتابط متناوال �إياه من خالل املباحث ا آلتية:
عو�ض االنقطاع على امل�ستوى املفهومي. ّ املبحث ا ألول :الوزن وعالقته بالغر�ض انطالقاً من تق�سيم
�أما الف�صل ال�سابع فقد جاء ليناق�ش املورث الثقايف �ضمن البحور �إىل �ست جمموعات ،وعليه فالدرا�سة ا إلح�صائية ك�شفت
مبحثني :الديني الذي تناول القر�آن الكرمي ،وال�سنة املطهرة، الالعالقة بني الغر�ض والبحر ،كما و�ضح املبحث درجة
وال�سرية النبوية .وال�شعري من خالل التقائه املبا�رش وغري احل�ضور والغياب للبحور امل�ستخدمة يف الق�صيدة زمن الدرا�سة،
املبا�رش للن�صو�ص ا ألخرى املوروثة� ،أو ال�سابقة� ،أو الالحقة. ثم انتقل بعدها �إىل درا�سة ظاهرة الت�ضمني يف �ضوء وحدة
ويف اخلامتة التي ر�صد الباحث نتائج البحث �ضمن مكونات الوزن والقافية� ،إذ ت�شري ا إلح�صائيات �إىل ارتفاع ن�سبة متا�سك
ال�صورة املرتبطة بواقع الق�صيدة العمانية احلديثة «-1900 ال�شطرين ،مما ي�ؤكد ذلك ترابط البيت.
1980م» يف م�ستوييها العمودي واحلداثي ،مبينا � أ ّن ال�شاعر املبحث الثاين :القافية :وقد در�س هذا املبحث وحدة القافية
العماين ا�ستطاع �أن ي�سرب �أعماق البنى التخيلية يف الفن ُمن حيث وظيفتها ا إليقاعية باعتبار املطلق واملقيد ،كما بحث
ال�شعري عرب التمكن من توظيف �أبنية ال�صورة ال�شعرية (النامي، ق�ضية تعدد القافية التي كانت بدايتها املو�شحات فالرباعيات
واملركزي ،والدائري ،واملتكرر ،والت�ضادي ) حيث كانت هذه فاملخم�سات ،ثم تطورت على يد �شعراء التفعيلة الذين �سعوا
ا ألبنية ذات دور مهم يف بناء الق�صيدة دالليا وجماليا يف �آن خلرق وحدة البيت وحتطيم نظام القافية ،ثم اخلروج املطلق
معا. على القوانني العرو�ضية ،مثل ما هو يف ق�صيدة النرث.
املبحث الثالث :التجان�س ،حيث �أبان التجان�س ال�صوتي عن الهام�ش
تراكمات �صوتية وك�شف لنا ب�أن ذلك مل يكن وليد ا ألوزان « -ال�صورة ال�شعرية يف بناء الق�صيدة العمانية» درا�سة للدكتور عي�سى
عمان -ا ألردن 2009م.والقوايف فح�سب ،بل نتيجة �شبكة �صوتية جاءت �ضمن مكونات ال�سليماين -دار كنوز املعرفةّ -
�أخرى ،مثل «الت�شاكل ،والتقابل ،والتماثل ،ورد العجز على
273 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
مرييت ابونيام
ده�شة الفن وال�شعر
فـيء نا�صـــر
كاتبة من العراق تقيم يف بريطانيا
بوهيمي �إقيم يف بازل ،و�رسعان ما تركت الدرا�سة وبد�أت مل ترتافق حركة فنية يف التاريخ احلديث كما ترافقت
تختلط باو�ساط الفنانني وا�شتغلت يف التخطيطات التي ال�سوريالية مع امل�شاعر املظلمة واملزاج ال�سوداوي
امتازت بروح دعابة و�سخرية .رحلت اىل باري�س بعمر والالوعي املثخن بغرائبيته وكوابي�سه ،والكثريون يف
الثامنة ع�رش بحثاً عن مناخ �أكرث خ�صوبة ألفكارها بداية ن�ش�أة هذه احلركة ،ا�ست�شعروا التهديد وعدم الراحة
ونزقها وانخرطت يف درا�سة الفن يف احدى �أكادمييات لالهداف املبلبة وامل�شو�شة كما ان احللقات ا ألكادميية
باري�س الفنية ،لكنها �رسعان ما �شعرت بال�ضجر جمددا ً والنقاد �إعتربوها فكاهة ،ورف�ضوا �أن يعريوها اهتمامهم،
من الدرا�سة االكادميية و�أنفقت وقتها بدل ذلك يف مقاهي ببع�ض من ال�سخرية ،كانت ت�صدر دائماًٍ وقوبلت با�ستمرار
باري�س ومعار�ضها الفنية وكتبت �أوىل ق�صائدها يف مقهى عن �أ�شخا�ص غرباء عن الفن ..لكنها يف النهاية منت
(ذه دومب) حيث قابلت جياكوموتي عام .1933 وتبو�أت مكانتها احلقيقية باعتبارها �أ�شد حركات الفكر
ومن خالل (جياكومويتي) تعرفت على (هان�س � آراب والفن� ،رضورة وحداثة وجتديداً ،وذلك ب�سبب ارتباطها
وماك�س �إرن�ست) حيث �أ�صبح (جياكوميتي و� آرب) معلمني الدقيق بال�شيوعية ،من جهة ،وبالق�ضايا الروحية لالن�سان
ومر�شدين لها ،يف حني �صار (�إرن�ست ومان راي) من املعا�رص من جهة ثانية.
ع�شاقها وانت�رشت �صورها الفوتوغرافية /ا إليروتيكية وقد �أفرزت ال�سوريالية الكثري من ال�شعراء والفنانني لكننا
التي التقطها الفنان (مان راي /امل�صور الفوتوغرايف نكاد ال نعرف �شيئا عن رائداتها من الفنانات ،وقليال ما
ال�سوريايل) و�أ�سهمت يف �إ�ضفاء �إ�سطورة فنية الحقة على ُ�سلط ال�ضوء او النقد عليهن ،ب�سبب هيمنة �صوت الرجل وما
ا�سمها ،و�رسعان ما انخرطت يف احلركة ال�سوريالية ،حني �أحدثه من جلبة يف امل�شهد الثقايف الباري�سي الذي رافق
�شجعها جياكوميتي الذي ا�شتغل يف نحت االثاث والتحف ن�شوء هذه احلركة.
الفنية ،على �صنع جم�سمها ال�سوريايل االول ،قطعة �صغرية ولعل مرييت ابونيام هي ال�صورة ا ألكرث و�ضوحاً يف
منحوتة على �شكل �أُذن ت�سمى اذن جياكوميتي .1933تلقت �سوريالية االنثى ،وواحدة من �أبرز �شخ�صيات القرن
بعدها �أول دعوة من (جياكوميتي وهان�س � آرب) للم�شاركة الع�رشين الفنية ال�سوي�رسية ،ولدت ابونيام يف برلني
يف املعر�ض ال�سوريايل يف ال�سنة ذاتها ،و�أ�صبحت من 1913وتوفيت يف بازل ب�سوي�رسا علم .1985ترعرعت
املواظبني على امل�شاركة يف املعار�ض واللقاءات التي يف جنوب املانيا حيث امتلك والدها الطبيب عيادة ريفية.
جمعت رواد ال�سوريالية. تزوجت عمتها من هرمان ه�سه الروائي ال�شهري ،وجدتها
لكن مرييت ابونيام كانت ت�ضجر من الت�صنيف ،هي تربت يف كنفها ،روائية معروفة وكاتبة ألمها ،التي ّ
التي عنونت لوحاتها ب�أكرث من لغة كي توحي للمتلقني للطفال ومن النا�شطات ا ألوائل يف الدفاع عن ق�ص�ص أ
ب�أنها ال تنتمي لبلد حمدد �أو لغة ما� ،شعرت �إنها لن تكون حقوق املر�أة يف �سوي�رسا .وقد �أُعجبت الفتاة بجدتها �أميا
ذاتها لو ُ�صنِفت �ضمن مدر�سة معينة ،مل يكن يعنيها �أن �إعجاب وقررت يف وقت مبكر عدم الزواج او على ا ألقل
ُي�سجل ا�سمها بني رواد ال�رسويالية ،كانت تبحث عن ذاتها �إرجاء الزواج اىل وقت متقدم من حياتها .يف طفولتها
فقط وعرب كل �أ�شكال التعبري الفني وال�شعري ،لقد ر�سمت كانت تر�سم يف الكني�سة �أثناء القدا�س وتخفي دفرت ر�سمها
وجمعت التحف و�أبدعت يف نحت ا ألعمال الفنية املركبة داخل كتاب الرتاتيل ،ويف عمر ال�ساد�سة ع�رش ،ر�سمت �أوىل
التي جتمع بني النقائ�ض ب�شكل مده�ش وكتبت ا ألغاين ر�سوماتها ال�سوريالية الفطرية بعد ر ؤ�يتها ملعر�ض فني
274 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
واحللم والواقع .وكل اعمالها هي نتاج خميلة غنية والق�صائد وا�شتغلت كموديل للم�صورين والفنانني �أي�ضا،
وحاذقة يف مزج ا أل�شياء وا ألفكار لكن النقاد غالبا ما لقد � آمنت ب�شدة ب�أحالمها التي دونتها منذ �سن الرابعة
يقي�سون �إبداع �إمراة فنانة بغريها من الرجال ،وترجح ع�رش ،بت�أثري من والدها الطبيب الذي قربها لنظريات
كفة الرجال غالبا. التعمق النف�سي وحتديدا ً لنظرية ( كارل يونغ) .لذلك
ارتبطت �أعمال هذه الفنانة �أي�ضاً باحلركة الدادائية وما اعتمدت الحقاً على خزينها الذاتي الالوعي ورموزه ،يف
متيزت به من خفة الدم والفكاهة احلاذقة التي ت�شكل اخللق ال�شعري والفني ،وابتعدت عن وعيّها التام وعرفت
الهيئة اخلارجية العمالها والتي غالبا ما يكون لها جذور كيف جتعل من �أعمالها �صدى ألحالمها النابعة من ارثها
يف الوعيها .ثمة روح �أدبية خال�صة قد �سكنت مرييت الفني وهذه هي اللغة الوحيدة التي �أجادتها عرب فنها
ابونيام وعرب كل اال�شكال الفنية التي انربت لها باحثة وق�صائدها.
بال هوادة عن مهاوي احللم� ،شاردة يف جتوال �أبدي ولعل مرييت ابونيام �أبرز من �ساهم يف ر�سم مالمح
بني الذات وا آلخر ،يقظة على الدوام لهمهمات الوجود، (االنثى/ال�سوريالية) لعدة �أ�سباب :روحها الطليقة
فهي لعقود قد ر�سمت ب�إلهام من منابعها الذاتية ،من و�سلوكها الغرائبي ،خيالها املبحر بعيدا ً بال �شاطئ
�أحالمها و�أفكارها وحتى من �سخريتها كما �أنها تناولت وحلمها الذي ميار�س �سطوته الق�صوى يف �أعمالها الفنية
م�سالة التمييز اجلن�سي بني املر�أة والرجل ،و� آمنت بقوة ورمبا جمالها و�شبابها ،هذه املميزات خلقت منها ،منوذج
ان الفن بال جن�س وال يعرف التمييز بني االنثى �أو الرجل. املر�أة ال�سوريالية املزدانة باجلمال واال�ستقاللية واحلرية
هذه الفنانة ،هي �أول من ادخل تقنيات امللتي ميديا يف واالبداع .ورغم هذه الهالة اخلارجية لكنها واجهت الكثري
ا ألعمال الفنية ،اجلانب ا آلخر لتنوع �إنتاجها الفني ،عدم من العوائق واحلرية والت�سا ؤ�ل املتوا�صل عن معنى احلياة
وجود �أ�سلوب معني �أو مدر�سة �أو موعظة �سوى حلمها والفن ،يف م�سرية بحثها الطويلة عن �أ�سلوب تتفرد به
واخال�صها لذاتها. للو�صول اىل الن�ضج الفني.
يف منت�صف اخلم�سينات ا�ستعادت ثقتها بنف�سها وبفنها و(كوب الفرو/عملها اال�شهر) هو عمل نحتي مكون من
وبهدوء بد�أت مرحلة جديدة وخمتلفة يف انتاجها الفني، كوب لل�شاي مع �صحنه وملعقته ومغطى بفرو م�أخوذ
من خالل �إقامة املعار�ض الفردية وامل�شرتكة يف عدد من غزال �صيني ،وهو احد مقتنيات معر�ض الفن احلديث
من املدن ا ألوروبية ،وعند نهاية حقبة ال�ستينات وبعد يف نيويورك� ،أ�صبح العالمة الفنية ملرييت ابونيام ،لي�س
فتور عالقتها بال�سوريالية (بعد موت اندريه بريتون عام لغرائبيته املده�شة فقط بل النه يوحي للمتلقي ب�رضورة
،)1964كان هناك �إعادة اكت�شاف وت�سليط �ضوء جديد على اختبار �شيء م�شعر ويقبع عميقاً يف �شاطئ املخيلة البعيد.
اعمالها الفنية .ت�صف مرييت ابونيام نف�سها ك�أنها مقيا�س وهو من جهة اخرى ،عمل ي�ستدعي بع�ض الذعر واخل�شية،
ريخرت للزالزل لكنها بدل �أن تقي�س �إهتزازات االر�ض تقي�س ك�أنه وجبة �إفطار ملطخة بقطرات الدم ،ومرييت ابونيام يف
اهتزازاتها املتجذرة يف املا�ضي وامل�ستقبل لف�ضاء روحها، مهو�سة بالغذاء والعنف واجلن�س.
ّ هذا العمل ،حتاذي ثقافة
والتي تبقي ممر العبور نحو الالوعي مفتوحا لها دائما، �أعمالها التي �أخذت حيزها من هياج ال�سوريالية االوىل،
لقد كافحت من اجل خلق موازنة ووحدة �أبدية لكينونتها اعتمدت دائما على �أ�شياء يومية �صغرية لكنها معزولة عن
وارتباطها با آلخر ،امراة روحانية ورجل روحاين ،هذا غر�ضها وحمتواها فهي ،ومثل بقية ال�سورياليني مولعة
التوازن الذي انعك�س حتى على مظهرها اخلارجي و�أحالمها بتحويل مقتنيات احلياة اليومية اىل اعمال فنية غريبة:
للنثىيف �سنوات �شيخوختها .لقد دعت اىل �إعادة االعتبار أ خوامت ملفوفة بجلد الثعابني ،قالدة تتكون من �سل�سلة من
القدمية �أم العامل ،للو�صول اىل ا إلن�سانية النا�ضجة ،بعد العظام ال�صغرية ،قبعة على هيئة ر�أ�س كلب بفك مفتوح
وحط من �أن تدنت مميزات ا ألنثى ،يف ظل النظام ا ألبويُ ، ول�سان ي�سيل منه اللعاب ،كما انها من جانب � آخر ،ركزت
قيمتها وحتولت ا ألنثى �إىل �إمر�أة مقيد. على جن�سانية االنثى ورحلة اكت�شافها من قبل الرجل.
ق�ضت �سنوات حياتها االخرية بني برين يف املانيا �أ�صالتها وجر�أتها جعلتها -وبال �إرادة منها -من رواد
وبازل يف �سوي�رسا ،انها امراة �أفنت عمرها يف ا ألخال�ص ال�سوريالية ،هي التي � آمنت بقوة احللم العظيمة وباحلركة
ل�سوريالية ذاتها ،التي مثلت لها قارة �سوداء للحلم ،ال النزيهة للفكرة .مرييت ابونيام �أعادت �إكت�شاف العالقة
تن�ضب. بني املدنية والطبيعة ،الرجال والن�ساء ،الليل والنهار
275 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
s
s
s
ق�سوتهم وتلذذهم با ألم من حولهم ،عن جن�سهم لقد دخلت حقا �إىل عامل ب�شع مل � أر حدودا لب�شاعته،
الب�رشي وحولتهم� ،إىل خملوقات لها � أج�ساد الب�رش، حني بد� أت بقراءة رواية «�رسير الأ�ستاذ» ،ففي
ولكنها يف �صميمها حيوانات مفرت�سة ،من ف�صيلة الوقت الذي كان النا�س يعي�شون كا ألموات يف
غري معروفة� :ضباط � أمن من طراز �شخ�صيات العراق يف زمن احل�صار الذي امتد منذ -1990
الرواية« :بطران وناجي عبد اهلل و�سامر وناجي 2003بعد احتالل دولة الكويت ،وحتريرها فيما
عبا�س» و�ضباط من اجلي�ش املقاتل كغ�سان زوج بعد ،وحما�رصة العراق اقت�صاديا لأكرث من عقد،
فاتن ال�سابق! و�ضحايا مثل رغد وفاتن وفائزة فقد كانت هناك حمرقة � أخرى �إ�ضافية يديرها
وكرمي الفنان.. «الأ�ستاذ» يف بيوته ال�رسية وق�صوره املرعبة
يقول عن ذلك الفنان كرمي ،الذي هرب من � أداء يف بغداد! ..هذا الأ�ستاذ مل يكن � أ�ستاذا يف علوم
اخلدمة الع�سكرية يف مقطع دال من الرواية: التكنولوجيا احلديثة ،ومل يكن مدر�سا يف مدر�سة
«يافطات املوتى تزداد كلما ظهر» ال�رضورة «على ثانوية � أو � أ�ستاذا يف مدر�سة ابتدائية!! كان الأ�ستاذ
�شا�شة التلفاز يتوعد اخلا�سئني ،وال ي�ستطيع كرمي � أ�ستاذا �سلطويا من طراز فريد! � أطلق عليه هذا
�إيجاد رابطٍ بني ظهوره اململ يف التلفاز ،وبني اللقب،لأنه من � أهل ال�سلطة ،و� أبوه كان م�س�ؤوال
قوافل املوتى القادمة من جبهات القتال ،لذلك غالبا كبريا يف الدولة العراقية ،قبل احتالل العراق يف
ما كان يطل على الكوة ال�صغرية ليداعب ف�ضوله 9ني�سان (ابريل) عام ..2003وقد � أدخلنا كاتب
خطف ج�سد امر� أة ال يظهر وجهها �إال � أذا � أقبلت، رواية «�رسير الأ�ستاذ» �إىل هذا العامل،اململوء
خالل ثوان معدودات ليعي�ش حلما دافئا بب�ضا�ضة با أل�رسار ،واحلكايات امل�سكوت عنها يف � أي �سلطة
اجل�سد الغام�ض املكتظ بالتكويرات» (�ص � )9أو غا�شمة ،ال تريد لأحد � أن يعرف ما يحدث يف � أقبية
والكاتب يحدثنا عن مقرات «احتاد الن�ساء» التابعة ق�صور م�س�ؤوليها ال�رسية � ،أو ت�أكيد ال�شائعات عما
للدولة يف الرواية حيث يتم ا�ستدراج و�إغواء الفتيات يدور فيها بني النا�س الذين يحكمونهم باحلديد
اجلميالت ،للعمل يف دور امل�س�ؤولني كمدبرات والنار وال�سجون ال�رسية ،ونظام الو�شاية والتقارير
منازل ،ويف حقيقة ا ألمر يتم توظيفهن لأغرا�ض امللفقة ،لئال ت�ضيع هيبتها وت�صري هدفا لت�صيد
� أخرى ،حتكي لنا الرواية عنها« :قالت فائزة ببطء � أعدائها من قوى معار�ضة لها تهدف إل�سقاطها من
وهي ت�ضغط على خمارج احلروف» يا رفيقة ،لدي عيون النا�س ،واخذ ال�سلطة منها فيما بعد.
دبلوم فنون تطبيقية ،وال ت�سمح �شهادتي بالعمل
ا�ستدراج اجلميالت
مدبرة منزل � أو ..خادمة ،كرامتي ال ت�سمح بذلك».
�شعرت فاتن بالغ�ضب ،فجل�ست بجانبها ،ل�صقت رواية «�رسير ا أل�ستاذ» من تلك الروايات القليلة،التي
بفخذها الدافئ �« ،أية كرامة �ستبقى � أذا ما فقدت تذكرنا ب�سجالت � أطباء علم النف�س ،وهم يتابعون
راتباً �سيجعلك ملكة ،وبعد �سنة � أو �سنتني �ستملكني �شخ�صيات مم�سو�سة ومو�سو�سة! فقدت عقولها
ال�سيارة والذهب ورمبا تتمكنني من �رشاء �شقة و�سيطرت عليها دواخل �سادية مرعبة ال مثيل لها،
يف �شارع حيفا؟» توقفت قليالً ،ثم ا�سرت�سلت، بق�سوتها على النا�س واملحيطني بها ،ف�صلتهم
277 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
وا إلعدامات الفورية وبال حماكمات« :جل�س مقرف�صاً «هل تتوقعني �سيكتفون بالراتب؟ كال طبعا � ،أنهم
يف زاوية � أخرى الغرفة ملت�صقاً بجدارين ،جمربا ً نف�سه �سيغدقون عليك بالهدايا فيما �إذا وجدوا فيك حر�صاً
�إال يفكر ،متوقعاً حدوث � أي �شيء ،مبا فيها �إعدامه، و� أمانة ،هيا دعيني ا�ستطلع ما يدور يف عقلك لأحل
وبعد وقت طويل جاء ذو النظارة «عليان» وبيده لك العقد امل�ستع�صية» �ص15
م�صباح �سلط �ضوءه على عينيه «ا�سمك كرمي «قال العني ال�سحرية للكاتب
بخوف وتردد» «نعم» ،ا�سمع � ،أنت متهم بارتباطك
بحزب.....العميل ،ولدينا تقارير � أمنية ت�ؤكد ذلك، لقد � أدخلنا كاتب الرواية �إىل ق�صور الطغاة الذين
اعرتف قبل � أن ننزع عنك جلدك ،و�إذا ذكرت لنا � أ�سماء كانوا يحكمون العراق باحلديد ،والنار بدعوى
جماعتك �سنعفو عنك ونلحقك بوحدتك الع�سكرية الوطنية ،وال�رشف والدفاع عن العزة الوطنية ،وهم
فوراً» مل يدر ماذا عليه � أن يقول الآن ،توقفت قدرته عن يف احلقيقة كانوا يف ق�صورهم ميار�سون � أب�شع � أنواع
التفكري ،اختفت الكلمات من ذهنه ،ما � أن ذكر له ا�سم التجاوزات للوطنية وا إلن�سانية واحلق وال�رشف..
هذا احلزب املخيف ،املرعب ،الذي ُزج النا�س ب�سبب ِه لقد � أدخل الكاتب عينا �سحرية لهذه الق�صور املمهورة
�إىل قعر ال�سجون ومور�ست بهم كل � أنواع التعذيب باخلوف والغمو�ض واملوت! لرتوي لنا بال�صوت
وا إلعدامات دون � أن يكون ذلك اتهاما حقيقياً بل وال�صورة حقيقة الأمل العراقي،وما � آلت �إليه الأمور
هو جمرد و�شاية ،وهو يعرف الآن � ،أن جمرد االتهام فيما بعد�« :..شم عطرها ،كاد يلح�س جيدها من فرط
باالنتماء حلزب ،......جمرد الو�شاية بذلك ،دون دليل دنوها منه ف�س�ألها :ماذا لديك؟» نظرت يف عينيه،
� أو ت�صديق ،ت�ؤدي ب�صاحبها �إىل ا إلعدام فوراً ،بدون نظرة نافذة ،فاتن قالت بربود « لدي احلل» فانفرجت
ّ
حتى حماكمات ،لذلك حاول كرمي � أن ي�سيطر يف الأقل � أ�ساريره وابت�سم مرتقباً «هيا ..قويل ب�رسعة � أرجوك
الآن على ما يف مثانته�».ص66 «ابتعدت عنه باجتاه النافذة» ولكن ب�رشط (كان
وبالرغم من � أن فائزة وكرمي بطلي الرواية حققا حد�سه مل يخطئ ب�أنها �ست�ضع �رشوطاً ،فهو يعلم � أنها
ن�رصا م�ؤقتا على الطاغوت بثورة � أدت �إىل قتل ال ت�ضيّع فتاة جميلة بهذه ال�سهولة ،فقال متلهفاً):
الأ�ستاذ،وقواده عليان وغريه ،يف نهاية الرواية� ،إال «ا�رشطي� ،شبيك لبيك عبدك بني يديك »..التفتت �إليه
� أن � أحداث الرواية ت�ستمر يف ذهن القارئ حتى بعد وهي عازمة جدا ً على تنفيذ الفكرة التي ن�ضجت الآن
انتهاء كلماتها املخطوطة�،سائرة ملا � آلت �إليه � أمور «هل تذكر �رشيط الفيديو؟» وقف متغابياً � أمامها
العراق فيما بعد من نتائج منطقية � أهمها :االحتالل ك�أنه ال يعرف �شيئاً عنه ،وهو الذي � أباح لها،ذات
الأجنبي واخلراب واالنتقام من الذات بقتل النا�س �سكرة �شديدة يف بيتها ،كيف يتم ت�شغيل جهاز فيديو
بع�ضهم البع�ض الآخر ،واختطاف البع�ض لأبناء يف غرفة �رسية تنقل �إليه من كامريا خمفية و�ضعت
البع�ض الآخر والتطرف الديني وال�سيا�سي!ملختلف مقابل �رسير الأ�ستاذ كل الأفعال اجلن�سية التي تقام
الأ�سباب ومن دون � أ�سباب � أي�ضا!!. على م�رسح ال�رسير ،ف�أوم�أ لها ب�إ�شارات يفهم منها
رقبة الكاتب النحيلة
عدم معرفته مبا تق�صد ،فقالت بغ�ضب» هل ن�سيت،
� أم كنت �سكراناً عندما قلت �صورناك على ال�رسير
رواية «�رسير الأ�ستاذ» هي يف حقيقة الأمر ثقب والأ�ستاذ كان يراقب «� ..»........شعر بقلبه يقع بني
ال�سلطة ال�سيا�سية الأ�سود الب�شع ،ابتلع كل ما عا�شه يديه وتذكر انه غالباً ما ي�أتي �إليها يبث جنواه عندما
العراقيون يف وطنهم من ذكريات حلوة ،وما بقي يكون ثمالً ،والبد انه كان تعي�ساً للغاية يف ذلك اليوم
يف نفو�س بع�ضهم من � أمل بعودة عراق معافى، الذي � أف�ضى بهذا ال�رس دون � أن يدري! فتغابى � أكرث
فهي رواية حتكي عن العمق االجتماعي وما ناله «� أي �رشيط ؟ ال افهم ق�صدك»(�ص.)24
من تخريب عرب عقود من ال�سنوات ،وما حدث حتت
ال�سطح،ذلك الذي كان يبدو �ساكنا وال تغيريات كبرية و�شايات ت� ؤدي للموت
حتدثنا الرواية عن االعتقاالت التي كانت تتم عليه ،وقد قال الروائي يف روايته ،ما قالته � أعمال
278 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ال ت�ستطيع الكامريا ا�صطيادها .اختفى عليان من عاملية �إبداعية مهمة عن � أ�سو� أ ما فعلته النازية
ال�صورة ،ويبدو ،فكر الأ�ستاذ وكرمي ،انه اقرتب منها، والفا�شية ،واحلكومات الدكتاتورية يف العامل الثالث،
كان يجرجرها للوقوف يف منت�صف الغرفة كي يتمتع � أثناء حكمها ل�شعوبها وال�شعوب الأخرى وقد متيزت
الأ�ستاذ مب�شاهدتها عارية�».ص220 «�رسير الأ�ستاذ» كونها حتكي ما جرى يف مناخات
اخليانة الوطنية عراقية حالية خطرية ،ورمبا يكون ثمن كتابة �سطر
�صادق عنها ،ال ير�ضي من حكموا �سابقا � ،أو حتى
بعد قراءة �ضاجة بالتح�سب وال�شكوك بقدرة الروائي ه�ؤالء الذين يحكمون اليوم،لأنها تهتك � أ�رسارا ال
على �إكمال ون�رش رواية ذات مو�ضوع معقد و�صعب تزال متار�س هنا وهناك ب�صيغ � أخرى ،و� أ�ساليب � أكرث
وخطري كمو�ضوع «�رسير ا أل�ستاذ» مل يخ�ض احد عدوانية وق�سوة ،فيكون ثمن ذلك رقبة الكاتب النحيلة!
قبله من الكتاب العراقيني فيه بهذا ال�شكل ال�رصيح، فالكاتب ال�صادق اليوم يف العراق عدو للجميع ،ويحل
وكان ملحمد مزيد الكاتب وال�صحفي العراقي دمه للجميع للأ �سف! والكتابة الروائية العراقية
املعروف،املحاولة والنجاح � أي�ضا يف �إدانة النظام اجلديدة الباحثة عن ذات وكينونة جديدتني،هي التي
ال�سيا�سي ال�سابق ،الذي � أثمر للعراقيني ا أل�ستاذ و� أمثاله! � أطلقت املارد املحبو�س من قمقمه ،و�سط كل هذا
وكانت من � أوىل املالحظات التي ي�ضعها القارئ حول اخلراب الذي يبدو للناظرين .ونقر� أ عما كان يجرى،
الرواية � أنه يعرف كثريا عما قر� أه يف الرواية ،قبل وكما جاء يف الرواية« :ينتظر كرمي املفاج�أة التي
قراءتها بل ويعرف حتى بطلها« :ا أل�ستاذ» ،و� أن كثريا وعد بها يف الغرفة نف�سها التي يراقب الأ�ستاذ من
من ق�ص�ص غرامياته الدامية! و�سط منوره و� أ�سوده، ُ
خاللها التلفاز اخلا�ص حني تكون �إحداهن يف غرفة
كانت تنقل هم�سا بالرغم من � أن عقوبة من ينقل ق�ص�صا الت�صوير الأخرى �،أذن هناك فتاة �ست�صور بالكامريا
من هذا النوع للغري عن امل�س�ؤولني يف الدولة ت�ؤدي الثابتة بعد � أن � أرج�أت فكرة الكامريا املتحركة،فكر
بالقائل وال�سامع لل�سجن بدعوى «اخليانة الوطنية كرمي،ال�شيء مثري يف الأمر� ،ستتم هنا كالعادة عملية
ببث ا إل�شاعات لزعزعة الروح املعنوية للمواطنني!» اغت�صاب وت�صور �ش�أنها �ش�أن كل احلاالت التي مرت!..
و ألن الكاتب مل ي�ضع ا�سما حمددا للأ �ستاذ يف الرواية، فما املفاج�أة يف ذلك ؟»�ص 200وكذلك ما تنقله لنا
ف�سيبدو لكل واحد من القراء � أن ا أل�ستاذ الذي يق�صده الرواية من م�شاهد تثري يف اجلميع الغ�ضب ملا � آلت
الكاتب � أ�ستاذا � آخر،مار�س ذات ما مار�سه ا أل�ستاذ �إليه � أحوال � أهل ال�سلطة �« :أ�صدر الأ�ستاذ � أوامره �إىل
ا أل�صلي مع املواطنني العراقيني العزل!من خالل �سلطة عليان:
الدولة الغا�شمة ،و�ستمتلئ ال�ساحة با أل�ساتذة املتهمني -يجب � أن تظهر الفتاة يا عليان ،ماذا جرى ِب�ش�أنها،
و� أ�رستهم الدامية ،ولياليهم احلمراء وجرائمهم التي ال هل نامت؟ هل مت�ضي كل هذا الوقت وهي تخلع ثوبا
ين�ساها � أحد!! واحدا ً عن ج�سدها .رك�ض عليان �إىل تلك الغرفة ،ثم
والتوزيع/عمان -الأردن
ّ �« jرسير الأ�ستاذ» /دار ف�ضاءات للن�رش
ط� 250..2009 1صفحة قطع متو�سط. ظهر واقفا بو�سطها ،وكان يبدو � أنه يخاطبها حيث
فاطمة ال�شيدية
فـي «حفلة املوت»
ر�سول حممد ر�سول
باحث و�أكادميي من العراق
�أفرزها خطاب الرواية كامل�ستوى الذاتي ،وامل�ستوى ا أل�رسي، العمانية فاطمة فيما م�ضى من �سنني ،قر� أ بع�ضنا لل�شاعرة ُ
وامل�ستوى املجتمعي. ال�شيدية ثالثة دواوين �شعرية ن�رشتها بني عامي -1997
امل�ستوى الذاتي .)1( 2004وعندما ت�رشع بقراءة ق�صائد تلك الدواوين ،تن�ساب
تهيمن بطلة الرواية «�أمل» على برنامج الرواية ال�رسدي بكل روحك بعذوبة مع اللغة ال�شعرية الرائقة ،وال�صور ال�شعرية ثرية
مبادراته وف�صوله وحتوالته؛ فهي �صانعة للحدث ومولِّدة له، العطاء ،وامل�ضامني اخلالقة التي ت�سم �أغلب ق�صائد ال�شاعرة
وم�شاركة يف كل لفظ �أحداثه ،ف�ضالً عن رويه على نحو كامل، بدفق جميل.
ناهيك عن �أن طبيعة ال�رسد تنتمي �إىل ال�رسد الذاتي Outodiegeti ن ويف الوقت الذي توقعنا فيه ،ك ّقراء� ،أن تفاجئنا ال�شاعرة
� ،ic Narrativeأي �أن الراوي يف هذا ال�رسد هو مبثابة ال�شخ�صية بديوان �شعري رابع� ،أ�صدرت ال�شيدية رواية لها بعنوان «حفلة
احلا�رضة يف كل �أحداث ال�رسد ( )3املتاحة يف الرواية. املوت»(.)2
�أمل فتاة ُعمانية من مدينة «نزوى» ،فتاة ر�شيقة القوام جميلة منذ ال�صفحات ا ألوىل يف هذه الرواية ،جتذبك �شعرية ال�رسد
املالمح ،وهي فنانة تع�شق الر�سم .كانت والدتها قد جاءت من ول�ست
َ الطافحة بعذوبة حتى ت�شعر �أنك ب�إزاء ق�صيدة �شعرية
العمانيني الذي زجنبار كـ «عبدة» للعمل يف ق�صور �أحد ا ألثرياء ُ ب�صدد ن�ص �رسدي ،لكنك ،وكلما م�ضيت يف قراءة النَّ�ص،
اغت�صبها «ا ألم» وهي بنت الثالثة ع�رش ربيعاً يف �ساعة خلوة، ي�أخذك ال�رسد �شطر عوامل املتخيَّل الروائي في�أ�رسك الق�ص كما
ف�ضمها ،ليتجنب الف�ضيحة� ،إليه كزوجة �إىل جانب زوجاته َّ فقة �شعراً ،ناهيك عن د�سامة الثيمة Theme ت�أ�رسك لغته املتد ِّ
ا ألخريات غري العبدات ،فحبلت تلك الزجنبارية ،وولدت له ابنة التي تت�صدى لها الروائية يف عملها ال�رسدي هذا.
وتلك هي «�أمل» .نقر� أ يف الرواية: على رغم �أن غالف الكتاب يح�سم «جن�س» هذا العمل ا إلبداعي
«�أم اغت�صب ا ألب منها �رشفها ،و�أهداها ا�سمه زوجاً تعوي�ض ًا من خالل مفردة «رواية»� ،إال �أن ال�شيدية ال تني ت�ؤ ِّكد ذلك
غري عادل فقط لينقذ ا�سمه يوم حملت بي» (�ص .)79 من خالل �إحدى عتبات النَّ�ص عندما تقول عن هذا الكتاب
ويف رثاء «�أمل» لوالدتها يوم وفاتها نقر�أ« :طفولتك ال�سمراء �إنه« :رواية متخيَّلة ُن�سجت �أحداثها من ميثولوجيات املكان
التي اغت�صبها �شيخ القبيلة الهرم ،ممن هي دونه عمرا ً ون�سباً العماين» (�ص )5ما يعني �أنها ب�صدد عمل روائي متخيَّل ،لكنه، ُ
تزوج عبدته احلزينة الفاتنة ،ألنه �سطا عليها يف و�رشفاً ،ممن ّ العماين يفُ امليثولوجي املخيال يوظف عمل نف�سه، الوقت ويف
أ
حلظة �شبق ملعون لتلد له نبتة ملعونة ت�سمى �نا» (�ص .)83 اخلطاب الروائي.
«غادرت االنق�سام
ِ ويف �سياق رثائية «�أمل» لوالدتها نقر� أ �أي�ضاً: تقنياً ،تعمد الروائية �إىل توظيف «�ضمري املتكلِّم»؛ ذلك �أن
غادرت ف�ضيحة ر�سمت يف دفرت ِ واخلزي يف حياتي وحياتك، بطلة الرواية «�أمل» ،ت�ستحوذ على ت�شخي�ص ولفظ ُجل عمليات
وهبت فرجها ل�سيّدها ،وولدت ْ مذ َّكراتك ب�أنك ل�ست �سوى عبدة كلي
الربنامج ال�رسدي يف الرواية ،وهي لذلك مبثابة الراوي ِّ
بنتاً لقيطة» (�ص .)83 احل�ضور � Omnipresent Narratorأو الراوي العليم .Omniscient Narrator
ثم تقول «�أمل»« :ما �أب�شع �أن تكون حياتك كلها ثمرة خط�أ وتدفع بهذا الربنامج نحو ا�ستنفار طاقة الوعي يف الو�صف
فادح ،و�شهادة ميالد َك ت�صحيحاً لذلك اخلط�أ ،وعمر َك دعاء �أن العالماتي واحلواري ،والتذ ُّكر واملناورة ،والدخول �إىل مطاوي
ي�صحح القدر �أخطاءهم بغيابك» (�ص .)79 ِّ التاريخ ،والال�شعور الذاتي وغري الذاتي عرب ا�ستنطاق ما يجول
تك�شف لنا هذه املقاطع النَّ�صية عن ثالثة م�ؤ�رشات ت�ؤ�س�س لـ يف ذاتها وذوات ا آلخرين امل�شاركني يف برنامج الرواية
«�أمل» كينونتها الذاتية ،فهذه البنت هي« :ثمرة اخلط�أ الفادح»، ال�رسدي.
وهي «اللقيطة» ،و«النبتة امللعونة» .لقد ظلت هذه امل�ؤ�رشات ميكن لنا ا�ستجالء �صورة املر�أة بح�سب متثيالت Representations
حتفر وجودها يف ذات «�أمل» ،و�صارت ترافقها كلّما تكرب فاطمة ال�شيدية يف «حفلة املوت» من خالل م�ستويات عدة
280 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
العن�رصية يل» (�ص .)89 وتنخرط يف خمتلف �أوجه احلياة ،بل و�أ�صبحت هماً وجودياً
�أما ا ألب ،فتك ُّن �أمل له بغ�ضاً منقطع النظري كونه العن�رص املولِّد لها وال فكاك منه حتى دخلت �أروقة وعيها وعالقتها بالوجود
مل�أ�ساتها و�أمها ،فهو الذي دفعه �شبقه ال�شيطاين �إىل ارتكاب تلك من حولها ،وهو ما راح يتك� َّشف تباعاً ،وعلى ل�سان «�أمل»
اخلطيئة التي �أتت بالوبال عليهما .ولذلك ال تني فاطمة ال�شيدية نف�سها كونها امللفوظ الب�رشي الذي قذفته ليلة اخلط�أ الفادح �إىل
العماين «�أمنوذج �إال وتدفع ببطلة روايتها لف�ضح هذا ا ألب ُ العامل املرئي واملعا�ش؛ فقد بقيت متار�س لعبة احلياة /املوت
الذكورة املتجبرِّ ة» الذي �أوقعه ظلمه يف فخ اخلطيئة .لنقر� أ ما وهي «رهينة وجع مطبق منذ ا ألزل» (�ص .)28و�صارت اللعنة
قالته �أمل عن والدها يف النُّ�صو�ص /املقاطع ا آلتية: متاهي كينونتها الذاتية «تلك اللعنة هي �أنا» (�ص .)32وبدا
قذف بي �إىل هنا ،لعنه اهلل» «الرجل الذي ي�سمى �أبي ،ذلك الذي َ اخلوف مبثابة الهواء الذي تتنف�سه «�أنا بنت �رشعية للخوف»
(�ص .)59 (�ص ،)38و«اخلوف يتلب�سني» (�ص .)45و�أم�ست ذاتها مدماة
ال�س َحرة ،علي ِك اللعنة أ
«�أيها ال�سافل! تهبني طعاماً ل�صدقائ َك َّ «خم�ضبة باملوت» (�ص .)45وما ما�ضيها �سوى َّ باملوت �أو
�أيها امللعون وعليهم» (�ص .)59 ملوث باملوت والعار» (�ص .)74
«ما�ض َّ
نت �شيطان� ..شيطان� ..شيطان�( »..ص .)59 ل�ست �إن�ساناً � ،أ َ
«الَ .. امل�ستوى أُ
ال�سري
«�س�أرمم اخليبات املوغلة عميقاً يف جدر روحك ،و��سعف الهزائم
أ
املباركة يف عمرك لتكوين �سعيدة؛ فجالدكِ رحل�( »..ص .)80 يف �ضوء هذه احلمولة النف�سية� ،أفرزت الو�ضعية الذاتية التي
فلنها ابنة تتميز بها �شخ�صية �أمل جمموعة من املعطيات؛ أ
ال�س َحرة ،وال�شياطني،«قررت �أن �أتفل يف وجه �أبي ،ويف وجه َّ تزوجها �سيدها جمربا ً حلفظ عاره ،ف�إنها ما كانت
واجلالميد وا ألحجار و�أ�شباههما» (�ص .)134 عبدة َّ
امل�ستوى املجتمعي
العماين �صاحبات مت�ساوية و�أمها مع زوجات وبنات الرثي ُ
احل�سب والن�سبي(.)4
يت�ضح مما �سبق �أن التجربة الذاتية وا أل�رسية ألمل كانت قد لقد كان التمييز الطبقي والعن�رصي عبئاً تعانيه �أمل ووالدتها:
للب ولبقية �أبناء ا أل�رسة التي كونت عندها �صورة �سلبية أ َّ «كنت �أخاف هذه النظرة احلقرية التي تخت�رص ا إلن�سانية يف ُ
عا�شت بني كنفها ،وهي ال�صورة التي امتدت لت�شمل املجتمع معنى ،والكائن يف ع�ضو» (�ص .)96وكانت البطلة تت�ساءل
الذكوري بكل كينونته ،بل واملجتمع العام برمته .وهذا ما جنده على الدوام« :كم على املرء � أ ْن يدفع من �أثمان يف هذه احلياة
وا�ضحاً يف خالل �رسدية الرواية. القا�سية؛ ثمن حريته ،وثمن لونه ،وثمن فكره املغاير ..و�ستبقى
عممت �أمل يف النَّ�ص /املقطع ا ألخري فعل «التفل» = لقد َّ �ألوان جلود الب�رش معيار حكم �أخالقي عليهم ،يف حني ي�صري
أ
«الب�صق» ليطال الب�رش وال�شياطني والحجار .ويف ن�صو�ص الظلم �رشفاً يف كثري من ا ألحيان» (�ص .)84
�أخرى ك�شفت عن قمع املجتمع الذكوري للمر�أة عندما قالت: بدت �أمل كراوية امل�صدر الوحيد يف �رسدية الرواية التي تك�شف
للج�ساد لتكتمل حلقة «نحن ن�ساء ال�سواد املتدثرات بعباءات أ عن �صور من التمييز العرقي والطبقي التي تعرَّ�ضت لها هي
ال�صهر لذلك اجل�سد امللعون؛ ا ألب وا ألخ والزوج واجلغرافيا ووالدتها؛ فعندما عادت �أمل من البحرين ،وبعد ا�ستكمال
كلها حتا�رصه وتل ُّفه بحرقة لتخفي لعنة مفاتنه وعبثية خلقه» درا�ستها ،انخرطت بالعمل الوظيفي ،ويف حماولة منها للتعوي�ض
العمانية يف (�ص .)11ونبقى عند متثيل حال املر�أة اخلليجية �أو ُ على �أمها التي عا�شت �سنوات احلرمان والتهمي�ش وعدت والدتها
�أقل تقدير« :حيوانات ك�أبي وعمومتي وجميع �أبناء البلدة ،وهن قائلة مع نف�سها« :كل �أولئك ال�شامتني �سيكونون �أقل �ش�أناً منك،
را�ضيات بتلك ا ألدوار ،م�ستمتعات بلذَّة اخل�ضوع واخلنوع» �س�أهبك كل ما تتمنني من ذهب ومال ومالب�س لتكوين ال�سيدة
ج�سدية املر�أة
َّ (�ص .)13بل تذهب �أمل �إىل الك�شف عن حال التي ت�ستحقني ،ولتكوين ا ألعلى من �سيدات ا ألرداف الثقيلة
�شاهدت �سياط الظلم تتلى على ج�سد �أمي ُ املقهورة�« :أنا التي والعائالت العريقة زوجات �أبي امللعونات مثله اللواتي جعلن ِك
أ
وكل ن�ساء القرية ،..الزواج الذين جعلوا عقد الزواج عقد عبودية ومل َن عمركِ بالكيد والبغ�ضاء والفنت ،و� أ ِ
نت �سيِّدة دونه َّن قدراً ،أ
وامتهان ..يهرعون �إليه َّن ليالً كالوحو�ش ليطفئوا رغباتهم ال�صمت البليغ» (�ص .)81
القذرة يف �أج�سادهن اله�شة بال كلمة حب �أو مل�سة حنان كي ال لي�ست زوجات ا ألب فقط ك َّن ميار�س التمييز العن�رصي على
يتطاولن عليهم ،كهذا تقول تقاليد القبيلة الغبية»(�ص.)14 �أمل ووالدتها� ،سيِّدة ال�صمت البليغ ،بل �أبناء العمومة �أي�ضاً،
�إن نظرة �أمل ال�سلبية جتاه املجتمع الذكوري عامة ،والرجل فهذا «خالد» الذي �أحبته �أمل يوماً لكنه ُي�ضمر ر ؤ�ية عن�رصية
�سواء كان �أباً �أم قريباً �أم زوجاً على نحو خا�ص ،قادتها �إىل «كنت �أكره ا أل�شباح التي ت�سكن ر�أ�سه،
ُ ألمل كونها ابنة عبدة:
تن�ضيد مواقف معلنة تارة وم�ضمرة تارة �أخرى من االرتكان كنت �أكره �ضعفه ،ونظرته والطحالب التي تع�شع�ش يف خميلتهُ ،
281 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يت�ضح من هذا النَّ�ص احلكائي �أن �أمل تعرَّ�ضت �إىل غيبوبة �إىل الرجل كزوج ،فعندما كانت والدة �أمل تلح عليها بالزواج
ال�سحر ،وا�ستحالت ،بعد تلك الواقعة� ،إىل �إن�سانة «مغيَّبة» بفعل ِّ كان الرف�ض حا�رضا« :لن �أتزوج �أي حمار ورث النهيق كما ورث
أ أ
(�ص ،)63وم�سحورة ،ي�صاحبها قط ��سود «القط ال�سود الذي تزوج ممن هم كالبهائم �أو الرجولة املزعومة» (�ص .)90و»لن � أ َّ
يتبعني كظلي يف كل مكان ،والذي ال يراه �أحد �سواي» (�ص.)72 �أقل �سبيال» (�ص )87؛ فالذكور «ثريان ال يفهمون احلياة �سوى
و�صارت هذه اخلا�صة لها م�شهورة يف ف�ضائها ا أل�رسي من قرونهم �أو من �أع�ضائهم» (�ص .)120ولذلك �أ�رصَّت �أمل
واملجتمعي الذي تتحرَّك فيه ،وم�صدرا ً لقلقها و�إزعاجها على �أن تكون «الفنانة التي ال تقوى �إال على ن�سج اختالفاتها
امل�ستمر ،بل م�صدر اللعنة واخلزي والعار وا ألمل .حتى �إن هذا �ألواناً لتقاوم ال�سقوط كي ال يذوب حلمها الذي غذَّته من فتنة
«القط ا أل�سود» �صار مالزماً لها يف عالقة متاهي ،فقد قال املجهول يف بوتقة رجل �ساذج ،رجل يقامر روحي بلحظة �شبق
لها القط مرَّة�« :أنا عبد من عباد اهلل ،و�أنا و�أنت متالزمان منذ ملعون ،وبرتك ب�صماته على ج�سدي املفتون بحمى االختالف
قرَّر رجل من ا إلن�س �أن �أكون ظلِّك� ،إال تذكرين؟ ولن �أ�سمح ل ِك وجريرة الع�شق»(�ص.)14
بالزواج من كائن � آخر ،وحني تقررين ذلك ف�ستكون نهايتك على ب�إزاء كل هذه القناعات واملواقف التي ميزت �شخ�صية �أمل،
يدي!» (�ص .)73 ما كانت فاطمة ال�شيدية لتقف عندها دون ت�رسيد Narrativivsat م
يف عاملي ا إلن�س واجلان ،ثمة حما�رصة وقمع وطغيان tionجملة من احلكايات يف الرواية لكي متنح خطابها مناورات
و�إح�سا�س بالعار تتعرَّ�ض له �أمل؛ فالقط ذكر ،وا ألب ذكر، ذكورية
َّ عدة يف جت�سيد �صورة املر�أة املعذَّبة بني ناري و�سلطتي
وا ألمل ذكر ،والطغيان ذكر ،والعار ذكر .وهكذا يربم املجتمع وذكورية اجلان على �أن تعدُّد احلكايات يف النَّ�ص الواحد
َّ ا إلن�س
الذكوري �سطوته على ذاتها ،ويلتف على كينونتها حدَّ احلق. تنوعه وثرائه وهو ما ينعك�س على ثراء خطاب ّ خري أ
ل ا هذا مينح
ولنالحظ �أن القط ا أل�سود �أخرب �أمل ب�أن رجالً من ا إلن�س طلب الرواية اخلا�ص بها ،وقبل ذلك يرثي الربنامج ال�رسدي للرواية
منه �أن يكون ظالً لها .وهو ما �سعت فاطمة ال�شيدية �إىل ومينح الروائي قدرات على التحرُّك احلر يف بناء ذلك الربنامج.
كت �أمل م�سطرته Dec تت�شفريه بداية ،Encodingلكن �رسعان ما ف َّ لقد بدت عالقة �أمل مع والدها ووالدتها بكل ما فيها من مفا�صل
coding؛ فرج ُل ا إلن�س هذا هو والد �أمل ،لنقر�أ« :الرجل الذي ي�سمى حكاية �أوىل يف الرواية� ،إال �أن هناك حكايتني �أي�ضاً؛ حكاية
قذف بي �إىل هنا ،لعنه اهلل� ..أيها ال�سافل! تهبني �أبي ،ذلك الذي َ ال�سحر ،وحكاية ع�شق �أمل ل�شاب من البحرين تعرُّ�ض �أمل �إىل ِّ
ال�س َحرة ،عليك اللعنة �أيها امللعون وعليهم.. طعاماً أل�صدقائك َّ ا�سمه «�أحمد ّ
الريان».
�أمل تر َّق ألعوامي النيئة وطفولتي اخلبيئة؟ الَ ..
ل�ست �إن�ساناً، كل هذه احلكايات الثالث متثل ع�صب الربنامج ال�رسدي يف
نت �شيطان� ..شيطان�( »..ص .)59 �أ َ خطاب «حفلة املوت» التي عمدت فاطمة ال�شيدية �إىل خلق بيئة
الذكورية على �أمل ابنة اثني ع�رش ربيعاًَّ هذه هي جناية ال�سطوة من التالزم والتداخل فيما بني مفا�صله حتى بدا البناء ال�رسدي
ال�سحر ،و�أدخلها يف �أتون مقا�صده التي �ساقها والدها �إىل عامل ِّ فيه مرتا�صاً من حيث وحدته احلدثية واخلطابية.
ال�سحر يالزمها يف رحلة العمر؛ يف الدرا�سة الدنيئة .وظ َّل هذا ِّ منذ ال�صفحة 17يف ن�ص الرواية ،بد�أت �أمل ،وهي الراوية،
بعمان ويف البحرين ،ويف بريطانيا �أي�ضاً ،وكلَّما �سعت �أمل ُ بت�رسيب بع�ض ا إلحاالت �صوب حكاية ما ،حكايتها اخلا�صة
للتخلُّ�ص من �سطوته ،كان يداهمها فتنهار مراراً ،وكلما �أرادت بها .فهي تتحدَّث عن «كائناتي الكثرية التي ت�سكنني» (�ص
�أن جتري حتوالً يف حياتها ،كالزواج مثالً ،كان القط ا أل�سود .)17وهذا م�ؤ�رش على �إ�شكالية ما تعي�شها هذه ا ألمل .وبعد
لها باملر�صاد حتى �إنها ،وعندما جاءها �أحمد �إىل لندن لكي �صفحات �أخرى تقول�« :أنا � آخر املغيَّبني والغرباء» (�ص .)33
يعقد قرانه عليها� ،أ�شهرَ القط ا أل�سود الذي ي�سكنها �سيفه بوجه ومن ثم تقول مت�سائلة يف معر�ض حديثها عن حبيبها �أحمد:
وجودها حتى �أحالها �إىل ج�سم ميت لتودع يف �رسير التح�ضري «هل �سيحبني لو عرف حكايتي؟» (�ص .)53
على الدفن ،وبينما غادرها �أحمد يائ�ساً منها راجعاً �إىل �إن �أمل امل�سكونة بالكائنات الكثرية� ،أمل املغيَّبة ،و�صاحبة
البحرين� ،أفاقت من هيمنة هذا القط اللعني ،ولكن بعد �أن �أف�سد حكاية ،ت�شي ذاتها احلبلى بالوجع الوجودي القاهر مبا ال
عليها زواجها من حبيبها الغايل. ُيحمد عقباه .وبالفعل مت�ضي بطلة الرواية على نحو متداع
الذكورية على وجود �أمل ،ثمةَّ على رغم �سطوة جنايات الهيمنة يف فعل حكي توا�صلي يهدف �إىل البوح بانطولوجيا حكايتها:
يد�سه الوجود لهذه الفتاة املغلوبة على �أمرها واملقهورة �أمل ُّ «حكايتي التي بد�أت بيوم غفوت فيه ألجدين كائناً مندجماً
ب�سياط ا إلن�س واجلان من الرجال .وهذا ما �سعت فاطمة ال�شيدية بكائنات �أخرى؛ كائنات �شبحية ال �أج�ساد لها ،كائنات ت�أكل
�إىل تكري�سه يف احلكاية الثالثة من حكايات الربنامج ال�رسدي من ر�أ�سي ،كائنات من اجلن تقتن�ص حدائقي ال�رسية ،وت�ستلف
اخلا�ص بـ«حفلة املوت». �صوتي وج�سدي وحزين» (�ص .)54
282 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
مرتددة
ويلح على ذلك ،بينما هي كانت ِّ يريد الزواج منها ُّ و�إذا كان القط ا أل�سود ظل يرافق �أمل يف حياتها مذ كانت يف
خوفاً من اكت�شاف �أ�صلها كلقيطة ،و�إن �أخفت فاطمة ال�شيدية الثانية ع�رشة من عمرها ،ف�إن �أحمد ،ا أل�ستاذ اجلامعي ،والفنان
ذلك ،واكت�شاف و�ضعيتها كفتاة م�سحورة نخر القط ا أل�سود الت�شكيلي البحريني التي كانت والدته عراقية ووالده من
الريان ليقف عند كل ذلك حائراً ،بل�أحالمها .ومع ذلك ،ما كان ّ البحرين ،ظل يرافق �أمل منذ بداية الرواية حتى حلظة انق�ضا�ض
راح يخفف من وط�أة �أوجاع حبيبته ،لكن القط ا أل�سود انت�رص القط ا أل�سود على �أمل يف لندن ،ومن ثم ان�سحابه من عاملها.
عليه يف نهاية ا ألمر بلندن عندما غيَّب �أمل �صوب �أ�سوار كينونة الريان� إ َّن ما تريد فاطمة ال�شيدية قوله من خالل �شخ�صية �أحمد ّ
الريان عن لندن يائ�ساً من �أمل التي
املوت ،و�أحياها ُبعيد رحيل ّ هو �أن العامل الذكوري لي�س كله �رش؛ فثمة �إ�ضاءة يدلقها الوجود
مل ي�ستطع «�سحق كائناتها الكثرية التي ت�سكنها» (�ص 17ت). الذكوري على عامل املر�أة و�إن كان ،هذا الوجود ،مظلماً جرّاء
وهي نهاية متو َّقعة ،خ�صو�صاً و�أن �أمل هي التي قالت يوما: قمع �أبوية الرجل املقيتة.
ظلَّت �أمل كـ«راوية كلية احل�ضور» هي امل�صدر ا إلخباري
«�أنا �أعرف جيدا ً �أنني ُ
ولدت �صارية للفقد» (�ص .)11
ذكورية احلقد ذكورية اخلري، ذكورية ال�رش على لقد انت�رصت والو�صفي وال�سيميائي لكينونة �أحمد يف كل �رسدية الرواية،
َّ َّ َّ
ذكورية احلب .وبرغم �رشا�سة ما تعرّ�ضت له �أمل من على فقد كانت العني الوا�صفة جلل ما تف ِّكر فيه �شخ�صية هذا احلبيب
َّ
أ أ
مكائد ا إلن�س واجلن �و اجلان ،كان المل يحدوها لتنفلت من العا�شق من �أفعال داخلية Internal Actionولبع�ض ما تقوله وتفعله
كل ذلك ،فالدخول �إىل العامل الذكوري مبفتاح احلب والع�شق ك�أفعال خارجية .External Action
بدا لها اخليار ا ألخري الذي عزمت على خو�ض غماره ،وهو يف بداية تعارفهما ،فتحت �أمل م�ساحة يف ذاتها وقلبها لهذا
م�ؤ�رش على �صالبة �أمنوذج املر�أة الذي قدَّمته فاطمة ال�شيدية ا أل�ستاذ الفنان ،لكنها كانت تتقبله على م�ض�ض عرب �أ�سئلة
عرب متثيلها املتخيَّل ل�شخ�صية �أمل يف «حفلة املوت» ،ويف حائرة تت�أرجح بني رف�ضه والقبول به ،بني انتمائه �إىل العامل
الوقت نف�سه �أمنوذج املر�أة املقهورة ،املر�أة حفيدة العابرين من الذكوري واحلاجة �إىل رجولته .لذلك ،جند جملة من ال�صفات
ال�سلبية احلذرة تكيلها �أمل لهذا الفنان بداية مثل�« :أيها املجنون
�ضفة زجنبار �شطر ُعمان ،وابنة تلك «العبدة الزجنبارية» التي
ال تالحقني» (�ص .)10و«ماذا ميكن لهذا املتغطر�س �أن يحب
العماين يوماً ،ويف طق�س � آثم ،ليخلق ال�سبي غار عليها �سيِّدها ُ يف» (�ص .)35و«هذا املجنون ا ألكرب» (�ص .)37و»طري خرايف َّ
الوجودي لواحدة من تلك الن�سوة الفارات من اجلوع واحلرمان
يتهادى ببطء» (�ص .)38و»هذا الطاوو�س» (�ص .)39
وا ألمل �شطر جوع و�أمل وحرمان وبكاء م�ضاعف فاج�أها يف
الريان �أمالً ألمل امل�سحورة
بالتوازي مع كل ذلك ،كان �أحمد ّ
ال�ضفة اخلليجية اجلديدة. التي ت�ساءلت مع نف�سها مرة قائلة« :هل �سيرتك كل ذلك الظهور
هوام�ش اللوين ال�صاخب وا ألنوثة الطاغية ،وي�أتي يل �أنا؛ القروية
( )1الدواوين ال�شعرية هي« :هذا املوت �أكرث اخ�رضاراً» ،دار الر ؤ�يا ،م�سقط، امللوثة الذاكرة؟» (�ص .)35ويف الوقت ذاته ،كانت �أمل تعتقد َّ
« .1997خالخيل الزرقة» ،دار املدى ،دم�شق« .2004 ،مراود احللكة»، �أنها «ومنذ توج الزمن عمرها بفتنة اخلدر اللذيذ ،وهي عا�شقة
وزارة الرتاث والثقافة ،م�سقط.2008 ،
( )2فاطمة ال�شيدية :حفلة املوت ،دار ا آلداب ،بريوت.2009 ، بامتياز؛ عا�شقة كنخلة يبد� أ الع�شق لديها من اجلذور ويتمدَّد
(� )3أنظر :جريالد برن�سك قامو�س ال�رسديات� ،ص ،24ترجمة ال�سيد �إمام، حتى الطلع» (�ص .)12
مرييت ،القاهرة.2003 ، وو�سط ت�سا ؤ�ل من قبيل« :هل �سيقدر على �سحق كائناتي الكثرية
( )4كانت �أمل ووالدتها تعي�شان يف بيت طريف ،بينما كان والدها يعي�ش بحب �أحمد ،وبد� أ ُت التي ت�سكنني؟» (�ص ،)17قالت �أملُ �« :
آمنت ِّ
العمانيات ،ن�سائه غري العبدات ،يف منزل � آخر هو مع ن�سائه ا ألخريات ُ �أعي�شه» (�ص .)16و�أ�صبحت «ال ت�ستطيع قذفه خارج نوافذها
«املنزل الكبري» (�ص .)50
ني من القهر الذكوري؛ فعن �صديقتها ( )5حتدَّثت �أمل عن ن�ساء عدة يعان َ امل�رشعة على انتظاراته ،وال خارج اللوحة التي تغذي جنونها
بدرية قالت« :بدرية احل�سناء التي غدت جمنونة من زوجها الذي كان تعد قادرة على
ي�ضاجع خليالته يف غرفة نومها» (�ص .)114وعن �أم �شيخة قالت �أمل�« :أم
به ،وتتخذه ملهماً» (�ص .)36ويف النهاية «مل ُ
�شيخة التي ت�شتهي رائحة زوجها لعدة �شهور ،وهو ي�ستبيح ج�سد الغلمان
�أن ت�رسج هواج�سها املتوالدة بجنون �إال نحوه» (�ص .)37
لطمر �شهوته يف م�ؤخراتهم الطرية» (�ص .)114وبالتايل تلك «التي عري حقويل من الوهم وكانت تناديه ب�صوت خمبوء« :تعال أل ِّ
قذفت ينف�سها يف الفلج ليقال �إنها م�سحورة؛ ألنها �شاهدت زوجها ميتطي و�أغ�سلها ب�أمطارك» (�ص .)20
خادمتها ا أل�سيوية» (�ص ..)114 الريان �إىل نهاية املطاف ،كان لقد م�ضت �أمل بحبها ألحمد ّ
جنيب خداري
يف «يد ال ت�سمعني»
لطيفة بلخري
كاتبة و�أكادميية من املغرب
«ربح ال�شعر احلديث بان�ضمام جنيب خداري �شاعرا يعرف حـول مورفولوجيـا الديـوان
كيف يكتب ب�إ�رشاق طفويل أوبفرح من وجد �ضالته بعد �سنوات �إن �أول ما يجذبنا �أثناء قراءة عنوان ديوان «يد ال ت�سمعني»
من التيه يف قفار اللغة وال�سئلة املبهمة ».
هو ا آلليات اللغوية التي تنتظم متخيل هذه العبارة ،والتي عبد العزيز املقالح
متنحه خ�صو�صيات ذات م�سحة خا�صة يف مالم�سة حدود
�إن ال�شعر �شعور وخيال ،وفعل وانفعال .ولذلك فال منا�ص ال�شعر .ومبا �أن ال�شاعر يدرك ما لواجهة الديوان من �أثر على
�أن ي�سبح كل �شاعر يف عوامله اخلا�صة و�أن ي�ستظل بظالل نف�سية املتلقي ،ف�إنه اختار عتبة �صادمة ومفاجئة� ،سيما
ال ي�ستظل بها غريه .ومن ثم ،ف�إن ك�شف هذه العوامل و�أن للعنوان وظائف تعبريية وانفعالية وت�أثريية ينفرد بها
وا أل�رسار والظالل ال يت�أتى للقارئ �إال بالغو�ص يف �شعرية عن �سواه من م�ؤ�س�سات ف�ضاء واجهة الغالف ،وذلك ألنه
البنى التحتية املف�ضية �إىل �سيكولوجية املبدع .ومبا �أن �أبرز عتبة ت�ستثري �أ�سئلة القارئ ،بل وت�سعفه على اقتحام
ال�شعر تيه وحلم وخيال ،ف�إن ا�ستعجال اقتحام جماهله ،متاهات الن�ص .فهل ا�ستطاع املظهر الرتكيبي لهذا العنوان
�أمر قد يحبط ا إلف�صاح عما ميور به هذا العامل املركب ،احتواء مالب�سات ا إلنتاج الن�صي خا�صة و�أن العنونة
�سيما و�أن ديوانا مثل «يد ال ت�سمعني» لل�شاعر «جنيب بنية ن�صية �أ�سا�سية لتوليد الداللة ،وعالمة �سيميوطيقية
خداري» حمكوم مبالب�سات �إبداعية يت�شابك فيها الذاتي ت�ضمينية لتحقيق التما�س والتجاور بينها وبني خمتلف
باملو�ضوعي ،وال�سيكولوجي باملاورائي .ولئن كان هذا مكونات العمل الفني ؟
ال�شاعر مهوو�سا مبراجعة مفاهيم اخللق ال�شعري ،ف�إن هذا �إن عبارة «يد ال ت�سمعني» باعتبارها عنوانا لهذه املجموعة
الهو�س �أمر طبيعي لدى كل �شاعر �أ�صيل يعي ب�أن ال�شعر ال�شعرية ،تهب الن�ص �إمكانات التمثل واعتبارات الت�شكل
تعبري فني ال يقبل التنميط �أو التحنيط �أو الر�سو على هيئة لدى املتلقي ،ولذلك فهي ال ت�ؤدي وظيفة الت�سمية والتعيني
هند�سية ثابتة .ولعلها امل�سلمة الفنية التي تبدت منذ وا إل�شهار فح�سب ،و�إمنا ت�سعى �إىل امتالك وظيفتي االحتواء
ا ألنا�شيد الدينية القدمية واملالحم ال�شعرية مرورا مبختلف واالنعكا�س؛ �أي احتواء اجلزء للكل ،وانعكا�س الكل يف اجلزء.
الت�شكيالت ال�شعرية الغربية والعربية التي مل تعرف قرارا �أو ومن ثم ،فقد تغدو هذه املتوالية اللغوية ا إليحائية تركيبة
وجزة ألول عنوان فرعي داخل هذا ا ألثر ا ألدبي وهووم ِ
بليغة ُ ا�ستقرارا على مرّ التاريخ.
وال �شك �أن «جنيب خداري» قد َو َعى هذه التجاذبات «يدي على يد ال ت�سمعني» بو�صفه عنوانا للمجموعة ا ألوىل
البويطيقية الالم�ستقرة ،ألن ديوانه يعك�س اختمار جتارب من ق�صائد الديوان التي تت�ضمن ثماين ع�رشة ق�صيدة وهي
�شعرية متباينة يف مدارات خميلته املتوجة باحتكاكه على التوايل« :حتت ال�صفر»« ،ذات خوف»« ،دمي دمها»،
الطويل بالق�صيدة املغربية التي �أ�سهم من خالل �إ�رشافه «رع�شة»« ،م�شهد»« ،وراء الليل»�« ،أبعد من موت»« ،ك�أين ال
على امللحق الثقايف جلريدة «العلم «املغربية يف بلورة �أ�شبهك»« ،خلف نافذة الوقت»« ،حلظة»« ،حكمة»« ،لهاث»،
«ح�ضور»« ،انتظار»�« ،أكاد �أ�سميها»« ،هوية»« ،ا ألقا�صي»، حتوالتها و�إبداالتها وم�ساراتها الفنية واجلمالية.
وهكذا ،فقد �صار االحتكاك وعدم ا�ستعجال القول ال�شعري «ع�شق» .وهي ق�صائد حتكي �سريورة املعنى الذي ي�شكل
عاملني قويني حل�شد حد�سه ال�شعري ابتغاء خلق منوذج �أبرز تيمات املجموعة ا ألوىل من هذا ا ألثر حيث يح�رض
�شعري يك�رس البنية والداللة ويحملهما نحو � آفاق جديدة ،اخلوف ،والتيه ،واملوت ،والع�شق ،واالنتظار ،واحللم.
مما يفيد �أن ديوان «يد ال ت�سمعني» يج�سد بيانا �شعريا �أما املجموعة الثانية ،التي حتمل عنوان «الظل �أ�شد
ا�شتعاال» ،فقد ا�شتملت على ثالثة وثالثني عنوانا فرعيا، ي�سعى �إىل ت�شكيل خما�ض فني خالق.
284 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
واملعاينة ،يقول ال�شاعر: انبنى اثنان منها« :بني يديك» و«يدان من هواء» على
هـوام /الليل /ال ي�سري �إلي ْك/..
ّ الذي بني يديك /مثـل/ مكوِّن «اليد» الذي يعد �أبرز عالمة لغوية يف هذا الديوان.
تـراه /الذي /يفرحـك /يبكيك تـراه /ال ُ
الذيُ / ويلحظ القارئ �أن عبارة «يد ال ت�سمعني» ال تهيمن على
الذي /ترك�ض /حني يرك�ض /ال تلتقيـان البنية الن�صية ا أل�سا�سية .ومرد هذا التعتيم الداليل �إىل لعب
ذابت /يف /برزخ/الوهم. الذي� /إن مدَ ْدت �إليه يداْ / ال�شاعر على ا�سرتاتيجية اال�ستفزاز وتفجري ا أل�سئلة الفاهمة
الذي �إن كففت عنه يـدا� /صرِ ْ َت /دون يـدٍ /دون غـدٍ)3( . القادرة على �إدراك ا آلليات اخلفية التي جتعل من الديوان
�إن هذا ال�شيء الغام�ض والغريب الذي تنتظمه �صلة مبهمة ن�صا متكامال �أو ملحمة �سيكولوجية غري قابلة لالنف�صال
مع الذات ال ينتج �سوى االنف�صال والتباعد والوهم حني �أو التجز ؤ� على اعتبار �أن العنونة «عملية ال تخلو من ق�صدية
ترك�ض هذه الذات خلفه �أو متد �إليه اليد .بل �إن ا�ستنكاف كيفما كان الو�ضع االجنا�سي للن�ص� ،إنها ق�صدية تنفي
ربط ال�صلة مع هذا ال�شيء املبهم منتج الوهم قد ي�ؤزم معيار االعتباطية يف اختيار الت�سمية ،لي�صبح العنوان
الو�ضع حيث ت�صري اليد مبتورة على مر الزمان مما يدخل هو املحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد �إنتاج نف�سه وفق
الذات الراك�ضة املتطلعة يف �أزمة هوية دائمة. متثالت و�سياقات ن�صية ت�ؤكد طبيعة التعالقات التي تربط
�إن �صلة ا�سم املو�صول [الذي] من�سوجة يف �إطار عالقة العنوان بن�صه والن�ص بعنوانه)1(».
الت�شابه واالختالف ،والت�شابك واالنفكاك وال�شد واجلذب، وهكذا ،فقد يبدو عنوان «يد ال ت�سمعني» �إعالنا لت�شكيل
والتباعد والتقارب بني ال�صلة واملو�صول [الذي هو ا ألبعد مظاهر التناغم البنيوي والداليل املحددين ألمناط الكون
من ترابك /ا ألقرب من �سحابك ،الذي هو �أنت /ال ي�شبهك ال�شعري داخل الديوان .ولذلك �أم�سى مبثابة جمال لتوليد
/الذي ل�سته /م�شتبك ب�أغ�صان روحك] لتتوج هذه ال�صلة املعاين االفرتا�ضية يف تعالقها وتفاعلها مع بنية الن�ص،
مع املبهم بال�سمو يف ا ألعايل كناية على ال�شطح وا إل�رشاق. مما يجعل العنوان مطبوعا بو�ضع خا�ص يف التمثل والتعبري
لدرجة ي�صري معها املو�صول يف ق�صيدة «يدان من هواء» واال�شتغال ألنه ي�شكل نواة الب�ؤرة التخييلية .وتكمن بالغة
عبارة عن ذات ميتافيزيقية ي�صحو �صاحبها وهو يكابد �أمل االت�ساق الداليل بني العنوان والن�ص ا أل�سا�سي يف تكرار
النزول من ا ألعلى �إىل ا أل�سفل املادي املحكوم بعالقة الربح لفظة «يد» داخل املنت ال�شعري يف �صيغ خمتلفة يو�ضحها
واخل�سارة: اجلدول ا آلتي:
تركت ليدين من هواء� /أن ت�صفعـاين /ونزلت� /إىل املجموع عدد املرات املفرد ة ال�صفحـة
�أ�سفلي� /أح�صي اخل�سارات)4(. 21 5 5-9-9-66-112 يـــد
ي
غري �أن اليد التي كانت على و�شك االنبتار واالنف�صال عن 9 113.113.111.68.43.42.42.9.5 يــ د
ذات املتكلم ال�سارد يف ق�صيدة «بني يديك» تتحول يف 1 5 �أيـدي
ق�صيدة «�أول حلم» �إىل مرادف للعني حيث يتم حتطيم 3 44.41.41 يـديـك
امل�سافة بني احلوا�س ألن ا ألمر يتعلق مبكونات الروح ال 3 55.52.52 يــدان
حتدُ ُ�س ابت�سامةباجل�سد؛ �إذ ت�صبح اليد هنا �أداة للر ؤ�يا التي ْ يالحظ بناء على معطيات اجلدول الوا�صف �أعاله� ،أن
الطفولة ،وت�ست�رشف ا ألفق يف � آخر زمن احللم .يقول ال�شاعر كلمة «يد» تكررت �إحدى وع�رشين مرة يف �صيغ �رصفية
يف ق�صيدة «�أول احللم»: و�أحكام �إعرابية متباينة .وقد ارتبطت يف مدارات �سياقاتها
�ضيء عتمـة الزاوية /تـ�سبقنـي يدي/ ت�سبقنـي عيني /لتُ َ التداولية بذات املتكلم ال�سارد وا آلخر؛ املخاطب الذي قد
تـطارد /يف � آخر احللــم� /أول
ُ وهـي لرتى ب�سمـة مريـم/ يكون هو ذاته ذاتا من�سلخة من ذات املتكلم .ولذا فقد
الفرا�شات)5(. ُوظفت هذه الكلمة يف الن�ص ال�شعري لترتجم عرب مناجاة
يبدو � أن «اليد» ال تعرف حاالت � أو مقامات قارة، وجدانية م�أزومة يف جمملها عالقة الذات با أل�شياء التي
ألن �رشوخ الذات ُت�صيرّ ُها نفيا منْفِيا ُيعيد ماجريات حتاورها ع�ساها �أن حتدث انفراجا يف خارطة انفعاالت
اال�ست�رشاف �إىل درجة ال�صفر من الو�صال واالت�صال املتكلم ،يقول يف ق�صيدة «ذات خوف»:
)لكن ال�رسير ي�سبح /يف لذاذة النوم /والغطاء وثري ،وال يدي /على يد ال ت�سمعني /على �صخرة /مت�سدهاَ ...ع ّل
عني /ومرمي يف � أول احللم( .)6بل �إن يد ت�سبقني ،وال ُ فرا�شة تطري /تع�رصُهاَ ...ع ّل نبيذا ي�سي ُل 2
اليد قد تتحول يف خ�ضم عدم توا�صلها مع ذات املتكلم وقد تف�صح اليد يف ق�صيدة «بني يديك» عن �شيء مثري،
يف ق�صيدة «انطفاء» �إىل حفارة القرب وحمالة الروح نحو غريب ،غام�ض وغري مطاوع لنقل ا إلح�سا�س والتجربة
285 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
مما يعك�س �إح�سا�س ال�شاعر العميق بجوهر ن�ش�أة الكون � أفولها وانطفاءاتها .يقول ال�شاعر:
الفيزيقي .و�إذا كان ا إلهداء تقليدا �إبداعيا ،و�أداة �إجرائية الروح نحو انطفاءاتهـا /ليد منَ ليد من تراب� /أن حتمل
ل إلخبار عن العالقة القائمة بني املبدع واملهدى �إليه ،ف�إن تـراب� /أن حتفـرَ قربا� /أن تودع القلب /جثـة ال�سمــاء)7(.
الديوان يحفر جماريه الداللية وفق تعالقات ا أل�صل والفرع �إن امتزاج املادة بالروح ،والرتاب بالهواء ،والقلب بال�سماء،
(� آدم /حواء) واجلوهر والعر�ض (الذات ا إللهية/الذات ُيدخل الذات املتحللة يف ت�ضاربات التيه(القربـ ال�سماء))8(.
الب�رشية) واحلا�رض وا آلتي (الدنيا/ا آلخرة). وهو ما يوحي ب�أن عامل احلد�س منقول عرب الرمز وا إليحاء،
ومما يزيد من الداللة ا إليحائية للن�صو�ص املوازية لت�صبح «اليد» املتحولة �إىل حا�سة هيولية ،نواة للتعبري عن
املرتبطة بديوان «يد ال ت�سمعني» ،ت�أخري املقدمة (ح�صار �شطحات املبدع ،مما يحيلها �إىل رابط معنوي قوي بني
املحبة) التي ذيل بها ال�شاعر «جنيب خداري» قوله ال�شعري داخل الن�ص وخارجه.
مك�رسا بذلك هند�سة الت�أليف النمطي الكال�سيكي ،لي�شعل ومبا �أن «اليد» جاءت �صلة للمو�صول املبهم ،ف�إنها وردت
بذلك �أ�سئلة منهجية ي�صبح معها خطاب اخلامتة/املقدمة نكرة ،ومل ت�ستعمل معرفة �إال مرة �أو مرتني ،ألن املعرفة
مفتاحا ملفارق عوامله ال�سيكولوجية والروحية والثقافية. تقييد والنكرة تعبري عن املطلق وال�شمول .وتبعا لهذا
و�إذا كان خطاب املقدمات ميتلك �سلطة توجيه القراءة ،ف�إن التف�سري ،ميكن اعتبار «اليد» يف العنوان ،ويف ثنايا الديوان
ال�شاعر قد � أ ّخره جاعال منه خطاب خامتة و�إ�ضاءة بعدية ب�إفرادها وتثنيتها وجمعها عامل ربط بني ال�صلة (اجل�سد)
حتى ال ت�ؤثر � آرا ؤ�ه الفكرية والنقدية يف م�سارات القراءة، واملو�صول (الروح)� ،سيما و�أن فل�سفة هذه الذات متتح
ولكي ال تلعب �أدواته ا إلجرائية ومتظهراته اال�صطالحية مقوماتها من مقامات التحري والتقلب واال�ضطراب.
دورا يف الفح�ص والتحليل ،وعيا منه بالعالئق اجلدلية ال�شك �أن التيه يف جماهل الت�أويل� ،أول ملمح ل�شعرية
التي تربط العمل ا إلبداعي مبقدمتهُ ،م�ضمنا �إياها �أفكارا الديوان ،و�أبرز عالمة إلثارة �شهية القراءة؛ �إذ ي�صبح العنوان
و�أ�سئلة تالم�س جملة من ق�ضايا ا إلبداع والذات وا آلخر؛ بانفتاحاته �صورة تخييلية تعبرّ عن �شمولية الن�ص ال�شعري،
يقول «وقفت ،دائما ،ب�سذاجة� ،أو بنباهة� ،أمام البدهيات، وهي ال�صورة التي حتث القارئ على الت�شفري املندرج �ضمن
طارحا �أ�سئلة جديدة .جعلني ال�شعر �أقرتب �أكرث من مرحلة ما قبل القراءة ا�ستعدادا لالنخراط يف ثـقافة الن�ص.
�أ�سئلة الذات وا آلخر ،واللغة ،واحلداثة ،والرتاث ،واجلمال، وذلك ألن العنوان ح�سب «�شـارل غريفيل» ،و«ليو هويك»
والفن ،)10(»....وهو ا ألمر الذي ي�ؤكد �أن هذه ا أل�سئلة هي Ch. Grivel et Leo Hoékـ عالمة ل�سانية تقوم بتعريف وتعيني
امل�صدر املنهجي الكامن خلف املق�صد من الكتابة ال�شعرية داللته و�إثارة قرائه .بل �إنه بتعبري «فليب لوجون »Ph. Lejeune
لديه ،حيث �أ�ضحت هذه اخلامتة/املقدمة/ح�صار املحبة مبثابة خطاب حا�شية يوجه القارئ ويتحكم يف القراءة(.)9
�أف�ضل �أداة ال�ستنباط ا ألبعاد الر ؤ�يوية التي تف�صح عنها وعليه ،فقد يغدو عنوان «يد ال ت�سمعني» م�ستفزا ومومئا
مو�ضوعات �إبداعه ال�شعري. بانزياحه الداليل ومظهره الرتكيبي .وما يجمع بني
التيه ال�سيكولوجي �أو الفرح بتيه الغابة طريف الو�صل (العتبة الن�ص) على م�ستوى الت�شكيل اللغوي
�إن احلداثة اقتبا�س من �أفق االحتمال و�إبحار يف �أكوان والداليل هو التيه ال�سيكولوجي وغياب التوا�صل بني الذات
املمكن واملحال ،ولذا راح ال�شعر العربي احلداثي ي�شتغل وا آلخر .وهذا ما ترتجمه عناوين ق�صائد الديوان املوزعة
على هذا «الرهان» الذي ي�سعف ال�شاعر على بلورة ا أل�سئلة بني كلمات مفردة و(عددها �ستة وثالثون عنوانا ،نذكر
احلارقة والتهوميات القار�سة كمعادالت لت�أمل الذات يف منها :رع�شة ،م�شهد ،حكمة� ،أفق ،نبع� ،صباح ،بيا�ض ،ليل،
ظل تواجد يقت�ضي مبد� أ ا إلجبار وال ُيتيح فر�ص االختيار، كفن ،انطفاء ،)...ت�ستبطن املحذوف وامل�سكوت عنه طلبا
ال�شيء الذي يربر جلوء ال�شاعر «جنيب خداري» �إىل م�ساءلة ل إليجاز وا إليحاء امل�ستفز لذهنية القارئ ،وبني تعبريات
الذات على خلفية التيه وارتياد � آفاق وجودية مبهمة ،يقول مركبة (ويبلغ عددها خم�س ع�رشة ق�صيدة نذكر منها:
يف ق�صيدة «دمي دمها»: وراء الليل ،خلف نافذة الوقت ،حتت ال�صفر ،بني يديك)...
وال تذرين /ملن يقتلني كل حني /ويزرعني يف فم املهاوي توحي مبحموالت غام�ضة و�أكوان ميتافيزيقية ينبج�س من
جتيء) /وال تذرنـي/...
ُ كل حني( /هاوية مت�ضي /وهاوية �أعطافها الت�شخي�ص ال�صويف.
وام�ض �إيل �رسيعـا /مثل �أنواء ال�شتاء� /رسيعـا/كما نزوة �أمـا ا إلهداء (�إىل �أبي و�أمي) ف�أكرب برهان على ثنائية اخلفاء
ُدوري� /إيل� ...إيل� ...إيل /يا حبيبي /يا مالكي)11(. والتجلي واالن�صهار الروحي يف �رشايني اندحار الوجود،
ويقول �أي�ضا يف ق�صيدة «رع�شة»: ي�ضاف �إىل ذلك كونه تعبريا عن توحد الوعي بالالوعي،
286 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
حاجة �إىل الك�شف� ،إذ يجد ال�شاعر نف�سه يف موقع �إح�سا�س القارب/
ُ �ألهث /يف اجتاه /املوجة العالية /بينما
جديد بح�ضوره يف الوجود ،ويف مو�ضع البحث واحلرية وحيدا /يعبث /بقليل /املاء)12(.
املنبج�سني من ر ؤ�ية ميتافيزيقية تب�رص ا أل�شياء �إب�صارا وي�ضيف يف ق�صيدة «�أبعد من موت»:
ك�شفيا يحدو بال�شاعر �إىل القفز خارج امل�ألوف ،و�إىل كم �أ�شتهي� /أن �أطلق �صوتي /عاليـا� /أبعد من جبال
الك�شف عن العالئق اخلفية املوجودة بني عنا�رص الكون يف اخلوف[ /]...كم �أ�شتهي� /أن �أغرز هذا اجل�سد /يف
لغة منا�سبة للتعبري عن التداعيات ال�سيكولوجية التي تبتعد �صحراء /بال �ضفاف /.../ا�شتهاء /وموت /يغزالن كل هذا
بالذات عن احلاجة �إىل االرتباط بالزمان واملكان؛ ا ألمر البيا�ض)13(.
الذي ميكن ال�شاعر ح�سب �أدوني�س من تغيري �إيقاع «نقل» ويف ق�صيدة «الظل �أ�شد ا�شتعاال» ،يقول:
الواقع ب�إيقاع �إبداعه)18(. �أتبعثـر /يف الظل /حتملني ريح� /أكرث عبثـا� /إىل فوق/
وعلى هذا ا أل�سا�س ،فقد تـُلمع «�شعرية التيه» النابعة من حيث ا ألغ�صان /عالقة يف ال�سحاب /حتملني ريح/
«املتاهة ال�سيكولوجية لذات ال�شاعر� ،إىل تقنية جمالية ـ�صـ ُّل /يف قرارة الرَّ ْمـل /مثل �إىل �أ�سفل /حيث جذورَ /ت ٍ
يتحايل هذا ا ألخري مبوجبها ق�صد �إيجاد ممكنات للتعبري املحـا ِر)14(.
عن اللحظة الهاربة ،والذات املت�شظية ،والزمن املنفلت، وي�ضيف يف ق�صيدة «�صباح»:
و�أمكنة الالقرار والالعودة باعتبارها عنا�رص للدفع ب�شعره ال �أحد /يف هذا ال�صباح البارد� /سوى طائر /ي�شاغب/
من «حالة االحتبا�س» �إىل «حالة اخللق والتدفق» اللذين �شم�سـا /خافتـة� /سوى بحر /كثري ال�صمت� /سوى �شبح/.../
تن�سج على خلفيتهما «حلظات التيه» التي ال تدركها �إال لعله ظلي هاربا مني� /إىل �ش�ساعة ا ألفق� /إىل لذة الرمل/
احلوا�س امل�سكونة «بع�شق ال�شعر وبجنون ر ؤ�اه»( .)19يقول يف �شاطئ بارد ...ووحيد)15(.
ال�شاعر يف ق�صيدة «دمي ،دمها»: �إن «التوه :لغة يف التيه .وهو الهالك .وقيل الذهاب .يقال
�سالما يا دمي� /سالمـا� /س�أ�سقي َك ما يتنزّل يف باحتـي/ «ما �أتوهه يف ما �أتيهه» .و َت َّوه نف�سه� :أهلكها ...وتاه يف
من �ضوء الكالم /ومن �ضوء احلمام� /س�أ�سقي َك ،فال ا ألر�ض يتيه� ...أي ذهب متحريا و�ض ّل ...ويقال :مكان ِمتْـيََهٌ:
َتذَ ْرين /حلنيني /وال تذرين /جلنوين)20(. �أي يتيه فيه ا إلن�سان»)16(.
ندرك �أن ال�شعر عند «جنيب خداري» «متاهة لالنكتاب» بناء على هذا الت�أطري املعجمي «لداللة التيه» ،ي�ست�شف من
و«�أفق ملجهول» ال ير�سو على قواعد حمددة .ولذلك �ألفيناه هذه املجتزءات ال�شعرية �أعاله ،وغريها مما تزخر به ن�صو�ص
ي�صوغ ت�شكيالت هند�سية هائمة ،متنقال يف الت�صوير الديوان� ،أن «التيه» تيمة �أ�سا�سية يف هذا املنت ال�شعري.
والتوليد بني ر ؤ�ى وتهوميات متنوعة َعله يعرث على ت�شكيل وهو «تيه» �صادر عن حرية ال�شاعر ومتزقاته ال�سيكولوجية
�شعري ي�ستوعب متخيل املتاهة ال�سيكولوجية «التي تفجر التي تذهب بعيدا �إىل حد الغربة والتبعرث والت�شطي( .لعله
ان�سياب الوجدان يف �شكل �شعري جتريبي يرتاد ا أل�شياء ظلي هاربا مني� /أتبعرث يف الظل حتملني ريح �أكرث عبثا/
امليتافيزيقية ويعرب باملجرد والالحم�سو�س خمتربا وتزرعني يف فم املهاوي� ...إلخ) وما �سواها من معاين
«�شعرية التيه» املوقعة ب�ألق التحري ،و�أمل التبعرث ،وهو�س التيه التي ال يقوى ال�شاعر على حتملها ،في�ستجدي حبيبته
اجلنون .وهي امل�شارطات الداللية التي ت�ؤازر حدو�سات إلنقاذه من ال�ضياع والتبخر يف جلج املهاوي التي تتقاذفه
الده�شة والالتوقع ،وتطعم �شعره بطاقة التحول واخرتاق (هاوية مت�ضي وهاوية جتيء) .فالتطويح بال�شاعر داخل
احلدود ،واللعب بكلمات التيه املعربة عن مدارات الفراغ ِمتْيَهات بال �أفق �أو قرار (�صحراء بال �ضفاف جبال اخلوف،
يف الوجود الكا�شفة عن «انكتاب بويهيمي» ي�شع با أل�سئلة فم املهاوي� ،ش�ساعة ا ألفق ،بحر كثري ال�صمت� )...إقحام
احلارقة ،ويت�سع ال�ستيعاب �رشوخ اجل�سد وت�صدعات الروح لذاته املت�شظية يف ورطة التيه التي احتار يف اخلروج
التي تقحم الذات يف «متخيل املجهول»� ،إنقاذا لها من من متاهاتها (امل�سالك �إيل بعيدة /بحثت عني يف بيا�ض
قيود اللحظة و�سياج التفطية (هناك خلف ال�شجرة ج�سد الليايل /فوجدتني �شتات الرمل� /أ�شالء موج /ت�صفع
عار /هناك حتت قربي ه�سي�س الرغبة /ووراء الليل ال�شاطئ امل�ضيء /وت�صفعني))17(.
�ضوء ال �أراه /هل كنت جمنونا ألن�سى ظلي وحيدا)21(.)... �إن انكتاب ال�صور ال�شعرية داخل هذه النماذج يتم عن
فبهذه اللم�سة الفنية ين�سج ال�شاعر �إيقاعات «التيه اجلنوين» طريق اخلرق واالخرتاق وجماوزة اجلاهز والنمطي ،ولعله
الذي ينبئ مبالمح االنخطاف والوجد ال�صويف والذي يقل�ص امل�سلك الفني الذي ي�سلكه �شعر الر ؤ�يا التوليدي الذي ي�سعى
امل�سافات ويربر مكا�شفات املقام املوحي «ب�شعرنة التيه ح�سب «رونيه �شار � »R. Charإىل الك�شف عن عامل يظل �أبدا يف
287 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ال ميكن للغة ال�شعر �إال �أن تكون رمزية �إيحائية �إ�شارية و�شعريته» حيث ميد ا إللهام الذات القدرة على ت�شكيل
ي�صعب فهمها وتذوقها ما مل مي�سك القارئ بتفجراتها املافوق واقعي لتنمحي بذلك �أطراف الوعي بلوغا ملناطق
وتدفقاتها وان�سياباتها خارج نظام املعاجم ،لتكون بذلك الالوعي املفعم بالهلو�سات والتذكر وا أل�رسار املاورائية
مفتاحا رئي�سيا لولوج عامل ال�شاعر املثقل بالرموز التي التي حترر القول ال�شعري ،وجتعل �رس كل عملية �شعرية
يكرث ح�ضورها يف ا ألحالم ،وال�شعر ،وا أل�ساطري .و�إذا كان كامنا يف حالة احللم التي متثل �أكمل نقطة يف التجرد
التعبري العقالين يعرب بالتقريرية والو�ضوح ،ف�إن الرمز املمكن �أن يتو�صل �إليه الفكر الب�رشي» )22( .يقول يف
ينقل املجرد باملح�سو�س ،حيث تتحد ذات ال�شاعر بعنا�رص ق�صيدة «خيمة اللون»:
الكون من خالل الرمز الذي يتخذ منه املبدع معربا لت�صوير وحني يقي�س الر�سـام/ظالل /اللوحة /يرتاق�ص /يف/
التنافر وترجمة هيام الروح. عيون /ال�شاعر /لون /مثل� /أحالم /متعبه /]...[ /ك�أين
يقول يف ق�صائد خمتلفة: �أرى وجه غـالم /ي�صارع /مملكة /الغيم /ك�أين �أرى نوافذ
1ـ يف عينيهـا/بحر ي�سرتيح/و�شم�س/غاربـة)25(. �سابحـة /يف البنّ ّي ال�شفيف /تخا�صم جب�سـا /وتهفـو/
2ـ هي ذي ا ألر�ض/حتتي تذوب//والريح/حتمل بكاء للزرق /ا ألبي�ض /...لكن ا ألزرق /يعرب يف �أول الت�شكل ـ/ أ
الطفل�/إىل �أم بعيدة�/أدور/حيث دار احللم�/أم�شي فوق نحـو /بيا�ض /ال�رسيرة)23(.
النهر�/إىل �سيدة النهر/...يف برزخ الغواية والرعب�/أراهـا/... يتك�شف من خالل هذا الن�ص ال�شعري وغريه من الن�صو�ص
ثم تتال�شى اللحظة/مثلما يتال�شى الطمي واملاء)26(. التي تتو�سل باحللم ك�أداة للتعبري عن تداعيات الر ؤ�ية
3ـ مَلْ � أَ ْغرَ ْق /قاربي مل يبارح احللم /واملوج ما زال َي ْجلِدُ/ ومدارات الت�شكل� ،أن العفوية الب�رشية ال تتحقق يف ال�شعر
نباح ـ/يق�ضم ما تناثر �صخور ال�صدر /الليل /بال جنمةٍ/بال ْ �إال يف حالة حلم النوم �أو حلم اليقظة الذي يفجر الواقع
من روحي)27(. الداخلي للذات عائدا بها �إىل ينابيع الطفولة ومرحلة
4ـ َد ْع � أ َ
�شجار َك /حتملْنَـا/بعيداً�/إلـى/مملكـ ِة ال�شم�س)28(. اخليال الرمزي ال�ضارب يف التاريخ ،يقول يف ق�صيدة
�إن الريح ،وال�شجر ،واملاء ،والطري ،والظل ،والبحر ،والنهر، «نزار»:
واملوج ،وال�شم�س،والقمر ،وال�سمك ،والليل ...متثل جميعها را�ش /وال�ضحك ُة/
العنا�رص ا ألولية ملتخيل ال�شاعر «جنيب خداري»� ،إذ يغدو وال ُغنْيَ ُة /تخرج من فم الطفل /تنهيد َة َف ٍ
خيال� /.../..../أم�س ُك بتالبيب
رق /من �سمكةٍ /تتزلّق /يف ٍ � أ ُّ
ال�شعر عنده �صورة يعرب عربها عما ي�ستحيل التعبري عنه،
ويتخيل ما يتعذر وجوده يف الواقع ،مغريا حقيقة ا أل�شياء،
نومه /ونحلم معا)24(.
معيدا ترتيبها من جديد ،هادفا �إىل متطيط الوجود وتو�سيعه �إن �س�ؤال ا إلبداع يتحرك داخل تر�سيمات �شعر احللم لدى
عرب اخليال اخلالق باعتباره و�سيطا إلبراز قلقه �أو تيهه �أو «جنيب خداري» خارج املنطق والواقع تعبريا عن الرغبات
موقفه اخلا�ص جتاه الذات والكون واحلياة؛ حيث مل تعد الالواعية وامليول املتوارية؛ �إذ يف احللم كل �شيء يبدو
ا أل�شياء داخل ن�سيجه ال�شعري تراعي العالئق املو�ضوعية �سهال وطبيعيا ،وتنعدم م�س�ألة ا إلمكانية والفكر املنطقي
الرابطة بني ا أل�شياء الواقعية ،و�إمنا تتحطم بف�ضل تفجري (وجه غالم ي�صارع مملكة الغيم نوافذ �سابحة يف البني
اللغة يف �صور غريبة .فكيف ميكن للبحر �إذن �أن ي�سرتيح يف ال�شفيف تنهيدة فرا�ش وال�ضحكة �أرق من �سمكة تتزلق
عيني امر�أة ؟ و�أية عالقة تربط بني ا�سرتاحة البحر وغروب يف خيال) ،حيث يغدو احللم يف توقيعاته الفنية و�سيلة
ال�شم�س؟ وهل حتولت ا ألر�ض حتت �أقدامه �إىل جبال من الثلج معرفية ،ور ؤ�ية �شعرية ون�شاطا فكريا يقدم بدائل خيالية
حتى تذوب ؟ وهل ب�إمكان الريح �أن حتمل ب�أمانة بكاء طفل ل�سيكولوجيا الذات يف ارتباطها بالالوعي ترجيعا أل�صداء
بريء تف�صله امل�سافات عن �أمه البعيدة ؟. الطفولة والزمن ال�سحيق املكتنف با أل�رسار وا أللغاز التي
حينما يتال�شى الزمن وميتزج الطمي باملاء يتحول ال�شاعر متد �شعر جنيب خداري «با ألحالم والهلو�سات ال�صادرة عن
�إىل نبي �أو ويل مي�شي فوق النهر قا�صدا حار�سة النهر .ومبا الال�شعور» الذي يتيح له القدرة على تخيل ال�صور الالواقعية
�أن عنا�رص الكون قد ان�صهرت فقد انقلبت املعادالت بحكم ويقود ن�شاطه الفكري داخل دوائر احللم والالوعي.
تبادل ا ألدوار ،لي�صري القارب حاملا ،واملوج جالدا ل�صخور خيال ال�صورة ال�شعـرية
�صدر ا إلن�سان ،والليل قا�ضما لروحه ،وا أل�شجار حاملة لذاته اللغة روح ال�شعر و�أداته ال�سحرية التي ت�صهر عنا�رص
نحو ا ألفق املحرتق. التخييل يف بوتقة �إبداعية متميزة .فال�شعر بهذا املعنى
(املادة تن�شر كاملة مبوقع املجلة )www.nizwa.com لغة ذات انبناء ر ؤ�يوي يحمل ا إلح�سا�س ب�أ�رسار الذات
وت�صدعاتها داخل الكون املحكوم بالفراغ .وعلى هذا ا أل�سا�س
288 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
الل�سانيات الن�صية
دواعي الت أ��سي�س أ
والهمية
عمــران ر�شيـــد
�أكادميي من اجلزائر
مو�ضوعا �رشعيا للدر�س الل�ساين فح�سب؛ بل �إنه جتاوز لقد ظهرت الل�سانيات الن�صية جتاوزا للدرا�سات الل�سانية
ذلك �إىل حتقيق ق�ضاياه التي �ضمنها براجمه بتقدمي �أول اجلملية مبختلف توجهاتها (البنيوية ،التوزيعية ،وال�سلوكية،
حتليل منهجي لن�صو�ص بعينها ،وقد ر�أى هاري�س �رضورة والوظيفية ،التوليدية التحويلية ،)..وال يعني التجاوز هنا
جتاوز (نحو اجلملة) ،ذلك �أن الدرا�سات الل�سانية وقعت يف القطيعة العلمية بني تلك التوجهات والل�سانيات الن�صية،
م�شكلتني البد من جتاوزهما وهما: و�إمنا تطور العلوم يفرت�ض ا�ستفادة الل�سانيات الن�صية
* «ا ألوىل :ق�رص الدرا�سة على اجلمل ،والعالقات فيما بني من كل معطيات الل�سانيات اجلملية ،وجتاوز ق�صور هذه
�أجزاء اجلملة الواحدة. ا ألخرية من حيث �أن اجلملة مل تعد كافية لكل م�سائل
* الثانية :الف�صل بني اللغة Langugeواملوقف االجتماعي الو�صف اللغوي من حيث الداللة والتداول وال�سياق الثقايف
Social Situationمما يحول دون الفهم ال�صحيح ،فجملة مثل العام ،وكل ذلك له دور حا�سم يف التوا�صل اللغوي ،وقد
(كيف حالك) قد تعطي يف �سياقها معنى التحية� ،أكرث منها �أخرجت ل�سانيات الن�صية علوم الل�سان من «م�أزق الدرا�سات
ال�س�ؤال عن ال�صحة ،ومن َث ّم اعتمد يف منهجه يف حتليل البنيوية الرتكيبة التي عجزت يف الربط بني خمتلف �أبعاد
اخلطاب على ركيزتني: الظاهرة اللغوية»(.)1
* العالقات التوزيعية بني اجلمل وقد اتخذت الل�سانيات الن�صية هدفا رئي�سيا ترمي الو�صول
* الربط بني اللغة واملوقف االجتماعي �إليه؛ وهو الو�صف والتحليل والدرا�سة اللغوية أ
للبنية
بعد ذلك بد� أ بع�ض الل�سانيني ينتبهون �إىل امل�شكلتني اللتني الن�صية ،وحتليل املظاهر املتنوعة أل�شكال التوا�صل
�أ�شار �إليهما هاري�س ،و�إىل �أهمية جتاوز الدرا�سة اللغوية الن�صي(.)2
م�ستوى اجلملة �إىل م�ستوى الن�ص ،والربط بني اللغة ذلك �أن الن�ص لي�س بناء لغويا فح�سب و�إمنا يدخل ذلك
واملوقف االجتماعي ُم�شَ ِّكلني بذلك اجتاها ل�سانيا� ،أخذت البناء يف �سياق تفاعلي بني خماطِ ب وخما َطب ،تفاعل
مالحمه ومناهجه و�إجراءاته يف التبلور منذ منت�صف ال يتم بجمل مرتاكم بع�ضها فوق بع�ض كيفما اتفق غري
ال�ستينات تقريبا»(.)6 متما�سكة وال يربطها رابط ،وال تدرك الن�صو�ص بو�صفها
لقد اهتمت الل�سانيات الن�صية بالداللة وال�سياق اللذين �أفعال توا�صل فردية بل بو�صفها نتائج متجاوزة االفراد،
كانا غائبني يف ل�سانيات اجلملة الذي كان ي�صف ا ألبنية ومن هذا املنطلق يجب �أن يتخذ التحليل اللغوي الن�ص
اللغوية ولكنه «مل ُيعن باجلوانب الداللية عناية كافية ،مما مبتغاه النهائي يف الدرا�سة ،وهذا ما دعا �إليه (فايرني�ش
للبنية اللغويةجعل علماء الن�ص يرون �أن البحث ال�شكلي أ 1927م) ،و(ب.هارمتان 1968م)(.)3
ما يزال مقت�رصا على و�صف اجلملة ،بينما يت�ضح من يوم وي َعدّ ا ألمريكي (هاري�س 1952م) �أول من ا�ستخدم التحليلُ
�إىل �آخر �أن جوانب كثرية لهذه ا ألبنية ال ميكن �أن تو�صف �إال الن�صي ال�شامل من خالل درا�سته املو�سومة بـ(حتليل
يف �إطار �أو�سع لنحو الن�ص � أ ونحو اخلطاب»(.)7 اخلطاب ،)Discours Analysisوه وبحث قيم بد�أت معه بوادر
وقد تو�سعت الل�سانيات الن�صية يف اعتبار ال�سياق يف االهتمام بالن�ص ،والن�ص و�سياقه االجتماعي ،وقدم يف
عملية التوا�صل ،ذلك �أن التوا�صل اللغوي ت�سهم فيه عنا�رص بحثه �أول حتليل منهجي لن�صو�ص بعينها(.)4
تتعلق باملخاطِ ب واملخا َطب والن�ص والظروف املحيطة وقد اهتم هاري�س بتوزيع العنا�رص اللغوية يف الن�صو�ص
بهم جميعا� ،إن ل�سانيات اجلملة لي�ست كافية لكل م�سائل املطولة ،والروابط بني الن�ص و�سياقه االجتماعي(.)5
الو�صف اللغوي ،فقد تتما�سك جمل الن�ص بروابط غري وال يعترب هاري�س �أول ل�ساين حديث يعترب اخلطاب
289 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
واملقامية وا ألطر الثقافية ،واعتبارها �أمرا قائما خارج النحو نحوية على ا إلطالق.
وطارئا عليه»(.)8 وبعبارة �أخرى ميكن �أن نقول �أن هناك بع�ض العالقات اللغوية
يرى الدكتور حممد ال�شاو�ش ،وهو �أحد املخت�صني العرب يف بني اجلمل التي ُتكوِّن الن�ص ،قد تكون روابط متا�سكية نحوية،
الل�سانيات الن�صية وبال�ضبط يف ت�أ�صيل الل�سانيات الن�صية وهنا ميكن اال�ستفادة من ل�سانيات اجلملة � أ والنحو ،وقد تكون
يف النحو العربي �أنه «مل يتجاوز نحو اجلملة �سوى يف نهاية روابط متا�سكية غري نحوية �شكلية �أي داللية وهنا يجب البحث
ال�ستينات امليالدية يف حني �أن �سنة (1984م) متثل ذروة عن العالقات بني اجلمل يف �إطار معطيات الل�سانيات الن�صية،
االهتمام بنحو الن�ص وحتليل اخلطاب حيث بلغت ا ألعمال كما ميكن ا�ستثمار الن�ص ووتوظفيه ن�صيا لك�شف � آليات التما�سك
املن�شورة فيها ( )298عمال»(.)9 داخل الن�ص ،ومن بني الظاهرة النحوية التي يجب النظر �إليها
ميكن القول �إنه كانت هناك �إ�شارات يف الدرا�سات الغربية ،ويف من خالل معطيات الل�سانيات الن�صية ما ي�أتي:
الرتاث العربي وا إل�سالمي �إىل �أهمية التحليل الن�صي املتجاوز * ال�ضمائر ووظائفها الن�صية
للجملة ،جند يف تلك ا إل�شارات التوجه �إىل �رضورة التحليل * � أ�سماء ا إل�شارة
الن�صي الذي يتجاوز اجلملة �إىل ف�ضاء �أرحب هو الف�ضاء * التعريف والتنكري
الن�صي. * التذكري والت�أنيث
وتعترب البداية احلقيقية لدرا�سة الن�صية كعلم م�ستقل * التكرار (التما�سك املعجمي)
كانت على يد فندايك Van Dijkالذي يقول« :لقد توقفت * اال�ستدراك
القواعد والل�سانيات التقليدية غالبا عند حدود و�صف * التوابع (ال�صفة ،البدل،احلال)
* احلذف
اجلملة و�أما يف علم الن�ص ،ف�إننا نقوم بخطوة �إىل ا ألمام، * ال�صلة
ون�ستعمل و�صف اجلمل بو�صفه �أداة لو�صف الن�صو�ص ،وما * التقدمي والت�أخري
دمنا ن�ستتبع هنا املكونات املعتادة للقواعد ،و�سن�ستعمل * اال�ستثناء
الن�صو�ص امل�ستخدمة بغية و�صف اجلمل ،ف�إننا ن�ستطيع * الزمن
�أن نتكلم عن قواعد الن�ص»(.)10 * العالقات املو�ضوعية
فقد كان فندايك ي�سعى إلقامة ل�سانيات ن�صية تدر�س البنية * العام واخلا�ص
الن�صية ،ومظاهر التما�سك يف الن�ص ،وي�أخذ يف االعتبار كل * الكل واجلزء
ا ألبعاد البنيوية وال�سياقية والثقافية(.)11 * الكبري وال�صغري
لقد كانت احلاجة �إىل الل�سانيات الن�صية �رضورة ملحة لتجاوز ويبني �أحد الباحثني �أن �إق�صاء املعنى يف الل�سانيات التقليدية
ُ
بع�ض ال�صعوبات التي واجهت الل�سانيات اجلملية ،وذلك لتغري كان وراء عجزه عن حتليل كثري من الظواهر اللغوية ،ذلك �أن
الكثري من املفاهيم النقدية احلديثة ،وتغري النظرة �إىل الل�سانية «الفهم احلق للظاهرة الل�سانية يوجب درا�سة اللغة درا�سة ن�صية
�إىل مفهوم اللغة ووظيفتها ،وجنمل �أهمية الل�سانيات الن�صية ولي�س اجتزاء والبحث عن مناذجها وتهمي�ش درا�سة املعنى ،كما
فيما يلي(:)12 ثم كان التمرد ظهر يف الل�سانيات البلومفيدية �أول �أمرها ،ومن ّ
�أوال� :إن الل�سانيات الن�صية تركز على الن�ص كبنية كلية ،ال على على نحو اجلملة واالجتاه �إىل نحو الن�ص �أمرا متوقعا ،واجتاها
اجلمل كبنية فرعية ،وعلى هذا اجتذبت الن�صو�ص الل�سانيات �أكرث ات�ساقا مع الطبيعة العلمية للدر�س الل�ساين احلديث� ،إن
الن�صو�صية بناء على �أن نحو الن�ص ي�شمل الن�ص ،و�سياقه، درا�سة الن�صو�ص هي درا�سة للمادة الطبيعية التي تو�صلنا
وظروفه ،وف�ضاءاته ،ومعانيه املتعالقة القبلية والبعدية، �إىل فهم �أمثل لظاهرة اللغة؛ ألن النا�س ال تنطق حني تنطق،
مراعيا ظروف املتلقي وثقافته و�أ�شياء كثرية حتيط بالن�ص، وال تكتب حني تكتب جمال �أو تتابعا من اجلمل ولكنها ُتعبرِّ
�أما ما كان يحدث يف املناهج الل�سانية الرتاثية ،فهو تناول يف املوقف اللغوي احلي من خالل حوار معقد متعدد ا ألطراف
للن�ص بال�رشح؛ فلم يكن ينظر يف جممل الن�ص ولتما�س فهمه مع ا آلخرين ،ويكرث يف هذه احلال ت�صادم اال�سرتاتيجيات
بو�صفه ذا وحدة ع�ضوية جتعل بع�ضه يف�رس بع�ضا ،و�إمنا كان وامل�صالح وتعقد املقامات ،ومثل ذلك نراه يف حديث الكتابة
ال�رشّاح يبنون �رشوحهم على املفردات ،ثم يغو�ص يف الداللة حني تتعقد العالقات بني مكونات ال�صياغة اللغوية وترتد
املفردة لهذا اللفظ ،مع ندرة االنتباه �إىل العالقات الع�ضوية بني �أعجازها عن �صدورها ،وتت�شابك العالقات يف ن�سيج معقد بني
�أجزاء الن�ص ،وما كان لهذا املنهج يف �رشح الن�صو�ص �أن ي�ؤدي ال�شكل وامل�ضمون على نحو ي�صبح فيه رد ا ألمر كله �إىل اجلمل
�إىل الفهم الكامل لداللته ومقا�صدها. �أو مناذج اجلمل جتاهال للظاهرة املدرو�سةَ ،ر ّدا له �إىل ب�ساطة
ولع ّل هذا الفهم ي�صدق حتى على عمل �أغلب املف�رسين و�رشحهم م�صطنعة تخل بجوهرها ،وتق�ضي �إىل عزل ال�سياقات املقالية
290 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
بالنظم االفرتا�ضية ألن الرتجمة من �أمور ا ألداء ،ولي�س امتالك للن�ص القر� آين ،مع �أن بع�ضهم �أدرك �رضورة وجود هذه العالقات
املعجم والنحو فقط كافيا للقيام بالرتجمة ب�سبب احلاجة �إىل التما�سكية ،و�أن القر� آن يف�رس بع�ضه بع�ضا ،و�أن ال�سنة ّ
تف�صل ما
التما�سك يف ا�ستعماالت اللغة ،وذلك من املهام ا أل�سا�سية يف القر� آن من �إجمال.
لل�سانيات الن�ص ،لذا ميكن �أن يفيد كثريا يف هذا املجال يف ثانيا :كثري من الظواهر الرتكيبية مل تف�رس يف �إطار اجلملة
النقل من اللغات ا ألجنبية �إىل العربية �أو العك�س. تف�سريا مقنعا ،ورمبا تغري احلال �إذا اجته الو�صف �إىل احلكم على
�ساد�سا :ن�ستطيع من خالل الل�سانيات الن�صية �أن نعيد النظر هذه الظواهر يف �إطار وحدة �أكرب من اجلملة ،وميكن �أن تكون
يف بع�ض املفاهيم اللغوية التقليدية ال�سائدة وذلك �إما هذه الوحدة هي الن�ص.
لتعميقها �أو لتعديلها ،ومثال ذلك ما ي�شري �إليه النقاد من ومن ذلك ف�إن الل�سانيات الن�صية قد �ضمت عنا�رص مل تكن
افتقار ال�شعر اجلاهلي �إىل الوحدة الع�ضوية ،وذلك لتعدد يف ل�سانيات اجلملة ،عنا�رص بناء قواعد جديدة منطقية
ا ألغرا�ض يف الق�صيدة الواحدة ،ولكن ميكن من خالل وداللية وتركيبية لتقدمي �شكل جديد من �أ�شكال التحليل لبنية
الل�سانيات الن�صية �إعادة درا�سة الق�صيدة يف الع�رص اجلاهلي الن�ص ،وت�صور معايري التما�سك ،ولهذا ت�ضافرت تقريرات
من خالل و�سائل التما�سك ،وذلك إليجاد التما�سك املفهومي الل�سانيني من �أمثال بايك وهارمتان وجلي�سون وفندايك...
امللحوظ �أو حتى بع�ض و�سائل التما�سك الر�صفي الذي ينتج على �أن الل�سانيات الن�صية بالن�سبة ألي لغة هو �أكرث �شموال
عنه القول بوجود وحدة ع�ضوية كاملة ،وقد قدم الدكتور �سعد ومتا�سكا واقت�صادا من القواعد املوجودة يف ل�سانيات
م�صلوح منوذجا لتلك الدرا�سة حول ق�صيدة املرق�ش ا أل�صغر اجلملة ،ومن هنا تغريت ا ألهداف ف�أ�صبحت الل�سانيات
(بنت عجالن) ،وقد ا�ستطاع �أن يلم�س مدى �إحكام الن�سيج يف الن�صية تعنى بظواهر ن�صية خمتلفة ،منها عالقات التما�سك،
الت�شكيل اللغوي للن�ص ،و�صلة ما بني الن�ص وعامل الن�ص، و�أبنية التطابق والتقابل والرتاكيب املحورية والرتاكيب
وا�ستطاع �أن يك�شف بوا�سطة � آليات التما�سك النحوي والداليل املجتز�أة ،وحاالت احلذف ،واجلمل املف�رسة ،والتحويل �إىل
عن ثراء الن�ص. ال�ضمري ،والتنويعات الرتكيبية وتوزيعاتها يف ن�صو�ص
هــوام�ش البحث: فردية وغريها من الظواهر الرتكيبية التي تخرج عن �إطار
-1خولة طالب ا إلبراهيمي ،مبادئ يف الل�سانيات ،دار الق�صبة للن�رش،
اجلملة املفردة التي ال ميكن تف�سريها تف�سريا كامال دقيقا �إال
2000م� ،ص167 من خالل وحدة الن�ص الكلية.
� -2أحمد عفيفي ،نحو الن�ص اجتاه جديد يف الدر�س النحوي ،مكتبة زهراء ثالثا :تغيرّ الدر�س الل�ساين يف نظرته �إىل اللغة ،وذلك ل إلح�سا�س
ال�رشق ،ط2001 ،1م� ،ص31 الطاغي بالوظيفة االجتماعية للغة ،و�إىل �رضورة وجود
-3فول فجاجن هاينه مان وديرت فيهفجر ،مدخل �إىل علم لغة الن�ص،
ترجمة �سعيد ح�سن بحريي ،مكتبة زهراء ال�رشق ،ط2004 ،1م� ،ص-20
الدور التوا�صلي الذي يعده علماء الل�سانيات جوهر العمليات
21 االجتماعية ،ومن هنا �أدرك الل�سانيون �أن اجتزاء اجلمل يحيل
� -4سعد م�صلوح ،العربية من نحو اجلملة �إىل نحو الن�ص� ،ضمن كتاب اللغة احلية فتاتا وتفاريق من اجلمل ،وهو ما جنده يف �شواهد
ا أل�ستاذ عبد ال�سالم هارون معلما وم�ؤلفا وحمققا ،حترير وديعة طه النجم النحو والبالغة املنزعة من �سياقها وهو ما يتنافى مع مبادئ
وعبده بدوي ،كلية ا آلداب1410 ،هـ1990-م ،الكويت� ،ص407
-5زت�سي�سالف واورزيناك ،مدخل �إىل علم الن�ص م�شكالت بناء الن�ص، الل�سانيات الن�صية� .إن تلك الوظيفة االجتماعية ،وهذا الدور
ترجمة د� .سعيد بحريي ،م�ؤ�س�سة املختار 2003 ،م ،القاهرة� ،ص37-36 التوا�صلي للغة يف�سحان الطريق للنحو �أن يت�سع مفهومه ،لي�صبح
-6جميل عبد املجيد ،البديع بني البالغة والل�سانيات الن�صية ،الهيئة مكونا من مكونات نظرية �شاملة ،تف�رس ال�سلوك ا إلن�ساين ،وهذا
امل�رصية العامة للكتاب1998 ،م� ،ص17 ال يتم �إال من خالل ن�ص متما�سك ب�سياق توا�صلي ولي�س من
-7برند �شبلرن ،علم اللغة والدرا�سات ا ألدبية درا�سة ا أل�سلوب البالغة علم
اللغة الن�صي� ،ص184 خالل جملة.
� -8سعد م�صلوح ،العربية من نحو اجلملة �إىل نحو الن�ص� ،ص413 رابعا� :إ�ضافة مهام جديدة لل�سانيات لي�ست من اخت�صا�ص
-9حممد ال�شاو�ش� ،أ�صول حتليل اخلطاب يف النظرية النحوية العربية ل�سانيات اجلملة ،ومن تلك املهام �صياغة قواعد متكننا من
ت�أ�سي�س نحو الن�ص� ،سل�سلة الل�سانيات ،املجلد ،14جامعة منّوبة ،تون�س، ح�رص كل الن�صو�ص النحوية يف لغة ما بو�ضوح ،ومن تزويدنا
وامل�ؤ�س�سة العربية للتوزيع ،ط1421 ،1هـ2001-م ،بريوت76-77/1 ،
-10فندايك ،الن�ص بنى ووظائف مدخل �أويل �إىل علم الن�ص ،ترجمة منذر للبنية ،فالل�سانيات الن�صية �إعادة بناء �شكلية بو�صف أ
عيا�شي� ،ضمن كتاب العالماتية وعلم الن�ص ،املركز الثقايف العربي ،ط،1 للكفاءة اللغوية اخلا�صة مب�ستخدم اللغة يف عدد ال نهائي من
2004م ،بريوت147/1 ، الن�صو�ص.
� -11سعيد يقطني ،انفتاح الن�ص الروائي الن�ص-ال�سياق ،املركز الثقايف أ
خام�سا :ميكن لل�سانيات الن�ص �ن تقدم خدمة كبرية للرتجمة،
العربي1989 ،م ،بريوت والدار البي�ضاء� ،ص15
� -12أحمد عفيفي ،نحو الن�ص اجتاه جديد يف الدر�س النحوي، حيث يرى روبرت دي بوجراند �أنه ميكن لل�سانيات الن�ص �أن
�ص. 42-37 تقدم �إ�سهاما للرتجمة ،بعك�س الل�سانيات التقليدية التي ُتعنى
291 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
ويقدّم ال�صحفي الرحالة حممد نا�رص( )3منوذجا نادرا يف تعد الرحلة من ا أللوان التعبريية ا ألوىل ،التي تعتمد ال�رسد
ا ألدب اجلزائري؛ حيث اعتنت رحلته بت�سجيل � أحداث �سفره ب�ضمري املتكلم ،وتعبرّ عن ا ألنا مع انفتاحها على ا آلخر،
�إىل م�سقط عا�صمة ُعمان( ،)4بهدف ح�ضور ندوة ثقافية وتقدميها �صورة عنه ،منطبعة ب�أحا�سي�س ا إلعجاب� ،أو
خ�ص�صت إللقاء ال�ضوء على �شخ�صية ال�صحابي مازن بن اال�ستغراب� ،أو االعتزاز بالذات ،وهي من ا ألنواع الق�ص�صية
غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه ،وبدعوة من وزارة الرتبية التعليم، التي تتداخل فيها �أنواع عديدة من اخلطابات التي عرفتها
فا�شتملت الرحلة املدونة حلقتني معنونتني بـ«ال�صحابي املجتمعات ا إلن�سانية ،وتداولتها ،كال�شعر ،واجلغرافيا،
اجلليل مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه يف ندوة ثقافية»، والتاريخ ،وال�سرية الذاتية� ،أو الغريية ،وا إليديولوجيا...
و«ج�سور للمحبة والتعاون» ،مندرجتني حتت عنوان عام هو: ن�صو�ص الرحلة
ُ وغريها من اخلطابات ،كما ت�ضمن
«� أوراق ثقافية من عمان»� ،إ�ضافة �إىل عناوين � أخرى �شملتها لقرّائها توفري املتعة ،والت�شويق ،وتخربهم بالكثري مما
احللقة الثانية ،وهي�« :إحياء الرتاث الفكري والعلمي»، يجهلون ،ا�ستنادا على ما يولّده فعل ال�سفر ،والتنقل من
و«كنوز وخمطوطات» ،و«معامل ح�ضارية رائدة». �أحداث مرتاتبة ،وم�شاهدات ،ور ؤ�ى متجددة بتجدد املكان،
ومن هذه العناوين ،ن�ستخل�ص �أن حممد نا�رص مل يكتف والزمان ،وحاالت النف�س الرحالة)1(.
ي�سجل خمتلفب�رسد �أعمال الندوة وحما�رضاتها ،بل � آثر �أن ّ وقد �أجنز اجلزائريون رحالت كثرية نحو امل�رشق منذ دخول
انطباعاته ،وم�شاهداته �أثناء زيارته م�سجد ال�صحابي ا إل�سالم �إىل بالد �إفريقية ،واملغرب العربي ،ألغرا�ض خمتلفة،
مازن بن غ�ضوبة ببلدة �سمائل ،ومدينة الر�ستاق ،وح�صن �أبرزها طلب العلم ،والقيام بفري�ضة احلج ،وال�سياحة ببلدان
احلزم ،وغريها من ا ألماكن التي و�صفها الرحالة ،و�أظهر امل�رشق الكثرية ،واقرتنت الرحلة �إىل امل�رشق حديثا ،ب�أ�سباب
حما�سنها ،دون �أن ين�سى مدح �أهل ُعمان ،والثناء على �سيا�سية ،وح�ضارية ،من مثل القيام برحالت ك�شفية،
خ�صالهم ،و�إجنازاتهم الثقافية والدينية ،خلدمة ا إل�سالم �أو التعريف باجلزائر ،وكذلك القيام مبهمات �سيا�سية،
وا ألمة ا إل�سالمية. و�سفارية ،وكذلك ح�ضور م�ؤمترات ،وملتقيات علمية.
.1أ�حداث الرحلة:
وكانت �أبرز املدن املق�صودة يف �أول عهود اجلزائريني
بالرحلة ،بغداد حمل اخلالفة ا إل�سالمية ،وكذلك قاهرة
كان انطالق حممد نا�رص من اجلزائر نحو مطار م�سقط م�رص ،وهي حمل علم وثقافة ،ومعروف عن �أهلها ،وعن
(ال�سيب �سابقا) يف م�سقط يوم ال�سبت ال�سابع والع�رشين من �أهل م�رص جميعا ،ح�سن ال�ضيافة ،والعناية بالغرباء ،وفيها
�شهر �أكتوبر عام ت�سعني وت�سعمائة بعد ا أللف ،ومل يحدد لنا جامع ا ألزهر ،الذي كان �أ�شهر املراكز الثقافية وا إل�سالمية
الكاتب مراحل ال�سفر ا ألوىل ،بل �رشع يف التقدمي لرحلته يف الوطن العربي؛ �إذ �إن �أغلب العلماء وطلبة العلم تخرجوا
بالرجوع �إىل ما�ضي الكتابة ،وقبل ثالث �سنوات بال�ضبط، منه ،ونالوا �إجازات كبار �شيوخه� ،أما احلجاز -ب�أ�شهر
متى قرّرت وزارة الرتبية والتعليم وال�شباب بال�سلطنة تنظيم مدنه ،كمكة واملدينة وجدة والينبوع -فكان مق�صد
ندوة ثقافية كل �سنة تخ�ص�ص ملو�ضوع بارز ،ي�شارك فيه احلجاج والطلبة من كل ناحية ،وكذلك �سجلت �أعداد كبرية
الباحثون من كل مكان ،وي�صل �إىل �سنة الت�أليف فيقول: من الرحالت والهجرات من اجلزائر نحو دم�شق ال�شام،
«�أما ندوة هذه ال�سنة فقد خ�ص�صت لدرا�سة حياة و�أدب التي كانت كذلك حا�رضة علم عامرة ،يتمتع �أهلها بكرم
ال�صحابي اجلليل مازن بن غ�ضوبة ال�سعدي الذي يعد يف ال�ضيافة ،وح�سن املعاملة� ،أما رحالت الع�رص احلديث ،فقد
نظر امل�ؤرخني �أول من �أدخل ا إل�سالم �إىل عمان �أ�سلم على �سجل �أحداث ال�سفر �إليها
اقرتنت بوجهات جديدة م�رشقية ّ
يد الر�سول الكرمي والتقى به مرارا يف املدينة ومكة وقد عدد من الرحالني اجلزائريني ،ومن هذه الوجهات :الكويت،
حتدثت امل�صادر القدمية عن ف�ضله و�أخالقه العالية ،وقد والبحرين( ،)2و�سلطنة عمان.
292 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
اجلزائري« :الذي يعجز القلم عن و�صف احلفاوة والرعاية �رشفتنا وزارة الرتبية �أنا وزميلي ا أل�ستاذ حممد بوحجام
التي ا�ستقبلنا بها ،منذ دخولنا مطار (ال�سيب) مب�سقط �إىل من جامعة باتنة بدعوة كرمية للم�شاركة يف هذه الندوة
حلظة وداعنا له ،واحلق �إن املرء لي�شعر بهذا االهتمام البالغ ببحثني حول حياة هذا ال�صحابي اجلليل ،وكانت فر�صة
الذي يوليه إلخوانه الطلبة الذين يدر�سون ببع�ض املعاهد لنا لاللتقاء بامل�شائخ والعلماء وا ألدباء هناك ،وزيارة
ا إل�سالمية هناك»( ،)8و�أ�شار �إىل �شيخني عمانيني جليلني املعامل ا ألثرية للح�ضارة ا إل�سالمية يف تلك الربوع العريقة،
جمعته معهما لقاءات �أخوية يف الر�ستاق ،وهما :ال�شيخ واحلق لقد كانت احلفاوة بالغة ،والعناية بامل�شاركني يف
اخلليلي ،وال�شيخ �سعيد بن حمد احلارثي ،وهذا ا ألخريُ ،عرف الندوة فائقة واجلو العلمي رائعا ،تنظيما ورعاية ،و�إقباال
بظرفه و�أدبه ،وبرحالته الكثرية يف بلدان العامل)9(. م�شجعا من طرف امل�س�ؤولني �أو من طالب اجلامعة واملعاهد
.3احلياة الثقافية واالجتماعية يف عُ مان: ا إل�سالمية)5(».
وبعد هذه االفتتاحية ،انتقل امل�ؤلف �إىل ذكر تفا�صيل الندوة،
اعتنى حممد نا�رص خالل وجوده يف م�سقط ،بزيارة املعامل وحما�رضاتها ،التي انطلقت �أعمالها يوم ا ألحد التايل ليوم
احل�ضارية والثقافية ،التي يتمتع بر ؤ�يتها ،وخدماتها �سكان متت �أعمالها يوم ا ألربعاء من ا أل�سبوع
و�صوله �إىل م�سقط ،و ّ
املدينة ،وقد �أخرب نا�رص مب�سعى �سلطنة عمان النه�ضوي ذاته ،وكان تتايل ا ألحداث يف برنامج الندوة يقوم على
يف جمال الثقافة� ،أُ�س�س له منذ ال�سبعينات ،يهدف �إىل تعيني يوم ،ووقت املحا�رضة ،وا�سم املحا�رض ومو�ضوع
�إحياء الرتاث وفهمه ،وحتديث الفكر مبا ي�صلح من �أوجه تدخله ،ثم املعقبني على التدخل يف ا ألخري ،وكانت اجلل�سة
للمعا�رصة ،ولذلك عملت وزارة الرتاث (القومي) والثقافة الثانية« :للبحث الذي قدّمه حممد نا�رص من جامعة اجلزائر
بجهود كبرية إلحياء الرتاث وجمعه ،واحلفاظ على خمزون بعنوان «مازن بن غ�ضوبة (ر�ضي اهلل عنه) ومكانته ا ألدبية.
املخطوطات ،بالتنقية ،والرتميم ،والتجليد ،والزخرفة، ع ّقب عليه الدكتور �سعيد ا ألعظمي رئي�س حترير جملة البعث
وكذلك بن�رش الكثري منها ،وحتقيقها ،وقد و�صلت الوزارة ا إل�سالمي بالهند ،والدكتور �أحمد �شلبي �أ�ستاذ التاريخ
حتى �سنة زيارة الرحالة �إىل البالد �إىل حت�صيل �أربعة واحل�ضارة ا إل�سالمية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة»(،)6
� آالف خمطوط ،وحتقق ذلك مب�ساعدة العمانيني املالكني للحداث ،املختزلة يف ويظهر يف الن�ص الت�أطري املا�ضي أ
للمخطوطات ،وجلب الدولة العديد منها من دول �أخرى، حالة ق�صوى ،جتعل من منط الكتابة هنا يختلف عن منط
هذا �إ�ضافة �إىل خمطوطات ما تزال عند �أ�صحابها ت�رشف الرحالت ،ويتماثل مع منط التقارير ال�صحفية املوجزة ،وقد
وزارة الرتاث الثقافة على �صيانتها ،و�أفادنا نا�رص بتميّز عبرّ عنها ذاك العنوان العام �أوراق ثقافية من عمان ،تعود
العمانيني بالكتابة يف العلوم الفقهية ،وعنايتهم مبن ي�ؤلف رمبا �أ�سا�سا �إىل ميل الكاتب �إىل الطابع ال�صحفي.
«..عرف العمانيون بت�أليف املطوالت الفقهية كتبا حولهاُ :
أ أ
نظما ونرثا ،يكفي �ن نذكر مثال �ن (قامو�س ال�رشيعة) يبلغ .2أ�برز لقاءات الرحالة يف عمان:
�سبعني جزءا ،وقد تف�ضلت الوزارة بطبع العديد من م�ؤلفات ذكر حممد نا�رص ال�شخ�صيات التي نظمت الندوة ،كاملفتي
ال�شيخ �أطفي�ش حممد بن يو�سف اجلزائري»()10 العام ل�سلطنة ُعمان ال�شيخ �أحمد بن حممد اخلليلي ،الذي
والحظ حممد نا�رص وجود املكتبات ،ووفرتها يف �أغلب �أ�ضفى ب�شخ�صه وطبعه على �أعمال الندوة« :جدية وثراء،
امل�ؤ�س�سات العامة ،كاملعاهد ،وامل�ساجد ،وا ألندية ..،حتتوي وحوارا علميا هادئا»( ،)7كما �أ�رشف على الندوة وزير
على �أحدث الو�سائل التي يحتاج �إليها القارئ� ،إ�ضافة �إىل التجارة وال�صناعة ،ووزير الرتبية والتعليم وال�شباب
وجود مكتبات خا�صة يف كل بلدة ،تقدم للباحثني كنوزا من بال�سلطنة ،وعدّد الرحالة ا أل�ساتذة امل�شاركني مبحا�رضاتهم
املخطوطات الرتاثية ،وت�سهل لكل راغب يف املعرفة ت�صفح يف �إثراء جانب حياة ال�صحابي مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل
املخطوطات ،وتوفر له كل الو�سائل للن�سخ والت�صوير ،وذكر عنه ،دون و�صفهم منهم :مدير ال�ش�ؤون ا إل�سالمية بوزارة
الرحالة منها مكتبة ال�ساملي يف منطقة ا�سمها «بدية»، العدل ،وال�شيخ مبارك بن عبد اهلل الرا�شدي ،والدكتور اليقظان
ومكتبة ال�سيد حممد البو�سعيدي ،وهي من �أغنى املكتبات بن طالب الهنائي من عمان ،والدكتور �سعيد ا ألعظمي من
باملخطوطات ،و�أ�ضخمها يف عمان)11(. الهند ،والدكتور �أحمد �شلبي من م�رص ،والدكتور فرحات بن
ومن ا ألخبار االجتماعية التي قدّمها الرحالة عن �شعب علي اجلعبريي من تون�س.
عمان ،مت�سك النا�س هناك بتعاليم الدين ا إل�سالمي ،باد كما �سجل حممد نا�رص ،يف احللقة الثانية وا ألخرية
ذلك يف �سلوكهم ،و�أخالقهم� ،إذ عرفوا بالكرم ،والتوا�ضع، من رحلته ،حدث لقائه بالطلبة ،وا أل�ساتذة اجلزائريني،
واملحافظة على ا أل�صالة يف اللبا�س وا ألكل ،وكذلك يف والتون�سيني املقيمني هناك ،واغتنامه فر�صة وجوده مب�سقط
هند�سة املباين ،التي ظلت على الطابع العمراين العماين إلجراء حمادثتني ُ�صحفيتني ،وت�سجيلهما ،وكانتا مع ال�سفري
293 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يف غابات وادي ميزاب والذي ي�شتكي منه الفالحون عندنا ا أل�صيل ،رغم �ضخامتها ،وتطور مرافقها( ،)12وقد عبرّ
كما ي�شتكي منه الفالحون هناك ألنه من الطفيليات املقلقة الكاتب عن كل ذلك قائال ..« :فالعمانيون يتم�سكون بالقيم
لل�شجار واخل�رضوات وتكرث بواحتها ا ألفالج ،ف�إن بالوالية أ ا إل�سالمية ويحافظون على ا أل�صالة يف كل مظاهرها
حوايل مائتي فلج ت�سقي النخل وا أل�شجار قِبل ال�سفرجل، احل�ضارية..ال �سيما يف العالقات االجتماعية مثل الكرم
واملاجنو ،والباباي»( ،)15قدّم الكاتب يف جمال ت�صوير، احلامتي الفيا�ض ،ف�إن ما ي�ؤذي العماين ا أل�صيل �أن يدعوك
كلي�شيهات مكانية ثالثة موازية ،ومقارنة ،تنتمي لف�ضاء �إىل قهوة �أو غذاء �أو ع�شاء وترد طلبه ،ومن ا ألخالق العربية
الذات ،الذي ثبّته دالليا لفظ (عندنا) ،فكانت لقطة البداية ا أل�صيلة التي يتحلى بها العمانيون هذا التوا�ضع اجلم..
عر�ض منظر واحات مدينة غرداية (باجلنوب اجلزائري)، حتى �أنهم ليخجلونك �أحيانا بتوا�ضعهم ذاك ..على �أن الدعوة
بني جبال حميطة ،وواد متخلل لها ،وهو منظر يوحي بتعدد �إىل القهوة والغذاء لي�س معناها ا ألكل وال�رشب والتطيب
ا أللوان ،وا أل�صوات الطبيعية ،يحرك خيال القارئ ،لي�ضفي بالبخور ثم االن�رصاف �إنها عادة عربية �أ�صيلة وجل�سة
على ال�صورة املزيد من العنا�رص املكانية املكملة ،كمنظر �رشقية مريحة ..وقد ا�ستمتعنا واحلق ،بجل�سات مفيدة
ال�سماء ،و�ألوان عامة تغ�شى اللوحة لتعرب عن الوقت ،وقد مع ال�شيخ اخلليلي حتت ظالل النخيل بالر�ستاق،)13(»..
يكملها بعنا�رص �أخرى ت�شغل الف�ضاء ،كالطيور ،وقليل من يبينّ الن�ص انطباعات الرحالة الذاتية ب�شكل وا�ضح ،من
النا�س� ،أو الفالحني� ،أما املنظر الثاين ،فهو يعك�س �صورة خالل اال�ستح�سان ،واختيار �ألفاظ تقوميية ذاتية (الكرم
ملدخل مدينة غرداية جهة بوهرارة ،وقد � آثر الكاتب يف هذا احلامتي الفيا�ض ،ا أل�صيل ،التوا�ضع اجلم ،جل�سات مفيدة)،
الت�صوير االقت�صاد التعبريي ،مكتفيا بذكر ال�شبه بني مدخلي وانطباعات نبعت عن م�شاهدة ،وا�ستمتاع بجل�ساته مع
املدينتني :الر�ستاق ،وغرداية ،فكان ف�ضاء مرتوكا للقارئ، العمانيني ،التي الحظ بف�ضلها الكرم ،والتوا�ضع فيهم.
ليكمل ر�سم املنظر جمهول املالمح� ،إال بالن�سبة ملن �سبقت و�أفا�ض الرحالة احلديث عن مدينة الر�ستاق ،ومكانتها
له زيارة غرداية ،وم�شاهدة املدخل املعرب عنه ،واملنظر العلمية ،والفكرية ،فذكر �شخ�صيات قدمية ا�شتهرت فيها
الثالث ،هو �صورة مقربة �أكرث من ال�صورتني ال�سابقتني، مب�ؤلفاتها ،وعلمها ،قال عنها« :وقد احتلت والية الر�ستاق
ارتبط بتحديد نوع من النبات الطفيلي املوجود يف غابات يف ال�سابق املركز ا ألول من الناحية الفكرية �إذ كانت مركزا
وادي ميزاب (بغرداية) ،والذي يعرف بالنجم ،وهي لوحة ثقافيا يجمع الكثري من العلماء وا ألدباء ومقرا لل�سلطة
ي�سيطر عليها اللون ا ألخ�رض ،مع �ألوان �أخرى مكملة ،واختار واالمامة ..وتعرف مب�شاهريها من ا ألئمة والعلماء ،مثل
الكاتب تدعيم ال�صور الذاتية التي قدّمها ب�شاهد �شعري ا إلمام �سيف بن �سلطان بن �سيف امللقب (بقيد ا ألر�ض)
يتغنى بجمال املدينة لل�شاعر العماين حممد بن �شيخان وقا�ضي الق�ضاة را�شد بن �سيف اللمكي ت(1915م))14(»..
ال�ساملي ،يقول فيه: .4املعامل احل�ضارية يف عمان:
«وما الر�ستاق �إال عر�ش ملـك قدّم حممد نا�رص لقرّاء رحلته �صورة عن املكان ،ومعامله
عليــــه ي�ستــوي امل�سعــود قهــرا احل�ضارية ،فنجد و�صفه مل�سقط ،التي ذكر �أنها متتاز
دعته لنف�سها الر�ستاق كفـ�ؤا مبوقعها ال�ساحلي اخلالب ،وهي ذات م�سجدين ملفتني
وكانـت يف حمى املا�ضني بكرا»()16 للنظر ،ل�ضخامتهما ،وهند�ستهما الرائقة ،وكذا ان�سجام
ورجع بنا حممد نا�رص �إىل الوراء ،لي�رسد علينا �أخبار ًا النقو�ش وروعتها بهما ،وعجب حممد نا�رص لوجود مرافق
تاريخية عن ح�صن احلزم« :الذي بناه ا إلمام �سيف بن �أ�سا�سية مب�ساجد م�سقط ت�ؤمن للزوار املطالعة ،واال�سرتاحة،
�سلطان اليعربي �سنة (1708م) ويعترب من �أروع بدائع الفن وا إلطعام ،واي�ضا والية �سمائل ،التي ت�ضم م�سجد ال�صحابي
املعماري ا إل�سالمي العماين ،فقد �أنفق فيه ا إلمام مبالغ مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه ،ويحظى جبلها باحت�ضان
طائلة وميتاز بعدم وجود �أية �أخ�شاب ب�سقوفه يف عقود قربه ،على ال�سفح ،مبو�ضع يدعى (الدقدقني).
م�ستديرة ثابتة على �أ�سطوانات عليها نقو�ش باجل�ص واحلجر، وكانت م�شاهدته ملدينة الر�ستاق ،مثار تذكر لف�ضاء م�شابه،
وال يقل عر�ض اجلدار الواحد فيه عن ثالثة �أمتار ،وله عدة له �سابق معرفة به ،يقول�« :أما الر�ستاق املدينة فقد ذكرتني
�أبواب فخمة ،وبه ممرات �رسية عر�ض كل منها وارتفاعها يف جمالها الطبيعي ا ألخاذ مبدينة غرداية بواحة نخلها
مرتان متر بجنبات احل�صن ا ألربعة وتخرج بعد ذلك �إىل املنعطفة مع الوادي بني اجلبال املحيطة بها من كل جانب..
املدينة كما توجد بداخل احل�صن مدافع قدمية برتغالية بل �إن الداخل �إليها من جهة م�سقط �أ�شبه ما يكون بداخل �إىل
و�إ�سبانية كانت ت�ستخدم ل�رضب العدو من م�سافات بعيدة غرداية من منعطفات (بوهرارة) ..وقد الحظت هذا الت�شابه
وتوجد به غرف لتدري�س القر� آن والدين ،ويخرتق احل�صن حتى يف احل�شي�ش الذي هو من نوع (النجم) املوجود بكرثة
294 نزوى العدد / 62ابريل 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
الحـــــاالت:
إ فلج ذو مياه نابعة تتدفق مياهه حتى ا آلن لت�سقي من يف
.1قدّمت الكثري من الدرا�سات العربية مفاهيم� ،أو مقاربات لفن الرحلة، احل�صن وتروي �أ�شجار النخيل املحيطة به»( )17ا�ستخدم
منها ما ر ّكز على القيمة العلمية للرحلة كدرا�سة ح�سني حممد فهيم� :أدب يف هذا املقطع �أ�سلوب ال�رسد الو�صفي ،الذي تفتتح عباراته
الرحالت� ،سل�سلة عامل املعرفة ،1989 ،وكتاب الرحالت ل�شوقي �ضيف، الو�صفية ،ب�أفعال خمتلفة دالة عل فعل الت�أ�سي�س والبناء،
دار املعارف ،م�رص ..،1987 ،ومنها ما عالج جماليات الرحلة ،واعتنى
مبكوناتها ا ألدبية ،كدرا�سة عبد الرحيم املودن� ،أدبية الرحلة ،دار الثقافة، للجزاء املكونة ..،ويقدم الكاتب ر�أيه
والتزيني ،والتحديد أ
الدار البي�ضاء ،ط ،1996 ،1.ودرا�سة �شعيب حليفي :الرحلة يف ا ألدب يف احل�صن ،ب�أ�سلوب التف�ضيل (�أروع بدائع الفن املعماري)،
العربي التجني�س � ..آليات الكتابة ..خطاب املتخيل ،دار ر ؤ�ية ،القاهرة ،ط،1. الذي ال يعهد يف الو�صف التاريخي املح�ض ،و�إمنا يدخل
.2006 يف الو�صف ا ألدبي ،ويعد هذا من خ�صائ�ص الو�صف يف فن
.2من الرحالت اجلزائرية احلديثة نحو الكويت والبحرين رحلتا �أحمد
توفيق املدين ال�سيا�سية ،وهي املدونة يف مذكراته :حياة كفاح(مذكرات)، الرحلة.
ال�رشكة الوطنية للن�رش والتوزيع ،اجلزائر ،ج� ،1982 ،3 .ص .358 .وكذلك .5ما وراء كتابة الرحلة:
رحلة �أحمد منور «الكويت اليوم» التي كانت حل�ضور فعاليات مهرجان
القرين ال�سنوي ،املنظم من قبل املجل�س الوطني للثقافة والفنون وا آلداب، جاءت رحلة حممد نا�رص �إىل عمان بلغة مبا�رشة ،و�رصيحة،
�أنظر :جريدة القب�س ،الكويت 4 ،3 ،جوان .1996 تدعو مواطنيه �إىل �أخذ العربة ،واالقتداء ب�إخوانهم العمانيني،
.3ولد حممد نا�رص �سنة 1938م يف القرارة ،والية غرداية ،وفيها �أخذ
تعليمه حتى نهاية مرحلة الثانوي ،تابع بعد ذلك درا�سته يف جامعة وو�ضع ا�سرتاتيجيات فعالة لتنمية قطاع التعليم يف اجلزائر،
القاهرة ،للح�صول على �شهادة اللي�سان�س يف ا ألدب العربي ،فكان ذلك وهذا عندما قدّم انطباعاته ال�شخ�صية عن الندوة الثقافية،
�سنة ،1966رجع حممد نا�رص �إىل اجلزائر ،فبقي بها م�شتغال بالدرا�سة التي �أقيمت يف عمان للتعريف بال�صحابي مازن بن غ�ضوبة
والتدري�س ،فح�صل على �شهادة الدكتوراه درجة ثالثة عام ،1972 ر�ضي اهلل عنه� ،إذ الحظ �إحكام التنظيم ،والت�سيري ألعمال
ودكتوراه دولة �سنة ،1983وعمل �أ�ستاذا يف معهد اللغة العربية و� آدابها
بجامعة اجلزائر ،للكاتب يف جمال الت�أليف ،عدّة كتب ،ودرا�سات يف ا ألدب الندوة ،وحما�رضاتها ،و�أعجب باملبادرة التي قامت بها
اجلزائري احلديث� ،أهمها« :املقالة ال�صحفية اجلزائرية ،ن�ش�أتها ،وتطورها، اللجنة امل�رشفة ،من طبع املحا�رضات ،وتقدميها للحا�رضين
و�أعالمها» ،و«مفدي زكرياء �شاعر الن�ضال والثورة» ،و«ال�شعر اجلزائري �سلفا ،حتى يتمكنوا من املتابعة اجليدة ،والرد ،والتعقيب
احلديث اجتاهاته وخ�صائ�صه الفنية» ،وله م�شاركة يف نظم ال�شعر ،وطبع عليها ،وما زاد �إعجابه ،هو تكليف �أحد املحا�رضين:
من ذلك ديوانني�« :أغنيات النخيل» ،و«الرباعم الندية».
.4ن�رشت الرحلة يف جريدة ال�سالم ،اجلزائر ،ع ،19 ،18.الثالثاء ،27 «ب�إعداد كتاب الندوة حول العلم الذي �سيكون حمور
وا ألربعاء 28نوفمرب .1990 الندوة يراعي فيه �صاحبه الدقة وال�شمول ليكون معتمدا
.5حممد نا�رص� ،أوراق ثقافية من عمان ،ال�سالم ،اجلزائر ،ع ،18 .الثالثاء بعد الت�صحيح وا إل�ضافات والطبع مرجعا هاما للمناهج
27نوفمرب .1990 واملقررات الدرا�سية يف الثانويات واجلامعات ..وحبذا لو
.6امل�صدر نف�سه.
.7امل�صدر نف�سه. يعمل بهذا التنظيم اجليد اجلاد يف ملتقياتنا الفكرية التي
.8امل�صدر نف�سه ،ع ،19 .ا ألربعاء 28نوفمرب 1990م. طاملا بقيت تو�صيات على الورق �أو بحوث يف املجالت
.9امل�صدر نف�سه. والكتب ال ي�ستفيد منها الطالب يف حياتهم العلمية»()18
.10امل�صدر نف�سه. وبهذا قدّم الرحالة اقرتاحا مل�س�ؤويل الوطن ،والعاملني يف
.11امل�صدر نف�سه.
.12امل�صدر نف�سه. الرتبية ،بتفعيل نتائج الندوات الثقافية والعلمية ،عن طريق
.13امل�صدر نف�سه. طبع بحوثها يف كتب م�ستقلة ،ممنهجة ،ومب�سطة للباحثني،
.14امل�صدر نف�سه. وللعاملني على تهيئة برامج التعليم ،ومقرراته ،بعدما عر�ض
.15امل�صدر نف�سه. انطباعه ا إليجابي لهذا املجهود املقام يف ندوة عمان ،التي
.16امل�صدر نف�سه.
.17امل�صدر نف�سه. ح�رضها حممد نا�رص)19(.
.18حممد نا�رص� ،أوراق ثقافية من عمان ،ال�سالم ،ع ،18 .الثالثاء 27 �أما حديث الرحالة عن التطور الثقايف الكبري الذي ا�ستطاعت
نوفمرب .1990 عمان حتقيقه منذ �سنة ،1970واجلهود اجلبارة ،التي بذلت
.19امل�صدر نف�سه. من �أجل �إحياء الرتاث ،واملحافظة على �أ�صالة الثقافة،
والفكر ،وحماية كنوز املخطوطات التي تتوفر عليها البالد،
وانبهاره باملكتبات ال�ضخمة ،اخلا�صة ،التي زارها ،ملن
اخلطابات غري ال�رصيحة املوجهة �إىل مواطنيه لالعتناء
برتاثهم ،وحتديث مكتباتهم اخلا�صة� ،أو ت�سهيل و�صول
الباحثني �إليها.
إشـــــــارات
نتوجه اىل الأ�صدقاء الكتاب والأدباء والفنانني ب� أن موادهم
يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين( )Emailيكون على العناوين:
nizwa99@omantel.net.om
nizwa99@nizwa.com
-املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل اىل � أية جهة � أخرى للن�رش و� إال �سنوقف � -آ�سفني -التعامل
مع � أ�صحابها -املواد املر�سلة تكتب بخط وا�ضح � أو تطبع باحلا�سب الآيل .ويف�ضـل � إر�سـالهـا
عـلى قر�ص مدمج � أو بالربيـد االلكتــروين
-ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات
فنيـة و� إخراجية -املواد التي ترد للمجلة ال ترد لأ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش و� أحيانا
تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار.
-املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين.
عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت
www.nizwa.com
طبعت مبطابع :م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�رش واالعالن
�ص.ب 974 :م�سقط ،الرمز الربيدي � 112سلطنة عمان ،البدالة24604477 :
فاك�س24699642 :
االعالنات :العمانية لالعالن والعالقات العامة
مبا�رش24699467 -24600482 :
�ص.ب 2202 :روي ،الرمز الربيدي � 112سلطنة عُمان
Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR
PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING
.P.O. Box, 974. Postal Code.. 113. Muscat. Sultanate of Oman
Tel.:24604477 Fax.: 24699643
Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS
Tell.: 24600483, 24699467
P.O. Box 3303. P.C. 112 Ruwi Sultanate of Oman
العـــدد الثــاين وال�ســـتون
ابريل 2010م -ربيع الثاين 1431هـ