You are on page 1of 296

‫ف�صلية ثقافية‬

‫‪62‬‬
‫ت�صـــدر عــن‪:‬‬
‫م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة‬
‫والن�شر واالعالن‬ ‫العــدد الثـاين وال�سـتون‬
‫ابريل ‪ 2010‬م ‪ -‬ربيع الثاين ‪ 1431‬هـ‬
‫الرئي�س التنفيذي‬ ‫عنوان املرا�سلة‪:‬‬
‫�ص‪.‬ب ‪ 855‬الرمز الربيدي‪117 :‬‬
‫عبداهلل بن نا�صر الرحبي‬ ‫الوادي الكبري‪ ،‬م�سقط ‪� -‬سـلطنة عُمان‬
‫هاتف‪)00968 ( 24601608:‬‬
‫رئي�س التحرير‬ ‫فاك�س‪)00968( 24694254 :‬‬
‫‪Email: nizwa99@nizwa.com‬‬
‫�ســـــيف الرحـــبي‬ ‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬
‫ال�ســـعار‪:‬‬
‫أ‬
‫مدير التحـرير‬ ‫�سلطنة عُمان ريال واحـد ‪ -‬ا إلمــارات ‪10‬‬
‫دراهم ‪ -‬قطــر ‪ 15‬رياال ‪ -‬البحـرين ‪1.5‬‬
‫طــالب املعمـري‬ ‫دينــار ‪ -‬الكويت ‪ 1.5‬دين ــار ‪ -‬ال�سـعودية‬
‫‪ 15‬ريــاال ‪ -‬الأردن ‪ 1.5‬دينار ‪� -‬سوريا‬
‫‪ 75‬لرية ‪ -‬لبنان ‪ 3000‬لرية ‪ -‬م�صر ‪4‬‬
‫اال�شراف الفني واالخراج‬ ‫جنيهات ‪ -‬ال�سودان ‪ 125‬جنيها ‪ -‬تون�س‬
‫خلف العربي‬ ‫ديناران ‪ -‬اجلــزائر ‪ 125‬دينـ ــارا ‪ -‬ليبي ــا‬
‫‪ 1.5‬دينار ‪ -‬املغرب ‪ 20‬درهما ‪ -‬اليمن ‪90‬‬
‫رياال ‪ -‬اململكة املتحدة جنيهان ‪ -‬امريكا‬
‫‪ 3‬دوالرات ‪ -‬فرن�سا ‪ 20‬فرنكا ‪ -‬ايطـ ــاليـا‬
‫‪ 4560‬لرية‪.‬‬
‫اال�شرتاكات ال�سنوية‪:‬‬
‫للأ فراد‪ 5 :‬رياالت عُمانية‪ ،‬للم� ؤ�س�سات‪10 :‬‬
‫رياالت عمانية‪ -‬تراجع ق�سيمة اال�شرتاك‪.‬‬
‫وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة‬
‫� إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى‬
‫العنوان التايل‪:‬‬
‫م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر واالعالن‬
‫�ص‪.‬ب‪ - 3002 :‬الرمز الربيدي ‪112‬‬
‫روي ‪� -‬سلطنة عُمان‪.‬‬
‫في هذا العدد‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪4‬‬
‫الدرا�سـات‪:‬‬
‫‪ -‬اال�سالم والليربالية‪ :‬زكريا املحرمي‪ -‬م�س�ألة الكالم يف علم‬
‫الكالم‪ :‬ر�شيد يحياوي‪ -‬مفهوم الكتابة عند حميي الدين بن‬
‫عربي‪ :‬حممد خطاب‪ -‬ال�شعر يف ح�رضة اجلواهري‪ :‬عبداحل�سني‬
‫�شعبان‪ -‬قراءة � أخرى يف رواية البي�ضاء ليو�سف ادري�س‪ :‬خريي‬
‫دومة‪ -‬الأدب املهاجر وخ�صائ�صه‪ :‬حممد معت�صم‪ -‬الكينونة يف‬
‫ال�شعر العربي املعا�رص‪ :‬ح�سني حمزة اجلبوري‪ -‬حممد علي �شم�س‬
‫الدين يف ق�صيدة «دموع احلالّج»‪� :‬شادية �شقرو�ش‪ -‬الــ�شــعــر‬
‫العمانية اجلديدة‪ :‬حممد‬ ‫الـرعــوي‪ :‬حممد بودويك‪ -‬الكتابة ُ‬
‫ال�شحات‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫لقـــــاءات‪:‬‬
‫‪ -‬هريتا مولر‪ :‬ترجمة‪� :‬سعيد بوخليط‪.‬‬
‫‪ -‬هالل احلجري‪ :‬ح�سن املطرو�شي‪.‬‬
‫‪�-‬صالح ال�سنو�سي‪ :‬عذاب الركابي‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫فنــــــــون‪:‬‬
‫‪ -‬الفوتوغرافيا ال ُعمانية‪ :‬عبداملنعم احل�سني‪.‬‬
‫‪� -‬سعد املو�سوي ورحلته مع الفن‪ :‬خالد احللي‪ .‬‬

‫‪148‬‬
‫م�ســــــــرح‪:‬‬
‫‪ -‬ال�رس (م�رسحية �سيكولوجية)‪� :‬صالح ح�سن‪.‬‬
‫‪-‬العامل لي�س جمرد �أزرار(مونودراما) ‪ :‬عبدالرزاق الربيعي‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫�سينمــــــــا‪:‬‬
‫‪ -‬عنفوان ال�صورة كو�سيط ل إلبداع عند � أكريا كورو�ساوا ‪..‬‬
‫«را�شومون» منوذجاً‪ :‬كامل يو�سف ح�سني‪.‬‬
‫‪� -‬سيناريو فيلم (املغامـرة) ت�أليف و�إخراج‪ �/‬أنطونيوين‪ ،‬ترجمة‪/‬‬
‫حممود علي‪.‬‬

‫^‬ ‫^ تر�سل املقاالت با�سم رئي�س التحرير‪ ..‬و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا‬
‫‪186‬‬
‫�شعـــــــــــر‪:‬‬
‫أ�صوات الكلمة لل�شاعر الأرجنتيني غِيريمو �إيبانْييث ترجمة‬
‫ُ‬ ‫‪�-‬‬
‫وتقدمي‪ :‬حممد � أحمد بني�س ‪ -‬ع�ش ٌق له ملم�س اجلنون!‪ :‬با�سم‬
‫املرعبي ‪ -‬على منت الريح‪ :‬عزيز احلاكم ‪ � -‬آنية من الفخار‪ :‬عماد‬
‫ف�ؤاد ‪ -‬على بعد انتظا ٍر و� آخر‪ :‬ن�شوان حم�سن دماج ‪ -‬غائبون‬
‫ل�رشاء بطاقات هواتف‪ :‬ن�رص جميل �شعث ‪ -‬ترجمة � أولية لرقيم‬
‫م�سماري‪ :‬فرج بريقدار ‪ -‬ق�صائد‪ :‬حممد ميالد‪� -‬سالما ً � أيتها‬
‫احلمراء كلون الدم الفل�سطيني‪ :‬مو�سى حوامدة ‪ -‬رحلة �صيد‬
‫ال�سمك � أو رجل البنك الفو�ضوي‪ :‬حممد � آدم ‪ -‬ر�سائل ق�صرية‪:‬‬
‫ر�شـــا عمــــران ‪ -‬ثياب‪ :‬ح�سن النواب ‪ � -‬أ�سالك �شائكة وحظر‬
‫جتوال‪ :‬منال � أحمد ‪ -‬غيمة ال هواء يحرّكها وال �سماء لها‪:‬‬
‫ا�سماعيل فقيه ‪ -‬البحر يبدل قم�صانه‪ :‬عائ�شة ال�سيفية ‪ -‬حلمت‬
‫بك‪ :‬عزيزة را�شد‪� -‬سنوات‪ � :‬أ�رشف العناين ‪-‬من مناوراتِ املما�س‬
‫والدائرة‪ :‬يا�رس عثمان‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫ن�صـــــو�ص‪:‬‬
‫‪ -‬جحيم ف�سيح‪ :‬جولريمو مارتينيز‪ :‬ت‪ :‬الربتو ماجنوول ترجمة‪:‬‬
‫عبداهلل احلرا�صي‪ -‬ف�صل من رواية االحــتـالل الأمــريـكـي‪:‬‬
‫ال�صبار‪:‬‬
‫با�سكال كينيار‪ :‬ترجمة‪ :‬حممود عبد الغني‪ -‬مدينة ّ‬
‫عـر�ض‬
‫ٌ‬ ‫للكاتب الباك�ستاين‪ :‬عامر ح�سني ترجمة‪ :‬رمي داوود‪-‬‬
‫فــي الظــالم‪ :‬عبداهلل خليفة ‪ -‬رع�شــة مرور‪ :‬منذر م�رصي‪-‬‬
‫يف الربزخ‪ � :‬أحمد حممد الرحبي‪� -‬ساعات املطر‪ :‬نادية العبد‬
‫ال�سعدي‪ -‬مر� آب ال�ضياع‪ :‬من�صف بندحمان‪ -‬بنات احلكايا‪:‬‬
‫طالب املعمري‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫متابعــــات‪:‬‬
‫‪ -‬النكبة‪ ،‬النك�سة‪ ،‬واملخيم!‪ :‬املتوكل طه ‪ -‬الرواية املغربية‬
‫الآن‪ :‬ح�سن املودن‪« -‬ا�سمه الغرام» لعلوية �صبح‪ :‬مفيد جنم‪-‬‬
‫العمانية‬
‫«ق�سمة الغرماء» ليو�سف القعيد‪ � :‬أماين ف�ؤاد‪ -‬الق�صيدة ُ‬
‫لعي�سى ال�سليماين‪ :‬عبا�س عبداحلليم عبا�س‪ -‬مرييت ابونيام‪:‬‬
‫ده�شة الفن وال�شعر‪ :‬يفء نا�رص‪�« -‬رسير الأ�ستاذ»‪ :‬في�صل عبد‬
‫احل�سن‪« -‬حفلة املوت» لفاطمة ال�شيدية‪ :‬ر�سول حممد ر�سول ‪-‬‬
‫جنيب خداري يف «يد ال ت�سمعني»‪ :‬لطيفة بلخري‪« -‬الل�سانيات‬
‫الن�صية دواعي الت�أ�سي�س والأهمية»‪ :‬عمران ر�شيد‪ -‬حممد نا�رص‬
‫يف � أوراق ثقافية من ُعمان‪� :‬سمرية � أن�ساعد‪.‬‬
‫^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها‪ ،‬واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من � آراء ^‬
‫درا�سـ ــات‬

‫لوحة للفنان فاحت املدر�س ‪� -‬سورية‬

‫‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ا إل�س ــالم‬
‫والليبــرالي ـ ــة‬
‫زكريا بن خليفة املحرمي‬
‫كاتب وطبيب من ُعمان‬

‫مع بدايات القرن الع�رشين ظهر جلياً �أن املنظومة ال�سيا�سية على م�ستوى العامل‬
‫املتقدم باتت منح�رصة يف نظريتني �سيا�سيتني ال ثالث لهما‪ ،‬وهما الليربالية‬
‫واال�شرتاكية‪ ،‬ومت عوملة هاتني النظريتني �إىل باقي دول العامل التي �سارت‬
‫بالتبعية يف ركاب فل�سفة املحتل ليرباليا كان �أم ا�شرتاكيا‪ .‬مع بروز ظاهرة‬
‫التدين على م�ستوى العامل وو�صول الكثري من التيارات الدينية �إىل �ساحة‬
‫ال�رصاع ال�سيا�سي وفق ما مت اال�صطالح عليه بـ(الهوت التحرير) حدثت ثورة‬
‫وتوغل ما مت اعتباره‬‫لتغول ّ‬
‫ّ‬ ‫تعبوية م�ضادة لهذا الالهوت حتاول الت�صدي‬
‫�إيديولوجيات �إق�صائية يف احلرم ال�سيا�سي‪ .‬مع نهاية القرن الع�رشين ا�ستطاعت‬
‫الليربالية التي �أنتحبت الر�أ�سمالية االقت�صادية مزاحمة اال�شرتاكية ال�شيوعية‬
‫بل و�إزاحتها وجت�سد هذا احلدث يف �سقوط االحتاد ال�سوفييتي الذي كان �أكرب‬
‫قالع اال�شرتاكية‪ ،‬وتق�سيم يوغو�سالفيا ور�أ�سمالة ال�صني‪.‬‬

‫‪ w‬ال قد�سية يف ا إل�سالم �سوى للن�ص ا إللهي‪ ،‬وال ح�صانة فيه �سوى ل�شخ�ص‬
‫النبي وهدي حكمته‪ ،‬أ�ما غريه من الب�رش ف�إنه أي�خذ من قوله ويرد ح�سب‬
‫موافقته ومفارقته للن�ص ا إللهي‪.‬‬

‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فالفكر ا إل�سالمي املطروح لي�س �سوى لفيف قراءات‬ ‫ظل الدين هو الغائب احلا�رض يف ميدان ال�رصاع‪،‬‬
‫اجتهادية للن�ص ا إللهي‪ ،‬هذه القراءت املتعددة لي�ست‬ ‫فمع تغييب القوى ال�سيا�سية املتنفذة له من �ساحة‬
‫بال�رضورة متجاورة ومتكاملة بل هي يف كثري من‬ ‫الفعل ال�سيا�سي كان حا�رضا ً وفاعالً بقوة يف �ساحة‬
‫ا ألحيان مت�ضادة ومت�صادمة‪ ،‬فممثلو كل قراءة‬ ‫�صناعة الفكر وت�شكيل ثقافة املجتمعات‪ ،‬بل وكان‬
‫يزعمون � أنهم حملة قب�س النور املقد�س وغريهم قابع‬ ‫عامالً حا�سما يف تثوير املجتمعات �ضد االنحرافات‬
‫يف ظلمات الهالك وال�ضالل‪ .‬كثرية هي القراءات‬ ‫ال�سلطوية ليربالية كانت �أم ا�شرتاكية‪ .‬ا�ستطاع العامل‬
‫ا إل�سالمية للن�ص ا إللهي‪ ،‬فهناك القراءة ال�صوفية‪،‬‬ ‫الديني مع بدايات ثورات التحرر الوطني التي ا�شتعلت‬
‫وهناك القراءة ال�سلفية بتفرعاتها الثالثة التقليدية‬ ‫يف نهايات احلرب العاملية الثانية �أن يدخل ميدان‬
‫وا إلخوانية واجلهادية‪ ،‬وهناك الطرح ال�شيعي القائم‬ ‫ال�رصاع ال�سيا�سي‪ ،‬متثل هذا الدخول بداية من خالل‬
‫على والية الفقيه والآخر القائم على تكفري � أتباعها‪،‬‬ ‫ت�شكيل ا ألحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬ومن ثم مت الدخول عن‬
‫وهناك ا إلبا�ضيون وهناك الزيديون‪ .‬وكل فريق من‬ ‫طريق االخرتاق الديني للمنظومة الليربالية نف�سها‬ ‫ال�سالمي‬
‫الفكر إ‬
‫ه�ؤالء يزعم � أنه (الفرقة الناجية) و� أن قراءته للن�ص‬ ‫كما ح�صل يف احلزب اجلمهوري ا ألمريكي‪.‬‬ ‫املطروح‬
‫جتب ما �سواها‪.‬‬
‫الديني متثل القراءة النهائية التي ّ‬ ‫يقف العامل اليوم ال على عتبة تزاحم التيارات‬ ‫لي�س �سوى‬
‫الفكر الليربايل لي�س � أقل ان�شعابا بل رمبا يكون � أعقد‬ ‫ال�سيا�سية الدينية والليربالية وح�سب و�إمنا هو بالفعل‬ ‫لفيف قراءات‬
‫ا�شتباكاً من �سالفه‪ ،‬فهناك الليربالية العلمانية‪،‬‬ ‫يكابد ويالت �صدام هائل بني القيم الليربالية والدينية‬ ‫اجتهادية‬
‫وهناك الليربالية القومية‪ ،‬وهناك الليربالية‬ ‫على امل�ستوى الفردي واالجتماعي واالقت�صادي‬ ‫اللهي‪،‬‬
‫للن�ص إ‬
‫الر� أ�سمالية‪ ،‬وهناك الليربالية ا ألدبية‪ ،‬وهناك‬ ‫والثقايف والفكري‪.‬‬ ‫هذه القراءت‬
‫ليربالية ال�شارع!‬ ‫بعد تراجع الي�سار اال�شرتاكي وانح�سار دور الكني�سة‬ ‫املتعددة لي�ست‬
‫ك�أي حدث مل ُيعدم ال�رصاع بني الليربالية وا إل�سالم‬ ‫بال�ضرورة‬
‫و�إزاحة كل منهما من دائرة املناف�سة الثقافية‬
‫عن الر�صد والتحليل وحماولة املقاربة‪ ،‬و� آخر تلك‬ ‫متجاورة‬
‫العاملية مل يبق يف �ساحة ال�رصاع الفكري العاملي غري‬
‫املقاربات �أ�سفرت عن ظهور م�صطلح (ا إل�سالم‬ ‫ومتكاملة بل‬
‫الليربالية وا إل�سالم‪ .‬هذا الواقع هو ما عرب عنه البع�ض‬ ‫هي يف كثري‬
‫الليربايل) ومت اعتبار حزب العدالة والتنمية الرتكي‬ ‫كربنارد لوي�س و�صموئيل هنتجتون حني حتدثوا عن‬
‫�أكرب ممثليه‪ ،‬وبدرا�سة هذا املفهوم وقراءة جتربة‬ ‫الحيان‬‫من أ‬
‫�رصاع احل�ضارات النهائي بني ا إل�سالم والليربالية‪،‬‬ ‫مت�ضادة‬
‫�أ�صحابه ندرك �أنه ال ي�أ�س�س لنظرية فكرية نا�ضجة‬ ‫و�إن كان فوكوياما قد ح�سم نتيجة ال�رصاع بالقول‬
‫بقدر ما يعرب عن حماولة براجماتية لفك اال�شتباك‬ ‫ومت�صادمة‬
‫�أن الليربالية الر�أ�سمالية قد �أنهت جميع جوالت‬
‫م�ؤقتا بني ا إل�سالم واللبريالية على امل�ستوى ال�سيا�سي‬
‫�رصاعها الفكري ب�سحق الفل�سفات ا ألخرى‪ ،‬و�أن تاريخ‬
‫فقط‪.‬‬
‫ا إلن�سانية انتهى عند فل�سفة الليربالية الر�أ�سمالية!‬
‫ما تن�شده جمتمعاتنا العربية اليوم لي�س جمرد‬
‫ال�رصاع بني الليربالية وا إل�سالم لي�س �رصاعا افرتا�ضيا‬
‫التوفيق التلفيقي ا أل�شبه بد�س الر ؤ�و�س يف الرتاب‪ ،‬بل‬
‫نحن بحاجة ما�سة �إىل ت�رشيح ا ألطروحات جميعها‪،‬‬ ‫مفارقا لواقعنا‪� ،‬إن جتليات هذا ال�صدام يف عاملنا‬
‫وحماولة فهم ا أل�س�س التي تنبني عليها‪ ،‬ومن ثم‬ ‫العربي غري خافية‪ ،‬فالعالقات ا أل�رسية التقليدية بد�أت‬
‫احلكم واالختيار وانتخاب ا ألف�ضل القادر على البقاء‬ ‫يف التجدد‪ ،‬والقيم االجتماعية الكال�سيكية بد�أت يف‬
‫واال�ستمرارية‪.‬‬ ‫التبدد‪ ،‬وبد� أ داخل ا أل�رسة واملجتمعات حراك �صاخب‬
‫باجتاه �إعادة تر�سيم و�صياغة حدود تلك العالقات‪.‬‬
‫تو�ضيح الوا�ضحات‬ ‫�أما على م�ستوى النخب الثقافية ف�إن ال�صدام الفكري‬
‫ق�شع ال�ضباب املخيم على املفاهيم هو ال�سبيل ا ألقرب‬ ‫يتجلى يف اللغة اخلطابية التي جتاوزت حدود احلوار‬
‫�إىل ك�شف احلقائق ور�صد امل�ضامني‪ ،‬وكثريا ً ما ت�سبب‬ ‫واجلدال بالتي هي �أح�سن �إىل لغة التبخي�س والتجريح‬
‫اختالف املعاين �إىل تباعد الر ؤ�ى وا ألفكار وبالتايل‬ ‫وال�سباب والقذف‪.‬‬
‫القطيعة وال�صدام‪ .‬قد نتوهم يف البدء �أن مفهومي‬ ‫�إن من بني � أهم � أ�سباب ال�صدام العنيف بني ممثلي‬
‫ا إل�سالم والليربالية من الو�ضوح واالنك�شاف بحيث ال‬ ‫الليربالية وا إل�سالم يف عاملنا العربي هي تلك‬
‫ي�ستلزمان حتديدا ً من جديد‪ ،‬ورمبا يكون هذا الوهم‬ ‫ال�ضبابية التي تلف كال الفكرين وا ألطروحتني‪،‬‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫«ا ألفراد» حتكم ذاتها‪ ،‬وتتعاون فقط عندما تعمل‬ ‫حقيقة �أو جزءا ً منها‪ ،‬بيد �أن الوقائع ت�شري �إىل التبا�س‬
‫�رشوط التعاون على حتقيق �أهداف كل من �أطراف‬ ‫بينّ حتى يف حتديد مفهوم ا إل�سالم ف�ضالً عما حتمله‬
‫العالقة)‪.‬‬ ‫داللة م�صطلح الليربالية من هالمية مت التطرق �إليها‬
‫�أما امل�ؤ�س�سات ف�إن الليرباليني كما تقول فريجينيا‬ ‫من قبل باحثني كرث ما بني قادح ومادح‪ .‬فلذا يلزمنا‬
‫هيلد يف كتابها «�أخالق العناية» (يقرتحون �أنه علينا‬ ‫بداية حتديد مفهوم ك ٍل من ا إل�سالم والليربالية حتى‬
‫�أن نختار مبادئ لت�صميم م�ؤ�س�ساتنا التي �سنقبلها‬ ‫ن�ستبني �سبيل ال�شقاق بينهما ون�ستك�شف طريق الوفاق‬
‫ك�أ�شخا�ص �أحرار ومت�ساوين وعقالنيني ونزيهني‬ ‫�إن وجدت‪.‬‬
‫كلياً‪ .‬هذه املبادئ وامل�ؤ�س�سات التي نتفق عليها‬ ‫ا إل�سالم هو منهج حياة �إلهي‪ ،‬جاء لريفع الظلم ويقيم‬
‫تعاقديا لتعزيز ال�سعي املعقول �إىل حتقيق م�صاحلنا‬ ‫العدل وين�رش ال�سعادة والرخاء‪ ،‬د�ستوره الن�ص ا إللهي‬
‫نطور �ضمن قيود القوانني‬ ‫الفردية‪ .‬ون�ستطيع �أن ّ‬ ‫اخلالد املتمثل يف القر� آن‪ ،‬و�رشائعه و�أحكامه �رشحها‬
‫التي تو�صي بها مبادئنا ال�سيا�سية والتي تنفذها‬ ‫النبي الكرمي وفق حكمته فتناقلتها ا ألمة جيال بعد‬
‫(ال�سالم‬
‫إ‬ ‫م�ؤ�س�ساتنا ال�سيا�سية �أي عالقات اجتماعية وحمبة‬ ‫جيل‪ ،‬وحني االختالف يف الفهم وثبوت النقل عن‬
‫الليربايل)‬ ‫نرغب فيها)‪.‬‬ ‫النبي يكون الن�صي ا إللهي وحده ‪-‬ال �سواه‪ -‬هو‬
‫ال ي�أ�س�س‬ ‫�إما ا إلميان ف�إن الليربالية ترى ب�أن ا إلن�سان له حرية‬ ‫احلكم والفي�صل‪.‬‬
‫اختيار ما ي�ؤمن به‪ ،‬وهي مع ذلك ت�شدد على �أن‬ ‫ال قد�سية يف ا إل�سالم �سوى للن�ص ا إللهي‪ ،‬وال ح�صانة‬
‫لنظرية‬ ‫ا إلميان يجب �أن يكون فعالً فرديا خال�صا ال يتدخل‬
‫فكرية نا�ضجة‬ ‫فيه �سوى ل�شخ�ص النبي وهدي حكمته‪� ،‬أما غريه‬
‫يف العالقات االجتماعية وال يف نظام ال�سوق وال يف‬ ‫من الب�رش ف�إنه ي�أخذ من قوله ويرد ح�سب موافقته‬
‫بقدر ما يعرب‬ ‫امل�ؤ�س�سات العامة وال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ومفارقته للن�ص ا إللهي‪.‬‬
‫عن حماولة‬ ‫يرى البع�ض � أن � أول املنظرين لهذه الفل�سفة هو‬ ‫النا�س مت�ساوون يف احلقوق والواجبات كل ح�سب‬
‫براجماتية لفك‬ ‫الفيل�سوف ا ألملاين �إميانويل كانط و� أنه � أ�س�سها على‬ ‫كفاءته وا�ستطاعته‪� .‬أما العالقات االجتماعية‬
‫اال�شتباك م�ؤقتا‬ ‫� أربعة � أ�صول (احلرية‪ ،‬وا إلرادة‪ ،‬والتعاقد‪ ،‬والقانون)‪.‬‬ ‫واالقت�صادية ف�إنها حمكومة وفق قواعد حرية ا إلرادة‪،‬‬
‫ال�سالم‬
‫بني إ‬ ‫وكما هو مالحظ ف�إن هذه ا أل�صول ا ألربعة لليربالية‬ ‫والرتا�ضي‪ ،‬والعدالة‪ ،‬ورفع الظلم‪ ،‬ودفع ال�رضر‪،‬‬
‫واللبريالية‬ ‫ال متثل اغرتابا عن � أ�صول ا إل�سالم ولكنها � أي�ضاً‬ ‫والتوثيق‪ ،‬وال�شفافية‪ ،‬والتعاون على الرب والتقوى‬
‫لي�ست بال�رضورة من�سجمة معه‪ ،‬فهل احلرية وا إلرادة‬ ‫والتناهي عن ا إلثم والعدوان‪.‬‬
‫على امل�ستوى‬ ‫الليربالية هي ذاتها احلرية التي �ضمنها ا إل�سالم‪ ،‬وهل‬
‫ال�سيا�سي فقط‬ ‫�أما الليربالية (‪ )Liberalism‬فتبد� أ ف�صول حلقاتها مع‬
‫التعاقد والقانون الليربايل هو ذات الرتا�ضي وال�رشيعة‬
‫� آدم �سميث (‪ )1790-1723‬الذي اعترب احلرية‬
‫الذي افرت�ضتها ن�صو�ص القر� آن؟ هنا يكمن �شيطان‬
‫الفردية وامللكية اخلا�صة حق مطلق ومقد�س‪ ،‬وتاله‬
‫التفا�صيل الذي دائماً ما يجو�س بخيله ورجله ليفجر‬
‫ديفيد ريكاردو (‪ )1823-1772‬وجون مينارد كينز‬
‫فخاخ الت�أويالت املتعار�ضة والتربيرات املتناق�ضة‪،‬‬
‫و�إن مل ن�ستعذ باهلل منه عن طريق التجرد من ا ألحكام‬ ‫(‪ )1946-1883‬املنافح عما ي�سميه «دولة الرعاية»‪،‬‬
‫القيمية امل�سبقة والقراءات الغائية املرت�صدة فلن‬ ‫وقد تطورت هذه الدعوة �إىل فل�سفة �سيا�سية واجتماعية‬
‫نخرج من حلبة التناطح الليربالديني‪.‬‬ ‫واقت�صادية قائمة على ا�ستقالل الفرد وحرية اختياره‬
‫ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية‪ ،‬ومن مبد� أ‬
‫اال�ستبداد بين الفردانية والجماعتية‬ ‫احلرية هذا تنبع بقية احلقوق كحق االختيار (مبعنى‬
‫يرتكز الطرح الديني على اجلماعة (املجتمع وا ألمة)‬ ‫حق احلياة كما ي�شاء الفرد‪ ،‬ال كما ُي�شاء له‪ ،‬وحق‬
‫بينما يرتكز الطرح الليربايل على الفرد‪ ،‬روح اجلماعة‬ ‫التعبري عن الذات مبختلف الو�سائل‪ ،‬وحق البحث عن‬
‫وامل�صلحة امل�شرتكة هي ا أل�صل يف الطرح الديني �أما‬ ‫معنى احلياة وفق قناعاته ال وفق ما مُيلى �أو ُيفر�ض‬
‫الفردانية وامل�صلحة الذاتية هي العماد التي يقف عليها‬ ‫عليه) ح�سبما جاء يف مو�سوعة ويكيبيديا‪.‬‬
‫الت�صور الليربايل‪ ،‬وقد �أ�شار هيجل �إىل هذه املالحظة‬ ‫�أما النظرة الليربالية للعالقات االجتماعية فهي كما‬
‫احلا�سمة يف كتابيه «فل�سفة احلقوق» و«فل�سفة الروح»‬ ‫يقول برايان باري يف كتابه «النظرية الليربالية‬
‫(انظر �أ�رشف من�صور (‪ .)www.marxists.org‬ا ألمر الذي حدا‬ ‫للعدالة»‪�( :‬أن املجتمع يت�شكل من وحدات م�ستقلة‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف الدول االقت�صادية العظمى‪.‬‬ ‫بهيجل �إىل تقدمي البديل االجتماعي لليربالية‪ ،‬وهو ما‬
‫الطرح الديني املعا�رص بد� أ يتخل�ص من �دران الفكر‬
‫أ‬ ‫تطور الحقاً يف الفل�سفة املارك�سية‪.‬‬
‫اال�ستبدادي املتوارث جيال عرب جيال‪ ،‬والذي �صار عند‬ ‫�إن مبد� أ ّي احلرية وا إلرادة يلتقي فيهما الطرح الديني‬
‫بع�ض الطوائف ا إل�سالمية خمتلطا بالن�ص اخلال�ص‪،‬‬ ‫بذات القدر الذي يفرتق فيهما مع الطرح الليربايل‪،‬‬
‫الفكر ا إل�سالمي املعا�رص بد� أ يف عملية فرز للن�ص‬ ‫فكال الطرحني قائم على حرية االختيار‪ .‬احلرية‬
‫اخلال�ص بعيدا عن الركام الروائي املفرخ لال�ستبداد‪،‬‬ ‫يف املفهوم الليربايل ال يحكمها �سوى القانون‪� ،‬أما‬
‫لكن ال يزال وجدان بع�ض املدار�س ال�سلفية غري قادر‬ ‫الفهم الديني ملبد� أ احلرية ف�إنه ينت�صب على ت�أطري‬
‫على التخلي عن الكثري من ذلك الركام وهو ا ألمر‬ ‫هذا املبد� أ �ضمن منظومة القيم االجتماعية و�أحكام‬
‫الذي جتلى يف تنازع املدار�س ال�سلفية بني توجهات‬ ‫ال�رشيعة‪ .‬وهنا يتجلى جمددا مركزية الفرد يف الطرح‬
‫مدافعة عن ا ألنظمة امل�ستبدة و� أخرى مناه�ضة لتلك‬ ‫الليربايل و�ضمور احل�ضور االجتماعي‪ ،‬بينما يت�ضخم‬
‫ا ألنظمة‪ ،‬والكل ينطلق من الدين ويتحدث با�سمه‪،‬‬ ‫احل�ضور اجلماعاتي يف الطرح الديني بحيث ي�صري‬
‫فريق ينطلق من الروايات التي خلفها اال�ستبداد و� آخر‬ ‫فاعال بدرجة تقرتب جدا من حاكمية القانون يف‬
‫ينطلق من وحي الن�ص اخلال�ص الذي حاول اال�ستبداد‬ ‫الطرح الليربايل‪ .‬وهذا االختالف يف الر ؤ�ية هو ما‬
‫طم�سه‪.‬‬ ‫يتجلى يف �صورة ال�صدام بني قيم ا أل�صالة ا إل�سالمية‬
‫مبد أ� التعاقد بين الديني والليبرالي‪:‬‬ ‫وبني ما حتمله العوملة الثقافية من مفاهيم غريبة‬
‫يقوم مبد� أ التعاقد الليربايل على التعاون بني طرفني‬ ‫على احل�س اجلماعي للمجتمعات غري الغربية‪.‬‬
‫لتحقيق م�صلحة ما‪ .‬الدين كذلك ي�ؤ�س�س ملبد� أ التعاقد‬ ‫بيد �أن ذلك ال يعني بال�رضورة ف�شل الطرح الليربايل‬
‫والتعاون بني ا ألطراف لتحقيق م�صاحلها‪ ،‬بيد �أن مبد� أ‬ ‫يف تعاطيه مع احلرية‪ ،‬بل العك�س قد يكون �صحيحا‪،‬‬
‫التعاقد يف الدين حمكوم ب�أطر ال�رشيعة و�أحكامها‪،‬‬ ‫ف�إن الرتكيز على الفرد واعتباره قطب الرحى يف‬
‫بينما ا ألمر خمتلف مع الليربالية حيث التعاقدات‬ ‫ت�أ�سي�س مبد� أ احلرية يقل�ص فر�ص ا ألنظمة الفا�سدة‬
‫�أقوى �أحيانا من القوانني والقيم وا ألخالق‪.‬‬ ‫التي تقمع الفرد با�سم اجلماعة على اال�ستبداد‪،‬‬
‫للطراف‪،‬‬ ‫فح�سب الفل�سفة الليربالية ف�إن العقد ملزم أ‬ ‫وت�ضيق على حرية ا ألفراد مت�سرتة وراء �شعار حماية‬
‫ولي�س للدولة �سوى احرتام هذا العقد وعدم التدخل‬ ‫م�صالح اجلماعة‪.‬‬
‫يف بنوده‪ .‬الفارق ا أل�سا�س بني العقد يف الت�صويرين‬ ‫�إن الليربالية ال�سيا�سية تقوم على احلكم الدميقراطي‪،‬‬
‫الديني والليربايل هو �أن الت�صور الديني قائم على‬ ‫فيما كانت ا ألديان وال تزال يف �أغلب ا ألحيان و�سيلة‬
‫اعتبار �أحكام ال�رشيعة يف ت�أ�سي�س العقود‪ ،‬بينما‬ ‫ت�ستخدمها ا ألنظمة امل�ستبدة لتطويع وقمع ال�شعوب‪،‬‬
‫التعاقد يف الت�صور الليربايل ال يلتزم ب�أية اعتبارات‬ ‫فاال�ستبداد على مر التاريخ قام على احلراب التي‬
‫قيمية �سوى ما اتفق عليه �أطراف العقد‪ ،‬بل ان الت�صور‬ ‫ترفع امل�صاحف والكتب املقد�سة‪.‬‬
‫القيمي وا ألخالقي لليربالية قائم على مبد� أ احرتام‬ ‫لكن ذلك ال يعني بال�رضورة � أن الدميقراطية‬
‫العقود وااللتزام بها‪ ،‬بحيث ي�صري العقد ذاته ‪-‬وال‬ ‫الليربالية ح�صينة على اخرتاق اال�ستبداد‪ ،‬بل � أن‬
‫�شيء �سواه‪ -‬مقد�ساً وال يجوز امل�سا�س به‪ .‬ت�رسي‬ ‫الليربالية االقت�صادية � أخذت بيد ما � أعطته باليد‬
‫عالقة التعاقد يف الت�صور الليربايل على جميع نواحي‬ ‫ا ألخرى‪ ،‬فهي و�إن � أعطت النا�س حق االقرتاع �إال � أنها‬
‫التفاعل الب�رشي‪ ،‬بداية من ا أل�رسة مرورا بال�سوق‬ ‫قيدتهم يف والءات اقت�صادية يتحكم فيها نخبة من‬
‫واملجتمع وانتهاء بالدولة‪.‬‬ ‫� أ�صحاب ر ؤ�و�س ا ألموال يوجهون � أ�صوات عمالهم‬
‫الدين �أي�ضاً ي�شكل التعاقد بالن�سبة �إليه �أ�سا�س التفاعل‬ ‫باجتاه الريح التي تكد�س لهم مزيدا من ا ألموال‪،‬‬
‫ا إلن�ساين واالجتماعي بداية من ا أل�رسة وانتهاء‬ ‫ف�صار العامل الب�سيط موجها من قبل مر ؤ�و�سيه‬
‫بالدولة‪ ،‬مع فارق جوهري يتمثل يف �ضبط الدين‬ ‫الختيار ما يرونه منا�سبا مل�صاحلهم‪ ،‬ويوهمونه‬
‫جميع �أنواع هذه التعاقدات وفق منظومة قيم �أخالقية‬ ‫� أن عقد عمله معلق بو�صول هذا ال�شخ�ص � أو ذاك �إىل‬
‫و�أحكام قانونية مقد�سة ال يجوز ألحد ا ألطراف وال‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬فلهذا جتد � أن ال�رشكات العمالقة و� أ�صحاب‬
‫لكليهما جتاوزها‪ ،‬بينما القد�سية تتنزل يف حالة‬ ‫ر ؤ�و�س ا ألموال هم من يح�سمون � أمر كر�سي الرئا�سة‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إن ُرزق ا ألبوان مبجموعة �أوالد ف�إنه وبح�سب النظرية‬ ‫التعاقد الليربايل على رغبة املتعاقدين ولي�س على‬
‫التعاقدية لي�س ا ألبوان م�ضطرين لتقدمي نف�س العناية‬ ‫منظومة القيم ا ألخالقية للمجتمع‪.‬‬
‫واحلنان �إىل جميع ا ألبناء و�إمنا يكفيهما تقدمي ذلك‬ ‫يظهر جلياً � أن فل�سفة التعاقد الديني والليربايل‬
‫�إىل ا ألطفال الذين يظنون �أنهما �سيقومان برعايتهما‬ ‫يتمايز كل منهما عن الآخر بالقدر الذي ي�شرتكان‬
‫م�ستقبال حني ي�صالن �إىل �سن العجز واحلاجة �إىل‬ ‫يف االحتفاء مببد� أ التعاقد‪ ،‬الدين يجعل منظومة‬
‫الرعاية‪ ،‬فالعالقة بني الآباء وا ألبناء لي�ست �سوى‬ ‫القيم ا ألخالقية و� أحكام ال�رشيعة حاكمة على العقد‬
‫عالقة (تعاون فقط عندما تعمل �رشوط التعاون على‬ ‫والليربالية جتعل العقد مقد�سا طاغيا على جميع‬
‫حتقيق �أهداف كل من �أطراف العالقة) ح�سب القاعدة‬ ‫املنظومات �سواء � أكانت دينية � أم اجتماعية‪ � .‬أهم‬
‫الليربالية‪ ،‬وهدف الآباء الذي حتدده م�صلحتهم‬ ‫ميزة لهذا الطغيان املقد�س لروح التعاقد الليربايل‬
‫التعاقدية وفق النظرة الليربالية هو تربية �أبناء كي‬ ‫على جميع املنظومات وا ألعراف والقوانني هو‬
‫يقوموا برعايتهم الحقاً! �أما الدين ف�إن منظومته‬ ‫ت�أكيد ا�ستقاللية الفرد وحرية االختيار‪ .‬بيد � أن هذه‬
‫القيمية منت�صبة على �أ�سا�س مبد� أ الرتاحم والتكافل‬ ‫النزعة الفردانية الطاغية لي�ست حم�صنة �ضد التوح�ش‬
‫ا أل�رسي وامل�ساواة بني ا ألبناء �صغارا وكبارا‪.‬‬ ‫وا�ستغالل حاجات ال�ضعفاء‪ ،‬فكثري من العقود‬
‫وا ألمر ذاته ين�سحب على العالقة بني الزوج وزوجه‪،‬‬ ‫املقد�سة يف االعتبار الليربايل � أطرافها غري متكافئة‬
‫فكالهما يتعاقد ح�سب النظرية الليربالية على حتقيق‬ ‫ال يف التفكري وال يف القدرة والت�أثري‪ ،‬فت�أثري العامل‬
‫م�صلحة الطرف الآخر‪ ،‬وذلك ال يكون وفق قيم وتقاليد‬ ‫الب�سيط اجتاه ال�رشكات العمالقة لي�س هو ذاته ت�أثري‬
‫املجتمع و�إمنا بناء على مبد� أ حرية الطرفني ورغبتهما‬ ‫�رشكات عمالقة � أخرى اجتاه بع�ضها بع�ضا‪ ،‬فلهذا‬
‫يف حتقيق م�صالح م�شرتكة كال�سكنى وا إلجناب‪ .‬بيد‬ ‫ميكن � أن تنحاز بنود العقد بني العامل الب�سيط وبني‬
‫�أن هذه النظرية ال متنع �أن يقوم �أي طرف منهما‬ ‫ال�رشكة يف اجتاه الثانية‪ ،‬بينما ا ألمر قد ال يكون كذلك‬
‫ب�إقامة عالقة خارج �إطار الزوجية �إن مل يكن يف‬ ‫بني ال�رشكة و�رشكة م�ساوية لها‪ ،‬والعامل يف النهاية‬
‫ذلك �إ�رضار مب�صلحة الطرف الآخر‪� ،‬سواء �أكانت هذه‬ ‫ملزم ببنود العقد دون نظر �إىل منظومة قيم � أو � أحكام‬
‫�رسية �أو علنية‪ .‬ذلك �أن اجلن�س يف العرف غري‬
‫العالقة ّ‬ ‫�رشعية‪ ،‬بينما كفل الدين يف منظومة � أحكامه حقوقاً‬
‫املتدين كما يقول مري�سيا �إلياده لي�س �سوى «عم ٍل‬ ‫للعامل وامتيازات حت�صنه من ا�ستغالل � أ�صحاب‬
‫في�سيولوجي‪ ،‬وهو ال يزيد عن �أن يكون عمالً ع�ضوياً‬ ‫ال�رشكات وامل�ؤ�س�سات اجل�شعة‪.‬‬
‫مهما بلغ عدد املحرمات التي ال تزال تكتنفه‪ ،‬بينما‬ ‫هناك انتقادات � أخرى مت توجيهها �إىل مبد� أ التعاقد‬
‫هو يف نظر املتدين �رس مقد�س �أو احتاد باملقد�س»اهـ‪.‬‬ ‫الليربايل‪ ،‬منها ان مبادئ الليربالية القائمة على‬
‫�أما الدين فقد ح�صن العالقة الزوجية ب�سياج من‬ ‫تنمية النزعة الفردية وت�أ�صيلها ملركزية الفرد‪ ،‬و� أن‬
‫القد�سية يف �إطار منظومة من القيم ا ألخالقية العليا‬ ‫حرية االختيار والعالقات التعاقدية القائمة على‬
‫مثل املودة والرحمة وا ألمانة وا إلخال�ص وحت�صني‬ ‫امل�صلحة ُتغفل اعتماد الفرد على غريه يف جميع‬
‫الفرج وحدّ الزنا‪.‬‬ ‫مراحل احلياة‪ ،‬فا إلن�سان ال يكون م�ستقال قادرا على‬
‫ال�صداقة ح�سب نظرية التعاقد الليربالية هي عالقة‬ ‫التعاقد �إال يف فرتة وجيزة من حياته بني الع�رشين‬
‫تعاقدية يحقق كل طرف فيها م�صلحة للطرف الآخر‪،‬‬ ‫وال�ستني من العمر � أما قبل ذلك وبعد ذلك فهو ال‬
‫وهذا الطرح ي�سقط االرتباط مع ال�ضعفاء والفقراء‬ ‫ي�ستطيع يف � أغلب ا ألحيان العي�ش دون اعتماد على‬
‫واملر�ضى و�أ�صحاب العاهات فهم غري قادرين على‬ ‫الآخرين‪ ،‬وحتى يف �سنوات ال�شباب ال يخلو ا إلن�سان‬
‫حتقيق �أية م�صلحة حتى ألنف�سهم فكيف بغريهم‪،‬‬ ‫من حاالت مر�ض و�ضعف ووهن يحتاج فيها �إىل‬
‫بينما ينظر الدين �إىل ال�صداقة باعتبارها قيمة‬ ‫رعاية الآخرين‪.‬‬
‫�إن�سانية قائمة على احلب والتعاون والت�ضحية‬ ‫كما �أن تب�سيط العالقة بني ا ألفراد واختزالها يف‬
‫والوفاء بعيدا عن امل�صالح املجردة‪.‬‬ ‫التعاقد بني �شخ�صني حرّين على �أن يحقق �أحدهما‬
‫قيمة الوطنية لي�ست حا�رضة يف التعاقد الليربايل‬ ‫م�صلحة للآخر ت�ؤدي �إىل نزع القيم ا إلن�سانية‬
‫القائم على حتقيق م�صالح ا ألطراف املتعاقدين‪،‬‬ ‫العظمى كقيمة ا ألمومة وا ألبوة‪ ،‬فعلى �سبيل املثال‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الدعاية ا إلعالمية لل�سلطة امل�ستبدة يف �صورة ن�صو�ص‬ ‫فالفرد حني يجد م�صلحته مع دولة �أخرى غري وطنه‬
‫مقد�سة من�سوبة للنبي عليه ال�سالم‪.‬‬ ‫فعالقته مع الوطن تطلق طالقا بائنا‪ ،‬بل قد ت�ستدعي‬
‫يتميز الطرح الديني عامة وا إل�سالمي خا�صة عن الطرح‬ ‫م�صلحته اجلديدة مع الدولة ا ألخرى خيانة الوطن‬
‫الليربايل ب�إحاطته التعاقدات ا إلن�سانية واالجتماعية‬ ‫ونقل �أ�رساره‪� .‬أما الدين ف�إنه ينظر �إىل املكان (الوطن)‬
‫والوطنية ب�سياج مقد�س من القيم وا ألحكام العليا‬ ‫باعتباره مقد�سا‪ ،‬و�أن كل اعتداء عليه هو اعتداء على‬
‫التي تعترب حمرّمة يف وجدان امل�ؤمنني بها‪ ،‬وهذه‬ ‫مقد�س‪ ،‬بيد �أن ذلك ال يجرد ا ألديان �أحياناً من وزر‬
‫القد�سية الوجدانية تربط احرتام العقود مبو�ضوع‬ ‫خيانة ا ألوطان ل�صالح دول يظنها امل�ؤمنون �أكرث‬
‫التقوى �أو ال�ضمري الناب�ض با إلميان‪ ،‬ف�أي تفريط يف‬ ‫متثيالً للمقد�س من الدول التي ينتمون �إليها‪ .‬ا إل�سالم‬
‫العقد هو بال�رضورة تفريط يف ا إلميان‪ .‬يف اجلانب‬ ‫�ضبط م�س�ألة الوالء للوطن �أو لغريه وفق قواعد العدالة‬
‫الآخر تعاين التعاقدات الليربالية بجانب افتقارها‬ ‫ورفع الظلم وعدم االعتداء‪ ،‬وعدم ت�ضييع حقوق‬
‫للبعد ا إلمياين والعقائدي من �إ�شكالية عدم التكاف�ؤ‬ ‫النا�س‪ ،‬ف�إن حتققت هذه القواعد اعترب الوالء لغري‬
‫بني ا ألطراف‪ ،‬وهي �إ�شكالية ميكن �أن يرتتب عليها‬ ‫الوطن خيانة‪ ،‬و�إن فقدت هذه ال�رشوط ف�إن الوالء لغري‬
‫ه�ضم حقوق الب�سطاء و�سيطرة ا ألقوياء على مقدرات‬ ‫الوطن �إمنا يكون م�رشوطاً بهدف وحيد وهو حتقيق‬
‫ال�ضعفاء‪ ،‬بجانب �إ�شكالية غياب املرجعية القيمية‬ ‫تلك القواعد‪ ،‬وحني تتحقق تلك القواعد جمددا �صار‬
‫لهذه التعاقدات مما يجعل �أمر احرتام هذه التعاقدات‬ ‫الوالء لغري الوطن خيانة للمقد�س‪.‬‬
‫مرهونا بوجود القانون النافذ‪ ،‬وحني ال يح�رض‬ ‫�أما يف �إطار عالقات الدول ببع�ضها ف�إننا نرى‬
‫القانون ‪-‬ل�سبب �أو لآخر‪ -‬ف�إن �سبيل هذه التعاقدات‬ ‫كيف �أدى عدم الندية بني �أطراف التعاقدات الدولية‬
‫معلق بنزوات ا ألفراد و�شهواتهم‪.‬‬ ‫�إىل ابتالع القوي لل�ضعيف كما ح�صل �أيام حقبة‬
‫اال�ستعمار وكما هو حا�صل الآن من احتالل الدول‬
‫ميكن للطرح الديني اال�ستفادة من الطرح الليربايل‬
‫القوية للدول ال�ضعيفة وتدخلها يف �ش�ؤونها الداخلية‬
‫فيما يتعلق بحرية ا إلرادة وا�ستقالل الفرد‪ ،‬ولي�س‬
‫وا�ستغاللها ملواردها دون قدرة للطرف ال�ضعيف على‬
‫املق�صود من ذلك الطعن يف ا إل�سالم واتهامه بعدم‬
‫ليكون عالقة ندّية مع‬‫االعرتا�ض ب�سبب عدم كفاءته ّ‬
‫االحتفاء مب�س�ألة احلرية‪ ،‬و�إمنا الواقعية حتتم على‬ ‫الطرف القوي‪.‬‬
‫الباحث ا إلقرار � أن اخلطاب الديني ألغلب املدار�س‬ ‫القول الف�صل‬
‫ا إل�سالمية ما زال يكر�س ال�ستبداد احلاكم � أو ا�ستبداد‬ ‫�إن املبادئ الليربالية التي متثل بريقا باهرا ً وجاذبية‬
‫احلزب ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫� آ�رسة مثل احلرية والتعاقد حا�رضة �إجماال ً يف مبادئ‬
‫الطرح الليربايل ميكنه �أي�ضاً �أن ي�ستفيد من الطرح‬ ‫ا إل�سالم‪ ،‬مع تفاوت ظاهر يف ح�ضور هذه املبادئ‬
‫الديني خا�صة فيما يتعلق بالثغرات الفنية املرتبطة‬ ‫بني املدار�س ا إل�سالمية املختلفة‪.‬‬
‫ب�إمكانية اال�ستغالل وعدم الكفاءة يف العقود‪.‬‬ ‫ال جدال �أن مبد� أ حرية ا إلرادة وا�ستقالل الفرد يربز‬
‫حا�صل القول �أن املجتمعات ا إل�سالمية �ستظل‬ ‫يف الطرح الليربايل ب�أقوى �صور التجلي واحل�ضور‪،‬‬
‫بحاجة �إىل الطرح الليربايل طاملا مل يتمكن اخلطاب‬ ‫بينما يغي�ض هذا املبد� أ يف �أغلب �أطروحات املدار�س‬
‫الديني من تطوير نف�سه والتجرد من ا ألطروحات‬ ‫ا إل�سالمية املعا�رصة‪� ،‬إال �أن املالحظ على اخلطاب‬
‫العقيمة امل�صادرة حلرية ا ألفراد التي ُتقدم با�سم‬ ‫املعا�رص الذي ي�ضيق على مبد� أ حرية الفرد ويكبله‬
‫ا إل�سالم‪ ،‬و�إىل �أن يتغري هذا اخلطاب وي�صبح �أقرب‬ ‫ب�سال�سل مرويات اخل�ضوع واال�ست�سالم واالنقياد‬
‫�إىل روح القر� آن املحررة لعقل الفرد واملطلقة ملداركه‬ ‫لل�سلطة يتعار�ض ب�صورة ظاهرة مع احل�ضور املكثف‬
‫واملحرتمة لوجدانه �سيظل الطرح الليربايل قائماً يف‬ ‫ملبد� أ حرية الفرد يف القر� آن‪ ،‬يف اجلانب الآخر جند‬
‫جمتمعاتنا العربية وا إل�سالمية‪ ،‬بل ورمبا متمددا ً‬ ‫�أن تراث املدار�س ا إل�سالمية التاريخية التي كانت‬
‫ألنه ينت�صب على �أ�سا�س مغ ٍر بالقبول واالنت�شار �أال‬ ‫�أقرب �إىل روح القر� آن كاملدر�سة ا إلبا�ضية واملعتزلة‬
‫وهو مبد� أ احلرية‪ ،‬وهو مبد� أ فطري ال ي�ستطيع ا إلن�سان‬ ‫تراث حافل باالحتفاء بحرية الفرد وحماولة الت�صدي‬
‫مهما �سحقته � آالت اال�ستبداد �أن يحيا بدونه‪.‬‬ ‫حلمالت اال�ستبداد ال�شعواء التي روجتها ماكينة‬
‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫م�س أ�لة الكالم يف‬


‫علم الكالم‬
‫ر�شيد يحياوي‬
‫كاتب وناقد من املغرب‬
‫‪ -1‬الكالم وم�س�ألة الت�سمية‬
‫يتميز علم الكالم �ضمن ن�سق العلوم ا إل�سالمية بكونه من �أكرثها اعتمادا على طرق‬
‫املجادلة‪ .‬فقد ان�رصف لكالم اهلل بالنظر واال�ستدالل‪ ،‬فار�ضا منهجه العقلي حتى‬
‫على املت�شددين من التكلم يف م�سائل ذات اهلل و�أفعاله‪ .‬فا�ضطروا للخو�ض يف م�سائله‬
‫مكيفني منهجهم النقلي مع �أ�ساليب املحاجة والربهنة‪ ،‬وبخا�صة عند املت�أخرين‬
‫منهم‪.‬‬
‫ويت�أكد ا أل�س اجلديل لعلم الكالم يف تعريفاته الكثرية التي ت�ضمنت يف حدودها‬
‫ذكر مو�ضوع الكالم ومنهجه ومقا�صده‪ .‬فح�رصت مو�ضوعه يف ما �رصح به «وا�ضع‬
‫امللة»‪ ،‬ومنهجه يف اال�ستدالل على �صحة ذلك‪ ،‬ومقا�صده يف ن�رصة كالم اهلل ودح�ض‬
‫حجج املخالفني‪ .‬ومن هذه التعاريف‪ ،‬ما �أورده الفارابي يف كتابه «�إح�صاء العلوم»‬
‫بقوله‪« :‬و�صناعة الكالم ملكة يقتدر بها ا إلن�سان على ن�رصة الآراء وا ألفعال املحدودة‬
‫التي �رصح بها وا�ضع امللة‪ ،‬وتزييف كل ما خالفها با ألقاويل»(‪. )1‬‬

‫‪ w‬ا إليجي‪« :‬علم الكالم» �سمي كالما �إما ألنه ب�إزاء املنطق للفال�سفة‪� ،‬أو ألن‬
‫�أبوابه عنونت �أوال بالكالم يف كذا‪� ،‬أو ألن م�س�ألة الكالم �أ�شهر �أجزائه حتى‬
‫كرث فيه التناحر وال�سفك فغلب عليه‪� ،‬أو ألنه يورث القدرة على الكالم يف‬
‫ال�رشعيات ومع اخل�صم» ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والوعد والوعيد‪ ،‬واملنزلة بني املنزلتني‪ ،‬وا ألمر باملعروف‬ ‫و�أورد ا إليجي تعريفا قريبا من تعريف الفارابي‪ ،‬قال‬
‫والنهي عن املنكر(‪ .)7‬والثالثة ا ألخرية منها‪ ،‬ميكن �إرجاعه‬ ‫فيه‪« :‬والكالم علم يقتدر معه على �إثبات العقائد الدينية‪،‬‬
‫للتوحيد‪ .‬ألن و�صف اهلل بالعادل‪ ،‬يرتتب عليه احلديث عن‬ ‫ب�إيراد احلجج‪ ،‬ودفع ال�شبهة‪ ،‬واملراد بالعقائد ما يق�صد به‬
‫فعله‪ ،‬وعن فعل العبد يف تعلقه بفعل اهلل �أو انف�صاله عنه‪،‬‬ ‫نف�س االعتقاد دون العمل‪ ،‬وبالدينية‪ ،‬املن�سوبة �إىل دين‬
‫مبا يقت�ضيه ذلك من ذكر ل�صفات اهلل و�أحكامه‪.‬‬ ‫حممد (�ص)‪ ،‬ف�إن اخل�صم و�إن خط�أناه ال نخرجه من علماء‬
‫و�إذا كان مو�ضوع البحث يف علم الكالم‪ ،‬هو ذات اهلل‬ ‫الكالم»(‪.)2‬‬
‫و�صفاته و�أفعاله‪ ،‬فما موقع الكالم �ضمنه‪ ،‬وملاذا نخو�ض‬ ‫و�إذا كان هذان التعريفان ال يعيِّنان الطرف امل�صيب يف‬
‫يف مو�ضوع �إمياين اعتقادي؟ �إن دافعنا لذلك هو �أن هذا‬ ‫�إثبات العقائد من الطرف �صاحب ال�شبه وا ألقوال الزائفة‪،‬‬
‫العلم يحمل م�صطلح «كالم» يف ت�سميته‪ .‬ثم �إنه بعد هذا‬ ‫ف�إن ابن خلدون مل يرتدد يف ذلك‪ ،‬فعني امل�صيب يف‬
‫علم يف «الكالم»‪ ،‬ماهيته وماهية املتكلِّم به‪� .‬أما ا أل�صول‬ ‫�أهل ال�سنة‪ ،‬واملنحرف يف من �سماهم باملبتدعة‪ ،‬وك�أن‬
‫املذكورة فمت�صلة بالكالم مبنية عليه‪ ،‬ألن «علم الكالم»‬ ‫الفرق التي و�ضعت �أ�صول الكالم وجادلت �أهل ال�سنة‪،‬‬
‫مادام علما على «قانون ا إل�سالم»‪ ،‬ف�إن قانون ا إل�سالم‬ ‫غري متكلمة‪ .‬يقول ابن خلدون معرفا علم الكالم‪« :‬هو علم‬
‫هو كالم اهلل‪� ،‬سواء �أنظر �إليه يف ماهيته‪ ،‬من جهة �صفاته‬ ‫يت�ضمن احلجاج عن العقائد ا إلميانية با ألدلة العقلية والرد‬
‫و�أعرا�ضه‪� ،‬أم نظر �إليه يف حمتواه‪� ،‬أم نظر �إليه يف �صيغه‬ ‫على املبتدعة املنحرفني يف االعتقادات عن مذاهب ال�سلف‬
‫من خرب و�أمر ونهي‪� ،‬أم يف حتققه يف الن�ص املتمثل يف‬ ‫و�أهل ال�سنة‪ ،‬و�رس هذه العقائد ا إلميانية هو التوحيد»(‪.)3‬‬
‫القر�آن‪ .‬ولذلك �سمي هذا العلم بالكالم وعلم الكالم‪�« ،‬إما‬ ‫ومن املعلوم �أن التوحيد مثل �أهم مو�ضوع يف الكالم‬
‫ألن �أظهر م�س�ألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي م�س�ألة‬ ‫االعتزايل‪ ،‬حتى �سمي �أ�صحابه ب�أهل العدل والتوحيد‪ ،‬بل‬
‫الكالم‪ ،‬ف�سمي النوع با�سمها‪ ،‬و�إما ملقابلتهم الفال�سفة يف‬ ‫حتى �سمي علم الكالم نف�سه بعلم التوحيد وال�صفات‪ ،‬مثلما‬
‫ت�سميتهم فنا من فنون علمهم باملنطق‪ ،‬واملنطق والكالم‬ ‫(‪)4‬‬
‫�سمي ب�أ�صول الدين والفقه ا ألكرب وعلم النظر واال�ستدالل‬
‫مرتادفان»‪ ،‬كما ذهب �إىل ذلك ال�شهر�ستاين (ت ‪548‬هـ)(‪.)8‬‬ ‫بناء على مو�ضوعه �أو منهجه‪.‬‬
‫ويعلل ا إليجي ت�سمية «علم الكالم» ب�أ�سباب مماثلة‬ ‫وهناك تعريفات �أخرى للكالم حتدده مبو�ضوعه لتف�صل‬
‫بقوله‪�« :‬إمنا �سمي كالما �إما ألنه ب�إزاء املنطق للفال�سفة‪،‬‬ ‫بينه وبني العلوم ا ألخرى الناظرة يف ا إللهيات‪ ،‬منها‬
‫�أو ألن �أبوابه عنونت �أوال بالكالم يف كذا‪� ،‬أو ألن م�س�ألة‬ ‫تعريف ال�رشيف اجلرجاين له بقوله‪« :‬علم يبحث فيه عن‬
‫الكالم �أ�شهر �أجزائه حتى كرث فيه التناحر وال�سفك فغلب‬ ‫ذات اهلل و�صفاته و�أحوال املمكنات من املبد� أ واملعاد على‬
‫عليه‪� ،‬أو ألنه يورث القدرة على الكالم يف ال�رشعيات ومع‬ ‫قانون ا إل�سالم»(‪ .)5‬فذِكره «قانون ا إل�سالم» ف�ص ٌل لعلم‬
‫اخل�صم»(‪.)9‬‬ ‫الكالم عن الفل�سفة التي تبحث بدورها يف ذات اهلل و�صفاته‬
‫لكن القا�ضي عبد النبي ا ألحمد ن َكري ن�سب للتفتزاين تعليال‬ ‫من غري تقيد بقانون ا إل�سالم �رضورة‪ .‬وقد �أرجع القا�ضي‬
‫�آخر‪ ،‬حجته �أن علم الكالم «�أول ما يجب من العلوم التي‬ ‫ا ألرموي كل مباحث علم الكالم �إىل مو�ضوع البحث يف ذات‬
‫�إمنا تعلم وتتعلم بالكالم‪ .‬ف�أطلق عليه هذا اال�سم لذلك‪ ،‬ثم‬ ‫اهلل من حيث �صفاته و�أفعاله الدنيوية وا ألخروية و�أحكامه‬
‫خ�ص به ومل يطلق على غريه متييزا»(‪.)10‬‬ ‫فيها(‪� ،)6‬أي �أن مو�ضوع الكالم هو �أ�صول الدين ا إل�سالمي‬
‫وا ألرجح عندنا �أن علة ت�سميته بالكالم وعلم الكالم‪ ،‬راجعة‬ ‫وما تقت�ضيه ن�رصتها من رد على املخطئني يف فهمها‬
‫ال�شتهاره باخلو�ض يف مو�ضوع كالم اهلل حتديدا‪� .‬أما‬ ‫من �أ�صحاب املقاالت والطاعنني فيها من �أهل النحل‬
‫التعليالت ا ألخرى فلي�ست مقنعة ال�شرتاكه فيها مع علوم‬ ‫وا ألهواء‪.‬‬
‫�أخرى‪ ،‬تخو�ض يف مو�ضوع الكالم عامة كاملنطق‪� ،‬أو كالم‬ ‫وقد حدد القا�ضي عبد اجلبار يف (املغني)‪� ،‬أ�صول الدين يف‬
‫العربية كالنحو‪� ،‬أو كالم اهلل من جهة اال�ستدالل به على‬ ‫التوحيد والعدل‪ ،‬جلمعهما بني التكلم يف ذات اهلل و�أفعاله‬
‫ا ألحكام ال�رشعية جمملة‪ ،‬وهو �أ�صول الفقه‪.‬‬ ‫و�أفعال العباد‪ .‬لكنه يف «خمت�رص احل�سنى»‪ ،‬جعلها �أربعة‪،‬‬
‫وعالقة الكالم بالفل�سفة كعالقته بالفقه ت�شمل مو�ضوعه‬ ‫لل�صليني املذكورين‪� ،‬أ�صلي النبوات وال�رشائع‪،‬‬ ‫م�ضيفا أ‬
‫ون�ش�أته‪ ،‬بل منهجه �أي�ضا‪ .‬و�إذا كان بع�ض املعا�رصين‬ ‫و�إن تفرع ا أل�صالن ا ألخريان من العدل‪ .‬لكنه يف كتابه‬
‫ناق�ش املو�ضوع من زاوية �أ�صالة علم الكالم ون�ش�أته‬ ‫«�رشح ا أل�صول اخلم�سة» ثبت �أ�صول الدين يف ا أل�صول‬
‫ا إل�سالمية(‪ ،)11‬ف�إن �آخرين �أدرجوه �ضمن احلقل الفل�سفي‬ ‫اخلم�سة التي �أخذ بها املعتزلة وهي التوحيد‪ ،‬والعدل‪،‬‬
‫‪12‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أئمة احلديث وال�سنة �آراء مماثلة نقلها �أ�صحابهم كاملنقول‬ ‫عامة‪ ،‬ب�أن ميزوا يف الفل�سفة ا إل�سالمية‪ ،‬بني جانبها‬
‫عن ال�شافعي ومالك(‪.)18‬‬ ‫اليوناين‪ ،‬وجانبها الذي �سار على «قانون ا إل�سالم»‪ ،‬و�إن‬
‫غري �أن بع�ض «متعقلتهم» من الذين فطنوا �إىل �أن اال�ستدالل‬ ‫�أخذ يف فهمه وتف�سريه لذلك القانون ب�أ�صول النظر اليوناين‪،‬‬
‫العقلي نافع يف االنت�صار للملة‪ ،‬انتقلوا �إىل موقف مغاير‬ ‫�أو طوره بناء على جمادالته الثقافية والفكرية عامة(‪.)12‬‬
‫يذم ويحرم «كالم» امل�سمني عندهم باملبتدعة‪ ،‬ويبيح‬ ‫و�إذا كان علم الكالم قد ت�أثر يف بدايته بالديانات وامللل‬
‫«الكالم» املنا�رص ملذهبهم املوافق للكتاب وال�سنة ح�سب‬ ‫ا ألخرى كما يتجلى ذلك يف �آراء ال�شيعة واخلوارج‬
‫فهمهم لهما‪ .‬ومن ه�ؤالء ابن ع�ساكر الذي ا�ستدرك بعد �أن‬ ‫خا�صة(‪ ،)1‬ف�إن ت�أثره بالفل�سفة اليونانية بعد ترجمتها يف‬
‫ذم «الكالم» بقوله ‪« :‬ف�أما املوافق للكتاب وال�سنة‪ ،‬املو�ضح‬ ‫عهد امل�أمون بالذات‪ ،‬هو الذي مثل نقلة حقيقية يف درجة‬
‫حلقائق ا أل�صول عند الفتنة فهو حممود عند العلماء»‪ .‬وهو‬ ‫ا�ستخدامه ملناهج االحتجاج واال�ستدالل العقلي‪ ،‬وبخا�صة‬
‫ر�أي البَيهقي �أي�ضا(‪.)19‬‬ ‫عند املعتزلة‪ .‬وقد �أ�شار عدد من القدماء �إىل ت�أثر املعتزلة‬
‫وقد ذهب ابن تيمية �أي�ضا‪ ،‬يف �إطار مراجعته و«ت�شذيبه»‬ ‫باملنطق والفل�سفة‪ ،‬كال�شهر�ستاين الذي قال عنهم يف‬
‫لبع�ض املواقف املغالية لـ «راف�ضة» ال�سلف‪� ،‬إىل القول‪:‬‬ ‫معر�ض تتبعه لتاريخ علم الكالم‪« :‬ثم طالع بعد ذلك �شيوخ‬
‫«وال�سلف مل يذموا جن�س الكالم‪ ،‬ف�إن كل �آدمي يتكلم‪ ،‬وال‬ ‫املعتزلة كتب الفال�سفة‪ ،‬حني ف�رست �أيام امل�أمون‪ ،‬فخلطت‬
‫ق�ضايا الكالم‬ ‫مناهجها مبناهج الكالم‪ ،‬و�أفردتها فنا من فنون العلم‪،‬‬
‫ذموا اال�ستدالل والنظر واجلدل مبا بينه اهلل ور�سوله‪ ،‬بل وال‬
‫و�إن كان جمملها‬ ‫ذموا كالما هو حق‪ .‬بل ذموا الكالم الباطل‪ ،‬وهو املخالف‬ ‫و�سمتها با�سم الكالم»(‪ .)14‬كما قال عن النظام‪« :‬وقد طالع‬
‫اعتقاديا‪ ،‬ف�إن‬ ‫للكتاب وال�سنة‪ ،‬وهو املخالف للعقل �أي�ضا»(‪ .)20‬مع العلم �أن‬ ‫كثريا من كتب الفل�سفة وخلط كالمهم بكالم املعتزلة»(‪.)15‬‬
‫مرجعيتها‬ ‫�إطالق احلكم يف ذم الكالم وحترميه ثابت عن ال�سلف‪ ،‬كما‬ ‫ويت�ضح من ر�أي ال�شهر�ستاين �أن املعتزلة هم م�ؤ�س�سو هذا‬
‫ال�سيا�سية‬ ‫�أن ن�سبة الباطل ألحمد بن حنبل و�أ�صحابه ثابت �أي�ضا عند‬ ‫العلم وم�سموه بعلم الكالم‪ .‬كما يتبني منه �أن الفل�سفة‬
‫واالجتماعية‬ ‫خمالفيه ممن ر�أوا �أن قولهم هو املطابق للكتاب وال�سنة‪ ،‬ال‬ ‫اليونانية كان لها ت�أثري كبري فيه‪ .‬وقد ا�ستغل عدد من‬
‫واالقت�صادية‬ ‫قول �أحمد و�أ�صحابه‪.‬‬ ‫املتكلمني القدماء والباحثني املعا�رصين عالقة علم الكالم‬
‫قامت بدور كبري‬ ‫فم�سائل املتكلمني اختلفوا فيها وتقاتلوا ب�سببها باملجادلة‬ ‫بالفل�سفة للطعن فيه ويف �أهدافه‪ ،‬كما يتبني من ر�أي حممد‬
‫يف ت�أويلهم للقر�آن‬ ‫وال�سيوف‪ .‬وكثريون منهم حكموا بالكالم وقتلوا ب�سببه‪.‬‬ ‫حميي الدين عبد احلميد يف مقدمة ن�رشه لكتاب «مقاالت‬
‫ويف �سري املتكلمني وتراجمهم الواردة يف كتب الطبقات‬ ‫ا إل�سالميني» �إذ يقول‪« :‬كان املعتزلة �أول من ا�ستعان‬
‫وتف�سريه‬
‫والرتاجم والفرق واملقاالت وامللل والنحل‪� ،‬أمثلة عديدة‬ ‫بالفل�سفة اليونانية وا�ستقوا منها يف ت�أييد نزعاتهم‪.‬‬
‫لذلك‪ .‬يقول ال�شهر�ستاين‪« :‬واملعتزلة وغريهم من اجلربية‬ ‫ف�أقوال كثرية من �أقوال النظام و�أبي الهذيل واجلاحظ‬
‫وال�صفاتية واملختلطة‪ ،‬منهم الفريقان من املعتزلة‬ ‫وغريهم‪ ،‬بع�ضها نقل بحت من �أقوال فال�سفة اليونان‪،‬‬
‫وال�صفاتية‪ ،‬متقابلتان تقابل الت�ضاد‪ .‬وكذلك القدرية‬ ‫وبع�ضها ي�ستقي من نبعه ويغرتف من معينه ب�شيء من‬
‫واجلربية‪ ،‬واملرجئة والوعيدية‪ ،‬وال�شيعة واخلوارج‪ .‬وهذا‬ ‫التحويل والتعديل(‪.)16‬‬
‫الت�ضاد بني كل فريق وفريق‪ ،‬كان حا�صال يف كل زمان‪.‬‬ ‫ما قاله حممد حميي الدين مل يكن من باب الو�صف‬
‫ولكل فرقة مقالة على حيالها‪ ،‬وكتب �صنفوها‪ ،‬ودولة‬ ‫التاريخي‪ ،‬بل من باب الطعن يف املعتزلة‪ ،‬فهو يقتدي يف‬
‫عاونتهم‪ ،‬و�صولة طاوعتهم»(‪.)21‬‬ ‫ذلك بعامة �أهل احلديث وال�سنة الذين طعنوا يف الفل�سفة‬
‫وق�ضايا الكالم و�إن كان جمملها اعتقاديا‪ ،‬ف�إن مرجعيتها‬ ‫ويف املعتزلة مربرين بذلك دعواهم �إىل عدم االحتكام‬
‫ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية قامت بدور كبري يف‬ ‫للعقل يف ا ألمور االعتقادية‪.‬‬
‫ت�أويلهم للقر�آن وتف�سريه‪ ،‬ويف حديثهم عن ذات اهلل و�صفاته‬ ‫ود ْف ُع �أئمة ال�سلف واحلديث للكالم راجع �إما خلوفهم من �نأ‬
‫و�أفعاله‪ .‬فق�ضايا مثل الق�ضاء والقدر والعدل واملنزلة بني‬ ‫يكون االحتكام للعقل م�صدرا إلثارة �شبه تزلزل العقائد‪� ،‬أو‬
‫املنزلتني والوعد والوعيد وع�صمة ا ألنبياء واللطف ا إللهي‬ ‫لتعجيزهم قوى الب�رش عن �إدراك احلقائق‪ .‬فلهذين ال�سببني‬
‫والك�سب واال�ستطاعة والطاعات واملعا�صي‪ ،‬مل تناق�ش‬ ‫�أرجع ابن اجلوزي «نهي ال�رشع عن اخلو�ض فيما يثري غبار‬
‫مبعزل عن �أفعال العباد وتنازع م�صاحلهم وتقاتلهم حول‬ ‫�شبهة‪ ،‬وال يقوى على قطع طريقه �إقدام الفهم»‪ ،‬م�ستندا يف‬
‫م�آرب العاجلة‪ .‬و�إن كان �أقوى مو�ضوع �سيا�سي خا�ضوا‬ ‫ذلك �إىل �أقوال ابن حنبل والبخاري وابن املبارك وعبد اهلل‬
‫فيه هو مو�ضوع ا إلمامة‪.‬‬ ‫احلنظلي والدارمي ومن واالهم(‪ .)17‬وكان لغري ه�ؤالء من‬
‫‪13‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ا إل�سالم‪ ...‬و�أما من خرج من ا إل�سالم �إىل غريه‪ ،‬و�أظهر ذلك‬ ‫كانت هذه ال�رصاعات املذهبية وال�سيا�سية عامال حا�سما‬
‫ف�إنه ي�ستثاب‪ ،‬ف�إن تاب و�إال قتل(‪.»)27‬‬ ‫يف موقف القدماء من علم الكالم عامة‪ .‬بحيث اتخذ‬
‫ومن املعروف �أن الزندقة �صفة �أطلقت على خمالفي‬ ‫املوقف منه طابعا فكريا وثقافيا ودينيا‪ ،‬بني من يرف�ضه‬
‫اجلماعة‪ ،‬ب�رصف النظر عن �صحة دينهم‪ .‬وقد عممت على‬ ‫ومن يتبناه‪ .‬وا�ستغل عدد من النقليني‪ ،‬من فقهاء وحمدثني‬
‫�أهل العقل واملنطق والفل�سفة من طرف النقليني الذي‬ ‫حمنة ابن حنبل‪ ،‬لتكفري �أهل الكالم وبخا�صة �أن�صار العقل‬
‫تع�سفوا �أحيانا يف االحتجاج بالنقل‪ ،‬حتى �شبهوا القائلني‬ ‫منهم‪ .‬وا�ستدل كل طرف على �صواب موقفه بالقر�آن وال�سنة‬
‫بخلق القر�آن مب�رشكي قري�ش‪ .‬وهكذا ف�رسوا كالم اهلل‬ ‫مكفرا الطرف ا آلخر‪ .‬وكان يف مقدمة الراف�ضني فقهاء �أهل‬
‫مبا ال ينا�سبه فاحتجوا بقول الباري تعاىل‪�« :‬إن هذا �إال‬ ‫ال�سنة و�أهل احلديث‪� .‬أما دعواهم ـ كما ذكرنا ـ فهي �أن‬
‫اختالق»(‪ ،)28‬و«�إن هذا �إال �أ�ساطري ا ألولني»(‪ ،)29‬و«�إن هذا‬ ‫الكالم بدعة‪ ،‬ألن اخلائ�ض فيه خارج عن طريق ال�صحابة‬
‫وال�سلف‪ ،‬و�أن ال�صواب هو التم�سك مبا �صدر عنه ال�سلف‪،‬‬
‫�إال قول ب�رش»(‪ ،)30‬وتلك �أقوال من�سوبة مل�رشكي قري�ش‪ ،‬لكن‬
‫النقليني ر�أوا فيها مثيال ونظريا لقول اجلهمية‪� :‬إن القر�آن‬ ‫وبالقر�آن وال�سنة واجلماعة(‪ .)22‬ويرد القا�ضي عبد اجلبار‬
‫الزندقة �صفة‬
‫هذه الدعوى ب�أخرى‪ ،‬يقرر فيها �أن معرفة اهلل وتوحيده‬
‫خملوق(‪ ،)31‬مع �أن القائلني بخلق القر�آن من املتكلمني‪،‬‬ ‫�أطلقت على‬
‫وعدله‪ ،‬لي�س طريقها هو التقليد باخلرب‪ .‬ألن الباطل فيه‬
‫مل يكونوا م�رشكني‪ ،‬وبخا�صة املعتزلة منهم‪ .‬بل كانوا‬ ‫كاحلق‪ ،‬بل طريق �أدلة العقل‪ ،‬ألن معرفة اهلل واجبة من جهة‬ ‫خمالفي اجلماعة‪،‬‬
‫�أهل توحيد ن�رصوا الدين با ألدلة العقلية‪ ،‬لكنهم ا�صطدموا‬ ‫العقل‪« ،‬ف�إذا كان املتكلم �إمنا ينبه على هذه ا ألدلة‪ ،‬ويبطل‬ ‫ب�صرف النظر‬
‫باملعرفة التقليدية ال�سائدة‪ .‬وحني قام املعتزلة برد فعلهم‬ ‫عن �صحة‬
‫التكفريي‪ ،‬ف�أكفروا غري القائلني بخلق القر�آن و�شبهوهم‬ ‫ال�شبه الواردة فيها‪ ،‬فكيف ي�صح الطعن يف ذلك؟»(‪.)23‬‬
‫بامللحدة واملج�سمة والكفرة واليهود واملجو�س والن�صارى‪،‬‬ ‫بيد �أن نقليي ال�سنة حاربوا العقل‪ .‬بل عدوا جمرد الكالم يف‬ ‫دينهم‪ .‬وقد‬
‫ت�ضاربت بذلك ا ألدلة والن�صو�ص‪ ،‬فت�أكد �أن االحتكام للعقل‬ ‫القر�آن بدعة ي�شرتك فيها ال�سائل واملجيب(‪ .)24‬ثم تعدوا ذلك‬ ‫عممت على �أهل‬
‫�إىل التكفري‪ .‬وخا�صة تكفري القائلني ب�أن كالم اهلل خملوق‪.‬‬ ‫العقل واملنطق‬
‫يف فهم الدين ال حميد عنه(‪.)32‬‬
‫فكفرهم ابن حنبل ومالك وال�شافعي وغريهم‪ ،‬ف�ضال عن‬ ‫والفل�سفة من‬
‫ولعل ت�ضارب ر�أيي القدرية املجربة والقدرية املخرية‬
‫ا أل�شاعرة‪ ،‬و�أبطلوا �صلواتهم و�إمامتهم بحجة �أنهم زنادقة‬ ‫طرف النقليني‬
‫يف تعيني املق�صود باملجو�س يف قوله الر�سول‪« :‬القدرية‬
‫مبتدعون فا�سقون و�أهل �أهواء‪ ،‬ال تقبل �شهادتهم(‪.)25‬‬ ‫الذي تع�سفوا‬
‫جمو�س هذه ا ألمة»(‪ ،)33‬خري مثال على ذلك‪ .‬فقد �أطلق‬
‫ويرتد قول ا أل�شاعرة لر�أي �شيخهم �أبي احل�سن ا أل�شعري‪.‬‬
‫ال�سنيون وا أل�شاعرة لفظ القدرية على املعتزلة‪ ،‬بل ذهبوا‬ ‫�أحيانا يف‬
‫فقد قال يف كتابه «ا إلبانة عن �أ�صول الديانة»‪« :‬من قال‬
‫�إىل �أن الر�سول ق�صدهم بتلك الت�سمية ألنهم دانوا بديانة‬ ‫االحتجاج بالنقل‬
‫املجو�س لزعمهم �أن اهلل يخلق اخلري‪ ،‬وال�شيطان يخلق ال�رش‪،‬‬ ‫بخلق القر�آن فهو كافر»(‪ .)26‬وقد �أورد الدارمي (ت ‪ 280‬هـ)‬
‫وهو �صفاتي نقلي‪ ،‬عدة �أقوال لراف�ضة العقل من �أهل ال�سنة‬
‫ولزعمهم االنفراد بالقدرة على �أفعالهم دون ربهم(‪� .)34‬أما‬ ‫وفقهائهم ورواتهم‪ ،‬و�أدرجها �ضمن باب �سماه «باب قتل‬
‫املعتزلة فكان لهم ر�أي خمالف‪� .‬إذ ذهبوا �إىل �أن «القدرية»‬ ‫الزنادقة واجلهمية وا�ستثابتهم من كفرهم»‪ ،‬ك�أقوال حماد‬
‫�صفة �أطلقها عليهم خ�صومهم املجربة امل�شبهة‪ ،‬و�أن‬ ‫بن زيد وابن املبارك ووكيع ويحيى بن يحيى وابن حنبل‬
‫ه�ؤالء هم امل�ستحقون ل�صفة القدرية املق�صودون يف قول‬ ‫و�أبي توبة و�إبراهيم بن �سعد ومالك بن �أن�س وغريهم ممن‬
‫الر�سول‪ .‬وا�ستدل القا�ضي عبد اجلبار على كون املجربة‬ ‫ذكرهم يف الباب املذكور �أو يف «باب االحتجاج يف �إكفار‬
‫امل�شبهة هم املق�صودون مبجو�س ا ألمة‪ ،‬ب�أحاديث من�سوبة‬ ‫اجلهمية»‪.‬‬
‫للر�سول الكرمي‪ ،‬ك�إجابته عمن �س�أله عن املق�صودين‬ ‫ويالحظ �أن الفقهاء واملحدثني املذكورين ملا مل يجدوا يف‬
‫بالقدرية وقوله �إنهم «الذين يع�صون اهلل تعاىل ويقولون‪:‬‬ ‫القر�آن وال�سنة ما ينطبق على الق�ضايا الكالمية احلادثة‬
‫كان بق�ضاء اهلل وقدره»(‪.)35‬‬ ‫التي كفروا �أ�صحابها ب�سببها‪ ،‬جل�أوا لت�أويل ظاهري‬
‫وقد زاد هذا الت�ضارب يف تف�سري وت�أويل ا ألدلة ال�رشعية‪،‬‬ ‫ملعاين الن�صو�ص القر�آنية واحلديث لكي ت�ستجيب لدعواهم‪.‬‬
‫بظاهرة ح�شو الن�صو�ص ون�سبتها للر�سول‪ ،‬وخا�صة يف‬ ‫كت�أويل مالك لقول الر�سول الكرمي‪« :‬من غري دينه فا�رضبوا‬
‫�صفوف عدد من النقليني احلفاظ ورواة احلديث الذين كان‬ ‫عنقه»‪ ،‬ب�أن معناه «�أن من خرج من ا إل�سالم �إىل غريه مثل‬
‫بع�ض �أهل ال�سنة ا ألوائل يتكئ عليهم يف اال�ست�شهاد(‪.)36‬‬ ‫الزنادقة و�أ�شباهها‪ ،‬ف�إن �أولئك يقتلون وال ي�ستثابون‪ ،‬ألنه‬
‫ويت�صل هذا املو�ضوع مبناهج وطرق املتكلمني يف‬ ‫ال تعرف توبتهم‪ ،‬و�أنهم قد كانوا ُي�سرِ ُّون الكفر ويعلنون‬
‫‪14‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كما روى املعتزلة �أخبارا عن وقائع ا�ستدلوا بها‬ ‫اال�ستدالل واال�ست�شهاد واملحاجة‪ ،‬بني من ي�ستند �إىل اخلرب‬
‫على االنت�صار للعقل يف ن�رصة العقيدة(‪ .)41‬وقد خل�ص‬ ‫والرواية‪ ،‬وبني من ي�ستدل بالعقل‪ ،‬وبني من ي�أخذ بالعقل‬
‫ال�شهر�ستاين الفروق بني �أهل ال�سنة واملعتزلة من حيث‬ ‫والنقل معا‪ .‬وهي مناهج وطرق كان لها �أثرها اجللي يف‬
‫تقدمي ال�سمع والنقل‪� ،‬أو العقل‪ ،‬يف الواجبات واملعارف‬ ‫موقف املتكلمني من ق�ضية الكالم وحدِّه‪ ،‬مثلما كان لها‬
‫بقوله ‪�« :‬أما ال�سمع والعقل‪ ،‬فقال �أهل ال�سنة‪ ،‬الواجبات‬ ‫�أثرها يف باقي ق�ضايا الكالم‪� ،‬سواء منها املت�صلة بكالم‬
‫كلها بال�سمع‪ ،‬واملعارف كلها بالعقل‪ .‬فالعقل ال يح�سن‬ ‫اهلل وكالم الب�رش‪� ،‬أو املت�صلة بق�سمي ال�رشيعة العملي‬
‫وال يقبح وال يقت�ضي وال يوجب‪ ،‬وال�سمع ال يعرف‪� ،‬أي ال‬ ‫واالعتقادي‪.‬‬
‫يوجب املعرفة‪ ،‬بل يوجب‪ .‬وقال �أهل العدل‪ ،‬املعارف كلها‬ ‫وقد ذكر الفارابي من طرق املتكلمني خم�س طرق �سماها‬
‫معقولة بالعقل‪ ،‬واجبة بنظر العقل‪ ،‬و�شكر املنعم واجب‬ ‫بالوجوه وا آلراء التي تن�رص بها امللل‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫قبل ورود ال�سمع‪ ،‬واحل�سن والقبح �صفتان ذاتيتان للح�سن‬ ‫‪ 1‬ـ النقليون الذين يعطلون العقل والت�أمل والنظر‪ ،‬ويرون‬
‫والقبيح»(‪.)42‬‬ ‫ن�رصة امللة بالت�صديق املطلق والت�سليم التام‪ ،‬بحجة �أن‬
‫وهذا التم�سك بالعقل وتقدميه على ال�سمع‪ ،‬جعل املعتزلة‬ ‫امللة ال يجوز فيها الكذب‪ ،‬ب�شهادة املعجزات والن�صو�ص‬
‫مبثابة نخبة �أهل النظر يف الفكر ا إل�سالمي‪ .‬بخالف‬ ‫و�أقوال ال�صادقني‪ ،‬ألنها وحي �إلهي‪ ،‬وهي �أرفع رتبة من‬
‫مفهوم «اجلماعة»‬ ‫ال�سمعيني الذين �سهلت ب�ساطة خطابهم التفاف العامة حول‬ ‫العقول ا إلن�سية‪.‬‬
‫ي�أخذ �صفة‬ ‫�آرائهم‪ ،‬مما جعل مفهوم «اجلماعة» ي�أخذ �صفة ا ألغلبية يف‬ ‫‪ 2‬ـ امل�ؤولون الذين يتتبعون املح�سو�سات وامل�شهورات‬
‫الغلبية يف‬‫أ‬ ‫خطاب �أهل ال�سنة الذين برروا به �صواب دعواهم بحجة �أن‬ ‫واملعقوالت لال�ستدالل عليها مبا �رصح به وا�ضع امللة‪،‬‬
‫خطاب �أهل ال�سنة‬ ‫املعتزلة قلة ال متثل ال�سواد ا ألعظم‪� ،‬أي اجلماعة امل�سلمة‪.‬‬ ‫وي�ؤولونه لرفع التناق�ض بني الطرفني‪.‬‬
‫الذين برروا به‬ ‫لكن املعتزلة كان لهم يف هذه امل�س�ألة �أي�ضا ر�أي خمالف‪،‬‬ ‫‪ 3‬ـ املقارنون امل�شنعون‪ ،‬الذين يقبحون وي�شنعون ملة من‬
‫وخا�صة يف ت�صورهم ل�صفة اجلماعة ودور ا ألغلبية وا ألقلية‬ ‫قبح و�شنع ملتهم‪.‬‬
‫�صواب دعواهم‬ ‫يف ن�رصة الدين‪ .‬يقول القا�ضي عبد اجلبار‪« :‬و�أما اجلماعة‪،‬‬ ‫‪ 4‬ـ املرهبون املفتقرون �إىل احلجاج العقلي الذين ي�سكتون‬
‫بحجة �أن املعتزلة‬ ‫فاملراد به ما اجتمعت عليه ا ألمة‪ ،‬وثبت ذلك من �إجماعها‪.‬‬ ‫خ�صمهم بالتخويف والتخجيل‪.‬‬
‫قلة ال متثل‬ ‫ف�أما ما مل يثبت مما مل يجز التم�سك به‪ ،‬فهو مبنزلة �أخبار‬ ‫‪ 5‬ـ املغالطون ال�سوف�سطائيون الذين يرون �أن خ�صمهم‬
‫العظم‬ ‫ال�سواد أ‬ ‫ا آلحاد‪ .‬و�إذا �صح ما ذكرناه من اجلملة‪ ،‬فاملتم�سك بال�سنة‬ ‫عدو‪ ،‬يجوز يف �صده اللجوء للكذب واملغالطة(‪.)37‬‬
‫واجلماعة‪ ،‬هم �أ�صحابنا واحلمد هلل‪ ،‬دون ه�ؤالء امل�شنعني‪،‬‬ ‫غري �أن �أهم طريقني عرفا يف علم الكالم‪ ،‬هما طريقا النقل‬
‫الذين عند التحقيق‪ ،‬ال مييزون ما يقولون‪ .‬وقد روي يف‬ ‫والعقل‪ .‬فالنقليون احتجوا على �إثبات �آرائهم ودفع �آراء‬
‫كتاب «امل�صابيح»‪ ،‬عن ابن م�سعود �أنه قال‪ :‬اجلماعة ما‬ ‫خ�صومهم با إلكثار من رواية الن�صو�ص‪ ،‬ن�صو�ص القر�آن‬
‫وافق طاعة اهلل و�إن كان رجال واحدا»(‪.)43‬‬ ‫وال�سنة وال�سلف املنا�رص لهم‪ ،‬مع تعليقات ب�سيطة لربط‬
‫لقد رف�ض القا�ضي عبد اجلبار و�صف املعتزلة بالقلة‪،‬‬ ‫املوا�ضيع ببع�ضها(‪ .)38‬و�أما العقليون ويف مقدمتهم‬
‫فعد اجلماعة هي املعتزلة ومن نفى ال�صفات‪ ،‬و�أنهم‬ ‫املعتزلة فكانوا يتندرون بطريقة النقليني‪ ،‬ويعتربون‬
‫املق�صودون بقول الر�سول‪« :‬عليكم بال�سواد ا ألعظم»‪ ،‬ال‬ ‫�أ�صحابها جاهلني مفحمني عاجزين عن ا إلقناع وحتكيم‬
‫معار�ضوهم(‪ .)44‬بل ذهب �إىل �أن «هذا املذهب هو الذي‬ ‫العقل‪ .‬وقد �شبههم القا�ضي عبد اجلبار بالعامة‪ ،‬و�أنهم «�إذا‬
‫�أنزل اهلل تعاىل به الكتاب و�أر�سل به الر�سل»(‪ .)45‬وو�ضع‬ ‫انقطعت بهم احلجة‪ ،‬جل�أوا �إىل �أنا قد نهينا عن اجلدال و�أن‬
‫يف كتابه «ف�ضل االعتزال» ق�سما خا�صا بطبقات املعتزلة‬ ‫املناظرة يف الدين حمرمة»‪� ،‬أما �سبيل املعتزلة يف ر�أيه‬
‫إلظهار كرثتهم وانت�شارهم يف البالد وكرثة العلماء يف‬ ‫فهو «حملهم على �صحة احلجاج من جهة العقول»(‪ .)39‬كما‬
‫�صفوفهم‪ .‬لكنه دافع �أي�ضا عن مفهوم ا ألقلية العاملة مقابل‬ ‫يخطئهم القا�ضي عبد اجلبار يف قولهم �إن الكالم بدعة‬
‫ا ألغلبية التي قد تكون م�صيبة وقد تكون �ضالة منهمكة يف‬ ‫بقوله‪�« :‬أما قولهم �إن الكالم بدعة‪ ،‬فخط�أ منهم وال يحتج‬
‫طريق اجلهالة(‪.)46‬‬ ‫عليها بقول اجلاهل املخطئ‪ ،‬وطاملا قيل‪ :‬من جهل ال�شيء‬
‫و�سواء �أكان ال�صواب مع املعتزلة �أم مع من �سموا من‬ ‫عاداه‪ .‬و�أكرث من يعيب ذلك‪� ،‬أ�صحاب حمل وتقليد‪ ،‬ومن‬
‫طرفهم بالنابتة وامل�شبهة‪ ،‬ف�إن ال�صورة احلقيقية ل إل�سالم‬ ‫تبع ا أللف والعادة‪� ،‬أو يطلب �أن يكون متبوعا لرئا�سة‪ .‬وكل‬
‫يف الرتاث ا إل�سالمي ال تكتمل �إال بتعدده‪ .‬ذلك �أن ادعاء‬ ‫ه�ؤالء ال يعتد بطريقتهم»(‪.)40‬‬
‫‪15‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الذات‪ .‬فذهبوا �إىل �أن اهلل عامل قادر حي‪ ،‬ال بعلم وقدرة‬ ‫الفهم واحلقيقة املطلقني عند كل طرف‪ ،‬كان فيه �إق�صاء‬
‫وحياة بل بنف�سه(‪ .)52‬لكنهم اختلفوا يف معنى كون اهلل‬ ‫ل آلخر‪ .‬وقد انتبه قا�ضي الق�ضاة لهذا التعدد و�إن ا�ستغله‬
‫قادرا وعاملا ومريدا‪ ،‬ويف ر�ؤية اهلل وكيفيتها‪ ،‬وغري ذلك‬ ‫الدعاء ال�صواب وال�رشعية الدينية بقوله‪�« :‬إن املرء �إذا‬
‫مما �أجملته كتب الطبقات واملقاالت‪ .‬ولي�س هدفنا �أن نتتبع‬ ‫نظر �إىل ال�سواد ا ألعظم‪ ،‬الذي هو اخللق الكثري‪ ،‬ر�أى فيهم‬
‫هذه االختالفات ألنها مت�شعبة لي�س بني الفرق الكربى‬ ‫اخلوارج واملرجئة‪ ،‬ور�أى فيهم ال�شيعة‪ ،‬و�أ�صحاب احلديث‬
‫فح�سب‪ ،‬بل بني فروعها وفروع فروعها �أي�ضا‪.‬‬ ‫الذين يدخل يف مثلهم النابتة‪ ،‬ويرى فيهم املعتزلة‪ .‬فكيف‬
‫ح�سبنا �أن نذكر ما يهمنا من ذلك جممال‪ ،‬كما �أورده ابن‬ ‫ي�صح‪ ،‬ومذاهبهم مت�ضادة‪� ،‬أن يتبعهم؟» (‪.)47‬‬
‫تيمية إل�شارته �إىل املواقف الرئي�سية يف هذه الباب‪ ،‬مع‬ ‫ويتجلى ذلك التعدد يف كرثة الفرق ا إل�سالمية املذكورة يف‬
‫ت�ضمينه ذكر خا�صيتني تت�صالن مب�س�ألة الكالم‪ ،‬هما م�س�ألة‬ ‫كتب الفرق والطبقات‪ ،‬حيث يتجاوز عددها �سبعني فرقة‪،‬‬
‫القيام باملتكلم‪ ،‬وم�س�ألة امل�شيئة والقدرة‪ .‬يقول ابن تيمية‬ ‫و�إن كان جلها متفرع من عدد حمدد هو املمثل للتيارات‬
‫عن ال�صفات االختيارية التي يندرج �ضمنها الكالم عند‬ ‫ا أل�سا�سية يف علم الكالم‪ .‬ويف مقدمتها ما ذكره منها‬
‫ال�صفاتية‪« :‬وهي ا ألمور التي يت�صف بها الرب ـ عز وجل‬ ‫قا�ضي الق�ضاة يف ن�صه ال�سالف‪ ،‬حيث �سمى منها خم�سا‬
‫ـ فتقوم بذاته مب�شيئته وقدرته مثل كالمه و�سمعه وب�رصه‬ ‫�سواء �أكان‬
‫هي‪ :‬اخلوارج واملرجئة وال�شيعة والنابتة واملعتزلة(‪.)48‬‬
‫وحمبته ور�ضاه ورحمته وغ�ضبه و�سخطه‪ ،‬ومثل خلقه‬ ‫كما �أجمل ذكرهم �أبو احل�سن ا أل�شعري يف �إحدى ع�رشة فرقة‬ ‫ال�صواب مع‬
‫و�إح�سانه وعدله‪ ،‬ومثل ا�ستوائه وجميئه و�إتيانه ونزوله‬ ‫هي ‪ :‬ال�شيعة‪ ،‬واخلوارج‪ ،‬واملرجئة‪ ،‬واملعتزلة‪ ،‬واجلهمية‪،‬‬ ‫املعتزلة �أم مع‬
‫ونحو ذلك من ال�صفات التي نطق بها الكتاب العزيز وال�سنة‪.‬‬ ‫وال�رضارية‪ ،‬واحل�سينية‪ ،‬والبكرية‪ ،‬والعامة‪ ،‬و�أ�صحاب‬ ‫من �سموا من‬
‫فاجلهمية ومن وافقهم من املعتزلة وغريهم يقولون‪ :‬ال‬ ‫احلديث‪ ،‬والكالبية(‪.)49‬‬ ‫طرفهم بالنابتة‬
‫يقوم بذاته �شيء من هذه ال�صفات وال غريها‪ .‬والكالبية‬ ‫�أما ال�شهر�ستاين‪ ،‬فح�رص عدد الفرق يف �أربع هي‪ :‬القدرية‬ ‫وامل�شبهة‪ ،‬ف�إن‬
‫ومن وافقهم من ال�ساملية وغريهم يقولون‪« :‬تقوم �صفات‬ ‫وال�صفاتية مبن فيها �أهل ال�سنة وا أل�شاعرة‪ ،‬واخلوارج‬ ‫ال�صورة احلقيقية‬
‫بغري م�شيئته وقدرته»‪ ،‬ف�أما ما يكون مب�شيئته وقدرته فال‬ ‫وال�شيعة‪ .‬ثم تنق�سم كل واحدة �إىل فرق فرعية‪ .‬وقد �أرجع‬ ‫لل�سالم يف‬
‫إ‬
‫يكون �إال خملوقا منف�صال عنه»(‪.)53‬‬ ‫ال�شهر�ستاين �أ�سباب اختالف هذه الفرق �إىل ا أل�سباب‬
‫وترتتب على هذه ا ألقوال ثالثة مواقف هي‪:‬‬ ‫ال�سالمي‬‫الرتاث إ‬
‫التالية‪:‬‬ ‫ال تكتمل �إال‬
‫[ قيام الكالم بذات اهلل مب�شيئته وقدرته‪.‬‬ ‫[ ال�صفات والتوحيد‬
‫[ قيام الكالم بذاته بدون م�شيئته وقدرته‪.‬‬ ‫[ القدر والعدل‬ ‫بتعدده‬
‫[ قيامه بغريه مب�شيئته وقدرته‪.‬‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫[ الوعد والوعيد وال�سماء والحكام‬
‫وترتبط هذه املواقف مب�سائل اعرتا�ضية كثرية‪ ،‬كم�سائل‬ ‫[ ال�سمع والعقل والر�سالة وا ألمانة ‪.‬‬
‫(‪)50‬‬
‫حلول احلوادث بالذات‪ ،‬والت�شبيه والتج�سيم والتعطيل‬
‫والتكلم يف ا ألزل والتكلم مرتني‪ ...‬وفيما ذهب املعتزلة �إىل‬ ‫وم�س�لة ال�صفات أ‬
‫والفعال‬ ‫أ‬ ‫‪ -2‬الكالم‬
‫�أن الكالم فعل ال �صفة‪ ،‬مت�سك ال�صفاتية بكونه �صفة‪� ،‬أخذا‬ ‫حني ننظر يف ا أل�صول التي ذكرها ال�شهر�ستاين‪ ،‬نلفيها‬
‫بظاهر الكتاب وال�سنة‪ .‬وقالوا �إن « الذات نف�سها املوجودة‪،‬‬ ‫ترجع أل�صل �أكرب‪ ،‬هو ذات اهلل و�صفاته و�أفعاله‪ ،‬فبتعلق‬
‫ال يت�صور �أن تتحقق بال �صفة»(‪ .)54‬و�سموا نفا َة ال�صفات‬ ‫بهذا ا أل�صل جتادلت الفرق حول مو�ضوع الكالم‪ ،‬فخ�ضعت‬
‫معطل ًة ملا اعتقدوا �أن «حقيقة قولهم تعطيل ذات اهلل‬ ‫مفاهيمهم له‪ .‬فالذين �أثبتوا هلل �صفات قدمية كالعلم والقدرة‬
‫تعاىل»(‪ .)55‬غري �أنهم تباينوا يف درجة �إثبات تلك ال�صفات‬ ‫واحلياة وا إلرادة وال�سمع والب�رص والكالم واجلالل وا إلكرام‬
‫بني التج�سيم والت�شبيه وا إلثبات مع نفي املماثلة‪ .‬والر�أي‬ ‫واجلود وا إلنعام والعزة والعظمة دون تفريق بني �صفات‬
‫ا ألخري قال به ابن تيمية نافيا �أن يكون ال�سلف قال بالت�شبيه‬ ‫الذات و�صفات الفعل مع �إثبات �صفات جربية كاليدين‬
‫والتج�سيم‪ .‬وال�صحيح يف ر�أيه �أن «مذهب ال�سلف وا ألئمة‬ ‫والرجلني دون ت�أويل‪� ،‬سموا �صفاتية‪ .‬والذين نفوا قيام تلك‬
‫�إثبات ال�صفات‪ ،‬ونفي مماثلتها ل�صفة املخلوقات»(‪.)56‬‬ ‫ال�صفات يف الذات �سموا معطلة(‪ .)51‬ثم اختلفوا يف كيفية‬
‫ومن �أمثلة ذلك حديث ابن تيمية عن يديه تعاىل‪ .‬فقد �أحال‬ ‫�إثبات �أو نفي تلك ال�صفات على طوائف و�آراء‪ ،‬واجتمعوا يف‬
‫�أن تكون يداه من اجلوارح ومن جن�س �أيدي املخلوقني‪ .‬لكنه‬ ‫�أخرى‪ .‬ف�أكرث املعتزلة واخلوارج واملرجئة وبع�ض ال�شيعة‬
‫�أقر يف الوقت نف�سه �أن له يدين حقيقة‪ ،‬و�أن يديه تنا�سبان‬ ‫من الزيدية‪ ،‬يتفقون مثال يف نفي �أن تكون ال�صفات غري‬
‫‪16‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�صفاتية وامل�شبهة واملج�سمة للكالم بربطه بال�صفات‬ ‫ذاته وت�ستحقان من �صفات الكمال ما ت�سحق الذات(‪.)57‬‬
‫القائمة بالذات‪ ،‬وعر�ض خمالفوهم لهذا املو�ضوع بربطه‬ ‫وبذلك �أجرى ابن تيمية كعامة النقليني ال�صفة على ظاهرها‬
‫بق�ضيتي التوحيد وا ألفعال وما ات�صل بهما كق�ضيتي‬ ‫و�إن نفى عنها الكيفية والت�شبيه‪ .‬ويعرت�ض عليه ب�أن يقال‬
‫ا إلرادة والعدل‪ .‬كما �أن ال�صفاتية الذين خالفوا املعتزلة‬ ‫�إن اليد �إما �أن تكون ذات �أ�صابع و�أظافر وحلم ودم فتكون‬
‫يف كون الفعل فعال لفاعله‪ ،‬ا�ستدلوا مبقولتهم هذه لتكري�س‬ ‫جارحة‪ ،‬والقول بهذا ت�شبيه وجت�سيم‪� ،‬أو تكون بخالف‬
‫ال�صفة الكالمية للذات ا إللهية‪� .‬أما املعتزلة فرببطهم‬ ‫ذلك غري ذات �أ�صابع و�أظافر وحلم ودم‪ .‬فيكون �إطالق اليد‬
‫الكالم بق�ضية التوحيد‪ ،‬نفوا ات�صاف اهلل به‪ .‬ألن �إثبات‬ ‫عليها يف هذه احلالة جمازا‪ ،‬و�أن لها داللة ت�ؤول بها تبعا‬
‫�صفة الكالم هلل‪ ،‬متثل عند املعتزلة �إثباتا لقدميني‪ :‬ذات اهلل‬ ‫لل�سياق الذي ذكرت فيه‪ .‬وابن تيمية رف�ض �أن ي�رصف لفظ‬
‫و�صفاته‪ .‬فكان ال بد لهم من �أن ي�ؤولوا و�صف اهلل لذاته‬ ‫اليد للمجاز‪� .‬أما م�س�ألة الكالم ف�أكرث تعقيدا ألنها ال حتل‬
‫ب�أنه متكلم‪ .‬فاختلفوا يف كيفية ا�ستحقاق اهلل ل�صفاته ويف‬ ‫باملجاز بل بتف�سري الكيفية مع عدم املماثلة‪ .‬وارتباطها‬
‫عدد ال�صفات امل�ستحقة(‪.)58‬‬ ‫بال�صفات وا ألفعال جنمله يف �أمرين‪:‬‬
‫ومرد اخلالف بني املعتزلة و�أهل ال�سنة يف مو�ضوع‬ ‫ا ألول‪� ،‬أن الذين قالوا بوجود �صفات قدمية �أثبتوا هلل كالما‬
‫ال�صفات �إىل �إثبات �أهل ال�سنة لكل ال�صفات املذكورة يف‬ ‫قدميا فانعك�س ذلك على مفهومهم للكالم والتكلم‪ ،‬وتداخل‬
‫كالم اهلل عن ذاته‪ ،‬مبا فيها ال�صفات التي يت�صف بها الب�رش‬ ‫قولهم بال�صفات القدمية بقولهم يف ا ألفعال‪.‬‬
‫كالكالم وال�سمع والب�رص‪� .‬أما املعتزلة فح�رصوها يف ما‬ ‫الثاين‪� ،‬أن الذين نفوا ا�ستقالل ال�صفات عن الذات وا�ستدلوا‬
‫ني به اهلل عن �سائر املوجودات‪ ،‬وهي كونه قادرا عاملا‬ ‫َي ِب ُ‬ ‫على اهلل ب�أفعاله‪َ ،‬و َحدُّوا من تبعية �أفعال العباد ألفعال اهلل‪،‬‬
‫حيا موجودا‪ .‬و�أرجع القا�ضي عبد اجلبار ال�صفات الثالث‬ ‫ويف مقدمتهم املعتزلة‪ ،‬فقد عرفوا الكالم و�أقاموا مفهومهم‬
‫ا ألخرية ل�صفة القدرة(‪.)59‬‬ ‫للفعال على ال�صفات‪.‬‬ ‫له بناء على تقدميهم أ‬
‫ثم �إن �أهل ال�سنة �أثبتوا تلك ال�صفات يف غري ذات اهلل‪ .‬فقالوا‪:‬‬ ‫فمرجع الطرفني هو مو�ضوع ذات اهلل �أو �صفاته و�أفعاله‬
‫عامل بعلم وقادر بقدرة‪� .‬أما املعتزلة ف�أثبتوها بذاته‪،‬‬ ‫�إذن‪ .‬لذلك تداخل مفهوم الكالم بالق�ضايا الكالمية ا ألخرى‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬موجود قدمي مقابل املوجود املحدث‪ ،‬وقالوا‪ :‬عامل‬ ‫من اعتقادية وعملية‪� ،‬إلهية وب�رشية‪� ،‬صفاتية وفعلية‪.‬‬
‫بذاته‪ ،‬قادر لذاته‪ ،‬و�أولوا ال�صفات ا ألخرى كت�أويلهم ال�سمع‬ ‫لقد ورد مو�ضوع الكالم �أحيانا‪ ،‬يف معر�ض حديثهم عن‬
‫والب�رص‪ ،‬مبعنى العلم �أو ا إلدراك‪.‬‬ ‫تلك الق�ضايا‪ ،‬ووردت تلك الق�ضايا �أحيانا �أخرى‪ ،‬يف معر�ض‬
‫وقد ربط القا�ضي عبد اجلبار بني الكالم وق�ضية التوحيد‬ ‫تناولهم ملو�ضوع الكالم والتكلم‪ ،‬مع تداخل بني ا ألخري‬
‫بقوله �إن املعتزلة واجهوا ال�صفاتية ونعتوهم ب�أنهم‬ ‫وبني مو�ضوع القر�آن‪� ،‬أقدمي هو �أم خملوق؟ ون�ستدل على‬
‫«خارجون عن التوحيد ب�إثبات علم وقدرة مل تزل (�أي‬ ‫ذلك بعدد من م�صادرهم الكالمية التي ن�سعى بوا�سطتها‬
‫�أزلية)‪ ،‬و إلثبات كالم مل يزل‪ ...‬و�أنهم يف جتويزهم ذلك‪،‬‬ ‫للوقوف على بع�ض اخليوط الناظمة �أو الرابطة ملبحث‬
‫مبنزلة من قال �إن له ثانيا يف خروجهم من التوحيد‪ .‬فهذا‬ ‫الكالم مبجموع املباحث الكالمية‪ ،‬االعتقادية والعملية‪،‬‬
‫هو ا أل�صل الذي اتفقت عليه املعتزلة)(‪.)60‬‬ ‫و�إن كان هذا العمل لي�س هينا‪ ،‬ألن املتكلمني بحكم مركزية‬
‫�أما ربط املعتزلة للكالم بق�ضايا ا ألفعال‪ ،‬فن�ستدل عليه‬ ‫مبحث الكالم يف علمهم‪ ،‬كانوا دائمي ا إل�شارة �إليه يف‬
‫�أي�ضا مبا قام به قا�ضي الق�ضاة‪� ،‬إذ قرن يف كتابه‬ ‫مباحثهم ا ألخرى‪ ،‬و�إن �أفردوا له ف�صوال ومباحث خا�صة‪.‬‬
‫«املجموع يف املحيط بالتكليف» بني ا إلرادة والكالم‪.‬‬ ‫لكن هذه الف�صول واملباحث كانت ت�أتي تارة م�ستقلة عن‬
‫ففتح الباب الذي خ�ص�صه لـ«حقيقة الكالم» بقوله‪« :‬اعلم‬ ‫غريها‪ ،‬وتندرج تارة �أخرى �ضمن ما هو �أو�سع منها‪� ،‬أو‬
‫�أن وجه ات�صال هذا الباب بباب ا إلرادة‪� ،‬أن الكالم عندنا‬ ‫ترد مندجمة كما ذكرنا مبو�ضوع خلق القر�آن‪� .‬إذ ت�ساءل‬
‫من جملة �أفعاله كا إلرادة‪ .‬فال ي�صح كونه مريدا لنف�سه وال‬ ‫املتكلمون عن القر�آن بو�صفه كالم اهلل‪ ،‬هل كالم اهلل قدمي‬
‫ب�إرادة قدمية‪ .‬بل يتبع كونه مريدا كونه فاعال»(‪.)61‬‬ ‫�أم حمدث؟‬
‫فلن الكالم‬ ‫و�أما علة ات�صاله يف كالمهم مبو�ضوع العدل‪ ،‬أ‬ ‫و ألن اخللفية الكالمية توزعت عند املتكلمني بني ق�ضية‬
‫فعل‪ ،‬و ألن �أفعال اهلل وما يجوز عليه وما ال يجوز‪ ،‬هو ما‬ ‫ال�صفات وق�ضية ا ألفعال‪ ،‬ف�إن الفرق ا إل�سالمية جتادلت‬
‫خا�ض فيه املعتزلة يف باب العدل‪ .‬حتى �إن القا�ضي عبد‬ ‫يف مو�ضوع الكالم‪ ،‬بح�سب كونها �صفاتية �أو م�شبهة‬
‫اجلبار يف كتابه «�رشح ا أل�صول اخلم�سة»‪� ،‬أدرج احلديث‬ ‫�أو جم�سمة‪ ،‬وبني كونها موحدة �أو «معطلة»‪ .‬فعر�ض‬
‫‪17‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املاتريدي‪ ،‬الذي كان يقول كاملعتزلة‪ ،‬ب�أن اهلل عامل بذاته‪،‬‬ ‫عن «حقيقة الكالم» يف باب العدل �إىل جانب ق�ضايا‬
‫حي بذاته‪ ،‬قادر بذاته‪ ،‬دون �أن ينفي مثلهم قيام ال�صفات‬ ‫وموا�ضيع �أخرى مثل‪ ،‬خلق ا ألفعال‪ ،‬و�أق�سامها‪ ،‬وحقيقة‬
‫بالذات(‪ .)68‬وت�أثري املاتريدي جلي يف تلميذه �أبي املعني‬ ‫الظلم‪ ،‬واال�ستطاعة‪ ،‬وا آلالم‪ ،‬والتكليف‪ ،‬واملعجزات‪ ،‬والقبح‬
‫الن�سفي الذي قدم كغريه من معظم ال�صفاتية ق�ضية القدم‬ ‫واحل�سن‪ .‬ويف «ف�ضل االعتزال» �أدرج الكالم وا إلرادة �ضمن‬
‫واحلدوث يف الكالم على باقي ق�ضاياه‪ .‬كما �أن الن�سفي‬ ‫باب «يف ما اتفقوا عليه من القول بالعدل»‪ .‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫�أثبت الكالم �صفة قائمة بالذات‪ ،‬قدمية‪ .‬يقول على ل�سان‬ ‫«ف�أما من يقول يف ما هو فعله‪ ،‬من الكالم وا إلرادة �إنه لي�س‬
‫«�أهل احلق»‪�« :‬إن كالم اهلل تعاىل �صفة له �أزلية لي�ست من‬ ‫بفعل‪ ،‬ففي ذلك خروج من العدل‪ ،‬ألنه ال بد من �أن يثبت‬
‫جن�س احلروف وا أل�صوات وهي �صفة قائمة بذاته منافية‬ ‫الكالم على وجه ي�صح منه تعاىل‪ ،‬وكذلك ا إلرادة‪ .‬ويدخل‬
‫لل�سكوت وا آلفة من الطفولية واخلر�س»(‪.)69‬‬ ‫فيه الكالم يف املخلوق �أي�ضا‪ .‬هذا �إذا قالوا بقدم الكالم‬
‫و�أن يكون الكالم من جن�س احلروف وا أل�صوات‪� ،‬أو �أن يقوم‬ ‫املعقول وا إلرادة املعقولة‪ ،‬ف�أما �إذا قالوا بقدم ما لي�س هذا‬
‫بالذات‪� ،‬أو �أن ينايف ال�سكوت وا آلفة واخلر�س‪ ...‬ق�ضايا‬ ‫�صفته‪ ،‬فهو دخول يف اجلهاالت»(‪.)62‬‬
‫اختلف فيها املتكلمون‪ ،‬ما بني �صفاتية املعاين‪ ،‬ونق�صد‬ ‫وقد ا�ضطر ال�صفاتية حتت ت�أثري املجادالت االعتزالية‪،‬‬
‫بهم ا أل�شاعرة‪ ،‬و�صفاتية الت�شبيه‪ ،‬ويدخل فيهم عدد من‬ ‫إلدراج الكالم يف باب ا ألفعال للرد عليهم‪ ،‬و�إن ظل الغالب‬
‫�أهل احلديث وعامة �أهل ال�سنة‪ ،‬و�صفاتية املغايرة‪ ،‬ونق�صد‬ ‫عليهم ربطه بال�صفات(‪ ،)63‬كما يتبني من كتاب الغزايل‬
‫بهم املعتزلة‪ ،‬ألنهم و�إن قالوا بال�صفات‪ ،‬فلم يحتفظوا‬ ‫«االقت�صاد يف االعتقاد»‪ .‬فقد ذهب �إىل �أن ال�صفات كلها‬
‫منها �سوى مبا ا�ستحقه اهلل دون �سائر املوجودات‪ ،‬من غري‬ ‫قائمة بذات الباري و�أنها قدمية و�أن ا أل�سامي امل�شتقة له‬
‫انف�صال لتلك ال�صفات عن ذاته �أو قيامها فيها‪.‬‬ ‫من �صفاته‪� ،‬صادقة عليه مل تزل‪ .‬ويف �إطار هذا الت�صور‬
‫واجلويني من ا أل�شاعرة الذين ربطوا بني الكالم وبني‬ ‫تناول مو�ضوع الكالم‪ ،‬ف�أدخله يف «القطب» الثاين من‬
‫ال�صفات‪� ،‬إذ ذهب �إىل �أن الكالم يف تفا�صيل (الكالم) فرع‬ ‫كتابه فاحتا �إياه بالقول‪�« :‬إذ ندعي �أنه �سبحانه قادر عامل‬
‫ثبوت كون الباري تعايل متكلما‪ .‬وحمل نفاة ال�صفات‬ ‫حي مريد �سميع ب�صري متكلم‪ ،‬فهذه �سبع �صفات»(‪.)64‬‬
‫«نحلة» نفي الكالم‪« :‬مذهب �أهل احلق‪� ،‬أن الباري �سبحانه‬ ‫وعر�ض �أبو �سعيد الني�سابوري ملبحث الكالم بعد عر�ضه‬
‫وتعاىل متكلم بكالم �أزيل‪ ،‬ال مفتتح لوجوده‪ ،‬و�أطبق‬ ‫ملبحث علم اهلل‪ ،‬ملا بني العلم والكالم من م�سائل م�شرتكة‬
‫املنتمون �إىل ا إل�سالم على �إثبات الكالم‪ .‬ومل ي�رص �إىل‬ ‫دار حولها اجلدال‪ ،‬كالقدم وال�صفة الزائدة على الذات‬
‫نفيه‪ ،‬ومل ينتحل �أحد يف كونه متكلما نحلة نفاة ال�صفات‬ ‫واحلدوث والتجدد وم�شاركة احلوادث والقيام يف حمل‪،‬‬
‫يف كونه عاملا قادرا حيا»(‪.)70‬‬ ‫فبد� أ حديثَه عنه ب�إثبات �صفة الكالم القدمي هلل بقوله‪« :‬عند‬
‫واخلالف بني ال�صفاتية وعامة املعتزلة لي�س يف كون اهلل‬ ‫�أهل احلق‪� ،‬أن الباري متكلم بكالم قدمي �أزيل غري مفتتح‬
‫متكلما �أم غري متكلم‪ .‬فقد ذهبت املعتزلة با�ستثناء بع�ض‬ ‫الوجود»(‪ ،)65‬لينتهي �إىل جمادلة املعتزلة يف ما �أنكروه من‬
‫�أئمتهم كعباد بن �سليمان وا إل�سكايف‪� ،‬إىل �أن اهلل متكلم(‪.)71‬‬ ‫�صفة القيام يف حمل والقول بقدميني‪ ،‬فقال‪« :‬ال يجوز �أن‬
‫واعرت�ض عباد وا إل�سكايف‪ ،‬بكون �إثبات التكلم هلل‪� ،‬إثبات‬ ‫يقال‪ ،‬العلم غري القدرة وغري الكالم‪ ،‬وال �أن العلم هو الكالم‪،‬‬
‫لتفعله‪.‬‬ ‫�أو القدرة هي العلم‪� ،‬أو العلم هو الذات‪� ،‬أو الكالم هو الذات‪.‬‬
‫�أما �أوجه اخلالف الكربى بني عامة املعتزلة وبني غريهم‪،‬‬ ‫ولكن يقال‪ ،‬الذات موجود وال�صفات موجودات مع الذات‬
‫ففي مقدمات ا�ستحقاق اهلل ل�صفة �أو فعل الكالم‪ ،‬ويف‬ ‫قائمات بالذات‪ .‬ألنا ن�صف ال�صفات ا ألزلية بالبقاء»(‪.)66‬‬
‫النتائج املرتتبة عليها‪� ،‬أي يف تعريف الكالم واملتكلم‬ ‫وقد ا�ضطر ا أل�شاعرة حتت ت�أثري املعتزلة �إىل تعديل‬
‫وحمل الكالم‪ ،‬واملفاهيم والت�صورات امل�ؤطرة لذلك‪ .‬فهذه‬ ‫مفهومهم ل�صفة القيام املحلي التي قال بها �أهل ال�سنة‪،‬‬
‫الق�ضايا اخلالفية بالتحديد هي التي ولدت ما �سمي‬ ‫املحدثني منهم‪ .‬فحولوا القول يف ال�صفات‪،‬‬ ‫وبخا�صة َ‬
‫بـ«م�س�ألة الكالم» يف علم الكالم‪.‬‬ ‫ومنها القول يف �صفة العلم‪ ،‬من القول �إن علمه قائم بذاته‪،‬‬
‫ومن بني ا آلراء املف�رسة لـ «م�س�ألة الكالم» ر�أيان ‪:‬‬ ‫�إىل القول ب�أنه موجود بذاته‪ ،‬وهو ر�أى املاتريدية �أي�ضا(‪.)67‬‬
‫ر� أي ذكره ال�رشيف اجلرجاين يف �رشحه لكتاب‬ ‫للخذ‬ ‫كما �أن عددا من ال�سنيني الذين «تعقلوا» �أي انتقلوا أ‬
‫«املواقف»‪� ،‬إذ تعني «م�س�ألة الكالم» عنده ق�ضية‬ ‫مبعيار العقل ال الن�ص وحده‪ ،‬ا�ستعاروا من املعتزلة بع�ض‬
‫قدم القر� آن وحدوثه ألنها � أ�شهر � أجزائه و�سبب تدوينه‬ ‫مقوالتهم و�أدجموها يف خطابهم ال�صفاتي‪ ،‬ك�أبي من�صور‬
‫‪18‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫وم�صدر تناحر وتقاتل املتكلمني(‪.)72‬‬
‫حميي الدين عبد احلميد‪ .‬دار احلداثة‪ ،‬ط ‪� 1985/‬ص ‪.23‬‬
‫‪ 17‬ـ ابن النجار ( ت ‪ 972‬هـ )‪� :‬رشح الكوكب املنري‪ .‬حتقيق حممد الزحيلي‬
‫ونزيه حماد‪ .‬مكتبة العبيكان‪ .‬الريا�ض‪ .‬اململكة العربية ال�سعودية‪1993 .‬‬ ‫�أما الر�أي الثاين وهو البن النجار‪ ،‬ف�إنه و�إن بني مكانة‬
‫‪.85/2‬‬ ‫القول يف التنزيل يف علم الكالم‪ .‬ف�إنه ربط امل�س�ألة‬
‫‪ 18‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪ 50/2‬ويرجع �أي�ضا لكتاب «درء تعار�ض العقل‬ ‫املذكورة بـ«تبيني مو�ضوع لفظ الكالم‪ ،‬وما يتناوله لفظ‬
‫والنقل» البن تيمية‪� .‬ضبط وت�صحيح عبد اللطيف عبد الرحمن‪ .‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان ط ‪ ،)5-3(/4 1997/1‬وينظر �أي�ضا‪�« :‬رشح العقيدة‬ ‫الكالم حقيقة �أو جمازا»‪ .‬فهذه امل�س�ألة يف ر�أي ابن النجار‪،‬‬
‫الطحاوية» �ص (‪ 204‬ـ ‪ .)207‬وذهب �صاحب هذا ال�رشح �إىل القول‪�« :‬إمنا‬ ‫هي ما ي�سمى «م�س�ألة الكالم» ألنها «�أعظم م�سائل �أ�صول‬
‫�سمي ه�ؤالء‪� :‬أهل الكالم‪ ،‬ألنهم مل يفيدوا علما مل يكن معروفا‪ ،‬و�إمنا �أتوا‬ ‫الدين‪ ،‬وهي م�س�ألة طويلة الذيل‪ ،‬حتى قيل‪� ،‬إنه مل ي�سم علم‬
‫بزيادة كالم قد ال يفيد‪ .‬وهو ما ي�رضبونه من القيا�س إلي�ضاح ما علم‬
‫باحل�س‪ ،‬و�إن كان هذا القيا�س و�أمثاله ينتفع به يف مو�ضع �آخر‪ ،‬ومع‬ ‫الكالم �إال ألجلها ولذلك اختلف فيها �أئمة ا إل�سالم املعتربين‬
‫من ينكر احل�س‪ .‬وكل من قال بر�أيه وذوقه و�سيا�سته مع وجود الن�ص‪� ،‬أو‬ ‫املقتدى بهم‪ ،‬اختالفا كثريا متباينا»(‪.)73‬‬
‫عار�ض الن�ص باملعقول‪ ،‬فقد �ضاهى �إبلي�س‪ ،‬حيث مل ي�سلم ألمر ربه»‪� .‬رشح‬
‫العقيدة الطحاوية البن �أبي العز احلنفي‪ .‬املكتب ا إل�سالمي‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‬ ‫والر�أيان متكامالن‪ ،‬ألن بينهما دور‪� .‬إذ يوجب القول يف‬
‫ط ‪� 1988/9‬ص ‪ .207‬ومما نقله موفق الدين ابن قدامة املقد�سي يف‬ ‫القر�آن‪ ،‬القول يف حقيقة الكالم‪ ،‬كما �أن القول يف حقيقة‬
‫هذا الباب‪« :‬قال ا إلمام �أحمد‪ :‬ال يفلح �صاحب كالم �أبدا‪ ،‬وال ُيرى �أحد نظر‬ ‫الكالم يوجب القول يف القر�آن من جهة القدم واحلدوث‪.‬‬
‫يف الكالم �إال يف قلبه دغل‪ .‬وقال ا إلمام ال�شافعي‪ :‬ما ارتدى �أحد بالكالم‬
‫ثم �إن هذين املو�ضوعني تت�صل بهما مو�ضوعات وم�سائل‬
‫َاف بهم يف‬ ‫ف�أفلح‪ .‬وقال حكمي يف �أهل الكالم �أن ي�رضبوا باجلريد ُ‬
‫ويط َ‬
‫الع�شائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب وال�سنة و�أخذ يف الكالم‪.‬‬ ‫�أخرى كالنظر يف ماهية الكالم وحقيقته وتعريفه‪ .‬وهذا‬
‫وقال �أبو يو�سف‪ :‬من طلب العلم يف الكالم تزندق‪ .‬وقال �أبو عمر بن عبد‬ ‫يقت�ضي درا�سة مف�صلة حتى نتبني ا أل�صول واملقدمات‬
‫الرب‪� :‬أجمع �أهل الفقه وا آلثار من جميع �أهل ا ألم�صار �أن �أهل الكالم �أهل‬
‫بدع وزيغ وال ُي َعدُّون عند اجلميع يف طبقات العلماء‪ ،‬و�إمنا العلماء �أهل‬ ‫التي بنى عليها املتكلمون مقاالتهم و�أقوالهم يف الكالم‬
‫ا ألثر واملتفقه فيه‪ .‬وقال �أحمد بن �إ�سحاق املالكي‪� :‬أهل ا ألهواء والبدع عند‬ ‫عامة وكالم اهلل خا�صة‪.‬‬
‫�أ�صحابنا هم �أهل الكالم‪ ،‬فكل متكلم من �أهل ا ألهواء والبدع‪� ،‬أ�شعريا كان‬
‫�أم غري �أ�شعري‪ ،‬ال ُتقبل له �شهادة ويهجر وي�ؤدب على بدعته‪ ،‬ف�إن متادى‬ ‫الهوام�ش‬
‫عليها ا�ستتيب منها»‪ :‬حترمي النظر يف كتب الكالم ملوفق الدين ابن قدامة‬ ‫‪ 1‬ـ �إح�صاء العلوم �ص‪. 41‬‬
‫املقد�سي (ت ‪ 620‬هـ)‪ .‬حتقيق عبد الرحمن بن حممد �سعيد دم�شقية‪ .‬دار‬ ‫‪ 2‬ـ ا إليجي‪ :‬املواقف‪ .‬حتقيق عبدالرحمن عمرية ‪ .‬دار اجليل ‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‬
‫عامل الكتب‪ .‬الريا�ض‪ .‬اململكة العربية ال�سعودية ط‪� 1990/1‬ص(‪-41‬‬ ‫ط ‪ . 31/1 ،1997/1‬و�أورد له التهانوي التعريف التايل‪« :‬علم ب�أمور‬
‫‪� .)42‬أما ر�أي املوفق احلنبلي نف�سه‪ ،‬فلم ي�شذ عن �آراء من ذكرهم‪�( .‬ص ‪)41‬‬ ‫يقتدر معه‪� ،‬أي يح�صل مع ذلك العلم ح�صوال دائما عاديا قدرة تامة على‬
‫من امل�صدر املذكور‪ .‬وينظر �أحاديث و�أقوال �أخرى يف املو�ضوع‪ :‬ذم الكالم‪.‬‬ ‫�إثبات العقائد الدينية على الغري و�إلزامه �إياه ب�إيراد احلجج ودفع ال�شبه‬
‫لعبد اهلل بن حممد بن علي ا ألن�صاري الهروي‪ .‬حتقيق �سميح دغيم‪ .‬دار‬ ‫عنها»‪ :‬ك�شاف ا�صطالحات الفنون‪ .31/1 ،‬وننظر �أي�ضا‪ :‬د�ستور العلماء‬
‫الفكر اللبناين‪ .‬ط ‪ .1994/1‬بريوت‪ .‬لبنان‪ .‬وخا�صة‪« :‬باب لعن املتحدثني‬ ‫للحمد نكري‪ .‬مادة (كالم)‪.‬‬ ‫أ‬
‫واملتكلمني واملخالفني»‪ ،‬و«باب يف كراهية �أخذ العلم عن املتكلمني و�أهل‬ ‫‪ 3‬ـ ابن خلدون‪ :‬املقدمة‪ ،‬حتقيق علي عبد الواحد وايف‪ .‬دار النه�ضة امل�رصية‪.‬‬
‫البدع « و«باب ذكر �إنكار �أئمة ا إل�سالم‪ ،‬ما �أخذه املتكلمون يف الدين من‬ ‫القاهرة م�رص‪ .‬ط ‪. 1069/3 1981/3‬‬
‫ا ألغاليط»‪� .‬ص(‪.)284،291 ،178‬‬ ‫‪ 4‬ـ ك�شاف ا�صطالحات الفنون ‪.30/1‬‬
‫‪ 19‬ـ درء التعار�ض ‪.7/4‬‬ ‫‪ 5‬ـ التعريفات‪ .‬مادة (كالم)‪ .‬وينظر التوقيف على مهمات التعاريف‪ .‬مادة‬
‫‪ 20‬ـ ابن تيمية‪ :‬جمموع فتاوى ابن تيمية‪ ،‬جمع وترتيب عبد الرحمن بن‬ ‫(كالم)‪.‬‬
‫قا�سم‪ ،‬مكتبة املعارف‪ ،‬الرباط املغرب (د‪.‬ت) ‪.147/13‬‬ ‫‪ 6‬ـ ك�شاف ا�صطالحات الفنون ‪ 31 ( /1‬ـ ‪ ) 32‬ود�ستور العلماء مادة‬
‫‪ 21‬ـ امللل والنحل‪ .38/1 ،‬ويقول القا�سم بن حممد بن علي الزيدي العلوي‬ ‫(كالم)‪.‬‬
‫املعتزيل (ت ‪ 1029‬هـ) عن ق�ضايا الكالم‪« :‬وكرث يف ذلك اخلالف وال�شقاق‪،‬‬ ‫‪ 7‬ـ القا�ضي عبد اجلبار‪� :‬رشح ا أل�صول اخلم�سة‪ .‬حتقيق عبد الكرمي عثمان‪.‬‬
‫وقل فيه االئتالف واالتفاق»‪ .‬ينظر كتابه «ا أل�سا�س لعقائد ا ألكيا�س»‪.‬‬ ‫مكتبة وهبة‪ .‬القاهرة‪ .‬م�رص ط ‪� 1996/3‬ص (‪.) 123-122‬‬
‫حتقيق �ألبري ن�رصي نادر‪ .‬دار الطليعة‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‪ .‬ط ‪� 1980/1‬ص‬ ‫‪ 8‬ـ ال�شهر�ستاين‪ :‬امللل والنحل‪ .‬ت�صحيح وتعليق �أحمد فهمي حممد‪ .‬دار‬
‫‪.46‬‬ ‫الكتب العلمية‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‪ ( .‬د‪.‬ت) ‪.23/1‬‬
‫‪ 22‬ـ ف�ضل االعتزال �ص ‪.181‬‬ ‫‪ 9‬ـ املواقف‪ 45/1‬وينظر �رشح ال�رشيف اجلرجاين لذلك بامل�صدر نف�سه‬
‫‪ 23‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪ ،183‬ويراجع فيه �أي�ضا‪� :‬ص ( ‪.)185-184‬‬ ‫‪ ،46/1‬وك�شاف ا�صطالح الفنون ‪.33/1‬‬
‫‪ 24‬ـ �أبو بكر البيهقي‪ :‬ا أل�سماء وال�صفات‪ .‬دار الكتب العلمية‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‬ ‫‪ 10‬ـ د�ستور العلماء مادة (كالم)‪.‬‬
‫ط ‪� 1984/1‬ص ‪.327‬‬ ‫‪ 11‬ـ نحيل يف هذا الباب �إىل ر�أي علي �سامي الن�شار يف كتابه « ن�ش�أة الفكر‬
‫‪ 25‬ـ ا أل�سماء وال�صفات �ص (‪ 328‬ـ ‪ )329‬ود�ستور العلماء‪ ،‬مادة (كالم)‪.‬‬ ‫الفل�سفي يف ا إل�سالم « ط ‪ /7‬دار املعارف ‪ .‬م�رص ‪.1977‬‬
‫وحترمي النظر يف كتب الكالم �ص ‪ 41‬وم�س�ألة خلق القر�آن وموقف علماء‬ ‫‪ 12‬ـ علي ال�شابي‪ :‬مباحث يف علم الكالم والفل�سفة‪ ،‬ط ‪ /1‬دار بو�سالمة‬
‫القريوان منها‪ .‬لفهد بن عبد الرحمن بن �سليمان الرومي‪ .‬مكتبة التوبة‪.‬‬ ‫تون�س‪ .‬من�شورات الكلية الزيتونية لل�رشيعة و�أ�صول الدين‪ .‬تون�س‪( .‬د‪.‬ت)‬
‫الريا�ض‪ .‬اململكة العربية ال�سعودية‪ .‬ط ‪� 1997/2‬ص(‪.)41-40‬‬ ‫�ص ‪.9‬‬
‫‪ 26‬ـ �أبو احل�سن ا أل�شعري‪ :‬ا إلبانة عن �أ�صول الديانة‪ .‬دار الكتاب العربي‪.‬‬ ‫‪ 13‬ـ املرجع ال�سابق �ص (‪.)153 ،50‬‬
‫بريوت‪ .‬لبنان ‪ .‬ط ‪� 1990/2‬ص(‪ )20،56‬وينظر �أي�ضا‪ :‬علي ال�شابي ‪:‬‬ ‫‪14‬امللل والنحل ‪.23/1‬‬
‫مباحث يف علم الكالم والفل�سفة‪� .‬ص (‪.)16-15‬‬ ‫‪ 15‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪.47/1‬‬
‫‪ 27‬ـ عثمان بن �سعيد الدارمي ال�شافعي‪ :‬الرد على اجلهمية‪ .‬من�شورات‬ ‫‪ 16‬ـ مقدمة حتقيق «مقاالت ا إل�سالميني» ألبي احل�سن ا أل�شعري ‪ .‬للمحقق‬
‫‪19‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والن�ساك بني املعتزلة وعامة �أهل ال�سنة‪ .‬ر�سائل اجلاحظ‬ ‫والعلماء والعباد ّ‬ ‫املكتب ا إل�سالمي بدم�شق‪ .‬ط ‪� 1961/2‬ص(‪.)115-114‬‬
‫‪ . 97/3‬ومما قاله حنابلة اجلماعة ال�سنية يف هذا املو�ضوع‪ ،‬قول ابن‬ ‫‪ 28‬ـ �سورة �ص ‪.6/‬‬
‫قدامة‪« :‬فنحن �أ�صحاب املقامات الفاخرة‪ ،‬ولنا �رشف الدنيا وا آلخرة‪ ،‬ومن‬ ‫‪ 29‬ـ ا ألنعام ‪.26/‬‬
‫نظر يف كتب العلماء التي �أفردت لذكر ا ألولياء مل يجد فيها‪� ،‬إال منا‪ ،‬ومتى‬ ‫‪ 30‬ـ املدثر ‪.25/‬‬
‫نقلت الكرامات مل تنقل �إال عنا‪ ،‬ومتى �أراد واعظ �أو غريه يطيّب جمل�سه‬ ‫‪ 31‬ـ الرد على اجلهمية �ص ( ‪.)116 ،106‬‬
‫ويزينه‪ ،‬زينه ب�أخبار بع�ض زهادنا �أو كرامات عبّادنا �أو و�صف علمائنا‪.‬‬ ‫‪ 32‬ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة ‪� .‬ص (‪ 776‬ـ ‪ )778‬وف�ضل االعتزال �ص ‪ 152‬و‬
‫ويكْ� َشف‬
‫وعند ذكر �صاحلينا تنزل الرحمة وتطيب القلوب وي�ستجاب الدعاء ُ‬ ‫«خلق القر�آن» للجاحظ‪� ،‬ضمن جمموع ر�سائله ‪.296/3‬‬
‫البالء»‪ .‬ينظر كتابه‪ :‬حترمي النظر يف كتب الكالم‪� ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪ 33‬ـ امللل والنحل ‪.38/1‬‬
‫‪ 47‬ـ امل�صدر نف�سه �ص ‪.188‬‬ ‫‪ 34‬ـ وهذا ر�أي ا أل�شعري كذلك‪ :‬ا إلبانة �ص ( ‪.)15-14‬‬
‫‪ 48‬ـ ويرجع للكتاب نف�سه �ص ‪.164‬‬ ‫‪ 35‬ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص ‪ ،775‬وينظر يف الكتاب نف�سه �ص ( ‪772‬‬
‫لل�شعري ‪.65/1‬‬ ‫‪ 49‬ـ مقاالت ا إل�سالميني أ‬ ‫– ‪ )779‬وف�ضل االعتزال �ص (‪.)170 - 167‬‬
‫‪ 50‬ـ امللل والنحل ‪.6/1‬‬ ‫‪ 36‬ـ ن�ش�أة الفكر الفل�سفي يف ا إل�سالم لعلي �سامي الن�شار �ص ( ‪،285‬‬
‫‪ 51‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪.79/1‬‬ ‫‪.)287‬‬
‫‪ 52‬ـ مقاالت ا إل�سالميني ‪. 224/1‬‬ ‫‪ 37‬ـ �إح�صاء العلوم �ص ( ‪41‬ـ‪ )43‬واال�صطالح على هذه الفئات من‬
‫‪ 53‬ـ جمموعة الفتاوى البن تيمية‪ .‬ن�رشة دار الوفاء‪� .‬إ�رشاف عامر اجلزار‬ ‫و�ضعنا‪.‬‬
‫و�أنور الباز‪ .‬م�رص ط ‪.131/6 1998/2‬‬ ‫‪ 38‬ـ ينظر �أمثلة لذلك يف‪ :‬الرد على اجلهمية للدارمي‪ ،‬وا أل�سماء وال�صفات‬
‫‪ 54‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪.198/5‬‬ ‫للبيهقي‪� .‬أما ال�شعار النقلي ال�سمعي ملذهب �أهل ال�سلف‪ ،‬فدعوتهم لـ«ا إلقرار‬
‫‪ 55‬ـ امل�صدر ال�سابق وال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫والت�سليم‪ ،‬وترك التعر�ض للت�أويل والتمثيل»‪ ،‬وال�سكوت عن التف�سري‪ ،‬ومترير‬
‫‪ 56‬ـ نف�سه ‪.199/5‬‬ ‫ا آليات وا ألحاديث على ظاهر ما جاءت به‪ .‬ولهم يف م�أثورهم �أقوال كثرية‬
‫‪ 57‬ـ نف�سه ‪ 220(/6‬ـ ‪.)221‬‬ ‫على ذلك‪ :‬ينظر‪ :‬حترمي النظر �ص(‪ )39-36‬ومما ذكره املوفق احلنبلي يف‬
‫‪ 58‬ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص (‪ )183-182‬و مقاالت ا إل�سالميني ‪(/1‬‬ ‫كتابه حترمي النظر»‪:‬‬
‫‪224‬ـ‪241 ( ،)229‬ـ ‪. )244‬‬ ‫‪« -‬ال خالف بني �أهل النقل �سنيّهم وبدعيّهم يف �أن مذهب ال�سلف ر�ضي‬
‫‪ 59‬ـ �رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص‪.151‬‬ ‫اهلل عنهم يف �صفات اهلل �سبحانه وتعاىل‪ ،‬ا إلقرار بها وا إلمرار لها والت�سليم‬
‫‪ 60‬ـ ف�ضل االعتزال �ص ‪.347‬‬ ‫لقائلها وترك التعر�ض لتف�سريها»‪�( .‬ص‪.)37-36‬‬
‫‪ 61‬ـ املجموع يف املحيط بالتكليف ‪. 316/1‬‬ ‫‪« -‬الت�أويل تكلف وحمق وتنطع وكالم باجلهل وتعر�ض للخطر فيما ال‬
‫‪ 62‬ـ ف�ضل االعتزال �ص (‪.)349-348‬‬ ‫تدعو �إليه حاجة» �ص ‪.51‬‬
‫‪ 63‬ـ ينظر مثال منهاج �أهل ال�سنة البن تيمية‪ .‬دار الكتب العلمية‪.‬بريوت ‪.‬‬ ‫‪� -‬سئل مالك عن ا�ستواء اهلل تعاىل على العر�ش فقال‪« :‬اال�ستواء غري جمهول‬
‫لبنان (د‪.‬ت) ‪. )127-126 (/1‬‬ ‫والكيف غري معقول وا إلميان به واجب وال�س�ؤال عنه بدعة»‪� .‬ص ‪.60‬‬
‫‪ 64‬ـ الغزايل‪ :‬االقت�صاد يف االعتقاد‪ .‬دار الكتب العلمية‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‪ .‬ط‬ ‫‪�« -‬إذا �س�ألنا �سائل عن معنى هذه ا أللفاظ قلنا‪ :‬ال نزيدك على �ألفاظها‬
‫‪� .1983/1‬ص ‪.53‬‬ ‫معنى‪ ،‬بل قراءتها تف�سريها من غري معنى بعينه وال تف�سري‬ ‫ً‬ ‫زيادة تفيد‬
‫‪ 65‬ـ الغنية يف �أ�صول الدين ألبي �سعيد الني�سابوري ال�شافعي‪ .‬حتقيق عماد‬ ‫بنف�سه‪ ،‬ولكن قد علمنا �أن لها معنى يف اجلملة يعلمه املتكلم بها‪ ،‬فنحن‬
‫الدين �أحمد حيدر‪ .‬ط ‪ .1987/1‬م�ؤ�س�سة الكتب الثقافية‪ .‬بريوت‪ .‬لبنان‪� .‬ص‬ ‫ن�ؤمن بها بذلك املعنى»‪� .‬ص‪.59‬‬
‫‪.98‬‬ ‫‪ 39‬ـ املجموع يف املحيط بالتكليف‪ ،‬للقا�ضي عبد اجلبار ن�رشه و�صححه‬
‫‪ 66‬ـ امل�صدر ال�سابق �ص ‪.110‬‬ ‫ا ألب جني يو�سف هوبن الي�سوعي‪ .‬املطبعة الكاثولكية‪ .‬بريوت ‪.332/1‬‬
‫‪ 67‬ـ تب�رصة ا ألدلة يف �أ�صول الدين ألبي املعني الن�سفي‪ .‬حتقيق كلود‬ ‫وينظر يف مو�ضوع اعتداد املعتزلة بالعقل‪ :‬ف�ضل االعتزال �ص ‪. 139‬‬
‫�سالمة‪ .‬من�شورات املعهد العلمي الفرن�سي للدرا�سات العربية بدم�شق‪.‬‬ ‫و�رشح ا أل�صول اخلم�سة �ص (‪50‬ـ‪ )76‬حيث تكلم القا�ضي عبد اجلبار على‬
‫�سوريا‪.)258-257(/1 .1995 .‬‬ ‫ف�ساد التقليد‪ ،‬و�صواب ووجوب املعرفة بالنظر‪.‬‬
‫‪ 68‬ـ امل�صدر ال�سابق ‪.258/1‬‬ ‫‪ 40‬ـ ف�ضل االعتزال �ص ‪.184‬‬
‫‪ 69‬ـ امل�صدر نف�سه ‪ .259/1‬وقد ذكر ابن تيمية يف عدد من كتبه ت�أثر‬ ‫‪ 41‬ـ امل�صدر ال�سابق �ص (‪.)269-266‬‬
‫الكالبية وا أل�شاعرة وال�ساملية وبع�ض احلنابلة و�أهل ال�سنة واحلديث‪،‬‬ ‫‪ 42‬ـ امللل والنحل ‪.)38ّ-37 ( /1‬‬
‫با أل�صول االعتزالية واتكاءهم عليهم يف مناظرتهم لغريهم‪ .‬ينظر مثال‪:‬‬ ‫‪ 43‬ـ ف�ضل االعتزال �ص ‪ ،186‬و�ص ‪ ،185‬وقوله يف ( �ص ‪« :)151‬وكل‬
‫جمموعة الفتاوى‪ .‬طبعة دار الوفاء ‪ )331-330(/5‬ودرء التعار�ض‬ ‫ا ألمة يقولون‪� :‬إن اهلل واحد لي�س كمثله �شيء‪ .‬فامل�شبهة تنق�ض ذلك‪ .‬ومن‬
‫‪.157/1‬‬ ‫نق�ض ما نزل به الكتاب و�صح فيه ذكرنا‪ ،‬من ال�سنة وا إلجماع‪ ،‬فهو‬
‫‪ 70‬ـ ا إلر�شاد للجويني‪ .‬حتقيق �أ�سعد متيم‪ .‬م�ؤ�س�سة الكتب الثقافية‪ .‬بريوت‪.‬‬ ‫خارج عن امللة»‪ .‬وامل�شبهة عند املعتزلة هم �أهل ال�سنة القائلون ب�إثبات‬
‫لبنان‪ .‬ط ‪� 1985/1‬ص (‪.)106 ،114‬‬ ‫ال�صفات‪.‬‬
‫‪ 71‬ـ مقاالت ا إل�سالميني ‪.241/1‬‬ ‫‪ 44‬ـ ف�ضل االعتزال �ص ‪.187‬‬
‫‪ 72‬ـ املواقف ل إليجي ‪.46/1‬‬ ‫‪ 45‬ـ امل�صدر ال�سابق �ص ‪. 213‬‬
‫‪ 73‬ـ �رشح الكوكب املنري البن النجار ‪.9/2‬‬ ‫‪ 46‬ـ امل�صدر املذكور �ص ‪ .188‬وينظر �أي�ضا يف م�س�ألة املفاخرة يف العدد‬

‫‪20‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مفهوم الكتابة عند‬


‫حميي الدين بن عربي‬
‫حممد ّ‬
‫خطاب‬ ‫ّ‬
‫باحث و� أكادميي من اجلزائر‬
‫�إن ظاهرة الكتابة عند ابن عربي مهمة جدا ولعلها مركزية يف ن�صو�صه‬
‫العرفانية‪ ،‬فهي تعني املمار�سة احلرة والفنية والواعية �أي�ضا للغة وللمكت�سب‬
‫الل�ساين الذي يرتبط به عمقيا‪« :‬فال�شيخ ا ألكرب ال يقارب مفاهيمه بناء على‬
‫النظر الفكري وال يخ�ضعها للتنظيم املنهجي‪ ،‬الذي قد ن�صادفه لدى املتكلمني‬
‫�أو الفال�سفة‪ ،‬و�إمنا يحتكم‪ ،‬يف الغالب ا ألعم‪� ،‬إىل جتربته الروحية‪ ،‬ويرتقب‬
‫كتابته مما يرد عليه من �أحواله ومقاماته‪ )1(».‬و�سيخ�ضع حتليلنا لهذه الظاهرة‬
‫من مواقع خمتلفة‪ ،‬منها موقع املفهوم للكتابة يف حدّ ذاتها كحدث ل�ساين داخل‬
‫ثقافة معينة‪ ،‬وكذلك فعل الكتابة ال�صوفية التي تختلف عمقيا عن غريها يف‬
‫حقول خمتلفة‪ ،‬و�أي�ضا من موقع الكتابة يف �شكلها الوجودي ال�رصف واملتعلقة‬
‫باملفهوم العام املرتبط بالغيب‪.‬‬

‫‪ w‬د ّل ا�شتغال ابن عربي على م�ضمون الكالم وال�صمت بفاعلية‬


‫� أكرث �إدها�شا للقارئ املعا�رص الذي يرى ب�أن ما تقوله الفل�سفة‬
‫احلديثة قد ا�ستب�رص به ابن عربي عن طريق الك�شف‪ ،‬وهذا ما‬
‫�سميناه بالتعبري عن املطلق الذي ت�شرتك فيه ذوات كثرية ال‬
‫حتدُّها ا ألمكنة وال ا ألزمنة‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪21‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دون الت�رصيح وعلى ا إل�شارة دون العبارة‪ »:‬وقال‬ ‫هذه مواقع ننظر منها �إىل فعل الكتابة كما يناق�شه‬
‫يل‪ :‬خفيت يف البيان‪ ،‬وال�شعور ألهل ال�ستور»(‪ )3‬وهذا‬ ‫ابن عربي يف � أكرث من منا�سبة‪ .‬لكن فعل الكتابة‬
‫ال�سرت له �سند من حياة اللغة يف حدّ ذاتها‪ ،‬ومن الن�ص‬ ‫يف حدّ ذاته له ارتباطاته ب�أفعال � أخرى حتددها‬
‫املركزي الذي هوالقر� آن الكرمي‪« :‬ثم قال يل‪ � :‬أنظرين‬ ‫الل�سانيات احلديثة يف �شكل نظري بحت‪ ،‬منها‬
‫يف النظم املح�صور‪ ،‬وهومو�ضع الرمز‪ ،‬وحمل للغز‬ ‫الكالم‪ ،‬وهو احلدث ال�ضمني املوجود بالقوة يف كل‬
‫ا أل�شياء‪ .‬ولوعلم � أن يف �شدة الو�ضوح لغز ا أل�شياء‪،‬‬ ‫كتابة �إن�سانية � أووجودية‪ ،‬لكن مقاربة الكالم يف‬
‫ورمزها‪ ،‬ل�سلكوه‪ � .‬أنزلت الآيات النريات دالئل‬ ‫ذاته � أي�ضا حمفوف بنوع من املخاطر‪ ،‬يتعلق ا ألمر‬
‫ملعان ال تفهم � أبدا»(‪ )4‬وهوتعبري دقيق عن معاين‬ ‫مبفهوم الكالم ا إللهي �إذا قي�س بالكالم ا إلن�ساين‬
‫قد �صاغها النفري بقوة العبارة وجمال البالغة‬ ‫� أوالب�رشي ب�صورة � أو�ضح‪ .‬الكالم له عالقته بال�صمت‬
‫اجلدل بني‬
‫يف املواقف واملخاطبات‪ ،‬مثل قوله‪« :‬و� أنا من‬ ‫يف عرفانية ابن عربي‪ ،‬ألن امل�س�ألة معقودة بتجربة‬
‫وراء الل�سان»(‪ )5‬فكون املعنى الذي تختزله الر ؤ�ية‬ ‫� أكرب هي جتربة الت�صوف التي ال ت�سمح بالتمايز‬ ‫الكالم وال�صمت‬
‫العرفانية خافيا وم�ستورا وغائبا د ّل على عجز‬ ‫بني �سائر املفارقات‪� .‬سنحاول مناق�شة حدث‬ ‫عند ابن‬
‫البيان � أوالل�سان‪ ،‬ثم ي�صبح ال�صمت �سيد املوقف ملّا‬ ‫الكتابة � أوال يف عالقته بالكالم‪ ،‬والكالم يف �صوره‬ ‫عربي ي�أخذ‬
‫تتجلى احلقائق يف �صورتها القاهرة‪« :‬يا عبد من‬ ‫املختلفة والرمزية‪.‬‬ ‫ُبعدا فل�سفيا‬
‫(‪)6‬‬
‫ر� آين جاز النطق وال�صمت‪».‬‬ ‫يف كتابه روح القد�س‪ ،‬والذي ُيعدُّ وثيقة خا�صة‬ ‫ووجوديا‪ ،‬فهو‬
‫د ّل ا�شتغال ابن عربي على م�ضمون الكالم وال�صمت‬ ‫ملتب�سة بحياة ال�شيخ ال�شخ�صية‪ ،‬يلفت ابن عربي‬ ‫ينطلق من‬
‫بفاعلية � أكرث �إدها�شا للقارئ املعا�رص الذي يرى‬ ‫االنتباه �إىل عالقته بالتكلم � أو بالكالم‪ ،‬فمن خالل‬ ‫جتربته التي‬
‫ب�أن ما تقوله الفل�سفة احلديثة قد ا�ستب�رص به ابن‬ ‫جتربته ال�صوفية الكبرية يبدو له الكالم زائدا عن‬ ‫تظل حية‬
‫عربي عن طريق الك�شف‪ ،‬وهذا ما �سميناه بالتعبري‬ ‫احلاجة‪� ،‬إذ املت�صوف يف طريق حتقيقه للمعرفة‬ ‫وواعية بذاتها‪،‬‬
‫حتدُّها‬
‫عن املطلق الذي ت�شرتك فيه ذوات كثرية ال ُ‬ ‫ي�صفو كالمه وتدق عباراته‪ ،‬وهو يقول يف ذلك‪:‬‬
‫وتظل � أي�ضا‬
‫ا ألمكنة وال ا ألزمنة‪ � ،‬أوكما قال رودولف � أوتوعن‬ ‫«ف�إين كنت �شديد القهر لنف�سي يف الكالم»(‪ )2‬وهذا‬
‫الت�صوف من حيث هومطلق الزمني وال تاريخ له‪،‬‬ ‫يعني � أن التجربة � أكرب من � أن ي�ستوعبها ل�سان‬ ‫املعني الذي ال‬
‫�إنه واحد يف الزمان واملكان‪� )7(.‬إن ابن عربي يف‬ ‫� أونطق‪ ،‬فهي تتجاوز حلظة الكالم وت�ستلزم ال�صمت‪.‬‬ ‫ين�ضب بالن�سبة‬
‫ن�ص �سابق حول احل�ضور والغياب يوحي مب�س�ألة‬ ‫اجلدل بني الكالم وال�صمت عند ابن عربي ي�أخذ‬ ‫�إليه كعارف يف‬
‫جتذر املوقف اجلمايل املعا�رص يف الفكر ا إلن�ساين‬ ‫ُبعدا فل�سفيا ووجوديا‪ ،‬فهو ينطلق من جتربته‬ ‫طريق املعرفة‬
‫الذي ي�شتغل بدوره على هذه الثنائية ال�صعبة‪ .‬نحن‬ ‫التي تظل حية وواعية بذاتها‪ ،‬وتظل � أي�ضا املعني‬ ‫اللهية التي ال‬‫إ‬
‫�سن�شتغل على م�شهد مهم هوم�شهد نور ال�صمت بطلوع‬ ‫الذي ال ين�ضب بالن�سبة �إليه كعارف يف طريق‬ ‫نطق معها‪.‬‬
‫جنم ال�سلب الذي يقول يف مقدمته‪ �« :‬أ�شهدين احلق‬ ‫املعرفة ا إللهية التي ال نطق معها‪� .‬إننا من خالل‬
‫ال�سل ْ ِب‪ ،‬ف�أخر�سني‪،‬‬
‫مب�شهد نور ال�صمت‪ ،‬وطلوع جنم َ‬ ‫القراءة املتنوعة لبع�ض املتون ال�صوفية البن‬
‫فما بقي يف الكون مو�ضع �إال ارتقم بكالمي‪ ،‬وما‬ ‫عربي خا�صة‪ ،‬الحظنا مدى الت�أثر ال�شديد ب�صاحب‬
‫�سطر كتاب �إال من مادتي و�إلقائي»(‪ )8‬وهي مقدمة‬ ‫املواقف واملخاطبات الذي ج�سد فكرة ال�صمت يف‬
‫تعرب عن حقيقة ال�صمت يف مقابل الكالم‪ .‬ال�صمت‬ ‫مقابل �شهود املعنى ا إللهي الذي ال كالم معه‪ .‬لقد‬
‫الذي يعني التكلم‪ .‬فنور ال�صمت ي�أتي من كون‬ ‫عرف كيف ي�ستفيد ابن عربي من غريه ولو بطريق‬
‫الكالم �صفة عار�ضة‪« :‬فالعبد �صامت بذاته متكلم‬ ‫الرمز وا إلمياء وا إل�شارة البعيدة‪� .‬إنه ال ي�رصّح‬
‫بالعر�ض»(‪ )9‬الطرح الذي طرحه ابن عربي يتجاوز‬ ‫بذلك ولكن ن�صه �رصيح مبظاهر الت�أثر ال�شديد‪.‬‬
‫املعنى التقليدي لل�صمت‪ ،‬فهو معني بال�صورة‬ ‫ففي كتابه م�شاهد ا أل�رسار القد�سية ومطالع ا ألنوار‬
‫الرمزية حيث ال�صمت له ح�ضوره يف الوجود‪ .‬فالذي‬ ‫ا إللهية‪ +‬يلمح ابن عربي �إىل عالقة ال�صمت بالكالم‬
‫خلق �صفة الكالم هو اهلل‪ ،‬واملتكلم يف احلقيقة‬ ‫يف جتربته ال�صوفية والتي تت�ضمن بال�رضورة‬
‫هو اهلل ألنه خالق هذا الكالم‪ � ،‬أنطقه اهلل تعاىل‬ ‫جتربة جمالية ال تفارقها ألنها متثل ن�سغها ودمها‬
‫فهومتكلم بالعر�ض‪ � ،‬أما يف حقيقته فهو�صامت‪ .‬ثم‬ ‫الذي ي�رسي فيها‪ .‬جتربة امل�شاهد تركز على التلميح‬
‫‪22‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الت�صوف والفكر والفل�سفة �إن مل نقل � أزمنة وجهودا‬ ‫ين�سحب مفهوم ال�صمت جماليا �إىل � أقا�صي � أخرى‬
‫و� أجياالً‪ .‬مقاربة الفل�سفة انطالقا من بع�ض رموزها‬ ‫من العرفان ا ألكربي حيث يتجلى الكالم فقط من‬
‫الكربى َت ِعدُنا بالكثري فيما يتعلق بجماليات اللغة‬ ‫حيث كونه م�ؤثرا وفاعال‪ ،‬وهو ال�صادر عن اهلل‬
‫بكل متعلقاتها يف باب العرفان ا إل�سالمي‪ .‬ودرا�سة‬ ‫اخلالق بقدرة كن‪« :‬وعن الكالم �صدرنا وهو قوله‪:‬‬
‫ابن عربي لهذا ال�ش�أن درا�سة تتفرع على � أوجه‬ ‫كن فكنّا‪ ،‬فال�صمت حالة عدمية والكالم حالة‬ ‫ْ‬
‫�إننا من خالل‬ ‫و� أبواب وتفاريع خمتلفة‪ ،‬فهومل يناق�ش هذه امل�س�ألة‬ ‫وجودية»(‪ )10‬ومن هذا الباب فقط تبدو �صورة الكالم‬
‫القراءة‬ ‫بطريقة كال�سيكية عادية‪ ،‬بل ر� أى �إىل � أوجهها‬ ‫من حيث عالقته بالذات ا إللهية م�صدر الوجود‪،‬‬
‫املتنوعة‬ ‫اخلفية واطلع عليها رمزا و� أ�شار �إىل كل ذلك �إ�شارة‪،‬‬ ‫ولي�س املق�صود بالكالم جمرد معناه الطبيعي‪ ،‬بقدر‬
‫لبع�ض املتون‬ ‫وعلى الدار�س حينئذ � أن يتفطن للعبة الكلمات التي‬ ‫� أن املق�صود هو النطق بالكلمة‪ ،‬وحا�صلها هوعامل‬
‫ال�صوفية البن‬ ‫تعيد �صياغة الفكر من منظور جديد‪.‬‬ ‫املوجودات‪ .‬ولو عدنا �إىل ن�ص امل�شهد املذكور‬
‫عربي خا�صة‪،‬‬ ‫ما هي � أطروحة ابن عربي يف الكالم والكتابة‬ ‫�سابقا لوجدنا � أن فكرة ال�صمت تتجاوز املعطى‬
‫الحظنا مدى‬ ‫وال�صمت؟ كيف تتجلى اجلماليات يف امل�سائل التي‬ ‫العام الذي يعرفه النا�س لتتلب�س باملعنى الوجودي‬
‫الت�أثر ال�شديد‬ ‫طرحها داخل منظومة العرفان؟ كيف ت�شكلت هذه‬ ‫اخلال�ص الذي يخ�ص الذات ا إلن�سانية وبخا�صة‬
‫امل�سائل لت�أخذ �صفة اجلمالية؟ وهل هذه الق�ضايا لها‬ ‫العارف‪ »:‬ثم قال يل‪ :‬ال�صمت حقيقتك»(‪ )11‬وتتجلى‬
‫ب�صاحب‬
‫راهنيتها وم�ستقبلها؟ كيف ميكن احلديث عن � أبعاد‬ ‫هذه احلقيقة يف حدث الكالم‪ ،‬وهذا يجعل منطوق‬
‫املواقف‬ ‫هذه امل�سائل على امل�ستوى الروحي واملعريف؟ هذه‬ ‫الن�صو�ص ذات طبيعة جدلية ويدخلنا يف عملية‬
‫واملخاطبات‬ ‫جملة من ا أل�سئلة التي �ستكون ا إلجابة عنها ت�شكل‬ ‫ت�أويل �رصفة‪« :‬ثم قال يل‪ :‬على الكالم فطرتك‪ ،‬وهو‬
‫الذي ج�سد‬ ‫مادة هذه الدرا�سة‪ .‬وقد دلّت ال�صفحات ال�سابقة‬ ‫(‪)12‬‬
‫حقيقة �صمتك‪ .‬ف�إذا كنت متكلما ف�أنت �صامت‪».‬‬
‫فكرة ال�صمت‬ ‫ر ؤ�ية تب�سيطية لبع�ض هذه امل�سائل التي �ستظ ّل‬ ‫لو� أمكن العودة �إىل امل�صادر ا أل�سا�سية يف الفكر‬
‫يف مقابل �شهود‬ ‫حا�رضة دائما يف �صلب النقا�شات املعا�رصة‪.‬‬ ‫الغربي خا�صة جند �صدى كبريا ملثل هذه املعاين‬
‫اللهي‬‫املعنى إ‬ ‫ملعان‬
‫ٍ‬ ‫يف فل�سفة ابن عربي وت�صوفه جند �إرها�صاتٍ‬ ‫منعك�سة يف الكتابات الفل�سفية ذات اجلذور العميقة‪.‬‬
‫الذي ال كالم‬ ‫عما‬ ‫تد ّل دائما على ما هو� آتٍ ‪ .‬ال يتحدث ابن عربي ّ‬ ‫بع�ض الفال�سفة ممن التزموا خط التفكري يف ا إلن�سان‬
‫معه‪ .‬لقد‬ ‫هوحي يف اللغة‬
‫ٌّ‬ ‫م�ضى ب�شكل ميت‪ ،‬بل ي�ستعمل ما‬ ‫وم�شاغله الق�صوى‪ ،‬مثل هايدجر‪ ،‬مل يكتفوا فقط‬
‫عرف كيف‬ ‫لكي يتجاوز ع�رصه‪ ،‬وهذا يربّر حقا مدى االهتمام‬ ‫باحلديث العام عن الق�ضايا التقليدية التي حتدث‬
‫الكبري بعرفانيته على جميع امل�ستويات‪ .‬يف‬ ‫عنها الفكر الب�رشي منذ القدمي‪ ،‬بل �شعروا باحلاجة‬
‫ي�ستفيد ابن‬ ‫الفتوحات املكية جنده يقول عن الكالم‪« :‬فما عندنا‬ ‫�إىل التعبري عن امل�شاغل الراهنة وا أل�سا�سية التي‬
‫عربي من غريه‬ ‫يف الوجود �صامت � أ�صالً»(‪ � )14‬أي كل �شيء يتكلم‬ ‫لها عالقة بال�رشط ا إلن�ساين وبخا�صة م�س�ألة اللغة‬
‫ولو بطريق‬ ‫بال�رضورة‪ ،‬و�إن مل يق�صد الكالم فقد ق�صد معنى‬ ‫(‪)13‬‬
‫التي قال عنها هايدجر ب�أنها‪« :‬بيت الكائن‪».‬‬
‫والمياء‬
‫الرمز إ‬ ‫النطق بالداللة‪ ،‬نطق بالل�سان � أوبغري الل�سان‪ .‬هكذا‬ ‫�إنها م�س�ألة معقدة ألنها متثل �شبكة من العالقات‬
‫وال�شارة‬
‫إ‬ ‫يتحدث ابن عربي � أي�ضا يف كتابه امل�شاهد‪« :‬تكلمت‬ ‫املتناق�ضة‪ ،‬ففي اللغة جند الوجود ب�أكمله مبا يف‬
‫البعيدة‬ ‫� أو�صمت ف�أنت متكلم»(‪ � )15‬أو بتعبري هايدجر الذي‬ ‫ذلك الوجود ا إلن�ساين‪ .‬ونق�صد بالوجود العياين‬
‫يتقارب مع مفهوم ابن عربي‪« :‬نحن نتكلم با�ستمرار‬ ‫املادي � أواملعنوي‪ ،‬فعن طريق اللغة يوجد ا إلن�سان‪،‬‬
‫حتى لومل ننطق بكلمة»(‪ )16‬والداللة متقاربة �إن مل‬ ‫وهوما كان يعرب عنه ابن عربي يف ق�ضية الكالم‬
‫نقل ب�أنها واحدة‪ ،‬ولكن التعبري عنها خمتلف بح�سب‬ ‫وال�صمت‪� .‬إننا نحاول مقاربة م�س�ألة الكتابة عن‬
‫موقع كل واحد منهما يف لغته‪ .‬يحاول ابن عربي‬ ‫طريق م�صادرها ا أل�سا�سية والتي تتمثل � أوال وقبل‬
‫� أن يوحي بداللة الوجود الذي يتكلم بال�رضورة‪.‬‬ ‫كل �شيء يف الكالم‪ ،‬والكالم لي�س ظاهرة ب�سيطة‬
‫فالعامل مبا فيه من � أ�شياء وموجودات ال ينقطع‬ ‫ميكنها � أن حتلل بكيفية عادية‪ ،‬بل هو ظاهرة‬
‫عن الكالم � أبدا‪ ،‬فداللته م�ستمرة ما دام موجودا‪،‬‬ ‫معقدة له �صلة بالوجود الب�رشي ككل‪ ،‬والكالم � أي�ضا‬
‫وهذا حا�صل ما يراه العارف يف هذا الوجود‪ .‬فعلى‬ ‫لي�س �صفة ب�رشية بل هو�صفة �إلهية حم�ضة‪ ،‬وبيان‬
‫امل�ستوى اجلمايل نالحظ � أن ابن عربي يو�سع من‬ ‫طبيعة �صفة الكالم ا إللهي معنى ي�ستغرق كتبا يف‬
‫‪23‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الفهم‪ .‬وهذا ال�سماع الذي يتجاوز ال�صورة التقليدية‬ ‫دائرة املعنى اخلا�ص بالكتابة والكالم وال�صمت‬
‫لي�س معطى عاما بل هو خل�صو�ص العارفني الذين‬ ‫بحكم كونه مت�ضمنا يف عملية الكالم والداللة‪،‬‬
‫ال يتقيدون بال�صورة التي ي�شتغل بها العوام � أو‬ ‫ويجعل هذه الدائرة تنداح �إىل دوائر � أخرى عرب‬
‫الغري‪.‬‬ ‫القراءة التي ت�ستمر مع القارئ‪ .‬رمبا يحق لنا � أن‬
‫�إن ابن عربي كثريا ما ي�شتغل على املعطيات غري‬ ‫ن�س�أل كيف ميكن � أن يت�شكل فعل الكالم يف الوجود؟‬
‫املادية لآليات التفكري عند ا إلن�سان � أو الب�رش عموما‪،‬‬ ‫ال �شك � أن بداهة ا إلجابة �ستكون متمحورة حول‬
‫معني ب�صورة العارف � أوا إلن�سان الكامل الذي‬ ‫ألنه‬ ‫فعل الكتابة التي يقول عنها ابن عربي ب�شكل � ّأخاذ‬
‫ّ‬ ‫يف فل�سفة ابن‬
‫اكتملت لديه املعطيات الب�رشية وغري الب�رشية‬ ‫ورمزي‪« :‬ف�إن الكتابة � أمر وجودي فال بد � أن يكون‬
‫للفهم والتلقي عن ا إلله‪ ،‬وهذا ما قام ب�رشحه يف‬ ‫(‪)17‬‬
‫متناهيا‪».‬‬ ‫عربي وت�صوفه‬
‫مقام متجدد ملا حتدث عن اخلطاب ا إللهي م�ستدال‬ ‫املرحلة اجلديدة يف فعل الكتابة تبد� أ من هذا‬ ‫رها�صات‬
‫ٍ‬ ‫جند � إ‬
‫ان ِلبَ�شرَ ٍ �أَن ُي َكل ِّ َم ُه اللهَّ ُ � ِإ اَّل َو ْحيًا‬
‫بقوله تعاىل‪َ } :‬و َما َك َ‬ ‫الوجود الذي يتحدث عنه ابن عربي ب�شكل رمزي‪.‬‬ ‫ملعان تدلّ دائما‬ ‫ٍ‬
‫ويرْ ِ�س َل َر ُ�سولاً {(ال�شورى‪،)51/‬‬ ‫�أَو ِمن َو َراء ِح َج ٍ‬
‫اب � أَ ُ‬ ‫ولكن طبيعة املقاربة لظاهرة الكتابة ال بدّ � أن تبد� أ‬ ‫على ما هو� ٍآت‪.‬‬
‫مفرقا بني مقامات اخلطاب التي جعلها يف الوحي‬ ‫من املعنى التقليدي للكتابة‪ ،‬ألن هذا الفعل الرمزي‬ ‫ال يتحدث‬
‫� أومن وراء حجاب � أو�إر�سال الر�سل‪ ،‬ومقام من وراء‬ ‫�سيت�سع ليدل على مفهوم � أو�سع وهي كتابة الوجود‬ ‫ابن عربي‬
‫احلجاب يكاد ي�شتبه بالكالم الذي لي�س يف مواد‪،‬‬ ‫الذي يت�صل بعامل الداللة ذاتها‪� ،‬إذ ‪« :‬العامل لي�س‬ ‫عما م�ضى‬
‫حيث يقول عنه ابن عربي‪« :‬و� أما قوله تعاىل }�أَو ِمن‬ ‫فقط مكانا أل�شياء ومواد و� أ�شخا�ص و� أحداث‪ ،‬ولكنه‬ ‫ّ‬
‫ب�شكل ميت‪،‬‬
‫اب{ فهو خطاب �إلهي يلقيه على ال�سمع‬ ‫َو َراء ِح َج ٍ‬ ‫(‪)18‬‬
‫�صور دالة من جهة‪ ،‬ورمزية من جهة � أخرى»‬
‫ال على القلب فيدركه من � ألقي عليه فيفهم منه ما‬ ‫و�سنحاول � أن نحيل على ن�ص يف الفتوحات يجمع‬ ‫بل ي�ستعمل ما‬
‫ق�صد به من � أ�سمعه ذلك وقد يح�صل له ذلك يف‬ ‫بني داللتني خمتلفتني للكتابة ا�سرتعى انتباه‬ ‫هوحي يف اللغة‬ ‫ٌّ‬
‫لكي يتجاوز‬
‫�صورة التجلي‪ )22(».‬والتجلي لي�س �رشطا فيه � أن‬ ‫حمال � أوجه‪ ،‬وفيه يقول ابن عربي‪:‬‬ ‫الدار�سني‪ ،‬ألنه ّ‬
‫يكون قوليا‪ ،‬والقول نف�سه عند ابن عربي قوالن‪:‬‬ ‫«اعلم � أن الكالم على ق�سمني‪ :‬كالم يف موادّ ت�سمى‬ ‫ع�صره‪ ،‬وهذا‬
‫(‪)23‬‬
‫«قول حال وقول خطاب‪».‬‬ ‫حروفاً وهوعلى ق�سمني‪� :‬إما مرقومة � أعني احلروف‬ ‫يربر حقا‬‫ّ‬
‫على امل�ستوى الفينومينولوجي‪ ،‬تبدوالكتابة مرتبطة‬ ‫وت�سمى كتاباً‪ � ،‬أومتلفظاً بها وت�سمى قوالً وكالماً‪.‬‬ ‫مدى االهتمام‬
‫بالوجود املادي واحليز احل�سي الذي يت�ضمنها‪� .‬إن‬ ‫والنوع الثاين كالم لي�س يف موادّ‪ ،‬فذاك الكالم‬ ‫الكبري‬
‫الكتابة تتناهى ألن الوجود متناهٍ‪ ،‬وهذا ي�ؤكد مدى‬ ‫الذي ال يكون يف مواد ُيعلم وال يقال فيه يفهم‬ ‫بعرفانيته‬
‫ج�سد‬
‫ما و�صل �إليه ت�أمل ابن عربي العرفاين الذي ّ‬ ‫فيتعلق به العلم من ال�سامع الذي ال ي�سمع ب� آلة‬ ‫على جميع‬
‫معنى الكتابة يف الظاهر الذي تعنيه‪ ،‬ويف املعنى‬ ‫بحق جمر ٍد عن ا آللة‪ ،‬كما �إذا كان الكالم‬
‫بل ي�سمع ٍ‬
‫امل�ستويات‬
‫الذي تك�شف عنه وا أل�شياء التي تت�ضمنها‪ .‬ولوعدنا‬ ‫يف غري مادة فال ي�سمع �إال مبا ينا�سبه» فهو ميز‬
‫(‪)19‬‬

‫�إىل الن�ص املركزي الذي ا�ستحالت فيه الكتابة‬ ‫على م�ستوى الكالم بني نوعني‪ � ،‬أحدهما مت�ضمن‬
‫من ر�سم مرقوم خطاً �إىل وجود عيني‪ ،‬لر� أينا ب�أن‬ ‫يف مادة معلومة‪ ،‬ف�إذا كان مرقوما فهوالكتابة‬
‫املفهوم متفرع عن � أ�صل م�ؤكد عند ال�شيخ ا ألكرب‪.‬‬ ‫والرقم هنا هو الت�سطري التي قال عنه بول ريكور‪:‬‬
‫و�إذا كنا ن�ؤكد على ظاهرة الكتابة يف �صلتها باحل�س‬ ‫«هو تعقل م�ضموين خال�ص لفعل التكلم»(‪ � )20‬أما‬
‫و�سمينا هذا النوع من املقاربة بالفينومينولوجيا‬ ‫�إذا كان �شفويا فهو قول � أوكالم‪ .‬و� أما الق�سم الثاين‬
‫ن�سبة �إىل علم الظواهر � أوالظاهريات‪ ،‬والت�سمية يف‬ ‫فهو الذي يت�ضمن نوعا من الغمو�ض كما الحظ‬
‫احلقيقة تدل على معنى واحد‪ ،‬فبع�ض الدرا�سات‬ ‫� أحد الدار�سني(‪ )21‬فقط ألن امل�س�ألة لها عالقة بداللة‬
‫تراهن على فكرة ا ألنطولوجيا وهي �صلة الكتابة‬ ‫مادة‬
‫النوع الثاين من الكالم الذي ال ي�ستحيل �إىل ّ‬
‫بالوجود‪ � ،‬أومقاربة الكتابة كحدث داخل الوجود‬ ‫� أو�شكل � أو�صورة‪� .‬إن عملية الفهم مقرتنة ب�سماعه‬
‫ا إلن�ساين‪« :‬والوعي بهذه البذرة الوجودية وب�رسيانها‬ ‫دون � آلة وال ي�شرتط فيه � أن توجد و�سيلة �إىل ذلك‪،‬‬
‫يف املفهوم ويف املفاهيم التي تكوِّن معه �سياجا‬ ‫ألنه يف احلقيقة كالم رمزي يتجاوز معطيات احل�س‬
‫نظريا هوما مي ِّكن من حتقيق قراءة ن�سقية تراهن‬ ‫ا إلن�ساين املرتبط بالو�سائل والآالت امل�ؤدية �إىل‬
‫‪24‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حيث اجلماليات والتفا�صيل الفنية املتعلقة بها‪،‬‬ ‫على العالقات يف ت�شابكاتها الالنهائية»‬
‫(‪)24‬‬

‫بل هي حدث كلي ال ي�شمل ا إلن�سان فقط بل جميع‬ ‫والعالقة هنا هي التفكري يف املتعدد من العنا�رص‬
‫املوجودات‪ ،‬وا إلن�سان نف�سه هوواحد من متعينات‬ ‫الذي يحكم فكرة الكتابة نزوال من الكتابة ا إللهية‬
‫الكتابة كباقي ال�صور وا أل�شكال واملتعينات يف‬ ‫�إىل الكتابة ا إلن�سانية‪� .‬إذن �سنحاول � أن ن�شخ�ص‬
‫هذا الوجود‪ .‬من هنا يبد� أ التمييز بني � أنواع الكتابة‪.‬‬ ‫فكرة الكتابة على امل�ستوى الظاهري ألن ن�ص ابن‬
‫ولندع ن�ص ابن عربي نف�سه ي�رشح هذه التفا�صيل‬ ‫عربي يف هذا ا ألمر لي�س فقط مت�شابكا بل هو مدعاة‬
‫املهمة يف م�س�ألة الكتابة‪ ،‬و�ستكون مقاربتنا لها‬ ‫للتفكري اجلاد والت�أويل احل�صيف‪ ،‬ومعانيه متعددة‬
‫مقاربة ن�صية و�صفية �شارحة‪ .‬قد � أحلنا على املعنى‬ ‫ال تنح�رص فيما هو حم�صور يف املنظومات املعرفية‬
‫ا ألول للكتابة كما تعرف يف ال�سياقات ا ألخرى‪،‬‬ ‫ا ألخرى كالنقد ا ألدبي والبالغة وعلم الكالم‪ .‬فهناك‬
‫�إن ابن عربي‬
‫وحتى يف ال�سياقات احلديثة وا�ستدللنا ببول ريكور‬ ‫ا�ستيعاب حقيقي جلميع هذه املعاين وا ألفكار‬
‫كثريا ما‬ ‫حينما يرى �إىل الكتابة كحدث يلتزم بخطية معينة‬ ‫و�إعادة �صياغتها يف معنى جامع لها‪ .‬ر ؤ�ية الت�شابك‬
‫ي�شتغل على‬ ‫وعند ابن عربي ي�سميه بالت�سطري‪ ،‬فاملفهوم اخلطي‬ ‫هويف احلقيقة ا�ستب�صار بطبيعة العالقات التي‬
‫املعطيات غري‬ ‫للكتابة وما يت�ضمنه من مفاهيم �إ�ضافية كالتثبيت‬ ‫حتكم العنا�رص املكونة للفكرة � أوللر ؤ�ية‪ .‬الكتابة‬
‫لليات‬ ‫املادية آ‬ ‫مثال هواملفهوم التقليدي الذي ي�ضبطها‪ ،‬لكن يف‬ ‫هنا عند ابن عربي تخطت عتبة املفاهيم ودخلت‬
‫التفكري عند‬ ‫عرفانية ابن عربي تتجاوز الكتابة هذا املفهوم‬ ‫� أقا�صي التجربة الكلية التي اختربها العارف على‬
‫الن�سان � أو‬‫إ‬ ‫لت�شمل الوجود بكامله وهنا يكمن حقا ا إلطار‬ ‫امل�ستوى ال�شخ�صي‪ .‬ما عا�شه ابن عربي كتب عنه‪،‬‬
‫الب�شر عموما‪،‬‬ ‫اجلمايل لها‪ .‬فجماليات الكتابة لي�س فقط كونها‬ ‫�إنه مر� آة جتربته التي قادها بالك�شف ا إللهي دون‬
‫معني‬ ‫لنه‬ ‫أ‬ ‫متعلقة فقط بالقطاع الفني � أو ا ألدبي‪ ،‬بل كونها‬ ‫االهتمام بالعقل النظري الذي ال ي�ؤدي �إىل �شيء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ذات �صلة بالوجود ا إلن�ساين ب�شكل عام‪.‬‬ ‫والتجربة ال�صوفية عموما هي جتربة بريئة خالية‬
‫ب�صورة العارف‬
‫ميثل ا إلن�سان حدثا كتابيا �ضمن وجود � أ�شمل‪ ،‬وهنا‬ ‫من ا ألفكار امل�سبقة � أو املعرفة النظرية‪ ،‬التجربة‬
‫أوالن�سان‬
‫� إ‬ ‫لي�س احلرف وحده الذي ميثل �صورة الكتابة يف‬ ‫ال�صوفية بتعبري جورج باتاي‪« :‬تولد من اجلهل‬
‫الكامل الذي‬ ‫وتظل فيه حتما»(‪ )25‬وقد � أ�شار ابن عربي نف�سه �إىل‬
‫�شكلها اخلطي ا ألفقي‪ ،‬بل الوجود ا إلن�ساين ومن ثمّ‬
‫اكتملت لديه‬ ‫العامل بكامله الذي ُي َعدُّ‪« :‬امل�صحف الكبري الذي‬ ‫هذا ا ألمر ب�رصيح العبارة حينما قال‪« :‬ومعرفته‬
‫املعطيات‬ ‫تاله احلق علينا تالوة حال كما � أن القر� آن تالوة‬ ‫اجلهل به ف�إنها حقيقة العبودية»(‪ )26‬ونحن ا�ستدللنا‬
‫الب�شرية وغري‬ ‫قول عندنا‪ ،‬فالعامل حروف خمطوطة مرقومة يف‬ ‫بهذا املعنى لنفيد ب�أن حم�صول التجربة لي�س الوعي‬
‫الب�شرية للفهم‬ ‫ر ّق الوجود املن�شور‪ ،‬وال تزال الكتابة فيه دائمة‬ ‫املنطقي للأ �شياء‪ ،‬ألن ابن عربي يتحدث عن م�سائل‬
‫والتلقي‬ ‫� أبدا ال تنتهي‪ )27(».‬وقد � أملحنا � أن الكتابة تنتمي �إىل‬ ‫ال ي�ؤيدها العقل على ا إلطالق‪ ،‬بل هي من منبع‬
‫الوجود فهي تنتهي بانتهائه‪ ،‬لكن الكتابة ا إللهية‬ ‫املخيلة الطليقة التي واتت العارف خالل مكا�شفته‪،‬‬
‫يف �شكلها الرمزي ال تنتهي ألنها دالة على القدرة‪،‬‬ ‫وهذا �سبيل من �سبل املعرفة دللنا عليه يف ف�صل‬
‫وتركيب ال�صورة هوالذي يعطينا ت�صورا جماليا عن‬ ‫التجربة ال�صوفية عند ابن عربي‪.‬‬
‫مفهوم الكتابة يف حدّ ذاتها‪ ،‬وهو � أن اجلامع بني‬ ‫كيف يت�صور ابن عربي الكتابة يف �شكلها املطلق؟‬
‫احلدثني هو فعل اخللق وا إلبداع‪ .‬فالكتابة حدث‬ ‫هل من حمددات مفاهيمية ينطلق منها لت�صوراته؟‬
‫�إبداعي يف املقام ا ألول‪ ،‬حدث يدل على تنا�سل‬ ‫هل ك�شفه كان ُم َ�ؤ�س�سا؟ لعلنا ال نبالغ كثريا �إذا‬
‫ال�صور وا أل�شكال وتدفقها من يد املبدع‪ ،‬وهذا من‬ ‫قلنا ب�أن عرفاينة ابن عربي تتناول م�س�ألة الكتابة‬
‫فعل ا ألداة التي يت�شكل بها العامل ويق�صد بها القلم‬ ‫تناوال �شموليا وكليا‪ ،‬ومن �رضورات املذهب‬
‫واليد التي تكتب به‪ .‬هذه كلها م�سائل متعالقة‬ ‫التناول ال�شمويل للظواهر‪ .‬ولكن هذه ال�شمولية ال‬
‫فيما بينها‪� .‬إن ا إلن�سان يف عرفانية ابن عربي ال‬ ‫تلغي التفا�صيل التي متلك � أهمية خا�صة‪ .‬فالكتابة‬
‫يتحدد فقط مبفاهيم خارجة عن ذاته‪ ،‬بل هو ن�سخة‬ ‫لي�ست ظاهرة متعلقة فقط بحدث ح�ضاري وثقايف‬
‫العامل كما يقول(‪ )28‬ولكنها ت�أخذ �صورة من �شكل‬ ‫يقوم به ا إلن�سان خالفا للكائنات ا ألخرى‪ ،‬وهي‬
‫�شبيه � أعلى منها‪« :‬فكل ما يف هذا العامل جزء منه‬ ‫لي�ست تبعا لذلك ميزة فارقة بني الكتاب � أنف�سهم من‬
‫‪25‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اها{ (الكهف‪ ...)49/‬والكتب ال�ضم‪ ،‬ومنه‬ ‫� أَ ْح َ‬


‫�ص َ‬ ‫ولي�س ا إلن�سان بجزء لواحد من العامل‪ ،‬وكان �سبب‬
‫�سميت الكتيبة كتيبة الن�ضمام ا ألجناد بع�ضهم �إىل‬ ‫هذا الف�صل و�إيجاد هذا املنف�صل ا ألول طلب ا إلن�س‬
‫بع�ض‪ ،‬وبان�ضمام الزوجني وقع النكاح يف املعاين‬ ‫مل�شا ِكل يف اجلن�س الذي هو النوع ا ألخ�ص‪،‬‬ ‫با ُ‬
‫وا ألج�سام فظهرت النتائج يف ا ألعيان‪ )30(».‬فداللة‬ ‫الطبيعي‬ ‫االلتحام‬ ‫بهذا‬ ‫ج�سام‬ ‫ل‬‫وليكون يف عامل ا أ‬
‫ّ‬
‫الكتابة على امل�ستوى الرمزي هواحلفظ من خالل‬ ‫ين الكامل بال�صورة التي � أراده اهلل ما ي�شبه‬ ‫ا إلن�سا ّ‬
‫التدوين والت�سطري‪ ،‬ولكن ما هي طبيعة التدوين عند‬ ‫القلم ا ألعلى واللوح املحفوظ الذي يعرب عنه بالعقل‬
‫القلم ا ألعــلى واللوح املحفوظ؟ تكمن ا إلجابة يف‬ ‫ا ألول والنف�س الكل‪ ،‬و�إذا قلت القلم ا ألعلى فتفطن‬
‫ن�ص ابن عربي من خالل قراءة ت�أويلية تك�شف عن‬ ‫ل إل�شارة التي تت�ضمن الكاتب وق�صد الكتابة فيقوم‬
‫م�ضامينه‪� ،‬إنه يقول ب�أن حلظة الكتابة ت�شبه حلظة‬ ‫معك قول ال�شارع‪� :‬إن اهلل خلق � آدم على �صورته‪ ،‬ثم‬
‫� أخرى موجودة يف الطبيعة و�سماها بالنكاح املعنوي‬ ‫عبارة ال�شارع يف الكتاب العزيز يف �إيجاد ا أل�شياء‬
‫�إن الكتابة‬
‫بني ا ألج�سام وكان احلا�صل هوظهور النتائج يف‬ ‫عن كن‪ )29(».‬ومقت�ضى الن�ص من باب ت�أويله وفهمه‬
‫ا ألعيان‪ .‬وكذلك فعل الكتابة بالقلم‪ .‬وهناك املعنى‬ ‫هو � أن حدث الكتابة لي�س من متعلقات ا إلن�سان‪ ،‬فلي�س‬ ‫لن‬ ‫تتناهى أ‬
‫املهم وا أل�سا�سي لفعل الكتابة وهوال�ضم � أوما ميكن‬ ‫ا إلن�سان وحده الكاتب ولكن اهلل مبعنى ّما هو كاتب‬ ‫متناه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الوجود‬
‫ت�سميته بنظام العالقة‪ ،‬فبان�ضمام الزوجني وهوهنا‬ ‫� أي�ضا ولكن حروفه هي التعينات لل�صور وا أل�شكال‪،‬‬ ‫وهذا ي� ؤكد‬
‫دال على اختالف العنا�رص ن�ش�أ املعنى املراد �سواء‬ ‫وا إلن�سان تعني منها‪ ،‬وا إلن�سان � أي�ضا كان من‬ ‫مدى ما و�صل‬
‫من النكاح و�سماه املعنوي � أومن نظام العالقة بني‬ ‫الفعل كن الذي دل على فعل ا إليجاد والتكوين‪.‬‬ ‫�إليه ت�أمل ابن‬
‫البنيات فين�ش�أ منطوق الكتابة‪ ،‬جملة كانت � أون�صا‬ ‫الوجود ا إلن�ساين هو كتاب اهلل تعاىل وقد ا�ستدل ابن‬ ‫عربي العرفاين‬
‫� أوخطابا‪ .‬لقد د ّل الن�ص على � ّأن املوجودات متعلقها‬ ‫عربي باحلديث الذي جاء فيه � أن اهلل خلق � آدم على‬ ‫ج�سد‬
‫الذي ّ‬
‫القلم واللوح‪ ،‬وهما يظالن دائما رمزان عند ابن‬ ‫�صورته‪� .‬إن هذه الداللة مل تكن لتوجد على م�رسح‬ ‫معنى الكتابة‬
‫عربي ل إليجاد واخللق‪ ،‬فاملعنى املت�صل بهما دائما‬ ‫الكتابة لوال ارتباط الن�ص عند ابن عربي بالت�أويل‪،‬‬
‫يف الظاهر الذي‬
‫له عالقة مبا�رشة بالوجود‪ ،‬فمن باب اال�ستحالة � أن‬ ‫ف�ضال عن التم�سك مببد� أ الك�شف الباطني الذي يعطي‬
‫ال يكون هناك كون دون و�سائل توجده‪ ،‬فالوجود‬ ‫هذه املعاين التي ال يراها غري املكا�شف باحلقائق‬ ‫تعنيه‪ ،‬ويف‬
‫الذي نحياه هومن باب ح�ضور الو�سائل امل�أمورة‬ ‫يف عامل الغيب‪ .‬هذه � أ�رسار �إلهية ال ميكن � أن تكون‬ ‫املعنى الذي‬
‫با إليجاد‪ .‬وفعل ا ألمر د ّل على التلقي ا إللهي ب�شكل‬ ‫يف متناول النا�س جميعا‪ � ،‬أ�رسار يراها العارف‬ ‫تك�شف عنه‬
‫مبا�رش‪ ،‬فحقيقة الكتابة �سارية يف كل ال�صور‬ ‫بعني باطنة‪� .‬إن ابن عربي مل ير ا أل�شياء يف حالة‬ ‫أ‬
‫وال�شياء التي‬
‫ن�ص عليه ابن عربي �سابقا‪ ،‬وما‬ ‫وا أل�شكال‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫من التمزق واالنت�شار‪ ،‬بل ر� آها يف حالة من الوحدة‬ ‫تت�ضمنها‬
‫دامت الكتابة حقيقة �سارية فوجودها عند ا إلن�سان‬ ‫اجلامعة‪ ،‬وهذا ملمح من مالمح املذهب الذي �س ّطره‬
‫�صورة من �صور الكتابة الكربى والتي ن�ستطيع � أن‬ ‫ال�شيخ ا ألكرب يف فل�سفته الباطنية والعرفانية‪.‬‬
‫ن�سميها الكتابة ا إللهية يف �صحيفة الكون‪.‬‬ ‫يعطي ابن عربي داللة مهمة للقلم واللوح‪ ،‬فكالهما‬
‫كيف يتلقى القلم ا ألمر ا إللهي؟ �إن هذه الفكرة � أو‬ ‫� أمران متالزمان من حيث الوجود ومن حيث‬
‫هذا املعنى املتوتر �سيفتح � أفقا يف معنى الكتابة‬ ‫العالقة‪ ،‬فال ميكن � أن نف�صل � أحدهما عن الآخر‪،‬‬
‫و�سع‬‫يف حدّ ذاتها‪ .‬فعلى امل�ستوى اجلمايل فقد ّ‬ ‫يقول عنهما ال�شيخ ا ألكرب‪« :‬القلم واللوح � ّأول عامل‬
‫ابن عربي فكرة الكتابة من كونها حدثا يخت�ص‬ ‫التدوين والت�سطري وحقيقتهما �ساريتان يف جميع‬
‫با إلن�سان �إىل حدث � أوفعل يخت�ص با أللوهية‬ ‫وح�سا‪ ،‬وبهما حفظ‬ ‫ّ‬ ‫املوجودات علوا و�سفال ومعنى‬
‫واجلامع بينهما هوا إليجاد � أواخللق‪ .‬الآن �سنبحث‬ ‫اهلل العلم على العامل‪ ،‬ولهذا ورد يف اخلرب عنه «قيدوا‬
‫عن ال�صورة الرمزية التي عبرّ بها ابن عربي عن‬ ‫العلم بالكتابة» ومن هنا كتب اهلل التوراة بيده‪ ،‬ومن‬
‫هذا املعنى ا إل�ضايف يف فعل الكتابة‪ .‬ال�صورة‬ ‫هذه احل�رضة اتخذ ر�سول اهلل وجميع الر�سل عليهم‬
‫موجودة يف الفتوحات املكية‪ ،‬املجلد ال�ساد�س يف‬ ‫اما َكا ِت ِبني{(‪)11‬‬ ‫ال�سالم كتاب الوحي وقال‪ِ }:‬كرَ ً‬
‫باب معرفة منزل مفاتيح خزائن اجلود �ضمن ن�ص‬ ‫ون{ (االنفطار‪ ،)12-11/‬وقال‪:‬‬ ‫ون َما َت ْف َعل ُ َ‬
‫} َي ْعل َ ُم َ‬
‫طويل يقول فيه‪« :‬و� ّأول متعلِم ق ِب َل العلم بالتعلم ال‬ ‫�ص ِغريَ ًة َولاَ َك ِبريَ ًة � ِإ اَّل‬ ‫} َما ِل َهذَا الْ ِكتَ ِ‬
‫اب لاَ ُي َغاد ُِر َ‬
‫‪26‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عدم التحدد � أكرث من الب�رص‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن‬ ‫بالذات العقل ا ألول‪ ،‬فعقل عن اهلل ما علمه و� أمره‬
‫جهة ثانية فمجال الكتابة ما ينح�رص يف الوجود‪،‬‬ ‫� أن يكتب ما علمه يف اللوح املحفوظ الذي خلقه‬
‫� أي ما �سمعه القلم من الكالم ا إللهي‪ ،‬من بدء اخللق‬ ‫ف�سماه قلما‪ ،‬فمن علمه الذي علمه � أن قال له‬ ‫منه ّ‬
‫�إىل يوم القيامة‪ ،‬وكل هذا الزمن ف�إنه يف احلقيقة‬ ‫� أدبا مع املعلم ما � أكتب هل ما علمتني � أوما متليه‬
‫حم�صور‪ ،‬وما هو حم�صور يتقيد يف �صفحة الكتابة‪.‬‬ ‫علي؟ فهذا من � أدب املتعلم �إذا قال له املعلم قوال‬ ‫ّ‬
‫ف�ضال عن � أن اال�سم يقوم هو بدوره بعملية التثبيت‬ ‫جممال يطلب التف�صيل فقال له‪ :‬اكتب ما كان وما‬
‫والتقييد‪ ،‬ألن متعلقه با أل�شياء «وكتب ت�أثري � أ�سمائه‬ ‫قد علمته وما يكون مما � أمليه عليك وهوعلمي يف‬
‫فيهم» ويق�صد يف املوجودات التي � أمر بكتابتها‪ .‬ال‬ ‫خلقي �إىل يوم القيامة ال غري‪ ،‬فكتب ما يف علمه مما‬
‫نكتب دون ا�سم حامل‪ .‬والب�رص و�إن تقيد فال بدّ � أن‬ ‫كان‪ ،‬فكتب العماء الذي كان فيه احلق قبل � أن يخلق‬
‫يتقيد ب�صورة � أو ب�شكل‪ ،‬وال�شيء الذي ال �شكل له � أي‬ ‫خلقه وما يحوي عليه ذلك العماء من احلقائق‪...‬‬
‫ال ا�سم له فهو خارج عن � أ�صل الكتابة كما قررها‬ ‫وكتب وجود ا ألرواح املهيمة وما هيمهم و� أحوالهم‬
‫ابن عربي‪ .‬ت�أتي ال�صورة التي عبرّ بها ابن عربي عن‬ ‫وما هم عليه وذلك كله ليعلمه‪ ،‬وكتب ت�أثري � أ�سمائه‬
‫ابن عربي‬ ‫�صفة القلم حينما قال عنه «منكو�س الر� أ�س»‪ ،‬وهي‬ ‫فيهم‪ ،‬وكتب نف�سه ووجوده و�صورة وجوده وما‬
‫يتحدث عن‬
‫�صورة رمزية معربة عن املجال الب�رصي الذي يحدّ‬ ‫يحوي عليه من العلوم‪ ،‬وكتب اللوح‪ .‬فلما فرغ من‬
‫م�سائل ال‬ ‫املكتوب‪ ،‬حتى و�إن كان هذا املكتوب مقيدا مبا هو‬ ‫هذا كله � أملى عليه احلق ما يكون منه �إىل يوم‬
‫ي� ؤيدها العقل‬ ‫م�سموع‪� ،‬إال ّ � أنه يظل مب�رصا يف املجال الذي يدون‬ ‫القيامة ألن دخول ما ال يتناهى يف الوجود حمال‬
‫الطالق‪،‬‬ ‫على إ‬ ‫فيه ما مُيلى عليه‪ .‬منكو�س الر� أ�س ت�رشح حقا معنى‬ ‫فال يكتب ف�إن الكتابة � أمر وجودي فال بدّ � أن يكون‬
‫بل هي من منبع‬ ‫التنزيه واالطالق والو�ضوح والو�سع الذي �أُعطي‬ ‫متناهيا ف�أملى عليه احلق تعاىل وكتب القلم منكو�س‬
‫املخيلة الطليقة‬ ‫لل�سمع‪� .‬سيبقى لنا جمال لكي نتحدث عن ف�ضاء‬ ‫الر� أ�س � أدبا مع املعلم ألن ا إلمالء ال تعلق للب�رص‬
‫التي واتت‬ ‫الكتابة كما طرحته بع�ض اجلماليات املعا�رصة‬ ‫به بل متعلق الب�رص ال�شيء الذي يكتب فيه‪ ،‬وال�سمع‬
‫وبخا�صة يف جمال الت�صوير‪.‬‬ ‫من القلم هواملتعلق مبا ميليه احلق عليه‪ ،‬وحقيقة‬
‫العارف خالل‬ ‫لقد حتدثنا عن ابن عربي على � أ�سا�س � أنه يكتب‬ ‫ال�سمع � أن ال يتقيد امل�سموع بجهة معينة بخالف‬
‫مكا�شفته‪ ،‬وهذا‬ ‫للم�ستقبل ولي�س متعلقا باملا�ضي‪ .‬ال �شيء ي�ستهويه‬ ‫الب�رص احل�سي ف�إنه يتقيد �إما بجهة خا�صة معينة‬
‫�سبيل من �سبل‬ ‫يف التقاليد الكتابية ال�سابقة‪� .‬إنه يكتب وفق اخلربة‬ ‫و�إما باجلهات كلها‪ ،‬وال�سمع لي�س كذلك ف�إن متعلقه‬
‫املعرفة‬ ‫� أو التجربة ال�صوفية التي يح�صل على ثمراتها‬ ‫الكالم‪ ،‬ف�إن كان املتكلم ذا جهة فذلك راجع �إليه‪،‬‬
‫من خالل الك�شف الذي ر� أينا �صورة عنه يف ف�صل‬ ‫و�إن كان ال يف جهة وال ذا جهة فذلك راجع �إليه ال‬
‫�سابق‪� .‬إن ما يدعو �إليه ابن عربي � أو يعرب عنه لي�س‬ ‫لل�سامع‪ ،‬فال�سمع � أدل يف التنزيه من الب�رص‪ ،‬و� أخرج‬
‫عن نظر‪ ،‬بل عن ر ؤ�ية وب�صرية‪ ،‬فهو حمكوم مبجال‬ ‫(‪)31‬‬
‫عن التقييد و� أو�سع و� أو�ضح يف ا إلطالق‪».‬‬
‫�شعوري معني ي�ستلهم منه معانيه وك�أنه ُخلق لكي‬ ‫يف الن�ص طبقات من املعنى تك�شف عنها القراءة‬
‫يعرب عن الذين �سي�أتون من بعده‪ .‬هذا ما وجدناه يف‬ ‫ا ألوىل‪ ،‬والقراءة الثانية �ستك�شف حتما عن طبقات‬
‫ال�صور وا أل�شكال التي يعرب عنها يف ف�صل الكتابة‪.‬‬ ‫� أخرى � أكرث خفاء‪ .‬ومنطوق الن�ص يف الظاهر‬
‫لقد م�ضى احلديث عن الفرق بني الب�رص وال�سمع يف‬ ‫هو � ّأن الكتابة حت�رصها اجلهة‪ ،‬فهي مقيدة غري‬
‫الكتابة‪ ،‬وعن الكتابة من حيث هي معنى يرتبط‬ ‫مطلقة وهذه حقيقة القلم‪ .‬القلم خملوق للكتابة‬
‫بالوجود الكلّي الذي يعي�شه ا إلن�سان‪ .‬بقي � أن نفهم‬ ‫وح�س الكتابة الب�رص والب�رص حم�صور يف اجلهة‬
‫ما الوجه الذي ي�ؤ�س�س فعل الكتابة عند ابن عربي؟‬ ‫التي يكتب فيها «بل متعلق الب�رص ال�شيء الذي‬
‫ما امل�ؤديات اجلمالية يف مو�ضوع الكتابة؟ ال �شك‬ ‫يكتب فيه» هكذا يتحدث ابن عربي عن �صفة ما‬
‫� أن م�ضمون ا أل�سئلة لي�س املق�صود منه فقط البحث‬ ‫هو مكتوب‪ .‬املجال الب�رصي هوجمال الكتابة على‬
‫عن الكيفيات التي عبرّ بها عن معانيه‪ ،‬حيث ال‬ ‫كل حال‪ ،‬ولكن جمال ال�سمع و�إن كان للقلم فهو‬
‫تهمنا هنا يف هذا املقام طريقته يف التعبري‪ ،‬بل‬ ‫ا�ستكتاب � أو كتابة إلمالء �سابق‪ ،‬ال يتقيد باجلهة‬
‫كيف فكر يف هذا املعنى؟ ما حم�صول جهده بل‬ ‫� أو اجلهات على اختالفها‪ .‬ال�سمع هنا له القدرة على‬
‫‪27‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هذا الطموح ا ألكربي فعربت عنه ب�صور رمزية‬ ‫ك�شفه العرفاين؟ هذا املق�صود حني ا إلجابة عن‬
‫خمتلفة‪ .‬لقد عرب الناقد موري�س بالن�شو عن معنى‬ ‫ال�س�ؤال‪ .‬ولي�س اجلدوى من البحث يف ا إلجابة‪ ،‬بل‬
‫الكتاب الآتي الذي ا�شتغل فيه عن غياب ا ألدب‬ ‫ال�س�ؤال الذي يتخلق من خالل الن�صو�ص التي نبحث‬
‫و� أعاد �صياغة �س�ؤال الكتابة من منظور الغياب ال‬ ‫فيها‪ ،‬ألن حلظة ال�س�ؤال هي حلظة القراءة التي انتهت‬
‫احل�ضور‪ ،‬وكانت فكرته تدور حول حتويل الكتابة‬ ‫�إىل احلرية كما يعرب ال�صوفية يف هذا املقام‪.‬‬
‫�إىل �صيغة �س�ؤال تعني الكاتب يف حدّ ذاته‪« :‬كل‬ ‫ال يزال البحث يف الكتابة مو�صوال بالبحث عن‬
‫كاتب يجعل من الكتابة ق�ضيته»(‪ )34‬وهذا ما جعل‬ ‫مت�س اجلانب الباطني فيها‪ ،‬وهو‬ ‫تفا�صيل � أخرى ّ‬
‫بع�ض الدار�سني البن عربي يرى �إىل �إمكانية احلوار‬ ‫جانب يخ�ص حياة ابن عربي و� أمنياته ككاتب‬
‫بني ال�شيخ ا ألكرب وبني بع�ض الدرا�سات املعا�رصة‬ ‫جامع للتفا�صيل‪ ،‬حيث يقول يف �صورة اجلريح الذي‬
‫� أمال يف‪« :‬حتيني ت�صورات ابن عربي و�إدماجها‬ ‫ي�أمل ما ال ي�ستطيع‪« :‬فلو � أعطانا اهلل الكتابة ا إللهية‬ ‫الكتابة حدث‬
‫يف الت�أمل اجلديد‪ ،‬انطالقا من �إعادة بناء هذه‬ ‫� أبرزنا جميع ما يحويه هذا الكتاب على اال�ستيفاء‬ ‫�إبداعي يف‬
‫(‪)35‬‬
‫الت�صورات وو�صلها بالزمن الثقايف اجلديد‪».‬‬ ‫يف ورقة �صغرية واحدة كما خرج ر�سول اهلل(�ص)‬ ‫الول‪،‬‬‫املقام أ‬
‫ور� أى ب�أن ا إل�شكالية التي تبني هذه الت�صورات‬ ‫بكتابني يف يده بالكتاب ا إللهي الذي لي�س ملخلوق‬ ‫حدث يدل على‬
‫تتمثل يف الذات الكاتبة‪)[(.‬‬ ‫تعمل‪ ،‬و� أخرب � أن يف الكتاب الذي يف ميينه � أ�سماء‬
‫فيه ُّ‬ ‫تنا�سل ال�صور‬
‫ال زلنا ن�أمل يف درا�سة املزيد من التفا�صيل التي‬ ‫� أهل اجلنة و� أ�سماء � آبائهم وقبائلهم وع�شائرهم من‬ ‫أ‬
‫وال�شكال‬
‫تتعلق بالكتابة وجتربة الت�صوف عند ال�شيخ ا ألكرب‪،‬‬ ‫� أول خلقهم �إىل يوم القيامة‪ ،‬والكتاب الآخر مثله يف‬ ‫وتدفقها من يد‬
‫وهي تفا�صيل �ستعرف منعطفا جديدا يف رمزية‬ ‫� أ�سماء � أهل ال�شقاء‪ ،‬ولوكان ذلك بالكتاب املعهود‬ ‫املبدع‪ ،‬وهذا‬
‫الكتابة وعالقتها باحلياة والوجود معا‪ .‬وميكننا‬ ‫ما و�سع ورقه املدينة‪ ،‬فمثل ذلك لووقع لنا � أظهرناه‬
‫من فعل أ‬
‫الداة‬
‫� أن نلخ�ص الباقي يف معنيني مهمني وهما‪ :‬املحـو‬ ‫يف اللحظة‪ ،‬وقد ر� أينا تلك الكتابة وهي كاجلنة يف‬
‫وا إلثبات‪ ،‬واملعنى الثاين يتمحور حول داللة‬ ‫(‪)32‬‬
‫عر�ض احلائط والنار وك�صورة ال�سماء يف املر� آة»‬ ‫التي يت�شكل بها‬
‫الكتابة‪.‬‬ ‫وامل�س�ألة ت�شبه � أحوا�ض الزهور اليابانية التي حتدث‬ ‫العامل ويق�صد‬
‫� أما فيما يتعلق باملحو وا إلثبات فقد كان موقف ابن‬ ‫عنها ال�شاعر الفرن�سي بول كلوديل قيا�سا على‬ ‫بها القلم واليد‬
‫عربي جماليا عرفانيا ال يخرج عنهما � أبدا‪ .‬وم�س�ألة‬ ‫جمموعة من ا ألبيات يف �صفحة تت�ضمنها وقال‬ ‫التي تكتب‬
‫الكتابة رمبا هي من امل�سائل ا ألكرث �صعوبة يف‬ ‫عنها ب�أنها احتوت على م�شهد طبيعي كامل يف‬ ‫به‪ .‬هذه كلها‬
‫جمالياته �إذا مل ن�ستثن يف ذلك اخليال‪ ،‬الرتباطها‬ ‫منمنمة‪ � )33(.‬أملحنا �إىل مثل هذه التقاطعات لنبني‬ ‫م�سائل متعالقة‬
‫بالوجود‪ ،‬فالكتابة كما ذكرنا لي�ست مفهوما‬ ‫مدى راهنية ابن عربي يف ميزان النقد املعا�رص‬ ‫فيما بينها‬
‫تقليديا يدل على حاجة الكاتب �إىل التعبري‪ ،‬بل‬ ‫و�رصاع الفل�سفات اجلمالية فيما بينها‪� .‬إن املعنى‬
‫هي فل�سفة خا�صة لها جمالياتها التي جتعلها‬ ‫على م�ستوى املنظور والتحيز والتقييد هومن �ش�أن‬
‫منفردة يف �سياق عرفانية ابن عربي‪ .‬فكما � أن الن�ص‬ ‫الكتابة احلقيقية‪ ،‬لكن الكتابة ا إللهية تتجاوز‬
‫هوناجت عن كتابة القلم فكذلك الوجود ناجت عمّا‬ ‫القدرة الب�رشية مهما � أوتيت من قوة‪ .‬الكتابة ا إللهية‬
‫�سطره القلم ا ألعلى يف اللوح املحفوظ‪ ،‬ولكن هل‬ ‫ال تنح�رص يف حيز‪ ،‬ولوكانت‪ ،‬ملا كان ذلك دليال‬
‫ما �س ّطره قابل للمحو كما يحدث عند الكاتب؟ هل‬ ‫على القدرة � أ�صالً‪� .‬إن مثل هذا الطموح الذي يرغب‬
‫كتابة املحو ت�شكل �إطارا جماليا كما در�سها الغرب‬ ‫فيه ابن عربي كعارف لي�س غريبا عن طبيعته التي‬
‫من وجهة نظر ميتافيزيقية؟‬ ‫تود الو�صول �إىل حلظة املطلق‪ .‬فمعنى الكتابة الذي‬
‫تتلخ�ص فكرة املحو يف مو�ضوع الكتابة يف‬ ‫يراود ال�شيخ ا ألكرب لي�س هوالتعبري فقط بل كفاية‬
‫التفرقة الوا�ضحة بني الكتابة ا إلن�سانية والكتابة‬ ‫احليز الب�رصي للكالم‪� .‬إن ما تنطق عنه الرغبة‬
‫ا إللهية‪ ،‬بني القلم ا ألعلى وا ألقالم ا ألخرى‪ ،‬بني‬ ‫الدفينة هو�شيء ي�شبه ما حتاوله الفل�سفات اجلمالية‬
‫ت�سطري وت�سطري‪� .‬إن مفهوم الكتابة حتى يف اخلطاب‬ ‫املعا�رصة يف �إميانها يف ا أل�شكال التي ال �شكل‬
‫النقدي املعا�رص م�س�ؤولة عن فعل التثبيت �سواء‬ ‫لها‪ ،‬يف ال�صمت خالل الكالم كما عنــد هايدجر‬
‫للن�ص � أو للحديث � أو للخطاب ب�شكل عام(‪ )36‬هي‪« :‬ال‬ ‫وموري�س بالن�شو‪ .‬هذه كلها فل�سفات حاولت مقاربة‬
‫‪28‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املعاين الغيبية ف�ضال عن معنى املداد الذي ر� أيناه‬ ‫ت�ضيف �شيئا على ظاهرة الكالم �سوى التثبيت»‬
‫(‪)37‬‬

‫�سابقا هناك معنى الثابت واملتحول يف هذا العامل‪،‬‬ ‫فما املعنى الذي ت�أخذه كلمة تثبيت؟ �إن كلمة‬
‫وهومعنى دقيق جدا من املعاين الغيبية التي حاول‬ ‫تثبيت يف �سياق عرفانية ابن عربي و�ضمن حديثه‬
‫ابن عربي � أن يربط بينها وبني فعل الكتابة‪ ،‬ونـراه‬ ‫عن الكتابة ا إللهية التي هي كتابة الوجود‪ ،‬تعني‬
‫يقول فـي ذلك‪« :‬وذلك � أن القلم الكاتب يف لوح‬ ‫النق�ش على اللوح املحفوظ ما كان وما �سيكون‬
‫املحويكتب � أمرا ً ّما وهوزمان اخلاطر الذي يخطر‬ ‫�إىل يوم القيامة‪« :‬وكتابته نق�ش ولهذا تثبت فال‬
‫للعبد فيه فعل ذلك ا ألمر ثم متحى تلك الكتابة‬ ‫تقبل املحو»(‪ )38‬هذه الكتابة هي �صيغة لعلم القلم‬
‫ميحوها اهلل فيزول ذلك اخلاطر من ذلك ال�شخ�ص‬ ‫الذي هوعلم ا إلجمال والتف�صيل‪« :‬والتف�صيل يظهر‬
‫ألنه ما ثم رقيقة من هذا اللوح متتد �إىل نف�س هذا‬ ‫بالت�سطري وهوعني ذواته»(‪� )39‬إذن فالتثبيت ال‬
‫ال�شخ�ص يف عامل الغيب‪ ،‬ف�إن الرقائق �إىل النفو�س‬ ‫يخرج عن معنيني مهمني هما النق�ش والت�سطري‪،‬‬
‫من هذه ا أللواح حتدث بحدوث الكتابة وتنقطع‬ ‫ا ألوىل تدل على تثبيت ما يجب تثبيته حلفظه‬
‫يعطي ابن‬ ‫مبحوها‪ ،‬ف�إذا � أب�رص القلم مو�ضعها من اللوح ممحوا ً‬ ‫والثانية تعني كيفية التثبيت‪ .‬ونالحظ ب�أنها نف�س‬
‫عربي داللة‬ ‫كتب غريها مما يتعلق بذلك ا ألمر من الفعل � أو‬ ‫املعاين التي تنطبق على الكتابة الب�رشية‪� ،‬سوى يف‬
‫الرتك»(‪ )42‬والقارئ املتمعن للن�ص يجد ب�أن فعل‬ ‫تف�صيل دقيق ومهم يكاد يكون مركزيا يف املفهوم‬
‫مهمة للقلم‬
‫الكتابة على اللوح داخل ثنائية املحو وا إلثبات‬ ‫العام للكتابة يف � أفقها اجلمايل‪ ،‬وهذا الفرق يقول‬
‫واللوح‪،‬‬ ‫فعل جمايل يف املقام ا ألول ألنه يعرب عن مق�صود‬ ‫عنه ابن عربي‪« :‬فلو كانت كتابته مثل الكتابة‬
‫فكالهما � أمران‬ ‫عما يكتبون‪ ،‬ولي�س هناك من كاتب يعاين‬ ‫الكتاب ّ‬ ‫باملداد قبلت املحوكما يقبله لوح املحويف عامل‬
‫متالزمان من‬ ‫فعال جتربة الكتابة �إال وهو ي�ؤمن �إميانا حقيقيا ب� ّأن‬ ‫الكون بالقلم املخت�ص به الذي هو بني � أ�صبعي‬
‫حيث الوجود‬ ‫ما يكتبه هوعني املحو‪ ،‬وقد قال النفري يف �إحدى‬ ‫الرحمن»(‪ )40‬فالو�سائل الب�رشية منتهية وزائلة وال‬
‫ومن حيث‬ ‫ام ُح � أثر ا أل�سماء فيك‬
‫خماطباته‪« :‬يا عبدُ قل لقلبك ْ‬ ‫ميكن الت�أكد من ثباتها‪ ،‬فهي متحولة غري م�ستقرة‪.‬‬
‫العالقة‪ ،‬فال‬ ‫با�سمي تثبت حكومته ويفنى معناه به» والتعبري‬
‫(‪)43‬‬
‫و� أما كون كتابة املحو تكتب باملداد فلداللة عدم‬
‫ميكن � أن نف�صل‬ ‫عن املحو هو تعبري عن التجدد واال�ستمرار‪ ،‬وكلما‬ ‫ثبات املداد على اللوح‪ ،‬فت�سطريه غري نق�شه‪ ،‬هذا‬
‫� أحدهما عن‬ ‫كانت الكتابة تتجه �إىل ا إلميان بالفعل ونقي�ضه‬ ‫من جهة ومن جهة ثانية‪ ،‬يرى ابن عربي � أن املحو‬
‫الخر‬‫آ‬ ‫كانت � أقدر على اال�ستمرار‪ .‬لي�س هناك من معنى‬ ‫مرتبط بحاالت الرتدد ا إلن�سانية‪ ،‬وهو � ْأن ال ثبات‬
‫الثبات الذي يقتل فعل ا إلبداع عند ا إلن�سان‪ ،‬وقد‬ ‫فيما يتعلق بالطبيعة ا إلن�سانية احلقيقة‪ ،‬ولكن هناك‬
‫� أ�ضاف النفري معنى جديدا يف مواقفه‪�« :‬إن كتبت‬ ‫طبيعة خا�صة بالقلم ا ألعلى كما �سماه ابن عربي‬
‫لغريي حموتك من كتابي و�إن عبرّ ت بغري عبارتي‬ ‫وطبيعة � أخرى ب�سائر ا ألقالم‪ ،‬وقد �رشح ذلك بقوله‪:‬‬
‫� أخرجتك من خطابي‪».‬‬ ‫«ف� إ ّن الذي كتبه القلم ا ألعلى ال يتبدّل‪ُ ،‬‬
‫و�س ّمي اللوح‬
‫(‪)44‬‬

‫كيف ميكن �إحالة هذه امل�سائل الذهنية � أو الغيبية‬ ‫باملحفوظ من املحو فال مُيحى ما ُكتب فيه‪ ،‬وهذه‬
‫على م�سائل علم اجلمال احلديث � أو املعا�رص؟ هل‬ ‫ا ألقالم تكتب يف � ألواح املحووالتثبيت وهوقوله‬
‫من ترابطات جتمع بني الف�ضائني‪ :‬ف�ضاء العرفان‬ ‫ي ُحواللهّ ُ َما َي� َشاء َو ُيثْ ِب ُت{(الرعد‪،)39/‬‬
‫تعاىل‪ } :‬مَ ْ‬
‫وف�ضاء علم اجلمال يف هذا املجال؟ نحن نظن ب� ّأن‬ ‫ومن هذه ا أللواح تتنزل ال�رشائع وال�صحف والكتب‬
‫هناك � أكرث من ترابط يف احلقيقة‪ ،‬ألن اجلماليات‬ ‫على الر�سل �صلوات اهلل عليهم و�سالمه‪ ،‬ولهذا يدخل‬
‫املعا�رصة ت�شتغل على ما هو غيبي يف احلياة‬ ‫(‪)41‬‬
‫يف ال�رشائع الن�سخ‪».‬‬
‫ا إلن�سانية والفنية عموما � أكرث من ا�شتغالها مبا‬ ‫يعطي �رشحا للمحو‬‫َ‬ ‫كيف ا�ستطاع ابن عربي � أن‬
‫مادي ملمو�س‪� .‬إن علم اجلمال يتعامل � أكرث‬ ‫هو ّ‬ ‫وا إلثبات؟ لي�س �رشحا فح�سب بل فهما وت�أويال؟‬
‫مع املجرد‪ ،‬ويحاول � أن يتجاوز الطرح التقليدي‬ ‫لكي نتتبع التف�سري الذي � أعطاه من خالل ما كتب‬
‫الذي يختزل كثريا من امل�سائل يف ت�صورات قدمية‬ ‫بخا�صة يف الفتوحات املكية‪ ،‬جند املعنى الغيبي‬
‫وبالية‪� .‬صار التجديد �رضورة ق�صوى إليجاد‬ ‫دائما م�سترتا وراء ذلك‪ ،‬وهذا املعنى الغيبي ال‬
‫التوازن احلقيقي بني تطور الفكر وتطور احلياة‬ ‫يلغي املعاين الوجودية ا ألخرى‪ ،‬ومن بني هذه‬
‫‪29‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مو�ضوعا ال يقت�رص على فعل فيزيائي هو الت�سطري‬ ‫� أي�ضا‪ .‬فابن عربي ال يطرح امل�سائل ب�صورة تقليدية‬
‫� أو التدوين � أو التثبيت كما تقرره طبيعة ا أل�شياء‪،‬‬ ‫وي�ستعيد يف البالغات القدمية ويركن �إىل املا�ضي‬
‫�إنه يتعداه �إىل فعل رمزي كما �سميناه يحتاج �إىل‬ ‫ا ألدبي والفني للثقافة العربية‪ ،‬بل هو مزيج من‬
‫قراءة وت�أويل وفهم‪� .‬إن معظم الن�صو�ص الواردة‬ ‫ثقافات متداخلة ومتناق�ضة وخمتلفة فيما بينها‪،‬‬
‫يف الكتابة جندها حقائق ت�رسي يف كيانات � أخرى‬ ‫وقد قام امل�ست�رشق ا إل�سباين � آ�سني بالثيو�س بدرا�سة‬
‫خمتلفة كما يقول ابن عربي نف�سه‪ ،‬ولوجاز لنا � أن‬ ‫امل�صادر يف كتابه حول ابن عربي وقد خل�ص �إىل‬
‫ن�ستعري من ابن عربي بع�ض م�صطلحاته وبخا�صة‬ ‫نوع من التكوين العجيب الذي �شكل ذهنية هذا‬
‫م�صطلح ال�رسيان لوجناه �صاحلا للتعبري عن‬ ‫العرفاين الكبري وقد قال‪�« :‬إن ا إل�سالم – وروحانياته‬
‫مقت�ضى ما نحن ب�صدده‪ � ،‬أوكما قال ابن عربي‬ ‫– قد ن�ش�أ يف و�سط جغرايف – بالد العرب‪� ،‬سوريا‪،‬‬
‫ن�ص َ�سبَ َق اال�ستدالل به‪« :‬القلم واللوح � أول‬‫يف ٍ‬ ‫م�رص‪ ،‬فار�س – كان يف الوقت نف�سه قلب احل�ضارة‬
‫عامل التدوين والت�سطري وحقيقتهما �ساريتان يف‬ ‫القدمية‪ ،‬وميدانا لتعاي�ش ا ألفكار الدينية والفل�سفية‬ ‫ابن عربي‪:‬‬
‫(‪)47‬‬
‫جميع املوجودات علوا ً و�سفالً ومعنى وح�ساً»‬ ‫تباينا»(‪ )45‬وخلُ�ص فيما بعد �إىل ربط هذه ا ألفكار‬ ‫�إن حلظة‬
‫ففعل الكتابة لي�س مقت�رصا على �سببني � أوو�سيلتني‬ ‫فيما بينها من خالل الدرا�سة املقارنة حتى ي�صل‬ ‫الكتابة ت�شبه‬
‫هما القلم واللوح بل ت�شمل جميع املوجودات يف‬ ‫�إىل حماولة درا�سة حمي الدين بن عربي درا�سة‬
‫حلظة � أخرى‬
‫العاملني العلوي وال�سفلي‪ .‬وقد قال ابن عربي بحق‪:‬‬ ‫تليق بفل�سفته وقد قال فيه‪« :‬و�إن �شخ�صية ابن‬
‫«فاملوجودات كلها كلمات اهلل التي ال تنفد‪ ،‬ف�إنها‬ ‫عربي الفكرية وال�صوفية القوية لت�سود كل التاريخ‬ ‫موجودة يف‬
‫عن« كن «وكن كلمة اهلل‪ )48(».‬وهنا ميكن � أن نتحدث‬ ‫(‪)46‬‬
‫احلديث للروحانيات ا إل�سالمية‪».‬‬ ‫الطبيعة‬
‫عن املعنى الثاين وهو حول الداللة التي يتيحها‬ ‫نحن ا�ستدللنا بهذه الفكرة لتقوية اليقني ب�أن املعنى‬ ‫و�سماها بالنكاح‬
‫فعل الكتابة‪.‬‬ ‫معان قدمية متتد‬
‫ٍ‬ ‫اجلمايل عند ابن عربي ُمرّ َك ٌب من‬ ‫املعنوي بني‬
‫�إن معنى الداللة قائم � أ�سا�سا على ما ت�شكله الكتابة‬ ‫يف الزمان واملكان‪ ،‬وت�ستحيل �إىل معاين متجددة‬ ‫الج�سام‬‫أ‬
‫من � أهمية عملية يف احلياة ال�صوفية � أو العرفانية‪.‬‬ ‫تنفد يف ثقافات خمتلفة عرب قراءتها وت�أويلها‪.‬‬ ‫وكان احلا�صل‬
‫و� أي�ضا ما تعنيه يف م�ضمونها العام وما ميكنها � أن‬ ‫ف�أمر الكتابة من حيث هي فكرة جمالية يتخطى‬ ‫هوظهور‬
‫تد ّل عليه يف ُبعدِها اخلا�ص‪ .‬وما دمنا قد انطلقنا‬ ‫ال�سياج املعريف لها وي�صل �إىل غاية رمزيتها‪ ،‬وهذا‬ ‫النتائج يف‬
‫من مقدمات معينة يف حتديد مفهوم الكتابة بحكم‬ ‫هوالطرح اجلمايل الذي يتفق والطرح الفل�سفي‪ ،‬وقد‬ ‫أ‬
‫العيان‬
‫� أنها نتاج كالم‪ ،‬فال بدّ من معرفة داللة الكالم‪،‬‬ ‫و�ضحه ابن عربي يف �سياق خمتلف متاما دون � أن‬ ‫ّ‬
‫املق�صود من املفهومني واحدٌ‪ ،‬ف�ضال عن كون‬
‫َ‬ ‫ألن‬ ‫ي�سمي كما فعل فال�سفة اجلمال عرب الع�صور‪ .‬وملّا‬
‫الكتابة متثل ال�صورة الثانية للكالم من حيث‬ ‫ت�ستمر فاعلية ا ألفكار عرب الزمان نرى ت�أثري ذلك‬
‫هونتاج تعبري �إن�ساين عن مقا�صد و� أغرا�ض خمتلفة‪.‬‬ ‫يف النقاد الذين �سعوا �إىل نوع من املو�سوعية دون‬
‫تكمن الداللة يف الوجود ذاته للكالم � أوللكتابة‪ ،‬وقد‬ ‫ارتباط ق�رسي بن�شاط معني دون غريه‪� .‬إذا ركزنا‬
‫عبرّ عنها ابن عربي بلفظ املعنى � أواحلقيقة‪ ،‬حيث ال‬ ‫فعال على ا إلنتاج اجلمايل الذي �صدر عن ابن عربي‬
‫جند الكالم � أو الكتابة منف�صلني عن املعنى‪ ،‬وقال‬ ‫ك�صويف وعرفاين له قدره ومنزلته‪ ،‬نرى ب�أنه �إنتاج‬
‫يف ذلك ذاكرا العلوم التي تنطوي حتت منزل وزراء‬ ‫مل ي�ستوعب فقط ما له عالقة باملجال الديني بل‬
‫املهدي من الباب ال�ساد�س وال�ستني وثالثمائة‪:‬‬ ‫ا�ستطاع � أن ي�ستوعب املجال الكوين‪ ،‬وهذا ما �سمح‬
‫علم املعنى الذي جعل الكتابة كالما وحقيق ُة‬ ‫«وفيه ُ‬ ‫بوجود قدر كبري من هام�ش الت�أويل والقراءة احلرة‬
‫الكال ِم معلومةٌ عند العقالء» وعدم الف�صل بني‬
‫(‪)49‬‬
‫يف ن�صو�ص ابن عربي‪ ،‬وي�ؤكد لنا من خالل طرحنا‬
‫الكالم والكتابة � أوالبحث عن الفوا�صل الدقيقة‬ ‫املتوا�ضع � أن هذه الن�صو�ص لي�ست ذات وجهة دينية‬
‫التي تف�صل بينهما هومن لوازم البحث اجلمايل‬ ‫�رصفة بل ذات وجهة ميتافيزيقية‪.‬‬
‫يف الت�صوف‪ ،‬فالكالم يف حقيقته هوالذي يتحول‬ ‫ي�صبح مو�ضوع الكتابة مو�ضوعا جماليا ملّا‬
‫بفعل التثبيت �إىل كتابة‪ ،‬ولكنّا جنده هنا حا�صل‬ ‫يكون ذا عالقة بالوجود ب�شكل عام‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫الكتابة‪ ،‬وتف�سري ابن عربي يوحي بنوع خم�صو�ص‬ ‫الوجود ا إلن�ساين‪ ،‬ويدخل يف حلقة رمزية جتعله‬
‫‪30‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التف�صيل ما � أوم�أنا �إليه مل يف العمر به‪ ،‬فوكلناك‬ ‫من املعنى ا إللهي الذي وجد �صورته يف الكتابة‬
‫�إىل نف�سك ال�ستخراج ما فيه من الكنوز‪ ،‬وهذا �إذا‬ ‫ا ألزلية � أي يف اللوح املحفوظ ليتكلم بها العارف‬
‫جعلناه كالماً‪ ،‬ف�إن � أنزلناه كتاباً فهونظم حروف‬ ‫من خزانة اجلود ا إللهي‪ ،‬وهنا املوقف له عالقة‬
‫رقمية النتظام كلمات النتظام � آيات النتظام �سور‬ ‫مبا يعطيه الك�شف ال�صويف للعارف الوا�صل الذي‬
‫كل ذلك عن ميني كاتبة كما كان القول عن َن َف ٍ�س‬ ‫يطلع على خمزون الغيب مكتوبا ومنقو�شا على‬
‫رحماين ف�صار ا ألمر على مقدار واحد و�إن اختلفت‬ ‫اللوح ثم ي�صيب به ذويه من خالل كالمه‪� .‬صار‬
‫ا ألحوال‪ ،‬ألن حال التلفظ لي�س حال الكتابة‪ ،‬و�صفة‬ ‫التحول من �ش�أن � أعلى �إىل �ش�أن � أ�سفل‪ ،‬و�صار للكالم‬
‫اليد لي�ست �صفة النَ َف ِ�س‪ ،‬فكونه كتاباً ك�صورة‬ ‫ولكن ال�ضابط‬ ‫ّ‬ ‫هذه احلظوة واملنزلة على الكتابة‪،‬‬
‫الظاهر وال�شهادة‪ ،‬كونه كالماً ك�صورة الباطن‬ ‫هو املعنى اجلامع الذي يجعل الكتابة تتنزل بفعل‬
‫والغيب‪ ،‬ف�أنت بني كثيف ولطيف‪ ،‬واحلروف على‬ ‫الك�شف �إىل الكالم‪.‬‬
‫�إن ما يدعو‬ ‫ك ّل وج ٍه كثيف بالن�سبة �إىل ما يحمله من الداللة‬ ‫ت�أتي داللة الكالم � أوالكتابة يف حديث ابن عربي‬
‫�إليه ابن عربي‬ ‫على املعنى املو�ضوع له‪ ،‬واملعنى قد يكون لطيفاً‬ ‫ولغته من خالل بحثه يف نعوت القر� آن الكرمي‪،‬‬
‫وقد يكون كثيفاً‪ ،‬لكن الداللة لطيفة على كل وجه‬ ‫ودائما يف الفتوحات املكية‪ ،‬من الباب اخلام�س‬
‫� أو يعرب عنه‬
‫وهي التي يحملها احلرف وهي روحه والروح � ألطف‬ ‫والع�رشين وثالثمائة يف معرفة منزل القر� آن من‬
‫لي�س عن نظر‪،‬‬ ‫(‪)50‬‬
‫من ال�صورة‪».‬‬ ‫احل�رضة املحمدية‪ ،‬وفيه يحاول التفرقة بني الكالم‬
‫بل عن ر�ؤية‬ ‫�سنحاول � أن ن�ستخرج بع�ض الدالالت من هذا الن�ص‬ ‫والكتابة كو�صفني مت�صلني بالقر� آن الكرمي‪ ،‬وهي‬
‫وب�صرية‪ ،‬فهو‬ ‫الذي تت�ضح فيه بع�ض املعامل اجلمالية فيما يتعلق‬ ‫تفرقة العارف احلري�ص على الداللة العامة �سواء‬
‫حمكوم مبجال‬ ‫بداللة الكالم والكتابة‪ .‬على الرغم من كونه ن�صا‬ ‫تعلق ا ألمر بالقر� آن يف حالة كونه كالما � أو يف‬
‫�شعوري معني‬ ‫ا�ستوعب ا ألفقني ال�شفوي والكتابي‪� ،‬إال ّ � أن الكالم‬ ‫حالة كونه كتابة‪ ،‬وال ب�أ�س � أن ن�ستدل بن�صه وهو‬
‫ي�ستلهم منه‬ ‫ال يدل على ما هو �شفوي بقدر ما يدل على الفعل‬ ‫طويل يف لفظه حيث يقول‪« :‬ف�إذا حتققت ما قرّرناه‬
‫معانيه وك�أنه‬ ‫الل�ساين‪ .‬يقع القر� آن كخطاب بني �صورتني قد‬ ‫ملتل َ ّفظ‬
‫تبينت � أن كالم اهلل هو هذا املتلو امل�سموع ا ُ‬
‫خلق لكي يعرب‬ ‫ُ‬ ‫حددهما ابن عربي يف‪:‬‬ ‫به امل�سمى قر� آناً وتوراة وزبورا ً و�إجنيالً‪ ،‬فحروفه‬
‫[ الكالم‪ /‬الكتابة‬ ‫تعني مراتب كلمه من حيث مفرداتها‪ ،‬ثم للكلمة من‬
‫عن الذين‬
‫[ �صفة النَ َف ِ�س‪� /‬صفة اليد‬ ‫حيث جمعيتها معنى لي�س لآحاد حروف الكلمة‪،‬‬
‫�سي�أتون من‬ ‫[ الظاهر‪ /‬الباطن‬ ‫فللكلمة � أثر يف نف�س ال�سامع‪ ،‬لهذا �سميت يف الل�سان‬
‫بعده‬ ‫[ ال�شهادة‪ /‬الغيب‬ ‫العربي م�شتقة من الكلِم وهواجلرح وهو � أثر يف ج�سم‬
‫[ الكثيف‪ /‬اللطيف‬ ‫املكلوم‪ ،‬كذلك للكلمة � أثر يف نف�س ال�سامع � أعطاه ذلك‬
‫هذه جمموع املفارقات التي ت�شكل مفهوم اخلطاب‬ ‫ا ألثر ا�ستعداد ال�سمع لقبول الكالم بو�ساطة الفهم‬
‫القر� آين ولكنها تدرجه �ضمن � أفق جمايل وفل�سفي‬ ‫ال بدّ من ذلك‪ ،‬ف�إذا انتظمت كلمتان ف�صاعدا ً �سمي‬
‫خمتلف عن بقية الآفاق التي � أدرج فيها من قب ُل‪.‬‬ ‫املجموع � آية � أي عالمة على � أمر مل يعط ذلك ا ألمر‬
‫تكمن الداللة �إذن يف توتر هذه املفارقات‪ ،‬وبخا�صة‬ ‫كل كلمة على انفرادها مثل احلروف مع الكلمة‪ � ،‬إ ْذ‬
‫ملّا نعلم ب�أنها كلها متعلقة باخلطاب القر� آين وال‬ ‫قد تقرّر � ّأن للمجموع حكماً ال يكون ملفردات ذلك‬
‫تنف�صل عنه‪� ،‬إذ ال ن�ستطيع � أن نختزل القر� آن يف‬ ‫املجموع‪ ،‬ف�إذا انتظمت الآيات بالغاً ما � أراد املتكلم‬
‫جمرد النَ َف�س‪ ،‬بل هو� أي�ضا من �إنتاج اليمني الكاتبة‪،‬‬ ‫� أن يبلغ بها �سمي املجموع �سورة معناها منزلة‬
‫والداللة تقع يف هذا التلقي املزدوج ملثل هذا‬ ‫ظهرت عن جمموع هذه الآيات مل تكن الآيات تعطي‬
‫اخلطاب الذي جمع بني كل � أنواع املفارقات الل�سانية‬ ‫تلك املنزلة على انفراد كل � آية منها‪ ،‬ولي�س القر� آن‬
‫يف ف�ضاء واحد‪ ،‬لي�ست امل�س�ألة م�س�ألة ت�ضاد بقدر‬ ‫�سوى ما ذكرناه من �سور و� آيات وكلمات وحروف‪،‬‬
‫ما هي بناء من عنا�رص خمتلفة ومتنوعة ت�شكل‬ ‫فهذا قد � أعطيتك � أمرا ً كلياً يف القر� آن واملنازل‬
‫يف النهاية عاملا واحدا من الدالالت واملعاين‪ .‬وال‬ ‫تختلف فتختلف الآيات فتختلف الكلمات فيختلف‬
‫�ش ّك � أن ابن عربي و�ضع ن�صب عينيه معنى الروحي‬ ‫نظم احلروف‪ ،‬والقر� آن كبري كثري لوذهبنا نبني على‬
‫‪31‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ - 19‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.37/7 ،‬‬ ‫مقابل ما هو �صوري � أو مادي‪ ،‬وربط م�س�ألة املعنى‬
‫‪ -20‬بول ريكور‪ :‬نظرية الت�أويل‪ ،‬اخلطاب وفائ�ض املعنى‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫�سعيد الغامني‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫يف اخلطاب القر� آين ب�صورتني‪ :‬اللطافة والكثافة‪،‬‬
‫الطبعة ا ألوىل‪� ،2003 ،‬ص ‪.58‬‬ ‫ولكن تبقى الداللة من حيث هي‪ ،‬تنتمي �إىل عامل‬
‫‪ -21‬من�صف عبد احلق‪ :‬الكتابة والتجربة ال�صوفية‪� ،‬ص ‪.22‬‬ ‫اللطافة ألنها روح احلرف‪ ،‬والروح كما قال � ألطف‬
‫‪ -22‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪ ،58/6 ،‬وي�ضيف قائال‪« :‬و� أما‬
‫علم الرتجمة عن اهلل فذلك لكل من كلمه اهلل يف ا إللقاء والوحي‬ ‫من ال�صورة‪.‬‬
‫فيكون املرتجم خالفا ل�صور احلروف اللفظية � أواملرقومة التي‬ ‫هوام�ش الدرا�سة‪:‬‬
‫يوجدها ويكون روح تلك ال�صور كالم اهلل ال غري‪.58/6 ».‬‬
‫‪ -23‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.59/6 ،‬‬ ‫‪ - 1‬خالد بلقا�سم‪ :‬الكتابة والت�صوف عند ابن عربي‪ ،‬دار توبقال‬
‫‪ -24‬خالد بلقا�سم‪ :‬الكتابة والت�صوف عند ابن عربي‪� ،‬ص ‪.26‬‬ ‫للن�رش‪ ،‬املغرب‪ ،‬طبعة � أوىل‪� ،2000 ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ - 2‬ابن عربي‪ :‬روح القد�س يف منا�صحة النف�س‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬حامد‬
‫‪Georges Bataille : L’expérience intérieure, Tel Gallimard, Paris, -25‬‬
‫طاهر‪ ،‬الهيئة امل�رصية العامة للكتاب‪ ،‬م�رص‪ ،‬الطبعة ا ألوىل ‪،2006‬‬
‫‪.2006, p. 15‬‬
‫�ص ‪.284‬‬
‫‪ - 26‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.167/1 ،‬‬ ‫[ هو عبارة عن كتاب ي�سري فيه ابن عربي �سرية عبد اجلبار النفري‬
‫‪ 27‬ا‪ -‬مل�صدر نف�سه‪.158/1 ،‬‬ ‫الذي �صاغ مواقفه وخماطباته بطريقة جديدة غري معهودة يف‬
‫‪ - 28‬نف�سه‪.210/1 ،‬‬ ‫املنظومة البالغية وا ألدبية ال�سائدة‪ .‬عبارة عن � أقوال حكمية �شديدة‬ ‫امل�ست�شرق‬
‫‪ - 29‬نف�سه‪.210/1 ،‬‬ ‫الرتكيز وكلها رمز و�إ�شارة �إىل معاين باطنية تلخ�ص موقف العارف‬
‫‪ - 30‬نف�سه‪.329-328/5 ،‬‬ ‫يف ق�ضايا خمتلفة‪ .‬وقد اتخذ لها مظهر امل�شهد الذي يخاطب الب�رص‬
‫ال�سباين � آ�سني‬
‫إ‬
‫‪ - 31‬نف�سه‪.154/6 ،‬‬ ‫ويت�صوره اخليال‪.‬‬ ‫بالثيو�س‪� :‬إن‬
‫‪ - 32‬نف�سه‪.223-222/3 ،‬‬ ‫‪ - 3‬ابن عربي‪ :‬م�شاهد ا أل�رسار القد�سية ومطالع ا ألنوار ا إللهية‪،‬‬
‫‪Paul Claudel : Réflexions sur la poésie, Nrf / Gallimard, Paris, -33‬‬ ‫حتقيق‪� :‬سعيد عبد الفتاح‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة ا ألوىل‪،‬‬
‫�شخ�صية ابن‬
‫‪.1963, p. 119‬‬ ‫‪� ،2005‬ص ‪.63‬‬ ‫عربي الفكرية‬
‫‪Maurice Blanchot : Le livre à venir, Folio /Essais, Gallimard,‬‬ ‫‪-34‬‬ ‫‪ 4‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.63‬‬ ‫وال�صوفية‬
‫‪.1995, p. 281‬‬ ‫‪ - 5‬عبد اجلبار النفري‪ :‬كتاب املواقف ويليه كتاب املخاطبات‪،‬‬
‫‪ -35‬خالد بلقا�سم‪ :‬الكتابة والت�صوف عند ابن عربي‪� ،‬ص ‪.103‬‬ ‫بتحقيق � أرثر يوحنا � أربري‪ ،‬من�شورات دارالكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫القوية لت�سود‬
‫[ يجد الباحث تقاطعات بني ابن عربي وموري�س بالن�شو فيما‬ ‫‪� ،1997‬ص ‪.9‬‬ ‫كل التاريخ‬
‫يتعلق بالذات الكاتبة من منظور فل�سفي وجمايل‪ .‬الذات التي تغيب‪،‬‬ ‫‪ - 6‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.164‬‬
‫احلديث‬
‫والتي ت�سمع ال�صوت املطلق كما � أملحنا �سابقا‪ .‬ينظر �ص ‪ 106‬وما‬ ‫‪Rudolf Otto : Mystique d’Orient et mystique d’Occident, trad. -7‬‬
‫بعدها من املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫للروحانيات ‪.Jean Gouillard, Petite Bibliothèque Payot /278, Paris, 1996, p. 13‬‬
‫‪ -36‬بول ريكور‪ :‬ما هوالن�ص‪ ،‬ترجمة ‪ :‬عبد اهلل عازار‪ ،‬جملة العرب‬ ‫ال�سالمية ‪ -8‬ابن عربي‪ :‬م�شهد ا أل�رسار القد�سية‪� ،‬ص ‪.66‬‬
‫والفكر العاملي‪ ،‬مركز ا إلمناء القومي‪ ،‬العدد ‪ ،12‬خريف ‪� ،1990‬ص‬ ‫‪ -9‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪� ،‬ضبط وت�صحيح‪ � :‬أحمد �شم�س‬
‫إ‬
‫‪.66‬‬ ‫الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية‪.271/3 ،2006 ،‬‬
‫‪ - 37‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.66‬‬ ‫ي�شري الرقم ا ألول �إىل املجلد و الثاين �إىل ال�صفحة‪.‬‬
‫‪ - 38‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.425/3 ،‬‬ ‫‪ -10‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.536/2 ،‬‬
‫‪ - 39‬امل�صدر نف�سه‪.425/3 ،‬‬ ‫‪ -11‬ابن عربي‪ :‬م�شهد ا أل�رسار القد�سية‪� ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ - 40‬نف�سه‪.425/3 ،‬‬ ‫‪ -12‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ - 41‬نف�سه‪.89/5 ،‬‬ ‫‪Martin Heidegger : Lettre sur l’humanisme, trad. Roger Munier, -13‬‬
‫‪ - 42‬نف�سه‪.90/5 ،‬‬
‫‪ - 43‬النفري‪ :‬كتاب املواقف‪� ،‬ص ‪.195‬‬ ‫‪.in Questions III et IV, Tel / Gallimard, Paris, 2008, p 67‬‬
‫‪ - 44‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.136‬‬ ‫‪ -14‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.116/3 ،‬‬
‫‪ � - 45‬أ�سني بالثيو�س‪ :‬اين عربي‪ ،‬حياته ومذهبه‪ ،‬ترجمه عن‬ ‫‪ -15‬ابن عربي‪ :‬م�شاهد ا أل�رسار القد�سية‪� ،‬ص ‪.67‬‬
‫ا إل�سبانية‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬مكتبة ا ألجنلوامل�رصية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪Martin Heidegger : Acheminement vers la parole, trad. Jean Beauf 16‬‬
‫‪6‬‬
‫‪� ،1965‬ص ‪.108‬‬ ‫‪fret, Wolfgang Brokmeier, et François Fedier, tel/ Gallimard, Paris,‬‬
‫‪ � - 46‬أ�سني بالثيو�س‪ :‬ابن عربي‪ ،‬حياته ومذهيه‪� ،‬ص ‪.109‬‬ ‫‪.2006, p. 13‬‬
‫‪ - 47‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.328/5 ،‬‬ ‫‪ - 17‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.154/6 ،‬‬
‫‪ - 48‬ابن عربي‪ :‬ف�صو�ص احلكم‪ ،‬اجلزء ا ألول‪� ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪ - 18‬من�صف عبد احلق‪ :‬الكتابة والتجربة ال�صوفية‪ ،‬منوذج حميي‬
‫‪ - 49‬ابن عربي‪ :‬الفتوحات املكية‪.66/6 ،‬‬ ‫الدين بن عربي‪ ،‬من�شورات عكاظ‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة ا ألوىل‪� ،1988 ،‬ص‬
‫‪ - 50‬امل�صدر نف�سه‪.140/5 ،‬‬ ‫‪ .63‬والت�شديد من عند امل�ؤلف‪.‬‬

‫‪32‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�شعر يف ح�ضرة‬
‫اجلواهـ ــري‬
‫عبد احل�سني �شعبان‬
‫� أديب و� أكادميي من العراق‬
‫توطئة‬
‫يف ح�رضة اجلواهري‪ ،‬ال يكاد ال�شعور يفارقك‪ ،‬وك�أنك تدخل بجالل وهيبة‪،‬‬
‫مملكة ال�شعر‪ .‬فكل �شيء يف تلك احل�رضة ينب�ض بال�شعر‪ :‬اجلواهري بقامته‬
‫املديدة‪ ،‬وف�صاحته‪ ،‬و� أ�صابعه املمدودة‪ ،‬يده�شك حني ي�ستح�رض التاريخ‪،‬‬
‫بق�صيدته العمودية املوروثة وامللونة ب�أطياف احلداثة‪ ،‬بتحديه وتناق�ضه‪،‬‬
‫بانفعاالته وردود � أفعاله‪ ،‬مبعاركه ا ألدبية وخ�صوماته ال�سيا�سية وال�شخ�صية‪،‬‬
‫يظهر اجلواهري وا�ضحاً كاحلقيقة‪ ،‬ال يعرف ا ألقنعة وقد امتهن ال�شعر فناً‬
‫وذهناً ومزاجاً‪.‬‬

‫‪ w‬ظل اجلواهري عنيدا ً �أمام ال�س�ؤال‪� ،‬ضعيفاً �أمام �إغواء ال�شعر و�إغراء‬
‫معمرا ً مثل لبيد العامري‪ ،‬منفياً مثل املتنبي‪ ،‬فقد عا�ش‬ ‫الق�صيدة‪ّ .‬‬
‫�أكرث من ثلث عمره يف الغربة‪ ،‬التي �أرخها يف �سنواته ا ألوىل «بربيد‬
‫الغربة» و«يا دجلة اخلري»‪ ،‬مفكرا ً مثل املعرّي‪ ،‬حيث ر�صع ق�صائده‬
‫باحلكمة واملعرفة‪.‬‬

‫‪33‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يرو�ضه �أو ّ‬
‫يطوعه الجواهري والح�صري‬ ‫مل ي�ستطع الزمن رغم عادياته �أن ّ‬
‫يف �سفره «املجيد» واجه اجلواهري خ�صومات كثرية‪،‬‬ ‫�أو يحتويه‪ ،‬فقد مت ّكن �سلطان ال�شعر منه وامتلكه بكل‬
‫و�أثريت حوله وجهات نظر مت�ضاربة‪ .‬والواقع فقد كان‬ ‫معنى الكلمة‪ ،‬هكذا ظل �صعباً بل ع�صيّاً‪ ،‬غري قابل‬
‫�شخ�صية �إ�شكالية‪ ،‬مبعنى تفرّدها الفني وال�شخ�صي‬ ‫للتدجني‪ ،‬راف�ضاً‪ ،‬ومقاتالً يف الكثري من ا ألحايني‬
‫ومتايزها االبداعي وخ�صائ�صها املتنوعة‪ .‬ولعل �أبرز‬ ‫يف دروب ا ألدب والفكر والتجديد‪� .‬سالحه ال�شعر يف‬
‫اخل�صومات التي واجهها هي معركته مع املفكر القومي‬ ‫الهجوم والرتاجع‪ ،‬وهو درع وقايته من تقلبات الزمن‬
‫�ساطع احل�رصي‪ ،‬ب�سبب مو�ضوع اجلن�سية‪ ،‬فقد �أمر االخري‬ ‫وغدر ا أليام وهجومات ا ألعادي‪.‬‬
‫حينما كان مديرا ً عاماً يف وزارة املعارف بف�صله من‬ ‫برحلته ال�شعرية الطويلة‪ ،‬اخرتق �سرية رجال ومبدعني‬
‫وظيفة معلم ابتدائي‪ ،‬بعد �أن رف�ض تعيينه بوظيفة مدر�س‬ ‫وتاريخ كفاح‪�« ،‬صاعدا ً ونازال ً على حد تعبريه»‪ .‬كان‬
‫ثانوي‪ ،‬لكن امللك في�صل ا ألول‪� ،‬سارع لتعيينه �أميناً‬ ‫�شاهدا ً وحا�رضا ً يف ذاكرة ا ألجيال‪ ،‬فهو جدّ املثقفني‬
‫العراقيني ومرجعهم ومرجعيتهم‪.‬‬ ‫�إن عمر‬
‫لت�رشيفات البالط امللكي‪ ،‬حلفظ التوازن املختل ب�سبب‬
‫جاء من النجف مل ّفحاً بالعباءة ومعتمرا ً بالعمامة‬ ‫اجلواهري هو‬
‫نهج «العزل» و�إ�شكالية اجلن�سية العراقية التي �أوجدها‬
‫قانون اجلن�سية ا ألول يف العام ‪ ،1924‬والذي مت �سنّه‬ ‫ال�صغرية البي�ضاء‪ ،‬وبج�سم �ضئيل‪ ،‬لكنه منت�صب‬ ‫عمر العراق‬
‫قبل كتابة الد�ستور العراقي ا ألول (‪ )1925‬بت�شجيع‬ ‫مثل نخيل العراق‪ .‬ومن البيئة النجفية الدواوينية‪-‬‬ ‫احلديث‪ ،‬حيث‬
‫و�إ�رشاف من بريطانيا‪ ،‬ووا�صلت القوانني والتعديالت‬ ‫التلقينية‪ ،‬ذات املوروث والتقاليد العريقة والقا�سية‪،‬‬ ‫اكتملت بداياته‬
‫املختلفة النهج التمييزي ذاته‪.‬‬ ‫حيث عاي�ش فقهاء النجف‪ ،‬الذين زاملوا وتتلمذوا على‬ ‫ال�شعرية مع‬
‫وقد �أف�صح احل�رصي‪� ،‬أن �سبب ف�صل اجلواهري‪ ،‬هو‬ ‫يد جمال الدين ا ألفغاين بد� أ التمرد ا ألول‪ ،‬فانطلق‬ ‫ن�شوء وت أ��سي�س‬
‫ق�صيدة كان قد ن�رشها ال�شاعر‪ ،‬يتغزل فيها مب�صايف‬ ‫ليحلّق يف ا ألفق ال�شا�سع‪ ،‬مثل ن�رس رفرف بجناحيه‬ ‫الدولة العراقية‬
‫ايران اجلميلة‪ ،‬قبل تعيينه‪ ،‬مما اعترب ت�شكيكاً بالهوية‬ ‫فوق بغداد‪ ،‬وهو يتطلّع نحو دم�شق والقاهرة وبريوت‪،‬‬
‫العربية وباملواطنية العراقية‪ ،‬خ�صو�صاً و�أن بع�ض‬ ‫ثم لي�سرتيح يف باري�س قليالً‪ ،‬وليبد� أ رحلة املنفى‬ ‫يف العام ‪1921‬‬
‫�أبناء الفرات ا ألو�سط وال�سيما يف املدن الدينية وجنوب‬ ‫واحلنني التي قاربت ثالثة عقود ونيف كانت حمطتها‬ ‫وكان قد ن�شر‬
‫العراق كانوا غري معنيني باحل�صول على اجلن�سية‪،‬‬ ‫الرئي�سية براغ الذهبية‪.‬‬ ‫ق�صائده االوىل‬
‫التي مل يكن لها معنى �آنذاك بل �أن بع�ضهم وافق على‬ ‫رحيل متقطع لكنه متوا�صل‪ ،‬ظل م�صحوباً بحنينه‬ ‫ع�شية ت أ��سي�سها‬
‫اكت�ساب اجلن�سية االيرانية تهرباً من اجلندية ورمبا‬ ‫اىل الوطن الذي حمله يف قلبه‪ ،‬حتى �صارا متالزمني‬ ‫حيث تدفقت‬
‫للح�صول على بع�ض االمتيازات‪ ،‬لكن انحالل الدولة‬ ‫لبع�ضهما‪ .‬فقد كان ُيبحر يف ثنايا ا ألحداث وال يعرف‬ ‫مثل ثورة‬
‫العثمانية وت�أ�سي�س اململكة العراقية‪ ،‬افرت�ض �أن يكون‬ ‫املر�سى اال ّ على �شاطئ ال�شعر‪ .‬وهو امل�سافر الذي‬ ‫الع�شرين‬
‫جميع �سكانها مواطنني بالت�أ�سي�س ح�سب معاهدة لوزان‬ ‫تفي�ض منه ا أللوان‪ ،‬كقو�س قزح‪ ،‬يف �سماء �رشقية‬
‫لعام ‪ ،1923‬لكن جلوء الربيطانيني اىل ت�رشيع قانون‬ ‫مدورة مثل‬
‫ترتاق�ص كواكبها بعذوبة ور ّقة متميزة‪ّ ،‬‬
‫للجن�سية وو�ضع درجات (�أ) و(ب) وا�شرتاط احل�صول على‬ ‫خبز تنور عراقي طازج‪ ،‬ومتدفقة مثل دجلة والفرات‬
‫�شهادة للجن�سية‪ ،‬طال بع�ض الفئات بالتمييز‪ ،‬ا ألمر الذي‬ ‫و�شط العرب‪.‬‬
‫انعك�س على بنية الدولة العراقية الحقاً‪ ،‬وهو ا ألمر الذي‬ ‫�إن عمر اجلواهري هو عمر العراق احلديث‪ ،‬حيث اكتملت‬
‫دفع اجلواهري ثمنه باهظاً منذ وقت مبكر!‬ ‫بداياته ال�شعرية مع ن�شوء وت�أ�سي�س الدولة العراقية‬
‫�أما معاركه ا ألخرى فهي احت�سابه على مع�سكر الي�سار‬ ‫يف العام ‪ .1921‬وكان قد ن�رش ق�صائده االوىل ع�شية‬
‫العراقي بحكم دفاعه عن املظلومني والفقراء‪ ،‬رغم �أن‬ ‫ت�أ�سي�سها حيث تدفقت مثل ثورة الع�رشين‪.‬‬
‫ق�صائده كانت ق�صائد تلب�سها الغيد احل�سان و�أنا�شيد‬ ‫ظل اجلواهري عنيدا ً �أمام ال�س�ؤال‪� ،‬ضعيفاً �مام �إغواء‬
‫أ‬
‫يتغنى بها الوطنيون ملواجهة الظلم اخلارجي واال�ستبداد‬ ‫معمرا ً مثل لبيد العامري‪ ،‬منفياً‬
‫ال�شعر و�إغراء الق�صيدة‪ّ .‬‬
‫الداخلي‪.‬‬ ‫مثل املتنبي‪ ،‬فقد عا�ش �أكرث من ثلث عمره يف الغربة‪،‬‬
‫و�أخريا ً ف�إن كيد بع�ض خ�صومه ومنهم يف الو�سط ا ألدبي‬ ‫التي �أرخها يف �سنواته ا ألوىل «بربيد الغربة» و«يا‬
‫ذاته‪ ،‬كان �أحد �أ�سباب خ�صوماته‪ ،‬وذلك ب�سبب اجتاهاته‬ ‫دجلة اخلري»‪ ،‬مفكرا ً مثل املعرّي‪ ،‬حيث ر�صع ق�صائده‬
‫التجديدية يف الق�صيدة العربية الكال�سيكية ح�سب تعبري‬ ‫باحلكمة واملعرفة‪.‬‬
‫‪34‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اال�ستاذ هادي العلوي‪ ،‬رغم �أن موقفه ظل متحفظاً �إزاء وحفظ ديوان �أبو العالء املعرّي وكان �شديد االعجاب‬
‫بالبحرتي وقر� أ البيان والتبيينّ وكذلك كتب ابن املقفع‬ ‫الق�صيدة احلديثة ومدر�سة التجديد ال�شعري احلديث‪.‬‬
‫كان احلديث مع اجلواهري ذا �شجون وله متعة خا�صة‪ ،‬وغريها‪ .‬ومل يكن عمره يزيد على ‪ 12‬عاماً‪ ،‬كان �شعوره‬
‫خ�صو�صاً عندما يك�شف لك عن خباياه بطريقة طفولية مذ كان طفالً انه يحلّق يف ف�ضاءات �أخرى ويطري اىل‬
‫عوامل بعيدة!!‬ ‫لذيذة‪ .‬فيبد� أ بالتدفق مثل ينبوع ‪.‬‬
‫اللحظة ال�شعرية‬ ‫والدة الق�صيدة‬
‫متى حتل اللحظة ال�شعرية على اجلواهري؟ وهو �س�ؤال‬ ‫حني تولد الق�صيدة ي�شعر اجلواهري �أنه يولد من جديد‪،‬‬
‫ال ميكن �أن نت�صوره مبعزل عن ال�شاعر‪ ،‬فرمبا ان االمر‬ ‫وقد تكون والدة ع�سرية يف كل ق�صيدة‪ ،‬لدرجة انه بعد‬
‫خمتلف ح�سب املكان والزمان‪ .‬لكن اال�ستلهام الذاتي‬ ‫االنتهاء منها ي�شعر وك�أنه يكتب ال�شعر ألول مرة (�أي‬
‫مهم جداً‪ ،‬كما يفعل الر�سام حني ي�ستخدم ا أللوان ّ‬
‫ويطوع‬ ‫واهلل كما يقول) ويتعجب اجلواهري من ذلك‪ ،‬مثلما هو‬
‫الري�شة‪� ،‬أو كما يفعل الروائي حني ي�صف املكان ويتابع‬ ‫البطل امل�رسحي حني يواجه اجلمهور‪ .‬ففي كل مرة‬
‫تفا�صيل �شخ�صياته وحبكته الدرامية‪ ...‬ا ألمر كان‬ ‫ي�شعر بالرهبة‪ ،‬وعندما تكتمل الق�صيدة ي�شعر بالن�شوة‪.‬‬
‫حني تولد‬ ‫وتكتمل ق�صيدة اجلواهري عندما يلحنها ويغنيها‪ .‬يقول‬
‫يالحقه حتى يكاد يهبط عليه بدون �إرادة‪ .‬فرتاه يغني‬
‫الق�صيدة ي�شعر‬ ‫اجلواهري‪� :‬إعتدت على ذلك يف النجف منذ البدايات‪،‬‬
‫اجلواهري �أنه‬ ‫بحرقة وحرارة‪ ،‬وحني ت�أتيه �إ�شارة غام�ضة ّ‬
‫يتفجر غ�ضباً‬
‫وميل املكان جنونه‪ ،‬وكنت �أ�س�أله عن اللحظة ال�شعرية‪،‬‬ ‫أ‬ ‫فحني كانت تداهمني الق�صيدة‪� ،‬أنزل اىل ال�رسداب‪� ،‬أحدو‬
‫يولد من جديد‪،‬‬ ‫ف�إذا به يجيبني �إن امللكوت يناديه في�ستجيب وتخرج‬ ‫ثم �أطرب و�أدخل بعدها يف ملكوت ال�شعر‪ ،‬يف عامله‬
‫وقد تكون والدة‬ ‫مبعاناة فائقة‪.‬‬ ‫متجمالً بال�شكل �أعود اىل‬
‫ّ‬ ‫ال�سحري وعندها يكتمل البناء‬
‫ع�سرية يف كل‬ ‫وعدت ل�س�ؤاله حول اللحظة ال�شعرية ف�أجاب‪ :‬اتريدين‬ ‫نف�سي و�أ�ضحك معها �أحياناً‪� ..‬أحقاً �إنني كنت هنا!!‬
‫ق�صيدة‪ ،‬لدرجة‬ ‫�أن �أقول لك ي�أتيني الوحي !؟ ال �أدري ماذا � أ ّ‬
‫�سميه؟ فقد‬ ‫وي�ضيف اجلواهري يف حوار مع الكاتب من�شور يف‬
‫�أنه بعد االنتهاء‬ ‫تفجرت «دجلة اخلري» مبلحميتها املعروفة‪ ،‬كلّها يف‬ ‫ّ‬ ‫كتابنا‪ :‬اجلواهري‪ -‬جدل ال�شعر واحلياة‪ :1997 ،‬يخيّل‬
‫تفجر يف داخلي‬ ‫ّ‬ ‫واحدة‬ ‫ليلة‬ ‫ر‬ ‫ت�صو‬
‫ّ‬ ‫براغ‪،‬‬ ‫يف‬ ‫واحدة‬ ‫ليلة‬ ‫يل و�أنا �أرق�ص يف باحة الق�صيدة �أن �شيئاً من اجلنون‬
‫منها ي�شعر وك�أنه‬ ‫م�سني �أو �أن نوعاً من اخلبل قد اعرتاين‪� .‬إن �شيئاً ما‬
‫يكتب ال�شعر‬
‫ينبوعا ال ير�ضى بالتوقف‪ ،‬حتى اكتملت‪ ...‬فماذا ت�سمي‬ ‫قد ّ‬
‫ذلك!؟‬ ‫أ‬
‫يحدث ال �عرف كنهه حني تنتابني احلالة و�دخل مملكة‬ ‫أ‬
‫ألول مرة‬ ‫ال�شعر‪� ،‬أحياناً تراودين حالة هيجان و�رصاخ حتى تهد� أ‬
‫الجواهري والتناق�ض االجتماعي‬
‫روحي باكتمال الوالدة‪.‬‬
‫عا�ش اجلواهري يف �صلب املتناق�ضات االجتماعية حيث‪،‬‬ ‫يف بغداد كان جارنا ال�سيد حممد جنيب الربيعي رئي�س‬
‫البيئة النجفية �شديدة ال�رصامة‪ ،‬والتقاليد القا�سية‪ ..‬وقد‬ ‫جمل�س ال�سيادة العراقي بعد ثورة ‪ 14‬متوز (يوليو)‬
‫انعك�ست عليه وهو يتخطى احلواجز واملحرّمات ولكن‬ ‫يتعجب هو و�أهله من الذي يجري يف بيتنا‬ ‫ّ‬ ‫‪،1958‬‬
‫ب�أثمان باهظة � أحياناً‬ ‫علي الق�صيدة‪ .‬وعندما‬ ‫ّ‬ ‫وهبطت‬ ‫�صادف‬ ‫ما‬ ‫ذا‬ ‫�أحياناً‪ ،‬إ‬
‫�‬
‫وتركت القيود الثقيلة ت�أثرياتها الكبرية عليه‪ ،‬لكنه يف‬ ‫علي فال اريد‬ ‫أ‬
‫كانت �شياطني ال�شعر �و مالئكة الفن تنزل ّ‬
‫الوقت نف�سه ا�ستفاد من اخليال القر� آين الذي يفر�ضه‬ ‫ألحد �أن يقطع �سل�سلة �أفكاري واال ّ �أنفجر‪ ...‬اريد عاملي‬
‫الو�سط الديني‪ ،‬وت�ستطيع �أن تلحظ دون عناء كيف‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬ال �أريد ألي كان �أن ي�شاركني فيه‪ ،‬حتى العائلة‬
‫�أن ق�صائده مر�صعة به با�ستمرار‪ ،‬بل �إنه ال ي�ستطيع‬ ‫�أدعوها لتذهب اىل �أي مكان‪.‬‬
‫الفكاك منه‪ .‬وبالت�أكيد فالرتاث القر� آين‪ ،‬خ�صب وجميل‬ ‫وب�صدد �شاعريته وكيف �صقلت يقول اجلواهري‪:‬‬
‫ومغ ٍر‪ ،‬انه يف الوقت ذاته يوحي بخيال متفجر «جنة‬ ‫ال�شاعرية تولد يف ا ألرحام فمذ كنت جنيناً‪ ،‬كنت �أ�سكن يف‬
‫جتري من حتتها ا ألنهار»!‪« ،‬احلور احل�سان» و«طور‬ ‫ح�رضة ال�شعر‪ .‬لقد كان البيت اجلواهري يحمل �صوجلان‬
‫ال�سنني وهذا البلد ا ألمني»‪ ،‬الزيتون والعنب وما‬ ‫ال�شعر‪ ،‬حيث مي�سك بقيثارته �أكرث من رمز‪ ،‬ويكاد ال�شعر‬
‫ت�شتهي‪ ،‬كان هذا هو ا ألفق الذي ي�صبو اليه اجلواهري‪،‬‬ ‫يتملّكه منذ ال�صغر‪ ،‬ورغم �أن العائلة كانت تريده �أن يدر�س‬
‫حيث وجده مرة واحدة يف �سفرته العتيدة اىل م�صايف‬ ‫الفقه اال ّ �أن ال�شعر مت ّكن منه‪ .‬وكان يحفظ دواوين كبار‬
‫�إيران التي كتب فيها ق�صيدته ال�شهرية‪ ،‬والتي جاءت‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬حيث كان برناجمه اليومي هو « حفظ ال�شعر»‬
‫‪35‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫احل�صول على طمع �أو جاه �أو مال‪ .‬قام بذلك ألنه كان‬ ‫بالبالء عليه‪ ،‬ب�سبب تف�سريات مغر�ضة‪.‬‬
‫يعتقد حلظة ذاك ب�أن موقفه �سليم‪ ،‬و�شعر �أنه يويف دين�أ‬ ‫يقول اجلواهري‪ :‬حتى �إذا ما ذهبت اىل �إيران لال�صطياف‬
‫بعنقه‪ ،‬خ�صو�صاً وانه وقف مع اجلواهري‪� ،‬ضد النعرات‬ ‫ألول مرة يف الع�رشينات كانت اجلبال ال�شاهقة تهزّين‪،‬‬
‫الع�صبية والطائفية‪ ،‬التي حاولت النيل منه ومن انتمائه‬ ‫�أما البيئة النجفية فكانت وراء ق�صائدي‪ ،‬فاحلرمانات‬
‫الوطني‪ .‬ولهذا ردا ً للجميل‪ ،‬قال ما قال يف «امللك‬ ‫لدي مفهوماً �إن�سانياً نقي�ضاً ورغبة يف‬
‫والتزمت ولّدت ّ‬
‫ّ‬
‫اجلليل»‪ ،‬كما ي�سميه انت�صارا ً للحق بعد حادثة �ساطع‬ ‫التغيري‪ ،‬وهو ما رافق ق�صائدي‪ ،‬وال بدّ هنا من ا إل�شارة‬
‫احل�رصي ال�شهرية‪ ،‬وهذا ال�شعور ظل ي�صاحبه ال�سيما‬ ‫اىل الف�سيف�ساء احل�ضارية والثقافية ملدينة النجف‪،‬‬
‫االح�سا�س باجلميل وعمل اخلري ورد املعروف‪ ،‬وا�ستمر‬ ‫بحكم االختالط ألقوام و�شعوب و�آداب متنوعة‪.‬‬
‫حتى �آخر �أيام حياته‪.‬‬ ‫الت�أزم كان خا�صية ال�شاعر فما بالك ب�شاعر مثل‬
‫ويف الوقت نف�سه �ضاق ذرعاً بالبالط امللكي‪ ،‬الذي‬ ‫اجلواهري املبدع واملتميّز‪ ،‬وكان هذا ديدن دعبل‬
‫اخلزاعي وابن الرومي واملعري‪ ،‬واملتنبي والر�صايف‪.‬‬ ‫كان اجلواهري‬
‫مل يت�سع له وترك النيابة وفرّط بالوزارة‪ ،‬التي كانت‬ ‫ابن املتناق�ضات‬
‫اال�شارات ت�أتيه لدخولها كمرحلة الحقة‪ ،‬فقد قرر‬ ‫ي�شعر اجلواهري �أنه يف غ�ضب خالّق‪ ،‬نتيجة الت�أزم‬
‫العارم واجلارف وامل�ضيء‪ ،‬فهو حتى يف الغزل تكاد‬ ‫والتعار�ضات على‬
‫الوقوف يف �صف النا�س مرة واحدة واىل ا ألبد‪ .‬وقرر‬ ‫كل امل�ستويات‬
‫�أن يكون �شاعرا ً ال وزيرا ً �أو حتى رئي�ساً للوزراء‪ .‬وكان‬ ‫تتلم�س حرارته حني يقول الق�صيدة‪ ،‬فرتاه عا�شقاً مولهاً‬
‫بكل معنى الكلمة‪.‬‬ ‫وباملنا�سبة فهو‬
‫بع�ض من لب�س العمامة قد و�صل اىل الوزارة‪ ،‬يف‬ ‫يرغب �أن يقر�أه‬
‫حني �أنه نزع العمامة بقناعة ورف�ض عوامل الرخاء‬ ‫التناق�ض والتحدي‬ ‫النا�س ويعرفونه‬
‫واالغراء وال�سلطة وا ألبهة واملنافع واختار ان يكون‬ ‫�أعود اىل التناق�ض‪ ،‬فهل هي �سمة مالزمة للجواهري؟‬ ‫بذلك‪� ،‬أي‬
‫« اجلواهري» واجلواهري فقط وذلك يكفيه‪ .‬لقد اختار‬ ‫فمن ق�صائد االقتحام الثورية اىل ق�صائد املديح‪� ،‬أم‬ ‫باعتباره‬
‫ال�شعر وك�سب نف�سه والعامل‪ ،‬وهكذا �سار �شالل حياته‬ ‫�أن « حب احلياة بحب املوت يغريني» على حد قوله‪..‬‬ ‫وليد التناق�ض‬
‫الالحقة‪.‬‬ ‫كيف يجعل حب احلياة متالزما بحب املوت!؟ هل‬ ‫والتعار�ض‪،‬‬
‫كان اخلروج من الدائرة ال�صعبة (البالط) ي�سبب �إحراجاً‬ ‫هو ديالكتيك الطبيعة‪ ،‬كما ن�سميه �أم ماذا؟ ولعل هذا‬ ‫حيث ولد يف‬
‫كبريا ً لكن بقاءه كان يعني اندثاره �أو تدجينه‪ ،‬ال�سيما‬ ‫الهارموين اجلواهري هو من �سمات ق�صائده بامتياز‪.‬‬ ‫بيئة متناق�ضة‪،‬‬
‫وقد بد� أ بالتمرد بق�صائد نارية وغزلية‪ .‬ويف خروجه‬ ‫و�صب يل قدحاً‬ ‫يا ندميي‬ ‫ولذلك ترى‬
‫�ضاجة باحلياة واحلركة والتناق�ض‬ ‫وجد عوامل ف�سيحة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ّ‬ ‫ �أمل ُِ�س احلزن فيه والفرحا‬ ‫ال�صعود والنزول‬
‫�أي�ضاً تنتظره!!‬ ‫كان اجلواهري ابن املتناق�ضات والتعار�ضات على‬ ‫لديه وهي حالة‬
‫عجيب �أمرك الرجرا‬ ‫ٌ‬ ‫كل امل�ستويات وباملنا�سبة فهو يرغب �أن يقر�أه النا�س‬ ‫�إن�سانية‬
‫ج ال جنفاً وال �صددا‬ ‫ ‬ ‫ويعرفونه بذلك‪� ،‬أي باعتباره وليد التناق�ض والتعار�ض‪،‬‬
‫ت�ضي ُق بعي�ش ٍة رغ ٍد‬ ‫حيث ولد يف بيئة متناق�ضة‪ ،‬ولذلك ترى ال�صعود والنزول‬
‫وتهوى العي�ش َة الرغدا‬ ‫ ‬ ‫لديه وهي حالة ان�سانية‪ ،‬ولكنه رغم ذلك مل يكتب يوماً‬
‫وال تقوى م�صامد ًة‬ ‫بهدف االنتفاع‪� ،‬أو املديح لغر�ض احل�صول على الك�سب‪،‬‬
‫وتعبُدُ‪ ..‬ك َّل من َ�ص َمدا‬ ‫ ‬ ‫ولو فعل ذلك لكان هو غري ما �أ�صبح‪.‬‬
‫�ألي�س عجيباً هذا التناق�ض‪ .‬دخل البالط ثم �ضاق به‬ ‫ولعل اجلواهري يف حوارات مع الكاتب كان قد قال لقد‬
‫ذرعاً‪ ،‬و�سعى للنيابة ودخلها ثم ا�ستقال وان�ضم اىل �صف‬ ‫اغت�صبت �ضمريي مرة واحدة يف �إ�شارة اىل ق�صيدة «ته‬
‫النا�س بعد معاهدة بورت�سموث عام ‪ 1948‬مع بريطانيا‬ ‫يا ربيع» يف تتويج امللك في�صل الثاين وعاد وعالج‬
‫ومقتل �أخيه جعفر‪ ،‬وتعر�ض خالل حياته حلمالت �شتم‬ ‫املو�ضوع بعد �أيام بكتابة ق�صيدة كفارة وندم‪ ،‬انه‬
‫الذع‪ ،‬ودناءات و�أراجيف‪ ،‬لكن ذلك ظل ديدنه يف احلياة‪،‬‬ ‫اعرتاف �رصيح دون وجل �أو خوف من �أحد‪ ،‬بل تلك‬
‫حيث كان متحدياً معتدّا ً بنف�سه‪ ،‬يطلب ا أل�شياء وي�ضجر‬ ‫�إحدى �سجاياه‪ ،‬حيث كان �شجاعاً يف نقد الذات‪.‬‬
‫منها ويرتكها بعد �أن ي�سعى اليها‪:‬‬ ‫كان «اجلواهري» ُيعرف بال�شاعر الناري‪ ،‬الثوري‪،‬‬
‫� أ ِز ْح عن �صد ِر َك الزْ َبدا‬ ‫االقتحامي‪ ،‬املتوثب‪ ،‬لكنه هو من كتب �سبع ق�صائد بحق‬
‫يبث ما َو َجدا‬
‫ودع ُه ُّ‬
‫ْ‬ ‫ ‬ ‫امللك في�صل ا ألول‪ .‬وفعل ذلك ب�إرادته ودون رغبة يف‬
‫‪36‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قيا�ساً للعهود التي تلت ذلك‪ ،‬وا�صبحت �شحيحة‬ ‫اىل �أن يقول ‪:‬‬
‫لدرجةاالختناق‪.‬‬ ‫أ‬
‫تخاف من �ح ٍد‬ ‫ُ‬ ‫�أ�أنت‬
‫وقد �أثارت ق�صيدة ها�شم الوتري «ايه عميد الدار» يف‬ ‫م�صانع �أحدا‬
‫ٌ‬ ‫ �أ�أنت‬
‫حزيران (يونيو) ‪� 1949‬ضجة كربى ولها ق�صة خا�صة‪،‬‬ ‫�شجعهم‬
‫ْ‬ ‫النا�س‪ � ،‬أ‬
‫َ‬ ‫�أتخ�شى‬
‫فقد �ألقيت مبنا�سبة انتخاب الدكتور ها�شم الوتري (وهو‬ ‫يخا ُفك‪ ،‬مغ�ضباً َح ِردا‬ ‫ ‬
‫عميد الكلية الطبية العراقية) ع�ضوا ً لل�رشف يف اجلمعية‬ ‫هم‬
‫وال يعلو َك خريُ ُ‬
‫الطبية الربيطانية‪ .‬وكان اجلو ال�سيا�سي حمتدماً وجاءته‬ ‫ريهم �أبدا‬‫ول�ست بخ ِ‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫الدعوة للم�شاركة‪ ،‬لكنه تظاهر بعدم القبول‪ ،‬ولكنه كما‬ ‫تعرّ�ض اجلواهري خالل حياته اىل حملتني كبريتني‬
‫يقول يف حوارات مع الكاتب‪ :‬كنت �أرق�ص وراء التلفون‬ ‫ا ألوىل ترافقت مع ا أليام االوىل لبدء تدفق النفط‬
‫وكنت �أقول جاءت «يا هال بيها»‪ ،‬فقد كنت قد عزمت على‬ ‫للت�صدير يف بئر باباكركر (كركوك) ‪ 1927‬حني كان‬
‫املواجهة‪ .‬وي�ضيف اجلواهري‪� :‬صعدت اىل �سطح الدار‬ ‫�شاباً‪ ،‬متمرداً‪ ،‬بهدف نزع هويته الوطنية والقومية كما‬
‫وكنت م�ستلقياً على فرا�شي‪ ،‬لكنني كنت حمتدماً وكانت‬ ‫يذهب اىل ذلك الكاتب ح�سن العلوي‪ ،‬والثانية بعد ثورة‬
‫اال�شارات الغام�ضة ت�أتيني لتزيدين ا�شتعاالً‪ ،‬فوجدت‬ ‫‪ 14‬متوز (يوليو) ‪ ،1958‬حني اعترب يف مقدمة مع�سكر‬
‫نف�سي منبطحاً �أحدو‪ ،‬كما هي عادتي‪ ،‬وعندما و�صلت‬ ‫الي�سار العراقي‪ ،‬لكن التحدي كان مالزماً ألبي فرات‬
‫املورد الذي يبد� أ بـ» �إيه عميد الدار �شكوى �صاحبطفحت‬ ‫ولكنه كان هو الذي يختار خ�صومه ويحدد املعركة‬
‫لواعجه فناجى �صاحبا» حتى هتفت زوجتي «�أم‬ ‫و�رشوطها‪.‬‬
‫جناح» (عوايف �أبو فرات ‪�..‬أ»كله) وهي عادة ما تقال‬ ‫و�شاعر مبدع كاجلواهري كان يعي�ش يف �صميم االحداث‬
‫لعدم االكرتاث بالنتائج وتعني باللهجة العراقية‪ ..‬ليكن‬ ‫يت�أثر بها وي�ؤثر فيها‪ ،‬وحتى‪ ،‬و�إن مل يكن �سيا�سياً فقد‬
‫ما يكن وانت تدخل املعركة وتقبل التحدي‪ ،‬ثم يت�سلق‬ ‫كان مع عامة النا�س وما كانوا يت�أثرون به‪ ،‬ويتفاعل‬
‫اجلواهري قمة التحدي‪:‬‬ ‫معهم‪ ،‬ويحاول �أن يعبرّ عن ت�أثرهم بطريقته اخلا�صة‪.‬‬
‫علي املغرياتِ م�سيل ًَة‬ ‫ح�شدوا ّ‬ ‫عندما حدثت وثبة كانون الثاين (يناير) ‪� ،1948‬ضد‬
‫لعاب الرذلني رغائبا‬ ‫أ‬ ‫�صغرا ً َ‬ ‫ ‬ ‫معاهدة بورت�سموث‪ ،‬ووقعت معركة اجل�رس ال�شهرية‪،‬‬
‫بالك�أ�س يقرعها ندميٌ مالئ ًا‬ ‫و�سقط �أخوه جعفر‪ ،‬الذي ا�ست�شهد كان يجد نف�سه بعد‬
‫بالوعد منها احلافتني وقاطبا‬ ‫ ‬ ‫�سبعة �أيام ويف جامع احليدر خانة (‪� 14‬شباط‪/‬فرباير)‬
‫وبتلكم اخللواتِ مت�س ُخ عندها‬ ‫ين�شد‪:‬‬
‫الرقاب من ال�ضباء ثعالبا‬ ‫ِ‬ ‫ُتل ْ ُع‬ ‫ ‬ ‫�أتعلم �أم �أنت ال ُ‬
‫تعلم‬
‫حى «وزيرا» مثلما‬ ‫وب�أ ْن � أ َ‬
‫روح ُ�ض ً‬ ‫ب�أن جراح ال�ضحايا ُ‬
‫فم‬ ‫ ‬
‫أ‬
‫�صبحت عن �م ِر بليل «نائبا»‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ �‬ ‫فم لي�س كاملدعي قول ًة‬ ‫ٌ‬
‫ظنا ب�أن يدي متدُّ لت�شرتي‬ ‫ولي�س ك�آخر ي�سرتحم‬ ‫ ‬
‫بيع مواهبا‬ ‫املتاع‪ ،‬و�أن � أ َ‬
‫ِ‬ ‫�سقط‬ ‫ ‬ ‫ي�صيح على املدقعني اجلياع‬ ‫ُ‬
‫�أو ق�صيدته يف القاهرة ‪1951‬‬ ‫دماءكم ُتطعموا‬
‫ُ‬ ‫ريقوا‬ ‫أ‬ ‫ �‬
‫خلّــي الدم الغايل ي�سي ُل‬ ‫ويهتف بالنفر املهطعني‬ ‫ُ‬
‫مل�سيــل هو القتيـــ ُل‬ ‫ �إن ا ُ‬ ‫ �أهينوا لئامكم ُتكرموا‬
‫هذا الدم املطلول يختــ‬ ‫الفرتة التي �سبقت ثورة ‪ 14‬متوز (يوليو) كانت حامية‪،‬‬
‫ـــت�رص الطريق به الطويــ ُل‬ ‫ ‬ ‫حيث ُفر�ضت االحكام العرفية و�أعدمت بع�ض القيادات‬
‫�أو ق�صيدته يف م�ؤمتر املحامني العرب‪ ،‬الذي انعقد يف‬ ‫ال�شيوعية ألول مرة (فهد و�صحبه) ‪� 14‬شباط(فرباير)‬
‫بغداد يف العام ذاته‪ ،‬التي �أثارت ردود فعل حادة من‬ ‫‪ 1949‬ومت ت�أ�سي�س احللف الرتكي‪ -‬الباك�ستاين ومركزه‬
‫جانب احلكومة العراقية‪ ،‬حيث �أقامت الدعوى على مدير‬ ‫بغداد ‪ ،1955‬والذي ُعرف با�سم « حلف بغداد» بدعم‬
‫اجلريدة امل�س�ؤول املحامي عبد الرزاق ال�شيخلي‪ ،‬كما‬ ‫من الغرب‪ .‬كان التوتر واملواجهة مالزمات لتلك‬
‫�أقامتها على اجلواهري‪ ،‬لكنه مت ا إلفراج عنهما‪.‬‬ ‫الفرتة‪ ،‬وتقل�صت بع�ض الهوام�ش التي كانت موجودة‬
‫‪37‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خاطب اجلواهري اجلميع و� أ�صابعه ت�ؤ�رش اىل املقاعد‬ ‫�سالم على جاعلني احلتو‬‫ومنها ‪ٌ :‬‬
‫ا ألمامية‪:‬‬ ‫َف ج�رسا ً �إىل املوكب العاب ِر‬ ‫ ‬
‫عليهم‬
‫ُ‬ ‫البيوت‬
‫َ‬ ‫�أنا حت َفهم �ألج‬ ‫�سالم على مثقل باحلديد‬ ‫ٌ‬
‫ب�شتمهم واحلاجبا‬
‫ْ‬ ‫ �أغري الوليدَ‬ ‫وي�شم ُخ كالقائد الظاف ِر‬ ‫ ‬
‫خ�سئوا‪ :‬فلم تز ِل الرجول ُة ُحر ًة‬ ‫مع�صميه‬
‫القيود على َ‬ ‫َ‬ ‫ك�أ َّن‬
‫ت�أبى لها غري ا ألماث ِل خاطبا‬ ‫ ‬ ‫مفاتيح م�ستقب ٍل زاه ِر‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫فديتهم‬
‫ْ‬ ‫ال�سواد‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وا ألمثلون ُ‬
‫هم‬ ‫�أو الق�صيدة التي �ألقاها يف دم�شق مبنا�سبة االحتفال‬
‫با ألرذلني من ال�شرُ ا ِة منا�صبا‬ ‫ ‬ ‫الت�أبيني لل�شهيد عدنان املالكي عام ‪ ،1956‬وا�ضطر‬
‫نفو�س ُه ْم‬ ‫أ‬
‫مبملكني الجنبي َ‬ ‫بعدها للبقاء يف دم�شق‪ ،‬ملا �أثارته من ا�شكاالت والتي‬
‫اجلموع مناكبا‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫وم�صعدين‬ ‫ ‬ ‫يقول فيها‪:‬‬
‫وكانت هذه الق�صيدة �إيذاناً ملعركة كربى‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫فت غا�شية اخلنوع ورائي‬ ‫خل ّ ُ‬
‫و�أنه كان ي�شعر ب�أزمة نف�سية‪ ،‬فالتقط ا ألزمة ال�سيا�سية‪،‬‬
‫لكي يعبرّ عن ا ألزمتني‪.‬‬
‫قب�س جمر َة ال�شهداء‬‫تيت � أ ُ‬
‫و� أ ُ‬ ‫ ‬
‫اىل �أن يقول ‪:‬‬
‫وقد �س�أله الكاتب عن ا ألزمة النف�سية التي كان يعاين‬ ‫�أ�ضحية احللف الهجني ب�شارة‬
‫منها ف�أجاب‪:‬‬ ‫ل َك يف تك�شفِ �سوءة الهجنا ِء‬ ‫ ‬
‫كنت قد و�صلت اىل حافة الفقر احلقيقي‪ ،‬ومل �أكن �أجد‬ ‫أ‬
‫ما ي�سدّ الرمق مع العائلة‪ ،‬وكنّا ن�ستدين‪ ،‬لن�أكل‪ ،‬ب�سبب‬ ‫�أ�سطورة «الحالف» �سوف ّ‬
‫ميجها التا‬
‫ريخ مثل خرافة «احللفاء»‬ ‫ ‬
‫علي نظرا ً ملواقفي‪ ،‬فقررت‬ ‫احل�صار‪ ،‬الذي فر�ضه احلكام ّ‬ ‫لعل العدّة الفكرية وال�سيا�سية مثلت عنا�رص التحدي‬
‫�أن �أرفع �صوتي‪ ،‬ألقرّعهم و�أدعو ل إلجهاز عليهم والثورة‬
‫امل�ستمرة التي كان اجلواهري ينزل بها اىل امليدان‬
‫�ضدهم‪ .‬وال �أخفيك �رسا ً �إذا قلت لك �أن زوجتي «�أم جناح»‬
‫دون ح�ساب للعواقب‪� .‬صحيح ان لكل ق�صيدة ظروفها‬
‫م�سه �شيء من اجلنون‪ ،‬وهي تعرف �أنني‬ ‫قالت رمبا ّ‬
‫قررت االقتحام‪ ،‬وكنت قد ح�ضرّ ت نف�سي لالعتقال بعد‬ ‫ون�ش�أتها لكنه بطبعه احلاد واملت�أزم واملتوتر كان يقود‬
‫�إلقاء تلك الق�صيدة‪.‬‬ ‫رد الفعل تبعاً حلالته النف�سية‪ .‬ف�أحياناً يلتقي توتره‬
‫ولكنني عندما و�صلت بهدف ا�ستجوابي ا�ستقبلني‬ ‫ال�شخ�صي مع التوتر ال�سيا�سي‪ ،‬فرتاه يهلل يف داخله‪،‬‬
‫حاكم التحقيق‪ ،‬وهنا كانت الده�شة‪� ،‬أو املفاج�أة‪ ،‬عندما‬ ‫يقول ق�صيدته وليكن من بعده الطوفان‪ .‬ورغم اال�ساءات‬
‫�أخربين �أنه معجب ب�شعري‪ .‬لي�س هذا فح�سب‪ ،‬بل �إنه‬ ‫وحماوالت النيل منه‪ ،‬فهو القائل عن نف�سه �أو خماطباً‬
‫يحفظ بع�ض �أ�شعاري‪ .‬وهنا فتح �أدراج مكتبه‪ ،‬و�أطلعني‬ ‫نف�سه متحدياً‪:‬‬
‫على بع�ض الق�صائد املحفوظة يف ملف خا�ص‪ ،‬كان‬ ‫ت�سامي ف�إنك خري النفو�س‬
‫قد مت «كب�سها» �أي و�ضع اليد عليها‪ ،‬عند مداهمة بيوت‬ ‫ �إذا قي�س كل على ما انطوى‬
‫ال�شيوعيني والي�ساريني‪ ،‬باعتبارها �أحد امل�ستم�سكات‬ ‫و�أح�سن ما فيك �أن ال�ضمري‬
‫اجلرمية‪ .‬و�أتذكر ق�صيدة « عامل الغد» التي كانوا يتغنّون‬ ‫ي�صيح من القلب‪� :‬إين هنا!‬ ‫ ‬
‫بها‪ ،‬كانت �ضمن امللف‪.‬‬ ‫كان اجلواهري هو الذي يبد� أ املعركة‪ ،‬بل يفر�ضها على‬
‫ورغم ال�ضجة التي �أحدثتها ق�صيدة ها�شم الوتري «‬ ‫«ا آلخرين»‪ ،‬ومل يكن �سهالً � أن يقبل خ�صومه � أو � أعداءه‬
‫�إيه عميد الدار»‪ ،‬فقد مت ا�ستبقاء اجلواهري يف التوقيف‬ ‫ب�سهولة �إن مل يكونوا من العيار الثقيل‪ ،‬فمن ال ي�ستحق‬
‫«فقط» وذلك من باب « االحرتاز» وبكل احرتام و�أدب‪.‬‬ ‫� أن يكون خ�صماً له يهمله حتى و�إن حاول النيل منه‬
‫ومع اجلواهري ميكن �أن نقول‪� :‬إن وزراء ذلك الزمان‬ ‫� أو التعر�ض له‪ .‬كان اعتداده اجلميل بنف�سه � أقرب اىل‬
‫و�سيا�سييه‪ ،‬مل يكونوا من النوع الذي ي�ستمرئ كتابة‬ ‫الغرور املت�سامي واملتعايل‪ ..‬انه يرف�ض � أن ينزل اىل‬
‫التقارير �أو الظهور مبظهر القبح‪ ،‬الذي ن�صادفه هذه‬ ‫�ساحة معركة ال يتمتع بها اخل�صم � أو العدو‪ ،‬بامل�ؤهالت‪،‬‬
‫ا أليام‪ ،‬حيث �أ�صبح ا ألمر ظاهرة ب�شعة‪ ،‬على رغم من‬ ‫التي جتعله خ�صماً � أو عدوا ً له‪ ،‬كان يريد التكاف� ؤ عند‬
‫�أن التعامل معه قد يكون لذر الرماد يف العيون ب�صورة‬ ‫املواجهة � أي�ضاً‪ � ،‬ألقى اجلواهري ق�صيدته يف حفل تكرمي‬
‫مفتعلة �أو ملفقة‪ ،‬لكنها يف الوقت نف�سه تعرف �أنها‬ ‫الدكتور ها�شم الوتري وبح�ضور كبار م�س�ؤويل الدولة‪،‬‬
‫‪38‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ي�شم‬ ‫‪s‬‬
‫وقد ربطتني به عالقة خا�صة‪ ،‬ومل �أقل كلمة واحدة ّ‬ ‫تتعامل مع �شاعر كبري‪ .‬فرغم منا�صبته العداء للحكام‬
‫منها رائحة التملق وكتبت رثائية له عام ‪.1978‬‬ ‫اال ّ �أنهم كانوا رحومني به با�ستثناء «الزعيم» عبد الكرمي‬
‫تعج َل ب�رشَ طلعت َك ا ألفو ُل‬
‫َّ‬ ‫قا�سم‪ ،‬الوحيد الذي و�ضع القيد يف يديه كما يقول‬
‫املوعود غو ُل‬
‫َ‬ ‫�شباب َك‬ ‫وغا َل َ‬ ‫ ‬ ‫مبرارة‪ ،‬وذلك بعد املماحكة التي دارت بينه وبني الزعيم‬
‫ومثل هذا حدث عند كتابة ق�صيدة اىل امللك حممد‬ ‫عبد الكرمي قا�سم‪.‬‬
‫ال�ساد�س �أو الرئي�س حافظ ا أل�سد �أو امللك ح�سني وغريهم‪،‬‬ ‫أ‬
‫ولكن قبل ذلك‪ ،‬فقد حدث ما ي�شبه الفجوة �و الفراغ بني‬
‫وذلك تعبريا ً عن اعتزازهم به وتقديرا ً ملواقفهم منه وردا ً‬ ‫اجلواهري وبني ال�شارع �رسعان ما مت ا�ستعادته وذلك‬
‫للجميل الذي �أ�سدوه له‪.‬‬ ‫بعد ق�صيدة « التتويج» �أيار ‪ 1953‬التي كانت خارج‬
‫لقد كانت هجائيات اجلواهري نارية‪ ،‬كما هو يف حبه‬ ‫ال�سياق‪ ،‬وهو ما حاول البع�ض النفاذ منه‪ ،‬ال�سيما‬
‫�أي�ضاً‪ ،‬ففي ق�صيدة ها�شم الوتري‪ ،‬نرى كيف ي�ضع‬ ‫باال�ساءة للجواهري‪.‬‬
‫ويوجه ال�سهام عليهم‪ ،‬وكان �أقطاب‬ ‫ّ‬ ‫اخل�صوم يف زاوية‪،‬‬ ‫خيار ال�شعر هو الوحيد!!‬
‫احلكم قد �أُخذوا �أخذَ الذين كفروا‪ .‬وقد م�ضى يف �إلقاء‬
‫�إذا كان‬ ‫و�إذا كان اجلواهري قد ترك « املنا�صب» واختار ال�شعر‬
‫الق�صيدة حتى النهاية‪� ،‬أما لو كنا يف هذه ا أليام كما‬
‫اجلواهري قد‬ ‫والكلمة احلرة‪ ،‬فقد كان فيما كل ما قال وما كتب مل‬
‫يقول اجلواهري (حوار مع الكاتب ‪ 1985‬يف دم�شق غري‬
‫ترك « املنا�صب»‬ ‫من�شور)‪ ،‬فقد يكون من البيتني ا ألولني‪ُ ،‬ينزل ال�شاعر �أو‬ ‫يغت�صب �ضمريه‪ ،‬ومل ي�شعر �أنه عك�س قناعاته كما عبرّ‬
‫عن ذلك يف حوارات مع الكاتب وما �أورده يف مذكراته‬
‫واختار ال�شعر‬ ‫اخلطيب وقد يغيب‪ .‬بعد �أن �أكمل الق�صيدة‪ ،‬مزق �أوراقها‬ ‫الحقاً‪ .‬مع �أن هذه القناعات تتغري بالطبع‪ ،‬ي�ستثني‬
‫والكلمة احلرة‪،‬‬ ‫ورماها يف الهواء‪ ،‬وغادر‪ ،‬و�إذا به يف معتقله‪ ،‬يف مديرية‬ ‫عو�ضها مبلحمية �شعرية ذاتية‪،‬‬
‫التحقيقات اجلنائية‪ ،‬يفاج�أ بوفد من ال�شباب املتنور‬ ‫من ذلك مرة واحدة ّ‬
‫فقد كان فيما‬ ‫وك�أنه يريد اعالن براءته بعد مراجعة قا�سية للنف�س يف‬
‫كل ما قال وما‬ ‫ومعه «ق�صا�صات من الق�صيدة املمزقة‪ ،‬جمموعة من‬ ‫اخلم�سينات‪ ،‬و�أعني بها ق�صيدة التتويج التي حلقها‬
‫حديقة امل�سبح الذي �شهد االحتفال»‪ .‬ويقول كرمي مروة‬ ‫م�ستدركا يف ق�صيدة كفارة وندم‪.‬‬
‫كتب مل يغت�صب‬
‫انه كان قد جمعها وزار اجلواهري يف معتقله و�سلّمه‬ ‫و�شهاب ـ‬ ‫ويفنى نيز ٌك‬
‫�ضمريه‪ ،‬ومل‬ ‫�إياها مع ناجي جواد ال�ساعاتي ثم ن�رش الق�صيدة يف‬ ‫ُ‬ ‫�ستبقىـ َ‬
‫ي�شعر �أنه عك�س‬ ‫غ�ضاب‬
‫ُ‬ ‫عرو ٌق �أبيّات الدماء‬ ‫ ‬
‫جريدة التلغراف التي ت�صدر يف بريوت مبعاونة ح�سني‬ ‫وبعد نحو عام كتب ‪:‬‬
‫قناعاته‬ ‫مروة وابنه نزار ‪.‬‬
‫الذيب» فبعد �أن �أغرى فريق‬ ‫�أما ق�صيدة «كما ي�ستكلب‬ ‫خبت لل�شعر � أ ُ‬
‫نفا�س‬
‫ُ‬ ‫اليا�س‬
‫ُ‬ ‫ �أم ا�شت َّط بك‬
‫من احلاكمني بع�ض طالب املجد الكاذب من امل�أجورين‬ ‫كهذا كان خياره مع النا�س‪� ،‬ضد احلاكمني ومل ي�ش�أ �أن‬
‫واحلا�سدين ل�شتم اجلواهري كتب هذه الق�صيدة‪ ،‬التي‬ ‫ت�ؤثر تلك الكبوة على م�ساره املعروف وبجر�أة و�شجاعة‬
‫يقول فيها‪:‬‬ ‫واجه املوقف‪ ،‬يف حني كان الكثريون ال يتوقفون‬
‫الذيب‬
‫ُ‬ ‫ي�ستكلب‬
‫ُ‬ ‫كما‬ ‫علي‬
‫عدا َّ‬ ‫ملراجعة مواقفهم ولي�سوا معنيني بتقدمي نقد ذاتي اىل‬
‫مناط �أعاجيب‬ ‫ببغداد � أ ٌ‬‫َ‬ ‫خل ٌق‬ ‫ ‬ ‫اجلمهور‪.‬‬
‫وبعد هذا املطلع يقول‪:‬‬ ‫و�إذا كان البع�ض يلومه �أو ينتقده ألنه كان قد كتب‬
‫ت�سعون كلباً عوى خلفي وفوقهم‬ ‫ق�صيدة لهذا الزعيم �أو ذلك امللك �أو القائد‪ ،‬ف�إنه كان‬
‫م�سكوب‬
‫ُ‬ ‫�ضوء من القمر املنبوح‬ ‫ ‬ ‫ينطلق من قناعة ومن رد للجميل مبا فيها ق�صيدته إلبن‬
‫انتق�صت‬
‫ْ‬ ‫لف فما‬‫وقبل �ألف عوى � ٌ‬
‫أ‬ ‫البكر حممد حيث يقول اجلواهري يف حوار مع الكاتب‪:‬‬
‫عاريب‬
‫ُ‬ ‫بال�شتم ا أل‬
‫ِ‬ ‫«�أبا ّ‬
‫حم�سد»‬ ‫ ‬ ‫« اجلماعة» ويعني «حزب البعث احلاكم» �آنذاك كرّموين‬
‫�أو كما يقول يف ق�صيدة يا ابن الثمانني‪:‬‬ ‫يف حينها‪ ،‬وعوملت ب�شكل خا�ص‪ ،‬وقد كتبت بدافع‬
‫�ص�ص‬
‫يا «ابن الثمانني»كم عوجلت من َغ ٍ‬ ‫«الوحدة الوطنية» والتئام ال�شمل‪ ،‬بل �إن ظروف املرحلة‬
‫باملغريات فلم ت�رشق‪ ،‬ومل ِ‬
‫مت ِل‬ ‫ ‬ ‫والواقع ال�سيا�سي‪ ،‬كانت تفر�ض بع�ض التوجهات‪ .‬ومل‬
‫كم هزَّ دوحك من «قزم» يطاول ُه‬ ‫�أكن يف حينها خارج مزاجي وطموحي‪� .‬أما حول ال�شاب‬
‫فلم ينل ُه‪ ،‬ومل تق�رصْ‪ ،‬ومل يط ِل‬ ‫ ‬ ‫«حممد» جنل الرئي�س البكر‪ ،‬فقد قتل يف حادث �سيارة‪،‬‬
‫‪39‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فخرج الزعيم عن حلمه ألول مرة‪ ،‬وبدون تفكري منه‬ ‫عات» �أن يكون لها‬
‫وكم �سعت «� إ ّم ٌ‬
‫رد قائالً‪� :‬أنت من بقايا نوري ال�سعيد! كان يفرت�ض‬ ‫ما ثار حولك من لغ ٍو‪ ،‬ومن جد ِل‬ ‫ ‬
‫باجلواهري �أن يقول له‪� ،‬أنا فالن‪� ،‬أول من كنت حتاول‬ ‫بت‬
‫ُ ْ‬‫ِ‬
‫�ص‬ ‫ن‬ ‫فقد‬ ‫للبلوى‪،‬‬ ‫نانك‬‫ثبّ ْت َج‬
‫م�صاحبته يف لندن‪ ،‬و�أول من زرته يف البيت‪ ،‬وحينها‬ ‫لك الكمائ ُن من غد ٍر‪ ،‬ومن ختَ ِل‬ ‫ ‬
‫يكون الزعيم خا�رسا ً واجلواهري هو الغالب يف هذه‬ ‫جنرال و�شاعر‬
‫املعركة‪ ،‬لكنه كما يقول مل يقل له ذلك‪ ،‬بل قال له هل‬
‫لقد �أخذ املنفى ق�سطه من اجلواهري ال�سيما ب�سبب تع ّكر‬
‫ت�أذن يل باخلروج يا �سيادة الزعيم؟ و�أردف بالقول‬ ‫كان اجلواهري‬
‫العالقة مع «الزعيم» عبدالكرمي قا�سم حيث بد�أت رحلته‬
‫مبا ن�صَّ ه‪�« :‬أحتداك و�أمام اجلال�سني‪� ..‬أحتداك و�أ�رشت له‬ ‫يطمح اىل ما‬
‫ال�شهرية التي امتدت اىل �سبع عجاف على حد تعبريه‪.‬‬
‫ب�إ�صبعي‪ ..‬نعم �أحتداك مرة �أخرى‪ »..‬و�أعتقد �أنني �أرفقتها‬ ‫حتت ال�سطح‪،‬‬
‫من �أكرث الق�ضايا �إثارة‪ ،‬هي عالقة �شاعر بجرنال قائد‬
‫بيا �سيادة الزعيم عبدالكرمي‪� ،‬إن كان لديك الوثائق؟!‬ ‫العمق‬ ‫وهو أ‬
‫ولعل هذه احلادثة‪ ،‬كانت هي ال�سبب يف مغادرة‬ ‫ثورة �أو انقالب‪ .‬فقد تعرّف اجلواهري على عبدالكرمي‬
‫قا�سم يف لندن‪ ،‬وقد رافقه �إىل طبيب ا أل�سنان‪ ،‬ملعاجلة‬ ‫والغزر‬ ‫أ‬
‫رب‬
‫اجلواهري العراق‪� ..‬إىل املنفى وكما يقول اجلواهري‪َّ :‬‬
‫�أ�سنانه‪ ،‬عندما كان هو يف دورة ع�سكرية‪ ،‬حيث التقاه‬ ‫والبهى‪ ..‬يبحث‬ ‫أ‬
‫�ضارة نافعة‪ ،‬مثلما يقولون‪ .‬رحم اهلل عبد الكرمي قا�سم‪،‬‬
‫يف ال�سفارة العراقية �آنذاك‪ ،‬ومرت ا أليام و�سمع بنب�أ‬
‫فلو مل تكن له معنا هذه الق�صة‪ ،‬فقد كنا قبعنا يف العراق‪،‬‬ ‫الن�شوة الروحية‬
‫«الثورة» و�إذا به يفاج�أ ب�صورة رجل كان قد ن�سي‬
‫واهلل العامل ما كان �سيحدث لنا يف ال�سنوات ال�سوداء‪.‬‬ ‫التي يريدها‬
‫مالحمه‪ ،‬ف�إذا به «الزعيم» الذي �أطلق عليه «ا ألوحد»‬
‫لكنه ا�ضطرنا �إىل «الت�رشد» عن الوطن يف خريف ‪،1961‬‬ ‫من املر�أة‪ ،‬ويفت�ش‬
‫ورمبا للت�رشد املوعود وهي ح�سنة ورمبا ك ّفارة عن‬ ‫فيما بعد‪ ،‬وركبه الغرور حتى التع�سف‪.‬‬ ‫عن حالة احلب‬
‫يقول اجلواهري يف حواراته مع الكاتب ‪ :‬ميكن �أن تتعجب‬
‫كل ما فعله معنا‪ ،‬قبل الت�رشد �أنا وزوجتي «�أم جناح»‬ ‫احلقيقي الذي‬
‫�إذا قلت لك �أن «الزعيم» كان كثري التهيب يف عالقته مع‬
‫وبنتينا خيال وظالل‪ ،‬وكنت بحكم عالقاتي مع احتادات‬ ‫مل يتذوقه � إ ّ‬
‫ال‬
‫ا ألدباء وكان �أول بيت زاره يف العراق‪ ،‬بعد الثورة‪ ،‬هو‬
‫ا ألدباء‪ ،‬ونقابات ال�صحفيني يف الدول اال�شرتاكية‪ ،‬فقد‬
‫بيتي‪ ،‬وقد تكررت الزيارات‪.‬‬ ‫وهو �شيخ يدلف‬
‫� أ ّمنت مقاعد درا�سة ألبنائي يف �صوفيا ومو�سكو وباكو‬
‫وعندما بد�أت ا ألمور ت�سوء وبد� أ الزعيم يركب ر�أ�سه‬
‫وبراغ‪ ،‬جزاهم اهلل �ألف خري‪ ،‬وهكذا كان م�صري فرات‬ ‫نحو اخلم�سني‬
‫وينفرد بكل �شيء‪ ،‬كتب اجلواهري مقالة يف ال�صحيفة‬
‫وفالح وجناح وكفاح‪ .‬رحم اهلل عبد الكرمي قا�سم‪ ،‬حني‬ ‫مع �أنيتا‪ ،‬وكانت‬
‫رد �إىل ا ألم�صار عجلى‬ ‫التي كان ي�صدرها «الر�أي العام» بعنوان‪ :‬ماذا يجري‬ ‫حالة احلب‬
‫رمانا خلف احلدود وك�أننا ُ‬
‫«ب ٌ‬
‫يف امليمونة؟ وامليمونة قرية يف جنوب العراق تعر�ضت‬
‫ُترزم»‪.‬‬ ‫املفقود ت�سكن‬
‫لهجوم بولي�سي‪ ،‬انتهكت فيه ا ألعرا�ض‪ ،‬و�صادف �أن قابل‬
‫�إذا كان قا�سم زعيم ال�سلطة ال�سيا�سية والع�سكرية‪،‬‬ ‫الروح والعقل‪،‬‬
‫اجلواهري الزعيم عبدالكرمي قا�سم يف وزارة الدفاع‪،‬‬
‫فاجلواهري زعيم ال�سلطة الثقافية وا ألدبية يف العراق‪،‬‬ ‫وتفتقد اجل�سد‬
‫با�سم الهيئة ا إلدارية الحتاد ا ألدباء‪ ،‬وكان يح�رض معه‬
‫فهو رئي�س احتاد ا ألدباء ورئي�ساً لنقابة ال�صحفيني‬
‫ال�سيد احلبوبي‪ ،‬والدكتور �صالح خال�ص‪ ،‬والفنان يو�سف‬ ‫الذي يعطي‬
‫و�شاعر العرب ا ألكرب كما يكنّى! ولكن كيف ل�شاعر مثل‬
‫العاين‪ ،‬والدكتور املخزومي والدكتور علي جواد الطاهر‪،‬‬ ‫ملمحا ً �آخر‬
‫اجلواهري �أن يرمى خلف احلدود؟ وقد �س�ألته ماذا‬
‫و�إذا بالزعيم يخاطب اجلواهري «‪� ..‬أ�ستاذ اجلواهري‪ :‬ماذا‬
‫كان هناك؟ زمهرير الغربة �أم فردو�س احلرية؟ و�أجاب‬ ‫للن�شوة وال�سعادة‬
‫يجري يف امليمونة؟‪ »..‬ويقول اجلواهري كنت �أخ�شى مثل‬
‫اجلواهري مع ح�رسة و�أمل‪ :‬ا إلثنان معاً‪ ..‬وباللهجة‬ ‫واحلب‬
‫هذه املواجهة‪ ،‬ألنني كنت �أحتا�شاها‪ ،‬ومل �أحدد املعركة‬
‫العراقية �أردف (�أي واهلل) �أي بلى واهلل ‪ :‬كان هناك الفردو�س‬
‫بعد‪ .‬ف�أجبت ب�أدب وقلت له «�سيدي الزعيم �أنا ال �أ�ستطيع‬
‫املفقود واملوعود معاً‪ .‬كانت براغ الذهبية مدينة ا ألبراج‬
‫�أن �أدافع عن نف�سي كثريا ً يف هذا املو�ضوع»‪� .‬أ�س�ألك فقط‬
‫واجلمال‪� .‬صحيح �أننا دفعنا �أثماناً باهظة من كراماتنا‬
‫�س�ؤاال ً واحداً‪ ،‬ه ّن بناتك و�أظنهن جئن �إليك وعر�ضن ما‬
‫املهانة‪ ،‬ومن �شماتة ال�شامتني‪ ،‬وت�ش ّفي املت�شفني‪ ،‬ولكننا‬
‫تعرّ�ضن له‪« ..‬مبعنى �أنه مل يكتب ذلك عبثاً‪ ،‬وقد �أحرج‬
‫مع جفاف الغربة‪ ،‬ك�سبنا حريتنا وحالوة احلياة!‬
‫«الزعيم» فهو ال ي�ستطيع �أن يقول له نعم وال يرغب �أن‬
‫مع�شوقات الجواهري‬ ‫يقول ال‪ .‬ثم �أخذ يتهرب من املواجهة‪.‬‬
‫�أما الغلطة الكربى التي ارتكبها اجلواهري كما يقول‪ :‬ويف براغ كتب قطعة �شعرية �أ�سماها زوربا‪ ،‬وهي‬
‫هي �إنه خاطب الزعيم‪« :‬الثورة وب�رشطة نوري ال�سعيد؟» م�ستوحاة من رواية «زوربا»‪ .‬كان ذلك عام ‪،1969‬‬
‫‪40‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وكعادة ا ألوروبيني يف ذلك الزمان‪ ،‬حتاول ا إليحاء‪ ،‬ف�إذا‬ ‫ومما قاله‪:‬‬
‫مل ت�ستطع تلبية املوعد �أو الطلب‪ ،‬تقول «رمبا» وعليك‬ ‫دام‬
‫وارمتت من �شفق ٍ‬
‫�أن تفهم‪� ،‬أنها ال ترغب يف الكذب‪ .‬كنا نتفاهم ببع�ض‬ ‫على ا ألر�ض ِج ٌ‬
‫راح‪..‬‬
‫الكلمات الفرن�سية‪� ،‬إ�ضافة �إىل االنكليزية‪ ،‬التي كان‬ ‫وجراح‬
‫ْ‬
‫�إملامها بها مثل �إملامي وهو ما �ساعدنا على االنطالق‪،‬‬ ‫وتهاوت فوقه‪..‬‬
‫وحماولة �إفهام كل طرف للطرف ا آلخر‪ ،‬وا�ستمرت‬ ‫من ِمزَ ِق الغيم‪..‬‬
‫العالقة ثم انقطعت وتوا�صلت‪ ،‬ورغم �أنني كنت من‬ ‫مالح‬
‫ات ْ‬ ‫�صبيّ ٌ‬
‫جانبي م�ستمرا ً يف حبي‪� ،‬إال ّ �أنها بد�أت تخفت تدريجياً‪،‬‬ ‫أ‬
‫كان اجلواهري يطمح اىل ما حتت ال�سطح‪ ،‬وهو العمق‬
‫وعندها عرفت �أن الن�سخة ا أل�صلية �ضاعت ومبعنى عليك‬ ‫وا ألغزر وا ألبهى‪ ..‬يبحث الن�شوة الروحية التي يريدها من‬
‫البحث عن بدل �ضائع!‬ ‫املر�أة‪ ،‬ويفت�ش عن حالة احلب احلقيقي الذي مل يتذوقه‬
‫�أنيتا تلك خلّدها اجلواهري بخم�س ق�صائد يف مقدمتها‬ ‫اال ّ وهو �شيخ يدلف نحو اخلم�سني مع �أنيتا‪ ،‬وكانت حالة‬
‫ملحمة �أنيتا‪.‬‬ ‫احلب املفقود ت�سكن الروح والعقل‪ ،‬وتفتقد اجل�سد الذي‬
‫الح يه ُزين‬
‫«انيت» َ‬
‫َ‬ ‫�إين وجدت‬ ‫يعطي ملمحاً �آخر للن�شوة وال�سعادة واحلب‪ ،‬و�إذا كان‬
‫طيف لوجه ِك ُ‬
‫رائع الق�سمات‬ ‫ٌ‬ ‫ ‬ ‫زوربا يحب احلياة‪ ،‬ويريد اال�ستمتاع بكل دقيقة فيها‪.‬‬
‫�سطحه!‬
‫م�سح َ‬ ‫�أل ُق «اجلبني» �كاد � ُ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫فاجلواهري يريد �أن يتنف�س مبلء رئتيّه كل حلظة ولي�س‬
‫بفمي‪ ،‬و�أن� ِش ُق عطرَه ب�شذاتي‬ ‫ ‬ ‫كل دقيقة‪ .‬يريدها حلظة جنونية بكل حمتوياتها‪ ،‬واملر�أة‬
‫�إىل �أن يقول‪:‬‬ ‫عنده �صورة الفرح الذي يتذهب مثل وهج ال�شم�س‪ .‬كان‬
‫ح�سبي وح�سبك �شقوةٌ!وعبادةٌ!‬ ‫هكذا يحلم وقد �أعطته براغ الكثري وهو القائل فيها‪:‬‬
‫فرغ منك ك�أ ُ�س حياتي‬ ‫ �أن لي�س َت ُ‬ ‫ال�شوط من ُع ُمري‬
‫َ‬ ‫�أطلتِ‬
‫وباملنا�سبة‪ ،‬فقد ن�رش �شاعرنا اجلواهري هذه الق�صيدة‬ ‫ �أطا َل اهلل من ُعمرك‬
‫التي كتبت يف �أواخر عام ‪ 1948‬و�أوائل عام ‪1949‬‬ ‫لغت بال�رشِّ‬
‫وال ُب ُ‬
‫باملقدمة التالية «كان حباً عارماً ال يريد ـ وال يقدر لو‬ ‫وال بال�سوء من خربك‬ ‫ ‬
‫�أراد ـ �أن يقف عند حد‪ ،‬وكان ك�أنه يتفجر عن «ينبوع»‬ ‫�أما ق�صة ن�ساء اجلواهري ومع�شوقاته‪� ..‬أنيتا الباري�سية‬
‫ثجاج‪ ..‬وكان �رس اخلفاء يف هذا الينبوع‪..‬‬ ‫خفي ّ‬ ‫وبارينا البوهيمية ومارو�شكا الت�شيكية؟! فهذا �ش�أن له‬
‫رغبات! و� آالم! ومطامح!‪ ..‬ظلت طوال ثالثني عاماً‪،‬‬ ‫عالقة بتفكري اجلواهري‪.‬‬
‫هي ع�صارة العمر الزاحف! ي�سحق بع�ضها بع�ضاً!‬ ‫كانت �أنيتا من بنات ال�سني من باري�س لها عينان‬
‫حتى لو وجد هذا الينبوع املختنق منفذا ً بديالً عنه ملا‬ ‫زرقاوان‪ ،‬كزرقة ال�سماء �أو البحر‪ ،‬يف وجهها �شحوب‬
‫اختلف ا ألمر بكثري‪ .‬لقد كان هذا احلب من «الفورة»‬ ‫خفيف‪ ،‬وعندما كانت حتت�سي ك�أ�س الكونياك‪ ،‬كانت‬
‫و»ال�سورة» لدرجة �أن �صاحبه كان ال يرى يف مالمح‬ ‫خدودها تتورد كما يقول اجلواهري‪ ،‬ثم ي�ضيف‪:‬‬
‫املر�أة التي �أحب‪� ،‬إال ما يراه العازف املتجرد يف �أنغام‬ ‫ا�ستهوتني و�أنا جال�س يف مقهى‪ ،‬ف�أخربين �أحد الطالب‬
‫قيثارته من �أنها طريق للتعبري و�شعار لالنطالق‪..‬‬ ‫العرب‪ ،‬ب�أنها كانت تتابعني‪ ،‬و�أنها �سمعت عني الكثري‪،‬‬
‫على هذا ال�ضوء تلتقط ال�صورة ال�صادقة لق�صيدة ‪..‬‬ ‫وهي معجبة‪ ،‬وكانت نظرتي تنم عن ارتياح ال يخفيه‬
‫«�أنيتا»‪.‬‬ ‫�شيء‪ ،‬لقد �أبدت رغبة يف التعرف بي‪ ،‬و�صاحبتها‬
‫ثم � أتبع هذه امللحمة بق�صيدة � أخرى بعنوان �شهرزاد‬ ‫مدة من الزمن‪ ،‬وكانت هي �سبباً يف حماولة تعلّمي‬
‫وهو مرق�ص باري�سي م�ستوحى من اخليال ال�رشقي‬ ‫الفرن�سية‪ ،‬وكان ذلك مدخالً ملا �سي�أتي‪ .‬و�صل حبي معها‬
‫وحكايات «� ألف ليلة وليلة»‪ .‬ويقول فيها بخ�صو�ص‬ ‫�إىل اجلنون‪ ،‬وكانت هذه املر�أة غريبة ا ألطوار وحتمل‬
‫� أنيتا‪:‬‬ ‫املتناق�ضات‪ ..‬لكنها ال متاثلني يف املتناق�ضات‪ ،‬بل يف‬
‫�إن وجه الدجى «�أنيتا» جتلـى‬ ‫االختالف والتكامل‪ ،‬الذي ي�صل حد ال�شذوذ والغرابة‪.‬‬
‫عن �صباح من ُمقلتيــك �أطــال‬ ‫ ‬ ‫كانت امر�أة كور�سيكية (من مقاطعة بني �إيطاليا‬
‫�أما املقطوعة الثالثة من ق�صيدة انيتا «ذكريات» فقد‬ ‫وفرن�سا) فيها بع�ض العادات القدمية‪ ،‬كانت �صادقة‪،‬‬
‫‪41‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اجلواهري ‪ :‬كان يف «ماريا» �شيئاً كهربائياً اجتذبتني‬ ‫نظمت بعد فرتة القطيعة‪ ،‬ويقول فيها‪:‬‬
‫أ‬
‫نحوها‪ ،‬من �ول نظرة‪ ،‬كما يقولون‪ .‬كنا «��رسى» احلب‪.‬‬ ‫أ‬ ‫نيت» طيفاً ببايل‬ ‫ال مترّي «� أ ُ‬
‫جاءت مع �صاحبتها‪ ،‬التي ربطتني بها عالقة حب عابرة‪،‬‬ ‫ي�سم حلمي ومايل؟‬ ‫ما لِطيفٍ ُّ‬ ‫ ‬
‫وكانت املقطوعة الرابعة بعنوان «فراق»‪ .‬وحملت وفج�أة بعد �أن دخلت �إىل ال�شقة‪� ،‬أخذتها با ألح�ضان‪،‬‬
‫املقطوعة اخلام�سة ا�سم «وداع» وقد كتبتها يف باري�س حتى ان امل�سكينة‪ ،‬التي جاءت لتعرّفها بي‪ ،‬وكانت قد‬
‫ت�أخرت لدفع �أجرة التاك�سي‪ ،‬فوجئت بحالة االن�سجام‬ ‫يف ‪� 13‬شباط (فرباير) ‪:1949‬‬
‫التي بيننا‪ .‬حيث ر�أت مارو�شكا وك�أنها حمامة تعود �إىل‬ ‫ال�سباع‬
‫ْ‬ ‫نيت» نزلنا بوادي‬ ‫«� أ ُ‬
‫ع�شها‪ ،‬ويزقزق معها‪ ،‬ذلك الطائر ال�رشيد‪ ،‬الذي ظل يغني‬ ‫ذيب حديدَ ال�صرِّ اع‬ ‫بوا ٍد ُي ُ‬ ‫ ‬
‫حتى عادت مع�شوقته!‬ ‫ُيعيرَّ ُ فيه اجلبا ُن ال� ُّشجاع‬
‫أ‬
‫و�س�لته وماذا فعلت الولى؟‬ ‫أ‬ ‫الوداع‬ ‫يوم‬
‫ُ‬ ‫حان‬ ‫لقد‬ ‫»‬ ‫«� أ ُ‬
‫نيت‬ ‫ ‬
‫وقد �س�ألت اجلواهري‪� :‬أبا فرات‪ ،‬ومن كان بدرجة حب‬
‫«�أنيتا»‪ ..‬هل كانت بارينا �أم ماريا «مارو�شكا» ا�سم اكتفت بنظرة حزن ورمبا �سقطت دمعة هادئة‪ ،‬لكنها‬
‫حارة‪ ،‬على خدها‪ ،‬ال �أدري ا آلن‪ ،‬كيف �أُخذت‪ ،‬رغم �أن‬ ‫ّ‬ ‫الدلع والتحبب؟‪ .‬وبعد �أن اعتدل اجلواهري يف جل�سته‬
‫عالقتي مع �صديقة مارو�شكا كانت ب�سيطة‪ ..‬لكنها‬
‫وبن�شوة ا�ستذكر تلك ا أليام احللوة على حد تعبريه فقال‪:‬‬
‫�أ�صيبت بالده�شة‪ ،‬حني ر�أت هذا الغرام واالن�سجام‪،‬‬
‫كانت بارينا‪ ..‬حتلّق يف عامل خا�ص‪� ،‬ساحر ومثري‪،‬‬
‫�صحيح �أنها مل تكن مثالية‪ ،‬لكنها �أُخذت على حني غرّة‪،‬‬
‫ع�شقتها فرتة تقارب الثالث �سنوات‪ ،‬كانت «بنتاً عجيبة كما يقال‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫مثل ��سطورة‪ .‬وجه م�ضيء وج�سد �فعواين رغم الحزان»‪ ..‬عندما تعرفت على مارو�شكا‪ ،‬مل تكن تت�صور هي ومن‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫�قرب �إىل اخليال‪ ..‬جتعلك ت�صدّق ما تقر�ه يف ال�ساطري‪ .‬معها‪� ،‬أنني اكت�شفت ا آلن النموذج‪« ،‬املوديل»‪ ،‬الذي كنت‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫كان �إح�سا�سي نحوها‪� ،‬نني �مام �شيء خمتلف من �أبحث عنه ل�سنوات طويلة‪ .‬كانت تت�صور نزوة �شاعر‪،‬‬
‫الن�ساء‪ ،‬تعارفنا يف براغ‪ ،‬وهي بوهيمية‪ ،‬و�أقرب �إىل �أو هكذا ت�صور البع�ض‪ .‬مارو�شكا �إن�سان خمتلف‪ ،‬فهي‬
‫احلياة البوهيمية (التي تقول �إن غرفة كان يتقا�سمها ال ت�شبه بارينا ولي�ست مثل �أنيتا‪ ،‬هي بب�ساطة امر�أة‬
‫عدة �أ�شخا�ص يعي�شون فيها‪ ،‬ي�أكلون ويجوعون ويحبون طبيعية‪ ،‬غري متكلفة‪ ،‬حلوة املع�رش‪ ،‬وديعة ودافئة‪ ،‬فيها‬
‫الكثري من مزاج ال�شباب وحما�سته وعنفوانه ومرحه‪،‬‬ ‫بطريقتهم اخلا�صة)‪.‬‬
‫والدة بارينا‪ ،‬كانت يابانية وجدّتها على ما �أعتقد ومع ذلك مل تكن �رصيحة دائماً‪ ،‬كانت مراوغة‪� ،‬إنها عامل‬
‫�إنكليزية‪ ،‬من �أ�صل ياباين‪ ،‬ومل �أكن �أعرف �أي �شيء عن خمتلف‪ ،‬ت�ضحك حني تراوغ وتندم‪ ،‬ثم متطرك بحب ال‬
‫والدها‪ ..‬مل حتدثن عنه‪ ،‬ومن خالل ا ألحاديث املت�أخرة‪ ،‬مثيل له وتعود وتكرر املراوغة‪.‬‬
‫عرفت �أنه ق�ضى نحبه‪� ،‬إما منتحرا ً �أو مقتوالً‪ ،‬بظروف وقد كانت ق�صيدة ملّي لهاتيك ملّا‪ ،‬لفرتة مارو�شكا‪ ،‬وهي‬
‫غام�ضة‪ ،‬و�صادف �أن تعرّفت عليه قبل يومني من توحي بالفرتة الذهبية من حب ال�شاعر‪ ،‬فقد نظمها يف‬
‫براغ‪ ،‬عام ‪ ،1972‬ون�رشت يف عام ‪:1973‬‬ ‫انتحاره �أو موته‪.‬‬
‫ويتابع اجلواهري بت�أمل القول‪ :‬عند موته‪ ،‬ذهبت لتقدمي ملــــي لهاتيـــــك ملّا‬
‫وقرّبـــــي ال�شَّ فتيـــن‬ ‫العزاء �إىل بارينا‪ ،‬واكت�شفت �أن ال�شقة ممتلئة بالتحف ‬
‫ال�صينية وال�ساعات الذهبية‪ ،‬وقلت مع نف�سي‪ ،‬كيف ملّاً علــــى جمــرتيـن‬
‫باملـــوت ملمومتني‬ ‫احتفظ الرجل مبا لديه مع علمي ب�أنه مات معوزاً! ‬
‫وفهمت من بارينا �أنه مل مي�س هذه ا أل�شياء ألنها من يا حلوة امل�رشبيـــن‬
‫من �أين كان‪ ..‬و�أين‬ ‫�أم بارينا‪ ،‬حفاظاً على ذكراها‪ ،‬لكن بارينا بددت ذلك ‬
‫ومينْ ِ‬
‫كذب َ‬‫ب�رسعة على حياتها البوهيمية‪ ،‬وعلى �أ�صحابها‪ ،‬دون من �صن ِع ٍ‬
‫َ�س ُّموهمــا زهــرتني‬ ‫ ‬ ‫ندم �أو �أي �أ�سف‪.‬‬
‫�شعرت فيما بعد �أن بارينا‪ ،‬تبددت‪ ،‬طارت‪ ،‬تال�شت‪ ..‬ال ولعل هذه الق�صائد تذ ّكر‪ ،‬بق�صائد «جربيني»‬
‫و«النزغة» عندما كان ما يزال اجلواهري يف البالط‬ ‫�أدري �إىل �أين؟‬
‫عو�ضت ماريا «مارو�شكا» مكان بارينا؟ يقول امللكي‪ ،‬خ�صو�صاً و�أنها �شكلت عا�صفة من االنتقادات‬ ‫وهل ّ‬
‫‪42‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يل‪ ،‬كيف يح�صل ذلك‪ ،‬وهو عندك (�أي اجلواهري)‪ .‬هل‬ ‫وا إلحراجات للجواهري لدى امللك في�صل ا ألول‪ ،‬وكانت‬
‫تعلم �أن ذلك غري حمتمل‪ ،‬قلت له نعم‪ .‬و�أدركت وعبرَّ ت‬ ‫بحق‪ ،‬جر�أة ال مثيل لها وعن�رص حتدٍّ ال نظري له؟‬
‫عن ذلك باحلرف الواحد‪� ،‬سيدي ا�سمح يل �أال ّ �أثقل عليك‬ ‫وقبل ق�صيدة «جربيني» كانت ق�صيدة «الرجعيون»‬
‫بعد ا آلن‪ .‬فزّ امللك وقال ماذا تق�صد؟ قلت له‪� :‬أن ال �أ�سيء‬ ‫التي كتبها بعد معار�ضة بع�ض « علماء الدين» لفتح‬
‫�إليك بعد هذا‪ .‬فقال يل‪ :‬ارجع مكانك‪.‬‬ ‫مدر�سة للبنات يف النجف‪ ،‬بدعاوى «دينية»‪ ،‬وقد ن�رشت‬
‫لكن اجلواهري عاد ون�رش بعدها ق�صيدة جربيني‪.‬كيف‬ ‫الق�صيدة يف �صحيفة «العراق» ‪� 26‬آب (�أغ�سط�س) ‪،1929‬‬
‫لنا �أن ن�ستعيد تلك ال�صور وتلك ا ألزمان بعد كل الذي‬ ‫والتي يقول يف مطلعها‪:‬‬
‫ر�أيناه فهل ي�أن�س ا إلن�سان بعد هذه العقود الثقيلة من‬ ‫�ستبقى طويالً هذه ا أل ُ‬
‫زمات‬
‫ال�سنني‪ ،‬وقبل ق�صيدة جربيني كانت «النزغة» �أو ليلة‬ ‫ال�صدمات‬
‫ُ‬ ‫ �إذا مل تق�صرّ ْ عمرَها‬
‫الكثري من‬ ‫من ليايل ال�شباب‪ ،‬التي ن�رشت يف �صحيفة العراق‪ ،‬هي‬ ‫�إذا مل ينلها م�صلحون بوا�س ٌل‬
‫�آراء اجلواهري‬ ‫ا ألخرى يف ‪ 18‬ت�رشين ا ألول (اكتوبر) ‪ .1929‬وكانت‬ ‫جريئون فيما يدَّعون كفا ُة‬ ‫ ‬
‫بب�ساطة‬ ‫ثورة على التقاليد‪ ،‬حيث قال فيها‪:‬‬ ‫وقد �أحدثت تلك الق�صيدة �ضجة كربى‪ ،‬وا�ستدعاه امللك‬
‫متناهية كانت‬ ‫ح�سا�سه‬ ‫كم نفو�س �رشيفة ّ‬ ‫في�صل ا ألول‪ ،‬الذي �سبب له �إحراجاً كبرياً‪ .‬حيث كان‬
‫عميقة و�صائبة‬ ‫�سحقوه َّن عن طريق اخل�سا�سه‬ ‫ ‬ ‫بع�ض رجال الدين مقرّبني من امللك في�صل ا ألول‪ ،‬وكان‬
‫وم�ست�شرفة‬ ‫وطباع رقيقة قابلته َّن‬ ‫اجلواهري عنده من املوظفني املقربني �أي�ضاً‪ ،‬وقد �شعر‬
‫للم�ستقبل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الليـــايل بغلظـــة و�شــرا�سـه‬ ‫ ‬ ‫اجلواهري بالغ�ضب ال�شديد ملنع ت�أ�سي�س مدر�سة للبنات‬
‫ولكنه يف الوقت‬ ‫�إىل �أن ي�صل �إىل ما يلي‪:‬‬ ‫تفجر فوجد نف�سه يف �صميم‬ ‫يف النجف‪ ،‬ف�رسعان ما ّ‬
‫قال يل �صاحبي الظريف ويف‬ ‫املواجهة مع القوى الرجعية والفعاليات التقليدية‪،‬‬
‫نف�سه مثل جميع‬
‫الكف ارتعا�ش ويف الل�سان انحبا�سه‬ ‫ِّ‬ ‫ ‬ ‫حيث نظم الق�صيدة يف ليلة واحدة وقد ن�رشتها �صحيفة‬
‫املعنيني بال�ش�أن‬ ‫�أين‬
‫غادرت «ع ِّم ًة» واحتفاظاً‬ ‫َ‬ ‫العراق‪ ،‬با�سمه ال�رصيح‪ ،‬بينما ن�رشت «جربيني» با�سم‬
‫العام‪ ،‬مل تكن‬ ‫قلت‪� :‬إين طرحتُها يف ال ُكنا�سه‬ ‫ ‬ ‫م�ستعار‪ ،‬ولكنه ال يختلف ب�شيء عن ا�سمه ال�رصيح‪ ،‬ألن‬
‫ُ‬
‫كل تقديراته‬ ‫وبعد �أيام ن�رش اجلواهري ق�صيدة جربيني يف �صحيفة‬ ‫بغداد ومثقفيها �صاحوا «هذا اجلواهري»‪ ،‬وحتى امللك‬
‫�صحيحة �أو‬ ‫العراق ‪ 23‬ت�رشين ا ألول (�أكتوبر) ‪ ،1929‬وكانت خروجاً‬ ‫في�صل ا ألول‪ ،‬عارف با�سمه امل�ستعار‪.‬‬
‫متكاملة وهو مثل‬ ‫على كل ما هو م�ألوف‪:‬‬ ‫وقد كان اجلواهري يومها ي�ستخدم ا�سم «ابن �سهل‬
‫كل املبدعني‪،‬‬ ‫جربيني من قب ِل �أن تزدريني‬ ‫ا ألندل�سي» �أو «طرفة بن العبد»‪� ،‬أما البقية فكانت با�سمه‬
‫معر�ض‬
‫الب�شر‪ّ ،‬‬ ‫و�إذا مـا ذممتنــي فاهجريني‬ ‫ ‬ ‫ال�رصيح ورمبا كان ذلك ل�سوء احلظ �أو حل�سن الظن‪،‬‬
‫للوقوع يف اخلط�أ‬ ‫ويقيناَ �ستندمني على �أنك‬ ‫خ�صو�صاً وانه من العوائل الدينية ا ألوىل يف العراق‪،‬‬
‫من قبـ ُل كــنتِ مل تعرفينـــي‬ ‫ ‬ ‫ومن ي�صل �إىل درجة ا إلفتاء واالجتهاد‪ ،‬فعليه �أن يدر�س‬
‫ثم يقول‪:‬‬ ‫كتاب «جواهر الكالم» حيث كان ال�شاعر ينتمي اىل‬
‫�أنا �ضدُّ اجلمهور يف العي�ش‬ ‫كتاب جلده ا ألقدم حممد ح�سن اجلواهري ‪.‬‬
‫والتفكري طرَّاً‪ ،‬و�ضدُّ ُه يف الدين‬ ‫ ‬ ‫ومن املفارقات �أن �صاحب جريدة العراق‪ ،‬كان �صديقه‬
‫كل ما يف احلياة من ُمت ِع العي�ش‬ ‫رزوق غنام‪ ،‬وهو من حمبي نوري ال�سعيد واملقربني �إليه‪،‬‬
‫ومـــن لـــذ ٍة بهـــا يزدهينــي‬ ‫ ‬ ‫لكنه كان جريئاً ونظيفاً‪ ،‬وتعرّ�ض �إىل امل�ضايقة ب�سبب‬
‫التقاليدُ واملداجاة يف النا�س‬ ‫ن�رش ق�صائد اجلواهري‪ ،‬لقد ا�شتعل ال�شعر يف ر�أ�سي كما‬
‫عــــــدو لكــــل ُحــــر فطـــــني‬
‫ٌ‬ ‫ ‬ ‫يقول اجلواهري‪ ،‬ومل �أبا ِل ب�أنني كنت يف البالط‪ .‬قال‬
‫ويوا�صل القول‪:‬‬ ‫يل امللك في�صل ا ألول بعد �أن دخلت عليه َكرُّب (باللهجة‬
‫نت فعمدا ً‬ ‫«�إلطميني» �إذا مجَ ُ ُ‬ ‫احلجازية) �أي اقرتب‪ :‬ابني حممد‪ ،‬فقلت له �أنا فاهم‬
‫ �أحترّى املجو َن كي تلطميني‬ ‫منذ �أن طلبتني‪ .‬قال‪ :‬ما هذا؟ قلت واهلل �سيدي هذا الذي‬
‫ا�ستطالت فمن َ�شعركِ‬ ‫ْ‬ ‫و�إذا ما يدي‬ ‫ح�صل‪ .‬قال امللك‪ ،‬ال تن�س ابني حممد (اجلواهري) �أنني‬
‫لطفـــــاً بخ�صــلـــــ ٍة قيديـــني‬ ‫ ‬ ‫م�س�ؤول‪ ،‬فهل تعلم �أنني تلقيت برقيات من النجف تقول‬
‫‪43‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جر�أة يف تدقيق مواقفه واعادة النظر فيها وتقدمي نقد‬ ‫احل�سا�س‬‫ما �أ�شدَّ احتياجة ال�شاعر ّ‬
‫ذاتي �شجاع‪ ،‬خ�صو�صاً و�أنه يعمل يف العلن وحتت �ضوء‬ ‫يوماً ل�ساع ٍة من جنون‬ ‫ ‬
‫ال�شم�س وكل كلمة قالها مدونة ومكتوبة ت�شهد عليها‬ ‫ومل تكن الثورة �ضد ق�صيدة «عريانة» التي نظمها عام‬
‫ق�صائده لنحو ثمانية عقود من الزمان‪.‬‬ ‫‪� ،1932‬أقل من الثورة �ضد جربيني‪ .‬لكن الفرق‪ ،‬هو �أنه‬
‫�أما بع�ض ال�سيا�سيني املحرتفني‪ ،‬ف�إنهم كانوا ي�ستبدلون‬ ‫كان قد غادر البالط يف الثانية بعد �أن كان يف الق�صيدة‬
‫مواقفهم دون �إ�شارة اىل خط�أ �أو نقد �أو حتى مربر‬ ‫ا ألوىل ما يزال فيه‪.‬‬
‫لتغيريها لدرجة �أقرب اىل النفاق واملراوغة‪.‬‬ ‫يقول يف عريانة‪:‬‬
‫مل يعرف اجلواهري العمل ال�رسي �أو احلزبي رغم انه‬ ‫�أنتِ تدرين �أنني ذو لَبا َنة‬
‫كان ع�ضوا ً يف حزبني هما « حزب االحتاد الوطني»‬ ‫يف املَجانة‬ ‫الهوى ي�ستثري ّ‬ ‫ ‬
‫‪ 1946‬و«احلزب اجلمهوري» ‪(1959‬برئا�سة عبد الفتاح‬ ‫وقوايف مثل ُح�سنك ملا‬
‫ابراهيم) اال ّ �أنه مل يكن �سيا�سياً ومل يكرتث بالتكتيكات‬ ‫تتعرَّين حــــر ًة ُعريـانــــة‬ ‫ ‬
‫ال�سيا�سية وكان قريباً من ال�سيا�سيني ويح�سبون له �ألف‬ ‫يف فال متـ‬ ‫احلب َ َّ‬
‫ثار‬ ‫و�إذا ُّ‬
‫ح�ساب ويختلفون عليه وي�سعون ال�ستمالته �أو حماربته‬ ‫ـنع � أ َّي احت�شامــــة ثوران ْه‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫واختلفوا حتى يف مماته‪ ،‬اال ّ انه مل يكن �سيا�سياً باملعنى‬ ‫�إىل �أن يقول‪:‬‬
‫امل�ألوف (االحرتايف)‪ ،‬فهو ال يعرف املناورة �أو حتى‬ ‫والثديني كل رمــانة فـر‬
‫« الدبلوما�سية»‪ ،‬كان يقول ق�صيدته ومي�شي‪ ،‬وليكن ما‬ ‫الرمانـة‬‫ُ‬ ‫ختها‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫تهز‬ ‫عاء‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫يكن‪ ،‬غري عابئ �أحياناً بالتف�سري �أو بالت�أويل‪.‬‬ ‫عارياً ظهرك الر�شيق حتب الـ‬
‫�سفحك عن بعد فحييني‬ ‫ـعني منه ات�ساقه واتزانـ ْه‬ ‫ ‬
‫حييت َ‬
‫ُ‬
‫يا دجلة اخلري يا � أ َّم الب�ساتني‬ ‫ ‬ ‫الجواهري وال�سيا�سة‬
‫حييت �سفحك ظم�آناً �ألوذ به‬
‫ُ‬ ‫كان اجلواهري �شديد االلت�صاق بال�سيا�سة ورمبا‬
‫لوذ احلمائم بني املاء والطني‬ ‫ ‬ ‫كان الكثريون يعتربونه �سيا�سياً «م�س�ؤوالً»‪ ،‬و�أحياناً‬
‫يا دجلة اخلري يا نبعاً �أفارقه‬ ‫يحاكمونه على هذا اال�سا�س‪ ،‬ال على �إبداعه وعبقريته‬
‫على الكراهة بني احلني واحلني‬ ‫ ‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬كما �أن الكثريين ال ي�أخذون بنظر االعتبار‬
‫�إين وردت عيون املاء �صافية‬ ‫الظروف والتوازنات ال�سيا�سية‪ ،‬وي�سقطون تقييماتهم على‬
‫نبعاً فنبعاً فما كانت لرتويني‬ ‫ ‬ ‫املا�ضي بعني احلا�رض دون ح�ساب لل�سياق التاريخي‪،‬‬
‫يا دجلة اخلري قد هانت مطاحمنا‬ ‫لكن الكثري من �آراء اجلواهري بب�ساطة متناهية كانت‬
‫حتى ألدنى طماح غري م�ضمون‬ ‫ ‬ ‫عميقة و�صائبة وم�ست�رشفة للم�ستقبل‪ ،‬ولكنه يف الوقت‬
‫لعل يوماً ع�صوفاً جارفاً عرماً‬ ‫نف�سه مثل جميع املعنيني بال�ش�أن العام‪ ،‬مل تكن كل‬
‫ �آتٍ فرت�ضيك عقباه وتر�ضيني‪..‬‬ ‫تقديراته �صحيحة �أو متكاملة وهو مثل كل املبدعني‪،‬‬
‫عندما تكون يف ح�رضة اجلواهري وي�ستح�رض ال�شعر‬ ‫الب�رش‪ ،‬معرّ�ض للوقوع يف اخلط�أ‪.‬‬
‫والتناق�ض والتحدي ف�أنت تكون يف ح�رضة العراق‪.‬‬ ‫و�إذا ح�سبنا ذلك مو�ضوعياً‪ ،‬ف�إن اجلواهري كان �أكرثهم‬

‫‪44‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�صة احلب‪ . .‬وق�صة الثورة‬


‫قراءة �أخرى يف رواية «البي�ضاء» ليو�سف �إدري�س‬
‫خـــريي دومـــة‬
‫ناقد و� أكادميي من م�رص‬
‫«‪ . .‬كنت �أعرف هذا كله‪ ،‬ولكنني هنا �أقول احلقيقة‪ ،‬فاحلقيقة ي�صح قولها دائمًا‪ .‬واحلقيقة �أننا‬
‫حني نفكر بيننا وبني �أنف�سنا ال نفكر فيما ي�صح وما ال ي�صح‪� ،‬إننا نفكر فقط فيما نريده‪ ،‬نفكر‬
‫بكل جر�أة بل �أحيانًا بكل وقاحة وال يهمنا �شيء‪.»...‬‬
‫(يو�سف �إدري�س‪ :‬البي�ضاء‪ ،‬دار روز اليو�سف‪ ،‬القاهرة ‪� .1980‬ص ‪.)9‬‬ ‫ ‬
‫«‪ . .‬واعتربتُ ما حدث جولة‪ ،‬جمرد جولة يف تلك املعركة الرهيبة بيني وبني نف�سي وبيني وبني‬
‫�سانتي‪ .». .‬البي�ضاء‪� ،‬ص ‪.155‬‬
‫لأ �سباب كثرية‪ ،‬تعد رواية «البي�ضاء» عم ًال «فريدًا»‪ ،‬لي�س بني روايات يو�سف �إدري�س‬
‫فح�سب‪ ،‬ولكن رمبا بني �إنتاجه الأ دبي كله؛ فهي �أو ًال – ومن جهة احلجم على‬
‫الأ قل – �أطول �أعماله على الإ طالق(‪)1‬؛ وهي ثانيًا عمله الأ دبي الوحيد الذي جاء‬
‫�صدوره الأ ول يف كتاب‪ ،‬بعد �أكرث من ع�رش �سنوات على كتابته(‪ ،)2‬وعن دار ن�رش‬
‫غري م�رصية(‪)3‬؛ وهي ثالثًا تكاد تكون عمله الأ دبي الوحيد القائم بكامله ‪ -‬ويف‬
‫قلب ع�رص يهتم بالثورة وواقعها اخلارجي املوَّار ‪ -‬على عملية ا�ستبطان داخلي‬
‫م�ستفي�ضة‪ .‬والأ هم من هذا كله‪� ،‬أنها كانت عمله الأ دبي الذي تلقاه القراء مرة بعد‬
‫مرة‪ ،‬يف �إطار هجوم وتخوين من قبل الي�سار امل�رصي‪.‬‬

‫‪ w‬مهما تكن حقيقة ما حدث عند ن�رش الرواية ا ألول يف جريدة اجلمهورية‬
‫عام ‪ ،1959‬ومهما تكن حقيقة موقف يو�سف �إدري�س يف ذلك الوقت‬
‫وبعده‪ ،‬ومهما يكن موقفنا من هجوم الي�سار على الرواية و�صاحبها‪ ،‬ف�إن‬
‫عاما على ن�رشها ا ألول‪ ،‬وخارج ال�سياق‬
‫تل ّقينا لها ا آلن‪ ،‬بعد مرور خم�سني ً‬
‫التخويني الذي �أحاط بهذا الن�رش‪ ،‬ميكن �أن ي�سمح بقراءة �أخرى‪.‬‬

‫‪45‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يو�سف �إدري�س يف تقدميه لطبعتها ا ألخرية‪ ،‬ال ألنها «كانت‬ ‫(‪)1‬‬


‫فعالً متقدمة على التفكري ال�سائد بني املثقفني الي�ساريني‬ ‫وكان وراء هذا الهجوم على الرواية و�صاحبها مربران‪:‬‬
‫�آنذاك‪ ،‬وبني تفكريهم عامليًّا وحمليًّا اليوم»‪ ،‬وال ألن «ثمة‬ ‫�أولهما �أن بطلها وراويها املتكلم «يحيى م�صطفي طه»‪،‬‬
‫نا�سا كانوا منذ زمن بعيد يفكرون �أ�سبق من زمنهم‪،‬‬ ‫�أ ً‬ ‫متاما كم�ؤلفها «يو�سف �إدري�س» نف�سه‪ ،‬هو طبيب �شاب‬ ‫ً‬
‫قبل خرو�شوف وقبل الربي�سرتويكا‪ ،‬بال�ضبط من �أيام‬ ‫و�صحفي وكاتب‪ ،‬انتمى �إىل ف�صيل من ذلك الي�سار‪ ،‬ثم يف‬
‫كان �ستالني حيًّا ويحكم ب�رضاوة» كما يقول الكاتب يف‬ ‫هذه الرواية – ويف �صورة �أقرب �إىل االعرتاف – بدا مرتدًّا‬
‫املقدمة نف�سها(‪ ،)7‬ولكن ألنه هو نف�سه �أ�سهم بق�سط كبري‬ ‫�صورا �سلبية لنماذجه‬
‫ينتقد هذا الي�سار من الداخل‪ ،‬ويقدم ً‬
‫نقديا‪.‬‬
‫يف ظلمها ًّ‬ ‫املت�سلطة املتناق�ضة‪.‬‬
‫أ‬
‫ظلم يو�سف �إدري�س روايته‪� ،‬وال ً حني ن�رشها يف جريدة‬ ‫�أما املربر الثاين‪ ،‬فم�ؤداه �ن يو�سف �إدري�س كتب هذه‬
‫أ‬
‫اجلمهورية ب�شكل مرتبك وغري الئق(‪ ،)8‬ويف توقيت يثري‬ ‫الرواية‪� -‬أو على ا ألقل ن�رشها ‪ -‬عام ‪� ،1959‬أي يف الوقت‬ ‫ظلم يو�سف‬
‫ال�شبهة ح ًّقا‪ ،‬وظلمها ثانيًا حني تردد ع�رش �سنوات قبل‬ ‫نف�سه الذي قررت فيه ال�سلطة النا�رصية اعتقال رموز‬ ‫�إدري�س روايته‪،‬‬
‫�أن ين�رشها يف �صورة كتاب‪ ،‬وهو ما بدا فعالً وك�أنه يعك�س‬ ‫هذا الي�سار‪ ،‬فبدا وك�أنه قام بت�أليف هذه الرواية ون�رشها‬ ‫أ� ً‬
‫وال حني ن�شرها‬
‫«�أزمة �ضمري»‪.‬‬ ‫عمدًا يف جريدة اجلمهورية‪ ،‬التي كانت تتوىل التعبري عن‬
‫لكنه ظلمها الظلم احلقيقي‪ ،‬حني �أخذ يركز مرة بعد �أخرى‪،‬‬ ‫التوجه الر�سمي للنظام‪ ،‬ال ل�شيء �إال ليمالئ هذا النظام‪،‬‬ ‫يف جريدة‬
‫ويف موا�ضع و�سياقات متعددة‪ ،‬على جانب واحد‪ ،‬يعرف‬ ‫ويربر له ما يقوم به‪� ،‬أو على ا ألقل ليتفادى اال�صطدام به‬ ‫اجلمهورية ب�شكل‬
‫كل من قر� أ الرواية �أنه لي�س �سوى جانب واحد من جوانب‬ ‫من جديد بعد اعتقاله يف ‪!!1954‬‬ ‫مرتبك وغري‬
‫متعددة‪ ،‬ورمبا كان �أقلها �أهمية‪ ،‬وهو ذلك اجلانب اخلا�ص‬ ‫واحلقيقة �أن معظم نقاد الي�سار امل�رصي حني ن�رشت‬ ‫الئق‪ ،‬ويف توقيت‬
‫مبا يف الرواية من وثائقية‪ ،‬وما فيها من ت�أريخ �شخ�صي‬ ‫الرواية يف كتاب عام ‪� 1970‬آثروا ال�صمت ؛ �إما ألنهم‬ ‫يثري ال�شبهة‬
‫لفرتة �سيا�سية حمددة‪.‬‬ ‫عدّوها �سقطة فنان كبري ويح�سن ال�صمت عنها‪� ،‬أو ألنها‬ ‫ًّ‬
‫حقا‪ ،‬وظلمها‬
‫ان �أول ما يلقاه القارئ من الرواية‪ ،‬هو هذه ال�سطور‬ ‫من وجهة نظرهم تعد �أ�ضعف رواياته من الناحية الفنية‪،‬‬ ‫ثانيًا حني تردد‬
‫املعدودة التي قدم بها الكاتب لروايته‪ .‬وهي �سطور غريبة؛‬ ‫حيث ترتكز على اال�ستبطان وحده وتعزل البطل عن حميطه‬ ‫ع�شر �سنوات قبل‬
‫ألنها حتاول �رصف القارئ عن ق�صة احلب امل�شكلة‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وتعاين من م ّط وا�ستطرادات وتناق�ضات‬
‫أ�ن ين�شرها يف‬
‫امل�ضطرمة‪ ،‬وعن «يحيى» البطل املع�ضل الذي حتتل‬ ‫ت�ضعف من بنائها الدرامي‪.‬‬
‫�أما النقاد القالئل الذين كتبوا عنها‪ ،‬فهاجموها �سيا�سيًّا‬ ‫�صورة كتاب‪ ،‬وهو‬
‫همومه الداخلية كل �صفحات الرواية‪ ،‬وعن «�شكل» الرواية‬ ‫ً‬
‫فعال أ‬
‫املختلف �أو «التقليدي» كما يقول _ كل هذا ليلفت نظر‬ ‫وفنيًّا على ال�سواء‪� ،‬أو هاجموها فنيًّا لكي ي�صلوا يف النهاية‬ ‫وك�نه‬ ‫ما بدا‬
‫القارئ �إىل �شيء وحيد‪� :‬أنها «حقيقة»‪ ،‬و«وثيقة» وطنية‬ ‫�إىل هجوم �سيا�سي ُمربَّر؛ فقد عدُّوها يف �أح�سن ا ألحوال‬ ‫أ‬
‫يعك�س «�زمة‬
‫وتاريخية و�شخ�صية‪ ،‬قبل �أن تكون «رواية» �أو «ق�صة»‪.‬‬ ‫رواية �ضعيفة فنيًّا‪ ،‬نتج �ضعفها عن حماولة «تربير كاذب»‪،‬‬ ‫�ضمري»‬
‫تقول �سطور املقدمة‪:‬‬ ‫كما ر�أي �سامي خ�شبة(‪� ،)4‬أو عن «�أزمة �ضمري» و«عالقة‬
‫«حريتني هذه الق�صة‪.‬‬ ‫الكاتب امللتب�سة ب�أمه» كما ر�أي فاروق عبد القادر(‪� ،)5‬أو‬
‫كتبتها يف �صيف عام ‪1955‬‬ ‫عن حتكيم «وجهة نظر �أحادية وجماليات انف�صام» كما‬
‫تباعا يف جريدة اجلمهورية عام ‪.1960‬‬ ‫ون�رشت بع�ضها ً‬ ‫ر�أت �أمينة ر�شيد(‪ .)6‬وكان فاروق عبد القادر �أكرث ه�ؤالء‬
‫و�أخريًا قررت ن�رشها هذا العام‪ ،‬فو�إن كان بطلها هو‬ ‫النقاد حدة ود� أ ًبا يف الهجوم على الرواية و�صاحبها كلما‬
‫«يحيى»‪� ،‬إال �أنها وثيقة حية لفرتة خطرية من فرتات‬ ‫�أعيد ن�رشها‪ ،‬فلم يكتف باملقالة التي ن�رشها يف �أعقاب‬
‫احلياة يف بالدنا‪ ،‬فرتة ال �أعتقد �أن �أحدًا تناولها‪.‬‬ ‫�صدورها ألول مرة عن دار العودة ‪ ،1970‬و�إمنا �أ�ضاف‬
‫�إن كانت تقليدية ال�شكل والطريقة‪ ،‬فال�شكل مهما كان ال‬ ‫�إىل ذلك مقالة جديدة يف �أعقاب �صدورها آلخر مرة عن‬
‫يتعدى دوره ك�شكل‪ ،‬واحلقيقة تبقى حقيقة رغم �أية طريقة‬ ‫روايات الهالل ‪ ،1990‬ف�ضالً عن التذكري بذلك من جديد‬
‫تروى بها‪.‬‬ ‫يف ُكتَيِّ ِبه عن يو�سف �إدري�س عام ‪.1998‬‬
‫و�إين ل�شديد االعتزاز بهذا اجلزء من عمري وعمر‬ ‫لقد ظل هذا ال�سياق التخويني الذي ن�رشت فيه الرواية‬
‫بالدي‪.)9(».‬‬ ‫حاكما لطبيعة تلقيها عند كل ن�رش جديد وقراءة‬ ‫ً‬ ‫�أول مرة‪،‬‬
‫ولن يفت�أ الكاتب بعد ذلك يكرر هذه ا إل�شارة يف مقدماته‬ ‫ظلما كبريًا»‪ ،‬كما �سيقول‬
‫«ظل َِمت هذه الق�صة ً‬‫جديدة‪ .‬وهكذا ُ‬
‫‪46‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عام ‪� .1956‬إننا هنا وباعرتاف الراوي احلريف‪� ،‬أمام‬ ‫و�أحاديثه و�شهاداته ‪� ،‬إىل �أن �أ�صبحت ً‬
‫(‪)10‬‬
‫جزءا من الكتاب‪،‬‬
‫«ق�صة حب» �أخرى دفينة‪ ،‬نزلت �إىل ا ألعماق‪ ،‬وغمرتها‬ ‫بل رمبا �أ�صبحت �أبرز جزء فيه‪.‬‬
‫ا ألحداث اخلارجية‪� ،‬أحداث الثورة والتحرر واملظاهرات‬ ‫ومهما تكن حقيقة ما حدث عند ن�رش الرواية ا ألول يف‬
‫والكفاح امل�سلح‪ .‬لنقل �إنها ق�صة احلب احلقيقية املخبّ�أة‬ ‫جريدة اجلمهورية عام ‪ ،1959‬ومهما تكن حقيقة موقف‬
‫بكل تناق�ضاتها ومنحنياتها ا إلن�سانية‪ ،‬يف مقابل «ق�صة‬ ‫يو�سف �إدري�س يف ذلك الوقت وبعده‪ ،‬ومهما يكن موقفنا‬
‫حب»(‪ )12‬املن�شورة املعلنة‪ ،‬التي تعر�ضت بال�رضورة‬ ‫من هجوم الي�سار على الرواية و�صاحبها‪ ،‬ف�إن تل ّقينا لها‬
‫لت�شذيب وتهذيب‪ ،‬خلّ�صها من الدماء وا ألدران‪ ،‬وجعلها‬ ‫عاما على ن�رشها ا ألول‪ ،‬وخارج‬ ‫ا آلن‪ ،‬بعد مرور خم�سني ً‬
‫ق�صة حب ثورية ناجحة ومت�ساوقة مع االجتاه العام‪.‬‬ ‫ال�سياق التخويني الذي �أحاط بهذا الن�رش‪ ،‬ميكن �أن ي�سمح‬
‫انتهت احلكاية يف الواقع‪ ،‬ومر زمن على حدوثها‪ ،‬ولكن‬ ‫بقراءة �أخرى‪ ،‬ن�أمل �أن تك�شف عن جوانب �أ�صيلة يف‬
‫الراوي �سي�ستعيدها �أمامنا‪ ،‬على مر�أي وم�سمع منا‪ .‬وهو‬ ‫الرواية‪ ،‬رمبا طم�سها هذا ال�سياق امللتب�س كله‪.‬‬
‫هنا يك�شف لنا عن ق�صة حبه احلقيقية «الدفينة»‪� ،‬سيحكي‬ ‫(‪)2‬‬
‫دائما‪ ،‬نتابع ف�صول ق�صة‬ ‫لنف�سه �أوال ً‪ ،‬لكننا حا�رضون معه ً‬ ‫لي�ست رواية «البي�ضاء» جمرد وثيقة تاريخية �أو �سيا�سية‬
‫احلب‪ ،‬ونعي�شها خطوة خطوة‪ ،‬ونتابع قبل ذلك جوالت‬ ‫عن فرتة حمددة من تاريخ م�رص‪ ،‬ولي�ست حتى جمرد‬
‫املعركة بني الراوي وبني نف�سه املنق�سمة‪ ،‬حيث ق�صة احلب ال�سياق التخويني‬ ‫وثيقة �شخ�صية من حياة م�ؤلفها‪ ،‬و�إمنا هي قبل هذا وبعده‬
‫املطمورة يف ا ألعماق‪ ،‬واملحاطة باملخاوف والتناق�ضات‬ ‫ق�صة حب من نوع خا�ص‪ ،‬يعي�شها بطلها ال�شاب وراويها‬
‫الذي ن�شرت‬
‫من كل لون‪.‬‬ ‫املتكلم «يحيى»‪ ،‬يف �صورة جوالت متكررة مت�شابهة‪ ،‬من‬
‫ي�ضا فيه الرواية‬
‫رواية «البي�ضاء» �إذن لي�ست فقط ق�صة حب‪ ،‬و�إمنا هي � أ ً‬ ‫معركة طويلة رهيبة بينه وبني نف�سه‪ ،‬وبينه وبني حبيبته‬
‫ق�صة «نف�س»‪ .‬و�سوف ي�ستدرجنا الراوي بطريقته يف ال�رسد‪� ،‬أول مرة‪ ،‬حاك ٌم‬ ‫ال�رسابيَّة‪ ،‬ال�سيدة اليونانية البي�ضاء «�سانتي»‪ .‬تلك هي‬
‫حماوالً �إقناعنا ب�أنها لي�ست جمرد ق�صة نف�س حمددة‪ ،‬بل هي لطبيعة تلقيها‬ ‫حقيقة الرواية التي حتكم بناءها كله‪� .‬أما الواقع اخلارجي‪،‬‬
‫الواحدة‪ ،‬التي عند كل ن�شر‬ ‫ق�صة نفو�سنا جمي ًعا‪ ،‬ق�صة النف�س ا إلن�سانية‬
‫و�أما التاريخ ب�أماكنه و�شخو�صه و�أحداثه املهمة؛ فموجود‬
‫ترتاكم طبقاتها‪ ،‬والتي تتعدد ‪ -‬ورمبا تتناق�ض ‪� -‬أدوارها‪.‬‬
‫من هذا التعدد ‪� -‬أو التناق�ض ‪ -‬يف «نف�س» يحيى‪ ،‬بني الكفاح جديد وقراءة‬ ‫هناك يف خلفية هذه املعركة الداخلية‪� ،‬إنه وجود يتوارى‬
‫الثوري املقدام من ناحية واحلب الرومانتيكي املحجم املرتدد جديدة‬ ‫ونادرا ما يحتل �صدارة امل�شهد الروائي‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف الظل‪،‬‬
‫من ناحية �أخرى‪ ،‬بني ا أل�صول الريفية الفقرية اخل�شنة و�إغواء‬ ‫ت�أخذ الرواية من �ول �سطورها‪� ،‬شكل االعرتاف‪ .‬وهو‬
‫أ‬
‫املدينة الناعمة‪ ،‬بني ا ألم املخيفة وا ألب احلنون‪ ،‬بني فظاظة‬ ‫اعرتاف من نوع غريب‪ ،‬ألن البطل الراوي املتكلم‬
‫بوالق وزحامها ال�ضاغط ورقة الزمالك وهدوئها املت�سامح‪،‬‬ ‫«يحيى» يديل به لنف�سه‪ ،‬لي�س يف �شكل مونولوج‪ ،‬و�إمنا‬
‫بني حب رفاق الثورة وحب الوحدة‪ ،‬بني �صورة العامل‬ ‫يف �شكل «حديث» متدفق �إىل النف�س و�إىل جماعة القراء �أو‬
‫املثالية يف ا ألدبيات املارك�سية و�صورته احلقيقية يف ور�ش‬ ‫امل�ستمعني املفرت�ضة‪ ،‬على طريقة يو�سف �إدري�س املعتمدة‬
‫ال�سكك احلديد‪ ،‬بني القوة وال�ضعف‪ ،‬بني الروح واجل�سد‪ ،‬بني‬ ‫يف ال�رسد(‪� .)11‬إنه ي�أخذ م�ستمعيه �أو قراءه لكي يعرتفوا معه‬
‫الداخل واخلارج‪ ،‬الباطن والظاهر‪� . .‬إلخ ‪ -‬من كل هذا وغريه‪،‬‬ ‫ي�ضمهم �إىل عامله‪ ،‬ينطلق يف احلديث‬ ‫باحلقيقة‪ ،‬وبعد �أن َّ‬
‫ومن �ضمري يحيى املعذب بني املتناق�ضات‪ ،‬تت�ألف رواية‬ ‫با�سمه وبا�سمهم‪� ،‬أي ب�ضمري املتكلم (واملخاطب) اجلمع‬
‫«البي�ضاء»‪� ،‬أو ق�صة احلب احلقيقية‪.‬‬ ‫الذي ن�صادفه مع �أول جملة يف الرواية‪ /‬االعرتاف ‪:‬‬
‫يف ال�صفحات الثالث ا ألوىل‪ ،‬وقبل �ن تبد� �حداث الق�صة‪ ،‬ويف‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫«ملاذا نكذب على �أنف�سنا؟‬
‫طريقه للقاء الفتاتني ا ألجنبيتني‪ ،‬اللتني �ست�صبح �إحداهما‬
‫�إن لكل منا ق�صة حب دفينة‪ ،‬و�ضعها يف �أغوار نف�سه‪،‬‬
‫حبيبته‪ ،‬كان يحيى – الراوي البطل ال�شاب ‪ -‬يفكر (مع نف�سه‬
‫بالطبع) يف ق�صة العمل الثوري اخلطري من ناحية‪ ،‬وق�صة‬ ‫وكلما م�ضى عليها الزمن دفعها �أكرث و�أكرث �إىل �أعماقه‪،‬‬
‫احلب والغرام الرومانتيكي من ناحية �أخرى‪ ،‬ثم ق�صة النف�س‬ ‫وك�أمنا يخاف عليها من الظهور‪.‬‬
‫معا ‪:‬‬ ‫و�سوف �أقول لكم كل �شيئا عن ق�صة حبي‪. .‬‬
‫التي تنطوي على الوجهني ً‬
‫رماديا‬
‫ًّ‬ ‫«ما زلت �أذكر ذلك اليوم ك�أنه اليوم‪ .‬كنت �أرتدي معط ًفا‬ ‫ماذا �أقول لكم؟» (�ص ‪.)7‬‬
‫م�رسعا �إذ كان‬
‫ً‬ ‫ا�شرتيته‪� ،‬أول معطف يف حياتي �أرتديه‪ ،‬وكنت‬ ‫ت�ضعنا هذه اجلمل االفتتاحية وب�شكل مبا�رش �إزاء افرتا�ض‬
‫امليعاد قد �أزف وم�ضت بعده دقائق‪ .‬ومع هذا ورغم ن�سمات‬ ‫غريب‪ ،‬البد �أنه ورد اىل ذهن قراء يو�سف �إدري�س‪ ،‬الذين‬
‫الع�رص ال�شتوية والوقت ال�ضيق فقد رحت �أ�س�أل نف�سي ذلك‬ ‫كانوا قد فرغوا للتو من قراءة روايته ال�شهرية «ق�صة حب»‬
‫‪47‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مل تكن ال�صيغة املهيمنة على الرواية �إذن‪ ،‬هي �صيغة التوثيق‬ ‫ال�س�ؤال‪ :‬ترى هل ت�صلح واحدة منهما �أو االثنتان ألحبهما؟ وهل‬
‫التاريخي‪ ،‬وال حتى �صيغة حكي التجارب والوقائع ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫تقع �إحداهما يف غرامي؟ وهل يكون يل معها ق�صة؟ وكنت �أ�سال‬
‫من �أجل ف�ضح رفاق الي�سار‪ ،‬و�إمنا كانت ال�صيغة املهيمنة‬ ‫نف�سي تلك ا أل�سئلة مع علمي التام �أنها �أ�سئلة ال ي�صح �إلقا�ؤها‬
‫�صيغة نف�سية‪ ،‬هي �أقرب �إىل االعرتاف املفتوح ال�رصيح‪ ،‬ال من‬ ‫�أو التفكري فيها‪ .‬فالعمل الذي كنا نقوم به عمل جاد وخطري‬
‫�أجل ف�ضح ا آلخرين‪ ،‬و�إمنا من �أجل ف�ضح الذات والك�شف عن‬ ‫ولي�س فيه �أي مكان �أو ف�سحة للحب والغرام‪ .‬كنا يف عنفوان‬
‫تناق�ضاتها التي ت�صل �إىل حد املر�ض‪ .‬ومع �أن هذا االعرتاف‬ ‫حربا ال هوادة فيها إلعداد‬
‫معركة اال�ستقالل‪ ،‬وجملتنا تخو�ض ً‬
‫الفا�ضح يرتكز على عالقة الراوي بنف�سه وب�سانتي‪� ،‬إال �أنه يت�سع‬ ‫ال�شعب للمعركة‪ ،‬وال جمال للعاملني فيها للتفكري يف غري العمل‬
‫لي�شمل تناق�ضات عالقته ب�أهله ورفاقه الثوريني والعمال‬ ‫والكفاح‪ .‬كل �شيء يجري وك�أنها اخلطة جلي�ش حمكمة‪ .‬وكل‬
‫والن�ساء ا ألخريات‪� . .‬إلخ‪ ،‬ف�ضالً عن متزقاته وعذابات �ضمريه‬ ‫�شيء ينفذ وك�أننا يف خط النار‪ .‬واملعركة �ضد اال�ستعمار قائمة‬
‫و�سط هذا كله‪.‬‬ ‫يف كل مكان‪ ،‬يف ال�سودان وم�رص و�سورية والبالد العربية‪،‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫و�شمال �أفريقيا وقرب�ص‪ .‬وجلماعتنا �أن�صار و�أع�ضاء يف كل‬ ‫الحداث يف‬ ‫أ‬
‫ا ألحداث يف رواية البي�ضاء مت�ضي على نحو بالغ الغرابة ح ًّقا؛‬ ‫قطر من هذه ا ألقطار‪ ،‬واملجلة ت�صدر يف القاهرة‪ ،‬ويرتدد‬ ‫رواية البي�ضاء‬
‫فنحن ال نكاد نتقدم �إىل ا ألمام من نقطة �إىل نقطة‪ ،‬و�إمنا ي�أخذ‬ ‫�صداها يف كل عا�صمة من عوا�صم ال�رشق ا ألو�سط‪ .‬كنت �أعرف‬ ‫مت�ضي على نحو‬
‫احلدث الرئي�سي (ق�صة احلب بني يحيى و�سانتي) �شكل دورات‬ ‫هذا كله‪ ،‬ولكنني هنا �أقول احلقيقة‪ ،‬فاحلقيقة ي�صح قولها‬
‫�أو جوالت متكررة مت�شابهة يف الزمان واملكان وال�شخو�ص‪.‬‬ ‫دائما‪ .‬واحلقيقة �أننا حني نفكر بيننا وبني �أنف�سنا ال نفكر‬ ‫بالغ الغرابة‬
‫ً‬
‫�إنه امل�شهد نف�سه يتكرر‪ ،‬تبد� أ به �أحداث الرواية و�إليه تنتهي‪،‬‬ ‫فيما ي�صح وما ال ي�صح‪� ،‬إننا نفكر فقط فيما نريده‪ ،‬نفكر بكل‬ ‫ح ًّقا؛ فنحن ال‬
‫يف دورة واحدة كبرية‪ ،‬مكونة من دورات �صغرية مليئة‬ ‫جر�أة بل �أحيا ًنا بكل وقاحة وال يهمنا �شيء‪� ،‬إننا فقط حني‬ ‫نكاد نتقدم �إىل‬
‫بالتفا�صيل‪� ،‬إنه م�شهد اللقاء بني يحيى و�سانتي يف مكان‬ ‫ي�أتي دور التنفيذ نب�رص العقبات االجتماعية القائمة‪ ،‬وحينئذ‬ ‫المام من نقطة‬ ‫أ‬
‫مغلق‪ ،‬اللقاء ا ألول والثاين يف مطعم باريزيانا‪ ،‬ثم اللقاء‬ ‫نبد� أ نرتاجع �أو نبد� أ نلف وندور حول العقبات كو�سيلة للتغلب‬ ‫�إىل نقطة‪ ،‬و�إمنا‬
‫الثالث متواجهني وقو ًفا يف قطار يف رحلة ذهاب و�إياب‪ ،‬ثم‬ ‫عليها‪ ،‬بيننا وبني �أنف�سنا ال نعد العقبات االجتماعية مقد�سات‪،‬‬
‫ي�أخذ احلدث‬
‫‪ -‬و�إىل النهاية ‪ -‬وحدهما يف حجرة داخل �شقته‪ ،‬يف موعد ال‬ ‫�إننا نعدها عقبات فقط‪ ،‬ولعل هذا هو �رس تقدي�سنا لها �أمام‬
‫يتغري وال يتوقف‪ ،‬الثالثة والن�صف (ال�سبت والثالثاء واخلمي�س‬ ‫النا�س‪ .‬ولي�س معنى �أين كنت �أفكر يف كل هذا و�أنا يف طريقي‬ ‫الرئي�سي (ق�صة‬
‫من كل �أ�سبوع) وب�سيناريو ال يكاد يتغري‪.‬‬ ‫�إىل املوعد �أين كنت �أفا ًقا �أو وغدًا‪ ،‬ألين كنت �أفكر يف مطاحمي‬ ‫احلب بني يحيى‬
‫يبد� أ ال�سيناريو بيحيى يف لهفة وانتظار حارقني‪ ،‬ت�أتي �سانتي‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬فالواقع �أين كنت �أفعل هذا بجزء �صغري من نف�سي‪،‬‬ ‫و�سانتي) �شكل‬
‫يف موعد الدر�س املزعوم‪ ،‬يدور حوار ولو بال�صمت‪ ،‬يحبها‬ ‫�أما �أجزا�ؤها ا ألخرى الكربى فكانت م�شغولة ً‬
‫متاما باملجلة‬ ‫دورات �أو جوالت‬
‫ويحبها وهي قريبة جدًّا‪ ،‬وم�ستحيلة جدًّا يف الوقت نف�سه‪،‬‬ ‫وبالواجبات جتاهها وبالعمل الذي كنت �أقوم به يف منتهي‬
‫متكررة مت�شابهة‬
‫يعرتف بحبه وميعن يف االعرتاف ب�أ�شكال متعددة‪ ،‬من دون �أن‬ ‫اجلد والن�شاط‪ .‬هذا �شيء وذلك �شيء �آخر خمتلف‪ ،‬وا إلن�سان‬
‫يح�صل على اعرتاف واحد مع �سعيه الذي ال يتوقف‪ ،‬يجرب كل‬ ‫يفعل ال�شيئني‪ ،‬ورمبا يفعل ال�شيئني ألنه �إن�سان‪� ». .‬ص ‪.9‬‬ ‫يف الزمان واملكان‬
‫الو�سائل القتحامها وك�رس ق�رشة امل�ستحيل‪ ،‬ولكن ال �أمل‪.‬‬ ‫هكذا بد� أ يحيى من �إدراك ال�شقاق داخل نف�سه‪ ،‬وقرر �أال يتخلى‬ ‫وال�شخو�ص‬
‫وحني ن�صل �إىل �آخر �صفحات هذه الرواية الطويلة‪ ،‬ال نكاد‬ ‫عن معركة الداخل ل�صالح معركة اخلارج‪ ،‬وكان احلب هو‬
‫نعرف كم مرة حدث هذا اللقاء‪ ،‬وكم من الزمن قد مر‪ ،‬وكم‬ ‫امليدان ا ألو�سع وا ألغم�ض خلو�ض تلك املعركة‪ .‬و�سيتكاثر‬
‫من ا ألحداث قد وقع‪� .‬إنه م�شهد واحد ملح يكاد يلغي امل�شاهد‬ ‫هذا ال�شقاق ويتوالد يف نف�س يحيى على نحو �رسطاين كلما‬
‫ا ألخرى على كرثتها‪ ،‬ي�ضعها على الهام�ش‪ ،‬بينما يحتل هو‬ ‫م�ضينا مع ق�صة (�أو معركة) احلب‪ .‬ومع كل جولة من جوالت‬
‫ي�ضا �أن «م�أ�ساة»‬ ‫املنت‪ .‬ولكننا مع نهاية ا ألحداث‪ ،‬ندرك � أ ً‬ ‫املعركة‪ ،‬وكل ف�صل من ف�صول الرواية‪ ،‬كنا نرى جانبًا جديدًا‬
‫كاملة قد ت�شكلت وو�صلت �إىل نهايتها‪.‬‬ ‫خ�صو�صا)‪،‬‬
‫ً‬ ‫من جوانب هذا ال�شقاق‪ :‬العالقة مع القرية (ا ألم‬
‫أ‬
‫حديث البطل �إىل نف�سه‪ ،‬وحديثُه �إلينا‪� ،‬كرث‬
‫ُ‬ ‫وهذه امل�أ�ساة �ش َّكلها‬ ‫العالقة مع العمال‪ ،‬العالقة مع حي بوالق‪ ،‬العالقة مع رفاق‬
‫مما �شكلتها ا ألحداث التي وقعت يف اخلارج؛ ألن هذه ا ألحداث‬ ‫الثورة (البارودي و�شوقي)‪ ،‬العالقة مع العمل‪ ،‬ويف �صدر كل‬
‫(حتى احلدث الرئي�سي‪ :‬ق�صة احلب) مرت �إلينا من ذاكرته‪ ،‬وعرب‬ ‫هذا بطبيعة احلال العالقة مع �سانتي‪.‬‬
‫عينيه‪ ،‬ومتداخلة مع هذا امل�شهد امل�ستحيل املتكرر‪ .‬وك�أمنا هي‬ ‫�سيحدثنا الراوي يف موا�ضع كثرية من الرواية عن ا�ستمتاعه‬
‫حلم‪� ،‬أو �أحداث مل تقع‪� ،‬أو قل �إنها وقعت فقط يف داخل البطل‬ ‫مع نف�سه بالطابع «ال�رسِّي»(‪ )13‬لهذه العالقة مع �سانتي‪ ،‬وعن‬
‫وبينه وبني نف�سه‪.‬‬ ‫فقدان هذه العالقة لوزنها وقيمتها �إذا انتقلت �إىل العلن‪ ،‬بل‬
‫ت�سري �أحداث البي�ضاء �إذن يف خطني متداخلني‪� ،‬أحدهما ‪ -‬وهو‬ ‫�إنه يناق�ش مع نف�سه ومع قرائه �أحيا ًنا‪ ،‬اجلانب ا ألوديبي‬
‫اخلط ا أل�سا�سي ‪ -‬نف�سي داخلي‪ ،‬يدور حول نف�سه‪ ،‬دون �أن يتقدم‬ ‫«املر�ضي» ال�رصيح من هذه العالقة‪.‬‬
‫‪48‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫العامل �أن ي�أتي لنجدتي وي�ساعدين أل�ستطيع �أن �أتخل�ص من‬ ‫�إىل ا ألمام‪ ،‬اللهم �إال مبقدار ما ترتكه هذه الدورات املت�شابهة‬
‫عالقتي بها‪� ،‬أو على ا ألقل ألقاوم عالقتي بها‪� ،‬أقاومها وك�أين‬ ‫من الرتدد والتحليل من �آثار على �شخ�صيتي يحيى و�سانتي‪،‬‬
‫�أقاوم طاعو ًنا �أبي�ض غري مرئي يتقم�ص روحي‪�( ».‬ص ‪.)236‬‬ ‫وا آلخر – وهو ثانوي ‪ -‬خط خارجي �سيا�سي اجتماعي‪،‬‬
‫«�أميكن �أن تو�صلني عالقتي ب�سانتي وحبي لها �إىل هذا الدرك؟‬ ‫يتقدم ن�سبيًّا �إىل ا ألمام‪ ،‬بحيث يرتك �آثاره احلتمية على كل‬
‫�إىل هذا ال�رسداب املظلم املتعفن الذي �أن�سى فيه نف�سي وقيمي‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬مبن فيها بالطبع يحيى و�سانتي املعزوالن عن‬
‫وال �أعود �أحكم على �أعز ا أل�شياء و�أقد�سها �إال من خالل عالقتي‬ ‫حركة اخلارج وامل�ستغرقان يف ق�صتهما‪.‬‬
‫بها؟‬ ‫يبد� أ اخلط ا ألول بيحيى و�سانتي‪ ،‬رجل وامر�أة ي�ستك�شف كل‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫عذاب ما كنت �ح�سه‪� ،‬ب�شع �نواع العذاب‪� ،‬إذا �س�لت نف�سي ماذا‬ ‫منهما ا آلخر‪ ،‬ثم ما يلبثان �أن يدخال يف «�رسداب مظلم» طويل‪،‬‬
‫�أفعل عذبني ال�س�ؤال‪ ،‬و�إذا �أجبت عذبتني ا إلجابة‪ ،‬و�إذا حلمت‬ ‫ال فعل فيه ليحيى (الطبيب وال�صحفي ال�شاب‪ ،‬ذو ا أل�صول‬
‫تعذبت‪ ،‬و�إذا �شككت �أقا�سي مر الهوان‪.‬‬ ‫القروية‪ ،‬املنتمي �إىل واحدة من احلركات الي�سارية ال�رسية يف‬
‫كل قوتي وكل طاقتي و�إرادتي وقدراتي كنت �أجمعها و�أح�شدها‬ ‫القاهرة �أواخر ا ألربعينيات) �إال حتليل الذات‪ ،‬ثم حتليلها من‬
‫و�أحيا بها امل�شكلة حماوال ً �أن �أجد املخرج‪ . .‬و�أفظع �شيء �أن‬ ‫جديد‪ ،‬بال �أمل يف الو�صول �إىل نهاية‪ ،‬وكلما �أمعن يحيى يف‬
‫جتمع قواك كلها لتفعل بها ال �شيء‪ ،‬كياين كله يز�أر‪ ،‬وكل خلية‬ ‫حتليل نف�سه وحتليل عالقته ب�سانتي كبَّله العجز و�أقعده عن‬
‫يف تعوي وت�رصخ‪ ،‬و�أعت�رص نف�سي كلها و�أفكر و�أخرج من هذا‬ ‫َّ‬ ‫الفعل‪� .‬أما �سانتي (ال�شابة اليونانية البي�ضاء‪ ،‬التي يغرق يحيى‬
‫أ‬
‫كله بال �شيء‪ ،‬حتى قارب تفكريي يف نهاية تلك اليام القليلة‬ ‫يف حبها) فال نكاد نعرف عنها‪ ،‬وال يكاد يحيى نف�سه يعرف‬
‫�أن ي�صبح لو ًنا غريبًا من التفكري‪ ،‬جمرد تفكري مت�صل طويل‬ ‫عنها‪� ،‬إال معلومات حمدودة‪� :‬أنها تنتمي �إىل �أ�رسة يونانية‬
‫لغري ما هدف �أو فكرة‪ ،‬تفكري على الفا�ضي‪ ،‬حت�س يف حلظات‬ ‫من حركة ي�سار عاملية‪ ،‬ت�ساعد احلركات الي�سارية عرب العامل‪،‬‬
‫(‪)14‬‬
‫�أنه على الفا�ضي و�أنك ال تطحن به فكرة حمددة‪ ،‬و�إمنا تفري به‬ ‫متزوجة من �أحد مواطنيها اليونانيني بعد ق�صة حب‪.‬‬
‫عقلك‪ ،‬ومع هذا ال ت�ستطيع �أن توقفه �أو تكف عنه‪�(».‬ص‪-257‬‬ ‫وبرغم هذه املعلومات القليلة‪ ،‬ورمبا ب�سببها‪ ،‬تبقى �سانتي‬
‫‪)258‬‬ ‫�شخ�صية غام�ضة متناق�ضة غري مفهومة؛ فهي متزوجة من‬
‫«ولكن امل�شكلة �أين كنت قد و�صلت �إىل مرحلة الي�أ�س الكامل‪،‬‬ ‫رجل حتبه لكنها ت�أتي �إىل يحيى يف �شقته مرتني يف ا أل�سبوع‬
‫ي�أ�سي من �أن �أ�شفي منها‪ ،‬ن�سيت م�شاريعي وخططي‪ ،‬ن�سيت‬ ‫وبانتظام مده�ش ورغم كل العقبات‪ ،‬تقرتب معه يف كل دورة‬
‫قراري ب�أن ا�ستحوذ عليها و�أهجرها‪ ،‬حتى مل �أعد �أذكر �أين‬ ‫من دورات اللقاء حتى قرب نقطة الو�صول لكنها ال تريد له �أن‬
‫�صممت ذات يوم على الكف عن التعلق بها‪ .‬كان حنيني ألراها‪،‬‬ ‫ي�صل �إىل هذه النقطة‪ ،‬تنهره حني ي�رصح لها بحبه لكنها تبكي‬
‫جمرد �أن �أراها قد �أ�صبح �أقوى من كل �شيء‪� ،‬أقوى من غ�ضبي‬ ‫وندما حني يقر� أ عليها ر�سائله امللتهبة‪� . .‬إلخ‪.‬‬
‫حبًّا و�شو ًقا ً‬
‫مر�ضا‪ .‬كان جنو ًنا‪ .‬كان �شيئًا �أعتى من املر�ض‬‫و�ضياعي‪ .‬كان ً‬ ‫وكلما م�ضينا مع هذا اخلط‪ ،‬ودخلنا يف تفا�صيل احلدث‬
‫ومن اجلنون‪.‬‬ ‫وت�شعباته املختلفة‪ ،‬كنا نكت�شف مع يحيى �أنه ال يعي�ش ق�صة‬
‫وليال طويلة ق�ضيتها على مقعد منتزه �أمام منزلها‪� ،‬أ�صادق‬ ‫مر�ضا ع�ضاال ً ال برء منه‪ .‬وحني‬ ‫حب يف احلقيقة‪ ،‬و�إمنا يواجه ً‬
‫حرا�س الليل و�أ�سليهم على �أمل �أن �أراها وهي هابطة من منزلها‬ ‫ن�صل �إىل قرب نهاية الق�صة تتحول �سانتي عند يحيى �إىل‬
‫غلى عملها يف ال�صباح‪ .‬ويف �أحيان كثرية ال �أراها‪ ،‬ويف �أحيان‬ ‫«غيبوبة» و»طاعون �أبي�ض» و«مر�ض وجنون»‪ .‬وال ترتكنا‬
‫قليلة جدًّا‪ ،‬نادرة‪� ،‬أراها‪ ،‬و�أرجتف ارجتا ًفا حقيقيًّا‪� ،‬أمام �أعني‬ ‫«مم�سو�سا» على باب �سانتي‪� ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫الرواية �إال بعد �أن نرى يحيى‬
‫�أ�صدقائي من احلرا�س‪ ،‬ملجرد ظهور �شبحها احلبيب يف فتحة‬ ‫«مت�صو ًفا يف عبادتها» وقد حتولت هي �إىل �إله‪.‬‬
‫الباب‪.‬‬ ‫يقول يحيى يف حديثه الذي ال ينقطع �إىل نف�سه و�إلينا‪:‬‬
‫قطعا‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ . .‬انني رغم هذا كله مل �كف عن حبها ولن �كف‪ ،‬و�ين ً‬ ‫«وبد�أت �أفيق‪. .‬‬
‫وبالت�أكيد هالك‪ ،‬وقد بد�أت �أتناول احلبوب املهدئة و�أنام‬ ‫�أو با ألحرى بد�أت مرة �أخرى �أروح يف الغيبوبة التي اعرتتني‬
‫باملنومات وا�ستيقظ باملنبهات‪ ،‬وعقلي كله �أراه ر�أي العني‬ ‫منذ عرفتها‪ ،‬غيبوبة عالقتي بها‪ ،‬تلك الغيبوبة التي قطعها‬
‫ينف�صل �شيئًا ف�شيئًا عن واقع احلياة‪ ،‬ويت�صاعد مت�صو ًفا يف‬ ‫لفرتة وجيزة خروج البارودي‪ ،‬الغيبوبة التي �أ�صبح فيها‬
‫عبادتها‪ ،‬وك�أنها جتردت هي ا ألخرى وو�صلت �إىل معنى اهلل‪.‬‬ ‫جمرد كائن ال يربطه باحلياة �إال تلك ال�ساعات القليلة التي‬
‫(�ص ‪.)261-260‬‬ ‫يق�ضيها يتحدث فيها معها �أو يتخيلها حني تغيب‪ ،‬ويحلم‬
‫�أما اخلط الثاين‪ ،‬فمع �أنه يبد� أ مثل اخلط ا ألول مع بداية الرواية‪،‬‬ ‫بها‪�(»..‬ص‪)230‬‬
‫حني نرى يحيى م�ستغر ًقا يف عمله ال�صحفي يف �إطار حركات‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫«‪ . .‬وطوال الطريق كنت ��صمم و�ق�سم‪ ،‬و�لح على نف�سي و��شتمها‬
‫الي�سار‪ ،‬ف�إنه �رسعان ما يتحول �إىل فوا�صل بني جوالت ق�صة‬ ‫و�ألعنها‪ ،‬و�أطلب من �إرادتي كلها �أن تتجمع‪ ،‬ومن كياين كله �أن‬
‫احلب املمتدة‪ .‬وبينما كان اخلط ا ألول ي�سري يف م�شاهد داخلية‬ ‫ما�ضي وذكرياتي وكل �شيء يخ�صني يف هذا‬ ‫َّ‬ ‫ينتف�ض‪ ،‬ومن‬
‫‪49‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫التي هجرها‪ ،‬وعالقته الوجدانية مع مراتع طفولته‪ ،‬وم�شاعره‬ ‫متكررة متوالية‪ ،‬مغلقة يف غالب ا ألحيان على يحيى و�سانتي‪،‬‬
‫الداخلية �إزاء كل �أ�شيائها ونا�سها‪� . .‬إلخ‪.‬‬ ‫ف�إن هذا اخلط الثاين ي�سري يف م�شاهد خارجية متغرية منف�صلة‪،‬‬
‫لكن هذه الق�صة الريفية امل�ستقلة‪ ،‬لي�ست �سوى م�شهد من العامل‬ ‫ومفتوحة يف الغالب على ف�ضاءات جديدة‪ ،‬و�إن كانت هي‬
‫الداخلي ا ألكرب ليحيى‪ ،‬وهو العامل الذي حتتله �سانتي ً‬
‫متاما؛‬ ‫ا ألخرى م�شمولة بال�صيغة االعرتافية املهيمنة على اخلطني‬
‫�إذ �سنكت�شف يف نهاية امل�شهد �أن ا أليام التي ق�ضاها الراوي‬ ‫جميعا‪� ،‬صيغة احلديث �إىل القراء‪/‬امل�ستمعني‪ ،‬ب�ضمري املتكلم‬ ‫ً‬
‫يف قريته حم�سوبة وبطيئة ومت�ضي على م�ض�ض‪ ،‬ال يذكر منها‬ ‫املفرد �أحيا ًنا واملتكلم اجلمع �أحيا ًنا �أخرى‪.‬‬
‫�سوى �أنها كانت �أيام عيد‪ ،‬و�أنها كانت قبل يوم ا ألحد املوعود‪.‬‬ ‫يف �أول ا�سرتاحة بني لقاءين‪� ،‬أو يف �أول فا�صل بني م�شاهد هذا‬
‫هذان اليومان �أو الثالثة لي�ست �سوى فا�صل يعود بعده �إىل‬ ‫العر�ض الطويل املتكررة‪ ،‬ي�أتي م�شهد القرية وا ألهل وا ألم على‬
‫اللقاء الدائم املتكرر مع نف�سه ومع �سانتي‪:‬‬ ‫وجه اخل�صو�ص‪:‬‬
‫«مل تتعد ا أليام التي ق�ضيتها يف البلدة يومني �أو ثالثة‪ ،‬وطوال‬ ‫«‪ . .‬واتفقنا على �أن يكون املوعد يوم ا ألحد يف ال�ساعة الثالثة‬
‫تلك ا أليام كانت �سانتي حتيا معي با�ستمرار‪ ،‬كنت �أنظر �إىل‬ ‫�أمام �سينما ميامي‪.‬‬
‫�أبي الطيب و�أخواتي و�أمي والفالحني �أبناء البلدة‪ ،‬و�أرى الرتاب‬ ‫وكان بيننا وبني ا ألحد عدد من ا أليام‪.‬‬
‫واملر�ض والفاقة واخلراب و�أقول لنف�سي هناك‪ . .‬يف مكان ما‬ ‫علي �أن �أ�سافر �إىل بلدتنا‪ .‬ف�شيء‬
‫وكان ثمة عيد قد �أقبل‪ .‬وكان َّ‬
‫من هذه الدنيا جنة �صغرية خمبّ�أة يل‪ ،‬هناك تلك الفتاة احللوة‬ ‫مقد�س �أن يعود �أبناء القرى الذين ا�ستوطنوا املدن �إىل قراهم‬
‫ذات ا إل�شعاعات‪ .‬هناك �سانتي»(�ص ‪.)43‬‬ ‫يف ا ألعياد‪� ،‬إنه ال�شيء التقليدي اخلافت الذي ترعرعوا ون�ش�أوا‬
‫وهكذا مت�ضي امل�شاهد ا ألخرى املتنوعة لهذا اخلط الثاين‬ ‫يف كنفه‪.‬‬
‫اخلارجي من ا ألحداث‪ ،‬كل م�شهد منها يقدم جانبًا من‬ ‫والواقع �أين بد�أت �أ�شتاق للبلدة ولعائلتي‪ ،‬و آلالف ا أل�شياء‬
‫عامل الراوي‪ /‬البطل‪ /‬يحيى‪ ،‬فم�شهد لل�سكن يف حي بوالق‬ ‫التي غادرتها هناك من �صغري‪ ،‬ذلك ال�شوق الذي �أعرف �أن‬
‫(�ص‪ ،)53-52‬وم�شهد للعمل وظروفه (�ص‪ )60-55‬وعنرت‬ ‫�ساعة واحدة �أق�ضيها يف القرية تكفي ً‬
‫متاما إلطفائه‪� ،‬إذ ما‬
‫وعبلة واالنتقال �إىل �شقة الزمالك (�ص ‪ )89-81‬واللقاء مع‬ ‫�أكاد �أهبط من القطار وتطالعني ا أل�شجار التي �عرفها والنخيل‬
‫أ‬
‫ال�صديق القدمي �أحمد �سيف الن�رص(�ص ‪ )150-141‬وخالف‬ ‫الذي كان قبل �أن �أوجد وال يزال يف مكانه من يوم وجدت‪،‬‬
‫الراوي مع جمموعة املجلة (‪ )162-142‬واملواجهة مع‬ ‫والبيوت الرمادية الداكنة التي �أعرف عن قاطنيها كل �شيء‪ ،‬ما‬
‫عمال الور�ش (‪ )185-174‬و�إخراج عدد املجلة برغم احلكومة‬ ‫�أكاد �أعود مرة �أخرى �إىل ذلك الهدوء املمدود الذي يرقد ريفنا‬
‫(‪ )224-314‬ثم القب�ض على فتحي �سامل وخروج البارودي‬ ‫يف قاعه‪ ،‬وما تكاد �آذاين ت�سرتيح من الطنني الذي ال ينقطع‬
‫من ال�سجن‪� . .‬إلخ‪.‬‬ ‫يف املدينة و�أهبط �إىل املكان الذي ال �ضجة فيه وال طنني‪ ،‬بل‬
‫غري �أن ا ألمر امل�ؤكد �أن هذا اخلط الثاين اخلارجي‪ ،‬تتداخل‬ ‫الهدوء احلافل الكبري‪ ،‬هدوء يغري بالهدوء‪ ،‬ويثبط الهمم‪ ،‬ما‬
‫م�شاهده ال�سيا�سية واالجتماعية يف معظم ا ألحوال مع اخلط‬ ‫�أكاد �أطالع كل هذا حتى �أبد� أ �أتناق�ض مع نف�سي‪. .‬‬
‫ا أل�سا�سي؛ الذي يرتكز يف م�شهد واحد متكرر‪ :‬ق�صة احلب‬ ‫�سافرت �إىل البلدة �إذن‪ ،‬وطالعني كل ما �أعرف �سل ًفا �أنه �سوف‬
‫املحتدمة بني يحيى و�سانتي‪ .‬كل هذه امل�شاهد اخلارجية‪،‬‬ ‫يطالعني‪ ،‬مع هذا فللقائنا بالقرية فرحة كفرحة ر�ؤيتنا‬
‫ال�سيا�سية واالجتماعية واحلياتية‪ ،‬كانت م�سكونة متا ًما بق�صة‬ ‫ل�صورنا ونحن �أطفال‪ ،‬وخل ّطنا �أيام كنا تالمذة يف ابتدائي‬
‫احلب الغالبة‪ ،‬وب�صورة �سانتي وطيفها الذي يقفز فج�أة يف‬ ‫وثانوي‪ .‬وقوبلت مبا تعودت �أن �أقابل به‪ ،‬جرى �أخي ال�صغري‬
‫ذهن الراوي‪ ،‬حتى يف �أحرج حلظات ال�رصاع ال�سيا�سي وا ألمني‬ ‫قادما من املحطة وعانقني والتف حول �ساقي‪ ،‬ثم‬ ‫حني ر�آين ً‬
‫مع ال�سلطة؛ فهذا ال�رصاع الداخلي �سيطغى على كل �رصاع‬ ‫انفلت وانطلق يعلن اخلرب ألبي ‪�,‬أمي وبقية �إخوتي‪� ». .‬ص‪40‬‬
‫خارجي مهما تكن �شدته‪:‬‬ ‫ودائما �أذهب‬
‫ً‬ ‫دائما �أفتقد �أمي يف مظاهرة الرتحيب بي‪،‬‬ ‫كنت ً‬
‫«وحني �أ�صبحنا يف ال�شارع‪ ،‬و�أ�صبح القب�ض على فتحي‬ ‫ودائما تقبل �صلحي على م�ض�ض‪� »...‬ص‪.42‬‬ ‫ً‬ ‫�صاحلها‪،‬‬ ‫و� أ‬
‫�سامل خربًا ي�أخذ طريقه لي�سكن يف هدوء الذاكرة‪ ،‬و�شوقي‬ ‫هكذا يحكي الراوي مرة واحدة ما كان يحدث مئات املرات عند‬
‫بجواري كالعمالق‪ ،‬وحمفظته البنية الغامقة حتت �إبطه‪،‬‬ ‫عودته �إىل قريته‪ ،‬فتتحول القرية وعاملها والوالدان وا إلخوة‬
‫دفعت �سانتي �أثقال ماكنت �أفكر فيه و�أ�ستعيده وخطرت‬ ‫– رغم �أنهم ال ُيذكرون بعد ذلك �إال مرات نادرة ‪� -‬إىل ركن‬
‫يل‪ . .‬و�ساءلت نف�سي �إن كنت �أحبها حقيقة و�أنا �أحيا يف هذا‬ ‫�أ�سا�سي من عامله الثابت‪ ،‬ولي�س جمرد م�شهد عار�ض يبهت بعد‬
‫اجلو امللبد امل�شحون الذي ي�صبح احلب فيه �شيئًا خمالًّ يعاب‬ ‫مروره‪.‬‬
‫وي�ستنكر‪� ،‬ساءلت نف�سي‪ ،‬ومل �أحتج ل إلجابة‪ ،‬كنت كمن ي�ضيق‬ ‫واحلقيقة �ن يو�سف �إدري�س يقدم هذا امل�شهد كله يف �صورة‬ ‫أ‬
‫�أحيا ًنا ويرفع ب�رصه ويت�ساءل‪� :‬أين ال�سماء‪ . .‬وال�سماء كبرية‬ ‫ق�صة مكتملة من ق�ص�صه الق�صرية التي عرفناها‪� ،‬شيء �أقرب‬
‫�ضخمة هائلة ممتدة من �أفق ال بداية له وال نهاية �إىل �أفق ال‬ ‫�إىل ق�صته «اليد الكبرية»‪ ،‬حيث رحلة ابن القرية عائدًا �إىل قريته‬
‫‪50‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بينما مل ي�ستخدمه يو�سف ال�شاروين مثالً من قريب �أو بعيد؛ ألن‬ ‫نهاية له وال بداية‪. .‬‬
‫ق�ضيته كانت هذا البطل الروائي املركب املري�ض الذي خلقه‬ ‫نعم كنت و�أنا ما�ش بجوار �شوقي �أحبها‪ ،‬و�أنا �أحيا حتت ا ألر�ض‬
‫يو�سف �إدري�س يف البي�ضاء(‪ .)17‬كما �أن �أحدًا مل ي�ستخدم على‬ ‫�أراها‪ . .‬و�أراها و�أنا �أريد �أن �أراها‪ ،‬و�أراها و�أنا ال �أريد �أن �أراها‪.‬‬
‫هذا النحو‪ ،‬الت�شابه بني يو�سف �إدري�س وكثري من رواة ق�ص�صه‬ ‫‪ .‬هي �شوقي وحمفظته واملكان الذي كنا ذاهبني �إليه واملجلة‬
‫الق�صرية‪ ،‬مثل «خم�س �ساعات» و» �شيخوخة بدون جنون»‪.‬‬ ‫وفتحي �سامل وخويف و�شجاعتي‪ ،‬ولوال �أين مدرك وم�ؤمن �أين‬
‫ومع �أن يو�سف �إدري�س نف�سه ي�ؤكد هذا اجلانب ا ألوتوبيوجرايف‬ ‫�س�أراها اليوم ما كنت قد �صحوت من النوم �أو ذهبت للور�ش �أو‬
‫يف الرواية‪� ،‬سواء يف تقدميه املوجز للرواية‪� ،‬أو يف حديثه �إىل‬ ‫احتملت وجودي على ظهر الدنيا حلظة واحدة‪ ،‬وجلزء على �ألف‬
‫كوبر �شويك امل�شار �إليه �ساب ًقا؛ ف�إنه قبل غريه كان يدرك هذا‬ ‫من الثانية‪. .‬‬
‫الفارق بني امل�ؤلف وال�شخ�صية الروائية‪ ،‬وقيمة هذه امل�سافة‬ ‫و�أظل يف تلك الدوامة‪� ،‬أرى �شوقي بحافظته �أو يكلمني ف�أتذكر‬
‫ما �أكثـر ما وردت‬ ‫اجلمالية الفا�صلة بني امل�ؤلف وراويه �أو بطله‪ ،‬ويدرك –‬ ‫عملي الثوري‪ ،‬ف�إذا ما تذكرته تذكرت ق�صوري فيه‪ ،‬والق�صور‬
‫كلمة «نف�س»‬ ‫ب�صفته كاتبًا واقعيًّا ‪� -‬أي �رضر ميكن �أن ي�صيب الرواية حني‬ ‫يذكرين ب�سانتي‪ ،‬وت�أنيب ال�ضمري الذي ي�صاحب ت�صورها‬
‫ُتقر� أ على هذا النحو‪.‬‬ ‫يذكرين بتق�صريي‪ ،‬وتق�صريي يذكرين بها‪�(»..‬ص‪.)219-218‬‬
‫و«نف�سي» يف‬ ‫أ‬ ‫(‪)4‬‬
‫وكما كان با�ستطاعة النقاد �ن ير�صدوا جوانب من الت�شابه‬
‫هذه الرواية‪،‬‬ ‫بني يحيى م�صطفي طه بطل الرواية‪ ،‬وبني امل�ؤلف يو�سف‬ ‫«يحيى م�صطفي طه» هو بطل رواية «البي�ضاء»‪ ،‬وراويها‪،‬‬
‫و�سيتحدث يحيى‬ ‫�إدري�س‪ ،‬ف�إن با�ستطاعة �أي قارئ ا آلن �أن يدرك الفروق الوا�سعة‬ ‫وحمور �أحداثها وق�ضاياها‪ .‬ولقد �أفا�ض النقاد يف بيان‬
‫ريا عن نف�سه‬ ‫كث ً‬ ‫بني ال�شخ�صيتني �إذا �أراد‪ ،‬و�سوف يجد عو ًنا يف الن�صو�ص‬ ‫العالقة بني هذا البطل‪/‬الراوي وبني م�ؤلف الرواية يو�سف‬
‫العجيبة‪ ،‬املكونة‬ ‫املعا�رصة التي تك�شف كيف �أن �أبطال روايات ال�سرية الذاتية‬ ‫�إدري�س‪ .‬يفتتح �سامي خ�شبة مقالته عن الرواية قائالً‪�« :‬إىل‬
‫– حتى لو تطابقت �أ�سما�ؤهم مع �أ�سماء امل�ؤلفني – هم حم�ض‬ ‫�أي حد ميكننا الف�صل بني يو�سف �إدري�س وبني يحيى م�صطفي‬
‫من عدة �أنف�س‬
‫خيال روائي‪ ،‬يختلف �إىل �أبعد حد عن امل�ؤلفني احلقيقيني‪.‬‬ ‫طه‪ ،‬و�إىل �أي حد ميكننا �أن نطابق بينهما؟ لقد كتب يو�سف‬
‫مت�صارعة‪ ،‬وعن‬ ‫يحيى م�صطفي طه �إذن‪ ،‬بطل روائي قبل �أي �شيء �آخر‪ .‬وكل ما‬ ‫�إدري�س رواية «البي�ضاء» ب�ضمري املتكلم‪ ،‬وجعل بطلها يحيى‬
‫�سخطه الدائم‬ ‫ميكن قوله يف هذا ال�صدد �أنه رمبا كان يعك�س جانبًا خفيًّا �أو‬ ‫م�صطفي طه هو راويها‪ ،‬وجعله طبيبًا مثله يعرف طريقه يف‬
‫على هذا الركن‬ ‫�رسيا من ذات امل�ؤلف (يف مقابل اجلانب املعلن الذي عك�سته‬ ‫ًّ‬ ‫�شبابه ا ألول �إىل الكفاح الثوري ال�رسي‪ ،‬وجعله يجمع بني‬
‫�أو ذاك من �أركان‬ ‫رواية ق�صة حب)‪ ،‬ومن هنا كان التحرج من ن�رش الرواية‪،‬‬ ‫الطب وال�صحافة ثم بني الطب وا ألدب‪ .‬و�إذا كانت حكاية يحيى‬
‫وكانت ال�صيغة االعرتافية املهيمنة على �رسدها‪.‬‬ ‫لق�صة حبه قد انتهت قبل �أن يتحول نهائيًّا عن الكفاح الثوري‬
‫نف�سه‪ ،‬وعن‬
‫يحيى �ساخط �أ�شد ال�سخط على نف�سه ال�ضعيفة املرتددة املتخلية‬ ‫وعن الطب ويتحول �إىل ا ألدب وحده‪ ،‬ف�إن يو�سف �إدري�س قد‬
‫رغبته الدفينة‬ ‫عن ا ألهل وعن الرفاق الثوريني‪ ،‬واملت�شككة يف اجلميع حتى‬ ‫�أكمل هذه امل�سرية وكتب ق�صة حب يحيى يف �أثنائها»(‪.)15‬‬
‫يف ترك �أركان‬ ‫يف �أقرب النا�س‪ :‬ا ألم‪ ،‬لكنه �أبدًا ال يدين هذه النف�س؛ ألنه يروي‬ ‫�أما فاروق عبد القادر‪ ،‬فيتجاوز كل الت�شابهات ال�سابقة بني‬
‫�أخرى منها تبوح‬ ‫حكايتها من الداخل وب�ضمري املتكلم االعرتايف الوا�ضح‪،‬‬ ‫يحيى ويو�سف �إدري�س‪ ،‬لي�صل �إىل نقطة يراها حا�سمة يف هذا‬
‫وتنفعل وحتيا‪،‬‬ ‫بل رمبا كان �ضمري املتكلم املعرتف هذا‪ ،‬واملقرتن ب�ضمري‬ ‫الت�شابه‪ ،‬يرى فيها �شيئًا �أقرب �إىل التطابق‪ ،‬ويرى فيها «مفاتيح‬
‫املتكلم اجلمع يف كثري من ا ألحوال‪ ،‬هو الو�سيلة التي دفعنا‬ ‫ثمينة» ت�ساعد يف فهم رواية البي�ضاء‪ ،‬وفهم «�إبداع يو�سف‬
‫بها امل�ؤلف �إىل التعاطف مع بطله وتفهم م�أ�ساته وتناق�ضاته‪،‬‬ ‫جميعا»‪ ،‬وهي العالقة مع ا ألم‪ .‬يقول‪»:‬بعد‬ ‫ً‬ ‫�إدري�س وحياته‬
‫ال حماكمته‪.‬‬ ‫ن�رش عدة حلقات منها يف جريدة اجلمهورية‪ ،‬ن�رش يو�سف �إدري�س‬
‫يتحدث يحيى عن نف�سه كثريًا وبا�ستفا�ضة‪ ،‬وميعن يف تقدمي‬ ‫تو�ضيحا حول خلط البع�ض بينه وبني بطل البي�ضاء الذي‬ ‫ً‬
‫جوانب حياته من الداخل ومن اخلارج‪� .‬أما �سانتي ف�سيرتكها‬ ‫تروى الق�صة على ل�سانه‪ ،‬ونبه ه�ؤالء �إىل �أن هناك فر ًقا بني‬
‫الراوي حتى النهاية لغزًا م�ستع�صيًا على الفهم‪ ،‬ال تتكلم كثريًا‪،‬‬ ‫امل�ؤلف وال�شخ�صية الروائية و�أنه �شخ�صيًّا يعرف خم�سة �أطباء‬
‫واملعلومات حولها �شحيحة‪ ،‬لي�س �سوى ر�ؤية الراوي البطل‬ ‫ميار�سون الكتابة‪ .‬ولن �أقف هنا عند نقاط الت�شابه «اخلارجي»‬
‫املحب‪ ،‬الذي يخلع عليها هالة �أ�سطورية تزيد من ا�ستع�صائها‬ ‫بينهما‪ ،‬فكالهما طبيب يعمل بالكتابة‪ ،‬عرف هذا العمل ال�رسي‬
‫وغمو�ضها‪.‬‬ ‫ومار�سه‪ ،‬وكالهما عمل طبيبًا بني العمال‪ ،‬وكالهما �أقام وفتح‬
‫ما �أكرث ما وردت كلمة «نف�س» و«نف�سي» يف هذه الرواية‪،‬‬ ‫عيادة يف بوالق‪� . .‬إلخ‪ ،‬لكن نقطة اللقاء الذي ي�صل حد التطابق‬
‫و�سيتحدث يحيى كثريًا عن نف�سه العجيبة‪ ،‬املكونة من عدة‬ ‫�إمنا تتمثل يف العالقة با ألم‪ ،‬امل�ؤدية ال�ضطراب العالقات‬
‫�أنف�س مت�صارعة‪ ،‬وعن �سخطه الدائم على هذا الركن �أو ذاك‬ ‫التالية باملر�أة وف�سادها»(‪.)16‬‬
‫من �أركان نف�سه‪ ،‬وعن رغبته الدفينة يف ترك �أركان �أخرى‬ ‫ومن الوا�ضح �أن الناقدين ي�ستخدمان هذا الت�شابه‪ ،‬ألنه يخدم‬
‫منها تبوح وتنفعل وحتيا‪ ،‬حتى لو بدت انتهازية �أو غريبة �أو‬ ‫دفاعا عن الي�سار‪،‬‬
‫ق�ضيتهما وهجومهما على الرواية و�صاحبها ً‬
‫‪51‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ومل �أكن �أكذب يف كال االنفعالني‪ ،‬كان �أغلب نف�سي يف جنازة‬ ‫وقحة �أو مري�ضة‪� .‬إنه ال�رصاع الذي ال ينتهي بني م�ستحيلني‪� ،‬أو‬
‫حقيقية اقطر لها مرارة و�أملًا‪ ،‬وذلك اجلزء ال�صغري يف مرح‬ ‫م�ستحيالت متعددة‪ ،‬كلها تعتمل يف نف�س «يحيى»‪:‬‬
‫طربا‪ ،‬وكال االنفعالني ال ي�ستطيع التغلب‬ ‫حقيقي يكاد يهزين ً‬ ‫«‪� . .‬أكاد �أمتنى �أال ت�أتي أل�شقى و�أتعذب و�أ�شمت يف ذلك اجلزء‬
‫على ا آلخر �أو حموه‪ ،‬و�رصاعهما وتنافرهما ميزقني ويدميني»‬ ‫من نف�سي‪ ،‬ذلك اجلزء املتفائل الذي كان ي�ؤكد يل با�ستمرار‬
‫(�ص ‪)167‬‬ ‫�أنها البد قادمة وي�سخر من خماويف و�شكوكي‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫«‪ . .‬كنت كمن يتفرج على نف�س �خرى غري نف�سه‪ ،‬نف�س �خرى‬ ‫و�أ�صبحت ال�ساعة الثالثة‪.‬‬
‫حتب بقوة وق�سوة وظم�أ وح�شي‪ ،‬وحتاول �أن جتد قطرة حب‬ ‫ون�شب يف نف�سي جدل عنيف‪� .‬آالف ا أل�شياء ت�ؤكد �أنها قادمة‪.‬‬
‫متت�صها فال جتد‪ ،‬فتئن وتعوي وتتلوى‪ ،‬كنت وك�أين قد �أ�صبحت‬ ‫و�آالف ا أل�شياء ت�ؤكد يل �أنها ذهبت من حياتي �إىل ا ألبد ولن‬
‫و�شخ�صا يتفرج وي�ستغرب‪ ،‬وا ألعجب‬ ‫ً‬ ‫�شخ�صا يعذَّب‬
‫ً‬ ‫�شخ�صني‪. .‬‬ ‫تعود‪.‬‬
‫من هذا �أن كليهما يحب �سانتي‪ ،‬و�أين بكليهما �أحاول �أن �أظفر‬ ‫و�أنا فرح ألين �س�أ�شقى و�أحزن‪ ،‬وحزين ألين قد �أفرح‪� ،‬ساخط‬
‫بها»(�ص ‪.)209‬‬ ‫على نف�سي �أ�شد ال�سخط ألين تركت �أبي العجوز واخوتي وكل‬ ‫للحب يف نف�س‬
‫«وامل�شكلة الكربى �أنني كنت �أنا الذي �صنعت بنف�سي كل هذا‪،‬‬ ‫النا�س الذين يحبونني وجئت ملقابلتها‪ ،‬را�ض عن نف�سي ألين‬ ‫يحيى ق�صة‬
‫قيدت نف�سي �إليها ب�إرادتي‪ ،‬وب�إرادتي �أريد �أن �أك�رس قيودي‪،‬‬ ‫نبذت الواجبات اجلوفاء وخرقتها و�أقدمت على عمل �أحقق به‬
‫م�ستحيلة‪،‬‬
‫فمن اين �آتي ب�إرادة يل تلغي �إرادتي‪ ،‬وكبف �أحطم بنف�سي‬ ‫رغبة هي من حقي �أنا وبجماع نف�سي �أريدها»(�ص ‪.)47-46‬‬
‫بنيا ًنا ال متلك نف�سي �إال �أن تبنيه وت�ستمر تبنيه‪�( ». .‬ص ‪-236‬‬ ‫علي �أن �أعاملها باعتبار �أنها زوجة‪ ،‬و�أنا‬ ‫وكذلك للثورة‪.‬‬
‫«‪ . .‬فقد ا�صبح واجبًا ّ‬
‫‪.)237‬‬ ‫م�ؤمن �أنها لي�ست كذلك‪ ،‬و�أنا �أ�شك يف �إمياين هذا‪ ،‬و�أنا حائر يف‬ ‫الق�صتان‬
‫(‪)5‬‬ ‫هدفها من تذكريي بو�ضعها‪ ،‬حائر فيها‪ ،‬وفوق هذا كله وقبل‬ ‫م�ستحيلتان يف‬
‫للحب يف نف�س يحيى ق�صة م�ستحيلة‪ ،‬وكذلك للثورة‪.‬‬ ‫متاما �أين ال �أ�ستطيع ان �أمنع نف�سي من طلبها‬‫هذا كله مدرك ً‬ ‫ذاتهما‪ ،‬ألنهما‬
‫الق�صتان م�ستحيلتان يف ذاتهما‪ ،‬ألنهما �سرِ ِّيتان حتيط بهما‬ ‫كما ال �أ�ستطيع �أن �أمنعها من طلب احلياة والوجود‪� ،‬أبدًا مل �أكن‬
‫ِ�س ِّريتان حتيط‬
‫ال�شكوك والتناق�ضات‪ ،‬و ألن ما فيهما من �أحداث ومن حوارات‬ ‫�أ�ستطيع حتى لو تبينت مثل �أوديب �أنها �أمي‪ ،‬ف�شغفي بها كان‬
‫�إمنا يقع بني يحيى وبني نف�سه‪ .‬والق�صتان م�ستحيلتان‬ ‫قد خرج عن �إرادتي‪� ،‬أ�صبح كالنار العنيدة املوقدة يف نف�سي‪،‬‬ ‫بهما ال�شكوك‬
‫ي�ضا فيما يت�صل بطبيعة العالقة بينهما؛ فهما متداخلتان‬ ‫�أ ً‬ ‫كلما حاولت �أن �أخمدها مبانع �أو حائل �أتت عليه‪ ،‬بل زادتها‬ ‫والتناق�ضات‪،‬‬
‫ومت�صارعتان بحيث ال ندري من �أين تبد� أ احلركة‪ :‬من ق�صة‬ ‫املوانع واحلوائل ا�شتعاال ً» (�ص ‪.)72‬‬ ‫أ‬
‫ولن ما فيهما‬
‫احلب �إىل ق�صة الثورة �أم العك�س‪� ،‬أيهما ي�ؤثر على ا آلخر‪� ،‬أم �أن‬ ‫«وبد�أت �أنفعل و�أكتب‪ ،‬و�صورة �سانتي يف نف�سي تبتعد وتبتعد‪،‬‬ ‫من �أحداث ومن‬
‫جميعا‪ ،‬وهو هذه النف�س‬‫ً‬ ‫هناك تكوينًا �أعلى يرتك �أثره عليهما‬ ‫�أبعدها ب�إرادتي وك�أين �ساخط عليها وعلى نف�سي وعلى تلك‬ ‫حوارات �إمنا يقع‬
‫املنق�سمة الغريبة‪.‬‬ ‫ا أليام الطويلة من حياتي التي ق�ضيتها عبثًا‪ ،‬ق�ضيتها واق ًفا‬
‫يحيى غارق �إىل �ذنيه يف حب �سانتي‪ ،‬يعرتيه ما يعرتي‬ ‫أ‬ ‫يف طريق جانبي �ضيق ال ي�سع �إال عواطفي واحالمي‪.‬‬ ‫بني يحيى وبني‬
‫املحبني من �أوهام يف كل ق�صة حب‪ ،‬ف�سانتي بالن�سبة له‬ ‫ولو كان هذا هو الذي حدث بال�ضبط ل�سار كل �شيء كما �أردت‪،‬‬ ‫نف�سه‬
‫هي الروح‪ ،‬ورمبا �شيء �أكرب من الروح‪� ،‬شيء غام�ض ال ميكن‬ ‫ولكني طوال انفعايل وغ�ضبي و�سخطي كان هناك‪ ،‬يف ركن ما‬
‫و�صفه �أو قوله �أو التعبري عنه‪:‬‬ ‫من نف�سي‪� ،‬شيء �أكاد �أملحه و�أراه‪ ،‬عينان �صغريتان متقاربتان‬
‫«ومع ذلك لو طلب �أحدهم مني بعد مقابلتي لها �أن �أ�صفها ملا‬ ‫المعتان �ساخرتان ت�ؤكدان يل �أين �أ�ضحك على نف�سي‪ ،‬و�أين‬
‫ا�ستطعت‪ ،‬فما جدوى الو�صف‪� .‬إنه ل�شيء م�ضحك �أن نقر� أ يف‬ ‫�أفتعل ثورتي عليها و�أن �سانتي مل تبتعد من خيايل وال حدث‬
‫ق�ص�ص احلب �أن البطل غرق �إىل �آذانه يف حب البطلة ل�شعرها‬ ‫لها �شيء‪�(»..‬ص ‪.)79-78‬‬
‫ا أل�سود املتهدل �أو عيونها الع�سلية ذات الرمو�ش الطويلة‪.‬‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫«كلمات متلعثمة جعلتني �زداد حقدًا على حقدي و�ت�ساءل عن‬
‫هراء وتخريفات‪ ،‬فنحن ال نف�ضل �إن�سا ًنا على �آخر ألن مالمح‬ ‫يف‪ ،‬وملاذا هي جاحدة ناكرة‬ ‫كنه النف�س التي ت�سريين وتتحكم ّ‬
‫هذا �أجمل من مالمح ذلك‪� ،‬أو نحب فتاة لعيونها اجلريئة �أو‬ ‫للجميل‪ ،‬وملاذا ال تق�رص حبها على من يحبونا فعالً‪ ،‬وبالذات‬
‫يل �أننا نحب ا إلن�سان ل�شيء ال‬ ‫اللتفاتاتها الر�شيقة‪ ،‬يخيل � إ َّ‬ ‫�أولئك الذين ال عمل لهم يف احلياة �إال حبها» (�ص ‪.)99‬‬
‫ن�ستطيع حتديده يف ا إلن�سان‪ ،‬وا�س�ألوا كل من �أحب‪ ،‬ماذا �أحببت‬ ‫«ومع هذا‪ ..‬وبينما كنت �أنهال على نف�سي ب�صفعات داخلية‬
‫يف رفيقك‪ ،‬ودعوه يجيب‪ ،‬وحققوا له كل ما يقوله يف رفيق‬ ‫مكتومة‪ .‬بينما نف�سي كلها يف جنازة خجل قائمة‪ ،‬كان جزء‬
‫�آخر‪ ،‬ف�سوف يظل يقول هناك �شيء ناق�ص لو�س�ألناه عن كنهه‬ ‫فرحا‪ ،‬جزء �أحاول �إ�سكاته فال‬ ‫�صغري من نف�سي يكاد يرق�ص ً‬
‫ملا ا�ستطاع ا إلجابة‪ .‬ويف كل منا �شيء ال ن�ستطيع حتديده‪ ،‬هو‬ ‫ي�سكت‪� ،‬أحاول �سحقه فال ميوت‪� ،‬ب�صق عليه فيزداد ً‬
‫مرحا‬ ‫أ‬
‫روحه هو جمموع �أجزائه الظاهرة و�أجزائه التي ال تظهر‪ ،‬دمه‪،‬‬ ‫وفجورا‪ ،‬ويفعل هذا ألن معنى �أنها �أهملت يف عملها طوال‬ ‫ً‬
‫�شخ�صيته‪ ،،‬ظله‪�( ». .‬ص‪.)11-10‬‬ ‫تلك املدة �أنها كانت م�شغولة ب�شيء �آخر‪ ،‬م�شغولة بي‪ ،‬بي �أنا‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف هذا كله‪ ،‬ب�أية قوى غيبية تفرز يف دمي كل تلك الكمية‬ ‫َّ‬ ‫«‪ . .‬مل يكن �إح�سا�سي ي�ستند على غري �أ�سا�س‪ ،‬ولكنه �أ�سا�س ال‬
‫من ا ألدرينالني الذي يجعل قلبي يدق هكذا وينبت العرق من‬ ‫ميكن قوله �أو حكايته �أو التعبري عنه‪ .‬الت�رصفات والكلمات‬
‫جبهتي وتتهدج له �أنفا�سي؟ وملاذا هي وحدها دوناً عن العامل‬ ‫الكبرية الوا�ضحة املحددة املعامل هي فقط التي ميكن �أن‬
‫كله‪�( ».‬ص‪.)223‬‬ ‫حتكيها �أو تقولها‪ ،‬ولكن كيف ت�ستطيع �أن حتكي ما ي�صاحب‬
‫«‪ . .‬فقد �أدركت ألول مرة �أنها لي�ست ق�صة حب �أخرى تلك التي‬ ‫تلك الت�رصفات والكلمات‪ ،‬ا أل�شياء الدقيقة التي ال تظهر �إال‬
‫�أواجهها‪ ،‬ولكنها جتربة حياتي‪ .‬حقيقة‪ ،‬كنت �أح�س �أن �صفارة‬ ‫لتتال�شى‪ ،‬و�إذا تال�شت فال ت�ستطيع‪ ،‬مهما حاولت‪� ،‬أن تعيدها �إىل‬
‫البدء قد انطلقت و�أين �أنزل احللبة ألبد� أ �أول �رصاع ين�شب بني‬ ‫الوجود مب�سميات �أو �ألفاظ‪ .‬كلمة �أ�شكرك مثالً كلمة حمددة تعرب‬
‫الواقع وبني ما �أريد» (�ص ‪.)252‬‬ ‫عن ت�رصف حمدد ميكن التعبري عنه وت�صوره‪ ،‬ولكن الطريقة‬
‫غري �أن يحيى كان يدرك يف الوقت نف�سه‪ ،‬كمية العوائق بينه‬ ‫التي تقال بها‪ ،‬ملعة العني التي قالتها ومقدارها ووجهتها‪،‬‬
‫وبني حبه‪ ،‬وهي عوائق داخلية وخارجية يبدو عبورها‬ ‫مكان خروجها وهل جاءت من طرف الل�سان �أم �صدرت عن‬
‫م�ستحيالً‪� .‬أول هذه العوائق و�أي�رسها �أن يحيى يكت�شف بعد �أول‬ ‫ا ألعماق‪ ،‬نوع ال�صوت الذي تقال به ورنينه ومداهن ال�رسعة‬
‫لقاء مع �سانتي �أنها متزوجة من رجل حتبه‪ ،‬والعائق الثاين‪،‬‬ ‫التي قيلت بها والوقفات التي جاءت �أثناء حروفها‪ ،‬وت�سبيلة‬
‫ي�ضا‪ ،‬هو عائق الزمالة والعمل امل�شرتك‬ ‫وهو عائق خارجي � أ ً‬ ‫اجلفن التي تتبعها �أو قد ت�سبقها �أو قد ال حتدث �أبدًا‪ ،‬تلك ا أل�شياء‬
‫مع رفاق الثورة الذي مينع منو هذه العالقة يف ظروف طبيعية‪.‬‬ ‫الدقيقة التي ال تكفي كل احلوا�س ال�ستقبالها‪�( ». .‬ص ‪.)14‬‬
‫�أما �أخطر العوائق و�أ�شدها ا�ستحالة‪ ،‬فهي العوائق الداخلية‪.‬‬ ‫واملهم �أين مل �أرها على حالة واحدة �أبدًا‪ .‬كان �شكلها يتغري‬
‫(‪)18‬‬
‫بني يحيى و�سانتي عائق �أ�شبه ما يكون بالعائق ا ألوديبي ‪،‬‬ ‫وجها‬
‫على الدوام يف نظري‪ ،‬ويبدو يل وجهها يف كل دقيقة ً‬
‫ونحن ل�سنا يف حاجة �إىل جهد كبري لكي نك�شف عن طبيعة هذا‬ ‫�آخر �أجمل و�أحلى‪ ،‬حتى بريق عينيها كان يتغري يف كل وم�ضة‬
‫العائق ودوره‪ ،‬ففي موا�ضع كثرية من حديث يحيى الطويل �إىل‬ ‫وكل نظرة‪ ،‬وكنت مذهوال ً �أحاول عبثًا ان �أحتفظ لها ب�صورة‬
‫نف�سه و�إلينا نحن القراء‪ ،‬يتحدث �رصاحة عن الطبيعة امللتب�سة‬ ‫واحدة‪ ،‬ولكن �ألوانها تختلط ب�ألوان‪ ،‬وبيا�ضا يف احمرار دائم‬
‫لعالقته ب�أمه وكيف �أثرت على عالقته بكل من تعامل معهن‬ ‫غمو�ضا حبيبًا يلفها ويلف الوقفة‬ ‫ً‬ ‫متغري‪ ،‬و�سواد ثيابها ي�شع‬
‫من الن�ساء(‪ ،)19‬غري �أن الراوي‪ /‬البطل يف حديثه املمتد �سي�سخر‬ ‫وجها �أعرفه و�أحفظه‪ ،‬ومرة �أراه‬ ‫ً‬ ‫راه‬‫واللحظة‪ ،‬ووجهها مرة � أ‬
‫‪ -‬يف الوقت نف�سه – من تلك التف�سريات القائمة على ما ي�سميه‬ ‫وجه ملكة من ملكات التاريخ‪ ،‬وجه �آلهة من �آلهة اليونان‪� ،‬وأ‬
‫«علم النف�س امل�ضحك»‪ ،‬وهو ما يزيد ا ألمر تعقيدًا؛ ألنه يبدو‬ ‫جنية من جنيات ا أل�ساطري‪ ،‬و�أحيا ًنا وجها جديدًا ً‬
‫متاما �أراه‬
‫على درجة من الوعي بطبيعة م�شكلته‪ ،‬ت�سمح له مبراوغة نف�سه‪،‬‬ ‫ألول مرة يف حياتي» (�ص ‪)34‬‬
‫ومراوغتنا نحن القراء‪.‬‬ ‫ومع ذلك فق�صة احلب بني يحيى و�سانتي لي�ست ك�أي ق�صة‬
‫يبدو ا ألمر وك�أن هناك قوة ميتافيزيقية قاهرة متنع يحيى من‬ ‫حب عادية‪ ،‬والقوة التي جتذبه �إليها �أكرب من �أية قوة �أخرى‪،‬‬
‫الو�صول اجل�سدي �إىل �سانتي‪ ،‬برغم كل تلك القوة التي تدفعه‬ ‫�إنها �شيء �أقرب �إىل ال�سحر و�إىل الغيب والظواهر اخلارقة‪ ،‬قوة‬
‫�إليها‪ .‬و�سيقول لنا يف غري مو�ضع �إن �سانتي كانت بالن�سبة له‬ ‫حتما �إىل املر�ض و�إىل اجلنون ‪:‬‬ ‫�ست�أخذه ً‬
‫�أقرب �إىل املحارم‪:‬‬ ‫أ‬
‫«كنت �آخر من يعترب �ن ما يدور بيني وبينها �شيء عادي‪ ،‬كنت‬
‫«مل يكن �سهالً ابدًا �أن �أتخطى بقفزة واحدة حواجز منيعة‬ ‫يف قرارة نف�سي م�ؤمنًا �أن ما يحدث يل مل يحدث إلن�سان من‬
‫تكاد تعادل تلك التي تقوم بني ا إلن�سان و�أخته‪ ،‬حواجز‬ ‫قبل‪ ،‬وك�أنني �أول واحد �شعر بعواطف كهذه جتاه �إن�سانة مثلها‪،‬‬
‫الزمالة والعمل امل�شرتك‪ ،‬ولكني كنت �أعتمد على الزمن ومنو‬ ‫و�سانتي يف يقيني كانت ال ميكن �أن تكون جمرد فتاة �أو امر�أة‬
‫العالقة‪�(».‬ص‪)30‬‬ ‫عادية‪ ،‬كانت تكاد تقرتب يف نظري من ظاهرة �شاذة‪ ،‬كائن‬
‫و�إىل �أن حتني املقابلة رحت �ت�صور نف�سي و�نا �حقق حلمي‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫خارق للعادة‪ ،‬كائن �أح�س ناحيته ب�أحا�سي�س مل �أح�سها قبالً‬
‫بنوالها‪ .‬و�أغرب �شيء �أين مل �أ�ستطع هذا �أبدًا‪ .‬كنت �أت�صورين‬ ‫جتاه �أية �أنثى �أو جتاه �أي �إن�سان �آخر‪�( ». .‬ص ‪)170‬‬
‫جال�سا معها مثالً �أحتدث �إليها‪� ،‬أ�ضحك معها‪� ،‬أقرتب منها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«‪ . .‬وجوه ت�سبح يف خيايل‪ ،،‬ووجوه‪ ،‬و�آذاين فيها �رصخات‬
‫نائما معها يف فرا�ش واحد فذلك‬ ‫�أقبلها‪� ،‬أما �أن �أت�صور نف�سي ً‬ ‫وطنني وهم�سات‪ . .‬وهناك‪ . .‬من �أبعد مكان يف �رشق خيايل بد� أ‬
‫�أمر مل �أ�ستطعه‪ .‬وحني تكرر هذا يف خيايل بد�أت �أفطن �إىل‬ ‫وجه ما يظهر‪ ،‬ويت�ضح‪ ،‬ويتكامل‪ ،‬ويقرتب‪،‬كان وجه �سانتي‪،‬‬
‫احلقيقة الغريبة املذهلة التي مل �أكن قد فطنت بعد �إليها‪ .‬حتى‬ ‫ورائعا‪ ،‬بدا جمرد وجه بني �آالف الوجوه‪ ،‬و�أخذ‬ ‫ً‬ ‫ومبت�سما‬
‫ً‬ ‫حيًّا‬
‫يف اخليال ال �أ�ستطيع �أن �أت�صور نف�سي يف و�ضع ج�سدي معها‪.‬‬ ‫نوره يزداد حتى بد�أت الوجوه التي حوله تظلم‪ ،‬وظالمها يبهت‬
‫كيف هذا؟ كنت �أثور على نف�سي و�أعاندها و�أروح مرة �أخرى‬ ‫ويبهت‪� ،‬إىل �أن �أ�صبحت نف�سي �سماء ليلية �صافية لي�س فيها‬
‫�أت�صور و�أبد� أ بالكالم معها لكي �أنتهي بالفرا�ش‪ ،‬ومي�ضي كل‬ ‫م�ضيء غري وجه �سانتي‪�( ». .‬ص ‪.)186‬‬
‫�شيء على ما يرام حتى ن�صل �إىل الفرا�ش‪ ،‬وحينئذ يجمح بي‬ ‫أ‬
‫علي هذه املر�ة ال�صغرية وحتدث‬ ‫«‪ . .‬ب�أية قوى �سحرية ت�ؤثر َّ‬
‫‪53‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف �سيا�سة املجلة واجتاهاتها ونبحث فيها بع�ض م�شكالت‬ ‫عقلي بالقوة وي�أبى امل�ضي وك�أنني �أت�صور نف�سي ً‬
‫نائما مع‬
‫بالدنا بالطريقة املحلية وباللغة التي يفهمها �شعبنا‪ .‬وبد�أنا‬ ‫علي‪ ،‬مع �أمي مثالً �أو �أختي �أو عمتي»(�ص‬ ‫�إحدى املحرمات ّ‬
‫نردد �شعارات �أقرب �إىل طبيعتنا وروحنا من ال�شعارات‬ ‫‪.)152‬‬
‫«العاملية» التقليدية املحفوظة‪. .‬‬ ‫«ومل �أكن �أفكر و�أنا �أح�س‪ ،‬كنت �أدرك هذا بال وعي‪ .‬كانت �أب�شع‬
‫ويف تلك الظروف عرفت �سانتي‪.‬‬ ‫جرمية يف نظري �أن �أم�سها‪ ،‬جمرد م�س‪ ،‬بكلمة �أو حتى ب�إ�شارة‬
‫عرفتها والي�أ�س قد و�صل بي �إىل مرحلة كنت �أكاد �أقرر كل‬ ‫�شف حتى �أتال�شى �إذا كان جمرد‬ ‫�شف و� أ ّ‬
‫حلظة �أمتنى فيها �أن � أ ّ‬
‫يوم فيها �أن �أقطع �صلتي باملجلة وباملجموعة كلها و�أن �أبد� أ‬ ‫وجودي ال يريحها‪�( ». .‬ص ‪.)187‬‬
‫مقتنعا به وب�صحته وم�ؤمنًا‬ ‫ً‬ ‫يف البحث عن طريق �آخر �أكون‬ ‫«وكان ممكنًا �أن ينتف�ض عقلي ويثور‪ ،‬ويت�صور ما يحلو له من‬
‫بفائدته‪.‬‬ ‫متاما‪� .‬سانتي‬‫�أوهام و�أو�ضاع‪� ،‬أما �أن �أنفذ هذا ف�شيء م�ستحيل ً‬
‫أ‬
‫وكل يوم كنت ��ؤجل القرار‪ ،‬ال بحكم العادة والك�سل فقط‪ ،‬ولكن‬ ‫كانت �أمامي‪ ،‬على بعد خطوة واحدة مني‪� ،‬أ�ستطيع �أن �أ�شل‬
‫ألين – رغم �إمياين املطلق بخط�أ هذا الطريق – �أخاف �أحيا ًنا‬ ‫مقاومتها كلها با�صبعني اثنتني من �أ�صابعي و�أنالها عنوة‪،‬ثم‬
‫�أن �أكون املخطئ‪ . .‬وب�رصاحة لي�س هذا كل �شيء‪»...‬‬ ‫�أنف�ض يدي منها كما �أريد‪ . .‬ولكني مل �أكن �أ�ستطيع‪� ،‬أبد� أ مل �أكن‬
‫جزءا كبريًا من فرحتي كان‬ ‫وحني عرفت �سانتي فرحت‪ ،‬ولعل ً‬ ‫�أ�ستطيع‪ . .‬كنت مت�أكدًا �أنها لو غ�ضبت حتى من فعلتي ف�ست�صفح‬
‫أ‬
‫راجعا �إىل �أنها جعلتني �أ�ؤجل ذلك القرار �إىل البد‪ ،‬وجعلتني‬ ‫ً‬ ‫عني بعد هذا وتغفر يل‪. .‬‬
‫رغما عني‪ ،‬جعلتني �أعود �أمتنى‬ ‫ً‬ ‫كرهه‬‫أ‬ ‫�‬ ‫كنت‬ ‫طريق‬ ‫ملحبة‬ ‫�أعود‬ ‫كنت م�ؤمنًا بهذا ومت�أكدًا منه‪ ،‬ولكن ما فائدة ا إلميان به‬
‫�أن حتدث املعجزة و�ن ننجح فعالً يف تغيري كل ما كنا نراه‬
‫أ‬ ‫والقيود التي تغلني يف مكاين وتربطني �إىل مقعدي �أقوى �ألف‬
‫غري قابل للتغيري‪. .‬‬ ‫مرة من كل احلقائق التي �أ�ؤمن بها و�أعرفها؟ ما فائدة �إمياين‬
‫وهكذا بد�أت يف االجتماعات �أناق�ش و�أجادل و�أنفعل‪ ،‬وكنت‬ ‫و�أنا كلما �أدركت �أن نوالها �أمر �سهل ال يكلفني �إال فك قيودي‪،‬‬
‫قبالً قد دفعني الي�أ�س �إىل ح�ضورها �ساكنًا �ساكتًا مطرق‬ ‫كلما �أح�س�ست بالقيود تت�ضاعف وت�ضيق‪ ،‬وكلما وجدت �سانتي‬
‫الر�أ�س‪ . .‬كنت �آتي �إىل االجتماع و�أنا �أكاد �أنفجر بالثورة‪». .‬‬ ‫قريبة مني را�ضية وم�ستعدة ألن تر�ضى‪ ،‬كلما �أح�س�ست بها‬
‫�ص ‪.163 -162‬‬ ‫تبعد وتبعد حتى لت�صبح �أبعد من ان �أنالها بب�رصي �أو حتى‬
‫وهكذا تقفز ق�صة �سانتي فج�أة يف قلب ق�صة الثورة‪ً ،‬‬
‫متاما كما‬ ‫بخيايل‪�( ». .‬ص ‪.)207‬‬
‫بد�أت �صفحات الرواية بق�صة احلب التي ت�شكلت ومنت بعد ذلك‬ ‫(‪)6‬‬
‫يف قلب ق�صة الثورة‪.‬‬ ‫تلك ق�صة احلب امل�ستحيلة التي تنتهي(‪ )20‬مبا ي�شبه‬
‫معا هناك انف�صام بني الداخل واخلارج‪ ،‬هناك‬ ‫يف الق�صتني ً‬ ‫اجلنون‪ ،‬فما ق�صة الثورة؟‬
‫حب واحتجاج عاجز على احلب‪ ،‬وهناك ثورة وثورة مكبوتة‬ ‫مع �أن ق�صة الثورة هي ا ألقدم وا أل�سبق يف حياة يحيى‪ ،‬ومع �أن‬
‫متواريا‬
‫ً‬ ‫على الثورة‪ .‬ولقد ظل هذا االنف�صام يف ق�صة الثورة‬ ‫ق�صة احلب هي التي تقطعها‪ ،‬ف�إن تقدمي الراوي‪/‬البطل‪/‬يحيى‬
‫مف�سحا املجال لق�صة احلب الغامرة وتناق�ضاتها‬ ‫ً‬ ‫�إىل حد ما‪،‬‬ ‫للحكاية ي�سري ب�شكل خمتلف؛ فالرواية تبد� أ بق�صة احلب وت�سري‬
‫أ‬
‫لكي حتتل معظم �صفحات الرواية‪� ،‬إىل �ن تفجرت الثورتان‬ ‫وتن�صب عليها‪ ،‬بحيث تبدو ق�صة الثورة هي الهام�شية‬ ‫معها‬
‫معا يف هذا الف�صل احلادي ع�رش‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫العاجزتان امل�ستحيلتان ً‬ ‫وهي التي تقطع ق�صة احلب ال�ساخنة املتوالية املتوترة‪.‬‬
‫يف اجتماع رفاق املجلة‪ ،‬ويف قلب املناق�شات املحتدمة فيما‬ ‫متاما حني من�ضي مع الرواية �إىل‬
‫بينهم‪ ،‬ي�ستعيد يحيى كل حكايته مع الثورة ومع احلب ومع‬ ‫ونحن ندرك هذه احلقيقة ً‬
‫ما بعد منت�صفها بكثري‪ ،‬حني يك�شف الراوي وبجملة مفاجئة‬
‫نف�سه املنق�سمة‪ .‬ه�ؤالء هم الرفاق‪:‬‬ ‫(يف الف�صل احلادي ع�رش املخ�ص�ص الجتماع جماعة املجلة‬
‫‪ -‬الراوي الذي انتهي للتو من جولة من جوالت معركة احلب‬ ‫الثورية) عن التداخل العجيب بني الق�صتني‪ .‬الف�صل كله يعر�ض‬
‫بينه وبني �سانتي وبينه وبني نف�سه‪ ،‬جاء �إىل االجتماع مت�أخرًا‬ ‫ل�شكوك الراوي يف نهج رفاقه الثوريني‪ ،‬وهي �شكوك تظل هي‬
‫مرتب ًكا منك�س الر�أ�س ال يزال يف غيبوبته‪.‬‬ ‫ا ألخرى بينه وبني نف�سه‪ ،‬وال تخرج �إىل العلن �إال يف جمل‬
‫‪� -‬أحمد �شوقي‪ ،‬رئي�س التحرير ورئي�س االجتماع‪ ،‬ي�ستغرق‬ ‫نادرة‪ ،‬ويكاد الراوي يوهمنا �أن معظم �أفراد املجموعة كانت‬
‫كالعادة يف ا ألجندة واملواد‪ ،‬وعلبة �سجائره ا ألمريكية‬ ‫تنطوي نفو�سهم على �شكوك كهذه‪ .‬ويف �إطار من هذه ال�شكوك‬
‫بجواره ي�سحب منها ال�سيجارة بعد ا ألخرى يف �أناقة‬ ‫ترد اجلملة املفاجئة‪:‬‬
‫وكربياء‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أنني �أنا و�شوقي وكل من كانت حتدثه نف�سه‬
‫‪ -‬فتحي �سامل‪ ،‬و�سيم املالمح والعينني‪ ،‬طبيب مثل الراوي‬ ‫ب�أ�شياء كهذه من الزمالء كنا ن�ؤجل حكمنا النهائي على تلك‬
‫وكاتب ق�صة متميز‪ ،‬قليل الكالم كثري االبت�سام‪.‬‬ ‫اخلواطر املخيفة �إال �أن هذه اخلواطر كان لها انعكا�سها يف‬
‫املادة كاملة مبوقع املجلة‪)www.nizwa.com( :‬‬ ‫عملنا فبد� أ حما�سنا للعمل يفرت وبد�أنا نغري تغيريات ال �إرادية‬
‫‪54‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الكتابة الوثيقة والكتابة املالذ‬


‫يف الأ دب املهاجر‬
‫حممــد معت�صــــم‬
‫كاتب وناقد من املغرب‬
‫ال�شكالية‪:‬‬
‫‪ /1‬إ‬
‫الن�سان على التحول واحلركة‪ ،‬فحاجته �إىل املعرفة واحلرية كانتا دائما‬ ‫ُجبِلَ إ‬
‫بال�ضافة �إىل حاجته �إىل البقاء واال�ستمرار‬ ‫أ‬
‫احلافز اخلفي وراء تغيري المكنة إ‬
‫واحلفاظ على النوع الب�رشي‪ ،‬ومما ي ؤ�كد ذلك االختالط والتنوع الب�رشيان‪،‬‬
‫الن�سان �إىل الهجرة طالت مدتها �أو ق�رصت‪� ،‬أو كانت بغر�ض اال�ستقرار‬ ‫وحاجة إ‬
‫الدائم �أو اجلزئي‪ ،‬عن�رص �أ�سا�س يف تطور وعيه بذاته ومبحيطه‪.‬‬
‫فالتطور الب�رشي والتحول يف الوعي مرتبطان باحلركة واالختالط وتالقح‬
‫ن�سان باملاء‪� ،‬إذا ما حو�رص يف مكان لفرتة طويلة‬
‫التجارب الب�رشية‪ ،‬وقد ُي�شَ َّب ُه إال ُ‬
‫والزمنة �رضورة ق�صوى‪.‬‬ ‫�أ�سن وتعكر‪ ،‬لذلك تظل حاجته �إىل التنقل بني أالمكنة أ‬

‫اب الذين مار�سوا وميار�سون فعل‬ ‫‪� w‬أدب «الديا�سبورا» �أ�صحابه هم ال ُكتّ ُ‬
‫الكتابة خارج �أوطانهم‪ ،‬ولغاتهم ا ألم‪ ،‬يف و�ضعية الال ا�ستقرار‪ ،‬وبح�س‬
‫فجائعي‪ ،‬و�إح�سا�س باال�ضطهاد واخلوف واالقتالع‪ ،‬ألنهم يكتبون عن وطن‬
‫يف «الذاكرة» �سي�ستوطن بدوره «الورق»‪ ،‬يكتبون عن �أوطان افرتا�ضية‪،‬‬
‫وبح�س عنيف بالرف�ض وعدم القدرة على التال ؤ�م واالندماج يف املجتمعات‬
‫امل�ضيفة‪ ،‬وحنني مم�ض �إىل العودة‪ .‬وال�شك يف �أن الكتابة بهذه امل�شاعر‬
‫�ست�ؤثر يف م�ضامني املكتوب‪ ،‬ويف �صيغ الكتابة‪ ،‬ويف لغتها‪ ،‬و�أهدافها‪.‬‬

‫‪55‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كتبت فيها‪ ،‬وتغذي متخيل الثقافة امل�ضيفة‪،‬‬ ‫حتاول هذه الدرا�سة ا إلجابة عن �إ�شكالية معرفية‬
‫وهي لي�ست � أدبا مغربيا مكتوبا باللغة الفرن�سية‪،‬‬ ‫� أدبية يف � آن‪ ،‬وهي كالتايل‪« :‬ما دامت الهجرة‬
‫بل هي � أدب فرن�سي كتب بروح مغربية‪ .‬ونحن لن‬ ‫�رضورة �إن�سانية‪� ،‬سواء الداخلية � أو اخلارجية‪،‬‬
‫نتحدث يف هذه التوطئة عن «الديا�سبورا» فح�سب‪،‬‬ ‫الطوعية � أو اجلربية‪ ،‬الفردية � أو اجلماعية‪ ،‬فما‬
‫لأ ن الأدباء املغاربة الذين كتبوا عن الهجرات‬ ‫� آثارها على املهاجر الكاتب؟ ماذا � أ�ضافت للن�ص‬
‫التي عا�شوها مل يحيوا ال�شتات‪ ،‬كما عا�شه الكتاب‬ ‫ال�رسدي على م�ستوى املو�ضوعات وال�صيغ؟ وما هي‬
‫اليهود‪ ،‬بل كانت دوافعهم حمددة‪ ،‬والأ وطان التي‬ ‫املفاهيم اجلوهرية التي ترتبط ب�أدب املهاجرين؟‬
‫ق�صدوها �صديقة � أو حامية (م�ستعمرة) للوطن الأ م‬ ‫وهل هناك خ�صائ�ص نوعية متيز هذا النمط من‬
‫(املغرب)‪ :‬فرن�سا وا�سبانيا‪.‬‬ ‫الكتابة ال�رسدية املغربية خ�صو�صا؟ ثم ماذا بقي‬
‫ينق�سم هذا الأ دب من حيث مو�ضوعاته وف�ضائه‬ ‫من � أدب املهجر يف بداية القرن املن�رصم؟»‪.‬‬
‫�إىل � أق�سام كربى‪،‬كما تبدت لنا‪ ،‬كالتايل‪:‬‬ ‫كما � أن هذه الدرا�سة �ستحاول قراءة � آثار الهجرة‪،‬‬
‫[ � أدب مهاجر مندمج‪.‬‬ ‫ونوعها يف عدد من الن�صو�ص ال�رسدية املغربية‪،‬‬ ‫كثري من‬
‫[ � أدب مهاجر مغرتب‪.‬‬ ‫الرواية خا�صة‪ .‬ومن تلك الن�صو�ص ما تطرق‬ ‫الكتابات التي‬
‫[ � أدب مهاجر مغامر‪.‬‬ ‫للهجرة داخل الوطن الواحد‪ ،‬وهو ما يعرف بالهجرة‬ ‫حت�سب على‬
‫ما � أق�صد �إليه هنا ا إل�شارة �إىل اختالف جوهري يف‬ ‫الداخلية (النزوح)‪ ،‬حيث يتم االنتقال من القرية � أو‬ ‫أ‬
‫«الدب املهاجر»‬
‫مفهوم الهجرة عند الأ دباء‪ ،‬ويعود ذلك �إىل طبيعة‬ ‫املدينة � أو املد�رش �إىل مدينة اقت�صادية � أو �إدارية‬
‫تكون‬
‫الهجرة وظروفها و� أهدافها‪ ،‬ويرجع � أي�ضا �إىل‬ ‫كربى لأغرا�ض متنوعة ومتعددة‪ ،‬ومنها ما تطرق‬
‫للهجرة خارج املغرب بغايات خمتلفة كا�ستكمال‬ ‫�إ�ضافات تثـري‬
‫طبيعة مرحلة الهجرة‪ ،‬والبلد املتوجه �إليه‪ ،‬ويعود‬
‫�إىل �شخ�صية الكاتب‪ /‬الأ ديب التي تلعب دورا هاما‬ ‫الدرا�سة العليا واملتخ�ص�صة‪ � ،‬أو بغاية االلتحاق‬ ‫اللغة التي‬
‫يف ت�شكيل معنى «الهجرة»‪ ،‬فالكاتب املندمج‬ ‫بالأ �رسة والعائلة‪ � ،‬أو هربا من ال�ضنك‪ � ،‬أو طلبا‬ ‫كتبت فيها‪،‬‬
‫يف املجتمع امل�ضيف‪ ،‬والقادم �إليه عن طواعية‬ ‫للمنفى االختياري � أو الق�رسي‪ ...‬وهكذا دواليك‪.‬‬ ‫وتغذي‬
‫واختيار (رواية «البعيدون» لبهاء الدين الطود)‬ ‫متخيل‬
‫الدب المهاجر‪:‬‬ ‫‪ /1.1‬تعريف أ‬
‫يكون مفهومه للهجرة خمتلفا عن مفهوم الكاتب‬ ‫الثقافة‬
‫الذي يرحل ق�رسا عن بلده خوفا من اال�ضطهاد‬ ‫امل�ضيفة يعرف هذا النمط من الكتابة عامليا حتت م�سمى‬
‫اجل�سدي والنف�سي‪ ،‬وال�سيا�سي � أو االجتماعي (رواية‬ ‫� أدب «الديا�سبورا»(‪ :)diaspora( )1‬ويق�صد به � أدب‬
‫«حراكة» للماحي بينبني‪ ،‬ورواية «� أن ترحل»‬ ‫«املجموعات التي تعي�ش خارج � أوطانها الأ م»‪،‬‬
‫للطاهر بنجلون)‪ .‬لذلك ف�أدب الهجرة اليوم خمتلف‬ ‫اب الذين مار�سوا وميار�سون‬ ‫و� أ�صحابه هم ال ُكتّ ُ‬
‫عن «� أدب املهجر» يف بداية القرن املن�رصم ب�شمال‬ ‫فعل الكتابة خارج � أوطانهم‪ ،‬ولغاتهم الأ م‪ ،‬يف‬
‫وجنوب القارة الأ مريكية‪.‬‬ ‫و�ضعية الال ا�ستقرار‪ ،‬وبح�س فجائعي‪ ،‬و�إح�سا�س‬
‫باال�ضطهاد واخلوف واالقتالع‪ ،‬لأ نهم يكتبون‬
‫‪ /2.1‬بين � أدب الرحلة أ‬
‫والدب المهاجر‪:‬‬ ‫عن وطن يف «الذاكرة» �سي�ستوطن بدوره «الورق»‪،‬‬
‫�إن � أدب الرحلة (‪ )2()récit de voyage‬خطاب يقوم على‬ ‫يكتبون عن � أوطان افرتا�ضية‪ ،‬وبح�س عنيف بالرف�ض‬
‫رواية امل�شاهدات ومقارنة العادات والتقاليد فيما‬ ‫وعدم القدرة على التال ؤ�م واالندماج يف املجتمعات‬
‫بني البلد الأ م والبلدان املقام بها لفرتة قد تطول‬ ‫امل�ضيفة‪ ،‬وحنني مم�ض �إىل العودة‪ .‬وال�شك يف � أن‬
‫� أو تق�رص‪ .‬ولكي يكون خمتلفا عن مذكرات الرحلة‬ ‫الكتابة بهذه امل�شاعر �ست�ؤثر يف م�ضامني املكتوب‪،‬‬
‫� أو الرحالة البد � أن ي�شتمل على خا�صيتي «ال�رسد‬ ‫ويف �صيغ الكتابة‪ ،‬ويف لغتها‪ ،‬و� أهدافها‪.‬‬
‫والو�صف»‪ .‬ويتقاطع � أدب الرحلة مع الأ دب املهاجر‬ ‫�إن الأ دب املهاجر لي�س دائما حنينا م�ؤملا‪ ،‬و�شعورا‬
‫� أو «الديا�سبورا»‪ ،‬يف االنتقال من مكان �إىل � آخر‪،‬‬ ‫باالقتالع‪ ،‬فكثري من الكتابات التي حت�سب على‬
‫ويف خا�صيتي ال�رسد والو�صف‪ ،‬وهو مظهر عام‪.‬‬ ‫«الأ دب املهاجر» تكون �إ�ضافات ترثي اللغة التي‬
‫‪56‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫� أو ي�شاهدون «بيالر» تلج املقهى وحيدة‪ ،‬فيرتقبون‬ ‫� أما املظاهر اجلوهرية التي ت�شكل كل نوع � أدبي‬
‫قدومي‪ .‬هكذا �رصنا م�ألوفني للجميع‪ � .‬أرفع � أ�صبعي‬ ‫على حدة فهي‪:‬‬
‫بعد الزوال فت�أتيني قهوتي املف�ضلة و� أ�شري لأ حدهم‬ ‫[ اختالف الدوافع والنتائج‪.‬‬
‫ليال ف�إذا بك�أ�س نبيذي املختار على مائدتي‪ ،‬دون‬ ‫[ اختالف العالقة بني الرحالة واملهاجر‪.‬‬
‫� أن � أ�سمي ما � أطلبه � أو � أريده‪ ،‬فكلهم تعودوا على‬ ‫[ اختالف املو�ضوعات بني � أدب الرحلة والأ دب‬
‫عاداتي‪ ،‬ول�سبب –رمبا ذكي‪ -‬مل تط�أ قدماي � أر�ض‬ ‫املهاجر‪.‬‬
‫مقهى «مانيال» �إال رفقة «بيالر»‪� ».‬ص (‪)52.51‬‬ ‫[ اختالف ال�صيغ ال�رسدية‪.‬‬
‫لكن مل يكن كل كتاب الهجرة الأ وائل على هذه احلال‬ ‫ي�ضاف �إىل ذلك االختالف يف الزمن‪ ،‬ف�أدب الرحلة‬
‫من الوفاق واالطمئنان مع الأ وطان امل�ضيفة‪ ،‬بل‬ ‫قدمي وقد ارتبط يف البالد العربية بالتح�صيل‬
‫هناك من كان ي�شعر بقلق وجودي داخل اللغة‬ ‫الديني والعلمي ثم احلج‪ � ،‬أما � أدب الهجرة فحديث‬
‫التي يكتب بها‪ .‬فمحمد خري الدين ي�رصح يف � أحد‬ ‫ودعت �إليه دوافع خمتلفة‪ ،‬بع�ضها مو�ضوعي‬
‫حواراته ب�أنه حاول الكتابة باللغة العربية لكنه مل‬ ‫والآخر ذاتي‪ ،‬كالهروب من الت�ضييق ال�سيا�سي‪،‬‬
‫ي�ستطع نظرا لتمكن اللغة الفرن�سية منه‪ ،‬وهي اللغة‬ ‫واالجتماعي‪ � ،‬أو كما ي�شري �إىل ذلك الطاهر‬
‫يتقاطع‬
‫التي تعلمها ودر�س بها‪ ،‬ومل يتمكن بالتايل كتابة‬ ‫بنجلون(‪)3‬؛ يعود �إىل فقدان ال�صلة بني املهاجر‬
‫� أدب الرحلة‬ ‫� أ�شعار كالتي يغنيها املطرب حممد عبد الوهاب‪،‬‬ ‫ووطنه الأ م‪ ،‬مما يدل على الهوة املت�سعة بني‬
‫الدب‬ ‫مع أ‬ ‫يقول‪� »:‬إن � أول حلظة يف حياتي‪ � ،‬أعني اللحظة‬ ‫الطرفني ب�سبب غياب الدور الثقايف‪ ،‬وانح�سار‬
‫املهاجر � أو‬ ‫التي قدر علي فيها � أن � أ�صبح كاتبا‪ ،‬كانت يوم‬ ‫مفهوم الوحدة و�إ�شاعة الال اطمئنان‪.‬‬
‫«الديا�سبورا»‪،‬‬ ‫اكت�شفت‪ ،‬و� أنا‪ ،‬بعد‪ ،‬يف امل�ستوى الثانوي‪ ،‬حممدا‬ ‫واحلقيقة � أن الهجرة لي�ست واحدة‪ ،‬ودوافعها خمتلفة‬
‫يف االنتقال من‬ ‫عبد الوهاب‪ ،‬من خالل ما كان يتغني به من‬ ‫ومتنوعة بتنوع الظروف التاريخية التي �صاحبتها‪،‬‬
‫مكان �إىل � آخر‪،‬‬ ‫ق�صائد‪ .‬ثم قر� أت تلك الق�صائد بالعربية‪ ...‬يف �شكل‬ ‫وقد � أ�رشت �إليها‪ ،‬ومنها مثال‪ ،‬هجرة اجليل الأ ول‬
‫ويف خا�صيتي‬ ‫ن�صو�ص‪ ...‬وقلت يف نف�سي �إن علي � أن � أفعل متاما‬ ‫لال�ستقالل‪ ،‬الذي وجد نف�سه مرتبطا لغويا وثقافيا‬
‫ال�سرد والو�صف‬ ‫كما يفعل عبد الوهاب‪ ...‬ف�أتغنى‪ � ،‬أنا � أي�ضا‪ ،‬بق�صائد‬ ‫بثقافة احلماية الفرن�سية‪ .‬ف�صار مغرتبا خارج‬
‫مكتوبة‪ .‬غري � أين وجدت غناءها �شاقا ع�سريا‪ .‬وكنت‬ ‫وداخل وطنه‪ .‬وقد نعتت � أدب هذا اجليل الرائد‬
‫� أجهل بالكثري مما يت�صل باللغة العربية‪ � .‬أو مل � أكن‬ ‫بـ«� أدب مهاجر مندمج»‪ ،‬لأنه مل يكن ي�شعر بالغربة‬
‫على وجه التحديد‪ � ،‬أ�ستطيع ا�ستعمالها‪ ،‬كا�ستعمايل‬ ‫وال باالجتثاث واالقتالع من تربة وطنه الأ م‪،‬‬
‫الفرن�سية‪ .‬ولذلك انغم�ست انغما�سا يف اللغة‬ ‫لأ نه وليد مرحلة تاريخية ومل يكن اغرتابه اللغوي‬
‫الفرن�سية‪ .)6(»...‬ويو�ضح هذا التناق�ض الوجودي يف‬ ‫والثقايف � أو يف املكان اختيارا ذاتيا‪ .‬ويقول‬
‫ازدواجية الل�سان الكاتب بن�سامل حمي�ش يف كتابه‬ ‫الطاهر بنجلون عن هذا اجليل ب�أنه كان يقبل على‬
‫«الفرنكفونية وم�أ�ساة � أدبنا الفرن�سي»‪ ،‬فيقول‬ ‫الهجرة لكنه يحمل يف داخله املغرب(‪ .)4‬وهذا يعني‬
‫عن �إدري�س ال�رشيبي‪ »:‬يف التيو�س(‪ )7‬حيث يتوفق‬ ‫� أن اجليل الرائد مل يكن منف�صال عن ثقافته العربية‬
‫يف و�صف تعا�سة املهاجرين يف �ضواحي املدن‬ ‫وتاريخه الوطني‪ .‬ي�ضاف �إىل ذلك اجليل الذي‬
‫الفرن�سية‪ ،‬وذلك من خالل حياة ال�شخ�صية الرئي�سية‬ ‫هاجر �إىل بلدان كفرن�سا و�إ�سبانيا من � أجل طلب‬
‫«والديك»‪ .‬وهذه الرواية تعد بحق من � أقوى � أعماله‬ ‫العلم‪ ،‬ووجد نف�سه بفعل التفاعل واالختالط جزءا‬
‫تعبريا عن متزق الكاتب النف�سي والكياين وي�أ�سه‬ ‫من البلد امل�ضيف‪ ،‬وهو ما يعرب عنه بهاد الدين‬
‫من احلياة يف � أوروبا‪.)8(»...‬‬ ‫الطود يف روايته «البعيدون»(‪ )5‬حني �صور ذلك‬
‫ويف �سياق �رسدي � آخر يورد بهاد الدين الطود‬ ‫من خالل عالقته ب�صديقته «بيالر» يقول‪ »:‬غالبا‬
‫ر� أيه يف اللغة الثانية‪ ،‬لغة الكتابة � أو لغة احلديث‬ ‫ما كنت � أتناول فطوري بذات املقهى‪ ،‬فتلحق بي‬
‫يف بلد الغربة‪ ،‬البلد امل�ضيف‪ ،‬فيقول‪...« :‬ويتدخل‬ ‫«بيالر» � أو � أجدها يف انتظاري يف الركن املعتاد‪.‬‬
‫«� أرماندو»‪.‬‬ ‫عندما كان الندل يرونني يت�أكد لهم قدوم «بيالر»‪،‬‬
‫‪57‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والتقدم عندهم‪ ،‬لكن اخلطاب الذي � أنتجه ه�ؤالء‬ ‫� أتعرف احلقيقة يا �إدري�س‪� ،‬إين بالكاد � أخالك‬
‫الرحالة مل يكن خطابا �رسديا وو�صفيا متخيال‬ ‫عربيا‪.‬‬
‫وحمكيا‪ � ،‬أي مل يكن رواية � أو ق�صة ق�صرية‪ ،‬ومل يكن‬ ‫‪ -‬لكنني عربي بقدر ما � أنت �إ�سباين ق�شتايل‪،‬‬
‫�إبداعا باملعنى احلقيقي للكلمة‪ ،‬كان جمرد تقارير‬ ‫واعتزازي بانتمائي يعادل تع�صبك النتمائك‪ ،‬وهذا‬
‫تنقل م�شاهدات الرحالة باندها�ش وانبهار مبظاهر‬ ‫� أيها الأ بله يف�صح عن جذورنا امل�شرتكة‪.‬‬
‫احل�ضارة الغربية‪ ،‬وب�إعجاب كبري مبكانة املر� أة‬ ‫وانتبه �إىل � أنني لغطت بكالم � أنا نف�سي ال � أ�صدقه‪،‬‬
‫يف تلك البالد‪ ،‬وب�أ�شكال املمار�سة ال�سيا�سية التي‬ ‫ف�أية جذور � أ�شرتك فيها مع «� أرماندو» الق�شتايل‬
‫تعرتف باحلقوق ال�شخ�صية‪ ،‬التي متنح الفرد القدرة‬ ‫� أكرث من حالة ت�سكع جتمعنا‪ ،‬وحتى لغته فقد‬
‫على االبتكار وامل�شاركة يف بناء وطنه والتعلق به‬ ‫فر�ضت علي فر�ضا‪ � ،‬أو ا�ضطررت لتعلمها ا�ضطرارا‪.‬‬
‫دون قمع � أو ا�ضطهاد‪...‬‬ ‫كدت � أقول له ذلك‪ ،‬بل كدت � أ�ضيف ب�أن اللغة التي‬ ‫اجليل الرائد‬
‫يتخاطب بها � أ�شخا�ص من غري تاريخ وثقافة‬ ‫أ‬
‫(الول) مل‬
‫فكرة االندها�ش واالنبهار �ست�أتي مع اجليل الثاين‬
‫الذي �سيهاجر خارج الوطن م�ضطرا‪ ،‬يطلب مالذا‬ ‫جتمعهم هي لغة داعرة‪ ،‬لكن لباقتي جعلتني � أكبت‬ ‫يكن منف�صال‬
‫غيظي و� ألوذ بال�صمت‪.)9(».‬‬ ‫عن ثقافته‬
‫يحتمي فيه من القهر اجل�سدي واالجتماعي‪،‬‬
‫يبني املجتز� أ � أن اللغة لي�ست جمرد و�سيلة � أو � أداة � أو‬ ‫العربية‬
‫وال�سيا�سي‪ ،‬ومن اال�ضطهاد النف�سي‪ .‬ويحدد‬
‫قناة للتوا�صل‪ ،‬ولي�ست جمردة‪ � ،‬أي اعتباطية بدون‬ ‫وتاريخه‬
‫الطاهر بنجلون(‪ )12‬ذلك يف الفرتة ما بعد ‪1971‬م‬
‫مرجعية ثقافية وتاريخية متلأ حمتواها وتعطي‬ ‫الوطني‪ .‬ي�ضاف‬
‫و ‪1972‬م حيث عرف املغرب حملة �شعواء على‬
‫الكلمات م�ستقلة (املعجم) معانيها احلقيقية‬ ‫�إىل ذلك اجليل‬
‫كل من يتبنى � أفكارا خمتلفة ومغايرة لل�سائد‪.‬‬ ‫الذي هاجر �إىل‬
‫لكن ه�ؤالء املهاجرين � أن�ش�أوا � أدبا طليعيا‪ ،‬يدعو‬ ‫واملتعددة‪ ،‬وتعطي اجلمل والن�صو�ص فحواها‬
‫بلدان كفرن�سا‬
‫�إىل التقدم والعي�ش الكرمي للمواطن داخل وخارج‬ ‫بح�سب تغيري ال�سياقات واملواقف‪�...‬إلخ‪.‬‬
‫و�إ�سبانيا من‬
‫الوطن‪ ،‬مهتدين مبا وجدوا عليه الفرد داخل املهجر‬ ‫هذا النمط من الأدب يختلف عن � أدب الرحلة‪ ،‬لأ ن‬
‫� أجل طلب‬
‫املالذ‪ .‬وهذا يعني � أن ه�ؤالء بدورهم هاجروا وهم‬ ‫الرحالَ َة العرب مل يعانوا من االغرتاب اللغوي‬ ‫َّ‬ ‫العلم‪ ،‬ووجد‬
‫ي�ؤمنون مب�ستقبل الوطن الأ م(‪ ،)13‬ويحلمون بتغيري‬ ‫والثقايف‪ ،‬وال حتى يف تغيري كبري يف العادات‬
‫نف�سه بفعل‬
‫� أمناط عي�شه االجتماعية وال�سيا�سية من اخلارج‪.‬‬ ‫والتقاليد‪ ،‬لأن الرحالة كان يطوف يف البالد العربية‬
‫التفاعل‬
‫ويحلمون باالرتقاء به �إىل م�صاف الدول التي‬ ‫ا إل�سالمية‪ ،‬بل كانت رحلته بدافع التح�صيل الديني‬ ‫واالختالط‬
‫ا�ست�ضافتهم ووجدوا بها ما كانوا ي�صبون �إليه‬ ‫والعلمي‪ ،‬وزيارة الديار واملواقع املقد�سة (بيت‬ ‫جزءا من البلد‬
‫من العي�ش الكرمي والعمل واحلق يف احلرية‪ :‬حرية‬ ‫املقد�س‪ ،‬والكعبة امل�رشفة ق�صد منا�سك احلج)‪ ،‬و� أن‬ ‫امل�ضيف‬
‫التعبري والت�رصف والر� أي‪ .‬وقد وجد املهاجرون‬ ‫الرحالت التي كانت خارج البالد العربية ا إل�سالمية‪،‬‬
‫يف البالد الغربية مالذا مما دفعهم �إىل ا إلقامة‬ ‫ولها � أهداف خمتلفة عن الرحالة ال�سابقني مل تظهر‬
‫الدائمة � أو الطويلة‪ ،‬وهو ما يدل على � أن الأ دب الذي‬ ‫�إال مع ع�رص «النه�ضة العربية» يف �صورة بعثات‬
‫� أنتجوه‪ -‬وقد � أنتجوا � أي�ضا � أدبا مقاوما‪ ،‬وفكرا‬ ‫علمية‪ ،‬للوقوف على � أ�سباب تخلف البالد العربية‬
‫طليعيا‪ �« -‬أدب مهاجر مندمج»‪.‬‬ ‫وتقدم البالد الغربية من قبيل رحلة � أحمد فار�س‬
‫ال�شدياق «ال�ساق على ال�ساق فيما هو الفارياق»(‪،)10‬‬
‫‪ /3.1‬بين كتابة اليوميات وكتابة المذكرات‬ ‫� أو رحلة خري الدين بك التون�سي(‪ ،،،)11‬حيث وقف‬
‫والدب المهاجر‪:‬‬‫أ‬
‫الرحالة على املتغريات العلمية واالختالف اللغوي‬
‫يف كتابه «يوميات وت�أمالت يف املنفى»‬
‫(‪)14‬‬
‫والثقايف والفكري‪ ،‬و� أمناط احلياة االجتماعية‬
‫ي�صنف فاروق يو�سف ن�صه يف خانة اليوميات‪،‬‬ ‫والعالقة بني ال�سائد وامل�سود‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وي�رصح بذلك يف مقدمة الكتاب‪ ،‬فيقول‪(« :‬ال �شيء‪،‬‬ ‫وقد كان املغرب واحدا من الدول العربية التي‬
‫ال � أحد)‪� ،‬صارت هذه اجلملة عنوانا للجزء الأ ول من‬ ‫� أر�سلت بعثاتها العلمية �إىل البالد الأ وروبية‬
‫كتاب يومياتي‪ ،‬وهو الكتاب الذي فاز بجائزة ابن‬ ‫بالدافع ذاته‪ :‬الوقوف على � أ�سباب التخلف عندنا‬
‫‪58‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اليوميات َم ْعنَى الكتابة الوثيقة لأ ن الكاتب‬
‫ُ‬ ‫ُت ِ‬
‫نا�س ُب‬ ‫بطوطة لأ دب اليوميات لعان ‪ 2006‬التي مينحها‬
‫ي�سجل بدقة كل �صغرية وكبرية‪ ،‬وكل الظواهر‬ ‫املركز العربي للأ دب اجلغرايف‪ -‬ارتياد الآفاق يف‬
‫االجتماعية والثقافية وال�سلوكية التي يراها تختلف‬ ‫(� أبو ظبي)‪ .‬ذلك لأ ين مل � أكمل كتابته �إال بتحري�ض‬
‫عن احلياة يف الوطن الأ م‪ .‬ويكتب �صاحب اليوميات‬ ‫قوي من لقائي احلا�سم بها‪ .‬وبالرغم من � أنني ال‬
‫بروح اليقني‪ ،‬لكن الروائي والقا�ص املهاجر يكتب‬ ‫� أزال م�ؤمنا � أن عمال ككتابة اليوميات هو نوع من‬
‫بروح املنده�ش‪ ،‬وبروح الغريب املختلف مهما طال‬ ‫ال�صنيع العبثي‪� ،‬إال �إذا افرت�ضنا � أن حياة كائن ما‪،‬‬
‫به املقام يف البالد امل�ضيفة‪.‬‬ ‫هي فر�صة الختبار �سبل فريدة للعي�ش‪� ،‬سبل قد‬
‫ي�صدر الكاتب املغربي علي � أفيالل‪ ،‬وهو �صاحب‬ ‫ال تتكرر‪ ،‬وهي كذلك دائما‪ .‬فال يت�شابهون‪ .‬لكل‬
‫العديد من الروايات واملجاميع الق�ص�صية‪ ،‬يف‬ ‫�إن�سان حكايته التي ت�ستحق � أن تروى‪ .‬غري � أن من‬
‫� أعماله عن الر ؤ�ية التوثيقية‪ .‬فعندما جنرد عن‬ ‫يقرر كتابة يومياته يود � أن يكون موجودا يف كل‬
‫فكرةاالندها�ش‬ ‫� أعماله املقومات الأ �سا�س للحكاية‪ ،‬نح�صل على‬ ‫ما يكتب‪ .‬يف �إمكانه � أن يقول بي�رس‪ �« :‬أنا هنا‪ � ،‬أنا‬
‫واالنبهار‬ ‫معلومات تهم العاملني‪ :‬الوطن الأ م‪ ،‬وبلد املهجر‪،‬‬ ‫موجود يف كل كلمة‪ ،‬يف كل �إ�شارة‪ ،‬يف كل فعل»‪.‬‬
‫�ست�أتي مع‬ ‫وتهم بالأ �سا�س االختالف يف العادات وال�سلوك‬ ‫ولكن هل يكفي ذلك الوجود لقول كل �شيء؟‪.»...‬‬
‫اجليل الثاين‬ ‫ال�شخ�صي‪ ،‬والظواهر اجلديدة الطارئة‪ .‬لذلك جند‬ ‫� أوىل املالحظات تتمثل يف اجلمع بني � أدب الرحلة‬
‫الذي �سيهاجر‬ ‫فعل التوثيق والتدوين والت�سجيل‪ ،‬ونقل املعلومات‪،‬‬ ‫واليوميات‪ ،‬حتت م�صطلح الأ دب اجلغرايف املهتم‬
‫والأحكام‪ ،‬واملقارنة‪ ،‬والو�صف ‪ ...‬من � أهم لبنات‬ ‫باملكان‪� ،‬إقامة وانتقاال‪ .‬وهذا يقرتب � أكرث من‬
‫خارج الوطن‬
‫ال�رسد عنده‪ .‬وخري مثال روايته «رق�صات على‬ ‫الرحلة‪ ،‬بينما اليوميات ف�إنها نوع � أدبي ‪� -‬شبه‬
‫م�ضطرا‪ ،‬يطلب‬ ‫� أدبي‪ -‬يقوم على التدوين ب�ضمري املتكلم‪ ،‬يوما‬
‫حافة املوت»(‪.)16‬‬
‫مالذا يحتمي‬ ‫بيوم لكل الأ حداث التي يراها املدون ذات � أهمية‬
‫ميكن القول ب�أن الكتابة ال�رسدية عند علي‬
‫فيه من القهر‬ ‫� أفيالل ت�صدر عن ر ؤ�ية واقعية قريبة من معاناة‬ ‫من حيث القيمة التاريخية � أوال‪ ،‬وال�سيا�سية‬
‫اجل�سدي‬ ‫املهاجر‪،‬وت�صدر كذلك عن االختالف بني الأ نا‬ ‫واالجتماعية ثم الفنية‪.‬‬
‫واالجتماعي‪،‬‬ ‫والآخر‪ ،‬بني هنا وهناك‪ .‬وهو ما قاله بغ�ضب يف‬ ‫وثاين املالحظات � أن الأدب املهاجر يلتقي مع‬
‫وال�سيا�سي‪،‬‬ ‫حوار مطول مع الناقد �صدوق نور الدين حتت‬ ‫اليوميات يف الكتابة ب�ضمري املتكلم‪ ،‬فكاتب‬
‫ومن اال�ضطهاد‬ ‫عنوان «الرواية احلياة»(‪.)17‬‬ ‫اليوميات ي�شبه كاتب الأدب املهاجر يرغب يف‬
‫النف�سي‬ ‫� أن يكون يف كل كلمة يخطها‪� ،‬سواء � أكان ما كتبه‬
‫‪ /4.1‬ال�سيرة الذاتية أ‬
‫والدب المهاجر‪:‬‬
‫ينتمي �إىل الكتابة املالذ � أو �إىل الكتابة الوثيقة‪.‬‬
‫ال�سرية الذاتية نوع � أدبي � آخر يقحم نف�سه يف الأ دب‬ ‫وهو ما يربزه هذا املقطع من «يوميات مهاجر‬
‫املهاجر من خالل تقنياته وخ�صائ�صه النوعية‪.‬‬ ‫�رسي» للكاتب املغربي ر�شيد نيني‪ ،‬يقول فيه‪...« :‬‬
‫فال�سرية الذاتية‪ ،‬كما يدل عليها ا�سمها‪ ،‬ترتبط‬ ‫لكن الأ مطار هي �سبب عودتي �إىل الكتابة‪ .‬عندما‬
‫بالذات‪ ،‬في�صبح التمييز يف ال�رسد بني الكاتب‬ ‫كان اجلو ي�سوء كنا نغادر احلقل ونهرب �إىل � أقرب‬
‫اخلارجي املو�ضوعي وبني ال�سارد اللغوي واملتخيل‪،‬‬ ‫بار‪ .‬وهناك ي�رشع الرجال يف ال�رشب ولعب الورق‬
‫�صعبا(‪ .)18‬وال�رسد الذي يكتبه املغاربة املهاجرون‬ ‫بانتظار الأ مطار‪ � .‬أنا كنت � آخذ ورقة كلينك�س و� أكتب‬
‫ال يخلو من نفحات �سري ذاتية � أو من التخييل الذاتي‪،‬‬ ‫ما يخطر ببايل‪ .‬مع مرور الأ مطار انتبهت �إىل � أنني‬
‫تتمثل عند عدد منهم يف رغبتهم القوية يف ا إلعالن‬ ‫كنت � أكتب يومياتي‪ .‬ال � أحد يختار ما ميكن � أن‬
‫عن االختالف‪ ،‬بل حتى التناق�ض ال�صارخ بني‬ ‫يحدث له يف يومه‪ .‬لكن مب�ستطاع � أي � أحد � أن يحكي‬
‫احلياة يف موطنهم الأ �صلي (املغرب) وبني موطن‬ ‫عن يومه‪ .‬اليوميات بهذا ال�شكل هي الطريقة الأ كرث‬
‫ا إلقامة‪ ،‬و� أق�صد هنا الكتاب الذين اختاروا احلديث‬ ‫ت�سلية إلعادة و�صف جرمية �شنيعة ا�سمها احلياة‪.‬‬
‫مبا�رشة عن اختالفهم يف امليل والرغبة‪ ،‬الكتاب‬ ‫�إعادتها ب�شكل انتقائي‪ .‬بحيث ت�صبح التفا�صيل‬
‫حلبْ َ�س َة القلمية ومل يفك‬
‫الذين عا�شوا الكتمان‪ ،‬وا ُ‬ ‫التافهة � أحداثا جديرة بالت�أمل‪.)15(».‬‬
‫‪59‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وطنه الأم‪ ،‬واجتاه لغته العربية ولهجته الدارجة‪،‬‬ ‫عقالهم �إال يف ديار الغربة‪ .‬ه�ؤالء الكتاب يعتربون‬
‫يف حال احلديث عن املهاجر الذي ا�ضطرته الفاقة‬ ‫املغرب معقال للطابوهات (املحرمات) وهي طبعا؛‬
‫� أو الدرا�سة � أو العمل � أو الزواج � أو ا إلقامة الدائمة �إىل‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬والدين‪ ،‬واجلن�س‪ ،‬وكل ما يت�صل بهم من‬
‫الهجرة‪ .‬بينما يكون الأ ديب املهاجر الذي يعترب‬ ‫قريب � أو بعيد‪ .‬ويعد االعرتاف العلني داخل املجتمع‬
‫نف�سه خمتلفا‪ ،‬وم�ضطهدا ومرفو�ضا اجتماعيا‬ ‫باالختالف اجلن�سي جرمية يف اعتقادهم‪ ،‬لذلك‬ ‫املهاجرون �أن�ش�أوا‬
‫و� أخالقيا �شديد احل�سا�سية اجتاه الق�ضايا الفردية‬ ‫ينبغي الكتمان‪ ،‬والت�سرت وال�صمت‪ .‬ويعرب عن هذا‬ ‫�أدبا طليعيا‪ ،‬يدعو‬
‫وال�شخ�صية احلميمة‪ .‬فالأ ول يعلو يف خطابه‬ ‫املوقف‪ ،‬ومن خالل نوع � أدبي � آخر هو‪ :‬الر�سالة‪،‬‬ ‫�إىلالتقدموالعي�ش‬
‫ال�رسدي احلنني �إىل الوطن والأ �صدقاء والأ حباب‪،‬‬ ‫الكاتب عبد اهلل الطايع يف ر�سالته‪ /‬املدخل �إىل‬ ‫الكرمي للمواطن‬
‫ويكرث من اال�سرتجاع واال�ستذكار‪ ،‬وال يتورع يف‬ ‫�صديقته � أيام الدرا�سة بجامعة حممد اخلام�س‬ ‫داخل وخارج‬
‫ا�ستعمال الأ لفاظ الدارجة لتهجني لغة الكتابة (غري‬ ‫(�سعاد)‪ ،‬فيقول ب�ضمري املتكلم‪ � ،‬أحد � أهم العالمات‬ ‫الوطن‪ ،‬مهتدين‬
‫العربية) وموطن ا إلقامة � أو الغربة‪ ،‬بينما الثاين‬ ‫الفارزة يف اخلطاب ال�سري ذاتي‪« :‬اليوم � أنا جاهل‬ ‫مبا وجدوا عليه‬
‫مييل � أكرث يف �صيغه ال�رسدية �إىل البوح واالعرتاف‬ ‫مبا � آلت �إليه‪ ،‬كذلك‪ ،‬من جهتها‪ ،‬فهي جتهل حقيقتي‬ ‫الفرد داخل‬
‫والتذمر‪ ،‬فتكون الكتابة لديه مالذا‪ ،‬وك�أنه ي�أمل � أن‬ ‫اخلا�صة‪ � .‬أنا �شاذ جن�سيا‪ .‬هل تعلم؟ هل تخمن؟ هل‬ ‫املهجر املالذ‪.‬‬
‫يبد� أ تاريخه ال�شخ�صي من حلظة املغادرة وبداية‬ ‫تتفهم؟ هل تفهمني رغم ال�صمت؟»(‪.)19‬‬ ‫وهذا يعني �أن‬
‫الو�صول �إىل العامل اجلديد‪ :‬العامل احلر!! تعرب �إحدى‬ ‫يف هذه اجلمل املقت�ضبة‪ ،‬الق�صرية‪ ،‬ح�ضور كثيف‬ ‫ه�ؤالء بدورهم‬
‫ال�شخ�صيات الروائية عند املاحي بينبني يف روايته‬ ‫للأ نا‪ ،‬للبوح‪ ،‬للرغبة الدفينة يف االعرتاف للآخر‬ ‫هاجروا وهم‬
‫«حرَّاكة» عن هذه الوالدة امل�أمولة يف ال�سياق‬ ‫بال�رس‪ ،‬ال�رس الذي كان كذلك يف الوطن الأ م‪ ،‬و� أ�صبح‬ ‫ي�ؤمنون مب�ستقبل‬
‫التايل‪ �...« :‬أما يو�سف ور�ضا و� أنا فقد اعتقدنا‪ ،‬عن‬ ‫اليوم م�شاعا يف موطن ا إلقامة‪ .‬و�إذا كانت كتابة‬ ‫الم‪،‬‬‫الوطن أ‬
‫�سذاجة‪ ،‬ب�أننا �سوف نتع�شى بالت�أكيد يف �إ�سبانيا‪.‬‬ ‫اليوميات عند املهاجر كتابة وثيقة‪ ،‬ف�إن كتابة‬ ‫ويحلمون بتغيري‬
‫«تابا�س» مع �رشاب «�سانكريا»‪ ،‬يف قلب‬ ‫«ق�صف من ّ‬ ‫ال�سرية الرواية‪ � ،‬أو الرواية ال�سري ذاتية تعد الكتابة‬ ‫�أمناط عي�شه‬
‫اجلزيرة اخل�رضاء! بهذه الطريقة �سنحتفل بوالدتنا‬ ‫املالذ‪.‬‬ ‫االجتماعية‬
‫اجلديدة! كانت هذه كلمات مراد التي مل تكن خالية‬ ‫كثرية هي ت�رصيحات الكتاب التي جعلت من‬ ‫وال�سيا�سية من‬
‫من �صفات مبالغة و�صف طعام ما وراء البحر‪،‬‬ ‫الكتابة عامة مالذا حتتمي فيه من �ضجيج وعنف‬ ‫اخلارج‪ .‬ويحلمون‬
‫التنوع الال حمدود من امل�أكوالت التي ميكن تذوقها‪:‬‬ ‫اخلارج‪ ،‬وحتتمي فيه من غربة الذات‪ .‬وقد �سميت‬ ‫باالرتقاء به �إىل‬
‫فواكه ريانة غري معروفة يف � أر�ض امل�سلمني‪ ،‬وكل‬ ‫الكتابة ب»البيت» لأنها «مقام» يتحقق فيه‬ ‫م�صاف الدول‬
‫� أنواع اخل�رض التي ت�ستخف بالف�صول‪ ،‬وحلوم فيها‬ ‫الوجود الفردي (ال�شخ�صي)‪ ،‬وحيث ميكن للذات � أن‬ ‫التي ا�ست�ضافتهم‬
‫طراوة ومذاق ا�ستثنائيان‪.)20(».‬‬ ‫تقول نف�سها وحتيى بعيدا عن ا إلكراه اخلارجي يف‬ ‫ووجدوا بها ما‬
‫ال�صورة ذاتها وا إلح�سا�س ذاته ببناء تاريخ �شخ�صي‬ ‫املجتمع‪ ،‬وعادات وتقاليد النا�س و� أعرافهم‪.‬‬ ‫كانوا ي�صبون �إليه‬
‫جديد بعيدا عن حياة التالفة والفاقة والبطالة‬ ‫والأديب املهاجر يجد يف الكتابة مالذه الذي‬ ‫من العي�ش الكرمي‬
‫والأ حالم اخلائرة اخلائبة‪ ،‬جندها عند الطاهر‬ ‫يحتمي فيه من (غربته)‪ ،‬وجماال للبوح وميدانا‬ ‫والعمل واحلق‬
‫بنجلون يف روايته «� أن ترحل» وقد قام برتجمتها‬ ‫للتفكري والت�أمل واالعرتاف والتدوين علنا‪� .‬إن‬
‫يف احلرية‪:‬‬
‫ب�سام حجار‪ ،‬يقول ال�سارد‪« :‬ثم مل يطل الأ مر حتى‬ ‫الكتابة املالذ مبثابة املعادل املو�ضوعي‪ ،‬و�صورة‬
‫حرية التعبري‬
‫ا�ستدرج عازل الأحاديث التي كانوا يتبادلونها �إىل‬ ‫ملحا ِو ِر الذي يفتقد �إليه الأ ديب‬
‫الآخر امل�أمول‪ ،‬وا ُ‬ ‫والت�صرف والر�أي‬
‫امل�س�ألة التي ت�ستبد بتفكريه‪ � .‬أن يرحل‪ � .‬أن يولد من‬ ‫املهاجر‪ .‬وميكن اعتبار الكتابة املالذ نوعا من‬
‫جديد يف مكان � آخر بعيد‪ � .‬أن يرحل ب�أية و�سيلة‪ � .‬أن‬ ‫املقاومة وجماهدة النف�س على ال�صرب وال�صمود‬
‫ي�شعر ب�أنه نبت له جناحان‪ � .‬أن يرك�ض على الرمل‬ ‫�ضد كل ما ميكنه � أن يهدد املكونات الأ �سا�س للذات‪،‬‬
‫�صارخا حريته ملء رئتيه‪ � .‬أن يعمل‪ � ،‬أن يحقق‪ � ،‬أن‬ ‫لالختيار الفردي‪ ،‬واحلياة اخلا�صة واحلميمة‬
‫ينتج‪ � ،‬أن يتخيل‪ � ،‬أن ي�صنع �شيئا من حياته‪.)21(».‬‬ ‫للأ ديب املهاجر‪ � .‬أي � أنه يكون على درجة عالية من‬
‫فهل ميكن ل إلن�سان � أن يعيد ذاته من جديد وبطريقة‬ ‫احل�سا�سية اجتاه املبادئ التي (تربى عليها) يف‬
‫‪60‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املغرتب فقد وجد نف�سه يف وطن خمتلف بدوافع‬ ‫� أخرى خمتلفة كما يرد لها � أن ت�صري؟ هونري البوري‬
‫خمتلفة‪ .‬مل يهجر وطنه للأ �سباب � أعاله‪ ،‬ولكن‬ ‫يف كتابة «مديح الهروب» يجزم ب�أن �إعادة احلياة‬
‫احلياة االجتماعية ال�صعبة‪ ،‬وان�سداد � آفاق العمل‪،‬‬ ‫من جديد غري ممكن متاما لأ ننا ال ن�ستطيع �إال � أن‬
‫والو�ضعية ال�صعبة وامللتب�سة التي � أ�صبحت عليها‬ ‫نكون نحن‪ ،‬وال ن�ستطيع التحكم يف ال�رشوط التي‬
‫العالقة بني ال�شواهد التعليمية واجلامعية و�سوق‬ ‫تكوننا يف ظلها‪ ،‬وال ن�ستطيع �إعادة تلك اللحظات‬
‫العمل‪ ،‬واختالل الكثري من قوانني احلياة ال�سالفة‪،‬‬ ‫الأ�سا�س يف تاريخنا ال�شخ�صي‪ ،‬وي�ضيف‪�« ،‬إن لكل‬
‫دفعه كل ذلك نحو البحث عن � آفاق جديدة غري م�سلح‬ ‫�شخ�ص حياته الفريدة (‪ .)22(»)unique‬نعم‪ ،‬لي�ست‬
‫بالرغبة الذاتية‪ ،‬وال باللغة الثانية‪ ،‬ومنط عي�ش فر�ض‬ ‫الرغبة وحدها التي حتقق التغيري‪ ،‬ولي�س بالهجرة‬
‫عليه كما هو حال اجليل الأ ول‪ ،‬فكان من الالزم � أن‬ ‫ن�ستطيع �إعادة الوالدة‪ ،‬لكن ميكننا التغيري يف ما‬
‫ي�شعر بالغربة والعزلة‪ ،‬وهما يتنافيان ويتناق�ضان‬ ‫يحيط بنا‪ ،‬وميكننا «ت�شذيب» � أرواحنا وتهذيبها‬
‫مع مفهوم االندماج‪.‬‬ ‫بالتفاعل مع‪ ،‬واالندماج يف املحيط اجلديد ثقافة‬
‫لقد تعر�ض مفهوم «االغرتاب» للكثري من التحريف‬ ‫وح�ضارة‪ ،‬دون م�سخ � أو �سلخ لهوياتنا‪ .‬هذا ما ت�ؤكد‬
‫ن�ش�أ عن حماولة التكييف بينه وبني و�ضعيات‬ ‫عليه زكية داود يف كتابها «مغاربة ال�ضفة الأ خرى»‬
‫خمتلفة يف جماالت و� أن�شطة ثقافية وفكرية‬ ‫ومن خالل جتربة جديرة باالنتباه واالهتمام‬
‫متنوعة‪ ،‬وقد وجب التمييز بني مفهومني �سائدين‬ ‫واالحتذاء؛ جتربة جمعية (الهجرة والتنمية)‪،‬‬
‫لكي نختار واحدا منهما يالئم الو�ضعية املتحدث‬ ‫التي ا�ستطاع من خاللها «املهاجرون لعب � أدوار‬
‫عنها‪ .‬املعنى الأول والذي �سنعتمده مرتبط باجلذر‬ ‫�إيجابية عندما فتحوا فرن�سا على الآفاق الوا�سعة‪،‬‬
‫اللغوي للكلمة (غ‪.‬ر‪.‬ب‪.‬ة)(‪ � )24‬أي االنتقال من مكان‬ ‫وا�ستطاعوا ال�شيء ذاته بفتح بلدهم املغرب على‬
‫�إىل مكان � آخر‪ ،‬مع �إح�سا�س بالعزلة‪ ،‬واالبتعاد‬ ‫الآفاق الأ رحب»(‪.)23‬‬
‫عن الذات‪ ،‬والوجود‪ ،‬وهو مفهوم مرتبط مبعاين‬ ‫�إنها ال�صورة النموذجية لدى الكثري ممن يحلمون‬
‫االجتثاث واالقتالع وال�شتات يف الأ ر�ض‪.‬‬ ‫بالغرب ويت�صورونه جنة مفقودة ينبغي اكت�شافها‪،‬‬
‫� أما املعنى الثاين «لالغرتاب» وهو �سائد كذلك‬ ‫وهي نتاج لالختالف القائم بني ثقافات ال�شعوب‬
‫يف الدرا�سات الفل�سفية وعلم االجتماعي‪ ،‬فهو‪:‬‬ ‫اخلا�صة واملتوارثة‪ .‬و�ستعمل روايات غربية على‬
‫«اال�ستالب»‪ .‬والتفريق بني مفهومي «االغرتاب»‬ ‫�إبراز حدة هذه ال�صورة عندما �ستتحول بعد � أحداث‬
‫و«اال�ستالب» �رضوري جدا‪ ،‬لأ نه �سيقودنا �إىل النمط‬ ‫احلادي ع�رش من �سبتمرب ‪2001‬م مبدينة نيويورك‪،‬‬
‫الثالث من � أمناط الهجرة والذي قلنا عنه � أعاله‬ ‫ومنها الروايتان «من يبكي النوار�س؟» للروائية‬
‫«الأ دب املهاجر املغامر» الذي يقامر بكينونته‪،‬‬ ‫زهرة املن�صوري‪ ،‬ورواية «�رشقية يف باري�س»‬
‫ويقوم ب�إحراق � أوراق هويته الوطنية‪ ،‬كما � أنه � أدب‬ ‫للأ �ستاذ عبد الكرمي غالب‪.‬‬
‫منبهر ومنده�ش �إىل حد االنتفاء واالمنحاء‪ .‬وهو‬
‫الدب المغترب أ‬
‫والدب الم�ستلب‪:‬‬ ‫‪ /5.1‬أ‬
‫� أدب يقف موقف املعادي للبلد الأ م‪ ،‬لغة و� أدبا‬
‫وثقافة‪ ،‬وتاريخا‪...‬بل ال يعترب انت�سابه لوطنه‬ ‫يختلف «الأ دب املهاجر املندمج» عن «الأ دب‬
‫الأ م �إال خط�أ فادحا‪ ،‬وال�سبب يعود �إىل التغيريات‬ ‫املهاجر املغرتب» يف ا إلح�سا�س الذي ي�شمل ف�ضاء‬
‫اجلوهرية التي �شملت الفرد يف ذاته‪ ،‬ولغياب املثل‬ ‫الكتابة‪ ،‬ومنط العالقة بني الأ ديب املهاجر والبلد‬
‫العليا لديه‪ ،‬وابتعاده عن كل اهتمام �سيا�سي‪ � ،‬أو‬ ‫امل�ضيف‪ .‬و� أهم �صورة � أو مفهوم مييز بينهما هو‬
‫انف�صاله عن الروابط التاريخية والثقافية بالبالد‬ ‫«االغرتاب»‪.‬‬
‫العربية‪ ،‬وتراكم حاالت ا إلحباط النف�سي‪ ،‬وتتابع‬ ‫لقد وجد الأ ديب املهاجر الأ ول يف البالد امل�ضيفة‬
‫الهزائم يف هذه البالد من حميطها �إىل خليجها‪،‬‬ ‫مالذا �سواء � أكان لغويا وثقافيا‪ � ،‬أو �سيا�سيا‪ ،‬وهو‬
‫وانت�شار التناق�ض بني الفعل واخلطاب‪ ،‬وبني الرثوة‬ ‫ما منحه القدرة على التال ؤ�م واالن�سجام داخل‬
‫وا إلجناز‪ ،‬بني الغنى الفاح�ش والفقر الفادح‪...‬‬ ‫تلك املجتمعات احلديثة امل�ضيفة‪ � .‬أما الأ ديب‬
‫‪61‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وقد كتب هذا الأ دب � أدباء مغاربة من داخل وخارج من كان غريبا يف وطنه»(‪.)27‬‬
‫الدب المهاجر و� أدب المهجر‪:‬‬ ‫املغرب‪ ،‬ويوافق الأدب امل�ستلب ما نطلق عليه عادة ‪ /6.1‬أ‬
‫«� أدب الال يقني»‪ .‬ويعرب عن هذه الو�ضعية امللتب�سة‬
‫وال�صعبة التي تدق ناقو�س اخلطر‪ ،‬القا�ص والباحث هل هناك عالقة بني الأ دب املهاجر والأ دب‬
‫املغربي حممد � أمن�صور‪ ،‬ولعلها خال�صة للعديد من املهجري الذي ظهر بداية القرن الع�رشين؟‬
‫البيانات الأ دبية التي رافقت هذه املرحلة‪ ،‬والتي لكل حركة � أدبية �رشوطها التاريخية واالجتماعية‬
‫تخرج منها � أدباء بع�ضهم ف�ضل الهجرة والآخر وال�سيا�سية‪ ،‬والفكرية والثقافية‪ ،‬وهذه ال�رشوط‬
‫ينتظر الفر�صة‪ ،‬والبع�ض ف�ضل املكابرة والبقاء حتدد خ�صو�صياتها وخ�صائ�ص الأدب الذي تنتجه‪.‬‬
‫ليحمل لواء خمتلفا للمثقف الطليعي‪ .‬يقول � أمن�صور ال ينكر � أحد الدور الطليعي الذي لعبته حركة «� أدب‬
‫يف كتابه «�شهوة الق�ص�ص‪ � :‬أوراق من مفكرة قا�ص املهجر» يف � أمريكا ال�شمالية � أو يف الربازيل ب�أمريكا‬
‫جتريبي»‪« :‬يبقى � أن ن�شري يف الأ خري �إىل � أن املظهر اجلنوبية‪ ،‬و� أهم ما متيزت به الطابع الرومان�سي‪،‬‬
‫الأ �سا�س الذي قد ي�شكل عمق التحوالت جميعا‪ ،‬والهروب �إىل الطبيعة رف�ضا ملا و�صلت �إليه احلال‬
‫يكمن يف حتول مفهوم الق�صة الق�صرية ذاته لدى من تدهور يف املجتمعات العربية‪ ،‬ومن �رصاع‬
‫غالبية كتابها؛ وبالأ خ�ص لدى اجليل اجلديد الذي وتطاحن مذهبي وديني يف بع�ض البلدان العربية‪.‬‬
‫يكتب ق�صة ق�صرية دون م�سبقات‪� .‬إنك جتده غري فهرب النا�س �إىل املنايف البعيدة‪ .‬و«الهروبية»‬
‫معني مبالحم ال�شعب وال مب� آ�سيه‪ ،‬ال بالوطنية وال نزعة انت�رشت يف � أدب املهجر‪ ،‬متثلت يف الدعوة‬
‫بالطبقية‪ ،‬وال باملركز وال بالهام�ش‪ ،‬ال بالتجني�س �إىل العودة �إىل الطبيعة الأم حيث احلرية غري مقيدة‪،‬‬
‫وال بالواقع املرجعي‪ ،‬وال ب�سالمة اللغة وال حتى وحيث يجاور الرنج�س املاء الريان‪ ،‬وحيث الأ طيار‬
‫بالتوا�صل � أحيانا‪ ..!!..‬ومل ال؟!‪ � ..‬ألي�س من حق املرء حتيا يف ان�سجام مع الأ �شجار‪...‬‬
‫� أن يكتب ما ي�شاء مبا يف ذلك ق�صة الال توا�صل؟‪ ..‬مل تكن الهروبية وحدها ال�صفة املميزة للأ دب‬
‫املهجري بداية القرن الع�رشين‪ ،‬بل كان هناك‬ ‫� أال يكفي الق�صة � أن ت�شبه �صاحبها‪.)25(»...‬‬
‫نعم‪� ،‬إن اجليل املهاجر اجلديد مل يهاجر رغبة يف �إعادة اعتبار للذات وللأ نا‪ ،‬وللفرد من خالل البحث‬
‫العلم � أو العمل‪ � ،‬أو هاجر حلماية � أفكاره ومبادئه امل�ضني عن احلرية ال�شخ�صية‪ ،‬واالبتعاد � أكرث عن‬
‫من اال�ضطهاد‪ ،‬بل هاجر هربا من امل�صري املبهم‪ ،‬التقاليد العتيقة التي ا�ضطهدت النا�س ودفعتهم �إىل‬
‫والأ فق امل�سدود(‪ ،)26‬ومن االنقطاع عن اجلذور‪ .‬هنا التطاحن ثم النفي «االختياري!»‪.‬‬
‫ينبغي ا إل�شارة �إىل النوع اجلديد الذي ت�شكل لغويا ويرى الدكتور �صابر عبد الدامي‪ ،‬ب�أن امل�ؤثرات‬
‫وقانونيا مع اجليل املهاجر املعا�رص من املغاربة الهامة يف هذه احلركة كانت الأ دبية كاحلركة‬
‫ومن خمتلف �شباب العامل العربي وا إلفريقي‪ ،‬الرومان�سية الغربية‪ ،‬واملدر�سة الرمزية‪ ،‬وت�أثر‬
‫� أق�صد طبعا مفهوم «الهجرة ال�رسية» � أو «الهجرة � أدبا ؤ�ها بالفل�سفة الهندية والفار�سية �إىل جانب‬
‫غري القانونية» وما رافقها من تعابري قا�سية الفل�سفة ا إل�سالمية‪ ،‬وا�ستفادوا من م�ؤثرات دينية‬
‫وتو�صيفات مثل «قوارب املوت» والتعبري املغربي �رشقية غنو�صية � أي�ضا‪ ،‬وهذا الذي جعل حركتهم‬
‫املحلي الأ كرث �إيالما وت�صويرا للحالة «احلريج» تتميز بـ«الت�أمل»(‪.)28‬‬
‫فهل متيزت حركة الأدب املهاجر احلديثة بالهروبية‬ ‫(باجليم امل�رصية)‪.‬‬
‫مع ذلك �سين�شئ هذا اجليل � أدبا مغامرا‪ ،‬ال وطن له‪ ،‬نحو الغاب؟ وهل هي حركة ت�أمل فل�سفي و� أدبي؟‬
‫وبال يقني‪ ،‬وهو � أدب مل يقت�رص على الأ دباء الذين وما مكانة �س�ؤال الذات فيها؟ هل كان مثاال ل�س�ؤال‬
‫فروا بجلودهم بعيدا‪ ،‬خوفا من الفراغ‪ ،‬ومن �س�ؤال احلرية الفردية؟ وهل هناك غنائية رومان�سية؟‬
‫الهوية و�س�ؤال امل�صري اللذين يالحقانهم‪ ،‬بل �شمل وهل هناك دموع وبكاء وحنني للغاب؟؟؟‬
‫كذلك الأدباء يف الداخل‪ ،‬الذين ي�صدق عليهم قول هذه الأ�سئلة تنبئ باالختالف‪ ،‬فاحلركة الأ دبية‬
‫� أبي حيان التوحيدي‪ ،‬يف معناه «و� أغرب الغرباء املهاجرة اجلديدة لها خ�صائ�صها الفنية‬
‫‪62‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الهجرة غري ال�سفر‪ ،‬و� أنها تختلف باختالف الدوافع‬ ‫ومو�ضوعاتها وف�ضا ؤ�ها و� أهدافها‪ .‬لكن دائما‬
‫والأ �سباب ‪ -‬كما � أو�ضحنا � أعاله – وباختالف‬ ‫ح�سب املراحل التي مرت بها الهجرة املغربية‪:‬‬
‫الوجهة‪ ،‬واملدة الزمنية اخلا�صة با إلقامة‪ ،‬ونوع‬ ‫‪ -‬مرحلة احلماية (جيل احلماية الفرن�سية)‬
‫الهجرة (اال�ستقرار الق�صري � أو الطويل � أو الدائم)‪،‬‬ ‫‪ -‬مرحلة االمتداد (البعثات الثقافية‪ ،‬البحث عن‬
‫و�إح�سا�س املهاجر‪ ،‬ونوع العالقة بالوطن الأ �صل‬ ‫املعرفة)‬
‫(احلنني � أو الكره � أو القطيعة)‪ � ،‬أما امل�سافة يف‬ ‫‪ -‬مرحلة ال�ستينيات ‪ ...‬الثمانينيات (اال�ضطهاد‬
‫املكان فتحدها احلواجز والأ �سالك ال�شائكة واحلدود‬ ‫ال�سيا�سي وا إليديولوجي واالجتماعي)‬
‫ال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية‪...‬‬ ‫‪ -‬مرحلة الت�سعينيات والأ لفية الثالثة (احلراكة)‬
‫وح�سب ذلك ت�صبح الهجرة كما تدل عليها الن�صو�ص‬ ‫وقد � أنتجت كل مرحلة � أدبها بخ�صائ�ص مميزة‬
‫الأ دبية ‪-‬الرواية– مق�سمة �إىل � أمناط‪:‬‬ ‫ونوعية‪ .‬وميكن هنا �إدراج � أهم اخل�صائ�ص النوعية‪،‬‬
‫‪ -‬هجرة داخلية‪ :‬تكون مرفقة عند املهاجر ب�إح�سا�س‬ ‫التي تربزها الدرا�سات يف هذا الكتاب‪ ،‬وتلتقي‬
‫بالعزلة واالجتثاث واالغرتاب يف املكان والعادات‬ ‫عندها‪:‬‬
‫والتقاليد (البعد ال ِعرْ ِقي)‪.‬‬ ‫يف املو�ضوعات (الآخر‪ ،‬الذات‪ ،‬الهوية‪ ،‬املنفى‪،‬‬
‫‪ -‬هجرة خارجية‪ :‬تكون باالنتقال من بلد � أ�صل �إىل‬ ‫العزلة‪ ،‬الوحدة‪ ،‬االختالف اللغوي والثقايف‬
‫بلد � آخر خمتلف �سيا�سيا وثقافيا وح�ضاريا ولغويا‬ ‫واحل�ضاري‪ ،‬الت�رشد‪ ،‬العن�رصية‪ ،‬اال�ستغالل‬
‫بدوافع متنوعة كالعمل‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬والنفي‪...‬‬ ‫اجلن�سي‪/‬اجل�سدي واملايل‪ ،‬احلنني �إىل الوطن الأ م‬
‫‪ -‬هجرة خارجية‪ :‬تكون باالنتقال من بلد � أ�صل �إىل‬ ‫«النو�سطاجليا»‪)... ،‬‬
‫بلد خمتلف �سيا�سيا‪ ،‬لكنه ي�شرتك مع البلد الأ م يف‬ ‫يف � أ�شكال التعبري (التنا�ص‪ � :‬أدب الرحلة‪ ،‬والر�سالة‪،‬‬
‫الأ بعاد الثقافية واحل�ضارية واللغوية‪ ،‬مثل الهجرة‬ ‫وال�سرية الذاتية‪ ،‬والتخييل الذاتي‪ ،‬واملذكرات‪،‬‬
‫من املغرب �إىل البلدان العربية‪.‬‬ ‫واليوميات‪)...،‬‬
‫ومن � أهم الن�صو�ص ال�رسدية التي تطرقت للهجرة‬ ‫يف اللغة الأ دبية (التعدد الثقايف‪ ،‬التداخل اللغوي‪،‬‬
‫و� آثارها على املهاجر‪ ،‬كتاب ال�سرية الذاتية لعبد‬ ‫التهجني اللفظي‪ ،‬تغريب الأ �سلوب‪ ،‬واملعاين‬
‫املجيد بن جلون «يف الطفولة»(‪ .)30‬وهي ن�ص �رسدي‬ ‫«التعبري»‪) ...‬‬
‫هام جدا‪ ،‬كونه �سيجيب عن بع�ض الأ �سئلة ال�شائكة‬ ‫يف الر ؤ�ية اجلمالية (الر ؤ�ية الفجائعية‪ /‬عدم‬
‫التي يطرحها الأدب املهاجر‪ ،‬من قبيل �إ�شكالية‬ ‫القدرة على االندماج‪ ،‬وال�شعور با إلحباط‪ ،‬وال�شعور‬
‫الذات والآخر‪ ،‬و� أي�ضا ال�س�ؤال الثقايف واحل�ضاري‪.‬‬ ‫بالتخلي والنبذ‪)...‬‬
‫و�سيلقي كتاب «يف الطفولة» ال�ضوء على العديد‬ ‫يعرتف � أحمد � أبو زيد يف درا�سته «الهجرة و«� أ�سطورة‬
‫من الظواهر التاريخية واالجتماعية عرب املالحظة‬ ‫العودة»‪ ».‬ب�صعوبة تعريف الهجرة فيقول‪« :‬قد‬
‫واملقارنة واال�ستنتاج(‪.)31‬‬ ‫يكون من ال�صعب و�ضع تعريف دقيق ووا�ضح‬
‫وجند كذلك رواية الكاتب والناقد املغربي حممد‬ ‫ومقبول ملفهوم «الهجرة»‪ .‬ولذا يكتفي الكثريون‬
‫برادة «مثل �صيف لن يتكرر»(‪ )32‬التي تطرق فيها‬ ‫بتعريفها ب�أنها النقلة «الدائمة» � أو االنتقال‬
‫ملرحلة الدرا�سة مبدينة القاهرة مب�رص‪ ،‬حيث � ألقى‬ ‫«الدائم» �إىل مكان يبعد عن املوطن الأ �صلي «بعدا‬
‫ال�ضوء على � أمناط احلياة االجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫كافيا»‪ .‬ولكن هذا التعريف ‪� -‬إن �صح اعتباره‬
‫مل�رص اخلم�سينيات من القرن املن�رصم‪ .‬وقد‬ ‫تعريفا على ا إلطالق‪ -‬يفتقر �إىل الدقة والو�ضوح‬
‫ا�ست�أثرت القاهرة ب�أغلب الن�صو�ص ال�رسدية‪.‬‬ ‫فيما يتعلق بالبعد الزماين املتمثل يف كلمة «دائم»‬
‫(‪)33‬‬
‫� أما رواية ال�شاعر حممد الأ �شعري «جنوب الروح»‬ ‫والبعد املكاين املتمثل يف عبارة «بعدا كافيا»‪.‬‬
‫فقد قامت على الرحلة والتنقل بني الأ مكنة لكن‬ ‫و�صحيح � أن هيئة الأمم حددت املق�صود باالنتقال‬
‫داخل املغرب‪ ،‬ومل تخل هي � أي�ضا من و�صف‬ ‫الدائم ب�أنه االنتقال الذي ي�ستمر ملدة �سنة واحدة‬
‫للأ مكنة و� أهلها وعاداتهم وتقاليدهم‪.‬‬ ‫على الأ قل‪ .)29(»...‬ومع ذلك ميكن االتفاق على � أن‬
‫‪63‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ � )15‬أفيالل‪ ،‬علي‪ :‬رق�صات على حافة املوت‪ .‬رواية‪ .‬مطبعة النجاح‬ ‫الهوام�ش‪:‬‬
‫اجلديدة‪.‬‬
‫‪ )1‬تعريف الديا�سبورا‪ � :‬أدب «املجموعات التي تعي�ش خارج � أوطانها‬
‫‪ � )16‬أفيالل‪ ،‬علي ونور الدين �صدوق‪ :‬الرواية واحلياة (حوار)‪ .‬مطبعة‬ ‫ا ألم»‪.‬‬
‫النجاح اجلديدة‪ .‬ط ‪2006 .1‬م‪.‬‬ ‫‪ )2‬معت�صم‪ ،‬حممد‪ :‬خطاب الذات يف ا ألدب العربي‪ .‬من�شورات دار‬
‫‪ )17‬معت�صم‪ ،‬حممد‪ :‬خطاب الذات يف ا ألدب العربي‪� .‬سبق ذكره‪.‬‬ ‫ا ألمان‪ .‬ط ‪2007 .1‬م‪ .‬ينظر املدخل من الكتاب‪.‬‬
‫‪ )18‬الطايع عبد اهلل‪� ،‬ضمن كتاب‪Lettres à un jeune marocain chois :‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪ )3‬ينظر �ضمن كتاب‪De l’ambition à la rigueur, in : Lettres à un :‬‬
‫‪.sies et présentées par Abdelleh Taia. Seuil. 2009‬‬ ‫‪.jeune marocain choisies et présentées par Abdelleh Taia. Seuil. 2009‬‬
‫‪ )19‬بينبني‪ ،‬املاحي‪ :‬حراكة‪ .‬رواية‪ .‬ترجمة‪ ،‬حممد املزديوي‪.‬‬ ‫الكتاب النف�سه‪Après les deux coups d’Etat militaries de 1971 et 1972, .‬‬
‫من�شورات اجلمل‪ .‬ط ‪2007 .1‬م‪.‬‬ ‫‪le pays allait sombrer dans une longue nuit lugubre et sans pitié. Notre‬‬

‫‪ )20‬بنجلون‪ ،‬الطاهر‪ � :‬أن ترحل‪ .‬رواية‪ .‬ترجمة‪ ،‬ب�سام حجار‪.‬‬ ‫‪jeunesse a été abimée, désespérée, torture, et certains urent la chance‬‬
‫‪de s’enfuir et de s’exiler. Aujourd’hui nous savons que cette époque est‬‬
‫من�شورات املركز الثقايف العربي‪ .‬ط ‪2007 .1‬م‪.‬‬
‫‪révolue, définitivement. Avant, nous quittions le pays pour échapper à‬‬
‫‪.Laborit, Honri : Eloge de la fuite )21‬‬
‫‪la repression mais nous avions le Maroc au Coeur et nous n’imaginions‬‬
‫‪ )22‬داود‪ ،‬زكية‪ :‬مغاربة ال�ضفة ا ألخرى‪� .‬سبق ذكره‪.‬‬ ‫‪pas ne pas y revenir. Aujourd’hui des jeunes espérent émigrer légalemf‬‬
‫اب تقول َت َغرَّ َب و ا ْغترَ َ َب مبعنى‬ ‫‪ )23‬غرب غ ر ب‪ :‬ال ُغرْ َب ُة اال ْغترِ َ ُ‬ ‫‪ment ou clandestinement et cherchent à sauver leur peau, leur avenir.‬‬
‫رباء � أي�ضا ا ألباعد‬ ‫يب و ُغ ُر ٌب ب�ضمتني واجلمع ُ َ َ ُ ُ ُ‬
‫غ‬ ‫وال‬ ‫اء‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫فهو َغ ِر ٌ‬ ‫‪Les conditions ont change, pas le désespoir. Avanti l fallait attendre un‬‬
‫و ا ْغترَ َ َب فالن �إذا تزوج �إىل غري � أقاربه ويف احلديث (اغترَ ِبوا ال‬ ‫‪an et plus pour avoir un passeport. Aujourd’hui cela prend quelques‬‬
‫يب النفي عن البلد و‬ ‫�ضووا) وتف�سريه مذكور يف �ض و ى و التَّ ْغ ِر ُ‬ ‫ُت ُ‬ ‫‪jours. Mais entre-temps, les portes de l’Europe se sont férmées. P 21‬‬
‫� أ ْغرَ َب‪ .‬املختار ال�صحاح‪ .‬ن�سخة �إلكرتونية‪.‬‬ ‫‪Lettres à un jeune marocain choisiesnet présentées par Abdelleh Taia.‬‬
‫فالن َعنّا َي ْغ ُر ُب َغرْباً � أي َتنَ َّحى‪،‬‬ ‫‪.Seuil. 2009‬‬
‫الو َطن‪ .‬و َغرَ َب ٌ‬ ‫اب من َ‬ ‫ال ُغرْ َب ُة‪ :‬االغترِ ُ‬
‫و� أَ ْغرَ ْبتُه و َغرَّ ْبتُه � أي َن َّحيْتُه‪.‬‬ ‫‪ )4‬الطود‪ ،‬بهاء الدين‪ .‬البعيدون‪ .‬رواية‪ .‬مطبعة بوبليداي‪ -‬ملتيديا‪.‬‬
‫وال ُغرْ َب ُة‪ :‬النَّ َوى البعيد‪ ،‬يقال‪�َ :‬ش َّق ْت بهم ُغرْ َب ُة النَّ َوى‪.‬‬ ‫ط ‪2001 .2‬م‪.‬‬
‫القوم‪ :‬انتَ َووا‪ ،‬وغايةٌ ُمغ ِربةٌ � أي بعيدة ال�شَّ�أَ ِو‪ .‬معجم العني‪.‬‬ ‫و� أَ ْغرَ َب‬ ‫‪ )5‬خري الدين‪ ،‬حممد‪ :‬زمن الرف�ض‪ .‬حوارات‪ .‬ترجمة عبد الرحيم‬
‫ُ‬ ‫حزل‪ .‬من�شورات جذور‪ .‬ط ‪2007 .1‬م‪.‬‬
‫ن�سخة �إلكرتونية‪.‬‬ ‫‪Chraibi Driss : Les boucs. Roman. Editions Denoel. Paris, 1955 )6‬‬
‫جميع احلقوق حمفوظة ل�رشكة العري�س للكمبيوتر‬ ‫‪ )7‬حمي�ش‪ ،‬بن�سامل‪ :‬الفرنكوفونية وم�أ�ساة � أدبنا الفرن�سي‪� .‬سل�سلة‬
‫‪ � )24‬أمن�صور‪ ،‬حممد‪� :‬شهوة الق�ص�ص‪ � ،‬أوراق من مفكرة قا�ص‬ ‫املعرفة للجميع‪ .‬العدد ‪� .23‬ص (‪2002 .)70‬م‪.‬‬
‫جتريبي‪ .‬من�شورات دار احلرف‪ .‬ط ‪2007 .1‬م‪.‬‬ ‫‪ )8‬البعيدون‪� .‬سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ )25‬نيني‪ ،‬ر�شيد‪ :‬يوميات مهاجر �رسي‪� .‬سبق ذكره‪� .‬ص (‪.)90.89‬‬ ‫‪ )9‬طرابل�سي‪ ،‬فواز وعزيز العظمة‪ � :‬أحمد فار�س ال�شدياق‪ .‬من�شورات‬
‫‪ )26‬من م�أثور � أبي حيان التوحيدي‪.‬‬ ‫ريا�ض الري�س‪ .‬ط ‪1995 .1‬م‪.‬‬
‫‪ )27‬عبد الدامي‪� ،‬صابر‪ � :‬أدب املهجر‪ .‬دار املعارف‪ .‬ط ‪1993 .1‬م‪.‬‬ ‫‪ )10‬التون�سي‪ ،‬خري الدين‪ � :‬أقوم امل�سالك يف معرفة � أحوال املمالك‪.‬‬
‫‪ )28‬جملة عامل الفكر‪ :‬الهجرة والهجرة املعاك�سة‪� .‬ص (‪ .)5‬املجلد‬ ‫من�شورات دار الطليعة‪ .‬بريوت‪ .‬ط ‪1978 .1‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬العدد ‪1986 .2‬م‪.‬‬ ‫‪ )11‬بنجلون‪ ،‬الطاهر‪ :‬ر�سالة‪ ،‬من الطموح �إىل ال�رصامة‪� .‬سبق ذكره‪.‬‬
‫‪Daoud, Zakya ; Marocains de l’autre rive. Les Immigrés marocains )12‬‬
‫‪ )29‬ابن جلون‪ ،‬عبد املجيد‪ :‬يف الطفولة‪� .‬سرية ذاتية‪ .‬مكتبة‬
‫‪acteurs du développement durable. Editions Paris-Méditerranée, 2004‬‬
‫املعارف‪ .‬الرباط‪ .‬بدون تاريخ‪.‬‬ ‫‪.et Tarik Editions, 2005. Casablanca‬‬
‫‪ )30‬برادة‪ ،‬حممد‪ :‬مثل �صيف لن يتكرر‪ .‬حمكيات‪ .‬من�شورات الفنك‪.‬‬ ‫‪ )13‬يو�سف‪ ،‬فاروق‪ :‬يوميات وت�أمالت يف املنفى‪ ،‬مائدة من هواء‪.‬‬
‫ط ‪1999 .1‬م‪.‬‬ ‫دار � أمل للن�رش والتوزيع‪ .‬ط ‪2008 .1‬م‪.‬‬
‫‪ )31‬ا أل�شعري‪ ،‬حممد‪ :‬جنوب الروح‪ .‬رواية‪ .‬من�شورات الرابطة‪ .‬ط ‪.1‬‬ ‫‪ )14‬نيني‪ ،‬ر�شيد‪ :‬يوميات مهاجر �رسي‪ .‬من�شورات عكاظ‪ .‬ط ‪� .2‬ص‬
‫‪1996‬م‪.‬‬ ‫(‪2009 .)102.101‬م‪.‬‬

‫‪64‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الكينونة يف ال�شعر‬
‫العربي املعا�صر‬
‫ح�سني حمزة اجلبوري‬
‫باحث و� أكادميي من العراق‬
‫‪� .1‬أن درا�سة ال�شعر وحتليله يف �إطار مفهوم فل�سفي‪ ،‬تبدو �إ�شكالية أل�سباب خمتلفة‪،‬‬
‫منها �أن«الكينونة» تعد مفهوما دقيقا وعميقا ألنه يتعر�ض لق�ضية الوجود‬
‫االن�ساين على نحو عام‪ ،‬وماهية هذا الوجود؛ فعلى الرغم من ان ال�شاعر يتعامل مع‬
‫هذه الق�ضية منذ والدة الق�صيدة؛ اال ان املختلف هنا واال�شكايل اي�ضا ان مفهوم‬
‫«الكينونة» هو الذي يقود البحث بح�سب انتاجه الفل�سفي ال�سيما ان هذا املفهوم يدر�س‬
‫يف علم النف�س وعلم االجتماع؛ اال اننا نبحث فيه من خالل املنظور الفل�سفي ح�رصا‬
‫ومن ثم يبدو ان ثمة �س�ؤاال يطرح نف�سه؛ يقع يف �صميم اال�شكالية‪ ،‬وهذا ال�س�ؤال �أيفهم‬
‫ال�شاعراملعا�رص ويعي هذه الق�ضية الفل�سفية‪،‬ومفهوم «الكينونة» بدقته العلمية؛ام‬
‫انه يتفاعل معه كما يتفاعل ال�شاعر ويتعامل مع الوجود؟ واملاهية ومعاناة الذات‬
‫وت�أملها ازاء وجوده وعالقته مبحيطه الطبيعي واالن�ساين؟ال �شك �أن الف�ضاء الفكري‬
‫واحل�ضاري الذي يعي�ش فيه ال�شاعر العربي املعا�رص يق�صي الفل�سفة ؛ ويهم�شها اىل‬
‫حد كبري ومن ثم كيف يت�سنى لل�شاعر يف هذا الف�ضاء االطالع والقراءة والتحليل‬
‫الذي البد منه إلنتاج وعيه؟‬

‫‪ w‬الق�صيدة العربية املعا�رصة تعاين حلظات «النكد والف�صام» وبدت‬


‫حمنة ذاتية ومو�ضوعية تفاعال ومتثال للتجربة العربية والع�رص‬
‫الدرامي وامل�أ�ساوي‪ ،‬فتعددت ا أل�صوات يف الق�صيدة لتمثل �أ�صوات‬
‫االختالف وال�سلطة واملختلف معها‪ ،‬و�رصاع املا�ضي وامل�ستقبل‪.‬‬
‫ن�شيد تت�صارع فيه الر ؤ�ى واملنظورات‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف اال�ستبداد واما الثانية فانها تتمثل يف احلرية؛ وهي‬ ‫وهنا البد �أن ندرك �أن ال�شاعر العربي املعا�رص ينهل من‬
‫مرتبطة بامل�س�ألة االوىل‪ ،‬فاحلرية تتمف�صل يف اجتاهني‬ ‫االجتاهني؛ اذ ان الرباءة؛ والوالدة‪ ،‬واملوت‪ ،‬وامل�صري‬
‫ا ألول يتعلق بال�سلطة ال�سيا�سية وم�ؤ�س�ساتها؛ وا ألخرى‬ ‫والفناء‪ ،‬والعدم‪ ،‬والقرار‪ ،‬واالميان و�سريورة الوعي كلها‬
‫بال�سلطة امليتافيزيقية وم�ؤ�س�ساتها والعرف الذي يعيق‬ ‫ثيمات الق�صيدة منذ بدايتها االوىل؛ فعالقات ال�شاعر بكل‬
‫احلرية فمفردات اال�ستبداد الفردي هي‪ :‬القدرية والق�سمة‬ ‫ما يحيط به؛ ت�شكل �شذرات الكينونة ‪/‬الوجود واملوجود‪/‬‬
‫واملكتوب ومفردات اال�ستبداد اجلماعية‪ /‬ال�سلطة وال�سوط‬ ‫لذلك فان بع�ض ال�شعراء يعرفون مفهوم الكينونة بدقته‬
‫وال�سلطان والرهبة‪ /‬كل هذه املفردات؛ تقود اىلامل�س�ألة‬ ‫العلمية‪ ،‬ومن ال�شعراءالكبارمن يتفاعل مع حميطه‪ ،‬ويدرك‬
‫الثالثة‪ ،‬ونعني بها �إعاقة التقدم‪/‬التولد‪/‬واالختالف‬ ‫مفردات الوجود ملايتمتع به من فرادة �شعرية؛ ف�ضال عن‬
‫(‪)3‬‬
‫والتدجني الفكري والثقايف واالدبي‪.‬‬ ‫االطالع الثقايف العام‪ ،‬ومعاناة العربي ازاء �إ�شكاالته‬
‫ان هذه امل�سائل �أ�سهمت يف �إنتاج الال �شعور اجلمعي‪،‬‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬فيكون انتاجه ال�شعري جزءا من معاناة �شعبه‪،‬‬
‫ال�سيا�سي والثقايف واالدبي‪ .‬فالوعي العربي الذي مثل‬ ‫وروح الع�رص الثقايف واحل�ضاري فنحن ال ن�ستطيع ان‬
‫�سطح احلياة العربية واملنظور العياين لها؛ كان نتاجا‬ ‫نقوم بعمل اال �ضمن اطار ع�رصنا وزماننا وبني املحيطني‬ ‫اذا � أردنا تتبع‬
‫م�ؤ�س�سا على البنيةالعميقة‪ ،‬ونعني به الالوعي الفردي‬ ‫بنا‪ )1(،‬لذا فان معاناة ال�شاعر �شكلت حلظات درامية متثل‬ ‫عالقة أ‬
‫الدب‬
‫واجلمعي الذي انتج القيم والظواهر ال�سلوكية املختلفة‪،‬‬ ‫ابعاد التجربة احل�ضارية واملعاناة الفكرية‪ ،‬والهزمية‬ ‫بالال�شعور‬
‫ومنها الثقافية واالدبية لهذا يعد «املخيال ال�شعري»‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬يقول خليل حاوي يف مقدمة ق�صيدته‪/‬لعازر‬
‫جزءا من هذا النتاج‪ .‬فاملخيال ال�شعري يت�أ�س�س يف‬ ‫‪« :1962‬كنت �صدى انهيار يف م�ستهل الن�ضال فغدوت‬ ‫اجلمعي‪ ،‬يوجب‬
‫املخيال االجتماعي اوال ويت�أ�س�س على تاريخ النوع‬ ‫�ضجيج انهيارات حني تطاولت مراحله»(‪ )2‬فكانت الق�صيدة‬ ‫ا�ستخدام خطاب‬
‫ال�شعري كله ثانيا مبا يت�ضمن من وظيفة واداء و�سلوك‬ ‫العربية املعا�رصة تعاين حلظات ‪/‬النكد والف�صام ‪ /‬وبدت‬ ‫�شمويل وتكاملي‬
‫وبهذا ال�صدد يقول ادوني�س‪« :‬فيما كان الوحي يتج�سد يف‬ ‫حمنة ذاتية ومو�ضوعية تفاعال ومتثال للتجربة العربية‬ ‫ويتطلب‪-‬‬
‫م�ؤ�س�سات‪ ،‬وكانت امل�ؤ�س�سات ال تنظر اىل ال�شعر اال بو�صفه‬ ‫والع�رص الدرامي وامل�أ�ساوي‪ ،‬فتعددت اال�صوات يف‬ ‫كذلك‪-‬الوقوف‬
‫اداة يخدمها كانت تت�أ�س�س يف احلياة العربية اليومية‬ ‫الق�صيدة لتمثل ا�صوات االختالف وال�سلطة واملختلف معها‪،‬‬ ‫على خطا بني‬
‫عالقات جديدة بني ال�شعر مبعايري وقيم جديدة وكانت‬ ‫و�رصاع املا�ضي وامل�ستقبل‪ .‬ن�شيد تت�صارع فيه الر ؤ�ى‬ ‫الول تاريخي‬ ‫أ‬
‫امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية‪ -‬الدينية متار�س �سلطتها بو�صفها‬ ‫واملنظورات فكان ال�رصاع بني االنا‪-‬االنا ال�شعرية ابرز‬ ‫والخر منطقي‬ ‫آ‬
‫احلار�سة االمينة للوحي اال�سالمي الذات يف هذه التن�شئة‬ ‫�سمات الق�صيدة املعا�رصة؛ ومن ثم فان حمنة ال�رصاع هذه‬
‫م�ستلبة �سلفا بل الوجود أ‬
‫للنا املت�سائلة‪ )4(».‬هذه القوانني‬ ‫مل تكن نتائجها ترميمية وامنا تت�ضمن ك�شفا وعريا امام‬
‫والتقاليد ال�شعرية والنقدية تعد جزءا من �رصاعية الق�صيدة‬ ‫الزمن‪ ،‬عري االنا‪-‬وعري املجموع‪ ،‬هذه املحنة ال�رصاعية‬
‫التي حتاول ان ت�ؤ�س�س ح�ضورا للذات الواعية والراف�ضة‬ ‫جعلت الق�صيدة تنطلق من الداخل ال�ستيعاب اخلارج‪،‬‬
‫وال�صادمة للم�ؤ�س�سة‪ ،‬مما ي�شكل �أزمة نقدية؛ تتمثل يف‬ ‫وعادت اىل الداخل حتاور االنا والذات نف�سها؛ تعاركها؛‬
‫ح�ضور الفرادة ال�شعرية التي حتاول ان ت�ؤ�س�س لنف�سها‬ ‫وت�صادمهاوتق�صيها وتهم�ش جزءا منها؛ وال تن�رص اجلزء‬
‫امنوذجا من خالل وعي كينونة ال�شاعر بفرادته والت�شكل‬ ‫على ا آلخر‪ ،‬وامنا جتعله ي�سبح مع ال�سريورة للقب�ض على‬
‫ال�شعري بحداثته‪ ،‬وهنا يحدث �إندماج الدراك احلداثه من‬ ‫الكينونة‪ ،‬فتحلق الق�صيدة يف جتليات الوجود ‪/‬االزمة‬
‫جهة وافرتاق من �أجل التميز من جهة اخرى‪.‬فال�شاعر اليح�س‬ ‫والروح و� أ�رسار الوجود واملوجود؛ فتك�شف � أنامل ال�شاعر ان‬
‫بال�سعادة يف حالة متاثله مع �شاعر �آخر قدميا ام حديثا‪،‬‬ ‫ثمة وجودا حملقا طائرا حتاول اللغة القب�ض عليه‪ ،‬ولكن‬
‫وامناي�شعر ب�رضورة التفرد؛ لذلك تكون �أزمة الكينونة بحثا‬ ‫�سريورة العدم ت�سري يف اجتاه الال عودة وهكذا ت�ستثمر‬
‫م�ستمرا عما ي�ستوعب هذه الكينونة التي ت�سهم اللغة يف‬ ‫اللغة �إمكاناتها لتدمري االن�ساق الكال�سيكية املتداولة‪،‬‬
‫ا�ستيعابها من خالل اللعب وال�صناعة اللغوية االبداعية‬ ‫لتنتج ق�صيدة التفعيلة وق�صيدة النرث حماولة للرق�ص مع‬
‫واالجنازية لت�سمية اال�شياء‪ ،‬واالفعال املجهولة التي لي�س‬ ‫فو�ضى الوجود من �أجل ا�ستدراجه‪ ،‬ان فو�ضى الوجود‬
‫لها �أ�سماء بعد داخل الكينونة‪ ،‬او يف وعي الكينونة والوجود‬ ‫التي يعيها ال�شاعر العربي املعا�رص ت�ستلهم ازمة االمة‬
‫الذي مل ينوجد‪-‬بعد‪-‬وهذا اللعب –كما يقول هيدغر‪-‬يقوم‬ ‫واحلياة العربية التي تعاين من ثالث م�سائل كربى وهذه‬
‫على‪/‬الرتاوح‪ /‬واحلوار بني الفكر والقول ال�شعري الذي‬ ‫امل�سائل التي �شغلت الفكر والثقافة العربية وتتمثل االوىل‬
‫‪66‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫مفردات هذين النظامني ‪.‬‬ ‫ي�سمح للفو�ضى والت�شظي لل�سيطرةعلىم�شهد الروح والذات‬
‫فاما النظام النهاري‪ ،‬فانه يجمع كل ال�صور التي ترمز اىل‬ ‫وادراك الكينونة‪ ،‬من هنا يكون التفرد وال�سيطرة االبداعية‬
‫القوة وال�سلطان برموزها وادواتها‪ ،‬ال�صوجلان‪ ،‬وال�سيف‪،‬‬ ‫او التجلي االبداعي والتناغم مع اللغة دليل ال�شاعر يف‬
‫ويطمح هذا النظام اىلالتفوق و«االنت�صار على املوت‬ ‫االبداع وادراك ا�سباب الوجود وان�شغاالته ‪.‬‬
‫والتمرد على القدر…ومن �صفات النظام النهاري البطولة‬ ‫‪ .2‬وكان علم النف�س قد حتدث من خالل فرويد ويونغ عن‬
‫ووحدانية االله والدفاع عن نقي�ض االطروحة واملثالية‬ ‫الال�شعور الفردي واجلمعي الذي ي�شكل ال�ضمريواملقد�س‪،‬‬
‫والعقالنية والتجريد والنظام النهاري… نظام ذكوري‬ ‫والذنب والقوانني االجتماعية‪ ،‬وقد و�سع يونغ مفهوم‬
‫يتهاوى �صوب«ال�سكيزوفرينيا» ان مل يعدل كفته النظام‬ ‫ا�ستاذه «فرويد» عن الال�شعور الفردي اىل اجلمعي الذي‬
‫ااالنثوي امل�ضاد له �أي النظام الليلي»‬ ‫هو عبارة عن روا�سب دفينة يف النف�س الب�رشية ترجع‬
‫واما النظام الليلي‪ ،‬فهو يجمع ال�صور املعربة عن االلفة‪،‬‬ ‫اىل وجود «�آدم وحواء» واخلطيئة االوىل ‪.‬فكان املوروث‬
‫واملحبة واحلميمية ويق�صي �صور النظام االبوي «فال�سقوط‬ ‫والتجارب املختلفة منذ االن�سان االول وتركته من قيم‬
‫ي�صري نزوال والليل ي�صري راحة و�سكونا بني اح�ضان االم‬ ‫الع�شرية والقبيلة قد �شكلت الال�شعور اجلمعي؛ ومتخيله‬
‫يعاد لالنوثة اعتبارها يف �صورار�ض وليل ي�سبح النظام‬ ‫الذي يتحكم ب�صورة �أو باخرى يف �سلوك الفرد واجلماعة‬
‫الليلي يف تناغم االلوان املريحة… انه نظام اليف حميمي‬ ‫حا�رضا وم�ستقبال وي�شكل جزءا من الكينونة «فالغيب‪..‬‬
‫(‪)8‬‬
‫و�صويف وحلويل»‪.‬‬ ‫جانب ا�صيل يف كينونتنا»(‪ )5‬وهذا الال�شعور ي�ؤثر يف‬
‫ويت�ضح ان النظام الليلي هو الذي يت�ضمن اخليال ال�شعري‬ ‫الثقافة والفكر واالدب؛ وافاقها التي متتد من املوروث‬
‫ومو�ضوعات الفن‪ ،‬ومن ثم يكون ت�شكيل الق�صيدة يف‬ ‫اىلامل�ستقبل الذي يت�شكل فيه متخيل اجتماعي ممتد من‬
‫اطارهذا النظام‪ ،‬عالوة على بع�ض �صور النظام النهاري‬ ‫املوروث من جهة ومنقطع يف اجتاه متثل احلا�رض من‬
‫ال�سيما االنت�صار على املوت والتمرد على القدر؛ وهي‬ ‫جهة اخرى‪ ،‬فالال�شعور اجلمعي متجدد مع كل جتربة‬
‫�سمات عقالنية اىل حد ما‪ ،‬و�صوفية يف حدها ا آلخر ‪.‬ومتثل‬ ‫ان�سانية وح�ضارية‬
‫مفردات الكينونة‪ ،‬وذلك يف وعي الذات‪ ،‬وادراكها ال على‬ ‫واننا اذا اردنا تتبع عالقة االدب بالال�شعور اجلمعي‪،‬‬
‫�سبيل الثنائية املعروفة «الذات‪ -‬املو�ضوع»؛ ومع ذلك فان‬ ‫يوجب ا�ستخدام خطاب �شمويل وتكاملي ويتطلب‪ -‬كذلك‪-‬‬
‫هذا الت�شاكل والتفاعل بني هذين النظامني وواقع التجربة‬ ‫الوقوف على خطا بني االول تاريخي وا آلخر منطقي‪ .‬فاما‬
‫العربية‪ ،‬الفردية واجلماعية‪ ،‬قد �شكلت بنية �رصاعية جديدة‬ ‫التاريخي فانه انتج خطابا مزدحما بالرتاث‪ ،‬وخميال‬
‫لثيمات الق�صيدة وهذه تعطي معاين لكل ما هو «موجود»‪،‬‬ ‫االمة الثقايف وال�صوري واما املنطقي فقد حدد اهداف‬
‫ك�أن التجربة اجلماعية؛ والال�شعور اجلمعي وال�سيا�سي‬ ‫الرتاث ووظيفته‪ ،‬واملخيال واملنتج الثقايف وحدوده‪.‬وهذا‬
‫املنتج لالنظمة الثنائية للمخيال ال�شعري قد انتجت قمعا‬ ‫(‪)6‬‬
‫ينطبق وي�شمل حداالدب ووظائفه كما ا�شار اليه ادوني�س‬
‫للجماعات الب�رشية يف انتاج كينونتها اخلا�صة‪ ،‬وتقدمي‬ ‫‪.‬لذلك نعتقد ان التاريخي واملنطقي يت�شكالن من خالل‬
‫�صورة ور ؤ�ية لنف�سها؛ ور ؤ�ية و�صورة للآخر املواجه‬ ‫امرين هما «املخيال االجتماعي»‪ ،‬و«العقل العربي» الذي‬
‫لها �سواء اكان ا آلخر ب�رشا ام ا�شياء طبيعة‪ ،‬هذه ال�صور‬ ‫يحد احلدود؛ ان املزدوج «املخيال والعقل» افرز امناطا من‬
‫كانت متار�س �سلطتها على الال�شعور اجلمعي واملخيال‬ ‫ال�صور‪ ،‬وا�شكاال خمتلفة �سواء اكان على �صعيد التجربة‬
‫االجتماعي‪ ،‬ون�ستنج من هذا املهاد ان تراث االمم‬ ‫الواقعية‪ ،‬مبافيها ال�سيا�سي واالقت�صادي والعلمي ام على‬
‫وخميالها؛ والوعيها يتحدد يف الظروف املختلفةال�سيا�سية‬ ‫�صعيد الثقايف واالدبي والفكري بو�صفها البنى العليا‬
‫واالقت�صادية واالجتماعية والدينية‪ ،‬لت�شكل على �ضوء هذه‬ ‫العميقة للمجتمع التي ت�شكل وعيه‪ .‬وقد حدد «جليبارد‬
‫الظروف ثيمات املخيال والالوعي‪ ،‬وال�شك يف ان وعي‬ ‫دوران» املخيال يف نظامني‪ ،‬ي�شكالن التاريخي واملنطقي‪،‬‬
‫ا آلخر ومعرفته ت�سهم يف ح�سا�سية تعميق الوعي بالكينونة‬ ‫وميثالن الفكر �أي�ضا‪ ،‬فمن خالل ت�شغيل هذين النظامني‬
‫عند بع�ضهم‪ ،‬واال�ستالب من ا آلخر الب�رشي «ال�سيما الغربي»‬ ‫ن�ستطيع الوقوف على ابعاد التجربة الذاتية ال�شعرية‪،‬‬
‫عند بع�ضهم ا آلخر(‪ ،)9‬من ثم تبدو ال�رضورة يف ادراك ازمة‬ ‫فاملخيال بنظامه الليلي هو الذي ميثل االدب والفن مع‬
‫الهوية التي ال تظهر اال يف املجتمعات التي تدخل يف جدلية‬ ‫تفاعل يف حدود ما مع النظام النهاري(‪.)7‬وقبل اخلو�ض يف‬
‫ا آلخر‪ ،‬وت�ضعنا هذه الق�ضية مرة اخرى يف �صلب ق�ضية‬ ‫ابعاد التجربة ال�شعرية املعا�رصة البد من ان نقف على‬
‫‪67‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والت�أويالت‪ ،‬وهى قوة فكرية وح�ضارية‪ -‬كما ا�سلفنا‪-‬‬ ‫ا�سا�سية يف مفهوم الكينونةعند ال�شاعر العربي ونعني بها‬
‫فالتعدد و«الف�صام النكد» له اثره يف طبيعة الكينونة النه‬ ‫احلداثة ال�شعرية ال�سيماعندما ا�صبحت احلداثة تكمن يف‬
‫ي�سهم يف انتاج ال�شعورجمعي وادبي وخميال �شعري جديد‬ ‫افق الكينونة واالفق الك�شفي‪-‬املعريف لالحاطة بالذات‬
‫وباف�آق متغرية ومتنوعة وبر ؤ�يا جديدة‪ ،‬و لهذا نرى ان‬ ‫وا آلخر‪ ،‬والعالقة اخلالقة مع ا آلخر بال�رضورة‪ ،‬النها تنتج‬
‫الق�صيدة النا�ضجة والقوية هى التى تتفاعل مع هذا الوعي‬ ‫ان�سانا يعي ما يحيط به من �إ�شكاالت العلم واحلياة‪.‬‬
‫الكلي با�شكاالته املختلفة واملتنوعة ومبفرداته املت�شظية‬ ‫‪ .3‬بد�أت النه�ضة العربية يف حماولة مفكري االمة وعلمائها‬
‫فتكون الق�صيدة �رصاعية ومت�شظية ال�ستيعاب جدل‬ ‫ادراك ثقافة ا آلخر اال�ستعماري‪ ،‬و�أدراك اطروحات الفكر‬
‫الوجود وهذا ال يعني االنعكا�س وال النقل امنا خلق عامل‬ ‫التقدمي كذلك‪ ،‬و�سمحت هذه الر ؤ�ية يف تلم�س وجدان االمة‪،‬‬
‫جديد ومتخيل مل ت�صل اليه الق�صيدة من قبل‪ ،‬يقول ال�شاعر‬ ‫و�أ�سباب التقدم احل�ضاري فيها وامكاناتها يف االبداع‬
‫االملاين املعا�رصجوتفريد‪« :‬لي�س هناك واقع خارجي بل‬ ‫كذلك‪ ،‬لذلك بد�أت القوىوالفعاليات الفكريةوالطبقية؛‬
‫هناك وعي �إن�ساين دائم البناء والتعديل‪ ،‬و�إعادة بناء عوامل‬ ‫التحول اىل فعل الثورة بو�صفه تغيريا ح�ضاريا �شموليا‪،‬‬
‫جديدة من �صنع �إبداعه»(‪ )11‬والجل ر�سم هذا العامل املتخيل‬ ‫لكن ا�ساليب احلكم الع�شائرية املتخلفة واال�ساليب‬
‫البد من تدمري الن�سق امل�ألوف حتى يف ال�شعر نف�سه‪ ،‬اذ‬ ‫«»التوتاليتارية» يف احلكم‪ ،‬وانعدام الدميقراطية‪ ،.‬ف�ضال‬
‫ان ن�سق الق�صيدة العمودية هو غريه يف الن�سق ال�رصاعي‬ ‫عن �ضغط ا آلخر اال�ستعماري واالمربيايل التي حا�رصت‬
‫اجلديد واحلداثي ‪.‬وقد و�صف كلود برنارد‪ ،‬الكاتب احلداثي‬ ‫الثورات واملجتمع يف اطار الان�ساين و ال اخالقي‪ ،‬فهذه‬
‫«بالقا�ضي» الذى يخترب اللغة «فهو ي�شوهها ويغو�ص يف‬ ‫القوى ومب�سمياتها خمتلفة‪ . ،‬ا�سهمت يف تخبط قوى الثورة‬
‫متاهاتها ال لتدمريها بل لتحقيق تفكيك اخللق الذى يطلق‬ ‫العربية واملجتمع العربي‪ ،.‬والدخول يف موجهات عنيفة‬
‫قوى جديدة من النطق واللفظ وي�ضع القواعد اللغوية‬ ‫مع قوى النكو�ص املختلفةاملحلية والعاملية والدخول يف‬
‫امل�ألوفة جانبا ويتو�صل اىل االكت�شاف الذي يعزوه «مي�شيل‬ ‫فو�ضى ادراك مهمات الثورة‪ ،‬ودورها لذلك بدت م�شكالت‬
‫فوكو» اىل احل�ضارة التي تعتق نف�سها من نظام املفاهيم‬ ‫الثورة ما بني التزام باملورث من خالل اال�صالة ومابني‬
‫التقليدية وتدرك انه يف االمكان اال�ستغناء عنها»(‪ )12‬ان هذا‬ ‫االنفتاح على ا آلخر‪/‬الغرب‪ ،‬وهي خيارات امل�سريةالعربية‪.‬‬
‫التعامل مع اللغة من خالل الر ؤ�ية احلداثية للعامل اق�صى‬ ‫اما اخليار احل�ضاري فهو االنطالق من الواقع الذي تعي�شه‬
‫الكثري من املفاهيم الالعقالنية التي كانت �سائدة على‬ ‫االمة والرتاث الذي نحتويه يف �شعورنا عن وعي اومن‬
‫الرغم من ان ال�شاعر يتعامل معها‪ ،‬بل ان ف�ضاء ال�شعر هو‬ ‫دون وعي بفعاليةونظرة ايجابية للحا�رض وامل�ستقبل؛‬
‫الالعقالنية واال�سطورية االان وعي ال�شاعر وهويتعامل‬ ‫هذه املحاور معروفة يف حياتنا الفكرية‪ ،‬اال ان املناهج‬
‫مع اال�سطورة‪ ،‬وقوىالغيب يراد منه القب�ض على جمرة‬ ‫املختلفة يف متثلها لهذه الق�ضايا كان البد لها ان ت�سهم يف‬
‫الوجود الالمتناهي الذي يعدم نف�سه‪ ،‬وينفيها من اجل‬ ‫تطويرهذه الق�ضايا‪ ،‬وحتدد خيارات التقدم فيها ‪.‬‬
‫�سريورة دائمة فتجعل العامل متعاليا‪ .‬وال�شاعر «الفاعل»‬ ‫و التعددية التي«افقدت وحدة ال�شخ�صية» كما يقول د‪.‬‬
‫يلهث وراءه؛ وبيده اداته‪/‬اللغة في�ستطيع ال�شاعر حتطيم‬ ‫ح�سن حنفي‪.‬وجعلتنا «نعي�ش يف ف�صام‪ /‬نكد‪ ،‬فتتقارب‬
‫غرور هذا الال متناهي من خالل اللغة‪ ..‬والقب�ض على ما‬ ‫الثقافات ومناهج التعليم واملذاهب ال�سيا�سة ويق�ضي االمر‬
‫مل ينوجد‪-‬بعد‪� .‬أوير�سم لهذا الذي مل يوجد –بعد خيوطا‬ ‫على الوحدة الوطنية يف املمار�سة وعلى ال�شخ�صية القومية‬
‫مب�ستويات لغوية خمتلفة وبان�ساقها املت�شظية؛ فهي‬ ‫(‪)10‬‬
‫يف النظر»‬
‫ت�ستوعب اال�شياء العار�ضة‪ ،‬وال�شظايا املتنافرة‪ ،‬و�صور‬ ‫ويبدو ان د ‪ .‬حنفي يعد هذا االمر خ�صي�صة �سلبية –وهذا‬
‫ال�سوقة واالبتذال‪ ،‬ولكن هذه املفردات كلها هي مفردات‬ ‫ما ن�ستنتجه من ن�صه‪-‬منطلقا من ان االمة واحدة وينبغي‬
‫الوجود واملوجود‪/‬الكائن‪ ،‬ومن ثم تكون مفردات الكينونة‬ ‫ان تكون ثمة ا�سا�سيات م�شرتكه الينبغي التفريط بها وهذا‬
‫االن�سانية جزءا من العار�ض واملت�شظي واملتنافر واجلميل‪،‬‬ ‫االمر يبدو �صحيحا‪ ،‬الن هناك تباينا يف تطور املجتمعات‬
‫والقبيح والعدل والظلم لالن�سان الكلي الوجود الذي يرت�سم‬ ‫العربية من الناحية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية؛‬
‫عليه العامل االكرب والوجود امل�ستمر لل�سريورة والتحول‬ ‫هذا االختالف يف�ضي اىل التنوع والتعدد الفكري واملفهومي‬
‫واالنتاج لت�شكيل ذاته وكينونته‪.‬‬ ‫وهذا االمر يعد قوة يف العامل املعا�رص‪.‬‬
‫‪ . 4‬بعد ان توقفنا يف ال�صفحات ال�سابقة عند الواقع العربي‪.‬‬ ‫ان االختالف والتعدد نابعان من تنوع املنظورات‬
‫‪68‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫و�أجنا�س خمتلفة‪..‬‬ ‫والق�صيدة و�سماتها بات من ال�رضوري الوقوف عند‬
‫ان حترك الق�صيدة الق�صدي جتاه معطيات الوجود �شكل‬ ‫مفهوم «الكينونة» لكي نحلل الق�صيدة العربية املعا�رصة‬
‫عاملا متوهما مكتنزا با آلمال للكائن‪/‬املوجود الذي ي�سعى‬ ‫وعالقتها بالكينونة يف مرجعياتها الفل�سفية‪ ،‬فقد ارتبطت‬
‫اىل معرفة ذاته و معرفة العامل الذي يرغب فيه وي�سعى‬ ‫الفل�سفة بوعي االن�سان و�سعت ال�ستيعاب جتربته اليومية‬
‫اليه‪ ،‬ومن ثم فان االدب وال�شعر يقلب املفاهيم امل�ألوفة‪،‬‬ ‫وفهم م�صريه وعمله ازاء حتديات الوجود اذ ان االن�سان‬
‫ويعك�سها على وجه جديد �أو ي�شكك فيها ألنه م�سكون‬ ‫وجد نف�سه يف عامل معطى �سابقا اال ان حتديات احلياة‬
‫با أل�سئلة املقلقة التي ال تقف عند �أفق واحد الن�شغاالت‬ ‫والطبيعة ولدت عنده هاج�سا من اخلوف والقلق من‬
‫الوجود ا�صال بهذه اال�سئلة التي حتمل قيما ومفردات‬ ‫االتي‪ ،‬لهذا بد� أ الوعي‪ ،‬يتجه اىل ادراك مو�ضوعات العامل‬
‫وانفرادات متثل هذا الوجود‪ .‬لهذا مل يعد لل�شعر ما يعادله‬ ‫وااللتحام به والت�أمل يف مقا�صده‪ .‬وبد�أت «االنا» املتجهة‬
‫يف الواقع(‪ )17‬فهو عامل خادع ال ي�سعى اىل التملك بقدر ما‬ ‫(‪)13‬‬
‫اىل ادراك العامل‪ ،‬واالنتماء اليه؛ تتخذ طريقها اىل وعيه‬
‫ي�سعى اىل الفعل باجتاه ال�سريورة‪ ،‬وهو بهذا الت�صور يكون‬ ‫من هنا �صنعت الفل�سفة مو�ضوعاتها‪ ،‬و�شكلت املفاهيم لكل‬
‫الق�صيدة‬ ‫االدب حفازا «الرادة القوة»(‪– )18‬بح�سب تعبري نيت�شه‪-‬‬ ‫ما يحيط باالن�سان من قيم واخالق وعقائد ‪ .‬هذه املفاهيم‬
‫النا�ضجة والقوية‬ ‫وتلعب اللغة فيه الدور اخلالق لهذا العامل املتخيل اخلالق‬ ‫تفرت�ض مداخل كثرية ومتنوعة و ت�ؤدي بع�ضها اىل بع�ضها‬
‫هى التى تتفاعل‬ ‫للوعي والفهم واالرادة‪ .‬فهي التي تكون الوجود الذي مل‬ ‫ا آلخر فتجعل اجلميع يتجهون نحو قبلة واحدة‪ ،‬ومن خالل‬
‫مع هذا الوعي‬ ‫ينوجد‪-‬بعد وهى التي حتفز االن�سان املوجود على البحث‬ ‫هذا التنافذ بينت الفل�سفة حدود تفاعل العقل مع الوعي‪،‬‬
‫الكلي ب�إ�شكاالته‬ ‫واخللق‪ ،‬والفعل للو�صول اىل عامل احللم الذي عمل املوجود‬ ‫و�شبكة العالقات بني االفراد‪ ،‬واجلماعات ف�ضال عن حتديد‬
‫املختلفة‬ ‫على ت�شكيله ولكن هذا العامل �رسعان ما يفلت مما يجعل‬ ‫ت�شكيالت ال�سلطة وم�ؤ�س�ساتها وخطابها‪.‬كما ان الفل�سفة‬
‫واملتنوعة‬ ‫االن�سان يف �سريورة دائمة للفعل واالبداع من اجل العامل‬ ‫تفاعلت مع العلم وتعاملت مع اجنازاته النها ظلت دائما‬
‫ومبفرداته‬ ‫الذي مل ينوجد – بعد‪ ،‬وعليه فان اللغة هي التي تخلق‬ ‫�صدى له‪ ،‬مع انها «الفل�سفة» �سعت دائما اىل احتواء هذا‬
‫م�ضمار املوحى به من قيم ومثل واخطار واخطاء‪ ،‬واالفعال‬ ‫العلم؛ وعملت على و�ضع املفاهيم له‪ ،‬وايجاد ال�رشعية له‬
‫املت�شظية‬
‫التي مل ت�سم بعد وهى «التي تخلق احتمال فقدان الوجود‬ ‫اي�ضا‪.‬‬
‫فتكون الق�صيدة‬ ‫�أي اخلطر …وهي…تخفي يف ذاتها ولذاتها خطرا دائما‬ ‫�إن اعادة تنظيم التفكري الفل�سفي طوال تاريخ الفل�سفة‬
‫�صراعية‬ ‫وهذا اخلطر يكمن يف ان اللغة حتتمل ال�شفافية وال�صعوبة‬ ‫متت با�ستلهام من �سنن التنظيم العلمي ملعارفه وا�سلوب‬
‫ومت�شظية‬ ‫ولكنها اي�ضا حتتمل امل�شو�ش وال�شائع»(‪ )19‬ولذلك كانت‬ ‫التنظيم يف الفكر العلمي نف�سه ويعني هذا ان الفل�سفة‬
‫ال�ستيعاب جدل‬ ‫العالقة بني الفل�سفة وال�شعر �رضورية للن�شاطات الفل�سفية‬ ‫ال تقوم وال تفعل اال بات�صالها بالعلم(‪)14‬وهو ما يفرت�ض‬
‫الوجود‬ ‫من جهة‪ ،‬واالدبية من جهة اخرى‪.‬‬ ‫ا�سبقية العلم كما ان الفل�سفة تفاعلت مع االدب علىنحو‬
‫لقد ذهب هيدغر اىل ان ال�شعر امنا هو «ان�شغال متوا�ضع‬ ‫عام‪ ،‬وال�شعر على نحو خا�ص ملا ميتلكه «ال�شعر» من‬
‫ولعب بالكلمات ال ترجىمنه اال الرباءة انه‪/‬ا�ستح�ضار‬ ‫حرية و�شمولية؛ ي�ستطيع من خاللها جتاوز حدوداملنطق‬
‫للآلهة‪/‬وذكر للأ�شياء بكينونتها وتا�سي�س للكينونة بالقول‬ ‫اىل افاق رحبة الدراك الوجود والمكانيات ال�شعر التي‬
‫والكلمة‪/‬انه باخت�صار ا�سا�س تاريخ االن�سان نف�سه وهذا ما‬ ‫تك�رساحلدود؛ وتك�شف ما وراء احلجب فهو ي�ؤ�س�س الوجود‬
‫يجعله يف النهاية � أبعد من ان يكون «تنميقا» او«زخرفا»‬ ‫بوا�سطة الكالم(‪ ،)15‬فهو م�سكن العامل مما يجعله قادرا على‬
‫‪.‬لذلك كله كان ال�شاعر احلقيقي هومن يلعب دور الو�سيط‬ ‫اجناز التذكر واملتخيل للك�شف عن احلقائق اجلوهرية‬
‫بني االلهة والب�رش فيتلقى االمارات القادمة من عامل‬ ‫بقدرات �شبه ال متناهية؛ في�صبح ال�شعر بهذه القدرات‬
‫اخللود ويقدمها للفانني»(‪ )20‬هذه هي املهمات التي حددها‬ ‫وال�سمات ن�شاطا مقد�سا يتمثل الوجود كله‪ ،‬ويف هذا‬
‫هيدغر لل�شعر‪ ،‬ا�ضفت اهمية على نبوءة ال�شاعر والق�صيدة‬ ‫ال�صدد يقول مي�شيل لريي�س‪« :‬كنت قد ا�صبحت ال ا ؤ�من‬
‫التي �شغلت اجلدل الفل�سفي منذ بداية اال�سئلة االنطلوجية‬ ‫ب�شيء(‪ )..‬ولكنني كنت �أتكلم‪ ،‬بارتياح عن املطلق وعن‬
‫الوجودية‪ ،‬وارتبطت هذه النبوءة يف الفل�سفة احلديثة بافق‬ ‫االبدي»(‪ )16‬ولهذا بدت الق�صيدة �شاردة يف اجتاه ا�ستيعاب‬
‫احلداثة ويف اجتاهني‪ :‬االول يرتبط بال�صياغةال�شكلية‬ ‫الوجود‪ ،‬وت�شكيل هذا الوجود الهارب من اليومية اىل اجلدل‬
‫الن�صية وا آلخر يف امل�ضامني واملو�ضوعات احلداثية التي‬ ‫الوجودي امل�صريي والباحث عن كينونة هذا الوجود‬
‫تك�شف ر ؤ�يا الفنان وال�شاعر ازاء ان�شغاالته الكلية وكذلك‬ ‫وماهيته‪ ،‬ف�أخذت الق�صيدة تنفتح على �آفاق متنوعة‬
‫‪69‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يت�ضمن ال�سريورة والعمل على �إدراك وفهم حدود العالقة‬ ‫ا�سئلته امل�صريية‪ .‬لقد ارتبطت ال�صياغات اجلديدة با�سئلة‬
‫مبا يحيط به‪ ،‬فيكون املوجود يف حالة �سريورة دائمة‪،‬‬ ‫احلداثة‪ ،‬و مبفهومات اللغة والدرا�سات الل�سانية احلديثة‬
‫وغري مكتملة لهذا فهو مت�سائل؛ وقلق ويبحث عن معنى‬ ‫منذ دو�سو�سري الذي اعطىامكانات كبرية للغة يف خلق‬
‫لوجوده فيقذف بنف�سه مع ا آلخرين على الرغم من متيزه‬ ‫االفكار واملعاين‪ ،‬ويف ك�شف العالقة بني اللغة والعقل‬
‫من اجل املعرفة التي هي قوة لهذا الكائن وبهذا يولد‬ ‫لذلك ال وجود لالفكار قبل اللغة فهي منتجا العامل؛ كما ان‬
‫املوجود اال�صيل ‪.‬‬ ‫الدرا�سات الل�سانية اكدت«احلقائق االجتماعية»و«اجلماعية‬
‫ومن �أ�سا�سيات الفل�سفة الوجودية فكرة التجاوز وتعني‬ ‫اال�سلوبية» التي ا�شار اليها دوركهامي(‪ )21‬التي هي الكيانات‬
‫«خروج املرء عن ذاته»(‪ )31‬وتعد هذه الفكرة من اهم �سمات‬ ‫التي ت�ؤلف اللغة ومن ثم فان «اجلماعية اال�سلوبية» ت�صب‬
‫املوجود اال�صيل الذي يح�س بالقلق يف تعامله مع ا آلخرين‪،‬‬ ‫يف اطار الالوعي املجتمعي النها تك�شف وعي اجلماعة ازاء‬
‫ألن ه�ؤالء ا آلخرين يفر�ضون عليه انتماءاتهم وت�صوراتهم‬ ‫الن�سق اللغوي الذي يتحدث فيه املجتمع‪ ،‬ويكتب فيه ‪ .‬لهذا‬
‫مما ي�ؤدي اىل فقدان حريته يف هذا الوجود الذي قذف به منذ‬ ‫يعد االنزياح «العدول عن الن�سق اللغوي يف ال�شعر تفردا‬ ‫التعامل مع اللغة‬
‫البداية دون ارادته؛ ومن ثم فانه يقيم عالقاته مع ا آلخرين‬ ‫ذاتيا ويت�ضمن مواجهة االن�سان» ال�شاعر املتفرد لذاته فهو‬
‫من خالل الر�ؤية‬
‫وهو م�سلوب االرادة؛ و�أن �إ�ستعادته لبع�ض �إرادته ت�سمح له‬ ‫وجود منعزل عن فر�ضية قدمية وكذلك عن املعاين القدمية‬
‫باخلروج عن ذاته‪ ،‬ويعد هذا التفاعل ظاهرة م�أ�ساوية بني‬ ‫وذلك لبناء فر�ضية ومعان جديد‪.‬‬ ‫احلداثية للعامل‬
‫الرغبة يف احلرية الكاملة؛ والرغبة يف التعامل مع ا آلخرين‬ ‫ان الوجود بو�صفه معيارا يقي�س عليه املوجود وجوده‬ ‫اق�صى الكثري‬
‫واالرادات التي تهم�ش حريته من ا آلخرين؛ فيكون البحث‬ ‫وافعاله وبيان ماهيته يرتبط بالزمن «االنوجاد» واحلدث‬ ‫من املفاهيم‬
‫عن االختيار قائما يف كل ما يعمل ويفكر فيه ب�أبعادها‬ ‫املنفتح دائما على التقدم اىل االمام(‪ )22‬وعليه اختلفت‬ ‫الالعقالنية‬
‫امل�أ�ساوية فـ«لي�س ثمة وجود ب�رشي دون العامل وبدون‬ ‫الكينونة «االنية» لالن�سانية عن �سائر الكائنات ا آلخرى‬ ‫التي كانت �سائدة‬
‫املوجودات ا آلخرى وهكذا جند ان معرفة العامل ومعرفة‬ ‫النها ترتبط بالتكوين املتعايل الذي هو امكان مركزي‬ ‫على الرغم‬
‫ا آلخرين مت�ضمنة بالفعل يف فكرة الوجود»(‪ )32‬وال�شك‬ ‫«لوجود الذات الفعلية»‪ )23(.‬ويبدو ان هذه االمكانية يف‬ ‫من ان ال�شاعر‬
‫ان االختيارات االنعزالية قد جتد تنفيذها يف فكرة اقامة‬ ‫ارتباط «الدازاين» حتمل طابعا ا�رشاقيا و�صوفيا‪ .‬بالت�أكيد‬ ‫يتعامل معها‪ ،‬بل‬
‫عالقة مع املوجودات واال�شياء والطبيعة الن االغرتاب‬ ‫املمتنع عن البيان الذي يظهر نف�سه بو�صفه عن�رصا‬
‫ان ف�ضاء ال�شعر‬
‫خيار ان�ساين وهدف يلج�أ اليه االن�سان‪ ،‬وهو يح�س بالي�أ�س‬ ‫�صوفيا(‪ .)24‬اما التكوين املتعايل فانه يتعلق بطريقة‬
‫من ا آلخر لذلك كان الكائن االن�ساين بائ�سا وممزقا بني‬ ‫املوجود االله‪ ،‬ومن ثم ي�سعى املوجود‪/‬الكائن اىل التجاوز‬ ‫هو الالعقالنية‬
‫رغبته يف العي�ش كونيا(‪ )33‬ورغبته يف التفرد‪.‬‬ ‫واالبالل من حلظة احلا�رض‪ )25(:‬ولهذا اعترب نيت�شه االن�سان‬ ‫واال�سطورية‬
‫اما خا�صية «اال�سقاط»(‪ )34‬فهي فكرة اخرى يف ت�شكيل‬ ‫مظهرا مر�ضيا للحياة(‪ )26‬فهذا التجاوز مثل دراما عظيمة‬
‫الكينونة وتعد عن�رصا ايجابيا ألن املوجود اال�صيل يقوم‬ ‫يف التاريخ وانتج ان�سانا قويا يعمل على جتاوز ذاته دائما‬
‫با�سقاط م�ستمر جلزء من وجوده يف العامل؛ ويف�ضي اىل‬ ‫فهو ال يحرتم الوجود ال�ضعيف‪� ،‬سواء اكان يف ذاته ام يف‬
‫خروجه امل�ستمر عن ذاته ومن ثم ي�سقط ذاته على ما يحيط‬ ‫الكائن املوجود فيه �أو املقابل له ‪.‬فهو ي�سعى اىل االن�سان‬
‫به‪ .‬وكان هيدغر قد طرح يف كتابه «الوجود والزمان»‬ ‫االعلى «ال�سوبرمان» ويلعب ال�شعراء دورا ا�سا�سيا يف ادراك‬
‫انواعا عدة من اال�سقاط كما يقول جون ماكوري منها‪.‬‬ ‫(‪)27‬‬
‫هذا االن�سان االعلى من خالل الرف�ض والنفي والعدم‬
‫«�إ�سقاط الذات» و�إ�سقاط الوجود «و�إ�سقاط الفهم» وا �سقاط‬ ‫وكان هيدغر قد ذهب مع ر ؤ�ية نتي�شه العدمية ف�أراد البحث‬
‫لالمكانات «وا�سقاط للمعنى» و�إ�سقاط للطبيعة «كما ان‬ ‫عن ماهية املوجود‪ ،‬وكينونته ا آلنية «الدازاين» ودجمها‬
‫هناك ا�سقاطا على االمكانات واملعنى والعامل…وهو‬ ‫يف �سريورة متطورة من الزمن الذي اعي�شه‪ ،‬وافعل من‬
‫الطرح اىل االمام او االلقاء اىل االمام فاملوجود الب�رشي‬ ‫خالله «الزمن خا�صتي» ومن ثم ا�صبح ال�س�ؤال االثري عند‬
‫يف جتاوزه لذاته يلقي بنف�سه اىل االمام يف امكاناته‪..‬وهو‬ ‫هيدغر(‪ .)28‬هو كيفية «االنوجاد» بتتابع لفاعلية املوجود‬
‫بهذه الطريقة ي�سقط املعنى ويبني عاملا مفهوما»(‪ )35‬وهذا‬ ‫فالكينونةيف اب�سط تعريفاتها امنا هى ال�سريورة والفاعلية‬
‫يعني ان اال�سقاط �شمويل يف تعامل املوجود مع مفردات‬ ‫واحلركة(‪ .)29‬فتبدو ت�سا ؤ�الت املوجود عن ماهيته‪ ،‬وماهية‬
‫احلياة ومفردات الوجود‪ -‬املختلفة ال�سقاط اخلا�صة‬ ‫الوجود من �أهم �أ�سئله الكينونة‪ ،‬النها تبني �صفات‬
‫«الدازاين» يف حتققها الفعلي الذي يتحلق حول نظم اال�شياء‬ ‫الوجودواملاهية التي «هي عملية حدوث‪ )30(..‬وهذا احلدوث‬
‫‪70‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫نيت�شه‪ ،‬ويلعب الفن واالدب دورا كبريا يف جتاوز هزمية‬ ‫واالدوات وعالقاتها وهو الذي يك�سبها املعنى ألنه ال‬
‫االن�سان ليخرج ظافرا منت�رصا(‪ )40‬لذلك وجد فيل�سوف‬ ‫يرجع اىل �شيء �آخر غري ذاته من هنا فان التحقق الفعلي‪-‬‬
‫االختالف‪/‬نيت�شه‪/‬ان الفن يحفز �إرادة القوة على الرغم من‬ ‫بو�صفه امل�صدر النهائي لكينونة املوجود اال�صيل‪ -‬ي�شمل‬
‫ان الفن يزيف الواقع ويخرفه وهذا التزييف واخلداع يجعل‬ ‫عالقته بالتذكر على الرغم من ان هذا التذكر يبدو غام�ضا‬
‫من االن�سان يف �سريورة دائمة للو�صول اىل العامل املفرت�ض‬ ‫وم�شو�شا‪ .‬وتبدو هذه اال�شكالية وا�ضحة يف عالقة الوجود‬
‫واملمكن التحقق «ان الفن يخرتع بال�ضبط اكاذيب ترفع‬ ‫بالزمن عند هيدغر(‪� )36‬إذ ان املوجدات االن�سانية وحدها‬
‫الزائف اىل تلك القوة االثباتية االعلى ويجعل من ارادة‬ ‫قادرة على معرفة ترابط احلياة وهي وحدها التي تتحا�سب‬
‫اخلداع �شيئا يثبت نف�سه يف قوة الزائف»(‪ )41‬ونخل�ص من‬ ‫مع املا�ضي وامل�ستقبل‪ ،‬مثلما تتحا�سب مع احلا�رض وال‬
‫هذا التحديد ملفهوم الفن اىل تفاعله مع الكينونة بو�صفها‬ ‫يتم احل�ساب �إال من خالل احلوار الذي يعد جوهرا يف‬
‫�سريورة وفعل جتاوز دائم ف�ضال عن اال�سقاط؛ وارادة‬ ‫الوجود اال�صيل النه يتعلق با آلخر‪ ،‬والعالقة معه؛ وقد اثار‬
‫القوة التي ت�سمح لالن�سان ان يعي ذاته‪ .‬وذهب هيدغر‬ ‫هذا احلوار اهتمام فال�سفة النظرية النقدية؛ النه يت�شكل‬
‫اىل حتديد ماهية العمل الفني من خالل درا�سة العمل يف‬ ‫من نظامني فا�ش�ستي ي�ؤدي اىل انحطاط القيم الفردية‬
‫ذاته وجوهره الداخلي للك�شف عن ارادة القوة وماهية‬ ‫وان�سحاب الفرد عن االختالف فاحل�ضارة ال�صناعية تلهي‬
‫الكينونة(‪ )42‬فاجلميل ينطلق من الوجود «فيتمظهر وهو‬ ‫الدازاين «عن ك�شف معنى العامل يف ذاته»(‪ )37‬مما ي�ؤدي‬
‫يحمل واقعا ي�صبح مو�ضوعا ثم تتحول املو�ضوعية اىل‬ ‫اىل االغرتاب الذي هو مف�صل �أ�سا�سي �آخر من مفا�صل‬
‫جتربة نعي�شها»(‪ )43‬ويت�ساءل «هيدغر» ماالذي يتم عمله‬ ‫الوجودية ‪�.‬أما النظام ا آلخر فهو النظام الدميقراطي الذي‬
‫يف العمل الفني؟ ليجيب «انه انفتاح املوجود على وجوده»‬ ‫اعاد االهتمام بقراءة الالوعي الذي يت�ضمن ال وعي الفرد‬
‫وهنا يجد ان البحث يف طبقات العمل الفني تعني � أ قتطاع‬ ‫واملجتمع وعالقته بدالالت الرغبة واللذة يف الال�شعور؛‬
‫حلم الوجود‪ ،‬ونب�ضه املتميز؛ ليجعله ج�سدا م�ستقال بذاته‬ ‫وموقع اجلن�س يف �آليات االغراءات احلديثة على اعتبار ان‬
‫منف�صال عن غريه من االج�ساد واالفكار‪ .‬وت�أخذ الكلمة‬ ‫موقع اجلن�س يك�شف عن داللة الفهم والتحوالت املختلفة‬
‫ماهيتها من خالل قدرتها على جتديد نف�سها؛ وانتاج‬ ‫للحياة(‪.)38‬‬
‫ت�سميات الوجود الذي مل ينوجد– بعد ولهذا يت�شكل عامل‬ ‫ان احلديث عن املوت والفناء املرتبطني بالكينونة‬
‫جديد يتناغم‪ ،‬ويعمل مع روح االن�سان وقلقه وت�أمالته‬ ‫فالبد من الت�أكيد � أن هاتني الق�ضيتني مهمتني يف ت�شكيل‬
‫ووعيه؛ ومن ثم تت�شكل كينونته التي هي ا�سا�س املوجود‪/‬‬ ‫املوجود اال�صيل �إذ ان املوجود الذي وجد نف�سه مقذوفا‬
‫الكائن اال�صيل‪.‬‬ ‫اىل احلياة دون ارادته ي�سعى لالختيار الذي يجعله قادرا‬
‫‪ .5‬لقد ان�شغل ال�شاعر العربي املعا�رص بق�ضية التكوين الذي‬ ‫على حتديد م�صريه وي�شعر بامل�س� ؤولية ازاء وجوده ومن‬
‫ان�ش�أها و�صورها على نحو فعال؛ ويبد� أ التكوين الوجودي‬ ‫ثم فان االجتاه نحو املوت والعدم ميثل تقريرا مل�صري‬
‫بالزمن؛ وينتهي بالت�سا ؤ�ل؛ واالمال يف البحث عن الوجود‬ ‫املوجود وفعله االيجابي يف الوقت نف�سه‪ .‬ولذلك تت�أ�س�س‬
‫والكينونة(‪ .)44‬فالتاريخ جزء من جتليات وعي االن�سان‬ ‫حلظة تراجيدية للتخل�ص من العدم على� أ�سا�س ان العدم‬
‫ال�سيما اذا كان التاريخ يخ�ص النوع الب�رشي والوجود‬ ‫يخلق االن�سان االعلى فقد ذهب نيت�شه اىل ان جتربة‬
‫الذي �أحاط بهذا النوع‪ ،‬و�شكل وعيه ببعده امليتافيزيقي‬ ‫التاريخ مكررة(‪ )39‬وال يحتمل هذه التجربة اال االقوياء‬
‫وبعده املادي ولهذا يطرح ال�شاعر م�رشوعة يف الت�سا ؤ�ل‬ ‫«االن�سان االعلى‪ -‬ال�سوبرماين» مما يجعل االن�سان القوي‬
‫عن ن�ش�أة الوجود لكي ينتمي اليه وليحاول اخلروج‬ ‫يتجاوز روح اخلنوع ويرف�ض اال�ستبداد من �أية جهة كانت‬
‫عليه يقول ادوني�س‪…« :‬فمن موت اال�شياء تبد� أ حياتها‬ ‫«ال�سلطة الدنيوية»و«ال�سلطة امليتافيزيقية» ويتمرد عليها؛‬
‫ومن موت االفكار تبد� أ احلياة‪ )45(»..‬وقد حمل ديوانه‬ ‫ومن ثم ي�سعى اىل جتاوز عبودية الفناء والعدم ‪.‬ان هذه‬
‫«مفرد ب�صيغة اجلمع» هذين املعنني؛ يف االنتماء االول‬ ‫ا آلفاق؛ واجلدل القائم يف الفل�سفة العدمية –عند هيدغر‪-‬‬
‫غري االرادي وا آلخر يف نفيه‪ ،‬والبحث عن والدة جديد‪،‬‬ ‫اكدت ازمة االن�سان املعا�رص املتج�سدة بالرغبة واالمال‬
‫واالنتماء اليه وعلى الرغم من قناعتنا ان ادوني�س تتبع‬ ‫واالحباط التي ت�شكله احل�ضارة ال�صناعية له‪ ،‬ولكن‬
‫الت�سل�سل الزمنيي على نحو حمافظ يف البداية؛ فان مفردات‬ ‫االن�سان ي�سعىاىل ال�سيطرة على الواقع من خالل دولة‬
‫الوجود واملوجود‪ ،‬الوالدة واحلب واملعرفة واملوت؛ �شتتت‬ ‫اجلمال والفن الرفيع «دولة ديوني�سو�س» علىحد تعبري‬
‫‪71‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرحب ولكن هذا العامل ‪/‬ي�صلب‪ /‬مع �صلب ال�شلمغاين‬ ‫الوعي والت�سل�سل التاريخي اىل قراءة خا�صة ال ميكن ان‬
‫وتبقى م�سرية القلق وال�س�ؤال م�رشعة ويظل التجاوز م�ستمرا‬ ‫تكون حمافظة‪ ،‬ومن ثم جتعله يف خ�ضم ت�سا ؤ�الت كثرية‬
‫لينتج �سريورة ر�أى جديد من خالل القرمطي وال�شك ان هذا‬ ‫ومتنوعة؛ ففي م�شهد «التكوين‪ -‬تخطيطات» يبد� أ ال�شاعر‬
‫الن�سب يرتبط بالثورة فيتحول من(علي) اىل(ادوني�س) ‪.‬‬ ‫بان�شقاق االر�ض وال�سماء‪..‬‬
‫وميثل هذا التحول انقطاعا من جهة وتوحدا من جهة اخرى‬ ‫«مل تكن االر�ض ج�سدا كانت جرحا‬
‫اذ ان (علي) يرمز اىل التق�شف والعدالة وال�شجاعة واالبداع‬ ‫كيف ميكن ال�سفر بني اجل�سد واجلرح‬
‫ومن خالل االبداع تتوحد رموز (علي) و(ادوني�س) ان‬
‫[‬ ‫(‪)46‬‬
‫كيف متكن ا إلقامة؟»‬
‫االنقطاع يرتبط بالتتبع التاريخي املحافظ الذي ي�صور‬ ‫و�أخذ اجلرح يتحول اىل ابوين وال�س�ؤال ي�صري ف�ضاء‬
‫مفردات الوجود االوىل؛ القذف اىلهذا العامل دون �إرادة‬ ‫« خرج علي‬
‫(علي) الطفل‪.‬‬ ‫ي�ست�صحب‬
‫« اخرج اىل الف�ضاء �أيها الطفل‬ ‫�شم�س البهلول دفرت اخبار تاريخا �رسيا للموت» وي�ستمر‬
‫(‪)47‬‬

‫�سمي �شقق الكالم‬ ‫التتبع التاريخي لي�شكل الوعي االول لالن�سان‪ ،‬فيبد� أ الكائن‬
‫(‪)50‬‬
‫لكن ا�سماءه غام�ضة»‬ ‫يف ال�س�ؤال عن القيم الدينية‪.‬‬
‫ثم يتوحد عندما يعرف االبداع من خالل �إطالعه على‬ ‫«ر�أيت �سجنا يقال له مو�سى وقيل بول�س وقيل م�صطفى‪/‬‬
‫املذاهب وامللل او يحدد الر ؤ�ية يقول القرمطي‪:‬‬ ‫فيه ا�شخا�ص يبكون ت�سيل عيونهم جداول ر�أيت مراكب‪/‬‬
‫«انا النور ال �شكل يل ‪/‬وقال‪�/‬أنا اال�شكال كلها‪� /‬سمع‬ ‫(‪)48‬‬
‫جتري»‬
‫(‪)51‬‬
‫�أدوني�س‪/‬ورفع �ساعديه متجيدا»‬ ‫وت�أخذ املذاهب باالن�شقاق؛ وتتعدد ا آلراء‬
‫وهكذا يكون العامل ‪/‬اخل�صب «�أدوني�س» �إذ يتمزق الوجود‬ ‫«يفتي الفقهاء‪ . . . . . . .‬ي�صلب ال�شلمغاين ويحرق‬
‫اىل �شظايا‪ ،‬ألن هذه ال�شظايا هي ا�سا�س اخل�صب والنمو‪،‬‬ ‫يكون من مذهبه‬
‫والتكوين‪ ،‬فين�شغل الوجود ب�أ�سئلة وا�سعة‪ ،‬التقف عند حدَ‬ ‫اـ‪.‬اهلل يحل يف كل �شيء‪.‬‬
‫يف الوجود كله‪ ،‬والقلق كله‪� ،‬إال �أنه ي�صل اىل قناعة يقينية‪،‬‬ ‫ب ـ‪.‬خلق ال�ضد ليدل على امل�ضدود‬
‫فهو النبي الذي ينبغي االميان به‪ ،‬النه يطرح تاريخه من‬ ‫حل يف ادم ويف ابلي�س النا�س‬
‫خالل زمنه اخلا�ص وكما يقول نيت�شه‪ ،‬ان القوة يف ن�سيان‬ ‫ج‪.‬ـ ال�ضد �أقرب اىل ال�شيء من �شبهه‬
‫املا�ضي‪ ،‬فاالن�سان جاء �صدفة‪ ،‬و�سمي �صدفة‪ ،‬وعا�ش يف‬ ‫دـ‪.‬اهلل يف كل �أحد باخلاطر الذي يخطر بقلبه‬
‫جتربة تقرتح ال�صحيح‪ ،‬وترتكب اخلط�أ‪ ،‬ولكي يح�سب موقفه‬ ‫ه ـ‪ .‬اهلل ا�سم املعنى‬
‫اليقيني �إزاء احلياة‪/‬الوجود‬ ‫وـ‪.‬من احتاج اليه فهو �آله لهذا املعنى ي�ستوجب‬
‫« يعطي وقتا ملا يجيء قبل الوقت‬ ‫كل احد اني�سمى �إلها‬
‫(‪)52‬‬
‫ملا ال وقت له‪/‬يجرهو العار�ض‪/‬ويغ�سل املاء»‬ ‫زـ‪.‬مالك من ملك نف�سه وعرف اجلن‬
‫ووعيا ملاهية الق�صيدة يلج�أ ال�شاعر اىل اللحظة �أو البنية‬ ‫ويقول ال�شلمغاين‪---‬‬
‫ال�رصاعية بني‪/‬االنا‪ /‬االنا‪/.../‬االنا‪/‬الوجود‪/‬الوجود‪/‬‬ ‫‪-‬اتركوا ال�صالة وال�صيام وبقيةالعبارات‬
‫هناك‪ ../‬فهو ال ينتظر من ا آلخر االنتماء اليه ولكنه يعي‬ ‫ال تتناكحوا بعقد‬
‫�أنه يحاول معرفة نف�سه وا آلخر؛ لذلك تبدو هذه اليقينية‪،‬‬ ‫�أبيحوا الفروج‬
‫�رصاعية بني االنا‪/‬االنا التي ي�شكلها (االنا ا آلخرى)بالوجود‬ ‫لالن�سان �أن يجامع من ي�شاء‬
‫املقابل له لهذا يختزن كل الزمن العام من خالل التاريخ‬ ‫ويقول ال�شلمغاين‪---‬‬
‫والزمن‪ /‬خا�صتي‪/‬ومن خالل معرفة التجربة التاريخية‬ ‫اقر�أوا كتابي— احلا�سة ال�ساد�سة يف ابطال ال�رشائع‬
‫واملذاهب التي ولدت يف هذه التجربة‪ .‬ومعرفة من�شقيه‬ ‫اجلنة ان تعرفوين‬
‫مثل (ال�شلمغاين) ومن ثم �أختزان هذه التجربة واختزالها‬ ‫(‪)49‬‬
‫النار ان جتهلوين …»‬
‫يف وعيه لت�شكيل كينونته يف الكائن املن�شق‪/‬الهام�شي‬ ‫هذا املوجود‪/‬الكائن ال�شلمغاين وجد نف�سه عقال �أعلى‬
‫الذي يطرح ر ؤ�يته التي ت�سعى اىل ت�شكيل عامل جديد‪ .‬ان‬ ‫يرف�ض ال�سائد وامل�ألوف والعرف ويحاول �إيجاد عامل‬
‫هذه الكينونة والقلق عند �أدوني�س‪ .‬جتعله �شاعرا �آخر ي�سعى‬ ‫جديد متحى فيه القيود واحلدود لالنطالق اىل عامل احلرية‬
‫‪72‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫«�أنت وحيد‪ /‬يف و�سعك �أن تت�سلى بي حقبا �أخرى‪/ ،‬لكنك‬ ‫اىلمعرفة وعي كينونة املوجود من خالل معاينة �شظايا‬
‫باتت م�ضجرة‪/ ،‬واملدة طالت‪/ ،‬‬ ‫ما عدت تريد‪/.‬فاللعبة ْ‬ ‫تاريخه لعلها تعينه على ادراك زمنه املتكرر ‪/‬زمن الكائن‬
‫أ‬
‫تتمنى �أن تتحرر مني ‪/‬لكنّك م�شدود‪/‬بي‪/ ،‬وبقيدي‪ ،‬ولنك‬ ‫االن�ساين كله «رجل يت�سلى مبا جمعت يده من �شظايا‬
‫موجود‪/‬بوجودي‪/ ،‬تتهيب انهاء اللعبة‪/ ،‬وحتاذر �أن‬ ‫تواريخه‪/ ،‬ثم يلقي بها يف �أتون ‪«.‬رجل يتجمع يف رجل‬
‫(‪)56‬‬
‫ينفرط العنقود»‬ ‫كان يحبو هنا قبل �سبعة �آالف عام‪ ،‬ومل يبق منه �سوى‬
‫اما ال�شاعر قا�سم حداد فان له يقينيه من اخلارج يف‬ ‫قوله ‪ :‬من اكون؟ «رجل يت�سلى به زمن دائري‪ »،‬يدور به‬
‫ق�صيدته الطويلة (القيامة)‬ ‫حيثما دار‪« ،‬يورثه ال�شك يف نف�سه»…واجلنون»(‪)53‬ولهذا‬
‫لقد ان�شغل‬ ‫بدءا بالزمن التاريخي االول لالن�سان؛ ذلك االن�سان الذي‬ ‫يبدو الوجود ك�أنه لعبة تتكررفيها التجارب التي يعمل‬
‫ال�شاعر العربي‬ ‫وحده يتحا�سب مع املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل الدراك‬ ‫املوجود كل عمره وهو يبحث فيها من اجل ادراكهاومعرفة‬
‫املعا�صر بق�ضية‬ ‫كينونته‪.‬‬ ‫�أ�رسارهاومعرفةنف�سه وكينونته من خاللها‪ ،‬فيظل الت�ساءل‬
‫التكوين الذي‬ ‫( فدخلت ‪/‬دخلت و�رصت جميع االوقات معا‪ /‬و�شعرت باين‬ ‫م�ستمرا ولكنها لعبة وتظل كذلك‪ ،‬فال�شاعر �سامي مهدي‬
‫ان�ش�أها و�صورها‬ ‫بدء مل يبد� أ ‪�/‬رصت جنينا طفال‪ /‬والرجل الكهل ال�شائخ‬ ‫يك�شف ال�رصاع مع ن�صفه ا آلخرالذي يالحقه ويظل ي�س�أله‪:‬‬
‫على نحو فعال؛‬
‫(‪)57‬‬
‫�رصت ‪/‬وك�أين مل اولد بعد‪/‬ولي�س املوتى وعد»‬ ‫«يف طريقي اىل البيت �أح�س�ست �أن هناك من يتابعني يف‬
‫فيحاول معرفة نف�سه وا آلخر لتبدو اليقينية �رصاعية بني‬ ‫الظالم وتقفو خطاه خطاي‪/‬فتعرثت من فزع‪/ ،‬وتلفت‪،‬‬
‫ويبد� أ التكوين‬
‫ا ألنا‪/‬ا ألنا التي ي�شكلها ‪/‬ا ألنا ا ألخرى‪ /‬فيلج�أ ال�شاعر اىل‬ ‫�سواي‪/‬م ْن يكون �سواك؟م ْن‬ ‫لكنني مل �أجدْ �أحدا يف الطريق ْ‬
‫الوجودي‬ ‫احلذف والتلخي�ص الزمني النه يدرك اثر االزمنةيف تكوينه‬ ‫املريب؟م ْن‬ ‫له مثل هذا احل�ضور املراوغ‪/ ،‬هذا الف�ضول‬
‫بالزمن؛ وينتهي‬ ‫ْ‬
‫وانها مت�سلطةعليه‪ ،‬ولكنه يحاول ان يجعلها معينة له‪،‬‬ ‫يكون �سواك»؟!‬
‫بالت�سا�ؤل؛‬ ‫ت�ساعده على معرفة تكوينه من خالل العرف وامليثولوجيا‪،‬‬ ‫�أنت تعرفني فوق ما �أنا �أعرف نف�سي‪/ ،‬ففيم متثل‬
‫واالمال يف البحث‬ ‫ف�ضال عن وعي العلم فهو نطفة ثم جنني وطفل ويدرك‬ ‫دورالرقيب‪/‬وتالحقني حيثما �رست‪ /،‬تزحمني يف‬ ‫ْ‬
‫عن الوجود‬ ‫ان املوت وعد عليه وهكذا تت�شكل الكينونة بجعل االن�سان‬ ‫الطريق‪ ..‬ويف البيت‪/..‬يف حجرتي‪..‬يف �رسيري‪/..‬وت�ؤرقني‪/‬‬
‫والكينونة‪.‬‬ ‫باحثا عن يومياته لت�سجيلها لعلها ت�سهم يف �شغل املكان‬ ‫وتقا�سمني �أرقي ك�ضمريي‪/‬وت�سابقني‪ ،‬حني �أغفو‪ ،‬اىل‬
‫فالتاريخ جزء‬ ‫الذي يعي�شه وبا�ضاءة فردية فيو�سف ال�صائغ يتابع زمنه‬ ‫حلمي‪/‬وتطاردفيه ر ؤ�ى ك ّل طيف جميل ؟‪�/‬أنت ل�ست‬
‫من جتليات وعي‬ ‫اخلا�ص املرتبط با آلخر فهذا الزمن يختلف عن زمن �أية‬ ‫�رشيكا يطالبني بن�صيب له يف ف�ضاء حياتي‪/‬وال �شبها‬
‫�شخ�صية اخرى فهو ثنائي ‪ //‬كوين– فردي‪//‬‬ ‫يل ينازعني يف خ�صائ�ص ذاتي‪/..‬فلتدعني وما �أنا �أختاره‬
‫االن�سان ال�سيما‬
‫«نافذة يف ال�رشفة املفتوحة‪/‬تتطلع عرب ال�شارع‪/‬لل�شباك‬ ‫(‪)54‬‬
‫من �سبي ْل‪/‬تنتهي بي �إليك وتدخلني‪ ،‬راغبا‪ ،‬يف حماك‪».‬‬
‫اذا كان التاريخ‬ ‫املغلق يف بيت اجلريان‪/‬مي�ضي يومان‪ ..‬يف اليوم الثالث‪/‬‬ ‫فتبدو البنية ال�رصاعية يف الق�صيدة وا�ضحة باالنق�سام بني‬
‫يخ�ص النوع‬ ‫ينتبه ال�شباك املغلق‪/‬يخرج من جيبه زورق‪/..‬يرميه‬ ‫ذات ووجود �شاخ�ص‪/‬جم�سد وذات كلية تبحث عن حقيقتها‬
‫الب�شري والوجود‬ ‫للنافذة املفتوحة يف بيت اجلريان‪/‬لكن الزورق‪/‬ي�سقط يف‬ ‫ولكنها غري م�شخ�صة ولكنها باحثة ‪..‬فتبدو يل ان هذه الذات‬
‫الذي �أحاط بهذا‬ ‫النهر ويغرق‪ ..‬ت�أكله اال�سماك‪/…/‬يف اليوم الرابع ‪/‬يخرتع‬ ‫تك�شف �سوءات الكائن ال�شاخ�ص ولكن مع كل هذه ال�سوءات‬
‫النوع‬ ‫ال�شباك‪/..‬طيارة يبعثها للنافذة املفتوحة عرب اال�سالك‪/..‬‬ ‫فان «الدازاين» �أو الذات احلقيقة هي التي تفر�ض وجودها‬
‫لكن ‪�..‬صبيان احلارة‪/‬ي�صطادون الطيارة‪ /..‬فتموت‪..‬‬ ‫(تنتهي بي �إليك وتدخلني راغبا يف حماك) النها هي‬
‫وتبقى جثتها يف ال�شارع‪/..‬دون حراك‪/…/‬يف اليوم‬ ‫املت�سائلة ومن ثم هي التي تدرك كينونتها اوحتاول ذلك‪.‬‬
‫(‪)58‬‬
‫اخلام�س عند الفجر‪/..‬تتعلق بني النافذةاملفتوحة»‬ ‫وتتطور الذات الكلية اىل ذات كليةميتافيزيقية متعالية من‬
‫فنلحظ خ�صو�صية زمنه ووعيه الداخلي الذي يجعله جزءا‬ ‫هنا تكون الق�صيدة (امتحان) ال�رصاعية‬
‫من ال�شباك بتاريخه وزمنه فاال�سبوع كله انتظار عبثي؛‬ ‫«ال تكلني ل�سواك‪�/‬أنا ما جئتك �إال ألراك‪�/‬نت‪ ..‬كي ت�سمع‬
‫أ‬
‫فعلى الرغم من احلركة ال�رصاعية املفاج�أة التي جعلت‬ ‫مني‪ ،‬وترى كم هدّين احلزن‪/‬وترى خيب ظني‪/‬فيك عمالك‬
‫اال�ستعاره تتكرر يف «انتباه ال�شباك‪/‬واخرتاع ال�شباك‪»/‬‬ ‫(‪)55‬‬
‫‪/‬حتى مل �أعدْ �أعرف ما ير�ضيك عني‪».‬‬
‫فان ثمة ا نك�سارا م�أ�ساويا قد حدث ال�سيما ان عبث‬ ‫ولكن املوجود �رسعان ما ميل ويدرك �أن الوجود ما هو اال‬
‫االطفال قتل الب�شارة ‪/‬الطيارة ولكن امل�أ�ساة ا ألكرب هو‬ ‫لعبة م�ضجرة �أما ملاذا هذا ال�ضجر فالن املوجود يتعب من‬
‫ما جرى خلف ال�شباك اذ حتولت‪/‬زهرة الزنبق‪/‬اىل �شوك‬ ‫ا أل�سئلة‪ ،‬واليجد بدا اال يف احلوار مع الذات املتعالية‬
‫‪73‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف احلقيقة ايجابي جدا النه يك�شف الق�سم الذي ي�ستحق‬ ‫‪.‬ويرتك الراوي الت�أمل قائما فهل ان �سيطرة ال�سلطة االبوية‬
‫ان ندافع عنه يف االن�سان»(‪ )61‬وهذا ا ألمر جنده يف هذه‬ ‫اخذت دورها يف حتويل زهرة الزنبق اىل �شوك �أ�سود؟‬
‫الق�صيدة‪ ،‬فهي وان انتهت اىل ال�سلبية‪ ،‬ولكنها اكدت التمرد‬ ‫وانتزعت الزهرة‪ ،‬وو�ضع ال�شوك بدال عنها داللة االنتقام‪،‬‬
‫الدراك كينونة االن�سان املتمرد ولذلك وجدت الق�صيدة‬ ‫وهل اجلانب ا آلخر ترك هذه اللعبة الكربى يف عالقة الرجل‬
‫نف�سها تعي�ش �رصاع الرف�ض والنفي والعدم من خالل‬ ‫باملر�أة ؟ اذ من غري املمكن ان ي�ؤول ا آلخر «خلف ال�شباك»‬
‫حادثة التاريخ والق�ص�ص الديني واالندماج مع فرادة‬ ‫ذكرا ‪ .‬هذه الثنائية ت�شكل بعدا ت�أمليا عميقا‪ .‬اذ ان القارىء‬
‫ا ألنبياء «متى ميهلنا اجلالد وال�سوط املدمى؟» هذا ال�س�ؤال‬ ‫وال�شاعر يذهب اىل دراك كينونة ال�صدفة وماهيتها فهذا‬
‫االزيل �س�ؤال البحث عن الكينونة على الرغم من �سلطة‬ ‫حتول من االمل اىل العدم ولكنه يظل يبحث عن امل�سمى‬
‫اجلالد‪� ،‬س�ؤال البحث عن ماهية التاريخ‪ .‬ويظل ال�س�ؤال‬ ‫اجلديد الذي ي�سمح لالن�سان بلملمة �أجزائه او لنقل حماولة‬
‫حمريا يف ف�ضاء مغلق‪:‬‬ ‫التعرف علىمفردات وجوده فال�شاعر يو�سف اخلال يقول‪:‬‬ ‫الرف�ض والتمرد‬
‫«ومتى يخجل م�صباح اخلفري‪ /‬من خمازي العار ‪ /‬ومتى‬ ‫« يف هذا اجلو اخلانق ماذا تفعل؟ تلوي عنقك كالوردة‬ ‫من �صفات‬
‫(‪)62‬‬
‫يحت�رض ال�ضوء املقيت‪ /‬وميوت‪»/‬‬ ‫الذابلة‪ /‬تت�سقط االخبار من هذه االذاعة وتلك‪ /‬تتامل يف‬ ‫القوياء التي‬ ‫أ‬
‫ولكن الذي ميوت هو االن�سان‪ /‬ا ملوجود املعذب ويف هذا‬ ‫ال�صحف وتقر� أ ك�أَنك ال تقر� أ �شئيا‪ /‬تنام لت�صحو على حرير‬ ‫ت�شكل �سمات‬
‫املوت ال جند حياة جديدة « كل ما�أعرفه اين اموت ‪/‬م�ضغة‬ ‫االبواب وحفيف الهواء «على اجلدران» ت�أكل وت�رشب على‬ ‫املوجود أ‬
‫ال�صيل‬
‫تافهة يف جوف حوت»(‪ )63‬ألن القوة واجلربوت واملعرفة‬ ‫طرف ل�سانك طعم‬
‫لها القدرة على اال ق�صاء ومع ذلك فان االق�صاء �سمح‬ ‫(‪)59‬‬ ‫أ‬
‫الرماد‪ /‬حتامق وك�نك الت�سمع»‬ ‫الذي ال يقبل‬
‫لل�شاعر �أن يغور يف �أعماق ذاته‬ ‫فتنثال احلكمة امل�أ�ساوية التي تعلن ا�ستقالة االن�سان‬ ‫ال�سيطرة‬
‫« متى يحت�رض ال�ضوء املقيت ألنه لي�س �ضوءا متقدا قادرا‬ ‫ومتنعه عن ال�س�ؤال مبعنى تاريخي كما كان احلال عند‬ ‫والتهمي�ش‬
‫على تبديد الظلمة ال�شاملة فهو يعلم يقينا انه يف جوف‬ ‫ادوني�س يقول يو�سف اخلال‪« :‬فمن ا�صول اللعبة ان تقول‬ ‫والق�صاء‪.‬فهناك‬ ‫إ‬
‫(‪)64‬‬
‫احلوت يف جو جحيمي ال�سعري»‬ ‫نعم اوال‪ .‬فتبقى كاحلاجز املتنقل ال تعرف بو�صفه اال اذا‬ ‫القوياء‬ ‫دائما أ‬
‫وي�ضيف د‪.‬اح�سان عبا�س « انه مهما يبلغ االن�سان من‬ ‫�شئت وانت طبعا ال ت�شاء ألن امل�شيئة عبء وانت بطل ال‬ ‫وال�ضعفاء واذا‬
‫تطور فالبد ان يظل ال�رصاع م�ستمرا بني زمن تاريخي‬ ‫كاالبطال فال تريد ان حتمله بالعر�ض وال بالطول»(‪)60‬هذا‬ ‫ر�ضي االن�سان‬
‫(‪)65‬‬
‫واقعي وزمن ال نهائي ي�سمى اخللود»‪.‬‬ ‫االلغاء من جهة والطاعة من جهة اخرى اعالن على‬ ‫ب�ضعفه ا�صبح‬
‫ويبدو يل ان خلق دائرة االمل يف هذه الق�صيدة يعتمد على‬ ‫رف�ض هذا اال�سلوب احلياتي واالمالء لف�ضاءات املكان فهو‬ ‫�سلعة أ‬
‫للقوياء‬
‫التمرد ازاء العدم بو�صفه –هنا‪ -‬فعال �سلبياوتعود هذه‬ ‫يرف�ض الكينونة التي تفر�ض وجودها النه يريد ان يعي�ش‬
‫أ‬
‫وال�شرار‬
‫الر ؤ�ية عند خليل حاوي اىل ر ؤ�ية دينية يقينية‪ ،‬وحينما‬ ‫ال�سريورة والت�شكل‪ ،‬ويف هذا االطار تت�شكل �سمة وجدناها‬
‫يريد ان ت�ستمر دائرة ال�ضوء ينطلق من ر ؤ�ية دينية اي�ضا‬ ‫عند ادوني�س اي�ضا وهي اليقينية التي ت�شبه احلكمة‪،‬‬
‫(‪)66‬‬
‫ليقف عند لعازرالذي يظل خالدا وهو خلود ديني‬ ‫والنها يقينية خا�صة فانها تنفتح على ا آلخر عند يو�سف‬
‫ان اجلدل وجتربة العدم عند حاوي تنه�ض على التاريخ‬ ‫اخلال املهتم بالق�صيدة الوظيفة ‪/‬االطروحة‪ ،‬ومن ثم هي‬
‫واال�سطورة كونهما م�صدرا حلقيقية النور ومتطلباته‬ ‫�رصاعية بني ا ألنا‪/‬ا ألنا عند ادوني�س وا ألنا ‪/‬ا آلخر عند‬
‫اال�سا�سية لر ؤ�ية ينابيع التكوين واذا كان �إ�سقاط التاريخ‬ ‫اخلال بر� ؤيته الوظيفية‪.‬‬
‫وتهمي�شه من �سمات احلداثة على نحو عام وابعاده عن‬ ‫�أما خليل حاوي فانه يكت�شف كينونته يف التاريخ والرحلة‬
‫ت�شميل ر ؤ�ية احلا�رض وامل�ستقبل فان �أدوني�س واخلال‬ ‫على النحو ميثل التفرد الذي يقوم على االبداع ال�شعري‬
‫وحاوي وهم ي�ستوعبون نور التاريخ و�إيجابياته و�سلبياته‬ ‫الذي يدرك ابعاد املا�ساة الكربى للفرد‪ .‬ففي ق�صيدته‪/‬‬
‫امنا يعملون على ت�شتيت ال�صورة واحلدث التاريخي اىل‬ ‫يف جوف احلوت‪ /‬يجد ال�شاعر نف�سه بني اجلالد وال�سوط‪.‬‬
‫مفردات وجدانية و�شخ�صية لتكون متثيال للوجود من جهة‪،‬‬ ‫يرويها بق�صة ق�صرية جدا‪/‬ميكرو حكاية‪/‬ولكنها ت�ستوعب‬
‫وللوجود الفردي من جهة �أخرى؛ وهذا ما يتناوله �سامي‬ ‫جدل الوجود كله‪ ،‬االذعان والتمرد فق�صة نبي اهلل يون�س ‪/‬‬
‫مهدي الذي يقول‪:‬‬ ‫ع‪ /‬تعد جزءا من جتربة االن�سان وكينونته امام اليقني من‬
‫« ك ّل �شيء له حني ن�صغي رنني‬ ‫جهة‪ ،‬وال�شك والتمرد من جهة �أخرى ازاء القدرة العليا «ان‬
‫هذه الباب‬ ‫التمرد الذي يبدو �سلبيا يف الظاهر ألنه ال يخلق �شيئا هو‬
‫‪74‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كينونة املوجود الذي يندمج مع ا آلخر من خالل مفهوم‬ ‫هذا اجلدار‬
‫‪/‬التجاوز ‪ /‬لالنطالق اىل عهد جديد يف التكوين‪.‬‬ ‫ذلك الرجل املتعرث يف خطوه‬
‫« اوقفني عند (عقد الن�صارى) املحقق‪..‬‬ ‫والدم املتقطر من منكبيه‬
‫كنت اقول له‪.‬‬ ‫وما يف ر�أ�سه من دوار‬
‫‪-‬وطني …‬ ‫و�صباه‪..‬‬
‫في�شتمني‪..‬‬ ‫وتلك التي انتظرته طويال‬
‫فا�رصخ‪.‬‬ ‫ثم تلك‬
‫‪-‬باخللد عنه‪..‬‬ ‫اقتطفته على غفلة منه‬
‫وي�رضبني…‬ ‫وا�ست�أثرت ب�شذاه‬
‫فاهتف‪.‬‬ ‫ومبن �أجنبت من بنني‪.‬‬
‫‪-‬بال�سجن‪..‬‬ ‫كل �شيء له حني ن�صغي رنني‬
‫(‪)69‬‬
‫�صاح –خذوه اىل ال�سجن»‬ ‫وهو ا آلن بعد انق�ضاء ال�سنني‬
‫فهذا التلميذ الذي حتول بفعل املعلم اىل �سجني‪ ،‬يوا�صل‬ ‫مثل كلب عجوز‬
‫ح�ضوره لي�شكل ذاتا لتجاوز نف�سه اىل حب ا آلخرين ويربط‬ ‫ينحونه عن جمال�سهم فيويل بعيدا‬ ‫ّ‬
‫م�صريه مع ا آلخرين باختيار حر‬ ‫ويقعي على معزل يف الطوار‪..‬‬
‫« حني قال املعلم (قم)‬ ‫‪..‬وهواخلط�أ االول املتكرر يف كل حني‬
‫ربت االر�ض‬ ‫والرنني الذي حني �أ�صغي �إليه‬
‫وانتزعت من عراها الوثاق‪.‬‬ ‫(‪)67‬‬
‫بدا كا ألنني‪».‬‬
‫حني قال املعلم ( قم)‬ ‫واجد ان هناك مفردات عند �شعراء احلداثة العرب ت�شحن‬
‫قام الطفل‬ ‫بكل �صور الفرادة لتعرب عن الكينونةوالوجود كله وك�أنها‬
‫(‪)70‬‬
‫وخط على اللوح (عا�ش العراق»)‬ ‫تلخ�ص هذا الوجود ولهذا ت�أخذ الكلمة يف الق�صيدة احلداثية‬
‫فكانت القوة واملعرفة جزءا مهما من تكوين املوجود‬ ‫ا�ستقاللهاالوجودي‪ ،‬فكانت مفردة ‪/‬املعلم‪ /‬يف ق�صيدة‬
‫بفرادته والتفاعل مع الوجود من خالل الكلمة التي متثل‬ ‫يو�سف ال�صائغ قد عربت عن هذا الوجود‪..‬‬
‫الوجود كله لهذا كانت الكلمتان ‪/‬رف�ضت وانف�صلت ‪ /‬عند‬ ‫« كان �صوت املعلم ي�سبقنا‪.‬‬
‫ادوني�س ا�ستمرارا الثر املعلم يف تكوين الذات وطريقة‬ ‫‪-‬وطني لو �شغلت ‪..‬‬
‫للتمرد فكلمة ‪/‬املعلم—التلميذ‪/‬ادت اىل ان تكون رحلة‬ ‫ونحن نردد‬
‫ك�شف للذات من خالل اخلروج والتفاعل مع م�سميات‬ ‫‪-‬باخللد عنه‪..‬‬
‫جديدة وعامل جديد و�شامل ‪/‬مثل املاء والهواء‪./‬‬ ‫في�صغي الينا ‪..‬‬
‫« ودعني جربيل وقال ( حدَ ث مبا رايت)‬ ‫ومي�سح دمعته‪ ،‬بارتباك‪،‬‬
‫(‪)71‬‬
‫واختفى الرباق»‬ ‫فن�ضحك‪..‬‬
‫ثم يقول ‪ «..‬رف�ضت وانف�صلت‬ ‫اهلل…‬
‫النني اريد و�صال �آخر وقبوال �آخرمثل‪-‬املاء والهواء‪/‬يبتكر‬ ‫يبكي…ون�ضحك‪..‬‬
‫االن�سان وال�سماء‪/‬يغري اللحمة وال�سداه والتلوين‪/‬ك�أنه‬ ‫حتى ي�ضيق بنا ‪..‬فيهم�س‬
‫(‪)72‬‬
‫يدخل من جديد‪/‬يف �سفر الن�ش�أة والتكوين»‬ ‫‪-‬ما بالكم ت�ضحكون ‪..‬‬
‫هذا الرف�ض والتمرد من �صفات االقوياء التي ت�شكل �سمات‬ ‫�أيها اال�شقياء ال�صغار‪..‬‬
‫املوجود اال�صيل الذي ال يقبل ال�سيطرة والتهمي�ش وا إلق�صاء‪.‬‬ ‫�سي�أتي زمان‪..‬‬
‫فهناك دائما ا ألقوياء وال�ضعفاء واذا ر�ضي االن�سان ب�ضعفه‬ ‫وا�شغل عنه‪..‬‬
‫للقوياء وا أل�رشار يقول نيت�شه‪:‬‬‫ا�صبح �سلعة أ‬ ‫(‪)68‬‬
‫وانتم �ستبكون‪»..‬‬
‫«هناك اقوياء و�ضعفاء م�سيطرون وم�سيطر عليهم طيور‬ ‫هذه الكلمة ‪/‬املعلم‪/‬ت�أخذ م�ساحة الزمن‪ /‬خا�صتي‪ /‬كله‬
‫كا�رسة وحمالن بينهم �صالت مادية غاب عنها ك َل عن�رص‬ ‫فهي التي �أنبتت اجلراح واالمل والقلق والت�أمل لت�شكل‬
‫‪75‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سابقة على الرغم من تلك الرحالت �شكلت‪/‬اختبارا‬ ‫�أخالقي وهي �صالت احلياة ذاتها وهناك �صالت بني‬
‫تر�شيحيا‪/‬و�صل من خاللها اىل املعرفة والقوة يف‬ ‫ا ألنواع»(‪ )73‬وقد و�صف �رسكون بول�ص �سريورة الفعل الذي‬
‫رف�ض الوجود القدمي والبحث عن �سريورة جديدة فيدرك‬ ‫ي�ؤرخ ت�أريخ ا ألقوياء وال�ضعفاء ولي�صور من خالله ت�أريخ‬
‫هذه ال�سريورة بالب�شارة التي يعلن عن متكنه من معرفة‬ ‫الكينونة يف ق�صيدته ‪/‬يف تلك االيام‪/‬‬
‫تبا�رشيهااالوىل‪..‬‬ ‫«يف تلك االيام وهم يحملون العاريات على املحفات‪/‬كانوا‬
‫«عدت اليكم �شاعرا يف فمه الب�شارة‪/‬يقول ما يقول‪/‬‬ ‫يجرفون العبيد بال�شباك من االنهار ليال وحتت‪/‬غطاء من‬
‫بفطرة حت�س مايف رحم الف�صل‪ /‬تراه قبل ان يولد يف‬ ‫اال�رسار ‪/…/‬الطاعة حتت يد ال تق�سط منها‪/‬ك�أ�س الرمل‬
‫الف�صول»(‪)78‬وهكذا يبحث نامق عبد ذيب عن هذه الب�شارة‬ ‫(‪)74‬‬
‫�إال غ�صبا‪ .‬وهي مبتورة»‬
‫ال لكي يهيمن على العامل املوجود من خالل املعرفة‪ ،‬ولكن‬ ‫أ‬
‫ال�شك يف ان الرف�ض والتمرد على امل�لوف ال تكون رغبة‬
‫لكي يعرف عامله الذي يعي�شه ولهذا يعمل على‪ /‬تفريد‪/‬‬ ‫وامنا لذة تتحقق من خالل االرادة لتحقيق الكينونة؛ ولهذا‬
‫وبعرثة‪ /‬العامل لكي يعرف نف�سه فنجد الق�صيدة عنده‬ ‫رف�ض يو�سف اخلال ا إلذعان للعامل بل وبدت دعوته انعزاال‬
‫تتحاور مع مفردات حميطه الذي يراها هو ورمبا ال يراها‬ ‫يف جربوته وقوته‪..‬‬
‫ا آلخرون‪..‬‬ ‫«�أيها ال�شعراء ابتعدوا عني ال ترثوا احدا غلبه املوت ‪/‬فماذا‬
‫«ال�صقا باحلدائق ‪/‬اخ�رضها يعرتيني‪/..‬اخ�رضها اال�سود‬ ‫ينفع الرثاء؟ الرثاء لل�صعاليك ونحن جبابرة‪ .‬والرثاء للب�رش‬
‫باحتماالته‪/‬رمبا ينزف الورد يف �شفتي �ضبابه‪/‬رمبا ادخن‬ ‫ونحن �آلهة‪ /‬فابتعدوا عني ايها ال�شعراء واحنوا رقابكم‪.‬‬
‫امراة ال تراين‪/‬رمبا يقفز فر�س الن ِبي بالنبي ‪/‬ويرتكني اعد‬ ‫ال تنطقوا يف ح�رضة املوت اجلاثم‪/‬للملك �صوجلانه‬
‫�شعر�أ�صابعي‪/‬ورمبا احمِل عربتي بالق�صائد‪/..‬هكذا اغني‬ ‫وللراعي ع�صاه ولنا نحن‪/‬اجلبابرة قو�س قزح عرب الف�ضاء‬
‫(‪)79‬‬
‫له‪/..‬هكذا ال يراين»‬ ‫الغائم…‪/‬فابتعدوا عني وارحلوا اىل بالد ال قمر فيها‪/‬‬
‫‪6‬ـ‪.‬ت�ستمر جتربة �إدراك الكينونة عند ال�شاعر العربي من‬ ‫(‪)75‬‬
‫نك�سوا �أعالمكم يف القوامي�س واغلقوا ابواب كلماتكم»‬
‫خالل وعي العدم بو�صفه فر�صة االن�سان الوحيدة بعد ان‬ ‫اما خليل حاوي في�أخذ تاريخ الفن ال التاريخ ال�سيا�سي‬
‫تدحرج من مركز الفعل والقرار اىل الهام�ش يف عامل االلة‬ ‫الر�سمي ليتعرف على �شخ�صية ال�سندباد يف رحلته الثامنة‬
‫والتكنولوجيا؛ وبدا االن�سان يف هذا العامل حما�رصا بالعبث‬ ‫ولكي يخو�ض يف ذاته‪ ،‬وكينونته‪-‬وهو يقول‪« :‬كان يف‬
‫من اخلارج‪ ،‬مما جعله يبحث عن اخلال�ص يف ذاته ولذاته‬ ‫نيته اال ينزعج عن جمل�سه يف بغداد بعد رحلته ال�سابقة غري‬
‫بانعزال عجيب فحاول ان يعرف مفردات الوجود التي كان‬ ‫انه �سمع ذات يوم عن بحارة غامروا يف دنيا مل يعرفها من‬
‫ي�ؤمن بها؛ و �شكلت كينونته املهزومة‪ ،‬وملا كانت الهزمية‬ ‫قبل فكان ان ع�صف به احلنني اىل االبحار مرة ثامنة ‪.‬ومما‬
‫االن�سانية ‪/‬ازمة اخلط االن�ساين‪ /‬كبرية‪ .‬بد� أ االن�سان ي�شكك‬ ‫يحكي عن ال�سندباد يف رحلته هذه انه راح يبحر يف دنيا‬
‫مبفردات الوجود تلك وبالقيم امليتافزيقية العليا التي‬ ‫ذاته فكان يقع هنا وهناك على اكدا�س من االمتعة العتيقة‬
‫قادته اىل الهزمية من خالل رمز الدروي�ش‪..‬‬ ‫واملفاهيم الرثة ‪ .‬رمى بها جميعا يف البحر ومل ي�أ�سف‬
‫«وبكوخي ي�سرتيح الت�ؤامان‪/..‬الرب والدهر ال�سحيق‪…/‬‬ ‫على خ�سارة ‪.‬تعرى حتى بلغ بالعري اىل جوهرفطرته‪ .‬ثم‬
‫وارى ماذا ارى؟‪/‬موتا رمادا وحريق…!(‪ )80‬فالدروي�ش‬ ‫عاد يحمل الينا كنزا ال �شبيه له الكنوز التي اقت�ضتها يف‬
‫(‪)81‬‬
‫يرمز اىل «مايف ذاته من عراقة وثبات وحكمة فطرية»‬ ‫رحالته ال�سالفة ‪.‬والق�صيدة ر�صيد ملا عاناه عرب الزمن يف‬
‫ويف اطار هذا الرف�ض والتخلي عن املثل االعلى تنت�رص‬ ‫نهو�ضه من دهاليز ذاته اىل ان عاين ا�رشاقة االنبعاث ومت‬
‫�صورة العدمي املكتمل الذي يعي ا َن العدم فر�صته الوحيدة‬ ‫له اليقني»(‪ )76‬ومابني و�صفه لرحلته‪ ،‬وتو�صيفه لظواهرها‪،‬‬
‫امام حما�رصة اجلربوت يقول ال�شاعر جان دمو‪:‬‬ ‫واالماكن التي مرَبها وما موجود فيها وعالقتها بالوجود‬
‫«مهما �أمعنت يف الت�أمل‪/‬فلن يواجهك �سوى فراغ ‪/‬ال هو‬ ‫والطبيعة فانه يتعرى ويبحث عن التجاوز الذي يهدف اىل‬
‫باملخيف وال باجلميل‪/‬انه العماء الذي نتج منه الكون ‪/‬‬ ‫ر�سم حدود الوجود‪..‬‬
‫ودومنا ان تعلم ‪/‬قد يقودك اىل جنات او جحائم‪/‬مل تخطر‬ ‫«وفورت من عتمتي مناره‪� /‬أعاين الوباء التي ت�رصعني‬ ‫َ‬
‫ببالك يوما ‪/‬االحرى الت�سليم باالمر ‪/‬حتى ال نذهب �ضحايا‬ ‫حينا‪/‬فابكي ‪/‬كيف ال اقوى على الب�شارة ؟‪�/‬شهران طال‬
‫للدينا�صورات‪ /‬املحيط بنا ليل نهار ‪/‬او الذين يجعلونك جتفل‬ ‫(‪)77‬‬
‫‪/‬جفت �شفتي‪/‬متى متى ت�سعفني العبارة؟»‬ ‫ال�صمت َ‬
‫�صباحا‪/‬وانت امام قهوة ال�صباح‪/‬طارحني امامك مفاتيح‬ ‫ثم يرف�ض معرفته ال�سابقة من خالل رف�ض كل الرحالت‬
‫‪76‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫العامل ال�صدئة كلها»‬
‫(‪)86‬‬ ‫(‪)82‬‬
‫�إرادة = ابداع»‬
‫ومن ثم فان العودة الدائمة‪ ،‬هي تدمري للنق�ص والقوى‬ ‫أ‬
‫من هنا ي�سعى املوجود‪/‬الكائن اىل ت�ثيث ذاته بو�صفها‬
‫االرتكا�سية ال�ضعيفة‪ ،‬وتدمري للعدم كذلك‪ ،‬فهي �سريورة‬ ‫لغزا يحاول ان يكت�شفه وي�صوره امام القارىء لكي ي�شارك‬
‫انبناء جديدة وم�ستمرة اذ ال يتوقف الكمال واالنبناء عند‬ ‫ا آلخر يف ادراك الكينونة من خالل ‪/‬االهتمام‪-‬واالن�شغال‪/‬‬
‫حدّ‪ ،‬لذلك يبدو املوت ماثال يف التدمري الكامل وهذا التدمري‬ ‫با آلخر ‪.‬وهذا االهتمام اليعني ان ا آلخر ‪/‬هناك‪/‬خارج عنا‬
‫يحمل بعدا ايجابيا فاعال‪.‬‬ ‫وال «هو و�سيلة ال�شباع ما يجاوز ذاته»(‪ )83‬امنا هو اندماج‪،‬‬
‫ان النفي الفاعل والتدمري الفاعل؛ هو و�ضع االرواح القوية‬ ‫وا�سقاط‪ .‬والتكون هذه احلالة اال يف ق�ضية حميمية‬
‫التي تدمر االرتكا�سي يف ذاتها؛ خم�ضعة اياهاالمتحان‬ ‫الكت�شاف منا�صفة الروح والذات مع ا آلخر فلكي ي�شكل‪،‬‬
‫العودة الدائمة وخم�ضعة ذاتها لهذا االمتحان مع احتمال‬ ‫ويبني على هذا االكت�شاف؛ تنهال عليه االريحية يف �س�ؤال‬
‫ان يراد افولها ‪«..‬ان و�ضع االرواح القوية واالرادات القوية‬ ‫امل�شاركة‬
‫ال ميكنها ان تكتفي بحكم ناف فالنفي الفاعل يرتبط‬ ‫«تعايل انا رائح حيث ر�أ�س االبرة‪/‬احفر فيه مكانا ي�سع‬
‫ت�ستمر جتربة‬ ‫بطبيعتها العميقة …هذه هي الطريقة الوحيدة التي‬ ‫غابة‪/‬والغابة ت�سع كوكبا والكوكب ال ي�سع را�سي‪/‬هناك‬
‫�إدراك الكينونة‬
‫(‪)87‬‬
‫ت�صبح بها القوى االرتكا�سية قوى فاعلة»‬ ‫حيث ال احد يتكلم اال الورد معلنا زمن االريج‪�/..‬أخذتك‪/‬‬
‫وهنا تظهر املعرفة لردم ثغرة النق�ص يف الوجود واملوجود‬ ‫(‪)84‬‬
‫�أخذتك مني الو�صل دمي اىل قلبي…»‬
‫عند ال�شاعر‬ ‫وال يقوم هذا االمر اال على ا�سا�س النفي واالثبات وبهذه‬ ‫ان العدمية ترتبط باالن�سان االعلى؛ املتفوق الذي يحاول‬
‫العربي من خالل‬ ‫اال�شكالية مثلت ق�صيدة خليل حاوي الر ؤ�ية العدمية‬ ‫يتمثله فهذا االن�سان ‪/‬املوجود ‪- /‬ال�سوبرمان‪-‬‬ ‫ال�شاعر ان ّ‬
‫وعي العدم‬ ‫فق�صيدته «يف جوف احلوت» ج�سدت املعاناة يف مواجهة‬ ‫ميركز ذاته ويظهر يف وعيه ب�ؤرة للثقافة؛ ون�شاطه النوعي‬
‫بو�صفه فر�صة‬ ‫العزلة‪ ،‬فهو يحاول ان يتجاوز عتمة املجهول‪ ..‬فهو «خيال‬ ‫ومن ابرز جتلياته العراف ممثل العدمية ال�سلبية (نبي �آخر‬
‫االن�سان الوحيدة‬ ‫يتحدى ‪/‬عتمة املجهول وال�رس الكبري»(‪ )88‬ولكنه يظل‬ ‫العاملني) وهو يبحث عن بحر ي�رشب منه؛ وال�ساحر وهو‬
‫بعد �أن تدحرج‬ ‫خياال‪ ،‬وتوهما مع وجود الرغبة لالنطالق‪ ،‬ولكن اجلربوت‬ ‫ا إلح�سا�س باخلط�أ «مزورالعملة وماحي الذنوب» «�شيطان‬
‫من مركز الفعل‬ ‫والقوة‪-‬كما قلنا �سابقا‪ -‬جتعله «م�ضغة تافهة» وهكذا‬ ‫الك�آبة» ثم اقبح العاملني الذي ميثل العدمية االرتكا�سية‬
‫والقراراىلالهام�ش‬ ‫تت�صارع قوى التحدي ( االنا) والقوى العليا (ا آلخر)‬ ‫اما امللكان فهما التقاليد؛ واخالقية هذه التقاليد و«البابا‬
‫يف عامل آ‬
‫اللة‬ ‫« اترى هل جن ح�سي فانطوى الرعب ‪/‬ترى عاد ال�صدى‬ ‫االخري» و«املت�سول» الذي اجتاز كل النوع الب�رشي من‬
‫عاد الدوار؟من ترى زحزح‬ ‫(‪)85‬‬
‫االغنياء اىل الفقراء‪.‬واخريا ( الظل)‬
‫والتكنولوجيا‬ ‫(‪)89‬‬
‫ليل ال�سجن عن �صدري ‪/‬وكابو�س اجلدار؟»‬ ‫من هنا � أجد ان ال�شاعر الذي يتلب�س هذه التجليات‬
‫فهذه ال�صور التي ت�شكل الوجود ال�صناعي ‪ /‬االيل �شغلت‬ ‫لـ«لالن�سان االعلى» ال يعني انه توقف عن البحث؛‬
‫املوجود والوجود برمته ودمرته بال�سجن والت�صنيع‬ ‫امنا يعي ان هذه التجليات تفر�ض عليه البحث عن‬
‫واالحباط ومن خالل ا�ستيعاب جدل الوجود املحيط به‪،‬‬ ‫الكينونة و�إدراك ازمة الوجود االن�ساين امام هذا اجلربوت‬
‫والظهار مركزية الذات يحاول ان يقر� أ ذاته؛ قراءة حنينية‪-‬‬ ‫العاملي الذي يبدو وك�أنه ميثل املتعايل وفيه �سمات‬
‫ترميمية بيانا ل إلرادة‪ ،‬والتجربة وربطها بالوعي املتكرر‪،‬‬ ‫امليتافيزيقيا املعا�رصة ولهذا يجد ال�شاعر نف�سه مطالبا‬
‫والدراك حكاية االن�سان مع جتربته منذ وجوده االول‪.‬ويف‬ ‫بردم نواق�ص الكينونة غري املكتملة يف التجربة الوجودية‬
‫هذا يتجه ال�شاعر العربي يف اجتاهني االول ايجابي وا آلخر‬ ‫لعالقتهابالعودة الدائمة او االبدية اذ ت� ؤكد هذه العودة ان‬
‫�سلبي االول بحث يف �سريورة االكتمال واالنطالق من‬ ‫� أي فعل ان�ساين �إمنا هو تكرار اال ان هذا التكرار امنا هو‬
‫جديد؛ وا آلخر بحث يف �سريورة التكوين ولكن تنتهي اىل‬ ‫انتقاء «ان ك�سال يريد عودته الدائمة ال يعود الك�سل نف�سه؛‬
‫العبث ومنها اىل احلكمة‪ ،‬فاالن�سان اليت�شبث بالتذكر وامنا‬ ‫�إن حماقة‪ ،‬حقارة‪ ،‬جبانة‪ ،‬خباثة تريد عودتها الدائمة‪ ،‬ال‬
‫يلج�أ اىل الن�سيان ‪.‬ففي ق�صيدة فا�ضل العزاوي(�ضياع)‬ ‫تعود احلماقة نف�سها‪ ،‬احلقارة نف�سها ‪ ..‬فلرن ب�شكل اف�ضل‬
‫جند الذات مركزا ال يقبل املهادنة «ماذا تفعل يف هذا‬ ‫كيف تقوم العودة الدائمة هنا باالنتقاء ‪�.‬إن فكر العودة‬
‫الليل املظلم ياعبداهلل؟‪�-/‬أ�شعل كربيتا‪-/‬هل تبحث عن‬ ‫الدائمة هو الذي ينتقي يجعل من االرادة �شيئا ما كامال‪�.‬إن‬
‫�شيء؟‪-/‬ابحث عن نف�سي‪� /‬سقطت مني يف الظلمة حيث‬ ‫فكرة العودة الدائمة يزيل من االرادة كل ما ي�سقط خارج‬
‫تراين‪- /‬هيا انه�ض يا عبداهلل ‪/‬كل ثقاب العامل ال يكفي ‪/‬‬ ‫العودة الدائمة‪ ،‬يجعل من االرادة �إبداعا‪ ،‬يحقق املعادلة‬
‫‪77‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املحرمات من اخلط�أ االول الذي ارتكبه االن�سان اىل الرغبة‬ ‫لت�ضيء ظالم الليل اىل نف�سك»‬
‫(‪)90‬‬

‫التي احتكرها العابثون؛ وترك العقالء ليعقلونها بركام‬ ‫�إزاء هذه الرغبة يبد� أ املوجود البحث عن مفردات الوجود‬
‫العرف واملثل العليا؛ والقوانني فرادة �سامي مهدي ال تدرك‬ ‫التي تتمثل يف احلرية واالنعتاق هذه املفردات تت�صارع‬
‫يف �شعره فح�سب وامنا يف م�أ�س�آة الوجود كله �رصاع الوعي‬ ‫بني ‪/‬االنا‪-‬االنا‪ /‬و‪/‬االنا‪ -‬ا آلخر‪ /‬او ‪/‬انا‪-‬هو‪ /‬و‪/‬انا‪-‬‬
‫احلر العظيم مع القيد املقيت الذي يقتل االنبياء وال�رشفاء‬ ‫انت‪ /‬ويف اطار البحث عن املفردات التي ت�شكل الذات و‬
‫«خط�أ ك َل هذا الطراد‬ ‫التذكر يحاول ال�شاعر معرفة احلقيقة عرب الوجود واملوجود‬
‫خط�أ كل هذا العناد‬ ‫كله مبا متثله من ما�س�آة هائلة يف ق�صيدة �سامي مهدي‬
‫خط�أ‬ ‫(االباء والبنون) فهي مرثية االن�سان ازاء وجوده كله ‪.‬‬
‫خط�أ‬ ‫«مل تعد يف البيوت لنا غرف او متاع‪.‬‬
‫ك ُل تلك الرقي‬ ‫وال �صور يف جدار ‪.‬‬
‫خط�أ كل تلك املهاد‬ ‫وروائحنا بدلت ب�سواها‬
‫خط�أ عمره نحو �سبعة �الف عام من االنقياد‬
‫آ‬ ‫و�أطيافنا زجرت‬
‫خط�أ كل بيني وبيني‬ ‫وا�ستخف ال�صغار‬
‫(‪)92‬‬
‫وقنعته بالرماد»‬ ‫بنا‪ ،‬وب�أ�شكالنا‬
‫ولهذا يفح�ص كل التجربة االن�سانية يفح�ص التكوين االول‬ ‫ثم القوا ب�أ�شيائنا يف القمامة‬
‫يكت�شف م�أ�س�آته بطريقة جديدة ال متتثل للعرف‪ ،‬وال لل�سائد‪،‬‬ ‫قبل انق�ضاء النهار ‪.‬‬
‫وال مليتافيزيقيا الر ؤ�ى واالفكار وامنا تتمثل هذه التجربة‬ ‫وها نحن يف احلفر ال�سود �رصعى‬
‫االن�سانية يف ذات ال�شاعر وروحه‪ ،‬لهذا جاء فح�صه لتجربة‬ ‫و�أرواحنا تتخبط يف ظلمات ال�شوارع‬
‫التكوين عجيبة عرب مفردات ب�سيطة وعميقة يف االن عينه‪.‬‬ ‫ال م�ستقر لها يف مكان‬
‫« ذلك الفتق لو مل يكن ال�ستقام ال�سبيل‬ ‫ولي�س لها وجهة للفرار‪.‬‬
‫وال كان ثمة �صدع ورجع‬ ‫اترانا فعلنا كما يفعلون ؟‬
‫وال قاتل وقتيل‬ ‫اترانا قتلنا كما يقتلون ؟‬
‫وال بلبلت االل�سن يف البالد‬ ‫منذ �سبعة االف عام ودائرة القتل دوارة‬
‫وال انت�رش اخللق يف كل فج‬ ‫والبنون‬
‫و�ضل العباد‬ ‫يفتكون ب�آبائهم مرة بعد اخرى‬
‫وذلك الفتق كان البداية يف كل خطب جليل‬ ‫و�آبا ؤ�هم ميحون‬
‫�أهو اخلط�أ االول االزيل‪،‬‬ ‫�أهو �إرث فيورث؟‬
‫(‪)93‬‬
‫�أم اخلطر العبقري اجلميل؟!»‬ ‫�أم لعبة ؟‬
‫�إن اخلط�أ االول هو الذي حول التجربة الوجودية اىل‬ ‫(‪)91‬‬
‫�أم جنون؟»‬
‫امل�أ�س�آة تتعلم فيها الب�رشية حجة الوعي وحجة القوة ازاء‬ ‫فاذا كان ابلي�س علم الكينونة الوجودية التمرد فان‬
‫االخطاء التي تقود اىل فعل الكينونة‪ ،‬الن هذا اخلط�أ االول‬ ‫�سامي مهدي علم وعرف الكينونة ما�س�آة البديهيات؛‬
‫‪/‬يف املثيولوجيا‪/‬هو الذي جعل املوجود يعي�ش جتربته‬ ‫وعرفها ب�أ�شكال هذه البديهيات و�صور امل�آ�سي فيها‪ ،‬فلم‬
‫على االر�ض؛ و�شكل عالقته بالوجود لتبد� أ �سريورة التكوين‬ ‫تعد الذاكرة يف االبناء‪ ،‬وال اخللود فيهم وال يف ال�صور‬
‫‪.‬وهذا اخلط�أ هو الذي قاد اىل احلزن واخلوف من اخلط�أ‬
‫فالبديهيات عدمية ال جدوى منها ولكنها تدعو اىل ايجاد‬
‫ولكنه هو الذي �سيرَ الوجود اىل االكتمال‬ ‫كينونة االن�سان‪ -‬املوجود املفرد ال�شغال حياته بكل‬
‫« اخائف انت ؟‬
‫رغباته‪ .‬فهذا ال�شعر العظيم ال يتفرد يف ادراك الكينونة‬
‫اذن تعال‬
‫بالعام وامنا يدركها عرب مفردات بديهية نراها يوميا‪،‬‬
‫نحول اخلوف اىل ال�س�ؤال‬
‫وال نلتفت اليهاوان التفتنا اليها فال ن�ضع وعينا عليها‬
‫ونبد� أ البحث عن اجلواب‬
‫فهو ‪/‬ال�شاعر‪ /‬ي�سمح �أو يرفع ال وعيه ب�إرادته ليرتك لها‬
‫املادة كاملة مبوقع املجلة‪)www.nizwa.com( :‬‬ ‫حرية هائلة يف االت�ساع‪ ،‬لتقول كل �شيء من املقد�س اىل‬
‫‪78‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حممد علي �شم�س الدين‬


‫ارتقى بـ«دموع احلالّج» � إىل الرمز املجازي اخلا�ص‬
‫�شاديــة �شقـــرو�ش‬
‫� أكادميية من اجلزائر‬
‫«حكمة ال�شم�س �إ�ضعاف للروح‪،‬وحكمة القمر �إ�ضعاف للعقل‪ ،‬وبني عامل النور‬
‫وطوايا الظالم ‪ ...‬قد يتوقف الفرد ليختار عامل الظالم‪،‬ويغلق على نف�سه متاما‪.،‬‬
‫يف رحلة ال عودة منها‪ ،‬رحلة ي�سميها النا�س جنونا‪،‬ويختربها � أهلها اجنذابا‬
‫وك�شفا‪،‬ولنا يف جماذيب الت�صوف خري مثال على ذلك»‪.‬‬
‫(فرا�س ال�سوّاح‪ :‬لغز ع�شتار �ص‪)252‬‬ ‫ ‬
‫تكتمل حقيقة الفي�ض ا إلبداعي بو�ساطة في�ض التلقي‪،‬وال ميكن للمتلقي �أن‬
‫يبحر يف دروب املعرفة ال�شعرية‪�،‬إال باخللفيات املعرفية من وجهة‪ ،‬واملعرفة‬
‫الروحية من وجهة �أخرى‪،،‬كونها الكنز الذي يختفي وراء عامل العقل‪،‬وال تتم‬
‫املعرفة الروحية �إال بالت�أ ّمل‪.‬‬
‫‪ w‬يتمتع ن�ص الق�صيدة منذ البداية بالوظيفة ا إلغرائية‪ ،‬ألنه‬
‫ميار�س لعبة الت�سترّ واالنك�شاف‪ ،‬من خالل العدول اللغوي‪ .‬لذلك‬
‫تقت�ضي ال�رضورة املنهجية م�ساءلة الن�ص وخماتلته كي ن�سرتق‬
‫منه �رشارات البوح الكامن يف ال�رسّ اللغوي‪ ،‬املتمظهر فونولوجيا‪،‬‬
‫ولعل � أول عتبة يط�أها املتلقي هي العنوان‪ .‬فما املق�صود بـ‪«:‬دموع‬
‫احلالج»‪ ،‬وملاذا ا�ستح�رض ال�شاعر هذا ال�صويف املتمرد بالذات؟‬

‫‪79‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عتبة العنوان‪:‬‬ ‫وال �شك يف � أن «دموع احلالج» � أحبولة ن�صية‪،‬‬


‫الت�صور ال�سيميائي للعنوان ميكن � أن ميدّنا بخيط‬
‫ّ‬ ‫لعل‬ ‫وهيكل �إ�شاري م�سترت خلف الكلمات‪.‬‬
‫مبدئي لن�سج الداللة الكليّة للن�ص‪ ،‬على اعتبار � أن‬ ‫‪ -‬فمن � أين نبد� أ وفي�ض ال�شعر يحا�رصنا مبتعته‬
‫العنوان مبثابة الر� أ�س للج�سد‪ ،‬فماذا يق�صد ال�شاعر‬ ‫العارمة‪ ،‬وي�ضيّق علينا اخلناق‪ ،‬وي�أ�رسنا فنذوب يف‬
‫بهذا العنوان؟؟‪.‬‬ ‫تفا�صيله‪ ،‬بحثا عن ذلك الواقع القابع يف دهاليز‬
‫لو نظرنا �إىل العنوان من الوجهة اللغوية النحوية‪،‬‬ ‫الذاكرة؟‬
‫ف�إن «دموع احلالّج»‪ ،‬خرب معرّف با إل�ضافة ملبتد� أ‬ ‫‪ -‬كيف نبحث عن روح م�سترتة ؟ال تدركها �إال � أرواح‬
‫حمذوف‪ ،‬تقديره «هذه»‪ ،‬واحلالج م�ضاف �إليه‪،‬‬ ‫تقطن يف هيوىل العقل اخلالّق‪ ،‬لتخرج املوجود‬
‫وت�صبح ال�صيغة ا أل�صلية‪« :‬هذه دموع احلالّج»‪.‬‬ ‫بالقوة �إىل الوجود بالفعل‪ ،‬وتنتقل به من ظلمة‬ ‫ّ‬
‫و�إذا نظرنا �إليه من وجهة ل�سانية ن�صية(نحو الن�ص)‪،‬‬ ‫التعتيم �إىل بهرج � أنوار التلقي‪ ،‬في�سفر ال�شعر عن‬
‫ف�إن عبارة «دموع احلالّج»‪ :‬مبتد� أ معرّف با إل�ضافة‪،‬‬ ‫جمالياته ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ي�ستنه�ض‬
‫خربه يف املنت‪ ،‬وهو م�سند �إليه واملنت م�سند‪.‬‬ ‫فكيف ننزع عن الدالالت لبو�سها ال�سطحي‪ ،‬كي‬ ‫«حممد علي‬
‫كما يعدّ العنوان من هذه الوجهة بنية �صغرى‪،‬‬ ‫نتمكن من القب�ض على �إيحاءاتها وحتوالتها �ضمن‬ ‫�شم�س الدين»‬
‫متوا�شجة مع البنية الكربى الن�ص‪ ،‬من � أجل حتقيق‬ ‫ن�سق الن�ص ال�شعري؟؟‪.‬‬ ‫احلالج من‬
‫َ‬
‫االن�سجام والرتابط الفكري‬ ‫لكل مبدع كونه املميز ومعجمه اخلا�ص‪ ،‬لذلك تتجلى‬ ‫تخوم ال�صمت‬
‫و�إذا نظرنا �إىل العنوان من وجهة نظر �سيميائية‪،‬‬ ‫ذات املبدع يف ا إلبداع فتولد الق�صيدة احللم‪.‬‬
‫�إىل تخوم‬
‫ف�إننا نعتربه عالمة‪ .‬تت�ألف من �إ�شارتني لغويتني‬ ‫«دموع احلالّج»‪ ،‬ج�سد ي�ستقطر دموعه من عيون‬
‫م�شحونتني بدالالت رمزية‪ ،‬منفتحتني على‬ ‫ال�صحو نحو‬
‫ميّتة‪ ،‬وقرب بال هوية‪ ،‬ميتزج فيه احلق بالباطل‬
‫قيم �إن�سانية وثقافية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬ونف�سية‪،‬‬ ‫والت�صوف بالزندقة‪.‬‬ ‫والورع باخلطيئة‬ ‫العوامل‬
‫ّ‬ ‫املقدّ �سة‪،‬‬
‫و� أيديولوجية‪.‬‬ ‫و�إذا كان الن�ص بوحا م�ضمرا‪ ،‬ف�إن ال�سبيل �إىل ك�رس‬
‫حتيل كلمة «دموع» على البكاء‪ ،‬ومع ذلك فالدموع‬ ‫حاجز ال�صمت والتمنّع هو الآليات ا إلجرائية ل�سيمياء‬ ‫فتتحرر كثافة‬
‫ّ‬
‫ال ت�صدر عن البكاء فح�سب‪ ،‬بل هي �سائل مالح‬ ‫�ست�سهل علينا العبور‪ ،‬من خالل تتبّع‬‫ّ‬ ‫الت�أويل التي‬ ‫مادته اللغوية‬
‫ينذرف من العني عندما ي�شوبها الغبار‪ ،‬ليطهرها‪.‬‬ ‫م�سارات ال�سيميوز(م�سارات الرمز وحتوالته داخل‬ ‫لتك�شف عن‬
‫كما يفي�ض الدمع يف حاالت احلزن الكبري‪ � ،‬أو‬ ‫� أ�سوار اللغة �ضمن الن�سق الكلي للق�صيدة)‪�.‬إىل خفايا‬ ‫ال�صويف القابع‬
‫الفرح ال�شديد‪ � ،‬أو اخل�شوع يف ح�رضة املوىل حني‬ ‫الن�ص‪.‬‬ ‫يف ذاته‬
‫ي�ستبطن املتعبّد الندم‪ ،‬الرهبة‪ ،‬اال�ست�سالم‪ ،‬الرجاء‪،‬‬ ‫يتمتع ن�ص الق�صيدة منذ البداية بالوظيفة ا إلغرائية‪،‬‬
‫واال�ستغفار‪.‬‬ ‫ألنه ميار�س لعبة الت�سترّ واالنك�شاف‪ ،‬من خالل‬
‫وكل هذه املعاين حتيل على الطهارة من الدن�س‪،‬‬ ‫العدول اللغوي‪ .‬لذلك تقت�ضي ال�رضورة املنهجية‬
‫املادي � أو املعنوي‪.‬‬ ‫م�ساءلة الن�ص وخماتلته كي ن�سرتق منه �رشارات‬
‫� أما احلالّج فهو ا�سم علم ويحيل على تلك ال�شخ�صية‬ ‫البوح الكامن يف ال�رسّ اللغوي‪ ،‬املتمظهر فونولوجيا‪،‬‬
‫التاريخية امل�ؤ�سطرة يف الذاكرة العربية ا إل�سالمية‪،‬‬ ‫ولعل � أول عتبة يط�أها املتلقي هي العنوان‪ .‬فما‬
‫وهي ذات احل�سني بن من�صور احلالّج‪.‬‬ ‫املق�صود بـ‪«:‬دموع احلالج»‪ ،‬وملاذا ا�ستح�رض‬
‫واحلالج من حلج؛ � أي نف�ش ال�صوف‪ ،‬وتعني � أي�ضا‬ ‫ال�شاعر هذا ال�صويف املتمرد بالذات؟‬
‫ك�شف ال�رسّ‪ ،‬والبوح مبكنونات النف�س‪ ،‬فهل يريد‬ ‫ميكننا � أن نطرح �س�ؤالني ‪:‬كيف؟ وملاذا؟‬
‫ال�شاعر من خالل ا�ستح�ضار هذا الرمز � أن يبوح؟‬ ‫ومن خاللهما ن�ستطيع الربط بني امل�سارات ال�صورية‬
‫ومباذا يريد البوح؟‬ ‫والت�شكيالت اخلطابية لنح�صل على ن�سيج ن�صي‬
‫يعد احلالج من الناحية االجتماعية �صوفيا متمردا‬ ‫مرتابط‪ ،‬ي�ؤ ّطر املعامل اللغوية الكربى يف الن�ص‪،‬‬
‫على ال�سلطة ال�صوفية وال�سلطة ال�سيا�سية‪ ،‬لذلك‬ ‫و ي�شكل حلم ًة فنية حتيل على � أ�شياء يف ا إلمكان‬
‫املت�صوفة املنحرفني‪ ،‬فعا�ش مرارة‬ ‫ّ‬ ‫�صنّف من‬ ‫ُ‬ ‫وت�ست�رشف املمكن ‪.‬‬
‫‪80‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ملاذا قابلنا ال�شاعر بعتبة الدمع والتمرد و� أ�سطورة‬ ‫ال�سجن والتعذيب ثم ال�صلب‪ ،‬مثلما عا�ش متعة‬
‫الويل الزنديق ؟‬ ‫الطوا�سني ‪ ،‬والتجربة الروحية‪.‬‬
‫[‬

‫بتحوالت ؟‬
‫ّ‬ ‫وهل تتميز هذه الدموع‬ ‫ولعل وعيه الثقايف الذي عدّ زائفا هو الذي � أدى به‬
‫كيف نبني املعنى املبعرث يف الق�صيدة ؟‬ ‫�إىل التهلكة يف زمانه‪.‬‬
‫كيف نلملم �شظايا � آهات ال�شاعر املتزندق‬ ‫يهمنا يف هذا املقام‪ ،‬هو �صياغة العنوان‪.‬‬‫والذي ّ‬
‫املت�صوف؟‬ ‫فلماذا جاء العنوان بهذه ال�صيغة بالذات؟ «دموع‬
‫كيف ن�سرتق املعنى من هذه املتاهة الن�صية؟‬ ‫احلالّج»‪ ،‬وهل ا�شتهر احلالّج بالبكاء؟؟‬
‫كل هذه ا أل�سئلة وغريها �سيجيب عليها املنت‪.‬‬ ‫و�إذا بكى احلالّج يف خلوته رهبة ورغبة‪ � ،‬أو �إذا‬
‫‪-2‬في�ض التلقي و�شعرية املنت‪:‬‬ ‫دخل ا أل�سواق ين�صح النا�س‪ ،‬ف� إ ّنه مل يبك عندما‬
‫تت�ألف الق�صيدة من اثني ع�رش مقطعا‪،‬‬ ‫قوة �صموده‪،‬‬ ‫ُق ّطعت � أطرا ُفه قبل �صلبه‪ ،‬مما يدل على ّ‬
‫تتوزع على الفواحت الن�صية التالية‪:‬‬ ‫فالبكاء يف هذا املوقف يعد �ضعفا‪ ،‬واحلالج كان‬
‫‪ � -1‬أعليت دموعي‬ ‫جريئا متيقنا من �صحة ما يقول‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫كي تب�رصها يا � أاهلل‬ ‫لفظ املجتمع له‪ ،‬وت�صنيفه يف خانة الزنادقة‪�.‬إال‬
‫‪. . . . . . . . . . . . . . . ..‬‬ ‫� أنه كان ناقما على جمتمعه ومتمردا على الطريقة‬
‫حج �إىل �سكني‬ ‫حج ويل ّ‬ ‫‪ -2‬للنا�س ّ‬ ‫و�سمه بالفرادة واحلرية يف‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬وهذا العدول َ‬
‫تهدى ا أل�ضاحي و� أهدي مهجتي ودمي»‬ ‫الفكر واملنطق وال�سلوك‪.‬‬
‫‪.................‬‬ ‫فعدّت م�أ�ساته وقتله بتلك الطريقة الب�شعة‪ � ،‬أ�سطورة‪:‬‬
‫‪ � -3‬أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها‬ ‫الويل ‪ /‬الزنديق ‪.‬‬
‫و� أ�سلت بكائي يف الق�صب‬ ‫ثم ملاذا ا�ستح�رض ال�شاعر احلالج دون غريه من‬
‫‪.................‬‬ ‫املت�صوفة؟ هل هناك �شبيه مل�أ�ساته يف الزمن‬
‫‪ � -4‬أنا �إمام الطوا�سني‬ ‫الراهن؟‬
‫وحالّج الزمن الغابر‬ ‫تفي�ض دموع احلالّج من هناك‪ ،‬من ا ألقا�صي‬
‫‪.................‬‬ ‫بوابة الزمن الغابر‪ ،‬وتتدفق طوفانا‬ ‫البعيدة‪ ،‬من ّ‬
‫‪� -5‬صليت ببغداد �صالة الدم‬ ‫يغمر الزمن الراهن بغية تطهريه من م� آ�سيه و� أحزانه‪،‬‬
‫ونرثت بغزة � أوجاعي‬ ‫لعلها النقمة على تناق�ضات الواقع‪ ،‬والتمرد على‬
‫‪.................‬‬ ‫�سلطة ا ألعراف الدينية املتطرفة هي التي ابتعثت‬
‫‪ -6‬على �سكة احلديد التي ت�صل احلجاز بفل�سطني‬ ‫حالّج الزمن الغابر‪.‬‬
‫� أم�شي غري عابىء بالقطار الذي ميرّ �رسيعا‬ ‫احلالج من‬
‫َ‬ ‫ي�ستنه�ض «حممد علي �شم�س الدين»‬‫ُ‬
‫وي�سحقني‬ ‫تخوم ال�صمت �إىل تخوم ال�صحو نحو العوامل‬
‫‪.................‬‬ ‫املقدّ�سة‪ ،‬فتتحرّر كثافة مادته اللغوية لتك�شف عن‬
‫‪-7‬يارب �ضبي م�شى يف التيه مرحتال‬ ‫ال�صويف القابع يف ذاته‪.‬‬
‫� ألفا وعامني مل يربح على عجل‬ ‫فعندما يجتمع حالج الزمن الغابر بحالّج الزمن‬
‫‪.................‬‬ ‫الراهن‪ ،‬ترقى الكلمة وت�صدح �ضد قوى ال�رشّ‪ ،‬عندما‬
‫‪-8‬كم دمعة فيك يل ما كنت � أجريها‬ ‫يتمرد التمرد ذاته على قيم التمرد‪ ،‬تتجلى احلقائق‪،‬‬
‫وليلة � أفنى فيك � أفنيها»‬ ‫وتولد الرغبة يف املجا بهة‬
‫‪.................‬‬ ‫يلب�س ال�شاعر بردة احلالّج ليبوح مبكنونات الواقع‬
‫‪ -9‬و� أخريا وجدتك � أيتها ال�شم�س يف � أعايل � أريحا‬ ‫املتع ّفن‪ ،‬وا�ضعا نف�سه على م�شارف ا إللهي وتخوم‬
‫تدورين خائفة على ا أل�سوار‪.‬‬ ‫احلرّية‪ ،‬رافعا وجهه �إىل ال�سماء يبكي امل� آ�سي‪ ،‬فماذا‬
‫‪.................‬‬ ‫تقول دموع احلالّج املعا�رص؟‬
‫‪81‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كونها تفرغ القدمي من حمتواه وت�شحنه بدالالت‬ ‫‪ -10‬يا غوث �شم�س غياث اهلل غيثني‬
‫جديدة ومتفردة‪.‬‬ ‫� أنا ال�ضعيف ك�أعناق الرياحني‪.‬‬
‫�إذ كيف يرتقي الدمع �إىل ال�سماء ويخرق منطق‬ ‫‪.................‬‬
‫اجلاذبية؟؟‬ ‫‪ -11‬ولكن‬
‫أ‬
‫وكيف ُتعاد المطار �إىل اهلل؟؟‬ ‫ها �إن � أقحوانة الدم تزهر يف قمي�صك يا» من�صور»‬
‫وما املق�صود بالغوث واحلزن ؟؟‬ ‫و�إبرة املوت العميقة‬
‫ال�شك يف � أن ال�شاعر ي�ستنه�ض الغائب ‪�/‬شطحات‬ ‫‪.................‬‬
‫احلالج‪ ،‬ليكتب ال�شاهد‪/‬حا�رض الق�صيدة‪ .‬وي�سل�سل‬ ‫‪ -12‬كادت �رسائر �رسي � أن تبوح به‬
‫حلقات تراكم ا ألمل عرب الزمان واملكان لي�سيّج به‬ ‫ي�سميه»‪.‬‬
‫وكاد خويف عليه ال ّ‬
‫�إيقاع اجل�سد الراهن‪ .‬وانطالقا من مقولة مري�سيا‬ ‫لعل الق�صيدة يف حدّ ذاتها قطرات بكاء مكتوم‪،‬‬
‫الياد ف�إن العا�شق واملجنون وال�شاعر وحدهم‬ ‫ي�ستعيد بها ال�شاعر الطق�س اجلنائزي للحالج‬
‫ميلكون خياال كامال‪ ،‬ولعل املت�صوف يندرج يف‬ ‫امل�صلوب‪ ،‬ليقارن بينه وبني الكالم امل�صلوب‬
‫خانة العا�شق للذات ا إللهية ‪.‬‬ ‫واحلقيقة امل�صلوبة يف زخم الواقع‪ � ،‬أو رمبا هي �إلهام‬
‫يتبدى ال�شاعر وليا مت�أملا يف �سياق رمزية تر�شح‬ ‫م�ستمد من «حكمة الليل التي تدير وجه �صاحبها‬
‫بطقو�س املوت والت�ضحية‪ ،‬و�إذا انطلقنا من «احلزن»‬ ‫عن �صحو النهار ومنطق ال�شم�س‪ ،‬هي انف�صال عن‬
‫باملعنى ال�صويف وهو حالة من حاالت املت�صوفة‬ ‫الواقع اليومي و�إيغال يف عوامل الباطن حيث يخفت‬
‫و»الغوث «� أعلى درجة من مقامات الت�صوف ف�إن‬ ‫تدريجيا �إيقاع الزمن ا ألر�ضي»(‪)1‬‬
‫ال�شاعر يف هذا ال�سياق حاول � أن يحقق متازجا بني‬ ‫وعندما يخفت هذا الزمن تتعالق امللفوظات بالزمن‬
‫البعدين‪ ،‬فيغدو امل�صطلحان احلزن‪/‬الغوث مولدا‬ ‫وربه‪ ،‬وتبدو‬
‫ال�رسمدي‪ ،‬فتتك�سرّ احلواجز بني العبد ّ‬
‫دالليا و�إيقاعيا‪ ،‬ومعربا بني الذات ال�شاعرة وا إلله‪،‬‬ ‫وك�أنها هذيان �صويف وجنون‪ ،‬وهو � أف�ضل دليل على‬
‫والذات وعاملها‪ ،‬والذات وذاكرتها‪ ،‬فيمتزج الكيان‬ ‫� أ�صل اجلنون املقدّ�س الذي يعانيه � أ�صحابه اجنذابا‬
‫الناطق بالطبيعة وي�ستحيل �سحابة ت�أتي بالغيث كي‬ ‫نحو قوة داخلية علوية يف � آن معا(‪ )2‬فتتخلّق احلكمة‬
‫فيتحول الدمع املعبرّ عنه يف‬
‫ّ‬ ‫حتيي ا ألر�ض اليباب‪،‬‬ ‫من ال�شعر يف زمن اختالط احلقيقة بالواقع‪. ،‬‬
‫مفتتح الق�صيدة �إىل رمز للخ�صب والنماء بدل رمزه‬ ‫يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫للحزن والقهر وا ألمل‪ ،‬ويغدو احلزن موقفا من العامل‬ ‫� أعليت دموعي‬
‫حني يفقد العامل بريقه ويت�شح بال�سواد‪ ،‬ويتحول �إىل‬ ‫كي تب�رصها يا � أاهلل‬
‫غيمة ت�ضلل � أفق ال�سماء‪ ،‬في�شاكل ال�شاعر بحلوله‬ ‫وقلت � أعيد لك ا ألمطار‬
‫وامتزاجه بالطبيعة احلالج بحلوله يف الذات ا إللهية‬ ‫فلتن�رش غيمك حيث ت�شاء‬
‫يف املنطق ال�صويف‪ ،‬ولعل الدمع الذي يعتلي ال�سماء‬ ‫ف� إ ّن الغوث يعود �إليك‬
‫ال جند له منطقا �إال �إذا ت�شاكل مع البحر يف البنية‬ ‫يل‪.‬‬‫واحلزن يعود � إ ّ‬
‫العميقة كون البحر �سائال ماحلا يتبخر بفعل حرارة‬ ‫ال تتحقق الكتابة �إال �إذا ا�ستبطنت �إمكانية القراءة‪،‬‬
‫ال�شم�س فيعتلي ا ألفق ويتحول �إىل �سحابة ممطرة‪،‬‬ ‫ولعل الن�ص ال�شعري الذي بني � أيدينا ا�ستمدّ �رشعيته‬
‫من هذا املنطلق ن�ستطيع � أن نبني من الالمنطق‬ ‫من منظومة �صوفية‪ ،‬ف�إذا ارتقى املت�صوفة بالرمز‬
‫منطقا‪ ،‬ونقب�ض على معاين لعل � أبرزها يف هذا‬ ‫�إىل م�ستوى امل�صطلح‪ ،‬ف�إن ال�شاعر ارتقى بالق�صيدة‬
‫ال�سياق‪:‬‬ ‫رهن‬‫�إىل م�ستوى الرمز املجازي اخلا�ص ؛ ألنه ّ‬
‫الدمع‪..........‬البحر‪............‬املطر‬ ‫امل�صطلح ال�صويف‪ ،‬و مار�س انحرافا داخله وعاد‬
‫احلزن‪.........‬ال�سحاب‪.........‬ا ألمل‬ ‫به من منبعه الروحاين‪ ،‬ا ألمر الذي جعله ينتقل‬
‫الغوث‪.........‬الغيمة‪............‬الغيث‬ ‫من احلكمة وجماهدة الباطن �إىل احلكمة ال�شعرية‬
‫الدمع والبحر واملطر �سوائل حتيل على املاء وهو‬ ‫وجماهدة الواقع‪ ،‬وهنا بال�ضبط تكمن �شعرية اللغة‪،‬‬
‫‪82‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫فهذا االنزياح جعل احلوا�س تنوب عن بع�ضها‪ ،‬بل‬ ‫طق�س عبور ومبد� أ ا أل�شياء ‪.‬‬
‫�إن الدمع احلقيقي ال يكتمل �إال �إذا اقرتن بال�صوت‪،‬‬ ‫واحلزن وال�سحاب والغيمة حتيل على الظلمة التي‬
‫وال�سمع ال يكتمل �إال بالب�رص‪ ،‬وهذا التكامل املعنوي‬ ‫يعقبها انفراج ف�إن ال�شاعر يخلق من الظلمة النور‪،‬‬
‫هو الذي يعطي لل�شاعر �رشعية البوح من خالل ما‬ ‫ومن القحط دمعا وبحرا ومطرا باحثا عن ا ألمل‬
‫يرى وي�سمع عما يب�رصه يف الآفاق‪.‬‬ ‫يف التجدد واالنبعاث‪ � ،‬أو لعله يريد التطهر من دن�س‬
‫تخيرّ ال�شاعر وحداته اللغوية‪ ،‬وركبها تركيبا مينحه‬ ‫مثلما تتطهر ا ألر�ض مباء املطر وتتجدد‪.‬‬
‫فرادته‪ ،‬م�ستح�رضا خلفياته املعرفية‪ ،‬الدينية‬ ‫فمن � أي دن�س يريد � أن يتطهر؟‬
‫وا أل�سطورية والتاريخية يف ذاكرته‪ ،‬فتزدحم ال�صور‬ ‫يقول‪:‬‬
‫ال تتحقق‬ ‫ال�شعرية من خالل لغته الرتميزية‪ ،‬وتغاير امل�ألوف‬ ‫و� أنا حني ربطت الريح بخيمة � أوجاعي‬
‫الكتابة �إال‬ ‫وتك�سب هويتها وان�سجامها يف �سياق خا�ص بها‪،‬‬ ‫جمعت ينابيع ا ألر�ض ففا�ضت من � أملي‬ ‫ّ‬
‫�إذا ا�ستبطنت‬ ‫فيت�سم ال�شاعر بالفرادة‪ ،‬ومن خال تتبع م�سارات‬ ‫هذا � أملي‬
‫�إمكانية‬ ‫ال�سيموز جند � أن ال�شاعر يتنا�ص مع � أ�ساطري غارقة‬ ‫قرباين جلمالك ال تغ�ضب‬
‫القراءة‪ ،‬ولعل‬ ‫يو�شح الق�صيدة‬
‫يف القدم وال �شك يف � أن ا�ستح�ضارها ّ‬ ‫ف�أنا ل�ست قويا حتى تنهرين باملوت‬
‫الن�ص ال�شعري‬ ‫بهالة � أ�سطورية يتحول مبوجبها ال�شاعر �إىل �إله‬ ‫يكفي � أن تر�سل يف طلبي‬
‫الذي بني � أيدينا‬ ‫ال�شعر‪ ،‬ولعل ظالل � أ�سطورة � أبوللو ن�ستمد خيوطها‬ ‫ن�سمة �صيف ف�أوافيك‬
‫ا�ستمد �شرعيته‬
‫ّ‬ ‫مند�سة يف ت�ضاعيف الق�صيدة‪،‬‬‫ّ‬ ‫من وحدات � أ�سلوبية‬ ‫وحترك � أوتار املو�سيقى‬
‫من منظومة‬ ‫كقوله‪:‬‬ ‫ألموت و� أحيا فيك‬
‫�صوفية‪ ،‬ف�إذا‬ ‫«قرباين جلمالك ال تغ�ضب»‬ ‫هذا � أملي‬
‫وتيمة اجلمال يتميز بها � أبوللو الذي نفاه ا إلله‬ ‫هذا � أملي خفف من وقع جمالك فوق فمي»‪.‬‬
‫ارتقى املت�صوفة‬
‫زيو�س‪� ،‬إىل ا ألر�ض‪ ،‬حيث عمل راعيا عند � أحد‬ ‫ي�ستعيد ال�شاعر مباء الينابيع فعل اخللق املتمثل يف‬
‫بالرمز �إىل‬ ‫ملوك الب�رش‪ ،‬ولكنه كان مميزا ب�أوتاره املو�سيقية‬ ‫�شكل الق�صيدة‪ ،‬فتت�ضمن رمزية املاء الداللة على‬
‫م�ستوى‬ ‫فقد �سحرت ا ألنغام ال�سماوية التي ت�صدر عن ناي‬ ‫االنبعاث والتجدّد‪ ،‬ألن ال�شاعر يلب�س عندما يتطهر‬
‫امل�صطلح‪ ،‬ف�إن‬ ‫((� ّأبوللو))�سكان اململكة جميعهم‪ ،‬ومنه حتول‬ ‫النبوة‬
‫بردة ّ‬
‫ال�شاعر ارتقى‬ ‫� ّأبوللو من قائد مركبة ال�شم�س �إىل رب ال�شعر والفن‬ ‫وي�شاكل الكالم ال�شعري الوحي‪ ،‬وي�شاكل ال�شاعر‬
‫بالق�صيدة �إىل‬ ‫واملو�سيقى (‪)3‬‬ ‫الر�سل يف دعواتهم‪� ،‬إنها �إذن الرغبة املفتوحة للبوح‬
‫م�ستوى الرمز‬ ‫فح�ضور � أوتار املو�سيقى وح�ضور اجلمال‪ ،‬وتيمة‬ ‫بال�رسّ ت�سكن يف توق ا إلن�سان وتدفع به �إىل حتقيق‬
‫املجازي اخلا�ص‬ ‫ال�شم�س التي ترتدد خم�س مرات يف مقاطع الق�صيدة‪،‬‬ ‫�إن�سانيته يف الكون‪.‬‬
‫حتيل �إحالة �ضمنية على رب ال�شعر واملو�سيقى‪،‬‬ ‫فجملة «� أعليت دموعي كي تب�رصها يا � أاهلل» التي‬
‫قوته منه‪ ،‬ومن �ضياء‬ ‫الذي يحاول ال�شاعر � أن ي�ستمد ّ‬ ‫افتتح ال�شاعر بها الق�صيدة‪ � ،‬أدت دورا ا�سرتاتيجيا‬
‫ال�شم�س التي كان � أبوللو يجرّ عربتها‬ ‫حا�سما يف توجيه الن�ص‪ ،‬وقدّمت �إ�شارات � أ�سلوبية‬
‫«حني ربطت الريح بخيمة � أوجاعي»‪ ،‬ملفوظ الريح‬ ‫بني عليها الكون التخييلي برمته‪ ،‬وهو البوح‬
‫يحيل على الدمار واخليمة حتيل على ا ألمة العربية‬ ‫وال�رسّ‬
‫والوجع يحيل على الوجع العاتي والدمار الذي يلف‬ ‫ألنها خالفت املنطق ال�صويف على الرغم من � أنها‬
‫ا ألمة‬ ‫تعلن منذ البداية عن ف�ضاء �صويف دلّنا عليه املكون‬
‫والقربان و�سيلة تطهري‪ ،‬واللغة تطهر املبدع وحتييه‬ ‫املعجمي املذكور �سلفا‪ ،‬مع � أن �شهوة البوح حمظورة‬
‫قوته من رب ال�شعر كي ينت�شله من‬ ‫ألنه ي�ستمد ّ‬ ‫متاما يف املقام ال�صويف‪ ،‬؛ ألن البوح بال�رسّ هتك‬
‫املوت‪.‬‬ ‫للقدا�سة ال�صوفية»دمنا يباح �إذا نبوح»‬
‫قرباين جلمالك ال تغ�ضب‬ ‫ولكن كلمة «� أعليت دموعي كي تب�رصها»� أ�صلها‬
‫فالقربان الب�رشي ميثل نقطة اللقاء بني الب�رشي‬ ‫«� أعليت �صوتي كي ت�سمعه»‬
‫‪83‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اخللود‪ ،‬وا ألخذ بيده عرب برزخ املوت نحو عامل � آخر‬ ‫وا إلن�ساين‪ ،‬لذلك يريد ال�شاعر � أن يقرب نف�سه قربانا‬
‫� أكرث بهجة و�سعادة(‪ ،)4‬ولعل هذا املعنى هو الذي‬ ‫خلال�ص الب�رشية‬
‫يتحول مبوجبه املوت من م�صري فردي مظلم �إىل‬ ‫هذا � أملي‬
‫مرحلة تطهري وجتديد‪ ،‬وبالتايل تف�صح ا أل�سطورة‬ ‫هذا � أملي‪.‬‬
‫من خالل الرمز ال�شعري عن وجه القدم‪ ،‬ووجه الآن‬ ‫ي�ستقطر ال�شاعر � أمله من خالل الكالم ال�شعري حيث‬
‫املزروع يف ال�رسمدية (‪ )5‬املتمثل يف مبد� أ اخلال�ص‪،‬‬ ‫يعرب به من الغياب �إىل احل�ضور ألنه من�صهر يف‬
‫وفهل يبحث ال�شاعر عن املخلّ�ص‬ ‫ذاته كربكان يريد � أن يقذف به �إىل اخلارج‪ ،‬ف�أنفا�س‬
‫يفتتح املقطع الثاين مبقولة احلالج ‪:‬‬ ‫الق�صيدة ان�صهرت ب� آماله و� آالمه وعقده و� أحالمه‬
‫«للنا�س حج ويل حج �إىل �سكني‬ ‫تتفجر‪ ،‬ألنها‬
‫ّ‬ ‫وهي ا آلن موغلة يف الت�سترّ ‪ ،‬تريد � أن‬
‫تهدى ا أل�ضاحي و� أهدي مهجتي ودمي»‬
‫[‬
‫حتولت �إىل �سائل حمرق يتالقى فيه اخلفاء الكامن‬
‫مت يعقبها بقوله فيبدو التناغم ال�شعري على نف�س‬ ‫يف جتلي الكلمات ولذلك يت�أوه ال�شاعر ويت�أمل‪.‬‬
‫الوترية‪:‬‬ ‫خفف من وقع جمالك فوق فمي‪.‬‬
‫يا عابر اجل�سد ال�صحراء خذ بيدي‬ ‫تكت�سب اللغة هويتها وان�سجامها يف �سياقها‬
‫وخفف الوطء �إن الوطء يف � أملي‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬فيمتد ال�شاعر �إىل � أقا�صي ا أل�سطورة بحثا‬
‫مت�شي و� أم�شي فهل يدري بنا زمن‬ ‫عن زهرة ال�شعر‪ ،‬فهو كاحللم املو�شح ب�أغاين الوجود‬
‫�ساعاته الرمل وا أليام كالعدم‬ ‫اخلالدة‪ ،‬فينت�شل ال�شاعر عزلته و� أمله عندما يحرّك‬
‫يكفي من ا ألر�ض �شرب � أنت حار�سه‬ ‫� أوتار املو�سيقى القادم من عمق ا أل�سطورة احتماء‬
‫يطوف حولك �إما طاف باحلرم‬ ‫باجلمال وال�صورة‪ ،‬واملو�سيقى يقابلها ال�شعر‪،‬‬
‫تغفو الرمال ف�أ�صحو والرمال مدى‬ ‫وال�شعر‪ ،‬جمال و�صورة‪ ،‬فينحت من اللغة والتاريخ‬
‫ج�سمي لها البيد لكن الهوى �سقمي‪ .‬الق�صيدة‪�.‬ص‪1‬‬ ‫والرتاث الديني‪ ،‬لي�ستح�رض هذه التحفة الفنية الدالة‬
‫ال�شك يف � أن االتكاء على مقولة احلالج يف فاحتة‬ ‫عليه‪ ،‬في�ستبطن الك�شف ال�صويف ويبعث احلالّج من‬
‫املقطع الثاين حتينّ مرّة � أخرى فكرة القربان‪ ،‬وهذا‬ ‫مرقده لي�سري معه باملوازات � أو يجعل روح احلالج‬
‫النمط التكراري املتولد ب�صيغ خمتلفة يف املقاطع‬ ‫قوة جتربته و�صربه على‬ ‫حت ّل فيه علّه ي�ستمد منه ّ‬
‫الالحقة‪ ،‬يخلق يف ذهن املتلقي م�سارا � آخر من‬ ‫القوة اخلارقة التي امت�صت‬ ‫بالئه‪ � ،‬أوعلّه ي�ستمد منه ّ‬
‫م�سارات الت�أويل‪ ،‬ألن القربان اجل�سدي مت�أ�سطر‬ ‫الدمع من عينه وهو يف � أق�صى درجات االبتالء‪،‬‬
‫يف ذهنية الب�رش وا�ستبدل بقرابني حيوانية إلحياء‬ ‫ألن الدمع �ضعف‪ ،‬واحلالج مل ي�ضعف‪ ،‬من هنا‬
‫الطقو�س‪ ،‬ولكن ال�شاعر يعيد هذه الفكرة مرّة � أخرى‪،‬‬ ‫ت�أتي املفارقة بني احلالج وال�شاعر‪ ،‬وي�صبح الكالم‬
‫ليعود بنا �إىل البدء وفكرة املنقذ « تهدى ا أل�ضاحي‬ ‫ال�شعري مبثابة امتداد ل�صوت احلالج املكمم‪ ،‬هو‬
‫و� أهدي مهجتي ودمي‪ ،‬خفف الوطء �إن الوطء يف‬ ‫الدمع املكبوت‪ ،‬هو احلزن املكتوب مبداد الروح‪،‬‬
‫� أملي‪ ،‬ج�سمي لها البيد‪ ».....‬فكل هذه ا إل�شارات حتيل‬ ‫في�صبح ال�شعر �سكنا لل�شاعر‪ ،‬يحج له لين�سلخ من‬
‫على القربان الب�رشي‪،‬‬ ‫دن�سه العالق بروحه التي تلوثت وتتلوث مبعاي�شة‬
‫وال�س�ؤال املطروح‪ ،‬ملن يقدم هذا القربان ؟؟؟‬ ‫حولت‬
‫اخل�صي�صة ال�سحرية للغة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواقع‪ ،‬كما � أن‬
‫ال �شك يف � أن ال�شاعر يبني وجودا � آخر موازيا للوجود‬ ‫الدمع �إىل غيث‪ ،‬وينابيع‪ ،‬وقدمته يف وحدات � أدبية‬
‫ا أل�صلي وير�سم من خالله ما يجب � أن يكون‪ ،‬ولعل‬ ‫رمزية تعمل على اختزاله ثم تقدميه جمددا للوعي‪،‬‬
‫«املوت هو املثري ا ألكرب للكتابة‪ ،‬وبني � أن يكون‬ ‫مما جعل ظالل ا أل�سطورة التموزية تظهر خلف � أ�سوار‬
‫املوت مثريا‪ � ،‬أو � أن يكون غوثا ورحمة يقف ال�شاعر‪،‬‬ ‫الرمز‪ ،‬فيح�رض دومزي –اب�سو‪ ،‬ابن املاء اخلالّق‬
‫وكل ذلك ي�رسبل ا ألقوال وا ألحوال بالغمو�ض‪،‬‬ ‫جمدّد طاقة احلياة وحافظ قوى اخل�صوبة‪ ،‬الذي‬
‫(‪)...‬فال�شعر لي�س �صدى للوجود‪ � ،‬أو ظالً من ظالله‬ ‫قهر املوت و حرر نف�سه من قوى العامل ا أل�سفل‪ ،‬وهو‬
‫� أو تعبريا ً عنه‪ ،‬و�إمنا هو وجود � آخر مواز للوجود‬ ‫الوحيد القادر على �إعطاء ا إلن�سان � أمال يف حتقيق‬
‫‪84‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جلية حتيل عليها الرموز اللغوية املذكورة‪ ،‬كما‬ ‫ا أل�صلي»(‪)6‬‬
‫حتيلنا � أي�ضا على � أجواء � أ�سطورية حتمل بذور املوت‬ ‫يتمازج اجل�سد القربان ب�أدمي ا ألر�ض فيتمدد لي�صبح‬
‫واالنبعاث‪ ،‬فا إلميان باالنت�صار على قوى املوت‬ ‫�صحراء �شا�سعة برمالها‪ ،‬وهنا يتنا�ص ال�شاعر مع‬
‫وعنا�رص اخلراب‪ ،‬والت�ضحية فداء للفكرة‪ ،‬حتيّني‬ ‫� أبي العالء املعرّي يف قوله‪:‬‬
‫الرموز ا أل�سطورية (متوز‪ ،‬بعل‪ � ،‬أدوني�س‪ � ،‬أوزيري�س)‪،‬‬ ‫خ ّفف الوطء قليال فلي�س‬
‫التي يغيبها املوت فيعم اجلدب‪ ،‬ولكنها تعود من‬ ‫� أدمي ا ألر�ض �إال من هذه الج�ساد‬
‫أ‬ ‫ ‬
‫عامل ا ألموات فتتجدد احلياة‪ ،‬وال �شك يف � أن هذه‬ ‫ولعل ال�شاعر با�ستح�ضاره هذه املعاين يريد � أن يعبرّ‬
‫الفكرة كانت حا�رضة يف ذهن ال�شاعر وزهو يبني‬ ‫عن املوت الذي يطوف حول الب�رشية ‪.‬‬
‫�صورته‬ ‫ولعل فكرة القربان هنا تعبري عن القتل والدمار‪،‬‬
‫� أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها‪...‬ملاذا؟وما‬ ‫واحلزن القابع يف الذات الب�رشية‪ ،‬ف�أين الغوث‪،‬‬
‫املق�صود بال�شم�س؟؟‬ ‫و� أين اخلال�ص ؟تقدم القرابني الب�رشية كل يوم ل إلله‬
‫الكلمات يف � أية لغة ذات وجهني‪ ،‬وجه داليل يرتبط‬ ‫الب�رشي‪ ،‬ألن املوازين اختلّت‪ ،‬والب�رش ت�ألّهوا‬
‫باملعاين املبا�رشة للم�سميات ووجه � آخر �سحري‬ ‫ميتزج ال�شاعر بالطبيعة برمتها‪ ،‬ف�إذا كان ج�سده هو‬
‫متلون بظالل متدرجة بني اخلفاء والو�ضوح‪...‬فكلمة‬ ‫ّ‬ ‫� أدمي ا ألر�ض ف�إن ع�صري عنبها دمه‪ ،‬ولعل ال�شاعر‬
‫�شم�س تعك�س يف النف�س معاين � أخرى فهي الو�ضوح‬ ‫الفرد يعبرّ عن اجلمع املتمثل يف ال�شعوب املقهورة‪،‬‬
‫وهي االنتظام وهي ال�صحو والعقل واحلقيقة(‪)7‬‬ ‫املظلومة‬
‫تكررت ال�شم�س يف املقاطع التالية ‪:‬‬ ‫املقطع الثالث‪:‬‬
‫‪ � -‬أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها‬ ‫� أر�سلت غزاال نحو ال�شم�س لينطحها‬
‫‪ -‬و� أخريا وجدتك � أيتها ال�شم�س يف � أعايل � أريحه‬ ‫و� أ�سلت بكائي يف الق�صب‬
‫‪ -‬تدورين خائفة على ا أل�سوار‬ ‫الع�صارون‬‫لي�س نبيذا ما يع�رصه ّ‬
‫‪ -‬وتغط�سني يف البحر كربتقالة مري�ضة‬ ‫ولكن في�ض دمي يف العنب‬
‫‪ -‬وما من يو�شع يعيدك من غروبك املب ّكر‬ ‫عمن ي�سقيني املاء‬ ‫�س�أهيم على وجهي � أ�سال ّ‬
‫‪ � -‬أخربيني � أيتها ال�شم�س‬ ‫أ‬
‫فال � أ�سمع غري طنني ذباب العراب على الكتب‬
‫‪� -‬إنني الآن � أرفع يدي نحوك � أيتها ال�شم�س احلبيبة‬ ‫من حويل �سبعة � أنهار‬
‫‪ -‬يا غوث �شم�س غياث ا ألر�ض غيّثني‬ ‫وبحار تذرعها احليتان‬
‫‪ -‬تلقني يف ا ألر�ض �شم�سا غري كابية‬ ‫و� أذناب يخوت من ذهب‬
‫التكرار املتواتر لل�شم�س يجعل منها عالمة �سيميائية‬ ‫و� أموت ب�صحرائي عط�شا‪........‬‬
‫داخل الن�ص ال�شعري تتلون بتلون م�سارات الت�أويل‬ ‫الكلمات‬
‫ُ‬ ‫�رشد العقل و� أفلتت‬
‫وهي ت�ستدعي مقابال من نف�س جن�سها وميثلّه‬ ‫وج ّن «املتدارك» يف «اخلبب»‬ ‫ُ‬
‫القمر‪،‬‬ ‫و�س�أقتل � أعلم يقتلني ا ألمراء‬
‫�إذا انتقلنا �إىل املعنى ا أل�سطوري جند � أن حكمة‬ ‫و� أ�صلب‬
‫ال�شم�س» تدعو �إىل تركيز احلوا�س و�شحذها للتعامل‬ ‫مابني اللد ومكة والنقب‬
‫ّ‬
‫مع الواقع ب�أعلى كفاية ممكنة «(‪ )8‬ف�إن هذا الواقع‬ ‫يتحول ال�شعر يف � أرقى م�ستوياته �إىل ترتيلة ومنط من‬
‫تع ّفن كامل�ستنقع الآ�سن‪ ،‬وال ي�ستطيع � أن يعاي�شه‬ ‫ا ألمناط ا أل�سطورية املتكرّرة على مرّ الع�صور‪ ،‬مييط‬
‫ا إلن�سان احلرّ‪ ،‬الذي ميتلك فكرا م�ستنريا‪ ،‬لذلك يتحد‬ ‫فيه ال�شاعر اللثام عن كارثية احلوادث املتالحقة‪،‬‬
‫ال�شاعر ب�إمام الطوا�سني احلالّج‪ ،‬وي�ستدعي من خالله‬ ‫ليعبرّ عن �رشوخ ا ألمة التي تزداد فواجعها‬
‫حكمة القمر‪ ،‬التي «تدعو �إىل بلبلة احلوا�س اخلارجية‬ ‫يظل الطق�س اجلنائزي طاغياً على املقاطع‪ ،‬فتت�شح‬
‫من � أجل تفتيح احلوا�س الداخلية»(‪ ،)9‬و�إذا كانت‬ ‫ب�سواد املوت ويتحول الدمع عرب بوابة الق�صب �إىل‬
‫حكمة ال�شم�س تدعو �إىل بناء اجل�سد وتوجيهه ألداء‬ ‫نبيذ ثم �إىل دم وهنا تظهر فكرة امل�سيح املخلّ�ص‬
‫‪85‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من حويل �سبعة � أنهار‬ ‫وظائفه العملية(‪ ،)10‬ف�إن هذا اجل�سد مات وا ألر�ض‬
‫وبحار تذرعها احليتان‬ ‫تعج با ألموات‪ ،‬وقرابني الب�رش متناثرة على � أر�ض‬ ‫ّ‬
‫و� أذناب يخوت من ذهب‬ ‫الب�سيطة كحبات الرمل»ج�سمي لها البيد»‪ ،‬لذلك‬
‫و� أموت ب�صحرائي عط�شا‪».‬‬ ‫«تدعو حكمة القمر اجل�سد �إىل اللعب احلرّ‪� ،‬إىل الرق�ص‬
‫يعي�ش ال�شاعر معاناة مفارقة ملعانات ال�سندباد‬ ‫الذي يجعل اجل�سد مو�ضوعا لنف�سه‪ ،‬ويعك�س طاقته‬
‫البحري‪ ،‬فمعاناة ال�شاعر‪ ،‬وال�شعوب العربية هي‬ ‫حموال احلركة املادية �إىل ن�شوة روحية‬ ‫نحو نف�سها‪ّ ،‬‬
‫معاناة ال�سندباد العربي يف بالد اخلري معاناة الذات‬ ‫ووجد �صويف»(‪)11‬‬
‫ومعاناة جمتمعه ا إلقليمي والعربي‪ ،‬يبحث عن‬ ‫لذلك يريد ال�شاعر تغييب ال�شم�س حتى ال ت�سطع على‬
‫خملّ�ص من ظم�أ الفكر‪ ،‬وعمى الب�صرية‪ ،‬والتوهان‬ ‫املكر واخلديعة‪.‬‬
‫عن املبد� أ احلقيقي‪ ،‬ألن ال�صحراء مرتبطة بالتيه‪،‬‬ ‫ولعل ال�صوت املجلجل من � أعماق ال�شاعر هو‬
‫ولعل ا ألنهار والبحار امل�ستح�رضة حتيل على‬ ‫�رصخة غريق يف وحل ا ألمل‪� ،‬رصخة مللمت �شتات‬
‫البرتول‪ ،‬الذي ت�سيطر عليه حيتان العامل الدنيوي‪،،‬‬ ‫امليثولوجي والتاريخي والفل�سفي والديني لتعبرّ‬
‫فاحلقائق جلية‪ ،‬وال�شاعر فلتت الكلمات من جوفه‬ ‫عن م�أ�ساة ا إلن�سان بعامة والعربي بخا�صة‪� ،‬رصخة‬
‫ومل ي�ستطع �إم�ساكها لذلك يعرب عن � أقوال �صناع‬ ‫ال�سعر املكتوب بالدم ومداد الروح‪.‬‬
‫القرار العربي بـ‪:‬‬ ‫لئن كانت الق�صيدة هي الدموع امل�ستح�رضة‪ ،‬ف�إنها‬
‫فال � أ�سمع غري طنني ذباب ا ألعراب على الكتب»‬ ‫مكتوبة بقلم الق�صب مبداد الدم املتحول �إىل خمر ثم‬
‫ومن خالل هذه املقولة ي�ستح�رض الرف�ض والتنديد‬ ‫�إىل دم‪ ،‬فينت�شي القارئ بخمر الكلمة فتنجلي � أمامه‬
‫واال�ستنكار‪ ،‬الذي � أ�صبح � أ�سطوانة روتينية ترتدد‬ ‫حقيقة الذات‪ ،‬و� أمل الذات‬
‫على منابر احلكام العرب‪ ،‬وال�شعوب العربية متوت‬ ‫� أ�سلت بكائي يف الق�صب‬
‫عط�شا يف بلدان الرثاء‪.‬‬ ‫الع�صارون‬
‫لي�س نبيذا ما يع�رصه ّ‬
‫ومع ذلك فال�شاعر يدرك � أنه �سيقتله ل�سانه‪ ،‬كاحلالّج‬ ‫ولكن في�ض دمي يف العنب ‪�.....‬ص‪2‬‬
‫متاما الذي قيل عنه «قتله ل�سانه»‬ ‫دم ليكتب به ال�شاعر حزنه‪،‬‬ ‫فيتحول مداد القلم �إىل ّ‬
‫ألن عقله �رشد وذاب مع ا ألفق الرحب وحترّر من‬ ‫ويتذوق القارئ ثمار اخلمر املعتّق‬
‫الواقع وتفتحت � أمامه احلقائق واحلجب وال ي�ستطيع‬ ‫وال�سكر يف هذه احلالة يحيل على ال�صحو فتنجلي‬
‫التوقف‬ ‫احلقائق‪ ،‬وتر�سخ يف الذات‪ ،‬فتعرف نف�سها‪ ،‬ألن من‬
‫«�رشد العقل و� أفلتت الكلمات‬ ‫ربه‪ ،‬ويعرف وجع ا إلن�سان ويح�س‬ ‫يعرف نف�سه يعرف ّ‬
‫وجن «املتدارك» يف «اخلبب»»‬ ‫به‪.‬‬
‫تدافع الكالم دون توقف‪ ،‬لذلك يخاف ال�شاعر � أن‬ ‫لعل في�ض دم ال�شاعر هو هذه الرموز املتناثرة‬
‫تختلط الكلمات بـبعـ�ضها مما �سي�صيبها من �رسعة‬ ‫على مقاطع الق�صيدة برمتها‪ ،‬والفي�ض هو حلظة‬
‫خبب املعاين‪ ،‬ففا�ضت املعاين عن النف�س‪ ،‬وبالتايل‬ ‫التجلي يف عرف املت�صوّفة‪ ،‬فريتقي ال�شاعر بالقول‬
‫ال ي�ستطيع الل�سان ردعها‪ ،‬ألن ن�شوة ال�شعر‪ ،‬وخمر‬ ‫ال�شعري �إىل درجات الكمال واخليال اخلالّق كونه‬
‫الكلمات واحللول يف تفا�صيل الق�ضية � أ�سكرت‬ ‫ي�شاكل املت�صوفة‪ ،‬فيب�رص احلقائق مثلما تنك�شف‬
‫ال�شاعر‪ ،‬فباح باملحظور ف�أدرك � أنه‪:‬‬ ‫احلقائق للمت�صوف‪ ،‬ولكنه يخالف املت�صوّفة‬
‫«�س�أقتل � أعلم يقتلني ا ألمراء‬ ‫ويقتدي باحلالّج الذي قتله ل�سانه‪ ،‬فيبوح با أل�رسار‪،‬‬
‫و� أ�صلب‬ ‫والبوح با أل�رسار العرفانية � أ�صبح يف زماننا كالبوح‬
‫ما بني اللدّ ومكة والنقب»‬ ‫با أل�رسار الدنيوية‪ ،‬فكل متمرد يريد � أن ينري الب�صائر‬
‫يتمزّق ال�شاعر ويخرج هذه الهرتقات ال�صوفية‬ ‫يعاقب بالقتل‪.‬لذلك يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫ويبوح مبكنونات النف�س كربكان � أخرج حم�أه‬ ‫عمن ي�سقيني املاء‬
‫«�س�أهيم على وجهي � أ�س�أل ّ‬
‫ولعلّه �إن مات �سيكون ج�سده هو قربان اخلال�ص‪،‬‬ ‫فال � أ�سمع غري طنني ا ألعراب على الكتب‬
‫‪86‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫�إال بريق جنوم يف � أعاليه‬ ‫ف�سنة احلياة � أثبتت � أن الدعوات ال تهزم با ألذى � أبدا‪.‬‬
‫يلقي على ال�سهل ظالّ من عباءته‬ ‫لذلك �سيقتله ا ألخوة ا ألعداء‪ ،‬لذلك يحاول ال�شاعر‬
‫فينبت الع�شب يف � أق�صى حوا�شيه‬ ‫� أن يكرر فكرة املنقذ مبعان خمتلفة وكما ان النبوة‬
‫يكاد يلب�س قلب املاء مب�سمه‬ ‫وحي و�سعي وراء تطهري الب�رشية من الرج�س‪ ،‬كذلك‬
‫فيهطل الغيث �إن �صلّى بواديه‬ ‫ال�شعر‪ ،‬لذلك ي�شاكل ال�شاعر النبي يو�سف‪ ،‬ويتنا�ص‬
‫نعم �إنه اخلال�ص على يد املخل�ص الذي تنتظره‬ ‫مع ق�صة يو�سف‪ ،‬لي�ضيفها �إىل حلقة معاناة ا ألبطال‬
‫الب�رشية‪ ،‬ونحن � أي�ضا ال نريد � أن نبوح‪ ،‬غري � أن ا ألمل‬ ‫ويطلب الغوث من اهلل‪:‬‬
‫العربي دائما يعلّق على � أبطال ي�شفون غليل ال�شعوب‪،‬‬ ‫«ياغوث �شم�س غياث اهلل غيّثني‬
‫و� أح�سب � أن اجلميع يعرفهم والتاريخ �سجلهم ‪.‬‬ ‫� أنا ال�ضعيف ك�أعناق الرياحني‬
‫يختم ال�شاعر ق�صيدته با ألمل املنتظر‪ ،‬ولئن قدّم‬ ‫تلقني يف ا ألر�ض �شم�سا غري كابية‬
‫املنقذ ك�إله � أ�سطوري‪ ،‬ف�إن ن�سيج الق�صيدة برمته‬ ‫كالربق ي�شعل � أح�شاء الب�ساتني‬
‫ج�سد � أ�سطورة ا إلله امليت‪ ،‬مبختلف ال�صيغ‬
‫ّ‬ ‫�إين ر� أيت ويل ر ؤ�يا مغامرة‬
‫ف�سيزهر دم الب�رشية املهدور بقدوم الربيع‪ ،‬ويدل‬ ‫جنما ت�ألق يف � أق�صى �رشاييني‬
‫عليه زهر ا ألقحوان ‪.‬‬ ‫ر ؤ�يا � أخاف �إذا ما قلت �سريتها‬
‫ولعلنا منذ البداية نلم�س حلوال ومتازجا بني‬ ‫من اخوتي � أن يخونوا � أو يكيدوين‬
‫ا إلن�ساين والطبيعي‪ ،‬فال مبدّل ل�سنّة اهلل‪ ،‬فاجلدب‬ ‫فاكتم حكايتها يف القرب يا ابتي‬
‫يعقبه اخل�صب وال�سنون العجاف يعقبها الغوث‪،‬‬ ‫فالورد ينب�ض يف � أ�صل الرباكني»‪.‬‬
‫واملوت تعقبه حياة‪ ،‬والي�أ�س يعقبه ا ألمل والظالم‬ ‫ق�صة يو�سف يحيل‬ ‫لعل التنا�ص مع م�شهد الر ؤ�يا يف ّ‬
‫يعقبه النور والليل يعقبه النهار‪ ،‬منط يتكرر منذ‬ ‫�إحالة مبا�رشة عن يو�سف الزمن الراهن‪ ،‬وهو يو�سف‬
‫ا ألزل‪ ،‬والباطل �سيزهق ال حمالة واحلق �سينت�رص‬ ‫املقهور‪ ،‬يو�سف املنبوذ‪ ،‬يو�سف الالجئ يو�سف‬
‫و�سيتبدد الظالم عن ال�ضمائر ‪.‬‬ ‫فيتحول من �صيغة‬ ‫ّ‬ ‫املح�صور يف جب ا ألوطان‪،‬‬
‫�سيهطل الغيث وتتحول الدموع �إىل � أمطار ويخ�رض‬ ‫املفرد �إىل �صيغة اجلمع‪.‬‬
‫الكون وينتع�ش الع�شب ويحيا النا�س باحلق وتعود‬ ‫ولعل ر ؤ�يا ال�شاعر تب�رش بقرب ظهور املخلّ�ص‪ ،‬وهو‬
‫مركبة ال�شم�س مل�سارها املنتظم ‪.‬‬ ‫يعلم بل يحاول � أن يتنب�أ بزمن البعث‪ ،‬ألن �سنة‬
‫تعد دموع احلالج مر� آة كا�شفة للمحيط الداخلي‬ ‫احلياة تقت�ضي فال تربعم النبتة �إال �إذا تع ّفنت‪ ،‬وال‬
‫واخلارجي‪ ،‬حيث خلق ال�شاعر خطابا �صوفيا حمموال‬ ‫ي�رشق ا ألمل �إال �إذا ا�شتدت حلكة ا ألمل ‪:‬‬
‫بنربة م�أ�ساوية ت�سعى من خالل ت�شتت � أ�صواتها‬ ‫«ها � إ ّن � أقحوانة الدّم تزهر يف قمي�صك يا من�صور‬
‫�إىل �إعادة بناء الواقع من خالل ترميم ثقوبه‪،‬‬ ‫و�إبرة املوت العميقة‬
‫ومللمة الوعي العربي املبعرث يف ع�رص �ضاعت فيه‬ ‫متوجة بقطرة جميلة من ماء‬ ‫تطلع من ج�سدك ّ‬
‫الب�صرية‪ ،‬وبني العمى والب�صرية يقبع ال�شعر ا أل�صيل‪،‬‬ ‫احلياة»‬
‫الذي يقدّم من خالله ال�شاعر املكرّ�س لدور املر�شد‬ ‫ترحل دموع احلالج رحلة �سندبادية يف ج�سد‬
‫م�رشوعا � أيديولوجيا متكامال جامعا بني املقد�س‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬وتتحول �إىل ماء احلياة‬
‫واملد ّن�س‪ ،‬ليك�شف من خالل املتناق�ضات عن الذات‬ ‫ومنه ينق�شح احلزن املخيّم الكون التخييلي وت�أتي‬
‫اجلمعية ال�ضائعة يف هذه املتاهة الكونية‪ ،‬حلما‬ ‫اخلامتة الن�صية مفعمة با ألمل‪:‬‬
‫بالنموذج احل�ضاري البديل وفقا ملا تقرّه قوانني‬ ‫كادت �رسائر �رسّي � أن تبوح به‬
‫الطبيعة ونوامي�س الكون و�سنن التدافع‪ ،‬لذلك تولد‬ ‫وكاد خويف عليه ال ي�سميه‬
‫اليوتوبيا وتنتع�ش ا أليديولوجية يف هذا الن�ص‬ ‫ين�أى ويقرب جملوا وم�سترتا‬
‫ال�شعري‪ ،‬لي�صبحا من منظور‪ -‬فرو يدي –�سلوكا‬ ‫كالغيب � أجمل ما يف الغيب ما فيه‬
‫دفاعيا جتاه هذه املتغريات احلا�صلة‪.‬‬ ‫من ذا هو الرجل العايل ول�ست � أرى‬
‫‪87‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الحاالت والهوام�ش‬
‫إ‬ ‫فرحلة ال�شاعر وارتقا ؤ�ه هي رحلة الفكر الفتي‪ ،‬الفكر‬
‫ّ‬
‫‪ -1‬فرا�س ال�سواح ‪:‬لغز ع�شتار‪ ،‬ا أللوهة امل�ؤنثة و� أ�صل الدين‬ ‫اليقظ‪ ،‬رحلة العارف يف املنطق ال�صويف «ورحلة‬
‫وا أل�سطورة‪ ،‬دار عالء الدين للن�رش والتوزيع والرتجمة‪ ،‬ط‪ ،8‬دم�شق‪،‬‬ ‫العارف هي رحلة املطلق والبحث عن الكمال‬
‫�سوريا ‪� 2002‬ص‪.251‬‬
‫‪ -2‬فرا�س ال�سواح ‪:‬لغز ع�شتار �ص‪.252‬‬ ‫وت�شوهاته»(‪)12‬‬
‫ّ‬ ‫وجتاوز انحرافات الواقع‬
‫‪� -3‬سليمان مظهر‪ � ،‬أ�ساطري من الغرب‪ ،‬دار ال�رشوق‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫هكذا يتبدى وجع الكتابة ويت�شظى حقل العبارة‬
‫القاهرة‪� ،2000‬ص‪14‬‬
‫‪ -4‬فرا�س ال�سواح‪ ،‬ا أل�سطورة واملعنى‪ ،‬درا�سة يف امليثولوجيا‬ ‫ويتك�سرّ ليُبنى على املفارقة في�صبح الدمع �صوتا‬
‫والديانات امل�رشقية‪ ،‬دار عالء الدين‪ ،‬ط‪ ،1‬دم�شق‪� ،‬سوريا‪،2001‬‬ ‫داخليا‪ ،‬وما دام �صوت العقل مغيبا‪ ،‬فال�شاعر‬
‫�ص‪175‬‬
‫‪ -5‬املرجع نف�سه �ص‪176‬‬ ‫حاول � أن ي�ستقطب امل�ستمع « ل إل�صغاء ل�صوت‬
‫‪ -6‬حممد علي �شم�س الدين‪ ،‬اجلنوب حملني ثم حملته‪ ،‬الثورة‪:‬‬ ‫احلكماء الذين حلموا باملدن الفا�ضلة التي مل تنب‬
‫حوار مع حممد علي �شم�س الدين‪ ،‬يومية الثورة‪ ،‬ت�صدر عن م�ؤ�س�سة‬ ‫حتى الآن‪ ،‬فال�سيا�سات ا�ستولت على ارث ا ألنبياء‬
‫الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�رش‪ ،‬لقاء ا أل�سبوع ‪2008/11/12‬‬
‫� أجرت احلوار فادية م�صارع‬ ‫وحولته �إىل رايات للقتال‪ ،‬وممالك لل�سلب‬
‫واحلكماء ّ‬
‫الرابط ا إللكرتوين‪:‬‬ ‫والنهب»(‪)13‬‬
‫‪http/thawra.alwehda.gov.sy/_Rint_veiw.asip ?fil Name=95983058200‬‬
‫‪81111221038‬‬ ‫فيبوح ال�شاعر عن مكامنه ويك�شف عن تغريبة‬
‫‪ -7‬فرا�س ال�سواح‪ ،‬ا أل�سطورة واملعنى‪ ،‬مرجع �سابق �ص‪.22‬‬ ‫ا إلن�سان وم�صريه العاتي‪« ،‬في�ضيع الفارق بني‬
‫‪ -8‬فرا�س ال�سواح‪ ،‬لغز ع�شتار‪ ،‬مرجع �سابق �ص‪.203‬‬
‫‪ -9‬املرجع نف�سه �ص‪.203‬‬ ‫النبوة باملعنى ال�شامل وال�شعر فيغدو الت�أ�سي�س‬
‫‪ -10‬املرجع نف�سه �ص‪203‬‬ ‫ال�شعري‪ ،‬ت�أ�سي�سا نبويا بالدرجة ا ألوىل»(‪)14‬‬
‫‪ -11‬املرجع نف�سه �ص‪.203‬‬ ‫ولئن كانت ا أل�رسار العرفانية‪ ،‬من الطابوهات‪،‬‬
‫‪� -12‬صدوق نور الدين‪ ،‬عبد اهلل العروي وحداثة الرواية‪ ،‬املركز‬
‫الثقايف العربي‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت لبنان ‪/‬الدار البي�ضاء املغرب‪،‬‬ ‫ف�إن مايحدث يف زماننا ي�شاكلها‪ ،‬ألن �سنة تكميم‬
‫‪�1994‬ص‪.40‬‬ ‫ا ألفواه‪ ،‬كانت وما زالت‪ ،‬غري مراحل احلياة � أثبتت‪،‬‬
‫‪ -13‬حممد عرب‪� ،‬رشائع النف�س‪ ،‬العقل‪ ،‬الروح‪ ،‬من�شورات احتاد‬
‫الكتاب العرب‪ ،‬دم�شق‪� ،‬سوريا ‪� 2005‬ص‪.205‬‬ ‫� أن التمرد على ا ألعراف ّ‬
‫يفعل وترية احلياة‪.‬‬
‫‪ -14‬حممد لطفي اليو�سفي‪ ،‬حلظة املكا�شفة ال�شعرية و�إطاللة على‬ ‫تفا�صيل كثرية تعج بها ق�صيدة دموع احلالج‪ ،‬فهي‬
‫مدار الرعب‪ ،‬الدار التون�سية للن�رش‪ ،‬تون�س‪�.1998 ،‬ص‪.266‬‬
‫مالحظة‬ ‫منفتحة على قراءات عديدة‪ ،‬فهي ف�سيف�ساء ن�صو�ص‬
‫املقال ن�رش يف جملة مقاربات‪:‬دورية حمكمة‪ ،‬دورية حمكمة تعنى‬ ‫قادمة من �سياقات �شتى متمازجة‪ ،‬متناغمة‪،‬‬
‫بالبحث العلمي‪ � ،‬آ�سفي(اململكة املغربية)‪ ،‬خريف‪2009‬‬
‫معجونة يف حمك جتربة ال�شاعر‪ ،‬غارقة يف �شعرية‬
‫اللغة والتو�ضيف الرمزي للكلمات املفرغة من‬
‫دالالتها ا أل�صلية وامل�شحونة بدالالت تتما�شى‬
‫وال�سياق العام للق�صيدة‪ ،‬و�شعرية التنا�ص ال�صويف‬
‫وا أل�سطوري والديني والتاريخي‪ ،‬جمعت بني حلقات‬
‫ا ألمل وا ألمل ‪.‬‬

‫‪88‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الــ�ش ـعــر الـرعـ ــوي‪..‬‬


‫املـفـهـ ــوم والـخـ�صــائـ ــ�ص‬
‫حممد بودويك‬
‫�شاعر وناقد من املغرب‬
‫والعنات الذي القيناه‪ ،‬ونحن ب�صدد مللمة اخليوط‬ ‫ال ننتوي �إخفاء ال�صعوبات إ‬
‫ال�شتيتة ذات ال�صلة بال�شعر الرعوي‪ .‬فاحلق �إن اجلن�س أالدبي �إياه املاثل �أو‬
‫املخفي يف ظل أالجنا�س ال�شعرية الكربى كامللحمة والدراما والكوميديا‪ ،‬مل‬
‫يلق عناية وال تتبعا والتقاطا ومن ثم ت�سنينا وتنظريا يف مدونة النقد العربي‬
‫ال القدمي وال احلديث‪ ،‬وال يف تاريخ أالدب العربي بعامة‪ .‬وقد نعزو غيابه �أو‬
‫ُ�ش َّح وجوده‪ ،‬يف املناوالت النقدية �أو التنظريية‪� ،‬إىل عطب يف املثاقفة قدميا‪..‬‬
‫�أو َتنكُّب ونفور من ال�شعرية اليونانية والرومانية معا لوثنيتهما واحتفائهما‬
‫بامليثولوجيا طاملا �أن الرعويات م�صدرها يوناين‪ ..‬وخالقها �شاعر ا�سكندري‬
‫ح�رصا وهو‪ :‬ثيوكريت‪.‬‬
‫وم اجلمع واملنع م�آله اخل�رسان‪ ،‬ذلك �أن هذا‬ ‫‪� w‬إن كل تعريف للرعوية َي ُر ُ‬
‫اجلن�س ال�شعري‪ ،‬قبل �أن يكون كذلك‪ ،‬يوجد منثورا ُ‬
‫ومنْ�سرَ ِ ًبا كبذور اللقاح‬
‫�أو الرذاذ يف �آداب ا ألمم القدمية‪َ ،‬‬
‫وي ْ�ستَ ِك ُن كالل�ؤل�ؤ النا�صع يف كتابات‬
‫ا أل�شوريني والبابليني وامل�رصيني القدماء والكنعانيني والكتاب املقد�س‬
‫–لكنه �سيظهر كجن�س �شعري َبينِّ ِ الق�سمات على يد ال�شاعر اليوناين‬
‫اال�سكندري تيوكريت (‪310‬ق‪.‬م – ‪250‬ق‪.‬م)‪.‬‬

‫‪89‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مع االيديليات التي يغلب عليها الطابع الرعوي‪،‬‬ ‫وبناء عليه‪َ ،‬ع َّولْنَا على تتبع وا�ستق�صاء ال�شعر‬
‫� أي االحتفاء بالطبيعة الفاتنة واملو�سيقى العذبة‬ ‫الرعوي‪ ..‬مفهوما وموا�ضعة وح�ضورا ن�صانيا �إن‬
‫ال�صافية واحلب الرعوي التلقائي والب�ساطة‪ ،‬وال�شعر‬ ‫يف القدمي � أو يف احلديث‪ ،‬على ما طالته يدنا‪ ،‬وبلغه‬
‫وال�سعادة‪ ..‬واملبارزة ال�شعرية‪.‬‬ ‫�سعينا‪ ،‬وبحثنا الذي كما � أ�سلفنا‪ -‬مل َي ْخ ُل من جهد‬
‫هكذا‪ ،‬ونحن نقر� أ � أ�شعار ثيوكريت الرعوية‪ ،‬ن�ست�شعر‬ ‫وم�شقة و�إعنات بالنظر لتج�شمنا عناء الرتجمة‬
‫كل مفاتن البادية‪ ،‬ومتع العزلة‪ ،‬ف�إذا ا�ستقرينا بع�ض‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬وتقليب ع�رشات الن�صو�ص يف جغرافيات‬
‫رعوياته‪ ،‬وعكفنا على قراءتها‪ ،‬ف�ستده�شنا حتما‬ ‫متباعدة ولغات خمتلفة‪ ،‬وم�سارات تاريخية‬
‫تعابري و� أو�صاف احلب الرقيقة‪ .‬يت�ضح ذلك مثال‬ ‫متالحقة ومتفارقة‪ .‬لكننا نقر ‪-‬باملقابل‪� -‬إفادتنا‬
‫يف رعويته الثانية ورعويته ال�سابعة والع�رشين‪،‬‬ ‫اجلمة من املادة ال�شعرية الغزيرة التي اطلعنا عليها‬
‫وروعيته ال�سابعة ع�رشة‪ ،‬م�ستفيدا من ال�شعر الغنائي‪،‬‬ ‫مبا قدمته لنا من ثراء �شعري وغنى ن�صو�صي‪،‬‬
‫ومن خمتلف � أ�شكال ا إليليجيا(‪ )2‬ونرباتها ا ألليمة‪.‬‬ ‫ووفرة �صور‪ ،‬وبهاء �إيقاع‪ ،‬وعوامل رحيبة � أثثتها تلك‬
‫ي�صل تيوكريت يف «رعوياته» �إىل م�ستوى الق�صيدة‬ ‫الن�صو�ص مبا يثلج اخلاطر‪ ،‬ويجذب وي�شد االنتباه‪،‬‬ ‫الرعويات‪،‬‬
‫امللحمية‪ � ،‬أفكارا وتعابري و� أو�صافا‪ ،‬تتمتع بكامل‬ ‫وميتع القلب‪ ،‬وي�شهي النف�س‪ ،‬ما دامت الرعويات‬ ‫و»االيديليا»‬
‫القوة وا ألناقة‪ ،‬حتى �إنه يناف�س بندار يف غنائياته‬ ‫ان�شغلت وا ْن َه َّم ْت ب�سحر ا ألمكنة‪ ،‬وتاقت �إىل ف�ضاءات‬ ‫يف معناها‬
‫وهو ي�ضع فيها ذوب روحه»(‪.)3‬‬ ‫فردو�سية‪ ،‬و� ْأر َكاد َِيا مده�شة ي�سودها احلب والرعي‬ ‫الغريقي‪:‬‬ ‫إ‬
‫وجدير بالذكر‪ � ،‬أن هذا ال�شعر املكر�س للب�ساطة‬ ‫وال�شعر واملو�سيقى‪ ..‬هربا من جحيم � أر�ضي‪ ،‬وواقع‬ ‫هي «ال�صورة‬
‫والعذوبة‪ ،‬وو�صف حياة الرعاة الهنيئة والالهية‪ ،‬مل‬ ‫رمادي ُم َ�سيَّج باخلراب‪.‬‬ ‫ال�صغرية»‬
‫ي�ستقر على م�صطلح واحد يحظى با إلجماع‪ .‬فنحن‬ ‫وم اجلمع واملنع م� آله‬ ‫�إن كل تعريف للرعوية َي ُر ُ‬ ‫� أو الق�صيدة‬
‫واجدون ت�سميات عديدة‪� ،‬إن هي � أدت نف�س املعنى‬ ‫اخل�رسان‪ ،‬ذلك � أن هذا اجلن�س ال�شعري‪ ،‬قبل � أن يكون‬
‫ومنْ�سرَ ِ ًبا كبذور اللقاح � أو الرذاذ‬ ‫الق�صرية‪،‬‬
‫الذي نحن ب�صدده‪ ،‬ف�إنها تومئ �إىل ظالل فروق‬ ‫كذلك‪ ،‬يوجد منثورا ُ‬ ‫ق�صيدة ب�سيطة‬
‫داخل ا أل�شعار التي تلب�س �صفة الرعوية‪ .‬وهي فروق‬ ‫وي ْ�ستَك ُِن كالل�ؤل�ؤ النا�صع يف‬ ‫يف � آداب ا ألمم القدمية‪َ ،‬‬
‫لها اعتبارها االب�ستمولوجي مهما ت�ضاءلت � أو َعنَّ ْت‬ ‫كتابات ا أل�شوريني والبابليني وامل�رصيني القدماء‬ ‫و�صفية تمُ ِ ُ‬
‫ثل‬
‫جمرد تنويع على م�سمى واحد‪ .‬ن�سوق ذلك حجة بني‬ ‫والكنعانيني والكتاب املقد�س –لكنه �سيظهر كجن�س‬ ‫احلياة يف‬
‫يدي املبحث حتى ال يو�صم باخللط والتمريغ‪ .‬ف�إذا‬ ‫�شعري َبينِّ ِ الق�سمات على يد ال�شاعر اليوناين‬ ‫الريف‬
‫كانت الت�سميات وا�ضحة بينة يف اللغات ا ألوروبية‪،‬‬ ‫اال�سكندري تيوكريت (‪310‬ق‪.‬م – ‪250‬ق‪.‬م) الذي‬
‫فاحلِريَة وقلة ذات اليد هي م�ؤونتنا‪ ،‬ونحن نتغيا‬ ‫ترك ديوانا �شعريا �سماه (االيديليا) «‪ُ »les Idyles‬ترْ ِج َم ْت‬
‫القب�ض عليها جميعها‪ .‬حاولنا اال�ست�سعاف‬ ‫بالرعويات‪ ،‬و»االيديليا» يف معناها ا إلغريقي‪ :‬هي‬
‫بالثيمات‪ ،‬كما حاولنا اال�ستنجاد ب�أ�شكالها الوزنية‬ ‫«ال�صورة ال�صغرية» � أو الق�صيدة الق�صرية‪ ،‬ق�صيدة‬
‫وا إليقاعية لنقف على �رس االختالف يف الت�سميات‪،‬‬ ‫ب�سيطة و�صفية تمُ ِث ُل احلياة يف الريف‪ .‬وقد اكت�سبت‬
‫عبثا‪ ،‬فلم نل �إال ف�ضلة بقيت‪!! ‬‬ ‫االيديليا �صفة الرعوية يف القرنيني الثاين والثالث‬
‫فما هي هذه الت�سميات يا ترى؟ �إنها الرعوية‪La Past :‬‬ ‫ف‬ ‫قبل امليالد من خالل � أعمال ال�شعراء ا إلغريق الآتني‪:‬‬
‫‪ ،torale‬و�إنها االيديليات ‪ les Idylles‬كما مار�س كتابتها‬ ‫بيون ‪ ،Bion‬تيوقريط‪ ،‬وال�صقلي مو�سو�ش»(‪.)1‬‬
‫تيوكريت‪ ،‬وترجمت بالرعويات‪ � ،‬أو الق�صائد‬ ‫غري � أن ثيوكريت �سيكون ا ألظهر وا ألكرث �سموا‬
‫الو�صفية‪ ..‬وهي‪ ،Les Bucoliques :‬كما مار�سها ال�شاعر‬ ‫من بني ال�شاعرين املذكورين‪ ،‬ومن بني �شعراء‬
‫فرجيل‪ ..‬ثم هي ‪ ،La Pastourelle‬وال�صيغة ت�صغري ‪Pastor‬‬ ‫ف‬ ‫� آخرين حاولوا ا�ستخدام النوع‪ ،‬علما � أن �إيديليات‬
‫‪« ،rale‬الرعوية ال�صغرية» وهو �شكل �شعري فرن�سي‪،‬‬ ‫�شاعر �سرياكوز (ثيوكريت) مل تكن رعوية بالكامل‪.‬‬
‫ظهر يف القرن الثاين ع�رش امليالدي‪ ،‬كما ال يخفى‪.‬‬ ‫(وباملنا�سبة فالعدد الذي و�صل منها مدونا‬
‫و�إيثيمولوجيا‪ :‬يعني امل�صطلح «الراعية ال�صغرية � أو‬ ‫هو ثالثون ن�صا رعويا)‪ ،‬ذلك � أن تيوكريت مار�س‬
‫ال�شابة»‪ ،‬وهو نوع �شعري بطلته املركزية‪ :‬راعية‪.‬‬ ‫كتابة التوقيعات واملقطوعات احلكمية واملراثي‪.‬‬
‫كما ت�سمت الرعويات بـ‪ ،Les Bergeries :‬وقد ظهرت‬ ‫�إننا جند هذه ا ألجنا�س متداخلة مندغمة � أحيانا‬
‫‪90‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التيمة ا أل�سا�س التي توجه الن�ص‪ ،‬وهذه التيمة ال‬ ‫الت�سمية يف بدايات القرن ال�سابع ع�رش على يد‬
‫تخرج‪ ،‬يف الغالب ا ألعم‪ ،‬عن اخل�شوع � أمام الطبيعة‬ ‫� أحد � أفذاذها ال�شاعر الفرن�سي ركان ‪Racan 1625‬‬

‫واحلنني �إىل العهد الذهبي � أو «ا ألركاديا»‪ ،‬ومدح‬ ‫(‪.)1589-1670‬‬


‫اخللوة والعزلة والبداوة‪.‬‬ ‫وهناك نوع يطلق عليه ‪ ،La Madrigale‬وميكن ترجمتها‬
‫وقد تو�ضحت �سمات ومالمح «االيديليات» � أو‬ ‫بالن�شيد الرعوي � أو ا ألغنية الرعوية‪..‬‬
‫الق�صائد الو�صفية الرعوية � أكرث بدخول ال�شاعر‬ ‫غري � أن تعريف كل ت�سمية على حدة‪ ،‬قد ي�ساهم‬
‫الالتيني فرجيل احللبة ممار�سا كتابتها‪ .‬ورعوياته‬ ‫يف �إ�ضاءة اجلن�س ال�شعري الرعوي ب�صفة � أمثل‪،‬‬
‫املو�سومة بـ«‪ -» Les bucoliques ‬و�إن مل َترْ َق �إىل‬ ‫ويقودنا‪ ،‬تاليا‪� ،‬إىل تو�سيع الكالم عنه وعن ممار�سيه‬
‫ور َجياته � أو «زراعياته» من حيث ال�سمو التعبريي‬ ‫ُج ْ‬ ‫من ال�شعراء عرب الع�صور‪ ،‬وعن خ�صائ�صه املتواترة‬
‫وا ألناقة الت�صويرية على الرغم من ديداكتيكية‬ ‫هنا وهناك‪.‬‬
‫تعليمية‪ ،-‬ف�إنها ر�سخت اجلن�س الرعوي‪ ،‬ومنحته‬ ‫ويهمنا � أن ن�ؤكد ثانية � أن ق�صائد ثيوكريت الرعوية‪،‬‬
‫� أبعادا جمالية � أخرى َبل ْ َه معرفية و�سيا�سية غائرة‪،‬‬ ‫وهو وا�ضع اجلن�س وخالقه ن�صانيا‪ ،‬مل يتوافر لها‬
‫نه�ضت على م�سعى حلمي‪ ،‬وتوق خيايل �إىل جنة‬ ‫ال�صفاء الكلي‪ ،‬ويحافظ على َح ِد ِه كما حاول بلورته‪.‬‬
‫� أر�ضية يعمها ال�سالم‪ ،‬وتغمرها � ألطاف العناية‬ ‫فقد داخلتها‪-‬كما � أ�سلفنا‪ -‬ا إليليجيا والكوميديا‪،‬‬
‫ا إللهية‪ ،‬و�شدو الرعاة ا ألبدي‪� .‬إذ ال نن�سى ما كان‬ ‫كما داخلها وتنافذ معها ما ميكن ت�سميته «بامليم»‬
‫ميور به ع�رص فرجيل من فو�ضى �سيا�سية وا�ضطراب‪،‬‬ ‫ال�شبيه يف زعمي «باملقامة» من بع�ض الوجوه‪.‬‬
‫ولي�س مقام اخلو�ض يف ذلك هنا مبتاح‪! ‬‬ ‫«�إنه ال�شاعر ال�سرياكوزي �صوفرن ‪ Sophron‬مواطن‬
‫مراثي «� أين منا»‪ ubi sunt « :‬وهذا مطلع متكرر لق�صائد‬ ‫تيوكريت‪َ ،‬م ْن جعل من «امليم» جن�سا � أدبيا حوايل‬
‫ما�ض م�ضى يحن له ال�شاعر‪.‬‬ ‫بالالتينية تتح�رس على ٍ‬ ‫القرن اخلام�س قبل امليالد‪ ،‬وهو عبارة عن حوار‬
‫لقد �صار هذا النمط من الق�صائد يعرف بهذا املطلع‬ ‫يت�سم بالق�رص م�سكوب يف قالب نرثي �إيقاعي‪،‬‬
‫والت�أمالت على ا ألطالل‪ ،‬واحلنني �إىل عهد رعوي‬ ‫ويدور حول مو�ضوع م�ستلهم من واقعة �شعبية‬
‫م�ضى‪ ،‬والبكاء على دمار االمرباطوريات � أو الفرح‬ ‫من دون حبكة � أو خيوط مت�شابكة‪ .‬كما � أنه مكتوب‬
‫لذلك»(‪.)5‬‬ ‫بلغة قريبة من اللغة العامية مدار مو�ضوعاته على‬
‫على � أن ات�صال ال�شعر الرعوي‪-‬تاريخيا‪-‬‬ ‫الرثثرات واملناو�شات ال�صغرية‪ ..‬و�صيادي ال�سمك‪،‬‬
‫با ألركاديا ك�أ�سطورة(‪ )6‬يعود �إىل فرجيل ألنه � أول‬ ‫والفالح‪ .‬ويظهر � أن هذه امليمات نالت ا�ستح�سان‬
‫من تلقف مو�ضوعة ا ألركاديا اخليالية وطورها‬ ‫الفيل�سوف � أفالطون‪ .‬ثم ا�ستلم ال�شاعر ‪ xénarque‬امل�شعل‬
‫يف «رعوياته» مانحا �إياها � أجنحة ومتاعا‪...‬‬ ‫من يد والده‪ ،‬ف�أر�سى دعائم هذا النوع الذي �سيعرف‬
‫حيث الب�ساطة واالن�سجام التام مع الطبيعة‪« .‬ويف‬ ‫ك�سوفا و�شحوبا حتى العهد اال�سكندري حيث‬
‫رحلة البحث عن ذاته ا ألدبية تلك‪ ،‬ا�ستطاع فرجيل‬ ‫�سي�شهد قيامته على يد كل من ال�شاعرين هريوندا�س‬
‫� أن يجعل من ال�شعر الرعوي ا أل�سكندري وال�شعر‬ ‫وتيوكريت»(‪.)4‬‬
‫ا إليامبي ا أليوين(‪ ،)7‬وال�شعر الغنائي ا أليويل‪ ،‬فنونا‬ ‫يت�أدى من هذا � أن الرعويات‪ ،‬وهي تن�سج عاملها‬
‫� أدبية رومانية الطابع والروح»(‪.)8‬‬ ‫الرعوي املو�سوم بالرباءة والطفولة‪ ،‬تفتح � أ�ضواءها‬
‫نفتح كتاب «الرعويات» مع الدكتور � أحمد عثمان‪،‬‬ ‫على املقارنة ال�ضمنية البعيدة عن الواقع اليومي‬
‫فنلفي � أن الرعوية الثامنة جتمع بني �شكوى ال�صبي‬ ‫املبتذل‪ ،‬واملنحط‪ ،‬واملتهافت على املاديات الزائلة‬
‫غري املحظوظ يف احلب (وهو ما يقابل الق�صيدة‬ ‫مبا يعني اتكا ؤ�ها على احللم والرفرفة فيما هي‬
‫ا ألوىل لتيوكريتو�س) من جهة‪ ،‬والعمل ال�سحري‬ ‫ترثي واقع احلال‪ .‬ومن هنا � أي�ضا‪ ،‬تنوعها‪ ،‬فهي‬
‫الناجح الذي تقوم به الفتاة‪ .‬وتتغنى الرعويتان‬ ‫مكنونة يف ال�رسود‪ ،‬ويف احلوارات‪ ،‬ويف تو�صيف‬
‫الثالثة وال�سابعة لفرجيليو�س مبباريات وم�سابقات‬ ‫م�شاهد حقيقية � أو خيالية‪.‬‬
‫بني الرعاة ويديرها � أحد املحكمني‪ .‬ويهدي‬ ‫غري � أن ا ألظهر هو � أن احلياة الرعوية ت�شغل ا إلطار‬
‫فرجيليو�س الق�صيدة ال�ساد�سة �إىل فارو�س كتحية‬ ‫العام‪ ،‬فتكت�سب‪ ،‬من ثمة‪ � ،‬أهمية ق�صوى �إذ تغدو‬
‫‪91‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫به؛ ولي�س � أعذب و� أهن�أ و� أدعى �إىل ال�سكينة واحللم‬ ‫ب�سيطة من �شاعر رعوي ال ي�ستطيع � أن ينظم ما هو‬
‫وال�سعـادة من عامل الرعاة‪ ،‬لذلك نه�ضت الن�صو�ص‬ ‫� أكرب من ذلك‪ .‬وفيها نرى �سلينو�س نائما خممورا‬
‫بهذه املهمة مقرتحة � أمكنة �سحريـة‪ ،‬وف�ضـاءات‬ ‫يقيده الرعاة بالتاج نف�سه الذي يتزين به فيوافق‬
‫مزرك�شة باخل�رضة الزاهية‪ ..‬واملاء النمري‪ ،‬وال�شجر‬ ‫على � أن يفدي نف�سه بالغناء‪� ..‬إلخ‪�..‬إلخ‪.‬‬
‫الكث وا ألنا�شيد ا ألورفيو�سية‪ ،‬واحلب الغامر‪ ،‬احلب‬ ‫يتحدث فرجيليو�س‪ � ،‬أحيانا‪ ،‬يف ق�صائده الرعوية‬
‫يف كامل بهائه وعفويته وب�ساطته‪� ،‬ضدا على واقـع‬ ‫ب�ضمري املتكلم املفرد‪ ،‬ويذكر � أ�صدقاءه‪ ،‬وقد �سبقه‬
‫معي�ش � أمر من احلنظل‪! ‬‬ ‫�إىل ذلك ثيوكريتو�س»(‪.)9‬‬
‫لهذا التقط �شعراء كل الع�صور واللغات هذه املفاهيم‬ ‫تاريخيا ونقديا‪ ،‬لفتت الرعوية الرابعة لفرجيل‪،‬‬
‫‪/‬ال�صور‪ ،‬وعكفوا يوقعون باللغة ال�شعرية‪ ،‬اللغة‬ ‫االنتباه ب�شدة‪ ،‬حتى قال البع�ض �إنها نبوءة ال�شاعر‬
‫ا ألنقى وا أل�صفى‪ ،‬بناءات باذخة‪ ،‬بغية توطني‬ ‫بقدوم امل�سيح ليزرع ا ألمان يف جنبات � أر�ض يحرق‬
‫املهيمن منها حتى ت�صبح حيوات بديلة موازية‬ ‫� أخ�رضها وياب�سها لهب احلقد وعنف ال�رصاع‪ .‬وفطنة‬
‫للحيوات املرة التي نعي�شها مرغمني‪ .‬و�إذا كانت‬ ‫القارئ باملعنى ا إليكاوي ‪ ،Umberto Eco‬قلما تخطئ ما‬
‫� أ�سطورة ا ألركاديا ترتد �إىل امليتولوجيا اليونانية‪،‬‬ ‫يوازي داللة هذه الرعوية يف ما جاء يف ا أل�صحاح‬
‫مبا تعنيه من نعيم و�صفاء و�سالم‪ ،‬و�إىل امليتولوجيا‬ ‫احلادي ع�رش من �سفر � أ�شعياء ‪:)8-6‬‬
‫الرومانية من ناحية � أخرى‪ ،‬حاملة معنى ال�سعادة‬ ‫في�سكن الذئب مع اخلروف ويرب�ض‪.‬‬
‫ا ألبدية للأ ج�سام وا ألرواح لكل من ا ألحياء‬ ‫النمر مع اجلدي والعجل وال�شبل وامل�سمن‪.‬‬
‫واملوتى‪ � ..‬أو معنى اجلنة املوعودة املوجودة على‬ ‫معا‪ ،‬و�صبي �صغري ي�سوقها والبقرة والدبة ترعيان‬
‫�ضفاف مراع خ�رضاء يقطعها نهر «الليثي»‪ ،‬نهر‬ ‫ترب�ض � أوالدهما معا‪..‬‬
‫الن�سيان حيث يجب � أن ت�أتي كل ا ألرواح لل�رشاب؛‬ ‫وا أل�سد كالبقر ي�أكل تبنا‪ ،‬ويلعب الر�ضيع على �رسب‬
‫ف�إن اليوتوبيا التي �شكلت بدورها منهال �سعيدا‪،‬‬ ‫ال�صل وميد الفطيم يده على جحر ا ألفعوان»(‪.)10‬‬
‫لل�شعراء الرعويني‪ ،‬مل تظهر �إال يف القرن ال�ساد�س‬ ‫مرجعيا وتقاطعا دالليا‪ ،‬ميكن ا إل�شارة � أي�ضا �إىل‬
‫ع�رش امليالدي‪ ..‬وبال�ضبط يف العام (‪ )1516‬على‬ ‫مفهوم اليوتوبيا الكامن كالنار الالمرئية يف‬
‫يد القدي�س االجنليزي توما�س مور (‪)1535/1478‬‬ ‫ت�ضاعيف ال�شعر الرعوي‪ ،‬مثلما ي�شار �إىل جنة‬
‫فهو مبتكر اليوتوبيا‪-‬التي � أ�صبحت م�صطلحا‬ ‫عدن املذكورة يف ا ألديان الثالثة الكربى كجاذب‬
‫موطوءا من كرثة التداول اخلاطئ‪-‬مبا هي جزيرة‬ ‫جزائي‪ ،‬ومكافئ متاعي وجمايل للم�ؤمنني‪ ،‬و�إىل‬
‫خيالية‪ ..‬ال تت�سع �إال للمجتمع املثايل‪ ،‬القادر على‬ ‫«جنة ال�صاحلني»‪ .» Les champs Elysées :‬تلك جملة من‬
‫حترير نف�سه من �إرغامات الواقع‪ ،‬والتهافت على‬ ‫املو�ضوعات وال�صور املهيمنة باملعنى ال�شكالين‬
‫املاديات وال�شهوات املقيتة‪ .‬طبعا‪ ،‬ال ينبغي � أن‬ ‫على كافة الن�صو�ص ال�شعرية املنت�سبة �إىل الرعويات‪،‬‬
‫التو َماوية من‬
‫يغرب عن البال ما تطرحه اليوتوبيا ُّ‬ ‫بدءا من ا إليديليات‪ :‬الن�صو�ص الو�صفية‪ ،‬مرورا‬
‫نقد ذكي وحمول‪ ،‬لواقع حال بريطانيا حتت حكم‬ ‫بالبيكوليك‪ :‬رعويات فرجيل والرعوية ال�صغرى‬
‫امللك هرني الثامن‪.‬‬ ‫‪ Pastourelle‬يف الع�صور الو�سيطة‪ ..‬وانتهاء بع�رص‬
‫ولنا بعد الت�أمل‪ � ،‬أن نقر ب�أثر وت�أثري ا ألفالطونية‬ ‫النه�ضة والع�رص احلديث‪.‬عالوة على � أن اجلملة‬
‫على توما�س مور‪ ،‬وعلى غريه ممن تناول املفهوم‬ ‫املفتاح‪ : Locus Amoeunus :‬املكان العذب ذو اللذاذات‪،‬‬
‫و�صار به � أبعد حيث الذروة التي تلتب�س بالعقيدة‬ ‫ت�سيدت املعاين‪ ،‬وكانت يف القلب من املمار�سات‬
‫املذهبية َبل ْ َه الدينية‪.‬‬ ‫الن�صية الرعوية‪ ،‬علما � أن املعنى �إياه ا�شتغل على‬
‫ومل يفت � أدباء و�شعراء وفنانو ع�رص النه�ضة‪،‬‬ ‫مدار القرون حمتفظا بجوهره املكنون و�إن خ�ضع‬
‫� أن ينكبوا بدورهم على هذه املفاهيم والثيمات‪،‬‬ ‫لتعديالت تزيد � أو تنق�ص وفقا لتحوالت تاريخية‬
‫وباخل�صو�ص «ا ألركاديا» جاعلني منها الب�ؤرة‬ ‫معينة‪ ،‬وا�ستجابة لوعي قرائي ما انفك ين�شحذ‬
‫ا أل�سا�س والنواة املركزية التي دارت ن�صو�صهم‬ ‫وي�ستع�صي‪ .‬فا ألركاديا واليوتوبيا وجنة ال�صاحلني‬
‫ال�شعرية والروائية ولوحاتهم الت�شكيلية عليها‪،‬‬ ‫هي ميثولوجيات م�رشئبـة �إىل امل�أمول واملحلوم‬
‫‪92‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫ال�سوي�رسي‪.‬‬ ‫ِني با ألركاديا عواملهم الفنية حيث التوق �إىل‬ ‫َوا�سِ م َ‬
‫�إجنليزيا ويف القرن ‪َ ،19‬ي ِر ُد على البال متقدما‬ ‫حياة الرباءة والب�ساطة ب�إجمال‪« :‬هكذا تعاقبت‬
‫ال�شعراء والفنانني املنت�سبني لهذا اجلن�س ا إلبداعي‬ ‫� أعمال ذات خطر يف جمال الرعويات‪ ،‬و َت َ�س َّم ْت‬
‫ان الرعويات‪،‬‬ ‫كل من � ألفريد تيني�سون ‪ Alfred Tennyson‬من خالل كتابه‬ ‫باال�سم امليثي‪ � :‬أركاديا‪ .‬نذكر متثيال عمل ا إليطايل‪:‬‬
‫وهي تن�سج‬ ‫«�إيديليات امللك» (‪،)1885-1859 : Les Idylles du roi‬‬ ‫�سنازارو ‪ Sannazaro‬املو�سوم بـ(� أركادي) (‪،)1504‬‬
‫عاملها الرعوي‬ ‫ثم �شارل براونينغ ‪ Charles Browning‬من خالل كتابة‬ ‫وعمل لوتا�س ‪( l’aminta le tasse‬ا ألمنتا) (‪ ،)1573‬وعمل‬
‫املو�سوم‬ ‫«الرعويات الدرامية» ‪-1879( Les Idylles dramatiques‬‬ ‫اال�شاعر االجنيليزي ال�شهري فيليب �سدين (‪Philip Sidn‬‬

‫بالرباءة‬ ‫‪ ..)1880‬اللذين � أغدقا على اجلن�س الرعوي غنائية‬ ‫‪ � )ney‬أركادي � أي�ضا (‪ ،)1590‬ثم رعويات �شاعر‬
‫والطفولة‪،‬‬ ‫بهيجة ال تنكر‪.‬‬ ‫الرثيا (‪ )la pleiade‬رون�سار ‪ ،Ronsard‬الذي �صور � أركاديا‬
‫تفتح � أ�ضواءها‬ ‫�إننا‪ ،‬ونحن ن�رسد هذه املفا�صل ا أل�سا�سية لل�شعر‬ ‫� أكرث � أر�ستقراطية ورهافة‪ .‬وبدءا من القرن ال�سابع‬
‫على املقارنة‬ ‫الرعوي تاريخيا‪ ،‬مل نغفل وكيف يت�أتى لنا ذلك؟‬ ‫ع�رش امليالدي‪ � ،‬أ�صبحت ا ألركاديا ت�شغل م�ساحات‬
‫م�ساهمات ال�شاعر ا إلجنليزي الكبري �إدموند �سبان�رس‬ ‫�شا�سعة يف � أدب احلب ك�إطار للخيال اجلامح‪ ،‬وهو‬
‫ال�ضمنية‬
‫‪ Edmond Spenser‬من خالل ن�صه العميق واحلفيل‪( :‬رزنامة‬ ‫حال الكاتب الرعوي ‪. Honoré d’urfé‬‬
‫البعيدة عن‬ ‫الراعي) ‪ � The shepheards calender‬أو ن�صه ال�سحري الد�سم‬ ‫وتظهر «ا ألركاديا» كمو�ضوع �شعري ت�صويري‪،‬‬
‫الواقع اليومي‬ ‫(ملكة اجلان) ‪ ،the Faerie queen‬و«م�ساهمات ال�شاعر‬ ‫يف لوحات نيكوالبو�سان ‪ Nicolas Poussin‬وكلود‬
‫املبتذل‪،‬‬ ‫ملتون من خالل ق�صيدته ‪( Lycidas‬ل�سدا�س) و�شك�سبري‬ ‫لوران ‪ ،Claude Lorrain‬اللذين ا�ستلهما امل�شهد الرعوي‬
‫واملنحط‪،‬‬ ‫يف كوميدياته الغابية‪ ،‬وق�صائد الرثاء الرعوية عند‬ ‫من املو�ضوعات الو�صفية املكر�سة للأ ركاديا‬
‫واملتهافت‬ ‫كل من �شيلي ‪ Shelly‬و� أرنولد ‪ Arnonld‬وومتن ‪Whitman‬‬ ‫كماتخيلها ا ألقدمون‪ .‬فاللوحة ال�شهرية لبو�سان‬
‫على املاديات‬ ‫ودلن توما�س ‪.)11( »Dylan Thomas‬‬ ‫‪( Poussin‬رعاة ا ألركاديا)‪ ،‬التي حتمل عنوانا فرعيا‬
‫الزائلة مبا‬ ‫على � أن يف ا أل�س من هذا‪ ،‬ويف خلفياته املعيارية‬ ‫(يف النعيم الرعوي‪ ..)In arcadia Ego :‬وهي تظهر فريقا‬
‫يعني اتكا�ؤها‬ ‫مبعية �إيدليات (رعويات) ثيوكريت وبيكوليك‬ ‫من الرعاة منكبا على قراءة توقيعة �شعرية منقو�شة‬
‫على احللم‬ ‫(رعويات) فزجيل‪ ،‬النوع ال�شعري الو�سيط «الرعوية‬ ‫على �شاهدة قرب‪ ،‬تخرب‪-‬بطريقتها‪ -‬ب�أن حياة الب�رش‬
‫ال�صغرى» ذات التيمة املت�شابهة واملتواترة‬ ‫الربيئة يف ا ألركاديا‪ ،‬ال ت�سمح لهم با إلفالت من‬
‫والرفرفة فيما‬
‫واملتوارثة يف القرون الو�سطى جميعها‪ :‬تيمة الفار�س‬ ‫�شبح املوت الذي يتعقبهم‪ .‬كما �شهد القرن الثامن‬
‫هي ترثي واقع‬ ‫الذي ينتوي ويفكر يف اغت�صاب «راعية» ي�صادفها‬ ‫ع�رش امليالدي‪ ،‬طفرة نوعية لل�شعر الرعوي م�شدودة‬
‫احلال‪ .‬ومن هنا‬ ‫يف مرعى‪ .‬تتميز الرعويات ال�صغرى بتناوب ال�رسد‬ ‫�إىل املو�ضوعة امليثية «ا ألركاديا» دائما‪.‬‬
‫� أي�ضا‪ ،‬تنوعها‪،‬‬ ‫واحلوار على معمارها البنائي‪ ،‬وعلى النقي�ض من‬ ‫وقد متيزت هذه الكتابات الرعوية ب�سمو لغتها‬
‫فهي مكنونة‬ ‫«الرعوية الكربى»‪� ،‬إذا جاز التعبري‪ ،‬ف�إن ا ألمكنة‬ ‫وبديع �صورها‪ -‬وال نن�سى � أنها كانت تكتب‬
‫يف ال�سرود‪ ،‬ويف‬ ‫وال�شخ�صيات يف الرعوية ال�صغرى تكت�سي طابعا‬ ‫للطبقة االر�ستقراطية‪-‬كما توهجت مبو�ضوعات‬
‫احلوارات‪ ،‬ويف‬ ‫واقعيا‪ � ،‬أو يتم ا إليحاء بواقعيته‪ .‬من هنا‪ ،‬فعن‬ ‫احلب الالذع الذي جمع بني الراعيني � أ�سرتي ‪Astrée‬‬

‫تو�صيف م�شاهد‬ ‫«رعوية ‪ �( Marcabrur‬آخر القرن الثاين ع�رش امليالدي)‪،‬‬ ‫و�سيالدون ‪ ،Seladon‬وحب ديان و�سيلفاندر ‪Diane et‬‬

‫حقيقية � أو‬ ‫تنت�صب مثال �شاهدا يف هذا املجال‪.‬‬ ‫‪ Sylbandre‬املم�ض‪ ،‬والوجد احلارق لهيال�س املتهتك‬
‫ويف ‪1285‬م‪ ،‬ا�ستطاع الكاتب � آدم دوالهال‪ADAM de :‬‬ ‫واخلليع الذي ال ي�ستقر على حال‪.‬‬
‫خيالية‬
‫‪ � la halle‬أن يطوع هذا اجلن�س من خالل م�رسحته لعمل‬ ‫وملا جاء القرن الثامن ع�رش امليالدي‪ ،‬ت�سنمت‬
‫َعنْ َو َن ُه‪( :‬لعب روبان ومربون) بف�ضل ما انطوت عليه‬ ‫الرعوية ذرى مل ي�سبق � أن و�صلتها يف القرون‬
‫التيمة الرعوية من طاقات ميمية‪ ،‬وبف�ضل البنية‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬بف�ضل رهافة ذوق القرن ومتدن � أ�صحابه‪.‬‬
‫ال�شكلية لهذا الن�ص ال�شعري الغنائي ذي ا أل�صوات‬ ‫بل �إن الرعوية �شحنت بخطاب فل�سفي جديد ومنظور‬
‫املتعددة»(‪.)12‬‬ ‫متطور � أَ َجدَّ‪ ،‬ويكفي � أن نذكر �شاعرين كبريين‪ � ،‬أما‬
‫فهذه «الرعوية ال�صغرى» تتحدد ب�شكلها الوزين‬ ‫� أحدهما ففرن�سي وهو ‪ � André chenier‬أندريه �شينيي‬
‫كخا�صية مفارقة ومائزة عن الرعويات التي �ستعرف‬ ‫�شاعر القرن بال منازع‪ � ،‬أما الآخر فهو كِ�سنرَ ْ ‪gessner‬‬
‫ْ‬
‫‪93‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بحب الفار�س‪ ،‬والفار�س املذنف بها‪ .‬وعالوة على‬ ‫حتوال ابتداء من القرن ال�ساد�س ع�رش امليالدي‪� ،‬إن‬
‫ذلك‪ ،‬تلعب العنا�رص ال�رسدية � أهمية بالغة يف ن�سج‬ ‫على م�ستوى املحتوى بتج�سري العالقة جمددا مع‬
‫خيوط الرعوية ال�صغرى م�ؤطرة حكيها بو�صف عذب‬ ‫رعويات ثيوكريت وفرجيل‪ � ،‬أو على �صعيد البناء‬
‫لف�صل الربيع‪ ،‬وهموم الراعية ال�ساذجة‪ ،‬وهي ترفع‬ ‫اللغوي ا ألليجوري والتخييل الذي اقت�ضته اال�ستجابة‬
‫َ�ش َكا َتها من عذابات الهوى الذي َبرَّح بها‪ .‬حتى �إن‬ ‫لنداءات املرحلة التاريخية وم�ستلزمات النه�ضة‬
‫الباحث زنك ‪ Zink‬يقول‪�« :‬إن هذا النوع ا ألدبي كانت‬ ‫الفتية‪« .‬وهو �شكل يقارب يف وجهه العام وزن‬
‫له وظيفة خال�صة‪ ،‬تتلخ�ص يف التعبري عن الرغبة‬ ‫الغناء امللكي‪ :‬الذي هو � أحد تنويعات ال�شعر الغزيل‪.‬‬
‫اجل�سدية‪ ،‬والتلمظ ال�شهواين كا�سرتاحة ع�سلية بعد‬ ‫فالرعويات ال�صغرى تتكون من � أحد ع�رش �سطرا‬ ‫مل يفت � أدباء‬
‫ا�ستنفاذ و�سائط الغزل العذري(‪.)15‬‬ ‫موزعة على ثماين مقاطع يف املذكر‪ ،‬وت�سع مقاطع‬ ‫و�شعراء وفنانو‬
‫� أما بيريبك (‪ )Pierre Bec‬فو�ضع كرونولوجيا تظهر � أن‬ ‫يف امل�ؤنث‪ ..‬ف�ضال عن � أن التنويع الوزين يتواتر فيها‪.‬‬ ‫ع�صر النه�ضة‪،‬‬
‫املرحلة التاريخية الفا�صلة بني ‪ 1210‬و ‪،1240‬‬ ‫كما � أن من خ�صائ�ص بنياتها تكرار الالزمة‪ .‬وب�سبب‬
‫� أن ينكبوا‬
‫عرفت عهد الغزل العذري يف �شمال فرن�سا‪ ،‬ورعويات‬ ‫من تغري الوزن فيها من ن�ص �إىل ن�ص � أو داخل الن�ص‬
‫�صغرى ذات م�ستوى �شعري عال‪ .‬وي�ضيف قائال‪:‬‬ ‫الواحد‪ ،‬فقد تعذر تعريف هذا النمط الكتابي تعريفا‬ ‫بدورهم على‬
‫لجنا�سي من رعوية ‪Marcabrur‬‬ ‫«لقد بد� أ هذا التقليد ا أ‬ ‫�شافيا‪ .‬لذلك اعتمد يف دمغها التمييزي عن باقي‬ ‫هذه املفاهيم‬
‫(‪ ..)1140‬وكان علينا � أن ننتظر �إىل العام ‪،1200‬‬ ‫مل َ�سا ِمتَة‪ ،‬على م�ضامينها‪ ..‬وهو ما قام به‬‫ا أل�شكال ا ُ‬ ‫والثيمات‪،‬‬
‫لينطلق التقليد ويتطور على يد احلادي ال�شاعر‬ ‫االناقدان‪ :‬رميون فيدان وكيلهلم مولينيه ‪ Vidal‬و ‪Molin‬‬ ‫وباخل�صو�ص‬
‫اجلوال ‪ Jean Bodel‬وبارت�ش وغريهما‪ .‬فكل الرعويات‬ ‫‪ .)13(nier‬فما هي هذه اخل�صو�صايت امل�ضمونية التي‬ ‫«الركاديا»‬‫أ‬
‫ال�صغرى ا ألخرى كان منطلقها الزمني هو القرن‬ ‫متنحها وجودها املميز‪ ،‬وكينونتها الفارقة؟ �إنها‬ ‫جاعلني‬
‫الثالث ع�رش امليالدي على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫–بال �شك‪-‬ثوابت تيماتها امل�سكوكة التي تعاورها‬ ‫منها الب� ؤرة‬
‫‪1210-40 -‬م‪ :‬املرحلة ا ألر�ستقراطية‪.‬‬ ‫�شعراء الع�صور الو�سطى‪ .‬ومفادها‪ ،‬فيما يذهب �إليه‬ ‫أ‬
‫ال�سا�س والنواة‬
‫‪1240-60-‬م‪ :‬املرحلة الربجوازية‪.‬‬ ‫فيدال‪ � ،‬أن عنا�رصها املكونة لبنائها الق�ص�صي ال‬
‫املركزية التي‬
‫ومل يكد ينتهي القرن املذكور حتى كانت تقاليد‬ ‫تخرج عن اللقاء الدائم لفار�س براعية‪ ،‬متوددا لها‪،‬‬
‫ال�شعر الرعوي حتتل �صدارة امل�شهد ال�شعري يف‬ ‫بائحا مبا تكتوي به جوانحه من لظى احلب والهيام‪.‬‬ ‫دارت ن�صو�صهم‬
‫فرن�سا واجنلرتا‪ ..‬بينما � أ�صبحت الرعوية ال�صغرى‬ ‫فممانعة الراعية‪ ،‬وتذكريها الفار�س بالفارق‬ ‫ال�شعرية‬
‫� أثرا بعد عني‪ ،‬و�إن ت�سللت تيمتها ا أل‬ ‫والروائية‬
‫�سا�س يف َخ َفرْ‬ ‫االجتماعي‪ ،‬و� أنها الب�سيطة كما هي‪ ،‬خلقت للب�سيط‬
‫�إىل ا أل�شكال الفلكلورية وا�ستكنت بها ‪.‬‬
‫(‪)16‬‬
‫�صنوها ورفيقها � أال وهو الراعي‪ .‬ثم �إن التنوع‬ ‫ولوحاتهم‬
‫و�سواء وقفنا عند الرعوية ال�صغرى‪ � ،‬أو عدنا ا ألدراج‬ ‫الوزين‪ ،‬مل يكن اخلا�صية الوحيدة للرعوية‪ ،‬بل � أي�ضا‬ ‫الت�شكيلية‬
‫�إىل ا إليديليات الثيوكريتية «الق�صائد الو�صفية» � أو‬ ‫ذلك اللعب الطوعي بعنا�رص املحتوى‪ ..‬وقلب � أدوار‬ ‫عليها‬
‫«البي ُكولي ْك»‪ :‬الرعويات الفرجيلية‪ � ،‬أو ارمتينا عميقا‬ ‫بع�ض ال�شخ�صيات تك�سريا للنمطية اخلطية املتكل�سة‪.‬‬
‫نزوال �إىل ليل احل�ضارات‪ � ،‬أو ا�ستعر�ضنا مذكرين‬ ‫«� أما ا ألمثلة فعديدة متنحها بر�شاقة � أ�شعار ريفيري‬
‫باملنجز الرعوي فائق النحت والبناء اللغوي‬ ‫‪ Rivière‬وبارت�س و� أوديو‪ Bartsch :‬و‪ Audieu‬كما يقول زنك‬
‫واال�ستعاري يف ع�رص النه�ضة والقرن الثامن‬ ‫‪.)14(Zink‬‬
‫ع�رش امليالدي والع�صور احلديثة‪-‬ح�سب التق�سيم‬ ‫وغالبا ما ت�سمى هذه الراعية (ماريون‪ � Marion-‬أو‬
‫ا ألوروبي العري�ض‪ -‬ف�إن الهيمنة املفهومية‬ ‫مارو ‪ � Marot‬أو ‪ Perenelle‬بريينيل) التي ترف�ض الفار�س‬
‫تخرتقها جميعها‪ -‬يف زعمنا‪ -‬وهي‪ :‬الهروب من‬ ‫العا�شق ألنه لي�س من طينتها‪ -‬كما � أ�سلفنا‪ .-‬وبداهة‬
‫املحدودية �إىل الرحابة ا ألفدح‪ ،‬رحابة ا ألركاديا‬ ‫ف�إن الراعي يحظى يف هذه املعادلة با ألف�ضلية‪-‬‬
‫واليوتوبيا‪ ،‬والف�ضاء املرتامي الزاهي اخل�رضة‪،‬‬ ‫وغالبا‪-‬ما يكون الراعي هو (روبن‪ � ،Robin-‬أو ‪Perrin‬‬

‫واملرتع بالن�شيد والرذاذ‪ .‬وهي االحتماء الرحيم‬ ‫–بريان � أوكيو ‪.) guiot‬‬
‫بالغد احلامل � أو املا�ضي امل�أ�سوف عليه‪ ،‬والب�ساطة‬ ‫وان�سجاما مع مبد� أ التنويع امل�شار �إليه‪ ،‬ف�إن رعويات‬
‫الوديعة‪ ،‬والرباءة املطلقة‪ .‬وبعبارة � أوجز‪ :‬هي مديح‬ ‫� أخرى ُتو�سِ ُع � أحيازها ملو�ضوعة الراعية ا ُ‬
‫ملدَلّهة‬
‫‪94‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫الكتابية قبل قرون؟‬ ‫املا�ضي الذهبي املتخيل‪ ،‬والنو�ستاجليا املربحة‪.‬‬
‫احلق �إن اجلن�س الرعوي كنوع � أدبي قائم الذات‪،‬‬ ‫ويف هذا يرى �شيللر‪ �« :‬أن االيديليا هي �صورة عاطفية‬
‫�صار خربا وذكرى‪ ،‬وما بقي منه هو منطه الذي‬ ‫ال�ستعادة احللقة املفقودة بني الطبيعة وبني روح‬
‫خ�ضع لتحوالت وت�صورات خمالفة أل�صوله‪ ..‬من‬ ‫ا إلن�سان»(‪.)17‬‬
‫دون � أن تقطع مع روحه وجوهره اللذين ا�ست�رشيا يف‬ ‫�إن مفهوم الرباءة يف داللتها الطفولية‪ ،‬يوجد يف‬
‫مناخات كتابية � أخرى �شعرية ونرثية وفنية‪ .‬كتب‬ ‫القلب من اجلن�س الرعوي‪ ،‬وهو املفهوم عينه‬
‫� أل�سنت فاولر ‪ ،Alastain Fowler‬منظر ا ألمناط وا ألجنا�س‬ ‫امل�ستكن يف حماولة ال�شاعر �شيللر وهو ي�صوغ الفرق‬
‫لدب يقول‪Le genre pastorale est mort : le mode pastor « :‬‬ ‫يف ا أ‬ ‫اجلمايل بني ال�شعر ال�ساذج وال�شعر العاطفي حيث‬
‫(‪)20‬‬
‫‪.» rale perdure‬‬ ‫ينت�رص للأول باعتباره �صورة الطبيعة يف طفولتها‬
‫ولقائل � أن يقول‪ ،‬وهو مطمئن‪� ،‬إن اجلن�س الرعوي‬ ‫وغ�ضا�ضتها وعنفوانها‪ � ،‬أي ينت�رص‪ ،‬باحلري‪ ،‬لل�شعر‬
‫التقليدي اختفى باختفاء كبار �شعرائه يف الع�رص‬ ‫الرعوي من دون � أن ينتق�ص من الثاين‪ ،‬وتلك م�س�ألة‬
‫احلديث‪.‬‬ ‫معقدة جتد كامل َتبرَ ُّجها املعريف يف ر�سائله �إىل‬
‫وال نعدم ا ألمثلة ال�ضاجة يف هذا الباب‪ ..‬فلو‬ ‫جمايله ال�شاعر غوته‪ ،‬ومقاالته املاحتة من املنهـل‬
‫ا�ستزدنا‪ ،‬لقفز �إىل الذهن � أي�ضا‪ ،‬ال�شاعر ا ألمريكي‬ ‫اجلمايل الكانطي دافق العطاء واحلدب التي �شكلت‬
‫روبرت فرو�ست (‪ ..)1963 -1874‬الذي ظل وفيا‬ ‫بدورها منبعا ثرا للأخوين �شلغل‪ ،‬وال�شاعر هولدرلن‪.‬‬
‫جلذوره الرعوية الزراعية يف �سلوكه و�شعره وفل�سفته‬ ‫و�إذا كانت ن�صو�ص ثيوكريت الرعوية بعامة � أقرب ما‬
‫يف احلياة‪ .‬على � أن اختفاء ه�ؤالء وغريهم من م�رسح‬ ‫تكـون �إىل تلك الن�صو�ص التي تعود �إىل زمن موغل‬
‫احلياة‪ ،‬مل ي�ضع حدا لل�شعر الرعوي‪ ،‬ذلك � أن كثريا‬ ‫يف القدم‪ ،‬من حيث احتفا� ؤها بالطبيعة واملراعي‬
‫من موتيفاته وتيماته حتولت بفعل التطور العام‬ ‫واحلب وا ألنا�شيد‪« ،‬ف�إن �شعر الرعـويات يحمل –‬
‫بداهة‪ ،‬مبقية على الن�سغ احلار‪ ،‬الذي ي�رسي يف‬ ‫�إجماال‪-‬يف طياته معنى النقـد والهجاء للواقع من‬
‫�شجراتها‪ ،‬نا�سجة من خيوط الذهب‪ ،‬و� أوراق الربيع‪،‬‬ ‫خالل احلنني �إىل مـا�ض متخيل»(‪.)18‬‬
‫ما به احتمت من غطر�سة التكنولوجيا‪ ،‬و�إن يف‬ ‫وهو ما تذهب �إليه الدكتورة نازك �إبراهيم عبد‬
‫ع�ش رهيف رقيق يكاد َيتَ َخل َّ ُع ويتفتت لو مل تع�صمه‬ ‫الفتاح حني تقول‪ ...« :‬فقد ا�ستغل �شعراء هذا اجليل‬
‫خفته فيعانق الهواء وا ألثري‪ ! ‬بيد � أن هذه الرهافة‪،‬‬ ‫الرعويات‪( ،‬تق�صد جيل ع�رص النه�ضة ب�إيطاليا)‪،‬‬
‫وهذا ال�شفوف‪ ،‬مل يحوال دون متوقف ال�شعر الرعوي‬ ‫وجعلوا منها � أداة للتعبري عن رغباتهم الثورية‬
‫املتحول من ق�ضايا الع�رص‪ ،‬وما عرفه من �سقوط‬ ‫�ضد الكني�سة الكاثوليكية التي اعتربوها قد اتخذت‬
‫اليوتوبيات‪ ،‬وانهيار ا ألحالم؛ معربا عن انهمام‬ ‫مبادئ التن�سك والزهد من قبل العناد فقط‪ ،‬و� أنها‬
‫وان�شغال وخوف من ا�ست�رشاء اخلراب‪ ،‬وا�ستفحال‬ ‫قد فر�ضت على معتنقيها ا�ستعبادا كامال لآرائها‬
‫الرماد‪ ،‬وان�سداد الآفاق‪ .‬حتى قال جوهان ويزينكا‬ ‫ووجهات نظرها‪ .‬لقد عمد �شعراء هذا اجليل �إىل‬
‫‪�« : Johan Huizinga‬إن ال�شعر الرعوي يف معناه ال�شامل‬ ‫حرية الفكر و�إىل التمتع بجمال العامل بهجة احلياة‬
‫هو �شيء � أكرب من � أن يكون جن�سا � أدبيا وح�سب‪� ،‬إنه‬ ‫وملذاتها‪ ،‬فوجدوا منفذا للتعبري عن رغباتهم يف‬
‫احلاجة لرتميم ت�صدعات احلياة»(‪.)21‬‬ ‫الرعوية الكال�سيكية‪ ،‬لذلك ف�ضلوا ا�ستخدامها»(‪.)19‬‬
‫وترتيبا عليه‪ � ،‬أميكن املجازفة بالقول �إن كل � أدب‬ ‫بعد كل هذا‪ ،‬يثور �س�ؤال‪ � :‬أما زال لواء املجد معقودا‬
‫يتق�صد االحتفاء بقيم اجلمال والعدل واحلرية‪،‬‬ ‫لل�شعر الرعوي من خالل هذه الت�سمية � أو تلك؟ � أم � أنه‬
‫وينت�سج بناء لغويا ا�ستعاريا باذخا مكر�سا لغد‬ ‫جن�س � أدبي التمع عرب ا ألزمنة وانطف�أ بغتة كالنيزك‪،‬‬
‫وما�ض ذهبي تغذيه نو�ستاجليا‬ ‫ٍ‬ ‫م�أمول � أقل ب�ؤ�سا‪،‬‬ ‫وك�أمنا بفعل فاعل؟ لكننا –دفاعا عن تيماته‪-‬‬
‫الفقد والطفولة الرائقة‪ � ،‬أدب يعرب عن الرغبة امل�شتعلة‬ ‫نعار�ض ال�س�ؤال ب�س�ؤال � آخر وهو‪ :‬و� أين امللحمة‬
‫يف ال�سالم وال�سكينة والطبيعة ومدح ا إلن�سان‪ ،‬مبا‬ ‫وامل�أ�ساة والكوميديا ك�أجنا�س �شعرية كربى؟‬
‫هو كينونة وجودية � أرقى‪ ،‬وانوجاد انطولوجي عليه‬ ‫� أمل ي�صبها ال�ضمور والذبول؟ ويف حالة امللحمة‬
‫العول يف ت�أثيث الكون بنعمة احللم‪ ،‬وزخرفة احلياة‬ ‫تخ�صي�صا‪ � ،‬أمل تخرج من التداول املعريف واملحاكاة‬
‫‪95‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قب�ضة ا ألر�ضي‪ ،‬والزائل واملكرور‪ .‬وقبل هذا وذاك‪،‬‬ ‫باخل�رضة الدائمة‪ ،‬ون�شيد احلب ا ألبدي؟ � أدب كهذا‬
‫مل تكن اخلمر مبا هي وجه � آخر لالنفالت من ال�رشط‬ ‫حتققت فيه وبه املقومات املذكورة؛ هل ميكن نعته‬
‫املادي‪ ،‬تعوي�ضا � أو بديال للمر� أة‪ .‬كانت‪ ،‬وقد َو َّثنَ َها‬ ‫با ألدب الرعوي؟ � أما نتوء التيمة الرعوية التي � أتينا‬
‫ال�شعر اجلاهلي‪ ،‬وزادها توثينا � أبو نوا�س فيما‬ ‫عليها ب�سطا وحتليال‪ ،‬فندرك � أنها �صارت �إىل احماء‬
‫بعد‪ ،‬ا�ستكماال للذاذات‪ ،‬وحتقيقا للفتوة وال�صبا � أو‬ ‫واختفاء وحتول باملعنى ا ألوفيدي‪� ،‬إنه املحو الذي‬
‫الت�صابي‪ ،‬والدخول يف طق�س � أركادي حامل مل يكن‬ ‫هو �شغل الكتابة ال�شعرية التي ترتك بال�رضورة‬
‫عدوه �سوى الفجر القادم واملهرول ب�ألف عني‪ ،‬و� ألف‬ ‫ب�صماتها و� آثارها‪ ،‬ولكن التي متنح القراءة � أثر‬
‫موعظة وتهديد بالويل والثبور‪ ،‬وب�سحب االنتماء‬ ‫�صمت ما‪ ،‬ومن هذا ال�صمت ي�أتي جزء من اجلاذبية‬
‫القبلي‪! ‬‬ ‫الآ�رسة للكتابات الرعوية‪ ،‬ولكل كتابة تهفو �إىل‬
‫لقد كان ال�شاعر اجلاهلي واعيا مبحدودية الف�ضاء‬ ‫التحرر من النموذجية والنمطية‪ ،‬وتقيم عر�سا لعوامل‬
‫على �ش�ساعته‪ ،‬وب�ضيق ا ألفق على تراميه ورحابته‪،‬‬ ‫الطفولة املتواثبة واحللم ال�ضاحك‪ � ! ‬أم � أن الكل باطل‬
‫فاختار عامدا الذهاب �إىل الق�صيدة‪ � ،‬أي �إىل االنفالت‬ ‫ا ألباطيل‪ ،‬كل ا ألنهار جتري �إىل البحر‪ ،‬والبحر لي�س‬
‫من �أَ�سرْ ِ واقعه‪ ،‬واالرتباط‪ -‬يف املقابل‪ -‬باللغة‪،‬‬ ‫مبلآن‪! ‬‬
‫لغة � أ�سالفه حمققا ب�صنيعه هذا وجوده الرمزي‪،‬‬ ‫فهل �سكنت هذه الروح � أطواء ال�شعر العربي القدمي‬
‫وخالقا‪ ،‬من ثمة‪ ،‬جنة حملوما بها‪ ،‬تتمظهر من‬ ‫� أو يف ا ألقل رانت على � أخ�ص مناذجه‪ ،‬و�شكلت � أحد‬
‫و�صفِيَّا‪ ،‬ومن خالل‬ ‫خالل احليوان رفيقا وم�ؤن�سا َ‬ ‫� أبعاده؟‬
‫ال�صيد � ألهية وت�صابيا وطفولة‪ .‬هكذا نفهم رعوية‬ ‫نبادر ونقول �إن ال�شعر اجلاهلي يهج�س بتلك الروح‪،‬‬
‫ال�شعر اجلاهلي‪ ،‬وا ألمثلة بهذا ال�صدد ت�سعفنا فال‬ ‫وينت�رص للب�ساطة واحل�سية والفرو�سية � أي�ضا‪ ،‬التي‬
‫� أقل من � أن ن�شري �إىل كتب اجلمهرات واملف�ضليات‬ ‫كانت � أحد مقومات الرعوية يف الع�صور الو�سطى‬
‫وا أل�صمعيات وغريها التي حتوي ن�صو�صا بل‬ ‫ا ألوروبية‪ .‬كما � أن قاع الن�ص ال�شعري اجلاهلي‬
‫ف�صو�صا من الزمرد والياقوت واملا�س‪َ ،‬ت َعل َّ َق َها‬ ‫َعبرَّ َ بامل�ضمر كثريا وبالت�رصيح قليال عن حنني‬
‫التلقي العربي –يف ا ِإل َّبان‪ -‬قبل � أن يكرم منتخبات‬ ‫دفني‪ ،‬ونو�ستاجليا حارقة‪ ،‬وبكائيات ما زالت َت ِر ُّن‬
‫منها بتعليقها على � أ�ستار الكعبة‪ � ،‬أي على حيطان‬ ‫يف �سمع ا أليام‪ ،‬توقا �إىل � أيام ذهبية خلت‪ ،‬وتعلقا‬
‫اخللود‪ ،‬و� أ ألبد ال�رسمدي‪! ‬‬ ‫بنعيم ما فتئ الدهر يهدده بالزوال‪ .‬وما الن�سيب‬
‫ف�إذا تخطينا احلقبة‪َ ،‬ت َو َّه َج �شعر الغزل العذري‬ ‫وو�صف الرحلة‪ ..‬وما يعرت�ضها من � أخطار‪ ،‬ويحدق‬
‫كا أل�سورة يف يد احل�سناء الب�ضة‪ .‬ونحن نعترب � أن‬ ‫بها من فجاءات وطوارئ‪� ،‬إال تقليد رعوي �صار‬
‫الغزل العذري � أو بع�ضا منه –يف � أقل تقدير‪�-‬شعر‬ ‫�إىل كتابة �شعرية �صاقبت بل متاهت مع املوجود‬
‫رعوي يف بنائه وو�صفه ومو�ضوعته‪ ،‬فهو من حيث‬ ‫ووجود ال�شاعر نف�سه‪ ،‬م�ستح�رضة �شواخ�ص ترمز‬
‫البناء اللغوي‪ ،‬يت�سم بالعذوبة والب�ساطة والرقة‬ ‫�إىل زمن هارب‪ ،‬وم�ستدعية طيف املر� أة‪ ،‬العذبة‬
‫ك�شعر ثيوكريت‪ ،‬ومن حيث الو�صف‪ ،‬فمكر�س للمر� أة‬ ‫وال�شهية‪ ،‬خالعة عليها � أجمل ا ألو�صاف املادية‬
‫املثال‪ � .‬أما مو�ضوعته ف�أفالطونية عنوانها الفناء‬ ‫ِب لقاء‬ ‫حتديدا‪ ،‬ونائ�سة بني ن�صو�ص تقطر لذاذة غ َّ‬
‫يف املع�شوق‪ ،‬واملوت‪ ،‬عديد املرات يف اليوم‪ ،‬من‬ ‫ال�شاعر باحلبيبة‪ ،‬ون�صو�ص تر�شح � أ�سى والتياعا‬
‫� أجل النظر �إىل املحبوب‪ ،‬حتى لك�أن ال�صوفية نهلوا‬ ‫ِب م�سعى خائب‪ .‬ولنا � أي�ضا � أن ننتبه �إىل � أن طبيعة‬
‫غ َّ‬
‫من معينه‪ ،‬وت�رشبوا �صبابات �شعرائه وعذاباتهم‪.‬‬ ‫ال�شعر اجلاهلي هي طبيعة رعوية بحكم اجلغرافيا‪،‬‬
‫كل ذلك ي�ؤطره ف�ضاء �إما �صحراوي‪ � ،‬أو وادي ذي‬ ‫ومقت�ضى البداوة والقيم اخللقية‪ .‬و� أن � أعلى مناذج‬
‫زرع‪ � ،‬أو جبل �شهد براءة ال�شاعر واحلبيبة وهما‬ ‫ال�شعر اجلاهلي (املعلقات � أو املذهبات �سيان)‬
‫يرعيان الغنم منذ مطلع ال�شم�س �إىل مغربها‪،‬‬ ‫جمدت احلب ال�شهوي باعتباره‪ � ،‬أوال‪ ،‬اقتنا�صا‬
‫ويلعبان باحل�صى تزجية لوقت فارغ‪ ،‬ثم يخطان‬ ‫للحظات ذهبية ماتعة‪ ،‬وباعتباره‪ ،‬ثانيا �إ�شباعا‬
‫على نقا الرمل � أحالما وغدا ذهبيا يتالمح يف ا ألفق‬ ‫لعط�شني‪ :‬عط�ش بيولوجي‪ ،‬وعط�ش روحي‪ ،‬به يعلو‬
‫الالزوردي ا أل�صفى من عني ديك‪ .‬ثم ت�أتي الريح‬ ‫ال�شاعر على واقعه الآ�سن ال�صحراوي‪ ،‬ويتحرر من‬
‫‪96‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫منجز �شعري مغاير َفيُدَخِ ُل ال�شعرية العربية –من‬ ‫بغتة فال تبقي خطوطا وال ر�سوما‪ ،‬فك�أمنا الريح‬
‫ثمة‪ -‬وهي جذىل‪� -‬إىل حرائق ال�شعر وبهاء الن�شيد‪.‬‬ ‫نذير �ش�ؤم‪ ،‬وغراب َبينْ ٍ يتعقبان ال�شاعر و�صبيته‪.‬‬
‫يف ال�سياق �إياه نعطي الكلمة للناقد العراقي عبد‬ ‫يف كل هذا ال�شعر‪ ،‬كان الواقع املعطوب حا�رضا بكل‬
‫الواحد ل�ؤل�ؤة‪ ،‬وهو ي�ضع اليد على رعوية ال�سياب يف‬ ‫نتوءاته وت�ضاري�سه لكنه احل�ضور امل�ؤ�سي املرفو�ض‬
‫بواكريه‪[ :‬حكاية (هالة) الراعية‪ ،‬وا�سمها الرعوي‬ ‫وغري املرغوب فيه‪ .‬وذلك واحد من مرامي ال�شعر‬
‫�صغ ُِرو َن َها‬‫(هيلة) ت�ضيف �شذى �إىل قهوة الرعيان‪َ ،‬فيُ َ‬ ‫الرعوي الذي حمل على عاتقه توجيه �سهام النقد‬
‫(ه َو ْيلَه)‪ .‬وهذه جتربة �صادقة � أخرى ال‬ ‫للتحبيب ُ‬ ‫�إىل الواقع فيما هو يتحلل منه‪ ،‬مب�رشا بغد جميل‬
‫تزيد �رشارتها عن جتربة (وفيقة) ال�سابقة‪.‬‬ ‫� أو م�ستعيدا ع�رصًا بعيدا َولىَّ ‪ ،‬فيه ما يبعث ال�سعادة‬
‫لكنه –هنا‪ -‬يقول لنا بكل براءة القروي‪� :‬إنه كان‬ ‫ويغري باالحتماء وا إلقامة‪.‬‬
‫الن�ص ال�شعري‬ ‫ُي َقب ِّ ُل ا ألغنام التي كانت (هالة) ترعاها يف � أنحاء‬ ‫يف الع�رص احلديث‪ ،‬وكنتيجة لالحتكاك بالغرب‬
‫ب‬‫اجلاهلي َع رَّ َ‬ ‫(جيكور) ألنه ر� أى راعيته تقبل تلك ا ألغنام‪ ،‬فراح‬ ‫املتقدم والتثاقف‪ � ،‬أمكن لل�شعراء � أن يقر� أوا متون‬
‫بامل�ضمر كثريا‬ ‫ال�شاعر الفتي يبحث يف الك�أ�س عن ف�ضل يناله‪:‬‬ ‫الآخرين بعيون مفتوحة‪ ،‬وا�ستب�صار �أَلمْ َعِي‪ ،‬فكان‬
‫وبالت�صريح‬ ‫و َقبَّل ْ ُت حتى البهم ملا ر� أيتها‬ ‫� أن احتفى ال�شعر املهجري‪ -‬ف�ضال عن رومان�سيته‪-‬‬
‫قليال عن‬ ‫ُت ْقبَ ُل تلك البهـم قبلـة ثائـر‬ ‫ ‬ ‫بالرعوية م�ستبطنا ر ؤ�يتها وخميالها‪ ،‬متيحا‬
‫فقد � أهتدي يف قبلة �إثر قبلة‬ ‫لل�شعرية العربية‪ -‬و ألول مرة يف تاريخها‪-‬اخلروج‬
‫حنني دفني‪،‬‬
‫ �إىل � أثر من ثغرها غري ظاهر‬ ‫�ص َمتَة وخيمتها البالية بالتوجه‬ ‫مل ْ‬
‫من �رشنقتها ا ُ‬
‫ونو�ستاجليا‬ ‫ويف هذا � أ�صداء من �شعر جمنون بني عامر(‪.)22‬‬ ‫ال�سعيد ر� أ�سا �إىل الطبيعة احلاملة‪ُ ،‬م َهلِالُ‪ -‬كطفل‬
‫حارقة‪،‬‬ ‫فل�سطينيا‪ ،‬يتقدم امل�شهد ال�شعري‪ ،‬يف نب�ضه و�سمته‬ ‫� أعادوه �إىل � أبويه‪ -‬بال�ضفاف والينابيع وا ألودية‬
‫وبكائيات ما‬ ‫الرعوي‪ ،‬كل من حممود دروي�ش و�سميح القا�سم يف‬ ‫والطيور وا ألغنام واملراعي والرباري وال�شجر‪،‬‬
‫زالت ت َِر ُّن يف‬ ‫� أعمالهما ال�شعرية ا ألوىل حيث الطزاجة والطراوة‬ ‫خمطوفا بلأ الء النجوم وال�سماء واخل�رضة‪ ،‬وجلني‬
‫اليام‪،‬‬ ‫�سمع أ‬ ‫والغنائية املكر�سة للأ ر�ض امل�رسوقة‪ ،‬والف�ضاء‬ ‫املاء‪ ،‬وبهاء الن�ساء‪ .‬لقد ظل ال�شعر املهجري املحتفل‬
‫توقا �إىل � أيام‬ ‫امل�ستباح‪� .‬إن اال�ستق�صاء العميق لعنا�رص الطبيعة‬ ‫بالطبيعة يف غالبية ن�صو�صه‪ ،‬يوقع عرب مناذجه‬
‫ذهبية خلت‪،‬‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬وا�ستدعاء عوامل الطفولة‪ ،‬وتنزيلها‬ ‫املده�شة‪ ،‬ن�شيد العودة املرحة �إىل ح�ضن ال�ش�ساعة‪،‬‬
‫وتعلقا بنعيم‬ ‫املنزلة ا أل�سنى‪ ..‬كطفولة منتهكة بانتهاك حقها يف‬ ‫ورحم الرحابة‪ ،‬و� أمومة الغاب‪ ،‬ملتفعا بالب�ساطة‬
‫� أر�ض � آبائها‪ ،‬وجدها ا ألول كنعان‪ ،‬لهو‪ -‬يف نظرنا‪-‬‬ ‫والرباءة واحللولية �ضدا على مدنية �إ�سمنتية‬
‫ما فتئ الدهر‬
‫وثيق ال�صلة‪..‬متني ال�سبب بالتجلي الرعوي‪ ،‬ما دام‬ ‫وط َها ال�رشور‪ .‬ولنا يف �شعر‬ ‫ُي َ�سوِّ ُرها الفجور‪ ،‬وتحَ ُ ُ‬
‫يهدده بالزوال‬ ‫� أن الرعوية‪-‬كما �أَلحْ َ ْفنَا‪ -‬تدور على الن�ص ال�شعري‪،‬‬ ‫جربان خليل جربان‪( :‬البدائع والطرائف‪-‬ال�سابق‪-‬‬
‫كما تدور اخليوط على الو�شيعة‪ ،‬ويف بالنا‪ ،‬تتداعى‬ ‫املجنون)‪ ،‬ويف �شعر ميخائيل نعيمة (هم�س اجلفون‬
‫املجاميع التالية‪ � :‬أ‪ �-‬أوراق الزيتون‪-‬عا�شق من‬ ‫والنهر املتجمد)‪ ،‬ون�سيب عري�ضة (ا ألرواح احلائرة)‪،‬‬
‫فل�سطني‪ �-‬آخر الليل‪-‬الع�صافري متوت يف اجلليل‪..‬‬ ‫و�إيليا � أبو ما�ضي (اخلمائل واجلداول)‪ ،‬ور�شيد � أيوب‪،‬‬
‫�إلخ ملحمود دروي�ش‪.‬‬ ‫ويف �شعر ر�شيد �سليم اخلوري‪ ،‬املهجري اجلنوبي‬
‫ب‪ �-‬أغاين الدروب‪-‬قر� آن املوت واليا�سمني‪ �-‬أحبك‬ ‫امل�شهور بال�شاعر القروي‪ ،‬لنا يف متونهم ا أل�سا�سية‬
‫كما ي�شتهي املوت‪ -‬جهات الروح‪�..‬إلخ بالن�سبة �إىل‬ ‫هذه‪ ،‬املثال احلي على البعد الرعوي خملوطا‪-‬دون‬
‫�سميح القا�سم‪.‬‬ ‫ريب‪ -‬بالرومان�سية‪ .‬كما � أن � أبا القا�سم ال�شابي‬
‫أ‬
‫لكن ال�شاعر الفل�سطيني الكرث احتفاء بالرعوية‬ ‫مينحنا �سانحة االدعاء بانت�ساب ديوانه اجلميل‬
‫الزراعية‪ ..‬الرعوي بامتياز هو ال�شاعر عز الدين‬ ‫والعذب ‪ �( :‬أغاين احلياة) �إىل جمال ال�شعر الرعوي‬
‫اد ُه ثم‬‫او َد هذا ال�شكل ال�شعري َو َر َ‬ ‫املنا�رصة‪ ،‬ألنه َر َ‬ ‫وكذا ال�شاعر امل�رصي حممود ح�سن ا�سماعيل من‬
‫با�رشه ممار�سة �شعرية وتنظريا‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ف�إنه‬ ‫خالل ‪ �( :‬أغاين الكوخ‪-‬وقاب قو�سني)‪.‬‬
‫ك�شف عن مق�صدية ونية توجهت نحو الرعوية‪.‬‬ ‫وتتيح بواكري ال�سياب ال�شعرية القول برعوية �شعره‬
‫ولعل ذلك � أن يحقق ل�شعره ال�سبق والتميز واالنت�ساب‬ ‫ورومان�سيته يف � آن‪ ،‬قبل � أن ي�رضب موعدا مع‬
‫‪97‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪contribution à une typologie de genres poétiques Médi vol 1-1977. p :‬‬


‫بالقوة والفعل �إىل هذا اجلن�س التعبريي املفكر‬
‫‪.119-136‬‬
‫‪-17‬نازك �إبراهيم عبد الفتاح‪-‬ال�شعر العربي احلديث‪ �-‬أغرا�ضه‬ ‫فيه‪ .‬من هنا‪ ،‬ف�إن �شعر املنا�رصة الرعوي غني‬
‫و�صوره‪-‬الدار اجلامعية للطباعة والن�رش‪-‬بريوت‪�-1983-‬ص‪:‬‬ ‫بنف�سه ك�شعر‪ ،‬وباملعرفة التي يحملها يف طياته‬
‫‪.121‬‬ ‫للنوع �إياه‪ .‬مبعنى � آخر‪� ،‬إن غناه مزدوج بجماليته‬
‫‪-18‬كتاب امر ؤ� القي�س الكنعاين‪-‬مقالة الدكتور �إبراهيم ال�سعافني‪-‬‬
‫امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�رش‪-‬بريوت‪-‬ط ‪�-1999-1‬ص‪:‬‬ ‫املنبج�سة من ت�شابك م�ستوياته اللغوية وا إليقاعية‬
‫‪.191-190‬‬ ‫والت�صويرية ور ؤ�ياه‪ ،‬وب�إحاالته الذكية املتخفية‬
‫‪-19‬ال�شعر العربي احلديث‪-‬مرجع �سابق‪�-‬ص‪.122 :‬‬ ‫واملنطوية على تراث ينحدر من ليل احل�ضارات‪،‬‬
‫‪Le sourcier d’Eden, Christian, B. Allègne-Université de Montréal- 20‬‬
‫‪(thèse présentée à la faculté des études supérieures de philosophie-Mai-‬‬
‫بكل العفوية والتلقائية املمكنة‪ ،‬ومن عهود ا إلغريق‬
‫‪.1998‬‬ ‫والرومان بعد � أن عرف تقعيدا و� أ�صبح معيارا على‬
‫‪ Le sourcier d’Eden-21‬مرجع �سابق‬ ‫يد ثيوكريت وفرجيل‪.‬‬
‫‪-22‬عبد الواحد ل�ؤل�ؤة‪-‬منازل القمر‪-‬درا�سات نقدية‪-‬دار ريا�ض‬
‫الري�س‪ -‬الطبعة ا ألوىل‪ �-‬أكتوبر ‪�-1990‬ص‪.228 :‬‬ ‫�إحاالت ‪:‬‬
‫هوام�ش تكميليـة‬ ‫‪.Encyclopédie Encarta 2002- 1‬‬
‫‪-1‬ال�شعر العربي الرعوي‪-‬انظر الكتاب املقد�س‪-‬مرجع مذكور‪-‬‬ ‫‪ �- 2‬أف�ضل ا�ستعمال ا إليليجيا على مقابلها العربي املرثاة أل�سباب‬
‫ق�صة قابيل وهابيل‪« :‬التكوين‪-‬ا أل�صحاح الرابع» �ص ‪ 4‬وما بعدها‪.‬‬ ‫�س�أذكرها يف حا�شية املبحث‪.‬‬
‫‪-2‬هناك �إ�شارات رعوية وا�ضحة يف املزمور الثالث والع�رشين‪-‬‬ ‫‪[ .Encyclopédia Encarta 2002 - 3‬من ترجمتنا]‬
‫(انظر الكتاب املقد�س)‪.‬‬ ‫‪- 4‬قر�ص مدمج‪�- Marie Paule loica Berger :‬شتنرب ‪—2002‬جامعة‬
‫‪-3‬ي�شار �إىل التناق�ض ال�سيا�سي الثقايف الذي عرفته اجلزيرة العربية‬ ‫لييج‪-‬بروك�سيل‪.‬‬
‫بني الفالح اجلنوبي القحطاين والراعي ال�شمايل العدناين‪.‬‬ ‫‪-5‬نورثرب فراي‪-‬ت�رشيح النقد‪-‬ترجمة د‪.‬حممد ع�صفور‪-‬‬
‫‪�-4‬سفر‪« :‬ن�شيد ا إلن�شاد» ن�ص � أدبي رعوي فادح اجلمال‪.‬‬ ‫‪1412‬هـ‪1991-‬م‪-‬عمان‪-‬ا ألردن‪�.‬ص‪204‬‬
‫ّ‬
‫‪-5‬ا إل�سماعيليون الرعاة‪( :‬التناق�س بني «هاجر» و«�سارة» يف‬ ‫‪-6‬ا ألركاديا (ميثولوجيا)‪-‬منطقة جبلية يف اليونان القدمية‪ -‬تقع‬
‫املروية التوارتية‪ ،‬تناف�س � أهل املدن و� أهل الوبر‪.‬‬ ‫و�سط بيلوبونيز‪ ،‬و التي متثل يف امليتولوجيا ا ألغريقية‪-‬طبيعة‬
‫‪-‬والراعي والفالح يف املعتقدات ال�سومرية والبابلية [م‪ :‬دموزي‬ ‫رعوية حيث يعي�ش الآلهة والب�رش يف �سالم ووئام‪ ،‬وقد جاءت ت�سمية‬
‫الراعي) يف [ديوان ا أل�ساطري‪-‬الكتاب ا ألول‪-‬ت�أليف قا�سم ال�شواف‪-‬‬ ‫ا ألركاديا من ابن لزو�س � أجنبته مع كال�ستو الغانية وبح�سبان‬
‫تقدمي و�إ�رشاف‪ � :‬أدوني�س –دار ال�ساقي‪-‬ط‪-1996-1‬بريوت‪.]-‬‬ ‫ا أل�سطورة‪ ،‬ف�إن املنطقة مل تكن ملج�أ وموئال للب�رش فقط بل � أي�ضا‬
‫‪-6‬تو�ضيح الهام�ش رقم ‪�( =:3‬إن عرب ال�شمال العدنانيني كانوا بدوا‬ ‫للآلهة‪.‬‬
‫رحال � أي رعاة على خالف عرب اجلنوب القحطانيني الذين كانوا � أهل‬ ‫وهكذا‪ � ،‬أقام فيها ‪� Pan‬إله الطبيعة وحامي الرعاة‪ ،‬واتخذها مكانا‬
‫ح�ضارة ن�سبية ا�شتغلوا بالفالحة مما طبع و�ضعهم باال�ستقرار)‪.‬‬ ‫لطقو�سه‪ ،‬وكانت احلوريات ت�سبح يف ا ألنهار‪�..‬إلخ‪.‬‬
‫وقد � أ�شار القر� آن الكرمي �إىل ذلك‪ ،‬يف قوله تعاىل‪« :‬لقد كان ل�سب� إ يف‬ ‫‪-7‬تفعيلة ا أليامب والوزن ا أليامبي عامة � أقرب التفاعيل وا ألوزان‬
‫م�ساكنهم � آية جنتني عن ميني و�شمال كلوا من رزق ربكم وا�شكروا له‬ ‫�إىل النرث‪ � ..‬أما خمرتعه فهو � أر�شيلوك‪ -‬بح�سب ثيوكريت‪�-‬إذ يقول يف‬
‫بلدة طيبة ورب غفور»‪.‬‬ ‫التوقيعة ‪ 13‬وهي بعنوان (من � أجل متثال � أر�شيلوك‪ �« :‬أيها امل�سافر‪..‬‬
‫‪�-‬سورة �سب�أ‪ -‬الآيات ‪.17-16-15‬‬ ‫قف واعترب ب�أر�شيلوك‪ ..‬هذا ال�شاعر القدمي الذي ابتكر ال�شعر ا أليامبي‪.‬‬
‫‪-7‬ن�شري �إىل � أن �شعر ال�صعاليك �شعر رعوي بامتياز‪ .‬وقد � أمكن ر�صد‬ ‫والذي اخرتقت �شهرته الزمن من الغ�سق �إىل ال�سحر‪ � ..‬أيولو وربات‬
‫ال�شعر يحبونه حبا رهيفا‪ ،‬وهكذا ظل مت�سقا ومن�سجما يف � أ�شعاره‬
‫ذلك من املعطيات الن�صية نف�سها عند عمرو بن براقة وعروة بن الورد‬
‫مثلما كان رهيفا وهو يغنيها على قيثارته»‪.‬‬
‫و� آخرين‪ ،‬من خالل حوارات ق�صرية لكن غنية بينهم ك�شعراء رعويني‬ ‫‪-8‬د‪ � .‬أحمد عثمان‪-‬ا ألدب الالتيني ودوره احل�ضاري‪-‬عامل املعرفة‪-‬‬
‫وبني �صويحباتهم‪ ،‬وعلى ر� أ�سهن «�سليمى) وكتاب الدكتور يو�سف‬ ‫ع ‪�-1989-141‬ص‪.209‬‬
‫خليف‪ -‬ال�شعراء ال�صعاليك يف الع�رص اجلاهلي‪ -‬دار املعارف‪-‬‬ ‫‪-9‬د‪ � .‬أحمد عثمان‪-‬نف�س املرجع ال�سابق‪�-‬ص‪.215 :‬‬
‫‪1959‬م‪-‬ي�سمح باال�ستزادة والتو�سع‪.‬‬ ‫‪-10‬الكتاب املقد�س‪-‬دار الكتاب‪-‬املقد�س‪-‬م�رص‪-‬ا إل�صدار الثالث‬
‫‪-‬ا إليليجيا‪( :‬املرثاة)= ال�شعر الرثائي ا ألوروبي‪ ،‬يختلف يف لغته‬ ‫‪-2001‬الطبعة ا ألوىل‪.‬‬
‫ومو�ضوعه عن املرثاة كما عرفها ال�شعر العربي‪ .‬ففي حني‪ ،‬تنح�رص‬ ‫‪-11‬ت�رشيح النقد‪-‬مرجع �سابق‪�-‬ص‪.125 :‬‬
‫املرثاة العربية يف بكاء ميت‪ ،‬وذكر مناقبه‪ ،‬و� أحيانا بكاء ممالك‬ ‫‪Dictionnaire de critique, littéraire-Joëlle gardes-Tamine, Marie-12‬‬
‫وبلدان‪ ،‬ف�إن ال�شعر ا ألوروبي منذ ال�شاعر ا أل�سكندري ثيوكريت‪،‬‬ ‫‪.Claude Hubert-è1998-Cérès Editions-Tunis-P : 209-210‬‬
‫وال�شعراء الالتني‪ ،‬مرورا ب�شعراء االجنليز ا إلليزابيثيني (�سبن�رس‪-‬‬ ‫‪Tiré du site de dictionnaire international des Termes littéraires.-13‬‬
‫�سدين‪-‬وجون دون‪ ،‬وملتون(‪ ،‬كر�س هذا النوع من التعبري‪ ،‬لندب‬ ‫‪.)www.DITL. Info (Voir Internet‬‬
‫الذات‪ ،‬وف�ضح الواقع‪ ،‬والتوق �إىل الهروب نحو عامل � أجمل و� أف�ضل‬ ‫‪Zink-La pastourelle poésie et folklore au Moyen âge, Paris, Bordas--14‬‬
‫و� أكرث �سكينة‪ .‬من هنا التبا�سا=املرثاة ا ألوروبية باملو�ضوعة‬ ‫‪.1972-p :118‬‬
‫الرعوية �سواء عند ثيوكريت � أو فرجيل � أو ِملْتون � أو غريهم‪( .‬هذا‬ ‫‪-15‬املرجع نف�سه‪ -‬زنك ‪�- Zink‬ص‪.12 :‬‬
‫ر� أينا)‪.‬‬ ‫‪Pierre Bec : La lyrique Française du Moyen Age (XII-XIII siècles)-16‬‬

‫‪98‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف الكتابة ال ُعمانية اجلديدة‪:‬‬


‫ثيمات و�أ�ساليب‬
‫حممد ال�شحات‬
‫�أكادميي من م�رص‬
‫(‪)1‬‬
‫�أوال‪ :‬كتابة جديدة �أم ح�سا�سية جديدة؟!‬
‫تبدو يل مهمة ا�ستقراء عدد كبري من الن�صو�ص ا إلبداعية العمانية املن�شورة‬
‫عرب �صفحات �أحد املالحق الثقافية‪ ،‬وهو ملحق «�رشفات» ا أل�سبوعي التابع‬
‫متجوال بني ال�صحافة‬
‫ّ‬ ‫جلريدة «عمان»‪ ،‬على مدار عام كامل �أم�ضاه الباحث‬
‫الثقافية واملنتديات و�أروقة النادي الثقايف الذي ي�ستقطب الكثري من املثقفني‬
‫والكتَّاب من جيل الرواد وجيل الو�سط وجيل الكتّاب اجلدد (�أو لنقل‪ :‬املغامرين‬
‫اجلدد)‪ ،‬با إل�ضافة �إىل ا�ستقراء عدد غري قليل �أي�ضا من الن�صو�ص املطبوعة‬
‫املتنوعة ما بني جمموعات �شعرية وق�ص�صية وروايات ون�صو�ص م�رسحية‬
‫ون�صو�ص مفتوحة‪ ،‬ف�ضال عن حوارات �شفاهية‪ ،‬وثرثرة �أحيانا‪ ،‬حول ق�ضايا‬
‫الثقافة والكتابة العمانية مع �أ�صدقاء و�صديقات‪ ،‬بهدف التعرف على طبيعة‬
‫املجتمع والثقافة العمانية‪ ،‬ومن ثم �إمكان كتابة مقاربة (�أو ّ‬
‫مدونة) نقدية ذات‬
‫ا�ستق�صاء بانورامي يهدف �إىل �إدراك الت�شابهات واالختالفات‪..‬‬

‫‪ w‬ميكن القول �إن الكتابة العمانية اجلديدة قد �سعت‪ ،‬بد�أب وا�ضح‪� ،‬إىل‬
‫ت�شكيل جماليات مغايرة‪� ،‬سواء من حيث الثيمات �أو ا أل�ساليب الفنية‬
‫الق�ص ونه�ضت على عدد من اال�سرتاتيجيات التي وقفت‬ ‫ّ‬ ‫وتقنيات‬
‫الدرا�سة على بع�ضها‪ ،‬هي‪� :‬شعرية التجاور‪ ،‬ال ا إلزاحة �أو الت�ضاد‪ .‬كتابة‬
‫بقوة اليوميات‪ .‬كتابة من موقع احللم‪ .‬كتابة ت�سمو فوق �أ�رس الواقعي‪،‬‬
‫بحثا عن غرائبية رحبة‪ .‬كتابة تخلق عاملا افرتا�ضيا بديال‪ .‬كتابة تلفت‬
‫االنتباه بقوة �إىل ق�ضايا املر�أة املعا�رصة‪ .‬كتابة ت�سعى بد�أب �إىل اخلروج‬
‫من هيمنة الن�ص املغلق واالرمتاء يف ف�ضاء الن�ص املفتوح‪.‬‬

‫‪99‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫معه ال�شعراء العرب املحدَثون مطالَبني ب َطرْق �أبواب‬ ‫�أقول‪ :‬تبدو يل هذه املهمة �أمرا بالغ ال�صعوبة‪ ،‬حيث‬
‫التجديد �سواء على م�ستوى ال�شكل �أو امل�ضمون‪ ،‬فتخلّ�ص‬ ‫تت�ضمن �أعداد «�رشفات» وحدها‪ ،‬يف الفرتة من �أغ�سط�س‬
‫البع�ض منهم من �شكل الق�صيدة العمودية وثاروا عليه‬ ‫‪2008‬م حتى �أغ�سط�س ‪2009‬م‪ ،‬قطاعا كبريا جدا من‬
‫وانخرطوا يف ق�صيدة التفعيلة بدعوى �أن احلداثة «�شك ٌل»‬ ‫الن�صو�ص اجليدة التي �سوف نحلّل بع�ضها يف ثنايا هذه‬
‫قبل �أن تكون «م�ضمونا» دون �أن يدركوا �أن جوهر ال�شعر‬ ‫الدرا�سة‪ .‬وال يعني هذا اال�ستهالل فرارا من جدوى التجربة‬
‫هو «ال�شعرية»‪ ،‬وراح البع�ض ا آلخر منهم ميار�س الكتابة‬ ‫�أو املحاولة ذاتها‪� ،‬أو تقليال من �أهميتها‪ ،‬وفاعليتها‪ ،‬بل‬
‫يف ال�شكلني ال�شعريني ‪ -‬العمودي والتفعيلة ‪ -‬كمن يقب�ض‬ ‫هو با ألحرى �إدراك خل�صو�صيتها وغوايتها‪ ،‬وما ميكن �أن‬
‫على الع�صا من الو�سط‪ ،‬وانفرد ا ألقلية منهم مبحاوالت‬ ‫يعرت�ضها من مزالق‪ .‬لقد كان الدافع ا أل�سا�سي �إىل كتابة‬
‫التجريب يف �أر�ض بكر‪ ،‬مرت ّنحني ما بني النجاح تار ًة‬ ‫مطوال حتت عنوان «قراءة يف ن�صو�ص‬ ‫الباحث مقاال �شهريا ّ‬
‫وا إلخفاق تار ًة �أخرى حتى انبثقت ق�صيدة النرث العربية‬ ‫من ا ألدب العماين» يف ا ألربعاء الثاين من كل �شهر هو‬ ‫ت�سعى الق�صيدة‬
‫من ب�ؤرة امل�شهد ا إلبداعي ال�شعري العربي املعا�رص‪،‬‬ ‫تد�شني ن�ص نقدي ي�سعى �إىل حتقيق �أمرين‪:‬‬ ‫العمانية بد�أب‬
‫و�أ�صبح لها �شيوخها ومريدوها ون َّقادها‪ .‬ما نق�صد �إليه‬ ‫�أحدهما‪ :‬حتليل جماليات الكتابة العمانية اجلديدة‬ ‫�إىل حفر جمرى‬
‫من مغزى هذا «الرطان» النظري – ونح�سبه لن ينتهي‬ ‫يف �سياقها ا إلبداعي العربي ب�صفة عامة من ناحية‪،‬‬
‫�شعري خا�ص‬
‫ما دام ا إلبداع العربي متجدّدا؛ ألن التغيرّ هو �سنّة كونية‬ ‫ثم و�ضعها يف �سياقها ا ألعر�ض املت�أثر ببع�ض تيارات‬
‫ا إلبداع العاملي من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫بها‪ ،‬ي�ضعها �إىل‬
‫مرتبطة بوجود ا إلن�سان ذاته ما دام حيّا وفاعال‪ ،‬و�رصاع‬
‫وثانيهما‪ :‬عدم خ�ضوع الن�ص النقدي لوظيفة املتابعة‬ ‫جوار ازدهار‬
‫ا ألجيال وا ألفكار واملفاهيم‪ ،‬وحتى �رصاع ا ألنواع �أو‬
‫ا ألجنا�س ا ألدبية‪ ،‬موجود كذلك ‪ -‬هو الت�أكيد على الوعي‬ ‫ال�صحفية التي قد تركن �إىل مبد� أ اال�ست�سهال �أو التعميم‪،‬‬ ‫– �أو «انفجار»‬
‫بخطورة مفهوم «ال�شعرية» � أو «ا ألدبية» � أو «البويطيقا‬ ‫بل حماولة الباحث اجلادة ر�صد مترّد هذا الن�ص النقدي‬ ‫– ال�سرد العماين‬
‫‪ »Poetics‬الذي يت�سامى فوق �رصاع ا ألنواع وا ألجنا�س؛ ألنه‬ ‫على نف�سه‪ ،‬بهدف ا�ستكناه ما يعتور داخل ن�صو�ص ا ألدب‬ ‫املعا�صر‪� ،‬سواء‬
‫جوهر كل �أدب �سواء كان �شعرا �أو �رسدا‪ ،‬كما �أنه مفهوم‬ ‫العماين اجلديدة من طاقة خالقة وخيال حرّ وتقنيات‬ ‫�أ�صابت هدفها يف‬
‫يت�سامى فوق كل تراتب زمني �أو تعاقب تاريخي‪.‬‬ ‫متجدّدة‪.‬‬ ‫الحيان‬ ‫بع�ض أ‬
‫تتلون‬
‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬راحت الق�صيدة العربية املعا�رصة َّ‬ ‫ثانيا‪� :‬شعرية ت�ضاد أ�م �إزاحة أ�م تجاور؟‬ ‫�أو�أخط�أت يف‬
‫يف �أ�شكالها كاحلرباء كي تعبرّ عن �رصاعات ا إلن�سان‬ ‫لقد ارتبط مفهوم ال�شعر دائما بو�صفه «ديوان العرب»(‪،)2‬‬ ‫الخر‪،‬‬ ‫البع�ض آ‬
‫املعا�رص وحتوالته و�أزماته يف �شتّى جماليها‪ ،‬فاهتمت‬ ‫لذلك ُكت َِب عليه �أن يدخل معارك وحروبا ثقافية ودينية ال‬ ‫بحثا عن‬
‫با إلن�سان متعدّد ا ألبعاد بالطبع‪� ،‬إن�سان � آين�شتني والن�سبية‬ ‫ناقة له فيها وال جمل‪ ،‬بل من �أجل �إثبات الذات والبحث‬ ‫قيم جمالية‬
‫والفانتوم واال�ستن�ساخ‪ ،‬ا إلن�سان الذي �أنتجته فل�سفات‬ ‫عن هوية خا�صة‪� .‬أق�صد هوية �شعرية ت�ستطيع �أن تلتقط‬
‫احلداثة وما بعدها‪ ،‬ولي�س ا إلن�سان ذو البعد الواحد ‪� -‬إذا‬ ‫وت�شكيلية مغايرة‬
‫النغمات املتنافرة للزمن احلديث كما فعلت الرواية وفنون‬
‫تر�سخ‬‫ا�ستعرنا عنوان كتاب هربرت ماركوز ‪ -‬الذي كانت ّ‬ ‫الق�ص ب�صفة عامة يف �أزمنتنا الراهنة‪ .‬ومن الغريب �أن‬ ‫ّ‬
‫لكن ما �أخفق «كثري»‬ ‫له املجتمعات والفل�سفات ال�سابقة‪ّ .‬‬ ‫يهتزّ كيان ال�شعر العربي ويدرك ال�شعراء املعا�رصون‬
‫من ال�شعر يف حتقيقه جنح «بع�ض» فنون ال�رسد يف التعبري‬ ‫خطورة املوقف وخطورة وجودهم ذاته مبجرد �أن ذهب‬
‫عنه وتفجريه وتثويره‪ .‬من هنا‪� ،‬أ�صبح ال�شعر احلديث‬ ‫بع�ض الن َّقاد واملبدعني العرب (جنيب حمفوظ‪ ،‬علي‬
‫ب�صفة عامة وال�شعر العربي ب�صفة خا�صة يف و�ضع م�أزوم‬ ‫الراعي‪ ،‬جابرع�صفور)(‪� )3‬إىل و�صف ع�رصنا ب�أنه «ع�رص‬
‫مع ّقد‪.‬‬ ‫الرواية»‪ ،‬و�أن زمننا الراهن هو «زمن الرواية ولي�س زمن‬
‫لك ّن الظاهرة الالفتة للنظر حقًّا بالن�سبة �إىل َم ْن يت� ّأمل‬ ‫ال�شعر»؛ ألن الرواية قد �أ�صبحت من �أكرث الفنون وا ألجنا�س‬
‫توجه كثري من الكتّاب‬ ‫امل�شهد ا إلبداعي العماين هي ّ‬ ‫ا ألدبية قدر ًة على جت�سيد تناق�ضات الزمن احلديث‪ ،‬وراحت‬
‫والكاتبات ‪ -‬يف بداية تكوّنهم ا إلبداعي ‪ -‬نحو � أر�ضية‬ ‫تعبرّ عن �رصاعات ا إلن�سان املعا�رص وحتوالته و�أزماته‬
‫ال�شعر العربي املرتامية ا ألطراف‪ ،‬ثم نراهم ينتقلون �شيئا‬ ‫يف �شتّى جماليها‪ ،‬فالرواية كانت ‪ -‬و�سوف تزال‪ ،‬مثلما‬
‫والق�ص بعد �إ�صدارهم ال�شعري‬ ‫ّ‬ ‫ف�شيئا �إىل ف�ضاء الرواية‬ ‫و�صفها ميخائيل باختني ‪« -‬ملحمة الع�رص احلديث»(‪.)4‬‬
‫ا ألول ورمبا الثاين على ا ألكرث‪ ،‬وال يعودون �إىل رحم ال�شعر‬ ‫من هنا‪� ،‬أ�صبح ال�شعر احلديث ب�صفة عامة وال�شعر العربي‬
‫�إال على ا�ستحياء بني حلظة و� أخرى‪ .‬وقد ي�ست�شعر الباحث‬ ‫ب�صفة خا�صة يف م�أزق ال يح�سد عليه‪ ،‬وهو م�أزق غدا‬
‫‪100‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املر�أة عرب تراث ديني وثقايف قدمي ي�ضعنا يف مواجهة‬ ‫التوجه نحو جن�س ال�شعر يف البدايات ‪ -‬يف‬ ‫ّ‬ ‫من وراء هذا‬
‫املر�أة ا ألوىل (حواء) يف عالقتها املرتبكة بالرجل ا ألول‬ ‫والرت�صد‪ ،‬حيث ي�سقط‬
‫ّ‬ ‫بع�ض ا ألحيان ‪�َ -‬سبْ َق ا إل�رصار‬
‫(� آدم)‪ ،‬م�ستعريا عبارات قر� آنية دالة‪ ،‬وحماوال يف الوقت‬ ‫بع�ضهم على �أر�ض الق�صيدة العمودية بجالل ال�شاعر‬
‫ذاته خلق �صورة جمالية للعا�شق الذي ال تكبحه عوائق‬ ‫ني بع�صا �ساحر وقلب‬ ‫الذي «هبط ا ألر�ض كال�شعاع ّ‬
‫ال�س ّ‬
‫عن �سعيه املحموم نحو اتحّ اده مبع�شوقه مهما كان بعد‬ ‫نبي»‪ ،‬ويقع الثاين يف هوى ق�صيدة التفعيلة فيطارحها‬ ‫ّ‬
‫املكان �أو عمق الزمن‪ ،‬ومهما كانت النتيجة‪ ،‬فالو�صال هو‬ ‫غرام الكتابة املتحرّرة وفتنة �إيقاع املدينة املراوغ التي‬
‫اخلال�ص وامللج�أ واملالذ‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫هي «مدينة بال قلب» ‪ -‬بتعبري ال�شاعر �أحمد عبد املعطي‬
‫«هل امر�أةٌ �أخرجتك بتفاحتني‬ ‫حجازي ‪ -‬يف �أغلب ا ألحوال‪ ،‬بينما ي�أبى الثالث �إال �أن‬
‫فغبت؟‬
‫َ‬ ‫ينهل من رحيق ق�صيدة النرث ويكتوي بغوايتها القاتلة‬
‫�أم احلب يبني �رصوح الرمال؟‬ ‫املقتولة‪ ،‬غواية اللَّعِب من حيث هو كتابة‪ ،‬والكتابة‬
‫�س�أ ْحطِم قلبي العنيد‬ ‫بو�صفها «بني ًة وعالم ًة ولَعِبًا»(‪ )5‬كما كان يقول جاك‬
‫ديريدا‪ ،‬من ِّظر التفكيكية ا ألول‪ ،‬جزائري ا أل�صل‪ ،‬فرن�سي‬
‫و�أرمي خيوط الكالم ّ‬
‫ب�سم اخلياط»‪.‬‬
‫لكن ثمة �س�ؤاال �إ�شكاليا يظ ّل معلّقا‪ :‬ملاذا يلج�أ‬
‫وهو �أمر ال ينف�صل عن ما ي�صوره املقطع التايل بعنوان‬ ‫اجلن�سية‪ّ .‬‬
‫«نداء حنني» الذي ي�ضع املتل ّقي منذ اجلملة ال�شعرية ا ألوىل‬ ‫املبدع �إىل اختيار جن�س �أدبي بعينه دون غريه؟ هل هي‬
‫يف تراث ديني ي�ستعني مبفردات «الرباق» و«اليمام» من‬ ‫حاجة جمالية فح�سب؟ �أم حاجة اجتماعية وثقافية؟ �أم‬
‫�أجل بلوغ منزلة �أو مقام الو�صل‪ ،‬ا ألمر الذي ي�ضفي م�سحة‬ ‫هما معا؟‬
‫�صوفية على الن�ص‪:‬‬ ‫ت�سعى الق�صيدة العمانية بد�أب �إىل حفر جمرى �شعري خا�ص‬
‫�ستحن �إىل �سدرة املنتهى �أو ركوب الرباق؟‬ ‫«متى‬ ‫بها‪ ،‬ي�ضعها �إىل جوار ازدهار – �أو «انفجار» – ال�رسد‬
‫ّ‬
‫�أعرّج عرب �سالمي‬ ‫العماين املعا�رص‪� ،‬سواء �أ�صابت هدفها يف بع�ض ا ألحيان‬
‫لعل ا�شتياقك للقبالت وذكرى املكان‬ ‫و�أخط�أت يف البع�ض ا آلخر‪ ،‬بحثا عن قيم جمالية وت�شكيلية‬
‫حت ّفز فيك الرجوع»‪.‬‬ ‫مغايرة ت�ضعها على خارطة ا ألدب العربي‪ .‬من �أجل ذلك‪،‬‬
‫�أما ثاين النموذجني فهو ق�صيدة «لورا» خلالد املعمري‪،‬‬ ‫ترتكن الق�صيدة العمانية �إىل بع�ض اال�سرتاتيجيات التي‬
‫وهي ق�صيدة طويلة يتعامل فيها ال�شاعر مع املر�أة �أو ا ألنثى‬ ‫يجب �أن نقف عند بع�ضها ب�شيء من التحليل والت�أويل‪:‬‬
‫من حيث هي ذات جمرَّدة وغري قابلة للتعيني �أو التج�سيد‪.‬‬ ‫أ�‌‪ -‬الق�صيدة بو�صفها أ�نثى(‪:)6‬‬
‫وهو �أمر ي�ضفي على مفهوم احلب معنى تران�سندنتاليا‬ ‫يتمثَّل اجلامع امل�شرتك بني منوذجي عبداهلل الكعبي‬
‫(متعاليا)(‪ )7‬ين�أى به عن التطابق مع امر�أة بعينها‪ .‬ولعل‬ ‫نود تناولهما هنا نقديا‪،‬‬
‫وخالد املعمري ال�شعريني اللذين ّ‬
‫تردد ال�صيغ‬ ‫ما ي�ؤكد املفهوم الرتان�سندنتايل للحب هو ّ‬ ‫وباخت�صار‪ ،‬يف تعاملهما مع مفهوم الق�صيدة بو�صفها‬
‫اال�ستفهامية الكثرية التي تنحو منحى ا�ستنكاريا وا�ضحا‪:‬‬ ‫�أنثى‪ .‬ف�أول هذين النموذجني ق�صيدة لعبداهلل الكعبي‬
‫�أل ِك الف�صول جميعها‬ ‫بعنوان «خم�سة نداءات ال تكفي إلرجاع طائر»‪ .‬و�أول ما‬
‫ولنا انك�سار حكاية يف الظل؟‬ ‫يلفت النظر هو هيمنة �صفة ا ألنوثة الطاغية على عناوين‬
‫ولورا ال جتيب!!‬ ‫املقاطع ال�شعرية التي حتقق وظيفة االت�صال‪/‬االنف�صال‬
‫ك�أنها عادت تف ّكر‬ ‫يف � آن‪ :‬نداء �أم‪ ،‬نداء وطن‪ ،‬نداء امر�أة‪ ،‬نداء حنني‪ ،‬نداء‬
‫كيف عا�شقةٌ يداعبها ال�صباح؟‬ ‫ق�صيدة‪ .‬فا ألم والوطن واملر�أة واحلنني والق�صيدة كلها‬
‫ك�أنني ما كنت �أ�س�أل‬ ‫وجوه متعددة ألنثى الق�صيدة �أو لق�صيدة ا ألنثى بال فارق‬
‫كيف عا�شقةٌ ويخجلها ال�صباح؟‬ ‫كبري‪.‬‬
‫لت �شيئا من �أغاين الع�شق‬ ‫ألنني ُح ِّم ُ‬ ‫لكن اال�سرتاتيجية ال�شعرية التي تنه�ض بها ق�صيدة‬
‫من قامو�سي املجنون‬ ‫الكعبي هي التنا�ص الذي ينفتح معه باب الق�صيدة على‬
‫�صمت‬
‫ٍ‬ ‫عادت تن�سج ا أل�صداء يف‬ ‫م�رصاعيه ليحيل القارئ �إىل تراث لغوي وعربي وديني‬
‫‪... ... ...‬‬ ‫ممتد‪ ،‬ينبغي ا�ستح�ضاره من ذاكرتنا القرائية من �أجل‬
‫الف�ضي‬
‫ّ‬ ‫كم �أرجوح ٍة قامت تغنّي با�سمك‬ ‫ا�ستنطاقه وحماورته‪ ،‬حيث يتعامل الكعبي مع �صورة‬
‫‪101‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫«�أنا الذي ال ي�سرتين �إال‬ ‫تخ�رضّ ال�سطور بكل قافي ٍة‬


‫ندف ناركِ الرعوية‬ ‫و�أ�س�أل‪ :‬من لهذا ال�صبح �إن جئنا‬
‫ال يبلّلني �إال زبد �شهوتك العارية‬ ‫ومل نعرث على ر�سمني يف دمنا؟!‬
‫الرمان‬
‫حتت �شجرة ّ‬ ‫ولورا‬
‫التي ال �أراها ا آلن يف مكانها‬ ‫ال جتيب‪�( !!.‬ص‪)86-84 :‬‬
‫و�أراها ك�شجرة الغيب‬ ‫لكن لورا‪ ،‬املر�أة �أو ا ألنثى «املطلق»‪ ،‬تلوذ بال�صمت الذي‬
‫تظلِّل املذبوحني بالع�شق‬ ‫ينتقل بها من كونها حم�ض امر�أة لها ج�سد مثري و�أع�ضاء‬
‫الرمان التي �أغويناها �سويا‬ ‫�شجرة َّ‬ ‫مغوية‪ ،‬مغرية‪ ،‬كغريها من الن�ساء اجلميالت‪� ،‬إىل كونها‬
‫فت�أ ّوهت‬ ‫رمزا �أو �أ�سطورة مل تتخلق �سوى يف خميلة ال�شاعر فح�سب‪.‬‬
‫يف رع�شة ا ألج�ساد‬ ‫وهذان النموذجان ال�شعريان اللذان ذكرناهما �أعاله عند‬
‫الناه�ضة كعيد �أزرق»‪.‬‬ ‫كل من الكعبي واملعمري ‪ -‬وهما من �شعراء التفعيلة‪،‬‬
‫ال يخفى بالطبع ما يحدثه املقطع ال�شعري من تفاعل‬ ‫بالطبع‪� ،‬إىل جوار � آخرين مثل �إ�سحق اخلنجري ويحيى‬
‫ن�صي مع �شجرة اخللد التي كانت �سببا مبا�رشا يف غواية‬ ‫اللزامي وح�سن املطرو�شي وحممد احل�رضمي ونا�رص‬
‫ّ‬
‫� آدم وحواء وكانت �سببا يف هبوطهما ‪� -‬أو طردهما ‪ -‬من‬ ‫البدري وغريهم ممن ي�ستحقون درا�سة منفردة لهذا اجليل‬
‫اجلنة‪ .‬فال�شجرة‪ ،‬يف �سياقها الرتاثي الديني والعربي‪،‬‬ ‫من �شعراء التفعيلة ‪ -‬ميتحان من عامل �صويف �أو يرتكنان‬
‫ُمغوية آلدم وحواء؛ �أي �أنها فاعل الغواية‪ ،‬ولو بوازع‬ ‫يف ر ؤ�يتهما لل�شعر �إىل ر ؤ�ية �صوفية للعامل واملر�أة‪ ،‬على‬
‫�إبلي�سي‪ ،‬لكنها عند العامري مفعول لها‪� ،‬أو بها‪ ،‬حيث‬ ‫الرغم من اندراج ا ألول حتت وط�أة تراث ديني �إ�سالمي‬
‫�أغواها العا�شقان فراحت تت�أ ّوه مع رع�شات �أج�سادهم‪.‬‬ ‫يكاد يكبّله ومناو�شة الثاين للمنظور الوجودي للعامل على‬
‫ت�ستمر مفردات ال�صورة ال�شبقية بتجلياتها املتعددة عند‬ ‫لكن ال�شعريتني يف نهاية املطاف وجهان لعملة‬ ‫ا�ستحياء‪ّ .‬‬
‫العامري معادال ل�صورة �شجرة احلياة‪ .‬ففي التقاء الذكر‬ ‫واحدة هي وحدة الوجود‪� ،‬أو وحدة اخللق‪ ،‬حيث العامل‬
‫با ألنثى بع ٌث للحياة وجتدّد لها‪ ،‬وخلود بال موت‪:‬‬ ‫ا ألكرب هو العامل الفعلي الذي «كلما ات�سعت فيه ر ؤ�ية‬
‫«�أيتها العافية‬ ‫الرائي �ضاقت عليه العبارة» كما يقول املت�صوفة‪.‬‬
‫امل�ضاءة كقنديل‬ ‫ب‌‪ -‬رمزية ال�شجرة‪:‬‬
‫يف عتمة امل�صادفات‬ ‫يف ق�صيدته «�أ�شجار»(‪ )8‬ذات النَّ َف�س النرثي الوا�ضح‪،‬‬
‫انتزعي �شوكة ال�صرب عني‬ ‫مت�سكها بال�شكل التفعيلي غري املربّر‪ ،‬يتعامل �صالح‬
‫واتبعي ن�سائم املوت‬ ‫رغم ّ‬
‫العامري مع ثيمة «ال�شجرة» بو�صفها معادال لرمزية‬
‫كفرا�شة �سدّدها التيار �إىل الهاوية‬ ‫احلياة يف تد ّفقاتها املتعددة واملتباينة‪ .‬ومن يت�أمل‬
‫هنالك ت�صادفني‬ ‫الرمان‪ ،‬ملكوت القوة‪،‬‬‫عناوين مقطوعاته ال�شعرية (�شجرة َّ‬
‫ملكة الروح‬ ‫�شجرة احلياة‪ ،‬ال�شجرة ال�ضالّة‪ ،‬عيون ا أل�شجار) يلمح ت�أ ّثر‬
‫املتوجة بالزنابق‬
‫ّ‬ ‫ال�شاعر بالرتاث الديني الذي ي�صل دال «ال�شجرة» ب�سياق‬
‫و�أكاليل الغار‬ ‫احلديث عن اخللق ا ألول واجلنّة‪ ،‬حيث �شجرة اخللد‪ ،‬وحيث‬
‫هنالك حتزم النهايات �أمرها‬ ‫اجلنة خيال المتنا ٍه �أو ف�ضاء الحمدود‪ :‬ففي اجلنة «ما‬
‫يف رذاذ دائم‬ ‫ال عني ر�أت وال �أذن �سمعت وال خطر على قلب ب�رش»‪.‬‬
‫�شبق ومع�سول‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬ي�ضفي العامري على «ال�شجرة» ا�ستعاراته ال�شعرية‬
‫هنالك �أيتها العافية‬ ‫الرمان»‪ ،‬يتم ا�ستدعاء‬ ‫املتنوعة‪ .‬ففي مقطوعته «�شجرة َّ‬
‫�ستتفتّح حدقتاك‬ ‫ال�شجرة بو�صفها ظالًّ ي�ستظ ّل به العا�شقون‪ ،‬ثم تكت�سب‬
‫على ال�شجرة التي ال متوت»‪.‬‬ ‫�صورتها بع�ض املالمح الدنيوية؛ �إذ ان ظلّها ي�شهد على‬
‫هكذا‪ ،‬ت�ؤكد ق�صيدة العامري‪ ،‬يف جر�أة تكاد تتفوق‪،‬‬ ‫ت�أ ّوهات العا�شقني املذبوحني‪ ،‬بحيث ير�سم هذا املقطع‬
‫�أحيانا‪ ،‬على �شعرية الكتابة وجمالية الق�صيدة‪ ،‬مركزية‬ ‫هيمنة ل إليحاءات اجلن�سية لل�صورة ال�شعرية التي ال ميكن‬
‫ر ؤ�يته للجن�س بو�صفه معادال للحياة وفعال خ�صبا من‬ ‫ا�ستبعادها بحال من حميط الدائرة الت�أويلية‪:‬‬
‫‪102‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫ال يزالون ي�سريون ومل ينتبهوا‬ ‫�أفعال الوجود واخللق‪ .‬وهي ر ؤ�ية متتاح من ف�ضاء حداثي‬
‫�أن خيط النور يغويهم �إىل �أر�ض الرمال‬ ‫بالقطع‪ ،‬تكمن يف قرارة القرار من ق�صيدة العامري‪ ،‬وال‬
‫كم يحنّون �إىل برد لياليهم وهم‬ ‫ي�شوبها �إال ه�شا�شة بع�ض اجلمل ال�شعرية وارتباك املقطع‬
‫يتهادون عطا�شا‬ ‫ا ألخري الذي يبدو يل مبتورا وقلقا‪ ،‬رمبا ب�سبب خط�أ طباعي‬
‫بني رم�ضاء التالل»‪.‬‬ ‫�أو فنّي‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫�إن املالحظ على ق�صيدة خمي�س قلم الق�صرية‪ ،‬رغم ما‬ ‫«�شجرة الهواء‬
‫تنطوي عليه من جمال الفكرة وطرافتها‪ ،‬هو لهاثها خلف‬ ‫حني َفن َِي الرتاب من ا ألر�ض‬
‫ا إليقاع الذي يكاد ي�سبق ال�صورة ال�شعرية وال يعقبها‪،‬‬ ‫�أورثني �أن �أتعلق‬
‫ا ألمر الذي ي�ضفي بع�ض الغمو�ض على مفردات ال�صور‬ ‫يف �شجرة الهواء‬
‫ال�شعرية وعالقاتها ببع�ضها البع�ض‪ ،‬فتقع الق�صيدة‪� ،‬إىل‬ ‫عيون ا أل�شجار‬
‫حد ما‪ ،‬يف �شكلية وا�ضحة‪.‬‬ ‫�أنحني للبذرة‬
‫د‌‪ -‬ال�شرق بو�صفه مح�ض امر أ�ة‪:‬‬ ‫ألنها تذرف عيون ا أل�شجار»‪.‬‬
‫اجللي التي حتمل عنوان‬ ‫ج‌‪ -‬كهف المعنى‪:‬‬
‫ذات ا إليقاع ّ‬ ‫يف ق�صيدتها التفعيلية‬
‫«امر�أة واحدة ال تكفي» ‪ ،‬تطرح �سعيدة خاطر الفار�سي‬
‫(‪)10‬‬
‫يف ق�صيدته التفعيلية ذات ا إليقاع الوا�ضح املعنونة‬
‫ت�صورا ا�ست�رشاقيا للعامل الذي تكتب عنه �أو «تكتبه» �إذا‬ ‫بعنوان «يف �سبيل ال�شم�س»(‪ ،)9‬يتعامل خمي�س قلم مع وجه‬
‫�أردنا الد ّقة‪ ،‬حيث ترى ال�رشق حم�ض امر�أة؛ �أق�صد �إىل �أن‬ ‫التنا�ص ال�شعري‪ ،‬حيث تتفاعل ق�صيدته مع‬ ‫ّ‬ ‫� آخر من �أوجه‬
‫مرجعيات هذه ال�صورة ال�شعرية ذات جذور ا�ست�رشاقية‬ ‫م�ضمون ق�صة «�أهل الكهف» من حيث هم منوذج للمنفيني‬
‫قدمية �أر�ساها كثري من امل�ست�رشقني الذين عرفوا ال�رشق‬ ‫�أو الهاربني من بط�ش التاريخ و�أزمنة اال�ستبداد يف عهد‬
‫وراحوا يذيعون �أفكارهم عن �أن املر�أة ال�رشقية ال �صوت‬ ‫دقيانو�س امل�ضطهد للم�سيحية‪� ،‬إذا تذ ّكرنا درامية «�أهل‬
‫لها مطلقا ميكن �أن يعلو فوق �صوت الرجل (الذكر)‪ ،‬يف‬ ‫الكهف» لتوفيق احلكيم‪ .‬لكن َمنْفيّي خمي�س قلم يختلفون‬
‫الوقت نف�سه الذين ينظرون نظرة اختزالية ترى يف املر�أة‬ ‫عن منفيّي �أهل الكهف يف كونهم ينتمون �إىل زمن معا�رص‪.‬‬
‫املر�أة ال�رشقية حم�ض امر�أة �ساحر ًة‪ ،‬ذات جمال � أ ّخاذ ال‬ ‫�إنهم فتيةٌ � آمنوا بقدراتهم الب�رشية وازدادوا �صالب ًة فوق‬
‫ي�ضاهى‪ .‬لقد �أ�صاب تناق�ض هذه ال�صورة اال�ست�رشاقية‬ ‫َ‬ ‫�صالبتهم حيث راحوا ي�سعون �إىل حتقيق املحال‪ .‬فال‬
‫للمر�أة العربية ق�صيدة �سعيدة خاطر التي راحت ت�صف‬ ‫حمال �أمام قدرة ا إلن�سان الفاعل يف املكان والتاريخ‪:‬‬
‫املر�أة يف �رشقنا بكونها امر� أ ًة ُخلِقت لكل �شيء‪ ،‬ومن �أجل‬ ‫«حملوا رائحة الطني و�ساروا للجبا ْل‬
‫كل �شيء‪:‬‬ ‫كي ي�صيدوا ال�شم�س يف مكمنها‬
‫«الن�ساء يف �رشقنا‪..‬‬ ‫ويعودوا باملحال‬
‫للن�سل للحرث للبهجة للبهاء‬ ‫من بالد دمها ثلج �سرَ َوا‬
‫امر�أة واحدة ال تكفي ال�ستحالب ال�شفاء»‪.‬‬ ‫يف �سبيل ال�شم�س غابوا‬
‫ت�ستعني الق�صيدة مبفردات قر� آنية وا�ضحة (كاحلرث‬ ‫خم�س ًة كانوا وكلبًا َي ْقتَفِي‬
‫والن�سل‪ ،‬ق�صة مو�سى وال�سامري‪ ،‬فرعون م�رص ويوم‬ ‫آثار الظال ْل»‪.‬‬‫حجرَ الدفء و� َ‬
‫الزينة‪� ... ،‬إلخ) من �أجل �إ�ضفاء مرجعية دينية وتراثية‬ ‫تتناول الق�صيدة‪ ،‬كما نرى‪ ،‬جمموعة من الب�رش املغرتبني‬
‫تدعم وجهة النظر التي تن�رسب يف ثنايا الق�صيدة‪ ،‬والتي‬ ‫يف �أر�ض ال ينتمون �إليها‪ ،‬لكنهم يف الوقت ذاته ال ي�ألون‬
‫يجب الوقوف عندها ب�شيء من التف�صيل‪ .‬رمبا يبدو للقارئ‬ ‫جهدا يف بذل عرقهم من �أجل حتقيق ما قد �أتوا من �أجله‬
‫للوهلة ا ألوىل �أن الق�صيدة �أ�شبه بـ»مانيف�ستو» قد ي�صدر‬ ‫على �أر�ض الواقع‪� .‬إنهم قادمون من بالد ثلجية‪� ،‬أوروبية‬
‫جتمع ن�سائي بهدف مناه�ضة ا ألفكار الذكورية التي ال‬ ‫عن ّ‬ ‫املناخ‪ ،‬قا�صدون بالد ال�شم�س ذات ال�صحراوات املمتدة‪،‬‬
‫تزال حتكم جمتمعاتنا العربية‪ ،‬وال�رشقية ب�شكل عام‪ ،‬يف‬ ‫لكن ما جمعهم هو وحدة الهدف‪ ،‬كما �سوف‬ ‫�أو بالد النفط‪ّ .‬‬
‫النظر �إىل املر�أة‪ ،‬لكن ا ألمر من وجهة نظري يتجاوز هذا‬ ‫يجمعهم م�صري واحد هو قدَر الغرباء‪:‬‬
‫ا إلدراك املحدود ألبعاد الق�صيدة جماليا ور ؤ�يويا‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫«يف �سبيل ال�شم�س غابوا‬
‫حملت ق�صيدتها ما ي�شبه ثنائية ال�صوت (�صوت املر�أة‪/‬‬ ‫قدامهم � أ ُ‬
‫حالمهم‬ ‫�ش َّق َق ْت � أ َ‬
‫‪103‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقول فيه‪:‬‬ ‫�صوت الرجل)‪ ،‬لكنها ثنائية �صوتية ال توحي بتعدّد الر ؤ�ى‬
‫«�س�أبتكر امر� ًة من �صدف البحر‬
‫أ‬ ‫�أو وجهات النظر التي ت�صدر عنها ا أل�صوات‪ ،‬بل تك�شف‬
‫و�أمنحها عطرا وقحا‬ ‫عن وحدة يف الر ؤ�ية اجلمالية والفكرية تنبع من وجهة‬
‫ر�ش على عينيها طنّا من �أ�رسار ال�سحرة‬ ‫و� أ ّ‬ ‫نظر ن�سوية مناه�ضة لوجهة نظر الذكر‪ ،‬البطريارك �أو‬
‫و ألين �س�أموت من الع�شق‬ ‫ا ألب ا ألوحد‪ ،‬الذي طاملا كان �سببا يف تغييب دور املر�أة‬
‫�س�أمنحها �أي�ضا‬ ‫العربية وتهمي�شه قرونا طويلة‪:‬‬
‫نبي‬ ‫«الن�ساء يف �رشقنا‬
‫قلب ّ‬ ‫َ‬
‫و ألين �أرجع طفال بني ذراعيها �أمنحها‬ ‫للثكل‪ ..‬للرتمل‪ ..‬للقهر‪ ..‬للتكحل‬
‫جبلني من العطف‬ ‫بق�صائد اخلن�ساء‪ ..‬وحمربة الرثاء»‪.‬‬
‫وتالًّ من قلق الع�شاق»‪.‬‬ ‫ويف مقابل �صورة املر�أة املقهورة‪ ،‬املغلوبة على �أمرها‪،‬‬
‫متتاح �صورة املر�أة يف ق�صيدة املعمري الق�صرية من‬ ‫يح�رض الرجل ال�رشقي بثقله وحمموالته الثقافية والدينية‬
‫تربة عمانية وا�ضحة املفردات وا إلحاالت اجلغرافية‪ .‬فهي‬ ‫بح�س ميل�ؤه‬
‫يتم ا�ستدعا ؤ�ه ّ‬ ‫لكن الغريب �أن ّ‬ ‫واالجتماعية‪ّ .‬‬
‫خملوقة من �أ�صداف بحرية يف منطقة جبلية ت�شبه كثريا‬ ‫التعاطف‪ ،‬ال النِّ ْقمة واحلنق‪ ،‬كما هومتو ّقع‪:‬‬
‫جغرافيا املدن العمانية ال�ساحلية اجلبلية يف � آن‪ .‬و ألن‬ ‫«الرجال يف �رشقنا‪..‬‬
‫�صدف البحر وحده لي�س كافيا لبعث احلياة يف املخلوق‬ ‫للهم لل�سجن لنزف الكربياء‬
‫للحرب ّ‬
‫ال�صَّ دَيف اجلامد‪ ،‬ف�إن ذات ال�شاعر‪ ،‬ا إلله �أو اخلالق‪� ،‬سوف‬ ‫امر�أة واحدة ال تكفي لرتميم هذا ال�شقاء»‪.‬‬
‫متنحها – �أو «تنفث فيها» ‪ -‬عطرا وقحا؛ �أي عطرا دنيويا‬ ‫هكذ‪ ،‬يقع الرجل واملر�أة يف جمتمعاتنا حتت مطرقة القهر‬
‫وخ�ستها‪ ،‬وفيه‬ ‫فيه وقاحة الدنيا ورخ�صها ونذالتها‬ ‫ال�ضاربة جذوره يف �أعماق التاريخ‪ .‬لذلك‪� ،‬سيكون املوت‬
‫ّ‬ ‫يف �رشقنا «غابة تتكاثر فيها الهموم»‪ ،‬وي�صبح كالوليد‬
‫�إن�سانيتها وغوايتها �أي�ضا‪ .‬لك َّن كل ما �سيقوم به اخلالق‪،‬‬
‫املبدع‪ ،‬حتى ي�صنع ما يريد على عينه ‪� -‬إذا ا�ستعرنا‬ ‫ي�شب عن الطوق وينجب �أطفاال‬ ‫الذي يكرب ويكرب حتى ّ‬
‫عبارات الكتاب املقدّ�س‪ ،‬من بداية «�سفر التكوين» و»القر� آن‬ ‫من قهر المتنا ٍه لن يكتفي‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬بامر�أة واحدة‬
‫الكرمي» يف قوله تعاىل ملو�سى «ولْتُ ْ�صنَع على عيني» ‪ -‬ال‬ ‫للق�ضاء عليه �أو حتى للتخفيف من حدّته؛ ألن املوت �أبدي‬
‫تكفي ل�ضمان حياة املخلوق‪� ،‬أو املخلوقة‪ .‬لذلك‪� ،‬سوف‬ ‫يبلغ يوم القيامة‪:‬‬
‫ير�ش عليها طنًّا من �أ�رسار ال�سحرة حتى ي�ضمن لها البقاء‬ ‫حي ال ميوت‬
‫«املوت يف �رشقنا ّ‬
‫ّ‬ ‫يتكاثر وحده يعمر البيوت‬
‫عمرا مديدا �سوف مينحها مقام «اخللود»‪ .‬لكن �صفة اخللود‬
‫ي�ؤ ّثث بجثثنا مقابر الفناء‬
‫التي ت�ضفيها ق�صيدة املعمري على املر�أة تباعد ما بينها‬
‫امر�أة واحدة ال تكفي لدفن هذا البالء»‪.‬‬
‫نبي حتى‬ ‫وبني خالقها‪ ،‬ا إلن�سان‪ ،‬الذي �سوف مينحها قلب ّ‬ ‫أ‬
‫وعلى الرغم مما قد يبدو للقارئ من �ن ق�صيدة �سعيدة‬
‫فتهوى من ت�شاء ويهواها‬ ‫يبلغ ا ّت�ساعه الالحمدود ذاته‪َ ،‬‬ ‫خاطر حتمل وجهة نظر �أنثوية �أو ن�سائية يف ر�سم معامل‬
‫كل املخلوقات‪� .‬أما م�صري خالقها (ا إلن�سان) فهو الفناء يف‬
‫�صورة املر�أة العربية �شعريا‪ ،‬ف�إن هذا الت�صور الذي �أ�رشنا‬
‫الع�شق كفناء املت�صوفة يف ذات املحبوب ا ألوحد (اهلل)‪� ،‬أو‬ ‫�إليه م�سبقا �رسعان ما يتبدّد �شيئا ف�شيئا ليتك�شَّ ف لنا زيف‬
‫على �أقل تقدير ت�ضا ؤ�ل الرجل العا�شق �إزاء املر�أة املع�شوق‬ ‫الر ؤ�ية اال�ست�رشاقية والحتمية الر ؤ�ية الن�سوية؛ ألن ظرفنا‬
‫من منظور فرويدي يتحول معه كل رجل �إىل طفل ر�ضيع‬ ‫العربي ظرف خمتلف متاما‪ ،‬له خ�صو�صياته التاريخية‬
‫ينهال على �صدر �أية امر�أة يقع يف هواها؛ ألنه �سوف يرى‬ ‫واحل�ضارية‪ ،‬ووحدة القهر ال�رشقي والعربي من املحيط‬
‫فيها امتدادا طبيعيا ألمه‪ .‬وحتى تكتمل مفردات �صورة‬ ‫�إىل اخلليج ال تعرتف بتفرقة نظرية �أو فل�سفية بني رجل‬
‫خللْق �شعريا‪� ،‬سيقوم هذا الطفل الر�ضيع مبنح امر�أته‬ ‫ا َ‬
‫جبلني من العطف وتالًّ من قلق الع�شاق‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫وامر�أة‪� ،‬أو ذكر و�أنثى‪ ،‬فالك ّل يف ّ‬
‫الهم العربي �سواء‪.‬‬
‫تت�سم بكثافة ال�صورة ال�شعرية التي‬ ‫قِ�صرَ الق�صيدة ف�إنها‬ ‫«الخ ْلق»‪ ،‬و«مديح الك�سل»‪:‬‬
‫ه‌‪ -‬عن َ‬
‫ّ‬
‫هي �صورة متثيلية من �صور اخللق الذي كان على املعمري‬ ‫يف ق�صيدته النرثية الق�صرية «ابتكار»(‪ ،)11‬يتعامل عبد‬
‫ي�سمي بها ق�صيدته دون مواربة‪ ،‬فتكون ق�صيدة «خلق»‬ ‫�أن ِّ‬ ‫اهلل املعمري مع امر�أة تخلقها خميّلته‪ ،‬را�سما لها �سمات‬
‫بدال من «ابتكار»‪:‬‬ ‫ومالمح بعينها‪ ،‬عرب مقطع وحيد بالغ االختزال والتكثيف‪.‬‬
‫‪104‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و‌‪ -‬الذاكرة بو�صفها ً‬
‫وطنا‪ /‬الوطن بو�صفه ذاكرة‪:‬‬ ‫«�س�أخلق امر�أة من �صدف البحر‬
‫يف ق�صيدتها الطويلة جدا املعنونة با�سم «ذاكرة‬ ‫و�أمنحها عطرا وقحا‬
‫امل�شيمة»(‪ ،)12‬ت�ؤ ّرخ فاطمة ال�شيدي لوطنها‪� ،‬أو لنقل بلغة‬ ‫‪� ... ... ...‬إلخ»‪.‬‬
‫تردد املعمري وخوفه من ت�سمية ق�صيدته با�سم‬ ‫لكن ّ‬
‫لكن املفهوم‬ ‫�أد ّق‪ :‬ت�ؤ ّرخ ملفهوم «الوطن» ب�صفة عامة‪ّ .‬‬
‫املركزي الذي يتمحور حوله «وطن» فاطمة ال�شيدي هو‬ ‫«خلق»‪ ،‬رمبا �سدًّا للذرائع‪� ،‬أو ا ّتباعا ملبد� أ «التقية»‪ ،‬ال يقلّل‬
‫«الذّاكرة»‪ ،‬من حيث هي ت�سجيل وت�أريخ وجغرافيا يف � آن‪.‬‬ ‫مما تت�سم به الق�صيدة من قيمة جمالية‪ .‬ومع ذلك‪� ،‬سوف‬
‫تنبني ق�صيدة «ذاكرة امل�شيمة» على عدد كبري من‬ ‫يكون املعمري نف�سه �أكرث جر�أة يف مقطوعته التالية حني‬
‫لكن‬ ‫ي�صف امر�أته‪ ،‬من حيث هي متثيل �شعري للمر�أة العربية‪،‬‬
‫املقطوعات املت�صلة املنف�صلة يف � آن (‪ 24‬مقطوعة)‪ّ .‬‬
‫كالً منها ي�ستق ّل بوجه وحيد من وجوه الوطن املتعدّدة؛‬ ‫ب�أنها «�أكرث ك�سال من طاولة الغرفة»‪:‬‬
‫ا ألمر الذي يتحول ب�شعرية الق�صيدة من مدار ق�صيدة نرث‬ ‫«كفتاة نا�ضجة يف الع�رشين‬
‫تتحرك بخفة املجاز واخليال حول ا أل�شياء واملفاهيم‬ ‫مرتعة بال�شهوة �أو مثقلة بثمار اهلل‬
‫التي كنا نظن �أنها م�ستقرة يف ذاكرتنا (وما نحن �إال‬ ‫تغر�س �أطراف �أ�صابعها يف �صدر �أ�شعر‬
‫ت�سعى الق�صة‬ ‫�أو مت�سح ر�أ�س الهرّ الراب�ض مثل مالك‬
‫الق�صرية‬
‫مدونة تتغيّا التف�صيل‬ ‫خمدوعون)‪� ،‬إىل مدار وثيقة �أو ّ‬
‫والتق�صي‪ .‬لذلك‪� ،‬سوف تكرث املفردات التي تتخلق منها‬ ‫يتوجب �أن يتنازل هذا الكون الكامل عن �ألعاب طفولته‬ ‫ّ‬
‫العمانية بد�أب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ذاكرة الوطن عند فاطمة ال�شيدي‪ ،‬بل هي با ألحرى «ذاكرة‬ ‫من �أجلك»‪.‬‬
‫عرب ك َّتابها‬ ‫امل�شيمة» �أو الرّحم ا ألول الذي ال ي�ستطيع كل �إن�سان �إال‬ ‫وال يخفى‪ ،‬بالطبع‪ ،‬تلك ا إل�شارات ذات املحموالت اجلن�سية‬
‫وكاتباتها اجلدد‪،‬‬ ‫�أن يظل مو�صوال به‪ ،‬مهما ارحتلت به الذات يف الزمان �أو‬ ‫تلمح وال ت�رصّح‪ ،‬تكني وال تف�صح‪ ،‬فج�سد‬ ‫الرمزية التي ّ‬
‫�إىل �إدراك‬ ‫املكان؛ ألن القطيعة مع الرحم‪� ،‬أو االنف�صال عن امل�شيمة‪،‬‬ ‫املر�أة حني ين�ضج بال�شهوة �أ�شبه ب�شجرة‪� ،‬أو نخلة‪ ،‬مثقلة‬
‫جماليات وقيم‬ ‫هي املوت عينه‪:‬‬ ‫بثمارها املدالّة‪ ،‬وحني تت�أ َّجج بها نريان ال�شبق تغر�س‬
‫تتهجى مفردات احلياة‪.‬‬ ‫�أ�صابعها يف �صدر الرجل ا أل�شعر‪ ،‬ذي املالمح ال�صحراوية‪،‬‬
‫فنية وت�شكيلية‬ ‫‪ -‬وطني ذاكرة ّ‬
‫حتاول �أن ّ‬
‫تر�سخ‬ ‫‪ -‬وطني �أ�صابع تعاقد �أ�صابع احلزن يف حلظة الفقد‪.‬‬ ‫�أو الربّية‪ ،‬فتم�سح ج�سدها يف �أع�ضاء ذكورته كمن ّ‬
‫يتم�سح‬
‫الب�ضة تتعلَّم لذة العناق؛ �إذ يتداعى‬ ‫‪ -‬وطني ا ألج�ساد ّ‬ ‫بهرّ بالغ النعومة وا إلح�سا�س بالدفء واحلميمية‪� .‬إنها‬
‫�أقدامها يف‬ ‫امر�أة �سلبية‪ ،‬ك�سول‪ ،‬هي نتاج ت�صورات ذهنية �ش ّكلتها‬
‫احلنني‪.‬‬
‫�أر�ض الكتابة‬ ‫ر�سخ لها تراثنا العربي القدمي �شعرا ونرثا‪:‬‬
‫‪ -‬وطني �أ�رسار الرمل الطاهرة خمبوءة يف كريات‬ ‫ثقافة عربية َّ‬
‫البداعية‬ ‫إ‬ ‫ال�صحراء‪.‬‬ ‫«وملاذا مت�ضني �سنينا كر�شاء (مبخالب عطر �شهوي)‬
‫‪ -‬وطني لغة ال�سالم املرفرف كا ألجنحة‪،‬‬ ‫عابث ٍة بحذاء العا�شق‬
‫خارطة البيا�ض املتمادي يف عنفوان الفراغ‪.‬‬ ‫هل يتنازل عن كل حذاء ميلكه وي�رضب خيمته‬
‫‪ -‬وطني غرف الذاكرة املطف�أة �إال من بقايا �رساج‪،‬‬ ‫يف باحة دار �أبيك‬
‫�شهي‪.‬‬ ‫‪� ... ...‬إلخ»‪.‬‬
‫ولذّة عود ّ‬
‫‪ -‬وطني لكنة اللغات تخت�رص م�سافات احلكي‪،‬‬ ‫لكنها امر�أة جتمع بني الك�سل وال�رشا�سة‪ ،‬مبا قد يومئ �إىل‬
‫ومتدّ ج�سورا من البهجة بني احلروف‪،‬‬ ‫تغيرّ مفردات �صورة املر�أة العربية املعا�رصة عن مثيالتها‬
‫‪� ... ... ...‬إلخ‪.‬‬ ‫يف احلقب ال�سابقة‪:‬‬
‫وعلى الرغم من تعدّد مفردات �صورة الوطن يف الق�صيدة‪،‬‬ ‫«تبدين امر�أة �أكرث ك�سال من طاولة الغرفة‬
‫ف�إن ما ي�ستوقف الباحث‪ ،‬يف غرابة‪ ،‬هو ال�صورة ا آلتية‪:‬‬ ‫و�أ�رش�س من نار نفطية‬
‫«وطني �أحاديث املطر ترثثر بني احلقول‬ ‫الفارق �أنك بي�ضاء �أكرث من لون �بي�ض»‪.‬‬
‫أ‬
‫�إذ يحر�سها (خيال امل� آتة) والع�صافري ت�ضحك‬ ‫وقد تعني �صفة البيا�ض‪ ،‬هنا‪ ،‬يف ظاهرها‪� ،‬إ�ضفاء طابع‬
‫على �أنفه‪ ،‬ي�أكله الدود فال ي�ستجري‪،‬‬ ‫�إيجابي على املر�أة العربية‪ ،‬من حيث اجلمال �أو النقاء‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫وا أليدي ي�ش ّققها الغبار على مقربة من ال�سماء؛ �إذ‬ ‫الو�صف ذاته ينطوي‪ ،‬يف العمق‪ ،‬على بع�ض املحموالت‬
‫ترتفع بالدعاء‪.‬‬ ‫ال�سلبية كاخلواء والفراغ وعدم القدرة على اتخاذ موقف‬
‫وال�ساقية تدغدغ ا ألنا�شيد فتعلو يف بهجة املزامري»‪.‬‬ ‫�أو قرار‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لكن غنائية الق�صيدة عند بدرية الوهيبي يوازيها حترر‬ ‫ّ‬ ‫ال �أعلم يف حقيقة ا ألمر ما عالقة هذه ال�صورة �شديدة‬
‫وانعتاق الكتابة من �أ�رس ا إليقاع‪ ،‬حيث ترمتي يف �أح�ضان‬ ‫امل�رصية ‪ -‬التي ذ ّكرتني بق�صائد �صالح جاهني ا ألوىل‬
‫نرثية ال�شعر �أو �شعرية النرث التي حتمل هموم ا إلن�سان‬ ‫من ديوانه «القمر والطني» كما �ألقت بي يف قلب ق�صائد‬
‫املعا�رص يف ق�صيدة ق�صرية جدا لعائ�شة ال�سيفي عنوانها‬ ‫ف�ؤاد حدّاد وعبد الرحمن ا ألبنودي‪ ،‬وكثري من �أجواء‬
‫�صديق �ضلوعه الطريق»(‪:)14‬‬
‫ٍ‬ ‫«عن‬ ‫ق�صائد �شعر العامية امل�رصي ‪ -‬بذاكرة امل�شيمة �أو ذاكرة‬
‫كنبي الفرا�شات‬
‫«جاحما ّ‬ ‫الوطن عند فاطمة ال�شيدي‪ .‬ولي�ست هذه نظرة �شوفينينة‬
‫دعه ير ّتب ما ي�شتهيه املدى للمدى‬ ‫تتكئ عليها مرجعيات القراءة لدى الباحث‪ ،‬بل �أق�صد �إىل‬
‫وال�صديق ملا ي�شتهيه ال�صديق‬ ‫�أن مرجعية ال�صورة ال�شعرية متتاح‪ ،‬هنا‪ ،‬من بيئة خمتلفة‪،‬‬
‫قل له‪:‬‬ ‫بيئة زراعية با أل�سا�س فيها «خيال امل� آتة»‪ ،‬و»ال�ساقية»‬
‫�إن قلبك يا �صاحبي قد ت�ضيق الكمنجات عنه‬ ‫و»املزامري»‪ ،‬بحيث تبدو يل مفردات ال�صورة ال تت�صل �إال‬
‫ولكنني ال �أ�ضيق»‪.‬‬ ‫بقطاع �صغري من قطاعات اجلغرافيا العمانية‪.‬‬
‫مدونة ال�شعر العماين‪ ،‬دون‬
‫هكذا‪ ،‬تتجاور «ال�شعريات» يف ّ‬ ‫قد يرتاءى للباحث �أن هذه الق�صيدة ُكتِبَ ْت من خارج‬
‫�أن تزيح �إحداها ا ألخرى‪ ،‬كما �سوف تتجاور ال�رسديات‬ ‫الوطن‪� ،‬إذا ا�ستدعينا عنوان مذكرات �إدوارد �سعيد ‪Out Of‬‬
‫وتتقاطع يف ف�ضاء �أدب عماين جديد ي ّطرد يوما بعد يوم‪،‬‬ ‫بح�س نو�ستاجلي وا�ضح يوازي �إح�سا�س املنفيني‬ ‫‪،Place‬‬
‫ّ‬
‫واعيا بخ�صو�صية جتربته وحمليتها‪ ،‬غري غافل �أبدا عن‬ ‫تت�ضام مفردات �صورة الوطن ومالعب‬ ‫واملغرتبني‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬
‫�إدراك التغيرّ ات اجلمالية والثقافية التي تطر� أ على ا إلبداع‬ ‫ال�صبا وال�شباب وتن�شط الذاكرة ال�شخ�صية والذاكرة‬
‫العربي ب�صفة عامة‪.‬‬ ‫القرائية �أي�ضا‪ ،‬وتتحول �صورة البيت املتوا�ضع‪ ،‬على‬
‫ثالثا‪� :‬سرديات ق�ص�صية جديدة‪:‬‬ ‫م�ستوى الواقع‪� ،‬إىل «جنّة» ت�سكن قاع املخيّلة‪ ،‬وال ميكن‬
‫ا�ستئ�صالها بحال‪� .‬إنها كتابة تقوم ‪ -‬كما �سبق �أن ذكرنا‬
‫ت�سعى الق�صة الق�صرية العمانية بد�أب‪ ،‬عرب كتَّابها‬
‫‪ -‬على منطق التداعي احلر �أكرث من كونها كتابة �إبداعية‬
‫وكاتباتها اجلدد‪� ،‬إىل �إدراك جماليات وقيم فنية وت�شكيلية‬
‫تخل�ص ملفهوم اجلن�س ا ألدبي الذي ي�ؤ ّطرها‪� ،‬شعرا كان �أو‬
‫تر�سخ �أقدامها يف �أر�ض الكتابة ا إلبداعية‬‫حتاول �أن ّ‬ ‫نرثا‪.‬‬
‫الق�ص�صية العربية املمتدة منذ �سنوات و�سنوات‪ .‬و ألن ّ‬
‫فن‬
‫تلم�س‬ ‫ىل‬‫إ‬ ‫�‬ ‫ت�سعى‬ ‫اجلديدة‬ ‫العمانية‬ ‫الق�صيدة‬ ‫تزال‬ ‫ال‬
‫الق�صة الق�صرية فن بالغ التعقيد واالختزال والتكثيف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫جماليتها‪ ،‬يف �إطار غنائية حمبّبة �إىل النف�س بالن�سبة �إىل‬
‫ف�ضال عن عدم ا�ستجابته ل�شكل جمايل بعينه �أو قيود نوعية‬
‫بعينها‪� ،‬إذا ما فكرنا يف نظرية ا ألنواع ا ألدبية بدءا من‬ ‫الكثريين من كتَّاب ق�صيدة التفعيلة‪ ،‬حتديدا‪ ،‬ومتذوقيها‪.‬‬
‫�أر�سطو يف حديثه عن الفن الدرامي والفن الغنائي والفن‬ ‫فال�شعراء «دافئون كق�صيدة»(‪ )13‬كما تخربنا بدرية‬
‫امللحمي‪ ،‬ولي�س انتهاء بناقد مثل ميخائيل باختني حني‪،‬‬ ‫الوهيبي؛ ألن‪:‬‬
‫كان يتحدث عن «ا أل�سلوب بو�صفه النوع» ‪ -‬ف�إن كل ق�صة‬ ‫«ال�شاعر ج�سم نوراين‬
‫ق�صرية متميزة يف حد ذاتها ت�ستطيع �أن تخلق قانونا (�أو‬ ‫ال يع�شق �إال ا أل�سماء العظمى‬
‫«�أورجانون») ميثّل مدخال جيدا للناقد �أو القارئ اخلبري‬ ‫‪... ... ...‬‬
‫‪ ،Super Reader‬كما يقول �أ�صحاب نظريات القراءة والتل ّقي‪.‬‬ ‫ال�شاعر وطن �شبحي‬
‫ال يعرف غري ال�سري �إىل �أر�ض الكلمات‬
‫أ�‌‪� -‬سردية الحلم‪:‬‬ ‫ينـزف‬
‫يف ق�صته «مكان � آخر متل�ؤه اخل�رضة»(‪ ،)15‬يتعامل معاوية‬ ‫حرفا حرفا‬
‫الرواحي مع احللم بو�صفه مدخال �رسديا رحبا ميكن �أن‬ ‫فلتهد� أ روح الليل‬
‫يخ ّفف من وط�أة الواقع الغريب واملتناق�ض وامل�ؤمل‪.‬‬ ‫وروح القرب‬
‫فالراوي �شاب ي�سكن مع �أمه يف بيت متوا�ضع‪ ،‬و�إىل جواره‬ ‫وروح ال�شاعر‬
‫م�ساحة �أر�ض خالء هي عبارة عن فناء يحيط به �سور‪،‬‬ ‫وليبد� أ هذا ا آلن ي�صلّي‬
‫ي�ستخدمه ا ألطفال ملمار�سة اللعب‪ ،‬يف حني ي�ستخدمها‬ ‫كي تنبت يف الروح‬
‫ا ألهايل مقرب ًة لدفن املوتى من �صغار ا ألطفال‪ .‬يحلم‬ ‫ق�صيدة»‪.‬‬
‫‪106‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هاربة وببطنها عقارب �صغرية ‪ .‬مررت بجوار �أفعى‬ ‫الراوي ال�شاب بحياة رغدة ي�صبح فيها م�س�ؤوال عن �رشكة‬
‫هر�ست ر�أ�سها بحجر وعدت للحفر (‪ )...‬انفجرت ا أل�سئلة‬ ‫ومدربا يف الوقت نف�سه للمنتخب‬ ‫ّ‬ ‫ات�صاالت معروفة‪،‬‬
‫يف ر�أ�سي ومل �أعد �أعرف ما الذي ينبغي �أن ُيفعل بامليت‪.‬‬ ‫الوطني لكرة القدم‪ .‬وتكون ا ألم �سببا يف �إقامة عالقة بني‬
‫وهل هو ميت ؟ �أم �أن روحه مل تخلق بعد ؟ وهل �أ�ضع ر�أ�سه‬ ‫دعى «زينة»‪ ،‬ابنة اجلريان‪ ،‬التي �أكملت‬ ‫الراوي وفتاة ُت َ‬
‫باجتاه القبلة �أم العك�س؟ طوفان من ا أل�سئلة قاطعه بكاء‬ ‫مدر�سة ب�إحدى املدار�س‪ .‬لكن زينة‬ ‫تعليمها وراحت تعمل ّ‬
‫�ضئيل (‪ )...‬ر�أيت يدًا ب�ضة �صغرية تخرج من اللفافة وتزيح‬ ‫ت�سقط يف اخلطيئة قبل �أن تتزوج من الراوي الذي يجد‬
‫املالءة بغ�ضب‪ ،‬عال ال�رصاخ‪� .‬شعرت بال�صمم من علوه‪.‬‬ ‫نف�سه مرغما‪ -‬حتت �إحلاح �أمه ‪ -‬على حمل امل�س�ؤولية‬
‫يل ببنانه»‪.‬‬
‫�سمعت الطفل ي�رصخ‪ ،‬وي�شري � إ َّ‬ ‫عنها بدال من �أبيها الذي كان م�سافرا للخارج بحثا عن‬
‫مل يكن ثمة �سبيل �أمام الراوي ال�شاب �سوى دفن اجلنني‬ ‫املتعة والن�ساء‪ .‬يكت�شف الراوي يف نف�سه حبا عميقا لزينة‬
‫ودفن �صوته معه‪ ،‬يف م�شهد تراجيدي ينـزّ ك� آبة ومرارة‪.‬‬ ‫ابنة اجلريان وتعاطفا معها يف الوقت ذاته‪ ،‬كما يكت�شف‬
‫ي�ضفي مثل هذا الفعل الذي يقوم به الراوي على الق�صة‬ ‫�أمر املقربة العجيبة التي تقع بجوار بيتهم‪ ،‬ومل يكن‬
‫�أبعادا واقعية ت�ؤ ّكد على �أن ما يواجهه الب�رش من م�شكالت‬ ‫يعلم عنها �شيئا من قبل طوال تلك ال�سنوات؛ ألنه كان‬
‫و� آالم ومعوقات البد من مواجهته بحزم و�صالبة مهما‬ ‫يت�صورها ‪ -‬كغريه من ال�صبيان ‪ -‬جمرد حديقة جرداء‬
‫كان الثمن‪ ،‬ك�أن لدغة العقرب ال�صفراء للراوي (الحظ‬ ‫ال نفع فيها‪.‬‬
‫داللة اللون ا أل�صفر التي تت�ضاد مع هيمنة اللون ا ألخ�رض‬ ‫تبدو حبكة الق�صة عند معاوية الرواحي حبكة ب�سيطة من‬
‫رد العتبار هذا اجلنني الذي ال ذنب له‬ ‫يف ف�ضاء الق�صة) ّ‬ ‫الناحية التقنية‪ ،‬لكن �إ�ضفاءه بع�ض اللم�سات الغرائبية‬
‫يف دخول احلياة لثوان معدودات ثم اخلروج منها بهذه‬ ‫�إىل حد ما بحيث يتداخل الواقع واحللم‪ ،‬يف ف�ضاء الق�صة‪،‬‬
‫الطريقة امل�أ�ساوية‪ .‬لذلك‪ ،‬كانت �أ�شجار املقربة تخ�رضّ‬ ‫�أمر من �ش�أنه �أن يخفف من �ضيق احليّز �أو الف�ضاء املغلَّف‬
‫تردد �صوت امل�ؤ ّذن‪ ،‬بينما جثة الطفل قد �أينعت �أوراقا‬ ‫مع ّ‬ ‫بطعم املوت الذي تتناوله الق�صة‪ :‬فا ألر�ض املجاورة‬
‫ُخ�ضرْ ا‪ ،‬جتاوبا مع اجلو اجلنائزي الذي �أودى بحياة‬ ‫للبيت مليئة با أل�شجار اخل�رضاء املورقة طوال العام ك�أنها‬
‫ال�صغري داخل الرتاب‪:‬‬ ‫اجلنة التي ال تذبل �أبدا‪ ،‬كما تقول �أمه‪:‬‬
‫«مع ت�صاعد �صوت �أذان املغرب كنت �أحدّق يف املقربة‬ ‫«�سبحان اهلل‪ .‬هذه ا ألر�ض ال ماء ي�سقيها وال مطر ي�سقط‪،‬‬
‫املواجهة للبيت ‪ ...‬مع �صوت �إقامة ال�صالة كانت �أ�شجار‬ ‫ولكن �أ�شجارها دائمة اخل�رضة‪ .‬البد �أن ذلك لطف من ربك‬
‫املقربة تخ�رضّ وتخ�رضّ‪ ،‬وع�شب رائع يغطي القبور‬ ‫ّ‬
‫با ألطفال املدفونني بها‪ .‬واهلل لو مل يكن بها غري ا ألطفال‬
‫ال�صغرية بهدوء وت�ؤدة»‪.‬‬
‫ملا كانت اال �سيحاً مقفراً»‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬تنه�ض �رسدية الق�صة الق�صرية عند معاوية‬
‫مثل هذه ال�صورة ال�رسدية‪-‬الو�صفية ت�ضفي مل�سات‬
‫الرواحي على ذلك الت�ضافر ال�شفيف بني احللم والواقع‪،‬‬
‫ر�ض هي اجلنة واملقربة يف � آن‪ ،‬فا ألطفال حني‬ ‫غرائبية أل ٍ‬
‫فما حدث كله مل يكن �إال يف ذهن الراوي وخميلته فح�سب‪،‬‬
‫أ‬
‫ميوتون �صغارا – يف الت�صور ال�شعبي عند �غلب املجتمعات‬
‫�أو ك�أننا كنا ب�صدد ق�صة بني قو�سني كبريين‪ ،‬ق�صة ي�صبح‬
‫العربية – يتحولون �إىل ع�صافري حتلّق يف �سماوات اجلنّة‪:‬‬
‫فيها احللم مدخال �رسديا ملجابهة �إحباطات الواقع املقفر‬
‫وغرائبيته التي ت�ضع الراوي‪ ،‬ال�شاب‪ ،‬احلالمِ ‪ ،‬يف طريق‬ ‫«قومي ف�إن اهلل �سيجعل منه طريا من طيور اجلنة‪ .‬قومي‬
‫زينة ابنة اجلريان ك�أنها قدره املقدور‪.‬‬ ‫يا امر�أة ِّ‬
‫ووحدي اهلل»‪.‬‬
‫يتحول بدوره‪ ،‬يف نهاية املطاف‪� ،‬إىل‬ ‫ّ‬ ‫لك َّن الراوي �سوف‬
‫ب‌‪ -‬ال�سرد من (عن) موقع «الهام�ش»‪:‬‬ ‫ح ّفاَر للقبور �أو �إىل «دافن موتى»‪:‬‬
‫ح�سبما هو معروف يف فنون ال�رسد‪ ،‬و�أالعيب ّ‬
‫الق�ص‪ ،‬قد‬ ‫«غر�ست �أ�صابعي يف قطعة اللحم‪ � .‬أ ُ‬
‫م�سكت قطعة اللحم‬ ‫ُ‬
‫يتغري �أحيانا موقع ال�سارد �أو الراوي تبعا لتغري وجهة‬ ‫واحت�ضنتها بهدوء‪ .‬رجوت اهلل �أن ينقذين و�ن ي�ساحمني‪.‬‬
‫أ‬
‫النظر التي يريد الكاتب �أن ّ‬
‫ي�صور لنا من خاللها عامله‬ ‫قر�أت �سورتني ف�سكنت قليال»‪.‬‬
‫الق�ص�صي‪� ،‬أو يقتطع لنا قطاعا من قطاعاته‪ ،‬كما يف‬ ‫يذهب الراوي �إىل املقربة ليدفن اجلنني‪ ،‬ابن اخلطيئة‪ ،‬وابن‬
‫ق�ص�ص «العار�ض»(‪ )16‬حلنان املنذرية‪ ،‬و«علبة ‪ ..‬علبتان‪..‬‬ ‫زينة �أي�ضا‪ ،‬يف باطن ا ألر�ض‪ ،‬خال�صا من العار الذي �سوف‬
‫ثالث علب»(‪ )17‬ملاهر الزدجايل‪ ،‬و«�ألوان»(‪ )18‬ألمل‬ ‫يلحق مبحبوبته زينة‪:‬‬
‫املغيزوي‪ .‬يف ق�صة حنان املنذرية‪ ،‬تتحدث الراوية عن‬ ‫وجلَد‪ .‬لدغتني عقرب �صفراء وان�سلت‬ ‫«بد�أت �أحفر به�ستريية َ‬
‫‪107‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أنت وتبيعني ب�أرخ�ص ا ألثمان‪ ،‬ولكن دعني �أ�رسّ يف �أذنك‬ ‫«عار�ض �أزياء»‪� ،‬أو «موديل»‪ ،‬يقوم بدور متثيلي ب�سيط‬
‫�أن احلانة املوجودة يف هذا الفندق من �أف�ضل احلانات‬ ‫يف �إعالن تليفزيوين عن م�سابقة تنظمها �إحدى �رشكات‬
‫املوجودة يف املنطقة‪ .‬ويف هذه احلانة راق�صات عربيات‪...‬‬ ‫املياه الغازية‪ .‬ويقوم �شخ�ص‪ ،‬ممثل ‪ -‬يبدو من خالل‬
‫ال تفتح فمك هكذا‪ ..‬نعم عربيات وجميالت وميكنك ببع�ض‬ ‫تنم عن تدنيّ‬
‫مالب�سه املتوا�ضعة و�سيارته املتهالكة التي ّ‬
‫النقود �أن تنام معهن بعد ال�سهرة الغنائية الراق�صة‪.»...‬‬ ‫طبقته االجتماعية ‪ -‬ب�أداء دور متثيلي يعبرّ عن �شخ�صية‬
‫املهم�ش يذهب �أدراج الرياح‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لكن حلم هذا ال�شخ�ص‬ ‫ّ‬ ‫مر ّفهة تبدو عليها �سيماء الرثاء من خالل املالب�س الفخمة‬
‫حني ينوي �أن يدخل �أحد الفنادق ويطلب زجاجة برية‬ ‫احلاد بني‬
‫ّ‬ ‫وال�سيارة الفارهة‪ .‬وعلى حافة هذا التناق�ض‬
‫مثلجة وي�ستمتع مب�شهد الراق�صات العربيات وينتهي‬ ‫املمثِّل واملمثَّل‪ ،‬ال�شخ�ص الواقعي والدور املتخيَّل‪ ،‬يقف‬
‫به ا ألمر �رصيع الغواين يف �سيارة �إ�سعاف وهو يهذي‬ ‫العار�ض �أو املوديل يف عر�ض ال�شارع و�سط النهار‪ ،‬حيث‬
‫«علبة‪ ..‬علبتان‪ ..‬ثالث علب»‪ ،‬ألنه مل يكن ينتمي بالفعل‬ ‫االزدحام اخلانق يف مدينة كبرية‪ ،‬هي م�سقط غالبا‪،‬‬
‫�إىل هذه الطبقة بكل ممار�ساتها احلياتية‪ .‬لذلك ي�سقط‬ ‫وال�شم�س تدنو من الر ؤ�و�س‪ ،‬لي�ستقبل مكاملة تليفونية يبدو‬
‫�رصيع اللذة بفعل ال�صدمة ا ألوىل له يف حياته‪ .‬فقانون‬ ‫�أنها بالغة ا ألهمية‪ ،‬حيث ترت�سم على وجهه انفعاالت �شتّى‬
‫اللذة الذي تنطلق منه �أيديولوجيا الراوي هو الوجه ا آلخر‬ ‫جعلته يقف ب�سيارته م�شدوها و�سط الزحام‪ .‬و�إذا به ينزل‬
‫من قانون الطبقة التي ال تعرف املهادنة مع املتطفلني‬ ‫من �سيارته وجميع العربات ت�صدر �صفارات �إنذارها له‬
‫ممن يحاولون ت�سلّق جدرانها ال�شاهقة التي ت�شبه جدران‬ ‫بينما هو يف عامل � آخر متاما‪ ،‬حتى �إنه ين�سى قواعد املرور؛‬
‫الزنازين وال�سجون اخلانقة‪.‬‬ ‫ألنه تل َّقى خرب فوزه باجلائزة الكربى‪.‬‬
‫النا آ‬
‫والخر‪:‬‬ ‫ج‌‪� -‬سردية أ‬ ‫على الرغم من ب�ساطة الق�صة وب�ساطة بنائها ال�رسدي‬
‫(‪)19‬‬
‫يتناول حممد العرميي يف ق�صته الق�صرية « َتيْ َمه»‬ ‫ف�إنها ت�رضب على �أكرث من قيمة اجتماعية‪ ،‬منها التباين‬
‫عالقة ال�رشق بالغرب‪� ،‬أو ا ألنا با آلخر‪ ،‬بطريقة مكثّفة‬ ‫احلاد بني �أفراد املجتمعات العربية‪ .‬فالعار�ض‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الطبقي‬
‫ودالّة �إىل حد بعيد‪ ،‬تذ ّكرنا بن�صو�ص كتّاب كبار تناولوا‬ ‫�أو املمثل‪� ،‬أو املوديل‪ ،‬متوا�ضع احلال وا ألجر والطموح‬
‫الق�ضية نف�سها‪� ،‬أ�شهرهم بالطبع الطيب �صالح‪ ،‬و�سهيل‬ ‫يف مقابل ال�شخ�ص الذي ميثله العار�ض فنيا من حيث هو‬
‫�إدري�س وبهاء طاهر وغريهم‪ ،‬مع مراعاة الفروق الفنّية‬ ‫ثم فهو ا ألحق يف الفوز‬ ‫ابن طبقة مميزة اجتماعيا‪ ،‬ومن َّ‬
‫واجلمالية والتاريخية بكل ت�أكيد‪.‬‬ ‫باجلائزة الكربى‪ ،‬من وجهة نظر الراوي وح�سب قانون‬
‫م�سعود ها�شم‪ ،‬بطل الق�صة العرميي‪� ،‬شاب عماين من �أ�رسة‬ ‫املجتمعات املعا�رصة التي ال تعرف �سوى لغة ر�أ�س املال‬
‫مت ابتعاثه‬ ‫التي �سوف تزيد بالطبع من و�ضعيات «الت�شيّ�ؤ» الذي‬
‫متوا�ضعة تعمل يف زراعة النخيل واملاجنو‪ ،‬وقد ّ‬
‫_ نظرا لتفوقه _ ال�ستكمال درا�سة البكالوريو�س يف منحة‬ ‫تعانيه جمتمعاتنا ا آلن‪.‬‬
‫درا�سية للجنوب ا ألمريكي‪ .‬وهناك التقي بفتاة بي�ضاء من‬ ‫وال تبتعد ق�صة ماهر الزدجايل كثريا عن ذلك املنظور‬
‫�أ�رسة بالغة الرثاء تدعى «جينفر ىل هيز»‪ .‬وهنا‪ ،‬ميكن‬ ‫الق�ص�صي امل�ستخدم يف ق�صة حنان املنذرية‪ .‬فالفقري‬
‫مالحظة التقابالت التي يعقدها الراوي‪-‬امل�ؤلف بني‬ ‫املت�سول الذي يجمع علب املياه الغازية من �أكوام‬ ‫ّ‬
‫مفردات‪ :‬املكان‪ ،‬الطبقة‪ ،‬اللون‪�..،‬إلخ‪ .‬كما �أن ا�سم جنيفر‬ ‫القمامة‪ ،‬ويبيعها كل �أ�سبوع ببع�ض الرياالت التي تعينه‬
‫يحيلنا‪ ،‬بطريقة �أو ب�أخرى‪� ،‬إىل رواية بهاء طاهر «احلب يف‬ ‫حتمل �أعباء احلياة‪ ،‬هو منوذج ل�شخ�ص هام�شي � آخر‬ ‫على ّ‬
‫املنفى»‪ .‬يتعرف م�سعود على جنيفر وال يرتكها حلظة‪ ،‬يف‬ ‫يحيا على احلافة من جمتمعاتنا العربية‪ .‬يحلم هذا ال�شخ�ص‬
‫�إطار من عالقة ت�شوبها انتهازية �أو م�صلحة ما‪:‬‬ ‫املهم�ش‪ ،‬بتناول زجاجية برية حقيقية مثلجة‬ ‫الهام�شي‪� ،‬أو َّ‬
‫«مثلما كان يفعل طالب دول العامل الثالث الذين كانوا‬ ‫بدال من ارت�شاف بع�ض ما يتب َّقى من قطرات �ساخنة بفعل‬
‫ي�أتون �إىل �أمريكا هربا من الفقر واجلوع وبهدف احل�صول‬ ‫�شم�س ال�صحراء‪ ،‬حيث يتخيل نف�سه يف حوار �أ�شبه بحوار‬
‫لحالم ‪Land‬‬ ‫على اجلن�سية ا ألمريكية‪ ...‬يف «�أر�ض الفر�ص وا أ‬ ‫ال�سكارى مع �إحدى الزجاجات التي تبوح له ب�أ�رسارها‪:‬‬
‫‪.»of Opportunities and Dreams‬‬ ‫«�إنني �أعي�ش مرحلتني من حياتي‪ .‬املرحلة ا ألوىل �أعي�ش‬
‫ويف الوقت الذي يقرر م�سعود الزواج من جنيفر والعودة‬ ‫علي اجلميع ويعاملونني معاملة‬ ‫معززة مكرّمة يتهافت ّ‬
‫يفاج�أ بال�صدمة احل�ضارية‬ ‫بها �إىل بلدته «تيمه»‪ ،‬نراه َ‬ ‫امللوك‪ .‬املرحلة الثانية بعد �أن يفرغ ال�شخ�ص حمتويات‬
‫التي حتول بينه وبني �إمكان العي�ش يف وطنه ال�رشقي‬ ‫جويف يف جوفه عندها �أ�صبح قمامة ال قيمة يل لت�أخذين‬
‫‪108‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫رت �ساعات ذلك اليوم بكل و�ضوح‪ ،‬وبرزت كل‬ ‫«تذ ّك ُ‬ ‫مرة �أخرى �أو التكيف مع ظرفه وموا�ضعاته االجتماعية‬
‫أ‬
‫التفا�صيل دفعة واحدة يف تد ّفق م�ستمر مل ��ستطع‬ ‫والثقافية‪ ،‬فيقرر �رسيعا الذهاب �إىل مدينة م�سقط الكبرية‬
‫�إيقافه‪.»..‬‬ ‫بو�صفها حمطة انتقالية �سوف ينتقل منها �إىل �أمريكا‬
‫وما نريد الت�أكيد عليه يف هذه الق�صة‪ ،‬رغم كونها ق�صة‬ ‫مرة �أخرى‪ ،‬ولفرتة طويلة من الزمن‪ ،‬يعود بعدها ب�سنوات‬
‫عادية‪ ،‬لي�س احلديث عن املوت‪ ،‬بل احلديث عن ت�أثري‬ ‫و�سنوات �إىل «تيمه»‪ ،‬وحيدا‪ ،‬كالعائد من منفى �إىل منفى‪:‬‬
‫وجهة نظر ال�سارد يف اللغة ال�رسدية‪ ،‬ومن ثم الت�أثري يف‬ ‫«عاد وحيدا يحمل �شهادة ماج�ستري ويحتفظ يف جيبه‬
‫املتل ّقي‪:‬‬ ‫ب�صورة طفلة �صغرية‪� :‬سمراء الب�رشة‪ ..‬زرقاء العينني‬
‫حاولت املرور من بينها‬ ‫ُ‬ ‫«بيت خالتي يكت ّظ ب�أج�ساد عديدة‪،‬‬ ‫وا�سمها «تيمه»‪.‬‬
‫ب�صعوبة‪ .‬تو َّق ْف ُت كثريا و�أنا و�أرى قطعة قما�ش بي�ضاء‬ ‫هكذا‪ ،‬تطرح ق�صة العرميي عددا من املفاهيم التي تنه�ض‬
‫يت�شبّث بها �أحد الرجال ب�إ�رصار غريب وامر�أة تناوله عدة‬ ‫على �إحداث نوع من التنا�ص مع بع�ض �رسديات ا ألنا‬
‫زجاجات من عطور خمتلفة ت�شبه العطور التي ت�ضعها‬ ‫وا آلخر العربية‪� ،‬أذكر منها على �سبيل املثال ق�صة الطيب‬
‫جدتي على ج�سدها الهزيل‪.»..‬‬ ‫�صالح الق�صرية جدا «�سوزان وعلي»‪ ،‬و�أق�صد حتديدا �إىل‬
‫�سوف يتحول هذا اللون ا ألبي�ض يف ذاكرة الفتاة �إىل رمز‬ ‫ال�شابني اللذين مل ي�ستطيعا الزواج �أو االلتقاء عند نقطة‬
‫للموت ب�سطوته وهيمنته وثقله على النفو�س(‪:)22‬‬ ‫ما رغم حبهما ال�شديد لبع�ضهما البع�ض بحكم الظرف‬
‫«مل �أمن يف تلك الليلة‪ .‬حاولت تذ ّكر وجه «خمي�س» مرارا‪،‬‬ ‫اجلغرايف والثقايف املختلف (علي‪ /‬اخلرطوم‪� ،‬سوزان‪/‬‬
‫لكن اللون ا ألبي�ض طغى على معامله (‪ .)...‬كرهت ا آلن‬ ‫لندن)‪ .‬يقول راوي ق�صة الطيب �صالح‪:‬‬
‫املوت‪ .‬بد� أ ُت �أمقت اللون ا ألبي�ض وزجاجات العطر‪.»..‬‬ ‫«عاد علي �إىل بلده‪� .‬أخذا يرتا�سالن‪:‬‬
‫�إذا كانت «تفا�صيل» �أمل املغيزوي تتعامل مع املوت‬ ‫«لكنني �أحبك يا علي»‪.‬‬
‫بو�صفه قدرا مقدورا ال فكاك من �أ�رسه‪ ،‬وتر�سم مالحمه‬ ‫«و�أنا �أحبك يا �سوزان‪ ،‬لكن‪.»...‬‬
‫من وجهة نظر �ساردة هي طفلة ال حول لها �أو قوة �إزاء‬ ‫�ستة �أ�شهر‪ .‬كتبت تقول‪« :‬قابلت رجال‪� .‬س�أتزوجه»‪.‬‬
‫حدث قب َل بداي ِتهِ»‬ ‫كتب يقول‪« :‬لكنني �أحبك يا �سوزان»‪.‬‬
‫«موت َ‬ ‫جللَل‪ ،‬ف�إن ن�ص‬‫هذا احلدث ا َ‬
‫(‪)23‬‬
‫ٌ‬ ‫وانقطعت الر�سائل‪.‬‬
‫أ‬
‫لعبداهلل حبيب ي�سعى �إىل مقاومة املوت �ي�ضا ومناه�ضته‬
‫ب�شتّى الطرق من وجهة نظر الكبار‪ ،‬ولو على �سبيل ال�رسد‪.‬‬ ‫يفكر بها يف غالب ا ألحيان‪ .‬وتفكر به من حني آلخر‪.‬‬
‫فقد حاول «املغدور» ‪ -‬كما ي�صفه راوي الق�صة ‪� -‬أن‬ ‫لكن‪.)20( ...‬‬
‫وال يخفى‪ ،‬بالطبع‪� ،‬أن العرميي يطرح هنا منوذجا خمتلفا‬
‫يتخل�ص من �سطوة ا ألب‪ ،‬لكنه وقع يف َ�س ْطوات � أُ َخر‪ :‬ف�شل‬
‫عن منوذج الطيب �صالح‪ ،‬لكننا �أردنا ا إل�شارة �إىل الفكرة‬
‫يف التدريب الع�سكري‪ ،‬و�أخذ ينتقل يف رحلة احلياة اليومية‬
‫الرئي�سية التي ي�ؤكد عليها ن�ص العرميي وهي �أنه ال تزال‬
‫القا�سية من مدينة �إىل مدينة‪ ،‬ومن عا�صمة �إىل �أخرى‪ .‬لقد‬
‫ثمة مفاهيم ثقافية متجذّرة يف وعي العربي‪ ،‬من قبيل �أن‬
‫عا�ش‪ ،‬باخت�صار‪ ،‬حياة املنف ِّي حتى ا�ستقرّ به املقام يف‬
‫زواج ال�رشقي بغربية �أمر ت�شوبه بع�ض ا إل�شكاالت ما مل‬
‫غرفة بائ�سة مظلمة عدمية التكييف وذات دخان �أ�صفر‬
‫ين�صهرا يف ن�سيج واحد‪ .‬من هنا‪ ،‬ال يبقى مل�سعود (امتداد‬
‫كثيف وغبار يخرتق ال�صدر‪ ،‬حتى نال منه املر�ض لدرجة‬ ‫علي) �سوى حم�ض �صورة لفتاة �صغرية �سمراء ا�سمها‬
‫ال ُبرْ َء منها‪ ،‬وانتقل به ا ألهل من م�ست�شفى �إىل � آخر دون‬ ‫«تيمه» هي ابنته غالبا‪ .‬يعود م�سعود منفردا �إىل وطنه‬
‫جدوى‪ .‬عندئذ‪ ،‬مل يكن �أمامه �سوى احلكي عن كل �شيء‪ ،‬عن‬ ‫تاركا زوجته جنيفر (امتداد �سوزان) وابنته «تيمه» هناك‬
‫احلياة واملر�أة واجلن�س واملمر�ضات البدينات‪ ،‬فت�شبّثت‬ ‫يف �أر�ض الفر�ص وا ألحالم مكتفيا ب�صورة‪ ،‬حم�ض �صورة‬
‫مبقومات احلياة و�أعرا�ضها‪ ،‬يف الوقت الذي كان‬ ‫خميّلته ّ‬ ‫�صغرية‪.‬‬
‫ج�سده مي�ضي بخطى حثيثة يف االجتاه املعاك�س‪ ،‬نحو‬
‫القرب‪ .‬هكذا يحدّثنا الراوي م�ستخدما �ضمري املخا َطب‪،‬‬ ‫د‌‪� -‬سردية الموت‪:‬‬
‫بكل ما يحمله من حميمية وم�ساءلة للذات ومكا�شفة ترفع‬ ‫يف ق�صتها الق�صرية «تفا�صيل»(‪ ،)21‬تتناول �أمل املغيزوي‬
‫احلجب ما بني الراوي واملروي عليه‪:‬‬ ‫ثيمة املوت من وجهة نظر طفلة �صغرية ميوت �أحد‬
‫كنت حت�سد خميلته اخلالقة‬ ‫«كنت �سعيدا معه وله لدرجة �أن َك َ‬‫َ‬ ‫فت�صور لنا وقع فعل املوت على الطفلة‪-‬الراوية‬
‫ّ‬ ‫�أقاربها‪،‬‬
‫على املهرجان اجلن�سي الروماين الذي يقيمه بكل هذه‬ ‫خالل �أحداث يوم كامل‪:‬‬
‫‪109‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خطف املوت ابنه‪ .‬هكذا‪ ،‬بغتة‪ ،‬اقتن�ص املوت يحيى‪/‬االبن‬ ‫الزندقة واملجون واجلنون يف غرفته البي�ضاء ال�صغرية يف‬
‫يف حادثة ملعونة ترتك ا ألب بعدها فري�سة للموت والزوال‬ ‫يح�س �أحد مبا يف‬
‫بيت املوت واملر�ض من دون �أن يعلم �أو ّ‬
‫والكوابي�س‪ ،‬ا ألمر الذي احتار معه اجلريان فلم يعرفوا كيف‬ ‫الب�ضة‪ .‬لقد ن�سي كل �شيء‪ ،‬واغرتب عن كل‬ ‫ذلك ممر�ضته ّ‬
‫ينادونه بعد موت ابنه‪ ،‬حتى ن�صحتهم واحدة من �أرباب‬ ‫فمرْ َحى لذاكرته �ألف َمرْ َحى»‪.‬‬
‫�شيء �إال اجلن�س‪َ .‬‬
‫الب�صرية ممن تعمل يف جزّ ا ألع�شاب وتنظيف احلقول منها‬ ‫هـ‪� -‬سردية الذاكرة‪:‬‬
‫وبيعها ملالّك املوا�شي‪:‬‬
‫«�سموه يحيى على ا�سم ابنه‪� ،‬سيحل مع الوقت �شيء من‬ ‫ي�ستعني عبد العزيز الفار�سي‪ ،‬يف ق�صته «مطر �صباحي»(‪،)24‬‬
‫ّ‬ ‫با�ستدعاءات الذاكرة الطفولية التي ت�ستدعي م�شاهد ال�صبا‪،‬‬
‫�سعادة يف قلبه‪ ،‬و�سيحيا الغائب يف داخله وينمو‪ .‬ثم‬
‫�أ�ضافت وهي تتقدم رافعة جمزّها الذي �سطعت �سنّته‪:‬‬ ‫حيث تالميذ املدار�س يحتفلون ب�سقوط ا ألمطار من �أجل‬
‫جميعكم ال يعلم ب�أن لكل ا�سم روحا تالحقه وال ميكن‬ ‫�أن يعودوا مبكرا �إىل بيوتهم‪ ،‬وقد يتغيبون يوما �أو يومني‬
‫�إخفا ؤ�ها حتى باملوت»‪.‬‬ ‫دون تقريع �إدراة املدر�سة بحجة ال�شوارع والطني‪� .‬سوف‬
‫من هنا‪� ،‬أ�صبح �أبو يحيى رجال غريب ا ألطوار‪ ،‬يخرج يف‬ ‫يجد الباحث يف ق�صة الفار�سي �أن ثمة راويني‪ :‬را ٍو �أول‬
‫�أكرث �أوقاته �أرقا‪ ،‬يذرع الوادي ذهابا و�إيابا‪ ،‬ثم ي�صعد‬ ‫هو من يفتتح الق�صة وينهيها‪ ،‬يجل�س على مقهى �ألطاف‪،‬‬
‫اجلبل ويبد� أ يف احلفر وال�صخب دون كلل‪ ،‬حتى تتال�شى‬ ‫مغرتب من �أجل الدرا�سة �أو العمل يف بلد عربي‪ ،‬هو دبي‬
‫�أوجاعه هربا �أمام ال�ضجيج ا ألكرث قوة يف داخله‪ .‬غري �أن‬ ‫غالبا‪ .‬يقول الراوي ا ألول‪:‬‬
‫الكثريين من �أهل البلدة «غدوا مع الوقت يدركون‪ ،‬ب�صرب‪،‬‬ ‫«كان املطر الهادئ يغ�سل ال�شارع كما تفعل الدموع‬
‫�رس التعب و�رس ا أل�سماء القدمية و�أفعالها»‪.‬‬ ‫بالروح املتعبة‪ ،‬والقطرات املت�ساقطة على واجهة مطعم‬
‫�ألطاف جتعل كل �شيء متماهيا �أمام اجلال�سني بالداخل‪،‬‬
‫و‌‪� -‬سردية غرائبية‪:‬‬ ‫كذاكرة حب قدمي مل يفقد لذته رغم اجلروح التي خلفها (‪)...‬‬
‫يف ن�صه الذي يحمل عنوان «الطفل والكلب»(‪ ،)26‬يقدّم لنا‬ ‫ر�أيتني طالبا يف االبتدائية»‪.‬‬
‫يعقوب اخلنب�شي موتيفة حكائية عجيبة تتلخ�ص يف �أن‬ ‫الذاكرة‪� ،‬إذن هي ال�ضابط الذي ي�ضبط �إيقاع ال�رسد يف‬
‫�سيدة عمانية ممن يدّعني الرفاهية كغريهن من ن�ساء‬ ‫ق�صة «مطر �صباحي»‪� .‬أما الراوي الثاين فهو �صبي يحكي‬
‫املجمعات‬
‫ّ‬ ‫تت�سوق داخل �أحد‬
‫ّ‬ ‫العرب املعا�رصات كانت‬ ‫لنا بطزاجة موقفه مع �سائق البا�ص «خليفوه»‪ ،‬حني تركه‬
‫التجارية الكربى يف العا�صمة‪ ،‬حيث جنون ال�رشاء الذي‬ ‫باملدر�سة ذلك اليوم املطري‪ ،‬فعزم ال�صبي على مغامرة‬
‫ي�صيب ا ألفراد في�سيل لعابهم ا�ستجابة لربيق ال�سلعة كلما‬ ‫العودة وحيدا و�سط برك ا ألمطار وخملفاته‪ .‬يبد� أ الراوي‬
‫دخلوا �أحد هذه املراكز التجارية‪ ،‬فيقررون يف احلال‬ ‫الثاين يف �رسد تفا�صيل حكايته منذ جملة «ر�أيتني طالبا‬
‫�رشاءها بغ�ض النظر عن كونها مفيدة �أو غري مفيدة دون‬ ‫يف االبتدائية‪ »...‬حتى يتوقف �سيالن الذاكرة الذي يقطعه‬
‫فارق كبري(‪ .)27‬الغريب يف ا ألمر �أن هذه ال�سيدة كانت‬ ‫�صوت �ألطاف‪� ،‬صبي املقهى‪ ،‬هنا‪-‬ا آلن‪ ،‬حني يقول‪:‬‬
‫تربط يد ابنها اليمنى برباط هو يف ا أل�سا�س رباط للكالب‬ ‫«‪� -‬أرباب‪ ..‬تريد �شاي زيادة؟» ‪.‬‬
‫واحليوانات‪ ،‬بحيث كانت جترّه من يده خلفها يف ق�سوة‬ ‫«‪ -‬متام يا �ألطاف‪ ..‬جيب �شاي زيادة دام املطر بعده‬
‫رهيبة ك�أنها ال تعرف عن ا ألمومة �شيئا بعد‪� .‬سوف يظ ّل‬ ‫ينـزل»‪.‬‬
‫الطفل ي�ستجدي � أ ّمه حتى تف ّك القيود من يديه بينما هي‬ ‫�إذا كانت �رسدية الذاكرة يف ق�صة الفار�سي حتتفي‬
‫منهمكة يف متابعة ال�سلع «تكتفي ب�شدّ اللجام �أكرث وحتول‬ ‫با�ستدعاءات ذاكرة طفولية‪ ،‬ف�إن �رسدية حممود الرحبي‪،‬‬
‫ب�رصها نحو ا أل�صناف وا ألنواع املعرو�ضة»‪ .‬ال ي�ستطيع‬ ‫يف ق�صته «فعل ا أل�سماء القدمية»(‪ ،)25‬تنحو منحى خمتلفا‪،‬‬
‫الراوي يف هذا ال�سياق �سوى متابعة ا ألمر «خوفا من‬ ‫يقرتب من بع�ض املالمح الغرائبية التي ي�ضفيها راويه على‬
‫عواقب �أخرى تنتج بعد ذلك عن النقا�ش» مع �أمثال ه�ؤالء‪.‬‬ ‫احلدث وعلى ال�شخ�صيات‪ .‬ف�أبو يحيى �شخ�صية ت�ستحق �أن‬
‫وكل ما ميلكه يف نهاية املطاف هو ا�ستنكاره ال�شديد‬ ‫تكون �شخ�صية روائية بحق‪ ،‬رغم ق�رص الق�صة وتكثيفها‪.‬‬
‫وتعاطفه فح�سب مع و�ضعية الطفل‪ ،‬وذلك �أ�ضعف ا إلميان‪.‬‬ ‫فبعد �أن كان يتباهى بابنه الذي كان �سببا مبا�رشا من‬
‫ورغم من ب�ساطة هذه «املوتيفة» احلكائية التي نحا بها‬ ‫�أ�سباب م�صاحلته مع العامل وتغيري ا�سمه من «تاعب»‪ ،‬بكل‬
‫راويها منحى وثائقيا �سوف يبتعد بها كثريا عن جماليات‬ ‫ما يحمله من معاين ال�شقاء والدونية‪� ،‬إىل «�أبو يحيى»‪ ،‬بكل‬
‫الق�صة الق�صرية وبالغة �رسديتها‪ ،‬فهي ق�صة بالغة الداللة‬ ‫ما ينطوي عليه اال�سم من دالالت احلياة والبقاء واحللم‪،‬‬
‫‪110‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫على �أن واقعنا العربي واقع متخم حدّ االنفجار مبا يفوق الهوام�ش‬
‫‪ -1‬املق�صود باحل�سا�سية اجلديدة‪ ،‬هنا‪ ،‬التفاف عدد من الكتابات‬ ‫«اخليايل» �أو «الغرائبي»‪ ،‬الذي يبلغ حدّ ال�سحر‪.‬‬
‫والن�صو�ص‪ ،‬يف �إطار جن�س �إبداعي ما‪ ،‬يف ثقافة ما‪ ،‬حول جملة من‬ ‫ثمة وجه ثان لهذه الغرائبية يتناوله حممود الرحبي يف‬
‫اخل�صائ�ص اجلمالية واالجتماعية والثقافية التي ي�صدرون عنها يف‬
‫كتاباتهم‪ ،‬بحيث ت�ش ّكل ر ؤ�يتهم للعامل‪ ،‬يف �إطار فهم خا�ص للفن (من‬ ‫ن�صه الطويل «درب امل�سحورة»(‪ ،)28‬حيث يقدّم لنا عاملا‬ ‫ّ‬
‫حيث املاهية وا ألداة والوظيفة)‪ ،‬ا ألمر الذي يجعل من كتاباتهم تيارا‬ ‫يقرتب من مالمح كتابة «الواقعية ال�سحرية»‪ ،‬لكنها‬
‫يعمل بقوة على تغيري مفهومي «ا إلبداع» و»التل ّقي» معا‪ .‬وهذه الظاهرة‬
‫الفتة لنظر الباحث املهتم بدرا�سة ال�رسد العماين‪ ،‬حتديدا يف ال�سنوات‬ ‫لي�ست واقعية �سحرية متعالية على الواقع املعي�ش �أبدا‪� ،‬أو‬
‫الع�رش ا ألخرية‪ .‬ويف هذا ال�سياق ميكن ت�أ ّمل ن�صو�ص كل جمموعة كبرية‬ ‫مفارقة له كلي ًة‪ ،‬بل واقعية منغم�سة يف الرتبة العمانية‬
‫من كتّاب ال�رسد العماين من اجليل اجلديد‪� :‬سليمان املعمري‪ ،‬عبد العزيز‬
‫الفار�سي‪ ،‬مازن حبيب‪ ،‬يحيى املنذري‪ ،‬حممود الرحبي‪ ،‬ب�رشى خلفان‪،‬‬ ‫حتى النخاع‪� .‬أق�صد �إىل كونها واقعية ت�ستعني مبفردات‬
‫هدى اجلهوري‪� ..،‬إلخ‪.‬‬ ‫اجلغرافيا العمانية من �أفالج ونخيل وبيوت قدمية‬
‫عن مفهوم «احل�سا�سية اجلديدة يف الكتابة امل�رصية يف ال�ستينيات»‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫�صربي حافظ‪ :‬جماليات احل�سا�سية والتغري الثقايف‪ ،‬جملة «ف�صول»‪ ،‬الهيئة‬ ‫و�صحراوات ممتدة مترح فيه الثعابني وجتوب وديانها‬
‫امل�رصية العامة للكتاب‪� ،‬سبتمرب ‪1986‬م‪.‬‬ ‫النعاج والدواب‪ ،‬وفوق كل هذا وذاك �أطفال يرتنحون‬
‫حدث موا ٍز لتحول مفهوم‬ ‫‪� -2‬إزاحة مفهوم الكتابة ملفهوم الق�صيدة ٌ‬
‫الديوان �إىل املجموعة ال�شعرية‪.‬‬ ‫ويتقافزون هنا وهناك‪ ،‬وطيور وح�رشات وزواحف‪،‬‬
‫‪ -3‬راجع �أعداد جملة «ف�صول» الثالثة عن «زمن الرواية» (�أعداد‪� :‬شتاء‬ ‫متل امل�شهد الق�ص�صي عند حممود‬ ‫وكائنات المتناهية أ‬
‫‪1993‬م‪ ،‬ربيع ‪1993‬م‪� ،‬صيف ‪1993‬م)‪ .‬وقد كنت � آنذاك �أحدث حمرّر‬
‫باملجلة ‪ -‬التي كان جابر ع�صفور ير�أ�س حتريرها ‪ -‬مع جمموعة من‬ ‫الرحبي الذي يبدو ن�صه – كغريه من ن�صو�صه ‪ -‬حمتفيا‬
‫�شباب النقاد والباحثني واملبدعني يف م�رص‪ :‬ح�سني حمودة‪ ،‬فاطمة قنديل‪،‬‬ ‫باللغة احتفاء �صوفيا ك�أنه ن�ص توثيقي‪ ،‬ف�ضال عن‬
‫حازم �شحاتة‪� ،‬صالح را�شد‪ ،‬علي عفيفي‪.‬‬
‫‪ -4‬هذه العبارة متواترة يف �أغلب ن�صو�ص باختني‪ ،‬مثل «الكلمة يف‬ ‫كونه ن�صا �إبداعيا متميزا‪ .‬ويف قلب هذا امل�شهد املحت�شد‬
‫الرواية»‪« ،‬امللحمة والرواية»‪�« ،‬شعرية دو�ستويف�سكي»‪« ،‬رابليه وعامله»‪.‬‬ ‫بت�ضاري�س البيئة العمانية‪ ،‬يكمن فعل املوت الذي يجاور‬
‫‪ -5‬جاك ديريدا‪ :‬البنية‪ ،‬العالمة‪ ،‬اللعب يف خطاب العلوم ا إلن�سانية‪ ،‬ترجمة‬
‫جابر ع�صفور‪ ،‬ف�صول‪� ،‬شتاء ‪.1993‬‬ ‫�صخب احلياة وعنفوانها‪ .‬و�إىل جوار فعل املوت‪ ،‬ت�أتي‬
‫‪ -6‬راجع‪ :‬ملحق «�رشفات»‪ ،‬جريدة عمان‪� ،‬أعداد �شهر �سبتمرب ‪ 2008‬م‪.‬‬ ‫قوة ال�سحر و»التغييب» التي �سوف نقف على حتليلها يف‬
‫ال�سمو من حيث‬‫ّ‬ ‫‪ -7‬الرتان�سندنتالية‪ :‬م�صطلح ا�ستعمله كانط مبعنى‬
‫الوجود‪ ،‬ومن حيث املعرفة �أي�ضا‪� .‬أي حني تطلق ال�صور الفكرية �إىل ما بعد‬ ‫الف�صل اخلام�س من هذا الكتاب‪.‬‬
‫التجربة‪ .‬راجع‪ :‬مراد وهبة‪ :‬املعجم الفل�سفي‪ ،‬دار الثقافة اجلديدة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫�إذن‪ ،‬ميكن القول �إجماال �إن الكتابة العمانية اجلديدة قد‬
‫‪1977‬م‪� ،‬ص‪.465 ،430 ،417 :‬‬
‫‪ -8‬راجع «�رشفات»‪� 8 ،‬أكتوبر‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫�سعت‪ ،‬بد�أب وا�ضح‪� ،‬إىل ت�شكيل جماليات مغايرة‪� ،‬سواء من‬
‫‪ -9‬راجع «�رشفات»‪� 8 ،‬أكتوبر‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪�« -10‬رشفات»‪� 22 ،‬أكتوبر‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫حيث الثيمات �أو ا أل�ساليب الفنية وتقنيات ّ‬
‫الق�ص (و�إن كان‬
‫‪�« -11‬رشفات»‪ 5 ،‬نوفمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫ا ألمر يحتاج من الباحثني �إىل درا�سات نقدية وتاريخية‬
‫‪ -12‬راجع ق�صيدة فاطمة ال�شيدي يف «�رشفات»‪ 19 ،‬نوفمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫تتابع تطور تقنيات ال�رسد العماين ب�صفة خا�صة‪ ،‬مقارنة‬
‫‪ -13‬راجع ق�صيدة بدرة الوهيبي يف «�رشفات»‪ 25 ،‬مار�س‪2009 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬راجع ق�صيدة عائ�شة ال�سيفية يف «�رشفات»‪ 4 ،‬مار�س‪2009 ،‬م‪.‬‬ ‫بني ال�سنوات الع�رش ا ألخرية من القرن الع�رشين‪ ،‬والعقد‬
‫‪�« -15‬رشفات»‪� 3 ،‬سبتمرب ‪2008‬م‪.‬‬ ‫ا ألول من ا أللفية اجلديدة)‪ ،‬ا ألمر الذي �ش ّكل ما �أ�سميناه‬
‫‪�« -16‬رشفات»‪� 3 ،‬سبتمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪�« -17‬رشفات»‪� 3 ،‬سبتمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫«ح�سا�سية جديدة»‪ ،‬نه�ضت على عدد من اال�سرتاتيجيات‬
‫‪�« -18‬رشفات»‪� 17 ،‬سبتمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫التي وقفت الدرا�سة على بع�ضها‪ ،‬هي‪� :‬شعرية التجاور‪ ،‬ال‬
‫‪�« -19‬رشفات»‪� 24 ،‬سبتمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬الطيب �صالح‪� ،‬ضو البيت‪ ،‬مريود‪ ،‬دومة ود حامد‪� ،‬سل�سلة � آفاق الكتابة‪،‬‬ ‫ا إلزاحة �أو الت�ضاد‪ .‬كتابة بقوة اليوميات‪ .‬كتابة من موقع‬
‫عدد ‪ ،36‬الهيئة العامة لق�صور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪� ،2000 ،‬ص‪.280‬‬ ‫احللم‪ .‬كتابة ت�سمو فوق �أ�رس الواقعي‪ ،‬بحثا عن غرائبية‬
‫‪�« -21‬رشفات»‪ 12 ،‬نوفمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫مت توظيف هذه الثيمة نف�سها مبهارة يف الفيلم ال�سينمائي العماين‬ ‫‪ّ -22‬‬ ‫رحبة‪ .‬كتابة تخلق عاملا افرتا�ضيا بديال‪ .‬كتابة تلفت‬
‫الق�صري «بيا�ض» الذي حاز على عدد كبري من اجلوائز املحلية والعربية‬ ‫االنتباه بقوة �إىل ق�ضايا املر�أة املعا�رصة‪ .‬كتابة ت�سعى‬
‫والدولية‪.‬‬
‫‪�« -23‬رشفات»‪ 5 ،‬نوفمرب ‪2008‬م‪.‬‬ ‫بد�أب �إىل اخلروج من هيمنة الن�ص املغلق واالرمتاء يف‬
‫‪ -24‬راجع‪�« :‬رشفات»‪ 4 ،‬مار�س‪2009 ،‬م‪.‬‬ ‫ف�ضاء الن�ص املفتوح‪� .. ،‬إلخ‪.‬‬
‫‪ -25‬راجع «�رشفات»‪ ،‬العدد‪ 18 ،‬مار�س‪2009 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -26‬راجع ق�صة يعقوب اخلنب�شي يف «�رشفات»‪ 4 ،‬دي�سمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -27‬كلمتا «ا�ستجابة» و»مثري» تذكرانني يف هذا ال�سياق بالتجربة‬
‫املعروفة لعامل النف�س ال�شهري «بافلوف» �صاحب «نظرية االرتباط ال�رشطي‬
‫الكال�سيكي»‪ ،‬حني جعل ف�أر التجربة يربط بني �صوت اجلر�س وقدوم الطعام‬
‫في�سيل لعابه مبجرد �سماع �صوت اجلر�س حتى و�إن مل ي�أتِ الطعام‪.‬‬
‫‪ -28‬راجع «درب امل�سحورة» ملحمود الرحبي يف «�رشفات»‪4 ،‬‬
‫دي�سمرب‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫لقاءات‬

‫هريتــا مولــــر‪:‬‬
‫علي م�ؤ�س�سة نوبل عدم �إدالئي ب�أي ت�صريح‪..‬‬
‫‪� l‬أخذت ّ‬
‫‪ l‬حتما‪ � ،‬أنا مبتهجة‪ ،‬لكنني ل�ست من النوع الذي يهتف‬
‫فرحا‪ .‬خا�صة‪ ،‬ال � أريد لهذه اجلائزة � أن تغريين‬

‫‪112‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هريت ــا مولر‬


‫الكتابة أ�نقذت نوبــل‬
‫(\)‬

‫ترجمة‪� :‬سعيد بوخليط‬


‫ناقد ومرتجم من املغرب‬

‫يف هذا احلوار اال�ستثنائي مع الروائية أالملانية املُتوجة بنوبل ل�سنة ‪،2009‬‬
‫تتذكر طفولتها ببلدها رومانيا وكذا عالقتها أ‬
‫بالدب‪.‬‬
‫هريتا مولر‪� ،‬صاحبة ج�سم �ضئيل‪ ،‬طائر �صغري جدا و�شاحب كثريا‪ ،‬يك�سوه ري�ش‬
‫�أ�سود حذاء‪� ،‬رسوال‪ ،‬قمي�ص تنبثق منه عينان وا�سعتان وقلقتان‪ .‬مبت�سمة‪ ،‬لكنها‬
‫م�ضطربة �إىل حد �أن كل كيانها‪ ،‬يظهر ك أ�نه ممتد على حبل‪� .‬أنا يف غاية التوتر‪،‬‬
‫تهم�س وهي تفتح باب منزلها الكبري املتواجد و�سط برلني ‪ .Berlin‬جد «مرهقة»‪،‬‬
‫بعد انق�ضاء �أ�سابيع على �إعالن فوزها بجائزة نوبل للأ دب �شهر �أكتوبر‪ ،‬بحيث‬
‫مل تعد تتحمل قط �سماع �أي تعليق بهذا ال�صدد‪ .‬قطعا‪ ،‬تلح على ا ألمر‪،‬وهي ت�سري‬
‫بخطوات متثاقلة و�سط �أر�ضية خ�شبية تلمع بطالء الربنيق‪ ،‬ولالحتفاظ بقواها‬
‫حتى تتخل�ص من و�ضع يفزعها ويخلق لديها ال�ضجر‪ ،‬قررت �إجراء حوار �صحفي‬
‫واحد‪ ،‬مع ال�صحافة الدولية‪ ،‬ال غري‪( ،‬با�ستثناء‪ ،‬ال�سويدية) قبل ت�سلمها للجائزة‬
‫مبدينة �ستوكهومل ‪.Stockholm‬‬

‫‪ w‬مولر‪ :‬الطبيعة �أف�ضل م ؤ��رش الختزال حياتنا‬


‫‪� w‬أ�صدرت عددا من املجموعات ال�شعرية واثنني وع�رشين رواية‪.‬‬
‫‪ w‬من عناوين كتبها‪:‬‬
‫[الثعلب هو قبل ذلك �صياد]‬
‫[ا إلن�سان‪ � ،‬أكرب ن�صاب على وجه ا ألر�ض]‬

‫‪113‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ترف�ض التقاط �صور لها‪ ،‬موقف يذكرها بلحظات انطباعكم حينما تلقيتم خرب ح�صولكم على‬
‫اال�ستنطاق التي � أ�رشفت عليها عنا�رص جهاز البولي�س جائزة نوبل للأدب؟‬
‫حلظتها‪ ،‬مل � أفكر يف � أي �شيء ومل � أتفوه ب�أية كلمة‪.‬‬ ‫ال�رسي الروماين «ال�سيكوريتات» ‪ � ،la securitate‬أيام‬
‫�سعادة غامرة هي تقريبا م�أ�ساة كربى‪ � :‬أعجز عن‬ ‫تواجدها برومانيا‪ ،‬فقط كلي�شيات �سلبية �أُخذت لها‬
‫علي م�ؤ�س�سة نوبل عدم‬ ‫� أثناء اللقاء ال�صحايف‪ � .‬أي�ضا‪ ،‬وهي بالكاد جال�سة‬
‫فهم ما جرى‪ .‬وقد عاتبت ّ‬
‫�إدالئي ب�أي ت�رصيح‪ .‬حتما‪ � ،‬أنا مبتهجة لكنني‬ ‫على مقعد وطيئ �صنعه ن�سيج رمادي‪ ،‬تطالب‬
‫ل�ست من النوع الذي يهتف فرحا‪ .‬خا�صة‪ ،‬ال � أريد‬ ‫الروائية ب�صوت خمتنق �شيئا ما‪ � ،‬أن ال ي�ستغرق‬
‫لهاته اجلائزة � أن تغريين‪ .‬يف رومانيا‪ ،‬جعلت‬ ‫اللقاء � أكرث من ن�صف �ساعة‪« :‬و�ضع يتناق�ض مع‬
‫اليومي خوفا من املوت‪ .‬ولكي‪ ،‬ال � أنبطح‪ ،‬حاولت‬ ‫طبيعتي‪ ،‬ف�أنا � أف�ضل � أن � أختلي بنف�سي كي � أكتب‪� .‬إن‬
‫جعل وقائع حمددة تبدو ك�أنها عادية‪ .‬ينبغي‪ � ،‬أن‬ ‫حياتي اخلا�صة وعملي‪ ،‬ل�ست يف م�ستوى التعبري‬
‫حتافظ على متا�سكك حتى ال تتحطم‪ .‬بالتايل‪ ،‬عملت‬ ‫عنهما ب�شكل � آخر»‪ .‬على امتداد املكان من حولها‪،‬‬
‫تلقائيا على ت�صنيف ا أل�شياء حقا دخل ر� أ�سي‪ ،‬بقدر‬ ‫فوق الطاوالت والكرا�سي‪ ،‬بل وخلف بع�ض ا ألثاث‪،‬‬
‫خطورة حظ كهذا‪ ،‬حدث بغتة يف م�سار حياتي‪.‬‬ ‫دبو�س‪ .‬كلمات ثم‬ ‫تنت�رش قطع ورقية تنا�سب حجم ُّ‬ ‫� أن متانة ال�صور‬
‫� أعرف املوقع الذي ن�سبته له‪� :‬إنه بجانبي‪ .‬ل�ست � أنا‬ ‫كلمات باللغة الرومانية‪ ،‬اقتطعت من جرائد‪� ،‬ستنجز‬ ‫التي ت�سكنها‬
‫من جنح‪� ،‬إنها م�ؤلفاتي‪.‬‬ ‫بها «مل�صقاتها» � أو مبعنى ثان ق�صائد‪.‬‬
‫وتالزمها‪،‬‬
‫‪ n‬داخل � أي و�سط عائلي تربيتم؟ هل كان للكتب‬ ‫ولدت هريتا مولر ‪� Herta Muller‬سنة ‪ 1953‬برومانيا‪،‬‬
‫حيزا؟‬ ‫وحتديدا منطقة ت�سمى» ‪ ،le Banat‬تت�سم بطابعها‬ ‫�ساعدت‬
‫مل يكن من وجود للكتب يف منزلنا‪ .‬تويف � أبي و� أنا‬ ‫اجلرماين‪ ،‬لذلك تكتب مولر باللغة ا ألملانية‪.‬‬ ‫الروائية على‬
‫�صغرية جدا‪ � ،‬أما � أمي فقد كانت ت�شتغل يف احلقول‬ ‫مثل � أغلب � أهل وطنها‪ ،‬الذين �سعوا �إىل الفرار من‬ ‫هزم اخلجل‬
‫طيلة اليوم‪ .‬ذلك � أن منطقتنا امل�سماة «‪ »le Banat‬عبارة‬ ‫ديكتاتورية الرئي�س ت�ساو�سي�سكو‪ ،‬فقط تركت‬ ‫وع�صبية املزاج‬
‫عن � أر�ض م�ستوية و�سهل‪ ،‬حتيط به القرى الزراعية‪.‬‬ ‫رومانيا نحو � أملانيا �سنة ‪ ،1987‬بعد � أن الحقها‬ ‫ثم اخلوف‬
‫الوحيد‪ ،‬الذي � أمتلك مكتبة‪ ،‬كان � أن � أحد � أعمامي‪،‬‬ ‫وراقبها هذا النظام املعار�ضة له لفرتة طويلة‪ .‬كل‬
‫�صاحب القناعة النازية‪ .‬مكتبة‪ ،‬احتوت بالت�أكيد‬ ‫م�رشوعها الت�أليفي جمموعات �شعرية‪ 22 ،‬رواية‬
‫على خمتلف م�ؤلفات الفكر النازي‪ ،‬فقد ات�صف‬ ‫ُترجمت منها حتى ا آلن ثالثة ن�صو�ص �إىل الفرن�سية‬
‫بكونه �إيديولوجيا قرويا جمنونا‪ .‬حينما مات يف‬ ‫و�ست�صدر غاليمار ‪ Gallimard‬العمل املقبل �شهر � أكتوبر‬
‫«�ساحة القتال» �سنة ‪ ،1945‬وو�صل الرو�س الذين‬ ‫‪ 2010‬ينطوي على خا�صية ا�ضطهاد «حطمها» كما‬
‫اقرتفوا كل � أنواع الفظاعة داخل قريتنا‪ ،‬حتولت‬ ‫تقول‪.‬‬
‫جدتي �إىل كائن مرعوب‪ � .‬أ�سا ؤ�وا التقدير‪ ،‬كي مييزوا‬ ‫عناوين مثل‪[ :‬الثعلب هو قبل ذلك �صياد] (�سوي‬
‫املورطة من غريها‪ ،‬ف�ألقوا بها كلها يف‬ ‫ِّ‬ ‫بني الكتب‬ ‫‪ [ ،])1990‬ا إلن�سان‪ � ،‬أكرب ن�صاب على وجه ا ألر�ض‬
‫موقد‪ ،‬مما منحهم �إمكانية التدف�ؤ فرتة يومني‪ .‬لقد‬ ‫(فوليو)]‪[ ،‬الدعوة‪( ،‬ميتيلي‪ .])2001‬م�ؤلفات‬
‫ع�شنا‪ ،‬رعبا �شديدا‪.‬‬ ‫غريبة وجميلة‪ ،‬حيث يكت�سي معها الو�صف الغارق‬
‫‪ n‬ا�صطدمتم مع البولي�س ال�رسي الروماين‪ ،‬قبل‬ ‫يف النرثية م�سالك عجيبة توحي بطريقة خارقة‬
‫بداية م�رشوعكم ا إل�صداري‪ ،‬بحيث طلب منكم‪،‬‬ ‫ويقوم على قوة ا�ستح�ضار زخم لغة فاتنة‪ ،‬تعرب‬
‫تزويده مبعلومات عن � أن�شطة بع�ض � أ�صدقائكم‬ ‫� أحيانا عن �شتى م�ضامينها كتابة � أو �شفهيا‪ .‬كما‪،‬‬
‫املثقفني يف منطقتكم «‪ ،»le Banat‬لذلك طردمت من‬ ‫لو � أن متانة ال�صور التي ت�سكنها وتالزمها‪�،‬ساعدت‬
‫امل�صنع الذي ت�شتغلون فيه‪ .‬هل‪� ،‬شكلت الكتابة‬ ‫الروائية على هزم اخلجل وع�صبية املزاج ثم اخلوف‪.‬‬
‫منذ البداية‪� ،‬صيغة للمقاومة؟‬ ‫� أي�ضا ينبغي على الكلمات قطعا اكت�ساح امليدان‪،‬‬
‫حلظة التعليم الثانوي‪ ،‬و� أنا يف �سن املراهقة‬ ‫يف مواجهة املوت‪ .‬نتيجة لكل ذلك‪ ،‬ا�ستغرق احلوار‬
‫والفتوة‪ ،‬كتبت جمموعة ق�صائد‪ ،‬لكن ذات يوم قلت‬ ‫� أخريا‪� ،‬ساعتني ون�صف‪.‬‬
‫لنف�سي‪« :‬هذا يكفي‪ ،‬كل العامل ب�إمكانه � أن يفعل ما‬ ‫‪ n‬ال�سيدة هريتا مولر ‪ ،Herta Muller‬ما هو � أول‬
‫‪114‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫� أقوم به»‪ .‬ثم توقفت‪ .‬ومل � أعاود ا ألمر‪� ،‬إال بعد مرور‬
‫� أو بيرت هاندك ‪ Peter Handk‬يف بداياته قبل � أن ي�صبح‬
‫�سيا�سيا ال ُيحتمل‪ .‬لقد ابتغيت‪ � ،‬أن � أعي�ش بطريقة‬ ‫فرتة طويلة‪ .‬لكن بني الزمانني‪ � ،‬أ�صبحت واحدة من‬
‫جتيز يل �صداقة ه�ؤالء ا أل�شخا�ص على الرغم من‬ ‫مريدي حلقة املثقفني امل�سماة � آنذاك بـ‪l،Aktions :‬‬

‫موتهم � أو � أنني مل � ألتقيهم � أبدا‪�.‬شكل‪ ،‬هذا دعما يل‪،‬‬


‫‪ � .gruppe‬أدركت‪ ،‬معهم‪ � ،‬أنه بو�سعي متثل ماهيتي‬
‫بحيث راهنت على ا�ست�ساغتهم ملا � أكتب‪.‬لذا‪ � ،‬أ�س�ألهم‬
‫احلقيقية‪ .‬فكل ما بدا يل جوهريا يف احلياة و�سعيت‬
‫ذهنيا‪« :‬كيف ا ألمر‪ � ،‬أهو جيد؟»‪.‬‬
‫علي‪ .‬احتقرت من كاف�أتهم‬ ‫وراءه‪ ،‬كان حمظورا ّ‬
‫الدولة‪ ،‬حيث النظام عبثي ي�شتغل بكيفية مقلوبة‪ n .‬جزء كبري من كتبكم‪ ،‬ي�صف رمزيا تقريبا‪،‬‬
‫هكذا‪ ،‬ل�ست � أنت من حتدد نف�سك كمن�شق‪ ،‬بل النظام الديكتاتورية‪ ،‬االعتقال‪ ،‬الركود‪ ،‬معطيات‬
‫هو من ي�صنفك ويختار لك هاته ال�صفة‪ ،‬فت�صري ارتبطت با ألنظمة ال�شمولية‪ .‬املثري � أي�ضا لديكم‪،‬‬
‫قوة االنتظار؟‬ ‫كذلك‪.‬‬
‫‪ n‬خالل � أي فرتة ُعمرية بد� أمت الكتابة جديا‪ ،‬وما ننتظر دائما �شيئا ما‪ .‬حينما تكون حياتنا قابلة‬
‫للتحمل‪ ،‬ال ن�أخذ ذلك بعني االعتبار‪ ،‬لكن مع‬ ‫هو الدافع؟‬
‫خارج ق�صائد ال�شباب‪ ،‬مل � أتوخ الكتابة قط‪ .‬و�إذا الو�ضع النقي�ض نعرف جيدا ما ننتظره‪ .‬يف ظل‬
‫ينبغي على‬ ‫كتبت فلأ ين ُطردت يوما ما من املعمل‪� ،‬إنها و�سيلة �سلطة الديكتاتور‪ ،‬نرتقب كل يوم موت الديكتاتور‪.‬‬
‫الكلمات‬ ‫لت�أكيد ح�ضوري الذاتي‪ ،‬لكنني مل � أعترب ذلك � أدبا‪� .‬إنها ظاهرة جماعية‪ ،‬من هنا تكاثر ا إل�شاعات حول‬
‫قطعا اكت�ساح‬ ‫مر�ض الديكتاتور‪.‬‬ ‫ابتد� أت‪ ،‬بتدوين � أ�شياء كثرية‪ ،‬وقلت مع نف�سي‪:‬‬
‫امليدان‪،‬‬ ‫�إذا ت�أتى يل �صياغتها يف قالب‪ ،‬فهذا يدل على � أين ‪� n‬شخ�صيات � أعمالكم‪ ،‬ت�شعر باخلوف‪� .‬إننا‬
‫يف مواجهة‬ ‫� أفكر‪ � .‬أي�ضا‪ � ،‬أ�صدقائي �شجعوين‪ ،‬وكانت النتيجة نتبيّنه‪ ،‬بل ينفذ عرب الهواء الذي يتنف�سونه‪ ،‬هل‬
‫املوت‬ ‫� أول عناوين كتبي‪ ،]Niederungen[ :‬ان�صب مو�ضوعه عانيتم من ذلك؟‬
‫ا أل�سا�سي على قريتي «‪ »le Banat‬وركودها‪ ،‬حيث نعم‪ ،‬لقد هيمن الفزع يف كل مكان‪ ،‬مقابل غياب ألي‬
‫�شيء � آخر‪ .‬عندما يهددونك باملوت‪ ،‬ويند�سون �إىل‬ ‫ت�شبه علبة كل �شيء فيها جامد وال يتغري‪.‬‬
‫‪ n‬ما �إن ظهر كتابكم ا ألول‪ ،‬حتى تعر�ضتم منزلك � أثناء غيابك‪ ،‬يقوم لديك االنطباع بقدرتهم‬
‫للرقابة‪ ،‬ما الذي منحكم القوة كي توا�صلون على مالحقتك � أينما تواجدت‪ ،‬بالتايل عجزك‬
‫على حماية نف�سك‪ ،‬هكذا ت�ضيع � أحيانا ال�شخ�صية‬ ‫العمل؟‬
‫عندما �صدر الكتاب‪ ،‬قالوا يل ب�أين � أب�صق يف واحلميمية‪ .‬حاولت �إقناع نف�سي‪ ،‬ب�أن ال�سائد هو‬
‫احل�ساء‪ .‬على امتداد قرون‪ ،‬ف�إن ا ألدب الوحيد الذي املعيار‪ ،‬لكن ذلك �سينتهي �إىل الق�ضاء على املرء‪:‬‬
‫ا� أقرته هاته القبيلة اجلرمانية‪ ،‬حمل ت�سمية‪� Heim« :‬ستتحمل الو�ضع لفرتة ما ثم تنهار‪ .‬ا ألكرث هلعا‪،‬‬
‫‪ � »matliteratur‬أي النرث املحلي والوطني‪ ،‬ومينع توجيه �شعورك بال�ضعف‪ .‬يف �إطار هاته ال�رشوط‪ ،‬لي�س من‬
‫ر ؤ�ية نقدية حول � أ�صوله‪ .‬فج�أة‪ ،‬انف�صلت حقا عن جدوى مل�شاعر احلب‪ ،‬ال�صداقة واملحبة‪ .‬حينما‪،‬‬
‫اجلماعة‪ .‬هكذا‪ ،‬عندما عدت للقرية كي � أزور � أمي‪ُ ،‬ت�ستنزف معنويا‪ ،‬ي�ستحيل � أن حتتفظ بتلك العالقات‬
‫وجه �إيل النا�س خمتلف ال�شتائم‪ � .‬أما � أمي‪ ،‬فقد �سليمة مع الآخرين‪.‬‬
‫ا�ستنكروا العمل بجانبها يف احلقول‪ .‬احلالق بدوره‪ n ،‬يف م� ؤلفكم ا ألخري املعنون بـ‪،Atemschaukel :‬‬
‫رف�ض �شذب حلية � أبي‪ .‬مل � أوا�صل الكتابة لدواعي والذي �سيرتجم قريبا �إىل الفرن�سية‪ ،‬ا�ستح�رضمت‬
‫قوة ما‪ ،‬لكني فقط اكت�شفت � أنها منحتني �صيغة تاريخ � أو�سكار با�ستيور ‪� ،Oskar Pastior‬شاعر �صديق‬
‫للتما�سك الداخلي‪ ،‬وميكنها � أن تدعم وعيي بذاتي‪� .‬إليكم‪ ،‬اقتيد �إىل معتقل للأ�شغال ب�أوكرانيا وقد‬
‫� أ�سا�سا‪ ،‬رمبا عدم امتالكي للقوة‪ ،‬دفعني لكي � أكتب‪ .‬روى لكم ب�إ�سهاب حكايته‪ .‬تنطلقون من � أ�شياء‪،‬‬
‫� آمنت حلظتها‪ ،‬ب�أن الكتابة مفتاح يحق لنا الت�شبت كي تر�سمون ثانية التجربة االعتقالية‪ .‬ملاذا‬
‫به‪ ،‬حتى ولو � أدركت � أن وقائع احلياة �ستبقى على هذا االختيار؟‬
‫حالها‪ .‬هناك‪ ،‬كتابات جتيز ذلك‪ ،‬مثل ما � أجنزه بول ا أل�شياء مهمة جدا ! خا�صة حينما ال نتوفر على � أي‬
‫�سيالن ‪ ،Paul Celan‬توما�س برينرهارد ‪� thomas Bernhard‬شيء‪ ،‬ونحن نت�سكع يف العامل بحقيبة جد �صغرية‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والعراء �شكل �إثما‪ � .‬أعتقد‪ � ،‬أن الطبيعة � أف�ضل م�ؤ�رش‬ ‫داخل معتقل‪ ،‬ت�سود فيه ال�سيطرة الع�سكرية‪ ،‬نتحول‬
‫الختزال حياتنا‪ :‬جل املواد الطبيعية‪ ،‬تعاود الكرّة‬ ‫من � أفراد �إىل � أرقام‪ .‬واحلال � أنه‪ ،‬بقدر ما منلك‬
‫مع ف�صول كل �سنة‪� ،‬إال ج�سدنا فلن يعود � أبدا‪ ،‬فقد‬ ‫ا أل�شياء ب�شكل � أقل‪ ،‬نحدد املو�ضوعات � أكرث‪ .‬العمل‪.‬‬
‫منحه اهلل لنا خالل زمان معني ويطلب منا ت�سليمه‬ ‫بدوره ي�صري واحدا‪ ،‬حتى املواد التي ن�شتغل بها‪،‬‬
‫�إياه ثانية‪ � .‬أترون‪ ،‬انعدمت لدي م�ؤلفات حكائية‪،‬‬ ‫احلجر � أو الفحم‪ُ .‬تغت�صب ذواتنا‪ ،‬ثم يلزمنا � أن نتحدد‬
‫ف�أن�ش�أتها بنف�سي‪.‬‬ ‫ثانية‪ .‬ا أل�شياء ت�سمح بذلك‪ .‬يت�أتى لنا ت�شخي�صها‬
‫‪ n‬املوت قائم با�ستمرار بني طيات � أقوالكم‪...‬؟‬ ‫كي منو�ضع ذواتنا‪ � .‬أول‪ ،‬ما ت�صدمنا به و�ضعية‬
‫نعم‪ ،‬املوت هنا وقد � أخافتني على الدوام‪ � .‬أثناء‬ ‫القهر‪ ،‬تكمن يف هذا اال�ستعباد املطلق‪� .‬إبان حكم‬
‫طفولتي‪ ،‬ت�ساءلت على الدوام‪« :‬هل �س�أموت للتو؟»‪.‬‬ ‫النازيني‪ ،‬كان ينبغي على اليهود الرحيل والتخلي‬
‫كلما‪� ،‬سقطت دودة على كتفي‪ .‬املوت مهولة‪ ،‬قد‬ ‫عن كل �شيء‪ .‬يجب � أن نت�صور داللة الو�ضع‪ ،‬مبعنى‬
‫تفتك بك متى � أرادت‪.‬‬ ‫� أن تلقى يف العامل دون حماية ما‪ .‬فا أل�شياء حتمينا‬
‫‪ n‬ابتعدمت كثريا عن الواقعية‪ ،‬باملعنى‬ ‫ربرة � أكرث‪ .‬كما‪ ،‬تنفرد بخا�صية‬‫وجتعل حياتنا ُم ّ‬
‫املعتاد للمفهوم‪ .‬اختيار الق�صيدة واملتخيَّل بل‬ ‫كونها جتعلنا ن�صمد‪ .‬ت�أملوا‪ ،‬ركام النظارات‬
‫العجائبي � أحيانا‪ .‬هل‪ ،‬هي طريقة لالقرتاب من‬ ‫وا ألحذية التي عرثنا عليها يف املعتقل النازي‬
‫احلقيقة؟‬ ‫«‪ .»Auschwitz‬هذا القدح املتمو�ضع فوق الطاولة‪ ،‬قد‬
‫ال � أعرف ما هي احلقيقة‪ � ،‬أو با ألحرى � أفهمها كما‬ ‫ي�ستمر لفرتة طويلة قيا�سا لعمرنا‪� ،‬رشيطة � أن ال‬
‫تتجلى يف احلياة اليومية‪ � :‬أن تعرف‪� ،‬إذا كان �شخ�ص‬ ‫يك�رسه �شخ�ص ما‪ � .‬أفق‪� ،‬صغري للأ بدية‪ .‬هذا يرعبني‬
‫ما‪ ،‬يكذب عليك � أو يقول احلقيقة‪ � .‬أمقت‪ ،‬الكذب‬ ‫ن�سبيا‪ ،‬من ناحية � أخرى‪ � .‬أحيانا‪ ،‬تغمرين ال�سعادة‬
‫واخليانة واخلداع‪ ،‬مبعنى كل ما يتعار�ض مع‬ ‫حينما يتك�رس ال�شيء‪ :‬نحتاج قليال �إىل التباري يف‬
‫احلقيقة‪ .‬فيما يتعلق با ألدب‪ ،‬تنبني احلقيقة عرب‬ ‫هاته احلياة !‬
‫كل ا ألجزاء‪� ،‬إنه خيال يقودنا �إىل � أثره‪ .‬حني‪ ،‬نكتب‬ ‫‪ n‬ح�ضور الطبيعة ثابت يف ن�صو�صكم‪ ،‬مبا‬
‫نعرث على � أ�شياء‪ ،‬مل يدركها اليومي بعد ثم ت�صري‬ ‫فيها تلك التي توظف املدينة كف�ضاء لها‪ ،‬مثلما‬
‫حقيقة‪ ،‬فالكتابة تنه�ض على قواعدها اخلا�صة‬ ‫ال�ش�أن مع عملكم‪ .]La convocation[ :‬ما هي � أهمية‬
‫امل�صطنعة‪ .‬غري � أن‪ ،‬احلياة ت�سخر من الكتابة‪ ،‬ول�سنا‬ ‫الطبيعة لديكم‪ ،‬وملاذا متنحونها و�صفا كهذا؟‬
‫يف حاجة للعي�ش كي نكتب‪� .‬إنه متثيل �إميائي‪ :‬ن�ؤ�س�س‬ ‫ال�سيما ال�سماء‪� ،‬إنها عن�رص رئي�سي‪.‬‬
‫حقيقة‪ ،‬ونكت�شف بها ممكنات � أخرى غري متوقعة‪.‬‬ ‫� أنا طفلة قروية‪ ،‬وحيدة‪ � :‬أي�ضا‪ ،‬ع�شت دائما يف‬
‫تكمن املفارقة‪ ،‬يف � أن كنه اخليال � أف�ضل ما يتطابق‬ ‫عزلة مع املناظر الطبيعية‪ ،‬من حقل �إىل حقل‪،‬‬
‫مع حقيقة كهاته‪� .‬شيء غريب لكنه جميل‪ ،‬وهو ما‬ ‫� أرعى ا ألبقار‪ .‬يف تلك احلقبة‪ ،‬مل تكن لدي كلمات‬
‫حتمل الكتابة‪ ،‬ألنني ال � أحب � أن‬
‫مينحني �إمكانية ّ‬ ‫كي � أعرب عن � أحا�سي�سي‪ ،‬وجدت املنظر الطبيعي‬
‫� أكتب‪ ،‬لي�س لدي ثقة يف اللغة‪.‬‬ ‫ُمهدِّدا‪ ،‬ف�أقول مع نف�سي‪� :‬سيبتلعنا‪ .‬يغدينا‪ ،‬لكنني‬
‫‪ n‬ما �سبب هذا االرتياب �إزاء اللغة؟‬ ‫�شاهدت � أي�ضا كيف مات النا�س حتت � أقدامه‪.‬‬
‫وملاذا االطمئنان �إليها؟ فاللغة جمرد انعكا�س ملن‬ ‫نقتات من الطبيعة‪ ،‬ويف يوم من ا أليام �ستفرت�سنا‪.‬‬
‫يتكلمها‪ .‬وبقدر حقيقتها تلك‪ ،‬فهي ال �شيء‪ ،‬لكن‬ ‫داخل جوف ا ألر�ض‪� ،‬سنتحول �إىل نباتات‪ ،‬نوع‬
‫بو�سعنا � أن نخلق بها � أي �شيء‪ .‬لقد عانينا جميعا‬ ‫من اال�ستمرارية‪ .‬تقول العقيدة امل�سيحية‪« :‬اهلل يف‬
‫من هذا الو�ضع فرتة الديكتاتورية‪ :‬ج�سدت اللغة‪،‬‬ ‫كل مكان»‪ .‬حقا‪� ،‬إنه ا ألول! فهو يحيط مبا ن�صنعه‪.‬‬
‫� أف�ضل و�سيلة خلداع العامل‪ .‬حني ت�صمت‪ ،‬ي�صعب‬ ‫وتقريبا كل �شيء خطيئة‪� .‬شخ�صيا‪ ،‬مل � أكن � أبدا عند‬
‫عليك � أن تكذب‪ .‬بالتايل‪ ،‬يتم االرتياب يف ال�صمت‬ ‫امل�ستوى املطلوب‪ .‬على امتداد الطبيعة‪ ،‬تعلو ال�سماء‬
‫� أكرث من الكذب‪.‬‬ ‫احلرة فوق ر� أ�سي‪ ،‬بالتايل يراقبني اهلل‪ .‬و� أنا وحيدة‬
‫‪ n‬ثقل الكلمات وكذا ح�ضور لغة اخل�شب كما‬ ‫برفقة � أبقاري‪ ،‬كان بو�سعي � أن � أخلع ثيابي و� أ�سبح‬
‫يعرب عنها النظام ال�سيا�سي‪ ،‬يربزان دائما يف‬ ‫يف النهر (الدانوب)‪ ،‬لكني مل � أفعل‪ ،‬فاهلل ي�شاهدين‪،‬‬
‫‪116‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كتاباتكم‪�ُ .‬شيِّد �إنتاجكم عرب الت�سلل �إىل لغات �سلفا‪ .‬يدخل يف هذا ا إلطار � أي�ضا‪ ،‬ح�ساب � أردت‬
‫خمتلفة مثل ا ألملانية � أو الرومانية كلغة ت�صفيته مع اللغة الرومانية‪ ،‬فقد عجزت عن الكتابة‬
‫بها‪ ،‬لكن عن طريق تلك العملية عدت قادرة و� أردت‬ ‫ر�سمية؟‬
‫لغة اخل�شب � أ�شعرتني بتقزز حقيقي‪ .‬وجدت هوة‪ ،‬تقدمي دليل هذا التحقق‪.‬‬
‫بني اخلطابات التي تدعي التقدم و�سعادة ال�شعب‪ n ،‬املنفى‪ ،‬االجتثات‪ ،‬الرحيل‪ ،‬حا�رضة جدا يف‬
‫ثم ا ألفراد ونحن نالحظ كيف يتحطمون ! ينتابني عملكم‪ ،‬كيف تعاي�شتم منذ ‪ ،1987‬مع �إقامتكم‬
‫ااجلنون عندما � أقر� أ كتاب فيكتور كليمبريير ‪ Vict‬ب�أملانيا الغربية؟ هل � أثر الو�ضع على كتابتكم؟‬
‫‪ tor Klemperer‬عن لغة الرايخ الثالث‪ � ،‬أدركت ب�أن ما هو � أ�سا�سي‪� ،‬إح�سا�سي ب�أنني جنوت‪ .‬انتهت‬
‫ال�شخ�صيات الديكتاتورية توظف دائما نف�س خ�شيتي من القتل‪ ،‬على الرغم من ا�ستمرار تهديدات‬
‫اال�سرتاتيجية‪ ،‬خمتلف الكلمات التي ي�ستعملونها بولي�س ال�سيكوريتات ‪ .La securitate‬قلت لنف�سي‪« :‬لقد‬
‫بال قيمة‪ ،‬يهدفون فقط �إىل الت�ضليل‪ ،‬هكذا توخيت رحلت‪ � ،‬أنا بعيدة الآن»‪ ،‬مما غري طريقتي على‬
‫� أن ال تخرتقني لغتهم وهو ما � أحاوله � أي�ضا راهنا م�ستوى الكتابة‪ .‬يف رومانيا �ساد اخلوف من ا إلقدام‬
‫يف مواجهة ا إل�شهار‪ � :‬أبذل قدر امل�ستطاع كي ال على اقتحام املنازل وتفتي�شها‪ ،‬بالتايل ا�ستلزم‬
‫ل�ست‬ ‫ا ألمر �إخفاء كل �شيء‪ � ،‬أما هنا ال حاجة لذلك‪ .‬لي�ست‪،‬‬ ‫� أنقاد وراءه‪.‬‬
‫� أنا من‬ ‫‪ n‬لغتكم اخلا�صة‪ � ،‬ألي�ست يف نهاية املطاف‪ ،‬امل�سافة وحدها‪ ،‬هي التي تبدّل ا أل�شياء‪ ،‬بل الزمان‪:‬‬
‫جنح‪،‬‬ ‫مت�رشدة‪ ،‬خلقت حيزها الذاتي وهي تن�ساب بني بقدر ما نبتعد زمانيا‪ ،‬ف�إن امل�سافة اجلغرافية ال‬
‫�إنها‬ ‫تعمل �إال على م�ضاعفة ا إلبعاد الزماين‪ .‬جل الوقائع‬ ‫الثقافات؟‬
‫يف قريتي اجلميع يتكلم ا ألملانية‪ ،‬غري الطبيب التي نحياها‪ ،‬ت�أخذ داللة خمتلفة حينما نبلغ‬
‫م� ؤلفاتي‬ ‫وال�رشطي‪� .‬شخ�صيتان‪ ،‬نف�ضل � أن ال تكون لنا �صلة ال�شيخوخة‪ ،‬بحيث ننظر �إليها ب�شكل مغاير‪ .‬كل ما‬
‫بهما‪ .‬تعلمت اللغة الرومانية يف �سن اخلام�سة ع�رش له قيمة يف احلياة‪ ،‬يتغري جمراه‪ � .‬أ�شياء هائلة ت�صري‬
‫جراء قراءتي للكتب‪ ،‬فوقفت على جمالية �صيغها �صغرية‪ ،‬كذلك الذات‪ ،‬تتمو�ضع بكيفية � أخرى‪ .‬بهذا‬
‫وعباراتها ال�شعرية وتبني يل مدى ان�سجامها مع ال�صدد‪ ،‬مل يبدِّل الرحيل � أي �شيء‪ .‬هو ا ألفق ذاته‪،‬‬
‫مزاجي قيا�سا للأ ملانية‪ .‬مثال‪ � ،‬أ�سماء النباتات حتى لو بقيت يف رومانيا‪.‬‬
‫ونوعية ا أل�شياء‪ :‬زهرة الزنبق‪ ،‬ت�ؤنثها اللغة ‪ n‬هل من و�سيلة للت�صالح مع املا�ضي؟‬
‫ا ألملانية‪ ،‬لكنها ذكورية يف الرومانية‪ ،‬ا ألمر ينطبق الذكريات؟ � أهي الكتابة؟‬
‫كذلك على الورد‪ .‬فيما بعد‪ ،‬تكونت لدي �صورة ال � أحتاج �إىل اطمئنان داخلي‪ ،‬بل � أجهل معناها‪ .‬وال‬
‫خمتلفة عن املعطيات و�صار للنباتات وجه � آخر‪� .‬شخ�ص ميكنه ذلك‪ .‬جميعنا ينطوي على � أحا�سي�س‬
‫كل �شيء ميتلك منحيني‪ ،‬فهم تر�سخ يف دماغي‪ .‬تت�أرجح حدتها‪ ،‬كما � أنها تنزاح وتتحول‪ .‬يظهر يل‪،‬‬
‫لذلك حلظة الكتابة‪ ،‬حت�رض ال�صورة الرومانية خلف االطمئنان الداخلي عقيم وم�ضجر‪ ،‬ثم �إين ال � أت�صارع‬
‫مع ذاتي‪ ،‬ف�أ�صل م�شاكلي ينبعث من الرباين‪.‬‬ ‫الكلمة ا ألملانية‪ .‬ا إلثنان‪ ،‬مرتابطان‪.‬‬
‫‪ n‬عملكم ا ألول باللغة الرومانية‪� ،‬صدر مت�أخرا ‪ n‬هي �إذن ق�صة حب بينكم ورومانيا‪ ،‬ميزتها‬
‫وحتديدا �سنة ‪ ،2005‬فلماذا هذا االنتقال �إىل نهاية �سيئة؟‬
‫ال‪ ،‬لي�س الت�صور كذلك‪ ،‬لقد حطموين هناك‪ .‬لو مكثت‬ ‫الرومانية عرب بوابة الق�صيدة؟‬
‫و� أمكنني � أن � أعاين ما حدث بعد �سقوط جدار برلني‪،‬‬ ‫كنت يف رومانيا‪ ،‬وا�ضطررت �إىل ال�سفر على منت‬
‫أل�صابني اجلنون‪ .‬عندما و�صلت �إىل � أملانيا‪ ،‬عجزت‬ ‫القطار‪ ،‬ألن � أو�سكار با�ستيور ‪ � Oskar pastior‬أراد � أخدي‬
‫عن الف�صل بني ال�ضحك والدموع‪ .‬عانيت من � أق�صى‬ ‫�إىل بيت والديه‪ � .‬أحد ا أل�صدقاء‪ ،‬حمل لنا حفنة‬
‫حاالت القلق‪� .‬ضياع‪ ،‬ل�ست معتادة على قول ذلك‪،‬‬ ‫جرائد عملنا على تقليب �صفحاتها بغاية الت�سلية‪.‬‬
‫لكني منهارة‪ � ،‬أدرك ا ألمر‪.‬‬ ‫وحينما عدت �إىل برلني ‪� ،Berlin‬رشعت يف تقطيعها‬
‫هام�ش‬ ‫واال�ستئنا�س بلعبة ل�صق الكلمات‪ ،‬ثم جنحت اخلطة‪.‬‬
‫‪.le Monde: 4 décembre 2009, Page9‬‬ ‫\‪-‬‬ ‫�إنه منوذج‪ ،‬للكتابة انطالقا من كلمات موجودة‬
‫‪117‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هالل احلجري‬
‫حول ا ألدب وتلك اجلبال التي كانت‬
‫�أغذية للن�سور‬
‫حاوره‪ :‬ح�سن املطرو�شي‬
‫�شاعر من ُعمان‬

‫بهدوئه و�صمته يثري عوا�صف العامل‪،‬‬


‫ويقلق �سكينة ا أل�شجار والغابات الهاجعة‬
‫يف ا ألقا�صي‪ ..‬لق�صيدته وداعة البحريات‬
‫النائية‪ ،‬واخ�رضار احللم يف �صدور الزهاد‬
‫وا ألطفال‪ ..‬وكالنا�سك يقرع بوابة املجهول‬
‫لتنفجر ينابيع الق�صيدة وتنطلق احلمائم‬
‫وا ألعرا�س وا ألغاريد يف ف�ضاء الكون‪..‬‬
‫بحزنه يحفر �صخور الغيب‪ ،‬ويجتاز‬
‫�صحارى الغياب حامال �أوراقه وحدها يف‬
‫وجه الريح‪ ،‬لري�سم عنفوان اجلبل وتطلعات‬
‫ال�شاعر ورغبات الذات يف رحلة احلياة‬
‫الوعرة‪� ..‬إنه ال�شاعر وا ألكادميي واملرتجم‬
‫العماين الدكتور هالل احلجري الذي �صدر له جمموعة �شعرية بعنوان (هذا الليل‬
‫يل) و(العرو�ض املغنى م�رشوع جديد لتدري�س ا ألوزان ال�شعرية) �إىل جانب �إ�صدار‬
‫باللغة ا إلجنليزية بعنوان (�إعادة النظر يف اال�ست�رشاق‪� :‬أدب الرحالت الربيطانية‬
‫يف عمان)‪ ،‬با إل�ضافة �إىل م�شاركاته العديدة يف املهرجانات واملنا�شط الثقافية‬
‫داخل ال�سلطنة وخارجها‪..‬‬
‫‪ w‬حني � أنظر �إىل جبل يف ُعمان‪ ،‬يغمرين �إح�سا�س بال�سمو‪ ،‬وا ألمن‪،‬‬
‫والهيبة‪ .‬ويف حلظات ما � أتخيل � أن هذه اجلبال كانت يف ا ألزمان‬
‫ال�سحيقة غذاء للن�سور‪ ،‬تنقبها من قممها‪ ،‬ولذلك جاءت مقطمة‬
‫من � أطرافها كقطع من الكعك‪.‬‬

‫‪118‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والنخيل‪ ،‬واجلبال‪ ،‬واملدر‪ .‬وكنت يف خطوات ال�صبا‬ ‫ن�ست�ضيف الدكتور هالل احلجري يف هذا احلوار‬
‫�أذرع هذه ا أللوان بحرية مطلقة‪ .‬وال �أ�ستطيع ا آلن �أن‬ ‫الذي يتحدث من خالله عن ر ؤ�اه وجتربته وذكرياته‬
‫�أجزم ب�أن واحدا منها دون ا آلخر كان له الت�أثري ا ألعظم‬ ‫طفال ويافعا ومغرتبا وغريبا و�شاعرا‪� ،‬إىل غري‬
‫على جتربتي ال�شعرية‪� .‬صحيح �أن ال�صحراء حا�رضة‬ ‫ذلك من ا ألوراق التي يخرجها هالل احلجري من‬
‫بقوة يف بع�ض الق�صائد‪ .‬و�صحيح �أين يف طفولتي‬ ‫حقيبته للمرة ا ألوىل‪...‬‬
‫وملت جيوبي بالرمل‪ .‬و�صحيح‬ ‫تقلبت على الكثبان أ‬ ‫‪ uu‬ثمة ظالل لطفولة غام�ضة تلوح يف ق�صيدتك‪..‬‬
‫�أين على م�ستوى االهتمام والبحث �أنحاز �إىل ال�صحراء‬ ‫طفولة تت�شكل يف ف�ضاء الذكرى واحلزن‪ ..‬هل لك �أن‬
‫بثيماتها املختلفة‪ ،‬وقد قمت برتجمة ن�صو�ص عديدة‬ ‫تر�سم مالمح هذه الطفولة على نحو �أكرث و�ضوحا؟‬
‫من ا ألدب ا إلجنليزي مت�س الربع اخلايل خ�صو�صا على‬ ‫طفولتي ا ألوىل احلقيقية كانت رائعة‪ ،‬ت�شكلت يف ف�ضاء‬
‫م�ستوى ال�شعر‪ ،‬والرواية‪ ،‬و�أدب الرحالت‪ .‬و�صحيح‬ ‫من احلرية ال �أملكها يف طفولتي املت�أخرة! طفولة ما‬
‫�أي�ضا �أين �أ�شعر ا آلن يف هذه املرحلة ب�رضورة �إغراق‬ ‫كانت تعني �أكرث من اللعب منذ بزوغ الفجر يف القرية‬
‫الكون يف عباب الربع اخلايل لتطهريه من ا ألحقاد‬ ‫حتى م�أوى الطيور �إىل �أع�شا�شها‪ .‬كنت و�أترابي يف تلك‬
‫وال�رصاعات‪ .‬ولكن مع ذلك‪ ،‬تده�شني �أي�ضا جبال‬ ‫املرحلة نهيمن على معاهد الفرح بكل �ألوانها‪...‬نت�سابق‬
‫الن يف‬‫�أ�شعر آ‬ ‫عمان ب�ألوانها وتكويناتها املختلفة‪ ،‬خا�صة اجلبل‬ ‫على جذوع النخل �صعودا �إىل القمم‪...‬نهوي بدراجاتنا‬
‫هذه املرحلة‬ ‫ا ألخ�رض‪ ،‬ب�سحره‪ ،‬ومغيباته‪ ،‬وعنفوانه‪ ،‬وبنت كرومه‪،‬‬ ‫الهوائية عرب املنحدرات ال�سحيقة‪...‬نغو�ص يف ا ألفالج‬
‫ب�ضرورة �إغراق‬ ‫وتاريخه‪ ،‬ورعيانه‪ .‬و�أرى �أن هذه اجلبال العظيمة‬ ‫حتديا بطول ا ألنفا�س‪...‬نتزحلق على الرمال ب�صدورنا‬
‫الكون يف عباب‬ ‫حتفظ للمكان توازنه‪ ،‬و�أ�شعر �أن العمانيني ي�ستمدون‬ ‫العارية‪...‬نخطف الزغاليل من �أوكارها يف اخلرائب‬
‫خلودهم وثباتهم منها‪ .‬حني �أنظر �إىل جبل يف عمان‪،‬‬ ‫والقالع‪...‬ن�صطاد اجلراد على مواقد النريان‪...‬نت�سلق‬
‫الربع اخلايل‬ ‫يغمرين �إح�سا�س بال�سمو‪ ،‬وا ألمن‪ ،‬والهيبة‪ .‬ويف حلظات‬ ‫�أ�شجار املاجنو يف َح ّمارة القيظ‪...‬منتطي احلمري ال�ضالة‬
‫لتطهريه‬ ‫ما �أتخيل �أن هذه اجلبال كانت يف ا ألزمان ال�سحيقة‬ ‫حتت وهج الظهرية‪...‬نقتحم ال�سواقي �ساعة القيلولة‪...‬‬
‫الحقاد‬ ‫من أ‬ ‫غذاء للن�سور‪ ،‬تنقبها من قممها‪ ،‬ولذلك جاءت مقطمة‬ ‫نرتب�ص بغزالن الفالة يوم يردن ا ألفالج يف ال�صيف‪...‬‬
‫وال�صراعات‬ ‫من �أطرافها كقطع من الكعك!‬ ‫نت�ضارب بالع�صي ثم نلعب بالرند‪...‬نلعب كرة القدم‬
‫�إذن مل تكن ال�صحراء وحدها التي لونت خميلتي‪ ،‬و�إمنا‬ ‫لعب من الباعة يف‬ ‫حفاة حتى تت�شقق �أقدامنا‪...‬ن�رسق الُّ َ‬
‫�ساهمت اجلبال‪ ،‬والنخيل‪� ،‬أي�ضا يف نحتها وتلوينها‪.‬‬ ‫ا ألعياد‪ ...‬نبالغ يف تزيني دراجاتنا كي يكرتيها �أطفال‬
‫‪ uu‬حملت �صحراءك امل�شم�سة �إىل �سماوات �أوروبا‬ ‫ال�صحراء‪ ...‬نتعلق باجلرافات وهي تر�صف �شوارع‬
‫بثلوجها وغيومها املاطرة ‪ ,‬لتتجاور كل هذه الطقو�س‬ ‫القرية‪...‬جنمع قطع غيار ال�سيارات التالفة لنكون منها‬
‫يف ذات مفردة‪ ..‬كيف اجتزت �صقيع الغربة تلك؟‬ ‫لعبا غريبة‪..‬‬
‫غربة الدرا�سة يف �أمريكا وبريطانيا‪ ،‬كانت مزيجا من‬ ‫كل هذه الطفولة املزنرة بالفرح‪ ،‬ع�شتها بجنونها‪،‬‬
‫الفرح واحلزن‪� .‬أنا القادم من ال�صحراء العربية‪ ،‬كيف‬ ‫ويقينها‪ ،‬برباءتها وخبثها‪ ،‬ب�ضحكها وبكائها‪ ،‬برخائها‬
‫تت�سع يل تلك ا ألجواء املكفهرة؟ مل يكن الت�سا ؤ�ل يتعلق‬ ‫وحرمانها‪ ،‬بحزمها وانفالتها‪ ،‬ولكنها مل تكن يوما‬
‫بالطق�س والطبيعة‪ .‬كال‪ ،‬بل يتعلق بالثقافة‪ ،‬واللغة‪،‬‬ ‫طفولة وحيدة وعزالء‪..‬بل كانت مدججة با أل�صدقاء‬
‫واللون‪ ،‬وهي �أمور لي�س من ال�سهل ان�سجامها يف بلدان‬ ‫وا ألتراب!‬
‫تع�صف بها م�شاعر العن�رصية‪ ،‬والتفوق احل�ضاري‪،‬‬ ‫‪ uu‬ال�صحراء ماثلة لديك‪ ..‬حا�رضة ب�صخبها‬
‫والقوة اال�ستعمارية‪ ،‬و�رصاع ال�رشق والغرب‪ ،‬وال�صور‬ ‫وهواجرها وحدائها و�شجرياتها وقوافلها الظاعنة‪..‬‬
‫النمطية حول �شعوب العامل الثالث‪ .‬املفارقة حتدث‪،‬‬ ‫�أهو احلنني الذي يقذف بكل هذه التالل �إىل �صحوك؟‬
‫ألننا ننطلق من جمتمعات منفتحة على ا آلخر‪ ،‬ا آلخر‬ ‫فتحت عيني على احلياة يف قرية الوا�صل‪ ،‬وهي �ضلع‬
‫املختلف عنا لونا‪ ،‬ودينا‪ ،‬وعرقا‪ ،‬ولغة‪ .‬هنا يف عمان‬ ‫يف خا�رصة الربع اخلايل‪ ،‬حيث رمال ال�رشقية ت�شكل‬
‫مثال اعتدنا تقبل ا آلخر ا ألجنبي‪ ،‬بت�سامح ال نظري له‪،‬‬ ‫امتدادا وجوديا لهذا القفر اليباب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تتعانق‬
‫�شهد به معظم الرحالة ا ألوروبيني الذين قدموا �إىل هذه‬ ‫يف هذه القرية �ألوان اجلغرافيا ب�شكل غرائبي مده�ش؛‬
‫املنطقة قدميا وحديثا‪ .‬وحينما نرحل �إىل �أمريكا �أو‬ ‫الذهبي‪ ،‬وا ألخ�رض‪ ،‬والرمادي‪ ،‬وا ألبي�ض‪ ،‬ممثلة الرمال‪،‬‬
‫‪119‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أوروبا‪ ،‬نتوقع ال �شعوريا املعاملة باملثل‪ ،‬وهنا تكمن و� أك�سفورد ا�سرتيت‪� ،‬إىل ل�سرت ا�سكوير‪ ،‬و� أجوارد رود‪،‬‬
‫املفارقة وال�صدمة‪ .‬والرحالة الربيطاين ويلفرد ثي�سجر‪ ،‬كنت � أ�سحق عط�ش ال�صحراء حتت قدمي‪ ،‬ويف غ�ضون‬
‫ي�سجل ب�شفافية باهرة‪ ،‬مثل هذه ال�صدمات الثقافية‪ ،‬ذلك‪ � ،‬أبحث عن املعرفة‪ ،‬و� أكتب ال�شعر‪.‬‬
‫يقول يف كتابه «الرمال العربية»‪« :‬بالفعل‪� ،‬إن �أ�سو� أ ‪ uu‬تت�أمل ‪ ,‬وت�ستذكر ‪ ,‬وحتدق يف املدى عرب‬
‫وحدة هي �أن تكون وحيدا يف ح�شد من النا�س‪ .‬لقد نوافذ ال�شعر ‪ ,‬لك�أنك تبحث عن خال�ص ما‪ � ..‬أي‬
‫كنت وحيدا يف املدر�سة‪ ،‬ويف املدن ا ألوروبية‪ ،‬حيث خال�ص ذاك الذي تهبه لك الق�صيدة؟‬
‫لكنني مل �أكن وحيد �أبدا بني العرب‪ .‬يدرك ال�شعراء جيدا �أنه لوال كتابة الق�صيدة النتحروا!‬ ‫ّ‬ ‫مل �أكن �أعرف �أحدا‪،‬‬
‫لقد جئت �إىل بالدهم حيث كنت غريبا‪ ،‬وقد م�شيت يف ال�شعر مينحنا رغبة يف احلياة‪ ،‬يجمل لنا الوجود رغم‬ ‫ال�شعر �أحيانا‪،‬‬
‫ال�سوق فحيّاين �صاحب حم ّل‪ ،‬ودعاين للجلو�س بجانبه ت�شوهاته وقبحه‪ .‬وهذا يف ر�أيي �أهم من فكرة «التطهري»‬ ‫ّ‬ ‫بالن�سبة يل‪،‬‬
‫يف حملّه‪ ،‬وطلب يل ال� ّشاي‪ .‬ثم تقدّم �أنا�س � آخرون ا ألر�سطية‪ ،‬التي يرى من خاللها �شيخ الفال�سفة �أن‬ ‫�ضرب من العبث‬
‫وان�ضموا �إلينا‪� .‬س�ألوين من �أكون‪ ،‬ومن �أين جئت‪ ،‬ال�شعر يجعل ال�شاعر متزنا يف احلياة‪ ،‬ومن�سجما مع‬ ‫ّ‬ ‫اجلميل‪ ،‬كاللعب‬
‫و�أ�سئلة �أخرى غري حمدودة ال ينبغي �أن ن�س�ألها نحن املجتمع‪ .‬حتيق بك ملمات الدهر‪ ،‬ويعت�رصك ا أل�سى‪،‬‬ ‫يف الطفولة‪:‬‬
‫غريبا �أبدا‪ .‬وقد دعاين �أحدهم للغداء‪ ،‬ويف الغداء قابلت وت�رشف على املوت‪ ،‬وفج�أة ت�رشق يف روحك احلياة‬ ‫بناء املكعبات‬
‫عربا � آخرين‪ ،‬حيث دعاين �شخ�ص � آخر منهم للع�شاء‪ .‬عرب كلمة‪� ،‬أو مقطع‪� ،‬أو ق�صيدة‪ ،‬فما الذي يحدث؟ �أعتقد‬ ‫وهدمها‪ ،‬جمع‬
‫وقد ت�ساءلت بحزن كيف �سيكون �شعور العرب الذين �أنها غواية اخللق‪ .‬ال�شعر يجعلنا نتعاىل على الوجود‪،‬‬ ‫أ‬
‫ال�صداف ثم‬
‫حل َميّا‪ ،‬ت�رسي يف مفا�صلك‪ ،‬فتتعاظم نف�سك‪ ،‬وتطل‬ ‫ن�ش�أوا على هذه التقاليد لو �أنهم زاروا �إجنلرتا‪ ،‬ومتنيت كما ا ُ‬
‫�أنهم �سيدركون �أننا غري ودودين جتاه بع�ضنا البع�ض‪ ،‬على العامل بروح الزاهد يف كل �شيء!‬ ‫رميها‪ ،‬ا�صطياد‬
‫امل�س�ألة لي�ست تنظريا‪ ،‬هي حقيقة ملمو�سة‪ ،‬تكتب عن‬ ‫متاما كما ميكن �أن نبدو لهم»‪.‬‬ ‫الع�صافري ثم‬
‫على �أنني هنا ال �أعمم‪ ،‬فلم تكن ال�سنوات ا ألربع التي املوت فتتخل�ص من هواج�س االنتحار‪ ،‬تكتب عن‬ ‫�إطالقها‪ ،‬الرك�ض‬
‫ق�ضيتها يف بريطانيا كلها بهذه ال�صورة‪ .‬حدثت هذه احلزن فتكفكف دموعك‪ ،‬تكتب عن حرمان احلب فتنقذ‬ ‫وراء الفرا�شات‪،‬‬
‫امل�شاعر بالوحدة والن�أي يف ال�سنة ا ألوىل‪ ،‬لكنني بعد املع�شوق‪ ،‬تكتب عن ال�ضياع لتقرتب من اهلل‪ ،‬تكتب عن‬ ‫اللعب بالرند‪،‬‬
‫ذلك ت�أقلمت حني اقرتبت �أكرث من املجتمع الربيطاين‪ ،‬انحطاط ا أل ّمة لكي ال تفجر نف�سك فيها!‬ ‫وهكذا تكون‬
‫وتفهمت االختالفات الثقافية بني العرب وا إلجنليز‪ ،‬و مع ذلك‪� ،‬أنا ال �أختزل ال�شعر يف هذه «الوظيفة»‪ .‬ال�شعر‬ ‫الق�صيدة لعبة‬
‫وتو�صلت �إىل قناعة‪� ،‬أمتنى �أال تكون خمطئة‪ ،‬وهي �أحيانا‪ ،‬بالن�سبة يل‪� ،‬رضب من العبث اجلميل‪ ،‬كاللعب‬ ‫طفولية عابثة‪،‬‬
‫�أن �صمت ا إلجنليز وعدم مبادرتهم �إىل االختالط يف الطفولة‪ :‬بناء املكعبات وهدمها‪ ،‬جمع ا أل�صداف ثم‬
‫ال ت�سوقها‬
‫با ألجانب‪ ،‬لي�س مردها العن�رصية بال�رضورة‪ ،‬و�إمنا رميها‪ ،‬ا�صطياد الع�صافري ثم �إطالقها‪ ،‬الرك�ض وراء‬
‫هي طبيعة متوارثة جتري يف دمائهم منذ قدمي الزمن‪ ،‬الفرا�شات‪ ،‬اللعب بالرند‪ ،‬وهكذا تكون الق�صيدة لعبة‬ ‫�إال الرباءة‪،‬‬
‫وال تقت�رص على تعاملهم مع الغرباء‪ ،‬و�إمنا ت�شمل طفولية عابثة‪ ،‬ال ت�سوقها �إال الرباءة‪ ،‬والرغبة يف‬ ‫والرغبة يف‬
‫�سلوكهم جتاه بع�ضهم البع�ض‪ .‬يظل ا إلجنليزي نائيا اكت�شاف املجهول‪.‬‬ ‫اكت�شاف املجهول‬
‫بنف�سه‪ ،‬حرونا‪ ،‬يرقبك ب�أناة و�صمت‪ ،‬غري مندفع يف وقد يت�صور البع�ض �أن هذه اللعبة �سهلة وجمانية‪،‬‬
‫م�شاعره وعالقاته‪ ،‬حتى يثق بك‪ ،‬وحينها ينك�رس الثلج‪ ،‬ولكنها يف احلقيقة‪ ،‬عزيزة وباهظة الثمن‪ .‬لي�ست‬
‫للطفال‪ -‬ال�شعراء ا أل�شقياء‪ ،‬ال�صعاليك‬ ‫وت�صيب منه �صديقا حميما ميطرك ب�أ�سئلته وتطلعه متاحة �إال أ‬
‫الذين ي�ؤمنون بقول �أولهم‪:‬‬ ‫ملعرفتك‪.‬‬
‫باب القوايف ك�أمنا‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫بيت‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫حلظات الفرح مل تكن قليلة يف بريطانيا‪ ،‬ق�ضيت‬
‫الو ْح ِ�ش ُنزَّعا‬
‫َ‬ ‫من‬ ‫با‬‫ْ‬ ‫سرِ‬ ‫�‬ ‫بها‬ ‫داجي‬ ‫أ‬ ‫ �‬ ‫�سنوات ممتعة يف حت�صيل املعرفة‪ ،‬واكت�شاف املجهول‪.‬‬
‫و� أذكر � أن لندن على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬كانت م�رسحا ‪ uu‬الق�صيدة �إعادة ت�شكيل للذات ‪ ,‬ومواجهة مع‬
‫يل للت�أمل‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والثقافة‪ .‬هناك يف تلك املدينة العامل بخرابه ودماره وويالته وكوارثه‪ ..‬هل ترى‬
‫العظيمة‪ � ،‬أيقنت � أن الرغبة هي قمر الكائن‪ ،‬ي�ضيء به � أن الق�صيدة ت�ستوعب كل ذلك؟‬
‫غياهب الروح‪ ،‬وي�ستهدي به يف عتمات الغربة‪ .‬من نعم‪ ..‬ت�ستوعب الق�صيدة كل هذه املواجهات‪� ،‬رشط �أال‬
‫نهر التاميز‪� ،‬إىل املكتبة الربيطانية‪� ،‬إىل كلية �ساو�س تقع يف فخ املبا�رشة واخلطابة وال�ضجيج‪ .‬مل يكن ال�شعر‬
‫‪120‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كما تثبت �سريته يف كتب ا ألدب‪ .‬ولكن هذه الر ؤ�ية‬ ‫اجليد يف ا ألدب العربي‪ ،‬منذ اجلاهلية حتى اليوم‪� ،‬إال‬
‫�أي�ضا ينبغي �أال تكون مطية لذوي النفو�س املري�ضة‪،‬‬ ‫مواجهة ورف�ضا للعامل‪ ،‬مبعناه الع�شائري �ضد الفردي‪،‬‬
‫والعقول ال�ساذجة‪ ،‬يف تر�صدهم لغرائز ا إلن�سان يف‬ ‫ومبعناه اخلانع �ضد الثائر‪ ،‬ومبعناه ال�سائد �ضد‬
‫ا ألدب والفن‪ ،‬و�إدانة املبدعني من خاللها‪ .‬منهج �سقيم‬ ‫النوعي‪ ،‬ومبعناه القدمي �ضد اجلديد‪ .‬ال�شاعر امر ؤ� القي�س‬
‫كهذا‪ ،‬لن يدع جماال للكتابة عن امل�سكوت عنه يف واقع‬ ‫مل يكن من�ضويا حتت �إبط القبيلة‪ .‬كان �ضد التابو‬
‫احلياة‪ .‬وقد �شاعت هذه القراءات اخلاطئة يف ع�رصنا‬ ‫القبلي‪ ،‬مبحافظته‪ ،‬وقمعه‪ ،‬ولذلك اتهمته �سلطة النقد‬
‫لل�سف‪ ،‬حيث �أدين بع�ض الكتاب يف العامل‬ ‫احلديث‪ ،‬أ‬ ‫القدمية ب�أنه كان َ‬
‫«يتَ َع ّهر يف �شِ ْع ِره»‪ .‬وقد مثلت جتربة‬
‫العربي بتهم متخيلة تتعلق برتويج اجلن�س‪ ،‬و�إف�ساد‬ ‫ال�شعراء ال�صعاليك‪ ،‬بتمردها على النظام الع�شائري‪،‬‬
‫املجتمع‪.‬‬ ‫يف الع�رص اجلاهلي مرحلة م�ضيئة يف ال�شعر العربي‪،‬‬
‫ويبدو �أن العرب القدماء كانوا �أكرث ن�ضجا‪ ،‬وفهما‪ ،‬يف‬ ‫على م�ستويي ال�شكل وامل�ضمون‪ .‬فنجد يف �أ�شعار عروة‬
‫تذوق ال�شعر‪ ،‬فلم نقر� أ لفقيه �أو عامل ر�أيا يكفر فيه �أبا‬ ‫بن الورد‪ ،‬ورفاقه‪� ،‬صيحات الرف�ض للفقر‪ ،‬واجلوع‪،‬‬
‫نوا�س‪� ،‬أو ب�شارا‪ ،‬على كرثة ما قااله من �شعر يف اخلمر‬ ‫والظلم‪ ،‬واال�ستبداد‪ ،‬والتفرقة العن�رصية‪ .‬وقد ان�سحب‬
‫والغرائز‪ .‬بل خالفا لذلك‪ ،‬وجدنا بحر ا ألمة عبد اهلل بن‬ ‫هذا الرف�ض لي�شمل تقاليد الق�صيدة العربية الكال�سيكية‪،‬‬
‫� أعتقد � أن‬ ‫عبا�س‪ ،‬وهو من هو يف علمه وورعه‪ ،‬ين�صت لل�شاعر‬ ‫مثل الت�رصيع‪ ،‬واملقدمات الطللية‪ ،‬واملعلقات الطوال‪،‬‬
‫الق�صيدة‬ ‫عمر بن �أبي ربيعة يف امل�سجد احلرام‪ ،‬وهو ين�شده‬ ‫ومدح ال�شيوخ‪ ،‬ليحل حملها ال�شعر ال�رسدي‪ ،‬والوحدة‬
‫لي�ست‬ ‫ق�صيدته الرائية‪ ،‬التي يقول فيها‪:‬‬ ‫املو�ضوعية للق�صيدة‪ ،‬واملقطوعات الق�صار‪ ،‬ومدح‬
‫انعكا�سا‪،‬‬ ‫كنت �أتـّقي‬
‫و كان مجِ َ نـّي‪ ،‬دون من ُ‬ ‫الذات ورفاق الدرب‪.‬‬
‫و�إمنا هي‬ ‫وم ْع�صرِ ُ‬ ‫كاعبان ُ‬
‫ِ‬ ‫�شخو�ص‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫ُ‬ ‫ ‬ ‫وظلت الق�صيدة امل�شاغبة يف الع�رصين ا ألموي‬
‫وكذلك �أي�ضا فهم م�شائخ ا إلبا�ضية القدماء ال�شعر‪ ،‬حيث‬ ‫والعبا�سي‪ ،‬عند م�سلم بن الوليد‪ ،‬وب�شار‪ ،‬و�أبي نوا�س‪،‬‬
‫الرغبات‬
‫مل يدينوا �شاعرا بالف�سق لت�شبيبه باملر�أة‪� ،‬أو لتغنيه‬ ‫و�أبي متام‪ ،‬واملتنبي‪ ،‬و� آخرين‪ ،‬هي ا ألعمق فنيا‪ ،‬وا ألكرث‬
‫والحالم‬ ‫أ‬ ‫خلودا عرب التاريخ‪ .‬يف �أ�شعارهم انت�صار للذات‪ ،‬وتعظيم‬
‫باخلمر‪ ،‬رغم كرثة ما نقر� أ من هذا ال�شعر يف دواوين‬
‫ذاتها‬ ‫ال�شعر العماين‪ .‬فلم ن�سمع �أحدا منهم �أدان ال�شاعر �أبا‬ ‫للذة‪ ،‬ورف�ض لل�سائد‪ ،‬وفتح جديد يف اللغة‪ ،‬وا أل�سلوب‪،‬‬
‫م�سلم البهالين‪ ،‬يف قوله‪:‬‬ ‫وا إليقاع‪ .‬وقد اتك�أت الق�صيدة العربية احلديثة على هذا‬
‫وقالت‬
‫ْ‬ ‫دنت ثغرَها مني‬ ‫ف�أ ْ‬ ‫ا إلرث امل�ضيء‪ ،‬يف م�رشوعها ملواجهة قوى الظالم‬
‫ال�رشوق‬
‫ِ‬ ‫متتّ ْع بي �إىل وقتِ‬ ‫ ‬ ‫والتخلف يف ع�رصنا هذا‪ ،‬وتعاطيها مع جتارب مماثلة‬
‫يف ا آلداب العاملية‪.‬‬
‫م�ص وردة وجنتيها‬ ‫فبت � أ ُّ‬
‫ُ‬
‫ر�شف جمرَ مب�سِ مِها ال�رشي ِق‬ ‫و� أ ُ‬ ‫ ‬ ‫�إذن ال�شعر لي�س �سكونا‪ ،‬بل هو قلق‪ ،‬وت�سا ؤ�ل‪ ،‬ورف�ض‪،‬‬
‫و قد وظف بع�ض ال�صور يف �شعره مما لو قالها غريه‬ ‫وحتد‪ ،‬و�إعادة �صياغة للعامل‪.‬‬
‫التهمه �أهل اجلهل بالكفر‪ ,‬حيث يقول‪:‬‬ ‫‪ uu‬رغبات كثرية تتداخل يف ن�سيجك ال�شعري‬
‫ع�رصت لكم من خمرة اهلل �صفوها‬ ‫ُ‬ ‫وت�أتي �رصيحة حينا ‪ ,‬ومتوارية حينا � آخر‪� ..‬إىل‬
‫ال�سكر م�أثما‬
‫ُ‬ ‫فما‬ ‫كرا‪,‬‬ ‫�س‬
‫ُ‬ ‫بها‬ ‫فموتوا‬ ‫ ‬ ‫� أي مدى تكون الق�صيدة انعكا�سا لرغباتنا وتوقنا‬
‫لقد هـام �أهـل اال�ستقامـة قبلنـا‬ ‫و� أحالمنا املقبورة؟‬
‫بها فانت�شـوا بيــن اخلليقـــة ُهيـّمـا‬ ‫ ‬ ‫�أعتقد �أن الق�صيدة لي�ست انعكا�سا‪ ،‬و�إمنا هي الرغبات‬
‫ويقول �أي�ضا‪:‬‬ ‫وا ألحالم ذاتها‪ .‬وال �أتفق مع مدر�سة التحليل النف�سي‬
‫ال�رشاب �رشابي‬
‫ُ‬ ‫َم ْن كمثلي وذا‬ ‫الفرويدية‪ ،‬التي تف�رس ا إلبداع يف �ضوء التنفي�س عن‬
‫والنبيـّو َن كــلـهم نِدْمــــاين‬ ‫ ‬ ‫رغبات مكبوتة‪ ،‬و�أحالم كامنة يف الالوعي‪ .‬هناك‬
‫هام قبلي به اخلليـ ُل ومو�سى‬ ‫رغبات كثرية‪ ،‬ال جمال لتعوي�ضها‪ ،‬نعي�شها‪ ،‬ونكتبها‬
‫و�صاحب القـر� ِآن‬
‫ُ‬ ‫ثم عي�سى‬ ‫ ‬ ‫يف � آن معا‪.‬‬
‫وهناك �أمثلة كثرية ل�شعراء عمانيني‪ ،‬وغري عمانيني‪.‬‬ ‫و�أبو نوا�س حني تتبع خيوط غرائزه �شعريا‪ ،‬مل يكن‬
‫يقول ال�شاعر العامل �إبراهيم بن قي�س احل�رضمي‪:‬‬ ‫يفتقدها يف واقع حياته‪ ،‬بل عا�شها الرجل بتفا�صيلها‪،‬‬
‫‪121‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أم�شاج من حلمة احلياة اليومية‪ .‬قد تقدح يف ذهنك‬ ‫مالت ُت�سائلنـي‪� ,‬إذ مثلها ي�سـ ُل‬ ‫ْ‬
‫لقطة �شعرية‪� ،‬أو �صورة‪� ،‬أو مقطع‪� ،‬أو ق�صيدة‪ ،‬و�أنت يف‬ ‫لفاظهــا ع�ســـ ُل‬ ‫خـــــود خدلـّجـــةٌ � أ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ ‬
‫ال�سوق‪� ،‬أو يف املقهى‪� ،‬أو يف القطار‪� ،‬أو يف الطائرة‪،‬‬ ‫العاج �صفو ُته‬ ‫ِ‬ ‫والثدي مث ُل ملي ِح‬
‫حيث �صخب احلياة عارم‪ ،‬ويكاد يتخطفك النا�س من‬ ‫ال�شم�س م�شتع ُل‬
‫ِ‬ ‫كلون‬ ‫منها‬ ‫وال�صدر‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫كل جانب‪ .‬ولي�س هذا ارجتاال لل�شعر‪ ،‬كما كان يفعله‬ ‫راب ُيتَ ْعـت ُِعها‬ ‫لكـ ْن لها ك َفـ ٌل ٍ‬
‫قدماء العرب‪ ،‬ولكنه ا�ست�سالم لعفوية اخللق‪ ،‬وقب�ض‬ ‫القيــام وجيـــدٌ زانــه النبـ ُل‬
‫ِ‬ ‫عــــند‬ ‫ ‬
‫ل�رشارة ال�شعر قبل �أن تنطفئ‪.‬‬ ‫ويقول �أي�ضا‪:‬‬
‫‪ uu‬زاهد يف حلمك ‪ ,‬حتى لتت�ضاءل �أحالمك من طيف‬ ‫فكيف �إذا عن ك� ْشحِ ها انح ّل د ِْر ُعها‬
‫امر�أة �إىل فخذ دجاجة‪� ..‬أهكذا تت�صاغر ا ألحالم؟‬ ‫رتجــرج‬
‫ِ‬ ‫مل‬
‫ومئزرها عن َع ْج ِزها ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫املهم �أن نحلم‪ ،‬وقيمة احللم ال�شعري ال تكمن يف حجم‬ ‫ويقول خلف بن �سنان الغافري وهو من فقهاء وعلماء‬
‫املحلوم به‪ ،‬و�إمنا يف �صدق احللم ذاته‪ .‬يف ال�شعر ال‬ ‫القرن احلادي ع�رش الهجري‪:‬‬ ‫ويبدو �أن العرب‬
‫نحلم بالق�صور‪ ،‬والرثوة‪ ،‬والرفاهية‪ ،‬ولكنا نحلم‬ ‫اذا ما تثنـ ّ ْت يف املال قال �صاحبي‬ ‫القدماء كانوا‬
‫باحلياة‪ ،‬حتى ولو كان قوامها طيف امر�أة‪� ،‬أو فخذ‬ ‫منـام‬
‫ُ‬ ‫يطــيب‬
‫ُ‬ ‫علــى فقـ ِد هـــذي ال‬ ‫ ‬
‫رهبـان لبنـا َن � آثـروا‬ ‫فلو �شامها‬ ‫�أكثـر ن�ضجا‪،‬‬
‫دجاجة!‬ ‫ُ‬
‫لقد حلم ال�شاعر العربي منذ اجلاهلية حتى اليوم بالثورة‬ ‫الغرام وهاموا‬‫ِ‬ ‫هواها و�ساحوا يف‬ ‫ ‬ ‫وفهما‪ ،‬يف تذوق‬
‫واملجد‪ ،‬فما الذي حتقق غري هذا اخل�رسان املبني! �أكرب‬ ‫أ‬
‫‪ uu‬تفر منك الكلمات ‪ ,‬فتلج� لعزلتك الكثيفة بحثا عن‬ ‫ال�شعر‪ ،‬فلم نقر� أ‬
‫ال�شعراء العرب‪ ،‬قذفت �أحالمهم يف وجوههم‪� .‬أولهم‬ ‫رفة جناح �أو طيف امر�أة‪ ..‬ما الذي تكت�شفه بانتظارك‬ ‫لفقيه �أو عامل‬
‫امر ؤ� القي�س‪ ،‬الذي يقول‪:‬‬ ‫يف �أدغال العزلة املوح�شة؟‬ ‫ر�أيا يكفر فيه �أبا‬
‫فت يف ا آلفاق حتّى‬ ‫طو ُ‬‫لقد ّ‬ ‫العزلة معبد ال�شعراء والفال�سفة‪ .‬لطاملا تغنى ال�شعراء‬
‫نوا�س‪� ،‬أو ب�شارا‪،‬‬
‫رجعت من الغنيم ِة با إل ِ‬
‫ياب‬ ‫ُ‬ ‫ ‬ ‫العرب بالعزلة‪ ،‬وامتدحوها ب�أنها من �سمات العلماء‪،‬‬
‫وقد حلم املتنبي ب�شيء عظيم‪ ،‬مل يف�صح عنه ا�ست�صغارا‬ ‫وقد عرب عنها املعري ب�شيء من نرج�سية ال�شاعر‪ ،‬حني‬ ‫على كثـرة ما‬
‫ملن حوله من املت�سلقني واخلذلة‪:‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫قااله من �شعر يف‬
‫نت يف كل بلدة‬ ‫يقولون يل ما � أ َ‬ ‫�صحابها‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫الوحد‬ ‫�ش‬ ‫وحِ‬
‫ال ُت ُ‬ ‫اخلمر والغرائز‪.‬‬
‫وما تبتغي؟ ما �أبتغي َج ّل � أ ْن ُي ْ�س َمى‬ ‫ ‬ ‫ � إ ّن �سهيال وحده فا ِر ُد‬
‫ولكنه يف نهاية احللم رجع خمذوال‪:‬‬ ‫و قد عظم املت�صوفة القدماء �أمر اخللوة‪� ،‬أو العزلة‪ ،‬حتى‬
‫خذت من الدنيا؟ و�أعجبها‬ ‫ماذا � أ ُ‬ ‫�أن ا إلمام الغزايل �أفرد لها ف�صال يف كتابه «�إحياء علوم‬
‫حم�سـود‬
‫ُ‬ ‫ �أين مبــا �أنـــا بـــاكٍ منــــه‬ ‫الدين»‪ .‬وال �أبحث هنا عن ت�رشيع للعزلة بهذا الكالم‪،‬‬
‫وت�ستمر دوامة خذالن ا ألحالم يف ال�شعر العربي‪ ،‬حتى‬ ‫ولكني � أ ؤ��س�س لها كخيار نخبوي‪� ،‬أفاء �إليه الر�سل‪،‬‬
‫الع�رص احلديث‪ .‬يقول حممد املاغوط‪:‬‬ ‫والفال�سفة‪ ،‬وال�صوفية‪ ،‬وال�شعراء‪ ،‬منذ بدء اخلليقة‪.‬‬
‫«كنت �أحلم بجلباب خمطط بالذهب‬ ‫يف العزلة‪ ،‬ف�ضاء للقراءة‪ ،‬والكتابة‪ ،‬والت�أمل‪ ،‬وجلد‬
‫وجواد ينهب يف الكروم والتالل احلجرية‬ ‫الذات‪ ،‬وتطهريها من �أدران االختالط بالدهماء‪ .‬ومع‬
‫�أما ا آلن‬ ‫ذلك‪ ،‬ال �أرى كما يعتقد ثلة من ا ألدباء‪� ،‬أن العزلة هي‬
‫و�أنا �أت�سكع حتت نور امل�صابيح‬ ‫بال�رضورة معني ا إلبداع وينبوع ال�شعر‪ .‬ال �أميل �إىل‬
‫�أنتقل كالعواهر من �شارع �إىل �شارع‬ ‫هذه الفكرة‪ ،‬بل �أحتقرها �أحيانا‪ ،‬ألن حلظات ا إلبداع ال‬
‫�أ�شتهي جرمية وا�سعة‬ ‫تقبل التكييف‪ .‬ا إلبداع م�س من العبقرية‪ ،‬فكيف نكيفه‬
‫و�سفينة بي�ضاء‪ ،‬تقلني بني نهديها املاحلني‪،‬‬ ‫بزمن ما �أو مكان ما‪ .‬ويحلو هنا لبع�ض املت�شاعرين‬
‫�إىل بالد بعيدة»‪.‬‬ ‫�أن يقول لك‪� :‬أنا ال ينزل علي �إلهام ال�شعر �إال يف �سكون‬
‫�إذن مل يبق �أمامي �إال �أن �أحلم بال�سفر‪ ،‬ومغيّبات اجلبل‬ ‫الليل حني �أكون وحيدا‪ ،‬وي�سرت�سل يف التنظري حول‬
‫ا ألخ�رض‪ ،‬والقراءة يف املقاهي‪ ،‬والغط�س يف رباعيات‬ ‫هذا‪ .‬بالن�سبة يل هذا وهم‪ ،‬ألن يف ت�رصيحات الكثري‬
‫اخليّام‪ ،‬والتيه يف الربع اخلايل‪ ،‬والث�أر من كل �شيء يف‬ ‫من ا ألدباء العامليني ما يثبت �أن ال�شعر‪ ،‬خا�صة‪،‬‬
‫‪122‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ا إل�سالم من �أمثال كعب بن مالك‪ ،‬وعبداهلل بن رواحة‪،‬‬ ‫حمامات الطائرات‪ ،‬والغرق يف �شرَ ْق �ألف ليلة وليلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وح�سان بن ثابت ان�رصفوا عن رواء ال�شعر ومائه �إىل‬ ‫‪ uu‬مالك بن فهم ‪ ,‬وابن خلدون ‪ ,‬واخليام ‪,‬‬
‫جفاف املثل وا ألخالق‪ ،‬ف�أطلق مقولته ال�شهرية «ال�شعر‬ ‫و�إرم ذات العماد وغريها‪ � ..‬أ�سماء و� أمكنة تطل‬
‫نكد بابه ال�رش‪ ،‬ف�إذا دخل يف اخلري �ضعف‪ ،‬هذا ح�سان‬ ‫عرب حروفك يف و�ضاءة متناهية‪ � ..‬أتراك ت�ستنطق‬
‫بن ثابت فحل من فحول اجلاهلية‪ ،‬فلما جاء ا إل�سالم‬ ‫املا�ضي حني تق�رص � أبجديات اللحظة عن البوح؟‬
‫�سقط �شعره»‪ .‬وهذه النظرة الثاقبة املبكرة يف النقد‬ ‫ال مفر من التاريخ‪� .‬أ�شعر �أحيانا‪ ،‬كما �شعر املتنبي‬
‫العربي ت�ؤ�س�س جلدالنا يف النقد احلديث حول ال�شعر‬ ‫واملاغوط‪ ،‬ب�أن املا�ضي هو الزمن املثايل للحياة‪.‬‬
‫الواقعي وال�شعر الذاتي‪ ،‬وهل ال�شعر مر� آة املجتمع �أم‬ ‫يقول املتنبي‪:‬‬
‫«مر� آة الروح وحدها» كما تن�ص يف �س�ؤالك‪ .‬و�أجدين‬ ‫�أتى الزما َن بنوه يف �شبيبته‬
‫�أنحاز �إىل �أن ال�شعر هو احلياة‪ ،‬كل احلياة بتفا�صيلها‬ ‫هم‪ ،‬و�أتيناه على الهرَ ِم‬
‫ال�صغرية والكبرية‪ ،‬الغثة والثمينة‪ .‬املر� آوية لي�ست‬ ‫ف�سرَ ّ ْ‬ ‫ ‬
‫و ي�ؤكد املاغوط نف�س ا إلح�سا�س‪:‬‬
‫كافية ألن ن�صف بها ال�شعر‪ ،‬هذا الزئبق الذي فلت‬ ‫جئت مت�أخرا �إىل هذا العامل‬
‫«لقد ُ‬
‫من بني �أنامل جميع النقاد يف العامل‪ ،‬ومل ي�ستطيعوا‬ ‫كان ينبغي‬
‫ا إلم�ساك به‪ .‬وحني يكون ال�شعر هو احلياة ينبغي �أن‬ ‫�أن �أخلق‬
‫ي�أخذ �شمولها‪� ،‬ضيقها‪ ،‬ات�ساقها‪ ،‬تلونها‪ ،‬فرحها‪،‬‬ ‫مع �أولئك الرومانتيكيني القدامى‬
‫حزنها‪ ،‬قيمها‪ ،‬رذائلها‪� ،‬إالهها‪� ،‬شيطانها‪ ،‬و�ضوحها‪،‬‬ ‫ذوي اللحى املتهدلة‪ ،‬والياقات التي ي�أكلها العث‬
‫غمو�ضها‪� ،‬سكرها‪� ،‬صحوها‪....‬‬ ‫�أ�سكن يف غرفة من القرميد ا ألحمر»‪.‬‬
‫ما من �شيء ميكن �أن يحيط مبجال ال�شعر‪ .‬ال�شعر �أكرب‬ ‫ويتعزز هذا ا إلح�سا�س ا آلن‪ ،‬على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬يف‬
‫من االلتزام‪ .‬االلتزام �أيدولوجيا‪ ،‬عقيدة‪ ،‬حزب‪� ،‬سيا�سة‪،‬‬ ‫غمرة االنحطاط اخللقي‪ ،‬الذي يغمر العامل‪ ،‬ببط�شه‪،‬‬
‫�إ�سالم‪� ،‬شيوعية‪ ،‬قومية‪ .‬وال�شعر نقي�ض كل هذه‬ ‫وابتزازه‪ ،‬وال �إن�سانيته‪ .‬ويف ق�صيدة يف «هذا الليل‬
‫املفاهيم‪ .‬مل يفلح من حاول �أن ي�ؤدلج ال�شعر‪� ،‬أو يجعل‬ ‫يل»‪ ،‬ر�سمت �صورة لـ«� إ َرم» على �أنها هي النجاة‪،‬‬
‫له ر�سالة هادفة‪ ،‬ال ا إل�سالميون‪ ،‬وال ال�شيوعيون‪ ،‬وال‬ ‫ت�صلح منفى لل�شعراء و� آخرة لهم‪ .‬ورغم �أن هذا الت�صور‬
‫القوميون‪� .‬ست�صفق اجلماهري البلهاء كثريا لناظم يعزف‬ ‫للزمان واملكان‪ ،‬ت�صور رومان�سي‪ ،‬بعيد عن الواقع‪� ،‬إال‬
‫على وتر ال�سيا�سة‪� ،‬أو الدين‪ ،‬ويجعل من ق�ضايا فل�سطني‬ ‫�أنه ال حميد عنه‪ .‬وما حاجتنا �إىل واقع مرتهل‪ ،‬عجوز‪،‬‬
‫والعراق ولبنان و�أفغان�ستان والبو�سنة والهر�سك‪ ،‬غطاء‬ ‫ن�شهد فيه انهيارا �شامال للح�ضارة‪ ،‬مبعناها القيمي‪،‬‬
‫لعجزه عن احلفر يف �صخر ال�شعر ومكابدته‪ .‬ولكن كل‬ ‫وا ألخالقي؟ �إن بع�ض الفال�سفة جن من هول ما ر�أى‬
‫ما يفعله مكاء وت�صدية‪� ،‬سيذهب �أدراج الرياح‪.‬‬ ‫من تدهور الب�رشية �إىل �أق�صى دركات احل�ضي�ض‪.‬‬
‫‪ uu‬تدير ظهرك حلرائق العامل ‪ ,‬وحتدق يف ‪ uu‬ا�ست�أثرت بالليل كله لك‪ ,‬ونحن نهب هذا‬
‫مر� آة الروح وحدها‪ ..‬ملاذا يغ�ض ال�شاعر طرفه الف�ضاء لن�شيدك‪ ..‬فما الذي �ستقوله َع ِجال يف‬
‫عن كل هذه ا إلنهيارات يف جدران احلياة؟ (هذا ارتباك الغياب؟‬
‫مزيدا من احلزن‪..‬‬ ‫ال�س�ؤال �سيكون �ضمن التحقيق حول ال�شاعر وااللتزام‬
‫ما من �شجرة‬ ‫‪ ,‬والتهمة املوجهة لل�شعراء ب�أمن بعيدون عن هموم‬
‫�ستع�صمني من‬ ‫ا ألمة)‬
‫�س�أ�ستعني ب�شيخنا ا أل�صمعي يف ا إلجابة على �س�ؤالك‪،‬‬
‫هذا الطوفان‬ ‫وهو الذي واجه الق�ضية نف�سها منذ قرون بعيدة‪ .‬ت�صدى‬
‫غري‬ ‫هذا الناقد املثري للجدل لل�ضعف الذي ع�صف بجموح‬
‫حزين الطويل!‬ ‫ال�شعر العربي حني جاء ا إل�سالم‪ .‬فقد ر�أى �شعراء �صدر‬

‫‪123‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�صالح ال�سنو�سي‬
‫�أقع خارج �صخب و�أ�ضواء‬
‫(ع�صائب) امل�شهد الثقايف العربي‬
‫حاوره‪ :‬عذاب الركابي‬
‫ناقد و�أكادميي من العراق يقيم يف ليبيا‬

‫الكتابة ُ لدي ِه حياة ٌ ‪ُ ،‬رغمَ �أنّها جمبولة ٌ‬


‫باملعاناة‪ ،..‬و ألنّهُ يُح ُّب الكتابة َ‪ ،‬فهوَ يراها‬
‫مبثاب ِة الهواء النق ّي الذي يدخ ُل �إىل رئتيه‪،‬‬
‫فيطهر ج�سده من �أعباء واقع ٍ‪ ،‬ال خال�ص منهُ‬
‫�إال بهذا النزيف – الكتابة‪ ،..‬لهذا �أجدهُ يتفرد‬
‫يف �صنعت ِه التي يُح ّب‪ ،‬و ُرغم �أنّهُ بطيء‬
‫يف الكتابة‪ ..‬و ُمقل لكنّهُ ُمتميز يف �إجناز ِه‬
‫الروائ ّي‪ ..،‬يرى �أنّهُ مظلوم نقديا‪ ،‬لكنّهُ ال‬
‫يعب� أ بهذا‪ ،‬ما دا َم الذي َن يت�صدرون املنابر‬
‫ا إلعالمية ويحظون باالحتفاء واالهتمام‬
‫– بر�أيه‪-‬ه ُم �أغلبهم يخ ّط حروفا بال معنى‬
‫على الورق‪ ،..‬و�أنّهم تتوافر لديهم) معايري و�رشوط ال عالقة لها با إلبداع(‪ ،..‬وهوَ‬
‫ن�ص ِه‪ ..‬وال يُفاخر �إال ب�إبداع ِه‪!!..‬‬
‫ينتمي فقط �إىل ّ‬
‫‪ w‬هناك بالطبع نفر قليل من النقاد الذين � أولوا اهتماما بكتابتي‬
‫ولكن معظمهم يقع خارج �صخب امل�شهد الثقايف الع�صبوي‬
‫العربي ولهذا فقد ظل املتلقي العربي الذي هو �ضحية الدعاية‬
‫والربوباقاندا وا إل�شهار– كحال املتلقي يف كثري من � أنحاء‬
‫العامل– م�شدودا �إىل ما يجري على امل�سرح امل�ضيء ماعدا � أقلية‬
‫قد تلتفت من حني آلخر �إىل ا ألماكن املحرومة من ال�ضوء‪.‬‬

‫‪124‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الكتابة جمبولة ٌ باملعاناة‬‫ِ‬ ‫يف مقايل عن روايت ِه «حلق الريح» ال�صادرة عن «دار لذة‬
‫وهو املقال الوحيد الذي كت َِب عن‬ ‫الهالل» امل�رصية‪َ ..‬‬
‫متنف�س ‪ ..‬والبديل‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫الكاتبة‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫البع�ض‬
‫ُ‬ ‫يرى‬ ‫‪uu‬‬
‫(الروائي د‪� .‬صالح‬
‫ّ‬ ‫روايت ِه يف ليبيا‪،‬كما � أخربين ُ‬
‫قلت‪:‬‬
‫الهم العروبي لعامل ٍ � أكرثَ حرية ‪ ..‬وهدوءا ‪ ..‬و� أمانا ‪ ..‬و� آخرو َن‬ ‫القومي‪،‬ويربز‬ ‫ال�سنو�سي يعلو عنده النب�ض‬
‫ّ‬
‫هو الر� ؤيا والن�سيج الذي تبنى علي ِّه يرونها الهواء َ ‪ ..‬واللذة واملتعة الكربى‪ ..‬قل يل‬ ‫بو�ضوح ٍ ‪ ،‬ب ْل َ‬
‫عند �صدورها الكثري من ملاذا الكتابة؟ ب ْل ملاذا تكتب؟‬ ‫َ‬ ‫أثارت‪،‬‬ ‫�‬ ‫التي‬ ‫� أعماله الروائية‬
‫قلته‪،‬‬
‫ا أل�سئلة والنقا�شات على امتداد ال�ساحة الثقافية الليبية ‪ � -‬أعتقدُ � ّأن الكتابة فيها بع�ض من هذا الذي ُ‬
‫والعربية)‪ -‬كتابي‪« :‬العزف بالكلمات»‪�-‬ص‪ .167‬هذا فهي متنف�س بالن�سبة للكاتب‪ ،‬مثلما هي القراءة‬
‫جعله ي�ستهجن الرواية العربية التي متعة بالن�سب ِة للمتلقي‪ ،‬غري � ّأن لذة الكاتب ِة بالن�سبة‬ ‫ُ‬ ‫النب�ض القومي‬
‫وبني لذة املعاناة‬ ‫تكتب خ�صي�صا لذهن املتلقي الغربي‪ ،‬فا�ضحا الروائيني‬
‫العرب الذين يكتبون بهذا ا أل�سلوب كي يتبناهم الغرب للكاتب هي لذة جمبولة باملعاناة‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ومتعة التلقي يتخلق ج�رس من الوقائع والأوهام‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فقط‪ ،‬ولعابهم ي�سيل على جوائزه التي يلونها حرب‬
‫تعربه امل�شاعر واالنثياالت واحلقائق والتوقعات‬ ‫ُ‬ ‫حقد ِه على قيمنا‪ ..‬ومقد�ساتنا‪ ..‬وفكرنا‪ ..‬و� أخالقنا وحتّى‬
‫بني الطرفني‪ ،‬فلعل هذا اجل�رس الذي ي�ضع‬ ‫املتبادلة َ‬ ‫� أحالمنا‪!!..‬‬
‫هو الذي ي�صبح‬ ‫َ‬ ‫املتلقي‪،‬‬ ‫ولي�س‬ ‫املبدع‬ ‫أوىل‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫لبنته‬ ‫تتعدد لديه فنون الكتابة‪ ،‬وهوالأ�ستاذ‪ ،‬والباحث‬
‫يل‬
‫الأكادميي يف االقت�صاد‪ ..،‬وعلم االجتماع ال�سيا�سي يف ما بعد � أحد الدوافع احلقيقية للكتابةِ‪ .‬بالن�سبة � إ ّ‬
‫لي�س �صحيحا القول � ّأن الكاتب يكتب دون � أن يفكر‬ ‫َ‬ ‫وكاتب مقال ناجح‪ ..‬وهادف‪ ..،‬هادئ الر� أي‪� ..‬صايف‬
‫مادته التاريخ‪ ،‬اختار يف املتلقي‪ ،‬فبالرغم من � ّأن املبدع يظل يف وحدت ِه‬ ‫ُ‬ ‫الفكرة‪�..‬شديد الو�ضوح‪،‬ولأن‬
‫(عواطفه م�شدودة من�شغال بالن�ص وبعوامله‪ ،‬ويبدو وك� ّأنه وحيد �إال‬ ‫ُ‬ ‫الرواية كمتنف�س‪ ،‬ويعرتف ب� ّأن‪:‬‬
‫َ � ّأن املتلقي يظل دائما حا�رضا يف نهاية امل�شهد‪،‬‬ ‫دون‬ ‫أدبية‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫أجنا�س‬ ‫ل‬ ‫تعربه ك ّل ا‬
‫ُ‬ ‫للرواية)‪ ،‬ألنّها‪ٌ :‬‬
‫(ن�ص‬
‫ف�أنت عندما ت�شطب كلمة � أو بيتا من ق�صيدتك‪،‬‬ ‫يفقد هويته)‪.‬‬ ‫� ْأن َ‬
‫وهو جال�س‬ ‫عن روايت ِه الوىل «متى يفي�ض الوادي» ال�صادرة عام‬ ‫أ‬
‫‪ 1980‬كتب الناقدالكبري الراحل د‪ .‬غايل �شكري يقول‪ � :‬أو ي�شطب الروائي عدة جمل من الن�ص َ‬
‫بان هناك‬ ‫وحده‪ ،‬ف�أنه يعرتف بوعي � أو بدون وعي ّ‬
‫هو �رشيكا قد ال يرى يف هذا البيت � أو هذ ِه اجلملة قيمة‬ ‫(وك�أنيّ ب�صالح ال�سنو�سي على �صعيد البناء الروائي َ‬
‫� أحد االمتدادات احلية لرتاث جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�س‬
‫معا ‪� ..‬ن �صالح ال�سنو�سي من � أبناء الواقعية اجلديدة �ذا �إبداعية‪ ،‬ورغم � أن قرار ال�شطب � أو ا إل�ضافة يتخذه‬
‫إ‬ ‫إ‬
‫�شئت‪..‬و� ّأنه ابن لرتاث الرواية العربية احلديثة �إذا �شئت املبدع يف خلوته‪� ،‬إال � ّأن ذلك التقييم يجري ح�سب‬
‫ُ ٌ‬
‫� أي�ضا‪ ،‬غري � أنه قب َل ذل َك وبعده‪ ،‬قبل ا ألبوة وبعد البنوة معايري ذوقية وجمالية ومفاهيم وت�صورات � أفرزتها‬
‫هو �صوت فنّي متميزٌ‪ ،‬ل َه �شخ�صيته ا ألدبية امل�ستقلة‪ ،‬ول ُه الثقافة امل�شرتكة بينه وبني املتلقي االفرتا�ضي‬ ‫َ‬
‫الق�صة – د‪ .‬غايل الذي يجل�س يف نهاية امل�شهد منتظرا ما يتدفق ب ِه‬ ‫ال�سخي)‪ -‬ق�صتي مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫العطاء‬ ‫على‬ ‫قدرة‬
‫ٌ‬
‫ج�رس احلقائق والأوهام‪ .‬فهذا اجل�رس التوا�صلي هو‬ ‫�شكري‪ -‬دم�شق ‪-30‬يناير‪1980-‬م‪.‬‬
‫الذي يغذي الكتابة‪ ،‬فال ت�صبح جمرد فعل ٍ عبثي‬ ‫�صدر للروائي د‪� .‬صالح ال�سنو�سي‪:‬‬ ‫َ‬
‫يدور يف الفراغ‪ ،‬بل يجعلها فعال ي�شارك يف خلق‬ ‫‪1980‬‬ ‫الوادي‪-‬رواية‬ ‫يفي�ض‬ ‫متى‬ ‫‪-‬‬
‫العامل والت�أثري فيه‪.‬‬ ‫‪-‬غدا تزورنا اخليول – ق�ص�ص ‪1984‬‬
‫‪ -‬لقاء على اجل�رس القدمي ‪ -‬رواية ‪1992‬‬
‫رجل ال تتوافر فيه �إال معايري‬ ‫ٌ‬ ‫أ�نا‬ ‫‪� -‬سرية � آخر بني هالل ‪ -‬رواية‪1999‬‬
‫البداع‬ ‫إ‬ ‫و�شروط‬ ‫‪ -‬حلق الريح‪ -‬رواية ‪2002‬‬
‫ل ُه � أعمال ق�ص�صية وروائية حتت الطبع‪ ..‬كما �صدر له‬
‫ثالثة كتب يف الفكرواالجتماع وال�سيا�سة‪ »:‬العرب من ‪ uu‬اقت�صاد‪ ..‬مقال �سيا�سي‪ ..‬ق�ص�ص ق�صرية‪..‬‬
‫أنت يف‬ ‫�رضوري بال انتهاء‪ � ..‬أي َن � َ‬
‫ّ‬ ‫روايات‪� ،‬صخب‬ ‫احلداثة �إىل العوملة»‪2000-‬‬
‫«العوملة � أفق مفتوح و�إرث يثري املخاوف»‪ 2003 -‬كلّ هذا؟ وم ْن ا ألقرب �إليك؟؟‬
‫أظن انك تبالغ‪ ،‬فالق�ص�ص الق�صرية ملْ � أعدْ � أكتبها‬ ‫و«امل�أزق العربي غياب الفعل اجلماعي وعنف ا ألقلية» ‪ّ �-‬‬
‫منذ الثمانينات‪ ،‬وكان ذلك خالل مرحلة حياتي يف‬ ‫–‪ 2004‬جميعها �صدرت يف القاهرة‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والدعاية بالن�سبة للم�شهد الثقايف العربي‪ ،‬وهذا‬ ‫تعج بال�صحف واملجالت‬ ‫باري�س التي كانت يومها ّ‬
‫تعمدك‬
‫الطرفان هما ال�سلطة والغرب‪ � ،‬أي ينبغي � أن ّ‬ ‫ل�ست �صاحب عمود‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العربية‪ � ،‬أما املقاالت ف�أنا‬
‫ال�سلطة العربية‪ � ،‬أو يتبناك الغرب الثقايف لأ�سباب‬ ‫وال رئي�س حترير ل�صفحة يف � ّأي مطبوعة ليبية‬
‫�سيا�سية‪ ،‬وال � أحد من هذين الطرفني يعتربين �صديقا‬ ‫وال عربية‪ ،‬وكل ما هناك � أنني � أكتب مقاال �شهريا‬
‫حمقان يف ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫له وال من رجالهِ‪ ،‬وهما‬‫ُ‬ ‫باالتفاق مع اجلزيرة – نت‪ ،‬ولكن ما � أده�شني َ‬
‫هو‬
‫غياب الفعل اجلماعي أ� ّدى �إىل‬ ‫حديثك عن ال�صخب ال�رضوري بال انتهاء‪ ،‬وك�أنك‬
‫ال تعرفني‪ ،‬ف�أنا ال يكاد يعرفني جاري القاطن‬
‫انق�سام املثقفني‬
‫يف البيت املقابل لبيتي يف مدينة بنغازي‪ ،‬فلي�س‬
‫العربي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫يعد مقنعا للمواطن‬ ‫مل ُ‬‫‪ uu‬الفعل الثقايف ْ‬ ‫حويل �صخب و� ّأي � أ�ضواء على ال�ساحة الثقافية‬
‫وهو يعي�ش الكوارث املتالحقة – كما يعرب جربا‬ ‫َ‬ ‫الليبية‪ � .‬أما امل�شهد الثقايف العربي‪ ،‬ف�أنا رج ٌل ال‬
‫�إبراهيم جربا‪ ..‬قل يل ملاذا؟وكيف ننتج؟‬ ‫تتوافر في ِه ال�رشوط واملعايري غري ا إلبداعية التي‬
‫ثقافة هادفة‪ ..‬ومقنعة؟ ماذا تقرتح؟� أال ترى � أ ّن‬ ‫تتطلبها الأ�ضواء وال�صخب واملزامري على م�رسح‬ ‫ان امل�شهد‬
‫ّ‬
‫العديد من مثقفينا يظهرون �سلبية مقيتة‪ ..‬وال‬ ‫هذا امل�شهد‪ ..‬كنت � أقول � ّأن امل�شهد الثقايف العربي‬ ‫الثقايف العربي‬
‫مباالة جارحة جرّاء ما يحدث على � أر�ض الواقع‪..‬‬ ‫هو �إعادة �إنتاج للم�شهد ال�سيا�سي بكل مرجعياته‬ ‫َ‬ ‫هو �إعادة‬
‫تكون‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫فيلزمك‬ ‫والغنيمة‪،‬‬ ‫الع�صبة‬ ‫بينها‬ ‫من‬ ‫التي‬ ‫َ‬
‫هيمنة � أجنبية‪ ..‬تبعية‪ ..‬احتالل‪ ..‬وغياب مدن‬ ‫َ‬ ‫�إنتاج للم�شهد‬
‫بكاملها‪ ..‬ما � أ�سباب هذ ِه ال�سلبية؟ وما � أهدافها؟ماذا‬ ‫جزءا من �إحدى �شلل � أوع�صائب هذا امل�شهد‪ ،‬ولكي‬
‫تكون ع�ضوا يف هذ ِه الع�صبة فيجب � أن تكون من‬ ‫ال�سيا�سي بكل‬
‫ت�سمّي هذا النوع من املثقفني؟‬
‫ذكرته‬ ‫‪ -‬ا إلجابة على هذا ال�س�ؤال تعيدين �إىل ما �سبق‬ ‫الذين � أ�صابهم �شيء من في�ض غنيمة ال�سلطة حتّى‬ ‫مرجعياته‬
‫ُ‬
‫يف كتابي الذي �صدر منذ � أربع �سنوات عن مركز‬ ‫ت�ستطيع � أن تتبادل املنافع وامل�صالح يف �سوق هذا‬ ‫التي من‬
‫درا�سات الأهرام – القاهرة بعنوان «امل�أزق العربي‪..‬‬ ‫امل�شهد الثقايف العربي‪ ،‬و� أن ت�ستكب النقاد وت�ؤجر‬ ‫بينها الع�صبة‬
‫غياب الفعل اجلماعي وعنف ا ألقلية»‪ ،‬فغياب روح‬ ‫الطبالني واملرتجمني‪ ،‬ولكي ي�صيبك �شيء من هذا‬ ‫والغنيمة‬
‫الفعل اجلماعي لدى الأغلبية ال�ساحقة يف املجتمع‬ ‫فالبد � أن تكون منخرطا يف رتل ال�سلطات العربية‬
‫العربي لأ�سباب ال ي�سمح �سياق حديثنا هنا ل�رشحها‬ ‫ول�ست من‬‫ُ‬ ‫� أو منافقا معها‪ ،‬وهذه � أمور ال � أ�صلح لها‬
‫وحتليلها‪ّ � ،‬أدت �إىل انق�سام املثقفني الذين تت�ساءل‬ ‫رجالها‪ ،‬ولهذا ف�أنا � أقع خارج �صخب و� أ�ضواء هذا‬
‫عن دورهم �إىل خم�س فئات‪ ،‬الأوىل تلوذ بال�صمت‬ ‫امل�شهد‪ ..‬فهل �سبق ل َك � أن علمت � أو قر� أت � أنني مدعوٌ‬
‫حتا�شيا منها لل�صدام مع �سلطات باغية يف جمتمع‬ ‫لدي كتب لي�ست‬ ‫أي معر�ض كتاب عربي‪ ،‬رغم � أنني ّ‬ ‫ل ّ‬
‫فاقد لروح الفعل اجلماعي‪ �.‬أما الفئة الثانية فقد‬ ‫�سيئة معرو�ضة يف هذ ِه املعار�ض التي � ألتقي فيها‬
‫اختارت املنفى والهروب من � أوطانٍها ولها � أ�سبابها‪،‬‬ ‫ب�أنا�س‪ ،‬الكثري منهم لي�سوا � أق ّل مني �سوءا‪ ،‬ومع ذلك‬
‫� أما الفئة الثالثة وهي الأغلبية فقد اختارت طريقا‬ ‫فهم �ضيوف ُمبجلون‪ ..‬ه ْل �سمعت � أنني �شاركت‬
‫يوائم بني م�صاحلها وم�صالح النظام من ناحية‬ ‫يف ندوة من ندوات هذا امل�شهد‪ ،‬رغم � أنني باحث‬
‫وحماولة �إحداث تغيري من داخل النظام‪ � ،‬أي � أنها‬ ‫متت ا�ست�ضافتي يف ما بات‬ ‫� أكادميي � أي�ضا؟ ه ْل ّ‬
‫انخرطت مع النظام ال�سيا�سي بعد � أن يئ�ست من‬ ‫يعرف بعوا�صم الثقافة العربية؟ و� أنني � أجزم ب�أنك‬
‫قدرة اجلماعة على فر�ض �إرادتها‪ ،‬بينما ر� أت الفئة‬ ‫ال ت�ستطيع � أن تثبت � أنني ُدعيت يف � ّأي من ُم�ؤمترات‬
‫الرابعة‪ ،‬يف ظل عجز اجلماعة عن � أداء دورها � أنه‬ ‫الرواية العربية‪ ،‬رغم � أنني � أكتب الرواية‪ ،‬و�صدرت‬
‫يح ّق لها � أن حتاول اال�ستفادة من حماية الف�ضاء‬ ‫يل عدة روايات‪ ،‬مهما تدنت قيمتها فلن تكون � أق ّل‬
‫ا إلعالمي وال�سيا�سي الغربي يف ع�رص العوملة‬ ‫قيمة من روايات � آخرين تتبناها ع�صائب امل�شهد‬
‫باعتباره ف�ضاء �ضاغطا – متى � أراد‪ -‬على ال�سلطات‬ ‫الثقايف العربي‪ ،‬وتدق حولها الطبول واملزامري‪،‬‬
‫العربية � أكرث من جمتمعها العاجز‪ ،‬غري � أن ثمن‬ ‫وترتجم �إىل لغات اجلن والأن�س‪.‬‬
‫هو � أن يراعي هذا املثقف يف خطابه جملة‬ ‫ذلك َ‬ ‫يا �صديقي هناك طرفان هما م�صدر ال�ضوء وال�صخب‬
‫‪126‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لتوظيف الظاهرة‪ ،‬على الأغلب � أن هرني ميللر قد‬ ‫من املواقف وااللتزامات التي تتناغم مع م�صالح‬
‫�شتم ال�سيا�سة ولكنه ملْ يتطرق �إىل الثقافة‪ ،‬ولكن‬ ‫ت�سميه � أنت الهيمنة‬
‫ومواقف الغرب من � أمثال ما ّ‬
‫الثقافة هي � أي�ضا لي�ست بريئة‪ ،‬وقد تكون هي‬ ‫والتبعية واالحتالل و�ضياع الأم�صار واملدن‪ � .‬أما‬
‫امل�س�ؤولة عن كثري ما ن�سميه كوارث ال�سيا�سة‪ ،‬لأن‬ ‫الفئة اخلام�سة وهي الأقلية فقد اختارت الوقوف‬
‫� أي حراك �سيا�سي يلزمه ت�أويل ثقايف‪ ،‬فاطالق �صفة‬ ‫تعتقده ر� أيها ور� أي‬
‫ُ‬ ‫يف وجه ال�سلطة والدفاع عما‬
‫ال�رشير وا إلرهابي واملتع�صب واملتخلف �ضمن‬ ‫ا ألغلبية العاجزة‪ ،‬وذلك بقبولها الت�ضحية ودفع‬
‫م�رشوع �سيا�سي يلزمه �إرثا ثقافيا ثاويا يف ال�ضمري‬ ‫الثمن اعتقادا منها � أن ذلك �سيدفع غالبية اجلماعة‬
‫اجلمعي‪ ،‬لكي يعطي امل�صداقية ال�رضورية لتحريك‬ ‫�إىل االنخراط يف الفعل اجلماعي غري � أن � أحداث‬
‫� آليات هذا امل�رشوع‪ .‬فاال�ستعمار الغربي الع�سكري‬ ‫الواقع العربي � أثبتت عدم �صحة هذ ِه التوقعات‪ ،‬فبدا‬
‫أعتقد � ّأن‬
‫ُ‬ ‫�‬ ‫وال�سيا�سي كان يتوك�أ � أي�ضا على ع�صا ثقافية‪ ،‬بل‬ ‫حال ه�ؤالء الذين ذهبوا �إىل حد الت�ضحية‪� ،‬شبيها‬
‫الرواية‬ ‫العن�رصية هي ظاهرة ثقافية احت�ضنتها ال�سيا�سة‪،‬‬ ‫بحال �شخ�ص يخالف نظام ال�سري فتده�سه �سيارة‬
‫العربية ال‬ ‫فمعظم منظري العرقية يتو�سلون الثقافة يف الدفاع‬ ‫م�رسعة يف منطقة مظلمة من الطريق العام‪.‬‬
‫عن ر ؤ�يتهم التي تبنتها ال�سيا�سة ف�سريج جوبينو‪،‬‬ ‫� أظن � أنني – يا�صديقي – قد حاولت‪ ،‬ب�رصف النظر‬
‫ينق�صها �شيء‬
‫وبوفون‪ ،‬و� أرن�ست رينان وغريهم هم � أبناء ثقافة‬ ‫عن التوفيق من عدمه‪ � ،‬أن � أجيب على ت�سا ؤ�التك‬
‫من مقومات‬ ‫تراه من �سلبية‬
‫ولي�سوا � أبناء �سيا�سة‪ ،‬والهوية والقومية والدين‬ ‫حول نوعية املثقفني العرب وما ُ‬
‫الرواية يف‬ ‫والأيديولوجيا كلها � أح�صنة ثقافية ميتطيها فر�سان‬ ‫مقيتة وال مباالة‪ ،‬و� أكرر � أبحث عن غياب روح الفعل‬
‫بقية � أجزاء‬ ‫ال�سيا�سة‪� ،‬صحيح � أن ال�سيا�سة كعلم حديث الن�ش�أة‪،‬‬ ‫اجلماعي لدى غالبية اجلماعة‪ ،‬فهو خلف كل هذ ِه‬
‫الخرى‪،‬‬‫العامل أ‬ ‫ولكنها ك�أفعال و�سلوكيات هي قدمية غري � أنها‬ ‫الظواهر وتلك الكوارث‪ ..‬ال �شك � ّأن القارئ �سيت�ساءل‬
‫ولكنّها تعاين‬ ‫كانت وال تزال حتتاج �إىل عون الثقافة‪ ..‬و� أخالك‬ ‫عن ا أل�سباب الكامنة خلف فقدان هذ ِه الروح‪َ ،‬‬
‫وهو‬
‫من ظرف �شديد‬ ‫تخالفني حول � أثر الثقافة يف تردي � أو�ضاعنا‬ ‫ت�سا ؤ�ل منطقي وم�رشوع ولكنني ال � أ�ستطيع � أن‬
‫ال�سيا�سية العربية‪ ،‬فغياب روح الفعل اجلماعي‬ ‫� أعيد رواية كتاب بكامله‪ ،‬وهو الكتاب الذي ال � أظن‬
‫الوط�أة‪ ،‬وهو‬
‫بك ّل ما ميثله من خراب �سيا�سي‪ ،‬يجد الكثري من‬ ‫قد �سمع به معظم القراء العرب‪ ،‬لأنه مل حتتف به‬
‫غياب حرية‬ ‫� أ�سبابه يف ثقافة العجز والتواكل وال�صرب واخل�ضوع‬ ‫ع�صائب امل�شهد الثقايف العربي‪،‬وبالتايل مل ي�سمع‬
‫التعبري‬ ‫واخلال�ص الفردي التي لها جميعها مرجعياتها يف‬ ‫ب ِه املتلقي العربي �ضحية الطبول واملزامري‪.‬‬
‫الثقافة العاملة والثقافة ال�شعبية‪ .‬واخريا � أقول لك‬ ‫الثقافة هي امل�س�ؤولة عن كثري ٍ‬
‫كان ثمة تغري فال بد � أن يحدث يف الثقافة � أوال !!‬
‫�إذا َ‬ ‫من كوارث ال�سيا�سة‬
‫كل أ‬
‫الجنا�س‬ ‫ن�ص تعرب ُه ّ‬
‫الرواية ٌ‬
‫الروائي ا ألمريكي – هرني ميللر‪�( :‬إنني‬
‫ّ‬ ‫‪ uu‬يقو ُل‬
‫أ‬
‫الدبية دون أ�ن يفقد هويته‬ ‫� أعد ّ ال�سيا�سة عاملا خبيثا ‪ ..‬متعفنا �إىل � أبعد حدّ‪..‬‬
‫�إننا ال ن�ص ُل �إىل � ّأي تقدم عن طريق ال�سيا�سة‪� ..‬إنّها ‪ uu‬الرواية تاريخ‪ ..‬وذاكرة‪ ..‬وخمزون‪ ..‬وتراكم‬
‫تف�سدُ ك ّل �شيء‪ )..‬ملاذا بر� أيك؟و� أيهما ا أل�صح‪ :‬ثقافة فكري وحياتي؟كيف ّ‬
‫تعرف الرواية و� أنت الروائي‬
‫الكبري!؟‬ ‫ال�سيا�سة � ْأم �سيا�سة الثقافة؟‬
‫‪ -‬ب�إمكاين � أن � أحتدث عن الرواية وال � أعرّفها‪،‬‬ ‫‪ -‬ثقافة ال�سيا�سة و�سيا�سة الثقافة كلها تعبريات‬
‫فالتعريف بالن�سبة �إىل � أكادميي مثلي يح�رص‬ ‫تدور حول مو�ضوع واحد ب�رصف النظر عن الت�أخري‬
‫ويقيد املعنى‪ ،‬ولكن �س�ؤالك يحا�رصين ويحا�رص‬ ‫والتقدمي وامل�ضاف وامل�ضاف �إليه‪ ،‬فاملق�صود ح�سب‬
‫الرواية ويطلب �إجابة حمددة ولهذا �س�أقول لك‬ ‫ظني هو االختيار بني توظيف ال�سيا�سة يف الثقافة‬
‫أعتربه � أنا خال�صا‬
‫ُ‬ ‫تعتربه � أنت تعريفا‪ ،‬وما �‬
‫ُ‬ ‫ما‬ ‫� أو العك�س‪،‬وعلينا ان ن�سلم بان هناك عالقات �سببية‬
‫تعربه ك ّل‬
‫ُ‬ ‫من ال�س�ؤال‪ ،‬فالرواية‪« :‬هي الن�ص الذي‬ ‫بني الثقافة وال�سيا�سة‪ ،‬فاالثنان ي�شرتكان يف ما‬
‫الأجنا�س الأدبية دون � أن يفقدَ هويته»‪..‬فهي ف�ضاء‬ ‫ن�سميه يف العلوم ال�سيا�سية بالبعد اال�سرتاتيجي‬
‫ّ‬
‫‪127‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إىل ال�شعر واملو�سيقى والر�سم والفل�سفة والنقد‪،‬‬ ‫تعربه ال�سيا�سة وال�شعر والتاريخ وعلم النف�س وعلم‬
‫و� أنا ال � أريد للرواية � أن ترتبع وحدها على م�رسح‬ ‫واحلب والكراهية والواقع‬‫ّ‬ ‫االجتماع وال�رش واخلري‬
‫ا إلبداع ا إلن�ساين ألن ذلك يعني نهايتها‪ ،‬فالرواية‬ ‫واخليال‪ ،‬ومع ذلك ف�إنك تقبل عليها باعتبارها‬
‫يف نظري ال ميكن � أن حتافظ على هويتها ومتيزها‬ ‫رواية وال تتوقع � أنك تقر� أ كتابا يف علم النف�س � أو‬
‫�إال يف وجود ك ّل تلك ال�رضوب الأخرى من ا إلبداع‬ ‫يف ال�سيا�سة‪ ،‬بل تظل ذلك الن�ص الذي يجرت يف‬
‫التي تتغذي ويغذي ك ّل منهما الآخر‪ � .‬أقو ُل لك –‬ ‫داخله ك ّل تلك اخللطة دون � أن يفقد بنيته ال�رسدية‬
‫و� أنت ال�شاعر‪� -‬إنني � أحيانا اظل � أبحث عن �إ�شباع‬ ‫و� أن�ساق عوامله‪ ،‬ودون � أن ينفلت وي�سقط يف املبتذل‬
‫نف�سي وذوقي وجمايل حلالة وجدانية تنتابني‪ ،‬وال‬ ‫ململ ودون � أن تفارقه لذة التوا�صل‪ ،..‬ولهذا ف�إن‬ ‫ا ُ‬
‫� أجد ذلك �إال يف بيتٍ � أو بيتني من ال�شعر ولي�س يف‬ ‫الن�ص الذي يفقد هويته وي�صبح جمرد احتطاب‬
‫� أعظم رواية‪ !!..‬ما � أريد � أن � أكرر قوله ب�صيغ ٍة � أخرى‬ ‫ومعان مر�صو�صة ومتجاورة‪ ،‬هو‬ ‫ٍ‬ ‫ملو�ضوعات‬
‫هو � أن فكرة �ألأحادية � أمر يخيفني‪ ،‬وال يدعوين �إىل‬ ‫َ‬ ‫عندي – ولعله عند الغالبية العظمى‪ -‬لي�س برواية‬ ‫ان مو�ضوع‬
‫الفرح حتّى لو كان مو�ضوعها هو اللذة واجلمال‪،‬‬ ‫و�إمنا ينطبق عليه املثل الليبي الدارج «كالم ال ر� أ�س‬ ‫الرواية هو‬
‫فالوحدانية ميكن � أن ت�ستوعبها الألوهية باعتبارها‬ ‫فاز باجلوائز على اعتبار � أنه‬
‫له وال ذيل»‪ ..‬حتّى و�إن َ‬
‫ُ‬ ‫الذي يفر�ض‬
‫فكرة جمردة ومتعالية‪ � ،‬أما � أن تنزل �إىل الأر�ض يف‬ ‫رواية لأ�سباب �سيا�سية ولي�ست �إبداعية‪ ،‬ومهما نال‬ ‫� أ�سلوب كتابته‪،‬‬
‫�شكل مادي‪ ،‬ف�إن ذلك ال � أظن � ّأنه يدعو �إىل البهج ِة‬ ‫من تقري�ض من قبل نقاد وكتبة م�ؤجرين‪ ،‬ويعانون‬
‫وانا مع اللغة‬
‫وال�رسور‪!!..‬‬ ‫يتبناه الغرب‪!!..‬‬
‫ُ‬ ‫من عقد نق�ص جتاه ك ّل ما‬
‫ال�شعرية‬
‫الرواية ُ العربية متتلك ّ‬
‫كل مقومات‬ ‫�إنّ عواطفي م�شدودة �إىل الرواية‬ ‫يف الكتابة‬
‫(ول�سوف تكت�سح الرواية الرواية العاملية‬ ‫‪ uu‬تقو ُل – �سانت بيف‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الروائية‪،‬‬
‫‪ uu‬وكيف تقيم الرواية العربية؟ َمن ِم َن ا أل�سماء‬ ‫ُ ك ّل �شيء)‪..‬ويقول ميالن كونديرا يف كتابه – ف ّن‬ ‫ولكنني ل�ست‬
‫تقر� أ؟ولمِ ْن تنجذب؟ وت�شعر � أنه ي�ضيف �شيئا لهذا‬ ‫الرواية‪ �( :‬إ ّن ال�سبب الوحيد لوجود الرواية ألنّها‬ ‫مع ال�شعر يف‬
‫الفن العظيم؟ وما ت�أثري الرواية الغربية على‬ ‫تقول �شيئا ال ميكن � أ ْن تقوله �سوى الرواية)‪ ..‬ملاذا‬ ‫الرواية‬
‫الرواية العربية وعلى � أ�سلوب روائيينا؟؟‬ ‫الرواية دون غريها من بقية الفنون؟‬
‫‪ � -‬أعتقدُ � ّأن الرواية العربية ال ينق�صها �شيء من‬ ‫أن هذا‬ ‫‪ � -‬أنا ال � أف�ضل تعابري من قبيل االكت�ساح ل ّ‬
‫مقومات الرواية يف بقية � أجزاء العامل الأخرى‪،‬‬ ‫التعبري يف لغتنا العربية يعني ظهوره هيمنة �شيء‬
‫ولكنّها تعاين من ظرف �شديد الوط�أة‪ ،‬وهو غياب‬ ‫واحد واختفاء ما عداه‪ ،‬ونحن يف عاملنا العربي‬
‫حرية التعبري‪ ،‬فالكبت ال�سيا�سي واالجتماعي‬ ‫نعاين من ثقافة االكت�ساح‪ ..‬فعلى �صعيد ال�سيا�سة‬
‫واملمنوعات واملحرمات كلها متثل عوائق � أمام‬ ‫يكت�سح احلاكم م�رسح ال�سيا�سة‪ ،‬فتختفي ال�شعوب‬
‫م�سريتها‪ ،‬وت�ؤثر ب�شكل � أو ب� آخر يف انطالقتها‪،‬‬ ‫‪ ..‬وكذلك ا ألمر بالن�سبة للفن وا ألدب وغريها‪ ،‬فهنا‬
‫ي�ضع حمددات ت�ؤدي �إىل ت�ضييق‬ ‫ُ‬ ‫باعتبار ذلك‬ ‫مكت�سحينِ (بفتح ال�سني‬‫َ‬ ‫دائما مكت�سح‪ ،‬والبقية‬
‫أمام املبدع‪ .‬وقد يقو ُل البع�ض � أن‬ ‫الف�ضاء املمتد � َ‬ ‫واحلاء)‪�..‬إنني ما � أزال يف معر�ض ا إلجابة عن �س�ؤالك‬
‫الكبت � أي�ضا يولد ا إلبداع‪ ،‬وهذا �صحيح �إىل حدٍّ ما‪،‬‬ ‫و�إن ا�ستخدمت ت�سميات لي�س من بينها الرواية‪ ،‬و� أنا‬
‫ولكن يف حالة الأو�ضاع العربية ف�إن اخلروج على‬ ‫�شخ�صيا � أكتب الرواية ومعظم َمن يعرفونني يطلقون‬
‫هذ ِه املحرمات وال �سيما ال�سيا�سي منها‪ ،‬باهظ الثمن‬ ‫لدي م�ؤلفات يف علم‬ ‫علّي �صفة الروائي رغم � أنني ّ‬
‫ومهلك‪ ،‬وال ت�ستطيع � أن تطلب من كل الروائيني � أن‬ ‫االجتماع ال�سيا�سي والبحث الأكادميي‪،‬ولهذا ف�أنني‬
‫يتحولوا �إىل � أبطال و�شهداء‪ ،‬وهم � أ�صال � أبناء ثقافة‬ ‫� أجد عواطفي م�شدودة �إىل الرواية‪ ،‬ولعل ذلك يرجع‬
‫العجز‪ ،‬وينتمون �إىل جمتمعات فاقدة لروح الفعل‬ ‫� أي�ضا �إىل كوين ع�شقت الرواية وكتبتها قبل � أن اعرف‬
‫اجلماعي‪ ،‬ف�أنت قد تكتب رواية ولكنك تخاف � أن‬ ‫� أجنا�س الكتابة الأخرى‪ ..‬ورغم ذلك ف�أنني ال � أريد‬
‫تن�رشها‪ ،‬ألنك قد تفقد حياتك‪ ،‬وهذا ال �شك ي�شكل‬ ‫� أن تكت�سح الرواية ك ّل �شيء‪ ،‬فا إلن�سان يف حاج ٍة‬
‫‪128‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫االتكاء على م�رشوعية وم�صداقية م�ستمدة من‬ ‫� أزمة للمبدع العربي‪.‬‬
‫ا ألدب الغربي لتع�ضيد ن�صو�ص يريدها � أ�صحابها‬ ‫نعم قد ي�ستطيع البع�ض من الذين يعي�شون خارج‬
‫رواياتٍ ‪ ،‬وهي يف نظري لي�ست كذلك‪ .‬ولكن ك ّل‬ ‫العامل العربي � أن يكتبوا بحرية � أكرث‪ ،‬ولكن ذلك يظل‬
‫هذ ِه ا إل�شكاليات وامل� آخذ ال ميكن � أن تخت�رص‬ ‫عمل � أفراد قليلني‪ ،‬وقد تكون قدراتهم ا إلبداعية‬
‫الرواية العربية‪ ،‬فهناك �إبداع وعطاء والتزام ونب�ض‬ ‫متوا�ضعة مقارنة بقدرات اخلائفني املرتددين‪ ،‬فهذا‬
‫حياة‪!!..‬‬ ‫دن خوف‪ ،‬مينح ه�ؤالء‬ ‫الظرف‪ � ،‬أق�صد حرية الكتابة َ‬
‫الرواية الليبية‬ ‫والبداع الليبي‬
‫م�ستقبل الرواية إ‬
‫ميزات قد يكون غريهم من الرهائن يف الوطن � أجدر‬
‫لي�ست ا�ستثناء‬ ‫منهم بها‪ ..‬يف ظل ظروف متكافئة‪ .‬هكذا � أرى الرواية‬
‫البداع العربي‬
‫مرهون مب�ستقبل إ‬
‫من الرواية‬ ‫العربية وغريها من �رضوب ا إلبداع �ضمن هذه‬
‫‪ uu‬والرواية الليبية التي � أ�صبحت � أكرث � أنواع‬ ‫االعتبارات واملحاذير‪ � .‬أما من الناحية ا إلبداعية‪،‬‬
‫العربية‪،‬‬
‫ا إلبداع الليبي نفوذا‪ ..‬وانت�شارا ‪ ..‬ورواجا للقارئ‬ ‫فلي�ست هناك رواية عربية واحدة‪ ،‬ب ْل هناك تعدد‪،‬‬
‫فهي تالقي‬ ‫الليبي والعربي‪ ..‬كيف تقر� أ م�ستقبلها؟ هل تذكر‬ ‫وهناك ن�صو�ص يح�سبها البع�ض روايات‪ ..،‬وهناك‬
‫العوائق نف�سها‬ ‫بع�ض ا أل�سماء الهامة !؟؟‬ ‫م�أخذان – يف نظري – على الرواية العربية‪ ،‬وهما‬
‫من ممنوعات‬ ‫‪-‬الرواية الليبية لي�ست ا�ستثناء من الرواية العربية‪،‬‬ ‫ي�سيئان �إليها ولعلها � أكرث خطرا من فقدان حرية‬
‫وحمرمات‪،‬‬ ‫فهي تالقي العوائق نف�سها من ممنوعات وحمرمات‪،‬‬ ‫التعبري‪ � .‬أول هذين امل�أخذين هو � ّأن هناك عددا‬
‫المر‬‫كذلك أ‬ ‫كذلك الأمر بالن�سبة مل�ستقبلها‪ ،‬ف�أنا ال � أ�ست�رشف لها‬ ‫متزايدا من الروائيني العرب يكتبون ويف ذهنهم‬
‫بالن�سبة‬ ‫م�ستقبال خا�صا بها معزوال عن م�ستقبل ا إلبداع يف‬ ‫ولي�س العربي‪ ،‬وبالتايل فهم‬ ‫َ‬ ‫املتلقي الغربي‪،‬‬
‫املنطقة العربية‪ � .‬أما م�س�ألة االنت�شار والرواج عربيا‪،‬‬ ‫يكتبون عن مو�ضوعات ي�أملون � أن يتبناها الغرب‬
‫مل�ستقبلها‪ ،‬ف�أنا‬
‫ف�أعتقد – ولعلني خمطئ‪ -‬ب�أن املبدعني الليبيني‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬في�ؤدي ذلك �إىل تبنيهم من قبل الغرب‬
‫ال � أ�ست�شرف لها‬ ‫تظلمه قدراته‪ ،‬ولكن‬ ‫الثقايف ب�أ�ضوائه وجوائزه ومظلته ا إلعالمية‪ ،‬ولهذا‬
‫ُ‬ ‫بع�ضهم ظلمته اجلغرافيا وملْ‬
‫م�ستقبال خا�صا‬ ‫بعد ثورة االت�صاالت التي �شهدها العامل يف نهاية‬ ‫فهناك ظاهرة تدافع يف هذا االجتاه‪ ،‬وك ّل يحدوه‬
‫بها معزوال‬ ‫الألفية الثانية‪ ،‬يبدو يل � أن هناك تقل�صا يف امل�سافة‬ ‫الأمل ب�أن يقع معه ما وقع مع قلة عمدهم الغرب‬
‫عن م�ستقبل‬ ‫التي كانت تف�صل بني ما كان ي�سمى مركز العامل‬ ‫كروائيني كبار وعامليني‪ ،‬ورغم � أن تبني الغرب‬
‫البداع يف‬‫إ‬ ‫العربي و� أطرافه‪ � .‬أعتقد � أنني قر� أت ك ّل َم ْن كتبوا‬ ‫هو لأ�سباب �سيا�سية ولي�ست �إبداعية‪� ،‬إال � أنهم‬‫له�ؤالء َ‬
‫املنطقة‬ ‫الرواية يف ليبيا‪ ،‬ومعظمهم‪،‬ولهذا ف�أنا ال بد � أن � أذكر‬ ‫يفر�ضون � أنف�سهم على ال�ساحة الثقافية العربية التي‬
‫دون ترتيب‪ ،‬ودون حكم‬ ‫لك � أ�سماء من قر� أت لهم َ‬ ‫تعاين من عقدة نق�ص مزمنة جتاه ك ّل ما ي�أتي من‬
‫العربية‬
‫ألن ذلك مهمة املتلقي ولي�ست مهمة روائي يتعامل‬ ‫جهة الغرب‪ ،‬وهي عقدة ال �شك لها � أ�سبابها احلقيقية‬
‫بنف�س الب�ضاعة‪ .‬لقد قر� أت لأحمد �إبراهيم الفقيه‪،‬‬ ‫واملو�ضوعية‪ ،‬ولهذا فان الغالبية العظمى من النقاد‬
‫وخليفة ح�سني م�صطفى‪ ،‬وحممد الأ�صفر‪ ،‬و�سامل‬ ‫العرب وامل�ؤ�س�سات الثقافية العربية ال ميلكون �إال‬
‫الهنداوي‪ ،‬وعبد الر�سول العريبي‪ ،‬وحممد عقيلة‬ ‫تبني ه�ؤالء باعتبارهم عامليني‪ ،‬وهي باملنا�سبة‬
‫العمامي‪ ،‬وجنوى بن �شتوان‪ ،‬و� أحمد الفيتوري‪،‬‬ ‫�صفة ال تطلق على الروائيني يف الآداب الأخرى‬
‫ويو�سف �إبراهيم‪ .‬لقد قر� أت له�ؤالء جميعا وا�ستفدت‬ ‫مهما بلغت قمة �إبداعهم‪ ،‬ب ْل يذكرون ب�أ�سمائهم‬
‫مما قر� أت لهم‪.‬‬ ‫دون اقرتانها ب�صفة العاملي‪ � .‬أما َمن ي�شككون يف‬
‫القيمة ا إلبداعية له�ؤالء العامليني العرب فانهم � أقلية‬
‫أ�نا مع اللغة ال�شعرية يف الكتابة الروائية‬
‫تغني خارج ال�رسب ح�سودة وهام�شية‪�.‬إن البحث عن‬
‫‪ uu‬فازت رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون‬ ‫مو�ضوعات قد تالقي قبوال لدى الغرب يجعل هذا‬
‫بجائزة «غونكور» الفرن�سية لكونها ال�شعري‪..‬‬ ‫النوع من الرواية العربية ال تلتقط هذه املو�ضوعات‬
‫قل يل ماذا ي�ضيف ال�شعر للرواية؟ وما مدى ت�أثري‬ ‫ولي�س املتلقي العربي‪!!..‬‬
‫َ‬ ‫�إال من � أجل متلق ٍ � آخر‬
‫ال�شعر على روايات �صالح ال�سنو�سي؟‬ ‫هو حماولة‬ ‫� أما امل�أخذ الثاين على الرواية العربية َ‬
‫‪129‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫� أخرج املخرج اليوناين الأ�صل «كو�ستا كافرا�س»‬ ‫‪ � -‬أعتقدُ � أن مو�ضوع الرواية هو الذي يفر�ض � أ�سلوب‬
‫يف الثمانينات �رشيطا �سينمائيا عن الفل�سطينيني‬ ‫كتابته‪ ،‬وانا مع اللغة ال�شعرية يف الكتابة الروائية‪،‬‬
‫يف �إ�رسائيل وكان بطل الفيلم فل�سطينيا‪ .‬كان عنوان‬ ‫ولكنني ل�ست مع ال�شعر يف الرواية (� أعني ال�شعر‬
‫الفيلم(حنا‪.‬ك)‪ ،‬وقد �سنحت يل الفر�صة � أن � ألتقي بهذا‬ ‫حتديدا)‪ ،‬ولي�س لغته‪ ،‬فا�ستخدام ال�شعر � أو �إقحامه‬
‫املخرج �ضمن عدد من الطلبة من زمالئي يف معهد‬ ‫يف �سياق الن�ص الروائي من � أجل التغطية على عجز‬
‫ا إلخراج ال�سينمائي يف باري�س‪ ،‬وبعد � أن انتهى‬ ‫الراوي يف االحتفاظ بخيط احلدث الروائي‪ ،‬فذلك‬
‫اللقاء ذهبت لأ�س�أله على انفراد‪ :‬ملاذا جعل البطل‬ ‫يف ر� أيي جمرد احتطاب � أعواد خ�شب من غابة ال�شعر‬
‫الفل�سطيني يحمل ندبة كبرية ت�شوه وجهه ب�شكل ٍ‬ ‫إلنقاذ م�رشوع بيت متهاو ٍ‪ .‬عندما كتبت رواية «�سرية‬
‫ملفتٍ للنظر‪ ،‬ف�ضحك ممازحا‪ ،‬وهو يرد علي‪ � :‬أتريدين‬ ‫� آخر بني هالل» ولعلك الحظت ذلك‪،‬ف�إن مو�ضوعها‬
‫ّ‬
‫� أن � أجعل البطل فل�سطينيا وو�سيما � أي�ضا؟ فنجاح‬ ‫فر�ض لغة �شعرية‪ ،‬ولكنني مل ا�ستنجد بقوايف ال�شعر‬
‫الفيلم قد ال يتحمل كل ذلك !! لقد خل�ص «كو�ستا‬ ‫لكي � أخفي عجزي عن االحتفاظ مب�سار تدفق احلدث‬
‫كافرا�س» امل�س�ألة يف جملتني‪ .‬فالعرب بالن�سبة‬ ‫الروائي‪ � .‬أعود �إىل رواية «ليلة القدر»‪ � ،‬أنا � أ�شك‬
‫للمتلقي الغربي اليزالون قوما � أكرث ما يثريون‬ ‫كثريا يف � أن تكون جائزة «الغونكور» قد ُمنحت‬
‫لديه هو ال�شفقة ولي�س ا إلعجاب‪ � .‬أعود ف�أقول لك � أن‬ ‫للرواية ب�سبب كونها ال�شعري‪ ،‬وهذا لي�س تبخي�سا‬
‫�شعرية الطاهر بن جلون التي لي�ست حمل �شك ٍ عندي‬ ‫للغة ال�شعر التي كتبت بها‪ ،‬ف�أنا � أناق�ش �سبب منح‬
‫مل تكن يف نظري خلف � أية جائزة ح�صل عليها‪ � ،‬أو‬ ‫ولي�س �شعرية الرواية‪ ،‬فالطاهر بن جلون‬ ‫َ‬ ‫اجلائزة‪،‬‬
‫�سيح�صل عليها‪ ،‬فلو فر�ضنا � أنه كتب رواية عن‬ ‫بد� أ الكتابة �شاعرا باللغة الفرن�سية‪ ،‬فهي لغته حتى‬
‫م�أ�ساة فتاة فل�سطينية � أثناء م�شهد الدم والنار الذي‬ ‫� أنه ترك ق�سم الفل�سفة بكلية الآداب يف املغرب‬
‫�صنعته �إ�رسائيل يف غزة ف�أنني على يقني من � أنه‬ ‫احتجاجا على تعريب الدرا�سة بالق�سم‪ ،‬وبالتايل‬
‫لن حتتفي بها م�ؤ�س�سات الغرب الثقايف‪ ،‬ولن مينحه‬ ‫فان لغته ال�شعرية � أمر متحقق‪ ،‬ولكن الرواية حتتاج‬
‫الر ؤ��ساء ا ألو�سمة عن هذه الرواية مهما � أوغل الطاهر‬ ‫�إىل مو�ضوع � أو حدث روائي و�إال � أ�صبحت ديوان‬
‫بن جلون يف �شعريته وجتاوز ماالرميه‪ ،‬وبودلري‪،‬‬ ‫�شعر‪ .‬ومو�ضوع «ليلة القدر» يتناول �إحدى ق�ضايا‬
‫ورون�سار‪.‬‬ ‫العادات والتقاليد ال�سيئة يف الثقافة العربية‪،‬‬
‫‪ uu‬متى نقر� أ لك عمال �صادرا عن دار ن�رش ٍ ليبية؟‬ ‫فالرواية ا�ستكمال لرواية «طفل الرمال»‪ ،‬وهي ق�صة‬
‫كيف قر� أ النقاد الليبيون والعرب رواياتك؟ ه ْل‬ ‫الأنثى التي � أراد � أبوها � أن تكون ذكرا لأنه لديه ثماين‬
‫� أخذت حقّك من النقد؟ � أعني ه ْل � أن�صفك النقاد يف‬ ‫بنات‪ ،‬وبالتايل � أعطاها ا�سم «احمد» ثم � أ�صبح � أحمد‬
‫روايتك اخلم�س ال�صادرة عن دور ن�رش ٍ عربية؟ كيف‬ ‫يف رواية «ليلة القدر» زهور � أي عادت �إىل � أنوثتها‪،‬‬
‫ا�ستقبلها القاريء الليبي وال�صحافة الثقافية؟‬ ‫حب ذكر �إىل � آخر الرواية‪.‬ال �شك � أن مثل‬
‫ووقعت يف ّ‬
‫‪ -‬هذا يف احلقيقة لي�س ب�س�ؤال ولكنه دعوة غري‬ ‫هذه املو�ضوعات تعترب � أكرث جاذبية بالن�سبة‬
‫بريئة منك لل�شكوى من جانبي � أظن انني � أجبت عن‬ ‫للمتلقي الغربي عموما نظرا ملا فيها من غرابة‬
‫جزء من هذا ال�س�ؤال يف معر�ض �إجابتي عن ال�س�ؤال‬ ‫وتعار�ض مطلق مع مفاهيم وقيم ثقافتهم‪ ،‬وهي‬
‫الثاين بخ�صو�ص ال�صخب‪.‬‬ ‫� أي�ضا ت�ؤكد ال�صورة املتلقاة من �إرثهم الثقايف عن‬
‫�إنا ال � أطالب � أحدا من النقاد � أن ين�صفني �شخ�صيا‪،‬‬ ‫ه�ؤالء القوم‪ ،‬وبالتايل فال ت�صدم � أحكامهم امل�سبقة‬
‫بل يلتفت �إىل الن�صو�ص ولي�س �إىل الأ�سماء‪ ،‬فما‬ ‫وال ت�ستفز عقولهم‪ ،‬بل تثري ف�ضولهم و�سخريتهم‬
‫يجري يف امل�شهد الثقايف العربي الآن هو الدوران‬ ‫وتعطي م�صداقية لكل ما تلقوه عن ثقافتهم‪ ،‬فلي�س‬
‫حول � أ�سماء معينة رغم � أن الكثري منها �إبداعيا‬ ‫هناك عمل �إبداعي عربي معر�ض للف�شل يف الغرب‬
‫�شحمها ورم‪.‬‬ ‫� أكرث من ذلك العمل الذي ي�صدم مفاهيم وت�صورات‬
‫اعرتف ب�أنني ال � أمتلك ال�رشوط غري ا إلبداعية التي‬ ‫و� أحكام املتلقي الغربي عن العرب‪� .‬س�أذكر لك‬
‫جتعل هذا امل�شهد يويل اهتماما بكتاباتي‪ ،‬ف�أنا‬ ‫حادثة طريفة لعلها لها عالقة بهذا املو�ضوع‪ ،‬فقد‬
‫‪130‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التي يرتب�ص مبثلها غريي من الكتاب العرب‬ ‫كما قلت لك �شخ�ص غري مفيد مبفهوم �سوق املنافع‬
‫م�ستغلني جهل وت�سلط الرقيب العربي ليجعلوا من‬ ‫وامل�صالح املتبادلة يف امل�شهد الثقايف العربي‪ � ،‬أما‬
‫ن�صو�ص متوا�ضعة �إبداعيا‪ ،‬مو�ضوعا �إعالميا يلهث‬ ‫الن�ص وحده لي�س هو ال�سلعة القابلة للتداول يف هذا‬
‫خلفه املتلقي ويبحث عنه‪ ،‬فانا دائما � أتوقع من‬ ‫ال�سوق‪.‬‬
‫القارئ � أن يبحث عن رواياتي ألنها جديرة بالقراءة‬ ‫هناك بالطبع نفر قليل من النقاد الذين � أولوا‬
‫ولي�س فقط لأنها ممنوعة‪.‬‬ ‫اهتماما بكتابتي ولكن معظمهم يقع خارج‬
‫رواية �سرية � آخر بني هالل هي رواية اللغة ال�شعرية‬ ‫�صخب امل�شهد الثقايف الع�صبوي العربي ولهذا‬
‫ولكنها � أي�ضا رواية الالجئ ال�سيا�سي العربي يف‬ ‫فقد ظل املتلقي العربي الذي هو �ضحية الدعاية‬
‫باري�س‪ � ،‬أي رواية املنفي‪ ،‬فبطل الرواية لي�ست له‬ ‫والربوباقاندا وا إل�شهار – كحال املتلقي يف كثري‬
‫جن�سية وا�سمه عدنان وال ميكن ن�سبته �إىل � أي بلد‬ ‫من � أنحاء العامل – م�شدودا �إىل ما يجري على‬
‫عربي ف�أي متلق عربي �سيح�سبه ذلك الرجل الذي‬ ‫امل�رسح امل�ضيء ماعدا � أقلية قد تلتفت من حني‬
‫فرّ من قريتهم � أو مدينتهم ذات يوم قبل القب�ض‬ ‫لآخر �إىل الأماكن املحرومة من ال�ضوء‪ ،‬ولكنهم يف‬
‫عليه‪ ،‬وهو � أي�ضا ال�شاعر الذي يرف�ض � أن يعاملوه‬ ‫النهاية � أقلية ت�ضيع � أ�صواتهم و�سط �صخب الدفوف‬
‫يف الغرب بالتعايل والدونية ولكنه يف الوقت نف�سه‬ ‫العالية واملزامري حتى �إن البع�ض منهم قد ي�ساوره‬
‫مهزوم ح�ضاريا و�سيا�سيا ومل ي�ستطع فوق كل ذلك‬ ‫ال�شك ب�أنه قد اكت�شف �شيئا قيما يف عتمة الزاوية‬
‫� أن يعو�ض هذه الهزائم بغزوات جن�سية يف بالد‬ ‫املن�سية‪.‬‬
‫الغرب كما يفعل � أبطال روايات املنفى العربية‬ ‫ففي ليبيا – على �سبيل املثال‪ -‬مل يكتب عن رواية‬
‫جميعها‪.‬‬ ‫حلق الريح �سوى مقال واحد ويف الوطن العربي‬
‫ولو قي�ض لهذه الرواية � أن حتمل ا�سم بهاء الطاهر � أو‬ ‫– ح�سب علمي‪ -‬مل يكتب عنها �سوى مقالني‪ ،‬وهى‬
‫يو�سف �إدري�س � أو الطيب �صالح – على �سيبل املثال‬ ‫رواية ميثولوجيا الرعاة والقبيلة التي ت�صبح دولة‬
‫– ملا اخط�أ الكثريون ممن قر� أوها يف عنوانها‬ ‫وهو النموذج الذي يتماهى مع التاريخ ال�سيا�سي‬
‫و� أ�سموها «�سرية بني هالل» بدال من �سرية � آخر بني‬ ‫العربي‪ ،‬فلو حملت هذه الرواية ا�سم � أحد � أولئك‬
‫هالل‪ ،‬وهذا �إن دل على �شيء ف�إمنا يدل على �سطوة‬ ‫املعتمدين يف امل�شهد الثقايف العربي ب�رشوطه‬
‫امل�شهد الثقايف الع�صبوي العربي على ذاكرتنا‪،‬‬ ‫وموا�صفاتها التي ال � أمتلكها‪ ،‬جلعلوا منها منوذجا‬
‫فيجعلنا نن�سى حتى الذي نعرفه جيدا طاملا مل‬ ‫ومرجعية ولنالت االهتمام الذي ت�ستحقه بني‬
‫تتبنه ع�صائب امل�شهد الثقايف العربي‪ ،‬ف�أنا ال � أتوقع‬ ‫الروايات العربية‪.‬‬
‫� أن تقع مثل هذه ا ألخطاء مع «احلب يف املنفي «� أو‬ ‫عندما �صدرت رواية �سرية � آخر بني هالل عن دار‬
‫«احلي الالتيني» رغم � أنهما ال يتميزان ب�شيء عن‬ ‫الهالل امل�رصية‪ ،‬منع الرقيب الليبي تداول الرواية‪-‬‬
‫�سرية � آخر بني هالل‪.‬‬ ‫� أول �صدورها‪ -‬ومع ذلك مل � أقفز على هذه الفر�صة‬

‫‪131‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫فنون‬

‫ت�صوير ‪ :‬عبدالكرمي الهنائي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪132‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الفوتوغرافيا ال ُعمانية‬
‫بني الواقع والطموح‬
‫(‪)2009 - 1970‬‬
‫عبداملنعم احل�سني‬
‫� أكادميي وم�صور ُعماين‬

‫تهدف هذه الدرا�سة �إىل حتليل واقع الت�صوير ال�ضوئي يف عمان وم�ؤ�رشات‬
‫امل�ستقبل يف �ضوء املعطيات الراهنة‪ .‬تبد� أ الدرا�سة ب�رسد تاريخي حول ما‬
‫تو�صلت �إليه امل�صادر من معلومات حتكي ق�صة ال�صورة وبدايتها يف عمان يف‬
‫فرتة ال�ستينيات وال�سبعينيات حتديداً‪ .‬بعد ذلك يقدم الباحث البداية امل�ؤ�س�ساتية‬
‫لفن الت�صوير ال�ضوئي يف عمان من خالل جماعة الت�صوير بالنادي الثقايف‬
‫يف فرتة الثمانينيات‪ .‬مع مطلع الت�سعينيات وافتتاح اجلمعية العمانية للفنون‬
‫الت�شكيلية �أ�صبح للت�صوير كيان م�ؤ�س�سي �أكرث تنظيماً‪ .‬ينتقل الباحث بعد ذلك‬
‫�إىل بع�ض امل�ؤ�س�سات التي تهتم مبجال الت�صوير ال�ضوئي وهي جماعة الت�صوير‬
‫بجامعة ال�سلطان قابو�س والكليات التطبيقية التابعة لوزارة التعليم العايل‬
‫والنادي العلمي التابع لوزارة الرتاث والثقافة‪ .‬كما تر�صد هذه الدرا�سة عالقة‬
‫الت�صوير ال�ضوئي بالفنون املعا�رصة من خالل التجارب املختلفة‪ .‬يحاول‬
‫الباحث يف نهاية الدرا�سة �أن يقدم خطة ا�سرتاتيجية لن�رش الثقافة الب�رصية‬
‫وتنمية الذائقة الفنية بال�سلطنة يف امل�ستقبل‪.‬‬

‫ت�صوير‪ :‬تي�سرية الربام ‪ُ -‬عمان‬

‫‪133‬‬
‫البدايات‬
‫مل ت�رش امل�صادر التي �سعى اىل متابعتها الباحث عن وجود‬
‫منتظم وم�ؤ�س�س للت�صوير ال�ضوئي يف عمان ال من حيث‬
‫امل�ؤ�س�سات احلكومية �أو حتى ا ألندية واملراكز ال�شبابية‪.‬‬
‫ت�صوير‪ :‬حممد الو�ضاحي ‪ُ -‬عمان‬

‫حيث كانت هناك بع�ض املمار�سات الفردية لعدد حمدود‬


‫من امل�صورين العمانيني من �أمثال حممد بن الزبري‬
‫و�سعود البو�سعيدي والعبا�س بن حممد وذياب بن �صخر‬
‫العامري(‪ .)1‬كما �أ�شارت بع�ض امل�صادر احلية اىل وجود‬
‫بع�ض اال�ستوديوهات املتوا�ضعة وخا�صة يف مطرح التي‬
‫كانت حمطة للقادمني من �رشق البالد وغربها ملن �أراد‬
‫ال�سفر للعمل �أو الدرا�سة يف اخلارج وكذلك م�سقط الداخل‪.‬‬
‫عمان ترجع اىل فرتة الثمانينيات وحتديدا ً يف عام ‪1988‬؛‬ ‫فكانت معظمها مل�صورين هنود (بانيان) يلتقطون �صورا ً‬
‫عندما �أ�س�س عدد من امل�صورين العمانيني القادمني من‬ ‫ال�ست�صدار جوازات �سفر للراحلني عرب امليناء القدمي اىل‬
‫درا�ستهم باخلارج جماعة الت�صوير ال�ضوئي يف النادي‬ ‫مناطق �أخرى من العامل مثل الب�رصة والكويت والبحرين‬
‫الثقايف التابع لوزارة الرتبية والتعليم وال�شباب يف ذلك‬ ‫وم�رص وغريها‪ .‬وبالتايل من ال�صعب توثيق هذه املرحلة‬
‫الوقت‪ .‬نذكر من ه�ؤالء امل�صورين واملهتمني بفن الت�صوير‬ ‫كبدايات للت�صوير ال�ضوئي الفني ألن معظم ال�صور املنتجة‬
‫ال�ضوئي كالً من �سيف الهنائي وعبدالرحمن الهنائي‬ ‫كانت �صورا ً ر�سمية ان �صح التعبري‪ ،‬يتم ا�صدارها ال�ستكمال‬
‫وحممد الو�ضاحي وابراهيم القا�سمي وبدر النعماين‬ ‫وثائق ثبوتية‪ .‬اال �أن معظم ال�صور التي مت توثيقها لتلك‬
‫وخمي�س املحاربي و حممد اليحيائي وطالب املعمري‪ .‬اال‬ ‫املرحلة –�أي فرتة ال�سبعينيات‪� -‬أو ما قبلها �سواء يف‬
‫�أن هذه البداية كانت متوا�ضعة جدا ً وتعتمد ب�شكل كبري على‬ ‫م�سقط �أو يف بع�ض مناطق ال�سلطنة مثل ظفار ونزوى‬
‫اجلهود الذاتية للم�صورين‪ .‬احت�ضن النادي الثقايف يف ذلك‬ ‫و�صحار التقطتها عد�سات الرحالة وخا�صة الربيطانيني‬
‫الوقت بامكاناته املحدودة عددا ً من املعار�ض الب�سيطة‬ ‫منهم من �أمثال تث�سيجر (مبارك بن لندن) الذين قدموا اىل‬
‫للم�صورين العمانيني الذين �ساهموا يف تنمية الذائقة‬ ‫عمان ألغرا�ض �شتى‪.‬‬
‫الب�رصية ولو ب�شكل حمدود يف تلك الفرتة‪ .‬وكانت هناك‬ ‫حتتاج هذه املرحلة اىل املزيد من البحث واال�ستق�صاء‪،‬‬
‫بع�ض املناق�شات الب�سيطة يف جمال الت�صوير ال�ضوئي‬ ‫حيث �أن ما تو�صل اليه الباحث يحتاج اىل مزيد من التحليل‬
‫والثقافة الب�رصية من خالل احتكاك امل�صورين با ألدباء‬ ‫والتمحي�ص والتدقيق ومزيد من ا ألدلة‪.‬‬
‫والكتّاب‪ .‬ا�ستمرت جهود ال�شباب يف النادي الثقايف‬
‫فرتة الثمانينيات‬
‫بحما�سة بالغة خا�صة يف الفرتات ا ألوىل وا�ستقطبت‬
‫ميكن القول �أن البدايات امل�ؤ�س�سية للت�صوير ال�ضوئي يف عددا ً من امل�صورين ال�شباب والفنانني والكتّاب �إىل �أن مت‬
‫افتتاح نادي الت�صوير ال�ضوئي متزامناً مع افتتاح اجلمعية‬
‫العمانية للفنون الت�شكيلية يف عام ‪.1993‬‬
‫ومن خالل متابعة املعار�ض التي �أقيمت بني النادي‬
‫الثقايف ونادي الت�صوير باجلمعية العمانية للفنون‬
‫الت�شكيلية ‪ -‬وهي قليلة ‪ -‬جند انبهارا ً بالطبيعة يف‬
‫البدايات والتقليد واملحاكاة وبع�ض حماوالت التجديد‬
‫واالختالف كما جند يف �أعمال ابراهيم القا�سمي وحممد‬
‫الو�ضاحي و�سيف الهنائي وعبدالرحمن الهنائي(‪.)2‬‬
‫اجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية‬
‫(‪)2009-1993‬‬
‫باهتمام �سلطاين ت�أ�س�ست اجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية‬
‫عام ‪ ..1993‬وتعد اجلمعية ككيان فني نقلة نوعية يف عامل‬
‫الفنون الب�رصية يف عمان‪ .‬حيث تهتم مبختلف الفنون‪ ،‬فهناك‬
‫ت�صوير‪� :‬أحمد ال�شكيلي ‪ُ -‬عمان‬
‫‪134‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ومنذ ال�سنة ا ألوىل إل�شهار النادي‪ ،‬ان�ضم اىل االحتاد الدويل‬
‫لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب)‪ .‬حيث �شارك �أع�ضاء النادي‬
‫يف عدة معار�ض وم�ؤمترات دولية من بينها البينايل الدويل‬
‫لفن الت�صوير‪ .‬بد�أت �أوىل امل�شاركات عام ‪ 1995‬يف ا�سبانيا‬

‫ت�صوير‪ :‬ابراهيم البو�سعيدي ‪ُ -‬عمان‬


‫و‪ 1997‬بال�صني بينما ح�صد النادي �أول اجنازاته يف مدينة‬
‫«تون» ب�سوي�رسا عام ‪ .1999‬حيث مثل النادي �أربعة من‬
‫امل�صورين العمانيني وهم �سامل الها�شلي و�سيف الهنائي‬
‫وابراهيم القا�سمي وخمي�س الريامي‪ .‬وقد ح�صل النادي‬
‫على امليداليةالربونزية يف بينايل ا ألبي�ض وا أل�سود اخلام�س‬
‫والع�رشين‪ .‬وكانت �سلطنة عمان الدولة العربية الوحيدة التي‬
‫�شاركت يف املعر�ض الذي اقيم اثناء فعاليات امل�ؤمتر‪ .‬ويف‬
‫عام ‪ 2001‬يف ايطاليا ح�صل النادي على امليدالية الف�ضية‬ ‫الر�سم مبدار�سه املختلفة والنحت والت�شكيل واخلط العربي‬
‫يف بينايل ا ألبي�ض وا أل�سود والذي نظمه االحتاد الدويل لفن‬ ‫والت�صوير ال�ضوئي‪ .‬كما �أن اجلمعية ممثلة ب�أع�ضائها ت�شارك‬
‫الت�صوير ال�ضوئي (الفياب)‪.‬‬ ‫يف املعار�ض وامل�سابقات والفعاليات املحلية والعربية‬
‫كما ح�صل النادي على امليدالية الف�ضية يف بينايل االحتاد‬ ‫والدولية وقد ح�صل عدد كبري منهم على جوائز و�شهادات‬
‫الدويل لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب) ا ألبي�ض وا أل�سود ال�سابع‬ ‫عربية ودولية‪.‬‬
‫والع�رشين لعام ‪ 2004‬يف بوادب�ست (املجر)‪ .‬ويف عام ‪2006‬‬ ‫ت�أ�س�س نادي الت�صوير الفوتوغرايف مع ان�شاء اجلمعية‬
‫ح�صل نادي الت�صوير على املركز ال�ساد�س يف بينايل ا ألبي�ض‬ ‫العمانية للفنون الت�شكيلية يف يناير عام ‪ ..1993‬وقد ان�ضم‬
‫وا أل�سود الثامن والع�رشين التابع لالحتاد الدويل لفن الت�صوير‬ ‫اىل ع�ضوية االحتاد الدويل لفن الت�صوير (‪ )FIAP‬يف مايو عام‬
‫ال�ضوئي (الفياب) والذي �أقيم يف جمهورية ال�صني ال�شعبية‪.‬‬ ‫‪.1993‬‬
‫ويف عام ‪ 2008‬ح�صل النادي على امليدالية الربونزية يف‬ ‫�أول معر�ض �شارك به �أع�ضاء نادي الت�صوير ال�ضوئي‬
‫بينايل ا ألبي�ض وا أل�سود التا�سع والع�رشين يف �سلوفاكيا‬ ‫باجلمعية كان يف ال�سنة ا ألوىل من ا�شهار اجلمعية حيث‬
‫بتنظيم من االحتاد الدويل لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب)‪.‬‬ ‫كان املعر�ض امل�شرتك ا ألول لكل �أع�ضاء اجلمعية يف خمتلف‬
‫باال�ضافة اىل هذه االجنازات اجلماعية‪ ،‬ح�صل اثنان‬ ‫الفنون الب�رصية عام ‪ 1993‬يف فندق االنرتكونتيننتال‪� .‬أي‬
‫من امل�شاركني من �أع�ضاء النادي على �شهادات متيز يف‬ ‫قبل ت�أ�سي�س قاعة عر�ض متكاملة للفنون الت�شكيلية‪� .‬شارك‬
‫�أعمالهما الفردية‪ .‬حيث ح�صل عبدالرحمن الهنائي على‬ ‫يف هذا املعر�ض من نادي الت�صوير‪� :‬سامل الها�شلي (رئي�س‬
‫امليدالية الف�ضية عام ‪ 2006‬وابراهيم البو�سعيدي على‬ ‫النادي يف ذلك الوقت) وحممد الو�ضاحي‪ ،‬و�سيف الهنائي‪،‬‬
‫اجلائزة ال�رشفية عام ‪.2001‬‬ ‫وخمي�س املحاربي‪ ،‬وعبدالرحمن الهنائي‪ ،‬وحممد مهدي‪،‬‬
‫ن�ستنتج من امل�شاركات اخلم�س لنادي الت�صوير ال�ضوئي‬ ‫وابراهيم القا�سمي‪ ،‬وعمر الزدجايل‪ ،‬وعبداملنعم احل�سني‪،‬‬
‫و�سعيد املخيني‪ ،‬وخالد �أ�رشف‪ ،‬و�سليمان اخل�صيبي‪ ،‬وجواد‬
‫البحري‪ ،‬وجناة احلارثي‪.‬‬
‫توالت بعدها املعار�ض ال�سنوية بدعم �سخي من ديوان البالط‬
‫ال�سلطاين‪ ،‬ف�أ�صبحت معار�ض الت�صوير ال�ضوئي م�ستقلة‬
‫بذاتها عن غريها من الفنون الت�شكيلية املختلفة‪.‬‬
‫بد� أ النادي اجتماعاته ا أل�سبوعية يف غرفة �صغرية مبقر‬
‫اجلمعية ا ألول باخلوير يف م�سقط‪ .‬رغم قلة �أعداد �أع�ضاء النادي‬
‫يف املرحلة ا ألوىل‪ ،‬اال �أن حما�س تلك املجموعة امل�ؤ�س�سة كان‬
‫كبرياً‪ .‬حيث بد�أت يف تنظيم الفعاليات ا أل�سبوعية ومناق�شة‬
‫بع�ض ق�ضايا الت�صوير ال�ضوئي واملحا�رضات والدورات‬
‫التدريبية ومتابعة امل�ستجدات وا أل�ساليب واالبتكارات الفنية‬
‫العاملية احلديثة‪ .‬كما بد� أ النادي يف تنظيم بع�ض امل�سابقات‬
‫ال�شهرية بني �أع�ضاء النادي التي كان لها �أثر كبري يف حر�ص‬
‫ا ألع�ضاء على احل�ضور وامل�شاركة الفاعلة‪.‬‬
‫ت�صوير‪ :‬حممد احلب�سي ‪ُ -‬عمان‬
‫‪135‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫طوال الع�رش �سنوات يف الفرتة من ‪ 1999‬اىل ‪2008‬عددا ً‬
‫من املالحظات جنملها فيما يلي‪:‬‬
‫‪� -1‬أن ح�ضور النادي كان م�رشفاً على كل امل�ستويات‪ .‬حيث‬
‫باع طويل يف جمال فن الت�صوير‬ ‫ا�ستطاع مناف�سة دول ذات ٍ‬
‫ت�صوير‪� :‬أحمد البو�سعيدي ‪ُ -‬عمان‬

‫ال�ضوئي مثل فرن�سا وبريطانيا وال�صني والهند واملجر‬


‫و�أملانيا وايطاليا‪.‬‬
‫‪� -2‬سلطنة عمان طوال امل�شاركات ال�سابقة كانت الدولة‬
‫العربية الوحيدة التي حققت هذا الكم من االجنازات الدولية‬
‫يف هذا املحفل العاملي الذي يعد ا ألبرز على م�ستوى العامل‬
‫يف جمال فن الت�صوير ال�ضوئي ا ألبي�ض وا أل�سود‪ .‬فرغم بع�ض‬
‫امل�شاركات اخلليجية والعربية الالحقة مل�شاركات ال�سلطنة‬
‫ترك املجال وا�سعاً لكل �أع�ضاء النادي للتقدمي وحتى يف‬ ‫�إال �أنها مل حتقق هذه االجنازات‪.‬‬
‫اقرتاح املو�ضوع الذي يتم اال�شرتاك فيه‪.‬‬ ‫‪ -3‬احلر�ص على امل�شاركة امل�ستمرة ألع�ضاء نادي الت�صوير‬
‫‪ -6‬رغم تعدد م�سابقات االحتاد الدويل لفن الت�صوير ال�ضوئي‬ ‫منذ البدء واىل ا آلن يف فعاليات هذا البينايل الدويل �أعطى‬
‫(الفياب) اال �أن م�شاركات النادي اقت�رصت لغاية عام ‪2008‬‬ ‫�سمعة دولية كبرية للنادي ولفن الت�صوير ال�ضوئي يف البلد‬
‫على بينايل واحد فقط وهو ا ألبي�ض وا أل�سود‪ .‬ومع زيادة‬ ‫ب�شكل عام؛ ذلك �أنه يعطي دالالت االنتظام امل�ؤ�س�سي لفن‬
‫التنظيم يف النادي ميكن امل�شاركة يف بيناليات ا أللوان �أو‬ ‫الت�صوير ال�ضوئي يف عمان‪.‬‬
‫املحاور املختلفة‪.‬‬ ‫‪ -4‬الفوز املتكرر والنتائج امل�رشفة تعطي دالالت قوة ما‬
‫باال�ضافة اىل املعار�ض ال�سنوية التي يقدمها نادي الت�صوير‬ ‫يقدم يف هذا البينايل الدويل من مو�ضوعات تنطلق من‬
‫باجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية‪ ،‬يتم تنظيم معر�ض‬ ‫البيئة املحلية‪ ،‬وي�ؤكد على غنى البيئة املحلية العمانية‬
‫مفتوح للم�صورين العمانيني يف الثالث والع�رشين من يوليو‬ ‫وثرائها‪ .‬ومن املو�ضوعات التي تناولها النادي يف البيناليات‬
‫مبنا�سبة يوم النه�ضة‪.‬‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬ال�صياد والبحر‪ ،‬نوافذ على الروح وهو عبارة عن‬
‫ومن بني ا ألفكار احلديثة التي �سعى اليها نادي الت�صوير‬ ‫ت�صوير �ضوئي للوجوه العمانية‪ ،‬االن�سان العماين‪ ،‬اجلمل‬
‫م�ؤخرا ً هو اقامة معر�ض بعنوان «�أطياف متوهجة» يف عام‬ ‫العربي‪ ،‬ا ألزياء العمانية‪.‬‬
‫‪ .2009‬ت�أتي �أهمية هذا املعر�ض يف �أنه يتيح للم�صور عر�ض‬ ‫أ‬
‫‪ -5‬قوة ومو�ضوعية اللجان التي تقوم باختيار العمال‬
‫�أية فكرة ابداعية تخطر يف باله وب�أي �أ�سلوب خارجاً بذلك‬ ‫امل�شاركة‪ .‬حيث ان طبيعة امل�سابقة يف البينايل تقت�ضي‬
‫عن الت�أطري التقليدي للم�سابقات الذي يحكم امل�صور بنوعية‬ ‫امل�شاركة يف مو�ضوع واحد بع�رش لوحات �ضوئية مل�صورين‬
‫معينة من ال�صور ومبقا�سات معينة كذلك‪ .‬فكرة هذا املعر�ض‬ ‫خمتلفني‪ .‬وبالتايل يربز هنا احتاد امل�صورين العمانيني‬
‫اذا ا�ستمرت �ستحقق نتائج ابداعية خمتلفة قادرة على االتيان‬ ‫وتكاتفهم وتفهمهم يف �أن ا ألف�ضل له �أحقية امل�شاركة مع‬
‫باجلديد واملغاير يف ال�ش�أن االبداعي ال�ضوئي‪.‬‬
‫قبل يوليو ‪ 2009‬ورغم االجنازات املتعددة لنادي الت�صوير‬
‫ال�ضوئي‪ ،‬كان �أع�ضاء جمل�س ادارة نادي الت�صوير ال�ضوئي‬
‫من املتطوعني الذين يحركهم احلب واالخال�ص واالنتماء لهذا‬
‫النادي‪ .‬تر�أ�س النادي �سامل الها�شلي يف بداية عهده وكانت‬
‫له ا�سهامات وا�ضحة يف جذب العديد من ا ألع�ضاء وتعزيز‬
‫امل�شاركات اخلارجية‪ .‬جاء بعد ذلك �سيف الهنائي فعزز‬
‫هذا اجلانب وزادت امل�شاركات الدولية اجلماعية ألع�ضاء‬
‫النادي‪ .‬ويف املرحلة الثالثة من عمر جمل�س ادارة النادي‬
‫زادت امل�شاركات اخلارجية واملحا�رضات والندوات وتفعيل‬
‫م�شاركات ا ألع�ضاء ب�شكل �أ�سبوعي‪ .‬تقوم ادارة النادي احلالية‬
‫التي يرت�أ�سها ابراهيم البو�سعيدي وع�ضوية خمي�س الريامي‬
‫و�أحمد البو�سعيدي و�أحمد الكندي ور�شاد الوهيبي و�سامل‬
‫البو�سعيدي وتي�سرية الربام على تو�سيع م�ساحة الثقافة‬
‫ت�صوير‪ :‬رحمة الهادي ‪ُ -‬عمان‬
‫‪136‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هذا اللقب قبول �أعمالهم يف امل�سابقات واملعار�ض الدولية‬
‫والتي يرعاها ا إلحتاد الدويل حيث �أن قبول ا ألعمال يف هذه‬
‫املعار�ض مير على جلان حتكيم فنية دولية ‪.‬‬
‫وهذا الو�سام هو �إعرتاف ر�سمي من ا إلحتاد الدويل بالفنان‬
‫ويكون هذا اللقب مالزما إل�سم امل�صور يف جميع امل�شاركات‬

‫ت�صوير‪ :‬داليا الب�سامي ‪ُ -‬عمان‬


‫واملخاطبات الر�سمية الدولية ويح�صل امل�صور على و�سام‬
‫ا إلحتاد الدويل ا ألخ�رض و�شهادة دولية من ا إلحتاد وهي �أول‬
‫مراحل الزمالة يف ا إلحتاد كما ح�صل عبدالرحمن الهنائي‬
‫على املركز ا ألول على م�ستوى ال�رشق ا ألو�سط يف جائزة �آل‬
‫ثاين الدولية عام ‪ ،2008‬ويف عام ‪ 2009‬لنف�س امل�سابقة‬
‫ح�صل نادي الت�صوير على امليدالية الذهبية �ضمن �أف�ضل‬
‫ع�رشة �أندية للت�صوير ال�ضوئي يف العامل‪ .‬كما ح�صل خم�سة‬ ‫الب�رصية وتنمية الذائقة الفنية ب�شكل كبري‪.‬‬
‫من �أع�ضاء النادي على جوائز متفرقة يف امل�سابقة وهم‪:‬‬ ‫كما �أن العام املن�رصم يعد ا�ضافة حقيقية يف نادي الت�صوير‬
‫�أحمد ال�شكيلي ورحمة الهادي و�سامل الوردي وابراهيم‬ ‫ال�ضوئي من جانبني‪ ،‬ا ألول مت تعيني م�رشف خمت�ص يف‬
‫البو�سعيدي وحممود البلو�شي‪ .‬ح�صل كذلك باقر جواد على‬ ‫�ش�ؤون النادي ومتفرغ له وهو �أحمد البو�سعيدي‪ .‬وبالتايل‬
‫اجلائزة الكربى يف م�سابقة االمارات الدولية لعام ‪،2008‬‬ ‫زاد تنظيم النادي و�ش�ؤونه وفعالياته بعد �أن كان �أع�ضاء‬
‫وحممد الطائي على املركز ا ألول يف نف�س امل�سابقة‪.‬‬ ‫جمل�س االدارة جمرد متطوعني لهم �أعمالهم اخلا�صة بينما‬
‫ويف م�سابقة بريجا الدولية للت�صوير برو�سيا والتي ينظمها‬ ‫يعد النادي ا�ضافة اىل اعمالهم وجهدهم‪ .‬اجلانب الثاين هو‬
‫ا إلحتاد الدويل لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب ‪ )FIAP‬ح�صل‬ ‫املقر اجلديد للنادي يف العذيبة الذي بد� أ الن�شاط فيه من ‪21‬‬
‫خالد الرواحي على امليدالية الف�ضية من االحتاد الدويل‬ ‫دي�سمرب ‪ 2009‬ولكنه مل يفتتح ر�سمياً حتى ا آلن‪� .‬أ�صبح بذلك‬
‫لفن الت�صوير ال�ضوئي‪� ,‬أما يف حمور الت�صوير الرقمي فقد‬ ‫للنادي كيان خا�ص وا�سع ميكن �أن يزيد من انتاجية �أع�ضاء‬
‫ح�صل حمد ال�سليمي على جائزة �رشفية من ا إلحتاد الدويل‬ ‫النادي وفعالياته‪ .‬كما قام ألول مرة برحالت جماعية‬
‫لفن الت�صوير ال�ضوئي ويف حمور الت�صوير امللون فقط‬ ‫ألع�ضاء النادي لل�شباب يف ‪ 2010/1/21‬وللفتيات بتاريخ‬
‫ح�صل �أي�ضا امل�صور ال�ضوئي خالد الرواحي على �شهادة‬ ‫‪.2010/1/7‬‬
‫�رشفية من رو�سيا‪.‬‬ ‫من املالحظ كذلك زيادة م�شاركة العن�رص الن�سائي من‬
‫وقد ح�صل حمد ال�سليمي على امليدالية الربونزية من ا إلحتاد‬ ‫امل�صورات العمانيات يف العامني ا ألخريين باال�ضافة اىل‬
‫الدويل لفن الت�صوير ال�ضوئي (الفياب ‪ )FIAP‬يف م�سابقة ماملو‬ ‫زميالتهن ال�سابقات من �أمثال زيانة ال�شيباين وليلى احلارثي‬
‫الدولية التا�سعة للت�صوير ال�ضوئي يف ال�سويد من بني ‪765‬‬ ‫ومنى الكندي و�سحر الغاوي ي�شارك حالياً عدد لي�س بقليل‬
‫م�صورا �ضوئيا ميثلون ‪ 50‬دولة من خمتلف انحاء العامل‪.‬‬ ‫من �أمثال تي�سرية الربام ورحمة الهادي و�شم�سة احلارثي‬
‫ونادية العمري وفرحت احلارثي وداليا الب�سامي ور�شا‬
‫العبديل و�أمرية البو�سعيدي و�آمال البو�سعيدي‪.‬‬
‫كما �أن للنادي فروعا �أخرى متار�س الت�صوير ال�ضوئي مثل‬
‫فرع النادي يف �صاللة الذي كان ير�أ�سه عو�ض خوار وحالياً‬
‫عبداهلل املخزوم حيث ي�ستمر بن�شاطاته املتنوعة خا�صة يف‬
‫اخلريف وفرع الربميي الذي يحاول فتح نوافذ جديدة يف‬
‫عامل الت�صوير ال�ضوئي من خالل ور�ش العمل وامل�شاركات‪.‬‬
‫�إجنازات ‪2009‬‬
‫يف العام املن�رصم ‪ 2009‬زادت االجنازات الفردية ألع�ضاء‬
‫نادي الت�صوير ال�ضوئي‪ ،‬حيث ح�صل كل من �أحمد البو�سعيدي‬
‫وابراهيم البو�سعيدي على و�سام ولقب دويل من ا إلحتاد‬
‫الدويل لفن الت�صوير وهو لقب ‪( :‬فنان ا إلحتاد الدويل لفن‬
‫الت�صوير ال�ضوئي ‪ .)AFIAP‬وي�شرتط حل�صول امل�صورين على‬
‫ت�صوير‪� :‬سلطان احل�سيني ‪ُ -‬عمان‬
‫‪137‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫وح�صلت رحمة الهادية على اجلائزة ال�رشفية يف معر�ض‬
‫مار�سني الدويل الثالث للت�صوير الرقمي يف تركيا يف املحور‬
‫املفتوح �ضمن املعر�ض الذي �إنق�سم اىل ثالثة حماور وهي‬
‫املحور املفتوح وحمور الطبيعة واملحور التجريبي ‪.‬‬
‫ت�صوير‪ :‬عبداملنعم احل�سني ‪ُ -‬عمان‬

‫كما ح�صل �أحمد ال�شكيلي على اجلائزة ال�رشفية يف املعر�ض‬


‫ملحور ت�صوير الطبيعة عن �صورته والتي حملت عنوان‬
‫(�شاطئ االحالم)‪.‬‬
‫ويف مهرجان ال�صورة العربي الثالث يف ا ألردن ح�صل‬
‫امل�صورون العمانيون على املراكز ا ألوىل يف املحاور‬
‫املختلفة وهم نادية العمري و�سامل البو�سعيدي ور�شا‬
‫العبديل‪.‬‬
‫عبداملنعم احل�سني ونا�رص احلو�سني و�سامل املحروقي‬ ‫كما �شارك النادي يف معر�ض ال�صني الدويل الثالث ع�رش لفن‬
‫ومرفت العرميي و�ساملة احلجري وميمونة ال�سيباين‪ .‬و�أول‬ ‫الت�صوير ال�ضوئي يف نوفمرب ‪ 2009‬والذي يعترب من اكرب‬
‫معر�ض جلماعة الت�صوير كان يف ‪ .1991‬اال �أنه ميكن القول‬ ‫املعار�ض الدولية للت�صوير ال�ضوئي ويرعاه االحتاد الدويل‬
‫�أن العام ا ألكادميي ‪ 1997/1996‬ميثل نقطة حتول يف‬ ‫لفن الت�صوير ال�ضوئي وح�صل �أحمد البو�سعيدي على جائزة‬
‫جماعة الت�صوير‪ .‬حيث بد�أت بعدها �أ�سابيع الت�صوير ال�ضوئي‬ ‫الفياب ال�رشفية‪.‬‬
‫والتي مل تكن جمرد معر�ض ولكن جمموعة من الفعاليات‬ ‫جماعة الت�صوير بجامعة ال�سلطان قابو�س (‪)2009-1990‬‬
‫املتعلقة بفن الت�صوير ال�ضوئي‪ .‬هناك كذلك بع�ض اجلل�سات‬
‫ميكن القول �أن البداية امل�ؤ�س�ساتية جلماعة الت�صوير بجامعة‬
‫النقدية والفنية ألعمال الطالب باال�ضافة اىل ا�ست�ضافة‬
‫ال�سلطان قابو�س قد بد�أت يف عام ‪ .1990‬حيث كانت هناك‬
‫جمموعة من امل�صورين العمانيني للحوار مع طالب اجلامعة‪.‬‬
‫بع�ض االرها�صات ا ألوىل يف تكوين جماعة طالبية حتت‬
‫من ابرز الطالب يف ذلك الوقت مبارك الرحبي و�شيخة‬ ‫مظلة عمادة �ش�ؤون الطالب باجلامعة‪ .‬بعد هذا العام بد� أ‬
‫ا ألخزمي وليلى احلارثي و�شم�سة النعماين ومو�سى الك�رشي‬
‫االنتظام يف ن�شاط �أ�سبوعي للتعرف على �أ�سا�سيات الت�صوير‬
‫وعبداهلل الربخي وا�رشاف عبداملنعم احل�سني‪ .‬هناك عدد كبري‬
‫ال�ضوئي وتقنياته وفنياته واملدار�س العاملية املختلفة‬
‫من ا أل�سماء املعروفة يف عامل الت�صوير ال�ضوئي يف عمان‬
‫يف هذا املجال‪ .‬اال �أن البدايات �صاحبتها �صعوبات كثرية‬
‫�أ�سهموا يف تطوير جماعة الت�صوير ال�ضوئي من منت�صف‬
‫خا�صة فيما يتعلق باال�رشاف الفني والعمل الطالبي‪ .‬رغم‬
‫الت�سعينيات وحتى ا أللفية الثالثة من امثال خمي�س املحاربي‬
‫ذلك ا�ستمرت اجلهود التي �صاحبها دعم كبري من جامعة‬
‫وعبدالرحمن الهنائي و�سيف الهنائي وبدر النعماين وحممد‬ ‫ال�سلطان قابو�س فيما يتعلق باالحتياجات التقنية والفنية‪.‬‬
‫املعويل وخمي�س الريامي و�سليم العربي ونبيل الرواحي‬ ‫هناك جهود كبرية أل�سماء لها ب�صمات وا�ضحة يف البدايات‬
‫وزهرة املنذري وغريهم‪ .‬بعد ذلك ا�ستمرت اجلهود الطالبية‬ ‫مثل خمي�س املحاربي وجمموعة من الطالب �آنذاك مثل‬
‫الذين وا�صلوا امل�سرية ب�شكل جاد وطموح من �أمثال احمد‬
‫البو�سعيدي واحمد الكندي وخلفان ال�رشجي وداليا الب�سامي‬
‫وزيانة ال�شيباين وجنالء ال�سعدي و�صالح الها�شمي وغريهم‪.‬‬
‫ا�ستمرت اجلهود الطالبية مع ا أللفية الثالثة ومل تكن تثمر‬
‫لوال اال�رشاف االداري املتميز لوردة املحروقي املوظفة‬
‫بعمادة �ش�ؤون الطالب واال�رشاف الفني البراهيم البو�سعيدي‬
‫يف ذلك الوقت‪ .‬ملعت �أ�سماء بارزة بعد ذلك �ساهمت يف تطوير‬
‫م�ستوى الت�صوير ال�ضوئي يف عمان مثل ر�شاد الوهيبي‬
‫و�سلمان الكندي و�سامل البو�سعيدي وبدر ال�شيباين و�سكينة‬
‫املنجي ومنى بني عرابة ور�شا العبديل وامرية البو�سعيدي‪.‬‬
‫ترجع �أهمية جماعة الت�صوير بجامعة ال�سلطان قابو�س‬
‫كونها الرافد ا أل�سا�سي للم�صورين العمانيني على م�ستوى‬
‫ال�سلطنة‪ .‬فكثري من خريجي هذه اجلماعة �أ�صبحوا �أع�ضاء‬
‫يف نادي الت�صوير باجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية‪ .‬كما‬
‫ت�صوير‪ :‬عمر البو�سعيدي ‪ُ -‬عمان‬
‫‪138‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يرغب يف تطوير امكاناته يف الت�صوير ال�ضوئي(‪.)4‬‬
‫الكلية التقنية (وزارة القوى العاملة) (‪)2009-2005‬‬
‫تعد الكلية التقنية التابعة لوزارة القوى العاملة الكلية‬
‫الوحيدة املتخ�ص�صة التي متنح �شهادة �أكادميية يف الت�صوير‬
‫ال�ضوئي كدبلوم يف الت�صوير مدته �سنتان‪ .‬بد�أت الكلية بق�سم‬

‫ت�صوير‪� :‬شيماء القرين ‪ُ -‬عمان‬


‫الت�صوير ال�ضوئي عام ‪ .2005‬تخرجت اول دفعة ‪2007‬‬
‫وهناك جمموعة من املقررات يف جمال الت�صوير ال�ضوئي‬
‫بتقنياته املختلفة كت�صوير اال�ستوديو والبورتريه والت�صوير‬
‫التجاري‪ .‬توا�صل البع�ض مع نادي الت�صوير ال�ضوئي‬
‫باجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية وهناك اعداد قليلة من‬
‫اخلريجني من هذه الكلية حيث يبلغ عدد اخلريجني يف عام‬ ‫ت�أتي �أهمية جماعة الت�صوير باجلامعة �أن خريجيها قاموا‬
‫‪ 2008‬احد ع�رش ‪11‬خريجاً‪ .‬نق�ص هذا العدد يف عام ‪2009‬‬ ‫بن�رش ثقافة ال�صورة يف مناطقهم وجمتمعاتهم ال�صغرية مثل‬
‫اىل �سبعة خريجني فقط‪ .‬هناك بع�ض االن�شطة واملعار�ض‬ ‫�سعيد املنذري و�سعيد احلامتي وابراهيم الريامي‪ ،‬كما �أ�س�س‬
‫الفنية ابرزها معر�ض الكلية يف بيت الربندة يف عام ‪2008‬‬ ‫بع�ضهم جماعات للت�صوير يف مدار�سهم مثل �شم�سة النعماين‬
‫ومعر�ض اخر داخل الكلية يف ‪ .2007‬حتتاج الكلية التقنية‬ ‫وعبداهلل املحروقي �أو الكليات التطبيقية التي كانوا يعملون‬
‫يف املرحلة القادمة اىل تقييم وا�سع النطاق حول جدواها‬ ‫بها مثل داليا الب�سامي‪ .‬كما �أقامت اجلماعة عدة ندوات لن�رش‬
‫وواقع خريجيها يف املجتمع املحلي‪.‬‬ ‫ثقافة ال�صورة مثل «الفوتوغرافيا العمانية واقع وطموح»‬
‫كما �أن هناك بع�ض ن�شاطات الت�صوير ال�ضوئي يف املدار�س‬ ‫و«التعمني يف مهنة الت�صوير ال�ضوئي» و«الت�صوير التقليدي‬
‫والكليات اخلا�صة مثل الكلية العلمية للت�صميم وكلية الزهراء‬ ‫والت�صوير الرقمي»‪.‬‬
‫للبنات‪.‬‬
‫جماعات الت�صوير بالكليات التطبيقية‬
‫الفوتوغرافيا املفاهيمية يف عمان‬ ‫(وزارة التعليم العايل)‬
‫ميكن اال�شارة اىل البدايات ا ألوىل للت�صوير الفوتوغرايف‬ ‫ت�أ�س�ست بع�ض اجلماعات الطالبية يف الكليات التطبيقية‬
‫املفاهيمي كفن معا�رص من خالل �أعمال بع�ض امل�صورين‬ ‫التابعة لوزارة التعليم العايل خا�صة مع بداية ا أللفية‬
‫من �أمثال نبيل الرواحي وابراهيم القا�سمي وعبداملنعم‬ ‫الثالثة‪ .‬وكانت هناك جهود كبرية بذلها امل�رشفون على‬
‫احل�سني يف ‪ 2003‬و‪ 2005‬الذين قدموا �أعمالهم يف �سل�سلة‬ ‫هذه اجلماعات مثل داليا الب�سامي وح�صة البادي و�سعيد‬
‫معار�ض الدائرة التي بد�أت من الدائرة الثانية‪ .‬حيث خرجت‬ ‫احلامتي‪ .‬ويربز االهتمام يف هذا اجلانب ب�شكل كبري يف‬
‫ال�صورة هنا عن اطارها و�صارت �أكرب حجماً وركزت �أكرث‬ ‫ا أل�سبوع الثقايف الذي تنظمه الكليات التطبيقية حتت ا�رشاف‬
‫على الفكرة‪ .‬لوحات ب�أحجام كبرية با ألبي�ض وا أل�سود لبناء‬ ‫وزارة التعليم العايل كل �سنة‪ .‬اال �أن هذه اجلماعات الطالبية‬
‫التزال تعاين �ضعفا يف االمكانات الفنية والتقنية واال�رشاف‬
‫الفني املتفرغ البراز دورهم ب�شكل كبري‪ .‬كما �أن بعد هذه‬
‫الكليات عن م�سقط يحرمها الكثري من التوا�صل مع غريها من‬
‫امل�ؤ�س�سات مثل اجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية(‪.)3‬‬
‫النادي العلمي‬
‫رغم �أن النادي العلمي التابع لوزارة الرتاث والثقافة يحوي‬
‫ق�سماً خا�صاً بالت�صوير ال�ضوئي منذ عام ‪ 1989‬اال �أن‬
‫تفعيله ب�شكل كبري كان يف عام ‪ 2001‬مب�ساعدة خريجي‬
‫جماعة الت�صوير بجامعة ال�سلطان قابو�س‪ .‬حيث �أقيم عدد‬
‫من الدورات واحللقات التدريبية يف الت�صوير ال�ضوئي‬
‫والتحمي�ض والطباعة وت�صوير اال�ستوديو والت�صوير الرقمي‪.‬‬
‫يتميز النادي العلمي �أنه يقدم دورات �صيفية جمانية ملن‬
‫ت�صوير‪ :‬عبدالرحمن الهنائي ‪ُ -‬عمان‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫‪139‬‬
‫ج�سماين متدرج ال�شكل واحلجم ميثل فكرة القوة وال�ضعف‬
‫كما هو احلال عند نبيل الرواحي‪ .‬فكرة القوة وال�ضعف‬
‫وبينهما احلرية من خالل عمل تركيبي البراهيم القا�سمي‬
‫ا�شرتكت فيها ال�صورة ال�ضوئية من خالل �أ�شخا�ص مع�صوبي‬
‫العينني وعمل بالفيديو يرمز للحرية‪ .‬فكرة القوة وال�ضعف‬
‫ت�صوير‪� :‬أ�سعد اخلرو�صي ‪ُ -‬عمان‬

‫من خالل ا�ستخدام �صور �ضوئية ملجموعة من احليوانات‬


‫والطيور ورائحة املكان يف بيئة تركيبية كما هو احلال عند‬
‫عبداملنعم احل�سني‪.‬‬
‫كانت هناك جتربة �ضوئية مفاهيمية رائدة خارجة عن الدائرة‬
‫وحتديدا ً يف جامعة ال�سلطان قابو�س عرب جماعة الت�صوير‬
‫يف عام ‪ .2004‬حيث ا�شرتك بع�ض الطالب �آنذاك مع بع�ض‬
‫للم�ساهمة يف ن�رش ثقافة ال�صورة وتنمية الذائقة الب�رصية‬ ‫امل�رشفني الفنيني على اجلماعة يف ت�شكيل معر�ض جاء ب�إ�سم‬
‫وزيادة امل�شاركة الفعالة للم�ؤ�س�سات املعنية بالت�صوير‬ ‫(فكرة) ليعرب عن ق�ضايا مفاهيمية جمتمعية‪ .‬نظم هذا املعر�ض‬
‫ال�ضوئي يف عمان على امل�ستوى املحلي والعربي والدويل‪.‬‬ ‫و�أ�رشف عليه عبداملنعم احل�سني مب�شاركة �أحمد البو�سعيدي‪،‬‬
‫‪ -1‬ح�رص �شامل بكافة امل�ؤمترات والندوات وحلقات العمل‬ ‫ليلى احلارثي‪ ،‬ر�شاد الوهيبي‪� ،‬سلمان الكندي‪ ،‬بدر ال�شيباين‪،‬‬
‫التي تقام بال�سلطنة على مدار العام‪ .‬وذلك حتى يت�سنى‬ ‫�سامل البو�سعيدي‪� ،‬سكينة املنجي‪ ،‬فتحية النوفلي‪ ،‬ووفاء‬
‫ألع�ضاء نادي الت�صوير ال�ضوئي–ممن يرغب‪ -‬تغطية هذا‬ ‫العدوي‪ .‬حيث قامت هذه املجموعة بعر�ضها ألول مرة خارج‬
‫اجلانب تغطية فنية ال �صحفية وبالتايل التعاون مع اجلهة‬ ‫قاعات املعار�ض واتخذت من ا أل�شجار واملمرات وال�صور‬
‫املعلقة يف الهواء ف�ضاءات مفتوحة للعر�ض‪ .‬كانت فكرة هذا‬
‫املنظمة لال�ستفادة من هذه ال�صور‪.‬‬
‫‪ -2‬توثيق العالقات بني نادي الت�صوير ال�ضوئي باجلمعية‬ ‫املعر�ض تدور حول ق�ضية من الق�ضايا الفكرية يتناولها‬
‫وكافة امل�ؤ�س�سات احلكومية‪ .‬ي�أتي ذلك عن طريق �إ�صدار‬ ‫امل�صور ال�ضوئي ويدر�سها ويناق�شها مع افراد املجموعة التي‬
‫ا�ستمرت يف العمل لهذا امل�رشوع قرابة ال�سنة‪ .‬فكانت افكارا ً‬
‫بطاقات تهنئة للمنا�سبات‪� ،‬إ�صدار بطاقات بريدية ‪،Post cards‬‬
‫�إ�صدار تقومي �سنوي يت�ضمن �أف�ضل ‪� 12‬صورة‪.‬‬ ‫متعددة مثل موت وميالد‪ ،‬طفولة‪ ،‬نوافذ‪ ،‬جنوم وغريها‪.‬‬
‫‪� -3‬إقامة معر�ض �سنوي متنقل بني م�سقط‪� ،‬صحار‪ ،‬نزوى‪،‬‬ ‫بد� أ كذلك بع�ض الفنانني الت�شكيليني يف التعبري بال�صورة‬
‫عربي‪ ،‬الربميي‪ ،‬م�سندم و�صاللة‪ .‬وذلك حتى يت�سنى ألكرب فئة‬ ‫ال�ضوئية عرب لوحات مفاهيمية جند ذلك وا�ضحاً يف �أعمال‬
‫من جمهور املتلقني ا إلطالع على التجارب ا إلبداعية لنادي‬ ‫ح�سن مري ا ألخرية وبدور الريامي وانور �سونيا وفخرية‬
‫الت�صوير ال�ضوئي‪ .‬با إل�ضافة �إىل حماولة اجتذاب �رشائح‬ ‫اليحيائي‪.‬‬
‫جديدة لتنظم �إىل قافلة النادي‪.‬‬ ‫ت�صور ال�سرتاتيجية عامة حول ن�شر‬
‫‪� -4‬إقامة ندوة فنية عامة كل �شهرين تتحدث عن الثقافة‬ ‫ثقافة ال�صورة يف �سلطنة عمان‬
‫الب�رصية ب�شكل عام �أو ق�ضية من ق�ضايا الت�صوير الفوتوغرايف‬
‫هذه بع�ض االقرتاحات والتو�صيات التي يقدمها الباحث ب�شكل خا�ص‪.‬‬
‫‪ -5‬حماولة ت�سويق منتجات النادي ب�شكل �أو�سع خا�صة‬
‫مل�ؤ�س�سات القطاع اخلا�ص �سواء عن طريق البطاقات‬
‫الربيدية‪� ،‬أو التقاومي ال�سنوية �أو الدعوات حل�ضور املعار�ض‬
‫الفنية‪ .‬هذا الت�سويق ميتد حتى اىل �أندية الت�صوير ال�ضوئي‬
‫العربية والعاملية‪.‬‬
‫‪ -6‬حماولة اجتذاب فئة غري العمانيني من امل�صورين‬
‫والفنانني وا ألكادمييني وذلك عن طريق معر�ض عام ي�شارك‬
‫فيه العمانيون وغري العمانيني‪ ،‬و�إلقاء املحا�رضات �أو‬
‫الندوات �أو حلقات العمل الفنية‪.‬‬
‫‪ -7‬التوا�صل مع �أندية وبيوت الت�صوير الفوتوغرايف اخلليجية‬
‫والعربية وحتى ا ألجنبية‪ .‬فبعد ا إلجنازات التي حققها‬
‫النادي يف املرحلة ال�سابقة على �صعيد ا إلجنازات الفردية‬
‫ت�صوير‪ :‬حممد الرقمي ‪ُ -‬عمان‬
‫‪140‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫خامتة‪:‬‬
‫حتدثت هذه الدرا�سة عن جتربة �سلطنة عمان يف‬
‫جمال الت�صوير ال�ضوئي من خالل درا�سة و�صفية‬
‫حتليلية للواقع وتطلعات امل�ستقبل‪ .‬بد�أت بالتاريخ‬

‫ت�صوير‪ :‬حممد ال�سليمي ‪ُ -‬عمان‬


‫واالرها�صات ا ألوىل لفن الت�صوير ال�ضوئي يف‬
‫البدايات رغم قلة امل�صادر التي تتحدث عن تلك‬
‫الفرتة‪ .‬حتدثت الدرا�سة بعد ذلك عن امل�ؤ�س�سات التي‬
‫تهتم بالت�صوير ال�ضوئي بدءا ًبالنادي الثقايف كبداية‬
‫لعهد م�ؤ�س�ساتي منظم داخل ال�سلطنة مرورا ً بنادي‬
‫الت�صوير ال�ضوئي التابع للجمعية العمانية للفنون‬
‫الت�شكيلية وجماعة الت�صوير بجامعة ال�سلطان قابو�س‬ ‫العربية �أو اجلماعية الدولية تكونت �سمعة طيبة عن النادي‬
‫والنادي العلمي والكليات التطبيقية التابعة لوزارة‬ ‫والفوتوغرافيا العمانية؛ هذا يحتاج �إىل متابعة وت�أكيد‬
‫اال�ستحقاق من خالل التوا�صل امل�ستمر ح�سب خطة م�ستمرة‬
‫التعليم العايل والكلية التقنية التابعة لوزارة القوى‬
‫على مدار العام م�شمولة مبعار�ض خارجية �أو ا�ست�ضافة‬
‫العاملة‪ .‬خل�صت الدرا�سة اىل ت�صور ا�سرتاتيجي‬ ‫معار�ض لنوادي الت�صوير ال�ضوئي املختلفة‪.‬‬
‫للنهو�ض بفن الت�صوير ال�ضوئي على امل�ستوى‬ ‫‪� -8‬إقامة �أ�سبوع للت�صوير ال�ضوئي العربي‪ .‬يهدف هذا‬
‫املحلي والعربي والدويل‪ .‬ميكن القول �أن واقع هذه‬ ‫ا أل�سبوع �إىل االلتقاء با ألفكار والتعرف على جتارب الدول‬
‫التجربة ي�سري بخطى واثقة نحو امل�ستقبل‪ .‬اال �أن هذا‬ ‫اخلليجية والعربية يف جمال الت�صوير ال�ضوئي‪.‬‬
‫الطريق يحتاج اىل الكثري من اجلهود امل�ؤ�س�ساتية‬ ‫‪� -9‬إقامة م�سابقة دولية معرتف بها من االحتاد الدويل لفن‬
‫والفردية لن�رش الثقافة الب�رصية وتنمية الذائقة‬ ‫الت�صوير ال�ضوئي‪ .‬ي�صاحب هذه امل�سابقة م�ؤمتر عربي يف‬
‫الفنية للمجتمع املحلي‪.‬‬ ‫الت�صوير ال�ضوئي‪.‬‬
‫‪ -10‬ت�أكيد احل�ضور امل�رشف لنادي الت�صوير ال�ضوئي يف‬
‫م�سابقات الحتاد الدويل لفن الت�صوير الفوتوغرايف (‪ )FIAP‬الهوام�ش‬
‫إ‬
‫واال�ستعداد املبكر للدورات وامل�شاركة يف املجاالت ا ألخرى ‪� - 1‬سيف الهنائي‪ )2006( ،‬الت�صوير ال�ضوئي يف ال�سلطنة واقع وم�ستقبل ‪ ،‬ملحق‬
‫�رشفات‪ ،‬جريدة عمان‪ ،‬العدد ‪�184‬ص‪.7-4 :‬‬ ‫باال�ضافة اىل بينايل ا ألبي�ض وا أل�سود‪.‬‬
‫‪ - 2‬انظر املعر�ض ا ألول للجمعية العمانية للفنون الت�شكيلية (‪ )1993‬ديوان‬
‫البالط ال�سلطاين‪ ،‬روي‪ :‬املطابع العاملية‪� ،‬ص‪.101-82 :‬‬
‫‪ -11‬ت�شجيع اقامة املعار�ض املتميزة والنا�ضجة فكريا‬
‫‪ - 3‬انظر الت�صوير ال�ضوئي يف ال�سلطنة واقع وم�ستقبل‪ ،‬ملحق �رشفات‪ ،‬جريدة‬ ‫وابداعيا‪ ،‬وتوافر بيئة نقدية واعية‪.‬‬
‫‪ -12‬ايجاد حلقة و�صل بني كل اجلهات املهتمة بالت�صوير عمان‪ ،‬العدد ‪� 2006/7/5 ،184‬ص‪.7-4 :‬‬
‫ال�ضوئي مثل اجلامعة والكليات التطبيقية والكلية التقنية ‪ - 4‬التدريب والت�أهيل للم�صورين ال�شباب بالنادي العلمي‪ ،‬ملحق �رشفات‪ ،‬جريدة‬
‫والنادي العلمي ليكون امل�صب النهائي لها نادي الت�صوير عمان‪ ،‬العدد ‪� 2006/7/5 ،184‬ص‪.19 :‬‬
‫ال�ضوئي باجلمعية العمانية للفنون الت�شكيلية‪.‬‬
‫‪ -13‬تتطلب املرحلة القادمة ا�ستعدادا ً م�ؤ�س�ساتياً �أكرب‬
‫وا�ستقاللية �أ�شمل يف ادارة وتنظيم وميزانية نادي الت�صوير‬
‫ال�ضوئي على ان ي�ستمر حتت ا�رشاف ورعاية ديوان البالط‬
‫ال�سلطاين‪.‬‬
‫‪ -14‬االهتمام باملدار�س وامل�ؤ�س�سات التعليمية منذ ال�صغر‬
‫وحماولة تعزيز اجلانب الفني عند الن�شء‪ .‬وهذا ي�أتي عن طريق‬
‫التعاون بني وزارة التعليم العايل ونادي الت�صوير ال�ضوئي‬
‫باجلمعية وكذلك اجلامعات والكليات التقنية والتطبيقية‪.‬‬
‫‪ -15‬توا�صل طالب الدرا�سات العليا من اجلامعيني بزمالئهم‬
‫يف اجلامعات العربية واالجنبية للتعرف على واقع جماعات‬
‫الت�صوير وتطورها وم�ستقبلها‪.‬‬
‫ت�صوير‪ :‬ماجد الرواحي ‪ُ -‬عمان‬
‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫‪141‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سعد املو�سوي‬
‫توا�صل حميمي مع الرتاث والأ �سطورة‬
‫خـالــد احلـــ ِّلي‬
‫�شاعر من العراق يقيم يف �أ�سرتاليا‬

‫منذ �أن حل يف �أ�سرتاليا عام ‪� ،1995‬أخذ الفنان العراقي �سعد املو�سوي ي�ستقطب‬
‫اهتمام الأ و�ساط الفنية الأ �سرتالية ب�شكل مطرد وملحوظ‪ ،‬لي�شيع عرب �أعماله‬
‫املتفردة الده�شة واالنبهار لدى الأ �سرتاليني‪ ،‬على نحو حميمي و�أثري‪ ،‬منطلق ًا‬
‫يف ذلك من خ�صو�صياته الإ بداعية وت�رشبه برتاث ح�ضارات وادي الرافدين‪،‬‬
‫ومتابعته لأ هم التطورات يف الفنون الت�شكيلية العاملية‪.‬‬
‫�إن ت�أكيدي على الت�شخي�ص املكاين يف � أعمايل‪ ،‬هو وحدة مكملة ال ميكن‬
‫اال�ستغناء عنها يف � أغلب نتاجاتي‪ .‬فاملكان هو ج�سد اللوحة‪ ،‬والزمن هو‬
‫تعبري عن الذاكرة والروح‪ ،‬وباحتادهما يتمثل الوجود الفني‪.‬‬

‫«هوية الجئ» لوحة حتمل رقم الفنان كالجئ‬

‫‪142‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫وعلى الرغم من وجود الفنان يف � أ�سرتاليا منذ‬
‫قوا�سم م�شرتكة‬
‫تثري اهتمام املتلقني‬ ‫فرتة غري ق�صرية ن�سبياً‪ ،‬وانفتاحه على خمتلف‬
‫التجارب والتوجهات الفنية‪ ،‬ف�إنه ظل متم�سكاً‬
‫[ بلغ عدد املعار�ض التي � أقامها � أو �شارك فيها‬ ‫بخ�صو�صياته ومفاهيمه ا إلبداعية الذاتية‪ ،‬دون‬
‫الفنان املو�سوي خالل وجوده يف � أ�سرتاليا ع�رشة‬ ‫االنتماء �إىل � أية مدر�سة � أو حركة فنية تقليدية‬
‫معار�ض ‪ ..‬ترى ما هو � أهم ما �شدّ ا أل�سرتاليني �إىل‬ ‫� أو معا�رصة‪ ،‬وبقي م�ستقالً ب�أ�ساليبه وتقنياته‪،‬‬
‫� أعماله ‪..‬؟‬ ‫كما هو م�ستقل فكرياً و�سيا�سياً عن � أي حركة‬
‫عندما نطرح هذا ال�س�ؤال على الفنان جنده يقول‪:‬‬ ‫حزبية � أو �سيا�سية � أو مذهبية‪.‬‬
‫رمبا تكون –وب�شكل عام‪ -‬اجلدّة واخل�صو�صية‬ ‫و� أ�سرتاليا هي املحطة الثالثة من حمطات‬
‫والرباعة يف ا�ستخدام الري�شة واللون من القوا�سم‬ ‫الفنان احلياتية وا إلبداعية‪ ،‬ولكنه يف � أي‬
‫امل�شرتكة التي تثري �إعجاب جمهور ما بفنان‬ ‫حمطة من هذه املحطات‪ ،‬مل يتغيرّ فيه �إميانه‬
‫ما‪ .‬ولكن تبقى هنالك تفا�صيل � أخرى كثرية قد‬ ‫بحرية العقل‪ ،‬وحرية الفن‪ ،‬وقناعته ب�أن الفن‬
‫يكت�شفها املتلقي يف هذا العمل � أو ذاك ‪ ..‬تفا�صيل‬ ‫هو الالانتماء‪ ،‬وهو مترد على املربعات وا ألطر‬
‫جوهرية تتعلق بالعمل وما يختزنه من جتارب‬ ‫التي ي�صنعها الآخرون‪.‬‬
‫ور ؤ�ى قد ال تبدو جلية للجميع وفق نف�س الت�أثري‬ ‫كانت املحطة ا ألوىل للفنان هي العراق‪ ،‬حيث تخرج‬
‫وبنف�س امل�ستوى‪ .‬ومع �شعوري باحلرج «� أو‬ ‫يف � أكادميية الفنون اجلميلة ببغداد‪-‬فرع الر�سم‬
‫عام ‪ ،1990‬بعد � أن �شارك يف العديد من‬
‫املعار�ض الت�شكيلية داخل العراق‪ .‬وكان‬
‫قد فتح عينيه على الدنيا يف مدينة‬
‫النا�رصية قريباً من العا�صمة ال�سومرية‬
‫العريقة � أور وزقورتها ال�شهرية‪.‬‬
‫� أما املحطة الثانية فقد متثلت مبكوثه‬
‫يف اململكة العربية ال�سعودية بني‬
‫عامي ‪ 1991‬و ‪ 1995‬حيث �شارك يف‬
‫�ستة معار�ض ت�شكيلية هناك‪ ،‬وا�شرتت‬
‫منظمة ا ألمم املتحدة بع�ض � أعماله‪.‬‬
‫كما �شارك عام ‪ 1994‬يف معر�ض‬
‫ت�شكيلي ب�سوي�رسا ملنا�سبة يوم الالجئ‬
‫العاملي‪.‬‬
‫ويف حمطته الثالثة � أ�سرتاليا‪ ،‬حيث يعي�ش‬
‫منذ عام ‪ 1995‬وحتى الآن‪ ،‬وجد نف�سه‬
‫يحن �إىل �سماواته ا ألوىل‪ ،‬و�إىل‬ ‫ّ‬ ‫وهو‬
‫جذوره املمتدة عرب الزمن منذ فجر‬
‫التاريخ‪ ،‬يحمل � ألواحه وم�سالته على‬
‫� أكتافه‪ ،‬ويعرب ا ألم�صار والقارات‪ ،‬منفيّاً‬
‫يعرّف العامل بح�ضارته ‪ ..‬ح�ضارة وادي‬
‫الرافدين العريقة‪.‬‬
‫لوحة بعنوان «ر� أ�س وغيمة»‬
‫‪143‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�صغرية ‪ ..‬حماقاته الطفولية‪ ،‬ممزوجاً كالتنب‬ ‫اخلجل �إن �شئتم» لدى احلديث عن نف�سي‪ ،‬ف�إنني‬
‫مع طينها‪ .‬ومن هنا تنطلق ت�أمالت وتداعيات ثرة‬ ‫وب�شكل تلقائي � أكر�س كل طاقاتي لعك�س العاطفة‬
‫وجميلة‪.‬‬ ‫وت�أثرياتها داخلي �إىل � آخر املديات التي ميكن � أن‬
‫كان الفنان يف ال�سنوات ا ألوىل من عمره‪ ،‬يحفر‬ ‫� أ�صل �إليها‪ .‬وقد وجدت � أن املتلقني كانوا ي�ؤكدون‬
‫وينب�ش ا ألر�ض بعفوية ا ألطفال‪ ،‬وكان هنالك ثمة‬ ‫دائماً على اخل�صو�صية يف � أعمايل‪ ،‬وهكذا � أجدهم‬
‫أ�شياء وحيواتٍ‬
‫هاج�س بداخله‪ ،‬يوحي ب�أن هنالك � ً‬ ‫يلجون بلهفة مناخات احلوار والت�سا ؤ�ل‪ .‬وميكن‬
‫مدفونة حتت ا ألر�ض‪ .‬كان � أ�صدقا ؤ�ه ممن كانوا‬ ‫لدي هي لي�ست انطباعاً‬
‫يف عمره يلعبون‪ ،‬ويحفرون ا ألر�ض � أي�ضاً ‪ ،‬لكنهم‬ ‫� أن � أقول هنا � أن اللوحة ّ‬
‫ب�رصياً‪ � ،‬أو تكوينات هند�سية‪ ،‬بل هي عالقات‬
‫كانوا يبحثون عن � أ�شياء ع�رصية ك�أ�سالك احلديد‬ ‫ح�سية وروحية وم�شاهد دراماتيكية‪ .‬هي الت�صاق‬
‫وبقايا ا ألملنيوم � أو القطع البال�ستيكية لي�صنعوا‬ ‫ّ‬
‫كل دواخلي بامل�شاهد واالن�صهار � أمامه ب�أعماق‬
‫منها � ألعابهم الطفولية‪ .‬ومع � أن الفنان املو�سوي‬
‫ا إلبداع الفني املفعمة با ألمل‪ ،‬الفرح‪ ،‬الن�شوة‪،‬‬
‫كان �صغرياً‪ ،‬فانه كان يختلف عن � أترابه يف بحثه‬
‫اجلرح‪ ،‬الغ�ضب‪ ،‬احلب‪ ،‬وكل امل�شاعر التي تفعل‬
‫حتت ا ألر�ض‪ ،‬فقد كان يبحث عن «حبل �رسته»‪،‬‬
‫وعن جذوره مع القدم‪ ،‬وكان ينهمك يف البحث‬ ‫فعلها العميق يف الفكر والقلب والروح‪.‬‬
‫ع�سى � أن يعرث على فخاريات قدمية‪ � ،‬أو � ألواح � أو‬ ‫طفولة الفنان‬
‫بقايا لعظام � أجداده ال�سومريني‪ .‬وكانت ع�رشات‬ ‫ثر ال ين�ضب‬
‫منب ٌع ٌّ‬
‫ا أل�سئلة حتا�رص عقله الطفويل � آنذاك‪ ،‬حول بداية‬
‫اخللق‪ ،‬وحول مالمح ا ألجداد القدامى‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫مل يغادر الفنان طفولته بعد‪ ،‬فهي منبع ثر ال ين�ضب‬
‫ت�شبه مالمح مانحن عليه اليوم‪ .‬لقد كان الطفل‬ ‫للر ؤ�ى والت�أمالت واالنثياالت ا إلبداعية‪ .‬ويف لقاء‬
‫�سعد يلعب بالطني عاد ًة لي�شكل منه منحوتات‬ ‫مع الفنان تابعنا ت�أثريات طفولته ور ؤ�اه ونحن‬
‫أل�شخا�ص وحيوانات وكائنات � أخرى‪ ،‬يجففها حتت‬ ‫جنل�س بني ع�رشات اللوحات التي تزدحم بها �شقته‬
‫ال�شم�س‪ ،‬ثم يلقي بها بعد � أن جتف �إىل نار التنور‪،‬‬ ‫يف منطقة كولن وود بوالية فكتوريا ا أل�سرتالية‬
‫ثم ينظفها‪ ،‬لكي يعر�ضها على � أهله و� أ�صدقائه‪.‬‬ ‫«عا�صمتها ملبورن»‪ .‬يقول الفنان املو�سوي � أنه ولد‬
‫ونحن ن�سرب مع الفنان � أغوار‬ ‫من طني زقورة � أور‪ ،‬و� أنه عا�ش طفولته ‪ � ..‬أ�شياءه‬
‫طفولته البعيدة‪ ،‬يقول بعد حلظات‬
‫ت�أمل‪ :‬كنت � أح�س منذ طفولتي ب�أن‬
‫الطني هو وحدة الوجود‪ ،‬وبدايات‬
‫اخللق والكينونة‪ .‬ومن هنا كنت‬
‫� أمتعن يف الرتاب‪ ،‬و� أمدّ ب�رصي نحو‬
‫ا ألفق متح�س�ساً عناق الرتاب مع‬
‫ال�سماء‪ ،‬فيرت�سخ يف � أعماقي هاج�س‬
‫العالقة ما بني «العودة والرحيل‪،‬‬
‫� أو الرحيل والعودة»‪ ،‬ويتمخ�ض يف‬
‫مفاهيمي � أن البدايات هي اجلذور‪،‬‬
‫و� أن حتى الكائنات الطائرة‬
‫التي و�شجت الف�ضاء مبداراتها‪،‬‬
‫تهوي بعفوية �إىل الرتاب‪ .‬كما‬
‫لوحة عنوانها الفنان بـ «�شموع للحياة»‬
‫‪144‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ا�سرتاليا ا أل�صليني «ا ألبوريجنيني» يت�أمل رموزهم‬ ‫� أن الكائنات املائية‪ ،‬وهي متخر � أعماق املياه‪،‬‬
‫وي�ستمع �إىل مو�سيقاهم وتراتيلهم يف ا ألقا�صي‬ ‫ومتار�س طقو�سها يف الرحم ا ألزرق‪ ،‬هي ا ألخرى‬
‫ا أل�سرتالية‪ .‬كما ميكن � أن جتد كلكام�ش غريباً يف‬ ‫تعود �إىل الرحيل‪ � ،‬أو ترحل �إىل العودة ‪ ..‬مثلها مثل‬
‫حمطات � أنفاق لندن‪.‬‬ ‫املوجودات ا ألر�ضية وتفا�صيلها‪ ،‬وحتى الكائنات‬
‫� أما بالن�سبة لـ «البعد املكاين»‪ ،‬فهنالك يف الواقع‬ ‫املاورائية �سواء يف خميالتنا � أو �سواء يف الواقع‬
‫الالمرئي‪ ،‬تعوم يف دوائرها‪ ،‬تعود � أو ترحل‪ .‬ك ّل‬
‫و�شائج تربط الزمن كحركة مع الكتلة � أو مع املكان‪،‬‬
‫هذه الهواج�س ت�شكل الهم الرئي�سي يف ذاكرتي‬
‫انطالقاً من مفهوم فل�سفة «فن النحت» كعالقة‬
‫كمنفي من تربته ا ألوىل‪.‬‬
‫قائمة مابني الكتلة والف�ضاء‪� .‬إن ت�أكيدي على‬
‫الت�شخي�ص املكاين يف � أعمايل‪ ،‬هو وحدة مكملة ال‬ ‫�سد اللوحة‬‫ج َ‬
‫املكان َ‬
‫ميكن اال�ستغناء عنها يف � أغلب نتاجاتي‪ .‬فاملكان‬ ‫والزمن جت�سيد للذاكرة‬
‫هو ج�سد اللوحة‪ ،‬والزمن هو تعبري عن الذاكرة‬ ‫[ للح�ضور الزماين والبعد املكاين م�سارات ت�أخذ‬
‫والروح‪ ،‬وباحتادهما يتمثل الوجود الفني‪.‬‬ ‫� أ�شكاال ً عميقة الدالالت يف � أعمالك ‪ ..‬ما هي‬
‫مكنونات هذا احل�ضور‪ ،‬وكيف يتفاعل‬
‫يف داخلك ‪..‬؟‬
‫‪ -‬يقول الفنان وهو يجيب على هذا‬
‫ال�س�ؤال‪� :‬إنني � أتق�صى عميقاً يف الزمان‬
‫كحركة ارحتالية‪ ،‬متتد � أحياناً �إىل ما‬
‫قبل التاريخ‪ � ،‬أو تتج�سد هذه املرحلة‬
‫الزمنية � أو تلك � أحياناً يف ح�ضور � آين‬
‫يو�شح املو�ضوع الفني � أي�ضاً‪،‬‬
‫معا�رص‪ّ ،‬‬
‫حتى و�إن كان غري مرتبط با ألطر‬
‫الزمانية‪ ،‬ويبقى امل�شاهد يف ت�سا ؤ�ل‬
‫عن زمن احلدث‪ � ،‬أو حتى عن �إلغائية‬
‫الزمن‪.‬‬
‫الزمن موجود يف � أعمايل كجز ٍء‬
‫� أ�سا�سي منها‪ ،‬ف�أنا على �سبيل املثال‪،‬‬
‫عندما � أج�سد �شخ�صية كلكام�ش ذلك‬
‫ا إلله‪/‬امللك ال�سومري الذي قام قبل‬
‫� أكرث من خم�سة � آالف �سنة بـ «رحلة‬
‫اخللود»‪ ،‬وهو يحمل م�سالته وو�صاياه‬
‫باحثاً عن «ع�شبة اخللود»‪ ،‬جتدين على‬
‫�صعيد � آخر � أ ؤ�كد على احل�ضور املعا�رص‬
‫لـ«الزمن»‪ ،‬وحتديث �شخ�صية كلكام�ش‪،‬‬
‫الذي قد جتده يف بع�ض � أعمايل الجئاً‬
‫يف خميمات العراقيني الذين غادروا‬
‫وطنهم ق�رساً‪ � ،‬أو متحاورا ً مع �سكان‬
‫«متوز وع�شتار» يف لوحة زيتية‬
‫‪145‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وا�ستطرادا ً � أقول ‪� :‬إن القمع ال�سيا�سي واالجتماعي‬ ‫ظالل �صارخة‬


‫ل إلن�سان‪ ،‬والغربة‪ ،‬والفزع من معرفة � أفكار‬ ‫واغرتاب ج�سدي‬
‫حمظورة‪ ،‬وتهمي�ش ا إلن�سان حتت وط�أة � أنظمة‬
‫[ ال ميكن مل�شاهد لوحاتك‪ ،‬وا ألخرية منها‬
‫قا�سية ‪ ..‬كل ذلك يدعو اجل�سد �إىل � أن يتخلى عن‬
‫خ�صو�صا‪ ،‬جتاهل ت�أثريات مو�ضوع االغرتاب‬
‫ح�ضوره الوا�ضح ليختبئ يف العتمة معلناً للظل‬
‫عليها‪ ،‬هل ميكن � أن تلقي لنا بع�ض ا أل�ضواء على‬
‫� أن ي�صور تفا�صيل هذا اجل�سد املرئية‪ ،‬وهواج�سه‪،‬‬
‫ذلك‪..‬؟‬
‫و� أحالمه‪.‬‬
‫‪ -‬لقد مل�ست هذا بالفعل من خالل كتابات بع�ض‬
‫‪ -‬على تكري�س ح�ضور احلالتني يف اللون ‪ :‬ا إلثارة‬
‫النقاد و� آراء بع�ض النا�س‪ ،‬وذهب البع�ض �إىل � أنني‬
‫الب�رصية وا إلثارة التعبريية معاً‪.‬‬
‫� أطرح مو�ضوع االغرتاب اجل�سدي ب�إح�سا�س عميق‬
‫و� أنا مثلما ينبغي � أن ي�سعى �إليه كل فنان‪ � ،‬أ�سعى‬
‫يلقي بظالله الوا�ضحة طوعياً على ال�شكل والظل‬
‫�إىل االبتعاد متاماً عن التكرار والرتابة‪ .‬والواقع‪،‬‬
‫يف � آن واحد‪ .‬وخرج بع�ض � آخر بتف�سريات متعددة‬
‫� أن ا أل�سلوب اخلا�ص بكل فنان هو �صفة ميكن � أن‬
‫املالمح عن وجود � أ�شكال يف لوحاتي قد ُعت ِّ َمت‬
‫يلم�سها م�شاهد اللوحة بي�رس‪ ،‬وهي �صفة تعك�س‬
‫خ�صو�صيات ومفردات وطرق املعاجلة واجلر� أة‬
‫وه ِّم� َشت � أبعادها‪ ،‬وغابت تفا�صيلها على‬ ‫حِ ُ‬
‫مالمها ُ‬
‫نحو ان�سيابي‪ .‬وعلى �صعيد � آخر ف�إن الظل يف بع�ض‬
‫يف الطرح لدى الفنان‪ ،‬دون التهاوي يف التكرار‬
‫ا ألعمال مل ي�أت بال�شكل امل�ألوف‪ ،‬بل جاء ب�شكل‬
‫واملحدودية‪ .‬وقد الحظ املطلعون على � أعمايل‬
‫�صارخ‪ ،‬ي�ست�شيط بانفعال وا�ضح‪ ،‬تو�شحه رموز‬
‫كيفية و� أ�ساليب اعتمادي على التجريب واحلداثة‬
‫و�صور وكتابات و� ألوان مفعمة‬
‫املفعمني با إلثارة والتنوع‪.‬‬
‫بالتعبري‪.‬‬
‫الوحدات واملفردات‬ ‫ومن جانبي ف�أنا � أرى � أن الظل‬
‫يف العمل الفني‬ ‫ف�ضح ما لي�س بو�سع اجل�سد قوله‪،‬‬
‫بعد هذا التوقف مع الفنان‪ ،‬ننتقل‬ ‫وك�أن ال�شكل يكمن يف الظل‪،‬‬
‫�إىل التوقف � أمام لوحات حتت�شد‬ ‫والظل يكمن يف ال�شكل‪ .‬و ال � أخفي‬
‫بها �شقته‪ ،‬وت�شكل مبجموعها‬ ‫هنا �إنني عمدت �إىل عك�س هذا‬
‫خال�صات لتجربة غنية‪ ،‬حتاول‬ ‫التناق�ض‪ ،‬وكانت املح�صلة � أن‬
‫� أن حتقق تطورا ً م�ستمرا ً يف‬ ‫يبعث ذلك على ده�شة املتلقي‪.‬‬

‫ثالث لوحات بعنوان «ثالثية الجئ»‬

‫‪146‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫فنــون‪ ..‬فنــون‪ ..‬فنــون‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مع روح الع�رص عرب ثراء هائل من املوا�ضيع‪،‬‬ ‫رحلتها ورحلة الفنان مع احلياة‪.‬‬
‫الطال�سم‪ ،‬احلكايات‪ ،‬الرموز‪ .‬وبدا لنا وا�ضحاً � أن‬ ‫�إن مفردات العمل الفني الت�شكيلي تتكون عادة‬
‫الفنان يعالج الرتاث ويرتبط به وفق رغبته � أو‬ ‫من � أ�س�س ومنطلقات تتمثل بـ ‪ :‬البناء‪ ،‬ال�شكل‪،‬‬
‫حاجته �إىل ا�ستلهام لغة ودراما الرتاث‪ ،‬ليج�سدها‬ ‫التقنية‪ ،‬اللون‪ ،‬الكتلة‪ ،‬التوزيع‪ ،‬ا إلن�شاء املوازنة‪،‬‬
‫بوحدات فنية وب�رصية‪ .‬ويف هذا ا إلطار اعتمد على‬ ‫التوزيع‪ .‬ويف � أعمال الفنان املو�سوي جتتمع كل‬
‫احل�ضارات القدمية‪ ،‬والرموز املحلية‪ ،‬واالعتقادات‬ ‫هذه العنا�رص‪ ،‬وتتج�سد باقتدار ومتيز‪ ،‬ولكننا‬
‫املاورائية كرتاث ينبع من عالقة الفرد و� أ�شيائه‬ ‫ال جند هذه املفردات مت�ساوية فيها‪ ،‬بل جند � أن‬
‫باملحيط‪ .‬وهو يرى � أن قناعات النا�س القدمية عن‬ ‫هنالك تفاوتاً عرب الطرح الفني � أحيانا‪� ،‬إذ جنده‬
‫الك�سوف‪ ،‬واملوا�سم‪ ،‬والتقومي‪ ،‬والظواهر‪ ،‬والبحث‬ ‫مثالً يعطي ا ألولوية لعن�رص � أو عن�رصين يكون‬
‫عن �إجابات للأ �سئلة الطبيعية التي ت�شغل � أذهان‬ ‫ح�ضورهما متفوقاً يف �إطار طبيعة التجربة‪ � ،‬أما‬
‫النا�س ‪ ،‬هي � أ�ساطري كانت بدايات خللق مفاهيم‬ ‫بقية العنا�رص فيكون وجودها ملمو�ساً ووا�ضحاً‪،‬‬
‫روحية ودينية يرتبط بها ا إلن�سان‪.‬‬ ‫لكن ب�شكل ثانوي‪.‬‬
‫وهكذا جند املو�ضوع وا إلن�شاء‬
‫يطغيان على العمل الفني � أحياناً‪ ،‬مع‬
‫بقاء ح�ضور اللون مكمالً‪ ،‬وجند � أحياناً‬
‫� أخرى هيمنة اللون‪ ،‬وظهور التقنية‬
‫ب�إثارة وو�ضوح على ح�ساب املو�ضوع‬
‫الذي ي�أتي مكمالً هو الآخر‪.‬‬
‫وتربز من خالل ا ألعمال وا�ضحة‬
‫� أمامنا م�ساعي الفنان إللغاء التفاوت‬
‫و�إعطاء التكامل ملفردات جمتمعة‬
‫العمل الفني‪ ،‬وهذا يف الواقع هو ما‬
‫� أدركناه من خالل م�شاهدة � أعماله‬
‫ا ألخرية التي حاول فيها حتقيق ت�سا ٍو‬
‫للوحدات واملفردات معاً يف العمل‬
‫الفني‪.‬‬
‫ا�ستخال�ص القيم‬
‫التعبريية والفنية‬
‫ومن اخلال�صات ا ألخرية التي نخرج‬
‫بها بعد زيارتنا للفنان واطالعنا على‬
‫مناذج كثرية ألعمال له � أجنزها خالل‬
‫فرتات خمتلفة‪� ،‬إن ا�ستخدام الرتاث‬
‫وا أل�سطورة لديه هو ا�ستخال�ص للقيم‬
‫التعبريية والرمزية‪.‬‬
‫وقد جت�سد � أمامنا ب�شكل جلي ا�ستلهامه‬
‫للرتاث وتوظيفه ب�شكل ذكي يتناغم‬
‫لوحة عنوانها «ذاكرة وجدار»‬

‫‪147‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫م�رسح‬

‫من �أعمال خمي�س الريامي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪148‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سـ ــر‬
‫(م�سرحية �سيكولوجية)‬
‫ت أ�ليف ‪� :‬صالح ح�سن‬
‫كاتب و�شاعر من العراق يقيم يف هولندا‬

‫روزا – حقا ال اعرف‪ ..‬ال ا�ستطيع ان � أف�رس الأمر‪.‬‬ ‫امل�شهد أ‬


‫الول‬
‫مونيكا – (تذهب لتجل�س وت�صب لنف�سها ك�أ�سا من‬ ‫(يف بيت روزا حيث عيد ميالدها ال�سابع والثالثني‪.‬‬
‫النبيذ‪ .‬تدخن)‪.‬‬ ‫على احد اجلدران �صورة كبرية ملجموعة من الأطفال‪.‬‬
‫روزا – (تذهب �إىل املطبخ)‪.‬‬ ‫مو�سيقى راق�صة �صاخبة وغناء‪ .‬مونيكا ترق�ص‬
‫لندا – (حتاول ان جتل�س الدب ولكنه ي�سقط) دائما‬ ‫بحركات داعرة وهي ت�رشب النبيذ با�ستمرار بينما‬
‫ي�سقط عل وجهه؟‬ ‫لندا تهتز وهي حتمل دبا بنيا ال يفارقها‪ .‬روزا تنقل‬
‫مونيكا – ماذا قلت؟‬ ‫اطباق الطعام من املطبخ وهي ترق�ص مرتدية الزي‬
‫لندا – (وهي حتمل الدب) دائما ي�سقط على وجهه‪.‬‬ ‫ال�سورينامي التقليدي‪ .‬روزا ممتلئة قليال وق�صرية‬
‫(يرن هاتف مونيكا النقال)‬ ‫ويبدو احلزن على مالحمها‪ .‬هناك طاولة عليها هدايا‬
‫مونيكا – (بانزعاج وا�ضح) � أهال ريت�شارد‪� ..‬س�أت�صل‬ ‫وورود)‪.‬‬
‫بك بعد قليل‪ ..‬ممكن؟ طيب‪ ،‬بعد قليل‪ ..‬اىل اللقاء‪.‬‬ ‫(ت�ستمر املو�سيقى والرق�ص عدة دقائق‪ .‬روزا تتوقف‬
‫روزا – (قادمة من املطبخ) عزيزتي مونيكا انا � آ�سفة‪..‬‬ ‫و�سط امل�رسح ثم تذهب وتوقف املو�سيقى)‪.‬‬
‫هل � أنت غا�ضبة مني؟‬ ‫روزا – حلظة (تتن�صت) هل ت�سمعن؟‬
‫مونيكا – ال � أبدا‪ ..‬ولكن ريت�شارد ينتظر يف اخلارج‪..‬‬ ‫مونيكا – ماذا؟‬
‫يجب ان اذهب‪ ،‬لقد ت�أخرت‪.‬‬ ‫روزا – �رصاخ طفل‪..‬‬
‫لندا – (ب�رسعة) و� أنا � أي�ضا ت�أخرت انا � آ�سفة‪ ..‬ياه‪ ..‬لقد‬ ‫لندا – مل ا�سمع �شيئا‪.‬‬
‫مرً الوقت ب�رسعة‪( .‬تقبل روزا وتفعل مثلها مونيكا‬ ‫مونيكا – طفل؟؟‬
‫وتخرجان)‪.‬‬ ‫روزا – اجل‪ .‬طفل ي�رصخ‪..‬‬
‫روزا – (تبقى وحيدة‪ .‬تتحرك ببطء باجتاه ال�صورة‬ ‫لندا – رمبا � أطفال اجلريان؟‬
‫املعلقة‪ ..‬حتدق بها وتبد� أ بالبكاء)‪( .‬ظالم)‪.‬‬ ‫روزا – جرياين لي�س لديهم � أطفال‪.‬‬
‫امل�شهد الثاين‬ ‫لندا – (حتت�ضن الدب كامنا حتميه)‪.‬‬
‫مونيكا – كيف �سمعت ال�رصاخ؟ لقد كان �صوت‬
‫(بعد �شهرين يف بيت مونيكا‪ .‬الوقت هو الواحدة‬ ‫املو�سيقى مرتفعا؟!‬
‫ظهرا‪ .‬مونيكا امر� أة جميلة جدا وجذابة للغاية ولكنها‬ ‫روزا – ال اعرف‪ ..‬خيل يل ان هناك طفال ر�ضيعا‬
‫مزاجية ولعوب ترتدي تي �شريت مع بيجاما‬ ‫ي�رصخ‪.‬‬
‫ويبدو عليها انها قد ا�ستيقظت توا تذهب اىل املطبخ‬ ‫مونيكا – ور�ضيع � أي�ضا؟؟!!‬
‫وتعد لنف�سها قهوة‪ .‬تعود من املطبخ وهي حتمل‬ ‫روزا – اوه‪ ..‬مونيكا‪ � ..‬أنا ال امزح‪.‬‬
‫كوبا‪ ..‬تنظر اىل ال�ساعة‬ ‫مونيكا – � أنا � آ�سفة عزيزتي‪ ..‬ولكن هذا م�ضحك‪..‬‬
‫‪ ..‬تقوم بحركة داللة على التذمر‪ .‬ت�شاهد على جدران‬ ‫(تتوجه اىل الباب اخلارجي وتعود ب�رسعة) كل �شيء‬
‫غرفة اال�ستقبال �صور اخليول جاحمة و� أخرى �ساكنة‬ ‫يف اخلارج هادئ‪ .‬ثم ان جريانك لي�س لديهم � أطفال؟‬
‫و�صورة كبرية ملارلني مونرو �شبه عارية‪.‬‬ ‫لندا – (برتدد) هذا �صحيح‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مونيكا � آه‪ ..‬روزا العزيزة‪ ..‬دعيني احمل عنك‪..‬‬ ‫هناك قنينة نبيذ فارغة على الطاولة وعلبتا �سجائر‬
‫‪ ..‬روزا (تقبلها) اتركيها‪� ..‬س�أنقلها اىل املطبخ مبا�رشة‬ ‫مارلبورو‪ .‬جتل�س مونيكا اىل جوار الطاولة‪..‬‬
‫تذهبان اىل املطبخ وت�ضعان ا أل�شياء وتعودان اىل‬ ‫تتناول علبة ال�سجائر فتجدها فارغة تدع�سها وترميها‬
‫ال�صالة‬ ‫على ا ألر�ض بغ�ضب وتفتح العلبة االخرى‪.‬‬
‫ىمونيكا تعايل‪ ..‬ا�سرتيحي‪...‬‬ ‫تدخن بعمق تتناول قنينة النبيذ وحتركها �أمام ناظريها)‪.‬‬
‫‪ ..‬روزا كيف ت�شعرين؟‬ ‫مونيكا (ك�أنها حتدث نف�سها) قنينة نبيذ كاملة وعلبة‬
‫‪ ..‬مونيكا اوه‪� ..‬أنت تعرفني ذلك‪ ..‬املغ�ص املزعج و� آالم‬ ‫مارلبورو كاملة‪..‬‬
‫الظهر‪ ..‬وعدم ال�شهية‪ ..‬ال اعرف‪ ..‬يف مثل هذه ا ألوقات‬ ‫والعادة ال�شهرية ت�أتي قبل موعدها (ت�ضحك بطريقة‬
‫�أ�صبح �سيئة الطبع‪ ..‬اوه‪ ..‬ان�سي املو�ضوع �أرجوك‪ ..‬بكم‬ ‫م�ؤملة) وغدا عيد ميالدي‪ ..‬يالها من �سعادة‬
‫ت�سوقتي؟‬ ‫‪ ..‬وفوق ذلك علي ان �أت�سوق وان اطبخ وان انظف البيت‬
‫‪ ..‬روزا (تبحث يف جيبها عن و�صل الت�سوق) � آه‪ ..‬هذا هو‬ ‫(فج�أة) مونيكا اخر�سي‪ ..‬كفى‬
‫تقدمه لها وقبل ان ت�أخذه مونيكا ت�سحبه‬ ‫�صمت ق�صري‬
‫روزا ‪ -‬اللعنة ما �أتع�سني؟!‬ ‫مونيكا‪ ..‬اهدئي رجاء (�صمت) اجل‪ ..‬اهدئي كل �شيء‬
‫‪ ..‬مونيكا ماذا؟‬ ‫�سيكون على ما يرام‪..‬‬
‫‪ ..‬روزا لقد ن�سيت ان ا�شرتي لك هدية !‬ ‫أ‬
‫(تطفئ ال�سيجارة وتذهب لتقف �مام املر� آة حترك �شعرها‬
‫‪ ..‬مونيكا اوه‪ ..‬ال تهتمي عزيزتي‪ ..‬لقد فعلت الكثري من‬ ‫عدة مرات‪ ..‬تكلم �صورتها)‬
‫اجلي‪ ..‬اعتربي الت�سوق هدية‪ ..‬ثم انك �ستطبخني بدال عني‬ ‫مونيكا‪� ..‬أنت امر�أة لطيفة‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‬
‫‪ ..‬انني اجد ذلك حقا اف�ضل هدية‪.‬‬ ‫ح�سنا‪ ..‬ما هي امل�شكلة‪ ..‬ها؟ قنينة نبيذ وعلبة مارلبورو؟‬
‫‪ ..‬روزا حقا؟‬ ‫ثالثة �أيام �سباحة‪ .‬انتهى‪ .‬العادة ال�شهرية؟ ما الغريب يف‬
‫‪ ..‬مونيكا انني اعني ذلك بكل ت�أكيد‬ ‫ا ألمر؟‬
‫‪...‬روزا � آه‪ ..‬يا الهي‪ ..‬ا�ستطيع ان اطبخ االن و�ضمريي‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫هذه لي�ست املرة الويل التي ت�تي فيها العادة ال�شهرية‬
‫مرتاح‪( .‬تنه�ض باجتاه املطبخ)‬ ‫قبل موعدها؟‬
‫‪ ..‬مونيكا هل اعد لك ك�أ�سا من النبيذ؟‬ ‫�أنت م�ضحكة مونيكا‪ ..‬ال ت�صنعي من (احلبة قبة)‬
‫‪ ..‬روزا نعم‪ ..‬ب�رسور (تتناول ك�أ�س النبيذ ومت�ضي اىل‬ ‫اعرف‪ ..‬اعرف‪ ..‬ال تكملي‪ ..‬اعرف انك ال تطبخني حينما‬
‫املطبخ)‬ ‫ت�أتيك العادة ال�شهرية‪ ..‬ألنك ال تطيقني رائحة الطبخ‪ ..‬هذه‬
‫‪ ..‬مونيكا (بعد قليل) اذا احتجت اية م�ساعدة عليك ان‬ ‫ب�سيطة اي�ضا‪ ..‬انظري‪..‬‬
‫تناديني‪..‬‬ ‫(تذهب اىل التلفون)‬
‫‪ ..‬روزا �س�أفعل‪(...‬تذهب مونيكا لتغيري مالب�سها وتعود بعد‬ ‫هلو روزا‪ ..‬كيف حالك‪ ...‬انا متعبة قليال‪ ...‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬ل�ست‬
‫قليل وهي ترتدي بنطلونا وقمي�صا ا�سود �شفافا‪ .‬تقف �أمام‬ ‫مري�ضة ولكن هذه اللعنة التي حلت علي قبل موعدها‬
‫املر� آة وتدور حول نف�سها‪ .‬تنادي روزا)‬ ‫ب�أ�سبوع انت تعرفني‪ ...‬بال�ضبط‪...‬‬
‫‪ ..‬مونيكا روزا؟‬ ‫هل تعنني ذلك حقا؟ عظيم جدا‪ ..‬اذن يف ال�ساعة ال�ساد�سة‪...‬؟‬
‫روزا (من املطبخ) نعم؟‪..‬‬ ‫منا�سب جدا‪ ..‬ماذا ينبغي علي ان اهيء لك؟‬
‫مونيكا تعايل اىل هنا رجاء‪..‬‬ ‫�ست�شرتين �أنت كل �شيء؟ يا الهي‪ ..‬كم �أنت رائعة وطيبة‪..‬‬
‫‪ ..‬روزا (قادمة من املطبخ) نعم‪ ..‬ماذا هناك‪.‬‬ ‫�أنت امر�أة حقيقية‪.‬‬
‫‪ ..‬مونيكا (وهي ماتزال تدور حول نف�سها) هل ترين �شيئا‬ ‫(ظالم)‬
‫هنا (ت�شري اىل م�ؤخرتها)؟‪..‬‬ ‫يف اليوم التايل‪ ..‬يف بيت مونيكا نف�سه‪ ..‬ال�ساعة ال�ساد�سة‬
‫روزا نعم‪� ..‬أري م�ؤخرتك !‪..‬‬ ‫اال خم�س دقائق‪ .‬مونيكا جال�سة ت�شاهد التلفزيون وعلى‬
‫مونيكا انا ال امزح‪ ..‬طبعا ترين م�ؤخرتي‪ .‬اعني هل ان‬ ‫الطاولة قنينة نبيذ‪.‬‬
‫ال�ضمادة وا�ضحة؟؟‬ ‫يدق جر�س الباب‪.‬‬
‫‪ ..‬روزا انا ارى �شيئا واحدا فقط هو ان م�ؤخرتك جميلة‬ ‫مونيكا تطفئ التلفزيون وتذهب لتفتح الباب‪ .‬تدخل روزا‬
‫حقا‪ ..‬وان هذا الديك الذي ي�سمى ريت�شارد ال ي�ستحق ان‬ ‫الهثة وهي حتمل كي�سني كبريين‬
‫‪150‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ ..‬روزا ما هذا؟ (تنه�ض‪ ..‬تت�شمم جو الغرفة) اللعنة‪..‬‬ ‫يلم�سها‪.‬‬
‫‪ ..‬روزا (عائدة من املطبخ وهي تتنف�س بعمق) حل�سن احلظ‬ ‫‪ ..‬مونيكا ما حكاية الديك هذا؟ لندا و�أنت‪..‬‬
‫انني تذكرت يف الوقت املنا�سب‪ ..‬لوال ذلك لتحول عيد‬ ‫‪ ..‬روزا (تقاطعها) لقد كانت فكرتي‪( ..‬ت�ضحك وهي تعود‬
‫ميالد مونيكا اىل كارثة‪ ..‬وقد ت�صاب باجلنون‪ ..‬احلمد‬ ‫اىل املطبخ)‪.‬‬
‫هلل‪ .‬هه‪ ..‬هه‪ ..‬يبقى الرز فقط‪ ..‬ع�رش دقائق كافية لطبخه‪.‬‬ ‫‪ ..‬مونيكا (تعود اىل املر� آة مرة اخرى وهي تدور حول نف�سها‪.‬‬
‫(�صمت ق�صري)‬ ‫اخريا جتل�س وتفتح التلفزيون‪ ..‬ت�شعر انها غري مرتاحة‪..‬‬
‫من ا ألف�ضل ان �أهيئ كل �شيء من االن لكي اطمئن‬ ‫تنه�ض‪ ..‬تعدل ال�ضمادة حتت البنطلون ثم جتل�س‪ ..‬تبحث‬
‫�شخ�صيا‪� ..‬ستعود مونيكا من جديد لت�س�ألني عن م�ؤخرتها‬ ‫يف القنوات عن برنامج معني‪ ..‬ت�سمع مو�سيقى راق�صة‬
‫(تتجه اىل املطبخ)‬ ‫�رسيعة‪ ..‬تتناول ك�أ�س النبيذ وت�رشب)‪.‬‬
‫‪ ..‬مونيكا (تدخل حاملة كعكة) روزا‪ ..‬روزا‪ ..‬عزيزتي‪ ..‬هل‬ ‫‪ ..‬روزا (من املطبخ) مونيكا‪....‬‬
‫كل �شيء على ما يرام؟‬ ‫مونيكا نعم‪..‬‬
‫(ت�ضع الكعكة على الطاولة وتخلع �سرتتها)‬ ‫‪ ..‬روزا هل لديك فلفل حار احمر؟‪..‬‬
‫‪ ..‬روزا (من املطبخ) نعم‪ ..‬كل �شيء جاهز‪ ..‬هل جلبت‬ ‫مونيكا ماذا تقولني؟ احمر؟ �أ‪ ..‬اجل يف غرفة النوم‪.‬‬
‫الكعكة؟‬ ‫‪ ..‬روزا (قادمة) هل لديك‪ ...‬اخف�ضي ال�صوت قليال‪ ..‬هل‬
‫مونيكا ا�شرتيت نوعا اخر من ال�شا�ش (ت�ضحك بفرح) هذا‬ ‫لديك فلفل حار احمر؟‬
‫النوع الذي يدخل‪ ...‬لن يظهر اي �شيء‪ ..‬ا�ستطيع االن ان‬ ‫‪ ..‬مونيكا فلفل !!‪..‬‬
‫ارتدي تنورة (تذهب لتغري مالب�سها)‬ ‫روزا (با�ستغراب) اجل فلفل‪..‬‬
‫‪ ..‬روزا (تهز ر�أ�سها وتعود اىل املطبخ)‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ ..‬مونيكا عذرا عزيزتي‪ ..‬ظننته �شيئا اخر‪ ..� ..� ..‬لدي فلفل‪..‬‬
‫‪ ..‬مونيكا – (تعود من غرفة النوم وقد ارتدت تنورة �ضيقة‬ ‫نعم ولكنني ال اعرف ان كان احمر او ا�صفر‪ ..‬او‪...‬‬
‫وق�صرية وو�ضعت مكياجا اكرث من العادة ت�صب لنف�سها‬ ‫‪ ..‬روزا ا�صفر او احمر ال فرق‪ ..‬ولكن اين هو؟‪..‬‬
‫ك�أ�سا من النبيذ وت�رشب جرعة كبرية‪ .‬يدق جر�س الباب)‬ ‫مونيكا انه بالت�أكيد يف املطبخ‪..‬‬
‫‪ ..‬مونيكا (تفتح الباب‪ .‬تدخل لندا وبيدها هدية)‬ ‫‪ ..‬روزا (بلطف) و�أين تظنيني كنت؟‬
‫هلو لندا (تقبلها)‬ ‫‪ ..‬مونيكا روزا انا � آ�سفة حقا (تذهبان اىل املطبخ‪ .‬ثم‬
‫أ‬
‫‪ ..‬لندا � آه‪ ..‬يالها من كعكة جميلة املنظر (تت�شمم �جواء‬ ‫تعود مونيكا اىل ال�صالة وهي حتاول تعديل ال�شا�ش‪ .‬جتل�س‬
‫الغرفة) �أ�شم رائحة طعام طيبة‪ ...‬ماذا طبخت لنا �أيتها‬ ‫وترت�شف من النبيذ وهي تقلب القنوات من جديد‪ .‬ثم تقفز‬
‫اجلميلة؟‬ ‫فج�أة)‬
‫روزا (تظهر من املطبخ وتفاجئها) هري هريي !‬ ‫‪ ..‬مونيكا روزا‪ ..‬روزا‪ ..‬روزا (قادمة من املطبخ) نعم‪..‬‬
‫‪ ..‬لندا � آه‪ ..‬روزا‪ ..‬ال ا�صدق (تهرع اليها وتقبلها)‬ ‫‪ ..‬مونيكا (بعجلة) روزا‪ ..‬لقد ن�سيت ان ا�شرتي الكعكة‪..‬‬
‫‪ ..‬روزا (اىل مونيكا) كل �شيء جاهز‪ ..‬هل نح�رض الطعام؟‬ ‫�س�أذهب اىل ال�سوق‪ ..‬لن ات�أخر‪ ..‬خم�س دقائق فقط‪ ..‬ح�سنا؟‬
‫‪ ..‬لندا (�سعيدة) نعم‪ ..‬لنح�رض الهري هريي‪ ..‬هل لفظته‬ ‫كم ال�ساعة االن؟ �ستف�ضحنا لندا اذا مل جتد كعكة‪.‬‬
‫�صح؟ (اىل روزا)‪..‬‬ ‫‪ ..‬روزا اهدئي حبيبتي‪ ..‬لدينا ما يكفي من الوقت‪.‬‬
‫مونيكا لن�رشب قليال‪( ..‬ال‪ ..‬لندا) اال تفكرين ب�شيء � آخر غري‬ ‫‪ ..‬مونيكا (ترتدي �سرتتها امام املر� آة) روزا‪ ..‬انظري‪ ..‬هل‬
‫الطعام؟‬ ‫تبدو علي العادة ال�شهرية؟‬
‫لندا عزيزتي مونيكا‪ ..‬انا � آ�سفة لذلك‪ ..‬انت تعرفني انني ال‬ ‫‪ ..‬روزا اذهبي ب�رسعة و�إال �ضاع الوقت (تعود م�رسعة اىل‬
‫اطبخ‪..‬‬ ‫املطبخ)‬
‫انني ال � آكل غري اجلنب والبي�ض واحللويات‪ ..‬معدتي‬ ‫‪ ..‬مونيكا (تغادر)‪.‬‬
‫(جافت) من هذا االكل‪ ...‬على كل حال ا�ستطيع ان انتظر‪.‬‬ ‫‪ ..‬روزا ـ) قادمة من املطبخ وهي تغني حاملة �صحنا‬
‫‪ ..‬روزا يالك من م�سكينة‪ ..‬اعدك انني �سوف اعلمك الطبخ‬ ‫من الكرزات‪ ..‬جتل�س وتبد� أ بتقليب قنوات التلفزيون‪ ..‬بعد‬
‫مهما كلف االمر‪.‬‬ ‫دقيقة يرن التلفون‪ ..‬تنه�ض روزا لرتد ولكنها تغري ر�أيها‪.‬‬
‫‪ ..‬مونيكا ح�سنا عزيزتي‪ ..‬اجلبي ك�أ�سا من املطبخ‪..‬‬ ‫تعود للجلو�س وتبد� أ من جديد بتقليب القنوات‪ ..‬بعد فرتة‬
‫�سن�رشب قليال ثم ن�أكل‪ ..‬روزا‪ ..‬تعايل اجل�سي‪ ..‬انت حقا‬ ‫ق�صرية‬
‫‪151‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ ..‬روزا ابوك؟ هل تعنني ان �أباك مل ي�شرت لك �أبدا قطعة من‬ ‫�صديقة رائعة‪ ..‬ال اعرف كيف ا�شكرك‪ ..‬اجلبي ك�أ�سك انت‬
‫ال�شكوالتا؟‬ ‫اي�ضا‪.‬‬
‫مونيكا (بحزن �شديد) وال امي‪..‬‬ ‫‪ ..‬روزا (ال‪ ..‬لندا) انا �س�أح�رض ذلك‪ ..‬اذهبي وا�سرتيحي‪.‬‬
‫‪ ..‬لندا ولكن اباك مات قبل اكرث من ثالثني عاما؟‬ ‫(لندا جتل�س)‪.‬‬
‫‪ ..‬مونيكا كانا يت�شاجران طيلة الوقت‪ ..‬وكنت ا�صاب برعب‬ ‫‪ ..‬مونيكا اراك هادئة؟ ماذا هناك؟‬
‫�شديد من جراء �رصاخهما‪..‬‬ ‫‪ ..‬لندا ماذا؟‬
‫بعد كل �شجار كان ابي يخرج من البيت وامي تبد� أ بتناول‬ ‫‪ ..‬مونيكا اليوم مل ت�ضحكي ابدا‪..‬‬
‫الكحول‪..‬‬ ‫‪ ..‬لندا انت ال تدعني احدا ي�ضحك (بتربم) ثم انني جائعة‪..‬‬
‫ولكنني كنت ابقى مرعوبة وال ا�ستطيع ان اتوقف عن‬ ‫‪ ..‬مونيكا (ت�ضحك) �سن�أكل الكعكة اوال‪ ..‬هل ينا�سبك ذلك؟‬
‫البكاء مما ي�صيب امي باجلنون فت�رصخ بي‬ ‫‪ ..‬لندا (تكركر) نعم‪ ..‬كوين لطيفة هكذا‪ ..‬روزا‪ ..‬روزا‪..‬‬
‫(اذهبي اىل غرفتك‪ ..‬اذهبي اىل اجلحيم)‪ ..‬كنت اتكور يف‬ ‫تعايل‪..‬‬
‫ال�رسير وابكي ب�صمت طيلة الليل‪.‬‬ ‫‪ ..‬روزا (قادمة وهي حتمل عددا من ال�شموع‪ .‬اىل مونيكا)‬
‫(�صمت)‬ ‫كم �شمعة تريدين ان ا�ضع يف الكعكة؟‪..‬‬
‫كم مرة حاولت ان الفت انتباههما اىل و�ضعي‪ ..‬ولكنهما‬ ‫مونيكا ثالثة تكفي‪ ..‬ما ر�أيك لندا؟‬
‫مل يعرياين اي انتباه‪ ..‬مرة قررت ان ال اذهب اىل املدر�سة‬ ‫‪ ..‬لندا انت بد�أت االن بالثالثة وا ألربعني‪ ..‬يعني انك مازلت‬
‫وبقيت يف الفرا�ش‪ ..‬مل ي�س�ألني اي منهما ماذا بك؟ هل انت‬ ‫يف الثانية وا ألربعني �صح؟ يعني ان عمرك ا آلن اثنان‬
‫مري�ضة؟ ملاذا ال تريدين الذهاب اىل املدر�سة؟‬ ‫و�أربعون عاما ويوم واحد‪ ..‬اذن ميكن ان ن�ضع �شمعتني‪.‬‬
‫كانا يت�رصفان وك�أنني غري موجودة‪ ..‬كنت يف العا�رشة‬ ‫ماذا تقولني روزا؟‬
‫ومل اكن اعرف ب�أي طريقة ا�ستطيع ان اجعلهما يهتمان‬ ‫‪ ..‬روزا مونيكا‪ ..‬اثنتان ام ثالث؟‬
‫بي‪ ..‬كنت ابكي فقط‪..‬‬ ‫‪ ..‬مونيكا ح�سنا‪ ..‬لندا على حق‪ ..‬لن�ضع �شمعتني‪.‬‬
‫مبجرد ان يبد� أ بال�شجار ابد� بالبكاء‪ ..‬مل اكن اعرف ماذا‬
‫أ‬ ‫‪ ..‬روزا �شمعتني (تغرز �شمعتني يف الكعكة وتوقدهما)‬
‫افعل‪..‬‬ ‫مونيكا‪� ..‬صبي لنا النبيذ ولنحتفل باملر�أة التي لديها‬
‫(�صمت)‬ ‫اجمل م�ؤخرة يف العامل‪.‬‬
‫‪ .‬ثم قررا ان ير�سالين اىل مدر�سة داخلية‪ ..‬امي هي التي‬ ‫‪ ..‬لندا (تكركر)‬
‫قررت ان اذهب اىل املدر�سة الداخلية‪�( ..‬صمت طويل)‬ ‫‪ ..‬مونيكا (ت�صب لهن النبيذ وهي تو�شك على البكاء‪..‬‬
‫مل تكن مدر�سة‪ ..‬بل كانت �سجنا‪ ..‬كنت ا�شعر بوحدة �شديدة‬ ‫يرفعن الك�ؤو�س ويبد�أن با ألغنية التقليدية عن عيد امليالد‬
‫‪ ..‬يف كل عطلة من نهاية اال�سبوع كان الكثري من ا آلباء‬ ‫ثم ينه�ضن إلطفاء ال�شموع)‬
‫وا ألمهات ي�أتون ألخذ �أطفالهم لكي يق�ضوا العطلة يف‬ ‫‪ ..‬لندا (تخرج الهدية وتقدمها اىل مونيكا) مربوك عزيزتي‬
‫البيت‬ ‫(تقبلها) تف�ضلي‪..‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ ..‬اال انا‪ ..‬مل يكن �بي او �مي ي�تيان لزيارتي‪..‬‬ ‫‪ ..‬مونيكا �شكرا‪( ..‬تفتح العلبة) اوه‪ ..‬ال‪ ..‬يا الهي‪( ..‬ن�شاهد‬
‫احيانا متر ثالثة ا�شهر دون ان ي�أتي احد لزيارتي‪ ..‬لذلك‬ ‫�أنواعا خمتلفة من ال�شكوالتا الفاخرة)‬
‫كنت ابقى يف الغرفة وحيدة‬ ‫‪ ..‬لندا عزيزتي مونيكا‪ ..‬امل تعجبك الهدية؟‬
‫‪ ..‬وكنت يف يوم ا ألحد اح�صل على قطعة �شكوالتا �صغرية‬ ‫‪ ..‬مونيكا على العك�س‪ ..‬انها اف�ضل هدية �أتلقاها‪ ..‬ولكنني‬
‫جدا من امل�رشفة يف املدر�سة‬ ‫كنت امتنى ان يقدمها يل �شخ�ص اخر‪.‬‬
‫‪ ..‬مرة واحدة يف اال�سبوع‪ ..‬ويف يوم ا ألحد فقط‪�(.‬صمت)‬ ‫‪ ..‬روزا ريت�شارد؟‬
‫مل تكن مدر�سة‪ ..‬لقد كانت �سجنا حقيقيا‬ ‫‪ ..‬مونيكا (بحزن) ال‪..‬‬
‫‪ ..‬ذات يوم جاءت امي لزيارتي وكان معها رجل غريب مل‬ ‫‪ ..‬لندا (با�ستغراب) من اذن؟‬
‫�أره �أبدا من قبل‪ ..‬قالت انه �صديقي‪ ..‬قلت لها و�أبي؟‬ ‫‪ ..‬مونيكا �شخ�ص لن ي�ستطيع ان يقدمها بعد ا آلن‪ ..‬النه‬
‫قالت لقد تطلقنا قبل �شهرين‪ .‬ومل ار ابي بعد ذلك ابدا‬ ‫مات (ت�رشب ك�أ�س النبيذ دفعة واحدة )‬
‫(تبكي)‬ ‫‪ ..‬لندا مات؟ من؟‪..‬‬
‫‪ ..‬قالت ميكنك بعد ان تنهي هذه ال�سنة العودة اىل البيت‬ ‫مونيكا ابي‪..‬‬
‫‪152‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بجملة واحدة‪ ...‬اعني‪ ...‬ح�سنا‪..‬‬ ‫ولكنني رف�ضت ب�شدة‪..‬‬
‫عندما تكون الفتاة يف ال�سابعة ع�رشة تكون ا ألمور خمتلفة‬ ‫(تبكي)‬
‫متاما‪ ..‬هذا ما كنت ا�شعر به على االقل‪..‬‬ ‫�إنني �أت�ساءل حتى هذه اللحظة ان كان لها قلب؟‬
‫عندما جاءين احلي�ض ألول مرة اعتقدت انني �س�أموت‪ ..‬مل‬ ‫(�صمت)‬
‫تكن لدي اية فكرة عن االمر‬ ‫بعد ذلك علمت عمتي انني �أعي�ش يف مدر�سة داخلية فجاءت‬
‫‪ ..‬لكن امي قالت ‪ :‬يجب ان تفرحي ايتها ال�سيدة ال�صغرية‬ ‫و�أ�رصت ان اذهب للعي�ش معها‬
‫يجب ان ت�صلي للرب‪..‬‬ ‫‪ ..‬لقد كانت طيبة ولكنها مل تكن متلك الوقت الكايف‬
‫من االن ف�صاعدا �سيكون لكل �شيء مذاق الع�سل‪� ..‬ستكونني‬ ‫لتمنحني ذلك الدفء الذي كنت احتاجه‬
‫�أمر�أة‪ ..‬قالت‪ ..‬امر�أة‪..‬‬ ‫‪ ..‬تركتني افعل ما �أ�شاء‪ ..‬يف اخلام�سة ع�رشة بد�أت �أدخن‬
‫�شيء عظيم ان تكوين امر�أة‪ ..‬ولكنني كنت �صغرية و�ضئيلة‪..‬‬ ‫احل�شي�ش واعبث مع ال�شبان‪..‬‬
‫يف الثالثة ع�رشة فقط‪..‬‬ ‫( روزا تبد� أ البكاء ب�صمت وهي ت�ؤدي عالمة ال�صليب‬
‫أ‬
‫كيف يل ان ا�صبح امر�ة وانا بهذا احلجم‪..‬‬ ‫وحتاول ان تغلق اذنيها‪ ..‬بينما لندا حتاول ان جتل�س الدب‬
‫فعلت امل�ستحيل من اجل ان اجعل اثدائي تبدو كبرية‪ ..‬ثم‬ ‫ب�شكل �صحيح ولكنه يقع على وجهه)‬
‫بد�أت ا�ضع احمر ال�شفاه‪..‬‬ ‫كنت انتقل من �شاب ألخر ألنني كنت ال اثق ب�أي واحد‬
‫ولكن الفتيات وا ألوالد كانوا ي�سخرون مني‪ ..‬مل اكن اهتم‬ ‫منهم‪ ..‬وهذا ما جعلني ال اثق ب�أي رجل‬
‫ملا يقولونه‪ ..‬كنت اجيبهم‪( ..‬بغ�ضب)‬ ‫‪ ...‬دائما كان لدي رجل ثان‪ ..‬حتى عندما يكون لدي‬
‫اذهبوا اىل اجلحيم انني امر�أة‪ ..‬لقد �أ�صبحت امر�أة‪ ..‬ومل اعد‬ ‫�صديق‪..‬‬
‫العب معهم او اكلمهم‪..‬‬ ‫كنت احتاج اىل املزيد من الكالم اللطيف واالهتمام الذي‬
‫كنت اق�ضي معظم الوقت امام املر� آة‪ ..‬ارتدي هذا القمي�ص‬ ‫يوليه الرجال اىل الن�ساء‪..‬‬
‫واغريه‪ ..‬وارتدي هذا الف�ستان واغريه‬ ‫ذلك الكالم الذي يقوله الرجال عندما ي�شاهدون امر�أة‬
‫‪ ..‬وهكذا‪ ...‬وكانت امي تالحظ ذلك‬ ‫جميلة‪..‬‬
‫وكانت يف كل مرة تريد ان تقول �شيئا‪ ..‬ولكنها كانت‬ ‫كنت ا�ستجيب ب�رسعة ملثل هذا الكالم وكنت على ا�ستعداد‬
‫حترك ر�أ�سها يف الهواء ومت�ضي من�سحبة اىل املطبخ‪.‬‬ ‫للذهاب اىل الفرا�ش مع اي �شخ�ص يقول يل كالما دافئا‬
‫اما الفتيات االكرب مني �سنا فقد ك ّن (ت�ضحك ك�أنها تبكي)‬ ‫وجميال‬
‫الادري‪ ..‬هل بدافع ال�شفقة‪ ..‬ام بدافع الف�ضول ي�ستمعن ايل‬ ‫(تبكي) ولكنني مل اكن اثق ب�أي رجل‪ ..‬لذلك �رسعان ما‬
‫ويقدمن الن�صائح‪..‬‬ ‫يفقد هذا الكالم حرارته بالن�سبة يل مما ي�ضطرين للبحث‬
‫واحدة تقول ال تتبعي االوالد هكذا‪ ..‬دعيهم هم يفعلون‬ ‫عن �أ�شخا�ص � آخرين‪..‬‬
‫ذلك‪..‬‬ ‫‪ .‬لقد فكرت كثريا ان ا�صبح عاهرة‪( .‬تبكي ب�شدة)‬
‫ولكن مل يكن هناك احد يتبعني‪ ..‬واخرى تقول ام�سحي‬ ‫‪ ..‬روزا (ب�صوت خفي�ض وهي تغلق �أذنيها) يا الهي‪..‬‬
‫احمر ال�شفاه ألنك تبدين كالفزاعة البليدة‪.‬‬ ‫الرحمة‪.‬‬
‫اما الثالثة فقد كانت اكرثهن ذكاء‪ ..‬لقد قالت يل كالما‬ ‫لندا ‪( -‬حتاول ان جتل�س الدب)‪..‬‬
‫كثريا مل ا�سمع به من قبل‪ ..‬كالما جميال وغري مفهوم‬ ‫مونيكا كنت اعمل يف منظمة املعاقني عقليا حينما قررت‬
‫‪ ..‬كانت تقول ‪ :‬ال ت�صبح الفتاة امر�أة اال عندما ت�صبح اماً‪..‬‬ ‫ان ا�صبح عاهرة ‪..‬‬
‫لقد اعجبني هذا الكالم كثريا‪..‬‬ ‫كنت اعمل مع رجال كا ألطفال وانتهزت الفر�صة ومار�ست‬
‫حتى انني ظللت اردده بيني وبني نف�سي كثريا دون ان‬ ‫اجلن�س معهم جميعا‪.‬‬
‫اعيه متاما‪.‬‬
‫ا�شد ما كان ي�ؤملني هو انني كنت �ضئيلة احلجم بينما‬ ‫‪..‬‬ ‫امل�شهد الثالث‬
‫كانت هناك فتيات �صغريات ا�صغر مني بال�سن ك ّن يتمتعن‬ ‫‪ ..‬روزا (تنه�ض‪ ..‬برتدد وهي تغلق اذنيها بني فرتة و�أخرى)‬
‫بقامات طويلة وب�أرداف ممتلئة وم�ستديرة‪.‬‬ ‫امل�س�ألة معقدة قليال‪..‬‬
‫(�صمت)‬ ‫ال‪ ..‬ال امل�س�ألة لي�ست معقدة‪ ..‬بل �إنني انا امل�شو�شة‪..‬‬
‫‪ .‬عندما ا�صبحت يف ال�سابعة ع�رشة �رصت اكرث طوال‬ ‫�إنني �أمتني لو انني ا�ستطيع ان اخت�رص امل�س�ألة كلها‬
‫‪153‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫احيانا عندما يحاول ان ي�رشب املاء من النافورة‪..‬‬ ‫وامتالء وبد� أ ال�شبان ينظرون ايل نظرات لها مذاق الع�سل‪..‬‬
‫و�أحيانا ب�سبب التبول‪..‬‬ ‫نظرات كانت جتعلني احلق اىل ال�سماء خ�صو�صا انني مل‬
‫مل اكن �أفارقه وال حلظة واحدة‪..‬‬ ‫اكن ارتدي ال�سوتيان‬
‫كان اخوتي اخلم�سة م�شغولني يف املزرعة ومل يكن لديهم‬ ‫‪ ..‬اردت ان اثبت للجميع انني ال ا�ستخدم القطن ألجعل‬
‫الوقت للعناية به‪ ..‬كانوا يهتمون باخلنازير �أكرث مما‬ ‫اثدائي كبرية‪..‬‬
‫يهتمون بي او به‪..‬‬ ‫اردت ان اثبت للجميع انني املك اثداء كبرية ككل الن�ساء‬
‫كان االوالد ينادونني لكي العب معهم‪ ..‬ولكنني كنت ال‬ ‫الكامالت‬
‫ا�ستطيع اللعب معهم‪ ..‬ألنهم ي�سخرون من بيرت‪ ..‬كم مرة‬ ‫‪ ..‬ذات يوم تعرفت على �شاب يكربين بخم�س �سنوات‪ ..‬وبعد‬
‫وبختني امي النني تركتهم ي�سخرون منه … (�صمت)‬ ‫اقل من ا�سبوع قال انه يريد ان يتزوجني‪..‬‬
‫ثم بد� أ ا ألوالد ي�سخرون مني انا اي�ضا‪ ..‬بد�أوا ينادونني (ام‬ ‫ولكن بعد �شهر ون�صف وحني علم انني حامل اختفى‬
‫بيرت‪ ..‬كيف حال بيرت‪ ..‬امازال يتبول يف ح�ضنك)؟‬ ‫فج�أة ومل اجد له اثرا‪ ..‬قالوا انه يعي�ش يف العا�صمة يف‬
‫(تبكي)‪ ..‬كنت الفتاة الوحيدة يف العائلة‪ ..‬وكانت امي تقول‬ ‫براماريبو‬
‫انني يجب ان �أتعلم من �أالن كيف اعتني باالوالد‪..‬‬ ‫فذهبت اىل هناك ابحث عنه بال طائل‪..‬‬
‫لقد تزوجت من ابي بوقت مبكر و�أجنبت له �سبعة ابناء‪..‬‬ ‫نفد املال القليل الذي كنت املكه وبد�أت بطني تكرب فقررت‬
‫�أرادت ان اكون مثلها‪ ..‬كانت كل يوم تطبخ وتنظف البيت‬ ‫ان ال �أعود اىل �أهلي مهما كلف االمر الن الف�ضيحة �ستحطم‬
‫وتغ�سل املالب�س وت�ساعد اي�ضا يف املزرعة مل يكن لديها‬ ‫حياة ابي وامي‪..‬‬
‫الوقت لت�س�ألني ان كنت احتاج اىل �شيء‪ ..‬مل تكن ت�س�أل اال‬ ‫(ت�شعر باال�سف)‬
‫عن بيرت‪..‬‬ ‫حل�سن احلظ انني وجدت عمال يف احدى ال�رشكات‬
‫لقد كنت يف الرابعة ع�رشة‪..‬‬ ‫الهولندية‪..‬‬
‫ولكن مل يكن احد ينظر ايل كفتاة‪ ..‬كان ال�شبان ي�سخرون‬ ‫قلت ملدير ال�رشكة كم كان رجال طيبا ان زوجي مري�ض‬
‫مني‪ ..‬الن مالب�سي كانت تتلطخ بالطني ب�سبب بيرت‪..‬‬ ‫جدا وينبغي ان يتعالج ولكننا ال منلك املال الكايف‪..‬‬
‫كان مظهري مريعا دائما‪( ..‬تبكي) كنت �أبدو بنظرهم‬ ‫كم كنت كاذبة (تبكي) لقد كنت اكذب عليه طوال الوقت‪..‬‬
‫معوقة اي�ضا‪..‬‬ ‫(ت�ستمر بالبكاء)‪..‬‬
‫�أردت ان �أ�ضع حدا لل�سخرية اليومية التي كنت اتعر�ض لها‬ ‫وبعد يومني من الوالدة عدت اىل العمل‪ ..‬قال �صاحب‬
‫(تبكي)‬ ‫ال�رشكة‬
‫‪ ..‬ملاذا جئت؟ اذهبي واعتني بالطفل‪ ..‬فقلت له لقد تركته‬
‫كنت عادة اخذ بيرت لكي يلعب قرب النافورة‪..‬‬
‫عند امي تعتني به‪..‬‬
‫كان يحب ان ي�رشب املاء من النافورة‪..‬‬
‫(تبكي بحرقة) واحلقيقة‪ ..‬احلقيقة انني تركته امام باب‬
‫( تختنق)‬ ‫احدى العمارات وهربت‪.‬‬
‫وكنت ا�ضطر لالم�ساك به من خ�رصه لكي ي�ستطيع ان‬ ‫(ويبقى �صوت بكاء روزا ي�سمع لعدة ثوان)‪.. ...‬‬
‫ي�رشب دون ان ي�سقط يف املاء‬
‫ألنه اذا �سقط لن ي�ستطيع احلراك و�سينغمر وجهه باملاء‬ ‫امل�شهد الرابع‬
‫ولن ي�ستطيع ان يتنف�س‪ ..‬يف ذلك اليوم‬ ‫منذ خم�سة وع�رشين عاما وانا احتفظ بهذا الدب‪ ..‬خم�سة‬
‫(تبد� أ باالهتزاز)‬ ‫وع�رشين عاما و�أنا �أحاول ان اجعله يجل�س‪ ..‬ولكنه ي�سقط‬
‫اراد كعادته‪ ..‬اراد ان ي�رشب املاء من‪ ..‬من النافورة‪..‬‬ ‫دائما (حتاول ان جتل�س الدب ولكنه ي�سقط على وجهه)‬
‫تركته‪..‬‬ ‫دائما على وجهه‬
‫تركته يذهب لوحده‪ ..‬وان�شغلت ب�إزالة الطني عن مالب�سي‬ ‫… (حتاول ان حتب�س البكاء‪ ..‬تتنف�س بعمق)‬
‫(تبد� أ ببكاء ه�ستريي)‬ ‫يف القرية كان ي�سقط على ا ألر�ض الرطبة ويتلوث وجهه‬
‫بعد قليل ناديته‪ ..‬بيرت‪ ..‬كفى لقد �رشبت كثريا‪ ..‬لكنه مل‬ ‫بالطني ف�أ�ضطر اىل تنظيفه‪..‬‬
‫يتحرك‪..‬‬ ‫كنت جمربة طيلة الوقت على العناية به‪ ..‬كثريا ما كانت‬
‫ظل منكفئا على وجهه‪ ..‬لقد تركته ميوت يف النافورة‪.‬‬ ‫مالب�سه تبتل‪..‬‬
‫‪154‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جم ّر َد �أ ْز َرار‬
‫ال َعا ُمل ليْ َ�س َ‬
‫( ُمو ُنود َر َاما)‬
‫الربيع ّي‬
‫ِ‬ ‫زاق‬
‫بدالر ِ‬
‫ّ‬ ‫ت أ� ِليف‪َ :‬ع‬
‫�شاعر وكاتب من العراق يقيم يف ُعمان‬

‫«تقرع � أجرا�س الكنائ�س»‬ ‫�س َعلى‬ ‫ربعينيّاتِ َيجلِ ُ‬ ‫يف ا أل َ‬ ‫عن رج ٍل ْ‬ ‫ال�ستار ْ‬ ‫ُ‬ ‫«يفتَ ُح‬ ‫ُ‬
‫ون ببرَ يد َِك‬ ‫نع ْم‪ � ,‬أنا عندَ َوعدِي‪�َ ،‬سي ُك ُ‬ ‫نع ْم‪َ ،‬‬ ‫املمثل ‪َ :‬‬ ‫خ�ص ّي‬ ‫وب َ�ش ِ‬ ‫ا�س ٍ‬
‫ُ َ ُ‬ ‫ح‬ ‫ز‬ ‫ها‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫َ َ َْ َ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫�ش‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫كت‬ ‫َ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َم َ َ‬
‫ب‪،‬‬ ‫كت‬
‫ان‬ ‫�ص ِحيف ِتنَا َك َ‬ ‫يف َ‬ ‫�س � إ ّن َيو ِمي ْ‬ ‫اعة‪ ,‬ال تنْ َ‬ ‫بعدَ َ�س َ‬ ‫كتب‬‫طح املَكتَ ِب َو ٌ‬ ‫�ض َ�س َ‬ ‫تع ِر ُ‬ ‫َو ها ِت ٌف ن ّقال َو َ�شا�شةٌ ْ‬
‫الو َر ِقيّة ال يزَا ُل َيتبَ ُع‬ ‫ال�ص َحاف ِة َ‬ ‫يف ّ‬ ‫العم ُل ْ‬ ‫َ�شا ّقا‪َ ،‬و َ‬ ‫ني‬‫حلا ِئ ِط َ�ساعةٌ َكبريَةٌ‪ِ ,‬ح َ‬ ‫أورا ٌق ُمبعرثَةٌ‪َ ،‬علَى ا َ‬ ‫َو� َ‬
‫وف‬ ‫بظر ِ‬‫وم ُ‬ ‫أنت محَ ُك ٌ‬ ‫ِمية التّقلِيد ِّية‪َ ،‬و� َ‬ ‫ا ألن ِظ َمة ال َقد َ‬ ‫و�سط‬ ‫اعة ْ‬ ‫جل ْم ُهور َد ّقاتِ ّ‬
‫ال�س َ‬ ‫�ض‪َ ،‬ي ْ�س َم ُع ا ُ‬ ‫العرْ ُ‬‫َيبْدَ� أ َ‬
‫من‬ ‫البدّ ْ‬ ‫وعاتِ ‪ ،‬لذَا ُ‬ ‫ني النّ�شرْ ِ َواملطبُ َ‬ ‫قوان ِ‬ ‫املَطبَ َعة َو َ‬ ‫يالن ع ْقرَب‬ ‫ملمث ِل َم َع َم ِ‬ ‫ج�سدُ ا ُ‬ ‫تماي ُل َ‬ ‫ال ّظالم‪َ ،‬ي َ‬
‫ورة وووو‬ ‫�ص َ‬ ‫كلم ٍة َوك ّل َحرْ ٍف َو ُ‬ ‫راج َع ِة ك ِّل َ‬ ‫ُم َ‬ ‫�س‬ ‫نه ِم ٌك ِبالت� ُّأم ِل َي ِر ّن َجرَ ُ‬ ‫وهو ُم َ‬ ‫اع ِة ال ُ�شعو ِر ّياً َ‬ ‫ال�س َ‬
‫ّ‬
‫بالن�سبَة لنَا املَ�س�ألة‬ ‫ْ‬ ‫ال�صوت‪« :‬يقاطعه �ضاحكا»‬ ‫الها ِت ِف»‬ ‫َ‬
‫ملنا َف َ�س ُة‬ ‫جلدي ِد فا ُ‬ ‫ُ � ْأر َحم‪ ،‬لكنّا ُنطا ِل ُب َدا ِئ َما ِبا َ‬ ‫ملمثل ‪ � :‬ألو‬ ‫ا ُ‬
‫فالوقت َبدَ� أ‬ ‫ُ‬ ‫ترك َك َم َع اال�س ِتفتاَ ِء‬ ‫وماً أل ُ‬ ‫َ�شديدَةٌ‪ُ ،‬ع ُم َ‬ ‫ري‬
‫خل ِ‬ ‫�ساء ا َ‬ ‫�صوت ‪َ :‬م ُ‬ ‫َ‬
‫المة‪.‬‬
‫ال�س َ‬ ‫ُيد ِر ُكنا‪ � ,‬أمتنّى ل َك َوقتاً َطيّبا َم َع ّ‬ ‫�ساء النّور‬ ‫َ ُ‬ ‫‪:‬م‬ ‫املمثل‬
‫«يغلق الهاتف»‪.‬‬ ‫المة ُ‬ ‫ألف َ�س َ‬ ‫مع � ِ‬ ‫املمثل‪�ُ :‬شكرا ً ل َك َ‬ ‫ال�صوت ‪:‬ك ّل َعا ٍم َو� أنتُم ِبخيرْ ٍ‬
‫ال�سنَة» يردد‬ ‫اء ر� ِأ�س ّ‬ ‫نوان «ا�س ِتفتَ ُ‬ ‫حمل ُع َ‬ ‫يفتَ ُح َملفاً َ‬ ‫ألف َخيرْ‬ ‫أنت ِب� ِ‬ ‫‪:‬و� َ‬ ‫املمثل َ‬
‫وهو ي�شري باملاو�س على كلمات تظهر على ال�شا�شة‬ ‫ال�صوت‪َ :‬ه ْل تذ ّكرْ َت ِني؟‬
‫التي تعك�س �سطح املكتب ‪:‬‬ ‫الذي َ�سلّم ِني ُ�س�ؤا َل ا�س ِتفتَا ِء‬ ‫ال�ص ُح ِف ّي ْ‬ ‫املمثل‪َ :‬ن َعم‪ّ ،‬‬
‫–نح ُن‬ ‫ْ‬ ‫نهاية ك ّل �سن ٍة اعتَدْنا � ْأن نطرَ َح‬ ‫َ‬ ‫مع‬
‫َ‬ ‫ال�سنَة‬
‫َر� ِأ�س ّ‬
‫ني‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ثق‬ ‫مل‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫ْ ِ َ‬ ‫‪-‬‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ئ‬ ‫�سا‬ ‫و‬‫مل َ َ ْ َ‬‫يف‬ ‫لني‬ ‫ِ‬
‫غ‬ ‫�شت‬ ‫ا ُ‬ ‫اب ُة َجاهِ زَ ًة‬ ‫ون ا إل َج َ‬ ‫أمتنّى � ْأن ت ُك َ‬ ‫ال�صوت‪:‬بال�ضب ِط‪َ � ,‬‬ ‫ّ‬
‫تتناو ُل � أبرَ َز ا ألحدَاثِ‬ ‫َ‬ ‫ني � أ�س ِئلة‬ ‫دبا ِء َوالفنا ِن َ‬ ‫َوا أل َ‬ ‫ننوي ن�رشَ اال�س ِتفتَا ِء‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫آن‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫اع ٍة َ‬
‫م‬ ‫ِخال َل َ�س َ‬
‫ً‬
‫اب ِة على ُ�س�ؤا ِل‬ ‫التلطف با إل َج َ‬ ‫َ‬ ‫نرجو‬‫الثقافيّة َوالفنيّ ِة ُ‬ ‫جلديدِ‪،‬‬ ‫العا ِم ا َ‬ ‫من بد ِء َ‬ ‫ال�ساع ِة ا أل ْولىَ ْ‬ ‫يف ّ‬ ‫� إ ِلكرتُو ِنيّاً ْ‬
‫يف‬ ‫ت�صلنا ا إل َجاب ُة ْ‬ ‫�ص ِحيفتنَا اال ِلكرتُونيّة علَى � ْأن ِ‬ ‫َ‬ ‫قت َعلى َم ْو ِع ِد التّ�سلِي ِم‬ ‫َوملْ َيبْ َق َو ٌ‬
‫العام‪.‬‬‫َ َ َ‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫ري‬ ‫خ‬ ‫ِ‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫اعة‬ ‫ال�س‬
‫َ ُ َ ّ‬ ‫ة‬ ‫نهاي‬ ‫اه‬ ‫أق�ص‬ ‫�‬ ‫ٍ‬
‫د‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫مو‬ ‫عن � أمثَا ِل هذِه ا أل ْ�سئل َ ِة‬ ‫يب ْ‬ ‫املمثل ‪ :‬اعتَدْ ُت � ْأن � ِأج َ‬
‫ال�س�ؤال‪:‬‬ ‫من َيتكثّ ُف‬ ‫العا ِم‪ ،‬أل ّن الزّ َ‬ ‫من َ‬ ‫ال�ساعاتِ ا أل ِخريَة َ‬ ‫يف ّ‬ ‫ْ‬
‫عن م�ستَوى � َأدا ِئ َك هذا‬ ‫الر�ضى ْ‬ ‫َ‬ ‫را�ض ك ّل‬ ‫أنت ٍ‬ ‫هل � َ‬ ‫بحر َك ِة الزّم ِن‬ ‫«تنطلق دقات ال�ساعة» َوالتف ِكريُ َ‬
‫العام؟‬ ‫َ‬ ‫كون ُمر ّكزا ً‬ ‫َي ُ‬
‫ابة‪َ ....‬ولَ ِك ْن‬ ‫َ َ‬ ‫ج‬ ‫ل‬
‫إ‬ ‫ا‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫أبد‬ ‫�‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫�‬ ‫علي‬
‫ّ‬ ‫ذن‬
‫ْ‬ ‫�إ‬ ‫قت ُيد ِر ُكنَا َومو ِعدُ حتدِيثِ‬ ‫الو َ‬ ‫لكن َ‬ ‫ال�صوت ‪:‬هذا َجيِّد‪َّ ،‬‬
‫ِيء‬
‫�صوت عبدالوهاب البياتي‪ :‬من � ْأي َن َيبتد ُ‬ ‫ف‬ ‫�ص ِحيف ِتنَا اال ِلكرتُو ِنيّة قدْ � أ ِز َ‬ ‫َ‬
‫‪155‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اروا َما ت� َشا ؤ� َن‬ ‫تختَ ُ‬ ‫�صوت ال� ّشاعربودلري‪ :‬ل ُك ْم � ْأن ْ‬ ‫ُ‬ ‫ملغنّي‬ ‫ا ُ‬
‫ني َعلَى َد َر ٍج‬ ‫ات َمرَّةٍ‪َ ،‬وكنتُ ْم َواق ِف َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ذ‬
‫َ‬ ‫‪,‬‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ظ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ا�ست‬ ‫َو� إ ِن‬ ‫وهو يمُ ِ�س ُك قلبَ ُه؟‬ ‫َ‬
‫يف ُغرَ ِف ُكم‬ ‫ري � ْأو َعلَى ُع� ْش ِب َقبرْ ٍ � ْأخ�ضرَ‪ْ � ,‬أو كنتُ ْم ْ‬ ‫َق ِ�ص ٍ‬ ‫يب؟‬
‫يف ال َغ ِ‬ ‫من �رشْف ٍة ْ‬ ‫ْ‬
‫َو�س َط ُعزل ٍة َكئيبَ ٍة‬ ‫تاء؟»‬ ‫ّ ْ‬ ‫ش‬ ‫ال�‬ ‫ِ‬ ‫� أم صرْ‬
‫ق�‬
‫�ض ُع ُف‬ ‫كم َبد� أ َي ْ‬ ‫رت � ّأن ُ�سكرَ ْ‬ ‫و�ش َع مُ ْ‬ ‫َ‬ ‫نعم البدّ � ْأن � أحدّ َد نقطة ا إلن ِطالقِ ‪ُ ...‬نق َطة ال ِبدَ َاية‪...‬‬ ‫َ‬
‫اعة‬ ‫ال�س‬ ‫‪،‬‬ ‫ور‬ ‫ف‬ ‫�ص‬ ‫الع‬ ‫ة‪,‬‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ج‬ ‫ا� ُ ّ َ َ ْ َ‬
‫و‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫يح‬ ‫الر‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫س�‬ ‫ال�س�ؤا َل ب�ش ْك ٍل‬ ‫نف�‬ ‫أال‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫علي‬ ‫هال‪،‬‬ ‫م‬ ‫أ‪....‬‬ ‫�‬ ‫أبد‬ ‫�‬ ‫أين‬ ‫�‬ ‫من‬
‫ُ ْ ُ َ ّ َ َ‬ ‫ّ ْ َ‬ ‫سرّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫اعة؟‬ ‫ال�س َ‬ ‫وه‪:‬ك ِم ّ‬ ‫ا�س�ألُ ُ‬ ‫لي�س‬‫س�ؤال َيبدُو �سهال‪ ،‬لكنّه َ‬ ‫حيح � ّأن ال� َ‬ ‫�ص ٌ‬ ‫طح ّي‪َ ،‬‬ ‫َ�س ِ‬
‫ور‬
‫النج َمة َوالع�ص ُف َ‬ ‫وجة َو ْ‬ ‫اله َواء َواملَ َ‬ ‫َو َ�سيُجيبُ ُكم َ‬ ‫�صح ِف ّي َي�شت ِغ ُل‬ ‫َ‬ ‫يت�صو ُر َها‬‫ّ‬ ‫التي‬
‫ْ‬ ‫ال�س ُهول ِة‬ ‫بهذِه ُ‬ ‫َ‬
‫اعة‪:‬‬ ‫ال�س َ‬ ‫َو ّ‬ ‫ال�ضغ ِط‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ء‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫�شي‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫مع‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ام‬ ‫يتع‬
‫َ‬ ‫ونية‬ ‫ُ‬ ‫كرت‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫يف‬ ‫ِ‬
‫�صح‬ ‫ِب‬
‫تثملوا حتَّى ال ُت�ص ِب ُحوا َعبيدا ً يمُ ِع ُن‬ ‫كي َ‬ ‫قت ْ‬ ‫الو ُ‬ ‫حان َ‬ ‫َ‬ ‫زرا ِر !!‬ ‫َعلى ا أل َ‬
‫يف تعذِي ِب ِهم‬ ‫الزّ ُ ْ‬ ‫من‬ ‫من ِفكرَ ٍة‬ ‫أو�س ُع ْ‬ ‫العاملُ � َ‬ ‫أزرار‪َ ،‬‬ ‫لي�س مجُ رَّ َد � َ‬ ‫فالعاملُ َ‬
‫خل ْم ِر‪ِ ،‬بال� ّش ْع ِر‪ْ � ,‬أو بال َف ِ�ضيلَة‬ ‫ادة‪ِ ،‬با َ‬ ‫اثملوا ِبال َه َو َ‬ ‫َ‬ ‫لن‬ ‫�شعة‪ ،‬لَكن ِني ْ‬ ‫العاملُ َكلِ َمةٌ ُم َّ‬ ‫تقدَ ُح برَ� ِأ�س َ�شا ِعر‪َ ،‬‬
‫ون»‬ ‫كما ت� َشا ؤ� َ‬ ‫َ‬ ‫زاج ِه اال ِلكرتُونيِ ّ‬ ‫ال�ص َح ِفي ُي�سيرّنيِ ْ وف َق ِم ِ‬ ‫� َأد َع هذَا ّ‬
‫نحن قدْ ث ِملنَا ِب ِ�ش ْع ِر ُبودلريْ ! َث ِملنَا بدَ ِ‬
‫بيب‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫املمثل‪:‬‬ ‫الق�ص واللّ�ص ِق‬ ‫القا ِئ ِم علَى املَل ّفاتِ ال ّطائرَة َو ِ‬
‫يف ه ِذ ِه اللّيل َ ِة‪ ،‬محُ ِب ٌط‬ ‫مي ُر ب�سرُ َع ِة البرَ ْقِ ْ‬ ‫الزّم ِن ُ َ ّ‬
‫و‬ ‫وه‬ ‫يف « ُكو َكل»!‬ ‫َوت�شغي ِل محُ رّكِ البَحثِ ْ‬
‫�صاالتِ‬ ‫يف النّ َوادِي َوالفنَا ِدقِ َو َ‬ ‫العاملُ ْ‬ ‫يحتَ ِف َل َ‬ ‫� ْأن ْ‬ ‫من ُوقو ِع ِه !‬ ‫ان ْ‬ ‫ثو ٍ‬ ‫اج ٍل ُين�شرَ ُ َب ْعدَ َ‬ ‫َوخبرَ َع ِ‬
‫يل ِ�سوى‬ ‫لي�س ْ‬ ‫�س َوحدِي هنَا َو َ‬ ‫ينما � أجلِ ُ‬ ‫ق�ص َب َ‬ ‫الرّ ِ‬ ‫قراءة لمِ َا‬ ‫ات َو َ‬ ‫مراج َع ٌ‬ ‫العاملُ َيا َعاملْ‪ ..‬ت� ّأم ٌل َو َ‬ ‫َ‬
‫تتال�شى َ�شيئاً ف�شيئاً‬ ‫التي‬ ‫ِلأ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫معة ْ‬ ‫هذِه ال� ّش َ‬ ‫�ص ُل‪َ ،‬وقفزَة ذِهنيّةٌ ل َما ِم‪« ,‬يقفز في�سقط‬ ‫َ�سيَ ْح ُ‬
‫موع!‬
‫أحب ال� ّش َ‬ ‫كنت � ّ‬ ‫كم ُ‬ ‫ْ‬ ‫ذرونيِ ‪ ،‬ال � ِأجيدُ ال َقفزَ‪ ،‬رُبمَّ َا‬ ‫اع ُ‬ ‫على ا ألر�ض» � ِآ�سف‪ْ ،‬‬
‫يف‬
‫القا�س ِم ْ‬ ‫ِ‬ ‫عر�س‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫كانت ْ‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ َُ‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫أ�شع‬ ‫�‬ ‫ة‬‫ٍ‬ ‫ع‬
‫َْ‬ ‫م‬ ‫�ش‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫� ّأو‬ ‫ار ممُ تَلِئَاً‬ ‫�ص َ‬ ‫ل�س ُت َبهلَواناً‪ ،‬ر ْغ َم � َّأن َعاملنَا َ‬ ‫أل َن ِن ْي ْ‬
‫حل َ�سينيّة‬ ‫العزاءاتِ ا َ‬ ‫َ‬ ‫حتدِيدَاً‪،‬‬ ‫ِبالبَهلَوا َناتِ ‪ ،‬البَهلَوا َناتِ اال ِلكرتُو ِنيَّة ْ‬
‫�صفيح �صغريَ ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫علب‬ ‫يف‬
‫وكنّا ْ ّ َ ُ َ ْ‬
‫ا‬ ‫ه‬ ‫�ضع‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ود �إلىَ ُ�س�ؤا ِلنَا‪،‬‬ ‫نع ُ‬ ‫«دقات متوا�صلة لل�ساعة» ُ‬
‫ال�صفي ِح‬ ‫ثم نث ُق ُب علبَ َة ّ‬ ‫يات َها ْ‬ ‫يح َح َ‬ ‫ِلئَال ُتط ِفئ الرّ ُ‬ ‫«ي�رسح بعيدا ويتحرك من كر�سيه الذي ينوء‬
‫�س‬ ‫كي ال َتختَ ِن َق ال� ّش ْم َعة َوتظ ّل تتنَ ّف َ‬ ‫ري ْ‬ ‫امل�سا ِم ِ‬ ‫ِب َ‬ ‫بحمله»‬
‫يح‪:‬‬‫ن�ص َ‬ ‫ني البيوتِ َو ِ‬ ‫ني َوننتق َل َب َ‬ ‫ا ألو ْك ُ�س ِج َ‬ ‫تو ّج ْه‬‫يف َم ِعدتي أل َ‬ ‫ظم�أ َ�شديدٍ‪ِ ...‬ب ُحرق ٍة ْ‬ ‫‪�,‬آ�آ�آ�آ� ْآه � ْأ�ش َع ُر ِب َ‬
‫� أ�صوات من اخلارج ‪:‬‬ ‫أ�س َما ٍء َبا ِردٍ‪« ,‬ينه�ض من‬ ‫� ِإىل البرَ َّا ِد أل�رشَ َب ك� َ‬
‫يخلّي َرا ِعي البَيت �آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ� آمني‬ ‫اهلل ْ َ‬ ‫مكانه ي�رشب ماء»‬
‫�سما ِعيل �آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ�آ� آمني‬ ‫بجا ِه اهللِ َو� إ َ‬ ‫وحاً الل ِت َها ِمي !‬ ‫ال�س�ؤا ِل ال َيزا ُل مفتُ َ‬ ‫ف ُّك ّ‬
‫اء ف� إ ّن‬ ‫رم َ‬ ‫كان � أهل ُ َها ُك َ‬ ‫التي � إ َذا َ‬ ‫ْ‬ ‫بواب‬ ‫فتفتح ا أل ُ‬ ‫َ‬ ‫طوا َل‬‫�ستوى � َأدا ِئي َ‬ ‫عن ُم َ‬ ‫ا�ض ك ّل ال ِر�ضى ْ‬ ‫ه ْل � أ َنا َر ٍ‬
‫ال�صغريَة‬ ‫ّ َ‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫النقود‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫لوى‬ ‫حل‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َن�صيبَ‬ ‫العام؟‬ ‫َ‬
‫الء‬
‫أهلها ُب َخ َ‬ ‫كان � َ‬ ‫َو� إ ْن َ‬ ‫�ضو ِء‬ ‫ب‬
‫ِ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫أكت‬ ‫�‬ ‫�س‬ ‫ي‪...‬‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫تحً‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫اد‬
‫َّ‬ ‫حل‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫اء‬
‫ا إل َ َ‬
‫�ض‬
‫اب‬ ‫و�سخوا عتَبَة البَ ِ‬ ‫�صوت � أج�ش‪ :‬قلنا لَ ُك ْم ال ُت ّ‬ ‫ال� ّش ْم َع ِة‪.‬‬
‫الد ال� ّشوا ِر ِع َيا‪« ...‬ر�شقة ماء‬ ‫ذرة َيا � ْأو َ‬ ‫ب�أقدَا ِم ُك ُم ال َق َ‬ ‫يف‬‫ق�س �إح ِتفاليِ ٍ ‪ْ ...‬‬ ‫يف َط ٍ‬ ‫يج َعل ِني ْ‬ ‫مع ِة ْ‬ ‫ت� ُّأم ُل ال� ّش َ‬
‫قوية ت�سقط املمثل � أر�ضا»‬ ‫كما‬ ‫يب» َ‬ ‫وبةٍ‪ ...‬حتّى ال َن� ْش ُعرَ « ِبث َق ِل الزّم ِن الرّهِ ِ‬ ‫َغيبُ َ‬
‫ر�شقونا باملاء‬ ‫خل ْم ِر � ْأو ِبال� ّشع ِر‬ ‫يقو ُل ُبود ِلري الدّا ِعي � ِإلىَ الثّ َمالَ ِة « ِبا َ‬
‫الو ِ�سخ َما َذا َ�س�أقو ُل‬ ‫كم َ‬ ‫مبا ِئ ُ‬ ‫ابي َ‬ ‫ِ‬
‫�صوت طفل‪َ :‬بللتُم ثيَ ْ‬ ‫� أو ِبال َف�ضيل َ ِة»‬
‫‪156‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ايةٌ ال ُتدْ َر ُك‪ ،‬يردد ‪:‬‬ ‫ف�س َغ َ‬ ‫الرِّ�ضى َع ِن النّ ِ‬ ‫أل ّمي؟ اهلل ْ ينتَ ِقم ِمن ُك ْم‬
‫يب َكليلةٌ‬ ‫عن ك ِّل َع ٍ‬ ‫وعني الرّ�ضى ْ‬ ‫ٌ‬ ‫كان‬ ‫و�س َم َ‬ ‫املمثل «للجمهور»‪ :‬لحِ ُ ْ�س ِن احل ّظ � ّأن املَ ِ‬
‫اويا‬‫ال�سخ ِط تبد ِْي املَ َ�س َ‬ ‫ني ّ‬ ‫َول ِك ّن َع َ‬ ‫كنت َعائدا ً‬ ‫�ض ُت‪َ ،‬ب ْعدَ َ�سنواتٍ َعديدَة ُ‬ ‫�صيفاً َو�إال ّ ملَ ِر ْ‬ ‫َ‬
‫ال�س�ؤا ِل ينبَ ِغ ْي � ْأن‬ ‫اب ٍة دقي َق ٍة َع ْن َهذا ّ‬ ‫لكتاب ِة � إ َج َ‬ ‫َ‬ ‫من ا أل ّيا ِم‬ ‫ِ َ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫القا‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مفكر‬ ‫و‬
‫َ َ َ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫اهم‬ ‫�س‬ ‫‪,‬‬ ‫رب‬ ‫ِ‬ ‫حل‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫َ‬
‫لكن َم ْهال‪..‬ل َقدْ َه َجر ُت َها‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ي‬‫م‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫دفرت‬ ‫ع‬
‫اج َ‬ ‫� َأر ِ‬ ‫نتها الثّا ِمنَة‪ ,‬كانتِ‬ ‫َْ ُ ْ ََْ َ َ‬ ‫�س‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫دخ‬ ‫قد‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫حل‬ ‫ا‬ ‫كانتِ‬ ‫َو‬
‫ْ‬ ‫َ َ ّ ْ‬
‫عاد ًة ممُ َ ل ّ ًة‪ ..‬بدَ� ْأت ممُ ِت َعة‬ ‫أ�صبح ْت َ‬ ‫كتابة اليَو ِميّاتِ � َ‬ ‫َ‬ ‫الذين‬
‫َ‬ ‫حت�سبنَ ّ‬‫َ‬ ‫حلدا ِد «وال‬ ‫لون ا ِ‬ ‫ترتد ِْي َ‬ ‫ان َ‬ ‫حلي َط ُ‬ ‫ا ِ‬
‫يف فل ِك‬ ‫لت ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ف�‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ئ‬ ‫�شي‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ٍ‪،‬‬ ‫د‬ ‫دي‬ ‫ج‬ ‫ٍ‬
‫ك� ّأي ْ َ‬
‫ء‬ ‫�شي‬ ‫يف َ�سبي ِل اهللِ � ْأم َواتاً ب ْل � أحيَاءٌ عندَ َر ّب ِه ْم‬ ‫ُق ِتلُوا ْ‬
‫فا�صي ِل‬ ‫من تكرَا ِر َت ِ‬ ‫ال�س�أ ِم َوالتّكرَا ِر الذي ت�ست ِمدّ ُه ْ‬ ‫ّ‬ ‫«ننعى �إلي ُك ُم ال�شهيدَ‬ ‫َ‬ ‫ظيم‬
‫الع ُ‬ ‫دق اهلل ُ َ‬ ‫�ص َ‬ ‫قون»‪َ ..‬‬ ‫ُير َز َ‬
‫ف�س َك ك ّل‬ ‫� ّأيا ِمي‪ ،‬فرتَكتُ َها‪ ..‬مم ٌل � ْأن تحُ ِ�صي علَى َن ِ‬ ‫ف�س َها‬ ‫بارة َن َ‬ ‫الالفتات تكرّ ُر ال ِع َ‬ ‫ُ‬ ‫ع�رشات‬
‫ُ‬ ‫البط َل‪»......‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مع الزّم ِن‬ ‫ام ُل َ‬ ‫تتع َ‬ ‫نها َ‬ ‫كما � إ َ‬ ‫�صا ِد ٍر َو َوا ِردٍ! َ‬ ‫نف�س َ‬ ‫ٍ‬ ‫اجت‬ ‫تاريخاً َجديدَاً‪ ،‬حتّى َر ْ‬ ‫َ‬ ‫ا�سماً َجديدَا ً َو‬ ‫ت�ضع َ‬ ‫َو ُ‬
‫نان‬ ‫ابه ك� ْأ�س ِ‬ ‫و�صاً � ّأن � َأيامنَا تت� َش ُ‬ ‫�ص َ‬ ‫ب� َشك ٍل � أف ِق ّي‪ُ ،‬خ ُ‬ ‫وداء !!‬ ‫ال�س َ‬ ‫خل ّط َوبي ِع ا ألق ِم� َشة ّ‬ ‫ِمهن ُة ا َ‬
‫اد ألخ َطا ِء ا أل ْم ِ�س» َح ْ�س َب‬ ‫وم ام ِتدَ ٌ‬ ‫مل�ش ِط! َو«اليَ َ‬ ‫ا ِ‬ ‫ديق‬ ‫�ص ٍ‬ ‫من ُو ُجو ِد ا�س ِم َ‬ ‫كنت التَ ِه ُم الالفتاتِ َخو َفا ْ‬ ‫ُ‬
‫ُروجيه َجارود ِْي‬ ‫جاج ِة‬ ‫َ‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫فتح‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ار‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫َ ُ‬‫أح‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫لب‬‫َ‬ ‫ط‬‫َ‬ ‫أة‬ ‫�‬ ‫فج‬ ‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫يب‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫� ْأو ق‬
‫يع � ْأن � ْأع�صرُ َ ذا ِكرَ ِت ْي‪،‬‬ ‫لكنني � أ�ستَ ِط ُ‬ ‫ْ‬ ‫من املَاءِ‪ ،‬كانتِ الرّ�شقة‬ ‫ري َ‬ ‫ور َ�شقني ِب�إنا ٍء َكب ٍ‬ ‫النافذَة َ‬
‫�ض ِ�شك�س ِبري‬ ‫كما َيفترَ ِ ُ‬ ‫العق ِل» َ‬ ‫�س َ‬ ‫«حا ِر ُ‬ ‫الذاكرَ ُة َ‬ ‫حني‬
‫عن عيُونيِ ‪َ ،‬و َ‬ ‫مب ْ�س ِح املَا ِء ْ‬ ‫ان�شغلت َ‬ ‫ُ‬ ‫ُمبَاغتة لذَا‬
‫أي�ضاً‬
‫تخون � َ‬ ‫ُ‬ ‫نهاي ِة‬ ‫نا�سب ِة َ‬ ‫�ض َحك َوقا َل‪ :‬هذ ِه بمِ َ‬ ‫هما َو َجد ُته َي ْ‬ ‫فتحتُ َ‬ ‫ْ‬
‫يحاً َم َع ُك ْم‬ ‫َ صرَ َ‬ ‫�‬ ‫أكون‬ ‫�‬ ‫أن‬
‫عل َ َّ ْ‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫تتباد ُل َر�شقاتِ‬ ‫َ‬ ‫ا�س‬
‫َ ُ ّ َ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫جدت‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫ٍ‬ ‫قلي‬ ‫د‬ ‫بع‬
‫حل ِ ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫رب‬ ‫ا َ‬
‫من َبين ُكم ِقرّاءٌ‬ ‫وا�ض َحاً َوج ِريئَاً َم َع ُكم فبالتّ�أ ِكي ِد ْ‬ ‫َو ِ‬ ‫كان الد ِم يبللنا‬ ‫املَا ِء َوالك ُل يبل ّ ُل ال ُك َّل‪ ،‬قب َل ذلك َ‬
‫يل‬
‫ْ‬ ‫زن‪.‬‬ ‫حل ُ‬ ‫القهر وا ُ‬ ‫َو ُ‬
‫عندما � أخ�سرَ ُ قا ِرئاً فهذا َي ْع ِن ْي �إنني � أخ�سرَ ُ ُركنَاً‬ ‫َو َ‬ ‫ا�ض ك ّل‬ ‫أنت َر ٍ‬ ‫«يرتدد �صوت ال�صحفي» ‪ :‬هل � َ‬
‫يف‬‫يف َق�صرْ ِ م ِن ٍ‬ ‫ْ‬ ‫العام؟‬ ‫�ستوى � َأدا ِئ َك هذَا َ‬ ‫عن ُم َ‬ ‫الر�ضى ْ‬
‫مع‬ ‫َ‬ ‫دقِ‬ ‫ال�ص‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫�ص‬ ‫َ ْ ٌ‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫هو‬ ‫ئ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ال‬
‫ْ ُ َ َ‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫�ص‬ ‫احلر‬ ‫كان‬ ‫أت�صو ُر‪َ ،‬ما َ‬ ‫كنت � َّ‬ ‫مما ُ‬ ‫أ�صع ُب ّ‬ ‫عب‪َ � ،‬‬ ‫�ص ٌ‬ ‫�س�ؤا ٌل َ‬
‫النف�س‬ ‫ِ‬ ‫درا�ستنَا‬ ‫أ�ستهني ِب ِه‪ � ،‬أذ ُك ُر � أننَا ِخال َل َ‬ ‫َ‬ ‫ينب ِغ ْي � ْأن �‬
‫كون �صا ِد َقاً‬ ‫أ‬
‫أكون �صاد َقا َم َع نف�س ْي ل َ‬ ‫ِ‬ ‫ينب ِغ ْي � ْأن � َ‬ ‫ني‬ ‫و�صوننا ب�أال َن�ستَ ِه َ‬ ‫ون ُي ُ‬ ‫ملعل ّ ُم َ‬ ‫كان ا ُ‬ ‫االب ِتدَائيّ ِة َ‬
‫مع ال ُقرَّا ِء‬ ‫لكي‬ ‫يب نبدَ� أ با أل�س ِئل َ ِة ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ال�سهلة ْ‬ ‫حني نجُ ُ‬ ‫ال َو َ‬ ‫ب� ّأي ُ�س�ؤ ٍ‬
‫ني‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫أ�ست‬ ‫�‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫�صادق‬ ‫أكون‬
‫َ‬ ‫�‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫�‬ ‫ميكنني‬ ‫كيف‬ ‫َ‬ ‫ذن‬‫�إ ْ‬ ‫ال َن�ستن ِفدَ طاقتنا َعلى الرتْكي ِز بالبدْ ِء با أل�س ِئل ِة‬
‫بذَا ِكرَة َبد� ْأت َت ْهرَم؟‬ ‫التو�ضي ِح‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫نطلب املَزيدَ َ‬ ‫ُ‬ ‫حني‬
‫ال�صعبَة‪َ ،‬و َ‬ ‫ّ‬
‫�ض؟‬ ‫من قا َل � ّأن الذاكرَة ال تمَ رَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫بن �شدّا ٍد‬ ‫َُ ُ‬ ‫ة‬ ‫عنرت‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫ئ‬ ‫�س‬
‫َ ً َ َُ ُْ ُ َ‬ ‫‪،‬‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫أ�رش‬ ‫�‬ ‫�س‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ح�س‬ ‫املعلم‪:‬‬
‫أرقام َه َوا ِت ِف � أ�صدِقا ِئ ْي‬ ‫َ‬ ‫�‬ ‫ر‬
‫ُّ‬ ‫ك‬ ‫أتذ‬ ‫�‬ ‫كنت‬‫ُ‬ ‫نواتٍ‬ ‫�س‬
‫قب َ َ‬ ‫ل‬ ‫رض ُب‬ ‫ِ‬ ‫أ�‬ ‫�‬ ‫‪:‬‬ ‫أجاب‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫كيف تظ َف ُر ِب�أعدَائ َك؟‬ ‫َ‬ ‫يوماً ‪:‬‬
‫أن�سى‬ ‫العم ِل‪َ ،‬و�شيئاً ف�شيئَا َبد� ُأت � َ‬ ‫تي و ُزمال ِء َ‬ ‫خو ْ‬ ‫َو� إ َ‬ ‫جاع‪َ ،‬وهكذا‬ ‫قلب ال� ُش ِ‬ ‫لها ُ‬ ‫رت ِعدُ َ‬ ‫�رضبة َي َ‬ ‫َ‬ ‫ان‬
‫جلبَ َ‬ ‫ا َ‬
‫قلت ‪:‬ا أل�صد ُ‬
‫ِقاء‬ ‫قام � أ�صدِقا ِئ ْي � ّأوالً‪ُ ،‬‬ ‫يت � ْأر َ‬ ‫!فن�س ُ‬ ‫ِ‬ ‫يجعلنا‬ ‫النف�س َو َ‬ ‫ِ‬ ‫الب�سي ُط ي�ضا ِع ُف الثقة ِب‬ ‫فال�س�ؤال ِ‬ ‫ُ‬
‫الء‬‫حليا ِة َويب َقى ُز َم ُ‬ ‫وب ا َ‬ ‫يف ُد ُر ِ‬ ‫يمَ ْ ِ�ضي ك ٌل � ِإىل ِج َه ٍة ْ‬ ‫اح‪،‬‬ ‫َ َ َ ِ‬ ‫النج‬ ‫من‬ ‫اثقون‬ ‫و‬ ‫َ َ َ ُ َ‬ ‫نحن‬ ‫و‬ ‫ان‬ ‫ح‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫االم‬ ‫يدان‬
‫دخ َ َ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫َن ُ‬
‫در ِرز ِق ْي َوا أله ُل َد ِمي‬ ‫�ص ُ‬ ‫فالع َم ُل َم ْ‬ ‫َ‬ ‫الع َم ِل َوا أله ِل‬ ‫َ‬ ‫كما َيعل َ ُم‬ ‫واج َهاتِ َ‬ ‫مل َ‬ ‫يف ا ُ‬ ‫النف�س ُّي ُم ِه ٌم ْ‬ ‫ِ‬ ‫فالعا ِم ُل‬ ‫َ‬
‫َوحل ِم ْي‬ ‫يع‪.‬‬‫جل ِ ُ‬ ‫م‬ ‫ا َ‬
‫�سيان علَى � ْأرقا ِم ُز َمال ِء َ‬
‫الع َم ِل‬ ‫زح َف النّ ُ‬ ‫فج�أة َ‬ ‫ان‪ � ،‬إ ّن ُه‬ ‫يف ام ِت َح ٍ‬ ‫ل�س ُت ْ‬ ‫لكنني ْ‬ ‫ْ‬ ‫«املمثل ي�ستدرك»‬
‫اللقاء ِب ِه ْم‬ ‫ورة‬ ‫لي ال�رضُ َ‬ ‫نهم � أ�صدِقاءٌ � ْأملَت َع ّ‬ ‫ملَ ال؟ � إ ُ‬ ‫ل�ص ِحيف ٍة الكرتو ِنية رغم � أن م�س�ألة‬ ‫ِي َ‬ ‫ا�س ِتفتَاءٌ َعاد ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ ّ َْ ّ َ ْ َ‬
‫‪157‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ستوى � أدا ِئك َهذا‬ ‫عن ُم َ‬ ‫ا�ض ك ّل ال ِر�ضى ْ‬ ‫أنت َر ٍ‬ ‫ه ْل � َ‬ ‫يته َعلي ِهم‬ ‫مثلما � أمل َ ُ‬ ‫َ‬
‫العام؟‬ ‫َ‬ ‫ملْ � أخرتْ ُه ْم‬
‫ال�شيَة في ِه وق ِد اخرت ُته أل ّن ُه‬ ‫ا�ضح َوب�سي ٌط ِ‬ ‫َ ٌ‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ؤ‬ ‫س�‬ ‫ال�‬ ‫علي‬
‫ار ُه ْم َّ‬ ‫وملْ يقع اختيَ ُ‬
‫كتب‬‫من ُك ِل َما َ‬ ‫جمال‪ْ ،‬‬ ‫الب�ساطة ُ ُعم ٌق َو َ‬ ‫َب�سي ٌط‪َ ...‬‬ ‫ورات احليَا ِة‬ ‫هي �رضُ ُ‬ ‫�إنمّ ا َ‬
‫ق�صيدَة‬ ‫ملن � أحبَبْ ُت ِ‬ ‫كنت � َأر ّد ُد ْ‬ ‫العاط َف ِة ُ‬ ‫يف َ‬ ‫ال� ّشعرَ ُاء ْ‬ ‫�سوى � ْأرقا ِم ا أل ْه ِل‬ ‫ذن ملْ يب َق َ‬ ‫�إ ْ‬
‫�سودة َي ِج ُب‬‫«م َّ‬ ‫اته ُ‬ ‫لرَ ُ�سول َحمزا ُتوف الذي َيعتبرِ ُ َحيَ ُ‬ ‫� ألو‪ِ � ...‬أخ ْي‬
‫يها»‪ ...‬كلنَا َحيَاتنَا‬ ‫عادة النّظ ِر ِف َ‬ ‫يح َها َو� إ َ‬ ‫�صح ُ‬ ‫َت ِ‬ ‫حلا ُل؟‬ ‫كيف ا َ‬ ‫َ‬
‫ني َو� آخرَ نجُ ْ ِري‬ ‫وبني ح ٍ‬ ‫َ‬ ‫�سو ّدة َقا ِبلةٌ إل َعادِة النظ ِر‬ ‫ُم َ‬ ‫يبدُو � أن َك م�ش ُغو ٌل‬
‫وذاك‬
‫كان هذا َ‬ ‫ت�صحيحاتٍ ‪ ..‬هذا َم ُ‬ ‫َ‬ ‫عليها َتعديالتٍ ‪َ ،‬و‬ ‫َ‬ ‫� ِآ�سف‬
‫�سو ّدة‪...‬‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫مل‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫يد‬ ‫ِ‬
‫الق�ص‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫تل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫‪...‬‬ ‫ذاك‬
‫َ‬ ‫مكان‬
‫ُ‬ ‫بوقتٍ � َآخرَ‬ ‫�س� ّأت ِ�ص ُل َ‬
‫مفخو ٍر!!‬
‫� إ ّنها َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ٍ ُ‬
‫ح‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ة‬ ‫نقو�ش‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫أنه‬ ‫�‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫كتوب‬ ‫م‬ ‫َمرحبَاً � أخ ِت ْي‬
‫ال�ص َو ِر َواملعانيِ ْ‪ ،‬لكنّ َها َع ِمي َقة‪...‬‬ ‫ون � إ ّنها َب ِ�سي َطة ّ‬ ‫�سرتَ َ‬ ‫يف املطبَ ِخ؟‬ ‫هل � أنتِ ْ‬
‫أرد ُدها َعلى م�سامعها ‪:‬‬ ‫كنت � أحف ُظ َها َو� ّ‬ ‫ُ‬ ‫� ِآ�س ٌف جدا ً‬
‫ألف‬ ‫مل � ٌ‬ ‫العا ِ‬
‫َ‬ ‫هذا‬ ‫يف‬
‫ْ‬ ‫كان‬‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫وف‪:‬‬ ‫ت‬
‫َ ُ‬ ‫مزا‬ ‫ح‬ ‫�سول‬ ‫ر‬
‫ُ َ‬ ‫�صوت‬ ‫نا�س ٍب‬ ‫الوقت غريُ ُم ِ‬ ‫ُ‬
‫من الرّجا ِل‬ ‫َ‬ ‫� أغلق اخلط‬
‫كي َيخ ِطبُوك‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫نح‬
‫ُ َ ْ َ‬ ‫ون‬ ‫مي�ض‬ ‫أن�سى‬ ‫�صاالتي ِبا أل ْه ِل َوبد� ُأت � َ‬ ‫و�شيئا ف�شيئاً قلتِ ّات َ‬
‫بني ه�ؤال ِء الرّجا ِل َر�سو ْل َحمزا ُتوف‬ ‫فاعل ِم ْي � ّأن َ‬ ‫َه َوا ِت َف ُهم‬
‫هناك َمائة ِم َن الرّجا ِل‬ ‫َ‬ ‫ان‬
‫� إ ْن َك َ‬ ‫ان‬
‫الن�سيَ َ‬ ‫لعن اهلل ُ ْ‬ ‫َ‬
‫الدماء ل َظى َخ ُجو ٌل‬ ‫ورين ِب ُحب ِك َو َ‬ ‫م� ُأ�س َ‬ ‫اب؟‬ ‫ملَاذا هذَا ا إل�س ِه ُ‬
‫جلبَال‬ ‫ينه ْم َرج ُل ا ِ‬ ‫يلوح َب ُ‬ ‫َ�س ُ‬ ‫كان ُي ْ�س ِه ُب َويط ِن ُب‬‫اح ِظ‪َ ،‬‬ ‫جل ِ‬ ‫من جدِّ َنا ا َ‬ ‫تعلّمتُه ْ‬
‫دعى َر ُ�سول َحمزا ُتوف‬ ‫َجامحِ َ اً ُي َ‬ ‫من‬‫كان ْ‬ ‫َ‬ ‫الذي‬
‫ْ‬ ‫ني»‬
‫ان َوالتب ِي ُ‬ ‫كتابه «البيَ ُ‬ ‫َ‬ ‫� أتذ ّك ُر‬
‫من الرّ َجا ِل‬ ‫هناك ع�رشَةٌ َ‬ ‫َ‬ ‫كان‬
‫� إ ْن َ‬ ‫الطالب‬
‫ِ‬ ‫كان � أحدُ‬‫جلا ِم ِعيّة‪َ ،‬‬ ‫درا�س ِتنَا ا َ‬ ‫�ضم ِن ُمقرّراتِ َ‬ ‫ِ‬
‫ب�صدْ ٍق َيع� َشقو َنك‬ ‫ِ‬ ‫من َمدين ٍة‬ ‫نحن ننت ِق ُل ْ‬ ‫ني َو ُ‬ ‫�صفحتَ ِ‬ ‫�ص ْف َحة � ْأو َ‬ ‫َيقرَ� أ َ‬
‫يب‬
‫دون � ْأن يخافوا الل ّ ِه َ‬ ‫َ‬ ‫‪،‬ومن َحدثٍ �إىل َحدثٍ‬ ‫ال �إىل � َآخرَ ْ‬ ‫�إلىَ � ْأخرَى و ِم ْن َح ٍ‬
‫ينه ُم َر ُ�سول َحمزا ُتوف‬ ‫�سيُ ِط ّل ُمبتَ ِه َجا َب ُ‬ ‫ن�شع ُر ِباملل ِل ي ُقو ُل � أ�ستاذنا ا أل ْ�شيَ ُب ‪:‬‬ ‫حني ُ‬ ‫َو َ‬
‫احد‬ ‫هناك ِ�س َوى َر ُجل َو ِ‬ ‫َ‬ ‫� إ ْن ملْ َي ُعدْ‬ ‫كان َر ُجال‬ ‫العرَ ِب ّي‪َ ,‬‬ ‫البيان َ‬‫ِ‬ ‫اح ُظ � أمريُ‬ ‫جل ِ‬ ‫‪ � -‬إ ّن ُه ا َ‬
‫َما َزا َل مجَ نوناً ِب ُحبّ ِك‬ ‫و�سو ِعياً لذا ترَو َنه ُي ْ�س ِه ُب َويط ِن ُب و� أنا �صرِ ْ ُت‬ ‫ُم ُ‬
‫جلبَال‬ ‫فاعل َ ِم ْي � إ ّن ُه َر ُجل ا ِ‬ ‫ِمثل َ ُه‬
‫قمم الغيُو ِم‬ ‫من َ‬ ‫ه َّل ْ‬ ‫ا�س ْي بالزم ِن‬ ‫ح�س ِ‬‫أطلت علي ُك ْم‪ ،‬يبدُو � إ ّن � إ َ‬ ‫معذرة � ُ‬
‫ذاك ُيدْ َعى َر ُ�سول َحمزا ُتوف‬ ‫ابي حتّى املَر� أة‬ ‫من � َأح ٍد ُ‬
‫يطر ُق َب ْ‬ ‫يل ْ‬ ‫فلي�س ْ‬ ‫َ‬ ‫َت َو ّق َف‬
‫ناك‬
‫� إ ْن ملْ َي ُعد � َأحدٌ ُه َ‬ ‫�ضع َحدا ً جلنو ِننَا‬ ‫كانت‪ ...‬قرّ ْرنا � ْأن َن َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ِت ْي‬
‫وف‬‫له ِ‬ ‫يه َواكِ كاملَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال�س ْه ِل َوال البَ ِ�سيط‬ ‫كن ِبال َقرا ِر ّ‬ ‫ملْ َي ْ‬
‫بي‬ ‫يه‬
‫ً ْ ُ ٍ َ َ ٍ‬ ‫غ‬ ‫وب‬ ‫غر‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫حزن‬ ‫ثرَ ُ‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫أنتِ‬ ‫و�‬ ‫كان ينب ِغ ْي � ْأن ُي ْح َ�س َم‬ ‫لكنّه َ‬
‫لت‬
‫توف َح ْ‬ ‫حل َ‬ ‫ان ا ُ‬ ‫فاعل ِم ْي ّ‬ ‫لها َو ِنهايتُ َها َ�سائبَة َي ِج ُب � ْأن‬ ‫كه ِذ ِه ال بدْ َء َ‬ ‫َعالقةٌ َ‬
‫اله�ضبَة‬ ‫َ‬ ‫حتت‬
‫َو َ‬ ‫لها َحدَا ً‬ ‫ن�ض َع َ‬ ‫َ‬
‫يف ُح�ض ِن اجلبَا ِل‬ ‫هناك ْ‬ ‫َ‬ ‫ني‬
‫فو�ضعنَا باتفاقِ الطرَف ِ‬ ‫َ‬
‫‪158‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ورحيل بني ا ألقمار‬ ‫د َفنُوا َر ُ�سول َحمزا ُتوف‬
‫ني؟‬ ‫املمثل‪:‬ماذا َتع ِن َ‬ ‫ت�سعدُ عندَ َما‬ ‫َ‬ ‫الللللللللللللللللللللللللله‪...‬كم كانت‬
‫يف‬ ‫وم ْن َي ِ�سريُ ْ‬ ‫اجهة ‪َ ،‬‬ ‫حل ُب ُم َو َ‬ ‫نع ْم ا ُ‬ ‫�صوت املر� أة‪َ :‬‬ ‫م�سا ِم ِع َها‬
‫وكنت � أكرِّ ُره على َ‬ ‫ُ‬ ‫�ص !‬ ‫� أ�س ِم ُع َها هذا النَ ّ‬
‫�سوى َما‬ ‫منه َ‬ ‫مل َمرَّ ُد ال ينل ُ‬ ‫ظ ِّل َحائطٍ �صرَ ُحه ا ُ‬ ‫قم ِة‬
‫يف ّ‬ ‫ن�ض َح ُك و ْ‬ ‫طع ٍم ْ‬ ‫يف َم َ‬ ‫وذات مر ٍة �س�ألتُ َها َوكنا ْ‬ ‫َ‬
‫من غبَا ِر ال�شرُ ُفاتِ ‪ ،‬وقدْ َخن َق‬ ‫يت�ساق ُط علَى َر� ِأ�س ِه ْ‬ ‫َ‬ ‫البهج ِة ‪:‬ه ْل � أنتِ َرا�ضيَة َع ِني؟‬ ‫َ‬
‫ار‪...‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ب‬‫غ‬‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫خن‬ ‫ب�شدة»‬ ‫«ت�سعل‬ ‫ار‬
‫َ ُ‬ ‫ب‬ ‫غ‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ُحبَّ‬ ‫�سكتت‬
‫ْ‬
‫ار «يتال�شى ال�صوت»‬ ‫خن َق ُحبَنَا ال ُغبَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال�س�ؤا َل ‪ :‬ه ْل � َرا�ضيَة َعن ْي؟‬ ‫أنتِ‬ ‫� أعدْ ُت ّ‬
‫ار �إلىَ‬ ‫املمثل ‪:‬بعد ذل َك ملْ نلتَقِ‪ �،‬أخذَ َها ال ُغبَ ُ‬ ‫�صوت املر� أة‪ :‬ملاذا َت ْ�س�أ ُل؟‬
‫الذكرياتِ‬‫َ‬ ‫يف البَدْ ِء ظننْ ُت ّ‬
‫ان‬ ‫�ضان َرج ٍل � َآخرَ‪ْ ،‬‬ ‫� ْأح ِ‬ ‫ال‬
‫املمثل‪:‬ال َ�ش ْيء‪� ،‬إنمّ َا مجُ َ رّ ُد ُ�س�ؤ ٍ‬
‫داخلي‬ ‫عان َما ُخ ِن َقت ِب ِ‬ ‫املرّ َة َ�ستخ ِنق ِن ْي‪ ،‬لكنّ َها �سرُ ْ َ‬ ‫اع‬ ‫أنت علَى ا�س ِت ْعدَا ٍد َ‬
‫ل�س َم ِ‬ ‫�صوت املر� أة‪ :‬وهل � َ‬
‫تبخرَّ ْت تل َك املَرْ� أ ُة‬ ‫َو َ‬ ‫ابة؟‬‫ا إل َج َ‬
‫َوكل ّ َما كا َن ْت َت ْ�س�أل ِن ْي � ِّأم ْي عنْ َها � أقو ُل‬ ‫املمثل‪ :‬لو ملْ � أ ُك ْن كذل َك ملْ � ْأ�س�أل ِك‬
‫املمثل‪ � :‬إ ّن َها‪ � ...‬إ ّن َها‪ �....‬إ ّن َها ُم َ�سا ِفرَة‬ ‫عجبَ َك‬‫لن ُت ِ‬ ‫لكن � إ َجابتي رُبمّ َا ْ‬ ‫�صوت املر� أة‪ّ :‬‬
‫ا�سم ْع منّي َيا َولد ِْي َهذ ِه‬ ‫يل ا ألم‪َ :‬‬ ‫قالت ْ‬ ‫ْ‬ ‫وذات َيو ٍم‬ ‫َ‬ ‫املمثل ‪َ :‬كيف؟ ه ْل َتعنني‪.......‬؟‬
‫ل�س ُت َرا�ضيَة َعنْ َك‬ ‫ْ ْ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫ة‪...‬‬ ‫م‬‫الكلِ َ‬ ‫هو َج َوا ِبي‬ ‫أة‪:‬بال�ضب ِط‪ ،‬هذا َ‬ ‫َ‬ ‫�صوت املر�‬
‫ألتها‬
‫وغ َو َ�س� َ‬ ‫وقفت َكاملَلدُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫املمثل ‪:‬‬ ‫ال�ضح ُك‪ .....‬ت َك َّو َر ُت‬ ‫املمثل «للجمهور» ‪:‬فج�أ ًة هدَ� أ ّ‬
‫املمثل‪ :‬ملَاذا َيا � ِّأم ْي؟‬ ‫وح ْي َوانط َف� ُأت‬ ‫على ُر ِ‬
‫تكون َما ت ِريدُ‬ ‫َ‬ ‫لن‬
‫�سوف ْ‬ ‫ا ألم ‪ :‬ألنك َ‬ ‫�صوت املر� أة ‪ :‬ملَاذا َ�س َك َّت؟‬
‫كيف؟‬
‫املمثل ‪َ :‬‬ ‫ال�سما ِء � َأحل ُق‬ ‫يف ّ‬ ‫كنت ْ‬ ‫قع ِمن ِك هذَا ! ُ‬ ‫أتو ْ‬
‫املمثل‪ :‬ملْ � َ‬
‫حتزَ ُن علَى‬ ‫ا ألم ‪ :‬ألن َك ال تفرَ ُح بالذ ِْي ي�أ ِت ْي َوال ْ‬ ‫الف�ضا ِء َوال َآن‬ ‫ناحي ِه َعلى امتدَا ِد َ‬ ‫مث َل طائ ٍر َيف ِر ُد َج َ‬
‫الذ ِْي َيذْ َه ُب‬ ‫�صيَّا ٍد � أ�سق َط ْ‬
‫تني‬ ‫�صا�ص ِة َ‬ ‫َ‬ ‫جو َاب ِك ِمث ُل ُر‬ ‫أ�شع ُر � ّأن َ‬ ‫� ُ‬
‫طي ال َغيْ ِب‬ ‫يف ِّ‬ ‫ار ْت � ّأمي ْ‬ ‫و�ص َ‬ ‫املمثل «للجمهور» َ‬ ‫يحة‬ ‫جل ِر َ‬ ‫رب َيا ِئ َي ا َ‬ ‫� ْأر�ضاً ُم�ضرَ َّ َجاً بك ِ‬
‫الالمبَاالة حتّى‬ ‫ُ‬ ‫ال�س ُن َكبرِ َتِ‬ ‫كلما َتقدَّ َم بي ِ‬ ‫َو َ‬ ‫أق�صدُ‬‫أكن � ِ‬ ‫�صوت املر� أة «م�صحوبا ببكاء» ‪ :‬مل � ْ‬
‫َ‬
‫حكاية‬ ‫َ‬ ‫كاي ِت ْي ت� ْش ِب ُه‬ ‫ار ْت ِح َ‬ ‫�ص َ‬ ‫� ْأ�صبَ َح ْت فل�س َفة َ‬ ‫علي َهذا � َأبدَاً‪ ...‬لقدْ َ�س�ألتَ ِن ْي‬ ‫‪...‬لي�س َ�س ْهالً َّ‬ ‫َ‬ ‫�إيذَ َاء َك‬
‫ال�صي ِن ّي‬ ‫الح ِ‬ ‫ال َف ِ‬ ‫َو� َأجبت َك‬
‫ال�صي ِن ِّي؟‬ ‫الفالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫اي ِة‬ ‫ه ْل َ�سمعتُم ِبح َك َ‬ ‫ا�صة‬ ‫�ص َ‬ ‫املمثل‪َ � :‬أجبت ِن ْي ِب ُر َ‬
‫«�صوت رنة هاتف»‬ ‫لي�س �إال ّ‬ ‫جواباً َ‬ ‫كان َ‬ ‫�صوت املر� أة‪َ :‬‬
‫ق�صريَةٌ‬ ‫لي�س َهاتفاً‪ � ...‬إ ّنه ِر َ�سالةٌ ِ‬ ‫َ‬ ‫املمثل‪ :‬هذا‬ ‫اب ُي�س ِعد ْ‬
‫ين‬ ‫ماع َج َو ٍ‬ ‫أحب َ�س َ‬ ‫كنت � ُ‬ ‫املمثل‪ :‬لكنَ ِن ْي‪ُ ،‬‬
‫نها مجُ َ رّ ُد تذ ِكريٌ‪...‬‬ ‫ال�ص ُح ِفي اال ِلكرتُونيِ ّ‪ �..‬إ َ‬ ‫ُ‬ ‫من‬‫َ‬ ‫�صوت املر� أة‪ :‬ال � أريدُ � ْأن � أخدَ َع َك‬
‫كلماتٍ ‪ :‬ال تقل ْق‬ ‫يل بالرَ ّد علي ِه ب� ْأر َب ِع َ‬ ‫ا�سم ُحوا ْ‬ ‫َ‬ ‫املمثل «ينفعل» ‪ :‬ولمِ َاذا ُك ُّل هذَا؟‬
‫‪..‬مت‬
‫َّ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫�س‬ ‫َّ ْ َ‬‫ر‬ ‫ل‬
‫إ‬ ‫ا‬ ‫مت‬ ‫ال‪...‬‬ ‫�س‬ ‫ر‬
‫ْ َ‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫‪...‬‬ ‫ِك‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫رب‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫اب‬‫َ ُ‬ ‫اجلو‬ ‫ون‬
‫َ�سي ُ‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫�صمت يت�سلل �صوت املغني كاظم ال�ساهر وهو‬
‫الفالح‬
‫ِ‬ ‫كاي َة‬ ‫يم‪....‬ح�سناً لنُ ْك ِمل‪� ،‬س�أر ِوي ل ُك ْم ِح َ‬ ‫الت�سلِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫يغني «�إين خريتك فاختاري»‬
‫كمتُها‬ ‫ِّ َ َ‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫أم‬ ‫�‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫ة‬
‫ٌَ َ َ ٌ ُ ْ‬ ‫ط‬ ‫�سي‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫كاي‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ها‬ ‫ِ ِّ إ َّ‬
‫ن‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫ال�ص‬ ‫ملغنّي‪:‬‬ ‫ا�سمع ما َذا َيقو ُل ا ُ‬ ‫ْ‬ ‫�صوت �إمر� أة ‪:‬‬
‫كاية َق ِ�صريَة‬ ‫ت� ْش ِبه ال � أباليتي‪...‬ال تتململوا‪ � ...‬إ ّنها ِح َ‬ ‫�صوت كاظم ال�ساهر‪ :‬احلب مواجهة كربى‬
‫ف‪..‬‬ ‫قت � أ ِز َ‬ ‫الو َ‬ ‫يها ب�سرُ ْ َعة أل َّن َ‬ ‫َو ُم�سلِيَّة‪�َ ...‬س�أر ِو َ‬ ‫�إبحار �ضد التيار‬
‫اجب ُم ِه ٌم ف�أنا‬ ‫يل َو ٌ‬ ‫اقيها و ْ‬ ‫وال�شم َعة بدَ� ْأت َتلت ِه ُم َ�س َ‬ ‫ْ‬ ‫�صلب وعذاب ودموع‬
‫‪159‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قوية‪ ,‬فما َذا تعتَ ِقدُون ُه َو فا ِع ٌل؟ ملْ‬ ‫ري ٍة َّ‬ ‫ِجيَا ٍد َب َّ‬ ‫‪...‬و َي ِج ُب‬ ‫اب َ‬ ‫جل َو ِ‬ ‫ال�ص ُح ِف ّي اال ِلكرتُونيِ ّ بتَ ْ�سلِي ِم ا َ‬ ‫َو َعدْ ُت ُ‬
‫اء على املَار ِة ولمَ ‪ ....‬لق ِد‬ ‫�ش املَ َ‬ ‫طرباً وملْ ي ِر ّ‬ ‫�ص َ‬ ‫ير ُق ْ‬ ‫لكم‬
‫يها ْ‬ ‫أكون عندَ َو ْعدِي لذا َ�س� َأحا ِو ُل � ْأن � أر ِو َ‬ ‫� ْأن � َ‬
‫نومه‪,‬‬ ‫ليوا�ص َل َ‬ ‫ِ‬ ‫من َر� ِأ�س ِه َو َ‬
‫عاد‬ ‫�صغريَ ٍة ْ‬ ‫بهز ٍة َ‬ ‫اكت َفى َ‬ ‫من الوقتِ َوال ُي�سا ُل‬ ‫لكي ال � أف ِقدَ املَزيدَ َ‬ ‫باق ِت َ‬
‫اب ْ‬ ‫�ض ٍ‬
‫لكنه ملْ َيهن�أ بنو ِم ِه طويالً‬ ‫ُ‬ ‫«يطلق �صوت �شخري»‬ ‫اع‬ ‫الود ِ‬ ‫ملحة َ‬ ‫ال�شم َعة لت ُك ْن هذ ِه َ‬ ‫ْ‬ ‫من قطرَاتِ‬ ‫الكثريُ ْ‬
‫يطرقون علي ِه‬ ‫ان ُ‬ ‫جلريَ ِ‬ ‫أ�صوات ا ِ‬ ‫َ‬ ‫�ساع ٍة َ�س ِمع �‬ ‫فبَ ْعدَ َ‬ ‫متاع‬ ‫يف «ا إل ِ‬ ‫التوحيد ِّي ْ‬ ‫ِ‬ ‫ان‬
‫كان يفع ُل � ُأبو َحيّ َ‬ ‫كما َ‬
‫نف‪.‬‬ ‫اب ِب ُع ٍ‬ ‫البَ َ‬ ‫نه � ْأع َطى‬ ‫الذي � ْأحرَ َق كتبَ ُه أل ُ‬ ‫ان�س ِة» � أبو َحيَّان ْ‬ ‫َوامل�ؤ َ‬
‫الح ال َطي ِّ ُب‪ّ �،‬أي‬ ‫ري � َأ�صاب َك � ّأيها ال َف ُ‬ ‫اجلريان‪ّ � :‬أي َخ ٍ‬ ‫من ك ِّل َ�ش ْي ٍء ‪ ....‬لندَ ِع التَ ْو ِحيد ِّي َجانباً‬ ‫َولكنّه ُح ِر َم ْ‬
‫زن‪،‬‬ ‫حل ِ‬ ‫من ا ُ‬ ‫اهو اخلريُ قد َح َّل ببي ِت َك َبدال ً َ‬ ‫ُب�رشَى ! َه َ‬ ‫‪...‬احلكاية َ�ساد ِتي‬ ‫َ‬ ‫ال�صي ِن ّي‬ ‫الح ِ‬ ‫كاية ال َف ُ‬ ‫َونر ِو ْي ِح َ‬
‫الفالح الطي ِّ ُب !»‬ ‫ُ‬ ‫َهنيئاً ل َك � ّأيها‬ ‫يف احلق ِل َوال يمَ ْلِ ُك َمن‬ ‫يعمل ْ‬ ‫ري َ‬ ‫فالح فق ٍ‬ ‫عن ٍ‬ ‫تتحدُث ْ‬ ‫َ‬
‫من َيدْ ِري‪».‬‬ ‫الفالح ر� َأ�سه وقا َل‪« :‬رُبمّ ا‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فهزّ‬ ‫يف‬ ‫َ ُ َ ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ا‬ ‫�س‬ ‫ي‬ ‫كان‬ ‫ٍ‬
‫د‬ ‫حي‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ان‬
‫ٍ‬ ‫�ص‬
‫َ‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ى‬ ‫و‬ ‫ِ‬
‫ُح ِ ُ َ َ‬
‫�س‬ ‫ا‬ ‫ني‬ ‫الد‬ ‫م‬ ‫طا‬
‫فرط‬ ‫من ِ‬ ‫وابه ْ‬ ‫�ص َ‬ ‫ان َوظنوا � إ ّنه فقدَ َ‬ ‫جلريَ ُ‬ ‫ا�ست ْغرَب ا ِ‬ ‫حل ْق ِل « تظهر على ال�شا�شة �صورة م�ضببة‬ ‫أعما ِل ا َ‬ ‫� َ‬
‫ني ده� َشتَ ُه ْم !‬ ‫الفرَ ِح‪َ ،‬وان�رصَفوا ُمت�أ ِب ِط َ‬ ‫حل�صان ميتطيه فالح‬
‫جليا ِد‬ ‫الفالح � َأحدَ ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف اليوم الثالثِ � أ�سرْ َج ُ‬
‫ابن‬ ‫�ص ْهو َة‬ ‫ري َها ِد َئة َي ْعتَلِ ْي َ‬ ‫الح ال َفق ِ‬ ‫يام على ال َف ِ‬ ‫مرَتِ ا أل ُ‬
‫عن‬ ‫ألقاه ْ‬ ‫اد و� ُ‬ ‫جل َو ُ‬ ‫جمح ا َ‬ ‫اء ُه‪َ ،‬ف َ‬ ‫البرَ َّية َو َحاو َل ام ِت َط َ‬ ‫الذي‬ ‫ْ‬ ‫باح البَاك ِر ليَ ِ�ص َل احلق َل‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫يف ّ‬ ‫�صا ِن ِه ْ‬ ‫ِح َ‬
‫اقه‪.‬‬ ‫ظه ِر ِه َو ُك�سرِ َ ْت َ�س ُ‬ ‫ْ‬ ‫روب ال� ّش ْم ِ�س محُ َ ّمالً‬ ‫ود قب َل ُغ ِ‬ ‫يع ُ‬ ‫َيعم ُل ِب ِه بن� َشاطٍ َو ُ‬
‫ني‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫قائ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫وا�س‬ ‫ي‬ ‫انه‬ ‫ري‬ ‫ج‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫لي‬ ‫�‬ ‫فجاء‬ ‫�صا ِنه‬ ‫�ض ُع َها علَى َظ ْه ِر ِح َ‬ ‫التي َي َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ِبالغال ِل ْ‬
‫الفالح‬ ‫ُ‬ ‫ها‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫َ ْ ُ َ ّْ َ ّ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ة‬‫ٍ‬ ‫�صيب‬ ‫م‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫له‬ ‫يا‬ ‫اجلريان‪:‬‬ ‫�صان «�صوت �صهيل ح�صان‬ ‫حل َ‬ ‫وذات َي ْو ٍم َهرَ َب ا ِ‬ ‫َ‬
‫كان علي َك � ْأن تعلّق � َّأم‬ ‫�سكني‪ ،‬لقدْ � َأ�صابتك َعينْ ٌ‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ا ِ‬
‫مل‬ ‫ووقع � أقدام وفو�ضى ثم ي�سود �صمت مطبق»‬
‫حل َ�سدَ‪.‬‬ ‫عن َبيت َك ا َ‬ ‫يون لت ْط ِر َد ْ‬ ‫َ�سب ِع ُع ٍ‬ ‫يف ُم�صيبَ ِت ِه‬ ‫يوا�سو َنه ْ‬ ‫اء َ‬ ‫انه ِع� َش ً‬ ‫اء �إليْ ِه ِجريَ ُ‬ ‫فج َ‬ ‫َ‬
‫من يد ِر ْي‪».‬‬ ‫فهز الفالح ر� أ�سه وقال‪« :‬رُبمَّ َا‪ْ ،‬‬ ‫ني‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫قائ‬
‫ل�سوقِ‬
‫مهمة ْ‬ ‫يف ّ‬ ‫أمور التجني ِد ْ‬ ‫جاء َم� ُ‬ ‫يف اليَو ِم الرّاب ِع َ‬ ‫انه‪ � ،‬إ ّنه � ْأمرٌ مز ِع ٌج‪،‬‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫�ص‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫يف‬ ‫�سكني‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫مل‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫الرج‬
‫ُ‬
‫احلني‬
‫َ‬ ‫�ص‬‫للجيْ ِ�ش‪ ،‬ف�أخذ َم ْن َو َجدَ ُه ْم َ‬ ‫القري ِة َ‬ ‫َ‬ ‫باب‬‫َ�ش ِ‬ ‫من ُم ِ�صيبَ ٍة‬ ‫َ ْ‬ ‫ا‬ ‫له‬ ‫يا‬ ‫اهلل‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ال‬
‫إ ّ‬ ‫�‬ ‫قوة‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫َ ْ َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫حزين‬
‫ٌ‬ ‫َو‬
‫الفالح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اب‬
‫الع�سك ِر َّية وطرَ َق َب َ‬ ‫للخدْ َمة َ‬ ‫ِ‬ ‫لت ِب َك‪».‬‬ ‫َح ْ‬
‫�صوت الوط ِن‬ ‫ُ‬ ‫الفالح‪،‬‬‫ُ‬ ‫أخر ْج � ّأيها‬ ‫م�أمور التجنيد‪ُ � :‬‬ ‫الفالح يهز ر� أ�سه ويقول‪:‬‬
‫ينادِي َك‪.‬‬ ‫«ربمّ َا‪َ ،‬م ْن َيدْ ِر ْي‪».‬‬
‫يحتاج �إىل � ْأج َ�سا ٍد ق ِو ّي ٍة‬ ‫ُ‬ ‫�صوت الوط ِن‬ ‫ُ‬ ‫الفالح‪:‬‬ ‫نح ُن‬ ‫اعدت َك؟ ق ْل َوال تتَ َحرَّ ْج‪ْ ،‬‬ ‫‪-‬هل يمُ ْكننَا ُم َ�س َ‬
‫يخ َه ِر ٍم؟‬ ‫طن ب� َش ٍ‬ ‫الو ُ‬ ‫فماذا َي ْف َعل َ‬ ‫ملالقا ِت ِه َ‬ ‫لتخ ُرج ُ‬ ‫ْ‬ ‫� ْأخ َوة‬
‫الح‬ ‫َ َ ٌ َ ٌ‬ ‫�ص‬ ‫لد‬ ‫و‬ ‫ك‬ ‫لدي‬ ‫‪...‬‬ ‫ك‬ ‫ُ ُ‬ ‫د‬ ‫نق�ص‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫حن‬ ‫َ ُ‬ ‫ن‬ ‫التجنيد‪:‬‬ ‫أمور‬ ‫م�‬ ‫�ض َحك‬ ‫الفالح َي ْ‬ ‫ُ‬
‫الوط ِن‪.‬‬ ‫خلدْ َمة َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‪...‬لقد‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫قو‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫حو‬ ‫ال‬ ‫اجلريان‪:‬‬ ‫أ�صوات‬ ‫�‬
‫دته‬ ‫لوج َ‬ ‫م�س َ‬ ‫جئت با أل ِ‬ ‫َ‬ ‫كنت قدْ‬ ‫لو َ‬ ‫نع ْم‪ْ ،‬‬ ‫الفالح‪َ :‬‬ ‫ني‬‫مل�س ِك ُ‬ ‫�صو َاب ُه‪ ....‬الرّ ُج ُل ا ِ‬ ‫�س‪ ...‬فقدَ َ‬ ‫اب الرَ ُج َل َم ٌ‬ ‫� َأ�ص َ‬
‫اج �إىل َرج ٍل‬ ‫طن يحتَ ُ‬ ‫فالو ُ‬ ‫َ‬ ‫للو َط ِن َو ِ�س ُ‬
‫واه‪,‬‬ ‫�صالحِ َاً َ‬ ‫َ‬ ‫‪.....‬كيف‬ ‫َ‬ ‫بالهين ِة‬ ‫َ‬ ‫لي�س ْت‬ ‫قله‪ � .....‬إ ّن َها ُم�صيبَة َ‬ ‫فقدَ َع ُ‬
‫ني كا ِملتني‪ِ .‬‬ ‫ب�ساق ِ‬ ‫َ‬ ‫�سيتدَ ّب ُر � أمرَ ُه؟ َكيف؟‬
‫تع ِني؟‬ ‫ْ‬ ‫اذا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫التجنيد‪:‬‬ ‫أمور‬ ‫م�‬ ‫يف اليَو ِم التاليِ ْ «� أ�صوات جياد متلأ‬ ‫املمثل ‪ :‬و ْ‬
‫ادخل‬ ‫طن � أ ْكرثَ ممِ َّا ينبَ ِغي‪ُ ،‬‬ ‫الو ُ‬ ‫الفالح‪ :‬لقدْ ت� َّأخرَ َ‬ ‫!خرج ليَ ْ�ستطلِ َع‬ ‫َ‬ ‫الفالح � ْأ�ص َوات ِجيَا ٍد‬ ‫ُ‬ ‫امل�رسح» َ�س ِم َع‬
‫لح‬ ‫�ص ُ‬ ‫جل َواد ال َي ْ‬ ‫الذي َج َعلَتْ ُه َ�سقط َة ا َ‬ ‫الولدَ ْ‬ ‫لت� َشاهِ دَ َ‬ ‫فون َماذا َو َجد؟ هههههههههه لقدْ َو َجد‬ ‫أتع ِر َ‬ ‫ا أل ْمرَ‪ْ � ،‬‬
‫�إال للنّو ِم علَى ال�سرَ ي ِر‪.‬‬ ‫لي�س هذا ف َق ْط َب ْل َم َع ُه ِ�ستّة‬ ‫عاد �إلي ِه‪َ ...‬‬ ‫ان قدْ َ‬ ‫�ص َ‬ ‫حل َ‬ ‫ا ِ‬
‫‪160‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اعاتِ َوا أل ّيا ِم َوا أل ّ�سابي ِع َوال� ّش ُهو ِر‪ ...‬ك�أ َن ِن ْي‬ ‫ال�س َ‬
‫َو ّ‬ ‫اق‬ ‫الع ُجوز َوتبَّ ْت َ�س ُ‬ ‫م�أمور التجنيد‪:‬تباً ل َك � ّأيها َ‬
‫كيف بلغنَا‬ ‫وب‪َ ...‬‬ ‫كنت طفالً � ْأد ُر ُج علَى الدُ ُر ِ‬ ‫با أل ْم ِ�س ُ‬ ‫مع‬‫اطر َم ْعرَك ٍة َ‬ ‫فال�ساق املك�سور ُة ال تجَبرِ ُ َخ ِ‬ ‫ُ‬ ‫اب ِن َك‪،‬‬
‫التي‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫العدُ ِّو‪.‬‬
‫يف َكبرِ َنا؟ ال � َأ�صد ُِق هذه التّ َجاعيدَ ْ‬ ‫َما بلغنا؟ َك َ‬
‫اق‬
‫َ‬
‫ال�ص ُح ِفي‬ ‫أمور َوعدْ بعدَ � ْأن تك�سرِ َ َ�س َ‬ ‫�‬ ‫امل‬ ‫ها‬ ‫أي‬ ‫�‬
‫َ ْ ّ‬‫ب‬ ‫اذه‬ ‫‪:‬‬ ‫الفالح‬
‫َزح َف ْت علَى َخا ِر َطة َو ْج ِهي‪َ ...‬و َي ْ�س�أل ِن ْي ُّ‬ ‫اهاتِ «ي�ضحك»‬ ‫الع‬ ‫يف‬
‫ُ‬
‫اوى‬ ‫نت�س‬
‫ين َع ْن «لوك» َجدِيد !!! � ّأي «لوك»؟‬ ‫اال ِلكرتُو ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫الوط ِن‪ ،‬عندَ َها َ َ‬
‫�س‬ ‫َ‬
‫ههههههه‪.‬‬
‫ا�ص‬ ‫أر�ضي ِه‪َ ...‬ه�ؤال ِء ا أل ْ�ش َخ ُ‬ ‫مع ذل َك ال ُبدّ � ْأن � ِ‬
‫الح‬ ‫قهقهاتِ ال َف ِ‬ ‫ان‬ ‫جلريَ ُ‬ ‫املمثل‪ :‬وعندَ َما َ�س ِم َع ا ِ‬
‫ادةٌ ال ت ِق ُف‬ ‫له ُم � ِ‬ ‫َ‬
‫أل�سنَة َح ّ‬ ‫ون‪ُ ...‬‬ ‫ون مخُ ي ُف َ‬ ‫اال ِلكرتُونيّ َ‬ ‫َجاءوا �إل ِي ِه ُيهنئُو َنه‪.‬‬
‫نهم‬ ‫وعاتٍ ‪ � ...‬إ ُ‬ ‫انني َمطبُ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫قابة َوال َ‬ ‫بوج ِه َها ِر َ‬ ‫َ‬ ‫الفالح‬
‫ُ‬ ‫‪:‬من َحق َك � ْأن تفرَ َح َوت�سعدَ � ّأيها‬ ‫اجلريان ْ‬
‫زيفةٍ‪...‬‬ ‫يعاتٍ ُم ّ‬ ‫الهوا ِء بتو ِق َ‬ ‫يف َ‬ ‫�سمومهم ْ‬ ‫ون ُ‬ ‫ين�رشُ َ‬ ‫حلرْب‪.‬‬ ‫من ا َ‬ ‫فاخلريُ � َأ�صاب َك َوجنا َولدُك َ‬
‫وم َواحدٌ‬ ‫ولون َوامل� ْشتُ ُ‬ ‫جم ُه َ‬ ‫ون َو ْ‬ ‫ون ك ِثريُ َ‬ ‫امت َ‬ ‫ال� ّش ُ‬ ‫الح َر� َأ�سه َوقا َل‪« :‬رُبمَّ َا‪َ ،‬م ْن‬ ‫فهزّ ال َف ُ‬ ‫املمثل ‪َ :‬‬
‫ا�ص ُح َبال� َشبكة‬ ‫ا�سم َك النَ ِ‬ ‫وف‪ ...‬غدا ً َ�سيُل ّط ُخ ُ‬ ‫مع ُر ٌ‬ ‫َو ْ‬ ‫َيدْ ِري‪».‬‬
‫«يرن جر�س الهاتف»‪.‬‬
‫ال�صفاتِ !!‬ ‫أ�سو� أ ّ‬ ‫ب� َ‬
‫ال�ص ُح ِف ّي االلكرتُونيِ ّ‪:‬‬ ‫املمثل‪ �:‬أووووووووووووه � إ ّن ُه ُ‬
‫أظهرَ بـ«لوك»‬ ‫منا�سبَة‪ � ,‬أريدُ � ْأن � َ‬ ‫ِ‬ ‫�صور ٍة‬ ‫عن ُ‬ ‫له ْ‬ ‫أل ْب َح ْث ُ‬
‫�ألُو‬
‫ورة؟‬ ‫ال�ص َ‬‫ورة؟ � ْأو ه ِذ ِه ُ‬ ‫ال�ص َ‬‫َجدِيد ما َر� ُأيكم ِب َهذ ِه ُ‬ ‫أظن � إ ّن َك ال َآن م�ستغر ٌق‬ ‫قاطع ِت َك‪ّ � ،‬‬ ‫مل َ‬ ‫عفوا ً ُ‬ ‫ال�صوت‪َ :‬‬
‫ور َة �أكثرَ َ‪.‬‬ ‫ال�ص َ‬‫لكنَ ِني � ِأح ُب هذ ِه ُ‬ ‫تبعث‬ ‫تن�س � ْأن‬ ‫كتبت‪َ ،‬ح َ�سناً‪ ،‬ال‬ ‫راج َعة َما‬
‫كانت تحُ ِ بُ َها قب َل � ْأن نفترَ ِ َق للأ َبدِ‪...‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مب َ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬ ‫ورة‬‫ال�ص َ‬‫هذ ِه ُ‬ ‫ا�ص ًة‬ ‫خ‬ ‫ديثة‬ ‫ح‬ ‫ة‬ ‫ور‬ ‫�ص‬ ‫ه‬ ‫ز‬ ‫تنج‬
‫ِ‬ ‫حني‬ ‫لف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫مل‬ ‫ا‬ ‫مع‬
‫(يت�صل باملحرر)‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ ُ ًَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ودة َعلى « ُكو َكل»‬ ‫�صحيف ِتنَ َ ُ ُ َ ِ َ ُ َ‬
‫وج‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫�ص‬ ‫يع‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫فج‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ِب ِ‬
‫بها‪...‬‬ ‫�صور ًة ممُ يّز ًة‪ � ...‬أريدٌ ر� َأي َك َ‬ ‫ألو‪...‬اخرتْ ُت ُ‬ ‫� ْ‬ ‫التميُّزَ‪.‬‬ ‫نحن ِ‬
‫نن�شدُ َ‬ ‫دمية‪َ ،‬و ُ‬ ‫َق َ‬
‫جل َواب‪..‬‬ ‫جن ُز ا َ‬‫ثها َحاالً‪ ...‬ال َتقلَق‪�َ ...‬س�أ ِ‬ ‫�س� ْأب َع َ‬ ‫رش‬
‫يتم بن� ِ‬ ‫التميّزَ � إ ّنه ُ‬ ‫تفه ُم َ‬ ‫املمثل ‪ّ � :‬أي متيّز؟ ه ْل َ‬
‫« يغلق اخلط»‬ ‫ور ٍة َجديدَة؟هذا َف ْه ٌم محَ ْ دود َوقا�صرِ ٌ‪.‬‬ ‫�ص َ‬ ‫ُ‬
‫التميُّزَ‪ � ،‬إ ّن ُه َح ٌق‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫يف‬ ‫د‬ ‫ِ‬
‫ن�ش‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫الك‬ ‫ال�صوت‪:‬‬
‫روج ا ألفكا ِر � ْأمرٌ‬ ‫ظن � ّأن ُخ َ‬ ‫اح‪ � ,‬إ ّن ُه َي ُ‬ ‫لح ٌ‬ ‫هذا الرّ ُج ُل ِم َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ي�س َم ْع ِبـ«� إ ّن ِف َكرَ ًة واحدَ ًة َن ِ‬ ‫نتميَّزْ ِب َخبرَ ٍ َجدِيدٍ‪ ،‬يمُ ّكننا � ْأن نتَ َميّ َز‬ ‫وع‪ ،‬ف�إذا ملْ َ‬ ‫َم�شرْ ُ ٌ‬
‫أف�ض ُل‬
‫اج َح ًة � َ‬ ‫ب�سي ٌط ! �أملْ ْ‬
‫ملل َّفاتِ »؟‬ ‫بني ا ِ‬ ‫من َحيا ٍة َ‬ ‫ْ‬
‫هي ثقا َفة‬ ‫وم َ‬ ‫ثم � إ ّن ثقافتنا اليَ َ‬ ‫ب�صور ٍة َجدِيدةٍ‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ج�سدُ تل َك ال ِفكرَ َة !‬ ‫مر مرتُو ٌك ل َك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪،‬‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫أط‬‫ِ‬ ‫�‬ ‫أن‬
‫ُ ْ‬ ‫�‬ ‫أريد‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫موم‬
‫ُ َ ُ ًَ‬ ‫ع‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ور‬ ‫ال�ص‬
‫الذي ُي ِّ‬
‫اب ْ‬ ‫جل َو ِ‬‫عن ذل َك ا َ‬ ‫أبح ُث ْ‬ ‫� أنا � َ‬ ‫الم ِة‬ ‫ال�س‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ٍ‪،‬‬ ‫ة‬ ‫اع‬ ‫�س‬ ‫ِ‬
‫�صف‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫من‬ ‫� أنت ِظ ُر املَ َ‬
‫َ َ ّ َ‬ ‫َ‬ ‫لف َ ّ ْ‬ ‫ل‬ ‫أق‬ ‫�‬ ‫بعد‬
‫ائي ُمكرَ ٍر � أريدُ‬ ‫فح َة ِبكال ٍم �إن� َش ٍ‬ ‫ال�ص َ‬ ‫ال � أريدُ � ْأن � َأملأ ّ‬ ‫«يغلق الهاتف»‪.‬‬
‫جل َواب � ْأن‪« ....‬ي�سمع � أ�صوات‬ ‫أ�ضع َب�صم ِت ْي َعلى ا َ‬ ‫� ْأن � َ‬ ‫العاملُ‬
‫قت‬ ‫يتحدّ ُث!؟ ه ِل َ‬ ‫عن � ّأي تمَ يّ ٍز َ‬ ‫املمثل ‪ :‬التميّز !!! ْ‬
‫الو َ‬ ‫اجرا�س � أعياد امليالد» ما َهذا؟ َيبْدُو � ّأن َ‬ ‫حاولنَا تجَ ِمي َل‬ ‫و�شوب؟ َم ْه َما َ‬ ‫ورة ُمعدّلةٌ ِبالفو ُت ُ‬ ‫�ص َ‬ ‫ُ‬
‫للج َواب؟‬
‫ورةٌ َ‬ ‫هناك �ضرَ َ‬ ‫َ‬ ‫كني ه ْل‬ ‫أدر ْ‬ ‫� َ‬ ‫ون‬ ‫اغ ِبعيُ ٍ‬
‫يف الفرَ ِ‬ ‫مل ف�إننا َنظ ّل ُنحدّ ُق ْ‬ ‫العا ِ‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ئ‬ ‫ا‬ ‫قب‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫(يغلق الهاتف ويطفيء ال�شمعة‪� .....‬إظالم ي�سدل‬ ‫وب ِب�سرُ ْ َعة � أ ْكبرَ ‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ش‬‫ّ‬ ‫ال�‬ ‫اهي‬ ‫ه‬ ‫ِئة‪...‬‬ ‫د‬ ‫�ص‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ال�ستار)‪.‬‬ ‫ان الدّقا ِئ ِق‬ ‫ري‬
‫َ سرْ َ َ َ َ َ‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫أ�‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫‪...‬‬ ‫وب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ئ‬ ‫الدقا‬ ‫َو‬

‫‪161‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�سينما‬

‫‪162‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫للبداع‬
‫عنفوان ال�صورة كو�سيط إ‬
‫عند �أكريا كورو�ساوا‬
‫«را�شومون» منوذجاً‬
‫كامل يو�سف ح�سني‬
‫كاتب ومرتجم من م�رص‬

‫يعد املخرج ال�سينمائي الياباين �أكريا كورو�ساوا‪ ،‬الذي ولد عام ‪1910‬‬
‫ورحل عن عاملنا يف عام ‪ ،1998‬واحداً من �أهم املخرجني الذين عرفتهم‬
‫الطالق‪ ،‬ومن املعتقد �أن فوز فيلمه «را�شومون»‬ ‫ال�سينما اليابانية على إ‬
‫باجلائزة الكربى يف مهرجان البندقية ال�سينمائي عام ‪ 1951‬كان هو‬
‫املدخل الذي من خالله انفتح املجال لتعرف العامل على ال�سينما اليابانية‬
‫ومنجزها الفني الكبري‪ .‬وعلى الرغم من �أن االهتمام العاملي ب إ�بداع‬
‫كورو�ساوا و�صل �إىل ذروته قبل ربع قرن من الزمان‪� ،‬إال �أنه يعود اليوم‬
‫ليتجدد بقوة‪ ،‬مع �صدور العديد من الكتب عنه‪ ،‬و�إعادة �إطالق �أعماله يف‬
‫�إ�صدارات حديثة متعددة على امتداد العامل‪ ،‬با�ستخدام �أحدث منجزات‬
‫تقنيات العر�ض الرقمية‪.‬‬
‫‪ w‬كورو�ساوا‪« :‬يعجز الب�رش عن �أن يكونوا �صادقني مع ذواتهم حيال‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬فهم ال ي�ستطيعون احلديث عن �أنف�سهم من دون جتميل‪،‬‬
‫وهذا ال�سيناريو ي�صور مثل ه�ؤالء الب�رش‪ ،‬النوعية التي ال ميكنها �أن‬
‫توا�صل البقاء من دون �أكاذيب جتعلهم يح�سون ب�أنهم �أنا�س �أف�ضل‬
‫مما هم عليه حقاً‪ .‬بل انه يظهر هذا االحتياج املفعم باخلطيئة �إىل‬
‫الزيف املت�ضمن للمجاملة وهو مي�ضي �إىل ما وراء القرب‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إننا نعرف � أن كورو�ساوا قد در�س فن الر�سم‪ ،‬و� أراد كتاب � أ�صدرته الدائرة الثقافية بال�شارقة عام ‪2004‬‬
‫االنطالق يف حياة عملية تعتمد على ا إلبداع من مع مقدمة بقلمي تقع يف ‪� 16‬صفحة كاملة‪.‬‬
‫خالل هذا الفن‪ ،‬ولكنه ا�ضطر للتخلي عن الر�سم مهنة يف البدء كانت ال�صورة‬
‫وم�سار حياة‪ ،‬ليطرق � أبواب العمل يف ال�سينما منذ عام‬
‫الذين تابعوا‪ ،‬بحب وتعاطف‪ � ،‬أفالم � أكريا كورو�ساوا‬
‫‪ 1935‬بالتحاقه ب�رشكة «بي‪�.‬سي‪�.‬إل» كم�ساعد خمرج‬
‫البد � أنهم يعرفون � أنه منذ فيلمه الروائي ا ألول‬
‫متدرب‪ .‬ولكن الر�سم �سيظل مهيمناً على حياته‪ ،‬حتى‬
‫«�سان�شريو �سوجاتا» الذي � أطلقه عام ‪ � 1934‬أظهر‬
‫أ‬
‫لي�صل به المر �إىل حتويل �سيناريوهات � أفالمه‪ ،‬التي متكناً واقتدارا ً كبريين يف التعامل مع الو�سيط‬
‫كان يكتبها � أو ي�شارك يف كتابتها‪� ،‬إىل لوحات‪ ،‬قبل ا إلبداعي الذي يطل عربه‪ ،‬فال جمال لرتدد البدايات‪،‬‬
‫وال لتقليد الآخرين‪ ،‬وما نراه من �إبداع يف اال�شتغال‬ ‫الو�صول �إىل مرحلة البدء يف الت�صوير‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬بال�ضبط‪ ،‬ف�إننا نهتم هنا بعنفوان ال�صورة على ا أل�سلوب يف هذا الفيلم املبكر مرده العكوف‬
‫كو�سيط ل إلبداع عند � أكريا كورو�ساوا‪ ،‬مع اهتمام خا�ص على �شكل ب�رصي قوي وعميق يبحث عن م�ضمون � أو‬
‫بهذا اجلانب على نحو ما جتلى يف فيلمه ال�شهري حمتوى منا�سب‪.‬‬
‫«را�شومون» املقتب�س من ق�صتني للروائي والقا�ص ومنذ البداية‪ ،‬ف�إن كورو�ساوا ال يفعل ما كانت‬
‫الياباين الكبري رايونو�سوكي � أكوتاجاوا‪ ،‬هما «يف هوليوود تقدمه يف ا ألربعينيات‪� ،‬سواء يف حركة‬
‫غابة» و«را�شومون»‪ ،‬وقد كان االهتمام بهذا العمل الكامريا � أو القطع � أو املونتاج‪ ،‬حقاً �إن حركة‬
‫هو‪ ،‬على وجه الدقة‪ ،‬ما دفعني �إىل ترجمة جمموعة الكامريا تنطلق ابتداء ألنها تقدمها حركة ال�شخ�صية‪،‬‬
‫«را�شومون» التي ت�ضم هاتني الق�صتني‪ ،‬وتقدميها يف وهي تقوم مبتابعة هذه احلركة‪ ،‬متاماً كما يف‬
‫التقليد الهوليوودي‪ .‬ولكن كورو�ساوا بعد ذلك يرتك‬
‫ال�شخ�صية التي � أطلقت حركتها التتبع ا ألوىل الذي‬
‫تقوم به الكامريا‪ ،‬ويعمد �إىل �إطالة االطار املتحرك‬
‫�إىل � أن ي�ضم ال�شخ�صية‪ .‬وعمليات التكرار وا إلرجاع‬
‫لهذه اللقطة �ستمهد للكامريا التتبعية �إىل درجة‬
‫تتجاوز � أي �شيء جنده يف � أي فيلم � أمريكي يعود �إىل‬
‫ا ألربعينيات‪.‬‬
‫هكذا ف�إن كامريا كور�ساوا‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬تتحرك‬
‫ب�شكل خمتلف‪ ،‬بطريقة تكاد تكون طقو�سية تقريباً‪،‬‬
‫وتكرر وتعيد تكرار منطها اال�ستهاليل‪ .‬ومن املحتم‬
‫� أن النتيجة هي �صورة خمتلفة‪ ،‬عما تقدمه ال�سينما‬
‫اليابانية نف�سها من خالل خمرجني يابانيني‬
‫� آخرين‪ ،‬و� أي�ضاً خمتلفة عما تقدمه هوليوود‪.‬‬
‫هذه ال�صورة املختلفة �ست�صبح � أحد العنا�رص ا ألكرث‬
‫� أهمية التي ترتبط ب�سينما � أكريا كورو�ساوا‪ ،‬متاماً‬
‫كما �سنجد �صورة خمتلفة‪ ،‬بلغة فنية � أخرى‪ ،‬عند‬
‫يا�سوجريو � أوزو‪.‬‬
‫هذه ال�صورة �ستحلق �إىل ذروة رفيعة يف العديد‬
‫من � أفالم كور�ساوا‪ ،‬كما �سنجدها يف «ال�ساموراي‬
‫ال�سبعة» ويف «ران» ويف العديد من � أفالم املخرج‬
‫الياباين الكبري ا ألخرى‪.‬‬
‫لكن ما يعنينا هنا � أن نتوقف عنده طويالً بالت�أمل‬
‫‪164‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الفيلم ا أل�سلوب الذي مت توظيفه بعد ذلك مرارا ً وتكرارا ً‬ ‫وحماولة التحليل والفهم هو ال�صورة كما تتجلى لنا‬
‫يف ال�سينما العاملية‪ ،‬والذي يتوازى مع � أ�سلوب‬ ‫يف «را�شومون»‪.‬‬
‫«تيار الوعي» يف الرواية‪ ،‬حيث تتذكر ال�شخ�صيات‬ ‫أ‬
‫دعنا نالحظ ابتداء � أنه �ش�ن كل عمل فني عظيم ف�إن‬
‫املجموعة ذاتها من ا ألحداث‪ � ،‬أي االغت�صاب وما‬ ‫«را�شومون» ال مينح � أ�رساره ب�سهولة‪ ،‬لكنه قد يكون‬
‫يبدو � أنه جرمية قتل‪ ،‬يف � أطر خمتلفة ب�صورة ملفتة‬ ‫من املفيد هنا � أن نتوقف عند ما يقوله كورو�ساوا‬
‫للنظر‪.‬‬ ‫نف�سه يف كتابه «ما ي�شبه املذكرات»‪ ،‬حيث ي�صارحنا‪،‬‬
‫وقد ال يعلم كثريون من ع�شاق فن كورو�ساوا � أنه قد‬ ‫وك�أمنا يف ملحة ت�أمل‪ ،‬يف حلظة �شجن‪ ،‬يف التفاتة‬
‫� أراد «را�شومون» � أ�صالً فيلما �صامتاً‪ ،‬وملا كان هذا‬ ‫هاربة من �رصامة الفنان الذي يجيد ال�صمت خارج‬
‫متعذرا ً �إىل حد اال�ستحالة‪ ،‬فقد بادر �إىل تقدمي ثاين‬ ‫�إطار � أفالمه‪ ،‬مبا يلي‪:‬‬
‫� أف�ضل خيار‪ ،‬وهو الفيلم املاثل بني � أيدينا اليوم‪.‬‬ ‫«يعجز الب�رش عن � أن يكونوا �صادقني مع ذواتهم‬
‫ويف هذا ال�صدد يقول كورو�ساوا‪:‬‬ ‫حيال � أنف�سهم‪ ،‬فهم ال ي�ستطيعون احلديث عن � أنف�سهم‬
‫«�إنني � أحب ا ألفالم ال�صامتة‪ ،‬وقد � أحببتها دوماً‪،‬‬ ‫من دون جتميل‪ ،‬وهذا ال�سيناريو ي�صور مثل ه�ؤالء‬
‫وهي غالباً � أجمل بكثري من ا ألفالم الناطقة‪ .‬ورمبا‬ ‫الب�رش‪ ،‬النوعية التي ال ميكنها � أن توا�صل البقاء من‬
‫يتعني � أن تكون كذلك‪ .‬وعلى � أي حال فقد � أردت‬ ‫دون � أكاذيب جتعلهم يح�سون ب�أنهم � أنا�س � أف�ضل‬
‫ا�ستعادة بع�ض هذا اجلمال‪ .‬و� أتذكر � أنني فكرت يف‬ ‫مما هم عليه حقاً‪ .‬بل � أنه يظهر هذا االحتياج املفعم‬
‫هذا ا ألمر بهذه الطريقة‪� :‬إن � أحد ا أل�ساليب الفنية لفن‬ ‫باخلطيئة �إىل الزيف املت�ضمن للمجاملة وهو مي�ضي‬
‫الر�سم احلديث هو التب�سيط‪ ،‬وبالتايل فالبد يل من‬ ‫�إىل ما وراء القرب‪ ،‬فحتى ال�شخ�صية التي متوت ال‬
‫تب�سيط هذا الفيلم»‪.‬‬ ‫ميكنها � أن تتخلى عن � أكاذيبها عندما تتحدث عن‬
‫من هذا املنطق نحن � أمام جمموعة مهمة من‬ ‫حياتها عرب و�سيط روحاين‪� .‬إن ا ألنانية خطيئة يحملها‬
‫املالحظات حول عنفوان ال�صورة كو�سيط ل إلبداع يف‬ ‫الكائن الب�رشي معه منذ امليالد‪ ،‬وهي اخلطيئة ا ألكرث‬
‫هذا الفيلم‪:‬‬ ‫�صعوبة من حيث �إمكانية التخل�ص منها»‪.‬‬
‫‪ � -‬أوالً‪ :‬عنفوان ال�صورة ك�أداة إلعادة اكت�شاف جوهر‬ ‫هذا هو اجلوهر‪� ،‬إذن‪ ،‬ولكن كيف ينتقل �إلينا ب�رصيا‬
‫ما تعنيه ال�سينما ــ يعتقد الكثري من النقاد � أنه رمبا‬ ‫عرب هذا الو�سيط الفني املراوغ الذي ن�سميه ال�سينما؟‬
‫منذ �إيزن�شتاين ومورانو مل يقدر ألي فيلم � أن يبتكر‬ ‫يف هذا الفيلم نحن على موعد مع �ساموراي وزوجته‬
‫�رسده من خالل �صور �شديدة العنفوان بال هوادة على‬ ‫مي�ضيان يف رحلة يف منطقة نائية‪ ،‬حيث ي�صادفان‬
‫قاطع الطريق تاجو مارو‪ ،‬ويعقب هذا اللقاء م�رصع‬
‫ال�ساموراي واغت�صاب الزوجة‪.‬‬
‫هذه الق�صة‪ ،‬التي تبدو لنا ألول وهلة وا�ضحة‬
‫وب�سيطة‪ ،‬تروي لنا عرب � أكرث من منظور‪ ،‬فهناك‬
‫الرواية كما يقدمها لنا حطاب ت�صادف وجوده يف‬
‫املنطقة‪ ،‬وثمة �شهادة كاهن بوذي جواب � آفاق‪ ،‬ومن‬
‫ثم �شهادة ال�رشطي الذي � ألقى القب�ض على تاجومارو‪،‬‬
‫ثم ر ؤ�ية حماة ال�ساموراي للأ حداث‪ ،‬وهناك اعرتاف‬
‫تاجو مارو‪ ،‬ورواية الزوجة‪ ،‬و� أخريا ً ت�أتي ق�صة القتيل‬
‫على نحو ما رويت من خالل و�سيط روحي‪.‬‬
‫مرة � أخرى كيف ينقل لنا هذا امل�ضمون املعقد علي‬
‫ال�صعيد الب�رصي؟‬
‫تداخالت النور والظل‬
‫�إننا نعرف � أن � أكريا كورو�ساوا ا�ستخدم يف حتقيق هذا‬
‫‪165‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف الفيلم لتوظيف تداخل النور والظل يف ال�صور‬ ‫نحو ما حث يف «را�شومون»‪ ،‬حيث تبدو ال�صور حقاً‬
‫املتتابعة يف الغابة‪ .‬وتبدو هذه ال�صور اقتحاماً‬ ‫كما لو كانت تعيد اكت�شاف جوهر املق�صود بال�سينما‪.‬‬
‫فريدا ً من نوعه يف ال�سينما العاملية للغابة‪ ،‬وهي‬ ‫ويف �ضوء هذا يبادر بو�سلي جروثر يف نقده للفيلم‬
‫التجربة التي �سيكررها كورو�ساوا‪ ،‬بلغة فنية خمتلفة‬ ‫يف مقال مطول يف �صحيفة «نيويورك تاميز» �إىل‬
‫يف فيلم «در�سو � أوزاال» الذي حققه عام ‪ 1975‬يف‬ ‫ا إل�شارة �إىل � أن‪« :‬كل من ي�شاهد الفيلم �سيذهله علي‬
‫غابات �سيبرييا‪ .‬ولكن هذه ال�صور يف تتابعها الهادر‬ ‫الفور جمال الت�صوير ور�شاقته واال�ستخدام البارع‬
‫لي�ست اقتحاماً للغابة وحدها‪ ،‬فنماذج النور والظل‬ ‫لنور الغابة وظلها لتحقيق تنوع من الت�أثريات‬
‫يف تداخلها � أراد بها كورو�ساوا � أن توحي بنوع من‬ ‫الب�رصية القوية والرهيفة»‪ .‬وي�ستع�صي على الن�سيان‬
‫املتاهة الروحية والعاطفية‪ .‬وبالتايل فم�شاهدتها‬ ‫حقاً الو�صف الذي ا�ستخدمه جي�سي زون�رس يف‬
‫ولوج للقلب والغابة معاً‪ .‬ويف هذا ال�صدد يقول‬ ‫مراجعة فيلم «را�شومون» الواردة يف كتاب دونالد‬
‫كورو�ساوا‪« :‬هذه النب�ضات القريبة للقلب الب�رشي‬ ‫رايت�شي «را�شومون يف الب�ؤرة» حيث ي�صف زون�رس‬
‫�سيتم التعبري عنها من خالل ا�ستخدام تالعب مق�صود‬ ‫الفيلم ب�أنه‪�« :‬سيمفونية من الب�رص‪ ،‬ال�صوت‪ ،‬النور‬
‫بالنور والظل‪ .‬ويف الفيلم ف�إن النا�س الذين ي�ضلون‬ ‫والظل»‪.‬‬
‫يف � أغوار قلوبهم �سي�رضبون �ضائعني يف برية � أكرث‬ ‫‪ -‬ثانياً‪ :‬تداخل النور والظل متاهة روحية وعاطفية‬
‫ات�ساعاً‪ ،‬ولذا فقد نقلت موقع الت�صوير �إىل غابة‬ ‫مق�صودة ــ ترجع جوانب من ال�شعور بال�صدمة‬
‫� أكرب»‪ .‬هكذا ف�إنه كما قال كورو�ساوا نف�سه ف�إن � ألغاز‬ ‫يف تلقي هذا الفي�ض من ال�صور املتتابعة يف‬
‫الفيلم هي � ألغاز القلب الب�رشي‪ ،‬ولي�ست � ألغاز ال�صورة‬ ‫«را�شومون» �إىل اجلهد الكبري الذي بذله الفريق الفني‬
‫نف�سها‪ ،‬وهذه نقطة بالغة ا ألهمية يف فهم ال�صورة‬
‫كما يقدمها «را�شومون»‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثاً‪ :‬عنفوان ال�صورة لي�س مق�صودا ً لذاته و�إمنا‬
‫يوظف لتو�صيل املعلومات ال�رسدية وحتقيق‬
‫الت� أثري العاطفي عرب الت�صوير ــ � أوحى عنفوان‬
‫ال�صورة يف هذا الفيلم‪ ،‬الذي ي�صفه البع�ض ب�أنه و�صل‬
‫�إىل حد العدوانية‪ ،‬لبع�ض امل�شاهدين ب�أنه مق�صود يف‬
‫حد ذاته‪ ،‬وهذا بالطبع لي�س �صحيحاً‪ ،‬ففي هذا الفيلم‬
‫نحن على موعد مع متتاليات طويلة من ال�صور ركبت‬
‫كمقاطع ب�رصية خال�صة‪ � ،‬أو على نحو ما ما كان‬
‫هيت�شكوك ي�سميها «ال�سينما اخلال�صة»‪ � ،‬أي متتاليات‬
‫ال�صور التي تو�صل املعلومات ال�رسدية‪ ،‬والتي حتقق‬
‫ت�أثريا ً عاطفياً من خالل ال�صور ح�رصاً‪ .‬واحلوار يف‬
‫هذه امل�شاهد ي�صل �إىل حده ا ألدنى � أو يغيب كلية‪.‬‬
‫ونتوقف هنا ب�صفة خا�صة عند متتالية ال�صور‬
‫الطويلة امل�ؤلفة من ت�سع ع�رشة لقطة‪ ،‬والتي تقدم‬
‫لنا بالتف�صيل اللمحة ا ألوىل التي ي�شاهد فيها قاطع‬
‫الطريق تاجومارو املر� أة وال�ساموراي يف الغابة‪ ،‬حيث‬
‫تتوا�صل هذه املتتالية بال حوار‪ ،‬فيما كور�ساوا ينقل‬
‫لنا عرب ال�صورة حر النهار ال�شديد‪ ،‬وجاذبية املر� أة‬
‫الغام�ضة‪ ،‬وتظاهر تاجو مارو بال�ضجر الذي يخفي‬
‫ا�شتهاءه للمر� أة‪ ،‬ومتدد حركة الكامريا ا إلطار بحيث‬
‫‪166‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حيث يعرب نهريا ً قفزاً‪ ،‬وينحني متجنباً غ�صناً يعرت�ض‬ ‫تلتقط ديناميات التوتر واخلوف والغ�ضب‪ ،‬وت�صور‬
‫طريقه‪ ،‬ويعرب ج�رسا ً من اجلبال وكتل اخل�شب‪ ،‬وهو‬ ‫خط ب�رص تاجومارو املتنقل فيما الزوجان مي�ضيان‬
‫ال يدرك هذه ا أل�شياء ب�صورة واعية‪ ،‬و�إمنا ينزلق‬ ‫عرب ا أل�شجار‪ .‬ونتوقف طويالً � أي�ضاً عند متتالية‬
‫فوقها ا�ستجابة حلالة باطنية‪ .‬والكامريا التتبعية‬ ‫اللقطات التي تظهر احلطاب وهو ي�سري يف الغابة‬
‫تقلد �إيقاعات �سريه وطوبوغرافية الغابة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫قبيل عثوره على � أداة اجلرمية‪ ،‬حيث تت�ألف املتتالية‬
‫فهي م�ؤ�رش �شكالين لهذه احلالة‪ .‬لكن ا�ستغراقه يف‬ ‫من خم�س ع�رشة لقطة‪ ،‬جميعها لقطات تتبعية‪،‬‬
‫التفكري ينك�رس عندما يكت�شف � أداة اجلرمية‪ .‬وفيما‬ ‫بحيث ت�صبح يف النهاية �إي�ضاحا مطوال ً لقدرات‬
‫يعرث على عدة قبعات وحافظة متيمة وحبل وجثة‬ ‫الكامريا املتحركة‪ .‬ويقوم كورو�ساوا بقطع متداخل‬
‫� أخرياً‪ ،‬ف�إنه ينطلق يف العدو مرتبكاً وقد �سيطر‬ ‫على لقطات تتبعية منخف�ضة الزاوية للأ �شجار‪ ،‬والتي‬
‫اخلوف عليه‪ .‬وبينما يقوم بهذه االكت�شافات تتوقف‬ ‫من خاللها تن�سل ال�شم�س ب�صورة متقطعة ولقطات‬
‫اللقطات التتبعية‪ ،‬ذلك � أن ا أل�شياء قد � أزعجته وجعلته‬ ‫تتبعية من زاوية مرتفعة للحطاب وهو يتحرك يف‬
‫عقالنيا‪ ،‬وقد عاد ذهنه للعمل‪ ،‬وفقد ا�ستجابته احل�سية‬ ‫الغابة ولقطات �شديدة القرب لل�شخ�صية بكامريا‬
‫واحلد�سية للغابة‪ .‬وينعك�س هذا التغري يف االنتقال‬ ‫تقوم بالتتبع من ا ألمام واخللف‪ .‬وتعد هذه اللقطات‬
‫من الكامريا املتحركة �إىل اللقطات الثابتة التي‬ ‫من � أكرث اللقطات ح�سية و�إيحاء بحركة الكامريا يف‬
‫ت�سجل اكت�شافات ا أل�شياء واجلثة‪ .‬وهكذا فقد تغريت‬ ‫تاريخ ال�سينما العاملية‪ ،‬واملتتالية بكاملها لها قوة‬
‫متتالية اللقطات على امل�ستوى ال�شكلي والدرامي من‬ ‫تنومي مغناطي�سي مذهلة‪ .‬ويرجع جانب كبري من‬
‫احلركة احل�سية �إىل منظور االهتمام الثابت وال�ضيق‪،‬‬ ‫ت�أثري هذه املتتالية �إىل ال�صمت الذي ي�سودها‪� ،‬إىل‬
‫من اال�ستجابات احلد�سية املنتمية �إىل و�ضعية الزن‬ ‫غياب احلوار‪ ،‬و�إىل الت�أثري ال�صوتي ا إليقاعي البديع‬
‫�إىل املنظور املق�سم واملت�صلب للعقل املنطقي‪.‬‬ ‫الذي يعد امل�صاحب الوحيد لل�صور‪ .‬وهناك متتاليات‬
‫‪ -‬خام�ساً‪ :‬عنفوان ال�صورة يف مواجهة ا أل�ساليب‬ ‫� أخرى من اللقطات ت�شمل مقاطع من احلوار‪ ،‬ولكنها‬
‫اللغوية ــ من املهم � أن نالحظ يف «را�شومون» توظيف‬ ‫من نوعية خا�صة للغاية‪ ،‬ومنها على �سبيل املثال‬
‫عنفوان ال�صورة لي�شكل اختالال ً مق�صودا ً يف التنا�سب‬ ‫تذكر الكاهن ا ألول للقاء الزوجني يف الغابة وتقرير‬
‫مع ا أل�ساليب اللغوية التي يوظفها الفيلم‪ .‬و� أح�سب‬ ‫رجل ال�رشطة عن العثور على تاجومارو وقد � ألقاه‬
‫� أنني كنت حمظوظاً عندما ح�صلت على ن�سخة للفيلم‬ ‫اجلواد عن �صهوته فتمدد على ا ألر�ض �إىل جوار النهر‬
‫وال�صورة التي يقدمها تاجو مارو نف�سه عن امتطائه‬
‫من جمموعة كرايترييون ال�شهرية خالل وجودي يف‬
‫اجلواد وتوقفه لل�رشب‪ .‬ونالحظ � أن احلوار الذي ي�شكل‬
‫احلد ا ألدنى ال ي�ؤطر للغة تذكر‪ ،‬ولي�س متزامناً مع‬
‫ال�صورة واحلدث‪.‬‬
‫الثـراء والرحابة‬
‫‪ -‬رابعاً‪ :‬عنفوان ال�صورة ك�أداة للرثاء والرحابة ــ‬
‫حر�ص كورو�ساوا علي � أن يجمع بني عنفوان ال�صورة‬
‫يف «را�شومون» وب�صفة خا�صة املتتاليات امللتقطة‬
‫يف الغابة وبني �إبقاء احلوار يف احلد ا ألدنى‪ ،‬مما‬
‫يتيح الرتكيز على �إبداع �صور تتميز يف � آن بالرثاء‬
‫والرحابة‪ .‬ومن ا ألمثلة البارزة يف هذا ال�صدد املتتالية‬
‫التي مي�ضي احلطاب عربها �شاقاً طريقة يف الغابة‪.‬‬
‫حيث يقوم كورو�ساوا ب�صياغة � أمناط حركة الكامريا‬
‫بحيث ت�صبح معمار ال�رسد‪ ،‬وتولد الرمز‪ ،‬وهكذا نرى‬
‫احلطاب ي�ستجيب ب�صورة حد�سية إليقاعات الغابة‪،‬‬
‫‪167‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب�رضاوة ويبكيان تبدو لغتهما غريبة من خالل‬ ‫كيوتو‪ ،‬معقل الثقافة التقليدية يف اليابان وعا�صمة‬
‫طابعها التجاوزي ذاته‪ .‬هكذا ف�إن امل�ألوف ت�سلب منه‬ ‫ا إلمرباطورية علي امتداد � أكرث من � ألف عام‪ ،‬وهي‬
‫� ألفته بالطريقة التي ق�صدها الناقد ال�شكالين فيكتور‬ ‫الن�سخة التي تتميز ب�صورة و� أ�صوات م�ستعادة‬
‫�شكلوف�سكي‪ .‬هنا بال�ضبط يوجد كورو�ساوا اختالال ً‬ ‫رقمياً‪ .‬فكما هي احلال يف ال�سينما ال�صامته جند يف‬
‫بني الب�رصي وبني ا أل�ساليب اللفظية‪ ،‬حيث يعمد‬ ‫«را�شومون» � أن احلركة ت�صبح جت�سيدا لل�رسد وم�ؤ�رشا‬
‫�إىل الت�شديد على املتتاليات الب�رصية اخلال�صة‪ ،‬يف‬ ‫�رضوريا للحاالت االنفعالية والنف�سية‪ .‬والعواطف هنا‬
‫مواجهة ا�ستخدام و�صفي للغة‪ ،‬حيث يبدو جلياً عدم‬ ‫يتم ا إلعراب عنها باحلركة من خالل تخارجها عرب‬
‫االت�ساق بني اجلانبني‪ ،‬ف�أ�سلوب التمثيل املغرق يف‬ ‫� أداء م�ؤ�سلب‪ ،‬وقد كان � أ�سلوب ا ألداء املت�سم بالعر�ض‬
‫جتاوزه ينتزع الكالم انتزاعاً من ال�سياق الطبيعي‪.‬‬ ‫واملبالغة مو�ضع جدل حمتدم لدى عر�ض الفيلم‬
‫وتالعبات كورو�ساوا بال�صورة واحلوار يف هذا الفيلم‬
‫للمرة ا ألوىل يف الغرب‪ .‬وا أل�سلوب التب�سيطي املنتمي‬
‫تقدم لنا مناذج من ذلك امليل يف الفن الياباين نحو‬
‫�إىل ال�سينما ال�صامتة الذي � أراد كورو�ساوا العودة �إليه‬
‫التعقيد املتطرف مع العنا�رص غري املتجان�سة التي‬
‫تو�ضع يف عالقات معقدة‪ .‬هكذا جند � أنف�سنا � أمام‬ ‫�شمل ا ألداء العري�ض وا إلمياءات املبالغ فيها التي‬
‫عنفوان ال�صور املتدفقة وهي تت�صادم مع ه�سترييا‬ ‫جلبها تو�شريو مفوين �إىل �شخ�صية تاجومارو وجلبته‬
‫� ألوان ا ألداء‪ .‬وال يرتدد بع�ض النقاد‪ ،‬ومنهم �ستيفن‬ ‫مات�شيكو كايو �إىل �شخ�صية الزوجة ما�ساجو‪ .‬ولكن‬
‫برن�س يف كتابه «كامريا املحارب‪� :‬سينما � أكريا‬ ‫كورو�ساوا يعالج � أي�ضاً اللغة التي تبنياها مبا ي�شدد‬
‫كورو�ساوا» يف القول �إن االختالل بني اجلانبني هو‬ ‫على رحابتها وغرابتها‪ ،‬فينما ي�رصخان وي�صيحان‬
‫مبثابة جوهر هذا الفيلم‪ .‬وهو ي�شري يف هذا ال�صدد‬
‫�إىل � أن جرميتي قتل ال�ساموراي واغت�صاب زوجته‬
‫ترويان ب�أربع طرق خمتلفة‪ ،‬ويعاد لفظياً بناء‬
‫هيكل العامل الع�ضوي للأ حداث وا أل�شياء‪ ،‬ولكن اللغة‬
‫و�سيط ال �سبيل لالعتماد عليه‪ ،‬فالق�ص�ص ال تتطابق‪،‬‬
‫والتناق�ضات واالختالفات ت�سود بني الكلمة والواقعة‪.‬‬
‫و«العالقة الداخلية» بني الكلمة والواقع يتم �إنكارها‪.‬‬
‫وهذا االنف�صال االت�صايل ينظر �إليه يف الفيلم من‬
‫خالل املفاهيم االنطولوجية باعتباره ف�ضاء يتجذر‬
‫فيه ال�رش واخلطيئة الب�رشيان‪ .‬وعدم ا�ستيعاب اللغة‬
‫لعامل الوقائع هو ق�صة تدور حول ال�سقوط الب�رشي‬
‫�إىل عامل �شوهه التباين والتعدد‪.‬‬
‫انح�سار عنفوان ال�صورة‬
‫‪� -‬ساد�ساً‪ :‬عندما ينح�رس عنفوان ال�صورة‪ :‬كل من‬
‫�شاهد «را�شومون»‪ ،‬بحب وتعاطف‪ ،‬يعرف � أن هذا‬
‫العنفوان يف �صوره املتتابعة الي�سود الفيلم كله‪،‬‬
‫و�إمنا هو ينح�رس عن م�شاهد بعينها يف الفيلم‪ ،‬رمبا‬
‫كانت � أبرزها م�شاهد بوابة را�شومون التي ت�ؤطر‬
‫ال�رسد‪ ،‬فاملرء ال يحتاج �إىل كثري من التعمق يف حتليل‬
‫هذه امل�شاهد لكي يدرك � أنها مت �إجنازها باملفاهيم‬
‫التقليدية‪ ،‬حيث يغيب االهتمام الكبري ب�إعادة بناء‬
‫العالقات بني ال�صورة وال�صوت الذي تابعناه طويالً‪،‬‬
‫‪168‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جناح الفيلم يف مهرجان البندقية يف �صدر الن�صف‬ ‫فال�صوت يف م�شاهد البوابة يدعم ال�صور ال � أقل وال‬
‫الثاين من القرن الع�رشين مرده �إىل تناغمه اجللي مع‬ ‫� أكرث وال يتم تطوير �رصاع يذكر بني ما نراه وما تقوله‬
‫التيارات املعا�رصة � آنذاك يف الفكر والفن ا ألوروبيني‪،‬‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬واالنف�صال بني ال�صورة واللغة اللفظية‬
‫وب�صفة خا�صة مع الفل�سفة الوجودية‪.‬‬ ‫هو يف � أف�ضل ا ألحوال ميل � أو اجتاه يتلقى تطويرا ً غري‬
‫وقد نظر �إىل الفيلم كذلك كحليف مفيد من قبل من‬ ‫مكتمل يف هذه امل�شاهد‪ .‬هكذا ف�إن املفارقات و� ألوان‬
‫كانوا يخو�ضون‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬غمار ن�ضال حمتدم‬ ‫الت�ضارب هنا تنبع من ال�شخ�صية ولي�س من ال�شكل‬
‫لتكري�س قيمة ال�سينما باعتبارها فناً م�ؤثراً‪ ،‬متاماً‬ ‫الفني‪ .‬ويذهب بع�ض النقاد الذين انتقدوا «را�شومون»‬
‫كما �ستكون عليه احلال يف � أواخر اخلم�سينيات‬ ‫ب�شدة �إىل � أنه هنا بال�ضبط يف هذه امل�شاهد املتعلقة‬
‫بالن�سبة ألفالم برجمان‪ ،‬ف�إن «را�شومون» قد َّ‬
‫فجر‬ ‫ببوابة را�شومون ميكن طرح و�ضعية الفيلم كعمل من‬
‫قدرا ً هائالً من النقا�ش والتعقيب حول ما نظر �إليه على‬ ‫� أعمال ال�سينما احلداثية مو�ضع الت�سا ؤ�ل‪.‬‬
‫� أنه رموزه ا أل�سا�سية‪ � ،‬أعنى بوابة را�شومون العتيدة‪،‬‬ ‫هذه النقطة ا ألخرية املتعلقة بالت�سا ؤ�ل عن و�ضعية‬
‫املطر‪ ،‬الغابة‪ ،‬الوليد الذي يتم �إنقاذه وتداخالت النور‬ ‫«را�شومون» كعمل من � أعمال ال�سينما احلداثية تظل‪،‬‬
‫والظل على امتداد اندياح ال�صور الهادرة التي يت�شكل‬ ‫يف اعتقادي‪ ،‬مو�ضع نقا�ش‪ ،‬فجزء من ثراء هذا الفيلم‬
‫منها الفيلم‪.‬‬ ‫هو قدرته على �إثارة هذه النوعية من املناق�شات علي‬
‫يف اعتقادي � أن هذه الرموز نف�سها‪ ،‬وخا�صة ما يتعلق‬ ‫وجه التحديد‪.‬‬
‫باجلانب الب�رصي منها‪ ،‬تعد �شديدة ا ألهمية‪ ،‬يف هذا‬ ‫وقد كان املخرج الياباين الكبري نف�سه �شديد االهتمام‬
‫املنعطف الذي مير به العامل اليوم‪ ،‬والذي يحتدم فيه‬ ‫بال�صورة يف م�شاهد بوابة را�شومون على وجه‬
‫ال�رصاع بني تيارات فكرية ت�شدد على مفاهيم نهاية‬ ‫التحديد‪ ،‬فقد كان حري�صاً على � أن تربز الكامريا‬
‫التاريخ و�رصاع احل�ضارات‪ ،‬والعنف املطلق ك�أداة‬ ‫الطابع ال�رصحي والعمالق للبوابة‪ ،‬وذهب �إىل حد‬
‫للحركة ال�سيا�سية و�إعادة ت�شكيل م�صائر الدول و� أقدار‬ ‫ت�صور �إمكانية توظيف ت�صوير ال�شم�س لتحقيق هذا‬
‫ال�شعوب‪ ،‬وبني تيارات ت�ؤكد على حتالف احل�ضارات‬
‫الغر�ض‪ .‬وهو يقول يف كتابه «ما ي�شبه املذكرات» �إن‬
‫والطابع ا إلن�ساين وا إلت�صايل للعامل اليوم قبل الغد‪،‬‬
‫ذلك كان مثار قلق كبري بالن�سبة له‪ ،‬حيث � أنه �سبق له‬
‫وت�شدد على ا ألهمية الق�صوى للقاء الب�رص والب�صرية‬
‫اتخاذ قرار باعتماد تداخل النور والظالل يف الغابة‬
‫وال�ضمري ا إلن�ساين‪ ،‬وتدعو �إىل تف�سري �إن�ساين رحب‬
‫كنغمة ب�رصية رئي�سية يف الفيلم ب�أ�رسه‪ ،‬ومن ناحية‬
‫للوجود ب�أ�رسه‪.‬‬
‫� أخرى ففي تلك ا أليام كان توجيه الكامريا �إىل ال�شم�س‬
‫مندرجاً يف املحرمات الفنية‪ ،‬ولكن هذا بال�ضبط ما‬
‫مت حتديه‪.‬‬
‫� أياً كانت ا إل�شادات واالنتقادات التي توجه �إىل‬
‫«را�شومون»‪ ،‬ف�إنه يظل �صحيحاً � أن جانباً لي�س‬
‫بالي�سري من هذه وتلك ي�ستمد من ال�صورة علي‬
‫نحو ما قدمها لنا كورو�ساوا يف هذا الفيلم‪ ،‬وعلى‬
‫وجه الدقة من عنفوانها‪ ،‬الذي ر� أينا � أن البع�ض ال‬
‫يرتدد يف و�صفه بالعدوانية‪ ،‬ومن طبيعة العالقة‬
‫بني ال�صورة وال�صوت‪.‬‬
‫� أخرياً‪ ،‬بقيت نقطة مهمة يتعني الت�شديد عليها هنا‪،‬‬
‫فنحن نعلم � أن ا ألهمية الفنية والثقافية التي يتمتع‬
‫بها «را�شومون» تتجاوز بكثري و�ضعيته كفيلم‪ ،‬ألنه‬
‫� أ�صبح جت�سيدا ً للمفهوم الثقايف العام املتعلق بن�سبية‬
‫احلقيقية‪ .‬ومن امل�ؤكد � أن جانباً لي�س بالهني من‬
‫‪169‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪170‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سيناريو فيلم‬
‫(املغام ـ ـ ــرة)‬
‫ترجمة‪ :‬حممــود عــلي‬ ‫أ‬
‫ت�ليف و�إخراج‪ :‬مايكل أ�جنلو أ�نطونيوين ‬
‫كاتب وناقد �سينمائي من م�رص‬

‫فيلم «املغامرة» هو � أول فيلم روائي طويل للمخرج «مايكل � أجنلو � أنطونيوين»‪.‬‬
‫قدم بعده � أفالم مثل الليل ـ ‪1961‬ـ واخل�سوف (‪ )62‬وال�صحراء احلمراء (‪)63‬‬
‫وانفجار (‪ )63‬وغريها من عالمات ال�سينما ا إليطالية والعاملية‪ .‬ومع ذلك يعترب‬
‫كثري من النقاد هي � أهم � أفالمه و� أكرثها تعبريا عن هواج�سه وع�رصه‪ .‬وكان عمال ً‬
‫كبريا ً ف�إن ظاهرة غري باطنه‪ ...‬مليئ بالدالالت النف�سية واالجتماعية لأبطاله‪...‬‬
‫ولع�رصه‪ .‬ذلك � أن ق�صته تبدو كرواية بولي�سية‪.‬‬

‫[ �سيناريو‪ :‬مايكل �أجنلو انطونيوين مع اليوبارتوليني ـ تونينا جويرا‬


‫[ مو�سيقي ‪ :‬جيوافلي فو�سكو‬ ‫ ‬ ‫[ ت�صوير ‪ :‬الدو �سكافاردي‬
‫[ �إنتاج‪� :‬إيطايل ‪ -‬فرن�سي‬ ‫ ‬ ‫[ مونتاج‪� :‬أرالدو دي ردما‬
‫[ زمن العر�ض ‪� 2.25 :‬ساعة‬
‫‪----------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫ ‬
‫[ متثيل‪:‬‬
‫‪ -‬جربييل فرزيني ‪� . . . .‬ساندرو‬ ‫‪ -‬مونيكا فيتي ‪ . . . .‬كالوديا ‬
‫‪ -‬دومينيك بالن�شا ‪ . . . .‬جوليا‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬ليا ما �ساري ‪� . . . .‬آنا‬
‫‪ -‬جيم�س �أدمز‪ . . . .‬كواردو‬ ‫‪ -‬رينزو ريكي ‪ . . . .‬والد �آنا ‬
‫‪� -‬أيزمريالدار ر�سكويل ‪ . . . .‬باتري�سيا‬ ‫‪ -‬ليليو لوتازي ‪ . . . .‬رميوندو ‬
‫‪ -‬دورثي دي بوليولو ‪ . . . .‬جلوريا بيكنز‬ ‫‪ -‬جيوفاين برتوت�شي ‪ . . . .‬جوفريدو ‬

‫‪171‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املغامـــــرة‬ ‫مقدمـــة‬
‫انطونيوين‬ ‫جمموعة من ا أل�صدقاء يف رحلة ترفيهية الحدى اجلزر‬
‫أ‬
‫‪-1‬لقطة طويلة‪ ،‬يوم �صيفي م�شم�س �نا فتاة يف اخلام�سة‬ ‫ا إليطالية دف ًعا لل�س�أم وتزجية الفراغ‪ ،‬تكت�شف اختفاء‬
‫والع�رشون ت�سري يف �ساحة �أمام فيال فخمة حتى تتوقف‬ ‫�إحداهن هي «� آنا»‪ .‬وت�صبح مهمة املجموعة هي البحث‬
‫عند مدخل ال�ساحة‪ .‬تلتفت هي �إليها ثم ت�سمع �صوت‬ ‫عنها‪ ..‬خا�صة بطلي الفيلم‪� ...‬صديقتها كالوديا‪ ،‬وع�شيقها‬
‫والدها فتتجه نحوه‪.‬‬ ‫�ساندرو ومن ثم ي�صبح ال�س�ؤال ‪ � ...‬أين ذهبت؟ وماذا حدث‬
‫[ا ألب (خارج ال�صورة) ‪ :‬لن مير وقت طويل حتى تخلو‬ ‫لها؟ هل هي حية � أم ميتة؟ لكن املخرج ال يجيب على‬
‫هذه الفيلال من �سكانها بعد �أن كانت يوماً ما‪.‬‬ ‫مثل هذه ا أل�سئلة ول�سبب ب�سيط هو � أنه ال يقدم فيلما‬
‫‪ -2‬لقطة متو�سط – الوالد يقف متحدثاً مع �أحد العاملني‬ ‫بولي�سيا‪ ...‬بل حتليال نف�سيا ألغوار بطليه‪...‬لع�رصه‪ .‬بل‬
‫ومن خلفهما حقول و�أر�ض مفرو�شة باحل�صى – ومن‬ ‫وي�صبح عن�رص الت�شويق هنا لي�س يف البداية مع اختفاء‬
‫بعيد منزل قدمي بالقرب منه مبنى جديد‪.‬‬ ‫� آنا بل ويف النهاية � أكرث حيث يكت�شف � أ�شياء ال عالقة‬
‫العامل‪� :‬رسعان ما ي�شغله �سكان‪.‬‬ ‫لها بالفتاة املختفية‪ ،‬بل بطبيعة العالقات ا إلن�سانية‬
‫ا ألب‪( :‬م�شريا ً باجلريدة)‪ :‬ال �شك يف هذا‪.‬‬ ‫يف ع�رصنا من فقدان التوا�صل بني الب�رش‪ .‬وهي مغامرة‬
‫العامل‪ :‬نعم‪� ..‬أنت حمق‪ ..‬وداعاً يا �سيدي [يغادر‬ ‫لي�ست للبطلة كالوديا ب�صفة خا�صة ‪ ..‬لكن للطبقة‬
‫املكان]‬ ‫الربجوازية التي ت� ؤلف غالبية فريق الرحلة‪� ...‬إال من‬
‫ا ألب‪ :‬مع ال�سالمة يا عزيزي (يلتفت نحو � آنا)‬ ‫كالوديا يف م�شهد ق�رص ا ألمرية يطلب � أحدهم � أن يتحول‬
‫� آنا‪( :‬خارج ال�صورة) ها �أنت ‪ ..‬كنت �أبحث عنك!‬ ‫الق�رص �إىل م�ست�شفى للعالج النف�سي فرتد عليه يف تهكم‪..‬‬
‫[�أثناء ذلك يتحدث االثنان وظهر كل منهما للآخر‪..‬‬ ‫� أنه كذلك فعال!‬
‫نادرا ما تلتقي عيناهما)‪.‬‬ ‫� أننا ل�سنا ب�إزاء �رسد تقليدي ذي بداية وو�سط ونهاية‪،‬‬
‫ا ألب‪( :‬ت�صورت �إنك غادرت املكان)‬
‫بل مقاطع من م�شاهد احلياة‪ .‬حياة باردة‪ ..‬كل �شيء‬
‫� آنا‪ :‬لي�س ا آلن يا والدي‬
‫فيها حتول �إىل متع ح�سية تخلو من جوهر احلياة احلق‪.‬‬
‫ا ألب‪� :‬أما زالوا يرتدون قبعات التجارة التي يكتب عليها‬
‫اجلن�س هو حمورها ـ م�شهد ال�صيديل وزوجته ـ فتاة‬
‫ا�سم اليخت؟‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫الليل ـ عالقة «� آنا» مع �ساندرو جوليا والر�سام ـ موقف‬
‫� آنا (تغطية) كال يا �بي ‪ ..‬مل يعد المر كذلك‪.‬‬
‫ا ألب‪ :‬ومتى �ستغادرين؟‬ ‫� أهل القرية من كالوديا‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬خالل �أربعة وخم�سة �أيام‬ ‫هذا اخلواء يعرب عنه انطونيوين بلوحة � أخرى عرب‬
‫ا ألب‪ :‬ح�سناً‪ ..‬معنى هذا �أنني �س�أق�ضي عطالت ا أل�سبوع‬ ‫املكان‪ ..‬مدن مهجورة‪ ..‬جبال و�صخور و� أمواج و�سماء‬
‫وحيداً‪ ..‬ويجب التعود على هذا من ا آلن‪.‬‬ ‫تعرب عن نفو�س ما حولها من خالل كامريا جتيد ر�سم‬
‫� آنا‪ :‬تتعود على ماذا؟‬ ‫الظالل وما بينها من تباينات‪ .‬و�إذا كانت �شخ�صية‬
‫ا ألب‪ :‬على الراحة‪ ..‬لي�س فقط كدبلوما�سي يعتزل اخلدمة‪.‬‬ ‫�ساندرو قد حتددت منذ البداية ثم من خالل حديثه عن‬
‫بل ك�أب �أي�ضاً!‬ ‫نف�سه وطموحاته الدفينة‪ ،‬ف�إن كالوديا � أكرث تعقي ًدا منه‪.‬‬
‫� آنا (معرت�ضة‪ :‬مل تقل هذا؟‬ ‫وو�ضوحا‪...‬‬
‫ً‬ ‫انها لغز الفيلم احلقيقي‪ .‬فهي � أكرثهم �صدقًا‬
‫ا ألب‪ :‬ألن هذا حقيقي‪ ،‬فبعد ثالث ع�رشة �سنة من كتمان‬ ‫�إال � أن �سلوكها يحمل من التناق�ضات ما تعجز عن حلها‬
‫احلقيقة فال �أقل من �أن �أقولها إلبنتي‪.‬‬ ‫عرب هذه املغامرة‪ .‬فما هي عالقتها احلقيقة بـ«� آنا»؟‬
‫� آنا‪ :‬وهل هناك حقائق �أخرى تريد �أن تقولها؟‬ ‫هل هي عالقة طبيعية‪ ...‬خا�صة و� أنها ترى فيها نف�سها‬
‫‪ -3‬لقطة متو�سطة على ا ألب‪.‬‬ ‫عندما ت�ضع الباروكة ال�سوداء! وما �رس اجنذابها الدفني‬
‫ا ألب‪� :‬أنت تعرفني!‬ ‫لـ�ساندرو الذي تفجر مع اختفاء �صديقتها؟ وهل �ستوا�صل‬
‫‪ -4‬لقطة قريبة متو�سطة – � آنا يف مواجهته‪.‬‬ ‫حياتها مع «�ساندرو» رغم اكت�شافها خيانته؟‬
‫� آنا‪ :‬لذا �أريدك �أن ت�صفح عني (تتوقف حلظة ثم تتجه‬ ‫ا إلجابة الكاملة ال تطرحها نهاية الفيلم‪ .‬لذا يظل ال�س� ؤال‬
‫نحوه) الوداع‪ ..‬يا �أبي‪.‬‬ ‫الكبري معلّقاً ويف ملعب‪ .‬امل�شاهد من هنا يكت�سب الفيلم‬
‫‪ -5‬نقطة متو�سطة‪� :‬سائق مير من خلف ا ألب يحمل‬ ‫� أي�ضا � أهميته‪.‬‬
‫‪172‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يبد� آن يف العودة لل�سيارة‪ .‬وفج�أة �صوت رجل ينادي‬ ‫حقائب وكالوديا ت�سري خلفه‪ .‬وهي �شقراء من نف�س عمر‬
‫«� آنا» ينظران نحو املبنى‪.‬‬ ‫� آنا التي تقرتب من والدها وتطبع قبلة على خده‪.‬‬
‫‪ -11‬لقطة طويلة‪� .‬ساندو يطل من النافذة ملوحاً وهو‬ ‫ا ألب‪� :‬إنه لن يتزوجك �أبدا ً يا ابنتي‪.‬‬
‫يبت�سم‪ .‬وهما تنظران نحوه يف خلفية ال�صورة‪.‬‬ ‫� آنا‪ :‬مهما يكن ‪ ..‬و�أنا ال �أريد الزواج منه‬
‫�ساندرو‪� :‬س�أنزل حاالً‪.‬‬ ‫ا ألب (ي�ست�سلمان)‪ :‬ال فرق‪( ..‬يبتعد) الوداع �أثناء �سريه‬
‫‪ -12‬لقطة قريبة متو�سطة‪ � :‬آنا يعرتيها �إح�سا�س جديد‬ ‫ببطء مبتعدا ً مير على كالوديا التي تبت�سم له وحتييه ثم‬
‫ومت�سك بذراع كالوديا وت�رسع نحو املنزل‪.‬‬ ‫تتجه نحو «� آنا»‬
‫‪ -13‬لقطة متو�سطة ملدخل مبنى‪ .‬وعلى مبعدة منه باب‬ ‫كالودويا‪ :‬هل انتظرت طويالً؟ � آ�سفة‪ ..‬لكن ‪�( ..‬أنا ال جتيب‬
‫يف�ضي �إىل امليدان‪ .‬تدخل � آنا ال�صالة وت�رسع بال�صعود‬ ‫فهي متعن النظر يف �أبيها)‬
‫�إىل الدرج‪ ،‬كالوديا يف اخلارج تنتظر‪.‬‬ ‫أ‬
‫‪ -6‬لقطة قريبة من خلفهما وقد ابتعد الب‪ .‬وفج�أة‬
‫‪ -14‬لقطة متو�سطة ل�شقة �ساندرو حوائطها من اجل�ص‬ ‫تذهب «� آنا» �إىل ال�سيارة ومن ورائها كالوديا ويركبان‪.‬‬
‫مكد�سة بالكتب والت�صميمات – يعرب الغرفة ب�رسعة وهو‬ ‫للمام نحو ال�سائق)‪ :‬الفارو‪� ..‬أ�رسع‬ ‫� آنا‪( :‬وهي تتكئ أ‬
‫يعيد تركيب ا أل�شياء‪.‬‬ ‫فالوقت مت�أخر‪( .‬ال�سيارة يف الطريق – مزج)‬
‫‪ -15‬لقطة متو�سطة‪ :‬ي�ضع فوطة من احلمام‪ � ،‬آنا ت�رسع‬ ‫‪ -7‬لقطة متو�سطة من خلف ال�سيارة املك�شوفة وهي متر‬
‫بال�صعود �إىل الغرفة وما �أن ت�صل حتى يتعانقان ثم‬ ‫�رسيعاً على مناظر طبيعية ومبان‪.‬‬
‫يفرتقان وهي تتفح�صه بدقة‪.‬‬ ‫أ‬
‫‪ -8‬لقطة طويلة مليدان يبدو خاليا من �على‪� ..‬إال من‬
‫ت�سري حتى منت�صف الغرفة ثم ت�ستدير وتنظر نحوه‬ ‫�سيارة �سبور بي�ضاء وثالث راهبات يعربن يف وقار‪.‬‬
‫ثانية‪ ،‬ثم تتجه نحو من�ضدة ت�ضع عليها حقيبتها وتتجه‬ ‫�سيارة «� آنا» تقرتب من ال�سيارة �أمام حمل �صغري قدمي‬
‫ناحية نافذة ال�رشفة‪� ،‬ساندرو يتقدم يف �شك �إىل و�سط‬ ‫و�إن يكن مودرن‪ .‬املر�أتان وال�سائق تنزالن من ال�سيارة‬
‫الغرفة بينما تتمعنه «� آنا» ثانية يف حماولة للحكم‬ ‫‪ -9‬لقطة متو�سط ‪ ..‬كالوديا تتكئ على �سيارة «� آنا»‬
‫عليه‪.‬‬ ‫وتنظر ألعلى املبنى‪.‬‬
‫‪ -16‬لقطة متو�سطة‪� :‬ساندرو يواجهها يف �شيء من‬ ‫كالوديا‪� :‬س�أنتظر هنا‪..‬‬
‫ال�شك يف �صمتها ونظراتها‪.‬‬ ‫� آنا تبتعد عن ال�سيارة �إىل اجلانب ا آلخر للميدان‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫�ساندرو (يهز كتفيه يف ال مباالة) هل حتبني �ن �قف‬ ‫كالوديا‪� :‬إىل �أين �ستذهبني؟‬
‫�أمامك بروفيل»؟‬ ‫� آنا‪( :‬بك� آبة)‪� :‬إىل البار‪� ..‬أنا عط�شانة‪.‬‬
‫(ي�ضع حقيبتة �أر�ضاً ويقف يف و�ضع �ساخر)‪.‬‬ ‫كالوديا (يف ده�شة)‪ :‬وهناك رجل مل تريه منذ �شهر ‪..‬؟‬
‫� آنا تتوقف‪ .‬تنظر خلفها �إىل املحل يف غ�ضب ثم تبتعد‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬ومن �س�أ�سعد بلقائه اليوم‬
‫كالوديا‪ :‬لكننا يف عجلة‪( .. :‬تتوقف ثم ت�ست�سلم لنزواتها)‪..‬‬
‫�أوه‪ ..‬ح�سناً‪ ..‬وداعاً‪( .‬تعود �إىل ال�سيارة تتناول حقيبة‬
‫يدها)‪.‬‬
‫� آنا (خارج ال�صورة)‪ :‬الفراق �صعب‬
‫كالوديا‪ :‬تلتف نحوها فج�أة‪.‬‬
‫‪ -10‬لقطة متو�سطة – � آنا ت�سري بحزن ممزوج بالعاطفة‬
‫م�ستغرقة يف التفكري‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬هذا �صحيح ‪� ..‬أنت تعلمني (تتكئ على ال�سيارة) �أن‬
‫من ال�صعب الرتكيز عندما يكون �شخ�ص هنا (ت�شري‪/‬‬
‫هو بعيد عنه‪� .‬إال �أنه �شيء جميل‪ .‬ألنك على ا ألقل �سوف‬
‫تفكرين فيما تريدين‪ ..‬هل فهمت ما �أريد‪ .‬لكن عندما‬
‫يتواجد �شخ�ص ما �أمامك‪ ..‬وكل �شيء على ما يرام ‪..‬‬
‫(تقرتب من كالوديا وتلم�س مرفقها ثم بنوع من ال�سخط‬
‫والغ�ضب)‪ :‬هيا تعود‪ ..‬تعايل‪..‬‬
‫‪173‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على ا إلطالق‪.‬‬ ‫‪ -17‬لقطة قريبة متو�سطة‪ � :‬آنا تنظر �إليه دون اهتمام)‪.‬‬
‫(كالوديا ت�سري يف اخللفية ومتر على عاملني يتفح�صان‬ ‫‪ -18‬لقطة متو�سطة‪ :‬بال مباالة‪ ..‬يتخلى عن و�ضعه‪.‬‬
‫لوحة‪ .‬يتجه �إحدهما للآخر قائالً‪:‬‬ ‫�ساندرو‪� :‬إيه احلكاية؟ (يتجه نحوها) هل حدث مني‬
‫عامل‪� :‬أمامه الكثري للنجاح‪.‬‬ ‫�شيء؟‬
‫«كالوديا» تبت�سم لهذه التعليقات وتتوقف لت�شاهد‬ ‫‪ -19‬لقطة قريبة متو�سطة‪ � :‬آنا ت�ستدير حوله ببطء ويف‬
‫اللوحة‪.‬‬ ‫�صمت ثم تبد� أ يف خلع مالب�سها وهي تنظر خلفها لرتى‬
‫‪ -27‬لقطة طويلة‪ :‬من خارج النافذة اخللفية ل�شقة‬ ‫رد فعله‪.‬‬
‫�ساندرو و�ستائرها تتطاير يف الهواء‪� ..‬أ�سفل تخرج‬ ‫�ساندرو‪ :‬لكن �صديقتك تنتظر �أ�سفل‪.‬‬
‫كالوديا من �صالة الر�سم �إىل �رشفة ونتظر ألعلى من‬ ‫� آنا‪� :‬سوف تنتظر (تتجه ناحية غرفة النوم وهو يتبعها)‪.‬‬
‫اجتاه النافذة‪.‬‬ ‫‪ -20‬لقطة متو�سطة‪ � :‬آنا يف غرفة النوم‪ ،‬ومن خالل‬
‫‪ -28‬لقطة متو�سطة‪ :‬كالوديا تتكئ على �سياج ال�رشفة‬ ‫ق�ضبان هيكل ال�رسير نراها تخلع ثيابها‪� .‬ساندرو‬
‫يف حماولة لر ؤ�ية ما يجرى يف النافذة العلوية‪.‬‬ ‫يتوجه نحوها وهي بالقمي�ص الداخلي حتى ي�أخذها‬
‫‪ -29‬لقطة قريبة‪ �« :‬آنا ترفع ر�أ�سها من فوق املخدع‬ ‫ح�ضانهاوي َق ِبلها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بني � أ‬
‫تتطلع نحو �ساندرو والذي يقبلها بحما�س دون �أن‬ ‫‪ -21‬لقطة طويلة‪� :‬أثناء عناقهما نرى كالوديا من‬
‫ي�ستثريها عليها حتى ا آلن‪� .‬إنه غري مدرك مبا ت�شعر به‪.‬‬ ‫خالل نافذة الغرفة تتم�شى يف ال�ساحة‪� .‬ساندرو يتجه‬
‫‪ -30‬لقطة طويلة‪ :‬كالوديا – تعود �إىل املر�سم‪.‬‬ ‫ناحية النافذة‪.‬‬
‫‪ -31‬ت�سري بداخل الهوينا م�ستغرقة يف التفكري‪ .‬تتطلع‬ ‫‪ -22‬لقطة متو�سطة‪ �« ..‬آنا» يف انتظار عودته ترقد على‬
‫ألعلى يف حماولة ملعرفة �سبب ت�أخريهما‪ ..‬ثم تبت�سم‪.‬‬ ‫ال�رسير‪.‬‬
‫‪ -32‬لقطة قريبة‪� :‬ساندرو و� آنا» ‪ ..‬تنظر �إليه بغيظ مكتوم‬ ‫أ‬
‫‪ -23‬لقطة طويلة‪ :‬يف ال�ساحة‪( .‬كالوديا تنظر لعلى‬
‫يعرب عن ا ألمل واحلنني معاً‪.‬‬ ‫يف اجتاه نافذة غرفة النوم وتلحظ «�ساندرو» وهو يغلق‬
‫‪ -33‬لقطة طويلة �أ�سفل مدخل مبنى �ساندرو‪.‬‬ ‫ال�ستارة‪.‬‬
‫كالوديا تعود �إىل ال�ساحة ثانية تتقدم نحو الباب‬ ‫‪ -24‬لقطة متو�سطة‪� :‬ساندرو يتجه ناحية ال�رسير‪.‬‬
‫ا ألمامي وتلقي نظرة على الداخل ثم تغلق الباب (مزج)‬ ‫«كالوديا» ميكن ر ؤ�يتها من خالل فتحة �صغرية‪ ،‬من‬
‫‪ -34‬لقطة طويلة ‪� ...‬سيارة مك�شوفة حول منحنى يف‬ ‫�ستارة النافذة‪.‬‬
‫الطريق وت�شق طريقها �إىل بعيد‪.‬‬ ‫‪ -25‬لقطة قريبة متو�سطة‪� :‬ساندرو يرمتي فوق «� آنا»‬
‫‪ -35‬لقطة قريبة متو�سطة �إىل املقعد ا ألمامي لل�سيارة‬ ‫ويقبلها بحنان‪ ،‬يتوقف ويرفع ر�أ�سه ويربت على‬
‫املك�شوفة «� آنا» تتو�سط كالوديا و�ساندرو الذي يقود‪...‬‬ ‫�شعرها‪.‬‬
‫وقد ا�ستغرقت متاما يف �أفكارها‪ .‬اختفاء‬ ‫�ساندرو‪ :‬كيف حالك؟‬
‫‪ -36‬اختفاء �إىل لقطة طويلة �إىل مياه �ساكنة و�سط‬ ‫� آنا (ب�ضيق)‪ :‬قطيعة!‬
‫جزيرة �أثيوليان» قرب �ساحل �صقلية‪ .‬هرمية ال�شكل‬ ‫�ساندرو‪ :‬ملاذا؟‬
‫تبدو «�سلويت» من بعيد‪ ،‬يف اخللفية قارب جتاري يتجه‬ ‫أ‬
‫� آنا (ب�سخط متزايد)‪� :‬وه‪ ..‬ملاذا؟ ملاذا؟ ملاذا؟‬
‫نحوها‪.‬‬ ‫تلقي بنف�سها على �صدره يف �ضيق من عدم �إدراكه‬
‫‪ -37‬لقطة متو�سطة‪ :‬بحار يف م�ؤخرة يخت يع�رص‬ ‫للموقف وعجزها عن التعبري ب�رصاحة عما تريد‪.‬‬
‫�أ�سفنجة‪.‬‬ ‫يحت�ضنها للحظة ثم ي�ضحك ويبت�سم ويتعانقان يف‪.‬‬
‫‪ -38‬لقطة متو�سطة‪ :‬كالوديا جتل�س على �أحد جوانب‬ ‫‪ -26‬لقطة متو�سطة‪ :‬كالوديا تدخل مو�سمة فتى‪ .‬تتفرج‬
‫اليخت وقد عقدت ركبتيها يف �صدرها‪ .‬ت�ستدير وتنظر‬ ‫بال مباالة وت�سري خلف حاجز عليه ر�سومات ويف‬
‫�إىل البحر‪.‬‬ ‫مواجهتها �أمريكيان يف نقا�ض حول �إحدى الر�سوم‪.‬‬
‫‪ -39‬لقطة طويلة ملياه البحر ال�ساكنة – ال�سمك يتقافذ‬ ‫الرجل (با إلجنليزية) ما ر�أيك �أنت؟‬
‫يف املاء‪.‬‬ ‫املر�أة‪ :‬لوحة داعرة جداً‪ ..‬وهويحة‪ .‬وال �أعتقد �أن من‬
‫‪ -40‬لقطة متو�سطة‪« :‬رميوندو نائماً حتت �أ�شعة ال�شم�س‬ ‫ير�سمها يفهم يف ا أللوان‪.‬‬
‫فوق اليخت‪ ،‬بجواره كلب يدفعه بعيداً‪.‬‬ ‫رجل (بحما�س)‪� :‬أوافقك الر�أي‪.‬‬
‫رميوندو‪ :‬ابتعد!‬ ‫الكامريا حتر�سها م�ساحة كبرية جدا ً ثم ال �شيء‪ ..‬ال �شيء‬
‫‪174‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ -47‬لقطة قريبة‪ � :‬آنا تنظر نحو �ساندرو الراقد على‬ ‫�إنه ي�شعر بالقلق‪« .‬كورارد» �أكرب �سناً‪� ..‬أ�صلع ذو �شارب‬
‫ظهره وتقبله وقد �أراحت جندها فوق جبهته حلظة‪..‬‬ ‫دقيق ي�صعد ال�سالمل خلفه ويقف بجواره يف امل�ؤخرة‬
‫ينف�صالن‪� .‬ساندرو ينظر نحو التواء حيث منحدر �صخري‬ ‫متطلعاً ناحية البحر‪� .‬أما «جوليا» فهي يف الثالثينيات‬
‫يف اخللفية‬ ‫تبدو حارة الطبع‪ ..‬ت�صعد بجواره‪.‬‬
‫�ساندرو‪ :‬هل �سنذهب لل�سباحة؟‬ ‫‪ -41‬لقطة قريبة متو�سطة لـ «كورادو» و«جوليا»‪.‬‬
‫ينه�ض ويتناول قمي�صه متجهاً حيث يقف ا آلخرون يف‬ ‫جوليا (وهي تتطلع نحو البحر)‪� :‬إن البحر يف نعومة‬
‫م�ؤخرة املركب‪.‬‬ ‫الزيت‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬لي�س هنا‪� ..‬إنه مكان خميف‪.‬‬ ‫كوارادو (وظهره نحوها)‪� :‬إنني �أكره عقد مثل هذه‬
‫‪ -48‬لقطة طويلة من اليخت املتحرك‪.‬‬ ‫املقارنات‪.‬‬
‫جوليا (خارج ال�صورة)‪ :‬كل هذه اجلزر‪..‬‬ ‫حلظة �صمت‪ �« ..‬آنا» تخرج من الكابينة خلفهم‪.‬‬
‫‪ -49‬لقطة قريبة متو�سطة ‪ ..‬كورادو‪ ،‬جوليا و«� آنا» يف‬ ‫� آنا‪� :‬صباح اخلري‬
‫امل�ؤخرة ينظرون نحو املاء‪.‬‬ ‫كوارادو ‪� :‬صباح اخلري‬
‫جوليا‪ :‬لقد تعر�ض املكان لرباكني يوماً ما‪..‬‬ ‫«� آنا‪ :‬تنظر �إىل كالوديا!‬
‫كورادو‪ :‬البد �أن هناك معلومة علمية ال تعرفينها‬ ‫«� آنا» كالوديا!‬
‫جغرافياً‪.‬‬ ‫كالوديا‪( :‬يف اخللفية وهي ت�شري �إىلالبحر)‪ :‬هل �شاهدت‬
‫جوليا تنظر نحو ثم تنفجر يف �ضحكة ع�صبية)‪.‬‬ ‫هذا املنظر؟‬
‫كالوديا (خارج ال�صورة)‪ :‬ما ا�سمه؟ هل تعرفني؟‬ ‫(تنه�ض وت�سري على حافة �سطح القارب يف الطريق‬
‫كورادو‪ :‬البد �أنه با�سيلوزو»‬ ‫�إليها وهي على و�شك التزحلق)‪� ..‬أوه‪( ..‬ت�ستعيد توازنها‬
‫‪ -50‬لقطة قريبة – كالوديا تقف يف املقدمة تتطلع‬ ‫ويتعانقان)‪.‬‬
‫نحو اجلزيرة‪.‬‬ ‫‪ -42‬لقطة متو�سطة لكليهما‪ ..‬ر�أ�س رميوندو يف مقدمة‬
‫كالوديا‪ :‬با�سيلوزو ‪ ..‬يبدو �أنه ا�سم �سمكة‪.‬‬ ‫اليخت‪.‬‬
‫‪ -51‬نف�س اللقطة ‪49‬‬ ‫كالوديا‪ :‬هل منت جيداً؟‬
‫كواردو و(م�شرياً)‪ :‬فعالً‪ ..‬هذا املكان ي�سمى ال�سمك‬ ‫� آنا‪ :‬ال ب�أ�س‪ ،‬ذهبت للفرا�ش ليلة �أم�س �أفكر يف �أ�شياء‬
‫ا ألبي�ض‪.‬‬ ‫كثرية �إال �أن النوم ا�ستغرقني‪.‬‬
‫‪ -52‬لقطة قريبة متو�سطة‪ �( :‬آنا تبدو قلقة)‪.‬‬ ‫كالوديا‪ :‬ال �أعرف كيف ينام ا إلن�سان و�سط كل هذا‪� ..‬إذ مل‬
‫� آنا‪ :‬يا �إلهي‪ ..‬يا له من ملل‪ ..‬عالم ماذا تتناق�شون‪.‬‬ ‫يتوقفوا من �أحداث جلية‪.‬‬
‫رميوندو‪ :‬مل �أمن جيداً‪.‬‬
‫�ساندرو (خارج ال�صورة)‪ :‬مرحباً‬
‫(يلتفتون نحوه)‬
‫‪ -43‬لقطة متو�سطة (�ساندرو وهو يقف يف غرفة‬
‫القيادة‪ ..‬تنه�ض كالوديا وتتجه نحوه‪.‬‬
‫‪ -44‬لقطة قريبة‪ �« ..‬آنا» تتطلع �إىل املاء‪ ..‬ثم تلتفت نحو‬
‫�ساندرو‪.‬‬
‫‪ -45‬لقطة متو�سطة‪�« :‬ساندرو» يخرج من الغرفة وينام‬
‫راقدا ً فوق املق�صورة (الكابينة)‪ �« .‬آنا» تتجه نحوه –‬
‫ي�ضع ر�أ�سه على �صدرها ويبد� أ يف قراءة جملة‪.‬‬
‫� آنا ‪ :‬يجب �أن تعر�ض ج�سمك لل�شم�س‪.‬‬
‫يتطلع �إليها مبت�سماً ويلقي باملجلة يف الهواء)‪.‬‬
‫‪ -46‬لقطة طويلة‪� ..‬صفحات املجلة تتطاير يف الهواء‬
‫على جانب اليخت‪ .‬الكامريا يف حركة (بان) �إىل امل�ؤخرة‬
‫لرنى كالوديا جتل�س هناك‪ .‬ومع طريان الورق من حولها‬
‫تبدي عالمة اعرتا�ض وهي تتابع طريانها بعيداً‪.‬‬
‫‪175‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(باتري�سيا ت�سري يف لقطة قريبة)‬ ‫‪ -53‬لقطة متو�سطة‪ :‬تخلع مالب�سها وتتناول غطاء‬
‫باتري�سيا هذه اجلزر ت�صيبني باالكتئاب فهي تبدو‬ ‫الر�أ�س وتنه�ض ناحية حافة اليخت‪� .‬ساندرا‪ ،‬كالوديا»‬
‫(معزولة تبت�سم مع اقرتاب الكلب نحوها‪ ،‬حتمله وتنزل‬ ‫يراقبنها‪.‬‬
‫�أ�سفل الكابينة)‪.‬‬ ‫�ساندرا ‪ � :‬آنا!!‬
‫‪ -63‬لقطة متو�سطة‪ ...‬جوليا تعوم على ظهرها‪ ..‬بعيدا‬ ‫‪ -54‬لقطة قريبة‬
‫عن �ساندرو و(� آنا) ويف اخللفية اجلزيرة ال�صخرية‪.‬‬ ‫كورا دو» ويحاول منعها بعد فوات ا ألوان حيث تغط�س‬
‫جوليا‪� :‬ساندرو‪� ...‬إىل �أين (� آنا) ذاهبة؟‬ ‫يف املاء و�رسعان ما تختفي دومنا �أثر‪..‬‬
‫�ساندرو‪ :‬ا�س�أليها‪.‬‬ ‫‪ -55‬لقطة قريبة‪� :.‬ساندرو ينظر �إىل املاء يف ده�شة ثم‬
‫‪ -64‬لقطة متو�سطة‪ ...‬طوف من املطاط يقوده بحار‬ ‫يلقي مبن�شفته جانباً‪.‬‬
‫لينتقل كورادر �إىل ال�شاطئ‪.‬‬ ‫‪ -56‬لقطة طويلة‪ :‬يغط�س يف املاء ويعوم يف �إثرها‪.‬‬
‫البحار‪ :‬مل �أعمل على �شيء �سوى هذه الزوارق الغافرة‪..‬‬ ‫‪ -57‬لقطة متو�سطة‪ :‬رميوندو يدق اجلر�س يف ك�سل‪.‬‬
‫رغم �أن العمل فيها �أ�صعب‪.‬‬ ‫‪ -58‬لقطة طويلة – كورادو وجوليا وكالوديا يقفون‬
‫كورادو‪� :‬صحيح ؟ وملاذا؟‬ ‫يف م�ؤخرة القارب بينما يوا�صل رميوندو دق اجلر�س‪.‬‬
‫البحار‪ :‬ألن �أ�صحابها لي�س لهم مواعيد حمددة‪ ..‬وكمثال‬ ‫رميوند‪ .. :‬ال�سيدات يح�رضن هنا‪.‬‬
‫علينا �أن نوا�صل ا إلبحار طوال الليل‪ ...‬بال وقت للنوم‪..‬‬ ‫جوليا ت�ضحك �ضحكتها يف نرفزة – ينزل �أحدهم �إىل‬
‫لكني �أف�ضل هذا عن غريه‪.‬‬ ‫املاء �سلماً ‪ -‬الن�سوة يخلعن غطاء ر�أ�س العوم‪.‬‬
‫احلوار يخت�ض ويتال�شى مع اقرتابهما من �شاطئ‬ ‫كالوديا (�إىل رميوندو)‪ :‬توقف ‪ ..‬توقف‬
‫اجلزيرة‪.‬‬ ‫‪ -59‬لقطة طويلة من فوق جزيرة �صخرية قريبة من‬
‫‪ -65‬لقطة متو�سطة لـ (� آنا) تعوم وحدها‪.‬‬ ‫القارب‪.‬‬
‫(� آنا ت�رصخ)‪ :‬انقذوين ‪� ...‬سمك القر�ش ‪� ...‬سمك القر�ش‪.‬‬ ‫‪ -60‬لقطة متو�سطة‪ :‬الكامريا تتحرك مع جوليا التي‬
‫‪ -66‬لقطة متو�سطة‪� ...‬ساندرو يطفو على املاء يف ك�سل‬ ‫ت�سيح يف اجتاه كالوديا‪.‬‬
‫ي�ستدير ويتجه �إليها‪.‬‬ ‫‪ -61‬لقطة متو�سطة‪ :‬على اليخت حيث تخرج من الكابينة‬
‫البحار (من بعيد)‪ :‬ال تتحركي ‪� ...‬سنيورا ‪ ...‬ال تتحركي ‪..‬‬ ‫امر�أة جميلة يف ا ألربعينات وهي ترتدي ثوباً �شفافاً‪.‬‬
‫�أبقي مكانك ‪� ...‬أبقي مكانك ‪.‬‬ ‫باتري�سيا‪ :‬رميوندو؟‬
‫‪ -67‬لقطة متو�سطة‪ �« :‬آنا» ت�رضب بيدها يف املاء وهي‬ ‫أ‬
‫رميوندو (خارج ال�صورة)‪ :‬باتري�سيا‪� ..‬نا هنا!‬
‫ت�صيح‪ :‬ال تقرتب‬ ‫باتري�سيا‪ :‬ملاذا توقفنا؟‬
‫تبدو غري قادرة على ال�سباحة‪ ،‬ي�صل �إليها �ساندرو ويلف‬ ‫رميوندو (خارج ال�صورة)‪� ،‬أال تريدين العوم؟‬
‫ذراعيه حولها‪.‬‬ ‫أ‬
‫باتري�سيا لقد حلمت حلماً بخ�صو�ص العوم‪ ..‬اذهب �نت‪.‬‬
‫�ساندرو‪ �:‬آنا (يجفر بها بعيداً)‪.‬‬ ‫رميوند ي�ست�أنف ال�سباحة‬
‫‪ -68‬لقطة متو�سطة فوق اليخت‪« ،‬باتري�سيا» ت�شاهد‬ ‫باتري�سيا‪ ::‬رميوندو‪� :‬سيدتي‪( ..‬يقبل يدها)‬
‫بحارا ً ي�ساعد جوليا وكالوديا على ال�صعود‪.‬‬ ‫باتري�سيا‪� :‬أحتب ال�صيد حتت املاء؟‬
‫‪ -69‬لطقة طويلة‪« ..‬كورادو» على ال�شاطئ‪.‬‬ ‫رميوندو (يهز كتفه‪ :‬بل �أكرهه‪ ..‬وما حيلتي؟‬
‫‪ -70‬لقطة قريبة‪ ..‬جوليا ت�صيح‪:‬‬ ‫(يتجه �إىل جانب اليخت وينزل بنف�سه يف املاء و�أثناء‬
‫جوليا‪ :‬يوجد �سمك القر�ش هنا (ت�شري بيدها) ال تتحرك‪.‬‬ ‫ابتعاده يقول ب�صوت عال‪ :‬من الذي قال ب�أن ا إلن�سان‬
‫‪ -71‬نف�س اللقطة ‪.69‬‬ ‫كان يعي�ش �أ�صالً يف املاء؟‬
‫«كواردو» (�صائحاً)‪ :‬من الذي يتحرك؟‬ ‫وي�ضع قناعة يف املاء وي�سبح بعيدا ً ثم يغط�س حتت‬
‫‪ -72‬لقطة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا وكالوديا‪ ،‬وجوليا‪،‬‬ ‫املاء‪.‬‬
‫يراقنب �أثناء م�ساعدة البحار «� آنا» و�ساندرو» يف ال�صعود‬ ‫‪ -62‬لقطة متو�سطة‪ :‬باتري�سيا تقف يف م�ؤخرة القارب‬
‫�إىل ال�سطح‪.‬‬ ‫تتطلع ناحية البحر‪ .‬ت�سمع �صوتا من بعيد‪.‬‬
‫كالوديا (�إىل � آنا) كيف عرفت �أن هناك �سمك قر�ش؟ هل‬ ‫�صوت (خارج ال�صورة)‪ :‬ناوليني العلم ‪.‬‬
‫�أقرتب منك؟‬ ‫(تتلفت حواليها)‪.‬‬
‫«� آنا» ب�رسعة يف تهجم‪ ..‬وكالوديا من ورائها‪.‬‬ ‫�صوت (خارج ال�صورة)؛ �سوف �أغر�سه فوق اجلزيرة‬
‫‪176‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫(وكما �أن املو�ضوع قد انتهى) ‪ ..‬ال تهتمي‪ ..‬فكل �شيء‬ ‫باتري�سيا �إن وجدها و�أ�سنانها فظيعة‪.‬‬
‫قد انتهى ا آلن‪.‬‬ ‫‪ � -73‬آنا وكالوديا لقطة متو�سطة داخل الكابينة يتبعهما‬
‫كالوديا‪ :‬هكذا تت�رصفني دائماً‪ ..‬وال �أفهمك‪ ..،‬ال �أفهم‬ ‫�ساندرو‪ �« .‬آنا» تتحمل وهي تتجنب نظراتهما‪.‬‬
‫الهدف من هذا ‪ ..‬ح�سناً‪ ..‬هل �ستذهب؟‬ ‫�ساندرو‪ � :‬آنا ‪ ..‬هل تريدين بع�ض ال�رشاب؟‬
‫(كالوديا تغادر املكان و� آنا تنظر �إليها يف غ�ضب‪.‬‬ ‫(تخلع غطاء الر�أ�س يقومان بتجفيفها باملن�شفة)‪.‬‬
‫و�سيجارة يف فمها ثم ت�ضع البلوزة ال�سوداء يف �شنطة‬ ‫باتري�سيا تقف عند الباب ت�شاهدها يجري‪.‬‬
‫كالوديا)‪.‬‬ ‫� آنا (وقد �ضايقها اهتمامهم الزائد بها)‬
‫‪ -76‬لقطة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا جتل�س يف الكابينة �أمام‬ ‫‪ -‬ال ‪ ..‬ال �شيء ‪ ..‬لقد انتهى كل �شيء ا آلن‪� ..‬أريد فقط‬
‫مائدة �صغرية تت�سلى به با أللعاب املتقاطعة‪.‬‬ ‫ا�ستبدال مالب�سي ألنني �أ�شعر بالربد‪ ..‬هذا كل ما هناك‪.‬‬
‫‪ -77‬لقطة متو�سطة من �أ�سفل‪ ..‬باتري�سيا يف مقدمة‬ ‫‪� -‬ساندرو‪ :‬هذا �صحيح‬
‫ال�صورة بينما ت�ستند كالوديا» على باب الكابينة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫فع‬ ‫ال�صيف‬ ‫‪ � -‬آنا لقد انتهى زمن‬
‫كالوديا‪ :‬هل �ستذهبني �إىل ال�شاطئ؟‬ ‫باتري�سيا (خارج ال�صورة)؛ لكن �أين ذهبت �سمكة القر�ش‪..‬‬
‫باتري�سيا‪ :‬وهل ت�سمون تلك ال�صخور �شاطئا؟‬ ‫هذا ما يثري ده�شتي؟‬
‫(رميوند يظهر عند مدخل الكابينة)‪.‬‬ ‫ويغلق الباب‪ ،‬كالوديا تخلع‬ ‫ُ‬ ‫الكابينة‬ ‫�ساندرو يرتك‬
‫باتري�سيا (تتطلع نحوه)‪ :‬هل مازلت ت�سبح؟ �أال تعلم �أن‬ ‫قبعة اال�ستحمام ومت�شط �شعرها‪ � :‬آنا حتكم �إغالق الباب‬
‫حولنا �سمك القر�ش؟‬ ‫وتتناول ثوباً من خزانتها‪ .‬وجتل�س فوق �رسير وقد‬
‫(رميوندو يدخل مارا ً بكالوديا يف ده�شة)‪.‬‬ ‫ا�ستعادت هدوءها فج�أة وهي تبت�سم لكالوديا‪.‬‬
‫رميوندو‪� :‬سمك القر�ش؟ (يجل�س حول املن�ضدة مبالب�س‬ ‫‪ -74‬كالوديا تنظر نحها يف حرية من ابت�سامتها‪.‬‬
‫الغط�س ويخلع قفازه) تق�صدين‪ ..‬هال حتاولني �أن تقويل‬ ‫كالوديا‪� :‬أيه احلكاية؟‬
‫�أنني معر�ض للموت؟‬ ‫«� آنا» تبت�سم مزحة‪ .‬كالوديا تخلع حمالة املايوه‪ .‬بينما‬
‫(كالوديا ت�ضحك وهي جال�سة عند الباب بينما جل�س‬ ‫توا�صل � آنا ابت�سامتها‪ ،‬الكامريا يف حركة �أفقية (بان)‬
‫رميوندو على ميني باتري�سيا وهو يحملق فيها بغباء)؟‬ ‫�إىل «� آنا» فقط‪ ،‬ثم مت�سك بلوزتني وترفعهما ألعلى وهي‬
‫باتري�سيا (متعبة)‪ :‬ماذا تريد؟ � آنا‪.‬؟ يف هذه ال�ساعة!‬ ‫توا�صل ال�ضحك‪.‬‬
‫(توا�صل لعبة ا أللغاز دون �أن تنظر �إليه)‪.‬‬ ‫� آنا‪� :‬أيهما ارتدى؟ هذا؟ �أم ذاك؟ (تعر�ضهما على‬
‫كالوديا‪ :‬وداعاً (تنه�ض)‬ ‫كالوديا)‪.‬‬
‫باتري�سيا‪ :‬كال ‪ ..‬ال تن�رصيف‪� ..‬إنها ق�صة رائعة‪.‬‬ ‫كالوديا (ت�شري على ا أل�سود)‪ :‬هذا جميل‬
‫� آنا» ملاذا ال جتربيه عليك؟‬
‫كالوديا تلب�سه ثم تتجه ناحية احلمام لرتى �صورتها‬
‫يف املر�أة ثم تعاود النظر نحو � آنا» التي تقرتب من باب‬
‫غرفة احلمام‪.‬‬
‫� آنا‪� :‬إنه �أجمل عليك مني‪ ..‬احتفظي به‪.‬‬
‫كالوديا (تبت�سم)‪ :‬ال ميكن‪.‬‬
‫‪ -75‬لقطة قريبة وكالوديا تبت�سم ثانية‪ .‬ت�ستدير وتخلع‬
‫مالب�س ال�سباحة وترتدي مالب�سها‪ ،‬كالوديا تقف‬
‫بجوارها وترتدي مالب�سها هي ا ألخرى‪ ..‬وظهريهما‬
‫للكامريا‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬هل تعلمني �أن ق�صة �سمك القر�ش مل تكن �سوى‬
‫مزحة‪.‬‬
‫كالوديا (تلتفت نحوها بده�شة)‪ :‬نكتة؟‬
‫� آنا‪ :‬نعم‬
‫كالوديا‪ :‬لكن ملاذا‪.‬‬
‫� آنا (يف �ضيق)‪ :‬هكذا كان ا ألمر‪ ..‬لي�س �إال ‪..‬‬
‫‪177‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ساندرو (يلقي بها جانباً وي�صعد اجلبل وراء «� آنا»‪).‬‬ ‫رميوندو ينظر من حتت املن�ضدة على �ساقها فتمد له‬
‫‪ -84‬لقطة متو�سطة‪ ..‬بحار يح�رض عرب املعرب يحمل‬ ‫�ساقاً‪.‬‬
‫�سلة‪.‬‬ ‫باتري�سيا‪ :‬ح�سناً ‪ ..‬كهذه؟ هل ر�أيتها؟ هل ا�سرتحت؟‬
‫كالوديا (خارج ال�صورة) مده�ش (تتناول حبة فاكهة‬ ‫يومئ بر�أ�سه موافقاً وينه�ض‪.‬‬
‫من ال�سلة وتناول البحار قبعتها وتعود �إىل اجلزيرة‪.‬‬ ‫‪ -78‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا ورميوندو يخلع‬
‫‪ -85‬لقطة متو�سطة‪« ..‬كورادو» ي�سري مبتعدا ً فوق‬ ‫قمي�صه ويتجه نحوها ببطء‪ .‬تتنهد يف �سخط بعيدا ً عنه‪.‬‬
‫ال�صخور‪.‬‬ ‫يركع على ركبته بجوارها وي�ضع يده داخل ثوبها وقد‬
‫كالوديا (خارج ال�صورة)‪« :‬كورادو» ‪� ..‬أتريد واحدة؟‬ ‫بدا عليها امللل‪.‬‬
‫كورادو (ي�شري للفاكهة) �أنها الطريقة الوحيدة لتح�رض‬ ‫باتري�سيا‪� :‬أنت يائ�س حلد ما‪ ..‬قل يل ب�رصاحة‪.‬‬
‫معنا باتري�سيا‪.‬‬ ‫رميوندو (يهز ر�أ�سه)‪ :‬كال ‪ ..‬يف احلقيقة‬
‫كالوديا تدخل �إطار ال�صورة وتقدم له الفاكهة‪.‬‬ ‫باتري�سيا (تتجه نحو كالوديا)‪ :‬ما ر�أيك يف رميوندو‪.‬‬
‫كالوديا‪� :‬إنني معجبة بك‪.‬‬ ‫كالوديا (خارج ال�صورة)؛ فا�سد �إىل حد ما‪.‬‬
‫كورادو‪ :‬و�أكرث من �سمك القر�ش؟‬ ‫باتري�سيا‪( :‬ب�سخرية)؛ ماذا؟ كيف تقولني هذا عنه؟ كال‪..‬‬
‫كالوديا‪ :‬كال‪ ..‬فال وجه للمقارنة بينكما‪.‬‬ ‫�إنه طفل‪.‬‬
‫‪ -86‬نقطة متو�سطة جلوليا ترقد على املالءة وهي‬ ‫رميوندو‪ :‬ال تتمادي يف هذا‪ ..‬باتري�سيا‪� ..‬أنني �أف�ضل �أن‬
‫تتطلع ألعلى وهي ت�سمع كورادو‪.‬‬ ‫�أكون فا�سداً‪� ..‬إال �إن كنت حتبني ا ألطفال‪.‬‬
‫كورادو (خارج ال�صورة)‪ :‬ملاذا ال ت�أتني معي للفرجة؟‬ ‫باتري�سيا‪� :‬أنت تعلم �أنني ال �أحب �أحدا ً املهم هذا ويتجه‬
‫كالوديا (خارج ال�صورة)‪ :‬وماذا هناك ألراه؟‬ ‫رميوندو نحو كالوديا م�شرياً�إىل باتري�سيا‪� ،‬إن كانت‬
‫(جوليا تنه�ض وتنظر نحوهما بحب ا�ستطالع‪.‬‬ ‫هناك امر�أة قادرة على الف�سق والفجور واخليانة فهي‪..‬‬
‫‪ -87‬لقطة متو�سطة ل�ساندرو وهو يت�سلق �سل�سلة �صخور‬ ‫�إال �أنها �صادقة و�أمينة‪ ..‬ب�سبب الك�سل والق�صور الذاتي‪.‬‬
‫والكامريا تتابعه يف لقطة (بان)‬ ‫(«كالوديا تبت�سم �أثناء اندفاعه يف الغ�ضب)‪.‬‬
‫أ‬
‫�ساندرو يداعب �شعرها لكنها تبعده ب�س�م‪.‬‬ ‫‪ -79‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا ت�ضحك وتلتفت‬
‫�ساندرو (يجل�س بجانبها)‪ :‬لكن مل هذا احلديث دائماً‪..‬‬ ‫نحو كالوديا‪.‬‬
‫حديث‪ ..‬حديث؟‬ ‫باتري�سيا‪� :‬إنه الوحيد الذي ي�سليني ‪ ..‬بجانب كلبي!‪.‬‬
‫‪ -88‬لقطة قريبة متو�سطة وهي تبتعد عنه‪.‬‬ ‫‪ -80‬لقطة قريبة‪ ..‬كالوديا تنه�ض وتغادر املكان‪.‬‬
‫�ساندرا‪� :‬صدقيني‪ ..‬الكالم لن يجدي �شيئاً‪ ..‬بل يعقد‬ ‫كالوديا‪ :‬هل �سنذهب لل�شاطئ؟‬
‫ا ألمور‪� ..‬إنني �أحبك‪� ..‬أال يكفي هذا؟ تتمعنه بنظراتها وهو‬ ‫‪ -81‬لقطة متو�سطة‪� :‬ساندرو و� آنا» فوق �شاطئ �صخري‬
‫يتحدث لكنها تبتعد عنه كلما اقرتب منها‪.‬‬ ‫من اجلزيرة بينما يقف كواردو �أمامهما‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬كال‪ ..‬لي�س هذا بكاف (تتوقف) �أود �أن �أخلو لنف�سي‬ ‫كواردو‪ :‬يوجد هنا بع�ض ا آلثار القدمية يجب م�شاهدتها‬
‫بع�ض الوقت‪.‬‬ ‫(ي�صعد ال�صخور للقاء جوليا) هل تذكرين؟‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫�ساندرو (مم�سكاً بيدها)‪ :‬لكنك قلت الن �ن �شهرا ً‬ ‫جوليا تفر�ش مالءة على ا ألر�ض‪.‬‬
‫بدوين‪....‬‬ ‫كواردو‪ :‬من ا ألف�ضل �أن تنامي‪ ..‬ف�أي �شيء يجعل قلبك‬
‫� آنا (بعاطفة)‪� :‬أق�صد �أطول‪� ..‬شهرين‪� ،‬سنة وثالث �سنوات‪.‬‬ ‫يخفق‪.‬‬
‫(تنه�ض مبتعدة وهو يتابعها يف حرية‪.‬‬ ‫‪ -82‬لقطة متو�سطة «كالوديا» ت�سري فوق معرب من‬
‫‪ -89‬لقطة قريبة‪ � ..‬آنا ت�ستند على �صخرة وظهرها‬ ‫اليخث �إىل ال�شاطئ‪.‬‬
‫ل�ساندرو «كورادو وجوليا» يت�سكعان يف خلفية‬ ‫كورادو (خارج ال�صورة)‪ :‬كل �شيء هنا جميل‪.‬‬
‫ال�صورة‪.‬‬ ‫كالوديا تغم�س يدها يف املاء وهي حتدث نف�سها‪.‬‬
‫� آنا‪ :‬نعم‪� ..‬أعرف �أن هذا �سخف و�أنني غري �سعيدة باملرة‪،‬‬ ‫كالوديا‪ :‬كان لطيفاً!‬
‫�شعوري ب�أنني �س�أفقدك يعذبني (تلتفت نحوه) ومع هذا‪..‬‬ ‫جوليا (خارج ال�صورة) عمن تتحدثني؟‬
‫مل �أعد �أ�شعر بك‪.‬‬ ‫كالوديا‪ :‬عن �سمك القر�ش‪.‬‬
‫كورادو (خارج ال�صورة)‪ :‬خرائب و�أطالل قدمية جداً‪.‬‬ ‫‪ -83‬لقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو يقف فوق اجلبل‬
‫(�ساندو ي�صل �إىل «� آنا» التي تقف على ال�صخور بعيدا ً‬ ‫وبيده �رش�شف‪.‬‬
‫‪178‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ -96‬لقطة طويلة ل�ساندرو يرقد وحده على ال�صخور‪.‬‬ ‫عنهم)‪.‬‬
‫‪ -97‬لقطة متو�سطة‪� ..‬أحد البحارة يقرتب من كورادو‪.‬‬ ‫� آنا‪� :‬ساندرو‪ ..‬لقد مر �شهور طويل منذ ر�أيتك � آخر مرة‪.‬‬
‫البحار‪ :‬علينا �أن نبتعد ا آلن عن هنا‪.‬‬ ‫بحيث تعودت غيابك‪.‬‬
‫كورادو‪ :‬ملاذا؟‬ ‫�ساندرو (بخفة)‪� :‬إح�سا�س معتاد‪� ،‬سوف تتعودين عليه‬
‫البحار‪ :‬البحر هائج هنا‪.‬‬ ‫(تبعدا)‬
‫‪ -98‬لقطة متو�سطة‪ ..‬لكالوديا تقرتب منهما‪.‬‬ ‫� آنا‪( :‬خارج ال�صورة)‪ :‬لكنها زادت هذه املرة‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬وماذا عن «� آنا»‪.‬‬ ‫�ساندرو‪� :‬إذن‪� ..‬سوف ي�ستغرق ا ألمر وقتاً لتعتادي عليه‪.‬‬
‫كورادو‪ :‬ال �أعرف‪.‬‬ ‫� آنا (تقرتب �أكرث منه)‪ :‬كال ‪ ..‬حقيقة‪ ..‬البد �أن نتناق�ش يف‬
‫�صوت (من خارج ال�صورة)‪ :‬يبدو �أنه قارب الكامريا‬ ‫هذا املو�ضوع‪� ..‬أم �أنك مازلت على قناعة ب�أننا مل يفهم‬
‫تتابع كالوديا وهي تتقدم ا آلخرين‪ .‬تالحظ �أمامها‬ ‫كل منا ا آلخر باملرة‪.‬‬
‫«�ساندرو» وقد ا�ستلقى فوق ال�صخور‪.‬‬ ‫�ساندرو‪� :‬سوف يكون لدينا الوقت الكايف للحديث فيما‬
‫كالوديا (تنادي) �ساندرو‪� ..‬أين � آنا؟ �ساندرو (ينه�ض‬ ‫بعد‪� ..‬سوف نتزوج‪� ..‬إذن �أمامنا وقت لهذا احلديث‪.‬‬
‫ويتلفت حواليه)‪ :‬كانت هنا‪ .‬كالوديا جتري نحو‬ ‫(� آنا متعبة تتحول عنه وجتل�س على �صخرة)‬
‫ا آلخرين)‪� :‬ألي�ست على ظهر اليخت‪.‬‬ ‫� آنا‪ :‬وماذا تعني بزواجنا؟ ال �شيء‪� ..‬إننا حتى ا آلن نعي�ش‬
‫البحار (خارج ال�صورة)‪ :‬ال �أعرف يا �سيدتي‪.‬‬ ‫معاً كما لو كنا زوجني‪� ،‬ألي�س كذلك؟ �إن جوليا وكورادو‬
‫�ساندرو مي�شي مبحاذاة املاء – كالوديا تنظر نحو‬ ‫يبدوان كزوجني‪.‬‬
‫اليخت‪.‬‬ ‫�ساندرو يقرتب منها ويداعب �شعورها ثانية‪.‬‬
‫‪ -99‬لقطة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا ورميوندو داخل الكابينة‬ ‫�ساندرو‪ :‬حتى �أم�س‪ ..‬يف منزيل؟ هل كان هذا �شعورك‬
‫م�شغوالت بالكلمات املتقاطعة‪ ..‬والكلب على فخذ‬ ‫حينئذ؟‬
‫باتري�سيا‪.‬‬ ‫‪ -90‬لقطة قريبة‪ �« ..‬آنا» تتحول عنه غا�ضبة‪ .‬وتتفح�صه‬
‫كالوديا (من خارج ال�صورة بوهن)‪ :‬با تري�سيا‪ ..‬هل‬ ‫يف �صمت‪.‬‬
‫«� آنا» هنا؟‬ ‫� آنا (بنعومة)‪� :‬إنك دائماً تقلل من كل �شيء االثنان يف‬
‫رميوندو يذهب �إىل ال�سطح باحثاً‪ ..‬بينما جتل�س باتري�سيا‬ ‫حلظة �صمت‪� .‬ساندرو يت�سلل مبتعدا ً يف �شبه ابت�سامة‬
‫م�ستغرقة يف حل الكلمات املتقاطعة‪.‬‬ ‫ويلقي بح�صاة يف املاء‪.‬‬
‫رميوندو (من خارج منادياً) ‪ �:‬آنا‪ � ..‬آنا‬ ‫«� آنا» ت�ضع ذقنها على �صخرة وظهرها ل�ساندرو‪ .‬يبدو‬
‫‪ -100‬لقطة متو�سطة‪� ..‬ساندرو ي�سري يف املقدمة باحثاً‬ ‫عليها الغ�صب‪ ،‬تلتفت يف مواجهته �إال �أنه يتمدد �ساندا‬
‫ظهره على �صخرة مغم�ضاً عينيه (مزج)‬
‫‪ -91‬لقطة طويلة‪ ..‬جانب من منحدر �صخري ينتهي‬
‫بالبحر‪ ،‬من بعيد يبدو قارب يقرتب من اجلزيرة‪.‬‬
‫‪ -92‬لقطة قريبة متو�سطة ‪ ..‬جوليا» نائمة فوق ال�صخور‬
‫– ت�ستيقظ وتتطلع �إىل ال�سماء بينما مير كورادو‪.‬‬
‫جوليا‪ :‬يبدو �أن اجلو �سيتغري‪.‬‬
‫كورادو (يلتفت نحوها)‪ :‬جوليا ‪� ..‬أرجوك‪ ..‬ال تت�رصيف‬
‫كمدر�سة‪ ..‬ألنني �س�أعرف هذا بنف�سي‪( .‬متجهة بر�أ�سها‬
‫بعيداً)‪.‬‬
‫‪ -93‬لقطة طويلة من فوق �سل�سلة ال�صخور وتطل على‬
‫البحر كالوديا ت�سري فوقها وهي حتمل حذاءها تغم�س‬
‫قدمها يف املاء‪.‬‬
‫‪ -94‬لقطة طويلة‪ ..‬تداعب املاء بتكامل موا�صلة‬
‫�صريها‪.‬‬
‫‪ -95‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬كورادو وجوليا كما يف‬
‫اللقطة ‪ .92‬كورادو ال يجد ما يقوله ويوا�صل �سريه‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ -113‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬جوليا تتوقف وتنظر‬ ‫بني ال�صخور‪ ،‬يتحرك يف لقطة قريبة من قلق وحرية‪.‬‬
‫نحوه يف خيبة �أمل وتوا�صل ال�سري‪.‬‬ ‫رميوندو (من خارج ب�صوت واهن) لي�ست هنا �ساندرو‬
‫‪ -114‬لقطة قريبة‪ ،‬كالوديا تهز ر�أ�سها ب�أ�سى ثم جتل�س‬ ‫(مبرارة)‪� :‬أهكذا تت�رصف ت�رصفات تخرجك عن طورك‪.‬‬
‫على ال�صخور‪ ،‬ت�صفف �شعرها بيدها من الهواء وتعبث‬ ‫‪ -101‬لقطة طويلة‪ ..‬كالوديا تراقب �ساندرو وهو ي�صعد‬
‫يف �رشود بنبتة �صغرية تنمو بني ال�صخور‪� ..‬أخريا ً تنه�ض‬ ‫ال�صخور �إىل �أر�ض عالية‪ ،‬ت�ستدير وتنظر نحو البحر ثم‬
‫ثانية‪.‬‬ ‫ت�سري خلفه ومن ورائها كورادو وجوليا‪.‬‬
‫‪� -115‬ساندرو ي�سري يف لقطة متو�سطة‪ ،‬ي�سمع �صوت‬ ‫‪ -102‬لقطة طويلة‪ ..‬ه�ضبة �صخرية �شا�سعة متثل �أعلى‬
‫نفري قارب يف اخللفية‪ ،‬ي�ستدير ناحية ال�صوت‪ ..‬ثم‬ ‫جزء من جزيرة «لي�سكا بيانكو»‪� .‬ساندرو ي�شق طريقه‬
‫يتحرك نحو كوخ مبني يف ال�صخر‪.‬‬ ‫ويقف �صائحاً و�سط الطريق‪.‬‬
‫‪ -116‬لقطة متو�سطة‪� ..‬ساندرو يحاول فتح الباب دون‬ ‫�ساندرو‪ � :‬آنا‪( ..‬يتقدم)‬
‫جدوى‪ .‬يرتاجع للخلف يائ�ساً‪.‬‬ ‫‪ -103‬لقطة طويلة من �أعلى ل�صدغ عميق بني ال�صخور‪،‬‬
‫‪ -117‬لقطة متو�سطة ‪ ..‬يغادر الكوخ وي�صعد ال�صخور‬ ‫بحر هائج ي�رضب ال�صخور بعنف‪� ،‬ساندرو يلقي نظرة‬
‫«كالوديا» و«كورادو» يقرتبان من الكوخ من اجلانب‬ ‫على ال�صدغ ثم يبتعد‪ ،‬الكامريا يف حركة (ثلث) ألعلى‬
‫ا آلخر‪.‬‬ ‫نظر عام على اجلزيرة‪ .‬كالوديا تبحث عن ُبعد والبحر‬
‫كالوديا‪� :‬ساندرو‪� ..‬أمل تعرث على �شيء؟‬ ‫من خلفها‪.‬‬
‫‪ -118‬نقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو ي�ستدير ويهز‬ ‫‪ -104‬لقطة قريبة متو�سطة وكالوديا بعيدا ً عن الكامريا‬
‫ر�أ�سه يف ي�أ�س ومي�شي‪ .‬تبدو جزر �أخرى يف اخللفية‬ ‫تربط حزام ف�ستانها‪ ..‬ومن ورائها كورادو وجوليا‪..‬‬
‫(مزج)‬ ‫ومو�سيقى يف اخللفية‪.‬‬
‫أ‬
‫‪ -119‬لقطة طويلة من �على كالوديا وهي ت�سري فوق‬ ‫أ‬
‫جوليا‪ :‬ومع هذا فهي جزيرة رائعة‪� ..‬لي�ست كذلك؟ (وهم‬
‫ال�صخور قرب البحر ومياهه ت�صطخب �أ�سفل‪.‬‬ ‫يوا�صلون ال�سري)‪.‬‬
‫‪ -120‬لقطة طويلة – الكامريا (بان) عرب ال�صخور ثم‬ ‫‪ -105‬لقطة قريبة متو�سطة – �ساندرو يتطلع �إىل البحر‬
‫تهبط �أ�سفل (ثلث) �إىل ال�صدغ املظلم داخل اله�ضبة‪.‬‬ ‫ثم ي�ستدير ومي�سح بعينيه �إىل اجلزيرة‪ ..‬ثم البحر من‬
‫كالوديا (تنادي خارج ال�صورة)‪ � :‬آنا ‪..‬‬ ‫ناحية نهاية اله�ضبة‪ ..‬ومنها �إىل اله�ضبة ثانية‪.‬‬
‫‪ -121‬نقطة طويلة‪ ..‬ت�ست�سلم وت�صعد ال�صخور نحو �أر�ض‬ ‫‪ -106‬لقطة قريبة‪� ..‬ساندرو ينظر �أ�سفل ‪� ..‬إىل البحر‪.‬‬
‫اله�ضبة‪.‬‬ ‫‪ -107‬لقطة طويلة‪ ..‬عن ُبعد يبدو «كورادو» و»جوليا»‬
‫‪ -122‬لقطة طويلة للكوخ‪ ،‬يبدو �شخ�ص «�سلويت» من‬ ‫و»كالوديا» ي�سريون فوق ال�صخور‪ .‬و�ساندرو يتقدمهم‪.‬‬
‫بعيد ي�سري يف اجلزيرة‪.‬‬ ‫�ساندرو (منادياً)‪ :‬هل عرثمت عليها؟‬
‫‪ -123‬لقطة قريبة – «كواردو» يتطلع نحو البحر و�شعر‬ ‫كالوديا تهز كتفها بالرف�ض‪� .‬ساندرو يوا�صل طريقه‪.‬‬
‫ر�أ�سه اخلفيف يتطاير يف الهواء‪.‬‬ ‫‪ -108‬لقطة قريبة متو�سطة جمرياً وهي ت�سري يف نقطة‬
‫و�س ُحب تتجمع يف‬ ‫‪ -124‬لقطة طويلة على البحر ُ‬ ‫قريبة‪.‬‬
‫ال�سماء الكامريا (ثلث) ببطء ألعلى نحو ال�سماء املنذرة‬ ‫«جوليا» (ت�صيح)‪ � :‬آنا‪..‬‬
‫بعا�صفة‪.‬‬ ‫‪ -109‬لقطة قريبة متو�سطة – «كالوديا» توا�صل بحثها‬
‫‪ -125‬لقطة قريبة – كورادو يتطلع نحو ال�سماء ثم‬ ‫الكامريا يف حركة (بان) معها ثم تظهر جزيرة عن ُبعد‪.‬‬
‫أل�سفل نحو العا�صفة‪.‬‬ ‫‪ -110‬لقطة قريبة «كورادو» يدر�س قوقعة كبرية ثم‬
‫‪ -126‬لقطة طويلة لهبوب عا�صفة‪.‬‬ ‫يلقي بها ويوا�صل الطريق‪.‬‬
‫‪ -127‬لقطة متو�سطة‪� ..‬صخرة �ضخمة ت�سقط من فوق‬ ‫‪ -111‬نقطة متو�سطة جلزء � آخر من اجلزيرة – «جوليا»‬
‫اله�ضبة ومتر بـ«كالوديا» التي تتابع �سقوطها يف‬ ‫جتري بال هدف ثم تتوقف تنظر نحو �شخ�ص يبدو عن‬
‫املاء‪.‬‬ ‫ُبعد‪.‬‬
‫‪ -128‬لقطة متو�سطة من �أ�سفل كالوديا جتل�س وتنظر‬ ‫‪ -112‬نقطة متو�سطة‪ ..‬الكامريا يف حركة (بان) مع‬
‫أل�سفل‪ ..‬تنه�ض ثم تنادي ثانية «� آنا»‪.‬‬ ‫«كواردو» �أثناء �سريه‪ ،‬و»جوليا» تبدو من بعيد تتقدم‬
‫‪ -129‬لقطة طويلة‪ ،‬عن ُبعد امر�أة تعرب اله�ضبة ثم تهبط‬ ‫نحوه ‪ ..‬لكن ما �أن يراها حتى ي�ستدير وي�سري يف االجتاه‬
‫من فوق ال�صخور وتختفي‪.‬‬ ‫املعاك�س‪.‬‬
‫‪180‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جوليا (تتجه �إليه)‪ :‬ملاذا؟ وما يحدث لو �أمطرت‪..‬؟‬ ‫‪ -130‬نقطة قريبة ‪« ..‬كالوديا» حتدق عرب اجلزيرة‬
‫‪ -138‬لقطة قريبة متو�سطة «كورادو»‪.‬‬ ‫وتبد� أ يف اجلري‪.‬‬
‫كورادو‪( ،‬بغ�ضبه امل�ألوف‪� ،‬سوف �أ�شرتي مظلة (يلتفت‬ ‫‪ -131‬لقطة قريبة‪ ..‬كالوديا جتري عرب اله�ضبة حيث‬
‫نحو �ساندرو الذي يتجه نحوه)‪.‬‬ ‫�شاهدت اختفاء املر�أة‪.‬‬
‫‪ -139‬لقطة متو�سطة‪« :‬كالوديا» تقف يف جانب‪،‬‬ ‫‪ -132‬نقطة قريبة‪ ..‬تتوقف وقد تزايدت خيبة �أملها‪.‬‬
‫«باتري�سيا» تذهب �إليها‪ ..‬لكنها تبتعد كما لو كانت‬ ‫كالوديا‪« :‬جوليا»!‬
‫تخ�شى �أن ي�ضطروها للذهاب معهم‪.‬‬ ‫‪ -133‬لقطة قريبة ‪ ..‬جوليا تتطلع �إىل البحر‪ ..‬ثم تنظر‬
‫كالوديا (بحزم)‪ :‬لن �أغادر املكان (تعطيهم جميعاً‬ ‫�إىل كالوديا وت�صعد ال�صخور للحاق بها‪.‬‬
‫ظهرها)‪.‬‬ ‫جوليا‪ :‬هل ر�أيت؟ هل ر�أيت كيف يعاملني؟‬
‫‪ -140‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كالوديا يف املقدمة‪ ..‬واجلميع‬ ‫كالوديا‪ :‬من؟‬
‫يف خلفية ال�صورة‪.‬‬ ‫جوليا‪ :‬كورادو ‪ ..‬كل ت�رصفاته اليوم �إهانة يل‪.‬‬
‫كورادو‪( :‬يتقدم نحوها)‪ :‬كالوديا ‪� ..‬أدرك �رس بقائك ‪..‬‬ ‫كالوديا تنظر �إليها يف �شك ثم تتوجه نحوها فج�أة‬
‫ولكن يوجد منا اثنان هنا‪.‬‬ ‫قائلة‪« ..‬جوليا» يف لهجة اعرتا�ض‪ ،‬جوليا تتطلع �إليها‬
‫�ساندرو‪ :‬و�أي�ضاً‪ ..‬وجودك هنا‪ ..‬ال �أق�صد جرح م�شاعرك‪..‬‬ ‫دون �أن تفهم‪.‬‬
‫ومن ا ألف�ضل �صحبتهم‪.‬‬ ‫‪ -134‬لقطة متو�سطة من فوق اليخت‪� ،‬ساندرو يتفح�ص‬
‫‪ -141‬لقطة متو�سطة‪ ..‬املجموعة كلها تراقب كالوديا‬ ‫ال�صخور �أثناء �سري املركب على طول ال�شاطئ‪ ..‬ي�سمع‬
‫التي ابتعدت عنهم‪� ،‬ساندرو وكورادو يذهبان �إليها بينما‬ ‫�صوت رجل ينادي ‪ �»:‬آنا» ويظهر كورادو على ال�شاطئ‪.‬‬
‫رميوند مي�سك بيد باتري�سيا ملغادرة املكان (نزح)‬ ‫كورادو ينادي على �ساندرو‪� :‬ساندرو‪� ..‬ساندرو (ي�شري‬
‫‪ -142‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كالوديا ت�صعد على حافة‬ ‫نحو املاء‪ ،‬هنا توجد ا آلثار‪ ،‬وكورادو ي�صعد �إىل �أر�ض‬
‫اجلزيرة‪ ..‬تنظر �إىل البحر‪.‬‬ ‫�أعلى‪ ،‬الكامريا يف حركة (بان) للي�سار �إىل جزيرة �أخرى‬
‫‪ -143‬لقطة متو�سطة‪�« ..‬ساندرو» «وكورادو» ي�صالن‬ ‫بعيدة‪« ،‬باتري�سيا» والبحار يقفان يحدقان نحوها‪.‬‬
‫�إىل الكوخ‪� ،‬ساندرو يدفع الباب بقوة ليفتح‪ ،‬كالوديا‬ ‫‪ -135‬لقطة متو�سطة‪ ..‬فوق �أر�ض اله�ضبة ‪ ..‬وكالوديا‬
‫تلحق بهم‪.‬‬ ‫مازالت توا�صل البحث وهي تنادي «� آنا» بينما «جوليا»‬
‫‪ -144‬لقطة متو�سطة داخل الكوخ‪� ،‬ساندرو يدخل يتبعه‬ ‫تت�سكع يف اخللفية‪.‬‬
‫ا آلخران‪ .‬املكان مظلم وي�شعل عود ثقاب‪.‬‬ ‫‪ -136‬لقطة طويلة‪ ..‬منظر من فوق �سطح املاء‪� ،‬ساندرو‬
‫�ساندرو‪ :‬اللعنة‪ ..‬لقد ن�سينا �أن نطلب منهم ترك م�صباح‪..‬‬ ‫ي�سري يف املقدمة ثم يقف �صامتاً يزن �شفتيه وي�ستدير‬
‫ليواجه اجلماعة‪ ،‬جوليا‪ ..‬كورادو‪ ..‬باتري�سيا ورميوندو‪..‬‬
‫وقد بدا عليهم القلق وامللل والربد‪.‬‬
‫�ساندرو‪ :‬فلنكن عمليني‪� ..‬أف�ضل �شيء هو �أن يذهب‬
‫بع�ضنا �إىل �أقرب جزيرة‪ ،‬فالبد من وجود مركز �رشطة‬
‫هناك و�إخبارهم بفقد «� آنا»‪ .‬و�س�أظل هنا ‪ ..‬رمبا قد‬
‫يحدث �شيء‪..‬‬
‫‪ -137‬لقطة قريبة متو�سطة‪ :‬كورادو وجوليا وباتري�سيا‬
‫التي مازالت حتمل كلبها‪ .‬ينظرون �إليه‪.‬‬
‫كورادو‪ :‬هيا نذهب‪ ..‬بدال ً من �إ�ضاعة الوقت (يتحركون)‪.‬‬
‫باتري�سيا (�إىل البحار) كم ي�ستغرق للذهاب والعودة‬
‫ثانية؟‬
‫(البحار)‪� :‬ساعتني‪ ..‬لو وجدنا �أحدا ً من باناريا» ‪ ..‬و�أكرث‬
‫لو ا�ضطررنا للذهب �إىل «ليباري»‪ ..‬وكل هذا يتوقف على‬
‫حالة البحر‪.‬‬
‫رميوندو‪ :‬نعم‪ ،‬البحر‪.‬‬
‫كورادو (خارج ال�صورة)‪� :‬سوف �أبقى هنا مع �ساندرو‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(با إلجنليزية)‪ :‬هذا �شقيقي‪� ..‬صديقي‪ ..‬وعمي‪ ،‬وهذه �أمي‬ ‫� آه‪ ..‬ها هو م�صباح‪.‬‬
‫(با إليطالية) وجدتي‪ ..‬يا لها من �أيام جميلة‪.‬‬ ‫(ي�شعل امل�صباح ويبد�أون يف البحث داخل الغرفة دون‬
‫�ساندرو‪ :‬لكن من �أين �أتيت؟ لقد فت�شنا كل مكان‪.‬‬ ‫العثور على �شيء ذي بال‪.‬‬
‫العجوز‪ :‬من باناريا (يتحرك ي�سارا ً بعد �ساندرو)‬ ‫‪ -145‬لقطة قريبة‪ ..‬كورادو يخلع قبعته ويتجه نحو‬
‫كورادو (يتجه نحوه)‪� :‬إذن كنت من ر�أيناه ال�ساعة‬ ‫كالوديا التي اتخذت مكاناً منعزال ً عنهم يف �أحد‬
‫الثانية‪ .‬لقد �شاهدت فاريا مير‪.‬‬ ‫ا ألركان‪ ،‬تتقدم �إىل منت�صف الغرفة‪.‬‬
‫العجوز (يخرج �أ�شياء من حقيبته)‪ :‬رمبا كان هناك �أربعة‬ ‫كالوديا (تومئ بر�أ�سها عالمة موافقة)‪� :‬إنها مازالت‬
‫�أو خم�سة مراكب‪.‬‬ ‫حية‪� ..‬أنا مت�أكدة من هذا ‪ ..‬وحتى ق�صة �سمك القر�ش التي‬
‫كورادو‪ :‬بعد الظهر؟‬ ‫حدثت هذا ال�صباح‪( ...‬االثنني يتجهان ب�رسعة نحوها)‪.‬‬
‫العجوز‪ :‬كال‪ ..‬يف ال�صباح‪ .‬ملاذا؟ ماذا حدث؟‬ ‫كالوديا‪ :‬مل تكن حقيقية‪.‬‬
‫‪ -154‬لقطة قريبة متو�سطة‪� ..‬ساندرو يتمعن يف‬ ‫�ساندرو (بحدة)‪ :‬وملاذا مل تقويل هذا من قبل؟‬
‫العجوز‪.‬‬ ‫كالوديا‪ :‬لكن ‪ ..‬ال �أعرف‬
‫�ساندرو‪ :‬ال �شيء ‪ ..‬ال �شيء‪.‬‬ ‫أ‬
‫(تتجه �إليه‪ ،‬مل يكن يبدو �أن المر ي�ستحق ذكره‪ ..‬كانت‬
‫«كالوديا» تنظر �إىل �ساندرو يف ده�شة‪.‬‬ ‫ت�ضحك‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬وملاذا ال تخربه (�إىل العجوز لقد فقدنا واحدة‬ ‫كورادو‪ :‬ح�سناً‪ ..‬كل ما نريد التو�صل �إليه هو �رس اختالفها‬
‫كانت معنا‪.‬‬ ‫تلك الق�ضية‪ ..‬ماذا كانت تعني؟‬
‫‪ -155‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كالودياو�ساندرو والعجوز‪.‬‬ ‫‪ -146‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كالوديا ت�شري وجتل�س كالوديا‬
‫العجوز‪ :‬اختفت؟ هل غرقت؟‬ ‫�إىل �ساندرو)‪ ..‬رمبا يجب �أن ن�س�أله‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬كال‪ ..‬اختفت فقط‪ ..‬وال نعرف كيف حدث هذا‪.‬‬ ‫�ساندرو (خارج)‪� :‬أنا؟‬
‫�ساندرو‪� :‬إنه خط�أ‪ ..‬قولبها‪ ..‬هكذا تفكرين؟‬ ‫‪ -147‬لقطة متو�سطة لـ �ساندرو وكورادو‬
‫«كالوديا» (ت�سري حوله)‪ :‬بدال ً من قلقك عما �أفكر فيه‪..‬‬ ‫كالوديا (خارج ال�صورة)‪ :‬نعم‬
‫كان من ا ألف�ضل �أن حتاول فهم فيما كانت «� آنا» تفكر‬ ‫أ‬
‫كورادو‪ :‬ملاذا هل ت�شاجرمتا؟ � آ�سف‪ ..‬ال �ريد اتهامك‪..‬‬
‫فيه‪.‬‬ ‫لكن هذا �أمر هام‪.‬‬
‫‪ -156‬لقطة قريبة متو�سطة للرجل العجوز وكورادو‪.‬‬ ‫�ساندرو‪ :‬جمرد مناق�شة عادية يف قلق يبتعد عن كورادو‬
‫العجوز‪ :‬هل بحثتم خلف املنزل؟ رمبا تكون قد �سقطت‬ ‫ويجل�س ‪ ..‬ال�شيء الوحيد‪ ،‬الذي �أتذكره متاماً هو قولها‬
‫من فوق ال�صخور‪.‬‬ ‫ب�أنها تريد �أن تخلو بنف�سها‪.‬‬
‫‪ -157‬لقطة قريبة متو�سطة �ساندرو يقرتب من‬ ‫‪ -148‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬كالوديا جتل�س وقد عقدت‬
‫«كالوديا» ليقول �شيئاً لكنها تبتعد عنه‪.‬‬ ‫ذراعيها‪.‬‬
‫العجوز (خارج ال�صورة) ‪ :‬حدث مثل هذا منذ �شهر م�ضى‬ ‫كالوديا بازدراء‪ :‬وكيف تف�رس ما حدث؟‬
‫مع حمل‪ ..‬وبحث عنه طول النهار حتى �سمعت �صوته‬ ‫‪ -149‬لقطة قريبة متو�سطة‪� ..‬ساندرو يتجاهل ال�س�ؤال‬
‫م�ساء‪ ..‬ويبدو �أنه كان قد �ضل الطريق‪.‬‬ ‫�إال �إنه ينظر �إليها بامتعا�ض‪.‬‬
‫‪ -158‬لقطة طويلة‪ ..‬كالوديا جتري هاربة من الكوخ‬ ‫‪ -150‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬كورادو يخلع �سرتته‬
‫�إىل عا�صفة ممطرة‪.‬‬ ‫ويجل�س بجوارها‪ ،‬الثالثة يف �صمت‪� ،‬صوت خارج الباب‬
‫‪ -159‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬ت�صعد فوق ه�ضبة �صغرية‬ ‫يتطلعون نحوه‪.‬‬
‫من منطقة مرتفعة من اجلزيرة وتنادي يف ي�أ�س‪ �« .‬آنا‪..‬‬ ‫‪ -151‬لقطة قريبة متو�سطة‪� ..‬ساندرو ينه�ض ببطء‪.‬‬
‫� آنا»‬ ‫‪ -152‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كورادو وكالوديا وعيونهما على‬
‫كورادو يخرج خلفها ي�ضع يده على كتفها ويقودها‬ ‫الباب حيث يدخل رجل عجوز‪.‬‬
‫بلطف نحو الكوخ‪.‬‬ ‫�ساندرو‪ :‬هل �أنت مالك هذا املكان؟‬
‫كورادو‪ :‬تعايل‪ ..‬تعايل (مزج)‬ ‫العجوز‪ :‬كال ‪� ..‬أ�صحابه يف ا�سرتاليا‪ ..‬لقد كنت هناك‬
‫‪ -160‬لقطة قريبة ‪ ..‬كالوديا نائمة يف الكوخ‪ ..‬ت�ستيقظ‪..‬‬ ‫�أي�ضاً‪ ..‬لثالثني عاماً (با إلجنليزية) وهذه �صوري‪.‬‬
‫ال تدري �أين هي‪ ..‬ثم ترى كورادو»جال�ساً بكل مالب�سه‬ ‫‪ -153‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬العجوز يقف بجوار حائط‬
‫يف �أحد ا ألركان‪ ..‬تتلفح ببطانية حول كتفيها وتنه�ض‬ ‫معلق عليه �صور عديدة باهتة‪ ،‬ي�شري �إىل كل منها العجوز‬
‫‪182‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫العجوز‪ :‬هناك العديد من القوارب من هذه املنطقة يف‬ ‫ببطء‪.‬‬
‫مثل هذا الوقت �صيفاً‪.‬‬ ‫‪ -161‬لقطة قريبة متو�سطة‪ .‬تفتح باب الكوخ‪ ،‬ال�شم�س‬
‫(�ساندرو يدفعه يف غ�ضب) �ساندرو‪ :‬وملاذا ا�ستيقاظك‬ ‫ت�رشق على البحر و�صفري الريح يرتدد �صداه بني‬
‫مبكرا ً هكذا؟‬ ‫ال�صخور‪ ،‬تتعجل اخلروج �إىل الباب رغم الربد والرطوبة‬
‫العجوز‪ :‬هل اخلام�سة �صباحاً مبكرة؟‬ ‫ثم تعود للداخل‪.‬‬
‫�ساندرو يتخلى عنه مبتعدا ً والعجوز يتبعه �صامتاً‪.‬‬ ‫‪ -162‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬تلتقط ثوبها لتت�أكد من‬
‫‪ -172‬لقطة متو�سطة من خلف كالوديا‪� .‬ساندرو ي�صعد‬ ‫جفافه ثم تلقي به �أر�ضاً وتتجه نحو حقيبتها وتتناول‬
‫ال�صخور يف اجتاهها‪ .‬ت�ستدير مبتعدة عنه‪ .‬يقرتب منها‬ ‫البلوزة ال�سوداء التي كانت «� آنا» قد منحتها لها‪.‬‬
‫ببطء بقلب حزين‬ ‫‪ -163‬لقطة قريبة‪ ،‬الكامريا ترتفع من البلوزة �إىل وجه‬
‫تبد� أ مو�سيقى‬ ‫كالوديا احلزين‪.‬‬
‫‪ -173‬لقطة متو�سطة– كالوديا تتوقف وتغ�سل وجهها‬ ‫‪ -164‬لقطة طويلة‪ ..‬ماء البحر يتحطم فوق ال�صخور على‬
‫ويدها يف بحرية ماء ب�أحد ال�شقوق ال�صخرية �ساندرو‬ ‫�ضوء النهار‪ .‬الكامريا (بان) عرب ال�صخور نحو «�ساندرو»‬
‫يتقدم من خلفها بهدوء ويجل�س‪ ،‬جتفف وجهها مبنديل‬ ‫الذي وقف يت�أمل البحر‪ ،‬ي�صعد ألعلى ثم يتوقف ويجل�س‬
‫وتفاج�أ بوجوده كل منها ينظر للآخر‪ ..‬ثم تبد� أ يف‬ ‫لربهة ثم ي�ستدير وكالوديا تقرتب منه‪.‬‬
‫الت�سلق تاركة �إياه‪.‬‬ ‫�ساندرو‪ :‬كيف حالك؟ �أت�شعرين بتح�سن �أف�ضل؟‬
‫‪ -174‬لقطة قريبة متو�سطة‪� ..‬أثناء ذهابها تتل�ص�ص‬ ‫كالوديا‪ :‬اعذرين ملا حدث ليلة �أم�س‪.‬‬
‫قليالً وما �أن يراها حتى يبت�سم‪.‬‬ ‫‪ -165‬لقطة قريبة متو�سطة على �ساندرو‬
‫‪ -175‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬كالوديا تنظر �إليه يف‬ ‫�ساندرو‪ :‬هل حتبني «� آنا» كثرياً‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬
‫حماولة ملعرفة نواياه‪.‬‬ ‫كالوديا (خارج)‪ :‬جداً‪.‬‬
‫‪ -176‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬مي�سك بها ورغم �أنها‬ ‫�ساندرو ينظر ناحية ا ألر�ض‪ ،‬ثم يقف خلفها يف حرية‬
‫ا�ستعادت توازنها �إال �أنها تبعد يده عنها‪.‬‬ ‫حماوال ً تقديرً املوقف‪.‬‬
‫‪ -177‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ..‬كالوديا تنظر �إليه باحتقار‬ ‫أ‬
‫�ساندرو‪ :‬نعم‪ ..‬ومازالت‪ ..‬كانت تتفاعل مع حبنا لها‪� ..‬نا‬
‫وترتكة وهو يتبعها‪.‬‬ ‫و�أنت وحتى والدها‪ ..‬ب�شكل ما مل تكن كافية‪ ..‬وال تعني‬
‫‪ -178‬لقطة طويلة‪ ..‬قارب يقرتب من اجلزيرة‪ ،‬كالوديا‬ ‫لها �شيئا‪.‬‬
‫تتحرك �إىل مقدمة الكادر وخلفها �ساندرو يقفان يتابعان‬ ‫‪ -166‬لقطة طويلة‪ ..‬للبحر واجلزيرة حتت وهج �شم�س‬
‫وظهرهما للكامريا (مزج)‬ ‫ال�صباح‪ ،‬الكامريا (بان) ببطء وال �شيء يبدو يف ا ألفق‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬ال �أعرف ماذا كان به ب�إمكاين ‪ ..‬لتجنب كل‬
‫هذا‪.‬‬
‫‪ -167‬لقطة قريبة‪ ..‬ل�ساندرو وكالوديا‪ .‬يقفان ها‬
‫�صامتني وعيونهما يف كل مكان بحثاً عن دافع‬
‫للحديث‪.‬‬
‫‪ -168‬لقطة طويلة على البحر‪ ..‬الكامريا يف حركة (بان)‬
‫تتبع كالوديا وهي ت�سري وحيدة يف بحثها �ساندرو يف‬
‫لقطة قريبة يراقبها باهتمام كبري‪.‬‬
‫‪ -169‬لقطة طويلة‪ ..‬العجوز يت�سلق ال�صخور‪.‬‬
‫‪ -170‬لقطة قريبة‪� ..‬ساندرو يتجه نحو العجوز ويف‬
‫اخللفية كالوديا تراقب‪.‬‬
‫‪ -171‬لقطة متو�سطة‪ ..‬العجوز ي�شق طريقه بني ال�صخور‬
‫نحو �ساندرو الذي يجذبه من قمي�صه بخ�شونة‪.‬‬
‫�ساندرو‪ :‬ملن هذا القارب؟‬
‫العجوز‪� :‬أي قارب؟‬
‫�ساندرو (بعنف)‪� ..‬أمل ت�سمع �صوته منذ دقيقة؟‬
‫‪183‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(خارج ال�صورة)‪ :‬هل ت�سمح لو ‪....‬‬ ‫‪ -179‬لقطة طويلة من �أعلى اله�ضبة‪ .‬زورق يقرتب‪،‬‬
‫‪ -191‬لقطة متو�سطة‪� ..‬ساندرو ينظر نحوهما‪.‬‬ ‫جمموعة قليلة من النا�س مبا فيهم ال�رشطة تقف فوق‬
‫�ساندرو (خارج) هل ميكن لـ «رميوندو» بالذهاب معه؟‬ ‫ال�صخور‪ ،‬ال�رشطة تنظر نحو رجل وقد ربط بحبال ثقيلة‬
‫‪ -192‬نف�س اللقطة ال�سابقة‪.‬‬ ‫يتفح�ص ال�شاطئ‪.‬‬
‫باتري�سيا‪ :‬وملاذا ت�س�ألني؟‬ ‫مدير ال�رشطة (�صائحاً)‪ .. ،‬بارتولو‪ ..‬ماذا هناك؟‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫كالوديا �إىل �ساندرو باخت�صار‪ :‬ميكنك �ن تذهب �نت‬ ‫‪ -180‬لقطة طويلة من �أ�سفل‪ ..‬ال�رشطة يقف فوق ال�صخور‬
‫�أي�ضاً‪.‬‬ ‫كورادو وجوليا يف املكان‪� .‬ساندرو ي�أتي ب�رسعة‪.‬‬
‫‪ -193‬لقطة متو�سطة للثالثة‪� ..‬ساندرو يرتدد من‬ ‫بارتولو (خارج)‪ :‬ال �شيء ؟؟‪ .‬ال �شيء‪.‬‬
‫مالحظتها يف حلظة من �صمت‪.‬‬ ‫‪ -181‬كما يف اللقطة ‪.179‬‬
‫�ساندرو‪ :‬نعم‪ ..‬هذا �أف�ضل‪ .‬بالت�أكيد‪.‬‬ ‫‪ -182‬لقطة لـ «جوليا» و»كورادو» ومدير ال�رشطة‪.‬‬
‫كالوديا تبتعد وهي تع�ض �شفتيها‪.‬‬ ‫كورادو‪ :‬ال تنظر نحوي هكذا مار�شال‪ ..‬ومهما كان‬
‫�ساندرو غا�ضباً وي�سري يف االجتاه ا آلخر باتري�سيا جتل�س‬ ‫تفكريك‪ ..‬فلم �أ�صنع �شيئاً‪.‬‬
‫بجوار كالوديا‪.‬‬ ‫مدير ال�رشطة يهز كتفه كما لو �أن هذا مل يخطر بباله‪.‬‬
‫أ‬
‫باتري�سيا‪� :‬إنني �تعجب من �ساندرو‪ ..‬فهو يبدو غاية يف‬ ‫‪ -183‬لقطة متو�سطة من �أعلى ‪ ..‬كالوديا تقف وحيدة‬
‫الهدوء‪.‬‬ ‫تنظر أل�سفل نحو �صدع كبري بني ال�صخور‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬هادئاً‪ ،‬انه ال يبدو يل كذلك‪ ..‬فهو مل ينم طوال‬ ‫‪ -184‬لقطة متو�سطة‪� ،‬ساندرو ينزل جرياً بني ال�صخور‪.‬‬
‫الليل‪.‬‬ ‫يرى كالوديا – ويبدو عليه الرتدد يف التحدث �إليها‪.‬‬
‫‪ -194‬لقطة طويلة‪« ،‬رميوندو» ي�شق طريقه عرب‬ ‫‪ -185‬لقطة متو�سطة‪ ،‬كالوديا ت�ستدير وتراه‪ ،‬و�رسعان‬
‫ال�صخور حامالً (ترمد�س)‪ ،‬ومع �سماعه اجلماعة يقرتب‬ ‫ما تهرب منه �إىل اجلهة ا ألخرى‪.‬‬
‫�أحد الغطا�سني يحمل فازة‪.‬‬ ‫‪ -186‬لقطة طويلة‪ ..‬توا�صل طريقها عرب ال�صخور حيث‬
‫رميوندو‪ :‬ما هذا؟‬ ‫جتل�س باتري�سيا‪ .‬يف اخللفية �ساندرو ي�ستدير مبتعداً‪.‬‬
‫الغطا�س‪� :‬إناء �أثري‪،‬‬ ‫‪ -187‬لقطة طويلة من �أعلى‪ ..‬اثنان من الغطا�سني‬
‫يوجد مدينة كاملة هناك يف ا ألعماق بها الكثري من‬ ‫يبحثان عن جثة «� آنا» يف البحر‪ .‬باتري�سيا حتمل الكلب‬
‫هذه ا أل�شياء ي�سلمها لـ «باتري�سيا»‬ ‫تتحرك �إىل املقدمة وترى امل�شهد �أ�سفل‪.‬‬
‫باتري�سيا (�إىل رميوند يف �سخرية)‪� :‬أنت مبهور بها �ألي�س‬ ‫باتري�سيا (�إىل كالوديا)‪ � :‬آمل �أال يعرثون عليها‪ ..‬فرمبا‬
‫كذلك؟ (تعطيه �إىل كورادو)‬ ‫يجدونها ميتة!‬
‫كورادو‪� :‬أريني �إياه‪.‬‬ ‫‪ -188‬لقطة قريبة متو�سطة‪ ،‬كالوديا منهارة‪ ..‬تبكي‬
‫باتري�سيا‪ :‬ترى �إىل �أي قرن يرجع هذا ا إلناء؟ جوليا‬ ‫بحرارة‪ .‬باتري�سيا توا�سيها يف �صمت‪� ،‬ساندرو ورجل‬
‫ت�أتي ب�رسعة‪.‬‬ ‫ال�رشطة يح�رضان من خلفهما‪ ،‬كالوديا تدير ظهرها‬
‫جوليا (مبتهجة)‪ :‬هل ميكننا االحتفاظ به؟‬ ‫حتاول جمع �شتات نف�سها‪.‬‬
‫الكامريا يف حركة (بان) ت�ضم كالوديا و�ساندرو من‬ ‫تيارا مير‬
‫ً‬ ‫هناك‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫يقول‬ ‫فهو‬ ‫باتري�سيا‪..‬‬ ‫�ساندرو‪ :‬ا�سمعي ‪..‬‬
‫خلفهم مبا�رشة‪.‬‬ ‫عرب اجلزيرة �إىل غريها (يخرجان من الكادر والكامريا‬
‫كواردو‪ :‬بكل ت�أكيد (ي�سلمها ا إلناء)‬ ‫تركز على كالوديا التي جتفف دموعها) ول�ست مت�أكدا ً‬
‫باتري�سيا (�إىل �ساندرو)‪� :‬ألي�س مفرو�ضاً �ن تذهب معهم؟‬
‫أ‬ ‫�أيهما‪ ..‬على ا ألقل‪ ..‬هناك �شيء ما ‪� ..‬ألي�س كذلك؟‬
‫�ساندرو‪ :‬الفازة ال ي�ستحق‬ ‫رئي�س ال�رشطة يقول �أنه �سري�سل واحدا ً �أو اثنني من‬
‫‪ -195‬لقطة قريبة‪� ..‬ساندرو وكالوديا وهي تبتعد عنه‪.‬‬ ‫رجاله لبحث املو�ضوع‪...‬‬
‫‪ -196‬لقطة متو�سطة‪ :‬كالوديا ت�سري يف �صمت «رميوندو»‬ ‫‪ -189‬لقطة قريبة متو�سطة‪� ..‬ساندرو يجل�س على‬
‫ينظر �إىل اخللف لر ؤ�يتها وي�سقط �إناء الزهور‪.‬‬ ‫�صخرة‪.‬‬
‫‪ -197‬لقطة قريبة‪ ..‬تتحطم على ال�صخور‪.‬‬ ‫�ساندرو‪� :‬إنك ال تعرف كيف‪...‬‬
‫‪ -198‬لقطة قريبة‪ :‬رميوندو ينظر أل�سفل باتري�سيا‬ ‫‪ -190‬لقطة متو�سطة‪ ..‬باتري�سيا وكالوديا يف �صمت‬
‫(خارج ال�صورة)‪ :‬ياللعار! رميوند يومئ يف حزن �ساخر‪.‬‬ ‫و�إن كانت كل منها ينظر يف اجتاه خمتلف �ساندرو‬
‫‪184‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫رميوند‪ :‬مل يعد ا ألمر جمدياً (ي�شري �إىل بع�ض احلا�رضين‬
‫مير عليهم‪.‬‬
‫أ‬
‫�صوت من القارب‪ :‬لقد و�صلتنا فورا ً �خبارا ً مهمة!‬ ‫يف اجلموعة)‪.‬‬
‫ال�ضابط على ال�شاطئ‪ :‬ما هي؟‬ ‫�صوت (خارج ال�صورة)‪� :‬إنه والد «� آنا»!‬
‫البحار‪ :‬لقد قب�ضوا على قارب م�شتبه به يبعد �أمياال ً‬ ‫‪ -199‬لقطة طويلة‪� ،‬سيارة م�رسعة نحو ال�شاطئ‪،‬‬
‫قليلة عن هنا‪ ،‬و�سي�ستجوب ركابه يف ميالزو»‪.‬‬ ‫�أ�صوات ال�سيارات – مزج‪.‬‬
‫‪ -200‬لقطة طويلة‪ :‬املجموعة جتل�س قلقة فوق ال�صخور‪،‬‬
‫مدير ال�رشطة‪ :‬علينا �إذن الذهاب هناك لرنى ب�أنف�سنا‪.‬‬
‫كالوديا تت�سلق �أر�ضا مرتفعة مارة على �رشطي يحييها‪،‬‬
‫ال�ضابط‪ :‬بالطبع‬
‫ي�ستديران ويغادران املكان‬ ‫تتوقف وت�سلم الكتب لرجل ال نراه جيداً‪.‬‬
‫‪ -210‬لقطة طويلة‪ ..‬العجوز يجل�س وحيدا ً فوق ال�صخور‪.‬‬ ‫كالوديا‪ :‬وجدتها يف �شنطته «� آنا»‬
‫مدير ال�رشطة يتحرك يف مقدمة ال�صورة وينظر �إليه‪ ،‬ثم‬ ‫�إنها تعرف �أنه والد «� آنا» الذي ينظر �إىل البلوزة ال�سوداء‬
‫التي ترتديها والتي �أعطتها لها «� آنا»‪ ،‬يبدو عليها‬
‫ي�ستدير يبتعد مفكراً‪.‬‬
‫‪ -211‬لقطة متو�سطة‪ ..‬كورادو ووالد � آنا يهبطان أل�سفل‬ ‫االرتباك‪.‬‬
‫نحو املاء‪.‬‬ ‫كالوديا‪ :‬نعم‪� ..‬إنها بلوزتها‬
‫كورادو‪ :‬هل �سمعت؟ ماذا �ستفعل؟‬ ‫أ‬
‫‪ -201‬لقطة متو�سطة لكالوديا والب‪.‬‬
‫كالوديا‪ :‬لقد �أعطتني �إياه �أم�س‪ ،‬وقد وجدته يف حقيبتي‪.‬‬
‫ا ألب‪ :‬كل �شيء مب�شيئة اهلل‪.‬‬
‫أ‬
‫�ساندرو (خارج ال�صورة)‪� :‬صحيح‪ ..‬و�إن كنت �رى من‬ ‫مل �أكن �أريده‪ ..‬لكن لي�س لدي ما �أرتديه هذا ال�صباح‪..‬‬
‫� آ�سفة (يتقدم نحوها ويربت على كتفها م�صدقاً كالمها‪.‬‬
‫ال�رضوري الذهاب �إىل ميالزو‪.‬‬
‫كالوديا تعر�ض عليه ال ُكتُب ثانية‪.‬‬
‫‪ -212‬لقطة قريبة (�ساندرو من خلف وكالوديا‬
‫‪ -202‬لقطة قريبة‪ :‬الكتب يف يده‪ ،‬يتفح�صها بعناية ثم‬
‫ت�ستمع)‪.‬‬
‫يعيد �إليها واحدا ويحتفظ با آلخر وهو ا إلجنيل ويخرج‬
‫�ساندرو‪ � :‬آ�سف ل�رصاحتي‪ ..‬لكن حاول �أن تتفهم‪.‬‬
‫من ال�صورة‪.‬‬
‫‪ -213‬لقطة متو�سطة للوالد وكورادو و�ساندرو ‪.‬‬ ‫‪ -203‬لقطة قريبة – كالوديا تنظر �إليه يف خوف‪.‬‬
‫�ساندرو‪ :‬لقد كنت �أقرب �إن�سان �إليها‪.‬‬
‫والد � آنا (خارج ال�صورة)‪� :‬إن الكتاب يعني �أنها ت�ؤمن‬
‫الوالد (وهو ي�سبقه) حتى و�إن �صح هذا ف�إنها يف حاجة‬ ‫باهلل‪� ..‬ألي�س كذلك؟‬
‫يل قبل �أن تكون يف حاجة �إليك‪.‬‬
‫‪ -204‬لقطة متو�سطة لكالوديا والد «� آنا»‪ ،‬يف اخللفية‬
‫‪ ...‬يتبع املادة كاملة مبوقع املجلة‪)www.nizwa.com( :‬‬ ‫كورادو وجوليا يراقبان املوقف‪.‬‬
‫ا ألب‪ .. :‬وهذا ي�ؤكد عدم انتحارها‪.‬‬
‫كالوديا ت�ضغط بيدها على فمها م�صدومة وجتري بعيدا ً‬
‫عنه �إىل �أ�سفل التل‪.‬‬
‫‪ -205‬لقطة طويلة‪ ..‬تقرتب طائرة هليوكوبرت من‬
‫اجلزيرة ومتر من فوقهم‪.‬‬
‫‪ -206‬لقطة متو�سطة وا ألب يقف يتفح�ص ا إلجنيل يف‬
‫يده ثم ي�ضعه فوق �صخرة ويغادر املكان‪.‬‬
‫‪ -207‬لقطة طويلة للطائرة وهي ت�ستدير وتهبط فوق‬
‫ه�ضبة مرتفعة مثرية عا�صفة من الرتاب‪ .‬اجلميع يهرع‬
‫نحوها‪ ،‬يخرج منها رجالن‪ ..‬ا ألول يديل بتقريره �إىل‬
‫مدير ال�رشطة والثاين والد «� آنا»‬
‫‪ -208‬لقطة متو�سطة وا ألب يتحدث مع الطيار‪.‬‬
‫ا ألب‪� :‬شكرا ً هلل (ثم يبتعد فج�أة)‪.‬‬
‫‪ -209‬لقطة متو�سطة‪ ،‬يف املقدمة‪� ..‬ساندرو وكوراردو‬
‫و�ضابط ال�رشطة يتطلعون من ال�شاطئ �إىل قارب �رشطة‬
‫‪185‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شعر‬

‫من �أعمال الفنان اهي �سوجن هوان‪ -‬كوريا‬

‫‪186‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ُ‬
‫الظالل الناطقة‬ ‫�صوات الكلمة أ�و‬
‫أ� ُ‬
‫لل�شاعر أالرجنتيني غِ يريمو �إيبا ْنييث‬
‫ترجمة وتقدمي ‪ :‬حممد أ�حمد بني�س‬
‫�شاعر من املغرب‬

‫ُيعد ال�شاعر الأرحنتيني ِغ ٍيريمو �إيبا ْنييث ‪ Guillerm /‬ما فتئ يبتعد �شيئا ف�شيئا‪ ،‬م�ضاعفا بذلك م�أ�ساة‬
‫ي‪ � mo Ibiiez‬أحد � أبرز � أ�سماء امل�شهد ال�شعري الأرجنتيني ا إلن�سان و�ض� آلته � أمام �سطوة وجربوت الوجود‬
‫املعا�رص‪ .‬ولد مبدينة رو�ساريو �سنة ‪.1949‬وقد ‪،‬رغم توهمه � أحيانا بعك�س ذلك‪ .‬يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫� أ�صدر العديد من امل�ؤلفات ال�شعرية والنرثية منها‪ِ � :‬أ�ص ُل ا�ستجاب ًة‬
‫«� أزمنة» ‪« .1968‬اجلدران» ‪« . 1970‬ق�صيدة ل�صوتي هذا‪،‬‬
‫أ�صوات الكلمة � أو الظال ُل لكن بعيدا‬
‫ُ‬ ‫الكائن» ‪�« . 1986‬‬
‫الناطقة» ‪« .1992‬فن الن�سيان» ‪ .2000‬كما‬
‫ي�رشف على «املجلة الدولية لل�شعر» التي ت�صدر عني‪.‬‬
‫منذ �سنة ‪ .1993‬وتعترب جمموعته «� أ�صوات الكلمة �إن احل�ضور الأونطولوجي والأبدي للكلمة على‬
‫� أو الظالل الناطقة» � أحد � أبرز � أعماله؛ ف��ضافة �ىل امتداد تاريخ ا إلن�سانية ‪ ،‬يحولها �إىل �إيقاع متوا�صل‬
‫إ‬ ‫إ‬
‫كونها �شكلت انعطافة مميزة يف م�ساره ال�شعري‪ ،‬للوجود واحلياة والأ�شياء‪ .‬فجميع الكلمات ‪،‬على‬
‫فقد ترجمت لأكرث من لغة ‪ .‬ونقدم هنا ترجمة اختالف خ�صائ�صها ال�صوتية والداللية‪ ،‬هي � أفق‬
‫ال�صوت احلميمي مقتحما‬‫ُ‬ ‫عربية لبع�ض مقاطع هذه املجموعة التي �صدرت م�رشع ينت�رش من خالله‬
‫عن دار «خولْغاريا » مبدينة رو�ساريو �سنة ‪ 1992‬جماهل موغلة يف العتمة والعماء‪.‬ويف �ضوء ذلك‬
‫كله ‪ ،‬ميكن القول � أن هذا العمل قد عك�س �إىل حد‬ ‫‪ ،‬قبل � أن ت�صدر يف طبعات � أخرى‪.‬‬
‫ي�ستند هذا العمل �إىل خ�صائ�ص كثرية � أبرزها بعيد ‪ ،‬بع�ض جوانب قدرة الذات ال�شاعرة على‬
‫االحتفاء بالكلمة من خالل منح ده�شة ا إلن�صات بناء وت�شكيل �شعرية جتعل من الكلمة‪ ،‬بكل � ألقـها‬
‫العميق لنب�ضها‪ ،‬ومالحقة اال�ستعارات وال�صور البدائي‪ � ،‬أ�صال للأ �شياء ومربرا لها‪.‬‬
‫التي ت�شتعل حملقة يف اجتاه التخوم البعيدة‬
‫‪d d d‬‬
‫للخيال ا إلن�ساين‪ .‬ومن خالل هذه الن�صو�ص‬
‫«يعرف ال�شجر‬ ‫ُ‬ ‫الق�صرية والر�شيقة ‪ ،‬حتتفي الذات باغرتابها‬
‫الأبدي � أمام رعب الكلمة ‪ ،‬مما ي�ضيف ثراء دالليا من ثمراته» ‪.‬‬
‫ورمزيا‪ ،‬يعززه ا�ستح�ضار �صور �شعرية تت�سم رجل و�شاعر‬
‫بالالنهائية والعمق والفداحة؛ �إنه الرثاء الذي تعرفت عليهما‬
‫تنتجه خميلة متنح لنف�سها «متع َة» مالحقة � أمل يف حركتهما ال�صامتة‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪d d d‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫غواي ُة الكلمات‪،‬‬ ‫ُك ْل‪� ،‬سرِ ْ‪،‬‬


‫ن�سيان الأفعال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َحل ْق ‪ �،‬إ ْه ِذ ‪.‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫كنت تنتبه‪،‬‬ ‫�إذا َ‬
‫حما�رصا بتقلبات الزمن‪،‬‬ ‫احتفظ بخطوت َك‪،‬‬
‫جر حركة‬ ‫� ْأه ُ‬ ‫فكرْ‪.‬‬
‫و�صوتا‬ ‫الوقت مير‬
‫ميتان �إيل ب�صلة‪.‬‬
‫ال ُ‬ ‫من � أجل العابر‪،‬‬
‫‪d d d‬‬
‫الذي يعربُ‬
‫يف اجتاه النور هناك الفكر ُة‪.‬‬ ‫عبور الوقت‪.‬‬ ‫َ‬
‫ال�صوت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يف اجتاه النهار هناك‬ ‫‪d d d‬‬

‫الغيب‪.‬‬ ‫يف اجتاه الظل هناك‬ ‫تكرار الزغرودة‪.‬‬


‫ُ‬
‫ُ‬ ‫نعي ُق القربة‪.‬‬
‫ال�صمت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يف اجتاه العدم هناك‬
‫نعي ُق الغراب‪.‬‬
‫‪d d d‬‬
‫بهذا ال�صوت‬
‫ال�صمت للأ �شياء‬
‫ُ‬ ‫تتمزق‬
‫وال�صوت ل إلن�سان‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪d d d‬‬
‫حل ُج ُب‪.‬‬
‫ا ُ‬
‫ال�سطوع من الرتقب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪d d d‬‬

‫وامل�ؤملُ من اجل�سد‪.‬‬ ‫� ِأ�ص ُل ا�ستجاب ًة‬


‫والفكر من الوعي‪.‬‬ ‫ل�صوتي هذا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لكن بعيدا‬
‫واحلياة من املجازفة‪.‬‬
‫فماذا نختار؟‬ ‫عني‪.‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫اجلوهري تقليدٌ و� أ�سطورة‪.‬‬ ‫ال يتعلق الأمر‬


‫رج ٌع و�صدى‪.‬‬ ‫ب�إعادة الو�صال‪،‬‬
‫ال�صوت ْ‬ ‫ولكن بالعزلة‪.‬‬
‫رنني ومعنى‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫امل�سمى‬
‫�صوت الآلهة والطيور‪.‬‬ ‫املوعظ ُة لي�ست هكذا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫و�إمنا هي القول‬
‫‪d d d‬‬
‫ب�أن الواحد فقط‬
‫فيتبدد ما � أرى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫� أنظر‬ ‫هو وحيد ومنفرد‪.‬‬
‫غري � أن ما يرتاءى فقط‬ ‫‪d d d‬‬
‫الو�س َط‪.‬‬
‫ال ي�ضيء َ‬ ‫الزورق‬
‫ُ‬ ‫ين�ساق‬
‫‪d d d‬‬ ‫مع التيار‪.‬‬
‫ال تكن املغني‬ ‫يف الداخل‬
‫املو�سيقي‬
‫َ‬ ‫� أو‬ ‫عط�ش وماءٌ‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪188‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪d d d‬‬
‫� أو ال�شاعر‪،‬‬
‫لترتك ا�سمك‬
‫ْ‬ ‫بل كن الأغنية‪.‬‬
‫على �ضفة النهار‪.‬‬ ‫‪d d d‬‬
‫فلن تكون ال � أقل وال � أكرث‬ ‫لبلوغ نداء الطائر‬
‫من �إن�سان‪.‬‬ ‫هل يحتاج الأمر‬
‫‪d d d‬‬ ‫لبعثٍ � أم تقليد‪.‬‬
‫ْ‬
‫بالكاد يرتك‬
‫� أثرَ اخلطوة‬ ‫‪d d d‬‬

‫التي متحوها‬ ‫الواحد هو ا إلمياءة‬


‫الرياح ال�رسيعة والهادئة‪.‬‬ ‫والآخر هو الرمز‪.‬‬
‫‪d d d‬‬
‫لي�ست هناك طقو�س من � أجل الده�شة‪.‬‬
‫تركت الهوي َة‬ ‫�إذا ما‬ ‫هناك ريح‬
‫ُ‬ ‫تنادي جموعا من الكلمات‪.‬‬
‫والوهم ‪،‬‬
‫َ‬ ‫والبحث‬
‫رمبا ‪ ،‬ورمبا فقط ‪،‬‬ ‫‪d d d‬‬
‫تنبث ُق الكلمة‪.‬‬ ‫كلمة‪.‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫كلمات‪.‬‬
‫يهيم ا إلن�سان‬ ‫كحد � أق�صى‪،‬‬
‫بني الظلمات‬ ‫�إنه ت�شويه للغ ِة الآلهة‪.‬‬
‫بحثا عن الكلمة‪.‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫‪d d d‬‬ ‫يف هذا ا إلجماع الهائل والهادئ لليل‪،‬‬


‫كل يوم ُتفتح باب‬ ‫تتيه ال�ضواحي‬
‫ما بعد اخلم�سني من العمر‪.‬‬ ‫فتلغي املرايا والظال َل‪.‬‬
‫خلف اجلدار تنتظر املرايا‪.‬‬ ‫لي�س معروفا �إذا كان القلب‬
‫‪d d d‬‬
‫يخفق يف حنايا � أحدهم‬
‫در ُك الكلمة‪،‬‬
‫ُت َ‬ ‫� أم يف ال�شجرة القريبة‪.‬‬
‫لم�س بر ؤ�و�س الأ�صابع‪.‬‬
‫� أوبالكاد ُت ُ‬ ‫‪d d d‬‬

‫وتت�رسب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فت�شحب‬
‫ُ‬ ‫لم مثل الريح‬‫َت َك ْ‬
‫تخفت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫مثل الطيور‪.‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫أ�صواتها‬
‫َ‬ ‫هي متنح �‬
‫يف طيف املر� آة‬ ‫�صدى الزمن‪،‬‬
‫آخر عبارة عن ظل يخف ُق‪.‬‬ ‫ال ُ‬ ‫وتزف امل�ستقب َل‪.‬‬
‫ُ‬
‫فقط هذا الظ ُل‪،‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫الظ ُل الناط ُق ‪.‬‬ ‫يذهب الواحد بحثا‬


‫‪d d d‬‬ ‫عن ن�صفه الآخر‬
‫املحفور يف ال�صخرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ال�صدى‬ ‫الذي ال يدركه � أبدا‪.‬‬
‫‪189‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أُن�شِ دُ‬ ‫وان�رشاح الأكوان‪.‬‬


‫ُ‬ ‫انقبا�ض‬
‫ُ‬
‫ال�شعرَ‪.‬‬ ‫انبثاق الكلمة ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ر�صعة والفو�ضوي ُة‪،‬‬‫مل َ‬‫هذه الكلمة ا ُ‬ ‫‪d d d‬‬
‫مل�شذب ُة واملج�سد ُة ‪،‬‬ ‫ا ُ‬ ‫ت�رضع‬ ‫كم من‬
‫ٍ‬
‫ال نهاية لها‪.‬‬ ‫للو�صول �إىل ا إلله‪.‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫�إنه التخل�ص من كل قناع‪.‬‬
‫وجهي يغني‬ ‫هذه ال�صورة ‪ ،‬يا فرويد املحرتم ‪،‬‬
‫منعك�سا يف املاء‪،‬‬ ‫رائعة جدا‪.‬‬
‫دون � أن ت�صدر عنه �إ�شارة واحدة‪.‬‬ ‫ف ِبدون املرايا وهذا التخل�ص ‪،‬‬
‫‪d d d‬‬ ‫كل �شيء ي�صبح بال جدوى‪.‬‬
‫لقد � أكلنا‬ ‫‪d d d‬‬

‫من ال�شجرة املحرمة ‪.‬‬ ‫� أكتب‬


‫نعرف عن وعي‬ ‫و� أنا � أنتظر‪.‬‬
‫ما يقدمه لنا الزمن الآن‪.‬‬ ‫�س�أكتب عن الن�سيان حا�رضا‪.‬‬
‫النور‪ ،‬الظل ‪ ،‬ال�سماء � أو اجلحيم‪.‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫املعرفة عقاب كاف‪.‬‬ ‫ُعدْ‬


‫‪d d d‬‬
‫�إىل �شفافيات احلجاب‪.‬‬
‫تولد الق�صيدة‬ ‫وليكن ذلك خلف الكلمة‬
‫ْ‬
‫يف الكلمة ‪،‬‬ ‫� أف�ضل من � أن يكون قبل الق�صد‪.‬‬
‫فال متوت‪.‬‬ ‫‪d d d‬‬

‫من �أعمال علي الهنائي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪190‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ع�ش ٌق له ملم�س اجلنون!‬
‫با�ســـم املرعـبي‬
‫�شاعر من العراق يقيم يف ال�سويد‬

‫بيُ�رس ثمار احلاح � أع�ضائي على تذ ّكر مايتناثر‬ ‫‪1‬ـ الوردة امل�ستحيلة‬
‫من تفا�صي َل ذهبية لك�سل ج�سدك الدائب يف‬ ‫حتت هذه الورقة‪ � ،‬أخفي منابع نب�ضي التي‬
‫اعداد ع�سل تعلق به � أخيلتي‪ ،‬وم�صائد لري�شي‬ ‫ت�سلك طريق ا�سمك وتتهدّج بحروفه‪ ،‬دمعة‪،‬‬
‫يتق�صف حتت وط�أة نظرتك ال�صارخة‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬ ‫دمعة‪ ،‬حيث ال � أعود � أميّز بني وقع قلبي و‬
‫ب� آ�سمينا يختلطان كاملاء واملاء � أو كالرمل‬ ‫وقع رائحتك يف حلمي حني جتدل � أنفا�سي‬
‫والرمل‪ ،‬فلن�رشب نخب اندياحنا كموجتني يف‬
‫حماي �إىل نبع غيومك الباردة‬ ‫وتقود �شظايا ّ‬
‫ح�ضن انذهالنا الذي يتو ّقد ب�أنفا�سنا امل�ؤاتية‪،‬‬
‫واملتّ�شحة بع�سل ال�ضوء‪ ،‬فتحملني مراياك‬
‫تهب �رشاعاً يحمل بعيدا ً زورقي الراهن‬ ‫فرياكِ ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫علوه �إال ّ يف هوائك‪ ،‬فمدّي يل الهواء‬
‫طريا ً يفقد ّ‬
‫املليء ب�أمكنتك املختل�سة من �ضجيج العيون‪.‬‬
‫أربي قامتك و� أحر�سها ب�شهقة يدي‬ ‫لريتفع قلبي فوق � أرياف تبتنيها � أهدابي‬
‫عالياً حيث � ّ‬ ‫ملياه حلمك وثمار جنماتك الناع�سة‪ ،‬ولتنحدر‬
‫و�سائر � أع�ضائي املرتملة دون مل�سة عافية‬
‫مر� آك وحيث � أهند�س � ّأيامي و� أر�صفها لقدميك‬ ‫الأنهار مبهرجان كائناتها �إىل � أقدام دارتنا‪،‬‬
‫احلافيتني كالنوم فال تركلي نعا�س � أزمنتي‪،‬‬ ‫تتملّق قامة حمبّتنا الوارفة وت�ستجدي � أ�شجار‬
‫املزرق‬ ‫حني ي�سيل على مع�صميك لرييك حلمي‬ ‫الفتنا كي تتقلّد ال�صحراء ظ ّل �شغفنا امل�ضيء‬
‫ّ‬
‫كقمر يجلد يف ليايل الرمال‪.‬‬ ‫كحزام زحل وحليب املجرّة‪.‬‬
‫يوحد قامتينا‬ ‫ُغ ّطي يف نومك ودفء نظرتي التي حتر�سك‪،‬‬
‫خذي ال�شمعة وار�سمي � أفقاً ّ‬ ‫لأغ ّط يف حلمي الذي � أفر�شه لأن�سكابك و� أرهنه‬
‫املبتلّتني مباء نظراتنا‪ ،‬فكم ا�ستحممت بنظراتي‬
‫املرت ّفقة ب�أع�ضائك‪ ...‬لنا النبع دائماً والأزهار‬ ‫تذب عن‬‫لأع�ضائك‪ ..‬فرت ّفقي مبياهي وهي ّ‬
‫التي حتاكي ج�سدينا ال�ساطعني يف ريف‬ ‫�ضفتيك الأ�شنات وحطام الزوارق ودعيها‬
‫لتهب الطبيعة وفية‬ ‫تقرتحه � أع�شابك ال�سمراء‪،‬‬ ‫اليربي الأ�رشعة وال‬‫ّ‬ ‫تنبت �رشاعي يف هواء‬
‫ّ‬ ‫الأمواج لت�صطب َغ رايتي ب�شم�س ذابلة تذكيها‬
‫برية �صداع ي�ش ّق الأغاين والأيدي‬ ‫كال�شاي يف ّ‬
‫احلميمة امل�ست�سلمة لنعا�سها كالقطط‪.‬‬ ‫زرقة � أ�صابعي الالهثة‪ ،‬وهي ترى �إىل مداك‬
‫قد � أن�سى ما �س�أتذ ّكره ذات �صباح نا�صع ومبتل‬ ‫امل�شع بفاكهة تقرتحها عيناك يف فتور‬ ‫ّ‬
‫أوزة عن بيتك الذي يجاور يدي وملم�س‬ ‫كال ّ‬ ‫الظهرية � أو �شلل امل�ساء ف�أ�شدّ قلبي �إىل �سواحلك‬
‫جنوين ف�أجنز � أرقي املفتوح على اغما�ضتك‬ ‫الريا وامل�سترتة ب�أع�شابها الرخيمة لتم�سحي‬ ‫ّ‬
‫لأجل � أن تبقى � أهدابك � أطول من بايل ولأجل‬ ‫بزيت ولهك امل�ضيىء ما اعرتاين من دخان‬
‫�سوداء � أكرث يف بيا�ض‬
‫َ‬ ‫� أن تبقى‬ ‫تلم�سي الدروب ـ ال�رساب ملياه‬ ‫وغبار خالل ّ‬
‫يتقن البيا�ض ولأجل ان توقظ يدي حني‬ ‫�شفقك املنحني‪ .‬وتنحنني لألتقاط املحار‪،‬‬
‫ت�سرت�سل يف انذهالها � أمام تدفقك بالبط‬ ‫لأرى �صوت لهفتي ي�سيل على � أقوا�س نعا�سك‬
‫والع�سل الأزرق‪.‬‬ ‫امل�رشئب‪ ...‬و� أنحني من حنيني‪ ،‬فتلتقطني‬
‫‪191‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يا ينبوعاً انبثق يف �صد� أ � ّأيامي‬ ‫حرّري � أ�صابعي من ال�سهو وال�سجائر لتعدّ‬
‫يا جمر ًة يف ارتعا�ش لغتي‪،‬‬ ‫الأغ�صان واملوجة لطفوكِ وت�ستعني باحلرير‬
‫ان قلبي اكرة باب مهجور مل مي�س�سه � أحد بعدك‬ ‫ّ‬ ‫بوهج نعا�سك يت�صاعد ك�أبخرة الذهب‬ ‫لال�شادة َ‬
‫� أو قبلك‪،‬‬ ‫يف �سماء حتت�شد بغيوم الف�ضة وك�ؤو�س الع�شب‪.‬‬
‫فافتحيني‪ � ..‬أنت ال�سحر الذي يفتحني ويغلقني‬ ‫يرتبك حربي وهو يرى �إىل زرقة � أو خ�رضة‬
‫يا نبعي وحجارتي‬ ‫متوجك املليء كالأ�سفنج والأعزل كاجل�سد � أو‬
‫ا�سقيني يا ك�أ�سي و�ساقيتي‬ ‫كيدي حني تومىء والت�صل‪..‬‬
‫خذيني �إىل بركة ان�شداهنا لنحتفظ ب�شيء من‬ ‫دائما ال و�صول يا عرب َة الأ�سى وهذه اجلراح‬
‫رذاذ احللم‬ ‫�سك ٌك التو�صل والتنتهي واجل�سد �سفر � أو م�سافر‬
‫ارتب‬‫يف � ّأيام تتموج‪ ،‬تزوغ كالزئبق‪ ،‬كمثلك‪ّ .‬‬
‫لنباهي به رمالنا‬
‫رائحتك الأثرية وعادات � أ�صابعك‪ ،‬انحياز‬
‫نقطيني بربيعك لأعرّي الأ�شجار من غبارها‪،‬‬ ‫عينيك ونكهة �صوتك على �رش�شف ال�صمت‬
‫قربيني من جنمة �شفتيك الفاغمة‪ ،‬لأرك�ض يف‬ ‫الذي يحر�ضني على فرك الزعفران واالبتهال‬
‫م�سارب حلمي‬ ‫احلمى ليت�صاعد وهجك‬ ‫لتوابل نعا�سك يف‬
‫يا حملومة قلبي‬ ‫ّ‬
‫نافورات ع�سل وف�ضة ت�ؤازر نحا�سي ال�ساطع‬
‫يا موا�سم الفرا�شة واخ�رضار الندى‬ ‫أخمنك خل�سة لأتيقن‬ ‫يف �صيف جنوين الأ�صفر‪ّ � .‬‬
‫امل�شعة‬
‫ّ‬ ‫يا � ألوان ر ؤ�اي‬ ‫مرعى ُي�ضمر احلليب والوعيد الأخ�رض‬ ‫اندالعك‬
‫كم �س�أبكي يف �ضمور احلدائق وازرقاق � أطرايف‬ ‫ً‬
‫حل�صاين الكئيب‪.‬‬
‫و�سهوم هوائي وتخ� ّشب لياليي دون فجر‬
‫يديك‬ ‫‪2‬ـ جمرة اللغة‬
‫‪...............‬‬ ‫يف ظالم وح�شتك‪ � ،‬أعلّق قلبي �رساجاً‪ � ،‬أفر�ش‬
‫� أنا بريدٌ ال ي�صل و�رشاع يختنق يف مداه‬ ‫�سجادة‪ ،‬فجو�سي ياغزالة‪..‬‬
‫العمر ّ‬
‫وانتظار ينتظر‬ ‫دعيني � أتن� ّشق رطوبة الع�شب وتنف�س الأرياف‬
‫يف وتختنق‬ ‫يف الأ�صائل‪.‬‬
‫هبّي من وردتك لتندثر ال�شوارع ّ‬ ‫دعي غيومك ُتغيّب � أكوان الدخان وال�ضجيج‬
‫رمايل على �ساحل قلبي‬
‫واحرتاق الأ�سفلت وعيون الكالب النابحة‬
‫هبّي من در�سك لتنك�رس زجاجة ذاكرتي‬ ‫‪................‬‬
‫املدر�سية وتلتئم مر� آة املراعي الزرقاء و� أعرث‬ ‫يف غياهب لياليي املتوح�شة وا�صطفاق الأبواب‬
‫على ك�رسة ريف‪ ،‬خلف �سياج املدر�سة‪...‬‬ ‫ّ‬
‫وال�شبابيك يف قلبي وجنون ال�ستائر والقطط‬
‫� أ�س�ألك‪ ،‬ع�شباً ق�صريا ً وقمي�صاً � أن�رشه كالأفق‬ ‫النائحة يف الريح‪ � ،‬آملني من � أطرايف و� أ�رصّ‬
‫دموعي وتهدّجي‪ � ،‬أ�شحذ ظ ّل � ألقك ياجوهرتي‪،‬‬
‫ف�أنا مر�صود من احلجارة والرمل‪ ،‬من العاقول‬ ‫م�ستمطرا ً لوناً لرماد هذا القلب‪ ،‬م�ستمطرا ً‬
‫وال�سموم‬ ‫خرب�شة منك لدفرتي املوقوف لتعنيف الريح‬
‫�س‬
‫خذي بيدي �إىل هواء مل يمُ ّ‬ ‫والغبار‪..‬‬
‫علّنا نقع على �صورتنا يف مر� آته‪.‬‬ ‫يا جوهرة عمري احلطبي‬
‫‪192‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�آنية من الفخار‬
‫عماد ف ؤ�اد‬
‫�شاعر م�رصي مقيم يف بلجيكا‬

‫خناجر م�سنون ٌة‬ ‫ُ‬ ‫ت�سقطُ‬ ‫عرفت امر�أ ًة‬ ‫ُ‬ ‫كلَّما‬
‫م�سمم ٌة‬ ‫وخناجر َّ‬ ‫ُ‬ ‫الفخا ِر و�مالته ميين ًا‬ ‫أ‬ ‫نيةٍ من َّ‬ ‫م�سكت قلبي ك آ� ِّ‬ ‫ْ‬ ‫�أ‬
‫عنات‬
‫رب الطَّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫تخت‬ ‫وخناجر‬
‫ُ‬ ‫وي�ساراً‬
‫املالب�س‬
‫ِ‬ ‫حتت غد ِر‬ ‫خمب� ًة َ‬ ‫أ‬ ‫وه َي َّ‬ ‫ْ‬ ‫بعنف كنخلةٍ عاليةٍ‬ ‫ه َّزته ٍ‬
‫ورقي ٌة‬
‫َّ‬ ‫وطائرات‬
‫ُ‬ ‫بر خياطةٍ‬ ‫مطارق و�أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت�سقطُ‬ ‫خات وال َّنوى واحلجار ِة‬ ‫ِ‬ ‫رمته بال�صرَّ‬
‫و�س‬ ‫وف ؤ� ُ‬ ‫الكالم‬
‫ْ‬ ‫وناع ِم‬
‫وكتب‬
‫ٌ‬ ‫وندهات مبتور ٌة‬ ‫ُ‬ ‫بواب‬ ‫جرا�س و�أدعي ٌة و�أ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ع�شا�ش و�أ‬ ‫ٌ‬ ‫فت�سقطُ �أ‬
‫و�صخور‬
‫ٌ‬ ‫بري ٌة‬ ‫ونباتات ِّ‬ ‫ُ‬ ‫مغلَّق ٌة‬
‫ال�صخو ِر‬
‫ارات كربت هكذا يف �شقوقِ ُّ‬ ‫و�صب ُ‬ ‫َّ‬ ‫تبغ‬
‫ولفافات ٍ‬
‫ُ‬ ‫ورماح‬
‫ٌ‬ ‫ت�سقطُ مزاليج ونب ٌل‬
‫وح�صى م�س َّنن ٌة‬ ‫ً‬ ‫ورم ٌل‬ ‫لفر�س‬
‫حدوات ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ربع‬‫و�أ ُ‬
‫وندوب‬
‫ٌ‬ ‫ولغات‬ ‫ُ‬ ‫وفر�س‬‫ٌ‬
‫وح‬ ‫وهي تل ُدين‬ ‫أ‬
‫خيزران و�رصخ ُة � ِّمي ْ‬ ‫ٍ‬ ‫وع�صا‬
‫الر َ‬
‫يخرب�ش ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫و�صوت «فريو َز» ْ‬ ‫ُ‬
‫أ‬
‫و�صفع ُة �بي على خ ِّدي الي� ِرس‬ ‫أ‬ ‫ودم الطُّ فول ِة البك ِر حني �سقطُّ ُت‬ ‫ُ‬
‫مين الذي مل �أُدره له �أبداً‬ ‫وخ ِّدي أال ِ‬ ‫فرا�شات احلقلِ‬ ‫ِ‬ ‫خلف‬ ‫و�أنا �أعدو َ‬
‫وي�سقطُ‬ ‫وفرائ�س‬‫ُ‬ ‫طيور جارح ٌة وطرائ ُد‬ ‫ٌ‬ ‫ت�سقطُ‬
‫هده ٌد‬ ‫ا�صون‬
‫َ‬ ‫وق َّن‬
‫وحي ٌد‬ ‫باليان من كرث ِة امل�شي‬ ‫ِ‬ ‫ونعالن‬ ‫ِ‬
‫ع�ش َ�ش‬ ‫َّ‬ ‫لكلب ج َّدي‬ ‫نياب �أربعةٍ ِ‬ ‫ثر �أ ٍ‬ ‫و�أ ُ‬
‫يف‬ ‫ني‬
‫ركبتي اليافعت ِ‬ ‫َّ‬ ‫مثبت ٌة يف‬ ‫َّ‬
‫�آخ ِر‬ ‫ملون ٌة‬ ‫َّ‬ ‫�سماكٌ‬ ‫و�أ‬
‫عتمةٍ‬ ‫ا�صطد ُتها �صغرياً ب�سنانري اجلهالةِ‪...‬‬
‫ممكنةٍ ‪...‬‬ ‫وجثث طازج ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫زهور جا َّف ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫ت�سقطُ‬
‫عرفت امر�أ ًة‬ ‫ُ‬ ‫كلَّما‬ ‫قالم ح ٍرب‬ ‫و�أ ُ‬
‫روح روحِ ُه‬ ‫�أ‬ ‫وكمانات‬
‫ُ‬
‫م�سكت قلبي وع�رصته ح َّتى ين َّز َ‬ ‫ْ‬ ‫ات‬ ‫وممر‬ ‫ة‬ ‫مهجور‬ ‫وطرق‬ ‫د‬ ‫وحي‬ ‫وناي‬ ‫ادون‬
‫�إال �أنتِ‬ ‫ٌ َّ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫و�صي َ‬ ‫َّ‬
‫معتِم ٌة‬
‫الفخا ِر‬ ‫قلبي الذي ي�شبه �آني ًة من َّ‬ ‫حي‬ ‫أ‬
‫مالَ وح َده‬ ‫وحلم ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫هازيج وق�صائ ُد و�صبايا‬ ‫ُ‬ ‫و�شموع و�‬ ‫ٌ‬
‫جائع‬
‫ٍ‬ ‫ذئب‬
‫ُ ٍ‬ ‫وعواءات‬ ‫غام�ضات‬
‫ٍ‬ ‫لن�سوةٍ‬ ‫و�شاالت‬
‫ٌ‬
‫بني يديكِ ‪.‬‬
‫وخفافي�ش‬
‫ُ‬ ‫لطفل‬‫ٍ‬ ‫ة‬ ‫ٌ‬ ‫طري‬ ‫و�أناملُ‬
‫‪ d‬الن�ص من جمموعة �شعرية ت�صدر قريب ًا يف بريوت ‪.‬‬ ‫العنكبوت‬
‫ِ‬ ‫مزين ٌة بخيطِ‬ ‫و�شقوق َّ‬ ‫ٌ‬
‫‪193‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على منت الريح‬


‫عزيز احلاكم‬
‫�شاعر من املغرب‬

‫�أمترغ يف ح�ضن الكلمات‬ ‫يا �سماء‬


‫و�أعبئ النار بالنور‬ ‫انفرجي قليال‬
‫�أ�سحل �أعماري املرتاكمة‬ ‫كي �أرى فيك نف�سي‬
‫على منت كتاب اليكتمل‬ ‫�صافية ك أ�دمي العدم !‬
‫وحتت و�سادتي بع�ض من تبتالت ال تلني‬ ‫لي�ست بي رغبة يف التحليق‬
‫وجتليات ال تبني‬ ‫بي ‪ ،‬فقط ‪� ،‬شهوة‬
‫كيال يكون يل‬ ‫حللق ذهني‬
‫للبال�سة من عرو�ش‬ ‫ما يكون أ‬ ‫من �شوائب هذا التيه أالبدي‬
‫وللباطرة املخنثني من تيجان‬ ‫أ‬ ‫الذي تزج بي فيه‬
‫وها قد هام�ست نف�سي املنذورة للملذات‬ ‫ن�ساء من �سقط املواعيد‬
‫ب أ�ين‬ ‫ومن ترهات االحتمال‬
‫�س أ�ر�ضع من �أثداء البحر‬ ‫و�أنا‬
‫حليب اجلنون‬ ‫يف عز هذا التجواب اجلذالن‬

‫من �أعمال جمعة العامري ‪ُ -‬عمان‬

‫‪194‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حتى ي�ستعيد يوليوز براءته‬ ‫ثم �أم�ضي عاريا‬
‫ويرق�ص املجانني فوق كتفي‬ ‫على منت حورية �سبطاء‬
‫رق�صة الندم العظمى‪.‬‬ ‫حتى حدائق فر�ساي‬
‫ها قد �ضقت ذرعا بهذا الكون‬ ‫ع�ساين �أ�صادف ظل» �نطوانيت «‬
‫أ‬
‫و�صار يل يف ال�صحو ي أ��س‬ ‫وهي ترقد يف حجر ع�شيقها الدامناركي‬
‫ويف ال�سكر ي أ��سان‬ ‫ف أ�درك حينها‬
‫وا�ستفحل بي‬ ‫�أن الهوى عاهة جليلة‬
‫وهن التبعرث بني أالما�سي‬ ‫و�أن ال�شبق احلليم‬
‫وا�سود ثلجي يف عيون امر�أة‬ ‫�إرث نزيه ‪...‬‬
‫ال جتيد الغناء على �صدور اليتامى‬ ‫‪d d d‬‬
‫وال حتلو دموعها‬ ‫يا �سماء‬
‫�إال يف عز الربيع‪.‬‬ ‫انفرجي قليال‬
‫‪d d d‬‬
‫كي �أرى فيك نف�سي‬
‫لن �أذهب �إىل كولورادو‬ ‫عاتية كمرايا الليل ‪.‬‬
‫ولن �أمزق ر�سائل « تو�سياتا «‬ ‫لي�ست بي رغبة يف النعا�س‬
‫ولن �أوهم «�ساندرا» بالهجران‬ ‫بي‪ ،‬فقط ‪� ،‬شهوة‬
‫ولن �أفتح قلبي بعد آ‬
‫الن‬ ‫العت�صار أالرق‬
‫للبوءات املعمدات مباء اخلرافة‬ ‫واحت�سائه عند الفجر‬
‫ولن �أحزن على �أرحام «�ألدوموبار»‬ ‫من �رصة جنية بلهاء‬
‫حني تفت�ضها‬ ‫تقا�سمني �رسير ال�ضجر‬
‫خمالب رجال هاربني من �ضوء الوجود‬ ‫من دون �أ�سى‬
‫�س أ�حتفظ‬ ‫وتبوح يل ب أ��رسارها العادية‬
‫يف ظل هذه التهي ؤ�ات‬ ‫و�أنا ال �أ�سمع �سوى نفيخ �صور‬
‫يزداد قربا‬
‫ب�صورة زاهد احلي‬
‫وهو يبرت ل�سانه �أمام امللأ‬ ‫كلما فتحت ب�صريتي‬
‫على �ضوء ال�سهر‬
‫ويهديه المر�أة‬
‫�أطعمته ال�صمت امل�سموم‬ ‫�أنا املفتون بال�شقرة‬
‫يف �صحن اجلريان ‪...‬‬ ‫وما يحف بها من تهلكات‬
‫‪d d d‬‬ ‫�أ�شحذ قدمي‬
‫يا �سماء‬ ‫على م�صقل الهروب‬
‫انفرجي قليال‬ ‫و�أعرف �أن الدمع ال يكفي‬
‫يف �صفحة هذا امل�ساء املطري‬ ‫لدفن اخلديعة‬
‫كي �أرى نف�سي‬ ‫و�أين �س أ�ظل هنا‬
‫وقد حتولت �إىل غ�صن جمروف‬ ‫واقفا على خن�رصي‬
‫‪195‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�رست دائخا‬ ‫يف ميازيب الوقت ‪.‬‬


‫بني �أطالل هذا اخلراب املزخرف‬ ‫لي�ست بي رغبة يف ال�صحو‬
‫باحثا عن �سيقان �أندل�سية‬ ‫بي ‪ ،‬فقط ‪� ،‬شهوة‬
‫كانت قد مرت بي‬ ‫لتدمري الدمار‬
‫يف �أ�صياف غابرة‬ ‫والتقاف احلكمة من �أفواه الزيازين‪.‬‬
‫ومل ترتك يل من عناوينها‬ ‫‪d d d‬‬

‫غري خطوط هريوغليفية‬ ‫هل �آدمي ما �أرى‬


‫مبعرثة على رمل بليل ‪.‬‬ ‫�أم �صخرة معلقة يف الهواء‬
‫والريح متلملها من حني آلخر‬
‫لن �أتهجى يف اختيالك ال�شهي‬ ‫كي تربك �أحالم العابرين ؟‬
‫حروف اخليبة‬ ‫عيني على �سبيل �أفعواين‬
‫ولن �أحر�س غيظك ال�سادي‬ ‫ميتد حتى م�شارف «مري اللفت»‬
‫حيث يالحم اجلبل البحر‬
‫من �أظافر الن�سيان‬
‫ويحلو ل «يا�سمينة» �أن تر�شقني‬
‫�س أ�قطف من بيا�ضك الراهل‬ ‫بزخات الدلع‬
‫�صفحة واحدة‬ ‫ثم مت�ضي �ضاحكة خلف حزين‪.‬‬
‫�أخط عليها ‪ ،‬متى طاب لك ‪،‬‬ ‫�أعرف يا �سيدتي‬
‫و�صاياي الهرمة‬ ‫�أن قدري من�شوب يف عينيك‬
‫و�أودعها �صك التعهد‬ ‫و�أين‬
‫بظاللك يف كل خطوة‬ ‫كلما �شممت خ�صلة من �شعرك ال�سائب‬
‫حتى ينطفئ الكون‬ ‫عاودين احلنني‬
‫وال يبقى �سوانا‬ ‫�إىل حبال ال�شنق امل ؤ�جل‬
‫يف هذا ال�شاطئ املمهور‬ ‫فتح�س�ست عنقي‬
‫بدماء ال�شهوات املخ�صية ‪...‬‬ ‫أ‬
‫على مقربة من �ريجك‬

‫‪196‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على بعد انتظا ٍر و�آخر‬


‫ن�شوان حم�سن دماج‪ ‬‬
‫�شاعر من اليمن‬

‫ر�ض‪ ،‬اغربوا‬ ‫هي ا أل ُ‬ ‫مرهقةٌ كقارئتي َ‬ ‫‪ ‬للم�أربية ‪ ..‬منذ �صار �أبي جديرا ً بالرحي ِل �إىل‬
‫ويرجع الباقون!‬ ‫َ‬ ‫ن�سرتيح‬
‫َ‬ ‫‪ ‬كي‬ ‫طارئ‬
‫ٍ‬ ‫قتال‬
‫ٍ‬
‫كان �أبي جديراً‪...‬‬ ‫ملْ يرج ِع الباقون حتى الآن‪،‬‬
‫ثم ال �أدري‪ ،،‬احلكاي ُة رمبا مل تكتمل‬ ‫التف‬ ‫ّ‬ ‫ذكر ‪-‬بالنيابة عنه‪ -‬كيف‬ ‫‪ ‬لكنّي �س�أ ُ‬
‫�أو مل ت ُق ْل �شيئاً �أكيدا ً بعدُ‪،‬‬ ‫العاجي‬
‫ِّ‬ ‫حو َل يقينِها‬
‫كتب‪:‬‬‫‪ ‬و أل ْ‬ ‫«اخرتت‪»....‬‬
‫ُ‬ ‫حاو َل � أ ْن يقو َل‬ ‫َ‬
‫«يدٌ ال ت�ستطيع خليقةٌ بال� ِّشعر»‬ ‫ْبرُ ُ‬ ‫تع‬ ‫وهي‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫خري‬ ‫ل‬‫أ‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫بندقيت‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫طلق‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫مته‬ ‫ملْ‬
‫‪� ‬أبد� أُ هكذا‬ ‫اه قلْبَ ْه‬ ‫�سم ُ‬ ‫طائ�شاً ّ‬
‫ال ب�أ�س فيما �سوف �أ�رسُ ُد حينها‬ ‫حزن‪،‬‬ ‫هداه ‪-‬ح�سب ال�شائعات‪ -‬لها‪ ،‬فلم � أ ْ‬ ‫�أ ُ‬
‫�ستغفرها و�أكرث‪..‬‬
‫ُ‬ ‫للم�أربية من حماقاتٍ‬ ‫وكذّ ْب ُت البقيّ َة‪..‬‬
‫البدء‪ ..‬با�س ِم امل�أربيةِ‪  ‬كان يا ما‬ ‫ُ‬ ‫«ثم كان‬ ‫اختار‪..‬‬‫َ‬ ‫قلت‪ :‬مل متهل ْ ُه ماذا‬ ‫غريَ �أين ُ‬
‫كان»‬ ‫�سكت ‪ ،‬ثم كان اللي ُل‪.‬‬ ‫فالتفتَ ْت أل َ‬
‫�ستلعن با�س ِم ك ِّل ن�سا ِء هذا العا ِ‬
‫مل‬ ‫ُ‬ ‫قارئتي‬ ‫هل �أحرى بقارئتي الوحيد ِة � أ ْن ُتعيدَ ‪-‬نياب ًة‬
‫ا�ست�سلم َن طوعاً للحداثيّني‪-‬‬ ‫ْ‬ ‫‪        -‬‬ ‫عني وعنه‪-‬‬
‫اكتفت بق�صيد ٍة لن‬ ‫ْ‬ ‫�سواهن‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬فكر َة �أنها امر�أةٌ‬ ‫ق�صيد ًة �ستطو ُل‪،‬‬
‫تنتهي‪..‬‬ ‫‪ ‬هذا ما �أحاو ُل �أجتدي ِه ال َآن‬
‫‪ ‬‬ ‫لكنّا ّاتفقنا ‪-‬منذ �صار �أبي جديرا ً بانتظار‬
‫تكن �أنثى‬ ‫هي مل ْ‬ ‫َ‬ ‫امل�أربية‪-‬‬
‫متاماً منذ �صار �أبي جديرا ً بالرحيل �س�ألْتُها‬ ‫يرجع‬‫َ‬ ‫الباب‪ ،‬حتى‬ ‫ِ‬ ‫نوارب خلف هذا‬ ‫َ‬ ‫‪ �  ‬أ ْن‬
‫هل ت�ستح ّقني الذي ال �أ�ستحق ال َآن؟‬ ‫الباقون‪.‬‬
‫مل ترتُ ْك طفولتَها �رسيعاً مثلما هي عاد ُة‬ ‫قارئتي الوحيد ُة مل تكن �أنثى ولن‪،‬‬
‫ا إلغواءِ‪،‬‬ ‫اقرتب ُت من الق�صيدة‬ ‫ْ‬ ‫�أدري بهذا �إذ �أكون قد‬
‫�ستكربان‬
‫ِ‬ ‫احلديث ‪-‬ولو قليالً‪ -‬عن يدي ِن‬ ‫َ‬ ‫� آثرَتِ‬ ‫�أو كما قد يفعل ال�شعراء �أحياناً بقارئهم‪,,‬‬
‫الورد‬
‫َ‬ ‫وتقطفان‬
‫ِ‬ ‫�شيء يعنيها‪ ،‬أل�س�أ َل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫و�أدري �أنها ال‬
‫قل ْ ُت لمِ َ ْن‬ ‫انتظار‬
‫ُ‬ ‫ير ْقكِ‪ :‬ق�صيدتي؟ اللي ُل؟‬ ‫� أ ّي �شي ٍء مل ُ‬
‫وامل�أربي ُة حو�صرِ َ ْت‬ ‫امل�أربيةِ؟‬
‫الغرباء عنها‬
‫َ‬ ‫و�أبي هناك يقات ُل‬ ‫ك ّل هذا احل�ش ِو � إ ْن مل ي�ستح ّق ِك فاتركيه‪..‬‬
‫يرجع الباقون‪ ،‬فاقرتبي لنلح َق‬ ‫ُ‬ ‫ثم قد ال‬ ‫من �أم ِر‬ ‫ذكر حينها ما كان ْ‬ ‫ومر ًة حاولْ ُت‪ � ،‬أ ُ‬
‫بالن�ضا ِل الفذِّ‬ ‫املحاولةِ‪..‬‬
‫فاقرتب ْت بعيدا ً‬ ‫َ‬ ‫ال�شعراء‬
‫ُ‬ ‫اغربوا عن وجهها يا �أيها‬
‫‪197‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سوف يكون � آخرَ ما �س�أذكر عن يدين �ستكربان‬ ‫مرّتِ الذكرى‪ ‬‬


‫وتقطفان الورد‪.‬‬ ‫تربح‬
‫ْ‬ ‫وه َي هناك مل‬ ‫تلو العا ِم ْ‬ ‫العام َ‬ ‫ُ‬ ‫وجاء‬
‫قارئتي �ستمع ُِن يف التال�شي‬ ‫طفولتَها‬
‫كلما �أمعنْ ُت يف املعنى‬ ‫يل‬
‫برح �س�ؤا َ‬ ‫ومل � أ ْ‬
‫قلت �أو�شكنا‬ ‫وحلظ َة ُ‬ ‫�شبه ما يكون بنا معاً‬ ‫�صار � أ َ‬
‫الت َف ُّت فلم �أجد �شيئا‪.‬‬ ‫ت�سمرت يف الدرب �أو ُل‬ ‫ْ‬ ‫هذا ال�س�ؤا ُل هناك حيث‬
‫وللقدماء حكمتُهم‬ ‫خط ِونا‬
‫�شاحب‬
‫ٌ‬ ‫هنالك عند قارع ِة الطري ِق‪ ،‬ويل ب�أين‬ ‫‪ ‬‬
‫كالعري‬
‫ِ‬ ‫للم�أربية‪..‬‬
‫خنت دمي‬ ‫ُ‬ ‫خلع ْت طفولتها‬ ‫�ستعود قارئتي وقد َ‬ ‫ُ‬ ‫ريثما‬
‫�شياء حويل‬ ‫َ‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫وخنت‬‫ُ‬ ‫انتهيت من التفا�صي ِل اململ ِة من‬ ‫ُ‬ ‫‪�  ‬أكون ق ِد‬
‫قارئتي‬ ‫خنت‬
‫ُ‬ ‫كتاب امل�أربية‪.‬‬
‫�سلم ُت اخلطى للم�أربية‪.‬‬ ‫و� أ ْ‬ ‫الباب �أكرثَ‬
‫ِ‬ ‫خلف هذا‬ ‫نوارب َ‬ ‫َ‬ ‫لن‬
‫‪ ‬‬ ‫ك ُّل �شي ٍء جاهزٌ‬
‫‪ ‬‬ ‫َفدَ َن ْت ‪-‬كما يبدو‪ -‬لنلح َق بالن�ضا ِل‪،‬‬
‫كان قربُ �أبي على بع ِد انتظا ٍر يف الق�صيدة �أو‬ ‫ك�أنها �ستقو ُل �شيئاً ما‬
‫�أق َّل‬ ‫ولكن «هل يداكِ يداكِ ؟؟»‬
‫هت ْف ُت ‪:‬‬ ‫فانطف�أ ال�س�ؤا ُل ك�أنه الذ ْن ُب‪ ،‬انطف�أْ ُت �أنا‬
‫وطن ليع�صمني من الوط ِن‪،‬‬ ‫لن � آوي �إىل ٍ‬ ‫ك�شي ٍء زاد عن حاجاتِ هذا ال�صمت‬
‫‪ ‬التج�أْ ُت وم�أربيته �إىل ال ُك ّه ِ‬
‫ان‪:‬‬ ‫�شياء وهي تفرُّ من‬ ‫تدار َك ا أل َ‬ ‫وان � أ ْن � أ َ‬ ‫وفات � أ ُ‬ ‫َ‬
‫ماذا قد يقول �أبي‬ ‫حويل‪ ‬‬
‫رجعت قوافلُنا بدون �أبي‬ ‫َْ‬ ‫وقد‬ ‫دوما»‬
‫ً‬ ‫يفوت‬
‫ُ‬ ‫«ا أل ُ‬
‫وان‬
‫وكيف ميوت من رحلوا‬ ‫هكذا قالت‪..‬‬
‫وجاعهم معهم‬ ‫يتحملوا � أ َ‬ ‫ّ‬ ‫ومل‬ ‫‪ ‬‬
‫وال قالوا وداعاً‬ ‫�س�أذكر بعدَها � أ ّن الهالليّني مرّوا من �أمامي‬
‫املخا�ض‬
‫ُ‬ ‫هاج على ل�سا ِن ِهم‬ ‫كيف َ‬ ‫م�رسعني �إىل بطوليّاتهم‬
‫بطلق‬ ‫ٍ‬ ‫وكيف �أقفرَتِ الو�صي ُة قبل �أن َيعِدوا‬ ‫يتناخبون الن�رصَ‪،‬‬
‫وا�ضح‬
‫ٍ‬ ‫مرّوا م�رسعني فلم يروين‬
‫هم حني راحوا واثقني بن�رصهم‬ ‫رمبا مل ي�أبهوا بق�صيدتي حتّى‬
‫‪ ‬تركوا هزميتَهم معلق ًة على ا أل ِ‬
‫بواب‬ ‫بدرب‬‫ٍ‬ ‫و� أ ّنا داهمتْنا حكم ُة القدماء «ال تثِقوا‬
‫احلي‬
‫ِّ‬ ‫وحده َّن عجائ ُز‬‫ُ‬ ‫نرجع ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قالوا �سوف‬ ‫واحدٍ»‬
‫بكاء ُه َّن‬
‫التح ْف َن َ‬ ‫دروب ت�ستعريُ طريق ًة يف ال�سري ت�شبهنا‬ ‫ٌ‬ ‫فم�ضت‬
‫ْ‬
‫ينح َن على فرا�ش املوت‪.‬‬ ‫ورح َن يف �صمتٍ ْ‬ ‫ْ‬ ‫متاماً‬
‫‪ ‬من قالوا �سرنجع مل يعودوا � أ ّيها ال ُك ّهان‬ ‫حني �ضيّ ْعنا اخلطى‪.‬‬
‫جمهوريةٌ هِ َي‪ ،‬قيل يل‬ ‫ّ‬ ‫ثقاب ّاتقد ْت ُه‬‫عود ٍ‬ ‫ول�سوف �أذكر � أ ّن َ‬
‫‪198‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ونهدْتِ �أكرثَ‪� ،‬أكرثَ‪:‬‬ ‫نطفاء املرُّ يف عيني َك يا‬ ‫ُ‬ ‫فعالم هذا ا إل‬
‫«�رصواح»*‬
‫ودم‪  ‬جتيد البذ َل‬ ‫ٍ‬ ‫بفائ�ض �شهوةٍ‪ ‬‬ ‫ِ‬ ‫امر�أةٌ‬
‫رداء‪،‬‬
‫�صبح َت وحدك يف الن�ضال ويف الق�ضية‪..‬؟‬ ‫�أم � أ ْ‬
‫وا إل َ‬ ‫قيل يل ‪:‬‬
‫تفه من �سذاج ِة عا�شقِي ِك يدٌ حتاو ُل � أ ْن ت�ؤثِّ َث‬ ‫�أ ُ‬ ‫وطن وذاكر ٍة‬ ‫تنم عن ٍ‬ ‫«القردعي»* ّ‬ ‫ّ‬ ‫جراح‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫حت َفها‬ ‫و�أكرثَ‪،‬‬
‫مهات على ل�سان‬ ‫�صحيح ما تقول ا أل ُ‬ ‫ٌ‬ ‫هل‬
‫بق�صيد ٍة لن تنتهي‬ ‫الذاهبني‬
‫ري فيكِ‪ ،‬يا امر� أ ًة من القتلى‬ ‫�إال �إىل حتْ ٍف �أخ ٍ‬ ‫‪ ‬ومل يعودوا بعدُ حتى الآن‬
‫ناه كا ألحقا ِد جيالً بعد � آخرَ‪،‬‬ ‫مكان ما‬‫ٍ‬ ‫�شهداء ما زالوا هنالك يف‬ ‫َ‬ ‫عن‬
‫ويا مر�ضاً توار ْث ُ‬ ‫نهم ارتعا�شتُنا مع امل َط ِر‪،‬‬ ‫و� أ ُ‬
‫منذ ال �أدري‬ ‫الزه ِر‪،‬‬
‫التفاتتُنا �إىل َ‬
‫و� أنتِ هناك حترتفني ُعرْ َيك‬ ‫ِ�صاب‪،‬‬
‫امل�سافات اخل ُ‬ ‫ُ‬
‫املدر�سي‪ ،‬الف�سح ُة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الثياب‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬‫ز‬‫ُ‬ ‫اخلب‬ ‫الغيم ُة‪،‬‬
‫مر ًة وطناً‬ ‫ا إلغفاء ُة‪،‬‬
‫للوط ِء‬
‫ومراتٍ �رسيرا ً جاهزاً‪ْ  ‬‬ ‫غنيات‪...‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬الدر�س‪ ،‬احلكايا‪ ،‬ا أل‬ ‫ُ‬
‫تزو َج من ِك حتى الآن‬ ‫رب ّ‬ ‫كم ق ٍ‬ ‫هم ُه ْم‬ ‫و� أ ّن ْ‬
‫قربٌ واحدٌ يكفي‬ ‫ما تزال خطاهم ا ألوىل ّ‬
‫حتف‬
‫جرا�س ما ٍء يف �ضمري ال�صخر‪.‬‬ ‫ك�أنها � أ ُ‬
‫كون �أنا الوحيدَ‬ ‫�رصخ‪ :‬لن � أ َ‬ ‫أل َ‬ ‫خوف وال‬ ‫قد تكفي الق�صيد ُة‪ ،‬وهي ُتلقى دومنا ٍ‬
‫ول�ست �أو َل من يخون �أباه فيك‪..‬‬ ‫وج ٍل‬
‫ُ‬
‫وال �أي ٍد ت�ص ّف ُق كي يهبّوا دفع ًة من ك ِّل �شي ٍء‬
‫و� أنتِ � أنتِ !‬ ‫رصهم‪.‬‬ ‫واثقني بن� ِ‬
‫�أكان ح ّقاً‬ ‫‪ ‬‬
‫الف�ضح‬ ‫�أن ِك اللغ ُة التي ال ت�ستح ٌّق‬ ‫للم�أربية‪..‬‬
‫َ‬ ‫هذا ْ قربُ �أبي على بع ِد انتظا ٍر منكِ‪ ،‬ي�صلح‬
‫ها�أنذا اقرت ْفتُ ِك فكر ًة‬
‫النتظا ٍر � آخرَ‬
‫ون�سيت حتى كيف �أبد�أُها‬ ‫ُ‬ ‫اقرتبي � أ ِو ابتعدي‬
‫انتهيت بها‬ ‫وال كيف‬ ‫معادل ًة � أ ِو امر� أ ًة‬
‫ُ‬ ‫ن�ساء كنتِ‬ ‫مدائن �أو‬
‫هباء �أم ق�صيدة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ً‬ ‫تكون �سِ واكِ‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫حلظ‬ ‫اق‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫�‬
‫ُ ّ‬ ‫الع‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫ِ�سذاج‬ ‫يا ل‬
‫لياله ْم‬ ‫ُ‬
‫• �رصواح ‪ :‬جبل يقع يف حمافظة م�أرب‬ ‫ويا ل ِك‬
‫• ال�شهيد علي نا�رص القردعي‪ � :‬أحد ثوار ثورة ‪48‬م توىل قتل ا إلمام‬ ‫�صبوتِ كبائعاتِ‬ ‫كلما اقرتفوكِ ذاكر ًة و�أجياال ً ْ‬
‫يحيى و� أعدم يف �سجن حجة‪.‬‬ ‫هوى‬
‫ً‬
‫‪199‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫غائبون ل�شراء بطاقات هواتف‬


‫ن�صر جميل �شعث‬
‫�شاعر من فل�سطني‬
‫ت�رشبها كثاف ُة َ�شعرك‬
‫ُ‬ ‫غيم ًة من خم�س دقائق‬ ‫خم�س دقائق حل�ضنك مرتني‬
‫يكف جمالُه �ساع َة احلائط عن التطلع يف‬
‫الذي ّ‬
‫املر�آة‪.‬‬
‫ثبت لك �أنني ال �أبالغ‬ ‫خم�س دقائق أل َ‬ ‫َ‬ ‫�أعط ِني‬
‫كال�شعرا ِء �صانعي التماثيل من و�سخ �أظافر‬
‫خم�س دقائق للعا�شق‪ ،‬كي يخبّيء املاء يف‬ ‫ال�شيطان‪،‬‬
‫ا�سفنج كتفيك‪،‬‬ ‫وذابحي الطيور التي بالغ ال�سجناء يف عدّها؛‬
‫ظهرك والقمي�ص ال�شفاف‬‫ِ‬ ‫ويعيد التطابق بني‬ ‫ب�شعاعات ا�ستلّت من تالقي ال�شم�س وال�شيطان‬ ‫ٍ‬
‫الف�ضفا�ض‪.‬‬ ‫الذي ال ينام‪.‬‬
‫لغيابك‬
‫ِ‬ ‫ال وزن‬ ‫نحن مل ننم ك�سائر املر�ضى‪ ،‬لكن �إذا فكرنا‬
‫يف النوم ننام‪ .‬و مل ن�سافر يف التفا�صيل‪� ،‬إال‬
‫ال وز َن لغيا ِب ِك‪...‬‬ ‫لن�رسع يف و�صف ا ألجند ِة باحلبلى!‬
‫هو بخ ّفة الك�أ�س التي انقلبت على �أريكة من‬ ‫َ‬
‫خم�س دقائق �أو�سع من � أ ّي عتبة و من كل‬ ‫َ‬
‫�إ�سفنج‪.‬‬ ‫هدنة‪.‬‬
‫امتلت بنوايا ال�سماء يف‬ ‫أ‬ ‫هو ثقي ٌل كدعابة‬ ‫خم�س دقائق زمنا حل�ضنك مرتني‪ ،‬ال على‬
‫عيني ِك‪.‬‬ ‫بيت وال على �سلّم مقهى وال حتت �صيف‬ ‫عتبة ٍ‬
‫كر�سي يحجب ر ؤ�ي َة ال�ساعة‬ ‫ّ‬ ‫هو جمدول كظهر‬ ‫مزراب قدمي‪.‬‬
‫املرتوكة‬ ‫خم�س دقائق لت�رصيف دموع عا�شق غادر‬
‫على الطاولة ليومني‪ ،‬بجانب ِك�رسة خبز‬ ‫مراياه‪ ،‬وراء ظهرك؛ ألجل ال�صمود يف وجه‬
‫وزجاجة طحلبيّة‪.‬‬ ‫عا�شقة مل تغادر املر�آة‪.‬‬
‫ال وزن لغياب ِك‪...‬‬ ‫خم�س دقائق قبل �أن يجمدَ ماء الن�شيد‪ ،‬قبل �أن‬
‫عواطف الراكبني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هو قطار �رسيع تقوده‬ ‫ينق�ص يف عني ويغلي يف �أخرى‪،‬‬
‫�سمي كومة املاء حتت الق�صيدة‬ ‫ومن قلقي � أ ّ‬ ‫و قبل �أن حتز يف نف�سي زاوية الغياب‪.‬‬
‫رئ ًة تتن ّف�س هواء �ستار ِة حترّكها الرمو�ش‪،‬‬ ‫خطاء اجلديدة وال ال�ضح َك‬ ‫َ‬ ‫عرف ال حتبّني ا أل‬ ‫�أ ُ‬
‫و�أبرّر �سقوط الثلج بغزارة على جناح الغابة‬ ‫الثقيل‪...‬‬
‫القريب!‬ ‫مل �أ�رسق من ل�سانك معرفة الظالل‪ ،‬لكن ح�ضورا ً‬
‫ال وزن لغياب ِك‪...‬‬ ‫فائ�ضاً كالرمل عن رقبتك اللدنة الظم�أى‪،‬‬
‫هو لي�س قامو�ساً يف حقيب ٍة‪ ،‬وال خارط ًة �أو‬ ‫غبار‬
‫رق العجني ما زال عليها ُ‬ ‫وا أل�شبه بخ�شب ِة ّ‬
‫ر�أ�ساً يف خيال‪.‬‬ ‫القمح و �صدى ا أل�ساور و�أثرٌ من رائحة اجلوع‬
‫كاملثلث‬
‫ِ‬ ‫هو ظ ّل كلم ٍة عند البحري ِة �صارت بيتاً‬ ‫هناك؛‬
‫قارب(هكذا مازحني‬ ‫ٍ‬ ‫انقالب‬
‫ُ‬ ‫�سطحه‬
‫ُ‬ ‫خ�شب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ال�سمان‪ ...‬يقول‪:‬‬‫لكن احتماال ً عالياً كموجة ّ‬
‫و�صححت‪ ،‬رغم غيابك هذه‬ ‫ُ‬ ‫العراقي)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�صديقي‬
‫ّ‬ ‫ال�سقوط‬
‫ُ‬ ‫خم�س دقائق كافية �أي�ضاً‪ ،‬لي�ؤ ّم َن‬
‫‪200‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ل�شراء بطاقات هواتف‬
‫ِ‬ ‫غائبون‬ ‫الليلة �أي�ضاً‪:‬‬
‫وهذه الليل َة عندي لعينيك خربٌ جديد‪:‬‬ ‫قارب �إذا �أتى الطوفان)!!‬
‫ٌ‬ ‫(البيت‬
‫ُ‬
‫ربحت اجلول َة يف لعبة الورق‪ .‬ع�رش ُة قلوب‬ ‫ُ‬ ‫�أ�شياء المعة‬
‫حب التم ّغ ِط يف وجه ال�صديق‪.‬‬ ‫حمراء منحتني ّ‬
‫ني يف الهواء‪� :‬شاعرٌ من‬ ‫اثنان يطحنا احلن َ‬ ‫ِ‬
‫�ضطراري‪ ،‬هذا الليل‪ � ،‬أ َن‬ ‫ّ‬ ‫ذهاب ِك ا إل‬ ‫َ‬ ‫�س�أخربُ‬
‫واقعي طيّب من «دار فور»‪.‬‬ ‫«غزة» ورج ٌل‬
‫عاد نظرتي �إىل ال�ساعة؛‬ ‫�صوتك الذي � أ َ‬
‫ّ‬ ‫قابلت املر� آ َة عرَ�ضاً وهي‬ ‫ِ‬ ‫عيني التي‬ ‫دلي ُل‬
‫لك ّل واح ٍد منّا ل ْكنَته التي َتتَ�رصّ ُف بلغ ِة ‪:Grethe‬‬ ‫ّ‬
‫در�س ِة املَرحة‪.‬‬ ‫مفتاح الزجاجة لالمع‬ ‫ُ‬ ‫تبحث عن � ِأ�شياء � أ ّولها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫مل ّ‬
‫ا ُ‬
‫كجناح طائرة يف نافلة ال�سحاب‪.‬‬
‫كع َب يده بركبته التي ال ت�صلّي‪،‬‬ ‫هو ي�رضب ْ‬
‫بخار ال�شاي عن حلظة التخمني‪.‬‬ ‫وينفخ‬ ‫يدي‬ ‫�ضطراري‪ ،‬هذا الليل‪ � ،‬أ ّن َ‬ ‫ّ‬ ‫�س�أخربُ ذهابك ا إل‬
‫َ‬ ‫مركب على جبل‪.‬‬ ‫ال�صافنة فوق ركبتي‬
‫القلوب على اخل�شب ِة‪ ،‬ويف‬ ‫ِ‬ ‫و�أنا �أحدّ ُق يف كومة‬ ‫ٌ‬
‫مناف�ض الغائبني ل�رشاء بطاقات هواتف من‬ ‫رت‬ ‫عم ِ‬
‫�ضطراري عن ريح ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذهابك ا إل‬ ‫َ‬ ‫و�س�أخربُ‬
‫وراء اجلبل‪.‬‬ ‫بر�سوم جلبتْها‬ ‫ٍ‬ ‫امل�ساف َة بني وجهي ووجه ِك‬
‫من كراري�س ال�صغا ِر‪:‬‬
‫قرت ب�إظفر‬ ‫حتت الطاول ِة‪ ،‬و َن ُ‬
‫لقيت بيدي َ‬ ‫حني � أ ُ‬ ‫مم�سو�س‬ ‫ال�شفيف‪ ،‬وح�صا ٌن‬ ‫جر�س ببُحة اللون‬
‫خم َن الرج ُل‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫ال�شاه ِد على مف�صل ِر ْجلها؛ ّ‬ ‫من رقبته مبا ي�شبه طري ّقاً من ظ ّل مت�شي عليه‬
‫الواقعي الطيّ ُب‬
‫ّ‬ ‫احليا ُة‬
‫الع�رش ِة قلوب‪ ،‬قبل بداية‬ ‫يء ورقة َ‬ ‫�أين �أخبّ ُ‬ ‫ريا�ضي؛ على �أ�سما ِء رواف ِده تقع‬ ‫محُ ّملة بنه ٍر‬
‫اجلولة!‬ ‫ّ‬
‫عمد ك ّل �أ�شيائي يف يديك‪،‬‬ ‫حد�س ُي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫هدايا ُيغلّفها‬
‫و�أولها‪ :‬مفتاح الزجاجة الالمع كجناح طائرة ألقابل ال�شهداء يف يدك‬
‫ُ‬
‫للعقاب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫الق�صيد‬ ‫وا‬ ‫عد‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫�‬ ‫حرى‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ال�سحاب‪!...‬‬ ‫يف نافلة‬
‫الوطني � أ َ‬
‫رواح‬ ‫ّ‬ ‫دفع ْت يف عيدها‬ ‫أل ّن مدين ًة َ‬ ‫ال ندم يف الق�صيدة‬
‫موتاها ألك�شاك الورود‪ ،‬وتثاءبت �أثناء �إيقاد‬
‫الليلة �أي�ضاً‪� ،‬س�أخربُ طري َق القدْ�س التي ال�شموع!‬
‫نام مب ّكرا؛‬‫يام � أ ُ‬‫النار � أ ّما �أنا من غري �رشّ هذه ا أل ِ‬ ‫تق�صدينها غدا ً �أن ال ندم يف الق�صيدة؛ أل ّن َ‬
‫زرعت‬
‫ْ‬ ‫يدك التي‬ ‫ال�شهداء يف ِ‬
‫َ‬ ‫وطهرته من ألقاب َل‬ ‫التي حرَقت �أ�صابعي �أبعدَ ْت فمي ّ‬
‫وردا ً َم�شاعاً ليتامى ذلك البلد ال�صغري!‬ ‫دم ا ألخطاء‪.‬‬
‫�صغريت ِك‬‫لهبوب يف رجوع ِك �أو أل�صحو على عجل احلياة �أكتب عن َ‬ ‫ٍ‬ ‫و�أحتاج �أن �أقول‬
‫�سطوع الواقفة َك َح ّل �إىل جانب ِك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حلرّ‬ ‫�ضطراري‪َ ،‬ق َ�س َم بخ�صل ِة َ�شع ِر ِك ا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ا إل‬
‫تطلع من ر ْكبتك!‬‫وورد ُة َ�شع ِرها ُ‬ ‫جبهتك اجلميلة � أ ّن‪:‬‬
‫ا�سرتاح ولكي تك�سبي �ضح َك احلياة بجانبي‪� ،‬إنتقي يل‬ ‫َ‬ ‫ل�سان �إمرا ٍة ت�شبهك‬ ‫للمل يف ٍ‬ ‫ثمة تاريخ أ‬
‫�صوتاً غريباً من ل�سا ِنها‪،‬‬ ‫على �سطح ل�ساين‪ ،‬قبل �أ�صباغ ال�رشاب‪.‬‬
‫ور َة احللوى �أثناء جتريب اللغ ِة‪.‬‬ ‫لوح لكتاب ِة �أ�سماء ال�شهداء وهو َيحم ُل بل ّ َ‬ ‫حتى بعد القهو ِة هو ٌ‬
‫جترف الليل‪ ،‬وتق�ضم التفاحة‪ ،‬ثم قويل وا�ضحكي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�سنان بي�ضاء‬ ‫ب�أ ٍ‬
‫«هذا هو ا�سمك» يف مذاق ابنتي!‬ ‫وتقدح‪ ..‬وهي َتط�أ حافة الفنجان!‬ ‫ُ‬
‫‪201‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ترجمة �أولية لرقيم م�سماري‬


‫فـــرج بريقـــدار‬
‫�شاعر من �سورية يقيم يف ال�سويد‬

‫والليل زفري �أكرث مرارة‪.‬‬ ‫ال�سومري‬


‫ُّ‬ ‫�إتك�أ احلكيم‬
‫قال ال�سابع‪:‬‬ ‫على روح ِه‬
‫النهار �أبي�ض العينني‬ ‫�سبَّ َح بعينيه تالميذَ ُه‬
‫والليل ب�صرية �سوداء‪.‬‬ ‫و�أردف �صمتاً طويالً‬
‫قال الثامن‪:‬‬ ‫ثم �أ�شار‪:‬‬
‫اللي ُل ليلَك‬ ‫لي�س امتحاناً ولكنه در�سنا ا ألخري‬
‫والنهار يا�سمني‪.‬‬ ‫�أوجزوا ما الليل وما النهار‪.‬‬
‫قال التا�سع‪:‬‬ ‫قال ا ألول‪:‬‬
‫الليل‪ ..‬حا�شاك‬ ‫الليل نهار متعب‬
‫والنهار‪� ..‬إياك‬ ‫�إىل حد ا إلغماء‬
‫�أحدهما اقرتاح الآخر‬ ‫والنهار ليل مزفوف �إىل مبتغاه‪.‬‬
‫اقرتاح براح‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكل‬ ‫قال الثاين‪:‬‬
‫قال العا�رش‪:‬‬ ‫النهار املعنى‬
‫الليل منديل النهار ا أل�سود‬ ‫والليل املمحاة‪.‬‬
‫والنهار منديل الليل ا ألبي�ض‪.‬‬ ‫قال الثالث‪:‬‬
‫قال احلادي ع�رش‪:‬‬ ‫الليل ترتيل طويل‬
‫زمن داهية‬ ‫كالهما ٌ‬ ‫ي�شبه خمرة املو�سيقى‬
‫ولكن‪..‬‬ ‫والنهار �أبواب مفتوحة‬
‫النف�س للحروف‬ ‫ت�سل�س‬
‫ِ‬ ‫�إن‬ ‫على ركاكة ال�ضجيج‪.‬‬
‫ُ‬
‫ت�ش احلروف مبا هما‬ ‫ِ‬ ‫قال الرابع‪:‬‬
‫حرف َطرْف‪.‬‬ ‫�أال كل ٍ‬ ‫هذا �أخ كرمي‬
‫قال الثاين ع�رش‪:‬‬ ‫وذاك �أخ كرمي‬
‫ال ب�أ�س ال ب�أ�س‬ ‫و�إن كانا يقتتالن‪.‬‬
‫هما لعنة التوهج‬ ‫قال اخلام�س‪:‬‬
‫ونعمة االنطفاء‬ ‫الليل وحيد لونه‬
‫والوارث الرماد‪.‬‬ ‫والنهار اجرتاحات ا أللوان‪.‬‬
‫قال الثالث ع�رش‪:‬‬ ‫قال ال�ساد�س‪:‬‬
‫النهار ما يت�أمل‬ ‫النهار �شهيق مرّ‬
‫‪202‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الليل هو الليل‬ ‫والليل ما يت�أمل‬
‫والنهار هو النهار‬ ‫هكذا �شجرة احلياة‬
‫كل تعريف � آخر‬ ‫وهكذا ظاللها‪.‬‬
‫لي�س �إال مقاربة واهمة‪.‬‬ ‫قال الرابع ع�رش‪:‬‬
‫قال احلادي والع�رشون‪:‬‬ ‫�أحدهما ي�شبه الرحِ م‬
‫�أعفني يا �سيدي‬ ‫�أعني الرحمة‬
‫ال ليل وال نهار‬ ‫والثاين ي�شبه ال‪...‬‬
‫�إذ ال نهار وال ليل‬ ‫�أ�ستغفر الآلهة‪.‬‬
‫ولكن الب�رش يحاولون‪...‬‬ ‫قال اخلام�س ع�رش‪:‬‬
‫قال الثاين والع�رشون‪:‬‬ ‫كنت تعلمنا احلكمة‬ ‫�إذا َ‬
‫النهار ما تراه‬ ‫يف الليل‬
‫والليل ما يراك‪.‬‬ ‫فهو احلكيم‬
‫قال الثالث والع�رشون‪:‬‬ ‫والنهار �أحمق‪.‬‬
‫كالهما ال�صالة جهرا ً‬ ‫قال ال�ساد�س ع�رش‪:‬‬
‫للأ ب الدهر‬ ‫هما زوجان‬
‫م�ضمرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وكالهما �شتيمة‬ ‫لكل منهما �أطواره‬
‫قال ا ألخري‪:‬‬ ‫وال يقبالن طالقاً‪.‬‬
‫ليل القطب ال�شمايل‬ ‫قال ال�سابع ع�رش‪:‬‬
‫غري ليل �صحارانا‬ ‫الليل طِ باق النهار‬
‫ونهاراته غري نهاراتها‬ ‫على نحو ما‬
‫لك ٍّل معناه ومبناه‬ ‫مثلما ال�صمت طِ باق الكالم‬
‫فما الذي ترمي �إليه يا �سيدي؟!‬ ‫على نحو ما‪.‬‬
‫تنهدَ احلكيم‬‫ّ‬
‫و�رشب ما ي�شبه نخب ًا‬ ‫قال الثامن ع�رش‪:‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪:‬‬ ‫النهار �سجني مظلوم‬
‫والليل طاغية‪.‬‬
‫تقطر روحي حزناً‬
‫على َم ْن ف ِهم‬ ‫قال التا�سع ع�رش‪:‬‬
‫� أ َّما من مل يفهم‬ ‫ل�ص مك�شوف‬ ‫الليل ٌّ‬
‫فطوبى له‪.‬‬ ‫مموه‬
‫ل�ص َّ‬ ‫والنهار ٌّ‬
‫�إذهبوا �إىل �أنف�سكم‬ ‫�ألي�س الزمن ل�صاً؟‬
‫تعود َّن �إيل‪.‬‬
‫وال ُ‬ ‫قال الع�رشون‪:‬‬

‫‪203‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�ص ـ ــائد‬
‫حممـــد ميـــالد‬
‫�شاعر من تون�س‬

‫‪8‬‬ ‫دع�سات الظل وال�ضوء‬


‫الع�صفور الذي جفت رئتاه ال�صغريتان‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫كيف ال يحييه كل ما تت�س ُع ال�سماء‬ ‫غادر الظل الب�ستان‬
‫من هواء؟‬ ‫دون أ�ن يقطف زهرة‬
‫‪9‬‬ ‫أ�و ثمرة‪.‬‬
‫الزهرة التي ال رائحة لها‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫من قال �إنها ثرثرة؟‬ ‫ال�صخر‪،‬‬
‫يتق�صف على ّ‬ ‫ظلي الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫‪10‬‬ ‫كيف يخطو على املاء‬
‫للفكار رائحة‬‫لو كانت أ‬ ‫وال يغرق؟‬
‫تطلقها من الر�ؤو�س‪،‬‬ ‫‪3‬‬
‫كنا �سنحتاج فعال �إىل كمامات!‬ ‫عندما تلملم �ضوءها ال�شم�س‪،‬‬
‫‪11‬‬ ‫ترى أ�ين تختبئ الظالل؟‬
‫عندما حفرتُ ال�ضوء عميقا‪،‬‬ ‫‪4‬‬
‫يف أ�غواره انبج�س ظالم بكر‪.‬‬ ‫قد ال يكون الرخام‬
‫‪12‬‬ ‫البد ّية!‬‫�سوى رغوة أ‬
‫مثلما جتهل ال�سمكة انها يف البحر‪،‬‬ ‫‪5‬‬
‫ال تعرف زهرة الدفلى‬ ‫الق�صيدة �سمكة‬
‫ما طع ُم املرارة؟‬ ‫من أ�جلها أ�غط�س حتى العتمة‬
‫‪13‬‬ ‫كي أ�الم�س بريق ّ‬
‫ف�ضتها‪.‬‬
‫جتف ُل الع�صافري من فزاعة احلقل‪،‬‬ ‫‪6‬‬
‫لكنها ال تهاب رجفة الغ�صون‪.‬‬ ‫ال�س ّراب‪:‬‬
‫‪14‬‬ ‫تلعث ُم املاء‬
‫داخل الزنزانة‪،‬‬ ‫يف عط�س الرمال‪.‬‬
‫أ�خذتُ ظلمة ج�سده‬ ‫‪7‬‬
‫ت�ضيء بالتدريج‪.‬‬ ‫الهواء الذي مزقته الرياح‬
‫‪15‬‬ ‫والروائح‪،‬‬
‫كلما ر أ�يتُ ف َم اجلمجمة العاري‪،‬‬ ‫�سرتفوه الفرا�شة‬
‫�سمعتُ �ضحكات املوت أ‬
‫البد ّية!‬ ‫بكل أ�ناة‪.‬‬
‫‪204‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�شيء غري جثة تطفو بني ال�صمت والرنني‪ .‬ال أ�حد‬ ‫ط ّيات بيا�ض‬
‫ال�سود �سواي‪ .‬يف قلب املح ْرقة‬ ‫يرى يف �ضوئي أ‬
‫ووقفتُ أ�مام جثة نهار �آخر‪ .‬هل يطفئ الرنني ظلمة‬
‫أ��شتهي مل ْم�س النار‪ .‬ف�أي موت يحفظ رمادي‪ ،‬أ�دخر‬
‫الخاديد ت�أكل أ�حداقي‪،‬‬ ‫فيه ناري الهاربة؟ من هذه أ‬ ‫كانت تنتظرين؟‬
‫تتف�سخ نب�ضاتُ اليد يف‬ ‫واتك�أتُ على وقفتي‪ .‬الرائحة نف�سها يف الثياب‪.‬‬
‫�صخب البيا�ض‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫حيلتي‬
‫ك�أنني أ��سمع أ‬
‫الر�ض املع�ش�ش‬
‫غ�ضون املاء ف�أجر ُر أ��سماء من�س ّية‪ ،‬بهجة حرمان‪.‬‬
‫تتموج يف العروق وبيا�ض يف‬ ‫هناك طريدة أ�خرى ّ‬ ‫حتت حلاء ال�شجر البعيد قبل أ�ن ميوت‪ .‬ك�أن هذه‬
‫للبواب‬ ‫طور الوالدة تنوء به الظالل اجلريحة‪ .‬أ‬ ‫الوردة تدربني على ما �ستقول يف أ�ق�صى الذبول‪.‬‬
‫يتلون املوت بال�صهيل‬ ‫ال�ضواء الراجفة‪ّ .‬‬ ‫تهم�س أ‬ ‫عيني ك ْمدة الرتاب خطفتهُما من‬ ‫ألين خ�شيت على َّ‬
‫املكظوم‪ .‬خلف حدائق الليل حتملق �إلينا ال�صباحات‬ ‫و�شف دمي حتى ر أ�يت‬
‫ّ‬ ‫الغبطة اجلاثمة على القلب‪.‬‬
‫امل�ضرج‬
‫ُ‬ ‫املُر ْبد ُة مثل طيور عابرة‪ .‬أ�يها احلج ُر‬ ‫ال�صدقاء‪ .‬يف قبلة عابرة‬ ‫ما مل تلده بع ُد �صرخات أ‬
‫ال�سوار ويف القبور‪ ،‬ما‬ ‫ب�أ�سمائنا وامل�أ�سو ُر يف أ‬ ‫أ�تلفتُ حلظة اجلي�شان‪ ،‬ووقفتُ أ�نتظر ما لن أ�تع ّرف‬
‫َ‬
‫نر�ضعك جنوما‬ ‫زلنا نندف لك أ��صابعنا حاملني ب�أن‬ ‫عليه يف هذا ال�ضجيج‪ .‬ال تق ْل ر أ�يتُ ‪ ،‬ليقر أ�ك َ‬
‫عماك‬
‫ُت�ضلنا‪.‬‬ ‫الح�شاء‪ ،‬وال‬ ‫ظل غائر يف أ‬ ‫أ�وال‪ .‬كتبتُ من أ�جل ّ‬

‫من �أعمال �أحمد املعمري ‪ُ -‬عمان‬

‫‪205‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سالم ًا �أيتها احلمراء كلون الدم الفل�سطيني‬


‫مو�سى حوامدة‬
‫�شاعر من فل�سطني‬

‫ح�سن ًا‬ ‫لنهتف للوردة‪:‬‬


‫ليظل بحرها �أزرق‬ ‫�سالم ًا �أيتها احلمراء كلون الدم الفل�سطيني‬
‫فرمبا نحتاجه قريب ًا‬ ‫ري العامل‬
‫مل ن�ستطع تغي َ‬
‫لنقول للماء كالم ًا قا�سي ًا‬ ‫مل ن�ستطع جلم العدوان‬
‫عن عزة النف�س‬ ‫مل ن�ستطع وقف املجزرة‬
‫وم�سقط الر�أ�س‬
‫ومعنى الوطن‪.‬‬ ‫ح�سنا ‪..‬‬
‫لنفعل �أ�شياء �أف�ضل‬
‫ح�سن ًا‬
‫لنهتف للوردة‬
‫�سن�ستعري من اجلهات غروبها‬
‫�سالم ًا �أيتها احلمراء كلون الدم الفل�سطيني‬
‫لنقنع اجلرمية بفائدة الغروب‬
‫�سالما �أيتها الزكية‬
‫م�ضى وقت طويل‬
‫وهي َت�رصع �أرواحنا‬ ‫�سالم ًا �سالم ًا و�أنت ت�صمدين �أمام اجلنازير‬
‫و(عناة) الهي ٌة عنا‬ ‫ب أ�غ�صانك الواهية‬
‫م�ضى وقت ثقيل‬ ‫بلحمك العاري‬
‫والطبيعة �صامتة متار�س التحديق يف‬ ‫ب أ�وراقك الغ�ضة و�سحرك الب�سيط‬
‫جراحنا‪.‬‬ ‫�رصت وجه ًا جديداً الحتفاالت الع�شاق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قتالنا كثريون‬ ‫مل ن�ستطع �أن ن�شعل النار‬
‫لكن حياتنا قادمة‬ ‫ّ‬ ‫يف حطب امل�ستحيل‬
‫قتالنا و�سيمون‬ ‫مل نخرب هالمية الفيزياء‬
‫لكن جيناتنا قادرة‬ ‫وانحياز ال�رش يف عفن أال�سطورة‬
‫هينة‬
‫رياحنا ّ‬ ‫مل نرفع �أيدينا لنم�سك غربان العدو‬
‫لكن �إع�صارنا مري�ض‬ ‫ح�سن ًا‬
‫رمبا َنك�شف له عالج ًا يف رماد أالج�ساد‬ ‫لنم�سح الغبار عن وجه ال�سماء‬
‫املحروقة‪.‬‬ ‫لتظل �سماء غزة زرقاء‬
‫مل نقلع م�ستوطنات ال�رش‬ ‫فرمبا نحتاجها‬
‫مل نفق أ� عني الدمار‬ ‫لن�ضع �أ�صبع ًا يف عني ال�شم�س‬
‫ح�سن ًا‬ ‫ونفتك بخيوط الذهب ال�صفراء‪.‬‬
‫لنفعل �شيئا لرتوي�ض احلكاية‬ ‫قوارب ال� ؤش�م من جهة املاء‬
‫َ‬ ‫مل ُنخر�س‬
‫‪206‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الطيور التي ظلت تطري بعد خيانة ال�سماء‬ ‫لي�ست آ‬
‫الفات �رشاً مطلقا‬
‫الطيور التي مل ترجتف من لعبة املوت‬ ‫�سينمو الربتقال هناك‬
‫الطيور التي مل ُتخِ فْها ال�صواريخ‬ ‫�سيكرب الناجون من املذبحة‬
‫ومل تك�رس �أجنحتها الطائرات‪،‬‬ ‫�سيكرب جرحنا �سنة جديدة‬
‫لكننا لن ُنقلع عن أالمل‬
‫ح�سن ًا‬ ‫لن َنقلع �شجر احلنني جلبل الكرمل‬
‫مت�سع من الوقت لتقطيب اجلراح‬
‫ٌ‬ ‫لدينا‬ ‫لبحر عكا و�سماء يافا‬
‫مت�سع من الوقت لت�شذيب التفا�صيل‬ ‫ٌ‬ ‫لرتاب الرملة البي�ضاء‬
‫�ستبد�أ احلكاية من �أولها‬ ‫لن نقلع عن ر ؤ�يا ال�سماء وفي ًة لع�شاقها‬
‫نرفع �سقف بيتنا قليال‬ ‫حاني ًة لبيوتها أالر�ضية و�أبنائها الب�سطاء‪.‬‬
‫نقر�ص خ َّد الهواء‬ ‫ح�سن ًا‬
‫فريجتف الكون من جديد‪.‬‬ ‫�ستبقى الطيور لنا‬

‫ت�صوير �سعيد احلارثي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪207‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رحلة �صيد ال�سمك �أو رجل البنك الفو�ضوي‬


‫حممد �آدم‬
‫�شاعر من م�رص‬

‫رجل البنك الفو�ضوي الذي يعرف �أنه ال ينق�صه‬ ‫رجل البنك الفو�ضوي‬
‫الغرام‬ ‫الذي يقب�ض على قططه يف امل�ساء‬
‫�أو امليكروبا�ص‬ ‫ويجل�س اىل �شموعه ال�سوداء‬
‫لكي ي�ؤ�س�س لدورة ر�أ�س املال‬ ‫لي�أكل حلم امر�أته يف النهار‬
‫و�أثرها احلا�سم يف لعبة التاريخ‬ ‫هل يزيف ميزانيته‬
‫�أم ي�ضحك على الهواء وهو مير من خالل �أنبوبة واجلغرافيا‬
‫الفو�ضوي‬ ‫ما�صة‬
‫ابن ماء ال�سماء‬ ‫على اجلدران؟‬
‫الذي ين�رش ميزانياته‬ ‫رجل البنك الذي ي�ضبط النقود متلب�سة‬
‫ودفاتر ح�ساباته على ا ألر�صفة‬ ‫وهي متار�س البغاء يف بئر ال�سلم‬
‫ويف الليل يعلق مالب�سها الداخلية على ال�رشفات واجلدران‬
‫وفوق �أ�سطح البيوت املت�آكلة حتى ال ت�صيبها‬ ‫ويف اعلى نقطة فوق ال�سطوح‬
‫العثة‬ ‫والعمارات‬
‫�أو ت�أكلها الفئران‬ ‫وذلك بدال من علم الدولة الر�سمي‬
‫من فرط ما �أعمل فيها م�صباحه الذي يكاد زيته‬ ‫وبعد �أن يفرغ من كل ذلك متاما‬
‫ي�ضيء‬ ‫يجل�س اىل عادياته‬
‫ولو مل مت�س�سه النار‬ ‫وموداته‬
‫رجل البنك الفو�ضوي‬ ‫ليقر� أ نهج البالغة لالمام علي‬
‫الذي يومل لكتائب الغبار �أمنياته‬ ‫و�رشح ابن �أبي احلديد‬
‫ور�أ�س املال لكارل مارك�س والفتوحات املكية ومالب�ساته التي ال تنتهي �إال عند حدود‬
‫الر�أ�سمالية املتوح�شة‬ ‫ومقاتل الطالبيني و�ألف ليلة وليلة‬
‫وا أل�صولية اجلديدة‬ ‫ورجوع ال�شيخ اىل �صباه‬
‫وحروب الردة‬ ‫الخ ‪ ...‬الخ‬
‫وعندما يخيفه النعا�س �أو ت�أخذه �سنة من النوم وكتائب الرب املقد�سة‬
‫وهي تدافع عن االله اجلديد‬ ‫ال يجد ما يفعله �أو يعول عليه‬
‫يف ادارة ا أل�صول‬ ‫�سوى �أن يربط حذاءه‬
‫وتخلي الدولة عن دورها احلا�سم‬ ‫اىل رجل ال�رسير‬
‫ل�صالح جمموع من الفئران ال�ضالة‬ ‫خ�شية ان يفقده يف ال�صباح‬
‫والكالب املتوح�شة التي تنام يف مراحي�ض‬ ‫وهو واقف على حمطة البا�ص العمومية‬
‫ال�سلطة ليل نهار‬ ‫يف انتظار حافلة تقله اىل ال�سماء ال�سابعة!!‬
‫‪208‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لل�سيد الو ت�سو يف كفة‬ ‫فيما تبحث لنف�سها عن موطئ قدم‬
‫وا أل�صول واخل�صوم يف كفة‬ ‫حتت �أحذية اليانكي‬
‫ويغلق عليها يف اخلزينة امل�سلحة باملفاتيح‬ ‫و�أعالم البيت ا ألبي�ض‬
‫خ�شية �أن ي�رسقها الل�صو�ص مع العمالت‬ ‫التي ترفرف دائما‬
‫الورقية‬ ‫على م�ؤخرة ر ؤ��ساء العامل الثالث‬
‫وعمالء الـ‪ CIA‬فيما العلوج ا ألمريكان ي�شعلون وال يفرج عنها �إال بق�سيمة ال�صادر‬
‫والوارد‬ ‫احلرائق املدوية‬
‫بانتظار ان يفتح جنته املوعودة‬ ‫يف قبة ا إلمام علي‬
‫لرجال ا ألعمال‬ ‫وا ألهواز‬
‫وال�رشكات متعددة اجلن�سية‬ ‫ومدينة الر�شيد‬
‫على �أن ي�صدر مر�سوما �إلهيا يف نهاية ا ألمر‬ ‫وي�ستبدلون الكتاب املقد�س‬
‫بطرد الفقراء واملعوزين من جنته املوعودة‬ ‫بوثيقة الدم والفا�صوليا‬
‫هذه‬ ‫ما الذي يفعله رجل البنك الفو�ضوي‬
‫�سوى �أن يجل�س يف ركن الغرفة ليعوي كالكالب رجل البنك‬
‫ذو العوينات‬ ‫والقطط‬
‫الذي ي�ضع املونوكل على طرف �أنفه لكي ينظر‬ ‫بينما العاهرة زوجته‬
‫اىل العامل‬ ‫ت�أخذ يف تلوين فخذيها بالبطاط�س واللفت‬
‫من خالل ما�ضيه الذي �أكلته ال�صدقات‬ ‫وكافة العمالت ا ألجنبية‬
‫ثم تبد� أ يف التمرين اليومي على �رضب �صورته والتربعات‬
‫وال يب�رص �إال تلك املخلوقات الرثة التي ت�سري يف‬ ‫التي تنام على �أر�ضية الغرفة‬
‫ال�شوارع اجلانبية‬ ‫ذات الرائحة الزنخه با ألحذية‬
‫كا ألوبئة وا ألرانب املجففة وهي تفت�ش يف‬ ‫والقباقيب ال ل�شيء‬
‫�صناديق الزبالة‬ ‫�إال لتتعلم كيف متار�س اليوجا‬
‫عن لقمة �سائغة �أو وجبة د�سمة من وجبات �أبناء‬ ‫بعد �أن فقدت االت�صال‬
‫الذوات‬ ‫اجلن�سي بالتاريخ‬
‫الل�صو�ص اجلدد للوطن‬ ‫واجلغرافيا‬
‫واخلونة‬ ‫فيما ت�ضع يف �سوتياناتها املزرك�شة‬
‫اجلوا�سي�س‬ ‫�أوراق الدوالر املزورة‬
‫رجل البنك الفو�ضوي‬ ‫ومت�سح بها مراحي�ض ال�سكك احلديدية‬
‫الذي ي�سكر يف امل�ساء على طاولة من ق�ش‬ ‫انتقاما من احلرا�س اجلدد للهيكل‬
‫وخيانات‬ ‫وعمالء الـ‪CIA‬‬
‫ويحلم بن�ساء جوبا اال�سطوريات املختنقات‬ ‫وجرناالت �أمريكا املتوح�شة‬
‫بال�شهوة‬ ‫اللب�ؤة‬
‫والزنوجة‬ ‫رجل البنك الفو�ضوي‬
‫وال ي�ضع يف ثالجاته ا ألمريكية ا ألتوماتك‬ ‫الذي ي�ضع التعاليم املقد�سة‬
‫‪209‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وال ي�شري اليه �إال ب�سبابته التي تت�آكل كقاتل‬ ‫�إال �صورة �أرن�ستو جيفارا �أو موت�سي توجن‬
‫ول�ص‬ ‫وهو م�سجى على طاولة من خ�شب وحنانات‬
‫و�سوف يقلب الليل يف �أول مقلب زبالة ي�صادفه‬ ‫فيما ما يبك الدم من رئتيه‬
‫الليل ذلك املجهول ذو العتمة والقبعات‬ ‫وحول فتحتي ا ألنف الر�صا�صيتني‬
‫الذي يتعدده دائما بالكوابي�س وال�سجن‬ ‫حتى ال تقلقه الكوابي�س‬
‫فيما يرتك لرغباته الورقية التي تظهر وب�رضاوة‬ ‫وال يت�سنى له النوم �إال بعد ان يتناول ك�أ�سني من‬
‫على م�ؤخرة كارل مارك�س‬ ‫الفودكا امللوثة با ألرغفة اجلائعة‬
‫ومارتن لوثر كنج‬ ‫وحليب ا ألمهات‬
‫وال�سيدة مرمي‬ ‫فيما يعيد تخطيط العامل بحيث يجعل ا ألعايل‬
‫و�سوف ي�ضع � آالف الدوالرات املزيفة كذلك‬ ‫�أ�سافل!‬
‫بني �شفتي رائعة ليوناردو دافن�شي‪-‬‬ ‫مل ال يحب�س رجل البنك الفو�ضوي‬
‫اجليوكاندا‪-‬‬ ‫كافة كوابي�سه التي تطارده على الع�شاء يف قف�ص‬
‫حتى ال تعود تغمز له بعينيها اللعوبتني كمحرتفة‬ ‫من احلديد والرخام‬
‫دعارة ر�سمية‬ ‫ويلقي بها حتت �أرجل املارة‬
‫ولكي ي�ضع تلك االبت�سامة اللعينة حتت حذائه‬ ‫وينزل باملايوه وال�سوتيان لكي ميار�س ريا�ضة‬
‫وليب�صق على العامل من بني �رسواله‬ ‫العدو وال�سباحة فوق بحرية من ا ألحالم‬
‫و�رشفة م�ؤخرته‬ ‫الكرتونية‬
‫مل ال يجرب رجل البنك الفو�ضوي‬ ‫التي قن�صها من القيمة امل�ضافة للعدالة‬
‫�أن ي�ضع � آلة عد النقود �أمام �سلفادور دايل‬ ‫والديون املعدومة‬
‫والكتاب املقد�س‬ ‫و�أ�صحاب العمالت امل�رضوبة‬
‫و�أن ي�ضع املكن�سة الكهربائية فوق ر�أ�س هيجل‬ ‫وجتار املخدرات‬
‫والقدي�س بول�س الر�سول‬ ‫وكافة غا�سلي ا ألموال على م�ستوى العامل‬
‫ومل ال يجرب �أن ي�صنع من النهر قطعة فلني‬ ‫لكي ال ي�صاب بع�رس يف اله�ضم‬
‫تطفو‬ ‫�أو التبول الال�إرادي �أو حتى‬
‫على �سطح الذاكرة‬ ‫تطاله النو�ستاجليا‬
‫ومل ال يجفف تلك الزهور اال�صطناعية‬ ‫رجل البنك الفو�ضوي‬
‫التي تنبت على املائدة اىل جواره‬ ‫الذي ي�ضع النهار‪� -‬أخريا‪ -‬يف �سلة جانبية على‬
‫ويجعل منها �شوارع وابنية ت�صلح اليواء القطط‬ ‫مائدة القمار‬
‫ال�ضالة‬ ‫ومي�سك ب�سكينه القوية‬
‫و�أبناء الكالب‬ ‫ثم يقطع رقبته قطعة قطعة‬
‫بكافة فريو�ساتهم امللوثة بفقر الدم‬ ‫وال يرتك �سوى بيو�ضه التي تتعفن كقطعة‬
‫والغرغرينا‬ ‫خردة‬
‫مل ال يقول ان هذه احلياة �صندل‬ ‫�أو يعلقها على عمود نور يف و�سط ال�شارع‬
‫و�أن الليل عدة مقاه‬ ‫حتى ال يعود ذلك النهار قادرا على املواجهة‬
‫على قارعة البيمار�ستانات‬ ‫�أو ال�رصاع الطبقي‬
‫‪210‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وجترها ثالث خيول‬ ‫�أو جورب بثمانية �أزواج‬
‫وحوذي �أعمى‬ ‫و�رسوال‬
‫هل له �أن يقلق نف�سه �أخريا بكل تلك ا ألكاذيب ال ل�شيء �إال ليزن ا ألر�ض عن بعد بق�صبة من‬
‫هواء‬ ‫امللونة‬
‫ويقي�س امل�سافة ما بني املجرة واملجرة‬ ‫عن العدل واحلرية‬
‫بقلم ر�صا�ص‬ ‫وتدخل الرب احلا�سم يف التاريخ‬
‫وعدة مكعبات من ن�شارة وفحم‬ ‫مل ال يقول لنف�سه وهو يربط حذاءه‬
‫أ‬
‫ليكت�شف يف نهاية المر‬ ‫�أنا – هو – �أنا‬
‫ان ال�سماء �صندل‬ ‫وكما قال الرب ملو�سى وهو يهبه التوراة‬
‫والليل جورب‬ ‫�أهبه الذي �أهبه‬
‫بثمانية �أرواح!!‬ ‫مل ال يجرب رجل البنك الفو�ضوي كذلك‬
‫�أن ي�صنع من الكر�سي � آنية للزهور‬
‫ومل ال يجفف ال�شم�س التي تت�سلل �إليه من فرج‬
‫البيوت‬
‫حتت خمداته‬
‫ويف الليل يقف على ا ألر�صفة املبللة باخليبة‬
‫ليبيعها كتاجر خردة‬
‫�أو يجعل منها امر�أة تتبول على الر�صيف‬
‫الفو�ضوي رجل البنك‬
‫الذي يرى ان العامل ال �شيء �سوف يزرر ياقة‬
‫قمي�صه بعنكبوتات �ضخمة‬
‫و�سالحف‬
‫وينزل اىل �أر�ض ال�شارع ليب�رش بح�ضارة‬
‫ا ألنقا�ض والت�آكالت‬
‫رجل البنك الفو�ضوي‬
‫الذي يقب�ض على قططه يف امل�ساء‬
‫وي�أكل حلم امر�أته يف النهار‬
‫وعندما حتني �ساعته �سوف يهتف‬
‫يا لها من نهاية تع�سة‬
‫مل�رسحية ال تريد �أن تنتهي‬
‫ورمبا يعدل من و�ضع العامل‬
‫لي�ضع املوت قدام احلياة‬
‫ت�صوير ر�شاد الوهيبي ‪ُ -‬عمان‬ ‫�أو ي�رص املاء يف �رصة‬
‫و�سوف يطلع اىل ال�سماء ال�سابعة يف عربة من‬
‫زجاج وق�ش‬
‫‪211‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ر�سائل ق�صرية‬
‫ر�شـــا عمــــران‬
‫�شاعرة من �سورية‬

‫عليك � أن تعرف مذاق ذلك امللح‬ ‫‪1‬‬


‫حني ينف�صل الزبد عن فجره‬
‫الليل عميق الآن‬
‫بينما ظلي يحاول � أ�شكاال عديدة‬
‫ثمة وجع خريفي يدير احلوار بيننا‬
‫كطريقة يف �إغوائه للرمل‬
‫وجع مراوغ قليال‬
‫‪4‬‬ ‫لكنه يكفي كي يبعد عن � أ�سمائنا احلارة‬
‫الك�أ�س الذي يرافق توهجي‬ ‫معارك واهية‬
‫جمرد التما�س للفكرة‬ ‫ي�سببها ما يلمع � أحيانا‬
‫الر�سائل املخب�أة يف � أدراجي � أي�ضا‬ ‫يف هذا الليل العميق‬
‫املو�سيقا التي ال � أنتبه لها‬ ‫‪2‬‬
‫منف�ضة ال�سجائر املمتلئة‬
‫ك�أنني � أجل�س على حيز املوت‬ ‫الليل � أول بيا�ضي‬
‫و ك�أن احلياة حبة �صغرية وردية‬ ‫كتب يل ‪...‬‬
‫� أتناولها كي ال � أفقد حيز الفكرة‬ ‫ثم هطل الأزرق علي‬
‫‪.................‬‬ ‫ثم ال اعرف كيف راح الأحمر ي�شفني‬
‫هكذا كتب يل‬ ‫و الأ�صفر‬
‫هكذا كتب يل‬ ‫و البنف�سجي‬
‫انتظرته � أن ينام‬
‫‪5‬‬ ‫لكنه و هو الطفل العابث‬
‫لن تعرف امر� أة مثلي‬ ‫� ألقى برتقالته على ن�صف �إغفاءتي‬
‫� أكرث ه�شا�شة � أنا من ورقة خريف‬ ‫و � أ�سلمني لل�صباح‬
‫� أ�سهل دمعا من غيمة عامتة‬ ‫‪3‬‬
‫لكنني و � أنا يجرفني الكالم‬
‫لن ترى غري بروق يف جلدك‬ ‫لتعرفني‬
‫و على � أ�صابعك‬ ‫عليك � أن تلم�س البحر � أوال‬
‫حكايات قدمية‬ ‫كتبت له‬
‫تدل عليها � ألوان مل تزل‬ ‫و ال ت�سمني املوجة‬
‫منذ ذلك الوقت‬ ‫� أو برق املوجة‬
‫تخفق بالطراوة‬ ‫ال ت�سمني �شيئا‬
‫‪212‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫_ �رسير م�ؤجل منذ � أن ا�ستدل الربق‬ ‫‪6‬‬
‫على نافذتي و انزلق حتت قمي�ص نومي‬
‫كيف � أن احلياة حفيف باهت لأفكار‬
‫ما الذي تعرفه عن احلزن ؟؟؟‬
‫مطف�أة‬
‫‪ -‬ما تبقى من الك�أ�س � أ�سكبه على ج�سدي و‬
‫� أمتتم تعاويذ قدمية احفظها فين�ضح جلدي‬ ‫كيف � أن الأفكار قليل من جلد‬
‫بالنحيب‬ ‫ين�سلخ عن الكالم‬
‫ما الذي تعرفينه عن الك� آبة ؟؟؟؟‬ ‫كيف � أن الكالم بع�ض هاالت حول الذاكرة‬
‫‪� -‬سيجارة وحيدة يف علبة فرغت للتو‪� ,‬صمت‬ ‫كيف � أن الذاكرة جمرد لغز يتنف�س املوت‬
‫حيادي ‪ ،‬حزن حيادي ‪ ،‬انتظار حيادي ‪،‬‬ ‫كيف � أن املوت ‪....‬‬
‫جدران حيادية ‪ ,,‬وراء الباب املغلق ثمة ج�سد‬ ‫هنا غم�ست ري�شتي بالأ�صفر‬
‫ي�ستدعي ظالال باهتة في�سقط يف اخلواء‬ ‫و دغدغت �سواد اللوحة‬
‫ما الذي تعرفه عن ‪..........‬؟؟؟‬ ‫فكرت و � أنا � أكتب ل ِك‬
‫‪ -‬ما الذي تعرفينه عن ‪ .......‬؟؟؟‬ ‫‪7‬‬
‫�ساد الفراغ فج�أة‬
‫حني ان�سابت كلمات واهنة باجتاه الهواء‬ ‫‪-‬ما الذي تعرفه عن ال�صمت ؟؟‬
‫‪ -‬رجل وحيد ت�ؤرقه نقطة ماء وحيدة � أكرث و �سقط ظالن عن اخلط امل�ستقيم‬
‫بينما بالكاد‬ ‫وقعا من نهر يدخل ج�سدا مليئا باحلجارة‬
‫كان للكالم اجلديد � أن يفتح عينيه‬ ‫ما الذي تعرفينه عن الوح�شة ؟؟؟؟؟‬

‫‪213‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ثـيـــاب‬
‫ح�ســـن النــــواب‬
‫�شاعر من العراق يقيم يف ا�سرتاليا‬
‫ال�صعلوك‬ ‫ثوب ال�صعاليك‬
‫بو�صلة املدينة ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ألنه‬
‫ال�صعلوك‬ ‫هبط‬
‫طري‬ ‫�سهوا‬
‫ولكن بجناحني‬ ‫من‬
‫من تراب ‪.‬‬ ‫اجلنة‬
‫(‪)7‬‬ ‫على‬
‫رغيف اخلبز‬ ‫ا ألر�ض‬
‫الي�شعر با ألمل‬ ‫�صار �صعلوكا ‪.‬‬
‫ويكون �سعيدا‬ ‫(‪)2‬‬
‫حني تق�ضمه �أ�سنان‬ ‫املو�سيقى‬
‫ال�صعاليك ‪.‬‬ ‫التي ن�سمعها‬
‫(‪)8‬‬ ‫يف � آخر الليل‬
‫�أحيانا‬ ‫�إمنا هي‬
‫يهطل املطر‬ ‫خطى ال�صعاليك ‪.‬‬
‫ال لكي ي�سقي الزرع‬ ‫(‪)3‬‬
‫�إمنا لي�ستحم بقطراته‬ ‫مدينة بال �صعلوك‬
‫ال�صعاليك ‪.‬‬ ‫تعني‬
‫(‪)9‬‬ ‫�أغنية بال حلن ‪.‬‬
‫قطرة عرق‬ ‫(‪)4‬‬
‫�سقطت من جبني‬ ‫احلدائق‬
‫�صعلوك كادح‬
‫التي الي�ؤمها ال�صعاليك‬
‫مل تذهب اىل ا ألر�ض‬
‫يذبل جنيلها ‪.‬‬
‫�إنها �صعدت‬
‫لت�صبح جنمة‬ ‫(‪)5‬‬
‫‪214‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫(‪)6‬‬ ‫يف ال�سماء ‪.‬‬
‫وراء جنازتهم‬ ‫(‪)10‬‬
‫المت�شي غري النقود‬
‫ال�صعلوك‬
‫واللعنات ‪.‬‬
‫اليذهب اىل احلالق‬
‫(‪)7‬‬ ‫ألنه يخ�شى على جناحيه ‪.‬‬
‫يكرهون الثقافة‬ ‫ثوب الربجوازي‬
‫ألنها تك�شف �سوءاتهم‬
‫ويع�شقون اجلهل‬ ‫(‪)1‬‬
‫ألنه �صديقهم ‪.‬‬ ‫نقودهم‬
‫(‪)8‬‬ ‫قطرات عرق‬
‫من جبني الكادحني ‪.‬‬
‫حني ت�سقط دمعة‬
‫من عيونهم‬ ‫(‪)2‬‬
‫يتحمل جحيمها‬ ‫ألن قلوبهم‬
‫الكادحون ‪.‬‬ ‫من ق�صب‬
‫نرى جيوبهم‬
‫(‪)9‬‬ ‫ملأ ى بالورق ‪.‬‬
‫يكرهون ال�شفقة‬
‫(‪)3‬‬
‫�أكرث مما ميقتون‬
‫ال�رضائب ‪.‬‬ ‫حرام !!‬
‫ْ‬ ‫حتى طعامهم‬
‫ألنهم ي�أكلونه‬
‫(‪)10‬‬ ‫مبالعق من ذهب ‪.‬‬
‫ق�صورهم من عظامنا‬ ‫(‪)4‬‬
‫وثروتهم‬
‫من عرق جباهنا‬ ‫الدوالر قبلتهم‬
‫وكرو�شهم‬ ‫و�صالة القمار‬
‫معبدهم ‪.‬‬
‫من حلم �أكتافنا‬
‫وحني نطلب �أجورنا منهم‬ ‫(‪)5‬‬
‫يتنا�سون كدحنا‬ ‫الحاجة لهم‬
‫وب�أنوفهم معنا‬ ‫بفردو�س ال�سماء‬
‫يتحدثون‬ ‫ألنهم‬
‫ويرتكوننا بال قوت‬ ‫�شيدوها‬
‫والهم يحزنون ‪.‬‬ ‫على ا ألر�ض ‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أ�سالك �شائكة وحظر جتوال‬


‫منـــال أ�حمــــد‬
‫�شاعرة من ُعمان‬

‫حمطّ ة � أخر النهار‬ ‫ال�صورة التي ت�شبه متثا ً‬


‫ال‬
‫�إىل بيتنا الذي ال � أكاد � أتذ ّكره‪،‬‬ ‫رحم الأجنّة‪،‬‬
‫و� أنا � أ�ستعيدُ ذاتي املرهف َة من ِ‬
‫� أو ال � أرى منه �شيئاً‬ ‫يل � أعود متل ّفع ًة ب�أغ�شي ِة امل�شيمة‪.‬‬ ‫و� إ َّ‬
‫من هذه الذاكر ِة امل�ستع�صية‪ ،‬من تكرار احلروب‪،‬‬ ‫ظالم ظالم‬
‫من الدماء‪،‬‬ ‫يجذب هذه املدينة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�شيء‬
‫َ‬ ‫ال‬
‫ال�صباح وقهو َة‬
‫ِ‬ ‫من وج ِه � أُ ّمي حني تعدُّ � إ َ‬
‫فطار‬ ‫اجلماجم التي تكن�سها الرياح‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عدا‬
‫� أبي الأكرثَ �شعبيّ ًة‪،‬‬ ‫لك� َّأن يف ت�صادمها زعقه الأموات‪..‬‬
‫جميع ما � أعرف‪ ،‬من نف�سي ومنّي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫ظننت � َّأن تلك الأمواج‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫من حماقاتي املتعدّد ِة ومن اخوتي‪،‬‬ ‫يدُ اهلل التي ت�صافحني‪،‬‬
‫ربمّ ا كان جدّي � أكرثَ تفرّدا ً يف ت�أوي ِل الكالم‪،‬‬ ‫ت�شبه متثاالً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فتنت�ش ُل ال�صور َة التي‬
‫ذاكرت ُه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ال�سنوات‬
‫ُ‬ ‫أعي�ش نعم ًة فائ�ض ًة من القل ِق والتي فلم تلهب‬ ‫نعم ّانني � ُ‬
‫ظ َّل يتذ ّك ُر طوا َل عمر ِه ما�ضي حروب ِه ال�ضارية‬ ‫هي واحدةٌ من تلك‬
‫والتي كانت �إحدى ذكرياته الأخرية‬ ‫النعم‬
‫ملح ّط ِة � آخ ِر النهار‪،‬‬ ‫خلل ِق نه ٍر بعلو ن�رس‪.‬‬
‫و� أنا مثلما � أنا ال � أتذ ّكر‬ ‫� أر�ض اهلل‬
‫ال � أن�سى‪.‬‬
‫�رصح امللوك‪ ،‬جت ِد الرمال‬ ‫َ‬ ‫مهما تط�أ‬
‫مرمي‬
‫احلروب تكت ُّظ بها ال�ساحات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هي‬
‫البحار ِة � أنت‬
‫يا نخل َة اهللِ املختارة‪ � ،‬أغني ُة ّ‬ ‫�سالالت الأرواح‪،‬‬‫ُ‬ ‫كم�شجب تنعقدُ فيه‬ ‫ٍ‬
‫عنقاء ال تخ�شى الغرق‪..‬‬ ‫فمن الأق�صى و�إىل الفرات‪،‬‬
‫مرمي مرمي‬ ‫� أر�ضي و� أر�ض َك و� أر�ض اهلل‪،‬‬
‫يبزغ القمر‪.‬‬ ‫على ال�رشف ِة ُ‬ ‫وحظر جتوال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫� أ�سال ٌك �شائكةٌ‬
‫بني ف ّكي منر‬ ‫�صورة من اخليال‬
‫حذر من �سدُ ِم البحر‪،‬‬‫�إ ْ‬ ‫تقتحم املدن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الرياح‬
‫َ‬ ‫كما لو � َّأن‬
‫فلي�س نغمة الع� ّشاق �إال ّ �إ�شارة‬ ‫نت ال�سفن‬‫لربمّ ا العوا�صف على م ِ‬
‫النتحا ٍر جماعي‪،‬‬ ‫هي �صورة من اخليال‪.‬‬
‫لهياكل عظمي ٍة‬ ‫القمر يقرتب ما �إن يبتعد البحر‪..‬‬
‫وحطام �سفن‪،‬‬ ‫� ّأيتها ال�سماء‪ :‬فما من �شي ٍء‬
‫ين�سكب � أ�سود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وك ّل ما‬ ‫يعلو احلمامات‪.‬‬
‫‪216‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫غيمة ال هواء يحرّكها وال �سماء لها‬


‫ا�سماعيل فقيه‬
‫�شاعر من لبنان‬

‫(�إىل روح �أمي)‬


‫ح�رضت فور موتها و�سطعت يف �أيامهم قبل‬ ‫عمرتها يف حياته [ملاذا؟]‬
‫جنازتها التي غادرت بدون �سابق انذار او مر�ض‬ ‫[العاطفة التي ّ‬
‫ما هذا ال�صيف؟ كل ما فيه مر حتى كوب‬
‫التي توفيت فج�أة كي ال تتعبهم هل ماتت‬ ‫املاء يفي�ض بالنار والغبار! [روحها] �شاهد‬
‫حقاً‪[ .‬جاءه ال�صوت] يف اللحظة الفا�صلة بني‬
‫روحها ت�صعد اىل ربها تلم�سها جيدا ً من خالل‬
‫ح�ضورها وغيابها كان ابنها يلهو ب�أحا�سي�س‬
‫اللحظات الطالعة من كل ا ألماكن التي عرفتها‬
‫ت�شبه القنابل املوقوتة �أحا�سي�س غريبة ال تولد‬
‫حلظات من �أ�شجار وطيور ت�سري بانتظام‬
‫اال فج�أة‪ :‬حني رن الهاتف بني يديه �شعر و�أح�س‬
‫باجتاه غيابها «�أجنحة زرقاء» متتد ومتتد يف‬
‫وت�أكد انها لي�ست رنة هاتف كان ال�صوت يبث‬
‫ال�سماء [غابت] جبال تنهار �أنهار جتف تعب‬
‫هدوءا ً كهدوء‪ ،‬ما قبل العا�صفة ثم انتظمت‬
‫يحل عذاب تنه�ض غيوم تتعطل ايام تئن بحار‬
‫«التكتكات» رفع الهاتف بحذر جاءه ال�صوت‪:‬‬
‫توفيت �أمك‪ ..‬بعدما حل خرب املوت انك�رس زمنه‬ ‫يفي�ض ليل يغرق هو يف مكانه جال�س ينظر‬
‫تفتت وما زالت العوا�صف متار�س جنونها يف‬ ‫بهدوء يحاول جمع �أطيافها املن�شرتة [هل]‬
‫ملعبه [غيمة الذعر] لي�س يف احلديقة �سوى‬ ‫حني �صعد اىل اعلى عاطفتها مل يكن يعرف انه‬
‫غيمة هرمة حم�شوة بال�صمت العجوز ال هواء‬ ‫ال�صعود ا ألخري ومل يكن يتوقع ان هذا ال�صعود‬
‫يحركها ال �سماء لها غيمة الذعر ال تغادر‬ ‫العظيم يليه �سقوط خميف وحطام هائل‪ ..‬هو‬
‫مكانها �ستمكث طويالً مع العيون املقهورة‬ ‫الآن حتت يداوي �سقوطه يجمع حطامه‪ ..‬هل‬
‫بوابة احلديقة مقفلة اومفتوحة مل تعد �صاحلة‬ ‫�سيعرث على «علبته ال�سوداء؟» [ال] ال نوم يبدد‬
‫للخروج او الدخول [�صباحه] �صباح لي�س‬ ‫عذابه وال يقظة تخرجه من �صحوته القا�سية‬
‫ك�سواه اقفله املوت ب�إحكام ال منفذ له او ف�سحة‬ ‫ال �رشود �أو خيال ال ظنون تنقله اىل ا�سرتاحة‬
‫متكن الب�رص من التمدد قليالً �صباح �شحيح‬ ‫ولو عابرة! [حزن] يفي�ض وين�سكب يتدفق‬
‫يغلف نومه املعتل ميتد من غرفة غيابها اىل‬ ‫يف كل امل�سارب ال توقفه �سدود ملبد وداكن‬
‫قرب ح�ضورها [لي�س] ما زال حتت قو�س القهر‪:‬‬ ‫عنيف و�رسيع ي�ستمر ال ب�شائر بقرب نهايته‬
‫�صورتها يف كل مكان وقلبه اي�ضاً ولي�س بو�سع‬ ‫اىل اين انت �سائر ايها العنيف املدمر يا حارق‬
‫ب�رصه ما يفعله قلبه [جموع] مر� آته �صافية‬ ‫القلوب يا م�شعل الآهات يا حزن؟ [فج�أة] التي‬
‫تعك�س �صورة الفتى الذاهب اىل حزنه اليومي‬ ‫�ساعدت ابنها انقذته من املوت بدعائها التي‬
‫جموع �أخرى يف املر� آة تهتف ملء احل�ضور‬ ‫�ضاعفت من حبها ألوالدها قبل نزولها اىل‬
‫والغياب‪� :‬أنا الك� آبة ب�أ�رسها‪.‬‬ ‫قربها واهدتهم ثروة اميانها قبيل غيابها التي‬
‫‪217‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قم�صان ُه !‬
‫البَح ُر ‪ ..‬يبدّل َ‬
‫ّ‬
‫ال�سيــفية‬ ‫َ‬
‫عائ�شــة‬
‫�شاعرة من ُعمان‬

‫مي‬
‫�صديقي َد ْ‬ ‫ْ‬ ‫ات‬ ‫البحر أ‬
‫بالغن َي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُيجامِ لني‬
‫وم �ضمائر َنا‬ ‫ُ‬ ‫جن‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ت�شتهي‬ ‫ا‬ ‫كم‬
‫َ‬ ‫ني‬ ‫راق�ص‬
‫َ‬ ‫فلنكن‬
‫ْ‬ ‫ف أ� ُ‬
‫�شهق ‪..‬‬
‫ني‬
‫‪  . .‬نا�سك ِ‬ ‫دمي عاري ًا‬ ‫ري ْ‬ ‫البحر ُقم�صـَان ُه لي�ص َ‬ ‫ُ‬ ‫ه ْل ب ّدلَ‬
‫حجرا النرّ ِد‬ ‫مي ! َ‬ ‫�أنا و َد ْ‬ ‫�صديق؟‬
‫ْ‬ ‫�صاحب �أو‬ ‫ٍ‬ ‫ككمان بال‬
‫ٍ‬ ‫ري �أ َنا‬ ‫و�أ�ص َ‬
‫فلنلم ب َقايا‬
‫ّ‬ ‫النبوات �أجمع َها ‪. .‬‬ ‫ّ‬ ‫ت�سقطُ م ّنا‬ ‫للمرايا تغ ّن ْي‬ ‫البحر �أكثرَ من طفلةٍ َ‬ ‫َ‬ ‫�أف َه ُم‬
‫املنايف مبندِيلِ �أق َدارنا‬ ‫�شجار‬
‫ُ‬ ‫ين الظ ّل ‪� . .‬أو تتوكّ أ� �أ‬ ‫ني يهجر ْ‬ ‫و�أفهم ُه ح َ‬
‫االت‬
‫قرون الغ َز ِ‬‫ِ‬ ‫�صفائح �أ�سفار َنا ْ‬
‫يف‬ ‫وند�س‬ ‫بي‬‫ت�رشين ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫كي‬ ‫ريق على البح ِر ‪ْ ..‬‬ ‫من دمعةٍ �س أ� ُ‬ ‫رث ْ‬ ‫لي�س �أك َ‬ ‫َ‬
‫�شربين ع ّنا‬
‫َ‬ ‫الوحي‬
‫ُ‬ ‫يرتفع‬
‫ِ‬ ‫النبوة ‪/‬‬ ‫ت�سقطُ م ّنا ّ‬ ‫أ‬
‫و�س‬‫م�سافَة �أفواه َنا وك ؤ� ِ‬ ‫املوت ع ّنا َ‬ ‫ُ‬ ‫و َيرتفِع‬ ‫ملحي‬
‫ْ‬ ‫تقي�‬‫�أ ّ‬
‫البحر‬
‫ُ‬ ‫رس‬
‫لكي يك� َ‬ ‫زجاج ْ‬ ‫ٍ‬ ‫�سوى وت ٍر من‬ ‫ولي�س َ‬ ‫َ‬
‫مي ِة‬ ‫اله ِز َ‬ ‫بي‬
‫الرملِ ْ‬ ‫جمجمة َ ّ‬ ‫َ‬
‫قم�صان ُه ليقولَ ل َنا ‪:‬‬ ‫البحر َ‬ ‫ُ‬ ‫ه ْل ب ّدل‬
‫ظلّكم حزنكُم ‪..‬‬
‫موت ‪. .‬‬ ‫�س أ� ُ‬
‫يتعرى‬ ‫َّ‬ ‫من َدمي‬ ‫ين‪ . .  ‬و�أنا ْ‬ ‫الدروب تعا�رش ْ‬ ‫ُ‬
‫كما ت�شت ُهون‬ ‫فلتكُونوا َ‬ ‫يح‬‫م�سِ ٌ‬
‫املوا�سم‪/‬‬ ‫َ‬ ‫الغجرية ِ‬ ‫البحر بالزرق ِة‬ ‫ويقذفني‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ني‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫منت�شي‬ ‫ني‬ ‫�سبطَ‬ ‫انهم ؛‬ ‫ني ب أ�ح َز ِ‬ ‫حتاج �رسب ًا من الغج ِر ال َثمل َ‬ ‫�أ ُ‬
‫ق�ص‪/‬‬ ‫للر ِ‬ ‫ني ّ‬ ‫حذائ ِ‬ ‫أل�صل ّْي‬
‫م�سبحة ً لل�صال ِة‬ ‫َ‬ ‫تنب أ�‬ ‫التي مل ّ‬ ‫كالنور�سات ْ‬ ‫َ‬ ‫ك آ�خ ِر �آله ِة البح ِر ‪. .‬‬
‫غنيات؟‬
‫ِ‬ ‫أ‬
‫بال‬ ‫البحر‬
‫ُ‬ ‫لنا‬ ‫ملَاذا يجامِ‬ ‫مبقت ِل َها بع ُد‬
‫يجف ب أ��ضالع َنا �صوت َنا‬ ‫ّ‬ ‫وملّا َن�شِ ْخ ‪� . .‬أ ْو‬ ‫ان‬ ‫والكم ِ‬
‫َ‬ ‫فمي‬
‫ني ْ‬ ‫ذيب الق�صي َدة ب َ‬ ‫حتاج بلّورة ً أل َ‬ ‫�أ ُ‬
‫الغجري ال َقدمي؟‬ ‫ّ‬ ‫العجو ِز‬

‫‪218‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بالأم�س حلمت بك‬


‫عزيــزة را�شـــد‬
‫�شاعرة من ُعمان‬

‫عد‬ ‫كل االحالم غرقى بك‬


‫بالم�س حلمت بك‬‫أ‬ ‫وطيفك يت�شح بالغمو�ض‬
‫ظال الم�س الباقي من �شجني‬ ‫أالماين اجلتها لغد �آخر‬
‫املتبقي من رهف العاطفة‬ ‫لعا�شق لن ي أ�تي‬
‫كل جدران القرية القدمية تختزل �صوتك‬ ‫�أوي أ�تي يف غياهب احللم م�سترتا‬
‫تلك ال�ضحكة‬ ‫�أين �أنت ت�رشق آ‬
‫الن‬
‫مازالت تخرج يف الليايل املقمرة احلاملة‬ ‫�أي ال�سماوات تلتحف بك‬
‫من اجلدران‬ ‫كل اجتاهات البو�صلة ت�شري �إىل �رسابك‬
‫ي�سمعها الرعاة النائمون خلف الوادي‬ ‫والفراغ الذي تركته اليزال ينتظر‬
‫واخلافتون من ال�سحرة‬ ‫يا دلع النور�س املحلق يف خميلتي‬
‫حتكي اجلدات ق�صتها لل�صغار قبل النوم‬ ‫�أيقونة املا�ضي ال�سعيد‬
‫�شجرة الربتقال دخلت هي أالخرى يف �إغفاءة‬ ‫متيمة اجلندي املجهول‬
‫تت�شح باخلريف يف �صمت ‪.‬‬ ‫ابت�سامة طفل يف معركة‬

‫من �أعمال مها اللمكي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪219‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سنوات ‪....‬‬
‫أ��شــرف العــناين‬
‫�شاعر من م�رص‬

‫الأمل‪.‬‬ ‫�سعداء ب�أننا عدنا ‪، ..‬‬


‫� أقل ما ميكن جوالتنا الق�صرية هنا � أو هناك‬ ‫نتخفف من رفقتها غري العادلة لظهورنا ‪،‬‬
‫� أقل ما ميكن ‪..‬‬ ‫ال�سنوات التي تلفت بفعل احلرارة والندم ‪، ..‬‬
‫كالعادة مرة وراء مرة نختلي ب�أنف�سنا‬ ‫وها تتخل�ص ال�سفينة من كل حمولتها لتطفو‬
‫ننفرد بجوعنا الطيب ‪.‬‬ ‫مرة � أخرى ‪.‬‬
‫حتت � أقدامنا – لي�س يف مكان � آخر – اجلنة‬ ‫نحن الذين عدنا‬
‫التي‬ ‫بغري ري�ش رمبا ‪ ،‬بغري � أ�سماء ‪ ،‬بغري ع�شيقات‪،‬‬
‫يف كل مرة متنحنا حق اللجوء‬ ‫ولكن بذنوب � أقل ‪.‬‬
‫فن�سارع �إىل غر�س نوايانا بالقرب من حواف‬ ‫على العتبات من�سح ما علق ب�أحذيتنا من‬
‫الو�سائد‬ ‫كوارث‬
‫البلكونات ‪ ،‬طاولة الكتابة‬ ‫‪ -‬وك�أننا عائدون �إىل حياتنا من جديد – نفتح‬
‫نا�سني � أن الأمطار نادرة يف البيوت ال�ضيقة‬ ‫عيوننا على الهواء‬
‫و� أن دموعنا ملحية � أكرث من الالزم‬ ‫الذي ينتظر خط�أً ما كي يتحرك ‪،‬‬
‫نحن الذين عدنا �إىل احلجرات املدهو�سة ببطء‬ ‫بغري �شك ر� أ�سنا هذا الذي مييل �إىل الداخل هو‬
‫خطواتنا ‪،..‬‬ ‫هذا اخلط�أ ‪،..‬‬
‫ترددنا الكفيف ‪،..‬‬ ‫كزاهد ٍ ال يتوقع زوارا ً ارتبك املكان‬
‫�ساعاتنا الرملية ‪، ..‬‬ ‫ارتع�ش اللهب الواهن يف يده‬
‫�إىل �صحراء تبي�ض بالقرب من � أنفا�سنا‪، ..‬‬ ‫ب�صعوبة ٍ �رسقت املقاعد بع�ض ال�ضوء لتتعرف‬
‫ُ‬
‫�إىل �أَ�رسّتنا ‪،..‬‬ ‫علينا‬
‫املناطق اخلطرة التي حتفظ � أهوالنا برزانة‬ ‫نحن � أ�صحابها‬
‫مري�ض فقد الأمل‬ ‫نحن الذين عدنا �إىل منافينا املحببة �إىل‬
‫تهيب بالوقت ‪:‬‬ ‫نفو�سنا‪.....‬‬
‫من ف�ضلك انتظر قليالً ‪..........‬‬ ‫هذه دواليبنا تفتح دلفها‬
‫مل العجلة ؟؟؟‬ ‫دون � أن تتح�رس كبقية الزوجات على هدايانا‬
‫نحن مذعورون ونتحلى ب�ضبط النف�س كما‬ ‫الفقرية ‪ .‬حظها الرديء‬
‫علمتنا‬ ‫مثل امر� أة من ع�رص جداتنا البدينات تهيئ‬
‫� أال ترى ذلك ؟؟؟‬ ‫الرفوف مكاناً نظيفاً لطي مالحمنا‬
‫� أال تتعطف وتن�سانا‬ ‫مالحمنا التي لن نحتاج �إليها‬
‫ولو لنعدل هندام � أيامنا ‪،...‬‬ ‫ما دمنا �سنمكث طويالً‬
‫على الأقل نتذكر ملاذا نحن هنا � أ�سا�ساً ؟؟؟؟‬ ‫مادمنا �سنجرب طرقاً غري تقليدية لعالج‬
‫‪220‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�سقط ر� أ�سه‬
‫تلك املناطق احلرجة على حدود � أرواحنا‬ ‫نعدك‪ :‬ال مهرب لنا‪ ،‬معنا هزائمنا‪ � ،..‬أوتادنا‪،..‬‬
‫�رشّقنا‬ ‫ثم � أننا لن نخدع القبور باحلكايات املعادة ‪:‬‬
‫غرّبنا‬ ‫فقط �سنتمدد هنا � أو هناك ككلمات قدمية ‪،‬‬
‫حتايلنا على عالمات الطريق‬ ‫مغربين من معارك ال �ش�أن لنا فيها‬
‫� أبناء �شيبة نحن الذين جئنا هكذا بغري تخطيط‬ ‫نعد ال�شاي‬
‫‪،..‬‬ ‫ونرتك الأكواب باردة وممتلئة‬
‫وبغري تخطيط تع�صف بنا احلياة !!!‬ ‫فتعرف طوابري النمل � أننا م�شغولون بالتحديق‬
‫يف كل مرة مل يكن لنا يد‬ ‫يف بع�ضنا البع�ض‬
‫زورنا مالحمنا‬ ‫ثم ‪,.........‬‬
‫ابت�سمنا مبرارة ل�رشطي املرور‬ ‫‪ -‬وبال �رضورة – نفرد عظامنا ‪,‬‬
‫لل�سماء التي مل تهتم ‪.‬‬ ‫� أرواحنا هي الأخرى مفا�صلها تتفكك ‪،‬‬
‫حاولنا � أن نفهم‬ ‫‪ -‬ظانني � أننا فعلنا ما علينا – نغلق � أبوابنا‬
‫رفعنا ر ؤ�و�سنا كذئاب نحيلة حتارب ال�صحراء‬ ‫�شبابيكنا يف وجه ال�صدفة‬
‫دون ق�صد‬ ‫يف وجه احلياة ‪...‬‬
‫وحدنا كنا هنا‬ ‫احليطان التي تدربنا خلفها على الن�سيان‬
‫وحدنا بقينا هنا‬ ‫�سميكة‬
‫لي�س � أكرث ‪.‬‬ ‫قلوبنا لي�س من ال�صواب ا�ستعمالها هكذا يف‬
‫رائحة العرق يف قم�صاننا‬ ‫ا�ستعماالت رخي�صة‬
‫� أحذيتنا املغربة بفعل الي�أ�س‬ ‫ناق�صون ناق�صون !!!‬
‫وك�أننا واثقون من حياتنا‬ ‫من يتهمنا بذلك ؟؟؟؟‬
‫من وجودنا‬ ‫وما ذنبنا �إذا كانت � أرحام � أمهاتنا �ضيقة لهذا‬
‫من حجارة العدم حيث بغري توقف تنهار فوق‬ ‫احلد ؟؟؟؟‬
‫ر ؤ�و�سنا‬ ‫ثم � أننا �سافرنا ‪،..‬‬
‫بع�ضنا كان ي�سخر مبرارة‬ ‫جندنا � أقدامنا لأن مت�شي طويالً ‪،..‬‬
‫ي�ضع خوذة‬ ‫من عتبة �إىل عتبة ‪، ..‬‬
‫ويق�ضم خبزه النا�شف‬ ‫من نهار �إىل نهار ‪،..‬‬
‫لكننا جميعاً ت�سمرنا � أمام املقابر‬ ‫�إىل ليل بذيول طويلة يعلق جنومه هكذا حول‬
‫�شاركنا يف جنازات مل تكن لنا‬ ‫� أعناقنا‬
‫ثم � أنهم ب�صعوبة � أفلحوا يف عد نهداتنا التي‬ ‫كتمائم حتفظنا من احلياة !!!!!‬
‫� أمطرت بالقرب من تلك الذكرى‬ ‫متنا كثريا ً ‪،..‬‬
‫ن�سياننا هو الآخر كان ينتظر دوره‬ ‫ويف كل مرة كان نق�صنا يقل‬
‫وما حدث هو � أننا هربنا من كل ذلك‬ ‫يزيد‬
‫� أعطينا ظهورنا لكلمات ال نعلم كيف احتملت‬ ‫لكنه ظل هناك‬
‫كل هذا اخللود‬ ‫مل ين�سحب � أبدا ً من ملعبه املف�ضل‬
‫‪221‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫� أي�ضاً ‪ ..‬الفم املفتوح ‪ ..‬الأ�صحاب‬ ‫«ك�أن �شيئاً مل يكن»‪ :‬كان ب�إمكاننا � أن نفهم‬
‫كما تقول الكتب ‪ ..‬احلبيبات ‪ ..‬ال�شعوب املرتوكة‬ ‫غري � أنه الوهم مهمازنا الذي حترك كنميمة‬
‫على خري ‪ ..‬احلماقة بغري نيّة ٍ ‪..‬‬ ‫لك�سب املزيد من الأ�صدقاء‬
‫اخلوف ‪ ..‬الطعام ‪ ..‬احلكمة ‪ ..‬ال�شجاعة كما‬ ‫هكذا وب�رضبة ٍعمياء من خيال ٍميت ٍ‬
‫طفل بعكازين ‪ ..‬املوت على �سبيل الدعابة ‪..‬‬ ‫عدنا حمملني ب�أرقام الهواتف‬
‫عالمات الطرق‬ ‫من غري � أن تفهم جيوبنا ب�أننا جمرد غيمة‬
‫‪ ..‬الرمال ‪..‬احل�صى ‪..‬حجارة الي�أ�س ‪ ..‬الأمومة‬ ‫�ستعرب �رسيعاً‬
‫‪ ..‬الذات بكل عاهاتها ‪ ..‬ال�شتاء ‪ ..‬النهود التي‬ ‫م�سافرون بال متاع ٍ ‪،..‬‬
‫ق�صدها � أن تكون لنا ‪ ..‬الغيوم ‪ ..‬احلوا�س ‪..‬‬ ‫لو كان � آبا ؤ�نا ببناطيل جينز لعلمونا‬
‫ا ألحالم ‪ ..‬ال�شم�س كلما تقافزت فوق ر ؤ�و�سنا‬ ‫من قال � أننا �سنهاتف طوب الأر�ض ‪:‬‬
‫ن�ؤكد له � أننا هنا‬
‫كمهرج فا�شل ‪ ..‬اخلمر جمهورنا الرخي�ص ‪..‬‬
‫ن�أكل جيدا ً ‪،..‬‬
‫الر� أفة ‪ ..‬النجوم على �سبيل احل�رص ‪ ..‬القمر على‬ ‫ندخن جيدا ً ‪،..‬‬
‫�سبيل احل�رسة ‪ ..‬احلرية دون ق�صد ‪ ..‬املوم�سات‬
‫نتو�سد ظهور ن�سائنا كفحول معلوفة جيدا ً‬
‫‪ ..‬املناعة ‪ ..‬منافينا الوفية رغم ذلك ‪� ..‬شبابيكنا‬ ‫ماهرون وممتلئون ‪:‬‬
‫‪ � ..‬أغ�شية البكارة ‪ ..‬خل�سات ال�صوم عن النميمة‬ ‫انه التواتر الأمل�س الذي يجعلهم � أي�ضاً يتخفون‬
‫‪ ,,‬احلروف ال�رشيفة ‪ ..‬ظالمنا الهند�سي ‪ ..‬الهواء‬ ‫خلف � أيامهم‬
‫‪ ..‬هم�سات املحبني القيا�سية ‪ ..‬الع�شم ‪ ..‬التبغ ‪..‬‬ ‫يختفون حتت ت�رصف ال�صدفة‬
‫�صحرا ؤ�نا هي الأخرى ‪ ..‬احل�شمة ‪ ..‬ال�صقيع ‪..‬‬ ‫اللغة غري طاهرة كما نعرف كل يوم ‪،..‬‬
‫كل �شرب ‪ ..‬كل �سنتيمرت مربع ‪: ..‬‬ ‫دروبنا ‪ ..‬قلوبنا ‪ ..‬املحطات البعيدة ‪ ..‬الكرا�سي‬
‫برباءة نعرف � أننا �ضحينا‬ ‫العمياء ‪ ..‬ال�سماوات ‪ ..‬الدموع‬
‫�ضحينا وانتهى الأمر ‪...‬‬ ‫املو�سيقى ‪ ..‬الكتابة حتت �ضغط عال ٍ‪ � ..‬أخطا ؤ�نا‬

‫من �أعمال منى العمري ‪ُ -‬عمان‬

‫‪222‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من مناوراتِ املما�س والدائرة‬


‫يا�ســـر عــثـمـان‬
‫�شاعر من م�رص مقيم يف البحرين‬

‫اخلا�رس ْة‬ ‫اخلج ْل)‬


‫َ‬ ‫ت�صارع الع�ش َق في�رصعها‬
‫ُ‬ ‫(�إهداء �إىل كل دائر ٍة‬

‫له‪:‬‬‫قالت ُ‬ ‫اجلنون‬
‫ُ‬ ‫حني ا�ستبدَّ ِب ِه‬ ‫َ‬
‫قدر‬
‫يت لو َ‬ ‫�أر� أ َ‬ ‫تنهدت‪:‬‬
‫علي‪،‬‬ ‫هئت ل ْك»‬ ‫«ما ُ‬
‫الزمان َّ‬ ‫ُ‬
‫بي ا أل ُ‬
‫قدار‪،‬‬ ‫همت َ‬ ‫�أو ّ‬ ‫حيث البداياتِ‬ ‫و�أتته من ُ‬
‫�صار الت�شظي‬ ‫�أو َ‬ ‫الربيئ ْة‬
‫�سيدا ً فوقي‪،‬‬ ‫وكذا ‪� -‬إذا كانت منابتُها‬
‫ماذا هنالك ينتظرْ؟‬ ‫معادل ًة �صحيح ْة ‪-‬‬
‫آالف املما�ساتِ‬ ‫ون � َ‬ ‫�س�أ ُك ُ‬ ‫تكون حا ُل الدائر ْة‬‫ُ‬
‫الكبري ْة‬ ‫مولَّهٌ‬
‫املما�س َ‬ ‫ِ‬ ‫�شيطان‬
‫َ‬ ‫لكن‬
‫َّ‬
‫تذكر �أنني قد ُ‬
‫كنت‬ ‫ل�ست ُ‬ ‫�أو َ‬ ‫بالطي�ش‪،‬‬
‫ِ‬
‫خطاً م�ستقيماً‬ ‫نزاق‪،‬‬ ‫وا أل ِ‬
‫فانثنيت عليك عطفاً‬ ‫ُ‬ ‫واملَ ْك ِر املعب�ِأ من‬
‫الع�شاق‬
‫ِ‬ ‫باركت فيك براء َة‬ ‫ُ‬ ‫اجلنون‬
‫ْ‬ ‫حماقاتِ‬
‫يوم ظننتُها‬ ‫َ‬ ‫و ألنها والد ُة ا ألوتا ِر‪،‬‬
‫بكرا ً لدي ْك‬ ‫وا ألقطا ِر‪،‬‬
‫امل�سكون‬
‫ُ‬ ‫يا �أيها‬ ‫جاذب ُة املما�ساتِ‬
‫زق املعت ِق‪،‬‬ ‫بالنَّ ِ‬ ‫العظيم ِة نحوها‬
‫واحلماق ْة‬ ‫العيب‬
‫َ‬ ‫رف�ضت � أ‬
‫الروح‬
‫ِ‬ ‫نور‬
‫ه ْل �ض َّل ُ‬ ‫املما�س‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فيك طري َق ُه‬ ‫تو�سلت‬
‫ْ‬
‫فظننت �أنيِّ قد‬ ‫َ‬ ‫بال�صمت جاراً‪،‬‬
‫خون معادل ْة‬ ‫�أ ُ‬ ‫والخَ َ َفرْ‬
‫التقريب‬
‫ُ‬ ‫مل ُي ْغ ِرها‬ ‫وتقاطرت‬
‫ْ‬
‫�أو طيْ ُ�ش الريا�ض ْة؟‬ ‫حزناً‬
‫ني‬
‫على جب ِل ال�سن ِ‬
‫‪223‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صو�ص‬

‫اللوحة للفنان � آندي وارهول ‪� -‬أمريكا‬

‫‪224‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جحيم ف�سيح‬
‫للكاتب أ‬
‫الرجنتيني‪ :‬جولريمو مارتينيز‬
‫ترجمة‪ :‬عبداهلل احلرا�صي‬ ‫ماجنوول ‬
‫ِ‬ ‫الجنليزية‪� :‬ألربتو‬
‫ترجمها من اال�سبانية �إىل إ‬
‫كاتب و�أكادميي من عُ مان‬
‫انعزال �رسفينو مل يكن مرده �إال �إىل اخلجل‪ � ،‬أما ال�سيدة‬ ‫«القرية ال�صغرية جحيم ف�سيح»‬
‫الفرن�سية فلعلها كانت يف غاية التكرب والعنجهية‪.‬‬ ‫مثل � أرجنتيني‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫جاءا من املدينة الكبرية ال�صيف املا�ضي‪ ،‬يف بداية‬ ‫حينما تخلو البقالة من الزبائن‪ ،‬وال ت�سمع فيها �سوى‬
‫املو�سم‪ ،‬وحينما فتح �رسفينو حمل احلالقة � أتذكر‬ ‫طنني الذباب كثريا ً ما ي�أتي على بايل ذلك ال�شاب الذي‬
‫� أنني ظننت � أنه �سوف ي�رض بعمل ملخور العجوز لأنه‬ ‫الطالق والذي مل يذكره � أحد يف‬ ‫مل نعرف ا�سمه على إ‬
‫كان يحمل دبلوما يف احلالقة‪ ،‬كما � أنه فاز بجائزة‬ ‫البلدة مرّة � أخرى‪ .‬ولأ�سباب ال � أ�ستطيع تف�سري كنهها‬
‫يف م�سابقة احلالقة الق�صرية‪ ،‬وكان يف حمله جمفف‬ ‫كنت دائماً � أتذكره بهيئته التي ر� أيناه فيها لأول مرّة‪:‬‬
‫ير�ش خال�صات اخل�ضار يف‬ ‫دوار‪ ،‬وكان ّ‬ ‫وكر�سي ّ‬ ‫�شعر‬ ‫مبالب�سه املغربّة‪ ،‬وبلحيته املنفو�شة‪ ،‬وعلى الأخ�ص‬
‫ّ‬
‫فروة ر� أ�س الزبون‪ ،‬بل � أنه كان ير�ش بع�ض اللو�شن‬ ‫ب�شعره الأ�شعث الطويل الذي غطى عينيه تقريباً‪ .‬ولأن‬
‫الكف عن ذلك‪ .‬كما � أنك جتد‬ ‫ّ‬ ‫عليك �إن مل تطلب منه‬ ‫الوقت كان مطلع الربيع فقد ظننت � أنه كان �شخ�صاً‬
‫الرف يف حمل �رسفينو � أحدث املجالت‬ ‫ّ‬ ‫دائماً يف‬ ‫متجهاً جنوباً لأجل التخييم‪ � .‬أخذ بع�ض علب الطعام‬
‫الريا�ضية‪ ،‬وفوق هذا كله كانت هناك ال�سيدة‬ ‫و�شيئاً من القهوة‪ ،‬وفيما كنت � أعدّ فاتورة ح�سابه نظر‬
‫الفرن�سية‪ .‬واحلقيقة � أنني مل � أعرف قط ملاذا �سماها‬ ‫�إىل انعكا�س �صورته على النافذة‪ ،‬و� أزاح �شعره عن‬
‫النا�س ال�سيدة الفرن�سية‪ ،‬ومل � أحاول � أبدا ً معرفة ذلك–‬ ‫جبهته‪ ،‬و�س�ألني �إن كان هناك حلاّ ق يف البلدة‪.‬‬
‫ولو حاولت لكنت �س�أ�شعر بخيبة الأمل حينما � أعرف‬ ‫يف تلك الأيام كان هناك حالقان يف بونتي فيجو‪.‬‬
‫� أن ال�سيدة الفرن�سية قد ولدت على �سبيل املثال يف‬ ‫� أدرك الآن ب�أنه له كان قد ذهب �إىل حمل ملخور‬
‫باهيا بالنكا‪ ،‬بل والأدهى والأمر � أنها ولدت يف بلدة‬ ‫العجوز ملا التقى � أبدا ً بال�سيدة الفرن�سية‪ ،‬وملا انت�رش‬
‫�صغرية مثل هذه البلدة‪ .‬و� أيا كانت حقيقة الأمر فاين‬ ‫القيل والقال عنهما‪� .‬إال � أن حمل ملخور كان يف‬
‫مل � ألت ِق بامر� أة مثلها‪ .‬لرمبا كان �سبب اجللبة حولها‬ ‫الطرف الآخر من البلدة‪ ،‬ومل � أكن � أعلم الغيب ف�أحد�س‬
‫�صداراً‪ ،‬بل انها حتى يف ال�شتاء‬ ‫هو � أنها مل تكن تلب�س ِ‬ ‫مبا حدث بعدها‪.‬‬
‫مل تكن ترتدي � أي �شيء حتت �سرتتها‪ .‬ورمبا كان‬ ‫وما حدث هو � أنني � أر�سلته �إىل حمل �رسفينو‪ ،‬ويبدو‬
‫هذا ب�سبب ظهورها املعتاد يف حمل احلالقة مرتدية‬ ‫� أن ال�سيدة الفرن�سية جاءت فيما كان �رسفينو يحلق‬
‫� أقل املالب�س ووقوفها � أمام املر� آة لت�ضع م�ساحيق‬ ‫له �شعره‪ .‬نظرت ال�سيدة الفرن�سية �إىل ال�شاب بذات‬
‫التجميل على وجهها‪ � ،‬أمام � أعني اجلميع‪ .‬غري � أن‬ ‫الطريقة التي تنظر بها �إىل كل الرجال‪ ،‬وهنا بد� أت‬
‫الأمر مل يكن له عالقة بهذا كله‪ .‬كان هناك � أمرٌ يتعلق‬ ‫الق�صة اللعينة‪ ،‬حيث � أن ال�شاب قرر � أن يقيم يف البلدة‪،‬‬
‫بال�سيدة الفرن�سية � أكرث �إرباكاً من ج�سمها الذي بدا‬ ‫وكلنا فكرنا يف الأمر ذاته‪ � :‬أنه بقي ب�سببها‪.‬‬
‫دائماً مثريا يف املالب�س التي كانت ترتديها‪ ،‬بل � أكرث‬ ‫مرّ عام منذ � أن جاء �رسفينو وزوجته �إىل بونتي‬
‫�إثارة من انخفا�ض فتحة �صدرها‪ ،‬فقد كانت حتدق‬ ‫فيجو‪ ،‬ومل نعرف الكثري عنهما‪ ،‬ومل يكونا يختلطان‬
‫يف عينيك بثبات حتى � أنه يكون � أمامك �إال � أن تخف�ض‬ ‫مع � أي � أحد يف البلدة‪ ،‬وهو � أمر كان يتحدث عنه كل‬
‫غراء‪ ،‬وتغمرانك‬ ‫ب�رصك‪ ،‬وكانت عيناها تفي�ضان � إ ً‬ ‫�سكان البلدة بحنق وغ�ضب‪ .‬وحتى ال نظلم النا�س ف�إن‬
‫‪225‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تهيمان يف الف�ضاء‪ ،‬وكان يقف لفرتة طويلة‪ ،‬وهو‬ ‫بالأمل‪ ،‬غري � أن عينيها كانتا يحمالن � أي�ضاً ومي�ضاً‬
‫ي�شحذ �شفرة احلالقة‪ � ،‬أو يطقطق باملق�ص لفرتة‬ ‫هازئاً‪ ،‬وك�أمنا متتحنك‪ ،‬وهي تعرف � أنك ال تقوى على‬
‫ترده �إىل العامل‬
‫طويلة‪ ،‬حتى � أنك ت�ضطر لأن ت�سعل كي ّ‬ ‫حتديها‪ ،‬وك�أنها قد � أيقنت ب�أنه ال يوجد يف البلدة كلها‬
‫الواقعي‪ .‬باغته مرّة � أو مرتني وهو يحدق يف املر� آة‬ ‫من ي�ستطيع � أن ي�سمو �إىل م�ستوى رغباتها اجلاحمة‪.‬‬
‫يف ال�سيدة الفرن�سية ب�شغف �صامت مكثّف‪ ،‬وك�أنه هو‬ ‫كانت تثرينا �إذا ً بعينيها‪ ،‬ثم‪ ،‬ت�سخر منا حينما‬
‫نف�سه مل يكن م�صدقاً ب�أن هذه املر� أة زوجته‪ .‬كان‬ ‫تن�سحب بعينيها‪.‬‬
‫تلك النظرات املغرمة التي ال �شك يف �صدقها متل�ؤنا‬ ‫كان كل هذا يحدث � أمام �رسفينو الذي مل يكن يبدو‬
‫بال�شفقة عليه‪.‬‬ ‫� أنه كان يالحظ � أي �شيء مما كان يحدث‪ ،‬فقد كان‬
‫يف اجلانب الآخر كان من الي�سري علينا كذلك � أن‬ ‫منحنياً خلف رقابنا مطقطقاً مبق�صه يف الهواء بني‬
‫ندين ال�سيدة الفرن�سية‪ ،‬قبل كل �شيء لأن رجال البلدة‬ ‫فينة و� أخرى‪.‬‬
‫املتزوجني والعوان�س الباحثات عن � أزواج قد احتدوا‬ ‫نعم‪ .‬كانت ال�سيدة الفرن�سية ت�شكل يف البداية � أف�ضل‬
‫منذ البداية �ضد فتحة �صدرها املخيفة‪ .‬غري � أن العديد‬ ‫دعاية ملحل �رسفينو‪ ،‬وكان حمله مزدحماً بالزبائن‬
‫من الرجال كانوا ممتع�ضني من ال�سيدة الفرن�سية‪،‬‬ ‫يف الأ�شهر الأوىل‪ .‬غري � أن ال�صواب قد جانبني فيما‬
‫خ�صو�صاً � أ ؤ�لئك الذين كانوا م�شهورين مبهاراتهم يف‬ ‫يتعلق مبلخور‪ ،‬فلم يكن الرجل العجوز مغفالً‪ ،‬بل‬
‫جذب الن�ساء يف بونتي فيجو مثل نيل�سن اليهودي‬ ‫� أخذ يغري زبائنه القدماء فيعودون �إليه �شيئاً ب�شيء‪.‬‬
‫– � أ ؤ�لئك الرجال الذي مل يتعودوا � أن تتجاهلهم امر� أة‪،‬‬ ‫الباحية‬ ‫فقد متكن من احل�صول على بع�ض املجالت إ‬
‫فكيف ب�أن ت�أتي امر� أة فتهز� أ منهم وتتالعب بهم؟‬ ‫التي منعها الع�سكر يف تلك الأيام‪ ،‬وحينما ح ّل ك�أ�س‬
‫وحدث ب�أن كل � أحاديث البلدة كانت تتجه يف نهاية‬ ‫العامل بعد ذلك جمع كل مدخراته وا�شرتى تلفازا ً‬
‫املطاف �صوب املر� أة الفرن�سية وع�شيقها ال�شاب‪ ،‬رمبا‬ ‫ملوناً‪ ،‬وكان هذا � أول تلفاز ملون يف البلدة‪ .‬ثم � أخذ‬
‫لأن ك�أ�س العامل قد انتهى‪ ،‬ومل تتبق موا�ضيع يتحدث‬ ‫يقول لكل من ي�سمعه ب�أنه ال يوجد حلاّ ق للرجال يف‬
‫عنها النا�س‪ � ،‬أو لعله ب�سبب ندرة الف�ضائح يف البلدة‪.‬‬ ‫بونتي فيجو �إال حلاّ ق واحد ال غري‪ � ،‬أما �رسفينو فكان‬
‫وقد كنت � أ�سمع من حيث كنت � أجل�س خلف طاولة‬ ‫حلاّ ق املخنثني‪.‬‬
‫احل�ساب يف املحل نف�س احلديث يتكرر ويتكرر‪ :‬ما ر� آه‬ ‫�إال � أن حد�سي يقول يل ب�أن الكثريين عادوا �إىل حمل‬
‫نيل�سن مرّة ذات ليلة على ال�شاطئ (كانت ليلة باردة‪،‬‬ ‫ملخور مرّة � أخرى ب�سبب ال�سيدة الفرن�سية‪ ،‬حيث ال‬
‫ومع ذلك فقد كانا عاريني و� أكيد � أنهما قد تعاطيا‬ ‫ي�ستطيع �إال القليل من الرجال � أن يقبلوا � أن تهز� أ منهم‬
‫خمدرات لأنهما فعال �شيئاً ما مبقدور نيل�سن و�صفه‪،‬‬ ‫� أمر� أة � أو � أن تذلّهم لفرتة طويلة‪.‬‬
‫حتى بني الرجال � أنف�سهم ويف غياب الن�ساء)‪ ،‬وما‬ ‫وكما كنت � أقول فقد بقي ال�شاب‪� ،‬إذ ن�صب خيمة يف‬
‫قالته � أرملة ا�سبينوزا (ب�أنها من نافذة بيتها كانت‬ ‫�ضواحي البلدة‪ ،‬خلف الكثبان‪ ،‬لي�س بعيدا ً من بيت‬
‫دائماً ما ت�سمع �ضحكاً و� أنيناً ي�أتي من خيمة ال�شاب‪،‬‬ ‫� أرملة ا�سبينوزا‪ .‬ومل يكن ي�أتي �إىل البقالة �إال نادراً‪،‬‬
‫وكان هذا �صوت ج�سدين ملت�صقني يتدحرجان)‪ ،‬وما‬ ‫وحينما كان ي�أتي كان ي�شرتي � أغرا�ضاً كثري ًة‪ ،‬تكفيه‬
‫� أخربنا العجوز الأكرب �سناً يف � آل فيدال (ذات ليلة يف‬ ‫ملدة � أ�سبوعني � أو �شهر‪� .‬إال � أنه كان يزور احللاّ ق يف‬
‫حمل احلالقة‪ ،‬هناك � أمامه و� أمام �رسفينو ‪ .)....‬ترى‬ ‫كل يوم‪.‬‬
‫من يعرف مقدار ال�صدق يف كل هذا القيل والقال!!‬ ‫ولأنه كان من ال�صعب ت�صديق � أنه مل يكن يذهب‬
‫وذات يوم � أن عرفنا ب�أن ال�شاب وال�سيدة الفرن�سية قد‬ ‫�إىل هناك �إال لقراءة اجلرائد الريا�ضية فقد � أخذ النا�س‬
‫اختفيا‪ � .‬أعني � أن ال�شاب مل يعد يظهر � أبداً‪ ،‬ومل يرَ � أحدٌ‬ ‫ي�شعرون بال�شفقة على �رسفينو‪ ،‬فكان اجلميع حزيناً‬
‫ال�سيدة الفرن�سية ال يف حمل احلالقة وال يف املم�شى‬ ‫لأجله يف البدء‪ .‬واحلقيقة � أنه كان من ال�صعب � أال‬
‫على ال�شاطئ حيث اعتادت امل�شي‪ .‬كان � أول ما تبادر‬ ‫ت�شعر باحلزن لأجل �رسفينو‪ ،‬فوجهه كان وجه‬
‫�إىل � أذهاننا � أنهما هربا معاً‪ .‬والعجيب � أن الن�ساء � أبدين‬ ‫مالك وابت�سامته كانت ب�سيطة‪ ،‬كما هو حال النا�س‬
‫ا�ستعدادا ً مل�ساحمة ال�سيدة الفرن�سية على فعلتها هذه‪،‬‬ ‫اخلجولني دائماً‪ .‬مل يكن يتحدث �إال قليالً‪ ،‬وكان‬
‫رمبا لأن فكرة الهروب فكرة رومان�سية � أو لأن تلك‬ ‫عامل متعرج بعيد‪ ،‬وكانت عيناه‬ ‫يبدو � أنه يغرق يف ٍ‬
‫‪226‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الرملة هجومها‪ .‬قالت ب�أنها ال ميكن � أن‬ ‫حتى ا�ست�أنفت أ‬ ‫الغواء اخلطرة مل تعد موجودة‪ .‬كن يقلن ب�أن‬ ‫�سيدة إ‬
‫ت�صدق هراء �رسفينو وخداعه‪ ،‬و� أننا لن نرى تلك املر� أة‬ ‫من الوا�ضح � أن هناك �شيئاً خاطئاً يف ذلك الزواج‪،‬‬
‫امل�سكينة مرّة � أخرى‪ .‬وب�صوت خفي�ض � أ�رصت ب�أن هناك‬ ‫فقد كان �رسفينو � أكرب منها كثرياً‪ ،‬كما � أن ال�شاب كان‬
‫قاتالً طليقاً يف بونتي فيجو‪ ،‬و� أن � أي �شخ�ص منا قد‬ ‫بالغ الو�سامة ‪ ...‬وبقهقهات مكتومة يعرتفن ب�أنهن‬
‫يكون �ضحيته القادمة‪.‬‬ ‫كن مكانها‪.‬‬
‫كن �سيهربن مثلها لو ّ‬
‫مرّ � أ�سبوع‪ ،‬ثم تاله �شهر‪ ،‬ومل تعد ال�سيدة الفرن�سية‪ .‬ومل‬ ‫ويف ع�رص � أحد الأيام حينما كانت الن�ساء يتحدثن‬
‫يعد ال�شاب � أي�ضاً‪ .‬وبد� أ � أطفال البلدة ي�ستخدمون خيمته‬ ‫عن هذا املو�ضوع قالت ارملة ا�سبينوزا التي ت�صادف‬
‫يف لعبة رعاة البقر والهنود احلمر‪ ،‬وانق�سمت بونتي‬ ‫وجودها يف حمل البقالة ب�صوت غام�ض ب�أنها تعتقد‬
‫فيجو �إىل مع�سكرين‪ :‬معك�رس املقتنعني ب�أن �رسفينو‬ ‫ب�أن �شيئاً � أخطر بكثري قد حدث‪ ،‬فقد كان ال�شاب كما‬
‫املكون منا نحن الذين كنا نعتقد‬ ‫جمرم‪ ،‬واملع�سكر الآخر ّ‬ ‫نعرف جميعاً قد ن�صب خيمته بالقرب من بيتها‪،‬‬
‫ب�أن املر� أة الفرن�سية �سوف تعود‪ ،‬وكان عددنا يتناق�ص‬ ‫وعلى الرغم من � أنها‪ ،‬مثلنا جميعاً‪ ،‬مل تره لأيام �إال‬
‫ويتناق�ص‪ .‬كنا ن�سمع ب�أن �رسفينو قد قطع حلقوم ال�شاب‬ ‫� أن اخليمة ما زالت يف مكانها‪ ،‬ويبدو من الغريب‬
‫المهات‬ ‫ب�شفرة حينما كان يحلق له �شعره‪ ،‬ومنعت أ‬ ‫جدا ً – كررت «من الغريب جداً» – � أنهما مل يحمال‬
‫� أطفالهن من اللعب يف ال�شارع الذي يقع فيه حمل‬ ‫اخليمة معهما‪ .‬قال � أحد احلا�رضين ب�أنه ينبغي �إبالغ‬
‫احلالقة وطلنب من � أزواجهن احلالقة عند ملخور‪� .‬إال � أن‬ ‫ال�رشطة‪ ،‬ودمدمت املر� أة ب�أنه من الواجب على � أهل‬
‫الغريب � أن �رسفينو مل يكن حمروماً من من الزبائن‪ :‬كان‬ ‫البلدة � أن يراقبوا �رسفينو كذلك‪ .‬تذكرت � أنني غ�ضبت‬
‫ال�شباب يجر� أون الواحد بعد الآخر على الذهاب واجللو�س‬ ‫ولكني مل � أعرف كيف � أ�ستجيب ملا كان يدور من‬
‫يف كر�سي احلالق املدان ويطلبون احلالقة بال�شفرة‪،‬‬ ‫حديث‪ :‬كان قانوين هو � أال � أدخل يف جدال مع الزبائن‪.‬‬
‫و� أ�صبح �إحدى رموز الرجولة � أن ي�صفف ال�شباب �شعرهم‬ ‫بد� أت بالقول بهدوء ب�أنه ال ينبغي اتهام � أي ان�سان‬
‫للأ على عند �رسفينو‪.‬‬ ‫دون دليل‪ ،‬وب�أين � أرى ب�أنه من امل�ستحيل � أن يقوم‬
‫وحينما �س�ألنا عن ال�سيدة الفرن�سية كان �رسفينو يكرر‬ ‫�رسفينو‪ ،‬ب�أن يقوم �شخ�ص مثل �رسفينو بـ‪ ...‬غري � أن‬
‫على م�سامعنا ذات الق�صة عن � أبيها املري�ض‪ ،‬وهي ق�صة‬ ‫الأرملة قاطعتني قائلة ب�أنه من املعروف ب�أن النا�س‬
‫مل يعد ي�صدقها � أحد‪ .‬توقف النا�س عن حتيته‪ ،‬و�سمعنا‬ ‫اخلجولني واالنطوائيني قد يتحولون �إىل � أ�شخا�ص يف‬
‫ب�أن � أرملة ا�سبينوزا قد � أبلغت ال�رشطة ب�رضورة �إلقاء‬ ‫غاية اخلطورة �إن مت التمادي يف �شيء �ضدهم‪.‬‬
‫القب�ض على �رسفينو غري � أن املفت�ش � أجابها ب�أن ال�رشطة‬ ‫كان حديثنا يدور يف حي�ص بي�ص حني ظهر �رسفينو‬
‫ال ت�ستطيع فعل �شيء �إال بعد العثور على اجلثتني‪.‬‬ ‫فج�أة عند باب البقالة‪.‬‬
‫بد� أ �سكان البلدة يحزرون حول مكان اجلثث‪ ،‬فقال البع�ض‬ ‫ح ّل باجلميع �صمت عميق‪ :‬ال بد � أنه عرف ب�أننا كنا‬
‫� أن �رسفينو قد دفن اجلثتني حتت فناء داره‪ ،‬وقال‬ ‫نتحدث عنه‪ ،‬ألن اجلميع خف�ضوا نظرهم � أو نظروا يف‬
‫� آخرون � أنه قد قطع اجلثث � إ َرباً ورماها يف البحر‪ ،‬وهكذا‬ ‫اجتاه � آخر‪ .‬ر� أيته وقد � أحمر وجهه خجالً‪ ،‬وبدا يل‪ � ،‬أكرث‬
‫ا�ستحال �رسفينو �شيئا ب�شيء يف خيال �سكان البلدة �إىل‬ ‫من � أي وقت �سابق‪ ،‬مثل طفل عاجز مل يحاول � أبدا ً � أن‬
‫وح�ش يزداد خطورة يوماً بيوم‪.‬‬ ‫يكرب‪ .‬وحينما � أعطاين طلبه الحظت ب�أن قائمة اخل�ضار‬
‫ويف حمل البقالة وعلى �إثر �سماع نف�س احلديث مرة بعد‬ ‫والفواكه �صغرية وب�أنه مل يطلب الروب‪ .‬وحينما كان‬
‫� أخرى بد� أت � أ�شعر برهبة ُخرافية‪ ،‬و�شعرت ب�أن كل هذه‬ ‫الرملة فج�أة عن ال�سيدة الفرن�سية‪.‬‬ ‫يدفع احل�ساب �س�ألته أ‬
‫الحاديث غري املنتهية �سوف حتبل يف نهاية املطاف‬ ‫أ‬ ‫� أحمر �رسفينو خجالً مرة � أخرى ‪ ،‬ولكن بهدوء هذه‬
‫الثناء بدا وك�أن � أرملة ا�سبينوزا خرجت‬ ‫ب�أمر فظيع‪ .‬يف أ‬ ‫املرة‪ ،‬وكانه قد �شعر بالتقدير من هذا االهتمام الكبري‪.‬‬
‫عن طورها و� أ�صابها م�س من اجلنون‪ ،‬حيث � أخذت يف‬ ‫قال ب�أن زوجته قد �سافرت �إىل املدينة لتعتني ب�أبيها‬
‫احلفر يف كل مكان‪ ،‬م�سلحة مبجرفة � أطفال تافهة‪،‬‬ ‫الذي كان مري�ضاً جداً‪ ،‬و� أنها �رسعان ما �ستعود‪ ،‬رمبا‬
‫وت�صيح ب�أعلى �صوتها � أنها لن ت�شعر بالراحة �إال بعد‬ ‫خالل � أ�سبوع‪ .‬وحينما كان يتحدث ت�سلل �إىل وجوه‬
‫العثور على اجلثث‪.‬‬ ‫اجلميع �شعور غريب‪ ،‬وجدت �صعوبة يف التعبري عنه يف‬
‫ويف يوم ما‪ ،‬عرثت على اجلثث‪.‬‬ ‫المل‪ .‬وما � أن غادر �رسفينو‬ ‫البداية‪ � :‬أنه ال�شعور بخيبة أ‬
‫‪227‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مل ينظر الآخرون �إىل اجلثة �إال قليالً‪ ،‬بل عادوا �إىل‬ ‫الوىل يف �شهر نوفمرب‪ .‬دخلت‬ ‫اليام أ‬ ‫كان ع�رص يوم من أ‬
‫جمارفهم‪ ،‬بحما�سة‪ ،‬باحثني عن ال�سيدة الفرن�سية‪ ،‬غري‬ ‫الرملة �إىل املحل و�س�ألت �إن كان لدي � أي جمارف‪،‬‬ ‫أ‬
‫� أين ذهبت �إىل اجلثة و� أجربت نف�سي على التدقيق فيها‪.‬‬‫عال ي�سمعه اجلميع‪ ،‬قالت ب�أن املفت�ش قد‬ ‫ثم وب�صوت ٍ‬
‫ثقب‬
‫بني عيني اجلثة املليئتني بالرمال كان هناك ٌ‬ ‫� أر�سلها بحثاً عن املجارف وعن متطوعني حلفر الكثبان‬
‫خلف اجل�رس‪ .‬ثم � أخذت تتحدث ببطء وتخرج كلمة بعد‬
‫� أ�سود‪ .‬انها لي�ست جثة ال�شاب‪.‬‬
‫المر مثل القفز‬ ‫� أخرى قائلة � أنها ر� أت هناك ب�أم عينها كلباً يلتهم يدا ً‬
‫ا�ستدرت كي � أنبه املفت�ش �إىل هذا‪ .‬كان أ‬
‫�إىل عمق عامل الكوابي�س‪ ،‬فقد كان اجلميع يخرجون‬ ‫المر‬ ‫� آدمية‪� .‬رست رجفة يف كل ج�سمي‪ ،‬ففج�أة حتول أ‬
‫الر�ض تنبت جثثاً‪ .‬ومع كل �رضبة جمرفة‬ ‫�إىل حقيقة‪ ،‬وفيما كنت � أبحث عن املجارف وفيما‬
‫جثثاً‪ ،‬وك�أن أ‬
‫كنت � أقفل املحل كنت � أ�سمع‪ ،‬دون � أن � أ�صدق حتى الآن‪،‬‬
‫كان هناك ر� أ�س يتدحرج من احلفرة � أو جذع �إن�سان ممُ َثَّل‬
‫به‪ .‬و� أينما ذهبت بب�رصك كانت هناك جثث ومزيد من‬ ‫احلديث املرعب‪« :‬الكلب»‪« ،‬اجلثة»‪« ،‬يد � آدمية»‪.‬‬
‫الرملة امل�سرية‪ ،‬بفخر‪ .‬كنت � أم�شي متثاقالً يف‬
‫اجلثث‪ ،‬ور ؤ�و�س ومزيد من الر ؤ�و�س‪.‬‬ ‫قادت أ‬
‫جعلني الرعب � أرك�ض من مكان لآخر‪ ،‬ومل � أكن قادرا ً‬ ‫اخللف‪ ،‬حامالً املجارف‪ .‬نظرت �إىل الآخرين ور� أيت‬
‫على التفكري‪ ،‬وال على الفهم حتى ر� أيت �إن�ساناً خمرماً‬ ‫ذات الوجوه‪ ،‬النا�س الذين كانوا ي�أتون �إىل املحل ل�رشاء‬
‫بطلقات نارية‪ ،‬وبعيدا ً ر� أيت ر� أ�ساً مع�صوب العينني‪.‬‬‫البا�ستا وال�شاي‪ .‬نظرت حويل ومل � أجد � أن �شيئاً قد تغري‪،‬‬
‫المر‪ .‬نظرت �إىل املفت�ش فوجدته قد‬ ‫ال �شعور بالرعب وال �صمت غري متوقع‪ .‬كان ع�رص يوم‬
‫عندها � أدركت أ‬
‫المر كذلك‪ ،‬و� أمر اجلميع بالبقاء يف � أماكنهم‪ ،‬و� أال‬ ‫مثل بقية الآيام‪ ،‬يف نف�س ال�ساعة العقيمة اجلدوى التي‬
‫� أدرك أ‬
‫الن�سان من قيلولته‪ .‬حتتنا ا�صطفت البيوت‬
‫يتحركوا‪ ،‬وذهب �إىل البلدة ألخذ � أوامر ر ؤ��سائه‪.‬‬ ‫ي�ستيقظ فيها إ‬
‫يف الوقت الذي ذهب فيه حتى رجع مل � أتذكر �إال نباح‬ ‫يف خط متناق�ص الطول‪ ،‬والبحر ذاته‪ ،‬على مبعدة‪ ،‬بدا‬
‫الرملة التي‬ ‫الكلب املتوا�صل‪ ،‬ورائحة املوت‪ ،‬وم�شهد أ‬‫ريفياً م�ستكيناً‪ .‬لوهلة ظننت اين قد فهمت م�شاعر عدم‬
‫الطفال بني اجلثث‪ ،‬طالبة منا اال�ستمرار‬ ‫الت�صديق يف داخلي‪ ،‬ب�أن �شيئاً من قبيل هذا ال ميكن � أن‬
‫حتفر مبجرفة أ‬
‫ألنا مل نعرث بعد على ال�سيدة الفرن�سية‪ .‬حينما عاد املفت�ش‬ ‫يقع هنا‪ ،‬لي�س يف بونتي فيجو‪.‬‬
‫كان منت�صب القامة مهيباً مثل �شخ�ص على � أهبة‬ ‫حينما و�صلنا �إىل الكثبان‪ ،‬مل يكن املفت�ش قد عرث على‬
‫الوامر‪.‬‬ ‫�شيء حتى الآن‪ .‬كان يحفر مك�شوف ال�صدر‪ ،‬وكانت‬
‫اال�ستعداد لتقدمي أ‬
‫وقف � أمامنا و� أخربنا ب�أن ندفع اجلثث ثانية‪ ،‬مثلما‬ ‫الر�ض بكل قوة‪ � .‬أ�شار‬ ‫جمرفته ترتفع وتهوي على أ‬
‫�إ�شارة مبهمة حوله‪ ،‬فوزعت املجارف وغر�ست جمرفتي‬
‫وجدناها‪ .‬عدنا جميعاً �إىل جمارفنا‪ ،‬دون � أن يجر ؤ� � أحد‬
‫ال�سلم‪ .‬لفرتة مل يكن هناك‬
‫على النطق ببنت �شفة‪.‬‬ ‫يف البقعة التي بدت لعيني أ‬
‫وعندما غطى الرمل اجلثث متلكني �شك يف � أن يكون‬ ‫� أي �صوت �سوى �صوت �رضبات معدن املجرفة اجلاف‬
‫ال�شاب من بني هذه اجلثث‪ .‬كان الكلب ينبح ويقفز‬ ‫وهو يهوي على الرمل‪ .‬بد� أت � أفقد خويف من املجرفة‬
‫الر�ض كاملجنون‪ .‬ثم ر� أينا املفت�ش‪ ،‬بركبة‬ ‫الرملة رمبا تكون قد � أخط�أت‪ ،‬وب�أن الق�صة‬
‫ويهوي �إىل أ‬ ‫و� أفكر ب�أن أ‬
‫الر�ض‪ ،‬وم�سد�سه يف يده‪ � .‬أطلق ر�صا�صة واحدة‪.‬‬ ‫التي � أتت بها مل تكن حقيقية‪ ،‬حينما �سمعنا �صوت نباح‬
‫على أ‬
‫�سقط الكلب ميتاً‪ .‬ثم تقدم خطوتني‪ ،‬وامل�سد�س يف يده‪،‬‬ ‫الرملة‪ .‬خملوق م�سكني هزيل‬ ‫هائج‪ � .‬أنه الكلب الذي ر� أته أ‬
‫اجل�سم يدور راك�ضاً هائجاً حولنا‪ .‬حاول املفت�ش طرده‬
‫ودفع جثة الكلب‪ ،‬كي ندفنها � أي�ضاً‪ .‬وقبل � أن نعود للبلدة‪،‬‬
‫عما ر� أينا‪ ،‬وكتب � أ�سماء كل من كان‬ ‫برميه بقطع الطوب لكن الكلب كان يعود مرة وثانية‬
‫� أمرنا � أال نحدِّث � أحدا ً ّ‬
‫وثالثة‪ ،‬بل كاد يف حلظة من اللحظات � أن يقفز ومي�سك‬
‫هناك‪ ،‬واحدا ً واحداً‪.‬‬
‫عادت ال�سيدة الفرن�سية بعد عدة � أيام‪ ،‬بعد � أن �شفي � أبوها‬ ‫بخناق املفت�ش‪.‬‬
‫عندها � أدركنا ب�أن هذا هو املكان بالفعل‪ .‬عاد املفت�ش‬
‫متاماً‪ .‬ومل نذكر ال�شاب � أبدا ً مرة ثانية‪ � ،‬أما خيمته فقد‬
‫للحفر مرة ثانية‪ � ،‬أ�رسع ف�أ�رسع‪ .‬كانت حما�سته ُمعد َِية‪،‬‬
‫�سرُ ِ َقت ما � أن ح ّل مو�سم العطل‪.‬‬
‫�إذ حتركت املجارف يف حركة من�سجمة‪ ،‬وفج�أة �رصخ‬
‫املفت�ش قائالً ب�أنه قد هوى مبجرفته على �شيء ما‪ .‬حفر (ن�رشت الرتجمة االجنليزية يف جملة «ذ نيو يوركر» عدد ‪27‬‬
‫ابريل ‪.)2009‬‬ ‫� أكرث وظهرت للعيان اجلثة أ‬
‫الوىل‪.‬‬
‫‪228‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(\)‬
‫االح ـتـالل الأ مــريـكـي‬
‫ترجمة‪ :‬حممود عبد الغني‬ ‫با�سكال كينيار ‬
‫�شاعر من املغرب‬

‫مونغ‬ ‫تقدمي‬
‫متى تنتـهي احلرب؟ ا�ستعمر �سكان «�أورليان» من طرف‬ ‫ولد با�سكال كينيارد عام ‪ 1948‬يف فرينويل ‪ ،‬مبنطقة ا ألور‪.‬يقيم يف‬
‫باري�س يف تفرغ تام للكتابة منذ ‪ .1994‬در�س يف جامعة فان�سن ‪،‬‬
‫الثنتي ع�رشة طيلة‬ ‫ال�سلتيني واجلرمان والرومان ب�آلهتهم إ‬ ‫ويف املدر�سة التطبيقية للدرا�سات العليا للعلوم االجتماعية‪ .‬در�س‬
‫الالن‪ ،‬والفرجنيني‪،‬‬ ‫خم�سة قرون‪ .‬ومن طرف الوندال‪ ،‬و آ‬ ‫� أي�ضا مادة « � أ�صول الرواية القدمية»‪ � .‬أ�س�س مع الرئي�س الفرن�سي‬
‫الجنليز و أالملان و أالمريكيني‪ .‬يف نظرة‬ ‫والنورمانديني‪ ،‬و إ‬ ‫ال�سابق «فران�سوا ميرتان» مهرجان ا ألوبرا وامل�رسح الباروكي‬
‫املر�أة‪ .‬يف أاليدي التي ميدها االخوة‪ ،‬يف �صوت أالب‬ ‫بفر�ساي‪ .‬وهو � أي�ضا ع�ضو هيئة القراءة لدى دار ن�رش غاليمار‪.‬‬
‫املزجمر‪ ،‬يف كل واحدة من العالقات االجتماعية‪ ،‬هناك‬ ‫ن�ش�أ كينيارد بهافر‪ .‬عا�ش طفولة �صعبة ومنطوية‪ .‬مالت � أذواقه منذ‬
‫�شيء من العدو مازال ماكثا‪� .‬شيء ما يريد �أن يواجه‪� .‬شيء‬ ‫املراهقة �إىل املو�سيقى ‪ ،‬و �إىل اللغتني الالتينية واليونانية وا آلداب‬
‫القدمية‪ ..‬يف �سنة ‪ 1968‬تابع درا�سته يف الفل�سفة بنانتري‪ .‬ويف‬
‫ما يريد �أن يقتل‪ .‬هدف جمهوداتنا لي�س �أن ن�صبح �سعداء‪،‬‬ ‫‪ 1969‬ن�رش عند دار «ماركور دي فران�س» بحثه الفل�سفي ا ألول عن‬
‫�أن ن�شيخ يف الدفء‪ ،‬ومنوت بال معاناة‪ .‬هدف جمهوداتنا‬ ‫« �سا�شري مازو�ش»‪ .‬لكن كان البد من روايتي « �صالون ورمتبورغ»‬
‫�أن ن�صل �إىل الليل �أحياء‪ .‬يف «مونغ» يوم ‪ 15‬يونيو ‪1429‬‬ ‫( ‪ )1986‬و « � أدراج �شامبورد» (‪ )1989‬كي ينال �شهرة وا�سعة بني‬
‫‪ ،‬حتت االحتالل أالجنليزي‪ ،‬ا�ستعاد جان دارك القنطرة من‬ ‫القراء‪ .‬ويف عام ‪ 2002‬حاز جائزة «غونكور» ال�شهرية‪.‬‬
‫جي�ش العدو ‪ .‬ويف «مونغ» يوم ‪ 17‬يوليوز ‪ ،1959‬حتت‬ ‫ب�أ�سلوب ينتمي �إىل واقعية الرواية احلديثة ‪ ،‬حيث كل �شيء م�سمى‬
‫وحمدد ‪ ،‬وبذلك الغمو�ض الذي يطبع حكايات املغامرات ‪ ،‬كتب كينيارد‬
‫االحتالل أالمريكي‪ ،‬متنى �شخ�ص ما ‪،‬فج�أة‪ ،‬موت املر�أة‬ ‫رواية «االحتالل ا ألمريكي»‪.‬رواية فرن�سا احلقيقية يف نهاية اخلم�سينات‬
‫التي يحـب‪.‬‬ ‫‪ ،‬من خالل تقدمي مدينة �صغرية ولد على �أر�ضها ع�شق «ماري_جوزي‬
‫هو ابن بيطري‪ .‬كان ا�سمه «باتريك كاريون» يف ال�سن‬ ‫فري» لباتريك كاريون‪ .‬املراهقان اللذان �سيعي�شان وقائع �إقامة الثكنات‬
‫الثامنة ع�رش‪ .‬كان االبن الوحيد‪ .‬ولد �سنة ‪ 1941‬حتت‬ ‫ا ألمريكية على ا ألر�ض الفرن�سية‪�.‬أر�ضهما‪� .‬أر�ض حبهما ا أل�صلي املتوحد‪.‬‬
‫االحتالل أالملاين‪ .‬ويف �سنة ‪ 1943‬ا�ستوىل أالملان على‬ ‫فنقر� أ ا إلغراء الذي ت�رشع يف ممار�سته عليهما ال�سيارات وا أللب�سة‬
‫واملو�سيقى الغريبة التي تبد� أ يف الت�شوي�ش على حبهما امل�صاب باحلمى‬
‫الطابق أالول من املنزل العائلي‪.‬‬ ‫والذي ينتهي بانحدار خميف نحو املوت‪ .‬وما ذلك كله �سوى ا�ستعارة‬
‫مل يكن الدكتور «كاريون» يتحدث كثريا‪ ،‬كان ميلك �سيارة‬ ‫ملحمية عن ا إلن�سان الذي �أ�صبح عبدا ل�صورته املتعددة واملت�شظية‬
‫«جوفاكاتر» عتيقة ‪،‬ويرتدي يف كل الف�صول بدالت من‬ ‫ب�سبب دخول الغريب �إىل عامله و�إقامته على �أر�ض روحه‪.‬‬
‫املخمل امل�ضلع‪ ،‬ويع�شق ‪ ،‬ب�شكل طبيعي زوجته‪ ،‬مهنته‪،‬‬ ‫ال يحكي كينيارد ذكريات �شبابه عن اجلنود ا ألمريكيني يف فرن�سا‪،‬‬
‫ابنه‪ ،‬الغابات‪ ،‬احليوانات‪ ،‬ذكريات احلرب‪ ،‬التبغ أال�سود‪،‬‬ ‫وما � أحدثته من تغيريات على �ساكنة املنطقة‪ .‬فهو ال يتذكر �شيئا من‬
‫ذلك ألنه ولد مت�أخرا ‪،‬يف �سنة ‪� .1948‬إنه ‪،‬بكل ب�ساطة‪ ،‬وكما يعرف‬
‫الربد‪ ،‬رائحة الطني و أالوراق امليتة التي ت�رص من اجلمود‪،‬‬ ‫ذلك قرا� ؤه ونقاده ونا�رشوه ‪ ،‬يقدم مادة روائية ليبلغ � أ�سمى هدف‬
‫وي�ستمع �إىل �إذاعة «د‪�.‬س‪.‬ف» (‪.)T.S.F‬‬ ‫ميكن � أن يحققه الفن الروائي ‪:‬تقدمي وتقليب الوجوه وال�صور‪ .‬وجوه‬
‫كان يقطن �أمام الكني�سة‪ .‬للبيت حديقة �صغرية �أمامية‬ ‫و�صور احلقيقة الذاتية واالجتماعية والتاريخية‪.‬فكينيارد عندما‬
‫زينتها ال�سيدة «كاريون» با ألزهار‪ ،‬ومينع اللعب فيها‪ .‬ال‬ ‫يتحدث عن عواطف �شخ�صياته ‪ � ،‬أو عن جزر ورمال منطقة «ال لوار»‬
‫حتب ال�سيدة «كاريون» �أن يناديها ماما‪ ،‬بل �أمي‪ .‬كان ألم‬ ‫‪ ،‬ف�إن ال�صور تتزاحم يف ذهن القارئ‪ .‬ألننا ن�شهد ‪،‬ب�شكل جماعي‪ ،‬على‬
‫«باتريك كاريون» ج�سد متناغم وفارع‪ .‬وقد �أ�صبحت عوراء‬ ‫ع�رص االحتالل ا ألمريكي لكل �شيء بهدف ت�سليع احلياة‪ .‬وا�ستهالل‬
‫الرواية بجمل عن احتالل منطقة»مونغ» لي�س حدثا فقط بل هو حالة‬
‫على �إثر حادثة وقعت لها �سنة ‪ 1943‬عندما كانت تعبئ‬ ‫تقدم لنا نتيجة يف غاية ا ألهمية‪»:‬لي�س للأمريكيني وجود �آخر غري‬
‫موقد الطبخ بالفحم‪� .‬رشارة قفزت و�أ�صابتها‪� .‬أيامها ا�ستعاد‬ ‫وجودهم ا أل�سطوري» ح�سب تعبري «بيري لوباب»(لوموند ‪ � 14،‬أكتوبر‬
‫اجلند الرو�س «كور�سك»‪� .‬أبقت على جفنها أالمين مغم�ضا ‪.‬‬ ‫‪« .)1994‬االحتالل ا ألمريكي» رواية غري مريحة ‪ ،‬وال ترحم � أولئك‬
‫مل تكن تلك هي امل�صيبة الدائمة‪ .‬كان قوامها عاليا‪� ،‬شعرها‬ ‫املجانني الذين ي�ضطرهم �ضعفهم �إىل ال�سعي �إىل القوة‪.‬‬
‫‪229‬‬ ‫\ الف�صل االول من رواية حتمل نف�س اال�سم‪.‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مبلل يف قفاز مبلل‪ .‬املحفظة على الظهر والر�أ�سان خمب�آن‬ ‫ك�ستنائي‪ ،‬وجهها مليء بال�صفاء املمزوج با ألمل‪ ،‬نعزو �إليه‬
‫يف القناع ال�صويف‪ .‬كانا يهيئان واجباتهما املدر�سية معا‬ ‫جمموعة من التجارب‪ .‬كانت تختار تيابها بعناية فائقة‪،‬‬
‫على مائدة أالكل الدائرية يف مطبخ «�آل فري» ‪ ،‬حتت �ضوء‬ ‫و�سط الفو�ضى التي تطبع الن�ساء القاطنات يف القرية‪ .‬كانت‬
‫م�صباح معلق‪ .‬كانا يتبادالن الطعام اخلفيف‪ ،‬وي�ستعريان‬ ‫غالبا ما ترتدي �سرتة �شفافة مع ف�ستان مقور على �شكل ‪،V‬‬
‫م�سطريتهما من بع�ضهما ويقت�سمان املمحاة‪ .‬عندما ربط‬ ‫و�صدار �ضيق‪ .‬قامتها وا�ضحة جدا وتنورتها تغطي ن�صف‬
‫«باتريك» و «ماري جو�سي فري» �أو�ضاع �ضيقهما كانا قد‬ ‫ربلة ال�ساق‪ .‬كانت غالبا ما تقر� أ جمالت ت�صدر يف باري�س‪.‬‬
‫ربطا حياتيهما‪ .‬كانت �أم «باتريك» تعزل نف�سها �أحيانا يف‬ ‫حولت الغرفة �إىل مكتبة كانت تغلق بابها لتختلي بنف�سها‪،‬‬
‫«�أورليان» �أو كانت تغلق باب غرفتها عليها‪.‬كانت نادرا ما‬ ‫وكانت متنع زوجها وابنها من الدخول‪.‬‬
‫ترى طفلها‪ ،‬كارهة نف�سها ب�سبب عينها املفقودة‪ ،‬حماولة �أن‬ ‫كانت ال�سيدة «كاريون» متيل ب�شكل طبيعي �إىل العزلة‪ ،‬مع‬
‫العجاب رغم ذلك‪ ،‬باذلة ق�صاراها �أن تعي�ش‪ .‬والدكتور‬ ‫تثري إ‬ ‫أالتواب‪ ،‬والتنورات والرغبة‪ ،‬والكتب و أالزهار‪ ،‬ورائحة‬
‫«كاريون» يجوب منطقة الـ«�سولون» وهو وراء مقود �سيارته‬ ‫أالزهار‪ ،‬واللقاء مع أالزهار وال�صمت‪.‬‬
‫للفرا�س‪ ،‬و أالبقار واخلنازير‪.‬‬
‫«جوفاكاتر»‪ ،‬مكر�سا حياته أ‬ ‫خلف الدار هناك حديقة ممتدة غري مزروعة ومليئة بالرمال‬
‫ويف امل�ساء‪ ،‬عندما يعود �إىل البيت‪ ،‬ال يكون له القلب الذي‬ ‫تطل على نهر «لوار»‪ ،‬الذي ربط على �ضفته قارب �أ�سود م�سطح‬
‫يهتم بابنه‪ .‬ذات يوم طلب من «باتريك» �أن يزوره يف‬ ‫وجهته قوة التيار نحو اجلزيرة‪ ،‬حيث كان للطفل احلق يف‬
‫«كلريي»‪ .‬دخل �أحد الفالحني وهو يدفع ح�صانا �إىل اخللف‬ ‫اللعب ومرافقة زميلته ال�صغرية يف املدر�سة‪.‬‬
‫لي�ضع له املكباح احلديدي‪ ،‬كان ي�رصخ بقوة‪ .‬بد� أ الدكتور‬ ‫[[[‬

‫«كاريون» ببذلته الرمادية و»باتريك» الذي تلمع عيناه يف‬ ‫ا�سمها «ماري جو�سي فري»‪ .‬ابنة �صاحب دكان لبيع اخلرداوات‬
‫ربط �أرجل احل�صان‪� .‬شدا املحزم اجللدي حول خا�رصيه‪ .‬دفع‬ ‫للب «فري» خم�س فتيات‪ .‬غادرته زوجته‬ ‫يف «مونغ»‪ .‬كان أ‬
‫الدكتور املكباح يف اجتاه �أفقي ومد �إىل «باتريك» كالبة‬ ‫دون �أن تخربه‪ ،‬حتى �أنها مل ترتك له كلمة واحدة‪ ،‬يف ليلة‬
‫أالنف وقال له �أن ي�أخذ مكـانه عند ر�أ�س احليوان املطروح‬ ‫من ليايل ما بعد احلرب‪� ،‬سنة ‪ .1947‬وبعد مرور ثمانية‬
‫�أر�ضا‪� .‬رصخ الدكتور «كاريون» يف وجه ابنه‪:‬‬ ‫�أيام �أخربت با ألمر �صاحبة �صيدلية عرب الهاتف‪ .‬يتلخ�ص‬
‫‪�« --‬ضع الكالبة يف �أنفه‪»! ‬‬ ‫�إخبارها يف جملتني‪ :‬لن تعود‪ ،‬وعليه �أن يهتم با ألطفال‪.‬‬
‫�ضغط «باتريك» بعنف على منخر احل�صان‪ .‬وفج�أة قطع‬ ‫«ماري جو�سي فري» هي �آخر العنقود‪ .‬بقيت طفلتان تعي�شان‬
‫الدكتور «كاريون» �أع�ضاء احليوان التنا�سلية ليكر�سه‬ ‫مع والدهما‪ ،‬فوق الدكان‪ .‬بداية‬
‫للفالحة‪.‬‬ ‫يجب اجتياز ممر طويل ومظلم رائحته مزعجة‪ ،‬يحاذي‬
‫[[[‬ ‫م�ستودع اخلرداوات‪ ،‬قبل �صعود الدرج الذي ي�ؤدي �إىل‬
‫�إذن‪ ،‬العامل كان غري العامل‪ .‬يف بداية اخلم�سينات‪ ،‬عندما �أ�صبح‬ ‫الطابق‪.‬‬
‫للطفال احلق يف الذهاب �إىل املدر�سة على منت الدراجات‬ ‫أ‬ ‫ال تفرتق «ماري جو�سي فيري» وباتريك كاريون» منذ‬
‫الهوائية‪ ،‬كانوا ي�رضبون املوعد يف بيت ال�صيد «كلريي»‪،‬‬ ‫الطفولة‪ .‬كانا يلعبان يف ال�شارع‪ ،‬يف ال�ساحة ‪ ،‬يف احلديقة‬
‫على اجلهة أالخرى من القنطرة‪ ،‬على الرمل الك�ستنائي‪ ،‬وراء‬ ‫اخللفية‪ ،‬حتت ال�سقيفة‪ ،‬على طول ال�ضفاف‪ .‬كانا يذهبان معا‬
‫الق�صب‪ .‬يف الربيع‪ ،‬عندما ي�صبح الرمل �أكرث رطوبة ووحولة‪،‬‬ ‫�إىل املدر�سة‪ .‬كانا يرافقان بع�ضهما �إىل تعلم امل�سيحية يف‬
‫كانوا يجل�سون على امل�صطبة احلجرية يف بيت ال�صيادين‪،‬‬ ‫�إحدى القاعات ال�سفلى يف احل�صن‪.‬‬
‫الذي كان عبارة عن جناح لرتبية ال�صقور‪ .‬فتته مياه أالمطار‬ ‫يبدو �أن أالم �أخفت عند طفلتها‪ ،‬عندما تركتها‪ ،‬كل املعرفة‪.‬‬
‫و نخره الزبد ‪ .‬مياه نهر الـ «لوار»‪ ،‬يف كل �سورات غ�ضبها‪،‬‬ ‫�صباح الغد‪ ،‬بعد �أن غادرتهم �أمهم يف الليل بدون ا�ستئذان‬
‫تنخر حجرتي اجللو�س ال�صغريتني‪.‬‬ ‫‪ ،‬دنت «ماري جو�سي فيري» ب�شفتيها اجلافتني من وجنة‬
‫قبل �أن يتعلم متتمة �أوىل الكلمات‪ ،‬كان «باتريك» قد تلقى‬ ‫«باتريك»‪ .‬وعندما التفت نحوها كان للطفلة ال�شجاعة ل�ضغط‬
‫الب�صمة البطيئة والالحمدودة للنهر الذي ي�سارع بال نهاية‬ ‫�شفتيها على فم «باتريك»‪ ،‬كما يفعل الكبار‪ ،‬ثم �ضمته �إليها‬
‫ميله باخلوف‬ ‫نحو «نانت» ونحو البحر‪ .‬كل هيجان أ‬ ‫وبكت‪ .‬كانا يبلغان ال�ساد�سة من عمرهما‪ .‬يف ذلك ال�صباح‪،‬‬
‫واحلما�س‪ .‬لقد كان ذلك انتحار أالر�ض حتت ال�سماء‪ ،‬ي�صمت‬ ‫يف الفجر الندي والبارد‪ ،‬تعاهدا على حب �أزيل‪ :‬كانا يبكيان‬
‫اهلل �أمام «نوي»* ‪ ،Noe‬فقال له‪�« :‬س�أبيد الرجال فوق �سطح‬ ‫وينتحبان‪� .‬أوثقا قفازاتهما الباردة‪ ،‬ورك�ضا يف اجتاه‬
‫أالر�ض ألنني ندمت على خلقهم‪ .‬لقد �أمرت بطوفان لن يفلت‬ ‫املدر�سة‪ .‬كانت ترافقه يف كل أالما�سي‪ ،‬يـدا يف يد‪ ،‬قفاز‬
‫‪230‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫أالغ�صان‪ .‬يغوران داخلها ويخفيان القارب امل�سطح الكبري‬ ‫منه �شيء»‪.‬‬
‫املقطرن الذي يخفيه باتريك يف �أ�سفل احلديقة اخللفية‪.‬‬ ‫لل�شكال ‪ ،‬وهذا االمت�صا�ص‪ ،‬وهذا االبتالع‬ ‫�إن هذا الدفن أ‬
‫وحدها اخليول التي جتر القوارب امل�سطحة و�شباك ال�صيد‪،‬‬ ‫لل�شياء االعتيادية طيلة �سنوات‪ ،‬كل ذلك قد عاد‪ .‬وهذه‬ ‫أ‬
‫ألنهم �ساروا بها نحو البحر‪ ،‬ت�شعر بح�ضور أالطفال على‬ ‫ال�ش�ساعة �أ�صابت اجلميع بالفزع‪ .‬اجلمال كان يف ذروته‬
‫ال�ضفة‪ .‬كانت ت�صهل على طريق العبور الذي يحاذي �أ�شجار‬ ‫والدمار الذي يلي هذا اجلمال كان غري متوقع‪.‬‬
‫الدلب يف املنتزه العام‪.‬‬ ‫عندما حل الغ�ضب كان ال�صغريان يف �أعلى ال�سور‪ ،‬مل�شاهدة‬
‫الدارات املركزية التي توحد �أوربا الكربى‪.‬‬ ‫‪ Sharpe‬تعني �أعظم إ‬ ‫اختفاء احلقول وال�ضفاف واجلزر واملنتزهات العامة‬
‫يف ذلك الوقت كانت تطلق كلمة «جينز» على البنطلونات‬ ‫وال�شوارع ال�صاعدة‪ ،‬والبيوت التي على حافة املاء‪ .‬ال�شم�س‬
‫ذات امل�سامري‪� .‬سبعة وع�رشون �ألف جندي �أمريكي وعائالتهم‬ ‫هبطت وغربت يف املاء الذي يبلل كل �شيء‪.‬‬
‫يعي�شون يف فرن�سا‪ .‬وطريان القوات أالمريكية يتوفر على‬ ‫وب�سبب حرارة ال�شم�س تدثر الوادي بالبخار ال�صاعد من املاء‬
‫�إحدى ع�رش قاعدة يف العا�صمة‪ .‬جمموع القوات الع�سكرية‬ ‫الذي كان يت�شكل حتت أال�شعة أالخرية‪ .‬أال�سقف‪ ،‬الكنائ�س‪،‬‬
‫أالمريكية �أقامت مع�سكراتها يف‪� :‬شريبورغ‪ ،‬فوفيل‪� ،‬إيفرو‪،‬‬ ‫أال�شجار‪ ،‬املراعي وال�سنابل كانت تهتز �شيئا ف�شيئا و�سط لون‬
‫�إيتان‪ ،‬روكانكور‪ ،‬ميرت‪ ،‬بري�ست‪ ،‬نان�سي ‪ ،‬فريدون ودروك�س‪.‬‬ ‫الدم‪ .‬بد� أ هذا الدم يتخذ لونا �أ�سود‪ .‬ماهو الدم الذي ال ي�سود‬
‫يف �شامبوري وفال�سبورغ‪ ،‬نانت وباري�س‪ .‬يف �أوريل وتول‪.‬‬ ‫؟ املالب�س بليت‪ .‬أال�صوات تغريت‪ .‬املرايا مكثت ‪ .‬ق�ضبان‬
‫يف �شاتوروك�س وكابتيو‪� ،‬شومونت‪ ،‬بو�ساك‪ ،‬بواتيي‪� ،‬شومور‪،‬‬ ‫احلدائق و�أ�سلحة احلرب �صد�أت‪ .‬الليل �أكل العامل‪ .‬وحده احلقد‬
‫�شينون‪� ،‬إينغراد‪ ،‬كروا – �شابو‪ ،‬تروا –فونتان‪ ،‬الرو�شيل‪� ،‬شيز‪،‬‬ ‫اليلة �إىل الزوال‪ .‬االنتقام يحدد الهدف على‬ ‫�أنقذ الرغبة آ‬
‫�ساران‪ ،‬البراكون‪ ،‬مونغ‪ .‬قيادتان عليتان اقت�سمتا املنطقة‪:‬‬ ‫مر أاليام‪ .‬ترف�ض ماري جو�سي اللعب يف م�أدبة أالطفال‪.‬‬
‫من جهة قيادة الواليات املتحدة يف و�سط �أوربا مبع�سكر‬ ‫ماري جو�سي �أق�صيت من الركوع ومن دفع «دينكي تويز»‬
‫«لوج»‪ ،‬قرب �سان_ جريمان – �أون –الي‪ .‬ومن جهة �أخرى‬ ‫على الطرق الرملية التي ير�سمها «باتريك»‪ .‬كانت تف�ضل �أن‬
‫قوة منطقة االت�صال‪ ،‬القاعدة التموينية بالن�سبة ألوربا كلها‪،‬‬ ‫تتبادل أالحالم وهي حممومة‪ .‬مل تكن تلك أالحالم �سوى‬
‫وا�ستقرت يف «�أورليان»‪ .‬ع�رشة �آالف جندي �أمريكي ا�ستقروا‬ ‫�أ�سماء �أدوات ومالب�س و مدن بعيدة‪ :‬نانت‪ ،‬دراجات ال�سباق‪،‬‬
‫يف املنطقة املحيطة مبا�رشة بـ «�أورليان»‪.‬‬ ‫باري�س‪ ،‬جوارب‪ ،‬م�شغلة �أ�سطوانات‪.‬‬
‫عند الغروب يتم �إخراج قمامة مع�سكر «مونغ» خارج ال�سور‬ ‫توجد يف جنوب «مونغ» ثالث جزر‪ .‬اجلزيرة الواقعة يف‬
‫امل�سنن‪ .‬ذات ليلة‪ ،‬نقب باتريك يف القمامة‪.‬‬ ‫اجلنوب ال�رشقي ت�سمى جزيرة ال�صف�صاف‪ .‬من الربيع �إىل‬
‫[[[‬ ‫اخلريف‪ ،‬يكون عاملهم احلقيقي هو �أيادي املياه امليتة يف‬
‫قرف�ص باتريك يف الظلمة‪ ،‬خلف ال�سياج‪ .‬حتت القمر ر�أى‬ ‫نهر «لوار»‪ .‬هيجان ال�ضفة أالخرى‪ .‬ال�صيد يف التيارات‪.‬‬
‫املع�سكر الدائري وانعكا�سات ال�ضوء على �صفيحة احلديد‬ ‫املعابر احلجرية امل�صطحة‪ .‬روائح النعناع املفلفل امل�سحوق‬
‫املتموجة‪ .‬فج�أة �سمع �صوت حمرك‪ .‬خب�أ دراجته يف احلفرة‪،‬‬ ‫حتت أالرجل‪ .‬التوت الذي يقطف مبد اليد حتى تت�أمل‪ ،‬لتجنب‬
‫وح�رش نف�سه وراء �أرومة �أ�شجار‪� ،‬أمام �سياج املع�سكر بال�ضبط‪،‬‬ ‫ال�سقوط يف دغل ال�شوك العري�ض‪.‬‬
‫وبقي ينتظر ال�سيارة حتى متر‪.‬‬ ‫يتبادل الطفالن التهام اللحم العجيب حلبات ك�ستناء املاء‬
‫مرت �سيارة «جيب» تابعة ل�رشطة القوات امل�سلحة‪.‬‬ ‫‪ ،‬التي جرداها من ق�رشتها اللزجة‪ ،‬ي�ضعانها بني أال�سنان‬
‫�أ�رسع باتريك نحو القمامات احلديدية الكبرية‪ .‬وبد� أ ينقب‬ ‫الرا�ضعة‪ ،‬مت يف الثـقـوب التي خلفتها أال�سنان التي �سقطت‪،‬‬
‫ب�سـرعة‪ .‬ويف �صباح الغد �أخرب «ماري جو�سي» بغ�ضبه‪.‬‬ ‫ثم بني أال�سنان الثنية‪ .‬كانا ي�صطادان بال�شباك و�أحيانا‬
‫كان على م�شارف ال�سن العا�رشة‪ .‬اجتاحت القوات أالمريكية‬ ‫بع�صي طويلة على �ساحل اجلزر‪ .‬كانت تكره �أن مت�سك يف‬
‫«تيانغ يانغ»‪ .‬وال�صينية اجتاحت الـ«تيبت» ‪�.‬أما القوات‬ ‫راحة يدها هذه أالج�سام التي تهتز وترتك فوق اجللد دبقا‬
‫الفرن�سية فقد ا�ستولت على «هاو – بينه» ‪� .‬أمرته «ماري‬ ‫تبقى رائحته القوية م�ستمرة رغم غ�سلها بال�صابون‪ .‬كانت‬
‫– جو�سي» ب�أن يلتحق بها يوم غد ‪� ،‬ستنتظره على مقعد يف‬ ‫ماري جو�سي تعدم ال�سمكات‪ ،‬مثلما كانت تنفر من ال�سيارات‬
‫بيت ال�صيادين‪.‬‬ ‫ال�صغرية‪ .‬يحفر باتريك يف الرمل وي�شيد كوخا عميقا �شبيها‬
‫[[[‬ ‫بذلك الذي مزقته احلرب الكربى‪.‬‬
‫بد�أت قطرات املطر الثقيلة ت�سقط على املاء ‪.‬تتحطم ببطء فوق‬ ‫ال �شيء يخفي الكوخ ب�شكل �أف�ضل غري �أ�شجار ال�صف�صاف‪.‬‬
‫�صفحته‪ .‬كانت منطقة «لوار» رمادية‪ .‬واجلو دافئ وثقيل‪.‬‬ ‫فوق جرف اجلزيرة‪ ،‬ي�صبحان غري مرئيني كليا بفعل �ستائر‬
‫‪231‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�شو�شت ماري – جو�سي‪:‬‬ ‫والقطرات ت�سقط فوق الدراجتني املو�ضوعتني واحدة فوق‬
‫«هل جلبت معك خرب الدبيحة‪ ‬؟»‬ ‫�أخرى على ع�شب ال�ضفة‪ .‬كانت ماري‪ -‬جو�سي جال�سة فوق‬
‫�أخرج باتريك من جيب �رسواله ال�صويف قطعتي خبز �خذهما‬
‫أ‬ ‫مقعد قدمي‪ .‬جنبها قفتان مفتوحتان م�صنوعتان من �أغ�صان‬
‫من الكاهن ومدهما ملاري –جو�سي‪� .‬أخذت منهما ماري‪-‬‬ ‫ال�سوخر‪ .‬كانت ماري – جو�سي تت�أمل «باتريك» الذي يرتدي‬
‫جو�سي واحدة‪ ،‬ومدتها �أمامها بيديها االثنتني‪ .‬وفعل مثلها‬ ‫�رسواال ق�صريا ‪ ،‬يحفر ثقبا وقد ظهرت تقطيبة على وجهه‪.‬‬
‫باتريك‪.‬‬ ‫توقف عن حفر أالر�ض‪ .‬نظر �إىل ماري جو�سي بعبو�س‪ ،‬وقال‬
‫مدا معا القطعتني �أمامهما بوقار‪ .‬همت ماري –جو�سي‬ ‫�إن الثقب عميق مبا يكفي‪ .‬نظرت �إليه ماري –جو�سي بدورها‪،‬‬
‫وجفناها �إىل �أ�سفل‪:‬‬ ‫عيناها تلمعان‪ ،‬وقالت‪« :‬اتفقنا ؟ اتفقنا؟»‪.‬‬
‫«نحن االثنان وال �أحد غرينا»‪.‬‬ ‫هز باتريك ر�أ�سه بفتور‪ .‬وعندما ر�أت �أنه موافق‪ ،‬قفزت‬
‫‪ -‬نحن االثنان وال �أحد غرينا‪ .‬ردد باتريك‪.‬‬ ‫ماري جو�سي من املقعد �إىل الع�شب‪ ،‬وهي مت�سك بالقفتني‬
‫‪� -‬سنذهب �إىل �أمريكا‪ .‬قالت ماري –جو�سي‪.‬‬ ‫املوجودتني جنبها‪.‬‬
‫‪� -‬سنذهب �إىل �أمريكا‪.‬‬ ‫أ‬
‫رمى «باتريك» مدراته فوق الر�ض الرطبة التي كان يقلبها‪.‬‬
‫‪« -‬افتح‪� »! ‬أمرته ماري – جو�سي‪.‬‬ ‫فت�ش الطفالن يف القفتني‪ ،‬وبد� أ يرميان يف احلفرة طنجرات‬
‫فتح باتريك فمه ف�أدخلت قطعة اخلبز بني �شفتيه‪.‬‬ ‫�صغرية‪ ،‬م�شواة حديدية‪ ،‬علبة بهارات كرتونية‪� ،‬سيارات‬
‫وبدوره مد باتريك القطعة التي مي�سكها ومررها بني �شفتي‬ ‫�صغرية من نوع «دينكي تويز»‪ ،‬جنودا‪ ،‬رجال درك من‬
‫ماري –جو�سي التي �أبقت جفنيها �إىل �أ�سفل‪ .‬وبعينيها‬ ‫البال�ستيك‪ .‬و�أخريا رمى باتريك‪ ،‬ب�سخط‪ ،‬جاذب ال�سيارة‬
‫املغلقتني دائما‪ ،‬مدت يديها و�أم�سكت متح�س�سة يدي باتريك‬ ‫أالمامي امل�صنوع من احلديد أالبي�ض‪ ،‬لعبته املف�ضلة وهو‬
‫للر�ض رائحة قوية‬ ‫و�ضمتهما بني يديها‪ .‬بعد املطر �أ�صبح أ‬ ‫طفل‪ ،‬رمى كل ذلك يف احلفرة التي ردمها بعد ذلك باملدراة‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬تكاد تكون منفرة‪ .‬ويف أالخري فتحا معا عيونهما بقوة‪.‬‬ ‫وط�أت ماري –جو�سي أالر�ض اله�شة حتت املطر‪� ،‬صدر عنها‬
‫[[[‬ ‫�صياحا خافتا‪ .‬الطفالن متحم�سان وهما يقفزان فوق احلفرة‬
‫ا�ست�سلم الطفالن للمتعة التي �شعرا بها �أثناء ذهابهما و�إيابهما‬ ‫التي ردمها باترك‪.‬‬
‫يف الليل‪ ،‬ت�سكعا‪� .‬رسقا‪ .‬النب�ش املقيت وامل�ضطرب يف مزابل‬ ‫فج�أة وهي تقفز‪� ،‬صدمت ماري –جو�سي حديد املدراة التي‬
‫املع�سكر �أثناء جميء الليل �أو حتت ال�شم�س الالهبة‪� ،‬أمر كان‬ ‫مي�سكها باتريك‪� .‬رصخت‪ .‬وجمدا يف مكانهما‪.‬‬
‫يثريهما‪ .‬كانا يذهبان �إىل البحث عن أالقم�صة العجيبة‪،‬‬ ‫وهي جاثمة على قدميها فوق أالر�ض‪� ،‬شمرت تنورتها بيديها‬
‫و أالقم�صة القطنية‪ ،‬و قناين الكوكاكوال الفارغة‪ ،‬و�أقم�صة‬ ‫املخدو�شتني‪ ،‬و�أظافرها مليئة بالرتاب‪� ،‬أظهرت لباتريك‬
‫�أوك�سفورد ذات الياقات املزررة‪ ،‬والبلودجني نوع «لوفي�س»‪.‬‬ ‫اللون أالزرق واجلرح ال�صغري الذي �أحدثه حديد املدراة على‬
‫فال يجدانها‪� ،‬أو ال يخرجان من البقايا �إال مزقاتها‪ .‬ورغم‬ ‫فخذها‪.‬‬
‫ذلك يدق قلباهما �إىل حد التوقف‪ ،‬فال يجنيان �سوى علب‬ ‫نظر باتريك �إىل فخذ ماري ‪-‬جو�سي الطويل و أالبي�ض‪ .‬انحنى‬
‫الغ�سول املك�سورة‪ ،‬وب�ضعة خرق غري قابلة للبا�س‪ ،‬وجوارب‬ ‫عليها‪ .‬عندها خف�ضت ماري –جو�سي تنورتها‪ .‬فتحت يديها‪،‬‬
‫ممزقة‪ ،‬وبع�ض �أعداد جريدة «‪� »Life‬أو ‪،Racing News‬‬ ‫فان�سدل �شعرها الطويل أال�سود املبلل باملطر فوق كتفيها‬
‫ومطويات البيع عرب املرا�سلة‪ ،‬وبع�ض جمالت الر�سوم‬ ‫مبهابة‪ ،‬فو�شو�شت له‪:‬‬
‫املتحركة امللطخة‪ .‬يخبئان كل ذلك ب�رسعة يف حقائب ورقية‬ ‫«اجل�س على ركبتيك مثلي‪»! ‬‬
‫جنت بنف�سها من القذارة‪.‬‬ ‫قرف�ص �أمامها‪ ،‬وهو يغرز ركبتيه العاريتني يف الرتاب‬
‫قطعت ماري – جو�سي �شموعا جديدة جلبتها من دكان‬ ‫املقلب‪.‬‬
‫والدها‪ ،‬وو�ضعتها يف عنق قناين الكوكاكوال الفارغة التي‬ ‫« �أنظر!» قالت‪.‬‬
‫يعودان بها �إىل الكوخ‪.‬‬ ‫مدت يديها ب�شكل كامل‪ ،‬وفتحت كفيها‪ .‬توقف املطر وهي‬
‫يقال يف ذلك الزمن �إن الكوكاكوال �سم ي�صيب باجلنون‪.‬‬ ‫م�ستغرقة يف احلديث‪ .‬رفع باتريك ر�أ�سه نحو ال�سماء ‪،‬ف�سقطت‬
‫كانا يجمعان قناين الكوكاكوال الفارغة وي�صنعان منها‬ ‫�آخر قطرة مطر على وجنته‪.‬‬
‫م�صابيح‪ ،‬مل يكونا يعرفان حتى مذاقها‪ .‬كان أالب «فري»‬ ‫«�أنا �أحتكم يف ال�سماء» هم�ست‪.‬‬
‫ي�ؤكد �أنه �أبدا لن جتد هذه القنينات ال�صغرية املليئة بالغاز‬ ‫�سمعا من جديد �صوت نهر الـ«لوار» وهو يجري على طول‬
‫مكانا لها فوق رفوف متجره‪.‬‬ ‫ال�ضفة‪.‬‬
‫‪232‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ي�سبب له رعبا غام�ضا ال يهد�أ‪.‬‬ ‫كانا يلقيان بنف�سهما يف العوامل أالمريكية‪ ،‬كما كانت‬
‫«�أحتاج م�ساعدتك» ‪ ،‬قال له‪.‬‬ ‫أالرواح الورعة تلقي بنف�سها قدميا يف عامل الدين‪ .‬كانا‬
‫فطلب منه �أن ينوب عنه يف التحدث مع املزارعات العجائز‬ ‫ينقالن الفردو�س �إىل غرب العامل‪ .‬وكانت ماري‪-‬جو�سي فري‬
‫اللواتي مينت يف �أطراف القرية �أو يف الغرف الباردة اخلا�صة‬ ‫جتد فردو�سها يف �ألوهية كهانها الذين �أ�صبحوا ‪ :‬الكونغ�ستري‬
‫بالن�ساء‪ .‬ما �أن �أجرى باتريك املكاملة‪ ،‬حتى �أخذ منه الق�س‬ ‫والقنابل والنجوم‪ .‬كانت ترتبط بن�ساء �إجنليزيات بخيوط من‬
‫الهاتف ببطء‪ .‬وهو مرعوب قرب فمه‪.‬هو الذي مل يع�ش حياة‬ ‫الجنليزيات‪.‬‬ ‫حرير‪ .‬فانف�صلت ماري –جو�سي عن إ‬
‫متبذلة‪ ،‬غمغم و�ضاع و�سط الكلمات‪.‬‬ ‫بد� أ ينجذبان بح�ضارة خمتبئة وراء ال�رشفات‪ ،‬وال مي�سكان‬
‫�أ�صبح باتريك كاريون طفل املذبح املف�ضل لدى القدي�س‬ ‫بني �أ�صابعهما �سوى بالبقايا‪ .‬كانا يتبادالن أالحالم يف‬
‫«مونرتيت»‪� ،‬إىل درجة �أنه يف ال�سنوات التالية كان ق�س مونغ‬ ‫غمرة احلمى‪ .‬ومل تكن تلك أالحالم �سوى �أ�سماء �أدوات‬
‫ي�رشفه بكل الطرق املمكنة‪ .‬وعندما بلغ ال�سن الثانية ع�رش‪،‬‬ ‫ومالب�س‪ ،‬ومدن بعيدة‪ :‬جاز‪� ،‬آلة كهربائية لطحن اخلبز‪،‬‬
‫يف �سنة ‪ ، 1953‬يف وقت كانت فيه القوات أالمريكية تغادر‬ ‫هوليوود‪ ،‬ماركوري ‪ ،1953‬مربد كيلفيناتور‪ ،‬نيويورك‪.‬‬
‫كوريا‪ ،‬وفيما بد�أت القوات ال�سوفييتية تق�صف أالملان يف‬ ‫الجنليزية‬ ‫وعلى طريقة ماري_ جو�سي‪ ،‬بد� أ باتريك يف تعلم إ‬
‫برلني‪ ،‬كلفه بحمل املبخرة ‪ .‬ولقب حامل املبخرة يطلق على‬ ‫حتت �أغ�صان �شجرة ال�صف�صاف‪ ،‬بدعوى �أنه ال ي�ستطيع‬
‫الطفل احلامل للبخور جيئة وذهابا‪ ،‬هابطا الدرجات نحو‬ ‫انتظار دخوله �إىل الق�سم ال�ساد�س‪� .‬ساعدته ماري_ جو�سي‬
‫اجلموع‪ ،‬والذي يحرك ب�شكل مفاجئ ونبيل املبخرة التي‬ ‫المكان‬ ‫على �أن ي�ضفي على �إجنلزيته نربة �أمريكية مل يكن يف إ‬
‫تثري �إعجاب �أنف اخللود‪.‬‬ ‫مقاومتها‪ ،‬ولكنها كانت ت�شكل جانبا �سلبيا‪ :‬لقد اخرتعتها‪.‬‬
‫[[[‬ ‫كانا ي�ساعدان بع�ضهما حتى يتمكنا من فهم مطويات البيع‬
‫يف يوم من �أيام �سنة ‪ ، 1954‬عندما علم من الراديو �أن‬ ‫ال�شارات يف الر�سوم املتحركة‬ ‫عرب املرا�سلة والتمكن من فهم إ‬
‫الفرن�سيني غادروا الهند ‪ ،‬دفع الق�س «مونرتيت» باب البقالة‬ ‫التي افتتنا بها كما لو �أن اهلل �أوحى للمرة أالخرية بكالمه �إىل‬
‫‪ ،‬بوجه يبدو عليه االنفعال‪ ،‬وعينني �شفافتني ‪ ،‬وخيطيته ذات‬ ‫�أر�ض فقاعات الر�سوم املتحركة‪.‬‬
‫العروة ال�سوداء تتدىل من طرف يده‪ .‬يف نهاية تلك الظهرية‬ ‫بد� أ اهلل يفقد الر�ضا‪ .‬نقل اهلل عدم الر�ضا هذا على ل�سان ق�سه‪.‬‬
‫كانت ماري_جو�سي ت�سهر على الدكان رفقة باتريك‪.‬‬ ‫وهي طفلة كانت ماري –جو�سي تـجد متعتها يف لعب دور‬
‫«�أيها ال�صغري ‪،‬قال له ‪� ،‬أحتاج �إىل م�ساعدتك»‪.‬‬ ‫البائعة يف دكان والدها‪� ،‬إىل جانب �أختها بريجيت التي‬
‫كان باتريك ي�ضع يده على الهاتف قرب ال�صندوق م�سجل‬ ‫تقوم مقام �أمها يف املتجر‪.‬‬
‫ال�سلع‪.‬‬ ‫يف البداية رف�ضت �أن يتم تعيينها من طرف �أختها لتقف‬
‫«ال‪ ،‬قال له الق�س ‪،‬لقثد قررت �أن �أجعل منك قائد طق�س‬ ‫�أمام �صندوق املال‪ ،‬و�أن تكون جمربة على بيع ب�ضاعة‬
‫كبري»‪.‬‬ ‫قروية‪ ،‬بعد �أن تكون قد ارتدت البذلة املخ�ص�صة لذلك‪ .‬ي�أتي‬
‫كانت تلك هي �أعلى درجة ميكن �أن يطمح �إليها‪ .‬قائد الطق�س‬ ‫الق�س «مونرتيت»‪ ،‬مرتديا جبة �سوداء‪ ،‬ليبتاع �أوراق النعناع‬
‫الكبري هو رجل الدين الذي يقود االحتفاالت التعبدية رفقة‬ ‫و�أزهار البابوجن لتهييء نقيع امل�ساء‪.‬‬
‫الكاء املتحكم يف عمليات‬ ‫جمع امل�ؤمنني‪ .‬هو من مي�سك إ‬ ‫كان رجال ق�صري القامة‪ ،‬نحيفا وي�شبه راهبا مروفنجيا(‪،)1‬‬
‫ال�سجود ‪ ،‬ويوجه عازف أالرغن واحلاجب‪ .‬هو من يقود‬ ‫كان له وجه م�أ�ساوي مثل �أولئك الذين ر�أى أالطفال �أ�شباحهم‬
‫الخرين الذين يقفون يف اجلوقة‪ .‬هو‬ ‫حركات أالطفال آ‬ ‫تت�آكل يف �أورقه الكنائ�س القدمية يف القرية‪ .‬كان ي�ضع �إكليله‬
‫من يخف�ض الوجه ‪ ،‬هو �أي�ضا من يرفع غيمة البخور من‬ ‫بنف�سه على ر�أ�سه �إىل درجة �أنه كان يبدو �أ�صلع تقريبا طيلة‬
‫بني يدي حامل املبخرة‪ .‬هو من يعلن توبته و�سط اخلوف‬ ‫�شهرين وجمجمته ت�سيل دما‪ .‬له عينان �شاحبتان‪ .‬كان ق�س‬
‫وال�صمت املحيطان باجلرمية التي ارتكبت يف جنة عدن ‪،‬‬ ‫«مونغ» يخاف من النا�س كما لو �أنهم حيوانات‪ .‬نادى على‬
‫وهو يدندن �شيئا ف�شيئا بال�صالة ‪ ،‬ويرفع الن�شيد ‪ ،‬ويخ�ضب‬ ‫«باتريك كاريون» حل�ضور قدا�س الفجر‪ .‬يف ال�ساد�سة �إال ع�رش‬
‫جراح اهلل‪.‬‬ ‫دقائق يقرع جر�س باب املنزل‪ ،‬بني أالزهار‪ ،‬و�سط ال�ضباب‬
‫أ‬
‫الذت مونغ بال�صمت حتت وط�ة احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫ال�صاعد من النهر خمرتقا كل �شيء‪.‬‬
‫ال�سكان �صمتوا �إىل أالبد ألن الرعب مل يكل طيلة �سنوات‪.‬‬ ‫عندما ينتهي القدا�س يتناول الق�س «مونرتيت» الفطور يف‬
‫لقد عرفوا أالملان‪.‬‬ ‫الدير رفقة باتريك‪ .‬مار�سيل ت�سهر على خدمتهم‪ .‬طلب الق�س‬
‫‪ ...‬يتبع املادة كاملة مبوقع املجلة (‪)www.nizwa.com‬‬ ‫من باتريك �أن ي�ساعده يف �إجراء مكاملة هاتفية‪ ،‬ألن الهاتف‬
‫‪233‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مدينة ال�صبار‬
‫ترجمة‪ :‬رمي داوود‬ ‫للكاتب الباك�ستاين‪ :‬عامر ح�سني ‬
‫(] )‬

‫مرتجمة من ُعمان‬

‫زوجها يف الثالثينيات‪ ،‬يف اجلزء القدمي من املدينة‪ ،‬بجوار‬ ‫حب «نورية» حني ر� آها مت�شي على اجلمر‪ .‬مت توزيع‬ ‫وقع يف ّ‬
‫البحر‪� .‬أطلقنا على بيتها ا�سم «مدينة ال�صبّار»‪.‬‬ ‫قطع الفحم امل�شتعلة على احل�شائ�ش ال�صيفية اجلافة‪ ،‬وم�شت‬
‫الخر‪ ،‬من «راوال‬ ‫كان لها ع�شي ٌق ي�أتي لزيارتها بني احلني و آ‬ ‫الخريات‪.‬‬‫عليها �أ�رسع من العذراوات أ‬
‫بيندي»‪ ..‬حيث يعي�ش مع زوجته‪.‬‬ ‫مل يكن من املفرت�ض �أن يكون متواجدا ً هناك‪ ،‬لكنه كان يراقب‬
‫«ميهري» امر�أة طويلة‪ ،‬لها ب�رشة �شاحبة و�شعر فاحم ق�صري‪،‬‬ ‫احلدث من وراء �شجرة اللوز‪.‬‬
‫ال�سود‬ ‫ت�صففه بدهانات المعة‪ .‬ترتدي اثواباً من ال�شيفون أ‬ ‫عربت بخطواتها فوق اجلمر‪ ،‬ثم تعر�ضت إلغماءة‪.‬‬
‫ليالً‪� ،‬أما نهاراً‪ ،‬فكانت ف�ساتينها من الدانتيال البي�ضاء‪ .‬تلب�س‬ ‫(كانت «�سكينة» عط�شى‪ .‬ذهب «عبا�س» للبحث عن املاء‪،‬‬
‫معها قفازات و�أو�شحة من اللون ذاته‪.‬‬ ‫�أطلقوا عليه ال�سهام‪ .‬قتل «قا�سم» ليلة عر�سه‪ .‬عاد ح�صان‬
‫الخر من املدينة‬ ‫بني كل ب�ضعة �أ�سابيع‪ ،‬كانت تعرب �إىل الطرف آ‬ ‫«احل�سني» وقد �أغرقته الدماء‪ ..‬دون �صاحبه)‪.‬‬
‫تتعمد �أن جتعل زوجة «طاهر» تراها‪،‬‬ ‫لزيارتنا‪ .‬كنا نعلم �أنها ّ‬ ‫تهب الرياح ال�صحراوية ال�ساخنة طوال اليوم‪ .‬تت�ساقط الطيور‬ ‫ّ‬
‫وهي تدخل �إىل منزلنا‪.‬‬ ‫الر�ض يف الليلة العا�رشة من �شهر حمرّم‪ .‬ت�صطبغ ال�سماء‬ ‫على أ‬
‫قبل ع�رش �سنوات‪ ،‬كانت تبحث البنها عن عرو�س‪ ،‬من �ضمن‬ ‫بالدماء‪ .‬يبكي عليهم جميعاً حتى حتمرّ عيناه‪ .‬لكنه مل يب ِك ‪،‬‬
‫بنات عائلتها يف «حيدر � آباد»‪ .‬و�أخرياً‪ ..‬ا�ستقر ر�أيها على فتاة‬ ‫�أبداً‪ ،‬باحلرقة التي بكى بها على «نورية»‪.‬‬
‫بنت يف ال�سابعة ع�رش من عمرهان تدعى‬ ‫من عائلة زوجها‪ٌ .‬‬ ‫العمة «ميهري» �أن تزرع حديقتها مبختلف �أنواع‬ ‫حاولت ّ‬
‫«نزار زهرة»‪ .‬غيرّ ت ا�سم العرو�س �إىل «ت�شاند»‪ ،‬ألنه كان لها‬ ‫الزهور الوردية والزرقاء واحلمراء‪ ،‬وبالورد اجلوري القاين‪.‬‬
‫وجه م�ضيء كالقمر‪.‬‬ ‫الربية‬
‫لكن كل النباتات كانت تذبل هناك‪ .‬وحدها الزهور ّ‬
‫تيقنت «ميهري» من �أن البنها حظاً وافراً‪ ..‬القرتانه مبثل هذه‬ ‫تردد‬
‫ظلت ّ‬ ‫و�شجريات ال�صبّار التي كانت تنمو يف ذلك املكان‪ّ .‬‬
‫العرو�س‪ .‬لكن حظ «ت�شاند» نف�سها‪ -‬من جانب � آخر‪ -‬مل يكن‬ ‫الر�ض املاحلة والرياح الرملية‬ ‫�أن ال�سبب هو ال�صحراء‪ .‬و�أن أ‬
‫بالوفرة ذاتها‪� ..‬إذ �أوقعها يف الزواج من رجل يحب الوي�سكي‬ ‫هي التي تقتل النباتات يف جميع �أنحاء املدينة‪.‬‬
‫اجليد‪� ..‬أكرث من حبه لفرا�ش الزوجية‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ..‬كانت حديقة «ت�شاند» تفي�ض با أللوان املتعددة‪،‬‬
‫حتولت الفتاة الهادئة �إىل امر�أة �شديدة الك�سل‪ .‬ورغم انزعاج‬ ‫ّ‬ ‫وال�شجريات املقلّمة بعناية‪ ،‬و�أ�شجار الفاكهة التي تتدلىّ منها‬
‫حماتها من عاداتها اجلديدة‪� ،‬إال �أنها ظلت ت�ستيقظ من نوعها‬ ‫ثمار املاجنو اخل�رضاء‪ ،‬وحبّات البابايا الكبرية‪.‬‬
‫من انت�صاف النهار‪ ،‬ثم مت�ضي بقية �ساعات الظهرية يف لعب‬ ‫كانت «ميهري»‪ -‬او البيجوم «ميهر تاج �شاه»‪ -‬يف حقيقة‬
‫الدومينو‪ .‬مع حلول امل�ساء‪ ،‬كانت تقطع حديقة منزلها جيئ ًة‬ ‫عمتنا‪.‬‬
‫عمة «نورية» فقط‪ ،‬ولي�ست ّ‬ ‫المر ّ‬‫أ‬
‫وذهاباً‪ ،‬وهي تعبث مب�سبحة ال�صالة ب�أ�صابعها‪ ،‬يف انتظار‬ ‫كانت �أرملة �شقيق جدّنا‪ ،‬الذي قتله اليابانيون يف ماليزيا‬
‫عودة زوجها‪.‬‬ ‫عام ‪ ،1944‬حني كانت يف الثانية والثالثني‪.‬‬
‫�إال �أنه مل يكن يعود للمنزل �إال بعد انت�صاف الليل‪ ،‬حني كان‬ ‫مل نعرفه �إال من خالل �صورته ال�ضخمة‪ ،‬املعلقة على جدار‬
‫�صوت حمرّك �سيارته املرتفع يختطفنا من �أعماق �أحالمنا‪.‬‬ ‫حمملة‬
‫ّ‬ ‫منزلها‪ .‬يف كل �إجازة‪ ،‬كانت �أ�رستها تزور قربه‬
‫الحاد‪ ،‬كنا نلعب بجوار البحريات‪ .‬هناك اثنتان‪:‬‬ ‫يف �أيام آ‬ ‫با ألزهار والبخور‪ ،‬كما لو كان قدي�ساً‪.‬‬
‫الخرى خ�رضاء‪ .‬كانوا ي�سقون البحرية‬ ‫واحدة زرقاء‪ ،‬و أ‬ ‫كان لها ثالثة ابناء‪ :‬ابنةٌ تقيم مع زوجها يف ال�صني‪ ،‬حيث‬
‫اخل�رضاء «� آكلة الب�رش»‪ ..‬اذ كانت تتعدّد بها حوادث الغرق‪.‬‬ ‫يعمل يف �سفارتنا هناك‪ .‬وابن يدعى «طاهر»‪ ،‬يعي�ش يف‬
‫قال النا�س ان الع�شاق اليائ�سني‪ ،‬والزوجات التعي�سات‪ ،‬كانوا‬ ‫املنزل املقابل لنا‪� .‬أما �أ�صغر �أبنائها‪« ،‬ماهر»‪ ،‬حبيب قلبها‬
‫يتعمدون الذهاب �إليها ملنحها حيواتهم البائ�سة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الجازة‬ ‫ونور عينيها‪ ،‬فكان يدر�س يف اجنلرتا‪ ،‬وال يعود �إال ّ يف إ‬
‫نلعب عادة بجوار البحرية الزرقاء‪ ،‬ون�سبح‪� -‬أحياناً‪ -‬يف‬ ‫ال�صيفية فقط‪.‬‬
‫مياهها‪ ،‬التي ت�صل �إىل � آذاننا تقريباً‪ ،‬رغم ان ذلك كان ممنوعاً‬ ‫تعي�ش «ميهري» يف بيت كبري جداً‪ ،‬حماط با ألبراج‪ .‬بناه‬
‫‪234‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�صغرية معها �سي�سليها بطبيعة احلال‪.‬‬ ‫ال�صابة بالتيفود او الدفترييا‪.‬‬ ‫علينا‪� .‬إال �أننا مل نكن تخ�شى إ‬
‫ومل نفهم اي�ضا ملاذا طلبت �أم البنت �أن تذهب بها �إىل «ت�شاند»‪،‬‬ ‫«قمران»‪ .‬عمري ت�سع �سنوات‪ .‬عيناي رماديتان‪،‬‬ ‫ا�سمي ْ‬
‫وبخا�صة ان العالقة بينها وزوجة ابنها كانت متوترة جداً‪،‬‬ ‫ال�سمرة‪ .‬ت�أتي «نورية» �إىل هنا ب�صحبة �أوالد‬ ‫ُ‬ ‫�شديدة‬ ‫وب�رشتي‬
‫بعد �أن �أجربت «ميهري» «ت�شاند» على �إجها�ض حملها الثالث‪،‬‬ ‫ابن عمتها» «ماهنور» التي متاثلني يف العمر‪ ،‬و«ميهريار»‬
‫عا�شق ما‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫و�أ�شاعت ان اجلنني كان نتيجة عالقة عابرة مع‬ ‫الذي كان يف الثامنة‪ .‬انهما �أقاربي �أنا �أي�ضاً‪.‬‬
‫عقب تلك احلادثة‪ ،‬تو�سلت «ت�شاند» لـ»طاهر» ان يغادرا مملكة‬ ‫الحيان‪ ،‬كان «با�س»‪� -‬شقيق «ت�شاند»‪ -‬ين�ضم‬ ‫يف بع�ض أ‬
‫الخر من‬ ‫والدته‪ ،‬ليعي�شا يف املنزل الذي بنته يف الطرف آ‬ ‫�إلينا‪ .‬كان فتى يف الثالثة ع�رش‪.‬‬
‫املدينة‪.‬‬ ‫«نورية» يف احلادية ع�رش من عمرها‪ .‬جتل�س على ال�ضفة‬
‫وافقت «ت�شاند» على �أخذ ابنة «�سادية»‪ ،‬وقامت برتبيتها‬ ‫املغطاة بالع�شب‪ ،‬ت�ضع عقودا ً من الزهور‪ ،‬وهي تغني‪:‬‬
‫مع طفليها «ماهنور» و«ميهريار»واكتفت البنت بالعي�ش يف‬ ‫ال�صداء‬‫�أنا ذاهبة ألالحق ظالل أ‬
‫العمال املنزلية‬ ‫الظل‪ ..‬بهدوء‪ ،‬وحر�صت على امل�ساعدة يف أ‬ ‫يف البلد التي تغني فيها الفرا�شات‬
‫اخلفيفة‪ ،‬وكانت تذهب �إىل احدى املدار�س اخلريية القريبة‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ال�سنان املدببة‪ ..‬وال�شعر ال�شعث‪� ..‬نفك مت�سخ‬ ‫‪ -‬يا �أم أ‬
‫من املنزل‪ ،‬حيث تعلمت احلياكة والطهي‪ ،‬وت�سجيل احل�سابات‬ ‫القدام املفلطحة ال�سمينة‪ ..‬من‬ ‫ورائحتك كريهة جداً‪ .‬يا �أم أ‬
‫بخط منمق جميل‪.‬‬ ‫�سيتزوجك يا «نورية»؟‬
‫مع مرور الوقت‪ ،‬ا�ستحال اال�سم الرباق الذي منحه لها والدها‪:‬‬ ‫‪� -‬أنا �س�أتزوج «نورية»‪.‬‬
‫«نور �أف�شان»‪� -‬أو «ناثرة النور» �إىل ا�سم عادي ‪«..‬نورية»‪.‬‬ ‫‪� -‬ألب�سوا العري�س ثيابه �إذن‪ ،‬وزينوه بالذهب‪ ،‬فقد جاءت‬
‫‪ -‬هل ميكنك حقا �سماع غناء الفرا�شات‪ ،‬يا «نورية»؟‬ ‫عرو�سه �شبيهة الفيل‪.‬‬
‫‪� -‬أحياناً‪..‬‬ ‫ميرّغون وجهي بالطني‪ ،‬و�شعر «نورية» كذلك‪ ،‬ثم يدفعونها‬
‫‪� -‬إىل �أي مدى ميكن مالحقة ال�صدى‪ ،‬يا «نورية»؟‬ ‫�إىل املاء‪� .‬أتبعها‪ .‬حل�صوات البحرية ملم�س الرخام الناعم حتت‬
‫‪� -‬إىل احلد الذي ت�سمح به �أنفا�سك‪.‬‬ ‫�أقدامنا‪.‬‬
‫‪ -‬هل �ستتزويجينني حني نكرب؟‬ ‫كان لـ«ميهر تاج» �أخ‪ .‬يظن اجلميع ان «علي زامني» قد تويف‪.‬‬
‫‪ -‬يا لك من ولد �سخيف! انتظر و�سوف نرى‪..‬‬ ‫لكن احلقيقة انه قد اختفى فج�أة ذات يوم‪ ،‬تاركاً خلفه ابناً‬
‫‪� -‬أرجوك‪..‬‬ ‫وابنة‪ ،‬وزوجة �شقراء بعينني وا�سعتني‪.‬‬
‫‪� -‬س�أفعل‪� ،‬إن كنت تريد مني ذلك‪.‬‬ ‫ال�صل فتاة هندو�سية‪ ،‬تخلى عنها �أهلها‬ ‫�سمعنا انها كانت يف أ‬
‫على �شاطئ البحر‪ ،‬جتل�س «نورية» على الرمال البي�ضاء‬ ‫حني عربوا احلدود �إىل الهند‪ ،‬عقب االنف�صال‪.‬‬
‫املبللة‪ .‬تغمر �أ�صابع قدميها يف املاء‪ ،‬وهي تراقب رذاذ‬ ‫العمة «ميهري» يف �أحد املخيّمات‪ ،‬من خالل عملها‬ ‫قابلتها ّ‬
‫المواج املتالطمة‪ .‬ت�ستمع �إىل البحر وهو يغني‪ .‬تظن �أنه يحمل‬ ‫أ‬ ‫الطفال غري املرغوب‬ ‫اخلريي يف م�ساعدة الن�ساء الفقريات و أ‬
‫لها ر�سائل مكتوبة على �أمواجه‪ .‬يقول لها البحر �أن عري�ساً‬ ‫بهم‪ .‬حني قالت الفتاة انه لي�س لديها مكان تذهب اليه‪.‬‬
‫ينتظرك‪ .‬وجهه مغطى بالزهور‪ .‬ج�سدها مثقل باملجوهرات‬ ‫العمة اىل منزلها‪ ،‬وجعلتها رئي�سة للخدم‪� ،‬إذ بدا‬ ‫ا�صطحبتها ّ‬
‫الغماء‪ .‬ي�سكبون احلليب على‬ ‫الذهبية‪ ،‬حتى تو�شك على إ‬ ‫وا�ضحاً انها كانت قد تلّقت قدرا ً ال ب�أ�س به من التعليم‪.‬‬
‫فرا�ش من الف�ضة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫على‬ ‫قدميها‪ ..‬ت�ستيقظ كل �صباح‬ ‫غريت العمة ا�سم الفتاة �إىل «�سادية»‪.‬‬
‫�أحمل لها �أ�صدافاً �شفيفة‪ ،‬وجنمة بحر ميتة‪ ،‬وقوقعة كبرية لت�ضعها‬ ‫ر�أى «علي زامني»‪ ،‬الذي كان قد عاد منذ فرتة ق�صرية من‬
‫على �أذنها قبيل نومها كل ليلة‪ ،‬فترتمن لها ب�أغنيات البحر‪.‬‬ ‫«حيدر � آباد»‪ ،‬الفتاة يف منزل �شقيقته‪ .‬وقع يف هواها منذ‬
‫�رشاع وحيد‪� .‬ألوانه جتمع بني‬‫ٌ‬ ‫الفق الرمادي البعيد‪ ،‬يبحر‬ ‫يف أ‬ ‫الوىل‪ .‬ثم تزوجها‪ ..‬رغم معار�ضة «ميهري» ال�شديدة‪.‬‬ ‫اللحظة أ‬
‫ال�صفر‪.‬‬‫الزرق و أ‬
‫الحمر و أ‬ ‫أ‬ ‫بعد �أعوام‪ ..‬عقب ان اختفى ذات ليلة‪ ،‬د ّقت «�سادية» �أبواب‬
‫للخالة «ت�شاند» �صديقة عراقية �سمينة‪ ،‬ا�سمها «فرخندة»‪.‬‬ ‫«ميهري» طلباً للم�ساعدة‪ .‬قالت انها قد وجدت لنف�سها‬
‫ميكنها قراءة الطالع عن طريق التمعن يف �أوراق ال�شاي‬ ‫عمالً كموظفة يف احدى �رشكات الطريان‪ ،‬وانها قد �أحلقت‬
‫الكواب‪ ،‬وبقايا النب املرت�سبة يف فناجني‬ ‫املتبقية يف قعر أ‬ ‫ابنها مبدر�سة داخلية للبنني؛ �إال انها بحاجة �إىل من يتولىّ‬
‫القهوة‪.‬‬ ‫رعاية ابنتها‪� ،‬إذ لي�س مبقدورها ان تتحمل م�صاريف نف�سها‪،‬‬
‫أ‬
‫اجلو غائم اليوم �إال �ن �شهر مايو �شديد احلرارة للدرجة التي‬ ‫والطفلني معاً‪.‬‬
‫جتعل مياه البحر تقرتب من الغليان‪ ،‬ونكاد نتمنى لو �أننا مل‬ ‫مل نفهم �أبدا ً ملاذا رف�ضت العمة «ميهري» �أن تتوىل رعاية‬
‫نخرج‪.‬‬ ‫الطفلة‪ .‬كانت تقيم مبفرها يف ذلك البيت الكبري‪ ،‬وكان وجود‬
‫‪235‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سالحاً‪.‬‬ ‫ت�ستلقي ال�سيدات على كرا�سي ال�شاطئ الطويلة‪ .‬يدخ َّن �سجائر‬
‫‪� -‬س�أ�صبح بطالً من �أجلك‪� .‬س�أ�شرتي م�سد�ساً‪.‬‬ ‫بنكهة النعناع‪ ،‬ويحت�سني �أكواباً من القهوة املحالة باحلليب‬
‫‪� -‬سخيف!‬ ‫املكثف‪.‬‬
‫‪� -‬أعيدي �إذن جنمة البحر‪ ،‬و�أ�صدايف كذلك‪.‬‬ ‫تنادي «فرخندة» على «نورية» ‪ ،‬الغارقة يف �أحالمها مع مياه‬
‫يف ال�سابعة ع�رش‪ ،‬تتحول «نورية» �إىل كائن ح�سي جذاب‪ ،‬رغم‬ ‫البحر‪:‬‬
‫�ضفريتيها الطويلتني املليئتني بزيت ال�شعر‪ ،‬ورغم الثياب‬ ‫‪ -‬تعايل يا �صغريتي ‪ ،‬دعيني �أخربك من �ستتزوجني‪..‬‬
‫القطنية القدمية غري املكوية‪ .‬مت�ضي وقتاً طويالً يف قراءة‬ ‫تقول «ت�شاند»‪ ،‬كما يردد �أطفالها عاد ًة‪« :‬من �سيتزوج نورية؟»‪.‬‬
‫الروايات العاطفية ذات االغلفة الزاهية الالمعة‪ ،‬والتي تدور‬ ‫وت�ضيف‪�« :‬إنها عدمية اجلمال»‪.‬‬
‫كلها حول فتيات يدعني «نائلة» �أو «رمانة» ‪ ..‬يتيمات �أو‬ ‫ت�صيح «فرخندة» با�ستنكار‪ ،‬وهي تت�أمل قوام الفتاة الطويلة‬
‫فارقهن �أهاليهن بعد االنف�صال‪ ،‬ال يتوقفن عن �سكب الدموع‬ ‫ذات اخلم�سة ع�رش عاماً‪« :‬عدمية اجلمال؟!‪ ..‬تردف‪�« :‬إنها‬
‫�إىل �أبناء �أعمامهن الذين يحاربون من �أجل �أر�ضهم و�أمتهم‪.‬‬ ‫رائعة»‪.‬‬
‫تزوج «ماهر»‪ .‬اقرتن بفتاة اجنليزية من «�إلفورد»‪ .‬قابلها يف‬ ‫توجه كالمها للفتاة‪« :‬تعايل واجل�سي هنا واعطني كفك‪ .‬نعم‪..‬‬
‫«البار» الذي ميلكه والدها‪.‬‬ ‫هكذا‪ ..‬ارى رجالً طويل القامة‪ .‬ب�رشته �سمراء يحمل م�سد�ساً يف‬
‫�أح�رضها لبلده لتقابل �أ�رسته‪ .‬ا�سمها «بريندا»‪ .‬بدا وا�ضحاً انها‬ ‫يده‪ .‬انه يحارب من �أجل وطنه‪ .‬جندي �شجاع‪.»..‬‬
‫حامل يف �شهورها أ‬
‫الوىل‪.‬‬ ‫الفكار ال�سخيفة يف ر�أ�س‬ ‫تقاطعها «ت�شاند»‪« :‬ال تزرعي أ‬
‫ت�ستقبلها «ميهري» بربود �شديد‪ ..‬تزودنا بتعاليم تتبعها اذا‬ ‫البنت»‪.‬‬
‫ما ا�ضطررنا للتعامل معها؛ ك�أن نتعمد ا�شعارها ب�أنها كائن‬ ‫هنا‪ ..‬ميكنني �أنا ان �أخربك مبا حدث بعد ذلك‪ ،‬فقد كنت �أراقب‬
‫�شديد الغرابة واالختالف‪ ،‬عند احلديث معها‪.‬‬ ‫املوقف‪ ،‬و�أنا �أ�سبح على مقربة من ال�شاطئ‪:‬‬
‫مل نبذل �أي جمهود حلملها على ال�شعور بذلك‪ ..‬فثيابها‬ ‫اقرتبت �سيارة فخمة ذات نوافذ مغطاة ب�ستائر �سوداء‪ ،‬من‬
‫اللوان – والتي قامت‬ ‫امل�صنوعة من النايلون الرخي�ص فاقع أ‬ ‫كوخنا‪ .‬وثب الرجل الطويل الذي كان يقودها من مقعده‪،‬‬
‫«ميهري» باهدائها لها‪� -‬إىل جانب ب�رشتها التي حتولت �إىل‬ ‫العمة «ميهري» كفرا�شة‪ ،‬من �رشنقة‬ ‫ليفتح �أحد �أبوابها‪ .‬خرجت ّ‬
‫الحمر‪ ،‬حتت �شم�س يونيو احلارقة‪ ،‬ولهجتها االجنليزية‬ ‫اللون أ‬ ‫ال�سيارة املكيفة‪ ،‬املعطرة بروائح الليمون‪.‬‬
‫القحة‪ ،‬والتي ف�شلت معها يف نطق �أ�سماء �أفراد العائلة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بدت �أنيقة‪ ،‬و�شديدة النظافة‪ ..‬كعادتها دوماً‪ .‬ترتدي ثوباً من‬
‫وبخا�صة املركبة منها‪ ..‬كانت جميعها �أ�سباباً كافية جلعل‬ ‫قما�ش الـ«جورجيت»‪ ،‬لونه بنف�سجي فاحت‪.‬‬
‫الفتاة امل�سكينة تبدو كمخلوق عجيب‪ ،‬ال ينتمي للمكان بتاتاً‪.‬‬ ‫�شبكت ذراعها يف ذراع ال�شاب‪ ،‬و�سارا معاً باجتاهنا‪.‬‬
‫كنا – جميعاً‪ -‬موقنني بان هذه الزيجة لن ت�ستمر طويالً‪،‬‬ ‫قالت لزوجة ابنها‪ ،‬على الفور‪« :‬مل �أكن اعلم انكم �ست�ستخدمون‬
‫فف�ضائح «ماهر» وعالقاته اجلريئة املتعددة‪ ،‬قبل �سفره‪،‬‬ ‫الكوخ اليوم»‪ .‬ظهر ال�ضيق ال�شديد يف نربات �صوتها‪ ،‬وتكلفت‬
‫كانت �أ�سطورية‪.‬‬ ‫ابت�سامة م�صطنعة لكن «ت�شاند» مل تكن ت�ستمع �إليها‪ .‬كانت قد‬
‫ال�رسة بت�سفريه �أ�صالً بعد �أن تعر�ض ل�رضب مربح‪،‬‬ ‫فقد قامت أ‬ ‫قفزت من مقعدها و�ألقت بذراعيها البي�ضاوين الرائعني حول‬
‫مرتني‪ ،‬من �أ�صدقاء له‪ ،‬بعد قيامه باال�ستيالء على قلوب‬ ‫رقبة ال�شاب ال�سمراء‪.‬‬
‫وم�شاعر حبيباتهم‪ .‬كما كان قد تلقى تهديدا ً بالقتل من �أحد‬ ‫ال�صغر لزوجها «ماهر»‪.‬‬ ‫كان ال�شقيق أ‬
‫الزواج املخدوعني‪.‬‬ ‫أ‬ ‫رفعها بذراعيه‪ ،‬ودار بها‪ ،‬وانطلقا يقهقهان‪.‬‬
‫أ‬
‫بعد ذلك‪� ..‬سمعنا �ن «ميهري» قد وعدت عرو�س ابنها مببلغ‬ ‫راقبت وجه «نورية»‪ .‬انفرجت �شفتاها املرتع�شتان‪ ،‬فظهرت‬
‫مايل �ضخم �رشيطة �أن تعود لبلدها‪ .‬وملّحت احلماة لكنتها‬ ‫�أ�سنانها الالمعة‪� ،‬ألقت رمو�شها الكثيفة بظاللها على خدّيها‪.‬‬
‫ب�أنها ميكنها �أن تفتح لنف�سها «بارا» خا�صا لها‪ ،‬بتلك‬ ‫بدت كما لو كانت يف غيبوبة‪� ..‬أو انها – فقط – م�ستغرقة يف‬
‫الموال‪.‬‬ ‫أ‬ ‫دعاء حار‪.‬‬
‫رف�ضت املر�أة العر�ض بكربياء‪ ،‬و�رسعان ما غادرت مع‬ ‫‪� -‬أين ميكنك �سماع الفرا�شات وهي تغني يا «نورية»؟‬
‫زوجها‪ ..‬عائدين �إىل اجنلرتا‪.‬‬ ‫‪ -‬يا لك من ولد �سخيف!‪ ..‬كيف يل ان �أعلم؟!‬
‫ا�ستقرا‪ -‬كما بلغنا‪ -‬يف «ا�سك�س»؛ حيث عمل «ماهر» ‪ ،‬مت�سلحاً‬ ‫ال�صداء يا «نورية»؟‬‫‪ -‬كم يبلغ طول ظالل أ‬
‫ب�شهادته من جامعة «كامربدج»‪ ،‬كمحا�سب قانوين‪.‬‬ ‫‪ -‬يف طول �أنفك القبيح يا غبي‪..‬‬
‫ذاك العام‪ ،‬كنا جميعاً مغرمني بفكرة احلب‪ .‬مل نعد ن�ستمع‬ ‫‪� -‬ألن تتزوجيني يا «نورية»؟‬
‫الجنبية‪ ،‬بل بد�أنا يف اال�ستمتاع ب�صوت «ظاهرة‬ ‫الغاين أ‬ ‫�إىل أ‬ ‫‪� -‬أمل ت�سمع ما قالته اخلالة «فرخندة»؟ �س�أتزوج جندياً يحمل‬
‫‪236‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تردد �أل�سنة بع�ض اجلريان اخلبثاء‪« :‬حني ينظر طاهر» �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ال�شواق‪ .‬و�أ�صبحنا نحفظ‬ ‫�سيد» وهي تتغنى بعبارات الوجد و أ‬
‫ابنة خاله ال�صبية‪ ..‬فان النريان تت�أجج يف عينيه‪ .‬و«ت�شاند»‬ ‫�أبياتاً من �أ�شعار «فايز»(‪ )1‬الغزلية‪.‬‬
‫تخ�شى غرميتها‪.‬‬ ‫الخري‪ ،‬قبل �أن نغادر �إىل جامعاتنا االجنليزية‪.‬‬ ‫كان ذلك عامنا أ‬
‫العداد جلهاز عر�سها‪ .‬جتل�س بهدوء يكاد‬ ‫تبد� أ «نورية» يف إ‬ ‫كان من املقرر �أن تدر�س «ماهنور» الفل�سفة يف «كامربدج»‪،‬‬
‫يثري امللل فيمن حولها لتثبت املرايا ال�صغرية وحبّات اخلرز‬ ‫وان يدر�س «مهريار» االقت�صاد يف لندن‪ .‬كما �صمم �أبي ان‬
‫الربّاقة على �أو�شحتها‪ ،‬وتخيط ال�رشائط املذهبة العري�ضة‬ ‫�ألتحق بكلية احلقوق‪� .‬أما «نورية» فكانت �ستبقى مع «ت�شاند»‪،‬‬
‫على �أطراف �أثوابها‪ ،‬وتطرز ورودا ً باخليوط امللونة على فوط‬ ‫و�أعلنت �أنها �ست�صبح خياطة‪.‬‬
‫ال�سفرة و�أغطية الو�سائد‪.‬‬ ‫الزهار البي�ضاء على �سيقانها املت�سلقة جلدار منزلنا‪،‬‬ ‫تتفتح أ‬
‫تواظب على �أداء ال�صلوات‪.‬‬ ‫ت�أتي «ميهري» لتلقي عليها نظرة‪.‬‬
‫«عبا�س» وريث ثروة طائلة‪ ،‬نغيظها بالقول �أنها �ست�صبح‬ ‫يتو�سط ال�سماء قمر �أحمر �ضخم‪ ،‬كم�شكاة زجاجية‪.‬‬
‫عما قريب زوجة غنية وبدينة‪ ،‬تتزين بالكثري من املجوهرات‬ ‫ّ‬ ‫تدلف «نورية» �إىل احلديقة بثياب بي�ضاء نا�صعة‪ ..‬كحورية‬
‫ال�ضخمة‪.‬‬ ‫يف لوحة فنية‪ ..‬حتمل �صينية تفرت�شها زهور الرنج�س‪ ،‬تعلوها‬
‫حني ت�أتي «فرخندة» للزيارة‪ ،‬ت�س�أل «نورية» ان كان «عبا�س»‬ ‫ك�ؤو�س �رشاب الورد و�أطباق متنوعة من احللوى‪.‬‬
‫بطباعه اللطيفة الهادئة هو من تريد حقاً‪..‬‬ ‫تناف�س يف بهائها الزهور البي�ضاء والقمر امل�ضيء‪.‬‬
‫فعلت الكثري من‬
‫ْ‬ ‫لقد‬ ‫جتيب الفتاة‪ :‬انها رغبة اخلالة «ت�شاند»‪.‬‬ ‫«ميهري» التي مل تبت�سم يف وجه ابنة �شقيقها قط‪ ،‬ومل تقل لها‬
‫�أجلي‪ .‬انه الن�صيب و�إرادة اهلل‪ ،‬بال �شك‪ .‬ثم انك انت من �أخربين‬ ‫كلمة طيبة �أبداً‪ ..‬راحت الليلة تتمعن فيها‪ ،‬كم�ش ٍرت يختار عجالً‬
‫ب�أنني �س�أتزوج جندياً‪.‬‬ ‫يف �سوق املا�شية‪.‬‬
‫�أتغنى ألغيظها‪� :‬أين ذهب بطلك ال�شجاع يا نورية؟‪ ..‬بعيداً‪..‬‬ ‫عقب مرور �شهر رم�ضان‪ ،‬حني ا�ستحال القمر �إىل هالل من‬
‫بعيييداً‪..‬‬ ‫الف�ضة‪ ..‬عاد «عبا�س» �شقيق «ت�شاند» من �أكادمييته الع�سكرية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الن يا «كامي»؟‬ ‫خمن ماذا �أفعل آ‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫الفالم‪ ،‬ويلب�س‬ ‫ليم�ضي العيد مع �أ�رسته‪ .‬يدندن ب�أغاين أ‬
‫‪ -‬ماذا يا «نورية»؟‬ ‫قم�صاناً ملونة �ضيقة ذات ياقات طويلة مع بنطلونات وا�سعة‬
‫يل �أنني �سمعت �صدى‬ ‫ّ‬ ‫ا‬ ‫ويخيل‬ ‫الفرا�شات‪،‬‬ ‫‪� -‬أن�صت �إىل غناء‬ ‫ال�ساقني‪ ..‬ترفرف يف الهواء حني يقفز عن دراجته النارية‪.‬‬
‫الظالل �أي�ضاً‪ ..‬هل ترغب يف �أن ت�أتي معي؟‬ ‫�شعره ق�صري‪ ،‬ألنه جندي‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا الهراء يا «نورية»؟!‪ ..‬غناء فرا�شات؟!!‬ ‫نظرة واحدة منه �إىل «نورية» ‪ ،‬التي ترتدي ثياب «ت�شاند»‬
‫‪ -‬كان من املقرر �أن تتزوج «نورية» يف �شهر نوفمرب‪ .‬تذكرت‬ ‫الفخمة القدمية‪ ،‬ب�شعرها البني وب�رشتها الذهبية‪ ،‬و�أردافها‬
‫العمة «ميهر تاج» �صلة القربى فج�أة‪ ،‬ف�أعلنت‪« :‬انها ابنة‬ ‫العري�ضة‪ ..‬تغرقه يف بحر اال�شتياق العا�صف‪.‬‬
‫لوحت ب�أ�صابعها التي حتت�ضن‬ ‫اخي احلبيب رغم كل �شيء»‪ّ .‬‬ ‫كان قد بد� أ يذوب توقاً اليها‪ ،‬منذ ان ر� آها ت�سري على اجلمر يف‬
‫�سيجارة «�سوبراين»‪ ،‬و�أ�ضافت‪�« :‬ستخرج كعرو�س من بيتي �أنا‪.‬‬ ‫�شهر حمرم املا�ضي‪.‬‬
‫القرب اليها من بقية �أفراد‬ ‫بيتي هو منزلها احلقيقي‪ ..‬ألنني أ‬ ‫العمال املنزلية‪� ،‬أجزم‬ ‫يقول «عبا�س»‪ :‬تبدو كفتاة تتقن أ‬
‫العائلة»‪.‬‬ ‫�أنها جتيد الطهي ترد «ت�شاند»‪ :‬وجودها يريحني‪ .‬انها ابنتي‬
‫تنا�ست وجود �أم الفتاة‪.‬‬ ‫الثانية‪ .‬مزاجية �أحياناً‪ .‬لكنها ت�ستطيع بكل ت�أكيد‪� ..‬أعني‬
‫كانت حمقة يف طلبها بع�ض ال�شيء‪ ..‬فلم يكن من الالئق �أن‬ ‫ت�ستطيع الطهي‪.‬‬
‫تعي�ش الفتاة مع خطيبها حتت �سقف واحد‪ ،‬قبيل زواجهما‪.‬‬ ‫أ‬
‫‪ -‬هل هي خمطوبة؟‪ ..‬كنت �ت�ساءل ما اذا‪...‬‬
‫وافقت «ت�شاند» على م�ض�ض‪ .‬بررت موافقتها ب�أنها ال تريد �أن‬ ‫المر‪� ،‬أن «ت�شاند» �ستعار�ض‪ ،‬و�أنها لن تقبل‬ ‫ظننا‪ ،‬يف بادئ أ‬
‫تثقل على «�سادية» امل�سكينة ب�إر�سال ابنتها لها‪ ،‬لتعي�ش معها‬ ‫�أن ت�ستحوذ �أخرى على م�شاعر �أخيها‪ .‬لكنها – على العك�س من‬
‫حي «ناظم � آباد» البائ�س‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫ذلك‪ -‬توافق على الفور‪ .‬تن�صح �شقيقها ‪ ،‬فقط‪ ،‬باالنتظار لعام‬
‫ر ّتبت «نورية» ثيابها و�أغرا�ضها يف عدة حقائب‪ ،‬وغادرت‬ ‫�أو اثنني قبل الزواج‪ ،‬ألنه وعرو�سه ال يزاالن �صغريين‪ .‬تطلب‬
‫يف �سيارة عمتها‪ ،‬التي حملتها �إىل اجلهة الثانية من كرات�شي‪،‬‬ ‫منه ان يعود بعد �شهر �أو �شهرين ومعه خامت اخلطبة‪.‬‬
‫لتعي�ش منها يف ق�رصها املطل على البحر‪.‬‬ ‫عما �إذا كانت توافق على اخلطبة‪ ،‬تومئ‬ ‫حني ي�س�ألون «نورية» ّ‬
‫مل ن�ستطع �أن نتخيلها بعيدة عن «ت�شاند»‪ ..‬يف ذلك البيت الفخم‬ ‫بر�أ�سها يف �صمت وقد ثبتت عينيها الع�سليتني على ��صابع‬
‫أ‬
‫البعيد ‪« ..‬مدينة ال�صبّار»‪.‬‬ ‫قدميها امل�صبوغتني باحلنّة‪.‬‬
‫ال�ضحى‪.‬‬‫مل نرها ثانية‪ ،‬حتى حلول عيد أ‬ ‫مر�صع بالياقوت‪.‬‬‫يعود «عبا�س» بخامت من الذهب‪ّ ،‬‬
‫‪237‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تقود «ت�شاند» �سيارتها باجتاه ق�رص «ميهري» ‪ .‬كانت –‬ ‫كان «ماهر» قد عاد ليزور والدته‪ ،‬دون زوجته غري املرغوب‬
‫للغرابة ال�شديدة‪ -‬يف غاية الهدوء‪.‬‬ ‫بوجودها‪ ،‬بعد انق�ضاء ثالثة �أو �أربعة �أعوام على مغادرته‪.‬‬
‫هناك‪ ..‬قالت ب�أنها تفهم جيدا ً ما خططت له تلك التنني العجوز‪:‬‬ ‫املتموج الذي يالم�س كتفيه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بدا �شديد الو�سامة‪ ،‬ب�شعره‬
‫انها ت�ستخدم الفتاة اليتيمة كطعم ال�صطياد ابنها احلبيب‪،‬‬ ‫�ألقى ب�سرتته املخملية البنف�سجية على ذراعه‪ ،‬وراح ّ‬
‫يق�ص‬
‫و�إعادته �إىل �أح�ضانها‪ ،‬بعيدا ً عن زوجته أ‬
‫الجنبية‪.‬‬ ‫علينا نوادر وحكايات عن لندن ال�صاخبة‪.‬‬
‫اليدي تراقب ما يحدث‪ .‬وت�ساءلت‪:‬‬ ‫�أعلنت �أنها لن تقف مكتوفة أ‬ ‫كان قد �أتى للغداء معنا‪ ،‬م�صطحباً والدته و«نورية»‪.‬‬
‫هل تظن «نورية» �أن احلياة جمموعة من الق�ص�ص الرومان�سية‬ ‫لونت بع�ض‬ ‫تبدلت «نورية»‪� .‬أحاط �شعرها الفاحت‪ ،‬الذي ّ‬
‫البلهاء‪ ..‬كتلك التي تقر�أها يف كتب «را�ضية بات»؟‬ ‫خ�صالته باللون الذهبي‪ ،‬بوجهها‪ ..‬ب�شكل جميل‪ .‬زينت عينيها‬
‫حذرتها ب�أنها �ستتجرع مرارة احلقيقة‪ ،‬حني يغادرها «ماهر»‪..‬‬ ‫بكحل وظالل جفون من اللون الفريوزي‪ .‬متا�شى مكياجها مع‬
‫راجعاً �إىل زوجته‪.‬‬ ‫الزرق‪ ،‬الذي ك�شف عن كتفني المعني وخ�رص عار‪ ،‬حتت‬ ‫ثوبها أ‬
‫قالت لـ«نورية» و«ميهري» ب�أن ب�إمكانهما االحتفاظ بكل‬ ‫غاللة من قما�ش ال�شيفون اخلفيف‪.‬‬
‫الهدايا التي �أعطيت للفتاة‪ ،‬عدا خامت اخلطبة‪ .‬تريد ا�ستعادته‬ ‫هم�ست لها «ت�شاند» بغيظ �شديد‪« :‬ما الذي فعلته بنف�سك؟!‪..‬‬
‫ألنه �صيغ من قطعة ذهب خا�صة بوالدتها الراحلة‪.‬‬ ‫تبدين كبغي»‪.‬‬
‫ت�ساءلت �أخرياً‪ :‬ما الذي فعله «عبا�س» لي�ستحق ذلك؟‪ ..‬وهل‬ ‫تبدل «ماهر» �أي�ضاً‪.‬‬
‫هذه هي الطريقة التي تظهر فيها «نورية» امتنانها لكل احلب‬ ‫�أ�صبح رجالً م�سحوراً‪.‬‬
‫الذي منحتها �إياه على مرّ أ‬
‫العوام؟‬ ‫جنحت الرغبة وال�شباب‪ ،‬فيما ف�شلت فيه �أموال «ميهري»‬
‫حني ناولت «ت�شاند» اخلامت �إىل �أخيها‪ ،‬قال‪« :‬كان عليك �أن‬ ‫وخططها اللئيمة‪.‬‬
‫المر يل‪ .‬كنت �س�أجعلها ترى احلقيقة‪ ،‬وتدرك ب�أنها لن‬ ‫ترتكي أ‬ ‫القاويل التي ال يتوقف‬ ‫كالعادة‪ ،‬هناك العديد من الق�ص�ص و أ‬
‫تكون �أبدا ً �سعيدة مع ذلك احليوان»‪.‬‬ ‫النا�س عن ترديدها‪.‬‬
‫د�س اخلامت يف جيبه‪ ،‬وانطلق على دراجته النارية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ت�رسبت احلكايات من الق�رص الكبري وو�صلت الينا يف بيوتنا‬
‫مل يعد ذلك اليوم‪.‬‬ ‫البعيدة‪« :‬ماهر» الو�سيم منح قلبه وكل م�شاعره �إىل ابنة خاله‬
‫�أخربتنا «ت�شاند» فيما بعد‪ ،‬بانه حني عاد للمنزل‪ ..‬قال لها‬ ‫اجلميلة «نور �أف�شان»‪ ،‬انهما معا يف كل �أنحاء املدينة‪ .‬ال‬
‫ب�أنه قد ر�أى «نورية»‪ .‬لكنه مل يخربها �أين قابلها بال�ضبط‪.‬‬ ‫يفرتقان ابداً‪ .‬يرتددان على الفنادق وامل�سابح‪ ،‬ويخرجان يف‬
‫ثم انخرط يف بكاء مرير‪.‬‬ ‫رحالت �إىل الريف‪ ،‬ويذهبان معاً �إىل �شاطئ البحر‪.‬‬
‫قالت ب�أنها مل تره �أبدا ً يبكي بتلك الطريقة‪ .‬و�أكدت ب�أنه يف كل‬ ‫علّق البع�ض بان الق�صة خمزية‪ .‬و�أنه مل مي�ض وقت طويل على‬
‫عام يبكي من فرط حبّه للح�سني وعبا�س وقا�سم‪� ،‬إال �أن دموعه‬ ‫خطبة الفتاة اليتيمة‪ ..‬فكيف جتر ؤ� على هذه الت�رصفات؟‬
‫املن�سابة هذه املرّة بدت كما لو كانت ممتزجة بالدم‪.‬‬ ‫الخر‪« :‬وماذا يف ذلك؟‪ ..‬وماذا ان كان «ماهر»‬ ‫ت�ساءل البع�ض آ‬
‫«هابيل» و«قابيل»‪ .‬هكذا �شعرنا حني بد�أت احلرب املفرو�ضة‬ ‫يكربها بع�رش �سنوات؟‪ ..‬انه ال يزال يف الثامنة والع�رشين فقط‪.‬‬
‫المر بوفاة‬ ‫علينا فر�ضاً‪ .‬كنا �أخوين يتقاتالن‪ ،‬و�سينتهي أ‬ ‫�أمامه عمرٌ ب�أكمله‪ ،‬وحياة عري�ضة؟‪.‬‬
‫�أحدهما‪.‬‬ ‫المر منذ البداية‪.‬‬‫كانوا ي�ضيفون‪« :‬هكذا كان ينبغي �أن يتم أ‬
‫امتلت ال�سفن بال�صبية الذين مت نقلهم عرب البحر والرب‪،‬‬ ‫أ‬ ‫الجنبية التي ال نعرف لها �أ�صل وال ف�صل‪،‬‬ ‫�سيرتك زوجته أ‬
‫ليقاتلوا ويحاربوا من �أجل �أر�ض مل يروها‪ ،‬وللحفاظ على جمد‬ ‫وي�أتي لي�ستقر يف بلده مع ابنة خاله»‪.‬‬
‫�أمة كان انف�صالها مقدرا ً وحمتوماً‪.‬‬ ‫المر‪.‬‬‫مل نعرف قط كيف اكت�شف «عبا�س» أ‬
‫�أخذ «عبا�س» �رشقاً‪� ،‬إىل احلدود البورمية‪.‬‬ ‫رمبا ات�صلت به «نورية»‪ ،‬او رمبا كتبت له ر�سالة بخطها‬
‫تت�ساءل «ت�شاند»‪ :‬ملاذا يحملون �أبناءنا واخوتنا عرب �أرا�ضي‬ ‫اجلميل‪ ،‬بعبارات اجنليزية ر�سمية‪ ،‬تخربه فيها ب�أنها لن‬
‫العداء‪ ،‬ليمنعوا بلدا ً بعيدا ً غريباً من تغيري ا�سمه؟‬ ‫أ‬ ‫ميكنها الزواج منه‪ ،‬وان احلياة قد دفعتها لتغيري خططها‪.‬‬
‫كرب‪ ،‬وبالء‪..‬‬ ‫وانها � آ�سفة ال�ضطرارها للنكث بوعودها له‪ ،‬ولكن ال ميكنها ان‬
‫كربالء‪..‬‬ ‫ت�ستمر يف العي�ش داخل كذبة‪.‬‬
‫الخبار الواردة من اجلبهة �سيئة‪ .‬تتحول بعد ذلك �إىل أ‬
‫ال�سو�أ‪.‬‬ ‫أ‬ ‫المر‪ ،‬وي�أبى ان‬ ‫لكن «عبا�س» يرف�ض �أن يخربنا كيف مت أ‬
‫و�صلت الربقية ليالً‪:‬‬ ‫ي�ستمع �إىل �أي كلمة تقال �ضدّها‪.‬‬
‫«ي�رشفنا �أن نبلغكم با�ست�شهاد �شقيقكم �سيد عبا�س حيدر»‪.‬‬ ‫�صف «ت�شاند»‪ ،‬ونقاطع «ماهر» و«نورية»‪،‬‬ ‫نقف كلنا يف ّ‬
‫مل تت�رصف «ت�شاند» كما توقعنا‪ ،‬ك�أخت بطل‪ ،‬مل تت�رصف‬ ‫متاماً‪.‬‬
‫‪238‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الثالثة‪ ،‬ا�ستوقفتها يد مل�ست كتفها‪ .‬التفتت لرتى امر�أة يف‬ ‫الر�ض وراحت متزق ثيابها‬ ‫بهدوء وكرامة؛ بل ارمتت على أ‬
‫اواخر الثالثينيات‪� .‬أنيقة‪� ،‬شقراء‪ ،‬تتحلى بقطع قليلة من‬ ‫وت�شدّ �شعرها‪ ،‬وت�رضب بيدها على �صدرها‪.‬‬
‫املجوهرات‪� .‬س�ألتها املر�أة‪�« :‬أال تتذكرينني؟»‪� ..‬أ�ضافت‪�« :‬أنا‬ ‫مل تنطق بكلمة‪ .‬لكننا كنا مت�أمكدين من انها كانت – يف‬
‫قريبتك‪ ..‬نور �أف�شان‪ ..‬نورية»‪ .‬احت�ضنتها وقبّلتها‪ .‬وقبل �أن‬ ‫�رسّها‪ -‬تلعن القادة‪ ،‬وحروبهم؛ وتلعن «نورية» املرّة تلو‬
‫تقرتب �سيارتها التي يقودها �سائق من مدخل النادي‪ ،‬قامت‬ ‫الخرى‪ ،‬ألنها كانت �ش�ؤماً على �أخيها احلبيب‪.‬‬ ‫أ‬
‫بتعريف �أختي �إىل زوجها‪ .‬تتذكر �أختي انه رجل و�سيم‪ ،‬يكرب‬ ‫�أما «نورية»‪ ..‬فيقولون ب�أنها حني �سمعت النب�أ‪ ،‬قامت بك�رس‬
‫«نورية» ب�سنوات قليلة فقط‪.‬‬ ‫ال�ساور الزجاجية امللونة التي كانت تلب�سها‪ ،‬ثم �أم�ضت ثالث‬ ‫أ‬
‫الل�سنة‪� -‬أرمالً‪ ،‬بل مطلقاً فقط‪� ،‬أم�ضى‬‫مل يكن – كما تناقلت أ‬ ‫ليال يف حجرتها‪ ،‬ال تفعل �شيئاً �سوى ال�صالة‪.‬‬
‫�أعواماً يف دبي‪ ،‬لكنه مل يطلقها قط‪� ،‬أو ير�سلها �إىل منزل �أمها‪.‬‬ ‫الزهار والورود �أن‬ ‫عقب ذلك‪ ،‬غادرت بيت عمتها‪ ،‬حيث ت�أتي أ‬
‫قالت �أختي �أي�ضا �أن �شخ�صية «نورية» يف ذلك اللقاء ذكرتها‬ ‫تنمو‪ ،‬دون �أن ترتك ولو ر�سالة لـ«ماهر»‪ .‬مل تعد �إىل «مدينة‬
‫ب�أحد � آخر‪ ..‬لكنها‪ -‬هي نف�سها‪ -‬مل ت�ستطع حتديد ذلك‬ ‫ال�صبّار» �أبداً‪ ،‬بعد ذلك‪.‬‬
‫ال�شخ�ص‪.‬‬ ‫�سارت طويالً‪ ،‬ثم ا�ست�أجرت عربة حملتها ملنزل «ت�شاند» كان‬
‫�أحلم �أحياناً انني يف مكان «عبا�س»‪� :‬نا ال�شخ�ص الذي ترف�ضه‬
‫أ‬ ‫البيت ممتلئاً باملعزيات‪ .‬مل تدخل‪ .‬كانت تدرك انه مل يعد‬
‫يل‪ .‬وجهها �شديد ال�شحوب‪ ،‬ومغطى بالدموع‪.‬‬ ‫«نورية»‪ .‬ت�أتي � إ ّ‬ ‫بيتها‪ .‬ذهبت �إىل �أمها و�شقيقها‪� ..‬إىل احلياة التي تركتها منذ‬
‫الر�ض يف احلديقة‪ .‬مت�سك بيدي‪ .‬تطلب مني �نأ‬ ‫جتل�س على أ‬ ‫ت�سعة �أعوام‪،‬اىل ال�شقة القدمية الواقعة على �أطراف املدينة‪.‬‬
‫�أ�ساحمها‪ ،‬وان نظل �أ�صدقاء ‪ ..‬كما كنا منذ طفولتنا‪.‬‬ ‫الول‪ ،‬الذي‬ ‫قال النا�س انها كانت حبلى‪ .‬ي�ؤكدون ان طفلها أ‬
‫ت�ضع يدي على خدّها املبلل‪ .‬تذكرين ب�أغنيات الفرا�شات‪،‬‬ ‫المر ابن «ماهر»‪.‬‬ ‫ن�سبته لزوجها‪ ،‬كان يف واقع أ‬
‫وبا أل�صداء والظالل‪ ,‬لكنني �أنظر �إليها بجمود‪ ،‬ثم �أ�شيح‬ ‫قال � آخرون ب�أنها �أنهت حملها بعملية �إجها�ض‪ ،‬مثل «ت�شاند»‬
‫بوجهي عنها‪.‬‬ ‫قبل كل تلك أ‬
‫العوام‪.‬‬
‫�أقول ب�صوت غري م�سموع‪�« :‬ساحميني يا نورية‪ .‬انا ال �أفهم‬ ‫كل ما نعرفه انها وافقت على �أول خاطب د ّق بابها‪ .‬تزوجته‬
‫المور‪ .‬انني �صغري جداً‪ .‬ال ميكنني �أن �أ�ستمر يف‬ ‫مثل هذه أ‬ ‫بعد �أ�سابيع قليلة‪� .‬سمعنا �أنه �شيخ كبري وارمل‪ ،‬عرثت عليه‬
‫�صداقتك»‪ .‬ثم انطلق يف الليل على دراجتي النارية ب�رسعة‪.‬‬ ‫�أمها يف �أعمدة اعالنات الزواج ب�إحدى اجلرائد‪ .‬وقالوا �أن‬
‫�أتوجه �إىل ال�شاطئ‪� .‬أترك دراجتي هناك‪ ،‬و�أخو�ض يف �أمواج‬ ‫يخ�ص عددهم‬ ‫القوال فيما‬‫لديه عدة �أبناء‪ ،‬ولكن ت�ضاربت أ‬
‫البحر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بال�ضبط‪.‬‬
‫هكذا يعرف رجال ال�رشطة �أين يبحثون عن «عبا�س» بال�ضبط‪،‬‬ ‫مل يح�رض � أ ّي منا حفل الزفاف‪ ،‬واكتفى بع�ضنا ب�إر�سال‬
‫حني ي�شاهدون دراجته امللقاة على ال�شاطئ‪ .‬وبعد عدّة �أيام‪،‬‬ ‫الهدايا‪.‬‬
‫ت�شوهت‬
‫يخرج ال�صيادون ج�سده من املاء‪ .‬كانت مالحمه قد ّ‬ ‫عاد «ماهر» �إىل زوجته يف «�إلفورد»‪ ،‬وا�ستقر هناك ل�سنوات‬
‫وت� آكلت‪ .‬كان خامت «نورية» ال يزال م�ستقرا ً داخل جيبه‪.‬‬ ‫طويلة‪ .‬ثم اختلفت معه «بريندا» ‪ ،‬فطردته من املنزل‪ ،‬حمتفظة‬
‫ذه ق�صة �أخرى‪ ،‬مل يذهب فيها «عبا�س» �إىل احلرب‪ .‬ألنه مل‬ ‫ب�أمواله وبناته‪ .‬رجع �إىل كرات�شي ليقيم مع «ميهر تاج»‪ .‬ترك‬
‫ي�ستطع �أبدا ً �أن يفهم �أ�سبابها ودوافعها‪.‬‬ ‫وحول «بيت ال�صبار» �إىل كلية علمية‪.‬‬
‫هذه هي الق�صة احلقيقية‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬لكن نهايتها باردة‬ ‫املحا�سبة القانونية‪ّ ،‬‬
‫ا�ستمرت قطيعة «ت�شاند» و«ماهنور» و«ميهريار» لـ«نورية» مل‬
‫الق�ص واحلكي؛ لذلك اخرتت �أن‬ ‫ّ‬ ‫وكئيبة‪ .‬و�أنا رجل حرفتي‬ ‫يتبادل �أي منهم معها كلمة واحدة‪ ،‬حتى بعد وفاة «ت�شاند»‪-‬‬
‫�أجعله بطالً حربياً‪ ..‬ال ولدا ً �ساذجاً يتباكى على حبّه ال�ضائع‪،‬‬ ‫تتم �أعوامها أ‬
‫الربعني‪.‬‬
‫ومينح حياته للبحر‪.‬‬ ‫املفاجئة‪ -‬قبيل ان ّ‬
‫اختارت «ميهري» ا�سلوب ال�صمت والقطيعة �أي�ضاً‪.‬‬
‫هل ت�شعر‪ ،‬مثلي‪ ،‬باملياه املاحلة تن�ساب عرب هذه ال�صفحات؟‬ ‫�سمعنا‪ ،‬بعد عدّة �أعوام‪ ،‬ب�أن زوج «نورية» قد طلقها‪ ،‬و�أعادها‬
‫الهوام�ش‬ ‫�إىل منزل والدتها‪ ،‬وانه ا�ستوىل على جميع جموهراتها‪ ،‬و�أنها‬
‫‪ -1‬فايز �أحمد فايز‪� :‬شاعر �أوردو باك�ستاين (‪ -)1984 -1911‬املرتجمة‪.‬‬ ‫واجهت بعد ذلك �أياماً طويلة من ال�شقاء‪ ،‬نا�ضلت فيها لرتبي‬
‫‪ -2‬ناد اجتماعي يف كرات�شي‪ ،‬ت�أ�س�س عام (‪.)1871‬‬ ‫طفليها دون م�ساعدة من �أحد‪.‬‬
‫] ولد «عامر ح�سني» يف مدينة كرات�شي بباك�ستان عام ‪ .1955‬انتقل �إىل‬ ‫خربت �شقيقتي ب�أنني �أكتب هذه الق�صة‪ ،‬تذكرت‬
‫لندن عام ‪ .1970‬يدر�س مادة الكتابة االبداعية يف جامعة �ساوثاميتون‪.‬‬ ‫ولكن حني � أ ُ‬
‫الخر» ‪�« ،‬أرق» ‪« ،‬تركواز»‪ ،‬كما‬
‫من �أعماله ‪« :‬مر�آة لل�شم�س»‪« ،‬هذا امللح آ‬ ‫ما يلي‪:‬‬
‫�أ�صدر كتاباً بعنوان «كاهاين» وهي جمموعة ق�ص�صية لعدد من الكاتبات‬ ‫قبل ع�رش �سنوات‪ ،‬كانت يف نادي ال�سند(‪ )2‬ظهرية �أحد �أيام‬
‫الباك�ستانيات‪.‬‬ ‫العوام‬ ‫�شهر ابريل‪ .‬وفيما كانت تالحق ابنتها ال�صغرية ذات أ‬
‫‪239‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ـر�ض فــي الظــالم‬


‫ع ٌ‬
‫عبــداهلل خليفــة‬
‫قا�ص وكاتب من البحرين‬

‫غدوت مهماً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫نف�سك‪ .‬و� أنت‬ ‫جاء من حافة الأزقة التي تكاد ت�سقط يف البحر‪ .‬من‬ ‫َ‬
‫أر�سلت برقي ًة‬ ‫َ‬ ‫أعرف بال�ضبط ماذا تريد‪� ،‬‬ ‫‪ -‬لكن مل � ْ‬ ‫عيون ال�سم ِك امليتِ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فيها‬ ‫ت�ضيء‬
‫ُ‬ ‫التي‬ ‫الدروب‬
‫ِ‬ ‫تلك‬
‫عظيم لن‬ ‫ٌ‬ ‫م�رشوع‬
‫ٌ‬ ‫غام�ض ًة؛ (�صديقي العزيز ثمة‬ ‫وجد � أنوارا ً وجدراناً عالية و� أرواحاً حمبو�س ًة و� أ�شجارا ً‬
‫يتحقق بدونك‪ � .‬أح�رضْ حاالً!)‪.‬‬ ‫متدنية‪.‬‬
‫عيون من‬ ‫ٍ‬ ‫ىل‬ ‫�‬
‫ُ إ‬ ‫ل‬ ‫العيا‬ ‫ل‬‫الورق يف يدهِ‪ ،‬وحتو َ‬ ‫ُ‬ ‫تكرم�ش‬
‫َّ‬ ‫احذر من الأزهار!‬ ‫ْ‬ ‫�سيدي‬ ‫‪:‬‬ ‫الكهف‬‫ُ‬ ‫قال‬
‫خر ٍز م�ضي ٍء يف روعهِ‪.‬‬ ‫�شامخ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أمام بيتٍ‬
‫اجلر�س وهو يف حديق ٍة َغناء‪َ � ،‬‬ ‫َ‬ ‫قرع‬
‫َ‬
‫عقود م�سرتخيةٌ هنا‪ ،‬غرف ُة مكتب ٍة وا�سع ٍة تبدو من‬ ‫ٌ‬ ‫البيت بكا�شفاتٍ حارقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ليه‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫تطلع‬
‫َ‬
‫ٌ‬ ‫أبناء‬ ‫�‬ ‫يتحقق‪.‬‬ ‫ومل‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫طوي‬ ‫به‬ ‫حلم‬
‫ٌ َ‬ ‫�شيء‬ ‫الزجاج‪،‬‬ ‫وراء‬ ‫ورق ال�شج ِر امل�صف ِر‬ ‫تكن يف جعبت ِه تعاويذٌ‪ ،‬ور� أى َ‬ ‫مل ْ‬
‫أ�شجار تت�ساق ُط‬ ‫ُ‬ ‫مثل الأقحوان يف خريفِ العم ِر وال‬ ‫وخيوطاً من الف�ض ِة على �شك ِل ح�رشاتٍ �ضارية‪.‬‬
‫رماداً‪.‬‬ ‫رب‬ ‫ُ‬ ‫يتقدمها‬ ‫فوقه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وانهمرت العائل ُة‬ ‫ْ‬ ‫الباب‬
‫ُ‬ ‫فـُتح‬
‫امل�ضيف ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫قا َل‬ ‫مام‬ ‫الر�سمي إل ِ‬ ‫ُّ‬ ‫الكاتب‬
‫ُ‬ ‫البيت‪ ،‬رفي ُق درب ِه ال�سابق‪،‬‬
‫أنت من امل�شاركاتِ‬ ‫كر�ست � أهميتي من العزل ِة و� َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ � -‬أنا‬ ‫الزيت من ك ِل م�سامهِ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ي�ضخ‬
‫ُ‬ ‫الع�رص‪ ،‬ج�سدٌ كبريٌ‬
‫الكلمات‬
‫ُ‬ ‫أمور ؟‬
‫جرت ال ُ‬ ‫الرهيب ِة امل�ؤملةِ‪ ،‬ف�أنظرْ كيف ْ‬ ‫حميم‬
‫ٌ‬ ‫احت�ضانه‬
‫ُ‬ ‫�صلعته مهيبةٌ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ابت�سامته �شفافةٌ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اجلميل ُة ت�أتي من � أنها ٍر خمتلفة!‬ ‫وقوي‪.‬‬
‫حلت جلدي يف‬ ‫عي�ش مريح؟! و� أنا الذي َ ُ‬
‫�س‬ ‫ٍ‬ ‫(� أي‬ ‫�سنوات مل نلتق‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫م�ضت‬
‫ْ‬ ‫!‬ ‫لهي‬ ‫‪ -‬يا � إ‬
‫ال�شوارع!)‪ .‬التقيا مراتٍ وام�ض ٍة يف مقاهٍ‪ ،‬يف طائراتٍ‬ ‫دت بيننا الدروب‪.‬‬ ‫‪ � -‬أجل َب ُع ْ‬
‫لعوا�صم بعيد ٍة يقر� آن �شيئاً من الورق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أجواء‬
‫تخرتق ال َ‬ ‫ُ‬ ‫يحدث ذلك؟ هل بيننا �إ�شاراتِ مرو ٍر‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬وملاذا‬
‫النا�س يفرقون‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫يعد‬ ‫ومل‬ ‫ٍ‪،‬‬‫ة‬ ‫واحد‬ ‫الحتفاالتٍ‬ ‫مي�ضيان‬ ‫حمراء؟‬
‫والدم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رب‬‫بني احل ِ‬ ‫ألوان خمتلفة‪.‬‬ ‫‪ -‬بل � ٌ‬
‫املو�ضوع كعادتك‪ � .‬أال تريدُ � أن‬ ‫ِ‬ ‫على‬ ‫هجمت‬
‫َ‬ ‫‪ -‬لقد‬ ‫ثريات‬‫ٌ‬ ‫‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫فخم‬ ‫ٌ‬ ‫كثرية‬ ‫كرا�س‬
‫ٍ‬ ‫وا�سعة‪،‬‬ ‫ة‬‫ٍ‬ ‫�صال‬ ‫�أُدخ َل يف‬
‫تعرق � أال‬ ‫ُ‬ ‫ت�رشب �شيئاً ؟ هات احللوى يا منري‪ � .‬أنت‬ ‫َ‬ ‫ت�سرتيح على �سواع ِد‬ ‫ُ‬ ‫تتدىل بحنو لل�سجاد‪ ،‬نوافذٌ‬
‫البارد ؟!‬
‫ُ‬ ‫الهواء‬
‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ي�صل‬ ‫نب�ضات مو�سيقيةٌ‬ ‫ٌ‬ ‫احلديق ِة واملزهرياتِ الناب�ضة‪.‬‬
‫نوبات الربوِّ ال تفارقني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬ ‫على � أ�صاب ِع البيانو يف احلجر ِة القريبة‪.‬‬
‫والرتاب كلُها‬ ‫ُ‬ ‫والدخان‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ال�شق ُق ال�ضيق ُة والأزق ُة‬ ‫و�س �شيطانيةٌ من‬ ‫وتدفقت ر ؤ� ٌ‬ ‫ْ‬ ‫فج�أ ًة ر� أى � أدغاالً‪.‬‬
‫ت�سبب هذا وغريه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حواف ال�شجر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دخان‬
‫ُ‬ ‫أعي�ش ب�شق ٍة يف عم ِق حار ٍة مكتظة‪.‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ُ � .‬‬ ‫�سعداء بوحدتِنا؟!‬ ‫َ‬ ‫نكن‬
‫الكهف‪ � :‬أمل ْ‬ ‫ُ‬ ‫قال‬
‫والدكاكني التي هي � أكرثُ من‬ ‫ُ‬ ‫والور�ش‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ال�سياراتِ ‪،‬‬ ‫دون مراقبت ِه تناثروا‬ ‫والبنات الذين كربوا من ِ‬ ‫ُ‬ ‫أوالد‬
‫ال ُ‬
‫النعال‪ .‬مل � أعدْ � أحتم ُل هناك!‬ ‫غدت‬ ‫مطاط حي‪ .‬الزوج ُة التي ْ‬ ‫ٌ‬ ‫على الكرا�سي ك�أنهم‬
‫‪ -‬بعدَ ك ِل هذا الن�رش؟!‬ ‫دخان موقدِها الغازي‬ ‫ُ‬ ‫هيكالً عظمياً ال يزا ُل يت�صاعدُ‬
‫�ضح َك‪.‬‬ ‫أ�شباح وقتلى‪ .‬مل يب ْق فيها �سوى عينني‬ ‫على هيئ ِة � ٍ‬
‫بع�ضهم‬ ‫يتطلعون فيهِ‪ ،‬يلتفتون نحو ِ‬ ‫َ‬ ‫العيا ُل كانوا‬ ‫كبريتني تت�سعان ملرو ِر بواخ ٍر كثرية‪.‬‬
‫يهم�سون كلمات ِه بده�شةٍ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫البع�ض‪،‬‬‫ِ‬ ‫امل�ضيف‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قال‬
‫يك�سب الن�رشُ !‬ ‫ُ‬ ‫تعرف ماذا‬ ‫َ‬ ‫‪ � -‬أنت‬ ‫لتخرج من عزل ٍة رهيب ٍة فر�ضتَها على‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬دعوت َك‬
‫‪240‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تهديدات‬ ‫ٌ‬ ‫ال�صلب‪ .‬بدا ك�أنها‬ ‫ِ‬ ‫وجهه �إىل البال�ستك‬ ‫ُ‬ ‫أوالد �إىل الداخ ِل وهم يرق�صون‬ ‫ذهبت الزوج ُة وال ُ‬ ‫ْ‬
‫عا�ش مثل عمر ِه وبدا نائياً عن‬ ‫َ‬ ‫الذي‬ ‫�صاحبه‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫غريب ٌ‬
‫ة‬ ‫املكان موح�شاً � أكرث‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫معاً‪ ،‬غدا‬
‫يحفر يف كائنات ِه الغرائبيةِ‪ ،‬وال ي�ضاي ُق‬ ‫ُ‬ ‫العام‬
‫ِ‬ ‫الو�س ِخ‬ ‫يتطلع فيه مت�سائالً‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أذهله بهذ ِه القفز ِة يف‬ ‫� أحداً‪ ،‬ويح�ص ُل على جوائز‪ُ � ،‬‬ ‫‪ � -‬أعرف �إن َك م�ستعجل‪ ،‬لكن الق�ضي َة كبريةٌ وخطريةٌ‪.‬‬
‫هو ِة الغاز‪.‬‬ ‫جتل�س طويالً لت�صغي وتفكر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ال بد � أن‬
‫�صوته فج�أة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ارتفع‬
‫َ‬ ‫كانت العائل ُة تط ُل بر ؤ�و�سِ ها من ورا ِء الزجاج‪.‬‬
‫‪ -‬هذا �إيحاءٌ غريُ مقبول !‬ ‫�صمت عمي ٌق‪ .‬ر� أى‬ ‫ٌ‬ ‫حدث‬
‫انقطعت و�شو�ش ُة املو�سيقى‪َ .‬‬ ‫ْ‬
‫‪ -‬هذا تقريرٌ بواقع َك ال�صحي !‬ ‫�صاح التليفون‬ ‫َ‬ ‫‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أخاديد‬ ‫�‬ ‫ظهرت‬‫ْ‬ ‫‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جتعد‬ ‫وقد‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫زميل‬ ‫وجه‬
‫َ‬
‫‪ -‬وبعد ؟!‬ ‫و�صمت فح�أ ًة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫فج�أ‬
‫العر�ض ؟‬‫َ‬ ‫تعرف‬
‫َ‬ ‫‪ � -‬أال تريد � أن‬ ‫املوقف يوتره‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بد� أ‬
‫‪ � -‬ألي�س هذا هو العر�ض ؟‬ ‫وي�رشب القهو َة بتلذ ٍذ‬ ‫ُ‬ ‫�صار مي�ض ُغ احللوى‬ ‫َ‬ ‫�صاحبه‬
‫ُ‬
‫‪ -‬التفا�صي ُل هي املهم ُة كما يف الأدب‪.‬‬ ‫مزعج‪.‬‬
‫‪ -‬وما هي هذه التفا�صيل‪ ،‬هل �س�أغدو وزيرا ً ؟!‬ ‫رئي�س الدولةِ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫الرئي�س‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫هي‬ ‫�صاحبي‬ ‫يا‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫الق�ضي‬ ‫‪-‬‬
‫ترميم‬ ‫ِ‬ ‫ت�رشف على‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬بل � أهم من وزي ٍر و� أرفع‪� .‬سوف‬ ‫يريدك � أن تعم َل معه !‬ ‫َ‬
‫الق�رص الأثري القدمي ولن تقو َل �إن هذا يحتاج �إىل‬ ‫كاد � أن ي�ضحك‪ � .‬أهذه هي الق�ضي ُة اخلطري ُة ؟ وهذا‬ ‫َ‬
‫�سيقوم‬ ‫ُ‬ ‫وتعر�ض للغبا ِر والأ�صباغ‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫نزول ميداين‬ ‫ٍ‬ ‫حلاح‪ ،‬ومنذ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬‫إ‬ ‫و‬ ‫الفجر‪،‬‬ ‫يف‬ ‫املخيف‬
‫ُ‬ ‫املبكر‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫االت�صا‬
‫ال�رشاف عن‬ ‫إ‬ ‫�سوى‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫علي‬ ‫ولي�س‬ ‫كبري‪،‬‬ ‫طاقم‬
‫ٌ‬ ‫هذا‬ ‫بك ِل‬ ‫كان مهتماً به ؟!‬ ‫�صاحبه يت�صل ؟ ومتى َ‬ ‫ُ‬ ‫متى كان‬
‫ري ذي هواء نقي‪.‬‬ ‫أنت يف بيتٍ كب ٍ‬ ‫ُبع ٍد و� َ‬ ‫يعرف غريَ ُه حقيق ًة‪ ،‬فمنذ‬ ‫ْ‬ ‫يعرف هذا الرئي�س الذي مل‬ ‫ُ‬
‫يعرف هذ الق�رصَ جيداً‪ .‬هو حتفةٌ معماريةٌ قدمية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الوطني يف املدر�س ِة و� أن�شدَ له‬ ‫َّ‬ ‫العلم‬
‫َ‬ ‫ورفع‬
‫َ‬ ‫وعى‬ ‫� أن‬
‫لكنه �أُهم َل لعقو ٍد طويلة‪ ،‬وحتو َل �إىل معه ٍد مر ًة ثم‬ ‫فوق البيوتِ والأ�شياءِ‪.‬‬ ‫أ�سه َ‬ ‫كانت ال توجدُ �سوى ر� ُ‬
‫�صار مركزا ً وا�سعاً لل�رشطة‪ .‬وكان مقرا ً لذكرياتٍ‬ ‫َ‬ ‫وجروح ُه �إىل‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫َُ‬‫ق‬ ‫أعما‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫�رسب َ ُ‬
‫جلد‬ ‫َ‬ ‫والآن هو كه ٌل‪،‬‬
‫ول�شباب مي�ضي‬ ‫ٍ‬ ‫ومدن مرعوب ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫أ�شباح‬
‫مرير ٍة ول ٍ‬ ‫أبي�ض الكثيفِ‬ ‫الورق‪ ،‬ومل َي ُعدْ �سوى � أن يطريَ ب�شعر ِه ال ِ‬
‫تظهر و� أنا�شي ٍد مدوي ٍة‬ ‫ُ‬ ‫يف الليل ويتوارى وجلنازاتٍ‬ ‫�إىل �سما ِء الغيوم‪.‬‬
‫و� أ�شيا ٍء خميف ٍة � أخرى !‬ ‫يعري هذا الرج َل وعاملَ ُه‬ ‫َّ‬ ‫تكن له ق�ضيةٌ �سوى � أن‬ ‫ومل ْ‬
‫نرجعه‬
‫ُ‬ ‫منهم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الق�رص‬ ‫هذا‬ ‫َ‬ ‫ن�ستعيد‬ ‫‪ -‬هي فر�صةٌ � أن‬ ‫أوراقه يف ك ِل مكان‪ ،‬لكن‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫فت�رسبت‬
‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬
‫َُ‬ ‫أقبيت‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫َُ‬ ‫ودهاليز‬
‫والدم الياب�س من‬ ‫َ‬ ‫الرمم‬
‫َ‬ ‫�إىل ع�رص ِه الذهبي‪ .‬نزي ُل هذه‬ ‫ويت�ضخمان‬
‫ِ‬ ‫ويكربان‬
‫ِ‬ ‫مي�ضيان‬
‫ِ‬ ‫الرئي�س ومملكتَ ُه ظال‬ ‫َ‬
‫ذكريات‬ ‫ُ‬ ‫اختفت‬
‫ْ‬ ‫النا�س وقد‬ ‫ُ‬ ‫على جدرانه‪ � .‬أن ميرَ به‬ ‫كلماته قادر ًة على‬ ‫ُ‬ ‫خميف حتى مل تعدْ‬ ‫ٍ‬ ‫على نح ٍو‬
‫آثار‬
‫جلب لك املهند�سون والعما ُل ال َ‬ ‫الأ�شباح‪ � .‬أن َي َ‬ ‫وجاءت � أجيا ٌل ال تعرفه‪ ،‬وامتلأ العاملُ‬ ‫ْ‬ ‫اللحاق بهما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والورق املخب�أَ يف الغريان‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫أظاف‬ ‫ال‬ ‫احلديثة حلفرياتِ‬ ‫م�رشف على‬ ‫ٌ‬ ‫آن‬ ‫ال‬ ‫وهو‬ ‫ِ‪،‬‬‫ة‬ ‫املعتم‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫أجهز‬ ‫ال‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫ب�ضجي‬
‫وحتت البالط‪.‬‬ ‫يتمتع باحلياة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ومل‬ ‫املوتِ ‪،‬‬
‫ابت�سم ب�أمل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫�صاحبه مل يقر� أ الكثريَ مما كتبه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�إن‬ ‫فاجع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قا َل بهدو ٍء‬
‫در�س فيه‬ ‫� أي عالق ٍة مريع ٍة عا�شها مع ذلك الق�رص‪َ ،‬‬ ‫‪ -‬مل يب ْق يف العم ِر �شيءٌ و� أنا عاجزٌ عن العمل‪ .‬ف�أي‬
‫كتب‬ ‫املدير متهماً �إياه بتمزي ِق ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وحب�سه‬
‫ُ‬ ‫وهو معهدٌ‬ ‫وغريب هذا ؟!‬ ‫ٍ‬ ‫عر�ض مت�أخ ٍر‬ ‫ٍ‬
‫مير‬
‫عا�ش فيه �سنوات مروعة ! كان حني ُ‬ ‫ثمينة‪ .‬ثم َ‬ ‫اندفعت مو�سيقى قويةٌ مفاجئةٌ ثم خفتت‪.‬‬ ‫ْ‬
‫الدمع يف عينيه‬ ‫ُ‬ ‫يرتقرق‬
‫ُ‬ ‫بقرب ِه وهو يف م�شي الكهول ِة‬ ‫بي�ضاء يف‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫أردي‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫مث‬ ‫تـ‬
‫ِ ُ‬ ‫الزجاج‬ ‫وراء‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫العائل‬ ‫كانت‬
‫ْ‬
‫رش الق�سا ِة التافهني وب�صا ُقهم عليه‬ ‫�رضبات الب� ِ‬ ‫ُ‬ ‫!‬ ‫حتولت �إىل � أ�شباح‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‪.‬‬ ‫ة‬ ‫املتقلب‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫أنوا‬ ‫ال‬ ‫ذاتِ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫احلجر‬
‫ظلت لوحاتٍ حي ًة تك�ش ُط جلدَ ُه بتوت ٍر كل يوم وبال‬ ‫ْ‬ ‫تعي�ش يف ال�شق ِة‬ ‫ُ‬ ‫أنت‬ ‫ت�ستطيع � أن ترف�ض‪َ � .‬‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬ال‬
‫أ�شباح وانت�رش‬ ‫حربه حتى غطى على ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫توقف‪ .‬وتدف َق‬ ‫أوجاع‪ ،‬لديك �سلةٌ من‬ ‫ُ‬ ‫ال�صغري ِة وحيداً‪ .‬جتتاح َك ال‬
‫الغبار‬
‫ُ‬ ‫و�سكنه‬
‫ُ‬ ‫يف العامل و� أحي َّل الق�رصُ للتقاع ِد‬ ‫الأمرا�ض‪.‬‬
‫الرئي�س يت�ضاء ُل كان‬ ‫ُ‬ ‫والذكريات الأليمة‪ .‬وفيما كان‬ ‫ُ‬ ‫يتطلع �إلي ِه بقوةٍ‪ .‬حتو َل‬ ‫ُ‬ ‫آخر‬
‫حدق فيه منزعجاً‪ .‬ال ُ‬ ‫َ‬
‫‪241‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رص فعالً‬ ‫ري الق� ِ‬ ‫‪ � -‬أنت مل تفهمني‪ .‬هي فر�صةٌ لتغي ِ‬ ‫ويزور القاد َة وامل�ؤمترات‬ ‫ُ‬ ‫يظهر يف �صحفِ ال ِ‬
‫أر�ض‬ ‫ُ‬ ‫هو‬
‫ولكن لي�س لتغيريي‪.‬‬ ‫املثرية‪.‬‬
‫‪ -‬مل � أفهم ؟!‬ ‫وقال على نح ٍو مفاجئ‪:‬‬
‫ري الديكورات‪ ،‬لكن ك َل �شي ٍء‬ ‫ِ‬ ‫بتغي‬ ‫يقوم‬
‫ُ‬ ‫الرئي�س‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ -‬هي فر�صةٌ ثمينةٌ !‬
‫ألقيت نظر ًة على الق�رص الأثري‪،‬‬ ‫�صار متعفناً‪ ،‬لو � أن َك � َ‬ ‫ألي�س كذلك‪ � ،‬أنت توافقني �إذن !!‬ ‫‪َ �-‬‬
‫وتوارت‬ ‫�صار م�أوى للمدمنني واملجرمني‪،‬‬ ‫يكتب له التما�ساً لكن‬ ‫مل‬ ‫‪.‬‬‫ً‬ ‫ا‬ ‫�شديد‬ ‫للرئي�س‬
‫ِ‬ ‫كرهه‬ ‫كان‬
‫ْ‬ ‫لعرفت �إنه َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫آثار القدمي ُة اجلميلة‪.‬‬ ‫ال ُ‬
‫زوجته بال�رسطان ووجدَ ر�صيدَ ُه فارغاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�صيبت‬
‫ْ‬ ‫حني � أُ‬
‫ير�سم التفا�صي َل املروع َة ولكن املو�سيقى‬ ‫وراح‬ ‫كتب � أخري ًا‬
‫َ‬ ‫ليه‪.‬‬ ‫�‬
‫ؤ إ‬‫دي‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫كلها‬ ‫كانت‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫كثري‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫أبواب‬ ‫�‬ ‫طرق‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫يرجوه فيها امل�ساعد َة ب�صفت ِه رئي�ساً للدولة‬ ‫ة‬ ‫ر�سال‬
‫تدور حول‬ ‫ت�صاعدت فج�أ ًة وبقو ٍة‬ ‫ً‬
‫ال�شخو�ص ُ‬ ‫ُ‬ ‫وراحت‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أرواح املواطنني ! فح�ص َل على م�ساعد ٍة‬
‫ُ‬
‫بع�ضها يف حرك ٍة عا�صفة‪.‬‬ ‫وم�س�ؤوال ً عن � ِ‬
‫‪ -‬هذه فر�صةٌ ل َك لكي ت�سرتيح بع�ض الوقت‪ � .‬أعتربها‬ ‫حبيبته‬
‫ُ‬ ‫دخلت‬
‫ْ‬ ‫مالي ٍة تكفي لتذكرة طائرة‪ ،‬يف حني‬
‫للعالج من ك ِل هذه‬ ‫كراهيته‬
‫ُ‬ ‫تعمقت‬
‫ْ‬ ‫ممراتِ الغا ِز وك�ش ِط ال�شعر واجللد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�إ�سرتاح َة املحارب‪ .‬فر�صةٌ‬ ‫وغدت هو ًة كبري ًة بينهما‬ ‫كوابي�س‬ ‫حتى �صارت‬
‫الكلمات كثريا ً بني‬ ‫ُ‬ ‫تتغري‬ ‫أمرا�ض وال�ضغوط‪ .‬مل‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حار ٍة نازفة وبيتٍ مريح !‬ ‫مملوء ًة باجلثثِ وال�رصخاتِ املروعة‪.‬‬
‫‪ -‬ال ! ثمة فر ٌق كبريٌ‪.‬‬
‫الرئي�س يف القه ِر ت�رصخون وحني‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬حني مي�ضي‬
‫دور ال�شهي ِد‬ ‫يتحو ُل تغ�ضبون‪ .‬ق ْل �إنك ال تريدَ � أن تغريَ َ‬
‫نف�س ُه وغريَه‪ .‬يتلذ ُذ‬ ‫يعذب َ‬ ‫ُ‬ ‫دور امل�صلوب‪ ،‬الذي‬ ‫احلي‪َ ،‬‬
‫الفرح‬ ‫ِ‬ ‫رص‬
‫ِ‬ ‫ع�‬ ‫مع‬ ‫تنتهي‬ ‫أنت‬ ‫�‬ ‫أ�سواط‪.‬‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫الدما‬ ‫مبناظ ِر‬
‫واالحتفاالتِ البهيجة‪ .‬لقد فلقتنا مبو�ضوعات َك التي‬
‫ألي�س ثمة �شيءٌ �سوى املا�ضي والأمل والقهر‪،‬‬ ‫ال تتغري‪َ � .‬‬
‫هناك‬ ‫َ‬ ‫ثمة‬ ‫!‬ ‫به‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫خمتنق‬ ‫واحد‬ ‫كتاب‬
‫ٍ‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫بقراء‬ ‫اكتفيت‬
‫� أمل ‪ ،‬ثمة حياةٌ جدديدةٌ ممكنة !‬
‫فوق فمهِ‪ ،‬حاو َل‬ ‫جثمت َ‬ ‫ْ‬ ‫ازدادت املو�سيقى عنفاً‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ٌ‬ ‫هدوء‬ ‫حدث‬
‫َ‬ ‫ثم‬ ‫ِ‪،‬‬‫ه‬ ‫�شفتي‬ ‫فتمزقت‬
‫ْ‬ ‫ي�رسب كلماتٍ‬ ‫َ‬ ‫� أن‬
‫وحدقت‬ ‫ْ‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫جاءت �إلي ِه َ‬ ‫ْ‬ ‫ر�صا�صي‪ ،‬وك�أن العائل َة‬
‫وحتاوطه‬
‫ُ‬ ‫مباعون على ر� أ�سه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫و�رضبته‬
‫ُ‬ ‫فيه الزوج ُة‬
‫رص‬
‫وغا�ص يف ردهاتِ الق� ِ‬ ‫َ‬ ‫ِهم‬ ‫ت‬ ‫بقب�ضا‬ ‫ال�شباب‬
‫ُ‬
‫أ�سنانه يف يدهِ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و�‬
‫أ�شباح يف‬ ‫نف�سه‪ ،‬ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫الهدوء‬
‫ُ‬ ‫لكن مل يكن ثم َة �شيءٌ‪.‬‬
‫�صاحبه و� أح�رضَ �رشاباً‪ .‬دف َق ك�أ�س ًا‬ ‫ُ‬ ‫نه�ض‬‫َ‬ ‫� أمكنتِها‪.‬‬
‫يوم‬ ‫تعب يف احلارةِ‪ ،‬ك ُل ٍ‬ ‫�رسيعاً يف جوفهِ‪ ،‬وهو قد َ‬
‫امل�ضيء‬
‫ُ‬ ‫الكهف‬
‫ُ‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫ولكنه حرٌ‬ ‫ُ‬ ‫�رصاخ وقذارةٌ‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وي�ستلف الع�صافريَ من‬ ‫ُ‬ ‫الكلمات‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫تتدف‬ ‫‪،‬‬ ‫غرفته‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫ال�شخو�ص العجيب ِة‬ ‫ِ‬ ‫ال�شواطئ واحلدائق‪ ،‬و�شبكةٌ من‬ ‫ِ‬
‫وت�سلفه ال�سم َك واخل�رضوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫و�ضحك‬ ‫ة‬
‫حتيطه � ً‬
‫أ�سئل‬ ‫ُ‬
‫ال�شهداء‬
‫ُ‬ ‫ومعها‬ ‫به‪،‬‬ ‫ط‬ ‫ُ‬ ‫حتي‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫اجلري‬ ‫وهذه‬ ‫�سنوات‬‫ٌ‬
‫وذكريات الأه ِل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أوىل‬ ‫ال‬ ‫الكتب‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫و�صنادي‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫والزوج‬
‫حاو َل � أن يتكلم‪.‬‬
‫يعرفه‪ .‬مل‬ ‫ُ‬ ‫يقوله ل�صاحب ِه الذي ال‬ ‫ُ‬ ‫يكن لدي ِه ما‬ ‫لكن مل ْ‬ ‫ت�صوير ‪� :‬سامل الوردي‪ُ -‬عمان‬
‫كتاب ُه عن الق�رص‪.‬‬ ‫يقر� أ َ‬
‫‪242‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫رع�شــة مرور‬
‫منــذر م�صـــري‬
‫�شاعر من �سورية‬
‫�أو �سكتة‪ ،‬حماط بعدة غالالت �إن �أزحت غاللة �ستظهر لك غاللة‬ ‫«ليكن احلب قاطع طريقك‪»..‬‬
‫�أخرى وهكذا‪ ..‬فهي لن ت�سمح لك بالدخول �إىل �أعماقها‪ ..‬تتباهى‬ ‫كان �ضحى ذلك اليوم ربيعاً خال�صاً‪ ،‬و�أحدا ً رائعاً ال ي�ضاهى‪..‬‬
‫وتت�رشف بوجودك على موائدها‪ ..‬بذخ غري ُم�رسف‪� ،‬أطباق كثرية‬
‫وحمامها‬ ‫منوعة ُتقدّم على التوايل والطبق ال يعدو لقيمات‪..‬‬
‫غ�صة اخلوف‪ ..‬قوة الالحل‪..‬‬ ‫�أزال ارتباك االحتماالت و�أبقى لنا ّ‬
‫ُ‬ ‫اخللل الذي نراه جيدا ً وال ن�ستطيع �إ�صالحه‪..‬‬
‫ي�أكل نقراً‪ ..‬نقراً‪.‬‬ ‫أ‬
‫وكان جمرد وجود َك يف هوائي يعني يل �ن احلياة حمتملة‪..‬‬
‫خف ظالً‪� ..‬أ�سري و�صدري مفتوح على النهر‬
‫كنت �أبدو � أ ّ‬
‫يف مدينت َك ُ‬ ‫الهانة‪ .‬فخطفتني من نفق‬ ‫كنت تراين كل يوم �أ�شحب و�أذبل من إ‬ ‫َ‬
‫الطويل املن�ساب‪ .‬ال �أتلفت‪ ..‬وال �أنظر خلفي‪ ..‬ا�ستمتع بامل�شي يف‬ ‫ال نهاية له و�آويتني‪.‬‬
‫و�سط البلد‪ ،‬وباجللو�س على مقاهي الر�صيف‪� ..‬أ�رسع كثريا ً يف‬ ‫مل �أ�ضمرْ الرحيل يوماً‪ ..‬بل هي الدنيا الداعرة‪ ،‬و�أهلي‪ ،‬الذين‬
‫عبور ال�شارع املجنون بال�سيارات‪ ..‬ال �أدقق يف وجوه ّ‬
‫املارة‪..‬‬ ‫قتلوا �أرواحهم وعلقوها على رقبتي‪ .‬فا�ستوى الرحيل مع ذبح‬
‫دائماً م�ستعجلة‪� ..‬أجري‪ ..‬ألحلق‪� !..‬إيقاعي متدفق‪ ..‬مهي�أة‬ ‫�أمومتي‪ ،‬وخنق اختياراتي‪ ،‬ومواجهة مواجعي كما �أحب و�أرغب‪:‬‬
‫ال�ستيعاب أالفكار والقف�شات املباغتة‪ ..‬جاهزة للرد الفوري‬ ‫«�أن �أنهي بح�سم �رشاكة زواجي الفا�شلة»‪.‬‬
‫على �أدق التعليقات‪..‬‬ ‫جف ماء ج�سدي وانحدرت مرة �أخرى على �صخور ال‬ ‫هكذا ّ‬
‫�شهور الغياب الكثرية مل تفرت حلظة الفي�ضان فما زالت قدمي‬ ‫الالم‪ ..‬عاطلة عن العمل‪� ..‬أ�ستعري لقمتي و�أنام على �رسير‬ ‫ترمم آ‬
‫يخب يف‬‫هناك غافية يف ثنية ج�سدك احلميم‪ .‬ومازلت ح�صاناً ّ‬ ‫أ‬
‫قدمي‪ ..‬وال �متلك من‬
‫�صدري وي�شهق‪.‬‬ ‫م�ؤقت‪ ..‬ال م�ستقر يل‪ ،‬مكاين فقط ما حتت ّ‬
‫العامل �سوى احلب‪ ،‬وقلماً مازال يهتز‪..‬‬
‫�أ�سريُ يف وادي �أحالم اليقظة‪ ..‬تطل �ضحكتك وعينا َك ال�صغريتان‬ ‫يا حلظي‪� !..‬أنا �سليلة �شيوخ الع�شرية الرثية‪ !..‬البنت املتمردة‬
‫العميقتان بحزن مرتاكم‪� .‬أخت�رصُ نف�سي و�أرتدي يديك‪� .‬أرمي‬ ‫على �رشيكها أالزيل‪ ..‬أالر�ستقراطية املفخخة بفقري وعجزي!‬
‫طفولتي الفائ�ضة فوق �صدرك العري�ض ال�ضامر‪ .‬تخطف وجعي‬ ‫مل تب َق عطفة يف مدن املنايف �إال ومرّغت روحي‪� ..‬رشيدة و�أنفي‬
‫و�أ�سحب اللوعة من عينيك‪.‬‬ ‫�شامخ‪ !..‬وحيدة �أعالج �صد� أ ج�سدي كالعادة بقف ٍل ٍ‬
‫قا�س ينتظر‬
‫�شوهت كاهلي‪ .‬وثقل‬ ‫يرهقني الوقت‪ ..‬تناوب أاليام كدمات ّ‬ ‫مفتاحك الغام�ض الرحمة‪.‬‬
‫كوة �شجرتي‬ ‫الزمن م�سخ �أع�ضائي‪� .‬أكور �صقيع الثلج و�أد�سه يف ّ‬ ‫منذ ذلك الربيع و�أنا �أعي�ش ورطة االنتظار بر�ضى‪� .‬أتتبع حد�سي‪..‬‬
‫فوق �ألغامك املزروعة‪ .‬كل ليل‪ ..‬ي�ستعيد طيفك حرائقي‪� ..‬أعبئ‬ ‫هت �صدر َك يوماً بجبلها‪..‬‬ ‫فقط حد�سي يف مدينة �أحبها‪� ..‬شبّ ُ‬
‫امتلت غرفتي بال�صناديق‪،‬‬ ‫فوراين يف �صندوق م�ضغوط حتى أ‬ ‫دم�شق الغانية املتزنة‪ ..‬يحاورين و�ضوح نهارها الغارق يف‬
‫و�أخذت حيزا ً كبريا ً من �رسيري‪� .‬أنام م�شدودة‪ ..‬موتورة‪� ..‬أحتجم‬ ‫اخلباء‪ .‬ويتلوين ليلها �رصخة �صامتة مكتومة‪� ..‬أع�شقها‪� ،‬أتدله‬
‫كتلة من القلق‪ ..‬حتزّ عنقي الكوابي�س‪� .‬أفيق دامعة‪ .‬ج�سدي‬ ‫بها‪� .‬أما هي فال تع�شقني‪ .‬تدللني بن�سيمها اجلاف‪ .‬وتعللني‬
‫مقبو�ض ومائل للزرقة‪ ..‬قابل للقتل بال رحمة‪ ..‬ي�أتيني �صوتك‬ ‫بنجمة قمرها‪ .‬وتغمرين ب�أ�شجارها ويا�سمينها‪ .‬ترفعني �إىل‬
‫الغارق يف البعاد‪ ..‬تهدهدين �أطياف يديك كي �أنام من جديد‪..‬‬ ‫�سمائها وقبل �أن �أهوي تلقفني من خويف و�ضياعي‪ .‬ت�سرت�ضيني‬
‫هكذا‪ ..‬تتناوب دورات هالكي مرات ومرات‪.‬‬ ‫بح�ضن قا�سيونها‪ُ .‬ت َقبلّني بتوتها ال�شامي القاين وتقول يل‬
‫�أ�شتاق َك‪ ... ..‬وا�شتياق َك حمنتي‪..‬‬ ‫مزهوة ماكرة‪« :‬تك ْفنيني‪ ..‬تقبرْ يني‪.»..‬‬
‫«ل�ست يائ�ساً من �إمكانية اللقاء‪.»..‬‬
‫تكاتبني ُ‬ ‫متنيت‬
‫ُ‬ ‫تلك هي دم�شق حبة اجلانرك اخل�رضاء اللذيذة التي‬
‫أ‬
‫ر�سائلي في�ض من الوراق‪ ..‬ف�ضف�ضتي لك �إدمان‪..‬‬ ‫قدومك �إليها‪ .‬مدينة لي�ست برّاقة وال مرتامية‪ .‬تاجرة حمايدة‪..‬‬
‫عندما �أجل�س فوق �سفوح جبال الواقع‪ .‬و�سط �سياج ُمي�أ�س ي�ضمنا‬ ‫متكتلة على نف�سها مت�شابكة كدروب حاراتها‪� ..‬صامدة منذ‬
‫ملنا امللل وال جدوى أال�شياء‬ ‫جميعاً‪ .‬نحن حمبطو أالرواح‪ .‬أ‬ ‫أالزل على مفرتق طرق العامل القدمي‪ ..‬متحايلة حتى على الزمن‬
‫باخلرائب‪ .‬حماطون ب�ضغط التفاهة واملناهج املقررة‪ ..‬ال نقوى‬ ‫من �أجل بقائها‪ ..‬لكنها‪ ..‬حنونة‪ ..‬حنونة‪ ..‬مثل يد منب�سطة‬
‫على الع�صيان‪ .‬فنطوي �أحالمنا يف كرا�سات اللعنة وحمرقة‬ ‫مفتوحة‪ ،‬خطوطها واهية وعميقة‪ .‬و�أبوابها مواربة ن�صف‬
‫ال�صحافة‪� .‬أتعرث و�سط ال�سياج‪� ..‬أ�سقط على ركبتي مع كل فر�صة‬ ‫اليقاع ال ي�صيبه ت�رسّع‬ ‫مفتوحة ون�صف مغلقة‪ .‬قلبها من�ضبط إ‬
‫‪243‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و(تفاحة �آدم) النافرة‪ ..‬ي�ؤنبني نحولك ال�صارخ‪ ..‬ف�ألعن نف�سي‬ ‫عمل ت�ضيع‪� .‬أذهب �إىل �صديقتي الوحيدة فتندبني دموعي بني‬
‫وزمني‪..‬‬ ‫يديها‪.‬‬
‫�أتعلق بكتفيك‪..‬‬ ‫قد �أبدو طيبة وجميلة وجريئة‪� ..‬أحث �أ�صدقائي على االلتفات‬
‫بلباقة �سياحية و�أخالقية يطلبون منا مغادرة املكان‪� .‬ضاقت‬ ‫الجتهادي فال يلتفتون �إال جلنون �ضحكتي وورود ف�ساتيني‬
‫علينا الدنيا‪ ،‬حتى الغرفة املُلتب�سة ب�أرقامها لفظتنا‪ ،‬فلم يب َق‬ ‫يلحون‪ ..‬فريف�ض داخلي‪ .‬يحفرون خدو�ش‬ ‫وم�شيتي املتمايلة‪ّ .‬‬
‫لنا �سوى مكان �ضيق ي�شبه الزنزانة‪ ،‬ع�رصّي بكل تف�صيالته‪،‬‬ ‫أالذى يف روحي ألن ج�سدي ال يكذب‪� .‬أ�صحابي املقربون‬
‫فتحت الباب‪.‬‬
‫َ‬ ‫�رسيع وخمنوق بتوقيت م�ضبوط‪� .‬أطل �ضوء ال�سهم‪.‬‬ ‫ال�س ّم يف ك�أ�سي ويقولون يل‪:‬‬ ‫م�شانق متحفزة‪ ..‬متلهفة‪ ،‬ي�ضعون ُ‬
‫زهزهت لنا أالنوار‪ .‬دخلنا با�سمني‪ ،‬وقفنا متقابلني‪ .‬حت�س�ست‬ ‫«ال ت�رشبي الثمالة»‪ .‬ليت�ش ّفوا مبوتي البطيء‪ .‬بتودد‪ ،‬يغرفون يل‬
‫�أ�صابع َك طرف وجهي‪ ..‬بد� أ ُت �أت�شمم في َك رائحة اخلبز ال�ساخن‬ ‫الن�صائح‪« :‬تخففي منه‪ ..‬يا راهبة!‪ .‬حاويل‪ ..‬يا مت�صوفة!‪ .‬مار�سي‬
‫و�شفتك تقرتب من خدي‪� .‬أنذرنا املكان و ُفتح الباب‪ .‬مل متنحنا‬ ‫لعبة اال�ستبدال واال�ستدالل مثلنا‪ ..‬ال حت�سمي وال تبرتي‪ ..‬اتركي‬
‫منجد �شهرتها يف �أعطال الكهرباء‪.‬‬ ‫لعالقاتك ذيوالً وقفازات‪ .‬اقتلي روحك‪ ،‬و�إن مل ت�ستطيعي على‬
‫هذه املدينة الفر�صة كي ّ‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫لو تعطل بنا امل�صعد كنا �سنخلع �قالمنا ونكتب بها ��شواقاً‬ ‫أالقل احفظيها يف ثالجة‪ ..‬ت�صاحلي مع العامل‪ .‬دوري حول ذاتك‬
‫و�أحالماً ال ت�ؤذي �أحداً‪.‬‬ ‫فقط فمنك يبتدئ الكون وعندك ينتهي‪.»..‬‬
‫املر�أة التي تتفتت �شوقاً وفقدا ً‪ ،‬تتلف‪ ،‬ال جتد يف املدينة م�أوى‬ ‫�صبحت مري�ضة بكَ؟! �أمتاهى مع قرين تلبّ�س روحي‪� !.‬م هي‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫هل � أ‬
‫ي�ضمك لها‪..‬‬ ‫خبايا طفولة �سحيقة وغام�ضة!‬
‫هذه املدينة لي�س لها كتف نتكئ عليه‪ ،‬جبالها بعيدة عن قلبها‬ ‫من يفهم �رس اجل�سد؟! ومن يف�رس كنه �صدى الرغبة املبهم‪..‬‬
‫القدمي‪ .‬تركنا متثال �صالح الدين‪ ،‬تخطينا ال�سور‪ .‬غريبان يف‬ ‫جريانها ودفقها‪� ..‬أو توقفها فج�أة؟! وهل هناك �سياالت يف‬
‫زقاق مدينة عريقة ‪ ،‬نلوذ ب�أنف�سنا من ب�شاعة الربد و أالنوار‪ .‬تهي�أ‬ ‫الروح تمُ �سك بج�رس اجل�سد‪ ..‬لو قطعناها نفقد ماهية اجل�سد؟!‬
‫يل يف البداية �أننا ن�سري فوق كف مفتوح خطوطه معلومة وا�ضحة‬ ‫ليتك تراين و�أنا �أتعلم امل�شي ب�أ�سلوب جديد!‪ .‬كيف �أدو�س ق�رشة‬
‫املوز دون �أن �أنزلق!‪.‬‬
‫لنا‪ .‬دفء العتمة يخفف من حدة ال�صقيع‪ .‬مل ن�شعر باخلوف‪ ،‬كنّا‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫بت �خ�شى‬ ‫حروف كلمات ر�سالتك الخرية مهزوزة م�ضطربة‪ُّ ..‬‬
‫فقط نح�س باهتزاز ما قادم‪ ،‬قد يكون من �شبابيكها الواطئة‪،‬‬
‫عليك مني‪ ..‬ال �أعرف كيف احتملتني ومازلت حتتملني؟! ف�أنا‬
‫�أو من طيف الوزير قراقو�ش‪ .‬ولعله من ارتعا�ش �أ�صابع الكف‬ ‫اجلناية التي ارتكبها العامل بحق نف�سه وبحق آ‬
‫الخرين!‬
‫الذي من�شي عليه‪ .‬كانت خطواتنا غري م�ستقيمة وغري ثابتة‪.‬‬ ‫هل �أتعبك منديلي ال�صغري املطرز بدماء �أ�صابعي ورائحتي!؟‬
‫ندور ن�صف دورة و�أحياناً دورة كاملة‪ ،‬مثل جياد تتقافز يف‬ ‫كان البد �أن �أهديك �شيئاً ما عا�صفاً حاراً‪ ..‬حنوناً ونزقاً مني‪..‬‬
‫ممر �ضيق‪ ،‬نتبادل مواقعنا دون اتفاق م�سبق‪ ،‬نت�ضاحك ‪ ،‬نتالم�س‬ ‫يوماً ما �ستُنهيني هذه الرومان�سية‪ ..‬وهذا ال�شغف ب�ساعديك‬
‫ابتعدت عن َك قليالً وجدت حزام معطف َك يف يدي! طوال‬ ‫ُ‬ ‫‪ ،‬عندما‬ ‫املمتدين من قارتك �إىل قارتي‪� ..‬أو �سيقتلني طيف ذلك الطريان‬
‫معرفتي بك مل �أر َك فرحاً هكذا‪ ..‬كان القمر يرتبك يف وجه َك‬ ‫كنت �أمترجح يف رقة لطف ج�سدك‬ ‫ال�سحري على الفرا�ش ال�ضيق‪ُ ..‬‬
‫الطفويل ال�ضاحك‪ .‬ونعناع روحي يغمر �إبطيكَ‪.‬‬ ‫النحيل وعنف ع�شقك و�شهوتك‪ ..‬كان ج�سمي مثل نبتة ( أالر�ضي‬
‫كحل الليل جانح لكننا ربطنا م�شاعرنا بخيوط ال�صرب وتابعنا‬ ‫نت حتت�شد فوقي وبداخلي‪..‬‬ ‫�شوكي) طيباً و�صعباً وناخزاً‪ ..‬و� أ َ‬
‫�سرينا على ر�ؤو�س �أ�صابع احلذر‪ ،‬ال �أذكر �أننا حتدثنا مبو�ضوع‬ ‫تهف ه ّفاً خفيفاً‪ ..‬تتواجد بقوة‪ .‬بينما يختفي وزن َك الفيزيائي‪..‬‬ ‫ُّ‬
‫جاد �أو غري جاد‪ .‬يبدو �أننا قلنا جمالً متناثرة لي�س لها عالقة‬ ‫تتخللني مثل ترو�س �آلة الزمن‪ ..‬تدخل يف فراغاتي‪ ..‬تتع�شق يف‬
‫ببع�ضها البع�ض‪..‬‬ ‫روحي‪ ..‬ترفرفني عرب الع�صور‪ ..‬وتقبع حتت �أدمتي حتى أ‬
‫امتل ُت‬
‫�ضاجة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫يقاعاتها‬ ‫إ‬ ‫�‬ ‫ثقيلة‬ ‫خطوات‬ ‫�سمعنا‬ ‫اقرتبت من‬ ‫بك‪ ..‬فهلَل َْت �أع�صاب حوا�سي جمتمعة معاً‪..‬‬
‫تراجعنا عن م�شوار �سعادتنا‪ ..‬عائدين من حيث �أتينا‪ ..‬بعدها‬ ‫ردت �ن �حتفظ بطقو�س‬‫أ‬ ‫أ‬ ‫مل �أغت�سل بعدها‪ ..‬ألكرث من ع�رشين يوماً‪ � ..‬أ ُ‬
‫ق�ضينا �أيام وجودك باجللو�س وامل�سامرة التقليدية يف املطاعم‬ ‫حبك يف ج�سمي طويالً‪..‬‬
‫والنوادي‪..‬‬ ‫ا�شتياقك هاويتي‪ ..‬وانتظارك �أرق‪ ..‬هذيان‪ ..‬ذئاب جتتمع حويل‪..‬‬
‫�آخر ليلة‪� ..‬أغادر َك دون وداع‪� ..‬أتر ُك �ضحكتي يف عينيك �سالماً‪..‬‬ ‫تعوي‪ ..‬وتقرتب وجلة‪ ..‬تخيفها �شهب نار ج�سدي‪ ..‬فتنهزم تاركة‬
‫�أم�شي وحيدة فوق الكف املنب�سط‪ ..‬ي�ضج الفقد يف ر�أ�سي وي�سحب‬ ‫دمي يحرتق و�شفتي تتفحم‪.‬‬
‫دموعي العميقة‪ ..‬يهتز الكف‪ ..‬حتتويني اليد‪ ..‬ت�ضمني أال�صابع‪..‬‬ ‫«و�صلت منذ دقائق‪ ..‬انتظركِ »‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يف الهاتف �صوتك بهار حارق‪..‬‬
‫ت�ضغط‪ ..‬حت�رشين‪ ..‬ت�ضغط �أكرث‪ ..‬تع�رصين بحنانها املراوغ‪..‬‬ ‫مفاج�أتك الذعة‪......‬‬
‫�أختنق و�أنا وحيدة متاماً‪.‬‬ ‫تلم�س خدك الغائر‪..‬‬ ‫حت�ضنني ب�أجمل �ضحكة يف العامل‪ُ � ..‬‬
‫أ‬
‫‪244‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫(\)‬
‫فـ ــي الب ـ ــرزخ‬
‫أ�حمد حممد الرحبي‬
‫قا�ص من ُعمان‬

‫‪� -‬شخ�ص طيب و�سرتتاح �إليه بال �شك!‬ ‫اخلروج فجرا والتعرف على حار�س الفراغ‬
‫حتدث ال�ضابط ب�سهولة مل ي�ستطع فهم بواعثها‪ � :‬أهي‬ ‫ثبت عقارب �ساعته على الثانية ع�رشة والن�صف ح�سب‬
‫الن�ساين وت�شي ب�سلوكه العام � أم‬ ‫حقيقية تنم عن طبعه إ‬ ‫توقيت م�سقط‪ .‬املطار يو�شك � أن يكون مهجورا‪ ،‬ما‬
‫مفربكة تظهر ما ال ت�ضمر! على � أية حال‪ ،‬ومهما كانت‬ ‫جعله يتخلى عن ترف الولوج عرب ال�شباك املخ�ص�ص‬
‫نوايا ال�ضابط‪ ،‬فقد وجد نف�سه يف مواجهة اقتحام فج‬ ‫للمواطنني � أمثاله‪ .‬مع ذلك ت�أخر خروجه من املطار‬
‫وو�سط فو�ضى ال تعنيه ب�شيء‪ .‬ولكنه حتمل مرة � أخرى‬ ‫حتى هبوط الفجر‪.‬‬
‫ما يلقى عليه ودفن تذمره بني طيات التعب الذي حط‬ ‫عندما جاء دوره‪ � ،‬أم�سك املوظف بجوازه ليختفي بني‬
‫عليه‪� .‬ساعة احلائط ت�شري �إىل الثانية وال�ضابط م�سرت�سل‬ ‫ت�ضاري�س يديه الهائلتني‪ � .‬أ�شار له وابت�سامة تنام حتت‬
‫يف حديث � أ�شبه بتحقيق ودي! كان هناك يف عمق‬ ‫وجهه ال�شحيم‪ ،‬باالبتعاد عن الطابور واالنتظار ريثما‬
‫الغرفة �رشطيان يتابعان عملهما الآيل وينقران على‬
‫ينتهي من بقية امل�سافرين‪ .‬وقت ق�صري حتى غادر‬
‫لوحات الكتابة‪ ،‬وبني احلني والآخر يبت�سمان بتهذيب‬
‫جميع من جاءوا معه‪ ،‬واملوظف ال�سمني ذهب بجوازه‬
‫ماكر للحديث الدائر‪� .‬شا�شات املراقبة املثبتة عن ميني‬
‫�إىل �إحدى الغرف‪ ،‬فخيم ال�صمت على املكان و� أ�صبح‬
‫ال�ضابط و�شماله تفتح نوافذ �إىل الفراغ املهيمن على‬
‫� أركان املطار‪ ،‬الفراغ الذي ظل قرين ال�ضابط كلما ر� آه‬ ‫مهجورا‪ .‬ثمة غرابة يف �إجراء املوظف‪ ،‬فهو قادم �إىل‬
‫بعدها‪ .‬وكان �إرهاقه قد حتول �إىل نعا�س راود � أطراف‬ ‫بلده وال �شيء ي�ستوجب �إيقافه! ال فائدة من مماطلة‬
‫جفنيه‪ ،‬حني ذكر ال�ضابط املوقف الذي قال �إنه �سينتقم‬ ‫رجال املطار‪ ...‬هذا � أمر يعرفه جيدا‪ .‬وقف يراقب‬
‫لنف�سه منه‪ ،‬فحلت رجفة يف ف�ضاء الغرفة � أماطت عنه‬ ‫الفراغ وينتظر‪ ،‬وقد ت�أخر املوظف وقتا جعله ي�شعر‬
‫غاللة الو�سن‪ .‬حدث ذلك قبل خم�سة ع�رش عاما يف‬ ‫ب�أنه بد� أ يخاف‪ .‬وقبل � أن ي�ستجيب كلية ل�شعوره‪ ،‬ر� آه‬
‫املغرب التي كانت �إحدى حمطات � أ�سفاره العبثية‪ � ،‬أو‬ ‫قادما واالبت�سامة تتمطى على وجهه‪ .‬قاده من يده �إىل‬
‫فرتة �رشوده يف البلدان كما � أ�صبح ي�سميها‪ .‬ففي م�ساء‬ ‫الغرفة‪ ...‬وفيها دوى �صوت املفاج�أة!‬
‫�شتوي قار�س‪ ،‬وبينما كان يذرع �شارع حممد اخلام�س‬ ‫المن‬ ‫‪ � -‬أمل � أقل ب�أين �س�أردها لك يوما !؟ (�صاح �ضابط أ‬
‫بالرباط جيئة وذهابا‪� ،‬شبه م�رشد‪ ،‬عاطل ومفل�س وحانق‬ ‫وهو ي�رضب بيديه على الطاولة)‬
‫على و�ضعه يف احلياة‪ ..‬وفيما كان ير�سل نظرات حادة‬ ‫حتولت ابت�سامة املوظف �إىل �ضحك �صار يرتطم بكل‬
‫�إىل الواجهات الزجاجية للمحال‪ ،‬ابت�سم له القدر من‬ ‫�شيء حوله‪ .‬وحتركت � أمواج ال�شحم حتت مالب�سه‬
‫بني ثنايا رواد � أحد املقاهي‪ .‬ارتفعت يد ولوحت تدعوه‬ ‫وت�ضخمت حتى � أو�شكت على اجتياح الغرفة الف�سيحة‪.‬‬
‫للدخول‪ .‬كانت اليد ل�صاحب له جاء �سائحا مع � أحدهم‪.‬‬ ‫مل ي�ش�أ � أن يف�سد عليهما اللعب ويبدي عدم اكرتاثه‬
‫قبل الدعوة‪ ،‬كما قبل فيما بعد هدية القدر وال�سياحة‬ ‫بال�رشك الذي ال بد قد � أنفقا وقتا لن�صبه‪ � .‬أعطى نف�سه‬
‫الرغيدة املدفوعة من جيب �صاحبه‪ � .‬أما � أحدهم ذاك‬ ‫لعناق ال�ضابط وت�سامح ما بو�سعه على ال�ضحك منه‪،‬‬
‫فهو هذا ال�ضابط الذي �سيبدو له دائما كحار�س للفراغ‪،‬‬ ‫�ضاربا ال�صفح حلقيقة � أنه ال يتذكر البتة � أن ال�ضابط‬
‫والذي �صار ي�ستعيد الوقائع القدمية وك�أنه يعلق على‬ ‫قال له يوما ب�أنه �سريدها �إليه! بل ال ي�ستطيع فعال‬
‫م�شاهد حتدث � أمام عينيه ‪ .‬ترك ال�رشطيان النقر على‬ ‫حتديد املكان والزمان الذي ر� آه فيه‪ � ...‬أما ا�سمه فقد‬
‫الآلة وحتفزا لل�سماع‪ ،‬وحفرت االبت�سامة على وجهيهما‬ ‫قر� أه للتو مكتوبا على ال�رشيط املخيط يف �سرتته!! وبعد‬
‫خطوطا غائرة‪ .‬حا�رصاه بالنظر حتى خيل له � أن �ضوء‬ ‫� أن � أنهكه ال�ضحك‪ ،‬بدر على املوظف وك�أنه تذكر فج�أة‬
‫الغرفة امل�شع مكد�س عليه لوحده!‬ ‫�ضخامة ج�سده و�شعر بثقله! حمل بدنه وان�سحب من‬
‫‪ -‬هل تذكر املقلب الذي �أكلته منك و�صاحبك؟ � آه ‪ ..‬لو �أنه‬ ‫الغرفة �صامتا حزينا‪.‬‬
‫‪245‬‬ ‫\ جــزء مــــــن روايـــــة‪.‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الخر ويعرف كل �شيء‪.‬‬ ‫فزميلنا مثقف هو آ‬ ‫مو�سى لكان بلعها �أ�سهل !‬


‫�أ�شاح وجهه عنه وحتول �إىل ال�رشطيني ليكمل �رسد وعندما مل ي�أته من عمق الغرفة �سوى نظرات ال�رشطيني‬
‫احلائرة‪ ،‬قرر �أن يكتفي مبا قال وفعل‪ .‬ناوله اجلواز و�أغلق‬ ‫ق�صته‪ ،‬متجاهال وجوده كلية ‪.‬‬
‫ال�ستاذ الذي �أخربتكما عنه‪ .‬لقد كانت �أول باب الغرفة خلفه‪.‬‬ ‫‪ -‬هو ذا أ‬
‫ال�ستاذ �أحدهم يختبئ يف موظف املطار‬ ‫�سفرة يل خارج البلد وجتربتي �صفر بالعامل‪� .‬أما أ‬
‫ال�سفار! قلت هذا‬ ‫و�صاحبه فكانت لهما �أجنحة من كرثة أ‬
‫لو نظر القادمون �إىل البلد بزاوية معتدلة‪ ،‬لكان �أول ما‬ ‫مرارا من قبل‪ .‬ولكن ال ب�أ�س لو �سمعناه آ‬
‫الن �سوية‪ .‬اتفق هو‬
‫يرونه �أمامهم‪ ،‬م�سجد �صغري منز ٍو على جانب من الر�صيف‬
‫ورفيقه احلقري على الت�سلية بي‪ .‬كنت جال�سا معهما يف �أحد‬
‫املقاهي‪ .‬وبعد �أن �س�أمت حديثهما التافه‪ ،‬ا�ست�أذنت للعودة املقابل لبوابة اخلروج‪� .‬أما اخلارجون (مثله) �ساعة �أذان‬
‫�ىل امل�سكن‪ .‬يف املحطة‪ ،‬جاءين مواطن قال �نه من �رشطة الفجر‪ ،‬ف�سريون جماميع امل�صلني وهم يتوالدون من الغب�ش‬
‫إ‬ ‫إ‬
‫مكافحة املخدرات وطلب ر�ية �أوراقي الثبوتية‪ .‬انتزع ويعبثون قليال بال�صمت الراب�ض‪ .‬وقف منكم�شا على نف�سه‪،‬‬
‫ؤ‬
‫حائر النظر‪ ،‬يقلب ما حدث ويعيد تقييمه مرة تلو �أخرى‪.‬‬ ‫جوازي و�أمرين بال�سري �أمامه �إىل املخفر‪.‬‬
‫�شعر بحزمة ال�ضوء حترق ج�سمه والعرق يتف�صد منه‪ ،‬وكان موقفه ال�سلبي هو �أكرث ما هاله من نف�سه‪� ،‬إذ فطن �أنه‬
‫وكان ال�ضابط كما لو �أنه عاد خم�س ع�رشة �سنة‪ ،‬جارا خلفه مل يتفوه بكلمة واحدة طيلة وقوعه يف �رشك ال�ضابط‪ .‬ولكنه‬
‫�رشطيني م�سحورين‪ ...‬ولو قيظ له اخلروج �ساعتها ملا انتبه عاد وت�ساءل عما ميكن قوله يف ذلك امل�شهد العبثي! �أخريا‬
‫الخر و�أعجز من �أن يتحرك خاتله الر�أي بعدم واقعية ما حدث‪ ،‬وب�أنه لو عاد �إىل الداخل‬ ‫�إليه �أحد! ولكنه كان مكبال هو آ‬
‫ملا وجد �أثرا للغرفة!‬ ‫من مكانه‪.‬‬
‫�سحب حقيبته مكدودا وتوجه �إىل ال�سيارة التي وقفت‬ ‫قال ال�ضابط‪:‬‬
‫‪� -‬رست خلفه بال قدمني بعد �أن �شلهما الرعب‪ .‬كنت خائفا بانتظاره‪ .‬كان املوظف ال�سمني هو من تربع ب�إي�صاله‪.‬‬
‫حتى من البكاء‪ .‬وقد ت�س�أالين عن عالقة هذا ال�شيطان ومن فرط �إنهاكه‪ ،‬عجز عن اخلو�ض يف تف�سري ما يحدث‬
‫و�صديقه بالق�صة! �أمل �أقل هذا من قبل!؟ لقد كانا من دبر له ما �أن وطئ �أر�ض البالد‪ ،‬ومل يزد عن كلمتني �أجاب بهما‬
‫املقلب‪ .‬تعقباين بعد خروجي من املقهى ومعهما ثالث عن �س�ؤال ال�سمني حول مق�صده‪:‬‬
‫�أوكال �إليه املهمة‪ .‬ولكن اهلل كان رفيقا بي ومل يطل عذابي‪� - .‬إىل البحر‬
‫الر�ض التي مل �أكن �أ�شعر بها‪� ،‬شاهدتهما مل يو�شك بعدها �أن غط يف نوم عميق �صاف‪.‬‬ ‫فبعد خطوات على أ‬
‫أ‬
‫يل ال يبتعد املطار كثريا عن البحر‪ ،‬مثلما ال تبتعد كل ال�شياء‬ ‫يلتويان من ال�ضحك فانك�شفت يل اللعبة وعادت � إ ّ‬
‫يف البالد عنه‪ .‬اجلبال قريبة منه‪ ،‬و�إن توارت عنه خلف‬ ‫الروح‪.‬‬
‫وهنا عادت الروح �إىل ال�ضابط بعد �أن كانت ت�صارع حمى املدى‪ ،‬فلكي ترنو �إليه بقممها ال�شاهقة‪ .‬والنا�س حيثما‬
‫كانوا‪ :‬هنا بجواره يف املدينة‪� ،‬أو يف القرى اجلبلية �أو النجوع‬ ‫التذكر ‪ .‬هد� أ حلظة ثم �أ�ضاف م�ستدركا‪:‬‬
‫الفعى التي ال�صحراوية‪ ،‬مو�صولون �إليه ب�شتى ال�صالت‪ .‬وامل�سافر‬ ‫الخر كان مثل أ‬ ‫‪ -‬هذا مل يكن يلتوي ‪ ،‬ولكن آ‬
‫عندما ي�أتي �إىل البالد‪ ،‬فهو قادم �إىل البحر‪ .‬بخار �سدميي‬ ‫�رشبت �سمها!‪.‬‬
‫بان االرتياح على ال�ضابط ما �أن �أنهى ق�صته‪ ،‬وعاد ال�رشطيان ي�سبح يف الف�ضاء‪ ،‬وال�شم�س ت�سكب خلله ذرات �ضوء ك�سولة‪،‬‬
‫اليل‪ .‬كان هو على و�شك �أن ينطق ب�شيء‪ ،‬رمبا على املوج و�أكدا�س الرمل و�شجريات ال�شاطئ ال�شوكية‪ .‬خرج‬ ‫�إىل عملهما آ‬
‫لينظف �ساحته مما نالها‪ .‬بيد �أن ال�ضابط مل ميهله‪ ،‬فك�أنه من ال�سيارة وا�ستقبله تيار هواء جامح‪ ،‬ور�أى ال�سمني بعيدا‬
‫القفال على روايته تلك وقذف بها �إىل عامل � آخر! �أو يف ال�شاطئ يدعوه لين�ضم �إليه‪ .‬خلع حذاءه و�سار جريا‪،‬‬ ‫�أحكم إ‬
‫آ‬
‫خفيفا ك�ن الريح تك�شط عنه �سنوات عمره الفلة وت�سفها مع‬‫أ‬ ‫ك�أنه‪ ،‬ومثلما �ساق عليه التهم‪ ،‬تكفل باملرافعة عنه!!‬
‫الرمل املعربد حتت قدميه‪ .‬كان فرحا بامل�شهد وباجلمال‬ ‫ال�ستاذ!‬‫‪ -‬ال �شك �أنكما تعرفان أ‬
‫قال موجها كالمه لل�رشطيني وكان هذه املرة ي�أمرهما الذي �شعر به ين�ضح من كل �شيء ويلقي بفي�ض على روحه‪.‬‬
‫وعندما �ألفى نف�سه �أمام املوظف ال�ضخم‪ ،‬كان م�ستعدا‬ ‫باال�ستماع‪.‬‬
‫العالم التي ترفرف خارج الوطن‪ .‬اجلميع للركوع امتنانا له‪ ...‬كما لو �أنه �صاحب هذه املعجزة! وقد‬ ‫‪� -‬إنه علم من أ‬
‫هنا يعرف من هو وي�شاهد مقابالته يف الف�ضائيات‪ .‬ا�س�أال ا�ستقبل ال�سمني دفقة املرح تلك بكرم م�صطنع‪.‬‬
‫زميلنا املوظف و�سيخربكما عن هذا الرجل ال�شجاع‪ - ...‬حتى لو �أنك منت قبل �أن تخربين عن مق�صدك ألح�رضتك‬
‫‪246‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الوىل كانت ابنة خالتي‪ ،‬زوجتها يل املرحومة‬ ‫حبة البلح!!‪ .‬أ‬ ‫�إىل هنا !‬
‫�أمي‪ .‬م�سكينة‪ ،‬كانت �أطول بقليل من يدي‪ ،‬و�أرق منها بكثري‪.‬‬ ‫حتدث املوظف وهو يراقب حركاته املنفعلة‪ ،‬ولكن �صاحبنا‬
‫لقد باعت الوالدة كل ما تركه لنا املرحوم الوالد و�أطعمته‬ ‫مل يكن ي�سمع �سوى �صوت الريح وح�رشجة املوج‪ ،‬م�أ�سورا‬
‫زوج خالتي‪ .‬كان ال بد �أن تر�شيه ذلك املهر‪ ،‬فلي�س من �أب‬ ‫باحلياة لدرجة �أ�شعلت غيظ رجل املطار‪ .‬فك�أنه �صار مغبونا‬
‫ي�ضع ابنته حتت كارثة مثلي باملجان‪ .‬اخلامتة �أن �ضلوع‬ ‫حياله‪� .‬أو ك�أن مرح الرجل ال�سافر‪ ،‬و�ضعه يف م�رسح ال يزيد‬
‫البنت تك�رست مبحاوالتي يف ا�صطياد �شيء منها‪ ،‬ولوال �سرت‬ ‫دوره فيه عن دور املتفرج البليد! وحتى يتالفى الغرق يف‬
‫ربك أل�صبحت يف حكم الغيب‪ .‬طلقتها وهي يف امل�ست�شفى‪،‬‬ ‫ذلك الو�ضع الذي مل يح�سب مقدارا لكرامته‪ ،‬جل�أ �إىل الكالم‬
‫وبعد �أ�سبوع ماتت الوالدة‪� .‬أما الثانية فجلبتها من اخلارج‪.‬‬ ‫و�أطلق العنان ل�ضغط عواطفه‪.‬‬
‫بكماء ويعلم اهلل �أن لها دراية بالرجال! ولكن �صربها يل كان‬ ‫‪ -‬لقد قر�أت كل ما ن�رشته من مقاالت وتابعت حواراتك يف‬
‫يفوق �شكي بها مبراحل‪ .‬تخيل �أنني كنت �أ�سمعها ت�ستغيث‬ ‫الف�ضائيات‪ .‬ومع احرتامي ال�شديد‪� ،‬إال �أنكم تعزفون على نف�س‬
‫حتتي حتى يتحول عو ؤا�ها �إىل حروف منطوقة!! خفت منها‬ ‫الوتر اململ‪� ،‬أنت ورفاقك املعار�ضون‪.‬‬
‫الن ال �شيء‪� .‬أدبرها‬ ‫وتعقدت‪ ،‬ف�أر�سلتها �إىل حيث جاءت‪ .‬و آ‬ ‫قال ذلك بنزعة عدوانية �ضغطت على ج�سمه فنزل يف الرمل‬
‫ب�أفالم اجلن�س �إىل �أن ي�أتي موعد إ‬
‫الجازة ال�سنوية وال�سفر‪...‬‬ ‫�أكرث‪ ،‬غري �أنه وب�رضبة واحدة‪ ،‬فتح لنف�سه خرما كبريا يف جدار‬
‫وهناك يحلها احلالّل!‪.‬‬ ‫امل�رسح! وعندما جتلى كالمه على الرجل‪ ،‬فظهرت العكرة على‬
‫قال وهو ي�ضغط على جبينه‪:‬‬ ‫ماء �سعادته‪ ،‬تلقف ردة الفعل تلك وم�ضى ي�شدها على خانوق‬
‫‪� -‬إنه داهية هذا ال�ضابط‪ .‬ين�صب الكمائن للم�سافرين كما‬ ‫الرجل‪ ،‬متم�سكا ومنت�شيا بالفر�صة الثمينة‪.‬‬
‫فعل معك‪ ،‬مع ذلك ال يجر ؤ� � أحد على حما�سبته‪ .‬طبعا هو‬ ‫‪� -‬إنكم مغرورون‪ .‬تظنون ب�أنكم متثلون احلقيقة‪ .‬ال بل تظنون‬
‫دقيق ومن�ضبط يف عمله وله �إجنازات عظيمة يف � أمن‬ ‫ب�أنكم احلقيقة نف�سها‪� .‬أما البقية من كل هذه املاليني فيتمرغون‬
‫املطار واكت�شاف عمليات التهريب‪ ،‬وهو من � أدخل � أجهزة‬ ‫يف الوحل وال معنى حلياتهم‪ .‬يا �أخي �إن كنتم منا�ضلني ونحن‬
‫الف�صاح عنها‪.‬‬ ‫املراقبة الفائقة‪ ،‬و� أ�شياء � أخرى ال يجوز يل إ‬ ‫قطيع من أالميني والفقراء مثلما تكررون بال ملل‪ ،‬فلماذا ال‬
‫ولكنه ميار�س هوايته اخلطرية يف ت�صيد امل�سافرين بحرية‬ ‫نراكم ون�سمعكم �إال عرب الف�ضائيات؟ احلياة هنا على أالر�ض‬
‫مطلقة‪ ،‬ال تكبحه ال�شكاوى التي وردت ملدير املطار من‬ ‫و أالوطان التي ال تنا�سب مقا�ساتكم وهي بني النا�س الذين‬
‫�شخ�صيات وقعت يف �شباكه‪ .‬كيف � أقنع املدير‪ ،‬مثلما قال‬ ‫تكرهونهم بال ذنب ولي�ست يف أالثري القاحل حيث تعي�شون‪.‬‬
‫لنا‪ � ،‬أن هوايته تلك تدريبات مهمة تقع يف �صميم عمله!؟‬ ‫ف�إما �أن تنزلوا ب�صفة نهائية �إىل أالر�ض التي نقف عليها �أو‬
‫� أعتقد � أحيانا � أنه جمنون‪ ،‬ولكنه مع ذلك داهية‪ .‬لعلك‬ ‫عي�شوا وموتوا هناك فنحن ال ن�صدق �شيئا مما تزعمون‪.‬‬
‫�صدقت ق�صته عنك و� أخذت ت�شكك يف نف�سك! اجلميع ي�صدقه‬ ‫كان املوج يهرول �إىل املوظف ثم ين�سحب عائدا بعد �أن يقذف‬
‫رغوته حول احلفرتني اللتني �أطبقتا على قدميه‪ .‬وكانت ال�شم�س‬
‫وك�أمنا بفعل �سحر‪ ،‬وعندما يبطل ال�سحر يقدمون ال�شكاوى‬
‫الفق القريب وملع �شعاعها على حبات العرق‬ ‫قد �سطعت يف أ‬
‫�ضده � أو يختفون بح�رستهم‪ � .‬أنا مل � أبق ل�سماع ما قاله لك‪،‬‬
‫النا�ضحة من حلم وجهه‪ .‬وقف ي�ستمع �إليه ويتابع عربدة‬
‫فقد مللت م�رسحياته‪ .‬اكتفيت بتنفيذ � أوامره و� أداء دوري‬
‫ال�صغاء �إىل ال�صوت‬ ‫العواطف فيه‪ ،‬وكان حينها قادرا على إ‬
‫كما خطط ور�سم‪ � .‬أريد � أن � أقدم اعتذاري على ذلك‪ ،‬ولكن ما‬
‫امل�ستعار الذي ظل يهدر من فمه‪ ،‬وف�صله عن ج�سمه‪ .‬مد �إليه‬
‫العمل فهو ال�ضابط و� أمره مطاع كما تعلم‪ .‬لقد بقي حري�صا‬ ‫يده ليعينه على اخلروج من احلفرة‪.‬‬
‫على تطوير هوايته واالعتناء بها خري عناية‪ .‬كان يوكل‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫فل�ساعدك �إذا على ال�صعود �إىل الر�ض �يها الوح�ش!‪.‬‬ ‫‪ -‬أ‬
‫ملر ؤ�و�سيه تخويف و�إحراج م�سافرين يختارهم بنف�سه من‬ ‫وحني �سار بجواره �شطرا طويال من ال�شاطئ‪ ،‬مطمئنا من‬
‫�شا�شات املراقبة‪ ،‬بينما يظل يف الغرفة يتمتع مبر� آهم‪ .‬بد� أ‬ ‫الحاديث التي طرحها‬ ‫تخليه عن حروده‪ ،‬وم�ستمعا ل�شتى أ‬
‫باختيار م�سافرين من � أقاربه ومعارفه‪ .‬كان ي�أمن بذلك‬ ‫المواج يف و�ضوحها واندفاعها‪،‬‬ ‫بنكهة �سليمة‪ ،‬و�سليقة ت�شبه أ‬
‫خط العودة لو � أن طارئا حدث على اللعبة وافت�ضح � أمره‪.‬‬ ‫حينها ت�أكد له حد�سه ال�سابق ب�ن الذي تهجم عليه‪ ،‬م�ستخدما‬
‫أ‬
‫ولكنه مع املثابرة‪ ،‬وا�ستيالء الهواية على تفكريه‪� ،‬صار يعد‬ ‫ل�سان املوظف‪� ،‬شخ�ص بعينه‪ ،‬وب�أنه‪ ،‬ومنذ اللحظة‪ ،‬معنيا‬
‫اخلطط ويجهز مكائده �سلفا‪ ،‬م�ستفيدا من �شتى امل�صادر‬ ‫ب�إيجاده‪ ...‬ومواجهته‪.‬‬
‫المر مبلغا خطريا‪ .‬فبعد � أن‬‫العلمية واخليالية‪ .‬وقد بلغ به أ‬
‫ت�رسب � أمره �إىل معارفه وكادت لعبته تتحطم‪ ،‬دخل مرحلة‬ ‫بع�ض ما حتدث به موظف املطار بل�سانه‬
‫� أخرى‪ � .‬أخذ ي�صطاد من بني امل�سافرين �ضحية جمهولة‪ .‬كان‬ ‫قال تاركا ميينه على مو�ضع ق�ضيبه‪:‬‬
‫يتعقبها على ال�شا�شة ويراقب حتركاتها بكثب ثم ي�صدر � أمره‬ ‫‪ -‬هذا هو ال�سبب يا �أ�ستاذ!‪ .‬ج�سم بعري وهذا ال�شيء بحجم‬
‫‪247‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الن �إىل مكان ال يرحب بك! رمبا وعدوك مبن�صب!‬ ‫�أنك تعود آ‬ ‫المن‪ .‬ومع تزايد خربته ودرايته بنف�سيات ال�ضحايا‪،‬‬ ‫ألفراد أ‬
‫هل وعدوك مبن�صب يا �أ�ستاذ؟؟ ال يهمني �إن كان كذلك‪ ،‬فهذا‬ ‫ازداد جوعه‪ ،‬ف�صار يبحث عن �ضحايا جدد‪ ،‬وينتقي من‬
‫�ش�أنك‪ ،‬ولكنك �ستندم‪ .‬و�ستتعب من الندم‪ ،‬ويف النهاية �ستعتاد‬ ‫الكرث عنادا وخربة بال�سفر وي�أمر ب�إح�ضارهم �إليه‬ ‫الوجوه أ‬
‫عليه‪ .‬ال �أعرف �إن كان أ‬
‫المر كما �أفكر �أم غري ذلك! وب�أية حال‬ ‫الوىل‪.‬‬ ‫وجها لوجه‪ .‬ثم انتقل بعدها �إىل م�سافري الدرجة أ‬
‫لدي اقرتاح قد ينا�سبك‪ .‬فكرت به بينما �أنت نائم كطفل‪� ،‬وأ‬ ‫� أخريا‪ ،‬وهذا ما جرى معك‪ � ،‬أخذ يغطي عينيه بيد وبا�صبع من‬
‫رمبا قبل ذلك! لقد �أ�شفقت من ر ؤ�يتك واقفا خارج املطار ال‬ ‫الخرى ي�صوب على ال�شا�شة‪ ...‬وهي ذروة املراحل التي‬ ‫اليد أ‬
‫تعرف ما تنتظر‪� .‬إنه ل�شيء م�ؤمل �أن ال يكون هناك م�ستقبلون‪.‬‬ ‫و�صل �إليها حتى الآن‪.‬‬
‫�أنا �أكرث من يفهم هذا ال�شعور‪ ،‬وقد ر�أيت الكثري من الهائمني‬ ‫قال وهو يرمي نظره جتاه البحر‪:‬‬
‫يف �أر�ض املطار ومل �أكن �أبخل ب�شئ من �أجلهم‪� .‬إنهم �أخوتي‬ ‫‪ -‬مل �أكذب عليك عندما قلت �أين �س� آتي �إىل هنا حتى لو مل‬
‫ال�شقاء يا �أ�ستاذ‪� .‬أو�صلتهم حيث �شاءوا‪ ،‬ومن كان يريد‬ ‫أ‬ ‫تخربين بذلك‪ ،‬فهذا هو طريقي اليومي و�أنا عائد من الدوام‪.‬‬
‫املبيت وما �إىل ذلك من �إجراءات‪ ،‬دبرت له ما يريد‪ .‬بع�ضهم‬ ‫�أحب البحر وهو �صديقي و�أني�سي يف هذه احلياة‪� .‬أنا �إن�سان‬
‫كان يحرج مني ويدفع �أجر تعبي‪ ،‬ولكي �أريحهم من احلرج‪،‬‬ ‫تائه‪ .‬وحيد‪� .‬أتقا�سم حياتي مع �أنا�س ال جتمعني بهم عالقة‬
‫كنت � آخذ ما تي�رس‪� .‬أعتقد �أنك توافقني على هذه املعاملة! لن‬ ‫�سوى �رضورة البقاء‪� .‬أما ت�سليتي الوحيدة فهي القراءة‪� .‬أقر� أ‬
‫�أطيل عليك‪ ،‬واقرتاحي هو �أن تقبل دعوتي لل�سكن يف مكان‬ ‫كل �شيء يقع يف يدي‪ .‬بد�أت هذه الهواية و�أنا �صغري ب�سبب‬
‫مريح ال يكلف الكثري‪ .‬لدينا بيت من ثالثة طوابق يقع يف‬ ‫ج�سمي الذي حرمني من اللعب‪ .‬كنت �أقر� أ مع �أين ال �أحب‬
‫حي جديد‪ .‬لي�س بيتي ولكني امل�س�ؤول عنه‪� .‬سيكون �سكنك يف‬ ‫الن �أقر� أ كل ما ميكن قراءته و�أ�صبح‬ ‫القراءة و�أكره املدر�سة‪ .‬و آ‬
‫ّ‬
‫الطابق العلوي‪� .‬شقة من غرفتني و�صالون وبقية املرفقات‪.‬‬ ‫الول‪� .‬أقر� أ يف جميع املجاالت‪ ،‬ولكن لو‬ ‫النرتنت بيتي أ‬ ‫إ‬
‫الخرين‪.‬‬‫لها �سلمها اخلا�ص فهي م�ستقلة متاما عن الطابقني آ‬ ‫�س�ألتني عن ا�سم كاتب واحد لفكرت طويال قبل �أن �أجيب‪...‬‬
‫هناك �سطح جعلناه حديقة‪ ،‬ومنه ميكنك م�شاهدة البحر فهو‬ ‫وقد ال �أجيبك! �أقر� أ كا ألعمى وال �أ�شعر مبتعة وال �أح�صل على‬
‫لي�س ببعيد عن املكان‪ .‬العم �سيلبي كل احتياجاتك وما عليك‬ ‫فكرة‪ .‬قر�أت مرة كتابا عن فوائد القراءة‪ ،‬وكان الكتاب الوحيد‬
‫لطلبه �سوى ال�ضغط على زر اجلر�س‪...‬‬ ‫الذي مل �أمته آلخره‪� .‬شعرت مبلل منه ويف العادة ال ينتابني‬
‫�أي �شعور عند القراءة‪ .‬رمبا يكون ذلك ب�سبب الن�سيان �أو عدم‬
‫العـــم‬
‫الرتكيز‪ ،‬فانا �أقر� أ ال�صفحة و�أكون قد ن�سيت ما قبلها‪� .‬أحيانا‬
‫�أحرا�ش ع�شبية �صغرية تفرقت حول الدار فباعدتها عن‬ ‫اقر� أ نف�س الكتاب �أكرث من مرة وال انتبه �إال عندما ي�س�ألني �أحد‬
‫الوىل‪ ،‬و�أثاثها َيعد‬ ‫حميطها‪ .‬ال�شقة جميلة عند الوهلة أ‬ ‫الزمالء‪ :‬هيه‪ ..‬هل عدت لقراءة هذا الكتاب!؟ لذلك تركت قراءة‬
‫با�سرتخاء هادئ مديد‪ .‬ولكنها (مع ذلك) ال توحي ب�سهولة‬ ‫الكتب وتفرغت للمقاالت ما �أن �سمحوا لنا ا�ستخدام االنرتنت‬
‫الت� آلف معها‪ .‬ثمة � آثار تفر�ض ملكيتها على املكان وتت�شبث‬ ‫�ساعات الدوام‪ .‬و�أحمد اهلل �أن املقاالت فيه تتجدد كل يوم‪،‬‬
‫بحق البقاء فيه‪� .‬أ�شياء منتقاة برغبة غيورة‪ ،‬ت�ؤكد �أن ال�شقة‬ ‫و�إال وجدتني �أواظب على قراءة نف�س املواد �إىل أ‬
‫البد‪.‬‬
‫لها �أ�صحابها الغائبون‪ .‬ولكن كم عدد �أولئك املالّك!؟ لوحة‬ ‫�س�أل وهو ينظر يف عينيه‪:‬‬
‫احل�صان ذات الر�سم املبتذل‪ ،‬ت�شي عن ذوق ال يلتقي بذوق‬ ‫‪ -‬ملاذا عدت يا �أ�ستاذ بعد كل هذه الغيبة؟ �أذكر �أنك كنت‬
‫املزهرية امل�صنوعة من �صدفة عمالقة‪ ،‬التي بدورها ال‬ ‫حديث البالد قبل ب�ضع �سنوات‪ ،‬وكان كل من يعرفك‪ ،‬يذكرك‬
‫متت �صلة ب�أزهارها البال�ستيكية‪ .‬منف�ضة �سجائر معدنية‬ ‫باخلري ويعتربك بطال حتارب يف وجه الظلم والف�ساد وانتهاك‬
‫مطعوجة اجلوانب وك�أمنا عن عمد! ال�ستائر حتمل � آثار اعتداء‬ ‫احلقوق‪ .‬هناك الكثريون ممن رفعوا مقالك العظيم «اعتقال‬
‫خ�شن‪ ،‬ولكن كرب حجمها‪ ،‬ورمبا لونها ال�ساطع �أي�ضا‪ ،‬ت�سرتا‬ ‫القانون» �شعارا لهم وكان م�رسح حديثهم لزمان‪ .‬بعدها مل‬
‫على اجلزء املخرب منها! ال�سجاد‪ ،‬جمموعة الكرا�سي‪ ،‬ال�رسير‬ ‫تعد موجودا ومل يعد �أحد يذكرك باخلري‪ .‬تبدلت هنا �أ�شياء‬
‫والو�سائد والبطانيات‪ ،‬كلها حتمل ب�صمات ت�شهد ب�أ�صحابها‪.‬‬ ‫وجرى ماء كثري‪ ،‬وكان النا�س ينتظرون ما �ستقول‪ ،‬ولكن‬
‫�إال �أنها‪ ،‬ويا للح�رسة‪ ،‬كانت �أ�سرية �أفعال النظافة الفتاكة‪،‬‬ ‫القاويل وقطعوا‬ ‫�شيئا مما حدث مل يحرك قلمك! قالوا عنك أ‬
‫فك�أنها و�ضعت حيال عدو ال يرحم! وما م�شهد �سالل القمامة‬ ‫الن‬‫حلمك ب�أقالمهم و�أل�سنتهم‪ ...‬ثم �أن الن�سيان طواك‪ .‬تعود آ‬
‫املوزعة يف كل زاوية‪ ،‬واملطهرات التي �أفرد لها دوالب خا�ص‪،‬‬ ‫بهوية ال يعرفها وال يفهما �أحد! لقد قر�أنا مقاالتك وبحوثك‬
‫وع�صي املكان�س امل�صفوفة كحر�س م�ستنفر‪� ،‬إال قتل دائم ألي‬ ‫الخرية عن التلوث احل�ضاري وحياة املو�سيقى والثقافة‬ ‫أ‬
‫�أثر ينبئ �أو ذكرى حتاول �أن تنبعث‪ .‬وهي نف�سها النظافة التي‬ ‫امليتة ومل نفهم منها �شيئا‪ .‬ملاذا تهني قلمك ونف�سك‪ ،‬وقد‬
‫تريد طم�أنة ال�ساكن اجلديد ب�أن �أحدا ال ي�شاركه املكان‪.‬‬ ‫الجدر بك لو بقيت �صامتا!؟ مع ذلك ف�أكرث ما يحريين‬ ‫كان أ‬
‫‪248‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عزمه‪ .‬قرر اخلروج من غري �أن يهتم بتحديد وجهته‪ .‬عند باب‬ ‫فكر ب�أنه تعجل املوافقة على اقرتاح موظف املطار‪ ،‬وب�أنه‬
‫البناية التقى برجل تتبعه امر�أة جمللة بعباءة �سوداء‪ ،‬وقد �أثار‬ ‫فعل ذلك يف غفلة منه‪ ،‬ما جعله يرتاجع عن فرز �أ�شيائه‬
‫ريبته �أن الرجل‪ ،‬وعلى غري �سمت النا�س هنا‪ ،‬مل يبد اهتماما‬ ‫وترتيبها يف �أماكنها املفرت�ضة‪ ،‬مف�ضال بقاءها يف احلقيبة‪.‬‬
‫به ومل يلق بالتحية‪ .‬بعد خطوات �سمع من ينادي عليه‪ .‬كان‬ ‫كان العم قد فرغ من كن�س �أر�ضية احلديقة ووقف بباب ال�شقة‬
‫العم يجرى متعرثا بخطواته‪ .‬قال با�سما ومعاتبا‪:‬‬ ‫حاجبا دخول ال�ضوء‪ .‬ولكن �أي عم هو!؟ �إن عمره ال يتعدى‬
‫‪ -‬كان عليك يا �أ�ستاذ �أن تخربين عما تريد أل�شرتيه لك!‬ ‫منت�صف الثالثني‪ ،‬مربوع القامة وكر�ش تربز بف�ضول فا�ضح‪.‬‬
‫‪� -‬أنا خارج ألجتول يا عم‪ ،‬و�أعدك ب�أين �س�أبلغك لو احتجت‬ ‫�أما مالمح وجهه والتعابري التي ال تكاد ت�ستقر فيه‪ ،‬فتظهر‬
‫ل�شيء‪.‬‬ ‫من البالدة �أكرث من �أي �شيء � آخر‪ .‬مع ذلك‪ ،‬وبعد كل �شيء‪،‬‬
‫‪ -‬كنت نائما عندما �صعدت �إليك فلم �أرغب ب�إزعاجك‪ .‬من‬ ‫تبقى اللحية التي فا�ضت على �صدره وقد وخطها ال�شيب‪،‬‬
‫امل�ؤكد �أنك جائع! هل تريد �أن �أ�شرتي لك �شيئا من ال�سوبر‬ ‫الن�سان‪ .‬ويظهر جليا �أن ذلك الع�ضو‬ ‫هي امليزة الفارقة لهذا إ‬
‫ماركت و�أنا عائد من امل�سجد؟‬ ‫الرخو يعني �صاحبه ‪� -‬أميا عون ‪ -‬على حتمل احلياة وتذليل‬
‫يبدو �أنه ال يعرف �شيئا غري ال�سوبر ماركت وامل�سجد‪ .‬ولكي‬ ‫�صعابها‪ ...‬وهو �أي�ضا ما �أنعم عليه بلقب العم‪.‬‬
‫ي�سحبه �إىل حديث � آخر‪� ،‬س�أله عن الرجل واملر�أة اللذين ر� آهما‬ ‫‪ -‬هل ت�أمر ب�شيء يا �أ�ستاذ؟‬
‫لتوه‪ .‬ظهر �أنه بوغت بال�س�ؤال‪� .‬صمت حلظة حاول خاللها �أن‬ ‫‪� -‬شكرا يا عم‪ .‬ال �أريد �شيئا‪.‬‬
‫ي�ستعيد االبت�سامة التي هربت من وجهه‪ ،‬ولكن حليته اهتزت‬ ‫‪ -‬دق على اجلر�س لو رغبت ب�شئ‪ .‬ولكن �أرجوك‪ ،‬لي�س يف وقت‬
‫وخرج الكالم منه كل�سان من لهب‪.‬‬ ‫ال�صالة‪.‬‬
‫‪� -‬إنهم �شياطني ي�أوون يف ذلك البيت امللعون‪ .‬الرحمة يا رب‬ ‫‪ -‬وا�ضح يا عم‪.‬‬
‫ومنك الغفران‪.‬‬ ‫‪ -‬هل �أذهب يا �أ�ستاذ؟ رمبا تريد �شيئا من ال�سوبرماركت‬
‫أ‬
‫�صمت هذه املرة بحزم‪ ،‬ومل يكن من احلكمة � آنئذ �ن تثار‬ ‫�أح�رضه لك و�أنا قادم من امل�سجد!‬
‫حفيظته ب�س�ؤال � آخر‪ .‬م�شى بجواره منتظرا �أن يبادر بالكالم‬ ‫‪ -‬ال �شكرا‪� ...‬شكرا يا عم‪.‬‬
‫من تلقاء نف�سه‪ ،‬وكان التحول الذي طر� أ على مالمح العم‬ ‫‪ -‬عموما اجلر�س بجوارك‪ .‬لو �أردت �شيئا ا�ضغط عليه! �أنا‬
‫هو �أكرث ما �أده�شه‪ .‬فبعد �أن كانت البالدة ت�سبح على وجهه‪،‬‬ ‫ذاهب لل�صالة‪.‬‬
‫الن بعنف وكربياء‪ .‬هلل وكرب وا�ستعاذ وحوقل‬ ‫�أخذت تختلج آ‬ ‫تلك�أ قليال قبل �أن ين�رصف‪ .‬ولكنه عاد يتحرك يف احلديقة‪،‬‬
‫ولكنه مل يلبث �أن عاد �إىل ثوبه القدمي‪.‬‬ ‫وظل هكذا حتى غدا وا�ضحا �أنه ال ينوي املغادرة قبل �أن ُتفهم‬
‫‪� -‬أنا على باب اهلل يا �أ�ستاذ‪ .‬وواهلل لوال احلاجة ملا بقيت يف‬ ‫الخري‪� .‬أخذ‬‫�إ�شاراته حق الفهم ويبلغ مراده‪ ...‬وهو ما ناله يف أ‬
‫بيت اخلطيئة حلظة واحده‪ .‬لدي خم�سة �أبناء و�أعيل �أخوتي‬ ‫بعطف �شديد ما �أعطي �إياه من نقود وم�ضى �ساحبا ظله‪.‬‬
‫و�أخواتي‪� .‬إين م�ضطر على التعامل مع �أولئك الفجرة‪ ،‬فال‬ ‫الخرى ب� آثار ال�سكان الغائبني‪.‬‬ ‫حتتفظ احلديقة هي أ‬
‫�شهادة لدي ألعمل يف مكان � آخر ولو حتى فرّا�ش �أو ناطور‬ ‫ولكن �شتان بني هذه وما كان يف الداخل‪ .‬فال مكن�سة العم‬
‫مزرعة‪ .‬ولكني �أحمد اهلل الذي فتح يل بابا �أطهر به ذنوبي‬ ‫ا�ستطاعت �أن تخفيها وال مبيداته متكنت منها‪ .‬والنظافة التي‬
‫ف�أنا م�ؤذن امل�سجد‪.‬‬ ‫ال�شياء هناك‪ ،‬تتوا�ضع هنا‪ ،‬بل و ُتنتهك مع كل ن�سمة‬ ‫خنقت أ‬
‫‪ -‬ولكن قل يل‪ ،‬من هم �أولئك ال�شياطني الذين ذكرتهم وماذا‬ ‫الغ�صان‬ ‫هواء ومع كل ح�رشة تطري من نبتة �إىل �أخرى �أو مع أ‬
‫يعملون؟‬ ‫الوراق وهي ت�سقط بال مباالة‪ .‬وح�سب املرء �أن‬ ‫وهي متيل و أ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -‬رجاء ��ستاذ‪ ،‬ال تعود �إىل هذه ال�سئلة مرة �خرى! �نا ذاهب‬‫أ‬ ‫ي�ستلقي على الكنبة املتحركة وي�ستمع �إىل �رصيرها ال�صدء‬
‫لل�صالة وال �أريد �أن �أنق�ض و�ضوئي‪.‬‬ ‫الذي ين�صهر فيه �ألف �صوت‪ ،‬لي�شعر با ألج�ساد التي تعاقبت‬
‫المر يهمني ف�أنا �أي�ضا �أ�سكن يف البيت‪.‬‬ ‫‪ -‬ولكن أ‬ ‫على املكان‪.‬‬
‫‪ -‬ال تتدخل يف �شيء ولن يحدث لك �شيء‪ .‬هذه هي القاعدة يف‬ ‫عاوده النعا�س على الكنبة‪ ،‬وقبل �أن ي�ست�سلم للنوم‪� ،‬سمع‬
‫البيت بل ويف البالد كلها‪.‬‬ ‫الذان وعرف منه �صوت العم‪.‬‬ ‫أ‬
‫اقرتبا من امل�سجد ومل يعد ثمة باب للحديث‪ .‬دعاه لل�صالة‪،‬‬
‫ولكنه تعذر بجواب كان قد �أعده �سلفا‪.‬‬ ‫بيت ال�شياطني‬
‫‪ -‬لقد �صليت �سفرا‪.‬‬ ‫ا�ستقبله ما �أن فتح عينيه ال�س�ؤال الذي ينتظر امل�سافرين على‬
‫‪ -‬وهل تريد �أن �أ�شرتي لك �شيئا من ال�سوبر ماركت و�أنا عائد‬ ‫�أ�رستهم اجلديدة‪� :‬أين �أنا؟ وبعد �أن �أنهكه ال�س�ؤال برهة‪ ،‬ومثلما‬
‫�إىل البيت؟‬ ‫يحدث عادة‪ ،‬حت�س�س يقظة م�ضاعفة و�شعر بطراوة نف�سه وقوة‬
‫‪249‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ساعات املطر‬
‫نادية العبد ال�سعدية‬
‫كاتبة من ُعمان‬
‫� أ�سماء عدا � أرقام كانت مكتوبة‪ .‬حاولت � أن � أعرف‬ ‫كانت الدنيا �ساعتها متطر �شدين من ذراعي بقوة‬
‫رقم ال�شقة التي ت�سكنها‪ .‬ال تزال كلمات �صديقي ترن‬ ‫لنبتعد عن املكان وعن املطر حتى ال يرانا � أحد‬
‫خرجت من ال�سجن � أخربين � أن زوجتك‬ ‫ُ‬ ‫يف � أذين عندما‬ ‫ونحن نحملق يف هذا املكان‪ .‬واملطر يزداد غزارة‪.‬‬
‫مت تطليقها من قبل املحكمة‪ ،‬لأنها ال تعرف عنك‬ ‫كان مم�سكا بذراعي ب�شدة مل � أكن � أ�شعر به فقد �شلت‬
‫�شيئا‪ ،‬فقد كنت غائبا ً �سنة ون�صف‪ .‬والآن مر على‬ ‫حركتي‪ .‬وتفكريي من�صب على املنظر الذي ر� أيته‬
‫خروجي �شهر كامل دون � أن تدري‪ .‬لكن كان عليها‬ ‫� أمامي‪ .‬كيف يقولون �إنها غادرت وهي هنا ومعها‬
‫� أن تنتظرين قليال لتعرف �سبب غيابي كل تلك املدة‪.‬‬ ‫طفلها؟‪ ..‬كل ما قيل كذب‪ .‬ملاذا يقولون � أن الطفل‬
‫رغم � أنها كانت تعرف � أنني كنت م�سافرا للخارج‬ ‫مات‪ .‬وهو بني ذراعيها‪ � ،‬أخربين كيف ذلك؟ � أنا مت� أكد‬
‫إلكمال بع�ض الأبحاث العلمية‪ .‬وهناك حدثت يل‬ ‫� أنها هي � أين ال � أخطئها حتى لو كانت بني ماليني‬
‫م�شكلة مل يكن يل يد فيها ومت حب�سي على � أثرها‬ ‫النا�س‪� .‬رسنا م�سافة طويلة � أو هكذا � أظن‪ .‬فلم � أ�شعر‬
‫عاما ون�صف‪ .‬جترعت تلك الأيام مبرارتها ليكت�شف‬ ‫بج�سدي وهو يرمتي على � أحد مقاعد املقهى‪ .‬ولكن‬
‫بعد ذلك � أنني بريء من التهم املن�سوبة يل‪ ...‬فج� أة‬ ‫ما جعلني � أ�صحو‪ ،‬ك� أ�س املاء الذي دلقه �صديقي على‬
‫قطعت حبل � أفكاري وكتمت � أنفا�سي و� أنا � أ�سمع‬ ‫وجهي م�سحت وجهي و� أنا � أ�ستعيد امل�شهد الذي مر‬
‫بكاء طفل ينبعث من �إحدى الغرف املقابلة‪ ،‬تتبعت‬ ‫بي منذ حلظه � أو حلظات‪ � .‬أنا مت� أكد � أنها هي‪ � .‬أجابني‬
‫ال�صوت وقلبي يخفق ب�شدة ومتنيت � أن يكون هو‬ ‫�صديقي وهو يتناول وجهي‪ � :‬أجل � أنها هي والطفل‬
‫�صاحب هذا البكاء العذب‪ .‬عمر �شمعتي الأوىل التي‬ ‫الذي بني ذراعيها هو ابنك عمر‪ .‬ردت يف ذهول عمر!‬
‫لن تنطفئ‪ .‬اقرتبت من الباب وطرقته بحذر وقلبي‬ ‫� أجبني‪ � :‬أجل ا�سمه عمر‪ ،‬وعال مل ت�سافر � أبدا �إىل � أي‬
‫يخفق ب�شدة لكن دون جدوى مل يفتح � أحد كدت‬ ‫متتمت يف ذهول وعيناي تذرفان الدمع‪�:‬إذا‬ ‫ُ‬ ‫مكان‪.‬‬
‫� أي� أ�س لوال �صوت �رصير الباب ينفتح بخفة‪ � .‬أجل � أنه‬ ‫كيف قيل يل انه مات وهو على قيد احلياة؟‪ .‬رد علي‬
‫� أخوها عمار � أنني � أعرفه من خالل عينيه الثاقبتني‬ ‫وهو يجل�س بالقرب مني‪:‬فعلوا ذلك لكي يبعدوك عن‬
‫وجثته ال�ضخمة‪ .‬حاولت � أن � أدفع الباب و� أنا � أ�صيح‬ ‫عال‪ � .‬أطبقت على يده متو�سال‪ �:‬أرجوك خذين �إليهما‪.‬‬
‫فيه � أن يفتح يل لأرى عال وعمر‪ .‬تعبت و خرجت‬ ‫حاول تهدئتي ‪ ،‬لكني � أ�رصرت عليه‪ � .‬أم�سك ذراعي‬
‫من ذاك املكان غا�ضبا ا�ستقبلني �صديقي عند بداية‬ ‫من جديد‪ ،‬وقادين �إىل ذلك املكان‪ .‬وقتها قد توقف‬
‫امل�صعد‪:‬ماذا حدث هل وجدتها؟ � أطرقت ر� أ�سي لقد‬ ‫املطر‪ .‬كنت قد ر� أيتها منذ حلظات تدلف �إىل ذلك‬
‫عرفت � أين ت�سكن‪ .‬رد علي �إذا ر� أيتها وحتدثت معها‬ ‫املبنى الكبري ‪،‬لكني مل � أكن � أعرف‪ .‬نف�ضت را�سي‪.‬‬
‫� ألي�س كذلك‪� .‬رصخت يف وجهه‪ :‬ال � أنها ال تزال ت�سكن‬ ‫نظر �إيل قائال هل مت� أكد � أنك تريد � أن تدخل �إىل هذا‬
‫هنا ومل � أرها لكنني ر� أيت � أخاها وهو يو�صد الباب‬ ‫املبنى وال�صعود �إىل هناك؟‪ � .‬أجبته‪ � :‬أجل يكفي � أنني‬
‫بجثته ال�ضخمة و�سمعت بكاء عمر الذي قد �شطرين‬ ‫تعذبت كل تلك املدة‪ .‬حاول ن�صحي ومنعي من‬
‫�إىل ن�صفني‪ .‬وهنا بد� أت عيناي ت�ضيقان وبد� أت‬ ‫املجازفة‪ ..‬ولكني � أ�رصرت على الذهاب‪� .‬صاح بي‬
‫دموعي من جديد تغ�سل مرارة الأيام‪ .‬من جديد‬ ‫و� أنا � أ�صعد الدرج‪ :‬لن � أدلف معك �إىل الداخل ولن � أحلق‬
‫جذبني �صديقي من ذراعي قائال‪ :‬هوّن عليك البد‬ ‫بك ‪،‬حتى ولو حدث لك �شيء تذكر ذلك‪ .‬كانت كلماته‬
‫و� أن هناك طريقه إلقناع عال بالتحدث معك‪.‬‬ ‫تختفي و� أنا � أ�صعد الدرج‪ .‬كان امل�صعد ال يزال مغلقا‬
‫� أجبت وقد حتم�ست للفكرة‪ � :‬أتعتقد � أن هناك � أمال ً يف‬ ‫انتظرت طويال ‪ ،‬مما ا�ضطرين ل�صعود الدرج‪ .‬مت� أكد‬
‫رجوع عال وعمر �إيل؟‪ .‬هز ر� أ�سه با إليجاب قلت له و� أنا‬ ‫� أنها ر� أتني و� أنا � أقف مذهوال‪ .‬كنت قد توقفت عند‬
‫� أنظر �إىل املبنى‪� :‬إذا لنحاول ثانية وتكون برفقتي‬ ‫�صفني من ال�شقق كلها مت�شابهة مل يكن عليها � أي‬
‫‪250‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إليه ي� أتيني لأحت�ضنه و� أحتويه حلرماين �إياه مدة‬ ‫هذه املرة ابت�سم بخبث وت� أبط ذراعي قائال‪ :‬ا�سمح‬
‫تلك الفرتة ‪ �،‬أحمله لأول مره نظر �إيل با�ستغراب لكنه‬ ‫ابت�سمت وت� أبط‬
‫ُ‬ ‫يل هذه املرة � أن � أتدخل �إذا لزم الأمر‪.‬‬
‫مل يبك كبقية الأطفال بل � أخذ ينظر �إىل عيني اللتني‬ ‫ذراعه و�صعدنا معا �إىل حيث ال�شقة طرقت الباب‬
‫اغرورقتا بالدموع احت�ضنتهُ يف قوه وقبلته يف‬ ‫وكلي رجاء � أن يفتح الباب مل يطل بنا االنتظار فقد‬
‫وغفلت لربهة‬
‫ُ‬ ‫حرارة ‪ ،‬وهنا � أخذ بالبكاء فبكينا معا‬ ‫خرج عمار بجثته ال�ضخمة �صارخا يف وجهنا‪ :‬ماذا‬
‫مع ال�صغري � أعو�ض احلرمان الذي افتقدناه معا‪.‬‬ ‫تريدان؟‪ � .‬أم�سكت � أع�صابي ورددت عليه � أال تعرفني‪..‬‬
‫ما هي �إال حلظات ووجدت عال تنظر �إيل وقد جثت‬ ‫� أنا عدنان زوج‪ ...‬قاطعني يف �رصامة � أنت‪ � ..‬أال تفهم‬
‫بالقرب مني‪ :‬هل ما يقوله �صديقك �صحيح � أنك كنت‬ ‫عال لي�ست زوجتك الآن‪ .‬رددت يف ارتباك لكنني مل‬
‫بال�سجن طيلة تلك الفرتة نظرت �إليه يف ابت�سامة‬ ‫� أطلقها برغبتي‪ ...‬قاطعني مرة � أخرى يف �رصامة‪:‬‬
‫ثم التفت �إليها قائال � أجل‪� ..‬إن كنت تريدين معرفة‬ ‫ماذا تريد الآن؟‪ .‬قلت وقد وجدت الفر�صة منا�سبة‪:‬‬
‫احلقيقة‪ .‬هزت ر� أ�سها با إليجاب هنا �شعرت � أن كل‬ ‫� أريد ابني الذي ادعيتم � أنه مات وهو ال يزال على‬
‫�شيء �سيعود كما كان و� أن الأمور ت�سري ل�صاحلي‪.‬‬ ‫قيد احلياة‪ � .‬أراد � أن يقول �شيئا لكن �سمع �صوت عال‬
‫وبد� أت � أ�رسد ق�صتي منذ البداية ووجدتهم ين�صتون‬ ‫من الداخل تقول‪ :‬دعه يدخل يا عمار لريى ابنه‪.‬‬
‫�إيل يف اهتمام عندها وجدت عمار ي�صافحني يف‬ ‫هنا مل � أمتالك نف�سي من الفرح‪ .‬نظر �إلينا عميقا ثم‬
‫حرارة ووجدت �صديقي يربت على كتفي مهنئا‪،‬‬ ‫� أ�شار �إيل بالدخول ارتبك �صديقي لكنني � أم�سكت يده‬
‫بينما � أخذت عال تالعب ال�صغري ودموع الفرحة‬ ‫ودلفنا �إىل الداخل هناك كانت تقف ويف يدها حتمل‬
‫تغ�سل وجهها اجلميل‪ .‬نظرت �إليهما يف فرح وحمدت‬ ‫ال�صغري كما لو � أنني � أراها لأول مرة وقفت م�شدوها‬
‫اهلل انهما قد عادا �إيل و�شعرت بالفرح كدولة � أعيدت‬ ‫لفرتة قبل � أن تقول يل يف برود‪ :‬هذا ابنك عمر‪.‬‬
‫�إليها � أجمادها‪.‬‬ ‫اقرتبت و� أنا � أراه لأول مره جثوت و� أنا � أفتح ذراعي‬

‫من � أعمال خليفة ال�شبيبي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪251‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مر�آب ال�ضياع‬
‫من�صــف بندحمــان‬
‫قا�ص من املغرب‬

‫يرعب املر�أتني الذميمتني‪ ،‬وجههما يدفع للهروب‬ ‫يدخالن احلانة مت أ�بطني كتبهما وجمالتهما كما‬
‫وحالتهما تثري الغثيان‪ .‬يحطم وجهه �أي�ضا‪ .‬ينب�ش‬ ‫يح�صل عادة يف اخلزانات �أويف اجلامعات‪ .‬املكان‬
‫الخرون يلطفون اجلو بروائح‬ ‫ب أ�ظافره‪ ،‬يهيج جرحه‪ .‬آ‬ ‫مر�آب حتول بقدرة قادر �إىل ف�ضاء يتهافت عليه‬
‫�سجائرهم وب�سمتهم الباهتة‪.‬‬ ‫اليائ�سون واملحبطون‪ .‬الرجال وحيدون معزولون كما‬
‫هذا الرجل الذي يقـف وحده يف ال�سعري ينال عقابه‪،‬‬ ‫يحدث يف احلروب �أو يف احلمامات‪ .‬ال من رفيقات‬
‫رجل ال ت�شمله املغفرة‪ .‬يوقد النار ويجلب احلطب ‪.‬‬ ‫�أو حبيبات �أو زوجات ‪ .‬فقط هناك امر�أتان بائ�ستان‬
‫ذاك الذي حطم وجهه‪.‬‬ ‫تثريان التقزز ‪ ،‬ت�صيبان املرء بالدوار والغثيان‪.‬‬
‫مل �صدره ور�أ�سه‪ .‬يندفع كل‬ ‫�أحدهم يجل�س قربنا‪ ،‬أ‬ ‫‪ -‬زوجتك طاهرة �أيها احلقري؟‬
‫حلظة نحو احلمام كحامل بلغها الطمث‪ .‬يوا�صل‬ ‫‪ -‬ا�صمتي يا عاهرة‪ ،‬يا �سافلة‬
‫�رشابه ومرحا�ضه ‪�.‬سيجارته وحدها تلمع‪ .‬ي أ�خد‬ ‫‪ -‬انظر اىل نف�سك‪ ،‬حالتك تعافها الدواب‪.‬‬
‫جريدتي دون ا�ستئذان ‪ ،‬يت�صفحها ثم يبد�أ خطابه‪.‬‬ ‫أ‬
‫تغريت �سحنة الرجل ‪ ،‬كمن تلقى خربا فاجعا ‪� ،‬دى‬
‫يلعن اجلميع �صحافة وكتابا مديرين وزراء وحكام‪.‬‬ ‫ثمن ف�شله وخرج م�رسعا‪.‬‬
‫�أبواق زائفة ت�صم آ‬
‫الدان‪.‬‬ ‫اجلعة تتقاذفها أالفواه‪ ،‬برودتها ت�شعل النار وت ؤ�جج‬
‫هو الوحيد الدي ميلك �صوته‪.‬‬ ‫الغ�ضب‪ ،‬توقظ الفواجع‪.‬‬
‫�أرفع ر�أ�سي نحوه‪،‬يقول‬ ‫جل�سا يف مكان �ضيق حما�رص كما يح�صل يف‬
‫‪� -‬أنت �أي�ضا‪ ،‬ال ترفع ر�أ�سك‪� ،‬أنا من يرفع ر�أ�سه‪.‬‬ ‫الف�ضاءات العامة حيث يراب�ض القلق ويطل اجلنون‪.‬‬
‫�سيجارته وبطنه يتحديان زيفه‪.‬‬ ‫رجل يعانق رجال‪ ،‬يقبله‪ ،‬يعرب له عن حبه وتقديره‪،‬‬
‫‪ -‬ال�شخ�ص الذي هرع �إىل منزله ذات م�ساء‪ .‬منزله‬ ‫يغلف �شذوذه‪� .‬شخ�ص هادئ يقرتب من �صديقه‪ ،‬يهم�س‬
‫والثاث‪ ،‬ال ي�ضع يديه‬ ‫والوالد أ‬ ‫اخلايل من الزوجة أ‬ ‫له؛ ع�شيقان ينعمان‪.‬‬
‫على �أذنيه‪.‬ال يزال من�صتا ل�سخرية اجلدران ‪ .‬ي�شاركها‬ ‫يدخل الرجل �إىل بيته ‪ ،‬يجد البيت فارغا من الزوجة‬
‫�سعادتها وت�شاركه �أحزانه‪.‬‬ ‫والثاث‪ .‬أالر�ض واجلدران ت�ضحك عاليا‪.‬‬ ‫والوالد أ‬‫أ‬
‫‪� -‬صديقي ي�رشب من ك أ��سه وعيناه تتحجران‪.‬‬ ‫ي�ضع يديه على �أذنيه‪ ،‬يتعاىل ال�ضحك‪ ،‬يتقل�ص‬
‫للخرين‪ ،‬حوا�سه جتوب احلانة‪ ،‬ترت�صد‬ ‫موليا ظهره آ‬ ‫وجوده‪.‬‬
‫أالحداث‪.‬‬ ‫أ‬
‫�أحدهم يلعب الفليبري‪ ،‬يداري وحدته‪ .‬ك�ي �إن�سان‬
‫‪ -‬هو اللحظة يتابع خطواتي ميد يده لي�شذب احلكاية‪،‬‬ ‫متح�رض‪ ،‬يحمل قنينته و�سيجارته بني �شفتيه‪ ،‬يتقن‬
‫يقلب تربتها‪ .‬ونحن ندخل احلانة‪ ،‬كنا نبحث عن حلظة‬ ‫اللعبة‪.‬‬
‫تغفو فيها احلكايات‪ .‬حبي�سة الروح كيف تغفو‪.‬‬ ‫الرجل الذي قبل �صديقه ‪ ،‬يتحول يف حلظة �إىل وح�ش‬
‫كا�رس؛ يحطم وجه ال�صديق ‪ ،‬يك�رس زجاج الكونتوار‪،‬‬

‫‪252‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بنات احلكايا‪..‬‬
‫طالب املعمري‬

‫قالت‪� :‬شيما ل�صديقتها وردة‪ :‬حبيبتي يف املرة‬ ‫الليلة تلك قبل الليلة الكربى فكرت «وردة» ب�أنها‬
‫القادمة عليك � أن حتبلي خارج احلدود فرمبا‬ ‫�ستحاول جاهدة � أن ت�ستقطب زوجها على غري العادة‬
‫تتغري �شخ�صيات الرواية ويت�شكل احلكي وال�رسد‬ ‫مبغناطي�س الرغبة واال�شتهاء وب�أن تع�رصه ع�رصا ً‬
‫من غري �سرية «املع�رصات»(‪ )j‬التي تطفح بها‬ ‫كالليمونة الطازجة وهو �سلوك رتبت له با�ستثناء‬
‫رواياتك ال�سابقات �إىل عمل � أكرث اهتماماً بتقنيات‬ ‫خا�ص يف مرتني �سابقتني‪ ،‬بحيث ان حمولته‬
‫ال�رسد وتعدد الأ�صوات وف�ضاءات املكان وعذابات‬ ‫البي�ضاء املتدفقة ثخينة ولزجة يف نف�س الآن‪ ،‬وهذا‬
‫ال�شخ�صيات و‪ ..‬و‪ ..‬و‪.‬‬ ‫مطلوب لعمل ا�ستثنائي رهني ب�أن ميلأ املجرى‬
‫‪ ..‬وردة‪ :‬بنربة غا�ضبة‪ ،‬عزيزتي‪ ،‬الواقع عندنا غري‪ ،‬ال‬ ‫اللولبي لطاقة خالّقة م�ستقبال وهو ما رتبت له‬
‫يحتاج �إىل معاطف الآخرين فنحن لدينا من احلكايا‬ ‫بقدرة املر� أة العارفة‪..‬‬
‫والكالم امل ْطمر ما يكفي لقول الكثري‪ � ،‬أ�سبوع واحد‬ ‫اليجابي‪ ،‬لكن‬ ‫إ‬ ‫الكيد‬ ‫بهذا‬ ‫يعلم‬ ‫�سلطان زوجها مل‬
‫والرواية بني دفتي كتاب ان كان لدي ِك الوقت‪.‬‬ ‫– ثمة‪� -‬إ�شارات خفية � أح�س بها وهي � أن وردة قبل‬
‫فـ‪ ..‬احلكاوي‪ ،‬متلأ ‪� ،‬سحارة من احلارة‪ .‬هل – هن‪-‬‬ ‫� أوان اللحظة املنتظرة تلك راوغت وتعللت ب�أ�سباب‬
‫اجلفاء اجل�سدي بينهما ملدة � أ�سبوعني مل يعتدها‬
‫تلك اللواتي يف البالد الأخرى � أح�سن منا؟! يكتنب‬
‫�سلطان �إال يف مرتني �سابقتني‪ ،‬لكن ذاك الوقت غري‬
‫� أي�ضا حكاوي وحكايا‪ ..‬بالن�سبة يل قليالً من الرتو�ش‬
‫هذا الوقت‪ ،‬حيث مل يرث انتباهه كثرياً‪.‬‬
‫على ال�شخ�صيات و�ضبط لغوي وهكذا الرواية تنتظر‬
‫ت�سعة � أ�شهر مرت �رسيعاً � أجنبت وردة «بنات احلكايا»‬
‫قارئاً وعندما � أحتاج �إىل ما ينق�صني فالقوامي�س‬ ‫روايتها الثالثة وابنتها احلقيقية «ريتا»‪.‬‬
‫اللغوية مبحاذاة ال�رسير من � أجل تقوية احلوار واللغة‬ ‫وردة تخطط ل�سريتها الكتابية بدقة عن رفيقات‬
‫ال�شعرية‪ ،‬وما عدا ذلك ال زيادة وال نق�صان عن �سرية‬ ‫عمرها مع ما ي�شوب مالحمها و�سلوكها من هدوء �إال‬
‫الل�سان‪.‬‬ ‫ما تخفيه حتت غطاء ال�شيلة عما ي�ؤطره غري العطر‬
‫االبت�سامة متلأ ثغرها وهي توقع «بنات احلكايا»‬ ‫�إىل احلرب‪.‬‬
‫روايتها الثالثة مبعر�ض الكتاب الدويل‪ ،‬لكن يدها‬ ‫وهي بهذا تقول‪ – :‬بني ذاتها املرايا‪ ..‬انها املرايا‪..‬‬
‫الأخرى تتح�س�س‪ -‬ب�شكل ال �إرادي‪ -‬م�سار النطفة‬ ‫يعلم زوجها بفرحها بهذه التو� أمة الأدبية والأمومية‬
‫اخلبيئة ك�شعور بنداء جديد‪� ،‬إىل � أين؟ ‪ -‬تقول‪-‬‬ ‫ويعلم � أكرث ب�أهمية التو� أمة احلياتية بني وردة وما‬
‫�سي�سري هذا احلد�س بي يا ترى؟ لكنها‪ ،‬وهي جتول‬ ‫�سيجنيه هو من تراكم وظيفي‪ ,‬فكل رواية جديدة فوق‬
‫بنظرها يف عيون من يحطن بها من زميالت‪ -‬قالت‬ ‫رفوف معر�ض الكتاب هي مبثابة ترقية له‪ .‬فمع ما‬
‫يف خاطرها‪ -‬هل � أ�ستطيع � أن ا�ستحلب احلكايا ككل‬ ‫يعي�ش من تناق�ضات البداوة واحل�ضارة فهو يقول � أنا‬
‫مرة لأجنب من الكالم‪ ،‬كالماً لروايتي القادمة‪.‬‬ ‫براجماتي‪ ..‬تعي�ش و� أعي�ش والباقي على اهلل‪.‬‬

‫‪253‬‬ ‫‪ j‬لقاء ن�سائي وقت الع�رص‪.‬‬


‫متابعات‬

‫من �أعمال الفنان الراحل ناجي العلي ‪ -‬فل�سطني‬

‫‪254‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫النكبـة‪ ،‬النك�سـة‪،‬‬
‫واملخي ــم!‬
‫املتوكـــل طـــــه‬
‫�شاعر من فل�سطني‬

‫عن تنفيذ املمكن منها‪ ،‬وهذا «املمكن» عادة ما ي�ضيق‬ ‫النكبة التي حلقت بال�شعب الفل�سطيني العام ‪1948‬هي‬
‫ويقل كلما تقدمنا يف الزمن‪ .‬امل�ستعمِر عادة ما ال ي�ؤمن‬ ‫الذروة لع�رص اال�ستعمار ا ألوروبي الكال�سيكي الذي‬
‫باملطلق‪ ،‬وامل�ستعمِر عادة ما ي�ضيق بالقوانني الثابتة‪.‬‬ ‫انح�رس يف القارات اخلم�س بعد احلرب العاملية الثانية‪،‬‬
‫يف وا�ستثنائي‪ ،‬ولهذا فهو يبحث عن الظريف‬ ‫امل�ستعمِر ظر ّ‬ ‫وكانت �إ�رسائيل التي قامت يف نهاية تلك احلرب هي‬
‫واال�ستثنائي دائماً يف كل �شيء‪.‬‬ ‫نتاج انقالب التاريخ وانعطافه‪ .‬يف انقالبات التاريخ‬
‫النكبة هي �إ�رسائيل التي قامت على �أر�ضنا‪ ،‬ومعها كل‬ ‫وانعطافاته الدراماتيكية تظهر �شعوب جديدة ودول‬
‫ذلك ا إلرث اال�ستعماري االبي�ض‪ ،‬ال ميكن لل�صهيونية‬ ‫جديدة و� أفكار جديدة‪ .‬احلرب العاملية الثانية التي � أنهت‬
‫�أن تنكر كونها �إرثاً ا�ستعمارياً �أبي�ض‪ ،‬ال�صهيونية التي‬ ‫اال�ستعمار االبي�ض ا ألوروبي القدمي ب�شكل � أو ب� آخر‪،‬‬
‫االدعاء انها ثورة على اال�ستعمار والكراهية‬ ‫حتاول ّ‬ ‫كانت هي امل�رسح ال�سيا�سي والعقائدي الذي ا�ستغلته‬
‫والتوهم‪ .‬هي بب�ساطة‬ ‫ّ‬ ‫املر�ض‬ ‫د‬ ‫ق‬‫وع‬
‫َُ‬ ‫والتمييز‬ ‫والفوبيا‬ ‫احلركة ال�صهيونية ومن يدعمها علناً و�رساً‪ ،‬اقليمياً‬
‫جزء من هذه املنظومة التي �سقطت ذات يوم‪ ،‬امل�ستعمِر‬ ‫ودولياً‪ ،‬لتقيم لها وطناً على ح�ساب ال�شعب الفل�سطيني‬
‫ي�سقط ألنه يت� آكل من الداخل‪ ،‬و ألنه يخ�رس دائماً‪ ،‬و ألنه‬ ‫وعلى ح�ساب � أر�ضه ووجوده و�إجنازاته وجذوره‬
‫ال ي�ستطيع توليف حكايته كل يوم ومن ثم يجد مربراتها‬ ‫وثقافته‪ ،‬وهكذا كانت النكبة يف معناها الب�سيط‬
‫وم�سوغاتها‪ ،‬االحتالل بقدر قابليته لل�سقوط والت� آكل بقدر‬ ‫واملبا�رش‪ ،‬االقتالع والطرد ومن ثم ا إلحالل‪ .‬النكبة هي‬
‫كونه مكلفاً لي�س ملن يقع عليهم االحتالل و�إمنا ألولئك‬ ‫اقتالع �شعب وطرده من ار�ضه بالقوة‪ ،‬ولكنها اي�ضاً‬
‫الذين يقومون بفعل االحتالل‪ ،‬ومن هنا كان االحتالل‬ ‫�إحالل �شعب مكان � آخر‪� .‬إن هذه الكلمات على مبا�رشتها‬
‫� آيالً لل�سقوط دائماً‪ ،‬مزعزع االركان دائماً‪ ،‬ال يجد وال‬ ‫وب�ساطتها وامكانية فهمها‪ ،‬هي بب�ساطة اي�ضاً جرمية‬
‫ميكن �أن يجد راحة �أو �أمناً �أو طم�أنينة‪ ،‬حتى تلك ا ألنواع‬ ‫ان�سانية بكامل املعاين واملفاهيم واملعايري‪ .‬و ألن‬
‫را�ض بعيدة و�شعوب‬ ‫من ا إلحتالالت التي كانت يف � أ ٍ‬ ‫النكبة حدثت � أو وقعت يف التاريخ‪ � ،‬أي ميكن ر�صدها‬
‫بدائية‪� .‬إن تلك الدوافع التي �أهابت بالرئي�س االمريكي‬ ‫و توثيقها‪ � ،‬أو ألنها حدثت دون �ضجيج‪ � ،‬أو ألنها حدثت‬
‫كارتر ومن ثم كلينتون ال�ستقبال ممثلي الهنود احلمر‬ ‫ثم مَت ا�ستيعابها من العامل‪ � ،‬أو ألنها حدثت دون � أن‬
‫يف البيت االبي�ض هي ذات الدوافع التي نر�صدها يف نف�س‬ ‫تتحول �إىل حدث فريد يف التاريخ‪ � ،‬أو ألن العامل الغربي‬
‫�أي ل�ص مهما بلغ ذلك الل�ص من مواقع �أو �إجنازات‪ .‬ال‬ ‫اال�ستعماري نظر �إىل ما حدث باعتباره جزءا ً من العقيدة‬
‫ميكن قتل احلقائق‪ .‬وال ميكن ا إللتفاف عليها‪ ،‬وال ميكن‬ ‫وال�سلوك االبي�ض اال�ستعماري‪ ،‬ف�إن النكبة بهذا املعنى‪،‬‬
‫تزييفها‪ ،‬نحن هنا نتحدث عن قوانني ولي�س جمرد‬ ‫حتولت بقدرة قادر �إىل ق�ضية �إن�سانية وفرّغت من‬
‫متنيات �أو تخمينات‪.‬‬ ‫معانيها الكارثية وا ألخالقية‪ ،‬حتولت النكبة يف عرف‬
‫النكبة هي اخليانة اي�ضاً‪� ،‬إن در�س النكبة من نواحيها‬ ‫امل�ستعمِر – على � أنواعه – �إىل م�شكلة جوعى وعراة‪،‬‬
‫املختلفة‪ ،‬ومن م�صادر خمتلفة‪ ،‬ومن وجهات نظر‬ ‫ولهذا � أو ألن هذا كذلك‪ ،‬فقد مت تفريغ قرار ‪ 194‬من‬
‫خمتلفة‪ ،‬تفزعنا متاماً كما حدثت �أول مرة‪ ،‬لقد حدثت‬ ‫م�ضامينه كلها‪ ،‬وحتولت احلقوق �إىل م�صالح‪ ،‬وا�ستبدلت‬
‫النكبة لي�س ألن ال�صهاينة كانوا �أقوى �أو �أكرث عددا ً �أو‬ ‫املبادىء برتجمتها‪ ،‬وبدال ً عن احلديث عن جماعة ذات‬
‫�أح�سن جتهيزا ً �أو �أد ّق خططاً وتخطيطاً‪ ،‬بالعك�س من‬ ‫حقوق ال ميكن االنتقا�ص منها �صار احلديث يجري‬
‫‪255‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والنبوءة ونهاية التاريخ‪ .‬وملاذا ال تكون �إ�رسائيل اجلديدة‬ ‫ذلك متاماً‪ ،‬كانوا �أ�ضعف منا‪ ،‬واقل عدداً‪ ،‬و�أكرث خوفاً‪،‬‬
‫�إ�شارة على نهاية التاريخ ؟!‬ ‫و�أكرث فرقة‪ ،‬وهذا الكالم ال نقوله بدون �إثبات �أو برهان‪،‬‬
‫النكبة تعني وقف التطور الطبيعي لل�شعب الفل�سطيني‬ ‫لنقر� أ ما كتبه م�ؤرخوهم عن تلك الفرتة‪ ،‬و�سرتى العجب‬
‫ومن ثم ت�شويهه وت�رشيده‪ ،‬وحتويله من �شعب كان ميكن‬ ‫العجاب‪� ،‬ستجد �أن النخبة العربية‪ ،‬النخبة ال�سيا�سية‬
‫ملالحقني‬ ‫�أن يفعل املعجزات على �أر�ضه‪� ،‬إىل �شعب من ا ُ‬ ‫واالقت�صادية واالجتماعية كانت نخبة مري�ضة وم�شوهة‬
‫واجلوع وامل�شبوهني يف منافيهم القريبة والبعيدة‪ ،‬حتول‬ ‫مرتبطة‪ ،‬كانت نخبة عميلة‪ ،‬ب�أق�سى ما يف الكلمة من‬
‫ال�شعب الفل�سطيني يف معظمه �إىل �أفراد بال هويات وبال‬ ‫معنى‪ .‬اجليو�ش ال�سبعة التي قيل �إنها قاتلت على �أر�ض‬
‫روابط‪ ،‬حتولوا فج�أ ًة �إىل الجئني‪� ،‬إن و�ضع «الجىء»‬ ‫فل�سطني مل ُتقاتل ال�صهاينة ومل تت�صدّ للهجاناه �أبداً‪،‬‬
‫و�ضع ال �إن�ساين‪ ،‬وال طبيعي‪ ،‬وال حقيقي �أي�ضاً‪� .‬إن‬ ‫اجليو�ش ال�سبعة كانت ترت�صد بع�ضها البع�ض‪ ،‬وتنفذ‬
‫و�ضع «الجىء» الذي �أ�صبح و�صفاً للفل�سطيني يعني �أن‬ ‫�سيا�سات مت�شككة ومتوج�سة‪ ،‬كانت اجليو�ش ال�سبعة‬
‫الفل�سطينيني عليهم �أن يطوروا جمتمعاً � آخر يف الهواء‪،‬‬ ‫تعبريا ً عن انق�سام العامل العربي وتعدد اجتاهاته‪ ،‬ولهذا‬
‫وبني الفراغات‪ ،‬وبني ا أل�سيجة وحتت اخليام‪ ،‬ومن ثم‬ ‫مل يكن من العجب �أن ال ي�سقط من تلك اجليو�ش جمتمعة‬
‫يف مدن االحزمة الفقرية‪ ،‬ويف ا إلزدحام والفقر والظلم‪،‬‬ ‫�أكرث من ‪� 650‬شهيداً‪ ،‬نحن هنا ال نتحدث عن اجلماهري‬
‫ومل يكن من امل�ستغرب �أن ي�صطدم املخيم مبا حوله من‬ ‫التي كانت على ا�ستعداد لفعل العجائب ‪ -‬وباملنا�سبة‬
‫عوا�صم �أو مدن‪ .‬ال ميكن تطوير هوية وجمتمع يف الفراغ‪،‬‬ ‫ف�إن القادة العرب يف تلك االثناء طلبوا من ال�شعب‬
‫�أو يف الهواء‪� ،‬أو بني ا أل�سيجة‪ ،‬وال ميكن تطوير �أو تطور‬ ‫الفل�سطيني �أن ال ي�شارك يف ما �أ�سموه بالعمليات‪ ،‬وذلك‬
‫جمتمع حتت احل�صار وحتت املالحقة وحتت ال�شبهة‬ ‫من �أجل حتييد تلك اجلماهري‪ ،‬حتييد اجلماهري ظ ّل تكتيكاً‬
‫ودائرتها‪ .‬النكبة تعني �أن ال�شعب الفل�سطيني كان عليه �أن‬ ‫متبعاً يف احلروب العربية با�ستثناء العدوان الثالثي‬
‫يبد� أ من ال�صفر‪ ،‬و�أن يعيد ت�شكيل ذاته يف �أماكن متعددة‪،‬‬ ‫على م�رص العام ‪ – 1956‬نحن هنا نتحدث عن النخبة‬
‫وكان عليه �أن يرمم هذه ال�صورة من خمتلف االمكنة‪،‬‬ ‫املعطوبة التي مل ت�ستطع �أن حتتمل التاريخ وال انعطافه‪.‬‬
‫ذات ال�شعب الفل�سطيني وهويته �أ�صبحت – ب�سبب النكبة‬ ‫كانت النكبة بهذا املعنى‪ ،‬هي اخليانة‪ .‬يف بع�ض ا ألحيان‬
‫لي�س اال – ذاتاً متعددة وهوية تت�أثر بالزمان واملكان‪.‬‬ ‫�أرى �أن الهزمية هي خيانة ب�شكل من اال�شكال‪.‬‬
‫�إن الرابط الوحيد ا آلن بني كل الفل�سطينيني هو فل�سطني‬ ‫والنكبة حلقة من حلقات الغزو الغربي اال�ستعماري‬
‫فقط‪ ،‬ذلك �أن املنفى لي�س جمرد نزهة ولي�س جمرد‬ ‫ال�صليبي‪ ،‬اذ ال ميكنني �أن �أف�صل بني موجات الغزو‬
‫�إقامة م�ؤقتة‪ ،‬املنفى له ب�صمات‪ ،‬وله �ضغوط‪ ،‬وله قدرة‬ ‫ا إلفرجني وبني موجة اال�ستعمار ال�صهيوين على بالدنا‪،‬‬
‫على �إعادة الت�شكيل يف بع�ض االحيان‪ ،‬بناء املنفى‬ ‫ال�صهاينة هم غرب‪ ،‬هم علمانيون‪ ،‬هم متدينون‪ ،‬ي�أخذون‬
‫يعيد ت�شكيل فل�سطني ذاتها‪� .‬إن فل�سطني التي يحلم بها‬ ‫دعمهم من الغرب ويتل ّقون �أموالهم وعتادهم من الغرب‪،‬‬
‫فل�سطينيو لبنان غري تلك التي يحلم بها فل�سطينيو ال�ضفة‬ ‫والغرب ال ينتقدهم وال يخالفهم وال يعار�ضهم وال‬
‫والقطاع �إىل ح ٍد كيرب‪.‬‬ ‫يحرجهم‪ .‬ال�صهاينة بهذا املعنى هم غرب ا�ستعماري‬
‫النكبة هي املنفى القا�سي الفارم الذي يجعل من الوطن‬ ‫�صليبي لي�س �إال‪ ،‬و ألن ذلك كذلك‪ ،‬ف�إن ال�صهيونية تفعل‬
‫خياال ً �أندل�سياً كامالً �أو يقدمه بطريقة �أخرى‪ .‬املنفى لي�س‬ ‫ما فعلته كل موجة من موجات الغزو ال�سابق‪ ،‬لقد بنت‬
‫�سهالً‪ ،‬ولي�س جمرد مكان‪� .‬إنه ثقافة‪.‬‬ ‫ال�صهيونية �أ�سوارها و�سياجاتها و�أبراجها و�أ�شهرت‬
‫والنكبة هي الن�ضال‪ ،‬هي حركة التحرر الوطني‪ ،‬وهي‬ ‫�أ�سلحتها وطردت واقتلعت و�صادرت واحتقرت‪ ،‬متاماً‬
‫يتحمله �أبناء ال�شعب الفل�سطيني يف �أن يقاتلوا‬
‫الَ َقدر الذي ّ‬ ‫ككل م�ستعمر غا ِز غريب‪� .‬إن النكبة – وخا�صة �أنها تتعلق‬
‫االحتالل و�أن يطردوه و�أن يعيدوا ا ألمور �إىل ن�صابها‪� .‬إن‬ ‫ب�أر�ض فل�سطني – تعني �أنها حققت – ولو ب�شكل جزئي‬
‫�رصاعاً و�صل عامه املائة هذه ا أليام يعني �أن االحتالل‬ ‫– ما ف�شلت به احلروب ال�صليبية ومن ثم اال�ستعمار‬
‫لي�س جمرد تغيري �سلطات‪ ،‬و�إمنا هو املوت الز ؤ�ام‪.‬‬ ‫ا ألوروبي التقليدي‪ ،‬وبقول قد يبدو فيه جتر ؤ� وتعجل‪،‬‬
‫النكبة �أي�ضاً ف�ضيحة العامل ا ألخالقية وجرح الكون‬ ‫ف�إن النكبة هي هدية الغرب ا ألخرية للمنطقة و�شعوبها‬
‫النازف‪ ،‬الدال على انتفاء العدالة ا ألر�ضية‪ ،‬وف�شل ما‬ ‫ودينها وتاريخها‪� .‬إن قيام �إ�رسائيل – مبا يف ذلك من‬
‫�سمى باملجتمع الدويل يف حل الق�ضية ملدة تزيد على‬ ‫ُي ّ‬ ‫ا�ستثارة للنبوءات وامل�شاعر الدينية – يعني حتقيق الوعد‬
‫‪256‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ف�ضيحة مدوية اكرث دوياً و�ضجيجاً من النكبة‪ .‬النك�سة –‬ ‫�ستني عاماً‪ ،‬وعدم قدرة الليربالية الغربية يف حل ا إل�شكال‬
‫وهي هزمية مرّة ب�أبعاد خطرية وقد ر�سمت املنطقة حتى‬ ‫ألنها �أي هذه الليربالية – جزء من امل�شكلة ولي�س جزءا ً‬
‫هذه اللحظة – كانت بداية القبول ب�إ�رسائيل والتعامل‬ ‫من احلل‪� ،‬أو ألنها �سبب امل�شكلة‪ .‬بكلمة �أخرى‪� ،‬إن النكبة‬
‫للمر الواقع الذي فر�ضته‪ .‬النك�سة‬ ‫معها واخل�ضوع أ‬ ‫بحد ذاتها دليل على مدى العطب الذي يلحق ومييز هذه‬
‫كانت ف�ضيحة ألن االنظمة التي واجهتها ّادعت القومية‬ ‫الليربالية‪ ،‬ويف مدخل � آخر‪ ،‬ف�إن هذه الليربالية ال ميكن‬
‫واال�شرتاكية واجلماهريية واجلاهزية‪ ،‬على عك�س ا ألنظمة‬ ‫لها �أن َُتِ�سوق لنا �أفكارها النيرّ ة �أو املتنّورة! فالليربالية‬
‫التي واجهت ال�صهيونية العام ‪ ،1948‬كانت ف�ضيحة‬ ‫كاذبة وخمادعة ومنافقة‪ ،‬وال ميكن �أبدا ً اعتبار �أن العامل‬
‫�أي�ضاً ألن االنظمة العربية العام ‪ 1967‬كانت تخدع‬ ‫ي�صل �إىل ذروته ا ألخالقية وال�سيا�سة معتمدا ً على هذه‬
‫بالقول �أنها �أتت لتعرب عن املطامح وا آلمال والتطلعات‬ ‫الليربالية‪ ،‬وبهذا مل يخطىء فقط هيجل ولكن فوكوياما‬
‫القومية والوحدوية والعروبية‪ ،‬على عك�س ا ألنظمة عام‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬كالهما اعتقد �أن الليربالية الغربية كفيلة بتحقيق‬
‫‪ 1948‬التي كانت مر َتهنة ب�أوامر امل�ستعمِر العلني �أو‬ ‫ال�سعادة والعدالة واالكتفاء‪ ،‬وكالهما مل يرَ اجلانب‬
‫اخلفي‪ .‬كانت النك�سة ف�ضيحة ال تغتفر ألن انظمة عام‬ ‫ا أل�سود والقبيح لهذه الليربالية‪ .‬ا ألول ر�أى ذلك يتحقق‬
‫‪� 1967‬أتت �إىل �سدة احلكم على �أ�سا�س من نكبة عام‬ ‫يف نابليون وبرو�سيا الذي �أراد ا�ستعمار بالدنا والثاين‬
‫‪ 1948‬ومن �أجل جتاوزها وت�صحيحها لكنها �سقطت يف‬ ‫ر� آها يف الواليات املتحدة التي تريد �أَن حتكم العامل‬
‫ذات الهوة بطريقة �أكرث قبحاً و�أكرث ف�ضائحية‪.‬‬ ‫وت�ضبطه‪.‬‬
‫�ضياع القد�س فيما �سمي بالنك�سة ي�شبه العقاب اجلماعي‬ ‫والنكبة هي �أي�ضاً دليل عجز النظام العربي ودليل ف�شله‬
‫الذي يحل با ألمة �إن مل يكن العقاب كله والعذاب كله‬ ‫ودليل انق�سامه وتفتته‪ ،‬عندما ت�ضيع فل�سطني عاد ًة‬
‫واملرارة كلها والهزمية والذل والهوان‪ .‬و�إن ا�ستعادة‬ ‫ما تكون البالد العربية وجماهريها يف �أ�سو� أ احلاالت‪،‬‬
‫القد�س تعني امتالك كل ذلك دفعة واحدة‪ ،‬و�أُبعد يف القول‬ ‫وعندما ُت�ستعاد فل�سطني عاد ًة ما يرافق ذلك تغيريات‬
‫القول �إن ا�ستعادة القد�س هي ال�رشط الوحيد من �أجل �أن‬ ‫عميقة جتري على م�ستوى النخبة والقاعدة‪ ،‬هكذا تعلمنا‬
‫حتيا ا ألمة حياة طبيعية ت�ستطيع فيها �أن تتنف�س الهواء‬ ‫الدرو�س املا�ضية‪� .‬ضياع فل�سطني و�إعادتها عملية �صعبة‬
‫وت�أكل الطعام‪ .‬احلياة بدون القد�س ناق�صة وال ت�ستحق‬ ‫وطويلة ومريرة‪ ،‬تدخل فيها ا ألنظمة وال�شعوب يف �أتون‬
‫�أن تكون احلياة بدون القد�س كريهة و�ضيقة وال �سبيل‬ ‫من جمريات التاريخ يتم فيها خروج اخلبث وبقاء ما ينفع‬
‫�إىل اال�ستمتاع ب�شيء‪.‬‬ ‫النا�س‪ ,‬ولهذا ف�إن النكبة التي حلت بال�شعب الفل�سطيني‬
‫�إن �ضياع القد�س ال يعني �ضياعها فقط‪ ،‬بل يعني �أي�ض ًا‬ ‫هي دليل اخلراب والف�شل وغياب العلم وانعدام ا إلميان‪.‬‬
‫عمان ودم�شق والقاهرة ومكة‪ ،‬و�ضياع القد�س ال‬ ‫تهديد ّ‬ ‫ويف هذا ال�صدد‪ ،‬ميكن القول �أنه اذا كانت النكبة قد‬
‫يعني ت�رشيد ال�شعب الفل�سطيني �أو قمعه �أو منعه من‬ ‫اقتلعت �شعباً من �أر�ضه مقابل ا�ستيطان �شعب � آخر فيها‪،‬‬
‫التطور‪ ،‬ولكنه �أي�ضاً يعني جتويع ال�شعب العربي وح�صاره‬ ‫ف�إن النك�سة العام ‪ 1967‬و�سقوط القد�س كانت �أ�شد و�أنكى‬
‫ومنعه من التطور وامتالك �أ�سباب القوة‪ ،‬ذلك �أن �إ�رسائيل‬ ‫و�أمرّ‪� ،‬إن �سقوط القد�س ال يعني �سقوط غرناطة �أو �سقوط‬
‫ال متنع ال�شعب الفل�سطيني حقوقه وتطوره‪ ،‬و�إمنا تقوم‬ ‫بغداد �أو اال�ستيالء على دم�شق‪� ،‬سقوط القد�س عادة ما‬
‫�أي�ضاً بتجفيف �أ�سباب القوة واملنعة يف دول املحيط‪،‬‬ ‫يرمز �إىل خراب و�ضياع ورخاوة وعدم �أهلية َم ْن ت�ضيع‬
‫حتى تقوى �إ�رسائيل وي�ضعف من حولها‪ ،‬وحتى تنمو‬ ‫منهم البالد‪ .‬القد�س لي�ست ككل املدن‪� .‬إن احتالل ا ألماكن‬
‫�إ�رسائيل وميوت من حولها‪ ،‬اذن �ضياع القد�س ال يعني‬ ‫املقد�سة يعني �سقوط الكرامة والعزّة‪� ،‬إن تدني�س املقد�س‬
‫�ضياع مدينة بل �ضياع م�ستقبل اي�ضاً‪.‬‬ ‫هو قمة الهزمية‪ ،‬ولهذا نفهم ملاذا �شارك �صالح الدين‬
‫ولهذا ف�إن النك�سة مبعناها وجتلياتها و� آثارها ونتائجها‬ ‫االيوبي بنف�سه يف غ�سل امل�سجد االق�صى مباء الورد بعد‬
‫�أ�شد م�ضا�ضة من النكبة و�أعمق مرارة و�أ�شد وط�أة‪.‬‬ ‫احتالله ملدة تزيد عن ثمانني عاماً‪ .‬النكبة – يف �إحدى‬
‫�إن النكبة ومن بعدها النك�سة وما رافقهما من �ضعف‬ ‫معانيها – �ضعف ا ألنظمة وخيانتها وعدم قدرتها على‬
‫�شعب ُم�رش ٍد‬
‫وف�شل عربي‪ ،‬قد حولتا ال�شعب الفل�سطيني �إىل ٍ‬ ‫التن�سيق �أو امل�شاركة‪ ،‬ولكن النك�سة – يف احدى معانيها‬
‫وم�شتت‪ ،‬ومور�ست عليه عمليات التهمي�ش والتغييب‬ ‫�أي�ضاً – �إن تلك ا ألنظمة مل تفقد ال�رشعية فقط و�إمنا فقدت‬
‫والنكران والتجرمي و�سحب ال�رشعيات والتعريفات عنه‪.‬‬ ‫الرغبة يف العمل �أو حتى اال�ستعداد له‪ .‬النك�سة كانت‬
‫‪257‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خا�صة – �أُجرب الفل�سطيني الالجىء – كرهاً �أو طواعية‬ ‫�إن هذه ا آلليات املختلفة التي مار�سها ال�صديق قبل العدو‬
‫– على �أن يحدد انتماءاته وخياراته‪ .‬ولكن‪ ،‬وبذات الوقت‪،‬‬ ‫حولت ال�شعب الفل�سطيني عملياً �إىل �شعب فريد‪ ،‬وتنبع‬
‫ف�إن الق�ضية الفل�سطينية لي�ست ق�ضيتنا فقط‪ ،‬وعليه‪ ،‬ف�إن‬ ‫فرادته من قدرته على ال�صمود �أمام كل هذه العمليات‬
‫املخيم يتعر�ض لكثري من ا إلغراءات �أو ا إلجراءات �أو‬ ‫التي ت�شارك فيها قوى ذات جربوت وطغيان‪ .‬تنبع فرادة‬
‫ا آلليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد �أو حتى‬ ‫هذا ال�شعب من قدرته على الثورة – بغ�ض النظر ا آلن ّ‬
‫عما‬
‫االختيار وخا�صة بعد �أن انكف�أ املدّ الثوري والقومي وال‬ ‫�أف�ضت �إليه هذه الثورة ‪.-‬‬
‫نقول انهزم‪.‬‬ ‫فرادة ال�شعب الفل�سطيني يف قدرته على حتويل اخليمة من‬
‫املخيم ال�صامد‪ ،‬خمزون الثورة اال�سرتاتيجي‪ ،‬حامل‬ ‫خيمة جلوء �إىل خيمة ثوار‪ ،‬وحتويل املنفى لي�س �إىل مكان‬
‫امل�شعل و�شاهد املرحلة ومعلم االجيال‪ ،‬ومعلم ا أليام‬ ‫للنجاح �أو النجاة بل �إىل مكان لال�ستعداد واالحت�شاد‪،‬‬
‫وق�سم‬
‫اي�ضاً‪ ،‬الذي طور له لغة خا�صة وم�صطلحات خا�صة‪ّ ،‬‬ ‫وحتويل امل�أ�ساة �إىل حكاية مل تكتمل ومل تكتب نهايتها‪،‬‬
‫و�سمى ا أل�شياء من جديد‪،‬‬ ‫فئاته و�أعاد ربط ما انقطع‪ّ ،‬‬ ‫وحتويل الهزمية �إىل م�شارف الطريق امل�ؤدية �إىل الن�رص‪،‬‬
‫و�أرغم املدينة ومن ثم القريب والغريب على ا إلعرتاف به‬ ‫وحتول ال�شعب الفل�سطيني �شاهدا ً – بعد �أن كان �شهيدا ً –‬
‫والتعامل معه‪ ،‬هذا املخيم كان لزاماً عليه �أن ي�صطدم‬ ‫على ا�ستحالة التعاي�ش مع امل�رشوع ال�صهيوين التو�سعي‬
‫مبا حوله‪� ،‬شاء �أم مل ي�ش�أ‪� ،‬ألثورة خيار �صعب‪ ،‬وهي‬ ‫واالحتاليل وا إلحاليل اي�ضاً‪.‬‬
‫خيار جمنون وال عقالين اي�ضاً‪ ،‬الثورة وجدان‪ ،‬والثورة‬ ‫وبهذا ال�صدد ف�إن املخيم – كوحدة اجتماعية واقت�صادية‬
‫ال ح�سابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟‬ ‫و�سيا�سية وبالتايل �أ�صبحت ذات مالمح ثقافية – ّ‬
‫يت�صدر‬
‫– وعندما اختار املخيم ا�صطدم مبا حوله �رسيعاً‪ ،‬ومن‬ ‫الكالم وي�أخذ الكالم كله‪ .‬فاملخيم ك�إفراز ونتيجة للنكبة‬
‫هنا تعلم املخيم �أن يكون متوج�ساً و�شكاكاً وال يثق‪ ،‬و�إذا‬ ‫املعول عليه‪ ،‬مبعنى‪ ،‬وقعت على‬ ‫ّ‬ ‫والنك�سة �أ�صبح هو‬
‫كان املخيم �أر�ضية خ�صبة وطبيعية للم�شاعر القوية �ضد‬ ‫�أبنائه و�أجياله املتعاقبة �أن يتحملوا ويحملوا الر�سالة‬
‫�إ�رسائيل‪ ،‬ف�إنه طور �أي�ضاً م�شاعر متناق�ضة جتاه املحيط‬ ‫و�أن يجعلوا ال�شعلة م�ضاءة وعالية‪ .‬ووقع املخيم –‬
‫الذي يحيا فيه �أملخيم املعزول واملمنوع والفقري والذي‬ ‫نتيجة لذلك‪ ،‬بني �شفرات المُ طلق و�شفرات الن�سبي‪ ،‬ما بني‬
‫طور عقلية خا�صة‪ ،‬هي‬ ‫يحيا مبنطقة الرماد يف كل �شيء‪ّ ،‬‬ ‫متطلبات الثورة وف�ضائها وبني متطلبات الواقع و�ضيقه‪.‬‬
‫متوج�سة و�شكاكة وقريبة‬ ‫ّ‬ ‫عقلية الالجىء‪ ،‬وهي عقلية‬ ‫املخيم الذي يقع يف منطقة الرماد يف كل �شيء‪ ،‬جغرافياً‬
‫من ا إلميان املطلق دائماً‪ ،‬عقلية الالجىء لي�ست فيها‬ ‫– بكونه قريباً من املدينة ولكنه لي�س منها – وثقافياً‪-‬‬
‫ت�سويات كثرية‪ ،‬وهي �أقل جدال ً و�أقل رغبة يف الكالم‪ ،‬هي‬ ‫باعتباره غريباً عن الن�سيج االجتماعي وممنوعاً من‬
‫عقلية حتيا على حافة القرب‪ ،‬لي�س �أ�سو� أ من املنفى‪ ،‬ولي�س‬ ‫ا إلندماج فيه – واقت�صادياً – باعتبار �أن موارده ت�أتي‬
‫�أ�سو� أ من النكران‪ ،‬ولي�س �أ�سو� أ من الفقر‪ ،‬املخيم مل يعد‬ ‫جاهزة وهو ممنوع من االنخراط يف الدورة ا إلنتاجية‬
‫يزعج �إ�رسائيل فقط‪ .‬املخيم قنبلة �سيا�سية‪� ،‬صحيح �إىل‬ ‫– و�سيا�سياً – باعتباره ممنوعاً من امل�شاركة والتمثيل‬
‫حد كبري‪ ،‬ولكنه �أي�ضاً قنبلة اجتماعية‪� .‬إن �أذكى ا ألنظمة‬ ‫وا إلنتخاب – كل ذلك جعل من املخيم ينق�سم على ذاته‪،‬‬
‫التي حتاول ال�سيطرة �أو تذويب �أو دمج املخيم �أو حتويله‬ ‫ويدخل يف متاهات من التعريف و�إعادة التعريف‪،‬‬
‫من نار حترق �إىل نار ُيطبخ عليها مل ت�صل �إىل جناح �أكيد‬ ‫الثورة كانت حالً ولكنها لي�ست كل احللول‪ ،‬وخا�صة‬
‫ونهائي‪ .‬مرة �أخرى‪ ،‬املخيم مل يعد يزعج �إ�رسائيل فقط‪،‬‬ ‫بعد انكفائها‪ .‬املخيم – وهو و�ضع ا�ستثنائي يف تطور‬
‫ومن هنا‪ ،‬ف�إن حل الق�ضية الفل�سطينية هي �أولوية عربية‪،‬‬ ‫موزع بني‬ ‫املجتمعات و�سلوكها – منق�سم على ذاته ألنه ّ‬
‫لي�س فقط من منطلقات �سيا�سية و�أخالقية و�أمنية‪ ،‬و�إمنا‬ ‫االنتماءات ومو ّزع بني الوالءات ومو ّزع بني ا ألمكنة‪،‬‬
‫من منطلقات اجتماعية �رصفة‪ .‬وال �أق�صد هنا يف احلديث‬ ‫ومرّة �أخرى‪ ،‬املنفى لي�س مكاناً وح�سب‪ ،‬املنفى جتربة‬
‫�أن يتحرك املخيم كله باجتاه معني‪ ،‬بل يكفي �أن يكون‬ ‫مهيظة وقا�سية – ويف الوقت الذي يجرب فيه الالجىء‬
‫ليدمر املخيم �أو ليثري املحيط‬ ‫هناك «عب�سي» واحد ّ‬ ‫على تعريف نف�سه بقوة وتطرف‪ ،‬ف�إنه �أي املنفى – قادر‬
‫ويدمره‪ .‬وال �أريد �أن �أ�سرت�سل يف ا ألمثلة التي ت�ؤكد الكالم‬
‫ّ‬ ‫على �إجبار �أو �إقناع الالجىء بفقدان هويته �أو التخلي‬
‫�إىل ح ٍد كبري‪� ،‬أو على االقل ال تنفيه‪.‬‬ ‫قا�س وقاطع كحدّ ال�سيف‪ ،‬واملخيم‬ ‫عنها طواعية‪ .‬املنفى ٍ‬
‫يجب االعرتاف بقوة و�رصامة �أن املخيم م�شكلة اجتماعية‬ ‫– باعتباره لي�س �أفرادا ً و�إمنا وحدة اجتماعية و�سيا�سية‬
‫‪258‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هي حالة م�شبوهة �أو مدانة �أ�صالً‪� ،‬إن و�ضعاً كهذا – و�إن‬ ‫و�صحية‪ ،‬وحتى ال ُنفهم خط�أ – بنيّة ح�سنة �أو غري ح�سنة‬
‫مت ا�ستيعابه ب�شكل �أو ب� آخر –‬‫ا�ستمر ب�شكل �أو ب�أخر – و�إن ّ‬ ‫– ف�إن املخيم يجب �أن يزول ويختفي عن الوجود ألن‬
‫مت – تدجينه ب�شكل �أو ب� آخر – ال ميكن له �أن ي�ستمر‪.‬‬ ‫و� إ ْن ّ‬ ‫�سكانه يجب – وهنا �أكتب «يجب» بخط كبري و�ألفظها‬
‫�إن بيت ال�صفيح لي�س �أف�ضل حاال ً من خيمة ‪ ،1948‬و�إن‬ ‫مبلء الفم – �أن يعودوا �إىل ديارهم و�أوطانهم التي ُه ّجروا‬
‫معونات وكالة الغوث التي تتناق�ص �سنة بعد �سنة لن‬ ‫منها‪ ،‬هذا هو واجب النا�س ا آلن‪ ،‬وواجب ا ألجيال املقبلة‬
‫تكون بديالً عن �أحالم عري�ضة‪ ،‬و�إن التطامن �أو ال�سكون‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬ومن ين�سى هذا احلق �أو يفرط فيه ف�إنه عملياً يقبل‬
‫�أو اخل�ضوع ألوامر املحيط وقوانينه لن ت�سود �إىل ا ألبد‪،‬‬ ‫�أن ي�أتي االثيوبي �إىل فل�سطني وي�أخذ كامل احلقوق‪ ،‬فيما‬
‫خا�صة �إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع املجاين‬ ‫يحرم على امر�أة فل�سطينية �أن تعود �إىل وطنها لتعي�ش‬ ‫ّ‬
‫وقبول �إ�رسائيل بالكامل دون �إيجاد حل ألكرث من خم�سة‬ ‫مع زوجها و�أطفالها – اقر�أوا قانون العودة ا إل�رسائيلي‬
‫ماليني فل�سطيني موزعني ما بني بيوت �صفيحية �أو‬ ‫للعام ‪ 1952‬و ‪ 1972‬والتعديالت التي �أجريت عليه يف‬
‫�صحارى بعيدة �أو جماهل ال ي�صل �إليها الربيد‪.‬‬ ‫الثمانينيات والت�سعينيات لرتوا مدى العن�رصية ومدى‬
‫وكلما تقدمنا يف الزمن‪ ،‬ف�إن م�شكلة املخيم – متعددة‬ ‫اال�ستعداد القانوين ملنع العرب الفل�سطينيني من البقاء‬
‫امل�ستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم‪ ،‬لي�ست فقط‬ ‫يف �أوطانهم ‪ .-‬ولكن وبعد ت�أكيد هذا احلق مبا ال لبُ�س‬
‫ب�سبب � إ آللية اخلا�صة بتطور املخيم وتعدد خياراته‪ ،‬و�إمنا‬ ‫فيه‪ ،‬فان املخيم الذي يحيا اليومي والن�سبي ومتطلبات‬
‫�أي�ضاً – وبذات الدرجة من القوة – ب�سبب �أزمة �أو �أزمات‬ ‫احلياة اليومية من �أكل و�رشب وتعليم و�صحة وعمل‬
‫ا ألنظمة التي تعي�ش �ضمن حدودها تلك املخيمات‪.‬‬ ‫وت�أمينات اجتماعية و�صحية و�أ�شكال �سلوك متغرية‬
‫� إ ّن ا ألنظمة التي تعي�ش �أزمات خمتلفة تتعمق يوماً بعد‬ ‫ومرجتلة‪ ،‬هذا املخيم الذي يعي�ش على املطلق ولكنه‬
‫يوم‪ ،‬وهي �أزمات اقت�صادية و�سيا�سية‪ ،‬ولبنان تعطينا‬ ‫م�ضطر �إىل التعامل مع الن�سبي‪ ،‬يتحول �شيئاً ف�شيئاً –‬
‫وخا�صة بعد اتفاق �أو�سلو وتغيرّ العامل وجناح العوملة‬
‫مثاال ً منا�سباً فيما ميكن للمقدمات والنتائج �أن تكون‪.‬‬
‫وانكفاء الثورات وتراجع ال�شعارات وخفوت اال�صوات عن‬
‫�إن جت�سد ال�سلطة الوطنية يف ال�ضفة والقطاع – �أو يف‬
‫العودة �أو م�ضامينها احلقيقية – ف�إن املخيم يتحول �إىل‬
‫ال�ضفة فقط يف هذه ا ألثناء – مل ي�ساعد حتى اللحظة يف‬
‫م�شكلة وعبء حقيقي‪ ،‬لي�س على ال�سلطة الوطنية وح�سب‪،‬‬
‫حل �ضائقة املخيم‪ ،‬بل على العك�س من ذلك‪� ،‬إذ �أن جت�سد‬ ‫و�إمنا على ا ألنظمة التي تعي�ش فيها تلك املخيمات‪ .‬ال‬
‫ال�سلطة الوطنية بدا وك�أنه حل نهائي ملو�ضوع املخيم‪،‬‬ ‫ميكن ح�سم املخيم يف نهاية ا ألمر‪ .‬عقلية الالجىء الذي‬
‫ومن هنا‪ ،‬ازدادت حدة املو�ضوع‪ ،‬وزاد �ضغطه ال�شديد‬ ‫يحيا على ا ألحالم وي�ضطر �إىل البحث عن لقمة اخلبز‬
‫على الوعي والوجدان‪ ،‬فهل ينتظر �سكان املخيمات منفى‬ ‫�سيطور �سلوكاً غري متوقع‪ ،‬هذا الكالم يعني بب�ساطة‬
‫�أبديا‪� ،‬أم جتني�سا �أم توطينا �أم تعوي�ضا �أم عودة جمزوءة‪.‬‬ ‫� أ ّن �إ�رسائيل وغري �إ�رسائيل جمربون على حل الق�ضية‬
‫هذه ا أل�سئلة مل تكن يف املا�ضي‪ ،‬وهي ا آلن حا�رضة‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬فالهزمية حتى و�إن توالت لن ت�ؤدي �إىل خلق‬
‫بقوة‪ ،‬ا ألمر الذي يزيد من حدة وتطرف امل�س�ألة‪ ،‬ونحن‬ ‫عالقة غرامية مع املحتل‪ ،‬والفقر والنكران لن يحول‬
‫هنا نتحدث عن عقلية الالجىء – والالجىء لي�س مهاجرا‬ ‫املجروحني �إىل قدي�سني يدعون �إىل حمبة العدو الذي نقدم‬
‫وال مغامرا وال م�ستوطنا ‪ ،-‬وقلنا �إنها عقلية تطرّف �أكرث‬ ‫له اخلد ا ألمين لي�صفعه‪ .‬ومهما بدا الكالم قا�سياً ولكني‬
‫مهادنة‪ ،‬وعقلية ُتبدي ما ال ُتعلن‪ ،‬و�إن تهديد‬‫منها عقلية ُ‬ ‫�أرجو �أن ُيفهم بواقعيته و�أهدافه البعيدة‪ ،‬ف�أنا عملياً‬
‫املخيم بخيارات متعددة وخمتلفة �ضمن �أزمات متالحقة‬ ‫لوح بالقدرات التي ر�أينا بع�ضها وتلك التي مل ن�شاهد‬ ‫�أ ّ‬
‫و�ضغوطات من جهات متعددة‪ ،‬كل ذلك يدفع ا ألمر �إىل‬ ‫بعد‪ ،‬والتي ميكن للمخيم �أن يجرتحها ما مل تحُ ّل الق�ضية‬
‫عنق الزجاجة‪ .‬و�إذا كانت النكبة ومن بعدها النك�سة ومن‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬وبعيدا ً عن فذلكات ا ألكادمييني ورغبتهم‬
‫بعدها الهزائم وا ألزمات ثم التفتيت و االنق�سام‪ ،‬قد �أ�رضّت‬ ‫يف الو�صف والتبويب والفهر�سة ومن ثم اال�ستخال�صات‪،‬‬
‫وحو�رص‪ ،‬ف�إننا ا آلن على �أبواب‬ ‫وعذب ُ‬ ‫باملخيم‪ ،‬ف�ضرُ ب َّ‬ ‫ف�إن املخيمات التي ت�صبح عناوين للبالد والثورة‬
‫مرحلة جديدة‪ُ ،‬ت َْقبل فيها �إ�رسائيل وتن�ش�أ معها العالقات‪،‬‬ ‫واحلنني‪ ،‬تتحول بفعل الزمن �إىل مواطنني من درجة �أقل‬
‫فيما يغرق املخيم بوحله �أكرث ف�أكرث‪� ،‬إذن‪ ،‬فا ألمر �شديد‪...‬‬ ‫ويح�صلون على حقوق وواجبات �أقل‪� ،‬أي �أن ُجرح الطرد‬
‫�شديد‪ ،‬وعلينا االنتباه‪.‬‬ ‫ي�ضاف �إليه جرح النكران والتهمي�ش‪ ،‬وك�أ ّن حالة اللجوء‬
‫‪259‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرواية املغربية الآن‬


‫ومن أالجيال ال�سابقة؟‬
‫حـ�ســـن الـمـــودن‬
‫ناقد من املغرب‬
‫التجديد �أو التجريب يف ال�سبعينات والثمانينات(عبد اهلل العروي‬ ‫‪ 1‬بالنظر �إىل الرواية املغربية املكتوبة باللغة العربية‪ ،‬ميكن �أن‬
‫ومبارك ربيع و�أحمد املديني وحممد عز الدين التازي وحممد‬ ‫ن�سجل �أن هناك اليوم حيوية �أكيدة يف ا إلنتاج الروائي باملغرب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫برادة وامليلودي �شغموم وحممد الهرادي‪� ،)..‬أغلبهم �إن مل يكن‬ ‫فقد �صدرت يف ال�سنوات ا ألوىل من ا أللفية الثالثة �أكرث من مائتي‬
‫كلّـهم يوا�صلون ا إلنتاج وا إلبداع �إىل اليوم‪.‬‬ ‫رواية مكتوبة باللغة العربية‪.‬‬
‫وفوق ذلك‪ ،‬فاملالحظ اليوم كذلك هو تكاثر وتزايد كتّاب الرواية‬ ‫وهذا م�ؤ�رش ايجابي على �أن الرواية تعرف باملغرب تراكما ّ‬
‫كمـيا‬
‫باملغرب‪ ،‬رجاال ون�ساء‪ .‬فقد ازداد عدد الروائيات يف ال�سنوات‬ ‫ملحوظا‪ ،‬فمن الثمانينات �إىل اليوم �أ�صدر الكتّاب املغاربة ما‬
‫ا ألخرية‪ ،‬خالفا للعقود ال�سابقة‪ ،‬وب�شكل الفت للنظر‪ .‬ن�ستح�رض‬ ‫يقارب اخلم�سمائة رواية باللغة العربية‪ ،‬وهو عدد يفوق‪ ،‬بع�رش‬
‫منهن خديجة مروازي واملرحومة مليكة م�ستظرف‪ ،‬منهن من‬ ‫مرات رمبا‪ ،‬ما �صدر من روايات يف مرحلة متتدّ من ا ألربعينات‬
‫و�صلت �إىل العمل الروائي الثاين كزهور كرام التي جتمع بني النقد‬ ‫�إىل ال�سبعينات‪ ،‬والتي قد اليتجاوز عددها اخلم�سني رواية‪ .‬مع‬
‫وا إلبداع‪ ،‬ومنهن من و�صلت �إىل العمل الروائي الثالث كزهرة‬ ‫ا إل�شارة �إىل �أن �سنوات الت�سعني وبداية ا أللفية الثالثة ت�ستحوذ‬
‫املن�صوري‪ ،‬ومنهن من جاءت من الق�صة �إىل الرواية‪ ،‬و�أ�صدرت‬ ‫على اجلزء ا ألكرب من هذه ا ألعمال الروائية‪ ،‬مبا يقارب ا ألربعمائة‬
‫روايتها ا ألوىل كوفاء مليح‪ ،‬ومنهن من جاءت من ال�شعر �إىل‬ ‫رواية‪.‬‬
‫الرواية كفاحتة مر�شيد التي �أ�صدرت روايتها ا ألوىل‪ ،‬ومنهن من‬ ‫ما ينبغي ت�سجيله �إذا هو تد ّفق الن�صو�ص الروائية على امل�ستوى‬
‫متتح من م�صادر �إبداعية ومرجعيات نقدية مغايرة‪ ،‬كا�سمهان‬ ‫الكمي يف ال�سنوات ا ألخرية من القرن املا�ضي وال�سنوات ا ألوىل‬ ‫ّ‬
‫الزعيم التي �أجنزت ر�سالتها لنيل الدكتوراه حول ا ألدب اال�سباين‬ ‫من القرن اجلديد‪ .‬ومن ال�رضوري �أن يلقى هذا التد ّفـق ما يكفي‬
‫يف ا�سبانيا و�أمريكا الالتينية‪ ،‬و�أ�صدرت روايتها ا ألوىل‪...‬‬ ‫من االهتمام والدر�س والنقا�ش‪ ،‬بتنظيم لقاءات وندوات وت�أليف‬
‫�أما كتّاب الرواية اجلدد من الرجال‪ ،‬فهم كتّاب ينتمون �إىل‬ ‫درا�سات و�أبحاث حول الرواية املغربية ا آلن‪ ،‬بال�شكل الذي يدفع‬
‫ف�ضاءات اجتماعية وثقافية ومعرفية خمتلفة ومتنوعة‪� ،‬أ�صدروا‬ ‫�إىل طرح �أ�سئلة �أ�سا�سية ال تقف عند حدّ االحتفاء بهذا التقدّم على‬
‫رواياتهم ا ألوىل �أواخر الثمانينات �أو يف الت�سعينات �أو يف بداية‬ ‫الكمي‪ ،‬بل تتجاوزه �إىل م�ساءلة امل�ستوى النوعي‪.‬‬
‫امل�ستوى ّ‬
‫القرن اجلديد‪ ،‬ونذكر منهم بن�سامل حمي�ش ويو�سف فا�ضل و�أحمد‬ ‫ومن �أهم هذه ا أل�سئلة يف تقديرنا‪ :‬ماذا عن امل�ستوى النوعي لهذه‬
‫التوفيق وحممد ا أل�شعري وح�سن جنمي و�شعيب حليفي وعبد احلي‬ ‫ا ألعمال الروائية التي تتزايد يوما بعد يوم؟ ما هي �أهم خ�صائ�ص‬
‫مودن وبهاء الدين الطود وحممد غرناط وحممد �أنقار واحلبيب‬ ‫ا ألدب الروائي باملغرب �أواخر القرن املا�ضي وبداية ا أللفية‬
‫الدامي ربي وعبد الكرمي اجلويطي وجلول قا�سمي ونور الدين وحيد‬ ‫اجلديدة؟ هل تعرف الرواية املغربية يف الزمن احلا�رض فعال حتوال‬
‫وحممد �أمن�صور وجمال بوطيب و�أحمد الكبريي وح�سن طارق‬ ‫نوعيا ي�ستدعي �أن نوليه االهتمام والدر�س والبحث والنقا�ش؟‬
‫و�أحمد اللويزي وم�صطفى الغتريي وعبد العزيز الرا�شدي‪...‬‬ ‫ماهو هذا ال�شيء اجلديد الذي تعرفه اليوم الرواية باملغرب؟ مباذا‬
‫وبالنظر �إىل و�ضعية جن�س الرواية باملغرب يف الوقت الراهن‪،‬‬ ‫ن�صف الرواية مبغرب اليوم؟ �إذا كنّا با ألم�س نتحدث عن الرواية‬
‫ميكن �أن نتقدم بافرتا�ض �أن الرواية املغربية ا آلن ت�شهد عودة‬ ‫التقليدية‪� ،‬أو الرواية الواقعية‪ ،‬ثم عن الرواية التجريبية �أو الرواية‬
‫احلكاية‪ ،‬وهي عودة ت�ستدعي العودة �إىل الذات واملجتمع‬ ‫اجلديدة �أو الرواية احلداثية‪ ،‬فما هو الو�صف املالئم للرواية يف‬
‫والتاريخ والذاكرة‪ ،‬وتقت�ضي �أن ال تبقى الكتابة من�شغلة بذاتها‬ ‫مغرب ا أللفية الثالثة؟ �أيتعلق ا ألمر‪ ،‬على م�ستوى النوعية واجلودة‪،‬‬
‫فح�سب‪ ،‬بل �أن تعيد االعتبار للمرجع‪ .‬وهذا افرتا�ض ي�ستدعي‬ ‫بحركة تقدم �أم بحركة تقهقر وتراجع؟‬
‫�أكرث من �س�ؤال‪ :‬ماذا نعني بالعودة �إىل احلكاية؟ �أتعني حركة‬ ‫واملالحظ من ناحية ثانية هو تعدد وتنوع امل�ساهمني يف ا إلنتاج‬
‫ارتداد وتقهقر؟ �أم �أنها تعني حركة �إىل الوراء من �أجل حركتني‬ ‫الروائي‪ ،‬ب�شكل يبدو معه ا ألمر ك�أن الرواية املغربية ا آلن تختزل‬
‫�إىل ا ألمام؟ هل تعني العودة مثال �أننا عدنا �إىل قول الذات �أو‬ ‫ما�ضيها �أو تاريخها كله‪ ،‬فبع�ض م�ؤ ّ�سـ�سي الرواية املغربية‬
‫املجتمع �أو التاريخ بالطرق التقليدية امل�ألوفة؟ �أم �أن العودة‬ ‫يف ال�ستينات( عبد الكرمي غالب مثال)‪ ،‬وبع�ض م�ؤ�س�سي حركة‬
‫‪260‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حافظ على اجلانب احلكائي يف الرواية دون �أن مينعه ذلك من ا�ستثمار‬ ‫تعني طرقا جديدة يف بناء احلكاية وقولها‪،‬كما تعني �أننا‬
‫ا أل�شكال احللمية والفانطا�ستيكية واال�ستيهامية‪ ،‬وا�ستدعاء البنيات‬ ‫�رصنا ندرك الذات �أو العامل �أو التاريخ بطريقة �أو بر ؤ�ية مغايرة‬
‫اللعبية‪ ،‬و�إلبا�س البنية ال�رسدية ظالل الر� ؤيا ال�شعرية‪.‬‬ ‫للم�ألوف يف الروايات التقليدية؟‬
‫‪ -2‬بد� أ مبارك ربيع يكتب الق�صة الق�صرية منذ بداية ال�ستينات‪ ،‬و��صدر‬
‫أ‬ ‫وميكن �أن ن�صوغ ذلك االفرتا�ض بطريقة �أخرى‪� :‬أال ميكن �أن ن�صف‬
‫روايته ا ألوىل «الطيبون «�سنة ‪ ،1972‬تلتها �أعمال ق�ص�صية وروائية‬ ‫اللحظة الراهنة‪ ،‬بالن�سبة �إىل الرواية باملغرب‪ ،‬ب�أنها حلظة انتقال‬
‫عديدة على مرّ العقود وال�سنوات‪ ،‬قلّـما التفتنا �إىل ما قدّمته على م�ستوى‬ ‫وحتول‪ ،‬رمبا يف اجتاه رواية يبدو �أنها من�شغلة يف الوقت ذاته ب�س�ؤال‬
‫تطوير �أدوات ال�رسد وو�سائله الفنية‪.‬‬ ‫الكتابة كما ب�س�ؤال احلكاية‪ .‬فبف�ضل �إ�سهامات الكتّاب‪ ،‬من ا ألجيال‬
‫وبالنظر �إىل روايته‪� :‬أيام جبلية‪ ،‬ن�سجل يف البداية �نها رواية حتاول‬
‫أ‬ ‫ال�سابقة �أو الالحقة‪ ،‬مل يعد ا ألدب الروائي اليوم يكتفي بكتابة ال‬
‫�أن ت�ؤ�س�س معرفة مبا يجري داخل املجتمع املغربي يف الزمن احلا�رض(‬ ‫تن�شغل �إال بذاتها‪ ،‬ومل يعد يقت�صد يف احلديث ال عن العامل االجتماعي‬
‫زمن التحوالت الداخلية‪ ،‬ويف عالقتها بالتحوالت التي يفر�ضها نظام‬ ‫والنف�سي‪ ،‬وال عن ال�شيء ال�سيا�سي‪ .‬وبعبارة �أو�ضح‪ ،‬فقد بد�أت الرواية‬
‫العوملة)‪ .‬والالفت للنظر لي�س ارتباط الرواية بواقع املجتمع املغربي‬ ‫باملغرب تعرف‪ ،‬منذ �سنوات‪ ،‬حلظة انتقال وحتول‪ ،‬وهي على ما يبدو‬
‫يف الزمن احلا�رض فح�سب‪ ،‬بل هو نهجها اجلديد يف قول هذا الواقع‬ ‫حلظة حتول يف اجتاه البحث عن توازن بني االن�شغال ب�س�ؤال الكتابة‬
‫�أي�ضا‪ .‬وبعبارة �أخرى‪ ،‬فالروائي لي�س من�شغال مب�شاكل العامل االجتماعي‬
‫دون الت�ضحية باحلكاية‪� ،‬أو لنقل يف اجتاه ت�أ�صيل التجريب دون‬
‫فقط‪ ،‬بل هو من�شغل‪ ،‬ورمبا با أل�سا�س‪ ،‬مب�شاكل الكتابة ال�رسدية‪ .‬وهو ما‬
‫التفريط يف �أ�صول التخييل التي بدونها ال ميكن احلديث عن �شيء‬
‫ي�سمح بالقول �إن مبارك ربيع يعطي ا ألولوية للكتابة باعتبارها تنتج‬
‫ا�سمه رواية‪.‬‬
‫حكاية ما‪ ،‬تنتج م�ضامني جديدة ترتبط بالتحوالت والظواهر اجلديدة‬
‫وقبل �أن نتوقف ��سا�سا عند بع�ض الروايات احلديثة ال�صدور لبع�ض‬
‫أ‬
‫يف املجتمع املغربي املعا�رص(التهريب‪ ،‬االجتار يف املخدرات‪ ،‬الدعارة‪،‬‬
‫الكتّاب من جيل الكتّاب الذي د� ّشن قبل عقدين �أو �أكرث حركة التجديد‬
‫تهجري الفتيات‪ ،‬احلريك‪ ،‬االجتار يف العقار العتيق الرتاثي وا ألثري‬
‫يف املدن العتيقة‪ ،‬ت�أثريات العوملة‪ .)...‬لكنه باملقابل‪ ،‬المينح ا ألولوية‬ ‫�أو التجريب‪ ،‬ويحاول اليوم �أن يدفع الرواية يف اجتاه ان�شغال مزدوج‬
‫للحكاية على ح�ساب الكتابة‪ ،‬فان�شغاله ب�س�ؤال الكتابة وا�ضح يف هذا‬ ‫متوازن بهذين ال�س�ؤالني ا أل�سا�سني‪� :‬س�ؤال الكتابة(كيف نكتب؟)‪ ،‬و�س�ؤال‬
‫ن�سجـل �أن اجليل اجلديد الذي بد� أ‬‫احلكاية(ماذا نكتب؟)‪ ،‬ينبغي �أن ّ‬
‫العمل الروائي‪ ،‬كما يف �أعمال روائية �سابقة‪.‬‬
‫وبعبارة �أخرى‪ ،‬فا ألمر يف رواية �أيام جبلية مل يعد يتعلق ب�رسد حكاية‬ ‫الكتابة يف الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة هو جيل يتميّـز بالتعدد‬
‫ما فح�سب‪ ،‬بل يتعلق باال�شتغال على النظام ال�رسدي الذي �ستتولّـد عنه‬ ‫والتنوع‪ ،‬ويغني اليوم بالفعل ا ألدب الروائي املكتوب باللغة العربية‬
‫احلكاية‪ ،‬بالطريقة التي تعمل على حتويل الن�ص �إىل �سل�سالت وجمزوءات‬ ‫ب�شخ�صيات ومو�ضوعات من منط جديد‪ ،‬وبا�شتغال جديد على الذات‬
‫وقطائع ومقاطع وحمكيات ذاتية وغريية‪ ،‬حمكيات ب�ضمائر خمتلفة‬ ‫واملجتمع والتاريخ‪ ،‬وبعمله من �أجل �أن ي�ستعيد العمل الروائي قدراته‬
‫وبلغات متعددة‪ ،‬ب�شكل يتقدم به العمل ا ألدبي ك�أنه جمرد عنا�رص‬ ‫على �إظهار احل�ضور الفعلي ملرجعه(الذات‪ ،‬املجتمع‪ ،‬التاريخ‪ ،)..‬دون �أن‬
‫مو�ضوع‪ ،‬فهو يت�ألف من مواد متفرقة ومنف�صلة‪.‬‬ ‫يهمل االن�شغال بطرائق التخييل و�أ�شكال ال�رسد وجماليات القول‪.‬‬
‫وال يتعلق ا ألمر ب�أالعيب �شكلية من دون معنى �أو وظيفة‪ ،‬ذلك ألن هذا‬ ‫نقرتح �أن نتوقف يف هذه املحاولة عند عملني روائيني حديثني لروائيني‬
‫اللعب على م�ستوى ال�شكل ي�ؤ�س�س �أو هو ب�صدد البحث عن ت�أ�سي�س طريقة‬ ‫من ا ألجيال التي بد�أت الكتابة منذ عقود‪ ،‬ومازالت ترثي احلقل الروائي‬
‫جديدة يف �إدراك الواقع‪� ،‬إذ مل تعد هناك �سلطة ال�رسد �أو اخلطاب باملعنى‬ ‫املغربي ب�إ�سهاماتها‪ .‬وال�س�ؤال الذي ي�شغلنا هو‪ :‬ماذا عن �أعمال حديثة‬
‫التقليدي‪ ،‬ومل يعد هناك ذلك ال�سارد الواحد العامل بكل �شيء علم اليقني‪،‬‬ ‫لكتّاب من ا ألجيال ال�سابقة؟‪ ،‬على �أن �صورة الرواية املغربية ا آلن لن‬
‫وتبدو وظيفة ال�شهادة ك�أنها هي املو�ضوعة �أكرث مو�ضع ال�س�ؤال‪ ،‬لي�س‬ ‫تكتمل �إال بالنظر يف روايات الكتّاب اجلدد‪ ،‬الرجال والن�ساء منهم‪ ،‬وطرح‬
‫ألن بالرواية �شهادات ل�شخ�صيات عديدة فح�سب‪ ،‬بل ألنه ميكن اعتبار‬ ‫ال�س�ؤال ا آلخر‪ :‬ماذا عن �أعمال الكتّاب اجلدد الذين بد�أوا الكتابة يف‬
‫ما يقوله ال�سارد الرئي�سي نف�سه �شهادة �أي�ضا‪ ،‬ال تكفي لوحدها من �أجل‬ ‫الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة؟وهذا ال�س�ؤال هو ما نتمنى �أن ت�سمح‬
‫بناء �صورة ما عن املو�ضوع‪.‬‬ ‫الظروف باال�شتغال عليه م�ستقبال حتى نقدم �صورة متكاملة تقريبية‬
‫ونقرتح التوقف قليال عند بع�ض خ�صائ�ص الرواية من ناحية بنائها‬ ‫عن الرواية املغربية يف حتوالتها الراهنة‪.‬‬
‫الفني ودالالته‪ ،‬ومن ناحية �أ�ساليبها يف ت�شخي�ص العوامل الذهنية‬ ‫�أما ا آلن‪ ،‬فالرواية ا ألوىل التي نقرتحها هي رواية‪� :‬أيام جبلية ال�صادرة‬
‫والنف�سية يف عالقاتها املعقدة بالعوامل االجتماعية اخلارجية‪.‬‬ ‫�سنة ‪ 2003‬للأ�ستاذ مبارك ربيع الذي لعبت رواياته على مر ّ العقود‬
‫‪ 2‬ــ‪� 1‬أول ما يلفت النظر يف رواية «�أيام جبلية «هو بنا ؤ�ها الفنّـي‪ :‬يت�ألّـف‬ ‫دورا فعاال يف تطوير طرائق ال�رسد الروائي و�أ�شكاله باملغرب‪ ،‬وخا�صة‬
‫الن�ص من واحد و�ستني جمزوءة مرقمة‪ ،‬وتت�صدر كل جمزوءة �شذرة هي‬ ‫ما يتعلق بالتحليل النف�سي لل�شخ�صيات وا�ستنطاق العوامل النف�سية‬
‫يف �شكل ق�صا�صة خربية‪ ،‬وتتخلل املجزوءات ن�صو�ص �أو مقاطع من‬ ‫و�إعادة النظر يف �أ�ساليب ال�رسد وتقنياته‪ ،‬كما يف عالقة ال�سارد‬
‫ن�صو�ص غري مرقمة‪ ،‬وهي عبارة عن �شهادات قدمتها بع�ض �شخ�صيات‬ ‫وال�شخ�صية‪ ،‬بتفكيك �أحادية ال�صوت ال�رسدي‪ ،‬ودفعه يف اجتاه االزدواج‬
‫الرواية‪ ،‬وتنتهي الرواية بوثائق ملحقة(قرار اداري‪ ،‬ر�سالة)‪.‬وهكذا يبدو‬ ‫واالنق�سام والتعدد‪.‬‬
‫الن�ص الروائي ك�أنه ينتهك التما�سك الروائي امل�ألوف‪ ،‬وي�ؤ�س�س منطقا‬ ‫والرواية الثانية هي رواية‪ :‬دم الوعول ال�صادرة �سنة ‪ 2005‬للأ�ستاذ‬
‫�رسديا مغايرا ن�صطلح على ت�سميته منطق التجاور والتناظر‪.‬‬ ‫حممد عز الدين التازي الذي متيزت رواياته ال�سابقة والالحقة باالنتماء‬
‫أ‬
‫مل يعد الن�ص الروائي يقوم على الوحدة والتما�سك باملعنى امل�لوف‪،‬‬ ‫�إىل التحديث والتجريب دون �أن تكون غايته تدمري احلكاية متاما‪ .‬فقد‬
‫‪261‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ميكن القول �إن الرواية يف النهاية قد ك�شفت النقاب عن بع�ض ما يجري‪،‬‬ ‫بل �إنه وحدة تت�أ�س�س على التعدد والتفكك‪ ،‬وتبدو الرواية يف جمموعها‬
‫عن بع�ض املخبوء وامل�سكوت عنه‪ ،‬لكنها رواية ال تدعي �أنها امتلكت‬ ‫ك�أنها جمع من �أ�شياء خمتلفة‪ :‬ميكن لل�شذرات التي تت�صدر جمزوءات‬
‫احلقيقة كلها‪ ،‬ورمبا �أن غايتها لي�س بال�رضورة هو امتالك احلقيقة‪،‬‬ ‫ن�صا له ا�ستقالليته الن�سبية‪،‬‬ ‫املحكي املركزي �أن ت�ؤلف يف جمموعها ّ‬
‫قدرما يبدو �أن من�شغلة ب�س�ؤال �آخر هو‪ :‬ماذا عن احلقيقة عندما تكون‬ ‫وهو يتقدم يف �شكل ن�ص �إخباري �إعالمي مو�ضوعه الوحيد هو‪ :‬ماذا‬
‫متمنعة م�ستحيلة؟ ماذا عن البحث والتحقيق الذي قد ينتهي �إىل الف�شل؟‬ ‫وقع للقطار يف ر�أ�س اجلبل؟‪ ،‬وال نعرف ال�شيء الكثري عن �صاحب هذا‬
‫ماذا عن طرق البحث وو�سائله ومناهجه؟ �أينبغي �أن منار�س البحث‬ ‫الن�ص وم�صدره‪ ،‬قد يكون هو ال�سارد املكلف بالبحث والتحقيق �أو‬
‫والتحقيق كما ميار�سه حممود ال�سارد الرئي�س‪� ،‬أم علينا �أن نذهب بعيدا‬ ‫املركز الذي كلفه بتلك املهمة‪� ،‬أو قد يكون جهة ما‪ ،‬فكل �شذرة ت�أتي‬
‫يف البحث عن احلقيقة كما فعلت رفيقته حبيبة؟‬ ‫م�صدرة وخمتومة باحلروف ا ألوىل �أو بحروف ترمز �إىل �صاحب الن�ص‬
‫غالبا ما تنطلق قراءاتنا ملحكيات البحث من فكرة مفادها �أن �إنتاج‬ ‫وم�صدره‪ .‬وهناك من جهة ثانية املحكي املركزي الذي يت�ألف من‬
‫معنى يقت�ضي تفكيك لغز وحلّه‪ ،‬ومن فكرة � أ ّن هناك حقيقة ما يف مكان‬ ‫جمزوءات مرقمة وغري خا�ضعة بال�رضورة ملنطق اخلطية والت�سل�سل‬
‫ما‪ ،‬و� أ ّن بحثا ما ميكنه �أن يك�شف «احلقيقة «‪ .‬لكن قليال ما نت�ساءل‪ :‬ماذا‬ ‫والتتابع‪ ،‬ومو�ضوعه �أكرث ات�ساعا وتفرعا وراهنية‪ :‬ماذا يقع بر�أ�س‬
‫عن حمكيات البحث التي ال تبلغ «احلقيقة «‪ ،‬وغايتها لي�ست �أن ت�صل �إىل‬ ‫اجلبل؟ ماذا يقع بالدرب الوراين يف ر�أ�س اجلبل؟ وما عالقة الدرب‬
‫«احلقيقة «‪ ،‬بل �أن تظهر «احلقيقة «متمنعة م�ستحيلة‪ ،‬فاحتة بذلك �أعني‬ ‫الوراين مبا يقع يف مراك�ش �أو يف �شمال املغرب؟‪ ،‬وهو حمكي يتكفل‬
‫القرّاء على احتماالت متعددة ملتب�سة حميرّ ة‪ ،‬كا�شفة خمتلف ال�صعوبات‬ ‫ب�رسده باللغة العربية الف�صيحة �سارد م�شارك يف ا ألحداث هو حممود‬
‫واملخاطر واملزالق التي تنتظر كل باحث عن املعرفة واحلقيقة؟‬ ‫(وهو نف�سه ال�شخ�صية الفاعلة املكلفة مبهمة البحث والتحقيق‪ ،‬دون �أن‬
‫ا ألهم يف رواية �أيام جبلية �أنها انتهت �إىل �أن البحث عن حقيقة ما‬ ‫يكون ال�شخ�صية الوحيدة التي متار�س البحث والتحقيق‪ ،‬فهناك رفيقته‬
‫يجري يف ر�أ�س اجلبل هو «مهمة وانتهت �أو �أو�شكت بو�صولها �إىل‬ ‫حبيبة‪ ،‬وهناك اجلهات ا ألمنية)‪ ،‬مع وجود جمزوءات قليلة تتكفل‬
‫الباب امل�سدود‪ ...‬املوارب على ا أل�صح‪ ..‬يكفي �أن ت�صل الباب‪ ،‬حتى لو‬ ‫ب�رسدها �إحدى ال�شخ�صيات وباللغة العربية العامية (�شخ�صية الوادي)‪.‬‬
‫كان م�سدودا‪ ،‬ثمة دائما من ي�أتي ليدفع الباب‪ ...‬بكيفية ما‪ ،‬واملوارب‬ ‫وهناك من جهة ثالثة �شهادات ال�شخ�صيات التي تتقدم يف �شكل ن�صو�ص‬
‫نهاية نفق �أو‪ ...‬بداية‪ ...‬بل انه بداية نفق جديد مع �صعوبات جديدة‪»...‬‬ ‫�أو مقاطع من ن�صو�ص‪ ،‬وهي غري مرقمة‪ ،‬و تتخلل جمزوءات املحكي‬
‫(�ص ‪.)336‬‬ ‫املركزي‪ ،‬وكل �شخ�صية تقدم �شهادتها بل�سانها ولهجتها‪ ،‬ومو�ضوع‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ 2 -2‬املالحظ �ن رواية �يام جبلية انطلقت من �س�ؤال مو�ضوعي‪ :‬ماذا‬ ‫يهم حدث القطار كما قد يهم ما يقع بر�أ�س اجلبل‪.‬‬ ‫ال�شهادة ّ‬
‫وقع �أو يقع يف ر�أ�س اجلبل؟ وانتهت ب�س�ؤال ذاتي‪ :‬ماذا يربطني حقا بر�أ�س‬ ‫وتتقدم الرواية‪ ،‬يف جمموعها‪ ،‬يف �شكل حمكي بحث وحتقيق يف حدث‬
‫اجلبل(�ص ‪.)336‬‬ ‫القطار �أو يف ما يجري داخل جمتمع ر�أ�س اجلبل‪ .‬وما ير�سمه البحث‬
‫ويك�شف ال�س�ؤاالن �أن مو�ضوع ال�رسد يف هذه الرواية مل يكن العامل‬ ‫والتحقيق داخل نظام املحكي هو التقدم نحو معرفة ما‪ ،‬فهناك معرفة‬
‫اخلارجي املو�ضوعي فح�سب‪ ،‬بل والعامل الذاتي لل�سارد و ل�شخ�صياته‪.‬‬ ‫ما قادمة‪ .‬واجلديد هنا �أن الرواية ال تنتهي بذلك االنفتاح ال�شامل‬
‫�أي �أن الكاتب ال يكتفي مبعاينة الواقع اخلارجي املعطى‪ ،‬بل مينح �رسد‬ ‫والكلّي الذي غالبا ما تنتهي به حمكيات البحث والتحقيق‪ .‬فا ألمور‬
‫العوامل الداخلية والنف�سية مكانة هامة‪ ،‬واعيا بالطابع الرتكيبي املعقد‬ ‫املتعلقة بحدث القطار �أو بر�أ�س اجلبل �أو بالدرب الوراين �أو ب�شمال‬
‫الذي يربط بني اخلارج والداخل‪ ،‬بني الذات واملجتمع‪ ،‬ويجعل كل معرفة‬ ‫املغرب مل تت�ضح كل الو�ضوح‪ ،‬وبقيت �أ�شياء كثرية غام�ضة‪ .‬وال�سارد‬
‫�أو حقيقة ذات طابع ن�سبي‪.‬‬ ‫الباحث املحقق وجد نف�سه �أمام جمتمع مغلق منغلق ي�صعب الو�صول‬
‫والواقع �أن ما مييز روايات مبارك ربيع هو تقنياتها ومناهجها يف‬ ‫�إىل كامل �أ�رساره وحقائقه‪ .‬و�شهادات ال�شخ�صيات ال تقدم ال�شيء الكثري‬
‫التحليل النف�سي والتغلغل يف �أغوار النفو�س للك�شف عما يجري من‬ ‫�أو املهم الذي ي�ساعد على الو�صول �إىل حقيقة ما يجري يف ر�أ�س اجلبل‬
‫دقيق ا ألحا�سي�س‪ .‬واخلا�صية املركزية يف روايات الكاتب هو احل�ضور‬ ‫�أو ما جرى للقطار يف ر�أ�س اجلبل‪ .‬وحبيبة‪ ،‬رفيقة ال�سارد‪ ،‬التي توغلت‬
‫القوي والنوعي أل�ساليب وطرائق ت�شخي�ص العامل الذهني والنف�سي‪،‬‬ ‫يف البحث والتحقيق‪ ،‬وا�ستعارت لها ا�سما‪ ،‬وان�ضمت �إىل جمتمع الدرب‬
‫وبا ألخ�ص منها املونولوج الداخلي‪ ،‬هذا الذي ي�ستثمره الكاتب يف �أيام‬ ‫الوراين‪ ،‬وبد�أت تكت�شف حقيقة ما يجري‪ ،‬فقد انتهت الرواية دون �أن‬
‫جبلية بطريقة جتعل القارئ يجد �صعوبة يف الف�صل بني املحكي بح�رص‬ ‫نعرف �شيئا عن م�صريها‪� ،‬إال �أن جتربتها يف البحث والتحقيق حمفوفة‬
‫املعنى واملونولوج الداخلي‪ ،‬وتبدو الرواية يف �أجزاء كثرية منها‪ ،‬ان مل‬ ‫بالكثري من املخاطر واملزالق‪.‬‬
‫يكن يف �أغلبها‪ ،‬ك�أنها مونولوج داخلي متوا�صل‪ ،‬فالقارئ يجد نف�سه منذ‬ ‫يف رواية �أيام جبلية‪ ،‬يجد القارئ نف�سه �مام حكاية ال ميلك ال�سارد كل‬
‫أ‬
‫ال�سطور ا ألوىل ملجزوءة من جمزوءات الن�ص( املجزوءة ‪� 37‬أو املجزوءة‬ ‫�أطرافها و�أ�رسارها‪ .‬فاحلكاية ملغزة حمرية‪ ،‬وتثري من ا أل�سئلة �أكرث مما‬
‫‪� 44‬أو املجزوءة ‪ )56‬داخل فكر ال�شخ�صية‪ ،‬واملجرى الالمنقطع لهذا‬ ‫تقدم من ا ألجوبة‪ .‬وكلما تقدم القارئ يف القراءة‪� ،‬إال و� أ ّ‬
‫ح�س ب�أن احلكاية‬
‫الفكر هو الذي يريه ما تفعله ال�شخ�صية وما يحدث لها‪ ،‬ب�شكل يتزامن‬ ‫ال تتقدم‪ ،‬و�أن البحث والتحقيق مل يربح مكانه‪ ،‬و�أن ال�سارد مل ينجح يف‬
‫به الكالم الداخلي والفعل اخلارجي‪ ،‬ما ي�ضطرب يف العامل الداخلي وما‬ ‫معرفة ما يجري وما يقع‪ ،‬ففي ال�صفحة ‪ 245‬من الرواية التي تت�ألف‬
‫يجري يف العامل اخلارجي‪.‬‬ ‫من ‪� 350‬صفحة‪ ،‬جند ال�سارد املكلف بالبحث والتحقيق ي�س�أل �أكرث من‬
‫ويح�رض املونولوج الداخلي يف خمتلف �أ�شكاله و�ألوانه‪� ،‬إال �أن ال�شكل‬ ‫مرة‪« :‬ماذا يجري؟»‪ ،‬وي�رصح ب�أنه مل يعد يعرف‪ ،‬بل انه مل يكن يعرف‬
‫ا ألكرث ح�ضورا يف روايات مبارك ربيع‪ ،‬ويف رواية �أيام جبلية با أل�سا�س‪،‬‬ ‫�شيئا �أ�صال‪ .‬ورمبا �أن ما تعرفه حبيبة �أو دليلة �أكرث و�أهم مما يعرفه‬
‫هو املونولوج امل�رسود‪ .‬وهو �أكرث �أ�شكال املونولوج الداخلي تعقيدا‬ ‫ال�سارد نف�سه‪.‬‬
‫‪262‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اللغات وا أل�صوات‪ ،‬بال�شكل الذي يجعله يرتجم عالقات ال�شك واالرتياب‬ ‫وثراء‪ ،‬ألنه ي�شري �إىل انتماء الكالم �إىل املحكي كالم ال�سارد كما ي�ؤكد‬
‫التي تطبع موقف ال�شخ�صية من ذاتها كما من العامل وا آلخرين‪ ،‬ويجعله‬ ‫على انتمائه يف الوقت ذاته �إىل االقتبا�س �أي �إىل كالم ال�شخ�صية‪.‬‬
‫يعمل على ت�شعيب احلقيقة وتن�سيبها‪ ،‬فاحلقيقة ال ميلكها �صوت واحد‪،‬‬ ‫وميكن �أن نختزل قيمة املونولوج امل�رسود يف كونه يدفع �إىل م�ساءلة‬
‫بل ا أل�صح �أن احلقيقة ال تكون �إال بني �أ�صوات تتحاور وتتجادل‪.‬‬ ‫العالقة بني ال�سارد وال�شخ�صية‪ ،‬واىل البحث عن �أ�شكال �رسدية تكون‬
‫‪� - 3‬أ�صدر حممد عز الدين التازي من �أوا�سط ال�سبعينات �إىل حدود‬ ‫قادرة على جعل ح�ضور ا آلخر ملمو�سا‪� ،‬أي تقنية قادرة على �أن متنح‬
‫�سنة ‪ 2007‬ت�سعة �أعمال ق�ص�صية وثمانية ع�رش عمال روائيا‪ .‬وال تتميز‬ ‫ال�شخ�صيات املحورية وجودا م�ستقال‪ ،‬لي�س من خالل ر�سائلها و�شهاداتها‬
‫�أعماله ال�رسدية‪ ،‬والروائية خا�صة‪ ،‬بغزارتها فح�سب‪ ،‬بل وبنوعيتها‪،‬‬ ‫فقط‪ ،‬بل و�أ�سا�سا من خالل املحكيات النف�سية واملونولوجات الداخلية‪،‬‬
‫فهي من ا ألعمال الرائدة يف التجديد والتجريب‪ .‬ونقرتح التوقف قليال‬ ‫وخا�صة منها املونولوجات امل�رسودة التي ي�صعب فيها التمييز بني‬
‫عند �إحدى رواياته احلديثة‪ :‬دم الوعول التي �صدرت �سنة ‪ 2005‬من اجل‬ ‫�صوت ال�شخ�صية و�صوت ال�سارد والف�صل بينهما‪.‬‬
‫ا�ستك�شاف بع�ض خ�صائ�صها املو�ضوعاتية واجلمالية‪.‬‬ ‫وال تخفى خ�صوبة هذا االجتاه الفنّي الذي يت�أ�س�س على املزج بني‬
‫‪� 1 -3‬أول هذه اخل�صائ�ص هذه املتعلقة ببناء الن�ص ال�رسدي و�شكله‬ ‫ا أل�صوات‪ ،‬و�ضبط تقاطعها‪ ،‬والتحرر من املنظور املهيمن واخلطاب‬
‫الفنّي‪ ،‬فالرواية هنا ال تقوم على الوحدة والتما�سك التقليديني‪ ،‬بل نحن‬ ‫املر ّكز‪ ،‬من �أجل �إ�سماع اهتزازات و�شظايا ا أل�صوات ا ألخرى‪ ،‬وبال�شكل‬
‫�أمام رواية تتوزع �إىل روايات فرعية‪ ،‬وهذه الروايات املتفرعة هي التي‬ ‫الذي يحدث مفعوال بوليفونيا يجعل القارئ ي�سمع �أ�صداء �أ�صوات تتعدد‬
‫ت�شكل يف جمموعها الرواية‪.‬‬ ‫وتتنا�سل‪ ،‬تتجادل وتتحاور‪ ،‬تتناق�ض وتتعار�ض‪.‬‬
‫تت�ألف رواية دم الوعول من �سبعة �بواب‪ ،‬مو�ضوعها واحد هو‪ :‬ماذا عن‬
‫أ‬ ‫و�إجماال‪ ،‬ي�سمح املونولوج امل�رسود باحلد ّ من �سلطة ال�سارد ب�ضمري‬
‫ا إل�شاعة التي تقول �إن رجال ي�شتغل ممر�ضا يف م�صحة عقلية ا�سمه عبد‬ ‫الغائب وهيمنته‪ ،‬ويحوّله �إىل �سارد �أكرث قربا من ال�شخ�صية‪ ،‬و�أكرث‬
‫الرحيم ا ألزرق قد حتول �إىل قزم؟ ولكن لكل باب �سارده و�شكله ال�رسدي‬ ‫تعاطفا معها‪ ،‬وهو ما يجعل اخلطاب ي�أتي مزدوجا متداخال‪،‬‬
‫وطريقته يف معاجلة املو�ضوع وغاياته من ذلك‪.‬‬ ‫يجمع بني ال�سارد وال�شخ�صية يف الوقت نف�سه‪ ،‬ك�أن اخلطاب ال‬
‫ي�أتي الباب ا ألول يف �شكل بحث وحتقيق‪ ،‬وال�ضابط م�صطفى التواتي‬ ‫ميكن �أن يكون �إال ثنائيا‪ ،‬ال �أحاديا‪ ،‬مزدوج ال�صوت ومتعدّده‪.‬‬
‫هو املحقق وال�سارد يف هذا الباب‪ ،‬وهو يجعلنا نتوقف عند مفرت�ضات‬ ‫ويتميّـز املونولوج امل�رسود ببنيته االنفعالية‪ ،‬ولهجته احلميمية‪،‬‬
‫البحث ا ألمني البولي�سي ومقت�ضياته وغاياته وطرقه يف معاجلة‬ ‫ولغته امل�ضطربة املتقطع ّة‪ ،‬فهو يقدم في�ضا من اال�ستفهامات‬
‫ا إل�شاعات‪.‬‬ ‫والتعجبات والتكرارات والبيا�ضات واالنقطاعات املفاجئة والتلميحات‬
‫وي�أتي الباب الثاين يف �شكل الروبورتاج التلفزيزين الذي يحاول مقدم‬ ‫واال�ضمارات‪ ...‬وهو بهذا ي�سمح ب�إبراز النف�س امل�ضطربة والفكر املبلبل‬
‫الربنامج التلفزيوين عبا�س املرادي اجنازه حول عبد الرحيم ا ألزرق‬ ‫وال�رشخ الداخلي‪.‬‬
‫الذي ي�شاع �أنه حتول �إىل قزم‪ .‬وبطبيعة احلال‪ ،‬ومفرت�ضات ومقت�ضيات‬ ‫من الوا�ضح �أن قوة الكتابة الروائية يف �أيام جبلية تعود �إىل هذه القوة‬
‫التحقيق ا إلعالمي التلفزيوين غريها يف حتقيقات و�أبحاث اجلهات‬ ‫الداللية التي جاءت نتيجة التن�ضيد التلفظي وتهجني اخلطاب وجتاور‬
‫ا ألمنية‪.‬‬ ‫�أو تداخل م�ستويات تلفظية متعددة‪ ،‬بع�ضها يتعلق بال�سارد وبع�ضها‬
‫�أما الباب الثالث فهو كما جاء يف الكلمات التي ت�صدرته عبارة عن‬ ‫ا آلخر ب�شخ�صية من ال�شخ�صيات‪ ،‬واحلدود التي تف�صل بني ا ألجواء‬
‫رواية لكل من مرمي طليقة عبد الرحيم وولديه عبد الغني وبديعة‪ ،‬وهو‬ ‫التلفظية لل�سارد وا ألجواء التلفظية لل�شخ�صيات تكاد تنمحي بوا�سطة‬
‫ما يعني عمليا رواية تتفرع �إىل ثالث روايات‪ ،‬الواحدة بل�سان الطليقة‬ ‫�أ�شكال لفظية تت�صف باالزدواجية‪� ،‬أهمها املونولوج امل�رسود الذي‬
‫والثانية بل�سان الولد والثالثة بل�سان البنت‪ ،‬وما يجمعها هو املو�ضوع‪:‬‬ ‫ميزج بني �أ�صوات متعددة‪ ،‬وين�سج مفعوال بوليفونيا يجعل القارئ �أمام‬
‫عبد الرحيم ا ألزرق‪ ،‬ا ألب والزوج �سابقا‪ ،‬وهي جمموعها رواية «تف�ضح‬ ‫ن�ص روائي يتحرر من �صوت ال�سارد املهيمن وخطابه املركز من �أجل‬
‫الكثري من �أ�رسار العائلة «(�ص ‪.)47‬‬ ‫�إ�سماع �أ�صوات متعددة وقد تكون متعار�ضة‪.‬‬
‫وي�شمل الباب الرابع روايتني �إ�ضافيتني لكل من ال�ضابط م�صطفى‬ ‫و�إجماال‪ ،‬ينبغي �أن ن�سجل ب�أن �أيام جبلية هي‪ ،‬يف جمموعها‪ ،‬رواية‬
‫التواتي ومقدم الربنامج التلفزيوين عبا�س املرادي‪� .‬أما الباب اخلام�س‬ ‫توظف �أ�شكاال �رسدية متعددة‪ :‬املحكي الوقائعي اخلارجي‪ ،‬املحكي‬
‫فهو الذي يحكي فيه عبد الرحيم ا ألزرق حكايته بل�سانه‪ .‬يف حني يدور‬ ‫النف�سي مبختلف �ألوانه‪ ،‬املونولوج الداخلي مبختلف �أ�شكاله‪ ،‬ر�سائل‬
‫البابان ال�ساد�س وال�سابع حول احلياة يف امل�صحة العقلية التي ي�شتغل‬ ‫ال�شخ�صيات و�شهاداتها‪ ..‬بطريقة �سمحت بالتقليل من �سيطرة ال�سارد‪،‬‬
‫فيها عبد الرحيم ممر�ضا‪.‬‬ ‫وف�سح املجال �أمام ال�شخ�صيات لتحتل مقدمة امل�شهد ال�رسدي وحت ّل‬
‫وهكذا‪ ،‬فمو�ضوع الرواية يف جمموعها واحد‪ :‬ا إل�شاعة املتداولة حول‬ ‫حم ّل ال�سارد‪ ،‬وهو ما قد ي�سمح ب�إحداث �رشخ يف �صلب �أحادية ال�سارد‬
‫عبد الرحيم ا ألزرق‪� ،‬إال �أن الن�ص الروائي ال يت�ألف من رواية واحدة حول‬ ‫التقليدي ووحدانيته‪.‬‬
‫املو�ضوع‪ ،‬بل يقدم جمموعة من الروايات حول املو�ضوع الواحد(الرواية‬ ‫يف رواية �أيام جبلية‪ ،‬جند حمكيات ب�ضمري املتكلم وحمكيات ب�ضمري‬
‫ا ألمنية‪ ،‬الرواية ا إلعالمية‪ ،‬الرواية العائلية‪ ،‬الرواية ال�شخ�صية‪ .)...‬وبهذا‬ ‫الغائب‪ ،‬جند حمكيات وقائعية خارجية وحمكيات نف�سية داخلية‪،‬‬
‫ال�شكل الفني يتفكك الن�ص الروائي ويتعدد‪ ،‬ويتفكك ال�سارد ويتعدد‪،‬‬ ‫ويح�صل التناوب �أو التداخل بني املحكي واملونولوج‪ ،‬بني �صوت ال�سارد‬
‫وتخ�ضع املعرفة واحلقيقة آلليتي التذويت والتن�سيب‪.‬‬ ‫و�صوت ال�شخ�صية‪ ،‬بني خطاب ال�سارد و�شهادات ور�سائل ال�شخ�صيات‪،‬‬
‫لقد امنحى ال�سارد الواحد العامل بكل �شيء ب�أق�صى درجة ممكنة تاركا‬ ‫بني ال�رسد ال�شفوي ال�شعبي وبني ال�رسد العربي الف�صيح‪ ،‬ويح�رض ال�شعر‬
‫املكان لوعي ال�شخ�صية املك�شوف‪ ،‬فلم تعد ال�شخ�صية ت�ؤدي وظيفة‬ ‫والزجل‪ ،‬بال�شكل الذي يجعل هذا التناوب �أو التداخل يولّـد حمكيا متعدد‬
‫‪263‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واملعرفية والتداولية‪.‬‬ ‫«الفعل «فح�سب‪ ،‬بل �إنها ت�أخذ مبادرة الكالم واحلكي مربزة موقفها‬
‫وبالرغم من � أ ّن الكاتبني ينتميان �إىل جيلني خمتلفني‪ ،‬وميار�سان‬ ‫ودوافعها و�شكوكها و�أ�سئلتها‪ ،‬تعالج املو�ضوع من زاوية نظرها وتبعا‬
‫الكتابة منذ عقود‪ ،‬وبالرغم من وجود خ�صائ�ص متيّز جتربة كل واحد‬ ‫لدوافعها و�أهدافها‪.‬‬
‫منهما‪ ،‬فان املالحظ �أن روايتيهما اللتني �أ�صدراهما يف بداية ا أللفية‬ ‫‪ 2 -3‬يف البداية‪ ،‬يبدو �أن كل �شيء ي�شتغل على �أ�سا�س �إ�شاعة البد من‬
‫اجلديدة ت�شرتكان يف خ�صائ�ص نراها هامة‪ .‬فهما معا ت�شتغالن على‬ ‫تو�ضيحها وتف�سريها‪ .‬وانخرطت �شخ�صيات عديدة يف م�رشوع كبري‬
‫البناء الفني للعمل الروائي‪ ،‬وت�ستدعيان البنيات اللعبية االنتهاكية‪،‬‬ ‫للتف�سري والتو�ضيح‪ ،‬متار�س البحث والتحقيق‪ ،‬االفرتا�ض والتحليل‪،‬‬
‫وتوظفان �أ�شكاال و�أ�ساليب جديدة يف احلكي وال�رسد والتخييل‪ ،‬وتعمالن‪،‬‬ ‫التفكيك و�إعادة البناء‪ ،‬رواية ا أل�شياء من زاوية نظر معينة‪ .‬وكلما تقدم‬
‫�إىل هذا احلدّ �أو ذاك‪ ،‬على تفجري الن�ص الروائي مبعناه التقليدي‪ ،‬ب�شكل‬ ‫املحكي كان االنطباع ب�أننا نتقدم نحو معرفة ما‪� .‬إال �أنه يف النهاية‪،‬‬
‫يبدو معه ك�أن هناك قواعد جديدة للكتابة وميثاقا للقراءة جديد‪.‬‬ ‫مت ح�سمه‪ ،‬وال نعرف هل ا إل�شاعة �صحيحة �أم‬ ‫يبدو ك�أن ال�شيء قد ّ‬
‫وفوق ذلك‪ ،‬فقد اختارت الروايتان‪ ،‬كل واحدة بطريقتها‪� ،‬شكال �رسديا‬ ‫خمتلقة‪ ،‬والندري يف النهاية �أيتعلق ا ألمر بحكاية واقعية �أم بحكاية‬
‫حمددا هو �شكل حمكيات البحث والتحقيق‪ .‬وهذا ما ي�شري �إىل �أن الرواية‬ ‫خمتلقة‪ ،‬وي�صعب احل�سم ما �إذا ا ألمر يجري داخل امل�صحة العقلية �أم‬
‫املغربية ا آلن تريد �أن تعرف‪ ،‬تريد �أن ت�ؤ�س�س معرفة حول ا إلن�سان‬ ‫خارجها‪ ،‬وما �إذا كانت ال�شخ�صيات والرواة من عقالء النا�س �أم من‬
‫وجمتمعه وتاريخه وم�صريه‪� ،‬أو �أنها با أل�سا�س تريدنا �أن نفكر يف �سبل‬ ‫جمانينهم‪ ،‬وما �إذا كانت احلكاية يف جمموعها حقيقية وواقعية �أم �أنها‬
‫ت�أ�سي�س معرفة بذواتنا و�أو�ساطنا وعواملنا وم�صائرنا‪.‬‬ ‫مفتعلة متخيلة وجهها اال�ستعاري والرمزي هو ا ألكرث �أهمية؟‬
‫والالفت للنظر �أن كل رواية من الروايتني ال تدعي �أنها متتلك املعرفة‬ ‫لي�ست الـكـتـابـة الــروائــية عند حممد عز الدين التازي جمرّد‬
‫الكاملة �أو احلقيقة املطلقة حول ا إلن�سان �أو املجتمع �أو التاريخ‪ .‬وهذا‬ ‫�إبالغ حقيقة ما �أو نقل الواقع املعطى كما هو‪ ،‬قدر ما هي م�ساءلة‬
‫بال�شك حتول جديد يف الرواية املغربية‪ ،‬فا ألدب الروائي مل يعد يعمل‬ ‫«احلقيقة» والنظر �إىل ماوراء الواقع املعطى‪ ،‬ب�شكل يجعل من‬
‫ل�صالح �إيديولوجية معينة‪ ،‬ومل تعد الرواية تدافع عن دعوى �أو �أطروحة‪،‬‬ ‫الـتـخـيـيـل مــر�آة نـقـديــة ملا يقدّم عـلـى �أنه «احلقيقة» يف‬
‫بل �إن الرواية ا آلن تركب ال�شك‪ ،‬وتقول االحتمال واالفرتا�ض‪ ،‬ومتار�س‬ ‫عامل من التوافقات واال�صطالحات‪ .‬فبوا�سطة الكتابة الروائية‬
‫اللعب وال�سخرية‪ ،‬وتبدو ك�أنها ت�سبح يف الاليقني‪.‬‬ ‫ميكن اختبار العقل وال�ش ّك يف عقائده وال�سخرية من م�سكوكاته و‬
‫ويجد هذا التحول تف�سريه يف ظل التحوالت الكربى التي يعرفها جمتمعنا‬ ‫يقينياته‪ ،‬وا إلن�صات �إىل خطاب اجلنون‪ ،‬وممار�سة اللعب‪ ،‬والدخول‬
‫والعامل من حوله‪� .‬شيء ما بد� أ ينك�رس منذ �أوا�سط ال�سبعينات �أو �أواخرها‪،‬‬ ‫�إىل عامل االحتماالت واالفرتا�ضات‪ ،‬والنظر �إىل «احلقيقة» على‬
‫وتفجر يف الت�سعينات وبداية ا أللفية الثالثة‪� .‬ست�صاب االيدولوجيا‬ ‫�أنه م�شكوك يف �أمرها‪ ،‬و�أن كل �شيء ي�سبح يف ف�ضاء الاليقني‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبعبارة �أخرى‪ ،‬فالرواية يف جمموعها تقع بني الإ�شاعة واحلقيقة‪،‬‬
‫كما �ست�صاب ا ألن�ساق الفكرية والت�شييدات النظرية الكربى‪ .‬و�أ�ضحت‬
‫هناك �أزمة عامة تعرفها خطابات اليقني‪ ،‬وهناك عجز يف �صناعة‬ ‫بني الوهم واحلقيقة‪ ،‬بني الواقع واالفرتا�ض‪ .‬ويبدو ك�أن ا ألهم لي�س هو‬
‫البحث يف �صحة ما ي�شاع‪ ،‬بل البحث يف �أبعاده اال�ستعارية والرمزية‪،‬‬
‫ا ألمل واليوتوبيا‪ ،‬وهناك �أزمة تعي�شها املثل ال�سيا�سية‪ .‬ولن تكون هذه‬
‫وك�شف الوجه ا آلخر‪ ،‬امل�أ�ساوي‪ ،‬ل إلن�سان واملجتمع‪ ،‬يف زمن �شاعت فيه‬
‫التحوالت دون ت�أثري على ا ألدب‪ ،‬والروائي منه با ألخ�ص‪.‬‬
‫مت�س جوهر ا إلن�سان‪� :‬إن�سانيته‪ .‬فبرتكيزها‬
‫التحوالت وامل�سوخات التي ّ‬
‫يف الروايتني معا‪ ،‬يبدو ا ألمر ك�أن املعرفة معرفة ما يجري وما يقع يف‬
‫على حتول ا إلن�سان �إىل كائن قزمي‪ ،‬تطرح الرواية م�س�ألة الهوية‪ ،‬فهناك‬
‫املجتمع �أمر غري قابل ل إلدراك‪ ،‬ومل يعد ال�سارد ميتلك تلك ال�سلطة التي‬
‫عالقة وثيقة بني امل�سخ والهوية‪ ،‬ذلك ألن امل�سخ ي�ؤلف �شكل �إدراك‬
‫ت�سمح له بت�أليف حقيقة العامل‪ ،‬فالعامل �أ�ضحى �أكرث متنّـعا وانغالقا‬ ‫ومتثّل للقدر ال�شخ�صي ل إلن�سان يف �أكرث اللحظات ت�أزما من حياته‬
‫وا�ستحالة‪ ،‬ما يقع فيه هو �أ�شبه بالغرائب والعجائب‪� ،‬أ�شبه ب�شيء غري‬ ‫وحياة جمتمعه‪.‬‬
‫واقعي‪ ،‬م�ستحيل احلدوث‪ ،‬و�أقرب �إىل اجلنون‪ .‬وا ألدب الروائي يكت�سحه‬ ‫التنتمي روايات حممد عز الدين التازي �إىل هذه الن�صو�ص الروائية التي‬
‫ال�ش ّك وال�سخرية والاليقني‪ ،‬يحاول �أن ي�ستعيد مكانته داخل العوامل‬ ‫تكتفي بت�سجيل الواقع ون�سخه‪ ،‬بل تنتمي �إىل هذا النوع ا آلخر من ا ألدب‬
‫ا ألدبية والثقافية واملرجعية‪ ،‬بنوع جديد من االلتزام‪ ،‬لكن بعيدا عن‬ ‫ال�رسدي الذي يعترب فرانز كافكا من كتّابه الكبار يف الع�رص احلديث‪،‬‬
‫ا إليديولوجيات االحتوائية القاهرة واملحاوالت املثالية احلاملة التي‬ ‫وهو النوع الذي يعمد �إىل كتابة ما يف ذواتنا ووجودنا وعواملنا‬
‫هيمنت على ا ألدب يف عقود �سابقة‪ .‬وروايات عديدة �صدرت يف ال�سنوات‬ ‫النف�سية واالجتماعية من غرابة مقلقة‪ ،‬وذلك با�ستخدام الفانطا�ستيك‬
‫ا ألخرية لكتّاب من �أجيال خمتلفة‪� ،‬سابقة والحقة‪ ،‬تنحو هذا املنحى‬ ‫واالنفتاح على الالواقعي واملتخيل وا ألحالم واال�ستيهامات وتوظيف‬
‫اجلديد‪� ،‬أذكر منها رواية املخدوعون ألحمد املديني‪ ،‬وخطبة الوداع‬ ‫اال�ستعارة والرتميز ولعبة املرايا واملحاكاة ال�ساخرة وتعدد ا أل�صوات‬
‫لعبد احلي مودن‪ ،‬ومدارج الهبوط جللول القا�سمي‪ ،‬وعندما يبكي الرجال‬ ‫واملنظورات ال�رسدية‪...‬‬
‫لوفاء مليح‪...‬‬
‫يف روايات حممد عز الدين التازي‪ ،‬ال�شك نكون �أمام كتابة تقول واقعنا‬
‫وزماننا وم�صرينا‪ ،‬ولكن بطريقة الواقعية المعقولة ت�أكيدا على غرابة‬
‫�إحاالت‪:‬‬
‫مبارك ربيع‪� :‬أيام جبلية‪ ،‬مطبعة النجاح اجلديدة‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬املغرب‪،‬‬ ‫عما هو م�ألوف و�إن�ساين‪.‬‬
‫الواقع املرعبة املقلقة املتحولة ّ‬
‫‪.2003‬‬ ‫جيال‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫مغربيني‬ ‫لكاتبني‬ ‫الروائيني‬ ‫‪ -4‬انطالقا من هذين العملني‬
‫حممد عز الدين التازي‪ :‬دم الوعول‪ ،‬من�شورات �سليكي �إخوان‪ ،‬طنجة‪،‬‬ ‫القول‬ ‫ميكن‬ ‫والكتابة‪،‬‬ ‫نتاج‬ ‫ل‬
‫إ‬ ‫ا‬ ‫يف‬ ‫هامة‬ ‫جتربة‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬راكم كل منهما‬
‫�إن الرواية باملغرب ت�سري نحو خلق توازن بني خمتلف وظائفها اجلمالية املغرب‪.2005 ،‬‬
‫‪264‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫علوية �صبح‬
‫فـي «ا�سمه الغرام»‬
‫مفيـــد جنــــم‬
‫كاتب من �سورية‬
‫والقدرة على التعرف �إىل ال�شخ�صيات التي تكتب عن‬ ‫حتاول علوية ال�صبح يف روايتها اجلديدة «ا�سمه الغرام»‬
‫حيواتها وا إلجابة عن كل ا أل�سئلة املحرية حول اختفاء‬ ‫�أن تقيم ات�صالها بني روايتها اجلديدة وروايتيها‬
‫نهال و�أ�سبابه وقدرة الكتابة على اال�ستهداء �إىل احلياة‬ ‫ال�سابقتني على �أكرث من �صعيد �سواء على م�ستوى لعبة‬
‫التي عا�شتها‪.‬‬ ‫ال�رسد التي تفتتح بها روايتها حول اختفاء بطلة الرواية‬
‫ولكن �إذا كانت متعة احلكي هي التي قادت نهال يف‬ ‫نهال وظهورها املفاجئ ثم اختفائها والبحث عنها‪� ،‬أو‬
‫عامل الكالم ل�رسد حكاية غرامها ل�صديقتها �سعاد‪،‬‬ ‫من حيث ا إل�شارات التي ترد على ل�سان الراوية �إىل تلك‬
‫ف�إن الكتابة التي تبقى حمكومة بقوانينها الداخلية‬ ‫الروايتني و�شخ�صيات �أبطالها �ضمن تلك اللعبة التي‬
‫تظل ناق�صة عن متثل جميع جوانب حياة �شخ�صياتها‬ ‫تتعدد فيها �شخ�صيات الرواة يف حني تكون الكتابة‬
‫والتعرف عليها كاملة كما تقول نهال للكاتبة �أثناء‬ ‫و�سيلة ملقاومة املوت والن�سيان ما يجعل ال�رسد هنا‬
‫حوارهما املتخيل حول كتابة ق�صة حياتها حيث ترى‬ ‫مبثابة ذاكرة للحياة التي تعي�شها البطلة ومعها جمموعة‬
‫يف الكتابة عنها و�سيلة للتعرف على تلك احلياة التي‬ ‫من الن�ساء اللواتي ينتمني �إىل الطبقة املثقفة من املجتمع‬
‫عا�شتها من جديد �أي�ضا( �سمعت �صوتها ال�ساخر يقول‬ ‫ويع�شن �أ�شكاال خمتلفة من العالقة مع �أج�سادهن و�ضمنا‬
‫يل‪ :‬مني قلّك حتى لو عرفتيني وقت طويل حتعرفيني‬ ‫مع ا آلخر‪ /‬الرجل والغرام تعك�س ر�ؤى ومواقف متباينة‪.‬‬
‫بالكامل لتكتبي عني‪ .‬قومي اكتبي و�إنت وعم تكتبي رح‬ ‫ولعل عنوان الرواية مبا يحمله من دالالت تف�صح عن‬
‫ت�صريي ت�ستهدي وميكن بت�صريي تعرفيني وما تن�سي‬ ‫تلك العالقة من احلب التي تعي�شها املر�أة يف عالقتها مع‬
‫�إنه الكتابة داميا ناق�صة)�ص‪ .6‬وعلى الرغم مما تعانيه‬ ‫الرجل ي�شكل مفتاحا للدخول �إىل عامل الرواية الذي تنفرد‬
‫الكتابة من نق�صان ف�إنها متثل للكاتبة ولبطلة الرواية‬ ‫فيه املر�أة ببطولتها ومو�ضوعها يف حماولة ال�ستبطان‬
‫نهال حاجة وجودية تقاوم فيها موتها وتنقذ م�صريها‬ ‫ذلك العامل الرثي من الداخل والك�شف عن ت�أثري عالقات‬
‫من الن�سيان‪.‬‬ ‫الواقع االجتماعي عليه‪ ،‬وكيفية انخراط املر�أة فيه‬
‫والتعامل معه ما يجعل اجل�سد هو بطل الرواية احلقيقي املر� أة واجل�سد‬
‫يف جتلياته وتعبرياته وا�شرتاطاته وحتوالته وغرامه‪.‬‬
‫ا�سماء وحيوات كثرية ألكرث من ت�سع ن�ساء تتداخل م�صائرهن‬
‫و�أقدارهن وحيواتهن التي ت�ضيء جوانب خمتلفة من عامل‬ ‫بني الكتابة واحلكي‬
‫الن�ساء اخلا�ص ومن عالقتهن املتباينة يف معانيها‬ ‫ي�شكل عنوان الرواية الذي يت�ألف من جملة ا�سمية حذف‬
‫و�أ�شكالها مع �أج�سادهن‪ ،‬حيث ترتبط حيوات تلك ال�شخ�صيات‬ ‫مبتد�أها عالمة دالة فهو يختزل على م�ستوى بنيته‬
‫ويف مقدمتها �شخ�صية بطلة الرواية باجل�سد بو�صفه الف�ضاء‬ ‫الداللية حمتوى الرواية امل�شغولة مبقاربة تلك العالقة‬
‫ا ألنثوي اخلا�ص الذي تنفتح عليه تلك احليوات منذ بداية‬ ‫اخلا�صة التي تربط املر�أة مع ج�سدها منذ طفولتها‬
‫ظهور عالمات ا ألنوثة فيه مرورا بتفتحه ومنوه حتى اكتمال‬ ‫وحتى تفتحها ا ألنثوي و�شعورها باالجنذاب العاطفي‬
‫�شكله ا ألنثوي‪ ،‬حيث تتخذ تلك العالقة املحكومة مبحددات‬ ‫نحو الرجل والذي ا�سمه الغرام كما ت�سميه بطلة الرواية‬
‫اجتماعية وثقافية ووعي ذاتي �أ�شكاال ً متعددة من احلب‬ ‫يف و�صفها للحالة التي تعي�شها �صديقتها جتاه الرجل‪.‬‬
‫وال�شعور بغناه وجماله �إىل كره والنفور منه ب�سبب ال�سيما‬ ‫لكن الرواية تطرح منذ البداية ق�ضايا �أخرى تت�صل‬
‫من قبل الن�ساء التقليديات( حتِّريين عالقة البنات ب�أج�سادهن‪.‬‬ ‫مبو�ضوع الكتابة واحلكي والكتابة واملوت والكتابة‬
‫‪265‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ل�صديقتها �سعاد التي تعاين من م�شاكل كثرية مع زوجها الذي‬ ‫�أرى كيف يتعاملن معها‪ ،‬مرة ك�أنها �أكفان‪ ،‬ومرات ك�أنها‬
‫تزوجت منه من غري حب( ويل هيدا جوزك بعد بدو ي�سكرلك‬ ‫�أ�شياء ال تخ�صهن‪ ،‬تفر�ض عليهن فر�ضا منذ الوالدة‪ .‬يخفن‬
‫�رشايني قلبك‪ .‬م�ش عم مبزح قومي روحي حبي احلب بيفتح‬ ‫منها يف ا أليام العادية ويكرهنا وينفرن منها �أثناء العادة‬
‫�رشايني القلب ولك يا �أختي �إذا ع�شقت مرة بال�شهر بت�صريي‬ ‫ال�شهرية‪ .‬ت�صفها عمتي رقية بـ«عادة ال�ش�ؤم والبالوي‬
‫مثل احل�صان �إنت بتعريف �إنه الن�سوان ما ما بيختربوا �إال ملن‬ ‫وامل�صايب» وتنعتها �أمي بالنجا�سة) �ص ‪ .88‬لكن بطلة‬
‫قلنب ما بعود يح�س وما بعودوا يحبوا وال بيعملوا عالقة)‪.‬‬ ‫الرواية تظل �أكرث ال�شخ�صيات ا ألنثوية يف الرواية حبا فائقا‬
‫ي�أخذ الغرام يف هذه العالقة مع تقدم العمر معاين جديدة‬ ‫جل�سدها و�شعورا بقيمته ومواطنه اجلميلة نظرا لكونه جزءا‬
‫عند املر�أة يعك�س �شعورها بالن�ضوج والتعقل الذي ي�صاحبه‬ ‫من حياتها التي حتبها �أي�ضا‪ ،‬ما يدفعها ملنحه اهتمامها‬
‫حتول يف عالقتها به جتعل اجل�سد الذي م�سكونا باجلموح‬ ‫الدائم والت�صالح معه حتى يف احلاالت التي تندفع فيها‬
‫واجلنون يتخلى عن ت�سيده ووحدانيته كقطب تدور حوله‬ ‫وراء غريزتها( ج�سمي الذي �أحبه حبا هائال حبي حلياتي‪.‬‬
‫حياتها كلها ا ألمر الذي يجعل هذا الغرام يتخذ معنى ا ألن�س‬ ‫علي وعلى هاين حتى حني‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫كنت �ح�سب �نه نظيف وكرمي ّ‬
‫الرقيق كما ت�سميه نهال ل�صديقتها �سعاد( �إنه ا ألن�س يا �سعاد‬ ‫�أقمت عالقات عابرة مل �أ�شعر �أين امتهنته) �ص‪ .26‬لذلك فهي‬
‫ا ألن�س الرقيق يف الغرام ملا نتقدم يف العمر الذي يجعلك‬ ‫تتجاوز امل�شاكل التي تعاين منها املر�أة بعد دخولها �سن‬
‫ت�شفني ويفتح عينيك على دنيا اجل�سد ملا نتقدم يف العمر)‬ ‫الي�أ�س حيث تندفع وراء غرامها بعد جتدد عالقتها مع حبيب‬
‫�ص‪ .285‬وعلى خالف نهال يبدو �شقيقها الذي ميار�س عليها‬ ‫عمرها هاين بل هي ت�شعر بال�سعادة بالعمر الذي بلغته كما‬
‫�سلطته وقمعه منخرطا يف البحث عن لذته بحرية تامة حتى‬ ‫كانت �سعيدة به فيما م�ضى‪ .‬وال تختلف �صديقتها عزيزة يف‬
‫يف �أو�ساط الن�ساء املوم�سات ما يف�ضح واقع احلال الذي‬ ‫موقفها من العالقة مع اجل�سد عنها �إذ هي تربط بني معنى‬
‫يحكم عالقات هذا الواقع الذكوري وقيمه االجتماعية التي‬ ‫حياة املر�أة واالعرتاف بج�سدها وحمبته والعناية به‪ ،‬يف‬
‫جتعل الرجل رغم انتمائه ال�سيا�سي الذي يفرت�ض وجود وعي‬ ‫حني تتخذ العالقة مع اجل�سد عند �شخ�صيات �أخرى �أ�شكاال‬
‫مبعنى احلرية وامل�ساواة يفعل ما يريد يف الوقت الذي ميار�س‬ ‫خمتلفة �إما بفعل طبيعة ال�شخ�صية الباحثة عن اللذة واملال‬
‫رقابته وظلمه على �شقيقته بو�صفه حار�س القيم وا ألخالق‪.‬‬ ‫ك�شخ�صية( منى) �أو اخليبة يف العالقة مع الرجل مثال عزيزة‬
‫وتلعب املر� آة يف حياة نهال املغرومة بج�سدها دورا مهما‬ ‫�أو النزوع املثلي عند نادين وثريا‪.‬‬
‫على �صعيد تلك العالقة اجلدلية ودالالتها املرتبطة بعالقة‬ ‫يحول اختالف الدين بني زواج نهال من هاين لكن ذلك ال ينق�ص‬
‫هاين املغروم به حتى �أنه ال يرى يف تلك العالقة احلميمة‬ ‫من م�شاعر الغرام حتى بعد �أن يتزوج كل منهما �إذ جند نهال‬
‫�سواه ما يزيد يف �شدة �إعجابها واعنزازها به وتبجيله وهي‬ ‫على م�ستوى العالقة اجل�سدية مع زوجها تعي�ش انف�صاما‬
‫التي تعي�ش ا�صال عالقتها ا إليجابية جدا معه‪.‬‬ ‫ك�أن ج�سدها معه هو المر�أة �أخرى على خالف عالقته مع‬
‫يتميز الزمان يف الرواية بحركته احللزونية التي ت�سمح‬ ‫هاين الذي ميثل غرام حياتها( مل �أ�شعر ب�أين �أعطيه ج�سدي‪� ،‬أو‬
‫للكاتبة باحلركة واالنتقال بني �أزمنة خمتلفة‪ .‬وبغية‬ ‫�أنه ي�أخذ منه �شيئا‪ .‬كنت �أ�شعر ب�أنه يعرِّفني �إليه‪ ،‬كما �أعرّفه‬
‫ا إلقناع بواقعية �أحداثها ت�ستخدم يف كثري من موا�ضع ال�رسد‬ ‫�إىل ج�سده) �ص‪ .150‬ولعل هذا امل�ستوى من العالقة املميزة‬
‫التحديدات الزمنية مثل حرب متوز وربيع �سنة ‪ 2005‬كما‬ ‫بني نهال وج�سدها وبني ج�سدها وحالة الغرام التي تعي�شها‬
‫ت�ستخدم �أ�سماء �أمكنة واقعية يف بريوت واجلنوب‪ .‬تعاين لغة‬ ‫هي ما ت�شكل حمر�ضا ج�سديا للراوية يدفعه للتمرد عليها‬
‫الرواية من م�شكلة حقيقية فهذه اللغة التي تتوزع بني اللغة‬ ‫عندما ت�أخذ نهال باحلديث �إليها عن الغرام‪.‬‬
‫املحكية يف حوار �شخ�صياتها واللغة الف�صحي امل�ستخدمة يف‬
‫اجل�سد املغروم‬
‫ال�رسد احلكائي كانت حتتاج �إىل تدقيق ومراجعة ب�سبب كرثة‬
‫ا ألخطاء اللغوية والنحوية التي وقعت فيها والتي �أ�ساءت �إىل‬ ‫يعي�ش اجل�سد ا ألنثوي عند نهال �أجمل حلظات تدفقه وتوهجه‬
‫جماليات تلك اللغة التي رمبا كان من �أ�سباب عرثاتها يف‬ ‫وجنونه و�صدقه وكرمه يف حالة الغرام التي ال ميكن ف�صله‬
‫هذه الرواية رغبة الكاتبة يف تف�صيح اللغة العامية بهدف‬ ‫عنها ك�أن هذا الغرام قدره ومفتاح �أ�رساره وجماله ومعنى‬
‫جعل الرواية مقروءة من فئات اجتماعية خمتلفة‪� ،‬إال �أن ذلك‬ ‫وجوده لذلك فهي تهبه حياتها وجتعله معنى وجودها‪،‬‬
‫ال يربر تلك ا ألخطاء املتكررة خا�صة و�أن هذه الرواية هي‬ ‫بل هي حتث �صديقاتها عليه بو�صفه �شفاء للروح واجل�سد‬
‫جتربتها الرابعة يف الكتابة الروائية‪.‬‬ ‫وم�صدرا لل�شعور باحليوية والطاقة وال�سعادة كما تقول عزيزة‬
‫‪266‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يو�سف القعيد‬
‫فـي «ق�سمة الغرماء»‬
‫أ�مـــاين فــــ�ؤاد‬
‫كاتبة واكادميية من م�رص‬

‫و�أت�صور �أن النهاية التي ارت�ضاها الروائي لعمله ك�أنها‬ ‫يواجه الروائي «يو�سف القعيد» يف عمله ا ألخري «ق�سمة‬
‫للزمات‬ ‫حقنة بها مادة ملوثة‪ ،‬لعالقة جن�سية مرخية أ‬ ‫الغرماء» م�أ�ساة واقع املجتمع امل�رصي الراهن الذي‬
‫التي يعي�شها ال�شخو�ص الرئي�سية بالرواية‪� ،‬إنه نوع من‬ ‫يطبق بخناقة على كل امل�رصيني‪ ،‬وتنتهك �أظافره احلادة‬
‫اال�سرتخاء قبل االنفجارات التي يتنب�أ بها الروائي للمجتمع‬ ‫ال�شخ�صية امل�رصية وت�سفك دماءها‪ ،‬يف انحدار لكثري من‬
‫يف حالته الراهنة‪.‬‬ ‫قيم العدل والت�سامح واملحبة‪.‬‬
‫ولقد �سيطرت على هذه الرواية بنية الت�شتت واالنف�صال‬ ‫يناو�ش الكاتب امل�سكوت عنه‪ ،‬ويفجر عن طريق ال�رسد‬
‫والفرقة لتعرب عن ا ألو�ضاع املرتدية التي � آل �إليها حال‬ ‫خمزوناً تاريخياً من القهر والكبت ومعاناة الف�ساد‪ ،‬ير�صد‬
‫املجتمع امل�رصي‪ ،‬ولذا وظف الروائي �أدواته اجلمالية‬ ‫التوج�س واخلوف واحلرمان الذي يرقد يف قلب الذات‬
‫والفنية بداخل التكنيك ال�رسدي لتج�سد هذه احلالة‬ ‫امل�رصية امل�سلمة وامل�سيحية‪ ،‬كما ي�صور العداء واالنف�صال‬
‫من الت�شظي واالنف�صال والفرقة الكائنة بني عنا�رص‬ ‫الذي بات يحكم العالقة بينهما بعد التغريات والتحوالت‬
‫امل�رصيني‪.‬‬ ‫التي حدثت باملجتمع‪ ،‬منذ ارتفاع نربة اخلطاب التحري�ضي‬
‫تخري الروائي �أن يكون ال�رسد على ل�سان �أ�صوات متعددة‬ ‫الذي متار�سه اجلماعات امل�سلمة املت�شددة �ضد امل�سيحيني‪،‬‬
‫متداخلة‪ ،‬وم َّكن كل �صوت من �أن يعر�ض واقعه ور ؤ�يته‬ ‫ومنذ الت�صحر والبداوة وا إلفراغ املتعمد الذي مور�س على‬
‫للمور واحلقائق اجلارية بحياتهم‪ ،‬و�أحب �أن �أ�شري �إىل �أنه‬ ‫أ‬ ‫كيان ا إلن�سان امل�رصي بعد ثورة يوليو ‪1952‬م‪.‬‬
‫دائماً ما تزداد فكرة امل�س�ؤولية املجتمعية عمقاً فنياً‪ ،‬وثقالً‬ ‫وي�شري الكاتب يف هذه الرواية �إىل مفارقة �شديدة ال�سخرية‬
‫يف وعي املبدع‪� ،‬إذا ما اقرتنت ب�أداته اجلمالية‪.‬‬ ‫واملرارة متار�س تعرية كل القيود والعراقيل واملعوقات‪،‬‬
‫ولقد عربت ا أل�صوات عن وجهات نظر �أ�صحابها جتاه‬ ‫التي تر�سبت طبقة فوق �أخرى‪ ،‬حتى �أقامت �سدا ً بني‬
‫ق�ضايا املجتمع‪ ،‬يف �صورة حتمل قدرة الروائي‪ ،‬وجهاده‬ ‫عن�رصي تكوين هذا املجتمع‪ :‬امل�سيحيني وامل�سلمني‪،‬‬
‫املخل�ص؛ ليعرب عن كل طرف من طريف ال�رصاع الرئي�سي‬ ‫ويلوح ب�أنه حتت الطبيعة الف�سيولوجية وال�سيكولوجية‬
‫بهذه الرواية‪ ،‬امل�رصي امل�سيحي‪ ،‬وامل�رصي امل�سلم‪ ،‬كل‬ ‫للنوع الب�رشي الواحد‪ ،‬وا أل�صل ا إلن�ساين املتوحد بغرائزه‬
‫منهما بتحوالته التي طر�أت مبجتمعه‪ ،‬وجعلتهم جميعاً‬ ‫وحاجاته‪ ،‬قبل ا ألديان والت�صنيفات وا ألعراف والتقاليد‪،‬‬
‫�شخو�صاً متطورة على م�ستوى فنية الرواية‪ ،‬هي �شخو�ص‬ ‫تنهار كل هذه ال�سدود املجتمعية العامة‪ ،‬واملحاذير الذاتية‬
‫متطورة لي�س بذواتها وقدرتها على الفعل وت�سيري ا ألمور‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬ويبقى ا إلن�سان يف عوز �إىل ا إلن�سان رجالً كان‬
‫وفق ر ؤ�يتها‪ ،‬لكن ب�سريها بقوة دفع خارجية‪ ،‬ت�سيطر على‬ ‫�أو امر�أة‪ ،‬م�سيحياً �أو م�سلماً‪� ،‬صغريا ً �أو كبرياً‪� .‬ش َّكل الروائي‬
‫املجتمع من عنا�رص لها قدرة الت�أثري يف ا آلخرين‪ ،‬بثقل‬ ‫ذلك من خالل عالقة ج�سدية خارجة على كل ا ألعراف‬
‫�أماكنهم ال�سلطوية‪� ،‬أو قدراتهم االقت�صادية‪� ،‬أو قدراتهم‬ ‫التي جهدت ا ألديان والتقاليد يف و�ضعها‪ ،‬عالقة هروب‬
‫على �إلغاء العقول‪ ،‬حتت تعامل قا�رص وبدائي مع مفهوم‬ ‫�إىل اجلن�س �أنهى بها الكاتب عمله‪ ،‬يف �رصخة منذرة ت�شهد‬
‫ا ألديان‪.‬‬ ‫الوقوع يف هاوية اجلن�س الفو�ضوي‪ ،‬الذي تنهدم فيه كل‬
‫وللروائي «يو�سف القعيد» عبقرية الك�شف واملواجهة‪،‬‬ ‫�أ�شكال التوافق واالت�ساق واملالءمة بني طرفيه‪ ،‬وتبقى به‬
‫له قدرته على اجلهر بالر�أي والدفاع عنه واال�ستم�ساك‬ ‫فقط حماولة هزمية الفقر والو�ضع االقت�صادي املرتدي‬
‫باملواقف‪ ،‬قدرته على تعرية امل�سكوت عنه و�شجاعة طرح‬ ‫ب�شكل مز ٍر‪ ،‬هزمية امل�صائب والعوز وا ألحزان واحلاجات‬
‫احلقائق‪.‬‬ ‫الب�رشية التي ال �سبيل لتحقيقها يف �صورها الطبيعية‪.‬‬
‫‪267‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تر�صد التناق�ضات بني حياته التي يعي�شها كالطريد وبني كل‬ ‫ودعنا ا آلن من بع�ض امل�شكالت الفنية العار�ضة التي �شابت‬
‫املظاهر االجتماعية املطرفة حوله يقول عنه �إكرامي‪« :‬مل‬ ‫�أفقية ال�رسد‪ ،‬والتي �س�أ�شري �إليها يف حينها �إال �أن للروائي‬
‫ي�ستطع ماجد �إخفاء ده�شته‪ .‬بلع ريقه �أكرث من مرة‪ .‬وجعل‬ ‫قدرة �صياغة مناذج ب�رشية ذات امتدادات و�أعماق تاريخية‬
‫التحديق عينه �أكرب ما يف وجهه‪ .‬و�أذناه طالتا‪ .‬كان يقاوم‬ ‫ونف�سية على درجة كبرية من الن�ضج الفني‪ ،‬ولقد وظف‬
‫االهتمام‪ ،‬ولكنه مل يقدر «(�ص‪ ،)33‬وتقول مهرة عن ماجد‪:‬‬ ‫الكاتب ال�رسد اخلا�ص بكل منوذج ب�رشي ليكر�س وي�ؤكد على‬
‫يف‪� .‬أدرك عمق النظرات‬ ‫«تركز كيانه يف عينني حتدقان َّ‬ ‫هذه االنف�صالية التي باتت �سمة لواقع احلياة باملجتمع‬
‫هروباً من اللحظة املفاجئة»(�ص‪ ،)234‬نلمح هنا التطلع‬ ‫امل�رصي‪.‬‬
‫ور�صد املتناق�ضات وحماولة الهروب �إىل اللذة احل�سية‪.‬‬ ‫ال�شخو�ص وتنوع ال�سرد‬
‫كما ي�ضيق ماجد با ألبواب وت�شكل له قلقاً من نوع خا�ص‪،‬‬
‫و�أت�صور يف ذلك داللة على عدم ثقته يف املجهول و�شعور‬ ‫عدّ يو�سف القعيد �شخ�صية ماجد بطالً رئي�سياً للعمل الرئي�سي‬
‫باخلوف يتملكه من كل ما ميثل نوعاً من الغمو�ض‪ ،‬يقول‬ ‫بالرغم من �أنه �شخ�صية مفعول بها ولي�ست فاعالً‪ ،‬و�أت�صور‬
‫ماجد‪...»:‬ماذا جرى للنا�س ؟! يف البلد التي جئت منه‪ ،‬تظل‬ ‫�أنه قد وفق يف هذا االختيار‪:‬‬
‫�أبواب ال�شقق مفتوحة طوال النهار وجزءا ً من الليل �صحيح �أن‬ ‫�أوالً‪ :‬ألنه ميثل امل�ستقبل‪ ،‬الذي ي�ضع عليه الروائي عينيه؛‬
‫�أمي تقول دائماً �إن الباب املغلق يرد القدر امل�ستعجل‪ ،‬ولكن‬ ‫لريى من خالله املجتمع وكيف ميكن �أن تتطور ا ألو�ضاع به‪،‬‬
‫مل يعي�ش النا�س وراء كل هذه ا ألبواب املغلقة ؟» (�ص‪،)39‬‬ ‫فمن خالله ي�صوغ نظرة ا�ست�رشافية م�ستقبلية‪.‬‬
‫وتتعدد ا إل�شارة يف الرواية عن �ضيقه با ألبواب يف موا�ضع‬ ‫ثانياً‪ -:‬ألنه الطرف الذي يقع عليه �أعباء وتبعات �أخطاء‬
‫متعددة منها بيت �إكرامي ومهرة‪.‬‬ ‫كثرية حدثت بهذا املجتمع‪ ،‬كما مثل جوهر ال�رصاع بهذا‬
‫ومن املفرت�ض �أن «ماجد» �أحد العنا�رص ال�شابة اجلادة‬ ‫العمل‪ .‬امل�سيحي ال�شاب الذي �أحاطته ال�ضغوط املجتمعية‬
‫املتفوقة‪ ،‬وبالرغم من ذلك ميار�س املجتمع طرده له‪ ،‬فهو‬ ‫والنف�سية من كل اجلوانب‪.‬‬
‫�شاب متفوق يف كلية الهند�سة‪ ،‬ميكن �أن ينبئ مب�ستقبل المع‬ ‫فحني يجتمع لل�شخ�صية �إنتما ؤ�ها ألقلية مهم�شة‪ ،‬والفقر‬
‫وبرغم هذا يعي�ش كالطريد املراقب الذي يبقى منتهى �أمله‬ ‫والعوز واجلوع‪ ،‬وي�سيطر ال�ضياع نتيجة تخلي ا ألب «عبود»‬
‫الهجرة من هذا املجتمع ل�شعوره ب�أنه كيان م�ضطهد‪ ،‬ميار�س‬ ‫عنه وعن �أمه «مرام» وهجرته �إىل اخلارج دون �أن يعرف‬
‫�ضده النفور واال�ستعالء عليه‪.‬‬ ‫�شيئاً عنه‪ ،‬حني يفتقد كل ما ميثله الوطن والبيت من الدفء‬
‫ويبربع الروائي يف ت�شكيل �شخو�صه الورقية‪ ،‬لي�س من خالل‬ ‫وا ألمان واخل�صو�صية‪ ،‬وحني يرى يف كليته وبني �أ�صدقائه‬
‫و�صفه للمالمح اخلارحية واالعتناء بكل التفا�صيل ال�شكلية‬ ‫ويف املجتمع من حوله كل املغريات وو�سائل الرتف التي‬
‫�إال ما ي�أتي عر�ضاً‪ ،‬ولي�س من خالل تربُّعه املجاين بو�صف‬ ‫يفتقدها‪ ،‬ي�صبح منتهى �أمله م�شاهدة فيلم «�سك�س» يهرب‬
‫املالمح النف�سية وتدخله بت�شكيلها ق�رساً‪ ،‬لكنه ينرث نتفاً‬ ‫فيه من عامل ال ي�أمن فيه يومه �أو غده يراهن على اللحظة‬
‫ت�صويرية بني ثنايا ال�رسد منها يدرك املتلقي ما حتمله هذه‬ ‫املعي�شة فقط والتي يقتن�ص فيها �أية متعة حتى و�إن ات�سمت‬
‫االنطباعات التي تديل بها ال�شخو�ص وحتكيها عن نف�سها‪،‬‬ ‫بالعبثية‪.‬‬
‫�أو من خالل ا ألو�صاف التي تعلق بها بع�ض ال�شخو�ص على‬ ‫ولقد مثلت «مرام» والدة ماجد ال�سند الوحيد له يقول‪« :‬نحن‬
‫فعل ا آلخرين‪ ،‬ويتكرر ذلك مع �أ�صوات الرواية جميعها مثل‬ ‫متال�صقان ووحيدان‪ ،‬ال �أحد لها �سواي وال �سند يل غريها‪»..‬‬
‫ت�صوير الروائي ملاجد ب�أنه �أ�صبح عينني كبريين �أو كراهيته‬ ‫(�ص‪ )7‬وبرغم الهزة العنيفة التي ا�صابت �شخ�صيتها �إال �أنها‬
‫للبواب‪� ،‬أو افتنان مهرة باملرايا‪ ،‬ومن �ش�أن هذه التقنية دفع‬ ‫أ‬ ‫متا�سكت من �أجله‪.‬‬
‫املتلقي �إىل تخليق هذه النماذج مع الروائي‪ ،‬ومعاي�شته لها‬ ‫يقول ماجد «‪..‬الغريب �أنني �ضبطت نف�سي �أنفذ ما تقوله برغم‬
‫بغمو�ض �شفيف حمبب‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وت�شكيل مالحمها ال�شكلية والنف�سية‬ ‫عدم اقتناعي به‪�(».‬ص‪)12‬‬
‫وللكاتب مهارة غم�س الكائنات الروائية يف نخاع الواقع‬ ‫ج�سد الروائي «ماجد» �شخ�صية ي�ضيق بها حا�رضها وتهرب‬
‫وتفا�صيله ال�صغرية‪ ،‬مهارة ر�صد عالقة ال�شخو�ص با أل�شياء‬ ‫هي منه‪ ،‬كما �أنها التعرف لها م�ستقبالً �سوى �أوهام تتك�شف‬
‫والظواهر البيئية فيما حولهم‪ ،‬فهو يتعامل مع الكائن باحلياة‬ ‫ا ألحداث عن ا�ستحالتها‪.‬‬
‫دون االرتقاء ب�شخو�صه ملا فوق الواقع‪ ،‬ير�صد تناق�ضاتهم‪،‬‬ ‫يخرج ماجد عن هذا الطوق الذي �أحاطته به �أمه ويتحول‬
‫حلظات ال�ضعف والقوة‪ ،‬غرائزهم‪ ،‬فبقدر ما ي�صور �أحالم‬ ‫كيانه يف مرحلة ال�شباب التي يعي�شها �إىل عينني كبريتني‬
‫‪268‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف عمله‪ ،‬عن طريق اجلوامع من حوله‪ ،‬وكل من يحيطون به‬ ‫ماجد يف الهجرة �إىل �أبيه‪ ،‬وانتظار تخرجه لي�صبح مهند�ساً‬
‫يف مدينته ب�أ�سيوط‪ ،‬ثم يقرر الهجرة �أوالً �إىل القاهرة‪ ،‬ثم �إىل‬ ‫قادرا ً على �إعالة نف�سه ووالدته‪ ،‬يحكي عن لهفته و�إ�رصاره‬
‫خارج البالد متاماً‪.‬‬ ‫على ر ؤ�ية �رشيط فيلم «ال�سك�س»‪ ،‬وماله من داللة رمزية‬
‫تبدو �شخ�صية عبود كما ين�سج مالحمها الروائي‪� ،‬شخ�صية‬ ‫عن رغبته يف التلهي عن واقعه‪ ،‬وي�أ�سه من كل ما حوله‪� .‬إن‬
‫طموحة ال تنتهي طموحاتها ب�سقف حمدد‪ ،‬و�صويل‪ ،‬ونفعي‬ ‫ر�صد وت�سجيل هذه اللحظات املرتددة والبينية بني ا ألقطاب‬
‫التوجهات‪ ،‬ن�ست�شف ذلك من �أحالمه التي �ضاق فيها بزواجه‬ ‫�أو الثنائيات املختلفة واملتناق�ضة �أو املتجاورة بالنف�س‬
‫املبكر من «مرام» ومتنيه لو كان قد تزوج بابنة �صاحب‬ ‫الب�رشية‪ ،‬هي ما مييز براعة الروائي‪ ،‬فامل�شاهد ا ألخرية يف‬
‫ال�رشكة‪ ،‬ثم وفاته مبر�ض خبيث ويرث هو كل هذا الكيان‪�(»..‬ص‬ ‫الرواية التي عنونها الروائي مبهرة ثم ماجد وطريقة تقطيع‬
‫‪.)141.140‬‬ ‫الن�ص التي تعرب على �أنه يف �أ�شد اللحظات الت�صاقاً وحميمية‬
‫يبدو �أي�ضاً من خالل �ضيقه بزوجته‪ .‬بعد عدم �إجنابها لطفله‬ ‫هناك انف�صاالً وتوترا ً والتي تراوحت ك�أنها كامريا تر�صد‬
‫تكون اختاً ملاجد‪� ،‬أطماعه يف مهرة‪ ،‬عدم اكرتاثه ب�أ�رسته‬ ‫خطني متوازيني ماجد ثم مهرة وتنتقل بينهما يف حركتني‬
‫وهجرته دونهما وتركهم دون ت�أمني حقيقي (�ص‪،)152‬‬ ‫متالزمتني ر ؤ�ية خارجية �شاملة للم�شهد‪ ،‬ثم عد�سة «‪»Clos‬‬
‫وبرغم اعرتا�ضه ومناق�شته للمثل القائل‪�« :‬إن جالك الطوفان‬ ‫تنفذ �إىل داخل كل منهما وتردداته‪ ،‬بني رغباته اجلاحمة‪،‬‬
‫حط ابنك حتت رجليك» �إال �إنه ي�صنع ذات ال�صنيع‪ ،‬با إل�ضافة‬ ‫وما ميكن �أن يكون بالفعل‪ ،‬تر�صد يف منولوج داخلي كل‬
‫ج�سده الروائي‬ ‫�إىل �أنانية عبود ومتحوره حول ذاته‪ ،‬وقد َّ‬ ‫العوائق القائمة بينهما‪ ،‬من كونها م�سلمة وهو م�سيحي‪ ،‬من‬
‫غري متدين بطبعه‪ ،‬جل�أ �إىل الكني�سة حني جل�أ طلباً للمان‬
‫أ‬ ‫كونها يف �سن �أمه تقريباً‪ ،‬كما تر�صد الرغبات امل�شتعلة يف‬
‫وامل�ساعدة‪ ،‬الكني�سة التي مل يبدو موقفها قوياً مع �أفرادها‪.‬‬ ‫كل منهما‪.‬‬
‫من خالل �شخ�صية عبود امل�رصي امل�سيحي يواجه الروائي‬ ‫ويف ظل الظروف املحيطة مباجد من الطبيعي �أن تفتقد‬
‫كثريا ً من ا ألفكار واالدعاءات واحلقائق التي ت�صدر عن بع�ض‬ ‫للمور لذا ت�أتي ت�رصفاته و�أفعاله‬ ‫ال�شخ�صية الر ؤ�ية العميقة أ‬
‫التوجهات ا إل�سالمية ا أل�صولية املغالية‪ ،‬وال يخ�شى الكاتب‬ ‫بعيدة عن املنطق �أو املعقول فبعد العالقة اجلن�سية ال�ساخنة‬
‫الدفاع عن امل�ضطهدين‪ ،‬وتعرية ما يحتاج �إىل �إعادة الغربلة‬ ‫بينه ومهرة‪ ،‬يقول �ضارباً عر�ض احلائط بكل االعتبارات‪:‬‬
‫يف عقيدة امل�سلمني‪.‬‬ ‫للبد‪� .‬سيطلب منها كتابه ك�شف ح�ساب‬ ‫«قرر البقاء هنا أ‬
‫يقول عبود عن امل�سلمني «‪...‬امتنعوا عن العمل وقت ال�صالة‪،‬‬ ‫مبا �أنفقته عليه حتى ينجح‪..‬ويتحول من �ضيف �إىل رب‬
‫مع �أنني �أ�سمعهم يقولون �إن دينهم يعترب العمل عبادة‪ .‬ما �أكرث‬ ‫�أ�رسة»(‪.)270‬‬
‫ما يقولون‪ .‬هل يف حياتهم �سوى الكالم‪�(»..‬ص‪� )144‬أو قوله‪:‬‬ ‫ثم ال يلبث �أن ت�سيطر �أمه واملبلغ الذي كان من املفرت�ض‬
‫«�إطالق اللحية قذارة»(�ص‪� )147‬أو «نوم الظامل عبادة»‪.‬‬ ‫�أن يت�سلمه من مهرة على واقعه بعد خفوت النزوة‪ ،‬يقول‬
‫ويتمتع الروائي بحيدة حمببة‪ ،‬ففي املواقع التي ت�أخذ على‬ ‫الروائي‪« :‬كب�س عليه ذهول عندما اكت�شف �أنه ن�سى مو�ضوع‬
‫�أي طرف من طريف ال�رصاع‪ ،‬وال تخ�ضع ا ألمور حينها �إىل‬ ‫املبلغ‪ ،‬حاول منع خياله من الت�سلل �إىل تذكر �أمه‪ ،‬وحاول‬
‫العدل ي�سلط عليها ال�ضوء في�شري يف (�ص‪� )146‬إىل �صفقات‬ ‫�أن‪�(»..‬ص‪� ،)271‬إن هذا التقطيع واالنتقاالت املتوازية‪،‬‬
‫ا ألمر املبا�رش من املعونة ا ألمريكية لبع�ض ال�رشكات التي‬ ‫ومراوحة ال�رسد بني الديالوج واملونولوج جت�سد هذا الرتدد‬
‫ميتلكها امل�سيحيون‪ .‬فمن خالل ال�شخو�ص يعر�ض للحقائق‬ ‫اخلارجي بني ال�شخو�ص‪ ،‬كما تر�صد الرتدد الداخلي يف‬
‫احلياتية بني طريف ال�رصاع التي تكر�س وت�أجج االنف�صال‬ ‫ذواتهم‪.‬‬
‫ولي�س الدمج بينهما‪.‬‬ ‫‪ -‬فجر ا ألزمة بهذه الرواية ما حدث مع «عبود جرج�س» حني‬
‫وي�شري الروائي بذكاء فني من خالل �شخو�ص العمل �إىل‬ ‫حورب من جهة عمله من بع�ض العنا�رص امل�سلمة لتفوقه‬
‫ظاهرة خطرية تكر�س لهذه االنف�صاالت التي حتدث بني طريف‬ ‫يف عمله و توليه للمن�صب الثاين يف ال�رشكة التي ميتلكها‬
‫التكوين الن�سيجي لهذا املجتمع‪ ،‬وهي ظاهرة ال�سيا�سات‬ ‫م�سيحي‪ ،‬لكن �أغلبية العاملني بها م�سلمون‪ ،‬ويجابه «عبود»‬
‫احلكومية املائعة‪ ،‬ق�صرية النظر‪ ،‬التي تن�ساق وراء م�سايرة‬ ‫مبو�ضوع ال والية مل�سيحي على م�سلم‪« :‬هكذا �أمرنا ا إل�سالم»‬
‫الطرف الذي ميثل الغلبة يف هذا املجتمع‪ ،‬والر�ضوخ له‪.‬‬ ‫كنت املق�صود باخلطابات‪�(.‬ص‪.)141‬‬
‫فمهمة النخبة �أو ال�سلطة يف �أي جمتمع توعيته وقيادته‪،‬‬ ‫يتعر�ض عبود للتهديد‪ ،‬والرتويع بال�رضب‪ ،‬ثم التهديد بخطف‬
‫ال االن�سياق وراء العامة وا ألغلبية بانتزاع ا إلعجاب �أو‬ ‫ابنه وزوجته‪� ،‬أو قذف وجهها مباء النار �أو بقتله‪ ،‬ثم يحا�رص‬
‫‪269‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بهم‪ ،‬يقول ماجد معلقاً على حكي �أمه ووقوفها �أمام حمل‬ ‫املهادنة‪ ،‬وبقاء الو�ضع على ما هو عليه‪ ،‬دون معاجلة‬
‫لبيع «حلوم اخلنازير»‪..« :‬كنت �أريد �أن �أتركها حتكي لعلها‬ ‫حقيقية للم�شكالت بني الطرفني‪ ،‬تلك النخبة �أو ال�سلطة التي‬
‫ت�سرتيح‪ ،‬ويف الوقت نف�سه �أفكر يف االن�رصاف‪ .‬رمبا كان‬ ‫مل َتتً َخ َّل عن تراثها ال�شمويل‪ ،‬ومل تكف عن مهادنة الفكر‬
‫الوقوف طويالً �أمام املحل خطراً‪ ،‬ويلفت نظر النا�س‪ .‬خيَّل‬ ‫الغوغائي غري املعتدل‪ ،‬ا�ستطاع الروائي �أن ي�صور هذا من‬
‫�إليه �أن املحل رمبا يكون حتت احلرا�سة‪�(»..‬ص‪ ،)25‬ي�صور‬ ‫خالل �شخ�صية �ضابط الوحدة ب�أ�سيوط الذي �صورته مرام‬
‫الكاتب ح�سا�سية امل�سيحي لكل ت�رصف وتوج�سه من رد فعل‬ ‫بك�أنه عامل اجتماع‪ ،‬والذي ن�صحهم باالبتعاد والهجرة عن‬
‫ا أل�صوليني امل�سلمني‪.‬‬ ‫موطن النزاع‪ ،‬دون �أن يقدم حالً جذرياً‪� ،‬أو رغبته يف مواجهة‬
‫أ‬
‫يقول «م�صطفى» زوج «مهرة» ال�سابق‪ ،‬و�حد �ضباط ال�سلطة‪،‬‬ ‫الطرف ا ألكرث عددا ً �أو ت�أثريا ً �أو قوة‪.‬‬
‫تعليقاً على زيارة مهرة له تطلب م�ساعدته‪« :‬لو كنت يف‬ ‫متثل هذا �أي�ضاً يف موقف الكني�سة الداعي �إىل عدم املواجهة‪،‬‬
‫اخلدمة ألبلغت عنها‪ ،‬ولكن اجلهات اجلديدة التي �أت�أهب‬ ‫�أو ال�صمت جتاه ما يتعر�ض له �أفرادها‪ ،‬هذا املوقف النكو�صي‬
‫للعمل معها �أكرث حر�صاً على البلد‪ ،‬وهم الذين �سيقومون‬ ‫الذي عمل به امل�سيحيون‪� ،‬أو فر�ض عليهم مع التاريخ‪ ،‬والذي‬
‫بعمل الالزم جتاهها‪)219(»..‬‬ ‫ال يت�صف با إليجابية �أو املحافظة على حقوق املواطنة‬
‫ي�ؤثر هذا الطق�س االرتيابي على العالقات بني ا أل�شخا�ص‪،‬‬ ‫العادلة يف هذا الوطن‪.‬‬
‫فيفتقدون معاين �إن�سانية �شديدة ال�سمو مثل ا ألمان والثقة يف‬ ‫ولذا يربر موقف الدولة‪ ،‬والكني�سة‪ ،‬ونخب املواجهة‪ ،‬اختيار‬
‫ا آلخرين‪ ،‬مثل التعاطف وم�ساعدة الغري‪ ،‬فتت�صدع العالقات‬ ‫عبود لهذا املجهول اخلارجي الذي ر�أى فيه ملج�أ ومنقذا ً له‪،‬‬
‫وتتحول �إىل �أ�سباب قلق ا إلن�سان‪ ،‬وحتوله �إىل احليوانية‬ ‫برغم �إبهامه وق�سوته‪ ،‬فهي مقامرة اختارها هروباً من حقوقه‬
‫وعالقات الغابة وت�ؤجج لالنف�صال بني اجلميع‪.‬‬ ‫امل�سلوبة‪ ،‬وحياته وحياة �أ�رسته املهددة بهذا املجتمع‪.‬‬
‫يقول �إكرامي �صديق ماجد‪« :‬كان الوقت الذي ق�ضيته مع‬ ‫و�أت�صور �أن ال�رصاع بهذه الرواية كان �سيزداد احتداماً لو‬
‫ماجد ق�صرياً‪ ،‬ق�ضيناه معاً يف حماوالت مثقلة بالتواط�ؤ‬ ‫�أن الروائي �أ�شار �إىل جمموعات املتطرفني امل�سيحيني‪،‬‬
‫والت� آمر‪ .‬فهذا جزء من نف�سية من هم يف مثل �سننا و�سلوكهم‪.‬‬ ‫واملواجهات التي حتدث باملجتمع امل�رصي بالفعل‪ ،‬فكما‬
‫حتى ا ألمور التي من حقنا ممار�ستها علناً و�أمام اجلميع‪،‬‬ ‫يوجد تطرف يف معتنقي ا إل�سالم‪ ،‬يوجد �أي�ضاً يف معتنقي‬
‫جند �سعادة خا�صة يف االختباء بها عن ا ألعني ونحن‬ ‫امل�سيحية تطرف م�سيحي يعد رد فعل ملا عاناه امل�سيحيون‬
‫منار�سها»‪�(.‬ص‪.)34‬‬ ‫يف تاريخ احل�ضارة العربية‪ ،‬حتى �إن كتب التاريخ تذكر �أن‬
‫أ‬
‫وتبدو ق�ضية افتقاد احلرية حتى على امل�ستوى ال�رسي م�ؤثرا ً‬ ‫املوايل برغم دخولهم ا إل�سالم كانوا يدفعون اجلزية تعنتاً من‬
‫فعاالً يف تكوين مناذج ب�رشية مراوغة‪ ،‬هاربة من املواجهة‪،‬‬ ‫القائمني على ا ألمر من امل�سلمني‪.‬‬
‫�أو الت�رصيح برغباتها وعي�شها يف و�ضع �صحي غري مالئم‪.‬‬ ‫ولذا يبدو اخلوف �أي�ضاً بطالً من �أبطال هذا العمل الروائي‪،‬‬
‫وين�ضغط زمن الق�صة الفعلي يف يومني لذا ت�أتي حتوالت‬ ‫اخلوف امل�سيطر على جميع ال�شخو�ص بالعمل كل منهم يقع‬
‫ال�شخو�ص من خالل �أ�صواتهم و�رسدهم اال�سرتجاعي‬ ‫حتت طائلته ب�أ�شكال متباينة‪ ،‬ومن املفارقات ال�ساخرة �أنه‬
‫عن ذواتهم‪� ،‬أو من خالل ا أل�صوات ا ألخرى وهي حتكي‬ ‫يف دولة تتحكم بها منظومة �أمنية �شديدة الوط�أة تفرز هذه‬
‫انطباعاتها عن ا آلخرين‪ ،‬هذا االنف�صال التداخلي الذي ي�ؤديه‬ ‫النماذج التي ت�شعر �أن هناك من يتل�ص�ص عليها‪ ،‬وينتظر �أقل‬
‫ماجد وعبود ومرام وم�صطفى ومهرة هو حتمي فر�ضته‬ ‫ا إل�شارات ال�صادرة عنها َعرَ�ضاً للق�ضاء عليها وا إلطاحة بها‪،‬‬
‫�أحوال املجتمع امل�رصي املحتقن دينياً‪ ،‬كما فر�ضت التداخل‬ ‫وال يختلف يف هذا ا ألمر امل�سلم �أو امل�سيحي لكن االختالف‬
‫وحدة ا ألر�ض والتاريخ والهواية‪.‬‬ ‫يقع يف الدرجة فقط‪ ،‬بد� أ اخلوف يف هذه الرواية وك�أنه كيان‬
‫وتت�أرجح �شخ�صية مهرة بني �شخ�صية ورقية واقعية‪ ،‬وبني‬ ‫جم�سد نتيجة وط�أة وجوده يف �أجواء العمل‪.‬‬ ‫مادي ّ‬ ‫ً‬
‫كونها رمزا ً �شفيفاً ي�سقطه الروائي على «م�رص» من خالل‬ ‫عند قراءتي للعمل بدت بع�ض الفقرات وك�أن �سطورها‬
‫�رسد يقرتب من الفانتازيا يف �سبعة مقاطع على ل�سان‬ ‫ترتع�ش و�أن هناك نب�ضاً يت�سارع‪ ،‬وبت�شكك يف كل من حوله‪،‬‬
‫«اجلرنال عفارم»‪.‬‬ ‫وعددت ذلك من توفيق الروائي يف اختيار �أ�سلوبه وتقنياته‪،‬‬
‫ي�ش َّكل املبدع «مهرة» فنانة اعتزلت الفن واجتهت �إىل‬ ‫لتبيان تلك احلالة املرعبة التي بات عليها ال�شخو�ص يف هذا‬
‫احلجاب واالعتكاف يف بيتها‪� ،‬ش�أن هذه الظاهرة التي‬ ‫املجتمع‪ ،‬حتى �إنه يف �أب�سط املظاهر واملمار�سات احلياتية‬
‫تكررت يف املجتمع امل�رصي‪ ،‬حني علت ا أل�صوات ا أل�صولية‬ ‫احلرة‪ ،‬هناك توج�س من ال�شخو�ص من كل املحيطني‬
‫‪270‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وال�رشيط الذي �أيقظ بداخلها كل الرغبات اجلن�سية التي �سبق‬ ‫بتحرمي الفنون‪ ،‬وعمل املر�أة بكل �صوره‪ ،‬ومن خالل حكي‬
‫�أن عا�شتها مع زوجها ال�سابق م�صطفى‪ ،‬وغريه من الرجال‪.‬‬ ‫ا�سرتجاعي يف حلظة مواجهة مهرة لنف�سها وما � آلت �إليه‬
‫يف ذروة �أزمة مهرة بعد �أن قررت الذهاب مل�صطفى لطلب‬ ‫حياتها‪ ،‬يعر�ض الروائي تاريخ ال�شخ�صية وحتوالتها‬
‫العون منه وهي يف �رشفة منزلها‪ ،‬وحني ارتداء مالب�سها‪،‬‬ ‫ليعطي منوذجاً ل�شخ�صية متطورة‪ ،‬فتاة جميلة �صعيدية لها‬
‫ويف الطريق �إليه‪ ،‬تتداعى يف ذاكرتها ا ألحداث التي عا�شتها‬ ‫طموحات بارتفاع ال�سماء تنتقل �إىل القاهرة لتعمل مذيعة ثم‬
‫وجعلتها متر بتلك التحوالت يف م�شاهد مقطعة بطريقة‬ ‫ممثلة وفنانة ا�ستعرا�ضية‪ ،‬وتنال ال�شهرة وا إلعجاب‪ ،‬نرج�سية‬
‫�سينمائية متوازية ت�ضفي احلركية والرثاء على الن�ص‪.‬‬ ‫الهوى تع�شق ذاتها وجمالها وت�أثريها على ا آلخرين‪ ،‬ترف�ض‬
‫تقع مهرة فري�سة حلاجتها ورغبتها‪ ،‬وتغيرّ م�صطفى‪ ،‬وفكره‬ ‫الزواج والقيود لتتفرغ لذاتها وفنها‪ ،‬ثم تقع يف حبال‬
‫الذي حتول بعد ان�ضمامه لهذه اجلماعات املتطرفة من‬ ‫االرتباط ب�أحد �ضباط احلي�ش «م�صطفى»‪ -‬ولنا هنا �أن‬
‫امل�سلمني‪ ،‬فتجد ذاتها منغم�سة يف عالقة جن�سية حمرمة‪،‬‬ ‫نالحظ هذا ا إل�سقاط‪ -‬وترف�ض ا إلجناب منه لرغبتها يف‬
‫وغري الئقة‪ ،‬وتنذر بدمار حتمي‪.‬‬ ‫املحافظة على ج�سدها وجمالها ولرف�ضها للقيود‪ ،‬ثم تنف�صل‬
‫تعد �شخ�صية «مهرة» منوذجاً لل�شخو�ص املتطورة ا إليجابية‬ ‫عنه لهذه ا أل�سباب ولعدم تكيُّفها مع م�ؤ�س�سة الزواج‪ ،‬جتمع‬
‫التى ت�سعى دائماً �إىل التغيري‪ ،‬والبحث عن ذاتها‪ ،‬التي تعرب‬ ‫كل ما متتلكه لت�ضعه يف �إحدى �رشكات توظيف ا ألموال‬
‫عن �إرادتها احلقيقية‪ ،‬كما �أنها ال ت�ستكني للآخرين‪ ،‬وحتاول‬ ‫مع رف�ضها لكثري من العالقات ال�شائنة التي يطمع فيها‬
‫مراجعة �أو�ضاعها و�أفكارها ب�صورة م�ستمرة ونا�ضجة‪،‬‬ ‫ا آلخرون‪ ،‬من ذوي احليثية‪« :‬رجال �أعمال يف لبا�س ديني‬
‫ترف�ض «مهرة» ما �أ�صبحت عليه بعد حجابها واعتزالها الفن‬ ‫�أو �سيا�سيني �أو جتار خمدرات‪ ،‬تنح�رس عنها ا أل�ضواء رويدا ً‬
‫واملجتمع‪ ،‬ت�ضيق بحياة الظل واحلجاب واالن�سحاب‪ ،‬فتثور‬ ‫وال تتطور فنياً فت�ستجيب لعر�ض اعتزال الفن»‪« :‬الذي هو‬
‫يف داخلها رغباتها‪ ،‬فت�ست�سلم لتلك النـزوة التي �سيطرت‬ ‫حرام يف ا ألول ويف ا آلخر‪�(».‬ص‪ ،)172‬يف �سبيل وعد مل‬
‫عليها مع ماجد‪ ،‬لكن نهاية الرواية ت�شي برتاجع وعودة‪،‬‬ ‫يتحقق مب�ساعدتها إلقامة م�رشوع تعي�ش من دخله‪ ،‬وتخ�رس‬
‫لي�س عن يقني لديها مبا �سارت عليه �أحوالها ا ألخرية‪ ،‬لكن‬ ‫مهرة حتوي�شة العمر» يف �أكذوبة �رشكات توظيف ا ألموال‪،‬‬
‫عن ا�ست�سالم ألو�ضاعها و�أو�ضاع املجتمع حولها‪ ،‬يقول‬ ‫تعي�ش مهرة هذه املرحلة وبداخلها عدم اقتناع مبا اختارته‬
‫الروائي يف ا أل�سطر ا ألخرية‪« :‬كانت مهرة تبحث عن حجابها‪.‬‬ ‫لنف�سها تقول بعد حياة العزلة‪�« :‬أ�شعر بحنني يو�شك �أن ي�صل‬
‫�إىل الوجع‪ ،‬للم�شاركة يف ما يدور ببلدي‪ ،‬مهما كانت العزلة‬
‫وكان ماجد يبحث عن �أوراقه التي ما عاد يتذكر �أين و�ضعها‪.‬‬
‫التي فر�ضتها على نف�سي»(�ص‪.)174‬‬
‫مل يبحث عن �صليبه ألنه كان قد باعه يف �أيام ال�ضيق‪»...‬‬
‫تقرن مهرة بني �أو�ضاعها التي حتولت �إىل ا أل�سو� أ وبني‬
‫(�ص‪ ،)271‬وهنا يبقى امل�ؤلف نهاية عمله مفتوحة حتتمل‬
‫احلجاب تقول‪« :‬ابتداء من احلجاب الذي حجب الر ؤ�ية‬
‫الت�أويالت واالفرتا�ضات املتعددة‪ ،‬كما توحي بتلك الق�سمة‬
‫عن عقلي»(�ص‪ ،)166‬وتتباكى على ال�شهرة والرفاهية‬
‫للغرماء التي هي عنوان هذا العمل الروائي‪ ،‬والتي يعريها‬
‫وا أل�صدقاء القدامى تقول وا�صفة اجلماعات ا إل�سالمية يف‬
‫الروائي يف جذورها البعيدة بهذا امل�شهد ا ألخري من العمل‪.‬‬ ‫معر�ض حديثها عن �أ�صدقائها ال�سابقني «�أحاول ا�ستبدالهم‬
‫عادة ما يرتك املبدعون خيوط درامية مبهمة يف �أعمالهم‬ ‫بكائنات الظل؛ بنواب ال�ضمري‪ ،‬وكالء اهلل �سبحانه وتعاىل‬
‫الروائية‪ ،‬برغم �أنهم يعمدون �إىل توغلها وانت�شارها‪ ،‬وجعلها‬ ‫على ا ألر�ض‪ .‬من يعملون يف ال�صمت والظالم باعتبارهم‬
‫تتفرع يف �أكرث من موقع بالرواية‪ ،‬لكنه الوجود ال�شفيف الذي‬ ‫�أ�صحاب ا ألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬كم تغريت‬
‫ال نعرف �أبعاده مكتملة‪� ،‬أو حقيقته امل�ؤكدة‪.‬‬ ‫يامهرة؟ �أمل تقويل عنهم ذات يوم‪� ،‬إنهم ل�صو�ص البهجة؟‬
‫ين�سج «يو�سف القعيد» من عالقة «مهرة» «بعبود» هذا اخليط‬
‫الدرامي امللتب�س الذي يدعو القارئ يف العديد من الفقرات �إىل‬
‫و�سرُ َداق ا ألفراح؟ والذين يحاولون ت�أميم التماعه احلياة يف‬
‫تخلَّيق دراما خيالية‪ ،‬ي�صوغها أ‬
‫ليمل بها هذه الفجوات املن�شطة‬ ‫�أعني ا ألطفال؟ �أحاول �أن �أ�صبح جزءا ً من الن�ساء املغطيات‬
‫ل إلبداع عند القارئ‪ ،‬وخلق حالة خفية من الت�شويق‪ ،‬والدخول‬ ‫باملالب�س ال�سوداء‪ ...‬للمر�أة والبيا�ض للرجل مع �أن املر�أة‬
‫ا ألكرث �شغفاً بالعمل‪ ،‬كما �أنه يرتكه وبداخله �س�ؤال يجيب عليه‬ ‫حياة؛ والرجل قد يدمرها‪�( »..‬ص‪.)177‬‬
‫باحتماالت فيظل العمل له حياة بداخل القارئ‪ ،‬يظل ينب�ض وال‬ ‫تواجه مهرة كارثة �أو �أزمة ثالثية‪« :‬الولد الذي يتفجر بداخلها‬
‫يتنا�ساه ب�سهولة‪.‬‬ ‫ف�ضول جتاهه نتيجة للحرمان الذي تعانيه‪ ،‬واملبلغ الذي‬
‫(املادة تن�شر كاملة مبوقع املجلة‪)www.nizwa.com :‬‬ ‫امتدت يدها عليه وبددته؛ نتيجة �أزمتها املالية امل�ستمرة‪،‬‬
‫‪271‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عي�سى ال�سليماين‪..‬‬
‫ال�صورة ال�شعرية للق�صيدة ال ُعمانية‬
‫عبا�س عبداحلليم عبا�س‬
‫باحث و� أكادميي من الأردن‬
‫فيه النقاد‪ ،‬فلم يقف التفكري عند كونها جمازا ً �أو ا�ستعارة‪ ،‬بل‬ ‫تظل ال�صورة ال�شعرية هي جوهر ال�شعر‪ ،‬فمنذ اجلاحظ (ت‬
‫هي �أبعد من ذلك‪ ..‬ا ألمر الذي حدا بامل�ؤلف ملناق�شة م�صطلحية‬ ‫‪255‬هـ) وو�صفه ال�شعر ب�أنه �رضب من الن�سج وجن�س من‬
‫ملفهوم ال�صورة عرب ر�ؤيتها احلديثة التي تعتمد اعتمادا كبريا‬ ‫الت�صوير �إىل �أحدث الر�ؤى النقدية يف خائلية ال�شعر وطاقاته‬
‫على طاقتها الفنية من خالل ممار�سة العمل ال�شعري‪.‬‬ ‫الت�صويرية‪ ،‬ال تزال البحوث والدرا�سات ترتى يف مو�ضوع‬
‫وللو�صول �إىل هذا البعد‪� ،‬سعى الدكتور عي�سى ال�سليماين للبحث‬ ‫ال�صورة واخليال يف الن�ص ال�شعري‪ ،‬وطبيعة القوى املنتجة‬
‫عن فهم �أعمق و�أدق لل�صورة ومتثالتها يف �آفاق الق�صيدة‬ ‫لهذه الطاقة املبدعة‪..‬‬
‫العمانية احلديثة؛ من خالل �أمنوذج لعله ميثل تلك الر�ؤية‪،‬‬ ‫وبالرغم من اختالف منهجيات التناول‪ ،‬وتعدد اجتاهات‬
‫فيما �أجنز من �أبحاث يف ذلك‪ ،‬فلم يجد �سوى درا�سات انزاحت‬ ‫الدار�سني ومذاهبهم ف�إن درا�سة ال�صورة ال�شعرية متثّل مو�ضوعاً‬
‫عن متثل ذلك البعد الفني لل�صورة يف زمن الدرا�سة ومنهجها‪،‬‬ ‫نقدياً ح�سا�ساً يف �إطار الفهم والت�أويل‪ ،‬ومتثل كذلك �إ�ضاءة‬
‫لكونها �سلكت طريقاً غري الذي �سلكه هو نف�سه‪� ،‬إذ اتخذت تلك‬ ‫مهمة يك�شف بها الناقد عوامل املبدع الداخلية‪ ،‬و�أ�رسار الكون‬
‫الدرا�سات لنف�سها مناهج و�صفها يف مكانها من هذه الدرا�سة‪،‬‬ ‫ا إلبداعي لديه‪ .‬وعلى هذا قامت درا�سات نقدية عديدة‪ ،‬عربية‬
‫لي�ستنتج �أنها يف جمموعها مل تقف عند بنيات ومكونات تلك‬ ‫وغربية‪ ،‬قدمية وحديثة‪ ..‬وما «�أ�رسار البالغة» و«دالئل ا إلعجاز»‬
‫ال�صورة التي نطمح �إليها؛ مما �شجعه على قراءة الق�صيدة‬ ‫لعبدالقاهر اجلرجاين (‪471‬هـ)‪ ،‬ومنهاج البلغاء و�رساج ا ألدباء‬
‫العمانية‪ ،‬قراءة تفاع ٍل مع الن�ص‪ ،‬لكونه عالقة جدلية بني‬ ‫حلازم القرطاجني (‪684‬هـ ) �إال �أمثلة وا�ضحة على االهتمام‬
‫املبدع واملتلقي‪.‬‬ ‫العميق باملخيلة ال�شعرية ونقدها‪.‬‬
‫لقد �سعت هذه الدرا�سة – كما يقول كاتبها ‪ -‬لك�شف الطاقات‬ ‫أ‬
‫ويف نقدنا العربي احلديث ميكن ا إل�شارة �إىل بع�ض المثلة‬
‫اجلمالية التي تخفيها الق�صيدة‪ ،‬والتي ت�ستطيع �إثارة ده�شة‬ ‫البحثية اجلادة يف هذا اجلانب كدرا�سة م�صطفى نا�صف‬
‫املتلقي‪ ،‬و�إبراز العواطف من كوامنها‪ ،‬مع ال�سعي لتربير تلك‬ ‫«ال�صورة ا ألدبية» وعمل جابر ع�صفور املميز «ال�صورة الفنية‬
‫الده�شة‪ ،‬وبيان �أثرها الفني‪.‬‬ ‫يف الرتاث النقدي والبالغي عند العرب» ودرا�سة عبدالقادر‬
‫�إن عملية اقتحام الن�ص‪ ،‬تتطلب �أدوات ومناهج متعددة‪ ،‬قد‬ ‫الرباعي «ال�صورة الفنية يف �شعر �أبي متام» وغريها‪� .‬أما‬
‫تكون بنيوية‪� ،‬أو �سيميائية‪� ،‬أو �أ�سلوبية‪� ،‬أو تف�سريية‪� ،‬أو لغوية‪� ،‬أو‬ ‫الدرا�سات الغربية حول ال�صورة يف ال�شعر ف�أكرث مما تعد‬
‫تاريخية‪� ،‬أو �إح�صائية‪� ،‬أو غريها‪ ،‬وميكن لب�ضهم �أن ي�سمي ذلك‬ ‫وحت�صى‪.‬‬
‫باملنهج التكاملي‪� ،‬إذ �إن الدمج بني هذه املناهج هدفه الو�صول‬ ‫وهذه الدرا�سة ال�صادرة عام ‪ 2008‬للدكتور عي�سى ال�سليماين‬
‫�إىل الغاية التي من �أجلها يقتحم الن�ص‪ ،‬ولتربير تلك الده�شة‬ ‫ت�سعى ل إلجابة عن �س�ؤال جوهري لعله ميثل عمقها ومركز‬
‫اجلمالية والفنية التي �أحدثها‪ ،‬مع �رضورة ا إلفادة من تلك‬ ‫ق�ضاياها‪ ،‬كما يجيب عن مفهوم الدرا�سة الذي ي�شكل جدلية‬
‫الفعالة يف النقد املعا�رص‪ ،‬و�صوالً لل�صورة‬ ‫ا ألدوات ا إلجرائية ّ‬ ‫العالقة بني النظر والتطبيق‪ ،‬وبني ال�شاهد وا�ستنتاج التحليل‪،‬‬
‫ال�شعرية بكل مكوناتها‪ ،‬ومن تلك ا ألدوات‪:‬‬ ‫وبني الظاهر والباطن‪ ،‬ثم �أخريا ً بني البنية ال�سطحية بكل‬
‫التوازي ‪ /‬واالنزياح‪ /‬وامل�شابهة‪ /‬واملجاورة‬ ‫ت�شكالتها للر�سالة‪ ،‬و بنيتها العميقة التي حتدد انتماءها‬
‫والت�شاكل‪ /‬والتماثل‪ /‬والتجان�س‬ ‫للزمان واملكان العمانيني يف ع�رص ال�شاعر والق�صيدة وذاكرة‬
‫فهذه ا ألدوات مل تظهر ب�شكلها النظري‪ ،‬بقدر ما اتخذت ك�دوات‬
‫أ‬ ‫الباحث‪ ،‬وهو يحفر يف املعلوم من �أجل معلوم �آخر‪ ،‬لعله اجلواب‬
‫�إجرائية كا�شفة للن�ص حمققة للب�ؤر الدالة‪ ،‬وبذلك �أ�صبحت‬ ‫يف نهاية هذا العمل النقدي املتخ�ص�ص‪.‬‬
‫عوامل م�ساعدة‪.‬‬ ‫وبناء على هذا فقد تردد يف ذاكرة امل�ؤلف معنى ال�صورة‬
‫�إن الق�صيدة العمانية احلديثة يف م�ستواها الذاتي واجلماعي‪،‬‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬فهل ال�صورة هي الت�شبيه‪� ،‬أم اال�ستعارة‪� ،‬أم املجاز‪...‬؟‬
‫عك�ست الواقع االجتماعي وال�سيا�سي والثقايف‪ ،‬وما ارتبط به‬ ‫�إن البحث املت�أين قد ك�شف اللثام عن معنى ال�صورة الذي اختلف‬
‫‪272‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�صدر‪ ،‬والت�رصيع»‪.‬‬ ‫من م�ؤثرات‪ ،‬لذلك جند �صورتها متاهت مع املا�ضي‪ ،‬وارتبطت‬
‫وناق�ش الف�صل الثاين اجلوانب الرتكيبية املكونة للق�صيدة‬ ‫باحلا�رض رغبة يف ا�ست�رشاف امل�ستقبل‪.‬‬
‫يف ثالثة مباحث‪� :‬أولها قانون «التقدمي والت�أخري» وثانيها‪:‬‬ ‫فهي � إ ّما تعبري عن احلا�رض بلغة املا�ضي وخ�صائ�صه يف‬
‫«الف�صل والو�صل» وثالثهما‪« :‬البنية االعرتا�ضية» لكونها بنى‬ ‫اجرتار متماثل يف دواله‪ .‬و� إ ّما �أن تكون هذه الق�صيدة قدمية‪،‬‬
‫تركيبية ارتبطت بداللة الر�ؤية للن�ص‪.‬‬ ‫لكنها ت�سعى عن طريق التقليد واملحاكاة والتفاعل مع احلا�رض‪،‬‬
‫�أما الف�صل الثالث فقد اخت�ص باجلانب التخييلي‪ ،‬وتناوله‬ ‫�إىل حماولة االنعتاق من قيد التقليد‪ ،‬والتطلع �إىل التجديد‪ .‬و�إما‬
‫الباحث عرب مبحثني‪:‬‬ ‫تعبريٌ عن الذات ال�شاعرة وما يرتبط بها من �أحا�سي�س وجدانية‬
‫‪ -1‬مرجعية ال�صورة‪.‬‬ ‫موحية واعدة بالتجديد �شكالً وم�ضموناً‪.‬‬
‫‪ -2‬ثم �أبعادها الت�صويرية‪.‬‬ ‫وعليه فقد �سعى هذا العمل حتت عنوانه احلايل ال�صورة ال�شعرية‬
‫و�أما الف�صل الرابع فقد اخت�ص بامل�ستوى املعجمي؛ ليكون‬ ‫العمانية لبناء تلك العنا�رص املكونة لل�صورة‬ ‫يف بناء الق�صيدة ُ‬
‫جزءا ً مهماً يف بناء الق�صيدة‪ ،‬كما �أنه يعك�س امل�ستويات‬ ‫ال�شعرية يف بنية الق�صيدة العمانية احلديثة منذ «‪ 1900‬وحتى‬
‫املختلفة لواقع الق�صيدة‪ ،‬دينية وثقافية واجتماعية واقت�صادية‬ ‫‪1980‬م» من خالل مدخل ومهاد و�سبعة ف�صول‪.‬‬
‫وتاريخية؛ ولتداخل هذه اجلوانب يف الق�صيدة العمانية انطلق‬ ‫فاملدخل مثّل ملحة موجزة للو�ضع التي كانت تعي�شه الق�صيدة‬
‫الباحث يف درا�سته من خالل مبحثني‪ :‬ا ألفقي‪ ،‬والعمودي‪.‬‬ ‫يف تفاعل مع الظروف ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية‬
‫وقد و�صل �إىل الف�صل اخلام�س الذي اهتم بالوظيفة الداللية‬ ‫والثقافية‪ ،‬ثم وقفة مركزة ومتعجلة فتح امل�ؤلف منها نافذة‬
‫امل�صورة من خالل خم�سة مباحث متثلت يف ا ألبنية ا آلتية‪:‬‬ ‫على الدرا�سات املنجزة حتى زمن الدرا�سة ‪2009‬م‪.‬‬
‫النامي‪ ،‬الدائري‪ ،‬املركزي‪ ،‬املتكرر‪ ،‬الت�ضاد‪� ،‬إذ �إن هذه ا ألبنية‬ ‫و� أ ّما املهاد فقد تناول املعنى الوظيفي الذي تقوم به ال�صورة‬
‫ت�شكل ر�ؤية متكاملة للمحاور ا أل�سا�سية التي تدور حولها‬ ‫ثمة ثنائية بني ال�صورة والداللة‪ ،‬وهذه ر�ؤية‬ ‫ال�شعرية‪� ،‬إذ لي�س ّ‬
‫الق�صيدة العمانية‪ ،‬منطلقة من الرتكيب ومنتهية بالوظيفة‪.‬‬ ‫أ‬
‫نقدية بحاجة للمناق�شة‪ ،‬مثلما �ن ال�صورة تتحقق من كونها‬
‫وي�أتي الف�صل ال�ساد�س لري�سم �صورة (هيكلة الق�صيدة)‪ ،‬من خالل‬ ‫ر�ؤية �شعرية قائمة على تالحم البنى الداللية ا ألخرى «�إيقاع‪،‬‬
‫املقدمات ال�شعرية ب�أنواعها ووحداتها اجلزئية والتطورات التي‬ ‫تركيب‪ ،‬تخييل» فهي نتائج لتلك العنا�رص جمتمعة‪ ،‬و�إال ّ كانت‬
‫طر�أت على هذه املقدمات من تقليد �أو جتديد‪ ،‬كما ر�صد املبحث‬ ‫جمرد �إثارة الده�شة والزينة‪.‬‬
‫الثاين املتواليات ال�شعرية التي ُق ّ�سمت �إىل ثالثة �أق�سام‪ :‬ثانوية‪،‬‬ ‫أ‬
‫وت�أتي الف�صول ال�سبعة لت�شكل البناء ال�سا�س للدرا�سة‪ ،‬حيث‬
‫ومو�ضوعاتية‪ ،‬ومكثفة‪ .‬هذه املتواليات �أبانت مدى الرتابط بني‬ ‫و�ضح الف�صل ا ألول ما �أ�سماه الدار�س «ال�صورة ا إليقاعية»‬ ‫ّ‬
‫ا ألن�سجة الداخلية على م�ستوى الق�صيدة‪ ،‬كما �أن ذلك الرتابط‬ ‫متناوال �إياه من خالل املباحث ا آلتية‪:‬‬
‫عو�ض االنقطاع على امل�ستوى املفهومي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املبحث ا ألول‪ :‬الوزن وعالقته بالغر�ض انطالقاً من تق�سيم‬
‫�أما الف�صل ال�سابع فقد جاء ليناق�ش املورث الثقايف �ضمن‬ ‫البحور �إىل �ست جمموعات‪ ،‬وعليه فالدرا�سة ا إلح�صائية ك�شفت‬
‫مبحثني‪ :‬الديني الذي تناول القر�آن الكرمي‪ ،‬وال�سنة املطهرة‪،‬‬ ‫الالعالقة بني الغر�ض والبحر‪ ،‬كما و�ضح املبحث درجة‬
‫وال�سرية النبوية‪ .‬وال�شعري من خالل التقائه املبا�رش وغري‬ ‫احل�ضور والغياب للبحور امل�ستخدمة يف الق�صيدة زمن الدرا�سة‪،‬‬
‫املبا�رش للن�صو�ص ا ألخرى املوروثة‪� ،‬أو ال�سابقة‪� ،‬أو الالحقة‪.‬‬ ‫ثم انتقل بعدها �إىل درا�سة ظاهرة الت�ضمني يف �ضوء وحدة‬
‫ويف اخلامتة التي ر�صد الباحث نتائج البحث �ضمن مكونات‬ ‫الوزن والقافية‪� ،‬إذ ت�شري ا إلح�صائيات �إىل ارتفاع ن�سبة متا�سك‬
‫ال�صورة املرتبطة بواقع الق�صيدة العمانية احلديثة «‪-1900‬‬ ‫ال�شطرين‪ ،‬مما ي�ؤكد ذلك ترابط البيت‪.‬‬
‫‪1980‬م» يف م�ستوييها العمودي واحلداثي ‪،‬مبينا � أ ّن ال�شاعر‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬القافية‪ :‬وقد در�س هذا املبحث وحدة القافية‬
‫العماين ا�ستطاع �أن ي�سرب �أعماق البنى التخيلية يف الفن‬ ‫ُ‬‫من حيث وظيفتها ا إليقاعية باعتبار املطلق واملقيد‪ ،‬كما بحث‬
‫ال�شعري عرب التمكن من توظيف �أبنية ال�صورة ال�شعرية (النامي‪،‬‬ ‫ق�ضية تعدد القافية التي كانت بدايتها املو�شحات فالرباعيات‬
‫واملركزي‪ ،‬والدائري‪ ،‬واملتكرر‪ ،‬والت�ضادي ) حيث كانت هذه‬ ‫فاملخم�سات‪ ،‬ثم تطورت على يد �شعراء التفعيلة الذين �سعوا‬
‫ا ألبنية ذات دور مهم يف بناء الق�صيدة دالليا وجماليا يف �آن‬ ‫خلرق وحدة البيت وحتطيم نظام القافية‪ ،‬ثم اخلروج املطلق‬
‫معا‪.‬‬ ‫على القوانني العرو�ضية‪ ،‬مثل ما هو يف ق�صيدة النرث‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬التجان�س ‪،‬حيث �أبان التجان�س ال�صوتي عن الهام�ش‬
‫تراكمات �صوتية وك�شف لنا ب�أن ذلك مل يكن وليد ا ألوزان ‪« -‬ال�صورة ال�شعرية يف بناء الق�صيدة العمانية» درا�سة للدكتور عي�سى‬
‫عمان‪ -‬ا ألردن ‪2009‬م‪.‬‬‫والقوايف فح�سب‪ ،‬بل نتيجة �شبكة �صوتية جاءت �ضمن مكونات ال�سليماين ‪ -‬دار كنوز املعرفة‪ّ -‬‬
‫�أخرى‪ ،‬مثل «الت�شاكل‪ ،‬والتقابل‪ ،‬والتماثل‪ ،‬ورد العجز على‬
‫‪273‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مرييت ابونيام‬
‫ده�شة الفن وال�شعر‬
‫فـيء نا�صـــر‬
‫كاتبة من العراق تقيم يف بريطانيا‬

‫بوهيمي �إقيم يف بازل‪ ،‬و�رسعان ما تركت الدرا�سة وبد�أت‬ ‫مل ترتافق حركة فنية يف التاريخ احلديث كما ترافقت‬
‫تختلط باو�ساط الفنانني وا�شتغلت يف التخطيطات التي‬ ‫ال�سوريالية مع امل�شاعر املظلمة واملزاج ال�سوداوي‬
‫امتازت بروح دعابة و�سخرية‪ .‬رحلت اىل باري�س بعمر‬ ‫والالوعي املثخن بغرائبيته وكوابي�سه‪ ،‬والكثريون يف‬
‫الثامنة ع�رش بحثاً عن مناخ �أكرث خ�صوبة ألفكارها‬ ‫بداية ن�ش�أة هذه احلركة‪ ،‬ا�ست�شعروا التهديد وعدم الراحة‬
‫ونزقها وانخرطت يف درا�سة الفن يف احدى �أكادمييات‬ ‫لالهداف املبلبة وامل�شو�شة كما ان احللقات ا ألكادميية‬
‫باري�س الفنية‪ ،‬لكنها �رسعان ما �شعرت بال�ضجر جمددا ً‬ ‫والنقاد �إعتربوها فكاهة‪ ،‬ورف�ضوا �أن يعريوها اهتمامهم‪،‬‬
‫من الدرا�سة االكادميية و�أنفقت وقتها بدل ذلك يف مقاهي‬ ‫ببع�ض من ال�سخرية‪ ،‬كانت ت�صدر دائماً‬‫ٍ‬ ‫وقوبلت با�ستمرار‬
‫باري�س ومعار�ضها الفنية وكتبت �أوىل ق�صائدها يف مقهى‬ ‫عن �أ�شخا�ص غرباء عن الفن‪ ..‬لكنها يف النهاية منت‬
‫(ذه دومب) حيث قابلت جياكوموتي عام ‪.1933‬‬ ‫وتبو�أت مكانتها احلقيقية باعتبارها �أ�شد حركات الفكر‬
‫ومن خالل (جياكومويتي) تعرفت على (هان�س � آراب‬ ‫والفن‪� ،‬رضورة وحداثة وجتديداً‪ ،‬وذلك ب�سبب ارتباطها‬
‫وماك�س �إرن�ست) حيث �أ�صبح (جياكوميتي و� آرب) معلمني‬ ‫الدقيق بال�شيوعية‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبالق�ضايا الروحية لالن�سان‬
‫ومر�شدين لها‪ ،‬يف حني �صار (�إرن�ست ومان راي) من‬ ‫املعا�رص من جهة ثانية‪.‬‬
‫ع�شاقها وانت�رشت �صورها الفوتوغرافية‪ /‬ا إليروتيكية‬ ‫وقد �أفرزت ال�سوريالية الكثري من ال�شعراء والفنانني لكننا‬
‫التي التقطها الفنان (مان راي‪ /‬امل�صور الفوتوغرايف‬ ‫نكاد ال نعرف �شيئا عن رائداتها من الفنانات‪ ،‬وقليال ما‬
‫ال�سوريايل) و�أ�سهمت يف �إ�ضفاء �إ�سطورة فنية الحقة على‬ ‫ُ�سلط ال�ضوء او النقد عليهن‪ ،‬ب�سبب هيمنة �صوت الرجل وما‬
‫ا�سمها‪ ،‬و�رسعان ما انخرطت يف احلركة ال�سوريالية‪ ،‬حني‬ ‫�أحدثه من جلبة يف امل�شهد الثقايف الباري�سي الذي رافق‬
‫�شجعها جياكوميتي الذي ا�شتغل يف نحت االثاث والتحف‬ ‫ن�شوء هذه احلركة‪.‬‬
‫الفنية‪ ،‬على �صنع جم�سمها ال�سوريايل االول‪ ،‬قطعة �صغرية‬ ‫ولعل مرييت ابونيام هي ال�صورة ا ألكرث و�ضوحاً يف‬
‫منحوتة على �شكل �أُذن ت�سمى اذن جياكوميتي ‪ .1933‬تلقت‬ ‫�سوريالية االنثى‪ ،‬وواحدة من �أبرز �شخ�صيات القرن‬
‫بعدها �أول دعوة من (جياكوميتي وهان�س � آرب) للم�شاركة‬ ‫الع�رشين الفنية ال�سوي�رسية‪ ،‬ولدت ابونيام يف برلني‬
‫يف املعر�ض ال�سوريايل يف ال�سنة ذاتها‪ ،‬و�أ�صبحت من‬ ‫‪ 1913‬وتوفيت يف بازل ب�سوي�رسا علم ‪ .1985‬ترعرعت‬
‫املواظبني على امل�شاركة يف املعار�ض واللقاءات التي‬ ‫يف جنوب املانيا حيث امتلك والدها الطبيب عيادة ريفية‪.‬‬
‫جمعت رواد ال�سوريالية‪.‬‬ ‫تزوجت عمتها من هرمان ه�سه الروائي ال�شهري‪ ،‬وجدتها‬
‫لكن مرييت ابونيام كانت ت�ضجر من الت�صنيف‪ ،‬هي‬ ‫تربت يف كنفها‪ ،‬روائية معروفة وكاتبة‬ ‫ألمها‪ ،‬التي ّ‬
‫التي عنونت لوحاتها ب�أكرث من لغة كي توحي للمتلقني‬ ‫للطفال ومن النا�شطات ا ألوائل يف الدفاع عن‬ ‫ق�ص�ص أ‬
‫ب�أنها ال تنتمي لبلد حمدد �أو لغة ما‪� ،‬شعرت �إنها لن تكون‬ ‫حقوق املر�أة يف �سوي�رسا‪ .‬وقد �أُعجبت الفتاة بجدتها �أميا‬
‫ذاتها لو ُ�صنِفت �ضمن مدر�سة معينة‪ ،‬مل يكن يعنيها �أن‬ ‫�إعجاب وقررت يف وقت مبكر عدم الزواج او على ا ألقل‬
‫ُي�سجل ا�سمها بني رواد ال�رسويالية‪ ،‬كانت تبحث عن ذاتها‬ ‫�إرجاء الزواج اىل وقت متقدم من حياتها‪ .‬يف طفولتها‬
‫فقط وعرب كل �أ�شكال التعبري الفني وال�شعري‪ ،‬لقد ر�سمت‬ ‫كانت تر�سم يف الكني�سة �أثناء القدا�س وتخفي دفرت ر�سمها‬
‫وجمعت التحف و�أبدعت يف نحت ا ألعمال الفنية املركبة‬ ‫داخل كتاب الرتاتيل‪ ،‬ويف عمر ال�ساد�سة ع�رش‪ ،‬ر�سمت �أوىل‬
‫التي جتمع بني النقائ�ض ب�شكل مده�ش وكتبت ا ألغاين‬ ‫ر�سوماتها ال�سوريالية الفطرية بعد ر ؤ�يتها ملعر�ض فني‬
‫‪274‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫واحللم والواقع‪ .‬وكل اعمالها هي نتاج خميلة غنية‬ ‫والق�صائد وا�شتغلت كموديل للم�صورين والفنانني �أي�ضا‪،‬‬
‫وحاذقة يف مزج ا أل�شياء وا ألفكار لكن النقاد غالبا ما‬ ‫لقد � آمنت ب�شدة ب�أحالمها التي دونتها منذ �سن الرابعة‬
‫يقي�سون �إبداع �إمراة فنانة بغريها من الرجال‪ ،‬وترجح‬ ‫ع�رش‪ ،‬بت�أثري من والدها الطبيب الذي قربها لنظريات‬
‫كفة الرجال غالبا‪.‬‬ ‫التعمق النف�سي وحتديدا ً لنظرية ( كارل يونغ)‪ .‬لذلك‬
‫ارتبطت �أعمال هذه الفنانة �أي�ضاً باحلركة الدادائية وما‬ ‫اعتمدت الحقاً على خزينها الذاتي الالوعي ورموزه‪ ،‬يف‬
‫متيزت به من خفة الدم والفكاهة احلاذقة التي ت�شكل‬ ‫اخللق ال�شعري والفني‪ ،‬وابتعدت عن وعيّها التام وعرفت‬
‫الهيئة اخلارجية العمالها والتي غالبا ما يكون لها جذور‬ ‫كيف جتعل من �أعمالها �صدى ألحالمها النابعة من ارثها‬
‫يف الوعيها‪ .‬ثمة روح �أدبية خال�صة قد �سكنت مرييت‬ ‫الفني وهذه هي اللغة الوحيدة التي �أجادتها عرب فنها‬
‫ابونيام وعرب كل اال�شكال الفنية التي انربت لها باحثة‬ ‫وق�صائدها‪.‬‬
‫بال هوادة عن مهاوي احللم‪� ،‬شاردة يف جتوال �أبدي‬ ‫ولعل مرييت ابونيام �أبرز من �ساهم يف ر�سم مالمح‬
‫بني الذات وا آلخر‪ ،‬يقظة على الدوام لهمهمات الوجود‪،‬‬ ‫(االنثى‪/‬ال�سوريالية) لعدة �أ�سباب‪ :‬روحها الطليقة‬
‫فهي لعقود قد ر�سمت ب�إلهام من منابعها الذاتية‪ ،‬من‬ ‫و�سلوكها الغرائبي‪ ،‬خيالها املبحر بعيدا ً بال �شاطئ‬
‫�أحالمها و�أفكارها وحتى من �سخريتها كما �أنها تناولت‬ ‫وحلمها الذي ميار�س �سطوته الق�صوى يف �أعمالها الفنية‬
‫م�سالة التمييز اجلن�سي بني املر�أة والرجل‪ ،‬و� آمنت بقوة‬ ‫ورمبا جمالها و�شبابها‪ ،‬هذه املميزات خلقت منها‪ ،‬منوذج‬
‫ان الفن بال جن�س وال يعرف التمييز بني االنثى �أو الرجل‪.‬‬ ‫املر�أة ال�سوريالية املزدانة باجلمال واال�ستقاللية واحلرية‬
‫هذه الفنانة‪ ،‬هي �أول من ادخل تقنيات امللتي ميديا يف‬ ‫واالبداع‪ .‬ورغم هذه الهالة اخلارجية لكنها واجهت الكثري‬
‫ا ألعمال الفنية‪ ،‬اجلانب ا آلخر لتنوع �إنتاجها الفني‪ ،‬عدم‬ ‫من العوائق واحلرية والت�سا ؤ�ل املتوا�صل عن معنى احلياة‬
‫وجود �أ�سلوب معني �أو مدر�سة �أو موعظة �سوى حلمها‬ ‫والفن‪ ،‬يف م�سرية بحثها الطويلة عن �أ�سلوب تتفرد به‬
‫واخال�صها لذاتها‪.‬‬ ‫للو�صول اىل الن�ضج الفني‪.‬‬
‫يف منت�صف اخلم�سينات ا�ستعادت ثقتها بنف�سها وبفنها‬ ‫و(كوب الفرو‪/‬عملها اال�شهر) هو عمل نحتي مكون من‬
‫وبهدوء بد�أت مرحلة جديدة وخمتلفة يف انتاجها الفني‪،‬‬ ‫كوب لل�شاي مع �صحنه وملعقته ومغطى بفرو م�أخوذ‬
‫من خالل �إقامة املعار�ض الفردية وامل�شرتكة يف عدد‬ ‫من غزال �صيني‪ ،‬وهو احد مقتنيات معر�ض الفن احلديث‬
‫من املدن ا ألوروبية‪ ،‬وعند نهاية حقبة ال�ستينات وبعد‬ ‫يف نيويورك‪� ،‬أ�صبح العالمة الفنية ملرييت ابونيام‪ ،‬لي�س‬
‫فتور عالقتها بال�سوريالية (بعد موت اندريه بريتون عام‬ ‫لغرائبيته املده�شة فقط بل النه يوحي للمتلقي ب�رضورة‬
‫‪ ،)1964‬كان هناك �إعادة اكت�شاف وت�سليط �ضوء جديد على‬ ‫اختبار �شيء م�شعر ويقبع عميقاً يف �شاطئ املخيلة البعيد‪.‬‬
‫اعمالها الفنية‪ .‬ت�صف مرييت ابونيام نف�سها ك�أنها مقيا�س‬ ‫وهو من جهة اخرى‪ ،‬عمل ي�ستدعي بع�ض الذعر واخل�شية‪،‬‬
‫ريخرت للزالزل لكنها بدل �أن تقي�س �إهتزازات االر�ض تقي�س‬ ‫ك�أنه وجبة �إفطار ملطخة بقطرات الدم‪ ،‬ومرييت ابونيام يف‬
‫اهتزازاتها املتجذرة يف املا�ضي وامل�ستقبل لف�ضاء روحها‪،‬‬ ‫مهو�سة بالغذاء والعنف واجلن�س‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذا العمل‪ ،‬حتاذي ثقافة‬
‫والتي تبقي ممر العبور نحو الالوعي مفتوحا لها دائما‪،‬‬ ‫�أعمالها التي �أخذت حيزها من هياج ال�سوريالية االوىل‪،‬‬
‫لقد كافحت من اجل خلق موازنة ووحدة �أبدية لكينونتها‬ ‫اعتمدت دائما على �أ�شياء يومية �صغرية لكنها معزولة عن‬
‫وارتباطها با آلخر‪ ،‬امراة روحانية ورجل روحاين‪ ،‬هذا‬ ‫غر�ضها وحمتواها فهي‪ ،‬ومثل بقية ال�سورياليني مولعة‬
‫التوازن الذي انعك�س حتى على مظهرها اخلارجي و�أحالمها‬ ‫بتحويل مقتنيات احلياة اليومية اىل اعمال فنية غريبة‪:‬‬
‫للنثى‬‫يف �سنوات �شيخوختها‪ .‬لقد دعت اىل �إعادة االعتبار أ‬ ‫خوامت ملفوفة بجلد الثعابني‪ ،‬قالدة تتكون من �سل�سلة من‬
‫القدمية �أم العامل‪ ،‬للو�صول اىل ا إلن�سانية النا�ضجة‪ ،‬بعد‬ ‫العظام ال�صغرية‪ ،‬قبعة على هيئة ر�أ�س كلب بفك مفتوح‬
‫وحط من‬ ‫�أن تدنت مميزات ا ألنثى‪ ،‬يف ظل النظام ا ألبوي‪ُ ،‬‬ ‫ول�سان ي�سيل منه اللعاب‪ ،‬كما انها من جانب � آخر‪ ،‬ركزت‬
‫قيمتها وحتولت ا ألنثى �إىل �إمر�أة مقيد‪.‬‬ ‫على جن�سانية االنثى ورحلة اكت�شافها من قبل الرجل‪.‬‬
‫ق�ضت �سنوات حياتها االخرية بني برين يف املانيا‬ ‫�أ�صالتها وجر�أتها جعلتها ‪ -‬وبال �إرادة منها ‪ -‬من رواد‬
‫وبازل يف �سوي�رسا‪ ،‬انها امراة �أفنت عمرها يف ا ألخال�ص‬ ‫ال�سوريالية‪ ،‬هي التي � آمنت بقوة احللم العظيمة وباحلركة‬
‫ل�سوريالية ذاتها‪ ،‬التي مثلت لها قارة �سوداء للحلم‪ ،‬ال‬ ‫النزيهة للفكرة‪ .‬مرييت ابونيام �أعادت �إكت�شاف العالقة‬
‫تن�ضب‪.‬‬ ‫بني املدنية والطبيعة‪ ،‬الرجال والن�ساء‪ ،‬الليل والنهار‬
‫‪275‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لقد طفح العبث‬ ‫(‪)j‬‬


‫خمتارات من ق�صائدها‬
‫لكن‪ :‬جينيفي‪:‬‬ ‫فوق‪ ،‬هناك يف تلك احلديقة‬
‫متخ�شبة‪،‬‬ ‫تقف ظاليل‬
‫تقف على ر� أ�سها‬ ‫التي تربّد ظهري‪.‬‬
‫مرتين فوق �سطح االر�ض‬ ‫يف تلك احلديقة‪ ،‬تقف‬
‫وبدون � أن ت�ستند على ذراعيها‬ ‫تقاتل من � أجل ك�رسة خبز‬
‫ابنها‪ � ،‬أمري الأمل‪:‬‬ ‫وتت�صايح مثل ديكة‪.‬‬
‫ملتف يف �شعرها‪،‬‬ ‫� أريد � أن � أزورهم‪...‬‬
‫نافورة �صغرية‪،‬‬ ‫اليوم‪،‬‬
‫�س�أعيد‪:‬‬ ‫� أريد � أن � أحييهم‪...‬‬
‫نافورة �صغرية‪.‬‬ ‫اليوم‪،‬‬
‫ت�صفر وتبكي يف البعيد‪.‬‬ ‫و� أعدّ � أنوفهم‪.‬‬
‫‪jjj‬‬
‫‪jjj‬‬

‫الكابنت ال�صادق‬ ‫لأجلك‪� ،‬ضدك‪،‬‬


‫� أخربين‪،‬‬ ‫� أرمي كل الأحجار خلفك‬
‫و� أجعل اجلدران ف�ضفا�ضة‪.‬‬
‫ُدلّني على املكان الذي‬
‫لك‪ ،‬عليك‪،‬‬
‫يفر�ش فيه ال�سنونو جناحه‪،‬‬
‫لأجل املائة ُمن�شِ د فوقك‪،‬‬
‫بني الغيوم‪،‬‬
‫احلوافر ترك�ض طليقة ال�رساح‪.‬‬
‫وادي الأمواج يف �شَ َع ِر الآلهة‪،‬‬
‫فرحة يف قوقعتي‬
‫الأ�ضواء اخل�رض يف الغابة‪.‬‬ ‫� أنا � أول ال�ساكنني بها‬
‫هنا الليل‬ ‫ولتكن اجلدران ف�ضفا�ضة‪.‬‬
‫مكان�س ال�رش تقتل‬
‫(‪)1‬‬
‫الكوبلد�س‬ ‫‪jjj‬‬

‫ما من عجلة تدور‬ ‫� أخريا ً !‬


‫الظالم يتن�صل من نف�سه‬ ‫حرية !‬
‫وما من � أحد ي�س�أل‬ ‫ال�سنارات تطري‪.‬‬
‫هي قب�ضة يف قب�ضة‬ ‫قو�س قزح يفي�ض يف ال�شوارع‪،‬‬
‫ال يتمكن املرء من ر ؤ�يتها‬ ‫ال يطغى عليه �سوى‬
‫طنني نحل عمالق بعيد‬
‫الهوام�ش‬
‫‪� -1‬شخ�صيات متخيلة من الرتاث االملاين ‪.kobolds‬‬
‫اجلميع يخ�رس كل �شيء‬
‫‪ j‬ترجمة الن�صو�ص عن ا إلجنليزية‪.‬‬ ‫� أو يو�شك على اخل�رسان‬
‫‪276‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حمم ــد مـزي ــد‬


‫فـي «�سرير أال�ستاذ»‬
‫في�صــل عبــداحل�سن‬
‫كاتب و�صحفي عراقي يقيم يف املغرب‬

‫ق�سوتهم وتلذذهم با ألم من حولهم‪ ،‬عن جن�سهم‬ ‫لقد دخلت حقا �إىل عامل ب�شع مل � أر حدودا لب�شاعته‪،‬‬
‫الب�رشي وحولتهم‪� ،‬إىل خملوقات لها � أج�ساد الب�رش‪،‬‬ ‫حني بد� أت بقراءة رواية «�رسير الأ�ستاذ»‪ ،‬ففي‬
‫ولكنها يف �صميمها حيوانات مفرت�سة‪ ،‬من ف�صيلة‬ ‫الوقت الذي كان النا�س يعي�شون كا ألموات يف‬
‫غري معروفة‪� :‬ضباط � أمن من طراز �شخ�صيات‬ ‫العراق يف زمن احل�صار الذي امتد منذ ‪-1990‬‬
‫الرواية‪« :‬بطران وناجي عبد اهلل و�سامر وناجي‬ ‫‪ 2003‬بعد احتالل دولة الكويت‪ ،‬وحتريرها فيما‬
‫عبا�س» و�ضباط من اجلي�ش املقاتل كغ�سان زوج‬ ‫بعد‪ ،‬وحما�رصة العراق اقت�صاديا لأكرث من عقد‪،‬‬
‫فاتن ال�سابق! و�ضحايا مثل رغد وفاتن وفائزة‬ ‫فقد كانت هناك حمرقة � أخرى �إ�ضافية يديرها‬
‫وكرمي الفنان‪..‬‬ ‫«الأ�ستاذ» يف بيوته ال�رسية وق�صوره املرعبة‬
‫يقول عن ذلك الفنان كرمي‪ ،‬الذي هرب من � أداء‬ ‫يف بغداد!‪ ..‬هذا الأ�ستاذ مل يكن � أ�ستاذا يف علوم‬
‫اخلدمة الع�سكرية يف مقطع دال من الرواية‪:‬‬ ‫التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬ومل يكن مدر�سا يف مدر�سة‬
‫«يافطات املوتى تزداد كلما ظهر» ال�رضورة «على‬ ‫ثانوية � أو � أ�ستاذا يف مدر�سة ابتدائية!! كان الأ�ستاذ‬
‫�شا�شة التلفاز يتوعد اخلا�سئني‪ ،‬وال ي�ستطيع كرمي‬ ‫� أ�ستاذا �سلطويا من طراز فريد! � أطلق عليه هذا‬
‫�إيجاد رابطٍ بني ظهوره اململ يف التلفاز‪ ،‬وبني‬ ‫اللقب‪،‬لأنه من � أهل ال�سلطة‪ ،‬و� أبوه كان م�س�ؤوال‬
‫قوافل املوتى القادمة من جبهات القتال‪ ،‬لذلك غالبا‬ ‫كبريا يف الدولة العراقية‪ ،‬قبل احتالل العراق يف‬
‫ما كان يطل على الكوة ال�صغرية ليداعب ف�ضوله‬ ‫‪ 9‬ني�سان (ابريل) عام ‪ ..2003‬وقد � أدخلنا كاتب‬
‫خطف ج�سد امر� أة ال يظهر وجهها �إال � أذا � أقبلت‪،‬‬ ‫رواية «�رسير الأ�ستاذ» �إىل هذا العامل‪،‬اململوء‬
‫خالل ثوان معدودات ليعي�ش حلما دافئا بب�ضا�ضة‬ ‫با أل�رسار‪ ،‬واحلكايات امل�سكوت عنها يف � أي �سلطة‬
‫اجل�سد الغام�ض املكتظ بالتكويرات» (�ص‪ � )9‬أو‬ ‫غا�شمة‪ ،‬ال تريد لأحد � أن يعرف ما يحدث يف � أقبية‬
‫والكاتب يحدثنا عن مقرات «احتاد الن�ساء» التابعة‬ ‫ق�صور م�س�ؤوليها ال�رسية‪ � ،‬أو ت�أكيد ال�شائعات عما‬
‫للدولة يف الرواية حيث يتم ا�ستدراج و�إغواء الفتيات‬ ‫يدور فيها بني النا�س الذين يحكمونهم باحلديد‬
‫اجلميالت‪ ،‬للعمل يف دور امل�س�ؤولني كمدبرات‬ ‫والنار وال�سجون ال�رسية‪ ،‬ونظام الو�شاية والتقارير‬
‫منازل‪ ،‬ويف حقيقة ا ألمر يتم توظيفهن لأغرا�ض‬ ‫امللفقة‪ ،‬لئال ت�ضيع هيبتها وت�صري هدفا لت�صيد‬
‫� أخرى‪ ،‬حتكي لنا الرواية عنها‪« :‬قالت فائزة ببطء‬ ‫� أعدائها من قوى معار�ضة لها تهدف إل�سقاطها من‬
‫وهي ت�ضغط على خمارج احلروف» يا رفيقة‪ ،‬لدي‬ ‫عيون النا�س‪ ،‬واخذ ال�سلطة منها فيما بعد‪.‬‬
‫دبلوم فنون تطبيقية‪ ،‬وال ت�سمح �شهادتي بالعمل‬
‫ا�ستدراج اجلميالت‬
‫مدبرة منزل � أو‪ ..‬خادمة‪ ،‬كرامتي ال ت�سمح بذلك»‪.‬‬
‫�شعرت فاتن بالغ�ضب‪ ،‬فجل�ست بجانبها‪ ،‬ل�صقت‬ ‫رواية «�رسير ا أل�ستاذ» من تلك الروايات القليلة‪،‬التي‬
‫بفخذها الدافئ‪ �« ،‬أية كرامة �ستبقى � أذا ما فقدت‬ ‫تذكرنا ب�سجالت � أطباء علم النف�س‪ ،‬وهم يتابعون‬
‫راتباً �سيجعلك ملكة‪ ،‬وبعد �سنة � أو �سنتني �ستملكني‬ ‫�شخ�صيات مم�سو�سة ومو�سو�سة! فقدت عقولها‬
‫ال�سيارة والذهب ورمبا تتمكنني من �رشاء �شقة‬ ‫و�سيطرت عليها دواخل �سادية مرعبة ال مثيل لها‪،‬‬
‫يف �شارع حيفا؟» توقفت قليالً‪ ،‬ثم ا�سرت�سلت‪،‬‬ ‫بق�سوتها على النا�س واملحيطني بها‪ ،‬ف�صلتهم‬
‫‪277‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وا إلعدامات الفورية وبال حماكمات‪« :‬جل�س مقرف�صاً‬ ‫«هل تتوقعني �سيكتفون بالراتب؟ كال طبعا‪ � ،‬أنهم‬
‫يف زاوية � أخرى الغرفة ملت�صقاً بجدارين‪ ،‬جمربا ً نف�سه‬ ‫�سيغدقون عليك بالهدايا فيما �إذا وجدوا فيك حر�صاً‬
‫�إال يفكر‪ ،‬متوقعاً حدوث � أي �شيء‪ ،‬مبا فيها �إعدامه‪،‬‬ ‫و� أمانة‪ ،‬هيا دعيني ا�ستطلع ما يدور يف عقلك لأحل‬
‫وبعد وقت طويل جاء ذو النظارة «عليان» وبيده‬ ‫لك العقد امل�ستع�صية» �ص‪15‬‬
‫م�صباح �سلط �ضوءه على عينيه «ا�سمك كرمي «قال‬ ‫العني ال�سحرية للكاتب‬
‫بخوف وتردد» «نعم»‪ ،‬ا�سمع‪ � ،‬أنت متهم بارتباطك‬
‫بحزب‪.....‬العميل‪ ،‬ولدينا تقارير � أمنية ت�ؤكد ذلك‪،‬‬ ‫لقد � أدخلنا كاتب الرواية �إىل ق�صور الطغاة الذين‬
‫اعرتف قبل � أن ننزع عنك جلدك‪ ،‬و�إذا ذكرت لنا � أ�سماء‬ ‫كانوا يحكمون العراق باحلديد‪ ،‬والنار بدعوى‬
‫جماعتك �سنعفو عنك ونلحقك بوحدتك الع�سكرية‬ ‫الوطنية‪ ،‬وال�رشف والدفاع عن العزة الوطنية‪ ،‬وهم‬
‫فوراً» مل يدر ماذا عليه � أن يقول الآن‪ ،‬توقفت قدرته عن‬ ‫يف احلقيقة كانوا يف ق�صورهم ميار�سون � أب�شع � أنواع‬
‫التفكري‪ ،‬اختفت الكلمات من ذهنه‪ ،‬ما � أن ذكر له ا�سم‬ ‫التجاوزات للوطنية وا إلن�سانية واحلق وال�رشف‪..‬‬
‫هذا احلزب املخيف‪ ،‬املرعب‪ ،‬الذي ُزج النا�س ب�سبب ِه‬ ‫لقد � أدخل الكاتب عينا �سحرية لهذه الق�صور املمهورة‬
‫�إىل قعر ال�سجون ومور�ست بهم كل � أنواع التعذيب‬ ‫باخلوف والغمو�ض واملوت! لرتوي لنا بال�صوت‬
‫وا إلعدامات دون � أن يكون ذلك اتهاما حقيقياً بل‬ ‫وال�صورة حقيقة الأمل العراقي‪،‬وما � آلت �إليه الأمور‬
‫هو جمرد و�شاية‪ ،‬وهو يعرف الآن‪ � ،‬أن جمرد االتهام‬ ‫فيما بعد‪�« :..‬شم عطرها‪ ،‬كاد يلح�س جيدها من فرط‬
‫باالنتماء حلزب‪ ،......‬جمرد الو�شاية بذلك‪ ،‬دون دليل‬ ‫دنوها منه ف�س�ألها‪ :‬ماذا لديك؟» نظرت يف عينيه‪،‬‬
‫� أو ت�صديق‪ ،‬ت�ؤدي ب�صاحبها �إىل ا إلعدام فوراً‪ ،‬بدون‬ ‫نظرة نافذة‪ ،‬فاتن قالت بربود « لدي احلل» فانفرجت‬
‫ّ‬
‫حتى حماكمات‪ ،‬لذلك حاول كرمي � أن ي�سيطر يف الأقل‬ ‫� أ�ساريره وابت�سم مرتقباً «هيا‪ ..‬قويل ب�رسعة � أرجوك‬
‫الآن على ما يف مثانته‪�».‬ص‪66‬‬ ‫«ابتعدت عنه باجتاه النافذة» ولكن ب�رشط (كان‬
‫وبالرغم من � أن فائزة وكرمي بطلي الرواية حققا‬ ‫حد�سه مل يخطئ ب�أنها �ست�ضع �رشوطاً‪ ،‬فهو يعلم � أنها‬
‫ن�رصا م�ؤقتا على الطاغوت بثورة � أدت �إىل قتل‬ ‫ال ت�ضيّع فتاة جميلة بهذه ال�سهولة‪ ،‬فقال متلهفاً)‪:‬‬
‫الأ�ستاذ‪،‬وقواده عليان وغريه‪ ،‬يف نهاية الرواية‪� ،‬إال‬ ‫«ا�رشطي‪� ،‬شبيك لبيك عبدك بني يديك‪ »..‬التفتت �إليه‬
‫� أن � أحداث الرواية ت�ستمر يف ذهن القارئ حتى بعد‬ ‫وهي عازمة جدا ً على تنفيذ الفكرة التي ن�ضجت الآن‬
‫انتهاء كلماتها املخطوطة‪�،‬سائرة ملا � آلت �إليه � أمور‬ ‫«هل تذكر �رشيط الفيديو؟» وقف متغابياً � أمامها‬
‫العراق فيما بعد من نتائج منطقية � أهمها‪ :‬االحتالل‬ ‫ك�أنه ال يعرف �شيئاً عنه‪ ،‬وهو الذي � أباح لها‪،‬ذات‬
‫الأجنبي واخلراب واالنتقام من الذات بقتل النا�س‬ ‫�سكرة �شديدة يف بيتها‪ ،‬كيف يتم ت�شغيل جهاز فيديو‬
‫بع�ضهم البع�ض الآخر‪ ،‬واختطاف البع�ض لأبناء‬ ‫يف غرفة �رسية تنقل �إليه من كامريا خمفية و�ضعت‬
‫البع�ض الآخر والتطرف الديني وال�سيا�سي!ملختلف‬ ‫مقابل �رسير الأ�ستاذ كل الأفعال اجلن�سية التي تقام‬
‫الأ�سباب ومن دون � أ�سباب � أي�ضا!!‪.‬‬ ‫على م�رسح ال�رسير‪ ،‬ف�أوم�أ لها ب�إ�شارات يفهم منها‬
‫رقبة الكاتب النحيلة‬
‫عدم معرفته مبا تق�صد‪ ،‬فقالت بغ�ضب» هل ن�سيت‪،‬‬
‫� أم كنت �سكراناً عندما قلت �صورناك على ال�رسير‬
‫رواية «�رسير الأ�ستاذ» هي يف حقيقة الأمر‪ ‬ثقب‬ ‫والأ�ستاذ كان يراقب «‪� ..»........‬شعر بقلبه يقع بني‬
‫ال�سلطة ال�سيا�سية الأ�سود الب�شع‪ ،‬ابتلع كل ما عا�شه‬ ‫يديه وتذكر انه غالباً ما ي�أتي �إليها يبث جنواه عندما‬
‫العراقيون يف وطنهم من ذكريات حلوة‪ ،‬وما بقي‬ ‫يكون ثمالً‪ ،‬والبد انه كان تعي�ساً للغاية يف ذلك اليوم‬
‫يف نفو�س بع�ضهم من � أمل بعودة عراق معافى‪،‬‬ ‫الذي � أف�ضى بهذا ال�رس دون � أن يدري! فتغابى � أكرث‬
‫فهي رواية حتكي عن العمق االجتماعي وما ناله‬ ‫«� أي �رشيط ؟ ال افهم ق�صدك»(�ص‪.)24‬‬
‫من تخريب عرب عقود من ال�سنوات‪ ،‬وما حدث حتت‬
‫ال�سطح‪،‬ذلك الذي كان يبدو �ساكنا وال تغيريات كبرية‬ ‫و�شايات ت� ؤدي للموت‬
‫حتدثنا الرواية عن االعتقاالت التي كانت تتم عليه‪ ،‬وقد قال الروائي يف روايته‪ ،‬ما قالته � أعمال‬
‫‪278‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال ت�ستطيع الكامريا ا�صطيادها‪ .‬اختفى عليان من‬ ‫عاملية �إبداعية مهمة عن � أ�سو� أ ما فعلته النازية‬
‫ال�صورة‪ ،‬ويبدو‪ ،‬فكر الأ�ستاذ وكرمي‪ ،‬انه اقرتب منها‪،‬‬ ‫والفا�شية‪ ،‬واحلكومات الدكتاتورية يف العامل الثالث‪،‬‬
‫كان يجرجرها للوقوف يف منت�صف الغرفة كي يتمتع‬ ‫� أثناء حكمها ل�شعوبها وال�شعوب الأخرى وقد متيزت‬
‫الأ�ستاذ مب�شاهدتها عارية‪�».‬ص‪220‬‬ ‫«�رسير الأ�ستاذ» كونها حتكي ما جرى يف مناخات‬
‫اخليانة الوطنية‬ ‫عراقية حالية خطرية‪ ،‬ورمبا يكون ثمن كتابة �سطر‬
‫�صادق عنها‪ ،‬ال ير�ضي من حكموا �سابقا‪ � ،‬أو حتى‬
‫بعد قراءة �ضاجة بالتح�سب وال�شكوك بقدرة الروائي‬ ‫ه�ؤالء الذين يحكمون اليوم‪،‬لأنها تهتك � أ�رسارا ال‬
‫على �إكمال ون�رش رواية ذات مو�ضوع معقد و�صعب‬ ‫تزال متار�س هنا وهناك ب�صيغ � أخرى‪ ،‬و� أ�ساليب � أكرث‬
‫وخطري كمو�ضوع «�رسير ا أل�ستاذ» مل يخ�ض احد‬ ‫عدوانية وق�سوة‪ ،‬فيكون ثمن ذلك رقبة الكاتب النحيلة!‬
‫قبله من الكتاب العراقيني فيه بهذا ال�شكل ال�رصيح‪،‬‬ ‫فالكاتب ال�صادق اليوم يف العراق عدو للجميع‪ ،‬ويحل‬
‫وكان ملحمد مزيد الكاتب وال�صحفي العراقي‬ ‫دمه للجميع للأ �سف! والكتابة الروائية العراقية‬
‫املعروف‪،‬املحاولة والنجاح � أي�ضا يف �إدانة النظام‬ ‫اجلديدة الباحثة عن ذات‪ ‬وكينونة جديدتني‪،‬هي التي‬
‫ال�سيا�سي ال�سابق‪ ،‬الذي � أثمر للعراقيني ا أل�ستاذ و� أمثاله!‬ ‫� أطلقت املارد املحبو�س من قمقمه‪ ،‬و�سط كل هذا‬
‫وكانت من � أوىل املالحظات التي ي�ضعها القارئ حول‬ ‫اخلراب الذي يبدو للناظرين‪ .‬ونقر� أ عما كان يجرى‪،‬‬
‫الرواية � أنه يعرف كثريا عما قر� أه يف الرواية‪ ،‬قبل‬ ‫وكما جاء يف الرواية‪« :‬ينتظر كرمي املفاج�أة التي‬
‫قراءتها بل ويعرف حتى بطلها‪« :‬ا أل�ستاذ»‪ ،‬و� أن كثريا‬ ‫وعد بها يف الغرفة نف�سها التي يراقب الأ�ستاذ من‬
‫من ق�ص�ص غرامياته الدامية! و�سط منوره و� أ�سوده‪،‬‬ ‫ُ‬
‫خاللها التلفاز اخلا�ص حني تكون �إحداهن يف غرفة‬
‫كانت تنقل هم�سا بالرغم من � أن عقوبة من ينقل ق�ص�صا‬ ‫الت�صوير الأخرى‪ �،‬أذن هناك فتاة �ست�صور بالكامريا‬
‫من هذا النوع للغري عن امل�س�ؤولني يف الدولة ت�ؤدي‬ ‫الثابتة بعد � أن � أرج�أت فكرة الكامريا املتحركة‪،‬فكر‬
‫بالقائل وال�سامع لل�سجن بدعوى «اخليانة الوطنية‬ ‫كرمي‪،‬ال�شيء مثري يف الأمر‪� ،‬ستتم هنا كالعادة عملية‬
‫ببث ا إل�شاعات لزعزعة الروح املعنوية للمواطنني!»‬ ‫اغت�صاب وت�صور �ش�أنها �ش�أن كل احلاالت التي مرت!‪..‬‬
‫و ألن الكاتب مل ي�ضع ا�سما حمددا للأ �ستاذ يف الرواية‪،‬‬ ‫فما املفاج�أة يف ذلك ؟»�ص‪ 200‬وكذلك ما تنقله لنا‬
‫ف�سيبدو لكل واحد من القراء � أن ا أل�ستاذ الذي يق�صده‬ ‫الرواية من م�شاهد تثري يف اجلميع الغ�ضب ملا � آلت‬
‫الكاتب � أ�ستاذا � آخر‪،‬مار�س ذات ما مار�سه ا أل�ستاذ‬ ‫�إليه � أحوال � أهل ال�سلطة‪ �« :‬أ�صدر الأ�ستاذ � أوامره �إىل‬
‫ا أل�صلي مع املواطنني العراقيني العزل!من خالل �سلطة‬ ‫عليان‪:‬‬
‫الدولة الغا�شمة‪ ،‬و�ستمتلئ ال�ساحة با أل�ساتذة املتهمني‬ ‫‪ -‬يجب � أن تظهر الفتاة يا عليان‪ ،‬ماذا جرى ِب�ش�أنها‪،‬‬
‫و� أ�رستهم الدامية‪ ،‬ولياليهم احلمراء وجرائمهم التي ال‬ ‫هل نامت؟ هل مت�ضي كل هذا الوقت وهي تخلع ثوبا‬
‫ين�ساها � أحد!!‬ ‫واحدا ً عن ج�سدها‪ .‬رك�ض عليان �إىل تلك الغرفة‪ ،‬ثم‬
‫والتوزيع‪/‬عمان‪ -‬الأردن‬
‫ّ‬ ‫‪�« j‬رسير الأ�ستاذ» ‪ /‬دار ف�ضاءات للن�رش‬
‫ط‪� 250..2009 1‬صفحة قطع متو�سط‪.‬‬ ‫ظهر واقفا بو�سطها‪ ،‬وكان يبدو � أنه يخاطبها حيث‬

‫‪279‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فاطمة ال�شيدية‬
‫فـي «حفلة املوت»‬
‫ر�سول حممد ر�سول‬
‫باحث و�أكادميي من العراق‬

‫�أفرزها خطاب الرواية كامل�ستوى الذاتي‪ ،‬وامل�ستوى ا أل�رسي‪،‬‬ ‫العمانية فاطمة‬ ‫فيما م�ضى من �سنني‪ ،‬قر� أ بع�ضنا لل�شاعرة ُ‬
‫وامل�ستوى املجتمعي‪.‬‬ ‫ال�شيدية ثالثة دواوين �شعرية ن�رشتها بني عامي ‪-1997‬‬
‫امل�ستوى الذاتي‬ ‫‪ .)1( 2004‬وعندما ت�رشع بقراءة ق�صائد تلك الدواوين‪ ،‬تن�ساب‬
‫تهيمن بطلة الرواية «�أمل» على برنامج الرواية ال�رسدي بكل‬ ‫روحك بعذوبة مع اللغة ال�شعرية الرائقة‪ ،‬وال�صور ال�شعرية ثرية‬
‫مبادراته وف�صوله وحتوالته؛ فهي �صانعة للحدث ومولِّدة له‪،‬‬ ‫العطاء‪ ،‬وامل�ضامني اخلالقة التي ت�سم �أغلب ق�صائد ال�شاعرة‬
‫وم�شاركة يف كل لفظ �أحداثه‪ ،‬ف�ضالً عن رويه على نحو كامل‪،‬‬ ‫بدفق جميل‪.‬‬
‫ناهيك عن �أن طبيعة ال�رسد تنتمي �إىل ال�رسد الذاتي ‪Outodiegeti‬‬ ‫ن‬ ‫ويف الوقت الذي توقعنا فيه‪ ،‬ك ّقراء‪� ،‬أن تفاجئنا ال�شاعرة‬
‫‪� ،ic Narrative‬أي �أن الراوي يف هذا ال�رسد هو مبثابة ال�شخ�صية‬ ‫بديوان �شعري رابع‪� ،‬أ�صدرت ال�شيدية رواية لها بعنوان «حفلة‬
‫احلا�رضة يف كل �أحداث ال�رسد (‪ )3‬املتاحة يف الرواية‪.‬‬ ‫املوت»(‪.)2‬‬
‫�أمل فتاة ُعمانية من مدينة «نزوى»‪ ،‬فتاة ر�شيقة القوام جميلة‬ ‫منذ ال�صفحات ا ألوىل يف هذه الرواية‪ ،‬جتذبك �شعرية ال�رسد‬
‫املالمح‪ ،‬وهي فنانة تع�شق الر�سم‪ .‬كانت والدتها قد جاءت من‬ ‫ول�ست‬
‫َ‬ ‫الطافحة بعذوبة حتى ت�شعر �أنك ب�إزاء ق�صيدة �شعرية‬
‫العمانيني الذي‬ ‫زجنبار كـ «عبدة» للعمل يف ق�صور �أحد ا ألثرياء ُ‬ ‫ب�صدد ن�ص �رسدي‪ ،‬لكنك‪ ،‬وكلما م�ضيت يف قراءة النَّ�ص‪،‬‬
‫اغت�صبها «ا ألم» وهي بنت الثالثة ع�رش ربيعاً يف �ساعة خلوة‪،‬‬ ‫ي�أخذك ال�رسد �شطر عوامل املتخيَّل الروائي في�أ�رسك الق�ص كما‬
‫ف�ضمها‪ ،‬ليتجنب الف�ضيحة‪� ،‬إليه كزوجة �إىل جانب زوجاته‬ ‫َّ‬ ‫فقة �شعراً‪ ،‬ناهيك عن د�سامة الثيمة ‪Theme‬‬ ‫ت�أ�رسك لغته املتد ِّ‬
‫ا ألخريات غري العبدات‪ ،‬فحبلت تلك الزجنبارية‪ ،‬وولدت له ابنة‬ ‫التي تت�صدى لها الروائية يف عملها ال�رسدي هذا‪.‬‬
‫وتلك هي «�أمل»‪ .‬نقر� أ يف الرواية‪:‬‬ ‫على رغم �أن غالف الكتاب يح�سم «جن�س» هذا العمل ا إلبداعي‬
‫«�أم اغت�صب ا ألب منها �رشفها‪ ،‬و�أهداها ا�سمه زوجاً تعوي�ض ًا‬ ‫من خالل مفردة «رواية»‪� ،‬إال �أن ال�شيدية ال تني ت�ؤ ِّكد ذلك‬
‫غري عادل فقط لينقذ ا�سمه يوم حملت بي» (�ص ‪.)79‬‬ ‫من خالل �إحدى عتبات النَّ�ص عندما تقول عن هذا الكتاب‬
‫ويف رثاء «�أمل» لوالدتها يوم وفاتها نقر�أ‪« :‬طفولتك ال�سمراء‬ ‫�إنه‪« :‬رواية متخيَّلة ُن�سجت �أحداثها من ميثولوجيات املكان‬
‫التي اغت�صبها �شيخ القبيلة الهرم‪ ،‬ممن هي دونه عمرا ً ون�سباً‬ ‫العماين» (�ص‪ )5‬ما يعني �أنها ب�صدد عمل روائي متخيَّل‪ ،‬لكنه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تزوج عبدته احلزينة الفاتنة‪ ،‬ألنه �سطا عليها يف‬ ‫و�رشفاً‪ ،‬ممن ّ‬ ‫العماين يف‬‫ُ‬ ‫امليثولوجي‬ ‫املخيال‬ ‫يوظف‬ ‫عمل‬ ‫نف�سه‪،‬‬ ‫الوقت‬ ‫ويف‬
‫أ‬
‫حلظة �شبق ملعون لتلد له نبتة ملعونة ت�سمى �نا» (�ص ‪.)83‬‬ ‫اخلطاب الروائي‪.‬‬
‫«غادرت االنق�سام‬
‫ِ‬ ‫ويف �سياق رثائية «�أمل» لوالدتها نقر� أ �أي�ضاً‪:‬‬ ‫تقنياً‪ ،‬تعمد الروائية �إىل توظيف «�ضمري املتكلِّم»؛ ذلك �أن‬
‫غادرت ف�ضيحة ر�سمت يف دفرت‬ ‫ِ‬ ‫واخلزي يف حياتي وحياتك‪،‬‬ ‫بطلة الرواية «�أمل»‪ ،‬ت�ستحوذ على ت�شخي�ص ولفظ ُجل عمليات‬
‫وهبت فرجها ل�سيّدها‪ ،‬وولدت‬ ‫ْ‬ ‫مذ َّكراتك ب�أنك ل�ست �سوى عبدة‬ ‫كلي‬
‫الربنامج ال�رسدي يف الرواية‪ ،‬وهي لذلك مبثابة الراوي ِّ‬
‫بنتاً لقيطة» (�ص ‪.)83‬‬ ‫احل�ضور ‪� Omnipresent Narrator‬أو الراوي العليم ‪.Omniscient Narrator‬‬
‫ثم تقول «�أمل»‪« :‬ما �أب�شع �أن تكون حياتك كلها ثمرة خط�أ‬ ‫وتدفع بهذا الربنامج نحو ا�ستنفار طاقة الوعي يف الو�صف‬
‫فادح‪ ،‬و�شهادة ميالد َك ت�صحيحاً لذلك اخلط�أ‪ ،‬وعمر َك دعاء �أن‬ ‫العالماتي واحلواري‪ ،‬والتذ ُّكر واملناورة‪ ،‬والدخول �إىل مطاوي‬
‫ي�صحح القدر �أخطاءهم بغيابك» (�ص ‪.)79‬‬ ‫ِّ‬ ‫التاريخ‪ ،‬والال�شعور الذاتي وغري الذاتي عرب ا�ستنطاق ما يجول‬
‫تك�شف لنا هذه املقاطع النَّ�صية عن ثالثة م�ؤ�رشات ت�ؤ�س�س لـ‬ ‫يف ذاتها وذوات ا آلخرين امل�شاركني يف برنامج الرواية‬
‫«�أمل» كينونتها الذاتية‪ ،‬فهذه البنت هي‪« :‬ثمرة اخلط�أ الفادح»‪،‬‬ ‫ال�رسدي‪.‬‬
‫وهي «اللقيطة»‪ ،‬و«النبتة امللعونة»‪ .‬لقد ظلت هذه امل�ؤ�رشات‬ ‫ميكن لنا ا�ستجالء �صورة املر�أة بح�سب متثيالت ‪Representations‬‬

‫حتفر وجودها يف ذات «�أمل»‪ ،‬و�صارت ترافقها كلّما تكرب‬ ‫فاطمة ال�شيدية يف «حفلة املوت» من خالل م�ستويات عدة‬
‫‪280‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫العن�رصية يل» (�ص ‪.)89‬‬ ‫وتنخرط يف خمتلف �أوجه احلياة‪ ،‬بل و�أ�صبحت هماً وجودياً‬
‫�أما ا ألب‪ ،‬فتك ُّن �أمل له بغ�ضاً منقطع النظري كونه العن�رص املولِّد‬ ‫لها وال فكاك منه حتى دخلت �أروقة وعيها وعالقتها بالوجود‬
‫مل�أ�ساتها و�أمها‪ ،‬فهو الذي دفعه �شبقه ال�شيطاين �إىل ارتكاب تلك‬ ‫من حولها‪ ،‬وهو ما راح يتك� َّشف تباعاً‪ ،‬وعلى ل�سان «�أمل»‬
‫اخلطيئة التي �أتت بالوبال عليهما‪ .‬ولذلك ال تني فاطمة ال�شيدية‬ ‫نف�سها كونها امللفوظ الب�رشي الذي قذفته ليلة اخلط�أ الفادح �إىل‬
‫العماين «�أمنوذج‬ ‫�إال وتدفع ببطلة روايتها لف�ضح هذا ا ألب ُ‬ ‫العامل املرئي واملعا�ش؛ فقد بقيت متار�س لعبة احلياة‪ /‬املوت‬
‫الذكورة املتجبرِّ ة» الذي �أوقعه ظلمه يف فخ اخلطيئة‪ .‬لنقر� أ ما‬ ‫وهي «رهينة وجع مطبق منذ ا ألزل» (�ص ‪ .)28‬و�صارت اللعنة‬
‫قالته �أمل عن والدها يف النُّ�صو�ص‪ /‬املقاطع ا آلتية‪:‬‬ ‫متاهي كينونتها الذاتية «تلك اللعنة هي �أنا» (�ص ‪ .)32‬وبدا‬
‫قذف بي �إىل هنا‪ ،‬لعنه اهلل»‬ ‫«الرجل الذي ي�سمى �أبي‪ ،‬ذلك الذي َ‬ ‫اخلوف مبثابة الهواء الذي تتنف�سه «�أنا بنت �رشعية للخوف»‬
‫(�ص ‪.)59‬‬ ‫(�ص ‪ ،)38‬و«اخلوف يتلب�سني» (�ص ‪ .)45‬و�أم�ست ذاتها مدماة‬
‫ال�س َحرة‪ ،‬علي ِك اللعنة‬ ‫أ‬
‫«�أيها ال�سافل! تهبني طعاماً ل�صدقائ َك َّ‬ ‫«خم�ضبة باملوت» (�ص ‪ .)45‬وما ما�ضيها �سوى‬ ‫َّ‬ ‫باملوت �أو‬
‫�أيها امللعون وعليهم» (�ص ‪.)59‬‬ ‫ملوث باملوت والعار» (�ص ‪.)74‬‬
‫«ما�ض َّ‬
‫نت �شيطان‪� ..‬شيطان‪� ..‬شيطان‪�( »..‬ص ‪.)59‬‬ ‫ل�ست �إن�ساناً‪ � ،‬أ َ‬
‫«ال‪َ ..‬‬ ‫امل�ستوى أُ‬
‫ال�سري‬
‫«�س�أرمم اخليبات املوغلة عميقاً يف جدر روحك‪ ،‬و��سعف الهزائم‬
‫أ‬
‫املباركة يف عمرك لتكوين �سعيدة؛ فجالدكِ رحل‪�( »..‬ص ‪.)80‬‬ ‫يف �ضوء هذه احلمولة النف�سية‪� ،‬أفرزت الو�ضعية الذاتية التي‬
‫فلنها ابنة‬ ‫تتميز بها �شخ�صية �أمل جمموعة من املعطيات؛ أ‬
‫ال�س َحرة‪ ،‬وال�شياطني‪،‬‬‫«قررت �أن �أتفل يف وجه �أبي‪ ،‬ويف وجه َّ‬ ‫تزوجها �سيدها جمربا ً حلفظ عاره‪ ،‬ف�إنها ما كانت‬
‫واجلالميد وا ألحجار و�أ�شباههما» (�ص ‪.)134‬‬ ‫عبدة َّ‬
‫امل�ستوى املجتمعي‬
‫العماين �صاحبات‬ ‫مت�ساوية و�أمها مع زوجات وبنات الرثي ُ‬
‫احل�سب والن�سبي(‪.)4‬‬
‫يت�ضح مما �سبق �أن التجربة الذاتية وا أل�رسية ألمل كانت قد‬ ‫لقد كان التمييز الطبقي والعن�رصي عبئاً تعانيه �أمل ووالدتها‪:‬‬
‫للب ولبقية �أبناء ا أل�رسة التي‬ ‫كونت عندها �صورة �سلبية أ‬ ‫َّ‬ ‫«كنت �أخاف هذه النظرة احلقرية التي تخت�رص ا إلن�سانية يف‬ ‫ُ‬
‫عا�شت بني كنفها‪ ،‬وهي ال�صورة التي امتدت لت�شمل املجتمع‬ ‫معنى‪ ،‬والكائن يف ع�ضو» (�ص ‪ .)96‬وكانت البطلة تت�ساءل‬
‫الذكوري بكل كينونته‪ ،‬بل واملجتمع العام برمته‪ .‬وهذا ما جنده‬ ‫على الدوام‪« :‬كم على املرء � أ ْن يدفع من �أثمان يف هذه احلياة‬
‫وا�ضحاً يف خالل �رسدية الرواية‪.‬‬ ‫القا�سية؛ ثمن حريته‪ ،‬وثمن لونه‪ ،‬وثمن فكره املغاير‪ ..‬و�ستبقى‬
‫عممت �أمل يف النَّ�ص‪ /‬املقطع ا ألخري فعل «التفل» =‬ ‫لقد َّ‬ ‫�ألوان جلود الب�رش معيار حكم �أخالقي عليهم‪ ،‬يف حني ي�صري‬
‫أ‬
‫«الب�صق» ليطال الب�رش وال�شياطني والحجار‪ .‬ويف ن�صو�ص‬ ‫الظلم �رشفاً يف كثري من ا ألحيان» (�ص ‪.)84‬‬
‫�أخرى ك�شفت عن قمع املجتمع الذكوري للمر�أة عندما قالت‪:‬‬ ‫بدت �أمل كراوية امل�صدر الوحيد يف �رسدية الرواية التي تك�شف‬
‫للج�ساد لتكتمل حلقة‬ ‫«نحن ن�ساء ال�سواد املتدثرات بعباءات أ‬ ‫عن �صور من التمييز العرقي والطبقي التي تعرَّ�ضت لها هي‬
‫ال�صهر لذلك اجل�سد امللعون؛ ا ألب وا ألخ والزوج واجلغرافيا‬ ‫ووالدتها؛ فعندما عادت �أمل من البحرين‪ ،‬وبعد ا�ستكمال‬
‫كلها حتا�رصه وتل ُّفه بحرقة لتخفي لعنة مفاتنه وعبثية خلقه»‬ ‫درا�ستها‪ ،‬انخرطت بالعمل الوظيفي‪ ،‬ويف حماولة منها للتعوي�ض‬
‫العمانية يف‬ ‫(�ص‪ .)11‬ونبقى عند متثيل حال املر�أة اخلليجية �أو ُ‬ ‫على �أمها التي عا�شت �سنوات احلرمان والتهمي�ش وعدت والدتها‬
‫�أقل تقدير‪« :‬حيوانات ك�أبي وعمومتي وجميع �أبناء البلدة‪ ،‬وهن‬ ‫قائلة مع نف�سها‪« :‬كل �أولئك ال�شامتني �سيكونون �أقل �ش�أناً منك‪،‬‬
‫را�ضيات بتلك ا ألدوار‪ ،‬م�ستمتعات بلذَّة اخل�ضوع واخلنوع»‬ ‫�س�أهبك كل ما تتمنني من ذهب ومال ومالب�س لتكوين ال�سيدة‬
‫ج�سدية املر�أة‬
‫َّ‬ ‫(�ص‪ .)13‬بل تذهب �أمل �إىل الك�شف عن حال‬ ‫التي ت�ستحقني‪ ،‬ولتكوين ا ألعلى من �سيدات ا ألرداف الثقيلة‬
‫�شاهدت �سياط الظلم تتلى على ج�سد �أمي‬ ‫ُ‬ ‫املقهورة‪�« :‬أنا التي‬ ‫والعائالت العريقة زوجات �أبي امللعونات مثله اللواتي جعلن ِك‬
‫أ‬
‫وكل ن�ساء القرية‪ ،..‬الزواج الذين جعلوا عقد الزواج عقد عبودية‬ ‫ومل َن عمركِ بالكيد والبغ�ضاء والفنت‪ ،‬و� أ ِ‬
‫نت �سيِّدة‬ ‫دونه َّن قدراً‪ ،‬أ‬
‫وامتهان‪ ..‬يهرعون �إليه َّن ليالً كالوحو�ش ليطفئوا رغباتهم‬ ‫ال�صمت البليغ» (�ص ‪.)81‬‬
‫القذرة يف �أج�سادهن اله�شة بال كلمة حب �أو مل�سة حنان كي ال‬ ‫لي�ست زوجات ا ألب فقط ك َّن ميار�س التمييز العن�رصي على‬
‫يتطاولن عليهم‪ ،‬كهذا تقول تقاليد القبيلة الغبية»(�ص‪.)14‬‬ ‫�أمل ووالدتها‪� ،‬سيِّدة ال�صمت البليغ‪ ،‬بل �أبناء العمومة �أي�ضاً‪،‬‬
‫�إن نظرة �أمل ال�سلبية جتاه املجتمع الذكوري عامة‪ ،‬والرجل‬ ‫فهذا «خالد» الذي �أحبته �أمل يوماً لكنه ُي�ضمر ر ؤ�ية عن�رصية‬
‫�سواء كان �أباً �أم قريباً �أم زوجاً على نحو خا�ص‪ ،‬قادتها �إىل‬ ‫«كنت �أكره ا أل�شباح التي ت�سكن ر�أ�سه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ألمل كونها ابنة عبدة‪:‬‬
‫تن�ضيد مواقف معلنة تارة وم�ضمرة تارة �أخرى من االرتكان‬ ‫كنت �أكره �ضعفه‪ ،‬ونظرته‬ ‫والطحالب التي تع�شع�ش يف خميلته‪ُ ،‬‬
‫‪281‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يت�ضح من هذا النَّ�ص احلكائي �أن �أمل تعرَّ�ضت �إىل غيبوبة‬ ‫�إىل الرجل كزوج‪ ،‬فعندما كانت والدة �أمل تلح عليها بالزواج‬
‫ال�سحر‪ ،‬وا�ستحالت‪ ،‬بعد تلك الواقعة‪� ،‬إىل �إن�سانة «مغيَّبة»‬ ‫بفعل ِّ‬ ‫كان الرف�ض حا�رضا‪« :‬لن �أتزوج �أي حمار ورث النهيق كما ورث‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫(�ص‪ ،)63‬وم�سحورة‪ ،‬ي�صاحبها قط ��سود «القط ال�سود الذي‬ ‫تزوج ممن هم كالبهائم �أو‬ ‫الرجولة املزعومة» (�ص ‪ .)90‬و»لن � أ َّ‬
‫يتبعني كظلي يف كل مكان‪ ،‬والذي ال يراه �أحد �سواي» (�ص‪.)72‬‬ ‫�أقل �سبيال» (�ص ‪)87‬؛ فالذكور «ثريان ال يفهمون احلياة �سوى‬
‫و�صارت هذه اخلا�صة لها م�شهورة يف ف�ضائها ا أل�رسي‬ ‫من قرونهم �أو من �أع�ضائهم» (�ص ‪ .)120‬ولذلك �أ�رصَّت �أمل‬
‫واملجتمعي الذي تتحرَّك فيه‪ ،‬وم�صدرا ً لقلقها و�إزعاجها‬ ‫على �أن تكون «الفنانة التي ال تقوى �إال على ن�سج اختالفاتها‬
‫امل�ستمر‪ ،‬بل م�صدر اللعنة واخلزي والعار وا ألمل‪ .‬حتى �إن هذا‬ ‫�ألواناً لتقاوم ال�سقوط كي ال يذوب حلمها الذي غذَّته من فتنة‬
‫«القط ا أل�سود» �صار مالزماً لها يف عالقة متاهي‪ ،‬فقد قال‬ ‫املجهول يف بوتقة رجل �ساذج‪ ،‬رجل يقامر روحي بلحظة �شبق‬
‫لها القط مرَّة‪�« :‬أنا عبد من عباد اهلل‪ ،‬و�أنا و�أنت متالزمان منذ‬ ‫ملعون‪ ،‬وبرتك ب�صماته على ج�سدي املفتون بحمى االختالف‬
‫قرَّر رجل من ا إلن�س �أن �أكون ظلِّك‪� ،‬إال تذكرين؟ ولن �أ�سمح ل ِك‬ ‫وجريرة الع�شق»(�ص‪.)14‬‬
‫بالزواج من كائن � آخر‪ ،‬وحني تقررين ذلك ف�ستكون نهايتك على‬ ‫ب�إزاء كل هذه القناعات واملواقف التي ميزت �شخ�صية �أمل‪،‬‬
‫يدي!» (�ص ‪.)73‬‬ ‫ما كانت فاطمة ال�شيدية لتقف عندها دون ت�رسيد ‪Narrativivsat‬‬ ‫م‬
‫يف عاملي ا إلن�س واجلان‪ ،‬ثمة حما�رصة وقمع وطغيان‬ ‫‪ tion‬جملة من احلكايات يف الرواية لكي متنح خطابها مناورات‬
‫و�إح�سا�س بالعار تتعرَّ�ض له �أمل؛ فالقط ذكر‪ ،‬وا ألب ذكر‪،‬‬ ‫ذكورية‬
‫َّ‬ ‫عدة يف جت�سيد �صورة املر�أة املعذَّبة بني ناري و�سلطتي‬
‫وا ألمل ذكر‪ ،‬والطغيان ذكر‪ ،‬والعار ذكر‪ .‬وهكذا يربم املجتمع‬ ‫وذكورية اجلان على �أن تعدُّد احلكايات يف النَّ�ص الواحد‬
‫َّ‬ ‫ا إلن�س‬
‫الذكوري �سطوته على ذاتها‪ ،‬ويلتف على كينونتها حدَّ احلق‪.‬‬ ‫تنوعه وثرائه وهو ما ينعك�س على ثراء خطاب‬ ‫ّ‬ ‫خري‬ ‫أ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫هذا‬ ‫مينح‬
‫ولنالحظ �أن القط ا أل�سود �أخرب �أمل ب�أن رجالً من ا إلن�س طلب‬ ‫الرواية اخلا�ص بها‪ ،‬وقبل ذلك يرثي الربنامج ال�رسدي للرواية‬
‫منه �أن يكون ظالً لها‪ .‬وهو ما �سعت فاطمة ال�شيدية �إىل‬ ‫ومينح الروائي قدرات على التحرُّك احلر يف بناء ذلك الربنامج‪.‬‬
‫كت �أمل م�سطرته ‪Dec‬‬ ‫تت�شفريه بداية ‪ ،Encoding‬لكن �رسعان ما ف َّ‬ ‫لقد بدت عالقة �أمل مع والدها ووالدتها بكل ما فيها من مفا�صل‬
‫‪coding‬؛ فرج ُل ا إلن�س هذا هو والد �أمل‪ ،‬لنقر�أ‪« :‬الرجل الذي ي�سمى‬ ‫حكاية �أوىل يف الرواية‪� ،‬إال �أن هناك حكايتني �أي�ضاً؛ حكاية‬
‫قذف بي �إىل هنا‪ ،‬لعنه اهلل‪� ..‬أيها ال�سافل! تهبني‬ ‫�أبي‪ ،‬ذلك الذي َ‬ ‫ال�سحر‪ ،‬وحكاية ع�شق �أمل ل�شاب من البحرين‬ ‫تعرُّ�ض �أمل �إىل ِّ‬
‫ال�س َحرة‪ ،‬عليك اللعنة �أيها امللعون وعليهم‪..‬‬ ‫طعاماً أل�صدقائك َّ‬ ‫ا�سمه «�أحمد ّ‬
‫الريان»‪.‬‬
‫�أمل تر َّق ألعوامي النيئة وطفولتي اخلبيئة؟ ال‪َ ..‬‬
‫ل�ست �إن�ساناً‪،‬‬ ‫كل هذه احلكايات الثالث متثل ع�صب الربنامج ال�رسدي يف‬
‫نت �شيطان‪� ..‬شيطان‪�( »..‬ص ‪.)59‬‬ ‫�أ َ‬ ‫خطاب «حفلة املوت» التي عمدت فاطمة ال�شيدية �إىل خلق بيئة‬
‫الذكورية على �أمل ابنة اثني ع�رش ربيعاً‬‫َّ‬ ‫هذه هي جناية ال�سطوة‬ ‫من التالزم والتداخل فيما بني مفا�صله حتى بدا البناء ال�رسدي‬
‫ال�سحر‪ ،‬و�أدخلها يف �أتون مقا�صده‬ ‫التي �ساقها والدها �إىل عامل ِّ‬ ‫فيه مرتا�صاً من حيث وحدته احلدثية واخلطابية‪.‬‬
‫ال�سحر يالزمها يف رحلة العمر؛ يف الدرا�سة‬ ‫الدنيئة‪ .‬وظ َّل هذا ِّ‬ ‫منذ ال�صفحة ‪ 17‬يف ن�ص الرواية‪ ،‬بد�أت �أمل‪ ،‬وهي الراوية‪،‬‬
‫بعمان ويف البحرين‪ ،‬ويف بريطانيا �أي�ضاً‪ ،‬وكلَّما �سعت �أمل‬ ‫ُ‬ ‫بت�رسيب بع�ض ا إلحاالت �صوب حكاية ما‪ ،‬حكايتها اخلا�صة‬
‫للتخلُّ�ص من �سطوته‪ ،‬كان يداهمها فتنهار مراراً‪ ،‬وكلما �أرادت‬ ‫بها‪ .‬فهي تتحدَّث عن «كائناتي الكثرية التي ت�سكنني» (�ص‬
‫�أن جتري حتوالً يف حياتها‪ ،‬كالزواج مثالً‪ ،‬كان القط ا أل�سود‬ ‫‪ .)17‬وهذا م�ؤ�رش على �إ�شكالية ما تعي�شها هذه ا ألمل‪ .‬وبعد‬
‫لها باملر�صاد حتى �إنها‪ ،‬وعندما جاءها �أحمد �إىل لندن لكي‬ ‫�صفحات �أخرى تقول‪�« :‬أنا � آخر املغيَّبني والغرباء» (�ص ‪.)33‬‬
‫يعقد قرانه عليها‪� ،‬أ�شهرَ القط ا أل�سود الذي ي�سكنها �سيفه بوجه‬ ‫ومن ثم تقول مت�سائلة يف معر�ض حديثها عن حبيبها �أحمد‪:‬‬
‫وجودها حتى �أحالها �إىل ج�سم ميت لتودع يف �رسير التح�ضري‬ ‫«هل �سيحبني لو عرف حكايتي؟» (�ص ‪.)53‬‬
‫على الدفن‪ ،‬وبينما غادرها �أحمد يائ�ساً منها راجعاً �إىل‬ ‫�إن �أمل امل�سكونة بالكائنات الكثرية‪� ،‬أمل املغيَّبة‪ ،‬و�صاحبة‬
‫البحرين‪� ،‬أفاقت من هيمنة هذا القط اللعني‪ ،‬ولكن بعد �أن �أف�سد‬ ‫حكاية‪ ،‬ت�شي ذاتها احلبلى بالوجع الوجودي القاهر مبا ال‬
‫عليها زواجها من حبيبها الغايل‪.‬‬ ‫ُيحمد عقباه‪ .‬وبالفعل مت�ضي بطلة الرواية على نحو متداع‬
‫الذكورية على وجود �أمل‪ ،‬ثمة‬‫َّ‬ ‫على رغم �سطوة جنايات الهيمنة‬ ‫يف فعل حكي توا�صلي يهدف �إىل البوح بانطولوجيا حكايتها‪:‬‬
‫يد�سه الوجود لهذه الفتاة املغلوبة على �أمرها واملقهورة‬ ‫�أمل ُّ‬ ‫«حكايتي التي بد�أت بيوم غفوت فيه ألجدين كائناً مندجماً‬
‫ب�سياط ا إلن�س واجلان من الرجال‪ .‬وهذا ما �سعت فاطمة ال�شيدية‬ ‫بكائنات �أخرى؛ كائنات �شبحية ال �أج�ساد لها‪ ،‬كائنات ت�أكل‬
‫�إىل تكري�سه يف احلكاية الثالثة من حكايات الربنامج ال�رسدي‬ ‫من ر�أ�سي‪ ،‬كائنات من اجلن تقتن�ص حدائقي ال�رسية‪ ،‬وت�ستلف‬
‫اخلا�ص بـ«حفلة املوت»‪.‬‬ ‫�صوتي وج�سدي وحزين» (�ص ‪.)54‬‬
‫‪282‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مرتددة‬
‫ويلح على ذلك‪ ،‬بينما هي كانت ِّ‬ ‫يريد الزواج منها ُّ‬ ‫و�إذا كان القط ا أل�سود ظل يرافق �أمل يف حياتها مذ كانت يف‬
‫خوفاً من اكت�شاف �أ�صلها كلقيطة‪ ،‬و�إن �أخفت فاطمة ال�شيدية‬ ‫الثانية ع�رشة من عمرها‪ ،‬ف�إن �أحمد‪ ،‬ا أل�ستاذ اجلامعي‪ ،‬والفنان‬
‫ذلك‪ ،‬واكت�شاف و�ضعيتها كفتاة م�سحورة نخر القط ا أل�سود‬ ‫الت�شكيلي البحريني التي كانت والدته عراقية ووالده من‬
‫الريان ليقف عند كل ذلك حائراً‪ ،‬بل‬‫�أحالمها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ما كان ّ‬ ‫البحرين‪ ،‬ظل يرافق �أمل منذ بداية الرواية حتى حلظة انق�ضا�ض‬
‫راح يخفف من وط�أة �أوجاع حبيبته‪ ،‬لكن القط ا أل�سود انت�رص‬ ‫القط ا أل�سود على �أمل يف لندن‪ ،‬ومن ثم ان�سحابه من عاملها‪.‬‬
‫عليه يف نهاية ا ألمر بلندن عندما غيَّب �أمل �صوب �أ�سوار كينونة‬ ‫الريان‬‫� إ َّن ما تريد فاطمة ال�شيدية قوله من خالل �شخ�صية �أحمد ّ‬
‫الريان عن لندن يائ�ساً من �أمل التي‬
‫املوت‪ ،‬و�أحياها ُبعيد رحيل ّ‬ ‫هو �أن العامل الذكوري لي�س كله �رش؛ فثمة �إ�ضاءة يدلقها الوجود‬
‫مل ي�ستطع «�سحق كائناتها الكثرية التي ت�سكنها» (�ص ‪17‬ت)‪.‬‬ ‫الذكوري على عامل املر�أة و�إن كان‪ ،‬هذا الوجود‪ ،‬مظلماً جرّاء‬
‫وهي نهاية متو َّقعة‪ ،‬خ�صو�صاً و�أن �أمل هي التي قالت يوما‪:‬‬ ‫قمع �أبوية الرجل املقيتة‪.‬‬
‫ظلَّت �أمل كـ«راوية كلية احل�ضور» هي امل�صدر ا إلخباري‬
‫«�أنا �أعرف جيدا ً �أنني ُ‬
‫ولدت �صارية للفقد» (�ص ‪.)11‬‬
‫ذكورية احلقد‬ ‫ذكورية اخلري‪،‬‬ ‫ذكورية ال�رش على‬ ‫لقد انت�رصت‬ ‫والو�صفي وال�سيميائي لكينونة �أحمد يف كل �رسدية الرواية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ذكورية احلب‪ .‬وبرغم �رشا�سة ما تعرّ�ضت له �أمل من‬ ‫على‬ ‫فقد كانت العني الوا�صفة جلل ما تف ِّكر فيه �شخ�صية هذا احلبيب‬
‫َّ‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫مكائد ا إلن�س واجلن �و اجلان‪ ،‬كان المل يحدوها لتنفلت من‬ ‫العا�شق من �أفعال داخلية ‪ Internal Action‬ولبع�ض ما تقوله وتفعله‬
‫كل ذلك‪ ،‬فالدخول �إىل العامل الذكوري مبفتاح احلب والع�شق‬ ‫ك�أفعال خارجية ‪.External Action‬‬
‫بدا لها اخليار ا ألخري الذي عزمت على خو�ض غماره‪ ،‬وهو‬ ‫يف بداية تعارفهما‪ ،‬فتحت �أمل م�ساحة يف ذاتها وقلبها لهذا‬
‫م�ؤ�رش على �صالبة �أمنوذج املر�أة الذي قدَّمته فاطمة ال�شيدية‬ ‫ا أل�ستاذ الفنان‪ ،‬لكنها كانت تتقبله على م�ض�ض عرب �أ�سئلة‬
‫عرب متثيلها املتخيَّل ل�شخ�صية �أمل يف «حفلة املوت»‪ ،‬ويف‬ ‫حائرة تت�أرجح بني رف�ضه والقبول به‪ ،‬بني انتمائه �إىل العامل‬
‫الوقت نف�سه �أمنوذج املر�أة املقهورة‪ ،‬املر�أة حفيدة العابرين من‬ ‫الذكوري واحلاجة �إىل رجولته‪ .‬لذلك‪ ،‬جند جملة من ال�صفات‬
‫ال�سلبية احلذرة تكيلها �أمل لهذا الفنان بداية مثل‪�« :‬أيها املجنون‬
‫�ضفة زجنبار �شطر ُعمان‪ ،‬وابنة تلك «العبدة الزجنبارية» التي‬
‫ال تالحقني» (�ص ‪ .)10‬و«ماذا ميكن لهذا املتغطر�س �أن يحب‬
‫العماين يوماً‪ ،‬ويف طق�س � آثم‪ ،‬ليخلق ال�سبي‬ ‫غار عليها �سيِّدها ُ‬ ‫يف» (�ص ‪ .)35‬و«هذا املجنون ا ألكرب» (�ص ‪ .)37‬و»طري خرايف‬ ‫َّ‬
‫الوجودي لواحدة من تلك الن�سوة الفارات من اجلوع واحلرمان‬
‫يتهادى ببطء» (�ص ‪ .)38‬و»هذا الطاوو�س» (�ص ‪.)39‬‬
‫وا ألمل �شطر جوع و�أمل وحرمان وبكاء م�ضاعف فاج�أها يف‬
‫الريان �أمالً ألمل امل�سحورة‬
‫بالتوازي مع كل ذلك‪ ،‬كان �أحمد ّ‬
‫ال�ضفة اخلليجية اجلديدة‪.‬‬ ‫التي ت�ساءلت مع نف�سها مرة قائلة‪« :‬هل �سيرتك كل ذلك الظهور‬
‫هوام�ش‬ ‫اللوين ال�صاخب وا ألنوثة الطاغية‪ ،‬وي�أتي يل �أنا؛ القروية‬
‫(‪ )1‬الدواوين ال�شعرية هي‪« :‬هذا املوت �أكرث اخ�رضاراً»‪ ،‬دار الر ؤ�يا‪ ،‬م�سقط‪،‬‬ ‫امللوثة الذاكرة؟» (�ص ‪ .)35‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬كانت �أمل تعتقد‬ ‫َّ‬
‫‪« .1997‬خالخيل الزرقة»‪ ،‬دار املدى‪ ،‬دم�شق‪« .2004 ،‬مراود احللكة»‪،‬‬ ‫�أنها «ومنذ توج الزمن عمرها بفتنة اخلدر اللذيذ‪ ،‬وهي عا�شقة‬
‫وزارة الرتاث والثقافة‪ ،‬م�سقط‪.2008 ،‬‬
‫(‪ )2‬فاطمة ال�شيدية‪ :‬حفلة املوت‪ ،‬دار ا آلداب‪ ،‬بريوت‪.2009 ،‬‬ ‫بامتياز؛ عا�شقة كنخلة يبد� أ الع�شق لديها من اجلذور ويتمدَّد‬
‫(‪� )3‬أنظر‪ :‬جريالد برن�سك قامو�س ال�رسديات‪� ،‬ص ‪ ،24‬ترجمة ال�سيد �إمام‪،‬‬ ‫حتى الطلع» (�ص ‪.)12‬‬
‫مرييت‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬ ‫وو�سط ت�سا ؤ�ل من قبيل‪« :‬هل �سيقدر على �سحق كائناتي الكثرية‬
‫(‪ )4‬كانت �أمل ووالدتها تعي�شان يف بيت طريف‪ ،‬بينما كان والدها يعي�ش‬ ‫بحب �أحمد‪ ،‬وبد� أ ُت‬ ‫التي ت�سكنني؟» (�ص ‪ ،)17‬قالت �أمل‪ُ �« :‬‬
‫آمنت ِّ‬
‫العمانيات‪ ،‬ن�سائه غري العبدات‪ ،‬يف منزل � آخر هو‬ ‫مع ن�سائه ا ألخريات ُ‬ ‫�أعي�شه» (�ص ‪ .)16‬و�أ�صبحت «ال ت�ستطيع قذفه خارج نوافذها‬
‫«املنزل الكبري» (�ص ‪.)50‬‬
‫ني من القهر الذكوري؛ فعن �صديقتها‬ ‫(‪ )5‬حتدَّثت �أمل عن ن�ساء عدة يعان َ‬ ‫امل�رشعة على انتظاراته‪ ،‬وال خارج اللوحة التي تغذي جنونها‬
‫بدرية قالت‪« :‬بدرية احل�سناء التي غدت جمنونة من زوجها الذي كان‬ ‫تعد قادرة على‬
‫ي�ضاجع خليالته يف غرفة نومها» (�ص ‪ .)114‬وعن �أم �شيخة قالت �أمل‪�« :‬أم‬
‫به‪ ،‬وتتخذه ملهماً» (�ص ‪ .)36‬ويف النهاية «مل ُ‬
‫�شيخة التي ت�شتهي رائحة زوجها لعدة �شهور‪ ،‬وهو ي�ستبيح ج�سد الغلمان‬
‫�أن ت�رسج هواج�سها املتوالدة بجنون �إال نحوه» (�ص ‪.)37‬‬
‫لطمر �شهوته يف م�ؤخراتهم الطرية» (�ص ‪ .)114‬وبالتايل تلك «التي‬ ‫عري حقويل من الوهم‬ ‫وكانت تناديه ب�صوت خمبوء‪« :‬تعال أل ِّ‬
‫قذفت ينف�سها يف الفلج ليقال �إنها م�سحورة؛ ألنها �شاهدت زوجها ميتطي‬ ‫و�أغ�سلها ب�أمطارك» (�ص ‪.)20‬‬
‫خادمتها ا أل�سيوية» (�ص ‪..)114‬‬ ‫الريان �إىل نهاية املطاف‪ ،‬كان‬ ‫لقد م�ضت �أمل بحبها ألحمد ّ‬

‫‪283‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جنيب خداري‬
‫يف «يد ال ت�سمعني»‬
‫لطيفة بلخري‬
‫كاتبة و�أكادميية من املغرب‬

‫«ربح ال�شعر احلديث بان�ضمام جنيب خداري �شاعرا يعرف حـول مورفولوجيـا الديـوان‬
‫كيف يكتب ب�إ�رشاق طفويل أوبفرح من وجد �ضالته بعد �سنوات �إن �أول ما يجذبنا �أثناء قراءة عنوان ديوان «يد ال ت�سمعني»‬
‫من التيه يف قفار اللغة وال�سئلة املبهمة »‪.‬‬
‫هو ا آلليات اللغوية التي تنتظم متخيل هذه العبارة‪ ،‬والتي‬ ‫عبد العزيز املقالح‬ ‫ ‬
‫متنحه خ�صو�صيات ذات م�سحة خا�صة يف مالم�سة حدود‬
‫�إن ال�شعر �شعور وخيال‪ ،‬وفعل وانفعال‪ .‬ولذلك فال منا�ص ال�شعر‪ .‬ومبا �أن ال�شاعر يدرك ما لواجهة الديوان من �أثر على‬
‫�أن ي�سبح كل �شاعر يف عوامله اخلا�صة و�أن ي�ستظل بظالل نف�سية املتلقي‪ ،‬ف�إنه اختار عتبة �صادمة ومفاجئة‪� ،‬سيما‬
‫ال ي�ستظل بها غريه‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ف�إن ك�شف هذه العوامل و�أن للعنوان وظائف تعبريية وانفعالية وت�أثريية ينفرد بها‬
‫وا أل�رسار والظالل ال يت�أتى للقارئ �إال بالغو�ص يف �شعرية عن �سواه من م�ؤ�س�سات ف�ضاء واجهة الغالف‪ ،‬وذلك ألنه‬
‫البنى التحتية املف�ضية �إىل �سيكولوجية املبدع‪ .‬ومبا �أن �أبرز عتبة ت�ستثري �أ�سئلة القارئ‪ ،‬بل وت�سعفه على اقتحام‬
‫ال�شعر تيه وحلم وخيال‪ ،‬ف�إن ا�ستعجال اقتحام جماهله‪ ،‬متاهات الن�ص‪ .‬فهل ا�ستطاع املظهر الرتكيبي لهذا العنوان‬
‫�أمر قد يحبط ا إلف�صاح عما ميور به هذا العامل املركب‪ ،‬احتواء مالب�سات ا إلنتاج الن�صي خا�صة و�أن العنونة‬
‫�سيما و�أن ديوانا مثل «يد ال ت�سمعني» لل�شاعر «جنيب بنية ن�صية �أ�سا�سية لتوليد الداللة‪ ،‬وعالمة �سيميوطيقية‬
‫خداري» حمكوم مبالب�سات �إبداعية يت�شابك فيها الذاتي ت�ضمينية لتحقيق التما�س والتجاور بينها وبني خمتلف‬
‫باملو�ضوعي‪ ،‬وال�سيكولوجي باملاورائي‪ .‬ولئن كان هذا مكونات العمل الفني ؟‬
‫ال�شاعر مهوو�سا مبراجعة مفاهيم اخللق ال�شعري‪ ،‬ف�إن هذا �إن عبارة «يد ال ت�سمعني» باعتبارها عنوانا لهذه املجموعة‬
‫الهو�س �أمر طبيعي لدى كل �شاعر �أ�صيل يعي ب�أن ال�شعر ال�شعرية‪ ،‬تهب الن�ص �إمكانات التمثل واعتبارات الت�شكل‬
‫تعبري فني ال يقبل التنميط �أو التحنيط �أو الر�سو على هيئة لدى املتلقي‪ ،‬ولذلك فهي ال ت�ؤدي وظيفة الت�سمية والتعيني‬
‫هند�سية ثابتة‪ .‬ولعلها امل�سلمة الفنية التي تبدت منذ وا إل�شهار فح�سب‪ ،‬و�إمنا ت�سعى �إىل امتالك وظيفتي االحتواء‬
‫ا ألنا�شيد الدينية القدمية واملالحم ال�شعرية مرورا مبختلف واالنعكا�س؛ �أي احتواء اجلزء للكل‪ ،‬وانعكا�س الكل يف اجلزء‪.‬‬
‫الت�شكيالت ال�شعرية الغربية والعربية التي مل تعرف قرارا �أو ومن ثم‪ ،‬فقد تغدو هذه املتوالية اللغوية ا إليحائية تركيبة‬
‫وجزة ألول عنوان فرعي داخل هذا ا ألثر ا ألدبي وهو‬‫وم ِ‬
‫بليغة ُ‬ ‫ا�ستقرارا على مرّ التاريخ‪.‬‬
‫وال �شك �أن «جنيب خداري» قد َو َعى هذه التجاذبات «يدي على يد ال ت�سمعني» بو�صفه عنوانا للمجموعة ا ألوىل‬
‫البويطيقية الالم�ستقرة‪ ،‬ألن ديوانه يعك�س اختمار جتارب من ق�صائد الديوان التي تت�ضمن ثماين ع�رشة ق�صيدة وهي‬
‫�شعرية متباينة يف مدارات خميلته املتوجة باحتكاكه على التوايل‪« :‬حتت ال�صفر»‪« ،‬ذات خوف»‪« ،‬دمي دمها»‪،‬‬
‫الطويل بالق�صيدة املغربية التي �أ�سهم من خالل �إ�رشافه «رع�شة»‪« ،‬م�شهد»‪« ،‬وراء الليل»‪�« ،‬أبعد من موت»‪« ،‬ك�أين ال‬
‫على امللحق الثقايف جلريدة «العلم «املغربية يف بلورة �أ�شبهك»‪« ،‬خلف نافذة الوقت»‪« ،‬حلظة»‪« ،‬حكمة»‪« ،‬لهاث»‪،‬‬
‫«ح�ضور»‪« ،‬انتظار»‪�« ،‬أكاد �أ�سميها»‪« ،‬هوية»‪« ،‬ا ألقا�صي»‪،‬‬ ‫حتوالتها و�إبداالتها وم�ساراتها الفنية واجلمالية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد �صار االحتكاك وعدم ا�ستعجال القول ال�شعري «ع�شق»‪ .‬وهي ق�صائد حتكي �سريورة املعنى الذي ي�شكل‬
‫عاملني قويني حل�شد حد�سه ال�شعري ابتغاء خلق منوذج �أبرز تيمات املجموعة ا ألوىل من هذا ا ألثر حيث يح�رض‬
‫�شعري يك�رس البنية والداللة ويحملهما نحو � آفاق جديدة‪ ،‬اخلوف‪ ،‬والتيه‪ ،‬واملوت‪ ،‬والع�شق‪ ،‬واالنتظار‪ ،‬واحللم‪.‬‬
‫مما يفيد �أن ديوان «يد ال ت�سمعني» يج�سد بيانا �شعريا �أما املجموعة الثانية‪ ،‬التي حتمل عنوان «الظل �أ�شد‬
‫ا�شتعاال»‪ ،‬فقد ا�شتملت على ثالثة وثالثني عنوانا فرعيا‪،‬‬ ‫ي�سعى �إىل ت�شكيل خما�ض فني خالق‪.‬‬
‫‪284‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫واملعاينة‪ ،‬يقول ال�شاعر‪:‬‬ ‫انبنى اثنان منها‪« :‬بني يديك» و«يدان من هواء» على‬
‫هـوام‪ /‬الليل‪ /‬ال ي�سري �إلي ْك‪/..‬‬
‫ّ‬ ‫الذي بني يديك‪ /‬مثـل‪/‬‬ ‫مكوِّن «اليد» الذي يعد �أبرز عالمة لغوية يف هذا الديوان‪.‬‬
‫تـراه‪ /‬الذي‪ /‬يفرحـك‪ /‬يبكيك‬ ‫تـراه‪ /‬ال ُ‬
‫الذي‪ُ /‬‬ ‫ويلحظ القارئ �أن عبارة «يد ال ت�سمعني» ال تهيمن على‬
‫الذي‪ /‬ترك�ض‪ /‬حني يرك�ض‪ /‬ال تلتقيـان‬ ‫البنية الن�صية ا أل�سا�سية‪ .‬ومرد هذا التعتيم الداليل �إىل لعب‬
‫ذابت‪ /‬يف‪ /‬برزخ‪/‬الوهم‪.‬‬ ‫الذي‪� /‬إن مدَ ْدت �إليه يدا‪ْ /‬‬ ‫ال�شاعر على ا�سرتاتيجية اال�ستفزاز وتفجري ا أل�سئلة الفاهمة‬
‫الذي �إن كففت عنه يـدا‪� /‬صرِ ْ َت‪ /‬دون يـدٍ‪ /‬دون غـدٍ‪)3( .‬‬ ‫القادرة على �إدراك ا آلليات اخلفية التي جتعل من الديوان‬
‫�إن هذا ال�شيء الغام�ض والغريب الذي تنتظمه �صلة مبهمة‬ ‫ن�صا متكامال �أو ملحمة �سيكولوجية غري قابلة لالنف�صال‬
‫مع الذات ال ينتج �سوى االنف�صال والتباعد والوهم حني‬ ‫�أو التجز ؤ� على اعتبار �أن العنونة «عملية ال تخلو من ق�صدية‬
‫ترك�ض هذه الذات خلفه �أو متد �إليه اليد‪ .‬بل �إن ا�ستنكاف‬ ‫كيفما كان الو�ضع االجنا�سي للن�ص‪� ،‬إنها ق�صدية تنفي‬
‫ربط ال�صلة مع هذا ال�شيء املبهم منتج الوهم قد ي�ؤزم‬ ‫معيار االعتباطية يف اختيار الت�سمية‪ ،‬لي�صبح العنوان‬
‫الو�ضع حيث ت�صري اليد مبتورة على مر الزمان مما يدخل‬ ‫هو املحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد �إنتاج نف�سه وفق‬
‫الذات الراك�ضة املتطلعة يف �أزمة هوية دائمة‪.‬‬ ‫متثالت و�سياقات ن�صية ت�ؤكد طبيعة التعالقات التي تربط‬
‫�إن �صلة ا�سم املو�صول [الذي] من�سوجة يف �إطار عالقة‬ ‫العنوان بن�صه والن�ص بعنوانه‪)1(».‬‬
‫الت�شابه واالختالف‪ ،‬والت�شابك واالنفكاك وال�شد واجلذب‪،‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فقد يبدو عنوان «يد ال ت�سمعني» �إعالنا لت�شكيل‬
‫والتباعد والتقارب بني ال�صلة واملو�صول [الذي هو ا ألبعد‬ ‫مظاهر التناغم البنيوي والداليل املحددين ألمناط الكون‬
‫من ترابك ‪ /‬ا ألقرب من �سحابك‪ ،‬الذي هو �أنت ‪ /‬ال ي�شبهك‬ ‫ال�شعري داخل الديوان‪ .‬ولذلك �أم�سى مبثابة جمال لتوليد‬
‫‪ /‬الذي ل�سته ‪ /‬م�شتبك ب�أغ�صان روحك] لتتوج هذه ال�صلة‬ ‫املعاين االفرتا�ضية يف تعالقها وتفاعلها مع بنية الن�ص‪،‬‬
‫مع املبهم بال�سمو يف ا ألعايل كناية على ال�شطح وا إل�رشاق‪.‬‬ ‫مما يجعل العنوان مطبوعا بو�ضع خا�ص يف التمثل والتعبري‬
‫لدرجة ي�صري معها املو�صول يف ق�صيدة «يدان من هواء»‬ ‫واال�شتغال ألنه ي�شكل نواة الب�ؤرة التخييلية‪ .‬وتكمن بالغة‬
‫عبارة عن ذات ميتافيزيقية ي�صحو �صاحبها وهو يكابد �أمل‬ ‫االت�ساق الداليل بني العنوان والن�ص ا أل�سا�سي يف تكرار‬
‫النزول من ا ألعلى �إىل ا أل�سفل املادي املحكوم بعالقة الربح‬ ‫لفظة «يد» داخل املنت ال�شعري يف �صيغ خمتلفة يو�ضحها‬
‫واخل�سارة‪:‬‬ ‫اجلدول ا آلتي‪:‬‬
‫تركت ليدين من هواء‪� /‬أن ت�صفعـاين‪ /‬ونزلت‪� /‬إىل‬ ‫املجموع‬ ‫عدد املرات ‬ ‫املفرد ة ال�صفحـة‬
‫�أ�سفلي‪� /‬أح�صي اخل�سارات‪)4(.‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪ 5 5-9-9-66-112‬‬ ‫يـــد ‬
‫ي‬
‫غري �أن اليد التي كانت على و�شك االنبتار واالنف�صال عن‬ ‫‪9 113.113.111.68.43.42.42.9.5‬‬ ‫يــ د‬
‫ذات املتكلم ال�سارد يف ق�صيدة «بني يديك» تتحول يف‬ ‫‪1‬‬ ‫ ‬ ‫‪5‬‬ ‫�أيـدي ‬
‫ق�صيدة «�أول حلم» �إىل مرادف للعني حيث يتم حتطيم‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ 44.41.41‬‬ ‫يـديـك ‬
‫امل�سافة بني احلوا�س ألن ا ألمر يتعلق مبكونات الروح ال‬ ‫‪3‬‬ ‫ ‬ ‫‪55.52.52‬‬ ‫يــدان ‬
‫حتدُ ُ�س ابت�سامة‬‫باجل�سد؛ �إذ ت�صبح اليد هنا �أداة للر ؤ�يا التي ْ‬ ‫يالحظ بناء على معطيات اجلدول الوا�صف �أعاله‪� ،‬أن‬
‫الطفولة‪ ،‬وت�ست�رشف ا ألفق يف � آخر زمن احللم‪ .‬يقول ال�شاعر‬ ‫كلمة «يد» تكررت �إحدى وع�رشين مرة يف �صيغ �رصفية‬
‫يف ق�صيدة «�أول احللم»‪:‬‬ ‫و�أحكام �إعرابية متباينة‪ .‬وقد ارتبطت يف مدارات �سياقاتها‬
‫�ضيء عتمـة الزاوية‪ /‬تـ�سبقنـي يدي‪/‬‬ ‫ت�سبقنـي عيني‪ /‬لتُ َ‬ ‫التداولية بذات املتكلم ال�سارد وا آلخر؛ املخاطب الذي قد‬
‫تـطارد‪ /‬يف � آخر احللــم‪� /‬أول‬
‫ُ‬ ‫وهـي‬ ‫لرتى ب�سمـة مريـم‪/‬‬ ‫يكون هو ذاته ذاتا من�سلخة من ذات املتكلم‪ .‬ولذا فقد‬
‫الفرا�شات‪)5(.‬‬ ‫ُوظفت هذه الكلمة يف الن�ص ال�شعري لترتجم عرب مناجاة‬
‫يبدو � أن «اليد» ال تعرف حاالت � أو مقامات قارة‪،‬‬ ‫وجدانية م�أزومة يف جمملها عالقة الذات با أل�شياء التي‬
‫ألن �رشوخ الذات ُت�صيرّ ُها نفيا منْفِيا ُيعيد ماجريات‬ ‫حتاورها ع�ساها �أن حتدث انفراجا يف خارطة انفعاالت‬
‫اال�ست�رشاف �إىل درجة ال�صفر من الو�صال واالت�صال‬ ‫املتكلم‪ ،‬يقول يف ق�صيدة «ذات خوف»‪:‬‬
‫)لكن ال�رسير ي�سبح ‪ /‬يف لذاذة النوم ‪ /‬والغطاء وثري‪ ،‬وال‬ ‫يدي‪ /‬على يد ال ت�سمعني‪ /‬على �صخرة‪ /‬مت�سدها‪َ ...‬ع ّل‬
‫عني ‪ /‬ومرمي يف � أول احللم(‪ .)6‬بل �إن‬ ‫يد ت�سبقني‪ ،‬وال ُ‬ ‫فرا�شة تطري‪ /‬تع�رصُها‪َ ...‬ع ّل نبيذا ي�سي ُل ‪2‬‬
‫اليد قد تتحول يف خ�ضم عدم توا�صلها مع ذات املتكلم‬ ‫وقد تف�صح اليد يف ق�صيدة «بني يديك» عن �شيء مثري‪،‬‬
‫يف ق�صيدة «انطفاء» �إىل حفارة القرب وحمالة الروح نحو‬ ‫غريب‪ ،‬غام�ض وغري مطاوع لنقل ا إلح�سا�س والتجربة‬
‫‪285‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مما يعك�س �إح�سا�س ال�شاعر العميق بجوهر ن�ش�أة الكون‬ ‫� أفولها وانطفاءاتها‪ .‬يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫الفيزيقي‪ .‬و�إذا كان ا إلهداء تقليدا �إبداعيا‪ ،‬و�أداة �إجرائية‬ ‫الروح نحو انطفاءاتهـا‪ /‬ليد من‬‫َ‬ ‫ليد من تراب‪� /‬أن حتمل‬
‫ل إلخبار عن العالقة القائمة بني املبدع واملهدى �إليه‪ ،‬ف�إن‬ ‫تـراب‪� /‬أن حتفـرَ قربا‪� /‬أن تودع القلب‪ /‬جثـة ال�سمــاء‪)7(.‬‬
‫الديوان يحفر جماريه الداللية وفق تعالقات ا أل�صل والفرع‬ ‫�إن امتزاج املادة بالروح‪ ،‬والرتاب بالهواء‪ ،‬والقلب بال�سماء‪،‬‬
‫(� آدم‪ /‬حواء) واجلوهر والعر�ض (الذات ا إللهية‪/‬الذات‬ ‫ُيدخل الذات املتحللة يف ت�ضاربات التيه(القربـ ال�سماء)‪)8(.‬‬
‫الب�رشية) واحلا�رض وا آلتي (الدنيا‪/‬ا آلخرة)‪.‬‬ ‫وهو ما يوحي ب�أن عامل احلد�س منقول عرب الرمز وا إليحاء‪،‬‬
‫ومما يزيد من الداللة ا إليحائية للن�صو�ص املوازية‬ ‫لت�صبح «اليد» املتحولة �إىل حا�سة هيولية‪ ،‬نواة للتعبري عن‬
‫املرتبطة بديوان «يد ال ت�سمعني»‪ ،‬ت�أخري املقدمة (ح�صار‬ ‫�شطحات املبدع‪ ،‬مما يحيلها �إىل رابط معنوي قوي بني‬
‫املحبة) التي ذيل بها ال�شاعر «جنيب خداري» قوله ال�شعري‬ ‫داخل الن�ص وخارجه‪.‬‬
‫مك�رسا بذلك هند�سة الت�أليف النمطي الكال�سيكي‪ ،‬لي�شعل‬ ‫ومبا �أن «اليد» جاءت �صلة للمو�صول املبهم‪ ،‬ف�إنها وردت‬
‫بذلك �أ�سئلة منهجية ي�صبح معها خطاب اخلامتة‪/‬املقدمة‬ ‫نكرة‪ ،‬ومل ت�ستعمل معرفة �إال مرة �أو مرتني‪ ،‬ألن املعرفة‬
‫مفتاحا ملفارق عوامله ال�سيكولوجية والروحية والثقافية‪.‬‬ ‫تقييد والنكرة تعبري عن املطلق وال�شمول‪ .‬وتبعا لهذا‬
‫و�إذا كان خطاب املقدمات ميتلك �سلطة توجيه القراءة‪ ،‬ف�إن‬ ‫التف�سري‪ ،‬ميكن اعتبار «اليد» يف العنوان‪ ،‬ويف ثنايا الديوان‬
‫ال�شاعر قد � أ ّخره جاعال منه خطاب خامتة و�إ�ضاءة بعدية‬ ‫ب�إفرادها وتثنيتها وجمعها عامل ربط بني ال�صلة (اجل�سد)‬
‫حتى ال ت�ؤثر � آرا ؤ�ه الفكرية والنقدية يف م�سارات القراءة‪،‬‬ ‫واملو�صول (الروح)‪� ،‬سيما و�أن فل�سفة هذه الذات متتح‬
‫ولكي ال تلعب �أدواته ا إلجرائية ومتظهراته اال�صطالحية‬ ‫مقوماتها من مقامات التحري والتقلب واال�ضطراب‪.‬‬
‫دورا يف الفح�ص والتحليل‪ ،‬وعيا منه بالعالئق اجلدلية‬ ‫ال�شك �أن التيه يف جماهل الت�أويل‪� ،‬أول ملمح ل�شعرية‬
‫التي تربط العمل ا إلبداعي مبقدمته‪ُ ،‬م�ضمنا �إياها �أفكارا‬ ‫الديوان‪ ،‬و�أبرز عالمة إلثارة �شهية القراءة؛ �إذ ي�صبح العنوان‬
‫و�أ�سئلة تالم�س جملة من ق�ضايا ا إلبداع والذات وا آلخر؛‬ ‫بانفتاحاته �صورة تخييلية تعبرّ عن �شمولية الن�ص ال�شعري‪،‬‬
‫يقول «وقفت‪ ،‬دائما‪ ،‬ب�سذاجة‪� ،‬أو بنباهة‪� ،‬أمام البدهيات‪،‬‬ ‫وهي ال�صورة التي حتث القارئ على الت�شفري املندرج �ضمن‬
‫طارحا �أ�سئلة جديدة‪ .‬جعلني ال�شعر �أقرتب �أكرث من‬ ‫مرحلة ما قبل القراءة ا�ستعدادا لالنخراط يف ثـقافة الن�ص‪.‬‬
‫�أ�سئلة الذات وا آلخر‪ ،‬واللغة‪ ،‬واحلداثة‪ ،‬والرتاث‪ ،‬واجلمال‪،‬‬ ‫وذلك ألن العنوان ح�سب «�شـارل غريفيل»‪ ،‬و«ليو هويك»‬
‫والفن‪ ،)10(»....‬وهو ا ألمر الذي ي�ؤكد �أن هذه ا أل�سئلة هي‬ ‫‪Ch. Grivel et Leo Hoék‬ـ عالمة ل�سانية تقوم بتعريف وتعيني‬
‫امل�صدر املنهجي الكامن خلف املق�صد من الكتابة ال�شعرية‬ ‫داللته و�إثارة قرائه‪ .‬بل �إنه بتعبري «فليب لوجون ‪»Ph. Lejeune‬‬

‫لديه‪ ،‬حيث �أ�ضحت هذه اخلامتة‪/‬املقدمة‪/‬ح�صار املحبة‬ ‫مبثابة خطاب حا�شية يوجه القارئ ويتحكم يف القراءة(‪.)9‬‬
‫�أف�ضل �أداة ال�ستنباط ا ألبعاد الر ؤ�يوية التي تف�صح عنها‬ ‫وعليه‪ ،‬فقد يغدو عنوان «يد ال ت�سمعني» م�ستفزا ومومئا‬
‫مو�ضوعات �إبداعه ال�شعري‪.‬‬ ‫بانزياحه الداليل ومظهره الرتكيبي‪ .‬وما يجمع بني‬
‫التيه ال�سيكولوجي �أو الفرح بتيه الغابة‬ ‫طريف الو�صل (العتبة الن�ص) على م�ستوى الت�شكيل اللغوي‬
‫�إن احلداثة اقتبا�س من �أفق االحتمال و�إبحار يف �أكوان‬ ‫والداليل هو التيه ال�سيكولوجي وغياب التوا�صل بني الذات‬
‫املمكن واملحال‪ ،‬ولذا راح ال�شعر العربي احلداثي ي�شتغل‬ ‫وا آلخر‪ .‬وهذا ما ترتجمه عناوين ق�صائد الديوان املوزعة‬
‫على هذا «الرهان» الذي ي�سعف ال�شاعر على بلورة ا أل�سئلة‬ ‫بني كلمات مفردة و(عددها �ستة وثالثون عنوانا‪ ،‬نذكر‬
‫احلارقة والتهوميات القار�سة كمعادالت لت�أمل الذات يف‬ ‫منها‪ :‬رع�شة‪ ،‬م�شهد‪ ،‬حكمة‪� ،‬أفق‪ ،‬نبع‪� ،‬صباح‪ ،‬بيا�ض‪ ،‬ليل‪،‬‬
‫ظل تواجد يقت�ضي مبد� أ ا إلجبار وال ُيتيح فر�ص االختيار‪،‬‬ ‫كفن‪ ،‬انطفاء‪ ،)...‬ت�ستبطن املحذوف وامل�سكوت عنه طلبا‬
‫ال�شيء الذي يربر جلوء ال�شاعر «جنيب خداري» �إىل م�ساءلة‬ ‫ل إليجاز وا إليحاء امل�ستفز لذهنية القارئ‪ ،‬وبني تعبريات‬
‫الذات على خلفية التيه وارتياد � آفاق وجودية مبهمة‪ ،‬يقول‬ ‫مركبة (ويبلغ عددها خم�س ع�رشة ق�صيدة نذكر منها‪:‬‬
‫يف ق�صيدة «دمي دمها»‪:‬‬ ‫وراء الليل‪ ،‬خلف نافذة الوقت‪ ،‬حتت ال�صفر‪ ،‬بني يديك‪)...‬‬
‫وال تذرين‪ /‬ملن يقتلني كل حني‪ /‬ويزرعني يف فم املهاوي‬ ‫توحي مبحموالت غام�ضة و�أكوان ميتافيزيقية ينبج�س من‬
‫جتيء)‪ /‬وال تذرنـي‪/...‬‬
‫ُ‬ ‫كل حني‪( /‬هاوية مت�ضي‪ /‬وهاوية‬ ‫�أعطافها الت�شخي�ص ال�صويف‪.‬‬
‫وام�ض �إيل �رسيعـا‪ /‬مثل �أنواء ال�شتاء‪� /‬رسيعـا‪/‬كما نزوة‬ ‫�أمـا ا إلهداء (�إىل �أبي و�أمي) ف�أكرب برهان على ثنائية اخلفاء‬
‫ُدوري‪� /‬إيل‪� ...‬إيل‪� ...‬إيل‪ /‬يا حبيبي‪ /‬يا مالكي‪)11(.‬‬ ‫والتجلي واالن�صهار الروحي يف �رشايني اندحار الوجود‪،‬‬
‫ويقول �أي�ضا يف ق�صيدة «رع�شة»‪:‬‬ ‫ي�ضاف �إىل ذلك كونه تعبريا عن توحد الوعي بالالوعي‪،‬‬
‫‪286‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حاجة �إىل الك�شف‪� ،‬إذ يجد ال�شاعر نف�سه يف موقع �إح�سا�س‬ ‫القارب‪/‬‬
‫ُ‬ ‫�ألهث‪ /‬يف اجتاه‪ /‬املوجة العالية‪ /‬بينما‬
‫جديد بح�ضوره يف الوجود‪ ،‬ويف مو�ضع البحث واحلرية‬ ‫وحيدا‪ /‬يعبث‪ /‬بقليل‪ /‬املاء‪)12(.‬‬
‫املنبج�سني من ر ؤ�ية ميتافيزيقية تب�رص ا أل�شياء �إب�صارا‬ ‫وي�ضيف يف ق�صيدة «�أبعد من موت»‪:‬‬
‫ك�شفيا يحدو بال�شاعر �إىل القفز خارج امل�ألوف‪ ،‬و�إىل‬ ‫كم �أ�شتهي‪� /‬أن �أطلق �صوتي‪ /‬عاليـا‪� /‬أبعد من جبال‬
‫الك�شف عن العالئق اخلفية املوجودة بني عنا�رص الكون يف‬ ‫اخلوف[‪ /]...‬كم �أ�شتهي‪� /‬أن �أغرز هذا اجل�سد‪ /‬يف‬
‫لغة منا�سبة للتعبري عن التداعيات ال�سيكولوجية التي تبتعد‬ ‫�صحراء‪ /‬بال �ضفاف‪ /.../‬ا�شتهاء‪ /‬وموت‪ /‬يغزالن كل هذا‬
‫بالذات عن احلاجة �إىل االرتباط بالزمان واملكان؛ ا ألمر‬ ‫البيا�ض‪)13(.‬‬
‫الذي ميكن ال�شاعر ح�سب �أدوني�س من تغيري �إيقاع «نقل»‬ ‫ويف ق�صيدة «الظل �أ�شد ا�شتعاال»‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫الواقع ب�إيقاع �إبداعه‪)18(.‬‬ ‫�أتبعثـر‪ /‬يف الظل‪ /‬حتملني ريح‪� /‬أكرث عبثـا‪� /‬إىل فوق‪/‬‬
‫وعلى هذا ا أل�سا�س‪ ،‬فقد تـُلمع «�شعرية التيه» النابعة من‬ ‫حيث ا ألغ�صان‪ /‬عالقة يف ال�سحاب‪ /‬حتملني ريح‪/‬‬
‫«املتاهة ال�سيكولوجية لذات ال�شاعر‪� ،‬إىل تقنية جمالية‬ ‫ـ�صـ ُّل‪ /‬يف قرارة الرَّ ْمـل‪ /‬مثل‬ ‫�إىل �أ�سفل‪ /‬حيث جذور‪َ /‬ت ٍ‬
‫يتحايل هذا ا ألخري مبوجبها ق�صد �إيجاد ممكنات للتعبري‬ ‫املحـا ِر‪)14(.‬‬
‫عن اللحظة الهاربة‪ ،‬والذات املت�شظية‪ ،‬والزمن املنفلت‪،‬‬ ‫وي�ضيف يف ق�صيدة «�صباح»‪:‬‬
‫و�أمكنة الالقرار والالعودة باعتبارها عنا�رص للدفع ب�شعره‬ ‫ال �أحد‪ /‬يف هذا ال�صباح البارد‪� /‬سوى طائر‪ /‬ي�شاغب‪/‬‬
‫من «حالة االحتبا�س» �إىل «حالة اخللق والتدفق» اللذين‬ ‫�شم�سـا‪ /‬خافتـة‪� /‬سوى بحر‪ /‬كثري ال�صمت‪� /‬سوى �شبح‪/.../‬‬
‫تن�سج على خلفيتهما «حلظات التيه» التي ال تدركها �إال‬ ‫لعله ظلي هاربا مني‪� /‬إىل �ش�ساعة ا ألفق‪� /‬إىل لذة الرمل‪/‬‬
‫احلوا�س امل�سكونة «بع�شق ال�شعر وبجنون ر ؤ�اه»(‪ .)19‬يقول‬ ‫يف �شاطئ بارد‪ ...‬ووحيد‪)15(.‬‬
‫ال�شاعر يف ق�صيدة «دمي‪ ،‬دمها»‪:‬‬ ‫�إن «التوه‪ :‬لغة يف التيه‪ .‬وهو الهالك‪ .‬وقيل الذهاب‪ .‬يقال‬
‫�سالما يا دمي‪� /‬سالمـا‪� /‬س�أ�سقي َك ما يتنزّل يف باحتـي‪/‬‬ ‫«ما �أتوهه يف ما �أتيهه»‪ .‬و َت َّوه نف�سه‪� :‬أهلكها‪ ...‬وتاه يف‬
‫من �ضوء الكالم‪ /‬ومن �ضوء احلمام‪� /‬س�أ�سقي َك‪ ،‬فال‬ ‫ا ألر�ض يتيه‪� ...‬أي ذهب متحريا و�ض ّل‪ ...‬ويقال‪ :‬مكان ِمتْـيََهٌ‪:‬‬
‫َتذَ ْرين‪ /‬حلنيني‪ /‬وال تذرين‪ /‬جلنوين‪)20(.‬‬ ‫�أي يتيه فيه ا إلن�سان»‪)16(.‬‬
‫ندرك �أن ال�شعر عند «جنيب خداري» «متاهة لالنكتاب»‬ ‫بناء على هذا الت�أطري املعجمي «لداللة التيه»‪ ،‬ي�ست�شف من‬
‫و«�أفق ملجهول» ال ير�سو على قواعد حمددة‪ .‬ولذلك �ألفيناه‬ ‫هذه املجتزءات ال�شعرية �أعاله‪ ،‬وغريها مما تزخر به ن�صو�ص‬
‫ي�صوغ ت�شكيالت هند�سية هائمة‪ ،‬متنقال يف الت�صوير‬ ‫الديوان‪� ،‬أن «التيه» تيمة �أ�سا�سية يف هذا املنت ال�شعري‪.‬‬
‫والتوليد بني ر ؤ�ى وتهوميات متنوعة َعله يعرث على ت�شكيل‬ ‫وهو «تيه» �صادر عن حرية ال�شاعر ومتزقاته ال�سيكولوجية‬
‫�شعري ي�ستوعب متخيل املتاهة ال�سيكولوجية «التي تفجر‬ ‫التي تذهب بعيدا �إىل حد الغربة والتبعرث والت�شطي‪( .‬لعله‬
‫ان�سياب الوجدان يف �شكل �شعري جتريبي يرتاد ا أل�شياء‬ ‫ظلي هاربا مني‪� /‬أتبعرث يف الظل حتملني ريح �أكرث عبثا‪/‬‬
‫امليتافيزيقية ويعرب باملجرد والالحم�سو�س خمتربا‬ ‫وتزرعني يف فم املهاوي‪� ...‬إلخ) وما �سواها من معاين‬
‫«�شعرية التيه» املوقعة ب�ألق التحري‪ ،‬و�أمل التبعرث‪ ،‬وهو�س‬ ‫التيه التي ال يقوى ال�شاعر على حتملها‪ ،‬في�ستجدي حبيبته‬
‫اجلنون‪ .‬وهي امل�شارطات الداللية التي ت�ؤازر حدو�سات‬ ‫إلنقاذه من ال�ضياع والتبخر يف جلج املهاوي التي تتقاذفه‬
‫الده�شة والالتوقع‪ ،‬وتطعم �شعره بطاقة التحول واخرتاق‬ ‫(هاوية مت�ضي وهاوية جتيء)‪ .‬فالتطويح بال�شاعر داخل‬
‫احلدود‪ ،‬واللعب بكلمات التيه املعربة عن مدارات الفراغ‬ ‫ِمتْيَهات بال �أفق �أو قرار (�صحراء بال �ضفاف جبال اخلوف‪،‬‬
‫يف الوجود الكا�شفة عن «انكتاب بويهيمي» ي�شع با أل�سئلة‬ ‫فم املهاوي‪� ،‬ش�ساعة ا ألفق‪ ،‬بحر كثري ال�صمت‪� )...‬إقحام‬
‫احلارقة‪ ،‬ويت�سع ال�ستيعاب �رشوخ اجل�سد وت�صدعات الروح‬ ‫لذاته املت�شظية يف ورطة التيه التي احتار يف اخلروج‬
‫التي تقحم الذات يف «متخيل املجهول»‪� ،‬إنقاذا لها من‬ ‫من متاهاتها (امل�سالك �إيل بعيدة ‪ /‬بحثت عني يف بيا�ض‬
‫قيود اللحظة و�سياج التفطية (هناك خلف ال�شجرة ج�سد‬ ‫الليايل‪ /‬فوجدتني �شتات الرمل‪� /‬أ�شالء موج‪ /‬ت�صفع‬
‫عار ‪ /‬هناك حتت قربي ه�سي�س الرغبة ‪ /‬ووراء الليل‬ ‫ال�شاطئ امل�ضيء ‪ /‬وت�صفعني)‪)17(.‬‬
‫�ضوء ال �أراه ‪ /‬هل كنت جمنونا ألن�سى ظلي وحيدا‪)21(.)...‬‬ ‫�إن انكتاب ال�صور ال�شعرية داخل هذه النماذج يتم عن‬
‫فبهذه اللم�سة الفنية ين�سج ال�شاعر �إيقاعات «التيه اجلنوين»‬ ‫طريق اخلرق واالخرتاق وجماوزة اجلاهز والنمطي‪ ،‬ولعله‬
‫الذي ينبئ مبالمح االنخطاف والوجد ال�صويف والذي يقل�ص‬ ‫امل�سلك الفني الذي ي�سلكه �شعر الر ؤ�يا التوليدي الذي ي�سعى‬
‫امل�سافات ويربر مكا�شفات املقام املوحي «ب�شعرنة التيه‬ ‫ح�سب «رونيه �شار ‪� »R. Char‬إىل الك�شف عن عامل يظل �أبدا يف‬
‫‪287‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال ميكن للغة ال�شعر �إال �أن تكون رمزية �إيحائية �إ�شارية‬ ‫و�شعريته» حيث ميد ا إللهام الذات القدرة على ت�شكيل‬
‫ي�صعب فهمها وتذوقها ما مل مي�سك القارئ بتفجراتها‬ ‫املافوق واقعي لتنمحي بذلك �أطراف الوعي بلوغا ملناطق‬
‫وتدفقاتها وان�سياباتها خارج نظام املعاجم‪ ،‬لتكون بذلك‬ ‫الالوعي املفعم بالهلو�سات والتذكر وا أل�رسار املاورائية‬
‫مفتاحا رئي�سيا لولوج عامل ال�شاعر املثقل بالرموز التي‬ ‫التي حترر القول ال�شعري‪ ،‬وجتعل �رس كل عملية �شعرية‬
‫يكرث ح�ضورها يف ا ألحالم‪ ،‬وال�شعر‪ ،‬وا أل�ساطري‪ .‬و�إذا كان‬ ‫كامنا يف حالة احللم التي متثل �أكمل نقطة يف التجرد‬
‫التعبري العقالين يعرب بالتقريرية والو�ضوح‪ ،‬ف�إن الرمز‬ ‫املمكن �أن يتو�صل �إليه الفكر الب�رشي»‪ )22( .‬يقول يف‬
‫ينقل املجرد باملح�سو�س‪ ،‬حيث تتحد ذات ال�شاعر بعنا�رص‬ ‫ق�صيدة «خيمة اللون»‪:‬‬
‫الكون من خالل الرمز الذي يتخذ منه املبدع معربا لت�صوير‬ ‫وحني يقي�س الر�سـام‪/‬ظالل‪ /‬اللوحة‪ /‬يرتاق�ص‪ /‬يف‪/‬‬
‫التنافر وترجمة هيام الروح‪.‬‬ ‫عيون‪ /‬ال�شاعر‪ /‬لون ‪ /‬مثل‪� /‬أحالم‪ /‬متعبه‪ /]...[ /‬ك�أين‬
‫يقول يف ق�صائد خمتلفة‪:‬‬ ‫�أرى وجه غـالم‪ /‬ي�صارع‪ /‬مملكة‪ /‬الغيم‪ /‬ك�أين �أرى نوافذ‬
‫‪1‬ـ يف عينيهـا‪/‬بحر ي�سرتيح‪/‬و�شم�س‪/‬غاربـة‪)25(.‬‬ ‫�سابحـة‪ /‬يف البنّ ّي ال�شفيف‪ /‬تخا�صم جب�سـا‪ /‬وتهفـو‪/‬‬
‫‪2‬ـ هي ذي ا ألر�ض‪/‬حتتي تذوب‪//‬والريح‪/‬حتمل بكاء‬ ‫للزرق ‪/‬ا ألبي�ض‪ /...‬لكن ا ألزرق‪ /‬يعرب يف �أول الت�شكل ـ‪/‬‬ ‫أ‬
‫الطفل‪�/‬إىل �أم بعيدة‪�/‬أدور‪/‬حيث دار احللم‪�/‬أم�شي فوق‬ ‫نحـو‪ /‬بيا�ض‪ /‬ال�رسيرة‪)23(.‬‬
‫النهر‪�/‬إىل �سيدة النهر‪/...‬يف برزخ الغواية والرعب‪�/‬أراهـا‪/...‬‬ ‫يتك�شف من خالل هذا الن�ص ال�شعري وغريه من الن�صو�ص‬
‫ثم تتال�شى اللحظة‪/‬مثلما يتال�شى الطمي واملاء‪)26(.‬‬ ‫التي تتو�سل باحللم ك�أداة للتعبري عن تداعيات الر ؤ�ية‬
‫‪3‬ـ مَلْ � أَ ْغرَ ْق‪ /‬قاربي مل يبارح احللم‪ /‬واملوج ما زال َي ْجلِدُ‪/‬‬ ‫ومدارات الت�شكل‪� ،‬أن العفوية الب�رشية ال تتحقق يف ال�شعر‬
‫نباح ـ‪/‬يق�ضم ما تناثر‬ ‫�صخور ال�صدر‪ /‬الليل‪ /‬بال جنمةٍ‪/‬بال ْ‬ ‫�إال يف حالة حلم النوم �أو حلم اليقظة الذي يفجر الواقع‬
‫من روحي‪)27(.‬‬ ‫الداخلي للذات عائدا بها �إىل ينابيع الطفولة ومرحلة‬
‫‪4‬ـ َد ْع � أ َ‬
‫�شجار َك‪ /‬حتملْنَـا‪/‬بعيداً‪�/‬إلـى‪/‬مملكـ ِة ال�شم�س‪)28(.‬‬ ‫اخليال الرمزي ال�ضارب يف التاريخ‪ ،‬يقول يف ق�صيدة‬
‫�إن الريح‪ ،‬وال�شجر‪ ،‬واملاء‪ ،‬والطري‪ ،‬والظل‪ ،‬والبحر‪ ،‬والنهر‪،‬‬ ‫«نزار»‪:‬‬
‫واملوج‪ ،‬وال�شم�س‪،‬والقمر‪ ،‬وال�سمك‪ ،‬والليل‪ ...‬متثل جميعها‬ ‫را�ش‪ /‬وال�ضحك ُة‪/‬‬
‫العنا�رص ا ألولية ملتخيل ال�شاعر «جنيب خداري»‪� ،‬إذ يغدو‬ ‫وال ُغنْيَ ُة‪ /‬تخرج من فم الطفل‪ /‬تنهيد َة َف ٍ‬
‫خيال‪� /.../..../‬أم�س ُك بتالبيب‬
‫رق ‪ /‬من �سمكةٍ‪ /‬تتزلّق‪ /‬يف ٍ‬ ‫� أ ُّ‬
‫ال�شعر عنده �صورة يعرب عربها عما ي�ستحيل التعبري عنه‪،‬‬
‫ويتخيل ما يتعذر وجوده يف الواقع‪ ،‬مغريا حقيقة ا أل�شياء‪،‬‬
‫نومه‪ /‬ونحلم معا‪)24(.‬‬
‫معيدا ترتيبها من جديد‪ ،‬هادفا �إىل متطيط الوجود وتو�سيعه‬ ‫�إن �س�ؤال ا إلبداع يتحرك داخل تر�سيمات �شعر احللم لدى‬
‫عرب اخليال اخلالق باعتباره و�سيطا إلبراز قلقه �أو تيهه �أو‬ ‫«جنيب خداري» خارج املنطق والواقع تعبريا عن الرغبات‬
‫موقفه اخلا�ص جتاه الذات والكون واحلياة؛ حيث مل تعد‬ ‫الالواعية وامليول املتوارية؛ �إذ يف احللم كل �شيء يبدو‬
‫ا أل�شياء داخل ن�سيجه ال�شعري تراعي العالئق املو�ضوعية‬ ‫�سهال وطبيعيا‪ ،‬وتنعدم م�س�ألة ا إلمكانية والفكر املنطقي‬
‫الرابطة بني ا أل�شياء الواقعية‪ ،‬و�إمنا تتحطم بف�ضل تفجري‬ ‫(وجه غالم ي�صارع مملكة الغيم نوافذ �سابحة يف البني‬
‫اللغة يف �صور غريبة‪ .‬فكيف ميكن للبحر �إذن �أن ي�سرتيح يف‬ ‫ال�شفيف تنهيدة فرا�ش وال�ضحكة �أرق من �سمكة تتزلق‬
‫عيني امر�أة ؟ و�أية عالقة تربط بني ا�سرتاحة البحر وغروب‬ ‫يف خيال)‪ ،‬حيث يغدو احللم يف توقيعاته الفنية و�سيلة‬
‫ال�شم�س؟ وهل حتولت ا ألر�ض حتت �أقدامه �إىل جبال من الثلج‬ ‫معرفية‪ ،‬ور ؤ�ية �شعرية ون�شاطا فكريا يقدم بدائل خيالية‬
‫حتى تذوب ؟ وهل ب�إمكان الريح �أن حتمل ب�أمانة بكاء طفل‬ ‫ل�سيكولوجيا الذات يف ارتباطها بالالوعي ترجيعا أل�صداء‬
‫بريء تف�صله امل�سافات عن �أمه البعيدة ؟‪.‬‬ ‫الطفولة والزمن ال�سحيق املكتنف با أل�رسار وا أللغاز التي‬
‫حينما يتال�شى الزمن وميتزج الطمي باملاء يتحول ال�شاعر‬ ‫متد �شعر جنيب خداري «با ألحالم والهلو�سات ال�صادرة عن‬
‫�إىل نبي �أو ويل مي�شي فوق النهر قا�صدا حار�سة النهر‪ .‬ومبا‬ ‫الال�شعور» الذي يتيح له القدرة على تخيل ال�صور الالواقعية‬
‫�أن عنا�رص الكون قد ان�صهرت فقد انقلبت املعادالت بحكم‬ ‫ويقود ن�شاطه الفكري داخل دوائر احللم والالوعي‪.‬‬
‫تبادل ا ألدوار‪ ،‬لي�صري القارب حاملا‪ ،‬واملوج جالدا ل�صخور‬ ‫خيال ال�صورة ال�شعـرية‬
‫�صدر ا إلن�سان‪ ،‬والليل قا�ضما لروحه‪ ،‬وا أل�شجار حاملة لذاته‬ ‫اللغة روح ال�شعر و�أداته ال�سحرية التي ت�صهر عنا�رص‬
‫نحو ا ألفق املحرتق‪.‬‬ ‫التخييل يف بوتقة �إبداعية متميزة‪ .‬فال�شعر بهذا املعنى‬
‫(املادة تن�شر كاملة مبوقع املجلة ‪)www.nizwa.com‬‬ ‫لغة ذات انبناء ر ؤ�يوي يحمل ا إلح�سا�س ب�أ�رسار الذات‬
‫وت�صدعاتها داخل الكون املحكوم بالفراغ‪ .‬وعلى هذا ا أل�سا�س‬
‫‪288‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الل�سانيات الن�صية‬
‫دواعي الت أ��سي�س أ‬
‫والهمية‬
‫عمــران ر�شيـــد‬
‫�أكادميي من اجلزائر‬

‫مو�ضوعا �رشعيا للدر�س الل�ساين فح�سب؛ بل �إنه جتاوز‬ ‫لقد ظهرت الل�سانيات الن�صية جتاوزا للدرا�سات الل�سانية‬
‫ذلك �إىل حتقيق ق�ضاياه التي �ضمنها براجمه بتقدمي �أول‬ ‫اجلملية مبختلف توجهاتها (البنيوية‪ ،‬التوزيعية‪ ،‬وال�سلوكية‪،‬‬
‫حتليل منهجي لن�صو�ص بعينها‪ ،‬وقد ر�أى هاري�س �رضورة‬ ‫والوظيفية‪ ،‬التوليدية التحويلية‪ ،)..‬وال يعني التجاوز هنا‬
‫جتاوز (نحو اجلملة)‪ ،‬ذلك �أن الدرا�سات الل�سانية وقعت يف‬ ‫القطيعة العلمية بني تلك التوجهات والل�سانيات الن�صية‪،‬‬
‫م�شكلتني البد من جتاوزهما وهما‪:‬‬ ‫و�إمنا تطور العلوم يفرت�ض ا�ستفادة الل�سانيات الن�صية‬
‫* «ا ألوىل‪ :‬ق�رص الدرا�سة على اجلمل‪ ،‬والعالقات فيما بني‬ ‫من كل معطيات الل�سانيات اجلملية‪ ،‬وجتاوز ق�صور هذه‬
‫�أجزاء اجلملة الواحدة‪.‬‬ ‫ا ألخرية من حيث �أن اجلملة مل تعد كافية لكل م�سائل‬
‫* الثانية‪ :‬الف�صل بني اللغة ‪ Languge‬واملوقف االجتماعي‬ ‫الو�صف اللغوي من حيث الداللة والتداول وال�سياق الثقايف‬
‫‪ Social Situation‬مما يحول دون الفهم ال�صحيح‪ ،‬فجملة مثل‬ ‫العام‪ ،‬وكل ذلك له دور حا�سم يف التوا�صل اللغوي‪ ،‬وقد‬
‫(كيف حالك) قد تعطي يف �سياقها معنى التحية‪� ،‬أكرث منها‬ ‫�أخرجت ل�سانيات الن�صية علوم الل�سان من «م�أزق الدرا�سات‬
‫ال�س�ؤال عن ال�صحة‪ ،‬ومن َث ّم اعتمد يف منهجه يف حتليل‬ ‫البنيوية الرتكيبة التي عجزت يف الربط بني خمتلف �أبعاد‬
‫اخلطاب على ركيزتني‪:‬‬ ‫الظاهرة اللغوية»(‪.)1‬‬
‫* العالقات التوزيعية بني اجلمل‬ ‫وقد اتخذت الل�سانيات الن�صية هدفا رئي�سيا ترمي الو�صول‬
‫* الربط بني اللغة واملوقف االجتماعي‬ ‫�إليه؛ وهو الو�صف والتحليل والدرا�سة اللغوية أ‬
‫للبنية‬
‫بعد ذلك بد� أ بع�ض الل�سانيني ينتبهون �إىل امل�شكلتني اللتني‬ ‫الن�صية‪ ،‬وحتليل املظاهر املتنوعة أل�شكال التوا�صل‬
‫�أ�شار �إليهما هاري�س‪ ،‬و�إىل �أهمية جتاوز الدرا�سة اللغوية‬ ‫الن�صي(‪.)2‬‬
‫م�ستوى اجلملة �إىل م�ستوى الن�ص‪ ،‬والربط بني اللغة‬ ‫ذلك �أن الن�ص لي�س بناء لغويا فح�سب و�إمنا يدخل ذلك‬
‫واملوقف االجتماعي ُم�شَ ِّكلني بذلك اجتاها ل�سانيا‪� ،‬أخذت‬ ‫البناء يف �سياق تفاعلي بني خماطِ ب وخما َطب‪ ،‬تفاعل‬
‫مالحمه ومناهجه و�إجراءاته يف التبلور منذ منت�صف‬ ‫ال يتم بجمل مرتاكم بع�ضها فوق بع�ض كيفما اتفق غري‬
‫ال�ستينات تقريبا»(‪.)6‬‬ ‫متما�سكة وال يربطها رابط‪ ،‬وال تدرك الن�صو�ص بو�صفها‬
‫لقد اهتمت الل�سانيات الن�صية بالداللة وال�سياق اللذين‬ ‫�أفعال توا�صل فردية بل بو�صفها نتائج متجاوزة االفراد‪،‬‬
‫كانا غائبني يف ل�سانيات اجلملة الذي كان ي�صف ا ألبنية‬ ‫ومن هذا املنطلق يجب �أن يتخذ التحليل اللغوي الن�ص‬
‫اللغوية ولكنه «مل ُيعن باجلوانب الداللية عناية كافية‪ ،‬مما‬ ‫مبتغاه النهائي يف الدرا�سة‪ ،‬وهذا ما دعا �إليه (فايرني�ش‬
‫للبنية اللغوية‬‫جعل علماء الن�ص يرون �أن البحث ال�شكلي أ‬ ‫‪1927‬م)‪ ،‬و(ب‪.‬هارمتان ‪1968‬م)(‪.)3‬‬
‫ما يزال مقت�رصا على و�صف اجلملة‪ ،‬بينما يت�ضح من يوم‬ ‫وي َعدّ ا ألمريكي (هاري�س ‪1952‬م) �أول من ا�ستخدم التحليل‬‫ُ‬
‫�إىل �آخر �أن جوانب كثرية لهذه ا ألبنية ال ميكن �أن تو�صف �إال‬ ‫الن�صي ال�شامل من خالل درا�سته املو�سومة بـ(حتليل‬
‫يف �إطار �أو�سع لنحو الن�ص � أ ونحو اخلطاب»(‪.)7‬‬ ‫اخلطاب ‪ ،)Discours Analysis‬وه وبحث قيم بد�أت معه بوادر‬
‫وقد تو�سعت الل�سانيات الن�صية يف اعتبار ال�سياق يف‬ ‫االهتمام بالن�ص‪ ،‬والن�ص و�سياقه االجتماعي‪ ،‬وقدم يف‬
‫عملية التوا�صل‪ ،‬ذلك �أن التوا�صل اللغوي ت�سهم فيه عنا�رص‬ ‫بحثه �أول حتليل منهجي لن�صو�ص بعينها(‪.)4‬‬
‫تتعلق باملخاطِ ب واملخا َطب والن�ص والظروف املحيطة‬ ‫وقد اهتم هاري�س بتوزيع العنا�رص اللغوية يف الن�صو�ص‬
‫بهم جميعا‪� ،‬إن ل�سانيات اجلملة لي�ست كافية لكل م�سائل‬ ‫املطولة‪ ،‬والروابط بني الن�ص و�سياقه االجتماعي(‪.)5‬‬
‫الو�صف اللغوي‪ ،‬فقد تتما�سك جمل الن�ص بروابط غري‬ ‫وال يعترب هاري�س �أول ل�ساين حديث يعترب اخلطاب‬
‫‪289‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واملقامية وا ألطر الثقافية‪ ،‬واعتبارها �أمرا قائما خارج النحو‬ ‫نحوية على ا إلطالق‪.‬‬
‫وطارئا عليه»(‪.)8‬‬ ‫وبعبارة �أخرى ميكن �أن نقول �أن هناك بع�ض العالقات اللغوية‬
‫يرى الدكتور حممد ال�شاو�ش‪ ،‬وهو �أحد املخت�صني العرب يف‬ ‫بني اجلمل التي ُتكوِّن الن�ص‪ ،‬قد تكون روابط متا�سكية نحوية‪،‬‬
‫الل�سانيات الن�صية وبال�ضبط يف ت�أ�صيل الل�سانيات الن�صية‬ ‫وهنا ميكن اال�ستفادة من ل�سانيات اجلملة � أ والنحو‪ ،‬وقد تكون‬
‫يف النحو العربي �أنه «مل يتجاوز نحو اجلملة �سوى يف نهاية‬ ‫روابط متا�سكية غري نحوية �شكلية �أي داللية وهنا يجب البحث‬
‫ال�ستينات امليالدية يف حني �أن �سنة (‪1984‬م) متثل ذروة‬ ‫عن العالقات بني اجلمل يف �إطار معطيات الل�سانيات الن�صية‪،‬‬
‫االهتمام بنحو الن�ص وحتليل اخلطاب حيث بلغت ا ألعمال‬ ‫كما ميكن ا�ستثمار الن�ص ووتوظفيه ن�صيا لك�شف � آليات التما�سك‬
‫املن�شورة فيها (‪ )298‬عمال»(‪.)9‬‬ ‫داخل الن�ص‪ ،‬ومن بني الظاهرة النحوية التي يجب النظر �إليها‬
‫ميكن القول �إنه كانت هناك �إ�شارات يف الدرا�سات الغربية‪ ،‬ويف‬ ‫من خالل معطيات الل�سانيات الن�صية ما ي�أتي‪:‬‬
‫الرتاث العربي وا إل�سالمي �إىل �أهمية التحليل الن�صي املتجاوز‬ ‫* ال�ضمائر ووظائفها الن�صية‬
‫للجملة‪ ،‬جند يف تلك ا إل�شارات التوجه �إىل �رضورة التحليل‬ ‫* � أ�سماء ا إل�شارة‬
‫الن�صي الذي يتجاوز اجلملة �إىل ف�ضاء �أرحب هو الف�ضاء‬ ‫* التعريف والتنكري‬
‫الن�صي‪.‬‬ ‫* التذكري والت�أنيث‬
‫وتعترب البداية احلقيقية لدرا�سة الن�صية كعلم م�ستقل‬ ‫* التكرار (التما�سك املعجمي)‬
‫كانت على يد فندايك ‪ Van Dijk‬الذي يقول‪« :‬لقد توقفت‬ ‫* اال�ستدراك‬
‫القواعد والل�سانيات التقليدية غالبا عند حدود و�صف‬ ‫* التوابع (ال�صفة‪ ،‬البدل‪،‬احلال)‬
‫* احلذف‬
‫اجلملة و�أما يف علم الن�ص‪ ،‬ف�إننا نقوم بخطوة �إىل ا ألمام‪،‬‬ ‫* ال�صلة‬
‫ون�ستعمل و�صف اجلمل بو�صفه �أداة لو�صف الن�صو�ص‪ ،‬وما‬ ‫* التقدمي والت�أخري‬
‫دمنا ن�ستتبع هنا املكونات املعتادة للقواعد‪ ،‬و�سن�ستعمل‬ ‫* اال�ستثناء‬
‫الن�صو�ص امل�ستخدمة بغية و�صف اجلمل‪ ،‬ف�إننا ن�ستطيع‬ ‫* الزمن‬
‫�أن نتكلم عن قواعد الن�ص»(‪.)10‬‬ ‫* العالقات املو�ضوعية‬
‫فقد كان فندايك ي�سعى إلقامة ل�سانيات ن�صية تدر�س البنية‬ ‫* العام واخلا�ص‬
‫الن�صية‪ ،‬ومظاهر التما�سك يف الن�ص‪ ،‬وي�أخذ يف االعتبار كل‬ ‫* الكل واجلزء‬
‫ا ألبعاد البنيوية وال�سياقية والثقافية(‪.)11‬‬ ‫* الكبري وال�صغري‬
‫لقد كانت احلاجة �إىل الل�سانيات الن�صية �رضورة ملحة لتجاوز‬ ‫ويبني �أحد الباحثني �أن �إق�صاء املعنى يف الل�سانيات التقليدية‬
‫ُ‬
‫بع�ض ال�صعوبات التي واجهت الل�سانيات اجلملية‪ ،‬وذلك لتغري‬ ‫كان وراء عجزه عن حتليل كثري من الظواهر اللغوية‪ ،‬ذلك �أن‬
‫الكثري من املفاهيم النقدية احلديثة‪ ،‬وتغري النظرة �إىل الل�سانية‬ ‫«الفهم احلق للظاهرة الل�سانية يوجب درا�سة اللغة درا�سة ن�صية‬
‫�إىل مفهوم اللغة ووظيفتها‪ ،‬وجنمل �أهمية الل�سانيات الن�صية‬ ‫ولي�س اجتزاء والبحث عن مناذجها وتهمي�ش درا�سة املعنى‪ ،‬كما‬
‫فيما يلي(‪:)12‬‬ ‫ثم كان التمرد‬ ‫ظهر يف الل�سانيات البلومفيدية �أول �أمرها‪ ،‬ومن ّ‬
‫�أوال‪� :‬إن الل�سانيات الن�صية تركز على الن�ص كبنية كلية‪ ،‬ال على‬ ‫على نحو اجلملة واالجتاه �إىل نحو الن�ص �أمرا متوقعا‪ ،‬واجتاها‬
‫اجلمل كبنية فرعية‪ ،‬وعلى هذا اجتذبت الن�صو�ص الل�سانيات‬ ‫�أكرث ات�ساقا مع الطبيعة العلمية للدر�س الل�ساين احلديث‪� ،‬إن‬
‫الن�صو�صية بناء على �أن نحو الن�ص ي�شمل الن�ص‪ ،‬و�سياقه‪،‬‬ ‫درا�سة الن�صو�ص هي درا�سة للمادة الطبيعية التي تو�صلنا‬
‫وظروفه‪ ،‬وف�ضاءاته‪ ،‬ومعانيه املتعالقة القبلية والبعدية‪،‬‬ ‫�إىل فهم �أمثل لظاهرة اللغة؛ ألن النا�س ال تنطق حني تنطق‪،‬‬
‫مراعيا ظروف املتلقي وثقافته و�أ�شياء كثرية حتيط بالن�ص‪،‬‬ ‫وال تكتب حني تكتب جمال �أو تتابعا من اجلمل ولكنها ُتعبرِّ‬
‫�أما ما كان يحدث يف املناهج الل�سانية الرتاثية‪ ،‬فهو تناول‬ ‫يف املوقف اللغوي احلي من خالل حوار معقد متعدد ا ألطراف‬
‫للن�ص بال�رشح؛ فلم يكن ينظر يف جممل الن�ص ولتما�س فهمه‬ ‫مع ا آلخرين‪ ،‬ويكرث يف هذه احلال ت�صادم اال�سرتاتيجيات‬
‫بو�صفه ذا وحدة ع�ضوية جتعل بع�ضه يف�رس بع�ضا‪ ،‬و�إمنا كان‬ ‫وامل�صالح وتعقد املقامات‪ ،‬ومثل ذلك نراه يف حديث الكتابة‬
‫ال�رشّاح يبنون �رشوحهم على املفردات‪ ،‬ثم يغو�ص يف الداللة‬ ‫حني تتعقد العالقات بني مكونات ال�صياغة اللغوية وترتد‬
‫املفردة لهذا اللفظ‪ ،‬مع ندرة االنتباه �إىل العالقات الع�ضوية بني‬ ‫�أعجازها عن �صدورها‪ ،‬وتت�شابك العالقات يف ن�سيج معقد بني‬
‫�أجزاء الن�ص‪ ،‬وما كان لهذا املنهج يف �رشح الن�صو�ص �أن ي�ؤدي‬ ‫ال�شكل وامل�ضمون على نحو ي�صبح فيه رد ا ألمر كله �إىل اجلمل‬
‫�إىل الفهم الكامل لداللته ومقا�صدها‪.‬‬ ‫�أو مناذج اجلمل جتاهال للظاهرة املدرو�سة‪َ ،‬ر ّدا له �إىل ب�ساطة‬
‫ولع ّل هذا الفهم ي�صدق حتى على عمل �أغلب املف�رسين و�رشحهم‬ ‫م�صطنعة تخل بجوهرها‪ ،‬وتق�ضي �إىل عزل ال�سياقات املقالية‬
‫‪290‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بالنظم االفرتا�ضية ألن الرتجمة من �أمور ا ألداء‪ ،‬ولي�س امتالك‬ ‫للن�ص القر� آين‪ ،‬مع �أن بع�ضهم �أدرك �رضورة وجود هذه العالقات‬
‫املعجم والنحو فقط كافيا للقيام بالرتجمة ب�سبب احلاجة �إىل‬ ‫التما�سكية‪ ،‬و�أن القر� آن يف�رس بع�ضه بع�ضا‪ ،‬و�أن ال�سنة ّ‬
‫تف�صل ما‬
‫التما�سك يف ا�ستعماالت اللغة‪ ،‬وذلك من املهام ا أل�سا�سية‬ ‫يف القر� آن من �إجمال‪.‬‬
‫لل�سانيات الن�ص‪ ،‬لذا ميكن �أن يفيد كثريا يف هذا املجال يف‬ ‫ثانيا‪ :‬كثري من الظواهر الرتكيبية مل تف�رس يف �إطار اجلملة‬
‫النقل من اللغات ا ألجنبية �إىل العربية �أو العك�س‪.‬‬ ‫تف�سريا مقنعا‪ ،‬ورمبا تغري احلال �إذا اجته الو�صف �إىل احلكم على‬
‫�ساد�سا‪ :‬ن�ستطيع من خالل الل�سانيات الن�صية �أن نعيد النظر‬ ‫هذه الظواهر يف �إطار وحدة �أكرب من اجلملة‪ ،‬وميكن �أن تكون‬
‫يف بع�ض املفاهيم اللغوية التقليدية ال�سائدة وذلك �إما‬ ‫هذه الوحدة هي الن�ص‪.‬‬
‫لتعميقها �أو لتعديلها‪ ،‬ومثال ذلك ما ي�شري �إليه النقاد من‬ ‫ومن ذلك ف�إن الل�سانيات الن�صية قد �ضمت عنا�رص مل تكن‬
‫افتقار ال�شعر اجلاهلي �إىل الوحدة الع�ضوية‪ ،‬وذلك لتعدد‬ ‫يف ل�سانيات اجلملة‪ ،‬عنا�رص بناء قواعد جديدة منطقية‬
‫ا ألغرا�ض يف الق�صيدة الواحدة‪ ،‬ولكن ميكن من خالل‬ ‫وداللية وتركيبية لتقدمي �شكل جديد من �أ�شكال التحليل لبنية‬
‫الل�سانيات الن�صية �إعادة درا�سة الق�صيدة يف الع�رص اجلاهلي‬ ‫الن�ص‪ ،‬وت�صور معايري التما�سك‪ ،‬ولهذا ت�ضافرت تقريرات‬
‫من خالل و�سائل التما�سك‪ ،‬وذلك إليجاد التما�سك املفهومي‬ ‫الل�سانيني من �أمثال بايك وهارمتان وجلي�سون وفندايك‪...‬‬
‫امللحوظ �أو حتى بع�ض و�سائل التما�سك الر�صفي الذي ينتج‬ ‫على �أن الل�سانيات الن�صية بالن�سبة ألي لغة هو �أكرث �شموال‬
‫عنه القول بوجود وحدة ع�ضوية كاملة‪ ،‬وقد قدم الدكتور �سعد‬ ‫ومتا�سكا واقت�صادا من القواعد املوجودة يف ل�سانيات‬
‫م�صلوح منوذجا لتلك الدرا�سة حول ق�صيدة املرق�ش ا أل�صغر‬ ‫اجلملة‪ ،‬ومن هنا تغريت ا ألهداف ف�أ�صبحت الل�سانيات‬
‫(بنت عجالن)‪ ،‬وقد ا�ستطاع �أن يلم�س مدى �إحكام الن�سيج يف‬ ‫الن�صية تعنى بظواهر ن�صية خمتلفة‪ ،‬منها عالقات التما�سك‪،‬‬
‫الت�شكيل اللغوي للن�ص‪ ،‬و�صلة ما بني الن�ص وعامل الن�ص‪،‬‬ ‫و�أبنية التطابق والتقابل والرتاكيب املحورية والرتاكيب‬
‫وا�ستطاع �أن يك�شف بوا�سطة � آليات التما�سك النحوي والداليل‬ ‫املجتز�أة‪ ،‬وحاالت احلذف‪ ،‬واجلمل املف�رسة‪ ،‬والتحويل �إىل‬
‫عن ثراء الن�ص‪.‬‬ ‫ال�ضمري‪ ،‬والتنويعات الرتكيبية وتوزيعاتها يف ن�صو�ص‬
‫هــوام�ش البحث‪:‬‬ ‫فردية وغريها من الظواهر الرتكيبية التي تخرج عن �إطار‬
‫‪ -1‬خولة طالب ا إلبراهيمي‪ ،‬مبادئ يف الل�سانيات‪ ،‬دار الق�صبة للن�رش‪،‬‬
‫اجلملة املفردة التي ال ميكن تف�سريها تف�سريا كامال دقيقا �إال‬
‫‪2000‬م‪� ،‬ص‪167‬‬ ‫من خالل وحدة الن�ص الكلية‪.‬‬
‫‪� -2‬أحمد عفيفي‪ ،‬نحو الن�ص اجتاه جديد يف الدر�س النحوي‪ ،‬مكتبة زهراء‬ ‫ثالثا‪ :‬تغيرّ الدر�س الل�ساين يف نظرته �إىل اللغة‪ ،‬وذلك ل إلح�سا�س‬
‫ال�رشق‪ ،‬ط‪2001 ،1‬م‪� ،‬ص‪31‬‬ ‫الطاغي بالوظيفة االجتماعية للغة‪ ،‬و�إىل �رضورة وجود‬
‫‪ -3‬فول فجاجن هاينه مان وديرت فيهفجر‪ ،‬مدخل �إىل علم لغة الن�ص‪،‬‬
‫ترجمة �سعيد ح�سن بحريي‪ ،‬مكتبة زهراء ال�رشق‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪� ،‬ص‪-20‬‬
‫الدور التوا�صلي الذي يعده علماء الل�سانيات جوهر العمليات‬
‫‪21‬‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ومن هنا �أدرك الل�سانيون �أن اجتزاء اجلمل يحيل‬
‫‪� -4‬سعد م�صلوح‪ ،‬العربية من نحو اجلملة �إىل نحو الن�ص‪� ،‬ضمن كتاب‬ ‫اللغة احلية فتاتا وتفاريق من اجلمل‪ ،‬وهو ما جنده يف �شواهد‬
‫ا أل�ستاذ عبد ال�سالم هارون معلما وم�ؤلفا وحمققا‪ ،‬حترير وديعة طه النجم‬ ‫النحو والبالغة املنزعة من �سياقها وهو ما يتنافى مع مبادئ‬
‫وعبده بدوي‪ ،‬كلية ا آلداب‪1410 ،‬هـ‪1990-‬م‪ ،‬الكويت‪� ،‬ص‪407‬‬
‫‪ -5‬زت�سي�سالف واورزيناك‪ ،‬مدخل �إىل علم الن�ص م�شكالت بناء الن�ص‪،‬‬ ‫الل�سانيات الن�صية‪� .‬إن تلك الوظيفة االجتماعية‪ ،‬وهذا الدور‬
‫ترجمة د‪� .‬سعيد بحريي‪ ،‬م�ؤ�س�سة املختار‪ 2003 ،‬م‪ ،‬القاهرة‪� ،‬ص‪37-36‬‬ ‫التوا�صلي للغة يف�سحان الطريق للنحو �أن يت�سع مفهومه‪ ،‬لي�صبح‬
‫‪ -6‬جميل عبد املجيد‪ ،‬البديع بني البالغة والل�سانيات الن�صية‪ ،‬الهيئة‬ ‫مكونا من مكونات نظرية �شاملة‪ ،‬تف�رس ال�سلوك ا إلن�ساين‪ ،‬وهذا‬
‫امل�رصية العامة للكتاب‪1998 ،‬م‪� ،‬ص‪17‬‬ ‫ال يتم �إال من خالل ن�ص متما�سك ب�سياق توا�صلي ولي�س من‬
‫‪ -7‬برند �شبلرن‪ ،‬علم اللغة والدرا�سات ا ألدبية درا�سة ا أل�سلوب البالغة علم‬
‫اللغة الن�صي‪� ،‬ص‪184‬‬ ‫خالل جملة‪.‬‬
‫‪� -8‬سعد م�صلوح‪ ،‬العربية من نحو اجلملة �إىل نحو الن�ص‪� ،‬ص‪413‬‬ ‫رابعا‪� :‬إ�ضافة مهام جديدة لل�سانيات لي�ست من اخت�صا�ص‬
‫‪ -9‬حممد ال�شاو�ش‪� ،‬أ�صول حتليل اخلطاب يف النظرية النحوية العربية‬ ‫ل�سانيات اجلملة‪ ،‬ومن تلك املهام �صياغة قواعد متكننا من‬
‫ت�أ�سي�س نحو الن�ص‪� ،‬سل�سلة الل�سانيات‪ ،‬املجلد‪ ،14‬جامعة منّوبة‪ ،‬تون�س‪،‬‬ ‫ح�رص كل الن�صو�ص النحوية يف لغة ما بو�ضوح‪ ،‬ومن تزويدنا‬
‫وامل�ؤ�س�سة العربية للتوزيع‪ ،‬ط‪1421 ،1‬هـ‪2001-‬م‪ ،‬بريوت‪76-77/1 ،‬‬
‫‪ -10‬فندايك‪ ،‬الن�ص بنى ووظائف مدخل �أويل �إىل علم الن�ص‪ ،‬ترجمة منذر‬ ‫للبنية‪ ،‬فالل�سانيات الن�صية �إعادة بناء �شكلية‬ ‫بو�صف أ‬
‫عيا�شي‪� ،‬ضمن كتاب العالماتية وعلم الن�ص‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫للكفاءة اللغوية اخلا�صة مب�ستخدم اللغة يف عدد ال نهائي من‬
‫‪2004‬م‪ ،‬بريوت‪147/1 ،‬‬ ‫الن�صو�ص‪.‬‬
‫‪� -11‬سعيد يقطني‪ ،‬انفتاح الن�ص الروائي الن�ص‪-‬ال�سياق‪ ،‬املركز الثقايف‬ ‫أ‬
‫خام�سا‪ :‬ميكن لل�سانيات الن�ص �ن تقدم خدمة كبرية للرتجمة‪،‬‬
‫العربي‪1989 ،‬م‪ ،‬بريوت والدار البي�ضاء‪� ،‬ص‪15‬‬
‫‪ � -12‬أحمد عفيفي‪ ،‬نحو الن�ص اجتاه جديد يف الدر�س النحوي‪،‬‬ ‫حيث يرى روبرت دي بوجراند �أنه ميكن لل�سانيات الن�ص �أن‬
‫�ص‪. 42-37‬‬ ‫تقدم �إ�سهاما للرتجمة‪ ،‬بعك�س الل�سانيات التقليدية التي ُتعنى‬
‫‪291‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حممد نا�صر اجلزائري‬


‫فـي �أوراق ثقافية من ُعمان‬
‫�سميـــرة �أن�ساعـــد‬
‫�أكادميية من اجلزائر‬

‫ويقدّم ال�صحفي الرحالة حممد نا�رص(‪ )3‬منوذجا نادرا يف‬ ‫تعد الرحلة من ا أللوان التعبريية ا ألوىل‪ ،‬التي تعتمد ال�رسد‬
‫ا ألدب اجلزائري؛ حيث اعتنت رحلته بت�سجيل � أحداث �سفره‬ ‫ب�ضمري املتكلم‪ ،‬وتعبرّ عن ا ألنا مع انفتاحها على ا آلخر‪،‬‬
‫�إىل م�سقط عا�صمة ُعمان(‪ ،)4‬بهدف ح�ضور ندوة ثقافية‬ ‫وتقدميها �صورة عنه‪ ،‬منطبعة ب�أحا�سي�س ا إلعجاب‪� ،‬أو‬
‫خ�ص�صت إللقاء ال�ضوء على �شخ�صية ال�صحابي مازن بن‬ ‫اال�ستغراب‪� ،‬أو االعتزاز بالذات‪ ،‬وهي من ا ألنواع الق�ص�صية‬
‫غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬وبدعوة من وزارة الرتبية التعليم‪،‬‬ ‫التي تتداخل فيها �أنواع عديدة من اخلطابات التي عرفتها‬
‫فا�شتملت الرحلة املدونة حلقتني معنونتني بـ«ال�صحابي‬ ‫املجتمعات ا إلن�سانية‪ ،‬وتداولتها‪ ،‬كال�شعر‪ ،‬واجلغرافيا‪،‬‬
‫اجلليل مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه يف ندوة ثقافية»‪،‬‬ ‫والتاريخ‪ ،‬وال�سرية الذاتية‪� ،‬أو الغريية‪ ،‬وا إليديولوجيا‪...‬‬
‫و«ج�سور للمحبة والتعاون»‪ ،‬مندرجتني حتت عنوان عام هو‪:‬‬ ‫ن�صو�ص الرحلة‬
‫ُ‬ ‫وغريها من اخلطابات‪ ،‬كما ت�ضمن‬
‫«� أوراق ثقافية من عمان»‪� ،‬إ�ضافة �إىل عناوين � أخرى �شملتها‬ ‫لقرّائها توفري املتعة‪ ،‬والت�شويق‪ ،‬وتخربهم بالكثري مما‬
‫احللقة الثانية‪ ،‬وهي‪�« :‬إحياء الرتاث الفكري والعلمي»‪،‬‬ ‫يجهلون‪ ،‬ا�ستنادا على ما يولّده فعل ال�سفر‪ ،‬والتنقل من‬
‫و«كنوز وخمطوطات»‪ ،‬و«معامل ح�ضارية رائدة»‪.‬‬ ‫�أحداث مرتاتبة‪ ،‬وم�شاهدات‪ ،‬ور ؤ�ى متجددة بتجدد املكان‪،‬‬
‫ومن هذه العناوين‪ ،‬ن�ستخل�ص �أن حممد نا�رص مل يكتف‬ ‫والزمان‪ ،‬وحاالت النف�س الرحالة‪)1(.‬‬
‫ي�سجل خمتلف‬‫ب�رسد �أعمال الندوة وحما�رضاتها‪ ،‬بل � آثر �أن ّ‬ ‫وقد �أجنز اجلزائريون رحالت كثرية نحو امل�رشق منذ دخول‬
‫انطباعاته‪ ،‬وم�شاهداته �أثناء زيارته م�سجد ال�صحابي‬ ‫ا إل�سالم �إىل بالد �إفريقية‪ ،‬واملغرب العربي‪ ،‬ألغرا�ض خمتلفة‪،‬‬
‫مازن بن غ�ضوبة ببلدة �سمائل‪ ،‬ومدينة الر�ستاق‪ ،‬وح�صن‬ ‫�أبرزها طلب العلم‪ ،‬والقيام بفري�ضة احلج‪ ،‬وال�سياحة ببلدان‬
‫احلزم‪ ،‬وغريها من ا ألماكن التي و�صفها الرحالة‪ ،‬و�أظهر‬ ‫امل�رشق الكثرية‪ ،‬واقرتنت الرحلة �إىل امل�رشق حديثا‪ ،‬ب�أ�سباب‬
‫حما�سنها‪ ،‬دون �أن ين�سى مدح �أهل ُعمان‪ ،‬والثناء على‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬وح�ضارية‪ ،‬من مثل القيام برحالت ك�شفية‪،‬‬
‫خ�صالهم‪ ،‬و�إجنازاتهم الثقافية والدينية‪ ،‬خلدمة ا إل�سالم‬ ‫�أو التعريف باجلزائر‪ ،‬وكذلك القيام مبهمات �سيا�سية‪،‬‬
‫وا ألمة ا إل�سالمية‪.‬‬ ‫و�سفارية‪ ،‬وكذلك ح�ضور م�ؤمترات‪ ،‬وملتقيات علمية‪.‬‬
‫‪ .1‬أ�حداث الرحلة‪:‬‬
‫وكانت �أبرز املدن املق�صودة يف �أول عهود اجلزائريني‬
‫بالرحلة‪ ،‬بغداد حمل اخلالفة ا إل�سالمية‪ ،‬وكذلك قاهرة‬
‫كان انطالق حممد نا�رص من اجلزائر نحو مطار م�سقط‬ ‫م�رص‪ ،‬وهي حمل علم وثقافة‪ ،‬ومعروف عن �أهلها‪ ،‬وعن‬
‫(ال�سيب �سابقا) يف م�سقط يوم ال�سبت ال�سابع والع�رشين من‬ ‫�أهل م�رص جميعا‪ ،‬ح�سن ال�ضيافة‪ ،‬والعناية بالغرباء‪ ،‬وفيها‬
‫�شهر �أكتوبر عام ت�سعني وت�سعمائة بعد ا أللف‪ ،‬ومل يحدد لنا‬ ‫جامع ا ألزهر‪ ،‬الذي كان �أ�شهر املراكز الثقافية وا إل�سالمية‬
‫الكاتب مراحل ال�سفر ا ألوىل‪ ،‬بل �رشع يف التقدمي لرحلته‬ ‫يف الوطن العربي؛ �إذ �إن �أغلب العلماء وطلبة العلم تخرجوا‬
‫بالرجوع �إىل ما�ضي الكتابة‪ ،‬وقبل ثالث �سنوات بال�ضبط‪،‬‬ ‫منه‪ ،‬ونالوا �إجازات كبار �شيوخه‪� ،‬أما احلجاز‪ -‬ب�أ�شهر‬
‫متى قرّرت وزارة الرتبية والتعليم وال�شباب بال�سلطنة تنظيم‬ ‫مدنه‪ ،‬كمكة واملدينة وجدة والينبوع‪ -‬فكان مق�صد‬
‫ندوة ثقافية كل �سنة تخ�ص�ص ملو�ضوع بارز‪ ،‬ي�شارك فيه‬ ‫احلجاج والطلبة من كل ناحية‪ ،‬وكذلك �سجلت �أعداد كبرية‬
‫الباحثون من كل مكان‪ ،‬وي�صل �إىل �سنة الت�أليف فيقول‪:‬‬ ‫من الرحالت والهجرات من اجلزائر نحو دم�شق ال�شام‪،‬‬
‫«�أما ندوة هذه ال�سنة فقد خ�ص�صت لدرا�سة حياة و�أدب‬ ‫التي كانت كذلك حا�رضة علم عامرة‪ ،‬يتمتع �أهلها بكرم‬
‫ال�صحابي اجلليل مازن بن غ�ضوبة ال�سعدي الذي يعد يف‬ ‫ال�ضيافة‪ ،‬وح�سن املعاملة‪� ،‬أما رحالت الع�رص احلديث‪ ،‬فقد‬
‫نظر امل�ؤرخني �أول من �أدخل ا إل�سالم �إىل عمان �أ�سلم على‬ ‫�سجل �أحداث ال�سفر �إليها‬
‫اقرتنت بوجهات جديدة م�رشقية ّ‬
‫يد الر�سول الكرمي والتقى به مرارا يف املدينة ومكة وقد‬ ‫عدد من الرحالني اجلزائريني‪ ،‬ومن هذه الوجهات‪ :‬الكويت‪،‬‬
‫حتدثت امل�صادر القدمية عن ف�ضله و�أخالقه العالية‪ ،‬وقد‬ ‫والبحرين(‪ ،)2‬و�سلطنة عمان‪.‬‬
‫‪292‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اجلزائري‪« :‬الذي يعجز القلم عن و�صف احلفاوة والرعاية‬ ‫�رشفتنا وزارة الرتبية �أنا وزميلي ا أل�ستاذ حممد بوحجام‬
‫التي ا�ستقبلنا بها‪ ،‬منذ دخولنا مطار (ال�سيب) مب�سقط �إىل‬ ‫من جامعة باتنة بدعوة كرمية للم�شاركة يف هذه الندوة‬
‫حلظة وداعنا له‪ ،‬واحلق �إن املرء لي�شعر بهذا االهتمام البالغ‬ ‫ببحثني حول حياة هذا ال�صحابي اجلليل‪ ،‬وكانت فر�صة‬
‫الذي يوليه إلخوانه الطلبة الذين يدر�سون ببع�ض املعاهد‬ ‫لنا لاللتقاء بامل�شائخ والعلماء وا ألدباء هناك‪ ،‬وزيارة‬
‫ا إل�سالمية هناك»(‪ ،)8‬و�أ�شار �إىل �شيخني عمانيني جليلني‬ ‫املعامل ا ألثرية للح�ضارة ا إل�سالمية يف تلك الربوع العريقة‪،‬‬
‫جمعته معهما لقاءات �أخوية يف الر�ستاق‪ ،‬وهما‪ :‬ال�شيخ‬ ‫واحلق لقد كانت احلفاوة بالغة‪ ،‬والعناية بامل�شاركني يف‬
‫اخلليلي‪ ،‬وال�شيخ �سعيد بن حمد احلارثي‪ ،‬وهذا ا ألخري‪ُ ،‬عرف‬ ‫الندوة فائقة واجلو العلمي رائعا‪ ،‬تنظيما ورعاية‪ ،‬و�إقباال‬
‫بظرفه و�أدبه‪ ،‬وبرحالته الكثرية يف بلدان العامل‪)9(.‬‬ ‫م�شجعا من طرف امل�س�ؤولني �أو من طالب اجلامعة واملعاهد‬
‫‪ .3‬احلياة الثقافية واالجتماعية يف عُ مان‪:‬‬ ‫ا إل�سالمية‪)5(».‬‬
‫وبعد هذه االفتتاحية‪ ،‬انتقل امل�ؤلف �إىل ذكر تفا�صيل الندوة‪،‬‬
‫اعتنى حممد نا�رص خالل وجوده يف م�سقط‪ ،‬بزيارة املعامل‬ ‫وحما�رضاتها‪ ،‬التي انطلقت �أعمالها يوم ا ألحد التايل ليوم‬
‫احل�ضارية والثقافية‪ ،‬التي يتمتع بر ؤ�يتها‪ ،‬وخدماتها �سكان‬ ‫متت �أعمالها يوم ا ألربعاء من ا أل�سبوع‬
‫و�صوله �إىل م�سقط‪ ،‬و ّ‬
‫املدينة‪ ،‬وقد �أخرب نا�رص مب�سعى �سلطنة عمان النه�ضوي‬ ‫ذاته‪ ،‬وكان تتايل ا ألحداث يف برنامج الندوة يقوم على‬
‫يف جمال الثقافة‪� ،‬أُ�س�س له منذ ال�سبعينات‪ ،‬يهدف �إىل‬ ‫تعيني يوم‪ ،‬ووقت املحا�رضة‪ ،‬وا�سم املحا�رض ومو�ضوع‬
‫�إحياء الرتاث وفهمه‪ ،‬وحتديث الفكر مبا ي�صلح من �أوجه‬ ‫تدخله‪ ،‬ثم املعقبني على التدخل يف ا ألخري‪ ،‬وكانت اجلل�سة‬
‫للمعا�رصة‪ ،‬ولذلك عملت وزارة الرتاث (القومي) والثقافة‬ ‫الثانية‪« :‬للبحث الذي قدّمه حممد نا�رص من جامعة اجلزائر‬
‫بجهود كبرية إلحياء الرتاث وجمعه‪ ،‬واحلفاظ على خمزون‬ ‫بعنوان «مازن بن غ�ضوبة (ر�ضي اهلل عنه) ومكانته ا ألدبية‪.‬‬
‫املخطوطات‪ ،‬بالتنقية‪ ،‬والرتميم‪ ،‬والتجليد‪ ،‬والزخرفة‪،‬‬ ‫ع ّقب عليه الدكتور �سعيد ا ألعظمي رئي�س حترير جملة البعث‬
‫وكذلك بن�رش الكثري منها‪ ،‬وحتقيقها‪ ،‬وقد و�صلت الوزارة‬ ‫ا إل�سالمي بالهند‪ ،‬والدكتور �أحمد �شلبي �أ�ستاذ التاريخ‬
‫حتى �سنة زيارة الرحالة �إىل البالد �إىل حت�صيل �أربعة‬ ‫واحل�ضارة ا إل�سالمية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة»(‪،)6‬‬
‫� آالف خمطوط‪ ،‬وحتقق ذلك مب�ساعدة العمانيني املالكني‬ ‫للحداث‪ ،‬املختزلة يف‬ ‫ويظهر يف الن�ص الت�أطري املا�ضي أ‬
‫للمخطوطات‪ ،‬وجلب الدولة العديد منها من دول �أخرى‪،‬‬ ‫حالة ق�صوى‪ ،‬جتعل من منط الكتابة هنا يختلف عن منط‬
‫هذا �إ�ضافة �إىل خمطوطات ما تزال عند �أ�صحابها ت�رشف‬ ‫الرحالت‪ ،‬ويتماثل مع منط التقارير ال�صحفية املوجزة‪ ،‬وقد‬
‫وزارة الرتاث الثقافة على �صيانتها‪ ،‬و�أفادنا نا�رص بتميّز‬ ‫عبرّ عنها ذاك العنوان العام �أوراق ثقافية من عمان‪ ،‬تعود‬
‫العمانيني بالكتابة يف العلوم الفقهية‪ ،‬وعنايتهم مبن ي�ؤلف‬ ‫رمبا �أ�سا�سا �إىل ميل الكاتب �إىل الطابع ال�صحفي‪.‬‬
‫«‪..‬عرف العمانيون بت�أليف املطوالت الفقهية‬ ‫كتبا حولها‪ُ :‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫نظما ونرثا‪ ،‬يكفي �ن نذكر مثال �ن (قامو�س ال�رشيعة) يبلغ‬ ‫‪ .2‬أ�برز لقاءات الرحالة يف عمان‪:‬‬
‫�سبعني جزءا‪ ،‬وقد تف�ضلت الوزارة بطبع العديد من م�ؤلفات‬ ‫ذكر حممد نا�رص ال�شخ�صيات التي نظمت الندوة‪ ،‬كاملفتي‬
‫ال�شيخ �أطفي�ش حممد بن يو�سف اجلزائري»(‪)10‬‬ ‫العام ل�سلطنة ُعمان ال�شيخ �أحمد بن حممد اخلليلي‪ ،‬الذي‬
‫والحظ حممد نا�رص وجود املكتبات‪ ،‬ووفرتها يف �أغلب‬ ‫�أ�ضفى ب�شخ�صه وطبعه على �أعمال الندوة‪« :‬جدية وثراء‪،‬‬
‫امل�ؤ�س�سات العامة‪ ،‬كاملعاهد‪ ،‬وامل�ساجد‪ ،‬وا ألندية‪ ..،‬حتتوي‬ ‫وحوارا علميا هادئا»(‪ ،)7‬كما �أ�رشف على الندوة وزير‬
‫على �أحدث الو�سائل التي يحتاج �إليها القارئ‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫التجارة وال�صناعة‪ ،‬ووزير الرتبية والتعليم وال�شباب‬
‫وجود مكتبات خا�صة يف كل بلدة‪ ،‬تقدم للباحثني كنوزا من‬ ‫بال�سلطنة‪ ،‬وعدّد الرحالة ا أل�ساتذة امل�شاركني مبحا�رضاتهم‬
‫املخطوطات الرتاثية‪ ،‬وت�سهل لكل راغب يف املعرفة ت�صفح‬ ‫يف �إثراء جانب حياة ال�صحابي مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل‬
‫املخطوطات‪ ،‬وتوفر له كل الو�سائل للن�سخ والت�صوير‪ ،‬وذكر‬ ‫عنه‪ ،‬دون و�صفهم منهم‪ :‬مدير ال�ش�ؤون ا إل�سالمية بوزارة‬
‫الرحالة منها مكتبة ال�ساملي يف منطقة ا�سمها «بدية»‪،‬‬ ‫العدل‪ ،‬وال�شيخ مبارك بن عبد اهلل الرا�شدي‪ ،‬والدكتور اليقظان‬
‫ومكتبة ال�سيد حممد البو�سعيدي‪ ،‬وهي من �أغنى املكتبات‬ ‫بن طالب الهنائي من عمان‪ ،‬والدكتور �سعيد ا ألعظمي من‬
‫باملخطوطات‪ ،‬و�أ�ضخمها يف عمان‪)11(.‬‬ ‫الهند‪ ،‬والدكتور �أحمد �شلبي من م�رص‪ ،‬والدكتور فرحات بن‬
‫ومن ا ألخبار االجتماعية التي قدّمها الرحالة عن �شعب‬ ‫علي اجلعبريي من تون�س‪.‬‬
‫عمان‪ ،‬مت�سك النا�س هناك بتعاليم الدين ا إل�سالمي‪ ،‬باد‬ ‫كما �سجل حممد نا�رص‪ ،‬يف احللقة الثانية وا ألخرية‬
‫ذلك يف �سلوكهم‪ ،‬و�أخالقهم‪� ،‬إذ عرفوا بالكرم‪ ،‬والتوا�ضع‪،‬‬ ‫من رحلته‪ ،‬حدث لقائه بالطلبة‪ ،‬وا أل�ساتذة اجلزائريني‪،‬‬
‫واملحافظة على ا أل�صالة يف اللبا�س وا ألكل‪ ،‬وكذلك يف‬ ‫والتون�سيني املقيمني هناك‪ ،‬واغتنامه فر�صة وجوده مب�سقط‬
‫هند�سة املباين‪ ،‬التي ظلت على الطابع العمراين العماين‬ ‫إلجراء حمادثتني ُ�صحفيتني‪ ،‬وت�سجيلهما‪ ،‬وكانتا مع ال�سفري‬
‫‪293‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف غابات وادي ميزاب والذي ي�شتكي منه الفالحون عندنا‬ ‫ا أل�صيل‪ ،‬رغم �ضخامتها‪ ،‬وتطور مرافقها(‪ ،)12‬وقد عبرّ‬
‫كما ي�شتكي منه الفالحون هناك ألنه من الطفيليات املقلقة‬ ‫الكاتب عن كل ذلك قائال‪ ..« :‬فالعمانيون يتم�سكون بالقيم‬
‫لل�شجار واخل�رضوات وتكرث بواحتها ا ألفالج‪ ،‬ف�إن بالوالية‬ ‫أ‬ ‫ا إل�سالمية ويحافظون على ا أل�صالة يف كل مظاهرها‬
‫حوايل مائتي فلج ت�سقي النخل وا أل�شجار قِبل ال�سفرجل‪،‬‬ ‫احل�ضارية‪..‬ال �سيما يف العالقات االجتماعية مثل الكرم‬
‫واملاجنو‪ ،‬والباباي»(‪ ،)15‬قدّم الكاتب يف جمال ت�صوير‪،‬‬ ‫احلامتي الفيا�ض‪ ،‬ف�إن ما ي�ؤذي العماين ا أل�صيل �أن يدعوك‬
‫كلي�شيهات مكانية ثالثة موازية‪ ،‬ومقارنة‪ ،‬تنتمي لف�ضاء‬ ‫�إىل قهوة �أو غذاء �أو ع�شاء وترد طلبه‪ ،‬ومن ا ألخالق العربية‬
‫الذات‪ ،‬الذي ثبّته دالليا لفظ (عندنا)‪ ،‬فكانت لقطة البداية‬ ‫ا أل�صيلة التي يتحلى بها العمانيون هذا التوا�ضع اجلم‪..‬‬
‫عر�ض منظر واحات مدينة غرداية (باجلنوب اجلزائري)‪،‬‬ ‫حتى �أنهم ليخجلونك �أحيانا بتوا�ضعهم ذاك‪ ..‬على �أن الدعوة‬
‫بني جبال حميطة‪ ،‬وواد متخلل لها‪ ،‬وهو منظر يوحي بتعدد‬ ‫�إىل القهوة والغذاء لي�س معناها ا ألكل وال�رشب والتطيب‬
‫ا أللوان‪ ،‬وا أل�صوات الطبيعية‪ ،‬يحرك خيال القارئ‪ ،‬لي�ضفي‬ ‫بالبخور ثم االن�رصاف �إنها عادة عربية �أ�صيلة وجل�سة‬
‫على ال�صورة املزيد من العنا�رص املكانية املكملة‪ ،‬كمنظر‬ ‫�رشقية مريحة‪ ..‬وقد ا�ستمتعنا واحلق‪ ،‬بجل�سات مفيدة‬
‫ال�سماء‪ ،‬و�ألوان عامة تغ�شى اللوحة لتعرب عن الوقت‪ ،‬وقد‬ ‫مع ال�شيخ اخلليلي حتت ظالل النخيل بالر�ستاق‪،)13(»..‬‬
‫يكملها بعنا�رص �أخرى ت�شغل الف�ضاء‪ ،‬كالطيور‪ ،‬وقليل من‬ ‫يبينّ الن�ص انطباعات الرحالة الذاتية ب�شكل وا�ضح‪ ،‬من‬
‫النا�س‪� ،‬أو الفالحني‪� ،‬أما املنظر الثاين‪ ،‬فهو يعك�س �صورة‬ ‫خالل اال�ستح�سان‪ ،‬واختيار �ألفاظ تقوميية ذاتية (الكرم‬
‫ملدخل مدينة غرداية جهة بوهرارة‪ ،‬وقد � آثر الكاتب يف هذا‬ ‫احلامتي الفيا�ض‪ ،‬ا أل�صيل‪ ،‬التوا�ضع اجلم‪ ،‬جل�سات مفيدة)‪،‬‬
‫الت�صوير االقت�صاد التعبريي‪ ،‬مكتفيا بذكر ال�شبه بني مدخلي‬ ‫وانطباعات نبعت عن م�شاهدة‪ ،‬وا�ستمتاع بجل�ساته مع‬
‫املدينتني‪ :‬الر�ستاق‪ ،‬وغرداية‪ ،‬فكان ف�ضاء مرتوكا للقارئ‪،‬‬ ‫العمانيني‪ ،‬التي الحظ بف�ضلها الكرم‪ ،‬والتوا�ضع فيهم‪.‬‬
‫ليكمل ر�سم املنظر جمهول املالمح‪� ،‬إال بالن�سبة ملن �سبقت‬ ‫و�أفا�ض الرحالة احلديث عن مدينة الر�ستاق‪ ،‬ومكانتها‬
‫له زيارة غرداية‪ ،‬وم�شاهدة املدخل املعرب عنه‪ ،‬واملنظر‬ ‫العلمية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬فذكر �شخ�صيات قدمية ا�شتهرت فيها‬
‫الثالث‪ ،‬هو �صورة مقربة �أكرث من ال�صورتني ال�سابقتني‪،‬‬ ‫مب�ؤلفاتها‪ ،‬وعلمها‪ ،‬قال عنها‪« :‬وقد احتلت والية الر�ستاق‬
‫ارتبط بتحديد نوع من النبات الطفيلي املوجود يف غابات‬ ‫يف ال�سابق املركز ا ألول من الناحية الفكرية �إذ كانت مركزا‬
‫وادي ميزاب (بغرداية)‪ ،‬والذي يعرف بالنجم‪ ،‬وهي لوحة‬ ‫ثقافيا يجمع الكثري من العلماء وا ألدباء ومقرا لل�سلطة‬
‫ي�سيطر عليها اللون ا ألخ�رض‪ ،‬مع �ألوان �أخرى مكملة‪ ،‬واختار‬ ‫واالمامة‪ ..‬وتعرف مب�شاهريها من ا ألئمة والعلماء‪ ،‬مثل‬
‫الكاتب تدعيم ال�صور الذاتية التي قدّمها ب�شاهد �شعري‬ ‫ا إلمام �سيف بن �سلطان بن �سيف امللقب (بقيد ا ألر�ض)‬
‫يتغنى بجمال املدينة لل�شاعر العماين حممد بن �شيخان‬ ‫وقا�ضي الق�ضاة را�شد بن �سيف اللمكي ت(‪1915‬م)‪)14(»..‬‬
‫ال�ساملي‪ ،‬يقول فيه‪:‬‬ ‫‪ .4‬املعامل احل�ضارية يف عمان‪:‬‬
‫«وما الر�ستاق �إال عر�ش ملـك‬ ‫قدّم حممد نا�رص لقرّاء رحلته �صورة عن املكان‪ ،‬ومعامله‬
‫عليــــه ي�ستــوي امل�سعــود قهــرا‬ ‫ ‬ ‫احل�ضارية‪ ،‬فنجد و�صفه مل�سقط‪ ،‬التي ذكر �أنها متتاز‬
‫دعته لنف�سها الر�ستاق كفـ�ؤا‬ ‫مبوقعها ال�ساحلي اخلالب‪ ،‬وهي ذات م�سجدين ملفتني‬
‫وكانـت يف حمى املا�ضني بكرا»(‪)16‬‬ ‫ ‬ ‫للنظر‪ ،‬ل�ضخامتهما‪ ،‬وهند�ستهما الرائقة‪ ،‬وكذا ان�سجام‬
‫ورجع بنا حممد نا�رص �إىل الوراء‪ ،‬لي�رسد علينا �أخبار ًا‬ ‫النقو�ش وروعتها بهما‪ ،‬وعجب حممد نا�رص لوجود مرافق‬
‫تاريخية عن ح�صن احلزم‪« :‬الذي بناه ا إلمام �سيف بن‬ ‫�أ�سا�سية مب�ساجد م�سقط ت�ؤمن للزوار املطالعة‪ ،‬واال�سرتاحة‪،‬‬
‫�سلطان اليعربي �سنة (‪1708‬م) ويعترب من �أروع بدائع الفن‬ ‫وا إلطعام‪ ،‬واي�ضا والية �سمائل‪ ،‬التي ت�ضم م�سجد ال�صحابي‬
‫املعماري ا إل�سالمي العماين‪ ،‬فقد �أنفق فيه ا إلمام مبالغ‬ ‫مازن بن غ�ضوبة ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬ويحظى جبلها باحت�ضان‬
‫طائلة وميتاز بعدم وجود �أية �أخ�شاب ب�سقوفه يف عقود‬ ‫قربه‪ ،‬على ال�سفح‪ ،‬مبو�ضع يدعى (الدقدقني)‪.‬‬
‫م�ستديرة ثابتة على �أ�سطوانات عليها نقو�ش باجل�ص واحلجر‪،‬‬ ‫وكانت م�شاهدته ملدينة الر�ستاق‪ ،‬مثار تذكر لف�ضاء م�شابه‪،‬‬
‫وال يقل عر�ض اجلدار الواحد فيه عن ثالثة �أمتار‪ ،‬وله عدة‬ ‫له �سابق معرفة به‪ ،‬يقول‪�« :‬أما الر�ستاق املدينة فقد ذكرتني‬
‫�أبواب فخمة‪ ،‬وبه ممرات �رسية عر�ض كل منها وارتفاعها‬ ‫يف جمالها الطبيعي ا ألخاذ مبدينة غرداية بواحة نخلها‬
‫مرتان متر بجنبات احل�صن ا ألربعة وتخرج بعد ذلك �إىل‬ ‫املنعطفة مع الوادي بني اجلبال املحيطة بها من كل جانب‪..‬‬
‫املدينة كما توجد بداخل احل�صن مدافع قدمية برتغالية‬ ‫بل �إن الداخل �إليها من جهة م�سقط �أ�شبه ما يكون بداخل �إىل‬
‫و�إ�سبانية كانت ت�ستخدم ل�رضب العدو من م�سافات بعيدة‬ ‫غرداية من منعطفات (بوهرارة)‪ ..‬وقد الحظت هذا الت�شابه‬
‫وتوجد به غرف لتدري�س القر� آن والدين‪ ،‬ويخرتق احل�صن‬ ‫حتى يف احل�شي�ش الذي هو من نوع (النجم) املوجود بكرثة‬
‫‪294‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الحـــــاالت‪:‬‬
‫إ‬ ‫فلج ذو مياه نابعة تتدفق مياهه حتى ا آلن لت�سقي من يف‬
‫‪ .1‬قدّمت الكثري من الدرا�سات العربية مفاهيم‪� ،‬أو مقاربات لفن الرحلة‪،‬‬ ‫احل�صن وتروي �أ�شجار النخيل املحيطة به»(‪ )17‬ا�ستخدم‬
‫منها ما ر ّكز على القيمة العلمية للرحلة كدرا�سة ح�سني حممد فهيم‪� :‬أدب‬ ‫يف هذا املقطع �أ�سلوب ال�رسد الو�صفي‪ ،‬الذي تفتتح عباراته‬
‫الرحالت‪� ،‬سل�سلة عامل املعرفة‪ ،1989 ،‬وكتاب الرحالت ل�شوقي �ضيف‪،‬‬ ‫الو�صفية‪ ،‬ب�أفعال خمتلفة دالة عل فعل الت�أ�سي�س والبناء‪،‬‬
‫دار املعارف‪ ،‬م�رص‪ ..،1987 ،‬ومنها ما عالج جماليات الرحلة‪ ،‬واعتنى‬
‫مبكوناتها ا ألدبية‪ ،‬كدرا�سة عبد الرحيم املودن‪� ،‬أدبية الرحلة‪ ،‬دار الثقافة‪،‬‬ ‫للجزاء املكونة‪ ..،‬ويقدم الكاتب ر�أيه‬
‫والتزيني‪ ،‬والتحديد أ‬
‫الدار البي�ضاء‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1.‬ودرا�سة �شعيب حليفي‪ :‬الرحلة يف ا ألدب‬ ‫يف احل�صن‪ ،‬ب�أ�سلوب التف�ضيل (�أروع بدائع الفن املعماري)‪،‬‬
‫العربي التجني�س‪ � ..‬آليات الكتابة‪ ..‬خطاب املتخيل‪ ،‬دار ر ؤ�ية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1.‬‬ ‫الذي ال يعهد يف الو�صف التاريخي املح�ض‪ ،‬و�إمنا يدخل‬
‫‪.2006‬‬ ‫يف الو�صف ا ألدبي‪ ،‬ويعد هذا من خ�صائ�ص الو�صف يف فن‬
‫‪ .2‬من الرحالت اجلزائرية احلديثة نحو الكويت والبحرين رحلتا �أحمد‬
‫توفيق املدين ال�سيا�سية‪ ،‬وهي املدونة يف مذكراته‪ :‬حياة كفاح(مذكرات)‪،‬‬ ‫الرحلة‪.‬‬
‫ال�رشكة الوطنية للن�رش والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ج‪� ،1982 ،3 .‬ص‪ .358 .‬وكذلك‬ ‫‪ .5‬ما وراء كتابة الرحلة‪:‬‬
‫رحلة �أحمد منور «الكويت اليوم» التي كانت حل�ضور فعاليات مهرجان‬
‫القرين ال�سنوي‪ ،‬املنظم من قبل املجل�س الوطني للثقافة والفنون وا آلداب‪،‬‬ ‫جاءت رحلة حممد نا�رص �إىل عمان بلغة مبا�رشة‪ ،‬و�رصيحة‪،‬‬
‫�أنظر‪ :‬جريدة القب�س‪ ،‬الكويت‪ 4 ،3 ،‬جوان ‪.1996‬‬ ‫تدعو مواطنيه �إىل �أخذ العربة‪ ،‬واالقتداء ب�إخوانهم العمانيني‪،‬‬
‫‪ .3‬ولد حممد نا�رص �سنة ‪1938‬م يف القرارة‪ ،‬والية غرداية‪ ،‬وفيها �أخذ‬
‫تعليمه حتى نهاية مرحلة الثانوي‪ ،‬تابع بعد ذلك درا�سته يف جامعة‬ ‫وو�ضع ا�سرتاتيجيات فعالة لتنمية قطاع التعليم يف اجلزائر‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬للح�صول على �شهادة اللي�سان�س يف ا ألدب العربي‪ ،‬فكان ذلك‬ ‫وهذا عندما قدّم انطباعاته ال�شخ�صية عن الندوة الثقافية‪،‬‬
‫�سنة ‪ ،1966‬رجع حممد نا�رص �إىل اجلزائر‪ ،‬فبقي بها م�شتغال بالدرا�سة‬ ‫التي �أقيمت يف عمان للتعريف بال�صحابي مازن بن غ�ضوبة‬
‫والتدري�س‪ ،‬فح�صل على �شهادة الدكتوراه درجة ثالثة عام ‪،1972‬‬ ‫ر�ضي اهلل عنه‪� ،‬إذ الحظ �إحكام التنظيم‪ ،‬والت�سيري ألعمال‬
‫ودكتوراه دولة �سنة ‪ ،1983‬وعمل �أ�ستاذا يف معهد اللغة العربية و� آدابها‬
‫بجامعة اجلزائر‪ ،‬للكاتب يف جمال الت�أليف‪ ،‬عدّة كتب‪ ،‬ودرا�سات يف ا ألدب‬ ‫الندوة‪ ،‬وحما�رضاتها‪ ،‬و�أعجب باملبادرة التي قامت بها‬
‫اجلزائري احلديث‪� ،‬أهمها‪« :‬املقالة ال�صحفية اجلزائرية‪ ،‬ن�ش�أتها‪ ،‬وتطورها‪،‬‬ ‫اللجنة امل�رشفة‪ ،‬من طبع املحا�رضات‪ ،‬وتقدميها للحا�رضين‬
‫و�أعالمها»‪ ،‬و«مفدي زكرياء �شاعر الن�ضال والثورة»‪ ،‬و«ال�شعر اجلزائري‬ ‫�سلفا‪ ،‬حتى يتمكنوا من املتابعة اجليدة‪ ،‬والرد‪ ،‬والتعقيب‬
‫احلديث اجتاهاته وخ�صائ�صه الفنية»‪ ،‬وله م�شاركة يف نظم ال�شعر‪ ،‬وطبع‬ ‫عليها‪ ،‬وما زاد �إعجابه‪ ،‬هو تكليف �أحد املحا�رضين‪:‬‬
‫من ذلك ديوانني‪�« :‬أغنيات النخيل»‪ ،‬و«الرباعم الندية»‪.‬‬
‫‪ .4‬ن�رشت الرحلة يف جريدة ال�سالم‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ع‪ ،19 ،18.‬الثالثاء ‪،27‬‬ ‫«ب�إعداد كتاب الندوة حول العلم الذي �سيكون حمور‬
‫وا ألربعاء ‪ 28‬نوفمرب ‪.1990‬‬ ‫الندوة يراعي فيه �صاحبه الدقة وال�شمول ليكون معتمدا‬
‫‪ .5‬حممد نا�رص‪� ،‬أوراق ثقافية من عمان‪ ،‬ال�سالم‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ع‪ ،18 .‬الثالثاء‬ ‫بعد الت�صحيح وا إل�ضافات والطبع مرجعا هاما للمناهج‬
‫‪ 27‬نوفمرب ‪.1990‬‬ ‫واملقررات الدرا�سية يف الثانويات واجلامعات‪ ..‬وحبذا لو‬
‫‪ .6‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪ .7‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫يعمل بهذا التنظيم اجليد اجلاد يف ملتقياتنا الفكرية التي‬
‫‪ .8‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ع‪ ،19 .‬ا ألربعاء ‪ 28‬نوفمرب ‪1990‬م‪.‬‬ ‫طاملا بقيت تو�صيات على الورق �أو بحوث يف املجالت‬
‫‪ .9‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫والكتب ال ي�ستفيد منها الطالب يف حياتهم العلمية»(‪)18‬‬
‫‪ .10‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫وبهذا قدّم الرحالة اقرتاحا مل�س�ؤويل الوطن‪ ،‬والعاملني يف‬
‫‪ .11‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪ .12‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫الرتبية‪ ،‬بتفعيل نتائج الندوات الثقافية والعلمية‪ ،‬عن طريق‬
‫‪ .13‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫طبع بحوثها يف كتب م�ستقلة‪ ،‬ممنهجة‪ ،‬ومب�سطة للباحثني‪،‬‬
‫‪ .14‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫وللعاملني على تهيئة برامج التعليم‪ ،‬ومقرراته‪ ،‬بعدما عر�ض‬
‫‪ .15‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫انطباعه ا إليجابي لهذا املجهود املقام يف ندوة عمان‪ ،‬التي‬
‫‪ .16‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪ .17‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫ح�رضها حممد نا�رص‪)19(.‬‬
‫‪ .18‬حممد نا�رص‪� ،‬أوراق ثقافية من عمان‪ ،‬ال�سالم‪ ،‬ع‪ ،18 .‬الثالثاء ‪27‬‬ ‫�أما حديث الرحالة عن التطور الثقايف الكبري الذي ا�ستطاعت‬
‫نوفمرب ‪.1990‬‬ ‫عمان حتقيقه منذ �سنة ‪ ،1970‬واجلهود اجلبارة‪ ،‬التي بذلت‬
‫‪ .19‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫من �أجل �إحياء الرتاث‪ ،‬واملحافظة على �أ�صالة الثقافة‪،‬‬
‫والفكر‪ ،‬وحماية كنوز املخطوطات التي تتوفر عليها البالد‪،‬‬
‫وانبهاره باملكتبات ال�ضخمة‪ ،‬اخلا�صة‪ ،‬التي زارها‪ ،‬ملن‬
‫اخلطابات غري ال�رصيحة املوجهة �إىل مواطنيه لالعتناء‬
‫برتاثهم‪ ،‬وحتديث مكتباتهم اخلا�صة‪� ،‬أو ت�سهيل و�صول‬
‫الباحثني �إليها‪.‬‬

‫‪295‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 62‬ابريل ‪2010‬‬


‫جمـلـة ف�صليــة ثقافيــة‬
‫‪A Cultural Quarterly in Arabic‬‬
‫‪Editor - in - Chief‬‬
‫‪Saif Al Rahbi‬‬
‫‪Email: saif@alrahbi.info‬‬
‫‪.P.O. Box, 855. Postal Code.. 117. Al-Wadi Al-Kabir‬‬
‫‪Sultanate of Oman. Tel.: 24601608 Fax.: 24694254‬‬
‫‪Directed By‬‬
‫‪Khalaf Al Abri‬‬
‫‪Email: khalf301@hotmail.com‬‬

‫إشـــــــارات‬
‫نتوجه اىل الأ�صدقاء الكتاب والأدباء والفنانني ب� أن موادهم‬
‫يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين(‪ )Email‬يكون على العناوين‪:‬‬
‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬
‫‪nizwa99@nizwa.com‬‬
‫‪ -‬املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل اىل � أية جهة � أخرى للن�رش و� إال �سنوقف ‪ � -‬آ�سفني ‪ -‬التعامل‬
‫مع � أ�صحابها‪ -‬املواد املر�سلة تكتب بخط وا�ضح � أو تطبع باحلا�سب الآيل‪ .‬ويف�ضـل � إر�سـالهـا‬
‫عـلى قر�ص مدمج � أو بالربيـد االلكتــروين‬
‫‪ -‬ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات‬
‫فنيـة و� إخراجية‪ -‬املواد التي ترد للمجلة ال ترد لأ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش و� أحيانا‬
‫تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار‪.‬‬
‫‪ -‬املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين‪.‬‬
‫عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت‬
‫‪www.nizwa.com‬‬
‫طبعت مبطابع‪ :‬م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�رش واالعالن‬
‫�ص‪.‬ب‪ 974 :‬م�سقط‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عمان‪ ،‬البدالة‪24604477 :‬‬
‫فاك�س‪24699642 :‬‬
‫االعالنات‪ :‬العمانية لالعالن والعالقات العامة‬
‫مبا�رش‪24699467 -24600482 :‬‬
‫�ص‪.‬ب‪ 2202 :‬روي‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عُمان‬
‫‪Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR‬‬
‫‪PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING‬‬
‫‪.P.O. Box, 974. Postal Code.. 113. Muscat. Sultanate of Oman‬‬
‫‪Tel.:24604477 Fax.: 24699643‬‬
‫‪Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS‬‬
‫‪Tell.: 24600483, 24699467‬‬
‫‪P.O. Box 3303. P.C. 112 Ruwi Sultanate of Oman‬‬
‫العـــدد الثــاين وال�ســـتون‬
‫ابريل ‪ 2010‬م ‪ -‬ربيع الثاين ‪ 1431‬هـ‬

You might also like