You are on page 1of 296

‫ف�صلية ثقافية‬

‫‪61‬‬
‫ت�صـــدر عــن‪:‬‬
‫م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة‬
‫والن�شر واالعالن‬ ‫العــدد احلـادي وال�سـتون‬
‫يناير ‪ 2010‬م ‪ -‬حمرم ‪ 1431‬هـ‬
‫الرئي�س التنفيذي‬ ‫عنوان املرا�سلة‪:‬‬
‫�ص‪.‬ب ‪ 855‬الرمز الربيدي‪117 :‬‬
‫عبداهلل بن نا�صر الرحبي‬ ‫الوادي الكبري‪ ،‬م�سقط ‪� -‬سـلطنة عُمان‬
‫هاتف‪)00968 ( 24601608:‬‬
‫رئي�س التحرير‬ ‫فاك�س‪)00968( 24694254 :‬‬
‫ال�ســـعار‪:‬‬
‫أ‬
‫�ســـــيف الرحـــبي‬ ‫�سلطنة عُمان ريال واحـد ‪ -‬ا إلمــارات‬
‫‪ 10‬دراهم ‪ -‬قطــر ‪ 15‬رياال ‪ -‬البحـرين‬
‫مدير التحـرير‬ ‫‪ 1.5‬دينــار ‪ -‬الكويت ‪ 1.5‬دين ــار ‪-‬‬
‫ال�سـعودية ‪ 15‬ريــاال ‪ -‬الأردن ‪ 1.5‬دينار‬
‫طــالب املعمـري‬ ‫‪� -‬سوريا ‪ 75‬لرية ‪ -‬لبنان ‪ 3000‬لرية‬
‫‪ -‬م�صر ‪ 4‬جنيهات ‪ -‬ال�سودان ‪125‬‬
‫جنيها ‪ -‬تون�س ديناران ‪ -‬اجلــزائر‬
‫اال�شراف الفني واالخراج‬ ‫‪ 125‬دينـ ــارا ‪ -‬ليبي ــا ‪ 1.5‬دينار ‪-‬‬
‫خلف العربي‬ ‫املغرب ‪ 20‬درهما ‪ -‬اليمن ‪ 90‬رياال‬
‫‪ -‬اململكة املتحدة جنيهان ‪ -‬امريكا ‪3‬‬
‫دوالرات ‪ -‬فرن�سا ‪ 20‬فرنكا ‪ -‬ايطـ ــاليـا‬
‫‪ 4560‬لرية‪.‬‬
‫اال�شرتاكات ال�سنوية‪:‬‬
‫للأ فراد‪ 5 :‬رياالت عُمانية‪ ،‬للم� ؤ�س�سات‪:‬‬
‫‪ 10‬رياالت عمانية‪ -‬تراجع ق�سيمة‬
‫اال�شرتاك‪.‬‬
‫وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة‬
‫� إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى‬
‫العنوان التايل‪:‬‬
‫م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر‬
‫واالعالن �ص‪.‬ب‪ - 3002 :‬الرمز‬
‫الربيدي ‪ 112‬روي ‪� -‬سلطنة عُمان‪.‬‬
‫في هذا العدد‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪4‬‬
‫االفتتاحية‪:‬‬
‫‪ -‬عنا�رص امل�شهد‪� :‬سيف الرحبي‬

‫‪8‬‬
‫‪ l‬حمور‪ :‬عبداللطيف اللعبي‪ ..‬وجائزة «غونكور» الفرن�سية‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫الدرا�سـات‪:‬‬
‫‪ -‬اي�ضاح نظم ال�سلوك اىل ح�رضات ملك امللوك‪ :‬نا�رص بن‬
‫جاعد اخلرو�صي‪ :‬تقدمي وحتقيق‪ :‬وليد حممود خال�ص‪ -‬حول‬
‫معنى الغربة والغرابة‪� :‬شاكر عبداحلميد‪ -‬ا ألمل‪ /‬العزلة‪/‬التطهري‬
‫(منوذج التوحيدي)‪ :‬هالة �أحمد ف�ؤاد‪ -‬حممود الربيكان‪ ..‬حماولة‬
‫�أولية للتعرف عليه‪� :‬صالح نيازي‪ -‬جملة «�شعر» اللبنانية‬
‫مراجعة الروافد والت� ّشكالت (حممد املاغوط وبول �شاوول)‪:‬‬
‫حبيب بـوهرور‪ -‬ق�صيدة النرث و�إ�شكاالتها عند عبدالعزيز‬
‫املقالح‪ :‬حممد يحيى احل�صماين‪ -‬مركزية القيمة‪ ..‬يف الثقافة‬
‫العربية الكال�سيكية‪ :‬عبدال�ستار جرب‪ -‬عامل ا إلن�شاء املغلق‪..‬‬
‫ماركيوز ونقد لغة ال�سيا�سة‪ :‬عماد عبداللطيف ‪ -‬احلطيئة‬
‫وم�ستويات ال�صورة الفنية يف �شعره‪� :‬سمية الهادي ‪ -‬الذاكرة‬
‫امل�ضادة يف روايات منت�رص القفا�س و�أحمد زين ‪ :‬ل�ؤي حمزة‬
‫عبا�س ‪ -‬تنويعات على معنى ا ألدب‪ -‬للم�ست�رشق الفرن�سي‪:‬‬
‫�شارل بالّر تعريب‪ :‬رمزي رم�ضاين‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫لقـــــاءات‪:‬‬
‫‪ -‬فاطمة ال�شيدية‪ :‬عبدالرزاق الربيعي‪.‬‬
‫‪ -‬خليل النعيمي‪ :‬حممد املزديوي‪.‬‬
‫‪ -‬خالد مطاوع‪ :‬عابد ا�سماعيل‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫ت�شكــــــيل‪:‬‬
‫‪ -‬املينا بهجة ال�صياغة اال�سالمية ‪� :‬سعد اجلادر ‪ .‬‬

‫‪178‬‬
‫م�ســــــــرح‪:‬‬
‫‪« -‬معجزة القدي�س انطوان»‪ :‬موري�س مايرتالينك ترجمة‪:‬‬
‫عبداملنعم ال�شنتوف‪.‬‬
‫‪ -‬امل�شهد الأ خري‪ :‬حواء ح�سان عزت‪.‬‬
‫‪^ Email: nizwa99@omantel.net.om‬‬ ‫^ تر�سل املقاالت با�سم رئي�س التحرير‪..‬‬
‫‪194‬‬
‫�سينمــــــــا‪:‬‬
‫‪� -‬سوف ت�سفك دماء �سيناريو‪ :‬بول توما�س �أندر�سن ترجمة‪:‬‬
‫مها لطفي‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫�شعـــــــــــر‪:‬‬
‫‪ -‬ف�سوافا �شمبود�سكا‪� :‬أحمد �شافعي‪� -‬أ�شياء ال�سيدة التي‬
‫ن�سيت �أن تكرب‪ :‬من�صف الوهايبي‪ -‬من وحي القرا�صنة هالل‬
‫احلجري‪ -‬مرمي‪ :‬جرج�س �شكري‪ -‬كـ«�سرية النائم يف ال�سكون»‪:‬‬
‫مو�سى حوامدة‪ -‬ق�صائد‪ :‬منال �أحمد‪ -‬ق�صائد‪ :‬ابراهيم زويل ‪-‬‬
‫يتنا�سلون كالطحالب‪ :‬عبداملجيد الرتكي‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫ن�صـــــو�ص‪:‬‬
‫‪ -‬دون �أن ت�سمي ا أل�شياء ب�أ�سمائها ‪ :‬هدى اجلهورية ‪ -‬ماكينة‬
‫الفرا�شة‪ :‬جوخة احلارثية ‪� -‬أرملة ‪ :‬مي�شيل التيولي�س ترجمة‪:‬‬
‫حممد حلمي الري�شة ‪ -‬الزائرة‪ :‬دنى غايل ‪ -‬ق�ص�ص ق�صرية‪:‬‬
‫حممد جنيم ‪ -‬املجل�س حياة‪ :‬كف�ضاء يف الروح ‪ :‬حمود ال�شكيلي‬
‫‪ -‬اليوم ما قبل ا ألخري من حياة �صياد �أعمى‪ :‬حممود الرحبي‬
‫‪ -‬عط�ش‪ :‬امتنان ال�صمادي‬

‫‪262‬‬
‫متابعــــات‪:‬‬
‫‪ -‬الرتجمة والفل�سفة يف العامل العربي‪ :‬عبد ال�سالم بنعبد العايل‪-‬‬
‫�سعد البازعي وجدل التجديد يف ال�شعر ال�سعودي‪� :‬صابر احلبا�شة‪-‬‬
‫�رسكون بول�ص يف (حامل الفانو�س يف ليل الذئاب)‪� :‬شاكر جميد‬
‫�سيفو‪ -‬خـوان غويت�سولـو «االربعينية» واخليال الديني ال�صويف‪:‬‬
‫حممد �آيت لعميم‪� -‬آمال مو�سى وجتليات املاء وال�ضوء يف �شعرها‪:‬‬
‫�أحمد اجلوّة‪ -‬مرام امل�رصي‪� :‬أنوثة ولغة يف العراء‪ :‬بيان ال�صفدي‪-‬‬
‫ابراهيم احلجري كينونة مفرطة ا ألوجاع‪ :‬ر�شيد طالل‪ -‬ف�ضيلة‬
‫الفاروق بني التاء املربوطة والتاء املفتوحة موت يف تاء اخلجل‪:‬‬
‫عبد الرحمن تربما�سني‪� -‬سو�سن العريقي يف ديوانها ال�شعري‬
‫«�أكرث من الالزم»‪ :‬عمر حممد عمر‪« -‬ال ميكن الوثوق بال�شعر» ر�ؤية‬
‫معا�رصة لل�شعر احلديث‪ :‬دلدار فلمز‪ -‬عائ�شة الب�رصي يف «�رشفة‬
‫مطف�أة»‪� :‬أحمد الدمناتي‪ -‬جماليات املكان ال ُعماين‪ -‬الكتابة التي‬
‫تغيرّ ‪ :‬طالب املعمري‪.‬‬

‫^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها‪ ،‬واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من � آراء ^‬
‫افتتاحية‬
‫عنا�صر امل�شهد‬
‫هذه الرطانة احلداثيّة التي تزيد خطورتها على التقليد‬ ‫‪-1-‬‬
‫ال�سطحي الذي يدّعي الرتاث‪،‬وهو الذي �سحق الرتاث‬ ‫والذي ق�رص بال�شعر كرثته وتعاطي كل أ�حد له حتى‬
‫مبعناه ا إلبداعي اخلالّق وا�ستعا�ض بالفتات والق�شور‪-،‬‬ ‫الغوغاء وال�سفلة‬
‫هذه املمار�سة‪ ،‬هي التي جعلت الكتابة م�رسحا ً للبالهة‬ ‫(الع�سكري‪ -‬يف كتاب ال�صناعتني)‬
‫املدعيّة والغباء املتعامل وتفريخ العقد وا ألحقاد‬ ‫هذه العبارة العا�صفة يف غ�ضبها ورف�ضها من قبل ناقد‬
‫ال�صغرية‪ .‬وتلك النـزعة يف الكتابة تقدم نف�سها �صعبة‬ ‫�أملعي مثل الع�سكري‪� ،‬رصخة احتجاج ملا حلق ال�شعر‬
‫املنال ومعقدة‪ ،‬وهي ال حتتوي �إال على اخلواء املفربك‬ ‫وا ألدب يف ع�رصه من ركاكة وانحدار مقيت‪ ،‬جعل اجلهلة‬
‫يف ن�صو�ص وجمل ذات بريق براين‪� ،‬إذ لي�س كل ما يلمع‬ ‫وا ألدعياء ي�سطون على هذا احلقل الذي هو من ال�سموُّ‬
‫ذهبا ً كما قيل‪ ،‬ذهب الكتابة يف مكان �آخر متاماً‪..‬‬ ‫والرفعة مبكان ق�ص ّي و«�صعب �سلّمه»‪ ..‬عبارة الع�سكري‬
‫يف ال�شعر‪ ،‬يف الرواية التي �أ�ضحت‪ ،‬يف جانب كبري‬ ‫�أو �رصخته تن�سحب على ا ألماكن والع�صور مبختلفها‪.‬‬
‫منها‪،‬ت�شبه ال�رصعة اال�ستهالكية‪ ،‬ولي�ست حاجة تعبريية‬ ‫وهي دفاع عن احلقيقة ا إلبداعيّة ا أل�صيلة يف وجه‬
‫وروحيّة تتلم�س �شكال ً بعينه‪ .‬وما ن�صادفه يف املجال‬ ‫الزيف وا إل�سفاف والرطانة حيث ال�سما�رسة والد ّجالون‬
‫النقدي «التفكيكي» وغريه من هول املعاناة‪ ،‬و�أنت تقر�أ‪،‬‬ ‫�أ�صبحوا يحتلون احللبة من كل حدْب و�صوب‪ .‬والتب�س‬
‫جبينك يت�صبب عرقا ً وت�رسح بني اجلملة وا ألخرى‪ ،‬لعلك‬ ‫على القارئ الب�سيط الفرق اجلوهري بني احلقيقي‬
‫جتد �ضالة املعنى �أو الالمعنى الذي يرتطم ب�أعماقه‬ ‫والزائف وغامت احلدود وامل�سافات‪ .‬خا�صة يف غياب‬
‫الكائن والكتابة‪(،‬كما يف �أ�صقاع املعرفة العميقة‪،‬‬ ‫املعيار النقدي ال�صادق موقفا ً والكا�شف معرفة‪ ،‬وف�ساد‬
‫النظرة واملوح�شة)‪ ،‬لكنك يف النهاية لن جتد �إال التفا�صح‬ ‫الذوق‪ ..‬يف امل�شهد ا ألدبي الراهن‪ ،‬يكفي �أن نلقي نظرة‬
‫والتذاكي وتلك الرطانة البائ�سة التي ال تزيدك �إال ظم� أ‬ ‫ولو �رسيعة على النتاجات املطبوعة واملن�شورة لتك�شف‬
‫وم�سغبة‪ ..‬يف جو امليديا والكذب يلتب�س م�شهد الكتابة‬ ‫البداهة الطبيعية ملقولة الع�سكري يف الكثري من هذا‬
‫ومتحى احلدود وتت�ساوى‪.‬‬ ‫النتاج‪ .‬ومما يزيد ا ألمر فداحة يف زمننا هو تطور �أدوات‬
‫ال�شاعر والكاتب الذي �أفنى حياة وعمرا ً ليقول متزّق‬ ‫الن�رش الطباعي وااللكرتوين والف�ضائي‪ ،‬مما يو�سع رقعة‬
‫روحه وي�ؤ�رش ملرحلته وع�رصه‪ ،‬يت�ساوى مع مهرجي‬ ‫االنحطاط ا ألدبي مب�سافات �ضوئية عن زمن �أ�سالفنا‪.‬‬
‫هذا امل�شهد‪� ،‬أحفاد الرطانات‪ ،‬بكافة �أنواعها‪ ،‬واالنحدار‬ ‫ويجعل فرز احلدود بني النقي�ضني �صعبا ً وملتب�سا ً على‬
‫ا ألدبي والقيمي‪.‬‬ ‫غري القارئ املتمرّ�س‪..‬‬
‫و�أ�صبح (ا ألدب) مطيّة لالنتهازيينّ يف الو�صول �إىل‬
‫[ [ [‬ ‫غايات‪ ،‬هي يف الطرف النقي�ض‪ ،‬من جوهره ونبله‬
‫بعد قرون من زمن الع�سكري �أ�شار الفيل�سوف ا ألملاين‬ ‫اجلمايل وا إلن�ساين‪.‬‬
‫فريدريك نيت�شه‪� ،‬إىل الفكر الذي �أ�صبح مقرفاً‪ ،‬ألن‬ ‫الت�سويق ا إلعالمي الذي يعتمد على توفر ال�رشط املادي‬
‫ا ألوغاد ت�سللوا �إىل عرينه فلوثوا �ساحته و�أحلقوا به العار‬ ‫وال�شطارة والعالقات العامة‪ ..‬اذا كانت هذه امل�س�ألة‬
‫وا إلهانات‪.‬‬ ‫ال يخلو منها زمن �أو ثقافة و�أ�سلوب تعبري‪ ..‬فرطانة‬
‫«احلداثة» وغمو�ضها املفتعل‪ ،‬ذاك القادم من ال�سطحيّة‬
‫‪-2-‬‬ ‫واجلهل والفربكة‪ ،‬ولي�س الغمو�ض (بالطبع) القادم من‬
‫«�أيتها الطهارة‬ ‫�رشوط املعرفة ا إلبداعية‪ ،‬البعيدة الغور وا ألبعاد وهي‬
‫�إنك موجعة نازفة»‬ ‫تالم�س هاويات الوجود وتعقّد احلياة وا إلن�سان (الغمو�ض‬
‫نحن يف �آخر عام �سيلتحق ال �شك بجحافل ا ألعوام التي‬ ‫املا�سي)‪ ،‬من فرط ما يختزن من طبقات داللية وجمالية‪.‬‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الفن و�سحره ا آل�رس‪.‬‬ ‫�سبقته والتي �ست�أتي بعده‪ ،‬م�شكلة حميط ا ألزمان املندفع‬
‫�شخ�صيات تظهر وتختفي‪ ،‬بع�ضها ل�صفحات قليلة‬ ‫�صوب املجهول‪.‬‬
‫لكنها �ضمن الن�سيج العام للرواية ترتك �أثرا ً يف نف�س‬ ‫ال م�شاعر وال طعم �إال طعم اخل�سارة واخلذالن‪ ،‬طعم الغدر‬
‫القارئ‪ ،‬ترتك جراحاً‪ .‬وهي يف غمرة عبورها ال�رسيع‬ ‫والزيف الذي يجود به زمن االنحطاط الكا�رس على ا ألر�ض‬
‫ت�ضيء م�رسح ا ألحداث‪ ،‬كما ا ألحالم الثوريّة والثقافية‬ ‫العربيّة‪.‬‬
‫والعاطفية‪� ،‬أحالم الطفولة والعمر الهارب‪� .‬أحالم ذلك‬ ‫ال �شيء غري هذا االرتطام العدمي الكبري بجدار التاريخ‬
‫اجليل �أو ا ألجيال التي �ض ّحت و�شقت �أميا �شقاء وت�ضحية‬ ‫والزمن‪ ،‬وهما ا ألكرث مرارة وعقابا ً خا�صة حني يعي�ش‬
‫لتجد نف�سها �آخر املطاف يف �أر�ض م�رضوبة بزلزال‬ ‫ا إلن�سان يف هكذا برهة‪ ،‬ال تتك�شف خباياها �إال عن كل ما‬
‫الف�ساد والقذارة‪ ،‬ي�سومها النخا�سة واالنتهازيون اجلهلة‬ ‫هو قبيح ومت�ضع وال �إن�ساين‪..‬‬
‫«الرخا�ص» بالدارجة اجلزائريّة‪.‬‬ ‫ونفاج�أ‪� ،‬أو مل نعد ْ نفاج�أ‪ ،‬حني يجرف هذا الطوفان‬
‫رغم كل ذلك ال�ضوء الكا�شف الذي من فرط كثافته يبلبل‬ ‫االنحطاطي ب�رشاً‪ ،‬كنت تظن بهم غري ذلك ‪ ،‬كنت تعلق‬
‫الب�رص والب�صرية‪ ،‬الذي ي�سلطه الروائي اجلزائري على ما‬ ‫عليهم ق�شة ا ألمل ا ألخرية‪..‬‬
‫�آلت �إليه �أمور الراهن العربي ومن زوايا ونوافذ متعددة‬ ‫رواية اجلزائري �أمني الزاوي (�شارع �إبلي�س) تندرج يف‬
‫ت�ستدرج دوما ً نحو القعر ا ألق�صى للدمار ا إلن�ساين‪ ،‬مي�ضي‬ ‫هذا ال�سياق االرتطامي‪ ،‬الذي ال ي�ساوم وال يلّطف وال‬
‫قارئ (�شارع ابلي�س) يف الرواية مبتعة جماليّة عالية‪،‬‬ ‫ي�ستطرد فيما ال طائل له‪� ،‬إنه ي�أخذ قارئه على نحو‬
‫كل العنا�رص موظفة يف �سياقها املقنع فنياً‪ ،‬كل �شيء له‬ ‫�صاعق ومبا�رش‪ ،‬مبا�رشة الفن ا أل�سا�سي الذي يحرق‬
‫مكانه و�سط هذه الفو�ضى واالنهيار ال�شاملني‪.‬‬ ‫�صانعه من فرط �صدقه ويحرق تاريخه املتخرث‪ ،‬ملقاربة‬
‫الفن يث�أر بطريقته دائماً‪ ،‬وا أل�سطر ال�سابقة ت�أخذ‬ ‫احلقيقة املغيبّة دوماً‪ ،‬خلف ُحجب امل�سلّمات والقيم التي‬
‫م�صداقيتها من قراءة الرواية‪ ،‬التي هي من الغنى‬ ‫�أ�ضحت ثابتة يف وعي املنظومات وا ألفراد‪ ،‬وان ُقوربت‬
‫وا إلدها�ش‪ ،‬حتتاج اىل قراءات ومقاربات خمتلفة �أكرث‬ ‫فعلى َخفر ومواربة وترميز معظمه ي�سبح يف الغمو�ض‪،‬‬
‫تف�صيال وا�ستق�صاء‪.‬‬ ‫الالمقنع ابداعا ً وتاريخاً‪..‬‬
‫‪-3-‬‬ ‫�أمني الزاوي ينق�ض يف (�شارع ابلي�س) على تلك القيم‬
‫يف وجه من وجوه االغرتاب الكثرية املتعددة‪ ،‬التي‬ ‫والت�صوّرات التي �شكلت منظومات الوعي العربي‬
‫�ش ّكلت العامل اجلوهري ل ألدب والفل�سفة‪ ،‬هو ذلك ال�شعور‬ ‫املعا�رص‪ ،‬من جزائره اىل م�رشقه‪ ،‬ويف يده معول النق�ض‬
‫املهيمن باالنف�صال عن املحيط وا أل�شياء والقيم ال�سائدة‬ ‫والته�شيم‪ ..‬مل يعد �شتم اال�ستعمار بديال ً جمدياّ‪ ،‬على ما‬
‫املتداولة ‪...‬‬ ‫�أحلقه من خراب‪ ،‬عن م�ساءلة الداخل‪ ،‬م�ساءلة كيانية‬
‫�شعور ال يخفف فداحته �أي توّ�سالت يحاول الفرد املغرتب‬ ‫ت�صل اىل م�شارف «اخليانة» مبعناها اخلالّق‪.‬‬
‫�أن ي�ستدعيها وميار�سها ليزيح ثقل هذا ال�شعور �أو يخفف‬ ‫م�ساءلة «الثورات»‪ ،‬الوقائع واملفاهيم‪ ،‬انطالقا ً من‬
‫من �سطوته التي تطبع ال�سلوك والتعبري‪...‬‬ ‫الثورة اجلزائريّة التي ينزع عنها الزاوي‪ ،‬كل تلك الهالة‬
‫لي�س ال�شعور بخ�رسان الوجود وا�ضطراب الكينونة يف‬ ‫املقد� ّسة‪ ،‬حتى دم�شق وبريوت امل�رسح الواقعي واملتخيّل‬
‫منحاه الوجودي (االنطولوجي) فح�سب‪ ،‬و�إمنا ال�شعور‬ ‫لهذه الرواية الفريدة‪ ..‬حتى الثورة الفل�سطينية وااليرانية‪،‬‬
‫املغرتب جتاه املعي�ش اليومي و�أمناط احلياة‪ ،‬من ال�سكن‬ ‫وجممل الن�سيج االجتماعي الذي ي�شكل املرحلة‬
‫وطبيعة العالقات املاديّة املح�ضة يف بلدان ال تفت� أ‬ ‫احلا�رضة‪.‬‬
‫جتر ذبول االدعاء ب�أنها متماهية مع تراثها وتاريخها‬ ‫ولكي يقول الزاوي �أمني‪ ،‬كل تلك ا أل�شياء امل�صنوعة من‬
‫امل�رشق‪ ،‬وهي يف واقع احلال لي�ست متماهية �إال مع‬ ‫اجلحيم واملفارقة امل�أ�ساوية‪ ،‬كان عليه �أن يه�ضم �أدوات‬
‫اجلانب ال�سلب ّي وقيمه من هذا الرتاث‪ ،‬كما هي كذلك‬ ‫تعبري وجتريب ا�ستقاها من �أكرث من م�صدر‪ ،‬لت�ش ّكل‬
‫يف االلتقاء حد َّ التماهي واالن�سحاق مع قيم احل�ضارة‬ ‫لحُ مته اخلا�صة التي ي�ستطيع من خاللها �أن ي�سجل هذه‬
‫املهيمنة (الغربية االمريكيّة ) يف الربهة الراهنة ‪...‬‬ ‫ال�شهادة‪ ،‬لي�س باملعنى الوثائقي بالطبع‪ ،‬و�إمنا ب�أدوات‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪-4-‬‬ ‫اجلوانب الروحيّة املُدَّعاة ال حت�رض �إال كطقو�س �إعالميّة‬


‫ي ْعرب امل�سافر امل�سافات وا أل�صقاع‪ ،‬الوجوه والذكريات‪،‬‬ ‫و�أوامر ونوا ٍه تعليميّة حلظية‪ ،‬ولي�ست كممار�سة فعليّة‬
‫يتطلع �إىل احلقول ال�شا�سعة �أو ال�صحارى اجلافة ‪..‬‬ ‫ملجموعة قيم حتوّلت �إىل �سلوك وفاعليّة اجتماعيّة‬
‫والغيوم الركاميّة تتطاير كالدخان‪ ،‬يف احلقول‬ ‫حا�سمة ‪� ..‬إنها على م�ستوى املظهر ولي�س اجلوهر‬
‫وال�صحارى ‪ .‬من نافذة قطار �أو طيارة �أو باخرة متخر‬ ‫املقذوف يف مه ّب الغرائز والقيم اال�ستهالكيّة واملنفعيّة‬
‫املحيطات‪ ،‬امل�شاهد وال�صور كالوجوه والذكريات‪،‬‬ ‫يف �أكرث �أ�شكالها فجاجة و�سطحيّة ‪...‬‬
‫تتداخل وتتقاطع �أحيانا ً يف ر� أ ٍ�س (�شهوتها حمو املكان)‬ ‫و�إال فما معنى هذا التكالب وهذا االفرتا�س الذي‬
‫ونزوعها الغياب‪ .‬لي�س ثمة من وقت طويل مثلما هو يف‬ ‫ال ت�ستطيع حتى القوانني التي يتم التحايل عليها‬
‫العهود الغاربة ي�سفح فيه امل�سافر دموعه على ا ألحبة‬ ‫وحتطيمها �إن ُوجدت‪ ،‬من قبل (ا ألقوياء) و�أزالمهم ‪-‬‬
‫وا ألطالل‪� ،‬رسعة النقل والع�رص تخطفه‪ ،‬لكنه ال بد ينزف‬ ‫كبح ِجماحه ‪..‬‬
‫يف الداخل ب�صمت‪ ،‬وحني تتوارى بالد عزيزة �أو ذكرى‪،‬‬ ‫وحدهم ا ألفراد املغرتبون‪ ،‬يح� ّسون بذلك االنف�صال الذي‬
‫يح�س �أن ثمة �شيئاً‪ ،‬اقتُطع من ج�سده‪ ،‬من روحه املقذوفة‬ ‫يدفعهم �إليه املحيط الب�رشي والقيمي‪ .‬فهم يعي�شون‬
‫خ�ضم رحيل ال ينتهي‪ ،‬رحيل معذَّب‪ ،‬لكنه ال يقر بذلك‪،‬‬ ‫يف ّ‬ ‫املنفى واالغرتاب حتى داخل �أوطانهم ح�سب التوحيدي‬
‫فا ألكرث عذابا ً لديه وفداحة هو ما يدعوه باال�ستقرار‬ ‫‪ .‬تلك ا ألوطان التي مزقهم �إليها قبل ذلك احلنني‪...‬‬
‫البليد ‪...‬‬ ‫وعلى طريقة (جمرب �أخاك ال بطل) ال ي�ستطيعون التوا�صل‬
‫حركة امل�سافر ووعيه باحلياة يختلف بال�رضورة عن‬ ‫�إال على م�ض�ض‪ ،‬دعك من التوحد واالندماج‪� ،‬سيكون حلم‬
‫ا آلخرين ‪ .‬وعي امل�سافر و�إح�سا�سه مثل ذلك ا إلح�سا�س‬ ‫التوحد مع حميط �آخر تخرتعه املخيّلة و�سي�ؤثثّه املغرتب‬
‫الذي ينتاب اجلندي الذاهب �إىل املعركة‪ ،‬فيه الكثري من‬ ‫مبخلوقاته اخلا�صة و ُطرز عمارته وقيمه اجلماليّة التي‬
‫الت�سامح وانعدام امل�صلحة كغاية والتخطيط امل�سبق‬ ‫رمبا ال توجد على هذه االر�ض‪� ،‬إال يف بطون الكتب‬
‫حلركة العالقات ووجهتها‪� ،‬سواء العالقات املكانيّة �أو‬ ‫وا ألجداث َونزْر من �أولئك الذين غرّبهم ال�ضياع وانحدار‬
‫الب�رشيّة ‪.‬‬ ‫ا ألزمنة ‪..‬‬
‫رمبا وجهة اجلمال وال�شفافية ال�شعريّة ت�أخذ اجلانب‬ ‫يفكر املغرتبون‪� ،‬أن هذا االنف�صال‪ ،‬لي�س �سلبا ً فظا ً‬
‫ا ألكرب‪ ،‬وذلك ا إلح�سا�س باخلطر الذي ت�صغر �أمامه �أمور‬ ‫مبجمله‪ ،‬ولي�س جحيما ً وكما عرب الفيل�سوف الفرن�سي‪،‬‬
‫يظنها امل�ستقرون غاية يف ا ألهميّة‪...‬‬ ‫فاجلحيم هم ا آلخرون‪ ،‬يف هكذا �أو�ضاع وقيم‪ ،‬و�سيكون‬
‫الب ّحار يف رواية (مي�شيما) ثالثيّة اخل�صب يبدي مثل‬ ‫االنف�صال يف �ضوء هذه النظرة‪ ،‬واحة املغرتب وجنته‬
‫هذا ال�شعور‪ ،‬وحني يودّع ا ألهل وال�صحب ك�أمنا يودعهم‬ ‫املفقودة يف التوا�صل والزحام ‪..‬‬
‫للمرة ا ألخرية‪ .‬احل ّجاج �إىل بيوت اهلل املقد� ّسة‪ ،‬تنتابهم‬ ‫هذا النوع من التوا�صل‪ ،‬يف هكذا حميط‪ ،‬هو الذي يغّرب‬
‫مثل هذه ا ألحا�سي�س �أي�ضاً‪ ،‬ويحاولون التجرّد جلهة‬ ‫الفرد عن ذاته وعما تبقى له من �إميان باحلياة ويرميه‬
‫النقاء والعبور ال�رسيع على هذه ا ألر�ض‪.‬‬ ‫�إىل هاويات التبلد والرماد‪...‬‬
‫هو الذي يفقد �أي متعة م�شاهدة �إىل منظر خفي يف‬
‫[ [ [‬ ‫الطبيعة‪� ،‬إىل امر�أة عابرة حتمل �أمال ً غام�ضاً‪ ،‬يفقده حلم‬
‫املتحل‪ ،‬من عالقات قارّة‪ ،‬دوران يف‬ ‫لي�س للم�سافر �أو رِّ‬ ‫العدالة والر�أفة ‪..‬‬
‫ا ألر�ض ودوران يف ا ألعماق‪ ،‬ترت�سب العالقات احلميمة‬ ‫يف هكذا جمتمعات ال يجد الفرد �شيئا ً من ذاته �إال يف‬
‫والعواطف فيها وتبني م�ضارب حنينها‪ ،‬لكنه يظل نهبا ً‬ ‫العزلة والليل والظالل‪ ،‬فيكون االغرتاب �إحدى النِعم التي‬
‫لهذا الدوار ا ألفقي الذي تتقاذفه �أمواجه من غري رحمة‬ ‫م َّن بها الباري على خملوقاته املعذّبة والتي هي دائما‬
‫لكن بعذوبة وجمال فريد‪...‬‬ ‫يف قلب املحنة واالختبار ‪.‬‬
‫العذوبة هنا تتوحد مع تو�أمها اال�شتقاقي ؛ العذاب ‪....‬‬ ‫ويف هذا املنحى �سيكون (العمى) �أي�ضا ً �ضمن منظومة‬
‫اجلمال امل�ؤمل احلزين‪...‬‬ ‫تلك النعم كما عرب طه ح�سني‪( :‬احلمد هلل الذي جعلني‬
‫يحاول امل�سافر يف ليل العامل‪ ،‬التوحد بذاته‪ ،‬مبا يظن �أنه‬ ‫�أعمى كي ال �أرى وجوهكم)‬
‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية ‪ ..‬افتتاحية‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املرتاميّة حتى �أعماق املحيط الهندي‪ ،‬الذي �سي�صفه‬ ‫�صلب وحقيقي يف حياته كي ي�سند روحه وال يتكئ �إىل‬
‫مواطن (لوتي) بعده بقليل‪� ،‬أعني الكاتب الفرن�سي (بول‬ ‫حائط الهباء املطلق‪..‬‬
‫نيزان) الذي مل يكن يف البحرية و�إمنا يف احلزب ال�شيوعي‬ ‫�إنه ي�شبه احلاج �أو البحار فعالً‪ ،‬لكن هذين ا ألخريين‬
‫– الفرن�سي‪ ،‬حني كانت ايديلوجيا هذا احلزب ت�شكل نوعا‬ ‫ي�ستندان �إىل ُمثل وقناعات ثابتة‪ ،‬وهو يف حالته �أقرب‬
‫من حلم خال�ص للنخب الثقافية يف العامل ‪ -‬و�صفه‬ ‫�إىل البحث عن حقيقة غام�ضة �أو معجزة م�ستحيلة احلدوث‬
‫بجحيم الب ّحارة‪.‬‬ ‫�إال باملوت رمبا‪ ،‬وهو يدرك هذا ورغم ذلك ا إلدراك ا ألليم‬
‫عرب ر�ؤية كاتبني فرن�سيينّ جابا هذه ا أل�صقاع النائيّة‬ ‫يوا�صل �سريه وهروبه من �أ�شباح غام�ضة �إىل �أفق �أكرث‬
‫املوح�شة والتي جت� ّسد الف�صل ا ألكرث جحي ّمية ورعبا ً يف‬ ‫غمو�ضاً‪ ،‬لكنه �أكرث تفتحا ً على عوامله الداخليّة‪ ،‬وما يظن‬
‫الطبيعة ‪.‬‬ ‫�أنه اخلري واحلق واجلمال ‪ .‬هذه املفاهيم التي يف غيابها‬
‫على م�ستوى الكوكب ا ألر�ضي برمته رمبا‪ ...‬تلتقي‬ ‫يكمن ال�شغف بها وتكمن عظمتها احلقيقيّة ‪ ..‬وينفجر من‬
‫ر�ؤيتهما يف و�صف هذه املناطق التي �أحكمت ق�سوة الطق�س‬ ‫هذا الغياب منا�ضلون �أ�شاو�س تخلّدهم الكتب والتاريخ ‪.‬‬
‫واملعي�ش طوقها على كل الكائنات وا أل�شياء‪ .‬وجعلت‬ ‫ينفجر مرتّحلون يف ليل الفكر‪ ،‬وم�سافرون ال ينظرون �إال‬
‫الب�رش يف امتحان دائم �أمام هول هذا امل�شهد الذي مت�سي‬ ‫�إىل ا ألحذية والطرقات‪..‬‬
‫فيه احلياة �أ�شبه مبعجزة النبع الذي يتف ّجر يف �صحراء‬ ‫جدَل ا ألحذية والطرقات‪ ،‬جدل معّقد ال يعرفه �إال من َقدَح‬
‫قاحلة ي�سحلها بركان اجلفاف من غري هوادة وال رحمة‪،‬‬ ‫زناد امل�سافة‪ ،‬وخرب الرت ّحل والفراق يف وح�شة الليايل‬
‫�أ�شبه مبعجزة وادي العيون يف رواية عبدالرحمن منيف‬ ‫والنا�س نيام‪.‬‬
‫(مدن امللح) ‪..‬‬
‫ميكن القول يف هذا ال�سياق‪� ،‬إن الطبيعة نف�سها متتحن‬
‫‪-5-‬‬
‫وتخترب عنفها اخلا�ص ‪،‬على هذه البقعة من �أر�ض الب�رش‬ ‫(كنا يف طريقنا �صوب اخلليج‪ ،‬الذي يعد �أكرب امل�سطحات‬
‫واجلوارح ‪ .‬حدود هذا العنف‪ ،‬ا ألفق ال�شا�سع الالحمدود‬ ‫املائيّة اخلانقة يف العامل‪ ،‬وهو �ساخن منذ ا ألزل لوقوعه‬
‫للق�سوة حيث يبقى الربع اخلايل �شاهدها ا ألكرب‪ ،‬درة‬ ‫بني �شواطئ ملتهبة حيث يندر جدا ً �أن ت�سقط عليها قطرة‬
‫تاجها امللكي‪.‬‬ ‫مطر‪ ،‬وحيث ال�سهول ال تعرف اخل�رضة‪ ،‬وحيث ال يتطور‬
‫تخترب عنفها وق�سوتها كما يخترب الب�رش جيو�شهم وهي‬ ‫�شيء يف هذا اجلدب ال�رسمدي �إال مملكة اجلماد فح�سب ‪.‬‬
‫ت�ستعد خلو�ض املعارك يف تخوم ال�صحراء احلارقة �أو‬ ‫ومع ذلك كانت الرطوبة اخلانقة ترهقنا وجتهدنا‪ ،‬وكل‬
‫يف املدن امل�أهولة باحلدائق املخ�رضة وا ألنهار‪ ،‬وكما‬ ‫�شيء مل�سناه وجدناه رطبا ً دافئاً‪ ،‬بل كنا نتنف�س البخار‬
‫يخترب اجل�سد املكبوت حتى االنفجار‪� ،‬أناه ا ألخرى‪� ،‬أناه‬ ‫ك�أمنا كنا واقفني فوق حمام ماء يغلي‪� ،‬أما ال�شم�س‬
‫العا�شقة وقد �أمطرته حنانا ً و�شهوة بعد طول غياب ‪...‬‬ ‫العنيفة فقد �أبقتنا يف درجة احلرارة نف�سها �صباح م�ساء‪،‬‬
‫تقر� أعن رحلة الفرن�سي يف ذلك الزمان البعيد القريب حيث‬ ‫ت�رشق وتغرب �صفراء باهتة دون �أن نرى �أ�شعتها‪ ،‬ألن‬
‫ت�صعد �سيارتك الواقفة �أمام العمارة‪ ،‬وقد حتولت �إىل كتلة‬ ‫البخار يحجبها ب�ضباب ال�شمال)‪.‬‬
‫من اللهب ‪ .‬تدير زرَّ التكييف (هذا ما مييزك عن ا أل�سالف)‬ ‫املقطع �أعاله ا�ستُل من مقال الرحالة و�ضابط البحرية‬
‫تتحدث بق�سوة �إىل امر�أتك التي تبادلك نف�س احلدّة‪ ،‬تدير‬ ‫الفرن�سيّة والكاتب (بريلوتي) وهو اال�سم امل�ستعار‬
‫زر الراديو‪ ،‬تنهال عليك �أخبار وتقارير الزحف القادم‪،‬‬ ‫لـ(جولني فيو) ‪ .1923-1850‬ح�سب املرتجم العماين‬
‫(�ضيوف احلداثة والعوملة) فريو�سات اخلنازير‪.‬‬ ‫يعقوب بن نا�رص املفرجي‪.‬‬
‫و�أوبئة �أخرى يف الطريق لتكتمل عنا�رص هذا امل�شهد‬ ‫قليلة هي الكتابات املرتجمة للرحالة غري ا إلجنليز‪،‬‬
‫القيامي ال�سعيد‪.‬‬ ‫والذين جابوا �صحارى اخلليج واجلزيرة العربية وبحارها‬
‫�سيف الرحبي‬

‫‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫عبداللطيف اللعبي‬

‫‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عبداللطيف اللعبي يفوز‬


‫بجائزة (غونكور) الفرن�سيّة‬
‫والتي ن�شطت فيها زوجته الفرن�سية «جو�سلني‬ ‫املنق�ضة من كل حدْب‬ ‫ّ‬ ‫خ�ضم ا ألخبار الكثرية‬ ‫يف ّ‬
‫اللعبي» ومنظمات حقوقية‪ ،‬حتى الرئي�س فران�سوا‬ ‫و�صوب ‪ ،‬ي�أتي خرب فوز ال�شاعر والروائي ال�صديق‬
‫ميرتان تدخل لدى امللك املغربي‪.‬‬ ‫عبداللطيف اللعبي بجائزة (غونكور) الفرن�سيّة‪،‬‬
‫كنت مع اللعبي مرات كثرية‪ ،‬نتنزه يف �أرجاء‬ ‫واحدا ً من ا ألخبار النادرة التي حتيي يف النف�س‬
‫هذه املقربة الف�سيحة‪ ،‬املفعمة برفات �أهل ا ألدب‬ ‫نوعا ً من �سعادة و�ضوء رمزي ينبج�س يف زحمة‬
‫والفن‪ ،‬ب�أ�شجارها العالية الكثيفة البا�سقة‪ ،‬وك�أننا‬ ‫ا ألخبار ال�سيئة الكا�رسة التي نتخبط يف �شباكها‬
‫نتجول يف غابة ال نهائية‪ ،‬من اخل�رضة الباذخة‪،‬‬ ‫ليال ً نهارا ً ‪.‬‬
‫والهواج�س وال�شعر‪ .‬وغالبا ما نتوقف �أمام قبور‬ ‫غني عن القول ا إل�شارة �إىل جدارة وا�ستحقاق‬
‫ا ألدباء وي�أخذ اللعبي يف احلديث امل�ستفي�ض حول‬ ‫اللعبي بهذه اجلائزة الرفيعة وغريها ‪ ،‬هو الذي‬
‫حياتهم و�أدبهم‪.‬‬ ‫�أفنى حياته يف الكتابة الطليعيّة بكل ما لهذه‬
‫�أتذكر قرب هرني باربو�س‪� ،‬صاحب رواية اجلحيم‪،‬‬ ‫معان �أو�شكت على االندثار‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫الكلمة من‬
‫التي قر�أتها مبكرا‪ ،‬ومتاهيت مع تيه بطلها‬ ‫الن�ضال الدامي من فرط �صدقه و�إخال�صه من‬
‫الوجودي‪ ،‬الذي ينظر من ثقب الباب �إىل العامل‬ ‫�أجل عامل �أف�ضل و�أكرث جماال ً و�إن�سانيّة وعدال ً ‪..‬‬
‫واحليوات‪� ،‬إىل املذبحة الب�رشية املتالطمة يف‬ ‫و�أ�شكر ال�صديق �سعيد بوكرامي الذي كان �أول من‬
‫خميلته ووجدانه امللتهبني‪ .‬وكتبت ق�صيدة‬ ‫�رسّب يل هذا اخلرب ألبد� أ �صباحا ً خمتلفا ً عن معظم‬
‫�أهديتها للعبي يف ذلك الزمان غري البعيد‪.‬‬ ‫ال�صباحات ا آلفلة‪...‬‬
‫�أدباء �أحياء ال يف�صلهم عن �أولئك املدعوين باملوتى‬ ‫‪k k k‬‬
‫�إال خيط �شم�س �شفيف بالغ الدقة وال�سدميية حتى‬
‫ال يكاد يُرى يف اختالط احليوات والنزوعات‬ ‫من �أكرث امل�شاهد الباري�سية التي ع�شتها يف هذه‬
‫والرغبات‪ ،‬يف التوحد �أفكارا و�إبداعات‪ ،‬ملن هم‬ ‫املدينة ال�شا�سعة على نحو متعدد و�آ�رس‪ ،‬م�شهد‬
‫حتت الرثى ومن ما زالوا يدبون فوق �أدميه �إىل‬ ‫املقابر‪ ،‬خا�صة‪ ،‬مقربة بريال�شيز‪ ،‬التي ُدفن يف‬
‫حني‪.‬‬ ‫حناياها الوارفة‪ ،‬الكثريُ من �أدباء وكتاب فرن�سا‪.‬‬
‫�أتذكر مقولة «�سيوران» كون التنزه يف املقابر‬ ‫هناك �أ�رضب مواعيد خمتلفة أل�صدقاء بعينهم‪.‬‬
‫يهدئ القلق العا�صف ويرو�ض روع املوت‪.‬‬ ‫يف مقدمة ه�ؤالء عبد اللطيف اللعبي‪ ،‬الذي ي�شبه‬
‫�أتذكر �أي�ضا �صديقي ر�شيد ال�صباغي‪ ،‬الذي رحل‬ ‫دوي�ستوف�سكي‪ ،‬برهة �إح�سا�سه باخلطر الذي ال‬
‫يف حادث تراجيدي‪ ،‬حني رمى نف�سه حتت عجالت‬ ‫فكاك من دائرته اجلهنمية‪ ،‬حني حكم عليه ملك‬
‫القطار املندفع‪ ،‬وق�ضى على هذا النحو الفظيع‪.‬‬ ‫املغرب ال�سابق با إلعدام‪ ،‬كونه �أحد قادة احلركة‬
‫فك�أمنا ذلك الرجل العميق ا إل�شكايل‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫الي�سارية(�إىل ا ألمام) يف فرتة ال�سبعينات وخفف‬
‫احلكم يف �ضوء احلملة العاملية إلطالق �رساحه‬

‫‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�صدمه هذا الرحيل املبكر‪ ،‬كما �صدمنا‪ ،‬لدرجة �أن‬ ‫يرتطم باملوت كارتطامه بق�ضايا الفكر والوجود‪.‬‬
‫ا أل�ستاذ �أركون حني �ألتقيه يف م�ؤمتر �أو منا�سبة‬ ‫ر�شيد كان ا ألكرث عمقا بيننا‪ ،‬و�إن �آثر الطريقة‬
‫و�أذكره بر�شيد يلوذ بال�صمت من هول �صدمة‬ ‫ال�سقراطية يف عدم الكتابة �إال قليال‪ ،‬هو املتبحر‬
‫الغياب‪.‬‬ ‫على ال�صعيد الفل�سفي واملعريف عامة‪ .‬كان‬
‫‪ ‬يف �سياق هذه ا إل�شارات �إىل نزهات مقربة‬ ‫يتحدث �أثناء نزهاتنا الكثرية �ساعات و�ساعات‬
‫بريال�شيز‪ ،‬كيف يل �أن �أن�سى هدى بركات‪ ،‬وكان‬ ‫حول فكرة �أو فيل�سوف �أو �شاعر‪ ،‬حتى ي�ضيعنا‬
‫�أول �أيام ال�سنة اجلديدة‪ ،‬حني اقرتحت عليها �أن‬ ‫�أحيانا يف دوائر متاهاته النظرية الوا�سعة �سعة‬
‫نلتقي يف املقربة‪ ،‬وهي قريبة من بيتها اجلديد‪،‬‬ ‫املقربة واملدينة‪.‬‬
‫قالت مازحة‪�« :‬سيف �أول �أيام ال�سنة‪ ،‬ويف مقربة‪،‬‬ ‫ترى هل كان ر�شيد رحمه اهلل‪ ،‬ونحن نتجول‬
‫�شو ها التفا�ؤل اجلميل؟»‬ ‫بني ا أل�رضحة وا ألجداث‪ ،‬يفكر يف ميتة مدوية‬
‫م�أ�ساوية على هذا النحو؟ حني �أبلغني �صموئيل‬
‫‪k k k‬‬
‫�شمعون خرب انتحاره‪ ،‬نقال عن عبد القادر اجلنابي‪،‬‬
‫قرب هرني باربو�س‬ ‫وكنت حينها يف ع ّمان‪ ،‬مل �أ�صدق واعتقدت أليام‬
‫�أنها مزحة �سوريالية‪ ،‬حتى قر�أت مقالة ال�صديق‬
‫ثقب‬
‫�أغلق الباب و�أنظر من ِ‬ ‫حممد بني�س يف �صحيفة «احلياة»‪.‬‬
‫عا�صف ٍة‬
‫ِ‬ ‫�أتذكر �أنني عرّفت «ر�شيد» على «�سيدي بني�س»‪،‬‬
‫�إىل احل�شد الب�رش ِّي‬ ‫كما �أخذته‪ ،‬وهو املنعزل غالبا‪ ،‬عن �أجواء‬
‫و�أعرف ‪ ،‬بعد قليل ‪� ...‬ستنتق ُل املذبحة‬ ‫املثقفني العرب‪� ،‬إىل يو�سف اخلال‪ ،‬وكان هناك‬
‫بتفا�صيلها‬ ‫�صدفة‪� ،‬أدوني�س وخالدة �سعيد حيث �أعجبوا �أميا‬
‫�إىل قلبي‪.‬‬ ‫�إعجاب بهذا املغربي الذي يتدفق معرفة وذكاء‬
‫‪ k‬من ق�صيدة مهداة �إىل عبداللطيف اللعبي وا أل�سطر ا آلنفة‬ ‫ي�صل حدود العبقرية‪.‬‬
‫كتبت قبل �سنني‪.‬‬ ‫�آخر مرة ر�أيت فيها ر�شيد ال�صباغي كان مبعية‬
‫�س‪ .‬الرحـبي‬ ‫حممد �أركون‪ ،‬كان من �أخل�ص �أ�صدقائه‪ ،‬وقد‬

‫عبد اللطيف اللعبي يف املدر�سة االبتدائية بفا�س �سنة ‪ - 1952‬ال�صف أالر�ضي‬


‫أالول الرتبة الرابعة على الي�سار‬

‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املنا�ضل املعزول‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والت�ضامن العاملي‬
‫ترجمة ‪� :‬سعيد بوخليط‬ ‫عبد اللطيف اللعبي ‬
‫كاتب ومرتجم من املغرب‬
‫العدالة‪.‬‬ ‫كيف يكتب بجروحه دون ت�أجيجها ثانية‪ ،‬جمازفا‬
‫اعتقلت بداية �سنة ‪ ،1972‬بتهمة امل�س ب�أمن الدولة‪.‬‬ ‫بافتقاد املو�ضوعية املقد�سة التي تعطي �إمكانية‬
‫كنت‪ ،‬قد �أ�س�ست �سنة ‪�« 1966‬أنفا�س» «‪ ،» Souffles ‬جملة‬ ‫ا�ست�ساغة خطاب ما �أو ا�ستبعاده ؟ �أن تفح�ص ذاك الذي‬
‫�أدبية وثقافية �أ�ضحت مع مر ال�سنني منربا للفكر‬ ‫تعذر الدفاع عنه‪ ،‬مثل جراح حائر �أمـام الأ مل الغريب‬
‫الثوري باملغرب‪� .‬ساهمت‪� ،‬أي�ضا يف �إن�شاء جمعية‬ ‫ملري�ضه‪ ،‬وبالتايل لي�س لـه من اختيار � آخر‪ ،‬غري �إجراء‬
‫للبحث الثقايف ودار «�أطالنط» «‪ » Atlantes ‬للن�رش‪� .‬أخريا‪،‬‬ ‫عملية جراحية من منطلق ال�صدفة‪ ،‬حتى يتبني ثم يقوم‬
‫�أ�صدرت باملغرب �أوىل �أعمايل الأ دبية‪.‬‬ ‫بعمل ما ؟ هل ميكننا تقدمي �شهادة «فاترة»‪ ،‬حينما‬
‫انخرطت �سنة ‪ 1969‬باحلزب ال�شيوعي املغربي‪ ،‬ثم‬ ‫يتعلم اجل�سد ثانية بطريقة ما وظائفه وال ت�ست�ضيء‬
‫تركته �سنة ‪� 1970‬صحبة منا�ضلني � آخرين‪ .‬فو�ضعنا‪،‬‬ ‫الأ عني بنور النهار‪ ،‬ثم تخرج الكلمات من الفم دون �أن‬
‫بالتايل كمهمة‪ ،‬فتح م�سار لبديل ي�ساري‪ ،‬يتجاوز‬ ‫جتابه قط �أقفال ال�صمت وكذا �أ�سواره املرتفعة‪ .‬عندما‬
‫حدود وعجز املعار�ضة التقليدية‪ .‬يف خ�ضم احلقبة‬ ‫يتوقف ظل املحقق على الت�أثري فيك‪ ،‬لكي ال حتلق �إال‬
‫التمهيدية للربنامج ال�سيا�سي‪ ،‬الإ يديولوجي والتنظيمي‬ ‫بني هذه الكوابي�س حيث ت�شع الت�شوهات على �صدرك‬
‫لهذه احلركة اجلديدة‪ ،‬جاء اعتقايل وحظر املجلة التي‬ ‫مثل �أورام احلمى‪ ،‬وتتح�صن امل�أ�ساة الفردية داخل � آخر‬
‫�أ�رشفت عليها‪.‬‬ ‫�أكواخ ليل الهمجية الكبري‪.‬‬
‫�أريد الت�أكيد‪ ،‬ب�أن الي�سار الإ يديولوجي الذي ان�ضويت‬ ‫لكي ال نخادع‪ .‬ي�سهل اقت�سام الفرح‪ ،‬االعتقادات‬
‫(‪)2‬‬
‫داخله‪ ،‬مل يدع قط للعنف على طريقة‪.La guérilla :‬‬ ‫�أو الطموحات �أكرث من املعاناة حينما ت�شمل هاته‬
‫�سواء احل�رضية �أو الغيفارية‪ ،‬كما كان الأ مر رائجا‬ ‫الأ خرية اجل�سد‪ ،‬الروح والوعي‪ .‬ثم ت�صري ذاكرة ثانية‬
‫تلك الفرتة‪ .‬ال�رصاع الطبقي‪ ،‬بالن�سبة �إليه‪ ،‬قد ي�ؤدي‬ ‫توخز با�ستمرار‪.‬‬
‫�إىل تغريات بنيوية (مبا يف ذلك �سيا�سية) كان البلد يف‬ ‫نقولها بكل و�ضوح‪� ،‬إن ال�شخ�ص الذي عا�ش التجربة‬
‫حاجة �إليها‪.‬‬ ‫الطويلة ل�س�ؤال املحقق واالعتقال‪ ،‬ي�صبح مفرط‬
‫ابتد�أت حمنتي فجر ‪ 27‬يناير ‪ .1972‬االعتقال‪ ،‬وبعده‬ ‫احل�سا�سية‪ .‬مما ي�صعب عليه �أخذ م�سافة حيال‬
‫التعذيب مبا�رشة‪ .‬كانت يل الفر�صة‪ ،‬للتحدث عن الوقائع‬ ‫هذه التجربة‪ ،‬تلهمه لكي يتحدث عن هذا املا�ضي‬
‫بني م�ضامني الن�صو�ص الأ دبية‪ .‬لكن �سيكون من املفيد‬ ‫املن�رصم‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬الرتكيز على داللة هاته اللحظة بال�ضبط‪ ،‬والقطيعة‬ ‫لكن بالرغم من ذلك‪ ،‬يجب �أن حتاول �إكراه نف�سك حتى‬
‫اجلذرية التي حتدثها مع ت�صور الزمان واملكان‪،‬‬ ‫ت�ستعيد هذا الواقع‪ ،‬وجتعل الإ طالع على مناطق معتمة‬
‫ينقلب معها و�ضع ال�رشط الإ ن�ساين �إىل �شيء � آخر‪ .‬كل‬ ‫ممكنا‪� ،‬سعينا لإ خفائها والتكتم عليها مراعاة للكرامة‬
‫الذين عا�شوا هذا التعميد الغريب‪� ،‬سيحتفظون دائما‬ ‫ال�شخ�صية‪ .‬جتنب التباهي‪ ،‬وتقدم ب�شهادتك حتت ق�سم‬
‫‪11‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تعر�ض له يف الأ مكنة ال�رسية لالعتقال والتعذيب‪.‬‬ ‫يف �أنف�سهم‪ ،‬بجرح ال يندمل جراء التمزق‪ .‬هناك �إذن‬
‫يقوم النظام ال�سجني على ا�سرتاتيجية �أخرى يف التحطيم‬ ‫املاقبل ‪ :‬حياة تقريبا عادية‪� ،‬أفراح‪� ،‬أحزان‪ ،‬طموحات‪،‬‬
‫وتقوي�ض ال�صفة الإ ن�سانية‪ ،‬فقد � آثر �صيغة املوت البطيء‪.‬‬ ‫االندماج يف ن�سيج �سو�سيوثقايف‪ ،‬االرتباط احلتمي‬
‫خرباء هذا النظام‪ ،‬فهموا جيدا ب�أن الإ ن�سان لي�س �إن�سانا‪،‬‬ ‫بالقانون‪ ،‬وعقالنية �أو العقالنية ن�سق ما‪ .‬لكن كذلك‪،‬‬
‫نتكلم هنا ب�شكل عام‪� ،‬إال �إذا حقق عددا معينا من العالقات‪،‬‬ ‫انت�ساب للج�سد‪ ،‬للآ خرين‪ ،‬والعامل‪ .‬ثم �أي�ضا املابعدي‪:‬‬
‫ب�شكل متقابل ‪ :‬هكذا من الإ دراك احل�سي فالإ دراك الفعلي‪،‬‬ ‫�ش�ساعة املجهول‪ ،‬حيث تتخرب كل الروابط‪ ،‬يتال�شى‬
‫من اليد �إىل الدماغ‪ ،‬التطبيق ثم النظرية‪ ،‬من الإ ن�سان‬ ‫�أتفه حق‪ ،‬تتعطل وظيفة كل و�ضع جمتمعي �أو فكري‬
‫�إىل الإ ن�سانية عرب ن�ساء ورجال ملمو�سني‪ ،‬من الإ ن�صات‬ ‫لل�شخ�ص‪ ،‬يختزل الفرد �إىل �رصامة كتلته الدماغية‪،‬‬
‫�إىل الكالم‪ ،‬اخلا�ص فالعام‪ ،‬والعك�س بالعك�س منذ بداية‬ ‫ثم لدمه وعظامه وغ�رضوفه‪ .‬داخل فتحة هذا الباب‬
‫الالئحة‪.‬‬ ‫الأ ر�ضي‪ ،‬الذي �سينغلق عليه فال �شاهدا‪ ،‬وال �شفيعا‪،‬‬
‫بيد �أن هذه العالقات لي�ست عمليات جمردة منار�سها‬ ‫�أو االتكال على �أي �شيء مما ميكن يف الزمان املعتاد‬
‫يف و�ضع م�صطنع‪ .‬فهي غري ممكنة‪ ،‬وبالتايل �إجرائية �إال‬ ‫و�ضع حدود لل�سلوكات واالبتزازات‪ .‬وحده‪ ،‬ميزان‬
‫�إذا انغم�س الإ ن�سان يف و�سط حيث تتواجد داخل حركة‬ ‫القوة الفيزيائية ال�رش�سة ي�شتغل‪ ،‬خا�صة حينما ينتقل‬
‫خا�صة بها‪ ،‬كل العنا�رص التي تخول له �أن يرتجم �إىل‬ ‫امل�ستجوب �إىل الأ فعال‪ .‬املعركة‪ ،‬التي �سي�ستلم �إليها‬
‫�أفعال هويته الإ ن�سانية‪ .‬ال يتحقق الو�ضع الإ ن�ساين‪� ،‬إال‬ ‫�إذن‪ ،‬وعي ال�ضحية مهولة‪ .‬ت�أتي حلظة‪ ،‬ينتقل فيها‬
‫داخل البوتقة االجتماعية‪� ،‬أي يف ج�سم حي‪.‬‬ ‫الأ مل من اجل�سد‪ ،‬بعد �أن حطمه كليا‪ ،‬لكي يحتل حقل‬
‫ي�ستهدف النظام ال�سجني‪ ،‬انتزاع الفرد من ذلك‪ ،‬وكذا‬ ‫الوعي ذاته‪ .‬فال�شخ�ص الذي يهذي‪ ،‬فقد بالت�أكيد جل‬
‫مغط�س احلياة‪ .‬مما ينتج عنه‪ ،‬كائـن خمتزل �إىل �أب�سط‬ ‫قدراته الذهنية واحليوية‪ .‬بعد زمان معني‪ ،‬ف�إن الرغبة‬
‫تعبرياته‪ ،‬منقطع عن العامل و�أ�شباهه‪ ،‬لكن �أي�ضا كائن‬ ‫الوحيدة التي ميكنه تخيلها تتمثل يف تلك املوت النعمة‪.‬‬
‫ت�شظى و�أ�ضحى م�شوها‪.‬‬ ‫�أظن‪ ،‬قد الم�سنا هنا‪� ،‬أق�صى حلظة عزل املنا�ضل‪ .‬ف�صل‬
‫يت�أتى الأ مر‪ ،‬من عملية بطيئة جلراحة الأ ع�صاب‪ .‬ي�ضع‬ ‫مطلق‪ ،‬يدرك اجلالدون كيفية توظيفه ل�صاحلهم‪ ،‬ق�صد‬
‫الرتوي�ض كهدف‪ ،‬نهايته اخلا�صة ‪ :‬لن تكون هناك حاجة‬ ‫اال�ستفادة من �أثر املفاج�أة‪ ،‬مع ت�أخر ان�سياب املعلومة‪.‬‬
‫للرتوي�ض‪ ،‬لقد حتول ال�شخ�ص �إىل � آلة خا�ضعة‪ ،‬تنظم ح�سب‬ ‫ن�ستخل�ص من ذلك‪ ،‬مع الأ �سف‪ ،‬ب�أن الت�ضامن ولأ �سباب‬
‫ما تبقى له من قدرات وقوى حمركة‪ ،‬تدمريه الكلي‪.‬‬ ‫مو�ضوعية‪ ،‬ال يلعب دوره يف اللحظة الأ كرث ق�سوة بل‬
‫�أمام هاته اال�سرتاتيجية امل�ؤ�س�ساتية التي تهي�أت‬ ‫وامل�صريية‪.‬‬
‫وحتددت طيلة قرون‪ ،‬ال ميلك املعتقل �أية ا�سرتاتيجية‬ ‫�سيجتاز املنا�ضل هذه املحنة �أم ال‪ .‬فقط‪ ،‬تكوينه‬
‫�أخرى م�ضادة لها عملية ب�شكل مبا�رش‪ .‬من ال�رضوري‪� ،‬أن‬ ‫الفيزيائي والع�ضوي ثم الذهني يكفل له �إمكانية كتلك‪.‬‬
‫يتدرب كثريا على «مهنته الع�سرية»‪ ،‬حتى يكون ب�إمكانه‬ ‫يف حني‪ ،‬ال �شخ�ص �أتته فكرة القيام ب�إجراء ك�شف طبي‬
‫حتمل الال‪-‬حمتمل‪ ،‬والعثور على الثغرات التي تبيح لـه‪،‬‬ ‫قبل هذا النوع من االختبار‪ .‬لذا‪� ،‬أن تقاوم �أم ال‪ ،‬م�س�ألة‬
‫لي�س فقط تعطيل الآ لة اجلهنمية‪ ،‬لكن و�ضع حد ملفعولها‬ ‫مرتوكة لل�صدفة‪.‬‬
‫الدموي‪.‬‬ ‫�صدر احلكم يف حقي‪� ،‬شهر غ�شت ‪ : 1973‬ع�رش �سنوات‬
‫فيما يخ�ص و�ضعيتي ال�شخ�صية‪� ،‬إذا �أمكنني الوقوف‬ ‫�سجنا‪ .‬للو�صول �إىل ذلك‪ ،‬كان من الالزم خو�ض ن�ضاالت‬
‫يف وجه ذلك �أثناء ال�سنوات الأ وىل من اعتقايل‪ ،‬فالف�ضل‬ ‫متعددة‪� ،‬صحبة رفاقي ( ال�سيما الإ �رضاب عن الطعام‬
‫يرجع �إىل واقعتني �أ�سا�سيتني ‪ :‬ال�شعر وم�ساندة �أ�رستي �إىل‬ ‫الذي ا�ستمر ‪ 33‬يوما) للإ �رساع بانعقاد املحاكمة‬
‫جانب عائالت رفاقي‪.‬‬ ‫وبالتايل معرفة م�صريي‪.‬‬
‫ال يلعب الت�ضامن العاملي‪ ،‬دوره الفوري‪ .‬حينما اعتقلت‪،‬‬ ‫مقارنة‪ ،‬مع ما مييز حلظة �إخفاء املنا�ضل‪ ،‬يبدو ب�أن‬
‫عانيت من غياب �سواء يف املغرب �أو باقي العامل العربي‪،‬‬ ‫التجربة ال�سجنية ت�ستند على نظام من املعا�ش الإ ن�ساين‬
‫حلركة دميقراطية ت�ضع �ضمن برنامج ق�ضاياها الأ �سا�سية‬ ‫�أكرث �ألفة وحتمال �إذا جاز لنا قول ذلك‪ .‬لأ ن نوع العنف‬
‫الدفاع عن حقوق الإ ن�سان‪ .‬ف�ضال‪ ،‬على �أن م�ساندة‬ ‫والعزل‪ ،‬املمار�س على املعتقل ال مياثل بتاتا‪ ،‬مع ما‬
‫‪12‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إ�ضافة �إىل موقف «‪� » Ghislain Ripault ‬أ�شري‪� ،‬إىل �صدور‬ ‫الكاتب يعترب �أحيانا كنوع من الرتف‪ ،‬داخل بلدان يتم‬
‫�أعمايل الأ دبية (�ضمنها الأ عمال ال�سابقة عن االعتقال)‪.‬‬ ‫فيها اال�ستهزاء ب�أب�سط احلقوق الأ ولية‪ ،‬وحيث اغتيال‬
‫توجت هذه املبادرات باحل�صول �سنة ‪ 1979‬على‬ ‫املعار�ضني ميثل تقريبا �أحد مكونات اللعبة ال�سيا�سية‪.‬‬
‫اجلائزة العاملية لل�شعر‪ ،‬التي ت�رشف عليها امل�ؤ�س�سة‬ ‫�إذا‪ ،‬ا�ستثنيت �أقلية من املثقفني الأ �صدقاء‪ ،‬جتا�رسوا لكي‬
‫الوطنية للفنون بـ روتردام ‪ Rotterdam‬وجائزة احلرية �سنة‬ ‫ي�رصخوا على امتداد ال�صحراء‪ ،‬فقد مت ب�شكل عام‪ ،‬احرتام‬
‫‪ ،1980‬املمنوحة يف العام ذاته لل�شاعر الكوبي «‪Armando ‬‬ ‫القاعدة الذهبية لل�صمت‪.‬‬
‫‪ » valladares‬والكاتبة الرو�سية «‪.» Lydia Tchoukovskaïa ‬‬ ‫�أوال‪ ،‬مكنني ال�شعر طيلة مرحلة االنعزال لكي �أعقلن‬
‫احلقبة‪ ،‬التي �رسدتها هنا ب�رسعة‪� ،‬شكلت بالن�سبة يل‬ ‫و�ضعي اجلديد و�أن�سنته مع جتاوز ت�شوهاته الأ كرث فظاعة‪.‬‬
‫انبعاثا وئيدا لكنه غري قابل للتقهقر‪ .‬لكي �أو�ضح ف�ضل‬ ‫ف�أن �أكتب‪� ،‬صارت بالن�سبة �إيل �إعالنا عن الوجود‪ ،‬وذاتا‬
‫هذا الدعم‪ ،‬وظفت با�ستمرار �صورة ‪ :‬عار�شات االحت�ضان‪.‬‬ ‫حية ت�صـارع عمليـة املـوت البطـيء‪ .‬املجموعـة ال�شعريـة‪:‬‬
‫ت�شري �إىل وجود نوافذ مفتوحة داخل زنزانتي‪� ،‬أ�ستمد‬ ‫[‪ ]l>arbre de fer fleurit‬التي متكنت من �إ�صدارها بفرن�سا‪ .‬مثلت‬
‫منها‪ ،‬جوهر االبت�سامة الب�رشية‪ ،‬ثم �أجمل �شم�س �أخوية‬ ‫�أول فجوة يف دوائر العزل التي فر�ضوها علي‪.‬‬
‫بني النا�س �أبعد من كل احلدود امل�صطنعة‪.‬‬ ‫ثانيا‪ ،‬دعم العائالت‪ ،‬بحيث تفاعلوا مثل حبل �رسة جديد‬
‫الذي ي�ستفيد من هذا الت�ضامن‪ ،‬يح�س لأ ول مرة منذ‬ ‫يعيد ربطنا ثانية بالعامل اخلارجي‪ ،‬بكل مربرات البقاء‪،‬‬
‫�أن غا�ص يف ليل اال�ستبداد‪ ،‬كونه قد جنا‪� .‬شعور كهذا‬ ‫ثم �أن تع�شق وت�صارع‪ .‬هاته العائالت‪ ،‬ويف مقدمتهن‬
‫بالأ مان حيوي حقا داخل جتربة‪ ،‬حتى لو حتددت العقوبة‬ ‫الأ مهات‪ ،‬الزوجات‪ ،‬الأ خوات‪ ،‬كان عليهن �أي�ضا بدورهن‬
‫داخلها زمانيا‪ ،‬ف�إن ال�شك املطلق ي�ستمر يف التحومي‬ ‫االعتياد كثريا على هذه «احلرفة ال�صعبة»‪� .‬أغلبهن �أميات‪،‬‬
‫على م�صري املعتقل‪ ،‬خا�صة يف بلدان يظل فيها الو�ضع‬ ‫ال يعرفن من ال�سيا�سة �إال ت�أثريها على ثمن اخلبز‪ ،‬العمل‪،‬‬
‫القانوين �شبحيا‪ ،‬ومو�ضوع �أية نزوة ظرفية للحكام(‪.)3‬‬ ‫ال�صحة واملدر�سة‪ ،...‬لقد ج�سدن يل �أف�ضل مر�شد لإ عادة‬
‫يدرك املعتقل الآ ن‪ ،‬املواطنة البديلة التي اكت�سبها من‬ ‫اكت�شاف القارة الإ ن�سانية‪ ،‬حقا �إن�سانية‪.‬‬
‫خالل الوعي الكوين‪ .‬روابط القوة تغريت‪� ،‬أرادوا �أم كرهوا‪،‬‬ ‫بالتايل‪� ،‬أعتقد ب�أن الت�ضامن العاملي (خا�صة يف‬
‫مفرو�ض على �سجانيه �إدراك هذه احلقيقة اجلديدة‪.‬‬ ‫املرحلة الأ وىل حيث ي�ستحيل لأ �سباب �إدارية‪� ،‬سيا�سية‪،‬‬
‫�إحدى الدرو�س امل�ستخل�صة يف ر�أيي من هاته التجربة‪،‬‬ ‫ومعطيات �أخرى االت�صال مبا�رشة باملعتقل)‪ ،‬عليه‬
‫اخلا�صية الذكية والفعالة حلمالت الت�ضامن ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫ال�سعي ق�صد تع�ضيد هذا ال�سند الفريد يف نوعه والفوري‪،‬‬
‫�شكلت هذه الق�ضية‪� ،‬أ�صل جداالت �أحيانا بوليميكية‬ ‫كما ج�سدت ذلك عائالت املعتقلني‪ .‬حبل ال�رسة بالن�سبة‬
‫داخل املنظمات واملجموعات التي تنا�ضل من �أجل حرية‬ ‫له�ؤالء‪ ،‬ب�إمكانهن �أي�ضا �أن ي�شكلن �أف�ضل و�سيط بني حجج‬
‫معتقلي هذا البلد �أو ذاك‪ .‬لكن املع�ضلة‪ ،‬ال تتمو�ضع بني‬ ‫الت�ضامن و�ضحايا القمع‪.‬‬
‫عبادة الإ يقونات‪ ،‬و�أق�صى دمقرطة‪ .‬يف احلالة املغربية‪،‬‬ ‫�إحدى �أوىل الن�ضاالت التي خ�ضتها مع جمموعتي‪،‬‬
‫مكنت احلمالت ال�شخ�صية �أحيانا من �إطالق �رساح «ر�أ�س‬ ‫ان�صبت على احلق يف تبادل الر�سائل مع الأ �صدقاء‪ ،‬خا�صة‬
‫الالئحة»‪� ،‬إىل جانب عدد معني من الرفاق‪ ،‬يف الوقت ذاته‪.‬‬ ‫الأ جانب‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ك�رس هذا الفعل الكفاحي تدريجيا‪،‬‬
‫ب�صفة عامة‪ ،‬حملة كتلك ت�ساعد على �إ�شعار قطاعات‬ ‫حاجز الف�صل املفرو�ض‪ ،‬وحت�سي�س الر�أي العاملي‬
‫من الر�أي اخلا�ص‪ ،‬حيث لن يكون الو�ضع ذاته مع �سجناء‬ ‫بو�ضعيتي‪ .‬نتيجة لهذا االنفتاح‪ ،‬ف�إن �صديقي «‪Ghislain ‬‬

‫جمهولني‪ .‬على الفعل الت�ضامني وعدم التغا�ضي عن‬ ‫‪� » Repault‬صاحب جملة «‪� ،» Barbare ‬أخذ على عاتقه منذ‬
‫هذا االمتياز‪ .‬لكن الأ مر‪ ،‬هنا ال يتعلق �أبدا بالعمل على‬ ‫‪ 1975‬مهمة �أدت �سنوات بعد ذلك �إىل خلق جلنة دولية‬
‫تف�ضيله‪.‬‬ ‫للدفاع عن حريتي (هيئات من فرن�سا‪ ،‬بلجيكا‪� ،‬سوي�رسا‪،‬‬
‫�أطلق �رساحي �شهر يوليو ‪� ،1980‬سنة ون�صف قبل املوعد‬ ‫�أملانيا الفيدرالية‪ ،‬وكذا م�ساندة جمموعة من املجالت‬
‫املحدد‪ .‬بالتايل‪ ،‬مل �أمتتع على الفور بحقوقي املدنية‪.‬‬ ‫وال�شخ�صيات الفرن�سية)‪ ،‬ويف غ�ضون ذلك جمموعات‬
‫كان من ال�رضوري القيام مبحاوالت طيلة �أربعة �سنوات‪،‬‬ ‫من منظمة العفو الدولية (هولندية خ�صو�صا) ا�ستطاعت‬
‫تدعمني يف ذلك حركة جديدة من الت�ضامن باخلارج‪،‬‬ ‫الو�صول �إيل‪ ،‬ون�سج عالقات معي بوا�سطة الرتا�سل‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الأ �سباب‪ .‬مهمة متعبة‪ ،‬حيث الإ �شباعات املدونة بطريقة‬ ‫حتى �أح�صل على جواز �سفري‪ .‬يقال هذا‪ ،‬و�أنا مل �أ�سرتجع‬
‫م�شتتة لها يف الغالب ذكرى الرماد‪ ،‬بقدر ال نهائية مكائد‬ ‫بعد‪ ،‬وظيفتي كمدر�س‪ ،‬وخا�ضع دائما دخل بلدي ملراقبة‬
‫الطغاة‪.‬‬ ‫�رسية تقريبا (بريد‪ ،‬تليفون)‪.‬‬
‫لنتفاهم جيدا‪ ،‬ال نناق�ش هنا �رشعية امل�سار الت�ضامني‪،‬‬ ‫حرية ال�سجني‪ ،‬بالن�سبة للحركة الت�ضامنية‪ ،‬لي�ست �إال‬
‫�إجماال‪ ،‬حتدد هذا الأ خري عالقة قوى‪ .‬ي�صعب معها‪،‬‬ ‫مرحلة‪ ،‬الأ كرث �أهمية بالت�أكيد‪� .‬إال �أن الن�ضال‪ ،‬حل�صول‬
‫جتريده عن النظام القائم يف العالقات الدولية‪ ،‬عالقات‬ ‫املعتقل ال�سابق على كل حقوقه‪ ،‬ال يجب �أن ي�ضعف‪ .‬حياة‬
‫حتكم هنا �أو هناك اجلماعات ال�سيا�سية واملدنية‪ .‬يف عامل‬ ‫احلرية‪ ،‬عند الكثريين من قدماء املعتقلني‪ ،‬تعترب �سجنا‬
‫وكذا جمتمعات تعمل وفق معايري ال�سلطة ثم امل�صلحة‪،‬‬ ‫ثانيا �أحيانا �أكرث جهنمية مقارنة مع الأ وىل‪ .‬ف�إىل جانب‬
‫احلجة الأ خالقية هي قطعا هنا ذات وزن ن�سبي‪.‬‬ ‫التحديدات التي مت�س احلرية الفردية‪ ،‬تطرح بحدة ق�ضية‬
‫�إال �أن مقيا�س حقيقة ال�شيء‪ ،‬وحتى واقعيته‪ ،‬ال يجب‬ ‫الك�سب املادي‪ .‬نتحدث هنا‪ ،‬عن دائرة احلجز‪ ،‬الأ كرث‬
‫�أن ت�صبح قط مطلقا‪ ،‬الحتواء الفعل الت�ضامني داخل‬ ‫نفاذا‪ .‬تقوي�ضها‪ ،‬وم�ساعدة ال�ضحية للخروج منها‪ ،‬لي�ست‬
‫حلقة التو�ضيب‪ .‬عليه التمكن من التفكري با�ستمرار يف‬ ‫ب�أقل املهام املطروحة على الفعل الت�ضامني‪.‬‬
‫ا�ستقاللية الذاتية‪ ،‬حريته ومطلقه اخلا�ص‪.‬‬ ‫تتوقف �شهادتي ال�شخ�صية هنا‪ .‬لأ نني �أ�شعر باحلاجة‬
‫�إذا كان هناك من خمطط‪ ،‬يجدر اال�شتغال عليه ب�رسعة‪.‬‬ ‫ملناق�شة م�س�ألة �أخرى ذات طابع عام‪ ،‬رغبة يف فتح‬
‫فهو بالت�أكيد‪ ،‬ذاك الذي ي�ستمد �رشعيته املطلقة من ق�ضية‬ ‫ال�سجال‪.‬‬
‫الإ ن�سان‪ ،‬حترره‪ ،‬كرامته‪ ،‬حقه يف التعبري احلر وال�سعادة‬ ‫الفكرة املنطلق‪ ،‬لهاته ال�شهادة كانت كما يلي ‪« :‬املنا�ضل‬
‫فوق الأ ر�ض‪.‬‬ ‫املعزول‪ ،‬والت�ضامن العاملي»‪ .‬هناك خطورة‪ ،‬يف قراءة‬
‫الهوام�ش‬ ‫هذا املقرتح بطريقة � آلية ‪ :‬الت�ضامن‪ ،‬ي�ضع حدا للعزل �أو‬
‫‪1Abdellatif Laâbi : les rêves sont têtus, écrit politiques, éditions Paris - 1‬‬ ‫ينتهي العزل بوجود الت�ضامن‪ .‬ب�شكل مفارق‪ ،‬يبدو ب�أن‬
‫‪.– méditerranée, 2001, P. 11-20‬‬
‫الت�ضامن ميثل العبارة القوية والفعالة لهذه املعادلة‪.‬‬
‫وهي نف�س املداخلة التي �شارك بها اللعبي يف ندوة متحورت حول ‪:‬‬
‫«حقوق الإ ن�سان واحلريات»‪ ،‬نظمها الوزير الأ ول الفرن�سي داخل اجلمعية‬ ‫يكفي‪ ،‬وجوده لكي ي�ستقيم التوازن بني اجلائر واملظلوم‪،‬‬
‫الوطنية �أيام ‪ 31/29‬ماي ‪.1985‬‬ ‫ال�ضحية واجلالد‪ .‬بينما‪ ،‬ال ن�سائل مبا�رشة الن�سق امل�ؤ�س�س‬
‫‪- 2‬مفهوم م�ستعار من الإ �سبانية‪ ،‬ي�ستعمل من �أجل الإ �شارة �إىل معارك‬ ‫لعالقة كهاته‪ .‬لأ ن الت�ضامن يندرج عموما �ضمن م�سار‬
‫مبجموعات �صغرية‪ ،‬متحركة ومتكيفة متار�س حرب ا�ستنزاف وكمائن‪،‬‬
‫والقيام بهجومات ع�سكرية‪ ،‬تقودها وحدات نظامية �أو جماعة من‬ ‫«املمكن»‪ ،‬فهو يخ�ضع للق�ضية الهيغيلية التي تعترب‪،‬‬
‫امل�ؤيدين‪� .‬إن خطط ‪ ،la guérilla‬هي �إحدى �أقدم �أ�شكال احلروب غري‬ ‫«العقالين واقعي» والعك�س �صحيح‪.‬‬
‫املت�ساوية بني طرف �ضعيف و� آخر قوي‪ .‬يحدد املقاتلون �أهدافا ع�سكرية‬ ‫�أما عن �ضحية اال�ستبداد‪ ،‬فهو يو�شك بني طيات هذا‬
‫وال ي�سي�ؤون �إىل املدنيني كما هو ال�ش�أن مع التنظيمات الإ رهابية‪� .‬أما‬
‫عن �أبرز رموز فكر ‪ .la guérilla :‬فنجد‪ :‬عبد الكرمي اخلطابي‪ ،‬ماوت�سي‬ ‫املنطق‪ ،‬التحول �إىل �صنف امل�ستفيد‪ .‬حقه املطلق يف ‪:‬‬
‫تونغ‪ ،‬ت�شي غيفارا وتوما�س �إدوارد لورون�س (املرتجم)‪.‬‬ ‫(التعبري احلر‪ ،‬التنظيم النقابي �أو ال�سيا�سي‪ ،‬االعتقادات‬
‫‪ - 3‬لقد عرفت �أ�شياء من هذا القبيل‪� .‬سنة ‪� ،1975‬سحبوين من زنزانتي‪،‬‬ ‫الدينية �أو الإ يديولوجية‪� ،‬إلخ)‪ .‬يختفي ل�صالح املطالبة‬
‫لكي يزجوا بي يف ق�ضية جديدة‪ ،‬مت�س �أمن الدولة وعزيل ملدة �ستة �أ�شهر‬
‫داخل حي الإ عدام‪� .‬ستتوقف‪ ،‬املتابعات �سنتني بعد ذلك‪ .‬نظرا‪ ،‬لتفاهة‬ ‫الوحيدة باحلرية الفيزيائية‪ .‬ينتقل رهان ن�ضاله �إىل‬
‫امللف الكاريكاتورية‪.‬‬ ‫م�ستوى ثان‪ .‬بهذا العمل‪ ،‬ي�ؤثر الت�ضامن يف النتائج دون‬

‫‪14‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خمتـ ـ ــارات‬
‫�شعريــة‬
‫ترجمة وتقدمي �سعيد بوكرامي‬ ‫ ‬
‫عبداللطيــف اللعــبي‬
‫كاتب ومرتجم من املغرب‬

‫�شاعر احلرية والعدالة �شذرات من تكوين من�سي‬ ‫عبداللطيف اللعبي‬


‫حان وقت ال�صمت‬ ‫واملواقف االن�سانية‪ ..‬نال م�ؤخرا جائزة �أ كادميية‬
‫وتنحية املكمالت‬ ‫غونكور الفرن�سية عن جمموع �أ عماله ال�شعرية‪.‬‬
‫والأ طقم‬ ‫ولد ال�شاعر املغربي يف فا�س �سنة ‪� .1942‬أ �س�س‬
‫الأ حالم‬ ‫�سنة ‪ 1966‬جملة �أ نفا�س التي �ضخت دماء ثقافية‬
‫الآ الم‬ ‫جديدة يف امل�شهد الثقايف املغربي‪.‬‬
‫والبطائق الربيدية‬ ‫اعتقل �سنة ‪ 1972‬لثماين �سنوات ب�سبب مواقفه‬
‫حان الوقت لإ غالق القو�سني‬ ‫الثورية و�أ فكاره املنحازة � إىل املظلومني‬
‫و�إيقاف الالزمة‬ ‫واملحرومني‪.‬‬
‫بعد حملة دولية حقوقية ا�ستعاد حريته �سنة‬
‫بيع الأ ثاث‬
‫‪ 1980‬لعبت فيها زوجته ورفيقة دربه جو�سلني‬
‫تنظيف الغرفة‬
‫دورا كبريا‪ ،‬ثم هاجر � إىل فرن�سا حيث يقيم ب�شكل‬
‫وتفريغ �صناديق القمامة‬ ‫دائم � إىل يومنا هذا لكن هذا مل مينعه من احل�ضور‬
‫حان الوقت لفتح قف�ص‬ ‫الثقايف والع�ضوي يف بلده املغرب كلما وجد‬
‫ع�صافري الكناري التي كانت‬ ‫فر�صة لذلك‪.‬‬
‫متنحني الن�شيد ب�سخاء‬ ‫من بني �أعماله ال�صادرة يف فرن�سا جند‪:‬‬
‫مقابل �شيء من الطعام‬ ‫«�أزهرت �شجرة احلديد» ‪.1974‬‬
‫و�أقداح ماء‬ ‫«عهد الرببرية» ‪.1980‬‬
‫حان الوقت ملغادرة‬ ‫«ق�صة م�صلوبي الأ مل ال�سبعة» ‪.1980‬‬
‫«خطاب فوق اله�ضبة العربية» ‪.1985‬‬
‫بيت الأ وهام‬ ‫«جميع التمزقات» ‪. 1990‬‬
‫�إىل عر�ض حميط النار‬ ‫«ال�شم�س حتت�رض» ‪1993‬‬
‫حيث ميكن �أن تن�صهر‬ ‫«�سويداء الدارالبي�ضاء» ‪. 1996‬‬
‫معدين الب�رشي‬ ‫«�شذرات من تكوين من�سي» ‪.1998‬‬
‫العني والليل ‪.2003‬‬
‫حان الوقت ملغادرة الغ�شاء‬ ‫جتاعيد الأ �سد رواية ‪. 2007‬‬
‫واال�ستعداد لل�سفر‬ ‫قريني العزيز ‪.2007‬‬
‫‪15‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الذين قاوموا يف كهوفهم‬ ‫طرقنا تفرتق‬


‫جرافات التاريخ‬ ‫يا �صيقي الهارب‬
‫ال اعرف �شعبا اخر‬ ‫لدي بع�ض اجلنون‬
‫غري هذا ال�شعب‬ ‫هو بذرتي اخلا�صة‬
‫املعافى من االختطاف والقتل‬ ‫اختيار � آخر‬
‫من ا�شتهاء اجلثث املعوزة‬ ‫عن االفرتاق‬
‫من االفتتان‬ ‫لدي معرفة �صغرية‬
‫من اال�ست�سالم‬ ‫عن املعاين الأ خرية‬
‫ومن القوانني الغبية‬ ‫للويالت‬
‫ال اعرف �شعبا � آخر‬ ‫مرة‬
‫غري هذا ال�شعب‬ ‫مرة واحدة‬
‫البال خمرج من ع�شرية‬ ‫يحدث �أن �أ�صبح �إن�سانا‬
‫الرحل الليليني‬ ‫كما تعظم الأ غنيات العاطفية‬
‫الذين يرتكون الفواكه يف �أ�شجارها‬ ‫وحدث هذا‬
‫وللحيوانات حرية احلياة‬ ‫يف منت�صف احلب‬
‫الذين يقتاتون من حليب النجوم‬
‫م�ست�أمنني موتاهم‬ ‫احلب‬
‫ل�سخاء ال�صمت‬ ‫ال�شيء الأ خف حلقيبة ظهر‬

‫ال اعرف �شعبا � آخر‬ ‫حينئذ �س�أحلق‬


‫غري هذا ال�شعب‬ ‫بال �أ�سف‬
‫امل�ستحيل‬ ‫�س�ألتزم بال�رصاخ‬
‫القدمي‬
‫نحن نحن �سنلتقي يف الأ هوال‬ ‫خم�ضبا بنريان النح�س الدائم‬
‫�سيجددنا الرق�ص‬ ‫�س�أ�صعد دفعة واحدة‬
‫وميكننا من اجتياز الغياب‬ ‫�سل�سلة الإ جها�ض‬
‫‪� ‬سيبد�أ �سهاد � آخر‬ ‫�س�أداهم الهباء‬
‫�إىل تخوم الذاكرة‬ ‫وا�ستعداداته‬
‫هذا النور‬ ‫�س�أ�ستدعي �إىل �أهوايل‬
‫�شعبا �أغلبه �أعراج‬
‫ال ميكن و�صفه‬ ‫�أرواحا مهزومة‬
‫�إنه ي�رشب‬ ‫�شهداء احلب املنبوذين‬
‫�أو ي�ؤكل‬ ‫عذراوات �ضحايا ملوخ اخل�صوبة‬
‫‪ ‬الأ �صفر ينتظر الأ زرق‬ ‫�شاعرا من�شدا مطرودا من املدينة‬
‫الذي يت�أخر مع الأ خ�رض‬ ‫دين�صورات وديعة كاحلمائم‬
‫الأ بي�ض يبت�سم‬ ‫م�صعوق يف ذروة احللم‬
‫من حرد احلبيب‬ ‫ن�ساك كل الأ زمنة‬
‫‪16‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ور�سام يحقق اجنازه بنف�سه‬ ‫يقيم يف ج�سده‬
‫وبوا�سطة كلمات‬ ‫لي�س مريحا‬
‫تعرف طريقها �إىل القلب‬ ‫�إنه م�سكون باالرواح‬
‫ها هو‬ ‫حقل �ألغام‬
‫ين�شد بنربات �صادقة‬ ‫من املفرو�ض اكرتا�ؤه‬
‫الزمته القدمية‬ ‫لفرتة العطل‬
‫كانت الأ ر�ض تتظاهر‬ ‫الندى‬
‫�أنها ت�سمعها للمرة الأ وىل‬ ‫جمرد ماء‬
‫حيل يف احلياة‬ ‫لكنه ماء عا�شق‬
‫‪  ‬حتى و�إن كنا �أبرياء‬ ‫‪ ‬ال �أنفي �أبدا‬
‫من دم قريب لنا‬ ‫�أن الكتابة ترف‬
‫فيحدث‬ ‫لكنه الرتف الوحيد‬
‫�أن نقتل‬ ‫الذي ال ي�ستغل فيه االن�سان‬
‫احلياة فينا‬ ‫�سوى ذاته‬
‫عدة مرات‬ ‫‪ ‬النبي يحطم الأ وثان‬
‫بدل املرة الواحدة‬ ‫بينما الطاغية‬
‫‪ ‬احلجاب‬ ‫ي�شيد الن�صب‬
‫الذي يغطي عيوننا‬
‫�أفتح نافذة‬
‫و ف�ؤادنا‬
‫حديقتي ال�رسية‬
‫احلواجز‬
‫حطم املجتاحون كل �شيء‬
‫التي نن�صبها‬
‫�أخذوا معهم‬
‫حول ج�سد م�شبوه‬
‫حتى �رس حديقتي‬
‫‪ ‬ال�شفرة الباردة‬
‫‪  ‬غالبا‬
‫التي نواجه بها الرغبة‬
‫ما �أح�س بالنق�ص‬
‫‪ ‬الكلمات‬ ‫ومذنب يف مكان ما‬
‫التي نبيع ون�شرتي‬ ‫عندما �أتلقى التهاين‬
‫يف �سوق الأ كاذيب املزدهر‬ ‫ال انتظر �شيئا من احلياة‬
‫الر�ؤى‬ ‫�أنا ذاهب‬
‫التي نخنقها يف املهد‬ ‫للقائها‪.‬‬
‫اجلنون املقد�س‬
‫الذي نحتجزه وراء الق�ضبان‬ ‫الر�ض �أكثـر �صربا‬
‫أ‬
‫الذعر‬ ‫تنتظر من�شدها‬
‫الذي ي�صيبنا به اخلارج عن امل�ألوف‬ ‫الذي يت�أخر قليال‬
‫حوار الطر�شان‬ ‫ثم يح�رض‬
‫الذي رفع �إىل مرتبة الفن الكامل‬ ‫ممالئا جميال‬
‫الدين‬ ‫ب�رسعة ينال العفو‬
‫الأ كرث تق�سيما‬ ‫لأ نه يعزف املو�سيقي قليال‬
‫‪17‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كي �أدخن بارتياح‬ ‫بالالمباالة‬


‫�أ�سدل ال�ستائر‬ ‫‪ ‬ر�سائل عديدة‬
‫كي �أ�رشب ك�أ�سا‬ ‫ما زالت تدق �أبوابنا‬
‫على نخب �أبي نوا�س‬ ‫هل من �أحد يف البيت؟‬
‫كي �أقر�أ � آخر كتاب لر�شدي‬
‫بعد قليل‪ ،‬من يدري‬ ‫‪ -‬قل يل‬
‫يجب �أن �أنزل �إىل القبو‬ ‫يف اجتاه �أي عدم‬
‫لأ غلق على نف�سي جيدا‬ ‫يجري نهر احلياة‬
‫كي �أ�ستطيع‬ ‫ما هي � آخر مرة‬
‫التفكري‬ ‫ا�ستحممت فيه؟‬
‫على طريقتي‬ ‫فواكه اجل�سد‬
‫‪ ‬احلرا�س يف كل مكان‬ ‫‪ ‬فواكه اجل�سد‬
‫يت�سيدون على حاويات القمامة‬ ‫كلها لذيذة‬
‫امل�ستودعات‬ ‫اجللد‬
‫�صناديق الر�سائل‬ ‫الرحيق‬
‫احلرا�س يف كل مكان‬ ‫اللحم‬
‫داخل القوارير الفارغة‬ ‫حتى اجلبلة‬
‫‪ ‬حتت الأ ل�سن‬ ‫فهي لذيذة‬
‫وراء املرايا‬ ‫بئي�س خمادع‬
‫من ي�صعد ال�رسير‬
‫احلرا�س يف كل مكان‬ ‫بقدمه اليمنى‬
‫بني اللحم والظفر‬ ‫ذاكرا ا�سم الرب‬
‫ما بني اخليا�شيم والوردة‬ ‫قبل �أن يجامع‬
‫العني والنظرة‬ ‫من الباب‬
‫احلرا�س يف كل مكان‬ ‫املطل على الرغبة‬
‫يف الغبار الذي نبتلعه‬ ‫لن يطلعوا‬
‫يف القطعة التي نب�صق‬ ‫�إال على ثقب الأ عمى‬
‫للقفل‪.‬‬
‫احلرا�س يتكاثرون ويت�ضاعفون‬
‫بهذا الإ يقاع‬ ‫ترهقني قراءة‬
‫�سي�أتي يوم‬ ‫بحوث علم اجلن�س‬
‫ن�صبح فيه جميعا‬ ‫وريا�ضة اجلمباز ت�ضجرين‬
‫�شعبا من احلرا�س‪.‬‬ ‫�إذا مل يكن احلب ابداعا‬
‫‪� ‬أمي البهية‬ ‫وعمال �شخ�صيا‬
‫ف�إين �س�أهجر مدر�سته‪.‬‬
‫�أنت يا من ت�ستعدين لو�ضعي يف هذا العامل‬
‫�أرجوك‬ ‫�سويداء الدارالبي�ضاء‬
‫ال ت�سميني‬ ‫�أ�سدل ال�ستائر‬
‫‪18‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫عبداللطيف اللعبي‪ ..‬عبداللطيف اللعبي‪..‬‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ثم ت�رضب به الأ ر�ض �سبع مرات‬ ‫لأ ن القتلة يل باملر�صاد‬
‫العنة ال�سماء والطاغية‬ ‫�أمي‬
‫كنت وقتها يف املغارة‬ ‫اعملي �أن يكون جلدي‬
‫حيث املحكوم بالإ عدام يقر�أ داخل الظلمة‬ ‫بال لون‬
‫وير�سم على اجلدران‬ ‫القتلة يل باملر�صاد‬
‫حمب�سا لوحو�ش امل�ستقبل‬
‫�أمي‬
‫مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما‬
‫ال تتكلمي �أمامي‬
‫كانت قد تركت يل طقما �صينيا للقهوة‬
‫�أخ�شى �أن �أتعلم لغتك‬
‫تك�رست فناجينه الواحد تلو الآ خر‬ ‫القتلة يل باملر�صاد‬
‫غري� آ�سف عليها‪ ،‬لأ نها كانت ب�شعة‬
‫اليوم‪ ،‬عندما �أكون وحيدا‬ ‫�أمي‬
‫�أ�ستعري �صوت �أمي‬ ‫اختبئي عندما ت�صلني‬
‫�أو بالأ حرى ما يتكلمه ل�ساين‬ ‫دعيني يف من�أى عن �إميانك‬
‫بكل جتديفه‪ ،‬وفظاظته‪،‬ولعناته‬ ‫القتلة يل باملر�صاد‬
‫بال�سبحة ال�ضائعة للم�ست�ضعفني‬ ‫�أمي‬
‫وكلماتها املهددة لكل الكائنات‬ ‫ميكن �أن تكوين فقرية‬
‫مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما‬ ‫لكن ال تلقيني يف ال�شارع‬
‫غري �أين الرجل الأ خري‬ ‫القتلة يل باملر�صاد‬
‫الذي يتكلم لغتها‪.‬‬ ‫يا �أماه‬
‫�ساعتان يف القطار‬ ‫لو �أنك متانعني‬
‫تنتظرين �أياما �أف�ضل‬
‫خالل �ساعتني يف قطار‬ ‫كي ت�ضعيني يف العامل‬
‫�أ�ستعر�ض �رشيط حياتي‬ ‫من يدري‬
‫مبعدل دقيقتني لكل عام‬ ‫قد تكون �رصختي الأ وىل‬
‫ن�صف �ساعة للطفولة‬ ‫م�صدر ابتهاجي وابتهاجك‬
‫و�أخرى لل�سجن‬ ‫�س�أقفز �إذن يف ال�ضياء‬
‫احلب والكتب والت�رشد‬ ‫كهبة من حياة حلياة‪.‬‬
‫�إىل روح �إبراهيم بوعرام‪� ،‬شاب مغربي مت �إغراقه تقت�سم الباقي‬
‫يف نهر ال�سني بباري�س يف الأ ول من �شهر ماي �سنة يد رفيقتي‬
‫‪ ،1995‬من طرف ع�صابة عن�رصية قادمة من جتمع تن�صهر �شيئا ف�شيا يف يدي‬
‫ر�أ�سها فوق كتفي‬ ‫للجبهة الوطنية التي تنتمي �إىل اليمني املتطرف‪.‬‬
‫�أخف من ميامة‬ ‫لغة �أمي‬
‫عند و�صولنا‬ ‫‪ ‬مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما‬
‫�س�أكون يف اخلم�سني‬ ‫تركت نف�سها متوت جوعا‬
‫من العمر‬ ‫يحكون �أنها كانت‬
‫�س�أ�ستمر يف احلياة‬ ‫تنزع كل �صباح‬
‫�ساعة �أخرى ‪.‬‬ ‫منديل ر�أ�سها‬
‫‪19‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�سـ ــات‬

‫«جلى حمب ًا نظره» ملنري ال�شعراين ‪� -‬سورية‬

‫‪20‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�ضرات ملك امللوك‬


‫نا�صر بن جاعد بن خمي�س اخلرو�صي‬
‫تقدمي وحتقيق ‪ :‬وليد حممود خال�ص‬ ‫([ )‬

‫ناقد و�أكادميي من العراق يقيم يف عُ مان‬

‫تعود عالقة املحقّق بهذا الكتاب �إىل ع�رش �سنوات خَ لَت‪ ،‬وذلك يوم ظفر مبخطوطه‬
‫وهو يبحث يف زوايا املخطوطات العمانية التي حتتفظ بها وزارة الرتاث والثقافة‪،‬‬
‫وخزانة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي‪ ،‬و�رشع عندها يقر�أ‪ ،‬ويدوّن ملدة‬
‫لي�ست بالقليلة‪ ،‬وكانت ثمرة تلك القراءة بحث طويل ن�رشه يف كتابه (الأ دب يف‬
‫اخلليج العربي‪ -‬درا�سات ون�صو�ص)‪ ،‬ووعد يف ذلك البحث �أن يقوم بتحقيق هذا‬
‫الكتاب حتقيق ًا علمياً‪ ،‬وتقدميه بن�رشة نقدية تليق مبكانته‪ ،‬ومرّت �سنوات كثار‬
‫حتى ُقيّ�ض له �أن ينتهي منه ب�سبب �ضخامة حجمه‪ ،‬وع�رس مادته‪ ،‬وا�ستغالق‬
‫عبارته‪ ،‬مع �أنَّ �صاحبه ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان اخلرو�صي �أراده كتاب ًا �سهالً‪،‬‬
‫�سائغ ًا للقارئني‪ ،‬غري �أنَّ املادة العلمية التي �ضمّها الكتاب بني دفَّتيه هي مر ّد تلك‬
‫ال�صعوبة‪ ،‬وبعد هذا‪ ،‬الت�أخر يف االنتهاء منه‪ ،‬وقد بذل املحقّق �أق�صى جهده يف قراءة‬
‫النّ�ص‪ ،‬والتعليق عليه‪ ،‬وجتلية م�صطلحه‪ ،‬مع �رشوح �أخرى مما يقت�ضيه التحقيق‪،‬‬
‫وهو مبّني فيما بعد بتف�صيل‪.‬‬
‫يبدو يل �أن هناك �أ�سباب ًا حدت بالفكر الإبا�ضي � إىل العدول عن‬
‫م�صطلح الت�صوف واتخاذ ال�سلوك م�صطلح ًا منها االعتزاز‬
‫بال�شخ�صية‪ ،‬والرغبة يف التميز فجميع الفرق � إال يف حاالت‬
‫نادرة تتخذ من هذا امل�صطلح �شعار ًا لها ف�آثر الفكر الإبا�ضي‬
‫م�صطلح ًا هو من داخل الت�صوف نف�سه غري �أن له خ�صو�صية‬
‫وا�ضحة فاتخذه م�صطلح ًا له‬

‫‪21‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(‪)6‬‬
‫على فوائد جمة‪ . .‬وهو خامتة جهابذة علماء عمان»‬ ‫وقد اقت�ضت طبيعة املو�ضوع �أن يك�رس املحقق هذه‬
‫وهو �أي�ض ًا «العالمة الرئي�س‪ . .‬واحلرب الرباين امل�شار �إليه‬ ‫املقدمة على املباحث الآ تية‪:‬‬
‫بالبنان‪ ،‬وكان الفرد الوحيد يف علم الأ �رسار»(‪ )7‬وكان‬ ‫‪ -1‬التعريف مب�ؤلف الكتاب‪ ،‬وثقافته‪ ،‬ومكانته العلمية‪.‬‬
‫«را�سخ القدم يف علمي احلقيقة وال�رشيعة»(‪ ،)8‬وال �شك �أن‬ ‫‪ -2‬حتليل مادة الكتاب‪.‬‬
‫الفتى وقد تفتحت عيونه على ذلك اجلو العلمي ال�صايف‬ ‫‪� -3‬إ�شكالية العزلة الثقافية‪.‬‬
‫قد �أخذ ما �شاء له الأ خذ‪ ،‬فوالده ميلأ ال�سمع والب�رص‪،‬‬ ‫‪ -4‬ن�سبة الكتاب �إىل م�ؤلفه‪.‬‬
‫م�شغول بالعلم والإ فتاء والت�أليف‪ ،‬وال ريب يف �أن هناك‬ ‫‪ -5‬و�صف املخطوطتني املعتمد عليهما يف التحقيق‪.‬‬
‫مكتبة ت�سند ذلك يرجع �إليها الوالد ومن بعده الولد فيفيدان‬ ‫‪ -6‬عمل املحقّق يف حتقيق الكتاب‪.‬‬
‫منها‪� .‬إن ذلك كله قد جعل الفتى يلتفت منذ وقت مبكر‬ ‫وي�أمل املحقق �أن تكون هذه املباحث وافية باملطلوب‪،‬‬
‫�إىل العلم‪ ،‬واملداومة على �أخذه والتزود منه‪ ،‬وحتدثنا‬ ‫كا�شفة عن جوانب من هذا الكتاب النفي�س الذي من‬
‫امل�صادر �أن ديدن �أخوة ال�شيخ نا�رص وم�سلكهم كان كذلك‪،‬‬ ‫املمكن عدّه بامتياز من �أعمدة ال�سلوك الإ با�ضي العماين‪،‬‬
‫وخ�صو�ص ًا �أخوه ال�شيخ نبهان‪ ،‬وبه يكنى الوالد فيقال له‬ ‫وخ�صو�ص ًا يف جانبه النظري‪.‬‬
‫(‪)9‬‬
‫�أبو نبهان‪.‬‬ ‫‪-2-‬‬
‫وال تقدم امل�صادر �شيئ ًا عن نوعية العلوم التي تلقاها‬
‫ال�شيخ نا�رص بن جاعد هو �صاحب كتاب �إي�ضاح نظم‬
‫ال�شيخ نا�رص غري �أننا ن�ستطيع ا�ستنتاج نوعيتها من خالل‬
‫ال�سلوك كما م ّر �سابقاً‪ ،‬و�سنحاول االقرتاب من هذه‬
‫البيئة التي تفي أ� ظاللها‪ ،‬والكتب(‪ )10‬التي تركها‪ ،‬ويقف‬ ‫ال�شخ�صية العلمية الكبرية‪.‬‬
‫يف مقدمة تلك العلوم القر� آن الكرمي وعلومه‪ ،‬واحلديث‬ ‫ولعل �أهم ما يواجهنا من �صعوبات يف هذا االقرتاب هو �أنَّ‬
‫ال�رشيف‪ ،‬والفقه‪ ،‬والأ �صول‪ ،‬وعلم الكالم‪ ،‬والفل�سفة مع‬ ‫امل�صادر ت�ضنّ علينا ب�صورة مف�صلة حلياة ال�شيخ نا�رص‬
‫زاد وفري من علوم العربية كالنحو وال�رصف والبالغة‬ ‫من مولده �إىل وفاته‪ ،‬فهي تقدم نتف ًا عن هذه احلياة مع‬
‫والأ دب والأ خبار‪ ،‬بالإ �ضافة �إىل علوم ملحقة بها وجدنا‬ ‫�شيء ي�سري عن تفا�صيلها‪ ،‬بالإ �ضافة �إىل عبارات املديح‬
‫ال�شيخ مهتم ًا بها كالنبات والفلك والتاريخ‪ )11(،‬ولعل‬ ‫والثناء‪ ،‬وهو �أمر لي�س بجديد يف كتب الرتاجم‪� ،‬إذ طاملا‬
‫الكتاب الذي بني �أيدينا خري �شاهد على ما نقول‪ ،‬فقد‬ ‫اكتفت بلمحة �رسيعة هي �أقرب �إىل ح�سوة الطائر ال تنقع‬
‫عالج ال�شيخ فيه م�سائل علمية �شتى ت�شري �إىل تلك العلوم‬ ‫غلة �أو تبني غام�ضاً‪ ،‬غري �أن جمع تلك النتف‪ ،‬وترتيبها‬
‫التي ح�صلها‪ ،‬وعاد ثانية فوظفها يف كتابه‪ ،‬كما �إننا جند‬ ‫ترتيب ًا زمني ًا مع اال�ستعانة ب�إ�شارات من هنا وهناك‬
‫بني كتبه الكثرية كتاب ًا �سماه (احلق اليقني) وفيه «تناول‬ ‫ي�ساعد على �إبراز ال�صورة ب�شيء قريب من الكمال فيه من‬
‫جوانب متعددة من ق�ضايا العقيدة»(‪ ،)12‬وكتاب ًا � آخر �سماه‬ ‫الفجوات ما ال يخفي على املدقق‪.‬‬
‫(لطائف املنن يف �أحكام ال�سنن) حاول �أن يرتب فيه كتاب ًا‬ ‫وحتدثنا امل�صادر �أنه «نا�رص بن جاعد بن خمي�س بن‬
‫يف احلديث ال�رشيف هو (اجلامع ال�صغري لل�سيوطي) ترتيب ًا‬ ‫مبارك بن يحيى بن عبد اهلل بن نا�رص بن حممد بن حيان‬
‫خمتلفاً‪� ،‬إذ «�صنَّفه �صاحبه على احلروف الهجائية بينما‬ ‫بن زيد بن من�صور بن ورد بن الإ مام اخلليل بن �شاذان‬
‫ال�شيخ نا�رص �أخذ يبوب الكتاب على الأ حاديث النبوية»(‪،)13‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫بن الإ مام ال�صلت بن مالك اخلرو�صي الأ زدي القحطاين»‬
‫ولل�شيخ نا�رص كتاب ثالث عنوانه (ال�رس اخلفي يف ذكر‬ ‫ومن الوا�ضح �أن ن�سبه يعود �إىل اثنني من الأ ئمة الذين‬
‫�أ�رسار النبات ال�سواحلي) وهو كتاب «طبي �شعبي ذكر فيه‬ ‫(‪)2‬‬
‫بويعوا بالإ مامة يف �أوقات خمتلفة‪.‬‬
‫العالج ب�أنواع النباتات املوجودة هناك يف �رشق �أفريقيا‪.‬‬ ‫ولد ال�شيخ نا�رص يف بلد العلياء (‪ )3‬وادي بني خرو�ص �سنة‬
‫‪ .‬وفيه مقدمة‪ . .‬ذكر فيها م�صطلحات اللغة ال�سواحلية‬ ‫‪ )4(1192‬للهجرة يف بيت علم‪ ،‬وفقه‪ ،‬وتدري�س‪ ،‬وم�شاركة‬
‫وما فيها من تفخيم امل�سمى وت�صغريه‪ . .‬و�أورد �أ�سماء‬ ‫يف احلياة العامة‪ ،‬فوالده ال�شيخ �أبو نبهان‪ ،‬جاعد بن خمي�س‬
‫الأ �شجار باللغة ال�سواحلية»(‪ ،)14‬وله كتب �أخرى ت�ؤكد ما‬ ‫من �أعالم العلماء يف عُ مان «كان املتقدم على �أهل زمانه‬
‫ذهبنا �إليه �سابقاً‪ ،‬كما جند وفرة من مروياته التاريخية‬ ‫بالعلم‪ ،‬والف�ضل‪ ،‬وال�رشف‪ ،‬واتخذه النا�س قدوة يف مرا�شد‬
‫عن �أحداث خمتلفة وقعت بعمان يحفظها �صاحب التحفة‬ ‫دينهم وم�صالح دنياهم‪ ،‬وقلده الأ فا�ضل �أمرهم ملا علموا‬
‫من�سوبة �إليه‪ ،‬وك�أنه مل يجد �سوى ذلك العامل الثبت املدقق‬ ‫من علمه وورعه»‪ )5( ،‬وهو «ال�شيخ العامل الرباين الرئي�س‪. .‬‬
‫ينقل عنه‪ ،‬ويثبت ما ينقله يف كتابه(‪� ،)15‬أما فتاواه و� آرا�ؤه‬ ‫وكفى به �شيخ ًا را�سخ ًا يف العلم وت�صانيفه الكثرية م�شتملة‬
‫‪22‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وقد ا�ستجاب ال�سيد �سعيد بن �سلطان �إىل هذا الطلب كما‬ ‫الفقهية فهي كثرية جداً(‪ ،)16‬وقد �أ�شار الفا�ضل الدكتور‬
‫�سرنى‪� .‬إن وجهة الن�ص ت�شري بقوة �إىل �أن ال�شيخ قد نال‬ ‫مبارك الرا�شدي �إىل �أن لل�شيخ نا�رص «�أجوبة كثرية مل يعنت‬
‫مكانة حمرتمة‪ ،‬ومنزلة �سامية بني امل�سلمني كافة‪ ،‬و�أتباع‬ ‫�أحد بجمعها و�إخراجها حتى الآ ن ومنها جمموعة �أجوبة‬
‫الديانات الأ خرى على حد �سواء‪ ،‬ومن هنا تنادوا جميع ًا‬ ‫�أر�سلها �إىل ال�شيخ �سعيد بن يو�سف امل�صعبي باملغرب»(‪،)17‬‬
‫لن�رصته ودرء بالء الزمان عنه‪ ،‬وال جتتمع تلك الفرق وهي‬ ‫�إن ذلك كله‪ ،‬وغريه كثري ي�شري بقوة �إىل �سعة املعارف التي‬
‫متفرقة يف مقاالتها‪ ،‬نقول ال جتتمع على �شخ�ص واحد ما‬ ‫ح�صلها ال�شيخ نا�رص‪ ،‬و�أفاد منها فيما بعد يف ت�أليف‬
‫مل يكن ذا فكر م�ستنري‪ ،‬وعقل راجح‪ ،‬ونف�س عالية �شعارها‬ ‫كتبه من جهة‪ ،‬ومعاجلة الأ حداث التي �شارك فيها من‬
‫االعتدال والنظر مبيزان الق�سط والعدل �إىل اجلميع‪ ،‬ومن‬ ‫حيث التوجيه‪ ،‬والن�صح من جهة �أخرى؛ ويعجب املرء من‬
‫هنا احتدت كلمتهم على ن�رصته وهذا مما يح�سب له بال‬ ‫قدرته على التوفيق بني �شغفه العلمي‪ ،‬وم�شاغله الدنيوية‬
‫�شك‪.‬‬ ‫التي ق�صد منها – ح�سب اجتهاده – �إقامة ال�رشع‪ ،‬ون�رش‬
‫(‪)22‬‬
‫وقد �صنع ال�سيد �سعيد بن �سلطان البو�سعيدي‬ ‫العدل‪ ،‬وال �شك �أن هذا يعني ان�رصاف ًا تام ًا للعلم مع اهتمام‬
‫ما ي�صنعه امللوك‪ ،‬والقادة عادة من تكرمي العلماء‬ ‫باحلياة‪ ،‬و�ش�ؤونها مما حقق ذلك التوازن بينهما‪ .‬والذي‬
‫«فكتب بالو�صول �إليه‪ ،‬فلما و�صل حباه وكرمه وعظمه‬ ‫دعا �إىل هذا الكالم ما ر�أيناه من اهتمام ال�شيخ نا�رص‬
‫وك�ساه‪ .‬ومهما م�شى خطوة يف ح�رض �أو �سفر �أخذه يف‬ ‫ووالده بالأ حداث ال�سيا�سية التي جرت بعمان فقد كانا‬
‫�صحبته و�أطعمه من طعامه وا�ست�شاره يف �أكرث �أموره‬ ‫م�شاركني فيها بفعالية وا�ضحة‪ ،‬وهذا ما حدا ب�صاحب‬
‫يف طول زمانه»(‪ ،)23‬ومل يكتف بهذا بل ا�ست�صحبه معه‬ ‫التحفة �إىل �أن يكرث من النقل عنهما وهو يدون تاريخ‬
‫�إىل زجنبار حني ق�صدها �سنة ‪1243‬هـ(‪ ،)24‬ف�إذا علمنا‬ ‫(‪)18‬‬
‫عُ مان‪.‬‬
‫�أن ال�شيخ نا�رص تويف �سنة ‪1264‬هـ فيكون قد ق�ضى‬ ‫وقد ظ ّل ال�شيخ نا�رص م�شتغ ًال بالعلم �إىل � آخر حياته‪ ،‬عرف‬
‫الع�رشين ال�سنة الأ خرية من حياته يف زجنبار‪ ،‬ومن‬ ‫له معا�رصوه‪ ،‬ومن �أتى بعدهم تلك املنزلة العلمية التي‬
‫الثابت �أنه تويف(‪ )25‬فيها «يف املكان امل�سمى املتوين‬ ‫و�صل �إليها كما �سرنى فيما بعد‪ ،‬ويبدو �أنه ظ ّل م�ستقراً يف‬
‫(‪)26‬‬
‫وقربه م�شهور هناك»‪.‬‬ ‫بلده العلياء التي ولد فيها حتى بد�أ يف االنتقال منها �إىل‬
‫وقد ترك ال�شيخ نا�رص �أثراً قوي ًا فيمن جاء بعده من‬ ‫�أماكن �أخرى‪ ،‬ونراه ي�صل �إىل نزوى‪ ،‬وفيها �ألّف كتابه مدار‬
‫العلماء والأ دباء غري �أن اثنني منهما ت�أثرا به ت�أثراً كبرياً‪،‬‬ ‫حديثنا‪ ،‬وهو �إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬ويظهر من فقه الأ حداث‬
‫نلحظ هذا يف ما تركاه من كتب‪ ،‬وما نظماه من ق�صائد‪،‬‬ ‫�أن معي�شته فيها كانت �أقرب �إىل ال�ضيق منها �إىل ال�سعة‪،‬‬
‫(‪)27‬‬
‫و�أولهما هو العالمة املحقق �سعيد بن خلفان اخلليلي‬ ‫وقد �صوَّر هو بنف�سه معي�شته تلك من خالل بيتني �أوردهما‬
‫املتويف �سنة ‪ 1287‬للهجرة‪ ،‬فقد كان ال�شيخ نا�رص «على‬ ‫�صاحب التحفة هما‪:‬‬
‫قمة امل�شايخ والعلماء الذين كانوا اليد املعاونة له ي�أخذ‬ ‫معي�شتنا خبز لغالب قوتنا‬
‫مب�شورتهم وي�ستفيد من � آرائهـم»(‪ )28‬وعنه «تلقى ال�شيخ‬ ‫(‪)19‬‬
‫وماء وليمون وملح وقا�شع‬ ‫ ‬
‫�سعيد علومه الأ وىل فقد كان يرتدد عليه مب�سقط»(‪ )29‬فدر�س‬ ‫ف�إن ح�صلت مع �صحة اجل�سم والتقى‬
‫عليه «العلم الإ �سالمي الوا�سع ك�أ�صول الدين‪ ،‬و�أ�صول الفقه‬ ‫(‪)20‬‬
‫فيا حبذا هذا مبا هو قانع‬ ‫ ‬
‫بتو�سع والفقه ب�أبوابه املختلفة»(‪ ،)30‬وقد حفظ املحقق‬ ‫وهما – بال �شك – يعبرّ ان تعبرياً دقيق ًا عن تلك احلال‬
‫اخلليلي رحمه اهلل تلك اليد لل�شيخ نا�رص فهو ما يفت أ�‬ ‫ال�ضيقة التي � آل �إليها غري �أن م�سحة الزهد والتعفف‬
‫يذكره حماط ًا بالإ جالل واالحرتام‪ ،‬ولعل قوله عنه يف‬ ‫وا�ضحة فيهما مما ي�ؤكد ما �سرناه فيما بعد من اكتفائه‬
‫مقدمة كتابه مقاليد الت�رصيف خري ت�أكيد على ما نذهب‬ ‫بالقليل عن ر�ضا وقناعة‪ ،‬غري �أن ما يلفت النظر حق ًا هو‬
‫�إليه فرناه يقول‪ « :‬فقد منَّ اهلل عليَّ ب�ألفية مغنية يف هذا‬ ‫ما �ساقه �صاحب التحفة نق ًال عن ذي الغرباء خمي�س بن‬
‫الفن ال�رشيف و�سميتها واحلمد هلل مبقاليد الت�رصيف وملا‬ ‫را�شد العربي وهو قوله‪« :‬وعمَّت هذه الأ خبار مع جميع‬
‫اطلع على نظامها العامل الرباين والبحر النوراين وحيد‬ ‫الفرق الإ �سالمية واليهودية والن�رصانية واملجو�سية‬
‫دهره بال ممانعة وفريد ع�رصه بال ممانعة �أبو حممد‬ ‫فت�أ�سفوا يف نفو�سهم مبا �أ�صاب عبد الرحمن‪ ،‬ثم اجتمعوا‬
‫نا�رص بن العالمة املولوي الويل �أبو نبهان جاعد بن خمي�س‬ ‫يف بندر م�سقط بح�رضة �سيدهم وموالهم �سعيد بن �سلطان‬
‫اخلرو�صي �أمرين �أن �أثبت عليها �رشح ًا لطيف ًا خمت�رصاً»(‪،)31‬‬ ‫وقالوا ال ير�ضى �أحد مبثل هذا من الأ مراء يف علمائهم»(‪،)21‬‬
‫‪23‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إليه يف كتابه (الفتح املبني)‪ ،‬وي�ضم �إليه ق�صائد �أخرى‬ ‫ويتبني من هذا الن�ص «�أن �إقدامه على ال�رشح كان بتوجيه‬
‫ويجعله كتاب ًا عنوانه (�سبائك اللجني امللقب بقرة العني)‪،‬‬ ‫من �شيخه العالمة الكبري نا�رص بن �أبي نبهان رحمهما‬
‫وما يزال هذا الكتاب خمطوط ًا(‪ )38‬يقول يف مقدمته‪:‬‬ ‫اهلل تعاىل»(‪ ،)32‬وقد ظهر �أثر العلوم التي تلقاها املحقق‬
‫«ملا كان على احلر �إذاعة احلمد لأ هل احلمد من املجرب‬ ‫اخلليلي عن ال�شيخ نا�رص يف كتبه‪ ،‬واجتاهه ال�سلوكي يف‬
‫الواجب الذي ال ين�سل �إىل ال�سالب‪ . .‬فيا �أيها ال�سائل عن‬ ‫�شعره ونرثه على حد �سواء‪.‬‬
‫�إي�ضاح ا�سم هذا امل�سمى‪ . .‬ذلك هو ال�شيخ املفخم املعظم‪. .‬‬ ‫�أما الثاين فهو امل�ؤرخ وال�شاعر حميد بن حمد بن‬
‫نا�رص بن ال�سيد �أبي نبهان العالم»(‪ )39‬ثم ينتقل �إىل ال�شعر‬ ‫رزيق(‪ )33‬املتويف �سنة ‪1290‬هـ الذي �أف�سح جما ًال رحب ًا‬
‫فيحفظ يف هذا الكتاب خم�سني ق�صيدة يف مدحه ترتاوح‬ ‫لل�شيخ نا�رص ووالده ال�شيخ جاعد يف كتابيه الفتح‬
‫بني ع�رشة �أبيات‪ ،‬و�أربعني بيت ًا يحاول فيها جاهداً �إبراز‬ ‫املبني‪ ،‬وال�شعاع ال�شائع باللمعان‪ ،‬ويبدو �أن عالقته‬
‫جوانب ال�شيخ العلمية وال�سلوكية التي متيّز بها‪ ،‬وتظهر‬ ‫بهما كانت وثيقة �إذ ي�سوق ذكرهما يف كتابيه مقرون ًا‬
‫يف هذا العمل و�سواه مظاهر من الوفاء يقل نظريه‪ ،‬وك�أنَّ‬ ‫بالتجلة والرفعة‪ ،‬كما يحفظ يف الفتح املبني بع�ض ًا‬
‫ابن رزيق يقتفي �أثر قوله تعاىل‪( :‬وهل جزاء الإ ح�سان �إال‬ ‫من مرا�سالت ال�شيخ نا�رص‪ ،‬وكان ال�شيخ نا�رص يثني‬
‫الإ ح�سان)‪ ،‬فهو يرد لل�شيخ بهذه الأ �شعار ومو�صول الذكر‬ ‫عليه(‪ ،)34‬ويحفظ يف الفتح املبني مطالع �ست ق�صائد‬
‫�أياديه العلمية البي�ضاء التي �أ�سبغها عليه تلك التي انتفع‬ ‫رثى بها ال�شيخ نا�رص بعد وفاته منها قوله‪:‬‬
‫بها �شاعراً‪ ،‬وم�ؤلفاً‪.‬‬ ‫خال جمل�س الفقه الأ ني�س من الأ ن�س‬
‫‪-3-‬‬ ‫فمن ذا �إىل التدري�س يف ذروة الدر�س‬ ‫ ‬
‫وقد �أخّ رنا لأ �سباب منهجية واحداً من العلوم التي ظهرت‬ ‫ومنها‪:‬‬
‫جليّة يف م�صنفات ال�شيخ نا�رص‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف هذا‬ ‫ذهب ال�ضياء فيومنا �إظالم‬
‫الكتاب‪ ،‬وذلك لأ هميته‪ ،‬وتوجيهه �شخ�صيته وجهة معينة‪،‬‬
‫(‪)35‬‬
‫ما هكذا يا يومنا الأ يام‬ ‫ ‬
‫ونريد به الت�صوف �أو علم ال�سلوك‪ ،‬ومن الثابت �أنّه تلقّاه‬ ‫وغريها‪ ،‬كما ينظم ق�صيدة طويلة ي�ضمنها عنوانات كتب‬
‫عن �أبيه ذوق ًا وريا�ضة‪ ،‬ومنّاه هو بجهده ال�شخ�صي قراءة‬ ‫ال�شيخ نا�رص‪ ،‬ويقول يف هذا ما ن�صه‪« :‬وقد نظمت يف‬
‫وفهم ًا واقتناعاً‪ .‬وقد ذاع يف امل�صادر مبا ال يدع جما ًال‬ ‫ا�سم هذه الكتب ق�صيدة‪ . .‬لأ جل م�صاحبتي لل�شيخ نا�رص‬
‫لل�شك �أن ال�شيخ نا�رص ووالده قد اتخذا من ال�سلوك طريقة‬ ‫املذكور �أيام حياته‪ ،‬ومطلع هذه الق�صيدة �شعراً‪:‬‬
‫لهما يف احلياة وك�أنهما كانا يعمّقان ذلك امل�رشب الذي‬ ‫قيل يل‪� :‬سم �أنت ما �صنف ال�شيـ‬
‫وجد يف الثقافة العمانية من حيث ا�صطناعه لهما �شعاراً‬ ‫ـخ من الكتب نا�رص ذو الفعال‬ ‫ ‬
‫وطريقة‪ .‬ولع ّل هناك من العوامل التي دعت �إىل اتخاذ‬ ‫الفقيه النبيه جنل �أبي نبـ‬
‫تلك الطريقة منها ذلك الن�سب الذي وقفنا عنده فيما‬ ‫مي الندى ف�صيح املقال‬ ‫ـهـان ُّ‬ ‫ ‬
‫�سبق من حيث االت�صال املبا�رش ب�إمامني من الأ ئمة مما‬ ‫ف�أثبت يف ق�صيدتي هذه ت�سمية هذه الكتب على‬
‫ولّد �إح�سا�س ًا ثقي ًال بحجم امل�س�ؤولية الدينية امللقاة على‬ ‫(‪)36‬‬
‫التف�صيل»‪.‬‬
‫عاتقهما‪ ،‬و�رضورة حمل تلك الأ مانة ب�إخال�ص وت�أديتها‬ ‫وال �شك يف �أهمية هذه الق�صيدة فقد حفظ بها ابن‬
‫كما هي بال زيادة �أو نق�صان‪ .‬ومن هذه العوامل الثقافة‬ ‫رزيق عنوانات كتب ال�شيخ نا�رص‪ ،‬و�ستكون هي الدليل‬
‫الدينية اخلا�صة التي تلقّاها الوالد واالبن واختيارهما‬ ‫املوثق ملن يريد البحث عن هذه الكتب ودرا�ستها‬
‫جانب الزهد واالن�رصاف عن الدنيا من هذه الثقافة مما‬ ‫ف�ستقدم له مادة ثمينة عن عددها‪ ،‬وحجم العمل الذي‬
‫حملهما على تطبيق ما �أخذاه بدقة‪ ،‬ومنها �أي�ض ًا االقتناع‬ ‫قدمه ال�شيخ نا�رص‪ ،‬وا�ضطلع به‪.‬‬
‫الكامل بتلك الوجهة يف احلياة التي ت�ؤثر اخللوة والعزوف‬ ‫ونرى ابن رزيق يقطع ال�شوط �إىل نهايته يف عالقته‬
‫عن امللذات وهو مما يتالءم مع تركيب �شخ�صيتهما‬ ‫بال�شيخ نا�رص حني ي�ؤلف كتاب ًا خا�ص ًا عنه يجمع فيه‬
‫ومنحاهما يف احلياة‪ ،‬وقد بينّ لنا الفا�ضل �أحمد بن �سعود‬ ‫ق�صائده التي قالها يف مدحه‪ ،‬فنحن نقر�أ له يف الفتح‬
‫ال�سيابي معامل ذلك االجتاه الذي تبناه الوالد وولده وهو‬ ‫املبني متحدث ًا عن نف�سه‪« :‬وقد مدحت ال�شيخ العامل‬
‫يقوم على «عمق الت�أمل يف الوجود والتعمق يف علم الكالم‬ ‫الف�صيح �أبا حممد نا�رص بن ال�شيخ العالمة �أبي نبهان‬
‫والفل�سفة واملنطق واخللوة وكرثة الأ وراد»(‪ ،)40‬ونالحظ �أنه‬ ‫�أيام حياته بجملة ق�صائد»(‪ ،)37‬غري �أنه هنا يجمع ما �أ�شار‬
‫‪24‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أم روحية بني ال�سلوك والطريق‪ ،‬ف�إذا علمنا بعد ذلك �أن‬ ‫يجعل من هذا التوجه مدر�سة ي�سميها «املدر�سة اجلاعدية‬
‫الت�صوف(‪ )50‬هو «العكوف على العبادة واالنقطاع �إىل اهلل‬ ‫�أو البونبهانية‪ ،‬وهذه املدر�سة �صاحب فكرها العالمة‬
‫تعاىل والإ عرا�ض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد يف ما‬ ‫الرئي�س �أبو نبهان جاعد بن خمي�س اخلرو�صي‪ . .‬وبعد وفاة‬
‫يقبل عليه اجلمهور من لذة ومال وجاه واالنفراد عن اخللق‬ ‫(‪)41‬‬
‫�أبي نبهان حمل ابنه ال�شيخ نا�رص‪ . .‬فكر تلك املدر�سة»‬
‫يف اخللوة والعبادة»(‪ ،)51‬نقول �إذا علمنا هذا �أدركنا الت�شابه‬ ‫وهذا هو الذي ر�أيناه متحقق ًا يف �سرية ال�شيخ نا�رص وكتبه‬
‫بني مدلول امل�صطلحني �إىل حد كبري من حيث �إن ال�سلوك‬ ‫على حد �سواء‪.‬‬
‫هو التطبيق العملي جلملة الأ فكار التي � آمن بها ال�سالك‬ ‫ومن ال�رضوري �أن نقف عند نقطة �أكد عليها الفا�ضل‬
‫مل يهتم ال�صوفية‬ ‫وراح يطبقها على نف�سه‪ ،‬ويبدو يل �أن هناك �أ�سباب ًا حدت‬ ‫ال�سيابي وهي قوله‪ ..« :‬حتى �إن الإ با�ضية مل يطلقوا‬
‫بالفكر الإ با�ضي �إىل العدول عن م�صطلح الت�صوف واتخاذ‬ ‫على ذلك التوجه ا�سم الت�صوف بل �أطلقوا عليه‬
‫قبل القرن‬ ‫ال�سلوك م�صطلح ًا منها االعتزاز بال�شخ�صية‪ ،‬والرغبة يف‬ ‫ا�سم ال�سلوك فال�شعر الذي تكون فيه نزعة �صوفية‬
‫ال�سابع الهجري‬ ‫التميز فجميع الفرق �إال يف حاالت نادرة(‪ )52‬تتخذ من هذا‬ ‫ي�سمونه �شعر ال�سلوك»(‪ ،)42‬ونحن نعلم �أن ال�سلوك‬
‫بتدوين م�صنفات‬ ‫امل�صطلح �شعاراً لها ف�آثر الفكر الإ با�ضي م�صطلح ًا هو‬ ‫م�صطلح ين�ضوي حتت م�صطلحات ال�صوفية التي‬
‫يف ال�سلوك بل‬ ‫من داخل الت�صوف نف�سه غري �أن له خ�صو�صية وا�ضحة‬ ‫يكرثون ذكرها‪ ،‬ويرتبط به م�صطلح �آخر هو (الطريق)‪،‬‬
‫دونوا يف الفكر‬ ‫فاتخذه م�صطلح ًا له‪ ،‬و�سبب ثان ا�ست�ض�أنا فيه مبالحظة‬ ‫ويتحدثون عنه بتف�صيل غري �أن ما يهمنا منه هو‬
‫ال�صويف وعا�شوا‬ ‫�أوردتها الدكتورة �سعاد احلكيم وهي قولها «ومل يهتم‬ ‫معرفة مدلوله ال�صويف الذي �سرنى �أنه يقرتب كثرياً‬
‫ال�صوفية قبل القرن ال�سابع الهجري بتدوين م�صنفات يف‬ ‫من املدلول الذي اختاره االجتاه اجلاعدي �شعاراً له‪،‬‬
‫وفقاً لل�سلوك‬ ‫ال�سلوك بل دونوا يف الفكر ال�صويف وعا�شوا وفق ًا لل�سلوك‬ ‫فال�سلوك هو «تهذيب الأ خالق لي�ستعد العبد للو�صول‬
‫ال�صويف ومل‬ ‫ال�صويف ومل تتعدد امل�ؤلفات يف الت�صوف العملي وال�سلوك‬ ‫بتطهري نف�سه عن الأ خالق الذميمة مثل حب الدنيا‬
‫تتعدد امل ؤ�لفات يف‬ ‫�إال بعد القرن ال�ساد�س – ال�سابع الهجري حيث دخل‬ ‫واجلاه ومثل احلقد واحل�سد والكرب والبخل‪ . .‬وبالنهج‬
‫الت�صوف العملي‬ ‫الت�صوف مرحلة الرتبية ال�صوفية ومناهج الت�سليك»(‪،)53‬‬ ‫على الأ خالق احلميدة مثل العلم واحللم واحلياء‬
‫وال�سلوك �إال بعد‬ ‫فك�أنَّ الفكر الإ با�ضي �أراد يف وقت مت�أخر �أن ي�شارك يف‬ ‫والعدالة»(‪ ،)43‬وهو �أي�ض ًا «انتقال من منزل عبادة‬
‫القرن ال�ساد�س‬
‫(‪)54‬‬
‫هذا املو�ضوع فوجد �أمامه نق�ص ًا يف جانب ووفرة يف‬ ‫�إىل منزل عبادة باملعنى وانتقال بال�صورة من عمل‬
‫جانب � آخر ف�آثر الأ ول لكي يزيده ثراء وخ�صوبة‪ .‬وهناك‬ ‫م�رشوع على طريق القربة من اهلل �إىل عمل م�رشوع‬
‫– ال�سابع الهجري‬ ‫�سبب ثالث �أكاد �أذهب �إىل �أنه �أهم الأ �سباب و�أقواها ويتمثل‬ ‫بطريق القربة �إىل اهلل بفعل وترك‪ ،‬وانتقال بالعلم‬
‫حيث دخل‬ ‫يف كون ال�سلوك ومدلوله العميق ي�شري �إىل النقاء الذي ظل‬ ‫من مقام �إىل مقام(‪ )44‬ومن جتلٍ �إىل جتلٍ واملنتقل هو‬
‫الت�صوف مرحلة‬ ‫حمتفظ ًا به من حيث التحامه الوثيق بال�رشيعة و�أحكامها‬ ‫ال�سالك»(‪ )45‬فال�سالك �إذا هو «العبد الذي تاب عن هوى‬
‫الرتبية ال�صوفية‬ ‫ورغبة الإ ن�سان يف اتخاذ طريق معني لعبادة ربه يتمثل‬ ‫نف�سه و�شهواتها وا�ستقام يف طرق احلق باملجاهدة‬
‫ومناهج الت�سليك‬ ‫يف اخللوة‪ ،‬وتالوة القر� آن والأ وراد فح�سب‪ ،‬يف حني اختلط‬ ‫والطاعة والإ خال�ص»(‪ ،)46‬فال�سلوك والت�سليك وفق ما‬
‫الت�صوف ومدلوله مب�ؤثرات �أجنبية �أبعدته عن منبعه‬ ‫تقدم هو «تربية الإ ن�سان الروحية الذهنية كما تظهر‬
‫ال�صايف‪ ،‬وهو الزهد‪ ،‬و�أدخلته يف م�سارب فكرية مت�شعبة‬ ‫على م�ستوى ال�سلوك النف�سي‪ . .‬وهو تدري�س على‬
‫�أو�صلت بع�ض الفقهاء �إىل اتهام بع�ض ال�صوفية بالكفر‪،‬‬ ‫امل�ستوى العملي يتمتع بكل ما للتدري�س من مناهج‬
‫وهو ما ن�أي الفكر الإ با�ضي بنف�سه عنه‪ ،‬واكتفي بال�سلوك‬ ‫وف�صل املت�صوفة احلديث عن �أنواع‬ ‫وثوابت»(‪َّ ،)47‬‬
‫(‪)55‬‬
‫منهج ًا وطريقة وتفاع ًال مع احلياة و�أحداثها‪.‬‬ ‫ال�سلوك وال�سالكني‪ ،‬و�شققوا املو�ضوع ت�شقيق ًا خ�صب ًا‬
‫ولعلنا – بعد ما تقدم – ن�ستطيع القول �إن ال�شيخ‬ ‫مفيداً مماال جمال لإ يراده هنا(‪ ،)48‬ويقرتب من م�صطلح‬
‫نا�رص قد �سار على نهج والده طلب ًا و�سلوكاً‪ ،‬وعرف له‬ ‫ال�سلوك م�صطلح �آخر هو الطريق الذي «يخت�رص جملة‬
‫الآخرون تلك املنزلة التي و�صل �إليها ف�أ�صبح ي�شار‬ ‫الطريق �إىل اهلل لذلك كان من ال�شمول بحيث تندرج‬
‫له على �أنه من علماء عمان الكبار‪ ،‬غري �أن ال�سلوك‬ ‫حتته التجربة ال�صوفية بكاملها ابتداء من تنبه القلب‬
‫الذي اتخذه منهج ًا وطريقة ظل هو ال�سمة املميزة‬ ‫من غفلته مروراً مبجاهدة النف�س وريا�ضتها و�صو ًال‬
‫ملكانته العلمية‪� ،‬إذ جند تلميذه العالمة املحقق‬ ‫(‪)49‬‬
‫�إىل الن�شاط الروحي وتفتح فعالياته»‪.‬‬
‫�سعيد بن خلفان اخلليلي ي�صفه فيقول‪« :‬وملا اطلع‬ ‫وال يخفي على املدقق العالقة الوثقى �سواء �أكانت لغوية‬
‫‪25‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تق�سيم عناية ال�رشاح بالديوان ق�سمني كبريين‪ :‬يتمثل‬ ‫على نظمها(‪ )56‬العامل الرباين(‪ )57‬والبحر النوراين‪� . .‬أبو‬
‫الأ ول يف �رشح الديوان كله‪ ،‬ويبدو الثاين يف �رشح ق�صيدة‬ ‫حممد نا�رص ابن العالمة املولوي الولـي �أبو نبهان‬
‫واحدة‪� ،‬أما الأ ول وهو �رشح الديوان كله فقد و�صلتنا‬ ‫جاعـد بن خمي�س اخلليلـي اخلـرو�صي»(‪ ،)58‬فرنى‬
‫�رشوح خمتلفة له لعل �أ�شهرها �رشح ح�سن البوريني‪،‬‬ ‫العالمة اخلليلي ي�صفـه بالعالـم الرباين والبحـر‬
‫وعبد الغني النابل�سي‪ ،‬وقد جمع ر�شيد بن غالب الدحداح‬ ‫النورانـي‪ ،‬وي�صف والده باملولوي(‪ ،)59‬والويل(‪،)60‬‬
‫اللبناين هذين ال�رشحني يف كتاب واحد �سماه (�رشح‬ ‫وهي من م�صطلحات ال�صوفية وال�سلوك‪ ،‬ويلح ابن‬
‫ديوان ابن الفار�ض) �ضم فيه �رشح البوريني برمته مع‬ ‫رزيق هو الآخر على مثل هذه الأ و�صاف يطلقها على‬
‫نبذ من �رشح النابل�سي عند كل بيت‪ ،‬وو�ضع �إ�شارات تعني‬
‫ال�شيخ نا�رص فهو املولوي(‪ ،)61‬والقطب(‪ ،)62‬والويل(‪،)63‬‬
‫على التفرقة بني ال�رشحني‪ ،‬ومن �رشوح الديوان �أي�ض ًا‬
‫�رشح �أحمد �أحمد املخزجني وعنوانه (املدد الفائ�ض عن‬
‫وال�صويف(‪ ،)64‬وجتد هذه امل�صطلحات مكان ًا رحب ًا يف‬
‫�رشح ديوان ابن الفار�ض)‪ ،‬و�رشح �أمني اخلوري امل�سمى‬ ‫كتب ال�صوفية يديرون عليها معانيهم ومراتب ال�سلوك‬ ‫�إن ال�شيخ نا�صر قد‬
‫(جالء الغام�ض يف �رشح ديوان ابن الفار�ض)‪ ،‬ومن ال�رشوح‬ ‫عندهم‪ ،‬نلمح من جهة �أخرى عند التدقيق يف عنوانات‬
‫كتب ال�شيخ نا�رص اجتاه ًا �صوفي ًا وا�ضح ًا فنحن نقر�أ‬
‫�سار على نهج والده‬
‫احلديثة �رشح كرم الب�ستاين‪ ،‬ود‪ .‬عبد اخلالق حممود‪ ،‬ود‪.‬‬
‫�إبراهيم ال�سامرائي‪.‬‬ ‫مثـالً‪ :‬كتاب الإ خـال�ص(‪ ،)65‬كتاب مبد�أ الأ �سفار‪ ،‬كتاب‬ ‫طلباً و�سلوكاً‪ ،‬وعرف‬
‫�أما الق�سم الثاين فهو �رشح ق�صيدة واحدة من الديوان‪ ،‬وقد نالت‬ ‫الك�شف‪ ،‬كتاب املعـارج‪ ،‬كتاب منتهي الكرامـات‪،‬‬ ‫له آالخرون تلك‬
‫الق�صيدة امليمية التي مطلعها‪:‬‬ ‫كتاب ال�رس العلـي‪ ،‬كتاب �سالمة احلال(‪ ،)66‬ومعلوم �أن‬ ‫املنزلة التي و�صل‬
‫�رشبنا على ذكر احلبيب مدامة‬ ‫تلك العنوانات ذات مدلوالت �سلوكية فمن ال�رضوري‬ ‫�إليها ف أ��صبح ي�شار له‬
‫�سكرنا بها من قبل �أن يخلق الكرم‬ ‫ ‬ ‫�أن ت�ضم مادتها مباحث مقاربة للعنوان �إن مل تكن‬
‫والتائية الكربى(‪ )70‬التي مطلعها‪:‬‬
‫على أ�نه من علماء‬
‫مطابقة له‪ ،‬فال�سفر‪ ،‬واملعراج‪ ،‬والكرامة‪ ،‬وال�رسّ‪،‬‬
‫�سقتني حميا احلب راحة مقلتي‬ ‫والك�شف من م�صطلحات القوم‪ ،‬وال�شيخ نا�رص يعلم‬ ‫عمان الكبار‪ ،‬غري أ�ن‬
‫وك�أ�سي حميا من عن احل�سن جلَّتِ‬ ‫ ‬ ‫هذا حق العلم‪ ،‬ومل يكن ليويل هذا اجلانب اهتمامه‬ ‫ال�سلوك الذي اتخذه‬
‫نقول‪ :‬نالت تينك الق�صيدتان اهتمام ال�رشاح فقامت‬
‫(‪)71‬‬
‫(‪)67‬‬
‫من الت�أليف لوال ر�سوخ قدمه فيه علم ًا وذوقاً‪.‬‬ ‫منهجاً وطريقة ظل‬
‫حولهما �رشوح كثرية فنواجه للق�صيدة الأ وىل �رشح داود‬
‫بن حممود القي�رصي‪ ،‬و�رشح حممد بن حممد الغمري وا�سمه‬ ‫‪-4-‬‬ ‫هو ال�سمة املميزة‬
‫الزجاجة البلوريـة يف �رشح الق�صيدة اخلمرية‪ ،‬و�رشح املوىل‬ ‫ملكانته العلمية مل يكن غريب ًا بعد ما تقدم �أن يت�صدى ال�شيخ نا�رص ل�رشح �شعر‬
‫علم�شاه عبد الرحمن وغريها(‪ .)72‬وحظيت التائية الكربى‬ ‫ابن الفار�ض‪ ،‬ويختار ق�صيدتني له هما من العيون يف �شعره‪،‬‬
‫بن�صيب �أكرب من عناية ال�رشاح �إذ زادت �رشوحها على الع�رشة‬ ‫ونحن نعلم‪ ،‬وال�شيخ نا�رص رحمه اهلل يعلم قبلنا(‪� ،)68‬أن البن‬
‫منها �رشح داود القي�رصي‪ ،‬و�رشح عمر بن �أحمد الغزنوي‪،‬‬ ‫الفار�ض «مكانته الظاهرة الالمعة بني املت�صوفة‪ . .‬كما يعد‬
‫و�رشح �سعيد الدين الكا�ساين الفرغاين‪ ،‬و�رشح عبد الرزاق‬ ‫ر�أ�س ًا ل�شعراء ال�صوفية من العرب»(‪ ،)69‬وهكذا فقد ا�ستكمل ال�شيخ‬
‫القا�شاين وغريها(‪ ،)73‬ومل يكن ال�شيخ نا�رص بعيداً عن ذلك كله‬ ‫�أدواته ب�أنواعها جميعاً‪ :‬القراءة والفهم من جهة‪ ،‬وال�سلوك‬
‫�إذ ي�رصح يف مقدمة هذا الكتاب �أي �إي�ضاح نظم ال�سلوك مبا‬ ‫والذوق من جهة �أخرى فليقم بهذا العمل كما قام به � آخرون‬
‫ي�أتي‪ . .« :‬و�أقوى و�أج ّل و�أ�رشف نظم عرفناه يف هذا العلم نظم‬ ‫قبله‪ .‬غري �أننا نود هنا تقدمي ملحة موجزة عن اعتناء ال�رشاح‬
‫ال�شيخ العارف �أبي حف�ص عمر بن ال�شيخ �أبي احل�سن علي بن‬ ‫بديوان ابن الفار�ض يكون عون ًا على ك�شف عمل ال�شيخ نا�رص‪،‬‬
‫املر�شد بن علي احلموي ن�سب ًا وامل�رصي مولداً‪ . .‬وهو املعروف‬ ‫وت�ضعه يف حمله ال�سليم بني �أعمال �أولئك ال�رشاح‪.‬‬
‫بابن الفار�ض‪ ،‬و�أعظم ما نظمه يف العلم منظومته التائية‬ ‫ونقرر بداية �أنه مل يظفر ديوان من دواوين ال�شعراء العرب‬
‫وهي التي �سماها نظم ال�سلوك»(‪ .)74‬فهو يعلم جيداً مكانة ابن‬ ‫بعناية ال�رشاح كما ظفر ديوان ابن الفار�ض‪ ،‬ف�إذا ا�ستثنينا‬
‫الفار�ض ال�شعرية‪ ،‬ومنزلته بني �شعراء الت�صوف‪ ،‬ومل يقت�صـر‬ ‫دواوين بع�ض ال�شعراء الكبار مثل املتنبي واملعري الذي‬
‫االهتمام بابن الفار�ض على ال�شيخ نا�رص وحده بني العلماء‬ ‫نال ديوانه الأ ول (�سقط الزند) عناية ال�رشاح بينما مل‬
‫وال�شعراء العمانيني(‪ ،)75‬بل لعله تلقى ذلك االهتمام من والده‬ ‫يَحْ ظَ ديوانه الثاين (اللزوميات) بعناية تذكر‪ ،‬ويدخل يف‬
‫ال�شيخ جاعد الذي نراه «مت�أثراً �إىل حد كبري مبنهج ابن الفار�ض‬ ‫هذا االجتاه ديوان احلما�سة لأ بي متام‪ ،‬نقول �إذا ا�ستثنينا‬
‫يف تائيته نظم ال�سلوك»(‪ ،)76‬وخ�صو�ص ًا يف ق�صيدته ال�شهرية‬ ‫تلك الدواوين وهي قليلة جداً بالقيا�س �إىل اجلمهرة‬
‫(حياة املهج) التي �رشحها هو بنف�سه «ل�شدة غمو�ض وعمق‬ ‫الكبرية من الدواوين التي و�صلتنا ف�إن �شعر ابن الفار�ض‬
‫�أفكارها»(‪ ،)77‬ونرى العالمة �سعيد بن خلفان اخلليلي ي�رشح هو‬ ‫يقف يف املقدمة من حيث االهتمام وال�رشح‪ .‬ومن املمكن‬
‫‪26‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف قلبي ر�سوم و� آثار ت�سد باب الفتوح وتت�شبث ب�أذيال الروح‬ ‫(‪)78‬‬
‫الآ خر �أبيات ًا من ق�صيدة ابن الفار�ض امليمية التي مر ذكرها‬
‫ف�أتلو حينئذ تلو الغري و�أحذو حذوه يف ال�سري»(‪ ،)86‬وبعد �أن يقدم‬ ‫كما �إن ت�أثر ال�شيخ �سعيد يف �شعره «ب�سلطان العا�شقني يف الأ دب‬
‫بني يدي ال�رشح بع�رشة ف�صول تت�ضمّن مباحث خمتلفة يقول‪:‬‬ ‫العربي ابن الفار�ض ال�سيما يف نونيته الكربى»(‪ )79‬وا�ضح بينّ‬
‫«‪ . .‬و�إذ بلغ الكالم هذا املبلغ لزم تق�صري �أذياله فلرنجع �إىل‬ ‫«مع مالحظة �أنه قد �أ�سهب يف ذكر �أخبار الأ نبياء واملر�سلني‬
‫املق�صود من ال�رشح املوعود للق�صيدة التي مطلعها قوله‪،)87(»..‬‬ ‫�أكرث من ابن الفار�ض»(‪� ،)80‬أما ال�شاعر الكبري �أبو م�سلم البهالين‬
‫ثم ي�سوق البيت الأ ول ويبد�أ ب�رشحه‪ .‬ونحن مع �إعجابنا بذلك‬ ‫فله التائية املعروفة املثبتة يف ديوانه التي بلغت عدتها نحو‬
‫ال�رشح الفريد الذي وظف فيه �صاحبه لغة خا�صة ذات �إيحاءات‬ ‫�ألف و�ستمائة بيت‪ ،‬وال �شك �أنه ينظر فيها �إىل تائية ابن الفار�ض‬
‫وظالل‪ ،‬مع خ�صوبة جلية يف الت�أويل‪ ،‬وا�صطناعه منهج ًا‬ ‫الكربى‪ ،‬غري �أنه جعلها مقاطع تكفل كل مقطع بواحد من �أ�سماء‬
‫خا�ص ًا به مل يت�أثر فيه ب�سابق عليه كما �أ�شار هو بنف�سه‪ ،‬نقول‬ ‫اهلل احل�سنى و«دعاه �سبحانـه يف هذه الق�صيدة بجميع �أ�سمائه‬
‫بالرغم من ذلك كله ف�إنه ي�سلك مع بقية ال�رشوح‪ ،‬ويقوي ما‬ ‫احل�سنى وتو�سل �إليه فيها»(‪ ،)81‬ومطلعها‪:‬‬
‫ذهبنا �إليه يف بداية احلديث‪ ،‬وهو �إن الكتاب كله قام على‬ ‫هو اهلل با�سم اهلل ت�سبيح فطرتي‬
‫�رشح التائية الكربى وحدها‪ ،‬وقد �صنع هذا ال�صنيع كل من‬
‫(‪)82‬‬
‫هو اهلل �إخال�صي ويف اهلل نزعتي‬ ‫ ‬
‫تقدم الكا�شاين وت�أخر عنه‪ ،‬وك�أنهم وجدوا �ضالتهم يف تلك‬ ‫ومن ال�رضوري �أن ن�شري هنا �إىل �أن �أولئك ال�شعراء والعلماء‬
‫الق�صيدة من حيث ك�شفها مقا�صد ابن الفار�ض‪ ،‬وت�صوير‬ ‫العمانيني حني ت�أثروا بابن الفار�ض وغريه من �شعراء‬
‫حاالته‪ ،‬وا�ستبطان مقاماته التي تنقل فيها واحداً بعد واحد‪،‬‬ ‫املت�صوفة وم�ؤلفيهم �إمنا اختاروا ما يالئم عقيدتهم‬
‫ولي�س يف هذا كبري غ�ضا�ضة غري �أن ال�شيخ نا�رص يختط لنف�سه‬ ‫ومذهبهم‪ ،‬وقد �أملحنا �إىل هذا فيما �سبق‪ ،‬ولهذا اختاروا‬
‫نهج ًا خمتلف ًا وهنا تكمن الأ همية‪ ،‬وتتمثل معامل هذا االختالف‬ ‫م�صطلح ال�سلوك‪ ،‬ون�أوا به عن احللول‪ ،‬ووحدة الوجود‬
‫يف �أن ال�شيخ قد جمع يف كتابه ق�صيدتني البن الفار�ض ال‬ ‫وما �إليهما ذلك الذي قال به بع�ض املت�صوفة‪ ،‬كما �أن ابن‬
‫واحدة‪ ،‬هما التائيتان ال�صغرى والكربى وعليهما �أقام كتابه‪،‬‬ ‫الفار�ض نف�سه ين�ضوي حتت ذلك التيار «املتم�شي مع‬
‫وال نقول �رشحه لأ نه هو بنف�سه اختار لفظة الكتاب كما �سرنى‬
‫(‪)83‬‬
‫�أ�صول الدين‪ ،‬املحافظ على تعاليم الكتاب وال�سنة»‬
‫العتبارات كثرية‪ ،‬ولن�سلك الطريق من �أوله‪.‬‬ ‫ومن هنا جاء ذلك االهتمام به من لدن ال�شعراء والعلماء‬
‫يبني ال�شيخ نا�رص عالقته ب�شعر ابن الفار�ض قبل ال�رشوع‬ ‫العمانيني للتوافق بينهما‪ :‬منطلق ًا ونتيجة‪.‬‬
‫يف ت�أليف هذا الكتاب فيقول‪« :‬واعلم �أين ملا نظرت �إىل‬ ‫‪-5-‬‬
‫منظومة هذا ال�شيخ واعتربت معانيها فكلما الح يل معنى‬ ‫بينَّ امل�رسد ال�رسيع الذي قدمناه �سابق ًا عن اهتمام ال�رشاح‬
‫من معاين �شيء من بيوتها ر�سمت حتته ب�أ�شد �إيجاز‬ ‫ب�شعر ابن الفار�ض �أنهم حني ت�صدوا لل�رشح يف الق�سم الثاين‬
‫تذكرة لنف�سي لئال يغيب عليَّ حني �أهمل �أمرها‪ ،‬ومل يكن‬ ‫كانوا يكتفون ب�رشح ق�صيدة واحدة من �شعره‪ ،‬وعليها تقوم‬
‫الق�صد ليكون كتاب ًا باقي ًا بعدي‪ ،‬ومل �أر�سم غري تقدمي لفظ‬ ‫كتبهم‪ ،‬ف�إذا انتقلنا �إىل التخ�صي�ص قلنا �إنهم حني ت�صدوا‬
‫البيت مبعناه وهو الذي ق�صدت بيانه لنف�سي ال �رشح‬ ‫ل�رشح التائية الكربى �أفردوا الكتاب بر�أ�سه لها مل يخلطوه‬
‫املعاين‪ ،‬ف�إنه لو �رشح كل بيت ما يحتمله من املعاين‬ ‫بق�صيدة �أخرى‪ ،‬ويف الوقت عينه مل تظفر التائية ال�صغرى‬
‫لأ ف�ضى �إىل جملدات كثرية(‪ )88‬وللحق قارئه امللل»(‪،)89‬‬ ‫ب�رشح منف�صل كالذي ر�أيناه مع الكربى؛ غري �أننا يف عمل‬
‫ونحن ن�شعر منذ الوهلة الأ وىل بنربة التوا�ضع التي ت�شع‬ ‫ال�شيخ نا�رص جند �أنف�سنا �إزاء عمل خمتلف متاماً‪ ،‬وقبل الدخول‬
‫يف الكالم ال�سابق فهو يبد�أ بداية متوا�ضعة من حيث �إنه‬ ‫يف تفا�صيل هذا العمل نقف عند واحد من �أ�شهر �رشاح التائية‬
‫مل يرده كتاباً‪ ،‬بل �أرادها تعليقات على الأ بيات يحتفظ‬ ‫هو عبد الرزاق الكا�شاين‪ ،‬فبعد �أن ي�سهب يف احلديث عن مكانة‬
‫بها لنف�سه لتكون عون ًا له �إن �أراد العودة �إىل ال�شعر بعد‬ ‫التائية‪ ،‬و�أهميتها ال�صوفية يتحول ليبني جهده معها فيقول‪:‬‬
‫حني‪ .‬فهل بد�أ ال�شيخ ب�صنع اجلزازات‪ ،‬وكل جزازة هي‬ ‫«فانبعثت مني دواعي التقرب �إليها واال�ستئنا�س‪ ،‬وا�ستنطقتها‬
‫ال�رشح املبدئي الب�سيط للبيت‪ ،‬وتتواىل الأ بيات‪ ،‬وتتكاثر‬ ‫للإ ينا�س بعد الإ يا�س حتى �إذا �أن�ست مبجاورتي و�أخذت من‬
‫بعد هذا اجلزازات فال�رشوح؟ فقه الن�ص ي�شري �إىل هذا‪،‬‬ ‫م�سامرتي طفقت �أن�ضو نقاب تعززها بيد التوحيد‪ ،‬و�أك�شف‬
‫غري �أنه مل يكتف عند هذا احلد‪ ،‬بل انتقل �إىل عمل �آخر‬ ‫حجاب متنعها ب�أيدي الت�أييد و�أح ّل معاقد دررها ومنا�ضد‬
‫كان النواة لهذا الكتاب‪ ،‬ولعله ر�أي �أن ما علَّق به على‬ ‫غررها مبحالل الت�أنق والتحقيق و�أنامل الت�أمل والتدقيق‪. .‬‬
‫الأ بيات مل يكن كافي ًا فاتخذ وجهة �أخرى م�صغي ًا لن�صيحة‬ ‫فلما ت�صفحتها مراراً وقلبتها �أطواراً واحتظيت مبعانيها على‬
‫من ن�صحه واقتناع ًا منه بهذا النهج اجلديد‪ ،‬يقول‪. .« :‬‬ ‫قدر ما قدر يل من اال�ستعداد(‪ ،)84‬وجدتها مبنية على قواعد‬
‫واعلم �أن ال�شيخ بد�أ بنظم ال�سلوك من غري �أوله بل من‬ ‫العلم والعرفان منبئة عن نتائج الك�شف والوجدان»(‪� ،)85‬إىل �أن‬
‫مراتبه العلية بقوله‪� :‬سقتني(‪ ،)90‬و�أوهمت �صحبي(‪ ،)91‬وهو‬ ‫يقول‪ . .« :‬ومل �أرجع يف �إمالئه �إىل مطالعة �رشح له كي ال ترت�سم‬
‫‪27‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على هذه الرواية املروية التي حكاها ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫ق�صد نظم ال�سلوك �إىل اهلل تعاىل كله فكان ابتداء �سلوك‬
‫و�سلم عن اهلل تعاىل وجعل قاعدتها ومنتهاها يف �رشح ثالثة‬ ‫�صحبه الذين ذكرهم مل ي�أت ابتداء �سلوكهم وعرف �أنه‬
‫�أ�سماء اهلل تعاىل من �أ�سماء ذاته و�صفة رابعة من �صفات ذاته‬ ‫كان ينبغي له غري ذلك فعمل لها ر�أ�سا(‪ ،)92‬وبد�أ بال�سلوك‬
‫جل وعال وهي ال�سميع والب�صري والقدير ومل يزل متكلماً‪ ،‬وقال‬ ‫من �أوله يف مائة وثالثة �أبيات(‪ )93‬للموا�صلة‪ ،‬ونحن‬
‫وهذه بال � آلة التعريف هي �صفات ذات املرء التي هي عقله‬ ‫�أحببنا �أن نبتدئ ب�إي�ضاحه من �أوله‪ ،‬و�أ�شار علينا بع�ض‬
‫فهو �سميع ب�صري قدير متكلم وجعل اهلل تعاىل هذه الذات و�أنها‬ ‫الإ خوان برتك الكتاب ملن ي�أتي وي�شاء النظر فيه ف�أجبته‬
‫هي يف احلقيقة �سميعة ب�صرية متكلمة قديرة وبها كان العقل‬ ‫وجمعته و�سميته كتاب �إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات‬
‫عقالً»(‪ )100‬ويريد ال�شيخ نا�رص بالرواية املروية التي حكاها‬ ‫ملك امللوك وجز�أته ثالثة �أجزاء»(‪ ،)94‬هل نفهم من قوله‬
‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم عن اهلل تعاىل قوله‪« :‬كنت كنزاً‬ ‫ال�سابق �أنه يرى الق�صيدتني �شيئ ًا واحداً‪ ،‬والبد ملن يريد‬
‫مل �أعرف ف�أحببت �أن �أعرف فخلقت خلق ًا كي �أعرف فبي كانوا‬ ‫الت�صدي ل�رشح الثانية فلن يت�سنى له هذا �إال بعد �رشح‬
‫وبي عرفوين وما تقرب عبدي ب�شيء �أحب �إيل مما افرت�ضت‬ ‫الأ وىل‪ ،‬فك�أنَّ الأ وىل و�سيلة الدخول �إىل عامل الثانية؟‪ .‬نحن‬
‫عليه و�إذا تقرب مني عبدي بفرائ�ضي وبالنوافل �شرباً تقربت‬ ‫نعلم �أن من الباحثني من ذهب �إىل �أن التائية الكربى‬
‫منه ذراع ًا و�إن تقرب مني ذراع ًا تقربت منه باعاً‪ . .‬وال يزال‬ ‫«لي�ست �إال ترجمة حلياة ال�شاعر الروحية كتبها عن نف�سه‬
‫يتقرب �إيل بفرائ�ضي وبالنوافل حتى �أحبه ف�إذا �أحببته توليت‬ ‫وق�ص فيها ما تعاقب عليه من �أطوار احلب وما‬ ‫بنف�سه‪ّ ،‬‬
‫�أمره وكنت �سمعه الذي ي�سمع به وب�رصه الذي يب�رص به ول�سانه‬ ‫عاناه من �ألوان الريا�ضات واملجاهدات‪ ،‬وما خ�ضع له من‬
‫الذي يتكلم به ويده التي يبط�ش بها‪ ،)101(»..‬ومن املفيد �أن ن�شري‬ ‫�رضوب املحن والآالم يف كل طور من هذه الأ طوار»(‪� ،)95‬أو‬
‫�أو ًال �إىل �أن هذا احلديث القد�سي قد �أفاد منه ال�صوفية كثرياً قبل‬ ‫هي «و�صف ملعراجه الروحي نظاماً»(‪ ،)96‬كما نرث فيها‬
‫ابن الفار�ض وبعده يف حديثهم عن احلب الإ لهي(‪� )102‬أي حب اهلل‬ ‫ابن الفار�ض «اختباراته ال�شخ�صية و�رسد �أحواله النف�سية‬
‫للعبد من جهة‪ ،‬وحب العبد هلل من جهة �أخرى‪ ،‬غري �أن توجيه‬ ‫�رسداً بعيداً عن اال�ستق�صاء واحل�رص»(‪ ،)97‬ونعلم �أي�ض ًا‬
‫ال�شيخ نا�رص له من حيث عالقته بابن الفار�ض يقوم على‬ ‫�أن من الباحثني من �سلك طريق ًا �آخر �إذ اعترب �أن التائية‬
‫�أمرين �أولهما �إن ال�سمع والب�رص والقدرة بهذا الو�صف الوارد‬ ‫الكربى «جماع لبقية ق�صائده التي تبدو كتجارب جاهدة‬
‫يف احلديث هي مواهب من اهلل للعبد املحب‪ ،‬ولن ي�صل �إىل هذه‬ ‫وحماوالت غري تامة يف �سبيل و�صول ال�شاعر �إىل غايته‪،‬‬
‫املرحلة �إال بعد قطعه طريق ًا طوي ًال من املجاهدات والريا�ضات‪،‬‬ ‫فلو رتبت جميعها ترتيب ًا نف�سي ًا مت�سامق ًا وطبيعة التجربة‬
‫غري �أن هذا الو�صول �إىل هذه املرتبة – وهو الأ مر الثاين – ال‬ ‫ال�صوفية جلاءت نقاط ًا �صاعدة على خط بياين واحد ترتبع‬
‫ي�سقط عنه التكاليف والفرائ�ض بداللة ا�ستمراره القيام بها‬ ‫التائية على قمته عالمة و�صول �إىل النهاية والغاية»(‪،)98‬‬
‫والإ حلاح على هذا اال�ستمرار‪ ،‬فك�أن ال�شيخ نا�رص يرى �أن ابن‬ ‫وهي �أي�ض ًا «نهاية مطاف ال�سري احلثيث لل�شاعر يف طريق‬
‫الفار�ض واالجتاه ال�سلوكي الذي التزم هو به موافق لأ حكام‬ ‫حبه الإ لهي‪ . .‬فهي بهذا حم�صلة بقية ق�صائد الديوان التي‬
‫ال�رشيعة‪ � ،‬آخذ منها‪ ،‬معتمد عليها‪ ،‬وك�أنه من جهة �أخرى ينفي‬ ‫متثل جتاربه القا�رصة عن بلوغ الغاية»(‪� ،)99‬أقول‪ ،‬نحن‬
‫عنه ما اتهم به من خروج على ال�رشيعة‪ .‬وهكذا يتبدَّى لنا هنا‬ ‫نعلم هذا‪ ،‬وكرثة �أخرى من الدار�سني كان لها ر�أيها القريب‬
‫بقوة ما �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من اكتمال الق�صيدتني‪� ،‬إذ و�صل ابن‬ ‫من الر�أيني ال�سابقني‪ ،‬ولكن ال�شيخ نا�رص يختط لنف�سه‬
‫الفار�ض �إىل مرحلة متقدمة من طريقه ال�صويف يف التائية‬ ‫طريق ًا ثالث ًا يختلف عن الطريقني ال�سابقني‪ ،‬ويرى �أن هذه‬
‫الكربى‪ ،‬وعلى هذا �سيقوم هو بر�ؤية الق�صيدتني بنظرة تكاملية‬ ‫احلياة الروحية البن الفار�ض يف �أطوارها الأ وىل مل تبد�أ‬
‫تك�شف لنا بدايات ذلك الطريق الذي بد�أ يف الو�صول �إىل نهايته‬ ‫يف التائية الكربى‪� ،‬أو ق�صائد الديوان كلها كما ر�أينا‪ ،‬بل‬
‫يف الكربى‪ ،‬ولن يتحقق هذا الك�شف بغري الرجوع �إىل التائية‬ ‫يراها متمثلة يف تائيته ال�صغرى فقط‪ ،‬ومن هنا توجب‬
‫ال�صغرى فهي بداية الطريق و�أوله‪.‬‬ ‫�سلوك الطريق من �أوله‪ ،‬والوقوف عند ال�صغرى ملالحظة‬
‫�أما الأ مر الثاين فهو عنوان الق�صيدة �إذ نرى ال�شيخ نا�رص‬ ‫ذلك التطور الروحي ور�صده‪ ،‬كما �إنه يعدل هنا عما قرره‬
‫يقدم لها عنوان ًا يكاد يكون جديداً مل نره يف امل�صادر‬ ‫�سابق ًا فقد �أخذ بن�صح من ن�صحه‪ ،‬وجعل من الق�صيدتني‬
‫التي بني �أيدينا‪ ،‬يقول‪ . .« :‬و�أعظم ما نظمه ابن الفار�ض‬ ‫و�رشحهما كتاب ًا ذا ثالثة �أجزاء بح�سبان �أنهما �شيء واحد‪،‬‬
‫يف العلم منظومته التائية وهي التي �سماها نظم ال�سلوك‬ ‫فهو لي�س �رشح ًا باملعنى املبا�رش لل�رشح بل ر�صد للتطور‬
‫�إىل ح�رضات ملك امللوك وكلمة ح�رضات نحن اخرتناها‬ ‫الروحي البن الفار�ض من خالل الق�صيدتني‪.‬‬
‫و�إال فهو �سماها �إىل خدمة ملك امللوك»(‪ .)103‬واعتماداً‬ ‫وقبل الدخول �إىل منهج الكتاب نقف عند �أمرين نراهما مهمني‬
‫على هذا �سمى كتابه (�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات‬ ‫يتعلقان بالتائية الكربى وحدها‪� .‬أما الأ ول فيتلخ�ص فيما‬
‫ملك امللوك) كما �رصح بذلك هو بنف�سه‪ .‬والبد من الوقوف‬ ‫يراه ال�شيخ نا�رص من �أن ابن الفار�ض «ركَّب جميع كالمه فيها‬
‫‪28‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أدخل فيما عرف بت�صنيف العلوم(‪ )107‬غري �أنه ي�ستند �إىل‬ ‫قلي ًال عند هذا العنوان (اجلديد) الذي يذهب �إىل �أن الق�صيدة‬
‫� آية وحديث‪� ،‬أما الآ ية فهي قوله تعاىل‪( :‬وما خلقت اجلن‬ ‫هي (نظم ال�سلوك �إىل خدمة ملك امللوك) وهو خمالف‬
‫والإ ن�س �إال ليعبدون)‪ ،‬و�أما احلديث فهو حديث املعرفة الذي‬ ‫للوثيقة التي بني �أيدينا يف ديباجة الديوان التي كتبها‬
‫م َّر �سابقاً‪ ،‬وينطلق منهما ليقول «‪ . .‬وهذا يدل على �أن اهلل‬ ‫�سبط ابن الفار�ض‪ ،‬ويقدم لنا فيها مراحل ت�سمية ق�صيدة‬
‫تعاىل عامل الغيب وال�شهادة مل يخلق اخللق �إال لأ جل العبادة‬ ‫جده �إذ كان عنوانها �أول ما نظمت (�أنفا�س اجلنان ونفائ�س‬
‫كما �شاء من عباده»(‪ ،)108‬ويق�سم العبادة بعد هذا ثالثة �أق�سام‬ ‫اجلنان)‪ ،‬ثم �صار ا�سمها (لوائح اجلنان وروائح اجلنان)‪ ،‬ثم‬
‫هي‪« :‬ك�شفي وهو علم التوحيد‪ . .‬والق�سم الثاين احلقيقة وهو‬ ‫ينقل �سبط ابن الفار�ض عن �أبيه عن جده �أنه ر�أي ر�سول‬
‫علم الباطن والق�سم الثالث ال�رشيعة»(‪ ،)109‬وك أ�نَّه يذكرنا‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم «يف املنام وقال له‪ :‬يا عمر ما‬
‫بتق�سيم ذي النون امل�رصي للمعرفة من �أن ق�سمها الأ ول «حظّ‬ ‫�سميت ق�صيدتك ؟ فيجيب ابن الفار�ض‪� :‬سميتها يا ر�سول‬
‫م�شرتك بني عامة امل�سلمني وثانيها معرفة خا�صة باحلكماء‬ ‫اهلل‪( :‬لوائح اجلنان وروائح اجلنـان)‪ .‬فيقول ر�سول اهلل‪ :‬بل‬
‫نا�صر اخلرو�صي‪..‬‬ ‫والعلماء‪ ،‬وق�سمها الثالث خا�ص بالأ ولياء الذين يرون اهلل‬ ‫�سمهـا نظـم ال�سلوك ف�سميتها بذلك»(‪ .)104‬ومل نقف عند‬
‫وكالم ابن الفار�ض‬ ‫بقلوبهم»(‪ ،)110‬وهو تق�سيم �سنجد له �صدى يف كتابات من جاء‬ ‫ر�ؤية ال�شاعر لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف املنام‬
‫ما دام له خمرج‬ ‫بعد ذي النون من حيث تفرقتهم بني علوم ال�رشيعة واحلقيقة‪،‬‬ ‫فهذا يخرجنا عما نحن فيه غري �أن العنوانات ال�سابقة‬
‫حقّ يف الت�أويل فال‬ ‫ويعمق ال�شيخ نا�رص بعد هذا حديثه عن هذه العلوم من حيث‬ ‫تختلف اختالف ًا بيّن ًا عما اختاره ال�شيخ نا�رص �إذ ي�رصح‬
‫و�سائل اكت�سابها فرياها تتمثل بثالث طرق هي «طريقة‬ ‫ب�أن ابن الفار�ض هو الذي �سماها (نظم ال�سلوك �إىل خدمة‬
‫ي�ص ّح �أن ي�ؤول � إ ّال‬ ‫و�سائل ال�رشيعة‪ ،‬وطريقة و�سائل التجريد من احلقيقة‪ ،‬وطريقة‬ ‫ملك امللوك) فهل يقدم ال�شيخ نا�رص عنوان ًا جديداً معتمداً‬
‫على الوجه احلقّ‬ ‫املكا�شفة براية املحبة»(‪ )111‬ويف�صل احلديث عن هذه الطرق‬ ‫على م�صادر مل يطلع عليها من در�سوا التائية؟ وخ�صو�ص ًا‬
‫ما احتمل له‪...‬‬ ‫بقوله «ف�أما علم ال�رشيعة و�أق�سامها فقد تكفل كثري من العلماء‬ ‫�أن هذه اجلمهرة من الدار�سني تتخذ من ديباجة الديوان‬
‫وال يجمل ب�أهل‬ ‫بت�رشيحها‪ ،‬و�أما علم احلقيقة طريقة وو�سائل التجريد وطريقة‬ ‫التي �سقناها قبل قليل معتمداً يف عنوانات الق�صيدة‬
‫املكا�شفة براية املحبة ف�أقل بيان ًا و�إن تكلم فيها بع�ض العلماء‬ ‫باعتباره ن�ص ًا موثق ًا ذا �سند �صحيح ال يف�صل بني ال�سبط‬
‫العلم الرتفّع على‬ ‫نرثاً ونظم ًا فكالمهم فيها �أ�شد غمو�ض ًا من كالم العلماء يف‬ ‫واجلد �سوى االبن‪ ،‬والثالثة ال يو�صفون بكذب‪� ،‬أو تغيري‬
‫العلماء الكبار � إذا‬ ‫علم ال�رشيعة الظاهرة»(‪ )112‬ويخرج بعد هذا �إىل تبيان �أنَّ �أقوى‬ ‫النتفاء �أ�سبابه وحر�صهما‪ :‬االبن وال�سبط على ت�أدية ما‬
‫�أظهر ر�أياً �أف�ضل‬ ‫ما عرفه من نظم يف هذين العلمني الأ خريين هو تائية ابن‬ ‫قاله ابن الفار�ض كما جاء على ل�سانه بال تغيري العتبارات‬
‫من ر�أيهم‪ ،‬بل‬ ‫الفار�ض الكربى‪ .‬ومن الوا�ضح �أن ال�شيخ نا�رص يفيد كثرياً من‬ ‫كثرية‪ :‬دينية و�أ�رسية وما �إليها‪ ،‬وللم�س�ألة وجه �آخر يتمثل‬
‫الرتاث ال�صويف(‪ )113‬املعتدل الذي قر�أه ب�إمعان ودقة فطاملا‬ ‫يف عنوان خام�س للق�صيدة يقدمه �أحد �أ�شهر �رشاح التائية‬
‫يظهر ر�أيه على‬ ‫حتدث املت�صوفة عن عالقة الت�صوف بال�رشيعة من جهة‪،‬‬ ‫وهو عبد الرزاق الكا�شاين �إذ ي�سمي �رشحه (ك�شف الوجوه‬
‫ح�سن �أدب فيما‬ ‫واتخاذهم طريقة تختلف عنها يف عبادة اهلل من جهة �أخرى‪،‬‬ ‫الغر ملعاين نظم الدر)‪ ،‬وال تهمنا تتمة العنوان وهي‬
‫بينه وبني الذي‬ ‫كما �إن ابن خلدون وهو يقدم ت�صوراً لعلوم ع�رصه حتدث عن‬ ‫(�رشح تائية ابن الفار�ض الكربى امل�شتهرة بنظم ال�سلوك)‬
‫عار�ضه‪.‬‬ ‫علوم ال�رشيعة ور�أي �أنها �صنفان‪�« :‬صنف خم�صو�ص بالفقهاء‬ ‫فهذا من �صنع املطبعة؛ لأ ن الكا�شاين نف�سه ي�رصح با�سم‬
‫و�أهل الفتيا‪ ،‬و�صنف خم�صو�ص بالقوم – يريد ال�صوفيـة – يف‬ ‫كتابه فيقول‪ . .« :‬يف ق�صيدته – �أي ابن الفار�ض – الغراء‬
‫القيـام بهذه املجاهدة‪ ،‬والكالم يف الأ ذواق واملواجد العار�ضة‬ ‫امل�سماة بنظم الدر»(‪ ،)105‬ويقول‪« :‬و�سميته – �أي ال�رشح‬
‫يف طريقها»(‪ ،)114‬ومل يخرج ال�شيخ نا�رص عن هذا املعنى‬ ‫– ك�شف الوجوه الغر ملعاين نظم الدر»(‪ ،)106‬فهذا عنوان‬
‫بيد �أنه �أ�ضاف �إليه تلك ال�صعوبة والع�رس اللذين يتميز بهما‬ ‫خام�س للق�صيدة هو (نظم الدر)‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نتوقف‬
‫العلمان الثاين والثالث بح�سبان �أنهما ي�صدران عن جتربة‬ ‫عن القطع يف هذه امل�س�ألة‪ ،‬واعتبار العنوان الذي تبناه‬
‫�شخ�صية‪ ،‬وي�ستخدمان م�صطلحات خا�صة ال يعرفها على وجه‬ ‫ال�شيخ نا�رص �أحد العنوانات التي �أطلقت على الق�صيدة‬
‫الدقة �إال �أهل هذا الطريق وحدهم‪ ،‬ولذلك نراه يعود مرة �أخرى‬ ‫يف انتظار درا�سة م�ستقلة للعنوان وحده‪ ،‬ويبقى �أمر �آخر‬
‫فيقدم تق�سيم ًا � آخر للعلوم م�ستنداً فيه على حديث لر�سول اهلل‬ ‫معلق ال ن�ستطيع البت فيه وهو ال�سبب الذي حدا بال�شيخ‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم هو (�أعطاين ربي ثالثة علوم‪ :‬علم �أمرت‬ ‫�إىل �إحداث ذلك التغيري يف العنوان باختيار لفظة بدل‬
‫بتبليغه وهو علم دينه تعاىل‪ ،‬وعلم خيرّ ت بني ك�شفه وكتمانه‬ ‫�أخرى فهذا مما مل يبيّنه لنا‪.‬‬
‫وهو علم احلقائق وعلم �أخذ عليّ بكتمانه وك ّل ذلك يف الكتاب‬ ‫ا�صطنع ال�شيخ نا�رص منهج ًا خا�ص ًا به يف ت�أليف هذا الكتاب‬
‫املبني)(‪ ،)115‬ومع مالحظة �إ�شارة احلديث الوا�ضحة �إىل ارتباط‬ ‫يقوم على الرتتيب والتنظيم‪ ،‬الأ جزاء فالأ بواب‪ ،‬وت�سبقها‬
‫تلك العلوم بالقر� آن الكرمي‪� ،‬أو بتعبري القوم اتكاء احلقيقة على‬ ‫مقدمة‪ ،‬فك�أنَّ هناك خيط ًا خفي ًا ينتظم اجلميع ليو�صل �إىل‬
‫ال�رشيعة‪ ،‬نقول ف�إن ال�شيخ نا�رص يتخذ من هذا احلديث و�سيلة‬ ‫النهاية فرناه يعالج يف املقدمة جمموعة من الق�ضايا هي‬
‫‪29‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�ضية اخلالف التي �أ�شار �إليها بينه وبينهم وهو يحتمل‬ ‫عملية لتبيان طريقة تعامله مع �شعر ابن الفار�ض‪ ،‬واخلطوات‬
‫�شيئني‪ :‬خالف مذهبي وهو ما �أملعنا �إليه �سابقاً‪ ،‬وخالف‬ ‫التي �سي�سلكها يف �رشحه الق�صيدتني‪ .‬ون�ستطيع تبني ثالثة‬
‫منهجي وهو �أ�شبه بالنتيجة للخالف املذهبي‪ ،‬فك�أنَّ �أخذه‬ ‫معامل رئي�سة تنتظم ال�رشح كله‪� ،‬أما املعلم الأ ول فهو «�صفة‬
‫بنهج معني يف ال�سلوك يتعامل به مع الق�صيدتني �أبعده‬ ‫مزج املعنى بتقدير �ألفاظه»(‪� ،)116‬أي �أنه �سيعمد �إىل النظرة‬
‫عن تلك ال�شطحات والتهوميات‪ ،‬وتقدمي �رشوح توحي‬ ‫الكلية لل�شعر القائمة على البحث عما وراء املعنى الظاهري‬
‫باالنخالع من ال�رشيعة وتدخل يف املحظور‪ ،‬كما هو عليه‬ ‫الذي ت�شي به الأ لفاظ وهو الذي «طلب نف�سه �إىل معرفته من‬
‫احلال يف ال�رشوح املتقدمة‪ ،‬فهذا كله مما �سيبتعد عنه هذا‬ ‫نظم هذا الناظم يف منظومته»(‪ )117‬على اعتبار �أن «الفطن تلوح‬
‫الكتاب‪ ،‬وفيه ت�أكيد على النهج امل�ستق ّل الذي �سيتخذه‪.‬‬ ‫له املعاين �إذا انفتح له التقدير»(‪ ،)118‬ويريد بهذا �أنه لن ينظر‬
‫�أ�رشنا فيما �سبق �إىل �أن ال�شيخ ق�سم كتابه ثالثة �أجزاء وجعل‬ ‫�إىل ال�شعر الذي بني يديه نظرة تقريرية جافة بل �سينظر �إىل‬
‫لكل جزء عنواناً‪� ،‬أما الأ ول فهو «يف تخلي�ص النف�س والروح �إىل‬ ‫الرتكيب باعتباره ن�ص ًا مفتوح ًا ميثل ت�أويالت متعدّدة‪ ،‬وعلى‬
‫مراتب الكمال براية حمبة املريدين»‪ ،‬وفيه يبني ا�ستعداد ابن‬ ‫هذا فهو �سي�أخذ بالت�أويل لكن بنوع واحد منه وهو القريب‬ ‫نا�صر اخلرو�صي‪..‬‬
‫الفار�ض ل�سلوك الطريق‪ ،‬و�أخذه بالو�سائل من جتريد‪ ،‬وقطع‬ ‫الذي يحتمله ال�شعر‪ ،‬وهذا هو املعلم الثاين �إذ يقول‪« :‬واعلم‬ ‫ولو قال‬
‫العالئق بالدنيا وزخرفها متهيداً لل�سفر الطويل‪ .‬واجلزء الثاين‬ ‫�أن لها ت�أوي ًال باطن ًا خفي ًا علوي ًا �سماوي ًا روحاني ًا وت�أوي ًال‬
‫«يف كمال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم براية حمبة املرادين‬ ‫ظاهراً ج�سدانياً‪ ،‬ونحن اكتفينا باجللي الظاهر املمكن فهمه‬ ‫قائل � إ ّن �شرح‬
‫ويف التوحيد هلل املجيد»‪ ،‬ويعمد فيه ال�شيخ �إىل تو�ضيح مقا�صد‬ ‫بالغالب من العقول ال�سليمة و�أعر�ضنا عن الباطـن‪ . .‬ومن توغل‬ ‫ك ّل بيت‬
‫ال�شاعر عن احلقيقة املحمدية ومنزلتها‪ ،‬وبداية االقرتاب من‬ ‫ف�إنه يلوح له من باطن ما نورده ف�إنه يكون له كالإ قليد»(‪،)119‬‬ ‫من نظم‬
‫التوحيد مبعناه ال�صويف‪ ،‬و�أما اجلزء الثالث والأ خري فهو يف‬ ‫ويقدّم لذلك النهج �سبب ًا هو �إن التف�سري الباطن «رمبا �إذا وقف‬
‫«مقامات احلقيقة ويف التوحيد ويف كمال النبي �صلى اهلل‬ ‫عليه الغالب من املتعلمني تق�رص عقولهم ف�إما �أن ي�صوّروا ما‬ ‫ابن الفار�ض‬
‫عليه و�سلم»‪ ،‬وك�أنَّ هذا الباب ثمرة للبابني ال�سابقني من حيث‬ ‫ال يجوز و�إما �أن ي�سيئوا بنا ظناً»(‪ ،)120‬وك�أنَّ ال�شيخ نا�رص �أراد‬ ‫يحتمل أ�ن‬
‫جنح الريا�ضيات واملجاهدات‪ ،‬وو�صول ال�شاعر �إىل غايته يف‬ ‫هذا الكتاب للكافة ال تقت�رص عليه النخبة فقط غري �أنه ترك‬ ‫يكون‬
‫الك�شف ومعرفة التوحيد احلقيقي‪.‬‬ ‫الباب مفتوح ًا لذوي الأ فهام العميقة ال�سابرين غور الرتاكيب‬ ‫كتاباً وا�سعاً‬
‫وهذا التتابع البديع للأ جزاء ي�شري �إىل مرافقة ال�شيخ‬ ‫ف�أمامهم ف�سحة وا�سعة كي يت�أولوا‪ ،‬وميعنوا يف الت�أويل‪ ،‬فالن�ص‬
‫الدقيقة ل�سلوك ابن الفار�ض وتطوره الروحي‪ ،‬وتنقله بني‬ ‫خ�صب يعني على هذا‪ ،‬وال�رشح منفتح على الدالالت جميع ًا‬ ‫لكان �صادقاً‪.‬‬
‫املراحل مرحلة فمرحلة مما نراه مب�سوط ًا يف التائيتني‪.‬‬ ‫ال مينعه التحفظ والتوقي اللذان �أرادهما ال�شيخ من االنطالق‬
‫ومل يرق لل�شيخ �أن يرتك هذا التعميم الذي نلحظه وا�ضح ًا‬ ‫والعطاء‪ ،‬ومل يكن مبقدور ال�شيخ نا�رص �أن ي�صنع غري هذا فهو‬
‫على الأ بواب فاتخذ من داخلها ف�صو ًال و�أبواب ًا �أو�صلها �إىل‬ ‫مرتبط بال�رشيعة و�أحكامها من جهة‪ ،‬وهو من جهة �أخرى �أمني‬
‫�سبعة وع�رشين ف�ص ًال وجعل لكل واحد منها هي الأ خرى‬ ‫على الن�ص الطويل الذي بني يديه فلي�س له �إال �أن يقول‪ ،‬وعلى‬
‫عنواناً‪ ،‬فالباب الأ ول «يف االنتباه من رقدة اجلهالة‬ ‫املتلقي �أن ي�سمع ويت�أول وهذا �ش�أن الكتب وال�رشوح التي متكث‬
‫و�سنة الغفلة» والباب الثاين «يف املكا�شفة مب�شاهدة‬ ‫يف الأ ر�ض تنفع النا�س‪.‬‬
‫جمال املحبوب» والثالث «يف االت�صال باملحبوب بوقفة‬ ‫�أما املعلم الثالث والأ خري فهو قيام الكتاب كله‪ ،‬وانطالق‬
‫املواقفة يف طريق مكة»‪ ،‬وبالباب الثاين ع�رش يبد�أ اجلزء‬ ‫ال�رشوح جميعها من فكره الإ با�ضي الذي ميثله خري‬
‫الثاين من الكتاب وهو «يف �سفر النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫متثيل‪ ،‬فهو وا�سع العلم به خبري بدروبه فلي�س له �إال �أن‬
‫و�سلم وهو ال�سفر الرابع املخ�صو�ص به»‪ ،‬وك أ�نَّه ي�شري �إىل‬ ‫يتخذه هادي ًا ويجعل من مباحثه �صوىً يف طريقه الطويل‬
‫�إ�رسائه ومعراجه �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ويبد�أ اجلزء الثالث‬ ‫الذي �سيقطعه مع ابن الفار�ض‪ ،‬فرناه يقول‪ ...« :‬وقد �رشح‬
‫بالباب التا�سع ع�رش وهو «يف التوحيد مبعرفة الذات‬ ‫بع�ض من تالمذة تلميذ الناظم ب�رشح �سماوي �أغم�ض‬
‫الإ لهية ويف مقامات احلقيقة وال�سلوك»‪ ،‬وينتهي الكتاب‬ ‫معاين �رشحه �أ�شد غمو�ض ًا من معاين النظم و�أبعد على‬
‫بالباب ال�سابع والع�رشين وهو «يف التنبيه على التوحيد‬ ‫الفهم ب�أ�ضعاف م�ضاعفة(‪ )121‬ف�صار ك�أنه ال فائدة فيه �إال‬
‫الإ لهي»‪ .‬ومن ال�رضوري �أن ن�شري هنا �إىل �أن ال�شيخ ينتهي‬ ‫للعارف ملعاين النظم‪ ،‬والعارف ملعاين النظم غري حمتاج‬
‫من �رشح التائية ال�صغرى يف الباب الثالث‪ ،‬ويبد�أ بالكربى‬ ‫�إىل ال�رشح ف�سهلته ب�ألفاظ قريبة ومل �أرد �أن �أورد معانيه‬
‫عند الباب الرابع‪ ،‬ويف هذا ت�أكيد ملا ذهب �إليه من �أن‬ ‫التي �أوردها للخالف الذي بيننا وبينهم فاخرتعت لها‬
‫التائية ال�صغرى هي ر�أ�س وبداية ال�سلوك على حد قوله‪،‬‬ ‫معاين ظاهرة بيّنة موافقة لال�ستقامة لأ ن النظم يحتملها‬
‫�إذ ا�ستغرقت الف�صول الباقية وهي �أربعة وع�رشون ف�ص ًال‬ ‫يف الت�أويل وما ال ي�صح يف ميزان اال�ستقامة(‪ )122‬فلي�س‬
‫بقية الكتاب‪ ،‬وفيها وقف عند التائية الكربى ب�أبياتها‬ ‫بت�أويل لكالم»(‪ ،)123‬ومكمن الأ همية يف هذا الكالم يظهر يف‬
‫‪30‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عن هذا الواقع ما ن�ستطيع ت�سميته باالكتفاء الداخلي كنوع‬ ‫التي بلغت �سبعمائة وواحداً و�ستني بيتاً‪ ،‬ويبدو جلي ًا لنا‬
‫من احلماية الذاتية وفق قانون التحدي‪ ،‬واال�ستجابة‪ ،‬فالدولة‬ ‫ذلك اجلهد ال�ضخم الذي بذله ال�شيخ نا�رص ال يف متابعة‬
‫على مدى قرون متطاولة تعتنق مذهب ًا خمتلفاً‪ ،‬ور�أي ًا �سيا�سي ًا‬ ‫رحلة ابن الفار�ض وحدها‪ ،‬بل يف ت�شقيق مراحل تلك‬
‫مناق�ضاً‪ ،‬و�سلوك ًا مرفو�ضاً‪ ،‬و�أهل عمان باملقابل ميتلكون‬ ‫الرحلة‪ ،‬ووقوفه عند كل مرحلة م�شرياً �إليها‪ ،‬ومالحظ ًا‬
‫ر�ؤيتهم املذهبية اخلا�صة‪ ،‬وموقفهم ال�سيا�سي املنف�صل عن‬ ‫الفروق الدقيقة بينها‪ ،‬ومنبه ًا �إىل �أن هذه الرحلة من خالل‬
‫ال�سياق العام‪ ،‬فال مف ّر عندئذ من اللجوء �إىل الداخل تعتمل فيه‬ ‫الريا�ضات واملواجيد تتجه �صاعدة �إىل الأ على يف تهذيب‬
‫االجتاهات‪ ،‬وتتباين فيه الر�ؤى بعيداً عمّا يجري يف اخلارج‪،‬‬ ‫الروح‪ ،‬وت�صفيتها متهيداً لقطف الثمرة مما هو معروف‬
‫ف�إذا كان هذا �صحيح ًا من حيث البعد املكاين‪ ،‬واالقتناع مبا‬ ‫عن غايات الت�صوف الكربى‪ ،‬وي�ضاف �إىل ما �سبق تلك‬
‫هو موجود يف الداخل‪ ،‬واالكتفاء باملخزون الذاتي‪� .‬أقول‪� ،‬إذا‬ ‫الوقفات التي تطول �أحيان ًا فتبلغ �صفحات حني يفردها‬
‫كان هذا �صحيح ًا بالن�سبة ملا �سبق‪ ،‬فهل ي�صحّ من وجهة‬ ‫للحديث عن م�صطلح معني‪� ،‬أو مناق�شة ق�ضية كالمية‪،‬‬
‫أي�ضا؟ مبعنى هل ا�ستتبع هذا االكتفاء انقطاع ًا ثقافياً‪،‬‬ ‫ثقافية � ً‬ ‫�أو ر ّد على بع�ض املخالفني‪ ،‬وهو ي�صطنع لتلك الوقفات‬
‫ومعرفي ًا عما يجري يف اخلارج؟ �إنَّ الإ جابة املنهجية على‬ ‫هيئة منهجية تتمثل يف ا�ستخدامه م�صطلح (بيان)‪ ،‬فك�أنَّ‬
‫هذا ال�س�ؤال ت�ستدعي نَخْ ًال �شام ًال ملفا�صل احلياة الثقافية يف‬ ‫هذا (البيان) �أ�شبه ب�إ�شارة منه �إىل �أنّه �سي�ستطرد قلي ًال‬
‫عمان متتد لقرون‪ ،‬وهذا لي�س مو�ضعه هنا‪ ،‬كما انّه لي�س مبكنة‬ ‫لإ ي�ضاح ما م َّر بح�سبان �أنّه مل ي�ستوف احلديث عنه يف‬
‫باحث واحد �أن ينه�ض بهذا العمل الكبري‪ ،‬غري �أنَّ التوقف عند‬ ‫الكالم ال�سابق‪ ،‬وقد كرثت هذه (البيانات) حتى من املمكن‬
‫حمورين رئي�سيني من حماور الثقافة ميكن �أن ينفخ احلياة يف‬ ‫جعل بع�ضها مباحث منف�صلة ب�سبب اكتمال منهجيتها‪،‬‬
‫هذا املو�ضوع‪ ،‬ويو�صل �إىل نتائج ميكن االطمئنان �إليها بدرجة‬ ‫وو�ضوح غاياتها‪.‬‬
‫كبرية‪ ،‬ونريد باملحور الأ ول الطبّ وال�صيدلة‪ ،‬ونق�صد باملحور‬ ‫‪-6-‬‬
‫الثاين هذا الكتاب الذي بني �أيدينا بح�سبان �أنّه من �أه ّم كتب‬ ‫ولع َّل ما تقدّم يف�سح املجال قلي ًال للوقوف عند ظاهرة �أ�شار‬
‫(ال�سلوك) التي و�صلتنا‪ ،‬وقد اعتمد فيه م�ؤلفه على علوم خمتلفة‬ ‫�إليها بع�ض الدار�سني‪ ،‬وهم يتحدّثون عن م�سرية احلياة‬
‫ما كان له �أن يتبحّ ر فيها لوال توا�صل ثقايف ملمو�س بينه‪،‬‬ ‫الفكرية‪ ،‬والأ دبية يف عمان‪ ،‬ونعني بها العزلة الثقافية‪ ،‬فهم‬
‫وبني اخلارج ه ّي أ� له االطالع على ع�رشات امل�صادر �سواء يف‬ ‫يذهبون اعتماداً على مقولة املركز والأ طراف �إىل �أنّ عمان‬
‫التخ�ص�ص الدقيق‪� ،‬أو ما هو قريب منه – كما �سرنى – ممّا‬ ‫من �أقاليم الأ طراف‪ ،‬وهذا ي�ستتبع بال�رضورة عزلة ثقافية من‬
‫�أتاح له حترير هذا الكتاب‪.‬‬ ‫نوع ما‪ ،‬وقد وقفت عند ظاهرة العزلة املكانية يف بحث �سابق‪،‬‬
‫وقد در�س املحقّق يف منا�سبة �سابقة حركة الطبّ‬ ‫وممّا جاء فيه �أنّ «الرتاث العماين يف �أغلبه‪ ...‬ي�صدر عن الفكر‬
‫وال�صيدلة يف عمان من خالل عائلة علمية �رصفت جهدها‬ ‫الإ با�ضي‪ ،‬وهو املذهب املنت�رش بعمان منذ زمن قدمي‪ ...‬وعلماء‬
‫لهذين العلمني هي �آل ها�شم‪ ،‬وقد وقف مط ّو ًال عند �أحد‬ ‫الإ با�ضية �أنف�سهم ال ينكرون جمموعة من الق�ضايا متيّز بها‬
‫�أعالمها الكبار وهو الطبيب ال�صيديل را�شد بن عمرية‪،‬‬ ‫املذهب‪ ...‬مثل التم�سّ ك بالكتاب وال�سّ نة‪ ،‬والعمل مبا جاء فيهما‪،‬‬
‫ونخل تراثه العلمي الذي ما يزال خمطوط ًا ويقع ب�سبعة‬ ‫واملحافظة على الفرائ�ض‪ ،‬ورف�ض ال�سلطة املتجبرّ ة الظاملة‪،‬‬
‫وتو�صل �إىل �أنَّ هذا الطبيب ورث الطبّ ‪ ،‬وال�صيدلة‬ ‫ّ‬ ‫كتب‪،‬‬ ‫وهو مربط الفر�س يف هذا املو�ضع‪ ،‬ويحدّثنا التاريخ العماين‬
‫عمّن �سبقه‪ ،‬و�أورثه مَ نْ جاء بعده‪ ،‬وكان يعتمد املالحظة‪،‬‬ ‫عن كرثة احلروب‪ ،‬والنزاع الذي وقع بني ال�سلطة احلاكمة‪،‬‬
‫والتجربة يف عمله ممّا ي�شي ب�إفادته من املراكز الطبية‬ ‫و�أهل عمان ب�سبب رف�ضهم �سيا�سة القهر‪ ،‬والبط�ش التي يرونها‬
‫يف ع�رصه‪ ،‬وقبله مثل دم�شق‪ ،‬وبغداد‪ ،‬والقاهرة‪ ،‬وفار�س‬ ‫خمالفة لأ �صول ال�رشع‪ ،‬وجند هذا منذ عهد معاوية بن �أبي‬
‫كاف على املنجز العربي وغري العربي يف الطب‬ ‫مع اطالع ٍ‬ ‫�سفيان الذي مل يكن له يف عمان �سلطان على ح ّد قول حمقّق‬
‫وال�صيدلة‪ ،‬وم�صادرهما املعتربة يف هذين املجالني‪،‬‬ ‫ك�شف الغمّة»(‪ ،)124‬وي�ستمر هذا الأ مر �إىل وقت مت�أخر حتى‬
‫ولذلك ر�أينا �أ�سماء �أعالم عربية‪ ،‬وغري عربية‪ ،‬وم�صادر‬ ‫�أنّنا جند اللغوي ال�شهري �أبا بكر بن دريد املتويف �سنة ‪321‬‬
‫عربية‪ ،‬وغري عربية ترتدّد يف كتبه‪ ،‬وهو يفيد منها‪ ،‬ومن‬ ‫للهجرة يوثّق يف �شعره ما نزل ب�أهل عمان من كوارث على‬
‫التجارب‪ ،‬واملالحظات‪ ،‬وير ّد على بع�ض مَ نْ �سبقه يف بع�ض‬ ‫يد حممد بن نور عامل اخلليفة العبا�سي املعت�ضد‪ ،‬حتى �أنَّ‬
‫الأ حيان‪ ،‬وي�ضيف �إليهم يف �أحيان �أخرى ممّا ي�شري �إىل‬ ‫ابن رزيق ي�صف ما وقع و�صف ًا م�سهب ًا من �أنَّ حممد بن نور‬
‫متكّن ملحوظ‪ ،‬ور�سوخ يف هذين العلمني‪ ،‬وال �ش ّك �أنَّ توفّر‬ ‫«ا�ستوىل على كافة عمان‪ ،‬وفرّق �أهلها‪ ،‬وعاث يف البالد‪ ،‬و�أهلك‬
‫تلك امل�صادر قد وفد من اخلارج على هيئة املخطوطات‬ ‫كثرياً من احلرث والأ والد‪ ...‬وجعل على �أهلها النكال والهوان‪،‬‬
‫ممّا يقطع بوجود توا�صل قوي بني ذاك اخلارج‪ ،‬وهذا‬ ‫ودفن الأ نهار‪ ،‬و�أحرق الكتب»(‪ ،)125‬ممّا ي�شري �إىل ا�ستمرار‬
‫الداخل‪ ،‬ومل مينع ذلك التوا�صل اختالف يف الر�أي‪� ،‬أو‬ ‫النزاع‪ ،‬واالختالف بني ال�سلطة املركزية‪ ،‬وعمان‪ ،‬وقد تولّد‬
‫‪31‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إىل �إعادة نظر جا ّد وفق املقوالت ال�سابقة‪ ،‬واملو�ضوع‪،‬‬ ‫ابتعاد يف املكان‪ ،‬فاحلكمة هي ال�ضالّة املن�شودة فلت�ؤخذ‬
‫بع ُد بحاجة �إىل در�س وا�ستق�صاء‪ ،‬غري �أنَّ ما �سلف قدّم‬ ‫من منابعها‪ ،‬وهكذا كان‪.‬‬
‫�شواهد ال تدفع عن (الوهم) الذي يقع فيه بع�ض الدار�سني‪،‬‬ ‫ويقال مثل ما �سلف عن هذا الكتاب الذي ميكن اعتباره بامتياز‬
‫وهم يطلقون الأ حكام جزافاً‪ ،‬ومن املمكن �أن يقال �شيء‬ ‫مم ّث ًال حلركة الت�أليف يف (ال�سلوك) مب�صطلح القوم هنا‪ ،‬فلي�س‬
‫قريب من هذا الكالم عن اجلوانب الأ خرى من تلك احلياة‬ ‫الأ مر ت�أليف ًا وح�سب‪ ،‬بل هو ا�ستعداد‪ ،‬وا�ستكمال للأ دوات‪ ،‬و�أخذ‬
‫الثقافية – وهي كثرية متنوعة – بغية ا�ستكمال ال�صورة‪،‬‬ ‫ن�ص نادر ظفرت به يف ثنايا املخطوط ي�شري‬ ‫بالعزم‪ ،‬ويف ّ‬
‫وتقدمي امل�شهد ب�صورة متكاملة‪ ،‬وعند ذاك �ستبدو هذه‬ ‫ال�شيخ نا�رص فيه �إىل �أنَّ ابن الفار�ض «قد توغّ ل يف علم اللغة‪،‬‬
‫ال�صورة على غري ما ا�ستقرّ عند بع�ض الدار�سني متاماً‪،‬‬ ‫واملعاين‪ ،‬والبيان‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والفل�سفة‪ ،‬والبديع‪ ،‬والعرو�ض‪،‬‬
‫بل �ستظهر وهي مزدانة بالتفاعل‪ ،‬جملّلة بالتوا�صل �أخذاً‬ ‫والنحو‪ ،‬وكفي ب�سبك نظمه‪ ،‬وجنا�سه دلي ًال على ما قلناه»‪،‬‬
‫بال�رشائط املو�ضوعية لأ يّ حياة فكرية �أدبية تريد لنف�سها‬ ‫�أقول‪� ،‬إذا كان ابن الفار�ض قد توغّ ل يف تلك العلوم على ح ّد‬
‫البقاء‪ ،‬واال�ستمرار‪ ،‬ومل تكن احلياة الثقافية يف عمان‬ ‫قول ال�شيخ نا�رص‪� ،‬أفال يحتاج ك�شف تلك العلوم‪ ،‬والتنويه بها‪،‬‬
‫بعيدة عن ذلك البتّة‪.‬‬ ‫ومعرفة موا�ضعها �إىل علم معادل‪ ،‬وتوغّ ل مكافئ يكون مبكنته‬
‫‪-7-‬‬ ‫حتقيق ذلك الك�شف؟ �إنَّ اجلواب املنهجي لن ي�أتي �إ ّال بالإ يجاب‪،‬‬
‫كتاب (�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك) ثابت‬ ‫والكتاب كلّه معر�ض رحب‪ ،‬وف�ضاء متّ�سع يومئ �إىل هذا الأ مر‪،‬‬
‫الن�سبة �إىل ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان اخلرو�صي‪ ،‬ولتحقيق‬ ‫وي�شري �إليه‪� ،‬إذ جند مفردات تلك العلوم ظاهرة مرّة هكذا عياناً‪،‬‬
‫هذه الن�سبة �سلكنا ثالثة طرق‪� ،‬أولها ن�سبة الكتاب �إىل ال�شيخ‬ ‫وم�سترتة �أخرى تدعم البناء العام للكتاب‪ ،‬ون�ضيف �إىل ما ذكره‬
‫عند غري واحد من الباحثني قدمي ًا وحديثاً‪ ،‬وثانيها ت�رصيح‬ ‫ال�شيخ نا�رص تف�سري القر� آن الكرمي‪ ،‬والقراءات‪ ،‬واحلديث النبوي‪،‬‬
‫ال�شيخ نا�رص نف�سه بن�سبة الكتاب �إليه‪ ،‬وثالثها ورود عنوانه‬ ‫والتاريخ‪ ،‬والفلك‪ ،‬ويقف (الت�صوف) هناك‪ ،‬و(ال�سلوك) هنا يف‬
‫ال�رصيح يف ثنايا الكتاب نف�سه‪ ،‬و�سنقف عند ك ّل واحدة من‬ ‫مقدمة تلك العلوم‪� ،‬إذ جند ال�شيخ مطّ لع ًا على م�صادره املعتربة‪،‬‬
‫هذه الطرق تف�صيالً‪.‬‬ ‫وخابراً �أ�سماء ال�صوفية الكبار‪ ،‬متتبّع ًا �أخبارهم‪ ،‬وناق ًال الكثري‬
‫�أمّا الطريق الأ ول فهو ورود ن�سبته �إىل ال�شيخ نا�رص عند‬ ‫من �أقوالهم‪ ،‬هذا عن الظاهر‪� ،‬أمّا ما �أ�رشنا �إليه بامل�سترت فرنيد‬
‫جملة من العلماء‪ ،‬والباحثني قدمياً‪ ،‬وحديث ًا فرنى ابن‬ ‫به تلك النظريات الفل�سفية‪ ،‬والأ قاويل املاورائية‪ ،‬والت�صورات‬
‫رزيق ي�سمّيه (كتاب تف�سري نظم ال�سلوك)(‪ ،)126‬ولي�س هناك‬ ‫التي قامت عليها بنية الت�صوف بدءاً من ال�سالك‪ ،‬وانتها ًء‬
‫من �ضري يف اختالف الت�سمية فهذه عادة قدمية درج عليها‬ ‫بالقطب‪ ،‬وبني االثنني (�سفر) �شاقّ متنوع ذو �أفانني‪ ،‬وقد‬
‫�أ�صحاب كتب الرتاجم حني ي�سوقون الكتاب بعنوان خمت�رص‪،‬‬ ‫دخلت تلك النظريات الفل�سفية الت�صوف‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف طوره‬
‫مثال ذلك كتاب ابن قتيبة الدينوري (املتويف �سنة ‪276‬‬ ‫املت�أخر مثل نظرية املثال الأ فالطونية‪ ،‬والفي�ض الأ فلوطينية‪،‬‬
‫للهجرة) يف الدفاع عن العرب‪ ،‬وجمادلة ال�شعوبية فرنى‬ ‫واحلقيقة املحمدية‪ ،‬وغريها‪� ،‬إذ جند ال�شيخ خبرياً بها‪ ،‬موظّ ف ًا‬
‫ابن الندمي ي�سمّيه (الت�سوية بني العرب والعجم)‪ ،‬ومثله‬ ‫�إياها خري توظيف يف بناء كتابه‪ ،‬وجماري ًا ابن الفار�ض يف‬
‫القفطي‪ ،‬والذهبي‪ ،‬وال�صفدي‪� ،‬أمّا القا�ضي عيا�ض في�سميه‬ ‫تالوينه الروحية‪ ،‬وحتوالته الوجدانية‪� ،‬أمّا امل�صطلح ال�صويف‬
‫(كتاب العرب والعجم)‪ ،‬ومثله ابن فرحون‪ ،‬وابن حجر‪،‬‬ ‫فقد كان الباقعة فيه‪ ،‬والباقعة الداهية من الرجال اخلبري‬
‫�أمّا �صاحب العقد الفريد في�سميّه (كتاب تف�ضيل العرب)‪،‬‬ ‫بالأ مر على ح ّد قول اخلليل يف العني‪� ،‬أقول‪ ،‬كان الباقعة فيه‬
‫وي�سمّيه �صاحب الآثار الباقية (كتاب تف�ضيل العرب على‬ ‫من حيث �إحاطته به‪ ،‬وحتركه الدقيق بني طبقات ت�أويالته‬
‫العجم)(‪ ،)127‬فهذه �أربعة عناوين خمتلفة‪ ،‬غري �أنَّ الثابت‬ ‫املختلفة‪ ،‬وقدرته على متييز الفروق الدقيقة بني تلك الأ فواج‬
‫يف ا�سمه هو (ف�ضل العرب والتنبيه على علومها)‪ ،‬ويقال‬ ‫املتتابعة من امل�صطلحات‪ ،‬ومل يتهي أ� له ذلك بغري اطالع على‬
‫مثل هذا عن كتب كثرية �أخرى(‪ )128‬لي�س هناك جمال‬ ‫م�صادره‪ ،‬وتدقيق يف مظانه‪ ،‬وال تنب�سط هذه العلوم ذلك الب�سط‬
‫التف�صيل فيها‪ ،‬فابن رزيق يختار من العنوان الكامل‬ ‫بغري مكتبة كبرية قدّمت له من الزاد �أوفره‪ ،‬ومن الثمر �أن�ضجه‪،‬‬
‫كلمتني‪ ،‬وي�ضيف �إليهما كلمة من عنده جري ًا على العادة‬ ‫و�أعانته على دخول عامل ابن الفار�ض املت�سع اجلنبات‪،‬‬
‫ال�سابقة التي �أ�رشنا �إليها‪ ،‬ويتعر�ض الباحث �سلطان بن‬ ‫املتنوع امل�سالك بقدم ثابتة‪ ،‬وخطوة را�سخة‪ ،‬وقد حتمّل‬
‫حممد احلرا�صي(‪ )129‬لهذا الكتاب‪ ،‬ويثبت ن�سبته �إىل ال�شيخ‬ ‫املحقِّق �إي�ضاح ذلك كلّه‪ :‬الظاهر‪ ،‬وامل�سترت‪ ،‬را ّداً املعاجلات �إىل‬
‫نا�رص اعتماداً على خمطوطته املحفوظة بوزارة الرتاث‬ ‫�أ�صولها‪ ،‬و�شارح ًا امل�صطلح – وما �أكرثه – الذي يوظّ فه ال�شيخ‬
‫والثقافة ب�سلطنة عُ مان‪ ،‬كما ي�شري �إليه الباحث �إبراهيم‬ ‫نا�رص يف �سبيل تقريب النّ�ص‪ ،‬وجتلية مراميه‪.‬‬
‫بن يحيى العربي‪ ،‬وي�ؤكد ن�سبته �إىل ال�شيخ نا�رص اعتماداً‬ ‫وت�أ�سي�س ًا على ما تقدّم ف�إنَّ ما يقال عن عزلة ثقافية‬
‫على خمطوطته املحفوظة مبكتبة معايل ال�سيد حممد‬ ‫عانت منها احلياة الثقافية يف عمان مو�ضوع بحاجة‬
‫‪32‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�سري دائم ًا بال�سلوك من ح�رضة �إىل ح�رضة �أعلى‪ ،‬و�أقرب؛ لأ نَّ‬ ‫بن �أحمد البو�سعيدي(‪ ،)130‬ويقطع فهر�س خمطوطات وزارة‬
‫ذلك من �رشط �سلوك �صدق املحبة‪ ،‬و�صحة الت�صوف»‪ ،‬وعلى‬ ‫الرتاث القومي والثقافة بهذه الن�سبة حيث يقول‪�« :‬إي�ضاح‬
‫هذا يكون العنوان الذي اختاره ال�شيخ نا�رص بنف�سه هو (�إي�ضاح‬ ‫نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك‪ ،‬اخلرو�صي‪ ،‬نا�رص‬
‫نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك)‪ ،‬وهو ثابت الن�سبة �إىل‬ ‫بن جاعد بن خمي�س بن مبارك بن �أبي نبهان»(‪ ،)131‬فهذه‬
‫ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان كما �سقناه يف الطرق الثالثة‪.‬‬ ‫الإ �شارات جميعها ت�ؤكد هذه الن�سبة مبا ال يدع جما ًال‬
‫‪-8-‬‬ ‫لل�شكّ‪.‬‬
‫ويتمثّل الطريق الثاين يف ت�رصيح ال�شيخ نا�رص نف�سه بن�سبة‬
‫كان االعتماد يف حتقيق هذا الكتاب على ن�سختني‬ ‫(ن�ص يف‬ ‫ن�ص ن�رشته حتت عنوان ّ‬ ‫الكتاب �إليه‪� ،‬إذ جاء يف ّ‬
‫خمطوطتني‪ ،‬جُ علت الأ وىل (�أ ّماً)‪ ،‬وقوبلت الثانية على‬ ‫ال�سلوك العُماين) للمحقّق ال�شيخ �سعيد بن خلفان اخلليلي‪ ،‬وهو‬
‫(الأ م) الأ وىل‪ ،‬وهما تامّتان مل ينق�ص منهما �شيء �إالّ يف‬ ‫من تالميذ ال�شيخ نا�رص كما م َّر بنا‪� ،‬أقول جاء فيه �أنّ املحقق‬
‫بع�ض املوا�ضع التي وقع فيها طم�س مل ي�ؤثر يف القراءة‬ ‫اخلليلي �س�أله عن املحبة بقوله‪ ...« :‬و�س�ألت ال�شيخ نا�رص بن‬
‫كثرياً‪ ،‬وقد �أعانت املقابلة على جتاوز هذا الطم�س‪ ،‬وهذا‬ ‫�أبي نبهان عن حمبة اهلل لعبده‪ ،‬فقال‪ :‬حمبة اهلل �رشحها طويل‪،‬‬
‫مف�صل عنهما‪:‬‬ ‫بيان َّ‬ ‫وقد ذكرناها يف كتابنا الإ خال�ص بنور العلم‪ ،‬واخلال�ص من‬
‫‪ -1‬الن�سخة الأ وىل‪ ،‬ورمزنا لها بـ (الأ �صل)‪ ،‬وهي حمفوظة‬ ‫الظلم‪ ،‬وذكرها الغزايل‪ ،‬وهي على �أق�سام‪ ...‬وهذا يحتاج �إىل‬
‫بوزارة الرتاث والثقافة حتت رقم ‪ ،88/1456‬وعدد �أوراقها‬ ‫�رشح طويل جداً‪ ،‬وذكرنا يف كتابنا �رشح نظم ال�سلوك �إىل‬
‫مائة وت�سع و�أربعون ورقة‪ ،‬وهي ن�سخة نفي�سة؛ لأ نّها ن�سخة‬ ‫ح�ضـرات ملك امللوك‪ ،‬وال يتّ�ضح بيانها �إ ّال ببيان �أق�سامها‪،‬‬
‫امل�ؤلف‪� ،‬إذ يرد ما ي�ؤكد هذا يف � آخرها‪ ،‬وهو‪« :‬وتاريخ متام‬
‫و�أ�صلها»(‪ ،)132‬فها هو ال�شيخ نا�رص يوثّق ن�سبة كتابني �إليه ال‬
‫ت�أليفه ثامن رجب �سنة ‪1243‬بالردة من �سمد نزوى»‪ ،‬كما‬
‫كتاب ًا واحداً‪� ،‬أولهما كتاب (الإ خال�ص)‪ ،‬وثانيهما هذا الكتاب‪،‬‬
‫ي�شري فهر�س خمطوطات وزارة الرتاث �إىل هذا بقوله‪...« :‬‬
‫وقد و�صل كتاب (الإ خال�ص)‪� ،‬أمّا هذا الكتاب فهو ي�رصّح‬
‫املخطوط من ن�سخ امل�ؤلف الذي ذكر مكان الن�سخ»(‪ ،)133‬ومن‬
‫بن�سبته �إليه‪ ،‬ويختار له عنوان ًا قريب ًا من التمام ي�ؤكد ما‬
‫املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أنَّ ال�سنة التي انتهي فيها ال�شيخ نا�رص‬
‫من ت�أليف هذا الكتاب‪ ،‬ون�سخه‪ ،‬وهي ‪ 1243‬للهجرة هي ال�سنة‬ ‫ذكرناه �سابقاً‪.‬‬
‫نف�سها التي انتقل فيها من عمان �إىل زجنبار‪ ،‬وبقي بها �إىل �أن‬ ‫ويبقى الطريق الثالث‪ ،‬وهو الأ خري‪ ،‬وهو ورود العنوان ال�رصيح‬
‫توفّاه اهلل كما ر�أينا‪.‬‬ ‫يف املخطوطني‪ ،‬ف�إذا علمنا �أنّ واحدة من الن�سختني هي بخطّ‬
‫وقد كُ تبت هذه الن�سخة بخط �أ�سود وا�ضح معتاد‪ ،‬وكُ تب ال�شعر‬ ‫امل�ؤلف نف�سه وهي ن�سخة وزارة الرتاث‪ ،‬وهي الأ قدم كما‬
‫امل�رشوح بخطّ �أغلظ متييزاً له عن ال�رشح كما جاء ت�سل�سل‬ ‫�سرنى‪� ،‬أقول‪� ،‬إذا علمنا هذا �أدركنا كم يحمل هذا الت�رصيح‬
‫املقدمات‪ ،‬والأ بواب بخط �أحمر �إ�شارة �إىل ابتداء كالم جديد‪،‬‬ ‫من ثقة تامة‪ ،‬واطمئنان ال يداخله �شكّ يف هذه الن�سبة‪ ،‬فقد‬
‫وي�ض ّم الوجه الواحد من الورقة خم�سة وع�رشين �سطراً‪ ،‬مع‬ ‫جاء يف � آخر خمطوط الوزارة ما ي�أتي‪ ...« :‬وهذا � آخر كتاب‬
‫ثماين ع�رشة كلمة يف ال�سطر الواحد على وجه التقريب‪ ،‬وهناك‬ ‫�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك»‪ ،‬ويرد يف ثنايا‬
‫ت�آكل يف بع�ض �أطراف الأ وراق‪ ،‬وطم�س لعلّه من � آثار الرطوبة‬ ‫الن�سخة الثانية‪ ،‬وهي ن�سخة مكتبة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد‬
‫و�صل �إىل بع�ض الكلمات فم�سحها‪ ،‬وعلى العموم فهي ن�سخة‬ ‫ن�صه‪ ...« :‬ف�أقول‪ ،‬و�أنا عبد الرحمن نا�رص بن‬ ‫البو�سعيدي ما ّ‬
‫جيدة مقروءة‪ ،‬ويكفي �أنّها ن�سخة امل�ؤلف لي�ضفي عليها �أهمية‪،‬‬ ‫�أبي نبهان‪ ...‬الباب الأ ول من اجلزء الأ ول من كتاب �إي�ضاح‬
‫ونفا�سة‪.‬‬ ‫نظم ال�سلوك �إىل ح�رضة ملك امللوك»‪ ،‬ويرد النّ�ص نف�سه يف‬
‫‪ -2‬الن�سخة الثانية‪ ،‬ورمزنا لها بـ [�س]‪ ،‬وهي حمفوظة‬ ‫ن�سخة الوزارة هكذا‪ ...« :‬ف�أقول‪ ،‬و�أنا عبد الرحمن نا�رص بن‬
‫مبكتبة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي بال�سيب‪ ،‬وهي‬ ‫�أبي نبهان‪ ...‬الباب الأ ول من كتاب �إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل‬
‫�أحدث من ال�سابقة‪� ،‬إذ يعود تاريخ ن�سخها �إىل �سنة ‪1288‬‬ ‫ح�رضات ملك امللوك»‪ ،‬ويرد ثانية يف هذه الن�سخة‪ ،‬وذلك حني‬
‫ن�صه‪ �« :‬آخر كتاب نظم‬ ‫للهجرة‪ ،‬كما جاء يف � آخرها‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫يقول ال�شيخ نا�رص نف�سه‪ ...« :‬ولكن طلبني بع�ض من الأ �صحاب‬
‫ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك‪ ،‬وال حول وال قوة �إ ّال باهلل‬ ‫�أن �أجمع ذلك له فكان كما تراه‪ ،‬و�سمّيته‪ :‬كتاب �إي�ضاح نظم‬
‫العلي العظيم‪ ،‬و�ص ِّل اللهم على �سيدنا حممد و� آله و�صحبه‪،‬‬ ‫ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك»‪ ،‬فك�أنَّ هذه الإ �شارات جميعها‬
‫وكان متامه يوم االثنني من نهار حادي من �شهر �شعبان‬ ‫تقطع بهذه الن�سبة التي نريد �إثباتها‪ ،‬كما تقطع بالعنوان‬
‫من �سنة ‪ 1288‬على مهاجرها �أف�ضل ال�صالة وال�سالم‪ ،‬ن�سخه‬ ‫النهائي للكتاب ذلك الذي ا�ستخل�صناه من واقع املخطوطني‬
‫لل�شيخ والده‪ ،‬و�صفيّ ودّه الثقة القا�ضي خلفان بن حاكم بن‬ ‫نف�سيهما‪ ،‬وممّا ي�ضاف هنا �أي�ض ًا �أنَّ ال�شيخ �رصَّح يف مو�ضع‬
‫�إ�سماعيل احلمريي الإ با�ضي‪ ،‬بقلم احلقري راجي رحمة ربّه‬ ‫� آخر بال�سبب الذي جعله يختار (ح�رضات) بدل (ح�رضة)‪ ،‬وذلك‬
‫القدير �أفقر خلق اهلل‪ ،‬و�أحوجهم �إليه �سامل بن علي بن نا�رص‬ ‫يف قوله‪ ...« :‬واملراد بجمع احل�رضات احرتازاً عن الوقوف عن‬
‫‪33‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ترتدّد عنده عبارات مثل‪( :‬يعرفونه عواده)‪( ،‬ا�ستعانوا با�سمه‬ ‫بن علي الإ �سماعيلي بيده»‪.‬‬
‫القا�صدون) و(ي�سمّونه �أهل الت�صوف) و(يختلفون �أهل اهلل)‪،‬‬ ‫وتقع هذه الن�سخة ب�أربعمائة و�سبع و�ستني �صفحة من‬
‫وغريها‪ ،‬ويقول ابن عقيل‪ ...« :‬وهذه اللغة القليلة هي التي يعبرّ‬ ‫القطع الكبري‪ ،‬وهي مكتوبة بخط �أ�سود وا�ضح معتاد‪� ،‬أمّا‬
‫عنها النحويـون بلغة‪� :‬أكلونـي الرباغيث‪ ...‬فـ (الرباغيث) فاعل‬ ‫الأ حمر فقد كُتب به ت�سل�سل املقدمات والأ بواب كالن�سخة‬
‫�أكلوين»(‪ ،)135‬فلع ّل هذا من بقايا الت�أثر بتلك اللهجة �سواء يف‬ ‫الأ وىل‪ ،‬كما كتب ال�شعر امل�رشوح بخطّ �أغلظ متييزاً له‬
‫الكالم �أم يف الكتابة‪ ،‬وهذا يثبت �أنَّ هذه الكتب ال تقدّم فوائدها‬ ‫عن ال�رشح كما هو عليه احلال يف الن�سخة الأ وىل‪ ،‬وت�ض ّم‬
‫يف العلم الذي اختّ�صت به فقط بل تتعدّاه �إىل فوائد لغوية‪،‬‬ ‫ال�صفحة خم�سة وع�رشين �سطراً‪ ،‬و�أربع ع�رشة كلمة يف‬
‫واجتماعية‪ ،‬وهو ما حلظناه يف هذا الكتاب‪ ،‬و�أ�رشنا �إليه يف‬ ‫ال�سطر الواحد على وجه التقريب‪ ،‬وممّا مييّز هذه الن�سخة‬
‫موا�ضعه‪.‬‬ ‫و�ضوح خطّها‪ ،‬وخلوّها من الت�آكل‪ ،‬والطم�س �إذ يبدو �أنّها‬
‫هذه هي �أه ّم املالحظات التي ر�أينا �إثباتها هنا‪ ،‬وهي‬ ‫قد حفظت ب�شكل جيد ممّا دعا �إىل احتفاظها بالأ �صل الذي‬
‫تفتح الباب وا�سع ًا جلملة من الدرا�سات �سواء منها ما‬ ‫تركت عليه‪ ،‬وقد �أعانت هذه الن�سخة على قراءة كثري من‬
‫هو متعلّق بالأ �سلوب‪� ،‬أو املجتمع‪� ،‬أم ما هو متعلّق بـ‬ ‫الكلمات املطمو�سة‪ ،‬وغري الوا�ضحة يف الن�سخة الأ وىل‪.‬‬
‫(ال�سلوك) نف�سه‪ ،‬ولن تتحقّق تلك الغايات بغري النظر‬ ‫ومن ال�رضوري �أن ن�شري �إىل بع�ض املالحظات التي �أ�صبحت‬
‫ال�شامل �إىل م�ؤلفات ال�شيخ نا�رص الأ خرى‪ ،‬وتقدمي درا�سات‬ ‫�أقرب �إىل الظاهرة يف الن�سختني �سواء يف امل�ضمون �أم ر�سم‬
‫مف�صّ لة عن تلك اجلوانب التي �أ�رشنا �إليها‪.‬‬ ‫الكلمات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪-9-‬‬ ‫‪ -1‬هناك �سقط يف الأ م يف ثالثة موا�ضع‪� ،‬أوله مبقدار ع�رشين‬
‫من املمكن تلخي�ص العمل الذي قام به املحقّق خدمة لهذا‬ ‫ورقة‪ ،‬وثانيه مبقدار ورقتني‪ ،‬وثالثه مبقدار خم�س ورقات‪،‬‬
‫الكتاب بالنقاط الآ تية‪:‬‬ ‫وكان االعتماد يف جرب هذا ال�سقط على [�س] وحدها‪ ،‬وقد �أ�شري‬
‫‪ -1‬تقدمي قراءة �سليمة للن�سخة (الأ م)‪ ،‬هي التي ارت�ضاها‬ ‫�إىل ذلك يف موا�ضعه‪.‬‬
‫امل�ؤلف لكتابه‪ ،‬ومتثّلت هذه القراءة يف �إعادة ن�سخ هذه (الأ م)‬ ‫‪ -2‬ي�شيع يف [�س] الت�صحيف‪ ،‬والتحريف وهما الآ فتان اللتان‬
‫مرة �أخرى متهيداً للمقابلة‪.‬‬ ‫ابتليت بهما املخطوطات العربية‪ ،‬وقدّمت ن�سخة (الأ �صل)‬
‫‪ -2‬مقابلة الن�سخة الثانية‪ ،‬وهي التي رمزنا لها بـ [�س] على‬ ‫معونات جمّة يف �إ�صالح ذلك الت�صحيف‪ ،‬والتحريف‪ ،‬بالإ �ضافة‬
‫(الأ مّ)‪ ،‬و�إثبات الفروق يف الهوام�ش‪.‬‬ ‫�إىل االجتهاد ال�شخ�صي‪ ،‬واال�ست�ضاءة بال�سياق يف اختيار ر�سم‬
‫‪ -3‬عر�ض �أبيات التائيتني على ديوان ابن الفار�ض املطبوع‬ ‫معينّ للكلمة‪ ،‬وقد �أ�شري �إىل ذلك كلّه يف موا�ضعه‪.‬‬
‫بتحقيق علمي‪ ،‬و�إثبات االختالفات يف الهوام�ش‪ ،‬وقد �أفادت‬ ‫‪ -3‬تعمد الن�سختان �إىل ت�سهيل الهمز مثل‪ :‬بئر‪ ،‬اجلائزة‪،‬‬
‫هذه العملية يف �إثبات �أنّ ال�شيخ رحمه اهلل كان ميتلك ن�سخ ًا‬ ‫الو�سائل‪ ،‬تكتب هكذا‪ :‬بري‪ ،‬اجلايزة‪ ،‬الو�سايل‪ ،‬وقد �أثبتنا ما هو‬
‫خمتلفة للديوان يوازن بينها‪ ،‬ويختار ما ي�ستق ّر عليه من‬ ‫متعارف عليه يف الكتابة املعروفة اليوم‪.‬‬
‫قراءات خمتلفة للأ بيات‪.‬‬ ‫‪ -4‬تعمد الن�سختان كذلك �إىل �رضوب من الكتابة تختلف عمّا هو‬
‫‪ -4‬ر ّد الآ يات الكرمية �إىل موا�ضعها يف �سورها مع �أرقامها‪.‬‬ ‫متعارف عليه اليوم‪ ،‬وقد متكّنا من ر�صد ظاهرتني �أوالهما �إ�ضافة‬
‫‪ -5‬تخريج الأ حاديث ال�رشيفة‪ ،‬والآ ثار النبوية يف كتب احلديث‬ ‫الياء �إىل الكلمة‪ ،‬وكانت الك�رسة وحدها تكفي مثل (جتلّتِ ) تكتب‬
‫املعتمدة‪ ،‬وم�صادر الت�صوف‪ ،‬والأ دب‪.‬‬ ‫(جتلّتي)‪ ،‬و(ق�ضيتِ ) تكتب (ق�ضيتي)‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وثانيهما ا�ستخدام‬
‫‪ -6‬تخريج ال�شعر‪ ،‬وهو قليل جداً‪ ،‬وقد اعتمد املحقّق على‬ ‫�ألف الإ طالق يف موا�ضع من حقّها �أن تكون �ألف ًا مق�صورة مثل‬
‫الديوان‪� ،‬أو امل�شهور من م�صادر ال�شعر‪.‬‬ ‫(املنى) تكتب (املنا)‪ ،‬و(القِرى) تكتب (القرا) وهكذا‪ ،‬وقد اعتمدنا‬
‫‪ -7‬الرتجمة للأ عالم ترجمات خمت�رصة مفيدة مع الإ حالة‬ ‫ما هو متعارف عليه اليوم كما يف النقطة ال�سابقة‪.‬‬
‫�إىل م�صادر هذه الرتاجم‪ ،‬و�أغفلت الرتجمة للم�شهورين منهم‬ ‫‪ -5‬يبدو �أنَّ ال�شيخ رحمه اهلل كان يثبت الآ يات الكرميات من‬
‫كالأ نبياء عليهم ال�سالم خ�شية �أن تكون الرتجمة يف هذه احلال‬ ‫حفظه‪ ،‬ولذلك الحظنا يف الكثري منها تغيرياً‪ ،‬وبرتاً‪ ،‬وتقدمياً‪،‬‬
‫ف�ضو ًال وزيادة‪.‬‬ ‫وت�أخرياً‪ ،‬وقد �أثبتنا الآ يات بحروفها كما وردت يف امل�صحف‬
‫‪ -8‬تخريج الأ قوال التي ي�ست�شهد بها امل�ؤلف يف ثنايا كتابه‪،‬‬ ‫بال �إ�شارة �إىل مواطن التغيري ل�سبب معروف هو اتفاق امل�سلمني‬
‫وهي غالب ًا �أقوال لكبار ال�صوفية‪ ،‬وكان املعتمد يف هذا‬ ‫جميعهم على م�صحف واحد‪.‬‬
‫التخريج م�صادر الت�صوف املعتمدة يف هذا املجال‪.‬‬ ‫‪ -6‬يعمد امل�ؤلف يف كثري من املوا�ضع �إىل ا�ستخدام ظاهرة‬
‫‪ -9‬تقدمي �رشوح خمت�رصة وافية للم�صطلح ال�صويف الذي‬ ‫لغوية موجودة يف اللهجة الأ زدية وهي «�أنَّ الفعل �إذا �أ�سند‬
‫يوظّ فه امل�ؤلف‪ ،‬وكان الق�صد من هذا العمل تقريب النّ�ص �إىل‬ ‫�إىل ظاهر مثنّى �أو جمموع �أُتي فيه بعالمة تدلّ على التثنية �أو‬
‫القارئ‪ ،‬ومعرفة املرامي البعيدة التي يريدها ابن الفار�ض‪،‬‬ ‫اجلمع»(‪ ،)134‬مثل قولهم‪ :‬قاما الزيدان‪ ،‬وقاموا الزيدون‪ ،‬ولذلك‬
‫‪34‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مهمة �سنقف عندها فيما بعد‪ ،‬ويف الفتح املبني‪� ،‬ص‪ 179‬منظومة مفيدة‬ ‫وال�شيخ نا�رص معاً‪ ،‬وكان االعتماد يف ذلك ال�رشح على معاجم‬
‫عن ن�سب بني خرو�ص‪ ،‬وينظر كذلك كتاب عمان الدميقراطية الإ �سالمية‪،‬‬ ‫امل�صطلح ال�صويف التي قدّمت خدمة جليلة لهذا العمل من‬
‫د‪ .‬ح�سني غبا�ش‪ ،‬وهو درا�سة علمية منهجية عن نظام الإ مامة و�أ�صولها‬
‫وتقاليدها مع مفا�صل مهمة من تاريخها‪.‬‬ ‫حيث جمع امل�صطلحات يف مكان واحد‪ ،‬وتقدمي � آراء خمتلفة‬
‫(‪ )3‬تقع على �سفح اجلبل الأ خ�رض من جهة ال�شمال‪ ،‬ينظر بحث الفا�ضل‬ ‫يف �رشح امل�صطلح الواحد‪.‬‬
‫مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي‪� ،‬ص‪.116‬‬ ‫‪ -10‬تقدمي �رشوح هي �أقرب �إىل التو�ضيح لبع�ض الق�ضايا‬
‫(‪ )4‬حتفة الأ عيان‪ ،175/2 ،‬والبو�سعيديون حكام زجنبار‪� ،‬ص‪،84‬‬ ‫الكالمية‪ ،‬والفل�سفية التي يعاجلها امل�ؤلف‪ ،‬مع حماولة معرفة‬
‫و�أعالم عمان‪� ،‬ص‪ ،156‬و�شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي‪ ،‬الفا�ضلة �رشيفة‬
‫اليحيائي‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش‪� ،‬ص‪.24‬‬ ‫جذورها‪ ،‬وربطها بال�سياق العام للفكرين الكالمي‪ ،‬والفل�سفي‬
‫(‪ )5‬حتفة الأ عيان‪.147/2 ،‬‬ ‫عند امل�سلمني‪ ،‬مع الرتكيز على الفكر الذي ي�صدر منه ال�شيخ‬
‫(‪ )6‬الفتح املبني‪� ،‬ص‪.147‬‬ ‫نا�رص‪ ،‬وهو الفكر الإ با�ضي‪ ،‬وقد اعتمدنا على امل�صادر‬
‫(‪� )7‬شقائق النعمان‪.139/1 ،‬‬
‫(‪ )8‬ينظر بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي‪� ،‬ص‪،116‬‬ ‫املوثوقة يف هذا العمل‪.‬‬
‫وينظر �أبو م�سلم الرواحي‪ ،‬د‪ .‬حممد بن �صالح نا�رص‪� ،‬ص‪.120‬‬ ‫وي�أمل املحقّق �أن يكون قد قدّم خدمة نافعة للرتاث‬
‫(‪ )9‬ومن �إخوان ال�شيخ نا�رص غري نبهان‪ :‬يحيى و�سعيد وخمي�س‪ ،‬والأ خري‬ ‫العماين عموماً‪ ،‬وللرتاث ال�سلوكي خ�صو�صاً‪ ،‬وهو يكرّر ما‬
‫هو الذي طُ لب منه �أن يكون �إمام ًا قبل عقد الإ مامة لعزان بن قي�س ف�أبى‪،‬‬ ‫تبنّاه يف منا�سبات �سابقة من �رضورة االهتمام مب�صنفات‬
‫ينظر بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي‪� ،‬ص‪،118‬‬
‫و�شقائق النعمان‪ ،140/1 ،‬وعمان الدميقراطية الإ �سالمية‪ ،‬د‪ .‬ح�سني‬ ‫ال�شيخ نا�رص اخلرو�صي‪ ،‬وتراثه الفكري‪ ،‬والنظر بجّ د �إىل‬
‫غبا�ش‪� ،‬ص‪ ،216‬وما بعدها‪.‬‬ ‫االجتاه ال�سلوكي الذي مثّله ال�شيخ جاعد بن خمي�س خري‬
‫(‪ )10‬قدّم الباحث �إبراهيم بن يحيى العربي ثبت ًا ممتازاً لكتب ال�شيخ‬ ‫متثيل ملا فيه من خ�صوبة‪ ،‬وجتارب وجدانية عميقة‪،‬‬
‫نا�رص جعله يف ق�سمني هما‪ :‬م�ؤلفاته املوجودة‪ ،‬والكتب غري املوجودة‪،‬‬ ‫والتوجّ ه �إىل تبيان امل�ؤثرات العامة يف هذا االجتاه �سواء‬
‫حوى الأ ول ثمانية كتب‪ ،‬و�ض ّم الثاين �سبعة ع�رش كتاباً‪ ،‬ور�سالة‪ ،‬والكتب‬
‫الثمانية املوجودة ما تزال خمطوطة عدا الكتاب الذي حقّقه وهو كتاب‬ ‫�أكانت عربية �أم غري عربية ملا يف هذا التبيان من تعميق‬
‫(الإ خال�ص)‪ ،‬وهذا الكتاب‪ ،‬ومل يذكر كتاب ًا لل�شيخ نا�رص هو �رشح ق�صيدة‬ ‫ملا �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من نق�ض مقولة العزلة الثقافية‪،‬‬
‫والده (حياة املهج) الذي قامت بتحقيقه الباحثة عالية بنت ح�سن بن‬ ‫ولن يتحقّق هذا كلّه �إالّ بتظافر اجلهود املخل�صة‪ ،‬والر�ؤية‬
‫حممد العجمي‪ ،‬وقدّمته �إىل جامعة ال�سلطان قابو�س‪ -‬كلية الآ داب والعلوم‬
‫االجتماعية‪ -‬ق�سم اللغة العربية باعتباره ر�سالة ماج�ستري ب�إ�رشاف حمقّق‬ ‫العلمية املنهجية يف تناول ذلك الدر�س‪ ،‬وعند ذاك يتجلّى‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬ ‫االعتناء بالرتاث العماين يف �أجلى �صوره قائم ًا على‬
‫(‪ )11‬يالحظ هذا الت�شابك يف العلوم الذي مييز ثقافة ال�شيخ نا�رص‪ ،‬وهو ما‬ ‫العلم واملنهج معاً‪.‬‬
‫�أ�رشنا �إليه يف الت�صدير‪ ،‬ويومئ بقوة �إىل الوحدة من خالل التعدد‪ ،‬العلوم‬ ‫وال يفوت املحقّق يف ختام هذه املقدمة �أن يتقدم بوافر ال�شكر‬
‫املختلفة تخدم غر�ض ًا واحداً‪.‬‬
‫(‪ )12‬بحث �سماحة املفتي العام لل�سلطنة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي‬ ‫والتقدير �إىل معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي املوقر‬
‫عن العمانيني و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا‪،‬‬ ‫الذي فتح مكتبته العامرة �أمام الباحث كي ينهل من معينها‬
‫�ص‪ ،183-182‬وينظر �شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي‪ ،‬الفا�ضلة �رشيفة‬ ‫العذب‪ ،‬كما مل يرتدّد يف تلبية طلب املحقّق لت�صوير الن�سخة‬
‫اليحيائي‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬مل تن�رش‪� ،‬ص‪ 24‬وما بعدها‪ ،‬ومما يذكر هنا‬ ‫من الكتاب التي حتتفظ بها املكتبة‪ ،‬وهذا لي�س بغريب على‬
‫�أنَّ هذا الكتاب و�صل �إلينا �ساملاً‪ ،‬وهناك ن�سخ منه‪ ،‬وعنوانه الكامل (العلم‬
‫املبني وحق اليقني)‪ ،‬ينظر عنه مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص) �ص‪-72‬‬ ‫�سماحته‪ ،‬و�سعة �صدره‪ ،‬ودعمه امل�ستمر للباحثني‪ ،‬كما يتقدم‬
‫‪.73‬‬ ‫لتف�ضلها‬
‫ّ‬ ‫املحقق بوافر �شكره �إىل وزارة الرتاث والثقافة‬
‫(‪ )13‬بحث �سماحة املفتي ال�سابق‪� ،‬ص‪ .183‬ومما يذكر هنا �أي�ض ًا �أن هذا‬ ‫باملوافقة على ت�صوير الن�سخة من الكتاب التي حتتفظ بها‪ ،‬كما‬
‫الكتاب و�صل هو الآ خر �سامل ًا من ال�ضياع‪ ،‬وهناك ن�سختان منه‪ ،‬ينظر‬
‫تف�صيل هاتني الن�سختني يف مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص)‪� ،‬ص‪.74‬‬ ‫ي�شكر املكتبة الرئي�سة يف جامعة ال�سلطان قابو�س‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬
‫(‪ )14‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.183‬‬ ‫االخوة الأ فا�ضل يف قاعة عمان‪� ،‬إذ �سهّلوا عمله مبا و�ضعوا‬
‫(‪ )15‬ينظر حتفة الأ عيان يف موا�ضع متفرقة مثل‪20/2 :‬و‪24‬و ‪140‬و‬ ‫حتت يديه من م�صادر‪ ،‬ومراجع‪ ،‬كما ي�شكر الزمالء الكرام الذين‬
‫‪141‬و ‪143‬و ‪144‬و و‪145‬و ‪147‬و ‪ 149‬وغريها كثري‪.‬‬ ‫�أعانوه يف �إجناز هذا العمل‪ ،‬وهم كرث‪ ،‬و� آخر دعوانا �أن احلمد‬
‫(‪ )16‬ينظر على �سبيل املثال الفتح املبني‪� ،‬ص‪ 103‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )17‬بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي‪� ،‬ص‪.118‬‬ ‫هلل ربّ العاملني‪.‬‬
‫(‪ )18‬ينظر حتفة الأ عيان يف موا�ضع متفرقة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا ‪147/2‬و‪،162‬‬ ‫الهوام�ش‬
‫وهناك تف�صيالت �أخرى تهم امل�ؤرخ يراها القارئ مبثوثة يف التحفة‪.‬‬
‫(‪ )19‬القا�شع بلغة �أهل عمان نوع �صغري من ال�سمك‪ ،‬ينظر �إزاحة الأ غيان‬ ‫(‪ )1‬ينظر الفتح املبني‪� ،‬ص‪ ،146‬و�شقائق النعمان‪.139/1 ،‬‬
‫عن لغة �أهل عمان‪ ،‬ال�شيخ احلارثي‪� ،‬ص‪.108‬‬ ‫(‪ )2‬ينظر يف ترجمة هذين الإ مامني والأ حداث التي جرت يف ع�رصيهما‪:‬‬
‫(‪ )20‬حتفة الأ عيان‪.175/2 ،‬‬ ‫حتفة الأ عيان ‪108/1‬و‪ 203/2‬وال�شعاع ال�شائع باللمعان‪� ،‬ص‪ 48‬و‪،67‬‬
‫(‪ )21‬حتفة الأ عيان‪.175/1 ،‬‬ ‫وك�شف الغمة‪� ،‬ص‪264‬و‪ ،312‬و�شقائق النعمان‪204/2 ،‬و‪ ،207‬وتقدم‬
‫(‪ )22‬هو ال�سيد �سعيد بن �سلطان بن الإ مام �أحمد بن �سعيد البو�سعيدي‪ ،‬ولد‬ ‫هذه الكتب م�سارد مف�صلة عن الأ ئمة غري �أن م�رسد �صاحب ال�شقائق ذو‬
‫�سنة ‪1204‬هـ‪ ،‬وتويف �سنة ‪1273‬هـ‪ ،‬كان من كبار ال�سا�سة وحكم طوال‬ ‫�صبغة منظمة ب�شكل وا�ضح‪ ،‬وما يهمنا فيه �أن هناك �سبعة ع�رش �إمام ًا‬
‫ن�صف قرن‪ .‬وقعت يف عهده �أحداث ج�سام عاجلها بحكمة‪ ،‬وقد �ألف عنه‬ ‫من اليحمد وبني خرو�ص الذين ينتمي �إليهم ال�شيخ نا�رص‪ ،‬ولهذا داللة‬
‫‪35‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الإ �سالمي‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪� ،‬ص‪ ،15‬وما بعدها فقد �ساق كثرياً من‬ ‫ابن رزيق كتاب ًا �صغرياً �سماه (بدر التمام يف �سرية ال�سيد الهمام �سعيد‬
‫تلك احلدود‪ ،‬وينظر كذلك كتاب احلركة ال�صوفية يف الإ �سالم‪ ،‬د‪ .‬حممد علي‬ ‫بن �سلطان بن الإ مام احلميد �أحمد بن �سعيد البو�سعيدي)‪ ،‬وقد طبع ملحق ًا‬
‫�أبو ريان‪� ،‬ص‪ ،18‬وما بعدها‪ ،‬فقد �أورد خم�سة ع�رش تعريف ًا للت�صوف مع‬ ‫بكتابه الفتح املبني‪ ،‬وفيه تف�صيالت تاريخية و�سيا�سية واجتماعية مفيدة‪،‬‬
‫مناق�شتها و�رشحها‪.‬‬ ‫وينظر عنه كذلك‪ :‬جهينة الأ خبار‪� ،‬ص‪ ،233‬و�شقائق النعمان‪،236/2 ،‬‬
‫(‪ )51‬مقدمة ابن خلدون‪.1097/3 ،‬‬ ‫والعمانيون و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا‪ ،‬بحث‬
‫(‪ )52‬حتدث الدكتور عمر فروخ عن الغرباء وال�سياحني‪ ،‬والنورانية‪،‬‬ ‫ل�سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطنة‪� ،‬ص‪ ،177‬وما‬
‫واملقربني‪ ،‬وهي م�صطلحات مرادفة للمت�صوفة غري �أنها مل تنت�رش‬ ‫بعدها‪ ،‬ويقول فيه‪( :‬وكان الرجل الذي �أعطى �أفريقيا ال�رشقية عنايته‬
‫كانت�شار الت�صوف وال�صوفية‪ ،‬ينظر كتابه الت�صوف يف الإ �سالم‪� ،‬ص‪،25‬‬ ‫البالغة هو ال�سلطان �سعيد بن �سلطان الذي �أ�س�س �إمرباطورية هناك)‪،‬‬
‫وي�شري د‪ .‬كامل ال�شيبي �إىل �أنّ الزهاد يف ال�شام ي�سمّون جوعيني‪ ،‬ينظر‬ ‫�ص‪ ،180‬وعمان الدميقراطية الإ �سالمية‪� ،‬ص‪ ،155‬وما بعدها‪ ،‬واملوجز‬
‫كتابه ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع‪ ،339/1 ،‬ومعلوم �أنّ اجلوع واحد‬ ‫املفيد‪� ،‬ص‪ ،33‬وما بعدها‪ ،‬وال�شعر العربي العماين يف املهجر الأ فريقي‪،‬‬
‫من و�سائل املت�صوفة للو�صول �إىل احلقيقة مثل العزلة‪ ،‬ولب�س اخل�شن من‬ ‫الفا�ضل �سبيت الغيالين‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش‪� ،‬ص‪ 25‬وما بعدها‪.‬‬
‫الثياب وغريها‪.‬‬ ‫(‪ )23‬حتفة الأ عيان‪ ،175/2 ،‬ويف كتاب البو�سعيديون حكام زجنبار‪،‬‬
‫(‪ )53‬املعجم ال�صويف‪� ،‬ص‪.712‬‬ ‫�ص‪� ،83‬أن ال�سيد �سعيد كان يحرتم ال�شيخ وكذلك كان اجلميع‪.‬‬
‫(‪ )54‬من املهم �أن ن�شري هنا �إىل �أن هذا اجلانب بحاجة �إىل مزيد من‬ ‫(‪ )24‬ينظر جهينة الأ خبار‪� ،‬ص‪.237‬‬
‫الدرا�سة والبحث ولي�س هنا مو�ضعها كي تت�ضح ال�صورة وي�ستقيم املنهج‪.‬‬ ‫(‪ )25‬ينظر حتفة الأ عيان‪ ،175/2 ،‬والفتح املبني‪� ،‬ص‪.150‬‬
‫(‪ )55‬ومما ي�ساعد على هذا ت�أكيد الق�شريي من �أن (كل �رشيعة غري مقيدة‬ ‫(‪ )26‬جهينة الأ خبار‪� ،‬ص‪.237‬‬
‫باحلقيقة فغري مقبول‪ ،‬وكل حقيقة غري م�ؤيدة بال�رشيعة فغري مقبول)‪،‬‬ ‫(‪ )27‬ال حاجة بنا للتعريف باملحقق اخلليلي فهو علم م�شهور وعامل كبري‪،‬‬
‫ينظر الر�سالة الق�شريية ‪ ،261/1‬ومل يقل الق�شريي هذا الكالم �إال بعد ر�ؤيته‬ ‫ينظر عنه ر�سالة الفا�ضلة �رشيفة اليحيائي مع م�صادرها‪ ،‬وبحوث الندوة‬
‫�أنا�س ًا من ال�صوفية يتخففون من الفرائ�ض ويذهبون يف كالمهم مذاهب‬ ‫التي �أقامها املنتدى الأ دبي تكرمي ًا له‪ ،‬و�صدرت يف كتاب‪ ،‬وينظر للمحقق‬
‫توحي باخلروج على �أحكام ال�رشيعة‪.‬‬ ‫كتابه (الأ دب يف اخلليج العربي)‪ ،‬اجلزء الثالث حيث عرّف باملحقق‬
‫(‪ )56‬مقاليد الت�رصيف �أرجوزة طويلة يف علم ال�رصف نظمها العالمة‬ ‫اخلليلي‪.‬‬
‫اخلليلي ثم �رشحها بنف�سه‪ ،‬وهناك درا�سات قامت عليها‪ ،‬ينظر بحوث‬ ‫(‪ )28‬ال�شيخ اخلليلي‪ ،‬الفا�ضلة �رشيفة اليحيائي‪� ،‬ص‪.24‬‬
‫الندوة التي �أقيمت تكرمي ًا له باملنتدى الأ دبي‪� ،‬سنة ‪1994‬م‪.‬‬ ‫(‪ )29‬بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي‪� ،‬ص‪.116‬‬
‫(‪ )57‬وو�صفه ال�شيخ �سامل ال�سيابي كذلك بال�شيخ الرباين يف كتابه �أ�صدق‬ ‫(‪ )30‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.116‬‬
‫املناهج‪ ،‬ينظر �ص‪.57‬‬ ‫(‪ )31‬مقاليد الت�رصيف‪.3/1 ،‬‬
‫(‪ )58‬مقاليد الت�رصيف‪ ،3/1 ،‬ومن املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن العالمة‬ ‫(‪ )32‬بحث �سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطنة عن‬
‫اخلليلي نف�سه و�صف بالقطب وذلك على ل�سان ال�شاعر الكبري �أبي م�سلم‬ ‫اخلليلي فقيه ًا وحمققاً‪� ،‬ص‪.14‬‬
‫البهالين حيث حتدث عنه يف ديوانه فقال‪( :‬مل يت�صل بي كيفية تبتل �سيدي‬ ‫(‪ )33‬ابن رزيق هو حميد بن حممد بن رزيق بن بخيت بن غ�سان النخلي‪،‬‬
‫القطب اخلليلي‪ ) ...‬و�أعادها ثالث مرات‪ ،‬ينظر ديوان �أبي م�سلم‪� ،‬ص‪.153‬‬ ‫ولد �سنة ‪ 1198‬للهجرة وتويف �سنة ‪ 1290‬للهجرة‪ ،‬يحتل منزلة متقدمة‬
‫(‪ )59‬املولوي من كان من �أتباع املولوية وهي طريقة �صوفية تن�سب �إىل‬ ‫بني �شعراء وم�ؤرخي عمان‪ ،‬ينظر عن �سريته و� آثاره بحث الدكتور �سعيد‬
‫م�ؤ�س�سها جالل الدين الرومي املتويف �سنة ‪ 672‬للهجرة‪ ،‬ويلقب مبوالنا‪،‬‬ ‫الها�شمي‪ ،‬ومقدمة حتقيق �سلك الفريد‪ 10/1 ،‬وما بعدها‪.‬‬
‫وت�سمى اجلاللية ن�سبة �إليه �أي�ضاً‪ ،‬ويلحظ الدار�سون تقارب ًا بني جالل الدين‬ ‫(‪ )34‬ي�أتي ذكر ابن رزيق يف هذا الكتاب �أي�ضاً‪.‬‬
‫الرومي وابن الفار�ض يف �سلوكهما ال�صويف وقولهما بوحدة ال�شهود وهي‬ ‫(‪ )35‬ينظر الفتح املبني‪� ،‬ص‪ ،151‬وما بعدها‪.‬‬
‫غري وحدة الوجود التي قال بها غريهما‪ ،‬وهي نهاية الطريق ال�صويف من‬ ‫(‪ )36‬الفتح املبني‪� ،‬ص‪.151‬‬
‫حيث و�صول الروح �إىل عوامل بعيدة والدخول يف مناطق ح�سا�سة بغري‬ ‫(‪ )37‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص‪.158‬‬
‫امتزاج باحلق كما قال غريهم‪ ،‬وهذا قول املت�صوفة املحافظني على‬ ‫(‪ )38‬اطلع املحقّق على ن�سخة منه يف مكتبة معايل ال�سيد حممد بن‬
‫ال�رشيعة‪ ،‬فهل يو�صف ال�شيخ نا�رص ووالده باملولوي ن�سبة �إىل املولوية‬ ‫�أحمد البو�سعيدي بال�سيب ويقع مبائة واثنتني وثالثني �صفحة من القطع‬
‫ب�سبب اقرتابها من ابن الفار�ض من جهة ومت�سكها ب�أهداب ال�رشيعة من‬ ‫املتو�سط‪ ،‬مكتوب بخط وا�ضح بالأ �سود والأ حمر‪ ،‬وهذا من الكتب الواجب‬
‫جهة �أخرى؟ �أم �إنَّ املولوية – كما هو معروف – جتيز وراثة الطريقة فقد‬ ‫درا�ستها وحتقيقها ا�ستكما ًال مل�رشوع ن�رش كتب ال�شيخ نا�رص رحمه اهلل‪.‬‬
‫ظلّت م�ستمرة يف �أبناء جالل الدين‪ ،‬و�أحفاده‪ ،‬ونراها هنا يف ال�شيخ نا�رص‪،‬‬ ‫(‪� )39‬سبائك اللجني‪ ،‬خمطوط و‪.1‬‬
‫ووالده ال�شيخ �أبي نبهان؟ هذا املو�ضوع حمتاج �إىل مبحث م�ستقلّ‪ ،‬ينظر‬ ‫(‪ )40‬و(‪ )41‬و(‪ )42‬بحثه عن �أبي م�سلم البهالين‪� ،‬ص‪.51‬‬
‫عن املولوية ووحدة ال�شهود‪ ،‬ووراثة الطريقة‪ ،‬دائرة املعارف الإ �سالمية‬ ‫(‪ )43‬معجم م�صطلحات ال�صوفية‪ ،‬د‪ .‬عبد احلليم احلفني‪� ،‬ص‪.133‬‬
‫مادة (مولوية) بالإ جنليزية‪ ،‬مدخل �إىل الت�صوف الإ �سالمي‪ ،‬د‪� .‬أبو الوفا‬ ‫(‪ )44‬املقام هو ما يتو�صل �إليه العبد عن طريق الأ عمال‪ ،‬ويرد معه م�صطلح‬
‫الغنيمي‪� ،‬ص‪ ،213‬وما بعدها‪ ،‬يف الت�صوف الإ �سالمي‪ ،‬نيكل�سون‪،‬‬ ‫احلال وهو ال يكت�سب بالأ عمال و�إمنا هو منَّة �إلهية مينّها الرب للعبد‪ ،‬ينظر‬
‫�ص‪ ،152‬وما بعدها‪ ،‬وابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي‬ ‫ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي حلمي‪� ،‬ص‪ ،171‬وينظر‬
‫حلمي‪� ،‬ص‪ ،10‬ومعجم العامل الإ �سالمي‪� ،‬ص‪ ،622‬وما بعدها‪ ،‬وللدكتور‬ ‫بتف�صيل �أكرث كتاب ال�سيوطي والت�صوف‪ ،‬د‪ .‬عبد اخلالق حممود‪� ،‬ص‪.88‬‬
‫عبد القادر حممود ر�أي خمالف ملا تقدم‪ ،‬ينظر كتابه الفل�سفة ال�صوفية‬ ‫(‪ )45‬ينظر املعجم ال�صويف‪ ،‬د‪� .‬سعاد احلكيم‪� ،‬ص‪.585‬‬
‫يف الإ �سالم‪� ،‬ص‪ 534‬وما بعدها‪ ،‬وال�صلة بني الت�صوف والت�شيع‪ ،‬د‪ .‬كامل‬ ‫(‪ )46‬معجم �ألفاظ ال�صوفية‪ ،‬د‪ .‬ح�سن ال�رشقاوي‪� ،‬ص‪.232‬‬
‫ال�شيبي‪.476/1 ،‬‬ ‫(‪ )47‬املعجم ال�صويف‪ ،‬د‪� .‬سعاد احلكيم‪� ،‬ص‪.721‬‬
‫(‪ )60‬الويل‪ :‬هو من توىل احلق �أمره وحفظه من الع�صيان‪ ،‬ومن توالت‬ ‫(‪ )48‬ينظر املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪ 585‬وما بعدها‪.‬‬
‫طاعته من غري �أن يتخللها ع�صيان‪ ،‬وهو العارف باهلل و�صفاته بح�سب ما‬ ‫(‪ )49‬ال�سابق‪� ،‬ص‪ 721-720‬وينظر كذلك مو�سوعة م�صطلحات الت�صوف‬
‫ميكن‪ ،‬املواظب على الطاعات املجتنب عن املعا�صي‪ ،‬ينظر ا�صطالحات‬ ‫واف‪.‬‬
‫الإ �سالمي‪ ،‬د‪ .‬رفيق املعجم‪� ،‬ص‪ ،573‬ففيه تف�صيل ٍ‬
‫ال�صوفية‪ ،‬الكا�شاين‪� ،‬ص‪ 76‬مع م�صادر التحقيق‪.‬‬ ‫(‪ )50‬يف تعريف الت�صوف م�شكلة كبرية ب�سبب كرثة احلدود التي يقدمها‬
‫(‪ )61‬ينظر الفتح املبني‪� ،‬ص‪.150‬‬ ‫املت�صوفة له‪ ،‬وقد جمع الأ �ستاذ نيكل�سون ثمانية و�سبعني تعريف ًا له‪ ،‬غري‬
‫(‪ )62‬ينظر �سبائك اللجني‪ ،‬ابن رزيق‪ ،‬خمطوط‪ ،‬و‪ ،115‬ومما يذكر هنا �أن‬ ‫�أننا ن�أخذ هنا جوهره وجتربته الباطنية فح�سب‪ ،‬ينظر تاريخ الت�صوف‬
‫‪36‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لأ نف�سهم من منهج هو (ال�سلوك)‪.‬‬ ‫ال�شيخ جاعد بن خمي�س و�صف يف موا�ضع كثرية بالقطب الرباين‪ ،‬ينظر‬
‫(‪ )76‬اجتاهات الأ دب العماين يف الع�رص احلديث‪ ،‬د‪ .‬علي عبد اخلالق‪،‬‬ ‫ال�شعاع ال�شائع باللمعان‪� ،‬ص‪ 69‬على �سبيل املثال‪ ،‬والقطب هو الواحد‬
‫ر�سالة دكتوراه مل تن�رش‪� ،‬ص‪.334‬‬ ‫الذي هو مو�ضع نظر اهلل من العامل يف كل زمان‪ ،‬ينظر ا�صطالحات‬
‫(‪ )77‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.334‬‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬الكا�شاين‪� ،‬ص‪ ،153‬مع م�صادر التحقيق‪.‬‬
‫(‪ )78‬حقّق هذا ال�رشح حمقّق هذا الكتاب‪ ،‬ون�رشه يف اجلزء الثالث من‬ ‫(‪ )63‬ينظر �سبائك اللجني‪ ،‬و‪.3‬‬
‫كتابه (الأ دب يف اخلليج العربي)‪.‬‬ ‫(‪ )64‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬و‪.1‬‬
‫(‪ )79‬و(‪� )80‬شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي‪� ،‬إعداد الفا�ضلة �رشيفة‬ ‫(‪ )65‬هو كتاب (الإ خال�ص بنور العلم واخلال�ص من الظلم)‪ ،‬وقد و�صل‬
‫اليحيائي‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش‪� ،‬ص‪.65‬‬ ‫وقام بتحقيقه وكتابة مقدمة جيدة له الفا�ضل‪� /‬إبراهيم بن يحيى بن‬
‫(‪ )81‬العمانيون و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا‪،‬‬ ‫حمدان العربي‪ ،‬وقدّمه �إىل كلية دار العلوم – ق�سم الفل�سفة الإ �سالمية �سنة‬
‫�سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطة‪� ،‬ص‪ ،186‬وينظر‬ ‫‪1998‬م باعتباره ر�سالة جامعية لنيل درجة املاج�ستري‪ ،‬و�ستكون لنا معه‬
‫كذلك تطور الأ دب يف عُ مان‪ ،‬د‪� .‬أحمد دروي�ش‪� ،‬ص‪.187‬‬ ‫وقفات‪ ،‬بح�سبان �أن ال�شيخ نا�رص ي�شري �إليه مرات يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )82‬ديوان �أبي م�سلم‪� ،‬ص‪ ،42‬وما بعدها‪ ،‬ومما يذكر هنا �أنَّ �شاعراً ميني ًا‬ ‫(‪ )66‬ينظر الفتح املبني‪� ،‬ص‪.150‬‬
‫من �شعراء الت�صوف هو �أبو بكر ال�سقاف املتويف �سنة ‪ 992‬للهجرة قد‬ ‫(‪� )67‬إن كتب ال�شيخ نا�رص بحاجة �إىل بحث خا�ص يكون �أ�شبه بالتمهيد‬
‫عار�ض تائيتي ابن الفار�ض ال�صغرى والكربى بتائيتني من نظمه ممّا‬ ‫من حيث معرفة �أماكن وجودها ون�سخها وو�صفها و�صف ًا علمياً‪ ،‬وتكون‬
‫ي�شري �إىل اهتمام املناخ ال�صويف بابن الفار�ض‪ ،‬ينظر عن تائيتي ال�سقاف‬ ‫نقطة البداية ق�صيدة ابن رزيق التي �أ�رشنا �إليها �سابقاً‪ ،‬والثبت الذي �صنعه‬
‫بحث د‪ .‬عبد اهلل حممد الغزايل (�أبو بكر ال�سقاف وتائيته) املن�شور مبجلة‬ ‫الباحث �إبراهيم بن يحيى العربي وهذا ما ق�صدناه بالتمهيد‪� ،‬أما تتمة العمل‬
‫معهد املخطوطات العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املجلد ‪ ،40‬اجلزء الثاين‪ ،‬نوفمرب �سنة‬ ‫والدخول فيه فيتمثالن يف حتقيق هذه الكتب حتقيق ًا علمي ًا ون�رشها خدمة‬
‫‪1996‬م‪ ،‬وي�ضاف �إىل ما تقدّم �أنّ �شاعراً من �شعراء القرن التا�سع هو عبد‬ ‫لهذا االجتاه يف الفكر والأ دب بعمان‪ ،‬الذي مل يوله الدار�سون عناية كبرية‪.‬‬
‫القادر بن حممد‪ ،‬و�شهرته ابن ق�ضيب البان نظم تائية طويلة عار�ض بها‬ ‫(‪ )68‬تعرّ�ض ال�شيخ نا�رص يف هذا الكتاب‪ ،‬ويف موا�ضع كثرية ملكانة ابن‬
‫تائية ابن الفار�ض‪ ،‬ينظر املو�سوعة ال�صوفية‪� ،‬ص‪ .482‬كما �إنَّ �شاعراً من‬ ‫الفار�ض‪ ،‬ويكفي �أن نثبت ن�ص ًا واحداً لتبيان ر�أيه فيه‪ ،‬يقول ال�شيخ نا�رص‪:‬‬
‫�شعراء القرن الثامن الهجري هو عامر الب�رصي قد نظم تائية هو الآ خر على‬ ‫«‪ ...‬واعلم �أنَّ كل علم عند اهلل تعاىل عظيم �سخّ ر له �إن�سان ًا يحبّه ويتعلّمه‪...‬‬
‫غرار تائية ابن الفار�ض بلغت عدتها خم�سمائة و�ستة �أبيات‪ ،‬ونراه ي�رصح‬ ‫يتناهي فيه فيظهر على ل�سانه ب�أف�صح و�أحكم حكمة يف الف�صاحة في�صري‬
‫يف مقدمتها �أنه ين�سج على منوال ابن الفار�ض يف تائيته فيقول‪ ...( :‬ف�إنه‬ ‫عامل الوجود معجزة لغريه من بعده �إىل يوم القيامة‪ ،‬وال �شك �أن هذا الناظم‬
‫ملا ر�أي الإ خوان‪ . .‬ما ت�ضمنته ق�صيدة �أبي حف�ص عمر بن الفار�ض‪...‬‬ ‫يف هذا العلم هو معجزة جلميع خلق اهلل تعاىل ما خال النبي �صلى اهلل عليه‬
‫التائية يف علم التوحيد من النظم الفائق‪ . .‬التم�س مني املقرب لدى منهم‪. .‬‬ ‫و�سلم‪ ،» ...‬يف كالم طويل‪ ،‬وهو يبينّ مكانة ابن الفار�ض عند ال�شيخ نا�رص‪،‬‬
‫ترتيب ق�صيدة على وزن تلك الق�صيدة ورويّها)‪ ،‬ينظر تائية عامر الب�رصي‪،‬‬ ‫واالجتاه ال�سلوكي عموما‪.‬‬
‫�ص‪ ،20‬وجند مبحث ًا غني ًا عن عامر وتائيته وعقيدته يف كتاب ال�صلة‬ ‫(‪ )69‬ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي حلمي‪� ،‬ص‪ ،7‬وفيه‬
‫بني الت�صوف والت�شيع‪ ،‬د‪ .‬كامل م�صطفي ال�شيبي‪ ،115/2 ،‬وما بعدها مع‬ ‫ترجمة وافية البن الفار�ض‪.‬‬
‫م�صادره‪ ،‬ومل يكن الق�صد �إح�صاء مَ نْ عار�ض ابن الفار�ض يف تائيته‪ ،‬فهم‬ ‫(‪ )70‬يذهب د‪ .‬عاطف جودة ن�رص‪ ،‬ومعه جمهرة من الدار�سني �إىل �أن ابن‬
‫كرث‪ ،‬غري �أنّ هذه ال�شواهد ت�شري �إىل �شهرة التائية‪ ،‬وانت�شارها‪.‬‬ ‫الفار�ض هو «�أ�ستاذ الفن التائي يف ال�شعر العربي‪ ،‬وذلك �أنَّه ا�ستحدث‬
‫(‪ )83‬ابن الفار�ض‪ ،‬واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي حلمي‪� ،‬ص‪.42‬‬ ‫ق�صيدتني‪ :‬الأ وىل التائية ال�صغرى‪ ،‬والثانية التائية الكربى املعروفة‬
‫(‪ )84‬يرجي مالحظة الأ �سلوب الذي ي�ستخدمه الكا�شاين الذي يقوم على‬ ‫بتائية ال�سلوك‪ ،‬وقد ن�سج على منواله يف هذا الفن �صوفية � آخرون ك�إبراهيم‬
‫املجازات والت�صوير‪ ،‬وينحو نحو الزخرفة وتعميق ظالل الأ لفاظ‪ ،‬وهذا هو‬ ‫الد�سوقي‪ ،‬وقطب الدين الق�سطالين‪ ،‬وال�سيد �أحمد البدوي‪ ،‬واحتذوا حذو‬
‫�ش�أن �أ�سلوب ال�صوفية يف كتاباتهم وخ�صو�ص ًا املت�أخرين منهم‪ ،‬ومن هنا‬ ‫ابن الفار�ض يف التعبري عن � آرائهم»‪ ،‬ينظر كتابه �شعر عمر بن الفار�ض‪،‬‬
‫ات�صف ما قدموه بالعمق واخل�صوبة‪ ،‬واللغة املتميزة مقرتنة بامل�ضمون‬ ‫�ص‪ ،306‬ولذلك فلي�س غريب ًا �أن يت�أثر �شعراء ال�سلوك العمانيون – كما‬
‫العميق‪.‬‬ ‫�سرنى – بابن الفار�ض �أ�سوة بغريهم من �شعراء هذا امل�رشب‪.‬‬
‫(‪ )85‬ك�شف الوجوه الغر‪.9-8/1 ،‬‬ ‫(‪ )71‬من املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن الإ مام جالل الدين ال�سيوطي قد �رشح‬
‫(‪ )86‬امل�صدر ال�سابق‪.9/1 ،‬‬ ‫الق�صيدة اليائية البن الفار�ض يف كتاب �سماه (الربق الوام�ض يف �رشح‬
‫(‪ )87‬ال�سابق‪.46/1 ،‬‬ ‫يائية ابن الفار�ض)‪ ،‬ومطلع اليائية‪:‬‬
‫(‪ )88‬لعل ال�شيخ يومئ هنا من بعيد �إىل تلك الق�صة التي وردت يف‬ ‫�سائق الأ ظعان يطوي البيد طي‬
‫ديباجة ديوان ابن الفار�ض وملخ�صها �أن �أحد ال�شيوخ من معا�رصي ابن‬ ‫منعم ًا عرج على كثبان طـي‬ ‫ ‬
‫الفار�ض‪ ،‬وكان من �أكابر علماء زمانه‪ ،‬ا�ست�أذن ابن الفار�ض يف (�رشح‬ ‫ومنه ن�سخ خمطوطة يف القاهرة‪ ،‬ودم�شق‪ ،‬واملغرب‪ ،‬وقطر‪ ،‬ويعمل الباحث‬
‫ق�صيدة نظم ال�سلوك‪ ،‬فقال له‪ ،‬يف كم جملد ت�رشحها؟ فقال‪ :‬يف جملدين‪،‬‬ ‫على حتقيقه الآ ن‪.‬‬
‫فتب�سم ابن الفار�ض وقال‪ :‬لو �شيءت ل�رشحت كل بيت منها يف جملدين)‪،‬‬ ‫(‪ )72‬من املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن هناك �رشوح ًا بالفار�سية لهذه‬
‫وعلى هذا �سيكون ال�رشح �ألف جملد ويزيد وهو مما لي�س يف طاقة الب�رش‪،‬‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬ينظر ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪� ،‬ص ‪.101‬‬
‫ينظر الديوان‪� ،‬ص‪ ،27‬و�رشح الديوان‪ ،7/1 ،‬ويعود ال�شيخ نا�رص �إىل هذا‬ ‫(‪ )73‬ينظر عن هذه ال�رشوح ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي‬
‫املو�ضوع يف خامتة الكتاب ليقول عن بيت التائية الكربى الأ خري‪ . .( :‬ولو‬ ‫حلمي‪� ،‬ص‪ ،90‬وما بعدها‪ ،‬وتائية ابن الفار�ض و�رشوحها العربية‪ ،‬د‪ .‬عبد‬
‫�أمليت لك �رشح هذا البيت ومعانيه ومعاين معانيه لأ ف�ضى �رشحه �إىل �ألف‬ ‫اخلالق حممود‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش‪ ،‬جامعة القاهرة‪� ،‬ص‪ ،26‬وما‬
‫جملد) ينظر �إي�ضاح نظم ال�سلوك و‪.147‬‬ ‫بعدهـا‪ .‬وفيها تف�صيل مفيد لتلك ال�رشوح‪ ،‬ومن ال�رضوري �أن ن�ؤكد هنا‬
‫(‪� )89‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬ ‫على �أن = �أغلب الذين ت�صدوا لتلك ال�رشوح �إن مل يكونوا كلهم من ذوي‬
‫(‪ )90‬ي�شري ال�شيخ نا�رص �إىل الكلمة الأ وىل من بيت التائية الكربى الأ ول‪،‬‬ ‫امل�رشب ال�صويف فك�أنهم كانوا ي�سريون يف �أر�ض هم عارفون خباياها‬
‫وهو‪:‬‬ ‫�سابرون �أعماقها‪.‬‬
‫�سقتني حميا احلب راحة مقلتــي‬ ‫(‪� )74‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬
‫وك�أ�سي حميا من عن احل�سن جلت‬ ‫(‪ )75‬ولعل للفظة ال�سلوك الواردة يف عنوان الق�صيدة عالقة باعتناء‬
‫(‪ )91‬وي�شري هنا �إىل الكلمتني الأ وىل والثانية من بيت التائية الكربى‬ ‫العلماء وال�شعراء العمانيني بها من حيث �إنها تت�شابه مع ما اختاروه‬
‫‪37‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قو ًال لعلي بن احل�سني ر�ضي اهلل عنهما مفاده �أنّه «لو علم �أبو ذ ّر ما يف قلب‬ ‫الثاين وهو‪:‬‬
‫�سلمان لقتله وقد � آخى ر�سول اهلل بينهما‪ ،‬فما ظنكم ب�سائر اخللق»‪ ،‬على‬ ‫و�أوهمت �صحبي �أن �رشب �رشابهم‬
‫اعتبار �أن ل�سلمان جانب ًا يف علم ال�رسّ‪ ،‬ومثله قول �أبي هريرة‪« :‬حفظت من‬ ‫�سـر �رسي يف انت�شائي بنظـرة‬
‫ر�سول اهلل من وعاءين‪ ،‬ف�أما �أحدهما فبثثته‪ ،‬و�أما الآ خر فلو بثثته لقطع‬ ‫ينظر ديوان ابن الفار�ض‪� ،‬ص‪ ،84‬وما بعدها‪.‬‬
‫هذا البلعوم»‪ ،‬ينظر عن هذا كلّه مع �رشحه‪ :‬ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع‪،‬‬ ‫(‪ )92‬ر�أ�س ًا يريد به متهيداً �أو مدخالً‪.‬‬
‫‪ ،31/1‬وما بعدها‪� ،‬إنَّ هذا و�أمثاله يرد يف هذا املو�ضع‪ ،‬وال�شيخ نا�رص‬ ‫(‪ )93‬هذا هو عدد �أبيات التائية ال�صغرى‪ ،‬وهي يف الديوان كذلك كما ذكر‬
‫يحرت�س خ�شي ًة من �سوء الفهم‪.‬‬ ‫ال�شيخ نا�رص مائة وثالثة �أبيات‪ ،‬ينظر الديوان‪� ،‬ص‪.80-71‬‬
‫(‪ )121‬ير�صد ال�شيخ نا�رص ظاهرة مهمة تبدت يف �رشوح التائية الكربى‬ ‫(‪� )94‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪ ،1‬نالحظ هنا �أن ال�شيخ ي�شري �رصاحة �إىل‬
‫وهي ا�ستغالقها على الفهم وتوظيف م�صطلحات �صوفية كثرية وا�ستخدام‬ ‫عنوان كتابه النهائي‪ ،‬وهو ما �سنقف عنده بعد قليل يف توثيق ن�سبة‬
‫لغة خا�صة ال ي�ستطيع التعامل معها �سوى النخبة‪ ،‬ويف هذا يقول الدكتور‬ ‫الكتاب �إىل ال�شيخ نا�رص‪.‬‬
‫حممد م�صطفي حلمي عن �أولئك ال�رشاح �إن (بع�ضهم مل ي�سلم من اجلموح‬ ‫(‪ )95‬ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪ .‬حممد م�صطفي حلمي‪� ،‬ص‪.93‬‬
‫وال�شطط وم�سايرة الهوى‪ ،‬والذهاب يف ت�أويل كثري من الأ لفاظ ت�أوي ًال هو‬ ‫(‪ )96‬يف الت�صوف الإ �سالمي‪ ،‬نيكل�سن‪� ،‬ص‪.120‬‬
‫�أبعد ما يكون عن املعاين التي تنطوي عليها)‪ ،‬ينظر كتابه ابن الفار�ض‪،‬‬ ‫(‪ )97‬الت�صوف يف الإ �سالم‪ ،‬د‪ .‬عمر فروخ‪� ،‬ص‪.138‬‬
‫�ص‪.95‬‬ ‫(‪ )98‬تائية ابن الفار�ض و�رشوحها العربية‪ ،‬د‪ .‬عبد اخلالق حممود‪ ،‬ر�سالة‬
‫(‪� )122‬أهل اال�ستقامة هم �أتباع املذهب الإ با�ضي وال تزال هذه العبارة‬ ‫ماج�ستري مل تن�رش‪� ،‬ص‪.2‬‬
‫م�ستعملة للداللة على املذهب الإ با�ضي‪ ،‬ينظر الإ مامة عند الإ با�ضية‪ ،‬مالك‬ ‫(‪ )99‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.15‬‬
‫بن �سلطان احلارثي‪� ،‬ص‪ ،88‬ويف رائعة �أبي م�سلم يف رثاء العالمة نور‬ ‫(‪� )100‬إي�ضاح نظم ال�سلوك و‪ .1‬و�سنقف بتف�صيل فيما بعد عند هذه‬
‫الدين ال�ساملي التي مطلعها‪:‬‬ ‫الق�ضية الكالمية املعقّدة‪.‬‬
‫وحياتنا تعدو �إىل امل�ضمــار‬ ‫ريب املنون مقار�ض الأ عمار ‬ ‫(‪� )101‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬
‫�إ�شارة �إىل اال�ستقامة حيث يقول‪:‬‬ ‫(‪ )102‬ينظر حول هذا املو�ضوع كتاب ابن الفار�ض واحلب الإ لهي‪ ،‬د‪.‬‬
‫مه ًال همام اال�ستقامة ما الذي غادرت من هول ومن �إذعار‬ ‫حممد م�صطفي حلمي‪� ،‬ص‪.173‬‬
‫�إرجع ف�إن اال�ستقامة �أرملت �إرحم يتيمك وهو دين الباري‬ ‫(‪� )103‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬
‫ينظر ديوانه‪� ،‬ص‪ ،331‬وللعالمة �أبي �سعيد الكدمي كتاب بثالثة �أجزاء‬ ‫(‪ )104‬ينظر ديوان ابن الفار�ض‪� ،‬ص‪ ،27 ،81‬وينظر �رشح ديوان ابن‬
‫عنوانه (اال�ستقامة)‪ ،‬بحث فيه ق�ضايا فقهية وكالمية خمتلفة‪ ،‬ينظر طبعة‬ ‫الفار�ض‪.7-6/1 ،‬‬
‫وزارة الرتاث القومي والثقافة‪� ،‬سلطنة عُ مان‪� ،‬سنة ‪.1985‬‬ ‫(‪ )105‬ك�شف الوجوه الغر‪� ،‬ص‪ 7‬و�ص‪.9‬‬
‫(‪� )123‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.2‬‬ ‫(‪ )106‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص‪.9‬‬
‫(‪ )124‬ينظر الأ دب يف اخلليج العربي‪.541/3 ،‬‬ ‫(‪ )107‬يحتل تق�سيم العلوم وت�صنيفها منزلة مهمة يف الرتاث العربي‪،‬‬
‫(‪ )125‬الفتح املبني‪� ،‬ص‪ ،208‬ويقول �أي�ضاً‪� ،‬ص‪ ...« : ،216‬وملا ركدت‬ ‫وقدم فيه الفال�سفة واملفكرون مباحث وكتب ًا كثرية ت�شري �إىل ا�ستيعاب‬
‫زعازع بغي اخللفاء العبا�سيني عن عمان‪ ،‬وانقطعت مادتهم عنها بالبغي‪،‬‬ ‫وا�ستق�صاء‪ ،‬ور�ؤى خا�صة �أي�ضاً‪ ،‬ينظر على �سبيل املثال كتاب �إح�صاء‬
‫والعدوان عقد �أكابر عمان بالإ مامة على اخلليل بن �شاذان»‪ ،‬وينظر كذلك‬ ‫العلوم للفارابي وما كتبه ابن خلدون يف املقدمة‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫تاريخ عمان املقتب�س من كتاب ك�شف الغمة‪� ،‬ص‪ ،54‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪� )108‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬
‫(‪ )126‬ينظر الفتح املبني‪� ،‬ص‪.132‬‬ ‫(‪ )109‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬و‪.1‬‬
‫(‪ )127‬ينظر تف�صيل هذا املو�ضوع يف مقدمة حتقيق كتاب (ف�ضل العرب‬ ‫(‪ )110‬ينظر ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع‪ ،97/1 ،‬ومدخل �إىل الت�صوف‬
‫والتنبيه على علومها) بتحقيقي‪� ،‬ص‪ ،10‬وما بعدها‪.‬‬ ‫الإ �سالمي‪� ،‬ص‪.101‬‬
‫(‪ )128‬ينظر مقدمة حتقيق ف�ضل العرب‪� ،‬ص‪ ،11‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪� )111‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.1‬‬
‫(‪ )129‬ينظر (البعد ال�صويف يف الفكر الإ با�ضي)‪ ،‬ر�سالة دكتوراه غري‬ ‫(‪ )112‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬و‪.1‬‬
‫من�شورة‪ ،‬اجلامعة الإ �سالمية العاملية‪ ،‬ماليزيا‪� ،‬سنة ‪2007‬م‪� ،‬ص‪.8‬‬ ‫(‪� )113‬أطلق املت�صوفة على (علمهم) �أ�سماء كثرية مثل علم الباطن‪ ،‬وعلم‬
‫(‪ )130‬تنظر مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص) لل�شيخ نا�رص‪ .‬ر�سالة‬ ‫احلقيقة‪ ،‬وعلم الدراية وغريها وهي كلها تقابل ال�رشيعة‪� ،‬أما التجريد‬
‫ماج�ستري غري من�شورة‪ ،‬كلية دار العلوم‪� ،‬سنة ‪1998‬م‪� ،‬ص‪.73‬‬ ‫الوارد يف الن�ص فرياد به التوجه بالكلية �إىل اهلل �سبحانه ونزع ال�شهوة‬
‫(‪ )131‬ينظر فهر�س خمطوطات الأ دب‪� ،‬ص‪.108‬‬ ‫للدنيا وزخرفها ا�ستعداداً لل�سفر يف الطريق الطويل‪ ،‬ينظر عن هذه الق�ضايا‪،‬‬
‫(‪ )132‬الأ دب يف اخلليج العربي‪ ،‬د‪ .‬وليد حممود خال�ص‪ ،441/3 ،‬وي�ضاف‬ ‫ديباجة ديوان ابن الفار�ض‪� ،‬ص‪ ،20‬ومدخل �إىل الت�صوف الإ �سالمي‪ ،‬د‪.‬‬
‫هنا �أمر � آخر هو �أقرب �إىل القرينة منه �إىل الدليل‪ ،‬وهو ت�رصيح ال�شيخ‬ ‫�أبو الوفاء الغنيمي‪� ،‬ص‪ ،96‬وما بعدها‪ ،‬وال�صلة بني الت�صوف والت�شيع‪ ،‬د‪.‬‬
‫نا�رص يف ثنايا املخطوط با�سم والده ال�شيخ �أبي نبهان رحمه اهلل‪ ،‬وذلك‬ ‫كامل ال�شيبي‪ 413/1 ،‬و‪.417‬‬
‫حني يقول‪ ...« :‬كما قال والدنا ال�شيخ �أبو نبهان ر�ضي اهلل عنه يف مرتبة‬ ‫(‪ )114‬مقدمة ابن خلدون‪ ،1099/3 ،‬والبن خلدون كالم نفي�س حول هذا‬
‫التلوين»‪ ،‬وي�سوق بيت ًا من ق�صيدته ال�شهرية (حياة املهج)‪ ،‬فهذا الت�رصيح‬ ‫املو�ضوع ب�سطه يف املقدمة‪ ،‬فلينظر هناك‪.‬‬
‫يحمل يف ت�ضاعيفه ما يدعو �إىل االطمئنان �أنَّ �صاحب هذا الكتاب هو �أحد‬ ‫(‪� )115‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ ،‬و‪.2‬‬
‫�أوالد �أبي نبهان‪ ،‬ف�إذا تعانقت الأ دلة و�صلنا �إىل �أنَّه ال�شيخ نا�رص ال غري‪.‬‬ ‫(‪ )116‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬و‪.2‬‬
‫(‪ )133‬فهر�س خمطوطات الأ دب‪� ،‬ص‪.108‬‬ ‫(‪� )117‬إي�ضاح نظم ال�سلوك‪ .‬و‪ ،2‬ولع ّل ال�شيخ كان م�صيب ًا فيما ذهب �إليه‬
‫(‪ )134‬ينظر �رشح ابن عقيل على الأ لفية‪.80/2 ،‬‬ ‫من �إمكان �إ�ساءة الظن به لدى بع�ض املتعلمني‪� ،‬إذ لدينا �إ�شارات كثرية‬
‫(‪� )135‬رشح ابن عقيل على الأ لفية‪ ،85/2 ،‬وقد الحظ حمقق كتاب‬ ‫تنبه �إىل �رضورة احلذر يف التعامل مع �ألفاظ القوم وا�صطالحاتهم على‬
‫(الإ خال�ص) هذا الأ مر �أي�ض ًا يف كتاب (الإ خال�ص)‪ ،‬ممّا ي�ؤكد �شيوع هذه‬ ‫اعتبار �أنها ذات خ�صو�صية ومدلوالت معينة‪.‬‬
‫الظاهرة يف كتب ال�شيخ الأ خرى‪ ،‬ينظر كتاب (الإ خال�ص)‪� ،‬ص‪.178‬‬ ‫(‪ )118‬و(‪ )119‬و(‪ )120‬امل�صدر ال�سابق‪ .‬والإ قليد الوارد يف الن�ص هو‬
‫املفتاح‪ ،‬ومن املفيد �أن نو�ضح هنا �أنَّ ال�شيخ حني يتحدث عن (�إ�ساءة‬
‫[ هذا البحث مقدمة كتاب «اي�ضاح نظم ال�سلوك يف‬ ‫الظن) �إنمّ ا ي�صدر عن علم وا�سع مبا رمي به القوم قبله من تهم ب�سبب‬
‫ح�رضة ملك امللوك» لنا�رص بن جاعد اخلرو�صي‪.‬‬ ‫عباراتهم امل�ستغلقة‪ ،‬وكان هذا منذ وقت مبكر يف الإ �سالم حتى �أنّنا نقر�أ‬
‫‪38‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حول معنى‬
‫الغربة والغرابة‬
‫�شاكـــــر عبداحلميد‬
‫ناقد و�أ�ستاذ علم نف�س من م�رص‬
‫«م�شيت ويف منت�صف طريق احلياة‪،‬‬
‫وجدت نف�سي يف غابة مظلمة‬
‫دركت �أنه قد �ضاعت منى معامل الطريق»‬
‫حينها �أ ُ‬
‫اللهية»‬
‫«دانتي‪ ،‬الكوميديا إ‬ ‫ ‬
‫يف حديثه عن «هاملت» يف «حما�رضات حول الفنون اجلميلة» قال الفيل�سوف‬
‫الأ ملاين ال�شهري هيجل‪�« :‬إن هاملت ذو قلب جميل ونبيل‪ ،‬وهو لي�س �ضعيفًا‪ ،‬يف‬
‫�أعماقه‪ ،‬على الإ طالق‪ ،‬لكنه ذو �شعور قوي جتاه احلياة‪ ،‬ومن ثم ف�إنه‪ ،‬وخالل ذلك‬
‫ال�ضعف الذي يالزمه‪ ،‬خالل ك�آبته‪ ،‬كان يندفع نحو الي�أ�س‪� ،‬إن لديه �إح�سا�سً ا حقيقيًا‬
‫ب�أن الهواء املحيط به معب أ� بالكذب‪ ،‬لكن دون عالمة خارجية وا�ضحة على ذلك‪ ،‬ولي�س‬
‫أي�ضا؛ فكل �شيء لي�س كما‬ ‫هناك من �أ�سا�س حمدد ل�شكوكه‪ ،‬لكنه كان ي�شعر بالغرابة � ً‬
‫ينبغي �أن يكون‪ ،‬وقد كانت تنتابه الظنون حول تلك الأ حداث املرعبة التي حدثت‪،‬‬
‫ثم يلقي �شبح �أبيه – �إليه ‪ -‬بتفا�صيل �أكرث‪ ،‬ويف داخله ي�شعر بالرغبة يف االنتقام‪،‬‬
‫ويفكر على نحو مطرد يف الواجب الذي يوحي به �إليه قلبه‪ ،‬لكنه ال ي�ستطيع �أن يقوم‬
‫بتنفيذه‪� ،‬إنه لي�س مثل ماكبث‪ ،‬فهو مل يندفع يف غ�ضب عا�صف‪ ،‬ومل يوجه غ�ضبته‬
‫نحو «اليرت�س» بل ظل‪ ،‬على العك�س من ذلك‪ ،‬قابعًا يف تلك احلالة من العجز املقيم‬
‫اخلا�صة بروح داخلية جميلة ال ت�ستطيع‪ ،‬هي نف�سها‪� ،‬أن تندمج يف عالقات خا�صة‬
‫مع عاملها احلا�رض املحيط بها»(‪.)1‬‬
‫‪ l‬الغربة يف جوهرها‪ ،‬غربة عن املكان‪� ،‬أو حتى‪ ،‬غربة يف‬
‫املكان‪،‬‬
‫‪ l‬الغرابة نوع من ال�شك وعدم اليقني‪ ،‬والغمو�ض �أو االلتبا�س‬
‫والريبة املالزمة للمكان‪ ،‬والزمان‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والوجود‪ � ،‬إنه‬
‫التبا�س يتعلق بالفرد �أو بالثقافة �أو بهما معًا‬

‫‪39‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫أي�ضا �شعور جمايل من نوع خا�ص‪� ،‬إنه‪ ،‬املنزل الآ من‪،‬‬ ‫� ً‬


‫هكذا كان هاملت واقعًا يف براثن �إدراكه للغرابة يف هذا‬
‫أي�ضا‪� ،‬إنه �شعور مييل �إىل �أن‬‫واملكان املثري لال�ضطراب � ً‬ ‫العامل وحيث «كل �شيء لي�س كما ينبغي»‬
‫يجد «مكا ًنًا» له‪ ،‬و«معنى» دائمًا‪ ،‬يف كل ما هو غريب‬ ‫الغرابة‪ ،‬يف جوهرها‪ ،‬خربة خا�صة تتعلق بالفقدان‬
‫وغري م�ألوف يف الفن‪ ،‬ويف احلياة(‪.)2‬‬ ‫لالجتاه والتوجه والتب�رص‪ ،‬خا�صة عندما يبدو العامل‬
‫عرب القرن الع�رشين‪ ،‬تراجع النوع الفانتازي‬ ‫الذي نعي�ش فيه‪ ،‬فج�أة‪ ،‬عاملًا غريبًا مغرتبًا ومهددًا‪.‬‬
‫(العجائبي) من الفن والأ دب �أو ما ميكن �أن نطلق‬ ‫كانت الغرابة مو�ضوعً ا متكررًا مهمًّا يف الأ دب القوطي‪،‬‬
‫عليه ا�سم الغريب املتفائل �أو امل�ضيء‪ ،‬وتزايد ح�ضور‬ ‫ثم �صارت مقالة فرويد التي ظهرت عام ‪ 1919‬الينبوع‬
‫ذلك النوع الغريب املت�شائم القامت‪ ،‬وقد جت�سد ذلك‬ ‫وامل�صدر الثقايف الأ �سا�سي لهذا املو�ضوع‪ .‬وقد ظلت هذه‬
‫يف �أعمال تطرح ق�ضايا عامة حول طبيعة اال�ستقرار‬ ‫املقالة مطوية‪ ،‬تقريبًا‪ ،‬يف زوايا الن�سيان خالل الن�صف‬
‫اخلا�ص بالعامل املعا�رص‪� ،‬أو‪ ،‬بالأ حرى‪ ،‬عدم‬ ‫الأ ول من القرن الع�رشين‪ ،‬على الرغم من ن�رشها يف‬ ‫أ�وتو رانك‪:‬‬
‫ا�ستقراره‪ ،‬وكما لو كانت اخلربة احلديثة تتوقع على‬ ‫�أعمال فرويد الكاملة �أكرث من مرة‪ ،‬ثم عاودت الظهور‪،‬‬ ‫«الغرابة» يف‬
‫نحو حمايث �أو مالزم لها‪ ،‬ذلك االنق�ضا�ض ال�ضاري‬ ‫مرة �أخرى‪ ،‬على نحو مثري بدءًا من �سبعينيات القرن‬ ‫اللغة الأ ملانية‬
‫لغري امل�ألوف يف كل حلظة(‪.)3‬‬ ‫الع�رشين‪ ،‬ثم �أ�صبحت وا�سعة االنت�شار من حيث قراءتها‬ ‫التي ت�شري يف‬
‫مع كتاب جاك دريدا ال�شهري «�أ�شباح مارك�س» الذي‬ ‫�أو العودة �إليها �أو الت�أثر بها يف الدرا�سات الإ ن�سانية‬ ‫جوهرها‪ � ،‬إىل‬
‫ظهر عام ‪� ،1994‬أ�صبح ت�أثري فكرة الغرابة يف الأ و�ساط‬ ‫والثقافية منذ ذلك احلني وحتى الآ ن‪ ،‬على الرغم من‬ ‫حاجة الإ ن�سان‬
‫الأ كادميية والثقافية‪ ،‬عامة‪ ،‬م�ؤكدًا‪ ،‬و�إىل الدرجة التي‬ ‫�أننا نادرًا ما نرى �إ�شارات �إليها يف الدرا�سات العربية‪،‬‬ ‫لأ ن «يج�سد خوفه‬
‫جعلت املفكر «مارتن جى» ي�شري �إىل «الغرابة» يف �أحد‬ ‫خا�صة تلك التي وظفت التحليل النف�سى يف تف�سري ظواهر‬ ‫يف �أ�شكال‬
‫كتبه عام ‪ 1998‬على �أنها «املجاز ال�سائد» ‪Master Trope‬‬
‫ثقافية �أو اجتماعية �أو �سيكولوجية �أو فنية‪.‬‬ ‫غري طبيعية»‬
‫للعقد الأ خري من القرن الع�رشين(‪.)4‬‬
‫وقد التقت الأ فكار اخلا�صة بدرا�سة فرويد هذه‪ ،‬بعد‬
‫ي�شتمل االنت�شار امل�ستمر «لدرا�سات الغرابة» ‪uncanny studi‬‬ ‫ي‬
‫ذلك‪ ،‬مع �أفكار م�ستمدة من وولرت بنيامني ومارك�س كي‬
‫‪ ies‬الآ ن على مدى وا�سع من املجاالت املتنوعة التي متتد‬ ‫ت�ضع الغرابة يف مو�ضعها املنا�سب يف عالقتها مع‬
‫من الدرا�سات الإ ن�سانية والل�سانيات‪ ،‬وحتى العمارة‬ ‫«الفانتازماجوريا» �أو جتمعات الأ �شباح وال�صور الطيفية‬
‫والدرا�سات ما بعد الكولونيالية‪ ،‬وعلم االجتماع‪،‬‬ ‫�أو �أجهزة العر�ض يف ال�سينما �أو معماريات الظالل‬
‫ودرا�سات املدن‪ ،‬وامليديا‪� ،‬إىل الثقافة ب�شكل عام‪ ،‬كما‬ ‫اخلا�صة بحياة املدن‪ ،‬وخا�صة مع حتوالت العامل املدينى‬
‫�أن هذا امل�صطلح �أ�صبح ي�ستخدم على نحو وا�سع كذلك‬ ‫�إىل م�شهد ب�رصي‪ ،‬ومكاين‪ ،‬م�سكون بالكائنات ال�شبحية‬
‫لتف�سري كل هذه احلاالت اخلا�صة باحل�ضور والغياب‪،‬‬
‫الظلية‪ ،‬تلك املتعلقة بكل ما هو عابر وغري جوهري‪ ،‬يف‬
‫والتجول على غري هدى‪ ،‬الإ قامة والرحيل‪ ،‬الأ لفة والغربة‪،‬‬
‫عامل ال�صورة وثقافة اال�ستهالك‪ ،‬وقد مت ربط امل�شهد كله‬
‫ح�ضور املا�ضي و�سكنه يف احلا�رض‪ ،‬وغياب احلا�رض‪،‬‬
‫مبا قد ي�سمى‪ ،‬الآ ن‪ ،‬الغرابة التكنولوجية‪ ،‬تلك الغرابة التي‬
‫الرتدد «واالنتياب» واحللول فيما يتعلق بالأ �شباح‬
‫وال�صور‪ ،‬والذاكرة‪ ،‬وبكل ما يتعلق بذلك كله من معانٍ‬ ‫توحي لنا ب�أن ال�صور الفوتوغرافية والأ فالم والأ �صوات‬
‫الإ لكرتونية قد �أ�صبحت‪ ،‬كلها‪ ،‬امل�صادر الأ كرث �أهمية‬
‫ودالالت‪.‬‬
‫يف حياتنا وثقافتنا‪ ،‬كما �أنها املظاهر‪ ،‬التي يتجلى من‬
‫خاللها ذلك احل�ضور املثري لال�ضطراب اخلا�ص بالآ خر‪ .‬ما الغرابة؟‬
‫تتعلق الغرابة‪ ،‬بنوع من ال�شك وعدم اليقني‪،‬‬ ‫ت�شري الغرابة �إىل بعد مهم من �أبعاد احلياة املعا�رصة‬
‫والغمو�ض �أو االلتبا�س والريبة املالزمة للمكان‪،‬‬ ‫أي�ضا �إىل �شعور خا�ص يتولد‬ ‫التي نعي�ش فيها‪ ،‬و� ً‬
‫والزمان‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والوجود‪� ،‬إنه التبا�س يتعلق‬ ‫بداخلنا ونحن نعاي�ش هذه احلياة‪ ،‬ون�شعر بالغرابة‬
‫بالفرد �أو بالثقافة �أو بهما معً ا‪ .‬و�إنه مع تزايد ال�شك‪،‬‬ ‫فيها؛ مما ي�ؤثر يف قدرتنا على ت�صنيف اخلربة واحلياة‬
‫واالفتقار �إىل اليقني‪ ،‬يقل ال�شعور بالأ من‪ ،‬ويزداد‬ ‫و�إ�صدار �أحكام حمددة عليهما؛ فاال�ضطراب الذي يلحق‬
‫الإ ح�سا�س بالتهديد‪ ،‬ي�شعر الإ ن�سان �أنه غري قادر‬ ‫أي�ضا‪،‬‬
‫مب�شاعرنا‪ ،‬هنا‪ ،‬ا�ضطراب‪ ،‬يلحق‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ً � ،‬‬
‫على متثيل العامل و�أن العامل كذلك غري قادر على‬ ‫أي�ضا على‬‫بقدرتنا على احلكم على املواقف الغريبة‪ ،‬و� ً‬
‫متثله وهنا يتجلى اخلوف‪ ،‬على �أنحاء �شتى‪ ،‬وقد‬ ‫ت�صنيف خرباتنا اخلا�صة �إزاءها‪ .‬لكن هذا اال�ضطراب هو‬
‫‪40‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قوة هائمة ال ميكن ال�سيطرة عليها‪ ،‬قوة متر ما بني‬ ‫أي�ضا‪.‬‬
‫يت�صاعد ليبلغ مرتبة الرعب � ً‬
‫احلياة واملوت‪ ،‬وتعرب حدود العقالنية الب�رشية كي‬ ‫يهيمن الغريب عندما ت�ضطرب حالتا الوعي والالوعي‬
‫(‪)8‬‬
‫ت�ؤ�س�س‪ ،‬فيما بني هذه احلدود‪ ،‬مناطق خا�صة بها‬ ‫لدينا‪ ،‬فت�صبح الذات مهددة والواقع غري � آمن‪ ،‬حينئذ‬
‫والغرابة نوع من احل�ضور يدل على الغياب‪ ،‬ح�ضور‬ ‫يجيء التهديد داخله‪ ،‬من حيث ال ندري وال نتوقع فيهز‬
‫للموت يدل على غياب احلياة‪ ،‬ح�ضور للخوف يدل‬ ‫ا�ستقرار هذه الذات وتوازنها‪.‬‬
‫على غياب الأ من‪ ،‬ح�ضور للقلق يدل على غياب‬ ‫أي�ضا هو القيمة الثقافية‬ ‫لكن القريب قد يكون الغريب � ً‬
‫اال�ستقرار والتوازن‪ .‬والغرابة كذلك هي «اجلليل»‬ ‫واجلانب البنائي الإ يجابي من خرباتنا احلديثة‪� ،‬إنه قد‬
‫اخلا�ص بع�رصنا كما قال هارولد بوم‪ ،‬كما �أ�رشنا‬ ‫ي�شتمل على ح�سا�سية مميزة وان�صهار ما بني االنفعال‬
‫�سابقًا(‪.)9‬‬ ‫والت�أمل والفعل الإ بداعي‪ ،‬ومن ثم قد تتجلى فيه‬
‫بالن�سبة لدريدا حتوم الغرابة وراء تلك الروابط غري‬ ‫جماليات احلداثة‪ ،‬وما بعدها‪.‬‬
‫امل�ستقرة املوجودة بني الدال واملدلول‪ ،‬وامل�ؤلف‬ ‫قد ف�رس «�أوتو رانك» يف درا�سته «فكرة حول‬
‫والن�ص‪ ،‬وترتبط بالأ �شباح والغياب‪ ،‬وح�ضورها دائم‬ ‫املقد�س» كلمة «الغرابة» يف اللغة الأ ملانية التي‬ ‫ً‬
‫يف الفن والفكر واحلياة‪� ،‬أما بالن�سبة لبودريار ف�إن ذلك‬ ‫ت�شري يف جوهرها‪� ،‬إىل حاجة الإ ن�سان لأ ن «يج�سد‬
‫دريدا‪:‬‬ ‫امليل اخلا�ص للغرابة لالزدواجية‪ ،‬والتحول والتجول ما‬ ‫خوفه يف �أ�شكال غري طبيعية»‪ .‬والغرابة هي‬
‫الغرابة حتوم‬ ‫بني الواقع واخليال‪ ،‬وكذلك اخلداع الب�رصي امللح اخلا�ص‬ ‫التج�سيد املعا�رص للجليل بل �إنها اجلليل اخلا�ص‬
‫بها هو ما مينحها دورًا مركزيا يف التج�سيد لل�صور‬ ‫بع�رصنا كما �أ�شار هارولد بلوم‪ ،‬و�أنه مثلما قد يكون‬
‫وراء تلك‬ ‫من امل�ستحيل فهم الرومانتيكية دون فهم اجلليل‬
‫املحاكية الثانوية غري ذات الأ �صل املحدد ‪ Simulacra‬والتي‬
‫الروابط غري‬ ‫هي �أ�صل الغرابة(‪.)10‬‬ ‫بو�صفه �إحدى نقاطها اجلوهرية‪ ،‬كذلك ال ميكن فهم‬
‫امل�ستقرة املوجودة‬ ‫وقد جتددت القوة الت�أويلية للغرابة‪ ،‬دائمًا‪ ،‬مرة بعد �أخرى‪،‬‬ ‫احلداثة وما بعدها على نحو م�ستقل عن الغرابة‬
‫بني الدال‬ ‫يف الأ دب والفن الت�شكيلي وال�سينما‪ ،‬وكذلك كل ما يرتبط‬ ‫وت�شكيالتها الغريبة؛ فالغرابة‪ ،‬هي احلداثة وما بعد‬
‫واملدلول‪ ،‬وامل�ؤلف‬ ‫باحل�سا�سية الفنية الكلية املعا�رصة يف الأ فالم اخليالية‪،‬‬ ‫أي�ضا(‪.)5‬‬
‫احلداثة � ً‬
‫�أفالم اخليال العلمي والأ �شباح والرعب والواقع االفرتا�ضي‪،‬‬ ‫أي�ضا الدخيل �أو‪ ،‬الآ خر‪ ،‬غري امل�ألوف‪،‬‬ ‫الغريب هو � ً‬
‫والن�ص‪ ،‬وترتبط‬ ‫وغريها‪.‬‬ ‫والغرابة هي فئة املخيف من امل�شاعر والأ فكار التي‬
‫بالأ �شباح والغياب‪،‬‬ ‫وعلى نحو يت�سق مع تراث مارك�س وجورج �سيميل‬ ‫ترجع بنا نحو �شيء ما قدمي نعرفه‪ ،‬كان م�ألوفًا لنا منذ‬
‫وح�ضورها دائم‬ ‫والكان‪ ،‬ف�إن كر�ستيفا قد الحظت ذلك االتفاق بني‬ ‫وقت طويل كما قال فرويد(‪.)6‬‬
‫يف الفن والفكر‬ ‫الغرابة‪ ،‬وبني اختالل ال�شعور بال�شخ�صية‪ ،‬وهو �أمر كان‬ ‫مل تكن الغرابة �أو «الأ لفة غري امل�ألوفة» ‪Familiar unfamiliari‬‬
‫موجودًا‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬لدى فرويد‪ ،‬لكنها تبتعث ذلك‬ ‫‪ ity‬لدى فرويد‪� ،‬أو غريه‪ ،‬يتعلق باجلديد �أو الغريب فقط‪،‬‬
‫واحلياة‬ ‫التاريخ الطويل للغرباء‪ ،‬تلك الكائنات ال�شبحية الأ قرب‪،‬‬ ‫بل بغري امل�ألوف الذي ينطوي على جوانب م�ألوفة‪� ،‬أو‬
‫�إىل �أنف�سنا‪� ،‬أكرث مما قد نريد �أن ندرك‪ ،‬وكذلك ه�ؤالء ذوو‬ ‫غري امل�ألوف الذي يح�رض معه ‪ -‬عند م�ستوى الإ دراك �أو‬
‫احلاجات غري املختلفة عن حاجاتنا كثريًا كما �أ�شار‬ ‫الذاكرة �أو احللم‪ -‬قريني امل�ألوف‪� ،‬شبحه امل�ألوف‪� ،‬شبح‬
‫تودوروف‪.‬‬ ‫والد هاملت‪ ،‬مثالً‪ ،‬غري امل�ألوف‪ ،‬ذلك ال�شبح الغريب الذي‬
‫ويف قراءته ملفهوم «الأ مة» يف املكان والزمان يف احلقبة‬
‫يح�رض يف هيئة �شبيهة بالوالد‪ ،‬امللك امل�ألوف‪ ،‬لكنه‬
‫ما بعد اال�ستعمارية‪ ،‬ا�ستخدم «هومى بابا» مفهوم الغرابة‬
‫لدى فرويد �إىل احلديث عن حياة املهاجرين‪ ،‬والأ قليات‬ ‫امل�ألوف الذي �أ�صبح نتيجة لغيابه باملوت‪ ،‬وح�ضوره‪،‬‬
‫والعائ�شني يف املنايف‪ ،‬وجوهر املدينة‪ ،‬والتي متثل «املكان‬ ‫ك�شبح‪ ،‬غري م�ألوف‪ ،‬من ثم كان ينبغي �أن يكون‪ ،‬على‬
‫الذي حتدث فيه عمليات التوحد �أو دمج �أو التمثل النا�شيءة‬ ‫نحو ما‪ ،‬ظال �شبحياً‪� ،‬شبيهًا‪ ،‬بامل�ألوف‪� ،‬أو قرينًا يجمع‬
‫اجلديد»‪« .‬وما �سماه «بابا» «تعقد املعي�شة» قد يف�رس‪ ،‬كذلك‪،‬‬ ‫بني احلي وغري احلي‪ ،‬ويعيد جت�سيد �صفات احلي‪ ،‬وغري‬
‫من خالل نظرية ما‪ ،‬حول الغريب‪ .‬ذلك الذي يهز ا�ستقرار‬ ‫احلي‪ ،‬احلا�رض والغائب معًا‪ ،‬يف تكوين فريد يثري‬
‫الأ عراف والتقاليد الرا�سخة حول املركز والهام�ش‪ ،‬وحول‬ ‫ال�شكوك‪ ،‬وهذه ال�شكوك املتعلقة بالغرابة‪ ،‬املتوجهة نحو‬
‫الأ �شكال املكانية للقومية‪ .‬وقد مت ا�ستخدام امل�صطلح اخلا�ص‬ ‫املوتى الأ حياء‪ ،‬والأ حياء املوتى نحو امل�ستحيل الذي‬
‫بالغرابة كذلك يف �رشح عمليات النمو الع�شوائي للمدن‬ ‫يعود عرب احلدود‪ ،‬هي جوهر الغرابة(‪.)7‬‬
‫الكبرية يف �أماكن كثرية من العامل مثل ا�سرتاليا وبنجالدي�ش‬ ‫والغرابة يف مظهرها ال�شبحي‪ ،‬ميكن تعريفها على �أنها‬
‫‪41‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حيث الوجه بعد اجلراحة التجميلية جميل ولكن دون تعبري‪،‬‬ ‫وغريها من بالد العامل(‪.)11‬‬
‫�إذ �إن مالحمه حمايدة وغريبة‪.‬‬ ‫باخت�صار تتعلق الغرابة بذلك الإ ح�سا�س الذي يتولد لدينا‬
‫قد ترتبط الغرابة كذلك بامل�ضحك والفكاهة‪ ،‬وال�ضحك قد‬ ‫عندما نوجد عند حدود غري � آمنة من اخلربة‪� ،‬أي عندما ت�ستثار‬
‫يرتبط باخلوف‪ ،‬وقد يرتبط اخلوف بالغرابة‪ ،‬وترتبط الغرابة‬ ‫بداخلنا تلك امل�شاعر من ال�شك وااللتبا�س ورمبا اخلوف �أو‬
‫بالفن‪.‬‬ ‫حتى الرعب‪ ،‬وهي خربة ملتب�سة ت�شتمل على جوانب خا�صة‬
‫ويحدث ال�شعور بالغرابة عندما تالحظ نوبات اجلنون‬ ‫بالأ لفة والنظام ومعها يف وقت واحد عدم الأ لفة والفو�ضى‬
‫و�أعرا�ضها وغريها من الأ عرا�ض التي قد تبدو معها حياة‬ ‫واالنتهاك للم�ألوف واملعروف معًا‪ ،‬وهي خربة �شبيهة كذلك‬
‫النا�س جمرد حياة � آلية �أو ميكانيكية (كما يف الف�صام‬ ‫بتلك اخلربة التي تظهر‪ ،‬بكرثة‪ ،‬يف ال�رسد والغرابة‪ ،‬ويف الفن‬
‫الكاتاكوين �أو التخ�شبي مثالً)‪.‬‬ ‫عامة‪ ،‬على �أنها خربة جمالية‪ ،‬غري �سارة‪ ،‬وقد تكون مرعبة‬ ‫الغرابة ‪:‬‬
‫والغرابة موجودة يف �أدب العبث (يف انتظار جودو مثالً)‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬ف�إننا قد نبحث عنها‪ ،‬ون�سعى وراءها‪ ،‬لأ �سباب‬
‫وحيث االنتظار فعل �إن�ساين م�ألوف‪ ،‬ولكن انتظار من ال‬ ‫�سنذكرها الحقًا‪.‬‬
‫م�صطلح مهم يف‬
‫يجيء وما ال يجيء‪ ،‬وقد ي�ستثار هذا ال�شعور بالغرابة‬ ‫التفكري والنقا�ش‬
‫تاريخ الغرابة‬
‫أي�ضا كا�ستجابة للدمى وغريها من الأ �شياء امليكانيكية‬ ‫� ً‬ ‫املعا�صر الدائر‬
‫التي ت�سلك وتتحدث كالب�رش �أو احليوانات‪ .‬وقد قال يل‬ ‫�سوف ن�ستخدم كلمتي «الغرابة» و«الغريب» مبعنى واحد‪،‬‬ ‫عرب عدد من‬
‫ال�صديق الناقد امل�رسحي‪� /‬أحمد عبد الرازق �أبو العالء‪:‬‬ ‫مع الوعي ب�أن الغرابة هي احلالة العامة وال�صفة الكلية‬
‫ذات مرة «مل تعد �أعمال م�رسح العبث الآن‪ ،‬لدى بيكيت‬ ‫للمو�ضوع الذي ندر�سه‪� ،‬أما الغريب فهي �صفة لعمل فني‬ ‫احلقول املعرفية‬
‫و�أوني�سكو هي الغريبة الآن‪ ،‬احلياة هي التي �أ�صبحت‬ ‫غريب �أو �شخ�ص غريب‪� ،‬أو �سلوك غريب �أو قول غريب بعينه‪.‬‬ ‫التي ت�شتمل‬
‫غريبة‪� ،‬أفعال الب�رش �أ�صبحت غريبة‪ ،‬العامل �أ�صبح‬ ‫الغرابة ‪ :‬م�صطلح مهم يف التفكري والنقا�ش املعا�رص الدائر‬ ‫على الفل�سفة‬
‫غريبًا»‪.‬‬ ‫عرب عدد من احلقول املعرفية التي ت�شتمل على الفل�سفة‬ ‫والأ دب واالجتماع‬
‫أي�ضا م�س�ألة متعلقة باملخيف �أو املرعب‬ ‫قد يكون الغريب � ً‬ ‫والأ دب واالجتماع والدرا�سات ال�سينمائية والعمارة والتحليل‬
‫كاملوت واجلثث و�أكل حلوم املوتى‪ ،‬والدفن حيًّا (كما يف‬ ‫النف�سي وغريها‪ .‬ويعود الكثري من الأ همية املن�سوبة لهذا‬ ‫والدرا�سات‬
‫ق�ص�ص دراكيوال و�أفالمه مثالً) وعودة املوتى‪ ،‬وغري ذلك من‬ ‫امل�صطلح وداللته �إىل درا�سة فرويد املبكرة له عام ‪1919‬‬ ‫ال�سينمائية‬
‫الظواهر هكذا تعد ق�صة يحيى حقي «الفرا�ش ال�شاغر» التي‬ ‫تلك التي حدد فيها طبيعته فقال‪�« :‬إنه يتعلق بتلك امل�شاعر‬ ‫والعمارة‬
‫حتتوي على عملية م�ضاجعة للجثث منوذجً ا فريدًا يف الأ دب‬ ‫غام�ضا وعجيبًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اخلا�صة جتاه �شيء ال يكون‪ ،‬بب�ساطة‪ ،‬فقط‬ ‫والتحليل النف�سي‬
‫العربي يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬وكذلك احلال يف ق�ص�ص «ر�سائل‬ ‫على نحو غري عادي‪ ،‬ولكنه‪ ،‬يكون وعلى نحو �أكرث حتديدًا‪،‬‬
‫احلائط الرطيب» خلريي �شلبي‪ ،‬و»القرين وال �أحد» ل�سليمان‬ ‫م�ألوفًا على نحو غريب»(‪ .)12‬هكذا قد تنبع غرابة �شيء ما‬ ‫وغريها‬
‫فيا�ض‪ ،‬و»تلك الرائحة» و»�رشف» ل�صنع اهلل �إبراهيم وغريها‬ ‫من الأ لفة ال�شديدة به بعد �أن مت كبته ثم عاود الظهور يف‬
‫من الأ عمال الغريبة‪.‬‬ ‫الالوعي الفردي �أو اجلمعي‪ ،‬على الأ قل هذا هو املعنى اخلا�ص‬
‫أي�ضا ‪ -‬وهذا ما مل‬ ‫لكن ا�ستجابة الغرابة قد حتدث � ً‬ ‫بالغرابة لدى فرويد وثمة معايري �أخرى �سريد ذكرها‪.‬‬
‫يذكره فرويد ‪ -‬ل�شيء غريب يف جماله �أو جميل ب�شكل‬ ‫الغريب‪ ،‬هكذا هو مزج يتم بني امل�ألوف وغري امل�ألوف‪،‬‬
‫غريب‪� ،‬شيء يرتبط بالن�شوة �أو االنت�شاء خا�صة حينما‬ ‫وقد ي�أخذ ال�شكل اخلا�ص ب�شيء م�ألوف يظهر على نحو‬
‫نقول عنه‪�« :‬إنه �أجمل من �أن يكون حقيقيًّا»‪� ،‬إنه يذكرنا‬ ‫غري متوقع يف �سياق غريب وغري م�ألوف‪� ،‬أو ي�أخذ ال�شكل‬
‫ب�شيء ما �أو �شخ�ص ما‪ ،‬كان جمي ًال لكنه مات‪ ،‬الآن‪،‬‬ ‫اخلا�ص ب�شيء «غريب» يظهر على نحو غري م�ألوف‪،‬‬
‫ونرى «ذلك النور الغريب على وجهه»؛ وهنا قد يكون‬ ‫غري متوقع‪ ،‬ولكن يف �سياق م�ألوف‪ ،‬وقد ينبع الإ ح�سا�س‬
‫�شعور الرهبة هو جوهر الغرابة‪.‬‬ ‫بالغرابة‪ ،‬من �شعور املرء ب�أن الأ �شياء مقدرة عليه �أو‬
‫وقد ي�شتمل الغريب على �شيء جميل‪ ،‬لكنه‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪،‬‬ ‫يق�صد منها �أن حتدث‪ ،‬هكذا‪ ،‬و�أنه ال فكاك له منها‪ ،‬وهو‬
‫خميف‪ ،‬كما يحدث عندما ن�شاهد �أحد �أفالم الرعب اجلميلة‬ ‫ال يفهم �سبب حدوثها له دون �سواه وك�أنها قدرية‪� ،‬أو غري‬
‫فنيًّا من حيث الت�صوير والإ �ضاءة واملو�سيقى والتمثيل‪...‬‬ ‫مفهومة‪� ،‬أو حتى‪ ،‬غري مربرة‪.‬‬
‫أي�ضا وبحيث قد نخ�شى �أن‬ ‫�إلخ‪ ،‬ولكنها مرعبة‪ ،‬لنا‪ ،‬انفعاليًّا � ً‬ ‫وقد حتدث الغرابة‪ ،‬نتيجة جمرد التكرار لأ حداث‪� ،‬أو كلمات‪،‬‬
‫ن�شاهدها‪ ،‬ليالً‪ ،‬وحدنا‪.‬‬ ‫ومن خوف املرء �أن يفقد عينيْه �أو �أع�ضاءه الأ خرى‪� ،‬أو من‬
‫أي�ضا يف حاالت االلتبا�س املرتبطة بال�صمت‬ ‫يحدث الغريب � ً‬ ‫ر�ؤيته ل�شخ�ص قد فقد �أحد �أع�ضاء ج�سمه‪� ،‬أو قام بجراحة‬
‫والعزلة والظلمة وما يتعلق بال�رسى‪ ،‬واخلفي‪ ،‬لكنه الذي‬ ‫ترقيعية يف مو�ضع ما من وجهه‪ ،‬ويتحدث‪ ،‬كما يف حالة‬
‫يظهر‪ ،‬الآ ن‪ ،‬يف دائرة ال�ضوء‪ .‬وحتى لو كان هذا ال�ضوء‬ ‫بع�ض املطربني واملطربات وممثلي ال�سينما وممثالتها؛‬
‫‪42‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الأ وروبي فقال‪�« :‬إن العدم يقف على الأ بواب‪ ،‬ومن ثم كانت‬ ‫�شحيحً ا‪� ،‬أو مت�رسب ًال بالظل والعتمة‪ ،‬الن�سبية‪ ،‬ف�إنه موجود‬
‫تلك الغرابة من كل نوع»‪ .‬وكذلك قال هيدجر بعد ذلك‪�« :‬إن‬ ‫هناك‪ ،‬دائمًا‪ ،‬يو�شك على الظهور‪ ،‬وتعد حالة «الو�شوك» هذه‬
‫العادي‪ ،‬يف �أعماقه‪ ،‬لي�س عاديًّا‪� ،‬إنه م�ضاعف بالغ العادية‪،‬‬ ‫مهمة هنا‪ ،‬كما �أن ذلك الإ ح�سا�س ب�أن �شيئًا ما على امل�شارف‪،‬‬
‫�إنه غريب»‪ .‬كما �أن الطابع اجلوهري لوجودنا يف العامل‪،‬‬ ‫م�شارف الوعي والإ دراك ما بني احلدوث والالحدوث‪ ،‬فهو �إىل‬
‫بالن�سبة �إىل هيدجر‪ ،‬هو طابع غريب‪ ،‬ال م�ألوف‪ ،‬ل�سنا يف‬ ‫الآ خر قد يجعله غريبًا؛ فمع اخلوف يت�شتت االنتباه ويفرز‬
‫بيتنا‪� ،‬أو يف بيت العامل‪ ،‬بل نحن يف حالة ماثلة من القلق‬ ‫الإ درنالني‪ ،‬فيتجه الإ ن�سان �إىل الهرب �أو املواجهة �أو �أن‬
‫(‪)15‬‬
‫الذي ن�شعر‪ ،‬خالله‪ ،‬بالغرابة‬ ‫يتجمد مكانه يف خوف خميف بدرجة غريبة‪.‬‬
‫حماوالت أ�ولية لفهم الغرابة‬ ‫أي�ضا بنظرة الأ نا �إىل الآخر على امل�ستويينْ‬
‫يرتبط الغريب � ً‬
‫حتدث �أوغ�سطني‬ ‫الثقايف والإ ثني‪ ،‬كما يف نظرة الأ وروبيني �إىل املهاجرين‬
‫(‪430-354‬م) يف‬ ‫‪leontios‬‬ ‫يف «اجلمهورية» يحكي �سقراط ق�صة عن ليونتيو�س‬ ‫اجلدد و�سلوكياتهم الغريبة‪ ،‬كذلك ما ي�سمى والنظرة‬
‫بن �أجاليون‪ ،‬و�إنه كان ذات مرة عائدًا من معبد «برييه»‬ ‫الإ �ست�رشاقية‪� . .‬إلخ‪ ،‬ويرتبط بالغريب وبالغام�ض‪ ،‬كل ما‬
‫اعرتافاته‪ ،‬عن‬ ‫ور�أي خارج اجلدار ال�شمايل جثثًا ممددة و�شعر بالرغبة يف‬ ‫قد يكون لغرابته ‪ -‬ووجوده يف �سياق غريب– خميفًا‪.‬‬
‫ولع البع�ض‪،‬‬ ‫�إلقاء نظرة عليها‪ ،‬و�أح�س ‪ -‬يف الوقت ذاته ‪ -‬بالنفور وحاول‬ ‫وقد كانت تقنيات الإ نرتنت واال�ستن�ساخ و� آالت �إر�سال‬
‫باالبتعاد عن‬ ‫االبتعاد عنها‪ ،‬فظل حلظات يقاوم نف�سه وقد حجب وجهه‬ ‫ال�صوت وال�صورة احلديثة كلها كذلك غريبة عندما ظهرت‪،‬‬
‫اجلمال والذهاب‬ ‫بيديْه‪ ،‬ولكن الرغبة غلبته �أخريًا‪ ،‬ففتح عينيه الوا�سعتني‬ ‫كما �أنها قد تظل بالن�سبة �إىل كثريين هنا‪ ،‬و�أنا منهم‪ ،‬غريبة‪،‬‬
‫وهرع نحو املوتى هاتفًا‪« :‬فلتمت ْع عينيْك �أيها التع�س بهذا‬ ‫عنا حتى الآ ن‪.‬‬
‫نحو نقي�ضه‪� ،‬أي‬ ‫املنظر الرائع» ويف�رس �سقراط هذا املوقف ب�أنه يج�سد �رصاعً ا‬ ‫وقد كانت ردود �أفعال النا�س حني �شاهدوا العر�ض ال�سينمائي‬
‫القبح‪ ،‬والتطلع‪،‬‬ ‫بني احلكمة ‪ -‬والعقل ‪ -‬التي كانت تقت�ضي االبتعاد عن‬ ‫الأ ول يف مقهي جراند كافيه‪ ،‬يف باري�س وخرجوا م�رسعني‬
‫كذلك‪ ،‬نحو‬ ‫م�شاهدة مثل هذه املناظر‪ ،‬وبني الرغبة والغ�ضب واالنفعال‬ ‫خائفني من �صورة قطار غريب يتقدم نحوهم من ال�شا�شة‪.‬‬
‫الذي ي�سري يف اجتاهات معار�ضة للعقل فتدفع �صاحبها �إىل‬
‫كل ما يرتبط‬ ‫أي�ضا ب�سبب كل‬ ‫وهكذا ي�سيطر الإ ح�سا�س بالغرابة واخلوف � ً‬
‫(‪)16‬‬
‫مثل هذا املوقف‬
‫باملوت من جثث‬ ‫ما يوهم ب�أنه غريب‪.‬‬
‫كذلك حتدث �أوغ�سطني (‪430-354‬م) يف اعرتافاته‪ ،‬عن‬
‫كما �أن «�صندوق باندورا» املليء بال�رشور قد يفتح على‬
‫وظالم وخوف‬ ‫ولع البع�ض‪ ،‬باالبتعاد عن اجلمال والذهاب نحو نقي�ضه‪،‬‬
‫ات�ساعه؛ �إذا كانت هوية الإ ن�سان عر�ضة للمعاجلات الغريبة‪،‬‬
‫ورعب وجمهول‬ ‫�أي القبح‪ ،‬والتطلع‪ ،‬كذلك‪ ،‬نحو كل ما يرتبط باملوت من‬
‫للتحويل وحتى للم�ضاعفة من خالل الهند�سة الوراثية وعالج‬
‫جثث وظالم وخوف ورعب وجمهول وغياب وقد �أطلق‬
‫وغياب وقد �أطلق‬ ‫(‪)17‬‬
‫�أوغ�سطني على هذا الدافع ا�سم «�شهوة الأ عني»‪.‬‬ ‫اجلينات واجلراحات الرتقيعية والآ الت التعوي�ضية للج�سد‬
‫�أوغ�سطني على‬ ‫واال�ستن�ساخ وغريها‪ ،‬يف عامل �أ�صبح النا�س فيه �أكرث فقرًا‬
‫�شهوة أ‬
‫العني‬ ‫ومعاناة وموتًا رمبا �أكرث من ذي قبل‪ ،‬وحيث تزداد الأ مور‬
‫هذا الدافع ا�سم‬ ‫(‪)13‬‬
‫�سوءًا كل يوم وال يبقى �سوى الأ مل يف هذا العامل الغريب‬
‫هكذا‪ ،‬ف�إنه ويف الكتاب العا�رش من كتابه «االعرتافات»‬
‫«�شهوة الأ عني»‬ ‫حتدث القدي�س �أوغ�سطني عما �سماه «�شهوة الأ عني» ‪The Lust‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬مبا‬ ‫يتعلق الغريب يف املجال الفني والأ دبي � ً‬
‫‪ of the Eyes‬وربطها بعملية الف�ضول �أو حب اال�ستطالع‪ ،‬وقال‬ ‫ي�سمى التنا�ص؛ حيث تعاود ن�صو�ص �أخرى الظهور يف‬
‫أي�ضا‪ ،‬با�ستثارة‬
‫�إنها عملية ح�سية‪ ،‬و�إنها هي التي تقوم‪ً � ،‬‬ ‫ن�ص معني فتحدث لرباعته‪� ،‬أو لرداءته‪ ،‬ا�ستجابة غريبة‬
‫الرغبة يف املعرفة لدينا؛ حيث هنا نوع من الإ غراء يكون‬ ‫لدينا؛ ففي الإ عجاب ال�شديد غرابة‪ ،‬ويف النفور ال�شديد‬
‫حمفوفًا �أكرث باخلطر‪ .‬وذلك �أنه‪� ،‬إ�ضافة �إىل �شهوة البدن التي‬ ‫أي�ضا‪ ،‬يف الولع واالفتنان غرابة ويف النفور‬ ‫غرابة � ً‬
‫تكمن يف الإ �شباع للحوا�س والرغبات‪ ،‬وحيث عبيدها بعيدون‬ ‫أي�ضا‪.‬‬
‫واملقت غرابة � ً‬
‫نوعً ا ما عن الهالك‪ ،‬هنا نوع � آخر من التوق الغالب �أال وهو‬ ‫لدى دريدا «يف �أطياف مارك�س» كان كل �شيء لدى مارك�س‬
‫أي�ضا بحوا�س اجل�سد‪ ،‬لكنه يتعلق‬‫والولع املحدد‪ ،‬الذي يرتبط � ً‬ ‫يتحدث عن الأ طياف �أو الأ �شباح التي تزور �أوروبا‪ ،‬وكل �شيء‬
‫�أكرث بالروح‪ ،‬ويتجلى على نحو بالغ يف املعرفة والتعلم‪ ،‬وال‬ ‫يتعلق ب�أفكار االغرتاب والثورة والتكرار‪ ،‬له �صلة ما‪ ،‬بفكرة‬
‫يجد متعته يف البدن‪ ،‬بل يف القيام بتجارب من خالله‪ ،‬و�إنه‬ ‫أي�ضا �أن دريدا قد فكر‬ ‫الغريب‪ .‬و�إنه لي�س من قبيل امل�صادفة � ً‬
‫يتج�سد يف ذلك الولع باملعرفة‪ ،‬ويكون الإ ب�صار هو احلا�سة‬ ‫يف �أن يكون العنوان الفرعي لكتابه الكبري عن مارك�س هو‬
‫الرئي�سة بني احلوا�س‪ ،‬لديه‪ ،‬يف اكت�ساب تلك املعرفة اخلا�صة‬ ‫«مارك�س – حول الغرابة» ‪.)14(Marx – das Unhimlich‬‬
‫به‪ ،‬و�أنه يف «الكتاب املقد�س» وخا�صة لدى القدي�س جون‬ ‫والغرابة فكرة حمورية لدى دريدا‪ ،‬واملدر�سة التفكيكية‪،‬‬
‫الذي �أطلق عليه ا�سم «�شهوة الأ عني»‪.‬‬ ‫وكذلك بالن�سبة �إىل مارك�س ونيت�شه‪ ،‬قبله‪ ،‬ففي مفتتح كتابه‬
‫ويقارن �أوغ�سطني بني املتعة احل�سية التي تبحث عن‬ ‫«�إرادة القوة» (‪ )1988 – 1883‬حتدث نيت�شه عن العدم‬
‫‪43‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف اعرتافاته الدينية‪ ،‬تلك‪� ،‬أقر �أوغ�سطني �أن ما لفت انتباهه‬ ‫املو�ضوعات اجلميلة واملتجان�سة واملتنا�سقة الناعمة‬
‫يف البداية‪ ،‬مل تكن هي تلك املعجزات املوجودة يف الطبيعة‪،‬‬ ‫الفواحة جميلة الرائحة‪ ،‬وبني حب اال�ستطالع �أو‬
‫�أو ت�أمله لعظمة اخلالق‪ ،‬بل تلك الدراما احلية‪ ،‬هذه ال�رصاعات‬ ‫الف�ضول املعريف الذي يحدث من �أجل التجربة يف ذاتها‪،‬‬
‫ال�صغرية املوجودة يف الطبيعة التي لفتت انتباهه وجذبت‬ ‫وي�سعى وراء كل ما هو نقي�ض للجمال‪ ،‬غري مهتم مبا‬
‫�شهوة عينيْه» �أو ف�ضولها املعريف املخيف‪ ،‬و�أبعدته‪ ،‬م�ؤقتًا‪،‬‬ ‫يعانيه خالل ذلك من عنت و�ضيق‪ ،‬فال�شغف املوجَّ ه له‪،‬‬
‫عن اهلل‪.‬‬ ‫�شغف املعرفة والتجربة والتجريب‪ ،‬يكون‪ ،‬هنا‪ ،‬غالبًا‪،‬‬
‫مل يكن �أوغ�سطني مولعًا باجلانب الإ يجابي املرتبط بحب‬ ‫ويت�ساءل �أوغ�سطني‪« :‬فما تلك املتعة التي تكمن يف‬
‫اال�ستطالع �أو الف�ضول املعريف‪� ،‬أي ذلك اجلانب املرتبط‬ ‫ر�ؤيتنا جلثة متعفنة ممزقة قد جتعلنا نرتعد؟ وحتى‬
‫بالبحث العلمي‪ ،‬واال�ستق�صاء املنظم لأ �رسار الطبيعة واحلياة؛‬ ‫لو كانت تلك اجلثة ترقد على مقربة منا‪ ،‬ف�إننا نتجه‬
‫فقد كانت الطبيعة‪ ،‬بالن�سبة �إليه‪ ،‬مكانًا ال يت�سم بالعقل‪،‬‬ ‫مندفعني �إىل هناك من �أجل �أن جنعل �أنف�سنا ن�شعر‬
‫م�صيدة ن�صبت القتنا�ص �أي غافل قادته خطاه واجتذبه‬ ‫باحلزن‪ ،‬و�أن يتحول لون وجهنا �إىل ال�شحوب‪ .‬هذا على‬
‫ف�ضوله‪ ،‬ذلك املنحرف‪ ،‬بعيدًا عن طريق اهلل(‪.)19‬‬ ‫الرغم من �أننا قد نخ�شى �أن نرى تلك اجلثة خالل نومنا‪،‬‬
‫هكذا‪ ،‬ف�إن �أوغ�سطني‪ ،‬على الرغم مما �ألقاه من �إ�ضاءات‬ ‫وكما لو كان الأ مر هو �أن �أحدًا‪� ،‬سيقوم بدفعنا‪ ،‬عندما‬
‫كا�شفة عن عالقة الف�ضول املعريف بالبحث عن الغريب‬ ‫ن�ستيقظ ويجربنا على الذهاب والر�ؤية لتلك اجلثة‪،‬‬
‫وغري اجلميل �أو املنفر يف احلياة‪ ،‬وعلى الرغم من ا�ستك�شاف‬ ‫نحن ال نكون خالل اليقظة يف حاجة �إىل �أن يدفعنا �أحد‬
‫الطبيعة من خالل هذا الولع �أو ذلك ال�شغف‪ ،‬ف�إنه قام بنقده‬ ‫للم�شاهدة؛ فنحن نذهب �إىل هناك ب�إرادتنا احلرة»‪.‬‬
‫أي�ضا‬
‫من منظور ديني‪ ،‬لكنه خالل ذلك‪ ،‬كان قد فتح الطريق � ً‬ ‫ولقد جاءت كل تلك امل�شاهد الغريبة التي تعر�ض على‬
‫�أمام عديدين ممن جاءوا بعده‪ ،‬وت�أملوا هذا ال�شغف من وجهة‬ ‫امل�رسح من مثل ذلك الف�ضول املري�ض ‪ -‬كما يقول �أوغ�سطني‪،‬‬
‫نظر مغايرة(‪.)20‬‬ ‫«ومن ثم كان �سعينا املتوا�صل‪ ،‬ذاك؛ الكت�شاف �أ�رسار قوى‬
‫الطبيعة‪ ،‬تلك التي تتجاوز قدراتنا‪ ،‬هنا ال تكون هناك فوائد‬
‫ما بعد أ�وغ�سطني‬ ‫جننيها من وراء املعرفة‪� ،‬إال املعرفة ذاتها‪ ،‬ومن خالل مثل‬
‫بعد �أوغ�سطني تزايد االهتمام مبا ي�سمى «اجلليل» ‪ sublime‬وقد‬ ‫تلك املعرفة املحرفة (غري ال�سوية) ن�ستلهم الفنون ال�سحرية‬
‫كان امليل �إىل اجلليل ي�صنف لدى فال�سفة كثريين على �أنه‬ ‫من خالل هذه ال�شهوة وذلك الولع»‪.‬‬
‫يقع �ضمن نطاق‪ ،‬الغريب‪ ،‬واملخيف والقبيح‪ ،‬وكان الغريب‬ ‫وقد �أقام �أوغ�سطني �أ�س�س حالة الف�ضول املعريف �أو‬
‫هو الأ كرث ح�ضورًا وتدمريًا بني هذه االنواع‪ ،‬وقد �أ�شار �إدموند‬ ‫حب اال�ستطالع اخلا�صة بنا على �أ�س�س �أخرى‪ ،‬غري تلك‬
‫بريك نف�سه �إىل ذلك ال�شعور �صعب التف�سري والذي يزداد‬ ‫الأ �س�س اخلا�صة بالر�ضا الناجت عن الإ �شباع للمتع احل�سية‬
‫ح�ضوره بكثافة �ضمن �شبكة الإ ح�سا�سات اخلا�صة بالغمو�ض‬ ‫اجلمالية املرتبطة باجلميل واجلذاب‪� ،‬أو املرتبطة بت�أمله؛‬
‫والتي ترتبط عادة بالرعب وظلمة الليل املطبقة حني قال‪:‬‬ ‫ففي الف�ضول «و�شهوة الأ عني» ثمة متع معرفية �أكرث منها‬
‫«ي�ضيف الليل جوانب كثرية �إىل خماوفنا املرتبطة باخلطر‪،‬‬ ‫ح�سية‪ ،‬متع ناجتة عن الولع بالغريب‪ ،‬الولع باملخيف‪ ،‬الولع‬
‫كما �أن �أفكارنا املوجودة بداخلنا حول الأ �شباح والعفاريت‬ ‫باملنفر‪ ،‬متعة الف�ضول التي ترتبط باجلثث واملوتى وعامل‬
‫والتي ال ن�ستطيع �أن نكِّون �صورة وا�ضحة عنها‪ ،‬ت�ؤثر يف‬ ‫الظالل اخلفية و�أ�رسار الليل والكوابي�س والرعب‪ ،‬وهكذا ف�إن‬
‫عقولنا بدرجة وا�ضحة»(‪.)21‬‬ ‫املو�ضوعات‪ ،‬غري اجلميلة‪ ،‬التي يفرت�ض فيها �أنها تنفرنا‪،‬‬
‫وقد كان تهديد الغريب والغرائبي من الأ فكار والأ حداث‪،‬‬ ‫هي ما اهتم به �أوغ�سطني‪ ،‬بو�صفها‪ ،‬كما قال‪ ،‬نوعً ا من‬
‫خالل الفرتة الرومانتيكية‪ ،‬هو ما جعل هيجل يحاول‬ ‫االنحراف‪ ،‬حالة من الف�ضول املعريف‪ ،‬املنحرف‪ ،‬الذي يقرتب‬
‫�أن ي�ستعيد ذكرى اجلليل احلقيقي يف ن�صو�ص العهد‬ ‫من املر�ض الذي ينبغي �إبعاده عن القلب ونفيه من الوجدان‪،‬‬
‫القدمي و�أن يحافظ عليها‪ .‬لقد حاول يائ�سً ا – كما‬ ‫هذا على الرغم من بحث هذا الفيل�سوف عن جتليات عديدة‬
‫ي�شري فيدلر – �أن يغلق الباب اخلا�ص مبملكة ال�سحر‬ ‫لهذا ال�شغف يف الطبيعة واحلياة‪ ،‬وكما يتجلى ذلك لديه يف‬
‫واجلاذبية املغناطي�سية وال�شياطني‪ ،‬وكل تلك الأ �شكال‬ ‫قوله‪« :‬ما ذلك الذي يحدث عندما جنل�س يف البيت‪ ،‬ونرى‬
‫العليا اخلا�صة بالظهور والتجلي وامل�شي �أثناء النوم‬ ‫ال�سحلية ت�صطاد الذباب‪ ،‬ونرى كذلك عنكبوتًا يوقع‪ ،‬ذلك‬
‫وما �شابه ذلك؛ فحاول �أن يطرد كل تلك القوى الظالمية‬ ‫الذباب‪ ،‬يف �شباكه عندما يندفع مقرتبًا منه؟ ملاذا ال ميكن �أن‬
‫ال�شبحية من مملكة الفن الوا�ضح وال�شفاف‪ ،‬من وجهة‬ ‫نعترب �شعور الف�ضول‪ ،‬لدينا‪� ،‬شبيهًا بذلك‪ ،‬هل ملجرد �أن تلك‬
‫نظره‪ ،‬هذا على الرغم من ان�شغاله ومعا�رصيه بهذه‬ ‫كائنات �صغرية دقيقة؟ �إنني من خالل ت�أملي لها تو�صلت‬
‫أي�ضا(‪.)22‬‬
‫اجلوانب � ً‬ ‫�إىل متجيدك �أيها اخلالق العظيم الوهاب لكل الكائنات»(‪.)18‬‬
‫‪44‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫و«الغرابة» م�صطلح م�ستخدم بكرثة يف الفل�سفة ويف‬ ‫بعد حماولة هيجل تلك بنحو ثمانني عامً ا‪ ،‬كتب فرويد مقا ًال‬
‫الكتابات التحليلية النف�سية والأ دبية‪ ،‬و�أخريًا املعمارية‬ ‫مهمًّا حول الغريب بعنوان ‪ ،The uncanny‬ظهر عام ‪ ،1919‬وهي‬
‫الآن‪ .‬وقد و�صف هيدجر الغرابة ب�أنها ذلك «احليز‬ ‫كلمة وجدنا �صعوبة يف ترجمتها ترجمة دقيقة �إىل العربية‪،‬‬
‫املكاين الفارغ �أو اخلاوي الناجت من فقدان الإ ميان‬ ‫بل �إن فرويد نف�سه وجد �صعوبة كبرية يف �أن يجد املرادف‬
‫بال�صور املقد�سة‪ .‬فالإ ن�سان العاجز عن الإ ميان يرتك‬ ‫الدقيق لها يف الأ ملانية‪ ،‬فبحث �ضمن لغات غربية و�رشقية‬
‫الغريب‪ :‬خربة‬ ‫غريبًا يف الفراغ والعدم»(‪.)23‬‬ ‫عدة (من بينها العربية) عن املعنى املنا�سب ووجد �أن �أقرب‬
‫جمالية خميفة‬ ‫ووفقًا ملا جاء يف قامو�س �أوك�سفورد للغة االجنليزية‪ ،‬ف�إن‬ ‫املعاين �إليها هو‪« :‬ظهور غري امل�ألوف �ضمن �إطار م�ألوف»‪،‬‬
‫�أول ت�سجيل للكلمة مبعنى «لي�س � آمنًا كي تتم الثقة فيه»‬ ‫أي�ضا «الغريب عن البيت»‪،‬وكذلك‪« :‬حتول‬ ‫وقال �إن من معانيها � ً‬
‫ال تتعلق مب�صادر‬ ‫قد ظهر عام ‪ ،1773‬ويف عام ‪ 1785‬كانت الكلمة تعني‬ ‫أي�ضا �إنها فئة جمالية موجودة‬ ‫امل�ألوف �إىل غريب»‪ ،‬وقال � ً‬
‫واقعية حمددة‪،‬‬ ‫«املكان اخلطري وغري الآ من»‪ .‬كما حدد لوي�س بورخ�س �أول‬ ‫تقع على �أطراف اجلليل‪ ،‬وترتبط دون �شك باملخيف‪.‬‬
‫وهي لي�ست حالة‬ ‫ظهور لهذه الكلمة يف الق�صة والرواية يف عمل كتبه وليم‬ ‫لكن �أحا�سي�س الغرابة لي�ست هي تلك الأ حا�سي�س‬
‫عقلية خال�صة‬ ‫بيكفورد ي�سمى «فاتك» ‪Vattek‬؛ حيث جاء فيه احلديث عن‬ ‫اخلا�صة بالرعب الهائل‪ ،‬وال القلق املعتدل‪ ،‬كما �أنها ال‬
‫ذلك «القوطى ال�رشقي الغريب» عام ‪ .1784‬وقد تكرر ظهور‬ ‫ترتبط بال�رضورة بال�سحر والهالو�س والت�صوف واخلربات‬
‫انفعالية‪ ،‬بل‬ ‫امل�صطلح مرات عديدة خالل القرن التا�سع ع�رش لدى كتاب‬ ‫الباطنية اخلا�صة؛ فكل ما يت�صل مبا وراء الطبيعة لي�س‪،‬‬
‫يف املنزلة بني‬ ‫كثريين مرتبطً ا مبقابالت مع الظل �أو ال�شيطان‪ ،‬وو�صفت‬ ‫بطبيعته‪ ،‬غرائبيًّا‪ ،‬بل قد يكون طبيعيًّا وعاديًّا وم�ألوفًا‬
‫املنزلتي؛ منزلة‬
‫نْ‬ ‫قلعة دراكيوال يف رواية «برام �ستوكر» املعروفة على ل�سان‬ ‫لدى كثريين‪� .‬إن الغرائبي غريب من حيث طبيعته‪ ،‬ومن‬
‫العقل ومنزلة‬ ‫الراوي ب�أنها «قلعة غريبة‪ ،‬بحيث �سيطر اخلوف علىَّ و�أخذ‬ ‫حيث الأ ماكن التي يظهر فيها‪ ،‬وكذلك احلاالت التي‬
‫بتاليبي»‪ .‬بل لقد ظهرت روايات بعد ذلك حتت عناوين مثل‪:‬‬ ‫يتجلى من خاللها‪ ،‬ويكت�شف‪� ،‬أنه ي�شرتك مع كل الأ نواع‬
‫ال�شعور‪ ،‬منزلة‬ ‫املنزل الغريب ‪ The uncanny House‬ملارى بندرد ‪Mary Pendared‬‬ ‫اخلا�صة باخلوف‪ ،‬لكنه يت�سم «بال خ�صو�صية» �أو «ال‬
‫الت�صديق‪ ،‬بفعل‬ ‫عام ‪1929‬وغريها(‪.)24‬‬ ‫حتديد» معني يتعلق به‪.‬‬
‫الإ يهام الفني‪،‬‬ ‫وتقابل كلمة غريب ‪ uncanny‬يف الإ جنليزية‪ ،‬كلمة ‪ etrangete‬يف‬ ‫�إنه‪ ،‬الغريب‪ ،‬يرتبط بكل ما هو قيد لل�شك واال�ضطراب واخلوف‬
‫الفرن�سية‪ ،‬ومن هنا كان عنوان رواية �ألبري كامي ال�شهرية‬ ‫واالرتياب‪ ،‬وتنبع قوته من عدم قابليته للتف�سري الواحد‪� ،‬إنه‬
‫ومنزلة عدم‬ ‫«الغريب»؛ قا�صدًا �أن ي�شري ‪ -‬من خالل هذا العنوان ‪� -‬إىل‬ ‫�إح�سا�س حملق بعدم الراحة �أو الطم�أنينة‪ ،‬هكذا ت�شري كلمة‬
‫الت�صديق‪ ،‬بفعل‬ ‫غرابة الأ �شخا�ص يف املكان‪ ،‬وغرابة �سلوكهم فيه‪ ،‬وغرابته‬ ‫‪ uncanny‬يف الإ جنليزية‪� ،‬إىل حالة تتجاوز املعرفة املتعينة‬
‫غرابة الأ حداث‪،‬‬ ‫�شخ�صا‬
‫ً‬ ‫بالن�سبة �إليهم؛ حيث قتل مري�سو – بطل الق�صة –‬ ‫املحددة‪ ،‬حالة �شبحية من الإ دراك والفهم وال�شعور‪ ،‬حالة‬
‫وجمافاتها‪،‬‬ ‫� آخر غريبًا عنه وغريبًا عن فرن�سا‪ ،‬يف اليوم الذي ماتت �أمه‬ ‫ترتبط بكل ما هو منذر باخلوف �أو اخلطر‪ ،‬بكل ما يو�شك �أن‬
‫– �أم مري�سو‪ -‬دون �سابق معرفة وثيقة بينهما ومن ثم كان‬ ‫أي�ضا‪.‬‬
‫يحدث دون �أن نعرف م�صدره املحدد‪ ،‬وهو نوع جمايل � ً‬
‫للمنطق والعقل‪،‬‬ ‫�سلوكه مت�سمًا بالغرابة‪.‬‬ ‫هل نتذكر ما يحدث لنا حني نتابع �أحد �أفالم الرعب‪ ،‬وت�ستثار‬
‫من خالل‬ ‫ي�شرتك الغريب يف كل تلك الأ نواع املتعلقة باخلوف‪،‬‬ ‫بداخلنا حالة من الرتقب والتوقع واالنتظار الذي نتجمد‬
‫غمو�ضها الغريب‬ ‫أي�ضا‬
‫يف كل خ�صائ�صها املميزة‪ ،‬لكنه‪ ،‬من خالل ذلك � ً‬ ‫خاللها يف مكاننا‪ ،‬وقد نتوقف عن التنف�س م�ؤقتًا ونحن‬
‫وامللتب�س هذا‪.‬‬ ‫ي�شكل تلك الالخ�صو�صية املتعلقة به‪ ،‬والتي هي بدورها‬ ‫نتوقع يف التو واللحظة‪ ،‬حدوث جرمية مرعبة‪� ،‬أو ظهور �شبح‬
‫خ�صو�صية مميزة له‪ ،‬خ�صو�صية تدعم من خالل تعدد‬ ‫�أو وح�ش خميف‪� ،‬أو م�صا�ص دماء‪� ،‬أو م�ستذئب قاتل‪� . .‬إلخ؟ �إن‬
‫الكلمات الدالة على هذا الغريب‪ .‬ومن خالل ح�ضوره‬ ‫الغرائبي كما يتجلى هنا هو هذا الإ ح�سا�س‪ ،‬اجلمايل‪ ،‬وحيث‬
‫اخلا�ص يف لغات كثرية‪ ،‬كما �أ�شار �إليها فرويد يف مقاله؛‬ ‫هنا‪ ،‬خربة جمالية دفينة ووا�ضحة‪ ،‬غري مريحة‪ ،‬وخربة نقي�ض‬
‫حيث ت�شري الكلمة يف اليونانية مث ًال �إىل «الغريب‬ ‫ما يحدث عندما ن�شاهد فيلمًا كوميديًّا �أو رومان�سيًّا‪� ،‬أو ننظر‬
‫الأ جنبي» عن البلد‪ ،‬ويف الالتينية �إىل «املكان‬ ‫�إىل لوحة مثل «املوناليزا» مثالً‪.‬‬
‫الغريب»‪ ،‬ويف لغات �أخرى كثرية رجع �إليها فرويد‬ ‫«الغريب»‪ ،‬هنا‪ ،‬خربة جمالية خميفة ال تتعلق‬
‫يرتبط امل�صطلح بكل ما هو خميف ومثري للرهبة‪ ،‬ومبا‬ ‫مب�صادر واقعية حمددة‪ ،‬وهي لي�ست حالة عقلية‬
‫أي�ضا(‪.)25‬‬
‫يتجاوز جمرد الإ ثارة للرعب امل�ؤقت � ً‬ ‫خال�صة انفعالية‪ ،‬بل يف املنزلة بني املنزلتينْ ؛ منزلة‬
‫هكذا تنبع قوة هذه الكلمة وهذا املفهوم من عدم �إمكانية‬ ‫العقل ومنزلة ال�شعور‪ ،‬منزلة الت�صديق‪ ،‬بفعل الإ يهام‬
‫الت�أطري املحدودة له‪ ،‬من كونه يتعلق بذلك الإ ح�سا�س املحلق‬ ‫الفني‪ ،‬ومنزلة عدم الت�صديق‪ ،‬بفعل غرابة الأ حداث‪،‬‬
‫املهوم الطليق بعدم الراحة‪ ،‬دومنا حاجة �إىل الإ �شارة هنا‬ ‫وجمافاتها‪ ،‬للمنطق والعقل‪ ،‬من خالل غمو�ضها الغريب‬
‫� إىل م�صدر حمدد للخوف �أو الرعب؛ ولذلك ف�إن كلمة ‪uncanny‬‬ ‫وامللتب�س هذا‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫أي�ضا‪ ،‬امليت يف احلي �أو احلي يف امليت‪ ،‬الظاهر يف‬ ‫احلا�رض � ً‬ ‫يف الإ جنليزية تعني حرفيًّا‪ :‬ما وراء املعرفة ‪ ،beyond ken‬وهذه‬
‫الباطن‪ ،‬والباطن يف الظاهر‪ ،‬املتجلي يف املختفي واملختفي‪،‬‬ ‫بدورها م�شتقة من كلمة ‪ canny‬التي تعني القدرة وامتالك‬
‫يف املتجلي؛ مما قد يعمل على تو�سيع احلدود اخلا�صة بكل‬ ‫املعرفة واملهارة‪ .‬ولأ ن هذه الكلمة تتعلق باخلوف الطليق‬
‫مفردة يف هذه الثنائيات‪ ،‬وكذلك تو�سيع احلدود وامل�سافات‬ ‫�أو املهموم �أو احلر‪ ،‬دون املرتبط مب�صدر حمدد‪ ،‬فهي ترتبط‬
‫أي�ضا‪ ،‬ويظل ذلك احليز‬‫بينهما‪ ،‬وغمو�ض خا�ص بهذه احلدود � ً‬ ‫كذلك – كما �أ�شار فرويد بكل ما هو منذر باخلوف‪ ،‬كل ما‬
‫املكاين وال�سيكولوجي‪ ،‬معلقًا‪ ،‬ما بني املا�ضي واحلا�رض‪،‬‬ ‫يو�شك على الوقوع‪ ،‬دون معرفة م�صدره احلقيقي‪ ،‬كل ما‬
‫الواقع واملتخيل‪ ،‬احل�ضور بو�صفه ال حمدودًا م�ستحي ًال مي�سك‬ ‫ميكن �أن يظهر فج�أة (كالأ �شباح مثالً)‪ ،‬وهي كذلك نوع من‬
‫ب�أ�صابعه �أنامل الغياب‪ ،‬وحيث تعمل حاالت التهيب والرهبة‬ ‫خوف ي�ستثار من خالل �أعمال فنية و�أدبية‪� . .‬إلخ‪ ،‬ولي�س من‬
‫واخلوف والتوقع‪ ،‬هنا‪ ،‬على ا�ستح�ضار هذا البعد الغريب من‬ ‫خالل م�صادر واقعية‪� .‬إنها خربة جمالية خميفة‪ ،‬ولكنها قد‬
‫�أبعاد اخلربة وحتويلها؛ فيكون حرًّا يف حركته‪ ،‬وحركته لي�ست‬ ‫أي�ضا(‪.)26‬‬
‫تكون ممتعة � ً‬
‫�إرادية دائمًا‪ ،‬وال واعية دائمًا‪� .‬إنه �شعور عقالنى يتحرك نحو‬ ‫بالطبع ال ميكن النظر �إىل ما قاله فرويد على �أنه‬
‫اال�ستك�شاف والفهم واال�ستيعاب واخلروج من تلك احلالة‬ ‫دقيق متامً ا‪ ،‬وينبغي الت�سليم به هكذا؛ وذلك لأ ن اخلربة‬
‫امللتب�سة‪� ،‬إنه هنا �أ�شبه ب�أ�سلوب معريف ال يتعرف احلدود‪،‬‬ ‫اجلمالية املخيفة املمتعة ال ميكن �أن تكون هكذا مطلقة‬
‫ومن ثم ال يعرتف بذلك اجلانب من التفكري الذي يحدد معامل‬ ‫ونحن نتعر�ض لعمل جمايل حمدد‪ ،‬فيلم مرعب مثالً‪� ،‬أو‬
‫تلك احلدود‪� .‬إنها خربة ال تكون موجودة داخل الذات فقط وال‬ ‫ق�صة من ق�ص�ص الأ �شباح‪ .‬فنحن نعرف �أننا قد نخاف من‬
‫خارجها فقط‪ ،‬بل جتمع بني االثنينْ ‪ ،‬الذات وخارجها‪ ،‬معًا‬ ‫الأ حداث التي تقع يف هذا الفيلم‪ ،‬وقد نغلق التليفزيون‪،‬‬
‫يف �أ�سلوب معريف واحد‪.‬‬ ‫وخا�صة عندما يعر�ض هذا الفيلم ليالً‪ ،‬وقد يغادر البع�ض‬
‫الأ �سلوب املعريف كما يعرف يف علم النف�س هو طريقة‬ ‫منا قاعة ال�سينما‪� ،‬أو يطوي �صفحات الرواية املرعبة‬
‫املرء اخلا�صة يف احل�صول على املعلومات من العامل‪،‬‬ ‫ب�رسعة‪� . .‬إلخ‪� .‬إذن فامل�صدر هنا معروف ويتعلق بالعمل‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫ويف ت�شغيلها داخل املخ‪ ،‬ثم التعبري عنها � ً‬ ‫أي�ضا‪ ،‬هو تلك‬‫الفني املحدد‪ ،‬لكن ما هو طليق �أو حر هنا � ً‬
‫ب�أ�ساليب �إبداعية‪� ،‬أو غري �إبداعية‪ .‬والأ �سلوب املعريف‬ ‫احلالة العامة التي ي�ستثريها هذا العمل‪ ،‬فنحن عندما‬
‫مكون يجمع بني االنفعال والتفكري والتعبري؛ ومن ثم‬ ‫ن�شاهد فيلمًا مرعبًا ي�ستثار لدينا الإ ح�سا�س باخلوف من‬
‫ف�إن الغرابة هنا مكون خا�ص يف �إدراك العامل‪ ،‬ويف‬ ‫م�صادر متعددة‪ ،‬كالأ حداث والأ زياء واملو�سيقى وال�ضوء‬
‫أي�ضا‪،‬‬
‫التفكري فيه‪ ،‬ويف التعبري عن هذا الإ دراك والتفكري‪ً � ،‬‬ ‫وطبيعة ال�شخ�صيات ومالحمها و�أ�صواتها ومكان‬
‫ب�أ�شكال غريبة‪.‬‬ ‫الأ حداث واملواقف‪� ...‬إلخ‪� ،‬أي من حالة عامة‪ ،‬ولي�س من‬
‫لكن العن�رص الغالب على هذه اخلربة‪ ،‬هنا‪ ،‬هو ذلك االنفعال‬ ‫م�صدر واحد بعينه داخل هذا الفيلم املخيف ي�ستثري‬
‫املرتبط بالتهيب والوجل واخلوف و�أحيانًا الرعب‪ ،‬واالنفعال‬ ‫بداخلنا �أفكارًا وم�شاعر �سبق كبتها كما �أ�شار فرويد‪.‬‬
‫الواقع يف براثن االلتبا�س‪ ،‬وال�شك‪ ،‬ومن ثم ي�أتى التفكري‬ ‫ذات مرة‪ ،‬قال جورج لوكات�ش �إن الرواية ت�شبه �شبحً ا ما‪،‬‬
‫والتعبري‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬فيج�سد العمل الفنى – �أو التعبري ‪ -‬تلك‬ ‫�إنها‪ ،‬يف جوهرها‪ ،‬بال م�أوى خا�ص‪� ،‬إنها تظل هائمة على‬
‫الأ حوال االنفعالية واملعرفية التي خرب الفنان و�أدركها‬ ‫وجهها دومً ا؛ وذلك لأ نها ن�شاط خا�ص من �أن�شطة اخللق‬
‫وعاي�شها قبل �أن يج�سدها يف عمله‪.‬‬ ‫الفني الذي يولد يف زمن معني‪ ،‬كما �أن �شكلها هو نوع من‬
‫وهكذا ف�إن الأ عمال الفنية‪ ،‬جتريدية كانت �أو جت�سيدية‪،‬‬ ‫املعاجلة والأ داء الذاتي لذلك الإ طار اخلا�ص بالزمن الذي‬
‫�إمنا تقدم لنا احلا�رض اخلا�ص بالفن �أو الفنان �أو الواقع �أو‬ ‫أي�ضا ‪� -‬أن‬‫ظهرت فيه‪ .‬وقدر الرواية ‪ -‬كما قال لوكات�ش � ً‬
‫الذاكرة‪ ،‬موهمة لنا بح�ضوره �أمامنا‪ ،‬يف حني �أنها تكون‬ ‫يعاد تف�سريها‪ ،‬مرة بعد الأ خرى‪ ،‬و�أن يعاد حتديدها‪ ،‬مرة بعد‬
‫أي�ضا‪ ،‬ذلك‬‫قد غابت عنا مثلما تكون قد غابت عن الفنان � ً‬ ‫الأ خرى‪ ،‬و�أن يعاد �إبداعها‪ ،‬مرة بعد الأ خرى‪ ،‬وذلك عندما‬
‫الذي حاول �أن مي�سك بها قبل �أن تغيب‪ ،‬كما قال بودلري‪،‬‬ ‫ال ت�صبح مالئمة‪� ،‬أو يكون معناها مل يعد يعك�س التغريات‬
‫وحاول �أن يقدمها لنا بو�صفها حلظات �أو جت�سيدات �أخرى‪،‬‬ ‫االجتماعية والثقافية اجلارية‪� ،‬أو �أنه �أ�صبح غريبًا‪ ،‬ولعل هذا‬
‫معرو�ضة هنا‪� ،‬أمامنا‪ ،‬كحالة ما من حاالت احل�ضور‪ ،‬لكنه‬ ‫أي�ضا – كما قال لوكات�ش ‪ -‬الذي جعل امللحمة‬ ‫هو ال�سبب � ً‬
‫احل�ضور الذي ي�شبه الغياب‪� ،‬أو على الأ قل ي�شى به‪ .‬هكذا تكون‬ ‫تختفي وتخلي مكانها ل�شكل جديد هو الرواية(‪.)27‬‬
‫اللوحات م�سكونة بالغياب‪ ،‬ب�شيء يجيء من املا�ضي‪� ،‬أو من‬ ‫أي�ضا‪ ،‬ذلك ال�شعور‬ ‫هكذا يحتوي الغريب‪ ،‬ويت�ضمن‪ ،‬وي�ستثري‪ً � ،‬‬
‫امل�ستقبل‪ ،‬ما�ضي الفنان �أو احلياة‪� ،‬أو عامل الفن �أو م�ستقبل‬ ‫بالتنبه واالهتمام والت�شويق والتوقع‪ ،‬وكل تلك اخلربات‬
‫أي�ضا‪ ،‬وهنا يكون ح�ضور تلك احلاالت ح�ضورًا‬ ‫ذلك كله‪ً � ،‬‬ ‫اخلا�صة بح�ضور املمكن واملحتمل وامل�ستحيل‪ ،‬ح�ضور‬
‫�شبحيًّا‪ ،‬ح�ضورًا ميزج ما بني الواقع واملتخيل‪ ،‬واحلا�رض‪،‬‬ ‫املا�ضي يف احلا�رض‪ ،‬وتوقع خا�ص للم�ستقبل وامل�ستقبل يف‬
‫‪46‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫فهو «�إذا ذكر احلق هجر و�إذا دعا �إىل احلق زجر»‪ ...‬الغريب يف‬ ‫والغائب‪ ،‬والتجلى واخلفاء‪ ،‬وحتى لو كان هذا اخلفاء متعلقًا‬
‫اجلملة «كله حرقة‪ ،‬وبع�ضه فرقة‪ ،‬وليله �أ�سف‪ ،‬ونهاره لهف‪،‬‬ ‫أي�ضا بامل�ستقبل‪ ،‬ف�إنه يكون امل�ستقبل يف �ضوء املا�ضي‬ ‫� ً‬
‫وغذا�ؤه حزن‪ ،‬وع�شا�ؤه �شجن‪ ،‬وخوفه وطن»(‪.)29‬‬ ‫واحلا�رض‪� ،‬أي يف �ضوء ما�ضيه اخلا�ص‪ ،‬ذلك الغائب احلا�رض‬
‫والغريب «من هو يف غربته غريب‪ ،‬بل الغريب من لي�س‬ ‫(‪)28‬‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫� ً‬
‫له ن�سيب‪ ،‬بل الغريب من لي�س له من احلق ن�صيب»‪.‬‬ ‫هكذا قد تك�شف الغرابة يف الفن عن احل�ضور‪ ،‬احل�ضور‬
‫�أغرب الغرباء هو‬ ‫أي�ضا «من غربت �شم�س جماله‪ ،‬واغرتب يف‬ ‫والغريب � ً‬ ‫اخلا�ص ل آلثار والبقايا اخلا�صة باملا�ضي يف احلا�رض‪،‬‬
‫الغريب يف وطنه‪،‬‬ ‫�أقواله و�أفعاله‪ ،‬وغرب يف �إدباره و�إقباله‪ ،‬وا�ستغرب يف‬ ‫والآخر يف الذات‪ ،‬وهي توحى‪ ،‬كذلك مبناخ عام ما‪،‬‬
‫يكون و�سط النا�س‬ ‫طمره و�رسباله‪ ،‬و�أغرب الغرباء من �صار غريبا يف وطنه‪،‬‬ ‫مناخٍ يرتكز حول ح�ضور ما‪ ،‬وحالة حا�رضة تكون‬
‫وال يندمج معهم‪،‬‬ ‫و�أبعد البعداء من كان بعيدا يف حمل قربه»(‪.)30‬‬ ‫موجودة على نحو قلق غري م�ستقر بني الزمان واملكان‪،‬‬
‫أي�ضا «�إن ظهر ظهر ذليال‪ ،‬و�إن توارى توارى عليالً»‪.‬‬‫الغريب � ً‬ ‫بني املادي والالمادي‪ ،‬الواقعى وغري الواقعى‪ ،‬يعاي�شها‬
‫يظل غريبا عنهم‬ ‫ويت�سائل �أبو حيان التوحيدي‪� :‬أما �سمعت القائل (املتنبي)‬ ‫�إح�سا�س ما بالعامل وك�أن الأ لفة قد غادرته‪ ،‬و�أنه قد‬
‫ويظلون غرباء‬ ‫حني قال‪:‬‬ ‫�أ�صبح غريبًا‪ ،‬ورمبا كئيبًا‪ ،‬و�أننا قد �أ�صبحنا غرباء‬
‫عنهم؛ حيث‬ ‫مب التعلل ال �أهل وال وطن‬ ‫عنه‪� ،‬أو ال ننتمى �إليه؛ مما يذكرنا بعجزنا عن �أن نكون‬
‫وال ندمي وال ك�أ�س وال �سكن‬ ‫حا�رضين مع الآخرين �أو من خاللهم‪� ،‬إنه ح�ضور الغياب‬
‫تتحول الغربة‬ ‫وغياب احل�ضور‪ ،‬غياب احل�ضور الذي ي�ستبدل بح�ضور‬
‫أي�ضا «يد الغريب ق�صرية»‪« ،‬ول�سانه �أبدًا كليل»‬‫ي�ؤكد كذلك � ً‬
‫لديه � إىل وطن‬ ‫وينتهي التوحيدي من ر�سالته و�شكواه قائال لنف�سه وللإ ن�سان‬ ‫املرء وحياته غيابه وموته‪ ،‬ذاته املوجودة يف املا�ضي‬
‫ثانٍ ‪ ،‬لكنه وطن ال‬ ‫عامة ‪�« :‬أنت الغريب يف معناك» �أي �أنت الغريب يف وطنك‪،‬‬ ‫القريب‪� ،‬أو البعيد‪ ،‬وامل�ستقبل الذي قد تكون موجودة‬
‫ميل‬
‫يكفيه وال أ‬ ‫الغريب يف حياتك‪ ،‬الغريب يف وجودك‪ ،‬الغريب يف مبتداك‬ ‫أي�ضا‪.‬‬
‫فيه � ً‬
‫كيانه‪ ،‬ومن ثم‬ ‫وخربك‪� ،‬أنت الغريب يف معناك‪.‬‬ ‫املفاهيم ال�شقيقة للغرابة‬
‫ويف درا�سته املهمة حول «االغرتاب»‪ ،‬ينتهي حممود رجب‬
‫فهو «يف غربته‬ ‫مثلما الغرابة حالة متداخلة بني حاالت‪ ،‬حالة حدودية‪،‬‬
‫�إىل �أن الغريب عند التوحيدي هو ذلك الإ ن�سان ال�شقى الذي‬ ‫�أو بينية‪ ،‬تقع ما بني انفعاالت اخلوف والرهبة والت�شويق‬
‫غريب وعن غربته‬ ‫ينطق و�صفه باملحنة بعد املحنة‪ ،‬والذي يعي�ش هذا العامل‬ ‫وحب اال�ستطالع واملتعة وغريها‪ ،‬ومثلما هي حالة معرفية‬
‫غريب‪ ،‬يظل يف‬ ‫ب�شعور االقتالع‪ ،‬ال يقوى على اال�ستيطان يف وطن‪ ،‬و�إن‬ ‫وجدانية توجد يف منطقة التداخل بني جمموعة من العمليات‬
‫غربة دائمةً‪ .‬وهنا‬ ‫�أغرب الغرباء هو الغريب يف وطنه‪ ،‬يكون و�سط النا�س وال‬ ‫املعرفية والوجدانية املتداخلة كالتذكر والتخيل والتوهم‬
‫يندمج معهم‪ ،‬يظل غريبا عنهم ويظلون غرباء عنهم؛ حيث‬ ‫والإ دراك والفقدان لليقني وااللتبا�س واالنفعال‪ ،‬فكذلك‬
‫يقرتب التوحيدي‬ ‫تتحول الغربة لديه �إىل وطن ثانٍ ‪ ،‬لكنه وطن ال يكفيه وال ميلأ‬ ‫حال الغرابة‪ ،‬كم�صطلح‪� ،‬إنه يقع �ضمن �شبكة من املفاهيم‬
‫� إىل حد ما من‬ ‫كيانه‪ ،‬ومن ثم فهو «يف غربته غريب وعن غربته غريب‪ ،‬يظل‬ ‫املعرفية امل�شتبكة امل�شرتكة لعل من �أهمها‪ :‬الغربة واالغرتاب‬
‫املعنى اخلا�ص‬ ‫يف غربة دائمةً‪ .‬وهنا يقرتب التوحيدي �إىل حد ما من املعنى‬ ‫والتغريب واال�ستغراب‪ .‬وفيما يلي حماولة لف�ض بع�ض ذلك‬
‫بالغرابة لدى‬ ‫اخلا�ص بالغرابة لدى هيدجر؛ وحيث وجود الإ ن�سان‪ ،‬يف بيته‬ ‫اال�شتباك بني هذه املفاهيم‪.‬‬
‫ووطنه‪ ،‬ويف هذا العامل‪ ،‬وجود يف جوهره‪ ،‬غريب(‪.)31‬‬
‫هيدجر؛ وحيث‬ ‫تكاد تكون حماولة التوحيدي هذه للحديث عن الغربة‪،‬‬ ‫‪ -1‬الغربــة ‪Starngement‬‬
‫وجود الإن�سان‪ ،‬يف‬ ‫حماولة وحيدة‪ ،‬هنا حديث عن غربة الإ ن�سان يف الزمان‬ ‫يف «الإ �شارات الإ لهية» لأ بي حيان التوحيدي يتحدث ذلك‬
‫بيته ووطنه‪ ،‬ويف‬ ‫واملكان وقد كان التوحيدي يتحدث عن حالة‪ ،‬وغريبة على‬ ‫املفكر العظيم عن الغريب الذي ن�أي عن وطن بني باملاء‬
‫هذا العامل‪ ،‬وجود‬ ‫نحو خا�ص‪.‬‬ ‫والطني وبعد عن �أحباب له‪ ،‬هذا غريب عادي‪ ،‬ميكنه �أن يعود‬
‫يف تاريخ الفكر االجتماعي الغربي‪ ،‬ثمة عامل اهتم كثريا‬ ‫�إىل وطنه �إن �شاء‪ ،‬على الرغم من �أنه �أحيانًا ما يكون غريبًا‬
‫يف جوهره‪،‬‬ ‫مبو�ضوع الغربة وكتب درا�سة مهمة حول «الغريب» وكان‬ ‫ال �سبيل له �إىل الأ وطان‪ ،‬وال طاقة به على اال�ستيطان»‪� .‬أما‬
‫غريب‪.‬‬ ‫هو جورج �سيميل عامل االجتماع الأ ملاين (‪)1918-1858‬‬ ‫«�أغرب الغرباء» فهو ‪ -‬كما يرى التوحيدي ‪ -‬ذلك «الذي‬
‫فيما يلي مقاربة لتلك املحاولة‪.‬‬ ‫طالت غربته يف وطنه» وقل حظه من احلبيب وال�سكن‪ ،‬ال يجد‬
‫طريقًا �إىل وطنه‪�« ،‬إن ح�رض غاب و�إن غاب كان حا�رضًا»‬
‫جورج �سيميل وعمل الغريب‬
‫ولدى التوحيدي «�أغرب الغرباء من �صار غريبًا يف وطنه‪،‬‬
‫ظهر املقال املهم حول عمل الغريب جلورج �سيميل ‪،G. Simmel‬‬ ‫و�أبعد البعداء من كان قريبًا يف حمل قربه «�أغرب الغرباء‬
‫�أوالً‪ ،‬كحا�شية على مقال كبري له عام ‪ ،1908‬وكان عنوانه»‬ ‫أي�ضا حني يكون يف وطنه يتم جتاهله من �أهله‪� ،‬إذا �أقبل مل‬ ‫� ً‬
‫املكان والتنظيم املكاين للمجتمع»‪ ،‬ثم ظهر كمقال م�ستقل‬ ‫يرحبوا به و�إذا ابتعد مل ي�س�ألوا عنه‪ ،‬و�إذا حتدث مل ي�سمعوا له‪،‬‬
‫‪47‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عندما ي�صل الغريب‪ ،‬يكون خارج نظام العالقات االجتماعية‪،‬‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬خالل العام نف�سه‪ ،‬وقد كتب �سيميل �أعما ًال مهمة‬
‫ويفر�ض ح�ضوره‪ ،‬كذلك‪ ،‬عددًا من امل�شكالت على النظام‬ ‫�أخرى مثل «فل�سفة املال» و�شبكة عالقات القرابة» واملدينة‬
‫املوجود‪ ،‬وقد تتغري اجلماعة كي ت�ستدمج داخلها الغريب‪،‬‬ ‫واحلياة العقلية وغريها‪ ،‬كما كان له ت�أثريه البالغ يف‬
‫وتكون هناك بع�ض النتائج املرتتبة على هذا التغري؛ حيث‬ ‫مدر�سة �شيكاغو الأ مريكية يف علم االجتماع التي ازدهرت ما‬
‫تكون هناك توقعات خا�صة من اجلماعة‪ ،‬و�شكوكً ا‪ ،‬فيما‬ ‫بني عامي ‪1935‬و‪ .1951‬وقد اهتمت بعلم اجتماع املدنية‪،‬‬ ‫�أمّ ا جورج �سيميل‬
‫يتعلق بال�سلوكيات اخلا�صة بالغرباء واملهاجرين‪ ،‬الذين قد‬ ‫قامت كذلك بتطوير املنحى الرمزي التفاعلي يف درا�سة‬ ‫فقد ات�سع تعريفه‬
‫ميثلهم بعد ذلك بطرائق معينة‪.‬‬ ‫الفنيات والظواهر االجتماعية وقد خلط بع�ض �أبرز علمائها‪،‬‬
‫�إن ما اهتم به �سيميل‪ ،‬بوجه خا�ص‪ ،‬كان هو الغريب‬ ‫وخا�صة روبرت بارك‪ ،‬بني مفهوم الغريب عند �سيميل‬ ‫للغريب فلم يعد‬
‫الذي يف�شل يف �أن ي�صبح ع�ضوًا م�شاركً ا ب�شكل كامل‬ ‫ومفهوم «الإ ن�سان الهام�شي» كما طوره بارك نف�سه و� آخرون‬ ‫هو ذلك ال�شخ�ص‬
‫يف اجلماعة‪ ،‬وقد قال �إن هذا الف�شل قد يحدث لأ �سباب‬ ‫أي�ضا‪ ،‬يوجد يف‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬ذلك الإ ن�سان الذي يكون غريبًا» � ً‬ ‫الذي ي�أتي اليوم‬
‫ثالثة هى‪ :‬مو�ضوعية الغريب‪ ،‬والنق�ص املتعلق بعدم‬ ‫عاملينْ وال ينتمي �إىل �أحدهما على نحو حمدد‪ ،‬عامل الداخل‬ ‫ويذهب غدًا‪،‬‬
‫امتالكه �شيئًا ما من ممتلكات اجلماعة‪ ،‬وثالثًا �شعوره‬ ‫وعامل اخلارج‪ ،‬عامل اجلماعة الأ وىل‪ ،‬وعامل اجلماعة الثانية؛‬
‫اخلا�ص بالغربة‪.‬‬ ‫حيث يعاين اال�ضطراب الروحي‪ ،‬ويت�سم بالوعي ال�شديد ويكون‬ ‫بل الذي ي�أتى‬
‫وقد كان �سيميل يق�صد باملو�ضوعية �أن الغريب‪ ،‬كوافد على‬ ‫غري م�ستقر انفعاليًّا‪ ،‬لكن العامل احلا�سم هنا‪ ،‬هو �أن الإ ن�سان‬ ‫وقد ال يذهب‬
‫اجلماعة‪ ،‬يقرتب من نزعاتها وميولها �أو �سلوكياتها اخلا�صة‬ ‫الهام�شي قد يكون ع�ضوًا �أ�صي ًال يف اجلماعة‪ ،‬انتمى �إليها من‬ ‫غدًا‪ ،‬هو � إمكانية‬
‫والفريدة باجتاه �أو وعي يت�سم باملو�ضوعية؛ ذلك لأ نه‬ ‫قبل‪ ،‬لكنه‪ ،‬م�ستبعد منها‪ ،‬يعي�ش على �أطرافها‪ ،‬يحيا حياة �أقل‬
‫لي�ست لديه جذور م�شرتكة تربطه بها‪ .‬وبذلك ال تكون هناك‬ ‫قيمة ورفاهية‪ ،‬بينما الغريب لدى �سيميل‪ ،‬هو «�شخ�ص ي�أتي‬
‫للبقاء و� إمكانية‬
‫م�شاركة فعالة‪ ،‬بل مو�ضوعية ما‪ ،‬مبعنى �أنه قد يحاول �أن‬ ‫اليوم وقد ال يذهب غداً»‪ ،‬تتم ا�ست�ضافته لكنه يبقى مو�ضعا‬ ‫للذهاب‪ ،‬حالة‬
‫يفهم طبيعة هذه اجلماعة من م�سافة‪ ،‬عن بعد‪ ،‬هو يقرتب‬ ‫للمقارنة واالختالف‪.‬‬ ‫ما بني الإقامة‬
‫منها فعالً‪ ،‬لكن اقرتابه يكون حذرًا‪ ،‬ويكون �سلوكه مزيجً ا‬ ‫ويك�شف ال�شكل االجتماعي للغريب عن ولع �سيميل‬ ‫والرحيل‪ ،‬لكنه ال‬
‫من البعد والقرب‪ ،‬الالمباالة‪ ،‬واالهتمام‪ .‬وعلى هذا النحو‪،‬‬ ‫الكبري باملفارقة امل�ؤكدة للتناق�ضات واختالط الأ �ضداد‬
‫قد يكون هذا معربًا عن نوع من احلرية‪ ،‬احلرية يف الإ دراك‬ ‫يف احلياة االجتماعية؛ فدائمًا ما يكون الب�رش مهتمني‬
‫يتمتع ال بحرية‬
‫والفهم والتقييم والبعد عن التحيز الذي تفر�ضه ع�ضوية‬ ‫بدخول �شخ�ص جديد �إىل جماعتهم‪ ،‬وكثريًا ما يجلب‬ ‫الإقامة‪ ،‬وال‬
‫الفرد العميقة يف اجلماعة‪ .‬هنا قد يعالج الغريب خرباته‬ ‫الغريب معه احتمالية ما للتغري‪ ،‬وقد يكون هذا التغري‬ ‫بحرية الرحيل؛‬
‫وعالقاته‪ ،‬مع اجلماعة‪ ،‬بنوع من الو�ضوح واملو�ضوعية‪ .‬وقد‬ ‫مهددًا للجماعة‪ .‬وما مل تكن هذه اجلماعة‪� ،‬أو تلك‪ ،‬مت�أكدة‬ ‫وذلك لأ نه يكون‬
‫�رضب �سيميل مثا ًال هنا‪ ،‬به�ؤالء الق�ضاة الذين كانت املدن‬ ‫من قدرتها على التعامل املنا�سب خالل مواجهتها مع‬
‫الإ يطالية يف املا�ضي ت�ستدعيهم حل�سم بع�ض الق�ضايا داخل‬ ‫الغريب‪ ،‬وما مل تكن معدة �أو جمهزة‪ ،‬فعالً‪ ،‬للتعامل‬ ‫له مو�ضعه املحدد‬
‫الأ �رس واجلماعات‪.‬‬ ‫مع املظاهر املتعلقة باحتماالت التغري‪ ،‬فقد تعود تلك‬ ‫اخلا�ص يف نطاق‬
‫هكذا ف�إن الغريب على الرغم من �أنه قد يقيم عالقات‬ ‫اجلماعة وتنك�ص على عقبيْها يف اجتاه تلك املعايري‬ ‫اجلماعة‪ ،‬لكنه ال‬
‫طيبة وقريبة مع اجلماعة ف�إنه �سيظل ينظر �إليه‪ ،‬كغريب‪،‬‬ ‫غري املرنة والتقليدية اخلا�صة بها‪.‬‬ ‫يكون منتميًا � إليها‬
‫يف �أعني الآخرين‪� .‬إنه لن يكون مالكًا لأ ي �أر�ض �صلبة‬ ‫والغريب هنا هو‪� :‬شخ�ص ال يعرفه �أحد‪ ،‬قادم جديد يف مكان‬
‫فيها‪ ،‬كما قال �سيميل باملعنى املادي وكذلك الت�صورى‪.‬‬ ‫ما‪ ،‬واحد‪ ،‬من خارج اجلماعة‪� ،‬شخ�ص لي�س ع�ضوًا يف عائلة‪،‬‬ ‫على نحو حمدد‪،‬‬
‫هكذا يكون الغريب حرًّا‪ ،‬ومتحركً ا‪ ،‬ال روابط‪ ،‬ال قرابات‪،‬‬ ‫�أو جماعة‪� ،‬أو جمتمع‪ . .‬لكن هذا هو التعريف القامو�سى‬ ‫� إنه �شخ�ص على‬
‫ال ممتلكات‪ ،‬مع �أي جماعة خا�صة؛ لكنه وب�سبب عدم‬ ‫للغريب‪� ،‬أما جورج �سيميل فقد ات�سع تعريفه للغريب فلم يعد‬ ‫حدود اجلماعة‪،‬‬
‫وجود روابط دائمة معها‪ ،‬يظل غريبًا‪ ،‬وتزداد هذه الغربة‬ ‫هو ذلك ال�شخ�ص الذي ي�أتي اليوم ويذهب غدًا‪ ،‬بل الذي ي�أتى‬ ‫على هام�ش‬
‫ب�سبب وجود ذلك الإ ح�سا�س الدائم بها حول نف�سه يف‬ ‫وقد ال يذهب غدًا‪ ،‬هو �إمكانية للبقاء و�إمكانية للذهاب‪ ،‬حالة‬
‫عالقته باجلماعة‪.‬‬ ‫ما بني الإ قامة والرحيل‪ ،‬لكنه ال يتمتع ال بحرية الإ قامة‪ ،‬وال‬ ‫اجلماعة‪ ،‬ال ينتمي‬
‫مع تزايد �ألفة الغريب مبعايري اجلماعة امل�ضيفة له‪ ،‬يفرت�ض‬ ‫بحرية الرحيل؛ وذلك لأ نه يكون له مو�ضعه املحدد اخلا�ص‬ ‫� إليها على الرغم‬
‫�أنه �سي�شعر بزيادة التقارب بينهما‪ ،‬لكن ما يحدث هو العك�س؛‬ ‫يف نطاق اجلماعة‪ ،‬لكنه ال يكون منتميًا �إليها على نحو‬ ‫من وجوده معها‬
‫وذلك لأ نه مع تزايد ت�شابهه مع اجلماعة امل�ست�ضيفة له‪ ،‬ف�إنه‬ ‫حمدد‪� ،‬إنه �شخ�ص على حدود اجلماعة‪ ،‬على هام�ش اجلماعة‪،‬‬
‫�سيظل ي�شعر �أكرث ب�أنه وافد عليها‪ ،‬خارجى بالن�سبة �إليها‪ ،‬ال‬ ‫ال ينتمي �إليها على الرغم من وجوده معها‪ ،‬وقد ي�ستورد‬
‫ينتمى �إليها؛ �إذ �أن �ألفته مبن وفد عليهم وبطرائقهم يف احلياة‬ ‫�سلوكيات وخ�صائ�ص و�سلعًا ال تنتمي �إىل اجلماعة �أو ال تقوم‬
‫متيل �إىل �أن جتعله بعيدًا عن تقريب تلك الفجوة التي كانت‬ ‫ب�إنتاجها ويدخلها �إليها‪.‬‬
‫‪48‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حياة اجلماعة‪ ،‬فحتى لو �أمكن تقبل الغريب داخل اجلماعة‪،‬‬ ‫تف�صل بينهما‪.‬‬
‫أي�ضا بالن�سبة �إليها‪ ،‬وبالن�سبة �إىل نف�سه‪،‬‬
‫ف�إنه �سيظل غريبًا � ً‬ ‫مبعنى �آخر‪ ،‬ف�إنه مع تزايد �ألفة الغريب ب�أ�ساليب حياة‬
‫�إنه يظل كذلك‪ ،‬غريب الداخل ‪ an inside –outsider‬وع�ضوًا يف‬ ‫اجلماعة‪ ،‬ف�إن جانبًا من ذاته‪� ،‬سيبد�أ يف املقارنة بني‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫جماعة خارجية غريبة عنه � ً‬ ‫جماعته القدمية‪� ،‬أو �إطاره املرجعى ال�سابق‪ ،‬وبني الإ طار‬
‫هكذا يك�شف مفهوم «الغريب» لدى جورج �سيميل عن ثنائية‬ ‫اخلا�ص باجلماعة اجلديدة‪ ،‬و�سيبد�أ يف املقارنة‪ ،‬كذلك‪،‬‬
‫جتمع بني حرية الغريب يف التجول‪ ،‬واحلركة يف املكان‪ ،‬من‬ ‫بني كيفية حل جماعته القدمية بع�ض امل�شكالت‪ ،‬وبني‬
‫ناحية‪ ،‬وبني حتديد هذه احلركة وتثبيتها عند نقطة معينة ال‬ ‫كيفية تعامل اجلماعة اجلديدة معها؛ عندها �سيبد�أ‬
‫ي�سمح له بتجاوزها؛ من ناحية �أخرى‪ ،‬هي حرية وال حرية‪،‬‬ ‫يف النظر �إىل نف�سه كغريب؛ فهو «بو�صفه ع�ضوًا يف‬
‫حرية مقيدة‪ ،‬حرية منقو�صة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ف�إن كان ذلك املفهوم‬ ‫اجلماعة»‪ ،‬قريب وبعيد يف الوقت نف�سه؛ حيث هناك‬
‫أي�ضا‪ ،‬مثلما �صار مفهوم الغرابة لدى‬ ‫لديه مفهومً ا مزدوجً ا � ً‬ ‫جوانب م�شرتكة‪ ،‬بينه وبينها‪ ،‬تقوم على �أ�سا�س الفهم‬
‫أي�ضا‪ ،‬يجمع بني الأ لفة‪ .‬وعدم الأ لفة‬
‫فرويد‪ ،‬مفهومً ا مزدوجً ا � ً‬ ‫الإ ن�سانى امل�شرتك العام‪ ،‬ولكن فيما يتعلق بقربه من‬
‫ت�أثر فرويد‬ ‫أي�ضا يجمع بني عدم الأ لفة يف بداية قدومه‬ ‫هنا الغريب � ً‬ ‫هذه اجلماعة وبعده عنها‪ ،‬تن� أش� توترات معينـه ال تكون‬
‫�إىل املكان‪ ،‬والأ لفة‪ ،‬مع ا�ستمرار وجوده فيه‪ ،‬ولكنه‪ ،‬على‬ ‫م�شرتكة‪.‬‬
‫بفكرة �سيميل‬ ‫أي�ضا بني �أ�صحاب املكان‬ ‫الرغم من هذه الأ لفة‪ ،‬يظل غريبًا � ً‬ ‫أي�ضا �إنه عندما تواجه جماعة ما غريبًا‪،‬‬ ‫وقد قيل هنا � ً‬
‫هنا عن الغرابة‪،‬‬ ‫الأ �صليني‪� .‬إنه متجول بالقوة‪ ،‬ولي�س مقيمًا بالفعل‪ ،‬وفقًا‬ ‫أي�ضا بالغرابة اخلا�صة بها‪ ،‬بالن�سبة �إليه‪� ،‬أي‬
‫ف�إنها تواجهه � ً‬
‫على الرغم من‬ ‫مل�صطلحات �أر�سطو‪ ،‬حالة جتول قائمة هنا يف كل حلظة �إذ‬ ‫معتقداتهم و�أفكارهم وتوقعاتهم التي تختلف عن «الآ خرين»‬
‫اختالف املنطلق‬ ‫مل يتغلب بعد على حريته يف املجيء والذهاب‪ ،‬فيجمع دائمًا‬ ‫الذين ينتمي �إليهم هذا الغريب؛ وك�أن الغرابة هنا‪ ،‬جزء طبيعي‬
‫بني القرب والبعد‪ ،‬الإ قامة والرحيل‪ ،‬احل�ضور والغياب‪.‬‬ ‫من فكرة الذات والهوية‪ ،‬فمثلما نكون مت�شابهني وخمتلفني‬
‫اخلا�ص بكل منهما‬ ‫أي�ضا‪ ،‬مثل الفقراء واملهم�شني‬ ‫والغرباء‪ ،‬وفقًا ل�سيميل � ً‬ ‫أي�ضا فيما بيننا‪ ،‬نكون كذلك على نحو ما �أكرث ت�شابهًا‬ ‫� ً‬
‫بحكم املنطلقات‬ ‫هم �أعداء الداخل‪ ،‬عن�رص موجود داخل اجلماعة‬ ‫بالن�سبة �إىل الآ خرين املختلفني عنا‪� ،‬أو يف مواجهتهم‪ ،‬ومن‬
‫املختلفة لكل‬ ‫وخارجها‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ .‬وقد �رضب هذا العامل بحكم‬ ‫ثم نظل غرباء عنهم وهم غرباء عنا‪ .‬وعندما يتزايد ال�شعور‬
‫منهما‪ ،‬هذا �سيميل‬ ‫توجهه ال�سو�سيولوجى‪� ،‬أمثلة من جمال التجارة‪ ،‬الذين‬ ‫باالختالف‪ ،‬ف�إن �أع�ضاء جماعة ما‪ ،‬ومن �أجل احلفاظ على‬
‫يف رحالتهم خا�صة ما كان يفعله التجار اليهود يف‬ ‫�شعورهم بالت�شابه والهوية اجلماعية امل�شرتكة‪ ،‬قد مييلون ‪-‬‬
‫ب�سبب توجهه‬ ‫�أوروبا‪ ،‬يف املا�ضي‪ ،‬حيث كانوا‪ ،‬كما قال‪ ،‬يح�رضون �إىل‬ ‫على نحو مبا�رش ‪� -‬إىل ر�ؤية ‪ -‬من هو خارج اجلماعة ‪ -‬على‬
‫االجتماعي‪ ،‬وذاك‪،‬‬ ‫بع�ض البلدان ويقيمون فيها فرتة (يقرتبون) ويبيعون‬ ‫�أنه غريب‪ ،‬خمتلف‪� ،‬صورة �سلبية من الذات اجلماعية‪ ،‬وت�ؤدي‬
‫فرويد‪ ،‬بحكم‬ ‫وي�شرتون‪ ،‬ثم يغادرونها (يبتعدون) لفرتة‪ ،‬ثم يعودون‪.‬‬ ‫مثل تلك املواجهات مع الغريب �إىل تكوين �أفكار و�صور‬
‫توجهه التحليلي‬ ‫رمبا ت�أثر فرويد بفكرة �سيميل هنا عن الغرابة‪ ،‬على الرغم من‬ ‫منطية‪ ،‬جامدة عنه‪� ،‬إ�ضافة �إىل تولد م�شاعر ال�شك جتاهه‪،‬‬
‫اختالف املنطلق اخلا�ص بكل منهما؛ فالغريب لدى �سيميل‬ ‫وقد يتحول ال�شك �إىل خوف وجتنب‪ ،‬وقد تتحول غربته هذه‬
‫النف�سي‬ ‫وغري م�ألوف ي�صبح م�ألوفًا ثم يغيب فرتة ليعود‪ ،‬يحدث‬ ‫�إىل غرابة‪ ،‬وذلك من خالل النظر �إليه على �أنه م�ألوف وغري‬
‫هذا على امل�ستوى املكاين‪ ،‬وعلى م�ستوى التفاعل بني فرد‬ ‫م�ألوف‪ ،‬معروف وغام�ض‪ ،‬قريب وبعيد‪.‬‬
‫وجماعة‪� ،‬أو جماعة وجماعة �أخرى‪ ،‬وخالل ذلك كله‪ ،‬ينقل‬ ‫هكذا يك�شف مفهوم الغرابة االجتماعية لدى جورج‬
‫�إليها قيمه و�أفكاره و�سلعه‪ ،‬وي�ؤثر فيها وتت�أثر به‪ .‬كذلك فكرة‬ ‫�سيميل عن الطريقة التي حتدد من خاللها جماعة‬
‫الغرابة لدى فرويد‪ ،‬هي فكرة �أو �صورة �أو انفعال م�ألوف عن‬ ‫معينة اجلماعات الأ خرى‪ ،‬فالغربة لي�ست متعلقة‪،‬‬
‫�شيء م�ألوف‪ ،‬مَّ ربه الفرد يف طفولته �أو اجلماعة الب�رشية يف‬ ‫أي�ضا باجلماعات الغريبة‬ ‫هنا‪ ،‬بفرد غريب فقط‪ ،‬بل � ً‬
‫ما�ضيها (كان م�ألوفًا) ثم غاب �أو اختفي (مت كبته) ف�أ�صبح‬ ‫الأ خرى‪ ،‬اجلماعات الوافدة والأ فكار الوافدة‪ ،‬و�أ�ساليب‬
‫غري م�ألوف‪ ،‬ثم عاد مرة �أخرى (كم�ألوف وغري م�ألوف) يف‬ ‫احلياة الوافدة‪ ،‬وقد تتغلب هذه الأ فكار والأ �ساليب على‬
‫�سياق غريب‪ ،‬و�إنه يف وجوده‪ ،‬وغيابه‪ ،‬هناك‪� ،‬شك ما‪ ،‬يتعلق‬ ‫مثيالتها لدى جماعة معينة‪ ،‬لأ �سباب عديدة‪ ،‬فتتقبلها‬
‫به‪ ،‬وتخوف ما يحيط به‪ .‬كما �أن حركة ظهور الغريب لدى‬ ‫وت�صبح هي ال�سائدة لدى اجلماعة الأ �صلية كما يف‬
‫�سيميل وغيابه‪ ،‬ح�ضوره واختفاءه‪ ،‬مثل الغرابة لدى فرويد‪،‬‬ ‫تقبل �أ�ساليب و�أ�شكال �سلوكية جديدة‪ ،‬يف البيع وال�رشاء‬
‫�أمر يتكرر دائمًا‪ ،‬رمبا لدى ال�شخ�ص نف�سه‪ .‬وعرب الأ �شخا�ص‪،‬‬ ‫واملالب�س والأ زياء وغريها‪ .‬هنا قد ي�صح لنا �أن نقول‬
‫وال يتوقف �أبدًا‪.‬‬ ‫�إن هذه اجلماعة قد �أ�صبحت بفعل ذلك الغريب‪ ،‬غريبة‪،‬‬
‫وهكذا ف�إن ال�شكل العام‪� ،‬أو البنية العامة‪ ،‬للفكرة‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫أي�ضا‪ ،‬حتى عن نف�سها‪.‬‬‫� ً‬
‫واحدة تقريبًا‪ ،‬لدى �سميل وفرويد‪ ،‬لكن مع اختالف بينهما‬ ‫وللغريب كذلك‪ ،‬قدرته على �إثارة اال�ضطراب يف كل �شيء يف‬
‫‪49‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الطريق لظهور م�صطلح االغرتاب لديه؛ حيث ترد كلمة غريب‬ ‫يف املحتويات والتفا�صيل‪ ،‬بحكم املنطلقات املختلفة‬
‫لو�صف �أو ت�سمية هذا الوجود ‪� -‬أو املوجود ‪ -‬الذي «ينتقل»‬ ‫لكل منهما‪ ،‬هذا �سيميل ب�سبب توجهه االجتماعي‪ ،‬وذاك‪،‬‬
‫�إليه الإ ن�سان «�أو ي�ضع» فيه �أو «ي�سقط» عليه �شيئًا من قدراته‬ ‫فرويد‪ ،‬بحكم توجهه التحليلي النف�سي‪ ،‬فالغربة‪ ،‬لدى‬
‫و�صفاته‪ ،‬وعملية النقل �أو الو�ضع �أو الإ �سقاط خارج الذات‪،‬‬ ‫�سيميل‪� ،‬إمكانية موجودة دائمًا‪ ،‬هنا وهناك يف احلياة‪،‬‬
‫هي نف�سها «الفكرة» التي �سوف يطلق عليها بعد ذلك ا�سم‬ ‫وحتى لو ن�سيناها‪ ،‬كما قال‪ ،‬ف�إنها «تلقى بظاللها‪،‬‬
‫االغرتاب‪ ،‬والذي يتجلى يف هذا املوجود «الغريب» الذي‬ ‫فج�أة‪ ،‬بيننا‪ ،‬وتكون‪ ،‬تلك الظالل‪� ،‬أ�شبه بال�ضباب‪ ،‬الذي‬
‫هو من خلق الإ ن�سان و�إبداعه‪ ،‬والذي يتحول في�صري وك�أنه‬ ‫ال ن�ستطيع و�صفه بالكلمات»(‪.)32‬‬
‫اخلالق‪ .‬واالغرتاب بهذا املعنى اجلديل امليتافيزيقي‪ ،‬لي�س‬ ‫ميكننا �أن ن�ستفيد مبفهوم الغربة لدى �سيميل هنا يف تف�سري‬
‫�أمرًا �أبديًّا �أزليًّا؛ لأ نه ين� أش� يف �أو�ضاع تاريخية تتميز �أ�سا�سً ا‬ ‫كل ما يتعلق مبا ن�سميه الآ ن باجلماعات واملناطق الع�شوائية‬
‫بالتمزق وال�شقاء والعبودية»(‪.)33‬‬ ‫يف م�رص‪ ،‬ه�ؤالء الغرباء ن�سبيًا الذين يعي�شون على �أطراف‬
‫ويرتبط املعنى اخلا�ص باالغرتاب هنا‪ ،‬كذلك‪ ،‬باال�ستالب‪،‬‬ ‫املدن �أو حتى يف داخلها‪ ،‬كما ميكننا اال�ستفادة به يف تف�سري‬
‫وفقدان الإ ن�سان لذاته �أو �ضياعها يف ظل حتكم خا�ص‬ ‫�أحوال امل�رصيني �أو غريهم يف بالد الغربة‪ ،‬وكذلك ما حل‬
‫لل�سلطة املهيمنة‪� ،‬أو اغرتابه عن ذاته بفعل عمليات‬ ‫بالنا�س‪ ،‬الآ ن‪ ،‬ف�أ�صبحوا غرباء حتى يف �أوطانهم وقل الأ مر‬
‫امليكنة �أو الآلية‪ ،‬وذلك حني يجد �أن الآالت والكائنات‬ ‫نف�سه عن كل من هو هام�شي يف هذا العامل‪.‬‬
‫وي�سيها‪ ،‬هي‬ ‫رِّ‬ ‫والأ فكار التي ابتكرها كي ي�سيطر عليها‬ ‫الغربة هنا‪ ،‬نقي�ض ذلك ال�شعور بالتماثل والتناغم والتقارب‪،‬‬
‫التي �أ�صبحت ت�سيطر عليه وت�سيرّ ه‪ ،‬وهذا هو املعنى‬ ‫الغربة‪ ،‬هنا لي�ست‪ ،‬خا�صة‪ ،‬بفرد‪ ،‬بل قد تكون منطا‪ ،‬عاما‪،‬‬
‫اخلا�ص باالغرتاب التكنولوجي واالقت�صادي عند هيجل‬ ‫يف احلياة وال�سلوك والتفكري وهي قد تكون املدخل الأ �سا�سي‬
‫أي�ضا �إىل جمال الفن؛ حيث‬ ‫ومارك�س‪ ،‬لكنه معنى ميتد � ً‬ ‫حلدوث االغرتاب‪.‬‬
‫الكائنات الآلية املوجودة يف ال�سينما الآن كال�سيبورج‬ ‫‪ -2‬االغرتاب ‪Alienation‬‬
‫مثالً‪ ،‬ذلك الكائن املخلق من �إن�سان و�آلة (كما يف فيلم‬ ‫يف مناق�شة هيجل لفكرة «روح ال�شعب»‪ ،‬كان ال�شعب عنده‬
‫‪ Terminator‬مث ًال �أو غريه) والذي �صنعه الإ ن�سان خلدمة‬ ‫جت�سيدًا عينيًّا للروح؛ وذلك لأ نه حينما تتج�سد الروح‪ ،‬وت�صري‬
‫�أغرا�ضه ي�صبح هو امل�سيطر واحلاكم والأ مر �صحيح‬ ‫ظاهرة متجلية يف التاريخ على هيئة ظروف اجتماعية‬
‫يف حالة فرنك�شتني وغريه من الكائنات املخلقة بل‬ ‫و�سيا�سية واقت�صادية‪� . .‬إلخ‪ ،‬ف�إنها ت�ؤلف «عندئذ» م�صري‬
‫والأ عمال الفنية كما يف �أ�سطورة «بيجماليون» مث ًال‬ ‫ال�شعب‪ .‬وعند مناق�شته روح امل�سيحية وم�صريها‪ ،‬ناق�ش تاريخ‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫� ً‬ ‫ال�شعب اليهودي من خالل حياة النبي �إبراهيم‪ :‬وانف�صاله عن‬
‫أي�ضا مب�صطلح‬ ‫نحن نعتقد �أن لهذا امل�صطلح �صلته العميقة � ً‬ ‫�أ�رسته ووطنه‪ ،‬وغربته عن كل ال�شعوب التي مر بها‪ ،‬وكيف‬
‫الإ �سقاط؛ وذلك لأ ن الإ �سقاط �إمنا ينطوي على نوع من‬ ‫كان ذلك كله من �أجل �أن يعود �إىل الذات واال�ستقالل‪ .‬وروح‬
‫التج�سيد لأ فكارنا وت�صوراتنا وانفعاالتنا على �شيء خارجى‪،‬‬ ‫�إبراهيم هذه كما يقول هيجل هي م�صري ال�شعب اليهودي‬
‫�شيء‪ ،‬من خالله‪ ،‬نرى �أنف�سنا‪ ،‬كما هو حال حائط دافن�شي‪،‬‬ ‫وقوامه الذي يتمثل يف فقدان ال�صلة احلية‪ ،‬التي ي�صنعها‬
‫وكائنات‪ ،‬يج�سدها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والذي عليه يرى الفنان �أ�شكا ًال و�صورًا‬ ‫احلب‪ ،‬بني الإ ن�سان والعامل‪ ،‬بني الإ ن�سان والآ خرين‪ ،‬بني‬
‫بعد ذلك‪ ،‬يف �أعماله‪ ،‬هنا يكون احلائط يف البداية و�سيلة‬ ‫الإ ن�سان واهلل‪ .‬فالعامل ي�صبح جمرد �أ�شياء جامدة بال حياة‬
‫نبتكرها نحن ونغذيها ونطورها بالأ فكار وال�صور‪ ،‬و�سيلة ال‬ ‫وال روح‪ ،‬تمُ ْتلك للمتعة �أو للمنفعة �أو ل�ضمان الأ من‪ ،‬وحيث‬
‫قيمة لها يف ذاتها‪� ،‬إال �أن تكون مثرية لل�صور والأ خيلة لدينا‪،‬‬ ‫الآ خرون هم �أعداء‪ ،‬ينبغي احلذر منهم �أو ا�ستخدامهم لتحقيق‬
‫لكن هذه الو�سيلة قد ت�صبح‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬هي الهدف واملحفز‬ ‫النفع‪ ،‬ويكون اهلل‪ ،‬هكذا‪ ،‬يف �ضوء الت�صور اليهودي‪ ،‬غريبًا‬
‫الذي ال ن�ستطيع العمل �إال من خالله ك�ش�أن كل املعينات التي‬ ‫عن العامل‪ ،‬منف�صالً‪ ،‬متعاليًا متامً ا عن العامل والإ ن�سان‪،‬‬
‫يلج أ� �إليها بع�ض الفنانني كاملو�سيقى الهادئة والتدخني �أو‬ ‫ال تربطه بالعامل والطبيعة �إال �صلة التحكم وال�سيطرة‪ ،‬وال‬
‫حتى املخدرات‪.‬‬ ‫عالقة تربطه بالإ ن�سان �إال عالقة ال�سيد بالعبد‪.‬‬
‫كما �أن العمل الفني عندما ينجز قد يتحول‪ ،‬كذلك‪� ،‬إىل �شيء‬ ‫ويقول هيجل‪ ،‬كذلك‪� ،‬إن امل�سيحية هي التي كافحت �ضد روح‬
‫غريب عن الفنان‪� ،‬شيء ال ينتمي �إليه بقدر انتمائه �إىل‬ ‫العبودية والتملك واالنف�صال املوجودة يف اليهودية‪ ،‬و�إن‬
‫الآ خرين‪ .‬ومثلما كان مفهوم العمل عند هيجل ينطوي على‬ ‫ال�سيد امل�سيح قد جاء ليقيم االن�سجام بني النا�س واحلياة من‬
‫جانب �إيجابي يتمثل يف حتول العامل من كائن فرد �إىل فرد‬ ‫خالل احلب‪ .‬وقد ا�ستخدم هيجل كثريًا يف «روح امل�سيحية»‬
‫أي�ضا يتمثل يف انف�صال العمل عن‬ ‫اجتماعي‪ ،‬وجانب �سلبى � ً‬ ‫وم�صريها» وما بعدها من كتابات كلمة «غريب» على نحو‬
‫�صاحبه؛ �إىل حد �أنه قد ي�صبح قوة م�ضادة له ت�سلبه ذاته‬ ‫متزايد مقارنة بكتاباته ال�سابقة‪ ،‬و�إن هذه الكلمة قد مهدت‬
‫‪50‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تول�ستوي لعملية جلد العبيد بال�سوط يف القرن التا�سع‬ ‫عندما ي�صبح عبدًا لهذا العمل ولأ �صحابه فكذلك قد ينطوي‬
‫ع�رش؛ حيث ا�ستنكر تول�ستوي هذا ال�سلوك الغريب واملتوح�ش‬ ‫العمل الفني على جانب �إيجابي يتحول من خالله الفنان من‬
‫والغبي‪� :‬إحداث الأ مل لدى الآ خرين‪ ،‬وت�ساءل‪ :‬ملاذا بال�سوط‪،‬‬ ‫فرد منعزل �إىل كائن اجتماعي وجانب �سلبي‪ ،‬ي�صبح العمل‪،‬‬
‫فقط ولي�س من خالل الوخز �أو ك�رس الأ كتاف �أو غري ذلك؟‬ ‫ملجرد العمل‪ ،‬ب�رصف النظر عن قيمته(‪ )34‬حالة �سلبية تف�صل‬
‫وك�أن فعل اجللد «امل�ألوف»‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬قد �أ�صبح غري‬ ‫الفنان عن «عمله‪ ،‬وت�صبح �أعماله �صورًا جمرد �صور قد‬
‫م�ألوف وغريبًا‪ ،‬من خالل الو�صف له وتكراره‪ ،‬من وجهة‬ ‫ت�رسق الروح منه‪ ،‬كما كان بلزاك ي�شري‪.‬‬
‫نظر تول�ستوي؛ ومن ثم طرح بع�ض االقرتاحات لتغيريه‪،‬‬
‫‪ -3‬التغريب ‪Estrangement‬‬
‫من الناحية الظاهرية‪ ،‬ولي�س من الناحية اجلوهرية حيث‬
‫مل ي�ستنكر تول�ستوي ذلك النوع من العقاب‪ ،‬يف جوهره‪� ،‬أي‬ ‫يف جمال امل�رسح خالل القرن الع�رشين قال برتولت بريخت‬
‫�إحداث الأ مل يف جوهره‪ ،‬ولكنه ا�ستنكر الطريقة التي يتم بها‪،‬‬ ‫�إن �أثر التغريب؛ يت�شكل من خالل حتويل املو�ضوع‪ . .‬من �شيء‬
‫كما �أنه اقرتح طرائق بديلة له‪.‬‬ ‫عادي‪ ،‬م�ألوف‪ ،‬قابل للفهم على نحو مبا�رش‪� ،‬إىل �شيء غريب‬
‫وقد ا�ستخدم تول�ستوي ‪ -‬كما يقول �شكلوف�سكي ‪ -‬تكنيك‬ ‫على نحو خا�ص‪ ،‬مثري لالهتمام وغري متوقع‪ .‬وكما قال‬
‫نزع الأ لفة عن امل�ألوف هذا‪ ،‬على نحو دائم؛ وذلك لأ نه‬ ‫بريخت ف�إن �أنواع االغرتاب اجلديدة م�صممة �أو مق�صود منها‬
‫بقدر ما ي�صبح الإ دراك اعتياديا‪ ،‬بقدر ما ي�صبح �آليًّا‪،‬‬ ‫فقط �أن حترر الظواهر االجتماعية املقيدة من طابع الأ لفة‬
‫و�إن �إحدى وظائف الفن الأ كرث �أهمية �أن يواجهنا ب�صدمة‬ ‫الذي يقيدها ويبعدها عن فهمنا لها يف �أيامنا هذه‪ ،‬و�أطلق‬
‫ما حتى ال نعود جمرد �ضحايا للعادة؛ فالأ عمال الفنية‬ ‫بريخت عليها ا�سم االغرتابات اجلديدة ‪ ،New Alienations‬وطالب‬
‫ت�ساعدنا على �أن ن�ستعيد متعة الإ ثارة مبا يف احلياة‪،‬‬ ‫باالن�شغال بها كل يوم‪ .‬ويقول بريخت كذلك‪« :‬لقد تو�صل‬
‫و�أن نرى‪ ،‬بذلك‪ ،‬الأ �شياء امل�ألوفة من جديد‪� . .‬إن تكنيك‬ ‫امل�رسح القدمي وامل�سارح يف القرون الو�سطى �إىل تغريب‬
‫الفن يكمن كما قال �شكلوف�سكي يف «�أن يجعل الأ �شياء‬ ‫�شخ�صياتها عن طريق ا�ستخدامها لأ قنعة النا�س واحليوانات‪،‬‬
‫غري م�ألوفة‪ ،‬ويجعل الأ �شكال مبهمة كي تزيد من �صعوبة‬ ‫�أما امل�رسح الآ �سيوي فما يزال حتى اليوم ي�ستخدم امل�ؤثرات‬
‫الإ دراك ومن دوام مدة بقائه‪ ،‬و�إن فعل الإ دراك يف الفن‬ ‫املو�سيقية والتمثيلية ال�صامتة لإ حداث التغريب‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫هو غاية يف ذاته‪ ،‬ويجب �أن ميتد وي�ستمر‪� .‬إن خربتنا‬ ‫ف�إن تكنيك هذه امل�ؤثرات ي�ستند ‪� -‬إىل حد بعيد ‪ -‬على‬
‫بعملية الرتكيب يف الفن هي مو�ضع االعتبار ال الناجت‬ ‫الإ يحاء املغناطي�سي اكرث من التكنيك الذي بف�ضله يتو�صلون‬
‫النهائي»(‪.)37‬‬ ‫�إىل االندماج االنفعايل يف ال�شخ�صية(‪.)35‬‬
‫وكما يذكر الناقد عبد الفتاح كليطو ف�إن كل حديث عن‬ ‫ووفقًا ملا قال برتولت بريخت وكذلك ال�شكالنيون الرو�س‬
‫«الغرابة»‪ ،‬هو بال�رضورة حديث عن «الأ لفة»‪ .‬و�إننا «�إذا‬ ‫ف�إن قوة ال�شكل الفني �إمنا تنبع من قدرته على التغريب‪،‬‬
‫قمنا بت�صنيف القائلني‪ ،‬ف�إننا ال�شك �سنقف على قائل‬ ‫�أو الإ بعاد م�ؤقتًا‪ ،‬ملتلقيه‪ ،‬بعيدًا عن املعايري والقيم‬
‫معني مو�سوم بالغرابة؛ لأ نه يبتعد عن الت�صورات امل�ألوفة‪،‬‬ ‫اخلا�صة بعواملهم االجتماعية املحددة ومن خالل ما‬
‫لدى جمتمع ما‪ ،‬وهذا القائل الغريب يظهر يف �أ�شكال عدة‪.‬‬ ‫�أطلق عليه ا�سم «�أثر التغريب ‪ alienation effect‬من خالل‬
‫فهناك املجنون واملهرج واملجذوب وال�ساحر وال�شاعر‪.‬‬ ‫التحويل للمو�ضوع من حالته العادية وو�ضعه امل�ألوف‬
‫وكمثال على هذا ال�صنف ميكن �أن نذكر �رصاحة‪ :‬خرافة‪ ،‬وهو‬ ‫�إىل حالة غري عادية‪ :‬حتول الأ م �إىل «زوجة» لرجل �آخر‬
‫�شخ�ص اختطفته اجلن‪ ،‬ثم عاد بعد مدة �إىل �أهله و�صار ينطق‬ ‫غري الأ ب مثال(‪.)36‬‬
‫بكالم غريب (ومن هنا عبارة‪ :‬حديث خرافة)‪� .‬إن القول الذي‬ ‫وهكذا ف�إن من �أجل فهم القرن الع�رشين‪ ،‬وما بعده يف الفل�سفة‬
‫ي�ستدعي انتباهنا هو القول الغريب‪ ،‬الذي يبدو بهذه ال�صفة‬ ‫والأ دب والثقافة وال�سيا�سة وغريها‪ ،‬ينبغي �أن نعرف ذلك‬
‫عندما نقارنه مع منط م�ألوف من القول‪� .‬إن الغرابة تنم‪،‬‬ ‫الدور والت�أثري الذي قام به ال�شكالنيون الرو�س‪ ،‬وخا�صة‬
‫كما يقول ابن ر�شد معلقًا على فن ال�شعر «ب�إخراج القول غري‬ ‫يف ت�أكيدهم الكبري على فكرة نزع الأ لفة عن امل�ألوف ‪Def‬‬

‫خمرج العادة»(‪.)38‬‬ ‫‪� ،familiarization‬أي التغريب‪� ،‬أو جعل الأ مر غريبًا‪ .‬فقد حاول‬
‫ه�ؤالء النقاد ‪ -‬وبخا�صة فيكتور �شكلوف�سكي ‪ -‬تنظيم‬
‫‪ -4‬اال�ستغراب‬ ‫ذلك التكوين الغريب امل�سمى الأ دب وفهمه وتطويره‪ ،‬و�أن‬
‫لي�س املق�صود هنا حماولة بع�ض املفكرين �أمثال ح�سن‬ ‫ي�سجلوا كذلك قوة الأ دب‪ ،‬وبخا�صة ال�شعر‪ ،‬يف نزع الأ لفة عن‬
‫حنفي الرد على مفهوم اال�ست�رشاق ‪ orientalism‬مبفهوم م�ضاد‬ ‫امل�ألوف‪ ،‬يف �إحداث �شعور بالغرابة‪ ،‬يف جعل كل الإ دراكات‬
‫وهو اال�ستغراب ‪� ،Occidentalism‬أي الرد على نظرة الغرب �إىل‬ ‫واملعتقدات امل�ألوفة غريبة وغري م�ألوفة‪ .‬ويف مقاله املهم‬
‫ال�رشق من خالل �صورة معينة‪� ،‬سلبية يف معظمها‪ ،‬ومن ثم‬ ‫املعنون بـ»الأ دب ك�أ�سلوب» ا�ست�شهد �شكلوف�سكي مبناق�شة‬
‫‪51‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من مر�ض �أو غريه‪ ،‬وقال الأ �صمعي‪� :‬أغرب الرجل �إغرابًا‪� ،‬إذا‬ ‫ينبغي �أن نفهم الغرب بنظرة مماثلة هي «اال�ستغراب»‪ .‬لي�س‬
‫جاء ب�أمر غريب‪ ،‬والغربة‪ :‬احلدة‪ ،‬وا�ستغرب الدمع ‪� :‬سال‪،‬‬ ‫هذا مق�صدنا يف هذا ال�سياق‪ ،‬فما نق�صده هنا هو تلك احلالة‬
‫والإ غراب‪ :‬كرثة املال‪ ،‬وح�سن احلال‪ .‬وال َغرّبُ ‪ :‬الذهب‪ ،‬و�أ�سود‬ ‫اخلا�صة من الده�شة التي حتدث عندما نرى �شيئًا �أو ن�سمعه‪،‬‬
‫غرابي وغربيب �شديد ال�سواد‪ ،‬وقال احلجاج‪ :‬واهلل لأ �رضبنكم‬ ‫فن�ستغرب ظهوره �أو حدوثه‪ ،‬نعتقده غريبًا عن �سياقه‪� ،‬أو‬
‫�رضب غراب الإ بل‪ ،‬وقال ابن الأ ثري ‪ :‬هذا مثل �رضبه لنف�سه‬ ‫غري م�ألوف‪ ،‬نعجب منه‪ ،‬وقد نعرب عن ذلك ب�صوت ينم عن‬
‫مع رعيته يهددهم؛ ذلك �أن الإ بل �إذا وردت املاء‪ ،‬فدخل عليها‬ ‫الإ عجاب �أو اال�ستهجان‪ ،‬وبرفع حاجبي العينينْ �أو غري ذلك‬
‫غريبة من غريها‪� ،‬رضبت وطردت حتى تخرج عنها‪ ،‬ومن‬ ‫من تعبريات الوجه واليديْن اال�ستغراب هنا متعلق بطبيعة‬
‫أي�ضا ‪ :‬الدلو العظيمة‪.‬‬
‫معانيها � ً‬ ‫ال�شيء الذي ندركه يف حلظة معينة وكذلك طبيعة �إدراكنا له‬
‫هكذا جمع معنى الغربة واالغرتاب والغرابة ‪ -‬يف‬ ‫وا�ستجاباتنا نحوه والتي غالبًا ما تكون ا�ستجابة �رسيعة‪،‬‬
‫العربية ‪ -‬بني احلدة يف الن�شاط والتمادي واملاء والدمع‬ ‫لي�س فيها ذلك العمق الوجداين �أو االنفعايل �أو ذلك البعد‬
‫الغزير و�إ�سوداد اللون وكرثة �أو ا�شتداد ال�ضحك �أو املر�ض‬ ‫املعريف املرتبط بظاهرة الغرابة‪.‬‬
‫�أو الكالم‪� ،‬أو اللون‪� ،‬أ�سود �أو �أبي�ض �أو �أحمر‪� . .‬إلخ(‪.)39‬‬ ‫قد تبد�أ الغرابة باال�ستغراب‪ ،‬وقد تنتهي ونحن يف حالة‬
‫أي�ضا ‪ :‬الذهب والف�ضة واملاء الذي يقطر‬ ‫ومن معاين الغريب � ً‬ ‫ما من اال�ستغراب‪ ،‬لكن اال�ستغراب هنا جمرد حالة‬
‫بكرثة‪ ،‬والغرب والغياب وغروب ال�شم�س‪� ،‬أو العدم‪ ،‬والنزوح‬ ‫م�ؤقتة �أو �رسيعة‪ ،‬قد توجد وت�صاحب �أو تعقب انفعال‬
‫عن الأ هل‪ ،‬وغري ذلك من املعاين التي ت�شري �إىل املبالغة يف‬ ‫الغرابة يف جتلياته احلياتية �أو الفنية‪ ،‬لكن اال�ستغراب‬
‫حدة قول �أو انفعال �أو حدث‪ ،‬وهي ‪ -‬يف معظمها ‪ -‬معانٍ‬ ‫هو كما قلنا‪ ،‬حالة �سطحية‪ ،‬منده�شة‪ ،‬قد ال ي�صاحبها‬
‫ترتبط مبفردات احلياة اليومية العربية القدمية كالإ بل‬ ‫اخلوف‪� ،‬أو الرعب‪ ،‬وكذلك تلك اال�ستجابة اجلمالية‬
‫أي�ضا‬
‫واملاء والطيور واالرحتال والعَودة؛ وكلها معانٍ مهمة � ً‬ ‫اخلا�صة امل�صاحبة للغريب‪.‬‬
‫يف تف�سري الغربة باملعنى املكاين‪ ،‬واللغوي وكذلك املعنى‬
‫الغرابة يف العربية‬
‫االجتماعي املرتبط باال�ستبعاد والنفي والتجاهل كما كان‬
‫احلال لدى التوحيدي مث ًال وكذلك قد تفيد كثريًا يف تف�سري‬ ‫يف الدرا�سات العربية القدمية واحلديثة‪ ،‬هناك اهتمام بغريب‬
‫الغرابة املرتبطة بكل ما هو غري م�ألوف‪ ،‬لكنها غري مفيدة‬ ‫الأ لفاظ‪« ،‬وغريب القر� آن»‪ ،‬وغريب احلديث‪� ،‬أي غريب الأ لفاظ‬
‫يف تف�سري االغرتاب باملعنى الفل�سفي والوجودي‪ ،‬وال الغرابة‬ ‫احلو�شي منها وال�شارد والوارد‪ ،‬ولدى ابن منظور يف «ل�سان‬
‫باملعنى االنفعايل واجلمايل الذي نق�صده يف كتابنا احلايل‪.‬‬ ‫العرب»‪ ،‬الغريب هو البعيد عن �أر�ضه وعن نا�سه وقد قالت‬
‫لكن �أقرب املعاين �إىل «الغرابة» يف العربية هو مفهوم‬ ‫العرب‪« :‬قذفته نوى غربه‪� ،‬أي بعيدة»‪ ،‬و�أ�صابه �سهم غرّب‪� ،‬أي‬
‫الوح�شة‪.‬‬ ‫ال يدري راميه‪ ،‬واغرتب فالن �إذا تزوج من غري �أقاربه‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫وجه كمر� آة الغريبة‪ ،‬لأ نها يف غري قومها فمر� آتها �أبدًا جملوة؛‬
‫عن الوح�شة والغرابة‬ ‫لأ نها نا�صح لها يف وجهها‪ .‬وقالوا‪« :‬وخد كمر� آة الغريبة»‬
‫وفق ًا ملا جاء يف املعاجم العربية‪ ،‬وحتديداً «ل�سان العرب»‬ ‫�أي والغريبة هنا املر�أة التي مل تتزوج يف قومها‪ ،‬فال جتد‬
‫البن منظور‪ ،‬ف�إن كل �شيء ال ي�ست�أن�س بالنا�س هو وح�شي‪،‬‬ ‫يف ن�ساء ذلك احلي من يعني بها‪ ،‬ويبني لها ما حتتاج �إىل‬
‫كما �أنه‪� :‬إذا �أقبل الليل ا�ست�أن�س كل وح�شي وا�ستوح�ش كل‬ ‫�إ�صالحه من عيب ونحوه؛ فهي حمتاجة �إىل مر� آتها التي ترى‬
‫ان�سي‪ .‬والوح�شة‪ :‬ال َفرَق �أي اخلوف من اخللوة والعزلة‪ ،‬ويقال‪:‬‬ ‫فيها من ينكره من ر� آها‪ ،‬فمر� آتها دائمًا جملوة‪.‬‬
‫�أخذته وح�شةٌ‪� ،‬أي احتاج �إىل من ي�ست�أن�س به‪ ،‬وا�ستوح�ش منه‪:‬‬ ‫والغربة‪ :‬النزوح عن الوطن واالغرتاب والتغرب‪ ،‬ويف‬
‫مل ي�أن�س به فكان بالن�سبة �إليه كالوح�ش‪.‬‬ ‫احلديث �أن النبي‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬سُ ئل عن الغرباء‪:‬‬
‫كما ارتبطت الوح�شة لدى العرب كذلك بعامل ال�سحر‬ ‫فقال الذين يحيون ما �أمات النا�س من �سنتي‪ .‬ويف حديث‬
‫واجلن‪ ،‬وبطبيعة املكان فقالوا‪ :‬مكان موح�ش‪ :‬خالٍ ‪،‬‬ ‫� آخر‪� :‬إن الإ �سالم بد�أ غريبًا و�سيعود غريبًا‪ ،‬فطوبى للغرباء‪،‬‬
‫و�أر�ض وحْ �شة (بالت�سكني)‪َ :‬ق ْفرٌ‪ ،‬و�أوح�ش املكان من �أهله‬ ‫واملق�صود‪� :‬إن الإ �سالم كان يف �أول �أمره كالغريب الوحيد‬
‫وتوح�ش‪ :‬خال‪.‬‬ ‫الذي ال �أ�صل عنده‪ ،‬لقلة امل�سلمني يومئذٍ‪ ،‬و�سيعود غريبًا كما‬
‫وذهب عنه النا�س‪ ،‬ويقال كذلك للمكان الذي ذهب عنه النا�س‪:‬‬ ‫كان‪� ،‬أي يقل امل�سلمون يف � آخر الزمان في�صريون كالغرباء‪،‬‬
‫قد �أوح�ش‪ .‬وتوح�شت الأ ر�ض‪� :‬صارت وحِ �شة �أي خالية‪.‬‬ ‫وطوبى للغرباء‪� . .‬أي اجلنة لهم ويقال كذلك رجل غريب‪:‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ف�إن الوح�شة �ضد الأ ن�س وال يكون �أن�س �إال بوجود‬ ‫لي�س من القوم‪ ،‬والغرباء ‪ :‬الأ باعد‪ .‬وفر�س غِّرب‪ :‬كثري العدو‪،‬‬
‫الب�رش‪ ،‬وعندما يغيب الب�رش ي�صبح املكان قفراً خالياً؛ ومن‬ ‫و�أغرب الرجل يف منطقه �إذا مل يبق �شيء �إال تكلم به‪ ،‬و�أغرب‬
‫ثم ف�إن الوح�شة هي �صفة للمكان املوح�ش و�صفة كذلك‬ ‫به‪� :‬أي �صنع به �صنعًا قبيحً ا‪ .‬و�أغرب الرجل �إذا �أ�سود وجهه‬
‫‪52‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وكل تلك الكائنات اخلرافية‪ ،‬ويقول كيف �صاحبها‪� ،‬أو‬ ‫ل�شعور الإ ن�سان يف ذلك املكان املوح�ش عندما يكون وحده‬
‫قتلها‪� ،‬أو تزوجها‪ . .‬الخ يف حماولة منه لتحويل خوفه‬ ‫يف عزلة‪.‬‬
‫�إىل طم�أنينة‪ ،‬ووح�شته �إىل �أن�س وائتنا�س‪ ،‬وتوهمه �إىل‬ ‫وهناك معانٍ �أخرى للوح�شة نذكر بع�ضها‪ ،‬فالوح�ش‬
‫�إبداع‪.‬‬ ‫واملوح�ش‪ :‬اجلائع من النا�س وكذلك احليوان‪ ،‬خللوه من‬
‫لي�ست الفروق بني الوح�شة والغرابة حا�سمة‪ ،‬لكن الوح�شة‬ ‫الطعام‪ ،‬ويقال‪ :‬توح�ش جوفه‪� ،‬أي خال من الطعام‪ ،‬وبات‬
‫لي�ست هي الغرابة‪ ،‬الوح�شة قد متهد الطريق حلدوث الغرابة‪،‬‬ ‫وحْ �ش ًا ووحِ �شاً‪� :‬أي جائعاً‪ ،‬و�أوح�ش الرجل وتوح�ش‪ :‬جاع‪،‬‬
‫الوح�شة حالة من ال�شعور بالعزلة واخلوف‪ ،‬قد حتدث معها‬ ‫وبتنا �أوحا�شاً‪� :‬أي جياعاً‪.‬‬
‫الغرابة �أو ال حتدث‪ ،‬الوح�شة حالة ترتبط باملكان اخلاوي‬ ‫والوح�شة كذلك‪ :‬الهم‪ ،‬واخللوة واخلوف والأ ر�ض امل�ستوح�شة‬
‫اخلايل من الب�رش الذي يكون تربة خ�صبة لنمو م�شاعر‬ ‫اخلالية‪ ،‬ويقال كذلك‪ ،‬وح�ش الرجل‪� :‬إذا �ألقى بثوبه و�سالحه‬
‫الغرابة‪ ،‬الغرابة خطوة تالية للوح�شة‪ ،‬لكن الغرابة قد حتدث‬ ‫وجرى‪ ،‬خمافة �أن يُلحق به‪.‬‬
‫دون �إح�سا�س �سابق لها بالوح�شة‪ ،‬الغرابة ترتبط باخلوف‬ ‫ويكون للمكان املوح�ش ت�أثريه البالغ على انفعاالت‬
‫والر�ؤية �أو ال�سماع لغري امل�ألوف املثري للفزع‪ ،‬غري الآ من‪،‬‬ ‫الإ ن�سان يف حاالت العزلة واجلوع واخلوف واالفتقار‬
‫الغربة حياتية وفنية والوح�شة غالب ًا حياتية‪ ،‬لي�ست هناك‬ ‫للأ من‪ ،‬فيبالغ يف ت�صويره للأ �شياء ويف �إدراكه لها‪ ،‬فيما‬
‫متعة جمالية خا�صة يف الوح�شة‪ ،‬بينما توجد مثل تلك‬ ‫�سُ مِّي بالتوهم‪ ،‬وهي حالة حتدث للإ ن�سان واحليوان وقد‬
‫املتعة يف الغرابة‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬قد متهد الوح�شة لظهور‬ ‫ذكرها اجلاحظ يف كتاب احليوان يف ن�ص مهم نذكره‬
‫الإ بداع اجلمايل كما يف ال�شعر مث ًال وكما �أ�شار اجلاحظ �إىل‬ ‫باخت�صار فيما يلي‪:‬‬
‫ذلك‪ .‬لكن الغرابة قد ترتبط بالتلقي لأ نواع خا�صة من الإ بداع‬ ‫فقد ذكر اجلاحظ يف «كتاب احليوان» ما قاله �أبو �إ�سحاق‬
‫والإ �ستجابة لها على نحو خا�ص‪.‬‬ ‫من �أن �أ�صل هذا الأ مر وابتداءه‪� ،‬أن القوم ملا نزلوا بالد‬
‫كل ما هو غريب وغري م�ألوف قد يثري اخلوف والده�شة وحتى‬ ‫الوح�ش‪ ،‬عملت فيهم الوح�شة‪ ،‬ومن انفرد وطال مقامه يف‬
‫النفور وجذور هذه العملية موجودة يف الطفولة‪ ،‬طفولة العقل‬ ‫البالد واخلالء والبعد من الإ ن�س ا�ستوح�ش‪ ،‬وال�سيما مع قلة‬
‫الذي ينمو كثريا عرب العمر‪ ،‬وطفولة الوجدان الذي يبدو �أنه‬ ‫الأ �شغال واملذاكرين‪ .‬والوحدة ال تقطع �أيامهم �إال باملنى �أو‬
‫ال ينمو كثريا عرب العمر‪ ،‬وك�أنه م�شدود ب�أوتار تربطه بجذور‬ ‫التفكري‪ ،‬والفكر رمبا كان من �أ�سباب الو�سو�سة‪ . .‬و�إذا ا�ستوح�ش‬
‫�ضاربة يف �أعماق الإ ن�سان القدمية‪.‬‬ ‫الإ ن�سان متثَّل له ال�شيء ال�صغري يف �صورة الكبري‪ ،‬وارتاب‪،‬‬
‫خامتة‬ ‫وتفرق ذهنه‪ ،‬وانتق�صت �أخالطه‪ ،‬فر�أي ما ال يُرى‪ ،‬و�سمع ما‬
‫ال يُ�سمع وتوهم على ال�شيء الي�سري احلقري‪� ،‬أنه عظيم جليل‪.‬‬
‫اجلدير بالذكر �أن مفهوم الغرابة مطروح �أي�ض ًا يف بع�ض‬ ‫ثم جعلوا ما ت�صوَّر لهم من ذلك �شعراً تنا�شدوه‪ ،‬و�أحاديث‬
‫الكتابات الرتاثية العربية املهمة ومنها ما جاء مث ًال لدى‬ ‫توارثوها فازدادوا بذلك �إمياناً‪ ،‬ون� أش� عليه النا�شيء وربي به‬
‫ابن عربي �أو لدى ابن �سينا وكذلك لدى ال�سهروردي فيما‬ ‫الطفل‪ ،‬ف�صار �أحدهم يتو�سط الفيايف وت�شمَّل عليه الغيظان‬
‫�سمي بالغربة الغريبة والتي كانت تدور حول احلكايات‬ ‫يف الليايل احلناد�س فعند �أول وح�شة وفزعة وعند �صياح بوم‬
‫اخليالية حلي ابن يقظان �أو ما �شابه ذلك من احلكايات‪.‬‬ ‫وجماوبة �صدى‪ ،‬وقد ر�أي كل باطل وتوهم كل زور‪ ،‬ورمبا‬
‫ولي�ست هناك‪ ،‬عدا ذلك‪ ،‬درا�سات حول الغرابة‪ ،‬يف‬ ‫كان يف �أ�صل اخللق والطبيعة كذاب ًا نفَّاجاً‪ ،‬و�صاحب ت�شنيع‬
‫العربية‪ ،‬جديرة بالذكر‪ ،‬وال �أق�صد طبعًا تلك الدرا�سات‬ ‫وتهويل‪ ،‬فيقول يف ذلك من ال�شعر على وفق هذه ال�صفة‪ ،‬فعند‬
‫اخلا�صة حول الغرائبية �أو اخليال‪ ،‬بل الغرابة املرتبطة‬ ‫ذلك يقول‪ :‬ر�أيت الغيالن وكلمت ال�سعالة ثم يتجاوز ذلك �إىل‬
‫باخلوف وجتلياته‪ ،‬وباملخيف‪ ،‬وغري امل�ألوف يف‬ ‫�أن يقول‪ :‬قتلها‪ ،‬ثم يتجاوز ذلك �إىل �أن يقول ‪ :‬رافقها‪ ،‬ثم‬
‫(‪)40‬‬
‫يتجاوز ذلك �إىل �أن يقول‪ :‬تزوجها‪».‬‬
‫الفن‪ ،‬على وجه التحديد‪ .‬حيث ي�ستثري العن�رص اخلا�ص‬ ‫هذا ن�ص بديع من ن�صو�ص اجلاحظ‪ ،‬وفيه يربط بني‬
‫بالغريب‪ ،‬وي�ستح�رض معه‪ ،‬توترا غري مريح‪ ،‬كان موجودًا‬ ‫املكان اخلايل املوح�ش وبني عمل العقل ون�شاط التوهم‬
‫يف الأ دب القوطي والفن الرومانتيكي‪ ،‬وق�ص�ص الأ �شباح‬ ‫وهيمنة اخلوف وح�ضوره‪ ،‬حني تتغري �أبعاد املدركات‪،‬‬
‫ثم �أنه ذلك العن�رص �أ�صبح خا�صية مميزة للفن ال�سرييايل‬ ‫وتتمثل الأ �شياء ال�صغرية «للمتوح�ش» يف �صور كبرية‪،‬‬
‫احلديث‪ .‬هكذا تعتقد رابينوفيت�ش �أن حتليل فرويد للغريب‬ ‫فريى «ما ال يُرى»‪ ،‬وقد ي�ست�سلم خلوفه وي�صيبه الرعب‪،‬‬
‫كبعد �سيكولوجى يتعلق باخلربة اجلمالية‪ ،‬حتليل يفتح‬ ‫يزداد �شعوره بالوح�شة‪ ،‬ي�ستوح�ش‪ ،‬وقد ي�صبح �شاعراً‪،‬‬
‫الطريق �أمام الفن(‪.)41‬‬ ‫�أو قد يكون بطبيعته كذاباً‪ ،‬في�صبح «�أ�صدق الكالم‬
‫أي�ضا للتفكري �أو طريقة‬
‫أي�ضا و�سيلة � ً‬
‫قد يكون الغريب � ً‬ ‫– لديه �أكذبه»‪ ،‬في�صور يف ق�صائده الغيالن وال�سعالة‬
‫‪53‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫للتفكري و�إعادة التفكري فيما ي�سمى احلياة العادية املراجع‬


‫(‪Hegel, G. W (1999). Aesthetics, Lectures on Fine Arts. Cambridge )1‬‬ ‫امل�ألوف واليومي‪ ،‬الأ فكار املتداخلة واملتفاعلة‬
‫‪)Oxford univ. Press, 553 – 4. (originally published 1835‬‬ ‫واملت�شابكة اخلا�صة باال�ستقرار وعدم اال�ستقرار‪ ،‬الأ لفة‬
‫(‪J. Collins & J. Jerivs (2008) Introduction. In: Collins & Jervis, (eds). Unc )2‬‬
‫‪.canny Modernity; Cultural Theories, Modern Anxities. N. Y. : Palgrave, 4-5‬‬
‫وعدم الأ لفة‪ ،‬العادية والغرابة‪ ،‬البيتي احلميم والغريب‬
‫(‪.ibid, 6-8 )4( .ibid, 5 – 8 )3‬‬ ‫الرجيم‪ ،‬االمتالك والغرابة‪ ،‬وكما ذكر �أنطوين فيدلر يف‬
‫(‪:Rank, O. (1979) The Double, a psychoanalytical study , Trans. By )5‬‬
‫‪.Harry Tucher Jr. N. Y. : Meridian Press. 74‬‬
‫كتابه عن «الغريب املعماري»(‪ ،)1992‬ف�إن الغرابة هي‬
‫(‪Freud, S. (2003) The Uncanny. London: Penguin Books. Originally)6‬‬ ‫ا�ستعارة لل�رشط الإ ن�ساين احلديث غري احلي‪ ،‬على نحو‬
‫‪.published, 1919‬‬ ‫جوهري‪ ،‬حيث يزداد �إح�سا�س الإ ن�سان احلديث بالغرابة‬
‫‪Vidler, A. (1992) Architectural Uncanny. Essay on the Modern Unhomley‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫‪Cambridge: the MiT. Press‬‬
‫والغربة واالغرتاب من خالل ذلك التزايد يف اال�ستخدام‬
‫(‪ibid )9( ibid )8‬‬ ‫للقوة والعنف والقمع‪ ،‬وتزداد م�شاعر الغرابة لديه‪،‬‬
‫(‪.Jervis, J (2008) Uncanny presences. In. collins & Jervis, eds, op. cit, 15 )10‬‬ ‫�أحيانًا‪ ،‬بفعل احلروب وما حتدثه من تخريب ودمار‪،‬‬
‫(‪)12()11‬‬
‫(‪.Royle, N. (2003) The Uncanny. Manchester University press )13‬‬
‫و�أحيانا‪ ،‬بفعل التوزيع غري العادل للرثوات و�أحيانا‬
‫(‪ibid )15( Ibid,4 )14‬‬ ‫ثالثة بفعل هذين العاملني معا(‪.)42‬‬
‫(‪� )16‬أفالطون (‪ )1985‬اجلمهورية‪( .‬ترجمة ف�ؤاد زكريا)‪ .‬القاهرة‪ :‬الهيئة‬ ‫تلخي�صا ملا �سبق نقول � إنه � إذا كانت «الغربة» يف‬ ‫ً‬
‫امل�رصية العامة للكتاب‪.‬‬
‫(‪.Augustine (2007) The lust of the Eyes. http:/ Gypsyscolorship )17‬‬ ‫جوهرها‪ ،‬غربة عن املكان‪� ،‬أ و حتى‪ ،‬غربة يف املكان‪ ،‬كما‬
‫‪Blogspot. Com/2007/12 Augustine-list-of-Eyes. html‬‬ ‫كان احلال لدى �أ بي حيان التوحيدي‪ ،‬ف�إن االغرتاب‪ ،‬هو‬
‫(‪Ibid )20( Ibid )19( Ibid )18‬‬
‫(‪Burke, E (1990) A philosophical Enquiry into the origin of our ideas of the )21‬‬
‫حالة من ال�شعور ب�أ ن املرء نف�سه غريب حتى عن ذاته‪،‬‬
‫‪.)sublime and beautiful. N. Y. : Oxford univ. Press. (Originally published 1859, 54‬‬ ‫و�أ ن ما �أ نتجه‪ ،‬ك�إن�سان‪ ،‬كي يكون �آ منا من خالله‪ ،‬قد كان‬
‫(‪Ibid,9-11 )24(,Royle, op cit )23(Vidler, op. cit )22‬‬ ‫والداة ألن يفقد ذلك الإن�سان من خالله‪ ،‬ذاته‬ ‫الو�سيلة أ‬
‫(‪Ibid )26( Frued, op. cit )25‬‬
‫(‪.Kavacs, L(2003) The Haunled screen in literature and film)27‬‬
‫ي�ضا‪� ،‬أ ن ي�صبح مغرتبا عنها وموجودً ا‪ ،‬هناك م�أ �سورً ا‪،‬‬
‫�أ ً‬
‫‪.London McFarland, ch. 1‬‬ ‫�أ و منف�صال عنها‪ ،‬يف �آ لة متتلكه بدال من �أ ن ميتلكها‪� ،‬أ و‬
‫‪, Jervis, J(2008). Uncanny Presences, in: J. Collines& J. Jervis‬‬ ‫(‪ )28‬‬ ‫�شخ�ص‪ ،‬عمل‪ ،‬مال‪ ،‬عائلة‪ ،‬خمدر‪ ،‬عالقة‪ ،‬هواية‪ ،‬ممتلكات‪.‬‬
‫‪,uncanny Modernity, op. city‬‬
‫(‪ )29‬التوحيدي‪� ،‬أبو حيان (‪ )1981‬اال�شارات الإ لهية‪ ،‬حتقيق عبدالرحمن‬ ‫‪ .‬الخ ت�سيطر عليه بدال من �أ ن يكون م�سيطرً ا عليها‪،‬‬
‫بدوي‪ .‬الكويت‪ :‬وكالة الكويت للمطبوعات‪.‬‬ ‫هنا ي�صبح م�سلوب الروح‪ ،‬فاقدً ا ذاته‪ ،‬مغرتباً عنها‪ ،‬وقد‬
‫(‪ )30‬نف�سه‬
‫(‪ )31‬رجب‪ ،‬حممود (‪ )1986‬الإ غرتاب‪� .‬سرية م�صطلح‪ .‬القاهرة‪ :‬دار‬ ‫ت�ضاف الغربة (عن املكان) � إىل االغرتاب (عن الذات) لدى‬
‫املعارف‪.‬‬ ‫�شخ�ص ما‪ ،‬في�صبح أالقرب � إىل غريب التوحيدي الذي‬
‫(‪Simmel, G. (1908) The Stranger (Translated by Kurt Wolf. In: The )32‬‬ ‫ينطق و�صفه باملحنة بعد املحنة‪ ،‬فيكون لي�س جمرد‬
‫‪.Sociology of Georg Simmel. N. Y: the free press, 402 – 408. In: www‬‬
‫‪infoamirica. org/documents_pdf/simel/01. pdf‬‬
‫�شخ�ص غريب عن املكان‪ ،‬بل وغريب يف املكان‪ ،‬املكان‬
‫(‪ )33‬حممود رجب‪ ،‬مرجع �سابق‪ ،‬موا�ضيع متفرقة‪.‬‬ ‫الذي كان ينبغي �أ ن يكون مكانه اخلا�ص‪.‬‬
‫(‪ )34‬املرجع ال�سابق‪ ،‬موا�ضع متفرقة‪.‬‬ ‫�أ ما التغريب فهو حيلة فنية‪ ،‬حيلة متيل من خاللها‬
‫(‪ )35‬ثابت مدكور (‪ )1994‬الك�رس الن�سبي يف الإ يهام ال�سينمائي‪ .‬القاهرة‪:‬‬
‫الهيئة امل�رصية العامة للكتاب‪ ،‬موا�ضع متفرقة‪.‬‬ ‫� إىل نزع أاللفة عن امل�أ لوف‪ .‬والفن‪ ،‬هكذا‪ ،‬غريب‪ ،‬ألنه‬
‫(‪.Vidler, op. cit )36‬‬ ‫يك�شف احلجاب‪ /‬القناع عن الواقع‪ ،‬أولنه كذلك ميتلك‬
‫(‪ )37‬برجر‪� ،‬أرثر (‪ )2003‬النقد الثقايف‪ :‬متهيد مبدئي للمفاهيم الرئي�سية‬ ‫القدرة اخلا�صة على الإيهام‪ ،‬ب�سبب وجود تلك الرغبة‬
‫(ترجمة‪ :‬وفاء ابراهيم ورم�ضان ب�سطاوي�سي) القاهرة‪ :‬املجل�س الأ على‬
‫للثقافة‪ ،‬امل�رشوع القومي للرتجمة‪ ،‬العدد ‪.73 ،603‬‬ ‫الإ�سقاطية لدى امل�شاهد �أ و املالحظ‪ ،‬ذلك الذي يرغب‬
‫(‪ )38‬كليطو‪ ،‬عبدالفتاح (‪ )2006‬الأ دب والغرابة‪ .‬درا�سات بنيوية يف الأ دب‬ ‫�أ ن يتوهم‪ ،‬للخال�ص من �رشط ما يكون غريبا يف وقته‪.‬‬
‫العربي‪ .‬الدار البي�ضاء‪ .‬دار توبقال للن�رش‪.66 ،‬‬
‫(‪ )39‬ابن منظور‪ ،‬حممد بن مكرم امل�رصي (‪ )1988‬ل�سان العرب املحيط‪،‬‬ ‫لقد كانت عيون الطيور هي التي خدعتها فانق�ضت على‬
‫بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬ ‫حبات العنب اجلميلة تريد �أ ن تلتقطها يف لوحة بارزايو�س‬
‫(‪ )40‬املرجع ال�سابق نف�سه‪.‬‬ ‫الإغريقي ال�شهرية فتغلبت رغباتها عليها(‪ ،)43‬ب�شكل‬
‫(‪Rabbinovich, C. (2002) Surrealism and the scared Power, Eros and )41‬‬
‫‪.the occult in Modern Art. Calarade: westivew press‬‬ ‫يفوق قدرة هذا الر�سام على الر�سم الدقيق للعنب كما‬
‫(‪,Ibid )43(.Vidler, op. cit )42‬‬ ‫الحظ دريدا ذات مرة‪.‬‬

‫‪54‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫أالمل ‪ /‬العزلة ‪/‬التطهري‬


‫(منوذج التوحيدي)‬
‫هالــة �أحمــد ف� ؤاد‬
‫�أكادميية من م�رص‬

‫�إن الأ مل جتربة وثيقة ال�صلة بالوح�شة والعزلة لأ ن ال�سعادة واملتعة بطبيعتها‬
‫با�سطة‪ ،‬فنحن حني نكون �سعداء‪ ،‬نعي�ش دربا من االن�سجام مع العامل اخلارجي‬
‫مما قد ي�ؤدي بنا �إىل ن�سيان ذواتنا‪ .‬ولعل حلظة ال�سعادة وفقا لهذا الت�صور‬
‫تعرب عن غفلة ما تكتنف الوعي �إذ ي�سقط مفتونا مبا يحقق له ال�سعادة‪ ،‬متوهما‬
‫لربهة �أنه باق ال يزول‪� .‬أي �أن ال�سعادة خدعة وفخ من�صوب للوعي يفقد داخله‬
‫قدرته على ر�ؤية العمق املوح�ش للوجود املو�ضوعي املبتذل‪� .‬أما الأ مل‪ ،‬ف�إنه‬
‫حلظة �إفاقة مباغتة‪ ،‬حيث معاي�شة حلظة الفقد للأ مان الوهمي‪ ،‬واالن�سجام‬
‫ال�سعيد الزائف‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يعزلنا الأ مل على حدة‪ ،‬ويك�شف لنا يف ق�سوة عاتية عن‬
‫وجودنا الفردي املوح�ش فا�ضحا عالقاتنا الواهية مبا حولنا‪ ،‬ممزقا روابطنا‬
‫التي ظنناها وثيقة بالكون‪ .‬ذلك �أن املرء حينما حتل به كارثة ي�شعر �أن الكون‬
‫يدفعه بوح�شية‪ ،‬فيدرك لأ ول مرة �أنه يقف ب�إزاء خ�صم خارجي هو كل ماعداه‬
‫من � آخرين وكائنات و�أ�شياء‪ ،‬بل حتى املطلق ذاته‪ .‬حينئذ يغدو الإ ن�سان املت�أمل‬
‫وحيداً مهجورا يف جانب‪ ،‬والعامل كله واهلل‪ ،‬يف جانب � آخر‪.‬‬

‫يغدو اجل�سد ال�صويف الظاليل ف�ضا ًء جامعا بني اجل�سد‬


‫والفقد‪ ،‬احل�ضور والغياب‪ ،‬احلركة وال�سكون‪ ،‬القلق‬
‫والطم أ�نينة‪ ،‬متام الوجود‪ ،‬و�إمكانية اكتماله املفتوحة دوما‬
‫أ�و بلغة التوحيدي‪ ...‬االقرتاح واالرتياح!!‬

‫‪55‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقول التوحيدي‪:‬‬ ‫وهاهو التوحيدي يدرك برهافة قا�سية وواقعية هذه‬


‫«يا هذا‪ :‬املقت باب �إىل ال�سخط‪ ،‬وال�سخط جالب‬ ‫العالقة الوثيقة بني الأ مل‪ ،‬وال�شعور الفادح واملباغت‬
‫للبعاد‪ ...‬واغرتاب يف الوطن‪ ،‬واجتذاب للحزن‪ ...‬مل‬ ‫بالعزلة املوح�شة‪ ،‬في�س�أل م�سكويه يف الهوامل قائال‪-:‬‬
‫يبق منا �إال ذماء ينب�ض يف ح�شا�شات م�ضمحلة‪...‬‬ ‫«ما علة الإ ن�سان يف �سلوته �إذا كانت عامة له ولغريه؟وما‬
‫فال�شكوى معادة‪ ،‬والكرب معتادة‪ ،‬فال ح�سي�س‪ ،‬فيتعلل‬ ‫علة جزعة وا�ستكثاره وحت�رسه �إذا خ�صته امل�ساءة‪ ،‬ومل‬
‫به‪ ،‬وال �أني�س في�سرتاح �إليه‪� ،‬إمنا هو رنني و�أنني‬ ‫تعده امل�صيبة؟‪ . . .‬ومل يتمنى ب�سبب حمنته �أن ي�رشكه‬
‫وحنني‪ ،‬وزفرات ت�سخن العيون‪ ،‬وتخيل الظنون ف�أين‬ ‫النا�س؟ومل ي�سرتيح �إىل ذلك؟‪( ...‬كقول القائل)‪ :‬من احرتق‬
‫الأ مان‪ ،‬و�أمنا �أتينا يف امل�أمن‪ ...‬هيهات‪ ،‬الي�أ�س مما‬ ‫بيده �أراد �أن يحرتق بيد غريه»‬
‫ال ينال �إحدى الراحني‪ ...‬عتاب لي�س ينقطع‪ ...،‬وف�ضاء‬ ‫وبالطبع‪ ،‬ف�إن العزلة املوح�شة التي تعانيها الذات يف‬
‫لي�س يت�سع‪ ...‬وروح لي�س ينفع‪ ...‬و�شخ�ص �إذا زال مل‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬وتتجرع يف ظلها كثافة الأ مل ووط�أته‬
‫يزل خياله‪ ،‬وحبيب �إن غاب مل يغب مثاله فال�شوق‬ ‫الزمانية الثقيلة لي�ست عزلة مطلقة خالية من ح�ضور‬ ‫يقول كريكجور �أن‬
‫على احتدامه‪ ...‬حمرق‪ ،‬والزمان على عادته جامع‬ ‫الآ خر خال ًء كامالً‪ .‬ذلك �أنه ال وجود للعزلة املطلقة‬ ‫اخلطيئة هي �أقوى‬
‫مفرق‪� ...‬إذا ا�شتهت الآمال بالتوقيع‪ ،‬التب�ست الغايات‬ ‫التي ترادف املوت والعدم وال ميكن ت�صورها �إال عن‬ ‫تعبري عن الوجود‪،‬‬
‫بالتمنع‪ ...‬زهقت الأ رواح بكرب الي�أ�س‪ ...‬ال ذكر �إال وقد‬ ‫طريق ال�سلب‪� .‬أي �أن العزلة دوما م�سكونة بح�ضور‬ ‫لأ ن �شعورنا بها‬
‫خانه الن�سيان‪ ...‬ال ف�ؤاد �إال وقد كدر بالريب‪ ...‬وازور‬ ‫الآ خر‪ ،‬بو�صفها ظاهرة اجتماعية تفرت�ض � آخر نعيه‬
‫بامللل‪ ... ...‬هذا و�صف غريب‪ ...‬عاله ال�شحوب‪ ...‬وغلبه‬ ‫ون�شعر به‪ ،‬وننعزل عنه قهرا �أو �إرادة واختيارا‪ .‬غري �أن‬ ‫لي�س �شيئا �آخر �سوى‬
‫احلزن‪ ...‬حريان مرتدع‪ ...‬ذليل عليل‪ ...‬الي�أ�س غالب‬ ‫العزلة امل�سكونة بح�ضور الآ خر ورمبا �صخبه �ستغدو يف‬ ‫�شعورنا العميق‬
‫عليه‪ ...‬والبالء قا�صد �إليه‪ ...‬حائل اللون من و�ساو�س‬ ‫�سياقنا هذا عزلة موح�شة‪ ،‬لأ ن الآ خر احلا�رض يف خميلة‬ ‫بوجودنا وفرديتنا‪.‬‬
‫الفكر‪ ...‬منتهب ال�رس من هواتك ال�سرت‪ ...‬م�صه الذبول‪...‬‬ ‫الذات يعد ف�ضاء معاديا مهددا للذات‪ ،‬م�ستلبا لوجودها‪،‬‬ ‫والرجل املذنب يجد‬
‫حالفه النحول‪ ...‬ال يتمنى �إال بع�ض جن�سه‪ ،‬حتى‬ ‫م�ستنفدا لإ مكاناتها‪ ،‬مف�سدا �سعيها املحموم من �أجل‬
‫يف�ضى �إليه بكامنات نف�سه‪ ...‬ويتذكر مب�شاهدته قدمي‬ ‫اخلال�ص والتحرر‪ ،‬حما�رصا ح�ضورها يف عامله‬
‫نف�سه وحيدا متاما‬
‫لوعته‪ ،‬فينرث الدموع على �صحن خده‪ ،‬طالبا للراحة‬ ‫املو�ضوعي املبتذل الفاقد لأ ي �شكل من �أ�شكال حتقق‬ ‫�أمام اهلل‬
‫من كده‪ ... ...‬الغريب من نطق و�صفه باملحنة بعد‬ ‫التكامل واالن�سجام واالت�صال احلميم روحيا و�إن�سانيا‬
‫املحنة‪ ...‬مب التعلل ال �أهل وال وطن‪ ...‬وال ندمي وال ك�أ�س‬ ‫كما ذكرنا � آنفا!!‬
‫وال �سكن‪ . .‬هذا و�صف رجل حلقته الغربة‪ .‬فتمنى �أهال‬ ‫ولعنا نالحظ تلك الإ �شارة الالفتة ملا تنطوي عليه‬
‫ي�أن�س بهم‪ ،‬ووطنا ي�أوي �إليه‪ ،‬وندميا يحل عقد �رسه‬ ‫الطبيعة الإ ن�سانية من ق�سوة وعنف دفني‪ ،‬حيث يتمنى‬
‫معه‪ ،‬وك�أ�سا ينت�شي منها‪ ،‬و�سكنا يتوادع عنده»‬ ‫املرء حني حمنته‪� ،‬أن تعم الآ خرين وت�صيبهم كما‬
‫ومما يثري الأ نتباه هنا هو ذلك التناق�ض احلاد الذي يت�سم‬ ‫�أ�صابته‪ ،‬ف�إن هذا يخفف من حدة الأ مل ويحقق له نوعا‬
‫به ف�ضاء العزلة املوح�ش امل�ؤمل‪ ،‬فهو من ناحية‪ ،‬رف�ض‬ ‫من الراحة وال�سكينة‪ .‬وبالطبع‪ ،‬قد يكون هذا �شكال من‬
‫و�إنكار و�إق�صاء حل�ضور الآ خر االجتماعي‪ ،‬وعدوان متخيل‬ ‫�أ�شكال ممار�سة العنف التخيلي على الآ خرين كرد فعل‬
‫م�شتهي عليه‪ ،‬ومن ناحية ثانية هو�س عارم وحنني جارف‬ ‫لعدوانهم املتخيل على الذات وانتهاكهم عمق وجودها‬
‫لهذا الآ خر وجتلياته املتنوعة‪ ،‬والذي مل يزل مناو�شا‬ ‫وا�ستباحتهم �إياها‪ ،‬بل وجتاهلهم م�آ�ساتها وال مباالتهم‬
‫الحتياجات الذات و�أحالمها املحبطة‪ ،‬ملوحا ب�إمكانات‬ ‫بحزنها والتخلي عنها هجراً و�إق�صاءً‪ ،‬هذا من ناحية‪،‬‬
‫التوا�صل واالئتنا�س‪ ،‬مزينا لها �أوهام الأ مان واللوذ‬ ‫ومن ناحية ثانية‪ ،‬فقد يكون هذا التمني العدواين تعبريا‬
‫واحلميمية والبوح‪ .‬ومن ثم ال تخلو العزلة املوح�شة من‬ ‫عارما وم�ؤ�سيا‪ ،‬ال عن ق�سوة الذات �أو مواجهتها عدوانا‬
‫ترددات العودة للعامل والآ خرين‪ .‬ولعلنا نالحظ �أن �إغواء‬ ‫بعدوان‪ ،‬بل عن عزلتها القا�سية وقهرها االنفرادي‪،‬‬
‫الآ خر لي�س دائما مرتبطا بوعود الأ ن�س وال�سكن والبوح‪،‬‬ ‫ومدى احتياجها العنيف لهذا الآ خر القار داخلها‪ ،‬النائي‬
‫لكنه قد يكون �إغواء و�سحر املعتدي القا�سي‪ ،‬املتخلي‪،‬‬ ‫البعيد املجايف لها‪ .‬بل ميكننا القول‪ ،‬ب�أن الذات قد‬
‫�إغواء التجاهل والهجر وامل�شتهي الالمتحقق‪.‬‬ ‫ي�سكنها هو�س االئتنا�س مب�شاركة الآ خرين‪ ،‬ولو كانت‬
‫وبالطبع‪ ،‬يزداد الأ مر تعقيدا كلما كان املرء متقنا‬ ‫م�شاركة الكرب واملحنة واحلزن‪� ،‬إنها �أمنية ت�ضمر رغبة‬
‫لدوره االجتماعي‪ ،‬متوائما ب�صورة �أو ب�أخرى مع عامله‬ ‫التوا�صل احلميم‪ ،‬والتنفي�س عن اللوعة‪ ،‬وهي ممار�سة ال‬
‫املو�ضوعي‪ ،‬واقعا يف �أ�رس امل�ألوف واملعتاد والتكرار‬ ‫ت�ؤتي ثمارها �إال عرب من ذاق وعانى نف�س املعاناة‪.‬‬
‫‪56‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫املدجن لطاقات الذات‪ .‬حينئذ تغدو العزلة م�ستحيلة‪،‬‬
‫حلبيب �إن زال مل يزل خياله‪ ،‬ومل يغب مثاله!! ومن‬
‫ناحية ثانية‪ ،‬ف�إن احل�ضور الناحل ال�شاحب للذات هو‬ ‫�شديدة الوط�أة قا�سية وم�ؤملة‪ ،‬وخمرتقة دوما بخياالت‬
‫مر�آة خمايلة‪ ،‬كمرايا ال�سحر املخادعة التي حتول‬ ‫الآ خر املفتقد مهما كانت جتلياته‪ .‬ورغم �أننا يف �سياقنا‬
‫العذاب �إىل عذوبة‪� ،‬أو الزائف �إىل حقيقي‪ ،‬ولعلها مرايا‬ ‫هذا‪ ،‬نواجه ذات مل ت�ستطع قط �أن تتقن دورها االجتماعي‪،‬‬
‫ال�سحر الكا�شفة عرب النبوءة‪.‬‬ ‫رغم كل حماوالتها‪� ،‬إال �أن حلمها الطموح الذي �سعت �إليه‪،‬‬
‫ان مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى ما بني‬ ‫ومل تنله �أبدا‪ ،‬مازال يهج�س يف عزلتها املوح�شة ب�إمكانات‬
‫اخلداع واحلقيقة‪ ،‬فهي تكت�سب �إمكاناتها الت�أويلية‪ .‬ال عرب‬ ‫حتققه‪ .‬و�إذا كانت العزلة كو�ضعية م�ؤ�سية موح�شة هي نتاج‬
‫ح�ضورها ال�شبحي فح�سب‪ ،‬بل عرب زاوية توجه الوعي الذي‬ ‫لإ خفاق الذات يف �إقامة عالقة مثمرة ناجحة مع الآ خر‬
‫يقر�أها �أو ي�ؤول معناها‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فبقدر �إمكانات اخلداع‪،‬‬ ‫االجتماعي‪� ،‬أو الدنيوي عامة‪ ،‬ف�إنها‪ ،‬ومن خالل وعي‬
‫تكون �إمكانات انك�شاف احلقيقة‪ ،‬فهي عائق وحجاب‪،‬‬ ‫الذات بعمق احتياجها وهاج�سها الدنيوي‪� ،‬ستظل دوما‬
‫و�إ�شارة دالة يف � آن‪ � .‬آي �أن قدرتها على الإ غواء �أو التهديد‬ ‫م�ساحة جلدل الذات مع الآ خر عرب م�سارب خفية ومتنوعة‪،‬‬
‫تتنا�سب طرديا مع ا�ستعدادات الذات القارئة املتفح�صة يف‬ ‫طاملا كانت الذات الدنيوية حا�رضة ومناوئة خارج �إطار‬
‫�أحوال ذاتها‪ ،‬ومدى تهيئها للإ غواء‪� .‬إنها ممار�سة جدلية‬ ‫ال�سيطرة الكاملة للذات املثال وحلمها املفارق‪.‬‬
‫الطابع بني طريف الذات ت�ضمر �رصاعا عنيفا وقا�سيا‪،‬‬ ‫�إن الأ مل يف �سياق العزلة املوح�شة لي�س قرين‬
‫االعرتاف العلني‬ ‫ت�سعى من خالله كل ذات لتدمري الأ خرى‪ ،‬و�إعادة �إنتاج‬ ‫الق�سوة والعنف والتناق�ض فح�سب‪ ،‬بل كذلك قرين‬
‫والندم قد يكون‬ ‫القمع عليها‪ ،‬بطرق خمتلفة ومتفاوتة ما بني املراوغة‬ ‫ال�ضجر من خواء العامل وتفاهته‪ ،‬وعبثيته وف�ضاءاته‬
‫يف بع�ض الأ حيان‬ ‫واملواجهة ال�ساخرة‪.‬‬ ‫القا�سية املليئة بال�سخط واملقت والتهديد والوح�شة‬
‫خدعة ال واعية‬ ‫ولعل هذا ال�رصاع اخلفي يدمر الإ ح�سا�س بال�ضجر بني‬ ‫والن�سيان والظنون وامللل‪ ،‬بل �شديدة ال�ضيق على‬
‫متار�سها الذات‬ ‫حلظة و�أخرى م�شيعا حالة من اخلوف والفزع يف ثنايا‬ ‫ات�ساعها الظاهري �إىل درجة حما�رصة الروح بالي�أ�س‬
‫الذات‪ ،‬خوف من الآ تي الدنيوي‪ ،‬ومن اخلطر اخلارجي‬ ‫املطلق و�إذاللها و�إزهاقها‪ .‬ولعل ال�ضجر الأ عمق هو‬
‫�ضد ذاتها و�ضد‬ ‫الذي مل يزل مهددا الذات مبزيد من الإ حباطات والآ الم‬ ‫ذلك ال�ضجر الذي تعانيه الذات �إزاء ذاتها الدنيوية‬
‫الآ خرين‬ ‫غري املحتملة‪ .‬ذلك �أن حتقيق الآ مان الداخلي مرتبط بخلق‬ ‫القابعة داخلها‪ ،‬والتي لي�ست �سوى مر�آة �صدئة‬
‫م�ساحة لالن�سجام والود واحلميمية اخلفية بني الذات‬ ‫عاك�سة لقبح العامل وخوائه‪ ،‬بل ل�شبحيته وذبوله‬
‫وذاتها‪ ،‬ولي�س العك�س‪ .‬حيث مل تزل الذات‪ ،‬رغم ما ميكن‬ ‫وا�ضمحالله‪� .‬إن ح�ضور هذه الذات لي�س �سوى‬
‫�أن نطلق عليه معاناة املوقف احلدي للإ ن�سان‪ ،‬متار�س‬ ‫ح�ضور باهت منتهب‪ ،‬بل منتهك ال�رس مهتوك ال�سرت‬
‫ترددها الفا�ضح بني ال�سقوط يف وهم االبتذال والو�ضعية‬ ‫واخل�صو�صية‪ ،‬م�ستباح ممت�ص الطاقات والقدرات يف‬
‫وعالقات الت�شيوء واال�ستخدام‪ ،‬من ناحية وبني الإ ختيار‬ ‫دوائر الكرب وال�شكوى والبالء والو�ساو�س واالعتياد‬
‫النهائي للوجود الأ �صيل‪ ،‬من ناحية �أخرى‪ .‬وهكذا‪ ،‬حني‬ ‫الكئيب املدمر لكل �إمكانات الإ بداع اخلالق واملتجدد‪.‬‬
‫يغدو ظهر املرء للجدار‪ ،‬ويواجه احلقيقة �صادمة عارية‪،‬‬ ‫ورغم هذا احل�ضور الذابل ال�شاحب للذات الدنيوية‬
‫ولي�س هناك بديل‪ ،‬ويف الوقت نف�سه‪ ،‬يواجه ف�ضاء الإ غواء‬ ‫يف ف�ضاء العزلة املوح�شة‪� ،‬إال �أنها مل تزل ت�شكل‬
‫الدنيوي مبمكناته الالنهائية ووعوده ال�ساحرة رغم‬ ‫تهديدا عارما‪ ،‬حيث تكت�سب خطورتها من و�ضعها‬
‫زيفها‪ ،‬حينئذ‪ ،‬ي�صبح ف�ضاء العزلة‪ ،‬ف�ضاء للرعب والفزع‬ ‫اليائ�س الباهت‪ ،‬و�ضع املحنة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬ت�سعى‬
‫والو�سوا�س امل�ؤرق‪ ،‬رعب مواجهة امل�صري النهائي للذات‬ ‫تلك الذات البتزاز ذاتها‪ ،‬وا�ستمالة عطفها عليها‪ ،‬علها‬
‫ما بني العدم والوجود!!‬ ‫تف�سح لها م�ساحة للبوح والف�ضف�ضة بكامنات النف�س‬
‫�إن امل�صري هو وجود الإ ن�سان‪� ،‬أي حياته و�أفعاله‪ ،‬وقد‬ ‫ولواعجها‪ ،‬و�إحباطاتها املتوالية‪ ،‬وحيث تنرث الدمع‬
‫�صارت غريبة عنه‪� ،‬أي �أنه وعي بالذات‪ ،‬لكنه وعي‬ ‫يف ح�رضتها طالبة للراحة من كرب الي�أ�س والأ �سى‪� .‬أن‬
‫بها من حيث هي �آخر منف�صالً‪ ،‬مغايرا مغرتبا عنه‪،‬‬ ‫هذه امل�ساحة جديرة با�ستثارة �أ�شواق الذات‪ ،‬وبعث‬
‫بل م�ستلبا له وهو ما يعني �أن �أفعال الإ ن�سان التي‬ ‫الروح يف هواج�سها الدنيوية وتثبيت دعائم ح�ضورها‬
‫ت�شكل وت�ؤلف وجوده وم�صريه‪ ،‬والتي هي من خلقه‬ ‫عرب معاناة ال�شفقة والرحمة بهذه الذات املحبطة‪،‬‬
‫و�إبداعه‪ ،‬ت�صري حني تتخارج وتتحقق‪ ،‬وتثمر نتائجها‬ ‫ومعاونتها بفتح نوافذ الأ مل الدنيوي ثانية‪ .‬وهكذا‬
‫�إن �سلبا و�إيجابا‪ ،‬ومت�س الآخرين والكائنات والأ �شياء‪،‬‬ ‫تغدو م�ساحة البوح م�ساحة ال�ستباحة الأ دنى للأ على‪،‬‬
‫�شيئا � آخر غريه‪ ،‬غريبا عنه‪ ،‬وقد تكون عدوا له‪ .‬هنا‬ ‫وا�ستنفاده داخل ف�ضائه الوهمي‪ ،‬ف�ضاء احتدام ال�شوق‬
‫‪57‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متعدد الإ مكانات‪ .‬وهكذا فمن هجري الأ �رس وال�ضيق‬ ‫يبدو امل�صري و�ضعية ديناميكية جدلية من خلق‬
‫واجلدب الدنيوي‪ ،‬وعرب طريق الآ الم و�أ�شواكه وعقباته‬ ‫الإ ن�سان و�صناعة يده‪ ،‬ومل يعد الأ مر حم�ض قهر �أو‬
‫وعدميته القا�سية تولد �إمكانات احلنني الروحي لواحة‬ ‫�إحباط ناجت من اخلارج والآخر‪ ،‬بقوانينهما القمعية‬
‫اهلل الوارفة �سعيا لفتح ف�ضاء احللم املفارق املتعايل‪.‬‬ ‫بكافة م�ستوياتها‪ ،‬واملدمرة حلرية الإ ن�سان‪ ،‬لكنه‬
‫ولعل هذا الف�ضاء احلامل ال يغدو حم�ض تعوي�ض لإ حباط‬ ‫�أ�صبح اغرتابا ذاتيا له �سمت جديل ميتافزيقي‪� .‬أي‬
‫احللم الدنيوي‪ ،‬بقدر ما ي�صبح حماية للذات من النكو�ص‬ ‫�أن الذات ت�صري مو�ضوعا‪ ،‬والأ نا تغدو ال‪�-‬أنا‪ ،‬والإ رادة‬
‫والرتاجع‪ ،‬ناهيك عن كونه �سيفتح بدوره م�ساحات جديدة‬ ‫التي هي من �أجل الذات ت�صبح �إرادة �ضد الذات‪� .‬أي‬
‫للجدل مع الآ خر الن�سبي على حد �سواء ذات �سمت �أكرث‬ ‫�أن �أفعال املرء وامل�ؤلفة لوجوده وم�صريه تتعاىل‬
‫�إيجابية و�إبداعا ورقيا‪ .‬وبينما ت�سعى الذات عرب ف�ضاء‬ ‫عليه وتتوجه �ضده بينما تتحول �إرادته اجلزئية �إىل‬
‫حلمها املفارق لذوق حالوة الراحة والعز يف ظل الو�صال‬ ‫�إرادة كلية‪� ،‬أو لنقل تغدو �إرادته �إرادة من �أجل الآخر‬
‫والأ ن�س بالرب اجلميل املع�شوق‪ ،‬متار�س ت�أ�سي�س ح�ضورها‬ ‫تعرب عن قوانينه وقيمه ومعايريه‪ ،‬وتتحرك لتحقيق‬ ‫� إن فعل الندم‬
‫الوجودي الأ �صيل‪ .‬ذلك �أن ف�ضاء احللم املفارق هو املر� آة‬ ‫م�صاحله‪ ،‬ال م�صالح الذات اخلالقة لها‪� ،‬أيا كان الآخر‪.‬‬ ‫ال�صاخب ي�ؤ�س�س‬
‫املجلية لفكرة ال�شخ�صية التي تدركها الذات كلوامع الربق‬ ‫�إن حلظة الوعي بغربة امل�صري الذاتي هي حلظة‬ ‫ملركزية الذات بو�صفها‬
‫ال�رسابية يف هجري العدم وظلمته القامعة‪ .‬ولعلها حلظة‬ ‫م�ؤملة تواجه الذات فيها تناهيها وقهرها وعجزها‬ ‫مركزية كونية تولد‬
‫امليالد احلقة‪ ،‬ميالد الروح عرب �إمدادها مباء احلياة‬ ‫وابتذالها الوجودي واملعريف والقيمي‪� .‬أو لنقل �أنها‬
‫الإ لهية‪ ،‬ووعد اخللود‪ ،‬وحلم االكتمال امل�ستحيل‪ ،‬ولعلها‬ ‫حلظة مواجهة انهيار احللم‪ ،‬وقد دمرته �إختيارات‬ ‫قدا�ستها من عمق‬
‫تطلعات الهيمنة اخلالقة من خالل ف�ضاء الذات الكونية‬ ‫الذات الغافلة امل�ستلبة حل�ساب معايري اخلارج والآخر‬ ‫جنايتها وتطاولها‬
‫احلاوية للكل‪ ،‬و�إمكانات احلرية الالنهائية!!‬ ‫الدينوي الزائفة واملخايلة الوهمية‪ ،‬بل غدت عونا لها‬ ‫على املطلق!!‬
‫وميكننا القول ب�أن جتربة العزلة والأ مل بكل ما تنطوي‬ ‫على ذاتها احلقة‪ .‬ومن ثم عانت الذات قهر اخلارج‬
‫عليه من م�ؤ�سيات و� آالم �ستغدو معربا وحيدا من �أجل‬ ‫والداخل‪ ،‬و�أردتها ممار�ساتها ال�سلوكية و�إحباطاتها‬
‫التطهر والتجاوز و�صناعة امل�صري مبا هو اختيار ذاتي‬ ‫امل�ؤ�سية‪.‬‬
‫�أ�صيل متحرر من كل �أ�شكال القمع والهيمنة داخليا‬ ‫و�إذ غدت ممار�سات الذات واختباراتها ف�ضاء ال�ستالبها‬
‫وخارجيا‪ ،‬ولي�س حم�ض ممار�سة تراجيدية مدمرة‬ ‫اخلفي‪ ،‬ورماال متحركة تغو�ص فيها �أقدام الذات دون �أن‬
‫لالغرتاب الذاتي‪ .‬حينئذ ي�صبح ف�ضاء العزلة ف�ضاء‬ ‫تدري‪ ،‬فها قد �أتت حلظة املباغتة املعرفية القا�سية �إذ‬
‫�إيجابيا �إذ تتفتح نوافذ الذات على حلم الأ ن�س الأ بدي‪،‬‬ ‫تعي الذات عمق جرحها وتعريه‪ ،‬حيث ال �أمل داخل هذه‬
‫�أن�س االمتالء بح�ضور الآ خر الإ لهي‪ ،‬والتحرر من كل‬ ‫املدارات املبتذلة �سوى املزيد من الت�شظى واال�ستالب‪،‬‬
‫�أ�شكال اال�ستالب‪ ،‬وممار�سة الوعي الذاتي اخلالق‪� ،‬أي‬ ‫وظلمة امل�صري‪.‬‬
‫بزوغ فجر ال�شخ�صية �أو الإ ن�سان الكامل‪ ،‬اجلدير وحده‬ ‫يقول التوحيدى ‪:‬‬
‫بال�سمت الإ ن�ساين‪� .‬إن هذا البزوغ �سيغدو �إمكانية حبلى‬ ‫«يا هذا‪ ...‬ماذا يجئ من هذا التهافت‪ ،‬وهذه الذلة‪،‬‬
‫ب�إمكانات الوعد االخروي‪ ،‬ومن ثم �ستعاي�ش الذات من‬ ‫وهذا اجلهل؟يا عدو نف�سه‪ ...‬يا جانيا على روحه‪ ...‬ما‬
‫خالله القلق اخلالق‪ ،‬قلق ال�شوق للمطلق‪ ،‬وال�شاهد على‬ ‫�أرداك لنف�سك‪ ...‬وما �أق�سى قلبك على مهجتك‪� ...‬إمنا‬
‫ح�ضوره ومفارقتنا �إياه!!‪.‬‬ ‫�أتيت من اختيارك الردى‪ ...‬بلى‪ :‬عجزي عني هو الذي‬
‫ويبقى ال�س�ؤال قائما‪ ،‬كيف تتم هذه االنتقالة للوعي‬ ‫فدم فمى‪ ،‬و�أجل�أنى �إىل ندمي‪ ...‬و�شوقني �إىل بطالين‬
‫من ال�سلب للإ يجاب داخل ف�ضاء العزلة املوح�شة‬ ‫وعدمي‪ ...‬ياهذا‪:‬ا�ستغثت فما �أغثت‪ ...‬و�س�ألت فما‬
‫بتناق�ضاتها امل�ؤ�سية؟‬ ‫�أعطيت‪ ،‬و�أعتذرت فما قبلت و�أ�صبت فما عزيت‪ ،‬فبقيت‬
‫و�أوىل خطوات الذات على طريق حتقيق هذه االنتقالة‪،‬‬ ‫هكذا بالعراء منزور ال�صرب‪ ،‬مغروز الوحر‪ ،‬قد نقب‬
‫هي �إعالن م�أمت الذات احلقة‪ ،‬واتهام ذاتها الدنيا باغتيال‬ ‫خفي‪ ،‬ودمي ظلي‪ ،‬ذهب �أكرثي‪ ،‬وبقي �أقلي»‪.‬‬
‫وقتل حلم الذات املثال‪ .‬وبينما تنوح الذات الثكلى على‬ ‫ومن املثري لالنتباه حقا‪� ،‬أن ينطوي هذا الوعي ال�سلبي‬
‫ذاتها احللم‪ ،‬متار�س تدمري ذاتها الدنيا القاتلة‪ ،‬من خالل‬ ‫بامل�صري املتناهي امل�ؤمل‪ ،‬حال العزلة املوح�شة‪ ،‬بكل‬
‫�إدانتها و�إذاللها وتعرية كل �أقنعتها ومزاعمها الزائفة‪،‬‬ ‫تناق�ضاتها امل�ؤ�سية على نقي�ضه الإ يجابي‪ .‬حيث �أن‬
‫وتدمري �أداتها اللعينة‪ ،‬اجل�سد الفيزيقي‪� .‬أي �أن الذات‬ ‫ال�سري بال�سلب والعدم �إىل نتائجه النهائية هو ال�سبيل‬
‫الكاتبة توجه كل ي�أ�سها و�ضجرها‪ ،‬وعنفها وغ�ضبها‬ ‫الوحيد لقهره وجتاوزه وانبثاق نقي�ضه الوجودي اخلالد‬
‫‪58‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ومواجهتها اليائ�سة �إياها‪ ،‬تتحرر من �أحابيل الت�ضليل‬ ‫وطاقاتها التدمريية نحو ذاتها امللتب�سة ب�آخرها الدنيوي‬
‫والتخييل التي �أوقعتها الذات الدنيا يف �شباكه املعقدة‬ ‫املتخيل‪ ،‬بدال من توجيهه فعليا للآ خر الواقعي �أو للتهديد‬
‫وامللتب�سة‪ .‬ومتار�س الذات الكاتبة عنفها التخييلي على‬ ‫اخلارجي‪ .‬ذلك �أن تهديد الداخل �أ�صبح هو العدو احلقيقي‬
‫ذاتها الدنيا‪� ،‬سعيا لقتلها ال جمرد �أ�رسها وح�صارها‪،‬‬ ‫الذي يت�ضاءل �إىل جواره كل �إغواء اخلارج و�سحره‪ .‬وهو‬
‫وكبح جماحها وتروي�ض �شهواتها‪ .‬وبالطبع ال يحقق‬ ‫الأ مر الذي يعني �أن الذات مازالت متار�س ح�ضورها يف‬
‫القتل حم�ض التحرر الذاتي من �أ�رس الدنيوي بقدر ما يهب‬ ‫عمق حلظة �رصاعية تتبادل فيها‪ ،‬وذاتها الدنيا عنفا‬
‫الذات �إنفرادها الطاغي املطلق بال�سلطة الذاتية‪ ،‬ونفي �أي‬ ‫بعنف‪ ،‬وقمعا بقمع‪ ،‬حيث ت�سعى كل منهما لإ بادة الأ خرى‪،‬‬
‫�إمكانية للمناوءة �أو ال�رصاع ب�أ�شكاله املتنوعة امل�ضمرة‬ ‫و�سحقها عرب م�ساحات التخيل بكل ما تنطوي عليه من‬
‫واملعلنة على حد �سواء‪� .‬إنه احللم الطموح لإ جناز التماهي‬ ‫طاقات تدمريية‪ ،‬وخالقة يف � آن‪.‬‬
‫مع لأ لوهية حيث تتوافق الإ رادتني‪� ،‬إرادة الإ ن�سان‪ ،‬و�إرادة‬ ‫يقول التوحيدي‪:‬‬
‫اهلل‪ ،‬فال خمالفة وال ع�صيان‪ ،‬وال رب وال عبد حينئذ يغدو‬ ‫«ياهذا‪� ...‬أما تعلم �أنك متقلب بني هذه الأ وزار‪،‬‬
‫التوحيدي‪:‬‬ ‫القتل عالجا جذريا ي�ست�أ�صل الثنائية‪ ،‬ويعفي من ذلك‬ ‫التي �إن مل ت�سقطها بالتوبة عنك �رصت حطب �أهل‬
‫«وذوب ج�سم‪...‬‬ ‫االلتبا�س الإ ن�ساين بني ال�شيطان واهلل !!‬ ‫النار‪ ...‬دعواك كلها وقاحة‪ ،‬و�رسك كله خبيث‪ ،‬و�سريك‬
‫وت�صعد نف�س‪،‬‬ ‫ولعل �أهم ما يلفتنا يف هذا ال�سياق‪ ،‬هو ذك الإ ح�سا�س‬ ‫يف الباطل حثيث‪ ،‬وجهرك نفاق‪ ،‬وباطنك �شقاق‪،‬‬
‫وانهمال دمع‪...‬‬ ‫الفادح واملكثف بالذنب واجلناية �أو اخلطيئة‪ ،‬وال�سقوط‬ ‫و�سكوتك غيلة‪ ،‬ومعاملتك اختال�س‪ ،‬و�أمانيك �أدران‬
‫وا�ستحالة‬ ‫من الرحمة الإ لهية‪ ،‬وا�ستحقاق العقاب الإ لهي‪ ،‬و�سعري‬ ‫و�أدنا�س‪ ،‬ووعظك خديعة‪ ،‬واتعاظك ريح‪ ،‬وعظك غثاء‪،‬‬
‫اجلحيم!!‬ ‫وكلك هباء‪ ،‬وعبادتك رياء‪ ... ...‬بنيت �أمرك كله على‬
‫�سحنة‪ ...‬و�شوق‬ ‫والبد لنا من وقفة هادئة مت�أنية عند معنى اخلطيئة‬ ‫املكر والغيلة‪ ،‬وعلى الغ�ش واملكيدة‪ ،‬وعلى الهوى‬
‫يوهن �أركان‬ ‫�أو ماهيتها امللتب�سة ما بني ال�سلب والإ يجاب‪ .‬ذلك‬ ‫واملطعمة‪ ،‬وعلى اخل�سا�سة والنجا�سة‪ ...‬واجلهالة‬
‫اجل�سد‪ ...‬فاعطف‬ ‫�أن اخلطيئة �أو اقرتاف وجناية الذنب تعني حدوث‬ ‫والنذالة‪ ،‬وعلى طلب العاجلة دون الآجلة‪ .‬فال جرم‬
‫رحمك اهلل‪-‬على‬ ‫�رشخ �أو توتر عنيف يف العالقة بني اهلل والإ ن�سان‪،‬‬ ‫بار �سعيك يف حياتك‪ ...‬وانبرت �أملك يف كدحك مباال‬
‫�إذ يجلب الإ ن�سان بخطيئته اال�ضطراب والف�ساد �إىل‬ ‫ثمرة له عندك‪ .‬فما �أ�ش�أم نا�صيتك على نف�سك‪ ...‬وما‬
‫�شبح قد حتكم فيه‬ ‫النظام الكوين املحكم والبديع‪� ،‬أي �أن ارتكاب ال�رش‬ ‫�أطوعك ل�شيطانك‪ ... ...‬ياهذا‪� ...‬سلكت طرق املهالك‪...‬‬
‫البلوى‪ ،‬و�أقام بني‬ ‫يعني عدم اخل�ضوع للنظام الإ لهي �أو ع�صيان النامو�س‬ ‫الويل لك الويل‪ ،‬ملثلك �سجرت اجلحيم‪ ،‬وملثلك �أعد‬
‫احلياة والردى‪ ،‬ال‬ ‫ذلك �أن كل �شيء يف هذا العامل الذي خلقه اهلل‪،‬‬ ‫العذاب الأ ليم‪ ...‬ال ترجع يف �أمورك كلها �إال �إليه‪� ...‬أيها‬
‫يذوق �أحدهما على‬ ‫تابع له معتمد عليه‪ ،‬ممتثل متام االمتثال لقوانينه‬ ‫اجلاين على نف�سه‪ ...‬لعلك عند اهلل كافر‪� ...‬أين العذر يف‬
‫و�سلطته املطلقة وم�شيئته النافذة‪� .‬أما الإ ن�سان‪،‬‬ ‫اجلناية‪ ...‬ياهذا‪� :‬أتدرى من �شيطانك؟ �أنت �شيطانك‪...‬‬
‫متامه»‬ ‫فبتميزه العقلي واللغوي‪ ،‬وامتالكه حق التكليف‪،‬‬ ‫اقت�ص من نف�سك‪ ،‬فقد قتلتك‪ ،‬ثم �أق�صيها منك بعد‬
‫و�إرادة الع�صيان‪� ،‬أو كما يذهب كريكجور �إىل �أن كل‬ ‫قتلها‪ .‬قتلتك بالت�سويل وقتلتها بالتعويل‪ ،‬فكان ق�رص‬
‫ما ورثه الإ ن�سان من خطيئة �آدم هو قابلية الوقوع‬ ‫كما الت�ضليل والتخييل‪ ...‬قيل القتل �أعفي من الأ �رس‪...‬‬
‫يف اخلطيئة‪ ،‬فهو وحده القادر على اخلروج عن هذا‬ ‫�أنت واهلل ال�شقي‪ ...‬املطرود من باب الكرامة �إىل فناء‬
‫النظام‪ ،‬حيث ميكنه خمالفة الأ وامر الإ لهية وعدم‬ ‫الهوان‪ ،‬وعذرة الذل‪ ،‬و�ساحة احل�رسة‪ ...‬جترع مرارة‬
‫�إطاعتها‪ ،‬وتدمري عالقة التبعية امل�ست�سلمة‪ ،‬واالنقياد‬ ‫الك�أ�س املرتعة‪ ...‬بالي�أ�س‪ ...‬فت فوتا ال �إدراك بعده‪،‬‬
‫العبودي املطلق للربوبية و�رشائعها‪ ،‬لهذا كان هناك‬ ‫وبدت بيودا العود معه‪ ...‬يا عدو نف�سه‪ ،‬وجالب حتفه‬
‫دوما الوعد والوعيد‪ ،‬والرتغيب والرتهيب‪ .‬ومن ثم‪،‬‬ ‫بيده‪ ...‬ويا جمهزا على روحه بخنجره»‪.‬‬
‫فاخلطيئة �أو الذنب هما دوما �أمام اهلل‪ ،‬و�إزاء قوانينه‬ ‫وهكذا تقت�ص الذات من ذاتها اخل�سي�سة التي �سولت لها‬
‫و�رشائعه‪� ،‬إنها حالة دينيه باملقام الأ ول‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫ال�سقوط يف هذا الدن�س الدنيوي‪ ،‬وا�ستطاعت باملكر‬
‫ت�أثريها االجتماعي والأ خالقي‪.‬‬ ‫واحليلة واملراوغة واخلديعة والرياء اختال�س ذاتها‪،‬‬
‫ورغم الطابع ال�سلبي لهذه احلالة‪ ،‬ف�إن كل من يرتكب‬ ‫وجعلها تعول عليها‪ ،‬وت�ستند �إليها‪ ،‬خمايلة �إياها بوجه‬
‫املع�صية ي�ؤكد ذاته وا�ستقالله ب�صورة ما �إزاء اهلل‬ ‫�صديق حميم يخفي كونها العدو الأ ول‪ ،‬بل املت�آمر على‬
‫بع�صيانه �إياه‪ ،‬وحتديه للو�صايا والأ وامر الإ لهية‪.‬‬ ‫اغتيالها وتدمريها!! �أي �أن الذات الكاتبة بتعريتها القا�سية‬
‫ويف كل مرة يرتكب فيها املرء املع�صية‪ ،‬ف�إنه يجدد‬ ‫الفا�ضحة لذاتها‪ ،‬تعرية الذل‪ ،‬وانح�سار القناع الزائف‪،‬‬
‫‪59‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املطلق ذاته‪ .‬فاخلاطئ الآ ثم‪ ،‬قار يف عمق النظرة الإ لهية‬ ‫فعل التمرد ثانية‪ ،‬كما ميار�س ح�ضوره اليائ�س مطلقا‬
‫املتفر�سة املرت�صدة الغا�ضبة املتوعدة‪ ،‬كما �أنه قار يف‬ ‫ماثال �أمام اهلل‪.‬‬
‫عمق النظرة الف�ضولية املنتهكة للح�شد‪ ،‬ولعلها املتطلعة‬ ‫ذلك �إن ا�ستمرار الذات يف املع�صية �أو التقلب بني‬
‫بحنني وح�سد وتوق لنموذج االنقالب الآ ثم‪ ،‬ومدارات‬ ‫الأ وزار‪ ،‬وعدم ا�ستجابتها ل�صوت ال�ضمري الأ خالقي �أو‬
‫احلرية الآ �رسة‪ ،‬حرية ال�سقوط خارج كل الدوائر وال�سلطات‬ ‫للوازع والأ مر الدينى يدعم حالة الي�أ�س ويكثفها!! �إنه‬
‫والأ نظمة‪ .‬غري �أن هذا ال يتحقق للخاطئ الآ ثم �إال �إذا مار�س‬ ‫وعي عبثي حاد بالال جدوى‪ ،‬و�سري يف طريق البيدودة‬
‫وعيه بخطيئته‪ ،‬واعرتف بجر�أته وتطاوله‪ ،‬وعاي�ش اللحظة‬ ‫الذي ال رجوع منه على عك�س ما قد يبدو من �أنه‬
‫يف �أعلى جتلياتها الوجودية‪ ،‬جتلى الأ مل والعذاب وقلق‬ ‫ح�ضور ا�ستبدادي للأ نا !!‬
‫مواجهة فراغ احلرية ودوار العبث الالنهائي حني تنتفي‬ ‫ولعل هذه اللحظة تعد من اللحظات القليلة النادرة يف‬ ‫الزاوية ال�صوفية‪،‬‬
‫كل القوانني‪ ،‬ومنار�س وجودنا يف اخلالء اخلرب‪.‬‬ ‫حياة الإ ن�سان الفرد التي يواجه فيها اهلل‪ ،‬وميثل �أمامه‬ ‫تعترب اجل�سد عالمة‬
‫وال بد لنا من التنبه ل�شيء هام يف هذا ال�سياق‪ ،‬هو‬ ‫داخل عالقة ثنائية وا�ضحة ال�ضدية والتناق�ض‪ .‬ورغم �أن‬
‫كم االلتبا�س واملفارقة الكامنني داخل هذه اللحظة‬ ‫الإ ن�سان‪ ،‬من وجهة النظر الدينية‪ ،‬ماثل دوما �أمام اهلل‪� ،‬إال‬ ‫ودليال �شاهدا على‬
‫املعقدة للوعي حيث تت�أرجح الذات اخلاطئة ما بني‬ ‫�أن وعى الذات بذاتها‪ ،‬وخطيئتها يف تلك اللحظة يجعلها‬ ‫�صدق دعوى ال�صويف‪،‬‬
‫العذاب والأ مل الناجمني عن ارتكاب اخلطيئة‪ ،‬بل‬ ‫تعي هذا املثول وعيا مكثقا عاتيا يف وط�أته و�شدة‬ ‫وتفانيه املخل�ص يف‬
‫الفزع والرعب �إذ تواجه الذات حريتها املدمرة‪ ،‬وتقف‬ ‫ت�أثريه‪� .‬إنه الوعي بكون الذات حما�رصة بالنظرة الإ لهية‬ ‫توجهه نحو الفناء‬
‫وحيدة �أمام املطلق‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وبني اللذة والن�شوة‬ ‫املتفر�سة‪ ،‬نظرة الوعيد ب�سعري اجلحيم وعقاب الآ خرة‪،‬‬ ‫يف ربه‪ .‬حيث تغدو‬
‫املجنونة حني تغدو ممار�سة اخلطيئة والوعي بها‬ ‫وانح�سار الرحمة والعطف الإ لهي!! �إنها نظرة تتناق�ض‬ ‫عالمات التحول‬
‫م�ساحات لنمو ال�شعور الذاتي بالتفوق والإ �ستثناء‬ ‫كلية مع نظرة اخللق الأ وىل‪ ،‬نظرة املحبة وع�شق اجلمال‬
‫والتميز‪ ،‬بل ال�سعي العنيف لإ ق�صاء الكل‪ ،‬و�إعالن‬ ‫فيما ن�ص احلالج‪ ،‬ونظرة الرحمة االمتنانية ال�شمولية‬
‫والذبول والذوبان‬
‫ح�ضور �شمويل يطوي الكل داخله وينفي �أي �إمكانية‬ ‫التي اخرج اهلل بها اخللق من ح�صار العدم الإ مكاين‪ ،‬فيما‬ ‫لذلك الكيان ال�صلب‬
‫للمغايرة‪ ،‬ومن ثم لل�رصاع �أو االختالف‪ ،‬من ناحية‬ ‫ارت�أي ابن عربي‪ .‬ورغم ق�سوة النظرة الإ لهية املهلكه‬ ‫املتما�سك تعبريا عن‬
‫�أخرى‪ .‬ووفقا لالنحياز النهائي‪ ،‬يتحدد م�صري الذات‬ ‫ال�صاعقة‪ ،‬نظرة البيدودة‪� ،‬إال �أن ح�ضورا ما �أعلن عنه �إزاء‬ ‫تقدمي ال�صويف ج�سده‬
‫و�إمكانات ح�ضورها‪.‬‬ ‫الإ له‪ ،‬ح�ضورا مل يتجاهله الرب بعد‪ ،‬تطاوال مازال ي�ستحق‬ ‫قربانا على مذبح‬
‫يقول احلالج ‪-:‬‬ ‫اهتمام الرب والتفاته‪ ،‬بل غ�ضبه ووعيده‪ .‬بعبارة �أخرى‪،‬‬ ‫الع�شق الإلهي‬
‫�أريـدك ال �أريـدك للـثواب‬ ‫ورغم املردود ال�سلبي للخطيئة‪ ،‬دينيا و�أخالقيا‪� ،‬إال �أنها‬
‫ولكـنـي �أريــدك للعـقـاب‬ ‫ ‬ ‫ممار�سة قد تنطوي على �إيجابية ما‪ ،‬جتعل منها ف�ضاء‬
‫فكل م�آربي قد نلت منها‬ ‫خ�صبا وثريا‪ ،‬ولعله �رضوريا وحتميا لكي ت�ؤ�س�س الذات‬
‫�سوى ملذوذ وجدي بالعذاب‬ ‫ ‬ ‫من خالل خو�ضها فيه فرادتها ووجودها الأ �صيل‪� .‬أو كما‬
‫ثم يقول‪:‬‬ ‫يقول كريكجور �أن اخلطيئة هي �أقوى تعبري عن الوجود‬
‫كفرت بدين اهلل والكفر واجب‬ ‫لأ ن �شعورنا بها لي�س �شيئا � آخر �سوى �شعورنا العميق‬
‫لدى وعند امل�سلمني قبيح‬ ‫ ‬ ‫بوجودنا وفرديتنا‪ .‬والرجل املذنب يجد نف�سه وحيدا متاما‬
‫�إن �شيئا ما من�رسبا من احلالج يف عروق التوحيدي‪ ،‬وظال‬ ‫�أمام اهلل‪ ،‬وهو ميار�س ال�سري يف طريق الوح�شة املطلقة‪،‬‬
‫ما من �أثر م�سيحي مندرج يف ر�ؤية كليهما!‬ ‫طريق ال�شيطان‪ ،‬حيث االنف�صال ال عن اهلل‪ ،‬والذات املثال‬
‫و�إذا كانت الذات اجلاحمة ت�ؤكد ح�ضورها امل�ستقل والندى‬ ‫(العبودية املح�ضة احلقة) فح�سب‪ ،‬بل عن الآ خرين‬
‫�إزاء اهلل عرب الذنب واجلناية‪ ،‬ف�إنها كذلك ت�شعر بكونها على‬ ‫مبعايريهم الأ خالقية والدينية‪ ،‬و�رشائعهم املعلنة!!�أو لنقل‪،‬‬
‫�صلة باهلل مبقت�ضى ذلك الفعل نف�سه الذي به انف�صلت عن‬ ‫�إن االنف�صال عن احل�شد �سواء عن طريق ال�سلب �أو الإ يجاب‬
‫اهلل!! ذلك �أنه من الآ ن و�صاعدا �ستغدو قرارات الذات على‬ ‫هو بداية ال�سعي اجلموح لت�أ�سي�س الفرادة واخل�صو�صية‬
‫�صلة دائمة بالأ زيل لوعيها مبثولها اخلاطئ �أمام اهلل‪ .‬ولعل‬ ‫الذاتية‪ ،‬وحتقيق املثول احلقيقي �أمام اهلل‪ ،‬مثول الأ نا‬
‫الذات يف هذه اللحظة املزلزلة حل�ضورها النمطي وثوابتها‬ ‫املناوئة!!ورغم كون اخلطيئة متثل انتهاكا م�ستمرا لقوانني‬
‫امل�ألوفة‪ ،‬تتماهي �شعوريا مع الع�صيان الأ ول والذي كان‬ ‫الإ له ونظمه وعوامله‪ ،‬ورغم كونها انف�صاال �صارخا عن‬
‫�سببا يف الهبوط من اجلنة‪ ،‬وت�أ�سي�س احل�ضور الب�رشي‬ ‫كل هذا‪� ،‬إال �أنها �إعالن يائ�س عن الوجود‪ ،‬بل لعلها ات�صاال‬
‫�أو ال�سقوط يف قب�ضة العامل املادي العدمي‪� .‬إنها حلظة‬ ‫دائما وحميما‪ ،‬بكل ما هو �سوى الفرد اخلاطئ الآ ثم‪ ،‬حتى‬
‫‪60‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫الطرد خارج ف�ضاءات العزة والكرامة والرحمة الإ لهية‬
‫الذات بوعيها هذا تقتن�ص ذاتها من دائرة التناهي وال�ضياع‬
‫والفناء‪ ،‬بل من التجائها �إىل ذاتها اخلربة اخلاوية!! يقول‬ ‫�إىل الهوان واحل�رسة‪ ،‬حيث انح�سار ظل احلق وجوده عن‬
‫التوحيدي‪-:‬‬ ‫ذلك ال�شقي‪ ،‬ومعاناة الذل والوح�شة العارمة‪ .‬لقد ان�صاعت‬
‫«ك�أنه لي�س لك �إىل اهلل �أوبة‪� ...‬إن عدو اهلل ال ير�ضى‬ ‫الذات التوحيدية لالختيار الدينوي املبتذل‪ ،‬فطردت من‬
‫منك �إال بالبعد عن باب اهلل! و�إال بالعقوق والهوان من‬ ‫جنة اخلالن الأ ول‪ ،‬رفاق الطريق يف زمان الرباءة والأ مان‬
‫ثواب اهلل‪ ،‬و�إال باملقت واخل�رسان عند مالئكة اهلل‪� ،‬إال‬ ‫والتناغم‪ ،‬و�ألقي بها يف عامل الغربة وخ�ضم �رصاع البقاء‬
‫ب�سواد الوجه عند �أولياء اهلل‪ ...‬يا هذا كيف ا�صف لك‬ ‫الوح�شي العدمي!!‬
‫احرتاقك يف حالك وتقلبك يف معروف زمانك‪ ...‬وازدراء‬ ‫وتنطوي جتربة الذات امل�أ�ساوية العنيفة يف هذا ال�سياق‬
‫ال�صغري والكبري لك وتقزز الرفيع والو�ضيع منك»‪.‬‬ ‫على مفارقة الفتة‪ ،‬فمن ناحية‪ ،‬ت�سعى الذات القتنا�ص‬
‫وي�شكل الوعي بعمق اخلطيئة ووط�أة احل�ضور وحيدا‬ ‫ح�ضورها ومتيزها الفردي وجوديا ومعرفيا وقيميا من‬
‫موح�شا �أمام اهلل �إمكانات التوبة �أو الإ نابة والرجوع �إىل‬ ‫عمق اندراجها الغافل يف العامل الطبيعي البهيمى‪ ،‬واحل�شد‬
‫احلق وال�صواب!! �إن فعل الإ نابة هنا يوازي رمزيا فعل‬ ‫االجتماعي الغوغائي‪ ،‬بل والعالقة الدينية القانونية من‬
‫العودة لأ ح�ضان الأ لوهية ور�أب ال�صدع الوجودي معرفيا‬ ‫خالل �إعالن فرديتها املناوئة العا�صية‪ .‬ومن ناحية‬
‫وقيميا !! ذلك ال�صدع الذي جنم عن فعل اخللق!!‬ ‫ثانية‪ ،‬ت�سعى الذات لتحقيق �إن�سانيتها احلرة الأ �صيلة‬
‫يقول الق�شريي‪-:‬‬ ‫بو�صفها خملوقة على ال�صورة الإ لهية‪ ،‬وال يتحقق اكتمالها‬
‫«قال ذو النون‪-:‬‬ ‫الوجودي واملعريف واخلالق �إال ببزوغ هذه ال�صورة عرب‬
‫حقيقة التوبة �أن ت�ضيق عليك الأ ر�ض مبا رحبت حتى‬ ‫مراياها‪� .‬إنها ال�صورة التي تزين هذا احل�ضور الإ ن�ساين‬
‫تكون لك قرار؟ ثم ت�ضيق عليك نف�سك‪ ...‬الملج أ� من‬ ‫بزينة العبودية املح�ضة للمعبود‪ ،‬ولي�س �إدعاء الطغيان‬
‫اهلل �إال �إليه»‬ ‫والندية الربوبية �إزاء اهلل !! �أو كما يقول التوحيدي‪-:‬‬
‫و�إذا كانت التوبة ت�ستدعي للأ ذهان توبة �أدم التي �أورثها‬ ‫«�ألوهية �شائقة وعبودية الئقة(‪ ...‬يا هذا‪ :‬زين حقيقتك‬
‫ذريته‪ ،‬فيما يت�صور �أبو حف�ص نقال عن الق�شريي‪ ،‬ف�إن‬ ‫باحلق‪ . . ...‬يا هذا‪� ...‬أقم حدود العبودية ب�آداب النف�س‪،‬‬
‫التوبة هنا هي توبة ال عن الذنب �أو اخلطيئة‪ ،‬لكنها توبة‬ ‫ثم متن درجات اخل�صو�صية حلالوات الأ ن�س‪ ...‬وخف‬
‫عن ح�ضور الأ نا و�إعالنها فرديتها املناوئة يف وجه احلق!‬ ‫من حال تكون بها م�ستدرجا ف�إن هلل �أ�رسارا يف غيوبه‪...‬‬
‫�أو كما يقول احلالج‪-:‬‬ ‫تفرد‪ ...‬و�أقام كل من �سواه على درجة العاجز الناق�ص‪،‬‬
‫«بيني وبينك �إين ينازعنيفارفع بلطفك �إين من البني»‬ ‫ليكون وحده �إلها بالكمال‪ ،‬ويكون غريه خلقا على‬
‫وهكذا‪ ،‬ف�إن م�ساحات الغفران والت�سامح الإ لهي هنا‪،‬‬ ‫اختالف احلال بعد احلال»‬
‫والتي ال تكت�سب م�صداقية ح�ضورها وعظمتها �إال عرب‬ ‫وهكذا‪ ،‬ال تطاول �أو جتاوز للعبد داخل م�ساحات الكمال‬
‫خطيئة �إن�سانية وجتاوز عظيم التطرف والبغي لن تغدو‬ ‫الإ لهي‪ ،‬لكن حتري�ضا ما منبثا داخل هذه التحذيرات من‬
‫م�ساحات الغفران ال�رشعي الربوبي للعبد العا�صي!! �أو‬ ‫مكر اهلل!! بل �إن العبور من حالة الغفلة واال�ستالب الدنيوي‬
‫ميكننا القول ب�أنها �ستغدو م�ساحات لغفران العا�شق‬ ‫�إىل حالة الإ ن�سانية املكتملة بال�صفات الإ لهية‪ ،‬والعبودية‬
‫للمع�شوق‪ ،‬وت�ساحمه الربح!! وهو ما يعني عبور البينونة‬ ‫املح�ضة‪ ،‬ال يتم �إال عرب مطهر الذنب واجلناية‪ ،‬جناية‬
‫الإ لهية الإ ن�سانية‪ ،‬والقرار بل التماهي يف ف�ضاء الغبطة‬ ‫�إعالن الربوبية التي تتبلور عرب ندية ارتكاب املع�صية‬
‫الأ زلية فيما يطلق عليه التوحيدي‪ ،‬حيث يقول‪-:‬‬ ‫هللّ‪.‬‬
‫و�إعالن التمرد يف وجه ا ّ‬
‫«الغبطة هي املطلوب لك‪ ،‬واملرادة بك‪ ...‬الغبطة يف‬ ‫ان وعى الذات بخطيئتها هو ما يك�سب هذه اخلطيئة‬
‫النجوة من هذه الدار‪� ...‬إىل حمل جتد فيه النعيم‬ ‫طبيعتها املناوئة ومغزاها التمردي‪ ،‬وهو ما يجعل الذات‬
‫�صافيا‪ ،‬واحلق باديا‪ ،‬حيث املوىل يدنيك حل�رضته‬ ‫حتقق ح�ضورها يف ب�ؤرة النظرة الإ لهية وعمقها!! انها‬
‫فتتنعم‪ ...‬اليلتهب‪ . .‬يف �صدرك نف�س‪ ،‬وال يخمد بني‬ ‫حالة مناق�ضة حلالة الغافل اخلاطئ ال�ساقط من عني‬
‫يديك قب�س!!»‬ ‫اهلل بل انها ا�سرتداد للذات من وهدة ال�سقوط والالمباالة‬
‫ومن ثم‪ ،‬لعل العبور للقدا�سة يتحقق يف �أغلب الأ حيان عرب‬ ‫الإ لهية‪� .‬إن الوعي باخلطيئة بو�صفها ع�صيانا مناوئا‬
‫ارتكاب املع�صية اخلارقة للنامو�س الإ لهي!! مرياث �إن�ساين‬ ‫للإ له و�رشائعه ينت�شل الذات من ممار�سة ح�ضورها و�إنيتها‬
‫�أ�سطوري قدمي ت�رسب للر�ؤية ال�صوفية الإ �سالمية!!‬ ‫وحريتها ب�صورة عدمية تلتهم وجودها وتورثها �إح�سا�سا‬
‫و�إذا كان ارتكاب الذنب �أو اخلطيئة يف �سياق الغفلة �أو‬ ‫�شقيا بكونها ملقاة وحيدة مهملة يف هذا العامل !! �أي �أن‬
‫‪61‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�إذا كانت اخلطيئة تعني االنف�صال والفردية‪ ،‬ف�إن الندم‬ ‫الغياب املعريف هو قتل للذات الإ ن�سانية احلقة الراقية‪،‬‬
‫والأ �سف‪ ،‬النوح والبكاء والعويل‪� ،‬أو التوبة والتفكري‪ ،‬يعيد‬ ‫وا�ستالب عارم لوجودها‪ ،‬ف�إن الوعي بهذا الفعل هو حلظة‬
‫الذات �إىل حظرية الآ خرمب�ستوياته املختلفة‪� ،‬إىل حظرية‬ ‫�إعالن م�أمت هذه الذات العليا‪� .‬أو بعبارة �أخرى‪ ،‬يظل ال�شعور‬
‫امل�شاركة‪� .‬أو لنقل �أن العلنية التي متار�س هنا عرب الندم‬ ‫امل�ؤ�سي بفداحة الذنب وعمق كارثة الفقد الذاتي م�ضمرا‬
‫ال�صاخب هي ح�ضور �أمام الآ خر الن�سبي واملطلق يف � آن‬ ‫خمتفيا من مرايا الوعي‪ ،‬يغلى به الداخل وميور‪ ،‬لكنه يقمع‬
‫!! ورغم �أن الذات ت�سعى لتدمري احل�ضور الذاتي يف هذا‬ ‫دوما يف ظل �سطوة الذات الدنيوية وطغيانها‪ ،‬وخمايالتها‬
‫الف�ضاء الدنيوي‪� ،‬إال �أن فعل االعرتاف العلني بالذنب‬ ‫الوهمية بال�سعادة واللذة!! ومع انتباهه الوعي يفور ال�شعور‬
‫واجلناية والندم عليه قد ي�ؤدي لنتيجة عك�سية �أي �أنه قد‬ ‫امل�ؤ�سى بالذنب والندم والإ حباط ثائرا م�سفرا عن ق�سوته‬
‫يعيد ت�أ�سي�س ح�ضور الذات و�سطوتها يف �إطار �أكرث فاعلية‬ ‫وحدته‪ ،‬معمقا الإ ح�سا�س بال�شقاء واالنف�صام الذاتي‪ ،‬بل‬
‫وت�أثريا وهيمنة هو �إطار التائب العائد ممتلك �إمكانات‬ ‫يدفع الذات �إىل معاناة جتربة الفقد معاناة �صاخبة‪ ،‬ومن‬
‫القدا�سة‪ .‬ولعل ممار�سات جماعات البكائني يف الب�رصة‬ ‫ثم النوح عليها‪ ،‬والغرق يف بكاء عارم تكفريا عن اخلطيئة‬ ‫التناق�ض ال�صويف‬
‫والكوفة بعد مقتل احل�سني لي�ست بعيدة عن هذا ال�سياق‪،‬‬ ‫وتطهر منها!!‬ ‫ما بني الرغبة‬
‫فلي�ست امل�س�ألة حم�ض حترر من عقدة الذنب‪ ،‬بل �إنها قد‬ ‫�إن النوح والبكاء على املفقود هو �شكل من �أ�شكال ا�ستثارة‬ ‫يف تدمري اجل�سد‬
‫تكون م�ساحة ل�سطوة الذات على الآ خرين ب�صورة مراوغة!!‬ ‫واحلنني اجلارف للذات املفقودة!! بل �إنه حماولة لإ حياء‬ ‫والإبقاء عليه �أن تلك‬
‫فاالعرتاف العلنى والندم قد يكون يف بع�ض الأ حيان‬ ‫وبعث هذا املفقود على م�ستوى الذاكرة بو�صفها حالة‬
‫خدعة ال واعية متار�سها الذات �ضد ذاتها و�ضد الآ خرين‪،‬‬ ‫خالقة متجددة �سعيا لتحقيق الكينونة وجتاوز حالة‬ ‫ال�شكوى لي�ست ت�أملا‬
‫فبينما تلقي عب أ� الذنب على كاهل الآ خر املعرتف له‪،‬‬ ‫ال�سقوط والت�شظي الذاتي!!‬ ‫�صرفا‪ � ،‬إمنا هي �أمل‬
‫وحترر من ثقله‪ ،‬ت�ؤ�س�س �سطوتها و�سيطرتها وجدانيا‬ ‫يقول التوحيدي‪-:‬‬ ‫تتخلله اللذة‪ ،‬ولذة‬
‫و�شعوريا عرب م�ساحات الرثاء والعطف واالنبهار ب�شجاعة‬ ‫«ياهذا‪� ...‬إن وجدت بني �رسك وعالنيتك نفرة ال�شك‪،‬‬ ‫حمكومة بالأ مل‪،‬‬
‫املعرتف والتفاعل مع موقفه الرتاجيدي البطويل‪ ،‬حيث‬ ‫ووح�شة الظن‪ ...‬وك�آبة الي�أ�س‪ ...‬فاعلم �أنك مطرود من‬
‫يغدو مر� آة للآ خر كا�شفة لعذاباته وغواياته‪ .‬ولعلها تتحرر‪،‬‬ ‫الباب‪ ...‬حينئذ وكل عينك بالدموع‪ ...‬و�ألهج بالندم‬
‫وبهذا فهي فعل‬
‫وحترره معها من ثقل مفهوم الذنب‪ ،‬وتفتح له م�ساحات‬ ‫على غاية الولوع‪� ... ... ...‬شوق مالهبة ال تخمد‪ ،‬ووجد‬ ‫ي�ضايف بني اللذة‬
‫التوبة‪ ،‬لكنها تورطه �أكرث ف�أكرث يف انبهاره بها و�سقوطه‬ ‫بك غالئله ال تربد وت�سليم لك من ف�ضلك ال يجحد‪،‬‬ ‫والأ مل ويجمعهما‬
‫حتت �سطوتها الطاغية و�سحرها املقد�س!! �إن فعل الندم‬ ‫وتلذذ بذكرك ال يالم امل�ستهام عليه‪ ...‬وهيماين عليك‬ ‫معا‬
‫ال�صاخب هنا ي�ؤ�س�س ملركزية الذات بو�صفها مركزية‬ ‫فيك لأ ن البينونة بيني وبينك �ساقطة‪ ،‬والكينونة يل‬
‫كونية تولد قدا�ستها من عمق جنايتها وتطاولها على‬ ‫بك»‬
‫املطلق!!‬ ‫وميكننا القول ب�أن هذا النوح والبكاء هو �شكل من �أ�شكال‬
‫ويثري انتباهنا �أحد ن�صو�ص التوحيدي حول بكاء الذات‬ ‫الإ عالن ال�صاخب عن الندم‪ ،‬وهو �إعالن �أمام �شهود عيان‬
‫على ذاتها املفقودة‪� ،‬إذا يقول‪-:‬‬ ‫ال الآ خر املطلق فح�سب‪ ،‬بل �أمام كافة جتلياته الكونية‬
‫«يا هذا‪�:‬إن كنت ثاكال فنح على ما �أ�صبت به‪ ...‬يا هذا‬ ‫اجلزئية!! ومن ثم كان احلديث عن ملأ الدنيا �رصاخا‬
‫‪�:‬إذا كان من يفقد غريه فيعذر وي�سمى ثاكال‪ ،‬فما تقول‬ ‫ولطما‪ ،‬وا�ستدعاء النواحني للم�شاركة يف نعي الذات‪� . .‬إلخ‪،‬‬
‫فيمن فقد نف�سه‪ ،‬هذا واهلل �أحق بالبكاء‪ ،‬و�إذا بكي الأ ول‬ ‫يقول التوحيدي‪.‬‬
‫دمعا‪ ،‬فالأ وجب �أن يبكي الثاين دما»‬ ‫«يا هذا لو علمت ما قد ح�صل بك‪ ...‬مللأ ت الدنيا �رصاخا‬
‫يثري هذا الن�ص العديد من الت�سا�ؤالت‪ ،‬فمثال ما داللة‬ ‫على نف�سك و�س�ألت النواحني �أن ي�سعدوك بالبكاء على‬
‫ا�ستخدام لفظة الثكل يف هذا ال�سياق‪ ،‬وهو يعني‬ ‫ما فاتك‪� .‬أي م�صيبة �أعظم من م�صيبتك؟ ياهذا‪ :‬فتنت‬
‫لغويا ثكل الأ م لوليدها؟ ترى هل لهذه الداللة ارتباط‬ ‫بهذه الزينة احلائلة وذهبت مع هذه العاجلة الزائلة»‬
‫بت�صور التوحيدي لعالقة الذات الإ ن�سانية ككل بروحها‬ ‫فا�سكب الآن دموعك على هذه احلال‪ ...‬ف�إن الدموع‬
‫الراقية(ن�سبها الإ لهي)؟ حيث تغدو هذه الروح كاجلنني‬ ‫املنحدرة على هذه اخلدود الن�رضة �شفاء للأ كباد‬
‫املنطوي يف رحم الذات من حيث (متامها الوجودي)‪� ،‬أي‬ ‫املحرتقة بالندامة والأ �سف‪ ...‬فهلم حتى نت�شاكي‬
‫خلقتها املتكاملة‪ ،‬والذي يتحقق بكامل ح�ضوره ويولد‬ ‫ونتباكي‪ ...‬فقد �رصنا �إىل حد العطب‪ ...‬وانتهينا �إىل‬
‫جميال بهيا حينما تتجاوز الذات م�أزق �سقوطها الوجودي‪،‬‬ ‫حرمي الي�أ�س وعر�ضة القنوط‪ ...‬حني كان الذنب كله‬
‫وغفلتها الدنيوية‪ ،‬وتتحلي بال�صفات الإ لهية‪ ،‬فتتجلي‬ ‫لنا‪ ،‬وحتى ك�أنا �شقينا بنا‪ ،‬وحرمنا منا»‪.‬‬
‫‪62‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قوله �سالف الذكر ف�إن (الدموع املنحدرة على هذه اخلدود‬ ‫الروح بزينتها على الكون معلنة حياة الذات احلقة!!‬
‫الن�رضة �شفاء للأ كباد املحرتقة بالندامة والأ �سف)‪.‬‬ ‫�أو كما يقول التوحيدي‪:‬‬
‫و�أول ما يثري االنتباه يف هذه ال�صورة اجلميلة املركبة‬ ‫«ال �سبيل لك‪� ...‬إال برف�ض الرذائل كلها‪ :‬قليلها وكثريها‪،‬‬
‫هو ذلك االقرتان بني الدموع (املاء ال�ساخن املتدفق من‬ ‫وحتلي بالف�ضائل ب�أ�رسها‪ :‬دقيقها وجليلها‪ .‬وهذه‬
‫العني عرب فعل البكاء) من ناحية‪ ،‬والأ كباد املحرتقة‬ ‫�صورة �إلهية متى حركت نف�سك �إليها‪ ،‬وجلبت بزينتها‪،‬‬
‫بالنريان الداخلية‪ ،‬نريان الندم والأ �سى والأ �سف‪ .‬ويقدم‬ ‫وبرزت ببهجتها‪ ،‬زارتك مالئكة ال�سماء بالتحية بعد‬
‫لنا �أحد الباحثني حتليال الفتا لهذه العالقة نعتمده يف‬ ‫التحية‪ ،‬و�أهدت �إليك العطية بعد العطية‪ ،‬وكرمت بني‬
‫هذا ال�سياق يرى الباحث وفيق �سليطني يف كتابه ال�شعر‬ ‫الربية‪ .‬و�رصت �إذا دعوت �أجبت‪ ،‬و�إذا متنيت �أ�صبت‪،‬‬
‫ال�صويف‪� ،‬أن الدموع(املاء) ت�ؤثر يف النار الداخلية التي‬ ‫و�إذا توهمت حققت‪ ،‬و�إذا �أوم�أت اكتفيت‪ ،‬و�إذا �أ�رشت‬
‫نتج عنها احرتاق الأ كباد وت�سهم يف التخفيف من قوة‬ ‫بلغت‪ ،‬و�إذا قلت كان قولك م�سموعا‪ ...‬و�سعيك م�شكورا‬
‫ا�شتعالها بحيث ال ي�ؤدي فعلها احلارق �إىل التدمري‬ ‫وعملك مربورا»‪.‬‬
‫الكلي للذات و�سلب وجودها‪ ،‬ومن ثم فهي ت�شفي الأ كباد‬ ‫�أما �إذا ا�ست�سلمت الذات لغفلتها‪ ،‬وغا�صت يف اختيار الدنيوي‬
‫املحرتقة وتنزل عليها بردا و�سالما من �أثر النار احلارقة‪.‬‬ ‫ال�سفلي‪ ,‬مات جنينها داخلها‪ ،‬وعا�شت ك�أم ثكلى ال تعي‬
‫ويف نف�س الوقت‪ ،‬ف�إن النار ت�ؤثر يف الدمع‪� ،‬إذ‪� ،‬أنها يف‬ ‫حجم م�صيبتها بو�صفها �أ�ضحت قربا مظلما لوليدها الذي‬
‫الوالدة الروحية‬ ‫�إتقادها جتففه وجتفف من حدة �إراقته وهدره يف اخلارج‬ ‫فقد قبل �أو يوجد‪ ،‬و�إذا تفيق الذات على وعيها بالكارثة‬
‫للعارف تتحقق‬ ‫وبذلك حتفظ للذات قدرا من وجودها اخلا�ص‪ ،‬ومن ثم ف�إن‬ ‫تبد�أ النوح والبكاء على فقيدها املحتوى داخلها‪ ،‬والذي ال‬
‫عرب تدمري‬ ‫هذا التفاعل بني النقي�ضني(املاء‪/‬النار) يحقق التجدد‬ ‫�سبيل �إىل لفظه خارجها‪ ،‬و�إال لفظت وجودها ذاته‪.‬‬
‫الذات الدنيوية‬ ‫واحليوية واال�ستمرارية اخل�صبة ملعاي�شة حلظة النوح‬ ‫ولعل احلديث عن البكاء دما يثري بدوره الت�سا�ؤل‪ .‬ترى هل‬
‫واحتياجاتها‬ ‫والبكاء على الذات املفقودة‪ .‬ويف الوقت نف�سه يهدف �إىل‬ ‫يومئ من طرف خفي �إىل �رضورة �إراقة دم الذات الدنيا‬
‫تقلي�ص فاعلية كل من النقي�ضني حيث ميت�ص كل منهما‬ ‫القاتلة بو�صفه الفداء الواجب تقدميه عو�ضا عن الفقد‬
‫مبعنى � إخ�ضاعها‬ ‫طاقة الآ خر‪ ،‬وال ي�سمح له بال�سري �إىل مداه الأ ق�صى فيحطم‬ ‫املريع للذات الوليدة الراقية‪ .‬خا�صة‪� ،‬أن الدم ينطوي على‬
‫املطلق لهيمنة‬ ‫الذات حتطيما كليا �سواء عرب االحرتاق‪ .‬الكلي بنار احلزن‬ ‫داللته املزدوجة‪ ،‬فهو‪ ،‬و�إن حوي معنى اجلرح واملوت‬
‫الروح‪ ،‬ف� إن‬ ‫الداخلي‪� ،‬أو الغرق الكامل يف طوفان الدموع امل�سكوبة‬ ‫والإ راقة‪ ،‬ف�إنه يحوي معنى احلياة وا�سرتداد الوجود!!‬
‫الوالدة الطبيعية‬ ‫املنحدر عالمة احلزن اخلارجي‪.‬‬ ‫ناهيك عن خروجه املجازي من العني (ذلك ال�شق ال�صغري‬
‫غري �أن املاء والنار هما من �شارات الباطن احلي الذي‬ ‫كاجلرح يف وجه الإ ن�سان) الذي ي�صل‪ ،‬ويف�صل يف � آن بني‬
‫تتحقق عرب‬ ‫ي�صدران عنه‪ ،‬ومن ثم فهما مرتبطان بالباطن الذاتي‪ ،‬ولذا‬ ‫ظلمة الباطن‪ ،‬وكمونه‪ ،‬وما بني ا�ستنارة اخلارج و�سفوره!!‬
‫�شبحية الكيان‬ ‫فهما يتهيجان بفعل احلنني �إليه‪ ،‬احلنني لذاتها الباطنية‬ ‫ترى هل خروج الدم من العني اجلرح عرب البكاء هنا هو‬
‫ال�صويف دون‬ ‫املفقودة‪ ،‬وحركتهما هي تفعيل للباطن وت�أ�سي�س له على‬ ‫خروج للفا�سد املطمور �أو للموت من داخل الروح �إىل‬
‫الق�ضاء عليه!!‬ ‫ح�ساب الظاهر‪� .‬أو تدمري الظاهر اجل�سدي حل�ساب الباطن‬ ‫اخلارج ومن ثم فهو لي�س تنفي�سا عن كربها فح�سب‪ ،‬بل‬
‫الروحي عرب االحرتاق والإ غراق!!‬ ‫�سعيا اللتئام اجلرح؟! مل تعد العني نبعا للمياه ال�ساخنة‬
‫�إن الداللة التدمريية لكل من املاء والنار هنا تنطوي على‬ ‫املنبثقة من عمق الذات‪ ،‬لكنها غدت نبعا للدماء احلارة‬
‫نقي�ضها التطهريي حيث �أن التدمري يعني حرق �أدران‬ ‫تغت�سل عربه نظرة الذات اجلريحة متطهرة من كدر احل�سي‬
‫الذات الدنيوية و�شهواتها (ولذا اختار الأ كباد)‪ ،‬واالغت�سال‬ ‫وكرثته امل�ضللة‪ .‬وتغم�ض العني �أو يكف تفجر الدماء‬
‫من خطاياها وذنوبها‪.‬‬ ‫من النبع حني يلتئم اجلرح فيظلم الب�رص لت�ضئ �أنوار‬
‫ومن عمق الداللة التطهريية لكل من املاء والنار هنا‬ ‫الب�صرية‪ ،‬وت�صفو مراياها‪ ،‬ويتوجه النظر �إىل الداخل‬
‫تنبثق داللة احلياة فها هي النار تن�ضج الأ كباد‪ ،‬وها هي‬ ‫اكت�شاف لإ مكانات احلياة ال املوت يف نبع الدم احلار‪ ،‬نبع‬
‫الدموع تنحدر �سيال حيا على اخلدود الن�رضة حتوي داللة‬ ‫الوجود‪ ،‬بحثا عن حقيقة الروح مر� آة حلقيقة اهلل‪� ،‬أو عني‬
‫اخل�صوبة والن�ضارة واجلمال والنماء‪ ،‬بل لعلها حتمل دفء‬ ‫العني‪ ،‬م�صا�ص التوحيد!!�إنه ميالد النظرة من الدم‪ ،‬نظرة‬
‫الداخل �إىل تلك العيون املوح�شة عاك�سة �صفاءه وحميميته‬ ‫ت�سرتد وحدة الوجود �إذ ترتد خلالقها‪ ،‬فرت�أب �صدع الوجود‬
‫يف مراياها‪ ،‬مزيلة غ�شاوة و�صد�أ الوح�شة‪ ،‬م�شيعة حالة‬ ‫الناجم عن نظرة اخللق الأ وىل!!‬
‫من الإ ن�س مبعنى احلياة بو�صفها تيارا متدفقا من الأ مان‬ ‫ويجدر بنا هنا �أن نتوقف عند تلك العالقة املعقدة بني‬
‫والراحة الوارفة وطم�أنينة اخللود الفردو�سي!!‬ ‫الدموع املنحدرة‪ ،‬واخلدود الن�رضة‪ ،‬والأ كباد املحرتقة يف‬
‫‪63‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫� آفة‪� ،‬أي �إىل الدار العلوية مير من خالل نفي الذات خارج‬ ‫وال يكفي فعل البكاء والنوح بكل ما ينطوي عليه من‬
‫الف�ضاء الإ ن�ساين بو�صفه ف�ضاء اجتماعيا باملقام الأ ول‪.‬‬ ‫دالالت رمزية واحدة لإ عادة بعث الذات الراقية بعد‬
‫بل �إن م�س�ألة تدمري اجل�سد و�صهره يف �أتون التجربة‬ ‫موتها‪� ،‬إن مل يدعم بال�سلوك الفعلي ذي الطابع االنتقامي‬
‫ال�صوفية تتم من خالل الت�صور ال�صويف للج�سد بو�صفه‬ ‫الت�أديبي‪ ،‬حينئذ تكتمل حلظة معاي�شة الأ مل‪ ،‬خما�ض ميالد‬
‫امتدادا للكيان االجتماعي‪ .‬ومن ثم ف�إن االنقطاع والعزلة‬ ‫الذات العليا‪ ،‬بذورتها احلقة‪ ،‬يقول التوحيدي‪:‬‬
‫عن االجتماعي تتطلب تقوي�ض �أركان وجوده املختزن يف‬ ‫«يا هذا‪ ...‬نح على نف�سك نوح الثكول‪ ،‬وكا�شفها‬
‫الذات‪� ،‬أي �أن الإ طاحة بحاجز الوجود اجل�سدي هي تقوي�ض‬ ‫مكا�شفة الن�صوح العقول‪ ،‬وافتتح �أمرها ب�أن تفطمها‬
‫رمزي للكيان االجتماعي‪ ،‬واقتالع للأ نانية عرب تدمري‬ ‫عن عادتها‪ ،‬وتكظمها على جر�أتها‪ ...‬ف�إذا �رصخت‬
‫احتياجاتها اجل�سدية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ف�إن العنف الذي كان من‬ ‫عليك فا�ضحة لك‪ ،‬ف�إمتهنها �صائنا لها‪ ،‬وذللها‪ ...‬وخذ‬
‫املفرت�ض توجيهه نحو املجتمع �ستوجهه الذات نحو ذاتها‬ ‫حقيقتك بال�صرب ف�إنه ملح حال‪ ،‬وال ظفر ملن �صرب‬
‫اجل�سدية دافعة �إياها �إىل التفتت واالنحالل‪ ،‬متحررة من‬ ‫له‪ ،‬وال جناة ملن ال �أناة معه‪ ...‬ياهذا ‪ :‬ال�سعيد من‪...‬‬ ‫ي ؤ��س�س اجل�سد‬
‫�إعاقتها �إياها عن التوا�صل مع ذاتها احلقة مر� آة ربها!!‬ ‫تلذذ بالفقر‪ ...‬ووجد بالعدم‪ ...‬وحي باملوت‪ ...‬يا هذا‪. .‬‬ ‫ال�صويف �سطوته‬
‫غري �أن ما يلفتنا يف هذا التجربة هو ذلك التناق�ض اخلفي‬ ‫�إن م�ضغ احلنظل احلوايل على ب�سالته ومرارته قليل‬ ‫املقد�سة من حيث‬
‫ما بني الرغبة ال�صوفية امللحة يف تدمري اجل�سد‪ ،‬وما بني‬ ‫يف طلب الدار العلوية‪ ،‬والنوم يف املزابل‪ ،‬وجماورة‬ ‫ما ينفي وجوده‪،‬‬
‫�أهميته و�رضورة الإ بقاء عليه وميكننا فهم هذا التناق�ص‬ ‫الكالب �سهل مع امل�صري �إذا كان حيث ال مر�ض‪...‬‬
‫من عدة وجوه �أو زوايا‪.‬‬ ‫وال � آفة‪ ،‬وال عاهة‪ ،‬بل االنتحار‪ ...‬وزهق الروح هني‬ ‫وح�ضوره املادي‬
‫�أوال‪ :‬الزاوية ال�رشعية‪ ،‬والتي اهتم بها ال�صوفية‪ ،‬خا�صة‬ ‫�إذا كان ذلك طريقا �إىل اهلل الذي هو مالك الأ ولني‬ ‫الواقعي‪ ،‬واملعياري‬
‫ه�ؤالء الذين �سعوا للم�صاحلة بني الت�صوف‪ ،‬و�أهل ال�سنة‪،‬‬ ‫والآخرين‪ ...‬ياهذا‪ ...‬ما و�صل الوا�صلون �إال بنزع الروح‪،‬‬ ‫طبيعيا وعقليا!!‬
‫بعد كارثة احلالج‪ ،‬ومنهم ال�رساج والق�شريي والغزايل‬ ‫وقلع ال�رض�س‪ ،‬واحرتاق ال�صفة‪ ،‬وتبدل ال�سمة‪ ،‬وجترع‬
‫الذي بلور هذه الزاوية ال�رشعية يف �شكلها النا�ضج!!‬ ‫العلقم ومعانقة البالء‪ ،‬وللتجايف عن املهاد الوثري‪،‬‬
‫وتتلخ�ص هذه الت�صورات يف ت�أكيد �أن تدمري الكيان‬ ‫والتقلب على �أحل�سك النابت‪� ...‬صحبة امللوك ال تنال‬
‫اجل�سدي الإ ن�سانى يعني تدمري التواجد ال�رشعي له‪ ،‬مبعنى‬ ‫�إال باجرتاح العلقم والوجه متهلل‪ ،‬و�إال ب�رشب ال�سم‬
‫قدرته على القيام بحقوق اهلل وواجباته وعباداته ومن ثم‬ ‫والوجه ال�ضاحك‪� ،‬إال بنحر النف�س والقلب طيب‪ ،‬و�إال‬
‫ف�إن اجل�سد هو �أداة ال�صويف وو�سيلته الأ �سا�سية للتقرب‬ ‫بتحمل البالء والت�سليم واقع‪� .‬أما تعلم �إن من تلذذ‬
‫العبودي �إىل اهلل‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك‪ ،‬اعتبار تدمري اجل�سد اعتداء‬ ‫بالبلوى قرب فرجه»‪.‬‬
‫على خلقة اهلل الذي ال حق لأ حد يف تدمريها �إال �صاحبها‬ ‫و�أول ما يثري انتباهنا يف هذا الن�ص هو ذلك الإ ذالل‬
‫وبارئها‪ ،‬ومن ثم فهو �أمر يدخل يف اطار املع�صية وهي‬ ‫الذي ت�سعى الذات العليا ملمار�سته على ذاتها الدنيا كي‬
‫الر�ؤية التي �سيطورها ابن عربي فيما بعد‪ ،‬لكن من زاوية‬ ‫ما تق�ضي على مناوءتها �إياها‪ ،‬ومتردها عليها‪ ،‬فتكبح‬
‫جمالية الطابع �إذ ي�صبح اجل�سد جملى جمايل �إبداعي للذات‬ ‫جموحها‪ ،‬وحتطم غرورها وكربياءها الأ جوف‪ ،‬وتقو�ض‬
‫الإ لهية‪ .‬وقد ناق�ش التوحيدي هذه امل�س�ألة تف�صيال يف‬ ‫�سلطتها و�سطوتها!! وهو الأ مر الذي يبد�أ من فطامها عما‬
‫مقاب�ساته حني كان يناق�ش م�س�ألة االنتحار عموما‪ ،‬م�ؤكدا‬ ‫�ألفت من عادات خمتلفة‪ ،‬وطرائق للحياة مبعنى �إجبارها‬
‫اجتماع العقل والوحي والبديهة والعادة القائمة على كون‬ ‫على اال�ستغناء الق�رسى عنها‪ ،‬ومن ثم تدمري ذاتها الدنيوية‬
‫هذا الفعل فاح�ش ومكروه لأ نه يعتدي على اخلالق وملكه‪،‬‬ ‫املرتفة ب�شقيها احل�سي واملعنوي بكل �أ�شكالها ودرجاتها‬
‫�أو كما يقول ‪:‬‬ ‫املتفاوتة‪� ،‬إنه ما يعني يف نهاية الأ مر تدمري اجل�سد ذاته‬
‫«ال يجب �أن يفرق الإ ن�سان بني هذه الأ جزاء امللتحمة‬ ‫حتى يذوب وينحل وحتول �سماته‪ ،‬ويغدو كال�شبح‪ ،‬بل قد‬
‫والأ ع�ضاء امللتئمة ولي�س هو رابطها‪ ،‬وال هو على‬ ‫ي�صل الأ مر �إىل حد االنتحار و�إزهاق الروح بو�صفه ثمنا‬
‫احلقيقة مالكها‪ ،‬بل هو �ساكن يف هذا الهيكل ملن‬ ‫زهيدا للتوا�صل مع الأ �صول الإ لهية مرة �أخرى‪ .‬وبالطبع‪،‬‬
‫�أ�سكنه فيه‪ ،‬وجعل عليه‪ ...‬عمارة امل�سكن وحفظه‬ ‫ف�إن الت�صعيد هنا ت�صعيد جمازي الطبع ي�شري �إىل ذلك‬
‫وتنقيته و�إ�صالحه وت�رصيفه على ما يعينه على طلب‬ ‫النوع من املوت االختياري الذي �سيطلق عليه ال�صوفية‪،‬‬
‫ال�سعادة يف العاجل والآجل؟!‬ ‫وخا�صة ابن عربي فيما بعد (املوت الأ حمر) �أو خمالفة‬
‫ثانيا‪ :‬الزاوية ال�صوفية‪ ،‬والتي تعترب اجل�سد عالمة ودليال‬ ‫النف�س يف �أغرا�ضها �أي ذبحها!!‬
‫�شاهدا على �صدق دعوى ال�صويف‪ ،‬وتفانيه املخل�ص يف‬ ‫ولعلنا نالحظ �أن العبور �إىل حيث ال مر�ض وال عاهة وال‬
‫‪64‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سطوة اجل�سد وغروره وح�ضوره املت�أبي على التال�شي‬ ‫توجهه نحو الفناء يف ربه‪ .‬حيث تغدو عالمات التحول‬
‫واالختفاء‪ .‬بل �أن هذا الوعي املتجدد ب�شبحية اجل�سد‪،‬‬ ‫والذبول والذوبان لذلك الكيان ال�صلب املتما�سك تعبريا‬
‫واملوازي لفعل �إذابته و�إ�ضنائه و�إنهاكه‪ ،‬هو وعى متجدد‬ ‫عن تقدمي ال�صويف ج�سده قربانا على مذبح الع�شق الإ لهي‬
‫بالإ مداد الإ لهي الوجودي واملعريف‪ ،‬ومعاي�ش له‪ .‬كما �أنه‬ ‫ولعلنا نالحظ �أن ا�ستخدام �أو�صاف الذبول والتحول‬
‫يدفع الذات �إىل مزيد من فعل الإ نهاك والتال�شي للج�سد‪،‬‬ ‫والوهن والذوبان وحتول ال�سمات �إلخ‪� ،‬أو�صاف تنطوي‬
‫وهو فعل يحوي مقاومته النقي�ضة داخله‪ ،‬والتي حتول‬ ‫على ا�ستمرارية متجددة ال تتحقق بنهايتها املطلقة‪ ،‬وهي‬
‫دون التدمري الكلى للج�سد‪ .‬حينئذ ي�صبح اجل�سد ال�شبحي‬ ‫التدمري الفعلي الكامل للج�سد‪ .‬يقول التوحيدي‪:‬‬
‫�سعيا ناق�صا دوما نحو االكتمال با�ستعادة �شفافيته‬ ‫«وذوب ج�سم‪ ...‬وت�صعد نف�س‪ ،‬وانهمال دمع‪ ...‬وا�ستحالة‬
‫وا�ستنارته الأ �صلية مرة �أخرى من خالل ا�ستنارة الروح‬ ‫�سحنة‪ ...‬و�شوق يوهن �أركان اجل�سد‪ ...‬فاعطف رحمك‬
‫�أو الداخل عرب الك�شوف الإ لهية املعرفية املتجددة‪ .‬عندما‬ ‫اهلل‪-‬على �شبح قد حتكم فيه البلوى‪ ،‬و�أقام بني احلياة‬
‫ي�ستنري ذلك الكيان ال�شبحي اجل�سدي يغدو �صورة مر� آوية‪،‬‬ ‫والردى‪ ،‬ال يذوق �أحدهما على متامه»‪.‬‬
‫جملي ودليل و�إ�شارة‪ ،‬بل براحا ت�أويليا منطويا على معاين‬ ‫ولعل هذا احلر�ص على ا�ستخدام �صيغة امل�صدر‪ ،‬والأ فعال‬
‫الغيبي بكل كثافتها وخ�صوبتها وتنوعها الالنهائي‬ ‫امل�ضارعة يربز لنا تلك اال�ستمرارية املتجددة �أو تلك‬
‫وبالطبع ف�إن التحقق الكامل باحلياة النورية الروحية‬ ‫املعاي�شة احلية لفعل �إفناء اجل�سد‪ ،‬و�إنهاكه دون تدمريه‬
‫املطلقة‪� ،‬أو بالردى (العدم املح�ض للج�سد) �أمر غري ممكن‬ ‫كلية!! �إن الذات ال�صوفية اجل�سدية ت�ستحيل عرب هذه‬
‫يف هذا العامل‪ ،‬لأ نهما يعنيان ال�سكون املطلق فيما وراء‬ ‫اال�ستمرارية املتجددة �إىل �شبح يقيم بني احلياة والردى‪،‬‬
‫املوت‪ ،‬وما دمنا يف �سياق احلياة‪ ،‬فنحن ما زلنا يف �سياق‬ ‫وال يذوق �أحدهما على متام‪ ،‬وهو ت�شبيه جمازي له‬
‫التوتر واحلركة والقلق‪ ،‬والت�أرجح بني النقائ�ض!! �أي �أن‬ ‫داللته الهامة يف هذا ال�سياق‪ ،‬ذلك �أن �شبحية الكيان‬
‫حتقق النهايات الكاملة يعني انتفاء ال�سعي‪ ،‬ومن ثم انتفاء‬ ‫اجل�سدي تعني تخل�صه من كثافته الوجودية ثقله املادي‪،‬‬
‫الطزاجة الوجودية واملعرفية التي هي �أ�سا�س التجربة‬ ‫وت�سمه باللطافة الن�سبية‪ ،‬وك�أنه ي�ستعيد �إمكانات وجوده‬
‫ال�صوفية‪ ،‬و�أ�صل حيويتها وجتددها وثرائها‪ .‬حينئذ يغدو‬ ‫الروحي القدمي ب�صورة ما‪ ،‬مما ي�سهل االت�صال بالغيبي‬
‫اجل�سد ال�صويف الظاليل ف�ضاءا جامعا بني اجل�سد والفقد‪،‬‬ ‫واملفارق!! �أي �أن الكيان ال�صويف يتجاوز عرب هذه‬
‫احل�ضور والغياب‪ ،‬احلركة وال�سكون‪ ،‬القلق والطم�أنينة‪،‬‬ ‫ال�شبحية منطقة الواقع املظلم الكثيف‪ ،‬وحدوده املادية‬
‫متام الوجود‪ ،‬و�إمكانية اكتماله املفتوحة دوما �أو بلغة‬ ‫وقوانينه ال�رضورية القمعية‪ ،‬عقليا وطبيعيا �إىل منطقة‬
‫التوحيدي‪ ...‬االقرتاح واالرتياح!!‬ ‫احللم واخليال!!وحني ميار�س املت�صوف ح�ضوره اجل�سدي‬
‫ويلتفت الباحث وفيق �سليطني يف هذا ال�سياق �إىل فكرة‬ ‫ال�شبحي الطيفي يف ف�ضاء احللم واخليال‪ ،‬يغدو م�ساحة‬
‫هامة حول التناق�ض ال�صويف ما بني الرغبة يف تدمري‬ ‫حية برحة وحرة لإ مكانية تالقى املتناق�ضات وحتقق‬
‫اجل�سد والإ بقاء عليه‪ .‬ير�صد الباحث انطواء هذه الرغبة على‬ ‫املحاالت‪� ،‬أو تالقى الإ ن�ساين والإ لهي على �صعيد ال�شهود‬
‫ال�شكوى واال�ستعطاف‪ ،‬ويرى �أن تلك ال�شكوى لي�ست ت�أملا‬ ‫املعريف والر�ؤى اخليالية!!ومن ثم يغدو الكيان اجل�سدي‬
‫�رصفا‪� ،‬إمنا هي �أمل تتخلله اللذة‪ ،‬ولذة حمكومة بالأ مل‪،‬‬ ‫ال�شبحي كيانا واعدا حرا منفلتا من كل القيود والقوانني‪،‬‬
‫وبهذا فهي فعل ي�ضايف بني اللذة والأ مل ويجمعهما معا‪.‬‬ ‫وكافة �أ�شكال القمع واحل�صار العقلي وال�رشعي‪ ،‬الواقعي‬
‫�أي �أنه يوحد بنف�سه بني لذة ال�شعور بالتال�شي و�أمل اخلوف‬ ‫والطبيعي‪ .‬ولعل هذا ال�سعي ال�صويف يهدف طموحا �إىل‬
‫منه‪ ،‬فال�شكوى هنا لي�ست طلبا للو�صل �أو �شكاية من الهجر‪،‬‬ ‫�إطالق وحترير كافة طاقات اجل�سد ال�صويف‪ ،‬ولي�س تدمريه‬
‫بل مغامرة بالكيان و�إ�شفاق عليه يف وقت واحد‪ ،‬وهي‬ ‫والق�ضاء عليه‪.‬‬
‫�شكوى ال تنتظر �إزالة علتها‪ ،‬بل تربو ال�ستمراريتها‪ .‬حينئذ‬ ‫وبينما يجمع هذا اجل�سد ال�شبحي الظاليل بني النور‬
‫لن ي�صبح املوت ال�صويف نقي�ضا للحياة‪ ،‬بل فعل يتدفق‬ ‫والظلمة‪ ،‬بني املجرد واحل�سي ف�إنه ي�شكل م�ساحة لوعى‬
‫فيها �أو حياة �أ�سمى داخل احلياة‪� ،‬إذ ي�صبح �إ�ضناء اجل�سد‬ ‫الذات بطبيعتها اجل�سدية الفانية العدمية يف مقابل‬
‫و�إنهاكه �إطاحة به من حيث هو مكان لل�سلطة الطبيعية‪،‬‬ ‫الطبيعة املطلقة اخلالدة للروحي والإ لهي‪ ،‬ومن ثم تدرك‬
‫يف نف�س الوقت‪� ،‬إبقاء عليه من حيث هو ف�ضاء للع�شق‬ ‫حقيقة وجودها امل�ستعار‪ ،‬و�إمكانات تال�شيها واختفائها!!‬
‫واملحبة‪ .‬ذلك �أن امل�ضي بالتدمري لغايته الق�صوى يهدد‬ ‫ناهيك عن وعيها احلاد بانعدام ا�ستقالليتها الذاتية‪� ،‬إذ‬
‫بن�سف التجربة من �أ�سا�سها‪ ،‬وبتدمري �أملها املعذب‪ ،‬ولذتها‬ ‫ال وجود لها على احلقيقة �إال من خالل الإ مداد الإ لهي‬
‫امل�ؤملة‪ .‬ناهيك عن �أن االحتفاظ بهذه احلالة ال�شبحية هو‬ ‫املتجدد امل�ستمر بالوجود‪ ،‬وهو ما ي�ؤدي �إىل حتطيم‬
‫‪65‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫احلنظل املب�رس(الذي ي�سبب كلوح الوجه)‪ ،‬واقتحمت‬ ‫احتفاظ بالكيان ال�صويف يف منطقة التوتر ما بني الفناء‬
‫اجلمر امل�سعر‪ ...‬و�أويت �إىل املنابل‪ ،‬و�أ�صبحت كال على‬ ‫والبقاء لعدم �إجها�ض م�ساحات الإ مكانية الالنهائية‪،‬‬
‫كل كاهل‪ ...‬فال يهمنك ما كان‪ ،‬فقد �أف�ضيت �إىل جوارنا‪...‬‬ ‫�أو �إحباط الرغبة وتدفقها‪ ،‬والق�ضاء على مو�ضوعها‬
‫ولوال ما جترعت من الب�أ�ساء وال�رضاء‪ ،‬لوجهنا‪ ،‬ما‬ ‫وحيويتها!!و�أخريا‪ ،‬ف�إذا كانت الوالدة الروحية للعارف‬
‫كنت اليوم ت�صري �إىل حظرية قد�سنا‪ ،‬وال كنت ت�ؤهل‬ ‫تتحقق عرب تدمري الذات الدنيوية واحتياجاتها مبعنى‬
‫لب�سطنا و�أن�سنا‪� ...‬أيها ال�صاحب متى انفتح ب�رصك‬ ‫�إخ�ضاعها املطلق لهيمنة الروح‪ ،‬ف�إن الوالدة الطبيعية‬
‫لطلب حياة نف�سك‪ ،‬ان�رشح �صدرك يف تعرف كمالك‬ ‫تتحقق عرب �شبحية الكيان ال�صويف دون الق�ضاء عليه!!‬
‫وف�ضلك‪ ...‬وبدك لروحك منك غايتك‪ ،‬وحن ف�ؤادك �إىل‬ ‫ولعل هذه الر�ؤية ال�صوفية اخليالية تنطوي على ظالل‬
‫الفح�ص عنك مبا‪ ...‬يوجدك بك‪ ،‬وي�صفيك منك‪ ...‬ا�صف‬ ‫ما من التجربة الواقعية للذات يف الف�ضاء الدنيوي‪.‬‬
‫من كدر النف�س العائقة لك عن معانى القد�س الالئقة‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪� ،‬أال ميكن �أن يكون اخلوف ال�شديد من‬
‫بك‪ ،‬ف�إن يف �صفائك ات�صال بقائك ويف كدرك دوام‬ ‫املر�ض‪� ،‬أو فقدان العافية‪� ،‬أو ال�شيخوخة بكل مثالبها‪،‬‬
‫فنائك»‪.‬‬ ‫�أو حتى الت�شوه‪ ،‬وما ميكن �أن ينجم عن هذا كله من فقد‬
‫وهكذا تتجلى الذات لذاتها بو�صفها عالمة و� آية و�إ�شارة‬ ‫القبول االجتماعي �أو ال�سقوط يف �سياق النبذ االجتماعي‪،‬‬
‫ناطقة بالقدرة الإ لهية ومبعاين القد�س اخلالدة الالئقة‬ ‫كامنا وراء هذا ال�سعي املحموم الالواعى باجل�سد يف‬
‫بها‪� ،‬صافية نقية كمياه النبع املتفجرة من الأ غوار‬ ‫م�سار الإ نهاك والذبول والنحول والوهن‪� ...‬إلخ؟ مبعنى �أن‬
‫البعيدة‪� ،‬أو كالنور ال�ساطع امل�شع الطارد لظلمه العدم من‬ ‫يدفع اخلوف الذات �إىل ا�ستنفاد اجل�سد و�إنهاكه من �أجل‬
‫جنبات الذات ولعله ولد من �أعماقها الغام�ضة!! وعرب هذا‬ ‫قهر اخلوف ذاته‪ ،‬بل قهر الآ خر االجتماعي ومعايريه‬
‫املخا�ض الذاتي تعيد الذات ت�صفح ذاتها �أو قراءة ن�صها‬ ‫و�صورة املثال اجل�سدي املقبول اجتماعيا!! ناهيك‬
‫الذاتي يف �ضوء هذه الإ مدادات الغيبية املتجددة‪� .‬إنها‬ ‫عن كون اجل�سد الناحل الواهن املنهك هو ج�سد قمعي‬
‫القراءة التي تغو�ص بها مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا‬ ‫بطبيعته لنظرة الآ خر الدينوي‪� ،‬صادم ملعايريه‪ ،‬منتهك‬
‫ملتب�سة املغزى ما بني اخلداع واحلقيقة‪ ،‬يف ممالك احللم‬ ‫خل�صو�صيته‪ ،‬مهدد حل�ضوره‪ ،‬وجم�سد للمخاطر املحيطة‬
‫والنب�ؤات املفارقة‪� ،‬إذ تتك�شف �إمكانات التحقق بالو�صال‬ ‫به‪ ،‬ومن ثم فهو يت�سلط عليه ب�سطوة الرعب وال�صدمة!!‬
‫واالئتنا�س والأ لفة احلقة يف حظرية القد�س الإ لهي بعد كل‬ ‫ولعلها �صدمة الإ نفالت من قب�ضته وهيمنته املعيارية‬
‫ال�شقاء واملعاناة الدنيوية!!‬ ‫عليه!! �إن اجل�سد ال�صويف الناحل ال�شبحي هو ف�ضاء حمري‬
‫غري �أن هذا االجنالء ملرايا الذاتي مبا يحقق تبادل نظرة‬ ‫يتحدى نظرة الآ خر الدينوي‪ ،‬ويهدد يقينه املعياري‪،‬‬
‫الأ ن�س مع الإ له داخل م�ساحة الب�سط والو�صال‪ ،‬ال ميكن �أن‬ ‫وي�ضعه يف مو�ضع االلتبا�س‪ ،‬قراءة وت�أويال حيث يغدو‬
‫يبلغ ذروة حتققه واكتماله �إال يف ملكوت مر� آة احل�ضور‬ ‫بالن�سبة له ج�سدا غام�ضا خفيا خمتلفا‪ ،‬منفردا لكنه‬
‫الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى ما بني اخلداع واحلقيقة‪،‬‬ ‫م�ستفز دوما اللتقاط نظرته‪ ،‬والرتب�ص به!! ومن ثم‪،‬‬
‫احلب‪ ،‬مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى‬ ‫ي�ؤ�س�س اجل�سد ال�صويف �سطوته املقد�سة من حيث ما ينفي‬
‫ما بني اخلداع واحلقيقة‪ ،‬حب الذات لذاتها �أوال!!�أو لنقل‪،‬‬ ‫وجوده‪ ،‬وح�ضوره املادي الواقعي‪ ،‬واملعياري طبيعيا‬
‫جتاوز حالة العنف التدمريي‪ ،‬والوعي الت�شا�ؤمي يف عالقة‬ ‫وعقليا!!‬
‫الذات بذاتها‪ ،‬ومبا �سواها �إىل م�ساحات احلب والرحمة‬ ‫ومن عمق الإ ذالل واالمتهان الذي متار�سه الذات �إزاء‬
‫والتعاطف والت�سامح والوعي اجلمايل وهو ما يتنامى‬ ‫ذاتها‪ ،‬ينبثق كربيا�ؤها وواليتها‪ ،‬وتعي الذات �إمكانات‬
‫تدريجيا‪ ،‬وب�صورة متجددة عرب �إذابة الكيان الدنيوي‪،‬‬ ‫خلودها وجتاوزها‪ ،‬وتتك�شف لذاتها من جديد‪ ،‬حيث تولد‬
‫واكت�شاف جذور اخللود الكامنة يف عمق الكيان !!‬ ‫الذات اجلديد من عمق �أنقا�ض الذات القدمية املتف�سخة‪،‬‬
‫يقول التوحيدي‪:‬‬
‫املراجع‬
‫«�أيها الكائن املبتدع بالقدرة الإ لهية‪ ،‬واخللق‬
‫‪ -1‬امام عبد الفتاح امام ‪ :‬كريكجور رائد الوجودية‪ ،‬دار الثقافة للن�رش‬ ‫امل�صطنع بامل�شيئة الربانية ت�أمل مواقع �آياته فيك‬
‫والتوزيع‪ /‬القاهرة‪.‬‬ ‫وا�ستنطق �شواهد �آثاره عليك‪ ...‬وك�أين بك قد وجدت‬
‫‪ -2‬وفيق �سليطني ‪ :‬ال�شعر ال�صويف بني مفهومي االنف�صال والتوحد‪/،‬‬ ‫ن�سيم الو�صال‪ ...‬وك�أين بك‪ ،‬وقد جلي عليك امللك‬
‫القاهرة‪.‬‬ ‫بزينته «وقيل لك» �أرو فطاملا ظميت‪ ،‬وا�سعد فطاملا‬
‫‪ -3‬ابو حيان التوحيدي‪ :‬الإ �شارات الإ لهية حتقيق وداد القا�ضي‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫�شقيت‪ ،‬وتنعم لطاملا �ضنيت» فقد م�ضغت يف حمبتنا‬
‫‪66‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حممود الربيكان‬
‫حماولة �أولية للتعرّف عليه‬
‫�صـــالح نيـــازي‬
‫�شاعر ومرتجم من العراق‬

‫ُو ِل َد حممود الربيكان عام ‪ 1931‬مبدينة الزبري لأ بوينْ جنديينْ ‪ .‬كان والده تاج َر �أقم�شة‪،‬‬
‫ومعروف ًا برثائه‪ .‬امتلك بيتينْ فخمينْ واحداً بالب�رصة و� آخر بالزبري‪ .‬ملحمود �ستة �أخوة‪،‬‬
‫وترتيبه الثاين بينهم‪ ،‬بعد الأ خت الكربى خاتون‪ ،‬وكانت �أوّل معلمة زبريية بالزبري‪.‬‬
‫�أُعْ جِ ب حممود يف �صباه‪ ،‬بجدّه لأ مّه‪ ،‬وا�سمه «�أحمد اخلال»‪ .‬كانت له مكتبة بيتية كبرية‬
‫ت�ضم بالإ �ضافة �إىل املراجع‪ ،‬املجالّت والدوريّات‪� .‬إىل ذلك كان ع�ضواً يف مكتبة الزبري‬
‫الأ هلية‪ .‬تعرّف حممود يف الغالب‪� ،‬أوّل ما تعرّف‪ ،‬على الكتاب عن طريق جدّه‪ .‬طاملا تردّد‬
‫على هذه املكتبة‪ ،‬وطاملا ا�ست�شهد ب�أقوال جدّه‪.‬‬
‫ال نعرف �إ ّال النزْر القليل عن �سنوات درا�سة حممود بالب�رصة‪ ،‬ما عدا ما ذكره حممود عبد‬
‫الوهاب عنه‪ ،‬يوم كانا يف ال�صفّ الثاين املتو�سط‪ .‬قال‪ :‬انتزع املدرّ�س عن ق�ص ٍد م�سبق‪،‬‬
‫دفرتاً بغالف �أنيق من بني جمموعة دفاتر الإ ن�شاء التي بني يديه‪ ،‬ونادى‪:‬‬
‫‪ -‬حممود داود الربيكان‬
‫مبعطف‬
‫ٍ‬ ‫«نه�ض من مقعده يف الزاوية الي�رسى من ال�صفّ ‪ ،‬طالب معتدل القامة‪ ،‬يتدثر‬
‫خفيف‪ .‬م�شى نحو املدر�س �إزاء ال�سبورة‪ .‬ناوله املدرّ�س الدفرت‪ ،‬وطلب منه �أن يقر�أ الإ ن�شاء‬
‫الذي كتبه‪ .‬فج�أة �أ�صبح ال�صفّ مكان ًا � آخر‪ ،‬وارتع�شت يف وجوهنا كلماتُ حممود و�صو ُر ُه‬
‫وجمل ُه ك�أنها تتواثب حتت جلودنا…»‬
‫‪ l‬املعروف بني النقّاد �أنّ �أ�سلوب الربيكان يف بع�ض ق�صائده املجوّدة ذو خ�صي�صة‬
‫بغ�ض النظر عن �أف�ضليّته على غريه �أم ال‪ .‬من �أين‬
‫خمتلفة عن ال�شعراء املجايلني له‪ّ ،‬‬
‫جاء هذا االختالف؟ من الر�سم؟ من املو�سيقى؟ من ال�سينما؟‬
‫‪ l‬تكرّرت «الظلمات» و«النور» مرات عديدة جد ًا يف �شعر الربيكان‪ ،‬ويف ك ّل مرّة تقوم‬
‫بنف�س الدور‪� .‬أي �أنها بقيت خام ًا مل ي�صنّع منها �شيئ ًا جديدا‪.‬‬

‫‪67‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫العراقي الوحيد الذي جعل مادّة ال�صمت لغة �أ�سا�سيّة يف‬ ‫قد نقر�أ فيما ذُكِ ر �أعاله نبوغ ًا �صغرياً مبكراً‪ ،‬ولكنْ‬
‫الق�صيدة‪ .‬هل لهذا ال�سبب كان ال�صخب يف �شعره ال يعني‬ ‫مما يلفت النظر‪ ،‬ما ورد يف و�صف دفرت الإ ن�شاء ب أ�نّه‬
‫ال�ضجيج بقدر ما يعني فو�ضى نا�زشة تقطع االن�سجام؟‬ ‫ذو «غالف �أنيق»‪ .‬هل كان الربيكان يهت ّم بال�شكل‬
‫لكن ما ثقافة الربيكان؟‬ ‫اهتمامه بامل�ضمون وربمّ ا �أكرث؟ �سرنى ذلك فيما‬
‫ربمّ ا مل يذك ْر �أح ٌد من الذين اعتنوا بالربيكان و�شعره‪،‬‬ ‫بعد‪ .‬ما بني عام ‪� ،1951-1950‬أُ�صيبت جتارة الوالد‬
‫�شيئ ًا عن الكتب الأ دبية العربية التي كان مولع ًا بها‪،‬‬ ‫بنك�سة‪ .‬هل لهذه احلادثة �أثرٌ يف �شعره؟‬
‫كما مل ي�س أ�لْه �أحد من الذين �أجروا معه مقابالت عن‬ ‫هل كانت منعطف ًا نف�س ّي ًا يف حياته‪ ،‬بحيث جعلته‬
‫ذلك‪ .‬ك ّل ما �أخربونا به ب أ�نّه كان مهت ّم ًا بالفل�سفة‪،‬‬ ‫ينكبّ على الكتاب؟‬
‫وباملو�سيقى الكال�سيكية‪ ،‬وكان معجب ًا �أ�ش ّد الإ عجاب‬ ‫ما عالقة االبن بالأ ب؟ هل كان الأ ب ذا �سطوة م�ستبدة‬ ‫ميكن اال�ستدالل‬
‫بال�شاعر الهندي طاغور‪ ،‬الذي يقول عنه ‪�« :‬شاعر‬ ‫داخل البيت‪ ،‬بحيث �أ�صبح الق�رص ‪ -‬على فخامته‪-‬‬
‫�سجن ًا من نوعٍ ما؟ وملاذا �ألحّ الربيكان على ت�صوير‬
‫على تنوّع قراءات‬
‫و�صاف‬‫حقيق ّي عميق الروح والذين يظنّون �أنّه جمرّد ّ‬ ‫الربكان ال�شعرية‬
‫ينظرون �إىل �صوره الظاهرة وال ينفذون �إىل روحه»‪.‬‬ ‫ال�سجناء‪ ،‬وهو مل يدخ ْل �سجناً؟ يقول ر�شيد يا�سني‪�»:‬شغلتْ‬
‫ومن ال�شعراء الذين �أعجب الربيكان بهم‪« :‬ريلكه‬ ‫م�س�أل ُة ال�سجن‪ ،‬والأ هوال التي يالقيها امل�سجونون فك َر‬ ‫الأ جنبية يف‬
‫يتميّز بتعبريه عن قلق الروح‪ ،‬لوركا ل�شعره نكهة‬ ‫الربيكان �إىل احل ّد الذي جعله يعود �إليها ليعاجلها يف‬ ‫مرحلة الحقة يف‬
‫خا�صة‪ ،‬وطريقته يف ا�ستعمال ال�صور بديعة‪ .‬تي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�شعره م ّر ًة بعد م ّر ًة حتّى بدا وك�أنّ الأ مر من اال�ستحواذ‬ ‫حياته‪ ،‬ولكنْ ما‬
‫� ْأ�س‪� .‬إليوت �شاعر يعي موقفه‪ ،‬ويف النماذج اجليّدة‬ ‫امل�ضني‪ .‬ومَ نْ يقر�أْ ق�صائد الربيكان حول هذا املو�ضوع‬
‫واملنولوجات الدرامية الفريدة التي كتبها على �أل�سنة‬
‫من ذكر ملكوناته‬
‫خا�ص‪ .‬وم�رسحيّته ال�شعريّة‪« :‬مقتل‬ ‫ّ‬ ‫من �شعره ف ّن‬ ‫الأ وىل‪ .‬بالإ�ضافة‬
‫يف الكاتدرائيّة» عمل فريد يف ميدان �صعب للغاية‪.‬‬ ‫بع�ض ال�سجناء ي�صعبْ عليه �أنْ يُ�صدّق �أنّ هذا ال�شاعر مل‬
‫الو�صف الدقيقَ املوجع ملعاناة‬ ‫َ‬ ‫يدخل ال�سجن‪ ،‬و�أنّ هذا‬ ‫فالآ راء التي‬
‫بابلو نريودا وناظم حكمت يف �أف�ضل حاالتهما‬
‫ال�سجني و�أحا�سي�سه و�أفكاره‪� ،‬إنمّ ا هو نتاجُ قدر ٍة فائقة‬ ‫طرحها تلذذية‬
‫يخلقان �شعرا ًّ له �أبعاده على ب�ساطته الظاهريّة‬
‫على ا�ستبطان م�شاعرالآ خرين ومتثّلها…» للربيكان‪،‬‬ ‫مثرية ولكن قد‬
‫(و�إن كانا يف بع�ض حاالتهما يجنحان �إىل النرثيّة)‪،‬‬ ‫ال �شكّ ‪« ،‬قدرة فائقة» على ا�ستبطان املخلوقات احليّة‪،‬‬
‫وهناك � آخرون‪ .‬ال�شاعر اال�سباين خمينث الذي يلفت‬ ‫وقد تطوّرت يف �سنوات الن�ضج الثقايف‪� ،‬إىل ا�ستبطان‬
‫ي�صعب علينا �أن‬
‫النظر بغنائيته يف زمن يكاد يودّع الغنائية‪ .‬فرو�ست‬ ‫اجلمادات‪ .‬لكنْ هل كان الربيكان ي�صوّر �سجن ًا و�سجناء‪،‬‬ ‫ندخلها يف �أيّ باب‬
‫احلميم الرحب كال�سهول‪ .‬با�سرتناك املنتف�ض يف‬ ‫�أم بيئة مغلقة‪ ،‬وح�صاراً نف�سياً‪ ،‬و�إحباطاً؟ املعروف �أنّ‬ ‫من �أبواب النقد‬
‫ثلوج الوحدة‪ .‬ييت�س‪ ،‬باوند‪� ،‬أراغون وغريهم‪ ،‬و�شعراء‬ ‫الربيكان در�س القانون يف كلية احلقوق‪ ،‬ملدّة �سنتينْ ‪،‬‬
‫ما بعد احلرب مثل يفت�شنكو‪ .‬واحلقيقة �إنني �أميل‬ ‫على غري رغبة منه‪ .‬ان�صبّ همّه على درا�سة الفل�سفة‪،‬‬
‫�إىل ال�شعراء الذين ميثلون نوع ًا من عظمة الروح‬ ‫ولكنّه �أذعن �إىل م�شيئة والده‪ ،‬يف البداية‪ ،‬ث ّم ترك‬
‫الإ ن�سانية‪ ،‬وال يبهرين الت أ�نّق واال�صطناع…» (حوار‬ ‫الدرا�سة‪ .‬يبدو �أنّ ك�شف عالقة حممود ب�أبيه �رضورية يف‬
‫�أجراه ح�سني عبد اللطيف)‪.‬‬ ‫�أية درا�سة �أكادميية‪ ،‬لأ نها تلقي �ضوءاً جديداً على معظم‬
‫ميكن اال�ستدالل من الت�رصيحات �أعاله على تنوّع قراءات‬ ‫املفهومات الغام�ضة التي ت�شيع يف ق�صائده املهمّة‪.‬‬
‫الربكان ال�شعرية الأ جنبية يف مرحلة الحقة يف حياته‪،‬‬ ‫قبل االنتقال �إىل مرحلة تالية‪ ،‬ينبغي ذكر �أمر يبدو‬
‫ولكنْ ما من ذكر ملكوناته الأ وىل‪ .‬بالإ �ضافة فالآ راء التي‬ ‫خا�صة‪ .‬فقد كان ملحمود مكتب فخم ن�سبي ًا‬ ‫ذا �أهميّة ّ‬
‫طرحها تلذذية مثرية ولكن قد ي�صعب علينا �أن ندخلها يف‬ ‫ومنعزل داخل البيت‪ .‬يف هذا املكتب‪ ،‬عُ دّة كاملة من‬
‫�أيّ باب من �أبواب النقد‪� .‬أما جنوح نريودا وناظم حكمت‬ ‫�أدوات اخلطّ والر�سم‪ .‬كان حممود خطّ اط ًا ور�سّ اماً‪ .‬منا �إىل‬
‫«يف بع�ض حاالتهما �إىل النرثيّة»‪ ،‬فال ميكن �أن ي�صدر ر�أي‬ ‫علمي‪� ،‬إنّه كان ين�سخ من كبار اخلطّ اطني‪ ،‬ويقلّد �أو يعيد‬
‫كهذا �إ ّال ممن يعرف اللغتني اال�سبانية والرتكية‪ ،‬لأ ن ال�سبب‬ ‫ر�س َم �أ�شهر اللوحات العامليّة الأ جنبيّة‪ .‬قيل يل كذلك‪� ،‬إنه‬
‫قد يعود �إىل الرتجمة‪ . .‬بالإ �ضافة �إىل ذلك فلي�ست النرثيّة‬ ‫يف هذا املكتب كان ينعزل عن �ضو�ضاء �أخوته ال�صغار‬
‫عيبا باملطلق‪ ،‬و�إمنا قد تكون �سبب ًا �أ�سا�سي ًا يف جودة الن�ص‬ ‫يف الطابق الأ �سفل‪ .‬هل كان املكتب يا تُرى �صومعة تعلّم‬
‫كما عند �شيك�سبري و�أليوت مثالً‪ .‬على �أيّة حال‪� ،‬أوّل ما يثري‬ ‫جللَد والتدرّب على االتقان؟ هل تعلّم فيه‬ ‫فيها حممود ا َ‬
‫االنتباه يف �شعر الربيكان وكذلك يف نرثه‪ ،‬عباراته املثقلة‬ ‫ال�صمت اخلالّق وما �أكرثه يف �شعره‪ .‬رمبا هو ال�شاعر‬
‫‪68‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لوحة ر�سم‪ .‬وهذا � ّرس وقوفها بني بني‪ .‬ما يهمنّا هنا ال‬ ‫برنني �سحيق ال يت أ�تّى �إىل �أحد �إ ّال بعد طول ت أ�مّل وتنقري‬
‫جناحها الن�سبي وال �إحباطها‪ ،‬و�إنمّ ا طريقة الربيكان يف‬ ‫يف الأ �ساليب القدمية‪ ،‬و�إ ّال بعد ت�شبّع بها‪ .‬يبدو �أنّ الربيكان‪،‬‬
‫املحاكاة‪.‬‬ ‫وال �أدري هل كان متدين ًا �أ ْم ال‪ ،‬قد ا�ستلف من القر� آن ثالثة‬
‫من حيث الأ لوان ا�ستخدم ال�شاعر‪« :‬احلافة الدكناء»‪،‬‬ ‫عنا�رص �أ�سا�سية‪ ،‬هي ‪:‬‬
‫«الأ �ضواء الر�صا�صية»‪« ،‬امل�صباح»‪« ،‬خ�رضة يف جنّة‬ ‫‪ -1‬الظلمات‪ -2 .‬النور‪ -3 .‬الرياح‪.‬‬
‫الليل» «خطّ ًا غام�ض ًا خفيف»‪ ،‬و«ظلّ»‪.‬‬ ‫تكرّرت «الظلمات» و«النور» مرات عديدة جداً يف �شعر‬
‫�أمّا التعابري التي تدلل على �أ ّن ال�شاعر تعامل مع‬ ‫الربيكان‪ ،‬ويف ك ّل مرّة تقوم بنف�س الدور‪� .‬أي �أنها بقيت‬
‫الق�صيدة كلوحة يف �أتّون الت�شكّل‪ ،‬فهي مثالً‪« :‬يندفع‬ ‫خام ًا مل ي�صنّع منها �شيئ ًا جديداً‪ .‬يقول يف ق�صيدة ‪« :‬عندما‬
‫الر�صيف‪� ،‬إىل املدى»‪ .‬الر�صيف ال يندفع‪ ،‬ولك ّن اخلطّ‬ ‫ي�صبح عاملنا حكاية»‪:‬‬
‫املر�سوم على اللوحة هو الذي ميت ّد باندفاع �إىل عمق‬ ‫«على الظلمات كانت �أر�ضهم تطفو لغري مدى‪ /‬تعاف ال�شم�س‬
‫املدى‪ .‬وما انعكا�س الأ �ضواء الر�صا�صية على حافة‬ ‫دكنتها ويكره جدبها القمرُ‪ /‬وع�رص النور كان زمانهم‪ ،‬مل‬
‫الر�صيف الداكنة‪� ،‬إالّ تفاعل الأ لوان وتداخالتها داخل‬ ‫ت�شه ِد «ال ُع�صرُ ُ» ‪ /‬من الظلمات ما �شهدا»‬
‫اللوحة‪ .‬بالإ �ضافة �إىل تعبريي‪« :‬تر�سم خ ّط ًا ذاهباً»‪،‬‬ ‫(ال يفوتنا �أنّ الظلمة يف القر� آن تقوم مبثابة الرحم الذي‬
‫و«تر�سم خ ّط ًا غام�ض ًا خفيف»‪ .‬حترّكت اللوحة برفيف‬ ‫يولد منه النور‪� ،‬أو االنبعاث عموماً) �أمّا الرياح فقد تطوّرت‬
‫امل�صابيح لأ ّن برفيفها �ستتغيرّ الأ �شكال والظالل‪،‬‬ ‫يف �شعر الربكان من قوّة دينية تدمريية م�سيرّ ة‪� ،‬إىل رمز‬
‫وي�سري الإ ن�سان الوحيد‪.‬‬ ‫النفتاح اجلهات ومعها انفتاح احلريّة ‪�« :‬أوثر �أن �أبقى|على‬
‫ازدادت الأ بيات غمو�ضاً‪ ،‬والغمو�ض عن�رص �أ�سا�سي يف ك ّل‬ ‫جوادي‪ .‬و�أهيم من مهب ريح| �إىل مهبّ ريح» ( من ق�صيدة‬
‫عمل فنيّ عميق‪ ،‬يف جملة‪« :‬يف جنّة الليل اخلرافيّة»‪ .‬هكذا‬ ‫عن احلريّة)‪ ،‬و�إما �أن تكون �أمارة من �أمارات اخلراب الكلّي‪،‬‬
‫�أدخل ال�شاعر عن�رصاً ت�أريخ ّي ًا بدائياً‪ ،‬فتو�سّ عت احلرية‪ ،‬وال‬ ‫كما يف ق�صيدته ‪:‬‬
‫�سيّما �أنّ الق�صيدة تنتهي ب�إن�سان وحيد ي�سري‪ .‬ملاذا كان‬ ‫�صوت‪ .‬الرياحْ ‪ /‬هي بع ُد �سيّدة‬ ‫«�سقطتْ فنارات العوامل دون ٍ‬
‫وحيداً؟ من �أين جاء؟ و�إىل �أين ذاهب؟ وهل عنوان الق�صيدة‪:‬‬ ‫الفراغ‪ .‬وك ّل متجه مباحْ »‬
‫«خطّ ان متوازيان»‪ ،‬يدلّ على طول امل�سافة‪ ،‬و�إىل �أنّه لن‬ ‫املعروف بني النقّاد �أنّ �أ�سلوب الربيكان يف بع�ض ق�صائده‬
‫ي�صل �إىل �شيء؟‪.‬‬ ‫املجوّدة ذو خ�صي�صة خمتلفة عن ال�شعراء املجايلني له‪،‬‬
‫ما تقدّم �أعاله جمرد افرتا�ضات‪ ،‬مع ذلك ال ب ّد من �إ�ضافة‬ ‫بغ�ض النظر عن �أف�ضليّته على غريه �أم ال‪ .‬من �أين جاء هذا‬ ‫ّ‬
‫افرتا�ض �آخر‪ .‬ما عالقة هذه الق�صيدة بلوحة الر�سّ ام‬ ‫االختالف؟ من الر�سم؟ من املو�سيقى؟ من ال�سينما؟‬
‫الهولندي ‪ )1709-1638( Miendert Hobbema‬املعنونة‪:‬‬ ‫ذكر يل �أحد �أقرباء حممود املقرّبني‪ ،‬املقيمني بلندن �أنّ‬
‫«الطريق يف ميدلهام�س» التي و ُِ�صفتْ ب�أنها‪« :‬من‬ ‫حممود كان يبعث �إليه بر�سائل‪ ،‬رمبا يحتفظ ببع�ضها الآ ن‪،‬‬
‫�أكرث اللوحات �شهرة يف العامل»‪ .‬يف هذه اللوحة طريق‬ ‫يطلب فيها كتب ًا فل�سفية باللغة الإ نكليزية‪ ،‬وكتب ًا �أخرى عن‬
‫ت�صطفّ على جانبيه �أ�شجار عالية نحيفة اجلذوع‬ ‫حياة الر�سّ امني واملو�سيقيني العامليني‪ ،‬و�ضمن القائمة‬
‫بال �أغ�صان ولك ّن ر�ؤو�سها متعرّ�شة بالأ وراق الداكنة‬ ‫�أي�ض ًا �أعمال مو�سيقية‪ ،‬و�أوبرات مع ن�صو�صها‪ .‬ذكرنا يف‬
‫ني متوازيينْ ‪.‬‬ ‫اخل�رضة‪ .‬الطريق يواجه امل�شاهد بخ ّط ْ‬ ‫�أوّل هذه املداخلة‪� ،‬أنّ حممود كان ر�سّ ام ًا يحاكي لوحات‬
‫اخلطّان عري�ضان يف البداية ولكنهما يوهمان �أنهما‬ ‫عاملية‪ .‬كيف ا�ستفاد الربيكان من الر�سم يف بناء ال�صورة‬
‫يقرتبان من بع�ضهما كلّما ابتعدا وك�أنهما �سيلتقيان‬ ‫ال�شعريّة؟ يف ق�صيدة ‪»:‬خطّ ان متوازيان» يقول الربيكان‪:‬‬
‫يف النهاية‪ ،‬ولكن هيهات‪� .‬شَ بّه النقّاد‪ ،‬انحدار ا�صطفاف‬ ‫«يندفع الر�صيفْ ‪� /‬إىل املدى‪ ،‬حافته الدكناء �صخر ّي ْه‬
‫الأ �شجار بانحدار �أعمدة التلغراف‪ .‬هذه اللوحة معرو�ضة‬ ‫تعك�س �أ�ضواء ر�صا�صيهْ‪ /‬تر�سم خطّ ًا ذاهب ًا عنيفْ‬
‫يف الـ ‪ NATIONAL GALLERY‬بلندن‪ ،‬وهي موجودة عادة‬ ‫�إىل املدى‪ /‬يندفع الر�صيفْ ‪ /‬مندفع ًا ب�ألف م�صباح لها‬
‫يف دليل املتحف‪.‬‬ ‫رفيفْ ‪ /‬وخ�رضة يف جنّة الليل اخلراف ّيهْ‪ /‬تر�سم خطّ ًا‬
‫االختالف بني ق�صيدة الربيكان وهذه اللوحة هو االختالف‬ ‫غام�ض ًا خفيفْ ‪� /‬إىل املدى‪ /‬وفوق �أر�ض ال�شارع الكبري‪/‬‬
‫بني ثقافتني �أو بيئتينْ ‪ .‬جعل الربيكان الر�صيف �صخر ّي ًا‬ ‫ظِ لٌّ‪ ،‬و�إن�سان وحيد ي�سري»‬
‫ال تدري من �أين يبتدئ وال �أين ينتهي وك أ�نّه �شارع مبلّط‬ ‫عالج ال�شاعر هذه الق�صيدة _ كما ال يخفي _ كمعاجلة‬
‫‪69‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال يزعج الآخرين…وكان �إذا اثارته �إمياءة بارعة ملمثل‬ ‫يف �صحراء‪ .‬ما من خملوقات حلميّة �أو نباتية‪ ،‬ما من وبر‬
‫�أو ممثلة‪� ،‬أو م�شهد ين ّم عن ذكاء يف الإ خراج حترّكت‬ ‫�أو �شعر �أو ري�ش‪ ،‬وحتى ما من �سماء‪ ،‬لأ نّ الربيكان عتّمها‬
‫يده‪ ،‬لت�ضغط على يدي معرباً بحركته ال�صامتة اخلفيّة‬ ‫بدليل وجود امل�صابيح‪ .‬رفيف امل�صابيح ذاته يذكّر برعب‬
‫هذه‪ ،‬عن �إعجابه مبا يرى»‪ .‬وهذا �شاهد �آخر من �أهلها‪،‬‬ ‫م�صابيح هيت�شكوك املتحركة يف املواقف املفزعة‪ .‬بهذه‬
‫يوم كان الربيكان ي�سكن بالكويت ملدة ثالثة �أعوام‬ ‫املثابة قلّ�ص الربيكان امل�شهد حتى يزيد من وحدة ذلك‬
‫مع �أقربائه‪ ،‬وله جناحه اخلا�ص‪ .‬روى ال�شاهد لكاتب‬ ‫الإ ن�سان ال�سائر‪ ،‬وك�أنّ الدنيا �ستطبق عليه‪.‬‬
‫هذه ال�سطور‪ ،‬قائ ًال ‪»:‬ب�أننا كنّا نتحلّق حوله �صغاراً‬ ‫�أمّا لوحة «هوبيما» فمعنية مبادّة احلياة والإ خ�صاب‬
‫وكباراً‪ ،‬ال لريوي ق�صة فيلم‪ ،‬و�إنمّ ا ليحلّل ك ّل �صغرية‬ ‫وال�سم ّو الروحي‪� .‬إنها قبل ك ّل �شيء‪ ،‬معنيّة بالنموّ‪ .‬يف هذه‬
‫وكبرية يف الفيلم‪ ،‬ويعلّق بدقّة على اللقطات املهمّة‬ ‫اللوحة تقف �أنت كمُ�شاهد يف و�سط �شارع ترابي طازج �إنْ‬
‫فيه»‪ .‬كيف انعك�س هذا التدقيق التحليلي يف �صوره‬ ‫�صحّ التعبري‪ ،‬عليه بقايا نداوة‪ .‬النداوة بح ّد ذاتها �إخ�صاب‬
‫ال�شعرية؟ لننظ ْر قلي ًال يف ق�صيدة «حار�س الفنار»‬ ‫ميكن القول‬
‫من نوع ما‪ ،‬بعك�س ق�صيدة الربيكان املعنية بالتقلّ�ص‪� .‬إىل‬ ‫� إنّ ال�سينما هي‬
‫التي تعترب من �أه ّم ق�صائده‪ ،‬ومن �أكرثها غمو�ضاً‪ .‬لكنْ‬ ‫ميني اللوحة رجل‪ ،‬ي�شذّب �أ�شجاراً‪� ،‬أق�رص من قامته‪� ،‬إنّه بال‬
‫قبل ذلك لنتعر ّْف على بع�ض ما قاله بع�ض النقّاد‬ ‫�شكّ يهيّئها حلياة �أف�ضل‪ ،‬ويف الوقت نف�سه يجدّدها‪ .‬بعد‬ ‫امل�صدر الثاين‬
‫عنها‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬نرى منعطفا ً �إىل اليمني يقف يف بدايته فتى وفتاة‬ ‫لثقافة الربيكان‪.‬‬
‫يرى عبد الرحمن طهمازي يف كتابه‪« :‬حممود الربيكان‬ ‫يف حوارهام�س عميق‪ ،‬لأ نّ ر�أ�سيهما متقاربان وخلفهكم‬ ‫املعروف �أن معظم‬
‫درا�سة وخمتارات»‪� ،‬أنّ ما قاله الربيكان يف ت�ضاعيف هذه‬ ‫بيت‪� .‬إىل ال�شمال نرى من بعيد كني�سة‪ ،‬وبها �أعطى الر�سّ ام‬
‫الق�صيدة من �أنّ ‪« :‬الرياح‪/‬هي بعد �سيّدة الفراغ»‪« ،‬تطلّب �أن‬ ‫ال�شعراء العراقيني‬
‫قيمة روحية للم�شهد‪ .‬هذه القيمة الروحية متثلت بثالثة‬ ‫ال�شباب يف �أواخر‬
‫يكون امل�شهد مرئ ّي ًا من الذروة ‪:‬الفنار جتهّزنا ب�شعور ال يق ّل‬ ‫عنا�رص‪� .‬أ ّو ًال علو الأ �شجار الذي دلّل على عل ّو ال�سماء‪ ،‬ذلك‬
‫هيبة عن عزلة الرقيب املعاقب‪ ،‬هو زمهرير الوح�شة‪ .‬ففي‬ ‫الأ ربعينات وبداية‬
‫لأ ن الأ �شجار املتوازية على اجلانبني قريبة من املُ�شاهد‬
‫الذرى يظهر ال�شاعر احلديث وحيداً ال يتقبّل املوا�ساة‪ ،‬وال‬ ‫اخلم�سينات‪،‬‬
‫فال ب ّد له �أن يرفع ر�أ�سه �أىل �أعلى حتى يراها‪ .‬وثاني ًا ما‬
‫تعنيه امل�سامرة‪ ،‬متمكن ًا من امل�شهد املتوالد حتّى �أق�صاه‪،‬‬ ‫ت أ�ثّروا‪ ،‬ب�صورة �أو‬
‫وب�صرياً مبا هو حيّ ‪ ،‬ومبا كان ح ّياً‪ ،‬ومبا تطبخه الظلمات‬ ‫�أن يرفع را�سه حتى يرى غيوم ًا بي�ضاء متفرقة عالية ج ّداً‪،‬‬
‫من �أحياء مل�ستقبل ظامل ال�شهيّة…»‬ ‫ومعها نوار�س �شاهقة و�صغرية فوق �سمت الر�أ�س تقريباً‪.‬‬ ‫�أخرى‪ ،‬بالأ فالم‬
‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫هذا كالم فيه ا�ستطرادات لفظيّة بعيدة عن‬ ‫لوحة تتغنى بالإ خ�صاب ب�أعمق هارمونية‪ ،‬و�أثرى توا�شجاً‪.‬‬ ‫ال�سينمائية‪ .‬كان‬
‫املبحوث‪.‬‬ ‫قبل �أن نن�سى‪ ،‬يف ال�شارع الرتابي النديّ يقابلك من بعيد‬ ‫على ر�أ�سهم عبد‬
‫�أمّا حامت ال�صكر فيعترب «�صورة (حار�س الفنار) قناع ًا‬ ‫رجل مي�شي بتوءدة مع كلبه‪ .‬الكلب ال ينظر �إىل الأ مام و�إمنا‬
‫هو ملتفت �إىل �شماله �صوب الفتى والفتاة‪ .‬ولأ نهما �سيمرّان‬
‫الوهاب البياتي‬
‫للرائي املنتظر وهو يراقب الأ فول القادم‪ .‬لكنْ مراقب‬
‫وم�ستهدف يف � آن واحد‪� .‬أراد �أنْ يعت�صم بعزلته لريى‪.‬‬ ‫بك فال ب ّد �أن الطريق الرتابي �سيمت ّد خلفك �أي �أنّه طريق‬
‫تارك ًا للرياح (ال�سيادة على الفراغ) بينما يتلهّى هو ب�إعداد‬ ‫مفتوح‪ ،‬وك�أنّ احلياة ال نهاية لها‪.‬‬
‫املائدة وتهيئة الك�ؤو�س مت�سائالً‪:‬‬ ‫ميكن القول �إ ّن ال�سينما هي امل�صدر الثاين لثقافة‬
‫‪ . .‬متى يجيء ‪ /‬الزائر املجهول؟‬ ‫الربيكان‪ .‬املعروف �أن معظم ال�شعراء العراقيني ال�شباب‬
‫وال ميكن �أنْ تُخطئ العني هذا الزائر (الآ تي) الذي يجيء‬ ‫يف �أواخر الأ ربعينات وبداية اخلم�سينات‪ ،‬ت أ�ثّروا‪،‬‬
‫(بال خطى) ويدقّ على الباب ليدخل (يف برود)‪� .‬إنّه (الغام�ض‬ ‫ب�صورة �أو �أخرى‪ ،‬بالأ فالم ال�سينمائية‪ .‬كان على ر�أ�سهم‬
‫املوعود)الذي يناجيه ال�شاعر بغنائية حادّة ت�شف عنها‬ ‫عبد الوهاب البياتي‪ .‬ولأ ن البياتي مل تكن التقنية‬
‫ال�صفات الكثرية‪ ،‬الزائدة �أحيان ًا �أو امل�سوقة بهاج�س التوكيد‬ ‫من همومه‪ ،‬لذا اقت�رص ت�أثره على امل�شاهد الب�رصية‪.‬‬
‫الذي يعك�س اخلوف من عدم اخلوف �أو الت�شخي�ص»‪.‬‬ ‫مبعنى �آخر مل تكن تعنيه �صناعة الفيلم ‪� :‬إخراج ًا‬
‫�أ ّو ًال مل يكن حار�س الفنار مراقب ًا و�إمنا كان ينتظر‪ .‬ما من‬ ‫ومتثيالً‪ ،‬وت�صويرا‪ .‬الربيكان على العك�س‪ .‬كان يتابع –‬
‫لفظة تدلّ على املراقبة‪ ،‬ولكن يبدو �أن اجل ّو البولي�سي الذي‬ ‫بف�ضل لغته الإ جنليزية ‪ -‬املجالّت الأ جنبية‪ ،‬ويقر�أ �آراء‬
‫كان الناقدان يعي�شان حتت وط�أته هو الذي �أوحى لهما‬ ‫النقّاد يف خمتلف �صناعة الفيلم‪ .‬يقول عي�سى مهدي‬
‫باملراقبة‪ .‬ث ّم �إنّ الق�صيدة ليلية تنعدم معها الر�ؤيا‪ .‬الظالم‬ ‫ال�صقر ‪�« :‬أتذكّر جل�ساتنا يف ال�سينما‪ .‬ال�صالة املعتمة‬
‫هنا كالظلمة القر� آنية مبثابة رحم وك�أن جميء الزائر �أ�شبه‬ ‫وحممود يجل�س بجواري �صامتاً‪� ،‬أو يتكلّم هم�س ًا حتّى‬
‫‪70‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫من االعرتاف‪ ،‬ب أ�نّها تذكّرين‪ ،‬بق�صيدة م�شهورة عنوانها‪:‬‬ ‫ما يكون مبخا�ض عظيم ولكنّه ال يخلو من خماطر‪.‬‬
‫«بانتظار الربابرة ‪ Waiting for the Barbarians‬لل�شاعر الإ غريقي ‪C.‬‬ ‫يقول ال�صكر كذلك‪« :‬تارك ًا للرياح (ال�سيادة على الفراغ)‬
‫‪ .P. Cavafy‬وفيها انتظار غريب من نوعه‪ ،‬ي�شرتك فيه حتى‬ ‫بينما يتلهّى هو ب�إعداد املائدة وتهيئة الك�ؤو�س»‪ .‬كيف‬
‫الإ مرباطور الذي ا�ستيقظ فيه مبكّراً ال�ستقبال �أعدائه‪ .‬ها هو‬ ‫يتلهّى؟‪ .‬الراوية انتهي من �إعداد املائدة وتهيئة املائدة �أ ّو ًال‬
‫الإ مرباطور يجل�س عند بوّابة املدينة الكبرية‪ ،‬على كر�سيّ‬ ‫ث ّم راح ينتظر بعد ذلك‪:‬‬
‫عر�شه‪ ،‬ويلب�س تاجه ر�سم ّياً‪ .‬امل�ست�شارون كذلك‪ ،‬يرتدون‬ ‫«�أعددت مائدتي وه ّي�أت الك�ؤو�س متى يجيء؟‬
‫حللهم احلمراء يف انتظار الربابرة‪ .‬ال يتغيّب من حفل‬ ‫من ناحية �أخرى‪ ،‬ف�إنّ توقيت‪« :‬متى يجيء»‪ ،‬دقيق‪� .‬أي‬
‫اال�ستقبال هذا �إ ّال اخلطباء‪ ،‬لأ نّ الربابرة ميلّون من البالغة‬ ‫�أن �إكمال عدّة ال�ضيافة يدلّل على تلهّف حار�س الفنار‬
‫و�إلقاء اخلطب‪� .‬إ ّال �أن النا�س ينفرطون �إىل بيوتهم مهمومني‪،‬‬ ‫لو�صول الزائر‪ .‬بهذه احليلة الفنّية �ش ّد الربيكان قارئه معه‬
‫يف ق�صيدة‬ ‫لأ نّ الليل قد حلّ‪ ،‬ولأ ن الر�سل عادوا من احلدود وذكروا �أنّ‬ ‫بالرتقّب‪.‬‬
‫الربيكان حار�س‬ ‫الربابرة غري موجودين‪ .‬تُختتم الق�صيدة بهذيْن البيتينْ ‪:‬‬ ‫يقول حامت ال�صكر �أي�ض ًا ‪« :‬ومن فناره يراقب احلار�س حركة‬
‫الفنار انتظار‬ ‫«والآ ن ما الذي �سنكون عليه بدون الربابرة؟ –‬ ‫العامل وهذا تلخي�ص ف ّذ ملوقف ال�شاعر وهو يطلق كائناته‬
‫كان ه�ؤالء الربابرة ح ّال من نوعٍ ما»‬ ‫ال�شعريّة يف بحر غام�ض ويراقب حياتها املحفوفة باخلطر‪،‬‬
‫ال‬
‫ل�شبح يكون ح ّ‬ ‫يف ق�صيدة الربيكان حار�س الفنار انتظار ل�شبح يكون‬ ‫مكتفي ًا بعزلته‪ ،‬نادم ًا على �أنّه �أ�سلم مولوداته لهذا امل�صري‬
‫من نو ٍع ما‪.‬‬ ‫ح ّال من نوعٍ ما‪ .‬ولكنْ مَ نْ هذا ال�شبح؟ هل هو من مادة‬ ‫املجهول‪ ،‬فراح يعاقب ذاته بتذكريها مب�صريها»‪ .‬قبل ك ّل‬
‫ولكنْ مَنْ هذا‬ ‫ب�رشية؟ �أم ماذا؟ يبدو �أنّ حار�س الفنار رمز لل�شاعر الذي‬ ‫�شيء‪ ،‬ما من «حركة للعامل يف الق�صيدة‪ /‬وثاني ًا ما هي‬
‫ال�شبح؟ هل هو‬ ‫يهدي الآ خرين‪ ،‬ولكنّه الآ ن هو نف�سه على و�شك االنطفاء‬ ‫الكائنات ال�شعرية التي �أطلقها حار�س الفنار؟‪ .‬وما دامت‬
‫من مادة ب�شرية؟‬ ‫كغروب � آلهة فاغرن‪ ،‬وهولدرلني‪ .‬تبد�أ الق�صيدة على �إيقاع‬ ‫غري موجودة فكيف يراقب حياتها املحفوفة باخلطر؟ �أكرث‬
‫�أم ماذا؟ يبدو �أنّ‬ ‫بحر الكامل‪ .‬جلي َل التفاعيل فخماً‪� .‬إيحا ًء بجالل املنا�سبة‬ ‫من ذلك لي�س يف الق�صيدة ندم‪ ،‬وما من عقاب‪.‬‬
‫وفخامة ال�ضيف‪:‬‬ ‫حامت ال�صكر –على اجتهاده – �ضحية بيئته‪ .‬بيئة‬
‫حار�س الفنار رمز‬ ‫�أعددتُ مائدتي‪ . .‬وه ّي�أتُ الك�ؤو�س‪ . .‬متى يجيء‬ ‫عدوانيّة مدعاة للهلع‪ .‬راكدة‪ .‬متطيرّ ة‪ .‬ت أ�ثّر مب�صطلحاتها‬
‫لل�شاعر الذي‬ ‫الزائ ُر املجهولُ ؟‬ ‫ف�أف�سدت عليه نظراته النقديّة‪ .‬هذه قب�صة مما ا�ستعمله‬
‫يهدي الآ خرين‪،‬‬ ‫�أوقدتُ القناديل ال�صغا ْر‬ ‫من مفردات‪ :‬يراقب‪ ،‬الهاج�س‪ ،‬اخلوف‪ ،‬يطلق‪ ،‬حياة‬
‫ولكنّه الآ ن هو‬ ‫ببقيّة الزيت امل�ضئِ‬ ‫حمفوفة باخلطر‪ ،‬مكتفي ًا بعزلته‪�( ،‬إذنْ ملاذا كان يراقب‬
‫نف�سه على و�شك‬ ‫فهل يطول االنتظار؟»‬ ‫حركة العامل)‪ ،‬امل�صري املجهول‪ ،‬يعاقب ذاته…» تلك‬
‫االنطفاء كغروب‬ ‫قد ن�سمع موج ًا ب�إيقاع �أعددتُ مائدتي‪،‬وال�سيّما بتكرار‬ ‫م�صطلحات تنطبق �أكرث ما تنطبق على بيئة �سيا�سية‬
‫حرف الدال‪ ،‬ولكنْ من وراء �ستار �أو جدار‪ ،‬لأ نّ القناديل ال‬ ‫مرتدية‪ ،‬ال على حار�س فنار رمزي‪ ،‬ذي موقف فل�سفي‪.‬‬
‫�آلهة فاغرن‪،‬‬ ‫ت�صمد �أ ّو ًال �أمام الرياح ل�صغرها‪ ،‬وثانيا لأ نّ الزيت على‬ ‫وجد طرّاد الكبي�سي «يف (�شخو�ص) ق�صائد الربيكان‬
‫وهولدرلني‬ ‫و�شك النفاد‪ .‬بهذه املثابة و�ضعنا ال�شاعر يف حالة ت أ�زّم‬ ‫�شخو�ص ًا «مهزومة باملعنى االغرتابي»‪ .‬ما املعنى‬
‫وترقّب‪� .‬أي �أن ال�شاعر �أدخل هنا‪ ،‬بحذق‪ ،‬عن�رص الزمن الذي‬ ‫االغرتابي؟ ث ّم عدّد �أنواع االنهزامات يف جملة من الق�صائد‪،‬‬
‫ارتبط بالقناديل وزيتها‪ .‬من هنا ت�أتي �أهميّة قوله‪« :‬فهل‬ ‫�سيا�سياً‪ ،‬واجتماعياً‪ ،‬ومدني ًا �أو مدين ّياً‪� ،‬أو مهزومة يف‬
‫يطول االنتظار؟»‬ ‫غربتها‪ .‬وحينما و�صل �إىل ق�صيدة حار�س الفنار قال‪:‬‬
‫ما الذي يريد الربيكان قوله يف هذه الق�صيدة؟ هل ح ّل‬ ‫«مهزومة يف انتظارها‪ ،‬انتظار الذي ي�أتي»‪.‬‬
‫اخلراب التام يف املدينة �أو يف احل�ضارة عموماً‪ ،‬بحيث مل‬ ‫لكنْ لي�س يف ق�صائد الربيكان انهزام من �أيّ نوع كان‪ .‬لو‬
‫ي ُع ْد لل�شاعر من دور‪ ،‬وها هو ينتظر �سفينة الأ �شباح ‪« :‬ليغيب‬ ‫�ألقينا نظرة على نهايات ق�صائد الربيكان‪ /‬لوجدناها يف‬
‫يف بح ٍر من الظلمات لي�س له حدود»‪ .‬يف تلك اللحظات‬ ‫الغالب مفتوحة‪ ،‬وك�أنّ قلقها م�ستمر وحريتها متوا�صلة‪.‬‬
‫احلا�سمة مت ّر يف ذهن حار�س الفنار م�شاهد مرعبة ملا م ّر‬ ‫رمبا الأ قرب �إىل ال�صواب القول �إنّ راوية الق�صيدة الربيكانية‬
‫يف هذا العامل من خراب‪ .‬لكنْ يف املقاطع التالية ينف�ضح‬ ‫‪:‬حمبط مبعناها الإ جنليزي ‪ Frustration‬وهي حالة الي�أ�س الذي‬
‫�أمر حار�س الفنار لأ ن له �صفات خارقة ال يتمتع بها ب�رش‪:‬‬ ‫ما يزال فيه �أمل‪� ،‬أو �أمل ي�شوبه ي�أ�س‪.‬‬
‫اجليو�ش‪ /‬يف �أ�ضخم‬ ‫ْ‬ ‫«�أب�رصتُ � آد َم يف تعا�سته‪ ،‬ورافقتُ‬ ‫قبل الدخول �إىل مقوّمات هذه الق�صيدة املجوّدة‪ ،‬ال ب ّد‬
‫‪71‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫النعو�ش‪ /‬غ ّنيْتُ � آالف املوا�سمِ‪ .‬من�شغ ًال دائم ًا بهند�سة الفراغ الأ بي�ض للق�صيدة ِلتُ�ش ّك َل‬ ‫ْ‬ ‫الغزوات‪ُ ،‬ن�ؤتُ بحمل � آالف‬
‫همتُ يف �أر�ض اجلمالْ ‪ /‬وو�صلتُ �أطراف املحالْ ‪ /‬ور�أيتُ بالتايل نقطة واحدة يف كينونة ال�شاعر املتوحّ د…»‬
‫كيف ُت َد ّم ُر املدنُ املهيبة يف اخلفاءْ‪� /‬شاهدتُ ما يكفي‪( .‬امللف‪� ،‬ص‪.)91‬‬
‫يذكر ر�شيد يا�سني ‪« :‬كان الربيكان يوم التقيته �أوّل‬ ‫وكنتُ ال�شاه َد احليَّ الوحيدْ‪ /‬يف �ألف جمزرة بال ذكرى‪/‬‬
‫مرّة‪ ،‬فتى نحيفاً‪� ،‬أدنى �إىل الطول منه �إىل ال ِق�صرَ ‪ ،‬يف نحو‬ ‫وقفتُ مع امل�ساءْ‪� /‬أت أ�مّل ال�شم�س التي حتمرّ‪ .‬كان اليوم‬
‫الثامنة ع�رشة‪� ،‬أو التا�سعة ع�رشة… ولكنّه كان بجبهته‬ ‫عيدْ‪ /‬ومكبرّ ات ال�صوت قالت ‪ :‬ك ّل �إن�سانٍ هنا‪ /‬هو جمر ٌم‬
‫العالية ونظّارته الطبية وب�أدبه اجل ّم ونربته الدافئة‪ ،‬يبدو‬ ‫حتى يُقا َم على براءته الدليلْ»‬
‫�أكرب من �سنّه ب�سنوات…كان حممود ودوداً‪ ،‬متوا�ضعاً‪،‬‬
‫بعيداً كل البعد عن الت�صنّع‪ ،‬و�إن يكنْ من الوا�ضح �أنّه كان‬
‫يبدو �أن الربيكان يتحدّث عن مفهوم ال�شاعر الذي ال‬
‫ميوت‪ .‬ال�شاعر �ساعة يكون �شاهداً يف ك ّل الع�صور‪ .‬حتى‬ ‫يبدو �أن الربيكان‬
‫ذا ثق ٍة عالية بنف�سه وقدراته اخلالّقة»‪ .‬يعقد ر�شيد يا�سني‬ ‫يتحدّث عن‬
‫بعد ذلك مقارنة طريفة بني �شخ�صيّتي ال�سيّاب والربيكان ‪:‬‬ ‫يف ً املدن اخلفيّة يف البحار»‪ .‬يتحدث عن الأ موات‪،‬‬
‫«كان ال�سيّاب – بلغة علماء النف�س ‪� -‬شخ�صية انب�ساطيّة‪،‬‬ ‫كما يتحدث عن النيا�شني و�أ�سلحة القرا�صنة‪ ،‬و�سبائك‬ ‫مفهوم ال�شاعر‬
‫فيها �شيء من عفويّة �أهل الريف وانفتاحهم‪ ،‬و�شيء من‬ ‫الذهب‪ ،‬وجدائل ال�شعر والأ �صابع املحطمّة النحيلة‪ .‬هذه‬ ‫الذي ال ميوت‪.‬‬
‫خبث الطفولة ومرحها ال�صاخب‪� ،‬أمّا الربيكان فقد كان –‬ ‫الرحلة البحرية �أ�شبه برحلة فاغرن البحرية‪ ،‬ولكن بدون‬ ‫ال�شاعر �ساعة‬
‫و�أظنّه ما زال – �شخ�ص ًا خجوالً‪ ،‬هادئاً‪ ،‬ميا ًال �إىل االنطواء‪،‬‬ ‫التفتي�ش عن اخلامت‪( .‬يبدو �أ ّن الربيكان مت�أثر ببحار‬
‫ال يتخلّى عن حتفظه حتى مع �أقرب �أ�صدقائه‪ .‬ومل يكنْ‬ ‫يكون �شاهداً يف ك ّل‬
‫فاغرن وهي بال �شك �أغرب بحار) قد يكون من املفيد‬
‫لل�سياب – رحمه اهلل – من �أ�رسار �شخ�صيّة‪ ،‬فقد كانت‬ ‫التوقف قلي ًال عند نهاية الق�صيدة ‪:‬‬ ‫الع�صور‪ .‬حتى يف‬
‫�ش�ؤونه ال�شخ�صية‪ ،‬حتى تلك التي تتعلّق بحياته العاطفية‬ ‫«�أنا يف انتظار اللحظة العظمى‪� /‬سينغلق املدار…‪/‬‬ ‫ًاملدن اخلفيّة يف‬
‫واجلن�سية‪ ،‬مادة حديثه املف�ضلة مع جل�سائه على مائدة‬
‫وال�ساعة ال�سوداء �سوف تُ�شَ ُّل جتمد يف اجلدارْ‪� /‬أنا يف‬ ‫البحار»‪ .‬يتحدث‬
‫�رشابه الليلية املعتادة يف حانات �أبي نوا�س �أو �شارع‬
‫الر�شيد �آنذاك‪� .‬أمّا الربيكان فقد كان دوم ًا كجبل اجلليد‬ ‫انتظار‪ /‬وال�ساعة ال�سوداء تنب�ض – نب�ض �إيقاعٍ بعيدْ‪/‬‬ ‫عن الأ موات‪،‬‬
‫العائم ال ترى منه العني �سوى �سطحه الظاهر‪ ،‬بينما تظ ّل‬ ‫رقّا�صها مت�أرج ٌح ق ِل ٌق مييل �إىل اليمنيْ‪� /‬إىل الي�سارْ‪� /‬إىل‬ ‫كما يتحدث عن‬
‫ت�سعة �أع�شاره حمتجبة حتت املاء»‪.‬‬ ‫اليمنيْ‪� /‬إىل الي�سارْ‪� /‬إىل الي�سار»‬
‫النيا�شني و�أ�سلحة‬
‫كان راوية الق�صيدة يف البداية‪ ،‬قد �أع ّد املائدة‪ ،‬وه ّي أ� ي�ضيف ر�شيد يا�سني �شيئ ًا مهم ًا عن �شخ�صيّة الربيكان‪« :‬ال‬ ‫القرا�صنة‪،‬‬
‫الك�ؤو�س‪ ،‬فال ب ّد �أنّ حا�سّ ة �سمعه كانت يف �أق�صى تركيز ي�شكو وال يتذمر �أمام �أحد من �أ�صدقائه‪ ،‬وال يتخلّى عمّا درج‬
‫بف�ضل الظالم‪� .‬أمّا يف املقطع �أعاله فتخفت مع‪« :‬ي�شلّ» عليه يف عالقاته مع النا�س من �أدب‪ ،‬و�سماحة خلق…من‬ ‫و�سبائك الذهب‪،‬‬
‫و«يجمد»‪ ،‬ث ّم بت�شبيه نب�ض ال�ساعة بنب�ض �إيقاعٍ بعيد‪ .‬بهذه دواعي الإ ن�صاف �أن �أ�ضيف �إىل �أنّ حمموداً ال يدانيه يف‬ ‫وجدائل ال�شعر‬
‫الو�سيلة الفنيّة ت�صعد حا�سّ ة الب�رص‪ ،‬وهي قلِقة وم�ستوفزة‪ .‬رفعة خلقه �أحد مما عرفتُ ‪ ،‬فطوال هذه ال�سنني التي امتدّت‬ ‫والأ �صابع املحطمّة‬
‫�إنّها الآ ن مت�سمرّة على رقّا�ص ال�ساعة‪ .‬الزمن بكلمات من ربيع العمر حتى خريفه املكفهر املوح�ش‪ ،‬ال �أذكر �أنّه‬ ‫النحيلة‬
‫�أخرى هو �سيّد الفراغ يف نهاية املطاف‪ ،‬ومن قبل كانت تفوّه �أمامي بكلمة تخد�ش احلياء‪ ،‬وال �أذكر �أنّه جتنّى يف‬
‫الرياح �سيّدة الفراغ‪ .‬لكنْ ملاذا كرّر ‪�« :‬إىل الي�سار» م ّرتينْ ؟ حكمه على �أحد‪� ،‬أو ذكر �أحداً ب�سوء»‪.‬‬
‫�أمّا مهدي عي�سى ال�صقر فيقول ‪« :‬حممود الربيكان قليل‬ ‫هل تعبت عيناه من مالحقة رقّا�ص الزمن‪ ،‬فرتك نقطة‬
‫الكالم‪ .‬هو النقي�ض لبدر �شاكر ال�سيّاب الذي يتدفّق يف‬ ‫اليمني وركّز يف نقطة واحدة‪( .‬هذا �إذا مل يكنْ يف ال�صورة‬
‫احلديث‪ ،‬و�أنه ي�رشب ويلهو ويروي النكات الالذعة‬ ‫داللة �سيا�سية)‪.‬‬
‫عن �شخ�صه وعن الآخرين‪ ،‬والذي يرتك نف�سه عر�ضة‬ ‫قبل االنتقال �إىل �أخطر مرحلة �شعريّة يف حياة الربيكان‪،‬‬
‫للأ هواء – �أهوائه و�أهواء الغري – تطوّح به كيف ت�شاء‪،‬‬ ‫قد يكون من املفيد‪ ،‬ر�سم �صورة �شخ�صيّة له من خالل ما‬
‫وت�ؤرجحه نزوات وغرائز تلتهب وتنطفئ يف تتابع يبعث‬
‫على احلرية والذهول… كان بدر يحبّ ن�صب الفخاخ‬
‫كتبه عنه بع�ض الذين عرفوه �شخ�ص ّياً‪.‬‬
‫واملقالب لأ �صدقائه املقرّبني وكان حممود يتفادى هذه‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ّق‬
‫ل‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫مت‬ ‫الربيكان‬ ‫كان‬ ‫ذكر ريا�ض �إبراهيم ‪»:‬منذ البداية‬
‫املقالب بذكاء‪� .‬أذكر مرة كنا نزور فيها بغداد (كنت وقتها‬ ‫�ضاجّ ًا بال�شعر واحلياة‪ ،‬حتى وهو يف ملكوت ال�صمت‬
‫بالب�رصة) وجل�سنا يف �أحد النوادي‪ ،‬فا�ستغ ّل بدر ان�شغال‬ ‫واالعتكاف… جمعتني و�إيّاه جل�سات طويلة وكثرية‪.‬‬
‫حممود وال�ضوء اخلافت يف املكان وعمد �إىل �سكب مقدار‬ ‫كنت �أرقبه خاللها ف�أجده قلِق ًا ال يعرف اال�ستقرار‪ ،‬مرهف ًا‬
‫من (العرق) من ك�أ�سه يف ك�أ�س (الع�صري) امام حممود‪ ،‬على‬ ‫ح�سّ ا�س ًا ت�ؤرقه كلمة يف نهاية �شط ٍر ما من �إحدى ق�صائده‪،‬‬
‫‪72‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫اهلل يف كرّا�سة الت�رشيح مر�سومهْ»‬ ‫�أمل �أن يراه ثم ًال يف نهاية اجلل�سة‪� ،‬إالّ �أ ّن الربيكان اكت�شف‬
‫خلت الأ بيات �أعاله من الفعل‪� .‬إذ ما من تفاعل بني احلاكم‬ ‫اللعبة‪ ،‬ومل يتحققْ لبدر ما �أراد» (امللف – �ص ‪)107‬‬
‫واملحكوم‪ ،‬فال�سلطة قررت وما على املواطن �إ ّال الطاعة‬ ‫لننظر الآ ن يف الأ �ساليب ال�شعرية التي ي�ستخدمها الربيكان‪،‬‬
‫والتنفيذ‪ .‬لنتابع الق�صيدة قلي ًال ‪:‬‬ ‫ورمبا متثّل املراحل الفنّية التي م ّر بها‪ .‬ال ميكن حتديد‬
‫أ�صناف من اخلمر (وال يك�شف عن‬ ‫ٍ‬ ‫«دم الأ حبار ممزوج ًا ب�‬ ‫املراحل زمن ّي ًا لأ نها متداخلة‪ .‬املرحلة الأ وىل بدا فيها‬
‫أقرا�ص‬
‫� ّرس املقاديرِ)‪ /‬خال�صات من الأ حالمِ –‪ /‬يف �صورة � ٍ‬ ‫�أ�سلوب الربيكان �رسدياً‪ ،‬وتنحو ق�صائده منحى احلكاية‪،‬‬
‫�رشاب‪ ،‬حقن يف الدم حتت اجللدِ‪� /‬أ�صوات ال�رصا�صريِ‪/‬‬ ‫ٍ‬ ‫مثل ق�صائده املعروفة ‪�« :‬أ�سطورة ال�سائر يف نومه»‪ ،‬و«�أغنية‬
‫م�سجّ لة ملَنْ يرغبُ ‪ /‬جماناً‪ /‬فخ ْذ ما �شيءت من �سوق‬ ‫حبّ من معقل املن�سيني» و«عندما ي�صبح عاملنا حكاية»‬
‫الأ �ساطري»‬ ‫و«هواج�س عي�سى بن �أزرق يف الطريق �إىل الأ �شغال ال�شاقّة»‪.‬‬
‫يف املقطع �أعاله ثالثة �أفعال فقط‪« :‬وال يُك�شَ ُف عن � ّرس‬ ‫من خ�صائ�ص ال�شعر احلكائي‪� ،‬أنّ ت�أثريه يت�ضخّ م ويت�سع‬
‫املقادير»‪ .‬عدم الك�شف هنا يثبّت كال الزمن واحلركة يف‬ ‫من توايل ال�صور ومراكماتها‪� .‬أيْ قلّما يعتمد على مفاج�أة‬
‫الفعل فيجعله �أقرب �إىل فحوى الأ �سماء‪ .‬الو�صفة جاهزة‬ ‫يف �صورة �أو �إيقاع‪� ،‬أو تركيب مبتكر‪ .‬الزمن فيها ينتقل‬
‫وخمتومة‪ .‬لذا فهو فعل خارج عن �أيّة عملية يف حت�ضري‬ ‫من حلظة �إىل �أخرى ب�صورة عاديّة طبيعية‪ .‬الأ فعال يف‬
‫تلك الو�صفة‪.‬‬ ‫ق�صائد كهذه‪ ،‬ت�أخذ �صيغة الفعل املا�ضي املقطوع ال�صلة‬
‫الفعل الثاين ‪« :‬ملن يرغب جمّ اناً»‪ ،‬ال عالقة له بالو�صفة‬ ‫باحلا�رض وامل�ستقبل‪ .‬زمن راكد يف مكانه‪ ،‬ال ي�أتي �إليك‪،‬‬
‫والطريقة الوحيدة لاللتقاء به هو الذهاب �إليه‪ .‬زمن له‬
‫كذلك‪.‬‬
‫�صفات الطلل‪ .‬متثّل هذه املرحلة نزعة الربيكان �إىل ك�شف‬
‫الفعل الثالث ‪« :‬فخذْ»‪ ،‬وهو فعل �أمر يت�شابه واال�سم يف‬
‫احلياة االجتماعية‪ ،‬وبال�رضورة الظروف ال�سيا�سية‪ .‬اتخذ‬
‫البناء‪� ،‬أ ّوالً‪ ،‬وما من دور له �أي�ضاً‪.‬‬
‫�أ�سلوب الربيكان يف املرحلة الثانية‪� ،‬صيغ املبا�رشة‪ ،‬بحيث‬
‫يف املقطع التايل من الق�صيدة ‪:‬‬ ‫ما�ض منقطع‪ ،‬بل‬ ‫�أ�صبح حتى الفعل املا�ضي ال ي�شري �إىل ٍ‬
‫«متاثيل من ال�شمع املظالّت‪ /‬نباتات‪ /‬من الإ �سفنج يف‬ ‫�إىل حدث ال يزال قائم ًا يف مراحل التكوين‪ ،‬كما يف «ق�صائد‬
‫املتنزّه العام‪ /‬قوانني مثبتة ب�أطراف امل�سامري‪ /‬على‬ ‫جتريدية»‪ ،‬وال �سيّما يف ق�صيدته الثالثة «عن احلرّية» ‪:‬‬
‫اجلماجم ال�صمّ‪ /‬تواريخ‪ /‬معاد �صنعها من �أحدث الآ الت‪/‬‬ ‫«قدّمتمويل منز ًال مزخرف ًا مريح‪ /‬لقاء �أغن ّيهْ‪ /‬تطابق‬
‫�أخبار تقارير»‬ ‫ال�رشوط‪� /‬أُوثر �أن �أبقى‪ /‬على جوادي و�أهيم من من مهبّ‬
‫يخلو املقطع �أعاله من الأ فعال ب أ�يّة �صيغة‪ .‬جمرّد �أ�سماء‬ ‫ريحْ ‪� /‬إىل مهبّ ريحْ »‬
‫ذات جر�س خميف‪� .‬إنّ هذا التماثل القاتل‪ ،‬يكون على �أكرثه‬ ‫هنا الفعل املا�ضي‪« :‬قدمتمويل»‪ ،‬متوا�صل مع احلا�رض‬
‫و�ضوحاً‪ ،‬يف البحر ال�شعري الذي اختاره الربيكان بال�صيغة‬ ‫بدليل ‪�« :‬أوثر �أن �أبقى»‪ .‬بكلمات �أخرى ف�إن ما عر�ضتموه‬
‫ال�صعبة من بحر الهزج‪ ،‬وقد تراوح بني ‪ :‬مفاعيلن مفاعيلن‪،‬‬ ‫يل ما يزال قائماً‪ ،‬و�أنّ رف�ضي ما يزال قائما‪ً .‬‬
‫ومفاعلنت مفاعيلن‪� .‬أمّا القوايف فقد تراوحت يف ثالث‬ ‫يف هذه املرحلة كما يبدو متيّز �أ�سلوب الربيكان با�ستخدام‬
‫نربات حازمة‪ ،‬ت�سكينها � ّرس �إرعابها ‪« :‬خمتومهْ‪ ،‬مر�سومهْ»‪،‬‬ ‫الأ �سماء على ح�ساب الأ فعال‪ ،‬وهذا �شيء طبيعي يف ك ّل‬
‫و«قوارير‪ ،‬مقادير‪� ،‬رصا�صري»‪ ،‬و«مظالّت‪ ،‬نباتات‪ � ،‬آالت»‪.‬‬ ‫�شعر ذهني �أو منطقي‪� ،‬أو حينما ي�صل ال�شاعر �إىل قناعات‬
‫تنوّعها قاتل كتنوّع التعذيب‪ .‬على �أيّة حال‪ ،‬ال تظهر‬ ‫جاهزة كالبديهيّات‪ .‬قال املتنبي ‪:‬‬
‫الأ فعال يف هذه الق�صيدة‪� ،‬إ ّال يف الأ بيات الأ ربعة الأ خرية‪:‬‬ ‫جريانها وهم � ّرش اجلوار لها‪ /‬و�صحبها وهم � ّرش‬
‫«عن اخلبز الذي مل يُخرتعْ بعد‪ /‬و�إ ْذ يرجتف الإ ن�سان يف‬ ‫الأ �صاحيب‪ /‬ف�ؤاد ك ّل حمبّ يف بيوتهم‪ /‬ومالُ ك ّل �أخيذ‬
‫حلظة تفكريْ‪ /‬يكون الأ مر قد متّ‪ /‬وهل للموت تربيرْ»‪.‬‬ ‫املال حمروب‪ /‬ما �أوجه احل�رض امل�ستح�سنات به‪ /‬ك�أوجه‬
‫ال ميتلك هذا الإ ن�سان الذي يعاد ت�صنيعه من جديد‪،‬‬ ‫البدويّات الرعابيب‪ /‬ح�سن احل�ضارة جملوب بتطرية‬
‫ح�سب قالب مُ عَ ّد للجميع‪� ،‬إالّ الأ فعال االنعكا�سية‬ ‫ويف البداوة ح�سن غري جملوب‪� /‬أين املعيز من الآ رام‬
‫كاحليوان‪ .‬يرجتف فقط‪ .‬وحتى �أثناء هذا االرجتاف‬ ‫ناظرة‪ /‬وغري ناظرة يف احل�سن والطيب»‬
‫الق�صري‪ ،‬يكون‪« :‬الأ مر قد متّ»‪� ،‬أي ال �أهمية لالرجتاف‪.‬‬ ‫املقطع �أعاله كما ال يخفي خال من �أيّ فعل‪� .‬أمّا الربيكان‬
‫بد�أ الربيكان ق�صيدته باجلانب العاطفي �أو الغريزي‬ ‫فيقول يف ق�صيدة ‪« :‬يف ال�سقوط اجلماعي»‪:‬‬
‫من الإ ن�سان‪ ،‬وهو احلبّ الذي يكون �أكرث �صدقاّ وت�أثرياً‬ ‫«دموع احلبّ جاهزة وخمتومهْ‪ /‬ب�أنواع القواريرِ‪ /‬عيون‬
‫‪73‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الربيكان‪ ،‬لي�شمل املخلوقات الدنيا وحتى اجلمادات‪ .‬فيه‬ ‫�إذا ترافق مع الدموع‪ .‬ولك ّن الدموع هذه املرّة‪« :‬جاهزة‬
‫�أي�ض ًا اكت�شافات ب�رصية و�سمعيّة مل يعرفْها الربيكان من‬ ‫وخمتومة ب�أنواع القوارير»‪ .‬عاد ال�شاعر ثانية �إىل‬
‫قبلُ‪� .‬أنهار غام�ضة حتت الأ ر�ض‪« ،‬ال �صوت لها وال �شك َل لها»‬ ‫الغريزة‪ ،‬يف نهاية الق�صيدة �أي بالفعل‪ :‬يرجتف‪،‬‬
‫و«ال �أثرلها يف �أيّة خريطة‪ ،‬و«ال يف �أيّ دليل �سياحي» كما‬ ‫ولك ّن الأ مر قد متّ‪ .‬مرّت بنا حل ّد الآن مرحلة الربيكان‬
‫يقول‪ .‬من قبل‪ ،‬مل يكن الربيكان يرى يف ال�صخرة �إالّ و�سادة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وبعد ذلك ح ّل تفا�ؤله بثورة ‪ 1958‬ث ّم‬
‫عند التعب‪ ،‬ولكنّه يف ديوان «عوامل متداخلة يعرّفنا على‬ ‫خيبته بها‪ ،‬ولكن لكونه �شاعراً تربوياً‪ ،‬بالدرجة الأ وىل‪،‬‬
‫�ستة �أنواع من ال�صخور يف ق�صيدته الغريبة‪« :‬درا�سات‬ ‫راح ميجّ د احلرّية الفردية‪ .‬ما من �شاعر غريه يف ال�شعر‬
‫يف عامل ال�صخور»‪ .‬يف هذه ال�صخور نقر�أ فيزيائيّتها‬ ‫العربي كتب عن احلرية الفردية وبنف�س العمق‪.‬‬
‫و�أ�رسارها‪ .‬نقر�أ فيها حزنها و�شعرها‪ ،‬ودفء �أمومتها‪ .‬يقول‬ ‫«جئت ْم بوج ٍه �آخ ٍر جديدْ‪ /‬يل متق ٌن ح�سب املقايي�س‬
‫با�سم املرعبي (يف مقدمته ملا اختاره من �شعر الربيكان)‪:‬‬ ‫املثاليهْ‪� /‬شكراً لكم‪ .‬ال �أ�شتهي عين ًا زجاجيهْ‪ /‬فم ًا من‬
‫«�إن ق�صائده مثل «درا�سات يف علم ال�صخور» – ب�شكل‬
‫املطّ اط‪ /‬ال �أبتغي �إزالة الفرق‪ .‬وال �أريد‪� /‬سعادة التماثل‬
‫خا�ص – تذكّر بطبيعة البحث العلمي من حيث التق�صّ ي‬
‫واال�ستغراق‪ ،‬رمبا ب�سبب مبا�رش من طبيعة املو�ضوع‪ ،‬كذلك‬
‫الكاملْ‪� /‬شكراً لكم‪ .‬دعوه يبقى ذلك الفا�صلْ‪� /‬ألي�س عبداً‬
‫حلرَفية العالية والإ حكام حتى لَت�أخذ الق�صيدة‬
‫ب�سبب من ا ِ‬ ‫يف ال�صميم �سيّد العبيد»‪.‬‬
‫�صفة «العلمية» ال �أكرث»‪.‬‬ ‫يف الوقت نف�سه �أمعن الربيكان يف اختبار جوهر الإ ن�سان‪،‬‬
‫فلع ّل العلّة كامنة فيه‪ .‬فامتحن �أ ّو ًال �أن�ساق احل�ضارات‬
‫�أمّا يف ق�صيدة «نوافذ»‪ ،‬فال يركّز الربيكان نظرنا على‬ ‫وكيف بنيت‪ ،‬وكيف �آلتْ �إىل ال�سقوط‪ ،‬ف�أ�صابه الت�شا�ؤم‪،‬‬
‫نافذة واحدة‪� ،‬أو على نوافذ مت�شابهة‪ .‬ثماين نوافذ خمتلفة‪.‬‬ ‫و�رست �إليه عدوى الالّجدوى‪ .‬ربمّ ا هذا ما عناه مهدي‬
‫نافذة فتاة يلوح ظلّها مرّة �أو م ّرتينْ خلف ال�ستارة‪ ،‬ونافذة‬ ‫عي�سى ال�صقر‪« :‬و�أظنّه مع مرور ال�سنني انتهي �إىل قناعة‬
‫ك�سيح يحاور الفراغ‪ ،‬ونافذة عجوز متت ّد يدها املعروقة‪،‬‬ ‫ترى ب أ�نّه يكفي الإ ن�سان �أن يقيم له بيت ًا متوا�ضع ًا �آمن ًا‬
‫لتعرف الوقت‪ ،‬وهل توارت ال�شم�س‪ .‬م�شهد الطفل حيث‬ ‫يربّي فيه �أطفاله‪ ،‬على �أح�سن وج ٍه ممكن بال �أحالم يف‬
‫يُ�سحب �إىل الداخل…�إلخ يختتم الربيكان هذه النوافذ بـ‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬وال �أمنيات بعيدة‪ ،‬ما دام ك ّل �شيء‪ ،‬يف نهاية‬
‫«نافذة ال�شاعر» ‪« :‬يفتحها للنور والريح وعطر الأ ر�ض‪/‬‬ ‫املطاف‪ ،‬عبث ًا وقب�ض ريح» (امللف‪�-‬ص ‪)107‬‬
‫يهجم منها �صخب العامل‪ /‬يغلقها ك�أنمّ ا لآ خر الزمان‪/‬‬ ‫رمبا تواطن الربيكان �إىل هذه القناعة ك�إن�سان‪ ،‬ولكن‬
‫ومثلما يُغلق تابوت �إىل الأ بد»‪.‬‬ ‫ك�شاعر مل يخم ْد له توق‪ ،‬فراح ي�صوغ عامل ًا جديداً ولكنْ‬
‫يف ديوان «عوامل متداخلة ق�صائد نفي�سة‪ ،‬كم كان بودّي �أن‬ ‫بعق ٍم نيت�شوي هذه املرّة‪ .‬متثّل ق�صيدة ‪« :‬حار�س الفنار»‪،‬‬
‫�أتوقّف عند ك ّل ق�صيدة‪ ،‬لوال ق�رص الوقت‪ .‬ولكن ميكن القول‪،‬‬ ‫هذه املرحلة خري متثيل‪ ،‬وهي بال �شكّ من ف�ضليات ال�شعر‬
‫�إنني لو �سئلتُ عن �أف�ضل �أربعة دواوين عراقية ظهرت يف‬ ‫العربي احلديث‪ .‬نرى �أ�سلوب الربيكان يف هذه املرحلة‪ ،‬وقد‬
‫القرن املا�ضي‪ ،‬لكان ديوان «عوامل متداخلة» واحداً منها‬ ‫�أ�صبح ذا جر�س عالٍ وقور‪ ،‬وفيه ثقة خطيب م�صلح‪ ،‬كما‬
‫وعن جدارة‪ .‬هل تن ّب أ� الربيكان مبوته؟ �أغرب تنب�ؤ‪:‬‬ ‫�أ�صبحت �صوره ال�شعريّة �أكرث كثافة وغمو�ضاً‪ .‬مع ذلك مل‬
‫ب�صوت خفي�ض‬
‫ٍ‬ ‫«على الباب نق ٌر خفيفْ ‪ /‬على الباب نق ٌر‬ ‫ي�أت ذلك الزائر الذي انتظره حار�س الفنار‪ ،‬ف�شاخ الزمن‬
‫ولكنّ �شديد الو�ضوحْ ‪ /‬يعاود ليالً‪� .‬أراقبه‪� .‬أتوقّعه ليلة بعد‬ ‫يف رقّا�ص ال�ساعة ال�سوداء فوقه‪ ،‬ومل يع ْد لدورانها معنى‪.‬‬
‫ليل ْه ‪� /‬أ�صيخ �إليه ب�إيقاعه املتماثلِ ‪ /‬يعلو قلي ًال قليال‬ ‫الك ّل يف انتظار غودو‪ .‬الك ّل يف انتظار الربابرة‪ .‬من هذا‬
‫ويخفت‪� /‬أفتح بابي‪ /‬ولي�س هناك �أحدْ‪ /‬من الطارق‬ ‫القنوط املرّح‪ ،‬من هذا الإ حباط امل�ضني‪ ،‬كان الربيكان يع ّد‬
‫املتخفي؟ تُرى؟‪� /‬شبح عائ ٌد من ظالم املقابرْ‪� /‬ضحيّة‬ ‫نف�سه‪ ،‬لأ خطر مرحل ٍة يف حياته ال�شعريّة‪ :‬مرحلة اال�ستبطان‬
‫ما�ض م�ضى وحياة خلتْ ‪� /‬أتتْ تطلب الث�أر؟‪ /‬روح على‬ ‫ٍ‬ ‫والتقمّ�ص‪ .‬ديوان «عوامل متداخلة» (ق�صائد‪– 1970‬‬
‫‪ ،)1992‬ميثّل هذه املرحلة خري متثيل‪.‬‬
‫الأ فق هائمة �أرهقتها جرميتها‪� /‬أقبلت تن�شد ال�صفح‬ ‫ي�ض ّم هذا الديوان حوايل ثماين ع�رشة ق�صيدة‪ ،‬ن�رشتها‬
‫واملغفرهْ‪ /‬ر�سول من الغيب يحمل يل دعوة غام�ضهْ‪/‬‬ ‫جملة �أقالم �ضمن ملفّها مع مقدمة تقريبية حلامت ال�صكر‪.‬‬
‫ومهراً لأ جل الرحيل»‪.‬‬ ‫يف هذا الديوان ا�ستقطار لك ّل املراحل ال�سابقة التي مرّ بها‬
‫دعْ كَ يا حممود من �شيك�سبري‪ ،‬وهاملت‪ ،‬و�شبح والده دنكن‪،‬‬ ‫الربيكان‪ .‬فيه قناعات راكزة‪ ،‬كتلك القناعات التي يتو�صل‬
‫وافتح الباب للطارق ال�صامت وام�ض معه‪� .‬إم�ض معه‪ .‬ال‬ ‫�إليها احلكماء بعد طول جتارب‪ .‬اجلمل مفعمة باحلكمة‬
‫مف ّر من الرحيل يا عزيزي حممود‪.‬‬ ‫�إالّ �أنّها خالية من الوعظ‪ .‬يف هذا الديوان يتو�سّ ع عامل‬
‫‪74‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جملة «�شعر» ‪ -‬الروافد والت�شكّالت‬


‫(حممد املاغوط وبول �شاوول)‬
‫حبيب بـوهرور‬
‫ناقد و�أكادميي جامعي‪ ،‬اجلزائر‬

‫خلقت جماعة «�شعر» ابتداء من العام ‪1957‬م تاريخ �صدور بيان الكتابة‬
‫اجلديدة ليو�سف اخلال(‪ )1‬مناخا فكريا وتيارا �إبداعيا متميزا عن كل التيارات‬
‫الفكرية‪ ،‬وا إلبداعية التي �سبقته‪� ،‬سواء من حيث الطرح التنظريي لل�شعر �أومن‬
‫حيث تفعيل هذا الطرح من خالل ا إلبداع املتفرّد الذي متثل يف ال�شعر اجلديد‬
‫بنوعيه ال�شعر احلر وق�صيدة النرث‪ ،‬هذه ا ألخرية وجدت ا ألر�ض اخل�صبة التي‬
‫منت وازدهرت فيها‪ ،‬فقد �سجل �أن �أول اهتمام جدي بال�شعر املنثور كان اهتمام‬
‫جماعة «�شعر» اللبنانية التي �صدرت �شتاء ‪1957‬م‪ ،‬وكانت �أول جمموعة طبعت‬
‫لواحد من جماعتها هو �أن�سي احلاج ب�أ�شهر‪ ،‬ثم تبعهما �شوقي �أبو �شقرا ويو�سف‬
‫اخلال وف�ؤاد رِفقه‪ ،‬و�آخرون‪ ،‬ولكن املالحظ �أن ت�سمية ال�شعر املنثور مل ت�صبح‬
‫(ق�صيدة نرث) �إال بعد اكت�شاف �أدوني�س كتابا فرن�سيا عنوانه (ق�صيدة النرث من‬
‫بودلري حتى الوقت الراهن) لكاتبته (�سوزان بارنار)‪.‬‬

‫‪ l‬جيل جملة �شعر بتنظرياته و�إبداعاته يف جمال ق�صيدة النرث �أ�ضحى ميثل جيل‬
‫الر�ؤيا ال�شعرية احلداثية‪ ،‬لأن احلداثة يف متظهرها الفني هي ر�ؤيا قبل �أن تكون‬
‫�أي ت�شكّل فني �آخر‪.‬‬
‫‪ l‬املاغوط‪ :‬من خ�صائ�ص الت�شكيل ال�شعري عنده �ضمن �إطار الق�صيدة ال�شفوية‬
‫تكثيف ال�صورة ال�شعرية ذاتها‪ ،‬بحيث ي�ستطيع املتلقي �أن يحيد عن م�س�ألة‬
‫املو�سيقى اخلارجية يف �إطارها التقليدي لأنه وجد ال�سر الت�شكيلي املتمثل يف‬
‫جمموعة االنفعاالت الكبرية التي ت�شع من اللغة ال�شعرية‪.‬‬
‫‪� l‬شاوول‪ :‬يبحث دائما يف كيمياء ال�شعر و�أحالم اليقظة املا ورائية‪ ،‬ووعيه‬
‫الت�صويف‪ ،‬وكتابة كل ما يخطر على باله وتدوينه يف كل حلظة‪  ‬لأنه القادر على‬
‫خلق كينونة الأ�شياء‪.‬‬

‫‪75‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب _ تقدمي الرتجمات ال�شعرية للق�صائد ا ألجنبية‬ ‫وقد �صدرت الطبعة ا ألوىل لهذا الكتاب عام ‪1959‬م‬
‫وذلك دون التزام القافية والوزن وهذا ما جعلها‬ ‫يف باري�س‪ ،‬وبعد �شهور من �صدوره كتب �أدوني�س‬
‫متثل �أمنوذجا ‪-‬لالحتذاء ‪ -‬وممار�سة طقو�س كتابة‬ ‫مقاال عنوانه (يف ق�صيدة النرث) ن�رشه يف جملة «�شعر»‬
‫جديدة‪.‬‬ ‫�شتاء عام ‪1960‬م(‪ ،)2‬فكان �أول من �أطلق على هذا‬
‫ت�صب يف خدمة ق�صيدة‬ ‫ج _ تثبيت مفهومات جديدة ّ‬ ‫النوع من الكتابة ت�سمية (ق�صيدة) كما فعلت �سوزان‬
‫النرث �أهمها ‪:‬‬ ‫برنار‪ ،‬ومل يكتف بذلك فقد ن�رش ق�صيدة نرث عنوانها‬
‫‪ .1‬الت�شكيل املو�سيقي اجلديد البعيد عن ا إليقاعية‬ ‫«مرثية القرن ا ألول «يف العدد نف�سه من جملة �شعر‪،‬‬
‫التقليدية‪.‬‬ ‫فبدت مقالته وك�أنها مقدمة لق�صيدته النرثية»(‪.)3‬‬
‫‪ .2‬حترير اللفظ من �سلطة ال�شعر من خالل هدم‬ ‫ويف عام ‪� 1960‬أ�صدر ال�شاعر �أن�سي احلاج ديوانه‬
‫الفا�صل بني ا أللفاظ ال�شعرية وا أللفاظ غري ال�شعرية‪.‬‬ ‫ال�شعري «النرثي» املو�سوم بـ«لن» وكتب مقدمة يُن ّظر‬
‫‪ .3‬كتابة الق�صيدة وقراءتها كبنية ر�ؤيوية مغلقة‬ ‫فيها للنوع ال�شعري اجلديد �أي ق�صيدة النرث‪ ،‬اعتمد‬
‫ومتكاملة يف الوقت نف�سه‪ ،‬والدعوة للتخلي عن‬ ‫فيها على �أفكار �سوزان بارنار يف كتابها ال�سابق‪،‬‬
‫التفكك البنائي الذي يقدم على ال�شكلية «باعتبار‬ ‫فطرح �إ�شكالية �صياغة ال�شعر من النرث وقدرة ال�شاعر‬
‫�أن ق�صيدة النرث ذات �شكل قبل كل �شيء‪ ،‬ذات وحدة‬ ‫على توليد ن�صو�ص �شعرية من �أعمال نرثية‪ ،‬لكون‬
‫مغلقة‪ ،‬هي دائرة �أو �شبه دائرة ال خط م�ستقيم هي‬ ‫ا آلداب العاملية كلها �أنتجت يف نرثها �شعرا عظيما‪،‬‬
‫جمموعة عالئق تنظم يف �شبكة كثيفة‪ ،‬ذات تقنية‬ ‫ألن ال�شعر ال يقف عند حدود الوزن والقافية �أو البحر‬
‫حمددة وبناء تركيبي مو ّحد منظم ا ألجزاء‪ ،‬متوازن‪،‬‬ ‫والرو ّي ‪.‬‬
‫تهيمن عليه �إرادة الوعي‪ ،‬التي تراقب التجربة ال�شعرية‬ ‫وقد مثّل احلاج لهذا «بن�شيد االن�شاد» يف العهد القدمي‬
‫(‪)7‬‬
‫وتقود توجيهها‪».‬‬ ‫من الكتاب املقد�س وب�شعر �سان جون بري�س(‪� ،)4‬أي‬
‫وتلتقي هذه املفاهيم مع الربنامج ال�شعري ليو�سف‬ ‫عو�ض ا إليقاع النمطي بالر�ؤيا ال�شعرية �أو الكيان‬
‫اخلال م�ؤ�س�س جملة �شعر‪ ،‬الذي ميكن قراءته يف‬ ‫الواحد املغلق على حد ّ تعبريه الذي تزيد من تفاعله‬
‫النقاط ا آلتية‪:‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫فرادة التجربة وعمقها‪.‬‬
‫[ التعبري عن التجربة احلياتية على حقيقتها كما‬ ‫ويتحدد دور جملة �شعر يف م�ساعدة ق�صيدة النرث‬
‫يعيها ال�شاعر بجميع كيانه‪� ،‬أي بعقله وقلبه معا‪.‬‬ ‫و�إعالء �ش�أنها ون�رشها وت�أكيد فنيتها يف النقاط‬
‫[ تطوير ا إليقاع ال�شعري العربي و�صقله على �ضوء‬ ‫ا آلتية‪:‬‬
‫امل�ضامني اجلديدة‪.‬‬ ‫�أ‪ -‬التكفل بن�رش الدرا�سات التي تتعر�ض بالنقد‬
‫[ االعتماد يف بناء الق�صيدة على وحدة التجربة‬ ‫والتحليل (ا إليجابي) للدواوين ال�شعرية احلداثية التي‬
‫واجلو العاطفي العام ال على التتابع العقلي والت�سل�سل‬ ‫تتخذ من ق�صيدة النرث �أمنوذجا للكتابة والثورة‪ ،‬كما‬
‫املنطقي‪.‬‬ ‫تكفلت املجلة �أي�ضا بن�رش الدرا�سات ال�شعرية النظرية‪،‬‬
‫[ ا إلن�سان يف �أمله وفرحه‪ ،‬يف خطيئته وتوبته‪ ،‬يف‬ ‫ودواوين �شعرية متميزة‪ .‬ففي العدد احلادي ع�رش‬
‫حريته وعبوديته‪ ،‬يف حقارته وعظمته‪ ،‬يف حياته‬ ‫من جملة �شعر‪ ،‬ظهرت �أول حماولة تنظريية للتوجه‬
‫وموته‪ ،‬هو املو�ضوع ا ألول وا ألخري‪ ،‬كل جتربة ال‬ ‫اجلديد‪ ،‬ممثلة يف مقالة �أدوني�س بعنوان «حماولة يف‬
‫يتو�سطها ا إلن�سان هي جتربة �سخيفة ال ي�أبه لها‬ ‫تعريف ال�شعر احلديث» فقد وُ�ضحت يف هذه املقالة‬
‫ال�شعر اخلالد العظيم‪.‬‬ ‫ت�أثريات املفاهيم ال�رسيالية على �أدوني�س‪ ،‬ف�إذا‬
‫[ وعي الرتاث الروحي العقلي العربي وفهمه على‬ ‫به يعرف ال�شعر ب�أنه ر�ؤيا وك�شف‪ ،‬و�إذا به يعتربه‬
‫حقيقته و�إعالن هذه احلقيقة وتقييمها كما هو‪ ،‬دون‬ ‫نوعا من املعرفة ونوعا من ال�سحر‪ ،‬وتغيري يف نظام‬
‫خوف �أو تردد‪.‬‬ ‫ا أل�شياء والنظر �إليها‪ .‬بل �إنه يرى �أن ال�شعر يغري �إيقاع‬
‫[ الغو�ص يف �أعماق الرتاث الروحي العقلي ا ألوروبي‪،‬‬ ‫نقل الواقع ب�إيقاع �إبداعه‪ ،‬ويحجب واقعا �أغنى‪ ،‬وراء‬
‫وفهمه والتفاعل معه‪.‬‬ ‫»(‪)6‬‬
‫وقائع العامل‪...‬‬
‫‪76‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أ�سا�سيا لدى �شعراء احلداثة العربية‪ ،‬فكان غائبا‬ ‫[ ا إلفادة من التجارب ال�شعرية التي حققّها �أدباء‬
‫حا�رضا‪ ،‬يف �آن‪ ،‬غائب بالفعل؛حا�رض بالقوة‪ ،‬لكنه‬ ‫العامل‪ ،‬فعلى ال�شاعر اللبناين احلديث �أال يقع يف خطر‬
‫الغياب الذي ال يف�ضي �إىل ن�سيان‪ ،‬بقدر ما يف�ضي �إىل‬ ‫االنكما�شية كما وقع ال�شعراء العرب قدميا بالن�سبة‬
‫الت�شبث بالغائب‪ ،‬لي�صبح ح�ضورا فادحا‪ ،‬بال غفران‪،‬‬ ‫(‪)8‬‬
‫ل ألدب ا إلغريقي‪.‬‬
‫(‪)10‬‬
‫انه نوع من املهدي املنتظر‪».‬‬ ‫د ‪� -‬إعالء �شعار االحتواء ا إلبداعي املتميز دون‬
‫‪� - 2‬ضعف ال�شعر التقليدي وانحطاطه �أمام الرغبة يف‬ ‫�إق�صاء‪ ،‬حيث مثلت املجلة �إطارا للتجارب ال�شعرية‬
‫معاي�شة الواقع املعي�ش‪ ،‬بعيدا عن املعاي�شة الو�صفية‬ ‫اجلديدة وميدانا لل�شعراء ال�شبان الروّاد يف ميدان‬
‫الغنائية‪ ،‬و�إمنا خلق ف�ضاء عامل جديد يوازي ويعادل‬ ‫ق�صيدة النرث‪.‬‬
‫العامل املو�ضوعي املعي�ش‪� ،‬إنها حلظة خلق الق�صيدة‬ ‫وكان مناخ ن�شاط جماعة �شعر �أكرث مالءمة‬
‫الر�ؤيا كمظهر من مظاهر احلداثة‪ ،‬وهذا ما عملت‬ ‫لتفعيل الر�ؤى وا ألفكار والطاقات التجديدية‪� ،‬أكرث‬
‫اجلماعة على جتاوزه وجت�سيده خا�صة �إذا علمنا‬ ‫من �أي مناخ �سابق بحيث اجتمعت جمموعة من‬
‫«�أن ق�صيدة النرث قد جاءت يف �سياق ملمح احلداثة‬ ‫ا أل�سباب ع ّجلت بانت�شار �أفكار اجلماعة انت�شارا‬
‫وهو التجاوز‪.‬وتخليها عن الوزن �أو ا إليقاع اخلارجي‬ ‫وا�سعا يف ال�ساحة ا ألدبية وا إلبداعية العربية‬
‫رمبا يكون �أهم خطوة من خطوات هذا التجاوز‪،‬‬ ‫نذكر منها ما ي�أتي‪:‬‬
‫ألنها اخلطوة التي بد� أ بها �ألف ميل م�سرية ق�صيدة‬ ‫‪ -1‬تنامي التو ّجه نحو ا آلخر ا ألوروبي فكريا‬
‫(‪)11‬‬
‫النرث‪».‬‬ ‫و�إبداعيا‪ ،‬من خالل بعث حركية التجربة ا ألدبية‬
‫‪ -3‬ميل الكثري من �شعراء اخلم�سينات �إىل «الكتابة‬ ‫خا�صة من الثقافة الفرن�سية والثقافة ا ألجنلو �أمريكية‪،‬‬
‫بالنرث»‪ ،‬خا�صة ال�شعراء الواقعيني وال�شيوعيني الذين‬ ‫فقد قر� أ �أع�ضاء اجلماعة ب�شغف كبري �إ�رشاقات‬
‫اقرتبوا من النرث ال يف �أ�سلوبهم ولغتهم فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫رامبو‪ ،‬وف�صله يف اجلحيم و�أزهار ال�رش و�س�أم باري�س‬
‫يف اجلو وا ألداء خا�صة عند عبد الوهاب البياتي‪،‬‬ ‫لبودلري‪ ،‬و�أنا�شيد مالدورور للوثر يامون‪ ،‬فوقفوا على‬
‫ونذير طعمة‪ ،‬و جربا �إبراهيم جربا‪ ،‬وقد متيزت‬ ‫«ترجمات النتاج الغربي من ال�شعر خا�صة ممّا �أثبت‬
‫كتابات ه�ؤالء بالعمل على تب�سيط اجلملة ال�شعرية‬ ‫�أن مو�ضوع الق�صيدة املرتجمة‪ ،‬والغنائية التي تزخر‬
‫انطالقا من ب�ساطة املفردة وب�ساطة الرتكيب بحثا‬ ‫بها‪ ،‬و�صورها ووحدة االنفعال والنغم فيها عنا�رص‬
‫عن جماهريية ال�شعر ومقروئيته الوا�سعة بني �أفراد‬ ‫قادرة على توليد ال�صدمة ال�شعرية دون حاجة �إىل‬
‫ال�شعب‪.‬‬ ‫وزن وقافية(‪.)9‬‬
‫يف ظل هذا املناخ ر�سمت جملة �شعر ا�سرتاتيجية‬ ‫كما كان ل�صدور كتاب ا ألديبة والناقدة الفرن�سية‬
‫ق�صيدة النرث كملمو�س حداثي مبني على جت�سيد‬
‫�سوزان برنار «ق�صيدة نرث من بودلري حتى الوقت‬
‫حلظات الرف�ض‪ ،‬وفق حممول من حمموالت‬
‫الراهن» �أثر ٌ كبيرٌ ر�سم وحدّد كلّ مفاهيم ال�شعرية‬
‫احلداثة‪ ،‬فلي�ست «ق�صيدة النرث يف جتاوزها‬
‫ال�شكل القدمي جمرد رف�ض له‪ ،‬و�إمنا هي جزء من‬ ‫احلداثية اجلديدة عند جماعة �شعر‪ ،‬فقد كتب ا أل�ستاذ‬
‫م�ؤامرة على التقليد الذي ال يعك�سنا‪ .‬ولهذا فهذه‬ ‫ال�شاعر رفعت �سالمّ يف التقدمي لرتجمة كتاب �سوزان‬
‫اخليانة لي�ست �رشفا فح�سب بل هي قبل ذلك‬ ‫برنار قائال‪:‬‬
‫عمل طبيعي �إح�سا�سي جتاه هذا التقليد الذي‬ ‫«لكتاب (ق�صيدة النرث من بودلري حتى الوقت‬
‫ي�شبه �سجنا �رشط التحرّر منه هدمه حتى على‬ ‫الراهن) ل�سوزان برنار تاريخ عربي‪ ،‬وفاعلية م�ؤكدة‬
‫ما فيه»‪ ،)12(.‬خا�صة �إذا الحظنا �أن ق�صيدة النرث‬ ‫يف ال�شعرية العربية منذ �صدور طبعته ا ألوىل عام‬
‫التي تدعو �إليها هذه اجلماعة هي ق�صيدة تعمل‬ ‫‪1958‬م بباري�س‪ ،‬بل رمبا كانت فاعليته‪ ،‬عربيا‪،‬‬
‫على �أن تفارق الق�صيدة العمودية‪ ،‬مفارقة �شكلية‬ ‫�أعمق و�أفدح من فاعليته فرن�سيا‪ ،‬يف جماله احليوي‬
‫وم�ضمونية ال رجعة فيها‪ .‬وهذا عك�س ق�صيدة‬ ‫ا أل�صلي‪ ،‬مفارقة ت�ضيء يف بع�ض وجوهها �آليات‬
‫التفعيلة التي ظلت حمتفظة بعالقات خمتلفة‬ ‫التفاعل الثقايف و�أ�شكالها العربية‪ ...‬وطوال هذه‬
‫مع النمط القدمي‪ ،‬ب�رشط �أال يفهم من هذا �إحداث‬ ‫ال�سنني‪-‬قرابة ا ألربعني �سنة‪-‬ظل الكتاب هاج�سا‬
‫‪77‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫م�ستوى الن�صو�ص ا إلبداعية‪� ،‬أم على م�ستوى النقد‬ ‫قطيعة تامة �أي�ضا مع الرتاث‪ « ،‬ألن ق�صيدة النرث‬
‫والتنظري»(‪.)15‬‬ ‫كما عرفنا قبلُ لها �صلة بهذا الرتاث ب�إحالتها‬
‫لهذا مثلت جماعة �شعر‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬احللقة‬ ‫�إليه‪� ،‬سواء منه القدمي‪ ،‬حني و�صلها عن طريق‬
‫ال�شاذة من حلقات ال�شعرية العربية بامتياز‪.‬‬ ‫الرتاث ال�صويف بظهوره فيها‪� ،‬أو احلديث حني‬
‫ألنها �أقرّت ب�رضورة الهدم والبناء ولكن دون �أن‬ ‫و�صلها بال�شعر املنثور و�إرجاعها �إليه �إرجاعا‬
‫تُن ّ ِم َط ما تبني وال ت�شكّل ما ت�ؤ�س�س‪.‬فلقد حاول‬
‫(‪)13‬‬
‫رئي�سا ‪».‬‬
‫تعرف مو�سوعة «برن�ستون» لل�شعر وال�شعرية « ‪Princeton‬‬
‫بع�ض �أع�ضائها وعلى ر�أ�سهم �أن�سي احلاج‬
‫و�أدوني�س‪ ،‬ويو�سف اخلال تثبيت بع�ض املفاهيم‬ ‫‪ ، »Encyclopedia of Poetry and Poetics‬ق�صيدة النرث على النحو‬
‫ا ألولية لق�صيدة النرث بالرغم من �إميانهم �أن‬ ‫ا آلتي‪« :‬هي ق�صيدة تتميز ب�إحدى‪� ،‬أو بكل خ�صائ�ص‬
‫الثابت �شكل جاهز والنمط قيد يعيق الر�ؤيا‬ ‫ال�شعر الغنائي‪ ،‬غري �أنها تُعر�ض على ال�صفحة على‬
‫والتحديث‪ ،‬فحددوا خ�صائ�ص ق�صيدة النرث التي‬ ‫هيئة النرث‪ ،‬و�إن كانت ال تعد كذلك‪...‬وتختلف ق�صيدة‬
‫احتوت �ضمنيا على مبادئ اجتاههم يف الكتابة‬ ‫النرث عن النرث ال�شعري (‪ )Poetic Prose‬ب�أنها ق�صرية‬
‫والثورة‪ ،‬هذا ما يعر�ضه الدكتور رفعت �سالم يف‬ ‫ومر ّكزة‪ ،‬وعن ال�شعر احلر(‪)Free Verse‬ب�أنها ال تلتزم‬
‫نظام ا ألبيات‪ ،‬وعن ق�صيدة النرث ب�أنها عادة ذات‬
‫النقاط ا آلتية ‪:‬‬
‫�إيقاع �أعلى‪ ،‬وم�ؤثرات �صوتية �أو�ضح‪ ،‬ف�ضال عن �أنها‬
‫� أ‪ -‬يجب �أن ت�صدر ق�صيدة النرث عن �إرادة بناء وتنظيم‬
‫�أغنى بال�صورة وكثافة العبارة‪ .‬وقد تت�ضمن ق�صيدة‬
‫واعية‪ ،‬فتكون كال ّ ع�ضويا م�ستقال‪ ،‬وهذا ما يتيح لنا‬
‫النرث ر�ؤيا داخلية و�أوزانا عرو�ضية‪ .‬ويرتاوح طولها‬
‫�أن منيزها عن النرث ال�شعري الذي هو جمرد مادة‪،‬‬
‫على وجه العموم‪ ،‬بني �صفحة (فقرة �أو فقرتني)وثالث‬
‫فالوحدة الع�ضوية خا�صية جوهرية يف الق�صيدة‪.‬‬
‫�صفحات �أو �أربع‪ ،‬مبعنى �أنها متاثل الق�صيدة الغنائية‬
‫ب ‪ -‬هي بناء فن ّي متميز‪.‬فق�صيدة النرث ال غاية‬ ‫املتو�سطة الطول‪ ،‬و�إذا جتاوزت هذا الطول ف�إنها تفقد‬
‫لها خارج ذاتها‪� ،‬سواء �أكانت هذه الغاية روائية �أو‬ ‫(‪)14‬‬
‫توتراتها و�أثرها‪ ،‬وت�صبح تقريبا نرثا �شعريا‪».‬‬
‫�أخالقية �أو فل�سفية �أو برهانية‪ .‬فهناك جمانية يف‬ ‫يت�ضح من التعريف املو�سوعي ال�سابق لق�صيدة‬
‫الق�صيدة‪ ،‬وميكن حتديد املجانية بفكرة الالزمنية‪.‬‬ ‫النرث �أن هذا اللون من ا ألدب يف ال�شعرية الغربية‬
‫ج – الوحدة والكثافة‪ ،‬فعلى ق�صيدة النرث �أن تتجنب‬ ‫التي متثل الرافد ا أل�سا�سي جلماعة �شعر‪ ،‬هو محُ كم‬
‫اال�ستطرادات وا إلي�ضاح وال�رشح‪ ،‬وكل ما يقودها �إىل‬ ‫التعريف‪ ،‬حمدد ا ألدوات ووا�ضح الغايات خا�صة عند‬
‫(‪)16‬‬
‫ا ألنواع النرثية ا ألخرى‪».‬‬ ‫الفرن�سيني‪ ،‬الذين ُعدّوا رواد هذا الت�شكيل ال�شعري‬
‫�أما �أن�سي احلاج فقد عر�ض يف مقدمة ديوانه «لن»‬ ‫املتفرد واجلديد‪ ،‬يف حني جاءت املفارقة الكربى يف‬
‫تعريفا لق�صيدة النرث ركز ّ خالله على ثالثية ا إليجاز‬ ‫ا�سرتاتيجية جماعة �شعر �أنهم تبنوا التعريف ال�سابق‬
‫والتوهج واملجانية‪ ،‬ك�رشوط �أ�سا�سية لالنتقال من‬ ‫وانطلقوا يف التنظري لق�صيدة النرث من نقطة انتهاء‬
‫مرحلة االحتذاء با إلرثيني �إىل �أمنوذج ا إلبداعيني‬ ‫النقد الفرن�سي‪ -‬فيما �أر�ساه من مفاهيم خا�صة عند‬
‫يقول‪:‬‬ ‫�سوزان برنار‪-‬دون �أن يكون لديهم النموذج ا إلبداعي‬
‫«‪...‬لتكون ق�صيدة النرث ق�صيدة نرث‪� ،‬أي ق�صيدة حقا‪،‬‬ ‫التطبيقي «وهو ما فعله كل من �أدوني�س يف مقالته‬
‫ال قطعة نرثية فنية‪� ،‬أو محُ مّلة بال�شعر‪� ،‬رشوط ثالثة‪:‬‬ ‫مبجلة �شعر اللبنانية عدد ‪ 14‬ل�سنة ‪1960‬م‪ ،‬و�أن�سي‬
‫ا إليجاز (االخت�صار)‪ ،‬التو ّهج‪ ،‬واملجانية‪ .‬فالق�صيدة‪،‬‬ ‫احلاج يف مقدمته لديوانه «لن»‪ ،‬وفخري �صالح‬
‫�أي ق�صيدة‪ ...‬ال ميكن �أن تكون طويلة‪ ،‬وما ا أل�شياء‬ ‫يف جملة ف�صول امل�رصية‪ ،‬وغريهم من النقاد ممن‬
‫ا ألخرى الزائدة �سوى جمموعة من املتناق�ضات‪،‬‬ ‫�سار على نهجهم‪ ،‬ومن الدالئل التي ت�ؤكد على تبني‬
‫يجب �أن تكون ق�صيدة النرث ق�صرية لتوفّر عن�رص‬ ‫تعريف لق�صيدة النرث يبتعد متاما عن تواجدها‬
‫ا إل�رشاق‪ ،‬ونتيجة الت�أثر الكلّي املنبعث من وحدة‬ ‫الفعلي يف الوطن العربي‪� ،‬أن الذين تبنوا هذا التعريف‬
‫ع�ضوية واحدة‪.)17(»..‬‬ ‫من ال�شعراء والنقاد عادوا مرة �أخرى لهدم ما تبنوه‪،‬‬
‫و�أرى �أن هذا الكالم ألن�سي احلاج ما هو �إال �صدى‬ ‫بل بلغ احلد تبني عك�س ما كان متاما‪� ،‬سواء على‬
‫‪78‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بل نقنع اجليو�ش باخليانة‪ ،‬كما تقول‪ :‬يعني‪ ،‬نقنعهم‬ ‫مبا�رش لكالم �سوزان برنار حول �رشوط االرتقاء‬
‫(‪)20‬‬
‫بالفو�ضى �أي�ضا‪».‬‬ ‫بالنرث �إىل ال�شعرية‪� ،‬أي البحث عن حتقيق ا إليجاز‬
‫ويت�ضح مما �سبق �أن نون اجلماعة التي‬ ‫جتنبا لال�ستطرادات وا إل�سهامات التف�سريية‪� ،‬أي كل‬
‫ي�ستعملها �أدوني�س والتي تعود بال�رضورة اىل‬ ‫ما قد ي�ؤول بها �إىل �أنواع النرث ا ألخرى‪ ،‬ثم التو ّهج‬
‫جماعة ال�شعر‪ ،‬هي حد ّ جت�سيد الف�صل بني ا ألنا‬ ‫و�صوال �إىل جمانية الق�صيدة ذاتها‪ .‬تقول‪...»:‬وقد‬
‫وا آلخر يف متظهراته املختلفة‪ ،‬ا ألنا الفو�ضوية‪،‬‬ ‫حاول ُت ا إل�شارة �إىل ال�رشوط ال�رضورية لو�صول‬
‫الهدامة‪ ،‬اخلالقة‪ ،‬احلاملة بر�ؤيا تتجدد بتجدد‬ ‫ق�صيدة النرث �إىل جمالها اخلال�ص‪� ،‬أي �أن ت�صبح‬
‫الرائي ذاته‪ ،‬فال تقع يف �سوداوية النمط وال‬ ‫ق�صيدة حقا ال قطعة نرثية منمقة �إىل هذا احلد �أو‬
‫�سلطوية ا إلرث متار�س الرف�ض الذي يهز ّ العامل‬ ‫ذاك‪ :‬فا إليجاز والكثافة واملجانية‪ ،‬لي�ست بالن�سبة‬
‫يف حلظة خما�ض الق�صيدة‪ ،‬وتعلن الت�أ�سي�س من‬ ‫لها مثلما ر�أينا عنا�رص جمال حمتملة‪ ،‬و�إمنا عنا�رص‬
‫منرب احلرية ا إلبداعية يقول‪:‬‬ ‫جوهرية حقًا بدونها ال وجود لها‪.)18(»...‬‬
‫«هكذا نخطط وجودا يجعل الوجود حولنا غريبا‪،‬‬ ‫�أما الفقرة يف الن�ص ا أل�صلي فهي على النحو ا آلتي ‪:‬‬
‫ميحوه‪ ،‬ي�سلبه احل�ضور‪ ،‬هكذا ن�سقط وجند خال�صنا‬ ‫«‪j’ai tenté d’indiquer …les conditions nécessaires pour que le poème en prose..‬‬

‫‪atteigne sa beauté propre, c’est a dire soit vraiment un « poème » et non un‬‬
‫يف ال�سقوط‪ ،‬هكذا نعلن �أنف�سنا غواة وخائنني‪.‬الهاوية‬
‫‪morceau de prose plus ou moins travaillé : brièveté, intensité, gratuité sont pour‬‬
‫ت�أتي معنا‪ ،‬نعرف ذلك‪� ،‬سنعمّقها‪� ،‬سنو� ّسعها‪� ،‬سن�صنع‬
‫‪lui ,nous l’avons vu, non des éléments de beauté possibles, mais vraiment des‬‬
‫لها �أجنحة من الريح وال�ضوء‪...‬املكان يقاومنا‪،‬‬ ‫(‪)19‬‬
‫‪» … élément constitutifs sans les quels il n existe pas‬‬
‫ا أل�شياء تقاومنا‪ ،‬املا�ضي واحلا�رض يقاومنا‪ ،‬البعيد‬
‫وحدة معنا‪ ،‬وال �سالح لهذا البعيد غري ح�ضورنا‬ ‫و�أعتقد �أن احلاج قد �سلم ّ متاما مبعطيات برنار‪� ،‬إىل‬
‫ال�شعري »(‪. )21‬‬ ‫درجة �أنه مل ي�ستطع �أن يخلع على مقتب�ساته من برنار‬
‫طابعا �شخ�صيا‪ ،‬وا�صطالحا �أقرب �إىل ا إلبداعية منه‬
‫وذهب �أدوني�س يف خطابه �إىل �أن�سي احلاج‪� ،‬إىل‬
‫�إىل النقل احلريف‪ ،‬هذا ما يت�ضح يف الرتجمة ا آلتية‬
‫حتديد موقف اجلماعة املرحلي (‪ )22‬من الرتاث‪ .‬فرف�ض‬
‫لل�رشوط الثالثة ‪:‬‬
‫االنزواء يف �إحدى زواياه املقد�سة ألنه ال يعدو �أن‬
‫يكون جزءا من ح�ضورنا ولي�س هو ح�ضورنا ذاته‪،‬‬ ‫‪Suzanne Bernard‬‬ ‫�أن�سي احلاج‬
‫يقول ‪:‬‬
‫«لي�س الرتاث مركزا لنا‪ .‬لي�س نبعا ولي�س دائرة‬ ‫‪Brièveté‬‬ ‫اليجاز‬
‫إ‬
‫حتيط بنا‪ .‬ح�ضورنا ا إلن�ساين هو املركز والنبع‪.‬‬ ‫‪Intensité‬‬ ‫التوهج‬
‫وما �سواه والرتاث من �ضمنه‪ ،‬يدور حوله‪ .‬كيف‬ ‫‪Gratuité‬‬ ‫املجانية‬
‫يريدوننا �إذن �أن نخ�ضع ملا حولنا ؟ لن نخ�ضع‪،‬‬
‫�سنظل يف تواز معه‪� ،‬سنظل يف حماذاته‪ ،‬وقبالته‪،‬‬ ‫وقد �أثنى �أدوني�س على تنظريات احلاج و�إبداعاته‬
‫وحني نكتب �شعرا �سنكون �أمناء له‪ ،‬قبل �أن نكون‬ ‫يف جمال الت�أ�سي�س لق�صيدة النرث العربية‪ ،‬يف ر�سالة‬
‫�أمناء لرتاثنا‪� .‬إن ال�شعر �أمام الرتاث ال وراءه‪.‬‬ ‫بعثها �إليه من باري�س �أوائل العام ‪1961‬م‪ .‬حتدّدت‬
‫فليخ�ضع تراثنا ل�شعرنا نحن‪ ،‬لتجربتنا نحن‪...‬‬ ‫من خاللها الفل�سفة العامة جلماعة �شعر من جهة‪،‬‬
‫من هنا الفرق احلا�سم بيننا وبني ا إلرثيني‪ :‬ال‬ ‫وفل�سفة ق�صيدة النرث من جهة �أخرى‪ ،‬يقول يف بع�ض‬
‫يقدم نتاجهم �إال ّ �صورة ال�صورة‪� ،‬أما نحن فنخلق‬ ‫منها‪:‬‬
‫�صورة جديدة»(‪.)23‬‬ ‫«‪..‬يُ�سمينا ا إلرثيون «الفو�ضى»‪ .‬ي�سموننا �أي�ضا‬
‫وتت�ضح مما �سبق �أ�س�س التنظري للنوع ال�شعري اجلديد‬ ‫«اخليانة»‪ .‬هكذا نبدو يف �أعينهم‪ .‬للمرة ا ألوىل‪ ،‬ال‬
‫عند اجلماعة عموما و�أن�سي احلاج و�أدوني�س على‬ ‫يخطئون النظر‪ .‬فاحلق �أننا نعلن فو�ضانا وخيانتنا‪.‬‬
‫وجه التخ�صي�ص‪ ،‬بحيث مل تعد ق�صيدة النرث جمرد‬ ‫يف ذلك العامل املمغنط باجليف املقد�سة‪.‬وال نكتفي‪،‬‬
‫ثورة �شكلية وم�ضمونية يف احلركة ال�شعرية العربية‬
‫‪79‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تنامي الر�ؤيا‪ .‬من هنا ف�إن كل ر�ؤيا هي تغيري‬ ‫احلديثة بل هي ثورة جذرية على كل ما �سبقتها من‬
‫لنظام ا أل�شياء؛وقفز خارج منطقها يفرز لغته‬ ‫ا أل�شكال ال�شعرية ومفاهيمها‪ ،‬با�ستقالليتها ورقيّها‪.‬‬
‫اخلا�صة‪ ،‬لغة التغيري والتحول‪ ،‬ألن الر�ؤيا هي‬ ‫وحني يعود �أدوني�س بذاكرته �إىل مرحلة ت�أ�سي�س‬
‫حتويل لعالقات ا أل�شياء‪ .‬ومن هنا كانت الر�ؤيا‬ ‫جملة �شعر وبعث ق�صيدة النرث كملمح من مالمح‬
‫خروجا عن ا أل�شكال امل�ألوفة‪� ،‬إىل �أ�شكال حمدّدة‬ ‫جت�سيد احلداثة ال�شعرية‪ ،‬يطرح ثالثة مبادئ �أ�سا�سية‬
‫بقابلية جاهزة‪� .‬إن الر�ؤيا هي مترد على �سلطان‬ ‫كانت وراء ت�شكيل النموذج اجلديد بعيدا عن املفاهيم‬
‫النموذجية الفنية املوروثة ودخول يف �أ�شكال‬ ‫الفرن�سية «الربنارية» التي �سادت حينها فيقول ‪:‬‬
‫غري معروفة مثلما هي موقف من العامل‪ ،‬و�شكل‬ ‫«وقد تبنينا ما ا�صطلحنا على ت�سميته بـ«ق�صيدة‬ ‫تعتمد ق�صيدة‬
‫من �أ�شكال الوعي الفني له‪.)25(»...‬‬ ‫النرث‪ ،‬انطالقا من ثالثة مبادئ (م�ستقلة عن‬ ‫الر�ؤيا على‬
‫لهذا ثارت نظرية ال�شعر عند اجلماعة على التق�سيم‬ ‫مفهوماتها الفرن�سية ) �أوجهها فيما ي�أتي‪:‬‬ ‫الطرح املركّب‪،‬‬
‫التقليدي ال�سلفي للق�صيدة العربية حني تنظر �إىل‬ ‫[ ا ألول هو �أن ال�شعرية العربية ال ت�ستنفدها ا ألوزان‪،‬‬ ‫حيث تتنا�سل‬
‫العامل نظرة ح�سية‪ ،‬تُ�شيِّئُه تارة وجتزئه تارة �أخرى‪،‬‬ ‫على الرغم من كمالها وغناها فنيا‪ ،‬و�أن هذه اللغة‬
‫فال تعك�سه �إال ّ ظاهريا من خالل الو�صف‪ .‬يف حني‬ ‫تزخر ُ ب�إمكانات تعبريية‪ ،‬طرائق وتراكيب يتعذر �أن‬
‫املو�ضوعات وتتولد‬
‫تت�شكّل الر�ؤيا كم�رشوع فكري و�إبداعي انطالقا من‬ ‫ن�ضع لها حدا نهائيا تقف عنده‪ ،‬فهي لغة مفتوحة‬ ‫ا ألن�ساق بني‬
‫مراجعة الثوابت ال�سابقة‪ ،‬فتهدم النمط والنموذج‬ ‫على الالنهاية‪.‬‬ ‫املجرّد واحل� ّسي‪،‬‬
‫وترف�ض االحتذاء ك�سبيل لتحقيق �شاعرية معينة‪،‬‬ ‫[ الثاين هو ابتكار طرق و�أ�شكال �أخرى للتعبري‬ ‫الثابت واملتغري‪،‬‬
‫حينها ت�صبح الق�صيدة الر�ؤيا ق�صيدة ال تتحدث‬ ‫ال�شعري‪ ،‬تواكب الطرّق وا أل�شكال القائمة على الوزن‬ ‫يف �إطار بنية‬
‫عن العامل بل حتدث العامل‪ ،‬ألن «الق�صيدة ال�سلفية‬ ‫وت�ؤاخيها‪ ،‬مبا يغني اللغة ال�شعرية العربية‪ ،‬وينوّعها‬ ‫�شبكية تركيبية‬
‫تنقل العامل جم�سما �إىل �أ�شياء‪ ،‬يف حني �أن الق�صيدة‬ ‫ويعدّدها‪ ،‬ويف هذا �إثراء للمخيلة وللذائقة �أي�ضا‪.‬‬ ‫مفتوحة الحتواء‬
‫الر�ؤيا تكت�شف العامل يف ُكلّيته احلقيقية‪ ،‬يف وحدته‬ ‫[ الثالث هو الرغبة العميقة يف جعل اللغة العربية‬
‫الكونية‪...‬ال�شاعر الر�ؤيوي يكت�شف ا أل�شياء‪ .‬وبني‬ ‫مفتوحة على جميع التجارب ال�شعرية يف العامل‪،‬‬
‫بنيات �إ�ضافية‬
‫(‪)26‬‬
‫االنفعال واالكت�شاف فرق �أ�سا�سي‪».‬‬ ‫ويف و�ضعها‪� ،‬إبداعيا‪ ،‬على خريطة ا إلبداع الكوين‬ ‫تفر�ض ح�ضورها‬
‫� إ ّن املتتبع مل�سار ق�صيدة النرث عند جماعة �شعر‪،‬‬ ‫بخ�صو�صيتها لكن يف الوقت نف�سه بانفتاحها‬ ‫�أمام ال�شاعر‪،‬‬
‫ومن انت�سب �إليهم يف مرحلة ال�ستينيات‪ ،‬يدرك‬ ‫(‪)24‬‬
‫والنهائيتها‪ ،‬تفاعال ومقاب�سة ً وحوارا»‬ ‫يف حني تنطلق‬
‫مبا�رشة �أن التنظري ال�سابق حول «الق�صيدة الر�ؤيا»‬ ‫من هنا ن�ستطيع �أن نقول �إن جيل جملة �شعر‬ ‫الق�صيدة ال�شفوية‬
‫قد جتاوز جانبه املجرّد‪ ،‬و�أ�ضحى تنظريا يجد‬ ‫بتنظرياته و�إبداعاته يف جمال ق�صيدة النرث‬ ‫من الطرح‬
‫م�سوغات تفاعله داخل ال�رصاع االجتماعي والفكري‬ ‫�أ�ضحى ميثل جيل الر�ؤيا ال�شعرية احلداثية‪،‬‬ ‫الواحد(املفرد)‬
‫يف مرحلة ال�ستينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ألن احلداثة يف متظهرها الفني هي ر�ؤيا قبل �أن‬
‫جعل ق�صيدة النرث ت�صطبغ ‪-‬يف تقديري‪-‬بال�صبغة‬ ‫تكون �أي ت�شكّل فني �آخر‪ ،‬فاملبادئ ا ألدوني�سية‬
‫والن�سق الفكري‬
‫ا إليديولوجية‪� ،‬إميانا من ال�شاعر �أن ا ألدب (ال�شعر) هو‬ ‫ال�سابقة ال جت�سد التحوّل يف النظر �إىل املوروث‬ ‫الواحد �ضمن بنية‬
‫تعبري عن �أيديولوجيا كيفما جتلى �أو متظهر‪ ،‬من هنا‬ ‫الفني و«ا إلبداعي» العربي و�إمنا متثل يف‬ ‫خيطية تتفاعل‬
‫ثُب ِّ َت ال�شكل وتعدّدت الر�ؤيا التي �أ�س�ست لها جماعة‬ ‫تقديري مرحلة انتقال نحو تفعيل الر�ؤيا �إبداعيا‬ ‫كلما زاد �إ�شراق‬
‫�شعر‪ ،‬وكتب على �أ�سا�سها �أن�سي احلاج ويو�سف اخلال‬ ‫عرب ّ ق�صيدة النرث‪ ،‬فقد «كان هذا التحول يعني‬ ‫الكلمة وتوترها‬
‫و�أدوني�س وحممد املاغوط‪ ،‬وظهر تيار جديد من‬ ‫على �صعيد املمار�سة ال�شعرية االنتقال من لغة‬ ‫ال�شعري‬
‫ال�شعراء ال مييل �إىل �إثارة ا ألبعاد امليتافيزقية بقدر‬ ‫التعبري �إىل لغة اخللق‪ ،‬ومن لغة التقرير �أو‬
‫ما يطرح وي�صدّر ألفكار �إيديولوجية وقومية ووطنية‬ ‫ا إلي�ضاح �إىل لغة ا إل�شارة‪ ،‬ومن التجزيئية �إىل‬
‫�ضمن �إطار ال�شكل املتفرّد اجلديد؛ فانق�سمت ق�صيدة‬ ‫الكلية‪ ،‬ومن النموذجية �إىل اجلديد‪ ،‬ومن االنفعال‬
‫النرث �إىل ق�سمني‪ ،‬ق�سم يرتكز على مبادئ اجلماعة‬ ‫بالعامل �إىل الك�شف عنه‪ ،‬ومن املنطق �إىل الالوعي‬
‫يف ربط الن�ص ال�شعري بالر�ؤيا‪ ،‬وق�سم ثان يرتكز‬ ‫ومن ال�شكلية القبلية �إىل �أ�شكال خا�صة يفرزها‬
‫‪80‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ -‬تعدد ا ألبعاد‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬البعد الواحد‬ ‫على �شحن اللغة العادية والكلمة اليومية بالطاقة‬
‫‪ -‬تعدد ا أل�صوات‬ ‫ ‬‫‪ -‬ال�صوت املفرد‬ ‫ال�شعرية كفارق جوهري بني كالم ال�شعر والكالم‬
‫‪ -‬املناخ الدرامي‬ ‫ ‬‫‪ -‬املناخ الغنائي‬ ‫النرثي العادي‪ ،‬وهذا ما ا�صطلح عليه جمال باروت‬
‫«بالق�صيدة ال�شفوية وهي الق�صيدة التي تطرح‬
‫‪-‬البنية ال�شبكية‬ ‫ ‬‫‪ -‬البنية اخليطية‬
‫ت�سا�ؤالت ا إلن�سان يف املدينة العربية املعا�رصة‪.‬‬
‫(الرتكيبية)‬ ‫ ‬ ‫حيث تلتقط توتر احلياة اليومي‪ ،‬و�رشائحها‪،‬‬
‫‪-‬ا أل�شياء ال�صغرية(اجلزئية) ‪-‬الر�ؤيا الكلية(ال�شمولية)‬ ‫و�صريورتها وحلظاتها ا إلن�سانية امل�ستمرة‪ ،‬وا أل�شياء‬
‫‪ -‬اللغة‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬الكالم‬ ‫ال�صغرية منها وم�شاعرها اليومية‪ ،‬لتكون وجدانا‬
‫‪ -‬حركة ال�شعور يف الكالم ‪ -‬حركة الر�ؤيا‬ ‫فنيا لها»(‪.)27‬‬
‫(‪)29‬‬
‫يف ال�صور‬ ‫ ‬ ‫ويذكر باروت �أن حممد املاغوط ميثل النموذج‬
‫�أما نقاط اال�شرتاك والتوافق بني الق�صيدة ال�شفوية‬
‫�إذا كان احلاج‬ ‫ال�شفوي لق�صيدة النرث‪ ،‬خا�صة بعد ديوانه «حزن‬
‫والق�صيدة الر�ؤيا فقد ح�رصها الدكتور عبد العزيز‬
‫يف �ضوء القمر» ال�صادر عام ‪1959‬م و«غرفة‬
‫بديوانه«لن»يعك�س‬ ‫موايف يف نقاط عديدة نذكر منها ما ي�أتي‪:‬‬
‫مباليني اجلدران»‪1964‬م‪� ،‬أي بعد مرحلة التنظري‬
‫اجلانب الر�ؤيوي‬ ‫[ اتخاذ اللغة املتداولة و�سيلة لتفجري �شعرية‬
‫ا ألويل لق�صيدة النرث من طرف احلاج و�أدوني�س‪،‬‬
‫لق�صيدة النرث‪،‬‬ ‫التقرير‪.‬‬
‫ف�إذا كان احلاج بديوانه «لن» يعك�س اجلانب‬
‫[ اال�ستناد على احلد�س االنطباعي احل�سي ‪.‬‬
‫ف�إن املاغوط ميثل‬ ‫[ البحث عن �شعرية الن�ص‪ ،‬والعمل على نفي �شعرية‬
‫الر�ؤيوي لق�صيدة النرث‪ ،‬ف�إن املاغوط ميثل‬
‫اجلانب ال�شفوي‬ ‫اجلانب ال�شفوي منها‪ ،‬ومع هذا فهما ي�شرتكان‬
‫اجلملة‪.‬‬
‫منها‪ ،‬ومع هذا‬ ‫[ اكت�شاف ال�شعرية يف العامل‪ ،‬ال �إ�ضفاء ال�شعرية‬ ‫يف جانب تخطي ال�شكل اخلارجي للق�صيدة‬
‫فهما ي�شرتكان‬ ‫(‪)30‬‬
‫عليه‪.‬‬ ‫العربية‪)28(.‬ويختلفان يف نقاط �أ�سا�سية ميكن‬
‫ومن مناذج املاغوط يف الق�صيدة ال�شفوية يف‬ ‫ح�رصها فيما ي�أتي‪:‬‬
‫يف جانب تخطي‬ ‫�أوال‪ :‬اعتماد ق�صيدة الر�ؤيا على الكلمة ك�إ�شعاع داليل‬
‫ال�شكل اخلارجي‬ ‫مرحلة ال�ستينيات‪ ،‬ن�صه املو�سوم بـ(اله�ضبة)‬
‫والذي ا�ستمد ثقافته من الكالم اليومي‪ ،‬و� ُشحنت‬ ‫م�شبع باملحموالت الفكريةوالطروحات الثقافية‬
‫للق�صيدة العربية‬ ‫والفنية‪ ،‬حيث ت�صبح اجلملة جمموعة من ا إل�شارات‬
‫كلماته بطاقات �شعرية �أبعدته عن الكالم النرثي‬
‫وقرّبته �أكرث ف�أكرث من ال�شعر املفعم بالتواترات‬ ‫والعالمات امل�شفّرة التي حتيلنا نحو اكت�شاف العامل‬
‫الغنائية‪ ،‬القريب �إىل الغمو�ض‪ ،‬ولكن من دون‬ ‫وفق الذات ال�شاعرة بعيدا عن الو�صف‪� .‬أما الق�صيدة‬
‫الولوج �إىل متاهات الر�ؤيا و�أعماق الذات فق�صيدة‬ ‫ال�شفوية فغايتها �إعداد الكلمة العادية التي تلقي‬
‫اله�ضبة عبارة عن ر�ؤية تالم�س الواقع املعي�ش‬ ‫طاقات �شعرية تقربها من الكالم ال�شعري وتبعدها‬
‫لل�شاعر يف �إطار حركية املجتمع والوطن‪� ،‬ضمن‬ ‫عن ا إلخبار والو�صف والتقرير‪.‬‬
‫ف�ضاءات تعبريية ر�ؤيوية �شفافة ابتعدت عن‬ ‫ثانيا‪ :‬تعتمد ق�صيدة الر�ؤيا على الطرح املر ّكب‪ ،‬حيث‬
‫ا إليغال ال�رسيايل يقول ‪:‬‬ ‫تتنا�سل املو�ضوعات وتتولد ا ألن�ساق بني املجرّد‬
‫ال ت�صفعني �أيها القدر‬ ‫واحل� ّسي‪ ،‬الثابت واملتغري‪ ،‬يف �إطار بنية �شبكية‬
‫على وجهي �أمتار ٌ من ال�صفعات‬ ‫تركيبية مفتوحة الحتواء بنيات �إ�ضافية تفر�ض‬
‫ها �أنا‬ ‫ح�ضورها �أمام ال�شاعر‪ ،‬يف حني تنطلق الق�صيدة‬
‫والريح تع�صف يف ال�شوارع‬ ‫ال�شفوية من الطرح الواحد(املفرد) والن�سق الفكري‬
‫�أخرج من الكتب واحلانات والقوامي�س‬ ‫الواحد �ضمن بنية خيطية تتفاعل كلما زاد �إ�رشاق‬
‫خروج ا أل�رسى من اخلنادق‬ ‫الكلمة وتوترها ال�شعري‪.‬‬
‫�أيها الع�رص احلقري كاحل�رشه‬ ‫ويك�شف حممد جمال باروت هذه الفروق يف الثنائية‬
‫يا من �أغريتني باملروحة بدل العوا�صف‬ ‫ا آلتية ‪:‬‬
‫وبالثقاب بدل الرباكني‬ ‫‪ -‬الق�صيدة الر�ؤيا‬ ‫‪ -‬الق�صيدة ال�شفوية ‬
‫‪81‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تتفاعل الر�ؤية احل�سية داخل بنية الق�صيدة لتولّد لنا‬ ‫لن �أغفر لك �أبدا‬
‫�إيقاعا مو�سيقيا يت�سلل �إىل نفو�سنا‪ ،‬حينها ندرك �أن‬ ‫�س�أعود �إىل قريتي ولو �سريا على ا ألقدام‬
‫الق�صيدة ال�شفوية املاغوطية هي ق�صيدة «جماهريية»‬ ‫ألن�رش حولك ال�شائعات فور و�صويل‬
‫بامتياز‪ ،‬ميتزج فيها احلزن بالثورة واحلرية‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫و�أرمتي على ا ألع�شاب و�ضفاف ال�سواقي‬
‫‪..‬ف�أنا �أ�سهر كثريا يا �أبي‬ ‫كالفار�س بعد معركة منهكه‬
‫�أنا ال �أنام‬ ‫حلقات النار‬
‫ِ‬ ‫بل كما تعرب الكالب املدربة‬
‫حياتي – �سواد وعبودية وانتظار‬ ‫�س�أعرب هذه ا ألبواب والنوافذ‬
‫ف�أعطني طفولتي‬ ‫هذه ا ألكمام والياقات‬
‫و�ضحكاتي القدمية على �شجرة الكرز‬ ‫حملقا كالن�رس‬
‫و�صنديل املعلق يف عري�شة العنب‬ ‫فوق خفر العذارى و�آالم العمال‬
‫(‪)33‬‬
‫ألعطيك دموعي‪ ،‬وحبيبتي و�أ�شعاري‬ ‫با�سطا جناحي كال�سنونو عند ا أل�صيل‬
‫�أما ق�صيدة الر�ؤيا فتعّد ق�صيدة ال�شاعر اللبناين بول‬ ‫بحثا عن �أر�ض عذراء‬
‫�شاوول(‪« )24‬وجهك الغياب ا ألق�صى» منوذجا ر�ؤيويا‬ ‫كلما الم�سها كو ٌخ �أو ق�رص‬
‫لق�صيدة النرث يف ذات املرحلة بامتياز‪ ،‬فمنذ عام‬ ‫�أمري ٌ �أو مت�سول‬
‫‪1974‬م تاريخ �صدور «�أيها الطاعن يف املوت»‪� ،‬أوىل‬ ‫وثبت جاحمة ً يف الهواء‬
‫جمموعاته ال�شعرية‪ ،‬يوا�صل �شاوول ت�رشيع كتابته‬ ‫كالفر�س الوح�شية �إذا م� ّسها ال�رسج‪.‬‬
‫على التجريب واالختبار‪ ،‬منقِّبا ً عن الكنوز والينابيع‬ ‫ر�ض‪،‬‬‫�أ ُ‬
‫والغيوم وا ألمطار العالية‪ ،‬كا�شفا ً ا آلفاق‪ ، ،‬متابعا ً‬ ‫مل توجد ولن توجد �إال يف دفاتري‪.‬‬
‫مهمة ال�شاعر املطلقة يف ارتياد احلرية واملجهول‪،‬‬ ‫ح�سنًا �أيها الع�رص‬
‫معلِّيا ً اجل�سور التي تقرِّب بني الثقافات وجوانب‬ ‫لقد هزمتني‬
‫املعرفة‪.‬حيث العمل على ا�ستح�ضار الالوعي ك�آلية‬ ‫ولكنني ال �أجد يف كل هذا ال�رشق‬
‫من �آليات الكتابة الفو�ضوية املكثفة واملجانية‪.‬‬ ‫مكانا مرتفعًا‬
‫ا ألمر الذي ي�سهم �أكرث ف�أكرث وعن ق�صدية (�إرادية) يف‬ ‫(‪)31‬‬
‫�أن�ص ُب عليه رايه ا�ست�سالمي‪.‬‬
‫غمو�ض و�إبهام ق�صيدة النرث‪ ،‬فقد �أ�صاب لغتها تفكك‬ ‫ومن خ�صائ�ص الت�شكيل ال�شعري عند املاغوط‬
‫يف العالقات‪ ،‬بتفريغ املفردات من دالالتها املعروفة‬ ‫�ضمن �إطار الق�صيدة ال�شفوية تكثيف ال�صورة‬
‫امل�ألوفة و�شحنها ب�أخرى غريبة غري م�ألوفة‪ ،‬فتغر ُب‬ ‫ال�شعرية ذاتها‪ ،‬بحيث ي�ستطيع املتلقي �أن يحيد‬
‫الرتاكيب وال�صور ويغم�ض املعنى ويتبهّم‪ ،‬وبخا�صة‬ ‫عن م�س�ألة املو�سيقى اخلارجية يف �إطارها‬
‫�أن هذا ال�شحن يجري حتت هاج�سني من هواج�س‬ ‫التقليدي ألنه وجد ال�رس الت�شكيلي املتمثل‬
‫احلداثة وهما التجريب والر�ؤيا‪ ،‬والر�ؤيا يف ق�صيدة‬ ‫يف جمموعة االنفعاالت الكبرية التي ت�شع من‬
‫النرث تتغذى ب�شكل رئي�سي من عامل الالوعي(‪.)35‬‬ ‫اللغة ال�شعرية املاغوطية‪� ،‬إنه «يتوجه �إىل احل�س‬
‫يقول بول �شاوول ‪:‬‬ ‫مبا�رشة‪ ،‬ويتكئ على مفردات و�صور ح�سية‬
‫ثم ا�ستدرت‬ ‫با�ستمرار‪� ،‬إن الت�شبيه بكافة �أق�سامه واال�ستعارة‬
‫كان وجهك الغياب ا ألق�صى‬ ‫بلونيها‪ ،‬كلها مادية ح�سية با�ستمرار يف �شعر‬
‫طاعنا يف الليل‬ ‫املاغوط‪...‬ويف احلقيقة ال ميكن لنا �إدراك �أبعاد‬
‫كلماتك ا ألبجدية بني‬ ‫لغة الق�صيدة املاغوطية‪� ،‬إال �إذا قر�أنا الق�صيدة‬
‫�شقوق ال�ساعات‬ ‫كاملة‪ ،‬وهذه خا�صية ال�شعر الرفيع الذي ي�شكل‬
‫زهرة اجلمر على رماد اجلفن‬ ‫(‪)32‬‬
‫ن�سيجا ع�ضويا واحدا ال انف�صام فيه‪».‬‬
‫لو كان الب�ؤب� ؤ ينعم باحلمّى‬ ‫وتت�ضح هذه اللغة ال�شفوية يف ديوانه «حزن يف �ضوء‬
‫لو كان ال�صدر �صفحة ال�سكون‬ ‫القمر»�أين يعود بنا �إىل املنابع ا ألويل لل�شعر‪ ،‬حيث‬
‫‪82‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫للحرية التي ال حتدها حدود النقد‪ ،‬أل ّن النقد مطلق‬ ‫رع�شة تخلي احلوا�شي‬
‫وال�شعر ن�سبي‪ ،‬ولذلك فهما ال يلتقيان وفق مبادئ‬ ‫يتفرّد املوت على عري احللبات وا أل�سوار‬
‫الكتابة اجلديدة‪.‬‬ ‫�إذا ارتفعت بني حلظات الدم‬
‫ويت�ضح مما �سبق �أن ال�شاعر وفق الر�ؤيا‬ ‫يتموّج ال�سهل حتت‬
‫«ال�شا�ؤولية» يجب �أن يبحث دائما يف كيمياء‬ ‫ثقل الري�ش والغناء‬
‫بول �شاوول‪ ،‬هو‬ ‫ال�شعر و�أحالم اليقظة املا ورائية‪ ،‬ووعيه الت�صويف‪،‬‬ ‫�رضبة يف العدم‬
‫�شاعر �إ�شكايل‬ ‫وكتابة كل ما يخطر على باله وتدوينه يف كل‬ ‫يهتز رنني الوادي‬
‫ومثري للجدل منذ‬ ‫حلظة‪  ‬حتى ال يعاين من ا إلخفاق ال�شعري‪ ،‬ألنه‬ ‫وتعم الفجاج‬
‫ظهوره يف بداية‬ ‫القادر على �إعادة خلق كينونة ا أل�شياء‪  ‬وحتويل‬ ‫يف ا أليدي امل�صلوبة بني الن�سيان‬
‫ال�سبعينيات‪ ،‬حيث‬ ‫الزمن �إىل �إبداع �شعري‪ ، ‬به ينت�رص على فنائه‬ ‫من �سوف ي�رشق بعد الطوفان‬
‫رف�ض الدخول يف‬ ‫الذاتي ك�إن�سان‪.‬‬ ‫بعد الربقة ا ألخرية التي ت�شعر احلجارة والعروق‬
‫عباءة ا آلخرين‬ ‫وقد جتلت هذه الر�ؤيا يف الكتابة عرب م�ساره ا إلبداعي‬ ‫بعد ليلة ال�صيف التي تلمع يف كل النجوم‬
‫�إىل غاية دواوينه ا ألخرية حيث يقول يف ديوانه‬ ‫كان وجهك الغياب ا ألق�صى‬
‫�أويف عباءة النقد‬ ‫«بو�صلة الدم»‪:‬‬ ‫حتى قلت الفجر الفجر‬
‫املِ�ؤدلج حينها‪،‬‬ ‫وتنتظر منقارا يفجر ال�صخور‬ ‫كل تلفت حجر ٌ للذكرى‬
‫وما زال يرف�ض‬ ‫وتنتظر طفال يزيل احلدود بني الطب�شور والثلج بني‬ ‫�أهرام الوقت املقطوع‬
‫اال�ست�سالم‬ ‫احلديد والليلك بني احلجر واحلمامة‬ ‫لو تدخل مالحمي اجلدران‬
‫للمعايري اجلاهزة‪.‬‬ ‫وتنتظر ف�صوال تن�رش حريتها يف الينابيع وا ألمطار‬ ‫(حتى تنفجر الغ�صة)‬
‫كما يرف�ض‬
‫(‪)37‬‬
‫والهواء‬ ‫(حتى �أُبرت على �ضفة الثانية كالوداع)‬
‫اال�ست�سالم لغواية‬ ‫ويت�ضح التحطيم البنيوي لنمط الق�صيد العربية‬ ‫ي يغبط طلوع امل�أ�ساة‬ ‫عر ٌ‬
‫التقليدية‪ ،‬بل حتي لتجارب ال�شاعر يف ميدان ق�صيدة‬ ‫�آه ! يا حار�س العبث‬
‫الإعجاب‪ ،‬لذلك‬ ‫النرث نف�سه‪ ،‬من خالل ديوانه املو�سوم‪« :‬ك�شهر طويل‬ ‫يد ٌ تدغدغ ثمر البحر‬
‫كانت جتربته‬ ‫من الع�شق» �أي عمد �شاوول �إىل تق�سيم الديوان تق�سيما‬ ‫ج�سد يحفظ احل�ضور‬
‫ال�شعرية‪ ،‬يف‬ ‫ر�ؤيويا نابعا من ذاته الراف�ضة ل ألمنوذج ال�شكلي‬ ‫عندها عربت �أحد الف�صول‬
‫تقديري‪ ،‬عبارة‬ ‫حتي يف دواوينه ال�سابقة‪ ،‬فقد ت�ألفت املجموعة من‬ ‫(‪)36‬‬
‫و�أغلقت عليك‪.....‬‬
‫عن مقرتحات‬ ‫�أربعة �أق�سام‪ .‬الق�سم ا ألول يحتوي على ع�رشة مقاطع‪.‬‬ ‫لقد �أحالنا الن�ص ال�سابق �إىل مقاربة م�ستوي الت�شكيل‬
‫جديدة للق�صيدة‬ ‫والق�سم الثاين بعنوان «ن�ساء» يحتوي على ثالثني‬ ‫الر�ؤيوي عند بول �شاوول‪ ،‬فهو ال�شاعر ا إل�شكايل‬
‫املعا�صرة املت�شكّلة‬ ‫مقطعا‪ .‬والق�سم الثالث بعنوان «�أحوال اجل�سد» يحتوي‬ ‫واملثري للجدل منذ ظهوره يف بداية ال�سبعينيات‪ ،‬حيث‬
‫على ثالثة مقاطع ذات عناوين‪ :‬توابع اجل�سد‪ ،‬بالدات‬ ‫رف�ض الدخول يف عباءة ا آلخرين �أويف عباءة النقد‬
‫يف �إطار ق�صيدة‬ ‫اجل�سد‪ ،‬ال�ضوء‪ .‬والق�سم الرابع بعنوان « املطر القدمي»‬ ‫املِ�ؤدلج حينها‪ ،‬وما زال يرف�ض اال�ست�سالم للمعايري‬
‫النرث‬ ‫يحتوي على ثالثة مقاطع‪.‬‬ ‫اجلاهزة‪ .‬كما يرف�ض اال�ست�سالم لغواية ا إلعجاب‪،‬‬
‫يف هذه املجموعة يتفاعل دور ال�شاعر ويتّ�سع‬ ‫لذلك كانت جتربته ال�شعرية‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬عبارة‬
‫موغال يف التجربة من املتناهي يف ال�صغر �إىل‬ ‫عن مقرتحات جديدة للق�صيدة املعا�رصة املت�شكّلة‬
‫املتناهي يف الكرب‪ .‬ك�أنه مي�سح روحه بزيت ال�شوق‬ ‫يف �إطار ق�صيدة النرث؛من خالل العمل على التدمري‬
‫وال�ضعف الغيا ما يقف حائال بني الع�شق وفكرة‬ ‫البنيوي للق�صيدة التقليدية‪ ،‬وتدمري اللغة املركبة‬
‫الع�شق‪ ،‬بني الرغبة والفكرة الرغبة‪ ،‬بني اجل�سد‬ ‫للت�شكيل التقليدي ذاته‪ ،‬ومع هذا وذاك ي�رص ّ علي‬
‫وفكرة اجل�سد‪ ،‬وي�شتعل بولعه وخبله و�شبقه‬ ‫تدمري الذات مبعني التجاوز امل�ستمر لها‪ ،‬ومبعنى‬
‫وقدا�سته ‪ ،‬بجحيمه ورماده‪ ،‬وقهره وحقده ‪،‬‬ ‫التجريب الذي ال يتوقف‪ ،‬انه التجريب املبني على‬
‫وحنانه وق�سوته‪ .‬وذلك يف نف�س ملحمي وقريحة‬ ‫فل�سفة احلداثة امل�ستمر بحثا ً عن املجهول‪� ،‬أو طلبا ً‬
‫‪83‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ـ‪Princeton Encylopedia of poetry and poetics .enlarged ‬‬ ‫(‪)14‬‬ ‫ال ت�ستكني وال تهد�أ‪ ،‬تتح� ّس�س ا ألمكنة وتت�شمم كل‬
‫‪ ed.( princeton university press.1974 ) p.664‬‬
‫نقال عن ديب‪ ،‬حممد ‪ .‬ق�صيدة النرث بني املوهبة الفردية والرافد‬
‫ما يعبق ويفي�ض ويتجلى يف عا�صفة وجدانية‬
‫الغربي‪ ،‬جملة الطريق‪ ،‬العدد الثالث‪� ،‬سبتمرب‪ ،‬بريوت ‪.1993‬‬ ‫ال تبقي وال تذر‪.‬‬
‫(‪ )15‬ـ ال�ضبع‪ ،‬حممود �إبراهيم ‪ .‬ق�صيدة النرث وحتوالت ال�شعرية‬ ‫�إن هذه املجموعة التي تتميز بلغة نا�ضجة وجريئة‬
‫العربية‪،‬ط‪ ،1‬الهيئة العامة لق�صور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪� ،2003،‬ص‬
‫‪.307‬‬ ‫وجمازفة‪ ،‬جتعل املتلقي يعي�شها وي ّح�سها بجميع‬
‫(‪ )16‬ـ �سالم‪ ،‬رفعت‪ .‬مقدمة ترجمة كتاب �سوزان برنار‪ ،‬ق�صيدة‬ ‫حوا�سه يف العني وا ألذن وا ألنف واجللد والل�سان‪،‬‬
‫النرث من بودلري حتي الوقت الراهن‪ ،‬ج ‪� ،1‬ص ‪08‬‬ ‫فيت�شهى يلهث يف متابعة �إيرو�سية تلهب العني‬
‫(‪ )17‬احلاج‪� ،‬أن�سي‪ .‬مقدمة ديوان «لن»�ص ‪.12‬‬
‫(‪ )18‬بارنار‪� ،‬سوزان‪ .‬ق�صيدة النرث من بودلري حتى الوقت الراهن‪،‬‬ ‫واخليال معا‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫اجلزء الثاين‪� ،‬ص ‪.605‬‬ ‫يا�صباحات م�رشقة من ا ألبد �إىل ا ألبد على م�ضارب‬
‫‪Bernard, suzan .le poème en prose de Baudelaire jusqu>à‬‬ ‫(‪)19‬‬ ‫الدم والكلمات‬
‫‪nos jours, paris 1959 p 763‬‬
‫(‪� )20‬أدوني�س‪ .‬زمن ال�شعر‪ ،‬ط‪ ،6‬مزيدة ومنقحة‪ ،‬دار ال�ساقي ‪،‬‬ ‫يا�صباحات ا ألح�صنة الطافرة من ال�رشايني‬
‫بريوت‪� 2005 ،‬ص ‪.320‬‬ ‫يا�صباحات ا ألر�ض الواحدة والزمن الواحد واملوت‬
‫(‪ )21‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.321‬‬ ‫الواحد‬
‫(‪ )22‬هذا املوقف امل�صرّ ح به يف هذه الر�سالة‪ ،‬هو موقف مرحل ّي‬
‫تغري مع تغري النظرة اخلا�صة �إىل الرتاث لدى اجلماعة يف مرحلة‬ ‫ترتع�ش حلظة وتتال�شى يف موكب النحا�س‬
‫ال�سبعينات وما بعدها‪ ،‬حيث �أ�ضحي البحث يف الرتاث يلهم‬ ‫يلمع البلور املغرب ُ‬
‫اجلماعة‪ ،‬رغبة منها يف الوقوف على ال�شاذ واملتغري فيه و�صوال‬ ‫(‪)38‬‬
‫تت�رضَّج نعامة ٌ بغيابها‬
‫آللية التحديث واحلداثة‪.‬‬
‫(‪� )23‬أدوني�س‪ .‬زمن ال�شعر‪� ،‬ص ‪.321‬‬ ‫الهوام�ش‬
‫(‪ )24‬جملة ا آلداب (البريوتية)‪».‬حوار مع �أدوني�س حول جملة (�شعر)‬
‫وق�صيدة النرث»‪ ،‬العدد ‪� ،10 /9‬سنة ‪�2001‬ص ‪.47‬‬ ‫(‪ )1‬كان ذلك يف ‪ 31‬يناير (جانفي) ‪ ،1957‬بعد �سنتني من عودة‬
‫(‪ )25‬باروت‪ ،‬جمال‪ .‬ال�شعر يكتب ا�سمه‪� ،‬ص �ص ‪.54 ، 53‬‬ ‫يو�سف اخلال من �أمريكا التي كان �سافر �إليها يف ‪ ،1948‬وت�شكيل‬
‫(‪ )26‬باروت‪ ،‬جمال‪ .‬ال�شعر يكتب ا�سمه‪� ،‬ص ‪.57‬‬ ‫جملة �شعر �صحبة �أدوني�س وخليل حاوي ونذير العظمة‪.‬‬
‫(‪ )27‬املرجع‪ ،‬نف�سه‪� ،‬ص ‪.90‬‬ ‫ينظر‪ :‬خري بك‪ ،‬كمال‪ .‬حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�رص‪،‬‬
‫(‪ )28‬نف�سه‪� ،‬ص ‪.92‬‬ ‫ط‪ ،2‬امل�رشق للطباعة والن�رش والتوزيع‪ ،‬بريوت ‪� ،1986‬ص ‪72‬‬
‫(‪ )29‬باروت‪ ،‬جمال‪ .‬ال�شعر يكتب ا�سمه‪� ،‬ص ‪.97‬‬ ‫(‪ )2‬لتدقيق التاريخ فقط �أذكر �أن �أدوني�س كان قد ن�رش هذه املقالة‬
‫(‪ )30‬ينظر موايف عبد العزيز‪ .‬ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل‬ ‫يف العدد ‪ 14‬من جملة �شعر ربيع ‪.1960‬‬
‫املرجعية‪� ،‬ص ‪.123‬‬ ‫(‪ )3‬ن�ش�أت‪ ،‬كمال‪� .‬شعر احلداثة يف م�رص‪ ،‬الهيئة امل�رصية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪� 1998‬ص ‪.203‬‬
‫(‪ )31‬املاغوط ‪ ،‬حممد‪ .‬الديوان‪ ،‬دار العودة بريوت‪ ،‬د ط ‪ ،‬د ت ‪،‬‬ ‫(‪ )4‬بري�س‪� ،‬سانت جون ( ‪ . )Perse ،Saint-John‬ولد يف‬
‫�ص ‪ 323‬ـ ‪.325‬‬ ‫قوادلوب يوم ‪ 31‬ماي‪ 1887‬وتويف يف جزيرة جيون الفرن�سية‬
‫(‪ )32‬خن�سة‪ ،‬وفيق‪ ،‬درا�سات يف ال�شعر ال�سوري احلديث‪ ،‬ديوان‬ ‫يوم‪� 20‬سيبتمرب‪. ،1975 ،‬ينظر‪: ‬‬
‫املطبوعات اجلامعية‪ ،‬اجلزائر ‪� ،1981‬ص‪66‬‬ ‫‪)Dictionnaire Encyclopédique De La Littérature Française , art :( Saint-John-‬‬
‫(‪ )33‬املاغوط‪ ،‬حممد‪ ،‬حزن يف �ضوء القمر‪ ،‬دار العودة بريوت‬ ‫(‪ )5‬ينظر‪ ،‬احلاج‪� ،‬أن�سي‪ .‬ديوان «لن»‪ ،‬املقدمة ‪ ،‬ط‪ 1‬بريوت‬
‫‪� ،1973‬ص‪ ،25‬نقال عن وفيق خن�سة‪ ،‬درا�سات يف ال�شعر ال�سوري‬ ‫‪�1960‬ص‪�.‬ص ‪ 5‬ـ ‪.15‬‬
‫احلديث‪� ،‬ص‪.74‬‬ ‫(‪ )6‬موايف‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل املرجعية‪،‬‬
‫(‪ )34‬بول �شاوول‪� ،‬شاعر لبناين ولد عام‪ ،1948‬كتب ق�صيدة‬ ‫�ص ‪.121‬‬
‫النرث منذ بداياته ا ألوىل وتفرد بلغته الهاربة من منوذج الت�شكيل‬ ‫(‪ )7‬موايف‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل املرجعية ‪،‬‬
‫املعجمي‪ ،‬من �أعماله‪� .‬أيها الطاعن يف املوت‪� ،‬أوراق الغائب‪ ،‬نفاد‬ ‫�ص ‪122‬‬
‫ا ألحوال‪ ،‬منديل عطيل‪..‬الخ‬ ‫(‪ - )8‬ينظر‪ :‬خري بك‪ ،‬كمال‪ .‬حركة احلداثة يف ال�شعر العربي‬
‫(‪ )35‬القعود‪ ،‬حممد عبد الرحمن‪ .‬ا إلبهام يف �شعر احلداثة‪� ،‬ص‬ ‫املعا�رص‪� ،‬ص �ص ‪.78 ،77‬‬
‫‪.164‬‬ ‫(‪� )9‬أبو جهجة‪ ،‬خليل‪.‬احلداثة ال�شعرية العربية‪� ،‬ص ‪.134‬‬
‫(‪� )36‬شاوول‪ ،‬بول‪ .‬ديوان «�أيها الطاعن يف املوت»‪،‬ط‪ ،2‬امل�ؤ�س�سة‬ ‫(‪� )10‬سالّم‪ ،‬رفعت‪ .‬مقدمة ترجمة كتاب �سوزان برنار‪ ،‬ق�صيدة النرث‬
‫العربية للدرا�سات والن�رش‪ ،‬بريوت ‪�1981 ،‬ص �ص ‪ 51‬ـ ‪57‬‬ ‫من بودلري حتي الوقت الراهن‪ ،‬ج ‪� ،1‬ص ‪.07‬‬
‫(‪� )37‬شاوول‪ ،‬بول ‪ .‬بو�صلة الدم‪ ،‬ريا�ض الري�س للكتب والن�رش‪،‬‬ ‫(‪ - )11‬القعود‪ ،‬حممد عبد الرحمان‪ .‬ا إلبهام يف �شعر احلداثة‪� ،‬ص‬
‫لبنان ‪� 2004‬ص‪10‬‬ ‫‪.154‬‬
‫(‪� )38‬شاوول‪ ،‬بول ‪ .‬ك�شهر طويل من الع�شق‪ ،‬ريا�ض الري�س للكتب‬ ‫(‪ )12‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.155‬‬
‫و الن�رش‪ ،‬لبنان‪� ،2001 ،‬ص‪. 21‬‬ ‫(‪ )13‬نف�سه‪� ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪84‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�صيدة النرث و�إ�شكاالتها‬


‫عند عبدالعزيز املقالح‬
‫حممد يحيى احل�صماين‬
‫ناقد و�أكادميي من اليمن‬

‫رمبا يكون من املجازفة القول‪� :‬إن ال�شعر يف جانب كبري منه يختزل بع�ض خوا�ص‬
‫الإ يديولوجيا يف ا�ستبطان الذاكرة اجلماعية‪ ,‬وتعميق الإ ح�سا�س ب�إن�سانية‬
‫الإ ن�سان‪ .‬ولهذا فكثريا مايثري اخلروج على قواعده وتقاليده الفنية �أوار املعارك‬
‫واخل�صومات ‪ :‬فتتولد الأ �سئلة‪ ,‬وتطرح الإ �شكاليات‪ ,‬وينق�سم النا�س بني متقبل‬
‫م�ؤيد‪ ,‬ومعار�ض راف�ض‪ .‬ولأ نه – �أي ال�شعر– ال ميتلك �صفة املقد�س كما هو‬
‫احلال مع الإ يديولوجيا؛ ف�إن معاركه ال تلبث �أن تخبو‪ ,‬وتتال�شى وتخمد نارها‬
‫على مدى لي�س ببعيد‪ .‬مما يتيح لل�صيغ اجلديدة التبلور واالنتظام يف �سلك‬
‫الإ بداع واكت�ساب �رشعية التقبل من الذائقة الفنية اجلماعية‪.‬‬

‫‪ l‬املقالح هو واحد من النقاد الذين تباينت مواقفهم‪ ,‬وتعددت ر�ؤاهم‬


‫�إزاء ق�صيدة النرث‪ .‬وال�شك فقد كان له – كما كان لغريه من النقاد‬
‫املجددين – ف�ضال عن املربرات الفنية‪ ,‬مربراتهم املو�ضوعية‪ :‬كاالنحياز‬
‫للجديد واالنت�صار لأ �شكاله املختلفة مهما بلغت مغايرتها وجتاوزها‪ � .‬إال �أن‬
‫اخلروج ال�صارخ واملغايرة التامة يف ق�صيدة النرث ملا ت�أ�صل من �أعراف‬
‫ال�شعر وقوانينه مما �ألفته الذائقة اجلمعية يظل �أهم املربرات التي �صنعت‬
‫تلك املواقف‪.‬‬

‫‪85‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وعلى الرغم من االعرتاف النقدي بق�صيدة النرث �إال �أن ذلك مل‬ ‫وقد يكون من فائ�ض القول ونافلة الإ ي�ضاح الإ �شارة �إىل‬
‫ي�سهم ب�شكل حا�سم يف بلورة مفاهيمها‪� ،‬سواء على امل�ستوى‬ ‫مفا�صل التحوالت والتجديد يف �شعرنا العربي‪ ,‬وما �أثارته‬
‫النقدي �أو التنظريي «فالكتابات النقدية العربية عن هذا‬ ‫تلك التحوالت من معارك وخ�صومات منذ الع�رص العبا�سي‬
‫النمط من الكتابة ال�شعرية مازالت تراوح مكانها منذ �أن‬ ‫وحتى الآ ن‪ .‬ابتداء من ب�شار و�أبي نوا�س و�أبي متام‪ ,‬ومرورا‬
‫ب�رشت حركة جملة «�شعر» بها‪ ,‬بو�صفها خمرجا لأ زمة‬ ‫باملتنبي واملعري �إىل �شعراء الإ حياء و�أبولو واملهجر‪,‬‬
‫احلداثة ال�شعرية»(‪ .)3‬ولعلنا ال نبالغ �إذا قلنا‪� :‬إن بع�ض تلك‬ ‫ووقوفا عند نازك وال�سياب وجماعة �شعر التفعيلة‪.‬‬
‫الكتابات كانت �أقرب �إىل الدعاية الرخي�صة منها �إىل النقد‬ ‫ومع ما �أثارته تلك التجارب وما قوبلت به من الإ نكار‬
‫البناء امل�ؤ�س�س‪ .‬و�أما الدرا�سات اجلادة – وهي النزر القليل‬ ‫وال�صد‪� ,‬إال �أن ذلك ال يبلغ مع�شار ما �أثارته وقوبلت به‬
‫– فقد ظهرت م�شوبة بكثري من احلذر واخلوف من االجنرار‬ ‫جتربة ق�صيدة النرث‪ .‬فما تزال حتى الآن – وبعد مرور‬
‫�إىل �سوق الدعاية‪ .‬ومن الدرا�سات التي قاربت ق�صيدة النرث‬ ‫ن�صف قرن من عمرها – مثار جدل واختالف وا�سع‬
‫كتاب «الن�ص امل�شكل»(‪ )4‬للناقد حممد عبد املطلب‪ ,‬وهو من‬ ‫يف الأ و�ساط الأ دبية والنقدية‪ .‬ورمبا يحق لنا القول‪:‬‬
‫الكتب القليلة التي تناولت ق�ضايا الق�صيدة يف جتلياتها‬ ‫�أنه ال وجه للمقارنة بني ما �أحدثته �أ�صدا�ؤها‪ ,‬وبني‬
‫املختلفة‪� ,‬سواء على امل�ستوى التنظريي �أو التطبيقي‪.‬‬ ‫�أ�صداء التجارب ال�سابقة �صحيح �أنها – �أي التجارب‬
‫وفيه قام امل�ؤلف – من منطلق امل�ؤيد للظاهرة – بر�صد‬ ‫ال�سابقة – مل تنتزع االعرتاف النقدي بها �إال بعد لأ ي؛‬
‫امل�ستوى الإ يقاعي للق�صيدة باعتباره – �أي الإ يقاع – من‬ ‫ولكنها يف الغالب اخرتقت ح�صن الذائقة منذ ال�رشارة‬
‫�أكرث الق�ضايا الت�صاقا مبفهوم ال�شعر يف الذاكرة العربية‪.‬‬ ‫الأ وىل‪« ,‬فقد كان جريرٌ والفرزدق والأ خطل و�أمثالهم‬
‫وما يهمنا من ذلك �أنه وبعد ن�صف قرن من �إعالن ميالد‬ ‫يعدون حمدثني‪ .‬وكان �أبو عمر بن العالء يقول‪ :‬لقد كرث‬
‫الظاهرة‪ ,‬ومع االعرتاف النقدي بها منذ ما يزيد على‬ ‫هذا املحدث وح�سن حتى لقد هممت بروايته»(‪ .)1‬ف�أبو‬
‫العقدين‪ ,‬فمازالت النظرة النقدية الفاح�صة للم�ؤيدين‬ ‫عمرو ال يعرتف نقديا بالتجربة اجلديدة عند �شعرائها‬
‫– ناهيك عن املعار�ضني – تتعامل مع ق�صيدة النرث على‬ ‫الثالثة‪ :‬جرير والفرزدق والأ خطل ؛ ولهذا �أحجم عن‬
‫�أنها ظاهرة �إ�شكالية بكل معنى للكلمة‪ .‬ولعل �إطالق «عبد‬ ‫رواية �شعرهم‪ ,‬ولكن �إعجابه بالتجربة وا�ستح�سانه‬
‫املطلب» ت�سمية «الن�ص امل�شكل» – وهو يريد بالطبع ق�صيدة‬ ‫لها يعني �أنها قد اخرتقت ذائقته ال�شعرية والم�ست‬
‫النرث – على كتاب ينظّ ر لهذا امل�ستوى من الكتابة لهو خري‬ ‫ح�سه الفني‪.‬‬
‫�شاهد على عمق الفجوة الفنية التي تعي�شها الق�صيدة‪.‬‬ ‫وبنوع من املغامرة امل�ستندة �إىل كثري من احلقائق والأ دلة‬
‫فهي بحق ظاهرة �إ�شكالية لي�س مب�ستواها الإ يقاعي‬ ‫نرى �أن موقف �أبي عمرو بن العالء – كنموذج لرف�ض‬
‫والفني فح�سب؛ بل �إن جوانب الإ �شكالية فيها متنوعة‬ ‫اجلديد «نقديا» وتقبله «جماليا» – يكاد يكون موقفا عاما‪,‬‬
‫ومتعددة ‪ :‬ابتداء من الت�سمية والتجني�س‪ ,‬مرورا باخل�صائ�ص‬ ‫وينطبق على كل حركات التجديد ال�شعري ما قبل ق�صيدة‬
‫وال�رشوط الفنية‪ ,‬وانتهاء بامل�رشوعية واالنتماء‪ .‬ويبدو �أن‬ ‫النرث‪ .‬فمع االنبثاقات الأ وىل يف م�سار التحول والتجديد‬
‫هذا الرثاء الإ �شكايل يقابله فقر املواهب التي ارتادت هذا‬ ‫لكل حركة كان النقاد واملحافظون يهاجمون اجلديد‬
‫النبع – با�ستثناء املواهب امل�ؤ�س�سة‪� :‬أدوني�س واملاغوط‬ ‫ب�شدة‪ ,‬ويعتربونه مارقا وخارجا على القواعد والأ عراف‬
‫واحلاج‪ ,‬وبع�ض الت�سعينيني‪ ,‬ونفر من هنا وهناك – هو‬ ‫الفنية املتبعة؛ ومع ذلك فقد كان – �أي اجلديد – يف الآ ن‬
‫من دفع نقادا و�شعراء كرث �إىل ت�سجيل مواقف متباينة‬ ‫ذاته متقبال وم�ست�ساغا من الذائقة العامة ومت�صاحلا معها‬
‫ومتعددة جتاه هذا الوليد‪ ,‬ترتاوح بني‪ :‬الرف�ض والقبول‬ ‫‪ ,‬يحمله الركبان وتغني به اجلواري وين�شد به يف املجال�س‬
‫والتحفظ‪ ,‬وقد تبد�أ بالت�أييد لتنتهي �إىل الرف�ض(‪ ,)5‬ورمبا‬ ‫العامة وجمال�س البالط‪.‬‬
‫تبد�أ من الرف�ض لتنتهي �إىل القبول �أو التحفظ‪.‬‬ ‫غري �أن الو�ضع يختلف مع ق�صيدة النرث؛ فهي و�إن‬
‫ويف التجربة النقدية للأ �ستاذ الدكتور‪ :‬عبد العزيز املقالح‬ ‫«ا�ستطاعت خالل العقدين الأ خريين �أن تنتزع االعرتاف‬
‫ما يك�شف �صحة هذا اال�ستنتاج‪ .‬فهو واحد من النقاد الذين‬ ‫النقدي بها‪ ,‬لكنها مل ت�ستطع اخرتاق الذائقة ال�شعرية التي‬
‫تباينت مواقفهم‪ ,‬وتعددت ر�ؤاهم �إزاء ق�صيدة النرث‪ .‬وال�شك‬ ‫مازالت تف�صل ف�صال تاما بني حقلي ال�شعر والنرث‪ ,‬م�ستندة‬
‫فقد كان له – كما كان لغريه من النقاد املجددين – ف�ضال‬ ‫يف ف�صلها هذا �إىل �رضورة وجود �إيقاع وزين ت�ستطيع‬
‫عن املربرات الفنية‪ ,‬مربراتهم املو�ضوعية‪ :‬كاالنحياز‬ ‫الإ ذن تعرفه والتمتع برتديد �صداه يف ال�شعر»(‪.)2‬‬
‫‪86‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫للجديد واالنت�صار لأ �شكاله املختلفة مهما بلغت مغايرتها‬
‫غياب املرجعية النقدية والإ طار النظري لهذا النمط من الكتابة‬
‫حر�ص املقالح‬ ‫�سواء يف خطابنا النقدي العربي‪� ,‬أو يف اخلطاب النقدي الغربي‬ ‫وجتاوزها‪� .‬إال �أن اخلروج ال�صارخ واملغايرة التامة يف‬
‫‪ ,‬وبا�ستثناء كتاب الباحثة الفرن�سية «�سوزان برنار» املو�سوم‬ ‫ق�صيدة النرث ملا ت�أ�صل من �أعراف ال�شعر وقوانينه مما‬
‫يف �أغلب كتاباته‬ ‫بـ«ق�صيدة النرث منذ بودلري �إىل الوقت الراهن» والذي هو يف‬ ‫�ألفته الذائقة اجلمعية يظل �أهم املربرات التي �صنعت تلك‬
‫بعد ذلك على‬ ‫الأ �صل �أطروحة الباحثة للدكتوراه و�صدرت طبعته الأ وىل‬ ‫املواقف‪.‬‬
‫التذكري ب�صعوبة‬ ‫‪1958‬م ؛ فقد ولدت ق�صيدة النرث العربية «م�صطلحا ومفهوما»‬
‫خلوا من �أي �سند ت�أ�صيلي �أو مرجعية نقدية‪.‬‬ ‫جناية املوقف النقدي‪:‬‬
‫�شروط ق�صيدة‬ ‫وكان �أدوني�س قد تلقف الكتاب يف طبعته الفرن�سية‬ ‫وقبل �أن نقف على حقيقة موقف املقالح ‪ ,‬نعود فن�ؤكد �أن النقد‬
‫النرث‪ ,‬و� إنها لي�ست‬ ‫ليطرح العام التايل ل�صدوره ‪1959‬م «ق�صيدة النرث»‪,‬‬ ‫املجاين الذي جايل ق�صيدة النرث ونا�رص ق�ضاياها بدون وعي‬
‫عمال �سهال ميكن‬ ‫ويعدد خ�صائ�صها والتمايزات الأ �سا�سية بني ال�شعر والنرث‪.‬‬ ‫منهجي �أو نقدي ال يقل جناية عليها عن جناية بع�ض املواهب‬
‫كتابتها مبجرد‬ ‫�ساعده يف تبني الق�صيدة والتنظري لها ال�شاعر اللبناين‬ ‫ال�ضحلة والفقرية التي مار�ست فو�ضى الكتابة ال�شعرية و�أغرقت‬
‫�أن�سي احلاج وبقية �أع�ضاء جملة «�شعر» التي انحازت‬ ‫الق�صيدة بوابل الغمو�ض وال�ضبابية والتعمية وانتهكت �أخ�ص‬
‫الطموح لذلك‬ ‫متاما لهذا امل�رشوع وقامت بدور املروج له‪.‬‬ ‫خ�صائ�ص العمل الفني مبربر التجريب والتحديث‪.‬‬
‫؛ «� إن الق�صيدة‬ ‫يف هذا ال�سياق يرى غري واحد من النقاد والأ دباء �أن �أدوني�س‬ ‫وال�شك يف �أن اخلطاب النقدي هو من يتحمل فو�ضى‬
‫الأ جد تتطلب‬ ‫قد �أخذ حرفيا جهود «�سوزان برنار« وما كتبته عن ق�صيدة‬ ‫اخلطاب ال�شعري‪ ,‬لي�س من منطلق الو�صاية عليه – فذلك‬
‫من ال�شروط ما‬ ‫النرث يف مرجعيتها الغربية‪ ,‬ونظر به لق�صيدة النرث العربية دون‬ ‫�أمر مرفو�ض – بل من موقع امل�س�ؤولية الوظيفية ؛ ف�إنارة‬
‫�أن ي�شكك يف تلك اجلهود‪� ,‬أو �أن ميار�س عملية نقدية عليها(‪.)7‬‬ ‫الأ عمال الإ بداعية‪ ,‬وتوجيهها‪ ,‬وتقوميها‪ ,‬و�إ�ضاءة جوانب‬
‫ال تتطلبه �أية‬ ‫ويرى � آخر – بعد مقابلته الأ فكار الواردة يف مقدمة ديوان‬ ‫ال�سلب �أو الإ يجاب فيها‪ ,‬هي وظيفة النقد و�أ�صل وجوده‪.‬‬
‫ق�صيدة �أخرى‪,‬‬ ‫«لن «بالأ فكار الواردة يف كتاب �سوزان برنار «�أن �أن�سي احلاج‬ ‫وعندما يتخلى النقد عن وظيفته و�أ�صل وجوده‪ ,‬تت�سابق‬
‫و� إن االمتثال‬ ‫يرتجم عبارات الناقدة الفرن�سية �أو يعيد �صياغتها للتعبري عن‬ ‫الأ �صوات املت�شاعرة‪ ,‬واملواهب ال�ضحلة والفقرية لأ ب�سط‬
‫لهذه ال�شروط‬ ‫ر�ؤيته ملفهوم ق�صيدة النرث وال جديد يف كالم �أن�سي احلاج‬ ‫مقومات الفن ؛ العتالء عر�ش ال�شعر والتباهي باالنتماء‬
‫�سوى ال�شحنة احلما�سية والرغبة يف الهدم»(‪ .)8‬وبع�ضهم يغايل‬ ‫�إىل مملكته العظيمة‪ ,‬وهو منها براء‪ ,‬ومن هذه الزاوية يرى‬
‫تتطلب � إمكانات‬ ‫فريى �أن «�أدوني�س �أمم – لع�رشين عاما تالية – م�صطلحات‬ ‫بع�ض النقاد‪�« :‬أن ق�صيدة النرث �أ�صبحت يف �أغلب الكتابات‬
‫لغوية وثقافية ال‬ ‫«�سوزان برنار» حول ال�شعر‪ :‬الك�شف‪ ,‬الر�ؤيا‪ ,‬العرافة‪ ,‬الهدم‪,‬‬ ‫«حمار ال�شعراء» ميتطيها كل من يفتقر �إىل توازن كي‬
‫تتوافر � إال للقليل‬ ‫ال�شاعر النبي‪ ...‬الخ لت�شكل مرتكزات خطابه الكتابي ؛ فتنتقل‬ ‫ي�صعد �سلم ال�شعر الطويل وال�صعب‪ .‬وقد �أدى هذا �إىل‬
‫ممن امتلكوا‬ ‫– من جديد – عربه �إىل الآ خرين ‪ ,‬دون �إحالة – هذه املرة‬ ‫�سطوع جنم �شعراء «حداثيني» �ضحلي املوهبة فقراء يف‬
‫– �إىل امل�صدر‪� ,‬أو معرفة به»(‪ .)9‬ومغاالة هذه النظرة يدفعنا‬ ‫لغتهم وخيالهم‪ .‬وعو�ض �أن ينربي النقد العربي �إىل تقومي‬
‫الأ دوات والتقنيات‬ ‫لالختالف و�إياها‪ ,‬لعلمنا �أن �أدوني�س – مهما كان موقفنا من‬ ‫هذه الو�ضعية ال�شعرية عرب تطوير املجهودات الأ وىل يف‬
‫ال�شعرية الأ حدث‪,‬‬ ‫بع�ض �أفكاره – �صاحب م�رشوع حداثوي نه�ضوي‪ ,‬وله ر�ؤيته‬ ‫التنظري لق�صيدة النرث ف�إنه �ساير تلك اجلوقة املتنافرة‬
‫وممن امتلكوا‬ ‫النقدية امل�ستندة �إىل كم معريف تراثي قل �أن يلتم�س عند غريه‬ ‫الأ �صوات مرة حتت ذريعة النزعة الو�صفية الفجة‪ ,‬وتارة‬
‫القدرة على‬ ‫من �أع�ضاء حركة �شعر �أو �أن�صار احلداثة‪ ,‬ومع �أننا ال ن�شك يف‬ ‫عرب ح�شو املقاربة النقدية مبفاهيم غام�ضة تقمع القارئ‪,‬‬
‫�إفادته من قراءته للآ خر الغربي لكن ال �أحد ب�إمكانه الت�شكيك‬ ‫وتفقده ثقته بنف�سه‪ ,‬وتلوي عنق الن�ص من خالل ت�أويالت‬
‫التعوي�ض عن‬ ‫يف قدراته الإ بداعية �أو النقدية‪.‬‬ ‫بعيدة‪ ,‬همها الوحيد �أن ت�سبغ م�رشوعية على ن�ص �شعري‪,‬‬
‫العنا�صر الغائبة‬ ‫وما يعنينا من هذا كله �أن ق�صيدة النرث يف والدتها العربية‬ ‫لي�س فيه من ال�شعر �سوى اال�سم»(‪.)6‬‬
‫كعن�صري الإيقاع‬ ‫افتقرت كليا خللفية تنظريية ذات جذور عربية‪ ,‬وم�سوغ‬ ‫�إننا لن نبالغ �إذا قلنا �إن النقد قد �أ�صيب يف ح�رضة ق�صيدة‬
‫والقافية‪.‬‬ ‫هذا الغياب – بر�أي الناقدة وجدان ال�صائغ – «االنق�سام‬ ‫النرث بجلطة دماغية و�شلل ن�صفي �أفقدته فاعليته و�صوته‬
‫احلاد يف �أركان واقعنا الفكري بني متحم�س ل�رشعية‬ ‫النقي فغدا يهمهم بكلمات متناثرة غري مفهومة‪ ,‬وما يثري‬
‫هويتها و�رضورة ح�ضورها املت�سق مع طبيعة الع�رص‬ ‫اال�ستغراب �أن ال�شق الآ خر منه – وهو املتجه �صوب الق�صيدة‬
‫و�آلياته اجلبارة‪ ...‬يف حني ي�صمها بع�ضهم ب�أق�سى ال�سمات‬ ‫اجلديدة «ق�صيدة التفعيلة»– ظل معايف وقائما بدوره الوظيفي‬
‫حتى �أنهم يقرنون بينها وبني التغريب من �أجل تهمي�ش‬ ‫على الوجه احل�سن‪ ,‬وهو ما يدفعنا للت�سا�ؤل عن �أ�سباب �أزمة‬
‫الرتاث والإ طاحة بالأ �صالة»(‪ , )10‬ولهذا ظلت معتمدة كليا‬ ‫النقد امل�صاحب لق�صيدة النرث‪ .‬ولأ نه لي�س يف نيتنا تق�صي كل‬
‫ومنذ يومها الأ ول على الإ طار النظري الذي قدمه �أدوني�س‬ ‫�أ�سباب الأ زمة ومظاهرها – �إذ لي�س هذا مكانه – ف�إن ما يعنينا‬
‫و�أن�سي احلاج ؛ وهو كما ر�أينا م�ستمد بحرفيته �أو معاد‬ ‫منها هو ما نعتقد �أنه ر�أ�س الأ �سباب وذروة �سنامها ؛ �أال وهو‬
‫‪87‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كذلك فللقارئ �أن يت�ساءل – ونحن معه – عن الكيفية‬ ‫ال�صياغة – على �أح�سن الأ حوال – من كتاب «�سوزان‬
‫التي تعامل بها اخلطاب النقدي‪ ,‬واملرجعية التي ا�ستند‬ ‫برنار» وحتديدا من ف�صول بعينها‪ .‬وقد ظلت هذه النتف‬
‫�إليها يف حواره وتعاطيه مع الق�صيدة‪� !! . .‬أم �أنه وقف‬ ‫التي قدمها �أدوني�س واحلاج املرجعية املتاحة – ورمبا‬
‫مبهورا �أمام هذا الن�ص املغاير يف ا�سمه‪ ,‬ون�سبه‪ ,‬و�رشوطه‬ ‫الوحيدة – لكل من تتوق نف�سه �إىل معرفة الإ طار النظري‬
‫الفنية كما وقف من قبل �أمري ال�شعراء �أحمد �شوقي مبهورا‬ ‫واملرجعية النقدية لق�صيدة النرث ما يقرب من �أربعني عاما‬
‫بتقنية ال�صاروخ والطائرة فكان و�صفه لهما و�صفا �شكليا‬ ‫يف ظل غياب تام للكتاب‪,‬ال ترجمة‪ ,‬ال قراءة نقدية‪ ,‬ال‬
‫م�سطحا هو �أقرب �إىل التقرير منه �إىل ال�شعر‪ .‬وامل�ؤ�سف حقا‬ ‫عر�ض للمحتويات‪ ,‬حتى �أ�صبحت تلك ال�شذرات كما يقول‬
‫�أن يتمثل النقد هذه الو�ضعية‪ ,‬مكتفيا مبا �أماله عليه موقف‬ ‫رفعت �سالم‪« :‬موا�صفات جاهزة‪ ,‬جمردة‪ ,‬مطلقة لق�صيدة‬
‫االنبهار والإ عجاب‪ ,‬ف�أخذ ي�صف وميدح بعيدا عن الغو�ص‬ ‫النرث‪� ,‬صاحلة لكل زمان ومكان‪ ...‬مبا حولها – تاريخيا‬
‫يف �أعماق الق�صيدة‪ ,‬ودون اال�شتباك مع مناذجها املختلفة‪,‬‬ ‫– �إىل «مانيفي�ستو» لق�صيدة النرث العربية ‪�,‬سيدخل دائرة‬
‫والأ دهي من ذلك �أن هذا املوقف امل�سطح – امل�سمى جمازا‬ ‫املحفوظات املقررة على ال�شعراء القادمني»(‪ .)11‬وقد ا�ستمر‬
‫نقدا – مل يطرح نف�سه مبنطق احلوار واملو�ضوعية‪ ,‬بل �إن‬ ‫غياب الكتاب – وهو املرجع النقدي الوحيد لق�صيدة‬
‫النزق والتع�صب كانا رئته التي يتنف�س بها‪ ,‬ومنطقه الذي‬ ‫النرث– �إىل �أن قام الباحث العراقي د‪ /‬زهري جميد مغام�س‬ ‫عبدالعزيز املقالح‪:‬‬
‫يحاور به‪ .‬ولهذا لي�س غريبا �أن يتقل�ص جمهور ق�صيدة‬ ‫ب�أول ترجمة له �صدرت عن دار امل�أمون ببغداد ‪1993‬م‬ ‫يجب الرتكيز‬
‫النرث‪ ,‬وينف�ض النا�س من حولها‪ ,‬فخطاب – كهذا – ال‬ ‫مب�ساحة‪ 300‬ورقة‪ ,‬ويف املقدمة يقول املرتجم‪� :‬إن الكتاب‬
‫ي�ستند �إىل قوة املرجعية واملحاجة املنطقية – ظنا منه‬ ‫يف الأ �صل «‪ »814‬ورقة و�أنه – �أي املرتجم – قد نظر‬ ‫على اخل�صائ�ص‬
‫ب�أن الزعيق كفيل ب�إرهاب الآخر وبالتايل �إقناعه – هو‬ ‫فيه فوجد للم�ؤلفة ا�ستطرادات كثرية‪ ,‬ومالحظات هام�شية‪,‬‬ ‫اجلوهرية‬
‫خطاب ال يخدم نف�سه ف�ضال عن خدمة من ي�رصخ با�سمه‪,‬‬ ‫وق�صائد ل�شعراء غري معروفني مما ا�ضطره للتغا�ضي عن‬ ‫يف الفن‬
‫بل �إن جنايته عليه �أكرب من جنايته على نف�سه لأ نه �أ�صال‬ ‫ق�سم كبري من ذلك‪ ,‬واكتفي برتجمة ما ر�آه جديدا ونافعا‬ ‫عموما‬
‫يف حكم املنتهي‪.‬‬ ‫مما ميكن �أن ي�ضيف لونا جديدا �إىل �ألوان معرفتنا ‪ ,‬ومبربر‬
‫ويف هذا ال�سياق يرى الناقد الدكتور‪ :‬عبد العزيز املقالح �إن‬ ‫فني بحت – ح�سب ر�أيه – تخلى املرتجم �أي�ضا عن نقل‬ ‫وال�شعر بوجه‬
‫خطورة هذا امل�سلك النقدي‪ ,‬وجنايته على ق�صيدة النرث ال يقل‬ ‫بحور ال�شعر الفرن�سي يف الف�صل الثاين‪ ,‬كما �أهمل ما‬ ‫خا�ص‬
‫عن اجلناية التي �أحلقها بها �أعدا�ؤها‪ ,‬كما يقول‪�« :‬إذا كانت‬ ‫و�صفه بالعر�ض التاريخي الطويل للدادية وال�رسيالية‬
‫ت�سمية هذا اجلديد ال�شعري بـ» ق�صيدة النرث» قد �أعاقت انت�شاره‪,‬‬ ‫بحجة �أنها من املو�ضوعات التي باتت معروفة للقارئ‬
‫و�أفقدته التعاطف احلميم‪ ,‬و�إذا كان الت�شكيك يف ن�ش�أته العربية‬ ‫العربي(‪ .)12‬يت�ضح من مقدمة املرتجم �أنه اجتز�أ ق�سما‬
‫قد �أفقده جمهورا وا�سعا من حمبي الرتاث و�أن�صاره‪ ,‬ف�إن النقد‬ ‫كبريا من الن�ص الأ �صلي للكتاب‪ ,‬وقد و�صف الدكتور رفعت‬
‫املتع�صب املتحرر من املو�ضوعية قد جنى على هذا اجلديد‬ ‫�سالم هذا االجتزاء بقوله‪�« :‬إن الكتاب املرتجم ال ي�ساوي‬
‫ال�شعري رمبا �أ�ضعاف ما جنته الت�سمية والت�شكيك معا‪ ,‬و�أية‬ ‫�أكرث من ع�رش م�ساحته الكلية‪ .‬و�أما احلذف الذي �أتى على‬
‫جناية يف حق هذا ال�شكل الإ بداعي الأ جد قيا�سا لأ قدميته من‬ ‫ت�سعة �أع�شار الكتاب فلم ي�ستند �إىل معيار واحد‪ . .‬ولهذا‬
‫هذا الت�سطيح النقدي»(‪ , )17‬وي�ستدل املقالح بعينة لهذا النقد‬ ‫ي�صف الرتجمة بالع�شوائية(‪ .)13‬واحلقيقة �أن الكتاب جهد‬
‫بقول ال�سوري حممد ع�ضيمة ‪« :‬ق�صيدة النرث هي ق�صيدة‬ ‫علمي متميز‪ ,‬ويكفي املرتجم جمدا �أنه جعله يف متناول‬
‫وعي و�صحو‪� ,‬أما ق�صيدة الإ يقاع فهي ق�صيدة �سكر ودوخة‪...‬‬ ‫القارئ العربي‪ :‬املتخ�ص�ص والعادي بعد �أن احتجب عنه‬
‫�أمل نتعب من الدوران والدوخة‪� ,‬أمل ت�ضجر الذائقة العربية من‬ ‫ما يزيد عن �أربعة عقود‪ ,‬ولو كانت ترجمته معيبة �أو‬
‫الإ يقاع و�سال�سته‪ . .‬التفعيلة يف طريقها �إىل االنقرا�ض‪� . .‬أال‬ ‫مبت�رسة بال�شكل الذي �أ�شار �إليه «�سالم» ما حاز على‬
‫يكفيها هذا الزمن املمتد‪� . .‬أن�صح �شعراء الإ يقاع ب�أن يكتبوا‬ ‫املركز الأ ول ك�أف�ضل كتاب مرتجم عام ‪1997‬م بعد �أن‬
‫املراثي ل�شاهدات قبور ق�صائدهم املوقعة‪ . .‬وكما ال�شعر‬ ‫�أعادت الهيئة العامة لق�صور الثقافة امل�رصية طباعته‬
‫العمودي �سوف جنهز على التفعيلة ‪ – ,‬وي�ضيف ع�ضيمة – �إن‬ ‫يف دي�سمرب ‪ .)14(1996‬ومع ذلك تبقى املالحظة جديرة‬
‫�شعراء التفعيلة والأ نظمة الديكتاتورية العربية تو�أمان ابتلت‬ ‫باالحرتام خا�صة �أنها �صادرة عن باحث متخ�ص�ص وله‬
‫بهما الأ مة منذ اال�ستقالل وحلد ال�ساعة– و�إنه – مع ق�صيدة‬ ‫ات�صال مبا�رش بالن�ص الأ �صلي للكتاب(‪ .)15‬وما يعنينا هو‬
‫النرث بد�أت تبا�شري الدميقراطية �سيا�سيا وفنيا‪ . .‬و�إن �شعراء‬ ‫�أن الكتاب حتى يف ترجمته املت�أخرة «‪ »1993‬مل ميثل‬
‫التفعيلة �أو العموديني اجلدد‪ ,‬يدربهم الإ يقاع على العبودية‬ ‫ب�أكمله �أمام القارئ العربي‪ .‬ومع ذلك ف�سنعد تاريخ �صدور‬
‫والذل والتبعية ولذا �رسعان ما ي�ستجيبون لأ دنى �إ�شارة من‬ ‫الرتجمة الأ وىل منه – �أيا كانت املالحظات عليها– هو‬
‫ال�سلطة ومن احلاكم الثقايف وال�سيا�سي»(‪ ,)18‬يعقب املقالح على‬ ‫تاريخ االطالع على كتالوج ق�صيدة النرث(‪ .)16‬و�إذا كان الأ مر‬
‫‪88‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الإ يقاع يف ق�صيدة النرث‪ ,‬ق�صيدة نرث بحد ذاتها‪ ,‬ولها من‬ ‫هذه العينة املجانية من النقد فيقول‪ :‬هل و�صل النقد الأ دبي‬
‫�إ�رشاقة الأ لفاظ وتوهج العبارات ما تفتقر �إليه كثري من‬ ‫العربي �إىل هذه الدرجة من فقدان املعايري الفنية واالجتماعية‬
‫ق�صائد النرث احلالية‪ .‬ويف خ�ضم هذه ال�شاعرية �ضاع‬ ‫والأ خالقية؟ وهل هناك �أ�سو�أ �أو �أ�شنع من مثل هذه املحاولة‬
‫التعريف ‪ ,‬وبني هذين ال�صوتني «املت�شنج ‪ ,‬وال�شاعري»‬ ‫اجل�سور للإ �ساءة �إىل �إبداعنا ال�شعري ب�أ�شكاله املختلفة؟ وهل‬
‫�ضاعت ق�صيدة النرث‪ ,‬وجنى عليها �أ�صحابها �أكرث مما جناه‬ ‫رداءة الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي والثقايف وراء هذه الرداءة‬
‫عليها �أعدا�ؤها‪ .‬وميكننا القول �أن النقد الذي رافق ق�صيدة‬ ‫النقدية ؟ وكم عدد الذين �سوف ي�ستجيبون لهذا ال�صوت يف‬
‫النرث و�ساند م�سريتها مل يخرج – با�ستثناء بع�ض الأ قالم‬ ‫احلياة الأ دبية تلك التي تتعاي�ش فيها الأ �شكال �أو تختلف يف‬
‫– عن هذين ال�صوتني‪ :‬املت�شنج ال�صاخب‪ ,‬واالنفعايل‬ ‫حدود من املو�ضوعية والر�ؤية احلري�صة على التب�شري باجلديد‬
‫ال�شاعري‪ ,‬وهذا – بر�أيي – �أحد �أهم �أ�سباب الركام النرثي‬ ‫والأ جد‪ ,‬ومن منطلقات ت�ؤ�س�س مل�ستقبل خمتلف يقوم على تراكم‬
‫الذي نراه اليوم ميلأ ال�صفحات الثقافية وت�سود به ال�صحف‬ ‫معريف وثقايف ال ي�صدر فيه الإ بداع عن فراغ مميت(‪.)19‬‬
‫واملجالت الأ دبية‪.‬‬ ‫ويف مكان �آخر يورد املقالح عري�ضة دفاع ًا عن ق�صيدة النرث‬
‫�أما املالحظة الثانية‪ :‬فخال�صتها �أن ثمة م�ؤ�رشا يتعلق‬ ‫لأ حد املتحم�سني الأ ذكياء لها هو خليل املو�سوي‪ ,‬نقتطف‬
‫مبوقف املقالح النقدي تدل عليه الن�صو�ص النقدية‬ ‫منها قوله‪�« :‬إن الق�صيدة «الن�ص» لي�ست نرثا و�إمنا �شعر كامل‬
‫ال�سابقة‪ .‬و�إذا عرفنا �أن بني الن�صني والتعقيبني ما يقرب‬ ‫املو�سيقى‪ ,‬لكنها مو�سيقى غري م�ستوردة من حمالت الفراهيدي‬
‫غلبة روح‬ ‫من الع�رشين عاما ت�أكد �أننا ب�صدد موقف نقدي م�س�ؤول‬ ‫و�إمنا من حمالت �أرقى و�أكرث ع�رصية‪� ...‬إن ق�صيدة النرث تعتمد‬
‫يت�سم بالو�سطية واالعتدال واملغايرة لتلك الأ �صوات‬ ‫�أ�سا�سا على املو�سيقى الداخلية ‪ :‬وثمة فرق كبري‪ ,‬وكبري جدا‪,‬‬
‫امل�س�ؤولية‬ ‫املنفلتة‪ .‬وقبل �أن ن�رشع يف االحتكاك مع هذا املوقف‬
‫واالعتدال‬ ‫– والكالم مازال للمو�سوي – بني الإ يقاع امل�ستورد من خارج‬
‫البد �أن نثبت حقيقة مانراه خ�شية �أن يفهم من الطرح‬ ‫«�أنا» ال�شاعر وبني الإ يقاع الداخلي احلار‪ ,‬ف�إذا كان الإ يقاع‬
‫يف املوقف‬ ‫ال�سابق عك�س ذلك ‪ ,‬وهي �أننا ل�سنا �ضد �أو مع هذا ال�شكل‬ ‫اخلارجي يتوالد من توارد الكلمات �ضمن م�سار عرو�ضي‬
‫النقدي‬ ‫على ح�ساب ذلك ال�شكل �أو الأ �شكال ال�شعرية الأ خرى‪ .‬وال‬ ‫راق�ص ف�إن الإ يقاع الداخلي يتولد من متا�س الكلمات و�ضعفها‪,‬‬
‫نروم مبا طرحناه �سابقا امل�س مب�رشوعية ق�صيدة النرث‬ ‫فتتفجر وتتحول طبيعة �أج�سادها من خالل برق �شعري كثيف‪...‬‬
‫للمقالح من‬ ‫فهي �شكل فني ينبغي – بل يجب – �أن يعطى حقه من‬
‫ق�صيدة‬ ‫مما يجعل احلرارة تدب يف �أو�صال الكلمات واحلروف‪ ,‬وجتري‬
‫االهتمام والدرا�سة الواعية املن�ضبطة ب�رشوط الفن بعيدا‬
‫احلياة يف عروقها فتخرج غري م�ألوفة وتذوب الكلمات املتفجرة‬
‫النرث‬ ‫عن الفو�ضى �أو الدعاية الرخي�صة ؛ الدرا�سة التي من �ش�أنها‬
‫بح�س التجربة والر�ؤيا وت�شق �إيقاعها اخلا�ص العاري ويدخل‬
‫�إبراز مواطن الإ يجاب وتنميتها والتعرف على مواطن اخللل‬ ‫(‪)20‬‬
‫ال�شعر �إىل �أعماق الروح فتعي�ش الده�شة والن�شوة والإ يقاع»‬
‫ومقاربتها‪ .‬والأ خذ بيد هذا اجلن�س الفتي وو�ضعه يف‬
‫املكان الالئق به‪ .‬وعذرنا �إن تناثرت بع�ض الأ فكار هنا �أو‬ ‫ويف تعقيب املقالح على هذه املرافعة يقول‪« :‬وبالرغم من‬
‫هناك التي توحي بغري ما ق�صدنا �أنها من باب �إثبات واقع‬ ‫امتالك الأ �ستاذ املو�سوي نا�صية احلجة يف الدفاع عن الق�صيدة‬
‫نقدي لي�س �إال‪.‬‬ ‫الأ جد بل والقدرة على مهاجمة خ�صومها ف�إن لغته ال�شاعرية‬
‫قد �أ�ضاعت عليه كثريا من احلجج التي �أوردها يف درا�سته‪...‬‬
‫تطور موقف املقالح ‪:‬‬ ‫�إن هذه التعريفات اخليالية املغرقة يف ال�شاعرية ال تدعم‬
‫خ�شية الوقوع يف �رشك الأ حكام اجلاهزة نعلن تخلينا – م�ؤقتا‬ ‫موقف الق�صيدة الن�ص «الق�صيدة الأ جد»‪ ,‬بقدر ما تدعم التيار‬
‫– عما �أ�رشنا �إليه �سابقا من غلبة روح امل�س�ؤولية واالعتدال‬ ‫اال�ستنكاري املدعوم بقوة ال�سلف والرتاث‪ ,‬وهي ت�سعى �إىل‬
‫يف املوقف النقدي للمقالح من ق�صيدة النرث حتى ال يقال‬ ‫تكري�س التناق�ض والتناحر حول مفاهيم الأ لفاظ ومدلوالتها‪,‬‬
‫�أننا نن�سج خيوط ما حددناه ور�سمنا �أبعاده �سلفا‪ .‬ومن �أجل‬ ‫بدال من الرتكيز على اخل�صائ�ص اجلوهرية يف الفن عموما‬
‫ذلك �سنكتفي ونحن نتق�صى �أبعاد املوقف النقدي عند ناقدنا‬ ‫وال�شعر بوجه خا�ص»(‪ .)21‬واعتقد �أن املقالح قد كفانا م�ؤنة‬
‫املقالح – بر�صد م�سارات التحول وحمطات التطور وحيثيات‬ ‫اال�شتباك مع هذه النوعية من النقد املنفلت كما يقول‪� ,‬إال �أن‬
‫ذلك دومنا �إ�صدار �أحكام �أو اخلو�ض يف التحليل الذي ميكن‬ ‫ذلك ال مينع �أن ن�سجل مالحظتني هما بر�أينا غاية يف الأ همية‪:‬‬
‫له �أن يخدم ذلك اال�ستنتاج‪ .‬وغري ذلك فنرتكه للقارئ ووعيه‬ ‫الأ وىل‪� :‬أن غلبة ال�صوت املت�شنج واالنفعال احلاد عند حممد‬
‫النقدي‪.‬‬ ‫ع�ضيمة قد دفعه �إىل اعتبار الق�صيدة موازيا مو�ضوعيا‬
‫ولعل �أول ما ي�صادفنا هو موقف التنكر والرف�ض‪ ,‬فبعد‬ ‫للواقع االجتماعي وال�سيا�سي؛ ومن ثم ر�أي �أن ق�صيدة النرث‬
‫�إعالن ميالد ق�صيدة النرث يف لبنان وتبني جماعة «جملة‬ ‫قرين احلرية والدميقراطية بينما ق�صيدة الوزن معادل‬
‫�شعر» لها‪ ,‬جند املقالح يف مقدمة ديوانه الثاين «م�أرب‬ ‫مو�ضوعي للعبودية والدكتاتورية‪� ,‬أما املو�سوي فقد غلب‬
‫يتكلم» الذي �أ�صدره ‪1972‬م مب�شاركة عبده عثمان يرف�ض‬ ‫على نقده ال�صوت ال�شاعري فكانت حماولته لتعريف‬
‫‪89‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ .‬الخ ولكنه مع كل تغيري طر�أ على معمار الق�صيدة كان ال يزال‬ ‫هذا ال�شكل ال�شعري وي�صفه بالفقاعات والطفح النرثي‪,‬‬
‫يتمتع ويطرب مبو�سيقى ال�شعر‪ ,‬ومل يجر ؤ� �أحد ممن خا�ض غمار‬ ‫حيث يقول ‪« :‬من امل�ستحيل اعتبار تلك الفقاعات اللبنانية‬
‫التجديد ال�شكلي �أن ي�صدم ذائقته بكالم نرثي على �أنه �شعر‬ ‫املعروفة بق�صيدة النرث وما �شابهها �شعرا جديدا وحديثا‬
‫�أو يقول له‪� :‬إن ال�شعر لي�س له مو�سيقى‪ .‬ومن هذا املنطلق فقد‬ ‫�أو م�ستقبليا»(‪.)22‬‬
‫ر�أي املقالح �أن ق�صيدة النرث �ستظل ال�شكل الأ كرث رف�ضا من‬ ‫وقد بنى املقالح هذا املوقف الراف�ض على �أ�سا�س افتقار هذا‬
‫املتلقي‪� »:‬إن بع�ض املتلقني على ا�ستعداد لتقبل هذا اللون من‬ ‫ال�رضب ال�شعري لل�سمة الأ �سا�سية لل�شعر �أال وهي الوزن‪ ,‬ومع‬
‫الأ دب على �أنه نرث فني‪ ,‬لكن الغالبية العظمى ترف�ضه باعتباره‬ ‫�أنه – �أي املقالح – ظهر يف هذه املقدمة منحازا متاما للجديد‬
‫�شعرا‪ ,‬وترف�ض �أن ترى ال�شعر وقد تخلى نهائيا من كل عنا�رصه‬ ‫ال�شعري باعتباره وجودا م�ساويا «لل�صدى الراع�ش لإ يقاع‬
‫الفنية‪ ,‬ويف مقدمتها الوزن»(‪.)29‬‬ ‫الع�رص‪ ,‬والأ ثر البارز للب�صمات الفكرية التي خلفها القرن‬
‫ومع �أن املقالح قد �أفرد لهذا ال�شكل ال�شعري الأ حدث بع�ض‬ ‫الع�رشون على م�شاعر �أمتنا العربية‪ ,‬ويف وعي و�ضمائر‬
‫الوريقات يف ر�سالته للماج�ستري «الأ بعاد املو�ضوعية والفنية‬ ‫مثقفيها ووجداناتهم»(‪� )23‬إال �أن الوزن ظل معياره للتفريق بني‬
‫حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن» �إال �أنه مل يتخل عن الوزن‬ ‫ال�شعر والنرث‪ ,‬وللتدليل على فاعلية هذا املعيار يف ح�سم التمييز‬
‫ك�رشط لل�شعر‪ ,‬فقد ر�أي �أن ق�صيدة حممد امل�ساح وعبد الودود‬ ‫بني ما هو �شعري وما هو نرثي ي�ستدل املقالح مبقولة بول‬
‫�سيف «�أنا وحبيبتي ورحلة احلب «تفوق ع�رشات الق�صائد‬ ‫فالريي‪« :‬ال�شعر رق�ص ‪ ,‬والنرث م�شي» ويرى �أنها «كما كانت‬
‫العمودية واجلديدة ولكنها كانت تغدو �أكرث تفوقا لو �أنه قد‬ ‫�صاحلة بالأ م�س البعيد للتفريق بني ال�شعر والنرث التقليديني‪,‬‬
‫توافر لها الوزن»(‪ , )30‬وال يبدو من هذا املقتب�س – مع ما فيه من‬ ‫فهي كذلك �صاحلة اليوم للتفريق بني ال�شعر اجلديد وق�صيدة‬
‫�إ�شادة – �أن ثمة حتوال كبريا طر�أ على موقفه جتاه ق�صيدة النرث‪,‬‬ ‫النرث �أو نرث الق�صيدة البريوتية»(‪ ,)24‬وعلى هذا الأ �سا�س يتبنى‬
‫و�أما احتكاكه مع بع�ض مناذجها يف ر�سالته العلمية فمن باب‬ ‫املقالح تعريفا لل�شعر ميثل الوزن ن�صف بنيته ‪ ,‬ذلك هو قول‬
‫الإ حاطة بامل�شهد ال�شعري اليمني لي�س �إال ‪ ,‬وهو �أمر فر�ضته‬ ‫نازك املالئكة‪« :‬ال�شعر جتارب منغمة»(‪ ,)25‬ووفقا لهذا التعريف‬
‫طبيعة ر�سالته و�شمولية مو�ضوعها؛ ولذا فقد كانت املو�ضوعية‬ ‫– وهو يف نظره �أ�صدق تعريف – ي�ؤكد الناقد املقالح على‬
‫طاغية على �أحكامه النقدية يف �أثناء قراءته لتلك النماذج‪ .‬ففي‬ ‫�أهمية املو�سيقى يف ال�شعر‪ ,‬فريى �رضورة «�أن يحتفظ ال�شعر‬
‫حتليله لق�صيدة عبد الرحمن فخري «بلقي�س تبكي بدمعي»‬ ‫اجلديد بقدر من املو�سيقى يحفظ للتجربة ت�أثريها و�سلطانها‬
‫وهي ق�صيدة نرثية �ألفيناه يقول‪« :‬وكما تعددت م�ستويات هذه‬ ‫على النفو�س وال �أ�ؤمن حتى الآ ن باملو�سيقى الداخلية التي‬
‫الق�صيدة يف ال�شكل ويف درجة الو�ضوح‪ ,‬ويف الوزن فقد تعددت‬ ‫جتعل الأ لفاظ مبو�سيقاها الذاتية كما يقول البع�ض ت�ستغني عن‬
‫كذلك م�ستوياتها من حيث اجلودة والرداءة»(‪ .)31‬ويت�ضح من هذا‬ ‫املو�سيقى اخلارجية ف�إنه ال غنى يف ال�شعر عن مو�سيقى الوزن‬
‫املقتب�س – و�سابقه – �أن الرف�ض الذي �ألفيناه يف مقدمة ديوان‬ ‫حتى و�إن مت اال�ستغناء �أحيانا عن مو�سيقى القافية‪ .‬ويف �إطار‬
‫«م�أرب يتكلم» قد حتلل وخفت حدته‪ ,‬و�أن ثمة معايري �أخرى‬ ‫التعريف الأ خري‪« :‬ال�شعر جتارب منغمة» ينبغي �أن تختفي �أو‬
‫غري الوزن دخلت قامو�س الناقد لتكون �ضمن مقايي�س ال�شعر‬ ‫على الأ قل ال يح�سب �شعراء ذلك الطفح النرثي الذي يولد بعيدا‬
‫وا�شرتاطاته‪ ,‬وهو ما ينبئ بتحول جديد يف املوقف النقدي؛‬ ‫عن النغم ال�شعري حتى لو ا�شتمل ذلك الطفح على جتارب ذات‬
‫لأ ن تو�سيع مقايي�س ال�شعر هو بال �شك اخلطوة الأ وىل لالجتاه‬ ‫قيمة»(‪� .)26‬إن خلو ق�صيدة النرث من مو�سيقى الوزن هي – �إذن‬
‫�صوب ق�صيدة النرث �إذ هي نتاج طبيعي للتحلل من ال�رشوط‬ ‫كاف للرف�ض �إذ مل يكن‬‫– حيثية املقالح لرف�ضها‪ ,‬وهو مربر ٍ‬
‫التقليدية لهذا الفن‪ ,‬وال م�شاحاة يف ذلك فنحن نعلم �أن التجديد‬ ‫الوزن ميثل لديه معيارا للتمايز بني ال�شعر والنرث فح�سب بل‬
‫يف �أ�شكال ال�شعر وقوالبه مل يبد�أ �إال مع انهيار ال�رشط التقليدي‬ ‫�إنه «الرباط ال�رسي بني احلداثة واملوروث‪ ,‬و�إذا كانت قد حدثت‬
‫ال�شهري «ال�شعر قول موزون مقفي يدل على معنى» لتحل حمله‬ ‫جتاوزات من خالل ما ي�سمى بق�صيدة النرث فهي خارج حدود‬
‫�أو بالقرب منه مفاهيم اخليال واملجاز وبالغة الكالم‪ .‬ومع �أن‬ ‫الق�صيدة اجلديدة»(‪ .)27‬ويراد بالق�صيدة اجلديدة يف كل مقوالت‬
‫املقالح مازال متم�سكا – حتى اللحظة – مبعيار الوزن ف�إن‬ ‫املقالح ق�صيدة ال�شعر احلر‪ ,‬ذلك ال�شكل الذي غادر مو�سيقى‬
‫لهجته و�أ�سلوب تعامله مع تلك النماذج النرثية توحي بتحفظه‬ ‫ال�شطرين ولكنه التزم مو�سيقى التفعيلة‪ ,‬وهي كما يرى غري‬
‫عليها ولي�س رف�ضه لها كما �سبق له ذلك‪ ,‬و�شتان بني الرف�ض‬ ‫واحد من الدار�سني وحدة الإ يقاع يف ال�شعر ب�شكل عام(‪ .)28‬وما‬
‫والتحفظ‪ ,‬ف�إذا اعتربنا �أن الأ ول يعني‪« :‬الرتك «والثاين يعني ‪:‬‬ ‫نريد �أن ن�صل �إليه هو �أن متلقي ال�شعر اجلديد– �أي ق�صيدة‬
‫«االحرتاز من الوقوع يف اخلط�أ»(‪ , )32‬فذلك ي�شري �إىل �أن �إمكانات‬ ‫التفعيلة – مل يفقد �صوت املو�سيقى التي �ألفتها �أذنه منذ �أطربه‬
‫احلوار يف موقف التحفظ متوافرة ومتى مازالت �أ�سباب الوقوع‬ ‫بها ال�شاعر اجلاهلي الأ ول‪� ,‬صحيح �أن معمار الق�صيدة تغري‬
‫يف اخلط أ� تعدلت املفاهيم والأ فكار وتغريت– بالتايل–‬ ‫ولكنه – �أي املتلقي – قد اعتاد جتديد البناء ال�شكلي للق�صيد‪,‬‬
‫املواقف‪.‬‬ ‫وحملقت عيناه يف معمار املو�شحات واملربعات واملخم�سات‪.‬‬
‫‪90‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫الداخلي فهو مفهوم غري وا�ضح لديه حتى اللحظة‪ ,‬و�سبق له‬ ‫وثمة �إجماع بني عدد من الباحثني ممن �سبق لهم واحتكوا‬
‫و�أعلن ذلك �رصاحة بقوله‪« :‬وال �أ�ؤمن حتى الآ ن باملو�سيقى‬ ‫مع امل�شهد النقدي اليمني ب�أن العام ‪1976‬م قد �شهد �أول‬
‫الداخلية التي جتعل الأ لفاظ مبو�سيقاها الذاتية كما يقول البع�ض‬ ‫(‪)33‬‬
‫انعطافة يف موقف املقالح باجتاه منا�رصة ق�صيدة النرث‬
‫ت�ستغني عن املو�سيقى اخلارجية ف�إنه ال غنى يف ال�شعر عن‬ ‫من خالل ما ن�رشه من درا�سات وبحوث �ضمنها كتابه‬
‫مو�سيقى الوزن حتى و�إن مت اال�ستغناء �أحيانا عن مو�سيقى‬ ‫«قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص»‪ ,‬وهو من الكتب التي‬
‫القافية»(‪ .)38‬ولعل الت�ساهل يف ا�ست�صحاب حيثيات ومربرات‬ ‫متثل البدايات املتحفزة للمقالح ‪ ,‬ومن الكتب التي �أثارت‬
‫حتول موقف الناقد من الوزن �إىل الإ يقاع الداخلي قبل �أن ي�ضع‬ ‫ق�ضايا اجلديد والقدمي‪ ,‬بل اجلديد والأ جد(‪ , )34‬وفيه درا�سة‬
‫مفهوما حمددا للإ يقاع يزيل به لب�س ما �سبق و�أعلنه‪ ,‬ويكون‬ ‫بعنوان «مالمح التجربة املعا�رصة لق�صيدة النرث يف‬
‫مربرا كافيا ومقنعا لهذا التحول ؛ هو من دفع ب�أحد الباحثني‬ ‫اليمن» �سبق للمقالح ون�رشها يف جملة احلكمة العددين‪:‬‬
‫�إىل ر�ؤية هذا التحول من زاوية �أخرى رمبا تقلل من املو�ضوعية‬ ‫‪48‬و‪ , 50‬مار�س ومايو ‪1976‬م ‪ ,‬ويف الدرا�سة التي هدفت‬
‫التي حاولت الدرا�سة �أن تظهر بها(‪ , )39‬فثمة �إ�شارة على درجة‬ ‫بالأ �سا�س للتعريف برموز ق�صيدة النرث و�شعرائها يف اليمن‬
‫من الأ همية ذكرها الدكتور ريا�ض القر�شي‪ ,‬وهي �أن قبول‬ ‫�أبدى املقالح تعاطفه وترحيبه بهذا ال�شكل ب�صورة غري‬
‫املقالح بق�صيدة النرث يف هذه املرحلة «ي�أتي من زاوية ال�رصاع‬ ‫م�سبوقة‪ ,‬مفتتحا الدرا�سة مبا ي�شبه االعتذار والرتاجع عن‬
‫بني اجلديد والقدمي‪ ,‬وبد�أ فيه املقالح منت�رصا لأ �صحاب اجلديد‪,‬‬ ‫حتفظه الذي �سبق و�سجله يف كتاباته الفائتة حيث يقول‪:‬‬
‫خا�صة و�أن الذين مار�سوا هذا اللون من ال�شعر كانوا من �أن�صار‬ ‫«وكنت يف كتابي «الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة‬
‫اجلديد التفعيلي يف بداية الأ مر‪ ...‬ومما يدل على �أن هذا القبول‬ ‫ال�شعر املعا�رص يف اليمن» وقبله يف مقدمة ديوان «م�أرب‬
‫كان من باب االنت�صار للجديد فقط �أنه تراجع عنه بعد ذلك‬ ‫يتكلم» قد �أظهرت بع�ض التحفظات حول ق�صيدة النرث‪...,‬‬
‫وبخا�صة حني ال ين�رصف نقده �إىل املقارنة بل �إىل درا�سة �شعر‬ ‫ومنذ ذلك احلني والق�صيدة النرثية ت�شغلني ومناذجها‬
‫�شاعر »(‪ )40‬و�إذا نحن و�ضعنا هذه املالحظة بجوار قول املقالح‪:‬‬ ‫الأ كرث جتاوزا و�شعرية ت�شدين وتدعوين �إىل جتاوز موقفي‬
‫«�أنا م�ؤمن باجلديد ال�شعري حد التطرف»(‪ )41‬حُ ق لنا موافقة‬ ‫املتحفظ»(‪ , )35‬ويبدو �أن املقالح قد جتاوز موقف التحفظ‬
‫�صاحبها الر�أي‪ ,‬خا�صة ونحن واجدون يف مقوالت املقالح‬ ‫مب�سافات‪ ,‬وحتول �إىل موقف امل�ساندة والت�أييد مبحاولته‬
‫من مثل هذه الأ حكام‪« :‬و�إذا كانت ق�صيدة النرث تقدم الآ ن يف‬ ‫توفري الدعم اللوج�ستي‪ ,‬وو�ضع الإ طار النظري لهذا الوليد‬
‫بالدنا �أن�ضج ما �أعطت يف الأ قطار العربية ف�إن الف�ضل يف ذلك‬ ‫الفتي‪ .‬ومن هذا املنطلق ر�أي �أن‪« :‬الفن الأ �صيل كلما خرج‬
‫راجع �إىل جهود ومواهب عدد من ال�شعراء اليمنيني ال�شبان ويف‬ ‫من �رشوطه التقليدية وقع يف �إطار �رشوط �أكرث �صعوبة‪ .‬ومل‬
‫مقدمتهم‪ :‬ح�سن اللوزي‪ ,‬وذو يزن‪ ,‬وحممد امل�ساح‪ ,‬وعبد الرحمن‬ ‫يعد �صحيحا باملرة �أن الق�صيدة اجلديدة �أ�سهل من الق�صيدة‬
‫فخري‪ ,‬وعبد الودود �سيف‪ ,‬وحممود علي احلاج ‪ ,‬و�شوقي �شفيق‪,‬‬ ‫العمودية خلروج الأ وىل على بع�ض ال�ضوابط اخلليلية‪ .‬كما‬
‫و� آخرون ال �أتذكر �أ�سماءهم الآ ن»(‪ , )42‬فقد كان من ال�سابق‬ ‫�أنه لي�س �صحيحا – كذلك – �أن ق�صيدة النرث �أ�سهل من‬
‫لأ وانه يف تلك املرحلة احلديث عن ق�صيدة نرث نا�ضجة يف �إطار‬ ‫االثنني خلروجها نهائيا عن دائرة اخلليل ولكونها �صارت‬
‫القطر الواحد‪ ,‬ناهيك عن املفا�ضلة بينها وبني ق�صائد الأ قطار‬ ‫م�شيا بعد �أن كانت الق�صيدة – على حد التعبري التقليدي‬
‫الأ خرى؛ نظرا لعدم تبلور مفاهيمها النظرية‪ ,‬وه�شا�شة الإ طار‬ ‫– رق�صا‪ ,‬ونحن ن�ؤكد �أن الرق�ص يف ق�صيدة النرث وهو‬
‫املرجعي النقدي لق�صيدة النرث العربية ب�شكل عام‪ .‬ولي�س هذا‬ ‫– هنا – ال�شعر �أكرث وجودا – و�إن مل يكن �أكرث رنينا – يف‬
‫ر�أيي فح�سب‪ ,‬بل هو ر�أي املقالح نف�سه‪ ,‬ففي املقابلة التي‬ ‫ق�صيدة النرث منه يف املنظومات العمودية»(‪ )36‬ويف �سعيه‬
‫�أجراها معه عبد الرحمن �إبراهيم للعدد الأ ول من جملة «الثقافة‬ ‫لتوفري الغطاء النظري بحث الناقد جذور هذه الق�صيدة‪,‬‬
‫اجلديدة» ‪1978‬م – �أي بعد عامني من هذه الدرا�سة – وجدنا‬ ‫وتتبع ينابيعها الأ وىل يف الرتاث العربي وعر�ض من ثم‬
‫املقالح يقول‪« :‬ومن املالحظ �أنه ال الق�صيدة التفعيلية‪ ,‬وال‬ ‫خل�صائ�صها‪ ,‬والأ �شواط التي قطعتها‪ .‬وغريها من الق�ضايا‬
‫ق�صيدة النرث تكتب ب�شكل ثابت‪ ,‬فما تزال كلتا الق�صيدتني حتت‬ ‫مو�ضوع حديث املبحث القادم‪.‬‬
‫التجريب‪ ,‬ومل تطرح ق�ضاياهما ب�شكل جدي حتى الآ ن»(‪.)43‬‬ ‫ووا�ضح هنا �أن املقالح انطلق من املعايري نف�سها التي بنى‬
‫ويف كتابه �أزمة الق�صيدة العربية املن�شور بعد تلك الدرا�سة بـ‪9‬‬ ‫عليها موقف الرف�ض‪ ,‬وهي تلك املت�صلة بالرق�ص يف ال�شعر»‬
‫�سنوات – �أي ‪ – 1985‬نراه يقول‪« :‬قد مير وقت طويل قبل �أن‬ ‫املو�سيقي» و�إن كان وا�ضحا مبا عناه بالرق�ص عندما رف�ض‬
‫ت�صبح الق�صيدة الأ جد كائنا حيا له مالحمه اخلا�صة ومعامله‬ ‫ق�صيدة النرث – �أي خلوها من مو�سيقى الوزن – ف�إنه هنا مل‬
‫املميزة وعنا�رصه املتكاملة»(‪ )44‬مبا ي�ؤكد �أن احلديث عن التميز‬ ‫يطلعنا كيف حتقق الرق�ص «املو�سيقى» لهذه الق�صيدة‪ .‬ومع �أنه‬
‫�سابق لأ وانه‪ .‬ومع ذلك فقد كانت املو�ضوعية �سمة غالبة وبارزة‬ ‫قد �أ�شار �إىل �أن‪« :‬الإ يقاع الداخلي– قد حل حمل الوزن‪ ,‬وحمل‬
‫يف هذه الدرا�سة‪ ,‬حتى و�إن جاءت يف قالب االنت�صار للجديد ؛‬ ‫رنني القافية»(‪ , )37‬فمن غري الوا�ضح كذلك مبا عناه بالإ يقاع‬
‫‪91‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ولت�أكيد �صعوبة �رشوط الق�صيدة و�أنها لي�ست بالأ مر الهني‬ ‫فقد قدم فيها املقالح �أفكارا غاية يف الأ همية ميكن �أن نعدها‬
‫يفرق املقالح بني �شاعر ق�صيدة النرث و�شاعر الق�صيدة التقليدية‪:‬‬ ‫الأ �سا�س �أو الأ ر�ضية التي ا�ستند عليها يف مواقفه بعد ذلك –‬
‫في�شبه الأ ول مبن يحاول �أن ي�صنع متثاال من الرتاب‪ ,‬البد �أن‬ ‫ومنها على �سبيل املثال تلك التي �ضمتها اخلامتة‪ ,‬كقوله‪�« :‬إن‬
‫يكون �أقدر يف �إمكاناته الذهنية والفنية مبئات املرات من ذلك‬ ‫ق�صيدة النرث املتجاوزة ملا توا�ضع النا�س على ت�سميته بال�شعر‬
‫الذي ي�صنع التمثال من الف�ضة �أو الذهب‪ ,‬لأ ن قيمة التمثال‬ ‫املنظوم وبالنرث امل�شعور‪� ,‬ست�صبح عما قريب الق�صيدة ال�صورة‬
‫الأ خري يف خامته‪ ,‬وكذلك قيمة الق�صيدة البيتية يف تراثيتها‪...‬‬ ‫�أو الق�صيدة اللوحة‪ ,‬وهي ق�صيدة نابعة من ع�رصها ولها‬
‫�أما الق�صيدة النرثية ف�إن ال�شاعر البد �أن ي�ضيف مبوهبته ما‬ ‫زمنها اخلا�ص ت�ستغني بلغتها امل�رشقة وب�إيقاعها الدرامي‬
‫يعو�ض به عن فقدان الإ يقاع والقافية والبيتية(‪ ...)51‬ولأ ن‬ ‫عن كل الفنون البالغية املوروثة‪ ,‬وهي حقا ق�صيدة ال�شعر احلر‬
‫�شعراء هذه الق�صيدة مل يحققوا هذا التعوي�ض يف ق�صائدهم‬ ‫لأ نها حتررت نهائيا من عن�رصي الوزن والتقفية وقد كانا‬
‫فقد حتفظ املقالح �إزاء كثري من املحاوالت النرثية – و�شدد من‬ ‫من �أهم ومن ابرز العنا�رص التي يت�آلف منها عمود الق�صيدة‬
‫ا�شرتاطاته فر�أي‪�« :‬أنه ال ميكن كتابة ق�صيدة نرثية ال لأ نها �شي‬ ‫التقليدية‪ ,‬ورغم ذلك فقد بقيت �شعرا‪ ,‬و�شعرا متجاوزا‪ ,‬وهي‬
‫يخالف التقاليد ال�شعرية‪ ,‬وال لأ ن النا�س ينبغي �أن يظلوا �أ�رسى‬ ‫يف اليمن عالمة من عالمات اجلدة واملعا�رصة يف �شعر اليمن‬
‫�شكل �شعري معني و�إمنا لأ ن �رشوط ق�صيدة النرث �أ�صعب من‬ ‫احلديث»(‪ ,)45‬غري �أن هذه الأ فكار– بر�أي باحث � آخر – «مل تكن‬
‫�أن ي�ستجيب لها �شاعر‪ .‬وهذه ال�رشوط من اال�ستحالة بحيث ال‬ ‫لتمثل مرحلة انعطاف يف موقفه؛ لأ ن املحاورات التي �أجريت‬
‫ميكن اخل�ضوع لها‪ ,‬ولذلك فال ميكن �أن يظهر �شاعر يكتب بالنرث‬ ‫معه بعد ن�رشه لهذه الدرا�سة مل تعك�س موقفا م�ساندا وم�ؤيدا‬
‫�شعرا حقيقيا �إال �إذا كان ميتلك طاقة �شعرية م�ستقبلية جتعله‬ ‫لهذه الق�صيدة و�إمنا كانت تدل على مرونة جتاهها»(‪.)46‬‬
‫ي�ستغني عن كل �شكل وقاعدة مبا �سوف يوفره من خ�صائ�ص‬ ‫ومن تلك املحاورات التي ا�ستدل بها الباحث ور�أي فيها‬
‫�شعرية‪ ,‬وعنا�رص تعبريية تهدم اخل�صائ�ص يف الذهن العربي‬ ‫نوعا من املراجعة يف املوقف النقدي امل�ساند لق�صيدة‬
‫بحكم الأ لفة وبت�أثري العادة والوراثة»(‪� )52‬إن عبارات املقالح‬ ‫النرث تلك التي �أجراها معه جلريدة احلوادث الناقد‬
‫– هنا – ال حتمل موقفا مرتاجعا �أو غري م�ساند بقدر ما «توحي‬ ‫جهاد فا�ضل‪ ,‬ومنها قول املقالح‪« :‬ال �أجد نف�سي كثريا‬
‫بالقلق على ق�صيدة النرث والتخوف من الأ دعياء والعابثني‬ ‫يف الق�صيدة التي تخلو من الإ يقاع‪ ,‬كما �أجد �صعوبة يف‬
‫بحرمة هذا ال�شكل‪ ,‬خا�صة بعد �أن وجدوا فيه مالذا لإ فراغ‬ ‫االقرتاب من كثري من النرثيات‪ .‬يف حني �أن بع�ض هذه‬
‫�رصاعاتهم وهلو�ساتهم‪ ,‬يف ظل الفراغ النقدي وغياب املعايري‬ ‫النرثيات وبخا�صة عندما ت�صدر عن �شعراء كبار تكون‬
‫ال�صارمة – على �صفحات ال�صحف واملجالت – ليجد القارئ‬ ‫�أكرث �شعرية من ال�شعر ال�سائد»(‪ ,)47‬وقوله‪« :‬و�أنا عندما‬
‫نف�سه �أمام �سيل من املعميات والطال�سم والإ غراب املمجوج‬ ‫�أحتدث عن ال�شعر اجلديد ف�إمنا �أحتدث عن م�ستوى معني‬
‫والرثثرات الفجة‪ ,‬ويف �أح�سن الأ حوال �أمام جمل وعبارات‬ ‫منه‪ ,‬عن م�ستوى توافرت له اللغة اجلديدة والرتكيب‬
‫م�شتتة تنعدم فيها الفكرة املركزية‪ ,‬مما يعك�س �ضعف‪ ,‬بل‬ ‫الفني ال�شعري‪ .‬فلي�س كل من كتب بهذا ال�شكل �أو كل من‬
‫وق�صور الت�أ�صيل الثقايف النظري‪ ,‬بل غيابه �أحيانا عند‬ ‫تالعب بالتفعيالت �أو �أهملها �شاعرا جديدا �أو يحق له‬
‫�أ�صحاب تلك الرثثرات»(‪.)53‬‬ ‫�أن ينت�سب �إىل هذا العامل املده�ش العظيم»(‪ .)48‬تلك هي‬
‫من هذا املنطلق – وهو منطلق وجيه – كان حر�ص‬ ‫�أدلة الباحث على �أن موقف املقالح من ق�صيدة النرث كان‬
‫املقالح يف �أغلب كتاباته بعد ذلك من�صبا على التذكري‬ ‫مرنا ولي�س م�ؤيدا �أو م�ساندا‪ ,‬واحلقيقة �أنني مل �أجد �سواء‬
‫ب�صعوبة �رشوط ق�صيدة النرث‪ ,‬و�إنها لي�ست عمال �سهال‬ ‫فيما قر�أت‪� ,‬أو يف ما ا�ستدل به الباحث ما يوحي برتاجع‬
‫ميكن كتابتها مبجرد الطموح لذلك ؛ «�إن الق�صيدة الأ جد‬ ‫املقالح عن موقفه امل�ؤيد واملنا�رص لق�صيدة النرث(‪ ,)49‬فلي�س‬
‫تتطلب من ال�رشوط ما ال تتطلبه �أية ق�صيدة �أخرى‪ ,‬و�إن‬ ‫ثمة تراجع‪ ,‬وكلما يف الأ مر �أنه – �أي املقالح – انتقل من‬
‫االمتثال لهذه ال�رشوط تتطلب �إمكانات لغوية وثقافية ال‬ ‫موقف الت�أييد املطلق – كما مل�سناه يف درا�سته ال�سابقة‬
‫تتوافر �إال للقليل ممن امتلكوا الأ دوات والتقنيات ال�شعرية‬ ‫– �إىل موقف الت�أييد امل�رشوط‪ .‬وقد كان لهذا االنتقال‬
‫الأ حدث‪ ,‬وممن امتلكوا القدرة على التعوي�ض عن‬ ‫�أ�سبابه ودوافعه‪.‬‬
‫العنا�رص الغائبة كعن�رصي الإ يقاع والقافية»(‪ .)54‬وهذه‬ ‫ويبدو �أن كرثة النماذج الرديئة التي افرزها موقف الت�أييد‬
‫اال�شرتاطات – مع ت�شددها – لي�ست �إال من باب امل�ساندة‬ ‫املطلق لبع�ض من ر�أي يف ق�صيدة النرث مركبا �سهال ومطية‬
‫والن�رصة‪ ,‬والت�شدد يف اال�شرتاطات – �أحيانا – هو نوع‬ ‫ذلوال قد �أ�صابته بخيبة �أمل ف�أراد �أن ي�صلح ما �أف�سده ه�ؤالء‬
‫من توفري احلماية من االخرتاق الذي تلقاه الفنون من‬ ‫من ت�سطيح للق�صيدة والعبث بها‪ ,‬فكان �أن حتفظ على جتاربهم‪,‬‬
‫ذوي املواهب ال�ضحلة‪ .‬وق�صيدة النرث مولود فتي‪ ,‬ووريث‬ ‫ونبه املت�شاعرين منهم �إىل �أن ‪�« :‬رشوط ما ي�سمى بق�صيدة النرث‬
‫�رشعي للتحلل من �رشوط ال�شعر التقليدي‪ ,‬ويف ذلك ما‬ ‫تفوق تلك ال�رشوط التي ت�ستلزم كتابة الق�صيدة اجلديدة»(‪, )50‬‬
‫‪92‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وللتذكري فهو يبد�أ بالرف�ض (مقدمة م�أرب يتكلم – ‪)1972‬‬ ‫يغري املتطلعني واملت�شاعرين التخاذها مطيتهم �إىل‬
‫ثم التحفظ �أو القبول امل�رشوط بتحقق الوزن(‪ ( )60‬الأ بعاد‬ ‫عامل ال�شعر العظيم‪ ,‬و�سواء �أكان ذلك بح�سن نية منهم‬
‫املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن – ‪)1973‬‬ ‫�أو ب�سوء نية ف�إن النتيجة واحدة – �إذا �سمح لهم بذلك‬
‫ثم القبول غري امل�رشوط �إال من �رشط الكتابة (قراءة يف �أدب‬ ‫– وهي قتل هذا املولود قبل �أن ي�ستوي عوده ويقوى‬
‫اليمن املعا�رص – ‪ )1976‬و�أخريا القبول املت�شدد بال�رشوط‬ ‫عموده‪ .‬ويف ظل املغايرة والتجاوز اللذين ظهرت بهما‬
‫التي حتقق مبد�أ التعوي�ض عن �رشوط الق�صيدة التقليدية (من‬ ‫هذه الق�صيدة ودفعت بالعديد للت�شكيك يف �شعريتها‪,‬‬
‫البيت �إىل الق�صيد – ‪ , 1983‬و�أزمة الق�صيدة العربية ‪ ,‬م�رشوع‬ ‫ي�صبح الت�شدد يف ال�رشوط التي تثبت عك�س ذلك �أمرا‬
‫ت�سا�ؤل – ‪.)1985‬‬ ‫مفروغا منه‪ .‬وعلى ذلك ميكن القول �أن لي�س ثمة تراجع‬
‫ويبدو �أن ت�شدد املقالح لل�رشوط التي حتقق �شعرية ق�صيدة‬ ‫يف موقف الت�أييد ولكنه االنتقال من موقف الت�أييد‬
‫النرث مل يجد له �صدى �أو فاعلية لدى املوجة اجلديدة من‬ ‫املطلق �إىل موقف الت�أييد امل�رشوط‪ ,‬وهذا االنتقال هو‬
‫�شعراء ق�صيدة النرث الذين غدت الق�صيدة على �أيديهم �أكرث‬ ‫يف �إطار املوقف الواحد‪ ,‬وبهذا ي�صبح املنحنى التطوري‬
‫�إغراقا يف النرثية‪ ,‬ناهيك عن دخولها �رساديب التعمية‬ ‫ملوقف املقالح من ق�صيدة النرث هكذا‪ :‬رف�ضا – حتفظا‬
‫والطال�سم وقتل املعنى ال�شعري‪ .‬ويف ا�ستمرار هذه الو�ضعية‬ ‫– قبوال مطلقا – قبوال م�رشوطا‪.‬‬
‫وا�ستمراء الزحف النرثي وغلبته يف املنت ال�شعري ما قد‬ ‫ولي�س من �شك ب�أن احتكاك املقالح وا�شتباكه امل�ستمر مع بع�ض‬
‫يدفع كثريا من منا�رصي الق�صيدة �إىل التخلي عن مواقفهم‬ ‫مناذجها قد �أحدث تطورا يف فكره النقدي‪ ,‬ور�سخ كثريا من‬
‫امل�ساندة‪ ,‬والتزام جانب ال�صمت يف الأ قل ‪ ,‬ولي�س هناك ما‬ ‫املفاهيم التي كانت م�شو�شة لديه قبل ذلك ‪ ,‬كمفهوم الإ يقاع‬
‫مينع بع�ضهم من تبني مواقف ال تخدم هذا ال�شكل ال�شعري‬ ‫واملو�سيقى الداخلية وغريها من املفاهيم ‪ ,‬ويف درا�سته‬
‫الأ جد؛ نقول هذا الكالم ونحن نلمح يف الأ فق بوادر موقف‬ ‫املتميزة عن �أزمة الق�صيدة العربية ‪� ,‬أ�صداء ذلك التطور‪ .‬وعلى‬
‫جديد للمقالح رمبا ينطوي مبعنى من املعاين على بع�ض‬ ‫�سبيل املثال فقد كانت املو�سيقى الداخلية –لديه – مع بداية‬
‫ما �أ�رشنا �إليه �سابقا‪ ,‬ن�شم رائحة هذا املوقف يف حوار ن�رش‬ ‫تعاطيه �سلبا مع ق�صيدة النرث مفهوما غري معرتف به(‪ , )55‬ثم‬
‫حديثا للمقالح وفيه �س�ؤال عن موقفه من هذه الق�صيدة‪,‬‬ ‫�أ�صبحت يف مرحلة تعاطيه االيجابي مفهوما معرتفا به ولكنه‬
‫ولأ همية ال�س�ؤال والإ جابة ف�سوف نثبتهما جميعا خامتة‬ ‫م�شو�ش وغري وا�ضح‪� .‬أما يف هذه الدرا�سة فقد �أ�صبحت مفهوما‬
‫ملبحثنا هذا‪.‬‬ ‫وا�ضحا وحمددا‪ ,‬فهي‪« :‬املو�سيقى التي ي�صنعها توازي الأ �شياء‬
‫ال�سائل‪ :‬ال تزال ق�صيدة النرث مو�ضع رف�ض الكثري من النقاد‬ ‫وت�ضادها‪ ,‬املو�سيقى التي تقر�أها العني يف اللوحة ويف �إيقاع‬
‫وال�شعراء الكبار عربيا‪ ،‬هل تن�ضم �إليهم �أم �أن لك موقفا خمتلفا‬ ‫املعمار‪ ,‬ويف الإ يقاع الداخلي للغة بعد �أن تغادر مكانها يف‬
‫؟ يبدو �أنك ان�ضممت �إليهم ؟‬ ‫القامو�س»(‪ .)56‬وهذا التطور يف املفاهيم والأ فكار – �إذا ق�سناه‬
‫املقالح‪ :‬ال �أريد �أن �أزكي نف�سي و�أقول �إنني عندما بد�أت‬ ‫من زاوية القبول والرف�ض – ال ي�سجل موقفا جديدا‪ ,‬وال يعني‬
‫حماولتي ال�شعرية الأ وىل يف �أواخر اخلم�سينات كانت نرثية‬ ‫�أن املقالح مل ينظر لق�صيدة النرث على �أنها �شعر حقا �إال يف‬
‫وكنت يف البداية �أكتب ق�صائد عمودية �أهاجم فيها �شعر الأ وزان‬ ‫هذه املرحلة‪ ,‬كما ذهب �إىل ذلك �أحد البحاثة(‪ ,)57‬وما ي�ؤكد هذا‬
‫والقوايف‪ ،‬وهناك دليل علي ذلك ق�صيدة كتبتها عام ‪1960‬‬ ‫االدعاء – �إن �صح – �أن املقالح بنى درا�سته لق�صيدة النرث يف هذا‬
‫ومن�شورة يف ديواين الأ ول �أو الثاين كانت تدعو �إيل التحرر من‬ ‫الكتاب من منطق الأ زمة التي �أحدثها ال�شعر املعا�رص ب�أ�شكاله‬
‫�سيطرة الوزن والقافية و�إيل كتابة ال�شعر احلر (ق�صيدة النرث)‬ ‫املتنوعة وقوالبه املختلفة بوجه عام‪ .‬وكما در�س �أزمة ال�شكل‬
‫و�أتذكر من تلك الق�صيدة بيتا يقول ‪:‬‬ ‫والت�سمية والتو�صيل والو�ضوح والغمو�ض والإ يقاع و�رصاع‬
‫رق�صت روعة عليه احلمري‬ ‫وخرجنا ن�سيل �شعرا مقفى‬ ‫الأ جيال‪ . .‬يف الق�صيدة اجلديدة «ق�صيدة التفعيلة»(‪ )58‬فقد‬
‫فهذه املقدمة ت�ؤكد �أنني علي الأ قل �إن مل �أكن من �أن�صار ق�صيدة‬ ‫بحث كذلك �إ�شكاليات الت�سمية والتجني�س والت�شكيل والبدايات‬
‫النرث فل�ست من �أعدائها‪ ،‬مع �أن كتاباتي الكثرية جدا واملنا�رصة‬ ‫واجلذور‪ . .‬يف ق�صيدة النرث(‪ , )59‬وذلك يعني �أن املقالح – هنا‬
‫لهذا ال�شكل من ال�شعر الذي تبنيت له م�صطلحا �صار معروفا يف‬ ‫– مل يحتك معها �إال باعتبارها �شكال �شعريا متفقا �سلفا على‬
‫بع�ض الأ و�ساط النقدية وهو (الق�صيدة الأ جد) مقارنة بالق�صيدة‬ ‫�شعريته‪ ,‬مثلها مثل ق�صيدة ال�شكل التفعيلي ‪ ,‬ودرا�ستها يف هذه‬
‫اجلديدة التي هي ق�صيدة التفعيلة‪ ،‬ويف كتابي (�أزمة الق�صيدة‬ ‫احلالة لي�ست نوعا من االعرتاف بها‪ ,‬بل هي نوع من الإ جابة‬
‫العربية‪ . .‬م�رشوع للت�سا�ؤل) ما يعطي �إجابة �شاملة يف موقفي‬ ‫على الت�سا�ؤالت التي تثريها دائما الأ �شكال اجلديدة لي�س يف‬
‫جتاه ق�صيدة النرث‪ ،‬ولكن بعد �أن اختلط احلابل بالنابل وتعالت‬ ‫الع�رص احلديث و�إمنا يف كل زمان ومكان‪ .‬وهذا ما ي�ؤكد زعمنا‬
‫�أ�صوات قتل الآ باء والأ مهات‪ ،‬فقد تراجعت مو�ضوعيا و�رصت‬ ‫ال�سابق ويثبت – حتى اللحظة – املنحنى الذي ر�سمناه مل�سار‬
‫�أرى كل الأ �شكال ال�شعرية النا�ضجة جديرة بالبقاء والتعاي�ش‪،‬‬ ‫املوقف النقدي التطوري من ق�صيدة النرث عند ناقدنا املقالح‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪� -27‬أ�صوات من الزمن اجلديد ‪ ,‬درا�سات يف الأ دب العربي املعا�رص‬ ‫و�أن من حق كل الزهور �أن تتفتح يف حديقة الإ بداع ال�شعري‬
‫– �ص‪.25‬‬ ‫عمودية كانت الزهرة �أو نرثية‪ ،‬املهم �أن تكون زهرة و�أن حتمل‬
‫‪ -28‬ينظر‪ :‬النقد الأ دبي احلديث – �ص ‪ , 436‬وينظر‪:‬ع�ضوية املو�سيقى يف‬
‫الن�ص ال�شعري– �ص‪.50‬‬ ‫قدرا من �ضوع ال�شعر ورائحة الإ بداع‪.)61( . .‬‬
‫‪� -29‬أ�صوات من الزمن اجلديد ‪ ,‬درا�سات يف الأ دب العربي املعا�رص‬ ‫الهوام�ش‬
‫– �ص‪.120‬‬
‫‪ -30‬ينظر‪ :‬الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن‬ ‫‪ -1‬ال�شعر وال�شعراء– ج‪.63/1‬‬
‫– �ص‪.393‬‬ ‫‪ -2‬ق�صيدة النرث العربية ‪ :‬الإ طار النظري والنماذج اجلديدة – فخري �صالح‬
‫‪ -31‬الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن‬ ‫– جملة ف�صول‪ :‬املجلد ‪ –16‬العدد الأ ول – �صيف ‪� – 1997‬ص‪.163‬‬
‫– �ص‪.390‬‬ ‫‪ -3‬الأ �س�س النظرية لق�صيدة النرث يف الأ دب العربي احلديث – ح�سن خمايف‬
‫‪ -32‬ينظر‪ :‬ل�سان العرب – ابن منظور – مادتي‪ – :‬رف �ض ‪ ,‬ح ف ظ‪.‬‬ ‫– جملة نزوى – العدد ‪� – 38‬إبريل ‪� –2004‬ص‪.129‬‬
‫‪ -33‬ينظر ‪ :‬النقد الأ دبي احلديث يف اليمن ‪ :‬الن�ش�أة والتطور – �ص‪,250‬‬ ‫‪ -4‬الكتاب من �إ�صدارات الهيئة العامة لق�صور الثقافة –القاهرة –‬
‫وق�صيدة النرث يف نقد عبد العزيز املقالح– �ص‪ ,157‬عبد العزيز املقالح‬ ‫‪.1999‬‬
‫وت�أ�صيل النقد الأ دبي احلديث يف اليمن– �ص‪ , 82‬وال�شعر املعا�رص يف‬ ‫‪ -5‬منثل لهذا التيار بـ ‪ :‬خليل حاوي ‪ ,‬وحممد املاغوط‪ .‬وهما من م�ؤ�س�سي‬
‫اليمن – عبد الرحمن �إبراهيم – �ص ‪.239‬‬ ‫جملة �شعر وكتاب ق�صيدة النرث فيها‪ ,‬فقد �أعلن املاغوط بعد ان�سحابه‬
‫‪ - 34‬ينظر‪ :‬النقد الأ دبي احلديث يف اليمن‪:‬الن�ش�أة والتطور – �ص‪.125‬‬ ‫من احلركة �أنه مل يكن �سوى كاتب قطع نرثية ب�سيطة و�أنه �سمي �شاعرا‬
‫‪ - 35‬قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص– �ص‪.22‬‬ ‫و�شاعرا حديثا على غرارهم دون �إرادته‪ .‬ينظر‪ :‬نزوى – العدد ‪ – 38‬ابريل‬
‫‪ - 36‬نف�سه – �ص‪.23‬‬ ‫‪� –2004‬ص‪.143‬‬
‫‪ - 37‬نف�سه – �ص‪.63‬‬ ‫‪ -6‬الأ �س�س النظرية لق�صيدة النرث يف الأ دب العربي احلديث – ح�سن خمايف‬
‫‪� -38‬شعراء من اليمن – �ص‪.79‬‬ ‫– �ص‪.129‬‬
‫‪ -39‬لي�س �رشطا – كما �أرى – �إن يكون تعديل املواقف ومراجعة الأ فكار‬ ‫‪ -7‬ينظر‪ :‬مقدمة يف ق�صيدة النرث العربية – بول �شاول – �ص‪, .153‬‬
‫م�صحوبا مبا يربر ذلك �إذ الإ ن�سان حر فيما يعمل ويعتقد‪ .‬ولكني �أرى ذلك‬ ‫ق�صيدة النرث العربية‪ ,‬مالحظات �أولية – رفعت �سالم – �ص‪ .302‬ف�صول‪:‬‬
‫�رشطا الزما فيمن يحتل مكانة علمية �أو �أدبية كمكانة الدكتور املقالح‪.‬‬ ‫املجلد ‪ –16‬العدد الأ ول – �صيف ‪.1997‬‬
‫‪ - 40‬ينظر‪ :‬النقد الأ دبي احلديث يف اليمن ‪ :‬الن�ش�أة والتطور– �ص‪.250‬‬ ‫‪ -8‬ق�صيدة النرث العربية ‪ ,‬الإ طار النظري والنماذج اجلديدة – فخري‬
‫‪ - 41‬من �أغوار اخلفاء �إىل م�شارف التجلي – �ص‪.150‬‬ ‫�صالح – جملة ف�صول– �ص‪.166‬‬
‫‪ - 42‬قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص – �ص‪.33‬‬ ‫‪ -9‬ق�صيدة النرث العربية‪ ,‬مالحظات �أولية – رفعت �سالم – جملة ف�صول–‬
‫‪ - 43‬ثرثرات يف �شتاء الأ دب العربي – �ص‪.111‬‬ ‫�ص‪.302‬‬
‫‪� - 44‬أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص‪.116‬‬ ‫‪ -10‬الق�صيدة وف�ضاء الت�أويل ‪ -‬ينظر‪� :‬ص ‪.150,149‬‬
‫‪ - 45‬قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص – �ص‪.73‬‬ ‫‪ -11‬ق�صيدة النرث العربية – رفعت �سالم – جملة ف�صول – ينظر‪� :‬ص‪301‬‬
‫‪- 46‬ق�صيدة النرث يف نقد عبد العزيز املقالح – �ص‪.158‬‬ ‫‪.303 ,‬‬
‫‪ - 47‬ثرثرات يف �شتاء الأ دب العربي – �ص‪.126‬‬ ‫‪ -12‬ينظر‪ :‬املقدمة – �ص‪ – 8’7‬طبعة الهيئة العامة لق�صور الثقافة‬
‫‪- 48‬نف�سه – �ص‪.120‬‬ ‫– القاهرة – ‪.1996‬‬
‫‪ - 49‬ولي�س يف تلك الأ قوال ما ي�شري �إىل غري ذلك وحديث املقالح – يف‬ ‫‪ -13‬ق�صيدة النرث العربية – رفعت �سالم – �ص‪.311‬‬
‫كل مقوالته – عن «ال�شعر اجلديد «الق�صد منه «�شعر التفعيلة �أو ال�شعر احلر»‬ ‫‪ -14‬ينظر‪ :‬مقدمة املرتجم لكتاب مي�شيل �ساندرا – قراءة يف ق�صيدة النرث‬
‫ولي�س ق�صيدة النرث‪.‬‬ ‫– �إ�صدارات وزارة الثقافة وال�سياحة – �صنعاء – ‪.2004‬‬
‫‪ -50‬من البيت �إىل الق�صيدة – �ص‪.32‬‬ ‫‪ -15‬هو الذي راجع وقدم ترجمة الكتاب نف�سه لراوية �صادق الذي‬
‫‪-51‬ينظر‪ :‬من البيت �إىل الق�صيدة – �ص‪.32‬‬ ‫�صدرعام‪2000‬عن دار �رشقيات بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ -52‬نف�سه – �ص‪.33 , 32‬‬ ‫‪ -16‬وقبل هذا التاريخ مل يطلع عليه �إال القليل و�صفهم رفعت �سالم‬
‫‪ -53‬ال�شعر املعا�رص يف اليمن‪ ,‬درا�سة فنية – عبد الرحمن �إبراهيم – مركز‬ ‫بالآ حاد ‪ ,‬ور�أي �أن كل واحد منهم وظفه حل�سابه ال�شعري‪� ,‬أو النقدي‪� ,‬أو‬
‫عبادي للدرا�سات والن�رش – �صنعاء – ‪� – 2005‬ص‪.243‬‬ ‫– حتى – العقائدي ‪ ,‬دون �أن يبيحه بكامله للآ خرين مت�سائال (هل ميثل‬
‫ذلك �شكال من معادلة املعرفة = ال�سلطة ؟) ينظر‪ :‬ق�صيدة النرث العربية‬
‫‪� - 54‬أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص‪.116‬‬
‫– ف�صول‪ :‬جملد‪ –16‬العدد‪� –1997 –1‬ص‪.301‬‬
‫‪ -55‬ينظر‪�:‬شعراء من اليمن – �ص‪.79‬‬ ‫‪ -17‬على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – عبد العزيز املقالح – امللحق‬
‫‪ -56‬ال�شعر بني الر�ؤية والت�شكيل – �ص‪.233‬‬ ‫الثقايف ل�صحيفة الثورة – �صنعاء – ‪ – 2004/9/23‬العدد ‪.14530:‬‬
‫‪ -57‬ينظر‪ :‬ق�صيدة النرث يف نقد املقالح – �ص‪.160‬‬ ‫‪ -18‬ينظر‪:‬على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – عبد العزيز املقالح‬
‫‪ -58‬ينظر‪� :‬أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص‪ ,22‬وما بعدها‪.‬‬ ‫– امللحق الثقايف ل�صحيفة الثورة – �صنعاء – ‪ –2004/9/23‬العدد‬
‫‪ -59‬نف�سه – �ص‪ ,70‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪� – 14530 :‬ص‪.16‬‬
‫‪ -60‬ي�ستنتج ذلك من قول املقالح عن ق�صيدة «�أنا وحبيبتي ورحلة احلب»‬ ‫‪ -19‬على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – �ص‪.16‬‬
‫لل�شاعرين امل�ساح وعبد الودود �سيف «هذه املقاطع الثالثة من ق�صيدة النرث‪,‬‬ ‫‪� -20‬أزمة الق�صيد العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص ‪.75‬‬
‫تلتقي مع الق�صيدة اجلديدة – ككل ق�صائد النرث اجليدة – يف ال�صورة والتجربة‬ ‫‪� -21‬أزمة الق�صيد العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – ينظر‪� :‬ص ‪.77,76‬‬
‫وطريقة التناول وال ينق�صها لتغدو ق�صيدة جديدة جيدة �سوى الوزن»‪ .‬الأ بعاد‬ ‫‪� -22‬شعراء من اليمن – �ص‪.79‬‬
‫املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن – �ص‪.393‬‬ ‫‪� -23‬شعراء من اليمن – �ص‪.69‬‬
‫‪ -61‬حوار مع الدكتور عبد العزيز املقالح – حاوره حممد احلمام�صي‬ ‫‪ -24‬نف�سه – �ص‪.79‬‬
‫– جملة ال�شعر‪ :‬جملة ف�صلية ي�صدرها احتاد الإ ذاعة والتلفزيون امل�رصي‬ ‫‪ -25‬نف�سه – �ص‪.79‬‬
‫‪ -‬العدد ‪� - 122‬أغ�سط�س ‪. .2006‬‬ ‫‪ -26‬نف�سه – �ص‪.79‬‬
‫‪94‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مركزية القيمة‪ ..‬مفهوم امل ؤ�لف‬


‫يف الثقافة العربية الكال�سيكية‬
‫عبدال�ستـــار جبــــر‬
‫ناقد و�أكادميي من العراق‬

‫لكي تُ�صبح م�ؤلف ًا يف الثقافة العربية الكال�سيكية‪ ،‬عليك �أن تكون حجة‪ ،‬وحتظى‬
‫بالإ جماع على كونِك كذلك‪ ،‬وهو �رشط يُتيح مل�ؤلفاتِك �أن يُعرتف بها كن�صو�ص‪،‬‬
‫يف عا ٍمل �أو ثقافة ال ت�ست�سيغ وجود ن�ص جمهول امل�ؤلف‪� ،‬أو م�ؤلف نكرة‪ .‬يقول‬
‫عبد الفتاح كيليطو‪« :‬ال يكفي لقول ما ان يتوفر على (انتظام خا�ص) كي‬
‫يعترب ن�صا‪ ،‬ينبغي‪ ،‬ف�ضال عن ذلك‪� ،‬أن ي�صدر عن‪� ،‬أو يرقى به �إىل قائل يقع‬
‫الإ جماع على انه حجة‪ .‬حينئذ يكون الن�ص كالما م�رشوعا ينطوي على �سلطة‪،‬‬
‫وقو ًال م�شدوداً �إىل م�ؤلف‪ -‬حجة‪ .‬وهكذا فقد كان امل�ؤلف‪ -‬النكرة �أمرا متعذر‬
‫الت�صور‪.‬‬

‫عبدالفتاح كليطو‪:‬‬
‫‪ l‬كيف يتحول متكلم �إىل م ؤ�لف حجة‪ ..‬امل ؤ�لف عندما ي�صبح‬
‫حجة‪ ،‬يولد من جديد ويطلق عليه ا�سم جديد‪.‬‬
‫‪ l‬تتغري االزمان وتتغري ميادين املعرفة‪ ،‬ولكن التطلع اىل‬
‫حتديد ن�سب الن�صو�ص ال يتغري‪ ،‬وان اتخذ مظهرا �آخر‪.‬‬
‫فمثال تبذل اليوم جمهودات �ضخمة للتنقيب عن �آيديولوجية‬
‫امل�ؤلفني و�سرب اغوار ال وعيهم‪.‬‬

‫‪95‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لي�س كافياً‪ ،‬وبحاجة �إىل و�ضوح �أدق‪.‬‬ ‫وبهذا املعنى ميكن للعبارة‪( :‬ن�ص جمهول امل�ؤلف) �أن‬
‫لنعطي م�سبق ًا بع�ض الإ �شارات التو�ضيحية عن معنى‬ ‫يعترب من قبيل اجلمع بني املت�ضادين»(‪� .)1‬أال يعني هذا‬
‫م�صطلح (م�ؤلف حجة)‪ .‬يقول كيليطو �إننا بحاجة �إىل درا�سة‬ ‫�أن للم�ؤلف قيم ًة �أكرب من نتاجه‪ ،‬و�أن الن�صو�ص تبقى‬
‫تُبني لنا «كيف يتحول متكلم �إىل م�ؤلف حجة»(‪ ،)6‬ومن‬ ‫ناق�صة �أو مُ علَّقة ما مل تُن�سب �إىل م�ؤلف ما؟‪ ،‬فال يُ�صار �إىل‬
‫يُطالع تراج َم امل�ؤلفني القدمية وكتب الطبقات وم�صنفات‬ ‫االهتمام بها‪� ،‬إال بعد �أن تن�سب‪� ،‬أي حتظى ب�أبوة �أحدهم(‪.)2‬‬
‫الرجال يكت�شف �إنها ال ترفدنا بالكثري ب�ش�أن الكيفية التي‬ ‫�إنها كاالبن ال�ضال‪� ،‬أو الأ بناء املجهويل الن�سب‪ ،‬الذين‬
‫ي�صبح فيها م�ؤلف ًا ما حجة يف جمال معني من العلوم‬ ‫يتعر�ضون �إىل االحتقار والإ ق�صاء يف ثقافة تُعلي من‬
‫واملعارف ال�سائدة � آنذاك‪ ،‬ومنها الأ دب طبعاً‪ ،‬فهي تركز‬ ‫قيمة االنت�ساب البيولوجي (الع�ضوي)‪� ،‬أو �رشف الأ رومة‪،‬‬
‫يف الغالب على مرحلة لقاء امل�ؤلف ب�شيوخه و�أ�ساتذته‪،‬‬ ‫تهمي�ش ليايل �شهرزاد و�إق�صاءها عن‬ ‫َ‬ ‫وهذا ما يُف�رس مث ًال‬
‫فهم ميثلون امل�ؤ�س�سة التعليمية‪ ،‬وعلينا �أن ن�ستبعد ت�صور‬ ‫دائرة االهتمام‪ ،‬لأ نها من هذا املنظار بال م�ؤلف‪ ،‬جمهولة‬
‫ما يطلق عليه البع�ض ت�سمية امل�ؤلف الع�صامي‪ ،‬فهذا مما‬ ‫الن�سب‪ ،‬ف�ض ًال عن �أ�سباب �أخرى بالت�أكيد �أدَّت �إىل �ض�آلة‬
‫ال تتيحه لنا هذه الرتاجم عن امل�ؤلفني احلجج‪� ،‬إذ يبدو‬ ‫العناية الدرا�سية بها قدمياً‪ ،‬ي�ؤكد ذلك كيليطو بقوله‪:‬‬
‫�أن مرحلة التلمذة واكت�ساب العلم واملعرفة من ال�شيوخ‬ ‫«العرب مل يعجبوا قط كبري الإ عجاب ب�ألف ليلة وليلة‪. .‬‬
‫هي �أهم مرحلة يف حياة امل�ؤلف‪ ،‬لكي يمُ نح ال�صالحية‬ ‫فلي�س هناك ما يزعج مثل ت�أليف ال يرقى به �إىل م�ؤلف‬
‫والإ جازة يف الكتابة(‪ ،)7‬ليُ�صبح واحداً منهم‪ ،‬وينتقل من‬ ‫بعينه»(‪� .)3‬إنه �أم ٌر انعك�س �أو تغلغل يف احل�سا�سية القرائية‬
‫ؤلف حج ًة‬ ‫دور الأ خذ �إىل دور العطاء‪ ،‬فحني يُ�صبح امل� ُ‬ ‫�أو ال�سماعية للمتلقني � آنذاك‪ ،‬وينطبق �إىل حد ما على‬
‫يُطلب �إليه يف العادة �أن يكتب كتاب ًا يف اخت�صا�صه‪� ،‬إما‬ ‫املعا�رصين‪ ،‬وك�أنك بحاجة �إىل �أن تعرف من هو م�ؤلف‬
‫�أن يكون وفق ًا لطلبٍ «�رصيح متليه ظروف خا�صة (مث ًال‬ ‫الن�ص الذي تقر�أه‪� ،‬أو �أن يكون لك ت�صو ٌر عنه‪ ،‬ي�ؤثر ب�شكل‬
‫امل�ستظهري للغزايل) �أو بناء على طلب �ضمني توحي به‬ ‫�أو ب�آخر يف �إدراكك للن�ص‪ ،‬وحني ال تتوفر لديك مثل هذه‬
‫بع�ض امل�شاكل املعلقة يف الهواء (البخالء للجاحظ)»(‪،)8‬‬ ‫املعرفة �أو الت�صور‪ ،‬ف�إنك �ستلج أ� �إىل افرتا�ضها �أو تركها‬
‫وك�أن الكتابة تتطلب «�أمرا‪� ،‬أو‪ ،‬وهذا �سيان‪� ،‬أُذنا»(‪ .)9‬هذا‬ ‫�شاغرة تنتظر االمتالء‪ .‬وكم �سن�شعر بنوع من ال�صدمة‬
‫الأ مر يُلقي �ضوءاً ي�سرياً‪ ،‬لكن له �أهميته‪ ،‬ب�ش�أن ظاهرة‬ ‫عندما نعلم �أن هذا الن�ص مزيف �أو م�رسوق �أو منتحل‪،‬‬
‫الت�أليف يف الثقافة العربية الكال�سيكية‪ ،‬حيث يجب �أال‬ ‫حينها �سيفقد الن�ص وم�ؤلفه جزءاً كبرياً من قيمتهما(‪.)4‬‬
‫يكون الت�أليف‪ ،‬كما يفهم من الكالم ال�سابق‪ ،‬حتت دافع‬ ‫لنتذكر‪ ،‬يف �سبيل التو�ضيح والتعزيز‪� ،‬أن �صحة احلديث‬
‫ذاتي داخلي‪ ،‬بل يُف�ضل �أو هكذا هو احلال عليه عُ رف ًا �أن‬ ‫النبوي تتوقف على «احلكم بعدالة رواته»(‪ ،)5‬لذا انق�سمت‬
‫يكون خارجياً‪ ،‬وهذا يدل �أي�ض ًا على �إن الكتابة ب�شكل‬ ‫بنيتُه الن�صيّة �إىل طبقتني‪ ،‬هما‪( :‬ال�سند‪ ،‬املنت)‪ ،‬حيث الأ ول‬
‫عام هي مبثابة اتفاق �أو عقد بني الكاتب و�صاحب الطلب‬ ‫هو �سل�سلة رواة املنت التي تنتهي �إىل النبي‪ ،‬والثاين هو ما‬
‫�أو الأ ذن‪ ،‬وهذا الأ مر يبدو ب�شكل �أو�ضح يف الكتابات‬ ‫قاله النبي نف�سه‪ ،‬والعالقة بينهما �أن الأ ول يحدد م�صداقية‬
‫ال�رسدية‪ ،‬فاملتلقي «يف �أغلب الأ حيان هو الذي يطلب‬ ‫و�صحة الثاين‪ ،‬ف�إن عُ رث على خلل يف �إحدى حلقات هذه‬
‫ال�رسد من الراوي»‪ ،‬وك�أن هذا التعاقد ال�ضمني بينهما هو‬ ‫ال�سل�سلة من راوٍ �أو ناقل غري ذي ثقة‪ ،‬فيُطرحُ احلديثُ جانب ًا‬
‫جت�سيد لقاعدة �شبه عامة وهي �أن «ال�رسد يكون جوابا عن‬ ‫وال ي�ؤخذ به‪ ،‬ف�ض ًال عن �أنه ال ميكن ت�صور �أو قبول حديث‬
‫�س�ؤال»(‪ ،)10‬وفق ًا لذلك يقول كيليطو‪« :‬ندرك ملاذا تعر�ض‬ ‫بال �سند �أ�صالً‪ .‬وقد �أثَّرت‪ ،‬على ما يبدو لنا‪ ،‬طريقة تعامل‬
‫امل�ؤلفات الكال�سيكية نف�سها جوابا على �س�ؤال‪� ،‬أو طلب‪� ،‬أو‬ ‫الثقافة العربية الكال�سيكية مع احلديث النبوي كن�ص‪،‬‬
‫التما�س عاجل‪ .‬الكاتب يرت�صد با�ستمرار عرو�ضا‪� ،‬أو عقدا‬ ‫يف مفهوم الن�ص ب�شكل عام‪ ،‬مع تباين وفارق القيمة‬
‫تتمخ�ض مقت�ضياته عن خطاب مطابق للطلب»(‪ ،)11‬فج ّل‬ ‫الهرياركية (الرتاتبية) للحديث كن�ص له مكانته اخلا�صة‪،‬‬
‫امل�ؤلفني القدماء يذكرون يف «افتتاحيات م�صنفاتهم �أن‬ ‫بخالف الن�صو�ص الأ خرى‪ ،‬ومنها املنتمية للحقل الأ دبي‪.‬‬
‫�شخ�صا طلب منهم �إن�شاء كتاب يف مو�ضوع من املوا�ضيع‪،‬‬ ‫وخ�صو�صية الت�أثري تكمن يف معيارية االعرتاف بالن�صو�ص‬
‫ال ي�سمونه عادة‪ ،‬وقد يكون ذا نفوذ �أو جمرد �صديق»(‪،)12‬‬ ‫وقبولها امل�رشوط ب�إ�سنادها �أو ن�سبتها �إىل م�ؤلف ما‪،‬‬
‫لنتذكر �أن بع�ضهم كان يهدي كتابه �إىل �شخ�صية �سيا�سية‬ ‫يجب �أن يكون حجة �أو علم ًا يف جماله‪� ،‬أو معرتف ًا به‪� ،‬أو‬
‫يف الأ غلب‪� ،‬إىل من كانوا ي�ضعون �أنف�سهم حماة ورعاة‬ ‫معروف ًا على �أقل تقدير‪� ،‬إذ يتجلى لنا هنا مفهوم امل�ؤلف‬
‫للأ دب و�أربابه‪ ،‬بعد �أن يذكر ه�ؤالء امل�ؤلفون يف مقدماتهم‬ ‫يف الثقافة العربية الكال�سيكية ب�شكل وا�ضح ن�سبياً‪ ،‬لأ نه‬
‫‪96‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫�أن (�س) �سين ًا �أو فالن ًا من ه�ؤالء طلب منه اخلو�ض يف‬
‫لالعرتاف به يف عامل الن�صو�ص‪ ،‬بل ان حظوظه ومكانته‬
‫يف هذا العامل تزداد ب�إرتباطه مب�ؤلف دون غريه‪ ،‬وال�سيما‬ ‫هذا الأ مر ومعاجلته وبيان ر�أيه يف كتاب‪ ،‬وك�أن ثمة عقداً‬
‫�إذا نا�سبَت طبيعة الن�ص م�ؤلف ًا حجة يف اخت�صا�صه‪ ،‬فلو‬ ‫�ضمني ًا بينهم يقوم على تبادل املنافع‪ ،‬يقول كيليطو‪:‬‬
‫انك ولّدت كالم ًا يف الزهد وموعظة النا�س‪ ،‬كما يقول‬ ‫«الكتابة تتم تنفيذا لطلب من �سلطة‪ ،‬و�سواء �أكان هذا‬
‫اجلاحظ (‪255‬هـ‪868/‬م)‪« :‬ثم قلت‪ :‬هذا من كالم بكر بن‬ ‫الطلب فعليا �أم ال‪ ،‬فاملهم �أن الكتاب يتوجه يف النهاية‬
‫كان الكتاب‬ ‫عبد اهلل املزين وعامر بن عبد قي�س العنربي وم�ؤرق‬ ‫�إىل هذه ال�سلطة على �شكل �إهداء‪ .‬الكتاب ي�ؤول يف النهاية‬
‫القدامى يرون‬ ‫العجلي ويزيد الرقا�شي‪ ،‬لت�ضاعف ح�سنه ولأ حدث له‬ ‫�إىل مكتبة ال�سلطة»(‪� .)13‬أو رمبا كان الكتاب القدامى يرون‬
‫يف الكتابة �أمراً‬ ‫ذلك الن�سب ن�ضارة ورفعة مل تكن له‪ ،‬ولو قلت‪ :‬قالها �أبو‬ ‫يف الكتابة �أمراً ج�سيم ًا خطرياً‪ ،‬لذا فهم «بحاجة �إىل‬
‫ج�سيماً خطرياً‪،‬‬ ‫بكر ال�صويف �أو عبد امل�ؤمن �أو �أبو ن�ؤا�س ال�شاعر �أو‬ ‫االحتماء وراء �سلطة ما لل�رشوع يف الت�أليف»(‪ ،)14‬كما‬
‫ح�سني اخلليع‪ ،‬ملا كان لها اال مالها يف نف�سها‪ ،‬وباحلرى‬ ‫يُعلل كيليطو هذه الظاهرة‪ .‬لكن لمِ َ ال يكون يف الأ مر بع ٌد‬
‫لذا فهم «بحاجة‬ ‫ان تغلط يف مقدارها فتبخ�س من حقها»(‪ .)19‬فانت�ساب‬ ‫� آخر يرتبط �أو يتعلق ِبكُنه مفهوم امل�ؤلف نف�سه؟‪� .‬أنه ما‬
‫� إىل االحتماء وراء‬ ‫الكالم �أو الن�ص اىل م�ؤلف �شهري تك�سبه بعداً جمالياً‪ ،‬ما‬ ‫زالت �صورة الكاتب �أو مفهومه تتلبّ�س مفهو َم امل�ؤلف‪� ،‬أو‬
‫�سلطة ما لل�شروع‬ ‫هو �إال وق ٌع نف�سي طيب لدى متلقيه‪� ،‬أي �أنه �أثر نف�سي‪،‬‬ ‫تُلب�سُ ها الثقاف ُة �إياه‪ ،‬ليبقى مكب ًال يف �إطار املعنى الأ ول‬
‫يف الت�أليف‪ ،‬كما‬ ‫يُعلي من �ش�أن القول ويرفعه �أو ي�ساويه مع مرتبة قائله‬ ‫للكاتب وهو «املدون �أو النا�سخ»(‪� ،)15‬أي مبعنى انه من‬
‫يُعلل كيليطو هذه‬ ‫ال�شهري لو نُ�سب اليه‪� ،‬أو كان هو قائله حق ًا ولي�س جمازاً‪،‬‬ ‫ميتهن الكتابة للآ خر‪ ،‬وهو املعنى نف�سه الذي �ساد �أوروبا‬
‫وي�سقط من هذه املرتبة �أو املكانة لو نُ�سب اىل غريه‬ ‫قبل القرن ال�ساد�س ع�رش‪ ،‬كما يُ�شري �إىل ذلك ليترييه‪ ،‬يف‬
‫الظاهرة‪ .‬لكن لمِ َ‬ ‫ممن �إ�شتهر بخالف طبيعته‪ ،‬فيُ�ستهجن ويُ�ستنكر منه‬ ‫حني انه منذ القرن ال�سابع امليالدي برز عربياً‪ ،‬مفهوم‬
‫ال يكون يف الأ مر‬ ‫ذلك‪� ،‬سواء �صدر منه �أو افرت�ضت ن�سبته اليه‪ .‬فمن الالزم‬ ‫امل�ؤلف‪ ،‬الذي ميكن �أن نُطلقه على �أول من �صنّف كتاب ًا‬
‫بع ٌد �آخر يرتبط �أو‬ ‫�إذن «اختيار اال�سم الذي �سيتبنى الكالم‪ ،‬والذي �سيحدد‬ ‫وكان يف املثالب‪ ،‬وهو زياد بن �أبيه (‪56‬هـ‪675/‬م)‪ ،‬وهو‬
‫يتعلق ِبكُنه مفهوم‬ ‫موقف املتلقي ازاءه»(‪ ،)20‬لأ ن �إ�سم امل�ؤلف «و�أ�صله والأ ر�ض‬ ‫كتاب مفقود‪ ،‬مل ي�صل �إلينا‪ ،‬لكن هذا املفهوم مل يتحرر‬
‫امل�ؤلف نف�سه؟‪.‬‬ ‫التي �أنبتته‪ ،‬وتفا�صيل ترجمته‪� ،‬إمارات وعالمات تُثبت‬ ‫كلي ًا من �سيطرة مفهوم الكاتب الذي اكت�سب معنى جديداً‬
‫هوية الن�ص‪ ،‬وتحُ دد موقعه يف خريطة املعنى»(‪ .)21‬وكل‬ ‫مع كتاب بن �أبيه‪ ،‬وهو املُ�صنِّف‪ ،‬لتكون الكتابة‪ � ،‬آنذاك‪،‬‬
‫�أنه ما زالت �صورة‬ ‫نوع �أدبي كال�سيكي‪ ،‬كما ي�ستنتج كيليطو‪ ،‬حتفُّه �أ�سما ُء‬ ‫مهن ًة تعني التدوين �أو الن�سخ �أو النقل �أو الت�صنيف(‪.)16‬‬
‫الكاتب �أو مفهومه‬ ‫عديدة مل�ؤلفني ينبغي �أن تن�سب لها �أف�ضل الن�صو�ص‪،‬‬ ‫وهذا التحول يف امل�سرية احلياتية للم�ؤلف احلجة‬
‫تتلبّ�س مفهو َم‬ ‫�أعالم هي وحدها القادرة على �أن جتعل «الكالم مقبوال‪،‬‬ ‫ينعك�س حتى على ا�سمه‪ ،‬كما يالحظ كيليطو‪ ،‬فيُبدَّل‬
‫امل�ؤلف‪� ،‬أو تُلب�سُ ها‬ ‫ما دامت تتمتع بخلفية ن�صية معرتف بها»‪ ،‬ميكن‬ ‫با�سم � آخر‪ ،‬فمَن هو مثالً‪�« :‬أبو حممد القا�سم بن علي‬
‫الثقاف ُة � إياه‪،‬‬ ‫«لأ حدها �أن يحل حمل الآخر»(‪ ،)22‬مبعنى �أنه لن ي�شكل‬ ‫بن حممد بن عثمان؟‪� .‬إنه احلريري‪ . .‬فك�أن امل�ؤلف‬
‫فرق ًا كبرياً لو �أنك ن�سبت ن�ص ًا ما اىل �أحدهم ثم ن�سبته‬ ‫عندما ي�صبح حجة‪ ،‬يولد من جديد ويطلق عليه ا�سم‬
‫ال‬
‫ليبقى مكب ً‬ ‫اىل غريه �ضمن النوع نف�سه‪ ،‬ذلك �أنهم ي�شرتكون بخ�صائ�ص‬ ‫جديد»(‪ ،)17‬وهو �أمر ينطبق على الغالبية العظمى من‬
‫يف � إطار املعنى‬ ‫�أ�سلوبية متقاربة جداً‪ ،‬تكاد ال تبني عالماتها الفارقة‬ ‫امل�ؤلفني القدامى‪ ،‬وعادة ما يطلق عليهم معا�رصوهم‬
‫الأ ول للكاتب وهو‬ ‫بينهم‪ ،‬لأ نهم ميتثلون لقواعد و�أعراف الت�أليف للنوع‬ ‫�ألقاب ًا وكنى وم�سميات جديدة‪ ،‬يجب �أخذها بنظر‬
‫«املدون �أو النا�سخ»‬ ‫الذي يكتبون فيه‪ ،‬فيعيدون �إنتاجها وتثبيت خ�صائ�صها‬ ‫االعتبار‪ ،‬لأ نها بر�أي كيليطو «متلي املوقف الذي‬
‫الأ �سلوبية التي ترجع اىل النوع �أكرث من رجوعها اىل‬ ‫ينبغي التزامه جتاههم»(‪.)18‬‬
‫�أ�ساليبهم الفردية اخلا�صة‪ ،‬وهذا �سَ هَّل �آنذاك عملية‬ ‫لنعُ د �إىل م�س�ألة الن�سب‪� ،‬إىل االرتباط امل�شيمي للن�ص‬
‫الإ نتحال والن�سب املزيف وكوّن منها ظاهرة بارزة‪ ،‬يرى‬ ‫مب�ؤلفه‪ ،‬حيث كان الأ خري مرك َز املعنى �أو حمورَه‪ ،‬بخالف‬
‫لـ«ما�ض حافلٍ بامل�ؤلفني‬
‫ٍ‬ ‫فيها كيليطو نوع ًا من التمجيد‬ ‫�صورته التي انقلبت الآن ر�أ�س ًا على عقب‪ ،‬حني �أُعلن عن‬
‫(‪)23‬‬
‫امل�شهورين الذين ينبغي اقتفاء عربتهم �أي كالمهم» ‪،‬‬ ‫موته‪ ،‬وقُطع احلبل ال�رسي �أو امل�شيمي عن ن�صه‪ ،‬الذي‬
‫يف ثقافة بلغ فيها هذا التمجي ُد مبلغ ًا يُ�ستهج ُن فيه‬ ‫�أَعلن عقوقَه �أو ا�ستقاللَه عنه‪ ،‬يف زمن مل يكن يجر ؤ�‬
‫احلديث واجلديد ويُ�ست�صغرُ‪ ،‬ويُ�شتد ال�رصاع معه‪ ،‬اىل �أن‬ ‫حتى على امل�ساواة مع منتجه (م�ؤلفه)‪ ،‬فما بالك‬
‫يُثبت ح�ضوره‪ ،‬ويزيح عن كاهله �أو ينف�ض عن ج�سده‬ ‫باال�ستغناء عنه واالرتفاع عليه‪ ،‬حني كان يف احلقبة‬
‫املثخن بجراح النزاع �سها َم الإ تهامات‪ ،‬من بدعة �أو‬ ‫الكال�سيكية للثقافة العربية يت�شبث بالأ بوة و�سيل ًة‬
‫‪97‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫معا�رصيه‪ ،‬وليحظى كتابه بال�شهرة �أي�ضاً‪� ،‬أن يفعل مثل‬ ‫بع�ض �أكابر الكتاب‬ ‫ُ‬ ‫�رسقة �أو طعن‪ ،‬وغريها‪ ،‬وكان‬
‫ما فعل اجلاحظ �أو من هو دونه �أو �أقل منه �ش�أناً‪� ،‬إن مل‬ ‫و�أ�شهرهم يلج�ؤون يف بادئ �أمرهم وحديث عهدهم‬
‫نقتنع بعائدية هذا القول اىل اجلاحظ‪ ،‬لت�شكيكنا بن�سبة‬ ‫بالت�أليف اىل ن�سبة كتاب لهم اىل م�ؤلف قدمي بَلغت‬
‫الر�سائل �أو بع�ضها اليه(‪ ،)26‬لكن �أمر ن�سبتها اليه تبقى‬ ‫�شهرتُه الآفاقَ وحفّه الزم ُن باملجد وال�رشف والرفعة‪ ،‬وقد‬
‫م�ؤ�رشاً نافع ًا لت�أييد هذا الإ عرتاف‪ ،‬بر�أينا‪ ،‬فقد تعو ُد هذه‬ ‫نُفاج أ� الآن ب�إعرتاف �أ�شهرهم‪ ،‬بقوله‪« :‬ورمبا �ألفت الكتاب‬
‫الر�سائل �أو بع�ضها لأ حد امل�ؤلفني املت�أخرين بعد‬ ‫الذي هو دونه يف معانيه و�ألفاظه‪ ،‬فاترجمه با�سم غريي‪،‬‬
‫اجلاحظ‪ ،‬دفعته �إحدى الأ �سباب الآنفة اىل ن�سبة ت�أليفه‬ ‫و�أحيله على من تقدمني ع�رصه مثل ابن املقفع واخلليل‪،‬‬
‫اىل اجلاحظ‪ ،‬وهذه �إحدى الإ حتماالت يف تف�سري الن�سبة‪،‬‬ ‫و�سلم �صاحب بيت احلكمة‪ ،‬ويحيى بن خالد‪ ،‬والعتابي‪،‬‬ ‫هيمنة ال�سمات‬
‫�أو انها تعو ُد اىل م�ؤلف جمهول مل يُذكر ا�سمُه على‬ ‫ومن �أ�شبه ه�ؤالء من م�ؤلفي الكتب‪ ،‬في�أتيني القوم‬ ‫الأ �سلوبية عرب‬
‫متونها‪ ،‬لكن خ�صائ�صها الأ �سلوبية �شديدة ال�شبه‬ ‫ب�أعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان �أحكم من هذا‬ ‫الأ عراف النوعية‬
‫بخ�صائ�ص اجلاحظ‪ ،‬وهذا ما رجَّ ح احتمالية ن�سبتها‬ ‫الكتاب‪ ،‬ال�ستن�ساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ‪ ،‬ويكتبونه‬
‫اليه‪ ،‬وهذه تُعيدنا اىل عالقة امل�ؤلف بالنوع الذي يكتب‬ ‫بخطوطهم‪ ،‬وي�صيرّ ونه �إماما يقتدون به‪ ،‬ويتدار�سونه‬ ‫على الت�أليف‪،‬‬
‫فيه‪ ،‬وت�صلح مثا ًال على هيمنة ال�سمات الأ �سلوبية عرب‬ ‫بينهم‪ ،‬ويت�أدبون به‪ ،‬وي�ستعملون �ألفاظه ومعانيه يف‬ ‫التي تخلق �أو‬
‫الأ عراف النوعية على الت�أليف‪ ،‬التي تخلق �أو تفر�ض‬ ‫كتبهم وخطاباتهم‪ ،‬ويروونه عني لغريهم من طالب ذلك‬ ‫تفر�ض بدورها‬
‫بدورها �صورة خا�صة بامل�ؤلف‪� ،‬أو مبعنى �أدق مب�ؤلفها‬ ‫اجلن�س فتثبت لهم به ريا�سة‪ ،‬وي�أمت بهم قوم فيه‪ ،‬لأ نه مل‬ ‫�صورة خا�صة‬
‫ال�ضمني‪ ،‬فتن� أش� م�سافة توتر بني امل�ؤلف احلقيقي‬ ‫يرتجم با�سمي‪ ،‬ومل ين�سب اىل ت�أليفي»‪ ،‬يالها من خطة‬ ‫بامل�ؤلف‪،‬‬
‫وامل�ؤلف ال�ضمني‪ ،‬قد يكون فيها الأ خري �صورة خمالفة‬ ‫�أو حيلة يلج أ� اليها هذا الكاتب ليمنح �أح َد كتبِه �شهر ًة‬
‫للأ ول‪ ،‬وغالب ًا ما ال يعك�س حقيقته‪ ،‬وال يكون ظ ًال له‪ ،‬وال‬ ‫ومكانة يف عامل يبدو حكراً على �أعالمِ املا�ضي من‬ ‫�أو مبعنى‬
‫يمُ ثل جت�سيداً �أو تعبرياً عن جتاربه الذاتية‪ .‬ويف حني‬ ‫امل�ؤلفني الأ موات‪ ،‬ويك�شف لنا يف اعرتافه عن مدى‬ ‫�أدق مب�ؤلفها‬
‫يُ�شكل الأ ول حموراً مركزي ًا لتحديد قيمة الن�ص‪ ،‬يمُ ثل‬ ‫ال�صعوبة واملعاناة التي يلقاه امل�ؤلفون املعا�رصون يف‬ ‫ال�ضمني‪ ،‬فتن� أش�‬
‫مفهومه التاريخي والعياين بني ًة قارة يف �سُ لّم القيم‬ ‫الإ عرتاف بهم‪ ،‬وانتزاعه بعد جُ هد جَ هيد‪ ،‬والأ مر‪ ،‬على ما‬ ‫م�سافة توتر بني‬
‫الرتاتبية يف الثقافة التي ينتمي اليها‪ ،‬يبدو الأ خري‬ ‫يبدو هنا‪ ،‬ال يتعلق بكون امل�ؤلف القدمي حجة لأ نه فقط‬ ‫امل�ؤلف احلقيقي‬
‫مفهوم ًا ن�سبي ًا يفتقر اىل التحديد املن�ضبط‪ ،‬ي�صفه‬ ‫قدمي‪� ،‬إمنا لكون الن�ص �أو الكتاب اجلديد املن�سوب اليه‬
‫كيليطو باالعتباطي‪ ،‬مقابل مفهوم النوع الذي يغدو‬ ‫�سيُتيح لطلبة العلم و�أهله فر�صة لن�سخه وتدري�سه‬ ‫وامل�ؤلف‬
‫حمدداً �أ�شد التحديد‪ ،‬ويدفعنا اىل ع ِّد مفهوم امل�ؤلف‬ ‫ون�رشه والت�أديب به‪� ،‬أي �أنه يتحول اىل مادة جديدة‬ ‫ال�ضمني‪ ،‬قد‬
‫ني لفكرة موت امل�ؤلف‬ ‫ال�ضمني ولي َد النوع‪ ،‬ويف هذا تبط ٌ‬ ‫لوظيفتهم كن�ساخ و�أ�ساتذة �أو �شيوخ علم ومت�أدبني‪� .‬إننا‬ ‫يكون فيها‬
‫احلديثة ب�صيغة �أو �صورة �أخرى‪ ،‬كما نرى من جانب‬ ‫بازاء مناخ خا�ص ب�ش�أن �إ�شكالية الت�أليف والن�رش يف‬ ‫الأ خري �صورة‬
‫كيليطو‪ ،‬حني تُق�صي �سلطة امل�ؤلف من حمورية �أو‬ ‫الثقافة العربية الكال�سيكية‪ ،‬ولن نتوقع �أن يكون هذا‬ ‫خمالفة للأ ول‪،‬‬
‫مركزية �إنتاج املعنى‪ ،‬لتُثبت بد ًال عنها �سلطة �أخرى هي‬ ‫الكاتب هو اجلاحظ(‪ ،)24‬وهو يعرتف يف �إحدى ر�سائله‬
‫النوع يف الن�صو�ص الكال�سيكية قدمياً‪ ،‬وتحُ يلها اىل‬ ‫ب�سلوكه هذا‪ ،‬و�سينكر بع�ضنا بالت�أكيد م�شكك ًا يف بع�ض‬ ‫وغالب ًا ما ال‬
‫�سلطة القارئ يف الن�صو�ص املعا�رصة حديثاً‪ .‬لكن �إذا‬ ‫هذه الر�سائل من �صحة ن�سبتها اليه‪ ،‬ومن َث َّم عودة هذا‬ ‫يعك�س حقيقته‪،‬‬
‫كان الن�ص يف الع�صور الغابرة ال يُعرتف به �إن مل‬ ‫الإ عرتاف له‪ ،‬ملا يحظى به اجلاحظ من مكانة رفيعة‬ ‫وال يكون ظ ًال‬
‫يُتن�سب مل�ؤلف ما ليحدد قيمته ومعناه‪ ،‬ف�إن للنوع هنا‬ ‫املقام يف تاريخ الأ دب العربي‪ ،‬تدفع اىل اال�ستغراب من‬ ‫له‪ ،‬وال يمُ ثل‬
‫دوراً ثانوياً‪ ،‬ويف هذا تناق�ض وا�ضح يف الر�أي ال�سابق‪،‬‬ ‫قول كهذا ميكن �أن ي�صدر عنه‪ ،‬ف�إن �أيّدنا هذا الإ نكار‬ ‫جت�سيداً �أو‬
‫فكيف تُب ّد ُد حرية اال�ستفهام هنا؟‪ .‬لنتذكر تو�ضيح كيليطو‬ ‫وجزمنا به‪ ،‬ف�إنه لن يُ�سقط �صح َة ما ورد يف هذا‬
‫ب�ش�أن �أن لكل نوع �أعالمُ ه من امل�ؤلفني‪ ،‬و�إن نحن قد‬ ‫االعرتاف الذي يك�شف لنا كيف كان «امل�ؤلف يف �أعني‬ ‫تعبرياً عن‬
‫جرّدنا هذه الأ عالم من اخل�صائ�ص الأ �سلوبية الفردية‬ ‫املعا�رصين له‪ ،‬مناف�سا ينبغي التنقي�ص من قيمته»(‪،)25‬‬ ‫جتاربه الذاتية‬
‫و�إرتقينا بها لت�صبح خ�صائ�ص �أ�سلوبية للنوع‪ ،‬فهذا‬ ‫ُف�ضل عليه م�ؤلِف ًا قدمي ًا حجة‬
‫�إن مل يُعرِّ�ضه حل�سدهم‪ ،‬ي َّ‬
‫يعني �أننا قُمنا بعملية متاهي ومطابقة بينهم وبني‬ ‫يحظى بح�سن التقدير‪ ،‬فيدفعه ذلك‪� ،‬إما اتقاء ل�رش احل�سد‬
‫النوع‪ ،‬وهذه العملية تخلق نوع ًا من التوحيد بينهم يف‬ ‫�أو تفادي الإ ق�صاء والتهمي�ش والتعر�ض للطعن �أو ال�رسقة‬
‫اجلانب الإ بداعي �أو الكتابي فقط‪ ،‬ولي�س يف اجلانب‬ ‫�أو الإ تهام بالبدعة‪� ،‬أو لرغبة منه يف االحتيال على‬
‫‪98‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أ�ش ّد و�ضوح ًا وتقارب ًا من مفهوم امل�ؤلف احلقيقي‪ ،‬و�أن‬ ‫العياين وال�شخ�صي للم�ؤلف‪ ،‬ولنفرت�ض �أن للم�ؤلف‬
‫الأ خري يرتبط بالنوع من خالل ذاته الأ خرى الن�صية‬ ‫�صورتني‪ ،‬ن�سمي الأ وىل ال�شخ�صية �أو الأ �صلية‪ ،‬وهي التي‬
‫ولي�ست ال�شخ�صية‪ ،‬فيتبدى يف و�ضوح �أقل كمفهوم ن�صي‪،‬‬ ‫تد ّل عليه ك�شخ�ص له �سريته وحياته اخلا�صة خارج ما‬
‫مقارنة بالنوع �أو بامل�ؤلف ال�ضمني‪ .‬هذا يعني �أن كيليطو‬ ‫كتبه‪ ،‬حيث ميكن �أن يُطلق عليه وفق ًا لذلك بـ«امل�ؤلف‬
‫كان يتحدث عن امل�ؤلف احلقيقي ولي�س ال�ضمني‪ ،‬وهو‬ ‫الأ �صلي»‪ ،‬ون�سمي الثانية ال�صورية �أو املفرت�ضة �أو‬
‫ما يقت�ضي منا ت�صحيح التو�ضيح ال�سابق‪ .‬بيد انه لإ زالة‬ ‫ذات متج�سدة يف‬ ‫اخليالية‪ ،‬وهي التي تدل عليه �أو على ٍ‬
‫ما يتمخ�ض من لب�س يف عالقة النوع بامل�ؤلف ال�ضمني‬ ‫كتاباته‪ ،‬بالإ مكان �أن يطلق عليه تبع ًا لذلك بـ«امل�ؤلف‬
‫يجب التنويه اىل ان للنوع �سلطته يف حتديد معنى‬ ‫ال�ضمني» �أو ال�صوري كما هو �شائع الآن يف الدرا�سات‬
‫وقيمة الن�ص الكال�سيكي‪ ،‬ب�شكل بارز‪ ،‬يف الأ نواع التي ال‬ ‫النقدية احلديثة(‪� ،)27‬أو من اجلائز لنا ت�سميته بامل�ؤلف‬
‫ت�سمح بف�ضاء �أو�سع من التعبري الذاتي‪ ،‬وهذا ما نعرث‬ ‫الكتابي �أو الن�صي‪ ،‬تقريب ًا اىل خ�صو�صية املو�ضوع من‬
‫عليه يف الن�صو�ص ال�شعرية‪ ،‬حيث هيمنة الأ عراف‬ ‫امل�صطلحات ال�سابقة‪ .‬على �أية حال ف�إن عملية التوحيد‬
‫النوعية عليها كبرية جداً‪ ،‬وقد ر�أينا ب�شار بن برد ال�ضخم‬ ‫ال�ضمنية بني النوع وامل�ؤلف الأ خري‪ ،‬التي مل ي�رصح بها‬
‫اجلثة (كم�ؤلف حقيقي)‪ ،‬تعك�سه مر� آ ُة ق�صيدة الغزل التي‬ ‫�أو يو�ضحها كيليطو‪ ،‬جتعل منهما مركزاً واحداً تقريب ًا‬
‫يكتبها يف �صورةٍ متناق�ض ٍة فيط ُل علينا هزي ًال نحي ًال‬ ‫لتحديد املعنى والقيمة‪ ،‬حني يُن�سب ن�ص ما مل�ؤلف‬
‫(كم�ؤلف �ضمني)‪ ،‬وكذلك كان احلال بالن�سبة ملعظم‬ ‫معروف يف نوع �أو منط بعينه من الكتابة‪ ،‬فن�سبة‬
‫ال�شعراء الذين �أُجربوا على االلتزام ب�إحتذاء منوذج‬ ‫جمموعة من الر�سائل اىل اجلاحظ‪ ،‬هي ن�سبة اىل ذاته �أو‬
‫الق�صيدة اجلاهلية‪ ،‬وهي من املفارقات يف �أمناطٍ خطابي ٍة‬ ‫�صورته الكتابية �أو الن�صية (كم�ؤلف �ضمني) ولي�س اىل‬
‫تُو�صفُ ب�أنها بَوحية وذات م�ساحة �أكرب للتعبري الذاتي‪،‬‬ ‫�شخ�صه‪� ،‬أو بالأ حرى هي ن�سبة اىل جمموع ما كتبه‪ ،‬اىل‬
‫لكنها يف الثقافة الكال�سيكية جتنح لر�سم �صورة منطية‬ ‫الذات املتكونة واملتبلورة يف كتاباته‪� ،‬أو كما �سيقول‬
‫�أو منوذجية لذات امل�ؤلف الن�صية يجب �إعادة �إنتاجها‪،‬‬ ‫الكثري منا بب�ساطة اىل �أ�سلوبه‪� ،‬إذ �سيكون ما ي�شبه النق�ص‬
‫يف حني �أن الن�صو�ص النرثية كانت متتلك قدراً �أو�سع‬ ‫حني تُن�سب ن�ص ًا اىل نوع فقط دون �أن تن�سبه اىل �أحد‬
‫ن�سبي ًا من احلرية‪ ،‬لتباين قوة الأ عراف النوعية التي‬ ‫�أعالمه‪ ،‬بل يكاد الأ مر يبقى غري م�ست�ساغ �أن يظل الن�ص‬
‫تنتمي اليها‪ ،‬ولكونها تتحدث عن موا�ضيعَ �أبعد عن‬ ‫يف ربقة نوع فقط دون �أن يرقى به اىل م�ؤلف حجة‪ ،‬وما‬
‫الذاتية ب�شكل ما‪.‬‬ ‫يُ�سهل هذا الأ مر هو نبوغ �أعالم يف نوع �أدبي ما‪،‬‬
‫رمبا توغلنا ب�إطناب‪ ،‬يف عالقة امل�ؤلف‪ ،‬بذاتي ِه احلقيقية‬ ‫يج�سدون �أو ميثلون هذا النوع بجدارة كبرية‪ ،‬وك�أنهم‪،‬‬
‫والن�صية‪ ،‬بالنوع‪ ،‬فلنَعد �أدراجنا قلي ًال اىل اجلاحظ‪،‬‬ ‫بذواتهم الن�صية طبعاً‪ ،‬عالماته الأ �سلوبية اخلا�صة‪ .‬لكننا‬
‫فثمة ما ميكنه �أن يعيننا يف تفهم املناخ الثقايف‬ ‫�ألمَ نُ�ساوي هنا بني �سلطة النوع و�سلطة امل�ؤلف يف‬
‫لع�رصه فيما يخ�ص �إ�شكالية الت�أليف فيه‪ ،‬والظاهرة‬ ‫حتديد املعنى والقيمة؟‪ .‬يبدو هذا حا�ص ًال ب�شكل ما‪ .‬كيف‬
‫التي مل�سناها يف ن�سبة الن�صو�ص اىل م�ؤلفني �أموات‬ ‫�إذن نتفق مع كيليطو على ان مفهوم امل�ؤلف �إعتباطي‬
‫كانوا �أعال َم زمانهم‪ ،‬هو �أن فكرة الت�أليف مل تتكون كما‬ ‫مقابل مفهوم النوع الوا�ضح والثابت؟‪ ،‬وقد ف�سرّ نا حديثه‬
‫فهمها الأ دباء القدامى �إال بعد �أن ا�ستقرت «�سنة ت�سطري‬ ‫ب�إنه يتكلم عن امل�ؤلف ال�ضمني‪ ،‬وقد تبني لنا ان مفهوم‬
‫الكتب» يف نهاية القرن الثاين للهجرة‪� ،‬أي يف الن�شاط‬
‫الأ خري متماه و�شبه متطابق مع مفهوم النوع‪� ،‬إذن �إما‬
‫املكثف ملا �سُ مي بع�رص التدوين‪ ،‬يف حني انه قبل هذا‬
‫الع�رص‪ ،‬ميكن القول انه «مل تعلق �أهمية لفكرة انت�ساب‬
‫انه ال يتحدث هنا عن امل�ؤلف ال�ضمني �إمنا عن احلقيقي‪،‬‬
‫الت�أليف مل�ؤلف معني»(‪ )28‬كما ي�ؤكد امل�ست�رشق هـ‪ .‬ا‪.‬‬ ‫�أو ان عالقة ال�ضمني بالنوع لديه غري وا�ضحة‪ .‬االحتمال‬
‫جب (‪ ،)1965‬مو�ضح ًا �أن مفهوم امل�ؤلف كان عبارة عن‬ ‫الثاين ن�ستبعده لأ ن كيليطو ي�ؤكد �أن النوع هو من يخلق‬
‫«الأ ديب الذي ينظم مادة الكتاب �أو ينظم حمتوياتها‪،‬‬ ‫امل�ؤلف ال�ضمني‪ ،‬وهذا �أمر تو�ضح لدينا �آنفاً‪ ،‬بقي‬
‫وهذه املواد كانت تتداولها تالمذ ُة امل�ؤلف �شفوي ًا‬ ‫االحتمال الأ ول الذي يقودنا اىل امل�ؤلف احلقيقي‪ ،‬هل هو‬
‫وال تدون يف �صورة مقرر كامل �إال بعد وفاته بعدة‬ ‫فع ًال مفهوم �إعتباطي �أي غري حمدد؟‪ .‬لقد �أدركنا يف‬
‫�سنوات»(‪ ،)29‬و�إ�ستمر هذا احلال حتى الن�صف الثاين‬ ‫معر�ض ال�سعي لتبديد حرية االلتبا�س يف مركزية حتديد‬
‫من القرن الثاين‪ ،‬وهذا يك�شف لنا �أن الظاهرة ال�سابقة‬ ‫املعنى والقيمة للن�صو�ص بني امل�ؤلف والنوع يف الثقافة‬
‫ابتد�أت بعد التاريخ الأ خري‪ ،‬ومن اخلط أ� تعميمها كظاهرة‬ ‫العربية الكال�سيكية‪� ،‬أن مفهومي النوع وامل�ؤلف ال�ضمني‬
‫‪99‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ -14‬لن تتكلم لغتي‪ .86 :‬هذا الأ مر يبدو ب�شكل �أكرث جال ًء بالن�سبة‬ ‫تغطي جممل التاريخ الأ دبي العربي القدمي‪ ،‬وهو �أمر مل‬
‫لل�شعراء‪ ،‬فمن املعلوم �أن ال�شاعر «يف املجتمع الإ �سالمي التقليدي كان‬ ‫يتحره كيليطو بدقة‪ ،‬ف�سقط يف �شرِ اك الإ �ستقراء الناق�ص‬
‫يعي�ش يف كنف �سلطان �أو �أمري �أو ثري تربطه و�إياه عالقات متقلبة‬
‫تتطور وفقا للظروف االجتماعية وال�سيا�سية»‪ .‬ينظر‪( :‬يف الكتابة‬ ‫والتعميم املجانب لل�صواب‪.‬‬
‫والتجربة‪ .‬د‪ .‬عبد الكبري اخلطيبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬حممد بردة‪ ،‬دار العودة‪،‬‬ ‫ولو خل�صنا اىل �إ�ستنتاج مركزي ملا تقدم‪ ،‬ف�إننا �سنح�رصه‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪� ،1980/1‬ص‪.)38 :‬‬ ‫يف �إطار قيمة امل�ؤلف يف الأ دب العربي القدمي‪ ،‬حيث ميكن‬
‫‪ -15‬الثابت واملتحول‪ ،‬بحث يف الإ تباع والإ بداع عند العرب‪ .‬ج‪� :3‬صدمة‬
‫احلداثة‪ ،‬ادوني�س‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1983/4‬ج‪� ،3‬ص‪.23 :‬‬ ‫القول �أن هذا الأ دب يقوم على فكرة (امل�ؤلف‪ -‬الأ �صل)‪،‬‬
‫‪ -16‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪ .24 :‬و�أدوني�س ي�ستند يف الإ �شارة �إىل كتاب بن �أبيه اىل‬ ‫كما ي�سميه كيليطو‪ ،‬فال ي�صري ملفوظٌ ما ن�ص ًا �أدبي ًا �إال‬
‫كتاب بروكلمان «تاريخ الأ دب العربي‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪ ،»251-250 :‬ومل ي�رش‬
‫اىل الطبعة وتاريخها‪.‬‬ ‫معرتف به»(‪ ،)30‬لكن ظواهر مثل‬ ‫ٍ‬ ‫«حني ي�صد ُر عن �سن ٍد‬
‫‪ -17‬الغائب‪.16 :‬‬ ‫االنتحال والتزييف والغ�ش للن�صو�ص كانت �أمراً �شائع ًا‬
‫‪ -18‬املقامات‪.142 :‬‬ ‫يف الثقافة العربية الكال�سيكية‪ ،‬فكيف ميكن للأ دب �أن‬
‫‪� -19‬إقتب�سه كيليطو من «البخالء‪ .‬حتقيق‪ :‬طه احلاجري‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪� ،1971 ،‬ص‪ ،»8-7 :‬يف الكتابة والتنا�سخ‪.74 :‬‬ ‫يركن اىل فكرة امل�ؤلف‪ -‬الأ �صل فقط؟‪ .‬يجيب عن ذلك‬
‫‪ -20‬الكتابة والتنا�سخ‪.74 :‬‬ ‫كيليطو‪« :‬هذا ال يغري من واقع �أن ملفوظ ًا ما‪� ،‬صحيح ًا‬
‫‪ -21‬الغائب‪.63-62 :‬‬ ‫ؤلف �ضامنٍ ل�صحته‬ ‫كان �أو منتحالً‪ ،‬هو بحاجة اىل م� ٍ‬
‫‪ -22‬الكتابة والتنا�سخ‪.75 :‬‬
‫‪ -23‬م‪ .‬ن‪ .77 :‬يف حني يرى د‪ .‬عبد اهلل �إبراهيم ان هذه الظاهرة‬ ‫كي ي�صري ن�صا»(‪ ،)31‬وهذا �صحيح لأ ن الن�سبة الزائفة �أو‬
‫جاءت نتيجة ان «الثقافات ال�شفاهية مل توفر ظروفا ت�ساعد على‬ ‫اخلاطئة‪ ،‬بوجودها ذاته‪ ،‬ت�ؤكد �أن الن�ص كان «ال ي�ستطيع‬
‫حماية ن�صو�صها الأ دبية‪ ،‬وهي يف واقع احلال ال ت�ستطيع ذلك‪ ،‬لأ ن تلك‬
‫الن�صو�ص رهينة التداول ال�شفاهي الذي يتعر�ض الكراهات‪ ،‬وانزياحات‪،‬‬ ‫�أن يفر�ض نف�سه دون �إ�سم م�ؤلف يكفله ويثبت �صدقه»(‪.)32‬‬
‫واق�صاءات كثرية»‪ ،‬فغالب ًا ما كانت «تدمج ال�شذرات‪ ،‬والنبذ املتبقية‬ ‫�إنه �إهتما ٌم بال ٌغ بامل�ؤلف‪ ،‬ب�أبوة الن�ص على ح�ساب الن�ص‬
‫من ن�صو�ص متماثلة يف املو�ضوع واال�سلوب‪ ،‬فتظهر من تلك االم�شاج‬ ‫نف�سه‪ ،‬هذا �أم ٌر يعود‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬اىل النزعة العربية‬
‫ن�صو�ص جديدة ت�سهل ن�سبتها اىل هذا او ذاك‪ ،‬وتخ�ضع لروح الع�رص الذي‬
‫تعرف فيه» (التلقي وال�سياقات الثقافية‪ .‬د‪ .‬عبد اهلل ابراهيم‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫يف معرفة �أ�صل الأ �شياء‪ ،‬وحتديد ن�سبها‪ ،‬يعدّها بال�شري‬
‫اجلديد‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪� ،2000/1‬ص‪.)101 :‬‬ ‫(‪� )1973‬إحدى خ�صائ�ص العقلية البدوية(‪.)33‬‬
‫‪ -24‬الإ قتبا�س ال�سابق من �إحدى ر�سائل اجلاحظ املعنونة «كتاب ف�صل‬
‫ما بني العداوة واحل�سد‪ .‬املجلد االول‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد عبد ال�سالم هارون‪.‬‬ ‫الهوام�ش‬
‫القاهرة‪� ،1964 ،‬ص‪� ،»351 :‬أورده كيليطو يف الكتابة والتنا�سخ‪-80 :‬‬
‫‪.81‬‬ ‫‪ -1‬الكتابة والتنا�سخ‪ ،‬مفهوم امل�ؤلف يف الثقافة العربية الكال�سيكية‪.‬‬
‫‪ -25‬م‪ .‬ن‪.81 :‬‬ ‫ترجمة‪ :‬عبد ال�سالم بنعبد العايل‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بريوت‪،1985 ،‬‬
‫‪ -26‬يقول كيليطو‪« :‬تتغري االزمان ةتتغري ميادين املعرفة‪ ،‬ولكن التطلع‬ ‫�ص‪.14-13 :‬‬
‫اىل حتديد ن�سب الن�صو�ص ال يتغري‪ ،‬وان اتخذ مظهرا � آخر‪ .‬فمثال تبذل اليوم‬ ‫‪ -2‬على خالف ما يح�صل اليوم يف الدرا�سات النقدية‪ ،‬فاالجتاهات‬
‫احلديثة ال�سيما التفكيكية ونظرية التلقي ترى �أن «الن�ص حمكوم دائما‬
‫جمهودات �ضخمة للتنقيب عن � آيديولوجية امل�ؤلفني و�سرب اغوار ال وعيهم»‬ ‫بالتوالد‪ ،‬وان الكتابة تكتب الكتابة‪ ،‬مما يجعلها تق�ضي على اي �صوت‬
‫(الغائب‪.)65 :‬‬ ‫خارجها يدعي �أبوة الن�ص»‪ .‬انظر‪( :‬التفاعل الن�صي‪ ،‬التنا�صية‪ ،‬النظرية‬
‫‪ -27‬يقول والكر جب�سون‪« :‬من ال�سائد‪ ،‬الآ ن‪ ،‬يف قاعات الدرا�سة ويف النقد‬ ‫واملنهج‪ .‬نهلة في�صل االحمد‪ ،‬كتاب الريا�ض (‪ ،)104‬عن م�ؤ�س�سة اليمامة‬
‫اي�ضا‪ ،‬التمييز‪ ،‬بدقة‪ ،‬بني م�ؤلف الفن الأ دبي واملتكلم املتخيل �ضمن عمل‬ ‫ال�صحفية‪ ،‬الريا�ض‪1423 ،‬هـ‪� ،‬ص‪.)89 :‬‬
‫الفن»‪ ،‬منبه ًا اىل �أن الأ خري هو الأ كرث فائدة لدرا�سة الأ دب‪ ،‬لأ ن «املتكلم‬ ‫‪ - 3‬الكتابة والتنا�سخ‪.59 :‬‬
‫(يق�صد امل�ؤلف ال�ضمني) يكون اللغة وحده‪ ،‬و�إن ذاته الكاملة تتوقف على‬ ‫‪ -4‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪.60 :‬‬
‫ال�صفحة التي امامنا على نحو جلي»‪ ،‬على خالف امل�ؤلف احلقيقي الذي‬ ‫‪ -5‬م‪ .‬ن‪.48 :‬‬
‫يبدو «مكتنفا باال�رسار‪ ،‬ومفقودا يف التاريخ»‪ ،‬اي ال نعرف عنه �سوى‬ ‫‪ -6‬الأ دب والغرابة‪ ،‬درا�سات بنيوية يف الأ دب العربي‪ .‬عبد الفتاح كيليطو‪،‬‬
‫ا�شياء قليلة ان مل تكن نادرة لبع�ضهم‪ .‬ينظر‪ :‬امل�ؤلفون واملتكلمون والقراء‬ ‫دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪� ،1997 /3‬ص‪.15 :‬‬
‫ال�صوريون‪ .‬والكر جب�سون‪ ،‬من كتاب‪ :‬نقد ا�ستجابة القاريء‪ ،‬من ال�شكالنية‬ ‫‪ -7‬يقول كيليطو‪�« :‬ضمانة اكت�ساب املعرفة تتميز باحل�صول على الإ جازة‪،‬‬
‫اىل ما بعد البنيوية‪ ،‬حترير‪ :‬جني ب‪ .‬تومبكنز‪ ،‬ترجمة‪ :‬ح�سن ناظم‪ ،‬علي‬ ‫اي الإ ذن برواية ن�ص‪� ،‬أو ن�صو�ص‪ ،‬مينحه الأ �ستاذ لتلميذه» (املقامات‪،‬‬
‫حاكم‪ ،‬مراجعة وتقدمي‪ :‬د‪ .‬حممد جواد ح�سن املو�سوي‪ ،‬املجل�س الأ على‬ ‫ال�رسد واالن�ساق الثقافية‪ .‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الكبري ال�رشقاوي‪.‬‬
‫للثقافة‪ ،‬م�رص‪� ،1999 ،‬ص‪.43 :‬‬ ‫دار توبقال‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬املغرب‪ .‬ط‪� ،1993 /1‬ص‪.)147 :‬‬
‫‪ -28‬درا�سات يف ح�ضارة اال�سالم‪ .‬هاملتون جب‪ ،‬حترير‪� :‬ستانفورد �شو‪،‬‬ ‫‪ -8‬الأ دب والغرابة‪.78 :‬‬
‫وليم بولك‪ .‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬اح�سان عبا�س‪ ،‬د‪ .‬حممد يو�سف جنم‪ ،‬د‪ .‬حممود زايد‪.‬‬ ‫‪ -9‬املقامات‪.149 :‬‬
‫دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬بدون تاريخ‪� ،‬ص‪.301 :‬‬ ‫‪ -10‬الغائب‪ ،‬درا�سة يف مقامة للحريري‪ .‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬دار توبقال‪،‬‬
‫‪ -29‬م‪ .‬ن‪.301 :‬‬ ‫الدار البي�ضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،1987/1‬ط‪� ،1997/2‬ص‪.49 :‬‬
‫‪ -30‬املقامات‪.60 :‬‬ ‫‪ -11‬املقامات‪ .149 :‬وك�أن املرء لن يكون م�ؤلف ًا �إال حني «ي�سري يف اجتاه‬
‫‪ -31‬م‪ .‬ن‪.60 :‬‬ ‫طلب اجلماعة»‪ ،‬كما يقول كيليطو‪( :‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪.)148 :‬‬
‫‪ -32‬م‪ .‬ن‪.60 :‬‬ ‫‪ -12‬لن تتكلم لغتي‪ .‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪/1‬‬
‫‪ -33‬ينظر‪ :‬تاريخ الأ دب العربي‪ ،‬منذ ن�شوئه حتى �أواخر القرن اخلام�س‬ ‫‪� ،2002‬ص‪.86 :‬‬
‫ع�رش امليالدي (التا�سع للهجرة)‪ .‬ريجي�س بال�شري‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬ابراهيم‬ ‫‪ -13‬احلكاية والت�أويل‪ ،‬درا�سات يف ال�رسد العربي‪ .‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬دار‬
‫الكيالين‪ ،‬مطبعة اجلامعة ال�سورية‪ ،‬دم�شق‪ ،1956 ،‬ج‪� ،1‬ص‪.165 :‬‬ ‫توبقال‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪� ،1999/2‬ص‪.74 :‬‬

‫‪100‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عامل الإن�شاء املغلق‬


‫ماركيوز ونقد لغة ال�سيا�سة‬
‫عماد عبد اللطيف‬
‫ناقد و�أكادميي من م�رص‬
‫«لغة ال�سيا�سة هي درع النظام القائم‪ .‬واملعار�ضة اجلذرية تتحقق عن طريق تنمية لغتها اخلا�صة‪ ،‬على‬
‫نحو عفوي وغري واع‪� ،‬ضد واحد من �أكرث «الأ �سلحة ال�رسية» فعالية يف ال�سيطرة؛ فلي�ست لغة القانون‬
‫والنظام القائمني‪ ،‬التي هي لغة املحاكم وال�رشطة‪ ،‬جتليا ب�سيطا للقمع‪ ،‬بل هي القمع ذاته»‪.‬‬
‫ماركيوز‪1969‬‬ ‫«�إن جمتمع الوفرة عاهر يف خطابه‪ ،‬يف ابت�ساماته‪ ،‬يف �سيا�سييه وخطبائه»‪ .‬‬
‫«�إذا كان ثمة �صوت واحد ف�إنه ال ي�ستحق �أن ي�سمع‪� .‬إذا كان ثمة مذاق واحد ف�إنه لن يجلب �إال ال�سخط‪� .‬إذا‬
‫كو يـــو‬ ‫كان ثمة مادة واحدة ي�صنع منها كل �شيء ف�سوف تندثر ال�صالبة»‪ .‬‬

‫قدم الفيل�سوف الأ ملاين هربرت ماركيوز (‪ )1979-1898‬م�رشوعا مهما لنقد‬


‫لغة ال�سيا�سة(‪ ،)1‬ا�ستند فيه �إىل �أطر فل�سفية مثلت رافدا �أ�سا�سيا من روافد نقد لغة‬
‫ال�سيا�سة ؛�أهمها الفل�سفة املارك�سية‪ ،‬والنظرية النقدية التي ت�أ�س�ست يف معهد‬
‫فرانكفورت للعلوم االجتماعية‪ ،‬والتي تعرف با�سم» مدر�سة فرانكفورت»‪ .‬لقد‬
‫كانت «النظرية النقدية» م�رشوعا فل�سفيا لنقد الهيمنة والتحكم(‪ .)2‬وكانت لغة‬
‫ال�سيا�سة‪ ،‬بو�صفها مظهرا من مظاهر الهيمنة والتحكم و�أداة له يف الوقت ذاته‪،‬‬
‫مو�ضوعا ملمار�ستهم النقدية‪.‬‬
‫لقد �أدرك ماركيوز �أن بناء جمتمع حر جديد يرتبط ببناء لغة �سيا�سية جديدة‬
‫ووجدان جديد‪ .‬وكانت �صيحته «على ه�ؤالء (يق�صد من ي�سعون لتحقيق جمتمع‬
‫حر) �أن يتكلموا لغة جديدة» تعبريا عن � إدراكه خلطورة الدور الذي ميكن �أن تقوم‬
‫به لغة ال�سيا�سة يف املجتمعات القائمة‪ .‬فلغة ال�سيا�سة هي «درع النظام القائم»‪،‬‬
‫وهي �أداة القمع التي ي�ستخدمها يف تروي�ض مواطنيه‪ .‬هذه اللغة القمعية‪/‬الكاذبة‬
‫ي�سميها ماركيوز‪ ،‬مبا يليق بها �أن ت�سمّى به؛ � إنها لغة «داعرة»‪« ،‬خرقاء»‪ .‬ينقل‬
‫ماركيوز‪ ،‬يف هذه الت�سميات‪ ،‬دالالت االنحالل اجلن�سي والتخبط ال�سلوكي � إىل لغة‬
‫ال�سيا�سة؛ فلي�س العهر بيع اجل�سد بل � إفقاد الكلمات معانيها احلقيقية‪ ،‬وتربير‬
‫حرب يباد فيها �شعب من الأ برياء‪.‬‬

‫‪101‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جتليات الفكر الأ حادي البعد‪ .‬و�أفرد اخلامتة املوجزة‬ ‫كان ماركيوز �أحد �أبرز �أع�ضاء هذه املدر�سة‪ ،‬ورمبا‬
‫لعر�ض ت�صور للم�ستقبل و�إمكانيات التغيري‪.‬‬ ‫كان من �أكرثهم اهتماما باللغة بعامة‪ ،‬ولغة‬
‫كانت لغة ال�سيا�سة قا�سما م�شرتكا يف‬ ‫ال�سيا�سة خا�صة‪ .‬اننا ندرك �أن �أفكار ماركيوز متثله‬
‫مو�ضوعات الكتاب قاطبة‪ ،‬وذات ح�ضور مزدوج؛‬ ‫وحده‪ ،‬لكنها يف الوقت ذاته تعطي �صورة‪ ،‬قد تكون‬
‫فهي دوما �سبب ونتيجة‪� .‬سبب لتخدر املجتمع‬ ‫دقيقة‪ ،‬ملقاربة مدر�سة فرانكفورت بوجه خا�ص‪،‬‬
‫ونتيجة له‪ .‬فاملجتمع �أحادي البعد والفكر �أحادي‬ ‫واملقاربة املارك�سية بوجه عام‪ ،‬للغة ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ي ؤ�كد ماركيوز‬
‫البعد يُنتجان لغة �أحادية البعد ويَنتجان عنها‬ ‫وكال املقاربتني كان –وال يزال‪ -‬ذا ت�أثري كبري‬ ‫أ�همية اللغة يف‬
‫يف الوقت ذاته‪ .‬ومل يكن غريبا‪ ،‬من ثم‪� ،‬أن يفرد‬ ‫يف معظم توجهات نقد لغة ال�سيا�سة‪ .‬وتعد كتابات‬
‫ماركيوز يف هذا ال�سياق من �أهم ما كتبه الرعيل‬
‫املجتمع املعا�صر؛‬
‫ماركيوز �أكرب ف�صول الكتاب لنقدها وحتليلها‪.‬‬
‫افتتح ماركيوز هذا الف�صل باقتبا�س م�أخوذ‬ ‫الأ ول من م�ؤ�س�سي النظرية النقدية‪ ،‬فيما يتعلق بنقد‬ ‫«فالكلمة هي‬
‫عن روالن بارت‪ ،‬هو «�إن كل كتابة �سيا�سية‬ ‫لغة ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫التي ت أ�مر وتنظم‪،‬‬
‫يف الو�ضع الراهن للتاريخ ال ميكن �إال �أن ت�ؤكد‬ ‫�سوف نركز يف تناولنا لنقد لغة ال�سيا�سة عند‬ ‫وهي التي حتث‬
‫وتعزز عاملا بولي�سيا» (ماركيوز‪.)121 ،1964‬‬ ‫ماركيوز على م ؤ�لَّفني اثنني من م�ؤلفاته؛ هما‪:‬‬ ‫النا�س على العمل‬
‫وميكن القول �إن نقد ماركيوز للغة ال�سيا�سة كان‬ ‫الإ ن�سان ذو البعد الواحد»‪ ،‬و«مقال يف التحرر»(‪.)3‬‬
‫يت�ضمن امل�ؤلفان �أهم �أفكار ماركيوز عن لغة‬
‫وال�شراء والقبول»‪،‬‬
‫حا�شية تف�صيلية على عبارة بارت‪ .‬لقد عُ ني‬ ‫لقد ا�ستطاع رجال‬
‫ماركيوز ببيان امليول املميزة للفكر �أحادي‬ ‫ال�سيا�سة‪ .‬ويف حني يركز الأ ول على خ�صائ�ص اللغة‬
‫البعد كما تتجلى يف لغته‪ ،‬وبع�ض اخل�صائ�ص‬ ‫امل�سيطرة والآ ثار التي تحُ دثها‪ ،‬يركز الثاين على‬ ‫ال�سيا�سة و�صناع‬
‫الرتكيبية للغة املجتمع �أحادي البعد‪ ،‬ووظائفها‬ ‫�إمكانيات مقاومة اللغة ال�سائدة وبدائلها املمكنة‪.‬‬ ‫الر أ�ي العام‪ ،‬الذين‬
‫وكيفية عملها‪ ،‬واملقاربات الفل�سفية املعنية‬ ‫يف نقد اللغة �أحادية البعد‬ ‫يدركون هذه‬
‫بتحليلها‪ ،‬وطرق مقاومتها‪ .‬وا�ستمد‪ ،‬غالبا‪،‬‬ ‫يف عام ‪� 1964‬أ�صدر ماركيوز م�ؤلفه ذائع ال�صـيت‬ ‫أالهمية‪ ،‬مب�ساعدة‬
‫�أمثلته من املجتمع الأ كرث «ر�أ�سمالية» وهو‬ ‫«الإ ن�سان ذو البعد الواحد»‪ .‬حاول ماركيـوز فـي هذا‬ ‫م ؤ��س�سات البحث‪،‬‬
‫الواليات املتحدة الأ مريكية‪ ،‬واملجتمع الأ كرث‬ ‫الكتاب �أن يجيب عن ت�سا�ؤلني؛ الأ ول‪ :‬ملاذا مل تندلع‬ ‫أ�ن يتكلموا‬
‫«ا�شرتاكية» وهو االحتاد ال�سوفييتي(‪ .)4‬وجدير‬ ‫الثورة يف الدول ال�صناعية املتقدمة‪ ،‬التي اع ُتـبرِ ت‬
‫بالذكر �أن ماركيوز‪ ،‬مل يفا�ضل بني املجتمعني‬ ‫ويفر�ضوا لغة‬
‫املهاد النموذجي للثورة يف �أدبيات مارك�سية‬ ‫خا�صة‪ .‬لغة‬
‫الأ مريكي وال�سوفييتي؛ فكالهما‪ ،‬من وجهة‬ ‫متعددة؟ والثاين‪ :‬ملاذا �أ�صبحت الثورة «الطبيعية»‬
‫نظره‪ ،‬جمتمع �أحادي البعد‪ ،‬وكالهما يتبنى‬ ‫م�ستبعدة بل م�ستحيلة يف هذه الدول �إبان ت�أليفه‬ ‫طق�سية تع�سفية‬
‫لغة �أحادية البعد‪ .‬وهو ما يربر جتاور الأ مثلة‬ ‫كتابه؟ وال�س�ؤاالن يخ�صان ما�ضي «الثورة» يف هذه‬ ‫تقوم بت�ضليل‬
‫التي تنتمي �إىل املجتمعني يف �سياق التحليل‪،‬‬ ‫املجتمعات وحا�رضها وم�ستقبلها‪.‬‬ ‫متلقيها‪ ،‬وت�شبه‬
‫وا�شرتاكهما يف النتائج‪.‬‬ ‫يف �سياق �إجابته عن هذين ال�س�ؤالني قدم ماركيوز‬ ‫يف عملها ال�سحر‬
‫ي�ؤكد ماركيوز �أهمية اللغة يف املجتمع املعا�رص؛‬ ‫ت�صوره لطبيعة املجتمعات ال�صناعية املتقدمة‬
‫«فالكلمة هي التي ت�أمر وتنظم‪ ،‬وهي التي حتث‬ ‫والتنومي‬
‫(الر�أ�سمالية واال�شرتاكية)‪ ،‬وطبيعة الإ ن�سان الذي‬
‫النا�س على العمل وال�رشاء والقبول» (نف�سه‪.)123‬‬ ‫يعي�ش فيها‪ .‬وكان مركز هذه الت�صورات فكرة «البعد‬ ‫املغناطي�سي‪.‬‬
‫لقد ا�ستطاع رجال ال�سيا�سة و�صناع الر�أي العام‪،‬‬ ‫الواحد»‪ ،‬والتي اعترب �أنها �سمة ملجتمع و�إن�سان‬
‫الذين يدركون هذه الأ همية‪ ،‬مب�ساعدة م�ؤ�س�سات‬ ‫ع�رصه‪ ،‬و�أنها العلة وراء �إجها�ض الثورات املمكنة‪.‬‬
‫البحث‪� ،‬أن يتكلموا ويفر�ضوا لغة خا�صة‪ .‬لغة طق�سية‬ ‫ففي ظل جمتمع �أحادي البعد و�إن�سان �أحادي‬
‫تع�سفية تقوم بت�ضليل متلقيها‪ ،‬وت�شبه يف عملها‬ ‫البعد لي�س ثمة �سبيل لتطور نقد حقيقي للمجتمع‪،‬‬
‫ال�سحر والتنومي املغناطي�سي‪.‬‬ ‫ومن ثم ال �سبيل لتغيريه‪ .‬ق�سّ م ماركيوز كتابه �إىل‬
‫وقد ذكر ماركيوز يف ثنايا كتاب «الإ ن�سان ذو البعد‬ ‫مفتتح وق�سمني وخامتة‪ .‬ناق�ش يف مفتتحه ما �أطلق‬
‫الواحد» بع�ض ما ميكن �أن نطلق عليه اخل�صائ�ص‬ ‫عليه ظاهرة «تخدر النقد»‪ .‬وعالج يف الق�سم الأ ول‬
‫الرتكيبية والتداولية والطباعية للغة �أحادية البعد‪.‬‬ ‫خ�صائ�ص املجتمع �أحادي البعد‪ ،‬ويف الق�سم الثاين‬
‫‪102‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التي ترجع �إىل افرتا�ض عالقة �شخ�صية بني املتكلم‬ ‫تتمثل هذه اخل�صائ�ص يف‪:‬‬
‫واملخاطب‪ ،‬و�إعادة ت�أ�سي�س عالقة التبعية على عك�س‬ ‫�أوال‪ :‬انها لغة مبنية على التوفيق بني املتعار�ضات‪.‬‬
‫ما قد يوجد يف الواقع؛ حيث يحل «�أنا لكم» حمل‬ ‫وحتقق ذلك عن طريق �إدراج املتعار�ضات يف بنية‬
‫«�أنتم يل»‪� . .‬إلخ‪ .‬ويرى ماركيوز �أنه ال يهم كثريا‬ ‫متينة م�ألوفة‪ .‬وميثل ماركيوز لهذه اخلا�صية‬
‫ما �إذا كان الأ فراد امل�ستهدفون ي�صدقون هذه اللغة‬ ‫ب�أ�سماء من قبيل»القنبلة النظيفة»‪« ،‬الإ �شعاعات‬
‫�أم ال؛ «لأ ن فاعليتها تكمن يف �أنها ت�شجع وت�سهل‬ ‫الذرية غري امل�ؤذية»‪ ،‬وبتعبريات من قبيل «طاقة‬
‫توحد الأ فراد ذاتيا مع الوظائف التي ي�ؤدونها هم‬ ‫تدمريية مريحة»‪ .‬وي�صف مثل هذه الرتاكيب ب�أنها‬
‫والآ خرون يف املجتمع القائم» (نف�سه‪.)129‬‬ ‫ذات طابع �سوريايل حم�ض‪ ،‬حتتفي بالتناق�ض الذي‬
‫خام�سا‪ :‬انها لغة تفر�ض توحدا ا�ستبداديا بني‬ ‫كان �ألد �أعداء املنطق‪ ،‬و�أ�صبح‪ ،‬يف �سياق هذه اللغة‪،‬‬
‫هوية ال�شخ�ص الإ ن�ساين ووظيفته‪ .‬ويتحقق هذا‬ ‫هو املنطق ذاته‪ .‬هذا التناق�ض يقرب لغة املجتمع‬
‫التوحد بوا�سطة هيمنة اال�سم على اجلملة من‬ ‫�أحادي البعد من لغة املجتمع القمعي اال�ستبدادي‬
‫ناحية‪ ،‬وبوا�سطة �أ�شكال متعددة من اخت�صار بناء‬ ‫الذي يقدمه �أورويل ب�شعاراته املبنية على التعار�ض؛‬
‫اجلملة من ناحية �أخرى‪ .‬ويهدف هذا التوحد �إىل‬ ‫«ال�سالم هو احلرب»‪« ،‬املعرفة هي اجلهل»‪. .‬‬
‫خلق بناء ومفردات �أ�سا�سية ي�صبح من ال�صعب‬ ‫�إلخ‪ .‬تلك اللغة التي يُعاد �إنتاجها يف املجتمعات‬
‫معها التعبري عن االختالف والتمايز واالنف�صال‪.‬‬ ‫املعا�رصة‪ ،‬عندما تُ�سمّى احلكومة امل�ستبدة حكومة»‬
‫وهو ما يتحقق بدوره بوا�سطة فر�ض �صور ثابتة‪،‬‬ ‫دميقراطية»‪ ،‬وعندما تُ�سمَّى االنتخابات املزورة‬
‫حتول دون تطور املفاهيم والتعبري عنها‪ .‬وميثل‬ ‫انتخابات»حرة» (نف�سه �ص‪.)126‬‬
‫ماركيوز لهذه اللغة ببع�ض العبارات امل�أخوذة من‬ ‫ثانيا‪ :‬انها لغة مبنية على التكرار‪� ،‬إىل احلد الذي‬
‫جملة (التاميز الأ �سبوعية)؛ مثل‪( :‬فرجينيا بريد)‪� ،‬أو‬ ‫ي�صف فيه ماركيوز الكالم يف عامل الإ ن�شاء املغلق‬
‫( م�رص نا�رص)(‪ .)5‬ويرى �أن طريقة ا�ستعمال املجلة‬ ‫‪-‬عامل االت�صال اجلماهريي‪ -‬ب�أنه لي�س �إال «تنقيل‬
‫للم�ضاف �إليه» جتعل الأ فراد يبدون وك�أنهم جمرد‬ ‫للمرتادفات والأ لفاظ املتكررة» (نف�سه‪ .)125‬هذا‬
‫زوائد‪ ،‬جمرد �صفات ملحلهم �أو مهنتهم �أو رب عملهم‬ ‫التكرار الالمتناهي يحوِّل اجلملة �إىل �صيغة من �صيغ‬
‫�أو م�رشوعهم» (نف�سه‪.)129‬‬ ‫التنومي املغناطي�سي‪ ،‬تقوم با�ستبعاد كل ما يخالفها‬
‫�ساد�سا‪ :‬انها لغة ت�شيع فيها عالمات الو�صل‬ ‫�أو يعار�ضها �أو يطرح نف�سه بديال لها‪ .‬و�أخريا ي�ؤدي‬
‫الطباعية‪ .‬وتقوم هذه العالمات بتحقيق وظائف‬ ‫التكرار �إىل �إ�ضفاء �ألفة كاذبة على اجلملة نتيجة‬
‫مهمة؛ فهي‪� ،‬أوال‪ ،‬تدمج العنا�رص املكونة للجملة‬ ‫تكرارها‪ .‬وعلى الرغم من �إقرار ماركيوز ب�أن التكرار‬
‫يف �إطار جديد ال يوجد فيه متييز بني هذه العنا�رص‪.‬‬ ‫�سمة لغة الإ عالن ف�إنه يربهن على �أن لغة ال�سيا�سيني‬
‫ويو�ضح ماركيوز هذه الوظيفة باملثال الآ تي‪:‬‬ ‫متيل �إىل االحتاد بلغة الإ عالن‪.‬‬
‫«لقد كر�س رجل جورجيا القوي‪ ،‬احلاكم‪ -‬ذو‪-‬‬ ‫ثالثا‪ :‬انها لغة �أمرية مقفلة «ال تربهن على �شيء‬
‫احلاجبني‪ -‬الواطئني وقته يف الأ �سبوع املا�ضي‬ ‫وال تف�رس �شيئا‪ ،‬و�إمنا هي تبلغ القرار �أو احلكم‬
‫لواحد من تلك االجتماعات ال�سيا�سية»‪ .‬ويرى �أن‬ ‫�أو الأ مر‪ .‬وتقرر اخلط أ� وال�صواب ب�صورة ال تقبل‬
‫ا�ستخدام عالمات الو�صل الطباعية يف هذا املثال‬ ‫نقا�شا» (نف�سه‪ .)139‬هذه اللغة الأ مرية التي تعلن‬
‫ت�ستهدف تذويب احلاكم ومن�صبه و�سماته اجل�سدية‬ ‫�أكرث مما تربهن‪ ،‬ت�سلب بدورها �إمكانيات الك�شف‬
‫ووظائفه ال�سيا�سية يف بنية ثابتة متحجرة غري‬ ‫عن التناق�ض؛ فلي�س ثمة ما ميكن االختالف عليه!‬
‫قابلة لالنق�سام‪ ،‬تفر�ض نف�سها‪ ،‬برباءتها وطابعها‬ ‫كما �أنها تفر�ض عالقة �سلطوية حمددة يد�شنها فعل‬
‫املبا�رش‪ ،‬على القارئ‪ .‬ويالحظ ماركيوز �أن هذه‬ ‫الأ مر الذي يحدد العالقة بني املتكلم واملخاطَ ب‬
‫الظاهرة ت�شيع يف اجلمل التي تربط بني ال�سيا�سة‬ ‫بو�صفها عالقة بني � آمر وم�أمور‪.‬‬
‫والتقنية والقوات امل�سلحة؛ مثل «�أبو القنبلة‪-‬هـ»‪،‬‬ ‫رابعا‪ :‬انها لغة خطابية‪ ،‬قائمة على التوجه املبا�رش‬
‫و«فون براون‪ -‬خمرتع ال�صواريخ‪ -‬العري�ض‪-‬‬ ‫من املتكلم �إىل املخاطب‪ .‬لغة «�أنا منكم ولكم وبكم‪. .‬‬
‫املنكبني»‪ .‬ويرى �أن مثل هذه اجلمل ذات نتيجة‬ ‫�إلخ»‪ .‬تلك اللغة التي ت�ضفي طابعا من الأ لفة الزائفة‬
‫‪103‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تُ�سمَّى احلكومات امل�ستبدة «حكومات دميقراطية»‪،‬‬ ‫�سحرية ومنومة مغناطي�سيا؛ فهي تعر�ض �صورا‬
‫واالنتخابات املزورة «انتخابات نزيهة»‪�...‬إلخ‪،‬‬ ‫ت�ستدعي وحدة ال تقاوم‪ ،‬وتقيم ان�سجاما بني‬
‫(نف�سه ‪ .)126‬هذه الظاهرة كان قد ر�صدها �أورويل‬ ‫متناق�ضات ال ميكن التوفيق بينها يف الواقع‪ .‬حيث‬
‫وجعلها �سمة املجتمعات اال�ستبدادية احلديثة‪ ،‬حتى‬ ‫يُنجب «الأ ب» املحبوب واملهاب (الأ ب املنجب)‪،‬‬
‫�أ�صبحت هذه اللغة تعرف به‪ .‬و�أ�صبح م�صطلح»اللغة‬ ‫القنبلة الهيدروجينية لإ بادة احلياة‪ .‬وهكذا تنجز‬
‫الأ ورويلية» �إ�شارة �إليها‪ .‬لكن ماركيوز يرف�ض �أن‬ ‫هذه التقنية وظيفتها الثانية؛ �أعني التوفيق بني‬
‫ين�سب هذه الظاهرة �إىل �أورويل؛ فهي‪ ،‬من وجهة‬ ‫املتناق�ضات‪.‬‬
‫نظره‪ ،‬ت�شيع يف اخلطاب اللغوي ال�سيا�سي الدارج‬ ‫�سابعا‪ :‬انها لغة حتتفي باالخت�صارات‪ .‬وعلى الرغم‬
‫قبل �أورويل بحقبة طويلة‪ .‬وال تكمن اجلدة �إذن‪ ،‬وفق‬ ‫من �إدراك ماركيوز �أن هذه االخت�صارات قد تكون‬
‫ماركيوز‪ ،‬يف �إطالق الت�سميات املناق�ضة حلقيقة‬ ‫مربرة يف كثري من الأ حيان نتيجة طول امل�صطلح؛‬
‫امل�سمَّى‪ ،‬بل يف طبيعة ا�ستجابة املتلقني لهذه‬ ‫ف�إنه يرى يف بع�ض هذه االخت�صارات «حيلة من حيل‬
‫الت�سميات‪ .‬فهو يرى �أن الر�أي العام واخلا�ص بات‬ ‫العقل»‪ .‬ويرجع ذلك �إىل �أن احلروف االخت�صارية‬
‫يقبل ب�صورة عامة هذه الأ كاذيب‪ .‬وهو ما يراه‬ ‫تخفي البعد الداليل الكامن يف املفردات املكونة‬
‫عالمة على انت�صار املجتمع على التناق�ضات التي‬ ‫للم�صطلح‪ .‬ومن ثم تلغي �إمكانية حتقق تلقي نقدي‬
‫ينطوي عليها‪.‬‬ ‫له‪ .‬فحني يذكر «‪ »NATO‬باحلروف فح�سب‪ ،‬يغيب اال�سم‬
‫تك�شف اخل�صائ�ص ال�سابقة‪ ،‬التي تمُ يز اللغة �أحادية‬ ‫الأ �صلي وهو» منظمة معاهدة �شمال الأ طل�سي»‪،‬‬
‫البعد‪ ،‬عما ي�سميه ماركيوز «ميول الفكر الأ حادي»‪.‬‬ ‫والذي ي�ؤدي ذكره �إىل طرح �أ�سئلة من قبيل‪� :‬إذا كانت‬
‫ويذكر ماركيوز �أن هذا الفكر مييل �إىل‪:‬‬ ‫هذه املعاهدة تخ�ص الدول الواقعة �شمال الأ طل�سي‪،‬‬
‫‪ -1‬املفهوم املقل�ص �إىل �صور ثابتة‬ ‫فلماذا التحقت تركيا واليونان(وبعد ذلك دول‬
‫‪ -2‬ال�صيغ املنومة مغناطي�سيا‪ ،‬التي تربر نف�سها‬ ‫�رشق �أوروبا) بها؟ يقوم االخت�صار بحجب ال�صفات‬
‫بنف�سها‪ ،‬ومتنع تطور املفهوم‬ ‫املكونة للم�صطلح‪ ،‬التي تكمن يف الدالالت املعجمية‬
‫املح�صن �ضد التناق�ض‬
‫ّ‬ ‫‪ -3‬الإ ن�شاء‬ ‫للمفردات املكوِّنة له‪ ،‬وخ�صائ�صها ال�صوتية‪،‬‬
‫‪ -4‬ال�شيء ( �أو ال�شخ�ص) املتحد يف الهوية مع‬ ‫والعالقات النحوية وال�رصفية‪ .‬ويقوم م�ستخدم اللغة‬
‫وظيفته (نف�سه‪.)134‬‬ ‫يف هذه احلالة با�ستح�ضار اال�سم دون �أية دالالت‬
‫هذه امليول الأ ربعة ت�ؤدي �إىل �إجها�ض البعد‬ ‫�أو �إيحاءات م�صاحبة‪« .‬وهكذا ي�صبح املعنى ثابتا‪،‬‬
‫النقدي للغة‪ .‬فهي تنتج لغة حتول دون تطور‬ ‫مزورا‪ ،‬ثقيل الوطء‪ ،‬ويفقد كل قيمة عرفانية مبجرد‬
‫املفاهيم‪ ،‬وت�ؤدي �إىل اال�ست�سالم للوقائع‬ ‫حتوله �إىل رمز �صوتي مكرر» نف�سه‪ .132‬وقد �أدرك‬
‫املبا�رشة‪ .‬ومن ثم ت�صبح عاجزة عن الك�شف عن‬ ‫وا�ضعو الأ �سماء القوة التي متتلكها االخت�صارات‪،‬‬
‫العوامل الكامنة وراء هذه الوقائع �أو م�ضمونها‬ ‫والوظائف التي ميكن �أن حتققها‪ ،‬وهو ما يظهر يف‬
‫التاريخي‪� .‬إن الفكر �أحادي البعد‪ ،‬وفقا ملاركيوز‪،‬‬ ‫�شيوعها الكبري يف قطاعات مثل الأ �سلحة (النووية‬
‫مييل �إىل �إنتاج لغة وظيفية‪ ،‬لغة خمت�رصة‪،‬‬ ‫خا�صة) واملعاهدات والقرارات ال�سيا�سية(‪.)6‬‬
‫موحدة‪ ،‬مهمتها التن�سيق والربط‪ .‬لغة متناغمة‬ ‫ثامنا‪ :‬انها لغة حافلة بالكلي�شيهات‪ .‬وال يرجع ذلك‬
‫متنا�سقة تناه�ض النقد وال تقبل املراجعة‪.‬‬ ‫�إىل كرثة ا�ستخدام الكلي�شيهات‪ ،‬بل �إىل حتول كلمات‬
‫يف �سياق تقريبه للت�أثريات التي حتدثها اللغة‬ ‫اللغة ذاتها �إىل كلي�شيهات؛ نتيجة التوحيد بني‬
‫�أحادية البعد يف الإ ن�سان �أحادي البعد يعقد‬ ‫الأ �شياء ووظيفتها‪ ،‬وتقييد منو املفاهيم‪.‬‬
‫ماركيوز عالقات م�شابهة بني ت�أثري هذه اللغة‬ ‫تا�سعا‪� :‬أنها لغة ال ت�سمي الأ �شياء ب�أ�سمائها احلقيقية‪،‬‬
‫وت�أثري ظواهر �أخرى؛ اجتماعية وفيزيائية‪ ،‬مثل‬ ‫بل رمبا ت�سميها بنقي�ضها‪ .‬وميثل ماركيوز لذلك‬
‫التنومي املغناطي�سي وال�سحر والطقو�س‪ .‬وت�شرتك‬ ‫بحاالت كانت �شائعة يف ع�رصه‪ ،‬وال تزال‪ .‬من قبيل‬
‫هذه الظواهر الثالث يف �أن الفاعل(املنوِّم‪ ،‬ال�ساحر‪،‬‬ ‫�أن احلزب ال�سيا�سي الذي يعمل على تطوير الر�أ�سمالية‬
‫وا�ضع الطقو�س) ميار�س �سيطرة كاملة على املفعول‬ ‫والدفاع عنها يُ�سمي نف�سه «احلزب اال�شرتاكي»‪ ،‬و�أن‬
‫‪104‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫به (املنوَّم‪ ،‬امل�سحور‪ ،‬امل�شارك يف الطقو�س)‪ .‬كما‬
‫بالت�أثريات التي حتدثها الطقو�س وال�سحر‬
‫والتنومي املغناطي�سي �إىل �إ�ضعاف التفا�ؤل‬ ‫�أن الأ دوات التي ي�ستخدمها الفاعل تكون م�شبعة‬
‫ب�ش�أن �إمكانية مقاومتها‪ ،‬من ناحية‪ ،‬ويفر�ض‬ ‫–غالبا‪ -‬بخ�صائ�ص الفعل‪ .‬ف�أدوات ال�ساحر»‬
‫�إجراءات معينة لتفعيل هذه املقاومة من ناحية‬ ‫�سحرية»‪ ،‬و�أدوات املنوِّم «منوِّمة»‪ ،‬و�أدوات الطق�س‬
‫�أخرى‪ .‬فاخلا�ضع للغة �أحادية البعد يحتاج �أن‬ ‫«طق�سية»‪ .‬و�أخريا ف�إن املنوَّم وامل�سحور واملت�أثر‬
‫يعي �أنه م�ضلل‪ ،‬و�أن من يقوم بت�ضليله حري�ص‬ ‫بالطقو�س ال يدرك �أنه واقع حتت ت�أثري قوة �أكرب‬
‫على التخفي من جهة‪ ،‬و�إنكار عملية الت�ضليل‬ ‫منه‪ ،‬بل يكون على يقني من �أنه يتحرك مبطلق‬
‫ذاتها‪ ،‬من جهة �أخرى‪ .‬ولي�س كل �أفراد املجتمع‬ ‫�إرادته‪ ،‬ويقاوم مقاومة �رش�سة حماوالت حتريره من‬
‫قادرين على حتقيق هذا الوعي؛ �أي قادرين على‬ ‫�سطوة هذه القوة العليا‪� .‬أي �أن الواقع حتت �سيطرة‬
‫ينتقد ماركيوز‬ ‫اكت�شاف �أنهم خا�ضعون ل�سلطة خفية تتحكم‬ ‫هذه القوى يربر لنف�سه �سلوكياته و�أفعاله‪ ،‬ويخلق‬
‫دعوة فال�سفة‬ ‫يف �أفعالهم‪ .‬بل‪ ،‬رمبا‪ ،‬يقاومون مقاومة �شديدة‬ ‫لها �إطارا ذاتيا‪ ،‬كما لو �أنها تتحرك مبعزل عن �أية‬
‫اللغة التحليليني‬ ‫من يحاول الك�شف عن واقع خ�ضوعهم‪ ،‬قد ت�صل‬ ‫قوة �أخرى(‪.)7‬‬
‫�إىل حد العدائية‪ .‬ولأ ن املجتمعات ال�صناعية‬ ‫�إن ربط الت�أثري الذي حتدثه اللغة �أحادية‬
‫� إىل ا�ستخدام‬ ‫قد �أ�صبحت غري قادرة‪ ،‬ورمبا غري راغبة‪ ،‬يف‬
‫لغة رجل ال�شارع‪،‬‬ ‫البعد بالت�أثري الذي حتدثه هذه الظواهر الثالث‬
‫اكت�ساب هذا الوعي ف�إن الثورة املحتملة ت�صبح‬ ‫يت�ضمن ب�شكل �أ�سا�س �إعادة تر�سيم العالقة بني‬
‫�أو اللغة الدارجة‬ ‫م�ستبعدة‪ ،‬ورمبا م�ستحيلة‪ .‬والأ فراد امل�ؤهلون‪،‬‬ ‫املتكلم (منتج اللغة) واملخاطب (م�ستهلكها)‪،‬‬
‫بو�صفها لغة‬ ‫�إىل حد ما ‪-‬وفقا ملاركيوز‪ -‬لتحقيق هذا الوعي‬ ‫خا�صة على امل�ستوى العام‪ .‬كما �أنه ي�ستهدف‬
‫التحليل اللغوي‪.‬‬ ‫هم من مل يندجموا بعد يف املجتمعات �أحادية‬ ‫و�ضع مفهوم للغة ال تكون فيه اللغة جمرد �أداة‬
‫البعد؛ �أي اجلماعات التي مل تخ�ضع لعملية‬
‫� إذ ي�ؤدي ذلك � إىل‬ ‫الت�ضليل كلية‪� ،‬أو ب�شكل كامل‪ ،‬مثل جماعات‬
‫لو�صف العامل بل لتثبيته �أو تغيريه �أو تزييفه‪.‬‬
‫تقلي�ص اللغة‬ ‫وال تكون جمرد �أداة للتوا�صل بني الأ فراد الذين‬
‫الهيبز‪ ،‬وال�سورياليني‪ ،‬واملنا�ضلني ال�سود‪ .‬وهي‬
‫وحتويل لغة‬ ‫اجلماعات نف�سها التي يرى فيها ماركيوز الأ مل‬ ‫ي�ستخدمونها‪ ،‬بل �أداة تمُ كن بع�ض»ممتلكيها»‬
‫الوحيد يف التغيري‪.‬‬ ‫من ال�سيطرة على الآ خرين‪ .‬بالإ �ضافة �إىل �أنه‬
‫الفل�سفة � إىل لغة‬ ‫ي�ستبعد الت�صور ال�شائع للغة بو�صفها و�سيطا‬
‫�سلوكية بدال‬ ‫مل يتوقف ماركيوز عند �سرب العالقات اجلدلية بني‬
‫املجتمعات ال�صناعية؛ �إن�سانها وفكرها ولغتها‪� ،‬أو‬ ‫�شفافا‪ ،‬لت�صبح و�سيطا مبهما وغام�ضا‪ ،‬غمو�ض‬
‫من �أن تكون لغة‬ ‫–با�ستخدام م�صطلحاته‪ -‬بني املجتمعات �أحادية‬ ‫و�إبهام الطقو�س وال�سحر‪ .‬و�أخريا‪ ،‬ف�إنه ينزع عن‬
‫كا�شفة‬ ‫البعد والإ ن�سان �أحادي البعد ولغته وفكره �أحاديي‬ ‫اللغة �صفة «الطبيعية»‪ ،‬ويوجه االنتباه �إىل‬
‫البعد‪ ،‬بل حاول �سرب العالقة بني التحليل اللغوي‬ ‫عمليات ال�ضبط والتخطيط امل�سبق واملحكم‬
‫الذي تقدمه بع�ض فل�سفات اللغة وهذه العنا�رص‬ ‫الذي تخ�ضع له‪.‬‬
‫الأ ربعة‪ .‬يخ�ص�ص ماركيوز(‪ )1964‬الف�صل ال�سابع‬ ‫�إ�ضافة �إىل ربط الأ ثر النهائي للغة على الإ ن�سان بالأ ثر‬
‫من كتابه لنقد التحليل اللغوي الذي روجت له الفل�سفة‬ ‫الذي يحدثه ال�سحر والطقو�س والتنومي املغناطي�سي‪،‬‬
‫التحليلية‪ .‬ويركز نقده على مبادئ هذه املدر�سة يف‬ ‫ربط ماركيوز بني خ�صائ�ص حمددة للغة و�إحدى هذه‬
‫التحليل اللغوي‪ ،‬متخذا من �أفكار فيل�سوف اللغة‬ ‫الظواهر‪ .‬فقد ذهب �إىل �أن ا�ستعمال امل�سند التحليلي‬
‫الأ ملاين لودفيغ فيتيغن�شتني(‪،)1951-1889‬‬ ‫وا�ستخدام العالمات الطباعية الفا�صلة (‪ ،)-‬واجلمل‬
‫خا�صة تلك الواردة يف م�ؤلفه الأ خري»مباحث‬ ‫املبنية على التعار�ض بني املكونات حتول الكالم‬
‫فل�سفية»‪ ،‬ممثال لهذه املبادئ‪ .‬ينتقد ماركيوز دعوة‬ ‫�إىل جمل و�صيغ منوِّمة مغناطي�سيا‪ .‬وربط كذلك بني‬
‫فال�سفة اللغة التحليليني �إىل ا�ستخدام لغة رجل‬ ‫بع�ض املمار�سات اللغوية والتنومي املغناطي�سي؛‬
‫ال�شارع‪� ،‬أو اللغة الدارجة بو�صفها لغة التحليل‬ ‫مثل الإ عالنات وعبارات ال�سيا�سيني؛ بحيث يُ�صبح‬
‫اللغوي‪� .‬إذ ي�ؤدي ذلك �إىل تقلي�ص اللغة وحتويل لغة‬ ‫التعر�ض لهذه املمار�سات اللغوية �شبيها‪ ،‬يف � آثاره‪،‬‬
‫الفل�سفة �إىل لغة �سلوكية بدال من �أن تكون لغة كا�شفة‪.‬‬ ‫بالتعر�ض لعملية تنومي مغناطي�سي‪.‬‬
‫كما ينتقد اقت�صار الفل�سفة اللغوية التحليلية على‬ ‫ي�ؤدي ربط الت�أثريات التي حتدثها اللغة‬
‫‪105‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واملفردات لي�ست �إال �أفعاال �أخالقية و�سيا�سية»‬ ‫جمرد و�صف اللغة‪ ،‬متهكما على ت�رصيح فتغن�شتني‬
‫(نف�سه‪� .)215-214‬إن هذا التوجه نحو ال�سيا�سي‬ ‫امل�شهور‪� :‬إن الفل�سفة «ترتك كل �شيء كما هو»‪ .‬ويراه‬
‫واالجتماعي عند ماركيوز لي�س �سمة التحليل‬ ‫دليال وبرهانا على النزعة ال�سادية –املازوكية‬
‫اللغوي املبتغى فح�سب‪ ،‬بل �سمة الفل�سفة احلقة؛‬ ‫الأ كادميية‪ ،‬وعلى هوان املثقفني ونكرانهم لذواتهم‬
‫�أي الفل�سفة العالجية‪ .‬ولكي تقوم الفل�سفة‬ ‫من ناحية‪ ،‬واالن�صياع للعامل الذي ينطق بهذه اللغة‬ ‫ركز ماركيوز يف‬
‫مبهمتها العالجية يف «عامل كلي ا�ستبدادي»‬ ‫من ناحية ثانية‪ .‬ويك�شف عن �أن هذه الفل�سفة حتتفي‬
‫يجب �أن تكون هذه املهمة �سيا�سية‪ .‬ومتثل دعوة‬
‫نقده للغة ال�سيا�سية‬
‫بالكلمة وترف�ض ما تك�شفه هذه الكلمة عن املجتمع‬ ‫على املجتمعات‬
‫ماركيوز �إىل فل�سفة لغة عالجية‪ ،‬و�إىل حتليل‬ ‫الذي ينطق بها؛ م�ؤدية بذلك �إىل تعمية االجتماعي‬
‫لغوي يربط اللغوي بال�سيا�سي واالجتماعي‬ ‫الذي يكمن يف اللغوي‪ .‬كما ينتقد ال�صورة الزائفة‬
‫ال�صناعية الكربى؛‬
‫لبنتني من م�رشوع متناثر يف كتاباته ي�ستهدف‬ ‫التي تقدمها الفل�سفة التحليلية عن اللغة‪ ،‬والتي‬ ‫خا�صة الواليات‬
‫مقاومة اللغة �أحادية البعد‪.‬‬ ‫يلخ�صها ت�أكيد فتغن�شتني �أن «كل عبارة يف لغتنا‬ ‫املتحدة الأ مريكية‬
‫ميكن النظر �إىل كتاب «الإ ن�سان ذو البعد الواحد»‬ ‫منظمة على �أح�سن ما يكون يف حد ذاتها»‪ .‬بينما‬ ‫واالحتاد ال�سوفييتي‬
‫على �أنه طرح مت�شائم لو�ضعية الإ ن�سان يف العامل‬ ‫يرى ماركيوز �أن احلقيقة هي �أن «كل عبارة خمتلة‬ ‫ال�سابق‪ .‬وعلى‬
‫املعا�رص‪ .‬وذلك ا�ستنادا �إىل معطيات فعلية‪ ،‬من‬ ‫النظام �أي�ضا‪ ،‬اختالل العامل الذي تعرب عنه اللغة»‬ ‫الرغم من ت�شابه‬
‫قبيل �شيوع نربة الي�أ�س من �إمكانية قيام الثورة يف‬ ‫(نف�سه ‪ .)200‬و�أخريا ينتقد جتاهل هذا النمط من‬
‫املجتمعات ال�صناعية‪ ،‬والرتكيز على مظاهر �سيطرة‬
‫بع�ض خ�صائ�ص لغة‬
‫التحليل اللغوي ملا هو مغاير وتناحري‪ ،‬وما ال‬ ‫ال�سيا�سة امل�ستخدمة‬
‫امل�ؤ�س�سات التي تخدم م�صالح القلة على عقول‬ ‫ميكن عقله مب�صطلحات اال�ستعمال الدارج‪ .‬وهو‬
‫ال�شعوب ونفو�سها‪ .‬و�أخريا‪ ،‬ق�رص احتماالت التغيري‬ ‫يف هذه املجتمعات‬
‫بذلك يتجاهل جماال ثريا للمعرفة؛ ملجرد وقوعه‬
‫على حترك جماعات املهم�شني من املنبوذين‬ ‫مع لغة ال�سيا�سة‬
‫وراء املنطق ال�صوري واحل�س العام (نف�سه ‪.)204‬‬
‫اجتماعيا والعاطلني عن العمل والأ قليات العرقية‪.‬‬ ‫امل�ستخدمة يف‬
‫ينطلق نقد ماركيوز للفل�سفة التحليلية من‬
‫‪� .‬إلخ‪ .‬وهي جماعات ال ت�شي قدراتها الفعلية‬ ‫جمتمعات �أخرى‪،‬‬
‫ب�إمكانية التغيري‪ .‬لكن ماركيوز‪ ،‬فيما يتعلق باللغة‪،‬‬ ‫ت�صور يرى �أن وظيفة الفل�سفة لي�ست احلفاظ على‬
‫الواقع الكائن وتركه كما هو‪ ،‬بل تفجريه وتدمريه‬ ‫ف� إن لكل جمتمع‬
‫رمبا كان �أكرث تفا�ؤال‪ .‬وقد يرجع ذلك �إىل �أنه وزَّع‬ ‫لغة �سيا�سية‬
‫املهام التي ميكن من خاللها حترير اللغة من �أ�رس‬ ‫تدمريا‪ .‬وهو ما يتطلب جتاوز و�صف الوقائع‬
‫البعد الواحد‪ .‬لقد دعا‪ ،‬كما �سبق �أن �أو�ضحت‪� ،‬إىل‬ ‫املعطاة �إىل التفاعل معها وك�شف القناع عما‬ ‫ذات ت�أثري خا�ص‬
‫فل�سفة لغة عالجية‪ ،‬و�إىل حتليل لغوي كا�شف‪ .‬كما‬ ‫تخفيه‪ .‬فل�سفة ال تت�صالح مع املجتمع القمعي‬ ‫وا�ستجابات خا�صة‪.‬‬
‫دعا يف �سياقات �أخرى �إىل مقاومة هذه اللغة عن‬ ‫ال�سلطوي بل تقاومه‪ .‬ومن ثم ميكن �أن نتفهم‬ ‫وال يرجع ذلك‬
‫طريق االحتفاء باللغة العارية‪ ،‬ورمبا الوقحة‪ ،‬التي‬ ‫النربة التهكمية الالذعة التي ت�رسي يف تفنيدات‬ ‫� إىل اخل�صو�صية‬
‫تعيد ت�سمية الأ �شياء ب�أ�سمائها (نف�سه‪.)123-122‬‬ ‫ماركيوز ملبادئ الفل�سفة التحليلية‪ ،‬التي تقع‬ ‫الثقافية‬
‫وهي مهام ميكن �أن يقوم بها الفيل�سوف واللغوي‬ ‫على طرف النقي�ض من ت�صوراته عن الفل�سفة‪،‬‬
‫التي ميار�سها بالفعل‪ .‬كما تتيح لنا كذلك تفهم‬
‫واالجتماعية‬
‫وال�صحفي ورجل ال�شارع‪� . .‬إلخ‪ .‬لكن هذه املقاومة‬ ‫واالقت�صادية‬
‫�ستكون جزئية‪ ،‬واحلل الذي تقدمه �سيكون جزئيا‬ ‫نربة الإ عجاب التي ت�رسي يف ا�ستعرا�ض ماركيوز‬
‫بدوره‪� .‬أما احلل ال�شامل ف�سوف يتحقق فح�سب عن‬ ‫لنماذج مغايرة من التحليل اللغوي‪ ،‬ا�ستطاع‬ ‫للمجتمعات فح�سب‪،‬‬
‫طريق �إك�ساب الأ فراد وعيا حقيقيا بالعامل‪ ،‬ف «لن‬ ‫املحللون فيها‪ ،‬بوا�سطة ا�ستخدام لغة متمايزة‬ ‫بل � إىل خ�صو�صية‬
‫ي�صبح تقرير امل�صري الذاتي فعليا وواقعيا �إال �إذا مل‬ ‫عن اللغة التي يحللونها‪� ،‬أن ي�ستك�شفوا «عامل‬ ‫اللغة التي‬
‫تعد هناك جماهري‪ ،‬بل جمرد �أفراد متحررين من‬ ‫الإ ن�شاء القائم الكلي اال�ستبدادي الذي يتم فيه‬ ‫ت�ستخدمها كذلك‬
‫كل دعاية‪ ،‬ومن كل تكييف مذهبي‪ ،‬ومن كل حتكم‬ ‫دمج خمتلف �أبعاد اللغة ومتثلها»‪ .‬ويمُ ثل لهذه‬
‫وتالعب‪ ،‬وقادرين على معرفة الوقائع وفهمها وعلى‬ ‫التحليالت بتحليالت كارل كراو�س الذي «�أثبت‬
‫تقرير احللول املمكنة» نف�سه‪ .262‬وهكذا يرتبط‬ ‫�أن الدرا�سة الداخلية للغة والكتابة والرتقيم‬
‫ظهور ه�ؤالء الأ فراد بن�ش�أة �ضمري نقدي‪ ،‬ميكنهم‬ ‫والأ خطاء املطبعية ميكن �أن تك�شف عن نظام‬
‫من �إدراك «حقيقة» هذا العامل وتغيريه‪ .‬هذا ال�ضمري‬ ‫�أخالقي و�سيا�سي كامل‪ . .‬و�أن الرتاكيب والقواعد‬
‫‪106‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أعداء الوطن و�أ�صدقاءه‪ ،‬واخلري وال�رش‪ ،‬وكيف ي�سلك‬ ‫النقدي يتحقق بوا�سطة املعرفة‪ ،‬ويتكلم لغة املعرفة‬
‫ب�إزاء كل �شيء‪ .‬ولكن هذه اللغة ال تخدم �إال م�صالح‬ ‫التي «تفجر عامل الإ ن�شاء املغلق وبنيته املتحجرة»‬
‫من ميتلكها‪ .‬وهكذا يعرِّف ال�سيا�سيون امل�ستفيدون‬ ‫(نف�سه‪.)137‬‬
‫من احلرب‪ ،‬مثال‪ ،‬الفالح الفيتنامي‪ ،‬الذي يدافع عن‬ ‫«نحو التحرر»‪ :‬الرف�ض الكبري‬
‫بالده‪ ،‬ب�أنه «ب�رش �أدنى‪� ،‬إرهابي قا�سي القلب‪ ،‬وناكر‬ ‫وتهدمي الكون اللغوي القائم‬
‫للجميل»‪� .‬أما الطيار الأ مريكي الذي يلقي النابلم‬ ‫بعد �أربع �سنوات من �صدور «الإ ن�سان ذو البعد الواحد»‪،‬‬
‫على القرى العزالء فيو�صف ب�أنه «بطل التحرير‪،‬‬ ‫ذي الطابع الت�شا�ؤمي واملكر�س لنفي �إمكانية الثورة‪،‬‬
‫املحب للإ ن�سانية»(‪ .)9‬هذه اللغة ال ي�صلح معها �إال‬ ‫كان طالب فرن�سا‪ ،‬و�أوروبا عامة‪ ،‬يفر�ضون واقعا‬
‫التدمري‪ .‬و�أوىل خطوات تدمري «الكون اللغوي القائم»‬ ‫جديدا؛ �أ�صبحت فيه الثورة لي�ست ممكنة فح�سب‪،‬‬
‫هي �إحداث قطيعة �شاملة معه‪ ،‬ونفيه من واقع‬ ‫بل متحققة �أي�ضا‪ .‬لقد �أثرت ثورة الطالب يف مايو‬
‫اال�ستخدام؛ «فالقطيعة مع م�ستمر ال�سيطرة‪ ،‬ينبغي �أن‬ ‫‪ 1968‬يف ماركيوز كثريا؛ لي�س لأ نها احتفت به‬
‫جتر �إىل قطيعة مع مفردات لغة ال�سيطرة» نف�سه‪.62‬‬ ‫وو�ضعت ا�سمه فوق الفتاتها(‪ ،)8‬بل لأ نها‪ ،‬وهي تتبنى‬
‫هذه القطيعة والنفي يتحققان عن طريق �إن�شاء لغة‬ ‫بع�ض �أفكاره‪ ،‬كانت تنزع عنه‪ ،‬م�ؤقتا‪ ،‬ت�شا�ؤميته‪.‬‬
‫جديدة‪ .‬وهو ما يتحقق بدوره‪ ،‬جزئيا‪ ،‬بوا�سطة «فن‬ ‫قبيل ثورة الطالب كان ماركيوز على و�شك �أن ينتهي‬
‫معاجلة الكلمات»؛ الذي ي�ستهدف «تخلي�ص الكلمات‬ ‫من ت�أليف كتاب �صغري احلجم‪ ،‬بعنوان «مقال يف‬
‫واملفاهيم من املعاين اللقيطة التي حمله �إياها‬ ‫التحرر»‪ .‬ويو�شك الكتاب �أن يكون مانيف�ستو لثورة‬
‫النظام القائم» نف�سه‪ .25‬لقد �شغلت ظاهرة فقدان‬ ‫حمتملة �أو لـ«الرف�ض الكبري»‪ .‬وجاءت الثورة‪ .‬وقرر‬
‫الكلمات معانيها احلقيقية ماركيوز‪ .‬ور�أي فيها‬ ‫ماركيوز‪ ،‬الذي مل يكن قد ن�رش كتابه‪� ،‬أن ين�رشه كما‬
‫قمعا للب�رش وتخريبا للغة‪ .‬وقد نقل ب�إعجاب �شديد‬ ‫هو‪ ،‬مكتفيا ببع�ض الهوام�ش التي تخ�ص «الواقع‬
‫عبارة دافيد �س‪ .‬برودير‪ ،‬التي ير�صد فيها ما �أ�سماه‬ ‫اجلديد»‪ .‬وكان الكتاب وهام�شه معنيان‪ ،‬يف موا�ضع‬
‫«التخريب املنهجي ملعنى الكلمات وماهيتها»‪ .‬وهو‬ ‫كثرية‪ ،‬مبا ميكن �أن نطلق عليه «تثوير اللغة»‪.‬‬
‫تخريب يُلقي ال�سيا�سيون بذوره‪ ،‬وترعاه و�سائل‬ ‫لقد �أدرك ماركيوز �أن بناء جمتمع حر جديد يرتبط‬
‫الإ عالم‪ .‬وبح�سب برودير ف�إنه «عندما يتعود النا�س‬ ‫ببناء لغة �سيا�سية جديدة ووجدان جديد‪ .‬وكانت‬
‫�سماع الكالم عن معارك عنيفة يف «املنطقة منزوعة‬ ‫�صيحته «على ه�ؤالء (يق�صد من ي�سعون لتحقيق‬
‫ال�سالح»‪� ،‬أو عن جرحى يف حالة اخلطر «عقب مظاهرة‬ ‫جمتمع حر) �أن يتكلموا لغة جديدة» تعبريا عن‬
‫غري عنيفة»‪ ،‬ي�صبح املرء غري بعيد عن فقدان �سالمة‬ ‫�إدراكه خلطورة الدور الذي ميكن �أن تقوم به لغة‬
‫ح�سه» نف�سه‪� .122‬إن �إ�صالح اللغة يحتاج �إىل �أكرث‬ ‫ال�سيا�سة يف املجتمعات القائمة‪ .‬فلغة ال�سيا�سة‬
‫من مفرداتها جديدة؛ �إنه يحتاج �إىل وعي وح�سا�سية‬ ‫هي «درع النظام القائم» (ماركيوز‪،)121 :1969‬‬
‫جديدين‪ ،‬يدعمان هذه املفردات وتدعمهما‪.‬‬ ‫وهي �أداة القمع التي ي�ستخدمها يف تروي�ض‬
‫يتخلق الوعي اجلديد واحل�سا�سية اجلديدة واللغة‬ ‫مواطنيه‪ .‬هذه اللغة القمعية‪/‬الكاذبة ي�سميها‬
‫اجلديدة يف �إطار التمرد والرف�ض‪ .‬وحني يدمَّ ر‬ ‫ماركيوز‪ ،‬مبا يليق بها �أن ت�سمّى به؛ �إنها لغة‬
‫«الكون اللغوي القائم» �سوف يتوقف «امل�صنع‬ ‫«داعرة»‪« ،‬عاهرة»‪« ،‬خرقاء»‪ .‬ينقل ماركيوز‪،‬‬
‫الكالمي» للمجتمعات ال�صناعية املعا�رصة‬ ‫يف هذه الت�سميات‪ ،‬دالالت االنحالل اجلن�سي‬
‫عن �إنتاج اللغة «الداعرة»‪ .‬لقد ر�صد ماركيوز‬ ‫والتخبط ال�سلوكي �إىل لغة ال�سيا�سة؛ فلي�ست‬
‫حاالت واقعية من تهدمي الكون اللغوي القائم‪،‬‬ ‫الدعارة والعهر بيع اجل�سد بل �إفقاد الكلمات‬
‫قامت بها جماعات الرف�ض يف ع�رصه (الأ قليات‪،‬‬ ‫معانيها احلقيقية‪ ،‬وتربير حرب يباد فيها �شعب‬
‫الهيبيني‪ ،‬الطالب) التي كانت متثل‪ ،‬بالن�سبة‬ ‫من الأ برياء (�إ�شارة �إىل حرب فيتنام)‪.‬‬
‫له‪ ،‬الأ مل يف التحرر‪ .‬هذه اجلماعات قامت مبا‬ ‫�إن لغة ال�سيا�سة «الداعرة»‪ ،‬امل�سيطرة يف الآ ن ذاته‪،‬‬
‫ي�سميه ماركيوز «انقالب منهجي يف املعاين»‪،‬‬ ‫ال تقبل الإ �صالح‪ .‬فهي جتتذب يف فلكها كل ما‬
‫�أو «انتفا�ضة لغوية منهجية»‪ .‬وقد حتقق هذا‬ ‫يربط الإ ن�سان بعامله‪ .‬تثبت له و�ضعيته‪ ،‬وحتدد له‬
‫‪107‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪� -5‬إطالق ت�سميات جديدة‪ ،‬مبنية على املجاز يف‬ ‫االنقالب �أواالنتفا�ضة بوا�سطة عدد من العمليات‬
‫معظمها‪ ،‬لت�شري �إىل �إدراك خا�ص ملاهية جماعة ما‪،‬‬ ‫املنف�صلة؛ هي‪:‬‬
‫�أو �شخ�ص ما‪� ،‬أو �شيء ما‪� . .‬إلخ‪ .‬وميثل ماركيوز لذلك‬ ‫‪ -1‬قيام بع�ض هذه اجلماعات با�ستخدام مفردات‬
‫ببع�ض الت�سميات ال�شائعة يف العامية الأ مريكية‪،‬‬ ‫بريئة‪� ،‬شائعة اال�ستخدام يف احلياة اليومية‪ ،‬و�إطالقها‬
‫مثل ت�سمية املثقفني «ر�أ�س البي�ضة»‪ ،‬وت�سمية‬ ‫على �أفعال ي�صفها النظام القائم بـ«املحرمات»‪.‬‬
‫املحلل النف�سي «م�ضيق الدماغ»‪ ،‬وت�سمية التليفزيون‬ ‫مثل ا�ستخدام كلمة «رحلة» (‪ )trip‬للإ �شارة �إىل ارتياد‬
‫«�أنبوب الفرج»‪� . .‬إلخ‪ .‬ويرى �أن هذه اللغة ال�شعبية‬ ‫جتمعات الهيبيني‪ ،‬وا�ستخدام كلمة «ع�شب»(‪)grass‬‬
‫«تت�صدى ب�سخرية مثرية وحانقة للكالم الر�سمي‬ ‫للإ �شارة �إىل املاريجوانا‪ .‬وت�ستهدف �إعادة الت�سمية‪،‬‬
‫ون�صف الر�سمي» (ماركيوز‪ .)123 :1964‬و�أن يف‬ ‫يف هذه احلالة‪ ،‬التخل�ص من الدالالت ال�سلبية التي‬
‫�شيوع هذه الت�سميات وغناها و�إيحائها ما يدل على‬ ‫يل�صقها النظام القائم ب�سلوكيات اجلماعة و�أ�شيائهم‪.‬‬
‫و�إ�ضفاء طابع الأ لفة والعادية عليها‪.‬‬
‫�أن رجل ال�شارع ي�ؤكد �إن�سانيته يف لغته اخلا�صة‬
‫‪� -2‬إعادة ت�سمية الأ �شخا�ص مبا يجدر بهم �أن ي�سمَّوا‬
‫بو�ضعه �إياها على قطب معار�ض لل�سلطات القائمة‪،‬‬
‫به يف الواقع‪ .‬وذلك مثل الإ �شارة �إىل �أحد القيادات‬
‫و�أن �إعادة ت�سمية الأ �شياء ب�أ�سمائها ميثل انفكاكا من‬
‫العليا ب�أنه «اخلنزير فالن»‪ ،‬بدال من «الرئي�س فالن»‪،‬‬
‫ال�سيطرة و�إعالنا للتمرد والرف�ض‪.‬‬
‫�أو «امللك فالن»‪� ،‬أو «العاهل فالن»‪ .‬وي�ؤدي هذا‬
‫‪ -6‬توليد ا�ستجابات �ساخرة مثل ال�ضحك والأ هاجي‬ ‫الفعل‪ ،‬وفقا ملاركيوز‪� ،‬إىل اخلال�ص من �أكاذيب اللغة‬
‫والتهريج‪ .‬وعلى الرغم من �أن ماركيوز ي�صف هذه‬ ‫العقائدية ودالالتها‪ ،‬و�إىل حتطيم الهالة التي حتيط‬
‫الأ �شكال من االحتجاج ب�أنها �سلبية وفو�ضوية ورمبا‬ ‫ب�أولئك املوظفني واحلكام‪� .‬إ�ضافة �إىل �سحب «اال�سم‬
‫ال �سيا�سية‪ ،‬ف�إنه يرى �أنها كثريا ما تق�ض م�ضاجع‬ ‫املرائي الكاذب الذي يتباهون بحمله» نف�سه‪.65‬‬
‫النظام القائم‪ .‬ويرى �أن ع�رصه ي�شهد منوا لظاهرة‬ ‫ويرى ماركيوز �أن هذه املمار�سة البد و�أن تندرج يف‬
‫احتقار قيم ال�سيا�سيني التي يجهرون باعتناقها‪،‬‬ ‫�إطار ال�سياق ال�سيا�سي للرف�ض الأ كرب‪ ،‬لأ نها ت�شكل‬
‫ويجردونها يف الوقت ذاته من معانيها‪ .‬ويرتبط هذا‬ ‫بالفعل مظهرا من مظاهر التحرير‪.‬‬
‫باحتقار ما ي�سميه «روح اجلد»‪ ،‬التي تطبع خطب‬ ‫‪ -3‬ا�ستخدام املفردات ال�سامية املتعالية‪ ،‬ذات‬
‫ال�سا�سة املحرتفني �أو ن�صف املحرتفني‪ ،‬و�أفعالهم‬ ‫املكانة اخلا�صة يف املجتمع ال�سائد‪ ،‬وحتميلها‬
‫بطابعها‪ .‬فقد «�أخذ املتمردون يف بعث ال�ضحك‬ ‫مبفاهيم عادية يومية تخ�ص جماعة «الرف�ض»‪ .‬مثل‬
‫اليائ�س‪ ،‬والتحدي املاجن الذي عُ رف به املهرجون‪،‬‬ ‫�إعادة ا�ستخدام كلمة «الروح»‪ ،‬ذات املفهوم ال�سامي‬
‫وذلك لنزع الأ قنعة عن ت�رصفات هذه اجلماعة‬ ‫النقي يف الكون اخلطابي امل�سيطر‪ ،‬يف تراكيب جديدة‪،‬‬
‫اجلادة التي بيدها احلل والربط يف كل �شيء»‬ ‫لتحمل داللة جديدة‪ ،‬تنزع ما تنطوي عليه من �سمو‪،‬‬
‫(ماركيوز‪.)107 :1969‬‬ ‫وتدخلها يف �سياق الكون اخلطابي جلماعة الرف�ض‪.‬‬
‫رمبا تكون هذه اال�ستجابات التي ي�سميها ماركيوز‬ ‫مثل ت�سمية جماعات ال�سود «البلوز» (‪« )10‬غذاء الروح»‪،‬‬
‫ب «ال�سلبية»‪ ،‬من �أكرث اال�ستجابات فعالية �إزاء‬ ‫وتعريف �أنف�سهم ب�أنهم «�أخوة يف الروح»‪.‬‬
‫خطاب ال�سيا�سيني‪ .‬فهذه اال�ستجابات «الهازئة»‬ ‫‪ -4‬ا�ستخدام املفردات ال�سلطوية يف �سياق جديد ينزع‬
‫جادة ب�أق�صى ما يكون‪ ،‬خا�صة حني تواجه‬ ‫عنها �سلطويتها‪ .‬مثل ا�ستخدام بع�ض ال�شباب لتعبري‬
‫ن�صو�صا �أو كالما كاذبا‪ .‬فاللغة التي تناق�ض‬ ‫«�سلطة الزهور»؛ �إ�شارة �إىل القوة التي يكت�سبها فعل‬
‫واقعها ال حتتمل كل هذا «اجلد» �إزاءها‪ .‬والبد‬ ‫�إلقائهم الزهور على ال�رشطة يف املظاهرات‪ .‬وي�ؤدي‬
‫من بع�ض اال�ستهزاء الغا�ضب‪ ،‬ونحن نتلقاها‪.‬‬ ‫هذا الفعل �إىل نقل ال�سلطة ممن يُفرت�ض فيه امتالكها؛‬
‫�إنها تقول لنا‪� :‬أنا كاذبة‪ ،‬وتخرج لنا ل�سانها‪.‬‬ ‫�أعني ال�رشطي ذي البندقية والع�صا‪� ،‬إىل من يُفرت�ض‬
‫تقول لنا‪� :‬أعلم �أنكم تكت�شفونني‪ ،‬لكنني �سوف‬ ‫فيه عدم امتالكها؛ �أعني املتظاهر املم�سك بالزهور‪.‬‬
‫�أظل �أفعل و�أ�سيطر؛ ف�أنا الأ قوى‪ .‬ورمبا يكون الفعل‬ ‫وينطوي كذلك على �سحب ال�سلطة من البندقية‬
‫الوحيد القادر على �إرباكها هو �أن ن�ضحك �إزاءها‬ ‫والع�صا لت�صبح كامنة يف الزهرة‪.‬‬
‫‪108‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لإ جنازها‪ ،‬والآ ثار التي تنتج عنها‪� .‬أما نقده لنمط‬ ‫ب�أعلى �صوت ممكن‪� ،‬ضحك من القلب‪ ،‬رمبا يربكها‬
‫التحليل اللغوي ال�سائد لدى الفال�سفة التحليليني‪،‬‬ ‫قليال‪ ،‬ورمبا يولد لدى الآ خرين �ضحكا م�شابها‬
‫وحتديده ل�سمات التحليل الذي يقرتحه‪ ،‬وتنظريه‬ ‫يحفزهم على �إدراك الكذب‪.‬‬
‫لأ �شكال مقاومة اخلطاب ال�سيا�سي اللغوي امل�سيطر‪،‬‬ ‫ميكن �إدراج معظم العمليات ال�سابقة يف �إطار التحويل‬
‫�سواء تلك التي مور�ست بالفعل من قبل جماعات‬ ‫الداليل للمفردات بوا�سطة �إعادة التعريف �أو �إعادة‬
‫الرف�ض �أو تلك التي يدعو ملمار�ستها‪ ،‬وتف�سريه‪ ،‬و�إن‬ ‫الت�سمية‪ .‬وهي عملية هدفها الأ �سا�س بناء معجم‬
‫كان حد�سيا‪ ،‬للطريقة التي تعمل بها لغة ال�سيا�سة‪-‬‬ ‫خا�ص جلماعات الرف�ض‪ ،‬يواجه معجم اجلماعات‬
‫فهي مما ميكن ا�ستثماره يف حماولة ت�أ�سي�س �إطار‬ ‫امل�سيطرة‪ .‬ومن امل�ؤكد �أن ا�ستبدال املعجم‪ ،‬مع �أهميته‬
‫نظري ملقاربة نقدية لنقد لغة ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ال�شديدة‪ ،‬ال يكفي وحده لتهدمي الكون اللغوي القائم‪.‬‬
‫فقواعد اللغة‪� ،‬أية لغة‪ ،‬وظواهرها البالغية رمبا تكون الهوام�ش واالحاالت‬
‫ذات ت�أثري �أقوى يف تدعيم ال�سلطة القائمة‪ .‬رمبا ‪ -1‬مل �أ�ستطع العثور على �أية درا�سة بغري العربية تخ�ص نقد ماركيوز‬
‫كان ماركيوز معنيا با�ستعرا�ض ممار�سات نقدية للغة ال�سيا�سة‪ .‬ومل يرد ذكر �أية درا�سة عن �أفكار ماركيوز حول لغة‬
‫حدثت بالفعل‪ ،‬على الرغم من �أن هذه املمار�سات مل ال�سيا�سة يف الببليوجرافيا التي �أوردها املوقع الر�سمي لهربرت‬
‫ماركيوز على ال�شبكة الدولية للمعلومات‪ ،‬الذي يقدم ببليوجرافيا‬
‫ملا كتب عن ماركيوز بالفرن�سية والأ ملانية والإ جنليزية (عنوان‬
‫تكن فاعلة ب�شكل جذري يف مواجهة لغة ال�سيا�سة‬
‫امل�سيطرة‪ .‬ومع ذلك ف�إن هذه املمار�سات �سوف تظل املوقع‪ ،www. marcuse. org/herbert :‬تاريخ الدخول �إىل‬
‫ملهمة ودالة لكونها‪ ،‬يف معظمها‪ ،‬ممار�سات عفوية املوقع ‪ .2008-06-22‬والدرا�سة الوحيدة التي ا�ستطعت الو�صول‬
‫و�شعبية ومتثل جزءا من حركات رف�ض اجتماعي(‪� .)11‬إليها‪ ،‬وعُ نيت ببع�ض �أفكار ماركيوز حول لغة ال�سيا�سة هي درا�سة‬
‫كيلرن ‪ ،2006Kellner‬بعنوان»من ‘‪� ‘1984‬إىل ‘الإ ن�سان ذو البعد‬
‫لقد ركز ماركيوز يف نقده للغة ال�سيا�سية على الواحد‘‪� :‬أفكار نقدية حول �أورويل وماركيوز»‪ .‬وهي مقال �صغري‬
‫املجتمعات ال�صناعية الكربى؛ خا�صة الواليات احلجم‪ ،‬ال يتجاوز �سبع �صفحات‪ .‬ويتوقف عند تقدمي مقارنة �أولية‬
‫املتحدة الأ مريكية واالحتاد ال�سوفيتي ال�سابق‪ .‬بني نقد ماركيوز للغة ال�سيا�سية ونقد �أورويل لها‪ .‬لكنه يف الواقع‬
‫ي�ستنفد جل طاقته يف ر�صد االختالفات بني الأ �صول الفكرية لهما‪،‬‬
‫وعلى الرغم من ت�شابه بع�ض خ�صائ�ص لغة و�أ�سلوب كتاباتهما‪ .‬وتتبقى فقرات معدودة تخ�ص مقاربتيهما‬
‫ال�سيا�سة امل�ستخدمة يف هذه املجتمعات للغة ال�سيا�سية‪ .‬وقد �أ�شار كيلرن لدرا�سة �أخرى عُ نيت باملقارنة بني‬
‫مع لغة ال�سيا�سة امل�ستخدمة يف جمتمعات نقد لغة ال�سيا�سة عند �أورويل وماركيوز؛ هي درا�سة �إيان �سالتر‬
‫«�أورويل وماركيوز»‪ ،‬لكن الباحث مل ي�ستطع الو�صول �إليها‪ .‬ومل‬
‫حتظ �أفكار ماركيوز حول لغة ال�سيا�سة باهتمام يُذكر من اللغويني‬
‫�أخرى‪ ،‬ف�إن لكل جمتمع لغة �سيا�سية ذات ت�أثري‬
‫خا�ص وا�ستجابات خا�صة‪ .‬وال يرجع ذلك �إىل العرب‪ .‬وميكن تربير ذلك ب�أ�سباب خمتلفة؛ من بينها غياب التوجه‬
‫اخل�صو�صية الثقافية واالجتماعية واالقت�صادية النقدي يف الدرا�سات اللغوية العربية املعا�رصة‪� .‬إ�ضافة �إىل تناثر‬
‫للمجتمعات فح�سب‪ ،‬بل �إىل خ�صو�صية اللغة �أفكار ماركيوز حول اللغة يف ثنايا درا�ساته‪ ،‬وارتباطها ال�شائك‬
‫بفل�سفته بعامة‪ ،‬وامتزاج حتليالته وتو�صيفاته‪ ،‬ب�إرها�صاته‬
‫ونبوءاته وحتري�ضاته‪.‬‬ ‫التي ت�ستخدمها كذلك‪.‬‬
‫رمبا ال ميدنا ماركيوز بتنظري لإ جراءاته امل�ستخدمة ‪ -2‬بع�ض معلومات عن النظرية النقدية ونقد لغة ال�سيا�سة ‪.‬‬
‫يف حتليل اخلطاب ال�سيا�سي‪ ،‬ورمبا ات�سمت قائمة ‪ -3‬الكتابان مرتجمان �إىل العربية‪ .‬وقد �صدر «الإ ن�سان ذو البعد‬
‫الواحد» برتجمة جورج طرابي�شي و�سوف نعتمد على طبعته الثالثة‬
‫م�صطلحاته ببع�ض الغمو�ض ‪ � .‬إ�ضافة � إىل لغته ذات ال�صادرة عن دار الآ داب يف بريوت ‪� .1988‬أما «مقال يف التحرر»‬
‫(‪)12‬‬

‫الطابع املجازي‪ ،‬والتي متيل � إىل التكرار والإ طناب‪ ،‬ف�سوف نعتمد على ترجمة عبد اللطيف �رشارة ال�صادرة عن دار‬
‫والتي و�صفها � آلن هاو (‪ )2003‬ذات مرة ب «النرث العودة يف بريوت ‪ ،1971‬حتت عنوان «نحو ثورة جديدة»‪ .‬وقد‬
‫احتجنا‪ ،‬يف موا�ضع حمدودة‪� ،‬إىل الرجوع �إىل الرتجمات الإ جنليزية‪،‬‬
‫حني مل ت�سعفنا الرتجمات العربية يف الفهم‪.‬‬
‫املنيع‪ ،‬الذي ال يكاد يُفهم منه �شيئا»‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫ذلك ف�إن كتابات ماركيوز تنطوي على ا�ستب�صارات ‪ -4‬ركز ماركيوز يف «الإ ن�سان ذو البعد الواحد» على ا�ستخدام‬
‫مده�شة خا�صة فيما يتعلق بتحديده لطبيعة العالقات اللغة يف املجتمع الأ مريكي‪ .‬وقد خ�ص ا�ستخدام اللغة يف املجتمع‬
‫التي تربط بني الإ ن�سان واللغة واملجتمع‪ � .‬إ�ضافة � إىل ال�سوفيتي بتحليل خا�ص يف �سياق درا�سته للمارك�سية ال�سوفيتية‪،‬‬
‫التي �صدرت بعنوان «املارك�سية ال�سوفييتية‪ :‬حتليل نقدي» يف عام‬
‫مقدرته املتميزة على الك�شف عن الظواهر املميزة ‪.1958‬‬
‫للغة �أحادية البعد والوظائف التي ت�سعى هذه الظواهر ‪ -5‬من الوا�ضح �أن الرتكيب الإ �ضايف الأ خري «م�رص نا�رص» ي�ستهدف‬
‫‪109‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الوقت املعلوم ينفذ ال�شخ�ص مو�ضوع التنومي تعليمات منوِّمه؛ فقد‬ ‫�أكرث من جمرد الربط بني احلاكم والبلد التي يحكمها‪ .‬وهو ما‬
‫ين�صب مظلة �شاطئ يف غرفة اجللو�س‪� ،‬أو يقدم لكل من اجلال�سني‬ ‫يو�ضحه الت�صور اال�ستعاري الذي يقوم عليه الرتكيب؛ �أعني‪ :‬الأ مة‪/‬‬
‫كوبا من اللنب‪� ،‬أو يرك�ض على �أربع وينبح كالكلب‪ .‬وعندما ت�س�أله‬ ‫�شخ�ص‪ .‬هذا الت�صور يوظَّ ف يف �أحيان كثرية لتربير العدوان على‬
‫ملاذا يت�رصف بهذه الغرابة ف�إنه يقدم على الفور تف�سريات معقولة‬ ‫الأ مة بعد حتويلها –ا�ستعاريا‪� -‬إىل جمرد ال�شخ�ص الذي يحكمها‪،‬‬
‫لت�رصفاته هذه‪ .‬هذا التف�سري يقدم مثاال ال ين�سى على قدرة العقل‬ ‫والذي ميكن حتويله –ا�ستعاريا كذلك‪� -‬إىل �شيطان �أو �إرهابي‪.‬‬
‫على التربير (العقلنة) ‪ .Rationalization‬وبينما يعرف كل واحد من‬ ‫وعلى ذلك ف�إن تعبري «م�رص نا�رص» ال ينفي ال�شعب فح�سب‪ ،‬بل‬
‫حا�رضي جتربة التنومي ال�سبب احلقيقي لهذه الت�رصفات الغريبة‪،‬‬ ‫التاريخ كذلك‪� .‬إن تركيب «م�رص نا�رص»‪ ،‬يف املثال ال�سابق‪ ،‬يتحرك‬
‫ف�إن �أي م�شاهد مل ير بداية التجربة‪ ،‬قد يقتنع متاما مبربرات ال�شخ�ص‬ ‫يف اجتاه م�ضاد ملا يحدده ماركيوز‪� .‬إنه ال يقيد ال�شخ�ص‪ ،‬و�إمنا‬
‫مو�ضوع التنومي‪ » .‬ورمبا ال تختلف بع�ض التربيرات التي يقدمها‬ ‫الوطن‪ .‬فحني تت�أ�س�س عالقة �إ�ضافة‪/‬ملكية بني الرئي�س والوطن ال‬
‫املدافعون عن ت�أييدهم لبع�ض ال�سيا�سيني عن التربيرات التي‬ ‫يتحول الأ فراد فح�سب �إىل زوائد �أو تابعني لرئي�سهم‪ ، . .‬بل يتحول‬
‫يقدمها هذا الذي «ينبح كالكلب» لنباحه‪� .‬إن ربط ت�أثري لغة ال�سيا�سة‬ ‫الوطن‪ ،‬مبواطنيه وجغرافيته وتاريخه �إىل ملكية للرئي�س‪ .‬وهي‬
‫بت�أثري التنومي املغناطي�سي قد يولد بع�ض ال�شك يف �إمكانية �إبطال‬ ‫ا�ستعارة �أخرى تخفي الكثري‪ ،‬وحتر�ض على الكثري‪ .‬وميكن �أن ي�ؤدي‬
‫هذا الت�أثري‪ .‬وميهد لتقبل وتفهم خمتلف �أ�شكال املقاومة‪ ،‬مهما‬ ‫الرتكيب‪ ،‬خا�صة حني يطلق يف معر�ض الو�صف �إىل ما ي�شبه عالقة‬
‫بلغت حدتها ونوعها‪ ،‬من اخلا�ضع للت�ضليل اللغوي‪.‬‬ ‫الن�سب (الأ بوة)‪� .‬إن الرئي�س (الأ ب) هو الذي ينجب الوطن (االبن)‪.‬‬
‫‪ -8‬كان الطالب يرفعون الفتات مكتوب عليها «امليمات الثالثة»‪،‬‬ ‫وهو‪ ،‬من ثم‪� ،‬أب �أبنائه (املواطنني)‪ .‬والوطن (االبن) ما كان ليوجد‬
‫م�شريين �إىل مارك�س وماوت�سي تونغ وماركيوز‪.‬‬ ‫(�أو يزدهر ويتطور‪� . .‬إلخ) �إال بعمل الأ ب (الرئي�س)‪ .‬والرتكيب نف�سه‬
‫‪ -9‬قد يكون من املثري مقارنة اللغة التي ا�ستخدمتها الإ دارة‬ ‫قد ينتج ا�ستعارة �أخرى تختلف يف طرفيها لكنها ت�ؤدي الوظيفة‬
‫نف�سها‪ ،‬هي ا�ستعارة‪ :‬الرئي�س زوج‪ ،‬والوطن زوجته‪ .‬وهي ا�ستعارة‬
‫الأ مريكية قبيل و�أثناء الغزو الأ مريكي لفيتنام (‪)1975-1961‬‬
‫ينتجها الرتكيب يف �إطار الثقافات التي تن�سب املر�أة لزوجها‬
‫�سواء يف التربير للغزو �أو و�صف عملياته الع�سكرية واجلنود‬
‫(مثل كثري من املجتمعات الريفية يف م�رص)‪ .‬والعالقة بني الرئي�س‬
‫الأ مريكيني و»العدو»‪ ،‬باللغة التي ا�ستخدمتها قبيل و�أثناء غزوها‬
‫والوطن وفق هذه اال�ستعارة عالقة ع�صمة‪ .‬فالوطن يف ع�صمة‬
‫العراق(‪-2003‬؟)‪ .‬وثمة حد�س مبدئي لدي بوجود ت�شابهات عديدة‪،‬‬
‫الرئي�س‪ .‬واملواطنون؛ �أبناء الوطن وبناته‪ ،‬حتت و�صايته‪ .‬هذه‬
‫على الرغم من فارق اختالف احلدثني وفارق الزمن‪.‬‬ ‫اال�ستعارة نف�سها تنتج ا�ستعارة �أخرى يرددها املنتفعون من �أي‬
‫‪ -10‬البلوز ‪� Blues‬أغاين ي�ؤلفها ويلحنها ويغنيها الأ مريكيون‬ ‫حكم حني يُنادون ب «زواج كاثوليكي» بني الوطن والرئي�س؛ �أي �أن‬
‫ال�سود‪ .‬يغلب عليها ال�شجن‪ .‬وتت�ألف من مقاطع �شعرية ثالثية‬ ‫يحكم مدى احلياة‪ .‬وتنطوي هذه اال�ستعارة على و�صف للوطن ب�أنه‬
‫الأ بيات‪.‬‬ ‫�أنثى‪ ،‬وحكم على بقية املواطنني باخل�صاء‪ ،‬فلي�س ثمة ذَكَ ر �إال ال�سيد‬
‫(‪The American Heritage Dictionary of the English Language. 2000.‬‬
‫الرئي�س‪ .‬ومن ثم ف�إن الأ وطان (ومواطنيها) التي ترغب يف �أن ت�صل‬
‫‪.)Houghton Mifflin Company‬‬ ‫�إىل اال�ستقالل والن�ضج‪ ،‬وفق اال�ستعارتني ال�سابقتني‪ ،‬يجب عليها‬
‫‪ -11‬من غري الع�سري الوقوف على ممار�سات نقدية م�شابهة قامت‬ ‫�أن متار�س «قتل الأ ب»‪ ،‬و«قتل الزوج» �أي�ضا‪ .‬و�أن تنتمي فح�سب �إىل‬
‫بها جماعات الرف�ض االجتماعي يف معظم املجتمعات‪ .‬وعلى �سبيل‬ ‫ذاتها؛ �أعني مواطنيها‪.‬‬
‫املثال‪ ،‬يذكر نا�رص �أحمد �إبراهيم يف كتابه «الأ زمات االجتماعية‬ ‫‪ -6‬درا�سة نقدية ال�ستخدام االخت�صارات يف �أ�سماء الأ �سلحة‬
‫يف م�رص يف القرن ال�سابع ع�رش» (ن�رش دار الآ فاق العربية‪،)1998 ،‬‬ ‫االنووية ميكن الرجوع � إىل درا�سة مارتن مونتجموري ‪Montg 1995‬‬
‫�أن الأ هايل كانوا ميار�سون متردا من نوع خا�ص على ال�سلطة‬ ‫‪ gomery‬بعنوان «مدخل �إىل اللغة واملجتمع»‪ .236-231‬وي�شري‬
‫امل�سيطرة‪ ،‬متثل يف �إطالق ت�سميات �ساخرة ومثرية للتهكم على‬ ‫مونتجموري �إىل درا�سة �أخرى تف�صيلية قدمها بول �شيلتون يف عام‬
‫ممثلي ال�سلطة‪ .‬ويورد امل�ؤلف �أمثلة متعددة لهذه الت�سميات‪ ،‬مثل‬ ‫‪ ،1982‬بعنوان «كالمـنووي‪ :‬اللغة النووية والثقافة والدعاية»‪.‬‬
‫�إطالقهم «زلعة ال�سم» على حممد با�شا‪ ،‬و«ال�شيطان» على �إبراهيم‬ ‫‪ -7‬يذكر �إدوارد بونو يف كتابه «التفكري املتجدد» �ص‪ ،15‬ال�صادر‬
‫با�شا‪ ،‬و«املجنون» على ح�سني با�شا الدايل‪� . .‬إلخ‪.‬‬ ‫برتجمة �إيهاب حممد عن الهيئة امل�رصية العامة للكتاب يف‬
‫‪ -12‬مثل امل�صطلح املركزي يف نقده للغة ال�سيا�سية‪ ،‬وهو «عامل‬ ‫‪� ،2005‬أنه» يف حالة التنومي املغناطي�سي ميكن الإ يحاء لل�شخ�ص‬
‫الإ ن�شاء املغلق»‪.‬‬ ‫املنوَّم بفعل �أ�شياء غريبة بعد الإ فاقة من غيبوبة التنومي‪ .‬ويف‬

‫‪110‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫احلطيئة وم�ستويات ال�صورة‬


‫الفنية فـي �شعره‪. .‬‬
‫�سميـــة الهــــادي‬
‫�أكادميية من اجلزائر‬

‫يت�أ�س�س الن�ص ال�شعري‪ ،‬بوجه عام‪ ،‬من جملة من الرتاكيب يحكمها ن�سيج من‬
‫العالقات الرتابطية وال�سياقية‪ .‬وينبني الرتكيب ال�شعري على امللفوظ الذي‬
‫يوجه بدوره م�سار اخلطاب وحتوالته‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ف�إذا اعتربنا �أن اجلملة هي‬
‫�أ�سا�س اخلطاب(‪ )1‬و�أنها يف اللغة تت�أ�س�س على الت�أليف القائم على ت�شابك‬
‫عالئقي‪� ،‬أمكننا �أن ننظر �إليها على اعتبار املحتوى اخلربي؛ فيمكن و�صف‬
‫اجلملة ب�سمة واحدة متميزة‪� ،‬أال وهي �أن لها حممو ال ً‪� Predicate‬أو م�سنداً‪ .‬وقد‬
‫الحظ بنفني�ست(‪� )Benveniste‬أن اللغة قد ت�ستغني عن الفاعل �أو املبتد�أ �أو‬
‫املفعول وغري ذلك من املقوالت اللغوية ولكنها لن ت�ستغني �أبدا عن امل�سند(‪.)2‬‬
‫ويحدد تودوروف ‪ Todorov‬الن�ص الأ دبي بقوله‪�« :‬إن العمل الأ دبي‪ ،‬مل يعد �إال‬
‫ك�أي منطوق لغوي � آخر‪ ،‬غري م�صنوع من الكلمات‪ ،‬بل �إنه م�صنوع من جمل‪،‬‬
‫وهذه اجلمل خا�ضعة مل�ستويات متعددة من الكالم‪.)3( » .‬‬

‫‪ � l‬إن القدرة اللغوية تعد �أ�سا�سا لقوة الإبداع‪ .‬واحلطيئة �صاحب تفوق‬
‫لغوي معرتف به من قبل النقاد القدامى واملحدثني‪ .‬وذلك بحكم انتمائه‬
‫ملدر�سة عبيد ال�شعر‪ ،‬ومالزمته ال�شديدة ل�شعر زهري‪ .‬لذلك كان �شديد‬
‫الثقة بنف�سه‪ ،‬معتدا بها‪ ،‬ال ينازعه كثري من ال�شعراء قول ال�شعر‪.‬‬
‫‪ l‬الن�ص جمموعة من البنيات الن�سقية‪ ،‬ميكن تتبع م�سار بنى الت�ضاد‬
‫داخل الن�ص ال�شعري لدى احلطيئة‪ ،‬اعتمادا على التعامل الن�صي الذي‬
‫ي�ستنطق البنى ال�شعرية‪ ،‬من �أجل الو�صول � إىل غاياته العلمية‪ .‬خا�صة‬
‫و�أن الن�صو�ص اخل�صبة هي الن�صو�ص التي ت�ستوعب بنية الت�ضاد‪ ،‬لأ نها‬
‫جتعل الن�ص متحركا بعيدا عن ال�سكونية‪.‬‬

‫‪111‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ملا �سبقه من ن�صو�ص مماثلة‪ .‬ولو حدث هذا – وكثريا‬ ‫وكان لكرثة اهتمام النقاد بك�شف القوانني الداخلية‬
‫ما يحدث ‪ -‬ف�إن الن�ص �سي�سقط وي�صبح ن�صا فا�شال‬ ‫للن�صو�ص دور كبري يف �إعطاء �صبغة جديدة للنقد؛‬
‫كتقليد مف�ضوح‪ .‬وال بد هنا من ذكاء املر�سل الذي‬ ‫�إذ �أ�صبح «و�صفا للعبة الدالالت‪ ،‬وبحثا عن قوانني‬
‫هو املبدع كي ينقذ الن�ص من ال�سقوط‪ .‬وخري ال�سبل‬ ‫تبنني الن�ص»(‪.)4‬‬
‫يف ذلك هو اال�ستعانة بال�شفرة‪ .‬وال�شفرة هي اللغة‬ ‫ولقد تو�سعت فكرة االعتقاد ب�أن الن�ص عامل ذري‬
‫اخلا�صة بال�سياق»(‪.)10‬‬ ‫مغلق‪ .‬بل لقد �أ�صبح ف�ضاء مفتوحا من العوامل الداللية‬
‫ومن خالل هذه ا إلطاللة ال�رسيعة‪ ،‬ميكن القول‪:‬‬ ‫التي جتعل من ا إلنتاج ا ألدبي م�رشوعا كتابيا قابال‬
‫�إن الن�ص ال�شعري يخ�ضع يف م�ساره �إىل جمموعة‬ ‫مل�ستويات عدة من القراءات والت�أويالت‪ .‬ذلك �أن الن�ص‬
‫من امل�ستويات‪ ،‬تنبع �أ�سا�سا من جملة العالقات‪.‬‬ ‫«لي�س تلك اللغة التوا�صلية التي يقننها النحو‪ ،‬فهو ال‬
‫فتتحرك ال�صورة ال�شعرية وفقها‪ ،‬متلم�سة �أحيانا‬ ‫يكتفي بت�صوير الواقع �أو الداللة عليه‪ .‬فحيثما يكون‬
‫درجة معينة من الكثافة والتوترات‪ .‬وكرة‬ ‫الن�ص داال‪ ...‬ف�إنه ي�شارك يف حتريك وحتويل الواقع‬
‫�أخرى تتحرك حول االن�سجام والت�ضاد‪ ،‬وتارة‬ ‫الذي مي�سك به يف حلظة انغالقه»(‪.)5‬‬
‫نحو الت�شاكل والتباين‪ .‬ولعل البحث يف كل‬ ‫فاالنطالق يكون من الواقع والعودة قد ال ت�ؤول‬
‫امل�ستويات ي�صبح �رضبا من الوهم‪ ،‬نظرا لكرثة‬ ‫�إليه ومن هنا نقتنع بفكرة «حتول الن�ص �إىل جمال‬
‫هذه امل�ستويات وت�شعبها‪ .‬و�إمنا ميكن اال�سرت�شاد‬ ‫يُلعب فيه وميار�س ويُتمثل التحويل ا إلب�ستمولوجي‬
‫ببع�ضها لتكون عينة على مدى التفاعل املوجود‬ ‫واالجتماعي وال�سيا�سي‪ .‬فالن�ص ا ألدبي خطاب‬
‫بني خمتلف امل�ستويات التي ين�شئها الن�ص‬ ‫يخرتق حاليا وجه العلم وا إليديولوجيا وال�سيا�سة‪،‬‬
‫ال�شعري‪ ،‬والذي ينبني �أ�سا�سا على العملية‬
‫ويتنطع ملواجهتها وفتحها و�إعادة �صهرها‪.)6(».‬‬
‫التخييلية‪ .‬وا�ستكماال لذلك‪ ،‬نحاول ا�ستنباط‬
‫وعليه ي�صبح ا ألمر كما يقره توجه روالن بارث من‬
‫مظاهر الكثافة احلا�صلة يف الن�ص ال�شعري لدى‬
‫احلطيئة يف تفاعله مع دالالت ال�صورة الفنية‪.‬‬ ‫�أن الكتابة عن الن�ص ما هي �إال احتفال معريف‪ ،‬و�أن‬
‫اخلطاب حول الن�ص ال ميكن �إال �أن يكون ن�صا هو‬
‫�أ‌‪ -‬الكثافة‪:‬‬ ‫ذاته‪ ،‬فقد بد� أ اجلميع ينظرون �إىل الن�ص غري منجز ما‬
‫يت�شكل الن�ص ال�شعري من جملة من امل�ستويات التي‬ ‫دامت قراءته متوا�صلة‪ ،‬بل �إنه يف دالالته يت�ضاعف‬
‫حتدد خ�صائ�صه النوعية‪ .‬فيعمل اجلانب ا إليقاعي‬ ‫مثل املتوالية الريا�ضية‪ ،‬تبعا لتعدد القراءات‪.)7(.‬‬
‫على بلوة الت�شكيل ال�صوتي والنغمي له‪ .‬ويعمل‬ ‫على هذا االعتبار‪ ،‬ميكن التفريق بني م�صطلح ن�ص‬
‫اجلانب النحوي على تنظيم كيفية ا�ستغالل الطاقات‬ ‫وم�صطلح خطاب وذلك �أن اخلطاب هو«فعل ا إلنتاج‬
‫الرتكيبية من خالل معاين النحو‪ .‬وعليه ي�صبح كتلة‬ ‫اللفظي ونتيجته امللمو�سة وامل�سموعة واملرئية‪،‬‬
‫معقدة ت�سري حركيته اعتمادا على قدرة التعبري‪،‬‬ ‫بينما الن�ص هو جمموع البنيات الن�سقية التي‬
‫و�سل�سلة االختيارات التي تتحكم فيها ال�شخ�صية‬ ‫تت�ضمن اخلطاب وت�ستوعبه»(‪.)8‬‬
‫املبدعة ال�شاعرة‪ .‬وت�أتي درجة الكثافة باملقدار الذي‬ ‫�إذ تتحول الر�سالة –يف منظور جاكب�سون (‪-)Jakobson‬‬
‫يجعلها تتوخى الفعل ا إلبداعي امل�ساهم يف حتديد‬ ‫�إىل ن�ص �أدبي يف حالة القول ا ألدبي‪ .‬و«تنحرف‬
‫منط ال�صورة «وهي ذات خا�صية توزيعية بارزة‪،‬‬ ‫الر�سالة عن خطها امل�ستطيل‪ ،‬وتعك�س توجه حركتها‪،‬‬
‫وهذا يجعلها قابلة للقيا�س الكمي والنوعي‪ ،‬وتت�صل‬ ‫وتثنيها �إليها‪� ،‬إىل داخلها‪ ،‬بحيث ال ي�صبح املر�سل‬
‫�أ�سا�سا يف تقديرنا مبعيار الوحدة والتعدد يف ال�صوت‬ ‫باعثا واملر�سل �إليه متلقيا‪ .‬و�إمنا يتحول االثنان‬
‫وال�صــورة‪ ،‬وهذا‬ ‫�إىل فار�سني متناف�سني على م�ضمار واحد ي�ضمهما‬
‫يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ون�سبة املجاز وعمليات‬ ‫ويحتويهما هو القول �أي الن�ص‪.)9(».‬‬
‫احلذف يف الن�ص ال�شعري»(‪.)11‬‬ ‫وتتمو�ضع الر�سالة على �سياق يفر�ض عليها توجها‬
‫�إن ال�صياغة اللغوية التي ميلكها ال�شاعر‪ ،‬والتي‬ ‫معينا فتكون خا�ضعة له «فال�سياق كتقليد �أدبي‬
‫بها ينتج ن�صه ال�شعري وفقا ل�سياق ال�شعور‬ ‫را�سخ قد يتغلب على الن�ص ويجعله جمرد حماكاة‬
‫‪112‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫واحلُرْفَة َ القُدْمى و�أن ع�شـرينا‬ ‫وا إلح�سا�س‪ ،‬يجعل «اللغة ال�شعرية تبدو ك�أنها‬
‫زرعوا احلُروث و�أننا ال نـــزر ُع‬ ‫ ‬ ‫تك�شف عن بنيتها ا أل�صيلة التي ال تتمثل يف �شكل‬
‫فبعث َت لل�شعراء مبعث داحـ�س� أ‬ ‫خا�ص حمدد ب�صفات معينة‪ ،‬و�إمنا يف حالة‪ ،‬يف‬
‫و كالب�سو�س ِعقَالَهَا تتـــــكو َّ ُع‬ ‫ ‬ ‫درجة من احل�ضور والكثافة التي ميكن �أن ت�صل‬
‫يـخف‬
‫ْ‬ ‫ومنعتني �شتم البخيل فلم‬ ‫�إليها �أية متتالية لغوية‪ ،‬بحيث تخلق حولها‬
‫�شتمي ف�أ�صبح �آمنا ال يـــــفز ُع‬ ‫ ‬ ‫هام�شا من ال�صمت يعزلها عن الكالم العادي‬
‫و�أخذ َت �أطرار الكالم فلم تـد ْع‬ ‫املحيط بها»(‪ .)12‬و�صفات ال�صورة تت�شبع بنمط‬
‫�شتما ي�رض ُّ وال مديـــحا ينفــ ُع‬ ‫ ‬ ‫احلياة االجتماعية ومظاهر ا أل�شياء واملوجودات‬
‫وبُعث ْ َت للدنيا تجُ م ِّ ُع مــــالها‬ ‫البيئية‪« .‬وينبغي �أن ن�شري �إىل �أن ال�صورة‬
‫وتَ�صـــــُر ُّ جزيتها ود�أْبا جتم ُع‬ ‫ ‬ ‫ال�شعرية باعتبارها وثيقة ال�صلة بنف�سية ال�شاعر‬
‫ف�إنها حتما �سوف تنطبع بطابع هذه النف�سية‪،‬‬
‫ومنع َت نف�سك ف�ضلها ومنَـحتها‬
‫ونف�سية املجتمع الذي ينتمي �إليه ال�شاعر‪ ،‬لهذا‬
‫ �أهل الفِــعال ف�أن َت خري ٌ مـــول ُع‬ ‫غلبت النزعة الو�صفية املادية على معظم ال�شعر‬
‫حتى يجئ �إليك ِعل ْ ٌج نـــاز ٌح‬ ‫اجلاهلي؛ ألن نف�سية اجلاهلي نف�سية بدائية‬
‫في�صي َب َعفْوَتَها وعــــبد ٌ �أوكـ ُع‬ ‫ ‬ ‫مادية تدرك معاين ا أل�شياء يف �إطارها احل�سي �أو‬
‫ال�ضعْفي ومـ ْن ال خيرْ ُهُ‬ ‫والعَيْلةُ َّ‬ ‫يف �أ�شكالها الظاهرة»(‪.)13‬‬
‫(‪)15‬‬
‫خيـــْر ٌ ومثلُهُم ُغـــثاء ٌ � أ ْجـم ُع‬ ‫ ‬ ‫وميكن لل�سياق �أن يكون ذا ح�ضور قوي يف توظيف‬
‫تنبني اللغة ال�شعرية لهذا الن�ص على درجة من‬ ‫التجربة ال�شعرية و«تظل العالقة بني ال�صورة وال�سياق‬
‫الكثافة التي حتقق له خ�صوبة فنية‪ .‬ويتمثل ا ألمر‬ ‫الكلي للتجربة ال�شعرية املحرك ا أل�سا�سي الذي ينبغي‬
‫يف ظاهرتني فنيتني ا ألوىل احلذف‪ ،‬والثانية ا ألبعاد‬ ‫�أن تنبع منه الدرا�سة‪ .‬وتبلغ هذه العالقة حدا من‬
‫املجازية املبثوثة يف بع�ض الرتاكيب ال�شعرية‪.‬‬ ‫الكثافة والتوتر يف �صورة �شعرية ما يحيل فاعلية‬
‫�إن احلذف هو خا�صية لغوية عربية تبناه الكالم‬ ‫ال�صورة �إىل عملية من الفي�ض وا إل�ضاءة والك�شف ال‬
‫العربي‪ ،‬بل �إنه حتول �إىل مزية كالمية‪ .‬فاحلاذق‬ ‫حدود لها»(‪.)14‬‬
‫من يح�سن الكالم ب�أقل جهد‪ ،‬و�أقل عدد من ا أل�صوات‬ ‫وتتبعا ملظاهر درجة الكثافة‪ ،‬ن�سعى �إىل مدار�سة‬
‫التي تن�شيء الرتاكيب‪ .‬لهذا كانت البالغة العربية‬ ‫ق�صيدة قالها احلطيئة يف عمر بن اخلطاب‪ -‬ر�ضي‬
‫قدميا ت�ساوي ا إليجاز‪ .‬ومن هذا املنطلق جاء الن�ص‬ ‫اهلل عنه‪ -‬وهو يف �شدة من ال�ضيق عندما منع من‬
‫الذي بني �أيدينا ليحقق بع�ضا من مظاهر احلذف‬ ‫قول هجائه يف النا�س‪ ،‬وعليه �أ�صبحوا ال يخ�شون‬
‫الذي يجعل الرتكيب يرتقي �إىل درجة الكثافة‪ ،‬من‬ ‫ل�سانه‪ ،‬ف�أفل جنمه‪ ،‬و�صعُبت عليه احلياة يف ظل ا ألم‬
‫ذلك قوله‪( :‬يا �أيها امللك الذي �أم�ست له ب�رصى‬ ‫والبنني‪ ،‬وق�سوة ابناء العمومة‪ ،‬وظلم ذوي القربى‪.‬‬
‫وغزة �سهلها وا ألجرع)‪ ،‬ومعناه �أن مدينة ب�رصى‬ ‫يقول‪:‬‬
‫وغزة وقعتا حتت حكم عمر‪ -‬ر�ضي اهلل عنه‪-‬‬ ‫يا �أيها امللك الذي �أم�ســ ْت له‬
‫بفعل الفتوحات‪ ،‬فدانتا له‪ .‬وا ألمر هنا فيه كناية‬ ‫بُ�صـــرى وغزَّة �سهلها وا ألجر ُع‬ ‫ ‬
‫عن عظمة الفتح و�ش�ساعته‪ .‬فاختزل الرتكيب كله‬ ‫ومليكها وق�سيمها عن �أمــره‬
‫يف كلمة (�أم�ست)‪ .‬وجتنبا ل إلطالة �أي�ضا‪ ،‬يوظف‬ ‫يُعـــطي ب�أمر َك ما ت�شاء ُ ومينـ ُع‬ ‫ ‬
‫يف البيت الثالث لفظة(ف�أ�شكني) وهي م�شكلة من‬ ‫�أ�شـكو �أليك ف�أ�شــكني ذريَّة‬
‫فعل وفاعل ومفعول به‪ .‬واملق�صود بها (�أعني على‬ ‫ ال ي�شبـــعون و�أمهم ال ت�شــب ُع‬
‫�شكواي)‪ .‬وكذلك ا ألمر يف البيت الرابع‪ ،‬يف قوله‪:‬‬ ‫كَثرُ ُوا عل َّي فما ميوت كبريهم‬
‫ر�ض ُع) وتقدير الكالم‪ :‬وال ال�صغري‬ ‫( وال ال�صغري امل ُ َ‬ ‫ـر�ض ُع‬
‫احل�ساب وال ال�صغري ُ امل ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫حتى‬ ‫ ‬
‫املر�ضع �أي�ضا ميوت‪.‬‬ ‫وجفاء موالي ال�ضنني مبالـه‬
‫وتتبدى درجة الكثافة‪ ،‬من جهة �أخرى‪ ،‬عن طريق‬ ‫نف�س َهمُّها ب َي ُمــــوزَ ُع‬
‫وولُو َع ٍ‬ ‫ ‬
‫‪113‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�ساعد على فهم اخلطابات املختلفة‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫لعبة املجاز ال�شعري الذي يرتفع باملعاين والدالالت‬
‫‪ -‬الت�سا�ؤل عمن فعل؟ وماذا فعل؟ و�أين؟ ومتى؟‬ ‫�إىل م�ستوى فني رفيع‪ .‬من ذلك قوله‪( :‬فبعث َت لل�شعراء‬
‫وكيف؟ وملاذا؟‬ ‫مبعث داح�س �أو كالب�سو�س عقالها تتكو َّ ُع)‪ ،‬فقد �شبه‬
‫‪ -‬االرتباط املعجمي‪.‬‬ ‫ما فعله عمر بن اخلطاب‪-‬ر�ضي اهلل عنه‪ -‬بال�شعراء‬
‫‪ -‬االرتباط الرتكيبي احلا�صل بال�ضمائر و�أداة‬ ‫بحرب داح�س والغرباء‪� ،‬أو بحرب الب�سو�س‪ ،‬اللتني‬
‫التعريف وا�سم العلم و�أ�سماء ا إل�شارة و�أدوات‬ ‫جرَّتا القبائل العربية �إىل حروب طاحنة �أتت على‬
‫العطف(‪.)18‬‬ ‫ا ألخ�رض والياب�س‪ .‬ويزيد هذا الت�شبيه من تعميق‬
‫وقد تعر�ض الل�سانيون بالدر�س �إىل ق�ضية االن�سجام‬ ‫الداللة‪ .‬فال�شاعر احلطيئة يريد من خالل هذه ال�صورة‬
‫داخل الن�ص‪ ،‬وارتبط هذا ا ألمر مبا يعرف ا آلن (حتليل‬ ‫�أن ير�سم معامل ا ألثر النف�سي الذي تركه �سلوك عمر‪.‬‬
‫اخلطاب)‪ .‬فقد اعترب �إيزنربغ ‪ Isenberg‬االن�سجام قيدا‬
‫ولقد جعل احلطيئة من ل�سانه �أداة ك�سب القوت‪ .‬وعلى‬
‫من قيود حد الن�ص؛ �إذ هو متتالية من�سجمة من‬
‫اجلمل‪ ...‬و�أ�شار ليون�س �إىل نف�س الظاهرة ولكن ب�أقل‬ ‫هذا ا ألمر كان النا�س يتحا�شونه‪ ،‬بل ويغدقون عليه‪.‬‬
‫�رصامة مرجعا االن�سجام �إىل ما يف الن�ص من ال�صنعة‬ ‫ويحدث التكثيف �أي�ضا يف قوله ( و�أخذ َت �أطرار الكالم‬
‫باعتبار �أن الن�صو�ص يف الغالب ن�صو�ص �أدبية ‪.‬‬
‫(‪)19‬‬ ‫فلم تدع �شتما ي�رض وال مديحا ينفع)‪ ،‬وا ألطرار هي‬
‫و�إذا كان الن�ص ينبني على جملة من العالقات‬ ‫النواحي‪ .‬فقد ارتفع التعبري ال�شعري من املعنوي �إىل‬
‫املت�شابكة فيما بينها وفق نظام �سياقي معني؛‬ ‫احل�سي‪ .‬وهي �صفة يف التعبري ال�شعري العربي القدمي‪.‬‬
‫ف�إن ان�سجام الن�ص مرهون با ألطر املعرفية التي‬ ‫فج�سد الكالم يف �صورة مادية على �سبيل اال�ستعارة‬
‫تَ�شكَّل �ضمنها‪ .‬فما يبدو من�سجما للبع�ض‪ ،‬قد‬ ‫املكنية‪ .‬وك�أن الكالم عبارة عن ثوب له نواحيه‬
‫يبدو غري من�سجم للبع�ض ا آلخر‪ .‬فاالن�ســجام‬ ‫وحوا�شيه‪ ،‬ف�أم�سك بها عمر ثم طواها‪ .‬وميكن �أن‬
‫رهني جملة املعارف احلا�صلة يف ذهن من�شئه‬ ‫يت�ضمن ال�شطر الثاين كناية عن �سوء احلال املعي�شية‪.‬‬
‫ومتلقيه خا�صة يف الن�صو�ص ا إلبداعية‪ .‬و�إن‬ ‫فال�شاعر‪ ،‬كما قلنا‪� ،‬إما مادح و�إما ذام‪ .‬ويف الو�ضعني‬
‫ال�صعوبات التي ح�صلت يف البحث عن �إقامة‬ ‫ي�أخذ ماال‪ .‬ويقول يف مو�ضع �آخر‪( :‬والعيلة ال�ضعفي‬
‫ان�سجام بني مكونات الن�ص‪� ،‬أفرزت جملة من‬ ‫ومن ال خريه ومثلهم غثاء �أجمع)‪� ،‬إذ ي�شبه �سوء حال‬
‫ا ألمور منها‪:‬‬ ‫الفقراء يف احلياء بحال غثاء ال�سيل وهو عبارة عن‬
‫‪ -‬اقرتاح اعتبار القارئ مبثابة املعيد إلنتاج الن�ص‪.‬‬ ‫الزبد وما خالطه من ورق ال�شجر البايل‪.‬‬
‫‪ -‬القول مبوت الكاتب من�شيء الن�ص كما ذهب‬ ‫ب‪ -‬االن�سجام‪:‬‬
‫�إىل ذلك بارث ‪ Barthes‬يف كالم ال يخلو من املجاز‬
‫�إن «الن�ص ا ألدبي هو توليد – حتويل لقالب لغوي والت�صوير‪ .‬ومثل هذا الطرح للم�س�ألة يجعل االن�سجام‬
‫يف زمان وف�ضاء مهما كان م�ستواهما بكيفيتني �أمرا قائما بني القارئ والن�ص �أكرث من قيامه بني‬
‫�أ�سا�سيتني هما جوهر �أي ن�ص و�رس حياته وتعيينه‪ ،‬ا ألجزاء املكونة للن�ص(‪.)20‬‬
‫�سواء �أكان ذلك التوليد والتحويل لقوالب خارجية و�سعيا نحو تتبع معامل االن�سجام يف الن�ص ال�شعري‬
‫�أم داخلية»(‪ .)16‬لقد طرح حممد مفتاح جملة من لدى احلطيئة‪ ،‬نحاول االعتماد على بع�ض املقاطع‬
‫املعطيات اخلا�صة بالن�ص‪ ،‬والتي من خاللها يحقق ال�شعرية التي وجدنا فيها حتقيقا لظاهرة االن�سجام‪،‬‬
‫الن�ص ان�سجامه «ف�إذا كان الزمان والف�ضاء من بني من خالل امتالكنا خللفية التجربة ال�شعرية لديه‪،‬‬
‫ثوابت الن�ص ف�إنهما بال�رضورة‪� -‬ضامنان الن�سجامه والتي �ساهمت كما يف �إجناز الرتكيب ال�شعري‬
‫املعنوي على اخل�صو�ص �إذ لي�س هناك ن�ص بدون الذي يحمل داخله ال�صورة املتناغمة مع واقعها‪،‬‬
‫ر�سالة موجهة �إىل متلق حقيقي �أو مفرت�ض‪ ،‬حتتوي وامل�ستمدة ألجزائها ومكوناتها من �صميم احلياة‬
‫على معلومات مرتاكمة تي�رس فهمها وت�أويلها»(‪ .)17‬االجتماعية العربية القدمية‪ .‬يقول‪:‬‬
‫وكانت الل�سانيات احلديثة �صاحبة الف�ضل يف التحدث لنعم احل ُّي ح ُّي بني ُك ٍ‬
‫لـيب‬
‫عن ان�سجام الن�ص‪ ،‬وقد اقرتحت بع�ض ا آلليات التي �إذا ما �أوقــــدوا فوق اليفا ِع‬
‫‪114‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫فال خري يُرجى منه‪ .‬ويعترب البيت الذي ا�ستوعب‬ ‫ونعم احل ُّي ح ُّي بني ُكليـ ٍب‬
‫هذه ال�صورة نواة الن�ص ككل‪ .‬فقد ت�شكلت ال�صورة‬ ‫ �إذا اختــلط الدواعي بالدواعي‬
‫ال�شعرية املبنية على الت�شبيه ال�ضمني‪ .‬وهو الذي‬ ‫�أمل ْ تر َ � أ َّن جـار بني زُهريٍ‬
‫انت�رشت داللته يف معاين ا ألبيات ا ألخرى‪ .‬ألن ا ألمر‬ ‫ق�صري الباع لي�س بذي امــتناع‬ ‫ ‬
‫كله �سار على مدار �إبراز املمدوح‪ ،‬ورفعه �إىل املكانة‬ ‫ولي�س اجلار جارُ بني كلي ٍب‬
‫العليا الالئقة به‪ .‬ومن ثم كانت املفا�ضلة هي الوعاء‬ ‫مبُقْ�ص ًى يف املَحلِّ وال ُمــ�ضا ِع‬ ‫ ‬
‫ميكن القول‪� :‬إن‬ ‫الذي ا�ستوعب هذه الفكرة‪.‬‬ ‫همُ �صنعوا جلارهمُ ولي�س ْت‬
‫الن�ص ال�شعري‬ ‫ومن هنا ميكن القول‪� :‬إن الن�ص ال�شعري انبنى على‬ ‫ال�صـنَاع‬
‫يد ُ اخلــرقاء مثل يد َّ‬ ‫ ‬
‫انبنى على‬ ‫جزئيات �شعرية م�ستوحاة من الواقع احلياتي‬ ‫ويحر ُ ُم �رس ُّ جارتهم عليهم ْ‬
‫جزئيات �شعرية‬ ‫لدى ال�شاعر‪ ،‬وقد ا�ستطاع توظيفها باملقدار‬ ‫ف القِـــ�صا ِع‬ ‫وي�أكل جارهم ْ �أُن ُ َ‬ ‫ ‬
‫م�ستوحاة من‬ ‫الذي يحقق للن�ص ال�شعري �شاعريته‪ ،‬و�إيحاءه‪.‬‬ ‫وجار ُهمُ �إذا ما حلَّ فيـهم‬
‫الواقع احلياتي‬ ‫فال�شاعر من�سجم مع هذا الواقع‪ ،‬وان�سجامه هذا‬ ‫على �أكناف رابـــــي ٍة يفا ٍع‬ ‫ ‬
‫لدى ال�شاعر‪،‬‬ ‫�شكَّل للن�ص ان�سجاما جمليا‪� ،‬سار باجتاه بناء‬ ‫لعمرُك ما قُرادُ بني ريا ٍح‬
‫وقد ا�ستطاع‬ ‫ال�صورة الفنية التي حملت معنى الكرم‪.‬‬
‫(‪)21‬‬
‫ �إذا نُزع القُــــرادُ مب�ستطاع‬
‫توظيفها باملقدار‬ ‫وت�أكيدا الن�سجام اجلمل‪ ،‬ميكن تو�ضيح ا ألمر �أكرث‪.‬‬ ‫�إن القدرة اللغوية تعد �أ�سا�سا لقوة ا إلبداع‪ .‬واحلطئية‬
‫الذي يحقق للن�ص‬ ‫فا�ستعمال الق�سم‪ ،‬جر الرتكيب �إىل اال�ستعانة بالنفي‬ ‫�صاحب تفوق لغوي معرتف به من قبل النقاد القدامى‬
‫ال�شعري �شاعريته‪،‬‬ ‫الذي يكون م�ضادا للت�أكيد وقد مت بـ(لي�س)‪ .‬وقد‬ ‫واملحدثني‪ .‬وذلك بحكم انتمائه ملدر�سة عبيد ال�شعر‪،‬‬
‫جاءت يف معر�ض حديثه عن عدم �إق�صاء اجلار الذي‬ ‫ومالزمته ال�شديدة ل�شعر زهري‪ .‬لذلك كان �شديد الثقة‬
‫و�إيحاءه‪ .‬فال�شاعر‬
‫يالزم هذا املمدوح وهم(بنو كليب)‪ .‬كما �أن االعتماد‬ ‫بنف�سه‪ ،‬معتدا بها‪ ،‬ال ينازعه كثري من ال�شعراء قول‬
‫من�سجم مع هذا‬ ‫على �ضمري اجلمع (هم) �ساهم يف تعميم �صفة الكرم‬ ‫ال�شعر‪ .‬والن�ص الذي �أمامنا يحتكم �إىل لغة �شعرية‬
‫الواقع‪ ،‬وان�سجامه‬ ‫على احلي كله‪ .‬فال�شيمة جماعية‪ ،‬وهذا يحمل داللة‬ ‫حمكمة‪ ،‬ومتما�سكة‪ .‬ويبدو ان�سجام اجلمل وا�ضح‬
‫هذا �ش َّكل للن�ص‬ ‫نقاء ا أل�صل والن�سب‪ .‬وهي �صفة كان يحبها العربي‪.‬‬ ‫املعامل‪ .‬حيث بني املعنى العام للن�ص على الق�سم الذي‬
‫ان�سجاما جمليا‪،‬‬ ‫فال وجود له خارج وجود احلي والقبيلة‪.‬‬ ‫�أُلف يف كالم العرب قدميا‪ ،‬و�سياق توظيفه هو ت�أكيد‬
‫�سار باجتاه بناء‬ ‫لقد ت�شكلت ال�صورة الكلية للن�ص من خالل �رسد هذه‬ ‫املعنى‪ ،‬وجعله غري قابل للنقا�ش‪ .‬فكلمة(نِعْمَ) ت�أتي‬
‫ال�صورة الفنية‬ ‫التفا�صيل واجلزئيات‪ .‬فكانت تلك ال�صورة م�ستوحاة‬ ‫يف �سياق التعبري عن مكانة املمدوح الذي يرتبع على‬
‫التي حملت معنى‬ ‫من �أ�شياء الواقع‪ .‬ا�ستطاعت الر�ؤية ال�شعرية �أن تقيم‬ ‫جمد الكرم‪ .‬ثم ي�سري الن�ص ال�شعري متلم�سا ان�سجامه‬
‫الكرم‬ ‫بينها جملة من العالقات من مثل اليفاع والكرمي‪،‬‬ ‫معتمدا اجلملة ال�رشطية بـ(�إذا) التي ت�ؤ�س�س �رشط الكرم‬
‫وال�صناع‪ ،‬والبخل واخلرقاء‪...‬‬
‫َّ‬ ‫والكرم‬ ‫الذي هو �رشط الرقي والتفوق ا ألخالقي عند ا إلن�سان‬
‫العربي قدميا‪ .‬ولعل معنى الكرم‪ ،‬جاء من�سجما مع‬
‫ج‪ -‬الت�ضاد‪:‬‬
‫�إيقاد النار فوق اليفاع‪ ،‬واليفاع هو املكان العايل‪.‬‬
‫لقد طرحت الدرا�سات الل�سانية احلديثة فكرة‬ ‫ثم ي�سري الن�ص نحو ان�سجام �آخر‪ ،‬يح�صل يف �سياق‬
‫الثنائيات‪ ،‬انطالقا من البحوث الل�سانية التي‬ ‫ال�صناع)‪.‬‬
‫املفا�ضلة التي تتم بني (يد اخلرقاء) و(يد َّ‬
‫جاء بها دو �سو�سري من مثل‪ :‬اللغة‪/‬الكالم‪ ،‬الدال‪/‬‬ ‫واملفا�ضلة عادة عربية‪ ،‬كانت ت�ستعمل إلبراز �شيء‬
‫املدلول‪ ...،‬وبناء على ذلك‪ ،‬ميكن طرح بع�ض ا أل�سئلة‬ ‫على ح�ساب �شيء �آخر‪ .‬فكان �إبراز الكرم هنا قائما‬
‫منها‪« :‬متى ي�صح �أن يقال‪� :‬إن بني اللفظتني تقابال؟‬ ‫على مثل هذه املفا�ضلة التي متت بني اليد اخلرقاء‪،‬‬
‫واجلواب‪ :‬يكون بينهما تقابل حينما يرجعان �إىل نف�س‬ ‫ال�صناع وهي‬ ‫وهي املر�أة التي ال حت�سن العمل‪ .‬ويد َّ‬
‫الطبقة في�شرتكان يف بع�ض املقومات ويختلفان‬ ‫املر�أة احلاذقة واملاهرة يف العمل‪ .‬ويقابلها يف ذلك‬
‫يف بع�ضها[‪ ،‬مثل حار‪/‬بارد‪ .‬و�صاعد‪/‬نازل»(‪.)22‬‬ ‫الرجل الكرمي الذي يقدر معنى الكرم‪ ،‬فيح�سن متثيله‪،‬‬
‫ومعروف �أن غرميا�س (‪ ) Greimas‬طور نظرية التقابالت‬ ‫والرجل البخيل الذي ال يقدّر هذا ال�صنيع‪ ،‬وبالتايل‬
‫‪115‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عالم كلفتني جمد َ ابن عمكــم‬ ‫الثنائية وجعلها يف مربعه ال�سيميائي املعروف‪.‬‬
‫والعي�س تخرج من �أعالم �أوطا�س‬ ‫ ‬ ‫وهذه التقابالت هي‪:‬‬
‫ما كان ذنب بغي�ض ال �أبا لكـم‬ ‫‪ -‬تقابالت حمورية ال تقبل و�سطا‪ :‬زوج‪/‬زوجة‪.‬‬
‫يف بائ�س جاء يحدو �آخر النـا�س‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬تقابالت مراتبية‪ :‬كبري‪/‬و�سط‪�/‬صغري‪.‬‬
‫لقد مريتكم لو �أن درتكـــم‬ ‫‪ -‬تقابالت متناق�ضة‪ :‬متزوج‪�/‬أعزب‪.‬‬
‫يوما يجيئ بها م�سحي و�إب�سا�سـي‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬تقابالت مت�ضادة‪� :‬صعد‪/‬نزل‪.‬‬
‫وقد مدحتكم عمدا ألر�شــدكم‬ ‫‪ -‬تقابالت تبادلية‪ :‬ا�شرتى‪/‬باع ‪.‬‬
‫(‪)23‬‬

‫كيما يكون لكم متحي و�إمرا�ســي‬ ‫ ‬ ‫�إن التقابالت الثنائية التي جاء بها الطرح الل�ساين‪،‬‬
‫وقد نظرتكم �إع�شاء �صــادرة‬ ‫تنتمي عالئقيا �إىل بنية ما‪ ،‬تت�شكل من جمموعة من‬
‫للخم�س طال بها حب�سي وتن�سا�سي‬ ‫ ‬ ‫امل�ستويات؛ امل�ستوى النحوي وال�رصيف والرتكيبي‬ ‫يف منحى ا إل�شادة‬
‫فما ملكت ب�أن كانت نفو�سـكم‬ ‫وا إليقاعي والداليل وغريه‪ ...‬وم�صطلح بنية(‪)Structure‬‬ ‫واملدح‪ ،‬ف�إن‪،‬‬
‫كفارك كرهت ثوبي و�إلبا�ســـي‬ ‫ ‬ ‫يتباين مفهومه وفقا لتباين الطروحات النقدية املختلفة‬ ‫الرتكيب ال�شعري‬
‫ملا بدا يل منكم غيب �أنف�سكـم‬ ‫من مدر�سة �إىل �أخرى‪ .‬فقد حدد جون بياجي(‪)Jean Piajet‬‬
‫ومل يكن جلراحي منكم �آ�ســـي‬ ‫ ‬ ‫املكونات الثالثة التي تت�أ�س�س عليها البنية؛ باعتبارها‬
‫يجنح نحو �إعطاء‬
‫�أزمع ُت ي�أ�سا مبينا من نـوالكم‬ ‫نظاما من التحوالت‪ ،‬يحوي قوانني خا�صة‪ ،‬حتفظ له‬ ‫بنية م�ضادة من‬
‫ولن ترى طاردا للحر كاليـــا�س‬ ‫ ‬ ‫�شخ�صيته‪ ،‬وتتخ�صب عن طريق التحوالت‪ ،‬من دون‬ ‫ال�صور‪ ،‬والرتاكيب‬
‫�أنا ابن بجدتها علما وجتـربة‬ ‫�أي تدخل لعنا�رص خارجية عنه‪ .‬والبنية تتحكم فيها‬ ‫ت�ست�شعر عظمة‬
‫ف�سلْ ب�سعد جتدين �أعلم النــا�س‬ ‫ ‬ ‫مميزات ثالثة هي‪ :‬ال�شمولية (‪ ،)Totalité‬والتحوالت (‪Transf‬‬ ‫مم‬ ‫املمدوح‪ ،‬وترتقي‬
‫ما كان ذنب بغي�ض �أن ر�أي رجال‬ ‫‪ ،)formations‬والتحكم الذاتي (‪. )L’autoréglage‬‬
‫(‪)24‬‬
‫به �إىل م�صاف‬
‫ذا فاقة عا�ش يف م�ستوعر �شـا�س‬ ‫ ‬ ‫فال�شمولية تفيد �أن البنية نظام من العنا�رص‬ ‫الرفعة والعلو‪.‬‬
‫جار لقوم �أطالوا هون منــزله‬ ‫حتكمها قوانني معقدة‪ ،‬ينجر عنها الكل الذي‬
‫وغادروه مقيما بني �أرمــــا�س‬ ‫ ‬ ‫يتميز بتلك العنا�رص(‪ .)25‬والتحوالت تُفهمُ من خالل‬
‫دع املكارم ال ترحل لبــغيتها‬ ‫معرفة العنا�رص املكونة للبنية التي بدورها تكون‬
‫واقعد ف�إنك �أنت الطاعم الكــا�سي‬ ‫ ‬ ‫خا�ضعة �إىل مثل هذه التحوالت والقوانني التي‬
‫وابعث ي�سارا �إىل وُفْر مذمـمة‬ ‫تنظمها(‪� ..)26‬أما التحكّم الذاتي‪ ،‬فمعناه �أن التحوالت‬
‫واحدج غليها بذي َعركـني قنعا�س‬ ‫ ‬ ‫املالزمة للبنية‪ ،‬ال تتحرّك خارج حدودها‪ ،‬و�أن‬
‫�سريي �أُما َم ف�إن ا ألكرثين ح�صى‬ ‫عنا�رصها تنت�سب دائما �إىل هذه البنية املحافظة‬
‫وا ألكرمني �أبا من �آل �شـــما�س‬ ‫ ‬ ‫على قوانينها(‪ . .)27‬وهذا التحكم الذاتي يت�شكل‬
‫من يفعل اخلري ال يعدم جوازيه‬ ‫من ا ألن�ساق وال�سياقات املختلفة‪ ،‬مما يدخل يف‬
‫ ال يذهب العرف بني اهلل والـنا�س‬ ‫(‪)28‬‬
‫االعتبار نظاما معقّدا ومتناميا‪.‬‬
‫ما كان ذنبي �أن فلّت مـعاولكم‬ ‫وباعتبار الن�ص جمموعة من البنيات الن�سقية‪ ،‬ميكن‬
‫من �آل ألي �صفاة �أ�صلــها را�س‬ ‫ ‬ ‫تتبع م�سار بنى الت�ضاد داخل الن�ص ال�شعري لدى‬
‫قد نا�ضلوك ف�سلوا من كنـانتهم‬ ‫احلطيئة‪ ،‬اعتمادا على التعامل الن�صي الذي ي�ستنطق‬
‫(‪)29‬‬
‫جمدا تليدا ونبال غري �أنكــا�س‬ ‫ ‬ ‫البنى ال�شعرية‪ ،‬من �أجل الو�صول �إىل غاياته العلمية‪.‬‬
‫�إن البالغة العربية ن ّظرت قدميا ألمناط تعبريية كانت‬ ‫خا�صة و�أن الن�صو�ص اخل�صبة هي الن�صو�ص التي‬
‫ت�ستهوي ال�شعراء و�أ�صحاب ا إلبداع‪ .‬من مثل الطباق‬ ‫ت�ستوعب بنية الت�ضاد‪ ،‬ألنها جتعل الن�ص متحركا‬
‫واملقابلة‪ .‬وقد �أ�سهبوا يف ا إل�شادة بهذين املح�سنني‬ ‫بعيدا عن ال�سكونية‪ .‬يقول احلطيئة‪:‬‬
‫البديعيني‪ .‬ولعلنا ال جنانب ال�صواب بالقول‪� :‬إن‬ ‫واهلل ما مع�رش الموا امر� أ ُجنُـًبا‬
‫التقارب كبري جدا‪ .‬ولكن ال�رضورة املنهجية والتعبري‬ ‫يف �آل ألي بن � َشمَّا�س ب�أكــيا�س‬ ‫ ‬
‫‪116‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫للخم�س طال بها حب�سي وتَن�سا�سي) وكذلك ال�شاعر‬ ‫بامل�صطلح النقدي املعا�رص يحتم اعتماد الت�سمية‬
‫ظمئ‪ ،‬وانتظر طويال حتى يُلتفت �إليه‪ .‬ولكن �شيئا‬ ‫وااللتفاف حولها حتريا للدقة‪ ،‬وحتقيقا للمو�ضوعية‬
‫مل يح�صل‪ .‬وت�صل حدة الذم عندما ي�شبههم باملر�أة‬ ‫العلمية‪ .‬والن�ص الذي �أمامنا‪ ،‬ي�شتغل يف هذا املنحى؛‬
‫املبغ�ضة لزوجها(الفارك)‪ .‬ويتحول الي�أ�س �إىل نواة‬ ‫�إذ تت�شكل حركيته الداللية وفق بنى الت�ضاد التي‬
‫تفرز �إيحاءها تراكيب الذم (�أزمع ُت ي�أ�سا مبينا من‬ ‫تن�رش ظاللها على خمتلف تراكيب الن�ص‪ .‬والق�صيدة‬
‫نوالكم ولن ترى طاردا للحر كاليا�س)‪.‬‬ ‫هذه‪ ،‬وفق ما ي�شري الديوان‪ ،‬كتبت يف �سياق املدح‬
‫�أما يف منحى ا إل�شادة واملدح‪ ،‬ف�إن‪ ،‬الرتكيب‬ ‫والذم؛ فهي مدح لبغي�ض وذم للزبرقان الذي ا�شتكاه‬
‫ال�شعري يجنح نحو �إعطاء بنية م�ضادة من‬ ‫لعمر بن اخلطاب – ر�ضي اهلل عنه‪ -‬ولقد عاي�شت‬
‫ال�صور‪ ،‬والرتاكيب ت�ست�شعر عظمة املمدوح‪،‬‬ ‫حـــياة احلطيئة كثريا من ق�سوة احلياة وغلظتها‪،‬‬
‫وترتقي به �إىل م�صاف الرفعة والعلو‪ .‬ويتحرك‬ ‫فكان يتنقل باحثا عن م�سببات العي�ش؛ ف�أنّى وجدها‬
‫الن�ص ال�شعري من الي�أ�س‪ ،‬واجلمود‪ ،‬وال�ضياع‪،‬‬ ‫�أخذ بها‪ .‬وقد وجد �ضالته مع بغي�ض‪ .‬ففرح باملقام‪،‬‬
‫وا إلقامة بني ا ألرما�س(مقيما بني �أرما�س)‪� .‬إىل‬ ‫وا�ستهواه العي�ش الرغيد‪ .‬بينما مل يجد ذلك مع‬
‫ال�سري احلثيث وقطع الفيايف وال�صحاري‪ ،‬وتكبد‬ ‫الزبرقان و�أهله املعروف بالكرم وال�سخاء واجلود‪.‬‬
‫امل�شقة من �أجل الو�صول �إىل املمدوح �صاحب‬ ‫فتحركت م�شاعر ال�شاعر يف منحيني‪ :‬منحى ا إل�شادة‬
‫الف�ضل والكرم (�سريي �أُما َم ف�إن ا ألكرثين ح�صى‬ ‫ببغي�ض‪ ،‬ومنحى التعري�ض بالزبرقان‪ .‬وجاء الن�ص‬
‫وا ألكرمني �أبا من �آل �شما�س)‪ .‬وتتجلى قوة هذا‬
‫حافال ببنى الت�ضاد‪ .‬وينطلق من بنية الق�سم(واهلل)‪،‬‬
‫املمدوح وعدم قدرة ا آلخرين على جماراته‪،‬‬
‫التي ت�ست�شعر عظمة املقام يف ديار (ابن �شمَّا�س)‪.‬‬
‫يف قول ال�شاعر(من �آل ألي �صفاة �أ�صلها را�س)‪.‬‬
‫وال�صفاة هي ال�صخرة املل�ساء التي تهزم املعاول‬ ‫وبنية التحقيق (لقد) املعتمدة على الالم املوطئة‬
‫والف�ؤو�س‪ .‬وا ألمر كناية عن قوة ا أل�صل‪ .‬وي�ستمر‬ ‫للق�سم‪ ،‬وحرف التحقيق قد‪ ،‬واملعرب عنها يف �سياق‬
‫الت�أ�سي�س على ذلك املنوال‪ ،‬وي�ؤثث �صورة ا أل�صل‬ ‫التعري�ض بالزبرقان‪ .‬وبني �سياق املدح والذم‪.‬‬
‫والن�سب بقوله‪(:‬قد نا�ضلوك ف�سلوا من كنانتهم‬ ‫تتحرك دالالت الن�ص‪ .‬ففي معر�ض حديثه عن‬
‫جمدا تليدا ونبال غري �أنكا�س)‪ .‬واملنا�ضلة هي‬ ‫املذموم‪ ،‬تت�شكل جمموعة من اجلزئيات التي ت�ؤ�س�س‬
‫املفاخرة؛ وك�أن ا ألمر يتحول �إىل الرماة الذين‬ ‫للن�ص بنية الي�أ�س‪ ،‬وهي‪( :‬لقد مريتكم لو �أن درتكم‬
‫ي�سلون النبال من كنانتهم ثم يرمون‪.‬‬ ‫يوما يجئ بها م�سحي و�إب�سا�سي)‪ .‬وقد اعتمد التعبري‬
‫ولكن هناك النبل القوي الذي يتحمل الت�سديد وهناك‬ ‫ال�شعري ت�أ�سي�س ال�صورة الفنية التي ت�شخ�ص فكرة‬
‫النبل ال�ضعيف �أو(املنكو�س)‪ .‬ويف ا ألخري تت�شكل‪،‬‬ ‫الي�أ�س؛ فقد متثل ال�شاعر نف�سه مي� ّسح �رضع الناقة‪،‬‬
‫داخل الن�ص ال�شعري‪ ،‬التعار�ضات التي ت�صنع بنى‬ ‫وي�صدر �صوتا ت�ستعذبه النوق �أثناء احللب وهو(ب�س‬
‫مت�ضادة من مثل‪:‬‬ ‫ب�س)‪ .‬ومع ذلك ال تدر الناقة احلليب‪ .‬وكذلك ا ألمر‬
‫ال�شح الكرم‬ ‫بالن�سبة للزبرقان و�أهله‪ .‬وي�ستمد �صورة فنية �أخرى‬
‫الي�أ�س ا ألمل‬ ‫للتعبري عن ذلك الي�أ�س باعتماده �أ�شياء م�ستوحاة من‬
‫الفقر الغنى‬ ‫البيئة التي ي�سكنها‪ ،‬وذلك يف قوله(وقد مدحتكم عمدا‬
‫الهوان العزة‬ ‫ألر�شدكم كيما يكون لكم متحي و�إمرا�سي) ويق�صد به‪،‬‬
‫الكره احلب‬ ‫�أنه مدحهم مدحا خال�صا دون غريهم ولكنهم �أف�سدوه‪،‬‬
‫ا�ستمرار الن�سب زوال الن�سب‬ ‫فجعل ا إلمرا�س �أ�سا�سا يف ذلك‪ ،‬وهو �أن يقع احلبل بني‬
‫وميكن التعليق ب�شيء من ا إليجاز حول هذه الثنائيات؛‬ ‫البكرة وبني القعو فتخل�صه وترده للبكرة‪ ،‬وبالتايل‬
‫كرم �آل بغي�ض يقابله �شح الزبرقان‪ .‬وي�أ�س ال�شاعر من‬ ‫ي�صبح قادرا على �أداء وظيفته‪ .‬وي�ؤ�س�س بنية �أخرى‬
‫احلياة يف حي الزبرقان يقابله ا ألمل الكبري والتطلع‬ ‫ت�ستمد داللتها من فكرة ال�صدور‪ ،‬وهي التجاء العرب‬
‫�إىل عي�ش رغيد يف كنف بغي�ض‪ .‬والفقر املدقع الذي‬ ‫قدميا �إىل �إي�صال النوق �إىل مرحلة كبرية من العط�ش‬
‫نال من ال�شاعر يقابله الفرح بالغنى واجلود من‬ ‫ثم ي�صدرون‪ ،‬فرتتوي(وقد نظرتكم �إع�شاء �صادرة‬
‫‪117‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متداخلة ومتقابلة»(‪ .)34‬فهناك اختالفات يف ا ألمر‪.‬‬ ‫لدن بغي�ض‪ .‬والهوان الذي القاه يف �ساحة الزبرقان‬
‫على �أن البحوث والدرا�سات تكاد جتمع على �أن‬ ‫تقابله العزةوالكرامة عند بغي�ض‪ .‬والكره الذي �أ�صبح‬
‫امل�صطلح ينحدر من كلمتني يونانيتني هما‪)Iso( :‬‬ ‫يُكنّه آلل الزبرقان‪ ،‬يقابله احلب الكبري الذي �أ�صبح‬
‫التي تعني الت�ساوي‪ ،‬و(‪ )Topos‬التي تعني املكان‪،‬‬ ‫يكنه آلل بغي�ض‪ .‬وزوال ن�سب �آل الزبرقان واندثاره‬
‫في�صبح امل�صطلح داال على ت�ساوي املكان �أو املكان‬ ‫(وقد �أ�شار �إليه با ألرما�س) يقابله امتداد الن�سب وقوة‬
‫املت�ساوي(‪.)35‬‬ ‫عراقته و�صالبته لدى �آل بغي�ض(وقد �أ�شار �إليه بـ‪:‬‬
‫وجتدر ا إل�شارة �إىل �أن مفهوم الت�شاكل ارتبط‬ ‫�أ�صلها را�س)‪.‬‬
‫مبفهوم التباين الذي يخالفه‪ .‬وقد تناول حممد‬ ‫د‌‪ -‬الت�شاكل‪:‬‬
‫مفتاح ب�شيء من التف�صيل درا�سة ظاهرة الت�شاكل‬
‫والتباين يف كتابه‪ :‬حتليل اخلطاب‪ .‬و�سنحاول‬ ‫يعترب الت�شاكل (‪ )Isotopie‬من امل�صطلحات التي‬
‫اال�ستفادة من املنحى التطبيقي الذي ج�سده يف‬ ‫�أ�صبحت تغري كثريا من الدار�سني‪ ،‬فراحوا ين ّظرون‬
‫خي ا�ستنباط الن�صو�ص التي تلبي‬ ‫بحثه مع تو ّ‬ ‫له وي�سعون �إىل اال�شتغال التطبيقي عليه‪ .‬وقد اكتنف‬
‫الظاهرة املراد در�سها والتطبيق عليها‪ .‬علما‬ ‫امل�صطلح بع�ض الغمو�ض‪ .‬كونه قد وفد من الغرب‪،‬‬
‫�أن هذا الباحث قد اعتمد يف درا�سته للت�شاكل‬ ‫ومل يكن ا�ستعماله ا ألول ا�ستعماال �أدبيا؛ و�إمنا كان‬
‫والتباين على اجلانب ال�صوتي‪ ،‬واجلانب املعنوي‪،‬‬ ‫الف�ضل يف نقله من حقل الفيزياء والكيمياء �إىل حقل‬
‫واجلانب املعجمي‪ ،‬واجلانب الرتكيبي‪ .‬وعلى‬ ‫ا ألدب‪ ،‬يعود �إىل غرميا�س (‪« )Greimas‬وك�أي مفهوم‬
‫اعتبار ال�صورة الفنية تتحرك معاملها داخل‬ ‫جديد ف�إن املهتمني تلقوه باملناق�شة والتمحي�ص‪،‬‬
‫تفا�صيل اجلملة ال�شعرية امل�شكّلة �أ�سا�سا من‬ ‫ولكنه مل يرف�ض مع ذلك و�إمنا �سلموا بوجاهته‬
‫املفردة اللغوية‪ .‬ف�إن البحث يركز على الت�شاكل‬ ‫كمفهوم �إجرائي لتحليل اخلطاب على �ضوئه»(‪.)30‬‬
‫الزمني والت�شاكل املكاين‪ ،‬على اعتبار �أن ال�صورة‬ ‫وقد ت�ضاربت ا آلراء حول اجلانب التطبيقي‬
‫الفنية تتحرك بني هاتني الثنائيتني‪ .‬وقد اختريت‬ ‫للم�صطلح‪ ،‬فنجد غرميا�س قد ق�رصه على امل�ضمون‪،‬‬
‫مقاطع �شعرية تخدم هذا التوجه التطبيقي‪.‬‬ ‫بينما عممه را�ستي ‪ Rastier‬ف�شمل التعبري وامل�ضمون‬
‫معا‪ ،‬فهناك الت�شاكل ال�صوتي‪ ،‬والت�شاكل النربي‪،‬‬
‫‪ – 1‬الت�شاكل الزمني‪:‬‬ ‫واملعنوي‪.)31(...‬‬
‫تتج�سد معامل هذه الظاهرة الفنية‪ ،‬التي ت�شكل م�ستوى‬ ‫ويورد حممد مفتاح تعريف را�ستي الذي مفاده‬
‫من م�ستويات ال�صورة الفنية‪ ،‬يف قول احلطئية‪:‬‬ ‫�أن الت�شاكل هو تكرار لوحدة لغوية مهما كانت(‪.)32‬‬
‫عرف ُت منازال من �آل هـند‬ ‫وظاهرة التكرار تعد خا�صية �شعرية منذ ظهر ال�شعر‪.‬‬
‫عف ْت بني امل�ؤبَّل وال� ّشو ّي‬ ‫ ‬ ‫وهذا ا ألمر �سارت على منواله جمموعة(‪ )M‬يف (كتاب‬
‫تقادم عهدها وجرى عليها‬ ‫بالغة ال�شعر)؛ �إذ اعتربت الت�شاكل تكرارا مقننا‬
‫(‪)36‬‬
‫�سف ٌّي للرياح على �سـف ّي‬ ‫ ‬ ‫لوحدات الدال نف�سها ظاهرة �أو غري ظاهرة‪� ،‬صوتية‬
‫�إن التعبري هنا مت بالزمن‪ ،‬ولذلك ا�ستوجب ا�ستح�ضار‬ ‫�أو كتابية‪� ،‬أو تكرار لنف�س الوحدات الرتكيبية(‪.)33‬‬
‫العنا�رص املكونة له‪ .‬فقد ذكرت منازل �آل هند‪ .‬وهذه‬ ‫وتعدد الت�سميات يف النظرية النقدية احلديثة‬
‫املنازل قد تال�شت عرب الزمن‪ ،‬و�سفت عليها الريح‬ ‫�أ�صبح ظاهرة م�ألوفة‪ ،‬انطالقا من تعدد الثقافات‪،‬‬
‫الرتاب‪ ،‬فغدت �أطالال تقادم عهدها‪ .‬والر�ؤية ال�شعرية‬ ‫وخ�صو�صية التكوين لدى كل ناقد‪ .‬ويف خ�ضم‬
‫هنا انبنت ب�شكل كلي على البنية الزمنية التي كان‬ ‫االختالف واالتفاق‪ ،‬يجمع الدار�سون على �أن الن�ص‬
‫لها دورها الكبري يف �إزالة هذه الديار‪ .‬وتلم�سا ملعامل‬ ‫عبارة عن بنية من العنا�رص الداخلية حتكمها‬
‫الرتكيب ال�شعري الذي �ساهم يف ت�أ�سي�س �صورة‬ ‫العالقات وال�سياقات‪ .‬وهذه العنا�رص الداخلية «لي�ست‬
‫�شعرية تعرب عن التال�شي‪ ،‬يحدث الت�شاكل الزمني بني‬ ‫جامدة �أو قارة بل هي تتحرك وتتغري يف �إطار الن�ص‬
‫لفظة (عفت) و(تقادم)‪ ،‬فكلتا اللفظني عبرّ ت عن زوال‬ ‫كهيكل وهي تتوزع �ضمن �أقطاب داللية(‪)Isotopies‬‬
‫‪118‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يف غارة �أغارها على بني عب�س موطن ال�شاعر‪ ،‬ف�أنعم‬ ‫عهد‪ .‬يقول ال�شاعر يف مقطع �آخر‪:‬‬
‫عليه‪ .‬وينبني الن�ص ككل على �إبراز معاين ال�سماحة‬ ‫قد مي أل اجلفنة ال�شيزى فيرتعـها‬
‫واملروءة والندى‪ .‬ويت�أ�س�س الت�شاكل يف البيت ا ألخري‬ ‫من ذات خيفني مع�شاء �إىل ال�سحر‬ ‫ ‬
‫بني (من قبل) و(با ألم�س)‪ .‬واملعنى زمني‪ ،‬يحيل �إىل‬ ‫من كل �شهباء قد �شابت م�شافرها‬
‫املا�ضي‪ ،‬فحدث التكرار يف املعنى‪.‬‬ ‫(‪)37‬‬
‫تنحاز من ح�سها ا ألفعى �إىل الوزر‬ ‫ ‬
‫قيل البيتان يف مدح طريف بن دفاع احلنفي‪ .‬و�سي�أتي ا�ستكناه الت�شاكل املكاين الذي يعد‪،‬‬
‫ويحدث الت�شاكل الزمني يف البيت ا ألول بني هنا‪ ،‬عن�رصا مكمّال يف بناء ال�صورة الكلية للن�ص �إن الن�ص ال�شعري‬
‫لدى احلطيئة‬ ‫(مع�شاء) و(ال�سحر)‪ ،‬فكالهما يعرب عن معنى ال�شعري‪.‬‬
‫حافل بعن�صر‬ ‫أ ‪ -2‬الت�شاكل املكاين‪:‬‬
‫زمن‪ :‬مع�شاء م�أخوذة من الع�شاء‪ ،‬ومعناه �ن‬
‫الناقة تتع�شى �إىل وقت ال�سحر‪ .‬وال� َس َحــر هو �ن الزمن يحتاج دوما �ىل املكان ال�ستيعاب ما املكان؛ ألن ال�شاعر‬
‫إ‬ ‫إ‬
‫قرب نهاية الليل‪ .‬فيحدث التكرار بني اللفظتني يحدث من حركة و�سكون ا أل�شياء واملوجودات‪ .‬و�إن ملت�صق به‪،‬‬
‫الزمنيتني‪ .‬وي�ساهم هذا امل�ستوى التعبريي يف‬
‫�إجناز �صورة م�شهدية‪ ،‬تر�سم لنا معنى الكرم الن�ص ال�شعري لدى احلطيئة حافل بعن�رص املكان؛ ومالزم له‪ .‬ف أ�ين‬
‫واجلود؛ فاملمدوح مي أُل ال�شيزى (وهي اجلفنة) ألن ال�شاعر ملت�صق به‪ ،‬ومالزم له‪ .‬ف�أين ما حترك ما حترك نقلت‬
‫بلحم ناقة ذات خيفني‪ .‬وهي ناقة تدر احلليب نقلت الذاكرة خمتلف املوجودات وا أل�شياء املحيطة الذاكرة خمتلف‬
‫بغزارة‪ .‬ويحقق الت�شاكل هنا معنى االن�سيابية‪ .‬به‪ .‬ومنه كانت ال�صورة نتاجا ملجموعة من العالقات املوجودات أ‬
‫وال�شياء‬
‫فالليل ين�ساب‪ ،‬وال� َّس َحر كذلك‪ .‬وي�سـري هذا ا ألمر التي �صنعتها خميلة ال�شاعر‪ ،‬لرتبط بينها وفق ر�ؤية املحيطة به‪ .‬ومنه‬
‫�شعرية‪ .‬يقول احلطيئة يف ا إل�شادة بن�سبه الذي يريده كانت ال�صورة‬ ‫حتى يتحقق يف ان�سياب احلليب من ال�رضع‪.‬‬
‫�أن ي�رضب �إىل بكر بن وائل؛ خا�صة و�أن احلطيئة‬ ‫ويقول �أي�ضا‪:‬‬
‫�أ�شتدت به �أزمة الن�سب يف جمتمع يتباهي كثريا نتاجا ملجموعة‬
‫ومناخ العافني يف زمن امل ْح‬
‫من العالقات التي‬ ‫باالنتماء �إىل ا أل�صل ال�رشيف‪ ،‬والن�سب الرفيع‪:‬‬ ‫ـل �إذا �أجحرت حنني ال�شمال ‪.‬‬
‫(‪)38‬‬
‫ ‬
‫�صنعتها خميلة‬ ‫هذا البيت من ق�صيدة مدح بها احلارث بن عبد يغوث‪� .‬إن اليمامة خري �ساكنها‬
‫ال�شاعر‪ ،‬لرتبط‬ ‫وبعد ا إل�شادة باملمدوح ي�صل �إىل و�صف احلالة �أهل القُريَّة من بني ذهل(‪.)40‬‬
‫االجتماعية ال�سيئة التي مر بها ال�شاعر‪ .‬وي�صبح واليمامة هنا ا�سم مكان يعج باخل�صوبة والنماء‪ ،‬بينها وفق ر ؤ�ية‬
‫مناخ العافني الذين يطلبون املعونة يف زمن القحط‪ ،‬فكان النا�س يلج�أون �إىل هذه املراعي‪ ،‬في�أخذون �شعرية‪.‬‬
‫وانقطاع املطر وتيب�س ا ألر�ض‪ ،‬هو عنوان الب�ؤ�س رزقهم حتى تعاود �أر�ضهم القاحلة �إخراج نبتها‪.‬‬
‫ال�شديد الذي تتك� ّشف �أبعاده من خالل الت�شاكل بني واملتمعن يف البيت‪ ،‬يجد �أن الت�شاكل ح�صل بني‬
‫(زمن امل ْحل)‪ ،‬وهو زمن القحط‪ .‬و(� أ ْجحرت)‪ .‬وهي (اليمامة) و(�أهل القريّة)‪ .‬فهو تكرار للمكان؛ ألن‬
‫القرية يق�صد بها اليمامة‪.‬‬ ‫مبعنى القحط‪.‬‬
‫ويقول يف مو�ضع �آخر يف �سياق مدح بني ذهل‪:‬‬ ‫ويقول يف مو�ضع �آخر‪:‬‬
‫لعمـرك ما ذ ّم ْت لبوين وال قل ّ ْت‬ ‫وقع َت بعب�س ثم �أنعم َت فيــــهم‬
‫م�ساكنَها من نه�شل �إذ تــولّت‬ ‫ ‬ ‫ومن �آل بدر قد �أ�صبت ا ألكـابرا‬ ‫ ‬
‫لها ما ا�ستحلت من م�ساكن نه�شل‬ ‫ف�إن ي�شكروا فال�شكر �أدنى �إىل التُّقى‬
‫وت�رسح يف حافاتهم حيث حلّت ‪.‬‬
‫(‪)41‬‬
‫ف يا زيد ُ كافرا ‬ ‫و�إن يكفروا ال �أُل ْ َ‬ ‫ ‬
‫يحدث تكرار املكان بلفظ مغاير بني (م�ساكن)‬ ‫تركت املياه من متــــيم بالقعا‬
‫و(حافاتهم)‪ .‬وي�ساعد التعبري با أل�شياء على �إبراز‬ ‫مبا قد ترى منهم حلوال كراكرا‬ ‫ ‬
‫�صورة الكرم‪ .‬وال�صورة ت�أ�سي�س حلالة االطمئنان‬ ‫وح ّي � ُسليم قد �أبـــرت �رشيدهم‬
‫التي ي�ست�شعرها ال�شاعر يف ذاته من جراء‬ ‫ومن قبل ما قتّل َت با ألم�س عامرا ‪.‬‬
‫(‪)39‬‬
‫ ‬
‫ا إلقامة يف مرابع ه�ؤالء القوم‪ .‬فالنوق ت�رسح يف‬ ‫ي�أتي هذا املقطع يف مدح (زيد اخليل)‪ ،‬وكان قد �أ�رسه‬
‫‪119‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�شعر‪ .‬دار العلم للماليني‪ .‬بريوت‪ .‬ط‪� .3‬ص‪.45‬‬ ‫تلك املراعي وتتحرك كيفما ت�شاء‪ ،‬وهي كناية‬
‫(‪ )15‬احلطيئة‪ :‬الديوان‪ ،‬رواية‪ :‬ابن حبيب عن ابن ا ألعرابي و�أبي‬
‫عمرو ال�شيباين‪� ،‬رشح‪� :‬أبي �سعيد ال� ّسكري‪ ،‬دار �صادر‪ .‬بريوت‪.‬‬ ‫عن االطمئنان وال�سكينة التي يالقيها من يحلُّ‬
‫‪1981‬م‪� .‬ص‪ 232‬وما بعدها‪.‬‬ ‫يف ذلك املكان‪ .‬ويف �سياق ذكر املحبوبة‪ ،‬وبُ ْعد‬
‫([) ا ألجرع‪ :‬ما ا�ستوى وارتفع من الرمل‪ .‬تتكوّع‪:‬تط� أ على كوعها‪.‬‬ ‫الو�صل وعذاباته‪ ،‬وا�شتداد اللوعة من جراء تباعد‬
‫عفوتها‪� :‬أح�سن ما فيها‪� .‬أوكع‪ :‬ركوب ا إلبهام على ال�سبابة يف‬ ‫ا ألمكنة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫الرجل‪.‬‬
‫(‪ )16‬حممد مفتاح‪ :‬دينامية الن�ص (تنظري و�إجناز)‪ ،‬املركز الثقايف‬ ‫وكم دون ليلى من عـدوّ وبلدة‬
‫العربي‪ .‬الدار البي�ضاء‪ .‬ط‪� .1990 .2‬ص‪.52‬‬ ‫بها للعتاق الناجيات بــريد‬ ‫ ‬
‫(‪ )17‬املرجع نف�سه‪ .‬ال�صفحة نف�سها‪.‬‬
‫(‪ )18‬لالطالع �أكرث يرجى العودة �إىل حممد مفتاح‪ :‬دينامية الن�ص‪.‬‬
‫وخرْق يجر القوم �أن ينطقوا به‬
‫�ص‪ 52‬وما بعدها‬
‫(‪)42‬‬
‫ومت�شي به الوجناء وهي لهيد‬ ‫ ‬
‫(‪ )19‬حممد ال�شاو�ش‪� :‬أ�صول حتليل اخلطاب يف النظرية النحوية‬ ‫ويحدث الت�شاكل بني(بلدة) و(خرْق)‪ .‬واخلرق هي‬
‫العربية‪ .‬كلية ا آلداب منوبة‪ .‬ط‪ 1‬تون�س‪.111/1 ،2001‬‬
‫(‪ )20‬لالطالع �أكرث ينظر كتاب حممد �شاو�ش ال�سابق‪� .‬ص‪ 112‬وما‬ ‫ا ألر�ض البعيدة‪ .‬ف�أ�شار ال�شاعر باللفظة ا ألوىل بلدة‬
‫بعدها‪.‬‬ ‫للتدليل على بعد امل�سافة‪ .‬وكرر ا ألمر نف�سه بلفظة‬
‫(‪ )21‬الديوان‪� .‬ص‪.202/201‬‬ ‫مغايرة وهي خرق للتدليل �أي�ضا على طول امل�سافة‪.‬‬
‫([) يوجد يف البالغة العربية القدمية ما ي�شبه هذا الطرح ويتمثل‬
‫يف الطباق‪.‬‬
‫ومن خالل هذا التكرار‪ ،‬تغدو �صورة املعاناة هي‬
‫(‪ )22‬حممد مفتاح‪ :‬حتليل اخلطاب ال�شعري (ا�سرتاتيجية التنا�ص)‪،‬‬ ‫الغالبة على املقطع ال�شعري‪.‬‬
‫املركز الثقايف العربي‪ ،‬ط‪ ،3‬الدار البي�ضاء ‪� ،1992‬ص‪.160‬‬
‫(‪ )23‬املرجع نف�سه‪ .‬ال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫هوام�ش و�إحاالت‪:‬‬
‫‪Jean Piaget : Le Structuralisme. Presse Universitaire de France. Paris‬‬ ‫(‪ )1‬بول ريكور‪ :‬نظرية الت�أويل‪ .‬اخلطاب وفائ�ض املعنى‪ .‬ترجمة‪:‬‬
‫‪)1970. p6/7 (24‬‬ ‫�سعيد الغامني‪ .‬املركز الثقايف العربي‪ .‬املغرب‪ .‬ط‪.2003 .1‬‬
‫(‪.Ibid. P8 )25‬‬ ‫�ص‪.32‬‬
‫(‪.Ibid. P11 )26‬‬ ‫(‪ )2‬املرجع نف�سه‪� .‬ص ‪.35‬‬
‫(‪Ibid P13/14 )27‬‬ ‫(‪ )3‬حممد بني�س‪:‬ظاهرة ال�شعر املعا�رص يف املغرب‪ .‬دار العودة‪.‬‬
‫(‪Ibid. P14 )28‬‬ ‫بريوت‪ .‬ط‪� .1979 .1‬ص ‪20‬‬
‫([) التن�سا�س‪ :‬العط�ش‪� .‬شا�س‪ :‬وعر‪ .‬قنعا�س‪ :‬ال�شديد‪� .‬أنكا�س‪ :‬النك�س‬ ‫(‪ )4‬املرجع نف�سه‪� .‬ص ‪.21‬‬
‫من ال�سهام‪ ،‬املنكو�س الذي جعل �أعاله �أ�سفله‪ ،‬فهو �ضعيف �أبدا‪.‬‬ ‫(‪ )5‬جوليا كري�ستيفا‪ :‬علم الن�ص‪ .‬ترجمة‪ :‬فريد الزاهي‪ .‬دار توبقال‬
‫(‪ )29‬الديوان‪� ،‬ص‪ 105‬وما بعدها‪.‬‬ ‫للن�رش‪ .‬املغرب‪ .‬ط‪� .1997 .2‬ص‪.9‬‬
‫(‪ )30‬حممد مفتاح‪ :‬حتليل اخلطاب‪� ،‬ص‪.19‬‬ ‫(‪ )6‬املرجع نف�سه‪� .‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )31‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.20/19‬‬ ‫(‪)7‬عبد اهلل �إبراهيم‪ :‬معرفة ا آلخر‪ .‬املركز الثقايف العربي‪ .‬املغرب‪.‬‬
‫(‪ )32‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.21‬‬ ‫ط‪� .1990 .1‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )33‬املرجع نف�سه‪ ،‬ال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫(‪ )8‬فا�ضل ثامر‪ :‬اللغة الثانية‪ .‬املركز الثقايف العربي‪ .‬الدار البي�ضاء‪.‬‬
‫(‪� )34‬سمري املرزوق‪ .‬جميل �شاكر‪ :‬مدخل �إىل نظرية الق�صة‪ ،‬الدار‬ ‫‪� .1994‬ص ‪.75‬‬
‫التون�سية للن�رش‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلزائرية‪،‬دت‪� ،‬ص‪.118‬‬ ‫(‪ )9‬عبد اهلل حممد الغذامي‪ :‬اخلطيئة والتكفري‪ .‬دار �سعاد ال�صباح‪.‬‬
‫(‪ )35‬موالي علي بوخامت‪ :‬م�صطلحات النقد العربي ال�سيمياءوي‪.‬‬ ‫الكويت‪ .‬ط‪� .1993 .3‬ص‪.8‬‬
‫ا إل�شكالية وا أل�صول واالمتداد‪ .‬من�شورات احتاد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫(‪ )10‬املرجع نف�سه‪� .‬ص ‪.9‬‬
‫دم�شق‪� ،2005‬ص‪.180‬‬ ‫([) على الرغم من �أن كالم �صالح ف�ضل هنا موجها �إىل الن�ص‬
‫(‪ )36‬الديوان‪� ،‬ص‪137‬‬ ‫ال�شعري املعا�رص �إال �أن ا ألمر ي�صلح على الن�ص ال�شعري القدمي‬
‫(‪ )37‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪149/148‬‬ ‫ألنه يتبنى احلذف واملجاز‪ .‬بل �إن املجاز من �أهم خ�صائ�صه‪ .‬وعلى‬
‫([) اخليفان‪ :‬هما ال�رضعان‪� .‬شهباء‪ :‬النفي�سة من ا إلبل‪.‬‬ ‫هذا ا أل�سا�س وجد يف البالغة العربية ما يعرف با إليجاز وا إلطناب‬
‫([) العافني‪ :‬الذين يطلبون املعونة‪ .‬حنني ال�شمال‪� :‬صوت الريح‬ ‫وامل�ساواة‪.‬‬
‫الباردة‪.‬‬ ‫(‪� )11‬صالح ف�ضل‪� :‬أ�ساليب ال�شعرية املعا�رصة‪ .‬دار ا آلداب‪ .‬بريوت‪.‬‬
‫(‪ )38‬الديوان‪� ،‬ص‪.157‬‬ ‫ط‪� .1995 .1‬ص‪.24‬‬
‫(‪ )39‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.185‬‬ ‫(‪ )12‬املرجع نف�سه‪� .‬ص‪25‬‬
‫(‪ )40‬الديوان‪� ،‬ص‪.192‬‬ ‫(‪ )13‬م�صطفي الب�شري قط‪ :‬قراءات يف النقد وا ألدب‪ .‬مكتبة ا آلداب‪.‬‬
‫(‪ )41‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.197‬‬ ‫ط‪ .1‬القاهرة ‪� .2007‬ص‪.11‬‬
‫(‪ )42‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.222‬‬ ‫(‪ )14‬كمال �أبو ديب‪ :‬جدلية اخلفاء والتجلي‪ .‬درا�سات بنيوية يف‬

‫‪120‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الذاكرة امل�ضادة يف‬


‫روايات منت�صر القفا�س و�أحمد زين‬
‫ل�ؤي حمزة عبا�س‬
‫كاتب و�أكادميي من العراق‬

‫هل و�صلت الرواية العربية �إىل خانقها ال�ضيّق‪ ،‬خانق حياتها الذي مل تعد قادرة معه‬
‫على �أن متنح �إن�سانها فر�صة للفعل واملواجهة وال�رصاع‪ ،‬بعد �أن غدت احلياة نف�سها‬
‫دوران ًا مت�ص ًال يف حلبة مغلقة حُ �سم ال�رصاع داخلها م�سبقاً‪ ،‬بعد �سيل من الإ جها�ضات‬
‫املتوالية التي يقف على ر�أ�سها �إجها�ض م�رشوع التحديث العربي‪ ،‬وقد �أ�ضعفت هذه‬
‫الإ جها�ضات اجل�سد العربي مثلما بددت �أحالم �إن�سانه وخلخلت ركائزه �إىل حد كبري‬
‫وو�صلت مبقاومته �إىل درجة بات معها من ال�سهل العودة به �إىل مرحلة ما قبل الدولة‪،‬‬
‫فلم يعد ه ُّم الرواية العربية اليوم مو�صو ًال بهمومها يف مرحلة الت�أ�سي�س التي بلغت‬
‫ذروتها مع ثالثية جنيب حمفوظ وقد عملت على ت�أويل انهيار �سلطة الأ ب والتفكري‬
‫مبيالد االبن امل�ستقل‪ ،‬والأ حفاد ذوي النزعات احلرة واالجتهادات املت�ضاربة(‪ ،)1‬كما مل‬
‫يعد مو�صو ًال بتطلعها �إىل م�ستقبل �إن�سانها يف زمن حتكمه وتتحكم به �إرادات متقاطعة‬
‫كما يف رواية ال�ستينيات التي عملت على �إعادة �صياغة �إن�سان جنيب حمفوظ كي متنع‬
‫عنه راحة املقربة وترتكه معلق ًا على �صليب احلياة(‪.)2‬‬
‫‪ l‬تعمل رواية منت�صر القفا�ش ( �أن ترى الآن ) على ا�ستمالة القارئ يف عالقة‬
‫م�صرح به‪ ،‬للدخول � إىل لعبتها ال�سرديّة والوقوف‬
‫�شرط غري مكتملة‪ ،‬ووعد غري ّ‬
‫على تفا�صيل احلياة التي تعتمل يف دواخلها‪.‬‬
‫‪ l‬ت�سعى رواية �أحمد زين (ت�صحيح و�ضع) لإنتاج قراءتها اخلا�صة مل�شهد‬
‫حياتي ال يخلو من التبا�س وتعقيد‪ ،‬مثلما تعمل على تو�سيع م�ساحة احلياة‬
‫اليمنية التي مل يُقي�ض لها من قبل �أن تعي�ش � إ�شكاالتها اخلا�صة حتت جمهر‬
‫ال�سرد‪.‬‬

‫‪121‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دون �أن تنقطع انقطاعا ً كليا ً عن التوا�صل مع �سواها من‬ ‫�إن ما حد�سه كتاب ال�ستينيات من م�ستقبل ال يب�رش‬
‫الوحدات‪� .‬إن ما يهدد الذاكرة هو نف�سه ما يهدد ا إلن�سان‪،‬‬ ‫بالطم�أنينة وما عملوا على متثله يف خطابهم الروائي هو‬
‫ليبدو تهديد الذاكرة وجها ً م�ؤثرا ً من وجوه تهديد الوجود‬ ‫ما يجده كتاب الرواية اليوم واقعا ً �شديد الوطء‪ ،‬اتخذت‬
‫الذي لن يعود معقوال ً وحمتمال ً مع ارتباك الذاكرة وانك�سار‬ ‫الق�سوة فيه �أ�شكاال ً مبتكرة‪ ،‬ك�أن جمتمعنا العربي ال يتفوّق‬ ‫� إن ما تعلنه الرواية‬
‫ح�ضورها‪� ،‬إن كل ارتباك لها �سيعني بال�رضورة خرقا ً‬ ‫يف �شيء قدر تفوقه يف �إنتاج الق�سوة وجتديد �أ�شكالها!‬ ‫اليوم من قلق‬
‫يوهب للن�سيان‪ ،‬لتكون كتابتنا �سعيا ً حثيثا ً جتاه البيا�ض‪،‬‬ ‫فقد تراجع االبن خمتنقا ً باختناق الطبقة الو�سطى يف‬ ‫يظل �سارياً يف‬
‫مالمح و�أ�صوات وم�شاعر وتف�صيالت مت�شي بال توقف جتاه‬ ‫مهرجان ال�صعود والنزول غري املحكوم مبنطق �سوى‬ ‫امل�سافة الفا�صلة‬
‫املحو والغياب‪ ،‬حمو العالقات اليومية التي �ست�شهد قبل‬ ‫منطقه اخلا�ص‪ ،‬منطق الهمجية التي اقرتحت �أعرافها‬ ‫بني اال�صطالح‬
‫ذلك غرابة تهي�ؤها للذوبان البطيء يف حماليل الن�سيان‪� ،‬إنه‬ ‫بدائل لقوانني جمتمع مدين مل ي�ؤت له �أن يت�شكل على نحو‬ ‫ال�سابق وراهن‬
‫عامل الهفوة والزلة واالختناق واحللم امل�ستحيل الذي يعرّي‬ ‫مكني‪ ،‬كما مل يعد مفهوم ا إلرادة بتحققاته ال�صعبة ي�شكل‬ ‫املنجز الروائي‬
‫عواملنا ال�صغرى‪ ،‬يبدد ذواتنا‪ ،‬يك�شفنا �أمام جنون الواقع وال‬ ‫معايريه يف �إنتاج وتوجيه اخلطاب الروائي يف عامل مل يفقد‬
‫معقوليته وهو يجعل من االلتبا�س واقعة ذهنية تتكرر �أمام‬ ‫م�صداقيته فح�سب‪ ،‬بل فقد‪ ،‬وذلك �أخطر ما فيه‪ ،‬منطقيته‪،‬‬
‫بقلقه وغمو�ضه‬
‫ا�ستحالة ما يبحث عنه املرء من �إجابات‪ ،‬ليكون االلتبا�س‬ ‫لتتجاوز الرواية التناق�ض القدمي بني الذاتي واجلمعي‪ ،‬بني‬ ‫وانك�سار زمنيته‪،‬‬
‫نف�سه واحدة من ا�سرتاتيجيات عدة يعمل اخلطاب الروائي‬ ‫الفرد واملجتمع‪ ،‬وهي النزعة التي دارت �أ�صال ً �ضمن البعد‬ ‫لت�ؤكد املعاجلات‬
‫من خاللها على مواجهة عامله‪ ،‬مواجهة ن�صية ال ت�ستنفد‬ ‫ا إلن�ساين للحداثة‪ ،‬منقادة نحو تيه يتعادل غياب املرء فيه‬ ‫النقدية املتعددة عدم‬
‫فاعليتها بالوقوف عند �آخر كلمة يف �رشيطها اللغوي‪ ،‬وال‬ ‫داخل نف�سه مع غيابه خارجها‪ ،‬ليمكن �أن ن�ستعيد مقولة‬ ‫قدرة م�صطلحات‬
‫تنتهي بانتهاء الرواية ن�صا ً منفردا ً يف حقل كاتبها‪� ،‬إنها‬ ‫مارك�س ال�شهرية وهي تنظر �إىل طبيعة العالقة بني الوعي‬ ‫مثل (الكتابة عرب‬
‫توا�صل مهمتها يف �إنتاج قراءتها لذاتها وللعامل من خالل‬ ‫واحلياة «لي�س الوعي هو الذي يحدد احلياة‪ ،‬بل �إن احلياة‬ ‫النوعية) �أو (كتابة‬
‫ما ت�ؤديه من مهمات يف رفد حقل الكاتب وتنويع ر�ؤيته‬ ‫هي التي حتدد الوعي»(‪ ،)3‬لت�صبح من منظور الهدم والبناء‬ ‫الت�شظي) �أو (الكتابة‬
‫عرب جمموعة من اال�سرتاتيجيات التي تقف يف مركزها‬ ‫يف حيز الثنائية نف�سها‪ :‬لي�س الوعي هو ما يبني احلياة‪ ،‬بل‬ ‫العابرة للأ جنا�س)‪،‬‬
‫جتزئة امل�شهد وهي تقول ب�أجزاء ال�صورة وتف�صيالتها ما‬ ‫�إن احلياة هي التي تهدم الوعي‪.‬‬
‫ال تقوله ال�صورة مكتملة ومرئية‪ ،‬مما يتطلب من الرواية‪،‬‬ ‫�إن وجها ً م�ؤثرا ً من �أوجه (هدم الوعي) هو ما يتحكم‬
‫�أو حتى (رواية‬
‫ويهيئ لها املجال‪ ،‬للنزول �إىل جزئيات الواقع و�شظاياه‬ ‫مبجريات جانب وا�سع من جوانب الرواية العربية اليوم‪،‬‬ ‫احل�سا�سية اجلديدة)‬
‫التي ال تبدو خارج ال�سياق الروائي ذات �ش�أن‪� ،‬إنها تكت�سب‬ ‫مثلما يبدو م�س�ؤوال ً عن �إنتاج وتوجيه حقول روائية‬ ‫على الإحاطة مبتغري‬
‫�أهميتها من دخولها يف �ضوء الرواية وانتظامها يف �أفقها‬ ‫يتوا�صل الهدم فيها من رواية �إىل �أخرى‪ ،‬متمثال ً يف كل‬ ‫الكتابة الروائية التي‬
‫الداليل‪ ،‬مثلما تفعل متوالية االحتماالت فعلها يف ك�رس‬ ‫مرّة وجها ً خمتلفا ً من �أوجه العالقة بني املرء ونف�سه‪،‬‬ ‫يبدو قلق الت�سمية‬
‫�أحادية الر�ؤية واحلد من عنف توجيهها للخطاب الروائي‬ ‫وبني املرء وجمتمعه الذي مل يعد مبقدورنا الت�سليم بحقيقة‬ ‫�سمة عميقة من‬
‫يف زمن ا أل�سئلة املتوالدة‪ ،‬زمن ا إلجابات املفتوحة على‬ ‫انت�ساب كل منهما ل آلخر‪ ،‬وقد دخلت فكرة الوطن نف�سها‬ ‫�سمات انحرافها‪،‬‬
‫ما ال ينتهي من االحتماالت وهي تردم الهوة بني الوهم‬ ‫مرحلة جديدة من االلتبا�س بعد �أن عا�شت عقودا ًطويلة قلق‬ ‫ووجها م�ؤثراً من‬
‫والواقع ومتنح كال ً منهما فر�صة الخرتاق ا آلخر واحلياة‬ ‫املواجهة وال�س�ؤال‪ ،‬ليبدو املرء عندئذ عاريا ً وقد �سقطت‬ ‫وجوه فاعليتها‪،‬‬
‫احلرة داخله‪ ،‬حيث تنتج الذاكرة قلقها يف نوع من مواجهة‬ ‫عنه �أردية الت�شكالت الرمزية للما�ضي‪ ،‬وهبت رياح الراهن‬ ‫فهل ميكن �أن ن�سلّم‬
‫م�ستمرة بني املمكن وامل�ستحيل‪ ،‬ي�صعب معها �أن ت�ستجيب‬ ‫عنيفة ف�أطاحت به كما يُطاح بورق اخلريف‪ ،‬لي�ؤ�س�س هذا‬
‫هذه الكتابة ملحددات الت�سمية واال�صطالح التي ا�ستخدمت‬ ‫اجلانب من منجز الرواية العربية ر�ؤيته لذاته وللعامل بناء‬ ‫باملقابل بـ (الرواية‬
‫لتو�صيف التجارب (اجلديدة) يف الكتابة الروائية العربية‪،‬‬ ‫على موقفه من الذاكرة التي ما زالت تتمتع بح�ضور فاعل‬ ‫العربية اجلديدة)‬
‫�إن ما قدمه الروائيان منت�رص القفا�ش و�أحمد زين مينحنا‬ ‫يف اخلطاب الروائي‪ ،‬وهي تُ�ستح�رض ال بو�صفها خا�صية‬ ‫مظلة الحتواء‬
‫فر�صة ملعاينة جانب مهم من جوانب الكتابة الروائية‬ ‫بناء وتع�ضيد بقدر ما ت�سهم ب�إنتاج فعلها امل�ضاد الذي‬ ‫متغريات الن�صو�ص‬
‫العربية اليوم وتفح�ص خ�صائ�صها‪ ،‬وقد عمل كل منهما يف‬ ‫يربك احلا�رض مثلما يربك املوقف من امل�ستقبل‪ ،‬فال تكون‬ ‫ومقاربتها يف بعد‬
‫�سمة م�شرتكة على تطوير مو�ضوعته من رواية �إىل �أخرى‬ ‫اللحظات الزمنية الثالث غري �صو ٍر تبددها الذاكرة‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ا�صطالحي واحد‬
‫وتو�سعة حقله مع �سعة الر�ؤية وانفتاحها وهما يعاجلان‬ ‫تخلخل انتظامها وتعبث مبنطقها‪ ،‬فيبدو كل �شيء جمزّ� أ �إىل‬
‫مو�ضوعني خمتلفني ين�صت منت�رص فيه �إىل ما يعتمل يف‬ ‫وحدات �صغرى تدور كل وحدة منها يف فلكها اخلا�ص من‬
‫‪122‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫الدواخل ا إلن�سانية ل�شخ�صيات م�رصية مثقفة‪ ،‬خمرتقا ً‬
‫حتولها �إىل �شيء ذي قيمة‪ ،‬وهي تتوجه لرتميم الذاكرة التي‬
‫بدت منذ ال�سطر ا ألول للرواية مهددة بالن�سيان‪ ،‬حيث تغيب‬ ‫امل�سافة بني الوهم والواقع‪ ،‬فيما يوا�صل �أحمد مراقبة ما‬
‫�أ�سماء ا أل�صدقاء وا ألقارب واجلريان‪ ،‬ثم تغيب الكلمات املهمّة‪،‬‬ ‫يحدث يف جمتمعه اليمني مت�أمال ً واقعه وهو يعي�ش الذروة‬
‫ت�سقط عن ا ألحاديث واحلوارات وال يتبقى �إال �شعور مفرغ من‬ ‫يف التداعي وااللتبا�س‪ ،‬وهو يدخل طائعا ً منطقة معتمة من‬
‫التفا�صيل‪ ،‬ال�شعور الذي ينمّي حدث الرواية وينظم مغامرتها‬ ‫الوهم‪.‬‬
‫يف النظر �إىل العامل عرب عيني (�إبراهيم)‪ ،‬املحا�سب يف فندق‬ ‫�إن ما تعلنه الرواية اليوم من قلق يظل �ساريا ً يف‬
‫يُ�رشف على ا إلفال�س‪ ،‬وهو يرى‪ ،‬على امتداد الرواية‪ ،‬تفا�صيل‬ ‫امل�سافة الفا�صلة بني اال�صطالح ال�سابق وراهن املنجز‬
‫انهيار حياته الزوجيّة‪ ،‬مثلما ي�شهد يف برودة وت�سليم اهتزاز‬ ‫الروائي بقلقه وغمو�ضه وانك�سار زمنيته‪ ،‬لت�ؤكد‬
‫العامل من حوله‪ ،‬فثمة �إبراهيم �آخر‪ ،‬على نحو �شبه دائم‪ ،‬يكّمل‬ ‫املعاجلات النقدية املتعددة عدم قدرة م�صطلحات‬
‫دائرة التوج�س واملراقبة والتقاط ال�شعور‪� ،‬إنه ب�شكل ما‪� ،‬صاحب‬ ‫مثل (الكتابة عرب النوعية) �أو (كتابة الت�شظي) �أو‬
‫الرواية‪ ،‬مثلما هو �صاحب ر�ؤيتها‪ ،‬ف�إبراهيم الواثق من �أنه عا�ش‬ ‫(الكتابة العابرة ل ألجنا�س)‪� ،‬أو حتى (رواية احل�سا�سية‬
‫حياته من قبل هو الذي يبدو مهددا ً بفكرة الن�سيان «�صفحة‬ ‫اجلديدة) على ا إلحاطة مبتغري الكتابة الروائية التي‬
‫بي�ضاء �ستكون نف�سه لو ا�ستمر ن�سيانه وا�شتد‪ ،‬وعليه البدء يف‬ ‫يبدو قلق الت�سمية �سمة عميقة من �سمات انحرافها‪،‬‬
‫كتابتها من جديد بطريقة جديدة‪ .‬ورغم �إعجابه بالفكرة �إال �أنه‬ ‫ووجها م�ؤثرا ً من وجوه فاعليتها‪ ،‬فهل ميكن �أن ن�سلّم‬
‫ت�أكد من عدم قدرته على مواجهة �صفحة بي�ضاء هي حياته»(‪،)6‬‬ ‫باملقابل بـ (الرواية العربية اجلديدة) مظلة الحتواء‬
‫لذلك يبدو من الطبيعي �أن تُ�ستح�رض زوجته �سمرية‪ ،‬مركز‬ ‫متغريات الن�صو�ص ومقاربتها يف بعد ا�صطالحي‬
‫اللعبة ال�رسدية و�أحد قطبيها امل�ؤثرين‪ ،‬من خالل الن�سيان يف‬ ‫واحد‪ ،‬و(اجلديدة) نف�سها ال تخلو من قلق هي ا ألخرى‬
‫�أول ح�ضور لها داخل الرواية‪ ،‬فمالحمها تتبدى إلبراهيم‪� ،‬أثناء‬ ‫وال تتخلّ�ص من مقاربة زمنية فنية حققت �صدقها مع‬
‫وجوده يف عمله مبكتب املحا�سبة‪ ،‬وا�ضحة خطفا ً لكنها �رسعان‬ ‫كل جتربة روائية �سابقة‪� ،‬إذا ما نُظر لها من منظور‬
‫ما تغيم يف مالمح �أخرى متداخلة‪ ،‬لي�شكل ن�سيان مالحمها‬ ‫متغرياتها الكتابية‪ ،‬فالرواية (التقليدية) مل تعد تقليدية‬
‫�أحد حمفزات احلدث الروائي �إن مل يكن حمفزها ا ألوحد الذي‬ ‫�إال بناء على منظور خمتلف زمني فني يف �آن‪ ،‬لكنها‬
‫تتطوّر الوقائع مثلما ترتتب وتنمو انطالقا منه‪ ،‬يف �إ�رصارها‬ ‫ا�ستطاعت‪ ،‬على نحو �أو �آخر‪� ،‬أن متنح زمانها وجها ً‬
‫على تثبيت اللحظة عرب اال�ستعادة الفنية للغة اليوميات‪ ،‬وهي‬ ‫جديدا ً حقق لها التقبل والتداول وال�شيوع‪ ،‬ومكنها من‬
‫ت�شكّل ا�ستعارة الرواية‪ ،‬وعرب اقرتاح ال�صورة الفوتوغرافية التي‬ ‫قول كلمة خمتلفة‪ ،‬وا ألمر نف�سه مع الرواية احلديثة‪،‬‬
‫توثّق ارتباطها باحلدث والعمل على تطويره‪ ،‬فباللغة ف�ضاء ً‬ ‫�أو روايتي احلداثة وما بعدها‪ ،‬فلكل من هذه الروايات‬
‫وبال�صورة عالمة ً ت�سعي الرواية لدح�ض الن�سيان واحلّد من‬ ‫جدتها وخ�صو�صيتها يف زمنية ا إلنتاج الروائي‪.‬‬
‫قدرته على تغييب املالمح وحمو التفا�صيل «ال عجب �إذن �أن‬
‫الن‪ :‬ال�صورة يف تل�ص�صها‬
‫�أن ترى آ‬
‫حتل ال�صورة حمل ا أل�صل كما يحل الن�سيان حمل الذاكرة‪ ،‬ذلك‬
‫الن�سيان الذي ير�سخ ح�ضوره بت�شويه الذاكرة»(‪.)7‬‬ ‫تعمل رواية منت�رص القفا�ش ( �أن ترى ا آلن )(‪ )4‬على ا�ستمالة‬
‫�ستت�سمر عينا �إبراهيم عند ( الكامريا )‪ ،‬يف مقابل لن�سيان‬ ‫القارئ يف عالقة �رشط غري مكتملة‪ ،‬ووعد غري م�صرّ ح به‪،‬‬
‫مالمح زوجته‪ ،‬وقد ا�شرتتها �سمرية لتدوين �أحالمهما‪ ،‬فقد‬ ‫للدخول �إىل لعبتها ال�رسديّة والوقوف على تفا�صيل احلياة‬
‫«كانت بها ومعه تريد �أن ترى ما مل تره»(‪ )8‬يف ت�رصيح‬ ‫التي تعتمل يف دواخلها‪ ،‬فاملخاطب الذي يبدو معنيّا ً بوعد‬
‫هو نوع من ا إلر�صاد الذي ميكن �أن يتم عن طريق جملة‬ ‫الر�ؤية مبا تنطوي عليه من متعة واكت�شاف يغدو جزءا ً مهما ً‬
‫ت�ؤدي فعال ً �أيديولوجيا ً يف توجيه احلدث وا إلرها�ص به‪.‬‬ ‫يف �إجناز اللعبة التي تقوم با أل�سا�س‪ ،‬كما يذكر الكاتب يف‬
‫‪ .‬فمن خالل الكامريا تعلن �سمرية ب�أ�سلوب غري مبا�رش‬ ‫حديث له نُ�رش يف �أخبار ا ألدب‪ ،‬على ا�ستعادة فنية لكتابة‬
‫رغبتها يف ر�ؤية ما مل تره‪ ،‬مثلها مثل �إبراهيم الذي ي�سعى‬ ‫اليوميات‪ ،‬مبا ي�سوّغ وجود اللهجة �إىل جانب اللغة الف�صيحة‪،‬‬
‫بالر�ؤية لدح�ض الن�سيان‪ ،‬وهما معا ً ين�شغالن بالكامريا‬ ‫وعدم اكتفائها باحلوار بل ان�سحابها على ال�رسد �أي�ضا ً مبا‬
‫خارج �إيقاع حياتهما املعتاد «تناول الكامريا – يومها‬ ‫(‪)5‬‬
‫حتمله اليوميات من «رغبة يف بلوغ احلقيقة عرب الذاكرة»‬
‫– والتفت �إىل زوجته»(‪ ،)9‬ليحقق ظرف الزمان من ا ألهمية‬ ‫فعرب اليوميات تعمل الذات املعزولة على �إنتاج ذاكرتها‬
‫ما يعادل فعل الن�سيان‪ ،‬فالكامريا مل تخرج يومها عن‬ ‫مركزا ً حلدث ما‪ ،‬مركزا ً لزمنية هذا احلدث وملا يحيط به من‬
‫حالها كل يوم �إال ب�إيعاز من الن�سيان نف�سه‪ ،‬ليبد� أ �إبراهيم‬ ‫عامل‪� ،‬إن الذات املعزولة ت�سعى عرب كتابة اليوميات لتحقيق‬
‫‪123‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ذاكرة‪� ،‬إنها ت�سبق على نحو ما ذاكرتها وتخلخل‬ ‫لعبته ال�شخ�صية م�ستغرباً‪� ،‬أول ا ألمر‪ ،‬انزالق زوجته يف‬
‫موقعها �ضمن جمرى وقائع حياتنا‪ ،‬فيتخلخل جراء‬ ‫اللعبة وهي تُ�سلّم نف�سها للكامريا‪ ،‬يُ�سعد بها ويظهر لها‬
‫ذلك وعينا بالواقع وتربك �أحا�سي�سنا �إزاءه‪ ،‬وهي‬ ‫كل الر�ضا مبباغتاتها‪ ،‬ثم يت�ضايق من �صيحاتها‪ ،‬ثم‬
‫الفر�ضية التي �ستجد ح�ضورا ً �أقوى يف (م�س�ألة وقت)‬ ‫يهم �أن يكتم فمها «وهي تكرر‪ :‬يالال‪ ،‬وك�أنها تطلبه هو‬
‫رواية منت�رص الالحقة‪ ،‬ا ألمر الذي يُلم�س يف �سلوك‬ ‫ال الكامريا»(‪ ،)10‬و�صوال ً �إىل االنتباه ب�أن فرحتها مرتبطة‬
‫الزوجة �أي�ضاً‪ ،‬على الرغم من فرحها وهي ت�شاهد‬ ‫بعلو �صوتها وال�شعور «بهذا ال�صوت وقد مت �إ�ضافته �إليها‬
‫ال�صور واقرتاحها �أن ي�شرتيا كامريا للت�صوير الفوري‬ ‫�أو خرج من الكامريا »(‪ ،)11‬ال�صوت الذي �سينقطع �أو يكاد‬
‫وموافقة �إبراهيم لكن بعد �أن ت�ستقر ا ألمور يف عمله‬ ‫على امتداد الرواية‪ ،‬ليح�رض خارج حدود الف�صل ا ألول‬
‫مبا يك�شفه غياب الكامريا ومغادرتها مكانها املعتاد‬ ‫َم ْن يتحدث نيابة عنه‪َ ،‬م ْن يقوّله �أو يُف�صح عن �شعور‬
‫يف الرف العلوي‪� ،‬إن نوعا ً من العيب �أو الف�ضيحة‬ ‫�صاحبته‪ ،‬من دون �أن تقول هي على نحو مبا�رش �سوى‬
‫املكتومة يعتمل‪ ،‬دومنا �صوت‪ ،‬حتت امل�شهد‪ ،‬مهيئا ً‬ ‫كلمات جمتز�أة ال تكتمل معانيها �إال بارتباطها ب�سلوك‬
‫للحظة االنفجار املرئية وامل�سموعة حاملا تعرث‬ ‫ا آلخرين و�أقوالهم التي تتوا�صل يف ق�ضيتها هي‪ ،‬حتى‬
‫�سمرية على واحدة من ال�صور «و�شنب ُخط حتت‬ ‫لتك�شف يف �أحيان كثرية عن دواخلهم وت�ضيء بع�ضا ً من‬
‫�أنفها»(‪ ،)14‬وقد وا�صل �إبراهيم تكرار جملته ‪�« :‬إنه زلة‬ ‫�أزماتهم حتت ذريعة متثيلها �أو االنتماء لها والدفاع عنها‪،‬‬
‫قلم «‪ ،‬فهل كان الت�شويه زلة قلم حقاً؟‬ ‫لكنها تغيب‪ ،‬بالفعل‪ ،‬ينح�رس ح�ضورها خلف ا ألحداث‬
‫ي�ضيء الف�صل ا ألول بفنيته وثراء معلوماته حركة الرواية‬ ‫وهي تتواتر وتنمو خلف مالمح ا آلخرين وظاللهم التي‬
‫وينمُّ عن حتوالتها‪ ،‬تطورات حدثها‪ ،‬مثلما يلمّح للدوافع‬ ‫�ستم أل امل�شهد‪ ،‬و�إذا كانت �شخ�صيات مثل �سمراء و�أحمد‬
‫اخلفيّة‪ ،‬التي �ستوا�صل خفاءها حمققة واحدة من ال�سمات‬ ‫و�سامي وبهاء قد ح�رضت من خالل (�إبراهيم ) ملتابعة‬
‫اجلماليّة للرواية يف اكتفائها مبالحقة اجلزء الظاهر من‬
‫احلدث وانتظار تطوره واال�ستمتاع به‪ ،‬ف�إن �شخ�صيات‬
‫ا ألحداث عرب عيني �إبراهيم الذي تتوقف الرواية عند حدود‬
‫مثل ناهد وعبد العظيم مل حت�رض �إال للتعبري عن ر�ؤية‬
‫ما يرى وما يعلم‪ ،‬و�أحيانا ً �أقل مما يعلم متنازلة عن اجلزء‬
‫الداخلي من وعيه ور�صيد خربته‪ ،‬يف انتظام �رسدي ين�أي‬ ‫�سمرية‪ ،‬لكنها تنحرف عن هدفها بطريقة �أو ب�أخرى‪،‬‬
‫يف لغته وبناه عن الثقل النف�سي والرخاوة العاطفية‪ ،‬مبا‬ ‫خ�صو�صا ً فيما يتعلّق ب�شخ�صية اخلال عبد العظيم لتعبرّ‬
‫ي�شري �إىل قدرة منت�رص القفا�ش على تطوير حقله ال�رسدي‬ ‫عن ر�ؤيتها هي وتدافع عن وجودها الذي �أ�صبحت ق�ضيّه‬
‫والو�صول به �إىل مناطق جديدة‪ ،‬غري منتظرة نوعا ً ما‪،‬‬ ‫�سمرية م�سوّغا ً له‪.‬‬
‫وهو يغادر ما قدمه يف روايته ا ألوىل( ت�رصيح بالغياب‬ ‫�إن حلظة وجودية �صادمة تقف بني دخول �إبراهيم �إىل‬
‫‪ )1996 /‬على م�ستوى اللغة والر�ؤية والرتكيب‪ ،‬كما‬ ‫اللعبة وانف�صاله عنها‪ ،‬فاللعبة ال تنتهي مع انتهاء‬
‫يغادر ما قدمه يف جمموعته الق�ص�صية ( �شخ�ص غري‬ ‫الفلم وظهور ال�صور‪ ،‬بل تت�صل يف حركة موجيّة‪،‬‬
‫مق�صود‪ )1999/‬على م�ستوى النظرة وزاويتها وعلى‬ ‫تهتز ّ وتهز ّ معها ثوابت الرواية وتفا�صيل عاملها‪ ،‬ومل‬
‫م�ستوى اللغة �أي�ضا ً وقد بدت م�س�ؤولة �إىل حد بعيد بت�ضا�ؤل‬ ‫يعد ال�صوت وحده ما يثري الغرابة‪ ،‬فالزوجة نف�سها‬
‫ن�صيب ال�رسد فيها وازدياد ن�صيب ال�شعر عن �إ�ضافته �إىل‬ ‫تُ�ستبعد‪ ،‬حال ظهور ال�صور‪ ،‬لي�ؤكد �إبراهيم ل�صاحب‬
‫ما �أ�سماه �أدوار اخلراط بظاهرة الق�صة الق�صيدة �أو الكتابة‬ ‫حمل الت�صوير «ب�أنها موديل ي�ستخدمها إلعداد‬
‫عرب النوعية(‪.)15‬‬ ‫�أعمال معر�ضه القادم»(‪ ،)12‬ا ألمر الذي يك�شف رغبته‬
‫من ال�صعب النظر �إىل ما �أ�صاب �صورة �سمرية من ت�شويه‬ ‫يف االنف�صال عن حلظة الت�صوير‪� ،‬إ�سقاطها والتنازل‬
‫على �أنه هفوة عار�ضة �أو زلة قلم ميكن ر�صدها ومعاجلتها‬ ‫عنها‪ ،‬ليتنازل‪ ،‬مبا ي�شبه االرتباط ال�رشطي‪ ،‬عن �سمرية‬
‫�ضمن حركة الف�صل ا ألول ور�صيد معلوماته‪ ،‬فمع دخول‬ ‫والكامريا وحلظة االنفالت من ا إليقاع اليومي للحياة‪،‬‬
‫(�سمراء) �إىل بيت ال�رسد‪ ،‬وحتديد موقعها ومنط عالقتها مع‬ ‫�إنه يتنازل عن الذكرى ل�صالح الن�سيان‪ ،‬و�إذا كانت‬
‫كل من �إبراهيم و�سمرية يبد� أ غمو�ض ما بالت�أثري ال على‬ ‫الذاكرة تتطلب �صورة‪ ،‬بتعبري برتراند ر�سل‪ ،‬لتحيا‬
‫ما يُرى فح�سب بل وي�سهم مبقدار الر�ؤية ودرجتها ف�سمراء‬ ‫ومتد حياتنا بالقدرة على ت�صور ما حدث وعلى‬
‫مل تكن �صديقة �سمرية ومل ترها �سوى يف ليلة الفرح ويف‬ ‫ا�ستعادته على نحو �أو �آخر(‪ ،)13‬ف�إن الفكرة تتحقق‬
‫(�صور) الزفاف‪ ،‬لكنها تقرتب من �إبراهيم بال حدود‪ ،‬فهو‬ ‫معكو�سة يف رواية منت�رص القفا�ش‪ ،‬فال�صورة تتطلب‬
‫‪124‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫خارج املرتقّب واملنتظر‪ ،‬مبا يبني حول �إبراهيم �سورا ً من‬ ‫«ال ي�ستطيع �أن يوقفها عند حد يف �أي �شيء بينهما‪ ،‬فلم‬
‫ال�صور‪ ،‬ال�سليمة منها وامللوّثة‪ ،‬وهي حتجب عنه �أ�شياء‬ ‫تكن احلدود مطروحة يف عالقتهما‪ ،‬واقتنعا ب�أن راحتهما‬
‫كان مب�ستطاعه فعلها بي�رس ويف �أي وقت‪ ،‬لتحقق الر�ؤية‬ ‫احلقيقية يجدانها يف وجودهما معاً‪ ،‬وي�سعدان بتحقيقها‬
‫يف (�أن ترى ا آلن) فعلها العك�سي‪ ،‬فما يراه �إبراهيم حقا ً هو‬ ‫ب�أي �شكل ودون تردد»(‪ .)16‬لتبد� أ مفارقة الرواية‪ ،‬وتن�ش� أ‬
‫ما مل يتوقعه �أو ينتظره‪ ،‬وهو ما مل يره يف اعتياد احلياة‬ ‫مراوغتها‪ ،‬وينه�ض التبا�سها الفعلي‪ ،‬فهي ال تكتفي‬
‫و�ألفة �أ�شيائها‪ ،‬فتبدو احلياة‪ ،‬حياته‪ ،‬مرئية ومر�صودة من‬ ‫بتق�سيم ا�سم واحد بني �شخ�صيتني ( �سمرية �سمراء ) بل‬
‫قبل ال�صور التي تكمل مع ت�صاعد احلدث �إجناز ح�صارها‬ ‫تُبدّل من �أدوارهما �إىل الدرجة التي يوهم التن�صي�ص‬
‫وتطل «كمتل�ص�ص ال يريد �أن ينتبه �إليه»(‪ ،)22‬لتكتمل‬ ‫ال�سابق ب�أنه يخ�ص عالقة �إبراهيم ب�سمرية‪ ،‬زوجته‪ ،‬التي‬
‫الفرجة‪ ،‬خارج اللعبة الروائية نف�سها‪� ،‬أو فوق ما ميكن‬ ‫يبدو من املعقول �أن تكون بال حدود‪ ،‬لكنها تخ�ص �سمراء‬
‫� إن وجهاً م�ؤثراً‬ ‫�أن تتحمله حدودها‪ ،‬لنعود فنطرح‪ ،‬يف �آخر ر�ؤيتنا‪ ،‬فكرة‬ ‫يف الوقت الذي تُن�سى فيه مالمح �سمرية خمتلطة مبالمح‬
‫�إبراهيم ا آلخر الذي ينظر فريى‪. .‬‬ ‫ا آلخرين‪ ،‬مثلما يتطوّر ح�ضور �سمراء وهي تتابع حياة‬
‫من �أوجه (هدم‬
‫ـ م�س�ألة وقت‪ :‬مواجهة املمكن وامل�ستحيل‬ ‫�إبراهيم بتفا�صيلها باللقاء املبا�رش مرَّة‪ ،‬وعرب الهاتف‬
‫الوعي) هو ما‬ ‫مرَّة �أخرى‪ ،‬لتندثر �أهم املعلومات عن �سمرية حتت تالل‬
‫يتحكم مبجريات‬ ‫بني قو�سني من ال�صمت تن�شيء (م�س�ألة وقت)(‪ )23‬خطابها‪،‬‬
‫من تراب ا آلخرين‪ ،‬مثل م�شكلتها مع ا إلجناب التي ال‬
‫جانب وا�سع من‬ ‫وتوا�صل تفتيت زمنيتها مبا تقرتحه من بنية مقطعية‬
‫ترد �إال ورودا ً عار�ضا ً يف حيّز الت�شويه «اخلطوط ال�سوداء‬
‫يعمل ال�صمت فيها على تبيي�ض امل�ساحة الفا�صلة بني‬
‫جوانب الرواية‬ ‫�أك�سبت وجهها �شكل‪ . .‬لي�س فقط وجوه مهرجي ال�سريك‬
‫مقطع و�آخر‪ ،‬يف خطاب الرواية ين�شيء ال�صمت خطابه‪،‬‬
‫العربية اليوم‪،‬‬ ‫ويف عنايتها بالوقت‪ ،‬م�شكلتها ا أل�سا�س‪ ،‬تعلن قلق‬ ‫الذين يبالغون يف و�ضع املاكياج على وجوههم‪ .‬ال‪ .‬هناك‬
‫مثلما يبدو‬ ‫�شخ�صياتها ازاء اللحظة الفا�صلة‪ ،‬اللحظة التي تتماهي‬ ‫�شكل �آخر‪� ،‬أيكون حينما بكت بعد علمها ب�أنها ال�سبب يف‬
‫فيها احلدود بني الواقعي واملتخيل‪ ،‬فتن�رش غرابة احلدث‬ ‫عدم ا إلجناب‪� .‬أ�سالت دموعها ا آليليرن وا آلي �شادو »(‪.)17‬‬
‫م�س�ؤو ًال عن � إنتاج‬ ‫كما مل تكن �إجابة �سمراء عن �س�ؤال �إبراهيم �إن كانت‬
‫وتوجيه حقول‬ ‫ظال ً كثيفا ً يُعيد بناء احلقائق ال�صغرية ت�أ�سي�سا ً على ما‬
‫تقرتحه الذاكرة من �صور �إذ �أن «التذكر هو �أكرث ف�أكرث‬ ‫توافق على ت�صويرها غري ت�أكيد �رصيح لن�سيان �سمرية‪،‬‬
‫روائية يتوا�صل‬ ‫عملية ال تعني ا�سرتجاع ق�صة بل القدرة على ا�ستح�ضار‬ ‫مما مينحها ت�أثريا ً يف حركة ال�رسد‪ ،‬ومنط حتوالته‪،‬‬
‫الهدم فيها من‬ ‫�صورة»‪ ،‬بتعبري �سوزان �سونتاغ(‪ ،)24‬هذه ال�صورة التي‬ ‫ومبا يك�شفه من معلومات تظل معها املعلومة ا أل�سا�س‬
‫رواية � إىل �أخرى‬ ‫ت�شكل جمرى احلياة‪ ،‬مثلما تخلخل انتظامها وتربك‬ ‫حول امل�شوّه الفعلي لل�صور طي الكتمان‪ ،‬لكنها مع ذلك‬
‫فاعليتها وهي تن�شيء ترا�سلها بني عاملي احلياة واملوت‬ ‫�ستدخل حيّز االنتظار بالن�سبة إلبراهيم الذي يرتقب �أن‬
‫مبا تنطوي عليه مثل هذه العالقة من �أ�سئلة �صعبة‬ ‫ت�صارحه «يف الوقت الذي تراه منا�سبا ً وبعد �أن ت�أخذ‬
‫و�إجابات م�ستحيلة‪ ،‬فتخت�رص قدرة الرواية للبحث يف‬ ‫كفايتها»(‪ )18‬خمتزلة قوة تدمري دومنا �سبب حمدّد فهي‬
‫حقيقة زيارة رنا ليحيى‪ ،‬الزيارة التي متت بعدما ماتت‬ ‫وجدت نف�سها هكذا «�أو مبعنى �أدق ت�شعر كلما متادت يف‬
‫رنا غرقاً‪ ،‬وقد عرثوا على جثتها عند قاع النيل بعد‬ ‫ال�سخرية من رجالها بفرح و�سعادة ون�شوة ال جتدها يف‬
‫خم�س �ساعات من غرق املعديّة‪ ،‬لتقدم الرواية يف عدم‬ ‫�أي �شيء �آخر»(‪ ،)19‬لتبدو م�س�ؤولة عن حياة �إبراهيم وهي‬
‫وقوف يحيى على �سبب الت�أخر يف العثور عليها واحدة‬ ‫تتابعها‪ ،‬وحتيط بتفا�صيلها‪ ،‬مثلما تنتظر ما ينجم عنها‬
‫من �أهم خ�صائ�صها وهي تفتح �شبكة من احتماالت ال‬ ‫من �سلوك‪ ،‬كل ذلك مواجه مبا ي�شبه التواطوء �أو الت�سليم‬
‫حتدد ت�صورا ً وال ت�ؤدي �إىل حل «وال يعرف حتى ا آلن‬ ‫من قبل �إبراهيم الذي ينتظر �أن متر ّ �أزمته مع ال�صور‪،‬‬
‫�سبب ت�أخرهم يف العثور عليها‪ ،‬هل لكرثة من مت انت�شالهم‬ ‫مثلما متر �أزمته يف العمل‪ ،‬وت�ستعيد حياته هدوءها‬
‫من ا ألحياء واجلثث �أم لت�أخر الغوا�صني يف الو�صول �إىل‬ ‫ورتابتها‪ ،‬فهي (فرتة) �أخرى و(تعدّي) بناء ً على جملة‬
‫موقع احلادث �أم ألنها مل تعد �إىل مكانها عند القاع �إال‬ ‫�أ�سا�سية يف حياته و» دليل على طريقته يف احلياة يف �أن‬
‫بعد مرور هذا الوقت»(‪� ،)25‬إنها حترّك �أمواج احتماالتها‬ ‫يجعل ا أليام ت�صلح ما تريد وتف�سد ما تريد وما عليه �إال‬
‫على �سطح الرواية ال فيما يخ�ص واقعة غرق رنا فح�سب‬ ‫�أن ينتظر»(‪ )20‬ك�أنه بذلك ينتظر نتائج قراره هو ويرتقّب‬
‫بل مبا يجعل من االلتبا�س واقعة ذهنية تتكرر مع يحيى‬ ‫تطوراته يف «البحث عن جانب من حقيقة مراوغة ولكنها‬
‫لت�ؤكد‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬ا�ستحالة ما يبحث عنه من �إجابات‪،‬‬ ‫ماثلة �أي عن جانب من الر�ؤية»(‪ ،)21‬لكن للحياة حركتها‪،‬‬
‫‪125‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫امللك‪ ،‬وما ال�صلة بينهما �إال �س�ؤال يوجهه ال�شاب لـ (ملك‬ ‫وما تبحث عنه الرواية وهي توا�صل حركتها املوجية يف‬
‫الزمان)‪�« :‬أتدري ما بينك وبني مدينتك؟ فقال امللك‪ :‬يومان‬ ‫املنطقة الفا�صلة بني الواقعي واملتخيل‪ ،‬وهي تن�شيء‬
‫ون�صف‪ .‬عند ذلك قال له ال�شاب‪� :‬أيها امللك �إن كنت نائما ً‬ ‫وهم حركتها بني احلياة واملوت‪ ،‬فتنتقل ب�سيل احتماالتها‬
‫فا�ستيقظ‪� ،‬إن بينك وبني مدينتك �سنة ً للمُ ِجدّ‪ ،‬وما �أتيت يف‬ ‫من املمكن �إىل غري املمكن من دون �أن تهج�س بانتقالها‬
‫يومني ون�صف �إال ألن املدينة كانت م�سحورة»(‪ ،)28‬يك�شف‬ ‫لت�ساوي عندئذ بني منزلتي االحتمال وتوحد بني املمكن‬
‫التباين يف ت�صور الزمان بني ال�شاب وامللك‪ ،‬ملك الزمان‪،‬‬ ‫وامل�ستحيل‪ ،‬ان�شغال الغوا�صني وعدم و�صولهم �إىل موقع‬
‫املنطقة التي ت�سعى «م�س�ألة وقت» الكت�شافها من دون‬ ‫احلادث يعادالن عدم عودة اجلثة �إىل مكانها �إال بعد مرور‬
‫�أن جتد لذلك �سبيالً‪� ،‬إذ ي�شكل الزمان م�شكلة الرواية التي‬ ‫الوقت الذي ت�ؤدي فيه زيارتها الغريبة ليحيى‪ ،‬ا ألمر الذي‬ ‫دخلت فكرة الوطن‬
‫ي�ضيء العنوان على نحو خماتل �أحد وجوهها وهو يعمل‬ ‫يتكرر مع يحيى يف حماولته تف�سري �ضحكة رنا حينما‬
‫على تخلي�صها من حمموالتها لتوجيهها وجهة عامة‪،‬‬ ‫تكت�شف ورقة الطلبات املنزلية يف جيب قمي�صه وقد‬ ‫نف�سها مرحلة‬
‫�شعبية وم�ؤتلفة‪ ،‬حموال ً �إياها من (م�شكلة) �إىل (م�س�ألة)‬ ‫ارتدته بدل بلوزتها املقطوعة خالل زيارتها «فلماذا‬ ‫جديدة من االلتبا�س‬
‫حتمل من الب�ساطة والعر�ضية ما ت�ؤكد معه خماتلتها‬ ‫�ضحكت رنا؟ هل ألن �آخر ما قر�أته قبل �أن تعود �إىل موتها‬ ‫بعد �أن عا�شت عقوداً‬
‫وهي حتوّل (الزمان) �إىل (الوقت)‪ ،‬وهي تندفع �إىل الهوة‬ ‫كان جمرد قائمة بطلبات منزلية �أم ألنها �أثناء قراءتها‬ ‫طويلة قلق املواجهة‬
‫ال�صعبة بني ال�س�ؤال واحتماالت ا إلجابة‪ ،‬هذه امل�شكلة التي‬ ‫كانت ترى قلقه وهو معها �أم كان �ضحكها من �شيء �آخر‬ ‫وال�س�ؤال‪ ،‬ليبدو‬
‫تعمل الرواية على مقاربتها عرب الذاكرة وهي تبحث يف‬ ‫حدث يف مكان �آخر»(‪.)26‬‬ ‫املرء عندئذ عارياً‬
‫احلا�رض عما ي�ؤكد املا�ضي ويربهن على �صدق حوادثه‪،‬‬ ‫�ستكون متوالية االحتماالت واحدة من ا�سرتاتيجيات‬
‫لكنها يف دوامة بحثها تبدد فكرة احلا�رض بعد �أن تُزيح‬ ‫اخلطاب الروائي الذي يت�سع موجة �إثر موجة وهو مع‬ ‫وقد �سقطت عنه‬
‫�أُلفته‪ ،‬تطمره حتت ركام املا�ضي و�شظايا ا�ستعاداته‬ ‫ات�ساعه ينطفئ‪� ،‬أو يتبدد‪� ،‬أو يذوب‪ ،‬لكنه يحافظ على‬ ‫�أردية الت�شكالت‬
‫التي تُ�صبح مع تقدم الرواية �أكرث قوة من احلا�رض نف�سه‪،‬‬ ‫ر�ؤيته حلدثه املركزي‪ ،‬ح�ضور رنا بعد موتها‪ ،‬بو�صفه‬ ‫الرمزية للما�ضي‪،‬‬
‫فيحا�رص وهم املا�ضي عندئذ جمريات احلا�رض ويربك‬ ‫حقيقة تعززها �إ�شارات متعددة‪ :‬البلوزة‪ ،‬والقمي�ص‪،‬‬ ‫وهبت رياح الراهن‬
‫جريانه‪� ،‬إنها حلظة انك�سار الزمان بني زمن ال�شاب وزمن‬ ‫ورقم ناهد‪ ،‬وورقة الطلبات املنزلية‪ ،‬وهي احلقيقة‬ ‫عنيفة ف�أطاحت‬
‫امللك‪ ،‬زمن رنا وزمن يحيى‪ ،‬زمن ا أل�سئلة املتوالدة وزمن‬ ‫التي تت�أ�س�س عليها �شبكة االحتماالت الالحقة قبل‬
‫به كما يُطاح بورق‬
‫ا إلجابات املفتوحة على ما ال ينتهي من االحتماالت‪،‬‬ ‫�أن تتماهي يف احتمال ال حدود له‪ .‬هذه ا إل�سرتاتيجية‬
‫فتبدو الوقائع‪ ،‬ومنها واقعة زيارة رنا ليحيى «�أ�شبه‬ ‫التي �ستوجه م�سار اخلطاب الروائي حتى �آخر كلمة‬ ‫اخلريف‬
‫بالذكرى التي تُدخلها الذاكرة �إىل زمن الدميومة‪� ،‬أوالزمن‬ ‫يف �رشيطه اللفظي وهو يقع يف (ال�صمت) قبل �أن‬
‫الذي تبتلعه الذاكرة وتخلّفه يف �أعماق الكائن الذي‬ ‫ينقطع كالمه ويقع يف البيا�ض‪:‬‬
‫�أ�ضاع مفتاح ذاكرته»(‪ ،)29‬فهو يخطو م�أخوذا ً مبا تر�سمه‬ ‫«�سامعني؟‬
‫الذاكرة من �أخيلة وما ت�ستح�رضه من ت�صورات‪� ،‬إن الذاكرة‬ ‫ـ �أيوه‪.‬‬
‫توا�صل فاعليتها وهي ت�ؤ�س�س انتباهات اخلطاب الروائي‬ ‫مل يعرف يحيى من �س�أله هل الرجل �أم رنا �أم �أحد‬
‫بناء على قوانينها‪ ،‬وهي تعمل على نحو �ضدي‪� ،‬إنها‬ ‫امل�سحورين �أم �أمه ت�س�أله «�أنت �أجازه النهارده؟» �أجابهم‬
‫يف الوقت الذي تربك تلقي يحيى للعامل وتخلخل موقفه‬ ‫كلهم بالكلمة نف�سها‪ .‬وما �إن قالها حتى تال�شت �أ�صواتهم‬
‫منه جراء عدم قدرتها على تقدمي فهم وا�ضح‪ ،‬منتظم‬ ‫ك�أن �إجابته كانت املوافقة على �صمتهم»(‪.)27‬‬
‫ومعقول‪ ،‬حلادثة ح�ضور رنا وهي ت�ستعيدها وتدقق‬ ‫�إن يحيى ال يعمل على غلق دائرة ال�س�ؤال بالوقوف على‬
‫يف تف�صيالتها‪ ،‬تعمل‪ ،‬من جانب �آخر‪ ،‬على �إنقاذ يحيى‬ ‫�إجابة حمددة �أو احتمال واحد‪� ،‬أقرب االحتماالت �إىل‬
‫من الغرق يف بحر البطالة‪� ،‬إنها حبل ا إلنقاذ الذي � أ ّمن‬ ‫الذهن و�أكرثها مقبولية‪ ،‬كما ال يعمل على ترك الدائرة‬
‫له العمل يف مكتب التوزيع‪ ،‬ومل يكن ميلك ميزة ت�ؤهله‬ ‫مفتوحة‪ ،‬دومنا �إجابة‪ ،‬لكن احتماالته تتواىل لتكون‬
‫للعمل �أهم من ميزة الذاكرة التي ا�ستحوذ من خاللها على‬ ‫امتدادا ً لل�س�ؤال نف�سه‪ ،‬و�أ�صداء ً ال نهائية ل�صوت ينبثق من‬
‫اهتمام �صاحب املكتب‪� ،‬إنها الذاكرة التي تخلخل حتى‬ ‫منطقة الاليقني‪ ،‬هذه املنطقة التي ت�سعى الرواية للوقوف‬
‫ما نظنه عن �أنف�سنا ففي البداية ظن ذاكرته �ستكون نقطة‬ ‫على �أر�ضها الرخوة‪ ،‬وهي ترعى زمنني تطلقهما عتبتها‬
‫�ضعفه‪ ،‬و�رسعان ما وجدها متده مبا يريد يف �أي وقت‪،‬‬ ‫امل�ستلة من �ألف ليلة وليلة‪ ،‬وهي ت�ضع ال�شاب مبواجهة‬
‫‪126‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جمهر ال�رسد‪� ،‬إ�شكاالت العمالة اليمنية الوافدة �إىل اململكة‬ ‫مثلما ت�ؤدي دورها يف ر�ؤية ما ال يرى وقد ا�ستح�رضت‬
‫العربية ال�سعودية‪ ،‬يف واحدة من املراحل الزمنية ال�صعبة‬ ‫املعديّة‪ ،‬يف واحد من �أجمل مقاطع اخلطاب الروائي‪ ،‬على‬
‫يف حياة اليمن وال�سعودية على نحو خا�ص‪ ،‬وحياة البلدان‬ ‫حائط غرفة يحيى فور ا�ستيقاظه‪ ،‬لتكون الر�ؤية‪ ،‬بح�سب‬
‫العربية على نحو عام‪� . .‬إنها مرحلة غزو الكويت من قبل‬ ‫ملفوظ اخلطاب‪ ،‬وجها ً من وجوه اليقظة ال طيفا ً من‬
‫النظام العراقي ال�سابق‪ ،‬مبا خلفته من تداعيات م�أ�ساوية‬ ‫�أطياف املنام «نزل من ال�رسير ووقف و�سط الغرفة ليت�أكد‬
‫مل تنته مع االن�سحاب املميت للجي�ش العراقي‪ ،‬بل د�شنت‬ ‫من �أنه ال يحلم‪ .‬وعندما �شك �أنه ما زال يف احللم خرج‬
‫زمنا ً عربيا ً ع�سريا ً ترك �آثارا ً عميقة يف وجدان املواطن‬ ‫من غرفته وعاد �إليها وفتح ال�شباك و�أطل منه‪ .‬م�ستحيل‬
‫العربي مثلما خلخل جمريات حياته داخل بلده وخارجه‪،‬‬ ‫�أن يكون يف حلم �إال �إذا كان من ا ألحالم التي ترى نف�سك‬
‫ا ألمر الذي تعدى دور اخللفية العامة للحدث الروائي وهو‬ ‫فيها و�أنت حتاول �أن ت�ستيقظ وتتخل�ص مما حتلم به»(‪،)30‬‬
‫يعمل على تعيني زمنية �أحداثه �إىل امل�شاركة الفاعلة يف‬ ‫�إنه ي�ستعيد �صوت ال�شاب يف عتبة الرواية وهو ينبه امللك‬
‫بناء احلدث و�إغناء مظاهره‪ ،‬وقد عملت رواية (ت�صحيح‬ ‫«�إن كنت نائما ً فا�ستيقظ»‪ ،‬دافعا ً الرواية عرب الذاكرة‬
‫و�ضع) على ر�صده منذ جملتها االفتتاحية وهي ت�ستعري‬ ‫�إىل ر�ؤية ما مل يُر بعني يحيى من قبل هي تعيد تقدمي‬
‫مقولة با�شالر (بدون البيت ي�صبح ا إلن�سان كائنا ً مفتتاً‪،‬‬ ‫امل�شهد على نحو مرئي بناء على ما تقدم من تف�صيالت‪،‬‬
‫�إنه البيت يحفظه عرب عوا�صف ال�سماء و�أهوال ا ألر�ض)‪،‬‬ ‫فاملعدية تُ�ستح�رض طبقا ً ل ألو�صاف التي ذكرتها ناهد‪،‬‬
‫املقولة التي ك�شفت بجالء �شعري ما ميكن �أن ي�ؤديه غياب‬ ‫�صديقة رنا‪ ،‬بركابها وحيواناتها و�سياراتها وعرباتها‬
‫البيت من تهدمي ل إلن�سان‪ ،‬فهل ت�سعى الرواية وهي جتعل‬ ‫الكارو‪� ،‬إنهم يُ�ستح�رضون ال يف �سبيل ت�أكيد وجودهم‪� ،‬أو‬
‫من مقولة با�شالر بابا ً للدخول �إىل عواملها ل إل�شارة �إىل‬ ‫الدفاع عن حلظاتهم ا ألخرية قبل واقعة الغرق بل ليكونوا‬
‫بيت غائب و�إن�سان مفتت جراء هذا الغياب؟‬ ‫�شهودا ً على وجود املعديّة يف غرفة يحيى‪ ،‬وهي اللحظة‬
‫تفتح الرواية بابا ً ثانيا ً تقرتب فيه �أكرث من عواملها‬ ‫التي ي�ؤخذ فيها الركاب املوتى بده�شة �أن يكونوا هنا‪،‬‬
‫اخلا�صة عرب مقولة لعبد اهلل الربدوين (عرفته مينياً‪،‬‬ ‫حما�رصين بحائط و�سقف ين�شغلون بالنظر �إىل �أعلى‬
‫يف تلفته خوف‪ ،‬وعيناه تاريخ من الرمد)‪ ،‬فهل عيّنت‬ ‫حيث من املفرت�ض �أن تكون �سماء فلم يجدوا �سوى �سقف‬
‫الرواية مبقولة الربدوين ما �أملحت �إليه مبقولة با�شالر‪،‬‬ ‫مب�صباحه املطف�أ‪ ،‬تُ�ستح�رض املعديّة على اجلدار �صورة‬
‫وهل اخت�رصت بني املقولتني م�ساحة من املراقبة‬ ‫ثابتة ولنتذكر بدورنا ت�صور �سوزان �سونتاغ ال يتحرك‬
‫تظل بالن�سبة للقارئ هاج�سا ً خفيا ً قبل الو�صول �إىل‬ ‫كل من كان فوقها وال يتكلمون‪� ،‬إنهم يعي�شون بعد املوت‬
‫ده�شتهم ويوا�صلون �شهادتهم على وجود املعديّة يف‬
‫ف�صلها ا ألول؟‬
‫الغرفة‪ ،‬الوجود الذي يحيا قلقه اخلا�ص وينمّي احتماالته‬
‫�إن (ت�صحيح و�ضع) تئن قبل �أن تتكلم‪ ،‬وتومئ قبل �أن‬
‫بني احلقيقة واحللم‪ ،‬حيث يكون احللم يف عامل منت�رص‬
‫تُف�صح‪ ،‬ك�أنها ت�ستعيد‪ ،‬وهي تتطلّع للحظتها اخلا�صة‪،‬‬
‫القفا�ش رديفا ً للخيال ووجها ً من وجوهه‪ ،‬وهو ا آللية‬
‫تاريخا �صامتا ً من املرارة والهوان‪ ،‬ذلك الهوان الذي‬
‫يقدم على دفعات منتظما ً يف �شظايا و�أجزاء من وقائع‬ ‫التي يُ�ستح�رض العجائبي من خاللها بو�صفه ا�ستيهاما ً‬
‫يوطد عالقته بال وعينا وبـ» الغرابة التي ت�سكننا» ح�سب‬
‫بقيت خارج حماولة معاجلة و�ضع �أنا�سها فيبدو ت�صحيح‬ ‫جان بلمان نويل(‪� ،)31‬إنه القنطرة الق�صرية بني املمكن‬
‫الو�ضع نف�سه نوعا ً من موا�صلة اللعبة ا ألليمة وهي متد‬ ‫وامل�ستحيل وهو اللحظة التي ترتا�سل خاللها �أحالم‬
‫يف زمن العمالة وتو�سع من غربة �أ�صحابها‪ ،‬فالرواية‪،‬‬ ‫املوتى مع �أحالم ا ألحياء لتوا�صل الرواية يف مزيج‬
‫بناء على ذلك‪ ،‬ت�ؤجل الك�شف عن مرجعية عنوانها حتى‬ ‫�أحالمهما ن�سج حكايتها وهي تعي�ش دينامية املواجهة‬
‫ال�صفحة الثامنة واخلم�سني‪ ،‬ك�أمنا لت�ؤكد و�ضعا ً غري‬ ‫بني التذكر والن�سيان‪.‬‬
‫قانوين يقيد �شخو�صها الرئي�سيني وهم يندفعون يف ليل‬
‫احلدود ومتاهاتها ( عندما كان يعود مرّة �أخرى �إىل غلق‬ ‫ـ ت�صحيح و�ضع ‪ :‬حرب مع الذاكرة‬
‫ا ألكيا�س‪ ،‬بلهب ال�شمعة والري�شة امل�سننة‪ ،‬وملا ا�ستبط� أ‬ ‫ت�سعى رواية �أحمد زين (ت�صحيح و�ضع)(‪ )32‬إلنتاج قراءتها‬
‫عودة هويته �إىل جيبه‪ ،‬مد ّ يده ال�سرتجاعها‪ ،‬فنه�ضت‬ ‫اخلا�صة مل�شهد حياتي ال يخلو من التبا�س وتعقيد‪،‬‬
‫والدفرت بني �أ�صابعي‪ ،‬مفتوحاً‪ ،‬قر�أت بغري ا�ستعجال‪ ،‬بع�ض‬ ‫مثلما تعمل على تو�سيع م�ساحة احلياة اليمنية التي مل‬
‫بياناته‪ :‬مت ت�صحيح و�ضعه بتاريخ‪،1990/11/29 :‬‬ ‫يُقي�ض لها من قبل �أن تعي�ش �إ�شكاالتها اخلا�صة حتت‬
‫‪127‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حلظات مواجهته فيدخل يف متوالية �أ�سئلة تنفتح ومتتد‬ ‫ا�سم الكفيل‪ :‬م�ؤ�س�سة رهف للتجارة واملقاوالت)(‪،)33‬‬
‫مع توايل التجارب وت�صاعدها‪�»:‬أح�ست �أنه مل يعد لها‬ ‫مبا يجيب �ضمنا ً عن اعتماد الرواية عددا ً من التقنيات‬
‫وطن‪� ،‬شعرت بفراغ مكانه‪ ،‬فراغ �أليم‪ .‬هل الوطن جمرد‬ ‫ال�رسدية يف ال�ضمائر وحتوالتها‪ ،‬والزمن مبراوحته‬
‫�أمكنة‪ ،‬جغرافيا‪ ،‬والنا�س هم حركتها‪ ،‬عافيتها‪� .‬إذا كان‬ ‫وتداخله‪ ،‬وعن جتزئة امل�شهد التي تقف وحدها خ�صي�صة‬
‫ذلك نعم‪ ،‬فلي�س هناك وطن‪ ...‬ال وطن ألنه ال يوجد نا�س‪،‬‬ ‫م�ؤثرة ميكن �أن تقول ب�أجزاء ال�صورة وتف�صيالتها ماال‬
‫وال حركة‪ ،‬فقط �أ�شباح‪ ،‬خملوقات تفتك بها الفاقة»(‪،)37‬‬ ‫تقوله ال�صورة مكتملة ومرئية من النظرة ا ألوىل‪� ،‬إن‬
‫من هنا ميثل ال�سعي املتوا�صل الجتياز احلدود حربا ً‬ ‫الرواية تعمل با�ستعادة تفا�صيل ال�صورة مرّة بعد �أخرى‬
‫تتعدى املوانع اجلغرافية لت�شتبك مع ا ألزمنة اخلا�صة‬ ‫على تهجئة م�شاهدها قبل �أن ت�صل بها �إىل قراءة حمكمة‪،‬‬
‫لل�شخ�صيات فتكثف وعيها لتكت�شف �رضاوة وجودها‬ ‫والرواية بذلك‪ ،‬حتقق مراوحتها الزمنية وهي توزع مادة‬
‫وتعمّق �شعورها بغربة وا�سعة ت�ستعيد الرواية ر�صدها‬ ‫العر�ض على الق�صة كلها «وهي ت�صيرّ ال�رضورة تفننا ً �إذ‬
‫ومواجهتها‪ ،‬مثلما ت�ستعيد دورها يف توجيه ال�شخ�صيات‬ ‫جتزيء الرتتيب عن عمد‪ ،‬في�ضيع كل معنى اال�ستمرارية‪،‬‬
‫نحو م�صائر تكون يف الغالب معلومة ومتوقعة بالن�سبة‬ ‫وبذلك ال تالحظ الفجوات املوجودة بني ا ألحداث التي‬
‫لها على الرغم من ق�سوتها وعنف نتائجها‪ ،‬فتنظر كلما‬ ‫تتناولها الق�صة»(‪ ،)34‬خ�صو�صا ً و�أن الرواية ال تنتهج‬
‫ات�سعت غربتها �إىل مرايا �أعماقها‪ ،‬وتواجه من جديد معنى‬ ‫خطا ً ت�صاعديا ً يف تقدمي ق�صتها‪� ،‬إنها «كتابة تراكم‬
‫الوطن «الذي حتتفظ به ك�صورة عتيقة‪ ،‬لي�س له �أدنى �شبه‬ ‫ال�صور وت�ستوحي الذاكرة الب�رصية وال�سمعية‪ ،‬وحتر�ص‬
‫مب�سقط الر�أ�س ذاك‪ ،‬رمبا هو جمرّد ذريعة فقط‪ ،‬حتى ال‬ ‫على �إ�رشاك القارئ يف �سريورة اال�ستبطان والت�أمل‪� ،‬إن‬
‫نتيه �أو نتبدد بال هوية يف اخلواء والالمكان»(‪،)38‬‬ ‫(ت�صحيح و�ضع) ال تهتم باحلبكة املحكمة‪ ،‬وال بت�سل�سل‬
‫فتت�صاعد �أزمة ال�شخ�صيات وت�شتبك وقائعها وهي‬ ‫ا ألحداث وا ألزمنة‪ ،‬و�إمنا ت�سعى �إىل ا�ستح�ضار عامل‬
‫حتكي حكاية عبورها بني خانقني وتراكم �صور حروبها‬ ‫من�سوج من نتف امل�شاهدات العالقة بالذهن‪ ،‬ومن �أم�شاج‬
‫املا�ضية منها واحلا�رضة‪ ،‬هذه احلروب التي تتوجها‬ ‫التذكرات»(‪ )35‬حيث تتجز� أ الق�صة �إىل ق�ص�ص تتج�سد يف‬
‫حرب ا إلن�سان �ضد نف�سه‪� ،‬ضد وجوده وذاكرته‪ ،‬فهي‬ ‫كل منها ال�شخ�صيات الرئي�سية‪� :‬شائف‪ ،‬قبول‪� ،‬سامل‪،‬‬
‫«حرب ت�شب يف عراء الكائن‪ ،‬بينه وبني نف�سه‪ ،‬حرب‬ ‫قا�سم‪ ،‬مثلما ت�سحب يف دوامتها عددا ً من ال�شخ�صيات‬
‫ال�ستعادة ال�صورة ا ألوىل «للهناءة» �أو ل�رسقة ا إلميان‬ ‫الثانوية التي ت�شكّل وهي حتكي وقائع غربتها �صوت‬
‫من جديد‪ ،‬بحرافة «املواطن الثاين»‪ ،‬حرب �ضد النظرة‪،‬‬ ‫الرواية املوجع والعميق‪ ،‬لتت�ضافر ال�شخ�صيات‪ ،‬الرئي�سية‬
‫�أو �ضد اال�ست�سالم �أ�رسى �شعور آلخر بال�شفقة‪ .‬باخت�صار‬ ‫منها والثانوية‪ ،‬يف حلم متوا�صل ال بحياة كرمية �آمنة‬
‫هي حربهم مع الذاكرة»(‪ )39‬فيبدو م�سوغا ً عندئذ �أن تعي�ش‬ ‫و�إمنا باجتياز احلدود‪ ،‬بكل ما يتطلبه هذا احللم من ثمن‬
‫ال�شخ�صيات من خالل حكاياتها نوعا ً من احلرية‪ ،‬فهي‬ ‫باه�ض و�سعي مرير‪ ،‬حيث يغور املرء يف حلظات غربته‬
‫�إذ تعاين �أزمتها يف املكان والزمان الواقعيني تعمل‪ ،‬يف‬ ‫منف�صال ً عما حوله‪ ،‬غريبا ً عن ذاته وج�سده‪ ،‬في�شهد عندئذ‬
‫�شكل من �أ�شكال املواجهة �أو الرد‪ ،‬على التخل�ص من حدود‬ ‫وقائع انتهاكه يف غرف درك احلدود كما لو كانت توجه‬
‫زمنها الداخلي لتعي�ش اللحظة املا�ضية جنبا ً �إىل جنب‬ ‫�ضد �أج�ساد �أخرى مبا ي�شري الندحار عالقته مع الذات‬
‫مع حلظتها الراهنة‪ ،‬تعمّق كل منهما ا ألخرى ومتنحها‬ ‫وا آلخر والعامل والكون‪ ،‬فاجل�سد هو (بيت الكائن) و(الدليل‬
‫بعدا ً معنويا ً تظل الرواية من دونه بحاجة �إىل ما مي أل‬ ‫ا ألقوى على الكينونة)‪ ،‬وهو يعي�ش داخل الرواية حتوالت‬
‫ثغراتها الزمنية وينظم حركة ال�رسد فيها‪ ،‬وهي ال تكتفي‬ ‫يفقد معها خ�صو�صيته وح�صانته فتنمو داخله ابتداء من‬
‫ب�أن تتنقل حرة بني ا ألزمنة الثالثة فح�سب‪ ،‬بل وتتكرر‬ ‫انتهاكات احلدود‪ ،‬بذرة االغرتاب‪ ،‬وتتحكم‪� ،‬إىل حد بعيد‪،‬‬
‫عودتها �إىل املا�ضي با�ستمرار يف حركة دائبة بينه وبني‬ ‫مبا ين�ش� أ بينه وبني العامل من عالقات‪ ،‬مثلما تغدو م�س�ؤولة‬
‫امل�ستقبل مبا يخلق �رسدا ً لولبياً‪ ،‬ي�شبه يف حركته الزمنية‬ ‫عن �أفعاله داخل الرواية‪ ،‬فوجود اجل�سد «وو�ضعيته يف‬
‫حركة اللولب(‪ ،)40‬يعمل على املقاربة وامل�ؤ�آخاة بني �صور‬ ‫اخلطاب الثقايف مبثابة النواة �أو البنية العميقة التي‬
‫زمنية عدة ي�ؤدي فيها اال�سرتجاع دورا ً م�ؤثرا ً مب�ستوياته‬ ‫تتمحور حولها كل اخلطابات الفرعية امل�شكلة واملمثلة‬
‫املختلفة يف تفاوتها بني ما�ض بعيد و�آخر قريب‪ ،‬لكن‬ ‫لهذا املنت الثقايف يف جممله»(‪ ،)36‬مثلما ي�شهد معنى‬
‫هيمنة اال�سرتجاع اخلارجي‪ ،‬العودة �إىل ما قبل بداية‬ ‫الوطن من خالل امتهان اجل�سد وغياب الذاكرة واحدة من‬
‫‪128‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال ي�أمنون فيها خيانات ليلية �أو عمليات ث�أر مباغتة‬ ‫الرواية‪ ،‬و�ضعف ح�ضور اال�سرتجاع الداخلي‪ ،‬العودة �إىل‬
‫يرتكبها ملكيون وجمهوريون على ال�سواء‪ ،‬لت�ؤاخي يف‬ ‫ما�ض الحق لبداية الرواية ت�أخر تقدميه يف الن�ص‪ ،‬تك�شف‬
‫مراقبتها بني زمنني تعمل على املقاربة بينهما مقاربة‬ ‫عن �أهمية دعم احلدث الروائي الراهن بحوادث هي بع�ض‬
‫�آيديولوجية مينحها ال�رسد حيزا ً منتظما ً داخل �شبكة‬ ‫من تاريخه البعيد‪ ،‬مثلما تو�سع من م�ساحة التجارب‬
‫حوادثه‪« :‬لكن وبني حني و�آخر‪ ،‬و�أثناء ما كانت متر ّ‬ ‫اخلا�صة لل�شخ�صيات لتنفتح على التاريخ العام لليمن‬
‫بال�صورة الكبرية للرئي�س يظهر فيها مبت�سماً‪ ،‬املعلقة‬ ‫لتنتقي من �سل�سلة وقائعه ما يتنا�سب مع حلظتها احلالية‬
‫�أ�سفل من �صورة �صغرية‪� ،‬إطاراتها م�شغولة بزخارف‬ ‫ويعمق ظاللها ا إلن�سانية‪ ،‬ف�أحداث الرواية التي تبد� أ مع‬
‫«قهوة أ�مريكية»‪:‬‬ ‫دقيقة‪ ،‬جتمع امللكني ال�سعودي في�صل وا ألردين احل�سني‬ ‫�أغ�سط�س ‪ 1990‬حيث تع�صف متغريات احلدث ال�سيا�سي‬
‫ذاكرة للم�ستقبل‪،‬‬ ‫والرئي�س جمال عبد النا�رص ومعهم ا إلمام‪ ...‬كانت ت�سرتق‬ ‫ب�أحوال اليمنيني داخل اململكة العربية ال�سعودية وتنتهي‬
‫تاريخ للن�سيان‬ ‫نظرات �إليها‪ ،‬وتنو�ش بر�أ�سها لك�أمنا يف حلم طويل»(‪،)43‬‬ ‫مع موت زوج االبنة الكربى للجدة‪ ،‬بعد �أن ي�شتد به مر�ض‬
‫تعمّق (قهوة‬ ‫فالرواية تن�شغل من خالل معاجلتها الزمنية ب�إ�ضاءة‬ ‫ال�سل‪ ،‬بعد حترير الكويت ب�سنتني‪ ،‬جتد مت�سعها ب�شبكة من‬
‫حلظات متلك ت�أثريها يف تاريخ ال�شعب اليمني وحياة‬ ‫اال�سرتجاعات التي ت�ؤكد �أهمية الزمن يف اخلربة الب�رشية‬
‫�أمريكية)‬ ‫�أنا�سه‪ ،‬مثلما متلك �أن تعمّق �س�ؤال ال�شخ�صيات وهي‬ ‫وتفوقه داخل الرواية على الزمن اخلارجي الفيزياوي‪،‬‬
‫ما �سعت‬ ‫توا�صل دومنا انتهاء رحلتها بحثا ً عن م�أوى �آمن وحياة‬ ‫فيتجلى الزمن التاريخي ل ألحداث‪ ،‬على الرغم من عدم‬
‫(ت�صحيح و�ضع)‬ ‫كرمية‪ ،‬لذلك فلي�س من الغريب �أن ت�ستعيد الرواية يف‬ ‫عناية الرواية برتاتبية وقائعها‪ ،‬من خالل جمموعة من‬
‫لك�شفه و� إ�ضاءته‬ ‫ف�صلها ا ألخري جانبا ً من رحلة ال�شخ�صية عرب احلدود بعد‬ ‫ا إل�شارات ملا قبل وقوع احلرب يف نوع من الر�صد مل�سرية‬
‫مع حمافظتها‬ ‫�أن تثّبت بع�ض تفا�صيل اتفاقها مع املهربني‪ ،‬ك�أنها تبد� أ‬ ‫ا ألحداث وتوجهاتها‪« :‬فكر قبل �أن يدهمه ذلك ا ألمل‪� ،‬أنه‬
‫يف ليل ال�صحراء متاهة جديدة‪ ،‬هذه املتاهة التي �شكّلت‬ ‫بعيد هناك رمبا �ستن�شب حرب‪� ،‬سيقاتل فيها ا ألمريكيون‬
‫على امتيازها‬ ‫بعدا ً قدريا ً تفر ّ منه ال�شخ�صية لكنها جتد نف�سها بعد طول‬
‫يف ر�ؤية املجتمع‬ ‫والكويتيون وال�سعوديون معا ً�ضد العراق‪ .‬وقال �إنها عار�ض‬
‫‪.‬معاناة �أ�سرية حبائله‬ ‫لن يطول‪ ،‬حدث و�سينتهي‪ ،‬و�إذا بقي كيف �سيطالهم‬
‫اليمني من‬ ‫ـ قهوة �أمريكية‪ :‬ذاكرة للم�ستقبل‪ ،‬تاريخ للن�سيان‬ ‫هم اليمنيون املقيمون هنا يف الريا�ض �أو �أي مدينة‬
‫الداخل والإن�صات‬ ‫�أخرى»(‪ )41‬ليتوا�صل الربط بني تداعيات احلدث ال�سيا�سي‬
‫تعمّق (قهوة �أمريكية)(‪ )44‬ما �سعت (ت�صحيح و�ضع) لك�شفه‬
‫ل�صوت � إن�سانه‬ ‫و�إ�ضاءته مع حمافظتها على امتيازها يف ر�ؤية املجتمع‬ ‫واحلياة اليومية لليمنيني بت�أثرياته املبا�رشة التي تقدمها‬
‫� إن�صات املراقب‬ ‫اليمني من الداخل وا إلن�صات ل�صوت �إن�سانه �إن�صات‬ ‫الرواية بطرائق خمتلفة ترد يف معظم ا ألحيان ب�صيغة‬
‫املكت�شف الذي‬ ‫املراقب املكت�شف الذي ي�ضع كل �شيء �أمامه مو�ضع‬ ‫ا أل�سلوب غري املبا�رش احلر‪ ،‬مثلما تت�ضمن يف احلوار‬
‫ي�ضع كل �شيء‬ ‫املعاينة وال�س�ؤال‪� ،‬إذ يوا�صل �أحمد زين فاعلية خطابه‬ ‫ال�صامت لل�شخ�صيات‪ ،‬وهي توا�صل مراقبتها ملا حولها‬
‫الروائي التي تنه�ض على جتزئة امل�شهد للوقوف على‬ ‫مرتقبة ما �ست�ؤول �إليه م�صائرها «و�أخذ ي�صغي لكلمات‬
‫�أمامه مو�ضع‬ ‫يقر�أها (كذا) �أحدهم لعا�رش مرّة على �سبيل الت�أكد �إن كل‬
‫تف�صيالته‪ ،‬ليكون كل تف�صيل فيه �صورة دالة تنه�ض عرب‬
‫املعاينة وال�س�ؤال‪.‬‬ ‫املجاورة مع �رشيط �صور اخلطاب الروائي ب�أداء فاعليتها‬ ‫ما يقال لي�س خط� أ مطبعيا ً وال زلة جريدة» نحن مل نفعل‬
‫و�إنتاج دالالتها‪ ،‬فال�صورة تنتظم يف (قهوة �أمريكية)‬ ‫�شيئا ً غري م�ساواتهم باملقيمني ا آلخرين» «لكن يا �سيدي‪.‬‬
‫بو�صفها كلمة يف جملة مرئية‪� ،‬إنها حتقق بالغتها‬ ‫‪� .‬ألي�س له عالقة مبوقف حكومتهم من الغزو العراقي‬
‫وتنتج جمازها يف ر�ؤية عامل يت�آكل و�إن�سان يدور يف‬ ‫للكويت»(‪ ،)42‬مثلما ت�شكل مراقبة احلدث ال�سيا�سي جزءا ً‬
‫حلقة وا�سعة من التيه‪ ،‬وهو يعي�ش تناق�ضه مبا حتفل به‬ ‫من ال�رسد نف�سه يف �سعيه إلر�ضاء زمنية �أحداث الرواية‬
‫املادة ال�رسدية من متثيل تُطعّم من خالله مبقاطع و�صفية‬ ‫فقد حتوّل بيت اجلدة تدريجاً‪ ،‬وبعد �أ�سابيع قليلة من‬
‫متوالية إلعالنات ال�سلع وهي تهيمن بلوحاتها ال�ضخمة‬ ‫االنت�صار اخلاطف لقوات التحالف‪� ،‬إىل نزل �صغري‪ ،‬ا ألمر‬
‫على جمرى احلياة اليومية وتتحكم برغبات �إن�سانها‪،‬‬ ‫الذي توا�صل معه ال�شخ�صيات بحثها عن زمنها اخلا�ص‬
‫مثلما تتحكم مبجرى التاريخ وتدل على حتوالته «بدا‬ ‫يف خ�ضم ا ألحداث فت�ستعيد بع�ض تفا�صيل حياتها خالل‬
‫لعارف �أن تلك الطريقة املبتكرة للوحات ا إلعالن‪ ،‬التي‬ ‫حكم ا إلمام‪ ،‬بزيارات ع�ساكره الليلية‪� ،‬أو خالل انت�شار‬
‫تنت�رش يف الزوايا والتقاطعات وال�شوارع الرئي�سية التي‬ ‫جنود عبد النا�رص يف البالد‪� ،‬أيام الثورة على امللكية‪،‬‬
‫تزدحم بالنا�س‪ ،‬وفوق �أ�سطح املنازل وبجوار �إ�شارات‬ ‫وهي تلتقط ح�ضورها العبثي وتراقب حياتهم يف خيام‬
‫‪129‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تُبث من خالل الراديو لترتكب جميعها يف م�ؤدى لغوي‬ ‫املرور‪ ،‬تعبري عن عهد جديد تدخله �صنعاء»(‪ ، )45‬ليكون‬
‫«تخيلتني �سمكة علقت يف �أع�شاب �شوكية داخل قف�ص‬ ‫العهد اجلديد يف جماز الرواية هو عهد تقدم ا إلعالن ال‬
‫زجاجي‪ ،‬مملوء ماء و�أ�شجارا ً �صناعية �صغرية‪ ،‬ور�أيت‬ ‫ال�سلعة واندحار ا إلن�سان‪� ،‬إذ تظل ال�سلعة املعلن عنها حلما ً‬
‫عيني جاحظتني‪ ،‬والمعتني من الرعب‪ ،‬ا�ست�سلمت لل�صورة‪،‬‬ ‫بعيد املنال ورغبة غري متحققة تعمل الرواية على قراءتها‬
‫�أخذت �أتفرّج عل ّي‪� ،‬رصت مادة للفرجة‪ ،‬يف �إعالن تلفزيوين‬ ‫يف اللحظة التي تقر� أ فيها جمتمعها‪ ،‬حيث «تُقدّم احلياة‬
‫طويل‪ ،‬مع هذه القائمة غري املنتهية من �أ�صناف ا ألطعمة‬ ‫نف�سها بكاملها على �أنها تراكم هائل من اال�ستعرا�ضات‪،‬‬
‫املختلفة والكماليات وا ألدوات املنزلية وال�سب�شل �أوفر‪،‬‬ ‫كل ما كان يُعا�ش على نحو مبا�رش يتباعد متحوال ً �إىل‬
‫بريزيدن‪ ،‬بوردن‪ ،‬ميلو‪� ،‬أندفوود‪ ،‬لورباك‪� ،‬سنو وايت‪ ،‬هوت‬ ‫متثيل ‪ ،)46(»representation‬لتقول الرواية من خالل ا إلعالن‬
‫�إن�سباي�س‪ ،‬فرياند لفلي»‪)49(...‬وهي املتاهة التي �سي�شرتي‬ ‫ما مل تقله يف نظرها مل�شهدها احلياتي‪ ،‬م�شهد مدينتها‬
‫عارف منها بكل ما ميلك علبة قهوة �أمريكية‪ ،‬و�سيف�شل‬ ‫التي مل تكن �سوى قرية كبرية خرجت من ع�صور �سحيقة‬
‫مرّة بعد �أخرى يف �صنعها مبذاق رائع كما ي�شاهد يف‬ ‫وهي «تُ�سقط ما ت�صدر عنه املدن من مواءمة بني احل�سبان‬
‫ا إلعالنات مكتفيا ً ب�أنه وجد �أخريا ً عزاء له يف التعرف‬ ‫الدقيق والقيم اجلمالية‪ ،‬ومالءمة بني احلاجات ا إلن�سانية‬
‫على املنتجات ا ألمريكية‪ ،‬هذه املنتجات التي وهبت‬ ‫وتكامل الكالم اجلماعي»(‪.)47‬‬
‫الرواية عنوانها و�سورت عاملها بجدار من لوحات ا إلعالن‬ ‫�إن لوحة ا إلعالن ال تقول نف�سها فح�سب‪ ،‬وال تكتفي‬
‫ال�ضخمة‪ ،‬ليوا�صل تخبطه حتت �سطوتها باحثا ً عن (تاريخ‬ ‫ب�أن ت�سوّق ب�ضاعتها‪� ،‬إنها تقولنا على نحو ما‪ ،‬ومتنح‬
‫�شخ�صي) ميكن من خالله �أن يعي�ش يف امل�ستقبل‪ ،‬حيث يبدو‬ ‫�إن�ساننا فر�صة �ضبابية للعي�ش فيها وال�شعور ب�شبع‬
‫احلا�رض زمنا ً متوقفاً‪� ،‬إنه ي�سعى للم�شاركة يف احلياة على‬ ‫غريب‪ ،‬وا إلح�سا�س بنظافة مل يعتدها ملجرد ر�ؤية‬
‫طريقته‪ ،‬واال�شتباك معها يف �سبيل �إنتاج ذاكرة للم�ستقبل‪،‬‬ ‫�إعالن �صابون اليف بوي‪ ،‬وال�شعور برائحته تعبق‬
‫حيث يكون احلا�رض نف�سه ما�ضيا ً ويعا�ش بو�صفه تذكرا ً‬ ‫ك�أجنحة املالئكة‪� ،‬إنها ت�شهد تفكك عاملها الواقعي‪،‬‬
‫يعي�شه املرء كما يعي�ش حلما ً �أو كابو�سا ً وي�ستعيده يف‬ ‫جتزئته وت�شظيه �إىل �صور ب�سيطة‪ ،‬تُ�صبح ال�صور‬
‫م�شاهد متوالية على امتداد الرواية ك�أمنا يف فلم �سينمائي‪،‬‬ ‫الب�سيطة كائنات واقعية وحوافز فعالة ل�سلوك يف‬
‫م�شاهد تتجاور يف حركيتها فيما تتداخل عنا�رص ا إلعالن‬ ‫حالة تنومي(‪.)48‬‬
‫فيها ملتحمة خارج الوقت الذي يبدو هو ا آلخر غري متوافر‬ ‫�إن ا إلعالن يف رواية �أحمد زين يتخلل احلدث‪ ،‬يخرتقه‬
‫ال يقدم �سوى عي�ش منفلت وال نهائي‪« ،‬فالوقت ي�شبه �أبدية‬ ‫ويت�سع فيه‪ ،‬وهو يف الوقت نف�سه ي�سوره وير�سم حدوده‬
‫رخي�صة»(‪ ، )50‬ا ألبدية التي تعم ّق �شعور عارف با إلغرتاب‪،‬‬ ‫ب�أطياف حلمية تعتمل فيها الروائح والطعوم وا أل�صوات‪،‬‬
‫تبعده عن نف�سه وت�سحبه من حلظته (التاريخية) الفا�صلة‪،‬‬ ‫جماالت ح�سية للنظافة والتنا�سق واجلمال تُنتج طباقها‬
‫ففي الوقت الذي يكون عارف فيه داخل املظاهرة لن‬ ‫مبواجهة جماالت دنيا يت�آكلها التلوث والركود هي‬
‫ين�شغل بغري اللوحات ا ألنيقة وعواملها الفارهة «حني‬ ‫جماالت احلياة التي جتعل من �إن�سانها مقابل قوة ا إلعالن‬
‫تخ�ضه‪ ،‬ترفعه تارة وتنزله مرّة �أخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫راحت احل�شود‬ ‫القاهرة مادة للعر�ض حيث يكف عن �أن يكون متفرجاً‪،‬‬
‫مل يدر عارف ملاذا ان�شغل بتلك اللوحات ا ألنيقة‪ ،‬التي‬ ‫ويزداد �إح�سا�سه ب�أنه مادة للفرجة‪ ،‬ليكون املتفرِّج‬
‫تعك�س رجاال ً ون�ساء ير�شون عطورا ً فارهة على �أج�سادهم‪،‬‬ ‫واملتفرَّج عليه يف وقت واحد‪� ،‬إنها متاهة ال�سلعة التي‬
‫ويقتحمون العامل بروائحهم اجلميلة‪ ،‬وفكر يف ذلك اجل�سد‬ ‫تنتقل من مراقبة العامل الروائي �إىل لغته لتبدو م�س�ؤولة‬
‫الرجويل �شبه العاري‪ ،‬بال�صدر الف�سيح والبطن امل�شدود‪،‬‬ ‫�إىل حد بعيد عن �إنتاج العامل‪ ،‬مثلما حتدد م�س�ؤوليتها‬
‫بالقرب منه زجاجة عطر �أنيقة‪ ،‬فيما كتب �أ�سفل ا إلعالن‬ ‫يف �إنتاج وعينا به‪ ،‬ف�إن ال�سمة الرتكيبية يف لغة ( قهوة‬
‫(‪)51‬‬
‫ا�سم الوكيل ال�شهري للعطورات العاملية يف دول اخلليج»‬ ‫�أمريكية) تهيء لها املجال لت�ستح�رض ال�سلعة مباركاتها‬
‫‪ ،‬بعيدا ً عن خماوفه التي تتكرر على امتداد الرواية ب�أنه‬ ‫التجارية �إىل جوار �أحاديث النا�س اليومية امللتقطة يف‬
‫�سيموت بر�صا�صة طائ�شة‪� ،‬أو �أثناء انفجار قنبلة‪� ،‬صدفة‪،‬‬ ‫البا�صات وال�شوارع واملقاهي‪ ،‬وامللفوظات ا إلنكليزية‬
‫مد�سو�سة يف مالب�س قبيلي‪ ،‬هذا ال�شعور الذي حتول �إىل‬ ‫داخل معهد تعليم اللغة‪ ،‬وحوار ال�شخ�صيات الذي ال يرتفع‬
‫نوع من ترقب وانتظار بني جمموعة من امل�شاهد التي‬ ‫عن اللهجة اليمنية‪ ،‬وعناوين ال�صحف‪ ،‬وا ألغاين النادرة‬
‫حتفل بالقنابل وا أل�سلحة‪ ،‬قنابل يدوية يلهو بها ال�صبيان‬ ‫العربية منها وا إلنكليزية‪ ،‬ت�ؤدى عرب ال�شخ�صيات �أو‬
‫‪130‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إن بحث عارف عن تاريخ �شخ�صي وهو يحمل عجزا ً‬ ‫و�أ�سلحة تطل من ثياب العابرين‪ ،‬ا ألمر الذي يدفع عارف‬
‫جن�سيا ً نتج عن رف�سة متوح�شة مبقدمة جزمة‬ ‫لتخيل ميتة منا�سبة ال تبعد كثريا ً عن اللحظة التي ينف�صل‬
‫ع�سكرية دخلت فتحة �رشجه وغارت عميقا ً ينتج‬ ‫فيها عن دوامة اليومي ونزيف م�شاهده لي�ستبدلها مبيتة‬
‫جمازه مبواجهة م�ستقبل لن يتحقق‪ ،‬ف�إن ما حتلم به‬ ‫درامية متخيلة داخل دار عر�ض �سينمائي يف �ضوء ال�شا�شة‬
‫ال�شخ�صية من تاريخ م�رشّف وت�سعى للح�صول عليه‬ ‫التي تعر�ض فيلما ً�أمريكيا ًما دامت كل ا ألفالم التي تعر�ض‬
‫عرب ا�شرتاكها‪ ،‬ولو م�صادفة‪ ،‬باملظاهرة‪ ،‬لن يكون غري‬ ‫�أمريكية �سيتلقى عارف الر�صا�صة بعد �أن يلمح ملعة عيني‬
‫هدم متوا�صل لذاتها‪ ،‬ت�شظية ومتزّق يقابالن ما حلمت‬ ‫قاتله‪ ،‬ليكمل هروبه من موت جماين �إىل موت مق�صود‬
‫به ويبددان حلميته مع ت�صاعد ا ألمل والظنون‪ ،‬مع‬ ‫يقود �إىل الفخر‪� ،‬إن التخيل لن يعمل‪ ،‬بذلك‪ ،‬على ت�أجيل‬
‫توجه عارف للتفكري ب�أنه كائن مغت�صب‪ ،‬ومع �س�ؤال‬ ‫الواقع بقدر ما يعمل على اقرتاح نهاية على اخلو�ض فيه‪،‬‬
‫طبيب ا ألمرا�ض التنا�سلية الذي يتجنب النظر �إليه‬ ‫هي �إحدى النهايتني اللتني ينتظرهما عارف‪ ،‬يرتقبهما‪،‬‬
‫وهو يحوّل ا ألمل �إىل حكم والظن �إىل اندحار‪�« :‬شاذ؟‬ ‫يعي�ش تف�صيالتهما‪ :‬موت امل�صادفة واجلنون‪ ،‬وهما‬
‫تفاج� أ فظل �صامتاً‪ ،‬ظن الرجل �أنه مل يفهم‪ ،‬فعاد ي�س�أل‬ ‫يلوحان مثل �شبحني يف نهاية امل�شهد بعد �أن افتُتحت‬
‫ب�صيغة �أكرث �رصاحة‪ :‬خمنوث ق�صدي؟»(‪. )53‬‬ ‫بهما الرواية نف�سها وهي تقرتح �أقواال ً لنايبول‪ ،‬ونيت�شه‪،‬‬
‫�سيتقارب موقف قبول يف (ت�صحيح و�ضع) وعارف‬ ‫وباموق‪ ،‬وراكب با�ص عتبة للدخول �إىل عواملها‪� ،‬إنها‬
‫يف (قهوة �أمريكية) من انتهاك ج�سديهما‪ ،‬ومراقبتهما‬ ‫ت�ؤ�س�س عرب غياب ا إلرادة‪ ،‬واالغرتاب‪ ،‬واجلنون‪ ،‬م�ؤديات‬
‫كما لو كانا يراقبان ج�سدين غريبني‪ ،‬ال�شعور الذي‬ ‫ا ألقوال وحمموالتها‪ ،‬مقرتبات عاملها قبل �أن تخو�ض‬
‫يدفع الرواية باجتاه النهاية الثانية بعد �أن متثلت‬ ‫فيه‪ ،‬ك�أن الرواية ح�سمت موقفها من العامل ومل يبق �أمامها‬
‫النهاية ا ألوىل بت�صور موت مق�صود‪ ،‬نهاية اجلنون‬ ‫غري �أن ت�ؤدي متثيالت خطوتها ا ألخرية‪ ،‬مبا يوطد ال�صلة‬
‫التي تظلل الرواية بغمامتها الدكناء فترتك �أثرها باديا ً‬ ‫بني (ت�صحيح و�ضع) و(قهوة �أمريكية) وهما يبنيان على‬
‫يف تفا�صيل امل�شاهد ويف �أعماق ال�صور‪ ،‬و�إذا كانت‬ ‫�أنقا�ض مفهوم الوطن يف اللحظة التي «يتحول االن�سان‬
‫(ت�صحيح و�ضع) قد ان�شغلت بحرب ا إلن�سان �ضد نف�سه‪،‬‬ ‫فيها �إىل ق�صبة جوفاء تر ّجع الذكريات وتعي�ش انحدارا ً ال‬
‫�ضد وجوده وذاكرته يف �سبيل ا�ستعادة ال�صورة ا ألوىل‬ ‫يكاد يتوقف عند حد»(‪ ،)52‬فالرواية ا ألخرية ال تتعامل مع‬
‫للهناءة‪ ،‬فن هناءة (قهوة �أمريكية) يف حربها إلنتاج‬ ‫عامل جديد وال تقرتح منطقة مبتكرة‪� ،‬إنها تو�سع امل�ساحة‬
‫ذاكرة ميكن �أن متكث هناك‪ ،‬يف امل�ستقبل‪ ،‬حيث ال �شيء‬ ‫التي ان�شغلت بها الرواية ا ألوىل وتعمّق احلفر فيها‬
‫غري املرء وتاريخه ال�شخ�صي ي�ؤ�آخي كل منهما ا آلخر‪،‬‬ ‫م�ستعيدة �أحا�سي�س قبول يف (ت�صحيح و�ضع) مبواجهة‬
‫ي�سنده ويتكئ عليه‪ ،‬حيث تتحرّك ال�شخ�صية بني طريف‬ ‫وطنها‪ ،‬وهي تعمل جاهدة يف �سبيل االنفالت منه لتحقيق‬
‫الفتنة املكللني بال�سواد‪ :‬طرف املوت وطرف اجلنون‪،‬‬ ‫حلمها باجتياز احلدود مثلما تعيد �إطالق �س�ؤالها يف‬
‫و�إذا كان ا ألول ان�سحابا ً نهائيا ً من احلياة‪ ،‬وذهابا ً‬ ‫معنى الوطن وتعي�ش على نحو �صامت �إجابتها‪� ،‬ست�ستعيد‬
‫لغزيا ً ال جواب له‪ ،‬ف�إن الثاين ي�شكل فتنته مبواجهة حياة‬ ‫(قهوة �أمريكية) ج�سامة ال�س�ؤال وتعي�ش �أ�صداء �إجابته عرب‬
‫ع�صية على املواجهة‪ ،‬ع�صية �أمام ال�س�ؤال‪ ،‬فما يولد من‬ ‫انك�سار احلا�رض‪ ،‬غيابه �أو �سقوطه �أو متاهيه يف البحث‬
‫�أغرب �أ�شكال الهذيان‪ ،‬بتعبري مي�شيل فوكو‪ ،‬هو» �شيء‬ ‫عن (تاريخ �شخ�صي) ينه�ض حائال ً �أمام غدر امل�ستقبل‪،‬‬
‫كان خمتفيا ً كال�رس من خالل مفارقة عجيبة‪� ،‬إنه ي�شبه‬ ‫ليعادل غدرُ احلا�رض غدرَ امل�ستقبل‪ ،‬يُنتجه ويُف�ضي �إليه‪،‬‬
‫حقيقة ال ميكن الو�صول �إليها يف قلب ا ألر�ض»(‪ ، )54‬هذا‬ ‫وهما معا ً يقتاتان على املا�ضي‪ ،‬يجردانه من �أهميته‬
‫ال�رس الذي دفع عارف مرارا ً للهروب من م�شاهد اجلنون‬ ‫وي�سطوان عليه‪ ،‬مثلما يك�شفان تناق�ضه مبواجهة تاريخ‬
‫وهي تتكرر �أمامه ك�أنها تُنتج ذاتها بتلقائية واعتياد‪،‬‬ ‫وطني عريق‪� ،‬إن البحث عن تاريخ �شخ�صي يف ظل عراقة‬
‫حتى ليبدو االنحدار باجتاه اجلنون �أمرا ً مدركاً‪ ،‬على‬ ‫تاريخ وطني عملية ال تخلو من مفارقة والتبا�س‪ ،‬عراقة‬
‫الرغم من خ�شيته‪ ،‬ومنتظرا ً على الرغم من ا�ستحالة‬ ‫تُنتج اجلغرافيا فيها �أ�سطوريتها‪ ،‬وعرب ا أل�سطورة حتقق‬
‫التكهن به‪� ،‬إنه يحدث ملن حولنا كما لو كان مقدمة ملا‬ ‫ح�ضورها مكانا ً �أول للذاكرة‪ ،‬الذاكرة الب�رشية هذه املرّة‪،‬‬
‫�سيحدث لنا‪.‬‬ ‫حيث ال يعد ثمة جمال للذاكرة الفردية حتيا من خالله‬
‫�إن اخل�شية تدفع عارف لهوة اجلنون‪ ،‬اخل�شية تناديه‪،‬‬ ‫وتنمو فيه‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(‪�)44‬أحمد زين‪ ،‬قهوة �أمريكية‪ ،‬رواية‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بريوت‬ ‫مثلما نادته الر�صا�صة مليتة م�رشّفة‪ ،‬فتنعك�س �صورته يف‬
‫‪2007‬‬
‫(‪)45‬م‪ .‬ن‪16 :‬‬ ‫عيون ا آلخرين ن�صف عار يعرب ال�شوارع املكتظة منتظرا ً‬
‫(‪)46‬جي ديبور‪ ،‬جمتمع الفرجة‪ ،‬ت‪� .‬أحمد ح�سان‪ ،‬دار �رشقيات‪ ،‬القاهرة‬ ‫الر�صا�صة من جديد‪ ،‬من دون �أن يجد مفرا ً من �س�ؤال نف�سه‬
‫‪9 :1994‬‬ ‫قبل انزالقه �إىل مهاوي اجلنون‪ :‬هل كنت تطارد تاريخا ً‬
‫(‪)47‬في�صل درّاج‪ ،‬رواية تواجه مدينة عربية‪ ،‬جريدة (احلياة) اللندنية‬
‫‪2007/7/17‬‬ ‫�أم �صورة؟‬
‫(‪)48‬يرن‪ :‬جي ديبور‪ ،‬م‪� .‬س‪�)49( 67:‬أحمد زين‪ ،‬م‪� .‬س‪67 :‬‬ ‫الهوام�ش‪:‬‬
‫(‪)50‬م‪ .‬ن‪)51( 35 :‬م‪ .‬ن‪)52( 81 :‬حممد برادة‪ ،‬م‪� .‬س‬
‫(‪�)53‬أحمد زين‪ ،‬م‪� .‬س‪113 :‬‬ ‫(‪)1‬ينظر‪� :‬صربي حافظ‪ ،‬نقل املركزية الروائية وجماليات �رسد ما بعد‬
‫(‪)54‬مي�شيل فوكو‪ ،‬تاريخ اجلنون يف الع�رص الكال�سيكي‪ ،‬ت‪� .‬سعيد بنكراد‪،‬‬ ‫احلداثة‪ ،‬جملة(ا ألقالم) العراقية ع‪2‬ني�سان‪�/‬آيار‪7: 1998‬‬
‫املركز الثقايف العربي ‪43 :2006‬‬ ‫(‪)2‬ينظر‪:‬د‪ .‬في�صل درّاج‪ ،‬نظرية الرواية والرواية العربية‪ ،‬املركز الثقايف‬
‫العربي‪ ،‬بريوت ط‪286 : 2‬‬
‫م�صادر البحث‬ ‫(‪)3‬كارل مارك�س‪ ،‬القلب ا آليديولوجي‪ ،‬كتاب‪ :‬الفل�سفة احلديثة‪ ،‬ن�صو�ص‬
‫ـ الروايات‪:‬‬ ‫خمتارة‪ ،‬اختيار وترجمة‪ :‬حممد �سبيال وعبد ال�سالم بنعبد العايل‪� ،‬أفريقيا‬
‫�أحمد زين‪:‬‬ ‫ال�رشق‪ ،‬املغرب ‪132: 2001‬‬
‫_ ت�صحيح و�ضع‪ ،‬دار االنت�شار العربي‪ ،‬بريوت ‪2004‬‬ ‫(‪)4‬منت�رص القفا�ش‪� ،‬أن ترى ا آلن‪ ،‬رواية‪ ،‬دار �رشقيات‪ ،‬القاهرة ‪2002‬‬
‫_ قهوة �أمريكية‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬بريوت ‪2007‬‬ ‫(‪)5‬مريي ورنوك‪ ،‬الذاكرة يف الفل�سفة وا ألدب‪ ،‬ت‪ .‬فالح رحيم‪ ،‬دار الكتاب‬
‫اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت ‪159: 2007‬‬
‫منت�رص القفا�ش‪:‬‬ ‫(‪)6‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪8 :‬‬
‫_ �أن ترى ا آلن‪ ،‬دار �رشقيات‪ ،‬القاهرة ‪2002‬‬ ‫(‪)7‬مي التلم�ساين‪� ،‬صفحة بي�ضاء هي حياته‪ ،‬جملة ( قوافل ) الريا�ض ع‪18‬‬
‫_ م�س�ألة وقت‪ ،‬روايات (الهالل) القاهرة‪ ،‬عدد ‪ 709‬يناير‪2008‬‬ ‫دي�سمرب ‪54 : 2002‬‬
‫ـ الكتب‪:‬‬ ‫(‪)8‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪9 :‬‬
‫_ �أ‪� .‬أ‪ .‬مندالو‪ ،‬الزمن والرواية‪ ،‬ت‪ .‬بكر عبا�س‪ ،‬مراجعة �إح�سان عبا�س‪ ،‬دار‬ ‫(‪)9‬م‪ .‬ن‪)10( 9 :‬م‪ .‬ن‪)11( 10 :‬م‪ .‬ن‪)12(10 :‬م‪ .‬ن‪10 :‬‬
‫�صادر‪ ،‬بريوت‪1997‬‬ ‫(‪)13‬ينظر‪ :‬مريي ورنوك‪ ،‬م‪� .‬س‪37:‬‬
‫_ �أدوار اخلّراط‪� ،‬أن�شودة للكثافة‪ ،‬دار امل�ستقبل العربي‪ ،‬القاهرة ‪1995‬‬ ‫(‪)14‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪11:‬‬
‫_ جي ديبور‪ ،‬جمتمع الفرجة‪ ،‬ت‪� .‬أحمد ح�سان‪ ،‬دار �رشقيات‪ ،‬القاهرة‬ ‫(‪ )15‬ادوار اخلّراط‪� ،‬أن�شودة للكثافة‪ ،‬دار امل�ستقبل العربي‪ ،‬القاهرة ‪1995‬‬
‫‪1994‬‬ ‫‪188 :‬‬
‫_ �سوزان �سونتاغ‪ ،‬االلتفات �إىل �أمل ا آلخرين‪ ،‬ت‪ .‬جميد الربغوثي‪� ،‬أزمنة‬ ‫(‪ )16‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪)17( 11 :‬م‪ .‬ن‪)18( 29 :‬م‪ .‬ن‪31 :‬‬
‫للن�رش والتوزيع‪ ،‬عمّان ‪2005‬‬ ‫(‪ )19‬م‪ .‬ن‪)20( 31 :‬م‪ .‬ن‪37 :‬‬
‫_ �شجاع م�سلم العاين‪ ،‬قراءات يف ا ألدب والنقد‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دم�شق‬ ‫(‪ )21‬ادوار اخلرّاط‪ ،‬ن�ص ور�ؤيتان‪ ،‬جريدة ( �أخبار ا ألدب ) القاهرة‪24 ،‬‬
‫‪1999‬‬ ‫مار�س ‪2002‬‬
‫_ في�صل درّاج‪ ،‬نظرية الرواية والرواية العربية‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪،‬‬ ‫(‪ )22‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪ .‬ن‪118 :‬‬
‫بريوت ط‪2‬‬ ‫(‪ )23‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م�س�ألة وقت‪ ،‬روايات (الهالل) القاهرة‪ ،‬عدد ‪709‬‬
‫_ كارل مارك�س‪ ،‬القلب ا آليديولوجي‪ ،‬كتاب‪ :‬الفل�سفة احلديثة‪ ،‬ن�صو�ص‬ ‫يناير‪2008‬‬
‫خمتارة‪� ،‬إختيار وترجمة‪ :‬حممد �سبيال وعبد ال�سالم بنعبد العايل‪� ،‬أفريقيا‬ ‫(‪� )24‬سوزان �سونتاغ‪ ،‬االلتفات �إىل �أمل ا آلخرين‪ ،‬ت‪ .‬جميد الربغوثي‪� ،‬أزمنة‬
‫ال�رشق‪ ،‬املغرب ‪2001‬‬ ‫للن�رش والتوزيع‪ ،‬عمّان ‪85 :2005‬‬
‫_ مي�شيل فوكو‪ ،‬تاريخ اجلنون يف الع�رص الكال�سيكي‪ ،‬ت‪� .‬سعيد بنكراد‪،‬‬ ‫(‪ )25‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪)26( 10 :‬م‪ .‬ن‪)27( 35 :‬م‪ .‬ن‪123 :‬‬
‫املركز الثقايف العربي ‪2006‬‬ ‫(‪ )28‬م‪ .‬ن‪5 :‬‬
‫_ مريي ورنوك‪ ،‬الذاكرة يف الفل�سفة وا ألدب‪ ،‬ت‪ .‬فالح رحيم‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫(‪ )29‬جابرع�صفور‪ ،‬هوام�ش للكتابة‪ /‬م�س�ألة وقت‪ ،‬جريدة(احلياة) اللندنية‬
‫اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت ‪2007‬‬ ‫‪2008/2/20‬‬
‫_ الدوريات‪:‬‬ ‫(‪ )30‬منت�رص القفا�ش‪ ،‬م‪� .‬س‪115 :‬‬
‫_ جملة(ا ألقالم) العراقية ع‪2‬ني�سان‪�/‬آيار‪� :1998‬صربي حافظ‪ ،‬نقل‬ ‫(‪ )31‬ينظر‪:‬د‪ .‬يو�سف �شكري‪� ،‬شعرية ال�رسد الروائي عند ادوار اخلراط‪ ،‬جملة‬
‫املركزية الروائية وجماليات �رسد ما بعد احلداثة‬ ‫(عامل الفكر) ع‪2‬مج‪� 30‬أكتوبر‪256 :2001‬‬
‫(‪� )32‬أحمد زين‪ ،‬ت�صحيح و�ضع‪ ،‬رواية‪ ،‬دار االنت�شار العربي‪ ،‬بريوت ‪2004‬‬
‫_ جملة (ف�صول) القاهرية مج‪ 16‬ع‪ :1998/4‬معجب الزهراين‪ ،‬متثالت‬ ‫(‪)33‬م‪ .‬ن‪58 :‬‬
‫اجل�سد يف مناذج من الرواية العربية املعا�رصة‬ ‫(‪� )34‬أ‪� .‬أ‪ .‬مندالو‪ ،‬الزمن والرواية‪ ،‬ت‪ .‬بكر عبا�س‪ ،‬مراجعة �إح�سان عبا�س‪،‬‬
‫_ جملة (عامل الفكر) الكويتية ع‪2‬مج‪� 30‬أكتوبر‪ :2001‬د‪ .‬يو�سف �شكري‪،‬‬ ‫دار �صادر‪ ،‬بريوت ‪89 :1997‬‬
‫�شعرية ال�رسد الروائي عند ادوار اخلراط‬ ‫(‪ )35‬حممد برادة‪� ،‬أحمد زين يبحث عن وطن غائب يف رحلة ال تنتهي‪،‬‬
‫_ جريدة ( �أخبار ا ألدب) القاهرية‪ 24 ،‬مار�س ‪ :2002‬ادوار اخلرّاط‪ ،‬ن�ص‬ ‫جريدة (احلياة) اللندنية ‪2005/9/30‬‬
‫ور�ؤيتان‬ ‫(‪ )36‬معجب الزهراين‪ ،‬متثالت اجل�سد يف مناذج من الرواية العربية‬
‫_ جريدة(احلياة) اللندنية ‪ : 2008/2/20‬جابرع�صفور‪ ،‬هوام�ش للكتابة‪/‬‬ ‫املعا�رصة‪ ،‬جملة (ف�صول) القاهرية مج‪ 16‬ع‪79 :1998/4‬‬
‫م�س�ألة وقت‬ ‫(‪� )37‬أحمد زين‪ ،‬م‪�,‬س‪88 :‬‬
‫_ جريدة (احلياة) اللندنية ‪ :2007/7/17‬في�صل درّاج‪ ،‬رواية تواجه مدينة‬ ‫(‪ )38‬م‪ .‬ن‪)39( 167 :‬م‪ .‬ن‪107 :‬‬
‫عربية‬ ‫(‪ )40‬د‪� .‬شجاع م�سلم العاين‪ ،‬قراءات يف ا ألدب والنقد‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪،‬‬
‫_ جريدة (احلياة) اللندنية ‪ : 2005 /9/30‬حممد برادة‪� ،‬أحمد زين يبحث‬ ‫دم�شق ‪64 :1999‬‬
‫عن وطن غائب يف رحلة ال تنتهي ‪.‬‬ ‫(‪� )41‬أحمد زين‪ ،‬م‪� .‬س‪)42( 19 :‬م‪ .‬ن‪)43( 20 :‬م‪ .‬ن‪146 :‬‬
‫‪132‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تنويعات على معنى أالدب‬


‫للم�ست�شرق الفرن�سي ‪� :‬شارل ب ّال‬
‫تعريب ‪ :‬رمــزي رم�ضــــاين‬
‫ناقد و�أكادميي من تون�س‬

‫قليلة هي املنا�سبات التي خا�ض فيها امل�ست�رشق الفرن�سيّ �شارل ب ّال يف م�سائل‬
‫الأ دب وق�ضاياه و«�ش�ؤونه الدّاخليّة»‪ .‬ودرا�ساته املفردة يف هذا الباب تع ّد‬
‫على ر�ؤو�س الأ �صابع قيا�سا �إىل غريها من الدّرا�سات التي ولىّ فيها –كعامّ ة‬
‫امل�ست�رشقني‪ -‬وجهه قبلة ال ّت�أريخ ‪-‬الأ نرتوبولوجي العامّ‪ -‬لثقافة العرب‬
‫و�أحوالهم ال�سيا�سية واالجتماعية دون عناية بتفا�صيل اخلطاب وق�ضاياه الآ نيّة‬
‫‪( -synchronique -‬الأ �سلوبية‪ ،‬الفنية‪ ،‬البالغية‪..‬؛ والنّظريّة –نظرية الأ دب‪،)-‬‬
‫ودون خروج عن منطق تغليب الإ يديولوجي (ق�ضيّة ال�شّ عوبيّة‪ ،‬مثال‪ ،‬وهي من‬
‫الق�ضايا الأ ثرية التي ال يخلو كتاب م�ست�رشق من �أ�صدائها وق�ضايا ال�صرّ اع‬
‫الدّاخليّ على ال�سّ لطة…�إلخ) ودون خروج –يف القراءة‪ -‬عن منطق ال ّت�أثري‬
‫الأ جنبيّ يف الثّقافة العربيّة‪ .‬وهو منطق �أحاديّ يقنع فيه امل�ست�رشقون غالبا –‬
‫بل دائما‪ -‬بو�ضع ثقافة العرب يف مو�ضع املنفعل ال الفاعل‪ ،‬الآ خذ ال املعطي…‬
‫فك�أنمّ ا هي –خالفا لثقافات الدّنيا كلّها‪ -‬ثقافة قا�رصة‪ ،‬ال متلك حركة نف�سها‬
‫وال تتطوّر ذاتيّا‪ ،‬من الدّاخل‪ .‬فقدرها –كما هو �ش�أنها اليوم‪� -‬أن تظ ّل حتت رحمة‬
‫يف ومقوالتها ما ي�شاء‪ ،‬ون�صيبها من الإ بداع ما يجود‬‫الآ خر ي�صنع مبنتجها الثّقا ّ‬
‫به غريها عليها !‬
‫‪� l‬أن «منوذج» الأ دب نف�سه وما يقوم عليه خطابه من ف ّنيّات وطرائق يف الكتابة مل‬
‫يدر�س بعد… ولذلك ال نعرف �إن كان هذا «الأ دب» نوعا �أدبيا �أو �أ�سلوبا ف ّنيّا �أو‬
‫فل�سفة من فل�سفات الكتابة �أو منهجا �أو غري ذلك… فك ّل ما نعرفه ال يتعدّى ما‬
‫قاله اجلاحظ عن �صفة يف �صفاته و�أنه «الأ خذ من كل �شيء بطرف»!‬
‫‪� l‬أمر �آخر مهمّ‪� ،‬أن النماذج الذي عر�ضها بال والأ مثلة التي �ضربها � إمنا اتكل‬
‫�أ�صحابها فيها على اجلاحظ و�أدبه‪.‬‬

‫‪133‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪méta-‬‬ ‫‪ -‬الدّافع الثاين ميكن تنزيله يف �إطار «امليتا‪-‬نظري» (‬ ‫مقدّ مة املرتجم ‪:‬‬
‫‪ .)théorique‬ونعني بذلك ما تطرحه قراءة �شارل ب ّال –امل�ست�رشق‪،‬‬ ‫ومن الدّرا�سات املهمّة التي تذكر لـ«بالّ» يف حقل البحوث‬
‫امل ؤ�رّخ‪ -‬يف مفهوم الأ دب من ق�ضايا و�إ�شكاليات‪ .‬ولي�س من باب‬ ‫الأ دبيّة اخلال�صة �أو �شبه الأ دبيّة‪ ،‬ف�ضال عن هذه الدّرا�سة التي‬
‫ف�ضول القول �أن �أ�ضفنا �صفة امل ؤ�رّخ وامل�ست�رشق و�أبرزناهما‪.‬‬ ‫نعر�ضها معرّبة‪ ،‬درا�سة «الأ دب العرب ّي وق�ضايا الأ دب املقارن»‬
‫فتوابع ال ّت�أريخ واال�ست�رشاق ماثلة حتّى يف هذه الدّرا�سة التي‬ ‫(‪ )littérature arabe et problèmes de littérature comparée‬وقد عرّبناها هي‬
‫كان يُفرت�ض �أن تكون نظريّة خال�صة �أو �أقرب �إىل النّظر‪ ،‬وهاج�س‬ ‫الأ خرى و�ستن�رش قريبا‪ ،‬ودرا�سة له �أخرى يف اجل ّد والهزل‬
‫الإ يديولوجي حا�رض دائما‪.‬‬ ‫(‪)seriousness and humour in early Islam‬وما عدا ذلك ف�آرا�ؤه يف ما‬
‫‪ -‬ويف هذا املقال فر�صة �أخرى لالطّ الع على وجه � آخر من‬
‫اتّ�صل بالأ دب العرب ّي ال تخرج عن بع�ض ال�سّ ياقات العار�ضة‬
‫فل�سفة اال�ست�رشاق ومناهجه وطرائق ا�شتغاله يف غري احلقول‬
‫ونخ�ص منها كتابه امل�شهور ‪ :‬الو�سط‬ ‫ّ‬ ‫يف ت�ضاعيف كتبه‬
‫التي اعتاد �أن يرتادها ويتحرّك يف م�سارحها‪ ،‬ونعني احلقل‬
‫الب�رصي ودوره يف تكوين اجلاحظ (‪Le milieu basrien et la formation‬‬
‫خا�صة‪ .‬ومل تخل هذه الدّرا�سة من بع�ض �أ�صدائه‬ ‫ال ّت�أريخي ّ‬
‫‪ …)de Gâhiz‬و�أغلبها حماوالت عامّة جمملة تكتفي بالإ طاللة‬
‫وهفواته �أي�ضا‪.‬‬
‫العابرة‪ ،‬والوم�ضة ال�سرّ يعة‪ ،‬واحلكم االنطباع ّي الذّات ّي املت�رسّع‬
‫‪ -‬النّقطة الثّانية ‪ :‬تتّ�صل بالبحث يف امل�صطلحات الف ّنيّة عامّة‬
‫خا�صة‪ .‬وهو مبحث مل‬ ‫ويف ما اتّ�صل منها بالأ نواع الأ دبيّة ّ‬ ‫�أحيانا‪ .‬فال ت�شقيق وال حتقيق‪ .‬وقد انتبه امل�ست�رشق نف�سه يف‬
‫ُيقننّ �إىل اليوم ومل يقعّد‪ .‬و�إنمّ ا ظ ّل يجري وفق ال�سّ انح والدّاعي‪.‬‬ ‫ما ي�شبه القراءة الذّاتيّة �إىل خ�صائ�ص منهجه الغالب على‬
‫ويف هذا املقال عيّنة منهجيّة الب ّد من تدبّرها والوقوف على‬ ‫الكتاب املذكور (الو�سط الب�رصيّ ‪ ) . .‬بـ«التّحليق» (‪. .)survol‬‬
‫خ�صالها و�أوجه تطويرها ت�أ�سي�سا ملنهج علميّ يف قراءة‬ ‫ومل يفته �أن يدعو امل�ست�رشقني من بعده �إىل جتاوز هذا املنهج‬
‫الأ نواع الأ دبيّة العربيّة القدمية ‪ :‬ن�ش�أتها‪ ،‬م�صطلحها (وت�أ�صيله)‪،‬‬ ‫ال ّت�أريخي الزّماين (‪ )diachronique‬ت�أ�سي�سا لقراءة داخليّة يف ن�صو�ص‬
‫�أ�شكالها و�إ�شكالياتها وطرائق تطوّرها…‪.‬‬ ‫خا�صة –وهو مو�ضوع كتابه ومدار �أغلب بحوثه‪ -‬ويف‬ ‫اجلاحظ ّ‬
‫ن�ص مهمّ‪ ،‬متعدّدة �أوجه‬ ‫ما نقدّمه هنا –منعا للإ طالة‪ّ -‬‬ ‫عامّة ما �أنتجته الثّقافة العربيّة الإ �سالميّة القدمية‪.‬‬
‫لن�ص‬
‫الإ فادة منه والإ �ضافة �إليه‪ .‬وهو لي�س وح�سب ترجمة ّ‬ ‫ونح�سب �أ ّن هذه الدّرا�سة التي نقدّم اليوم للقارئ �إنمّ ا ت�ستجيب‪،‬‬
‫ّ�ص يف �أ�صله الأ وّل حما�رضة‬ ‫و�إنمّ ا هو �أ�شبه بالتّحقيق‪ .‬لأ نّ الن ّ‬ ‫مبعنى ما من املعاين‪� ،‬إىل هذا املطلب وتنخرط يف هذا امل�رشوع‬
‫ّ�ص الفرن�سيّ املكتوب‬ ‫�شفويّة دوّنت بالفرن�سيّة‪ .‬ولئن احتمل الن ّ‬ ‫املن�شود‪.‬‬
‫هنات امل�شافهة وا�ستطاع �أن يكيّفها ويلجم تنطّ عها وا�ستطاع‬ ‫وممّا دعانا �إىل تعريبها‪� ،‬أمور‪ - :‬مو�ضوعها �أوّال‪ ،‬ومداره‬
‫�أن يكيّفها فظ ّل مع ذلك متنا�سقا مفهوما‪ ،‬فقد كان علينا �أن‬ ‫اخلا�ص‬
‫ّ‬ ‫على مفهوم «الأ دب» العرب ّي مرتاوحا بني املفهوم‬
‫ّ�ص وا�ضحا‬ ‫نتدبّر الأ مور ونحتال على اللّغة ونحبرّ ها ليظ ّل الن ّ‬ ‫(الأ دب يف مفهومه اجلاحظ ّي الأ وّل) واملفهوم العا ّم (الأ دب‬
‫يف العربيّة ‪-‬ي�ستويف �رشوط الفهم والإ فهام‪� ،-‬أمينا يف الآ ن‬ ‫يل و�صناعة خلطاب خم�صو�ص خمتلف �ألوانه‬ ‫مبا هو ف ّن قو ّ‬
‫ذاته على م ؤ�دّى اللّ�سان الأ وّل وحافظا حلرمة اال�صطالحي من‬ ‫‪ .)littérature‬وما �أحوجنا اليوم �إىل مراجعة هذا «املفهوم»‬
‫الأ لفاظ فيه‪ .‬ومن هنا كانت بع�ض الزّيادات التي اقت�ضاها‬ ‫امل�شكل‪ ،‬وتدبّره‪ ،‬والوقوف على �أ�س�سه‪ ،‬ومنطلقاته‪،‬‬
‫ال�سّ ياق ودفع �إليها املو�ضع ولوازمه‪ .‬ويف املقال وقد حو�رض‬ ‫وفل�سفته…متهيدا للك�شف عن نقاب «النّوع» –نوع‬
‫به يف جمهو ٍر عاملِ‪ ،‬غربيّ ‪ ،‬واتُّخذ له من املراكب املنهجيّة‬ ‫الأ دب‪ -‬هذا الذي ظ ّل جمهوال �إىل �أيّامنا؛ ال منلك من �أ�رساره‪،‬‬
‫منهج التّنويع والأ خذ من ك ّل �شيء بطرف –كمنهج الأ دب‪،‬‬ ‫والعلم ب�أغواره �شيئا يذكر �أو يُتذاكر ! فحاله كحال امل�أ�ساة‬
‫مو�ضوع املحا�رضة وقطب رحاها‪ -‬عدد من العبارات الالّتينيّة‬ ‫قبل جميء �أر�سطو �أو هو �أهول‪ .‬و�إالّ فهل من علم لنا اليوم‬
‫والإ �سبانيّة… وقد اجتهدنا يف نقلها‪ .‬وع�سى �أن نكون قد �أفلحنا‬ ‫بهذا اخلطاب وخ�صائ�صه الف ّنيّة الإ ن�شائيّة (‪ )poétiques‬؟ وهل‬
‫يف ذلك و�أ�سدينا خدمة �إىل خدمة الأ دب العربيّ القدمي ومريديه‬ ‫غادر الدّار�سون فيه «من مرتدّم» ما جاء عن اجلاحظ –�أو‬
‫واملنافحني عنه‪.‬‬ ‫بع�ض البع�ض منه‪ -‬من جمل مقت�ضبة ت�سم الأ دب ب أ�نّه‬
‫تنويعات على معنى أ‬ ‫«الأ خذ من ك ّل �شيء بطرف»؟ فهل علمنا منطق هذا الأ خذ‬
‫(‪)1‬‬
‫الدب‬ ‫مثال وطرائق ت�رصيفه و�إجرائه يف اخلطاب ؟ وهل عرفنا‬
‫عندما �رشّفني �أرمون � آبال وودّين بدعوتي �إىل املجيء و�إلقاء‬ ‫حدود هذه الأ طراف املق�صودة ؟ وهل بحثنا عمّا يقيّد هذا‬
‫هذه املحا�رضة يف بروك�سل بدا يل ك أ�نّه يرغب يف [احلديث‬ ‫التّعريف الذي قتل بحثا –وال بحث‪� -‬أو يكمّله؟؟؟‬
‫عن] مو�ضوع من موا�ضيع الأ دب العربيّ وعن �س�ؤال الأ دب على‬ ‫لهذا الأ �سئلة بع�ض �أطراف جواب يف هذا الدّرا�سة‪ .‬ومن هنا‬
‫وجه اخل�صو�ص‪ .‬وكان يل ذلك منا�سبة لإ دخال بع�ض النّظام‬ ‫�أهمّيتها‪ .‬فلعلّها �أن تكون بداية عوْد �إىل درا�سة معمّيات هذا‬
‫على �أفكار كانت ال تزال بع ُد ملتب�سة يف ذهني‪ .‬فقبلت الدّعوة‬ ‫املفهوم الغام�ض الذي ال يكاد يتن�سّ ب‪ ،‬وال نكاد نخرج فيه �إىل‬
‫على عجل؛ على �أنيّ ‪ ،‬ما يف ذلك �شكّ ‪ ،‬لن �أعرف يف �ساعة واحدة‬ ‫اليوم عمّا �سطّ ره امل�ست�رشق الإ يطايل كارلو نلّينو و�إليه يعود‬
‫من الزّمن �إىل ر�سم تاريخ هذا الأ دب املتعدّد الأ �شكال �سبيال‪.‬‬ ‫الف�ضل يف زيارة هذا املبحث والنّب�ش عليه يف مدافنه الأ لفيّة‪.‬‬
‫‪134‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫التي جتمع بني �صفتني ‪ :‬كونها حممودة‪ ،‬وموروثة عن ال�سّ لف‬ ‫وملّا كانت �سبل البحث يف هذه امل�س�ألة كثرية ال تكاد حت�صى‪،‬‬
‫ال�صالح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ف�س�أختار منها ما ميكّنني‪ ،‬باتّباع م�سلك لولبيّ يتنا�سب يف‬
‫ويالحظ نلّينو بعد ذلك �أنّ كلمة «�أدب»‪ ،‬يف �صيغة املفرد‪ ،‬قد‬ ‫جملته �إىل ح ّد ما مع منهج «الأ دب»‪ ،‬من التّوجّ ه �إىل �صميم‬
‫تدققت ولطف معناها ما �إن و�صل العرب �إىل درجة من احل�ضارة‬ ‫الق�ضيّة حيث �سنجد –بالطّ بع‪� -‬صاحبنا اجلاحظ‪ :‬القطب الذي‬
‫�أرفع لتدلّ –من جهة‪ -‬على القواعد املُ�سهمة يف تكوين الأ خالق‬ ‫عليه تدور يف نهاية املطاف رحى الأ دب كما تقول العرب‪.‬‬
‫يالحظ نلّينو‬ ‫العمليّة ممّا ال حتويه التّعاليم القر� آنيّة والتّقليديّة (املوروثة)‪،‬‬ ‫من املفيد دائما يف جمال بحثنا‪ ،‬بغية فهم املعنى العميق‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬على العوائد احل�سنة مكت�سب ًة كانت �أو فطريّة‪،‬‬ ‫مل�صطلح من امل�صطلحات الف ّنيّة التي تعرت�ضنا‪� ،‬أن نلج أ�‬
‫بعد ذلك أ� ّن كلمة‬ ‫وعلى جملة املبادئ الرتبوية الالّزمة ملن يروم التّحلّي يف‬ ‫�إىل فقه اللّغة منذ البداية و�أن ن�ستح�رض علم الدّاللة على‬
‫«�أدب»‪ ،‬يف �صيغة‬ ‫�سلوكه بالالّئق من �أخالق علية املجتمع ‪-‬وهو ما يقرّبه‬ ‫طول الطّريق ‪ :‬فهو علم غالبا ما كان هاديا‪� ،‬إذ ميكّن من‬
‫املفرد‪ ،‬قد تدققت‬ ‫الأ �ستاذ غابرييلّي من معنى «ال�سّ لوك احل�ضاريّ » [يف امل�صطلح‬ ‫حما�رصة التّ�صوّرات الأ �سا�سيّة ويك�شف يف حاالت كثرية‬
‫الالّتينيّ ] ‪ )urbanitas(-‬ويدلّ �أخريا على جملة املعارف الدّنيويّة‬ ‫عن مالمح قد تكون غام�ضة تتعلّق بنف�سيّة م�ستعملي‬
‫ولطف معناها ما‬ ‫التي الب ّد لك ّل طبقة من الطّ بقات �أن تكت�سبها التزاما مبا يتنا�سب‬ ‫يل ال�شهري‬ ‫اللّغة‪ .‬وهذا ما كان قد �أدركه امل�ست�رشق الإ يطا ّ‬
‫� إن و�صل العرب � إىل‬ ‫ووظائفها (مثل الق�ضاة واملعلّمني وكتّاب الدّواوين‪.) . .‬‬ ‫كارلو �أ‪ .‬نلّينو الذي خ�صّ �ص ‪-‬منذ تكليفه �سنة ‪-1910‬‬
‫درجة من احل�ضارة‬ ‫وباالنتقال من طور الرّواية ال�شّ فويّة �إىل طور التّوا�صل الكتابيّ ‪،‬‬ ‫‪ 1911‬ب�إلقاء درو�س يف الأ دب باللّغة العربيّة يف جامعة‬
‫تولّد عن هذه املبادئ و�أمناط ال�سّ لوك واملوروثات التّقليديّة‬ ‫القاهرة‪ -‬درو�سه الأ وىل للتّعريف بكلمة «�أدب» التي‬
‫�أرفع لتدلّ –من‬ ‫ال�صنف‬‫والتّعاليم املكوّنة للأ دب ثالثة �أ�صناف من الكتب ‪ :‬ي�ض ّم ّ‬ ‫كان قد اتخذها علماء العربيّة م�صطلحا داالّ على املادّة‬
‫جهة‪ -‬على القواعد‬ ‫خللُق»‪.‬‬ ‫ال�صبغة الأ خالقيّة‪� ،‬أو لنقل» �أدب ا ُ‬ ‫الأ وّل الكتابات ذات ّ‬ ‫التي يدرّ�سون وحتليل دالالتها‪ .‬ورغم قِدم الف�صل الذي‬
‫امل ُ�سهمة يف تكوين‬ ‫(‪ )adab-parénèse‬وي�ض ّم الثّاين الكتب اجلامعة املوجّ هة للخا�صة‬ ‫مهّد به نلّينو لكتابه املدر�سيّ‪ ،‬وقد ن�رش بالإ يطاليّة ث ّم‬
‫(‪ )gens du monde‬وحتتوي على مقطوعات من النّرث وال�شّ عر والأ خبار‬ ‫بالفرن�سيّة(‪ ،)2‬ف إ�نّه ال يزال يحتفظ بك ّل قيمته؛ وال �شيء فيه‬
‫الأ خالق العمليّة‬ ‫املتنوّعة والطّ رف والنّوادر التي حت�سن الإ فادة منها يف املجال�س‬ ‫ي�ستح ّق التنقيح الب�سيط �إالّ بع�ض النّقاط –وذلك �إذا خيرّ نا‬
‫ممّا ال حتويه‬ ‫الرّفيعة؛ وهذا هو ما ن�سمّيه «الأ دب‪-‬الثّقافة» (‪ )adab-culture‬وبه‬ ‫طبعا �أن نكتفي بالتحليل اخلارج ّي للم�صطلح و�أعر�ضنا‬
‫التّعاليم القر�آنيّة‬ ‫ال�صنف‬ ‫يتّ�صل «الأ دب‪-‬فنّ احلياة» (‪ )adab-savoir-vivre‬؛ وي�ض ّم ّ‬ ‫عن ال ّت�أريخ لـ«النّوع»‪.‬‬
‫والتّقليديّة‬ ‫الثّالث كتبا تعليميّة موجّ هة �إىل العاملني يف �شتّى امل�شاغل‬ ‫� أس�ُعر�ض �إذن عن �إعادة ما قاله هذا العالّمة مكتفيا ب�إبراز‬
‫الفكريّة‪ ،‬و�أ�صنافا من الكتب املوجِّ هة ‪ )6()vade-mecum‬؛ وهذا هو‬ ‫م�س�ألتني تف�صيليّتني‪.‬‬
‫(املوروثة)‪ ،‬ومن‬ ‫«الأ دب‪-‬التّكوين املهنيّ » (‪.)adab-formation professionnelle‬‬ ‫يل‬‫لقد �أخذ نلّينو يف غري م�شقة‪ ،‬ودعا �إىل الأ خذ‪ ،‬بالتّ�شقيق الدّال ّ‬
‫جهة �أخرى‪ ،‬على‬ ‫ها �أنا �أفرغ من تلخي�ص عمل نلّينو الذي �أراه‪ ،‬ال�ستناده �إىل‬ ‫الذي اقرتحه فولري�س (‪ )Vollers‬منذ عام ‪ ،1906‬وقد ذهب فيه‬
‫العوائد احل�سنة‬ ‫مدوّنات متميّزة و�رشوح معجميّة دقيقة‪ ،‬منطلقا مكينا [للبحث‬ ‫�إىل �أنّ «�أدب» مفرد �أُبدل منذ حقبة ما قبل الإ �سالم �إىل �صيغة‬
‫يف ق�ضيّة الأ دب]‪.‬‬ ‫اجلمع «� آداب» العائدة بدورها �إىل املفرد « َد�أب» الوارد ذكره‬
‫مكت�سب ًة كانت �أو‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فعلى قدر ما لهذا التحليل الذي قدّمه من نفا�سة‪،‬‬ ‫يف القر� آن(‪ )3‬مبعنى العادة وال�سّ نّة واملنزلة‪ ،‬ومثلُه ما جنده يف‬
‫فطريّة‪ ،‬وعلى جملة‬ ‫ف�إن مفهوم الأ دب يظل جمانبًا للأ �صل‪ ،‬منفلتا (‪ )fuyante‬عند‬ ‫ال�صاحلني قبلكم»(‪� .)4‬إ ّال �أنّني �أرى‬
‫احلديث النّبويّ ‪« :‬ف إ�نّه د�أب ّ‬
‫املبادئ الرتبوية‬ ‫الباحثني العرب ممّن �سعوْا �إىل تعريفه فاقرتحوا جمموعة‬ ‫�أنّ كلمة «د�أب»‪� ،‬ش�أنها يف ذلك �ش�أن كلمة �سنّة‪ ،‬كان لها يف‬
‫من التّق�سيمات امل�صطنعة واخلاطئة بالنّظر �إىل حقيقة‬ ‫الأ �صل معنى مادّيّ هو معنى «ال�سّ بيل وامل�سلك» و�أنّ زوجه‬
‫الالّزمة ملن يروم‬ ‫[الأ دب] املتحولة‪� .‬إذ مل ير ه�ؤالء ال ّنقّاد �أ ّن الأ دب يف‬ ‫الثّاين ‪�« :‬أدب»‪ ،‬ملجرد �أن حاجة مّا ‪-‬تكاد تكون غام�ضة‪-‬‬
‫التّحلّي يف �سلوكه‬ ‫مفهومه الوا�سع كان واقعا على ثالثة م�ستويات متوالج‬ ‫قد دفعت [العرب] �إىل اخرتاعه‪ ،‬الب ّد �أن يغطّ ي مفهوما �أبعد‬
‫بالالّئق من �أخالق‬ ‫بع�ضها يف البع�ض الآخر تواجلا حميميّا –�إن جازت هذه‬ ‫يف التّجريد‪ .‬و�أنت ال جتد هذه الكلمة يف القر� آن يف حني تظهر‬
‫ال�صّ ورة‪ :‬م�ستوى �أخالقيّ‪ ،‬وم�ستوى اجتماع ّي وم�ستوى‬ ‫يف بع�ض الأ حاديث(‪ )5‬حيث يدلّ الفعل «�أدّب»‪ ،‬امل�شتقّ من‬
‫علية املجتمع‪.‬‬ ‫فكريّ ‪.‬‬ ‫اال�سم‪ ،‬على معنى التّعليم والتّلقني والفاع ُل ‪ :‬هو اللهّ ‪ .‬وبعد‬
‫واحلقّ �أنه ال وجود حل ّد فا�صل بني هذه املالمح املتعدّدة للأ دب‬ ‫ظهور الإ �سالم وا�صلت كلمة «د�أْب» م�شوارها �إىل اليوم دون‬
‫ذي املحتوى اجلامع �أ�سا�سا لقواعد ال�سّ لوك املوروثة عن ال�سّ لف‬ ‫�أن تتمحّ �ض �إىل ا�صطالح فنّيّ خم�صو�ص بينما اكت�سبت كلمة‬
‫�سواء �أكان من العرب �أم الفر�س �أو حتّى من اليونان‪.‬‬ ‫«�سنّة» قيمة دينيّة واكت�سب «الأ دب» معنى موازيا‪ ،‬هو معنى‬
‫لقد كانت الغاية احلقيقيّة من وراء الأ دب –باخت�صار‪ -‬تكوين‬ ‫دنيويّ خال�ص‪ .‬من جهة �أخرى‪ ،‬يقابل املعجميّون بني «�إرب»‬
‫يف بطرائق‬ ‫امل�سلم املتو�سّ ط يف احلقل الدّينيّ والأ خالقيّ والثّقا ّ‬ ‫خا�صة‪�« -‬أريب»‪ ،‬من ناحية‪ ،‬و«�أدب» و«�أديب»‪،‬‬ ‫و«�إرابة» و– ّ‬
‫متنوعة �س�أ�سعى �إىل تبيان بع�ض خطوطها الكربى مركّزا يف‬ ‫من ناحية ثانية‪ .‬والأ ريب ‪ :‬الذّكيّ ‪ ،‬دقيق الفهم‪ ،‬والبارع يف ك ّل‬
‫ذلك‪ ،‬وهل من �شكّ ‪ ،‬على الظّ اهرة اجلاحظيّة التي يبدو �أنّ نلّينو‬ ‫�صناعة‪� .‬أمّا الأ ديب ‪ :‬فاجلامع للخ�صال املكوّنة للأ دب‪� :‬أعني‪،‬‬
‫ال يعرفها حقّ املعرفة‪.‬‬ ‫على ح ّد املدرك منها‪ ،‬جملة العوائد والأ �ساليب و�أمناط ال�سّ لوك‬
‫‪135‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إنَّ �أ ْمدَحَ ما يمُ دح به الأ ديبُ (‪ ،)homme de lettres‬عند ابن �شُ هيد هذا‬ ‫يف القرن املا�ضي‪ ،‬عندما ا�ضطر علماء العربية‪ ،‬كما كان �ش�أن‬
‫نف�سِ ه‪ ،‬و�سمُه بال�شّ اعر اخلطيب ال مبعنى ‪�« :‬شاعر وخطيب»‪ ،‬بل‬ ‫الأ تراك قبلهم‪� ،‬إىل تعريب م�صطلحنا [الغربي] «‪ ،« littérature‬وقع‬
‫مبعنى الكاتب ذي الطّ بع الفريد اجلاري على الوِزان نف�سِ ه من‬ ‫اختيارهم يف احلني على كلمة «�أدب» لتدلّ على املق�صود‪ ،‬وعلى‬
‫(ال�صنعتني) �أو يف كِ ال‬ ‫ّ‬ ‫ال�صناعتينْ‬
‫الي�رس وال�سّ ال�سة يف كلتا ّ‬ ‫اجلمع «� آداب» –الذي هو اليوم �أو�سع انت�شارا من غريه‪ -‬وحتّى‬
‫الفنَّينْ ‪ ،‬ال�شّ عر والنّرث‪ ،‬وهما املكوّنان الأ �صليّان للأ دب‪.‬‬ ‫على «�أدبيّات» وهو اللّفظ الوحيد الذي اقرتحه هـ‪ .‬فيهر ‪H. Wehr‬‬
‫وثمّة عبارة �أخرى موازية وهي خمتلفة عن الأ وىل متام‬ ‫للدّاللة على مفهوم ‪ littérature‬حماكيا يف ذلك‪ ،‬بال �شكّ ‪ ،‬كلمة‬
‫االختالف يف �صميمها وهي عبارة «ال�شّ اعر الأ ديب» التي كثريا‬ ‫«�أدبيّات» (‪ )edebiyet‬الترّ كيّة‪.‬‬
‫ما جندها عند املتقدّمني وت�ستحقّ �أن نقف عندها بُرهة ما دمنا‬ ‫كنت �أفكّر �إذن [كما قلت � آنفا] يف البحث يف وعي علماء العربيّة‬
‫نروم التّعريف بالأ ديب‪.‬‬ ‫العميق عمّا ميكن �أن يعلّل اتخاذ هذه الكلمة لتعريب م�صطلح‬
‫«ال يغدو الإ ن�سان �شاعرا بل يولد �شاعرا»‪ .‬كذا يقول الإ �سبان‬ ‫(‪ ،)littérature‬ذلك �أنّ �أيّ مفكّر دنيويّ ال ميلك بعد �أن ي�سمع ما �أنا‬
‫بارعني (‪ .)el poeta nace y no se hace‬وكذا متاما موقف املربَّزين من‬ ‫يل‬‫ب�صدد قوله �إ ّال �أن يعجب ملا بلغته [الكلمة] من تو�سّ ع دال ّ‬
‫نقّاد العرب الذين يُعلون يف الأ قدار من �ش�أن ال�شّ اعر املطبوع‪،‬‬ ‫(‪ )extension de sens‬يبدو يف ظاهره على قدر من الغل ّو كبري‪.‬‬
‫«ال�شّ اعر املولود �شاعرًا»‪ ،‬وهو الذي لفرط غناه عن تعلّم‬ ‫و�إنّني لأ عرتف بتوا�ضع �أنّ ك ّل جهودي قد ذهبت �سدًى‪ ،‬و�أنّه الب ّد‬
‫ال�صناعة‪ ،‬ك�أنّ ال�شّ عر �سجيّة فيه بل وك أ�نّه –�إن �أخذنا باملعتقد‬ ‫ّ‬ ‫للمرء من التّحلّي بقدر كبري من ح�سن ال ّنيّة بل قل من ال�سّ ذاجة‬
‫القدمي‪ -‬يتكلّم على ل�سانه �شيطان‪.‬‬ ‫لإ جراء هذه الكلمة على جمموع الإ نتاج الأ دبيّ (‪ littéraire‬يف حني‬
‫كان اخلطيب القدمي ِ�صنو ال�شّ اعر ث ّم ح ّل حملّه بعد ذلك –على‬ ‫مل يكن «الأ دب» ميثّل من هذا املجموعِ �إ ّال ق�سما من �أق�سامه‪،‬‬
‫الأ ق ّل منذ القرن الرّابع هـ‪ / .‬العا�رش م‪ - .‬ال النّاثر الب�سيط و�إمنا‬ ‫وكان يق�صي ك ّل امل�ؤلفات ذات التّوجّ ه الدّينيّ �أو التّقنيّ وهي‬
‫الكاتب املرت�سّ ل‪ .‬ويف حتفة ابن �شهيد الف ّنيّة الق�صرية املو�سومة‬ ‫امل ؤ�لّفات التي تكوّن الأ غلبيّة ال�سّ احقة للكتابة النّرثيّة‪ ،‬هذا من‬
‫بـ «التّوابع والزّوابع»‪ ،‬ال يزال اخلطيب هو الرّج َل امللهم بينما‬ ‫ناحية‪ ،‬كما يق�صي من ناحية �أخرى ال�شّ عر كلّه مبا هو �شعر‬
‫ين الذي يكتب الرّ�سائل‬ ‫هو يف غريه من م ؤ�لّفاته الكاتب الدّيوا ّ‬ ‫و�إن كان هذا ال�شّ عر ال يحتاج مبا هو ديوان العرب‪ ،‬كما �أ�شار‬
‫الدّيوانيّة يف نرث م�سجوع ث ّم ي�سرت�سل �ساعة اال�شتغال بهواياته‬ ‫عليّ م�ؤخّ را �صديق يل تون�سيّ ‪� ،‬إ ّال �إىل �شيء من املكر واحليلة‬
‫�إىل بع�ض الرّيا�ضات الأ دبيّة كالو�صف واملناظرات وغريها من‬ ‫لإ دخاله يف دائرة الأ دب‪.‬‬
‫ال�صنعة‪� .‬أمّا عبارة «�شاعر‬ ‫�أنواع التّ�صنيف التي ت�ضارعها يف ّ‬ ‫ويف اجلملة ف إ�نّه من املحتمل �أن ال يكون [الدّار�سون] املعنيّون‬
‫�أديب» يف املقابل فالكلمة الأ وىل فيها مزدوجة الدّاللة �إذ تدلّ‬ ‫قد ذهبوا لريوا الأ �شياء عيانا ومل ي�شعروا ب�أنف�سهم يوما – وذلك‬
‫ال�صنعة تعلّما‬‫على ال�شّ اعر املولود �شاعرا والنّاظم الذي تعلّم ّ‬ ‫د�أبهم غالبا منذ بدايات ع�رص النّه�ضة‪ -‬معنيّني باملعنى‬
‫دون متييز بينهما‪ .‬بينما ت�شري الكلمة الثّانية �إىل �أمر � آخر مغاير‬ ‫اال�شتقاقيّ لكلمة «�أدب»‪ :‬هذا املعنى الذي غاب عن الأ نظار منذ‬
‫يف اخلطيب؛ �إنها ت�شري �ضمنيا ال �إىل معنى العلم الباطنيّ ‪،‬‬ ‫زمن بعيد‪.‬‬
‫املوحى �إيحاء‪� )science infuse( ،‬أو املوهبة الفطرية اخلارقة‬ ‫�أعرف جيّدا �أنّنا لو �أخ�ضعنا كلمة ««‪ litteratura‬الالّتينيّة �إىل معاجلة‬
‫بل �إمنا ت�شري على العك�س من ذلك �إىل معنى االجتهاد يرمي‬ ‫م�شابهة الكت�شفنا �أنّها كانت تدلّ يف الع�رص الكال�سيكيّ على‬
‫[ال�شاعر من خالله] �إىل اكت�ساب املعارف الدّنيويّة –و�إ ّال لكان‬ ‫الكتابة والنّحو �أو العلم –وهي �أمور ال تدخل يف باب الأ دب‪-‬‬
‫عاملا‪ -‬التي يفرت�ض �أن تقوم مقام الأ ّ�س والعماد لأ يّ ن�شاط‬ ‫�إ ّال �أنّ كلمة‪ ،»litterae«  ‬يف النّهاية‪ ،‬كانت ت�ستعمل للدّاللة على‬
‫�أدبيّ ‪ ،‬نرثيّ –بطبيعة احلال‪.‬‬ ‫جمموع الإ نتاج الأ دبيّ مبا يف ذلك التّاريخ �أومل يكن �سي�رسون‬
‫وبذا حني نقول عن رجل مّا �إنّه «�شاعر �أديب» فهذا يعني ‪-‬من‬ ‫(‪ )Ciceron‬يتذمّر لبعد التاّريخ عن الآ داب ! (‪abst historia litteris nost‬‬
‫جهة‪� -‬أنّه ينظم �شعرا و�أنّه من املربّزين يف ذلك و‪-‬من جهة‬ ‫‪ ) tris‬؛ �أما العربيّة‪ ،‬فلئن دخلت يف �أدبها بع�ض امل ؤ�لّفات التي‬
‫�أخرى‪� -‬أنّ له ثقاف ًة دنيويّة وا�سعة �أي ن�صيبا ممّا ن�سميه بـ‬ ‫يغالىَ يف ن�سبتها �إىل التّاريخ مثل مروج الذّهب للم�سعوديّ ‪،‬‬
‫«الأ دب‪-‬الثقافة العامة» (‪ )l’adab-culture générale‬وهو بال�رضورة‬ ‫ف�إنّ التّاريخ العلميّ (‪ )histoire technique‬ال يندرج �ضمن هذا الباب‬
‫�أو�سع جماال من «الأ دب‪ -‬الثقافة االجتماعية (املدنية)» (‪l’adab-‬‬ ‫مطلقا‪.‬‬
‫‪ )culture mondaine‬الذي �سبق له �أن �أخذ منه وهو �رضوريّ –�إن‬ ‫ونخ�ص‬
‫ّ‬ ‫تدلّ كلمة «بيان» [يف املقابل] عند بع�ض الكتّاب‪،‬‬
‫رغب الأ ديب يف تعاطيه‪ -‬الحرتاف �صنعة الأ دباء وممار�سة‬ ‫منهم ابن �شُ هيْد‪ ،‬ال�شّ اعر والنّاثر الأ ندل�سيّ ‪ ،‬وهو من �أبناء القرن‬
‫«الأ دب‪-‬الفنّ اجلميل» (‪ )l’adab-belles lettres‬الذي يقابل على‬ ‫‪5‬هـ‪11/‬م‪ ، .‬على املوهبة الأ دبيّة باملعنى العامّ‪ .‬وقد كان‬
‫ح ّد التقريب –�إن مل �أكن خمطئا يف ذلك‪ -‬ما كان يطلق عليه‬ ‫بالإ مكان اتّخاذ هذه الكلمة للدّاللة على معنى الأ دب (‪littérat‬‬ ‫ب‬
‫الرّومان ت�سمية ‪( humaniores litterae‬الأ دب الإ ن�ساينّ)‪.‬‬ ‫ُـق�صى‪ ،‬يف هذه احلالة‪ ،‬من‬ ‫‪ )ture‬على اختالف �أ�شكاله �رشطَ �أن ي َ‬
‫يل الب�سيط غاية الب�ساطة الذي اعتمدته‬ ‫هذا التّم�شّ ي الدّال ّ‬ ‫تاريخ البيان العربيّ ك ّل الإ نتاج ال�شّ عريّ والنّرثيّ غري املتوفّر‬
‫ما هو يف نهاية املطاف �إالّ لعبة لأ نّه يقدّم معنى واحدا‬ ‫على خ�صال ف ّنيّة متميّزة‪ .‬واللهّ وحده يعلم �إن كان عدد الآ ثار‬
‫لكلمة «�أديب»‪ ،‬وهو املعنى الذي كنت �أبغي ا�ستظهاره‪.‬‬ ‫املتميّزة قليالً!‬
‫‪136‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫وعظ ت�ستلطفه الأ نف�س‪ .‬و�أقرب امل�سالك لبلوغ هذه الغاية يقوم‬ ‫ومن البديه ّي غاية البداهة �أن يكون بالإ مكان ا�ستخراج‬
‫�أوّال على التّ�ضحية بالعمق خدم ًة لالِت�ساع‪ ،‬كما يقوم‪ ،‬ثانيا‪،‬‬ ‫غريه من املعاين بالدّرجة نف�سها من الي�رس؛ وهاك مثاال ‪:‬‬
‫ملن ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيال‪ ،‬على تخيرّ ما خفّ على النّف�س من‬ ‫�إثر حما�رضة كنت قد �ألقيتها بالعربيّة يف مدينة فا�س‪ ،‬اعتلى‬
‫النّ�صو�ص املتوفّرة‪ ،‬وعلى حتلية التّحليل اجلا ّد بالطّ ريف من‬ ‫�شابّ مغربيّ املكان الذي كنت قد �أودعت فيه وما كان �أ�شبهه‬
‫النّوادر‪ ،‬واملتخيرّ من الأ �شعار‪ ،‬بل حتّى ب�أن يقطع الأ ديب –كما‬ ‫ب�أقفا�ص الأ �سود‪ .‬و�سمعت مغربيّا �آخر يقول له ب�صوت خافت‬
‫هو �ش�أن اجلاحظ يف البيان [والتّبيني] واحليوان‪ -‬ف�صال من‬ ‫«كن �أديبا» �أي مبعنى «‪[ »sois poli‬تعقّل ‪ /‬كن مهذّبا] ال مبعنى‬
‫ف�صول كتابه قطعا مفاجئا‪ ،‬مباغتا‪ ،‬قا�صدا بذلك �إىل �أن ي�سلّي‬ ‫«كن مثقّفا»‪.‬‬
‫القارئ �ساردا عليه نادرة من النّوادر يكون املق�صود منها‬ ‫لقد قابلت‪ ،‬رغب ًة يف ال�سري على خطى جهابذة علم وظائف‬
‫الإ �ضحاك و�إن بدت ال رابط ي�شدّها �إىل ال�سّ ياق‪.‬‬ ‫الأ �صوات (‪ ،)phonologie‬بني «�أديب» و»خطيب»؛ وقد قدم اجلاحظ‬
‫�إ ّن التّ�سلية غالبا ما تنتهي �إىل الإ �ضحاك‪ ،‬ولطاملا �ش ّد‬ ‫نف�سه يف ر�سالة له �سيكون لنا يف �ش�أنها حديث � آخر مقابلة‬
‫انتباهي تواتر خو�ض اجلاحظ يف تعليل ال�ضّ حك وب�ساطة‬ ‫�أخرى عميقة الدّاللة‪ .‬وهاك ما يقول ‪�« :‬إمنا ا�شتقّ ا�سم املعلّم من‬
‫الواقع الذي يبعث [يف نوادره] على ال�ضّ حك‪ .‬و�إنّني لأ ح�سب‬ ‫العلم‪ ،‬وا�سم امل ؤ�دّب من الأ دب‪ .‬وقد علمنا �أنّ العلم هو الأ �صل‬
‫�أ ّن م�أتى �إحلاحه �إمنا هو –حتديدا‪ -‬رغبته يف التّ�صدّي‬ ‫(‪)7‬‬
‫والأ دب هو الفرع‪ .‬والأ دب �إمّا خلق �أو رواية‪» . .‬‬
‫�إىل نزعة تعميم اجلدّ‪ .‬ومن الوا�ضح اجلل ّي �أ ّن رغبته يف‬ ‫�إنّ اجلاحظ –وهو الأ ديب بامتياز‪ -‬ال يخ�شى تقدمي العلم يف‬
‫تخفيف امللل الذي قد تفرزه امل�ؤلفات العلميّة هي التي‬ ‫الرّتبة‪ .‬ذلك �أنه عامل �أي�ضا مبعنى مّا من املعاين‪.‬‬
‫جعلته يبتكر �أدبا هو يف الآن نف�سه تعليميّ‪ ،‬بل ووعظيّ‪،‬‬ ‫وامله ّم يف هذا ال�شّ اهد �أنّه يفرّع الأ دب فرعني ‪�« :‬أدب خُ لق»‬
‫ولكنه م�ست�ساغ القراءة‪ ،‬لذيذ بف�ضل �أ�سلوبه املرح وبف�ضل‬ ‫و»�أدب رواية»‪� ،‬أو على الأ �ص ّح الأ دقّ ‪ :‬اكت�ساب املعارف يف‬
‫الفقر الهزليّة التي تت�ضمّنها ن�صو�صه‪.‬‬ ‫احلقل الدّنيويّ ‪ ،‬وحت�صيل املعرفة بل والتّبحّ ر فيها �أي�ضا‬
‫يل (‪ )puéril‬التب�سيطيّ هو‪ ،‬للأ �سف‪ ،‬ك ّل ما‬ ‫هذا الأ �سلوب الطّ فو ّ‬ ‫(‪ .)érudition‬و�سرنى مع ذلك �أ ّن الأ دب اجلاحظي يعر�ض �أمورا‬
‫�ضحَ كة (‪plaisant‬‬
‫اا�ستبقاه العرب و[لأ جله] اعتربوا اجلاحظ جمرّد ُ‬ ‫�أخرى مغايرة‪ ،‬و�أنّه لي�س بالإ مكان البتّة �إدراجه �إدراجا‬
‫‪ )tin‬دون الوعي بـ[قيمة] ما كان يدرّه عليهم من ف�ضل‪.‬‬ ‫كامال يف هذين البابينْ ‪.‬‬
‫بعد اجلاحظ‪� ،‬سيتكيّف الأ دب بح�سب الأ ذواق ال�شّ خ�صيّة‪،‬‬ ‫لنذهبْ يف بحثنا قدما ‪ :‬تقابل العلمَ‪� ،‬أي «العلم الدّينيّ »‪� ،‬أي�ضا‪،‬‬
‫و�سيكون على قدر رحابة عقول الكتّاب الذين �سيو�سّ ع منهم من‬ ‫املعرفةُ‪� ،‬أي «املعرفة الدّنيويّة»؛ وهي مقابلة تغدو مبقت�ضاها‬
‫يو�سّ ع من خمتاراته وي�ضيّق من ي�ضيّق –من ناحية‪ ،-‬والذين‬ ‫املعرفة يف نهاية املطاف م�ساوية للأ دب (مبعنى «الرواية»)‪.‬‬
‫�سينتهي بهم الأ مر‪ ،‬يف الأ غلب الأ عمّ‪ ،‬حتت طائلة «� آفة العلم» ‪:‬‬ ‫يف –�إن كان لنا به حاجة‪ -‬وهو‬ ‫ولنا على ذلك دليل � آخر �إ�ضا ّ‬
‫النّ�سيان –من ناحية �أخرى‪ .‬ويف ك ّل احلاالت تقريبا �سيُن�سى‬ ‫�أنّ كتاب ابن قتيبة [ ‪ 213‬هـ‪ 276 -‬هـ] املو�سوم بـ «كتاب‬
‫روح النّموذج اجلاحظيّ ‪ .‬ولن ي�ستبقى منه �إ ّال الظّ اهر‪ .‬و�سي�صل‬ ‫املعارف»(‪� )8‬إنمّ ا هو كتاب �أدب ال كتاب تاريخ كما يزعم‬
‫الأ مر �إىل ح ّد �سي�أخذ فيه بع�ضهم بالعلم [اخلال�ص] والتعليم‬ ‫بع�ضهم‪.‬‬
‫متنا�سني ن�صيب الهزل (�أو الت�سلية)‪ ،‬ومن هنا �سنح�صل على‬ ‫لقد كان الأ ديب‪� ،‬أو لنقل بلغتنا ‪� ،l’honnête homme‬إذن‪ ،‬يف القرن‬
‫�أدب بالغ اجل ّديّة‪ ،‬حمدود املحتوى‪ ،‬متدبّر التّ�صنيف؛ يف حني‬ ‫الثّالث هـ‪/ .‬العا�رش م‪ .‬هو الرّجل الّذي له من التّكوين واملعرفة‬
‫�سينهمك غريهم يف التّ�سلية متنا�سني ن�صيب التّعليم والتّكوين‬ ‫يف احلقول الدّنيويّة ما يخوّل له �أن يحظى بالقبول والرتحيب‬
‫و�سيقدّمون لنا �أدبا هزليّا‪� ،‬أو قل م�سلّيا بب�ساطة‪� ،‬ستمثّله طائفة‬ ‫يف جمل�س من املجال�س (‪ .)salon‬بل ليت أ�لّق يف هذا املجل�س‬
‫من جمامع النّوادر‪.‬‬ ‫وي�سطع جنمه ويرتك �أثرا يف تاريخ العمل الأ دبيّ �أي�ضا �إمّا‬
‫ومبا �أنّ اجلدّيني من علماء العربيّة ال ي�شريون �إ ّال قليال �إىل هذا‬ ‫ملا �سيكون قد نقله من � آثار �إىل رواد جمال�سه �أو تالميذه؛ و�إمّا‬
‫املكوّن من مكوّنات الأ دب‪� ،‬أراين ملزما بقول بع�ض الكالم فيه‪.‬‬ ‫لمِ ا �سيكون قد احتال به –متخذا منهجا يف التّ�صنيف غالبا‬
‫نعلم اليوم �أن مدار�س املو�سيقى والغناء التي قامت بعد‬ ‫ما تجُ هل مبادئه‪ -‬حلفظ هذه الآ ثار يف م ؤ�لّف �سيكون بالطّ بع‬
‫الإ �سالم يف املدن املقدّ�سة –وهذا من املفارقات‪ -‬قد �شجّ عت‬ ‫داخال يف باب الأ دب قائما على ثقافة عامّة متطورة‪.‬‬
‫على تكوّن فكاهيّني (‪ )humoristes‬حقيقيني هاجروا �إىل العراق‬ ‫وملّا كانت كتب العلماء مُ �سْ هبة بطبعها‪ ،‬منظّ مة‪� ،‬صارمة‪ ،‬مملّة‪،‬‬
‫وكوّنوا [هناك] بدورهم م�ضحِّ كني ذوي مواهب متنوّعة‪ .‬و�صار‬ ‫حمدّدة يف مو�ضوعها‪ ،‬موجّ هة �إىل جمهور من العلماء واملثقّفني‪،‬‬
‫الظّ رف ‪-‬هذا الذي جعل منه �صاحب الأ غاين خ�صلة تفخر بها‬ ‫كان لِزاما على الأ دباء �أن يتّخذوا موقعا مقابال [وتكون‬
‫املدينة [املنوّرة]‪ -‬ميزة كربى لبالطات العبّا�سيّني وجمال�سهم‬ ‫م ؤ�لّفاتهم] �ألطف م�أخذا‪ ،‬و�أكرث تنوّعا‪ ،‬و�أق ّل تنظيما؛ وتكون‬
‫يف القرن الثالث هـ‪ /.‬التّا�سع م‪ . .‬ولنا يف الكتيّب املو�سوم بـ‬ ‫موجّ هة �إىل جمهور �أو�سع –بال�ضرّ ورة‪ .‬وهذا ما يجعل «القا�سم‬
‫«املو�شّ ى» [للو�شّ اء] خري �شاهد على ذلك‪ .‬فقد لعب الظّ رفاء‪،‬‬ ‫ال�صحيح‬‫امل�شرتك» –كما نقول اليوم‪ -‬بني الكتب ذات النّ�سب ّ‬
‫وكانوا من �سادة الع�رص‪ ،‬والقيان (اجلواري املغنيّات) دورا مهمّا‬ ‫�إىل الأ دب مبعناه الأ �صيل يتلخّ �ص يف هذه القاعدة ‪« :‬الأ خذ من‬
‫يف تهذيب الأ ذواق و�أثّروا يف تطوّر الآ داب‪ .‬ويف هذه الأ و�ساط‬ ‫ك ّل �شيء بطرف» �سعيا �إىل تكوين يف غري �إمالل وجريا على‬
‫‪137‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يل (‪ )littérature‬قبل كل �شيء‪.‬‬


‫قو ّ‬ ‫انت�رشت يف ما يبدو �أو ُولِّدت نوادر هزلية على درجة من الفح�ش‬
‫[ويف هذا ال�ش�أن] قال يل زميل يل تون�سيّ يف الأ يام الأ خرية‬ ‫(‪ )scabreux‬ن�سبت بعد ذلك �إىل م�ضحّ ك م�شهور –رغم �أنه مل يكن‬
‫�إنّ الكتّاب وحتىّ ال�شّ عراء �إنمّ ا كانوا يف نهاية املطاف عدميي‬ ‫له من يد يف خلقها‪ -‬ولهذا ال�سّ بب لن يكون من املمكن التّعرف‬
‫اخليال؛ وهذه �أطروحة ميكن الدّفاع عنها (والأ خذ بها) ولكنّني‬ ‫�إىل �أ�صلها على وجه اليقني‪ .‬ولكنّ ذلك ال مينع من �أنها كانت‬
‫ال �أرى من حاجة للذّهاب �إىل هذا احلدّ‪.‬‬ ‫موجودة ثم جمعت يف جمامع و�أننّا جند ن�صيبا منها ذا بال يف‬
‫و�أنا ال �أ�شكّ مع ذلك يف �أنّ مفهوميْ «ال�سّ نّة» و»البدعة» ال ّلتينْ‬ ‫�أقدم كتب الأ دب بدءًا من كتب اجلاحظ‪.‬‬
‫تغلبان على النّ�شاط الدّينيّ قد اكت�سحا احلقل الدّنيويّ �أي�ضا �إىل‬ ‫لقد كان امل�ضحِّ كون‪� ،‬إن جاز االِحتكام يف �ش�أنهم �إىل املعطيات‬
‫ح ّد زهد معه عامّة الكتّاب يف �إرخاء العنان خليالهم والترّ قّي‬ ‫التّاريخية التي ت�سلّيت بجمعها‪ ،‬يحظَ وْن �أحيانا مبنزلة لدى‬
‫[بن�صو�صهمٍ] �إىل مدارج الإ بداع الأ دبيّ احلقّ ‪ .‬وقد بلغ من‬ ‫ال�صيمري‪،‬‬ ‫ال ميلك املرء ال�سّ ادة يُح�سدون عليها‪ .‬وي�شهد بذلك �أبو العنب�س ّ‬
‫ن�ص و�إن ق ّل ن�صيب الإ بداع فيه �إنمّ ا‬ ‫�صحّ ة ذلك �أنّ �أبخ�س ّ‬ ‫القا�ضي واملنجم من �أبناء القرن الثالث هـ‪( .‬التا�سع م‪ ،) .‬الذي‬
‫ي�أخذه �أهل العربيّة [اليوم ؟] �رسيعا م�أخذ التّحفة الف ّنيّة‬ ‫�إال �ن يعجب مل يبق من � آثاره �إال م�ؤلف �ضخم يف علم التّنجيم‪ .‬وكان قد كتب‬
‫ّأ‬
‫الفريدة‪� .‬إىل هذا الرّعب من البدعة‪ ،‬ميكن �أن ي�ضاف �أي�ضا �رضب‬ ‫يف تاريخ الفكر �أي�ضا �سل�سلة من الكتب الهزليّة املاجنة (‪ ،)burlesques‬وهي �أقرب‬
‫من الك�سل –�إذ لي�س �أي�رس على املرْء‪ ،‬التزاما مببد ِ�أ «الأ دب»‪ ،‬من‬ ‫ال�صيل]‪ ،‬ما تكون �إىل الإ باحيّة (‪ )pornographie‬و«القَذاريّة» (‪ )scatologie‬منها‬ ‫العربي [ أ‬
‫ّ‬
‫الأ خذ من ك ّل �شيء بطرف ور�صف اجلذاذات واحدة تلو الأ خرى‪.‬‬ ‫�ا إىل [ما يعرف عندنا بـ] «الرّوح املومنارتريّ » (‪l’esprit montmart‬‬
‫�سيقال يل حتما ‪ :‬بل توجد يف جمال الأ دب كتب ال تتكوّن وح�سب‬ ‫ال فكر الفال�سفة ‪.)trois‬‬
‫من �شواهد ومنقوالت‪ .‬و�س�أكون �ساعتها �أوّلَ من يعرتف بذلك‬ ‫املت أ� ّثرين باليونان ويف عدم االِحتفاظ بهذه الكتابات يف ك ّليّتها ما يدل داللة‬
‫مبا �أنّ اجلاحظ نف�سه قد كتب مقاالت مل نعد لأ مر مّا جند لها من‬ ‫ت أ� ّثرا مبا�شرا‪ ،‬وا�ضحة على �أن ميل طائفة من النّا�س �إىل هذا ال�ضرّ ب من‬
‫مثيل‪ .‬و�سيقال يل �أي�ضا ‪� :‬إنّ النّرث يغدو �إبداعيّا يف بع�ض جتلّياته‬ ‫الهزل‪ ،‬الّذي �أعرتف ب أ�نّه غالبا ما كان فاح�شا‪ ،‬كان �أبعد ما‬
‫ما �إن ي�أخذ من فنّيات ال�شعر‪ .‬و�سيكون ذلك القول م�صيبا لأ نّ‬ ‫للمكانة التي يكون عن �أن ي�شاطره يف العلن جميع امل�سلمني الّذين ظلّوا‬
‫مقامات الهمذاين وبع�ض املقامات املت�أخّ رة غريها �إمنا كانت‬ ‫«الدب» على غرار قا�ضي اجلاحظ امل�شهور(‪ )9‬يحتفظون يف ك ّل الظّ روف‬ ‫يحت ّلها أ‬
‫نتاج اجتهاد حممود يف �سبيل اخلال�ص من ال�سّ نّة وا�ستلهام‬ ‫خالقي ب�سلوك م�صطنع مفتعل‪ ،‬وبوقار ثابت ال يني‪ ،‬وبان�شغال تا ّم‬ ‫ّ‬ ‫أال‬
‫عنا�رص «الأ دب» املثرية (‪ )prégnants‬لإ ثراء الكتابة الفنية (‪littér‬‬ ‫ع‬ ‫عن ك ّل ما من �ش�أنه �أن يكون مو�ضع تعجب وبالتّايل مو�ضوع‬
‫‪ )rature‬بنوع �أدبيّ ذي خ�صو�صيّات عربيّة‪[ ،‬نوع] ممتع و�أ�صيل‬
‫آ‬
‫وامتداداته يف �ثار بحث‪ .‬وهذا هو عني «احلِلم»‪ .‬و�إنّني لأ زداد يقينا يوما بعد يوم‬
‫وي�ستوجب مع ذلك كلّه خياال وموهبة‪ .‬كذا �ش�أن املقامة التي‬ ‫(‪)10‬‬
‫الفال�سفة من ب أ�نّه الف�ضيلة الأ ّم عند العرب الأ قحاح‪.‬‬
‫ب�شرّ ت مبيالد رواية ال�شّ طّ ار‪ .‬و�إنني لأ عترب �أن � آخر حتفة �أدبيّة‬ ‫ثمّة خ�صلة �أخرى �أ�سا�سيّة [جتدها] يف بع�ض الكتب التي‬ ‫أ�مثال ال ّتوحيدي‬
‫عربيّة قدمية �إمنا هي حديث عي�سى بن ه�شام للمويلحي الذي‬ ‫قد تنت�سب �رصاحة �إىل الآداب [يف معناها الف ّنيّ] دون‬
‫عرف كيف ي�ستفيد من املراجع املتوفّرة (املوروثة) ليخلق �أثرا‬ ‫�أن حتتوي عناوينها على كلمة «�أدب»‪ ،‬ومدارها على ما‬
‫وم�سكويه‪.‬‬
‫حديثا‪.‬‬ ‫يف هذه الكتب من بع�ض خيال واجتهاد �شخ�ص ّي حمدود‪.‬‬
‫ح�سبنا ههنا �أن ن�أ�سف الختزال احلريري ومن لفّ لفّه هذا النّوع‬ ‫[وهنا] يبدو ف�ضل الكتّاب [حتّى] الأ ق ّل موهبة [منهم]‬
‫الأ دبيّ ‪-‬الذي كان يليق به ما هو �أف�ضل‪ -‬يف ريا�ضات �شكليّة‬ ‫وا�ضحا يف املقدّمات خا�صّ ة‪ ،‬ويف الطّريقة التي يتّبعونها‬
‫خال�صة‪.‬‬ ‫لتقدمي املعطيات‪� .‬أما املحتوى فمركّب من ن�صو�ص لن ُق ْل‬
‫ال ميلك املرء من جهة �أخرى �إ ّال �أن يعجب يف تاريخ الفكر‬ ‫مرتا�سبة (‪ )documentation stratifiée‬؛ هي متخيرّ ات من تراث‬
‫العربيّ [الأ �صيل]‪ ،‬ال فكر الفال�سفة املت أ�ثّرين باليونان ت أ�ثّرا‬ ‫الأ جيال املتعاقبة الغزير ت�أتي لت�ضاف �إىل زاد [�شخ�صيّ]‬
‫مبا�رشا‪ ،‬للمكانة التي يحتلّها «الأ دب» الأ خالقيّ (‪)l’adab-éthique‬‬ ‫كلما كان �أقدم كان �أجدر بالتّبجيل‪.‬‬
‫وامتداداته يف � آثار الفال�سفة من �أمثال التّوحيدي وم�سكويه‪.‬‬ ‫ولن يفوت املر َء وهو يقر�أ بع�ض الكتب الأ دبيّة من قبيل عِ قد‬
‫وهذه الفكرة تذكّرين مبا قاله داملبري يف خطبة مو�سوعته‬ ‫ابن عبد ربّه [الفريد] �أو بع�ض املو�سوعات ال�صغرى كمويْ�سيعة‬
‫(‪« :)l’Encyclopédie‬حني نت أ�مّل تطوّر الفكر الب�رشيّ وما قطعه من‬ ‫الإ ب�شيهي –امل�ستطرف‪� -‬أن يعجب لتواتر االِ�ست�شهاد باجلاحظ‬
‫مراحل منذ ع�رص النّه�ض‪ ،‬نتبينّ �أنّه قد اتّبع امل�سالك الّتي كان‬ ‫فيها وابن قتيبة كما لو كان هذان النّموذجان ‪-‬على تباينهما‪-‬‬
‫ّخ�ص�ص‬ ‫عليه �أن يتّبعها ب�صورة طبيعيّة‪ .‬لقد بد�أ الإ ن�سان بالت ّ‬ ‫قد �أتيا فيما اختاراه وقدّماه [يف كتبهما] على جميع ما تقرّر‬
‫ووا�صل بالآ داب وانتهي �إىل الفل�سفة»‪ .‬و�إنيّ لأ ح�سب �أنّه بالإ مكان‬ ‫من املعطيات والنّ�صو�ص تقرّرا نهائيّا و�إىل ح ّد ما ح�رصيّا؛‬
‫�إىل ح ّد مّا ا�ستخدام الأ دب العربيّ للربهنة على �صحّ ة –�أو ربمّ ا‬ ‫وكما لو كانا قد �ضبطا مبعنى ما من املعاين حدود الثّقافة‬
‫ال�صادر عن م ؤ�لّف من القرن الثّامن ع�رش‬ ‫لنق�ض‪ -‬هذا احلكم ّ‬ ‫املتو�سّ طة‪.‬‬
‫يرى �أنّ تطوّر الفكر الب�رشيّ قد عرف �أوجه يف الفل�سفة‪ ،‬هذه‬ ‫�إن ال�سّ لطان احلاكم هنا هو «مبد�أ ال�سّ لطة» ‪ :‬هذا االِحرتام لل�سلف‬
‫التي يرى نف�سه �أف�ضل من ميثّلها‪.‬‬ ‫الذي ي�شري �إليه املعنى اال�شتقاقي لكلمة «�أدب»‪ .‬وهذا ما يدعونا‬
‫قد ال تبدو مقارنة احلدث الإ �سالميّ للوهلة الأ وىل ممكنة �إطالقا‬ ‫�إىل طرح �س�ؤال اخليال والتّفرّد (‪ )originalité‬مبا �أنّ «الأ دب» فنّ‬
‫‪138‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫(الأ خالقيّ )‪ .‬وابن املقفع –وهو من �أ�صل فار�سيّ ‪ -‬هو على وجه‬ ‫مع [حدث] النّه�ضة [الأ وروبيّة] ومع ذلك فقد �أدّى �إىل مثل ما‬
‫التّحديد من حتمّل �أعباء �إدخال هذا العن�رص احلا�سم يف الأ دب‬ ‫�أدّت �إليه من نتائج‪ .‬وميكن �أن نق ّر يف ي�رس ب�أنّ القرنينْ الأ ّولينْ‬
‫[العربيّ ] النّا�شيء وخلق النّرث الأ دبيّ يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫للهجرة �إمنا ميثّالن مرحلة البحث ال�سّ طحيّ [= التّنقيب] يف ك ّل‬
‫وجدير بالذّكر �أن كتابات هذا الرّجل �إنمّ ا هي بالأ حرى‬ ‫ّخ�ص�ص فلم يكن قد عُ رف بعد‪.‬‬ ‫ميادين العمل الفكريّ ‪� ،‬أمّا الت ّ‬
‫كتابة جادّة حازمة‪ .‬وما هي من الأ دب �إال مبا حتويه‬ ‫ل�ست يف حاجة �إىل �إطالة الوقوف على ن�ش�أة –وتطوّر‪-‬‬
‫من مبادئ �أخالق وقواعد �سلوك‪ ،‬ولكن ثمة �أي�ضا �أماثيل‬ ‫العلوم الإ �سالميّة التي ظ ّل حقلها الإ جرائ ّي ينزع رغم ك ِّل‬
‫(‪ )apologues‬كليلة ودمنة‪ .‬وقدميا كتبتُ [يف �ش�أنها]‪« :‬لئن‬ ‫�شيء �إىل جعل الأ مّة الإ �سالميّة عاملا منغلقا ال انفتاح‬
‫تلقّى العرب هذه الترّ جمة مبجّ لني فلأ نهم وجدوا فيها‪،‬‬ ‫له على العامل اخلارجيّ‪ ،‬وال �أنا يف حاجة �إىل �إطالة‬
‫ين كان جاريا‬ ‫يف �شكلها الأ دبيّ‪� ،‬رضبا من الق�ص�ص احليوا ّ‬ ‫احلديث عن العلوم التّابعة للعلم الدّين ّي مثل علم اللّغة‬
‫معروفا عندهم»‪ .‬وقد ارتكبت هناك خط�آ �ستتيح يل هذه‬ ‫(=علم املعجم) والنّحو والتّاريخ‪ -‬الّذي كان ال يزال بدائيّا‬
‫املحا�رضة فر�صة �إ�صالحه‪� .‬إذ مل يكن للعرب من ق�ص�ص‬ ‫ب�سيطا‪ -‬وقد بد�أت هذه العلوم تن� أش� بف�ضل االِ�ستغالل‬
‫حيواينّ‪ .‬ومل يثبت مطلقا �أن امل�سلمني من �أ�صل عرب ّي ‪-‬‬ ‫املبا�رش للوثائق التي كان قد جمّعها فريق من الباحثني‬
‫وكانوا يف اجلملة ميثلون �أقلّيّة‪ -‬قد حتمّ�سوا لتلقّي كليلة‬ ‫[الأ وائل]‪.‬‬
‫ودمنة كبري حتمّ�س‪ .‬وثمّة مقطع يف ر�سالة من�سوبة �إىل‬ ‫لقد �سارت املوا ّد التي جمّعها ه�ؤالء العلماء بني حلقات‬
‫اجلاحظ هي «ذم �أخالق الكتّاب» مفيد يف هذا ال�صّ دد‪.‬‬ ‫املثقّفني يف الكثري من العوا�صم‪ .‬ومن هناك انتقل �أ�صحاب‬
‫[يقول اجلاحظ] ‪…« :‬ثم النّا�شيء فيهم [ويعني الكتّاب]‬ ‫الفكر العلميّ (الو�ضعيّ ؟) ‪� )l’esprit positif‬إىل احلقل الثاين [من‬
‫�إذا (…) روى ل ُب ُزرْج ِمهْر �أمثاله‪ ،‬ولأ رد�شري عَ هْده‪ ،‬ولعبد‬ ‫حقول البحث] ب�أن دوّنوا [ب�أنف�سهم] ثمرة �أبحاثهم كتاب ًة �أو‬
‫احلميد ر�سائله‪ ،‬والبن املقفَّع �أدبه‪ ،‬و�صيرَّ كتاب مَ ْزدَك‬ ‫انتدبوا ال�ستن�ساخها تالميذهم‪ .‬ولعلّه من الع�سري هنا غاية‬
‫معدن علمه‪ ،‬ودفرت كليلة ودمنة كنْز حكمته ظ َّن �أنَّه‬ ‫الع�رس �أن نقدّر حقّ التّقدير دور رجال من طينة الأ �صمعيّ ‪� ،‬أو‬
‫(‪)11‬‬
‫الفاروق الأ كرب يف التّدبري…�إلخ»‬ ‫�أبي عبيدة‪� ،‬أو املدائنيّ ‪ ،‬ممّن نعلم من خالل الفهر�ست [البن‬
‫لقد ظ ّل �إدمان قراءة كتاب كليلة ودمنة يف �أوا�سط القرن‬ ‫النّدمي] وغريه من الآ ثار �أنهم جت�شّ موا م�شاقّ �إدخال النّظام‬
‫الثّالث هـ‪ / .‬التّا�سع م‪ .‬عالمة مميزة للكتّاب الفر�س‪ .‬ولئن‬ ‫على هذه الفو�ضى من الوثائق‪ ،‬وجتميع ك ّل مادّة فيها تنت�سب‬
‫�أثّرت �أعمال ابن املقفع ت�أثريا وا�سعا يف الأ دب الالّحق –ويف‬ ‫�إىل مو�ضوع بعينه يف كتب مفردة (‪ )monographies‬ال نعرف عنها‬
‫ما جرى من الكتب جمرى الدّرو�س الأ خالقيّة ال�سّ لوكية على‬ ‫اليوم يف �أغلب الأ حيان �إال عناوينها‪ .‬و�سيكون �أ�ش َّد من ذلك ع�رسا‬
‫وجه اخل�صو�ص‪ -‬فال ب ّد �أن نالحظ �أنّ ما يوقف عليه يف الأ دب‬ ‫تقدي ُر ما �أ�سداه مثقّفو هذه احلوا�رض من �أعمال ال�ستغالل الآ داب‬
‫العربي من احلكايات املثليّة احليوانيّة �إمنا يعود الف�ضل فيه‪،‬‬ ‫وا�ستثمارها‪ .‬ذلك �أنّ ما �أُعْ مِل من نظر يف مادّة العلم (‪données de‬‬
‫يف �أغلبه –بل ب�أكمله‪� -‬إىل الفر�س‪ .‬وح�سبي �أن �أذكر منهم �سهل‬ ‫‪� )l’érudition‬إمنا كان‪ ،‬كما هو ال�شّ �أن يف �أوربا‪ ،‬عمال جماعيّا‪ .‬ففي‬
‫بن هارون �صاحب كتاب النّمر والثّعلب الذي اكت�شف �أخريا‬ ‫جمال�س علية القوم كان امل�شاركون كثريا ما ينتهزون فر�صة‬
‫بع�ض قدماء طلبتنا –وهو ال�سّ يّد عبد القادر املهريي‪ -‬ق�سما‬ ‫ُ‬ ‫لقائهم فيعبرّ ون عن � آراء لهم فريدة حول خرب من الأ خبار‪� ،‬أو‬
‫منه ‪.‬‬
‫(‪)12‬‬
‫ي�صوغون �أحكاما نقديّة حول بيت من الأ بيات‪� ،‬أو يتبادلون‬
‫مت يف القرن الثّاين‬ ‫�أال ينبغي �أن نعترب العمل اجلماعيّ الّذي ّ‬ ‫�أفكارا ثم يزهدون بعد ذلك يف تدوينها كتابة‪� .‬أما ن�صو�صهم‪،‬‬
‫هـ‪ /‬الثّامن م‪ .‬يف الكتابات الإ ن�سانيّة العربيّة لت�أ�سي�س روايات‬ ‫�إن وجدت �أ�صال‪ ،‬فلم ي�صلنا منها �شيء‪ .‬ومع ذلك مل يذهب هذا‬
‫غراميّة نعرف بع�ض عناوينها من خالل الفهر�ست حماولة‬ ‫النّ�شاط الفكريّ �سدى‪ ،‬لأ نه كان من بني �أعوان ه�ؤالء «�صيادو‬
‫للتّ�صدّي ملفهوم الأ دب ذي الأ �صول الفار�سية واالِنتقال �إىل‬ ‫فرا�شات» (‪ .)chasseurs de papillons‬واجلاحظ‪ ،‬ال �شكّ ‪ ،‬واحد منهم؛‬
‫مرحلة الآ داب (‪[ )belles lettres‬ذات الرّوح] العربيّة ؟‬ ‫حتّى تلميذه �أبو حيان يعرتف ب�أنه قد تعاطى هذه الرّيا�ضة‪� .‬أ‬
‫لقد �ضاع هذا الأ دب الرّوائيّ الغزير غاية الغزارة ومل يبق منه‬ ‫ومل يكتب ابن اجلوزيّ «�صيد اخلاطر» (‪)La chasse aux idées‬؟‬
‫�إال بع�ض الآ ثار (املجنون وليلى مثال) املبثوثة يف ت�ضاعيف‬ ‫من الأ حكام املتواترة واملوا�ضع امل�شرتكة (‪ )lieu commun‬القول‬
‫كتب الأ دب الالّحقة ولي�س بالإ مكان اليوم البتة حتديد ن�صيب‬ ‫ب�أنّ ن�شاط املتبحّ رين يف العلم �إمنّا كان يف ق�سم منه نتيجة‬
‫اخليال الفرديّ يف هذه اجلماهر (‪ )compilations‬الأ �صليّة �أو الّتي‬ ‫ملواقف ال�شّ عوبية التي كان ال ب ّد من ال ّر ّد عليها بالإ عالء من‬
‫تع ّد �أ�صليّة‪ .‬ومبا �أن هذه الروايات الغرامية �رضب من �رضوب‬ ‫�ش�أن عنا�رص الثّقافة العربيّة الأ �صيلة‪ .‬فلقد �أغرق العراقَ منذ‬
‫الإ نتاج الأ دبيّ ي�ستجيب �إىل مطلب ما‪ ،‬وينزع �إىل �إ�شباع �أذواق‬ ‫القرن الثاين هـ‪ / .‬الثامن م‪� .‬سي ٌل من الترّ جمات عن الفهلوية‬
‫القرّاء‪ ،‬و�أحيانا �إىل فر�ض منط من الأ مناط الف ّنيّة عليهم قد‬ ‫ك�شفت للعرب عن وجود ح�ضارة �ألفيّة عريقة –يف بلد كانوا‬
‫يدوم عهده وقد ال يدوم‪ ،‬ففي انت�شار ن�سخ منها ثم يف اندثارها‬ ‫اخلا�صة �أمامها ذاوية ال‬ ‫ّ‬ ‫قد غزوه‪-‬؛ [ح�ضارة] بدت �أجمادهم‬
‫بعد القرن الرّابع ‪ /‬العا�رش م‪ .‬ما يربهن على �أنها بعد �إذ كانت‬ ‫تكاد تذكر‪ .‬يغلب على هذه الكتب املرتجمة عن الفهلوية‪� ،‬سواء‬
‫م�ستطابة طيلة فرتة مّا من الزّمان قد �أتى عليها النّ�سيان‪.‬‬ ‫�أكانت من كتب الأ خالق �أم من كتب التاريخ‪ ،‬الطابع الوعظيّ‬
‫‪139‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الأ دبية ما يدل على �أن العرب كانوا يجدونه �أخفّ على نفو�سهم‬ ‫وما ت�أثري رجال الدّين املتنامي بربيء من هذه املجافاة العامّة‬
‫و�أروح لقلوبهم‪ .‬وما من �أثر يوناين –يف املقابل‪ -‬حظي مبثل‬ ‫لآ ثار كانت تع ّد ال �شك مغالي ًة يف اخلفّة غلوّا كثريا‪ ،‬وطويلة يف‬
‫تلك العناية من مرتجمه‪ .‬و�إين لأ ت�ساءل كيف كان القرّاء‪ ،‬ممن‬ ‫الوقت نف�سه طوال زائدا و�صل �إىل ح ٍّد تخلّى معه النّ�ساخُ عنها‪،‬‬
‫هم على قدر من الف�ضول كاف ملحاولة قراءة ن�ص مرتجم‪،‬‬ ‫و ُقطِّعت [عند غريهم] �إن جاز القول تقطيعا‪ .‬ولقد جدّت ف�ضال‬
‫يتو�صلون �إىل فهم الرتجمات [اليونانية] التي تعر�ض عليهم‬ ‫عن ذلك �أحداث مهمّة وجّ هت الأ دب وجهته النّهائية‪.‬‬
‫وت�أويلها ت�أويال �صحيحا‪ .‬فقد ظل كتاب فن ال�شعر (‪La Poét‬‬ ‫و‬ ‫(«‪persia capta‬‬ ‫«لقد غزت فار�س املغزوّة غالبها (�أو غازيها)»‬
‫(‪)13‬‬

‫‪ )tique‬لأ ر�سطو يف ن�سخة متّى بن يون�س م�ستغلقا‪ ،‬ع�صيّا‪ .‬وذلك‬ ‫‪ )»ferum victorem cepit‬كذا قيل وتواتر القول‪.‬‬
‫ن�ص � آخر‬
‫ال�شك ما يف�رس كونه مل يلهم النقاد العرب مطلقا‪ .‬ثمة ّ‬ ‫ولكن مثل هذه الـغزوة التي كان ب�إمكانها �أن ت�أتي على‬
‫مو�ضوعه �أي�رس مدخال من الأ ول وهو كتاب تعبري الر�ؤيا (‪La‬‬ ‫الإ �سالم‪ ،‬وتقوّ�ض �أركانه‪ ،‬مل تف�ض �إىل نتائج وخيمة‪ .‬والف�ضل‬
‫‪ )clé des songes‬لأ رتيميدور الإ يفيزي (‪ )Artémédore d’Ephèse‬ترجمه‬ ‫يعود يف ذلك �إىل ما �صنعه لإ عادة الأ مور �إىل ن�صابها رجا ٌل يف‬
‫حنني بن �إ�سحاق ون�رشه حديثا توفيق فهد(‪ .)14‬وهو كتاب ال‬ ‫القرن الثالث هـ‪ / .‬التا�سع م‪ .‬تبيّنوا اخلطر بو�ضوح‪ ،‬وانتدبوا‬
‫يُفهم مع ذلك �إال بت�صحيحات النا�رش وزياداته‪.‬‬ ‫�أنف�سهم مفلحني لإ زاحته‪� .‬أعني بذلك املعتزلة الّذين �ألقى بهم‬
‫هو ذا �ش�أن الأ دب النرثي يف بداية �أمره‪ ،‬ال يبدو مدينا‬ ‫يف العتمة‪ ،‬بعد �إذ �سطع جنمهم يف الآ فاق‪ ،‬انتقا ُم �أهل ال�سّ نّة‬
‫يف �شيء �إىل اليونان بينما يبدو مدينا يف كل �شيء �إىل‬ ‫واجلماعة‪ .‬وذلك يف زمن كانت ك ّل الأ خطار الداهمة –حل�سن‬
‫فار�س‪ .‬وقد كان من الطبيعي �أن يعمل �أن�صار ال�سيادة‬ ‫حظّ الإ �سالم دينًا‪ -‬قد �أزيحت؛ فو�ضعوا م�شعل الثقافة و«الأ دب»‬
‫العربية ك َّل ما يف و�سعهم للتخل�ص من هذا الت�أثري اخلطري‬ ‫بني �أيدي ال�شّ يعة املعتدلة‪.‬‬
‫‪ :‬بتمجيد الرتاث العربي و�إثرائه يف حذر �سعيا �إىل خلق‬ ‫ومن املعلوم �أن ه�ؤالء املعتزلة كانوا يزعمون �أنه بالإ مكان‬
‫�أ�شكال جديدة من «الأ دب»‪ .‬فبعد العمّال الذين كانوا قد‬ ‫االِحتكام �إىل العقل يف كل �شاردة وواردة م�ستهدين يف‬
‫جاءوا مبا يلزم من موا ّد لل�رشوع يف البناء‪ ،‬بل و�رشعوا يف‬ ‫ذلك‪ ،‬داخل �إطار الإ �سالم‪ ،‬بالفكر الإ غريقيّ‪ .‬وبذا �أ�صبح‬
‫ت�شييد ال�صرّ ح‪ ،‬وبعد الفنّان ابن املقفع الذي كان قد ختم‬ ‫الدواء لداء الت�أثري الفار�سي واقعا‪ ،‬ب�صورة عجيبة ولكن‬
‫على هند�سته بخامت فار�سي‪ ،‬كان الب ّد �أن ي�أتي فنّان �آخر‬ ‫منطقيّة‪ ،‬بيد اليونان‪ ،‬و�إن كان ال بد �أن نعرتف هنا ب�أن‬
‫ميا ٌل جب َّل ًة �إىل القول بتعدّديّة الثقافة‪ ،‬متم�س ٌك يف الوقت‬ ‫الإ رث اليوناين مل ي�ؤثّر يف نهاية املطاف �إال ي�سريا يف‬
‫نف�سه مت�سّ كا �شديدا ب�أولويّة العروبة‪ ،‬في�شتغل على هذه‬ ‫عقلية امل�سلم املتو�سط‪� ،‬أي تلك العقلية التي كان ي�سعى‬
‫املوا ّد جمتمعة لإ متام البناء القائم‪ .‬ومل يكن هذا الفنّان‬ ‫«الأ دب» حتديدا �إىل تكوينها‪.‬‬
‫–حتما‪� -‬إال اجلاحظ‪ ،‬الذي انتدب نف�سه ال وح�سب ليك�سب‬ ‫ولئن كانت �إيران قد وفّرت للثّقافة العربيّة الإ �سالميّة �أمثاال‬
‫خا�صة‪ -‬لي�ستخل�ص‬ ‫هذه املواد �شكال �أدبيّا و�إنمّ ا –و ربمّ ا ّ‬ ‫�أخالقيّة ومبادئ �سيا�سيّة و[�أ�سّ �ست لها]‪ ،‬بف�ضل ابن املقفّع‪،‬‬
‫منها مذهبا للثّقافة والأ دب‪.‬‬ ‫بداية �أدب دنيويّ مل يكن له من رونق فنّيّ خم�صو�ص‪ -‬ومع‬
‫و�إن كان الب ّد من تعريف �إ�سهامه ال�شّ خ�صيّ يف كلمة‪ ،‬فيمكن �أن‬ ‫ذلك خرج عن ج ّديّة امل ؤ�لّفات العلميّة‪ ،‬ف�إنّ اليونان قد جاءت‬
‫�أقول �إنّه يقوم على برنامج ومنهاج‪.‬‬ ‫العرب بـ[�أهمّ] منتجات فكرها ‪ :‬وهو املنطق‪ ،‬منهاج النّظر‪،‬‬
‫لقد حتولت العنا�رص الثّقافية العربيّة‪ ،‬والفار�سيّة‪ ،‬والهنديّة‪،‬‬ ‫بن�ص �أدبيّ خال�ص واحد‪.‬‬
‫ولكنّها مل متدّهم ّ‬
‫واليونانيّة‪ ،‬بعد �أن جُ معت و�أُ�ضيفت �إىل العلوم الإ �سالميّة �إىل‬ ‫فهومريو�س مل يكن معروفا �إال باالِ�سم‪ .‬و�أح�سب �أن مر ّد ذلك‬
‫كتلة هائلة مل تكن �أك ُرث العقول مو�سوع ّي ًة بقادرة على امتالكها‬ ‫ال لإ همال كامل [مق�صود]‪ ،‬و�إمنا للع�رس الذي كان يعانيه‬
‫يف ك ّليّتها‪ .‬ولذا كان من الالئق‪ ،‬ح�سب اجلاحظ‪� ،‬أن يُرتك‬ ‫ن�ص �شعريّ ‪ .‬وهذا‬ ‫املرتجمون كلّما وجدوا �أنف�سهم يف ح�رضة ٍّ‬
‫امل�سلمون الراغبون يتخ�ص�صون يف بع�ض املعارف –وهنا‬ ‫ما ذكره يف الأ يّام الأ خرية ج‪ .‬فايت (‪ )G. Wiet‬الذي عرث بعد لأ ي‬
‫نالحظ �أنه كان يثق يف قدرة معا�رصيه‪ -‬ولكن مع ترغيبهم يف‬ ‫على مقطع يت�ضمن اعرتافا [من بع�ضهم] بالعجز‪.‬‬
‫�أمر � آخر‪ ،‬ودفع �أكرب عدد ممكن منهم نحو ما �أ�سميته بـ «الأ دب‪-‬‬ ‫ين تف�سرّ ه بال �شك‬ ‫�إنّ الف�شل اجلزئيّ ملحاولة �أقلمة الفكر اليونا ّ‬
‫الثقافة العامة» (‪ .)adab culture générale‬وكان البد لأ جل ذلك من‬ ‫غرابة (‪ )exotisme‬هذا الفكر الّتي كثريا ما كانت تتداخل ومفهوم‬
‫تخيرّ م�سلك‪ ،‬وحتديد معيار‪ ،‬وت�أ�صيل منهاج للعمل(‪.)15‬‬ ‫البدعة‪.‬‬
‫لعله لي�س من الغل ّو يف �شيء القول ب�أن اجلاحظ �إمنا كان يتوق‬ ‫وثمة ف�ضال عن ذلك عامل � آخر ال يبدو يل �أنّ �أحدا قد �أواله ما‬
‫�إىل تكوين عقول �أجود �إن�شاء بدل تكوين عقول �أكرث امتالء؛‬ ‫ي�ستحقّ من عناية ‪ :‬فممّا جتدر مالحظته �أن الأ دب الإ غريقيّ‬
‫وعلى ذلك تدو ٍر كلمة �أدب‪ ،‬التي ر�أي �أنه من املنا�سب االحتفاظ‬ ‫كان �أق ّل حظّ ا من الآ ثار الفهلويّة‪ .‬فقد ا�ستفادت هذه الأ خرية‬
‫بها‪ ،‬الت�صالها يف الآ ن نف�سه بطريقة اكت�ساب املعرفة (العقلية)‬ ‫منذ البدء من �إ�سهام مرتجم يف حجم ابن املقفع ‪-‬هذا الكاتب‬
‫وباملعرفة نف�سها‪ -‬و�إن كنت لأ ت�ساءل هنا �إن مل يقر�أ حمققو‬ ‫احلقيقي الذي عرف كيف يقرّب �إىل الأ ذهان العربية فكرا‬
‫ن�صو�ص اجلاحظ كلمة «�أديب» –يف بع�ض ال�سياقات على‬ ‫�أجنبيا‪ ،‬هو يف احلقيقة فكر ب�سيط ن�سبيا‪ .‬ففي عدم ت�أخر كتاب‬
‫الأ قل‪ -‬على �أنها «�أريب»‪� .‬أما عن قراءة كلمة «�أدب»‪� ،‬أو اجلمع‬ ‫كليلة ودمنة رغم �صعوبات البداية عن �أن ي�ؤخذ م�أخذ التحفة‬
‫‪140‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والأ مثال �إمنا يكاد يكون يونانيا ب�أكمله ويتعلق –يف ما عدا‬ ‫«� آداب»‪ ،‬فال تثري –يف املقابل‪� -‬أي �إ�شكال وال يبدو �أن اجلاحظ‬
‫‪mor‬‬ ‫ااجلانب الأ دبي (الأ خالقي) (‪ ،)éthique‬والأ خالقي العملي (‬ ‫كان يجد حرجا يف تو�سيع احلقل الإ جرائي لهذه الكلمة‪.‬‬
‫‪ -)rale pratique‬مبنهج من مناهج املعرفة‪ .‬وللمرء �أن يجد حتى‬ ‫ولي�س الربنامج الذي ينادي به اجلاحظ بذي �صيغة ملزمة وال‬
‫[القولة ال�سقراطية امل�شهورة] «كل ما �أعرفه �أنني ال �أعرف‬ ‫� آلية‪ ،‬و�إال لتناق�ض ذلك مع طباعه‪ ،‬وما د�أب عليه‪� ،‬إذ كان هو‬
‫�شيئا»‪.‬‬ ‫نف�سه ب�صدد البحث عن �سبيل يتّبعه‪ ،‬وما كان عند نف�سه �إال ناقال‬
‫�أما املنهج املن�شود فيقوم قبل كل �شيء على ال�شّ ّك املنهجي‬ ‫–لنقل فو�ضويا (‪ -)brouillon‬يرتجم عن �شواغل ع�رصه‪ .‬وقد بني‬
‫امل�ؤدي –مب�شيئة اهلل‪� -‬إىل اليقني‪ ،‬وعلى التف�سري العقلي‬ ‫[�أبو عثمان] اخلطوط الكربى لهذا الربنامج بلم�سات �رسيعة‬
‫للظواهر الفيزيائية‪ ،‬ور ّد اخلارق (‪� )merveilleux‬إىل املعتاد‬ ‫ومتفرقة ال ت�سعفنا ر�سالة املعلّمني –التي �سبق �أن متثّلتُ منها‬
‫لعله لي�س من الغل ّو‬ ‫والقابل للتف�سري‪ ،‬والتخل�ص من الأ �ساطري واخلرافات التي ال‬ ‫بجملة‪ -‬لفهمها‪ .‬لأ نها‪ ،‬من جهة‪� ،‬إمنا كانت تتوجه �إىل املعلمني‬
‫يف �شيء القول ب�أن‬ ‫توجب «الكتب» القبول بها‪ .‬كما يقوم �أي�ضا على املالحظة‬ ‫دون �سواهم‪ ،‬ولأ ن املُجَ مهِر (‪ )anthologue‬الذي احتفظ لنا ببع�ض‬
‫اجلاحظ � إمنا كان‬ ‫ال�شخ�صية(‪ )16‬والتحليل‪ ،‬والنظر يف الأ خبار‪ ،‬و‪-‬خا�صة‪ -‬يف‬ ‫مقاطعها مل ير لها من فائدة فاقتطعها ا�ستثقاال يف �أخطر‬
‫اخللق الذي يَعترب ك ّل خملوق فيه ذا دور ومكانة‪ ،‬ويف‬ ‫موا�ضعها و�أدلّها‪ .‬وبح�سب املقاطع املحفوظة‪[ ،‬يرى اجلاحظ‬
‫يتوق � إىل تكوين‬ ‫احليوان والإ ن�سان –احليوان العاقل‪ ،-‬ويف الروابط بني‬ ‫�أنه] ال بد من االنطالق من العلوم الدينية‪ ،‬وحفظ القر� آن وطائفة‬
‫عقول �أجود � إن�شاء‬ ‫الإ ن�سان وحميطه‪ ،‬ويف �آثار الرتبة…‬ ‫�صاحلة من الأ حاديث دون التعمق يف علم الكالم املوقوف‬
‫بدل تكوين عقول‬ ‫ومبد�أ البحث هذا ال يعطي القياد يف �شيء ملبد�أ ال�سلطة‪ .‬ففي‬ ‫على املخت�صني‪� .‬أما النحو‪ ،‬فين�صح اجلاحظ املعلمني ب�أن ال‬
‫كتاب احليوان مثال‪ ،‬حيث يجتهد اجلاحظ يف اال�ستدالل على‬ ‫يعلموا منه �إال احلد الأ دنى الذي ال غنى عنه ملنع الوقوع يف‬
‫�أكرث امتالء؛ وعلى‬ ‫اخلالق باخللق‪ ،‬ال ي�ستخدم املعطيات التقليدية ‪-‬وهي كثرية‬ ‫اللحن‪ .‬والريا�ضيات اخت�صا�ص عنده هي �أي�ضا ولكنه ال يدعو‬
‫ذلك تدو ٍر كلمة‬ ‫يف اجلملة‪� -‬إال لدعم ا�ستدالله‪� ،‬أو لت�سلية قرائه بني الفينة‬ ‫منها �إال �إىل تعليم «العقد» (‪– )comput digital‬ولعل يف ذلك ما‬
‫�أدب‪ ،‬التي ر�أي‬ ‫والأ خرى؛ وهو ال يتقيد حتى ب�أحكام �أر�سطو التي مل يحرم نف�سه‬ ‫يثبت �أن هذا ال�رضب من احل�ساب (‪ )dactylonomie‬كان قد �سُ بقَ‬
‫من نقدها ذاهبا �إىل حد االدّعاء (‪( )prétendre‬كذا)(‪ )17‬ب�أن العرب‬ ‫�إىل اعتماده لإ جراء عمليات ح�سابية ب�سيطة‪ -‬مع ت�أجيل النظر‬
‫�أنه من املنا�سب‬ ‫كانوا يعرفون عن احليوان قدر ما يعلمه فال�سفة اليونان‪.‬‬ ‫يف الأ رمتيطيقا الهندية والهند�سة‪ .‬وال �شك �أنه قد قدم �إ�شارات‬
‫االحتفاظ بها‪،‬‬ ‫و�إنيّ لإ ىل �أحكام على هذا القدر من املجازفة (‪� )!( )imprudente‬أر ّد‬ ‫�أخرى خم�صو�صة‪ .‬ففي بقايا هذه الر�سالة ما يك�شف �أنه كان‬
‫الت�صالها يف الآ ن‬ ‫فقر علم احليوان عند العرب و�إن كان ال بد من البحث له كذلك‬ ‫يويل �أهمية –يف م�ستوى التكوين الأ ويل‪ � -‬إىل فن اخلطابة (‪rhét‬‬ ‫ي‬
‫نف�سه بطريقة‬ ‫يقينا عن �أ�سباب �أخرى‪.‬‬ ‫‪� ،)torique‬أو فلنقل فن الكتابة والبالغة (‪.)balâgha‬‬
‫وكتاب البيان والتبيني من نوع مغاير‪� .‬إال �أن املنهج [الذي‬ ‫ولو اكتفينا‪ ،‬كما فعل العرب يف ما يبدو‪ ،‬بظاهر ال�سياقات التي‬
‫اكت�ساب املعرفة‬ ‫يقوم عليه] يظل هو هو‪ .‬ومع ذلك فلي�س لل�شواهد التي تكوّن‬ ‫�أورد اجلاحظ فيها �أبياتا من ال�شعر �أو مقاطع من النرث داعيا‬
‫(العقلية) وباملعرفة‬ ‫�سداه املحكم من ال�سّ مات ما لغريها يف �سائر م�ؤلفات اجلاحظ‬ ‫�إىل حفظها لإ عادة ا�ستخدامها يف الوقت املنا�سب‪ ،‬مل يف�ض بنا‬
‫نف�سها‪.‬‬ ‫الأ خرى‪� .‬إذ تبدو غاية كتاب البيان‪ ،‬وهو يف الآ ن نف�سه جمهرة‬ ‫ذلك �إال �إىل �إ�ساءة فهم برناجمه الذي ال ميكن يف احلقيقة ف�صله‬
‫من املنثور واملنظوم‪ ،‬ومقاالت يف فن ال�شعر والبالغة‪ ،‬جامعة‬ ‫عن منهجه‪.‬‬
‫بني تكوين الذائقة وتعليم الأ �سلوب‪.‬‬ ‫�إن القراءة املتب�رصة لكتاب الرتبيع والتدوير مفيدة يف هذا‬
‫و�سيعتني املت�أخرون عن اجلاحظ‪ ،‬مامل يتهموه بالعجز عن‬ ‫الباب غاية الإ فادة‪ .‬ففي هذا الكتيّب املهمل املن�سيّ‪ ،‬يبحث‬
‫تعليم البيان‪� ،‬أي فن الكتابة‪ ،‬بال�شواهد خا�صة و�سينظرون �إليها‬ ‫اجلاحظ ب�شكل �ساخر هازل يف كل الق�ضايا التي كانت‬
‫على �أنها مناذج [متبعة]‪.‬‬ ‫تُطرح على وعي رجل عقالين م�سلم يف القرن الثالث هـ‪/.‬‬
‫و�سرنى �أن �أديبا قريوانيا عا�ش بني القرن الرابع واخلام�س‬ ‫التا�سع‪.‬م‪ .‬ويعرب عما ي�سميه �أندريه ميكال‪ ،‬يف �أطروحة‬
‫هـ‪ /.‬التا�سع والعا�رش م‪ ، .‬وهو احل�رصي‪ ،‬ي�ستلهم هذه ال�شواهد‬ ‫له ب�صدد �إعدادها حول اجلغرافيا الب�رشية‪« ،‬هموم العقل‬
‫لي�ؤلف منها –م�ستعينا بغريها �أي�ضا من املراجع ولكن دون‬ ‫الأ �سا�سية»‪� .‬إنه ي�سلم زمام املبادرة دائما للإ ن�سانيات‬
‫�أن ي�ضيف �سطرا واحدا‪� ،‬أو يكاد‪ ،‬من عنديات نف�سه‪ -‬جمموعة‬ ‫العربية (‪ )humanités arabes‬ولكنّه ال يحب �أن يحتفظ منها‬
‫�أوىل مو�سومة بـ «زهر الآ داب» حتتوي على ن�صو�ص من ال�شعر‬ ‫�إال مبا ال يت�صادم والعقل‪ .‬ويدفع �إىل �إ�سقاط ك ِّل ما كان‬
‫والنرث ق�صرية ن�سبيا ليتي�سرّ للمن�شود من الأ دباء عنده حفظها‬ ‫�أ�سطوريا فيها بينّ الأ �سطوريّة �أو خرافيّا‪� .‬أمر واحد كان‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬وحماكاة �أ�سلوبها‪ .‬و�سيكون لهذا الأ ديب نف�سه‬ ‫يكبح جماحه‪ ،‬على كره منه يف ما يبدو‪ ،‬وهي املعطيات‬
‫كتاب خمتارات � آخر هو «جمع اجلواهر» خم�ص�ص هذه املرة‬ ‫الآتيات من طريق الوحي [القر�آين]‪.‬‬
‫ب�أكمله للنوادر والنّكت اجلياد‪ ،‬والطرف املتنوعة‪ ،‬ولكن دون‬ ‫ولي�س ملن كان من القراء ذا �صرب على الذهاب �إىل تخوم كتاب‬
‫الفاح�ش منها لأ ن للح�رصي ذوقا طيبا مييل به �إىل الرغبة يف‬ ‫الرتبيع �أن يلحظ دون �أن ينتابه �شيء من العجب �أنّ اجلاحظ‬
‫تعليم � آداب الكالم الطريف الظريف واملتميز الرّاقي يف � آن واحد‪.‬‬ ‫ي�صنع الأ دب يف هذا الن�ص على منوال ابن املقفع القدمي –وقد‬
‫و�إين لأ عترب احل�رصي ممثال منوذجيا للـ»�أدب» يف نهاية القرن‬ ‫ذكر باملنا�سبة مرة‪ -‬و�أنّ ما ينقله –مع ذلك‪ -‬من احلِكم‬
‫‪141‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫البحريني الذين عدّهم ر�ؤو�س الكذب(‪� .)21‬إن ر�ؤية العامل عنده‪،‬‬ ‫الرابع هـ‪ /.‬العا�رش م‪ .‬وميكن معه �أن نقدِّر امل�سلك الذي قطعه‬
‫يف جمملها‪ ،‬جزئية‪ .‬فالأ ر�ض عنده ي�سكنها �صنفان من ال�شعوب‬ ‫«الأ دب» على �شفا الهاوية‪ .‬وحل�سن احلظ‪ ،‬ا�ستطاع الع�سكري �أن‬
‫‪� :‬شعوب متوح�شة (من بينها �أجدادنا نحن [الغربيني]) و�أمم‬ ‫يك�شف املبد�أ الذي كان قد حتكّم يف ت�أليف البيان وجاء بف�ضل‬
‫متح�رضة يرى يف وثنيتـها �أمرا مفارقا (غري عادي)؛ ويح�صي‬ ‫اجلاحظ‪ ،‬وهو من �أوائل دار�سيه‪ ،‬مب�ساهمة حا�سمة يف النقد‬
‫من هذه الأ مم �أربعا ‪ :‬العرب والفر�س والهند واليونان‪ .‬وال ي�صح‬ ‫الأ دبي ب�أن �أحكم تنظيم [مواد]ه يف ذكاء‪ .‬ومما ي�ؤ�سف له �أنّه‬
‫�أن نت�شدد معه جلهله ب�أمر الرومان مبا �أن ابن حزم يف القرن‬ ‫ما من �أحد فكّر يف انتداب نف�سه للقيام بعمل مواز حول كتاب‬
‫اخلام�س هـ‪ / .‬احلادي ع�رش م‪ .‬لن يعرف عن وثنيتهم �شيئا‬ ‫احليوان و�سائر امل�ؤلفات التي ال حتتوي على مقاالت نظرية‬
‫وذلك يف زمن مل يكن الغرب فيه يف املقابل يعرف اليونان‬ ‫[جمردة] و�إمنا [تكتفي ب�أن] تغري العقل بالبحث وتدعوه �إىل‬
‫�أدنى املعرفة‪.‬‬ ‫التفكري‪.‬‬
‫�س�أجتنب طبعا ت�صنيف اجلاحظ بني اجلغرافيني رغم �أن ت�أثريه‬ ‫لعلكم تذكرون �أن الأ دب عند اجلاحظ هو «�أدب خلق» كذلك‬
‫يف اجلغرافيا كان ت�أثريا مبا�رشا‪ .‬وقد تبني �أندريه ميكال عن‬ ‫(«خُ لُق» التي �أرف�ض بالطبع قراءتها كـ «خَ لْق» مبا �أن اخللق‬
‫حقّ وهو يقارن بني ن�سختي [كتاب امل�سالك واملمالك لـ[ابن‬ ‫مق�صور على اهلل)(‪ .)18‬فلقد ا�ستثمر هو بدوره هذا الق�سم من الأ دب‬
‫خرّداذبة [ت ‪300‬هـ‪912/‬م] �أن الن�سخة الثانية منهما تتنازل‬ ‫–ولكنه �أبى �إال �أن ينحرف [فيه] عن [م�سلك] ابن املقفع‪ .‬فبدال‬
‫عن �أمور كثرية ل�صالح «الأ دب» وت�ست�شهد ب�صورة تكاد حرفية‬ ‫من االكتفاء بالعر�ض اجلاف للمواعظ الأ خالقية‪ ،‬ذهب يف‬
‫باجلاحظ الذي مل مت ّر عن وفاته �إال �سنوات قليلة‪.‬‬ ‫كتاب البخالء‪ ،‬وهو جمع من النوادر والقطع املتنوعة مل يبلغ‬
‫ولئن مل يخلّف اجلاحظ كتابا واحدا يف التاريخ فقد مدح يف‬ ‫بعد درجة الت�شاكل‪ ،‬مذهب النقد ال�ساخر للطباع (‪il castigat ridendo‬‬
‫منا�سبات كثرية هذا العلم الذي ميكّن النّا�س فيما هو يخربهم‬ ‫‪ )19()mores‬كما �أدخل [مبد�أ] التفكري والبحث يف «الأ دب الوعظي»‬
‫عن الأ مم املا�ضني من قيا�س درجة تقدم الإ ن�سانية ويحثّ على‬ ‫(‪ )adab parénèse‬مبا كتبه من مقاالت يف بع�ض العيوب واملقابح‬
‫(‪)22‬‬
‫ا�ستدامة كمالها‪.‬‬ ‫من قبيل احل�سد والكذب والكرب وهي �أمور نقلت [الأ دب] من‬
‫�إنه يدرج ب�شكل طبيعي يف م�ؤلفاته ن�صيبا من الأ خبار‬ ‫جمال الأ خالق �إىل علم النف�س‪.‬‬
‫والق�ص�ص بل ويكتب النقد التّاريخي يف عدد من مقاالته‬ ‫ولئن كان حتليله ملالمح ال�شّ خ�صيات على درجة عالية من‬
‫ذات الطّابع ال�سيا�سيّ‪-‬الدّينيّ‪ .‬ولكنه ال يبدو على معرفة‬ ‫ال ّدقّة ف إ�نّه ما من «منوذج»(‪ )20‬وقع ا�ستخال�صه بعد‪ ،‬و�إن كان‬
‫باملنطق التّعاقب ّي (‪� )chronologie‬أو هو على الأ قل ال يظهر يف‬ ‫يف ر�سالة القيان ما يك�شف �أن اجلاحظ كان قادرا على جتاوز‬
‫كل مو�ضع �إال مبظهر املعادي للنظام والنظامية‪ .‬لنقل �إذن‬ ‫املالحظة الآ نية لريتقي �إىل درجة الت�أليف‪ .‬ولن يبتكر «منوذج»‬
‫بع�ض املعطيات التاريخية يف «الأ دب» دعما‬ ‫لئن �أُدخلت ُ‬ ‫�إال يف القرن التايل مع حكاية �أبي املطهّر الأ زدي‪ -‬التي �ستكون‬
‫لهذا احلكم من الأ حكام �أو ذاك فال بدّ‪ ،‬ليُطبَّق منهجُ «الأ دب»‬ ‫مدينة للجاحظ يف �أمور كثرية‪ -‬ومع مقامات الهمذاين‪ .‬و�سيظل‬
‫بذكاء يف حقل التاريخ‪ ،‬من انتظار اليعقوبي وامل�سعودي‪،‬‬ ‫هذان الكاتبان –وال �سيما الأ ول‪ -‬ي�ضعان ن�صب عيونهما‬
‫خا�صة‪ ،‬هذا الذي كان له وللمذكور قبله الف�ضل يف الك�شف‬ ‫التكوين الأ خالقي للجمهور (املتلقي) بينما �سرتتقي � آثارهما‬
‫عما وراء حدود العامل الإ �سالمي وحماولة ترغيب القراء يف‬ ‫بنوع «الأ دب» –لفرتة وجيزة جدّا‪ ،‬للأ �سف‪� -‬إىل م�صاف الكتابة‬
‫[االطالع على] تاريخ فرن�سا‪ .‬وهذان الكاتبان مت�شيّعان‪.‬‬ ‫االأ دبية الفنية (‪ )littéraire‬الأ �صفي �صفاء والأ �شد جتردا (‪désintéress‬‬
‫ال ميكنني �أن �أتو�سع �أكرث يف �أمر اجلاحظ الذي ال تخفي عليّ‬ ‫‪.)sée‬‬
‫هناته ولكنه يحظى عندي بكل ت�سامح‪ .‬لأ نه لئن مل يفلح دائما‬ ‫وقد نقل اجلاحظ �أي�ضا �إىل «الأ دب» معارف مل يكن للمرء‬
‫يف كل �أعماله‪ ،‬ولئن مل يتو�صل �إىل كبح جماح نف�سه‪ ،‬ولئن‬ ‫�أن يتوقع وجودها فيه ال �سيما اجلغرافيا التي هي �أقرب ما‬
‫�أرخى القياد ملزاج الفنان فيه‪ ،‬ف�إنه مل يجمع يف �شخ�صه ما هو‬ ‫تكون يف كتاباته �إىل الإ ثنولوجيا واجلغرافيا الب�رشية منها‬
‫دون ذلك من اخل�صال الالزمة لتطوير العقل الب�رشي ب�شكل كان‬ ‫�إىل و�صف امل�سالك عند اجلغرافيني التقليديني‪ .‬و�شدت انتباهه‬
‫يب�رش حق التب�شري بامل�ستقبل‪ .‬وقد اعرتف له [الأ دباء] العرب‬ ‫خا�صة الروابط بني الإ ن�سان وحميطه‪ ،‬والبنية االجتماعية‪،‬‬
‫الذين بدوْا عاجزين عن جماراته ومماراته ب�أنه معلم العقل‬ ‫وال�سمات الفيزيائية والأ خالقية ل�سكان احلوا�رض الكربى‪،‬‬
‫والأ دب‪� )23(.‬إنه مونتاين (‪ )Montaigne‬العربي الذي لعله مع ذلك‬ ‫وطباع ال�شعوب…�إلخ‪ .‬وبعيدا عن االِكتفاء بدار الإ �سالم‪ ،‬امتد‬
‫قد تكلم �أمام مقاعد فارغة �أو فلنقل مفرغة‪� ،‬أفرغها ابن قتيبة‪،‬‬ ‫به الف�ضول �إىل �شعوب ق�صيّة كالهند مثال‪ .‬وقد �سنحت يل منذ‬
‫الإ مام الآ خر للثقافة والأ دب‪.‬‬ ‫�سنوات فر�صة يف دلهي للقيام مبداخلة حول الهند والهنود‬
‫فبينما كان اجلاحظ قد جمّ د روح الف�ضول‪ ،‬وبدا منفتحا على‬ ‫من منظور اجلاحظ‪ .‬ويجدر �أن �أقول هنا �إن احل�ضور قد عجبوا‬
‫املعارف الآ تية من اخلارج‪ ،‬مع االِحرتاز من حدود هذه الآ فاق‬ ‫لدقة ت�سجيالته‪ .‬واحلق �أنني كنت قد �أرهقت نف�سي كثريا يف‬
‫ومن اخلطر الذي كانت متثّله فار�س‪ ،‬وطالب �أبناء دينه ب�إيالء‬ ‫تلقط هذه الت�سجيالت من كل � آثاره‪ .‬ويبقى �أفق اجلاحظ مع‬
‫خا�صة وبعدم الأ خذ ب�شيء قبل متحي�صه‪،‬‬ ‫عنايتهم بالنّظر ّ‬ ‫ذلك حمدودا لأ نه مل ي�سافر قطّ ولذلك مل يتمكن من حت�صيل‬
‫و�أعطى للبحث وجهة متمكّنة يف احلداثة‪ ،‬اعترب الفقيه ابن‬ ‫مالحظات �شخ�صية بينما �أبى على نف�سه الوثوق يف �أخبار‬
‫‪142‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قتيبة [يف املقابل]‪ ،‬وكان ي�صغُر اجلاحظ ب�أق ّل من ن�صف قرن‪ ،‬هوام�ش ‪:‬‬
‫‪� - 1‬أ�صل الدّرا�سة ‪[ ( :‬تاريخ] الأ دب العربي من البدايات �إىل ع�رص اخلالفة‬ ‫ب�شكل نهائيّ �أن العرب هم وكالء احلكمة‪ ،‬و�أرباب الربهان‬
‫الأ موية)‬ ‫النّا�صع‪ ،‬و�أنّ على كل ثقافة �أن تدور‪ ،‬لذلك‪ ،‬يف فلك ما جاءوا‬
‫‪Charles Pellat, Variations sur le thème de l>adab, in : Etudes sur‬‬
‫‪l>histoire socio-culturelle de l>Islam (VIIè-Xvè s. ), VARIORUM REPRINTS,‬‬
‫به �أي ‪ :‬القر� آن‪ ،‬واللّغة العربيّة‪ ،‬وال�شّ عر‪ .‬ومن الي�سري �أن يف�ضي‬
‫‪.London, 1976‬‬ ‫ذلك [بالعرب] �إىل اعتبار �أنّ ك ّل امل�شاكل قد حُ لّت وينتهي بهم‬
‫‪NALLINO (Carlo-Alfonso). La Littérature arabe des origines à l>époque de la 2‬‬ ‫�إىل التخلّي عن ك ّل روح بحث و�إىل [ال�شرّ وع يف] �إقامة جرد‬
‫‪dynastie umayyade. Paris, G. P. Maisonneuve, 1950‬‬
‫والكتاب جممع للدرو�س التي قدمها الأ �ستاذ كارلو �ألفون�سو نلينو بالعربية يف‬
‫باملعارف الواجب اكت�سابها‪ .‬وحتَّى ال �أُتَّه َم باالِنحياز �س�أكتفي‬
‫جامعة القاهرة من �سنة ‪� 1910‬إىل ‪ .1911‬وقد ترجم هذا الكتاب �إىل الفرن�سية‬ ‫ب�رسد بع�ض اجلمل من �أطروحة ميكال ‪»:‬لئن جنح ابن قتيبة‬
‫امل�ست�رشق الفرن�سي �شارل ب ّال نف�سه باعتماد الن�سخة الإ يطالية الّتي ن�رشها‬ ‫يف الظّ هور مبظهر الرّجل اجلدّيّ يف مواجهة هذا البهلوان‬
‫ماريو نالينو (‪.)Mario Nallino‬‬ ‫الكاريكاتوريّ [املق�صود هنا هو اجلاحظ طبعا] الذي �أ�سهم‬
‫ني َد�أَبًا َفمَا حَ َ�صدتمُّ ْ َف َذرُو ُه فيِ �سُ ن ُب ِل ِه ِ�إ َّال‬ ‫‪ - 3‬يف القر�آن ‪( :‬قَالَ َت ْزرَعُ ونَ �سَ ْب َع �سِ ِن َ‬
‫َقلِي ًال ممِّ َّا َت أ�ْكُ لُونَ ) يو�سف‪47-‬‬ ‫[هو نف�سه] يف �إقرار هذه ال�صورة له‪ ،‬فلأ نه يقابل –يف واقع‬
‫اف عَ َل ْيكُم ِّم ْث َل َيوْمِ ْ أَالحْ زَابِ ‪ .‬مِ ْث َل َد�أْبِ َقوْمِ‬ ‫( َوقَالَ ا َّلذِي �آمَنَ يَا َقوْمِ ِ�إنيِّ �أَخَ ُ‬ ‫الأ مر‪ -‬قلق البحث اجلاحظيّ وهيجانه (‪ )nervosité‬ببناء حمكم‬
‫نُوحٍ وَعَ ا ٍد َو َثمُو َد وَا َّلذِينَ مِ ن َب ْعدِهِ ْم َومَا اللهَّ ُ ُيرِي ُد ظُ ْلمًا ِّل ْل ِعبَادِ) غافر ‪.31-30‬‬ ‫النّظام ي�ستجيب لقلق وعي �إ�سالميّ حيرّ ته �أمارات الف�شل‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫‪ - 4‬واحلديث املق�صود هو املعروف بحديث قيام اللّيل ‪ :‬عَ نْ �أَبِي �أُمَا َم َة ر َِ�ضيَ‬ ‫الدّنيويّ الأ وىل وم�شهد التّمزّق الرّوحي‪ .‬و�ستجد �أعمال ابن‬
‫اللهَّ ُ َت َعالىَ عَ ْن ُه قَالَ ‪ :‬قَالَ رَ�سُ ولُ اللهَّ ِ َ�صلَّى اللهَّ ُ عَ َل ْي ِه وَ�سَ َّل َم ع َل ْي ُك ْم ِب ِقيَامِ ال َّليْلِ َف ِإ� َّن ُه‬ ‫يف يف هذه‬ ‫قتيبة مبا هي برنامج دينيّ و�سيا�سيّ و�أخالقيّ وثقا ّ‬
‫ني َق ْب َل ُكمْ‪َ ،‬و�إِنَّ ِقيَا َم ال َّليْلِ ُق ْر َب ٌة ِ�إلىَ اللهَّ ِ‪َ ،‬و َم ْنهَا ٌة عَ نِ ْ ِإال ْثمِ‪َ ،‬و َت ْك ِف ٌري‬ ‫ال�صالحِ ِ َ‬
‫َد�أَبُ َّ‬ ‫الظّ روف ما ميثّل لها ويعظّ م من �ش�أنها‪ .‬وال يرجع [جناح] هذه‬
‫لِل�سَّ ِّيئَاتِ ‪َ ،‬ومَطْ َر َد ٌة لِلدَّا ِء عَ نِ الجْ َ�سَ ِد‬
‫�أَخْ رَجَ ُه الترِّ ْمِ ذِيُّ َوالحْ َاكِ ُم وَا ْل َب ْي َهقِيُّ فيِ ال�شُّ عَبِ (املرتجم)‪.‬‬ ‫الأ عمال �إىل ما للتّو�سّ ع يف املعرفة من لوازم و�إكراهات كما‬
‫‪ - 5‬يعني �شارل بال خا�صة احلديث النبوي املعروف «�أدبني ربي ف�أح�سن‬ ‫تق ّر بذلك عادة را�سخة بل يرجع على العك�س من ذلك تقريبا �إىل‬
‫ت�أديبي»‪( .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫هذا البناء –والبناء مرادف االِن�سجام والإ لزام‪ -‬الذي غلّق ابن‬
‫‪� ،vade-mecum - 6‬أو «ما يحمله املرء معه» يف حلّه وترحاله ‪-‬وتلك �صفة‬ ‫قتيبة فيه الأ بواب دون الإ ن�سان اجلديد‪» .‬‬
‫الكتاب �أ�صالة‪ -‬تعني يف �أ�صلها الالتيني الأ وّل ‪« :‬تعال معي»‪ ،‬وهي يف‬
‫وال�صحيفة التي يحملها املرء معه‬ ‫اال�صطالح ‪ :‬الدّليل‪ ،‬والكتاب املدر�سيّ ‪ّ ،‬‬ ‫احلق �أنه «�إن�سان جديد» هو ذاك الذي �سيكوّنه – ولقرون‬
‫للعودة �إليها �أنّى �شاء وا�ستفتائها يف �أمر من الأ مور‪.‬‬ ‫عديدة‪� -‬أدب ابن قتيبة الذي �رسعان ما �ستثقل كاهله –رغم‬
‫‪ - 7‬ر�سائل اجلاحظ‪ ،‬حت‪ .‬عبد ال�سّ الم حممّد هارون‪ ،‬ط‪ .‬جار اجليل – بريوت‪ ،‬د‪.‬‬ ‫ذلك كلّه‪ -‬رهون متخلدة (‪ )hypothèque imprescreptible‬بذمة �شعوره‬
‫ت (‪ 1979‬؟) ج‪� ،3 .‬ص‪( 34 .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪ - 8‬لالطّ الع‪ ،‬انظر ‪ :‬ابن قتيبة‪ ،‬كتاب املعارف‪ ،‬حت‪ .‬ثروت عكا�شة‪ ،‬ط‪ ،4 .‬دار‬ ‫ّيني املتهيّج وامل�شدود الوثاق مع ذلك �إىل �سنّة ملزمة‪.‬‬ ‫ال ّد ّ‬
‫املعارف‪� ،‬سل�سلة ذخائر العرب‪ ،‬د‪ .‬ت‪( .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫�إذا كان العقل الب�رشيّ –يف ما يقول فرن�سوا بيكون‪� -‬إن هو �إال‬
‫‪ - 9‬القا�ضي املق�صود هو الذي حتدث عنه اجلاحظ يف ق�صة بديعة من الق�ص�ص‬ ‫ذاكرة وخيال وعقل‪ ،‬فقد كان يف «�أدب» اجلاحظ ما ميثّله �أبلغ‬
‫التي ت�ؤثث كتاب احليوان‪:‬‬
‫َّا�س حاكم ًا قطُّ وال‬ ‫«كان لنا بالبَ�رصة قا�ض يقال له عب ُد اللهّ بنُ �سوَّار‪ ،‬مل َي َر الن ُ‬ ‫متثيل‪ ،‬و�أ�سهبه‪ ،‬و�أكمله مبا �أنه كان ي�ستح�رض الذاكرة‪ ،‬والعقل‪،‬‬
‫ِزمِّيت ًا وال رَكيناً‪ ،‬وال وقوراً حليماً‪� ،‬ضبط من نف�سه‪ ،‬وملَك من حركته مث َل الذي‬ ‫ويدعو اخليال ي�ستظهره يف حمكم الأ �سلوب‪� .‬إن هذا الأ دب‪ ،‬الذي‬
‫�ضبَط وملَك‪ ،‬كان ي�صلّي الغدا َة يف منزله‪ ،‬وهو قريب الدَّار من م�سجده‪ ،‬في أ�ْتي‬ ‫كان يُفرت�ض يف نهاية املطاف �أن ي�شجّ ع يف � آن واحد على‬
‫جمل�سَ ه فيحتبي وال يتَّكئ‪ ،‬فال يزالُ منت�صب ًا وال يتحرَّك له ع�ضوٌ‪ ،‬وال يلتفت‪ ،‬وال‬
‫يح ُّل حُ ْبوَته‪ ،‬وال يحوِّل رِج ًال عن رجل‪ ،‬وال يَعتمد على �أحد �شِ قَّيه‪ ،‬حَ تَّى ك أ�نّه بنا ٌء‬ ‫تلقني املعرفة‪ ،‬و�إثراء املعارف بالبحث العقلي املتب�رص‪ ،‬وعلى‬
‫مبنيٌّ ‪� ،‬أو �صخر ٌة من�صوبة…» (املرتجم)‪.‬‬ ‫االِجتهاد من �أجل حتقيق جمالية كانت قد بد�أت تتبلور معاملها‪،‬‬
‫انظر ‪ :‬كـ‪ .‬احليوان‪ ،‬حت‪ .‬عبد ال�سالم هارون‪ ،‬ج‪� ،3 .‬ص‪( .345-343 .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫�سيقت�رص دوره بعد ابن قتيبة على تكوين �أح�سن الق�ضاة وكتاب‬
‫‪ - 10‬احلكم م�أخوذ –دون الإ �شارة �إىل ذلك‪ -‬من قول للجاحظ جاء فيه ‪. .« :‬‬
‫فاحللم هو اال�سم اجلامع لكل ف�ضل وهو �سلطان العقل القامع للهوى»اجلاحظ‪،‬‬ ‫الدواوين وال�سادة ؛ �أي –باخت�صار‪ -‬على تكوين امل�سلم الكامل‬
‫كتاب كتمان ال�رس وحفظ الل�سان‪ ،‬الرّ�سائل‪ ،‬حت عبد ال�سالم هارون‪ ،‬ط‪ .‬مكتبة‬ ‫دون ا�ستعانة بغري الذاكرة‪.‬‬
‫اخلاجني بالقاهرة‪ ،1964 ،‬ج‪� ،1 .‬ص‪(142 .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫لنقل بلغة �أخرى‪� :‬إن �أبواب االجتهاد التي فتحها اجلاحظ على‬
‫ّ�ص كامال –وهو مهمّ‪…« -‬ثم النا�شيء فيهم [ويعني الكتاب] �إذا‬ ‫‪ - 11‬الن ّ‬ ‫م�رصاعيها �سيعيد ابن قتيبة �إغالقها‪ .‬ولن تفتح بعدها �إال يف‬
‫وطئ مقعد الريا�سة‪ ،‬وتورَّك م�شورة اخلالفة‪ ،‬وحُ جزت ال�سَّ َّل ُة دونه‪ ،‬و�صارت‬
‫الدواة �أمامه‪ ،‬وحفظ من الكالم فتيقه‪ ،‬ومن العلم مُ لحه‪ ،‬وروى لبُزرْجمهْر �أمثاله‪،‬‬ ‫ظروف ا�ستثنائيّة حتت �ضغط بع�ض العقول املتمرّدة على‬
‫ولأ رد�شري عَ هْده‪ ،‬ولعبد احلميد ر�سائله‪ ،‬والبن املقفَّع �أدبه‪ ،‬و�صيرَّ كتاب َم ْزدَك‬ ‫التّ�سوية املفرو�ضة(‪ .)24‬ويف اجلملة‪� ،‬ستظل الذّاكرة هي العن� َرص‬
‫معدن علمه‪ ،‬ودفرت كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ �أنَّه الفاروق الأ كرب يف التدبري‪،‬‬ ‫الأ �سا�سيّ يف تكوين امل�سلم‪� .‬أما اخليال ف�سيكفّ عن الظهور‬
‫ّا�س يف العلم بالت�أويل‪ ،‬ومُ عاذ بن جبلٍ يف العلم باحلالل واحلرام‪،‬‬ ‫وابن عب ٍ‬
‫وعليُّ بن �أبي طالب يف اجلر�أة على الق�ضاء والأ حكام‪ ،‬و�أبو الهذيل العالَّف يف‬ ‫ال�صوفية‪� -‬إال يف ما اقت�رص من النّ�صو�ص‬ ‫–يف ما عدا النّ�صو�ص ّ‬
‫ني‬‫جلزْء والطَّ فرة‪ ،‬و�إبراهيم بن �سيار النظَّ ام يف املكامنات واملجان�سات‪ ،‬وح�س ٌ‬ ‫ا ُ‬ ‫على املبحث ال�شّ كلي اخلال�ص‪ .‬وهناك �أي�ضا �سيف�سح هذا اجلهد‬
‫النَّجَّ ار يف العبارات والقول بالإ ثبات‪ ،‬والأ �صمعيُّ و�أبو عبيدة يف معرفة اللغات‬ ‫املجال �رسيعا للجمود‪ .‬ولن تعود كنوز العقل خم�صو�صة �إال‬
‫والعلم بالأ ن�ساب‪ .‬فيكون �أوّل بدْوه الطعن على القر�آن يف ت�أليفه‪ ،‬والق�ضاء عليه‬
‫بتناق�ضه‪ .‬ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأ خبار‪ ،‬وتهجني من نقل الآثار‪ .‬ف�إن ا�سرتجح‬ ‫بنخبة قليل عديدها من املفكّرين املحظوظني الذين لن يكونوا‬
‫�أح ٌد عنده �أ�صحاب الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم فتل عند ذكرهم �شدقه‪ ،‬ولوى‬ ‫ب�أكملهم من خلّ�ص امل�سلمني‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جبل‪ ،‬وهي يف منازلهم ومنا�شيءهم‪ ،‬فقد نزلوا كما ترى بينها‪ ،‬و�أقاموا معها‪،‬‬ ‫عند حما�سنه ك�شحه‪ .‬و�إن ذُكر عنده �شرُ يّح جرَّحه‪ ،‬و�إن نُعت له احل�سن ا�ستثقله‪،‬‬
‫وهم �أي�ض ًا من بني النّا�س وح�شٌ ‪� ،‬أو �أ�شباه الوح�ش‪.‬‬ ‫و�إن وُ�صف له ال�شعبيُّ ا�ستحمقه‪ ،‬و�إن قيل له ابن جُ بري ا�ستجهله‪ ،‬و�إن قدَّم عنده‬
‫والع�ض والأ كل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وربمَّ ا؛ ب ْل كثرياً ما يُبتلون بالناب واملخلب‪ ،‬وباللدغ واللَّ�سع‪،‬‬ ‫النَّخعيُّ ا�ست�صغره…»‪ .‬اجلاحظ‪ ،‬ذم �أخالق الكتّاب‪ ،‬الرّ�سائل حت‪ .‬عبد ال�سالم‬
‫فخرجتْ بهم احلاجة �إىل تعرُّف حالِ اجلاين واجلارح والقاتل‪ ،‬وحال املجنيِّ‬ ‫هارون‪ ،‬ج‪� ،2 .‬ص‪( 192-191 .‬املرتجم)‪.‬‬
‫عليه واملجروحِ واملقتول‪ ،‬وكيف الطَّ لبُ والهرب‪ ،‬وكيف الداء والدواء‪ ،‬لطول‬ ‫‪ - 12‬انظر ‪� :‬سهل بن هارون‪ ،‬كتاب النمر والثعلب‪ ،‬حققه وقدّم له وترجمه �إىل‬
‫احلاجة‪ ،‬ولطول وُقوع الب�رص‪ ،‬مع ما يتوارثون من املعرفة بالدَّاء والدواء‪ ،‬ومن‬ ‫الفرن�سية عبد القادر املهريي‪ ،‬من�شورات اجلامعة التون�سية‪ ،‬كلية الآداب والعلوم‬
‫هذه اجلهة عرفوا الآثار يف الأ ر�ض والرَّمل‪ ،‬وعرفوا الأ نوا َء وجنوم االهتداء‪ ،‬لأ نَّ‬ ‫الإ ن�سانية‪( .1973 ،‬املرتجم)‪.‬‬
‫بال�صحا�صح الأ مالي�س ‪ -‬حيث ال �أمارة وال هادي‪ ،‬مع حاجته �إىل‬ ‫ك َّل من كان َّ‬ ‫‪ - 13‬املثل الأ �صليّ كامال هو ‪:‬‬
‫بعد ال�شَّ قّة ‪ -‬م�ضط ٌّر �إىل التما�س ما ينجيه و ُي ؤ�ْديه‪.‬‬ ‫‪)Graecia capta ferum victorem cepit, et artes intulit agresti Latio. (Horace‬‬
‫وحلاجته �إىل الغيث‪ ،‬وفِراره من اجلدْب‪ ،‬و�ضنِّه باحلياة‪ ،‬ا�ضطرته احلاجة �إىل‬ ‫ويعني ‪« :‬غزت اليونان قاهرها وحملت الفنون �إىل �أعماق الريف الالتيني»‪.‬‬
‫تعرُّف �ش�أنِ الغيث‪.‬‬ ‫وهو مثل م�أثور عن هورا�س ت�رصّف �شارل ب ّال يف �أطرافه معتربا �أن ما �صنعه‬
‫ولأ نه يف ك ِّل حالٍ يرى ال�سَّ ماء‪ ،‬وما يجري فيها من كوكب‪ ،‬ويرى التَّعاقب‬ ‫الفر�س بالعرب –ثقافيّا‪ -‬من جن�س ما �صنع الإ غريق بالالّتينية‪( .‬املرتجم)‬
‫بينها‪ ،‬والنّجوم الثوابت فيها‪ ،‬وما ي�سري منها جمتمع ًا وما ي�سري منها فارداً‪،‬‬ ‫‪FAHD (Toufic). Le «Livre des Songes» d>Artémidore d>Ephèse, traduit du - 14‬‬
‫وما يكون منها راجع ًا وم�ستقيماً‪.‬‬ ‫‪grec en arabe par Hunayn b. Ishaq (m. en 260/873), édition critique avec introduct-‬‬
‫و�سئلت �أعرابيَّة فقيل لها‪� :‬أتعرفني النجوم؟ قالت‪� :‬سبحانَ اللهّ �أما �أعرف �أ�شباح ًا‬ ‫‪.tion par Toufic Fahd‬‬
‫وُقوف ًا عليَّ ك َّل ليلة‪.‬‬ ‫‪.Damas, 1964, in-8°, XXVII (en français) + 444 pages (en arabe), 3 planches‬‬
‫وقال اليقطريّ ‪ :‬و�صف �أعرابيٌّ لبع�ض �أهل احلا�رضة جنوم الأ نواء‪ ،‬وجنوم‬ ‫(املرتجم)‬
‫االهتداء‪ ،‬وجنوم �ساعات اللّيل وال�سُّ عو ِد والنُّحو�س‪ ،‬فقال قائ ٌل ل�شيخ عباديٍّ كان‬ ‫‪» faire un choix, opérer un dosage et inculquer une méthode de travail « - 15‬‬
‫حا�رضاً‪� :‬أما ترى هذا الأ عرابيَّ يعرف من النُّجوم ما ال نعرف قال‪ :‬ويل �أمِّك‪ ،‬منْ‬ ‫‪ - 16‬هذا ماي�سميه اجلاحظ بـ«العيان» ولطاملا احتفل به يف كتبه‪( .‬املرتجم)‬
‫ال يعرف �أجذاع بيته؟ قال‪ :‬وقلت ل�شيخٍ من الأ عراب قد خر َِف‪ ،‬وكان من دُهاتهم‪:‬‬ ‫‪ - 17‬نح�سب �أن هذه املالحظة يف غري حملّها متاما؛ �أو هي (‪ )déplacé‬كما‬
‫�إين ال �أراكَ عارف ًا بالنُّجوم قال‪� :‬أما �إنّها لو كانت �أكرث لكنتُ ب�ش�أنها �أب�رص‪ ،‬ولو‬ ‫يقول الفرن�سيّون �أنف�سهم وقد انحرف فيها عن طريق احلقّ واملو�ضوعيّة العلميّة‬
‫كانت �أق َّل لكنت لها �أذْكر‪.‬‬ ‫ومال مع الهوى والع�صبيّة‪ .‬و�أف�ضل ما ير ّد به على �أمثالها ما قاله يف املناظرة‬
‫و�أك ُرث �سببِ ذلك كلِّه – بعد َفرْط احلاجة‪ ،‬وطول املدار�سة – ِد ّق ُة الأ ذهان‪،‬‬ ‫امل�شهورة �أبو �سعيد ال�سريايف ردّا على متّى بن يون�س حيث يقول يف اليونان ‪:‬‬
‫وجودة احلفظ‪ ،‬ولذلك قال جمنونٌ من الأ عراب – لمَ ّا قال له �أبو الأ ْ�صبَغِ بن‬ ‫«…ولكنهم من بني الأ مم �أ�صحاب عناية باحلكمة والبحث عن ظاهر هذا‬
‫أعرف من ال يعرفني؟ فلو كان لهذا‬ ‫ِربْعيّ ‪� :‬أما تعرِف النجوم؟ قال‪ :‬وما يل � ُ‬ ‫العامل وباطنه‪ ،‬وعن كل ما يت�صل به وينف�صل عنه‪ ،‬وبف�ضل عنايتهم ظهر ما‬
‫الأ عرابيِّ املجنون مث ُل عُ قول �أ�صحابه‪ ،‬لعرف مثل ما عرفوا‪( .» ...‬حيوان‪ /‬ج‪.6‬‬ ‫ظهر وانت�رش ما انت�رش وف�شا ما ف�شا ون� أش� ما ن� أش� من �أنواع العلم و�أ�صناف‬
‫�ص‪)31-29 .‬‬ ‫ال�صنائع‪ ،‬ومل جند هذا لغريهم»‪.‬‬
‫وهذا الكالم الذي نقلنا ال فخر فيه وال مزايدة وال ع�صبيّة‪ ،‬وال «ادّعاء» وهي‬ ‫وتع�صبت وملت مع الهوى‪ ،‬ف�إن علم العامل مبثوث يف‬ ‫ّ‬ ‫قال �أبو �سعيد‪� :‬أخط�أتَ‬
‫ال�صفحات التي بلغ فيها التّفكري العلميّ اجلاحظيّ‬ ‫على خالف ذلك من �أن�صع ّ‬ ‫العامل بني جميع من يف العامل‪ ،‬ولهذا قال القائل‪:‬‬
‫منتهاه منهجا وفكرا وم�صطلحا‪� .‬أال تراه قد �أجمل و�صف طبيعة العلم العربيّ‬ ‫«العلم يف العامل مبثوث ونحوه العاقل حمثوث»‬ ‫ ‬
‫القدمي ؟ (علم جتريبيّ يف منطلقه‪ ،‬عمليّ يف منتهاه ) �أوال تراه قد بينّ دور الترّ بة‬ ‫وكذلك ال�صناعات مف�ضو�ضة على جميع من على جدد الأ ر�ض؛ ولهذا غلب‬
‫وعامل املكان فيه ؟؟ �أال ترى �أنّه قد انطلق من النّ�صو�ص يف حكمه ؟ وراعى‬ ‫عل ٌم يف مكان دون علم‪ ،‬وكرثت �صناعة يف بقعة دون �صناعة؛ وهذا وا�ضح‬
‫هموم الذّات (‪ )sujet‬يف �آرائه؟؟ �إلخ‬ ‫والزيادة عليه م�شغلة؛ ومع هذا ف�إمنا كان ي�صح قولك وت�سلم دعواك لو كانت‬
‫ول�سنا ندري مرّة �أخرى ماذا دهي ب ّال حتّى يذهب هذا املذهب ؟ وهل كان‬ ‫يونان معروف ًة من بني جميع الأ مم بالع�صمة الغالبة‪ ،‬والفطنة الظاهرة‪،‬‬
‫�سيذكر االدّعاء لو جاء اجلاحظ بعك�س ما جاء به ؟‬ ‫والبنية املخالفة‪ ،‬و�أنهم لو �أرادوا �أن يخطئوا ملا قدروا‪ ،‬ولو ق�صدوا �أن يكذبوا‬
‫بن�ص اجلاحظ قابلة‬ ‫‪ - 18‬مالحظة بال هذه لئن كانت �صحيحة يف ما يتعلّق ّ‬ ‫ما ا�ستطاعوا و�أن ال�سكينة نزلت عليهم‪ ،‬واحلق تكفل بهم‪ ،‬واخلط أ� ترب�أ منهم؛‬
‫للنقا�ش ما عمّمناها‪ .‬فكلمة «خلق» وما حف بها مل تكن حكرا على الإ لهي يف‬ ‫والف�ضائل ل�صقت ب�أ�صولهم وفروعهم‪ ،‬والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم؛‬
‫كالم العرب‪ .‬ح�سبنا �أن نذكر هنا �أن مدار هذا الدال على الإ ن�شاء وال�صناعة‬ ‫وهذا جه ٌل ممن يظنه بهم‪ ،‬وعنا ٌد ممن يدعيه لهم؛ بل كانوا كغريهم من الأ مم‬
‫والو�ضع والتقدير وهذه �أمور كما تت�صل بالإ لهي –لنقل على وجه احلقيقة‪-‬‬ ‫ي�صيبون يف �أ�شياء ويخطئون يف �أ�شياء‪ ،‬ويعلمون �أ�شياء ويجهلون �أ�شياء‪،‬‬
‫تت�صل بالب�رشي –و�إن باملعنى املجازي‪ .‬جدير باملالحظة �أي�ضا �أن كل ما يف‬ ‫وي�صدقون يف �أمور ويكذبون يف �أمور‪ ،‬ويح�سنون يف �أحوال وي�سيئون يف �أحوال‬
‫هذا الأ �صل اللغوي (خ‪ ،‬ل‪ ،‬ق) من معان �إمنا يقربه من احلقل الأ دبي ويغر�سه فيه‪.‬‬ ‫(…)‬
‫�أ فلي�س الأ دب –منظومه ومنثوره‪� -‬إال خلقا و�صناعة وتدبريا وو�ضعا…؟‬ ‫�أبو حيان التوحيدي –الإ متاع وامل�ؤان�سة – الليلة الثامنة‪( .‬املرتجم)‬
‫انظر يف هذا ل�سان العرب مثال‬ ‫ونح�سب �أنّ كالم ب ّال املذكور تعليق على كالم اجلاحظ يف اجلزء الثالث من كتاب‬
‫خللْق‪ :‬التقدير؛ وخلَق أَال ِد َمي يَخْ لُقه خَ لْقاً‪ :‬قدَّره ملا يريد قبل القطع وقا�سه‬ ‫وا َ‬ ‫احليوان وجاء فيه ‪« :‬وق َّل معنًى �سَ مِعنا ُه يف باب َمعْرف ِة احليوان من الفال�سفة‪،‬‬
‫ليقطع منه مَزاد ًة �أَو قِربة �أَو خُ ّفاً؛ قال زهري ميدح رجالً‪:‬‬ ‫وقر�أناه يف كتبِ الأ طبَّا ِء واملتكلمني ‪�ِ -‬إ َّال ونحنُ قد وجدناه �أو قريب ًا من ُه يف‬
‫ْـ�ض القومِ يَخْ لُقُ ‪ ،‬ثم ال َيفْري‬ ‫ولنتَ َتفْري ما خَ َلقْتَ ‪ ،‬وبع ُ‬ ‫أَ‬ ‫�أ�شعار العَرب والأ عراب‪ ،‬وَيف معرف ِة �أهلِ لغَتنا ومِ لّتنا‪ ،‬ولوال �أنْ يطولَ الكتابُ‬
‫يقول‪� :‬أَنت �إذا قدَّرت �أَمراً قطعته و�أَم�ضيتَه وغريُك يُقدِّر ما ال يَقطعه أَلنه لي�س‬ ‫لذكرتُ ذلك �أجمعَ‪ ،‬وعلى �أنيِّ قد تركتُ تف�س َري �أ�شعا ٍر كثرية‪ ،‬و�شواهد عديدة مما ال‬
‫مبا�ضي ال َعزْم‪ ،‬و�أَنتَ م َّ�ضاء على ما عزمت عليه؛ وقال الكميت‪:‬‬ ‫يعرفه �إ َّال الرَّاوي ُة النِّحرير؛ مِ نْ خوف التطويل»‪( .‬احليوان‪)268 /3 ،‬‬
‫�أَرادُوا �أَن تُزا ِي َل خالِقاتٌ �أَ ِد َمي ُهمُ‪َ ،‬يقِ�سْ نَ و َيفْترَ ِينا‬ ‫واجلاحظ �أعلم مبا يقول من �شارل بال ومنّا‪� .‬ألي�س هو الذي كتب احليوان وا�ستند‬
‫ي�صف ابني نِزار من مَعدّ‪ ،‬وهما َربِيع ُة ومُ �ضرَ ‪� ،‬أَراد �أَن ن�سَ بهم و�أَدِميهم واحد‪،‬‬ ‫فيه �إىل معارف الأ عراب و� آدابهم حتى غدا كتابا «عربيّا �أعرابيّا» على ح ّد تعبري‬
‫ف إ�ِذا �أَراد خالقاتُ أَالدمي الت ْفرِيقَ بني ن�سَ بهم تبينَّ لهن �أَنه �أَدمي واحد ال يجوز‬ ‫اجلاحظ نف�سه‪ ،‬لكرثة ما �أثّثه من ن�صو�ص �أعرابيّة ؟!!‬
‫خَ ْلقُه للقطع‪ ،‬و�رضَب الن�ساء اخلالِقاتِ مث ًال للن�سّ ابني الذين �أَرادوا التفريق بني‬ ‫�ألي�س هو القائل يف حيوانه مربهنا على معرفة الأ عراب بعاملهم الذي يحيون‬
‫ابني نِزار‪ ،‬ويقال‪ :‬زا َيلْتُ بني ال�شيئني وز َّيلْتُ �إذا َف َّرقْت‪ .‬ويف حديث �أُخت �أُ َم َّي َة بن‬ ‫فيه وملحّ ا على �أنّ معارفهم تلك لي�ست من جن�س املعرفة العلميّة امل�ؤ�سّ �سيّة‬
‫ال�صلْت قالت‪ :‬فدخَ َل عليَّ و�أَنا �أَخلُقُ �أَدِمي ًا �أَي �أُ َقدِّره أَلقْطَ عه‪.‬‬ ‫�أَبي َّ‬ ‫و�إنمّ ا هي من ال�ضرّ ب العمليّ ؟ ‪:‬‬
‫حلفِرية‬ ‫خللِيقةُ‪ :‬ا َ‬
‫وقال احلجاج‪ :‬ما خَ َلقْتُ ِ�إ َّال َف َريْتُ ‪ ،‬وال وَعَ دْتُ ِ�إ َّال َو َفيْتُ ‪ .‬وا َ‬ ‫«…و�إنمَّ ا �أعتمد يف مثل هذا على ما عند الأ عراب‪ ،‬و�إن كانوا مل َي ْعرِفوا �شكل ما‬
‫املَخْ لوقة يف أَالر�ض‪ ،‬وقيل‪ :‬هي أَالر�ض‪ ،‬وقيل‪:‬هي البئر التي ال ما َء فيها‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫احتِيجَ �إليه منها من جهة العناية والفالية‪ ،‬وال من جهة التذاكر والتك�سُّ ب‪ ،‬ولكن‬
‫هي ال ُّنقْرة يف اجلبل يَ�سْ تَنقِع فيها املاء‪ ،‬وقيل‪ :‬اخلليقة البئر �ساعة تحُ ْ فَر‪ .‬ابن‬ ‫هذه الأ جنا�س الكثرية‪ ،‬ما كان منها �سبع ًا �أو بهيم ًة �أو م�شرتك اخللْق‪ ،‬ف إ�نمّ ا هي‬
‫ال�صمّان‬ ‫حلفْر‪ .‬قال �أَبو من�صور‪ :‬ر�أَيت ِب ِذرْوة َّ‬ ‫حلدِيثاتُ ا َ‬ ‫خللُق الآبا ُر ا َ‬ ‫أَالعرابي‪ :‬ا ُ‬ ‫مبثوثة يف بالد الوحْ �ش‪ :‬من �صحراء‪� ،‬أو وادٍ‪� ،‬أو غائط‪� ،‬أو غي�ضة‪� ،‬أو رملةٍ‪� ،‬أو ر�أ�س‬
‫‪144‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‪ . .‬درا�ســات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أمر �آخر مهمّ‪� ،‬أن النماذج الذي عر�ضها بال والأ مثلة التي �رضبها �إمنا اتكل‬ ‫قِالت ًا تمُ ْ�سِ ك ما َء ال�سماء يف َ�صفا ٍة خَ لَقها اهلل فيها ت�سميها العرب خَ الئقَ ‪،‬‬
‫�أ�صحابها فيها على اجلاحظ و�أدبه‪ .‬عد يف ذلك �إىل مقدّمة الر�سالة البغدادية‬ ‫خللْ�صاء من جبال الدَّهْ ناء دُحْ الن ًا خلقها اهلل يف بطون‬ ‫الواحدة خَ لِيقةٌ‪ ،‬ور�أَيت با َ‬
‫لأ بي املطهّر الأ زدي ومتنها و�ستجدك �أمام كتاب مدين يف ك ّل �شاردة فيه‬ ‫أَالر�ض �أَفواهُ ها َ�ض ِّي َقةٌ‪ ،‬ف إ�ِذا دخلها الداخل وجدها ت َِ�ضيقُ مرة و َتتَّ�سِ ُع �أُخرى‪،‬‬
‫وواردة �إىل مفهوم احلكاية عند �أبي عثمان –فك�أنها �إخراج فنّيّ لهذا املفهوم‪-‬‬ ‫ثم ُيفْ�ضي ا َمل َم ُّر فيها �إِىل قَرار للماء وا�سع ال يوقف على �أقْ�صاه‪ ،‬والعرب �إذا‬
‫و�إىل نوع املفاخرة واملنافرة ونوع املحا�سن وامل�ساوي… �إلخ وال يختلف‬ ‫ر�ض يمَ أُْل ال ُغدْرانَ ا�س َت َقوْا خليلهم و�شفاههم‬
‫بال ِ‬ ‫َت َربَّعوا الدهناء ومل يقع ربيع أَ‬
‫الأ مر كبري اختالف مع الهمذاين يف مقاماته… وال تن�س �أن الهمذاين واحد من‬ ‫من هذه الدُّحْ الن‪.‬‬
‫جواحظ زمانهم‪ .‬وله من املقامات ‪ :‬املقامة اجلاحظية… وهي لي�ست املقامة‬ ‫والفْكَ يخلُقه وتخَ َّلقَه واخْ َت َلقَه وافْرتاه‪ :‬ابتدَعه؛‬ ‫خللْقُ ‪ :‬الكذب‪ .‬وخلَق الكذبَ ِإ‬ ‫وا َ‬
‫اجلاحظية الوحيدة فيها‪ .‬فك ّل ملقاماته جاحظية لو تت أ�مّل‪.‬‬ ‫ومنه قوله تعاىل‪ :‬وتخْ لُقون �إِفكاً‪ .‬ويقال‪ :‬هذه ق�صيدة مخَ ْ لوقة �أَي َمنْحولة �إِىل‬
‫‪ .2‬هذا �إن كان مق�صد ب ّال بالنموذج ‪ :‬النوع الأ دبي‪� .‬أما �إن كان مق�صده «مناذج‬ ‫غري قائلها؛ ومنه قوله تعاىل‪� :‬إِنْ هذا �إِال خَ لْقُ أَالوَّلني‪ ،‬فمعناه َكذِبُ أَالولني‪،‬‬
‫ال�شخ�صيات» فالأ مر �أبعد يف اخلط إ� من الأ ول‪ .‬لأ نّ اجلاحظ مل يكتف بالإ جادة‬ ‫وخُ لُق أَالوَّلني قيل‪� :‬شِ يم ُة أَالولني‪ ،‬وقيل‪ :‬عاد ُة أَالوَّلني؛ ومَن قر�أَ خَ لْق أَالوَّلني‬
‫يف �صناعة ال�شخ�صيات و�إبداعها ك�أح�سن ما يكون يف �أدبه‪ . .‬بل تعدّى ذلك‬ ‫فمعناه افْترِ ا ُء أَالوَّلني؛ قال الفراء‪ :‬من قر�أَ خَ لْقُ أَالوَّلني �أَراد اختِالقهم وكذبهم‪،‬‬
‫�إىل التنظري ل�صناعة ال�شخ�صيات (عد يف ذلك على �سبيل املثال �إىل مقدمة‬ ‫ومن قر�أَ خُ لُق أَالولني‪ ،‬وهو �أَحبُّ ِ�إيلَّ‪ ،‬الفراء‪� :‬أَراد عادة أَالولني؛ قال‪ :‬والعرب‬
‫البخالء و�إىل ك‪ .‬البيان واحليوان…) بل مل يكفه ذلك حتى ذهب �إىل و�ضع‬ ‫خللْق‪ ،‬وهي اخلُرافات من أَالحاديث ا ُمل ْف َتعَلةِ؛‬ ‫تقول حدَّثنا فالن ب أ�َحاديث ا َ‬
‫جداول ت�صنف فئات النا�س ومناذجهم وطبقاتهم ويبحث لك ّل منوذج منها عن‬ ‫وكذلك قوله‪� :‬إِنْ هذا ِ�إ َّال اخْ تِالق؛ وقيل يف قوله تعاىل �إِن هذا ِ�إ َّال اختِالق �أَي‬
‫�أوجه «منطيته» حال ّي ًة كانت �أم مقاليّة �أم فعاليّة‪ .‬وقد ترك لنا من ذلك يف كتبه‬ ‫تَخَ رُّ�ص‪ .‬ويف حديث �أَبي طالب‪� :‬إِنْ هذا �إِال اختالق �أَي كذب‪ ،‬وهو ا ْفتِعال من‬
‫والبْداع ك أ�َنَّ الكاذب تخلَّق قوله‪ ،‬و�أَ�صل اخلَلق التقدير قبل القطع‪.‬‬ ‫خللْق ِإ‬
‫ا َ‬
‫خزائن �أثثها مبا تعدّى من اخل�صائ�ص املظهر املرئي لل�شخ�صيّات �إىل خمربها‬ ‫الليث ‪ :‬رجل خا ِل ٌق �أَي �صانع‪ ،‬وهُ نَّ اخلالقاتُ للن�ساء‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫اخلفيّ فر�صد للنا�س �أ�رضبا من «الن�سك» متباينة وعينات من «الأ ماين»‬ ‫ق�صة متوارثة جاء فيها ‪:‬‬ ‫‪� - 19‬أ�صل هذه القولة امل�شهورة ّ‬
‫خمتلفة و�أ�صنافا من احليل واملكائد واالحتجاجات متنوعة و�أمناطا من الكالم‬ ‫م ّر على بع�ض املمثلني الكوميديني الإ يطاليني (‪ ،)arlequin‬زمن ظل فيه ي�شتهي‬
‫واللهجات والبالغات بل والرطانات …�إلخ وعينات ذلك ال حت�صى وال تن�س �أن‬ ‫�أن يكتب له ال�شاعر ‪�-‬سانتوي (‪ -)Santeuil‬كلمة يعلقها على �ستائر م�رسحه‪.‬‬
‫اجلاحظ �صاحب نظريّة يف الطباع ال وال تن�س �أن مفهوم احلكاية عنده �إمنا‬ ‫ولكن لل�شاعر �ساعات يح�رض فيها الإ لهام �أو يغيب‪ .‬وقد غاب هذه املرة وطال‬
‫يت�أ�س�س على مفهوم النموذج النمطيّ …ومل يفهمه حق الفهم رجل كما فهمه‬ ‫غيابه‪ .‬حتى نفد �صرب املمثّل فتنكّر يف بع�ض �أزيائه امل�رسحية وحمل �سيفا من‬
‫�أبو املطهّر الأ زدي وهو تلميذه‪.‬‬ ‫اخل�شب و�أخذ يطوف بحجرة ال�شاعر ي�شاك�سه ويعابثه م�ؤديا يف كل مرة دورا‬
‫ل�سنا ندري بعد هذا الذي ذكرناه لك من �أين جاء ب ّال بهذه املالحظات وهو الذي‬ ‫وانق�ض عليه فج�أة و�أخذ بتالبيبه ي�س�أله ‪ :‬من �أنت ؟‬ ‫ّ‬ ‫جديدا‪ .‬فاحتال له ال�شاعر‬
‫عوّدنا ب�إ�رسافه وتزيّده يف ادعاء معرفة �أغوار اجلاحظ و�أطواره حتّى ك أ�نّه هو‬ ‫ف�أجاب الآخر‪�« :‬أنا �شاعر امل�رسح الإ يطايل !»‪ .‬فر ّد الأ ول –وقد عرف �صاحبه من‬
‫الذي خلقه وك�أنه الوريث ال�شرّ عيّ لكتبه �أو الو�صيّ وك أ�نّه العارف الفرد الأ وحد‬ ‫�أدواره ‪« :‬ومن �أنا �إذن ؟ لعلني بهلوان �سان‪-‬فيكتور» !‬
‫ب�أدبه (ويف هذه الدرا�سة بع�ض من ذاك االدّعاء)‪.‬‬ ‫بكالمه هذا ر ّد ال�شاعر على �سخف املمثل وحماقاته بال�سخرية والتّهكّم فكال‬
‫على ك ّل حال لنا �إن �شاء اهلل �إىل هذا املو�ضوع عودة يف غري هذه ال�صفحات‪.‬‬ ‫له باملكيال نف�سه‪.‬‬
‫(املرتجم)‪.‬‬ ‫وانتهي هذا امل�شهد بالرجلني يتعانقان‪ .‬وكان ذلك منا�سبة ظفر املمثّل فيها‬
‫‪ - 21‬قال اجلاحظ معلال عزوفه عن تخ�صي�ص «باب جمرد» يف كتابه‬ ‫مببتغاه ونال ما طلبه من ال�شاعر وكان جملة تعلّق اليوم على بع�ض امل�سارح‬
‫–احليوان‪« -‬ملا ي�سكن املِلحَ والعذوبة‪ ،‬والأ نها َر والأ دوية‪ ،‬واملناقع واملياه‬ ‫‪. .Castigat ridendo mores :‬‬
‫اجلارية‪ ،‬من ال�سَّ مَك وممَّا يخالف ال�سَّ مك ممَّا يعي�ش مع ال�سمك» ‪« :‬لأ نيِّ مل �أج ْد‬ ‫�أي ت�صلح الكوميديا الأ خالق بال�ضحك‪ .‬وهذا ما ن�سميه نحن اليوم �أحيانا‬
‫يف �أكرثه �شِ عراً يجمع ال�شّ اهد ويُوثق منه بح�سْ نِ الو�صف‪ ،‬وين�شِّط مبا فيه من‬ ‫بالنقد ال�ساخر �أو ال�سخرية‪( .‬املرتجم)‬
‫غري ذلك للقراءة‪ ،‬ومل يكن ال�شّ اهد عليه �إ ّال �أخبار البحْ ريِّني‪ ،‬وهم قو ٌم ال يعدُّون‬ ‫‪ - 20‬ل�سنا ندري على وجه ال ّدقّة ما يعنيه ب ّال بـ «النّموذج» (‪: )type‬‬
‫القول يف باب ال ِفعْل‪ ،‬وكلّما كان اخل ُرب �أغرب كانوا به �أ�ش ّد عُ جْ باً‪ ،‬مع عبارة غثَّة‪،‬‬ ‫‪ .1‬ف�إن كان املق�صود النوع الأ دبي‪ .‬فكالم ب ّال غري دقيق وال �صحيح لأ نّ‬
‫وخمارج �سَ مِجة … «اجلاحظ‪ ،‬احليوان‪ ،‬ج‪� ،6 .‬ص‪.»16‬‬ ‫اجلاحظ ما كتب من كتاب يف باب الأ خالق خال�صا خملّ�صا‪ .‬فك ّل ما كتبه �إمنا‬
‫وهذا الكالم مما ميكن اال�ستدالل به على قيمة الأ دبي‪ ،‬اجلمايلّ‪ ،‬البيا ّين يف كتبه‪.‬‬ ‫كان م�سكونا بهاج�س فنّيّ �أدبيّ ‪ .‬وك ّل ما جاء به –وهذا هو املهمّ‪� -‬إمنا �أجراه‬
‫ف إ�نّه كما ترى ال يقبل من النّ�صو�ص ما ا�ستويف ال�شرّ ط املعريفّ‪ ،‬العلميّ املجرّد‪.‬‬ ‫يف �أجنا�س �أدبية ونزّله يف قوالب نوعيّة متميّزة بع�ضها معروف –وقد در�ست‬
‫يل ما‪( .‬املرتجم)‬‫يف �أي�ضا من مقدار جما ّ‬ ‫�إذ الب ّد للمعر ّ‬ ‫مناذج منه‪ -‬كالنادرة – والبخالء عيّنة منها متميّزة‪ -‬وبع�ضها جمهول مغمور‬
‫‪- 22‬وا�رضب يف هذا الباب مثال مقولته ال�شهرية ‪« :‬وينبغي �أن يكونَ �سبيلُنا‬ ‫مل يدر�س �إىل اليوم كنوع املفاخرة واملناظرة واملحا�سن وامل�ساوي… وهي‬
‫ملَن بعدَنا‪ ،‬ك�سبيلِ مَن كان قبلنا فينا‪ ،‬على �أنَّا وقد وجدْنا من العربة �أك َرث ممّا‬ ‫�أنواع مل تخرج بعد عما ي�سميه تودوروف بالأ نواع النظريّة (‪)genres théoriques‬‬
‫وجدوا‪ ،‬كما �أنَّ مَن بعدَنا يج ُد من العِربة �أك َرث ممّا وجدْنا» –احليوان (املرتجم)‬ ‫لتدخل �إىل جمهرة الأ نواع التاريخية (‪ )genres historiques‬ومل تنعتق لذلك من‬
‫‪ - 23‬هذا احلكم من �أ�شهر ما قيل يف اجلاحظ و�أدبه وقد نقله ياقوت احلموي‬ ‫�إ�سار واقعها الذي حتفّه املفارقات –�أ فال ترى �أن هذه الأ نواع موجودة معدومة‬
‫يف الآن نف�سه �أو قل هي موجودة مبعنى معدومة ؟! حالها اليوم كحال امل�أ�ساة‬
‫يف الإ ر�شاد‪ .‬وقد غدا ل�شهرته كاملثل ال�سائر فقد جاء يف معجم ياقوت م�صحوبا‬ ‫قبل �أر�سطو �أو �أ�سوء من ذلك ؟‬
‫بق�صة كتلك الق�ص�ص التي اعتاد العرب على قراءتها يف كتب الأ مثال‪ .‬وهذه‬ ‫ّ‬ ‫ومع ذلك فقد كتبت درا�سة حول �أدب املحا�سن وامل�ساوي عنوانها ‪:‬‬
‫اجلملة نف�سها �سيجعل منها �شفيق جربي عنوان كتابه ‪ :‬اجلاحظ معلم العقل‬ ‫‪Un genre littéraire arabe : al-Mahâsin wa-l-masâwî, Ed. maisonneuve et‬‬
‫والأ دب‪.‬‬ ‫‪.larose, Paris, 1977‬‬
‫�أما عن الق�صة املعنية ‪« :‬وحدث �أبو القا�سم ال�سريايف قال ‪ :‬ح�رضنا جمل�س‬ ‫وهي �أطروحة دكتوراه لإ براهيم جريا�س‪ .‬وعلى �أهميتها وما يب�شرّ به عنوانها‬
‫الأ �ستاذ الرئي�س �أبي الف�ضل [بن العميد‪ ،‬وهو من «جواحظ زمانهم»] فق�رص‬ ‫من عناية بق�ضايا النّوع‪ ،‬ف إ�نّها تظل –�إجماال‪ -‬درا�سة �سطحيّة مدر�سيّة يغلب‬
‫رجل باجلاحظ و�أزرى عليه وحلم الأ �ستاذ عنه‪ .‬فلما خرج قلت له ‪� :‬سكتَّ �أيها‬ ‫عليها املنزع ال ّت�أريخي التّب�سيطي وال �شيء فيها مما يتّ�صل بهذا الذي �أ�سماه‬
‫الأ �ستاذ عن هذا اجلاهل يف قوله الذي قال مع عادتك بالرد على �أمثاله‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫«نوعا �أدبيّا عربيّا» �إذ ال ذكر فيها ملا يعنيه بالنوع وال بخ�صائ�صه وعنا�رص‬
‫مل �أجد يف مقابلته �أبلغ من تركه على جهله‪ ،‬ولو واقفته وبينت له النظر يف‬ ‫خطابه وال مبكوناته الإ ن�شائية…‬
‫كتبه‪� ،‬صار �إن�ساناً‪ .‬يا �أبا القا�سم كتب اجلاحظ تعلم العقل �أو ًال والأ دب ثانياً‪.‬‬ ‫زد على ذلك كلّه‪ ،‬ولنبق يف حدود هذا الذي �أ�سماه �شارل بال «منوذجا»‪� ،‬أن‬
‫عن ياقوت احلموي ‪ -‬معجم الأ دباء‪( .‬املرتجم)‬ ‫«منوذج» الأ دب نف�سه وما يقوم عليه خطابه من ف ّنيّات وطرائق يف الكتابة مل‬
‫‪ - 24‬لع ّل املق�صود بالت�سوية هنا هو ذلك احلر�ص على تقدير الفروق بني‬ ‫يدر�س بعد… ولذلك ال نعرف �إن كان هذا «الأ دب» نوعا �أدبيا �أو �أ�سلوبا ف ّنيّا �أو‬
‫امل�ستويات الثالثة ‪ :‬الذاكرة (النقل)‪ ،‬العقل‪ ،‬اخليال والإ حلاح على �رضورة‬ ‫فل�سفة من فل�سفات الكتابة �أو منهجا �أو غري ذلك… فك ّل ما نعرفه ال يتعدّى ما‬
‫توازنها‪( .‬املرتجم)‪.‬‬ ‫قاله اجلاحظ عن �صفة يف �صفاته و�أنه «الأ خذ من كل �شيء بطرف»!‬
‫‪145‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ح ــوار‬

‫من �أعمال الفنان جيم زوكار ‪� -‬أمريكا‬

‫‪146‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فاطمة ال�شيدية‬
‫الق�صيدة نزهتي الكونية يف بحرية من املو�سيقى‬
‫(نحن حمكومون بالأ مل) ‪ ,‬وباحلب �أي�ضا‬
‫حوار ‪ :‬عبد الرزاق الربيعي‬
‫كاتب من العراق يقيم يف عُ مان‬

‫ت�ؤمن الدكتورة فاطمة ال�شيدية �أن الكتابة م�رشوع �أخري للحياة واحللم و �رشفتها‬
‫الداخلية‪ ،‬التي تهرب �إليها كلما ت�صاعد احلزن يف �أوردتها ‪ ،‬لتغرق يف بحرية‬
‫من املو�سيقى‪� ،‬أو يف فنجان قهوة لتنعم بال�سالم هربا من حنني املرايا للدم‬
‫واحلزن ‪,‬و ثمرة الت�أمل يف الكون والوجود والكائنات‪ ،‬ثم الدافع للو�صول به‬
‫–ال�شاعر ‪ -‬للحزن لإ دراكه حلالة من الالجدوى !‬

‫الأ ماكن الأ وىل متنعنا من الأ مكنة الأ خرى‪ ،‬وجتربنا على‬
‫املكوث يف دروبها الفردو�سية وماهي كذلك!‬

‫‪147‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ني ب ِه‬
‫يل زا ٌد �أ�ستَع ُ‬
‫بهذه اللغة ال�شعرية تتحاور مع الأ �شياء وتف�رس العامل دُنيايَ ه ْل َ‬
‫على الرّحيلِ ‪ ،‬ف�إنيّ فيكِ محُ َتبَ�س‬ ‫املحيط حماولة �أن تعي�ش تفا�صيل حياتها كنحلة ‬
‫تتنقل بني �أزهار الكلمات ‪ ,‬متنقلة بني عدة �أعمال ‪ bb‬ع�شت طفولتك يف بيئة مائية هل تبللت‬
‫وظيفية ‪:‬مكتبها يف وزارة الرتبية والتعليم ‪ ,‬ع�ضويتها كلماتك برذاذ البحر؟‬
‫هيئة تدري�س اجلامعة العربية الكندية املفتوحة وهيئة نعم ع�شت طفولة مائية‪ ،‬وللمفارقة ع�شت بني ملح‬
‫حترير جملة �شعريات (ليبيا) و�أن�شطتها املتعددة يف �أجاج‪ ،‬وعذب فرات‪ ،‬فبني البحر الذي كان مهد‬
‫النادي الثقايف واجلمعية العمانية للكتاب والأ دباء طفولتي الأ وىل‪ ،‬ورفيق املتبقي من الذاكرة واحللم‪،‬‬
‫العمانيني‪ ,‬وهذا لن ي�شغلها عن موا�صلة ا�شتغاالتها وبني ال�سواقي التي دثَّرت الروح ب�أغانيها‪ ،‬و�أحالم‬
‫الكتابية يف ال�شعر والنرث وال�رسد والنقد ‪ ,‬وفاطمة من الع�صافري على الأ �شجار التي منت مبحاذاتها‬
‫�أكرث ال�شاعرات العمانيات تواجدا يف امل�شهد الثقايف تدحرجت خطواتي الأ وىل‪ ،‬ورمبا دمعاتي الأ ثرية‪،‬‬
‫العماين ‪�,‬صدر ‪ ‬لها)‪  ‬هذا املوت �أكرث‪  ‬اخ�رضارا ‪-‬دار الأ مر مل يكن خرافيا وال �أ�سطوري اجلمال؛ بل كان يف‬
‫الر�ؤيا‪ -‬م�سقط‪ ,1997  /  ‬و(خالخيل الزرقة) دار منتهى الب�ساطة والبدائية‪ ،‬ولكنها الأ رواح والذاكرة‬
‫التي جتعل املا�ضي هيكال تطوف حوله ما تبقى من‬ ‫املدى ‪ -‬دم�شق‪2004 /‬‬
‫ورواية (حفلة املوت )‪ ،‬دار االنت�شار العربي‪ 2007 ‬العمر‪ ،‬لقد تبللت روحي ولي�س كلماتي وح�سب‪ ،‬و�أ�شعر‬
‫الآ ن �أنني كلمت طرقت بحر الكلمات ف�أنني البد �أن‬ ‫و(مراود احللكة)‪ -‬من�شورات وزارة الرتاث‬
‫والثقافة ‪ -‬م�سقط ‪ 200  /‬ولها عدة كتب خمطوطة �أحرك يدي وب�أ�صابعي كمن يحاول �أن ي�سبح متاما‪،‬‬
‫قيد الطباعة منها كتابها (�أ�سلوبية الن�ص) الذي هو و كلما قررت �أن �أكتب علي �أن �أ�ستنجد بكل ذلك املاء‪،‬‬
‫�أطروحة‪  ‬الدكتوراه يف الل�سانيات الن�صية والأ �سلوبية وبكل حالوة وطالوة الأ �شياء القدمية‪ ،‬عليّ �أن �أكتب‬
‫يف الل�سانيات التي ح�صلت عليها من جامعة الريموك مبداد املوج كما يقول نيت�شه‪:‬‬
‫يف هذا احلوار حاولنا االقرتاب من عاملها ال�شعري «�أحمكوم علي �إذن باخلرب�شة ؟‬
‫لذلك كلما ا�ستولت علي بجر�أة دواتي‬ ‫وم�رشوعها يف الكتابة والنقد ‪.‬‬
‫‪ bb‬يرتفع يف ن�صو�صك �صوت الفجيعة‪ ,‬ولو ب�شكل �أكتب ب�أمواج من املداد‬
‫خفي وهام�س‪ ,‬هل الكتابة تعبري عن مكنونات كيف ين�ساب ذلك مرتعا �سخيا!؟»‬
‫الال�شعور الذي تختزن به خماوف الإ ن�سان من ‪ bb‬الأ ماكن الأ وىل حتفر يف الذات �أخاديد عميقة ‪,‬‬
‫املوت والأ مرا�ض وهو ي�سبح يف بحر الوجود ماذا حفرت (�صحم) يف ذاتك ؟‬
‫املكان هو روح �شبحية ت�سكننا‪ ،‬روح ت�صلح �أن تكون‬ ‫املتالطم ؟‬
‫ترياقا للغربة والعزلة معا‪ ،‬ت�صبح حالة ميتافيزيقية‬ ‫�صوت ال�شعر هو �صوت الداخل‪ ،‬وهو ذلك ال�صوت‬
‫للذات‪ ،‬ال ت�ستطيع فعال �أن حتدد ما فعلت بك‪ ،‬الأ ماكن‬ ‫امل�شتغل على الواعي والالواعي من الذات‪ ،‬لذا جنده‬
‫الأ وىل(�صحم بالن�سبة يل)‪ ،‬هي حالة احلفر اخلالد‬ ‫ي�رسف يف البوح يف ثنايا الن�ص‪ ،‬والفجيعة الوجودية‬
‫التي ال متلك بعد زمن ما �سوى االرتداد نحوها‬ ‫التي يخت�رصها ذلك ال�صوت؛ هي ثمرة الت�أمل يف‬
‫ا�ستجداء لروائحها‪ ،‬وارتعا�شة ع�شاقها‪ ،‬و�أ�صوات‬ ‫الكون والوجود والكائنات‪ ،‬الت�أمل الذي هو دور‬
‫موتاها‪ ،‬وحنينها امل�ستبد‪ ،‬و�أحالمها وانك�ساراتها‪،‬‬ ‫ال�شاعر ورمبا قيمته‪ ،‬ثم الدافع للو�صول به للحزن‬
‫واحلزن غري املربر‪ ،‬والعرثات الطفلية‪ ،‬والرباءة التي‬ ‫تو�صل‬
‫ّ‬ ‫لإ دراكه حلالة من الالجدوى‪ .‬وهي ثمرة‬
‫تقف دونك ودون الفهم الكارثي الذي تتمنى لو �أنه‬ ‫�إليها ال�شعراء والفال�سفة معا منذ �أقدم الع�صور‪ .‬انظر‬
‫مل يكن‪.‬‬ ‫مايقول �أبو العالء �أحد �أكرث �أ�صوات الفجيعة علوا‬
‫الأ ماكن الأ وىل متنعنا من الأ مكنة الأ خرى‪ ،‬وجتربنا‬ ‫وارتدادا يف ال�صدى‪..‬‬
‫على املكوث يف دروبها الفردو�سية وماهي كذلك!‪،‬‬ ‫�أم ٌر بدا ثم �أخفَى‪� ،‬ش أ� َنهُ‪ ،‬ق َد ٌر‬
‫ورائحتها املقد�سة‪ ،‬و�صوتها النبيذي اله�ش مهما‬ ‫كالنّا ِر ماتتْ ‪ ،‬فلم يُن�شرَ ْ لها قَب�س‬ ‫ ‬
‫‪148‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫والر�ؤية والت�أمل واجلمال كلها تغريت وتلونت‬ ‫تباعدت بنا الأ مكنة �أو غربتنا الدروب‪ .‬والعزلة التي‬
‫وانترثت‪ ،‬والبحر وال�صحراء‪ ،‬واليتم واملاء‪ ،‬و�أرواحنا‬
‫هي فري�ضة حمنة الكتابة والوعي‪ ،‬جتعلنا نعي�ش‬
‫و�أج�سادنا و�أحالمنا‪ ،‬والق�صي املعتم والوردي منا؛‬
‫مكاننا اخلا�ص وزمننا اخلا�ص‪ ،‬وجتعلنا ن�رصخ‬
‫كلها انترثت؛ فلم ال ننترث!؟‬
‫مع �إميل �سيوران‪�« ..‬أنا ممنوع من الزمن‪ .‬وملا كنت‬
‫عاجزا عن متابعة �إيقاعه ف�إين �أتعلق بتالبيبه‪� ،‬أو ‪ bb‬ولرمبا اال�ستقبال احلافل الذي ت�ستقبل به‬
‫�أت�أمله لكني ل�ست فيه �ألبته‪ .‬كما �أنه لي�س يفّ‪ .‬وعبثا الروايات الن�سويات يف اخلليج كرواية«بنات‬
‫الريا�ض» مثال هو الذي حفزك لكتابة «حفلة‬ ‫�أطمع يف قليل من زمن اجلميع»‬
‫‪ bb‬هل انعك�س هذا على كتاباتك ال�شعرية املوت»؟‬
‫‪ -‬ال بالطبع‪ ،‬بل لقد �أردت ب�إ�رصار �أن �أبتعد عن تلك‬ ‫وال�رسدية؟‬
‫املناطق امل�ستفزة للحم الب�رشي‪ ،‬املتحفز لال�ستثارة‬ ‫نعم‪ ،‬مازلت �أ�سرية الطني والبحر والرمل والإ ن�سان‬
‫ال�سهلة ال�رسيعة واملجانية‪ ،‬روايتي طيبة مبا يكفي‬ ‫املائي‪ ،‬بب�ساطة مازالت �أ�سرية الرائحة �إذ البحر‬
‫لتكون يف خانة الب�سطاء والفكرة العميقة‪ ،‬واحلنان‬ ‫يتنف�س ويلقي بفو�ضاه على �شواطئ احلنني‪ ،‬والن�سوة‬
‫امل�ستنفد من قبل طاقات ال�رش التي ال قبل للإ ن�سان‬ ‫يت�ضوعن باحلنّاء والبخور‪ ،‬وال�ساقية متر عرب �أحوا�ض‬
‫بها‪ ،‬وجارحة مبا يكفي لتكون نقداً �رصيح ًا وجاداً‬ ‫النخيل يف ترف ودالل وب�ساطة الب�سيط من الأ �شياء‪.‬‬
‫للكثري من الت�رصفات الذكورية احلمقاء‪ ،‬ولكل‬ ‫ولذا رمبا �أميل يف كتابتي للونيّة‪ ،‬وللح�س واجلر�س‬
‫اال�ستالب التاريخي التهمي�شي للمر�أة‪ ،‬وحادة مبا‬ ‫واملو�سيقى‪ ،‬كما �أميل بعمق معمّق ومق�صود ل�رسد‬
‫يكفي لأ ن تكون �رصخة �ضد ظلم مت�صاعد ومتوارث‬ ‫التفا�صيل النف�سية الداخلية‪ ،‬وللم�شهد الكلي اخلارجي‬
‫لهذا الإ ن�سان‪ ،‬الذي �سرُ قت من حتى �إن�سانيته على مر‬ ‫ب�شكل جممل وعام كن�ص متكامل ليحظى امل�شهد‬
‫التاريخ بالعبودية والعن�رصية والتمييز‪ ،‬وحنونة مبا‬ ‫اخلارجي ب�صورة كليّة‪ ،‬وامل�شهد الداخلي ب�إ�سهاب‬
‫يكفي لأ ن ت�رصّح ب�أنه ال حياة وال �سعادة‪ ،‬بال حب!‬ ‫نبيل‪.‬‬
‫‪ bb‬بعد ثالث جمموعات �شعرية فاج�أت الو�سط ‪ bb‬ما املقولة التي حر�صت على طرحها يف هذه‬
‫الثقايف العماين بروايتك «حفلة املوت» هل الرواية؟‬
‫كتابتك للرواية �إقرار ب�أن الزمن هو زمن الرواية؟ ‪ -‬لقد حر�صت على طرح عدة مقوالت �أهمها‪:‬‬
‫املر�أة �إن�سان كامل ولي�س ناق�صاً‪.‬‬ ‫وكيف تنظرين لهذه املقولة ؟‬
‫جمتمع ال يقدر املر�أة جمتمع متخلف‪.‬‬
‫ال �أبدا ‪ ..‬كتبت الرواية لأ نني �شعرت �أنني �أرغب �أن‬
‫الب�رش مت�ساوون يف �إن�سانيتهم بكل الأ لوان والأ �شكال‬
‫�أكتب رواية‪ ،‬كانت الفكرة متخلّقة يف ر�أ�سي ويف‬
‫والأ حجام والأ عراق‪ ،‬وكل عن�رصية‪ ،‬هي ظلم طارئ‪،‬‬ ‫دفاتري منذ فرتة طويلة جدا‪ ،‬وكان يجب �أن ترى‬
‫النور – لوال تخوفاتي غري املربرة‪ -‬قبل جمموعتي‬
‫و�رش م�ستزرع‪.‬‬
‫حني ننظر للأ �شياء من عدة زوايا‪ ،‬ميكننا �أن نراها‬
‫الثالثة‪ ،‬وكانت كما كل م�شاريعي طويلة الأ مد‪ ،‬وقد‬
‫بعدة �أ�شكال‬ ‫ت�أتي بعد فوات الأ وان بقليل‪..‬‬
‫الأ �ساطري هي قيمة املحكي وال�شفهي يف املجتمعات‪،‬‬‫عن املقولة �أعتقد �أنها �صادقة �إىل حد ما‪ ،‬ومع هذا‬
‫ويجب ا�ستثمارها يف املكتوب كي ال تندثر‪.‬‬
‫لنكن يف منطقة الو�سط هذا زمن النرث‪ ،‬زمن ال�شعري‬
‫نحن حمكومون بالأ مل( �سعد اهلل ونو�س)‪ ،‬وباحلب‬ ‫وال�رسدي منه‪ ،‬زمن الغائم والالدقيق من التجني�س‬
‫�أي�ضا!‬
‫والتو�صيف وامل�سميات‪ ،‬ثقيلة هي الت�سميات الآ ن‪،‬‬
‫امل�رسح ابتلع الفنون جميعا‪ ،‬وخلق حالة من االحتاد ‪ bb‬ما الذي بر�أيك يجعل فن الرواية «مت�أخرا»‬
‫والت�سوية وال�صلح معها‪ ،‬وال�شعر فعل فعلته هذه ن�سبيا يف الو�سط الثقايف العماين عن بقية‬
‫منذ ا�سخيلو�س واملالحم وت�صالح مع املو�سيقى الفنون؟‬
‫والفن‪ ،‬الكون �أ�صبح منثورا‪ ،‬واحلزن والوجع والع�شق يف البدء ال ميكننا تعميم هذا احلكم‪ ،‬هناك روايات‬
‫‪149‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�صدرها وتعلي �ش�أنها يف اليوم ال�سابق‪ ،‬ثم �سنعرج‬ ‫عمانية قدمية وغنيّة و�إن مل تنل حظها من ال�شهرة‪،‬‬
‫على جماليات احلزن و�رضورة االكتئاب للمبدع‬ ‫ومل تعد متداولة بيننا‪ .‬كما �أن هناك روايات حققت‬
‫عند فان جوخ الذي قطع �أذنه حلبيبته‪ ،‬وفتنة العبث‬ ‫�شهرة عالية‪ ،‬ومن ثم فطبيعة الرواية حتتاج ن�ضجا‬
‫عن �سلفادور دايل‪ ،‬وقد ن�صل للمو�سيقى حينها‬ ‫يف الأ �ساليب والتجربة‪ ،‬حتتاج �أن تكتبها بعد‬
‫�سيعلو النقا�ش بني جمالية غناء الن�ص الف�صيح عن‬ ‫م�شوار من الكالم �أو الغناء �أو ال�صمت‪ ،‬م�شوار من‬
‫مار�سيل خليفة‪� ،‬أو ماجدة الرومي مثال‪ ،‬وبني فاغرن‬ ‫الت�أين والتثبت‪ ،‬ولذا �أرى الأ مر طبيعيا جدا ومربرا‪،‬‬
‫�أو موزارت يف املو�سيقى الكال�سيكية‪ ،‬متباهني قليال‬ ‫بالإ �ضافة �أننا نبد�أ غالبا من حيث ينتهي الآ خرون‪،‬‬
‫باملعرفة الناق�صة‪ ،‬وا�ستعرا�ض املعلومات ال�سطحية‬ ‫والبد �أن يكون نتاجنا الثقايف ب�شكل عام متوازيا‬
‫�أحيانا كثرية‪ ،‬وحتتد �أ�صواتنا عند مناطق االختالف‬ ‫ن�سبيا مع الن�سبة ال�سكانية وعدد املثقفني‪ ،‬والكتاب‬
‫وترتاخي حنانا عند مناطق االتفاق‪ ...‬نتكلم يف كل‬ ‫و�ضمن هذه احل�سابات لدينا عدد ال ب�أ�س به من‬
‫�شيء من طريقة اللب�س حتى نوع ماركة املكياج‪،‬‬ ‫الروايات والروائيني‪ ،‬كما �أن امل�شهد يت�سع كل يوم‪،‬‬
‫والأ لوان املحببة لل�شاالت‪!! ..‬‬ ‫والقطار يتحرك ب�رسعة �أكرب‪ ،‬والعجلة تدور وتور‬
‫هل ر�أيت هكذا �أعي�ش و�أكتب �ضمن اللغة التي هي كل‬ ‫‪..‬فلنت�أمل ولن�أمل ‪..‬‬
‫�شيء يف �أي �شكل كتابي‪� ،‬إنها احلياة‪ ..‬احلياة كلها‪.‬‬ ‫‪ bb‬هل �ستوا�صلني هذه اللعبة؟‬
‫نعم! �إنها مغرية ولذيذة جدا وت�ستفز �شغبي الداخلي ‪� bb‬أ�صبحت مقلة �شعريا‪ ,‬هل �أكلت �أنياب الرواية‬
‫للتجريب فيها‪ ،‬متاما ككلمة لعبة‪ ،‬التي �أ�شعر �أنها والدرا�سة الأ كادميية تفاحة ق�صيدة فاطمة؟‬
‫نعم �أ�صبحت مقلة جدا �شعريا‪ ،‬ولكن لي�س لأ ي �سبب‬ ‫ترجعني للوراء كثريا‪ ،‬وجتعلني �أجيب فورا بنعم‬
‫مما ذكرت‪� ،‬أو لأ ي �سبب منطقي � آخر‪ ،‬ولكنني مل �أعد‬ ‫وبحما�س‪ ،‬مع �أنني غري متيقنة متاما من الإ جابة‪،‬‬
‫�أ�ستطيع �أن �أكتب �شعرا‪ ،‬كما كنت �أفعل بكرثة وع�شق‪،‬‬ ‫لكن ما �أنا واثقة منه‪� ،‬أنني �أحب �أن �ألهو مع اللغة‬
‫يبدو �أنني انترثت مبا مل يعد ي�سعف التكثيف‪ ،‬بت‬ ‫دائما ك�صديقة حميمة‪ ،‬نتقاذف الأ �شياء القريبة‬
‫�أقرب لالندياح يف ب ؤ�َر املاء‪ ،‬من جتمع ال�ضوء يف‬ ‫ونحن نقهقه ب�صوت عايل حني نتكلم عن غباء الرجل‬
‫قب�ضة الق�صيدة‪ ،‬و�أميَل لع�صري التفاح من ق�ضمته‬ ‫ال�رشقي ونظرته للمر�أة‪ ،‬ثم نن�سحب مبرح �أقل ملناطق‬
‫املتوح�شة‪ ،‬و�أخ�شى �إذ اقرتب من ال�شعر �أن جترحني‬ ‫�أكرث وجعا و�ضبابية‪ ،‬وثقال مو�ضوعيا للحديث عن‬
‫�أنياب الق�صيدة‪� ،‬أو �أجرحها‪ ،‬كما �أخ�شى كثريا وكثريا‬ ‫الت�صوف وجمالياته عن حمي الدين بن عربي �أو‬
‫جدا �أن �أكف متاما عن جتني�س كتابتي بعد وقت‬ ‫احلالج‪� ،‬أو عن التطور التاريخي للق�صيدة العربية من‬
‫لي�س بطويل‪ ،‬ولكن ما �أعرفه جيدا �أنني لن �أكف عن‬ ‫امرئ القي�س حتى �أدوني�س وحممود دروي�ش‪ ،‬مرورا‬
‫الكتابة‪.‬‬ ‫باملتنبي النبي املغرور‪ ،‬وحكيم املعرّة‪ ،‬ثم �سنذهب‬
‫يف �أم�سية ل�صديق رائع �أحب ما يكتب من �شعر كنت‬ ‫للفل�سفة للحديث عن احلرية واحلقيقة والوجود عند‬
‫�أعت�رص داخلي‪ ،‬و�أنا �أقول‪ :‬يا �إلهي كيف مازال يكتب‬ ‫�سارتر �أو هايدغر �أو غريهما م�ستح�رضين �سقراط‬
‫�شعرا؟! �أمل يتعب؟ لقد جرحني ال�شعر �إذ ترك ن�صله‬ ‫و�أفالطون و�أر�سطو وابن ر�شد وابن �سيناء والفل�سفة‬
‫معلقا يف روحي‪ ،‬وبات دمي �أكرب و�أكرث �سيالنا من‬ ‫العربية العظيمة‪� ،‬ساخطني على املت�شدقني العرب‬
‫نفاف الق�صيدة!!!‬ ‫الذين �أهملوا هذه الفل�سفة يف رك�ضهم احلثيث وراء‬
‫‪ bb‬بد�أت الكتابة �شاعرة ق�صيدة نرث ووا�صلت هذا‬ ‫كل غربي‪ ،‬وهم ال ميلكون حتى �أبجديات الثقافة‬
‫النهج اجلمايل ‪� ,‬أي �أن تدرجك كان �ضمن منطقة‬ ‫العربية التي نهل منها علماء وفال�سفة الغرب الذين‬
‫حددتها بنف�سك منذ البدء ‪ ,‬ما هي اخلطوات‬ ‫بذلك بوعي وواقعية‪ ،‬وقد نعرج لل�سيا�سة التي لن‬
‫الفنية التي قطعتها يف طريق املغايرة �ضمن هذا‬ ‫نطيل الوقوف عندها لأ نها باتت متناق�ضة حد عدم‬
‫الإ طار؟‬ ‫قدرة كائن واعي على الكالم املنطقي فيها لأ نها‬
‫�أنا وريثة تقليدية للق�صيدة العربية‪ ،‬بكل مراحلها‬ ‫تثبت كل يوم �أنها تتفّه وحتقّر كل املفاهيم التي‬
‫‪150‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫النقدية‪ ،‬ويف تعاطي من ال ميلك �أدوات النقد معه‬ ‫وطقو�سها وبحورها‪ ،‬قراءة وكتابة‪ ،‬كما �أحمل كل‬
‫كيفما اتفق‪ ،‬م�صدّرا نف�سه بامل�سمى العظيم (ناقد)‬ ‫الأ �شياء ال�ضدية التي قد ال تتخيل تناق�ضاتها داخلي‬
‫وما �رضه لو قال �أنا قارئ ومتابع‪ ،‬وخفف على‬ ‫اجتماعيا و�إن�سانيا وثقافيا‪ ،‬والتي جاهدت خللعها‬
‫نف�سه عبء امل�صطلح والتنظري‪ ،‬وت�سويق امل�سميات‪،‬‬ ‫ورمبا مل �أفعل متاما‪ ،‬ومل �أقر�أ ن�صا منثورا �إال يف‬
‫وت�شويه احلقائق‪.‬‬ ‫اجلامعة‪ ،‬ومل �أقر�أ ن�صا غربيا �إال مرتجما‪ ،‬لكنني‬
‫فالأ �سلوبية منهج علمي دقيق وي�شمل عدة مباحث‪،‬‬ ‫�أي�ضا �أحمل داخلي بذرة االختالف وجمالية التمرد‪،‬‬
‫ولي�ست هي حتليل الن�ص لغويا من ظاهره فقط ‪-‬‬ ‫فحني �شعرت ب�أن ما ي�شبهني ويكتبني هو ق�صيدة‬
‫كما �شاع يف درا�ساتنا امل�سلوقة على عجل‪� -‬إن كل‬ ‫النرث‪ ،‬كان من واجبي �أن �أ�رصخ نعم (هذه هي!) و�أن‬
‫ما يتناول الدر�س البالغي والنقدي والن�ص والتنا�ص‬ ‫�أخل�ص لها حتى الكفر مبا �سبقني منها‪ ،‬و�أن �أبد�أ من‬
‫والكثري من املناهج النقدية واملدار�س الأ دبية يدخل‬ ‫حيث انتهت متاما‪ ،‬وهذا ما حدث‪ ،‬و�رصت �أقول �أنني‬
‫�ضمن الأ �سلوبية التي هي مبتكر علمي ثقايف غربي‬ ‫منها بد�أت‪ ..‬وال �أعرف �إىل �أين �س�أنتهي!!‬
‫يتقاطع قليال مع البالغة العربية‪ ،‬ولكن لي�س ب�شكل‬ ‫‪ bb‬يف حوار �سابق اعتربت التعاطي مع الكتابة‬
‫كلي وال حتى كبري‪ ،‬وهي علم كبري ومت�شعب‪ ،‬در�سه‬ ‫«ورطة» هل �أنت نادمة على دخولك هذه‬
‫�أكادميون ولغويون درا�سات م�ستفي�ضة‪ ،‬ومازال‬ ‫الورطة؟‬
‫يحظى بالكثري من اال�شتغاالت الأ كادمية الغربية‪ ،‬يف‬ ‫ورطة؟ نعم‪ ،‬و�أي ورطة وجودية هي الكتابة؟! دافئة‬
‫حني نتعلق بحوافه فقط‪ ،‬وينت�سب �إليه كل من له �أو‬ ‫وقا�سية‪ ،‬ناعمة وجارحة يف ذات الآ ن‪ ،‬ولكن نادمة؟‬
‫لي�س له دراية به‪ ،‬وهنا تكمن امل�شكلة!‬ ‫ال‪� ،‬إنها ورطة حنونة جدا‪ ،‬و�أنا �أحبها‪ ،‬و�أع�شق تورطي‬
‫‪ bb‬الن�ص ال�شعري ف�سيف�ساء من اجلماليات‬ ‫فيها‪ ،‬لأ ننا �إذ جنيء متورطني فنحن نع�شق هذا التورط‬
‫والعنا�رص الفنية ‪ ,‬يف ن�صك ال�شعري لأ ي عن�رص‬ ‫بعد حني‪ ،‬ونتلذذ مبازو�شية به‪ ،‬وبق�سوته‪ ،‬ون�ستعذب‬
‫جمايل تعطني الأ ولوية ؟‬ ‫�ساديته يف �أرواحنا‪ ،‬مب�شارطه يف قلوبنا‪ ،‬و�رصخاته‬
‫ال�شعور‪ ،‬وال�صورة‪ ،‬واللغة‪ ،‬وهكذا بهذا الرتتيب‬ ‫الوح�شية يف دمنا‪ ،‬وال نرى لنا وجودا خارجه‪ ،‬وال‬
‫�أرى ممكنات و�رضورات الن�ص ال�شعري يف خلق‬ ‫نرى �أنف�سنا �إال �ضمن �رشاكه الطيبة‪ ،‬وخمالبه النبيلة‪،‬‬
‫جمالياته‪ ،‬وبناء عوامله اللينة والناعمة‪ ،‬واجلارحة‬ ‫ومراياه احلنونة‪� ،‬أال ترى كيف نحب �أوطاننا و� آبائنا‬
‫والقادرة على ال�سكون والركون يف الذاكرة ال�شعرية‪،‬‬ ‫و�أمهاتنا وبيوتنا و�أ�صدقائنا و�أحبائنا‪ ،‬رغم �أننا‬
‫والقب�ض عليها من قبل املتلقي ال�شعري‪.‬‬ ‫كثريا ما نكون غري را�ضني متاما عنهم‪ ،‬وكثريا ما‬
‫‪ bb‬كناقدة وباحثة كيف تقيمني التجربة ال�شعرية‬ ‫يكونون هم وحدهم �سبب �أحزاننا و�شقائنا اخلالد‪..‬‬
‫العمانية احلديثة؟‬ ‫ولكنها �أقدرانا ‪..‬وهل �أكرث من الع�شق ورطة قا�سية‬
‫�أعتقد (كقارئة ومتابعة‪ ،‬وهذا �أهم بالن�سبة يل) �أنها‬ ‫وحنونة يف ذات الوقت!‬
‫بخري نوعا ما‪ ،‬من حيث �أنها متوازنة ومتوازية‪،‬‬ ‫‪ bb‬در�ست الأ �سلوبية �أكادمييا هناك من يعترب‬
‫مبختلف التوجهات ال�شعرية واملدار�س والأ جيال‬ ‫الأ �سلوبية داء لكل دواء من حيث ميكن درا�سة �أي‬
‫الفنية‪ ،‬ورمبا �أي�ضا لكونها ت�سري ببطء نبيل‪ ،‬وهدوء‬ ‫ن�ص درا�سة �أ�سلوبية على ح�ساب املناهج الأ خرى‬
‫واعي‪ ،‬غري مفتعلة لل�ضجيج والدعائية‪،‬كما تفعل‬ ‫و�أنت كباحثة ‪ ,‬هل ترين �أن الأ �سلوبية كمنهج‬
‫الكثري من التجارب العربية الأ خرى‪ ،‬ولكن مع هذا‬ ‫�أ�صبحت مطية النقاد مثلما كان العرب يعتربون‬
‫ينق�صها الكثري �أي�ضا! ينق�صها اجلدل واحلراك‪،‬‬ ‫بحر الرمل مطية ال�شعراء؟‬
‫والتنوع والقوة يف احل�ضور والتفاعل مع الآ خر‬ ‫بالطبع هذا كالم به الكثري من املغالطات العلمية‬
‫اخلارجي‪ ،‬كي ال تبدو يف �سري مري�ض قد ي�ؤدي بها‬ ‫الفجة‪ ،‬امل�شكلة لدينا تكمن يف التعميم‪ ،‬ويف ال‬
‫للموت‪ ،‬الذي هو عك�س الهدوء واال�شتغال ال�صامت‪.‬‬ ‫مو�ضوعية الرتجمة غالبا‪ ،‬ويف تذبذب امل�صطلح‪،‬‬
‫‪ bb‬هل �أنت را�ضية عن م�ستوى املتابعة النقدية‬ ‫ويف التطبيق التع�سفي من قبل البع�ض للمناهج‬
‫‪151‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�صريا جدا ‪..‬‬ ‫لهذه التجربة ؟‬


‫ب�رصاحة ال‪ ،‬وخا�صة مع اجليل اجلديد �أي من جيل ‪ bb‬كيف تنظرين للحراك الثقايف يف ال�سلطنة‬
‫الت�سعينيات فما بعد ‪ ،‬و�أعتقد �أن العتب م�شرتك على خالل ال�سنوات الأ خرية؟‬
‫�أنظر له على �أنه حماوالت جادة‪ ،‬واجتهادات حقيقية‬ ‫ال�شاعر والناقد‪ ،‬على ال�شعراء �أنف�سهم من حيث قلة‬
‫فردية �أحيانا كثرية‪ ،‬ل�صناعة و�سط ثقايف �صحي‪،‬‬ ‫الإ نتاج‪ ،‬وعدم اال�شتغال احلقيقي على التجربة‪،‬‬
‫�أو م�شهد ثقايف عماين نا�ضج‪ ،‬رغم غياب الكثري من‬ ‫وال�سعي للن�ضج والوعي بالقراءات املغايرة‪ ،‬والت�سابق‬
‫�رشوط هذا الأ مر‪ ،‬مما يتعلق ب�سلبية الأ فراد‪� ،‬أو ت�ضخم‬‫احلميم مع ن�ص الذات والآ خر‪ ،‬وامليل لل�صمت القاتل‪،‬‬
‫الأ ناعند البع�ض‪ ،‬والتطلعات الفردية للظهور‪ ،‬وغياب‬ ‫هذا من ناحية‪ ،‬والبعد عن الن�رش‪ ،‬وت�سويق الذات ‪-‬‬
‫فكرة العمل اجلماعي‪� ،‬أو �سلبية امل�ؤ�س�سات الثقافية‪،‬‬ ‫الذي لي�س عيبا خا�صة مع وجود االنرتنت‪ -‬لإ غراء‬
‫�أو نظرة املجتمع غري الإ عالئية البتة لل�ش�أن الثقايف‬ ‫النقاد مبا يكتبون للكتابة عنه وحوله من ناحية‬
‫واملعريف‪ ،‬وغريها من املعوّقات الكثرية‪.‬‬ ‫�أخرى‪.‬‬
‫وعلى النقاد من حيث بعدهم عن املتابعة والقراءة‪ bb ،‬و�سط زحمة �ضجيج احلياة اليومية‪ ,‬هل‬
‫وتتبع ما يتم �إنتاجه‪ ،‬وميلهم للنقد امل�ؤ�س�سي املدعوم جتدين ف�سحة للق�صيدة؟‬
‫بالر�سمية امل�ؤ�س�ساتية واملنا�سباتية‪.‬‬
‫بل ال ف�سحة للق�صيدة �إال و�سط �ضجيج احلياة‬
‫‪ bb‬ك�إمر�أة هل عانيت من �أجل �إي�صال �صوتك؟‬
‫اليومية‪� ،‬إنها �رشفتي الداخلية‪ ،‬التي �أهرب �إليها كلما‬
‫�أم على العك�س وجدت طرق الن�رش للكتابات‬
‫ت�صاعد الدم يف ر�أ�سي‪ ،‬والغليان يف روحي‪ ،‬واحلزن‬
‫الن�سوية‪ ,‬كما يردد البع�ض‪ ,‬مفرو�شة بالرياحني؟‬
‫دعني �أقول لك!! لقد تعبت على نف�سي كثريا‪ ،‬ومازلت‪ ،‬يف �أوردتي‪� ،‬إنها نزهتي الكونية‪ ،‬التي جتعلني �أغرق‬
‫وال �أقدم نف�سي حتى الآ ن �إال كحالة من االجتهاد يف بحرية من املو�سيقى‪� ،‬أو يف فنجان قهوة حملى‬
‫املعريف والفني‪� ،‬ضمن حماولة ل�شق الطريق الوعر‪ ،‬وال بالكرمية الغنية‪ ،‬لأ نعم بال�سالم هربا من �سياط‬
‫زلت �أعتقد �أن الكتابة لي�س حالة ترف‪ ،‬ولي�ست مهنة الغربة‪� ،‬أو حنني املرايا للدم واحلزن‪..‬‬
‫من ال مهنة له‪ ،‬بل هي �صناعة تنطلق من �إميان الفرد ‪ bb‬قالت �سيدوري جللجام�ش ‪:‬اىل �أين ت�سعى ؟‬
‫�أنه خُ لق كاتبا‪ ،‬وال طريق � آخر له‪ ،‬لي�سلكه ليحيا هذه و�أنت اىل �أين ت�سعني يف ف�ضاءات اجلمال ؟‬
‫�أ�سعى �إىل ال�صمت الذي لي�س �ضد الكالم‪ ،‬و�إىل‬ ‫املحنة الوجودية امل�سماة حياة‪ ،‬وهذا الأ مر ينطبق‬
‫ال�سعادة التي لي�س �ضد احلزن‪ ،‬و�إىل اللغة التي‬ ‫على املر�أة والرجل‪ ،‬ولكن يف جمتمعاتنا الذكورية‪،‬‬
‫حتكيني وال حتاكيني‪ ،‬و�إىل الفراغ املنتج‪ ،‬والت�أمل‬ ‫ا�شتغال املر�أة ب�أي �شيء خارج حدود ما ر�سم لها من‬
‫املولع بالأ جنحة‪ ،‬والغياب الذاهب يف اللحن‪،‬‬ ‫قبل ال�سلطة الذكورية االجتماعية؛ �أمر لي�س بالهني‪،‬‬
‫واحلنني املرتنح على �صوت ي�رسي للداخل كالقند‬ ‫و�أنا �ضمن هذا املجتمع و�ضمن هذا الإ طار‪ ،‬و�إن كان‬
‫�أو كال�سكاكني‪ ...‬و�إىل الكتابة كم�رشوع �أخري للحياة‬ ‫ال�شوك مل يكن بالق�سوة الدامية؛ ولكن �أي�ضا مل يكن‬
‫واحللم‪..‬‬ ‫هناك ال رياحني وال يا�سمني يف دربي الذي �أظنه‬

‫‪152‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خليل النعيمي‬
‫َم ْن يقبل �أي تنازل يف اللغة‪ ،‬يقبل �أي تنازل يف احلياة‬
‫حوار‪ :‬حممــد املزديوي‬
‫كاتب من املغرب يقيم يف فرن�سا‬

‫ي�ستعد الطبيب اجلرّاح والروائي والرحالة خليل النعيمي لن�رش ن�صو�صه‬


‫اجلديدة عن رحلته �إىل �أوزبك�ستان حيث تتبعَ بع�ض خطى جده احلكيم‬
‫والفيل�سوف ابن �سينا وت�أمَّ َل طريق احلرير وكذا الطريق التي تتبعها‬
‫تيمورلنك وهوالكو و� آخرون يف رحلتهم املدوية حتى انك�سارهم على‬
‫�أبواب دم�شق (بالطبع لي�ست «دم�شق ‪ »67‬وهي رواية للكاتب)‪...‬‬

‫قيمة الكاتب هو �أن يكون دائما �ضد املحيط الذي يوجد فيه‪،‬‬
‫لأ ن الكاتب �ضم ُري املجتمع وهو من�شق با�ستمرار‬

‫‪153‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وقد �صدرت‪ ،‬منذ فرتة ق�صرية‪ ،‬طبعة ثانية لكل‬


‫الذي خرج من القمقم‪ .‬حت�س نف�سك خفيف ًا وجميالً‪ ،‬حتى‬
‫لو كنت ب�شعاً‪ .‬و�أتذكر �أحد �أ�صدقائي العراقيني‪ ،‬وهو من‬
‫من رواية «تفريغ الكائن» ورواية «اخللعاء»(التي‬
‫مل َلوَّعني‪ ،‬والب�شعني‪ ،‬كان يعتقد نف�سه �سنونو‬‫النا�س ا ُ‬
‫كتبت بجرة قلم واحدة‪ ،‬ومن دون نقاط وال‬
‫�صغرياً عندما يبد�أ جتواله اليومي يف �شوارع احلي‬
‫فوا�صل) وقد التقيناه يف باري�س‪ ،‬مدينة �إقامته‪،‬‬
‫الالتيني‪ .‬كان يقول‪ ،‬متعجباً‪ ،‬حني �أم�شي يف ال�شارع‪،‬‬
‫وهو عائد للتو من لقاء هام حول �أدب الرحلة‬
‫يف هذا الف�ضاء‪ ،‬وحتت هذه الأ �ضواء‪ ،‬و�أنظر �إىل هذه‬
‫وارتياد الآ فاق عقد يف الرباط (بالتن�سيق بني‬
‫الن�ساء اجلميالت حتى ولو مل �أم�سهنّ فذلك �شيء خارق‬
‫مديرية ال ِكتَاب التي يديرها ال�شاعر ح�سن جنمي‬
‫للعادة بالن�سبة يل‪ ،‬ومبعث �سعادة ق�صوى تلطُّ ف �سعري‬
‫وبني م�ؤ�س�سة ارتياد الآ فاق التي ين�سقها �أعمالها‬
‫اجلحيم الذي جئتُ منه‪.‬‬
‫ودورياتها ال�شاعر ال�سوري املقيم يف لندن نوري ‪ vv‬القليل فقط من الكتاب واملثقفني يعرفون �أنك‬
‫اجلراح) قبل �أ�سبوع‪ ...‬وكان هذا احلوار الالفت �ساهمت يف �إثراء اجلدل والنقا�ش واملعارك الثقافية‬
‫وال�سيا�سية يف باري�س‪� ،‬إىل جانب �أ�سماء كعبد‬ ‫وال�رصيح وال�شامل‪.‬‬
‫‪ vv‬نريد �أن نعرف بدايات الدكتور خليل النعيمي القادر اجلنابي والتون�سي العفيف الأ خ�رض‪ ،‬كما �أنك‬
‫�أ�صدرت كتاب ًا الفت ًا بعنوان «موت ال�شعر»‪ ،‬فهالّ‬ ‫الباري�سية ‪...‬‬
‫عندما و�صلت �إىل باري�س يف منت�صف ال�سبعينيات‪ ،‬حدثتنا عن هذه الأ �شياء‪...‬‬
‫يف هذه الفرتة التقيتُ ب�أ�صدقاء عرب و�صلوا �أي�ض ًا‬ ‫بعد �أن �أنهيت درا�سة الطب والفل�سفة يف جامعة دم�شق‬
‫مثلي للتو �إىل باري�س‪ .‬كان هناك �شلة من ال�شباب الذين‬ ‫وبد�أت ت�سجيلي يف باري�س يف ال�سوربون للتخ�ص�ص‬
‫يهتمون بحال املجتمع العربي‪ ،‬والذين كانوا يبحثون‬ ‫يف اجلراحة وملتابعة الدرا�سة يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬
‫عن منظور � آخر للحركة ال�سيا�سية العربية‪ .‬لأ ننا مبكراً‪،‬‬ ‫املعا�رصة كانت باري�س‪ � ،‬آنذاك‪ ،‬يف قمة ن�شاطها الفكري‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬بد�أنا نح�س �أن الو�ضع ال�سيا�سي العربي‬ ‫واالبداعي و�أكاد �أقول واجلن�سي �أي�ضاً‪ .‬لأ ن هذه ال�سنوات‬
‫ين ولن ي�ؤدي �إىل نتيجة‪ .‬و�أن احلركات‬ ‫راك ٌد و�سكو ٌّ‬ ‫القليلة التي تلت ثورة الطالب يف �سنة ‪ 1968‬كانت قد‬
‫العربية ال�سيا�سية‪ ،‬وخا�صة يف �شقها الي�ساري الذي‬ ‫انفتحت على حركية اجتماعية �سيا�سية هائلة‪ ،‬وخا�صة‬
‫كنا ن�سميه يف ذلك الوقت بـ«ال�شق ال�ستاليني»‪ ،‬هي‬ ‫يف احلي الالتيني‪ .‬و�أتذكر‪،‬الآ ن‪� ،‬أنني حني كنت �أهبط‬
‫حركات �أُ ُفقُها م�سدود‪ ،‬ولي�س لديها منظور تاريخي‪.‬‬ ‫�شارع ال�سان مي�شيل من الليك�سمبورغ حتى نهر ال�سني‬
‫كانت تبدو لنا حركات ك�سيحة‪ ،‬وم�شوَّهِ ة‪� ،‬أق�صد �أنها‬ ‫كنت �ألتقي بع�رشات من املحالت والأ ك�شاك التي تبيع‬
‫ت�شوِّه الواقع والتاريخ ‪ .‬و�أتذكر �أن �أحد الأ �صدقاء كان‬ ‫اجلرائد‪ ،‬وبخا�صة اجلرائد الثورية‪ ،‬جرائد الفو�ضويني‪:‬‬
‫يقول يل مبكراً �إن االمربيالية ال�سوفييتية �ستنتهي‬ ‫«الإ باحي» ليبريْتريْ»‪ ،‬و«العامل الإ باحي»‪ ،‬و«لطريق» ال‬
‫قبل �أن تنتهي االمربيالية الأ مريكية‪ .‬وكان هذا‬ ‫رو»‪ ،‬وجرائد احلركات ال�سيا�سية املتمردة الأ خرى التي‬
‫القول بالن�سبة يل‪ � ،‬آنذاك‪ ،‬و�أنا القادم للتو من دم�شق‬ ‫كانت تُباع على الر�صيف‪ ،‬ون�رشات حركة الـ «‪situationi‬‬ ‫ك‬
‫املحافِظة‪ ،‬نوع ًا من التجديف‪ ،‬لأ نني كنت �أت�صور �أن‬ ‫‪ ،»istes‬و«�سو�سياليزم �أو بارباري» �إ�شرتاكية �أو بربرية»‪،‬‬
‫االحتاد ال�سوفييتي بعظمته و�أيديولوجيته التي هيمنت‬ ‫بالإ �ضافة �إىل اجلرائد واملجالت املعتادة‪ .‬وكانت‬
‫على العامل الثالث لعقود طويلة �سي�ستمر �أكرث من ذلك‪،‬‬ ‫الفئات الي�سارية يف فرن�سا يف تلك املرحلة ن�شيطة‬
‫و�سيعمّق م�سريته اال�شرتاكية‪ .‬هذا اللقاء «الباري�سي»‬ ‫جدا وتقيم االجتماعات واللقاءات التي تكاد �أن تكون‬
‫باحلركة ال�سيا�سية الهام�شية‪ ،‬عربياً‪ ،‬كان له ت�أثري‬ ‫يومية‪ .‬واحلركة ال�سيا�سية يف �أوج ن�شاطها‪ .‬يف تلك‬
‫عميق على توجهاتي واهتماماتي ‪ ،‬حتى يف جمال‬ ‫الأ ثناء مل يكن امل�شهد ال�سيا�سي واالجتماعي والثقايف‬
‫تن�س �أنني و�صلتُ �إىل هنا‪ ،‬و«فكري» ملتب�س‬
‫الكتابة‪ .‬وال َ‬ ‫يخيب الظن ملن جاء من بالدٍ مثل بالدنا �إىل باري�س‪.‬‬
‫وبليد‪ ،‬مع �أن توتّراتي كانت يف �أوجها‪ .‬هذا اللقاء‬ ‫جاء ليبحث فيها عن العلم والثقافة والفل�سفة‪ ،‬وعن‬
‫العربي املن َفلِت معهم‪ ،‬والذي ترافق‪ ،‬بطببيعة احلال‪،‬‬ ‫احلرية واجلن�س‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬بعد �أن �أنهكه احلرمان ال�سيا�سي‬
‫بلقاءات �أخرى مثرية‪ ،‬وبخا�صة مع «ثقافة» الفال�سفة‬ ‫و العاطفي يف بالده‪ .‬وحني نتحدث عن احلرية فبالفعل‬
‫الفرن�سيني النقديني الذين �أن�ش�أوا ما ميكن �أن ن�سميه‬ ‫�إننا حني ن�صل �إىل باري�س ن�شعر فج�أة وك�أننا اجلنيّ‬
‫‪154‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حركة الـ«‪� ،»situationistes‬أو فل�سفة الأ و�ضاع‪ ،‬وهي حركة الذي كان �سائداً يف العامل العربي‪ � ،‬آنذاك‪ ،‬والآ يل‪ ،‬دون‬
‫�ألقت ال�ضوء ب�شدة على اخلا�صية الراكدة �أو ال�ساكنة �أو ريب‪� ،‬إىل اجلمود فالإ ندثار‪� ،‬إنْ ْمل يُجدد‪.‬‬
‫الال متحركة للفكر الي�ساري العاملي الذي كان �سائداً ‪ vv‬وهل يف هذه الفرتة ظهر كتابك «موت‬
‫� آنذاك‪ .‬هذه اللقاءات املتوترة واخلاطفة هي التي �سته ّز ال�شعر»؟‬
‫�أركان تكويني النف�سي والعقلي والإ بداعي‪ .‬وكان �أحد يف هذه الفرتة �أ�صدرتُ كتيّبا �صغريا ا�سمه «موت ال�شعر»‬
‫�أه ّم الأ �سماء يف هذا التيار‪ ،‬تيار الثقافة النقدية املُجدِّد وهذا الكتاب �صدر يف باري�س عن دار ن�رش �صغرية‪،‬‬
‫هو «غي دوبور» الذي كتب «املجتمع امل�شهدي»‪ .‬وقد و�أُعيد طبعه يف جملة درا�سات عربية ال�صادرة عن دار‬
‫كان �أحد الأ عمدة الأ �سا�سية يف ذلك احلني‪ .‬كان هناك‪ ،‬الطليعة‪ ،‬يف بريوت‪ .‬هذا الكتيب اعتمد على درا�سة ل�شعر‬
‫�أي�ضاً‪� ،‬إىل جانبه �صديقه «فانيغيم» الذي كتب �أكرث �أدوني�س باعتباره �أحد كبار ال�شعراء العرب الأ حياء‪،‬‬
‫من خال�صة ومن كتاب يعالح فيها و�ضع الإ ن�سان يف وانطلَقَ من نظرة خا�صة �إىل دور ال�شعر وارتباط ال�شاعر‬
‫املجتمع الر�أ�سمايل‪ .‬وتكمن �أهمية هذه احلركات يف بال�سلطة وعالقة ال�شعر باجلمهور وبالتايل حمدودية‬
‫�أنها كانت ترف�ض النهج ال�ستاليني‪ ،‬وحتى الرتوت�سكي الت�أثري النقدي لل�شعر يف الفكر الإ ن�ساين على امل�ستوى‬
‫املت�شدد‪ ،‬وحتاول �أن تخلط «مارك�س» بـ«هيغل»‪ ،‬وهي ال�سيا�سي وعلى م�ستوى الوعي �أي�ضاً‪ .‬لكنني فيما بعد مل‬
‫حني نتحدث عن‬ ‫تكاد تكون على حافة احلركة الفو�ضوية‪� ،‬إنْ مل تكن �أتابع هذه الأ طروحة التي �ضمّنتُها يف «موت ال�شعر» ‪.‬‬
‫احلرية فبالفعل‬ ‫«فو�ضوية نقدية» بحق‪ .‬ومهما يكن الأ مر فقد �شغ َفتْني ‪ vv‬من املفرو�ض �أنك جئت �إىل باري�س لدرا�سة‬
‫� إننا حني ن�صل‬ ‫احلركة الفو�ضوية والتي كنتُ ‪� ،‬أنا �أي�ضاً‪ ،‬و�إىل �سنوات الطب‪ ،‬لكنك ال تكاد تذكر هذا اجلانب حني تتحدث‬
‫� إىل باري�س ن�شعر‬ ‫عديدة‪� ،‬أعترب نف�سي تابع ًا لها‪ .‬للحركة الفو�ضوية‪ ،‬عن بدايات باري�س وتركز �أكرث على اجلوانب‬
‫فج�أة وك�أننا‬ ‫التي كانت ترف�ض «ال�سلطة» رف�ض ًا عميق ًا ‪« ،‬ال�سلطة ال�سيا�سية والفل�سفية والفكرية‪ ،‬فهل لأ نك م�أخوذ‬
‫اجلنيّ الذي خرج‬ ‫ال�سيا�سية»‪ ،‬و«�سلطة الثقافة ال�سائدة»‪ ،‬و«�سلطة الدين»‪ .‬بالثقافة �أكرث؟‬
‫هذا‪ ،‬كله‪� ،‬ألقى ال�ضوء ب�شدة‪ ،‬وب�شكل حا�سم‪ ،‬على امل�صري �أت�صور �أن ال�سبب يف ذلك هو �إن�شغايف بفكرة املجتمع‪.‬‬
‫من القمقم‪ .‬حت�س‬ ‫املحتمل والبائ�س الذي تنتظره احلركات الي�سارية ف�أنا كبدوي ن�ش�أتُ يف ال�صحراء وكربتُ فيها‪ ،‬تعلمتُ‬
‫نف�سك خفيف ًا‬ ‫الكال�سيكية وبخا�صة يف العامل العربي‪ .‬وقد انبثقَتْ ‪� ،‬صدفة ودخلتُ اجلامعة فيما بعد‪ ،‬لأ در�س الطب‬
‫وجميالً‪ ،‬حتى لو‬ ‫يف ذلك الوقت‪� ،‬أكرث من حماولة عربية �شبابية لإ نتاج والفل�سفة‪ .‬كانت حتركني رغبة عميقة يف التوا�صل مع‬
‫كنت ب�شعا‬ ‫�أو ملهاجمة �أو تك�سري الو�ضع ال�سيا�سي العربي امليت‪ ،‬الآ خرين‪ .‬كنت �أت�صور دائما �أنه ال ميكن �أن ننفذ �إىل قلب‬
‫مما �أدى �إىل �إن�شاء بع�ض ال�صحف �أو بع�ض الن�رشات الكائن �إ ّال عرب الفكر‪ .‬و�أن العمل املادي‪ ،‬جراحي ًا �أو غري‬
‫من بينها «�سلطة املجال�س» للعفيف الأ خ�رض‪ ،‬ون�رشة جراحي‪ ،‬لي�س و�سيلة �أكيدة لتقريب النا�س بع�ضها من‬
‫«الرغبة الإ باحية» لعبد القادر اجلنابي‪ ،‬ومنها ن�رشة بع�ض‪ .‬و�أن العمل بعالقاته االجتماعية املزيفة‪ ،‬غالباً‪،‬‬
‫�صغرية �أ�صدرتها �أنا مب�ساعدة رفاق � آخرين ا�سمها ما يكون م�صدر نفور و�إرهاق‪ .‬ولأ نني من عائلة �أُمّ ية‪،‬‬
‫«�أهواء»‪ ،‬وكان �شعارها‪« :‬للنقد والتحري�ض والتخريب‪ /‬ومن قبيلة �أُمّ ية بالكامل‪� ،‬رصت �أح�س بقرابة عميقة مع‬
‫من �أجل الثورة املبا�رشة»‪ .‬باعتبار �أن تخريب العالمَ املفكرين والفال�سفة والكتاب الذين �أقر�ؤهم‪ .‬كانوا هم‬
‫القدمي �شغف‪ ،‬كما يقول «باكونني»‪ .‬و�أ ْت َبعْتُ هذه الن�رشة � آبائي احلقيقيني‪ .‬حتى �أنني عندما زرت �أثينا‪ ،‬و�صعدت‬
‫ال�صغرية والتي ا�ستمرت لفرتة ق�صرية‪ ،‬بتنظريات �إىل �صخرة الأ كروبول‪ ،‬كنتُ �أكتب بر�أ�سي‪ ،‬و�أنا �أَرْقى‪،‬‬
‫�إ�ضافية حول مفهوم «الثورة املبا�رشة»‪ .‬تنظريات الجُ مَل التالية‪« :‬ي�صع ُد اجلب َل بعد ع�رشين قرن ًا الرجلُ‬
‫كُ ِتبَتْ على عدة دورات‪ ،‬وكانت مت�أثرة ب�شكل �أ�سا�سي الذي جاء من بادية ال�شام‪ .‬ي�صعده باحث ًا عنهم‪ ،‬عن‬
‫بالنزعة النقدية التي كانت منت�رشة‪ � ،‬آنذاك‪ .‬كنتُ �أت�صور � آبائه‪ ،‬الذين عرفهم �أكرث مما عرف �أباه‪ ».‬هذا املقطع‬
‫�أن «الثورة املبا�رشة» التي �ستتخلّ�ص من �سيطرة الفكر يلخ�ص تقريب ًا اهتمامي العميق بالفكر وبالكتابة‬
‫احلزبي‪ ،‬والديني‪ ،‬واجلُموعي عليها‪� ،‬ستخلِّ�صنا‪� ،‬أي�ضاً‪ .‬وبالأ دب‪ .‬لأ نني �أت�صور �أن االنتقال من جمتمع بدوي‬
‫كنتُ �أرى فيها «ثورة الفرد الواعي» يف حياته اليومية‪ .‬م�سطح و�أفقي‪ ،‬وهو جمتمع �إىل حد ما غري تراتبي‬
‫وكنتُ �أعتربها �إحدى ال�رضورات التي يجب على الإ ن�سان وال تراكم فيه‪ ،‬ال للرثوة وال للمعرفة‪� ،‬إىل جمتمع مثل‬
‫العربي �أن يتمرَّ�س بها من �أجل تطوير الو�ضع اخلانق‪ ،‬املجتمع الدم�شقي ثم املجتمع الباري�سي‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬
‫‪155‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرواية‪ .‬وبد�أتُ �أُن�شيء عالقة جديدة بالوجود‪ .‬وبالفعل‪،‬‬ ‫جعلني �أح�س ب�أهمية االت�صال بالآ خر‪ ،‬و�أبحث عن‬
‫ف�إن الرواية‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬هي التي جعلتني �ألتقي بذاتي‬ ‫طريق �أكرث حميمية وعمقاً‪ ،‬غري طريق املهنة‪ ،‬للو�صول‬
‫اجلديدة‪ ،‬بعد �أن تخل َّْ�صتُ ‪ ،‬ولو ن�سبياً‪ ،‬من م�شاعري‬ ‫�إىل ما �أُريد‪ .‬ووجدتُ �أن الكتابة‪ ،‬والرواية منها ب�شكل‬
‫اللغوية القدمية‪ ،‬م�شاعري التي تكاد تكون حمدودة‬ ‫خا�ص‪ ،‬قد تكون �أف�ضل الو�سائل لبلوغ ذلك‪ .‬وال بد‪� ،‬أن‬
‫الأ ثر‪ .‬هي التي نقلتني �إىل طور جديد‪ ،‬طور �رصتُ فيه‬ ‫ثمة م�سالكَ �أخرى للتف�سري‪ ،‬لكن تف�سريي هو هذا‪.‬‬
‫قادراً على �أن �أنظر �إىل العالمَ و�إىل الآ خرين نظر ًة �أخرى‬ ‫‪ vv‬حتدثت عن «موت ال�شعر»‪ ،‬والتج�أت �إىل‬
‫كنت �أُح�سّ ها‪� ،‬أنا �شخ�صياً‪� ،‬أكرث مدنية و�أكرث حت�رضاً‬ ‫كتابة الرواية‪ ،‬ولك العديد منها‪ ،‬فهل هذا الزمن هو‬
‫و�أكرث عمق ًا و�أكرث نقداً‪ .‬ومن هذا املنطلق تابعْتُ كتابة‬ ‫زمنُ الرواية؟ ثم �إنك تكتب �أدب الرحلة �إىل جانب‬
‫الرواية‪ .‬و�أت�صور �أن الناقد د‪ .‬جابر ع�صفور الذي قال‪:‬‬ ‫الرواية‪ ،‬فهل الرواية عاجزة عن قول كل ما تريد �أن‬
‫«�إن الرواية‪ ،‬الآ ن‪ ،‬هي ديوان العرب» على حق‪ ،‬لأ ننا‬ ‫تعرب عنه؟‬ ‫انتقايل من‬
‫نرى‪ ،‬الآ ن‪ ،‬ك ّل ال�شعراء العرب تقريبا يكتبون الرواية‪� ،‬أو‬ ‫بد�أتُ ن�شاطي الأ دبي �شاعراً‪ ،‬و�أ�صدرتُ �أول كتاب يل‬
‫ينتقلون من ال�شعر �إليها‪� ،‬أو �إىل ما ي�شبهها‪� ،‬أو على الأ قل‬
‫دم�شق � إىل باري�س‬
‫«�صوَر من ردود الفعل لأ حد �أفراد العامل‬ ‫وهو ديوان ُ‬ ‫وانتقايل من قبل‬
‫�إىل الكتابة «املروية»‪ .‬لكن امل�س�ألة تظل‪ ،‬كما �أت�صوّر‪،‬‬ ‫الثالث» وكنت طالب ًا يف كلية الطب يف جامعة دم�شق‪.‬‬
‫�أعقد من ذلك بكثري‪ ،‬وهم لذلك‪ ،‬غالباً‪ ،‬ما يف�شلون‪ .‬لأ ن‬ ‫والديوان مُ نِع يف دم�شق بعد �أ�سابيع من �صدوره‪ ،‬مع‬ ‫من البادية � إىل‬
‫الت�صوّر ال�شعري للعامل‪ ،‬غري الت�صوّر الروائي للوجود‪.‬‬ ‫�أنه متت املوافق ُة على طبعه وتداوُله‪�ُ .‬صودِر‪ ،‬و�أُعْ دِم‪،‬‬ ‫دم�شق فتّح عينيّ ‪،‬‬
‫ال�شعر يعالج العالمَ ‪ ،‬ال�صورة‪� ،‬أما الرواية فتعالج‬ ‫ومل يبق لديّ منه �إال ن�سخة واحدة للذكرى‪ .‬قد يكون‬ ‫بعمق‪ ،‬على �أهميّة‬
‫«الوجود»‪ ،‬الكينونة الفردية باخل�صو�ص‪ .‬وطبع ًا‬ ‫ذلك املنع التع�سّ في‪ ،‬عام ًال من عوامل هربي من ال�شعر‪،‬‬ ‫املكان‪ .‬و�صرت‬
‫هذا المينع �أن يتنا َف َذ الت�صوران‪ ،‬و�أن يتالحَ ما‪ ،‬ولكن‬ ‫�أو هرب ال�شعر مني‪� ،‬إذا �أردنا الدقة‪ .‬وعلى �أي حال‪،‬‬
‫حت�س نف�سك «خالقاً» و«مبدعاً»‪،‬‬ ‫بقلم مَ ن؟ يف الرواية ّ‬
‫أح�س ب�شكل من‬‫� ّ‬
‫كنتُ يف ذلك الوقت‪� ،‬أقر�أ كثرياً‪ ،‬والتقيتُ بدوي�ستوف�سكي‬
‫ال لل�شخو�ص الروائية‪ ،‬فح�سب‪ ،‬ولكن «للأ و�ضاع»‬ ‫وجعلتني قراء ُتهُ‪ ،‬هو ب�شكل خا�ص‪� ،‬إ�ضافة �إىل كتاب‬
‫الأ �شكال‪ ،‬مباهية‬
‫الإ ن�سانية‪� ،‬أما يف ال�شعر ف�أنت يف مرحلة �أخرى‪.‬‬ ‫� آخرين‪� ،‬أنتقل من طور �إىل طور‪ .‬من طور الوعي ال�شعري‬ ‫العالقة اخلفية‬
‫‪ vv‬كيف انتقلت �إىل �أدب الرحلة؟‬ ‫املُ�سطَّ ح العاطفي الربّاق اللفظي الذي يكاد يكون َلغْواً‪،‬‬ ‫وال�سرية بني‬
‫�أنت تعرف �أنه قد �صدر يل قبل الآ ن‪� ،‬سبع روايات وثالث‬ ‫�إىل طور � آخر‪ .‬طور جعلني �أق�شع ُّر حت�سُّ � آس�ً‪ ،‬وارتباكاً‪.‬‬ ‫الكائن واملكان‬
‫كتب حول الرحالت‪ ...‬الكتاب الأ خري «قراءة العامل»‬ ‫جعلني �أعيد النظر يف عالقتي ال�شخ�صية بكل �شيء‬
‫حاز على جائزة ابن بطوطة للرّحلة املُعا�رصة‪ ،‬التي‬ ‫تقريباً‪ .‬وهو �شعور كان بالن�سبة يل يف ذلك الوقت‬
‫متنحها دار ال�سويدي يف �أبو ظبي‪� .‬أما ملاذا التج�أتُ‬ ‫ال ميكن ت�صوّره‪ ،‬لأ نه‪ ،‬بب�ساطة‪ ،‬يقع يف نطاق املقدّ�س‬
‫�إىل كتابة الرحلة؟ فمنْ يدري؟ لكنني �أ�ستطيع �أن �أُبَ�سِّ ط‬ ‫الذي ال يخطر التفكري فيه‪ ،‬حتى جمرّد التفكري‪ ،‬على‬
‫الأ مر ف�أقول �إن انتقايل من دم�شق �إىل باري�س وانتقايل‬ ‫البال‪ .‬مع دي�ستوف�سكي‪� ،‬أدركتُ �أن على الكائن �أن ي�شك‬
‫من قبل من البادية �إىل دم�شق فتّح عينيّ ‪ ،‬بعمق‪ ،‬على‬ ‫بكل �شيء‪ .‬حتى بعائلته‪ ،‬ب�أهله‪ ،‬ب�أبيه‪ ،‬ب�أخيه‪ .‬يف هذه‬
‫أح�س ب�شكل من الأ �شكال‪ ،‬مباهية‬ ‫�أهميّة املكان‪ .‬و�رصت � ّ‬ ‫الأ ثناء حدث‪ ،‬فج�أة‪ ،‬ما ي�شبه القطيعة بيني وبني ال�شعر‪.‬‬
‫العالقة اخلفية وال�رسية بني الكائن واملكان‪ .‬وبد�أتُ �أرى‬ ‫ال�شعر الذي كان «يربطني بقومي» كاحلمار الأ ليف‪� ،‬أو‬
‫ما يحيط بي ب�شكل � آخر‪ .‬حتى �أنني �رصت �أنظر �إىل �أبي‬ ‫لنقل كخروف جمهَّز للت�ضحية به‪ ،‬دون �أن يدري‪ ،‬وهو‬
‫يل و�أنا يف املدينة و�إىل الآ خرين‬ ‫وهو يف ال�صحراء و�إ ّ‬ ‫فخور بذلك‪ .‬لقد بدا يل �أنه من ال�سهل �أن ننج ّر وراء �ألفاظ‬
‫وك�أننا جزء من «الأ مكنة» ال كائنات م�ستقلة عنها‪.‬‬ ‫تهاجم املحظورات �أو تهاجم املمنوعات دون �أن نتمكّن‬
‫وبد�أتُ �أخلط بني الكائن واملكان‪ .‬وبالتايل ف�إن املكان‬ ‫من التعمٍّق النقدي يف حقيقتها‪ .‬وقد تكون امل�صادرة‬
‫مل َيعُد �شيئا جمرَّدا‪ ...‬مل يعُد منظراً وال مَ �شهداً‪ ،‬ومل يعد‬ ‫�ساهمت يف ت�رسيع َترْكي لل�شعر لأ ين اكت�شفتُ �أن غواية‬
‫حجارة و�أنواراً و�شوارع‪ ،‬فح�سب‪ .‬لقد �صار بالن�سبة‬ ‫الأ لفاظ قد تكون �أكرب من الرغبة يف الإ دراك‪ ،‬وهو على‬
‫«و�ضع ًا �إن�سانياً» له اعتباره اخلا�ص‪� .‬إنه كالكائن‬ ‫يل ْ‬ ‫�أي حال �أمر رهيب‪ .‬وفيما بعد �أدركت خطورة مثل هذا‬
‫يحيا وميوت‪� .‬أق�صد يتجدد مثله ويهرتئ‪ .‬ثمة �أماكن‬ ‫الإ بت�سار بعد �أن تب َّينْتُ �أن الأ و�ضاع هي التي ت�سيء �إىل‬
‫نن�ساها‪ ،‬وال نعود نزورها‪ .‬وهناك �أمكنة تغدو‪ ،‬فج�أة‪،‬‬ ‫احلياة ال ال�صيغ وال البالغات‪ .‬يومها خط َفتْني فكرة‬
‫‪156‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أو ال�سابع ع�رش �أو الرواية االجتماعية‪ ،‬لكن لكي ال نذهب‬ ‫«على املو�ضة»‪ ،‬يزورها النا�س مع �أنها ال ت�ضيف لهم‬
‫بعيداً علينا �أن نعرتف �أن لي�س هنا ال �شكل وال م�ضمون‬ ‫�شيئاً‪ .‬و�إذا ما �أردنا �أن نذهب يف هذا املنطق �إىل � آخره‪،‬‬
‫وال هيئة وال حدود للعمل الروائي‪ .‬الرواي ُة هي �أيّ كتاب‬ ‫ن�ستطيع �أن نقول ‪�« :‬إن املكان هو كل �شيء يف الوجود»‪.‬‬
‫بني دفتني ومكتوب عليه كلمة «رواية»‪ ،‬ح�سب تعريف‬ ‫وا�ضح؟ للمكان حياته‪ .‬له �أبعاده وتعقيداته‪ ،‬وله‬
‫الربتغايل �ساراماغو‪ .‬لكن امل�شكل هو كيفية تقييم هذا‬ ‫معتقداته‪ .‬لكن كتابتي عن الأ مكنة تكاد تكون كتابة‬
‫ملُ�س َت ْقبِلني‪ .‬هل يهمنا هذا ال�شكل‬
‫العمل من ِقبَل القرّاء وا ُ‬ ‫�رسية للرواية‪� .‬أو هي الرواية من وجهة نظر مكانية‪،‬‬
‫�أم ذلك ال�شكل الآ خر‪ ،‬هذه م�س�ألة �أخرى‪� .‬أما م�س�ألة جلوء‬ ‫بالأ حرى‪ .‬لأ ين عندما �أحكي عن الأ مكنة �أجد لنف�سي‪،‬‬
‫ال ُكتّاب العرب �إىل تخييل ال�سرية الذاتية �أو �إىل �إن�شاء‬ ‫�أي�ضا‪ ،‬مكاناً‪ .‬ولكن �أين هو مكاين ؟‬
‫عمل روائي اعتباراً من الأ نا‪ ،‬هو‪ ،‬يف الواقع‪� ،‬شيء‬ ‫ل تفعل ذلك؟ ما هو هدفك‪� ،‬أو غر�ضك؟‬
‫‪ vv‬ولكن مِ َ‬
‫يحدث كثرياً ‪ ،‬وهو‪ ،‬مع الأ �سف‪ ،‬تقلي ٌد ملا يحدث الآ ن‬ ‫ما يجعل كتابة الرحلة ممتعة هو �شعور اخرتاق احلدود‬
‫يف الغرب البورجوازي‪ .‬لأ ن احلياة يف الغرب �صارت‪،‬‬ ‫الفعلي عندما نرحل‪ .‬وبالفعل ن�صري نح�س �أننا نتجاوز‬
‫منذ ع�رشات ال�سنني‪ ،‬حمدودة ومريحة ومل َيعُد فيها �أي‬ ‫كل احلدود عندما نرتك املكان الذي نحن فيه‪ ،‬الذي‬
‫مُ غامَ رة وال �أي اكت�شاف‪ .‬ولي�س ذلك حكم قيمة‪� ،‬أو م�سَ بَّة‪،‬‬ ‫�ألفناه‪ ،‬والذي عرفناه و�أن�ش�أنا فيه �صداقات و�أقمنا فيه‬
‫�إنه جمرد �إخْ بار مبا هو واقع‪ .‬لكن لذلك ت�أثرياً �سيئاً‪،‬‬ ‫عالقات �إىل مكان � آخر‪.‬‬
‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬على الإ بداع‪ ،‬وبخا�صة على الرواية التي‬ ‫يف الرحلة يغدو َترْك املكان امل�ألوف �شبه �أ�سطورة‪.‬‬
‫ال تقوم �إال على «�إ�شكالية ما»‪ .‬هكذا يجد «الباري�سي»‪،‬‬ ‫وهذا الإ ح�سا�س الغام�ض هو نوع من العالقة احلميمة‪،‬‬
‫مثالً‪ ،‬نف�سه وهو يكتب رواية‪ ،‬مدفوع ًا بقوة‪ ،‬حتى ال‬ ‫بني الكائن واملكان‪ ،‬قبل �أن �أي �شيء � آخر‪ .‬فعندما نرتك‬
‫نقول «مجُ ْ برَاً»‪ ،‬على تخييل حياته اليومية‪ .‬لكننا ال‬ ‫املكان امل�ألوف وننتقل �إىل مكان � آخر‪ ،‬خا�صة �إذا كان‬
‫نفهم الكتاب العرب الذين �سيقلدون هذا النمط من‬ ‫املنتقل �أو الراحل �أو امل�سافر مبدع ًا �أو كاتب ًا �أو مفكراً‬
‫الكتابة «ال�صقيعية»‪ ،‬وحياتهم ملأ ى بالب�ؤ�س والقمع‬ ‫ف�إن «احلدود» عنده تتقل�ص وتتال�شى كثرياً‪ .‬وبالتايل‬
‫واال�ستالب والعمالة والنذالة والإ حباط‪ .‬وهي حياة ال‬ ‫ي�صري ي�شعُر بحرية �أكرث‪ .‬وقد ي�شْ عُر �أي�ض ًا ب�أن كتابة‬
‫حتتاج �إىل و�صف مبتذل‪ ،‬و�إمنا �إىل نقد عميق وجبّار‪.‬‬ ‫الرحلة هي اللحظة الوحيدة التي لي�س عليه �أن يتقيد‬
‫يجب �أن يخرج الكاتب العربي‪� ،‬إذن‪ ،‬من دوالب تقليد‬ ‫فيها بنمط معني‪ ،‬ال من حيث �شكل الكتابة وال من حيث‬
‫الغرب‪ ،‬على م�ستوى ال�شكل‪ ،‬وامل�ضمون‪ .‬فلي�س كل ما‬ ‫امل�شاعر وال من جهة اخلطاب‪ .‬فهي كتابة ال يتوجه‬
‫يفعله الغرب �صاحلاً‪ ،‬وال كل ما يطبِّلُ له الغرب ي�ستحق‬ ‫فيها �إىل �أحد‪� ،‬أو على الأ قل‪ ،‬هذا ما �أح�س به �أنا‪ .‬وهو‬
‫الإ حرتام‪� .‬إن غياب احلدث «الفاجعي» �أو احلدث املبدع‬ ‫ما �أ�سمّيه �أنا ‪« :‬الكتابة املبا�رشة» لأ نها كتابة حيَّة‪،‬‬
‫يف احلياة الغربية جعل �أكرث كُ تّاب الغرب‪ ،‬تقريباً‪،‬‬ ‫� آنيّة‪ ،‬ت�صف العالقة العاطفية مع ما‪ ،‬ومَ نْ ‪ ،‬نرى ونعاي�ش‬
‫ومنذ ع�رشات ال�سنني‪ ،‬يكتبون �سِ يرَ َهُ م الذاتية‪ ،‬و�أحيانا‬ ‫«على احلارك»‪ .‬هي ال «تفَبرْ ك»‪ ،‬وال تُزيِّف‪ .‬هي �أ�صدق‬
‫يغرقون يف تفاهاتهم ‪ ،‬بحجة كتابة اليومي والعابر‪،‬‬ ‫الكتابات لأ نها كتابة تفر�ضها عالقة املنظور وعالقة‬
‫مثل الروائية الفرن�سية «كري�ستني �أنغو» التي تكتب عن‬ ‫الإ ح�سا�س بني الكاتب وبني املكان الذي يتحرك فيه‪.‬‬
‫كل تفا�صيل حياتها اليومية‪ ،‬دون �أي بعد وجودي‪،‬‬ ‫يف كتابة الرحلة لي�س هناك ر�سالة‪� .‬أو هي ر�سالة �إىل‬
‫حتى ال نقول ميتافيزيقي‪ .‬وعندما نقر�أ ما تكتب نكت�شف‬ ‫جمهول‪ .‬ر�سالة ال تعني �أحداً غري كاتبها (مع �أين ال زلت‬
‫الت�سطيح الهائل حتى للحدث العادي الذي قد يكون‬ ‫�أح�س نف�سي كاتبا مهت ّم ًا ب�شكل من الأ �شكال باملحيط‬
‫يحمل يف بنيته ُبعْداً درامي ًا � آ�رساً‪ .‬لأ ن كتابة التفا�صيل‬ ‫الذي ن�ش�أتُ فيه والذي �أتوجه �إليه يف كتابتي)‪ .‬هي نوع‬
‫هي الأ خرى فن‪ .‬وهي ال قيمة لها �إال مبا حتمله من ر�ؤى‬ ‫من الفانتازيا‪ .‬نوع من التمتع ال�شخ�صي باملكان بغ�ض‬
‫و�أ�ساطري خفية‪ .‬امل�س�ألة �إذن هي كيف نكتب التفا�صيل‪،‬‬ ‫النظر عن �أي دوغما‪ .‬وهو ما يعطيها بالفعل بُعداً � آخر‪.‬‬
‫وملاذا؟ خارج هذا التقليد هناك‪ ،‬بالت�أكيد‪ ،‬كتّاب عرب‬ ‫‪ vv‬يوجد تيار جديد يطلق عليه كتابة الأ نانة؟‬
‫يكتبون ب�شكل � آخر‪ ،‬وتثريهم م�صائر �أخرى‪ .‬وبت�صوّري‬ ‫�س�ؤالك يجعلني �أفكر يف �س�ؤال‪ :‬ما هي الرواية �أ�صال؟‬
‫تكمن العبقرية الروائية يف الآ تي‪ :‬جميع الكتّاب‪ ،‬يف‬ ‫هل هي �سرية ذاتية �أم هل ميكن لل�سرية الذاتية �أن ُت ْكتَب‬
‫ر�أيي ‪ ،‬بدءاً بدوي�ستوف�سكي وانتهاء ب�إدوارد اخلراط‬ ‫كرواية‪ ،‬وهل علينا �أن نكتب روايات القرن التا�سع ع�رش‬
‫‪157‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يكتبون �سريتهم الذاتية با�ستمرار‪ .‬وال يكتب الكاتب �إال قارئا وروائيا ما هو ر�أيك يف املنجز العربي‬
‫رواية واحدة طول حياته‪ .‬لكن عبقرية الكاتب ت�أتي من روائيا‪...‬‬
‫�أت�صور �أن املنجز الروائي العربي يف الإ جمال �إيجابيّ ‪.‬‬ ‫ان�شغاله باللغة‪� .‬سحر اللغة‪ ،‬والتمرّ�س بها قد ي�سمحان‬
‫هناك كتاب عرب كبار‪ .‬وكثريون منهم لهم �إجنازات‬ ‫للكاتب بكتابة حياته ع�رشات املرات دون �أن يكون ثمة‬
‫رائعة‪ .‬برغم ذلك ثمة عوائق حتد من انطالقة الكاتب‬ ‫ت�شابه بينها‪.‬‬
‫جتوْهره‪� .‬أمران �أ�سا�سيان يجب التنديد‬ ‫العربي‪ ،‬ومن َ‬ ‫‪ vv‬كيف ترى عالقتك �أنت باللغة؟‬
‫بهما عندما نتحدث عن الإ بداع العربي ‪ :‬غياب احلرية‪،‬‬ ‫بالن�سبة يل اللغة �أمر �أ�سا�سي ال من �أجل الكتابة فح�سب‪،‬‬
‫وتعلّق الكتاب بال�سلطة‪ .‬و�إذا مل يكن من ال�رضوري‬ ‫و�إمنا من �أجل ال�سلوك‪ .‬فالكائن ال�صامت ال موقف له‪،‬‬
‫الربهنة على غياب احلرية العميق يف العامل العربي‪،‬‬ ‫وال مكان يف التاريخ‪ .‬وال �أكاد �أت�صوّر مبدع ًا بال لغة‬
‫ف�إن التعلّق بذيول ال�سلطة يحتاج �إىل �أكرث من «كالم»‪.‬‬ ‫خا�صة به‪ .‬وما �أ�سميه �أنا «الكتابة العربية الواحدة»‬
‫ويكفي �أن ن�شري �إىل �أن املنا�صب الر�سمية �أو �شبه‬ ‫املنت�رشة اليوم ب�شدة يعود بالت�أكيد �إىل هذا املناخ‬
‫الر�سمية‪ ،‬ب�أ�شكالها املختلفة‪ ،‬من رئا�سات التحرير‪،‬‬ ‫اللغوي الذي ُفرِّغ من حمتواه‪ .‬اللغة‪ ،‬لكن لي�س اللغة‬
‫�إىل املحررين‪� ،‬إىل الإ حتادات الأ دبية‪� ،‬إىل الأ عمدة‬ ‫احليادية‪ ،‬ولكن تلك التي حتمل فكراً ولها بُعد نقدي‬
‫يف ال�صحف‪� ،‬إىل ‪ ...‬كلها ترتبط ب�شكل �أو ب�آخر ب�سلطة‬ ‫ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬هي التي ت�ستهويني‪ ،‬وحترّكني‪ .‬وهذه‬
‫ثقافية �أو �سيا�سية‪ .‬نحن ال ندعو �إىل ا�ستقالة جماعية‬ ‫لي�ست هي لغة القوامي�س‪ ،‬وال لغة ال�صيغ الغريبة‪ ،‬وال‬
‫من �أجل الإ بداع‪ ،‬لكننا ب�صدد ت�شخي�ص بع�ض العوائق‬ ‫اال�ستيهامات اللفظية‪ ،‬وال التزيينات‪ ،‬وال اال�شتقاقات‬
‫التي قد تكون �أ�سبابها �أه ّم بكثري من الأ دب عند مَ نْ‬ ‫الكربى‪� ،‬إنها لغة احلياة احلرة‪ .‬لغة الكائن الذي �أدرك �أن‬
‫يكون م�ضطراً ملمار�ستها‪ .‬لكن هذا ال يغيرّ يف الأ مر‬ ‫حترره يبد�أ من ل�سانه‪ ،‬ولي�س فقط من عواطفه‪ .‬وقد �سبق‬
‫�شيئاً‪ ،‬لأ نها تبقى عائق ًا �أ�سا�سياً‪ ،‬وبخا�صة عندما تهيئ‬ ‫خللَعاء»‪« :‬مَ نْ يقبل �أي تنازل يف‬‫وكتبت يف روايتي «ا ُ‬
‫ملمارِ�سها �شهرة �سهلة ال ت�ستند �إىل �إجناز عبقري‪� .‬إىل‬ ‫اللغة‪ ،‬يقبل �أي تنازل يف احلياة» و�أعتقد �أن ذلك يكفي‬
‫ذلك ميكن �أن ن�ضيف رُعْ ب الرقابة بح ّديْها ‪ :‬رقابة‬ ‫ل�رشح الأ همية الق�صوى التي �أح�س �أن اللغة جديرة بها‪.‬‬
‫ال�سلطة ( والرقابة الذاتية جزء منها)‪ ،‬ورقابة القارئ‬ ‫‪� vv‬إذا كان الروائيون من دوي�ستوف�سكي �إىل اخلراط‬
‫املحتمل (مع �أن الكتاب العربي مل ي�صل �إىل مرتبة‬ ‫مل يفعلوا �شيئا �سوى �أنهم كتبوا حياتهم‪ ،‬فلماذا‬
‫ال�سلعة املربحة‪ ،‬بعد)‪.‬‬ ‫مل تكتب �أنت �شيئا عن عملك الطويل يف اجلراحة‬
‫هذه العوائق الأ �سا�سية‪� ،‬أو املُثبِّطات املعرفية‪� ،‬أو اخل�شية‬ ‫والطبّ وال عن �إقامتك يف باري�س منذ فرتة طويلة‪،‬‬
‫العميقة الالمفهومة‪� ،‬أو اال�ستيعاب املمنهج للكتاب‬ ‫علما �أن روائيني عربا وعجما كتبوا عن هذه املدينة‬
‫من قبل القوى القادرة على ا�ستيعابهم‪ ،‬و�أمور �أخرى‬ ‫التي مل يعرفوها �إالّ وهم يف ترانزيت‪...‬‬
‫كثرية مثل احلياء الإ جتماعي‪ ،‬والتربير‪ ،‬وحبّ التال�ؤم‪،‬‬ ‫نعود لنف�س امل�شكلة‪ .‬لي�ست هناك قوانني ثابتة يف‬
‫واخلوف من نُفور الآ خرين‪ ،‬و‪ ...‬هي التي جتعل الكتابة‬ ‫املو�ضوع‪� .‬إ�ضافة �إىل �أين �إنْ مل �أكتب‪ ،‬بعد‪ ،‬عن اجلراحة‬
‫العربية‪ ،‬اليوم‪ ،‬كتابة «فاترة» �إىل ح ّد ما �أو باردة �أو‬
‫وال عن باري�س‪ ،‬فهذا ال يعني �أنني لن �أكتب يوما ما‬
‫بائخة �أو م�ستعادة �أو تقليدية‪� ،‬أو بال قيمة تاريخية‪،‬‬ ‫عن هذا املو�ضوع‪ .‬املهم لي�س ملاذا مل يكتب كاتب عن‬
‫�أو ال ت�ستحق القراءة‪� ،‬أو كتابة �شبه مقروءة ومفهومة‬ ‫هذه املهنة �أو هذا املكان بل هو كيف يكتب‪ ،‬وملاذا؟‬
‫حتى قبل �أن نقر�أها‪ .‬ملاذا؟ لأ نها كتابة بال جديد‪ ،‬و�إنْ‬
‫�أما متى يكتب‪ ،‬فذلك �أمر ثانويّ ‪ .‬حني يكتب الكاتب‬
‫بدت متجددة با�ستمرار‪ .‬طبعاً‪ ،‬هناك كُ تّاب عرب كبار‬ ‫رواية عليه �أن يطرح دائما الأ �سئلة الأ �سا�سية يف فعل‬
‫‪ ،‬كما قلتُ ‪ ،‬يكتبون ما يفكرون فيه ولهم دور �أ�سا�سي‬ ‫الكتابة ‪�« :‬أكتبُ ملنْ ؟ وملاذا؟ وكيف؟» وحني جنمع هذه‬
‫يف احلياة االجتماعية العربية‪ .‬لكننا ب�صدد التعميم‪ ،‬ال‬ ‫الأ �سئلة الثالث ن�ستطيع �أن نتخيل كيف ميكن للقاريء‬
‫التخ�صي�ص‪.‬‬
‫احل�صيف �أن يدرك منذ ال�سطور الأ وىل‪ ،‬جناح الكاتب �أو‬
‫ف�شله‪ ،‬قبل �أن يتعذّب يف قراءة ال جدوى منها‪ ،‬يف �أكرث ‪ vv‬والرتجمة؟ �أي دور تلعب؟‬
‫بدخول الرتجمة �إىل حلبة الإ بداع‪� ،‬صار الو�ضع �أكرث‬ ‫الأ حيان‪.‬‬
‫‪ vv‬يوجد تراكم روائي عربي رهيب‪ ،‬و�أنت باعتبارك �سوءً‪ .‬و�أحب �أن �أ�ضيف �أن الكاتب العربي امل�س َتلَب‬
‫‪158‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يعاين اليوم من م�س�ألة الرتجمة �أكرث مما يعاين من عدم تتنا�سل كالفِطْ ر‪ ،‬وتثري كثريا من اجلدل‪ ..‬ما هو ر�أيك‬
‫اكرتاث قرائه مبا يكتب‪ .‬وهذه ظاهرة خطرية ومميتة‪ .‬فيها؟‬
‫يف ر�أيي �أي�ضا �أن م�س�ألة اجلوائز‪ ،‬مع �أنها مفيدة للكتاب‬ ‫وت�شارك يف هذه اخلديعة القاتلة دور الن�رش وال�صحف‬
‫العرب‪ ،‬و�أنا �أهنّئ الكتّاب الفائزين بها قد ت�صبح‪� ،‬أحيانا‪،‬‬ ‫واملعلقني الثقافيني وال�سلطات الثقافية وطبعاً‪ ،‬الكتاب‬
‫عبئا على الإ بداع‪ .‬هذه اجلوائز �ستكون‪� ،‬إن ا�ستمرت على‬ ‫�أنف�سهم‪ .‬و�أكاد �أت�ساءل من جديد ‪« :‬ملن نكتب؟ لنا؟ �أم‬
‫هذا ال�شكل‪ ،‬ال�رضبة القا�ضية �أو الق�شة التي �ستق�صم ظهر‬ ‫لهم؟ ويخطر يل �أن �أ�ضيف �أحيان ًا على غالف رواياتي‬
‫الإ بداع العربي‪ .‬لأ ن الكاتب العربي �أ�صبح يكتب من �أجل‬ ‫اجلملة التالية» ‪ :‬مل ترتجم �أعماله �إىل �أي لغة‪� ».‬إن م�شكلة‬
‫احل�صول على هذه اجلائزة العربية �أو تلك‪...‬و�أح�س �أننا‬ ‫الغرب والرتجمة‪ ،‬عامل �أ�سا�سي � آخر لتحطيم الإ بداع عند‬
‫قريبا �سن�شهد ظاهرة جديدة هي «كُ تّاب قيد الطلب»‪،‬‬ ‫الكائن العربي‪� .‬إ ْذ يعتقد الكثري من الكتّاب العرب �أنه‬
‫ُحتدِّد لهم �سلطة ما‪� ،‬أو جائزة ما‪� ،‬أو هيئة ثقافية ما‪،‬‬ ‫عندما يرتجم ي�صبح عاملياً‪ .‬هذه الكذبة احلقرية هي‬
‫مو�ضوع ًا تختاره هي وعليهم �أن يكتبوا رواية حوله!‬ ‫التي �ست�سمّم‪� ،‬أو �أنها �سممت من قبل‪ ،‬احلياة الثقافية‬
‫ت�ص َّورْ‪ .‬هذه اجلوائز �ستدمّ ر وعي الكاتب العربي‪ ...‬لأ نه‬ ‫العربية‪� .‬أعي�ش يف باري�س منذ عقود‪ ،‬و�أتردد با�ستمرار‬
‫يجب �أن نعرف �أنه ال ميكن �أن يكون للكاتب قيمة ال‬ ‫على املكتبات ودور العر�ض الثقافية‪ ،‬ومل �أَ َر �إال نادراً‬
‫باجلائزة وال بالرتجمة‪ ،‬و�إمنا ب�إبداعه اخلا�ص‪ .‬و�أن‬ ‫جداً جداً‪ ،‬يف واجه ِة �أي مكتب ٍة كتاب ًا عربي ًا مرتجماً‪ ،‬ال‬
‫قيمته الأ �سا�سية تكمُنُ يف نقده العميق ملجتمعه‪ ،‬ال يف‬ ‫لأ دوني�س وال ملحمود دروي�ش وال ل�صغار املُترَ ْجَ مني‪..‬‬
‫اعرتاف الهيئات الثقافية الر�سمية به‪ ..‬قيمة الكاتب هو‬ ‫وال لكبارهم �إال نادراً‪ ،‬وخالل �أيام معدودة‪ ،‬وبعدها‬
‫يختفي كل �شيء‪ .‬م�س�ألة الرتجمة ‪� ،‬إذن‪ ،‬لي�ست م�س�ألة‬
‫�أن يكون دائما �ضد املحيط الذي يوجد فيه‪ ،‬لأ ن الكاتب‬
‫�إبداع فح�سب‪ ،‬و�إمنا هي‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬م�س�ألة �سيا�سية وم�س�ألة‬
‫�ضم ُري املجتمع وهو من�شق با�ستمرار‪ .‬و�أنا ال �أت�صوّر‬
‫�أنظمة وم�س�ألة كُ تّاب وم�س�ألة عالقات مبا�رشة‪ .‬اخلطورة‬
‫وجود كاتب حقيقي يف الغرب �أو يف العامل العربي‬
‫ال تكمن يف الرتجمة و�أنا ل�ستُ �ضد الرتجمة‪ ،‬و�أنا لوال‬
‫را�ض عن الو�ضع الذي يوجد فيه‪ . .‬ما هو مربر الكتابة‬ ‫ٍ‬ ‫الرتجمة ملا كنتُ ‪ ،‬الآ ن‪ ،‬يف باري�س‪ .‬لوال ترجمة العرب‬
‫�إذا؟ �أولي�س هو النقد املعريف‪ ،‬والتعر�ض بال�سوء لو�ضع‬ ‫لدوي�ستوف�سكي ولتول�ستوي ولكبار الكتّاب ملا كنتُ الآ ن‬
‫ال نوافق عليه؟ الكتابة هي التورط يف مواقف تاريخية‬ ‫هنا وال تكلمت هذا الكالم ‪ .‬ويف تراثنا العربي الإ �سالمي‬
‫ولي�ست تربيرا لل�سوء واالبتذال‪� .‬أحب الكتابة بعينني‬ ‫نحن نعرف الدور الأ �سا�سي الذي لعبه بيت احلكمة يف‬
‫قا�سيتني‪ ،‬ولكن من �سيمنحك اجلائزة هذه املرة؟‬ ‫زمن امل�أمون للرتجمة واالت�صال بثقافات العامل القدمي‬
‫‪� vv‬أ�صدرت يف ال�سابق رواية مل ت�ستخدم فيها‬ ‫وكان هذا ال جهد ةالهائل وراء التطور الذي حدث ال‬
‫الرتقني‪ ،‬ومل تُ�ستقبَل بكثري من الرتحاب‪ ،‬فهل هو‬ ‫يف ال�رشق فح�سب و�إمنا يف الغرب �أي�ضا‪ .‬امل�شكلة‪،‬‬
‫دليل �إ�ضايف على طغيان املحافظة يف الواقع‬ ‫اليوم‪ ،‬هي ا�ستيالب الكتاب العرب بالرتجمة ونخ�شى‬
‫العربي؟‬ ‫�أن يتحول املبدع العربي �إىل دجاجة تبي�ض كتب ًا لكي‬
‫تتكلّم عن رواية «اخلُـلَعاء»‪ .‬لقد القتْ بع�ض االهتمام‬ ‫تُترَ ْجَ م‪ ،‬وعندما ترتجم تُرمى يف مزابل الغرب‪.‬‬
‫ثمة م�س�ألة اجلوائز الأ دبية التي �أ�صبحت عند �صدورها‪ .‬ولكن‪ ،‬لندَعْ ذلك الآ ن فله �ش�أن � آخر‪.‬‬ ‫‪vv‬‬

‫‪159‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خالد مطاوع‬
‫هويتي املزدوجة �أ�شعر معها با أللفة وبالغربة معا ً‬
‫حوار‪ :‬عابــد ا�سماعيــل‬
‫�شاعر ومرتجم من �سور ية‬

‫يجمع ال�شاعر الأ مريكي‪ ،‬من �أ�صل ليبي‪ ،‬خالد مطاوع‪ ،‬بني ر�صانة الربوف�سور‬
‫و�شفافية ال�شاعر‪� ،‬إذ تار ًة يتحدّث عن الق�صيدة بثقة الأ كادميي‪ ،‬العارف‬
‫بتاريخية اخلطاب الأ دبي‪ ،‬ومراحل تطوره‪ ،‬وتار ًة يلج أ� �إىل عفوية املبدع للك�شف‬
‫لطرف التغلّبَ على‬
‫ٍ‬ ‫عن جماهيل املجاز‪ ،‬وا�سرتاجتيات الإ لهام‪ .‬على �أنّه ال يرتكُ‬
‫الآ خر‪ ،‬بل ينجحُ يف جعلِ ثقافته تتناغم مع موهبته‪ ،‬لر�سم �صورته ككاتب‬
‫مهاجر‪ ،‬مزدوج اللّغة‪ ،‬يقي ُم بني برزخني ح�ضاريني خمتلفني‪� .‬أ�صدر مطاوع‬
‫ثالثة دوواين �شعرية‪ ،‬باللّغة الإ جنليزية‪ ،‬كان � آخرها (�أموري�سكو)‪ ،2008 ،‬كما‬
‫�أنه نقل �إىل الإ جنليزية ن�صو�ص ًا لعدد من ال�شعراء العرب‪ ،‬من بينهم �أجمد نا�رص‬
‫و�سعدي يو�سف و�أدوني�س‪ ،‬ونال جوائز مرموقة يف الواليات املتحدة‪ ،‬تقديراً‬
‫جلهوده كمرتجم‪.‬‬

‫ان الذين يدافعون عن املحلية‪ ،‬هم‬


‫�أقل النا�س حملية‬

‫‪160‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ك�أنهم فالحني فعالً‪ ،‬وال ي�شعرون بباقي �أمريكا‪،‬‬ ‫التقيتُ ال�شاعر يف دم�شق‪ ،‬خالل زيارة قام بها م�ؤخّ راً‪،‬‬
‫وال يعرفون �أمريكا‪ ،‬كما �أنك جتد بع�ض املثقفني يف‬ ‫وكان هذا احلوار عن جتربته‪:‬‬
‫القاهرة يظنون �أنه �إذا مل يحدث ذاك الأ مر يف القاهرة‪،‬‬ ‫‪ vv‬ماذا تعني لك الإ قامة بني برزخني ثقافيني‪ ،‬وكيف‬
‫بالتايل مل يحدث يف العامل كله‪ ،‬وهذا ما �أ�سمّيه النمط‬ ‫تعرّف الهوية ك�شاعر مزدوج اللغة؟‬
‫املتحجّ ر للعوملة‪ ،‬ولكن يُهي أ� يل �أن الكوين احلقيقي هو‬ ‫�أرى �أن الهوي َة �شيء يُفر�ض على الإ ن�سان �أكرث مما‬
‫القابل دائم ًا للتغيري‪ ،‬والقابل دوم ًا ال�ستقطاب الفكر‬ ‫هو يختاره‪ .‬حني نقابل �شخ�ص ًا ما‪ ،‬جند �أن خلفيتنا‬
‫اجلديد‪.‬‬ ‫وخلفيته‪ ،‬ديننا �أو دينه‪ ،‬لغتنا �أو لغته‪� ،‬أوهى �أو‬
‫‪� vv‬إذاً �أنت ال تخ�شى على الذات املحلية من الت�صدع‬ ‫�أ�ضعف من الظرف اخلارجي الذي جند �أنف�سنا فيه‪� ،‬أو‬
‫�أو االن�سحاق �أمام هذا النمط الأ على الذي تقدمه عادة‬ ‫يحكم تلك العالقة بيننا‪ ،‬مبعنى‪� ،‬أنّ عالقتنا بالآ خر ال‬
‫ثقافة العوملة؟‬ ‫تخ�ضع لقاعدة ثابتة‪� ،‬أي �أنك ال تتعمّد �أن تتعامل مع‬
‫ال‪ ،‬الذي نخاف عليه نوع من الأ �صالة‪ ،‬يف �أن يكون‬ ‫الآ خر دائم ًا طبق ًا لهذه الهوية‪.‬‬
‫النمط جتاري واحد‪� ،‬أو منط تفكري �سيا�سي واحد‪،‬‬ ‫‪ vv‬هل الهوية معطى ثابت �أم متحول؟‬
‫يتحكم يف الأ مور ككل‪ ،‬والذي تخاف منه هو االنحالل‬ ‫طبع ًا هي متحولة لأ ن ظروف احلياة تتحوّل‪ ،‬ون�شعر‬
‫يف منط واحد مي�سك بالأ مور كلها‪ .‬لكن التبادلية بني‬ ‫�أن هوية ال�شخ�ص بذاتها‪ ،‬والتي ينبثق منها العامل‬
‫الثقافات يجب �أن تبقى دائم ًا قابلة للتبدّل‪ .‬و�أنا‬ ‫االجتماعي‪ ،‬تتجلّى يف �صور و�أ�شكال خمتلفة‪.‬‬
‫ر�أيي‪� ،‬أن كل و�ضع مقدر له �أن يكون دائم ًا حملياً‪ ،‬فلي�س‬ ‫‪� vv‬أنت خالد مطاوع‪ ،‬ليبي‪ ،‬مت�شبع بالثقافة العربية‪،‬‬
‫هناك �إن�سان عاملي عاملي‪ ،‬فالإ ن�سان دائم ًا يف و�ضع‬ ‫وتعب باللغة االنكليزية‪،‬‬ ‫رّ‬ ‫ولكنك �أي�ض ًا �أمريكي‪ ،‬تكتبُ‬
‫حملّي متغيرّ ‪ ،‬لأ نه يتعامل مع ظروف متغيرّ ة‪ .‬امل�شكلة‬ ‫ف�أنت تقيم يف هذه املنطقة الرمادية بني ثقافتني‪،‬‬
‫التي �أراها يف عملية العوملة هي �أننا ن�ستورد �أفكاراً‬ ‫ماذا تعني لك هذه االزدواجية؟‬
‫فقط ال�ستريادها‪� .‬أن ي�أتينا ذوق ون�أخذه كما هو‪ ،‬دون‬ ‫�أنا �أ�شعر باالثنني معاً‪ ،‬و�أ�ستطيع �أن �أتعامل معهما‬
‫�أن نخ�ضعه للتحليل‪� .‬أنا ال �أخاف من �شيء ي�أتي يل‪،‬‬ ‫بالأ ريحية نف�سها‪ ،‬وهما م�ألوفان بالن�سبة يل‪ ،‬ويف‬
‫ولكن يجب �أن �أطوره و�أتعامل معه‪ ،‬وال �أ�ست�سلم له‪،‬‬ ‫بع�ض الأ وقات‪� ،‬أ�شعر �أنني غريب يف االثنني معاً‪.‬‬
‫فامل�شكلة �أننا ن�شعر يف الأ جواء الفنية والأ دبية يف‬ ‫ما �أريد قوله هو �أن هذا ال�شعور بالأ لفة والغربة معاً‪،‬‬
‫العامل العربي‪ ،‬ب�أن �أكرث النا�س ا�ستيعاب ًا للعاملية‪ ،‬هم‬ ‫م�ستمرّ‪ ،‬وحقيقة �أنا ال �أ�شع ُر بال�رشخ الكبري بينهما‪،‬‬
‫�أكرث النا�س تنميط ًا لها‪ ،‬لكن النا�س الذين يخافون‬ ‫ف�أنت يف نهاية الأ مر تتعامل مع ب�رش يتعاملون مع‬
‫العوملة‪ ،‬هم الذين يتعاملون معها وال يعرفون ذلك‪،‬‬ ‫�أو�ضاع اقت�صادية واجتماعية فيها ت�شابه كبري‪ ،‬هنا‬
‫�ض �أنها حمافظة‬ ‫فرتى الطبقة املتو�سطة‪ ،‬التي ُيفترَ ُ‬ ‫�أو هناك‪ ،‬ولو �أن العادات والتقاليد تختلف‪ ،‬ولكن لي�س‬
‫يف العامل العربي هي التي تتابع الأ فالم الهوليودية‬ ‫�إىل احلد الذي ت�شعر به �أنك بني ثقافتني‪.‬‬
‫مثالً‪ ،‬وهي تزعم �أنها ال حتب هوليود‪ ،‬لكنها تتابع‬ ‫‪ vv‬هل تعتقد �أننا نتجه �إىل عوملة �شاملة‪ ،‬حتى يف‬
‫�أفالمها‪.‬‬ ‫الفكر واملفاهيم‪ ،‬مبعنى �أننا نتجه �إىل �إنتاج ما ي�سمى‬
‫‪� vv‬إذاً هي الطبقة الأ كرث ت�أثراً؟‬ ‫بالإ ن�سان الكوزموبولتي؟‬
‫طبع ًا هي الأ كرث ت�أثراً‪ ،‬وهي تت�أثر ب�أي �شيء‪ ،‬فتكت�شف‬ ‫ح�سب ر�أيي الإ ن�سان العوملي دائم ًا يتبدّل‪ ،‬ويف اللحظة‬
‫�أن الذين يدافعون عن املحلية‪ ،‬هم �أقل النا�س حمليةً‪،‬‬ ‫التي يتعرف فيها على ماهيته‪ ،‬ينتهي كمفهوم‪� .‬أحيان ًا‬
‫وترى عائالت �إ�سالمية حمافظة‪ ،‬تتابعُ �أفالم ًا‬ ‫نذهب �إىل مدن كبرية‪ ،‬مثل نيويورك �أو القاهرة‪ ،‬فن�شعر‬
‫هوليودية بحتة كما قلت‪ ،‬ف�أنت‪ ،‬كم�ستهلك لهذه‬ ‫�أن الأ هايل �أو املثقفني لي�س كلهم بالطبع‪ ،‬بل البع�ض‬
‫الأ فالم‪ ،‬ال متلك �أية ق�ضية‪ ،‬وهي متغلغلة فيك‪ ،‬وال‬ ‫منهم‪ ،‬ي�شعرون �أنهم موجودون يف مركز العامل‪ ،‬والذي‬
‫متلك �أمامها ر ّداً �أو نقداً‪.‬‬ ‫مل يحدث يف هذا املكان‪ ،‬مل يحدث �أبداً‪ ،‬ف�أنا �أجد مث ًال‬
‫‪ vv‬تق�صد ال متلك ما �أ�سماه ادوارد �سعيد نوع ًا من‬ ‫�أن بع�ض املثقفني يف نيويورك يت�رصفون ويفكرون‬
‫‪161‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أن ت�أتي‪ ،‬عندما ت�أتي‪ .‬لكن �أي�ضاً‪ ،‬هناك �شعراء كرث‬ ‫املقاومة النقدية لها‪ ،‬لي�س باملعنى الع�سكري �أو‬
‫مثالً‪ ،‬حتى �شعراء عرب‪ ،‬يكتبون ب�شكل يومي فعندما‬ ‫العُ نفي‪ ،‬بل الثقايف؟‬
‫ي�ستيقظ (�سعدي يو�سف) كل يوم �صباحاً‪� ،‬أحيان ًا‬ ‫بر�أيي �أن الذي يحدث‪ ،‬ي�شبه ق�ص ًة ق�صري ًة جداً لكاتب‬
‫ي�أتيه الإ لهام‪ ،‬و�أحيان ًا ال ي�أتيه‪ ،‬ف�أنا ال �أقول �أنه ال‬ ‫ا�سمه (مارمادول بيكتال)‪ ،‬الذي �سبق وترجم القر� آن‪،‬‬
‫يوجد ق�صيدة بدون �إلهام‪ .‬هناك ق�صائد‪ ،‬ت�أتي‪ ،‬ولكن‬ ‫و�أ�سلم الحقاً‪ ،‬وعنده حكاية عن «كاراكوز» �صعيدي‬
‫�أحيان ًا ت�أتيكَ فكرة‪ ،‬مل ترد يف ذهنك من قبل‪ ،‬ومل‬ ‫يف م�رص‪ ،‬يف نهاية القرن التا�سع ع�رش‪ ،‬وجهه �أحمر‪،‬‬
‫تتخيلها‪ ،‬وهذا نوع من الإ لهام‪ .‬املوهبة �أ�سا�سية‪،‬‬ ‫ويتكلم بلغة عربية ركيكة جداً‪ ،‬لكنه‪ ،‬ك�شخ�صية حملية‪،‬‬
‫لكن التعليم ي�صقلها‪ .‬يف �أمريكا يقولون للطالب الذي‬ ‫ا�ستوعبت �شخ�صية اجلندي االنكليزي الوافد‪ ،‬و�أدخلتها‬
‫يريد �أن يكتب عن البحر‪� ،‬أنّ �أول �شيء يجب �أن يقر�أه‬ ‫يف نظام الكاراكوز ال�ساخر‪ ،‬وعرفت كيف ت�ضحك‬
‫هو (موبي ديك) لهرمان ملفيل‪ ،‬ويجب �أن يقر�أ �أي�ض ًا‬ ‫عليه‪ .‬هنا‪ ،‬املقاومة تعني �أن ت�أخذ املادة الأ جنبية‬
‫(�أومريو�س) لديريك وولكت‪ .‬عليك �أن تراقب ال�شعراء‬ ‫وحتاورها‪ ،‬وت�ستوعبها‪ ،‬وتُدخِ لُها يف حمورِكَ ‪.‬‬
‫الذين حتدثوا عن مو�ضوع ما‪ ،‬وماذا فعلوا حياله‪،‬‬ ‫‪ vv‬املقاومة لي�ست الرف�ض‪ ،‬و�إمنا هي متثّل‬
‫ومن ثم ت�شقّ طريقك بنف�سك‪ ،‬واملهم يف الأ مر �أن جتد‬ ‫وامت�صا�ص؟‬
‫�صوتك �أو تكت�شفه‪� ،‬أي �أن تحُ دث �رشخ ًا يف احلائط‬ ‫�أنا بالن�سبة يل‪ ،‬عندما �أتى الطوفان‪ ،‬يف عهد نوح‪ ،‬مل‬
‫�أنّ‬
‫الكبري‪ .‬حتى العرب كانت تن�صح ال�شاعر املبتدئ ب�أن‬ ‫يقل اهلل لنوح تعلّم �أن حتيا حتت املاء‪ ،‬بل �أمره �أن يبني‬ ‫عالقتنا‬
‫يذهب ويحفظ ع�رشة � آالف بيت ثم ين�ساها‪.‬‬ ‫�سفينة‪ ،‬ويطفو فوق املاء‪ ،‬حتى يتحكّم بها‪ ،‬وبر�أيي‬ ‫بالآ خر ال‬
‫‪� vv‬أود �أن �أ�ستمر يف ال�س�ؤال عن الق�صيدة‪ ،‬وخا�صة‬ ‫حتى النا�س العاديني الأ مريكان‪ ،‬ي�شعرون بقوة‬ ‫تخ�ضع‬
‫تلك التي تكتبها �أنت‪ .‬يلحظ املتتبع �أن ثمة نزوع ًا‬ ‫�أمريكا‪ ،‬وطوفانها‪ ،‬ويعانون من هيمنة النمط الواحد‪،‬‬ ‫لقاعدة‬
‫لديك للدمج بني البالغي‪ ،‬الرفيع «‪ »Sublime‬واليومي‪،‬‬ ‫مثلنا‪� ،‬أو �أكرث‪ ،‬وهم ي�شعرون ب�رضورة املقاومة‪.‬‬ ‫ثابتة‬
‫املبا�رش‪ .)conversational( ،‬ما �رس هذا التناق�ض‪� ،‬إذا كان‬ ‫‪� vv‬أريد �أن �أعود �إىل اهتمامك الأ �سا�سي‪� .‬أنت �شاعر‬
‫ثمة من تناق�ض‪ ،‬وكيف جتد التناغم بني الهاج�سني؟‬ ‫و�صدر لك حتى الآن ثالثة دواوين �شعرية من (خ�سوف‬
‫‪�-‬أنا الآ ن �أراجع ن�سخة مرتجمة من ديواين (فلك‬ ‫اال�سماعلية) عام ‪ ،1995‬ومن ثم فلك الأ �صداء يف‬
‫الأ �صداء)‪ ،‬بالعربية‪ ،‬وفيه‪ ،‬بالأ خ�ص ق�صيدتان‬ ‫‪ 2003‬والآن (�أموري�سكو – ‪� .)2008‬أود �أن �أبد�أ طبع ًا‬
‫طويلتان واحدة ا�سمها (يف اجلوار) و�أخرى عن‬ ‫ب�س�ؤال عن الكتابة الإ بداعية‪ ،‬بو�صفك �أ�ستاذ يف هذا‬
‫التلفزيون ا�سمها (بثّ ) وهذه الأ خرية هي التي يوجد‬ ‫النوع من الكتابة‪ ،‬كيف ميكن �أن نعلّ َم كتاب َة الق�صيدة‪،‬‬
‫فيها �رشارة االحتكاك بني الغنائي وال�شفوي‪ .‬يف كال‬ ‫�ألي�س ال�شعر نتاج موهبة‪ ،‬وهل ميكن تروي�ض املخيلة‬
‫الق�صيدتني‪ ،‬ثمة ما ي�شبه الكتابة الآ لية‪ ،‬كما يقول‬ ‫حقاً‪ ،‬و�إخ�ضاعها ل�ضوابط ومعايري؟‬
‫بريتون ورامبو‪-‬‬ ‫‪-‬واحدة من الإ جابات �أن الإ بداع ال يُعلّم‪ ،‬وال ت�ستطيع‬
‫‪ vv‬تق�صد التداعي احلر للأ فكار!‬ ‫�أن تعلّمه‪ ،‬ولكن الطالب ميكن �أن يتعلم‪ ،‬فالذي يحدث‬
‫نعم‪ ،‬ولكن حتى التداعي احل ّر يجب �أن يخ�ضع ل�شيء‬ ‫يف ور�شات الكتابة‪� ،‬أن الطالب‪ ،‬طبعاً‪ ،‬يجب �أن ميتلك‬
‫من الرقابة‪� .‬أنا يف واحدة من الق�صائد كنت �أحب‬ ‫املوهبة‪ ،‬و�أول بداية املوهبة هي الرغبة‪� .‬إذا كان‬
‫�أن يت�صارع الغنائي مع اليومي‪ ،‬وهذا دائم ًا موجو ٌد‬ ‫بالإ مكان تعلم الر�سم �أو املو�سيقى‪ ،‬فلماذا ال ميكن‬
‫عندي‪ ،‬حتى يف الديوان اجلديد‪�( ،‬أموري�سكو)‪ ،‬وهناك‬ ‫تعلّم ال�شعر!‬
‫�شيء ي�شبه روح احلنني‪ ،‬من جهة‪ ،‬وروح الرباغماتية‬ ‫‪� vv‬إذاً �أنت ال تعترب الق�صيدة نتاج �إلهام غام�ض‪،‬‬
‫الأ مريكية‪ ،‬التي هي �أ�ص ًال ال ت�صدّق ال�شعر‪ ،‬من جهة‬ ‫�سحري‪ ،‬بل هي يف‪ ،‬نهاية املطاف‪ ،‬ن�ص يخ�ضع ملبادئ‬
‫�أخرى‪ .‬بالن�سبة للغنائية‪ ،‬ف�أنا‪ ،‬كما قلت لك‪� ،‬أتيت من‬ ‫و�أ�س�س ميكن بكل ب�ساطة �أن نتعلّمها؟‬
‫عائلة فالحية من طبقة متو�سطة‪ ،‬ولي�س لها عالقة‬ ‫حني ي�أتي الإ لهام يجب عليك �أن ت�شتغل عليه قليالً‪،‬‬
‫بال�شعر‪� ،‬أق�صد جتنح �إىل عدم ت�صديق لل�شعر‪� .‬أنا دائم ًا‬ ‫ويكون لديك ا�ستعداد وبحث‪ ،‬وميكن بعد ذلك للكتابة‬
‫‪162‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�شيء‪ ،‬تبد�أ بقطّ ة وتتو�سّ ع‪ ،‬وترتكّ ب ب�شكل مرجاين‪،‬‬ ‫ال �أ�صدق ال�شعر‪ ،‬لكنني �أدافع عنه‪ ،‬يف نف�س الوقت‪.‬‬
‫بحيث دائم ًا ت�أتيها مادة جديدة وتتكوم عليها‪ .‬وفيها‬ ‫‪� vv‬أريد �أن �أ�سلّط ال�ضّ وء على منبع الغنائية يف‬
‫�رصاع بني الغنائي مع ال�شفوي‪ .‬ت�أتيك فكرة ثم‬ ‫ق�صيدتِكَ ‪ .‬هل هي جمرّ ُد ح�سا�سية رومانتيكية مت�أخّ رة‪،‬‬
‫تدونها‪ ،‬وتدع معلومات الال وعي متتلئ‪ ،‬وخا�صة �إذا‬ ‫تعلّمتها من ال�شعراء الغربيني (بايرون‪ ،‬كيت�س‪،‬‬
‫كان املو�ضوع كبرياً‪ ،‬ثم تن�سى ما كتبت‪ ،‬حتى ي�أتي‬ ‫وردزورث) �أم �أنها �أي�ض ًا مرتبطة بطفولة فالحية‪ .‬ما‬
‫وقت الكتابة‪ ،‬وبعد �أن تنتهي‪ ،‬تعو ُد وتقر�أُ ذاكَ الذي‬ ‫�رس هذه النو�ستاجليا‪ ،‬وهذا التجاور بني الوجدانية‬
‫ك َت ْب َت ُه بعنيٍ باردةٍ وقا�سية‪.‬‬ ‫امل�رشقية والرباغماتية االنكلو‪�-‬ساك�سونية؟‬
‫‪ vv‬من هو القارئ الذي حتب �أن تخاطبه؟ هل هو قارئ‬ ‫‪�-‬أقول لك‪� ،‬إن ق�صيدة (مقدمة) لل�شاعر وردزورث‪ ،‬عمل‬
‫عربي �أم �أمريكي‪� ،‬أم هو قارئ كوين‪ ،‬بال�رضورة؟‬ ‫مثري ومهم جداً‪ ،‬و�أي�ض ًا فيه �شجن‪ .‬وقد ت�أثرتُ بها‪،‬‬
‫يقول باختني يف كتاباته الأ وىل‪ ،‬عندما كان عمره‬ ‫وهي ق�صيدة ملحمية حتكي عن ا�ستعادة املا�ضي‪� .‬أنا‬
‫‪� 22‬سنة‪ ،‬وكان عبقري ًا �أ�ص ًال �إن اخلطاب ال�شعري هو‬ ‫حقيقة تركتُ ليبيا و�أنا �شاب �صغري يف �سن اخلام�سة‬
‫بني ال�شّ اعر وقارئ متخيل‪� ،‬أي �أنّ كل ق�صيدة تُنبِتُ‬ ‫ع�رشة‪ ،‬وكنتُ راغب ًا يف الهروب‪ ،‬ولكني �أي�ض ًا �شعرتُ‬
‫قارءَها بنف�سها‪ .‬ثمة دائم ًا قارئ و�شاعر متخيل‪،‬‬ ‫بعد مدة �أن هناك �أ�شياء مل تكتمل‪ ،‬و�أن هناك �أ�شياء‬
‫وهما االثنان يف غوا�صة يف قاع البحر‪ ،‬ال ي�ؤثر‬ ‫كثرية كانت جميلة‪� .‬أعتقد �أنّ ذكريات املا�ضي‬
‫فيهما الر�أي العام‪ ،‬وال ي�ؤثر فيهما �شخ�صية ال�شاعر‬ ‫حا�رضة يف ق�صائدي‪.‬‬
‫ذاتها‪� .‬أنا �أتوجّ ه �إىل قارئ مركّ ب‪ ،‬عربي و�أمريكي‪،‬‬ ‫‪� vv‬إذاً هي ح�صيلة لت�أثرك بالنمط الرومانتيكي‪،‬‬
‫وال�شاعر (ويتمان) موجود يف كل كتبي‪ ،‬وبالطبع‬ ‫ممث ًال بال�شعر االنكليزي‪ ،‬وبع�ض الأ �صداء البعيدة من‬
‫القارئ الأ مريكي يعرف (ويتمان)‪ ،‬لكن هناك ق�صائد‬ ‫طفولتك؟‬
‫ت�ضم رموزاً قر� آنية وكنعانية‪ ،‬و�سواها‪ ،‬قد ت�صعب‬ ‫‪�-‬أجل‪� .‬أود القول �إنني خرجتُ من بلدي‪ ،‬لأ نني كنت‬
‫على القارئ الأ مريكي‪ ،‬ولي�س‪ ،‬بال�رضورة على القارئ‬ ‫�أ�شعر �أنه ال م�ستقبل يل فيه‪ ،‬مع �أنه الآ ن �أ�صبح لدي‬
‫العربي‪.‬‬ ‫فيه حياة و�أ�صدقاء كرث‪� ،‬أق�صد ليبيا طبعاً‪ .‬وا�ستمر‬
‫‪ vv‬هل ت�ؤمن مبا ي�سميه ماالرميه‪ ،‬ال�شعر ال�صايف‪،‬‬ ‫عندي نوع من احلنني �إىل احلياة التي كان ميكن �أن‬
‫�أم �أن الق�صيدة ينبغي �أن تنقل ر�سالة ما يف النهاية‬ ‫حتدث‪ .‬رمبا هو نوع من احلنني �إىل امل�ستقبل الذي‬
‫�إىل القارئ؟‬ ‫كنت �أعرف �أنه لن يحدث �أبداً‪� ،‬أو �إىل ال�شخ�ص الذي‬
‫طبع ًا �أنا �أقول �إن الر�سالة لي�ست هي الأ يديولوجيا‪،‬‬ ‫كان ميكن �أن �أكونه‪� .‬أحن �إىل �شعور بانتماء ما‪ ،‬كان‬
‫ولكن تعطي للقارئ �شيئ ًا يعمل عليه‪ ،‬وهي طالعة من‬ ‫ميكن �أن يكون‪ ،‬وهذا ما �أعي�ش‪ ،‬بدونه الآ ن‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال‬
‫عمل نف�ساين وروحاين لل�شاعر‪ ،‬ولكن كلّما و�ضحت‬ ‫ب�أ�س‪.‬‬
‫الر�سالة للقارئ �أ�صبحت الق�صيدة �أ�سو�أ‪ .‬الغمو�ض يف‬ ‫‪ vv‬كيف تكتب الق�صيدة؟ هل ثمة طقو�س خا�صة؟ هل‬
‫ال�شعر �رضوري �أحياناً‪ ،‬وق�صيدة (الأ ر�ض اخلراب)‬ ‫متحو �أكرث مما تدون؟ ومن هو القارئ الذي تتوجه‬
‫لإ ليوت‪ ،‬مثال على ذلك‪.‬‬ ‫�إليه؟‬
‫‪ vv‬ذكرتَ ‪ ،‬من قبل‪ ،‬ويتمان‪ ،‬ذاك ال�شاعر املتدفق‬ ‫ال يوجد لدي طقو�س‪ ،‬و�أمتنى �أن �أجل�س ب�شكل يومي‪،‬‬
‫كال�سيل‪ ،‬وهو يختلف كثرياً عن �إليوت‪ ،‬امليتافيزيقي‪،‬‬ ‫ولكن يف احلقيقة �أ�شعر �أنني �أكتب ال�شعر عندما �أحتاج‬
‫الفل�سفي‪ .‬ماذا تعلّمت من (ويتمان)؟‬ ‫�إليه‪� ،‬أو �أ�شعر به �أنه موجود‪� ،‬أو �أ�شعر مبخزونه‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫من الق�صائد التي �أحبها لل�شاعر (ويتمان) ق�صيدة‬ ‫يجب �أن �أفرغ وقت ًا كبرياً لأ بد�أ يف الكتابة‪ ،‬و�أنتظر‪ .‬ال‬
‫�أ�سمها (النائمون) حيث كتبها بروح احلنان واملحبة‪،‬‬ ‫�أنتظر ق�صيد ًة ت�أتي‪ ،‬بل �أنتظر �أن تتكون‪ ،‬يعني �أن‬
‫وجتده يخلقُ من نف�سِ ه مالك ًا � آخر‪ ،‬وفع ًال ت�شعر فيها‬ ‫�أكتب �شيئاً‪ ،‬و�أنتظر‪ .‬يف ديوان (�أموري�سكو)‪ ،‬يوجد �أربع‬
‫روح االن�سيابية‪ ،‬والرغبة يف االحتواء‪ ،‬وااللتحام‬ ‫�أو خم�س ق�صائد �أتتني جاهزة‪� ،‬أو عملت عليها ب�شكل‬
‫بالآ خر‪.‬‬ ‫ب�سيط‪ ،‬لكن البقية �أخذت وقتاً‪ .‬ثمة ق�صيدة غريبة بع�ض‬
‫‪163‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من الدين‪ .‬لذلك ما زالت يف تاريخي‪ ،‬وما زالت‬ ‫مل�س ك ّل �شيء تقريباً‪ ،‬واحت�ضان‬ ‫‪ vv‬ت�شع ُر برغب ِت ِه يف ِ‬
‫موجودة معي‪� ،‬إىل حد ما‪ ،‬طبع ًا هذه اعتربها من‬ ‫املتناق�ضات‪.‬‬
‫اجلانب الروحاين يف الدين ولكن …‬ ‫طبعاً‪( ،‬ويتمان) �شاعر �شا�سع و�ضخم‪ ،‬ولكنه كان‬
‫‪ vv‬وماذا عن اجلانب الدوغمائي؟‬ ‫وحيداً‪ ،‬رغم �أنه مل يكن خجوالً‪ ،‬لكن يف �أحالمه‪،‬‬
‫يف احلقيقة‪� ،‬أنا نفرتُ منه‪ ،‬وكان جزءاً من حياتي‬ ‫كان �شخ�ص ًا وحيداً‪ ،‬و�إىل ح ّد ما‪ ،‬مقهوراً‪ ،‬لكن روح‬
‫كطفل‪ .‬لكن يجذبني البعد الروحاين يف الدين‪ ،‬و�أفهم‬ ‫املحبة والروحانية الإ ن�سانية‪ ،‬تنبثق لديه من حبّ ج ّم‬
‫متام ًا جوهره الرمزي‪.‬‬ ‫للحياة‪ ،‬وللأ مكنة‪.‬‬
‫‪ vv‬هل يجذبك بُعده ال�شعائري‪ ،‬الطق�سي‪ ،‬اخلرايف؟‬ ‫‪ vv‬ما عالقتك باملكان ك�شاعر؟‬
‫ومن �أين �أتتك تلك الك�آبة �أيام اجلمعة؟‬ ‫احلقيقة �أنني ال �أعرف ما �إذا كنت �أحبّ اكت�شاف‬
‫احلققية‪� ،‬أنا ال �أعلم‪.‬‬ ‫الأ مكنة‪� ،‬أو �أنني ال �أجيد اكت�شافها ‪� ...‬أنا دائم ًا �أتكلم‬
‫‪ vv‬دعني �أنتقل �إىل �س�ؤال عن عالقتك بال�شعر العربي‬ ‫عن املكان‪ .‬وثمة مدن كثرية يف ق�صائدي‪ .‬هناك من‬
‫احلديث‪ ،‬هل تواكبه‪ ،‬هل �أنت مطلع على ال�شعر اجلديد‬ ‫يقول �إنني �أحاول �أن �أكوّنَ خريطة �أخرى للعامل‪ ،‬ورمبا‬
‫الذي يُكتب يف العامل العربي‪ ،‬ومن هم �شعرا�ؤك‬ ‫م�رشوعي الأ خري الذي �أقدمت عليه‪ ،‬وهو �إعادة النظر‬
‫املف�ضلون؟‬ ‫يف تاريخ ليبيا‪� ،‬أو ال�شخ�صيات الليبية �أو املنطقة‬
‫مطلع بقدر الإ مكان‪ ،‬و�أنا الآ ن على و�شك ن�رش ثامن‬ ‫الليبية‪ ،‬بعد االحتواء الإ غريقي �أو الروماين‪.‬‬
‫ديوان مرتجم يل‪ ،‬هو (خمتارات لأ جمد نا�رص)‪ .‬كما‬ ‫‪ vv‬تق�صد �إحياء فكرة التعددية الثقافية والأ دبية‬
‫�أنني على و�شك االنتهاء من ن�رش خمتارات كبرية‬ ‫املرتبطة باملكان؟‬
‫لأ دوني�س‪.‬‬ ‫بال�ضبط‪ .‬مث ًال لدي ق�صيدة طويلة ا�سمها (�رشق‬
‫‪ vv‬وطبعا �صدر لك خمتارات باالنكليزية (ل�سعدي‬ ‫قرطاج) وهي مبثابة ا�ستعادة للتاريخ الروماين والذي‬
‫يو�سف)‪ ،‬ونلت جوائز قيمة؟‬ ‫هو جزء من تاريخ ليبيا‪ .‬ثمة دائم ًا �أولئك الأ فارقة‬
‫�أنا ترجمت كتب ًا ل�شعراء مل يكونوا معروفني منهم‬ ‫الذين ي�أخذون مراكب من ليبيا‪ ،‬ويريدون الذهاب بها‬
‫مرام امل�رصي‪ ،‬وجمال حداد‪ ،‬واميان مر�سال‪� .‬أما‬ ‫�إىل �إيطاليا‪ .‬هذه اللعبة التاريخية ما زالت م�ستمرة‬
‫فا�ضل العزاوي فقد ترجمتُ له ديوانني‪ .‬املهم �أنني‬ ‫حتى الآ ن‪ .‬من هنا �أ�شعر �أنني دائم ًا يف املكان الذي‬
‫مطلع ب�شكل جيد على �شعر ال�شعراء الذين ترجمتهم‬ ‫هجرتُ منه‪ .‬وي�صبح التاريخ نف�سه طريق ًة يف العثور‬
‫يف كتب‪ ،‬مث ًال فا�ضل �أو �سعدي يو�سف �أو �أجمد نا�رص‬ ‫على مكان خا�ص بك‪.‬‬
‫�أما‪� ،‬أدوني�س ف�صعبٌ ‪ ،‬وم�رشوعه كبري‪ ،‬و�أنا ما زلتُ مل‬ ‫‪ vv‬هل املكان‪� ،‬إذاً‪ ،‬جمرد ا�ستعارة؟ و�إىل �أي حد‬
‫�أ�ستوعب كتاب (الكتاب)‪.‬‬ ‫تعتربه حقيقي ًا يف الق�صيدة؟ هل هو حيلة �شعرية؟‬
‫‪� vv‬أنت ترتجم كتاب «الكتاب»؟‬ ‫و�أنت ذكرت الإ �سكندرية وقرطاج وبنغازي‪ ،‬و�سواها؟‬
‫ال‪ ،‬هي خمتارات تغطي �أكرث من ن�صف قرن من م�سرية‬ ‫ال‪ ،‬املكان‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬يجب �أن يوحي بحالة �شعرية‪ ،‬ال‬
‫�أدوني�س ال�شعرية‪ .‬ال�شعر ال يتغري كثرياً‪ ،‬وجوهرياً‪ ،‬من‬ ‫بحيلة �شعرية‪ ،‬و�أق�صد مث ًال �أنني حني �أ�ستذكر بنغازي‬
‫جيل �إىل جيل‪ ،‬ونحن ل�سنا �إزاء �سجل مدين‪ .‬وعودة‬ ‫يف وقت الغروب‪� ،‬أو يف يوم اجلمعة‪� ،‬أ�شع ُر ب�شي ٍء من‬
‫�إىل �س�ؤالك‪ ،‬ت�ستطيع �أن تقول �أين مطّ لع �شيئ ًا ما‪ ،‬و�أقر�أ‬ ‫الي�أ�س‪ ،‬حقيقة‪ ،‬و�أنا ذكرتُ يف �إحدى ق�صائدي �أن‬
‫ما يُكتب يف جريدة (احلياة) ويف (القد�س العربي)‬ ‫�صباحات يوم اجلمعة كانت متلأ ين باحلزن‪ .‬كنتُ‬
‫و(ال�سفري الثقايف) بالطبع‪ ،‬ولكنني ال �أ�ستطيع �أن �أقول‬ ‫�أ�شع ُر �أننا ن�صل �إىل حفرة من الزّمن‪ ،‬ونقع فيها‪.‬‬
‫�أنني ملم مبا فيه الكفاية‪.‬‬ ‫‪ vv‬ما عالقتك بالدين؟‬
‫‪� vv‬أنت مطلع على اجلدل الدائر بني ال�شعر املوزون‬ ‫عالقتي بالدين‪ ،‬تنح�رص يف الإ ح�سا�س بالكون‪،‬‬
‫واملقفى‪ ،‬وبني ق�صيدة النرث اخلالية من الوزن‪ ،‬لكن‬ ‫وب�صغر الإ ن�سان‪ ،‬وكرب الب�رشية‪ .‬هذه الأ �شياء �أخذتُها‬
‫‪164‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ vv‬هل لديك نظرية �أو فل�سفة خا�صة بالرتجمة‪� ،‬أم �أن‬ ‫الغنية بالإ يقاع‪ .‬ما مفهوم الإ يقاع عند خالد مطاوع‪،‬‬
‫الن�ص هو الذي يفر�ض منط َقهُ؟‬ ‫وكيف يرتجم نف�سه يف ق�صيدته الإ نكليزية؟‬
‫�أحد التحديات التي واجهتني يف ترجمة �أجمد نا�رص‬ ‫ت�ستطيع �أن تقول �أن �أذين االنكليزية �أقوى من �أذين‬
‫مث ًال هو �أنه يكتب ق�صائد الكتلة يف ديوانه (حياة‬ ‫العربية‪ ،‬ف�أنا �أحيان ًا ال �أ�سمع �إيقاع الق�صيدة العربية‪،‬‬
‫ك�رسد متقطّ ع)‪ .‬وثمة لعب على اجلملة العربية بحيث‬ ‫بقدر ما �أ�سمع الإ يقاع الذي ين�سجم معي‪ .‬خذ �شاعراً‬
‫تبدو طويلة جداً‪ ،‬وكان ال ب ّد من ك�رسها‪ ،‬وتقطيعها‪.‬‬ ‫مثل �سعدي يو�سف‪� ،‬إنه يكتب التفعيلة غالباً‪ ،‬لكنني مل‬
‫ذكرتُ هذا لأ قول �إنه ال توجد فل�سفة خا�صة بي‪ ،‬وال‬ ‫�أبحث له عن �أوزان ‪ ،meters‬يف الإ نكليزية‪� .‬أنا �شخ�صي ًا‬
‫ت�ستطيع �أن تقول �أنك تريد �أن تتبع فل�سف ًة حمدّدة‪.‬‬ ‫�أكتب الق�صيدة على غرار تيد هيوز ولي�س روبرت‬
‫�أ�ؤمن بالنظرية الرباغماتية‪ ،‬فاحللول‪ ،‬يف الرتجمة‪،‬‬ ‫فرو�ست‪� ،‬أي �أكتب ال�شعر احلرّ‪ ،‬وهذا يعني �أن الإ يقاع‬
‫ت�أتي من خالل التجربة‪.‬‬ ‫مه ّم جداً بالن�سبة يل‪ .‬وقد ترجمتُ �سعدي يو�سف بروحٍ‬
‫‪ vv‬دعنا نتحدث ب�شكل �أو�ضح‪ .‬هل الحظتَ فرق ًا مث ًال‬ ‫«رمتي ٍة» ولكن لي�س بروحٍ وزنية‪.‬‬
‫بني ترجمة ق�صيدة �سعدي يو�سف وق�صيدة �أدوني�س‪،‬‬ ‫‪ vv‬الوزن ال يرتجم ولكن الإ يقاع ميكن �أن يتحوّل؟‬
‫وهل اتبعتَ مقاربتني خمتلفتني؟‬ ‫�أنا قمتُ بذلك‪ ،‬وقر�أتُ مع �سعدي القراءة الأ ولية‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬ولكن يُه ّي أ� يل‪� ،‬إىل ح ّد ما‪� ،‬أن عفويتي‪ ،‬كمرتجم‪،‬‬ ‫وحاولت �أن تكون يف نف�س عدد الدقّات �أو نف�س عدد‬
‫مهمّة جداً‪� .‬أنا �أرغب ب�أن �أ�صبح �شاعراً خمتلف ًا حني‬ ‫املقاطع املوجودة يف البيت تقريباً‪ .‬فالإ يقاع �إذاً‬
‫�أترج ُم ل�شاع ٍر � آخر‪ ،‬و�رسعان ما �أ�صبحُ مرتجم ًا خمتلف ًا‬ ‫موجود يف االنكليزية‪ ،‬وميثل حركة ما يف مقطع‬
‫ن�ص خمتلف‪ .‬وعندما تتعامل مع‬ ‫حال الدخول يف ٍ‬ ‫طويل �أو ق�صري‪ ،‬وفق ًا لفكرة جتذب تلك الدقات‪ ،‬وتعك�س‬
‫خمتارات �أدوني�س‪ ،‬وخا�صة الق�صائد الطويلة يف‬ ‫�أفكاراًَ‪ ،‬ناهيك عن وقفات ال�صمت‪ ،‬و�أنا منتبه لهذه‬
‫ديوانه (تنب أ� �أيها الأ عمى) مثالً‪ ،‬يجب �أن تكون مرناً‪،‬‬ ‫العملية ب�شكل غريزي‪ ،‬عفوي‪ ،‬ولي�س ب�شكل مدرو�س‪،‬‬
‫وال تخاف على �صورتكَ ك�شاعر‪ ،‬ف�أنا ال �أخاف على‬ ‫ويف �شعري‪ ،‬يهمّني جداً قراءة الق�صيدة ب�صوت عايل‪،‬‬
‫�صورتي ك�شاعر عندما �أترجم‪.‬‬ ‫لت�ساعدين يف الكتابة �أو الرتجمة‪.‬‬
‫‪ vv‬ثمة من يقول �إن �سعدي يو�سف ترجم (ويتمان)‬ ‫‪� vv‬أحيان ًا جتد خل ًال �إيقاعي ًا فتعي ُد كتابة املقطع‪،‬‬
‫بالطريقة نف�سها التي ترجم بها (ريت�سو�س)‪ ،‬وكانت‬ ‫ولكن ثمة ق�صائد تخفي دالالتها �أكرث مما تُف�صِ حُ عنها‪.‬‬
‫نربته ال�شعرية وا�ضحة يف الرتجمتني‪� ،‬أال تخ�شى �أن‬ ‫كيف تتعامل‪ ،‬كمرتجم‪ ،‬مع تلك الفجوات �أو ذاك التواري‬
‫يطغى �صوتك ك�شاعر على الن�ص الذي ترتجمه؟‬ ‫الدائم للمعنى؟‬
‫رمبا هذا يحدث‪ ،‬حني ت�صبح �شاعراً مه ّماً‪ ،‬رمبا‪.‬‬ ‫ال �أح ّب ُذ مقولة «الرتجمة خيانة»‪ .‬بالعك�س‪ ،‬الرتجمة‬
‫و�سعدي يو�سف‪ ،‬حني ترجم ويتمان مل يخرت قدراً كافي ًا‬ ‫�أمانة كربى‪ ،‬والرتجمة بالن�سبة يل هي نفخة الروح‬
‫من الن�صو�ص‪ ،‬يف احلقيقة‪ ،‬و�شعرت �أنها خمتارات‬ ‫يف الطني‪ ،‬فهي �صعبة و�أنت حتاول‪ ،‬كما يقول الناقد‬
‫�صغرية تلك التي �أجنزها‪ ،‬و�أعتقد لو �أنّ �سعدي �صرب‬ ‫هارولد بلوم‪� ،‬أن ت�سيء قراءة الن�ص بقدرٍ كب ٍري من‬
‫مع ويتمان‪ ،‬لكانت النتيجة �أف�ضل‪ .‬واحدة من �أهم‬ ‫االنتباه‪� .‬أنا مع مقولة بلوم هذه حول مفهوم القراءة‬
‫الن�صائح التي و�صلتني ك�شاعر هي �أنك يجب �أن ال‬ ‫القوية ال�ضالة‪� .‬إن وجود ما ي�سمّيه بلوم قلق الت�أثر‪،‬‬
‫جت َد �صوتك �أبداً‪� .‬أنا يف احلقيقة ال �أخاف‪ ،‬والدواوين‬ ‫بني املرتجم وال�شاعر‪ ،‬حالة �صحية‪ ،‬ف�أنتما يف الن�ص‬
‫التي �أترجمها‪ ،‬تتغري‪ ،‬وم�شكلتي �أنني ما زلتُ �أنوّع‬ ‫الواحد نف�سه‪ ،‬لكنك‪ ،‬كمرتجم‪ ،‬حتاول �أن جتعله ملكك‪.‬‬
‫و�أ�ستطيع �أن �أنتقل من �أ�سلوب �إىل �أ�سلوب ب�شكل �رسيع‪.‬‬ ‫هو لك ولي�س لك‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪� .‬إنّ خلق التناغم‬
‫ك�شاعر‪� ،‬أنا قلق �أ�سلوبياً‪ ،‬ورمبا وجودي ًا �أي�ضاً‪� .‬أنا‬ ‫واملوازاة بني لغتك‪ ،‬ولغة الن�ص الأ �صلي‪ ،‬هو الرّهان‪.‬‬
‫ل�ستُ يف حالة وعي مق�صودة‪� ،‬أثناء الرتجمة‪ ،‬و�أترك‬ ‫هي رق�صة طويلة‪ ،‬يحاول االثنان من خاللها االقرتاب‬
‫�شيئ ًا للعفوية‪ ،‬و�إال تُقتَلُ الق�صيدة قيد الرتجمة‪.‬‬ ‫كثرياً من بع�ضهما‪ ،‬لكي يرق�صان معاً‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‬

‫ابزمي ماليوي مك�سو باملينا ال�سوداء‪ ،‬الطول‪� 17.7 :‬سنتيمرتا‬

‫‪166‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املينا‪..‬‬
‫بهجة ال�صياغة الإ�سالمية‬
‫�سعـــد اجلـــادر‬
‫كاتب وباحث من العراق‬

‫�إنّ ماكتب عن ا�ستخدام املينا يف تو�شية امل�صاغ الإ �سالمي نادر وقليل؛ اذ مل‬
‫يحظ هذا الفن الرفيع‪ ،‬الذي يدعم وينوّع القوّة التعبرييّة للم�صاغ بدرا�سات‬
‫توازي �ألقه وجمالياته‪.‬‬
‫لقد وجد منذ القدم �أنّ امل�صاغ من املعادن النفي�سة يكت�سب جاذبية متميزة‬
‫ان زخرف �أو طعم بالأ حجار الثمينة �أو و�شح باملينا‪ .‬فاملينا زينة ال�صياغة‬
‫وبهجتها؛ وكان ابتكارا �شيّقا وتقنية فذّة عوّ�ضت امل�صاغ عن �ألوان الأ حجار‬
‫الكرمية والثمينة وثقلها و�أ�سعارها؛ اذ ت�شع املينا امللونة على خلفية املعدن‬
‫النفي�س ك�أنها جواهر حقيقية لكنها من �صنع االن�سان‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الثالث ( ‪ 1792-1840‬ق‪.‬م‪ ).‬املحفوظة يف املتحف‬ ‫ويظهر تاريخيا ان طالء امل�صاغ باملينا جاء عو�ضا عن‬
‫امل�رصي يف القاهرة‪ ،‬حيث ا�ستخدم ال�صائغ املينا‬ ‫تطعيمه باالحجار؛ ففي الثقافات القدمية‪ ،‬كامل�رصية‬
‫بالبارد‪� ،‬أي على �شكل �رشائح من الزجاج �أو االحجار‬ ‫واليونانية والفار�سية‪ ،‬كانت املينا ت�ستخدم يف زينة‬
‫الثمينة مثل العقيق االحمر والالزورد والفريوز طعّم‬ ‫احللي �أحيانا دون �صقلها لكي يكت�سب مظهرها وقع‬
‫بها امل�صوغة مب�ستوى �سطحها فتظهر وك�أنها مزينة‬ ‫االحجار الثمينة كالالزورد والفريوز؛ ثم �أ�صبح هذا‬
‫باملينا امللونة‪.‬‬ ‫الفن جميال يج�سد ذاته خا�صة وانه ميكن �إعداد ت�شكيلة‬
‫�أما بالن�سبة ال�ستخدام املينا يف زينة امل�صاغ فال يزال‬ ‫متنوعة من �ألوان املينا و ن�رشها على �سطح التحفة‪.‬‬
‫موطن اخرتاعها غري م�ؤكد‪ .‬وقد �أ�شار باحثون اىل �أ�صول‬ ‫كما انّ مامييّز املينا عن التطعيم باالحجار هو تنوّع‬
‫ومواقع خمتلفة‪ ،‬لكنهم مل يتفقوا على مكان االبتكار‬ ‫االلوان امل�ستخدمة وثباتها على املعدن؛ وكذلك الفرق‬
‫بالتحديد‪ ،‬فرتكّ زت االقرتاحات على م�رص �أو اليونان‬ ‫الكبري يف ال�سعر‪ :‬فثمن املينا �أقل بكثري من ثمن االحجار‬
‫�أو ال�صني �أو الهند �أو ال�شام �أو القفقا�س �أو ايران‪ ،‬ويف‬ ‫الكرمية و�شبه الكرمية‪ .‬وعلى خالف املينا التي تلت�صق‬
‫�أوربا ذكرت ارلندة‪ .‬ومن امل�ؤرخني من قال باحتمال‬ ‫ع�ضويا بامل�صوغة‪ ،‬فان احلجر معرّ�ض دائما لل�سقوط‬
‫وجود عدّة مراكز منف�صلة ومتباعدة ا�ستخدمت املينا‬ ‫؛ اىل جانب اغراء ال�صاغة لنزع االحجار عن امل�صوغة‬
‫ب�شكل متواز دون ان يت�أثر �أحدها باالخر‪ .‬و باعتبار‬ ‫عند �إذابة معدنها النفي�س ل�شتى الغايات‪ .‬كما ترفع‬
‫ان املينا مادة زجاجية لذا فان الثقافات القدمية التي‬ ‫املينا قيمة امل�صوغة وتنوّع �صورتها الفنية وتركيبها‬
‫عرفت املعادن و�صناعة الزجاج رمبا تعلمت تزيني‬ ‫اللوين؛ وذلك حتى بالن�سبة للمينا ال�سوداء التي تعك�س‬
‫�سطوح امل�صوغات باملينا امللونة واملينا ال�سوداء‪.‬‬ ‫براعة ال�صاغة يف احل�صول على فعل الت�ضاد بني‬
‫وبالن�سبة للفنون اال�سالمية فانه مل تدر�س بعد �أ�صول‬ ‫اللونني الف�ضي واال�سود والعالقة املتبادلة بني امللء‬
‫وبداية وتطور ا�ستخدام املينا يف تو�شيح امل�صاغ‪،‬‬ ‫والفراغ‪.‬‬
‫انّ من �أقدم مناذج وقع املينا هي احللي امل�رصية‬
‫لكن امل�سلمني خلّفوا حتفا �صياغية مزينة باملينا‬
‫التي ترجع اىل اال�رستني الثانية ع�رشة والثالثة ع�رشة‬
‫تعود ملختلف الفرتات التاريخية واالقاليم اجلغرافية‪.‬‬
‫(‪ 1660 -2000‬ق‪.‬م‪ ،).‬ومنها �صدرية �أمينمحت‬
‫وترجع فرادة وندرة التحف ال�صياغية املطعمة باملينا‬
‫اىل اندثار امل�صاغ اال�سالمي نتيجة عمليات الإ ذابة‬
‫الدورية للمنتجات ال�صياغية‪.‬‬
‫رمبا تكون كلمة املينا العربية مقتب�سة من الفار�سية‬
‫�أو الهندية اللتني ت�ستخدمان نف�س الكلمة‪ .‬ويف الرتاث‬
‫اال�سالمي هناك املينا �أو التزجيج �أو معادن مزينة‬
‫بالزجاج‪ ...‬كتعابري تعني املينا انطالقا من املادة‬
‫اال�سا�سية التي تكوّنها‪ :‬فقد ذكرها اجلاحظ والهمداين‬
‫با�سم املينا‪ ،‬وو�صفها الو�شّ اء بالف�صو�ص‪ ،‬كما جاءت‬
‫عند الو�شّ اء والقا�ضي الر�شيد واجلزنائي با�سم الزجاج‬
‫�أو التزجيج؛ و�أ�شار ابو احل�سن علي بن يو�سف احلكيم‬
‫اىل املينا ال�سوداء با�سم «املنيّل»‪.‬‬
‫واذا كانت املينا متوفرة بي�رس يف الوقت احلا�رض‬
‫و�أ�سعارها لي�ست باهظة فان احلال مل يكن كذلك يف‬
‫املا�ضي‪ ،‬اذ كانت املينا من املواد النادرة وكان‬
‫ال�صاغة يح�ضرّ ون م�ساحيقها ب�أنف�سهم وكان ذلك من‬
‫اال�رسار املهمة لل�صنعة‪.‬‬
‫ويكاد يقت�رص فن املينا يف بع�ض االقاليم كالعراق‬ ‫�صحن هندي مزيّن بزخارف نباتية وجنميّة مو�شاة باملينا امللونة‪ ،‬القطر‪� 20.8 :‬سنتيمرت‬
‫والقفقاز على املينا ال�سوداء؛ بينما تو�شّ ح ف�ضة‬
‫‪168‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جمموعة من احللي الف�ضية وجدت مع �سبائك من‬ ‫القبائل يف اجلزائر باملينا امللونة دون ال�سوداء؛ يف‬
‫الف�ضة وم�سكوكات بويهية و�سامانية وغزنوية م�ؤرخة‬ ‫حني ي�ستخدم �صاغة ايران واملغرب املينا امللونة‬
‫يف الفرتة بني ‪ 1040 -949‬للميالد ي�ضم معلّقات‬ ‫وال�سوداء‪.‬‬
‫و قطع لزينة االحزمة و�أقراط و�أ�ساور وخوامت وعلبا‬ ‫ان �أقدم ا�شارة معروفة ال�ستخدام املينا يف فنون‬
‫حرزيّة‪ ،‬وبع�ض هذه اللقى مذهب ومزين بن�صو�ص‬ ‫امل�سلمني ذكرها زكي حممد ح�سن (فنون اال�سالم‪،‬‬
‫كتابية و�أ�شكال حيوانية ومطعم باملينا ال�سوداء‪.‬‬ ‫‪� ،1948‬ص ‪ ،)510-508(.‬عن ابريق يف دار الآ ثار‬
‫‪.)James Allan, Islamic Jewellery and Archaeology, Spink & Son, 1986, P.7 - 8‬‬ ‫العربية (املتحف اال�سالمي يف القاهرة حاليا) ين�سب‬
‫وعن �أبي الريحان البريوين (تويف �سنة ‪ 430‬للهجرة)‬ ‫اىل اخلليفة االموي مروان الثاين (حكم بني ‪-744‬‬
‫يف (كتاب اجلماهر يف معرفة اجلواهر‪� ،‬ص‪-224 .‬‬ ‫‪ 749‬للميالد) ويحمل زخارف نباتية وحيوانية رمبا‬
‫‪ )225‬باب « يف ذكر املينا»‪ ،‬ا�ستعر�ض فيه املواد‬ ‫كان بع�ضها مزينا باملينا‪.‬‬
‫املكونة للمينا وخوا�صها و�ألوانها وا�ستخداماتها‪.‬‬ ‫ويف مقالة اجلاحظ (‪ 255 -160‬للهجرة)‪( ،‬بني‬
‫ويف متحفي املرتوبوليتان يف نيويورك وماير يف‬ ‫�أن�صار الكتب و�أن�صار ال�شعر‪ ،‬كتاب احليوان)‪ ،‬ذكر‬
‫القد�س حلي ايرانية منها �أ�ساور وحروز وخوامت‬ ‫ملواد متنوعة منها الزجاج والف�سيف�ساء واملينا‪.‬‬
‫وعنا�رص لقالئد و�أحزمة ترجع اىل الفرتة بني القرنني‬ ‫وعن الو�شّ اء (‪ 325 - 246‬للهجرة ‪939 - 860 /‬‬
‫احلادي ع�رش والثالث ع�رش للميالد بع�ضها مزيّن‬ ‫للميالد) يف كتابه (املو�شّ ى‪� ،‬أو الظرف والظرفاء‪،‬‬
‫باملينا ال�سوداء‪.‬‬ ‫�ص(‪ )187‬انه مل يكن م�ستح�سنا ملتظرّفات الن�ساء يف‬
‫ولنف�س الفرتة يعر�ض كتاب (‪Seven Thousand Years of Jewell‬‬ ‫و‬ ‫املجتمع العبا�سي التختم باملينا والعقيق والف�ضة‪...‬‬
‫‪ )lery, 1989, p. 215‬ثالث حلي ايرانية منها علبتان حرزيّتان‬ ‫الن ذلك كان من لب�س الرجال واالماء‪.‬‬
‫منفذتان بالف�ضة املذهبة ومعلّقة من الذهب وكلها‬ ‫وي�شري الهمداين (‪ 360 -280‬للهجرة) يف (كتاب‬
‫مزين باملينا ال�سوداء‪.‬‬
‫اجلوهرتني‪ ،‬باب ق�سوم الكواكب‪� ،..‬ص‪ ،)67 .‬بان‬
‫ومن نف�س التاريخ تعود جرّة ايرانية من الف�ضة‬
‫للمريخ املينا االخ�رض‪.‬‬
‫املذهبة واملزينة باملينا ال�سوداء حمفوظة يف متحف‬
‫ويذكر القا�ضي الر�شيد بن الزبري من القرن اخلام�س‬
‫الفن اال�سالمي بربلني‪.‬‬
‫ويعر�ض كتاب (‪Rachel Hasson, Early Islamic Jewellery, 1989,‬‬
‫للهجرة يف كتابه (الذخائر والتحف‪� ،‬ص‪ ،)38 .‬انّ قطر‬
‫‪ )P.95‬حزاما �سوريا من الذهب يرجع اىل نهاية القرن‬ ‫الندى بنت �أبي اجلي�ش خمارويه �أهدت اىل املعت�ضد‬
‫باهلل يف يوم نريوز من �سنة ‪ 282‬للهجرة هدية ثمينة‬
‫كان بينها ع�رشون �صينية ف�ضة وع�رشون �صينية‬
‫ذهبا « جمري بزجاج»‪.‬‬
‫ويف كتاب (‪Rachel Ward, Islamic Metalwork, 1993, p. 27-28 and‬‬

‫‪ ) p. 54-55‬عر�ض للقى ف�ضية متنوعة ترجع اىل الفرتة‬


‫بني القرنني العا�رش واحلادي ع�رش للميالد‪ ،‬بع�ضها‬
‫مذهّ ب ومزيّن باملينا ال�سوداء‪� ،‬أهمها جمموعة من‬
‫االواين حتمل ا�سم �صاحبها االمري �أبو العبا�س والكني‬
‫بن هارون‪.‬‬
‫ويذكر نا�رص خ�رسو (‪)1061 -1003 / 453 - 394‬‬
‫يف كتابه (�سفرنامة) وجود �ستة حماريب يف الكعبة‬
‫م�صنوعة من الف�ضة ومزينة برثاء بالذهب واملينا‬
‫ال�سوداء‪.‬‬
‫ويف مكت�شفات الكنز الذي عرث عليه عام ‪ 1900‬يف‬
‫حزام ثقيل من القفقاز مذهب ومزخرف ويحمل بقايا لتو�شية باملينا ال�سوداء‬ ‫موقع ‪ Chimkent‬قرب نهر ‪ Sayram-Su‬يف جنوب كازاخ�ستان‬
‫والذي ن�رش عنه ‪ Spitsin‬باللغة الرو�سية عام ‪1906‬‬
‫‪169‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الفريوزي بعدة �أطياف‪ ،‬وكذلك االخ�رض الزمردي‬ ‫الثالث ع�رش وبداية القرن الرابع ع�رش للميالد مزخرف‬
‫ال�شفّاف واالبي�ض املعتم الذي ي�ستخدم بفعالية قويّة‬ ‫بوحدات نباتية ون�صو�ص كتابية ن�سخية وعليه � آثار‬
‫كخلفية لبقية الأ لوان‪ .‬فيما زيّنت بع�ض امل�صوغات‬ ‫تو�شية باملينا ال�سوداء‪.‬‬
‫باالزرق الالزوردي فقط ‪ .‬وقد مار�س الفر�س تقنيّات‬ ‫وقد �أبدع ال�صفويون (‪1722 -1501‬م) باملينا‬
‫املف�ص�صة واملحفورة واملر�سومة واملينا‬ ‫ّ‬ ‫املينا‬ ‫املر�سومة على امل�صاغ والتي كانت �أحيانا تناف�س‬
‫ال�سوداء (‪ .)1‬و�أجود حتف املينا نفّذها �صاغة �أ�صفهان‬ ‫املنمنمات املر�سومة على العاج‪ .‬وعرف بالط �شاه‬
‫وبهبهان بالقرب من �شرياز‪.‬‬ ‫عبا�س ال�صفوي (‪1629 – 1587‬م) بزينته بامل�صاغ‬
‫ازدهرت فنون ال�صياغة يف العهد الفاطمي (‪-297‬‬ ‫من املعادن النفي�سة و�أثاثه املحلّى باملينا‪ ،‬كما‬
‫‪567‬هـ‪1171 -909 /‬م)‪ ،‬وقد و�صف امل�ؤرخون‪،‬‬ ‫و�شحت باملينا االدوات ال�شخ�صية مثل قب�ضات و‬
‫وخا�صة املقريزي يف خططه‪ ،‬عن �شيوع ا�ستخدام‬ ‫�أغمدة ال�سيوف واخلناجر‪ ،‬باال�ضافة اىل العلب‪.‬‬
‫الف�ضة املطعمة باملينا يف زمانه وانت�شار تقنيتها‬ ‫وتوا�صلت فنون املينا يف ظل اال�رسة القجاريّة‬
‫يف م�رص‪ .‬وعن ما �أخرج من خزائن ق�رص امل�ستن�رص‬ ‫(‪1925 -1796‬م)‪ ،‬حيث و�شحت باملينا احللي‬
‫باهلل يف �سنتي ‪ 461 – 460‬للهجرة‪ ،‬عندما ا�ستبيحت‬ ‫وال�صحاف واال�سلحة البي�ضاء بدعمها بزخارف كتابية‬
‫دولته‪ ،‬نفائ�س كثرية منها م�صوغات مو�شحة باملينا‬ ‫ووحدات نباتية وهند�سية و�أ�شكال احليوانات والطيور‪،‬‬
‫«املنقو�شة بغرائب النقو�ش وال�صنعة «‪ ،‬ومنها « طاوو�س‬ ‫ا�ضافة اىل ال�شخو�ص االدمية‪ ،‬ومن ذلك الت�أكيد على‬
‫ذهب مر�صع بنفي�س اجلوهر‪ ،‬عيناه من ياقوت �أحمر‪،‬‬ ‫جمال الن�ساء الذي ينعك�س بجاذبية الوجه والعيون‬
‫وري�شه من الزجاج املينا املجري بالذهب على �ألوان‬
‫ال�سود الكحيلة واالفواه ال�صغرية‪ ،‬حتى �أ�ضحت هذه‬
‫ري�ش الطاوو�س»‪.‬‬
‫امل�صوغات وثائق ماديّة عن �أذواق النا�س ومو�ضات‬
‫ويف متاحف‪ :‬اال�سالمي يف القاهرة واملرتوبوليتان يف‬
‫خا�صة وان املينا القجارية املر�سومة‬ ‫�أزيائهم وحليهم‪ّ ،‬‬
‫نيويورك وماير يف القد�س وبناكي يف �أثينا جمموعة‬
‫حلي فاطمية من م�رص و�سورية منها �أ�ساور وخالخل‬ ‫عك�ست قدرات �أبرز الر�سامني � آنذاك‪.‬‬
‫ودبابي�س �شعر وعلب حرزية ومعلّقات و�أقراط مزخرفة‬ ‫ويذكر ‪ Leo Bronstein‬يف بحثه عن املينا يف الفنون‬
‫باملينا امللونة؛ ومن �أبرزها معلّقة من الذهب على‬ ‫الفار�سية �ضمن كتاب ( ‪ )Survey of Persian Art.Pope A.U‬ب�أن‬
‫�شكل هالل يتو�سطه طريان متناظران منفذين باملينا‬ ‫�ألوان املينا التي ا�ستخدمها ال�صاغة الفر�س متعددة‬
‫املف�ص�صة ذات االلوان االحمر والبنّي واالزرق على‬
‫ّ‬ ‫�ضمّت �أطيافا ورديّة تتدرّج برقّة وال تكون �صافية بل‬
‫خلفيّة �سوداء‪.‬‬ ‫لها ظالل زرقاء‪ ،‬ا�ضافة اىل االزرق امللكي واالزرق‬
‫(‪Marilyn Jenkins and Manuel Keene, Islamic Jewellery In The‬‬

‫‪.)Metropolitan Museum Of Art, 1982, p. 81‬‬

‫وتوا�صلت فنون املينا لدى املماليك‪ ،‬ومن حتفهم‬


‫وعاء حمفوظ يف املتحف اال�سالمي يف القاهرة يعود‬
‫اىل عهد ال�سلطان النا�رص حممد بن قالوون (‪-709‬‬
‫‪741‬هـ‪1341 – 1310 /‬م) م�صنوع من الربونز‬
‫املزين باملينا ال�سوداء واملزخرف بن�صو�ص كتابية‬
‫وفروع نباتية وحلزونية‪ .‬ويورد �أحمد تيمور با�شا يف‬
‫كتابه (املهند�سون يف الع�رص اال�سالمي‪� ،1979 ،‬ص‪.‬‬
‫‪ )68‬ا�سم‪� :‬أبو جتز�أة جواد بن �سليمان بن غالب اللخمي‬
‫(تويف �سنة ‪ 756‬للهجرة) الذي « بلغ الغاية يف نق�ش‬
‫اخلوامت واجراء املينا عليها»‪.‬‬
‫وبالن�سبة للمينا العثمانية يذكر انه عقب انت�صار‬
‫العثمانيني على ال�صفويني عام ‪1514‬م‪ ،‬وكما فعل‬ ‫علبة عثمانية مزينة باملينا ال�سوداء‪ ،‬الطول‪� 9.5 :‬سنتيمرت‬
‫العثمانيون يف م�رص و�سورية‪ ،‬فقد �أ�رسوا الفنانني‬
‫‪170‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫ومهرة ال�صناع و�أر�سلوهم اىل اال�ستانة‪ ،‬فطعّم القادمون خالل القرنني الثامن ع�رش والتا�سع ع�رش‪.‬‬
‫(‪Geza Feher, Craftsmanship in Turkish – Ruled Hungary, 1975, p. 26‬‬
‫فنون العثمانيني بالطراز ال�صفوي‪ .‬وكان يخدم يف‬
‫‪and (Saad AL-Jadir, Arab and Islamic Silver, 1981, P. 23) and‬‬
‫م�شاغل بالط العثمانيني يف القرن ال�ساد�س ع�رش �أكرث‬
‫(‪.)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P.149‬‬
‫اخت�ص بع�ضهم بالتو�شية باملينا‬ ‫ّ‬ ‫من مائة فنان �صائغ‬
‫ومن �أروع مناذج املينا اال�سالمية تلك التي كانت تزين‬
‫امللونة واملينا ال�سوداء‪.‬‬
‫بالط تيمور لنك (‪ 1405 -1336‬للميالد) ‪ ،‬ومنها‬
‫ويذكر ‪ Yanni Petsopoulos‬يف كتابه (‪Tulips, Arabesque and Turb‬‬ ‫و‬
‫مكتبه الذهبي املو�شى باملينا الزرقاء واخل�رضاء‪.‬‬
‫‪ )ban, p. 44‬طا�سة من الف�ضة املذهبة واملزيّنة باملينا‬
‫وقد زينت الزخارف النباتية يف حلي �أوزبك�ستان باملينا‬
‫ال�سوداء حتمل تاريخ ‪ 1577( 985‬للميالد)‪.‬‬
‫امللونة وباملينا ال�سوداء‪ .‬ومن �أهم مراكز �صياغة‬
‫وي�ستعر�ض كتاب (‪Garo Kurkman, Ottoman Silver Markks, 1966, P.‬‬
‫املينا االوزبكية مدينتي بخارى وخيوة‪ .‬وكانت �ألوان‬
‫‪ )226 and P. 238 - 251‬مناذج متنوعة من تراث املينا ال�سوداء‬
‫املينا امل�ستخدمة يف بخارى قليلة‪ ،‬وتكون عادة بلون‬
‫العثمانية يف فرتة ازدهارها ابان القرن التا�سع ع�رش‬
‫�أخ�رض �أو �أزرق‪ ،‬كما ا�ستخدم ال�صاغة �أحيانا �ألوانا‬
‫مما كان ي�صنع يف عدد من املواقع ال�صياغية مثل «‬
‫�أخرى كالبنّي واالحمر واال�صفر‪.‬‬
‫(‪.)Johannes Kalter and Margarita Pavoli, Uzbekistan, 1977, p. 294 – 310‬‬ ‫وان»‪.‬‬
‫و�شهد القرن التايل تعاظم ا�ستخدام املينا وتنوع �أمّ ا يف الهند فقد برّزت فنونها ال�صياغيّة با�ستخدام‬
‫تقنياتها‪ ،‬من ذلك �صندوق �أقالم من القرن ال�سابع املينا «ميناكاري»‪ .‬ورغم وجود هذه التقنية يف‬
‫ع�رش حمفوظ مبتحف طوبقبو�رساي با�سطنبول مزين امل�صنوعات الهندية ال�سابقة لال�سالم كما يف بع�ض‬
‫باملينا البي�ضاء ومطعم بالياقوت والزمرد‪ .‬كما يذكر حتف املركز البوذي يف تاك�سيال‪ ،‬غري ان انت�شار املينا‬
‫�أرن�ست كونل يف كتابه (الفن اال�سالمي‪� ،1966 ،‬ص‪ .‬يف ظل حكم املغول امل�سلمني �شجّ ع ال�صاغة وطوّر‬
‫‪ )179‬انه يف القرن ال�سابع ع�رش كانت �أغماد وقب�ضات مهاراتهم اىل احلد الذي كان مبقدورهم ر�سم منمنمة‬
‫�أو �صورة كاملة باملينا على قطعة �صغرية من الف�ضة‬ ‫اخلناجر الرتكية تزخرف باملينا ال�شفّافة‪.‬‬
‫وهناك معلّقة و قفل حزام من الف�ضة العثمانية املزينة �أو الذهب تظهر الطيور واالزهار واال�شجار و�أوراقها‬
‫باملينا امللونة يف كتاب (�سعد اجلادر‪ ،‬زخرفة الف�ضة ب�ألوانها الطبيعية‪ .‬وكانت التفا�صيل دقيقة ومتقنة‬
‫واملخطوطات عند امل�سلمني‪� ،1989 – 1988 ،‬ص‪ .‬حتى ليت�صوّر امل�شاهد بانها �صور زيتية‪.‬‬
‫‪ 204‬و �ص‪ .)211 .‬ومتثل املعلّقة امل�شار اليها مثاال لقد قدّم املغول لقامو�س �صياغة املينا العاملية حتفا‬
‫نادرا يف م�صاغ املينا اال�سالمية‪ ،‬فهي حلية على �شكل �ساحرة تهب املتلقي لذّة ب�رصيّة فريدة ناجمة عن‬
‫وردة مطرّزة باال�سالك الف�ضية الرقيقة ومو�شاة باملينا‬
‫امللونة ‪ Plique- a- jour‬وترجمتها احلرفيّة‪� :‬ضوء النهار؛ اذ‬
‫ال ت�ستند املينا يف هذه التقنية على خلفيّة املعدن بل‬
‫بطريقة ت�شدّها حواجز �أ�سالك التطريز‪ ،‬فتهب احللية‬
‫وقعها اجلمايل عند تعري�ضها لل�ضوء‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫الت�ضاد احلا�صل بني الف�ضة و�ألوان املينا ال�شفافة‪.‬‬
‫و�شهد القرن التايل تعاظم ا�ستخدام املينا وتنوع‬
‫تقنياتها‪ ،‬من ذلك �صندوق �أقالم من القرن ال�سابع ع�رش‬
‫حمفوظ مبتحف طوبقبو�رساي با�سطنبول مزين باملينا‬
‫البي�ضاء ومطعم بالياقوت والزمرد‪ .‬كما يذكر �أرن�ست‬
‫كونل يف كتابه (الفن اال�سالمي‪� ،1966 ،‬ص ‪ )179‬انه‬
‫يف القرن ال�سابع ع�رش كانت �أغماد وقب�ضات اخلناجر‬
‫الرتكية تزخرف باملينا ال�شفّافة‪.‬‬
‫علبة ايرانية مذهبة ومطعمة بال�شذر ومو�شحة باملينا امللونة‪ ،‬الطول‪� 15 :‬سنتيمرتا‬ ‫وقد ت�أثرت بلدان البلقان‪ ،‬كما يف هنغاريا والبو�سنة‪،‬‬
‫باال�ساليب الفنية العثمانية ومنها التو�شية باملينا‬
‫‪171‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من الوجهني‪ .‬و�أغلب املينا الهنديّة و�أو�سعها انت�شارا‬ ‫جتليات ايقاعات وكتل االلوان وجتاورها و�أطيافها‬
‫هي املينا املحفورة التي ا�ستخدم ال�صاغة فيها االلوان‬ ‫وبرّاقيتها‪ ،‬مما �أ�ضاف اىل م�صاغ املينا بهجة اللوحة‬
‫االحمر واالخ�رض واالزرق واال�صفر ا�ضافة اىل االبي�ض‬ ‫امللونة ال�ساطعة واملده�شة‪ .‬ومن �أهم مراكز �إنتاج‬
‫وال�شذري‪ .‬وقد �ضاعف ال�صاغة جاذبية املينا وتنويع‬ ‫امل�صاغ املغويل املو�شح باملينا دلهي و� آغرا وجيبور‬
‫جمالياتها بتقنيات �صياغية �أخرى يف زينة نف�س‬ ‫وملتان ولكنو ورامبور وك�شمري وبناري�س‪.‬‬
‫التحفة‪ ،‬ا�ضافة اىل تطعيمها باالحجار النفي�سة والعاج‬ ‫(‪.)Mark Zebrowski, Gold, Silver & Bronze from Mughal India, 1997, p. 54 - 93‬‬
‫واملنمنمات‪ .‬ورمبا تكون �أكرب حتف املينا الهندية تلك‬ ‫وكان اليران ت�أثريا مبا�رشا يف تطوير �صياغة املينا‬
‫املهداة اىل العراق‪ ،‬وهي املق�صورة الف�ضيّة املو�شحة‬ ‫الهندية‪ ،‬اذ ق�ضى االمرباطور املغويل همايون فرتة‬
‫باملينا امللونة والتي �أقيمت يف �رضيح املرت�ضى علي‬ ‫ابعاد يف بالط الفر�س‪ ،‬ولدى عودته اىل البنجاب عام‬
‫يف النجف‪ :‬ففي �سنة ‪ 1356‬للهجرة �أمر امام البهرة‬ ‫‪ 1560‬ا�صطحب معه فنانني و�صنّاعا مهرة يف خمتلف‬
‫�سيف الدين ب�صنع مق�صورة جديدة ل�رضيح االمام‬ ‫الفنون الزخرفية بينهم �صاغة املينا‪ ،‬ف�أ�صبحت‬
‫علي‪ ،‬وقد ا�ستم ّر العمل لإ جنازها يف الهند مدّة تزيد‬
‫البنجاب �أول مركز �صياغي تتطوّر فيه �أ�ساليب املينا‬
‫على خم�س �سنوات‪ ،‬وبلغ مقدار ماحتتويه من الذهب‬
‫اخلال�ص ع�رشة � آالف وخم�سمائة مثقال ا�ضافة اىل‬ ‫املغولية وتنت�رش اىل خمتلف �أنحاء الهند منذ منت�صف‬
‫مليوين مثقال من الف�ضة املو�شحة باملينا امللونة‪ ،‬وقد‬ ‫القرن ال�ساد�س ع�رش‪ .‬ومن �سمات �صياغة املينا عند‬
‫و�ضعت مكان املق�صورة القدمية �سنة ‪ 1361‬للهجرة‬ ‫املغول هو تزيني خمتلف �سطوح امل�صوغة و�أحيانا‬
‫يف احتفال ديني ومدين كبري‪.‬‬
‫وقد �ضعف فن املينا ب�أفول جنم املغول‪ ،‬وال ت�ضاهي‬
‫امل�صوغات احلديثة التي �أنتجت يف بع�ض املراكز‬
‫القدمية مثل ملتان ما كان ي�صاغ يف ع�رص االباطرة‬
‫املغول امل�سلمني‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة للمينا ال�سوداء فقد ا�ستخدمها ال�صاغة‬
‫امل�سلمون على نطاق وا�سع �شملت خمتلف بقاعهم‪:‬‬
‫العامل املاليوي والهند و�أوا�سط � آ�سيا وايران واليمن‬
‫وال�شام والعراق والقفقا�س والبلقان واملغرب‪.‬‬
‫ويدعى �شغل املينا يف فل�سطني « املحبرّ « ن�سبة اىل‬
‫احلرب وم�ؤ�رشا اىل اللون اال�سود للمينا‪.‬‬
‫وكانت احللي الفل�سطينية املزينة باملينا ال�سوداء يف‬
‫نهاية القرن التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين ذات‬
‫�شعبية ورواج‪ ،‬وكان من جملة ال�صاغة �رشك�س و�أرمن‬
‫ممن توافد على بالد ال�شام منذ نهاية القرن التا�سع‬
‫ع�رش‪ ،‬حتى ان اال�ساور املزيّنة باملينا ال�سوداء يف‬
‫جنوب االردن كانت تدعى «�أ�ساور �رشك�س»‪.‬‬
‫وكانت الف�ضة املو�شحة باملينا ال�سوداء يف م�رص‬
‫تدعى « الف�ضة امل�سكويف» ن�سبة اىل مو�سكو وبالتايل‬
‫اىل تقنية املينا القفقا�سية واملدن الرو�سية الرائدة يف‬
‫هذا املجال مثل توال‪.‬‬
‫و�أبدع �صاغة داغ�ستان بتزيني الف�ضة باملينا امللونة‬
‫وال�سوداء؛ ومن مراكز �صياغتها قريتي كوبات�شي‬
‫وكوموخ‪.‬‬ ‫علبة الراحل في�صل االول‪ ،‬ملك العراق‪ ،‬مطعمة باملينا ال�سوداء‪ ،‬من عمل ال�صائغ زهرون‪ ،‬الطول ‪� 15.3‬سنتيمرت‬
‫‪.)Iskusstvo Dagestana / The Art of Dagestan, 1981, p. 44, 70, 79‬‬

‫‪172‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اخلالفة مبا �ضمّته الكنوز املكت�شفة يف االندل�س مثل‬ ‫واذا كان فن املينا ال�سوداء قد ازدهر يف الف�ضة‬
‫كنز لو�شة يف غرناطة وكنز جرو�شة يف العامريّة‬ ‫القفقا�سية‪ ،‬كما يف زينة احللي وال�صحاف واخلناجر‪:‬‬
‫وكنز مدينة الزهراء‪ .‬وقد توزعت لقى هذه الكنوز بني‬ ‫(‪Saad AL-Jadir, Arab and Islamic Silver, 1981, P. 146) and‬‬
‫‪)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P. 179 and P. 247‬‬
‫املتاحف اال�سبانية مثل (‪Linstitute Valencia de Don Juan de‬‬

‫‪ )Madrid‬ومتاحف العامل‪ ،‬مثل فكتوريا و�ألربت يف لندن‬ ‫فقد �أبدع ال�صابئة العراقيون بتطعيم الف�ضة باملينا‬
‫وفرير غالري يف بالتيمور‪ ،‬وقد �صنعت هذه احللي من‬ ‫ال�سوداء وا�شتهر بينهم زهرون وعني�سي و� آخرون وا�صلوا‬
‫الذهب والف�ضة والنحا�س‪ ،‬منها اال�ساور والتيجان‬ ‫ابداعهم ال�صياغي حتى خم�سينات القرن الع�رشين‪.‬‬
‫وامل�شابك والقالئد واملعلّقات املتنوعة بع�ضها على‬ ‫ويف الرتاث ال�صياغي املاليوي حتف مو�شحة باملينا‪،‬‬
‫�شكل ال�سمك �أو الهالل �أو ذات تكوينات جنميّة متوالدة‬ ‫لكن �أ�شد مامييّزها هو التو�شيح الكثيف القفال االحزمة‬
‫من تركيب مثلثني بالن�سبة للنجمة ال�سدا�سية ومربعني‬ ‫باملينا ال�سوداء‪.‬‬
‫بالن�سبة للنجمة الثمانية‪ ،‬وقد نفّذت بتقنيات متنوعة‬ ‫�أما يف الغرب اال�سالمي فقد تطوّرت فنون �صياغة‬
‫منها التطريز والتحبيب والطرق والتخرمي والتطعيم‬ ‫املينا يف قرطبة وغرناطة‪ .‬وبلغ هذا الفن �أوجه خالل‬
‫باالحجار والتو�شية باملينا‪.‬‬ ‫القرنني الرابع ع�رش واخلام�س ع�رش للميالد‪ ،‬حتى ان‬
‫تابع الغرناطيون تراث ال�صياغة االندل�سية‪ ،‬وقد �سلم‬ ‫بع�ض مهرة �صاغة غرناطة كانوا يعملون يف بالطات‬
‫عدد من حتفهم ال�صياغية �أهمها تلك املحفوظة يف‬ ‫امللوك امل�سيحيني‪ .‬ومن �أبرز التحف االندل�سية املزينة‬
‫متاحف ا�سبانيا التي يظهر منها تركيز ال�صاغة على‬ ‫باملينا ال�سوداء كان منرب جامع قرطبة الذي �صنع‬
‫تقنيتي التطريز والتو�شية باملينا؛ حتى ان بع�ض العلب‬ ‫عام ‪ 365‬للهجرة والذي �ضاع �أثره لكنه ظ ّل خالدا‬
‫العاجية االندل�سية ال�شهرية زينت ب�أ�رشطة من الف�ضة‬ ‫يف كتب التاريخ‪ ،‬كما لدى االدري�سي واحلمريي‪ ،‬ب�أنه‬
‫املو�شحة باملينا‪.‬‬ ‫�صنع من ال�صندل االحمر واال�صفر واالبنو�س والعود‬
‫واذا كانت حلي االندل�سيات تزين باملينا فان حلي‬ ‫الرطب واملرجان‪ ،‬و�أو�صاله وح�شواته التي بلغت �ستا‬
‫رجالهم من خناجر و�سيوف و�رسوج اخليل وزينتها‬ ‫وثالثني �ألف ح�شوة �سمّرت مب�سامري الذهب والف�ضة‬
‫و�شحت كذلك باملينا‪ .‬ومن �أ�شهر �أمثلة حلي الن�ساء‬ ‫املثبتة و«املنيّلة»‪.‬‬
‫القالدة الغرناطية التي تعود اىل نهاية القرن التا�سع‬ ‫وكثريا مات�شري امل�صادر الفنية اىل «حتفة عظيمة»‪،‬‬
‫للهجرة ‪ /‬اخلام�س ع�رش للميالد‪ ،‬واملحفوظة يف متحف‬ ‫وهو ال�صندوق اخل�شبي امل�صفح بالف�ضة املطروقة‬
‫املرتوبوليتان‪ ،‬وهي م�صنوعة من الذهب املزخرف‬ ‫واملذهبة واملزخرف بوحدات مورقة ون�صو�ص كتابية‬
‫واملع�شّ ق باملينا ال�سوداء‪ ،‬والذي �أمر احلكم امل�ستن�رص‬
‫ب�صنعه البنه ووريثه ه�شام امل�ؤيد عام ‪976 / 366‬؛‬
‫ومن الن�صو�ص الكتابية التي تزينه ‪ « :‬عمل بدر وطريف‬
‫« (مانويل جوميث مورينو‪ ،‬الفن اال�سالمي يف ا�سبانيا‪،‬‬
‫‪� ،1977‬ص‪ 396 .‬و �ص‪ .)402 .‬وكذلك‪:‬‬
‫(‪)Al- Andalus, The Art of Islamic Spain, 1992, p. 208- 209 and p. 214‬‬

‫ا�ضافة اىل عدّة علب‪ ،‬منها ما ذكر يف امل�صدرين‬


‫�أعاله‪ ،‬مثل علبتني حمفوظتني يف كني�سة ‪San Isidro‬‬

‫بليون �شمال غرب ا�سبانيا‪ ،‬و�أخرى يف املتحف االثري‬


‫الوطني مبدريد؛ وكلّها تن�سب اىل ع�رص اخلالفة �أو‬
‫ملوك الطوائف (القرن الرابع �أو اخلام�س الهجري ‪/‬‬
‫العا�رش �أو احلادي ع�رش للميالد)‪.‬‬
‫ويف دار الآ ثار اال�سالمية يف الكويت زوج من االقراط‬
‫الذهبية ترجع اىل الع�رص املوحدي (القرن ال�ساد�س‬
‫قفل حزام من العراق مزين باملينا ال�سوداء‪ ،‬من عمل ال�صائغ عني�سي‪ ،‬الطول ‪� 8‬سنتيمرتات‬ ‫للهجرة ‪ /‬الثاين ع�رش للميالد) مزينة باملينا‪.‬‬
‫ويتمثل معظم ما �سلم من حلي �أندل�سية من ع�رص‬
‫‪173‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كما يحتفظ متحف املرتوبوليتان بخوذة غرناطية‬ ‫بالتخرمي والتطريز والتحبيب واملو�شح باملينا ذات‬
‫فريدة من نهاية القرن التا�سع للهجرة م�صنوعة من‬ ‫االلوان االبي�ض واالخ�رض واالحمر ال�شفاف‪ .‬ومن �أروع‬
‫املف�ص�صة ذات االلوان‬
‫ّ‬ ‫احلديد والذهب والف�ضة واملينا‬ ‫ال�سيوف الغرناطية ودالّياتها املحفوظة مناذج منها‬
‫االحمر واالبي�ض واالخ�رض واالزرق واال�سود‪.‬‬ ‫يف املكتبة الوطنية يف باري�س واملتحف الوطني يف‬
‫ويذكر �أبو احل�سن علي بن يو�سف احلكيم الذي عا�ش يف‬ ‫مدينة كا�سل االملانية ويف متحف فكتوريا و�ألربت يف‬
‫�أيام ال�سلطان �أبي فار�س عبد العزيز املريني خالل‬ ‫لندن‪ ...‬هو ال�سيف الذي غنمه امل�سيحيون بعد �أ�رسهم‬
‫الن�صف الثاين من القرن الثامن للهجرة ‪ /‬الرابع ع�رش‬ ‫ملحمد الثاين ع�رش (�أبو عبد اهلل ال�صغري)‪ � ،‬آخر ملوك‬
‫للميالد يف كتابه (الدوحة امل�شتبكة يف �ضوابط دار‬ ‫بني ن�رص‪ ،‬يف معركة الل�سانة عام ‪1483 / 888‬م‬
‫ال�سكة ‪� ،‬ص‪ )89 .‬حليا مطعمة باملينا‪ :‬ففي معر�ض‬ ‫واملحفوظ يف املتحف احلربي مبدريد؛ وهو من‬
‫كالمه عن تذويب احللي ل�سك النقود يقول‪ « :‬ووجه‬ ‫جمال �صنعته وزينته بالف�ضة والذهب والعاج واملينا‬
‫العمل يف احللي على �أي حال كان مطبوعا كالدنانري‬ ‫املف�ص�صة ذات االلوان االبي�ض واالحمر‬
‫ّ‬ ‫ال�سوداء واملينا‬
‫وبع�ض اخلالخل و (ما) ي�شبهها �أو كان غري مطبوع‪،‬‬ ‫الياقوتي‪ ،‬ك�ألوان �أ�سا�سية‪ ،‬واال�سود واالخ�رض الزمردي‬
‫فما كان منه منيّال �أو مزجّ جا �أو كثري الل�صاق فلينزع‬ ‫ال�شفاف كخلفية لونية‪ ،‬تقدّم هذا ال�سيف كتحفة‬
‫ذلك منه لئال يتخلّق به ويع�رس خال�صه‪ ،‬فاذا نزع ذلك‬ ‫جموهرات فريدة يف زخارفها بالتطريز والتطعيم‬
‫جعل على حدة اىل �أن ي�شحّ ر‪...‬ويحمى �سائره بالنار‬ ‫والتخرمي والوحدات الهند�سية والفروع النباتية‬
‫حميا بليغا ويخترب‪.»...‬‬ ‫والن�صو�ص الكوفية وتقنيات االخراج والوقع الفني‪.‬‬
‫توا�صلت فنون املينا يف ال�صياغة املغاربية‪ ،‬ففي‬
‫الع�رص احلديث تركزت �صياغة املينا يف ثالث مناطق‬
‫�أ�سا�سية اليزال بع�ضها فعّاال حتى الوقت احلا�رض‪،‬‬
‫ا�ضافة اىل ممار�سة بع�ض ال�صاغة لفنون املينا يف‬
‫مواقع �أخرى متفرقة؛ وفيما يلي نظرة على اخل�صائ�ص‬
‫العامّ ة للتطعيم باملينا يف املناطق اجلغرافيّة الرئي�سيّة‬
‫الثالث‪:‬‬
‫‪ -‬ترتكّ ز �صياغة املينا اجلزائرية يف قرى ه�ضاب‬
‫منطقة القبائل الكربى‪ ،‬مثل بني ينّي وواديا�س‬
‫وتكموت خرّو�ش و� آيت االربعاء وذراع امليزان؛ واليزال‬
‫بع�ض �صاغة هذه القرى يو�شحون م�صاغهم باملينا‪،‬‬
‫ومعظم االنتاج ي�ستهلك يف ال�سياحة؛‬
‫‪� -‬أما املينا التون�سية فقد مار�سها �صاغة مدينة‬
‫تون�س؛ لكن االكرث �شهرة هما موقعا موكنني‪ ،‬املدينة‬
‫ال�ساحلية ال�صغرية جنوب �سو�سة‪ ،‬وجزيرة جربة؛‬
‫‪ -‬ويف املغرب تتوزع �صياغة املينا يف قرى جبال‬
‫�سو�س‪ ،‬ويف جنوب االطل�س ال�صغري بني تزنيت و اغرم‪،‬‬
‫وتتجه نحو اجلنوب حتى جبل باين‪ .‬و�أهم املراكز هي‬
‫تزنيت و تهالة عند قبائل �أملن‪ ،‬ويف منطقة تفراوت‬
‫ولدى قبائل � آيت ووازغيت يف �سفح جبل �سريوا؛‬
‫ا�ضافة اىل مواقع �أخرى يف ال�شمال والو�سط مثل‬
‫مكنا�س وخنيفرة ووزّان وفا�س وال�صويرة ومرّاك�ش‪.‬‬
‫املف�ص�صة واملحفورة منذ‬ ‫ّ‬ ‫كما ازدهرت �صياغة املينا‬ ‫معلقة فل�سطينية مزينة مب�شهد معماري مطعم باملينا ال�سوداء‪ ،‬الطول ‪� 18‬سنتيمرتا‬
‫نهاية القرن ال�سابع ع�رش وبالذات يف مكنا�س بت�شجيع‬
‫‪174‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ف�سيف�سائية لونية م�ستمرة ت�ضفي على امل�صوغة روحا‬ ‫ال�سلطان ا�سماعيل (‪ )1727 -1672‬عندما اتخذها‬
‫�رشقية �أخّ اذة‪.‬‬ ‫عا�صمة مللكه و�شجع العمارة والفنون التي ا�ستلهمت‬
‫و يف الوقت احلا�رض‪ ،‬ترتاجع الفنون التقليدية بفعل‬ ‫تراث االندل�س وم ّراّك�ش وفا�س‪ .‬وتتوا�صل فنون املينا‬
‫هجوم العوملة التي حتا�رص توا�صل الرتاث الفني‬ ‫املف�ص�صة واملينا ال�سوداء يف تزنيت ‪،‬كما ميار�سها‬‫ّ‬
‫للم�سلمني‪ ،‬و�إهمال دول امل�سلمني بتطوير الفنون‪،‬‬ ‫بع�ض �صاغة الرباط و�سال والدار البي�ضاء ومرّاك�ش‪،‬‬
‫والوهن العام للو�ضع الثقايف‪� ،‬إ�ضافة اىل مناف�سة‬ ‫وذلك ل�سد االحتياجات ال�سياحية بالدرجة الرئي�سية‪.‬‬
‫االنتاج االيل للعمل اليدوي الذي يتطلب اجنازه‬ ‫ويالحظ وجود عوامل م�شرتكة و�أخرى خمتلفة متيز‬
‫�صربا ووقتا طويال‪ .‬وال ت�شجع هذه الظروف ال�صاغة‬ ‫حتف املينا يف املواقع املغاربية الثالثة‪ :‬فرغم‬
‫لال�ستمرار يف حرفهم فيرتكونها اىل مهن �أخرى‬ ‫اختالف �أ�شكال ومناذج امل�صوغات بني هذه املناطق‬
‫للح�صول على �أرزاقهم‪.‬‬ ‫والبعد اجلغرايف وتباين �أمناط العي�ش واللهجات‬
‫وهناك الآ ن طريقان‪ :‬االول اندثار الفنون الرتاثية‬ ‫واالذواق فيما بينها‪ ،‬اّال ان فنونها ال�صياغية ت�شرتك‬
‫وبقائها يف �صفحات التاريخ و�أركان املتاحف؛‬ ‫املف�ص�صة؛ كما انّ‬
‫ّ‬ ‫عامّ ة بظاهرة ا�ستخدام املينا‬
‫والثانية �أحيا�ؤها وبعثها على �أ�س�س معا�رصة كجزء من‬ ‫االلوان امل�ستخدمة يف م�صاغ املينا املغاربية موحدة‬
‫التطور االقت�صادي والثقايف لبالد امل�سلمني بابتكار‬ ‫وهي االزرق الغامق واالخ�رض الفاحت واال�صفر‪.‬‬
‫�صيغ حتافظ على خ�صو�صية هذه املنتجات و�صورتها‬ ‫وجتدر الإ �شارة اىل تو�شية بع�ض مناذج الف�ضة املغربية‬
‫الفنية اال�سالمية من ناحية‪ ،‬كما توفر منتجات الفنون‬ ‫باملينا امللونة وال�سوداء امل�صاحبة لتطعيم امل�صاغ‬
‫باالحجار الثمينة والف�صو�ص الزجاجية يف � آن واحد‪،‬‬
‫مما يك�سب امل�صوغة وقعا �أخّ اذا نتيجة ت�ضاعف‬
‫املفعول اجلمايل للمينا واالحجار والزجاج‪.‬‬
‫كما يالحظ ندرة ا�ستخدام كتل من املينا ال�سوداء يف‬
‫م�صاغ املغرب‪ ،‬بل غالبا ماتكون زينة املينا ال�سوداء‬
‫على �شكل خطوط �صارمة ت�شكل نقو�شا هند�سية ورمزية‬
‫ونباتية خالية من الزخارف االدمية واحليوانية‪.‬‬
‫وبذلك فان ال�صورة الفنية للمينا املغاربية متغايرة‬
‫يف جمالياتها؛ لكن �أ�شدّها جاذبية و�إبهارا ووحدة‬
‫هي امل�صوغات القبائليّة التي تعك�س �أحد ال�سمات‬
‫البارزة للزخرفة اال�سالمية‪ ،‬وهي تق�سيم امل�صوغة اىل‬
‫حقول متناظرة ومكرّرة وتغطية كل �سطوحها بالنقو�ش‬
‫امللوّنة‪ :‬فالظهور اجلليّ وال�صورة الفنية النافذة‬
‫للف�ضة القبائلية تقدّمها‬
‫والوحدة ال�صياغية الر�صينة ّ‬
‫كواحدة من �أهم الواجهات اال�سالمية املتميزة لفنون‬
‫ال�صياغة اال�صيلة واملتفردة‪ :‬فاحللي القبائلية �ضخمة‬
‫احلجم وثقيلة الوزن‪ ،‬اّال ان النقو�ش املنّفذة باملينا‬
‫اال�صفر الليموين واالزرق البنف�سجي واالخ�رض ال�شذري‬
‫التي تتكامل مع وقع ف�صو�ص املرجان االحمر القاين‬
‫املرتا�ص و غري امل�صقول والكريّات الف�ضيّة ال�صلدة‬
‫خمتلفة االحجام‪ ،‬وتزيينها مبعلّقات متنوعة اال�شكال‬
‫مثل الكف والنجمة وورقة البلّوط‪ ،‬والتنفيذ الدقيق‬
‫قالدة جزائرية‪ ،‬من منطقة القبائل‪ ،‬مطعمة باملرجان ومو�شاة باملينا امللونة‬ ‫واملتقن وجمال التجاور اللوين يك�سب ف�ضة القبائل‬
‫قوّة وتاثريا وانطباعا باخلفّة وااللق‪� ،‬إ�ضافة اىل م�سحة‬
‫‪175‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وتايلند ممن يوا�صل فنانوه �أ�شغال املينا ب�صورتها‬ ‫الرتاثية مردودا اقت�صاديا جيدا من ناحية ثانية‪.‬‬
‫الفنية التقليدية لكل من تلك البلدان‪ ،‬والتي ي�صدّر بع�ض‬ ‫فماذا جند يف فنون املينا اال�سالمية املعا�رصة؟‬
‫منتجاتها اىل اخلارج‪ .‬ويف الغرب االوروبي واالمريكي‬ ‫‪� -‬ضعف الإ نتاج ال�صياغي اال�سالمي املو�شى باملينا‪،‬‬
‫هناك �رشكات متخ�ص�صة ي�سود منتجاتها طابعا‬ ‫ومن ذلك تكرار ال�صاغة للنماذج القدمية‪ ،‬وتدهور‬
‫حداثويا عامليا �صار ينت�رش يف خمتلف بلدان العامل‪.‬‬ ‫املهارات التقنية لدى ال�صاغة املحدثني‪ ،‬و�ضعف روح‬
‫ويف بلدان امل�سلمني �صدى متنوعا لهاتني الظاهرتني‪،‬‬ ‫االبتكار والتجديد؛ ا�ضافة اىل تغيرّ �أذواق امل�ستهلكني‬
‫مثل �إغراق �أ�سواق بع�ض البلدان اال�سالمية ك�أقطار‬ ‫الذين اليجدون �أمامهم �سوى امل�صاغ احلداثوي‬
‫اخلليج مب�صوغات مينا حديثة غربية وهندية و�صينية‬ ‫العاملي‪ ،‬خا�صة وان الفنانني امل�سلمني املعا�رصين‬
‫ورو�سية وتايلندية‪� .‬أما املثال االخر فهو عن ت�أثر‬ ‫غري قادرين على �ش ّد النا�س اىل منتجاتهم ال�صياغية؛‬
‫امل�صاغ اال�سالمي مبا يرده من اخلارج‪ ،‬مثل انتاج‬ ‫اىل جانب دخول املكننة ب�شكل وا�سع يف ال�صياغة‪،‬‬
‫ميداليات و�أو�سمة ماهي � اّإل �صدى للنماذج الغربية‪،‬‬ ‫وحتوّل من تبقّى من املعلمني ‪ /‬اال�سطوات اىل مهن‬
‫كالأ و�سمة املغربية مثل «الو�سام العلوي ال�رشيف»‬ ‫�أخرى؛ وكذلك تفكك العالقة التاريخية التقليدية بني‬
‫و«و�سام اال�ستحقاق الع�سكري ال�رشيفي»‪ ،‬وكالهما‬ ‫الفنان املعلم وبني تالمذته‪ ،‬والتي كانت �أحد االركان‬
‫مزين باملينا‪ .‬وكذلك احلال بالن�سبة ملعظم االو�سمة‬ ‫اال�سا�سية لتطوير الفنون احلرفيّة ومنها ال�صياغة‪ .‬كما‬
‫والنيا�شني يف عدد من الدول العربية واال�سالمية‪:‬‬ ‫�أدى م�سح الغربيني لأ �سواقنا وجمعهم لآ ثارنا وحتفنا‬
‫‪)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P. 189‬‬
‫كمواد للتجارة املربحة يف الغرب اىل افراغ املجال‬
‫وحل�سن احلظ فان انتاج املينا اال�سالمية املعا�رصة مل‬ ‫اال�سالمي من امل�صاغ القدمي للمينا الذي �ألهم ال�صاغة‬
‫يتوقف رغم ال�ضعف الذي � آل اليه‪ ،‬اذ تتوا�صل �أعمال‬ ‫واحلرفيني التقليديني و�شجعهم على التوا�صل واالبداع‬
‫املينا يف عدة مواقع ا�سالمية مثل الهند وباك�ستان‬ ‫والتجديد واالبتكار‪.‬‬
‫وايران وم�رص واجلزائر واملغرب وتتزايد �شعبيتها‪.‬‬ ‫‪ -‬وعامليا هناك عدد من البلدان مثل رو�سيا وال�صني‬
‫غري ان اقت�صار �أ�شغال املينا املعا�رصة يف العامل‬
‫املف�ص�صة واملينا ال�سوداء‬
‫ّ‬ ‫اال�سالمي على املينا‬
‫واملينااملر�سومة غالبا واملينا املحفورة نادرا يعني‬
‫انّ ال�صاغة امل�سلمني مل يتعرّفوا و ‪� /‬أو يوظفوا تنوّع‬
‫تقنيات املينا الغربية احلديثة والتي �ساهم التطور‬
‫العلمي والتقني بازدهارها‪ :‬وهي تقنيات عديدة �أخرى‬
‫الجمال هنا ل�رشح كل منها ومما ال �أعرف مقابال‬
‫ال�سمائها بالعربية؛ ولكل من هذه التقنيات طريقة‬
‫خا�صة لتنفيذها تفرز فاعليّة خمتلفة لوقع �ألوانها‬
‫ول�صورتها الفنية‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫‪Basse- taille, Camaieu, Decal application, Foils, Grisaille, Impasto,‬‬
‫‪Plique-a-jour, Racu enamelling, Sgraffito, Stencils, Silkscreen enamels,‬‬
‫‪Torch- fired enamels etc…(Glenice Lesley Matthews, Enamels Enameli-‬‬
‫‪)ing Enamelists, 1984, p. 141 – 171‬‬

‫(ويالحظ �أن عددا من هذه التقنيات معروفه ب�أ�سمائها‬


‫الفرن�سية‪ ،‬اذ كانت فرن�سا‪ ،‬ولوقت طويل مركزا �أ�سا�سيا‬
‫مت ابتكار تقنيات متنوعة‬ ‫ل�صياغة املينا‪ ،‬وفيها ّ‬
‫لفنونها)؛ ا�ضافة اىل املواد واملعدات وغنى «باليت»‬
‫االلوان املعتمة واللماعة للمينا‪ ،‬وفكرة �إنتاج وحدات‬
‫جاهزة من الف�ضة املطلية باملينا كالورود والفرا�شات‬
‫والطيور واال�سماك؛ وكذلك ا�ستخدام �أفران كهربائية‬ ‫حليتا ر�أ�س مغربيتان‪ ،‬مطعمتان باملينا وبكريات وف�صو�ص زجاجية‪ ،‬طول اللوح االو�سط ‪� 10.2‬سنتيمرت‬
‫ت�سهل العمل اىل حد بعيد النها �أخف وزنا و�أ�صغر‬
‫‪176‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‪ ..‬ت�شكيل‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬ ‫حجما من االفران التقليدية‪ ،‬اذ انّ فرنا تبلغ حرارته‬
‫اخلا�صة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجميعها من جمموعتي‬
‫ويف املخطوطة ثروة من املعلومات امل�ستقاة من مئات امل�صادر‬
‫بعدّة لغات؛ كما �أن املو�ضوع يقدّم الول مرّة‪ .‬وهو ذو �أهمية‬
‫‪ 780‬درجة مئوية الي�ستغرق �أكرث من دقيقتني ون�صف‬
‫تاريخية وثقافية وفنية و�صياغية وزخرفية ولونية وتقنية‬ ‫(تبعا حلجم النموذج) الذابة املينا على �سطح املعدن؛‬
‫وجمالية‪ :‬حيث يلقي ال�ضوء على تاريخ املينا العاملية ال�سابقة‬ ‫حيث ميكن تخ�صي�ص غرفة �صغرية يف الدار ملمار�سة‬
‫واملوازية لال�سالم‪ ،‬كامل�رصية والفار�سية واال�شورية واالغريقية‬ ‫فنون املينا‪ .‬وكل هذه املنجزات احلديثة من �ش�أنها‬
‫واال�سكيثية والرومانية‪ ،‬ا�ضافة اىل ال�صينية واليابانية‪ ،‬والبيزنطية‬
‫واالوربية والرو�سية‪ .‬ث ّم ي�ستعر�ض العمل جماله الرئي�سي يف العامل‬ ‫فتح � آفاق وا�سعة الجراء نقلة نوعية يف تطوّر فنون‬
‫اال�سالمي‪ ،‬فيتعرّ�ض اىل ال�صور اجلمالية املتنوعة ملجاميع م�صاغ‬ ‫املينا املعا�رصة يف العامل اال�سالمي تو�سّ ع وتنوّع‬
‫املينا يف خمتلف مواقعه‪ ،‬و يركّ زعلى �صياغة املينا يف االندل�س و‬ ‫وجتدّد االنتاج مع احلفاظ على فرادة ال�صورة الفنية‬
‫بالد املغرب‪ ،‬وعن �أ�صولها وم�ؤثراتها‪ ،‬مثل ت�أثري �صياغة املينا‬
‫االندل�سية والفاطمية على فنون املينا االوربية‪ .‬كما ي�شمل العمل‬ ‫املتميزة مل�صاغ املينا اال�سالمي‪.‬‬
‫تنوع تقنيات �صياغة املينا و»باليت» �ألوانها وخلفيته‪ .‬ا�ضافة اىل‬ ‫الهوام�ش‪:‬‬
‫درا�سات مقاربة ومقارنة لوقع جماليات املينا‪ ،‬مثل الزجاج املموّه‬
‫باملينا واخلزف ذو الربيق املعدين والتذهيب والدم�شقة والتطعيم‬ ‫‪ -1‬تقنيات املينا‪ :‬املينا امللونة نوع من الزجاج ال�شفاف م�سحوق‬
‫باالحجار الثمينة وبالزجاج ‪....‬‬ ‫بدقة‪.‬‬
‫وكان الغر�ض من و�ضع هذه املخطوطة توثيق هذا اجلانب اجلميل‬ ‫وهناك تقنيات متعددة ال�ستخدام املينا‪ ،‬لكن �أو�سعها انت�شارا يف‬
‫من ثقافة امل�سلمني‪ ،‬وا�رشاك النا�س مب�صادرها ومعارفها‪ ،‬واثارة‬ ‫امل�صاغ اال�سالمي �أربعة �أنواع‪:‬‬
‫البهجة وال�رسور يف نفو�سهم‪ ،‬وت�صحيح � آراء باحثني غربيني عن‬ ‫املف�ص�صة ‪ ، Cloisonné‬وهي �أهم تقنية مينا ا�ستخدمها ال�صاغة‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬املينا‬
‫فنون امل�سلمني‪ ،‬والدعوة للحفاظ على الرتاث اال�سالمي‪ ،‬والتحفيز‬ ‫الفاطميون وااليوبيون واالندل�سيون واملغاربة‪ .‬والجناز هذه التقنية‬
‫على احياء بهاء وابهار ال�صورة الفنية للمينا اال�سالمية على �أ�س�س‬ ‫ي�ؤخذ �سلك معدين ي�شكّل بوا�سطته الزخرف املراد تزيينه باملينا‬
‫معا�رصة‪ ،‬مما يوفّر فر�ص عمل جديدة‪ ،‬ويو�سّ ع جماالت ال�صناعات‬ ‫بوا�سطة حلمه عموديا على �سطح امل�صوغة‪ ،‬فتكوّن هذه اال�سالك‬
‫الفنيّة ويطوّر جتارة منتجاتها حمليّا واقليميّا وعامليّا‪.‬‬ ‫ال�شبكة الزخرفية التي تظهر على �شكل خاليا فارغة ميالهاال�صائغ‬
‫‪ -3‬جميع ال�صور املن�شورة يف هذه املقالة من نف�س املجموعة‪:‬‬ ‫مب�ساحيق املينا بحيث يبقى كل لون م�ستقال يف «�سجنه» ومعزوال‬
‫‪www.al-jadir-collect.org.uk‬‬ ‫‪jadir959@yahoo.co.uk‬‬
‫ب�شكل حمكم عن باقي االلوان‪ ،‬ث ّم تو�ضع القطعة يف الفرن لت�سخينها‬
‫واذابة املينا‪ ،‬بعدها ي�سحب النموذج من الفرن ويرتك ليربد وتت�صلّب‬
‫�ألوانه‪ ،‬ث ّم ت�صقل النتزاع ال�شوائب واحل�صول على الفاعليّة الزجاجية‬
‫للمينا وعلى وقع جتاورها اللوين الزاهي‪.‬‬
‫‪ -‬املينا املحفورة ‪ ، Champleve‬التي �شاع ا�ستخدامها يف امل�صاغ‬
‫املغويل اال�سالمي يف الهند‪ .‬وهذه التقنية �أي�رس من �سابقتها‪ ،‬كما انها‬
‫معاك�سة لها‪ :‬فعو�ضا عن ر�سم الزخرف املراد تلوينه ب�أ�سالك بارزة‬
‫تثبّت على �سطح املعدن‪ ،‬فان الزخرف يف هذه احلالة يتكون بطريقة‬
‫احلفر الذي يكوّن �شبكة من القنوات الرقيقة مف�صولة عن بع�ضها‬
‫بحافات دقيقة تن�رش عليها م�ساحيق املينا لتمال االخاديد الزخرفية‪،‬‬
‫بعدها يو�ضع النموذج يف الفرن لي�سخن ويربد وي�صقل بنف�س الطريقة‬
‫ال�سابقة‪.‬‬
‫‪ -‬املينا املر�سومة ‪ ، Painted‬التي جوّد بها ال�صاغة االيرانيون؛ وهي‬
‫تقنية خمتلفة عن �سابقتيها‪ ،‬حيث التف�صل �ألوان املينا عن بع�ضها‬
‫بوا�سطة اال�سالك �أو احلفر‪ ،‬وامنا تتجاور �ألوانها فوق �سطح امل�صوغة‪.‬‬
‫لذلك تعتمد املينا املر�سومة على مهارة ال�صائغ يف ال�سيطرة على‬
‫درجات احلرارة املختلفة الالزمة الذابة االلوان املتنوعة للمينا كي‬
‫الت�سيل فيختلط بع�ضها ببع�ضها االخر؛ وعادة مايجمع املعلّم ‪/‬‬
‫اال�سطة الذي ينفّذ هذه التقنية بني موهبتي ال�صياغة والر�سم‪.‬‬
‫‪ -‬املينا ال�سوداء ‪ ، Niello‬التي تتميّز بدورها عن �أنواع املينا‬
‫املتقدمة‪ ،‬اذ يطعم الذهب �أو الف�ضة لي�س مب�سحوق زجاجي كما يف‬
‫املينا امللونة‪ ،‬بل مب�سحوق معدين هو خليط من الف�ضة والنحا�س‬
‫والر�صا�ص والكربيت التي متزج وت�صهر ثم تربّد وت�سحن مكوّنة‬
‫مادّة على �شكل م�سحوق �أ�سود ي�شبه الكحل يتم ا�ستخدامه بنف�س تقنية‬
‫املينا املحفورة‪ .‬وتزيّن باملينا ال�سوداء غالبا الف�ضة الربّاقة عالية‬
‫العيار كالف�ضة اال�سرتلينية‪.‬‬
‫‪ -2‬هذا املقال م�ست ّل من خمطوطة (�سعد اجلادر‪ ،‬فنون املينا يف‬
‫امل�صاغ اال�سالمي‪ ،‬الرباط ‪ .)1994‬وي�ضم العمل ‪� 478‬صفحة‬
‫�سوار من فل�سطني مطعم بامليناء ال�سوداء‪ :‬االرتفاع‪� 6 :‬سنتيمرتات‬ ‫ت�شمل �أكرث من �أربعمائة حتفة من الف�ضة اال�سالمية املو�شحة باملينا‪،‬‬
‫مما �أبدعه مئات ال�صاغة امل�سلمني وغريهم؛ وجلّها مل ين�رش �سابقا؛‬
‫‪177‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�رسح‬

‫من �أعمال الفنانة رابحة حممود ‪ُ -‬عمان‬

‫‪178‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫معجزة القدي�س �أنطوان‬


‫ن�ص م�سرحي‬
‫ترجمة‪ :‬عبد املنعم ال�شنتوف‬ ‫موري�س مايرتلينك ‬
‫كاتب ومرتجم مغربي مقيم يف بلجيكا‬

‫امل�ؤلف‪:‬‬
‫يعترب موري�س مايرتلينك (‪1862‬ـ ‪� )1949‬أحد �أبرز كتاب بلجيكا‪� .‬أبدع على امتداد‬
‫والبحاث العلمية نذكر من بينها‬ ‫حياته العديد من الدواوين ال�شعرية وامل�رسحيات أ‬
‫و«العمى» ‪ 1890‬و«باليا�س‬ ‫و«المرية مالني» ‪ 1889‬و«الدخيل» أ‬ ‫«مالذات �ساخنة» أ‬
‫وميلي�ساند» ‪ 1892‬و«�أالدين وبالومي�س» ‪ 1894‬و «حياة النحل» ‪ 1900‬و«ذكاء‬
‫الورود» ‪ 1907‬و«الع�صفور أالزرق» ‪ 1909‬و«حاكم �ستيلموند» ‪ .1919‬ح�صل‬
‫الكاتب عام ‪ 1911‬على جائزة نوبل آ‬
‫للداب‪.‬‬
‫كتب امل ؤ�لف هذه امل�رسحية عام ‪ 1903‬بهدف ك�شف مواكب الزيف والنفاق التي‬
‫كانت �سائدة يف الطبقة أالر�ستقراطية البلجيكية التي كان ينتمي �إليها‪ .‬لقي هذا‬
‫العمل جناحا �ساحقا؛ �إذ ترجمت �إىل لغات عاملية عدة كما مت تقدميها على خ�شبة‬
‫امل�رسح يف العديد من البلدان دون انقطاع منذ �صدورها �إىل �أيامنا هاته‪.‬‬
‫ال�شخ�صيات‪:‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ .‬ال�سيد غو�ستاف‪ .‬ال�سيد �آ�شيل‪ .‬الطبيب‪ .‬الراهب‪ .‬عميد ال�رشطة‪ .‬جوزيف‪.‬‬
‫الن�سة هورتن�س‪ .‬فرجيني‪� .‬أبناء وبنات أالخ‪� .‬أبناء عمومة‪� .‬ضيوف‪� .‬إلخ‪..‬‬
‫عونا ال�رشطة‪ .‬آ‬

‫‪179‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أ�سفل ثوب القدي�س مكررة بطريقة � آلية وجمنونة‪� :‬أيها‬ ‫الفصل األول‬
‫القدي�س �أنطوان‪ ،‬كن بنا رحيما‪� .‬أيها القدي�س الكرمي‪� .‬صل‬ ‫يف مدينة �صغرية بالفالندر البلجيكي‪ .‬دهليز منزل‬
‫من �أجلنا!‬ ‫برجوازي وا�سع وقدمي‪ .‬على الي�سار باب كبرية تنفتح‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬والآ ن‪ ،‬ا�سمحي يل ب�أن �أدخل و�أغلقي الباب‪.‬‬
‫على ال�شارع‪ .‬يف العمق �سلم من ب�ضع درجات ي�ؤدي‬
‫فرجيني (وهي تنه�ض مت�شنجة)‪ :‬هي ذي املم�سحة‪ .‬ام�سح‬
‫قدميك (يبادر القدي�س �أنطوان �إىل ال�صدع بالأ مر دون‬
‫�إىل باب كبرية زجاجية تقود �إىل املنزل‪ .‬على اليمني‬
‫مهارة)‪ .‬هيا‪ ،‬بهمة �أكرب‪..‬‬ ‫باب �أخرى‪ .‬على امتداد اجلدار �أريكة مغ�شاة بفرو اخللد‪،‬‬
‫تغلق الباب‬ ‫ب�ضعة مقاعد‪ ،‬م�شجب علقت عليه قبعات ومعطف‬
‫طويل‪..‬الخ‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان (م�شريا �إىل الباب على اليمني)‪ :‬الآ ن�سة‬ ‫عند رفع ال�ستارة‪ ،‬تظهر العجوز فرجيني م�شمرة عن‬
‫م�سجاة هنا‪.‬‬
‫فرجيني (باندها�ش وابتهاج)‪ :‬بالفعل‪ .‬كيف عرفت؟ هذا‬
‫�أكمامها‪ ،‬عارية ال�ساقني‪ ،‬منتعلة حذاء كبريا و�سط‬
‫مده�ش‪� .‬إنها هناك يف القاعة الكبرية‪ .‬املر�أة امل�سكينة‪.‬‬ ‫اجلرادل النحا�سية واخلرق واملكان�س وامل�ساحات‬
‫مل تكن تبلغ من العمر غري �سبعة و�سبعني عاما‪ .‬عنفوان‬ ‫وهي تنظف البالط الرخامي باملاء الغزير‪ .‬وبني حني‬
‫ال�شباب! �ألي�س كذلك؟ هل تعلم �أنها كانت �شديدة التقوى‬ ‫و� آخر‪ ،‬توقف عملها وتتمخط بجلبة ومت�سح بطرف‬
‫وم�ستحقة لكل ثناء‪ .‬لقد ت�أملت كثريا‪ .‬ثم �إنها كانت ثرية‪.‬‬ ‫وزرتها الزرقاء دمعة كبرية‪ .‬ي�سمع قرع جر�س الباب‪.‬‬
‫لقد �سمحت لنف�سي ب�أن �أقول �إنها تركت مليونني‪ .‬مليونان‪.‬‬ ‫تذهب فرجيني لكي تفتح‪ ،‬ونرى على العتبة عجوزا‬
‫هذا كثري‪..‬‬ ‫طويل القامة نحيفا عاري الر�أ�س حايف القدمني‪� ،‬أ�شعث‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫�شعر الر�أ�س واللحية‪ ،‬وقد ارتدى ك�ساء بنيا مما يلب�سه‬
‫فرجيني‪� :‬سوف يرث ابنا �أخيها ال�سيد غو�ستاف وال�سيد‬ ‫الرهبان‪ ،‬وقد تلطخ بالوحل ون�صل لونه و�أ�صبح عبارة‬
‫�أ�شيل و�أبنا�ؤهما كل �شيء‪� .‬سوف يكون هذا املنزل من‬ ‫عن �أ�سمال‪.‬‬
‫ن�صيب ال�سيد غو�ستاف‪ .‬غري �أنها �أو�صت ببع�ض الهبات‬
‫للأ ب الراهب‪ ،‬البواب‪ ،‬حار�س الكني�سة‪ ،‬الفقراء‪ ،‬الكاهن‪،‬‬ ‫الول‬
‫امل�شهد أ‬
‫الأ ربعة ع�رش ي�سوعيا ولكل اخلدم بح�سب املدة الزمنية‬ ‫فرجيني والقدي�س �أنطوان‬
‫التي ق�ضوها يف خدمتها و�أنا �أقدمهم‪ .‬لقد خدمتها ثالث‬
‫فرجيني (م�رشعة الباب قليال)‪ :‬ما الذي يحدث؟ هي ذي‬
‫وثالثني عاما‪ ،‬و�سوف �أح�صل على ثالثة � آالف‪ .‬هذا جيد!‬
‫املرة ال�ساد�سة والثالثون التي يقرع فيها اجلر�س‪ ..‬مت�سول‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬بالفعل‪.‬‬
‫� آخر؟ ما الذي تريده؟‬
‫فرجيني‪ :‬مل تكن مدينة يل ب�شيء‪ ،‬وقد واظبت دائما على‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أريد �أن �أدخل‪.‬‬
‫دفع م�ستحقاتي‪ .‬ومهما نقل؛ فلن نعرث على كثري من �أرباب‬
‫فرجيني‪ :‬ال‪ .‬ال‪� .‬أنت مغمور بالوحل‪ .‬ابق حيث �أنت‪ .‬ما الذي‬
‫العمل الذي ي�أتون بعد املوت مبثل �صنيعها‪ .‬كانت امر�أة‬
‫تطلبه؟‬
‫قدي�سة‪� .‬سوف تواريها الرتاب اليوم‪ .‬ومل يبق �أحد �إال وبعث‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أطلب الدخول‪.‬‬
‫بباقات ورد‪ .‬ينبغي �أن ترى ال�صالون؛ �إذ �أنه ي�رشح القلب‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬ملاذا؟‬
‫ثمة ورود على ال�رسير وفوق الطاولة والكرا�سي والأ رائك‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لكي �أحيي الآ ن�سة هورتن�س‪.‬‬
‫والبيانو‪ .‬لي�س �سوى الورود البي�ضاء‪ ،‬وامل�شهد يف جممله‬
‫فرجيني‪ :‬لكي حتيي الآ ن�سة هورتن�س‪ .‬ما هذه احلكاية؟ من‬
‫جميل‪ .‬ال نعرف كيف نرتب الأ كاليل (ي�سمع قرع اجلر�س‬
‫فتذهب لتفتح الباب ولتعود ب�إكليلني) وها هما اثنان �أي�ضا‬ ‫�أنت؟‬
‫(تفح�ص وتخترب ثقل الأ كاليل)‪� .‬أم�سك هذين الإ كليلني‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أنا القدي�س �أنطوان‪.‬‬
‫الرائعني �إىل �أن �أنتهي من التنظيف (ت�سلم الإ كليلني �إىل‬ ‫فرجيني‪ :‬من بادو؟‬
‫القدي�س �أنطوان الذي مي�سك طوعا بكل �إكليل يف يد‪� .‬سوف‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬متاما‪.‬‬
‫ن�شيعها هذا امل�ساء �إىل املقربة‪ ،‬وينبغي �أن يكون كل �شيء‬ ‫هالة القدي�س ت�شتعل وتت�ألق‬
‫نظيفا‪ ،‬ولي�س عندي من الوقت �إال‪..‬‬ ‫فرجيني‪ :‬يا ي�سوع! يا مرمي! هذا �صحيح!‪( ..‬تفتح الباب على‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬قوديني �إىل حيث ي�سجى جثمانها‪.‬‬ ‫م�رصاعيها‪ ،‬تهوي على ركبتيها �شابكة يديها حول املكن�سة‬
‫فرجيني‪� :‬أقودك قرب اجلثمان؟ الآ ن؟‬ ‫وهي تتلو ب�رسعة التحية الإ جنيلية ثم تقبل ب�إجالل بالغ‬
‫‪180‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫قوديني قرب اجلثمان‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فرجيني‪� :‬سبق �أن قلت لك �إنه ال ميكنني �إزعاجهم وهم مل‬ ‫فرجيني‪ :‬ال‪ .‬ال ميكنني فعل ذلك‪ .‬ينبغي �أن ننتظر قليال؛ �إذ‬
‫يفرغوا بعد من تناول الطعام‪.‬‬ ‫مل يفرغوا بعد من تناول طعامهم‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬من هم؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬إن الرب ي�ستعجلني‪ .‬لقد �أزف الوقت‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬ال�سادة وكل �أفراد العائلة وحق الرب‪ .‬ابنا �أخيها‬ ‫فرجيني‪ :‬ما الذي تريده منها؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف وال�سيد �أ�شيل و�أبنا�ؤهما ال�سادة جورج‪،‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬سبق �أن قلت لك ذلك‪� .‬إنني �أرغب يف �أن �أرد‬
‫�ألربيك وديزيري و�أبناء وبنات العم والراهب والطبيب‪،‬‬ ‫�إليها احلياة‪.‬‬
‫ومن �أي�ضا؟ �أ�صدقاء و�أقرباء مل نرهم من قبل وقد قدموا‬ ‫فرجيني‪ :‬ترغب يف �أن ترد �إليها احلياة؟ ترغب جادا يف‬
‫من �أماكن بعيدة جدا‪� .‬إنهم �أنا�س ذوو ثراء �شديد‪.‬‬ ‫�أن حتييها‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ � :‬آه!‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬هل ر�أيت ال�شارع؟‬ ‫فرجيني‪ :‬لكنها ميتة منذ ثالثة �أيام‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أي �شارع؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لهذا ال�سبب �أرغب يف �أن �أحييها‪.‬‬
‫فرجيني‪� :‬شارعنا بحق الرب! ال�شارع الذي يوجد فيه‬ ‫فرجيني‪� :‬سوف حتيا ك�ش�أنها يف ال�سابق‪.‬‬
‫منزلنا‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫فرجيني‪ :‬لكن لن يكون ثمة ورثة؟‬
‫فرجيني‪� :‬إنه �شارع جميل‪ .‬وكل املنازل الواقعة يف اجلانب‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬طبعا‪.‬‬
‫الأ ي�رس ما عدا الأ ول‪ ،‬وهو كما تعرف جيدا‪ ،‬الأ �صغر‪ ،‬هم يف‬ ‫فرجيني‪ :‬ما الذي �سوف يقوله ال�سيد غو�ستاف؟‬
‫ملكية الآ ن�سة‪� .‬أما تلك التي توجد يف اجلانب الأ مين‪ ،‬فتعود‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال �أعلم‪.‬‬
‫لل�سيد غو�ستاف‪ .‬ثمة اثنا وع�رشون منزال‪ ،‬وهذا مال طائل‪.‬‬ ‫فرجيني‪ :‬والثالثة � آالف وثالثمائة فرنك التي �أعطتنيها؛‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬بالفعل‪.‬‬ ‫لأ نها كانت ميتة‪� ،‬سوف ت�ستعيدها؟‬
‫فرجيني (م�شرية �إىل الهالة)‪ :‬انظر! �إن �شيئك ينطفئ‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬طبعا‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان (متح�س�سا هالته)‪ :‬نعم‪� .‬أعتقد ذلك بالفعل‪.‬‬ ‫فرجيني‪ :‬هذا مزعج‪.‬‬
‫فرجيني‪� :‬أال ت�شتعل ملدة طويلة؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬هل عندك نقود �أو مدخرات �أخرى؟‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬هذا يتوقف على الأ فكار التي تغذيها‪.‬‬ ‫فرجيني‪ :‬ال �أملك فرنكا واحدا‪ ،‬وعندي �أخت معاقة تلتهم‬
‫فرجيني‪� :‬إنهم ميلكون غابات و�ضياعا ومنازل‪ .‬ولل�سيد‬ ‫كل ما �أربحه‪.‬‬
‫غو�ستاف م�صنع كبري للن�شا‪ ،‬وهو م�شهور با�سمه‪ .‬ما من‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬إذا كنت تخ�شني من فقدان الثالثة � آالف‬
‫�شك يف �أنها تعرفه‪ � .‬آه! �إنها بالفعل عائلة �شديدة الطيبة‬ ‫فرنك‪...‬‬
‫والرثاء‪ .‬هناك �أربعة منهم ال يفعلون �شيئا عدا �إقرا�ض النا�س‬ ‫فرجيني‪ :‬ثالثة � آالف وثالثمائة فرنك‪.‬‬
‫مبالغ من املال‪ � .‬آه! كل هذا جميل‪ .‬وهناك �أ�صدقاء ومعارف‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬إذا كنت تخ�شني فقدانها‪ ،‬ف�إنني لن‬
‫وم�ست�أجرون‪ .‬كل ه�ؤالء جا�ؤوا‪�،‬إذن‪ ،‬من �أجل ح�ضور مرا�سيم‬ ‫�أحييها‪.‬‬
‫الدفن‪ ،‬ومنهم من جاء من �أماكن بعيدة‪ .‬يقال �إن �أحدهم‬ ‫فرجيني‪� :‬ألي�س ثمة و�سيلة لكي �أحتفظ بها وحتيا الآ ن�سة‬
‫�سافر يومني كاملني كي ال يخلف املوعد‪� .‬سوف �أريك �إياه‪،‬‬ ‫هورتن�س من جديد؟‬
‫وهو �صاحب حلية رائعة‪� .‬إنهم يتناولون غذاءهم هناك‪ ،‬ومل‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪ .‬يلزمك �أن تختاري بني �أمرين‪ .‬لقد نزلت‬
‫يفرغوا بعد‪ ،‬وال ي�سعنا �إزعاجهم‪� .‬إنه حفل غذاء كبري‪� :‬أربعة‬ ‫�إىل الأ ر�ض ب�سبب �صلواتك ولك �أن تختاري‪.‬‬
‫وع�رشون طبقا‪ ،‬وقد ر�أين بعيني الئحة الطعام‪� .‬سوف يقدم‬ ‫فرجيني (بعد حلظة تفكري)‪� :‬أحيها على �أية حال (هالة‬
‫املحار ونوعان من احل�ساء‪ ،‬وثالثة �أطباق فواحت وع�صيدة‬ ‫القدي�س ت�شتعل وتت�ألق) ماذا يحدث لك؟‬
‫الالنكو�ست و�سمك ال�سلمون على طريقة �شوبري‪ ،‬هل تعلم �أي‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لقد �أ�شعت ال�رسور يف قلبي‪.‬‬
‫�شيء هو؟‬ ‫فرجيني‪� :‬شيئك‪�،‬إذن‪ ،‬ي�شتعل‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪ ،‬و�ضد �إرادتي‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬وال �أنا �أي�ضا‪ .‬يبدو �أنه �صنف جيد‪ ،‬لكننا لن نذوق‬ ‫فرجيني‪ :‬هذا مثري‪ ،‬لكن ال تبق‪�،‬إذن‪ ،‬واقفا قرب ال�ستائر‬
‫منه �شيئا‪ .‬ولن تقدم ال�شمبانيا ب�سبب احلداد‪ ،‬لكن كل �أنواع‬ ‫البي�ضاء‪ .‬ميكن للنار �أن متتد �إليها‪.‬‬
‫اخلمور الأ خرى �سوف تكون حا�رضة‪ .‬كان للآ ن�سة هورتن�س‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لي�س ثمة من خطر؛ فهي �شعلة �سماوية‪.‬‬
‫‪181‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أمتنى �أن تكون عر�ضة له‪� .‬سوف يدمدم ال�سيد غو�ستاف‬ ‫�أف�ضل خمزن للخمور يف املدينة‪� .‬سوف �أحر�ص على �أن‬
‫غا�ضبا �إن مل يكن كل �شيء نظيفا والمعا �أثناء مرور‬ ‫�أجلب لك ك�أ�سا مرتعة �إذا كانت ثمة ف�ضلة‪ ،‬و�سوف تقيم‬
‫ال�ضيوف من هنا‪ .‬لي�س هو بال�شخ�ص املت�ساهل‪ ،‬ثم �إنه‬ ‫بنف�سك اجلودة‪ .‬انتظر! �سوف �أذهب لأ رى ما يفعلون‪( .‬ت�صعد‬
‫يلزمني تنظيف الأ واين النحا�سية‪ .‬هناك‪� ،‬أدر ال�صنبور‪،‬‬‫الأ دراج وتزيح ال�ستارة لتنظر من خلل الباب الزجاجي)‬
‫هكذا‪� ،‬أح�سنت‪ .‬ناولني اجلردل‪� .‬أال ت�شعر بالربد يف قدميك؟‬
‫�أعتقد �أنهم �رشعوا يف �أكل ال�سلمون على طريقة �شوبري‪.‬‬
‫�شمر‪�،‬إذن‪ ،‬عن ثيابك لأ نك �سوف تتبلل‪ .‬انتبه �إىل الإ كليلني‪.‬‬
‫انظر! هو ذا جوزيف وهو ينقل الأ نانا�س‪ .‬تلزمهم �ساقيتان‬
‫�ضعهما فوق املقعد هناك‪ .‬جيد جدا (ي�أتي �إليها القدي�س‬‫�أخريتان قبل �أن يفرغوا‪ .‬هيا! اجل�س (يذهب القدي�س لكي‬
‫�أنطوان باجلردل) �شكرا‪� .‬أنت لطيف جدا‪ .‬يلزمني جردل‬ ‫يجل�س فوق الأ ريكة) ال‪ .‬ال‪ .‬لي�س فوق الأ ريكة املغ�شاة؛‬
‫� آخر (ت�سمع �ضجة �أ�صوات وكرا�س تتحرك) ا�سمع! ما الذي‬
‫لأ نك ملطخ بالوحل‪ ،‬ولكن فوق هذا املقعد‪ .‬ينبغي �أن‬
‫يحدث؟ �سوف �أذهب لأ رى (تذهب �إىل الباب الزجاجي)‬ ‫�أنتهي من عملي (يجل�س القدي�س �أنطوان فوق مقعد فيما‬
‫انظر! لقد نه�ض ال�سيد‪ .‬ما الذي يحدث؟ هل هم مغتاظون؟‬ ‫تعاود فرجيني العمل) وتذهب لأ خذ جردل من املاء) انتبه!‬
‫ال �أعتقد؛ لأ ن الآ خرين ي�أكلون‪ .‬جوزيف ميلأ ك�أ�سي ال�سيد‬
‫ارفع �ساقيك؛ لأ نني �سوف �أدلق املاء‪ .‬ال‪ ،‬ال تبق هنا؛ لأ نك‬
‫والراهب‪ .‬لقد انتهوا من �أكل ال�سلمون‪ .‬ال�سيد يخرج‪ ،‬وميكنني‬
‫ت�ضايقني‪ ،‬ولي�س املكان بعد نظيفا‪ .‬اذهب هناك يف تلك‬
‫�أن �أكلمه �أثناء مروره و�أن �أقول له �إنك‪...‬‬
‫الزاوية و�أ�سند املقعد �إىل اجلدار (ميتثل القدي�س ملا ت�أمره‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪ .‬نعم‪ .‬اذهبي‪�،‬إذن‪ ،‬فورا‪.‬‬
‫به) �سوف تكون هناك يف م�أمن‪ ،‬ولن تتبلل قدماك‪� .‬أل�ست‬
‫فرجيني‪ :‬ح�سنا! اترك اجلردل؛ فلم تعد بي حاجة �إليه‪.‬‬ ‫جائعا؟‬
‫هناك‪ .‬خذ املكن�سة‪ .‬ال مت�سكها هكذا‪ .‬اذهب‪�،‬إذن‪ ،‬واجل�س‬‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪� .‬شكرا‪� .‬أنا يف عجلة من �أمري‪ .‬اذهبي‪�،‬إذن‪،‬‬
‫(ميتثل القدي�س �أنطوان ويذهب للجلو�س فوق الإ كليلني‬ ‫و�أخربي ال�سادة‪.‬‬
‫املو�ضوعني فوق املقعد) �أنت! ما الذي تفعله؟ لقد جل�ست‬ ‫فرجيني‪� :‬أنت م�ستعجل؟ ما الذي �سوف تفعله �إذن؟‬
‫فوق الإ كليلني!‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬معجزتان �أو ثالث‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أ�س�ألك املعذرة؛ فنظري �ضعيف‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬ال ميكننا �أن نقول لهم �شيئا وهم بعد حول املائدة‪.‬‬
‫فرجيني‪� :‬أيها الوقح‪ .‬ها هما نظيفان‪ .‬ما الذي �سوف يقوله‬
‫ينبغي �أن ننتظر �إىل �أن يفرغوا من احت�ساء القهوة‪� .‬سوف‬
‫ال�سيد غو�ستاف عند ر�ؤية هذين الإ كليلني‪ .‬من ح�سن احلظ‬
‫ي�ستاء ال�سيد غو�ستاف كثريا‪ .‬وال علم يل �أي�ضا بالطريقة‬
‫�أنه مل يلحقهما �رضر كبري وميكننا �أن نعيد ترتيبهما‪.‬‬ ‫التي �سوف ي�ستقبلونك بها‪ .‬فهو ال يرغب يف �أن ندخل فقراء‬
‫اجل�س هناك و�ضعهما فوق ركبتيك والزم الهدوء‪ .‬ال تتحرك‬
‫�إىل املنزل‪ ،‬وال يلوح عليك مظهر الرثاء‪.‬‬
‫خ�صو�صا؛ لأ نك �سوف ترتكب حماقات �أخرى (تركع على‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪ .‬لي�س القدي�سون ب�أثرياء‪.‬‬
‫ركبتيها قبالة القدي�س) �أرغب يف �أن �أ�صلي من �أجلك‪...‬‬
‫فرجيني‪ :‬لكنهم يتو�صلون بالهبات رغم ذلك‪..‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬افعلي‪�،‬إذن‪ ،‬وال تنزعجي‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪ ،‬لكن هاته الهبات ال ت�صل �إىل‬
‫فرجيني‪ :‬باركني ما دمنا وحيدين؛ لأ نه �إذا جاء ال�سادة‪،‬‬
‫ف�سوف يحملونني على اخلروج‪ ،‬ولن �أراك �أبدا‪ .‬امنحني الآ ن‬ ‫ال�سماء‪.‬‬
‫بركتك‪ .‬امنحها يل وحدي �أنا العجوز التي هي يف م�سي�س‬ ‫فرجيني‪ :‬هذا غري ممكن! الكهنة‪�،‬إذن‪ ،‬هم من ي�ستحوذون‬
‫على ما نعطيه؟ قيل يل ذلك‪ ،‬لكنني مل �أ�صدقه‪ .‬طيب! ها �أنا‬
‫احلاجة �إليها‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان (ينه�ض ويباركها فيما هالته ت�شتعل)‪:‬‬ ‫يف حاجة ما�سة �إىل املاء‪� .‬أ�صغ �إيل!‬
‫يا ابنتي‪� .‬أباركك؛ لأ نك طيبة وب�سيطة الروح والقلب دون‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ماذا؟‬
‫خبث �أو خ�شية حيال العجائب الكبرية والوفية لواجباتك‬ ‫فرجيني‪� :‬أال ترى ذلك ال�صنبور النحا�سي على ميينك؟‬
‫املتوا�ضعة‪ .‬اذهبي ب�سالم يا ابنتي و�أخربي �سيدك‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬بلى‪.‬‬
‫تخرج فرجيني ويجل�س القدي�س �أنطوان فوق املقعد‪ .‬وبعد‬ ‫فرجيني‪� :‬إنها النافورة وبجانبها جردل فارغ‪ .‬هل ميكنك‬
‫فرتة وجيزة‪ ،‬يدخل ال�سيد غو�ستاف متبوعا بفرجيني من‬ ‫�أن متلأ ه؟‬
‫الباب الزجاجي‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬بكل �رسور‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬لن �أمتكن من تنظيف املكان كله �إذا مل ي�أت‬
‫�أحد لنجدتي‪ ،‬ولي�س ثمة من ي�ستطيع ذلك‪ .‬تع�صف احلرية امل�شهد الثاين‬
‫باجلميع‪ .‬لي�س التح�ضري جلنازة بالعمل الهني‪ ،‬و�أنت تعرف ال�سيد غو�ستاف (ب�صوت مهتاج ومتوتر)‪ :‬ما الذي يحدث؟‬
‫ذلك جيدا‪ .‬من ح�سن احلظ �أن ذلك ال يحدث كل يوم‪ ،‬وال ما الذي تريده؟ من �أنت؟‬
‫‪182‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ال�شارع‪ ،‬لكنه ال يتمكن من زحزحته قيد �أمنلة‪ .‬يبدو مبلبل‬ ‫القدي�س �أنطوان (ينه�ض بتوا�ضع)‪ :‬القدي�س �أنطوان‪.‬‬
‫اخلاطر) �سيدي؟‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أجمنون �أنت؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما الذي يحدث؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬من بادو‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما هاته املزحة؟ ل�ست يف مزاج جيد لكي جوزيف‪ :‬ل�ست �أدري ما به‪� .‬إنه مت�سمر وال ميكنني حتريكه‬
‫�أ�ضحك‪ .‬هل �رشبت؟ ما �سبب وجودك هنا؟ ما الذي تريده؟ من مو�ضعه‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬سوف �أ�ساعدك‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أريد �أن �أحيي الآ ن�سة عمتك‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬كيف؟ �أن حتيي عمتي (موجها اخلطاب �إىل يحاوالن زحزحة القدي�س الذي يظل ثابتا كالطود‬
‫فرجيني) �إنه �سكران‪ .‬ملاذا �سمحت له بالدخول؟ (خماطبا ال�سيد غو�ستاف (ب�صوت خافت)‪ � :‬آه! �إنه خطري؛ فلن�أخذ‬
‫القدي�س �أنطوان) ا�سمع يا �صديقي وكن عاقال‪ .‬ال وقت لدينا حذرنا‪� .‬إن له قوة خارقة للم�ألوف‪ .‬لنحاول التعامل معه‬
‫للمزاح‪� .‬سوف نقوم بدفنها اليوم‪ .‬عد غدا وهاك ع�رشة بهدوء‪ .‬لعلك تفهم جيدا يا �صديقي �إننا نقوم اليوم بدفن‬
‫عمتي امل�سكينة التي ت�ستحق كل تقدير‪.‬‬ ‫�سنتات‪.‬‬
‫القدي�س �أنطوان (ب�شيء من العناد)‪ :‬ينبغي �أن نحييها القدي�س �أنطوان‪� :‬أنا هنا لكي �أحييها‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لكنك تفهم جيدا �أن الوقت لي�س منا�سبا؛‬ ‫اليوم‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬سوف تفعل ذلك الحقا بعد املرا�سيم فاحلجل الفاخر يربد واملدعوون ينتظرون‪ ،‬ثم �إننا ال نرغب‬
‫يف ال�ضحك‪.‬‬ ‫وبكيفية جيدة‪ .‬هيا‪ .‬اخلروج من هنا‪.‬‬
‫يظهر ال�سيد � آ�شيل عند مدخل الباب الزجاجي وهو مي�سك‬ ‫احلياة‪.‬‬ ‫إليها‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لن �أخرج ما مل �أعد �‬
‫ال�سيد غو�ستاف (منفجرا)‪ � :‬آه! لقد طفح بي الكيل‪ .‬هل تعلم منديال‬
‫�إنك قد بد�أت ت�ضايقني‪ .‬ال�ضيوف ينتظرون ( يذهب لفتح ال�سيد �أ�شيل‪ :‬من هذا ال�شخ�ص يا غو�ستاف؟ ما الذي يحدث؟‬
‫نحن يف انتظار احلجل الثمني‪.‬‬ ‫باب ال�شارع) هيا‪ .‬هي ذي الباب‪� .‬أ�رسع‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬الذي يحدث �أن ال�سيد ال يرغب يف‬ ‫احلياة‪.‬‬ ‫إليها‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لن �أخرج ما مل �أعد �‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ � :‬آه! هكذا‪� ،‬إذن‪ .‬ح�سنا! �سوف نرى (يفتح االن�رصاف‪.‬‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬هل هو �سكران؟‬ ‫الباب الزجاجي وي�رصخ) جوزيف!‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬طبعا!‬ ‫امل�شهد الثالث‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬اقذف به �إىل اخلارج‪ ،‬ولننته من هذه املهزلة‪.‬‬ ‫فرجينـــي‪ ،‬القـدي�س �أنطــوان‪ ،‬ال�سيــد غــو�ستـاف‬
‫لن ن�ضيع غذاء لذيذا ب�سبب �شخ�ص �سكران؟‬ ‫وجوزيف‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لي�س ثمة من و�سيلة‪.‬‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬لي�س ثمة من و�سيلة‪ ،‬كيف؟ � آه! �أرغب يف �أن‬‫جوزيف (يظهر فوق ال�سلم وهو يحمل بيديه طبقا كبريا‬
‫�أت�أكد حقيقية‪.‬‬ ‫يتطاير منه البخار)‪� :‬سيدي؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬حاول بنف�سك �إن �شئت‪.‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف (ناظرا �إىل الطبق)‪ :‬ما هذا؟‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬لن �أ�شتبك مع �أفاق من هذا النوع‪ ،‬لكن ثمة‬ ‫جوزيف‪ :‬احلجل الفاخر‪.‬‬
‫جوزيف امل�سكني‪.‬‬‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ح�سنا! �سلم الطبق �إىل فرجيني‪ ،‬واقذف‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬حاولنا دون جدوى‪ ،‬ومل يبق �إال �أن نلج أ�‬ ‫بهذا ال�سكري �إىل اخلارج‪ ،‬وب�رسعة‪..‬‬
‫جوزيف (وهو يناول فرجيني الطبق)‪ :‬ح�سنا �سيدي (وهو‬
‫�إىل العنف‬
‫يظهر مدعوون �آخرون عند الباب الزجاجي‪ ،‬وكانوا جميعهم‬ ‫يقرتب من القدي�س) هيا يا �صديقي‪ .‬هل �سمعت؟ لي�س �رشب‬
‫ب�أفواه مكتظة بالطعام ومي�سكون مبناديل حتت �أذرعهم �أو‬ ‫اخلمر بكل �شيء‪ .‬هيا‪ ،‬اخرج من هنا‪ .‬لنن�سل من هنا بهدوء‬
‫و�إال فحذار من �أحطم وجهك؛ لأ ن قب�ضتي قوية‪ .‬ل�ست على‬
‫حول �أعناقهم‬
‫�أح�سن ما يرام؟ انتظر‪ ،‬انتظر! افتحي الباب يا فرجيني‪..‬‬
‫امل�شهد اخلام�س‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬انتظر‪� .‬سوف �أذهب لأ فتحها‪..‬‬
‫ال�شخ�صيات نف�سها وعدد من ال�ضيوف‬ ‫يفتح باب ال�شارع‬
‫جوزيف‪ :‬ح�سنا‪ .‬ح�سنا! هذا يكفي؛ لأ نه لن يخرج يف �سيارة �ضيف‪ :‬ما الذي يحدث؟‬
‫( ي�شمر عن �أكمامه ويب�صق يف راحتيه) �سوف نرى ( مي�سك � آخر‪ :‬ماذا تفعل يا غو�ستاف؟‬
‫بالقدي�س �أنطوان بعنف لكي يقذف به دفعة واحدة �إىل � آخر‪ :‬ما الذي يريده هذا الرجل؟‬
‫‪183‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ف�أخت�ص بالأ حرى بالآ الت الزراعية و�أدوات احلرث‪ .‬هذا‬ ‫� آخر‪ :‬من �أين انبعث هذا؟‬
‫مبعوث من ال�سماء‪ ،‬القدي�س الأ كرب �أنطوان �شخ�صيا الذي‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنه ال يرغب يف اخلروج‪ ،‬وقد ارتكبت‬
‫يرغب يف احلديث معك (يخاطب الراهب بهم�س) هذا �شخ�ص‬ ‫فرجيني جمددا حماقة �أخرى‪ .‬ويكفي �أن ترى فقريا لكي‬
‫جمنون‪ ،‬وعلينا �أن ندفعه بهدوء �صوب الباب دون �أن يفطن‬ ‫تفقد اتزانها‪ .‬واحلق �أنها مفرطة يف الغباء؛ �إذ �سمحت‬
‫�إىل مق�صدنا‪ ،‬وما �أن يحتويه اخلارج حتى نلقي عليه بتحية‬ ‫لهذا املجنون الذي يرغب يف ر�ؤية العمة بزعم �إحيائها‬
‫امل�ساء وننتهي من الأ مر كله‪..‬‬ ‫بالدخول‪.‬‬
‫ال�شخ�صيات ذاتها‪ ،‬الراهب واملدعوون‬ ‫�ضيف‪ :‬ينبغي �أن تخرب ال�رشطة‪ .‬ابعث يف طلب �رشطيني‪..‬‬
‫الراهب (بنربة �أبوية)‪� :‬أيها القدي�س الكبري �أنطوان‪� .‬إن‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ال‪ .‬ال‪ .‬ال �أريد �أي ح�ضور لأ عوان ال�رشطة‪.‬‬
‫خادمك املتوا�ضع يتمنى لك مقاما �سعيدا فوق هذه الأ ر�ض‬ ‫ينبغي �أن نتجنب الف�ضيحة خ�صو�صا يف هذا اليوم‪.‬‬
‫التي تكرمتم بت�رشيفها بح�ضوركم املقد�س‪ .‬ما الذي ترغب‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬غو�ستاف؟‬
‫فيه قدا�ستكم؟‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ماذا؟‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أن �أحيي الآ ن�سة هورتن�س‪..‬‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬هل الحظت وجود قطعتي رخام �أو ثالث‬
‫الراهب‪� :‬صحيح �أن ال�سيدة الطيبة ميتة وا �أ�سفاه! لكن‬ ‫مت�آكالت على الي�سار هناك يف �أق�صى الدهليز؟‬
‫معجزة من هذا القبيل �سهلة بالن�سبة لأ كرب قدي�سينا‪ .‬لقد‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪� :‬أعرف ذلك‪ .‬لي�س الأ مر بذي �أهمية‪� .‬إنني �أفكر‬
‫كان للفقيدة العزيزة تقدير خا�ص لكم‪� .‬سوف �أقودكم �إىل‬ ‫يف ا�ستبدال الرخام بالف�سيف�ساء‪.‬‬
‫حيث هي م�سجاة‪ ،‬ولتتكرم قدا�ستكم ب�أن تتبعني (يتجه‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪� :‬سوف يكون الأ مر �أكرث �إثارة لل�ضحك‪.‬‬
‫نحو باب ال�شارع وهو يعينه للقدي�س �أنطوان) من هنا‪..‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬سوف يكون بالأ حرى �أكرث حداثة‪� ،‬أما ما‬
‫القدي�س �أنطوان‪( :‬م�شريا �إىل الباب على اليمني)‪ :‬ال‪ .‬الطريق‬ ‫يخ�ص هذا الباب ب�ستائره البي�ضاء‪ ،‬ف�إنني �أفكر يف واجهة‬
‫من هنا‪.‬‬ ‫زجاجية ترمز �إىل القن�ص وال�صناعة والتقدم مع حوا�ش‬
‫الراهب‪ :‬لتتكرم قدا�ستكم بقبول اعتذاري ملعار�ضتكم؛ ذلك‬ ‫تزينه ومتثل للفواكه واحلجل‪..‬‬
‫�أن اجلثمان ب�سبب التوافد الكثيف للزوار‪ ،‬قد و�ضع يف‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪� :‬إنني �أرى ذلك فعال‪..‬‬
‫املنزل املقابل الذي تعود ملكيته �أي�ضا للفقيدة العزيزة‪.‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أما فيما يهم غرفة مكتبي (ي�شري �إىل الغرفة‬
‫القدي�س �أنطوان‪( :‬م�شريا �إىل الباب على اليمني)‪� :‬إنه هناك‪.‬‬ ‫على اليمني) ف�إنني �أفكر يف نقلها �إىل هنا‪ ،‬و�سوف �أخ�ص�ص‬
‫الراهب (برخاوة �أكرث)‪ :‬لتتكرم قدا�ستكم كي تقتنع بالعك�س‬ ‫الغرفة الواقعة يف اجلانب الآ خر للموظفني‪.‬‬
‫و�أن تتبعني حلظة �إىل ال�شارع‪ ،‬و�سوف ترى ال�شمعدانات‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬متى ت�رشع يف التنفيذ؟‬
‫و�ستائر احلداد ال�سوداء‪.‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أياما قليلة بعد املرا�سيم‪ .‬لن يكون من‬
‫القدي�س �أنطوان (م�شريا بوثوق �إىل الباب على اليمني)‪:‬‬ ‫املنا�سب �أن �أ�رشع من الغد‪.‬‬
‫�سوف �أدخل هناك‪.‬‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬نعم‪ ،‬لكن يف انتظار ذلك‪ ،‬ينبغي التخل�ص من‬
‫مدعو‪ :‬لي�س الرجل �سويا‪.‬‬ ‫هذا الدخيل‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنه يبالغ بع�ض ال�شيء‪.‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنه يت�رصف كما لو �أنه يف منزله‪..‬‬
‫مدعو‪ :‬لنفتح الباب ونلقي به جميعا �إىل اخلارج‪..‬‬ ‫ال�سيد �أ�شيل (خماطبا القدي�س �أنطوان)‪ :‬هل ترغب يف‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ال �أرغب يف ف�ضيحة؛ �إذ قد يغ�ضب وهو‬ ‫�أريكة؟‬
‫�شخ�ص خطري ذو قوة عاتية‪ .‬وقد حاولت مبعية جوزيف‬ ‫القدي�س �أنطوان (ب�سذاجة)‪ :‬ال‪� .‬شكرا‪ .‬ال �أح�س ب�أي تعب‪.‬‬
‫ـول�سنا ذوي بنيتني �ضعيفتني ـ �أن نحركه من مو�ضعه‪ ،‬لكن‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬دع الأ مر يل و�سوف �أقوم مبا يلزم (يقرتب من‬
‫دون جدوى‪ .‬يبدو الأ مر عجيبا‪ ،‬لكنه مت�سمر يف الأ ر�ض‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان ليخاطبه بود)‪ :‬هه يا �صديقي‪ ،‬من �أنت؟‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬لكن‪ ،‬من قال له �إن اجلثمان موجود هناك؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أنا القدي�س �أنطوان‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنها جمددا فرجيني التي ما من �شك يف‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬نعم‪ .‬نعم‪ .‬هذا مفهوم (خماطبا الآ خرين) �إنه‬
‫�أنها ثرثرت دون ح�سيب �أو رقيب‪..‬‬ ‫يتم�سك مبزاعمه‪ ،‬لكنه لي�س خبيثا (يلمح الراهب و�سط‬
‫فرجيني‪� :‬أنا يا �سيدي؟ لي�س الأ مر كذلك‪ .‬كنت منهمكة يف‬ ‫املدعووين الذين يحيطون بالقدي�س �أنطوان ويتفح�صونه‬
‫عملي‪ ،‬ومل �أزد على �أن قلت نعم‪ .‬ال‪� .‬ألي�س كذلك �أيها القدي�س‬ ‫بف�ضول ير�شح بال�سخرية واحلذر) لكن‪ ،‬هو ذا ال�سيد الراهب‬
‫�أنطوان؟ ( ال يجيب القدي�س) �أجب‪�،‬إذن‪ ،‬عندما نخاطبك‬ ‫الذي عرفك وجاء ليقوم بالواجب جتاهك‪ .‬اقرتب �سيدي‬
‫ب�أدب‪..‬‬ ‫الراهب؛ فالقدي�سون اخت�صا�صك بدون منازع‪� ،‬أما �أنا‪،‬‬
‫‪184‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫جمربين على العناية باملجانني والأ فاكني وال�سكارى‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان (وهو دائم االمتثال)‪ :‬مل تخربين بذلك‪.‬‬
‫الطبيب‪ :‬هل ترغب يف �سماع ر�أيي؟‬ ‫فرجيني‪ :‬هل ر�أيتم؟ �إنه قدي�س‪ ،‬وكان يعلم م�سبقا بكل‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ها �أنا م�صغ �إليك‪.‬‬ ‫�شيء‪� .‬أقول لكم �إنه يعلم كل �شيء‪.‬‬
‫الطبيب‪� :‬إننا نواجه جمنونا ذا �أطوار عجيبة‪ ،‬لكنه م�سامل‬ ‫ال�سيد � آ�شيل (مقرتبا من القدي�س وهو يربت على كتفه)‪ :‬هيا‬
‫بدون �شك‪ .‬غري �أنه قد يتحول �إىل �شخ�ص خطري �إذا نحن‬ ‫�أيها ال�شهم‪ .‬حترك‪ .‬اللعنة!‬
‫�أزعجناه‪� .‬إنني �أعرف هذا ال�صنف من الب�رش‪ ،‬وهذا احلديث‬ ‫املدعوون‪ :‬هل �سوف يخرج؟ �ألن يخرج؟‬
‫�رس بيننا‪ .‬وهما يبدو من غرابة هذا االختيار‪ ،‬ف�إنه ال‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬لدي فكرة‪.‬‬
‫يت�ضمن �أية �إ�ساءة للفقيدة العزيزة‪ .‬وعليه‪ ،‬ال �أرى من �أجل‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما هي؟‬
‫جتنب الف�ضيحة �أية غ�ضا�ضة باعتبار ب�ساطة ما يطلبه يف‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪� :‬أين الطبيب؟‬
‫�أن ن�أذن له بالدخول للحظات �إىل الغرفة‪.‬‬ ‫مدعو‪ :‬ما زال حول املائدة؛ �إذ مل يفرغ بعد من �أكل‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لن يحدث ذلك ما حييت‪ .‬كيف �سيكون‬ ‫ال�سلمون‪..‬‬
‫حالنا �إذا متكن �أي وافد من �أن يقتحم هكذا منزل عائلة‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬اذهبوا‪�،‬إذن‪ ،‬و�أح�رضوه (�سوف نخرب‬
‫نبيلة بذريعة عبثية تتمثل يف �إحياء ميتة مل تلحق به �أي‬ ‫الطبيب) هذا �صحيح‪� .‬إنه جمنون وهو اجلدير بالتعامل‬
‫�أذى‪..‬‬ ‫معه‪..‬‬
‫الطبيب‪ :‬على ر�سلكم؛ واخليار لكم �أوال و� آخرا‪ .‬ثمة‪ ،‬من‬ ‫يدخل الطبيب وفمه مكتظ بالطعام واملنديل حتت‬
‫جهة‪ ،‬ف�ضيحة جم�سدة؛ لأ نه ما من �شيء �سوف يحمله على‬ ‫ذقنه‪..‬‬
‫العدول عن رغبته‪ ،‬وهناك‪ ،‬من جهة �أخرى‪ ،‬تنازل ب�سيط لن‬ ‫الطبيب‪ :‬من ؟ جمنون؟ مري�ض؟ �سكران؟ (يرى القدي�س) �إنه‬
‫ي�ضريكم يف �شيء‪..‬‬ ‫فقري م�سكني وال ي�سعنا فعل �شيء‪ .‬ح�سنا يا �صديقي‪� .‬أل�ست‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬الطبيب على �صواب‪.‬‬ ‫على ما يرام؟ هل ترغب يف �شيء؟‬
‫الطبيب‪ :‬لي�س ثمة ما تخ�شونه‪ ،‬و�أنا �أحتمل امل�س�ؤولية كاملة‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أريد �أن �أحيي الآ ن�سة هورتن�س‪.‬‬
‫ثم �إننا �سوف �سوف نكون ح�ضورا و�سوف ندخل �صحبته‪.‬‬ ‫الطبيب‪ � :‬آه! جيد جدا‪� .‬أفهم؛ فل�ست طبيبا‪ .‬هل ت�سمح يل ب�أن‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ليكن‪ .‬ولننته من الأ مر‪ .‬بيد �أنه ال ينبغي‬ ‫�أم�سك بيدك؟ (يج�س لوزتيه) �أال ت�شعر ب�أمل؟‬
‫لأ حد �أن يحيط علما بهذه املغامرة ال�سخيفة‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪.‬‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪� :‬إن جواهر العمة مو�ضوعة فوق املدف�أة‪.‬‬ ‫الطبيب (يج�س جبينه ور�أ�سه) وهنا؟ �أال حت�س ب�شيء حني‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أعرف ذلك‪ ،‬و�سوف �أكون حري�صا‪ .‬ال �أخفي‬ ‫�أ�ضغط ب�إ�صبعي؟‬
‫عنك كوين غري واثق (خماطبا القدي�س �أنطوان) هيا‪ .‬من هنا‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪.‬‬
‫ادخل‪ ،‬هيا‪ .‬ب�رسعة �أكرث؛ لأ ننا مل نتناول غذاءنا بعد‪..‬‬ ‫الطبيب‪ :‬هذا جيد‪� .‬أمل ت�شعر �أبدا بالدوار؟‬
‫يدخلون جميعا �إىل الغرفة على اليمني متبوعني بالقدي�س‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أبدا‪.‬‬
‫�أنطوان الذي ت�شتعل هالته بقوة‬ ‫الطبيب‪ :‬والأ جداد‪� ،‬ألي�ست ثمة حوادث مزعجة؟ لننظر هنا‪.‬‬
‫الف�صل الثاين‬ ‫جيد جدا‪ .‬تنف�س بعمق‪� .‬أكرث‪� .‬أكرث‪ .‬هذا جيد‪ .‬ما الذي ترغب‬
‫فيه يا �صديقي؟‬
‫�صالون‪ .‬يف العمق �سجي على �رسير كبري جثمان الآ ن�سة‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أرغب يف الدخول �إىل هذه الغرفة‪.‬‬
‫هورتن�س‪� .‬شمعدانان م�شتعالن‪ ،‬غ�صن �صنوبر �إلخ‪ ..‬على‬ ‫الطبيب‪ :‬ملاذا؟‬
‫الي�سار باب‪ ،‬على اليمني باب زجاجي ينفتح على احلديقة‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لكي �أحيي الآ ن�سة هورتن�س‪.‬‬
‫تدخل �شخ�صيات الف�صل ال�سابق جميعها عرب الباب الواقع‬ ‫الطبيب‪� :‬إنها لي�ست هناك‪.‬‬
‫على الي�سار متبوعني بالقدي�س �أنطوان الذي يعني له ال�سيد‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬إنها هناك‪ ،‬و�أنا �أراها‪.‬‬
‫غو�ستاف مو�ضع ال�رسير‪..‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لن يرتاجع قيد �أمنلة‪.‬‬
‫الول‬
‫امل�شهد أ‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ما ر�أيك لو حقنته ب�إبرة؟‬
‫الطبيب‪ :‬ملاذا؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ ،‬القدي�س �أنطوان‪ ،‬فرجيني‪ ،‬ال�سيد‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬لكي تنيمه‪ ،‬و�سوف ن�ضعه بعدها يف ال�شارع‪.‬‬
‫� آ�شيل‪ ،‬مدعو‪ ،‬الطبيب‪ ،‬املر�أة العجوز‪..‬‬ ‫الطبيب‪ :‬ال حماقات من ف�ضلكم‪ ،‬ثم �إن ذلك خطري‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هو ذا جثمان الفقيدة العزيزة‪ .‬ها �أنت‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬هذا م�ؤ�سف‪ .‬بيد �أننا ل�سنا معنيني بذلك‪ ،‬ول�سنا‬
‫‪185‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سعيدة‪..‬‬ ‫ترى ب�أنها ميتة حقا‪ .‬هل ر�ضيت الآ ن؟ اتركنا الآ ن ب�سالم‪.‬‬
‫فرجيني‪ :‬بلى‪ .‬بلى‪ .‬يلزمنا �أن ن�صدق ذلك‪ .‬مل يعد ثمة من‬ ‫لنخت�رص هذا االختبار‪ .‬قودي ال�سيد عرب باب احلديقة‪.‬‬
‫�شك‪ .‬قلت لكم ذلك جيدا‪� .‬إنه قدي�س كبري‪ .‬انظروا �إليها كيف‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أ�ست�سمحكم ( يتقدم �إىل و�سط الغرفة‬
‫حتيا‪� .‬إنها يانعة كوردة‪.‬‬ ‫ويتوقف عند حافة ال�رسير‪ ،‬ثم يتوجه باخلطاب �إىل‬
‫ال�سيد غو�ستاف (يقرتب من ال�رسير ويقبل املر�أة التي عادت‬ ‫اجلثمان ب�صوت قوي وجهري) انه�ضي!‬
‫�إىل احلياة)‪ :‬عمتي‪ .‬عمتي العزيزة‪� .‬أنت �إذن!‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬انتظر‪ ،‬فهذا يكفي‪ .‬لي�ست بنا قدرة على �أن‬
‫ال�سيد � آ�شيل (يقرتب بدوره)‪ :‬و�أنا يا عمتي الطيبة‪ .‬هل‬ ‫نتحمل كثريا عبث �شخ�ص غريب ب�أنبل م�شاعرنا‪� .‬أ�ستحلفك‬
‫عرفتني؟ �أنا � آ�شيل‪ ،‬ابن �أخيك � آ�شيل‪..‬‬ ‫للمرة الأ خرية‪..‬‬
‫امر�أة عجوز‪ :‬و�أنا يا عمتي ال�صغرية؟ �أنا ابن �أخيك‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أ�ست�سمحكم (يقرتب �أكرث من ال�رسير‬
‫ايونتني‪.‬‬ ‫وب�صوت قوي و� آمر) انه�ضي!‬
‫�شابة �صغرية‪ :‬و�أنا يا عرابتي الغالية‪ ،‬هل عرفتني؟‬ ‫و�أمام ده�شة اجلميع‪� ،‬أتت املر�أة امليتة يف البدء بحركة‬
‫�أنا �صغريتك فالنتني التي �أهديتها كل �أدوات مطبخك‬ ‫خفيفة‪ .‬فتحت عينيها قليال وفكت يديها ثم انت�صبت ببطء‬
‫الف�ضية‪..‬‬ ‫و�سوت و�ضع طاقيتها وهي تنظر حولها بامتعا�ض وا�ستياء‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنها تبت�سم‪..‬‬ ‫ثم �أخذت تفرك بهدوء لطخة �شمع اكت�شفتها لتوها فوق‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ال‪ ،‬بل يبدو عليها اال�ستياء‪..‬‬ ‫ياقة الثوب‪ .‬ران للحظة �صمت كثيف‪ ،‬ثم كانت فرجيني‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إنها تتذكرنا جميعا‪..‬‬ ‫�أول من ان�سلت من و�سط اجلمع ثم رك�ضت نحو ال�رسير‬
‫ال�سيد � آ�شيل (وهو ينظر �إىل العمة وهي تفتح �شفتيها وحترك‬ ‫وقد �أطارت الده�شة �صوابها ثم ارمتت بني ذراعي املر�أة‬
‫�شفتيها)‪ :‬انتبهوا‪� ..‬سوف تتكلم!‬ ‫العائدة �إىل احلياة‪..‬‬
‫فرجيني‪ :‬يا �إلهي! لقد ر�أت الرب‪ ،‬و�سوف تبوح لنا مبتع‬ ‫فرجيني‪ � :‬آن�سة هورتن�س! �إنها حية‪ .‬انظروا �إليها وهي تفرك‬
‫ال�سماء‪ .‬اركعوا! اركعوا!‬ ‫لطخة ال�شمع‪� .‬إنها تبحث عن نظارتيها‪ .‬ها هما‪ .‬ها هما‪.‬‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ا�سمعوا! ا�سمعوا!‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ .‬القدي�س �أنطوان‪ .‬معجزة! معجزة! اركعوا!‬
‫امل�شهد الثاين‬ ‫اركعوا!‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬مهال‪ .‬اخر�سي‪ .‬ال تتفوهي بحماقات؛ فلي�س‬
‫الآن�سة هورتن�س‪ ،‬ال�سيد غو�ستاف‪ ،‬القدي�س �أنطوان‪،‬‬ ‫الوقت منا�سبا‪.‬‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ ،‬فرجيني‪ ،‬الطبيب‪ ،‬جوزيف‪..‬‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬ال جدال فيما نراه‪� .‬إنها حتيا‪.‬‬
‫الآ ن�سة هورتن�س‪( :‬ب�صوت حاد وغا�ضب‪ ،‬فيما كانت‬ ‫مدعو‪ :‬لكن هذا غري ممكن‪ .‬ما الذي فعله؟ �أي فعل �أتاه؟‬
‫تنظر �إىل القدي�س �أنطوان وقد الح االنزعاج والقرف على‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هذا غري معقول‪� .‬سوف ت�سقط جمددا‪.‬‬
‫وجهها)‪ :‬من هذا ال�شخ�ص؟ من �سمح لهذا البائ�س بالدخول‬ ‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ال‪.‬ال‪� .‬أ�ؤكد لكم‪ .‬انظروا كيف تتطلع �إلينا‪.‬‬
‫�إىل غرفتي؟ لقد لطخ كل ال�سجاجيد‪� .‬إىل الباب‪� .‬إىل الباب‪.‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما �أفت أ� عاجزا عن الت�صديق‪� .‬أي عامل نوجد‬
‫تعلمني جيدا فرجيني �إنني �أمنع الفقراء من‪...‬‬ ‫فيه؟ مل تعد ثمة قوانني‪ .‬ما ر�أيك �أيها الطبيب؟‬
‫القدي�س �أنطوان (رافعا يده بطريقة � آمرة)‪� :‬صه!‬ ‫الطييب (مت�ضايقا)‪ :‬ر�أيي؟ ماذا تريدين �أن �أقول؟ هذا ال‬
‫توقفت العمة بكيفية مباغتة وملا تكمل عبارتها بعد‪،‬‬ ‫يعنيني يف �شيء ومل تعد يل �صلة بهذه الق�ضية‪ .‬هذا عبثي‬
‫وظلت خر�ساء وعاجزة عن �إ�صدار �أي �صوت‪.‬‬ ‫و�شديد الب�ساطة يف � آن‪ .‬و�إذا كانت حتيا؛ فهذا يعني �أنها‬
‫ال�سيد غو�ستاف (خماطبا القدي�س �أنطوان)‪ :‬ينبغي �أن‬ ‫مل متت‪ ،‬وهذا يحدث �أحيانا‪ .‬لي�س يف الأ مر ما يدعو �إىل‬
‫تعذرها؛ فال علم لها بعد مبا هي مدينة لك به‪.‬لكننا على‬ ‫الده�شة �أو اعتباره معجزة‪ .‬ومهما يكن‪ ،‬ف�أنا ل�ست م�س�ؤوال‪.‬‬
‫علم بذلك‪ .‬فما �أتيته لي�س يف متناول اجلميع‪� .‬أن يكون‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لكنك قلت بنف�سك �إن‪..‬‬
‫�صدفة �أو �شيئا � آخر؛ فهذا �أمر � آخر‪ � .‬آه! ال علم يل ب�شيء‪ ،‬وما‬ ‫الطبيب‪ :‬قلت‪ .‬قلت‪� .‬أوال‪ ،‬مل �أ�ؤكد �أي �شيء‪ ،‬كما �أود �أن �أثري‬
‫�أعرفه يف كل الأ حوال �إنني �سعيد جدا وفخور ب�أن �أ�شد على‬ ‫انتباهكم �إىل �أنني ل�ست من قرر الوفاة‪ ،‬بل �إنه كانت لدي‬
‫يدك‪..‬‬ ‫�شكوك جدية مل �أرغب يف �أن �أف�ضي بها �إليكم لكي ال �أمنحكم‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أرغب يف االن�رصاف‪ .‬عندي مهمة‪.‬‬ ‫�أمال مغلوطا‪� .‬أما فيما عدا ذلك‪ ،‬فلي�س فيما ح�صل ما يثبت‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ � :‬آه! ال من ف�ضلك‪ .‬لي�س بهذه الطريقة‪ .‬لن‬ ‫�شيئا‪ ،‬ومن املحتمل جدا �أن ال تعي�ش طويال‪.‬‬
‫تخرج من هنا خلو اليدين‪ .‬ال علم يل مبا �سوف تعطيك �إياه‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬مهما يكن‪ ،‬ف�إنه ينبغي لنا �أن نعود �إىل البداهة‬
‫‪186‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫عمتي؛ فهذا �ش�أنها‪ ،‬ولن �أت�رصف با�سمها‪� .‬أما فيما يخ�صنا‪ ،‬ونقر بها جميعا؛ لأ ن احلياة ال تقدر بثمن‪ .‬ومبا �أنه �أف�صح‬
‫ف�سوف �أ�ست�شري �صهري‪ .‬و�أن يكون ما حدث م�صادفة �أو �شيئا عن ال مباالة جعلته عديال لنا‪ ،‬ف�إنني �أت�ساءل مل ال ي�شاطرنا‬
‫� آخر؛ ف�إننا �سوف ندفع ثمن هذه امل�صادفة دون مناق�شة‪ ،‬اجللو�س حول املائدة وينهي معنا غذاء قطعه مب�صادفة‬
‫�سعيدة‪ ...‬ما ر�أيكم؟‬ ‫ولن ت�شعر بالندم على ما �أتيت‪� .‬ألي�س كذلك يا � آ�شيل؟‬
‫ال�سيد �آ�شيل‪ :‬على العك�س‪� .‬أنا على يقني من �أنك لن تندم‪ ..‬غمغمة م�ؤيدة‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ال نتمتع برثاء �شديد؛ فلدينا وفرة من البنني ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هو ذا الر�أي ال�سديد الذي ير�ضي اجلميع‪.‬‬
‫والبنات‪ ،‬لكننا نعرف كيف نقر بالف�ضل لأ هله‪ ..‬ينبغي �أن كان ينبغي لنا �أن نفكر فيه (خماطبا القدي�س �أنطوان) ما‬
‫تعرتف ـ على الأ قل حفاظا على �رشف العائلة ـ ب�أنه ال ر�أيك؟ يكفي �أن نرتا�ص قليال لكي نرتب لك مكانا �صغريا‪.‬‬
‫قدرة لنا على القول �إن غريبا �أو جمهوال و�إن يكن فقريا قد مكان ال�رشف! لقد انتظر احلجل طويال وال بد �أنه قد برد‪،‬‬
‫�أ�سدى لنا �صنيعا دون �أن ي�ستحق مكاف�أة تراعي مواردنا لكن ال يهم؛ ف�شهيتنا طيبة‪ .‬اتفقنا‪ ،‬ولن تكون ثمة طقو�س؛‬
‫التي �أكرر �أنها حمدودة‪ ،‬و�أن ال نت�أخر يف الوفاء بها‪ � .‬آه! فنحن �أنا�س طيبون وغري تياهني كما ترى‪..‬‬
‫�أعرف �أن �صنيعك من النوع الذي يعلو على �أية مكاف�أة‪ .‬ملن القدي�س �أنطوان‪ :‬ال بكل ت�أكيد‪ .‬ا�سمحوا يل‪ ،‬وال �أ�ستطيع بكل‬
‫تقول ذلك؟ �أعرف‪ ،‬فال تقاطعني‪ ،‬لكن ذلك لي�س ذريعة كي �أ�سف‪� .‬إنهم ينتظرونني‪..‬‬
‫ال نفعل �شيئا‪ .‬ما الذي تريده؟ وما تقديرك مل�ستحقاتك؟ لن ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لن ترف�ض دعوتنا‪ ،‬ثم من الذي ينتظرك؟‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ميت � آخر‪..‬‬ ‫ت�س�ألنا جباال؛ لأ ننا ال ن�ستطيع ذلك‪.‬‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪� :‬صهري على �صواب‪ .‬لكن يف انتظار ح�صول ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ميت! ميت � آخر! لن يحدث ذلك‪ � .‬آمل �أن ال‬
‫اتفاق بيننا‪ ،‬لدي اقرتاح لن يلزمك يف �شيء‪ ،‬وهو �أن جنمع ت�ؤثر علينا ميتا‪ .‬تتخلى عنا من �أجل ميت!‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ال‪� .‬إنني �أدرك مق�صوده‪ .‬لعلك تف�ضل رمبا‬ ‫بع�ض املال‪ ،‬وميكنك �أن تطلب ما ت�ستحقه ب�رسعة‪..‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أرغب يف االن�رصاف الرتباطي مبهمة يف النزول �إىل املطبخ‪� .‬سوف ت�شعر رمبا هناك براحة �أكرب‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ميكنه �أن يعاود ال�صعود لتناول القهوة‪.‬‬ ‫مكان � آخر‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪:‬مهمة يف مكان � آخر؟ �أية مهمة ميكنها �أن ال�سيد �أ�شيل‪ :‬هه! �إنه غري ممتنع‪ ،‬ويبدو �أنه ي�ؤثر هذا االقرتاح‪.‬‬
‫ت�شغلك؟ ال‪ .‬هذا غري ممكن والئق‪ .‬ما الذي �سوف يقوله النا�س �إنني �أفهم‪ .‬فرجيني! اتركي �سيدتك؛ فلم تعد بحاجة �إىل‬
‫عنا �إذا �سمعوا ب�أننا تركنا من �أعاد �إلينا فقيدتنا العزيزة خدماتك ورافقي ال�سيد وعرفيه على ف�ضائك ال�صغري‪� .‬سوف‬
‫يذهب هكذا؟ �إذا كنت ال ترغب يف �شيء‪ ،‬و�أنا �أفهم لباقتك ي�أكل من كل الأ �صناف‪ ،‬هه! �أعتقد �أنكما لن تت�ضايقا من‬
‫و�أقر بها‪ ،‬فال �أقل من �أن تر�ضينا بقبول تذكار �صغري‪� .‬أوه! بع�ضكما البع�ض (يقرتب من القدي�س ويربت على كتفه‬
‫لي�س �شيئا ذا بال‪ ،‬ال تخ�ش �شيئا‪ :‬علبة �سيجار‪ ،‬دبو�س لربطة وبطنه مبودة) �أح�سنت الإ دراك‪� ،‬ألي�س كذلك؟ اذهب �أيها‬
‫العنق‪� ،‬أو غليونا م�صنوعا من زبد البحر ننق�ش عليه جميعا العجوز املاكر! � آه‪ ،‬يا لك من عجوز ماكر!‬
‫فرجيني (بارتياع)‪� :‬سيدي؟‬ ‫ا�سمك وعنوانك وتاريخ ميالدك‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما الذي يحدث؟‬ ‫أن‪..‬‬ ‫�‬ ‫أ�ستطيع‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪� .‬شكرا‪ ،‬ال �‬
‫فرجيني‪ :‬ال علم يل مبا يحدث‪ ،‬لكن الآ ن�سة فقدت القدرة‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أ�أنت جاد؟‬
‫على الكالم‪..‬‬ ‫تت�صور‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أكرث مما‬
‫ال�سيد � آ�شيل (وهو يخرج علبة �سيجاره)‪ :‬على �أية حال‪ ،‬ال�سيد غو�ستاف‪ :‬كيف؟ هل فقدت القدرة على الكالم؟‬
‫�سوف يكون من دواعي �رسورنا �أن ندخن معا �سيجارا‪ .‬هذا فرجيني‪ :‬ال يا �سيدي‪ .‬انظر‪� .‬إنها تفتح فمها وحترك �شفتيها‬
‫وت�شري بيديها‪ ،‬لكن‪ ،‬مل يعد لها �صوت‪..‬‬ ‫رجاء لن ي�سعك رف�ضه‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما الذي يحدث لك يا عمتي؟ هل ترغبني‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬شكرا‪ ،‬لكنني ال �أدخن‪..‬‬
‫يف �أن تقويل �شيئا؟ (ت�شري داللة الإ يجاب) وال ت�ستطيعني؟‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ينبغي‬ ‫إذن؟‬ ‫�‬ ‫تريده‪،‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هذا حمبط‪ .‬ما الذي‬
‫تكون لك رغبة ما‪ .‬يكفي �أن تتكلم؛ لأ ن كل ما يف املنزل هيا! ابذيل بع�ض اجلهد؛ فلي�س الأ مر �سوى �شلل عار�ض‪ .‬ما‬
‫ملك لك‪ .‬وكل ما فيه ملك ميينك‪ ،‬ولي�س يف م�ستطاعنا �أن بك؟ ما الذي ترغبني فيه؟ (خماطبا القدي�س �أنطوان) ما‬
‫نقول �أف�ضل مما قلناه �أو على الأ قل ما ي�سعنا قوله ب�أمانة‪ .‬قولك فيما يحدث؟‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لن تتكلم �أبدا‪.‬‬ ‫غري �أنك ت�سيء �إلينا بان�رصافك بهذه الطريقة‪..‬‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬ا�سمعوا! لدي فكرة �أعتقد �أنها جيدة‪ .‬حيث �إن ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لن تتكلم �أبدا؟ لكنها تكلمت منذ فرتة‬
‫ال�سيد يرف�ض قبول �أي �شيء‪ ،‬و�أنا �أفهم �ش�أن �صهري لباقته وجيزة وقد �سمعتها ب�أذنيك‪ ،‬بل �إنها قالت لك �أ�شياء غري‬
‫‪187‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بب�ساطة �أن هذا ال�شخ�ص ميتلك قوة ع�صبية عجيبة‪ ،‬و�أنه‬ ‫م�ستحبة‪..‬‬
‫يبالغ يف ا�ستخدامها لكي يتيح لنف�سه مزحات قد تكون‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬كان ذلك ن�سيانا من جانبي‪ ..‬لن ي�سمع لها‬
‫هامة‪ ،‬لكنها غري مالئمة للظرف الع�صيب الذي نوجد فيه‪.‬‬ ‫�صوت بعد الآ ن‪..‬‬
‫لقد جاء يف الوقت املنا�سب‪ ،‬وهذا كل ما يف الأ مر‪ .‬ومن‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أال ميكنك �أن تعيده لها؟‬
‫املحتمل جدا �إن مل يكن موجودا هنا �أن �أكون �أنا �أو �أي واحد‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال‪.‬‬
‫منكم ال�سبب يف حدوه هذه املعجزة ما دمنا نعني بها‪...‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ومتى يعود لها �صوتها؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ما الذي ينبغي علينا �أن نعمله؟‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لن يعود مطلقا‪..‬‬
‫الطبيب‪� :‬أن مننعه من الإ زعاج ب�أن ن�ضعه يف مو�ضع � آمن؛‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬كيف؟ هل �ستبقى خر�ساء �إىل � آخر �أيامها؟‬
‫لأ نه �شخ�ص خطري‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هذا �صحيح‪ ،‬وقد حان الوقت لكي ننتهي‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ملاذا؟‬
‫من هذه املهزلة‪ .‬لقد �ضقت ذرعا بها (يرفع �صوته بالنداء)‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لقد ر�أت �أ�رسارا عجيبة ال ي�سعها البوح‬
‫جوزيف!‬ ‫بها‪.‬‬
‫جوزيف‪� :‬سيدي؟‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أ�رسار! �أية �أ�رسار؟‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬ارك�ض �إىل مقر ال�رشطة يف �أق�صى ال�شارع‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أ�رسار من عامل الأ موات‪.‬‬
‫و�أح�رض معك �رشطيني واحر�ص على �أن يحمال معهما‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬من عامل الأ موات؟ ما هاته املزحة‬
‫الأ �صفاد‪ .‬يتعلق الأ مر ب�شخ�ص خطري وقادر على فعل �أي‬ ‫اجلديدة؟ ماذا تظننا؟ ال يا �صغريي‪ ،‬لن جتري الأ مور‬
‫�شيء‪ ،‬وقد برهن على ذلك جيدا‪.‬‬ ‫هكذا! لقد تكلمت‪ ،‬وقد �سمعناها وكلنا �شهود على ذلك‪ .‬لقد‬
‫جوزيف‪ :‬حا�رض �سيدي‪..‬‬ ‫منعتها من الكالم بخبث ولغر�ض بد�أت �أتلم�سه الآ ن‪� .‬سوف‬
‫يخرج راك�ضا‬ ‫تعيد �إليها �صوتها يف التو واللحظة و�إال‪..‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أطلب منكم الإ ذن باالن�سحاب‪..‬‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬مل يكن من ال�رضوري �أن تعيد �إليها احلياة‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬نعم يا عزيزي‪ .‬تظاهر بالغباء؛ فالوقت‬ ‫لكي ترتكها وهي بهاته احلالة‪..‬‬
‫منا�سب‪ .‬نعم‪� ،‬سوف تتمكن من االن�سحاب‪ ،‬و�سوف تكون‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬إذا مل تكن قادرا على �أن تعيدها لنا كاملة‬
‫م�شفوعا مبوكب رائع وموقر‪ ..‬انتظر!‬ ‫كما كانت قبل تدخلك ال�صفيق‪ ،‬فما كان يحق لك �أن تقحم‬
‫ال�سيد � آ�شيل‪ :‬نعم يا �صديقي‪ ،‬لن ت�شعر ب�أي �ضيق‪ ،‬و�سوف‬ ‫نف�سك‪..‬‬
‫توا�صل مزحاتك ال�صغرية والإ ف�صاح عن طاقاتك يف مكان‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬هذا فعل �سيء‪..‬‬
‫�أكرث روعة ولي�س �أقل متيزا ويدعى مقر املخفر‪ .‬هل تعلم ما‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬وخيانة للثقة‪..‬‬
‫يعنيه ممر التبغ؟‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬خيانة للثقة‪ .‬هذا هو ال�صواب‪ ،‬ولن نغفر لك‪..‬‬
‫القدي�س �أنطوان‪ :‬التبغ‪ .‬ال‪� ،‬شكرا‪ ،‬لكنني ال �أدخن مطلقا‪...‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لعلك ت�أمل �أن تبتزنا‪..‬‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬ح�سنا‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬من الذي رجاك �أن ت�أتي؟ من املحزن �أن �أقول‬
‫�سوف تعلم‪ .‬والآ ن‪� ،‬إليك هذه الن�صيحة‪ .‬حني ي�أتي ه�ؤالء‬ ‫ذلك‪ ،‬لكنني كنت �أف�ضل �أن �أراها ميتة على �أن �أجدها يف‬
‫ال�سادة الذين �سوف ي�رشفونك مبرافقتك‪� ..‬أعتقد �أنني �أ�سمع‬ ‫هذه احلالة‪ .‬هذا �سلوك مفرط يف الق�سوة والإ يالم بالن�سبة‬
‫وقع خطواتهم اخلفيفة واملن�سجمة‪ ..‬لقد و�صلوا!‬ ‫ملن يحبونها‪ .‬ال يحق لك �أن ت�أتي هكذا بذريعة املعجزة كي‬
‫امل�شهد الثالث‬ ‫تزعج �أنا�سا مل يلحقوا بك �أي �أذى‪ ،‬وتزرع امل�صيبة‪ � .‬آه! كننا‬
‫�سوف نرى من �سوف ي�ضحك يف النهاية‪..‬‬
‫يدخل جوزيف ويف �أثره مفت�ش وعون �رشطة‪..‬‬ ‫الطبيب‪ :‬ا�سمحوا يل‪ ..‬الهدوء من ف�ضلكم‪ ..‬لقد �أ�ساء هذا الرجل‬
‫مفت�ش ال�رشطة (م�شريا �إىل القدي�س �أنطوان)‪ :‬هل هذا هو‬ ‫الت�رصف بكيفية ال تقبل اجلدل‪ ،‬لكن ال ي�سعنا م�ؤاخذته؛ �إذ‬
‫ال�شخ�ص الغريب الذي ارتكب اجلرمية؟‬ ‫من املحتمل �أنه غري م�س�ؤول (يقرتب من القدي�س �أنطوان)‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬متاما‪..‬‬ ‫دعني �أفح�ص عينيك �أيها ال�صديق‪ .‬جيد‪ ،‬هذا ما كنت �أعلمه‪.‬‬
‫مفت�ش ال�رشطة (وا�ضعا يده على القدي�س �أنطوان)‪� :‬أوراق‬ ‫مل �أتدخل حني كان اجلميع ي�شكره بحرارة على معجزة بعث‬
‫هويتك؟‬ ‫احلياة لكي ال �أبدو كاملتطفل على ما ال يعنيني‪ .‬كنت �أعلم‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أية �أوراق؟‬ ‫بحقيقة ما يحدث‪ ،‬وها �أنتم ترون مثلي �أنها مل تكن ميتة‪.‬‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪� :‬ألي�ست عندك �أوراق؟ كنت مت�أكدا من ذلك‪..‬‬ ‫لي�س يف الأ مر ما هو فوق طبيعي �أو �رس عجيب‪ ،‬واحلكاية‬
‫‪188‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ميتة‪ ،‬وحني ر�ؤيتها بغتة لهذا ال�شخ�ص ذي ال�سحنة ال�سيئة‬ ‫ما ا�سمك؟‬
‫داخل غرفتها‪ ،‬ا�ستيقظت و�رشعت يف ال�رصاخ عليه بحدة‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬القدي�س �أنطوان‪..‬‬
‫و�شجاعة‪ .‬ولكي ينتقم خليبته‪ ،‬عمد ول�ست �أدري كيف‪ ،‬لأ ن‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬قدي�س ماذا؟ القدي�س �أنطوان؟ لي�س هذا‬
‫الطبيب هو من �سيتكلف بال�رشح‪� ،‬إىل �إفقادها القدرة على‬ ‫با�سم �شخ�ص م�سيحي‪� .‬أريد الآ خر‪ ،‬احلقيقي‪..‬‬
‫الكالم‪ .‬وهو يرف�ض رغم �إحلاحنا يف الرجاء �أن يعيده �إليها‪،‬‬ ‫القدي�س �أنطوان (برقة �شديدة)‪ :‬لي�س عندي ا�سم � آخر‪..‬‬
‫وذلك يف حماولة طبيعية لالبتزاز‪ .‬الحظ �أنني ال �أتهم و�إمنا‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬لنكن م�ؤدبني‪� ،‬ألي�س كذلك؟ �أين �رسقت ثوب‬
‫�أ�ستنتج فقط‪� .‬أما فيما يخ�ص البقية فعليك ب�س�ؤال الطبيب‪..‬‬ ‫النوم هذا؟‬
‫الطبيب‪� :‬سوف �أقدم بني يدي عميد ال�رشطة كل التف�سريات‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬مل �أ�رسقه‪� .‬إنه ملكي‪..‬‬
‫ال�رضورية‪ ،‬و�سوف �أكتب تقريرا �إذا رغبتم يف ذلك‪..‬‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪� :‬أنا الذي �أكذب‪� ،‬إذن؟ هكذا‪� ،‬ألي�س كذلك؟ قل‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪� :‬أود �أن �أقرر يف انتظار ذلك �أن لي�س ثمة من‬ ‫وال تنزعج‪..‬‬
‫خط�أ‪ .‬فالرجل حمتال و�رشير �أو جمنون‪ ،‬ورمبا كان االثنني‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬ال �أعرف‪� .‬أعتقد رمبا �أنك خمطئ‪..‬‬
‫يف � آن‪ ،‬وهو يف كل الأ حوال �شخ�ص خطري ينبغي الزج به‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪� :‬إنني �أ�سجل وقاحاتك اجل�سورة‪ .‬من �أين‬
‫يف مكان � آمن‪..‬‬ ‫�أنت؟‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬هذا م�سلم به‪ ،‬و�سوف نخل�صكم من كل هذا‪.‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬من بادو‪..‬‬
‫رابوفو؟‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬بادو؟ ما هذا؟ �أين توجد؟ ويف �أية �شعبة؟‬
‫ال�رشطي‪ :‬حا�رض �أيها املفت�ش‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ ،‬يف �إيطاليا‪..‬‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬الأ �صفاد؟‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪� :‬أعرف‪ ،‬لكنني �أجتاهل لكي �أحمله على‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أيها ال�سادة‪ ،‬لقد جت�شمتم الكثري من العناء‬ ‫الكالم‪ � .‬آه! �أنت �إيطايل؟ كنت �أ�شك يف ذلك‪ .‬من �أين �أتيت؟‬
‫برحابة �صدر‪ ،‬و�سيكون من بالغ �رسورنا �أن تتف�ضلوا قبل‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬من اجلنة‪..‬‬
‫مغادرتكم مب�شاركتنا تناول ك�أ�س من ال�رشاب‪..‬‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪� :‬أية جنة؟ �أين يوجد �إذن الأ �رشار فوق هاته‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬ال يتعلق الأ مر ب�أي رف�ض‪� ،‬ألي�س كذلك يا‬ ‫الأ ر�ض؟‬
‫رابوفو؟ خ�صو�صا و�أن رجلنا لي�س مت�ساهال‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪� :‬إنها املكان الذي ت�صعد �إليه الأ رواح‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬جوزيف‪� ..‬أح�رض قنينة وك�ؤو�سا (يخرج‬ ‫املخل�صة بعد املمات؟‬
‫جوزيف) �سوف نفرغ ك�ؤو�سنا يف وقت واحد متمنني ال�شفاء‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪ � :‬آه! جيد جدا‪� .‬إنني �أفهم؛ فال�سيد يتخابث‬
‫لعمتي‪..‬‬ ‫ويعبث بي‪ .‬وبعد الوقاحات‪ ،‬ي�أتي ال�سيد ليمار�س‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬ال �أرى ب�أ�سا �إذا لبثنا معكم بع�ض الوقت‪..‬‬ ‫الروحانيات‪ .‬ح�سنا‪ .‬ق�ضيتك وا�ضحة ولن ت�أخذ كثريا من‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أما زالت ال�سماء متطر؟‬ ‫الوقت‪ .‬وبعد‪ ،‬هل لك �أن حتيطنا مبا ال نعلمه؟ ما الذي‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬طوفان! مل �أعد �أن عربت ال�شارع‪ ،‬لكن انظر‬ ‫�رسقته؟‬
‫معطفي‪..‬‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أن يكون قد �رسق‪ ،‬فهذا ما ال جر�أة يل بعد‬
‫ال�رشطي‪ :‬ال نعرف �إن كان املاء �أو الثلج‪ ،‬لكن يقينا �إنه‬ ‫على ت�أكيده‪ ،‬وال وقت يل لكي �أقوم باجلرد‪ ،‬كما �أنني ال‬
‫الأ �سو�أ‪..‬‬ ‫�أحب �أن �أت�رسع يف االتهام‪ ،‬وينبغي للمرء قبل كل �شيء �أن‬
‫يدخل جوزيف حامال �صينية ويوزع الك�ؤو�س تباعا‬ ‫يت�سمت العدل‪ .‬غري �أن ما فعله �أكرث ج�سامة‪..‬‬
‫على احلا�رضين‪..‬‬ ‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬كنت مت�أكدا‪..‬‬
‫مفت�ش ال�رشطة (يرفع ك�أ�سه)‪� :‬سيداتي �سادتي‪ ،‬نخبكم!‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬هل تعلم بامل�صيبة التي �أملت بنا؟ بينما‬
‫ال�سيد غو�ستاف (يقرع ك�أ�سه بك�أ�س املفت�ش)‪ :‬نخبك! (يقرع‬ ‫كنا نبكي فقيدتنا الغالية وننهي طعام الغداء ان�سل هذا‬
‫اجلميع ك�ؤو�سهم بك�أ�س املفت�ش) مرة �أخرى؟‬ ‫الرجل �إىل منزلنا بذريعة ما وملقا�صد ال تخفى على‬
‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬بكل امتنان (يتلمظ) �إنه �رشاب لذيذ!‬ ‫اللبيب‪ .‬وقد ا�ستغل بب�ساطة اخلادمة و�سذاجتها لكي تفتح‬
‫القدي�س �أنطوان‪� :‬أنا ظم�آن‪� ..‬أرغب يف ك�أ�س ماء‪..‬‬ ‫له باب الغرفة حيث كان ي�سجى اجلثمان‪ .‬كان ي�أمل‬
‫مفت�ش ال�رشطة (مقهقها)‪ :‬ك�أ�س ماء؟ غري معقول‪ .‬هل‬ ‫بداهة ا�ستغالل الفو�ضى والأ مل الناجتني عن امل�صيبة لكي‬
‫ت�سمعون هذا الع�صفور؟ �سوف يكون لك ما تريد‪ ،‬فانتظر يا‬ ‫ي�صطاد يف املاء العكر وينجز عملية رابحة‪ .‬رمبا عرف‬
‫�صغريي �إىل �أن نخرج‪ ،‬و�سوف تتلقاه يف فمك �ساخنا‪ .‬هيا‪.‬‬ ‫بو�ساطة �رشيك له ب�أن جموهرات العمة و�أوانيها الف�ضية‬
‫كفانا تلك�ؤا‪ .‬رابوفو‪� ،‬إيل بالأ �صفاد‪ ،‬و�أنت مد يديك‪..‬‬ ‫مر�صو�صة فوق املدف�أة‪ .‬ومن �سوء حظه �أن العمة مل تكن‬
‫‪189‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ف�أنا �أملك زوجا � آخر‪..‬‬ ‫القدي�س �أنطوان‪ :‬لكنني مل‪..‬‬


‫مفت�ش ال�رشطة‪ :‬هه! �أتتعمد جمددا االحتجاج واالعرتا�ض؟ القدي�س �أنطوان (ينتعل احلذاء)‪� :‬شكرا‪..‬‬
‫توم�ض هالته‬ ‫مل يكن ينق�صنا غري هذا‪ ..‬جميعهم �سواء‬
‫فرجيني‪ :‬وال تعتمر �أي �شيء؟ �سوف ت�صاب بنزلة برد‪..‬‬
‫ي�سمع قرع جر�س البوابة‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬قرع اجلر�س (يخرج جوزيف لكي يفتح) القدي�س �أنطوان‪ :‬ال �أملك �شيئا‪..‬‬
‫كم ال�ساعة؟ من املمكن �أن يكون ال�ضيوف قد بد�أوا يف فرجيني‪ :‬خذ �شايل ال�صغري و�سوف �أذهب لأ ح�رض‬
‫مطريتي‪..‬‬ ‫التوافد‪..‬‬
‫تخرج راك�ضة‪..‬‬ ‫تتجاوز‬ ‫مل‬ ‫فال�ساعة‬ ‫بعد؛‬ ‫الوقت‬ ‫يحن‬ ‫مل‬ ‫أ�شيل‪:‬‬ ‫ال�سيد �‬
‫الثالثة‪..‬‬
‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬العجوز احلمقاء‪..‬‬ ‫يدخل عميد ال�رشطة‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أنت على حق‪ .‬لكن‪ ،‬ثمة برد قار�س يت�رسب‬
‫من خلل الباب‪ .‬هيا‪ ،‬لنذهب �إىل خمفر ال�رشطة ولننته من‬ ‫امل�شهد الرابع‬
‫هذه املهزلة‪..‬‬ ‫ال�شخ�صيات ذاتها‪ ،‬عميد ال�رشطة‪..‬‬
‫فرجيني (تعود حاملة مطرية كبرية �أعطتها للقدي�س‬
‫�أنطوان) هذه مطريتي‪..‬‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬انظروا‪� .‬إنه ال�سيد ميرتو عميد ال�رشطة‪..‬‬
‫عميد ال�رشطة‪� :‬سيداتي‪� ،‬سادتي‪� .‬أ�سعدمت �صباحا‪ .‬لقد علمت القدي�س �أنطوان (يربز يديه)‪ :‬لقد قيدوا يدي‪..‬‬
‫(يلمح القدي�س �أنطوان) لكن كانت عندي �شكوك قوية‪� .‬إنه فرجيني‪� :‬سوف �أحملها عو�ضا عنك‪..‬‬
‫تفتح املطرية عند عتبة الباب لتحمي من املطر القدي�س‬ ‫القدي�س �أنطوان ذاته‪ ،‬قدي�س بادو الكبري‪..‬‬
‫�أنطوان الذي يخرج حماطا ب�رشطيني ومتبوعا بعميد‬ ‫ال�سيد غو�ستاف‪� :‬أنت‪�،‬إذن‪ ،‬تعرفه‪..‬‬
‫عميد ال�رشطة‪ :‬ال �أعرف غريه‪ .‬وهي املرة الثالثة التي يهرب‬
‫ال�رشطة‪ .‬تت�ألق هالته حتت املطرية ويتجه اجلميع و�سط‬
‫فيها من دار العجزة‪� .‬أنتم ال تعرفون (يحرك �إ�صبعه �أمام‬
‫الثلج املرتاكم يف احلديقة‪..‬‬
‫�صدغه) يبدو �أنه كان طوال حياته منوما مغناطي�سيا ذا‬
‫�ش�أن‪ .‬وهو يكرر العمليات ذاتها يف كل مرة يهرب فيها؛ ال�سيد غو�ستاف (وهو يغلق الباب)‪ :‬و�أخريا!‬
‫فهو يداوي املر�ضى ويزيل احلدبات وميار�س الطب بطريقة ال�سيد �أ�شيل‪� :‬أوف! مل يحدث ذلك مبكرا‪ .‬لقد كان حقا �شخ�صا‬
‫غري �رشعية و�إجماال كما من الأ فعال التي يحرمها القانون مزعجا‪..‬‬
‫(يقرتب من القدي�س �أنطوان ويفح�صه بدقة) نهم‪� .‬إنه هو ال�سيد غو�ستاف (يقرتب من ال�رسير)‪ :‬ح�سنا عمتي؟ كيف‬
‫�إال �إذا‪ ...‬بيد �أنه تغري كثريا منذ هروبه الأ خري‪ .‬و�إذا مل يكن حالك؟‬
‫هو‪ ،‬فينبغي �أن يكون �شقيقا له‪ .‬ثمة �شيء هنا ال يبدو يل ال�سيد �أ�شيل‪ :‬ما بها؟ �إنها تنهار‪..‬‬
‫وا�ضحا‪� ..‬سوف نرى ذلك يف خمفر ال�رشطة‪ .‬لنذهب؛ ف�أنا الطبيب (ي�رسع نحوها)‪ :‬ال �أعرف‪� .‬أعتقد فعال‪..‬‬
‫يف عجلة من �أمري‪ .‬لنذهب ب�رسعة يا �أبنائي‪� .‬إىل املخفر‪ ،‬ال�سيد غو�ستاف (وهو ي�رشئب نحوها)‪ :‬عمتي؟ عمتي؟ ما‬
‫اخلرب؟‬ ‫هيا‪� ،‬إىل املخفر!‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لنخرجه من هنا عرب باب احلديقة حتى ال الطبيب‪� :‬إنها النهاية هذه املرة‪� .‬أخربتكم بذلك بالفعل‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬لكن‪ ،‬هذا غري ممكن!‬ ‫نلفت الأ نظار‪..‬‬
‫تفتح الباب التي تف�ضي �إىل احلديقة لتن�سل عا�صفة ال�سيد �أ�شيل‪ :‬لكن �أيها الطبيب‪ .‬انظر‪�،‬إذن‪� .‬ألي�س هناك ما‬
‫ميكنك فعله؟‬ ‫من املطر والثلج والريح‪..‬‬
‫الطبيب‪ :‬ال �شيء للأ �سف!‬ ‫ال�سيد �أ�شيل‪ :‬يا له من طق�س �سيء! املطر والثلج والريح‪..‬‬
‫ران �صمت عميق جتمعوا خالله حول ال�رسير‬ ‫ي�سحب القدي�س �أنطوان نحو الباب‬
‫فرجيني (مهرولة)‪ :‬لكن يا �سيدي‪ ..‬الرجل امل�سكني‪ .‬انظر‪ ،‬ال�سيد غو�ستاف (وكان ال�سباق �إىل ا�ستعادة برودة دمه)‪:‬‬
‫يا له من يوم!‬ ‫�إنه حايف القدمني‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬وماذا بعد؟ قد نكون ملزمني رمبا ب�أن ال�سيد �أ�شيل‪ :‬ا�سمعوا العا�صفة‪..‬‬
‫ال�سيد غو�ستاف‪ :‬الأ مر �سواء‪ ..‬كنا ق�ساة �إىل حد ما حيال هذا‬ ‫نح�رض له عربة �أو ح�صانا؟‬
‫فرجيني‪ :‬ال‪� ,‬سوف �أعريه حذائي‪ .‬خذه �أيها القدي�س �أنطوان؛ العجوز امل�سكني‪ .‬ومهما يكن‪ ،‬فهو مل يلحق بنا �أي �أذى‪..‬‬
‫‪190‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫امل�شه ـ ـ ـ ــد الأ خي ـ ـ ــر‬


‫م�سرحية من ف�صل واحد‬
‫حــواء ح�ســـان عــزت‬
‫كاتبة من �سورية‬

‫الغرفة‪�،‬أما الرجل ف�ساكن ال يقوم ب�أي حركة �أو نظرة‬ ‫�إعتام‬


‫�سبوت اليت على من�صفة امل�رسح اخللفية‪ ،‬جمموعة بل يركز نظره يف الأ فق‪.‬‬
‫‪ -‬هي ‪� :‬أوف‬ ‫من النا�س‪�،‬ضحك ومو�سيقى‪.‬‬
‫‪ -‬هو‪.........:‬‬ ‫�إعتام‬
‫‪ -‬هي ‪ :‬وبعدين مع هاحلالة‪.‬‬
‫بقعتان من ال�ضوء‪ ،‬الأ وىل على ميني اخل�شبة لرنى‬
‫�سيدة (مالحمها وا�ضحة) وخلفها جمموعة النا�س ‪ -‬هو‪.....:‬‬
‫غري وا�ضحي املعامل �إال �أن الطابع العام لتجمعهم ( حتدق ال�سيدة بالرجل الذي ال ي�صدر �أي حركة‬
‫هو وجود �سهرة من نوع ما‪ ،‬البقعة الثانية على رجل وك�أنه وحيد يف هذه الغرفة)‬
‫و�إمر�أة يقومان برق�صة خالعية نوعا ما‪ ،‬وهناك ‪ -‬هي ‪ :‬ما عم ت�سمع!!! واهلل ما بدك؟ ع الأ غلب ما‬
‫�أ�صوات �ضحكات متعالية‪(.‬مو�سيقى تنا�سب امل�شهد) بدك‪� ،‬أنت داميا بتهرب من النقا�ش بهالطريقة حلتى‬
‫�أ�سكت وماعود �أحكي‪.‬‬ ‫�إعتام‬
‫( �صمت )‬ ‫غرفة مظلمة قليال‪،‬جمهزة ب�أثاث ب�سيط مكون من‬
‫كر�سيني وبينهما طاولة �صغرية‪ .‬طاولة �صغرية على ‪ -‬هي‪� :‬شو متوقع �أنو هال�سيا�سة داميا �صح‬
‫اجلانب الأ مين للخ�شبة من جهة اجلمهور مو�ضوع (بهدوء م�شحون بتوتر)‬
‫‪ -‬هي‪:‬ومني قال انها �صح‪� ،‬أنت ؟ �أنا ؟ وال حدا‪ ،‬ب�س‬ ‫عليها �إناء زهور‪ ،‬الزهور ذابلة‪.‬‬
‫يبد�أ امل�شهد مبقطوعة مو�سيقية خمتارة لتنا�سب بكل مرة بعد ما ا�سكت وننهي النقا�ش يلي ما بيكون‬
‫بل�ش �أ�سا�سا بريجع الو�ضع طبيعي‪ ،‬طبيعي عندك �أيه‬ ‫امل�شهد‪.‬‬
‫ن�سمع �صوت حذاء �سيدة‪� ،‬صوت احلذاء متثاقل يدل عندك‪ ،‬بعد ما كون خر�ست وحملت بقلبي‪.‬‬
‫_ هو ‪.......:‬‬ ‫على التعب‪.‬‬
‫تبد�أ الإ �ضاءة بال�سطوع تدريجيا ليت�ضح �أ�سا�س ‪ -‬هي ‪ :‬بدك ياين ب�س كون رايقة وعم �أ�ضحك و�أرق�ص‬
‫الغرفة‪�،‬إمر�أة ورجل يدخالن من � آخر املن�صة دون �أن ودللك‪،‬بالوقت يلي بتكون عم تخوين فيه �ألف مرة‪.‬‬
‫ينطقا ب�أي كلمة‪ ،‬الرجل يجل�س على الكر�سي الأ ي�رس‪ ،‬و�أدام عيوين وال ك�أين موجودة وال ك�أين جنبك‪.....‬‬
‫يف حني تبقى املر�أة واقفة‪ ،‬تنظر نظرات متقطعة وقت بيخطريل عاتبك بنظراتي �أو حتى بكلمة وحدة‬
‫تارة على رجل و�أخرى ال على التعيني يف �أنحاء فغ�ضب اهلل بينزل عليي‪.‬‬
‫‪191‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رجعتني لي�ش؟؟؟‪� ،‬أنت �أكرت واحد بيعرف �أنو قراراتي‬ ‫(تنظرال�سيدة ناحية الرجل الذي يتجاهلها‪ ،‬طبعا‬
‫دائما فا�شلة جتاهك (هو مي�سك �سيجارة وي�شعلها) ما‬ ‫طوال احلوار ال�سابق ومازالت الأ غنية م�ستمرة)‬
‫بقدر بعّد عنك‪ ،‬كل مرة كنت �أتركك فيها كنت �أدعي‬ ‫‪ -‬هي‪( :‬ب�صوت غري �صوتها) واهلل العظيم بحبك‪،‬‬
‫اهلل �أنك ما تعود حتاكيني حتى طيب منك لأ نك مر�ض‬ ‫(ت�ضحك) �أنت مو �شاطر �إال بهالكلمة‪� ،‬شو بتعرف عن‬
‫‪� ,‬أنت �رسطان عم يتغلغل فيي �شوي �شوي‪ .‬اطمن خل�ص‬ ‫احلب‪ ،‬عن الإ خال�ص عن الإ حرتام‪ ،‬بتعرف ب�س كلمة ‪:‬‬
‫�سيطرت على كل �شي فيني �رصت هون هون هون‬ ‫بحبك‪.‬واهلل كرت خريك لأ نك بتحبني‪ ،‬ن�سيت �أين �شخ�ص‬
‫هون(م�شرية لأ ماكن خمتلفة من ج�سدها) لك �رصت‬ ‫ما بينطاق مئت ونكدي‪ ،‬ما �أنت النكد بعينه‬
‫بدمي بروحي �شو بدك �أكرت من هيك‪� .‬شوبدك‬ ‫(ت�سكت فج�أة لأ نها تالحظ حركة من الرجل‬
‫الذي مي�سك جريدة كانت مو�ضوعة على الطاولة (يعلو �صوت البكاء‪ ،‬يطفي ال�سيد �سيجارته ويغري‬
‫بجنبه‪ ،‬يبد�أ ت�صفحها‪ ,‬ت�سكت ال�سيدة لثوان ثم من جل�سته موجها �أنظاره نحوها)‪.‬‬
‫تنفجر منها �ضحكة ه�ستريية‪� ،‬أما هو فال يبدي ‪ -‬هي ‪ :‬احلمد هلل �أخريا عم بتمتعني بجمال عيونك‬
‫حبيبي‪ ،‬ي�ؤبروين هالعيون �شو بحنب‪ ،‬جاوبني قلي‬ ‫�أي حركة)‬
‫�شو احلل ؟ �شو الزم نعمل ؟‬ ‫‪ -‬هي‪ :‬م�سكت اجلريدة خري �إن �شا اهلل‪� .....‬شو حبيبي‬
‫‪ -‬هو ‪.....:‬‬ ‫خايف يكون راح عليك �شي تظاهرة ثقافية‪� ،‬أو �شي‬
‫‪ -‬هي ‪ :‬مابتعرف ؟! �أكيد و�إال كنت لقيت حل من‬ ‫مادة نقدية!!!؟ حابب تقرا طيب مو غلط ب�س الغلط �أنك‬
‫زمان‪( .‬ت�سكت لثوانٍ ناظرة �إليه)‪ ....‬بحبك كتري‬ ‫مع كل هالثقافة يلي حاملها وبتنظّ ر فيها ناح النا�س‬
‫ب�س واهلل تعبت تعبت منك ومعك وحتى بدونك‪� ،‬شو‬ ‫مو �أدران حتل م�شاكلك مع مرتك‪.‬‬
‫ياعمري حاكيني‪.‬‬
‫(ال�سيد يقلب اجلريدة ل�صفحة �أخرى)‬
‫‪ -‬هو‪......:‬‬
‫‪ -‬هي ‪:‬حط هاجلريدة من �إيدك وحاجة م�سخرة ‪ ,‬رد‬
‫(يعود ال�سيد جلل�سته ال�سابقة ليتابع �رشوده يف‬
‫خلينا نالقي حل‪ ،‬خلي حياتنا تهدى لك رد ‪�,‬شو بدك‬
‫العدم)‬
‫يعني �أين �ضب غرا�ضي متل كل مرة و�أحمل حايل‬
‫و�أم�شي وجتي بعد يومني ت�صاحلني‪،‬حبيبي بحب �ألك ‪ -‬هي‪ :‬ب‪.....‬‬
‫�أنو هاحلل انتهى مفعوله‪ ،‬خل�ص و�أته وما عاد منه (ت�سكت‪ ،‬تقف تخلع معطفها‪،‬ت�ضب �شعرها‬
‫فائدة‪(.‬هدوء) اهلل يخليك رد طيب ع الأ ليل اطلع فيني امل�شلوح على كتفيها‪ ،‬ت�شعل �سيجارة وجتل�س‬
‫من جديد)‬ ‫حتى ح�س �أنك عم ت�سمعني‪.‬‬
‫‪ -‬هي ‪ :‬ياهلل �أدي�ش كنت مب�سوطة �أول ما تعرفت عليك‪،‬‬ ‫(تبد�أ بالبكاء املر الهادىء)‬
‫كانت الدنية كلها مو و�سعانتني‪ ،‬كنت وقت حتاكيني‬ ‫‪ -‬هي ‪ :‬نف�س امل�شاكل الدائمة وال مرة خل�صنا منها‪،‬‬
‫�أو �شوفك ما بعرف �شو بي�رصيل‪ ،.....،‬وحبيتك وظليت‬ ‫�رصت �أكره �أطلع معك من البيت‪� ،‬أكره نقابل حدا‬
‫عم حبك ع �أد ما يف حب بقلوب النا�س‪ ،‬كل يلي‬ ‫�أو يجي حدا لعنا‪ ،‬وامل�شكلة �أين ما عاد �أدرت �ضل‬
‫حوليي كانوا يخانقوين ويلوموين من عالقتي معك‬ ‫بالبيت وجي بوجك طول الوقت واهلل حاولت بكل‬
‫ومن كل احلب يلي عم حبك ياه‪ ،‬نبهوين كتيري �أنو‬ ‫احللول ب�س ما عم القي حل معك‪ ،‬لك �شو بدك مني‬
‫هالعالقة لح تكون نهايتي �إذا ما ترويت وهديت‪ ،‬ما‬ ‫لي�ش تزوجتني‪.‬‬
‫رديت ع حدا وظليت حبك‪ ،‬وحبك حلد ما تخليت عن‬
‫الكل �أهلي رفقاتي ا�ساتذتي �شغلي �شهادتي تخليت‬ ‫(تبد�أ بال�رصاخ)‬
‫عن كل �شي كرمالك‪ ،‬درت ظهري وما همني �إال �أنت‬ ‫‪ -‬هي ‪:‬لي�ش ما تركتني روح �أخر مرة!!!؟ لي�ش‬
‫‪192‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫م�سرح‪ ..‬م�سرح‪ ..‬م�سرح‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪ -‬هي ‪ :‬ال‪�،‬شويف‪� ،‬شبك‪ ،‬لي�ش وقعت‪� ،‬أكيد عم متزح‪،‬‬ ‫و�أين معك‪ ،‬وهلق �شوف لوين و�صلت �شوي تانية بروح‬
‫ال جتنني‪ ،‬خل�ص ما منتطلق �أ�صال ما بقدر ب�س كنت‬ ‫ع م�شفى املجنني من عمايلك وال مباالتك جتاهي‬
‫عم ا�ستفزك لتحكي‪ ،‬ال حتكي ب�س اهلل يخليك فتح‬ ‫وجتاه عالقتنا‪.‬‬
‫عيونك‪ ،‬خل�ص ب�سكت ما عاد �أحكي‪ ،‬حبيبي ياهلل‬ ‫(تنظر ل�سيجارتها والرماد الذي مازال متما�سكا‪،‬‬
‫قوم‪ ،‬قووووووووووووم‪،‬ال ترتكني‪ ،‬ال ترتكني حلايل‪،‬‬ ‫تطفئ ال�سيجارة مت�سح دموعها املنهمرة بكرثة‪،‬‬
‫ال �أنت ما متت‪� ،‬أنت معي‪ ،‬ما بقدر كون بالك‪� ،‬أنت‬ ‫تخلع حذاءها وترميه‪ ،‬تتدىل قليال على كر�سيها‪،‬‬
‫كل �شي عندي‪� ،‬أنت �أنا‪ ،‬ياعمري قووم ما فيك متوت‬ ‫تبت�سم ابت�سامات متقطعة‪ ،‬تنظر للرجل املرتاخي‬
‫بدوين �أنت وعدتني منوت �سوا‪ ،‬حاكيني‪ ،‬ال حتاكيني‬ ‫اجل�سم والأ طراف‪ ،‬تدير وجهها‪ ،‬مت�سك مبر�أة‬
‫ب�س فتح عيونك‬ ‫مو�ضوعة �أمامها ت�شد جتاعيد وجهها القليلة‬
‫الظاهرة ومت�سح مكياجها الذي �سال نتيجة (ت�ضمه �إىل �صدرها)‬
‫البكاء)‬
‫‪ -‬هي ‪�:‬أخخخخخخخخخ يا قلبي ما بدي �شي غري‬
‫تكون معي‪ � ،‬آ�سفة ما كان بدي نتخانق ب�س �أنت‬ ‫‪ -‬هي ‪ :‬وجي دبل متل هالوردات‪ ،‬ما عاد فيه روح‬
‫جربتني ا�ستفزيتني معها مع �أنك بتعرف �أين بغار‬ ‫وال رونق‬
‫منها‪ ،‬حاولت ما �أحكي وما قلك �شي ب�س ما تركتلي‬ ‫( يف هذه الأ ثناء يقوم الرجل بحركات ت�شنجية‬
‫جمال‪ ،‬كنت مو �شايف حدا غريها‪ ،‬حتى رفقاتك‬ ‫بطيئة ويحل ربطة عنقه قليال‪ ،‬يهم بالكالم �إال‬
‫الحظوا‪ ،‬ورغم هال�شي ما حكيت ب�س نزلت مني‬ ‫�أنه ال ينبذ ببنت �شفه يعاود جل�سته املتهدلة‪،‬ثم‬
‫دمعة وم�سحتها �شو ذنبي �إذا هنن نبهوك �شو ذنبي‬ ‫يغم�ض عينيه)‬
‫�إذا بهدلوك‪ .‬لي�ش �رصخت فيني م�سكتني من �إيدي‬
‫وجريتني ع البيت‪ ،‬حبيبي عميل �شو ما بدك روح‬ ‫( ال�سيدة و�أثناء نظرها يف املر� آة)‬
‫معها حبها‪،‬خوين �سهار رقو�ص‪،‬عميل �أي �شي ب�س‬ ‫‪ -‬هي ‪ :‬بتعرف وال مرة كنت جدية بهالقرار متل هلق‬
‫فتح عيونك‪،‬عم قلك فتح عيونك‪� ،‬أنت عاي�ش‪ ،‬ما لح‬‫نحن الزم نتطلق ( ت�ضع املر�أة جانبا وتنظر �إليه)الزم‬
‫�أ�سمحلك متوت ما بدييييي‪ ،‬ما فيك تروح ملني بدك‬
‫ننهي هالق�صة ننهيها متاما مو ناخد فرتة ا�سرتاحة‬
‫ترتكني مع مني‪ .‬بدونك �أنا مو �أنا‪ ،‬يا عمري‪.‬‬
‫وال نعيد التفكري باملو�ضوع‪ ،‬الزم نتطلق‪� ،‬إذا بت�سمح‬
‫فتح عيونك عم حاكيك مبوت عالقتنا و�أنت مغم�ض تخفت اال�ضاءة لتتحول لبقعة �ضوء على املر�أة‬
‫عيونك‪ .‬فتح عيونك من �شان اهلل فتحن من�شان احلب والرجل‪.‬‬
‫(ت�ضع ر�أ�سها على ر�أ�سه مت�سح �شعره‪ ،‬تبكي‪،‬‬ ‫يلي جمعنا‪.‬‬
‫(تهجم عليه وجتل�س على الأ ر�ض عند قدميه تقبله‪ ،‬متابعة قول ‪ :‬بحبك التروح‪ ،‬فتح عيونك‪،‬‬
‫حبيبي )‬ ‫ت�ضع يديها على رجليه وتخبطه �صارخة)‬
‫�إعتام‬ ‫‪ -‬هي ‪ :‬فتح عيونك حاكيني‬
‫(يف هذه اللحظة يتداعى ج�سد الرجل لي�سقط‬
‫مالحظات ‪:‬‬
‫عن الكر�سي �إىل الأ ر�ض)‬
‫هناك مقطوعات غنائية ومو�سيقية يتم اختيارها وادخالها‬
‫عند مقاطع خمتلفة من احلوار‪ ،‬وهذه املقطوعات تخدم العمل‬ ‫(ت�سكت هي لثوان حتاول ا�ستيعاب ما حدث وتبد�أ‬
‫وت�ساهم يف ت�صعيد احلالة احلوارية ال�صادرة من �شخ�ص‬ ‫بال�رصاخ امل�صحوب بالعويل‪،‬مت�سك بالرجل‪،‬‬
‫واحد‪.‬‬ ‫حتاول �إيقاظه)‬
‫‪193‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‬

‫‪194‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سوف ت�سفك دماء‬


‫ترجمة‪ :‬مها لطفي‬ ‫�سيناريو‪ :‬بول توما�س أ�ندر�سن ‬
‫مرتجمة من لبنان‬

‫�إن فيلم بول توما�س �أندر�س «�سوف ت�سفك دماء» م�أخوذ ب�شكل جزئي عن رواية �أبتم �سنكلري «برتول»‬
‫‪ .1927‬حيث جند املخرج يظهر نهج ًا وان�ضباط ًا جديدين دون �أن يتخلى عن مقايي�سه الفنية‪ .‬وي�ستطيع‬
‫املرء �أن يح�س هذا مبا�رشة منذ اللقطة الأ وىل التي تظهر تالل كاليفورنيا �سنة ‪ 1898‬حتت �سماء زرقاء‬
‫بلورية ويتدفق مبا�رشة �رشيط �صوت كالفي�ضان فيثري يف امل�شاهد �شعوراً بالرهبة والتوقع‪.‬‬
‫وقد كان لتعاون �أندر�سن مع مدير ت�صويره ال�سينمائي روبرت ال�سويت �أثره الكبري يف حتقيق اجلو‬
‫والإ طار واخللفية املنا�سبة ملو�ضوع الفيلم وقد نال ال�سويت جائزة الأ و�سكار عن عمله هذا حيث انه‬
‫�أبدع يف ت�صوير املكان بكل تفا�صيله وات�ساعه وكذلك ت�صوير النريان امل�شتعلة خلف بالينفيو‪ .‬والرمزية‬
‫‪ -‬يف لقطة للغيوم ال�سماوية التي تنعك�س يف بركة النفط ‪� ..‬إلخ‪ .‬وغريه من ا�ستخدام للكامريا ا�ستخدام ًا‬
‫فني ًا يدخلها يف �صلب الأ حداث ويعك�س من خاللها روح ًا حيّه تنبثق منها �سواء لتعك�س الروح الدينية‬
‫�أو لتعك�س الروح ال�رشيرة عندما تتدفق خارج �أج�ساد امل�ؤمنني‪ .‬ولقد كان لل�صورة دور كبري يف ت�أكيد‬
‫املعنى الكلي للفيلم من حيث انه حرب �أعلنت عرب الأ ر�ض الأ مريكية يف القرن الع�رشين لتظهر �أي دين‬
‫�سي�صبح الدين الأ مريكي‪ ,‬امل�سيحية �أم الر�أ�سمالية‪.‬‬
‫�إن �شخ�صية بالينفيو امللحمية والتي ج�سدها دانيال داي لوي�س مبهارة ا�ستحوذت على كل من �شاهده‪،‬‬
‫وبقيت كل لقطة وكل م�شهد يف الذاكرة وك�أنه �إن�سان عاي�شناه �أعوام ًا و�أعوام وا�صبح جزءاً من ذاكرتنا‪.‬‬
‫فهو ال �شك كان �أكرب من �إطار �أية لقطة فخرج منها لأ نها ال ت�ستطيع ا�ستيعابه وحتول �إىل عمالق مهيمن‬
‫على الفيلم وامل�شاهد‪.‬‬
‫�إن عمل بول توما�س �أندر�سن �إ�ضافة حقيقية للفن ال�سينمائي‪.‬‬
‫تتمة العدد ال�سابق‬

‫‪195‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املعلمة‪ :‬لقد جئت م�سافة طويلة ألنك طلبتني �شخ�صيا ً وقد‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫اقرتح ال�سيد برودي �أن ‪....‬‬ ‫داخلي‪ .‬مكتب دانيال‪/‬املخيم الرئي�سي‪ .‬يوم �آخر‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬لقد انتهى هذا ا ألمر‪� .‬سي�أخذك �أحدهم �إىل �سان‬ ‫يجل�س دانيال مع امر�أة‪ ،‬معلمة‪/‬م�رشفة تدعى فاين كالرك (يف‬
‫فران�سي�سكو‪� ،‬إذا مل تقبلي عر�ضي ف�أنا ا�ضيّع وقتي معك ‪-‬‬ ‫‪� )30‬أح�رضت لتتكلم مع دانيال حول م�ساعدة هـ‪.‬و‪..‬‬
‫لدي عمل‪ .‬لدي عمل مهم‪.‬‬ ‫ن�سمع خالل امل�شهد كله كل ا أل�صوات من اخلارج‪ ،‬حفر‪ ،‬رجال‪،‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫الخ‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬خزان عمالق قيد الت�شييد ‪ -‬نهار ًا‬ ‫املعلمة‪ :‬هل ب�إمكانه القراءة‪.‬‬
‫يقف دانيال‪ ،‬فلت�رش واجلميع داخل خزان عمالق يف منت�صف‬ ‫دانيال‪ - :‬كال‪-‬‬
‫مرحلة بنائه‪ .‬ا ألر�ض متدرّجه وم�سطحة لت�شكل �ساحة مدّرج‬ ‫املعلمة‪ :‬هل يعرف ب�ضع كلمات؟ ليقر� أ ‪ -‬هل هنالك كلمات‬
‫قطرها ‪ 400‬قدم وعمقها ‪ 30‬قدماً‪ .‬لقد حفرت ا ألر�ض ليجعلو‬ ‫ميكن متييزها؟‬
‫منها مكانا ً لتخزين النفط‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ال �أدري‪.‬‬
‫يعيد دانيال النظر �إليها مع فلت�رش وا ألوالد‪ .‬عرب الطريق نحو‬ ‫املعلمة‪ :‬هل ذهب �إىل املدر�سة‪.‬‬
‫اخلزان يتقدّم �إيلي �صنداي‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬إنه �أذكى من �أي طفل ر�أيته يف حياتك؟‬
‫يخطو الطريق الطويل ويتجه نحو دانيال ويقول‪:‬‬ ‫املعلمة‪ :‬ت�سهيالتنا ‪-‬‬
‫�إيلي‪ :‬متى نح�صل على �أموالنا‪ ،‬يا دانيال؟‬ ‫دانيال‪ :‬ال �أريده ان يذهب ألي مكان‪� ،‬أريدك �أنت ان ت�أتي �إىل‬
‫ينظر دانيال نحوه‪ .‬ي�سري مبحاذاته وي�صفع �إيلي مبا�رشة على‬ ‫هنا‪.‬‬
‫وجهه‪ .‬يتج ّمد �إيلي يف مكانه‪( .‬للتذكرة‪� :‬إيلي يف ‪ 15‬من العمر)‬ ‫املعلمة‪ :‬املدر�سة التي منلكها تخ�ص �أوالد �آخرين وهي �ستكون‬
‫ي�صفعه ثانية‪ ،‬بيد مفتوحه‪ .‬مبا�رشة على الوجه‪ .‬ت�سيل دموعه‬ ‫مكان جيد جدا ً له‪ .‬ميكنه ان يكون مع باقي ا ألطفال ولدينا‬
‫وهو ي�رصخ من قوة هذه ال�صفعة الوح�شية‪.‬‬ ‫�ستة معلمني �آخرين‪.‬‬
‫ ‬ ‫تو ّقف‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ب�إمكاين ان �أبني مدر�سة هنا و�ستتمكنني من �إح�ضار‬
‫كل �شيء جامد مكانه لربهة من الزمن‪ .‬ي�صفعه ثانية‪ .‬يرتاجع‬ ‫باقي ا ألوالد �إىل هنا ‪� -‬أعر�ض عليك بناء مدر�سة على اي �شكل‬
‫�إيلي �إىل الوراء‪ ،‬ويركع على قدميه‪.‬‬ ‫تريدينه‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ال�ست من ي�شفي املر�ضى ور�سول الروح القد�س؟‬ ‫املعلمة‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن ه�ؤالء ا ألوالد لديهم عائالت يف �سان‬
‫متى �ست�أتي وتعيد ال�سمع �إىل �إبني؟ اال ت�ستطيع فعل ذلك؟‬ ‫فران�سي�سكو‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬كان عليك �أن ترتكني �أبارك البئر‪ ،‬لو فعلت ذلك ملا حدث‬ ‫دانيال‪� :‬سنح�رض عائالتهم‪ .‬ب�إمكاننا بناء �أح�سن مدر�سة يف‬
‫هذا له ‪-‬‬ ‫هذه الوالية‪ .‬يقولون �أنك �أح�سن معلمة يف هذه البالد‪� .‬إذا ً ملاذا‬
‫ي�صفع �إيلي مرة ثانية‪ ،‬مبا�رشة على وجهه‪.‬‬ ‫ال تكون لك مدر�ستك اخلا�صة؟‬
‫�إيلي‪ :‬ما كان لك �أن تفعل ذلك ‪- -‬‬ ‫املعلمة‪� :‬أنا �أ�سكن يف �سان فران�سي�سكو‪.‬‬
‫ي�صفعه مرة ثانية‪ .‬اجلميع يقفون حوله �صامتني‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لي�س بعد ا آلن‪� .‬سوف �أبني مدر�سة م�ؤقته خالل �شهر من‬
‫�إيلي‪� :‬أنت مدين لكني�سة الر�ؤيا الثالثه بخم�سة �آالف دوالر كجزء‬ ‫الزمن ومبجرد �أن ت�صبحي �أنت هنا �سوف ن�ضع خطط ملكان‬
‫من الرتتيبات التي و�ضعناها‪.‬‬ ‫�أكرب يبني خالل عام من ا آلن‪� .‬سوف ادفع لك الفي دوالر يف‬
‫دانيال‪� :‬س�أجعلك ترتك هذا املكان و�أدفنك حتت ا ألر�ض‪ ،‬يا‬ ‫ال�سنه كراتب وابني لك بيتا ً �أي�ضاً‪ .‬هل يبدو هذا منا�سبا ً لك؟‬
‫�إيلي‪� .‬إبعد عن وجهي‪.‬‬ ‫املعلمة‪ :‬كال لي�س منا�سباً‪ .‬انت حمتاج إلر�سال �إبنك �إىل �سان‬
‫�إيلي‪� :‬ستتعلم الدر�س قريبا ً ‪-‬‬ ‫فران�سي�سكو �إذا ما كنت تريده ان يتعلم كيف يتعامل مع مر�ضه‪.‬‬
‫ي�صفعه مرة ثانية‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫هو حمتاج للذهاب �إىل املدر�سة‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬هنالك �شيء �آخر �سي�أتيك‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬نعم �أم ال؟‬
‫يغادر �إيلي‪ .‬تو ّقف‪ .‬ثم‪:‬‬ ‫املعلمة‪ :‬كال‪ ،‬يا �سيدي‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال‪� :‬سوف اطلب منك مرة واحدة فقط‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬مزرعة �صنداي‪ .‬ليالً‪.‬‬ ‫املعلمة‪ :‬لقد فعلت ذلك‪ .‬بناء املدر�سة هنا قد يكون �أف�ضل لك‬
‫تر ّكز الكامريا بلقطة مقرّبة متو�سطة على �إيلي‪ .‬وجهه �أحمر‬ ‫ولكن ذلك لي�س اف�ضل إلبنك‪.‬‬
‫ومليء بالكدمات من �رضب دانيال له‪ .‬ن�سمع �صوت خارجي‬ ‫دانيال‪ :‬ح�سنا ً �إذا ً �أخرجي من هنا‪ .‬اخرجي �سوف ار�سل من‬
‫للعائلة وهي تتناول الطعام‪ ،‬جمرد حمادثة ‪ -‬جتل�س الكامريا‬ ‫ي�أخذك �إىل �سان فران�سي�سكو‪.‬‬
‫مع �إيلي فرتاقب وجهه العاب�س وهو ي�ستدير نحو �آبيل‪� .‬أخرياً‪:‬‬ ‫املعلمة‪ :‬اال تريدين ان �أراه؟‬
‫�إيلي‪ :‬انت رجل �أبله‪ ،‬يا �آبيل‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬كال‪.‬‬
‫‪196‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫انتهى هـ‪.‬و‪ ..‬من �رشب احلليب ووا�ضح �إنه يف حالة نعا�س ‪-‬‬ ‫يف املقابل ويف نف�س اللحظة ينظر �آبيل عرب املائدة نحو ابنه‪.‬‬
‫عيناه متثاقلتان‪ ،‬خمدرتان ثم ي�سقط نائماً‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬لقد �سمحت لواحد ان ي�أتي ويدو�سنا جميعاً‪.‬‬
‫زاوية‪ ،‬غرفة النوم‪.‬‬ ‫لقد �سمحت له بالدخول والقيام بعمله وانت رجل �أبله جتاه ما‬
‫حتمل ا ألم �صنداي هـ‪.‬و‪� ..‬إىل ال�رسير ت�ضعه به وتغ ّطيه‬ ‫كان ميكن �أن نفعل‪ .‬مل يكن لديك �سوى املاعز وال�صخور بينما‬
‫باملالءة‪.‬‬ ‫كنا �أغنياء‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫�أبيل‪ :‬لقد �سمعت كالمه‪ ،‬يا �إيلي ‪ -‬لقد حاولت ‪-‬‬
‫خارجي‪ .‬حارة يف الطريق‪ .‬مقاطعة ايزابيلال‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬مل تفعل �شيئا ً �سوى اجللو�س‪� .‬أنت ك�سول و�أنت غبي‪.‬‬
‫دانيال يف مكان �آمن‪ ،‬مظلم‪ ،‬هادئ وهو راكع على ركبتيه‬ ‫(تو ّقف‪).‬‬
‫ور�أ�سه مدفون بني �ساقيها وقد �أم�سك بها �إىل احلائط‪( .‬تو ّقف‪).‬‬ ‫هل تعتقد �أن اهلل �سي�أتي �إليك هنا وينقذك من غبائك؟‬
‫ينتهي مما يفعله ثم يعطيها بع�ض املال‪.‬‬ ‫انه ال ينقذ ا ألغبياء‪ ،‬يا �آبيل‪.‬‬
‫يرتّب �شعره‪ ،‬ومي�سح العرق من على وجهه بقطعة قما�ش رثّة‬ ‫يدفع �إيلي املائدة �أمامه باجتاه �آبيل‪ ،‬ويقرّبها منه بحيث‬
‫�أخرجها من جيبه ثم يغادر‪.‬‬ ‫يل�صقه يف احلائط‪.‬‬
‫تال�شي ال�ضوء‪ ،‬قطع �إىل‪:‬‬ ‫يقفز �إيلي‪ ،‬يتحرك باجتاهه‪ .‬يخاف �آبيل‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬حمطة قطار‪/‬بالقرب من ليتل بو�سطن‪ .‬يوم �آخر‪.‬‬ ‫�إيلي‪� :‬سوف �أمزقك �إىل قطعتني ب�سبب ما فعلته‪.‬‬
‫قطار و�صل لتوه والنا�س تخرج منه ‪ -‬كثري من النا�س اجلدد‬ ‫ايها الرجل الغبي‪ .‬ايها الرجل الغبي ال�صغري‪.‬‬
‫‪ /‬حميط جديد حول املكان ‪ -‬الكامريا تبقى خلف ب�شكل ظلّي‬ ‫ي�صفع والده على وجهه‪.‬‬
‫وهو يخطو خارج القطار‪.‬‬ ‫�آبيل‪ :‬يا بني‪� ،‬أرجوك اوقف هذا‪� .‬أرجوك‪.‬‬
‫الكامريا تتبع هذا ال�شاب‬ ‫�إيلي‪ :‬كيف جاء �إىل هنا؟ هل تريد �أن تعرف؟ انا �أعرف‪.‬‬
‫الغريب (يف الثالثينات)‬ ‫لقد ر�أيت هذا يف ر�ؤيا‪� .‬إنه ابنك الغبي‪� .‬إنه بول هو من قال له �أن‬
‫وهو ي�شق طريقه �إىل‬ ‫ي�أتي �إىل هنا‪� .‬أنا �أعرف هذا‪ .‬هو الذي قال له �أن ي�أتي �إىل هنا‬
‫الر�صيف‪.‬‬ ‫وهو الذي قال له كيف �سيقيّمك لقد ذهب �إليه وقال‪« ،‬والدي‬
‫جاء فليت�رش وقد ج ّهز‬ ‫الغبي‪ ،‬ال�ضعيف �سوف يتخلى عن ن�صيبه ‪� -‬إذهب وخذه ‪»-‬‬
‫ما يريد حتميله على‬ ‫وانت حققت ما فعله ابنك الغبي بوالده الغبي‪.‬‬
‫ظهر القطار الذي ح�رض‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫لتوّه‪ .‬وهوي قوم بعملية‬ ‫داخلي‪ .‬بار‪/‬مقاطعة ايزابيلال‪ .‬ليال ً‬
‫املفاو�ضة ‪ /‬مناق�شا ً‬ ‫يف خ�ضم ليلة �صاخبة �سكرانه جدا ً يف مقاطعة ايزابيلال نرى‬
‫رجال �ستاندارد �أويل‬ ‫دانيال ال�سكران املنتحي جانبا ً ي�ستمتع با أل�شياء من على بعد‪.‬‬
‫الو�سطاء حول ا أل�سعار‬ ‫ت�سري باجتاهه امر�أة م�شاغبة حملية وت�أخذ مقعدا ً بجانبه‪.‬‬
‫و�أجرة ال�شحن‪.‬‬ ‫(تو ّقف‪).‬‬
‫الرجل الغريب ي�سري‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫وينظر ثم يتجه بعيدا ً عن‬ ‫داخلي‪ .‬منزل �صنداي‪ .‬تلك اللحظة‬
‫امل�ستودع ب�إجتاه ليتل‬ ‫تعتني االم �صنداي وماري وروث بـ هـ‪.‬و‪ ..‬وهي تقوم باطعام‬
‫بو�سطن ‪-‬‬ ‫اجلميع‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫زاوية‪ .‬ا ألم �صنداي‪.‬‬
‫خارجي ‪ -‬منطقة احلفر‬ ‫ت�سكب قليال ً من الوي�سكي يف ك�أ�س �صغري من حليب املاعز‪.‬‬
‫‪ -‬نهارا ً‬ ‫ت�أخذ هذا وت�ضعه �أمام هـ‪.‬و‪ ..‬لي�رشبه‪ .‬فيفعل ذلك‪ .‬حتاول ماري‬
‫نحن ا آلن يف منت�صف‬ ‫وروث التكلم معه‪.‬‬
‫النهار واحلرارة �شديدة‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ي�سري الرجل الغريب حيث‬ ‫داخلي‪ .‬بار‪/‬مقاطعة ايزابيلال‪ .‬تلك اللحظة‪.‬‬
‫الرافعات واحلفر واحلركة‪.‬‬ ‫يخاطب دانيال املر�أة امل�شاغبة ‪ -‬انها ت�ضع يدها على ملتقى‬
‫ينظر حول املكان ‪ -‬ينظر‬ ‫�ساقيه وهو ي�رشب‪.‬‬
‫حول املكان ‪-‬‬ ‫فليت�رش الواقف بقربه يراقب ما يحدث‪.‬‬
‫اخلزّان ممل� ؤ �إىل ن�صفه‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫بالنفط يف تلك اللحظة‬ ‫داخلي‪ .‬منزل �صنداي‪ .‬تلك اللحظة‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هرني‪ :‬مل تكن تعرف عني؟‬ ‫والرافعة الثالثة تنتج ا آلن �أربع �أو خم�س رافعات قيد ا إلن�شاء‬
‫دانيال‪ :‬من كان يقطن مبحاذاتي يف فون دوالك؟‬ ‫ا آلن ولقد ت�ضاعف العمل‪� .‬إنه �سريك‪.‬‬
‫هرني‪ :‬عائلة رينتول‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫(تو ّقف‪).‬‬ ‫خارجي‪ .‬منزل بالينفيو‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫يتج ّمد دانيال يف مكانه ويت�أثر كثرياً‪.‬‬ ‫الكامريا تتبع دانيال وهو يف طريقه �إىل منزله ‪ -‬يقرتب منه ‪-‬‬
‫هرني‪:‬وعائلة �سيكل اخذت املنزل املجاور ا آلخر ملكان �سكنك‬ ‫الغريب جال�س �أمام البيت ينتظر‪ .‬يالحظ دانيال وجوده فيقف‬
‫‪� -‬أنا �إبن ماريون براندز وباتريك بالينفيو‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫دانيال ‪� :‬أدخل‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬هل ب�إمكاين م�ساعدتك؟‬
‫ميد يده وي�صافح يد هرني ‪ -‬ثم يعانقه ‪ -‬مي�سك ر�أ�سه وينظر‬ ‫الغريب‪ :‬دانيال؟‬
‫�إىل وجهه وعيناه ويرى �شيئا ً ‪ -‬يتكلم هرني؛‬ ‫دانيال‪ :‬من تكون؟‬
‫هرني‪ :‬دانيال‪ ،‬انا ميت من اجلوع‪.‬‬ ‫الغريب‪� :‬إ�سمي هرني‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال‪ :‬نعم؟‬
‫داخلي ‪ .‬منزل بالينفيو‪ .‬نهاراً‪ .‬فيما بعد‪.‬‬ ‫هرني‪� :‬أنا هرني‬
‫ي�أكل هرني ب�رشاهة من وجبة و�ضعت �أمامه على مائدة‬ ‫ي�صل دانيال فيقفا معاً‪.‬‬
‫ا إلفطار‪ .‬يجل�س دانيال و هـ‪.‬و‪ ..‬على حجره‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬كيف ميكنني م�ساعدتك؟‬
‫نراقب هرني يتكلم وي�أكل ب�سكون من منظور هـ‪.‬و‪..‬‬ ‫هرني‪� :‬أنا هرني بالينفيو ‪ -‬انا من فون دوالك‪.‬‬
‫لقطة مقرّبة هـ‪.‬و‪ ..‬يراقبه‪.‬‬ ‫دانيال يف حالة هدوء‪.‬‬
‫نعيد ال�صوت لن�سمع‪:‬‬ ‫هرني‪� :‬أنا اخوك من ام ثانية‪.‬‬
‫هرني‪ :‬قر�أت عنك يف ال�صحف‪ .‬وح�رضت ب�أ�رسع ما ميكن‪.‬‬ ‫(تو ّقف‪).‬‬
‫دانيال‪ :‬هل تعرف �إذا ما كان والدنا‪� ،‬إذا ما كان باتريك حيا ً‬ ‫هرني‪ :‬باتريك هو والدي‪.‬‬
‫�أم ميتاً؟‬ ‫دانيال‪ :‬من �أنت؟‬
‫هرني‪ :‬ال �أدري‪.‬‬ ‫هرني‪� :‬أنا هرني‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ووالدتي؟‬ ‫دانيال‪ :‬من هي �أمك؟‬
‫هرني‪ :‬ال �أَدْ ِري‬ ‫هرني‪ :‬ماريون براند�س‪� .‬أنا من بوند دوالك‪ ،‬وي�سكون�سون‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬وماذا عن والدتك؟ ماريون؟ كانت املعلمة‪.‬‬ ‫�أنا ‪ -‬والدي ‪� -‬أنا ولدت بعدك بخم�س �سنوات‪ .‬قر�أت عنك يف‬
‫معلمة املدر�سة‪ .‬انت ل�ست خمطئاً؟‬ ‫ال�صحف‪ .‬عن بئرك املتد ّفق‪ .‬جئت من مكان بعيد ألراك‪.‬‬
‫هرني‪ :‬هذا �صحيح‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬كيف �أعرف هذا؟‬
‫دانيال‪ :‬هل هي حيّه �أم ميتة؟‬ ‫يفتح �شنطته ويغطي دانيال بع�ض �أوراق التعريف‪.‬‬
‫هرني‪� :‬إنها ميتة‪.‬‬ ‫ينظر دانيال �إليها مليّا وينظر له مليّا ً �أي�ضاً‪ .‬في�صبح عاطفياً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬من �أين �أنت �آت؟‬ ‫(تو ّقف‪).‬‬
‫هرني‪ :‬من نيومك�سيكو‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬كم عمرك؟‬
‫دانيال‪ :‬نعم‪� ،‬أعرف ذلك‪ ،‬ولكن من �أين؟‬ ‫هرني‪ :‬انا يف الثامنة والثالثني‪.‬‬
‫هرني‪� :‬سيلفر�سيتي‪ ،‬لقد كنت هناك ملدة عامني‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬انت �آت من هناك؟ �أين؟ من �أين انت قادم؟‬
‫قطع ونعود �إىل هـ‪.‬و‪ ..‬ويتال�شى ال�صوت‪ .‬نراقبه وهو يراقب‬ ‫هرني‪ :‬كال ‪ -‬كال ‪ -‬مل �أذهب �إىل هناك من �سنني طويلة ‪-‬‬
‫هرني الذي ي�أتي ويتكلم ي�أكل ويتكلم‪ .‬ثم نعود �إىل احلوار مع‬ ‫جئت من نيومك�سيكو‪.‬‬
‫ال�صوت‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬من هم �شقيقاتي؟‬
‫هرني لقد كنت �أحاول احلفر اخلا�ص بي لعدة �سنني‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬انابيل واليانور‪.‬‬
‫�أنقب عن البرتول يف تك�سا�س ولويزيانا‪ .‬وعملت يف‬ ‫دانيال‪ :‬ماذا تعرف عن والدتي‪ ،‬ما ا�سمها؟‬
‫�سبندل�ستوب‬ ‫هرني‪ :‬ويلال‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هل كان �شيئا ً منتجاً؟‬ ‫(تو ّقف) يهتز دانيال قليالً‪.‬‬
‫هرني‪ :‬كال‪ .‬لي�س مثلك‪ .‬لي�س مثل جناحك‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬احتفظ والدي بهذا �رسّا ً ‪ -‬ولكنني علمت به وكذلك العديد‬
‫دانيال‪ :‬هل �أنت متزوج؟‬ ‫من النا�س ‪ -‬يا دانيال ‪� -‬أعرف �أن هذا غريبا ً ولكنني انتظرت‬
‫هرني‪ :‬كال‪� .‬أم�ضيت بع�ض الوقت يف ال�سجن‪ .‬ق�ضيت وقتا ً �سيئا ً‬ ‫طوال عمري ألراك مرة ثانية‪.‬‬
‫طويالً‪ .‬مل يكن لدي �شيء وقد �ألقي القب�ض عل ّي يف لويزيانا‪.‬‬ ‫(تو ّقف)‬
‫‪198‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ما يف نف�سي‪.‬‬ ‫عملت مع جمموعة من امل�ساجني املقيّدين ملدة �ستة �أ�شهر �أبني‬
‫(تو ّقف على دانيال)‬ ‫الطرق‪ .‬كان ذلك وقتا ً �صعباً‪ .‬هل انت متزوج؟‬
‫دانيال‪ :‬هل انت غا�ضب؟‬ ‫دانيال‪ :‬ملاذا �سجنت؟‬
‫هرني‪ - :‬من ماذا؟‬ ‫هرني‪� :‬صدّقني او ال ت�صدقني ف�إنني رغم كل املوبقات التي‬
‫دانيال‪ :‬هل �أنت ح�سود؟ هل ي�صيبك �شعور باحل�سد؟‬ ‫اقرتفتها يف حياتي‪ ،‬فعندما �ألقي القب�ض عل ّي مل �أكن قد‬
‫هرني‪ :‬ال اعتقد كذلك‪.‬‬ ‫ارتكبت �شيئاً‪ .‬ولكنني فعلت ن�صيبي من ا ألمور التي ال يجوز‬
‫(تو ّقف‪).‬‬ ‫الكالم عنها‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬يف داخلي �سباق دائم‪ .‬ال �أريد ان ينجح �أحد غريي‪� .‬أكره‬ ‫دانيال‪ :‬هل فكرت يوما ً يف العودة �إىل املنزل؟‬
‫معظم النا�س‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬نعم‪ .‬هل فكرت �أنت؟‬
‫هرني‪ :‬ذلك اجلزء ‪� -‬أن اعمل وال اجنح ‪ -‬اختفى كليا ً مني كل‬ ‫دانيال‪ :‬كال‪.‬‬
‫ف�شلي ال�سابق مل يعد له وجود ‪ -‬مل �أعد اهتم كال�سابق ‪-‬‬ ‫عودة �إىل هـ‪.‬و‪ ..‬يراقب بال �صوت بينما يتكلم دانيال‪ .‬ينظر‬
‫يف‪ ،‬فهو فيك ‪-‬‬‫دانيال‪� -:‬إذا كان هذا َّ‬ ‫�إىل هرني نظرة قا�سية‪ .‬تو ّقف‪ .‬نعود �إىل دانيال و هـ‪.‬و‪ ..‬على‬
‫(تو ّقف‪).‬‬ ‫ح�ضنه‪ .‬يعود ال�صوت‪.‬‬
‫متّر بي �أوقات ارى خاللها النا�س ال متلك ما ي�ستحق‬ ‫دانيال‪ :‬لدي عائلتي اخلا�صة ا آلنز واهتماماتي اخلا�صة‪.‬‬
‫ا إلعجاب‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫نقرة‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫خارجي ‪ .‬منطقة الرافعة فيما بعد‬
‫دانيال‪� :‬أال تريد �أن تنجح؟‬ ‫هـ‪.‬و‪ ..‬نام على الكر�سي‪ .‬ي�أخذه دانيال وي�ضعه يف ال�رسير ثم‬
‫هرني‪ :‬كنت احلم و�أجري وراء جناح مثل جناحك ‪ -‬وا آلن ال‬ ‫يخرج بهدوء هو وهرني من املنزل‪.‬‬
‫�أريد �إال �أن �أبقى حيّاً‪ .‬مل يعد لدي التكري�س ل أل�شياء الذي كان‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫لدي �سابقاً‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬منطقة الرافعة‪ .‬فيما بعد‪.‬‬
‫(نقرة‪).‬‬ ‫الكامريا مع دانيال وهرني‪ ،‬ي�سريان بني الرافعات والعمال يف‬
‫�أنا ال �أ�شعر بهذا ا آلن‪.‬‬ ‫ورديتهم الليلية‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬إنك ك�سول وهذا هو ا ألمر‪ .‬ولي�س عليك ان تكون كذلك‪.‬‬ ‫ثالث رافعات �أخرى قيد ا إلن�شاء‪.‬‬
‫لقد در�ست النا�س مليّا ً و�أخذت منهم ما �أريد‪.‬‬ ‫يعرّفه دانيال على بع�ض الرجال؛‬
‫وهذا ي�شعرين بالغثيان‪ ،‬ألنني �أرى �أن جميع النا�س ك�ساىل‪ .‬من‬ ‫دانيال‪« :‬من ف�ضلكم قولو مرحبا ً ألخي هرني‪».‬‬
‫ال�سهل ا�صطيادهم ‪ -‬كان با�ستطاعتي �أن اجعل النا�س تفكر‬ ‫هذا �أخي‪ ،‬هرني‪ ،‬من فوند دوالك‪ ،‬وي�سكون�سن‪».‬‬
‫ب�أ�شياء ال تريد تقبلها ‪ -‬ولكنني فعلت ‪ -‬وهذا ما جعلني �أقرف‬ ‫«�أخي‪»..‬‬
‫منهم جميعاً‪.‬‬ ‫زاوية‪ ،‬دانيال وهرني‪ .‬فيما بعد‪.‬‬
‫�أريد ان �أح�صل على مال كثري يكفيني ألحترك بعيدا ً عن �أي‬ ‫يجل�س هرني‪ ،‬ي�سري دانيال حول املكان‪ .‬الرافعات ت�ضخ يف‬
‫�إن�سان‪.‬‬ ‫اخللفية وهما يتكلمان‪.‬‬
‫هرني‪ :‬ماذا �ستفعل بـ هـ‪.‬و‪..‬‬ ‫دانيال‪ :‬ما الذي كانت تعرفه والدتي‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ال �أدري‪� .‬أرجو �أن يكون ا ألمر م�ؤقتاً‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬ال �أدري‪ .‬ال �أدري �إذا ما كانت تعرف وحتيد بر�أ�سها �إىل‬
‫الناحية ا ألخرى ‪� -‬أم �إذا كانت ال تعرف بتاتاً‪� .‬أنا عرفت قبل‬
‫�أن يقول يل والدي‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬كيف؟‬
‫هرني‪ :‬كنت �أعمل مع وين�شل هيدريك‪ ،‬هل تذكر ذلك؟‬
‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫هرني‪ :‬لقد عاملني دائما ً كابن له‪ .‬وكان يكره باتريك‪ .‬هذا ما‬
‫قاله وين�شل يل‪ .‬فقد حاول �إثارتي �ضده ك�أبن غري �رشعي ‪-‬‬
‫ولكنني ذهبت ووجدته و�أحببته �أكرث‪ .‬وكما تعرف كنا نلتقي‬
‫�أنا ووالدي كثريا ً بال�رس ‪ -‬ومل يبعدين عنه بتاتاً‪.‬‬
‫هرني‪ :‬ملاذا غادرت؟‬
‫دانيال‪ :‬عملت لدى البحوث اجلغرافية وذهبت �إىل كان�سا�س مل‬
‫و�ضح‬
‫�أ�ستطع البقاء هناك‪ .‬فقط مل �أ�ستطع ‪ -‬من ال�صعب ان � أ ّ‬
‫‪199‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وي�رصخ حتت ذراعه مثل اللعبة‪.‬‬ ‫هل يعود �صوتك �إليك؟ ال �أدري‪ .‬رمبا ال �أحد يعرف ذلك‪ .‬قد ال‬
‫داخل غرفة النوم‬ ‫يعرف الطبيب ذلك‬
‫يفتح هرني الباب على م�رصاعيه‪ ،‬نحو دانيال ليوقظه ‪-‬‬ ‫نقرة‪.‬‬
‫هرني‪ :‬دانيال‪ .‬دانيال‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬أنا �أرى �أ�سو� أ ما يف النا�س‪.‬‬
‫ي�ستيقظ دانيال‪ ،‬ويرى هذا‪.‬‬ ‫ال �أريد �أن �أحتاج للنظر �أبعد من ر�ؤيتهم ألح�صل على ما �أريد‪.‬‬
‫هرني‪ :‬تعاىل‪ ،‬تعاىل‪ ،‬انه�ض وغادر املكان فوراً‪.‬‬ ‫�أريد �أن �أحكم وان ال �أ�رشح ما بداخلي ابدا ً لقد بنيت احقادي‬
‫يتجه اجلميع �إىل اخلارج عرب اللهب ‪- -‬‬ ‫عرب ال�سنني قليال ً بقليل‪ ،‬يا هرني ‪-‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫‪ -‬وجودك هنا يعطيني نف�سا ً �آخر‪-‬‬
‫ً‬
‫خارجي‪ .‬منزل بالينفيو ‪ -‬ليال‪ .‬تلك اللحظة‬ ‫ال ا�ستطيع ا إل�ستمرار يف هذا لوحدي ‪...‬‬
‫انهم يقفون يف اخلارج بينما يحرتق املنزل حتت اللهب يحمل‬ ‫�إحالل طويل طويل �إىل‪:‬‬
‫دانيال هـ‪.‬و‪ .‬بني ذراعيه وي�رصخ يف وجهه؛‬ ‫خارجي‪ .‬الرافعات ‪� -‬صباحاً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ماذا تفعل؟ ماذا تفعل بي؟ تكلم‪ .‬تكلم‪� .‬أعرف �أنك‬ ‫يجل�س هـ‪.‬و‪ .‬ويراقب حقول النفط والعمل برمته‪.‬‬
‫ت�سمعني؛ تكلّم‪ .‬ليلعنك اهلل‪ .‬ليلعنك اهلل‪ .‬ماذا تفعل بنا؟ ماذا‬ ‫انه يراقب دانيال وهرني يتكلمان مع مورجان رئي�س العمال‬
‫تفعل؟‬ ‫ويقومان ببع�ض ا ألعمال على الرافعة‪.‬‬
‫يحرتق منزل بالينفيو‪.‬‬ ‫يخرج دانيال ويرتك هرني لريى �شيئا ً ما‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫لقطة مقربة لوجه هـ‪.‬و‪..‬‬
‫خارجي‪ .‬ر�صيف القطار‪ .‬ليتل بو�سطن‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫احد‬
‫زاوية‪ ،‬الرافعة منرة َو ِ‬
‫ي�سري دانيال وهـ‪.‬و‪ .‬معاً‪ .‬كالهما الب�س ثياب الرحلة‪ .‬يركبان‬ ‫ينظر هـ‪.‬و‪ ..‬حول بقايا الفحم الناجت عن الرافعة ا ألوىل‪ ،‬وينظر‬
‫القطار‪.‬‬ ‫�إىل قطعة ا ألر�ض الكبرية املكتنزة التي فقدت‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫داخلي‪ .‬القطار‪ .‬بعد حلظات‬ ‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو ‪ -‬ليالً‪.‬‬
‫يجل�س دانيال و هـ‪.‬و‪ .‬يف القطار يف مق�صورة خا�صة بهم ‪- .‬‬ ‫ينام دانيال وهرني يف غرفتني ‪-‬‬
‫ينتظران �إنطالقه‪ .‬من الوا�ضح �أن دانيال يخبئ �شيئا ً ويقاوم‬ ‫زاوية ‪ .‬هـ‪.‬و‪..‬‬
‫عواطفه‪.‬‬ ‫�صاح ي�سري نحو غرفة هرني ‪ -‬ويخرج زجاجة �صغرية‬ ‫ٍ‬ ‫�إنه‬
‫يعانق هـ‪.‬و‪ .‬ب�شدّه يقبّل ر�أ�سه مرة تلو ا ألخرى‪.‬‬ ‫منوذج للنفط اخلام ‪ -‬ويرتكها تن�سكب ‪ -‬حماوطا ً غرفة هرني‬
‫تو ّقف‪ .‬ينظر هـ‪.‬و‪ .‬اليه‪ .‬يتكلم دانيال حماوال ً التوا�صل؟‬ ‫بخط منها ‪ -‬ثم يعود نحو غرفة اجللو�س ‪ -‬واملطبخ‪-‬‬
‫دانيال‪� :‬س�أعود فوراً‪� .‬س�أذهب ألخاطب �سائق القطار‪� .‬س�أعود‬ ‫لقطة مقرّبة هـ‪.‬و‪..‬‬
‫مبا�رشة‪ .‬ابقى هنا‪ .‬ابقى انت هنا؟‬ ‫يف املطبخ ‪ -‬ي�أخذ الكربيت ‪ -‬ي�شعله ‪ -‬ويقربه من النفط ‪-‬‬
‫يهز هـ‪.‬و‪ .‬بر�أ�سه كعالمة للموافقة ‪ -‬يرتك دانيال‪.‬‬ ‫الذي ي�شتعل كال�صاروخ على النار ‪-‬‬
‫تو ّقف ق�صري مع هـ‪.‬و‪ .‬يف لقطة مقرّبة طويلة جداً‪ .‬نتو ّقف مع‬ ‫لقطة مقرّبة هـ‪.‬و‪ ..‬يراقب النار‪.‬‬
‫وجه هـ‪.‬و‪ .‬وهو يجل�س‪ .‬يتال�شى ال�صوت ببطء ‪-‬‬ ‫لقطة مقربة‪ .‬دانيال‬
‫‪ -‬يتحرك القطار قليالً‪ .‬ينه�ض وينظر �إىل خارج ال�شباك ‪ -‬من‬ ‫الدخان يبد� أ يف الت�رسب �إىل اللقطة املقرّبة ‪ -‬عرب وجهه ‪-‬‬
‫منظوره نرى دانيال ي�سري بعيدا ً عن ر�صيف القطار‪.‬‬ ‫وببطء ميتلئ ا إلطار بدخان �أغمق ‪ -‬وتظهر �شعلة النار تت أل أل‬
‫زاوية ‪ .‬دانيال‪.‬‬ ‫على وجهه‪.‬‬
‫تقوده الكامريا وهو ي�سري بعيداً‪.‬‬ ‫زاوية‪ ،‬ال�ستائر يف الغرفة الرئي�سية‪.‬‬
‫زاوية ‪ .‬هـ‪.‬و‪.‬‬ ‫تتو ّقف الكامريا ب�إحكام على القما�ش ‪ -‬اللهب ينطلق من �أ�سفل‬
‫يدخل هـ‪.‬و‪ .‬يف حالة ع�صبية في�رصخ لوالده ويتحرك ليرتك‬ ‫ا إلطار ‪ -‬ويحيط بال�ستائر‪.‬‬
‫القطار‪.‬‬ ‫زاوية هـ‪.‬و‪..‬‬
‫ولكن فلت�رش مينعه من ذلك فهو هناك ليم�سك به ويهدئه‪.‬‬ ‫انه يجل�س على ا ألر�ض مع الكربيت‪ ،‬معرّ�ضا ً ال�ستائر وقطع‬
‫يبد� أ القطار يف التحرك �إىل ا ألمام‪.‬‬ ‫ا ألثاث املختلفة للنار‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪ :.‬كال‪ .‬كال‪.‬كال‪.‬كال‪.‬كال‪.‬كال‬ ‫زاوية‪ ،‬هرني‪.‬‬
‫مي�سك فلت�رش به ب�إحكام وهو يرف�س وي�رصخ‪.‬‬ ‫يندفع خارج ال�رسير نحو الغرفة ا ألخرى ‪-‬‬
‫لقطة مقرّبة لدانيال‪.‬‬ ‫يرى هـ‪.‬و‪ ..‬يجل�س يف منت�صف النريان‪ ،‬فيخطف الكربيت من‬
‫وبينما ينطلق القطار يف اخللفية ي�ستمر دانيال يف امل�سري‪.‬‬ ‫يده‪ ،‬ويحمله‪ ،‬ويتجه نحو غرفة دانيال حامال ً هـ‪.‬و‪ ..‬الذي ير ّف�س‬
‫‪200‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تيلفورد‪ :‬نحب ان نفعل ذلك �أي�ضاً‪.‬‬ ‫وقفة ق�صرية على هذه امل�سرية الطويلة بعيداً‪ ،‬بينما يغادر‬
‫دانيال‪ :‬ما هو عر�ضك بالن�سبه لتالل كويوت‬ ‫القطار‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬نحن ندفع ‪.150.000‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫دانيال‪ :‬هذا اتفاق مقبول‪ .‬ولكن �س�أبقي ا ألجهزة واملعدات‬ ‫داخلي القطار يتحرك‬
‫اخلا�صة بي‪.‬‬ ‫تتو ّقف الكامريا على فلت�رش و هـ‪.‬و‪ ..‬وهما م�سافران يف‬
‫تيلفورد‪� :‬سيكون با�ستطاعتك �رشاء كل ا ألجهزة واملعدات التي‬ ‫مق�صورتهما اخلا�صة‪ .‬مي�سك فلت�رش هـ‪.‬و‪ ..‬مهدئا ً فريبت على‬
‫تريدها بـ ‪. 150.000‬‬ ‫ر�أ�سه ويكلمه بنعومة ‪-‬‬
‫دانيال‪� :‬أف�ضل �أدواتي �أكرث‪ .‬انها م�صنوعة خ�صي�صا ً يل وهي‬ ‫لقطة مقرّبة لفلت�رش وهو يفعل هذا‪.‬‬
‫تعمل �أف�ضل ما ميكن معي‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫تيلفورد‪ .‬لن نعيد حفر وبناء حفارات جديدة ونغامر بتخريب‬ ‫داخلي ‪ .‬غرفة املائدة‪ .‬ليالً‪.‬‬
‫البئر‪.‬‬ ‫دانيال وهرني معا ً يف حالة �سكر‪ .‬يجل�سان ويتكلمان‪ .‬دانيال‬
‫دانيال‪ :‬ذلك اجلزء ال يهمني‪.‬‬ ‫يومئ بر�أ�سه‪ .‬وهو يف حالة من ال�سكر متنعه من ترك عينيه‬
‫تيلفورد‪� :‬إذا �سندفع ‪100.000‬‬ ‫مفتوحتني‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ح�سناً‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬إنه لي�س �إبني‪� .‬إنه حتى لي�س �إبني‪.‬‬
‫نقره‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬ماذا تعني؟‬
‫دانيال‪ :‬ماذا؟ ماذا بعد؟‬ ‫دانيال‪ :‬انه لي�س ابني‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬لديك ‪ 11.000‬فدان يف ليتل بو�سطن‪ .‬لديك بئر م�شيّد‬ ‫يبد� أ باالنهيار مي�سك بع�صاه‪ ،‬وينظر �إىل ا أل�سفل‪.‬‬
‫وقد د ّمر ‪- -‬‬ ‫دانيال‪� -:‬إن ق�ضيبي ال ينت�صب فكيف �س�أ�صنع طفالً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬مل يد ّمر‪ .‬ولدي ثالث �آبار م�ؤكده �أنت مل تنتبه‪� .‬إنها‬ ‫هل ق�ضيبك يعمل‪ ،‬يا هرني؟‬
‫ثالث �آبار م�ؤكدة‪.‬‬ ‫هل �أورثنا �أبوك هذا؟‬
‫تيلفورد‪� :‬سنجعلك مليونرياً‪ .‬من دقيقة �إىل �أخرى و�أنت جال�س‬ ‫تو ّقف‪.‬‬
‫هنا‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬س�ألتك �س�ؤاالً‪...‬‬
‫نقره‪.‬‬ ‫هرني‪ -:‬عندما �أكون حمظوظاً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ماذا �س�أعمل �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ي�سقط دانيال متال�شيا ً ‪ .‬يلتقطه هرني ويحمله بعيداً‪.‬‬
‫نقره‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫تيلفورد‪ :‬هل ت�س�ألني �أنا؟‬ ‫داخلي‪ .‬قاعة مارونيك‪/‬مقاطعة ايزابيلال ‪ -‬نهارا ً‬
‫دانيال ماذا �س�أعمل �أي�ضاً‪.‬‬ ‫بعد مرور يوم‪ .‬غرفة اجتماعات لطيفة يف مركز مقاطعة‬
‫تيلفورد‪ :‬اعتني بابنك‪.‬‬ ‫ايزابيلال ‪ -‬هنالك مائدة‪ ،‬ب�ضع كرا�س يف غرفة اجتماعات‬
‫دانيال‪.... :‬؟‬ ‫خا�صة يف القاعة املا�سونية املحلية‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬ال �أعرف ماذا �ستفعل‪.‬‬ ‫يدخل دانيال وهرني �إىل غرفة اجتماعات وهما يف كامل‬
‫مالب�سهما ونظافتهما‪.‬‬
‫داخل قاعة االجتماعات هذه‪ ،‬ينتظرهما رجالن (يف ا ألربعني)‬
‫جـ جـ‪ .‬كارتر و هـ‪.‬م‪ .‬تيلفورد‪� .‬إنهما من جانب �رشكة �ستاندارد‬
‫�أويل‪ .‬يت�صافح اجلميع‪ ،‬ا أل�صدقاء القدامى واملتناف�سون‬
‫يتبادلون التحية ويجل�سون‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬كيف حال ابنك؟‬
‫دانيال‪� :‬شكرا ً ل�س�ؤالك‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬هل هنالك ما ميكننا عمله؟‬
‫دانيال‪� :‬س�ؤالك يكفي‪.‬‬
‫تيلفورد‪� :‬إذا‪ :‬ما هي خططك؟‬
‫دانيال‪ :‬هل هذا من �أجل �رشاء �أر�ض هنا؟‬
‫تيلفورد‪ :‬نعم‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ذكرت الربقية �أن املو�ضوع حول �إيجار تالل الكويوت‬
‫اخلا�صة بي‪.‬‬
‫‪201‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ثم �أر�ض املتحدة للبرتول ‪ -‬ثم املحيط البا�سيفيكي‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لو كنت مكاين وعر�ضت عليك �ستاندارد ان ت�شرتي ما‬
‫يقف دانيال مع �آل روز وجايك كويف وهرني يناق�شون طريق‬ ‫معك مبليون دوالر ‪ ...‬ملاذا؟‬
‫انابيب النفط‪.‬‬ ‫نعم ملاذا؟‬
‫هرني‪ :‬ملاذا مل ت�ست�أجر ا ألر�ض التي ميلكها باندي؟‬ ‫تيلفورد‪ :‬انت تعرف ملاذا‪.‬‬
‫�آل روز‪ :‬حاولنا ‪ -‬ولكنه مل يكن راغباً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬قل يل ملاذا‪.‬‬
‫دانيال‪ - :‬ملاذا ال يريد رجل عجوز يف الثمانني من العمر‬ ‫تيلفورد‪ :‬هل �ستدخل عمل امل�صايف‪.‬‬
‫ت�أجري ار�ضه لي�صبح ثرياً؟‬ ‫هل �ستبني �شبكة �أنابيب‪ ،‬يا دانيال؟‬
‫�آل روز‪� :‬س�أكلمه حول حق املرور ألنابيب النفط ‪ -‬قد ير�ضى‬ ‫دانيال‪ :‬رمبا �س�أفعل ‪ ..‬انها لي�ست �سوى �ستة وثمانني ميال ً‬
‫بذلك �إذا ما كان ‪ -‬دانيال ‪� - -‬إذا مل تتمكن من فعل ذلك يف‬ ‫فوق التالل نحو املحيط وم�صفاة يونيون �أويل ‪� -‬إذا ما الذي‬
‫ذلك الوقت فكيف تظن انك �ستفعله ا آلن؟ هوه؟ �آل؟‬ ‫�سيمنعني؟ ا أل�سعار التي �ستحددها للربميل ‪-‬‬
‫(خماطبا ً هرني)‬ ‫تيلفورد‪ -:‬نحن ال ن�ضع ا أل�سعار ‪..‬‬
‫�سنزوره قريباً‪.‬‬ ‫دانيال‪ -:‬طبعا ً انتم تفعلون ‪ -‬واجور �شحنكم تذهلني ‪ -‬انتم ال‬
‫يدخل فلت�رش‪ ،‬عائدا ً من رحلته‪ .‬فيحيّي الرجال ويجل�س لي�شارك‬ ‫ت�ضعون هذه ؟ �إذا قل يل ملاذا ؟‬
‫يف املحادثة ‪ .‬يالحظ دانيال وجوده فيتبادالن النظرات‪ ،‬ثم؛‬ ‫تيلفورد‪ :‬ألنه عليك �أن تفعل ذلك‪ .‬لديك نفط حتت قدميك اكرث‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫مما ت�ستطيع التعامل به‪ .‬نحن نعرف جميعا ً كم �أنت قوي‪ .‬ولكن‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫داخلي‪ .‬منزل فلت�رش‪ .‬ليال ‪ -‬بعد ب�ضعة �يام‪.‬‬ ‫هذا كبري على �شخ�ص واحد‪.‬‬
‫يتكلم دانيال وهو يج ّهز حقيبة‪� ،‬صوته هام�س وك�أنا يف‬ ‫�آن ا آلون لكي ن�أخذ عنك لن�ساعدك على احلركة‪ .‬انت مغامر كبري‬
‫غيبوبه؛ لقد عاد فلت�رش من رحلته مع هـ‪.‬و‪ ،.‬وهما يوا�سيان‬ ‫جداً‪ ،‬ول�ست رجل �رشكة‪ ،‬دعنا ن�أخذ من هنا وجنعلك غنيّاً‪.‬‬
‫بع�ضهما‪.‬‬ ‫(نقرة‪� ).‬سكون لفرتة طويلة ‪ -‬نقرة طويلة جداً‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬كم عر�ضوا؟‬ ‫دانيال‪ :‬هل قلت يل كيف يجب �أن �أدير عائلتي‪.‬‬
‫ ال جواب‪.‬‬ ‫نقرة‪.‬‬ ‫تيلفورد‪ :‬قد يكون �أكرث �أهمية لك ا آلن بعد ان حتققت من احلقل‬
‫دانيال‪ :‬من �سخرية القدر ان ي�أتوا �إلينا ويقرعوا الباب �ألي�س‬ ‫ونحن نعر�ض عليك �رشاءه‪.‬‬
‫كذلك؟ حماولني �رشاء ما قمنا به ‪ -‬عليهم ان يحفروا ب�أيديهم‬ ‫(نقرة‪).‬‬
‫الرتاب كما فعلنا نحن ‪ -‬تريدهم ان ي�شرتوا ما تعبنا كثريا ً‬ ‫دانيال‪ :‬يف احد الليايل ‪� -‬سوف �آتي �إىل داخل بيتك‪ ،‬اينما كنت‬
‫للح�صول عليه؟‬ ‫نائما ً ‪ -‬و�سوف �أقطع عنقك‪.‬‬
‫ليحفروا ب�أظافرهم كما فعلنا جميعا ً ‪� ...‬سنقوم بها بهذه‬ ‫تيلفورد‪ :‬ماذا؟ عن ماذا تتكلم يا دانيال‪ .‬هل جننت؟‬
‫الطريقة وال نحتاج �إىل التذلّل‪.‬‬ ‫دانيال‪ - :‬هل �سمعت ما قلت؟‬
‫�رضبه ‪� .‬سكون)‪ .‬ثم‪:‬‬ ‫تيلفورد‪ - :‬نعم‪� ،‬سمعت‪ ،‬ملاذا تقولها؟‬
‫دانيال‪ :‬كان على تلك املر�أة الغبية ان تدعنا نبني م�ست�شفى‬ ‫دانيال‪ :‬انت ال تقول يل عن ولدي‪.‬‬
‫هنا‪ ...‬كم م�ساحة غرفته؟‬ ‫تيلفورد‪ -:‬ملاذا تت�رصف كاملجنون وتقول انك �ستقطع‬
‫فلت�رش‪ :‬انه يت�شارك يف حجرة مع �صبي �آخر‪.‬‬ ‫عنقي؟‬
‫دانيال‪� :‬أي ولد‪.‬‬ ‫كارتر‪ :‬دانيال‪ ،‬ما هذا؟ متالك نف�سك‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬ا�سمه كان يالرد‪� .‬إنه �أكرب‪ ،‬حوايل الثانية ع�رشة ‪� -‬إنه‬ ‫تيلفورد‪ :‬نحن ال نقول لك �شيئاً‪� .‬أنا �آ�سف �أنك قد ت�أذيت‪� .‬أريدك‬
‫هناك منذ عام‪.‬‬ ‫ان تكون عاقالً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬كم حجم الغرفة؟‬ ‫يقف دانيال‪ .‬يفعل هرني مثله‪.‬‬
‫فلت�رش‪� :‬صغرية‪ .‬انها مكان �صغري‪� ،‬ستة بثمانية‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬سرتى ماذا �س�أفعل‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬كان على تلك املر�أة ان ت�سمع كالمي‪.‬‬ ‫يخرج دانيال وهرني‪.‬‬
‫كان من املمكن ان نبني لهم مكانا ً �أف�ضل‪..‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫نقره‬ ‫داخلي‪ .‬مكتب دانيال يف املخيم الرئي�سى‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬ماذا تعرف عن هرني؟‬ ‫لقطة مقرّبة خلريطة املنطقة‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬أوه هوه‪.‬‬ ‫يتحرك �إ�صبع من داخل ا إلطار بدءا ًمن �أر�ض بالينفيو ا ألمريكية‬
‫يتغري وجه دانيال قليالً‪.‬‬ ‫‪ -‬ي�سري على ممر ‪ -‬نحو القطعة الثانية التي حتمل ا�سم‪ :‬باندي‬
‫فلت�رش‪ :‬دعني �أر�سل �أحدا ً �إىل فوند دوالك لري عائلتك وي�س�أل ‪-‬‬ ‫‪ -‬ثم ت�ستمر �إىل ا ألمام عرب اجلبال‪ ،‬نحو القطعة الثانية التي‬
‫دانيال‪ :‬هل تعتقد حقا ً �أنني لن اعرف �شقيقي ‪-‬؟‬ ‫حتمل ا�سم بـ ل باربر واوالده ثم مقاطعة �سان لوي�س اوبي�سبو‪.‬‬
‫‪202‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سنمتطي ظهور ا ألح�صنة عرب اجلبال واريدك ان ت�أتي معنا‪.‬‬ ‫و�أن �أ�أخذ هكذا؟‬
‫ماري ت�صمت خجال ً وفج�أة تتحرك نحو �آبيل‪.‬‬ ‫(نقرة)‬
‫دانيال‪ :‬ماري ‪� -‬سنذهب نحو املحيط‪.‬‬ ‫هل ت�شعر باحل�سد؟‬
‫ماري‪ :‬ال اريد �أن �أذهب معك‪.‬‬ ‫فلت�رش‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ينزل دانيال عن احل�صان وتتعلق ماري ب�آبيل‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لقد عملنا معا ً لفرتة طويلة‪ ،‬يا فلت�رش‪ .‬ولكنك ل�ست �أخي‬
‫دانيال‪ :‬اريد ان تذهب ماري معي لب�ضعة �أيام‪.‬‬ ‫وهذا قد ي�شعرك باحل�سد‪.‬‬
‫�سوف اركب عرب اجلبال نحو البحر و�أريدها معي‪.‬‬ ‫فلت�رش‪ :‬هذا عملي كما هو عملك �أي�ضا ً واملو�ضوع هو فقط ‪-‬‬
‫�آبيل‪� :‬إنها ال تريد الذهاب ‪ .‬لقد قالت لك هذا تواً‪.‬‬ ‫ما هو ا ألف�ضل بالن�سبة للعمل ‪ -‬من �أجل �سالمة عملنا‪ ،‬لي�س‬
‫نقرة‪ .‬ينظر دانيال نحو روث؛‬ ‫هنالك �سوء �إذا ما ات�صلنا بـ فوند دوالك وعائلتك ‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬روث؟ هل تودين الذهاب لركوب اخليل معي؟‬ ‫دانيال‪ :‬ال تتكلم عن املو�ضوع بعد ا آلن �أو �أن تقوم مبخاطبتهم‬
‫روث‪ :‬نعم‬ ‫‪� -‬إنه �أخي‪ .‬هذا كل املو�ضوع‪.‬‬
‫ا ألم �صنداي‪ :‬كال هي لن تذهب‪.‬‬ ‫(نقرة)‬
‫يخطو دانيال بالقرب من �آبيل وماري خلفه؛‬ ‫فلت�رش‪ :‬ماذا �ستفعل مع �إيلي‬
‫دانيال‪� :‬س�أعطيك ثالثة دوالرات �إ�ضافية يف ال�شهر يف بطاقة‬ ‫دانيال‪ :‬ال �شيء �إيلي لي�س �سوى ولد‪.‬‬
‫ا إلئتمان اخلا�صة بك‪.‬‬ ‫فلت�رش‪� :‬إنه خطري‪ .‬هل تعلم �أنه يج ّمع املال ‪ -‬ليجد م�سار العهد‬
‫�آبيل‪- :‬‬ ‫ومعظم رجالنا من�ض ّمون لكني�سته‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هذا العر�ض �إ�ضافة �إىل دخلك‪ ،‬يا �آبيل‪ ،‬يجب ان ت�أخذه‬ ‫دانيال‪� :‬أرجو �أن يجده‪.‬‬
‫وتدع ماري تذهب معي لب�ضعة �أيام‪.‬‬ ‫فلت�رش‪� :‬أعتقد �أنه علينا �أن ندفع له �شيئاً‪.‬‬
‫ماري‪ :‬اذهب من هنا‪.‬‬ ‫ ‬ ‫نقرة‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ماري ‪ -‬من الذي �أعطاك هذا الثوب؟‬ ‫�أخذت تبدو على دانيال مظاهر اجلنون يف تلك اللحظة ‪-‬‬
‫من الذي جلب لك املال والطعام الطيب؟ هل تعلمني انني انا‬ ‫دانيال‪ :‬كان على تلك املر�أة الغبية ان ت�أخذ عر�ضنا لبناء‬
‫الذي قمت بذلك؟ �أريد �أن �آخذك لرتين املحيط وميكنك م�ساعدتي‬ ‫م�ست�شفى‪ .‬يا لغباءها‪.‬‬
‫يف عملي‪.‬‬ ‫يجل�س دانيال‪.‬‬
‫ماري‪ :‬اذهب‪� .‬أيها ال�شيطان‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬يجب ان ا�صطحب معي ماري ال�صغرية يف هذه الرحلة‬
‫دانيال‪ :‬كال‪ ،‬كال‪ .‬ل�ست �شيطانا‪.‬‬ ‫‪ -‬فقد ي�ساعد هذا يف �إظهار الرغبه يف التعا�ضد واحل�صول‬
‫هل قال لك �إيلي هذا؟ �إيلي هو‬ ‫على احلق يف املرور على ا ألنابيب ‪ -‬املظهر القوي لالرتباط‬
‫ال�شيطان ‪ -‬انا ان�سان طيب‬ ‫العائلي يوحي بالنجاح اكرث ‪-‬‬
‫ولقد �ساعدتك لكي ت�سعدي ‪-‬‬ ‫ينظر فلت�رش �إىل دانيال ‪-‬‬
‫�إذا تعايل �إيلَّ ا آلن يا ماري‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫لدي عمل هام وبا�ستطاعتك‬ ‫خارجي‪ .‬املخيم الرئي�سي‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫م�ساعدتي ميكنك ان تكوين‬ ‫�أ�رسج عامل ثالثة �أح�صنة وح ّملها مب�ؤن ملخيم وبالعدة‬
‫�رشيكتي‪ .‬تو ّقف‪ .‬هذه حلظة‬ ‫وا�سلحة ال�صيد ‪ -‬كل هذا من �أجل رحلة دانيال ‪-‬‬
‫غري مريحة �شديدة التوتر ‪-‬‬ ‫زاوية ‪ .‬لقطة مقرّبة لنماذج من النفط اخلام‪.‬‬
‫يعاود دانيال ركوب فر�سه‪.‬‬ ‫وهذه و�ضعت يف جرار غلفت من �أجل �سالمتها وو�ضعت يف‬
‫يتجه مبا�رشة نحو املخيم‬ ‫اجليوب على ا ألح�صنة‪ .‬هنالك �أربع زجاجات مر�سلة كنماذج‬
‫الرئي�سي‪ ،‬ويلتقي مع هرني‬ ‫على كل منها ن�سبة ثقل اخلام‪.‬‬
‫‪-‬‬ ‫ميتطي دانيال وهرني ا ألح�صنه ويتح�رضان لرحلتهما ‪-‬‬
‫‪ -‬ويتجهان معا ً نحو التالل‪.‬‬ ‫زاوية‪ .‬دانيال‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫يركب اجلواد نحو مزرعة �صنداي‪.‬‬
‫خارجي‪� .‬أر�ض باندي‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫زاوية ‪ .‬منزل �صنداي‪.‬‬
‫يركب دانيال وهرني على‬ ‫الواجهة ا ألمامية‪ ،‬مع ابيل‪ ،‬ا ألم �صنداي‪ ،‬ماري وروث اللتان‬
‫حافة تله ن�شاهد منها �إىل‬ ‫يعمالن يف حديقة �صغرية بد�أت تنمو ‪ -‬دانيال يركب حتى‬
‫ا�سفل �أر�ض باندي‪ .‬هذا هو‬ ‫ي�صل �إىل هناك‪:‬‬
‫املكان الذي مروا عليه �سابقا ً‬ ‫دانيال‪ :‬ماري‪ ،‬هل حتبني ان ت�أتي معنا يف رحلة للتخييم؟‬
‫‪203‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دعني �أح�رض لك �رشابا ً ‪-‬‬ ‫حيث اخلنازير والكربيت‪.‬‬


‫دانيال‪ :‬دعنا نتناول امل�رشوب ونتابع عملنا ‪� -‬سوف نغت�سل‬ ‫زاوية‪ ،‬دانيال‪.‬‬
‫فيما بعد ‪-‬‬ ‫ينظر �إىل املنطقة وهو يركب ويتابع امل�سريه‪ ،‬وهو يغر�س‬
‫ل‪.‬ب‪ :‬تعال �إىل الداخل‪.‬‬ ‫عالمات خ�شبية داخل ا ألر�ض لت�شري �إىل طريق �سري خطوط‬
‫يتوجه اجلميع نحو مكتب يف اخللف ‪ -‬ابت�سامات‪ ،‬الخ‪.‬‬ ‫ا ألنابيب‪.‬‬
‫يغلقو الباب‪ .‬تو ّقف ق�صري عند الباب املغلق‪ .‬ثم‪:‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫زاوية‪ ،‬قمة اجلبل‪ /‬ممر‪ .‬نهارا ً‬
‫داخلي‪ .‬املحيط الهادئ‪ .‬الغ�سق‬ ‫تندفع الكامريا بزخم �شديد فوقهم وتنظر نحو وا ٍد خ�صب‬
‫رذاذ املاء ‪ -‬الكامريا داخل املاء مع دانيال وهرني‪ .‬يقفزان‬ ‫اخ�رض‪:‬‬
‫�إىل املاء ويطفوان حول املكان يف البحر وهما ينظران �إىل‬ ‫قطع �إىل‬
‫اخللف حيث خط ال�شاطئ‪� .‬إنهما �سعداء وهما يحتفالن؛‬ ‫زاوية‪ .‬فوقهم بقليل‪ .‬خلفهم‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬كان هنالك ذلك البيت يف فوند دوالك الذي بناه موري�س‬ ‫تتحرك الكامريا معهم‪ ،‬لتكت�شف ا ألر�ض وتتابع مواقع حمتملة‬
‫الكونت ‪ -‬هل تتذكر؟‬ ‫خلطوط ا ألنابيب‪ ..‬عملية و�ضع عالمات يف ا ألر�ض‪ /‬املمر‬
‫هرني‪ :‬م م م‬ ‫م�ستمره‪ .‬ي�ضعون ع�صى يف ا ألر�ض‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬عندما كنت �صبيا ً فكرت ان ذلك البيت كان �أجمل بيت‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ر�أيته ورغبت فيه‪ .‬اردت �أن �أ�سكنه و�آكل فيه وانظفه ورغم انني‬ ‫خارجي جبال‪ .‬نهارا ً‬
‫�صبي �صغري فلقد رغبت ان يكون يل �أبناء فيه ‪ -‬يرتاك�ضون‬ ‫يتابعون �سريهم ‪ ،‬ترتفع الكامريا لتظهر املحيط الهادئ‬
‫حوله‪.‬‬ ‫وجانب تلة مليئة بالرافعات التي ت�ض ّخ والتي تبدو يف الف�سحة‬
‫هرني‪ :‬ب�إمكانك ا آلن ان حت�صل على كل ما تريد يا دانيال‬ ‫�أمامهم ‪-‬‬
‫ويجب ان تفعل‪� .‬أين �ستبنيه؟‪.‬‬ ‫ي�أتون على ظهور �أح�صنتهم بني الرافعات‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هنا‪ .‬رمبا ‪ -‬بالقرب من املحيط‪.‬‬ ‫هنالك ع�رشون �أو ثالثون منها متبعرثة حولهم ومنحدرة نحو‬
‫هرني‪ :‬هل �ستجعله ي�شبه ذلك البيت؟‬ ‫البحر ‪-‬‬
‫دانيال‪� :‬أي بيت؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫هرني‪ :‬البيت يف فوند دوالك‪.‬‬ ‫داخلي ‪ -‬ر�صيف‪/‬مباين م�صفاة يونيون ‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬كال‪ .‬انا مت�أكد �أنني لو ر�أيت ذلك املنزل ا آلن ف�س�أمر�ض‬ ‫ر�صيف مباين م�صفاة يونيون حيث تلتقي ا ألر�ض باملحيط‪.‬‬
‫لدى ر�ؤيته‪� .‬أحتاج �إىل �شيء �أف�ضل‪.‬‬ ‫داخل هذه املباين معادن و�صهاريج و�آليات لها عالقة يف‬
‫(نقرة‪).‬‬ ‫تكرير البرتول‪ .‬دخان �أوعية الغلي‪ ،‬الخ‪ .‬رجال يعملون‪ .‬ال�صوت‬
‫هرني‪ :‬با�ستطاعتنا ان ن�أكل ونح�رض بع�ض الن�ساء‪.‬‬ ‫عا ٍل جدا ً جداً‪.‬‬
‫دانيال‪ -:‬ن�أخذهم �إىل رق�صة �شجرة اخلوخ‪.‬‬ ‫ي�سري دانيال وهرني مبحاذاة املكان ‪ -‬بني ا آلليات والبخار‬
‫(نقرة‪).‬‬ ‫والرائحة وا أل�صوات ‪ -‬باجتاه املكاتب؛‬
‫هرني‪-:‬؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫دانيال‪ :‬ن�سكر ونذهب �إىل رق�صة �شجرة اخلوخ؟‬ ‫داخلي‪ .‬مكاتب يونيون للبرتول تلك اللحظة‬
‫هرني‪ :‬نعم‪ ،‬نعم‪.‬‬ ‫يدخل دانيال وهرني وينظران حول تلك املكاتب احللوة‪ .‬هنالك‬
‫تو ّقف لقطة مقرّبة لدانيال وهو ينظر �إىل هرني من زاوية‬ ‫ع�رشة رجال امام مكاتبهم وعليها �آالت حا�سبة‪ ،‬تليفونات‪،‬‬
‫عينه‪.‬‬ ‫الخ‪.‬‬
‫�شيء قد حترك داخل دانيال ‪ -‬مرجع «�شجرة اخلوخ» جتاوز‬ ‫ظهر �أمامهم ل‪.‬بـ‪�.‬سانت كلري (يف ا ألربعينات) ح�سن الهندام‪،‬‬
‫هرني ‪� -‬أدخل هرني ر�أ�سه يف املاء؛ خمتفيا ً للحظات ‪ -‬ينتظره‬ ‫نظيف و�سعيد لر�ؤيتهم‪.‬‬
‫دانيال ويراقبه ‪� -‬أخريا ً يخرج �إىل ال�سطح ‪-‬‬ ‫ل‪.‬ب‪ :‬دانيال ‪-‬‬
‫لقطة وا�سعه‪ .‬يطفوان حول املكان يف املحيط‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ل‪.‬ب‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬انت م�ستعد؟‬ ‫ل‪.‬ب‪� :‬سعيد لر�ؤيتك‬
‫هرني‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ل‪.‬ب‪ ،‬هذا �أخي هرني‪.‬‬
‫ي�سبحان عائدان‪ .‬الكامريا مع دانيال يف لقطة مقرّبة وهما‬ ‫ل‪.‬ب‪� :‬سعيد لر�ؤيتك يا هرني‪ ،‬تبدو متعباً‪.‬‬
‫ي�سبحان يف طريق العوده ‪ -‬وهو يتنف�س م�ستن�شقا ً الهواء؛‬ ‫دانيال‪ :‬كال‪� .‬شيء هائل �أن �أراك‪.‬‬
‫يفتح عينيه مراقبا ً هرني وهو ي�سبح بقربه ‪ -‬ثم تتحول �إىل‬ ‫ل‪.‬ب‪ :‬هل تريد االغت�سال �أوال ً ام تريد الكالم حاالً؟‬
‫‪204‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ثم‪:‬‬ ‫�سواد وهو يدير ر�أ�سه نحو املاء ‪ -‬ثم وهو يرفعه �إىل �أعلى‬
‫ب‪.‬ل‪ .‬هاربر‪ :‬هل �أنت رجل متدين؟‬ ‫ال�ستن�شاق الهواء‪ ،‬ثم الفتا ً ر�أ�سه ليبقي نظره م�صوبا ً نحو‬
‫دانيال‪� :‬أنا �أنتمي لكني�سة العامل‪.‬‬ ‫هرني ‪ -‬الذي ي�سبح عائدا ً بقربه ‪ -‬ي�سقط ال�صوت �إىل الداخل ‪/‬‬
‫ب‪.‬ل‪ .‬هاربر‪ :‬مل �أ�سمع يف حياتي عن هذه الكني�سة‪.‬‬ ‫اخلارج‪/‬الداخل‪/‬اخلارج‪/‬يتنف�س ماء‪ /‬يتنف�س‪/‬ي�شهق ‪ -‬ينظر‬
‫دانيال‪ :‬هل انت تنتمي؟‬ ‫�إىل هرني ‪..‬‬
‫ب‪.‬ل‪.‬هاربر‪ :‬كال‪.‬‬ ‫بد� أ جنون االرتياب عند دانيال‪.‬‬
‫يدخل خادم �صيني يحمل املزيد من الطعام لي�ضعه على‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫املائدة ‪ -‬ويحل ا آلتي‪:‬‬ ‫ً‬
‫داخلي‪ .‬مطعم �سانتا بوال‪/‬بار ‪ -‬ليال فيما بعد‪.‬‬
‫يراقب دانيال الرجل ال�صيني وهرني وهما ينظران لبع�ضهما‬ ‫ت�صحب الكامريا دانيال يف منت�صف غداء �صاخب مع رجال‬
‫البع�ض‪ .‬هنالك نب�ض غريب من اكت�شاف ا آلخر بينهما‪.‬‬ ‫يونيون �أويل و�آخرين ُكرث‪.‬‬
‫يراجع دانيال نف�سه مت�سائال ً هل الحظ هو �شيئاً‪� .‬أو انه فقد‬ ‫يراقب دانيال هرني يف اجلانب ا آلخر من الغرفة وهو يغازل‬
‫عقله؟‬ ‫�إمر�أة‪.‬‬
‫ي�ضع الرجل ال�صيني الطعام ب�رسعة على املائدة‪ ،‬ينظر هرني‬ ‫تو ّقف‪ .‬يرتك هرني املر�أة وي�سري من مكانه ليجل�س بجانب‬
‫�إىل �أ�سفل؛ ويبدو منهمكا ً بوجبة الطعام ‪-‬‬ ‫دانيال‪.‬‬
‫االبنة‪( :‬بغنج �شديد) هرني ‪ -‬هل �أنت متزوج؟‬ ‫هرني‪ :‬دانيال‪ .‬هل ا�ستطيع �أخذ �شيئا ً من املال حتى نعود �إىل‬
‫هرني‪ :‬كال‪ .‬انا ل�ست كذلك‪.‬‬ ‫ليتل بو�سطن؟ �سوف اعيدها لك عندما ن�صل �إىل البيت‪.‬‬
‫االبنة‪ :‬دانيال؟‬ ‫ميد يده �إىل جيبه ويعطيه �شيئا ً من املال كما ي�سلمه كد�سة‬
‫دانيال‪ :‬كال‪.‬‬ ‫�أخرى‪.‬‬
‫االبنة‪ :‬ملاذا؟ انت �شديد اجلاذبية‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬كال‪ .‬انا ل�ست بحاجة لكل هذا‪ .‬جمرد ب�ضعة دوالرات‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ألنني رجل �أعمال‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬خذها‪.‬‬
‫تو ّقف‪ .‬يتناوالن املزيد من الطعام‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬دانيال ‪-‬‬
‫ ‬ ‫حتدّق به وبهرني ‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬خذها كلها‪ .‬من ف�ضلك‪ .‬ام�سكها‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫هرني‪ :‬ح�سناً‪� .‬س�أراك �صباحاً‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬مزرعة هاربر‪ .‬ليالً‪.‬‬ ‫يهز بر�أ�سه‪ .‬تو ّقف‪ .‬دانيال‪.‬‬
‫انه منت�صف الليل‪ .‬ي�سري دانيال بهدوء خارج البيت‪ ،‬ويقطع‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ال�شارع نحو بيت اخلدم‪ ،‬كوخ �صغري ذو غرفة واحدة‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬غرفة يف فندق �سانتا بوال‪ .‬ليال ً‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال �صباحا ً مفتح العينني يف �رسيره‪ ،‬ينظر �إىل ال�سقف‬
‫داخلي‪ .‬منطقة اخلدم‪ .‬ليالً‪.‬‬ ‫وك�أمنا به م�س من اجلنون‪� .‬صوت خارجي ن�سمعه من الغرفة‬
‫اخلادم ال�صيني نائم‪ .‬يدخل دانيال ‪ -‬يجل�س على ال�رسير‪-‬‬ ‫املجاورة حيث هرني واملر�أة‪ .‬تو ّقف‪ .‬ثم‪:‬‬
‫وي�ضع يده فوق فمه ‪ -‬ي�ستيقظ‪:‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫داخلي‪� .‬أر�ض مزرعة ب‪.‬ل‪ .‬هاربر ‪ -‬بعد �أيام ‪ -‬الغ�سق‬
‫يلتقي دانيال وهرني مع ب‪.‬ل‪ .‬هاربر (يف اخلم�سينات) وولديه‬
‫و�أحد مالحظي املزرعة وهم ي�ضعون اخلريطة التف�صيلية‬
‫للمواقع مبا يتعلق مبد �أنابيب النفط وهم يقفون يف منت�صف‬
‫احلقل ‪-‬‬
‫ينظر اجلميع حول املكان‪ ،‬يتكلمون تفا�صيل تقنية عن الطول‪،‬‬
‫�سعر امليل‪ ،‬الخ‪ ،‬الخ‪ ،‬هنالك اتفاقية ‪ -‬ويدعو هاربر دانيال‬
‫وهرني لق�ضاء الليل ‪ -‬وهذا يقودنا �إىل‪:‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬
‫داخلي‪ .‬بيت مزرعة هاربر‪ .‬الغ�سق‪.‬‬
‫يجل�س دانيال وهرني �إىل مائدة كبرية يف بيت جميل جداً‪ ،‬غني‬
‫من الطراز الفكتوري‪.‬‬
‫عائلة هاربر مع ا ألم وفتاة �شابة جميلة مغناجة (يف‬
‫الع�رشينات) يتناولون الطعام ويتجاذبون �أطراف حديث عادي‬
‫‪205‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يدخل �إىل ال�رسير وما زال يرتدي ثيابه وي�ستلقي �صاحياً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬اريدك ان حتافظ على هدوئك ‪ -‬واريدك ان جتيب على‬
‫تو ّقف‪.‬‬ ‫�أ�سئلتي‪.‬‬
‫زاوية‪ ،‬دانيال‪ .‬بعد �ساعات‪ .‬ال�صباح الباكر‪.‬‬ ‫يومئ بر�أ�سه‪« ،‬نعم»‪.‬‬
‫انبلج الفجر ويُ�سمع �صوت خفيف يوقظ دانيال فيفتح عينيه‬ ‫دانيال‪ :‬هل تعرف �أخي؟‬
‫على و�سعهما ‪.‬‬ ‫تو ّقف‪ .‬ال يجيب‪ .‬يهزّه دانيال‪ .‬يهز الرجل ال�صيني ر�أ�سه‬
‫يقف‪ ،‬ينظر من ا�سفل الباب ‪ -‬ينظر �إىل ما ي�شري �إىل احلياة من‬ ‫«كال»‪.‬‬
‫حتت ال�شق‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬هل تعرفه؟‬
‫يقف‪ ،‬يذهب نحو النافذه ويرى‪:‬‬ ‫ي ّهز ر�أ�سه ثانية «كال»‪.‬‬
‫من منظور دانيال ‪ -‬اثر �ضعيف من على بُعد‪ ،‬على اجلانب‬ ‫دانيال‪� :‬أريدك �أن جتيب على �س�ؤايل وال �أريدك �أن تتكلم لغتك‬
‫ا آلخر من احلقل‪ ،‬هرني ميتطي احل�صان ويغادر املكان ‪-‬‬ ‫االجنليزية التي هي كلغة احلمام ‪ -‬ال �أريد كالما �صينيا ً‬
‫يتجه بعيدا ً نحو التالل‪.‬‬ ‫كاذباً‪ .‬اجبني مبا�رشة‪ .‬لقد نظرت �إليه نظرة معرفة ‪ -‬ملاذا؟‬
‫يجمع دانيال حاجياته ب�رسعه‪ ،‬في�صبح جاهزاً‪ ،‬ويغادر‬ ‫هل اعتقدت انك تعرفه؟‬
‫الغرفة‪.‬‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬اعتقدت ذلك‪ ،‬ولكنني كنت خمطئاً‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال‪ :‬ماذا ظننت؟‬
‫داخلي‪ .‬منزل هاربر الريفي‪ .‬الرواق‪ .‬تلك اللحظة‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬ظننت �أنه رجل من املكان الذي بنينا فيه‬
‫يتحرك دانيال بهدوء خارج الغرفة‪ ،‬عرب الرواق‪ ،‬وخارج الباب‬ ‫خطوط ال�سكة احلديد ولكنه لي�س نف�س الرجل‪.‬‬
‫ا ألمامي ‪..‬‬ ‫دانيال‪ :‬متى؟‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬كنت خمطئاً‪� .‬إنه لي�س هو‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬منزل هاربر الريفي‪ .‬الفجر‪.‬‬ ‫دانيال‪« :‬متى» قلت؟‪.‬‬
‫ميتطي اجلواد ويغادر املكان ليلحق بهرني ‪-‬‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬منذ �سنني‪ .‬منذ زمن طويل‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال‪� :‬أين بنيت خطوط ال�سكة احلديد؟‬
‫داخلي‪ .‬التالل‪/‬الغابة‪� .‬صباحا ً‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬هنا يف كاليفورنيا‪.‬‬
‫يتبع دانيال �آثار هرني خالل الغابة الكثيفة ‪-‬‬ ‫دانيال‪ :‬من ظننته؟‬
‫مالحظة املخرج‪ :‬هذا م�شهد طويل يتابع دانيال املري�ض بال�شك‬ ‫اخلادم ال�صيني‪ :‬كنت خمطئاً‪.‬‬
‫يالحق حماولة العثور على هرني‪ .‬يتحرك من النهار �إىل الليل‪.‬‬ ‫تو ّقف‪ .‬يغادر دانيال املَ َكان‬
‫نتابع البناء �إىل ان ي�صل دانيال �إىل �شيء يحثّه على التو ّقف‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫وينزل من على ح�صانه ‪-‬‬ ‫داخلي‪ .‬منزل هاربر‪ .‬ليال ً‬
‫‪ -‬يتحرك �إىل ا ألمام ‪ -‬يف الظالم‪ ،‬يرى مل�سافة مائة ياردة �إىل‬ ‫يدخل دانيال ويتوجه بهدوء نحو غرفته؛‬
‫ا ألمام‪ ،‬بني ا أل�شجار‪ ،‬ح�صان هرني‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫‪ -‬يتحرك �إىل ا ألمام ‪-‬‬ ‫داخلي‪ .‬الرواق‪ .‬املنزل‪ .‬تلك اللحظة‬
‫هرني (�صوت خارجي) مل يكن عليك �أن تتبعني‪ ،‬يا دانيال ‪-‬‬ ‫ي�ستدير دانيال حول الزاوية‪ ،‬ويتجه نحو غرفته‪ ،‬فيوقفه منزل‬
‫يدور دانيال لريى هرني‪ ،‬خلفه بعيدا ً عنه ب�ضعة �أقدام يحمل‬ ‫االبنة وقد ظهر ج�سدها من خالل ثياب النوم‪.‬‬
‫م�سد�سا ً ‪.‬‬ ‫االبنة‪ :‬ال�سيد بالينفيو ‪-‬‬
‫هرني‪ :‬كان عليك �أن ترتكني �أرحل‪ ،‬مل يكن هذا ليحدث‬ ‫يتو ّقف دانيال يف حالة �صقيع ‪ -‬ثم يتابع التحرك ب�رسعة‬
‫اختالفاً‪.‬‬ ‫�شديدة نحو الغرفة‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬من �أنت؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫هرني‪ :‬ال �أحد‪ .‬انا ل�ست �أحدا ً ‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬الغرفة‪ .‬تلك اللحظة‬
‫يتناول دانيال م�سد�سه‪ ،‬من على جانبه‪.‬‬ ‫يغلق دانيال الباب ‪ -‬ويتو ّقف للحظة �ساكناً‪ .‬يتنف�س بثقل‪/‬‬
‫هرني‪ :‬كال‪ ،‬كال‪ ،‬كال‪ ،‬دانيال ‪..‬‬ ‫م�صاب بارتياب مر�ضي‪ /‬جمنونا ً ‪ -‬ي�ستمع عند الباب ‪-‬‬
‫يرفع دانيال يده ويطلق النار ‪ -‬يتوارى هرني ب�رسعة �إىل‬ ‫تو ّقف‪ .‬لقطة مقربة على دانيال ‪-‬‬
‫اخللف وراء �شجرة‪.‬‬ ‫ينزل �إىل ا ألر�ض وينظر من ال�شق يف �أ�سفل الباب‪ ،‬ينتظر‪ ،‬ينظر‪،‬‬
‫هرني‪ :‬ال تطلق النار‪ .‬انا ال �أريد �أن �أ�ؤذيك‪.‬‬ ‫ينتظر‪ ،‬ينظر ‪-‬‬
‫دعنا نرتك بع�ضنا فقط‪.‬‬ ‫مير ظل �أمامه ‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬من �أنت؟‬ ‫زاوية ‪ .‬ال�رسير‪.‬‬
‫‪206‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫هويته‪.‬‬ ‫هرني‪� :‬أنا ال �أحد‪ ،‬انا ل�ست �رشيراً‪ ،‬انا فقط‪ ،‬كنت فقط �أحاول‬
‫لقطة مقربة لبطاقة الهوية‪ ،‬يدر�سها جيداً‪ .‬ا�سم هرني بالينفيو‬ ‫ان �أ�صل‪.‬‬
‫‪ ..‬الخ الطول‪ ،‬الوزن‪ ،‬الخ‪.‬‬ ‫يخرج دانيال من الظلمة‪ ،‬وهو يطلق النار‪ ،‬ويتحرك باجتاه‬
‫ي�أخذ ا�شياء من �شنطة هرني وي�ضعها يف �شنطته‪ .‬يجد مدونة‬ ‫ال�شجرة‪.‬‬
‫�صغرية‪ .‬يفتحها دانيال بيده ال�سليمة فيجد فيها كلمات ذات‬ ‫ال ميلك هرني �أي خيار‪� ،‬سوى ان يتحرك ملتفا ً حول ال�شجرة‬
‫داللة‪:‬‬ ‫ويطلق النار باملثل‪.‬‬
‫«فوند دوالك» «هرني بالينفيو» «اخي دانيال»‬ ‫تخرتق ر�صا�صة مبا�رشة يد دانيال‪ ،‬فتفجرها �إىل �أجزاء‪ .‬ي�سقط‬
‫هذه �صحيفة كتبها هرني بالينفيو احلقيقي‪ .‬يقلّب دانيال‬ ‫�إىل اخللف‪.‬‬
‫ال�صفحات فتغطيها الدماء‪ ،‬تو ّقف‪ .‬ي�أخذ ال�صحيفة وي�ضعها‬ ‫يرك�ض هرني ب�رسعه نحوه ومي�سك مب�سد�س دانيال ويركع‪.‬‬
‫يف �شنطته‪ .‬ينه�ض على قدميه‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬ملاذا �شهرت م�سد�سك عل ّي‪ ،‬اللعنة؟‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫دانيال‪ :‬من �أنت؟‬
‫خارجي‪ .‬غابة‪ .‬فيما بعد‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬ما كان يجب ان ي�صل ا ألمر �إىل هذا‪ ،‬يا دانيال‪.‬‬
‫يتناول دانيال رف�شا ً من �أمتعته ويبد� أ بيده ال�سليمة حماولة‬ ‫مل �أكن �أريد �إطالق النار عليك‪.‬‬
‫حفر قرباً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬قل يل من �أنت‪.‬‬
‫�أثناء مالحظتنا لدانيال خالل فرتة ق�صرية من ال�سهل �أن نرى‬ ‫هرني‪ :‬انا جمرد �إن�سان يبغي اخلال�ص‪ .‬انا ل�ست �أحداً‪ .‬انا ل�ست‬
‫�أن هذا �سوف ي�أخذ وقتا ً طويال ً و�سيكون عمال ً �صعبا ً القيام‬ ‫�سيئا ً ‪ -‬دعني �أرى يدك ‪-‬‬
‫به‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬مت�أملا ً اما من يده �أو ب�سبب غ�ضبه من هرني الذي‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫خدعه وهو ي�أن وي�رصخ مثل حيوان جمروح‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬نف�س املكان‪� .‬صباحا ً‬ ‫دانيال‪ :‬كال‪ ،‬كال‪ ،‬كال‪ ،‬من �أنت؟ من �أنت؟‬
‫دانيال نائماً‪ .‬احلفرة قد تكون رمبا بعمق قدمني وبطول �ستة‬ ‫�آه ه ه ه ه ه ه ه ه ه‬
‫�أقدام ‪-‬‬ ‫هرني‪ :‬ال ت�رصخ‪ ،‬يا دانيال‪ .‬اهد�أ‪ .‬دمك‪ ،‬دمك ‪...‬‬
‫ي�ستيقظ‪ .‬ينظر حوله‪ .‬يحاول احلفر مرة ثانية‪ .‬وثانية‪.‬‬ ‫دانيال‪ � :‬آه ه ه ه كال‪ .‬كال‪ .‬كال‪ .‬كال‪ .‬اللعنة‪ .‬اللعنة جاااااا هل لدي‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫�أخ؟ هل لدي �أخ‪ ،‬من �أنت؟‬
‫خارجي‪ .‬نف�س املكان‪ .‬بعد الظهر‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬دانيال من ف�ضلك تو ّقف‪.‬‬
‫لقد حفر ما يكفيه‪ .‬يجر ج�سد هرني نحو القرب ‪ -‬ويبد� أ يف �إعادة‬ ‫دانيال‪ :‬ملااااذا‪ .‬ملاااذا وثقت بك؟ ملاذا وثقت بك؟‬
‫العفار فوق اجلثة‪.‬‬ ‫هرني‪ :‬قابلت رجال ً يف كنج �سيتي قال �أنه �أخوك‪ ،‬كنا �أ�صدقاء‬
‫تو ّقف‪ .‬قطع �إىل‪:‬‬ ‫لب�ضعة �شهور‪ ،‬نعمل يف كنج �سيتي وكان يبحث عن طريقه �إليك‬
‫خارجي ‪ .‬نف�س املكان‪ .‬فيما بعد‬ ‫يا دانيال‪ ،‬مل يكن لدينا �أي مال‪ .‬مات مري�ضا ً بال�سل‪ .‬مل ي�ؤذه‬
‫دانيال على و�شك ا إلغماء يعود ويراجع اليوميات‪ ..‬زاغ نظره‬ ‫�أحد ومل يقتله �أحد‪ ،‬ال �شيء �سيء يف املو�ضوع ولكنه �أخربين‬
‫عنك وجمرد �أخذت ق�صته ‪ -‬وا�ستخدمت يومياته ‪ -‬دانيال‪ ،‬انا‬
‫�صديقك ‪ -‬انا ال �أحاول قتلك �أو �أ�ؤذيك‪ ،‬جمرد اريد ان اعي�ش ‪-‬‬
‫يدفن دانيال نف�سه يف ا ألمل والدموع واملذلة‪.‬‬
‫وبينما يحاول هرني النظري �إىل جرح دانيال‪ .‬ميد دانيال يده‬
‫�إىل جيبه حيث يخفي م�سد�س ‪ 22‬ويوجهه مبا�رشة �إىل ج�سد‬
‫هرني ويطلق النار‪ .‬يتعرث هرني ويهوى �إىل اخللف ‪� -‬رضبة‬
‫واحده من هذا امل�سد�س ترتد �إىل داخل اجل�سد حلظة واحده وال‬
‫يكون هنالك دماً‪.‬‬
‫‪ -‬يحدث هذا‪ ،‬يراقبه دانيال ويتجمد هرني ‪ -‬ي�أخذ دانيال‬
‫قا�س جدا ً ‪/‬‬
‫البنادق ا ألخرى من يدي هرني ‪ -‬كل هذا �شيء ٍ‬
‫ملوث‪/‬قذر‪/‬غري م�رسحي ‪ -‬ي�سقط هرني فج�أة �إىل ا ألر�ض‪.‬‬
‫تو ّقف‪ .‬يعاين دانيال �أمل مربح ويتلوى والدم ين�سكب من يده‪.‬‬
‫ينظر �إىل يده ويرى �أنها كلها ما زالت هناك‪.‬‬
‫هذا م�شهد مطوّل يتابع فقط دانيال‪ .‬ي�سرتد نف�سه قليال ً و�أول‬
‫�شيء يقوم به هو العودة �إىل �شنطة هرني والنظر يف بطاقة‬
‫‪207‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫للخال�ص وطريقك الوحيد ملا تريد‪.‬‬ ‫ويده تنب�ض متثاقلة ويقر� أ من الكتاب ‪...‬‬
‫نقرة‪.‬‬ ‫«�إذا ما اجتمعت بذلك الرجل الذي هو �شقيقي ف�سوف ا�شعر‬
‫باندي‪ :‬ممكن �أن ت�أخذها يوم ا ألحد‪ .‬اليوم الذي يلي التايل‪ .‬يف‬ ‫اكرث‪»...‬‬
‫كني�سة الر�ؤيا الثالثة‪.‬‬ ‫«�سوف �أقول له مرحبا ً وا�صافح يده بحرارة وانظر �إىل‬
‫تو ّقف‪ .‬نقرة‪.‬‬ ‫عينيه‪»..‬‬
‫دانيال‪� :‬س�أدفع لك ثالثة �آالف دوالر‪.‬‬ ‫دانيال مير مبا�رشة فوق القرب وهو يقر� أ ‪..‬‬
‫باندي‪ :‬ــ‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫دانيال‪ :‬كم يدفع لك �إيلي؟‬ ‫زاوية‪ ،‬ج�سد دانيال‪ .‬فيما بعد‪.‬‬
‫باندي‪� :‬آخذ مايل من الروح القد�س‪.‬‬ ‫بعد مرور �ساعات‪ .‬تو ّقف لقطة متو�سطة‪ .‬يدخل حبل �إىل ا إلطار‬
‫دانيال‪� :‬س�أدفع لك خم�سة �آالف دوالر‪.‬‬ ‫بيدي عجوز‪ .‬احلبل ملفوف حول ج�سد دانيال ‪ -‬ومقفل‪.‬‬
‫باندي‪ :‬من �أجل ماذا؟‬ ‫ال�صوت اخلارجي لل�شخ�ص الذي فعل هذا بدانيال يختفي‪ .‬وبعد‬
‫دانيال‪ :‬من �أجل حق املرور‪.‬‬ ‫ب�ضع دقائق ‪ -‬يجر دانيال بعيداً‪ ،‬يجر خلف ا ألح�صنة‪.‬‬
‫باندي‪ :‬انا ال �أملك هذه ا ألر�ض‪.‬‬ ‫تدور الكامريا معه‪ ،‬على ا ألر�ض‪ ،‬وي�شد على �أر�ض حمراء وعرة‬
‫دانيال‪ - :‬من الذي يفعل؟‬ ‫‪ -‬ر�أ�سه يهتز وي�رضب ا ألر�ض‪.‬‬
‫باندي‪� :‬إيلي �سيفعل‪ .‬كني�سة الر�ؤيا الثالثة‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫لقطة مقرّبة لدانيال‪ .‬كل �شيء يخرج �إىل العلن‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬منزل باندي‪ .‬بعد برهة من الزمن‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هل اعطيته �إياها؟‬ ‫يفتح دانيال عينيه‪ .‬انه يجل�س على كر�سي �إىل املائدة‪ ،‬على‬
‫باندي‪ :‬نعم هذا �صحيح‪� .‬إنها هبتي �إىل الكني�سة عندما �أموت‬ ‫اجلهة املقابلة لباندي (ثمانني عاماً) والذي ي�ضع امامه على‬
‫‪-‬‬ ‫املائدة م�سد�س‪ .‬انه �ضعيف جداً‪ ،‬عجوز‪ ،‬له عينان حلوتان‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬متى فعلت هذا؟‬ ‫باندي‪ :‬مرحباً‪ ،‬يا دانيال‪.‬‬
‫باندي‪ :‬لقد تبعت �إيلي منذ �أن كان �صبياً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬من �أنت؟‬
‫لقد جاء ووعظ بجانبي عندما احرتقت زوجتي وحفيدتي يف‬ ‫باندي‪� :‬أنا باندي‪.‬‬
‫بكارزفيال‪ .‬لقد �شفاين من التهاب مفا�صلي ‪ ...‬و�أوجاع ر�أ�سي ‪.‬‬ ‫(تو ّقف ق�صري)‪ .‬يبد� أ دانيال بالتح� ّسن والعرق يت�صبّب من‬
‫‪ -‬لقد كان ذلك منذ ثالث �سنوات‪.‬‬ ‫وجهه‪ ،‬م�صاب بنوع من ال�صدمة‪ ،‬يبد� أ بالكالم‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬من املمكن �أن جند طرق حول هذا املو�ضوع ت�سمح‬ ‫دانيال‪� :‬أود �أن �أ�ست�أجر �أر�ضك‪ .‬حاولت ان ا�ست�أجر ار�ضك من‬
‫له باحلفر ونعطيك ماال ً �أكرث بكثري ‪ -‬هذا قد ال يكون قانونيا ً‬ ‫قبل ولكنك رف�ضت انا دانيال بالينفيو وانا �أنقب عن النفط ـ‬
‫ومتطابقا ً معهم ‪-‬‬ ‫و�أود ـ هل لديك قليل من املاء؟‬
‫باندي‪ :‬عندما �أغادر هذه الدنيا‪ ،‬ف�إن ب�إمكان الكني�سة ان تفعل ما‬ ‫باندي‪� :‬أعرفك واعرف ما تريد ولكنني �أف�ضل �أن ال �أفعل‪.‬‬
‫ت�شاء ‪ ...‬ولكن ال �أريد ان اعي�ش بقية حياتي هكذا ‪ -‬مرافقا ً للحفر‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬الرب و�ضع النفط حتت ا ألر�ض يف مزرعتك ملن لديه‬
‫و�سوف يت�شارك حفيدي والكني�سة بهذه الرثوة عندما ي�أتي‬ ‫ال�شجاعة يف البحث عنه‪� .‬إنه موجود هناك لي�صبح �أحدهم ثرياً‪.‬‬
‫الوقت لهم‪.‬‬ ‫هل �ستخطو �إىل ا ألمام معنا وت�أخذ ح�صتك؟‬
‫دانيال‪ :‬يا �سيد باندي ‪� -‬أنابيب البرتول �شديدة ‪� -‬إنها لن تعكر‬ ‫‪� -‬أح�رض ما �أعطاك �إياه اهلل ‪-‬‬
‫�صفو حياتك‪.‬‬ ‫باندي‪� :‬أعرف �أنك ترغب يف حق املرور يف هذه ا ألر�ض‪ .‬انك‬
‫باندي‪ :‬ب�إمكانك بناء �شبكة انابيبك �شمال �أر�ضي‪ ،‬بعيدا ً عني‬ ‫تقوم ببناء �شبكة انابيب‪.‬‬
‫‪ -‬دون �أحداث �أية فو�ضى‪.‬‬ ‫يهز دانيال بر�أ�سه‪« ،‬نعم»‬
‫دانيال‪� :‬شكراً‪.‬‬ ‫باندي‪ :‬اهلل قال يل مبا عليك ان تفعله ‪-‬‬
‫باندي‪ :‬ولكن عليك ان تغت�سل بدماء احلمل‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ما هذا؟‬
‫دانيال‪ :‬ما الذي يجب ان افعله؟‬ ‫باندي‪ :‬يجب ان تغت�سل يف دماء ي�سوع امل�سيح �سيدنا ‪-‬‬
‫باندي‪ :‬ان تكون جزءا ً من الكني�سة‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ولكنني كذلك‪ .‬لقد فعلت ذلك ‪..‬‬
‫دانيال‪ - :‬ولكن اذا تريدين �أن �أفعل؟‬ ‫باندي‪ :‬انت كاذب‪.‬‬
‫باندي‪ :‬ان ت�سمع كلمة �إيلي وت�ستمع �إىل توراته‪ .‬وحت�صل على‬ ‫(نقرة‪).‬‬
‫املغفرة عن هذه اخلطيئه التي فعلتها‪ .‬هذا كل ما اطلبه منك‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لقد كنت ‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬خطيئتي عن ‪ -‬ماذا؟ احلفر؟‬ ‫باندي‪� :‬أنت تقول كذبا ً �أمامه‪.‬‬
‫باندي ينظر �إليه وك�أنه يريد ان يقول‪�« ،‬أنت تعرف‪»-‬‬ ‫عليك �أن تغت�سل بدماء ي�سوع امل�سيح ‪� -‬إنها طريقك الوحيد‬
‫‪208‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�آخر‪ .‬لي�س هنالك �شيء �آخر‪� .‬إنه يقف بديال ً للخال�ص‪ .‬لن حت�صل‬ ‫باندي‪ :‬ــ‬
‫على اخلال�ص بالف�ضة والذهب ولكن بدم ي�سوع امل�سيح‪.‬‬ ‫دانيال ‪ - :‬ماذا ‪ -‬؟‬
‫وقد يقول �أحدهم �إقر� أ كتبا ً جيدة‪ ،‬افعل �أفعاال ً جيدة‪ ،‬ع�ش حياة‬ ‫باندي‪ :‬ب�إمكانك ان تدفن �شيئا ً بعيدا ً يف قرب‪ ،‬ولكن اهلل يرى كل‬
‫جيده ول�سوف حت�صل على اخلال�ص‪� ،‬سوف حت�صل على اللعنة‪.‬‬ ‫�شيء وعليك �أنت �إجابته يف النهاية‪.‬‬
‫هذا ما �ستح�صل عليه‪ .‬جميع كتب ا ألر�ض لن تبقيك خارج‬ ‫نقرة‪.‬‬
‫اجلحيم دون تكفري دوااااء ي�سوع امل�سيح‪� .‬إما ي�سوع امل�سيح �أو‬ ‫باندي‪ :‬انت تعرف خطيئتك‪.‬‬
‫ال �شيء لكل خاطئ على �أر�ض اهلل‪ .‬دانيال بالينفيوا خطي ا آلن‬ ‫دانيال ‪ -:‬هذا الرجل جاء يبحث عني‪ ،‬هدّد حياتي ‪ -‬وهدّد‬
‫نحوي !!!!!!‬ ‫ابني ‪ -‬هذا الدجال ‪ -‬كانت يف معر�ض الدفاع عن النف�س‪.‬‬
‫يقف دانيال ي�صل عند �إيلي فوق املن�صة‪.‬‬ ‫باندي‪ -:‬قل هذا هلل‪� .‬إن ا ألمر بينك وبيني وبني اهلل‪ .‬ثق مبا‬
‫�إيلي‪� :‬شكرا ً ملجيئك ايها ا ألخ دانيال‪.‬‬ ‫اقوله لك‪ .‬اال تريد ان يغفر اهلل لك ما فعلت‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬شكراً‪ ،‬يا �إيلي‪.‬‬ ‫دانيال‪-:‬‬
‫�إيلي‪ :‬بيننا ا آلن خاطئ يبغي اخلال�ص! دانيال هل انت‬ ‫زاوية ‪ -‬بعد حلظات‬
‫خاطئ؟‬ ‫يقف دانيال‪ ،‬يج ّمع نف�سه للمغادرة ‪ -‬يناوله باندي ا�سلحته‬
‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫‪ -‬يجمع دانيال امل�سد�سات ‪ -‬تو ّقف‪ .‬حلظة من الثقة بينهما‬
‫ايلي‪ :‬الرب ال ي�سمعك‪ ،‬قلها له‪.‬‬ ‫‪ -‬ينظر دانيال �إليهم ‪ -‬ثم؛ ينظر من النافذة فريى ‪ -:‬حفيد‬
‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫باندي ال�صغري‪ ،‬وليم (‪ 12‬عاماً) ي�أتي ب�إجتاه املنزل‪.‬‬
‫ايلي‪ :‬اركع على ركبتيك ثم ارفع نف�سك امامه‪.‬‬ ‫لقطة مقرّبة لدانيال بعد حلظات‪ ،‬يدخل وليم ‪ -‬تو ّقف‪ .‬منهك‬
‫يركع دانيال على ركبتيه‪.‬‬ ‫القوى‪ ،‬يخرج‪.‬‬
‫ايلي‪ :‬انظر نحو ال�سماء وقلها‪.‬‬ ‫قطع �إىل‬
‫دانيال‪ :‬ال اعرف ما �أقول‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬كني�سة الر�ؤيا الثالثة‪ .‬بعد يوم‬
‫ايلي‪ :‬دانيال‪ ،‬لقد جئت �إىل هنا وجلبت معك اخلري والرثاء ولكنك‬ ‫يدخل دانيال نظيف املحيا‪ ،‬بعد ب�ضعة �أيام‪ .‬ميلك �إيلى ا آلن‬
‫اي�ضا ً جلبت معك عاداتك ال�سيئة ك�إن�سان مرتدّ‪.‬‬ ‫مكتبا ً وب�ضعة م�ؤيدين يقفون معه‪ .‬يالحظ وجود دانيال فيقف‬
‫لقد تبعت �شهواتك نحو الن�ساء ولقد تخلّيت عن ابنك ابنك الذي‬ ‫وقد جفل بع�صبية‪.‬‬
‫ربيته‪ ،‬لقد تخليت عن كل �شيء ألنه كان مري�ضا ً ولقد ع�صيت‬ ‫يحملقان يف بع�ضهما البع�ض‪.‬‬
‫اهلل ‪ -‬ولذلك فعليك ان ترددها ا آلن وتقول «�أنا مذنب» قلها‪،‬‬ ‫�إيلي‪� :‬إياك �أن ت�رضبني‪.‬‬
‫قل «�أنا مذنب»‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬كني�سة الر�ؤيا الثالثة ‪ .‬نهارا ً‬
‫لقطة مقرّبة ‪ -‬دانيال‬ ‫تبد� أ الكامريا يف لقطة مقرّبة على دانيال‪ .‬الكني�سة ا آلن‬
‫تبد� أ اجلموع بالتململ وهم يحاولون ت�شجيعه ليقولها ‪-‬‬ ‫مزدحمة باحل�ضور‪ .‬عمال‪ .‬عائلة �صنداي‪� ،‬أتباع‪ ،‬فالحون‪ ،‬الخ‬
‫دانيال يغلي‪.‬‬ ‫�آل روز وباندي‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬قلها‪ :‬انا خاطئ‪.‬‬ ‫وقد ح ّطم احلائط اخللفي للكني�سة وو�ضعت مكانه خيمة كبرية‬
‫دانيال‪ :‬انا خاطئ‪.‬‬ ‫حماطة با ألو�ساخ و�ألواح خ�شب ا ألر�ضية حيث قام �إيلي‬
‫ب�أعمال التو�سيع‪.‬‬
‫ي�سري �إيلي حول املكان بخيالء وعظمة والعرق يت�صبب منه‬
‫وهو يقف على خ�شبة املن�صة يلهث‪ .‬الكني�سة مليئة باحلما�س‬
‫واحلرارة‪.‬‬
‫�إيلي‪� :‬أمتنى من كل قلبي �أن يتمكن كل �إن�سان من اخلال�ص ولكن‬
‫الق�ضية لي�ست كذلك‪ .‬قانون اخلال�ص العاملي كذب‪ ،‬امتنى �أن‬
‫يتمكن كل �إن�سان من اخلال�ص‪ .‬ولكنهم ال ي�ستطيعون ! كال ال‬
‫ي�ستطيعون! لن تتمكن من اخلال�ص �إذا ما ‪..‬؟‬
‫الكني�سة‪� - :‬إذا ما رف�ضت الدم!‬
‫�إيلي‪� :‬إذا ما رف�ضت الدم‪ ،‬هذا �صحيح ! و�إذا مل يكن من �أجل‬
‫التكفري عن الدماء فكان من ا ألوىل لكم نزع �سقوف الكنائ�س‬
‫وحرقها‪� .‬إنها ال ت�ساوي �شيئاً‪ .‬لوكن طاملا كان الدم على‬
‫كر�سي الرحمة فيمكن للخاطئ ان يعود‪ ،‬ولي�س عن �أي طريق‬
‫‪209‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دفء ينبعث من املوجودين هناك جميعا ً ‪...‬‬ ‫ايلي‪ :‬انا �آ�سف ايها الرب‪.‬‬
‫يبد� أ دانيال با إلح�سا�س ‪ ..‬يلم�سون ر�أ�سه من اخللف وكتفيه‬ ‫دانيال‪ :‬انا �آ�سف �أيها الرب‪.‬‬
‫مانحني �إياه حباً‪.‬‬ ‫ايلي‪ :‬اريد الدم‪.‬‬
‫يالحظ �إيلي هذا‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬أريد الدم‪.‬‬
‫�إيلي ‪ -:‬هذا يكفي ا آلن ‪ -‬هذا يكفي ‪ -‬يجب ان ي�أخذ الروح‬ ‫ايلي‪ :‬لقد تخليت عن ابني‪.‬‬
‫القد�س �إىل داخله ولوحده ا آلن ‪ -‬ي�ستدير �إيلي مبتعدا ً ‪ -‬يتوزع‬ ‫دانيال‪ :‬لقد تخليت عن ابني‪.‬‬
‫اجلميع ببطء مبتعدين عن دانيال ‪-‬‬ ‫ايلي‪ :‬لن �أرتد ابداً‪.‬‬
‫قطع �إيل‪:‬‬ ‫دانيال‪ :‬لن �أرتد �أبداً‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬الكني�سة‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫ايلي‪ :‬كنت �ضائعا ً ولقد وجدت نف�س ا آلن‪.‬‬
‫دانيال يف اخلارج حماطا ً باخلريين من النا�س وعمال الرافعات‬ ‫دانيال‪ :‬كنت �ضائعا ً ووجدت نف�سي ا آلن‪.‬‬
‫واجلميع‪.‬‬ ‫ايلي‪ :‬لقد تخليت عن ابني‪.‬‬
‫ت�أتي ا ألم �صنداي وماري وروث ويحيونه ويغدقون عليه‬ ‫ينظر دانيال نظرة �صارمة نحو ايلي‪ .‬تو ّقف‪.‬‬
‫العواطف والدفء ‪ -‬تو ّقف ‪ .‬ينتهي هذا امل�شهد مباري‬ ‫يقف دانيال بني تكذيبها‪/‬الر�ضوخ �إليها‪/‬واالنفجار يف وجه‬
‫ودانيال‪.‬‬ ‫�إيلي‪.‬‬
‫قطع �إيل‪:‬‬ ‫ايلي‪ :‬خاطبه وقلها ايها اخلاطئ‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬مكتب خميم بالينفيو الرئي�سى ‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬تخلّيت عن ابني‪.‬‬
‫يجل�س دانيال وفلت�رش ‪ -‬دانيال �ساكتاً‪.‬‬ ‫ايلي‪ :‬خاطبه‪ .‬قلها ب�صوت عا ٍل‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬ماذا تريد؟‬ ‫دانيال‪ :‬تخليت عن ابني‪ .‬تخليت عن ابني‪ .‬تخليت عن ابني‪.‬‬
‫يهز دانيال ر�أ�سه «ال �شيء»‬ ‫�إيلي‪ :‬تو� ّسل من �أجل الدم‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬انها حول ال�ضحكة ا ألخرية يا فلت�رش‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬اعطني الدم يا ايلي‪ ،‬دعني اخل�ص مما �أنا فيه‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬أريد ان اعيد هـ‪.‬و‪� ..‬إىل هنا خارج تلك املدر�سة‪.‬‬ ‫يا الهي اعطني الدم فقط ودعني اخل�ص مما �أنا فيه‪.‬‬
‫فلت�رش‪ - :‬ملاذا؟‬ ‫يتالعب �إيلي مب�شاعر اجلمهور‪ .‬دانيال على ركبتيه‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬لن �أ�رشح ما يف نف�سى لك ‪ -‬اذهب واح�رضه �أعده �إىل‬ ‫�إيلي‪ :‬هل تقبل ي�سوع امل�سيح كمخل�ص �إلهي؟‬
‫هنا ‪ -‬البد ان هنالك واحد يف تلك املدر�سة م�ستعد لتعليمه‬ ‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫كيف يتكلم وهذا ميكن ان ن�أخذه وندفع له �أكرث من ذلك املكان‬ ‫�إيلي‪ :‬اخرج من هنا ايها ال�شيطان‪.‬‬
‫‪-‬‬ ‫ي�صفع �إيلي دانيال على وجهه‪.‬‬
‫فلت�رش ‪ :‬ملاذا ال ت�أتي معي؟ لت�أخذ �إجازة من كل هذا‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬اخرج ايها ال�شيطان ! اخرجي ايتها اخلطيئة !‬
‫دانيال ال يجيب‪ ،‬يجمع بع�ض ا أل�شياء ويخرج ‪-‬‬ ‫ي�صفعه �إيلي مرة ثانية بق�سوة‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫�إيلي‪ :‬هل تقبل كني�سة الر�ؤيا الثالثة كمر�شد روحي لك؟‬
‫داخلي‪ .‬مدر�سة ال�صم‪�/‬سان فران�سي�سكو ‪ -‬البهو ‪ -‬بعد �أيام‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫امتعة هـ‪.‬و‪ .‬و�ضعت يف حزمة‪ ،‬وفليت�رش يقوده �إىل اخلارج وهو‬ ‫ي�صفع �إيلي دانيال على وجهه مرة ثانية‪.‬‬
‫يودّع وي�شكر الهيئه التعليمية‪.‬‬ ‫�إيلي‪� :‬أخرج من هنا �أيها ال�شبح! �أخرج من هنا و�أرجع �إىل‬
‫يخرج هـ‪.‬و‪ .‬وفليت�رش‪.‬‬ ‫مكانك!‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫ي�صفع �إيلي دانيال مرة ثانية‪ .‬ثم يدفع بيده جبهة دانيال‬
‫داخلي‪� .‬سيارة بالينفيو النقل اخلا�صة‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫ليدفعه �إىل اخللف‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪ ..‬وفلت�رش يف القطار‪ .‬يراقب فلت�رش هـ‪.‬و‪ ..‬ومعهما �شاب‬ ‫�إيلي‪ :‬هل تقبل ي�سوع امل�سيح كمخل�ص لك؟‬
‫يف الع�رشينات يدعى جورج رينولدز‪ ،‬وهو مدرّ�س جاء معهم‬ ‫دانيال‪ :‬نعم �أقبل‪.‬‬
‫من املدر�سة وهو يراجع كتاب �إ�شارات لغوية ويراجع �إ�شارات‬ ‫يح�رض �أحد �أتباع �إيلي وعاء ماء مقد�سا ويناوله �إىل �إيلي الذي‬
‫التخاطب مع هـ‪.‬و‪ ..‬وهذا يت�ألف من ا إل�شارة �إىل اال�شياء �أو‬ ‫مي�سك دانيال من �شعره وي�شد ّ ر�أ�سه �إىل اخللف‪ ،‬ويرتك املاء‬
‫ا إلي�ضاحات مرتافقة مع حركات منا�سبه‪ ،‬الخ‪.‬‬ ‫ين�سكب فوقه ‪...‬‬
‫ي�أتي فلت�رش ليجل�س معهم‪.‬‬ ‫يقف دانيال ‪ -‬تو ّقف‪ .‬ي�أخذ مقعده‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫يحييه النا�س مرحبني‪ ،‬ومي�سكوا به‪ ،‬يلم�سوه‪ ،‬يهنئونه ‪ ،‬الخ‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬حقول النفط‪/‬ليتل بو�سطن‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫ي�أتي باندي ومي�سك كتف دانيال ‪ -‬اطفال �صغار ي�أتون‬
‫ي�سري فلت�رش عرب الرافعات مع هـ‪.‬و‪ ..‬وجورج ‪ -‬يجدو دانيال ‪-‬‬ ‫ليلم�سون يديه ‪ -‬ن�ساء يهدئنه مرحبات به‪.‬‬
‫‪210‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫به ا آلن ‪ -‬وهكذا ف�أنت تبدو غبيا ً يا هاملتون‪ .‬الي�س كذلك؟‬ ‫ي�سري دانيال نحوهم يركع على ركبتيه ويعانق هـ‪.‬و‪ -..‬مي�سك‬
‫تيلفورد‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫وجهه ويقبله ‪ -‬ي�سري بعيدا ً معه لينفرد به ‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬قلت لك ما الذي كنت �س�أقوم به ‪-‬‬ ‫جورج وفلت�رش يراقبانه‪.‬‬
‫مل ي�ستطع دانيال ان مينع نف�سه من دفع املائدة بردفه وهو‬ ‫زاوية‪ ،‬هـ‪.‬و‪ ..‬ودانيال‬
‫يتحرك بعيدا ً ‪ -‬تن�سكب ا أل�شياء‪.‬‬ ‫ي�سريان يعانقه بني ذراعيه‪.‬‬
‫قطع �إيل‪:‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫داخلي‪ .‬خيمة‪/‬مكان �إقامه‪ .‬ليالً‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬مطعم فاخر‪/‬ايزابيلال كونتي‪ -‬ليال ً ‪ -‬فيما بعد‬
‫هـ‪.‬و‪ ..‬ودانيال معاً؟‬ ‫يجل�س دانيال و هـ‪.‬و‪ ..‬يف مطعم فاخر ‪ -‬رجال هـ‪.‬و‪ ..‬تتدىل من‬
‫دانيال‪ :‬اعتقد انه علينا ان نرتك هنا يا هـ‪.‬و‪ ..‬ال اعتقد انه‬ ‫الكر�سي ‪ -‬وهو يجل�س �صامتاً‪.‬‬
‫ب�إمكاننا البقاء‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬سن�أتي لك بوجبة جيده ‪ -‬هذا كل ما نحتاج اليه هنا‬
‫يقوم ب�إ�شارات تقول «�أنت و�أنا»‪« ،‬علينا ان نغادر املكان»‪.‬‬ ‫وجبة قوية جيده غالية الثمن ‪ -‬هل �أنت جائع؟‬
‫يقوم ب�إ�شارات تقول‪« ،‬كلمني‪ ».‬هـ‪.‬و‪ ..‬يَت َ َكلَّم‪.‬‬ ‫تو ّقف‪ .‬دانيال مت�ضايق‪ .‬ي�أتي نادل اليهم‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪ :..‬ال �أريد �أن �أترك هنا‪.‬‬ ‫دانيال‪� :‬رشيحتني من اللحم‪ .‬ووي�سكي؟‬
‫دانيال‪ :‬ملاذا؟‬ ‫النادل‪ :‬نعم‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪ :..‬ال �أريد ان �أتكلم بعد ا آلن ال �أحب ذلك‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬وماء ٌ له‪ .‬وحليب‬
‫دانيال‪ :‬هنالك �أ�سباب‪ .‬وال �أريد ان ابقى هنا بعد ا آلن ‪ -‬عل ّي‬ ‫تو ّقف‪ .‬دانيال‪ .‬تو ّقف‪ .‬على هـ‪.‬و‪.‬‬
‫�أن �أغادر‪.‬‬ ‫يحدثون بع�ضهم البع�ض‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪ :..‬ال اريد �أن �أتكلم بعد ا آلن‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لقد عر�ضت علينا �ستاندارد مليون دوالر ك�إيجار لليتل‬
‫يجل�س دانيال و هـ‪.‬و‪ ..‬معا ً لربهة من الزمن‪ .‬ينه�ض دانيال‬ ‫بو�سطن‪.‬‬
‫ويغادر املكان ‪ -‬تو ّقف‪ .‬هـ‪.‬و‪ ..‬لوحده‪...‬‬ ‫قلت لهم ال‪.‬‬
‫ثم‪� :‬إنحالل تدريجي طويل‪ ،‬طويل‪ ،‬طويل �إىل ‪:‬‬ ‫وقعنا اتفاق مع يونيون و�سوف نبد� أ يف �شبكة ا ألنابيب ن�ستطيع‬
‫داخلي‪� .‬سيارة بالينفيو النقل اخلا�صة ‪ 1924 -‬احلدث‬ ‫ان نراه غداً‪.‬‬
‫ا ألخري‪/‬مو�سيقى)‪.‬‬ ‫نقرة‪.‬‬
‫بعد خم�سة ع�رش عاماً‪ .‬هنالك ثالثة رجال ‪ -‬ب�إمكاننا �أن نرى‬ ‫دانيال‪ :‬هل ت�سمعني؟ هل انت تنظر �إيل وت�ستطيع حقا ً �سماع‬
‫اثنني منهم‪� ،‬أحدهما جورج رينولدز‪ ،‬من املدر�سة‪ ،‬وهو يتكلم‬ ‫�صوتي؟ ماذا تفعل؟‬
‫ب�صوت عال �إىل �سكرتريه بالقرب منه والتي تقوم بالطبع بينما‬ ‫تو ّقف‪ .‬يجل�سان ـــ‬
‫يتكلم جورج ‪ -‬جورج ينظر مع �شخ�ص ظهره نحو الكامريا‪-‬‬ ‫دانيال‪� :‬سوف ن�أتي بذلك املدر�س لي�ساعدك ويهتم بكل هذا‪.‬‬
‫الكامريا تندفع �إىل �إجتاههم‪.‬‬ ‫ألنني احتاج �إليك‪� .‬أحتاج �إىل م�ساعدتك‪.‬‬
‫جورج‪« :‬ال �شك انك �ست�شاركني الر�أي ب�أنه لدينا �أ�سباب عديدة‬ ‫لقطة مقرّبة‪ .‬دانيال‪.‬‬
‫تدفعنا ألن ن�شكر احلاكم ا ألعلى لكل ا أل�شياء على النمو الوا�ضح‬ ‫ينظر �إىل اجلانب ا آلخر من املطعم ويرى �شيئا ً ‪ -‬فت�ضيق عيناه‬
‫‪ -‬ويقف‪ ،‬تاركا ً هـ‪.‬و‪..‬‬
‫تتبعه الكامريا عرب املكان اجلميل ‪ -‬وهو ي�صل �إىل مائدة‬
‫�أخرى‪ :‬يجل�س هنا هـ‪.‬م‪ .‬تيلفورد‪ ،‬من �ستاندارد �أويل‪ ،‬الذي‬
‫قابلناه �سابقا ً وهدده دانيال‪ .‬يجل�س مع زوجته‪.‬‬
‫يقف دانيال بقربه‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬اريدك �أن تنظر �إىل هناك‪.‬‬
‫تيلفورد‪ :‬مرحباً‪ ،‬يا دانيال‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬انظر �إىل هناك‪ .‬هذا �إبني‪ .‬هل تراه؟‬
‫�أترى؟‬
‫تيلفورد‪ :‬دانيال ‪..‬‬
‫دانيال‪ :‬هل تراه؟ لن تقول يل كيف �أن�شئ عائلتي‪.‬‬
‫قلت لك ان ال تقل يل كيف �أن�شئ عائلتي �إذا ماذا ترى؟‬
‫تيلفورد‪ :‬انا �سعيد من اجلك ان كل �شيء ‪..‬‬
‫دانيال‪ :‬عقدت اتفاقا ً مع يونيون وابني �سعيد و�آمن و�أنا �أعتني‬
‫‪211‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اجلميع وهم يركعون على ركبهم‪ .‬وي�صلّون‪.‬‬ ‫ألعمالنا‪ ،‬والتطور املجزي ملمتلكاتنا واخلدمات الهامة‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫التي متكنا من �إ�سدائها للجمهور‪ .‬هذا �أف�ضل زمن يف تاريخ‬
‫خارجي‪ .‬مزرعة �صنداي‪/‬منطقة املخيم الرئي�سي‪ .‬نهاراً‪.‬‬ ‫ال�رشكات وال �شك �أن جميع امل�ساهمني يوافقونني على هذا‬
‫حفلة زفاف ت�أخذ مكانها يف اخلارج على موائد رحالت‪ ،‬الخ‬ ‫الر�أي‪ .‬كل هذا مردّه للم�ساعدة ال�ضخمة التي قدمتموها لتطوير‬
‫فرقه مو�سيقى نحا�سية‪� .‬آل روز وجمموعة �أخرى من املرموقني‬ ‫ممتلكاتنا اجلديدة‪.‬‬
‫موجوده هناك‪.‬‬ ‫�أتطلع �إىل ر�ؤيتكم يف زفايف انا وماري وامل�شاركة يف هذا‬
‫زاوية‪ ،‬هـ‪.‬و‪..‬‬ ‫اليوم املجيد واملقد�س معكم‪ .‬املخل�ص لكم هـ‪.‬و‪ ..‬بالينفيو‪.».‬‬
‫يجل�س مع جورج الذي يف�سرّ له ما يتمناه له �أهل اخلري وقد‬ ‫تتحرك الكامريا حولهم لتظهر‪ :‬هـ‪.‬و‪ ..‬يف الثالثة والع�رشين وهو‬
‫جاءوا واحدا ً واحدا ً ليهنئونه ويباركون خطواته وميطرونه‬ ‫يوقع هذه الر�سالة جلورج‪� ،‬سكرتريه ومف�سرّ كالمه‪.‬‬
‫ب�شالل من املديح‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪� ..‬شاب جميل ال�صوره‪ ،‬انيق اللبا�س وقوي‪ .‬يوقع على �شيء‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫�آخر جلورج‪ ،‬والذي يو ّقع بدوره وينتهي عملهم‪.‬‬
‫خارجي‪ .‬الرافعات‪/‬مزرعة �صنداي‪ .‬م�سا ًء‬ ‫ينه�ض هـ‪.‬و‪ ..‬ي�سري نحو عربة النقل حيث جتل�س ماري‪ .‬ماري‬
‫يجل�س هـ‪.‬و‪ ..‬وجورج وفلت�رش‪ ،‬يجتمعون بعيدا ً عن احلفلة ‪...‬‬ ‫يف الع�رشين من العمر جميلة املحيا‪ .‬يطبع هـ‪.‬و‪ ..‬قبلة على‬
‫يحاول فلت�رش �إ�ستخدام لغة ا إل�شارات‪.‬‬ ‫جبينها‪ ،‬ويجل�س قبالتها وي�شريان �إىل ا ألمام و�إىل اخللف ‪-‬‬
‫فلت�رش‪ :‬لغة �إ�شاراتي رهيبة‪ ،‬انا �آ�سف‪.‬‬ ‫وخارج النافذ] تبد� أ االر�ض ال�صحراوية بالتغري‪.‬‬
‫ي�ؤ�رش هـ‪.‬و‪ ..‬وك�أنه يريد �أن يقول «كال‪� ،‬إنه لي�س كذلك‪».‬‬ ‫�إنها مغطاة كليّا ً برافعات البرتول ألميال و�أميال‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬هل من ا ألف�ضل ان �أتكلم بدال ً عن ذلك؟‬ ‫تو ّقف‪.‬‬
‫يهز هـ‪.‬و‪ ..‬بر�أ�سه موافقاً‪« ،‬نعم»‪ ،‬تابع‪».‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫فلت�رش‪ :‬هل يعرف هو ما يجري؟‬ ‫داخلي‪ .‬حمطة قطار ليتل بو�سطن‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/..‬جورج‪...‬ماذا؟‬ ‫يخطو هـ‪.‬و‪ .‬وماري خارج القطار �إىل حفلة ترحيب رائعة‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬الزفاف‪.‬‬ ‫هنالك اخليرّ من النا�س و�أفراد املجتمع‪ ،‬عمال النفط‪.. ،‬الخ‬
‫هـ‪.‬و‪ /..‬جورج‪ :‬كال‪.‬‬ ‫جتد ماري و هـ‪.‬و‪� .‬أبيل‪ ،‬وا ألم �صنداي وروث‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬هل �ستخربه؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫هـ‪.‬و‪/..‬جورج‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬منزل عائلة �صنداي اجلديد‪ .‬نهاراً‪.‬‬
‫نقرة‪.‬‬ ‫نوع من حفلة لقاء يف هذا املنزل اجلديد املبني يف و�سط‬
‫هـ‪.‬و‪/..‬جورج‪ :‬مل يكن يعنيه ان ي�شاهد زفايف يف كني�سة �أو �أن‬ ‫احلقول اجلديدة‪.‬‬
‫يرى عودتي �إىل ليتل بو�سطن‪ .‬انه ال يحرتم ديني بتاتاً‪.‬‬ ‫تف�سرّ ماري لـ هـ‪.‬و‪ .‬الكالم وهما يجل�سان مع �آبيل وا ألم �صنداي‬
‫تو ّقف‪ .‬هنالك �سكون بينهم جميعا ً لربهة من الزمن‪.‬‬ ‫وروث وبع�ض ا آلخرين يف غرفة الطعام‪ .‬روث �أ�صبح لها زوج‬
‫ينه�ض فلت�رش ومي�شي حول املكان‪.‬‬ ‫وهنالك بع�ض ا ألوالد حول املكان‪ ،‬الخ‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/..‬جورج‪ :‬لدي ممتلكات �أريد تطويرها‪ ،‬يا فلت�رش وي�رشفني‬ ‫حوار يدور بني �أفراد العائلة‪.‬‬
‫�أن تكون �رشيكا ً يل ‪ -‬االفتتاحات يف مك�سيكو بالقرب من‬ ‫�إحالل تدريجي �إىل‪:‬‬
‫تامبيكو ‪ -‬هل هذا مو�ضوع يهمك التفكري به؟‬ ‫داخلي كني�سة الر�ؤيا الثالثه‪.‬نهارا ً‬
‫تو ّقف‪ .‬ثم يقول فلت�رش التايل ب�رسعة‪:‬‬ ‫يقف هـ‪.‬و‪ ..‬وماري عند املذبح �أمام الق�سي�س (يف ال�سبعني)‪.‬‬
‫فلت�رش‪ :‬حتما ً �أفعل‪ .‬ولكن هذه �أ�شياء عليك �أن تنهيها معه ‪-‬‬ ‫جاءت عائلة �صنداي وجمتمع عمال النفط لي�شاهدو الفرح‪.‬‬
‫ممكن �أن اكون معك‪� ،‬إذا ما �أردت ذلك ‪ -‬ولكن عليك �أن تخربه‬ ‫تغيرّ داخل الكني�سة وقد �أعيد تزيينها خ�صي�صا ً لهم‪.‬‬
‫عنها تدريجياً‪.‬‬ ‫زاوية‪ ،‬بني اجلموع‪.‬‬
‫نقرة‪.‬‬ ‫هنالك فلت�رش (يف ا ألربعينات) يتابع هـ‪.‬و‪ ..‬وماري بزهو‬
‫لقد �أ�صبحت رجال ً جيدا ً يا هـ‪.‬و‪ .‬مل �أكن ألفتخر بك �أكرث لو كنت‬ ‫وحب‪.‬‬
‫ابني‪.‬‬ ‫لقطة مقربة‪ .‬ماري‪ .‬ت�ستمع وتنظر نحو الق�س‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/..‬جورج‪� :‬شكرا ً لك‪.‬‬ ‫لقطة مقرّبة هـ‪.‬و‪ .‬يراقب فم الق�س‪ .‬ي�أخذ ذلك الق�سم بعمق‬
‫فلت�رش‪ :‬هل تريدين هناك؟‬ ‫وي�شارك يف تلك االحتفالية بكل تفا�صيلها‪.‬‬
‫يهز هـ‪.‬و‪ ..‬ر�أ�سه‪« ،‬كال» يتابعان الكالم‪.‬‬ ‫يختفي ال�صوت ونراقب ق�سم زواجه ب�صمت‪،‬‬
‫�إحالل تدريجي �إىل‪:‬‬ ‫الق�س‪ -:‬يف عني اهلل �أنتما زوج وزوجة‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬منزل �صنداي اجلديد‪ .‬ليالً‪.‬‬ ‫يطلب من جموع امل�صلني الركوع وال�صالة‪ .‬تو ّقف‪ .‬ومراقبه‬
‫‪212‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫نقره‪.‬‬ ‫داخل هذا املنزل املبني حديثا ً ويف غرفة نوم ي�ستلقي هـ‪.‬و‪..‬‬
‫دانيال‪� :‬إذا كنتم تخططون لذلك‪.‬‬ ‫وماري معاً‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬لقد قرّرنا ذلك عندما رف�ضت ال�سماح بالزواج‬ ‫تو ّقف‪ .‬ي�شريان لبع�ضهما �إ�شارات حب‪ .‬لقطة مقربة على وجه‬
‫الكن�سي ‪-‬‬ ‫هـ‪.‬و‪..‬‬
‫دانيال‪ :‬لقد قررنا معا ً ان نقيم العر�س هنا‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬لقد قرّرت‪ .‬وانا �أردت �أن �أكون مع عائلة ماري‬ ‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو بالقرب من البحر‪ .‬نهاراً‪ /‬الغ�سق‬
‫يف يوم زفافنا ‪ -‬ما زال ب�إمكاننا �أن نقيم حفلة هنا‪ ،‬يف‬ ‫نرى نقاطا خمتلفة من منزل دانيال وممتلكاته على ال�شاطئ‬
‫املنزل‪� ،‬إحتفالية ‪-‬‬ ‫يف كاليفورنيا‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ملاذا مل تقل يل ذلك من قبل؟‬ ‫رخام بارد من الع�رص الفكتوري‪/‬طراز غوطي‪� .‬ضخم‪ .‬قاعات‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬مل يكن هنالك �سببا ً للقتال حول هذا املو�ضوع‬ ‫وممرات‪ ،‬غرف نوم‪ ،‬مطبخ‪� ،‬أرا�ضي‪ ،‬مرائب‪� ،‬إ�سطبالت‪ ،‬مالعب‬
‫معك‪ .‬لقد �سبق وقررت منذ البداية‪� ،‬أن هذا يجب �أن يكون زفاف‬ ‫تن�س‪ ،‬ردهات‪ ،‬برك‪ ،‬قاعات رق�ص‪ ،‬منطقة رماية مالعب‬
‫كني�سة ‪ -‬واعرف �أنك غري موافق على معتقداتي ‪..‬‬ ‫بولنج‪.... ،‬الخ‬
‫دانيال‪� :‬إذا �أنت ت�شعر هكذا وال تريدين �أن �أعرف؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫وال متلك اللياقة الكافيه لكي ت�سمح يل باملفاو�ضة معك؟‬ ‫داخلي ‪ -‬منزل بالينفيو‪ -‬الردهة ‪/‬ممر القاعة ‪ -‬نهارا ً (فيما‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬إمياين لي�س مو�ضوع مفاو�ضة‪ .‬وكذلك �إميان‬ ‫بعد)‬
‫ماري‪ .‬دعنا نقيم حفلة هنا لنحتفل بزواجنا ‪ -‬نحن نحب ذلك‪.‬‬ ‫ي�أتي هـ‪.‬و‪ ..‬وجورج ي�سريان يف هذا املمر الطويل املظلم ‪-‬‬
‫تو ّقف‪ .‬يقف دانيال وي�سري حول املكان ‪-‬‬ ‫يدخلون من الباب ا ألمامي‪.‬‬
‫نالحظ انه لي�س خفيف احلركة كما كان �سابقا ً ‪ -‬وا�صبحت‬ ‫تتحرك الكامريا �إىل لقطة مقرّبة على هـ‪.‬و‪ .‬وهما ي�صالن �إىل‬
‫حركته تعبرّ عن �سنّه‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫مكتب دانيال‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هل هذا هو ا ألمر �إذاً؟‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬هذا �شيء �صعب عل ّي قوله‪ ،‬ولكنني �س�أقول لك‬ ‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو ‪ -‬مكتب دانيال ‪ -‬تلك اللحظة‬
‫�أوالً‪ :‬انا �أحبك كثرياً‪.‬‬ ‫نرى دانيال ا آلن‪ ،‬هو �أكرب �سنّاً‪ ،‬يف مكتبه والذي هو يف احلقيقة‬
‫تو ّقف‪ .‬نقره‪ .‬ثم‪:‬‬ ‫�صغري وفو�ضوي‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬هنالك �صفات‬ ‫‪ -‬جايك كويف هنا‪ ،‬يعمل مع �ستور�س‪ ،‬وقد بقي رفيقه الوحيد‬
‫طورتها و�شاهدتها عرب‬ ‫يف العمل وكذلك �سكرتري �آخر‪ .‬يدخل هـ‪.‬و‪� ..‬إىل الداخل‪ ،‬يبدو‬
‫ال�سنني‪ .‬تعلمت ان �أحب ما‬ ‫على دانيال انه جاهز ل�شيء؛‬
‫�أفعل كما علمتني‪ .‬وا آلن‪،‬‬ ‫دانيال‪ :‬كيف كانت رحلتك؟‬
‫�أملك �رشكة واريد �أن �أبد� أ ‪-‬‬ ‫يف�رس جورج‪ /‬ويتكلم بدال من هـ‪.‬و‪..‬‬
‫افتقد العمل يف اخلارج‪ .‬افتقد‬ ‫هـ‪.‬و‪ .‬جورج‪ :‬جيده‪� ،‬شكراً‪.‬‬
‫احلقول وهذه ال�رشكة �ست�سمح‬ ‫نقره‪.‬‬
‫يل �أن ا�ستعيد ذلك‪ .‬ولذلك ف�أنا‬ ‫ي�شري هـ‪.‬و‪ .‬ويتكلم جورج‪:‬‬
‫اريد �أن ا�ستقيل من عملنا معا ً‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬هل ميكن �أن نبقى لوحدنا؟‬
‫والذهاب �إىل مك�سيكو‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬لقد ذهبت لتح�رض عائلة �صنداي‪� ،‬أين هم؟‬
‫دانيال‪ :‬يتو ّقف عند ذلك كله‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬نحن بحاجة ألن نبقى منفردين‪ ،‬من ف�ضلك‪.‬‬
‫ينظر حوله وينظر �إىل جورج‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ه�ؤالء �أقرب العاملني معي با�ستطاعتهم ان ي�سمعوا كل‬
‫دانيال (خماطبا ً جورج) انا ال‬ ‫�شيء‪� .‬أين كنت؟‬
‫�أ�صدق انك تقول يل ما يقوله‬ ‫ف�ضل ان اتكلم معك على انفراد‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬أنا � أ ّ‬
‫ابني‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬انت ال ت�ستطيع الكالم‪� .‬إذا ملاذا ال جتاوبني على �س�ؤايل‬
‫جورج‪- - :‬‬ ‫حول �أين كنت؟‬
‫دانيال (خماطبا جورج) هذه‬ ‫نقره‪.‬‬
‫لي�ست كلماته ‪ -‬ماذا حتاول‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جروج‪ :‬لقد تزوجت‪.‬‬
‫ان تثري هنا؟ ال ت�شري له بهذا!‬
‫دانيال‪ :‬ملاذا؟‬
‫ال تفعل! �أنا �أخاطبك!‬
‫هـ‪.‬و‪/.‬جروج‪ :‬قررنا �أنا وماري ان نتزوج يف مزرعة �صنداي‬
‫ي�شري جورج �إىل هـ‪.‬و‪ .‬دانيال‬
‫يف ليتل بو�سطن‪ .‬ولقد قررنا �أن نلغي م�شاريع الزواج هنا‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دانيال‪ :‬لي�س فيك �شيء مني‪.‬‬ ‫يقف‪.‬‬


‫يقف هـ‪.‬و‪ - .‬ويتكلم ب�صوت عا ٍل‪،‬‬ ‫دانيال‪ :‬تو ّقف عن ا إل�شارة له وتكلم معي فقط‪ ،‬يا جورج‪.‬‬
‫يف‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪( .‬يتكلم)‪ :‬ا�شكر اهلل �أنه ال يوجد �شيء منك ّ‬ ‫ي�شري‪ .‬هـ‪.‬و‪.‬‬
‫دانيال‬ ‫حالة‬ ‫يخرج هـ‪.‬و‪ ..‬وجورج‪ .‬تو ّقف‪ .‬على‬ ‫دانيال‪ :‬تو ّقف‬
‫امل�ضطربة‪.‬‬ ‫ا�صبح جورج ع�صبيا ً ب�شكل رهيب‪ ،‬يف الو�سط �آخذا ً يف النظر من‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫هـ‪.‬و‪� ..‬إىل دانيال ذهابا ً و�إياباً‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬غرفة احلمام‪ .‬منزل هـ‪.‬و‪ - .‬فيما بعد‪ -‬ليالً‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬إذا كنت ت�شك فيما يقوله جورج فهذا خط� أ ‪ -‬انه‬
‫فيما بعد هـ‪.‬و‪ .‬وحيداً‪ ،‬يف حمامه امل ّميز يف بيته ذي الطراز‬ ‫يحظى بكامل ثقتي وهو �صوتي‪.‬‬
‫الفكتوري‪ .‬يلب�س ثيابا ً ر�سمية ‪ -‬ويجرب ربطة عنق ‪ -‬يتو ّقف‬ ‫(هذه كلماته نف�سها)‬
‫للحظة فيبكي وحده ‪ -‬تو ّقف‪.‬‬ ‫�سيد بالنيفيو‪ ،‬من ف�ضلك‪ ،‬هذه كلماته‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫يلتقط دانيال ع�صاه وي�سري نحو جورج‪.‬‬
‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو ‪ -‬ليالً‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬انت رجل كاذب‪ .‬هذا لي�س ما يقوله‪� .‬أنت تخطئ خطئا ً‬
‫يجل�س دانيال لوحده يف غرفة اال�ستقبال املظلمة‪ ،‬ي�رشب‪.‬‬ ‫كبريا ً ألنك تغري كلمات ابني‪.‬‬
‫تو ّقف‪ .‬يدخل جايك كويف‪.‬‬ ‫يقف هـ‪.‬و‪ .‬متحدياً‪ ،‬يهز ر�أ�سه ويده و�إ�صبعه يف وجه دانيال‪.‬‬
‫جايك‪� :‬إيلي هنا‪.‬‬ ‫يقف دانيال بربود يحاول هـ‪.‬و‪� .‬أن يخرج الكلمات ب�صعوبة‪،‬‬
‫دانيال‪ :‬ماذا؟‬ ‫هـ‪.‬و‪ :.‬انه ال يكذب عليك‪.‬‬
‫جايل‪ :‬ايلي �صنداي‪ ،‬هنا‪ .‬يف هذا املنزل �إنه يف البهو‪.‬‬ ‫يبقى دانيال �ساكنا ً ‪ -‬ي�شري هـ‪.‬و‪ ..‬ب�شيء �إىل جورج‪.‬‬
‫لقطة مقرّبة لدانيال‪ .‬لردة فعله‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬أحبك كثرياً‪ .‬انا افعل هذا ألنه �سيكون ا ألف�ضل‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫ملاري ويل‪ .‬اعرف ان بيننا خالفات حول �أ�شياء عديدة‪ .‬وانا‬
‫داخلي‪ .‬البهو ‪ -‬منزل بالينفيو ‪ -‬تلك اللحظة‬ ‫ف�ضل ان تبقى والدي اكرث من �أن تكون �رشيكي‪.‬‬ ‫�أ ّ‬
‫جند �إيلي (يف الثالثني من العمر) يلب�س ثيابا ً مزخرفة‬ ‫دانيال‪ :‬ملاذا فعلت ذلك من وراء ظهري؟‬
‫وي�صطحب معه �سيدتني �صديقتني‪ ،‬ينظران حول املكان‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬أنت عنيد ولن ت�ستمع �إيلّ‪.‬‬
‫وينتظران ‪ -‬يدخل خادم‪.‬‬ ‫يجل�س دانيال‪ .‬تدور الكامريا حول املكان‪.‬‬
‫اخلادم‪ :‬ال�سيد بالينفيو يرغب يف ر�ؤيتك حتت ‪( -‬خماطبا ً‬ ‫دانيال‪ :‬ما الذي فعلته بنا يا هـ‪.‬و‪..‬؟‬
‫ال�سيدات) هل ب�إمكاين �إح�ضار �أي �شيء لكما و�أنتما تنتظران؟‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جروج‪ :‬هذا فقط ملدة ق�صرية ‪ -‬من اجل �شيء جديد‪.‬‬
‫�إيلي �صنداي‪ :‬انتظرانني هنا ايتها ال�سيدتني‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬انت تقتلنا مبا تفعله‪ .‬انت تقتل �صورتك يف نف�سي كابن‬
‫يتبع �إيلي اخلادم‪.‬‬ ‫يل‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جروج‪� :‬سوف تتغري‪� .‬سوف تراين لطيفا ً مرة ثانية يوما ً‬
‫داخلي‪ .‬منزل هـ‪.‬و‪ .‬ليال ً ‪ -‬تلك اللحظة‪.‬‬ ‫ما‪.‬‬
‫ينزل هـ‪.‬و‪� .‬إىل اجلزء ال�سفلي حيث تقام حفلة يف منزله‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬انت ل�ست ابني‪.‬‬
‫يرافقة جورج‪ ،‬وي�سري معه ليقوم بالتف�سري‪ .‬هنالك حوايل‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جروج‪ :‬ارجوك ال تقل هذا‪� .‬أعرف �أنك ال تعنيه‪.‬‬
‫ثالثني مدعواً‪ ،‬بكامل قيافتهم‪ .‬ت�أتي ماري لت�شاهد هـ‪.‬و‪..‬‬ ‫دانيال‪� :‬إنها احلقيقة ‪ -‬انت ل�ست ابني ‪ -‬ومل تكن يف حياتك‬
‫وتقبّله‪ ،‬يتبادالن ا إل�شارات الكالمية‪.‬‬ ‫كذلك ‪� -‬أنت يتيم ‪ -‬ولقد ت�رصفت اليوم هنا كواحد ‪ -‬كان‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫عل ّي ان �أتوقع حدوث ذلك ‪ -‬كان عل ّي ان �أعرف �أن ما كنت‬
‫داخلي‪ .‬قاعة البولينغ‪ .‬ا�سفل ال�سالمل‪ .‬بعد حلظات‬ ‫تخفيه حتت هذا كله يف تلك ال�سنوات املا�ضية هو كرهك يل‬
‫يهبط دانيال �سالمل ت�ؤدي �إىل قاعة ا أللعاب هذه ‪ /‬قاعة‬ ‫الذي تبنيه قطعة قطعة ‪ -‬وانا بالكاد �أعرف من �أنت ‪ -‬ألنك‬
‫البولينغ ويقطعها تتبعه الكامريا‪ ،‬ببطء ليحيي �إيلي‪.‬‬ ‫ال حتمل �شيئا ً مني يف داخلك ‪� -‬أنت ملكية �شخ�ص �آخر ‪ -‬هذا‬
‫والول مرة خالل �سنوات عديدة ‪ -‬يت�رصفان ب�أدب ويت�صافحان‬ ‫الغ�ضب ‪ -‬و�رشّك الدفني وعالقاتك املتخلفة معي ‪ -‬انت يتيم‬
‫با أليدي‪.‬‬ ‫�أح�رضتك من �سلة يف و�سط ال�صحراء ‪ -‬و�أخذتك ال ل�سبب �سوى‬
‫دانيال‪ :‬مرحباً‪ ،‬يا �أيلي‪.‬‬ ‫انني كنت حمتاجا ً �إىل وجه لطيف لكي ا�شرتي ا ألر�ض‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬دانيال‪ ،‬دانيال‪ .‬دانيال‪ .‬مرحباً‪ .‬كيف حالك؟‬ ‫انت اق ّل من لقيط‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬أنا جيد‪� ،‬شكرا ً لك‪.‬‬ ‫تو ّقف‪ .‬يراقب هـ‪.‬و‪ .‬فم دانيال وهو ينهي كالمه ‪ -‬هـ‪.‬و‪..‬‬
‫�إيلي‪ :‬بيتك معجزة‪� .‬إنه جميل‪ .‬ليباركك اهلل‪.‬‬ ‫يبكي ‪ -‬مي�سح الدموع عن وجهه‪.‬‬
‫دانيال‪- :‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬أذا �أردت حماربتي ف�ستكون معركة حياتك‪.‬‬
‫‪214‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�إنه �شيء يقال أل�سمعه �أنا‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬كيف ت�سري خمططات حفل الزفاف؟‬
‫بعد تفكري طويل؛ وتو ّقف طويل‪ ،‬ي�صبح �إيلي جاد جداً‪.‬‬ ‫دانيال‪- :‬‬
‫�إيلي‪ -:‬متى ن�ستطيع البدء باحلفر؟‬ ‫�إيلي‪� :‬آمل ان يكون هـ‪.‬و‪ .‬وماري يف حالة جيدة‪ ،‬ينتظران اليوم‬
‫دانيال‪ :‬حاالً‪.‬‬ ‫الكبري الذي ينتظرهما‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬وكم من الوقت يتطلب �إدخال البئر؟‬ ‫دانيال‪- :‬‬
‫دانيال‪ :‬ب�رسعة �شديدة‪.‬‬ ‫�إيلي‪� :‬شيء رائع‪ .‬نعم‪ ،‬كانت �أعمايل وا�سعة جداً‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬تريد الكني�سة مبلغ مائة الف دوالر مقدمة زائد اخلم�سة‬ ‫كنت �أعمل يف الراديو‪ ،‬ال �أدري ان كنت ت�سمع بثّي‪ ،‬ولكنني ا آلن‬
‫�آالف التي لها‪.‬‬ ‫مهتم ب�صناعة ا ألفالم التي نعمل عليها‪ ،‬وهكذا ‪...‬‬
‫دانيال‪ :‬هذا حق متاماً‪.‬‬ ‫�أ�شياء كثرية حدثت ‪ - ،‬ولكن �أن �آتي �إىل هنا و�أجدك و�أراك‬
‫نقرة‪ .‬تو ّقف‪ .‬ثم‪:‬‬ ‫يف حالة جيده فهذا �شيء رائع واملجال �أمامنا مفتوح لتلحق‬
‫�إيلي‪ :‬اتفقنا‪.‬‬ ‫بالركب‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬أي �إتفاق‪.‬‬ ‫نقرة ‪ .‬يا �شقيقي بالزواج ‪ -‬نحن ا�شقاء‪ ،‬يا دانيال‪.‬‬
‫�إيلي‪� -:‬أنا نب ّي كاذب و�إالهي خرافة‪� .‬إذا كان هذا ما ت�ؤمن به‪،‬‬ ‫زاوية‪ ،‬بعد حلظات‪.‬‬
‫�إذا �س�أقوله‪.‬‬ ‫يجل�سان معا ً وي�سكب دانيال له ك�أ�ساً‪ ،‬في�رشبه �إيلي دفعة‬
‫دانيال‪ :‬قله وك�أنك تعنيه متاماً‪.‬‬ ‫واحدة‪ .‬وكذلك ي�رشب دانيال‪،‬‬
‫�إيلي‪ :‬دانيال‪.‬‬ ‫تتحرك الكامريا ببطء �إىل الداخل‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬قله وك�أنه موعظتك ‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬دانيال‪� :‬أرجو ان ال يزعجك جميئي باكرا ً بب�ضعة �أيام ‪-‬‬
‫�إيلي‪ :‬هذا غباء‪ ،‬يا دانيال‪.‬‬ ‫ولكنني جئتك ب�أخبار هامة ‪ -‬لقد توفى اهلل ال�سيد باندي‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هل تريد هذه ال�صفقة؟‬ ‫يتو ّقف �إيلي‪ .‬ير�سم عالمة ال�صليب ويتلو �صالة �صامتة ثم‪:‬‬
‫ايلي‪�« :‬أنا نبي كذاب و�إالهي خرافة» هل هذا ح�سن؟‬ ‫�إيلي‪ :‬لقد عا�ش حتى (‪ - )103‬ومبوته فتحت و�صيته‪.‬‬
‫نقرة ‪ .‬ولذلك ف�إن كني�سة الر�ؤيا الثالثة كوريثه لرثوته‪،‬‬
‫دانيال‪ :‬هذه املناطق قد حفرت‪.‬‬
‫�سي�سعدها �أن ت�شاركك العمل‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬كال مل حتفر‪.‬‬
‫دانيال ‪ -‬ي�سعدين �أن �أراك يا ايلي ‪-‬‬
‫دانيال‪� :‬إنها تدعى م�صارف مياه‪� .‬أنا �أمتلك كل ما حولها ‪� -‬إذا‬
‫�إيلي‪ :‬نعم‪� ،‬شكرا ً لك‪ ،‬يا دانيال ‪ -‬انا �سعيد بر�ؤيتك �أي�ضاً‪.‬‬
‫�س�أح�صل على كل ما حتتها‪.‬‬ ‫نقرة �رسيعة‪ .‬دانيال يحملق به فقط‪ .‬تو ّقف‪ .‬تو ّقف ‬
‫�إيلي‪ :‬ولكن هذه املنطقة لي�س بها رافعات‪.‬‬ ‫تو ّقف‪.‬‬
‫هذه �أر�ض باندي ‪ -‬هل تفهم؟‬ ‫�إيلي‪ :‬ما ر�أيك؟ نقرة‪� .‬ستت�رشّف الكني�سة ب�أن تقيم عمال ً معك‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬هل تفهم �أنت؟ �أنا �أ�رشب ماءك‪ ،‬يا �إيلي‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬ي�سعدين �أن اقيم عمال ً معك يا �أخ �إيلي‪.‬‬
‫�أنا �أ�رشبها كلها‪ .‬كل يوم‪ .‬ا�رشب دم احلمل من �أر�ض باندي‪.‬‬ ‫ي�أخذ �إيلي يد دانيال‪.‬‬
‫ايلي‪� :‬آه �أوه‪.‬‬ ‫�إيلي‪ :‬هذا �شيء رائع‪ ،‬رائع‪� ،‬آه يا دانيال‪ ،‬ليباركك اهلل‪:‬‬
‫�سكوت غري مريح بينهما‪ ،‬ثم‪:‬‬
‫دانيال‪ :‬هنالك �رشط واحد‪.‬‬
‫�إيلي‪- :‬‬
‫دانيال‪� :‬أريد منك �أن تقول يل حاال ً انك نب ّي مزيف وان �إالهك‬
‫خرافة‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬ماذا؟‬
‫دانيال‪� :‬أريدك �أن تقول يل �أنك كنت وما زلت نب ّي مزّيف و�أن‬
‫�إالهك خرافة‪.‬‬
‫�إيلي ‪ -‬ولكن هذا كذب‪.‬‬
‫دانيال‪-:‬‬
‫�إيلي‪ :‬هذا كذب‪ .‬ال �أ�ستطيع �أن �أقول هذا‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬ال يهمني �إن كان هذا �صحيحا ً �أم ال؛ �إنه ما عليك‬
‫ان تفعله �إذا ما �أردت ان حتفر هذه امل�ساحات و�إذا ما �أردت‬
‫امل�شاركة يف هذه الرثوة‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب�إمكاننا �إر�سال �سائق ليح�رضهم‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬


‫بول‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬منزل هـ‪.‬و‪ .‬بعد فرتة من الزمن‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫الكامريا من اجلانب ا آلخر للغرفة ‪ -‬ترى الباب ا ألمامي‬
‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو‪ /‬قاعة البولينغ ‪ -‬تلك اللحظة‬ ‫مفتوحا ً ‪ -‬ومن بني جمموعة من �ضيوف احلفلة ‪ -‬نرى رجل‬
‫يتناول �إيلي م�رشوب �آخر ‪ -‬ثم يبد� أ بعد ذلك باالنهيار فيبكي‬ ‫يدخل ‪ -‬ونالحظ كما يظهر لنا انه‪:‬‬
‫ويبكي ويئن مثل ا ألطفال‪.‬‬ ‫بول �صنداي ‪ -‬احلفلة تتوزع دون ان يالحظ �أحد هذه اللحظة‪.‬‬
‫ايلي‪� :‬آه‪ ،‬يا دانيال ‪ -‬من ف�ضلك ‪ -‬من ف�ضلك ال تكن ف ّظا ً ‪ -‬انا‬ ‫لقد كرب قليال ً وهو يف �أول الثالثينات ‪ -‬يبدو اف�ضل مما‬
‫امر ّ بحالة من الي�أ�س ال�شديد ‪� -‬أحتاج �إىل �صديق ‪� -‬أ�شعر �أن‬ ‫�شاهدناه من قبل‪ ،‬ولكن ما زال يحمل �شكل رجل ينا�ضل ‪-‬‬
‫احليطان ت�ضيق عل َّي ‪ -‬لقد �أخط�أت ‪ -‬احتاج �إىل م�ساعدة ‪� -‬أنا‬ ‫تالحظه ماري من اجلانب ا آلخر للغرفة فتهرع راك�ضة نحوه‬
‫مذنب ‪ -‬لقد تركت ال�شيطان يحكم قب�ضته عل ّي بطرق مل �أكن‬ ‫بني جموع النا�س وتعانقه بذراعيها وعيونها مليئة بالدموع‬
‫�أتخيلها ! اخلطيئة مت أل روحي‪.‬‬ ‫‪ -‬يالحظ هـ‪.‬و‪ ..‬هذا وي�سري لين�ضم اليهم ‪ -‬يت�صافحون ‪-‬‬
‫دانيال‪ :‬الرب يتحدّانا �أحياناً‪� ،‬أال يفعل ذلك؟‬ ‫ماري تف�رس له‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬اوووه قطعا ً يفعل‪ .‬نعم �إنه يفعععععععل!‬ ‫تو ّقف ‪ .‬خروج يف نف�س اللحظة‪.‬‬
‫�آههوا‪ .‬لقد ف�شل الرب كليّا ً يف �شحذ عزميتي جتاه امل�صيبة‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ا ألخرية يف و�ضعنا االقت�صادي وهذا ‪ -‬لقد ا�ستثمرت ‪-‬‬ ‫داخلي‪ .‬غرفة مكتبه هـ‪.‬و‪ .‬ليال ً ‪ -‬بعد حلظات‪.‬‬
‫وا�ستثماراتي ح�صل لها ‪� -‬آه ‪ ،‬دانيال‪ ،‬لن �أطيل عليك‪ ،‬ولكنني‬ ‫هـ‪.‬و‪ .‬مع جورج وفلت�رش يجل�سون مع بول وجتل�س ماري‬
‫‪ -‬لو ا�ستطعت �أن التقط يد اهلل لي�ساعدين لفعلت‪ ،‬ولكنه يفعل هذه‬ ‫بجانبه‪.‬‬
‫ا ألمور طوال الوقت‪ ،‬هذه الغرائب التي يقدمها لنا بينما نحن‬ ‫ن�سمع �ضو�ضاء احلفلة خارج ا ألبواب‪.‬‬
‫ننتظر ‪ -‬بينما نحن ننتظر ‪ -‬يركز دانيال نظره على �إيلي؛‬ ‫بول �صنداي‪ :‬اذكر �أنك كنت نائماً‪.‬‬
‫�إيلي‪ :‬بينما ننتظر �أمره ‪-‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫دانيال‪� :‬أنت ل�ست ا ألخ املختار‪ ،‬يا �إيلي‪.‬‬ ‫بول �صنداي‪ :‬نائما ً على �رسيرك ال�صغري خلف والدك يف ذلك‬
‫�إن بول هو ا ألخ املختار‪ .‬لقد وجدين واخربين عن �أر�ضكم‪� .‬أنت‬ ‫البيت ال�صغري‪.‬‬
‫خمادع‪.‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬إىل �أين ذهبت بعد �أن غادرت هنا؟ هل تذكر؟‬
‫�إيلي‪ :‬ال تقل ذلك ‪ - .‬ال تقل هذا يل‪ ،‬يا دانيال‪ .‬ملاذا تتكلم عن‬ ‫بول �صنداي‪ :‬اذكر جيداً‪ .‬ذهبت �إىل �سان دياجو‪.‬‬
‫بول؟‬ ‫عملت يف مرف� أ يف �سان دييغو وبنيت فندقا ً يف كورنادو‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬لقد فعلت ما مل يفعله �شقيقك بول‪.‬‬ ‫طريّت كل ا ألموال التي ح�صلت عليها من والدك و�أرا�ضي �أخرى‬
‫لقد حطمتك وغلبتك‪� .‬إنه بول الذي اخربين عنك‪.‬‬ ‫يف املقامرة‪ .‬كنت افعل ذلك‪.‬‬
‫�إيلي‪� :‬أعرف �أنه فعل ذلك‪ .‬اعرف انه �رشير‪.‬‬ ‫ولكنني‪ ،‬مل �أترك كاليفورنيا بتاتاً‪ .‬كنت دائما ً هنا مل �أح�صل‬
‫دانيال‪� :‬إنه النبي‪� .‬إنه الذكي‪ .‬لقد عرف ما كان هناك ووجدين‬ ‫على جناح �سعيت �إليه‪( .‬خماطبا ً ماري)‬
‫ألخرجه من باطن ا ألر�ض‪.‬‬ ‫هل تعلمني ان لدي زوجة وثالثة �أوالد‪.‬‬
‫ي�صفع �إيلي على وجهه‪.‬‬ ‫ماري‪ :‬نعم‪� ،‬أعرف‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬تو ّقف عن البكاء ايها احلمار املتباكي‪.‬‬ ‫بول �صنداي‪ :‬لقد ا�صبحت رجال ً ذا نفوذ كونك وجدتني‪ .‬انا‬
‫تو ّقف عن تفاهاتك‪.‬‬ ‫�سعيد كونك فعلت وانا �آ�سف لعدم ا�ستطاعتي ح�ضور زفافك‪.‬‬
‫�صدم �إيلي وخاف‪ .‬دانيال ي�صبح متوح�شاً؟‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪ :‬عائلتك يف ليتل بو�سطن ي�سعدها ان تراك‪ .‬هل‬
‫دانيال‪ :‬انت ا ألخ ال�صغري‪ .‬و�ستبقى دائما ً ا ألخ ا أل�صغر‪ ،‬يا ايلي‬ ‫هنالك اي جمال ان تعود �إىل هناك؟‬
‫‪ -‬وتلك ا ألر�ض اخذت ‪ -‬انت ال متلك �شيئاً‪.‬‬ ‫بول �صنداي‪ :‬هنالك �إمكانية‪ .‬انا فقط ال ا�ستطيع ان اذهب حيث‬
‫انت تخ�رس‪� .‬أيها الغبي‪ ،‬انت تخ�رس‪.‬‬ ‫يوجد �شقيقي‪ .‬انا م�شتاق ملنزيل‪ .‬ولكنني ال ا�ستطيع ان اكون‬
‫�إيلي‪ :‬تو ّقف يا دانيال‪ ،‬انا احتاج �إىل ذلك‪ .‬لقد جئت مل�ساعدتك‬ ‫بالقرب من �إيلي‪.‬‬
‫يف حفر هذه ا ألر�ض ‪-‬‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬إيلي مل يذهب �إىل هناك منذ �سنني‬
‫دانيال‪� :‬أنت تخ�رس‪.‬‬ ‫نقرة‪ .‬ي�صبح بول عاطفياً‪.‬‬
‫يندفع دانيال واقفا ً ويلتقط �إيلي ويرميه �إىل ن�صف الطريق عرب‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬جورج‪� :‬س�أ�ساعدك ب�أي و�سيلة �أ�ستطيعها ب�صفتك �أخو‬
‫الغرفة‪ .‬ينتف�ض �إيلي بينما يقرتب دانيال حما�رصا ً �إياه بحالة‬ ‫ماري و�أحد �أفراد عائلتي‪.‬‬
‫ه�ستريية وجنون يلبطه‪/‬يدفعه‪�/‬إلخ‪-‬‬ ‫ي�شري هـ‪.‬و‪ .‬ب�شيء جلورج فيقوله ليول‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬اخذت ما �أردت عندما مل تكن تنظر ودم احلمل يف‬ ‫جورج‪ :‬هل ترغب يف �إح�ضار عائلتك �إىل هنا ا آلن؟‬
‫‪216‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�سينما‪� ..‬سينما‪� ..‬سينما‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ي�سقط دانيال نحو ا ألر�ض ‪ -‬ويتنف�س بثقل وقد امت أل بالدماء‬ ‫جيبي‪ .‬هل تعتقد ان اهلل �سيوازن ا�ستثماراتك؟ اهلل ال ينقذ‬
‫‪ -‬تو ّقف قليل معه على وجهه‪.‬‬ ‫ا ألغبياء‪ ،‬يا �إيلي‪� .‬أنت مفل�س و�أنت عاجز وانت منتهي‪.‬‬
‫زاوية‪ ،‬على الدرج امل�ؤدي �إىل قاعة البولينج‪.‬‬ ‫ايلي‪ :‬ال �أنا ل�ست كذلك‪.‬‬
‫ترتاجع الكامريا لرنى جاك كويف ينزل من على ال�سالمل ببطء‬ ‫دانيال‪ :‬هل اعتقدت �أن غناءك ورق�صك وخرافاتك �سوف تنقذك؟‬
‫‪ -‬ببطء ‪ -‬فتظهر له امل�شهد الرهيب‪:‬‬ ‫انا الر�ؤيا الثالثة! انا الذي اختاره ا إلله‪ .‬ألنني اذكى منك‪� .‬أنا اكرب‬
‫ويرى الدم املن�سكب على ا ألر�ض ‪ -‬ويرى دانيال ‪-‬‬ ‫منك واكرث حكمة وانا ل�ست نبيا ً مزيفاً‪ ،‬ايها الولد املتباكي‪.‬‬
‫تو ّقف على وجه جايك وحقيقة هذه الفو�ضى ‪ -‬ي�ستدير دانيال‬ ‫لقد انتهيت‪.‬‬
‫حوله ‪-‬‬ ‫ايلي‪ :‬ال مل انتهي‪ ،‬كال‪.‬‬
‫دانيال‪ :‬لقد انتهيت‪.‬‬ ‫دانيال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫ايلي‪ :‬اعرف بقعة يف �أر�ض باندي مل حتفر حتى ا آلن ‪...‬‬
‫داخلي هـ‪.‬و‪/.‬منزل ماري ‪ -‬يتابع‪.‬‬ ‫لقطة مقربة لدانيال‪ ،‬يتو ّقف ‪..‬‬
‫هـ‪.‬و‪ .‬وماري وهو ينهي كلمته لها؛‬ ‫ايلي‪ :‬هنالك بقعة واحدة ت�ستحق احلفر‪.‬‬
‫هـ‪.‬و‪/ .‬ماري‪ :‬كم من النا�س ي�ستطيعون القول �أنهم قد عرفوا‬ ‫يبقى دانيال �ساكنا ً ‪ -‬وبعد ب�ضع دقائق‪ ،‬يتقدم نحو �إيلي‪ ،‬ويف‬
‫حب حياتهم منذ اللحظة التي ب�إمكانهم تذ ّكرها؟‬ ‫طريقه �إليه يلتقط عامود ف�ضي ثقيل ‪ -‬يرتاجع �إيلي �إىل اخللف‬
‫�أنا ال �أعرف الكثريين‪ .‬واعترب هذا ال�شعور �أعمق �سعادة ا�شعر‬ ‫زاحفا ً على ا ألر�ض ‪ -‬ي�أتي دانيال فوقه ويجل�س على �صدره ‪-‬‬
‫بها‪.‬‬ ‫ويثبت ذراعاه ‪ -‬ويدفع العامود �إىل ا�سفل نحو جمجمة �إيلي‪.‬‬
‫�أنت التي �أقي�س بها كل �شيء �آخر‪.‬‬ ‫زاوية‪ ،‬تنظر �إىل دانيال‪ .‬تقوده �إىل �إيلي ‪ -‬تو ّقف‪.‬‬
‫مل يلب�س �أحد خامتي ومل يقدم ألحد �سواك‪.‬‬ ‫قطع �إيل‪:‬‬
‫انا لك وكنت كذلك منذ اللحظة ا ألوىل التي تقابلنا فيها منذ‬ ‫داخلي‪ .‬هـ‪.‬و‪/.‬منزل ماري‪ .‬م�سا ًء‪.‬‬
‫زمن بعيد‪.‬‬ ‫جتمع اجلميع يف غرفة جلو�س جميلة‪.‬‬
‫«يا بنيتي ال�صغرية ال ميكنك ان ترتكبي �أي خط� أ يف نظري‪.‬‬ ‫ي�شري هـ‪.‬و‪ .‬نحو ماري‪ ،‬وهي تف�رس لل�ضيوف‪ ،‬هذه كلمته لها‪:‬‬
‫حبك اف�ضل ما يف هذا العامل‪ ،‬يا ماري عندما �أكون معك ال‬ ‫هـ‪.‬و‪/.‬ماري‪� :‬أنا �أعتقد ب�صدق انني اعتربتك مثال ً �أعلى منذ‬
‫�أعود ا�شعر باخلوف‪.‬‬ ‫اللحظة ا ألوىل التي قابلتك فيها‪ .‬و�أعرف �أنني �س�أعتربك عالية‬
‫�أنا زوجك احلبيب هـ‪.‬و‪ ..‬متت أل ماري بالعاطفة من جراء ما‬ ‫املقام كزوجة يل لدرجة انني لن �أخاطبك بكلمة قا�سية‪« .‬يا‬
‫قاله لها‪.‬‬ ‫فتاتي ال�صغرية»‪� ،‬س�أعمل ما يف و�سعي ألك�سبك واحتفظ بك‬
‫تو ّقف‪ .‬لقطة مقرّبة على هـ‪.‬و‪ .‬وهو ينظر �إىل كل �شيء حوله‬ ‫و�س�أكون �أ�سعد �إن�سان يف العامل �إذا ما ا�ستطعت �أن �أرى اخلامت‬
‫مت�ضمنا ً ماري وال�ضيوف‪ .‬تو ّقف‪.‬‬ ‫الذي و�ضعته يف �إ�صبعك كل يوم وحتى �آخر �أيام حياتي‪.‬‬
‫ ‬ ‫يبت�سم هـ‪.‬و‪....‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ال�صوت يختفي تدريجياً‪.‬‬ ‫داخلي‪ .‬منزل بالينفيو‪ .‬قاعة البولينغ‪ .‬يتابع‬
‫النهاية‬
‫تنظر الكامري مبا�رشة �إىل �أ�سفل على االر�ض اخل�شبية الوا�سعة‪.‬‬
‫ي�سيل الدم ببطء داخل ا إلطار‪.‬‬
‫انه ينت�رش ويتحرك مثل ار�ض بطيئة االنزالق ‪ -‬يغطي ا ألر�ض‪.‬‬
‫تتحرك الكامريا �إىل اخللف قليال ً لتظهر؛ ‪ -‬الدماء ت�سيل من‬
‫جمجمة �إيلي واجلرح الذي يف ر�أ�سه ملتوي ب�شكل خطري وال‬
‫يتحرك‪.‬‬
‫دانيال يجل�س بعيدا ً عن اجل�سد‪.‬‬
‫لقطة مقرّبة لدانيال‪.‬‬
‫عيناه رطبتان وفقد نف�سه من �شدة املعركة‪ ،‬ينظر على ما فعلت‬
‫يداه‪ .‬تو ّقف‪.‬‬
‫يجر دانيال جثة �إيلي على ممر قاعة البولينج تاركا ً خط من‬
‫الدم وراءه ‪-‬‬
‫يرميه نحو قوارير لعبة البولينج و�إىل �أ�سفل من الفتحة التي‬
‫ت�ؤدي �إىل املخزن‪.‬‬
‫فوق عند خط البولينغ‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شعر‬

‫من �أعمال الفنان ابراهيم بو�سعد ‪ -‬البحرين‬

‫‪218‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كم من �شيء يحدث يف يوم‬


‫ال يحدث فيه �شيء‬
‫خمتارات من ف�سوافا �شمبور�سكا‬
‫اختيار وترجمة‪ :‬أ�حمــد �شـــافعي‬
‫�شاعر من م�رص‬
‫ت�ضم هذه ال�صفحات ق�صائد لل�شاعرة البولندية‬
‫ف�سوافا �شمبور�سكا‪ ،‬ترجمت � إىل العربية اعتمادا‬
‫‪Clare‬‬ ‫على ترجمات � إىل الإجنليزية ب� أقالم كلري كفاناج‬
‫‪ Cavanagh‬و جوانا ترزي�شياك ‪ Joanna Trzeciak‬و�ستاني�سالف‬
‫بارن�زساك ‪ STANIS?AW BARA?CZAK‬ون�رشت جميعا يف مواقع‬
‫�إلكرتونية � أمريكية مرموقة هي موقع «� أكادميية ال�شعراء‬
‫الأمريكيني» وموقع «م� ؤ�س�سة ال�شعر» وموقع جملة‬
‫«�شعر»‪ .‬ويف ال�صفحات التالية كذلك‪ ،‬خمتارات من ردود‬
‫ف�سوافا �شمبور�سكا على قراء كانوا ير�سلون حماوالتهم‬
‫ال�شعرية � إىل �صحيفة «احلياة» الأدبية البولندية التي‬
‫كانت �شمبور�سكا م�رشفة على �صفحتها الأدبية‪ ،‬وقد‬
‫انتقت هذه الردود وترجمتها � إىل الإجنليزية كلري كفاناج‬
‫ون�رشت على موقع «م� ؤ�س�سة ال�شعر»‪ .‬وهناك � أي�ضا‬
‫خطبة قبول جائزة نوبل يف الأدب التي � ألقتها ف�سوافا‬
‫�شمبور�سكا وجعلتها بعنوان «ال�شاعر والعامل»‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اليوم �أ�رشقت ال�شم�س يف الثالثة و�أربع ع�رشة‬ ‫معر�ض املعجزات‬


‫و�ستغرب يف الثامنة ودقيقة‪.‬‬ ‫معجزة �شائعة‪:‬‬
‫معجزة‪ ،‬أ�قل �إدها�شا مما ينبغي‪:‬‬ ‫كثري من املعجزات ال�شائعة‬
‫برغم �أن يف اليد �أقل من �ستة �أ�صابع‬ ‫يحدث‬
‫�إال �أن فيها �أكرث من �أربعة‪.‬‬ ‫معجزة عادية‪:‬‬
‫معجزة‪ ،‬وانظروا فقط حولكم‪:‬‬ ‫يف جنح الليل‬
‫العامل يف كل مكان‪.‬‬ ‫نباح كالب المرئية‬
‫معجزة �إ�ضافية‪ ،‬كما أ�ن كل �شيء �إ�ضايف‪:‬‬ ‫معجزة من معجزات كثرية‪:‬‬
‫ما ال ميكن التفكري فيه‬ ‫غيمة �صغرية خفيفة‬
‫ميكن التفكري فيه‬ ‫وحتجب قمرا كبريا ثقيال‬
‫احتماالت‬ ‫معجزات يف معجزة‪:‬‬
‫�أف�ضل ال�سينما‪.‬‬ ‫�شجرة تنعك�س على املاء‬
‫�أف�ضل القطط‪.‬‬ ‫فهي مقلوبة من الي�سار �إىل اليمني‬
‫�أف�ضل ال�سنديان على �شط نهر وارتا‪.‬‬ ‫وهي تنمو هناك‪،‬‬
‫�أف�ضل ديكنز على دو�ستويف�سكي‪.‬‬ ‫ور�أ�سها �إىل �أ�سفل‬
‫�أف�ضل نف�سي حمبة للنا�س‬ ‫و�أبدا ال تبلغ القاع‬
‫للن�سانية‪.‬‬
‫عنها حمبة إ‬ ‫برغم �ضحالة املاء‪.‬‬
‫�أف�ضل خيطا و�إبرة يف متناول يدي‪.‬‬
‫�أف�ضل أالخ�رض‪.‬‬ ‫معجزة يومية‪:‬‬
‫�أف�ضل �أال يقال‬ ‫الرياح اخلفيفة �إىل املتو�سطة‬
‫مب�س ؤ�ولية العقل عن كل �شيء‪.‬‬
‫ت�صبح عا�صف ًة يف العا�صفة‪.‬‬
‫�أف�ضل اال�ستثناءات‪.‬‬
‫�أف�ضل �أن �أَهجر‪.‬‬ ‫أ�وىل املعجزات املت�ساوية‪:‬‬
‫�أف�ضل حمادثة أالطباء يف �أمر �آخر‪.‬‬
‫أالبقار �أبقار‪.‬‬
‫�أف�ضل الر�سومات القدمية‪.‬‬
‫�أف�ضل �أن �أثري ال�ضحك ألنني �أكتب ال�شعر‬ ‫معجزة ال مثيل لها‪:‬‬
‫عن �أن �أثري ال�ضحك ألنني ال �أكتبه‪.‬‬ ‫كل هذا الب�ستان‬
‫�أف�ضل االحتفاالت ال�سنوية البالية يف العالقات‬
‫من هذه البذرة‪.‬‬
‫العاطفية‬
‫حينما ُيحتفل بها كل يوم‪.‬‬ ‫معجزة ال هي من عباءة وال من قبعة‪:‬‬
‫�أف�ضل أالخالقيني‬
‫ميامات بي�ضاء متناثرة‪.‬‬
‫ممن ال يعدونني ب أ�ي �شيء‪.‬‬
‫�أف�ضل الطيبة املح�سوبة على الطيبة ال�ساذجة‪.‬‬ ‫معجزة و�إال فماذا تكون‪:‬‬
‫‪220‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫«وطالء الباب من الناحيتني‪ ،‬ت�صوري بكم؟»‬ ‫�أف�ضل �أر�ض املدنيني‪.‬‬
‫«زالل بي�ضتني‪ ،‬وملء ملعقة طعام من ال�سكر»‬ ‫�أف�ضل البالد املغزوة على البالد الغازية‪.‬‬
‫«مل يكن له دخل‪ ،‬ما الذي ح�رشه»‬ ‫�أف�ضل �أن يكون يل اعرتا�ضاتي‪.‬‬
‫«الزرق فقط‪ ،‬واملقا�سات ال�صغرية فقط»‬ ‫أ‬ ‫�أف�ضل جحيم الفو�ضى عن جحيم النظام‪.‬‬
‫�أف�ضل حكايات أالخوين جرمي عن ال�صفحات أالوىل «خم�س مرات وال �أحد يرد»‬
‫«موافق‪ ،‬كان ميكن �أن �أفعل هذا‪ ،‬و�أنت �أي�ضا كان‬ ‫يف اجلرائد‪.‬‬
‫أ‬
‫ميكن �ن تفعليه»‬ ‫�أف�ضل الورق بدون زهور على الزهور بدون ورق‪.‬‬
‫«ح�سن �أنها مل ترتك وظيفة بعد الظهر»‬ ‫�أف�ضل الكالب غري معقوفة أالذناب‪.‬‬
‫«ال �أعرف‪ ،‬رمبا أالقارب»‬ ‫�أف�ضل العيون الفاحتة ما دامت عيناي داكنتني‪.‬‬
‫«هذا الق�سي�س ممثل حقيقي ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫�أف�ضل أالدراج‪.‬‬
‫«مل �أ�صل قط �إىل هذا املو�ضع من اجلبانة»‬ ‫�أف�ضل �أ�شياء كثرية مل �أدرجها فيما �سبق‬
‫«حلمت به أال�سبوع املا�ضي‪ ،‬هكذا على فج أ�ة»‬ ‫عن �أ�شياء كثرية غري مدرجة هنا‪.‬‬
‫«ابنته �شكلها لي�س �سيئا»‬ ‫�أف�ضل أال�صفار مبعرثة‬
‫«يح�صل لنا جميعا»‬ ‫عن اال�صطفاف من �أجل رقم‪.‬‬
‫للرملة‪ ،‬هذا واجب»‬ ‫�أعمل ما يف و�سعي أ‬ ‫�أف�ضل زمن احل�رشة على زمن النجوم‪.‬‬
‫«كان �إح�سا�سها �أكرث وقارا بالالتينية»‬ ‫�أف�ضل مل�س اخل�شب‪.‬‬
‫«جاءت وراحت»‬ ‫�أف�ضل �أال �أ�س أ�ل كم تبقى ومتى‪.‬‬
‫«مع ال�سالمة يا مدام»‬ ‫�أف�ضل النظر حتى يف احتمال‬
‫«تعال نخطف لنا بريتني يف �أي مكان»‬ ‫�أن يكون لهذا الوجود �أ�سبابه‪.‬‬
‫«ات�صل بي‪ ،‬ونتكلم»‬
‫«�إما رقم ‪� 4‬أو ‪»12‬‬
‫جنازة‬
‫«�أنا �س أ�م�شي من هنا»‬ ‫«فج أ�ة هكذا‪ ،‬من كان يتوقع؟»‬
‫«نحن ال»‬ ‫«التوتر وال�سجائر‪� ،‬أنا قلت له»‬
‫«لي�ست �سيئة‪� ،‬شكرا»‬
‫حتت جنمة �صغرية معينة‬ ‫«فك هذه الزهور»‬
‫«�أخوه �أي�ضا قلبه يتعبه‪ ،‬يبدو �نها وراثة يف �عتذر لل�صدفة �ين ��سميها ال�رضورة‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫�أعتذر لل�رضورة لو كنت �أخط أ�ت‪.‬‬ ‫العائلة»‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ويا �سعادة ال حتزين �ين �تخذك لنف�سي‪.‬‬ ‫أ‬
‫«ما كنت �س�عرفك بهذه اللحية»‬
‫وليغفر يل املوتى �أن ذكراهم جمرد بارق‪.‬‬ ‫«غلطته‪ ،‬كان دائما يح�رش نف�سه»‬
‫«هذا الرجل اجلديد كان ينبغي �أن يلقي كلمة‪� .‬أنا ال �أعتذر للزمن على كم العامل الذي يغيب عني للحظة‪.‬‬
‫�أعتذر حلبيب قدمي �أين �أعامل حبا جديدا ك أ�نه أالول‪.‬‬ ‫�أراه هنا»‬
‫ويا �أيتها احلروب البعيدة �ساحميني على رجوعي‬ ‫«كازك يف وار�سو‪ ،‬تادك �سافر»‬
‫�إىل البيت بالزهور‪.‬‬ ‫«�أنت الوحيد الذي كان ذكيا و�أح�رض مظلة»‬
‫ويا �أيتها اجلراح الفتوحة �ساحميني على وخزي‬ ‫«وما �أهمية �أنه كان أالكرث موهبة فيهم جميعا»‬
‫�إ�صبعي‪.‬‬ ‫«هي جمرد معرب‪ ،‬لن ت�ستقر عليها با�سكا»‬
‫«طبعا كان على حق‪ ،‬ولكن هذا �أي�ضا مل يكن �عتذر ملح�رض االجتماع‪ ،‬وللذين ي�صيحون من داخل‬
‫أ‬
‫الهاوية‪.‬‬ ‫ال�سبب»‬
‫‪221‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أعتذر ألهل حمطات القطارات �أين �أنام مطمئنة يف �أما آالن‪ ،‬فهو متكور على نف�سه‬
‫يغط يف النوم‪.‬‬ ‫اخلام�سة �صباحا‪.‬‬
‫احلب أ‬ ‫أ‬
‫املطارد‪ ،‬على �ضحكي �حيانا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫�آ�سفة‪� ،‬أيها أالمل‬
‫الول‬ ‫�آ�سفة �أيتها ال�صحاري �أنني ال �أجري مبلعقة ماء‪.‬‬
‫و�أنت �أيها ال�صقر‪ ،‬يا نف�س الطائر يف القف�ص يقولون‬
‫احلب أالولَ هو أاله ُم‪،‬‬ ‫�إن َّ‬ ‫ل�سنوات‪،‬‬
‫يا من حتملق دومنا حراك‪ ،‬ودائما �إىل نف�س النقطة‪ ،‬هو البالغُ الرومانتيكية‪،‬‬
‫ولكن لي�س يف حالتي‪.‬‬ ‫ا�صفح عني حتى �إذا حدث وحنطوك‪.‬‬
‫�أعتذر لل�شجرة �أن قُطعت من �أجل قوائم �أربعة كان �شي ٌء بيننا وما كان‪،‬‬
‫ظل �شي ٌء وما ظل �إال غيابا‪.‬‬ ‫منا�ضد‪.‬‬
‫آ‬
‫ال ترتع�ش يداي الن‬ ‫لل�سئلة ال�ضخمة عن أالجوبة ال�صغرية‪.‬‬ ‫�أعتذر أ‬
‫و�أنا �أحت�س�س تذكاراتي ال�سخيفةَ‬ ‫ويا حقيقة‪ ،‬ال تلتفتي كثريا �إيلّ‪.‬‬
‫�و الر�سائ َل املربوط َة ٍ‬
‫بخيط ـ‬ ‫أ‬ ‫ويا جالل‪ ،‬كن �شهما معي‪.‬‬
‫واحتملني‪ ،‬يا غمو�ض الوجود‪� ،‬أنا التي ن�سلت من لي�س حتى �رشيطا من حرير‪.‬‬
‫يف لقائنا اليتيم بعد �سنني‪:‬‬ ‫حجابك تلك اخليوط‪.‬‬
‫ويا روح‪ ،‬ال تلوميني ألين نادرا جدا ما �شعرت بك‪ .‬ل�سنا �سوى مقعدين يتبادالن الكالم‬
‫�أعتذر لكل �شيء ألين ال �أ�ستطيع �أن �أكون يف كل على طريف من�ضدة باردة‪.‬‬
‫�أحبائي آالخرون‬ ‫مكان‪.‬‬
‫�أعتذر للجميع ألنني ال �أعرف كيف �أ�صري كل رجل ال يزالون يتنف�سون داخلي بعمق‪.‬‬
‫�أما هذا‬ ‫وكل امر�أة‪.‬‬
‫و�أعرف �أنه مهما طال بي العي�ش فلن يعذرين �شيء فال يجد من الهواء‬
‫ما يكفي لتنهيدة‪.‬‬ ‫ما دمت �أنا عقبتي‪ ،‬ال �سواي‪.‬‬
‫احلال‬
‫ِ‬ ‫فال ت أ�خذ علي يا كالم �أنني �أقرت�ض الكلمات الثقال وبرغم هذه‬
‫َّ‬
‫يفعل ما مل يفلح آالخرون فيه بعد‪:‬‬ ‫ثم �أكدح من �أجل تخفيفها‪.‬‬
‫ال يطفو على الذاكرة‪،‬‬
‫ال يظهر حتى يف أالحالم‪،‬‬ ‫العودة �إىل البيت‬
‫ولكنه �سبيلي الوحيد �إىل املوت‪.‬‬ ‫عاد �إىل البيت‪ .‬مل يقل �شيئا‪.‬‬
‫عزاء‬ ‫بدا وا�ضحا‪ ،‬مع ذلك‪� ،‬أن ثمة خطبا‪.‬‬
‫ا�ستلقى يف كامل ثيابه‪.‬‬
‫دارون‪.‬‬ ‫جاذبا الغطاء حتى ر�أ�سه‪.‬‬
‫يقولون �إنه كان يقر�أ الروايات لي�سرتخي‪،‬‬ ‫�ضاما ركبتيه �إىل �صدره‪.‬‬
‫ولكن روايات من نوع حمدد‪:‬‬ ‫هو على م�شارف أالربعني‬
‫ال تنتهي �أبدا على نحو غري �سعيد‪.‬‬ ‫ولكن لي�س يف هذه اللحظة‪.‬‬
‫و�إن حدث و�صادف مثل هذا‪،‬‬ ‫هو آالن بال�ضبط مثلما كان يف رحم �أمه‬
‫غ�ضب كان يقذف الكتاب يف املدف أ�ة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ففي‬ ‫تك�سوه �سبع طبقات من اجللد‪ ،‬يف عتم ٍة حا�ضنة‪.‬‬
‫�صدق �م كذب‪،‬‬‫أ‬ ‫غدا �سوف يلقي حما�رضة يف التجان�س‬
‫�أمام الفلكيني الرو�س من دار�سي املجرات الكربى‪� .‬نا على �مت ا�ستعداد للت�صديق‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫‪222‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ر�ضيتم �أم �أبيتم‪،‬‬ ‫م�ستظهرا يف ر�أ�سه كل تلك أالماكن أ‬
‫والزمنة‪،‬‬
‫جليناتكم تاريخ �سيا�سي‬ ‫ال بد �أنه كان مكتفيا من أالنواع املحت�رضة‪،‬‬
‫جللودكم مظهر �سيا�سي‪،‬‬ ‫وانت�صارات أالقوياء على أال�ضعفني‪،‬‬
‫ولعينكم �سمت �سيا�سي‪.‬‬ ‫أ‬ ‫و�رصاعات ال تنتهي من �أجل البقاء‪،‬‬
‫للذي تقولون رنة �سيا�سية‪،‬‬ ‫وكلها‪ ،‬طال أالجل �أم ق�رص‪� ،‬إىل الزوال‪.‬‬
‫حقت له �إذن تلك النهايات ال�سعيدة‪ ،‬ولو يف وللذي ت�صمتون عنه داللة‪،‬‬
‫وهي‪ ،‬يف هذه احلالة �أو تلك‪،‬‬ ‫الروايات‪،‬‬
‫�سيا�سية‪.‬‬ ‫على تناق�صها‪.‬‬
‫حتى حينما تق�صدون التل‬ ‫هكذا‬
‫فاخلطى التي ت�سريون بها �سيا�سية‬ ‫مل يكن من بديل عن النهاية ال�سعيدة‪،‬‬
‫على �أر�ضية �سيا�سية‪.‬‬ ‫اجتماع �شمل احلبيبني‪ ،‬ت�صالح العائلتني‪،‬‬
‫حتى الق�صائد الال�سيا�سية �سيا�سية‬ ‫تبدد ال�شكوك‪ ،‬مكاف أ�ة أالوفياء‪،‬‬
‫حتى القمر ال�ساطع فوق ر ؤ�و�سنا‬ ‫ا�ستعادة الرثوات‪ ،‬اكت�شاف الكنوز‪،‬‬
‫مل يعد آالن جمرد ف�ضي‪.‬‬ ‫�صالح �أمر اجلريان العنيدين‪،‬‬
‫�أكون �أو ال �أكون‪ ،‬تلك هي امل�س أ�لة‪.‬‬ ‫ا�ستعادة ال�سمعة العطرة‪ِ ،‬خ ْذْالن اجل�شعني‪،‬‬
‫م�س أ�لة؟ �أية م�س أ�لة؟ �إليكم يا �أعزائي ر�أيي‪:‬‬ ‫اقرتان العوان�س بالق�ساو�سة أالثرياء‪،‬‬
‫�إنها م�س أ�لة �سيا�سية‪.‬‬ ‫طرد املزعجني �إىل قارات �أخرى‪،‬‬
‫�إلقاء مزيفي الوثائق من على ال�سالمل‪،‬‬
‫لي�س عليكم حتى �أن تكونوا كائنات ب�رشية‬ ‫اقتياد املغوين �إىل املذبح‪،‬‬
‫لتكون لكم قيمة �سيا�سية‪.‬‬ ‫أ‬
‫�إيواء اليتامى‪� ،‬صفاء بال الرامل‪،‬‬
‫يكفي �أن تكونوا نفطا خاما‬ ‫هوان املتعجرفني‪ ،‬اندمال اجلراح‪،‬‬
‫�أو طعاما مركزا‪� ،‬أو �أي خامة ت�شا ؤ�ون‪.‬‬ ‫�إياب أالبناء ال�ضالني‪،‬‬
‫�أو حتى طاولة يف م ؤ�متر �ضاعت �شهور‬ ‫�إلقاء ك ؤ�و�س احلزن يف املحيط‪،‬‬
‫يف اجلدال حول �شكلها‪:‬‬ ‫غرق املناديل يف دموع الفرح‪،‬‬
‫أ‬
‫ترى حول طاولة م�ستديرة �م مربعة‬ ‫بهجة عامة واحتفال‪،‬‬
‫نتفاو�ض على احلياة واملوت؟‬ ‫والكلب فيدو‪،‬‬
‫أ‬
‫الكلب الذي تاه يف الف�صل الول‪،‬‬
‫فيما ب�رش يحت�رضون‬
‫وحيوانات تهلك‪،‬‬ ‫يظهر نابحا يف �سعادة‪،‬‬
‫وبيوت حترتق‪،‬‬ ‫يف أالخري‪.‬‬
‫وغيطان تبور‪،‬‬ ‫أ�بناء هذا الزمان‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫متاما كما يف �كرث الزمان ن�يا‬
‫نحن �أبناء هذا الزمان‪،‬‬
‫و�أقلها �سيا�سة‪.‬‬
‫وهذا الزمان �سيا�سي‪.‬‬
‫البع�ض يحب ال�شعر‬ ‫كل � أش�ن‪ ،‬يف الليل كان �أو يف النهار‪،‬‬
‫البع�ض ‪..‬‬ ‫كل � أش�ن لكم‪� ،‬أو لنا‪� ،‬أو لهم‬
‫�إذن لي�س الكل‪.‬‬ ‫�سيا�سي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫كل � أش� ٍن‬
‫‪223‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وطفل ميت يهزه �شخ�ص‪.‬‬ ‫بل ولي�س �أغلبية الكل �إمنا �أقل القليل‬
‫فالمر فيها ملزم‬ ‫دعكم من املدار�س أ‬
‫�أمامهم طريق مل يعد الطريق ال�صحيح‬
‫ومن ال�شعراء �أنف�سهم‪ ،‬لن تتجاوز الن�سبة اثنني يف وال اجل�رس الذي ينبغي‬
‫�أن مير على نهر وردي بغرابة‪.‬‬ ‫أاللف‪.‬‬
‫من حولهم �إطالق نار‪ ،‬قريب �أحيانا وبعيد �أحيانا‬ ‫يحب ‪..‬‬
‫ومن فوقهم طائرة حتوم �إىل حد ما‪.‬‬
‫ولكن الواحدة حتب ح�ساء املكرونة بالدجاج‬
‫حتب املجامالت واللون أالزرق‪� ،‬أو حتب و�شاحا �شيء من اخلفاء �سوف يكون منا�سبا‬
‫والف�ضل منه البالدة التامة‬ ‫أ‬
‫قدميا لديها‪،‬‬
‫والف�ضل من ذلك العدم‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الواحدة حتب �ن تثبت �صحة ر�يها‬
‫لوهلة �أو لفرتة‪.‬‬ ‫وحتب �أن تقتني كلبا‬
‫�شيء ما مل يزل منتظرا‪ ،‬لكن �أين وماذا؟‬
‫�شخ�ص ما �سوف يتجه �إليهم‪ ،‬لكن متى ومن‪،‬‬ ‫ال�شعر ‪..‬‬
‫ويف كم �صورة وب أ�ية نية؟‬ ‫ولكن �أي �شيء هو ال�شعر؟‬
‫لو بيده اخليار‬ ‫كم من �إجابة مهتزة‬
‫فلعله يختار �أال يكون العدو‬ ‫على هذا ال�س ؤ�ال‪.‬‬
‫ويرتك لهم بع�ض احلياة‪.‬‬ ‫�أما �أنا فال �أعرف وال �أعرف ويف ذلك �أت�شبث‬
‫كما يف �سور �سلم‬
‫�إعالن‬ ‫ينقذين‪.‬‬
‫�نا مهدئ‪.‬‬ ‫أ‬
‫�أنا فعال يف البيت‬ ‫من النا�س‬
‫ويل ت أ�ثريي يف العمل‪.‬‬ ‫من النا�س َمن يفر من النا�س‬
‫ميكن �ن متتحنني‬ ‫أ‬ ‫يف بلد من البالد‬
‫�مام من�صة ال�شهادة‪.‬‬ ‫أ‬ ‫حتت �شم�س‬
‫�نا ��صلح الفناجني املك�سورة‪.‬‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫وغيم‪.‬‬
‫أ‬
‫كل ما عليك هو �ن تتناولني‬ ‫من النا�س من يفرون‬
‫ترتكني �أذوب �أ�سفل ل�سانك‬
‫تاركني من خلفهم‬
‫تتجرعني فقط‬
‫كل �شيء لهم‬
‫مع ك أ��س من املاء‪.‬‬
‫تاركني حقوال بذروها‬
‫أ‬
‫�عرف كيف �عدل احلظ املائل‬ ‫أ‬ ‫وب�ضع دجاجات وكالب‬
‫أ‬
‫وكيف �تلقى الخبار ال�سوداء‪.‬‬ ‫أ‬ ‫ومرايا مل تعد �سوى النار‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫��ستطيع �ن �قلل الظلم‬ ‫أ‬ ‫تب�رص نف�سها فيها‪.‬‬
‫و�أعو�ض عن غياب الرب‬
‫�أو �أن �أختار خمار أالرملة املالئم متاما‬ ‫على ظهورهم جرار وحزم‬
‫لوجهك‪.‬‬ ‫تفرغ ومتتلئ من يوم �إىل يوم‪.‬‬
‫ما الذي تتوقون �إليه ـ‬ ‫يحدث خل�سة �أن يقف �شخ�ص ما‪،‬‬
‫�آمنوا فقط باحلنان الكيميائي‪.‬‬ ‫ويف الزحام خبز �شخ�ص ما يخطفه �شخ�ص ما‬
‫‪224‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أكيد م�ستورد‪.‬‬ ‫نت و�أنتِ‬
‫�أ َ‬
‫�إىل ال�سيد ك ك من بايتم‬ ‫�أنتما ال تزاالن �شابني‬
‫�أنت تتعامل مع ال�شعر احلر‪ ،‬وك أ�نه حر متاما‪ .‬ولكن ال�شعر‬ ‫مل يفت �أوان �أن تتعلما االنطالق‪.‬‬
‫(مهما يكن و�صفنا له) كان‪ ،‬وال يزال‪ ،‬و�سيظل‪ ،‬لعبة‪ .‬ولكل‬
‫ومن قال‬
‫لعبة ـ كما يعرف كل طفل ـ قواعدها‪ .‬طيب‪ ،‬ملاذا ين�سى‬ ‫أ‬
‫الكبار هذا؟‬ ‫�إنكم ينبغي �ن تبقوا منتبهني؟‬
‫�إىل بو�زسكا من رادك‪:‬‬ ‫دعوين �آخذ هاويتكم‬
‫حتى امللل ال بد من و�صفه بحما�س‪ .‬فكم من �شيء يحدث يف‬ ‫و�أبطِّ نها بالنوم‬
‫يوم ال يحدث فيه �شيء‬ ‫�ست�شكرون يل �أنني‬
‫�إىل بولي�سالف ل ك ومن وار�سو‬
‫�أمنحكم �أربعة خمالب‬
‫�آالمك الوجودية تنفرط ب�سهولة �شديدة‪ .‬والنا�س عندها ما‬
‫والعماق املقب�ضة‪ .‬أ‬
‫و«الفكار العميقة»‬ ‫يكفيها من الي أ��س أ‬ ‫ت�سقطون عليها‪.‬‬
‫كما يقول عزيزي توما�س (توما�س مان طبعا‪ ،‬ومن غريه؟)‬ ‫بيعوين �أرواحكم‬
‫«ينبغي �أن حتملنا على االبت�سام»‪ .‬ونحن نقر�أ ق�صيدتك‬ ‫مل يعد هناك مرابون �آخرون‪.‬‬
‫«املحيط» جند �أنف�سنا نتخبط يف بركة �ضحلة‪ .‬عليك �أن تنظر‬
‫يف حياتك باعتبارها مغامرة فريدة حدثت لك‪ .‬هذه هي‬ ‫ال�رشير نف�سه مل يعد له وجود‪.‬‬
‫ن�صيحتنا الوحيدة يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫�إىل مارك‪ ،‬من وار�سو �أي�ضا‬ ‫كيف تكتب ال�شعر أ�و ال تكتبه‬
‫عندنا مبد�أ هو �أن كل الق�صائد التي تدور عن الربيع ال‬ ‫�إىل هليودور من برزمياي�سل‪:‬‬
‫ت�ست أ�هل الن�رش‪ .‬هذا املو�ضوع مل يعد له وجود يف ال�شعر‪ .‬هو‬
‫موجود بقوة وحيوية يف احلياة‪ ،‬طبعا‪ .‬ولكن هذه نقرة وهذه‬ ‫تقول يف ر�سالتك‪�« :‬أعرف �أن يف ق�صائدي �أخطاء كثرية‪،‬‬
‫نقرة‪.‬‬ ‫لكن وما امل�شكلة؟ لن �أتوقف لت�صحيحها»‪ .‬طيب‪ ،‬ملاذا‬
‫�إىل ب ل من حي روكلو‬ ‫يا هليودور؟ رمبا ألنك تقد�س ال�شعر �أكرث مما ينبغي؟ �أم‬
‫اخلوف من الكالم املبا�رش‪ ،‬واملحاولة امل�ضنية امل�ستمرة‬ ‫رمبا تعتربه �أمرا تافها؟ كلتا الطريقتني يف معاملة ال�شعر‬
‫وال�سو�أ هو �أنهما تعفيان ال�شاعر املبتدئ من‬ ‫خاطئتان‪ ،‬أ‬
‫إل�ضفاء بعد ا�ستعاري على كل �شيء‪ ،‬واالحتياج الالمنتهي‬ ‫أ‬
‫�رضورة اال�شتغال على �شعره‪ .‬من اللطيف دائما �ن نحكي‬
‫�إىل �إثبات �أنك �شاعر يف كل بيت‪ :‬هذه خماوف ت�سيطر على‬
‫ملعارفنا عن روح ال�شاعر التي تلب�ستنا يوم اجلمعة ال�ساعة‬
‫كل �شاعر كبري مبتدئ‪ .‬ولكنها قابلة للعالج‪� ،‬إذا مت الت�شخي�ص‬
‫ثالثة �إال ربع الظهر و�أخذت تهم�س يف �آذاننا ب أ��رسار غام�ضة‬
‫يف الوقت املنا�سب‪.‬‬ ‫بحما�سة كبرية‪ ،‬فكنا ال نكاد جند الوقت لتدوينها‪ .‬ولكن يف‬
‫�إىل ز ك من بوزنان‬ ‫البيت‪ ،‬وخلف أالبواب املو�صدة‪ ،‬ت أ�تي هذه الروح لت�صحح‬
‫ا�ستطعت �أن تقحم من الكلمات اجلليلة يف ق�صائدك الق�صرية‬ ‫وحتذف وتعدل تلك أالقوال آالتية من عامل �آخر‪ .‬أالرواح‬
‫�أكرث مما ا�ستطاعه �أغلب ال�شعراء يف �أعمار كاملة‪ :‬الوطن‪،‬‬ ‫لطيفة و�أنيقة ولكن حتى ال�شعر يا هليودور له وجهه‬
‫احلقيقة‪ ،‬احلرية‪ ،‬العدالة‪ .‬تلك الكلمات لي�ست رخي�صة‪ .‬تلك‬ ‫أالر�ضي»‪.‬‬
‫الكلمات يجري فيها دم حقيقي‪ ،‬ال ميكن �أن يغنينا عنه‬
‫املداد‪.‬‬ ‫�إىل ه و من بوزنان‪ ،‬الراغب يف �أن يكون مرتجما‬
‫�إىل مي�شال يف نواي تارج‪:‬‬ ‫«يجب على املرتجم �أال يخل�ص للن�ص وح�سب‪ .‬عليه �أي�ضا �نأ‬
‫حذر ريلكه ال�شعراء ال�شباب من املوا�ضيع ال�ضخمة الكا�سحة‪،‬‬ ‫يك�شف كل جمال ال�شعر فيما يحافظ على �شكله ويحتفظ قدر‬
‫والكرث تطلبا للن�ضج الفني‪ .‬و�أ�شار عليهم‬ ‫ألنها أال�صعب أ‬ ‫امل�ستطاع بروح الع�رص و�أ�سلوبه»‪.‬‬
‫بالكتابة عما يرونه حولهم‪ ،‬وعن الطريقة التي يق�ضون بها‬ ‫�إىل جرازيانا من �ستاراتوفي�س‪:‬‬
‫�أيامهم‪ ،‬وعما �ضاع منهم‪ ،‬وعما وجدوه‪ .‬وحثهم على �إدخال‬ ‫هيا بنا ننزع أالجنحة ونحاول الكتابة ونحن واقفون على‬
‫أال�شياء املحيطة بنا �إىل الفن‪ ،‬وكذلك �صور أالحالم‪ ،‬وما‬ ‫�أقدامنا‪ ،‬ممكن؟‬
‫ت�ستدعيه الذاكرة‪ .‬وكتب يقول «�إذا بدت احلياة اليومية تافهة‬ ‫�إىل ال�سيد ج ك من وار�سو‬
‫لك‪ ،‬فال تلق اللوم يف هذا على احلياة‪� .‬أنت الذي يقع عليك‬ ‫«�أنت حمتاج �إىل قلم جديد‪ .‬القلم الذي معك يغلط كثريا‪ .‬هو‬
‫‪225‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إىل م�صاعب ال�شباب طموحات كتابية‪ ،‬فال بد �أن يتحلى‬ ‫اللوم‪ .‬فلي�س فيك من ال�شاعر ما يكفي إلدراك ثراء احلياة»‪.‬‬
‫املرء ببنية ذات قوة ا�ستثنائية لكي يحتمل‪ .‬مكونات هذه‬ ‫قد تبدو لك هذه الن�صيحة تافهة وثقيلة الدم‪ .‬وهذا ما جعلنا‬
‫البنية ينبغي �أن حتتوي على‪� :‬إ�رصار‪ ،‬اجتهاد‪ ،‬قراءة وا�سعة‪،‬‬ ‫نوجهها لك من خالل واحد من �أكرث �شعراء العامل نخبوية ‪..‬‬
‫ف�ضول‪ ،‬مالحظة‪ ،‬فتور جتاه الذات‪ ،‬ح�سا�سية جتاه آالخرين‪،‬‬ ‫انظر كم �أثنى على ما ي�سمى بـ أ‬
‫«ال�شياء العادية»‪.‬‬
‫تفكري نقدي‪ ،‬ح�س كوميدي‪ ،‬واعتقاد را�سخ ب أ�ن العامل‬ ‫�إىل �أوال من �سوبوت‬
‫ي�ستحق ما يلي‪� :‬أ ـ �أن يبقى موجودا‪ ،‬ب ـ حظ �أف�ضل مما توفر‬ ‫أ‬
‫«تعريف لل�شعر يف جملة واحدة ـ طيب»‪ .‬عندنا على القل‬
‫له حتى آالن‪ .‬املحاوالت التي �أر�سلتها ت�شري فقط �إىل الرغبة‬ ‫حوايل خم�سمائة تعريف‪ ،‬ولكن ال يوجد بينها ما يفحم‬
‫يف الكتابة وال �شيء �آخر مما �سبق و�صفه‪ .‬عملك ال ي�ستهدف‬ ‫املرء بدقته و�شموله‪ .‬كل واحد منها يعرب عن ذائقة ع�رصه‪.‬‬
‫غريك‪.‬‬ ‫من جانبنا‪ ،‬ال نحاول �أن جنرب يدنا‪ ،‬ب�سبب نزوع فطري‬
‫�إىل كايل من لودز‪:‬‬ ‫�إىل ال�شك‪ .‬ولكننا نتذكر مقولة جميلة لكارل �ساندبرج‪:‬‬
‫«ملاذا» هي �أهم كلمة يف لغة هذا الكوكب‪ ،‬ورمبا يف املجرات‬ ‫«ال�شعر‪ :‬يوميات يكتبها كائن بحري‪ ،‬يعي�ش على الرب‪ ،‬حاملا‬
‫أالخرى �أي�ضا‪.‬‬ ‫بالطريان»‪.‬‬
‫�إىل بالت�سيت من �سكاري�سكو كام‪:‬‬ ‫�إىل ل ك ب ك من �سلوب�سك‬
‫الق�صائد التي بعثتها ت�شري �إىل �أنك ف�شلت يف معرفة فارق‬ ‫«نريد من �شاعر يقارن نف�سه بـ �إيكارو�س �أكرث بكثري مما‬
‫�أ�سا�سي بني ال�شعر والنرث‪ .‬مثال‪ ،‬يف الق�صيدة التي عنوانها‬ ‫تك�شف عنه الق�صيدة الطويلة املرفقة بر�سالتك‪ .‬يا �سيد ب‬
‫«هنا» جمرد و�صف نرثي عادي لغرفة وما حتتويه من‬ ‫ك �أنت مل ت�ضع يف ح�سبانك �أن �إيكارو�س هذا الزمن يطري‬
‫�أثاث‪ .‬يف النرث يقوم هذا الو�صف بوظيفة حمددة‪� :‬أنه يهيئ‬ ‫فوق �أفق خمالف ألفق الزمن ال�سحيق‪ .‬فهو يرى طرقا �رسيعة‬
‫امل�شهد حلدث قادم‪ .‬ففي حلظة‪� ،‬سوف ينفتح الباب‪ ،‬و�سوف‬ ‫مغطاة بال�سيارات وال�شاحنات‪ ،‬ومطارات‪ ،‬ومدارج طيارات‪،‬‬
‫يدخل �شخ�ص‪ ،‬و�سوف يحدث �شيء‪� .‬أما يف ال�شعر فالو�صف‬ ‫ومدنا �ضخمة‪ ،‬وموانئ ع�رصية ف�سيحة‪ ،‬و�أ�شياء �أخرى من‬
‫نف�سه هو الذي ينبغي �أن «يحدث»‪ .‬كل �شيء ي�صبح ذا �أهمية‪،‬‬ ‫هذا القبيل‪� .‬أال يحتمل �أن مترق جنب �أذنه طائرة؟‬
‫وذا معنى‪ :‬اختيار ال�صور‪ ،‬و�أماكنها‪ ،‬وال�شكل الذي تتخذه من‬ ‫�إىل م�سرت بر‪ .‬ك من ال�سكي‬
‫خالل الكلمات‪ .‬وال بد لو�صف غرفة عادية �أن يتحول �أمام‬ ‫ق�صائدك النرثية مت أ�ثرة بال�شاعر العظيم الذي يبدع �عماله‬
‫أ‬
‫والح�سا�س الكامن يف هذا‬ ‫�أعيننا �إىل اكت�شاف تلك الغرفة‪ ،‬إ‬ ‫الالفتة وهو يف حالة ن�شوة كحولية‪ .‬قد جنازف ونخمن‬
‫الو�صف ال بد �أن ي�صل �إىل القارئ‪ .‬و�إال‪ ،‬ف�سوف يبقى النرث‬ ‫ال�شاعر الذي ي�سيطر عليك‪ ،‬ولكن أال�سماء لي�ست �شاغلنا هنا‬
‫نرثا‪ ،‬مهما اجتهدت يف تقطيع جملتك �إىل �أبيات منظومة‪.‬‬ ‫يف نهاية املطاف‪ .‬بل القناعة امل�ضللة ب أ�ن الكحول يي�رس‬
‫أ‬
‫وال�سو�أ من كل ذلك‪� ،‬أن �شيئا ال يحدث بعد هذا»‪.‬‬ ‫والح�سا�س رهافة‪،‬‬ ‫فعل الكتابة‪ ،‬ويك�سب اخليال جر�أة‪ ،‬إ‬
‫وي ؤ�دي عددا �آخر من الوظائف النافعة يف حتري�ض روح‬
‫ال�شاعر والعامل‬ ‫ال�شاعر‪ .‬يا عزيزي م�سرت ك‪ ،‬ال هذا ال�شاعر‪ ،‬وال �أي �شاعر ممن‬
‫عرفناهم معرفة �شخ�صية‪ ،‬بل وال �أي �شاعر �آخر كتب �أي �شيء‬
‫يقولون �إن �أول جملة يف اخلطبة هي أالكرث �صعوبة‪ .‬ح�سن‪،‬‬ ‫عظيم وهو حتت الت أ�ثري اخلال�ص لل�رشاب القوي‪ .‬كل أالعمال‬
‫هي آالن خلفي على �أية حال‪ .‬ولكن لدي �شعورا ب أ�ن كل جملة‬ ‫اجليدة خرجت من اجلهد‪ ،‬واالتزان امل ؤ�مل‪ ،‬دومنا طنني لطيف‬
‫�آتية ـ ثالثة كانت �أو �ساد�سة �أو عا�رشة وما تالها حتى �آخر‬ ‫يف الر�أ�س‪« .‬كثريا ما ت أ�تيني �أفكار مع الفودكا‪ ،‬ولكن بعدها‬
‫�سطر ـ �ستكون على القدر نف�سه من ال�صعوبة‪ ،‬ما دام املفرت�ض‬ ‫يي�صيبني ال�صداع» هكذا قال في�سبيان�سكي ‪Wyspiansk‬‬
‫�أن �أتكلم عن ال�شعر‪ .‬ما �أقل ما قلته يف هذا املو�ضوع‪ ،‬يو�شك‬ ‫‪ .ki‬ولو �أن ال�شاعر ي�رشب‪ ،‬فهو ي�رشب بني ق�صيدة وق�صيدة‪.‬‬
‫يف واقع أالمر �أال يكون �شيئا على إالطالق‪ .‬وكلما �أقول فيه‬ ‫هذه هي احلقيقة العارية‪ .‬لو كان الكحول ي ؤ�دي �إىل �شعر‬
‫�شيئا‪� ،‬إذا ب�شك و�ضيع ينتابني يف �أنني مل �أح�سن القول‪ .‬لذلك‬ ‫عظيم‪ ،‬لكان واحد من كل اثنني يف هذه البلد هورا�س على‬
‫فمحا�رضتي �ستميل �إىل إاليجاز‪ ،‬وكل العيوب مغفورة متى‬ ‫أالقل‪ .‬وهكذا نحن مرغمون �إىل حتطيم خرافة �أخرى‪ .‬ون أ�مل‬
‫كانت قليلة اجلرعات‪.‬‬ ‫�أنك �سوف تخرج �ساملا من حتت أالنقا�ض‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫يت�شكك ال�شعراء املعا�رصون حتى يف �نف�سهم‪� ،‬و رمبا يف‬
‫�أنف�سهم على أالخ�ص‪ .‬فهم ال يعرتفون على أ‬
‫املل �أنهم �شعراء‬ ‫�إىل �إ‪ .‬ل‪ .‬من وار�سو‪:‬‬
‫�إال بعد متنع‪ ،‬ك أ�منا هم يخجلون من هذا أالمر بع�ض ال�شيء‪.‬‬ ‫رمبا عليك �أن تتعلم �أن حتب بالنرث‬
‫ولكن ما �أ�سهل االعرتاف يف هذا الزمان ال�صاخب بغلطاتك‪،‬‬ ‫�إىل �إ�سكو من �سيريادز‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ال�شباب بالفعل مرحلة خماتلة يف حياة املرء‪ .‬ولو ��ضفنا خا�صة �إن كانت مغلفة على نحو جذاب على القل‪ ،‬مقارنة‬
‫‪226‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أو تخ ُّلق الروائع‪ .‬فبو�سع املرء �أن يحرز �شيئا من النجاح يف‬ ‫مع �إدراك مزاياك‪ ،‬وهي املخبوءة يف أالعماق ال تلقى منك‬
‫ت�صوير �ألوان معينة من العمل العلمي‪ .‬ف إ�ذا باملعامل‪ ،‬وخمتلف‬ ‫�أنت نف�سك �إميانا بها‪ ...‬عند ملء اال�ستمارات‪� ،‬أو الدرد�شة‬
‫آالالت‪ ،‬واملعدات الوا�ضحة تعود �إىل احلياة يف م�شاهد قد‬ ‫مع الغرباء‪� ،‬أي حينما ي�صعب على ال�شعراء �إخفاء مهنتهم‪،‬‬
‫جتذب انتباه اجلمهور للحظات‪ .‬وتكون حلظات ال�شك هذه‬ ‫حينئذ ي ؤ�ثر ال�شعراء م�صطلحا عاما هو «الكاتب»‪� ،‬أو يثبتون‬
‫دراماتيكية للغاية‪ ،‬مبا �أنها حلظات جت َرى فيها التجربة للمرة‬ ‫�أ�سماءهم �أو الوظائف التي يعملون بها بجانب الكتابة‬
‫أاللف مع تعديل رهيف يف خطواتها �إىل �أن تتحقق النتيجة‬ ‫حيثما ينبغي �أن يثبتوا كلمة «ال�شاعر»‪ .‬فاملوظفون والغرباء‬
‫املن�شودة؟ �أما أالفالم التي تتناول الر�سامني فتكون خالبة‪،‬‬ ‫يتعاملون ب�شيء من الريبة واحلذر عندما يتبني لهم �أنهم‬
‫يف ت�صويرها لكل مرحلة من مراحل تكوين لوحة �شهرية‪ ،‬بدءا‬ ‫يتعاملون مع �شاعر‪ .‬و�أح�سب الفال�سفة قد يلقون مثل ذلك‪.‬‬
‫من اخلطوط املر�سومة بالقلم الر�صا�ص‪ ،‬وحتى �آخر �رضبة‬ ‫و�إن بقي و�ضعهم �أف�ضل‪ ،‬ما دام بو�سعهم غالبا �أن يزخرفوا‬
‫بالفالم التي تتناول املو�سيقيني‪:‬‬ ‫فر�شاة‪ .‬ويغرم الكثريون أ‬ ‫مهنتهم بهذا اللقب أالكادميي �أو ذاك‪ .‬ف أ��ستاذ الفل�سفة يبدو‬
‫بب�صي�ص النغمة أالول �إذ يرتدد يف �ذين املو�سيقي حتى يخرج‬
‫أ‬ ‫آالن �أكرث احرتاما بكثري‪.‬‬
‫يف النهاية عمال نا�ضجا يف قالب �سيمفوين‪ .‬وذلك كله بالطبع‬ ‫ولكن ال يوجد �شيء ا�سمه �أ�ستاذ ال�شعر‪ .‬فقد يعني هذا يف نهاية‬
‫بالغ ال�سذاجة ال يو�ضح تلك احلالة الذهنية الغريبة التي ي�شيع‬ ‫أالمر �أن ال�شعر وظيفة تقت�ضي درا�سة متخ�ص�صة‪ ،‬وامتحانات‬
‫باللهام‪ ،‬ولكن فيه على أالقل ما ميكن النظر �إليه �أو‬ ‫ت�سميتها إ‬ ‫دورية‪ ،‬ومقاالت نظرية ذات حوا�ش وببليوجرافيات‪ ،‬ثم‬
‫إالن�صات له‪.‬‬ ‫�شهادات يف نهاية أالمر لها طقو�س ملنحها‪ .‬و�سوف يعني ذلك‬
‫أ‬
‫�أما ال�شعراء فهم ال�سو�‪ .‬فعملهم غري قابل للت�صوير‪ ،‬وال �مل‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫�أنه ال يكفي �أن تك�سو ال�صفحات ب أ�جمل الق�صائد كي تكون‬
‫له يف ذلك‪ .‬فمنذا الذي يقوى على م�شاهدة �شخ�ص يجل�س �إىل‬ ‫�شاعرا‪ .‬بل �سيتمثل العن�رص احلا�سم يف ورقة تافهة عليها‬
‫من�ضدة‪� ،‬أو ي�ستلقي على كنبة حمملقا يف اجلدار �أو ال�سقف‬ ‫ختم ر�سمي‪ .‬ولنتذكر ال�شعر الرو�سي يف جمده‪ ،‬فذات يوم تعر�ض‬
‫بال حركة‪� .‬إىل �أن يكتب �سبعة �أبيات ليحذف �أحدها بعد خم�س‬ ‫جوزف برود�سكي ‪ Joseph Brodsky‬ـ وهو الذي �سيحظى‬
‫ع�رشة دقيقة‪ ،‬ثم متر �ساعة �أخرى‪ ،‬خاللها ال يحدث �شيء ‪...‬‬ ‫يف قابل أاليام بنوبل يف أالدب ـ حلكم بالنفي الداخلي أل�سباب‬
‫لقد �أتيت على ذكر إاللهام‪ .‬وال�شعراء املعا�رصون يراوغون‬ ‫مثل هذه‪ .‬فقد اعتربوه «طفيليا» ألنه مل يكن حا�صال على‬
‫�إن �سئلوا عن ماهيته‪� ،‬أو حقيقة وجوده‪ .‬ولي�س ذلك ألنهم مل‬ ‫�شهادة ر�سمية تخول له احلق يف �أن يكون �شاعرا‪...‬‬
‫يعرفوا نعمة ذلك الدافع الداخلي‪ .‬بل ألنه ال ي�سهل عليك �أن‬ ‫منذ �سنوات عديدة‪ ،‬حظيت ب�رشف ومتعة اللقاء بربود�سكي‬
‫تو�ضح ل�شخ�ص �أمرا �أنت نف�سك ال تفهمه‪.‬‬ ‫�شخ�صيا‪ .‬والحظت �أنه الوحيد ـ بني من عرفت من ال�شعراء ـ‬
‫حني يحدث ويطرح �أحد علي هذا ال�س ؤ�ال‪� ،‬هرب بدوري منه‪ .‬لكن‬
‫أ‬ ‫الذي ي�ستمتع بو�صف نف�سه بال�شاعر‪ .‬فقد كان ينطق الكلمة بال‬
‫ها هي ذي �إجابتي‪ :‬لي�س إاللهام ميزة مق�صورة على ال�شعراء‬ ‫�إجفال‪.‬‬
‫�أو الفنانني عموما‪ .‬فهناك اليوم‪ ،‬و�أم�س‪ ،‬و�سيبقى هناك دائما‬ ‫بل على العك�س‪ ،‬كان ينطقها بحرية مقتحمة‪ .‬وال بد �أن يكون‬
‫من النا�س من يزورهم إاللهام‪ .‬وه ؤ�الء يت أ�لفون من كل الذين‬ ‫�رس ذلك هو تذكره للمذلة القا�سية التي عومل بها يف �شبابه‪.‬‬
‫اختاروا مهنهم عن وعي‪ ،‬وميار�سونها مبحبة وخيال‪ .‬قد يكون‬ ‫يف البالد ال�سعيدة‪ ،‬التي ال ي�سهل فيها امتهان كرامة إالن�سان‪،‬‬
‫فيهم أالطباء‪ ،‬واملعلمون‪ ،‬والب�ستانيون‪ ،‬وبو�سعي �أن �أعد قائمة‬ ‫يتوق ال�شعراء بالطبع �إىل من ين�رش لهم‪ ،‬ويقر�أهم‪ ،‬ويفهمهم‪،‬‬
‫تربو على مائة مهنة‪ .‬ه ؤ�الء ي�صبح عملهم مغامرة واحدة‬ ‫ولكنهم ال يفعلون ـ �إن فعلوا ـ �إال القليل �إعال ًء ألنف�سهم عن القطيع‬
‫م�ستمرة ما ا�ستمرت قدرتهم على اكت�شاف حتديات جديدة يف‬ ‫العادي واللغظ اليومي‪ .‬غري �أن العهد مل ين أ� بنا بعد عن العقود‬
‫هذا العمل‪ .‬فامل�صاعب واالنتكا�سات ال تقهر ف�ضولهم‪ .‬ومن كل‬ ‫أالوىل من هذا القرن [الع�رشين] حيث كان ال�شعراء يتحرون‬
‫م�شكلة ي�صلون �إىل حلها‪ ،‬تن� أش� جمموعة جديدة من أال�سئلة‪.‬‬ ‫�صدمتنا‪ ،‬فيلب�سون غريب امللب�س ويعمدون �إىل ما انحرف‬
‫وليكن إاللهام ما يكون‪ ،‬لكنه يولد من دوام «ال �أعرف»‪.‬‬ ‫من ال�سلوك‪ .‬ولكن ذلك كله كان من قبيل اال�ستعرا�ض‪ .‬فدائما‬
‫ال يوجد الكثري من ه ؤ�الء النا�س‪ .‬ف أ�غلب �أهل أالر�ض يعملون‬ ‫ما كانت ت أ�تي حلظة‪ ،‬يغلق فيها ال�شعراء �أبوابهم‪ ،‬ويتخففون‬
‫ليعي�شوا‪ .‬يعملون ألنهم ال بد �أن يعملوا‪ .‬ال يختارون هذه‬ ‫من عباءاتهم‪ ،‬وزخرفهم‪ ،‬وعدتهم ال�شعرية‪ ،‬ويواجهون ـ وهم‬
‫الوظيفة �أو تلك عن �شغف بها‪ ،‬فظروف حياتهم تختار عنهم‪.‬‬ ‫نف�سهم ـ تلك املزقة البي�ضاء‬ ‫�صامتون �صابرون منتظرون �أ ِ‬
‫العمل اخلايل من احلب‪ ،‬العمل اململ‪ ،‬العمل الذي ال قيمة له‬ ‫ال�ساكنة من الورق‪ .‬فذلك يف النهاية ما يع َّول عليه‪.‬‬
‫�إال �أن أالعمال أالخرى مل ت�صل �إىل مثل ما و�صل �إليه من ملل‬ ‫لي�س من قبيل ال�صدفة �أن �أفالم ال�سري الذاتية لعظماء العلماء‬
‫وخلو من احلب‪ ،‬هذا العمل واحد من �أ�شق �ألوان الب ؤ��س الب�رشي‪.‬‬ ‫والفنانني تظهر بالع�رشات‪ .‬في�سعى �أ�شد املخرجني طموحا �إىل‬
‫ولي�س هناك بادرة على �أن القرون القادمة �سوف تنتج �أف�ضل‬ ‫�إنتاج ت�صوير مقنع للحظات خلق املكت�شفات العلمية املهمة‬
‫‪227‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حتت ال�شم�س‪ ،‬هذا ما كتبته يا �سليمان‪ ،‬ولكنك �أنت نف�سك‬ ‫مما مت �إنتاجه حتى آالن‪.‬‬
‫ولدت جديدا حتت ال�شم�س‪ .‬والق�صيدة التي ابتكرتها هي‬ ‫وهكذا‪ ،‬وبرغم �أين �أنكر على ال�شعراء احتكارهم إ‬
‫لللهام‪� ،‬إال‬
‫�أي�ضا جديدة حتت ال�شم�س‪ ،‬ما دام مل يكتبها من قبلك �أحد‪.‬‬ ‫�أنني �أ�ضعهم يف جماعة منتقاة من �أ�صفياء احلظ‪.‬‬
‫وكل قارئ لك جديد حتت ال�شم�س‪ ،‬ما دام من عا�شوا من قبلك‬ ‫أ‬
‫وهنا‪ ،‬قد تثور �شكوك معينة لدى جمهوري‪ .‬فجميع �نواع‬
‫ما قر�أوا ق�صيدتك‪ .‬وال�صنوبرة التي ت�سظل بها غري نابتة‬ ‫اجلالدين‪ ،‬والطغاة‪ ،‬واملتع�صبني‪ ،‬والدمياجوجيني الذين‬
‫يف مو�ضعها منذ فجر الزمان‪ .‬و�إمنا �أتت �إىل الوجود عرب‬ ‫ي�سعون �إىل القوة على وقع حفنة �شعارات �صاخبة‪ ،‬هم �أي�ضا‬
‫�صنوبرة �شبيهة ب�صنوبرتك‪ ،‬لكنها لي�ست مماثلة لها متاما‪.‬‬ ‫ي�ستمتعون مبا يعملون‪ ،‬وي ؤ�دون واجباتهم بحما�سة خالقة‪.‬‬
‫و�إنني يا �سليمان �أود �أن �أ�س أ�لك �أي جديد حتت ال�شم�س تعتزم‬ ‫نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪ ،‬ولكنهم «يعرفون»‪ .‬يعرفون‪ ،‬وما يعرفونه‬
‫�أن تعمل آالن فيه؟ �أهو �إ�ضافة جديدة �إىل أالفكار التي عربت‬ ‫كاف لهم وال حاجة �إىل املزيد‪ .‬فلي�سوا يريدون �أن يتعرفوا‬
‫عنها من قبل؟ �أم رمبا يغويك آالن �أن تنق�ض بع�ضها؟ لقد‬ ‫على �أي �شيء �آخر‪ ،‬ما دام ذلك قد يبطل حجج قوتهم‪ .‬وكل‬
‫ذكرت الفرح فيما �سبق من عمل لك‪ ،‬فماذا لو كان �رسيع‬ ‫معرفة ال تف�ضي �إىل �أ�سئلة جديدة متوت‪ :‬ألنها تف�شل يف‬
‫الزوال؟ �أتكون ق�صيدتك اجلديدة حتت ال�شم�س عن الفرح �أيها‬ ‫احلفاظ على درجة احلرارة الالزمة إلدامة احلياة‪ .‬يف �أغلب‬
‫اجلامعة ؟ تراك بد�أت فعال يف تدوين مالحظاتك‪� ،‬أتعتمد‬ ‫احلاالت املتطرفة‪ ،‬احلاالت املعروفة يف التاريخني القدمي‬
‫على امل�سودات؟ �أ�ستبعد �أن تقول «�إمنا كتبت كل �شيء‪ ،‬ولي�س‬ ‫واحلديث‪ ،‬تكون [هذه املعرفة] خطرا مميتا على املجتمع‪.‬‬
‫لدي ما �أ�ضيفه‪ ،‬فلي�س ل�شاعر على وجه أالر�ض �أن يقول ذلك‪،‬‬ ‫وذلك �رس تقديري الكبري لعبارة «ال �أعرف» ال�صغرية‪ .‬هي‬
‫ناهيك عن �أعظم ال�شعراء من �أمثالك»‪.‬‬ ‫تو�سع حياتنا فت�شمل‬‫�صغرية‪ ،‬وهي تطري ب أ�جنحة عمالقة‪ِّ .‬‬
‫العامل‪ ،‬مهما يكن ظننا حني يروعنا �ش�سوعه وهواننا‪� ،‬وأ‬ ‫الف�ضاءات الكامنة فينا وتلك االمتدادات الوا�سعة التي تتدىل‬
‫ي�صعب علينا عدم اكرتاثه مبعاناة الفرد‪ ،‬والنا�س‪ ،‬واحليوان‪،‬‬ ‫فيها �أر�ضنا ال�صغرية‪ .‬لو مل يقل �إ�سحق نيوتن قط لنف�سه «ال‬
‫ورمبا النبات‪ ،‬ففيم يقيننا هذا ب أ�ن النبات ال ي�شعر أ‬
‫بالمل‪،‬‬ ‫�أعرف»‪ ،‬فرمبا كانت التفاحات وقعت على �أر�ض حديقته‬
‫ومهما يكن ظننا بامتداداته تخرتقها �أ�شعة النجوم املحاطة‬ ‫ال�صغرية وقوع حبات ال�صقيع‪ ،‬ولعله يف �أف�ضل احلاالت‬
‫بالكواكب التي بد�أنا للتو يف اكت�شافها‪ ،‬الكواكب امليتة‬ ‫كان �سيتناولها فيلتهمها بتلذذ‪ .‬ولو مل تقل بنت بلدي ماري‬
‫�أ�صال؟ امليتة ال تزال؟ ما يدرينا‪ ،‬مهما يكن ظننا بهذا امل�رسح‬ ‫�سكلودوف�سكا كوري ‪Marie Sklodowska-Curie‬‬
‫الالنهائي الذي حجزنا فيه تذاكر‪ ،‬ولكنها تذاكر قِ�رص‬ ‫لنف�سها «ال �أعرف»‪ ،‬فرمبا كانت انتهت معلمة للكيمياء يف‬
‫�أعمارها يدفع �إىل ال�ضحك‪ ،‬حمددة بتاريخني اعتباطيني‪،‬‬ ‫مدر�سة ثانوية تعلم بنات العوائل املحرتمة‪ ،‬ولكانت �أنهت‬
‫مهما تكن ظنوننا بهذا العامل‪ ،‬هذا العامل مده�ش‪.‬‬ ‫�أيامها وهي متار�س هذه الوظيفة املحرتمة مع ذلك‪ .‬ولكنها‬
‫ولكن «مده�ش» هذه �صفة تخفي �رشكا منطقيا‪ .‬فنحن‬ ‫ظلت تقول «ال �أعرف» فقادتها هذه العبارة ال مرة واحدة‬
‫نده�ش أل�شياء هي يف النهاية بنت طبائع معروفة معرتف‬ ‫بل اثنتني �إىل ا�ستوكهومل التي جتازى فيها أالرواح القلقة‬
‫بها �إطالقا‪ ،‬بنت و�ضوح ن أ�لفه‪ .‬مق�صدي آالن‪� ،‬أنه ال وجود‬ ‫املت�سائلة بجائزة نوبل‪.‬‬
‫ملثل هذا العامل الوا�ضح �أ�صال‪ .‬فاندها�شنا موجود بذاته‪ ،‬ال‬ ‫وال�شعراء‪ ،‬احلقيقيون‪ ،‬ينبغي �أال يكفوا عن قول «ال �أعرف»‪.‬‬
‫باملقارنة مع �شيء �سواه‪.‬‬ ‫فكل ق�صيدة هي جهد يتلو هذه العبارة‪ ،‬ولكن مبجرد اطراح‬
‫م ؤ�كد‪� ،‬أننا يف كالمنا اليومي‪ ،‬ال نتوقف عن قول عبارات‬ ‫املرحلة أالخرية على ال�صفحة‪� ،‬إذا بال�شاعر يرتدد‪ ،‬ويدرك‬
‫مثل «العامل العادي» و«احلياة العادية» و«ال�سياق العادي‬ ‫�أن هذه إالجابة بالذات مل تكن �إال جمرد حل م ؤ�قت ال ي�صلح‬
‫للحداث» ‪� ...‬أما يف لغة ال�شعر‪ ،‬حيث الكالم يوزن بالكلمة‪،‬‬ ‫أ‬ ‫مطلقا كحل نهائي‪ .‬وهكذا يبقى ال�شعراء على املحاولة‪،‬‬
‫أ‬
‫ال وجود ل�شيء معتاد �و طبيعي‪ .‬ال حجر كذلك وال الغيمة‬ ‫وعاجال �أم �آجال جتد النتائج املتعاقبة ل�سخطهم على‬
‫التي تعلوه‪ .‬ال يوم كذلك وال الليلة التي تتلوه‪ .‬أ‬
‫والهم �أنه ال‬ ‫�أنف�سهم بع�ض م ؤ�رخي أالدب‪ ،‬فيجمعونها مبا�سك ورق كبري‬
‫وجود عادي‪ ،‬ال وجود ألي كائن يف هذا العامل ميكن نعته‬ ‫ويعدونها «نتاجهم ال�شعري» ‪...‬‬
‫بالعادي‪.‬‬ ‫�أحيانا �أحلم مبواقف ال حتقق لها‪ .‬ي�شطح اخليال بي �حيانا‬
‫أ‬
‫يبدو �أن عمل ال�شعراء �سوف يجد دائما من يتمه لهم‪.‬‬ ‫ف أ�راين على �سبيل املثال وقد حظيت بفر�صة الدرد�شة مع‬
‫�سليمان احلكيم كاتب تلك املرثية امل ؤ�ثرة لغرور جميع‬
‫هام�ش‬ ‫م�ساعي الب�رش [�أي �سفر اجلامعة]‪� .‬أمامه �أنحني باحرتام‬
‫‪ - 1‬يف الن�ص �إ�شارة �إىل ‪ Belmondo‬ولعل املق�صود هو املمثل الفرن�سي‬ ‫�شديد‪ ،‬فهو يف النهاية واحد من �أعظم ال�شعراء‪ ،‬بالن�سبة يل‬
‫جان بول بلموندو ‪Jean-Paul Belmondo‬‬ ‫على أالقل‪ .‬وبانتهاء ذلك‪� ،‬أ�شد على يده‪ ،‬و�أقول «ال جديد‬
‫‪228‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أ�شياء ال�سيدة التي ن�سيت �أن تكرب‬
‫من�صف الوهايبي‬
‫�شاعر من تون�س‬

‫و�أم�سكَ ذيلَ قافيةٍ ‪،‬‬ ‫‪1‬ـ �شـارع ال�س ّيدة‪  ‬يف أ�فريو‬
‫َطخات ح ٍرب‬
‫ُ‬ ‫‪،‬ب�صما ُتها ل‬
‫قوادم طائ ٍر َ‬ ‫ُ‬ ‫وقلت يدِي‬ ‫ُ‬ ‫بـني منزلنا يف �أفـريو وقنطرة البح ِر‬
‫البيا�ض‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يف‬ ‫�أغـدو على َم َه ٍل‬
‫�صو َب‬
‫ري ْ‬ ‫يكارو�س وهو يط ُ‬‫َ‬ ‫يت �إ‬ ‫وقلت كيف ن�سِ ُ‬ ‫ٌ‬
‫م�س‬‫ال�ش ِ‬‫ّ‬ ‫‪ ‬و�أ ْ‬
‫روح‬
‫يت�شبـ ُه بي‬
‫والكالم الذي ّ‬
‫متبكتو»؟‬ ‫«خمطوط ْ‬
‫ِ‬ ‫‪ ‬يف‬ ‫يتعـر ُف وجهي‬ ‫ّ‬ ‫مل يزلْ‬
‫يت ملوكَ �أوتيك َا وقد جل�سوا‬ ‫عج ٍل ن�سِ ُ‬ ‫ومن َ‬ ‫ويـر�شـدين‬
‫موائدهم‪،‬‬
‫ْ‬ ‫امل�ساء �إىل‬
‫َ‬ ‫تغـيـر ح ّقـا كثريا!‬ ‫�شـارع قد ّ‬‫ٌ‬
‫هموا وال �رش ُبوا‬ ‫وما ّ‬
‫فيهم‬ ‫الغريب»‪ ،‬وكان‬ ‫وقالوا‪�« :‬سوف ننتظر‬ ‫ولـك ّنـني مل �أزلْ مثلما ُ‬
‫كنت‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بـني ابت�سامة �أ ّمـي‬
‫واقفا بقناعه اخلاوي؟‬
‫أ‬
‫يت من ل َه ٍف ع�صا �شوقي �بي �شقرا‪،‬‬ ‫احلي �أغـدو بـه‬ ‫ومـدر�سة ّ‬
‫وكيف ن�سِ ُ‬
‫وقد لب�ست طريق النهر‪،‬كي جتري‬ ‫روح‪.‬‬ ‫و�أ ْ‬
‫كيف؟‬‫كالخ�شاب؟ َ‬ ‫على أالمواه أ‬ ‫‪2‬ـ غا�سرتونوميا‬
‫عناب‪،‬‬
‫وال ِ‬ ‫وكنت �أهبط يف �سماء ال ّتني أ‬
‫واحلرفة ال ُق ْد َمى و�أ ّن ع�شريتي‬
‫ْ‬
‫يذوب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫امل�صنوع من �شمع‬
‫ُ‬ ‫جناحي‬
‫َ‬ ‫كان‬ ‫زرع(احلطيئة)‬‫أ‬ ‫أ‬
‫الكروم و� ّنني ال � ُ‬
‫َ‬ ‫زرعوا‬ ‫ ‬
‫وكنت �أعولُ دون �صوت(كان بي �شيء من‬
‫أال�سماك وهي هناكَ‬ ‫�إىل �شوقي �أبي �شقرا‬
‫مت �أعني قرار ال ّنهر)‪،‬‬ ‫م�ص ٍ ْ‬ ‫ت�رصخ يف جدار ْ‬ ‫ّرت يف أال�شيا ِء حويل‬ ‫فك ُ‬
‫�أهبط قرب دارتنا‬ ‫جتل�س فوق مائدة الظهرية‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وهي‬
‫ك أ�نيّ �أحفن أال�سماك يف نبع‪ ،‬و�أبقار تالطف‬ ‫ي�صنع‬
‫ُ‬ ‫�صحن من ال ّزيتون �أخ�رض ظ ّل َح ّب منه‬ ‫ٌ‬
‫وقفت‬
‫ْ‬ ‫طفلة‬ ‫يف �أناةٍ زيت ُه‪،‬‬
‫على جنب الطّ ريق‪ ،‬ك أ� ّنها �أختي (وخفت عليك‪،‬‬ ‫ُ�ضا ِر‪،‬‬
‫نب اململـّح واخل َ‬ ‫لمون واجل ِ‬ ‫ال�س ِ‬ ‫قِ طَ ٌع من ّ‬
‫�سوف يط ّل‬ ‫«�سنغريا»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بات ال ّثلج تطفو يف زجاجة‬ ‫مكع ُ‬ ‫ّ‬
‫من باب احلكاية ذئبها‪ ،‬بلبا�س ج ّدتنا‬ ‫ني‬
‫وال�سكاك ُ‬ ‫ّ‬ ‫املالعق‬
‫ُ‬ ‫عناب واملانجْ ا‬ ‫أ‬
‫�سلـ ّ ُة ال ِ‬
‫ونظّ اراتها)! عودي‬ ‫و�س‪،‬‬ ‫الك ؤ� ُ‬
‫و�أ ّمي وهي ذاهلة تعـ ّد حقيبتي وتخيط �أزراري‬ ‫والبطاط�س‪،‬‬
‫ِ‬ ‫املتبلِ‬
‫�رشائح اللح ِم ّ‬ ‫ُ‬
‫ونحن معا نداري دمعنا‬ ‫�ص‪...‬‬
‫املحم ُ‬‫ّ‬ ‫�سيدتي‬‫خب ُز ّ‬
‫هوة‬ ‫والفجر �أر�ض (كم على خطّ الـّذرى من ّ‬ ‫�صابع ألعي َد ت�شكي َل احلياةِ‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ثالث �أ‬
‫قلت يكفيني ُ‬
‫ووهاد �أودية �سيقطعها‬ ‫ٌ‪،‬لر َّد �شاردها‬ ‫وبرية أ‬
‫وري�ش ٌة ّ‬
‫‪229‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪DIOIQUE - 4‬‬ ‫ح�صاين ؟)‬


‫احلرف َة القدمى‪،‬و�أ ّن‬ ‫ْ‬ ‫خر ٍف ن�سيت‬ ‫كيف من َ‬
‫دم يف جــ ّنــتــه‬‫حـيـن ا�سـتـيـقـظ � آ ُ‬
‫كـانت �أزهــار ذكــورتِــه‬ ‫الكروم‬
‫َ‬ ‫ع�شريتي زرعوا‬
‫تــتــدلــّى يف غــ�صن مــن طــيــنــته‬ ‫جنيت؟‬
‫ُ‬ ‫زرعت وال‬
‫ُ‬ ‫وما‬
‫فـيما �أزهــار �أنــوثــتِه‬ ‫ويل يد كانت تقي�س الظلّ؟‬
‫هل فكّرت يف أال�شياء ح ّقا؟‬
‫تــتـدلـّــى يف � آ َ‬
‫خــر منها‬
‫�صباح �أكرث من‬ ‫دم �أن يغ�سل ك َّل‬ ‫�أم هي أال�شياء جال�سة تفكّر يف ّ‬
‫ال�شبـي ِه‬
‫ٍ‬ ‫وكان على � آ َ‬
‫َ‬
‫وت�سرت ّد حياته وحياتها؟‬
‫ظ ّل فيه‪.‬‬
‫بابان ينفتحان يف �آن معا‪:‬‬
‫‪5‬ـ ابـنـة يوم‬ ‫ال�سور �أزرق يف‬ ‫ّ‬ ‫القريوان(وكان باب‬
‫«عمــر الوردة يوم واحـ ٌد!‬ ‫ُ‬ ‫ال�صباح‪،‬وكنت �أحمل �سلّتي امللى‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫ني!»‬ ‫‪� ‬أو َ‬
‫بيـن بـ ْ‬ ‫�إليك‪�،‬أقول قد �أخذت ب أ�يدينا احلياة كما ت�شا ُء‪،‬‬
‫ال�س ّـيـدة اخلـ�رضاء فيـما‬ ‫قالـت ّ‬ ‫ومل نكن بجرائها‬
‫كـنت �أ�سقي �شجـر الوردِ‪،‬‬ ‫ورمت �إلينا بالعظام‬
‫«ولـــكــن!‬
‫ْ‬ ‫طياراتنا �أعلى‬ ‫بني خيوط‪ّ  ‬‬ ‫ونحن من�سك يا ّ‬
‫ال�صـبـح التي �أطف أ�ها اللّـيلُ ؟‬ ‫‪ ‬جنـمـة ّ‬ ‫ف أ�على‬
‫تـرى كــيف ن�سِ ـيناها؟‬ ‫وهي حتملنا)‬
‫‪ ‬و�أ ْ‬
‫يـــن!؟»‬ ‫احلمام �ضاحكة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬وبابك �أنت خارجة من‬
‫نغريا كلّها؟»‬
‫ال�س ّ‬‫«�رشبت ّ‬
‫‪6‬ـ نـــقــ�ش‬ ‫ّرت فيما كنت تغت�سلني من وعثاء رحلتنا‬ ‫فك ُ‬
‫غــ�صان حــاملةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫�أ‬ ‫أالخرية‬
‫ال�شــم�س قطــفــناها‬ ‫يف ّ‬
‫أ‬
‫وملنــا �ســلّــتــنا‬
‫‪3‬ـ املــر أ�ة العـنــكــبوت‬
‫ومــ�ضـيــنا‬ ‫ـخـمل‬
‫بـخطى ُم ٍ‬
‫ثمــار‬
‫ٍ‬ ‫فــيما ظــلـّــت بــ�ضع‬ ‫ـرير‬
‫ال�س ْ‬
‫تــتـقـ ّدم نــحو ّ‬
‫يف �أعــالها‬ ‫تـتـمـ�سح بي مثل قطّ ـتـها‬ ‫ّ‬
‫ــل‬
‫تــعـ�ض على الظّ ِّ‬
‫ّ‬ ‫عــالقة وهي‬ ‫خمـفي ٌة‬
‫ّ‬ ‫ظافر‬ ‫أ‬
‫ال‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫عرف‬ ‫كـنت �أ‬
‫كــنـقــ�ش �أثري!‬
‫ٍ‬ ‫تــحــت قــ ّفازها‬
‫‪7‬ـ يـوم أ‬ ‫�أ ّن هـذا الذي �سـاخ‪  ‬يف اللّـح ِم‪،‬‬
‫الحـد‬ ‫هـذا الذي حـ ّز يف العـظ ِم‬
‫هــو ذا يــوم أالحــ ْد‬ ‫العنكبــوت‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كــان �إذن وبــر‬
‫مــلي‪،‬‬
‫الر ِّ‬‫كــر�ســيـه ّ‬
‫ّ‬ ‫الرمــل عــلى‬ ‫يــ�ستــوي ّ‬ ‫ولــك ّنــني كنت �ألـعب لعــبتــها‬
‫يــجــتــر الــ ّزبــ ْد‬
‫ّ‬ ‫فــيما البحر‬ ‫و�أدير الكالم على‬
‫تبـي�ض عيــناه مــن ال ّزرقـةِ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫زبــ ٌد‬ ‫غري �أ�ســمائه‬
‫ني‬
‫ــج املاء يدير العــ َ‬ ‫زم ُ‬
‫فــيما ّ‬ ‫احلرير!‬
‫ْ‬ ‫�ســمــيه ماء‬‫و�أ ّ‬
‫‪230‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪10‬ـ ‪Saudade‬‬ ‫ال�ســـمك الطّ ــائ ِر‬
‫نــحو ّ‬
‫�أذكــر من بيـتـك يف مرتـوال‬ ‫ال يــ أ�به فينا ألحــ ْد!‬
‫مر�آة جمــعــتــنا‬ ‫‪8‬ـ قرفلة ألجيتو غون�سالفا�س‬
‫طــيـفيـن!‬
‫ْ‬ ‫يف غـب�ش املاء ال ّدافئ‬
‫الب�ستان‬
‫ْ‬ ‫حـني دخـلـنا املقـرب َة‬
‫فـيـما كان الفجر أالندل�سِ ي‬
‫يف بـورتو‬
‫يـتـنـفـّـ�س يف لوزيتـانيا‬
‫ووقـفـنا بـيـن يـدي ْه‬
‫يـتـ�سلّـق زئـبـقها‬
‫مل تـ أ�خذ مـن بـاقتها‬
‫يـلعـق فيها‬
‫غـري قـرنـفـلةٍ ‪،‬‬
‫اجلـ�سدين!‬
‫ْ‬ ‫بـلـ�سان املاء بـخار‬
‫غ�صان‬
‫ْ‬ ‫و�ضـعـتـها‪،‬وهي تـبـاعد بـيـن أال‬
‫‪11‬ـ خــريــف‬ ‫فوق القرب‪،‬وقـالت‪:‬‬
‫كــان على أال�شــجار �إذن!‬ ‫«واحـدة تـكفي لتـعـطّ ــر عـيـنـي ْه!»‬
‫�أن ت�ســـتــنــبت �أجــنحــةً‪،‬‬ ‫‪9‬ـ نـاوو�س‬
‫يــح‬
‫الر ُ‬ ‫وتالحــق ما �أخذتـــه ّ‬ ‫ع�ضاء‬ ‫هـذا جـ�سد خملوع أال‬
‫مــن أالوراق!‬ ‫ْ‬
‫ناوو�س‬
‫ٍ‬ ‫�سنمـ ّدده يف‬
‫‪12‬ـ �شــتــاء‬ ‫(�أعني يف �صندوق اللّيل احلجري)‬
‫�ســندور مــعا‬ ‫و�س أ��صقـل �أ ّياما �أخرى‬
‫يف ا�ســتدارة �أ�صــواتــنا‬ ‫الخـ ِر‬ ‫لـك من ج�سدي آ‬
‫كاجلــذور‬
‫ْ‬ ‫ثـم �أمـ ّددها‬
‫ّ‬
‫وهي تــبــحث جاهد ًة‪،‬‬ ‫�شياء!‬
‫ْ‬ ‫أ‬
‫ال‬ ‫مع‬ ‫ـندوق‬‫ال�ص‬
‫ّ‬ ‫ذات‬ ‫يف‬
‫يف مداراتــها‬ ‫‪9‬ـ نـــوم‬
‫عــن بــقايا رطـوبة‬
‫ــحيح‪.‬‬ ‫مـرات �أو�صيـتـكَ‬ ‫ّ‬
‫ال�ش ْ‬ ‫الــ�شــتاء ّ‬
‫هذا ّ‬
‫البيت‬ ‫�أن ال تـرتك م�صباح‬
‫ْ‬
‫‪13‬ـ قــراءة‬ ‫ـ حني تغادرـ‬
‫يــح‬
‫الر ُ‬‫وحـدها ّ‬ ‫مـ�شـتـعـال!‬
‫الغــ�صـون‬
‫ْ‬ ‫تــعــرف كــيف تــباعد بـني‬ ‫ات‬
‫مر ٍ‬‫ذكّ رتـك ّ‬
‫ــ�سغ‬
‫وحــده ال ّن ُ‬ ‫ا ّنـي عندي ما يكفي من �ضو ٍء‬
‫يــلــون‬
‫ّ‬ ‫يـعــرف كــيف‬ ‫ألهـدهـد نوم ْ‬
‫املي ْـت!‬
‫ــ�ضور �أوراقــها‬
‫َ‬ ‫يــخ‬
‫ْ‬ ‫والن �أنا وحدي‬ ‫آ‬
‫ــوت‬
‫ال�ص ُ‬ ‫وحــده ّ‬ ‫ـ وقـد ا�ستيقظ ـ‬
‫واحلركــات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ال�صــوامت‬
‫بــني احلــروف ّ‬ ‫قـل لـي ماذا �أفعل‬
‫مهــل‬
‫ي�ضيئ على ٍ‬ ‫يف هذا اللّيلِ‬
‫يــبــيـن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ويــ�ســمــي الذي ال‬
‫ّ‬ ‫زيـت!؟‬
‫وال م�صباح ي�ضيء وال ْ‬
‫‪231‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من وحي القرا�صنة‬


‫هالل احلجري‬
‫�شاعر من عُ مان‬
‫العابر املُتعايل‬
‫ُ‬ ‫لها ظِ لكَ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ف�سبحان َم ْن َم َّر‬
‫َ‬ ‫ل�ست وحي ًدا‬ ‫ُ‬
‫ر�ض‬‫يف أال ِ‬ ‫لدي اغرتابي‬ ‫َّ‬
‫�أو يف ال�سماء!‬ ‫الرفقة؟‬ ‫�أال‬
‫ي�ستحق ِّ‬
‫ُّ‬
‫(‪)4‬‬ ‫هنا‬
‫�شاطئ‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫البحر العجوز‬‫ُ‬ ‫هنيئا �أيها‬ ‫�أنزلَ فيه القرا�صن ُة جوار َيهم‬
‫�ضوء بعي ٌد‬ ‫هناك‬
‫ٌ‬ ‫حداهن‬
‫ّ‬ ‫�س أ� ّ‬
‫تزو ُج �إ‬
‫يتل أل يف روحك‬ ‫أ‬ ‫الرطَ ِب‬
‫لون ُّ‬ ‫�شهي ٌة لها ُ‬
‫�أعرين َو ْم�ضة منه‬ ‫و رائح ُة الطـ ّ ِلع‬
‫�سيدي‬ ‫يا ّ‬ ‫بحزين و حِ ْرماين‬ ‫طو ُقها ُ‬ ‫�س أ� ِّ‬
‫لتكن �رشار َة َن ْيزكٍ‬ ‫ْ‬ ‫ْلت من َ�ش َبقِ �آخِ ِر ال َق َر ِ‬
‫ا�ص َنة!‬ ‫لن تـُف َ‬
‫�أو‬
‫ذهبي يف ف ِم ُق ْر�صان‬ ‫ملع َة �سِ ٍّن‬ ‫(‪)2‬‬
‫ٍّ‬
‫ال يهم‬ ‫�إمعا ًنا يف َو ْحدتي‬
‫�أ َّي �شي ٍء‬ ‫الن‬‫تثاءب آ‬ ‫ُ‬ ‫�س أ�‬
‫غوار املظلمة‬‫�أ�ضيء به هذه أال َ‬ ‫زاه ًدا يف ك ِّل �شيء‬
‫يف جويف!‬ ‫فر ُ�س الن ْه ِر‬ ‫َ‬
‫(‪)5‬‬ ‫وح َده‬
‫�س ُيدركُ هذا ال�سرِّ !‬
‫َث ّمة يف �أعماقِ املحيط‬
‫تتل أل‬
‫�ضواء أ‬ ‫�أ‬ ‫(‪)3‬‬
‫ٌ‬
‫فن �ضائعة‬
‫فنارات ُ�س ٍ‬
‫ِ‬ ‫َيظ ّنها اجلاهلُ‬ ‫�صدقاء‬
‫ُ‬ ‫هم أال‬
‫ُ‬
‫لكنها يف احلقيقة‬ ‫الرياح �إليهم‬
‫ُ‬ ‫�إذا �أ�سلمتكَ‬
‫يتطاير‬
‫ُ‬ ‫�رشر‬
‫ٌ‬ ‫كم ِّر ال�سحاب‬ ‫فم َّر عليهم َ‬ ‫ُ‬
‫من �فوا ِه القرا�صنة‬ ‫أ‬ ‫ف أ�ما اجلبالُ العوايل‬
‫م�شائخِ نا ال ُقدامى‬ ‫فيكفيكَ من َم ِّ�سها الطلُّ‬
‫ب أ��سنانِهم الذهبي ِة‬ ‫مطر‬
‫يكفيكَ من حِ ْ�ضنِها َز ّخة من ْ‬
‫و لحِ اهم امل ُْخ َ�ض ّل ِة بالنبيذ‬ ‫و �أما الوها ُد‬
‫‪232‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كطائ ٍر جبلي‬ ‫�أراهم قريبا‬


‫انهيار العالمَ ِ حتت ال�سفح‪.‬‬
‫َ‬ ‫َي ْر ُق ُب‬ ‫ال�ش َع ِب امل َْرجانية‬
‫�س ُيحدقون بهذه ُّ‬
‫(‪)7‬‬ ‫�أ ِ‬
‫كواخ النفط‬
‫هاهم البدو‬ ‫و ُب ؤ� ِر القذارة!‬
‫ُ‬
‫�أطفالَ ال�صحرا ِء و ذئا َبها‬ ‫(‪)6‬‬
‫تراهم آ‬
‫الن‬ ‫ُ‬
‫ُ�صاء يف اجلوامع‬‫القرف َ‬ ‫يجل�سون ْ‬ ‫ها �أنذا‬
‫خلطيب اجلُمعة‬
‫ِ‬ ‫فاغرين �أفواههم‬ ‫�أ�ستوي على َع ْر ِ�ش التجلي‬
‫يح�شوها مواعظَ يف الوطني ِة‬ ‫وحي ًدا‬
‫و نعي ِم آ‬
‫الخِ رة!‬ ‫م�ستوح�شا‬
‫ً‬

‫من �أعمال الفنانة مانويال جيورج�سيان ‪ -‬لبنان‬

‫‪233‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مري ــم‬
‫جرجــ�س �شكـــري‬
‫�شاعر من م�رص‬

‫وا�سميها �أنت ‪.‬‬ ‫مرمي هذه‬


‫‪........‬‬ ‫مل تلد �إله ًا‬
‫ف أ�نا �رشيكة ال�شتاء يف هذا ال�صمت‬ ‫ومل ت�صعد �إىل ال�سماء‬
‫ال�صيف من �أعمايل‬
‫ِ‬ ‫و�صخب‬
‫ُ‬ ‫روحها رغيف خب ٍز‬
‫وقد منحتك ن�صيبي‬
‫اقت�سمته و�أعطتني ن�صف ًا‬
‫من هذا اجلنون ‪.‬‬
‫ف�رصت �أبدي ًا ‪.‬‬
‫‪.......‬‬
‫‪.....‬‬
‫�أ�ستعري مرمي من ال�شتاء وال�صيف‬
‫�أ ُقيم فيها‬
‫�صاخب‬
‫ٍ‬ ‫�أراها دائم ًا تتهي أ� ٍ‬
‫حلفل‬
‫ألنه ال بيت يل ‪.‬‬
‫وحتكي عن ده�شة ف�ساتينها من املحبة ‪.‬‬
‫ليتها كانت مكان ًا‬ ‫‪.....‬‬
‫و�أنا هناك �أقيم ‪.‬‬ ‫كنا ذات م�سا ٍء وفقدنا الليل‬
‫‪.........‬‬ ‫فمدت يديها‬
‫قالت ‪:‬‬ ‫وللوقت‬
‫حني ي�ضيع البيت وتختفي املدين ُة‬ ‫�صار ظالماً‪.‬‬
‫ثم تخلع الطبيعة مالب�سها‬ ‫‪.....‬‬
‫عري ًا‬
‫وي�صري ّ‬ ‫مرمي هذه تخا�صم النهار‬
‫يل حتى ترث ملكوت حمبتي ‪.‬‬ ‫تعال �إ ّ‬ ‫ومتنحني يديها لي ًال كام ًال‬
‫‪..........‬‬ ‫يف �شفتيها ُتولد الده�شة‬
‫مرمي هذه ك أ��س ٍ‬
‫ذهب بيد الرب‬ ‫فتبكي أال ُ‬
‫�سنان البي�ضاء‬
‫من خمرها �رشبت الدنيا‬ ‫وتقول يل ‪:‬‬
‫ولذلك فقد العامل ر�شده ‪.‬‬ ‫�س أ�بتكر ابت�سام ًة‬

‫‪234‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫كـ«�سرية النائم فـي ال�سكون»‬
‫مو�سى حوامدة‬
‫�شاعر من فل�سطني‬

‫بالفالك‪.‬‬ ‫وي ٌد تعبث أ‬ ‫ك�سري ٌة تلك املحبة‬


‫بقرى ال�صعيد‬ ‫ك�سريةٍ ظلَّلها احلجود‬
‫‪  ‬بتاريخ أال�سى‬ ‫ك�سريةٍ بال عرج‬
‫‪  ‬وتاريخ العبيد‪.‬‬ ‫امل�شاء‪.‬‬
‫متاهة َّ‬
‫ك�سري ِة النائم يف ال�سكون‬
‫‪  ‬ياء و�سني‬‫ٌ‬ ‫الذاهب يف الوجوم‬
‫فتى‬
‫ً‬ ‫احللم‬ ‫‪  ‬غادرين‬ ‫ال�ساكن يف اخلر�س‪.‬‬
‫‪  ‬وغادرين اليقني‪.‬‬ ‫ك�سيح ٌة بالدي‬
‫‪�  ‬سيف و�صالة‬ ‫ٌ‬ ‫لها ح�رشجةالناي‬
‫‪  ‬كلما �شبت احلرب‬ ‫رنني الهوية‬
‫‪ ‬تذكرت �أال �إله �إال اهلل‬
‫ُ‬ ‫عميقة أالثر‬
‫‪�   ‬أو�شك الرمل ان يطمر ح�صاين‬ ‫ال يحتاجها احلطاب‬
‫‪  ‬و�أن �أن�سى ال�صالة‪.‬‬ ‫ال يحتاجها الرخاء‬
‫‪�  ‬صليت وحدي‬
‫ُ‬ ‫حتتاجها العقيدة‪.‬‬
‫‪  ‬وحدتي جناة‪.‬‬ ‫�أ�صبغ ري�ش الهواء‬
‫خيلُ الروم حفرت على طريق القلب خطاه‬ ‫�أ�صف جثامني الطيور‬
‫‪  ‬بني رحلة ال�رشق‬ ‫�أع ُّد خطى ال�ضغينة‬
‫‪  ‬وغواية الغرب‬ ‫املدينة نتاج اليبا�س‪.‬‬
‫‪  ‬حدجتني كونتي�سة �إ�سبانية‬ ‫اليافع يف خ�رضته‬
‫‪  ‬بنظرة �صليبية‬ ‫�شجر مك�سور اخلاطر‬
‫يرجتف وثني‬
‫ْ‬ ‫‪  ‬مل‬ ‫م�صلوب ال�سبب‪.‬‬
‫‪  ‬مل يعاودين احلنني‪.‬‬ ‫بد�أ ُت �أغرز احلروف يف حلم الورق‬
‫‪�  ‬أم�ضي حراً من �أ�ساي‬ ‫�أكتب م أ�خوذاً ب�صورة النقو�ش الفرعونية‬
‫‪ ‬حراً من �شفاهيتي‬ ‫عتيق ًا مثل ف�سيف�ساء م أ�دبا‬
‫‪  ‬من نف�سي‬ ‫جدي ًا كما جي�ش ك�رسى‪..‬‬
‫‪  ‬ومن لغتي‪.‬‬ ‫ك�رسى‬
‫‪  ‬علِّتي �آ�رس ْة‬ ‫ك�رسى‪......‬كاف و�سني‬
‫ٌ‬
‫‪  ‬قلبي عليل‬ ‫‪� ‬أعمى يرى‬
‫‪  ‬والر ؤ�ى حا�رسة‪.‬‬ ‫‪  ‬يف خر�س العتمة‬
‫‪َ   ‬بل ٌل �أ�صاب الكون‬ ‫قمراً خمفوق ًا بالطني‬
‫‪�  ‬سال قلب العا�رشة‬ ‫راء و�سني‬
‫‪235‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪  ‬لقي ب�ساتيني العفونة‬ ‫أ‬ ‫�آخيت امل�سيح‬


‫‪ ‬و�أقي جراحي العطب‬ ‫م�سني جنون النا�رصة‬ ‫َّ‬
‫‪�  ‬شفَّني البوح‬
‫َ‬ ‫‪  ‬ما كنت م�شغو ًال‬
‫‪  ‬ونام كرمي عاري ًا عاريا بال �سماء‪.‬‬ ‫‪  ‬كانت جروحي ظاهرة‬
‫‪  ‬خب أ�ت يف كهف ال�سماء منازيل‬
‫‪  ‬يا بالدي‬ ‫‪  ‬وم�ضيت �أبحث عن �آخرة!‬
‫‪  ‬ل�ست مو�سى الفرعوين‬ ‫الليلُ م�صباح العمى‬
‫‪  ‬ول�ست �شعيب‬ ‫والداعمون �سما�رسة‬
‫‪�  ‬إنني �أنثى الرجاء‬ ‫‪ ‬ك ٌل �أقام لنا حروب ًا‬
‫‪�  ‬ضيعتني �أمي يف �سوق ال�رصافني‬ ‫رصه‬
‫ت�شفع نا� َ‬ ‫َ‬ ‫‪  ‬ك ٌل‬
‫‪ ‬وحني عدت للطريق‬ ‫‪......  ‬‬
‫‪  ‬كانت �سيناء حمبو�سة يف الكهرباء‪.‬‬ ‫‪ ‬ك�سري ٌة حكمة املهزوم‬
‫‪  ‬رجاء ال توقظيني‬
‫ً‬ ‫‪  ‬مت�شي على َم َه ِل‬
‫‪  ‬من هلو�ساتي‬ ‫‪  ‬وحتمل �آية الف�شل‪.‬‬
‫‪  ‬ال تدخليني‬ ‫‪�  ‬سيحدثنا الرمل عن �سرية الرمل‬
‫‪  ‬دوار أالبجدية‬ ‫‪�  ‬سيحدثنا العنكبوت عن قوة الن�سيج‬
‫‪  ‬ماخنت اخناتون‬ ‫‪  ‬وحكمة الهوان‬
‫وال خنت كليوباتره‬ ‫العجب‬
‫ْ‬ ‫‪�  ‬سنفتح باب‬
‫ِأل�شه ٍر العام‬
‫‪  ‬ما بعت امل�سجد أالموي‬ ‫‪  ‬نكتب تاريخ العرب‬
‫‪  ‬وال زورت تاريخ برتا‬ ‫وعام‬ ‫‪  ‬ل�شه ٍر‬ ‫أ‬
‫‪�  ‬أنقى من البيا�ض كنت‬ ‫ْ‬
‫‪ ‬ملكٌ على تاج أالبد‬
‫‪  ‬وكانت �رصوحي عامرة‬ ‫‪  ‬هذا �ضيائي م�صاب بالرمد‪.‬‬
‫‪  ‬قلبي ا�شتغال الكلمات‬ ‫‪�  ‬صادين النوم و�أنا �أحلم بالكمان‬
‫‪  ‬بت أ�ثيث احلا�رضة‬ ‫‪  ‬ب إ�لهة �إغريقية‬
‫خراب الكون‬‫َ‬ ‫‪ ‬عمرت‬
‫َّ‬ ‫‪  ‬حتملني بعيداً عن �إع�صار �إيجة‬
‫‪  ‬وما خنت رفاقي‬ ‫‪  ‬تر ُّد ل�شعبي الر�شد‬
‫‪  ‬وال �آخيت عاهرة‬ ‫‪  ‬لغايتي ال�صبابة‪.‬‬
‫‪  ‬كلُّ جرح يف يدي‬ ‫‪..........  ‬‬
‫‪  ‬كلُّ نزف قاطرة‬ ‫ر�ض الغزل‬ ‫‪  ‬من علَّم أال َ‬
‫‪  ‬ما خنت جندا‬ ‫الخفاء‬ ‫من �ألب�س التاريخ طاقية إ‬
‫وال بعت القاهرة‬ ‫بالزل‬‫‪  ‬مبهوت ًا أ‬
‫‪  ‬لكن املغول �أف�سدوا النا�س حويل‬ ‫‪�  ‬أكتب �سرية املفجوع‬
‫‪  ‬وما عاد ينفعني القر�آن‬ ‫ر�ض مل تزل‬ ‫‪  ‬يف �أ ٍ‬
‫‪  ‬وال �سورة التحرير‬ ‫‪  ‬تعطي املري�ض مداد أالمل‬
‫‪�  ‬أطوي البالد طي ًا‬ ‫‪  ‬ومتنح العدو زاد اخلجل‪.‬‬
‫‪  ‬و�أعود من نقطةٍ خا�رسة‪.‬‬ ‫‪  ‬من علَّم أالر�ض الغزل‬
‫‪236‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ق�صائد‬
‫منـــال أ�حمـــد‬
‫�شاعرة من عُ مان‬

‫تُ�ضيء ُ عتمة َ هذا املكان‪،‬‬ ‫تفا�صيل‬


‫ربمّ ا كان �إدراكُنا �أقل ّ وعيا ً‬ ‫لتت�صاعد ِ الأنفا�س‬
‫ك�سلّم ِ مو�سيقى يندر ُج يف �إيقاع منتظم ٍ �أذكر ُ تلك الع�صا االفرتا�ضية‪،‬‬
‫مما نعتقد ُ ويف كثري ٍ من الأحيان‪،‬‬ ‫للماي�سرتو‪.‬‬
‫ي منا‪.‬‬ ‫ب جام َ غ�ضبكَ على � أ ِّ‬ ‫�أنّكَ ت�ص ُّ‬ ‫هل يمُ كننا ن�سيان الكون؟‬
‫ال�ساحر‬ ‫ثمّة َ �شيء ٌ ما غائب عنّا‪..‬‬
‫�صورة ٌ معتمة ملعامل وا�ضحة التكوين‬
‫ت ما بني حلظة ٍ و�أخرى‬ ‫ن�سمع ُ ال�رصخا ِ‬
‫تفا�صيل ُ ال ينق�صها احلدث‪.‬‬
‫ت ال�ساحر ُ املغرور‪..‬‬ ‫لقد ما َ‬
‫يا مالئكة َ ال�سماء‬ ‫يف كثري من الأحيان‬
‫�إنَّ بنات نع�ش يف الأودية‪.‬‬ ‫ف ريا ٍح ليليّة‪،‬‬
‫خطواتكَ التي ت�شبه ُ حفي َ‬

‫من �أعمال الفنانة �آمنة الن�صريي ‪ -‬اليمن‬

‫‪237‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يا �أبي‪.‬‬ ‫حبّات العرق‬


‫ما �ش�أنك والليل‬ ‫ث ذلك حني ملع َ القمر ُ مثل الف� ّضة‬ ‫حد َ‬
‫ما �ش�أنكَ والليل‬ ‫لينقب�ض هذا ال�سكون يف الزوايا‪،‬‬ ‫ْ‬
‫�إتركْ لنا القمر َ يف النوافذ‪..‬‬ ‫هذه �أنا �أقود ُ خطواتي ال�رسيعة‪،‬‬
‫ت الريحُ مقاومة ً على‬ ‫ث عن ملج� أ حللمه‪،‬‬ ‫كمن يبح ُ‬
‫لقد ن�ضجَ املاء‪ ،‬مثلما �أبد ِ‬
‫ورمبا تكو ُن نقطة ارتكاز ٍ حلالة ٍ معينة‪،‬‬
‫�سطحِ النهر‪،‬‬
‫�إذ �إنَّ هذا ما �أبغي‬
‫وهذا البوم �أيقظَ الغابات‪.‬‬
‫كندف الثلج‬
‫ِ‬ ‫ت العرق‪،‬‬ ‫هنا ت�ستقطرين حبّا ُ‬
‫ت ينق�ضي كما �أوحي لنا‪،‬‬ ‫ال تد ِع الوق َ‬ ‫حيث ال مكانَ الثنني على �سطحِ املاء‪،‬‬
‫ففي �ضوء ِ الفجر ِ العايل‪،‬‬
‫�أنا و�أنا فقط‬
‫كانت موائدُنا مُعدّة ً بطراز ٍ �أندل�سي‪،‬‬
‫ف �إىل �شخ�صي الآخر‪،‬‬ ‫حماولة ٌ جيدة ٌ للتعر ّ ِ‬
‫ب حاملا ينطفئ‪.‬‬ ‫فيخفق الله ُ‬ ‫يف كونه يرى ما �أرى‪،‬‬
‫غرباء‬ ‫عرف‪ ‬هل كانت ت�شبهني ال�صورة؟‬ ‫ال � أ ُ‬
‫عمّا قليلٍ �سنغدو غرباء‪،‬‬ ‫ا أ‬
‫لبوّة الناعمة‬
‫دعنا ن�ؤوّل الأمر‬ ‫ت هذه حني تختفي من‬ ‫عرف هذه االبت�ساما ِ‬ ‫�أ ُ‬
‫�إنَّ رحلة َ الأم�س التي ما نكاد ُ نبلغها �إال ّ ب�شق ِّ‬ ‫فم ِ الكالم‪،‬‬
‫الأنف�س‪،‬‬ ‫ت نبوءات �سماويّة ال يدر ُك‬ ‫عرف �أنَّ ال�صم َ‬
‫و� أ ُ‬
‫وال نكاد ن�صل‬ ‫كنهَها �أحد‪،‬‬
‫علّمتنا �أن نقطع َ البحار َ لنت�أكّد‪،‬‬ ‫ب‬ ‫كذلك هي الأبوّة ُ الناعمة ُ التي تلجُ القلو َ‬
‫ط ما قد �أرهقنا التعب‪،‬‬ ‫من فر ِ‬ ‫ب�شغف‪.‬‬
‫فمنذ �أعوامٍ �سبعة‪،‬‬ ‫في�ض من الفر ِح ينفذ ُ عرب امل�سامّ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وهذا الوح�ش رفيق منامي‪،‬‬ ‫ليل ٌ ال ميكنُ جتاهله‪،‬‬
‫ال �أكاد �أجد تف�سريا ًلطريانه‪،‬‬ ‫فالبحر ُ ميتد ُّ ك�ساحله ِ وفوق ال�سفنِ تهبطُ‬
‫ال�شم�س يف كفّي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫فكلّما نه�ضت �سقط ْ‬ ‫النوار�س‪..‬‬
‫خارطة ودماء‬ ‫لقد �أدركنا الوقت ومل نزلْ يف املا�ضي‪،‬‬
‫ت للتو‬ ‫جرا�س �رصخ ْ‬
‫ع�شا�ش الطيور ِ تنهار ك� أ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫�أ‬ ‫يا بريقَ �أمل ال يفنى‬
‫القطار‪ ..‬القطار‬ ‫هي ذي �أُمّي تعد ُّ القهوةَ‪ :‬زهرة تقابل ُ زهرة‪..‬‬
‫الطر ُق تعلّمنا الر�سم‪..‬‬ ‫فما يجعلكَ تهد� أ ن�رشة ُ الأخبار‪ ،‬والوحدة‬
‫لن�رسعْ‪.‬‬ ‫العربية‬

‫‪238‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ق�صائد‬
‫�إبراهيــم زولـــي‬
‫�شاعر من ال�سعودية‬

‫يف حماولة لإقناعه‬ ‫انتظار‬


‫�أن ال�صحراء مل يجلبها معه‬ ‫�سوف ابحث عن وجهك‬
‫�إىل هذا املكان‬ ‫خفية من الآخرين‬
‫و�أن �سخافاته مل يتمكن من‬ ‫ال �أعرف �أي ّ الطرق‬
‫فك ّ �شفرتها‬ ‫حتفظ �أ�سماءك عن ظهر قلب‬
‫لكنه كان م�ستعدا لالعتزاز بها‬ ‫لكنني �س�أذهب‬
‫مل يكن �أمامه خيار �إال �أن‬ ‫عارفا �أنني امتحن م�صريي‬
‫يعود �إىل ج�سده‬ ‫م�صريي الذي‬
‫لأنه لي�س م�ضطرا‬ ‫مل �أره من قبل‬
‫لتف�سري كل �شيء‬ ‫كل ّ مرة �أكون يف انتظارك‬
‫حتى عندما ر�أى �صوته‬ ‫تت�صاعد هذه الرجفة‬
‫يحيطه بدائرة حول عنقه‬ ‫و�أفقد الكثري مما ي�صعب‬
‫وي�سد ّ عليه الطريق‬ ‫جتاوزه‬
‫�شهود‬ ‫و�أنا يف طريقي‬
‫يف البدء‬ ‫�إليك‬
‫�أفكر يف �سماء‬ ‫ج�سد‬
‫تلهث يف الظالم‬ ‫هذا اجل�سد‬
‫�أ�شعر �أن الكتابة تتدحرج‬ ‫مل يعد ي�أبه كثريا باملوت‬
‫حتت ال�رسير‬ ‫لأنه يحر�س ف�ضائحه بجدارة‬
‫و�أن هذا الليل تخطفه احلمى‬ ‫واليهتم ّ بت�سديد النفقات‬
‫�أرى �شهودا‬
‫على الأقل ّ‬
‫يجل�سون حتت �شم�س مك�سورة‬ ‫حري�صا على العزلة‬
‫ي�صطادون الأجنحة يف اخلفاء‬
‫يف خالف دائم‬
‫قبل �أن �أمد ّ يدي‬
‫مع اجلنون‬
‫خرج كذراع ال�ضوء يف خفّة‬
‫متنياته الطفولية �أن يتعلم‬
‫يت�سكع يف ال�شوارع‬
‫�صالة اجلنازة‬
‫حيث حار�س املوت‬
‫واقفا يف انتظاره‬ ‫وما يدعوه لل�ضحك با�ستمرار‬
‫دائرة‬
‫‪239‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على ر�أ�سي‬ ‫م�شهد‬


‫و�ألهب ظهر الق�صيدة‬ ‫قال لنف�سه قُ�ضي الأمر‬
‫ب�سياط القلق‬ ‫مل يرتك له الأثر‬
‫�إياك‬ ‫فر�صة لليقظة‬
‫يجذب يف �رضاعة الدروب النائمة‬
‫�إياك‪..‬‬
‫ف �أع�ضاءها يف قمي�صه‬ ‫التي تل ّ‬
‫�أن ت�شقّ مبفردك الطريق �إىل الغابة‬
‫و�سط هذه الفو�ضى‬
‫جة �أن عا�صفة تطعن �أ�شجارها‬ ‫بح ّ‬ ‫طلع النهار من اجتاه �آخر‬
‫�إياك‪..‬‬
‫لدرجة ميكن ا�ستخدامه‬
‫�أن ت�ضبط عيونا ت�شع ّ باحلنني‬ ‫كخلفيّة جلهاز الكمبيوتر‬
‫لأنك �إما خمبوال �أو‪....‬‬ ‫قرّر �أن يبقى فمه مفتوحا‬
‫�إياك‪..‬‬ ‫�أو تتوقف طفولته‬
‫�أن تبحث عن معنى لأن الق�صيدة‬ ‫عن التحديق يف الكلمات‬
‫هي الن�صل الذي ي�شق الفراغ‬ ‫ظل ّ يراقب امل�شهد‬
‫�إياك‪..‬‬ ‫وهي جترجر رجليه‬
‫�أن تتوجه وحدك ال�ستقبال النهاية‬ ‫�إىل قف�ص و�سيم‬
‫كما أ�نا‬ ‫حدث ذلك لأنني‬
‫مل �أرق�ص مبا‬
‫‪...‬كما �أنا‬
‫فيه الكفاية‬
‫ا�ستخدم املناديل امل�ستعملة‬
‫�أقر� أ اجلريدة من ال�صفحة الأخرية‬ ‫�أبي‬
‫ا�ضطجع على الأر�ض عندما‬ ‫داخل هذه الغرفة‬
‫يفاجئني ال�سعال‬ ‫متر ّ احلكايات الغريبة‬
‫�أ�شكر التاريخ على نتائجه الفنتازية‬ ‫كان من املثري‬
‫�أحتمّل بني احلني والآخر‬ ‫�أن مير ّ �أبي‬
‫عبء الأ�سماء‬ ‫ي�سرتق ال�سمع‬
‫�أحلم بق�صيدة المعنى لها‬ ‫يحاول �أن ي�أمرين باالعرتاف‬
‫�أحدّق يف اخلرائط‬ ‫يف وح�شة فائ�ضة‬
‫وال �أجد مدينتي‬ ‫هذه فا�صلة �أنيقة‬
‫ال �أ�صمد �أمام االختالف‬ ‫حتدّق يف‬
‫�أكتب قبل النوم‬ ‫�أع�ضائي بذهول‬
‫حتى �أ�صدّق كوابي�سي‬ ‫رمبا ل�ست �أنا‬
‫‪......................‬‬ ‫الذي يبذر حنطة الع�شاق‬
‫‪......................‬‬ ‫وي�سوي بني حوا�س الطري‬
‫ياللف�ضيحة‪.‬‬ ‫لكنني كنت �أ�ضع تاج و�صاياك‬
‫‪240‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫�شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر ‪� ..‬شـــعــر‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يتنا�سلون كالطحالب‬
‫عبداملجيد الرتكي‬
‫�شاعر من اليمن‬

‫ومرايا �شاهدة‬ ‫‪ j‬يغادرون من ذاكرة‬


‫على �صخب‬ ‫هاتفي‬
‫امل�سافة بينهم‬ ‫بلحوم مذبوحةٍ‬
‫ٍ‬ ‫مكتظِّ ني‬
‫وبني القم�صان املتناوبة‬ ‫خارج امل�سلخ‬
‫على ُعري امل�شاجب‪..‬‬ ‫وخارج دفرت الديون �أي�ض ًا ‪..‬‬
‫‪ j‬تباع ًا تقافزوا من‬ ‫‪ j‬ال يعرفون �شيئ ًا‬
‫رحم التاريخ‬ ‫عن البو�صلة‪،‬‬
‫كطلقات فارغة ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فهم يذبحون باجتاه �أي قِ بلةٍ‬
‫ومفتاحه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ك ٌّل له فاتحِ ُ ُه‬ ‫يولُّون �شطْ َرها‬
‫رايات متوارث ًة‬ ‫ٍ‬ ‫حاملني‬ ‫ويجدون وجوههم‬
‫ال تزال خ َّفاق ًة‬ ‫فيها‪..‬‬
‫ما داموا يحملونها‪،‬‬
‫وخرائط ر�سمها‬ ‫‪ j‬يتنا�سلون كالطحالب‬
‫لكنهم ال يتعلَّمون منها‬
‫باء م ؤ�قتون‬ ‫�آ ٌ‬
‫ك ٌّل طُ رقها ت ؤ�دي‬ ‫معنى التنقية‪..‬‬
‫�إىل ُعنق الزجاجة‪..‬‬ ‫‪ j‬ي ؤ�منون ببع�ض الكتاب‬
‫‪ j‬يعلَّقون على‬ ‫ويكفرون بكلِّه‪،‬‬
‫�شجرة العائلة‬ ‫ُيرممِّ ون تهالكهم‬
‫�سال ًال من الفواكِ ْه‬ ‫بق�صائد‬
‫ليكتبوا على ك ِّل‬ ‫نا�ضحة بالف�ضحية‬
‫واحدةٍ منها‬ ‫رغم كتابتها على طريقة ‪:‬‬
‫عظيم‬ ‫ا�سم َج ٍّد‬ ‫ال�رشف الرفيع”!!‬
‫ُ‬ ‫«ال ي�سلم‬
‫ٍ‬
‫مت اكت�شافه م ؤ�خراً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ j‬يعرفون جيداً‬
‫لكنها ال تلبث �أن تت�ساقط‬ ‫�أنهم انحدروا‬
‫ك أ� ِجـنـَّةٍ طارئني‬ ‫قم�صان‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫مت دفنهم بني‬ ‫خِ ْيطَ ْت لتبقى ُمعلَّق ًة‬
‫نفايات امل�ست�شفى‪..‬‬ ‫على م�شاجبهم‪،‬‬
‫‪241‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صو�ص‬

‫ال�صورة بعد�سة‪� :‬شم�سة حمد احلارثية ‪ُ -‬عمان‬

‫‪242‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دون �أن ت�سمي الأ �شياء ب�أ�سمائها‬


‫هـــدى اجلهوريــــة‬
‫كاتبة وروائية من عُ مان‬

‫�سيف خُ لق لـ �أبيه ولي�س لها هي‪ ..‬خُ لق متجهما‬ ‫تُوقف نفي�سة با�ص املدر�سة بالقرب من فيال تتكون‬
‫وعاب�سا و�شديد االنزواء‪� .‬إال �أنه كان نافرا ومتنائيا‪،‬‬ ‫من طابقني‪ .‬تُ�شري �إىل �صديقاتها بتكلف‪« :‬هذا هو‬
‫ويرتك امل�سافة بينهما لتكرب وتكرب‪�..‬إىل �أن يخرتقها‬ ‫بيتنا‪..‬هنا �أعي�ش» لكن ال �أحد يكرتث ملالحظتها تلك‪.‬‬
‫والده بال�رضب العنيف لكي ي�صبح رجال حقيقيا‪.‬‬ ‫تدخل من بوابة الفيال الأ مامية‪ ،‬لتخرج �إىل البوابة‬
‫هكذا �أخذه منها‪ ،‬وجعل منه طفال � آخر ال تعرفه‪ ،‬وال‬ ‫اخللفية دون �أن تلتفت‪ .‬ت�صل �إىل منزلها الق�صي‬
‫ت�شعر جتاهه �إال ب�شبه ب�سيط بطفلها الذي ذهب بعيدا‪.‬‬ ‫بني البيوت املرتا�صة‪ .‬بيت �صغري‪ ،‬يحيط به حو�ش‬
‫كانت تريد بنتا جميلة تعق�ص لها �شعرها بال�رشائط‪،‬‬ ‫منخف�ض‪ ،‬زرعت بداخله �أمها املجنونة عوي�ش – كما‬
‫وتلب�سها املالب�س التي حتيكها بيديها وتذهب �إىل‬ ‫يلقبها اجلريان‪ -‬الكثري من الأ زهار والورود امللونة‪،‬‬
‫بنات اجلريان �أيام العيد ب�أجمل زينة‪ .‬تريد بنتا‬ ‫و�أ�صبحت هذه هي ت�سليتها الوحيدة بعد انف�صالها‬
‫تهبها وقتها وفراغها عندما ي�سافر زوجها ليعمل يف‬ ‫عن زوجها‪ ،‬وبعد �إ�صابتها بحاالت متكررة من ما‬
‫ال�سعودية‪ ،‬ويبقى هناك لأ �شهر طويلة‪ ،‬تريد �ضم ابنتها‬ ‫ي�شتبه �أنه �رصع‪.‬‬
‫�إىل �صدرها لتنام‪ ،‬وهي ت�شعر بالأ مان‪ .‬تريد بنتا تكرب‬ ‫مل تعد عوي�ش تفعل �شيئا مهما يف حياتها‪ ،‬تُعد القهوة‬
‫يف البيت ال�صغري وتنادي ا�سمها‪ ،‬وتطعم مثلها القطط‬ ‫وتخرج �صحنا من التمر‪ .‬تفرت�ش ح�صرية �صغرية‪،‬‬
‫ال�ضالة‪ ،‬وحتب النباتات ورعايتها وت�شذيب �أطرافها‪.‬‬ ‫وت�سقي الأ �شجار‪ .‬ال تخرج �إال نادرا �إىل جاراتها‪،‬‬
‫كانت ت�ضع يدها طويال على بطنها‪ ،‬وتتلم�س طفلتها‬ ‫ونفي�سة ال تتبادل معها الكثري من الكالم‪ .‬تن�شغل‬
‫التي ترف�سها بنعومة مغرية طوال الليل والنهار‪ ،‬وهي‬ ‫بالدرا�سة طوال الوقت‪ ،‬وبالتحدث �إىل جدتها التي‬
‫تتلذذ بذلك احلديث ال�رسي الذي يدور بينهما‪ ،‬وال �أحد‬ ‫باتت ت�سري على كر�سي مزود بالعجالت‪..‬الدرا�سة‬
‫�سواهما يفهمه‪ ،‬كانت تخربها بكل �أ�رسارها‪ ،‬وك�أن‬ ‫واجلدة كانا خال�صها الوحيد من الإ ح�سا�س بالوحدة‪،‬‬
‫�صديقة جديدة تت�شكل يف �أح�شائها‪ ،‬تتخيل �أنها تلم�س‬ ‫ومن �أم ال تبادلها الكالم‪ ،‬بينما يغيب �أخوها الأ كرب‬
‫�أذنها وتخربها بالكثري من احلكايات‪ ،‬ويف حو�ض‬ ‫�سيف عند عمه يف والية عربي‪.‬‬
‫املزرعة الذي تغطيه �أ�شجار النخيل واملاجنو من جهة‬ ‫بعد والدة نف�سية �أ�صيبت عوي�ش بحالة من الهذيان‪،‬‬
‫ومن جهة �أخرى تغطيه �أ�شجار املوز ت�سرتخي عوي�ش‬ ‫وك�أن م�سا قد �أ�صابها بعد خروج ذلك اجل�سد منها‪.‬‬
‫بج�سدها‪ ،‬وتلهو باملاء وك�أنها تالعب �شخ�صا ما ال‬ ‫كانت تنام يف �رسير امل�ست�شفى وزوجها ينتظرها يف‬
‫يراه �أحد غريها‪� .‬شخ�ص تعرفه‪ ،‬ومتتلئ به وت�شعر �أنه‬ ‫اخلارج‪ ،‬وحتيط �أمها واملمر�ضة بر�أ�سها‪ ،‬بينما تقف‬
‫يكفيها عن �أي �شيء � آخر‪.‬‬ ‫الطبيبة بني �ساقيها ترتقب �أن تلد عوي�ش مولودها‬
‫كان زوجها «را�شد» غائبا حتى يف ح�ضوره يق�ضي‬ ‫الثاين‪..‬كان قد مرّت �سبع �سنوات منذ والدتها لـ �سيف‪،‬‬
‫الليل يف ال�سهر‪ ،‬وال�رشب بعيدا حيث ال�سمر و�شجر‬ ‫وكانت تنتظر احلمل الثاين بلهفة كبرية‪� ،‬إال �أنها‬
‫الغاف الوفري مع �شلة الأ �صدقاء اخلائبني مثله‪ ،‬و�أولئك‬ ‫كابدت املوت وهي تلد‪.‬‬
‫العاطلني عن العمل‪ .‬يعود مرتنحا‪ ،‬ومتعبا‪ .‬ي�سقط على‬ ‫�أمها اخلبرية ب�أمور الن�ساء كانت تهم�س يف �أذنها‪:‬‬
‫�رسيره كما ت�سقط نخلة جافة �أتعبها الوقوف يف وجه‬ ‫«وجع البنت يختلف عن وجع الولد‪ ..‬البنت تطلع عني‬
‫املحل‪ ،‬لكنها ال تكرتث له فثمة كائن � آخر ت�شعر �أنها‬ ‫�أمها» فمنذ �أن ر�أت ا�ستدارة بطنها قالت لها‪« :‬هذي‬
‫معنية به‪ ،‬ي�شغلها بكلها عنه‪ ،‬بينما ي�أوي «�سيف» يف‬ ‫بنت‪ ،‬وهم البنات �إىل املمات»‪ .‬فرحت عوي�ش كثريا‪،‬‬
‫فرتة الليل يف بيت جده‪ ،‬وجدته‪.‬‬ ‫وكادت �أن تطري �إىل ال�سماء‪ .‬كانت تنتظر بنتا لأ ن‬
‫‪243‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جميلة‪ ..‬مربوك‪ ..‬مربوك» �أغم�ضت عوي�ش عينيها‬ ‫منذ �أن دخلت ال�شهر ال�سابع‪ ،‬و�أخربتها عني �أمها‬
‫وا�ست�سلمت لنوم عميق وبعيد‪.‬‬ ‫الب�صرية ب�أمور الن�ساء �أن كل العالمات ت�شري �إىل‬
‫ا�ستيقظت على �صوت املمر�ضة التي �أح�رضت طفلتها‬ ‫�أنها حتبل بفتاة‪ ،‬وهي حتيك املالب�س القطنية ذات‬
‫نظيفة والمعة وملفوفة ب�شكل جيد يف قماطها‪.‬‬ ‫الأ لوان اجلميلة‪ ،‬وتفكر با�سم جميل تهبه لها‪ ،‬ولكنها‬
‫طلبت منها املمر�ضة �أن تر�ضعها لكنها رف�ضت ذلك‪،‬‬ ‫مل جتد �أجمل من ا�سم نفي�سة لأ ن هذه الطفلة �ستكون‬
‫حاولت املمر�ضة �أن جتربها على فك �أزرار قمي�صها‬ ‫�أنف�س ما لديها و�ستحبها �إىل حد جنوين‪ .‬منذ ذلك‬
‫لتلقم الطفلة اجلائعة حلمة �صدرها لكنها رف�ضت ذلك‬ ‫اليوم �أطلقت عليها ا�سم نفي�سة‪� ،‬أخذت تتحدث �إليها‬
‫وبد�أت ال�رصاخ‪� ..‬رصخت كاملجنونة‪.‬‬ ‫وتناديها با�سمها الذي �أحبته كثريا‪ ،‬وكانت ت�شعر �أنه‬
‫�أم عوي�ش قالت �إنه احل�سد‪ ،‬ويف ق�صة �أخرى قالت‬ ‫يليق بها‪..‬‬
‫�إن جنيا يكيدها‪ ،‬و�ضعت لها «مغبارا» قرب �صالة‬ ‫والدتها لـ �سيف كانت ي�سرية‪..‬ثمة �أمل ميكن ال�صرب‬
‫املغرب‪ .‬و�ضعت لها واحدا بعد الآ خر‪..‬لكن دون‬ ‫عليه‪ ،‬يكرب الأ مل ثم يرتاجع‪..‬يكرب ثم يرتاجع �إىل �أن‬
‫فائدة‪.‬‬ ‫انزلق بهدوء‪ ،‬و�أطلق �رصخته الأ وىل يف احلياة‪.‬‬
‫حتى �أن الطبيب احتار يف �أمرها‪ ،‬ويف جل�سة نقا�ش‬ ‫لكن نفي�سة تركت روح عوي�ش معلقة يف ال�سقف ال‬
‫�صغرية مع الزوج‪ ،‬والأ م قال الطبيب‪�« :‬إنه االكتئاب‬ ‫هي قادرة على العودة �إىل اجل�سد‪ ،‬وال هي قادرة على‬
‫الذي ي�صيب بع�ض الأ مهات بعد الوالدة‪..‬حتتاج �إىل‬ ‫الو�صول �إىل ال�سماء‪ .‬هكذا بقت بني بني‪ ..‬وك�أن ج�سدها‬
‫عناية كبرية» ثم التفت �إىل الزوج قائال‪« :‬خ�صو�صا‬ ‫رف�ض الروح كما رف�ضتها ال�سماء‪ ،‬فانح�رشت يف‬
‫من قبلك �أنت»‪ .‬ان�سحبت �أم عوي�ش من �أمامه متذمرة‪،‬‬ ‫�سقف غرفة امل�ست�شفى امل�شحونة ب�رصاخ الأ خريات‬
‫وهي تتمتم ‪�« :‬أطباء � آخر زمن‪..‬ال يعرفون �شيئا‪..‬‬ ‫القادمات من الواليات املختلفة من �أجل الوالدة‪.‬‬
‫اكتئاب!! كانت روح عوي�ش معلقة يف هذه الفتاة‪..‬‬ ‫�رصخت �أم عوي�ش‪« :‬ابنتي بحاجة �إىل عملية»‪ .‬قالت‬
‫كانت حت�سب الأ يام يوما يوما لأ جل �أن تراها‪ ..‬من‬ ‫الطبيبة‪« :‬و�ضع اجلنني جيد‪ ،‬وهي بخري‪ ..‬ميكنها �أن‬
‫�أين جاء االكتئاب‪ ..‬من �أين !»‪ .‬مل يعلق الزوج‪ ،‬كان‬ ‫ت�صمد»‪�.‬صمدت عوي�ش ل�ساعات طويلة‪ ،‬و�أمل هائل‬
‫يفكر يف �سهرة امل�ساء‪ ،‬وثمن ال�رشاب‪ ،‬وهو يتح�س�س‬ ‫ينبت يف ظهرها‪ ،‬ويكرب ب�رسعة مرعبة ثم ما يلبث �أن‬
‫جيبه الفارغ‪.‬‬ ‫يختفي‪ ،‬ويتال�شى كال�سحر‪.‬‬
‫اجلارة �أم ح�سن هي التي �أر�ضعت نفي�سة مع ابنها‬ ‫�شعرت �أن كائنا خبيثا تلب�س بج�سدها كائنا �أكله‬
‫ح�سن كانت تدر احلليب بكرثة‪ ،‬ومل متانع �أبدا يف‬ ‫احل�سد لكي ال تتم �أفراحها جيدا‪� ،‬رصخت الطبيبة‬
‫جف‬
‫تقدمي هذه اخلدمة خ�صو�صا و�أن حليب عوي�ش ّ‬ ‫الهندية بلهجة متك�رسة‪« :‬بو�ش‪ ..‬بو�ش‪ .‬يا اهلل ‪.‬يا اهلل»‬
‫من االكتئاب �أو احل�سد‪،‬والأ دوية التي كانت تتناولها‬ ‫دفعت عوي�ش بكل قوتها‪ ،‬والطبيبة ت�رصخ‪« :‬بيبي‬
‫با�ستمرار‪ ،‬ولكن بعد �أن بد�أ حليب �أم ح�سن يف التناق�ص‬ ‫جاي‪ ..‬بيبي جاي» دفعت بطاقة خرافية مل تعرف‬
‫اعتذرت لـ �أم عوي�ش‪ ،‬وذلك بعد �أن �أكملت نفي�سة ال�ستة‬ ‫من �أين كانت ت�ستعريها‪ ،‬ثم �شعرت بذلك ال�شيء‪ ،‬وهو‬
‫�أ�شهر‪.‬‬ ‫ينزلق بني �ساقيها‪.‬‬
‫احلقيقة �أنها ادعت �أن حليبها بد�أ بالتناق�ص‪ ،‬و�أنه‬ ‫مل تلتفت عوي�ش لتنظر لوجه الطفلة‪ ،‬والدكتورة‬
‫بالكاد يكفي طفلها ال�صغري‪ ،‬لأ ن احلديث عن نفي�سة‬ ‫ت�ضعها على �صدرها‪ ،‬وكمية هائلة من الدم والأ و�ساخ‬
‫املنحو�سة بد�أ يكرث‪ ..‬ال تكف احلارة ب�أكملها يف تلك‬ ‫تغطيها‪� .‬أ�شاحت عوي�ش بوجهها بعيدا‪ ،‬ونفي�سة تطلق‬
‫القرية عن التحدث عن جلبها ال�ش�ؤم منذ ميالدها‪،‬‬ ‫�رصخات متوا�صلة دون توقف‪.‬‬
‫فمر�ض عوي�ش الذي مل يفهمه الطب �أحدث �ضجة‬ ‫نظرت عوي�ش بقرف لذلك الكائن اللزج الذي ا�ستلقى‬
‫هائلة يف القرية‪..‬حتى �أن موت املاعز والبقر نُ�سب �إىل‬ ‫على �صدرها‪ ،‬ورائحة الدم تنت�رش بقوة يف املكان‪.‬‬
‫�ش�ؤمها بالرغم من �أن الطبيب البيطري الذي زارهم‬ ‫مل ت�ضم نفي�سة كما حلمت طويال �أن تفعل ذلك‪ ،‬بقيت‬
‫�أكد �أن ثمة وباء يتف�شى بني احليوانات �إال �أن �أحدا‬ ‫جامدة يف مكانها‪ ،‬وال طاقة لها لفعل �شيء تقاذفت‬
‫مل ي�صدقه‪ ،‬كما �أن نح�س نفي�سة تطاول �إىل ال�سماء‪،‬‬ ‫الطبيبة واملمر�ضات التهنئة من كل �صوب «طفلة‬
‫‪244‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫لأ �شهر قيا�سا ب�أقرانها‪ ..‬فهي تدخل عامها الثاين دون‬ ‫وحجب نزول املطر !!‬
‫خطوات متوازنة‪ ،‬ودون �أن ت�سمي الأ �شياء ب�أ�سمائها‪.‬‬
‫مل تفلح ابت�سامتها يف جذب انتباه والدها �أو اهتمامه‬ ‫[ [ [‬
‫ب�ضمها �إىل �صدره �أو تقبيلها‪..‬كما مل يفعل ذلك مطلقا‬ ‫من ح�سن حظ نفي�سة �أنها بد�أت بتناول الطعام‬
‫طوال عاميها الفائتني‪..‬كان يكتفي مبراقبتها عن‬ ‫املهرو�س‪.‬كانت حتب الهري�س والعر�سية‪ ،‬والأ رز مع‬
‫بعد‪ ،‬ويتلم�س الأ عذار الكثرية للهرب‪.‬‬ ‫املرق‪.‬كانت �شهيتها مفتوحة‪ ،‬و �أم عوي�ش ال تكف‬
‫يف هذه اللحظة بقي را�شد جامدا يف مكانه كمن ينظر‬ ‫عن االعتناء بها عناية فائقة‪ .‬حتيك لها املالب�س‪،‬‬
‫�إىل عفريت �صغري �سينقل �إليه عدوى مر�ض ما �إذا‬ ‫وحت�رض لها الأ لعاب‪ .‬بينما عوي�ش مل تفارقها الك�آبة‬
‫مل�سه‪� ،‬أو ت�صادم معه‪ .‬ظلت ترفع يديها �إىل الأ على يف‬ ‫منذ الوالدة‪ ،‬وكانت تغرق يف حاالت غري مربرة من‬
‫حماولة منها للمحافظة على توازنها لتبقى واقفة‪،‬‬ ‫البكاء‪.‬‬
‫وقبل �أن تقع يف ح�ضنه ا�ستل را�شد ج�سده واقفا‪ ،‬وقال‬ ‫مل ي�صرب زوجها را�شد كثريا‪ .‬كان بحاجة لـ امر�أة‬
‫قبل �أن يخرج للجدة‪« :‬ميكنك �أن تعتني بـ عوي�ش‪،‬‬ ‫يعتليها يف امل�ساء‪ ،‬ويغرز فيها �شهواته الكثرية‪ ،‬ولكن‬
‫ونفي�سة‪� ..‬أعدك �س�أر�سل لك املال‪»..‬‬ ‫عوي�ش مل تعد �صاحلة‪ ،‬كانت تنكم�ش ويت�صلب ج�سدها‬
‫�ألقت اجلدة غ�ضبها دفعة واحدة يف وجهه وهي ت�رصخ‬ ‫كقطعة من البال�ستيك بال حياة كلما حاول االقرتاب‬
‫بحنق وغ�ضب‪ « :‬كما وعدت عوي�ش عندما �سافرت �أول‬ ‫منها‪ ،‬ورغم رعونته �إال �أنه مل يتجر�أ يف حياته كلها‬
‫مرة‪ ..‬املال ال يكفي لل�سم الذي ت�رشبه‪ ..‬امل�سكينة ظلت‬ ‫على معا�رشتها رغما عنها‪.‬‬
‫تخيط املالب�س لبنات احلارة �إىل �أن انك�رس ظهرها‪،‬‬ ‫بعد �أن انق�ضت �إجازته قرر �أن ي�سافر �إىل ال�سعودية‬
‫وتعبت �أ�صابعها‪� ..‬أنا ال �أ�صدقك‪ ..‬اذهب حلال �سبيلك»‪.‬‬ ‫جمددا لكن قبل ذلك ذهب �إىل �أمها لكي يخلي �سبيلها‬
‫رفعت �أم عوي�ش يدها بحزن �إىل ال�سماء « اهلل يخلي‬ ‫ويطلقها‪ ،‬تفهمت �أم عوي�ش ذلك جيدا‪ ،‬ف�أخربها‬
‫�أحمد ابني الغايل �أحمد‪ ..‬لن يق�رص �أبدا بعد �إنهائه‬ ‫�أنه �سري�سل لهم املال الذي يُعني اجلدة على تربية‬
‫اجلامعة �سي�رصف على �أمه و�أخته وابنة �أخته‪ ،‬ولن‬ ‫الأ والد ثم طلب �أن يرى �سيف فخرج �إليه‪ .‬كان وقتها‬
‫نحتاج �إليك �أبدا»‪.‬‬ ‫يف التا�سعة من عمره فقال له‪« :‬ما ر�أيك �أن ترتبى‬
‫منذ �أن ولدت «نفي�سة»‪ ،‬وهي جترب االنقالب على‬ ‫يف بيت عمك؟»‪ .‬التفت را�شد �إىل اجلدة‪ ،‬وطلب منها‬
‫ظهرها وبطنها واحلبو ومن ثم امل�شي حتت نظرات‬ ‫ب�إ�رصار كبري �أن يرتبى �سيف يف بيت عمه فرف�ضت‪،‬‬
‫جدتها التي �أحبتها ب�شكل خرايف وغري متوقع بينما‬ ‫وعلقت قائلة‪« :‬منذ متى تتذكر �أخاك طالب‪ ،‬و�أنتما مل‬
‫�سيف ذهب مع والده �إىل بيت عمه يف منطقة الظاهرة‬ ‫تتحادثا منذ زواجك بابنتي؟»‬
‫بر�ضا تام‪ ،‬وترك الباطنة املنطقة املطلة على البحر‪،‬‬ ‫فرد عليها بانك�سار‪« :‬ذهبت �إليه‪ ،‬وحتدثنا ‪� ..‬أخربته‬
‫والتي تتكاثر فيها احلكايات ك�شجرات النخيل‪ ،‬ذهب‬ ‫عن ظرف عوي�ش ال�صحي‪ ،‬وانه ينبغي عليّ �أن �أ�سافر‬
‫�إىل املجهول الذي اختاره له والده‪ ،‬و�أوم أ� له �سيف‬ ‫جمددا لل�سعودية‪ ..‬هو الذي قال يل �سيف ال يرتبى بني‬
‫باملوافقة دون �أي نقا�ش �أو تفاو�ض‪.‬‬ ‫احلرمي‪ ..‬ينبغي �أن يرتبى بني الرجال‪ ..‬مع �أوالده‪..‬‬
‫والدته الت�صقت بدرجات ال�سلم ذلك اليوم دون �أن تفهم‬ ‫حمود و نا�رص‪ ،‬و�أنا اقتنعت بكالمه»‪.‬‬
‫�إىل �أين يغادر �سيف‪ ،‬مل ينحن لـ يقبل �أخته ال�صغرية‬ ‫غ�ضبت اجلدة وارتفعت نربة �صوتها‪« :‬وماذا عن‬
‫التي رف�ض �أن يلعب معها‪ ،‬وكان يب�صق بوجه �أي �أحد‬ ‫«نفي�سة»؟»‬
‫يقول له �إنها �أختك ال�صغرية ولوال حماية جدتها لكان‬ ‫زاد انفعال را�شد‪ ،‬وهو يقول‪« :‬نفي�سة هي ال�سبب يف‬
‫قد ارتكب �سيف جرمية فادحة بروحها ال�صغرية‪ .‬فكم‬ ‫كل ما حدث لأ مها‪ ..‬هي ال�سبب يف كل �شيء‪..‬لقد جنت‬
‫مرة حاول �أن يلقي بها من على ال�سلم‪ ،‬وكم من مرة‬ ‫عوي�ش‪ ،‬وهي التي مل تفعل �شيء طوال ت�سعة �أ�شهر‬
‫حاول �أن يثقب �أذنيها مبق�ص الأ ظافر‪ ،‬وكم من مرة‬ ‫احلمل �سوى �أن تنتظر جميئها»‪.‬‬
‫ع�ض �أ�صابعها �إىل �أن تورمت بلون بنف�سجي‪ ،‬وال تن�س‬ ‫قفزت نفي�سة بينهما خارجة من الغرفة‪..‬بد�أت تقذف‬
‫اجلدة �أبدا �أنه ذات مرة �أخفاها بعيدا عن اجلميع لأ كرث‬ ‫�ساقيها يف حماولة منها للم�شي بعد �أن ت�أخرت‬
‫‪245‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املحمر‪« :‬عربي بعيدة جدا عن الباطنة يا ولدي»‪.‬‬ ‫من �ساعة بحثت عنها اجلدة يف كل مكان كاملجنونة‬
‫قال كمن يدو�س على رغبته يف البكاء‪« :‬دعي خايل‬ ‫�إىل �أن �سمعت �صوت �رصاخها يف برميل النفايات‪.‬‬
‫�أحمد يح�رضكم»‪ ،‬ثم نظر �إىل «نفي�سة» نظرة �إزدراء‬ ‫�رضبته �رضبا مربحا ذلك اليوم ومل يبكِ ‪ ..‬بقي جامدا‬
‫وقال‪« :‬لكن ال حت�رضوا هذه الغبية معكم»‪ .‬ان�سحبت‬ ‫كقطعة خ�شبية �إىل �أن قال‪« :‬ملاذا تهتمني بها‪ ..‬انظري‬
‫دموع غزيرة على وجنتي اجلدة‪� ..‬ضمته �إىل �صدرها‬ ‫ماذا فعلت ب�أمي‪ ..‬اجلميع يقول �أنها �ستقتلنا جميعا‬
‫وك�أنها لن تراه ثانية‪ .‬ثم قاده «را�شد» من يده بعد‬ ‫�أو �ستحولنا �إىل جمانني!!»‬
‫�أن �أودع احلقيبة التي تخ�صه يف «كريل» البيك‬ ‫كانت نفي�سة تن�شج بالبكاء‪ ،‬وكانت اجلدة ال تعريه‬
‫االب الأ حمر والقدمي‪ .‬لكن وما �أن تخطى �سيف باب‬ ‫اهتماما كبريا‪ ،‬وتكتفي ب�أن تعنفه كلما �أ�ساء لأ خته‪.‬‬
‫احلو�ش حتى بد�أت عوي�ش بال�رصاخ ب�صوت مرتفع‬ ‫يف عطلة اخلمي�س واجلمعة كان احمد ي�أتي من �سكن‬
‫�إىل �أن فزعت نفي�سة‪ ،‬واندفعت باكية هي الأ خرى يف‬ ‫اجلامعة‪ ،‬ويح�رض لهما احللوى‪ ،‬في�أكل كل احللوى‬
‫ح�ضن جدتها‪ .‬هرعت عوي�ش و�سحبت �سيف من يد‬ ‫دون �أن مينحها قطعة واحدة‪ ..‬كان يقول لـخاله‪�« :‬إنها‬
‫والده واحت�ضنته بقوة‪ ،‬وهي تبكي وتبكي‪� ..‬أزاحها‬ ‫�صغرية‪� ..‬ستغ�ص �إن �أكلتها»‪ ،‬وكان �أحمد ي�ضحك‪،‬‬
‫را�شد عنه �إال �أن �سيف انح�رش يف ح�ضنها‪ ،‬وهو يخفي‬ ‫وتعجبه م�شاك�ساته الطفولية بالرغم من ق�سوتها‪.‬‬
‫رغبته يف البكاء‪ ،‬وين�شغل مب�سح دموعها الغزيرة �إىل‬ ‫�أحمد هو ال�شخ�ص الوحيد رمبا الذي كان ي�ستطيع‬
‫�أن هد�أت‪ .‬بعدها انح�سب جمددا‪ ،‬وركب بالقرب من‬ ‫�أن ميت�ص غ�ضب �سيف غري املربر‪ .‬كان ي�أخذه �إىل‬
‫والده يف ال�سيارة التي م�ضت م�رسعة‪ ،‬دون توقف‪،‬‬ ‫امل�شاوير الق�صرية‪�..‬إىل دكان العم حمد املطل على‬
‫ودون التفات �إ�ضايف‪..‬‬ ‫ال�شارع العام‪ ،‬ويح�رض له دفاتر و�ألوانا لي�شخبط‬
‫تلك الليلة مل تتوقف عوي�ش عن ال�رصاخ‪ ،‬ونامت‬ ‫عليها‪..‬بينما والده ال يعرف �سوى �أن يلطمه وي�رضبه‬
‫نفي�سة نومة متنغ�صة يف ح�ضن جدتها‪ ،‬وك�أن خوفا‬ ‫لأ تفه الأ �سباب‪ ،‬وخ�صو�صا يف الفرتات التي متر وال‬
‫ما قد تلب�س بها هي الأ خرى‪.‬‬ ‫ي�ستطيع ال�رشب فيها ب�شكل جيد نظرا جليبه الفارغ‪..‬‬
‫ولأ ول مرة ينام «�سيف» يف منزل غري منزله ومنزل‬ ‫�إال �أن �سيف كان يخاف والده كثريا ويكن له االحرتام‬
‫جدته‪ ..‬لأ ول مرة يغادر الباطنة منذ والدته لوال‬ ‫يف الوقت نف�سه‪ .‬كان م�ستعدا لأ ن يب�صق يف وجه �أمه‬
‫زيارته اليتيمة لـ م�سقط عندما كانت تخ�ضع والدته‬ ‫�إن طلب منه ذلك‪ ،‬بالرغم من �أن عوي�ش كانت حتبه‬
‫جلل�سات عالج يف م�ست�شفى ابن �سينا‪.‬‬ ‫كثريا‪ ،‬وتفرط يف تدليله �إال �أنه كان يتبع خطى �أبيه‬
‫را�شد ذهب لزيارة طالب الذي �أنعم اهلل عليه باخلري‬ ‫ب�شكل غريب‪.‬‬
‫الكثري‪ ،‬وكان من ا�شهر التجار‪ ،‬له بيت ي�شبه الق�صور‪،‬‬ ‫مل يح�رض �أحمد لتوديع �سيف عند ذهابه �إىل عربي‬
‫وثمة خري كثري ونعمة‪ .‬قال لـ �سيف‪�« :‬ستعي�ش هنا يف‬ ‫لأ نه كان يف فرتة االمتحانات النهائية يف جامعة‬
‫هذا الق�رص الكبري‪� ..‬سترتبى مع �أبناء عمك‪� .‬س�أطمئن‬ ‫ال�سلطان قابو�س‪ ..‬حاول �أن يحادثه عرب الهاتف‬
‫عليك هنا»‪ .‬ابتلع �سيف ريقه من املجهول املقبل‪..‬‬ ‫�إال �أنه رف�ض �أن يتحدث �إليه متعلال ب�أعذار طفولية‬
‫مل يبت�سم‪ ،‬ومل يتذمر �أي�ضا‪ .‬دلف �إىل الداخل حيث كل‬ ‫و�ساذجة‪.‬‬
‫الوجوه واجمة‪ ،‬وك�أن م�صيبة كبرية حلت على البيت‬ ‫حمل �سيف دفاتره و�أ�شياءه يف حقيبة كبرية‪ ..‬تعلق‬
‫مبجرد جميئه‪..‬‬ ‫يف ح�ضن جدته طويال ثم �س�ألها‪�« :‬ألن ت�أتوا لزيارتنا‬
‫الول من رواية قيد اال�شتغال‪.‬‬
‫[ الف�صل أ‬ ‫يف عربي؟» فردت عليه والدموع تغرق وجهها‬

‫‪246‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ماكينة الفرا�شة‬
‫جوخــة احلـــارثية‬
‫روائية من عُ مان‬
‫امر�أة فارعة الطول قد وقفت قبالته ونزعت برقعها عن‬ ‫يف تلك الليلة حني كان عزان زوج �ساملة راجعا من‬
‫وجهها‪ .‬هد�أ روعه و�س�ألها‪« :‬من �أنت؟ وماذا تريدين؟»‬ ‫ال�سهرة عند البدو متلكه �إح�سا�س بالن�شوة‪ ،‬كانت الرمال‬
‫نظرت املر�أة مبا�رشة يف عينيه‪� ،‬أربكه جمالها امل�صمم‬ ‫حتت قدميه ناعمة جدا وقد خلع نعليه لي�ستمتع بربودتها‬
‫وبريق عينيها الوا�سعتني‪� ،‬أربكته رائحتها الفاغمة‬ ‫الهادئة‪ � ،‬آن�سه اكتمال القمر وهو يطبع ظالال �أليفة على‬
‫وقربها املربح منه‪ ،‬لكن كالمها �أفقده ال�سيطرة‪�« :‬أنا‬ ‫الكثبان الرملية‪ ،‬من بعيد الحت له �أنوار «العوايف»‬
‫جنية و�ألقب بالقمر و�أريدك �أنت»‪� .‬ستظل عبارتها تطن‬ ‫وك�أنها عامل ال يعرفه‪ ،‬لقد �أم�ضى مع �أ�صدقائه من‬
‫يف ر�أ�سه �أعواما كثرية بعد ذلك‪�« :‬أنا جنية و�ألقب بالقمر‬ ‫البدو �شطرا من الليل يف الأ حاديث وال�سمر‪� ،‬أن�شد بع�ضهم‬
‫و�أريدك �أنت»‪ .‬مل يعرف عزان ن�ساء كثريات يف حياته‬ ‫و�ضحكوا‪ ،‬عزفوا على الناي والربابة‪ ،‬وقد قرر عزان �أن‬
‫ومل يعرف بكل ت�أكيد امر�أة على هذا القدر من اجلر�أة‪،‬‬ ‫يعود �إىل العوايف م�شيا تاركا �سيارات �أ�صدقائه ذات‬
‫تلقب بالقمر؟ �إنها ت�ستحق لقبا �أعظم‪� ،‬إنها �أجمل من‬ ‫الدفع الرباعي‪ ،‬مل تكن بيوت البدو املتناثرة حتت عرق‬
‫�أي �شيء ر� آه �أو �سرياه يف حياته‪ ،‬لقد الحت له حتت‬ ‫الرمل الكبري تبعد كثريا عن العوايف‪ ،‬لكن البلدتني مل‬
‫�ضوء القمر ك�أنها من احلور العني التي ب�رش اهلل بها‬ ‫تتما�سا قط‪ ،‬ظلت العوايف متم�سكة بثباتها وطابعها‬
‫عباده امل�ؤمنني‪ .‬مالت عليه فت�أبط نعليه وهرب‪ ،‬رك�ض‬ ‫الزراعي‪ ،‬وظل البدو – على الرغم من ا�ستقرارهم‬
‫ب�أق�صى �رسعته باجتاه العوايف عاجزا عن التفكري يف‬ ‫الظاهري وا�ستبدالهم بيوت اال�سمنت بخيام ال�شعر‬
‫�أي �شيء‪.‬‬ ‫‪ -‬يحتقرون فكرة الثبات وغر�س اجلذور‪ ،‬ويعتمدون‬
‫مل تعد جنية لبيتها و�إمنا ذهبت لبيت �صديقتها‪ ،‬وقفت‬ ‫�أ�سا�سا على رعي اجلمال والغنم‪ ،‬لقد ظلوا حمتفظني‬
‫عند الباب اخل�شبي و�صاحت‪« :‬يا خزينة‪..‬يا خزينة»‪،‬‬ ‫بزيهم التقليدي وطباعهم احلرة‪ ،‬وباحلدود ال�صارمة‬
‫فخرجت خزينة ت�سوي برقعها على وجهها‪« :‬خري يا‬ ‫التي تف�صلهم عن «احل�رض»‪.‬‬
‫القمر؟» قالت‪« :‬تعايل‪� ،‬ستبيتني معي الليلة»‪� .‬سارت‬ ‫مل يعد عزان ي�شعر باالنقبا�ض يف جل�سات ال�سمر هذه‪،‬‬
‫معها خزينة طويال حتى الح بيتها ‪�« :‬أخي راقد يف عرق‬ ‫ومل تعد تلك ال�سحابة الثقيلة حتط على قلبه كلما انخرط‬
‫الرمل ال�رشقي و�أنا و�أنت �سنبيت بالداخل»‪ ،‬حني �أقعيتا‬ ‫معهم لتمثل له �أن كل �أحاديثهم و�ضحكهم جمرد لهو‬
‫متقابلتني قالت خزينة‪« :‬اي�ش �صار؟» ردت �صديقتها‬ ‫دنيوي‪ ،‬مل تعد ذكرى ولديه امليتني تن�شب يف حلقه‬
‫بهدوء‪« :‬هرب» �ضحكت خزينة حتى انبطحت �أر�ضا‪:‬‬ ‫كالغ�صة و�سط الغناء‪ ،‬ومل يعد يح�س �أنه مثقل بالدنيا‬
‫«حا�شا هلل هذا ما رجل!!‪..‬هرب؟ هاهاها!! ‪..‬هرب منك‬ ‫ويريد �أن يتال�شى عن زيفها‪ ،‬مل يعد الإ ح�سا�س بالفرح‬
‫يا القمر؟‪ »..‬لكن جنية مل ت�ضحك‪ .‬انتظرت حتى فرغت‬ ‫�إح�سا�سا مذنبا يف �أعماقه وال املتعة �رسابا ينبغي عدم‬
‫�صديقتها من ال�ضحك ثم قالت‪�« :‬أريده و�س�أح�صل عليه»‪،‬‬ ‫الوقوع يف �رشكه‪ .‬كان ي�ستعيد بع�ض مقاطع املن�شدين‬
‫م�سحت خزينة دمعها الطافر بطرف ردائها و�أ�ضافت‬ ‫ويحاول �ضبط �إيقاع قدميه على �إيقاع النغمة يف ر�أ�سه‪،‬‬
‫مزيدا من اخل�شب للنار املتقدة بجانبهما‪ ،‬ثم قالت‪« :‬يا‬ ‫تراءى له وجه حفيدته اجلديدة‪ ،‬لقد �أ�صبح جدا وهو يف‬
‫القمر هذا الرجل باين عليه ما نافع للن�سوان»‪ .‬متددت‬ ‫منت�صف الأ ربعني‪� ،‬أح�س فج�أة باللهفة للو�صول �إىل‬
‫جنية وقالت‪« :‬لكني �أريده و�سي�أتيني‪ ،‬القمر ال تريد‬ ‫بيته والدخول للغرفة الو�سطى لريى وجهها ال�صغري‬
‫�شيئا وال حت�صل عليه»‪ .‬هزت خزينة ر�أ�سها‪« :‬يا �أختي‬ ‫النائم‪ ،‬كان يبت�سم لنف�سه ويكاد يدندن طربا حني باغته‬
‫هذا الرجل متزوج بنت ال�شيخ م�سعود‪� ،‬شيخ قبيلتهم‬ ‫ظل ب�رشي بني الكثبان‪ ،‬ب�سمل عزان وتراجع خطوتني‬
‫كلها‪ ..‬تظنني �أنه �سيرتكها ليتزوجك �أنت؟»‪� ،‬ضحكت‬ ‫للوراء لكن الظل تقدم نحوه بثقة‪� ،‬صاح عزان‪« :‬من‬
‫جنية‪� ،‬ضحكت �ضحكتها املجلجلة ال�شهرية‪ ،‬قالت‬ ‫هناك؟» ففاج�أه �صوت �أنثوي‪�« :‬أنا»‪ .‬بعد هنيهة كانت‬
‫‪247‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سنوات قليلة‪� ،‬أطعمت النوق الأ �صيلة متر اخلال�ص‬ ‫خزينة لنف�سها وهي ترى �أ�سنانها الل�ؤل�ؤية‪« :‬ما �أجدرها‬
‫وال�سمن البلدي وع�سل النحل‪ ،‬و�شاركت بها يف �سباقات‬ ‫بلقب القمر‪..‬كاد النا�س �أن ين�سوا �أن ا�سمها جنية»‪،‬‬
‫الهجن حتى جنحت يف بيع �إحداها لأ حد �شيوخ �أبوظبي‬ ‫و�ضعت جنية يديها خلف ر�أ�سها وقالت ل�صديقتها‪:‬‬
‫بع�رشين �ألف ريال‪ ،‬ا�ستخرجت للناقة جواز �سفر �أ�سمتها‬ ‫«من قال لك �أين �أريد �أن �أتزوجه؟ القمر ال ت�ؤمر �أحدا‬
‫فيه «غزيلة»‪ ،‬و�شحنتها �إىل �أبو ظبي‪ ،‬وحني قب�ضت‬ ‫عليها‪�..‬أنا مل �أخلق لأ خدم رجال و�أطيعه ‪ ..‬ي�رسق حاليل‬
‫ثمنها ا�ستبدلت باخليمة بيتا من اال�سمنت امل�سلح ا�شرتت‬ ‫ومينع عني �أخي و�صاحباتي‪...‬يوم يقول ال تطلعي‪،‬‬
‫له ال�سجاجيد واملنادي�س من �سوق مطرح‪� ،‬سخرت علنا‬ ‫ويوم يقول ال تلب�سي‪ ،‬ويوم يقول تعايل ويوم يقول‬
‫من جريانها الذين بنوا بيتا بطابقني وظلوا يق�ضون‬ ‫روحي‪..‬ال‪..‬ال‪..‬ال يا خزينة عزان �سيكون يل ولن �أكون‬
‫حاجتهم حتت �شجريات ال�سمر ال�صحراوية خارج البيت‬ ‫له‪�...‬سي�أتيني حني �أ�شاء ويذهب حني �أ�شاء‪...‬منذ ر�أيته‬
‫اجلديد املزود بخم�سة حمامات‪ ،‬مل ت�ست�سلم لتبطل‬ ‫يف الرم�سة مع الرجال و�أنا �أعرف �أن هذا الرجل �سيكون‬
‫�أخيها املنغويل فدربته على رعي الغنم والإ بل‪ ،‬حني‬ ‫للقمر‪..‬وهرب؟‪..‬هرب!! رك�ض ك�أين جني فاج�أه وهرب!‪..‬‬
‫مات �أبوها تنف�ست ال�صعداء و�أحكمت �سيطرتها على‬ ‫يرف�ضني �أنا؟ القمر؟ مل يخلق الرجل الذي يرف�ضني‬
‫حياتها ومالها وحريتها‪ ،‬وملا تفتحت �أنوثتها وو�صل‬ ‫بعد يا خزينة‪�..‬سي�أتيني عزان هذا جاثيا على ركبتيه»‪.‬‬
‫خربعبريها القا�صي والداين لقبها النا�س بالقمر‪،‬‬ ‫�سكتت ال�صديقتان طويال ترقبان النار التي خمدت‬
‫ا�ستهز�أت بخطابها الكثريين وتفرغت لأ خيها وثروتها‪،‬‬ ‫�شيئا ف�شيئا ثم نامتا‪.‬‬
‫قالت لنف�سها �إنها حني �سرتى رجلها �ستعرفه و�ست�أخذه‪،‬‬ ‫حني كربت جنية كان بيتها هذا – املكون من غرفتني‬
‫ا�صطفت ال�صديقات وتاجرت مب�شغوالتها اليدوية‬ ‫مفتوحتني على �صالة مطلة على احلو�ش بجدار واطئ ال‬
‫املميزة‪� ،‬أ�صبح بيتها قبلة لل�ضيوف واملحتاجني‬ ‫ي�صل لل�سقف‪ -‬جمرد خيمة وا�سعة وكان �أبوها متالفا‬
‫وهابها الرجال والن�ساء‪.‬‬ ‫للمال‪ .‬مل تر �أمها منذ خلقت ومل ت�شغل نف�سها بال�س�ؤال‬
‫حني �أ�صيب �أخوها بك�ساح مفاجئ �أغلقت بيتها و�أقامت‬ ‫عنها‪� .‬أحبت �شيئا واحدا فقط يف العامل‪� :‬أخاها الأ �صغر‪،‬‬
‫معه �شهورا يف م�ست�شفيات احلكومة البعيدة معتمدة على‬ ‫كل � آثار اجلروح يف ج�سدها ناجمة عن املعارك التي‬
‫�صديقاتها يف رعاية غنمها و�إبلها‪ ،‬طُ رِدتْ مرارا من �أق�سام‬ ‫خا�ضتها مع ال�صبيان دفاعا عنه‪ ،‬كانت تهرع من‬
‫املدر�سة االبتدائية �إليه لت�س�أله عمن � آذاه‪ ،‬حت�شو مريولها‬
‫الرجال يف امل�ست�شفيات فلفت بطانيتها عليها ونامت يف‬
‫املدر�سي الأ �صفر داخل البنطال الوا�سع وتنطلق �إىل‬
‫املمرات‪ ،‬قال لها الأ طباء ت�رصيحا وتلميحا �إنه منغويل‬
‫معاركها اليومية‪ ،‬وحني توقف ال�صبيان عن �رضب‬
‫�أ�صال وقد عجزت رجاله الآ ن فماذا ترجني منه؟ دفعها‬
‫�أخيها �أو مناداته باملخبول كانت قد و�صلت �إىل املرحلة‬
‫النا�س النتظار خال�صه باملوت فاعتزلتهم‪ ،‬حني يئ�ست‬ ‫الإ عدادية‪ ،‬ويف الإ عدادي عرفت �أنها مل تخلق لتجل�س يف‬
‫من امل�ست�شفيات حملته للبيت و�أغلقت عليهما الباب‪،‬‬ ‫�صف رطب مع خم�سني طالبة ت�سمع كالما غريبا عن‬
‫داوته طويال بكل ما و�صفه املجربون وما ابتكرته هي‬ ‫النحو والأ رقام والعلوم من الفجر �إىل الع�رص‪ ،‬مل حتب‬
‫من خلطات الأ ع�شاب‪ ،‬واظبت على دهن رجليه العاجزتني‬ ‫�أحذية املدر�سة البي�ضاء التي يتحول بال�ستيكها �إىل‬
‫بزيت الزيتون ال�ساخن وم�سحوق القرنفل وعلى حماولة‬ ‫اللون الأ �سود بعد �أ�سبوع على الأ كرث‪ ،‬وال زي الإ عدادي‬
‫�إيقافه م�ستندا عليها‪� ،‬ألقت بثقله على ظهرها القوي‬ ‫الرمادي اخلايل من �أي زخرفة‪ ،‬املتجعلك با�ستمرار ب�سبب‬
‫وجرجرت رجليه يف ال�صالة ذهابا و�إيابا‪ ،‬مزجت‬ ‫الزحام واحلر‪� ،‬ضايقتها لهجة املدر�سات امل�رصيات‬
‫احلنظل مع ع�شبة «املخي�سة» و�سقته ال�رشاب املر كل‬ ‫وال�سودانيات الغريبة‪ ،‬ومل ت�ستوعب فكرة اجللو�س يف‬
‫�صباح‪ ،‬م�سحت لعابه بكمها ومل ت�سمح لنظرة العجز يف‬ ‫مكان واحد طوال اليوم‪ ،‬تركت املدر�سة وتخل�صت من‬
‫عينيه ال�ضيقتني امل�ستطيلتني بثنيها عن عزمها‪� ،‬صمَّتْ‬ ‫الركوب منح�رشة يف �سيارة بيك � آب مع ع�رش بدويات‬
‫�أذنيها عمن ي�ستهزئ مبحاوالتها ونذرت حياتها لأ خيها‪.‬‬ ‫�أخريات ترتجرج �أج�سادهن ال�صغرية وت�صطفق من الريح‬
‫حني فتحت جنية بنت �سعيد باب بيتها ونحرت ناقتني‬ ‫املحملة بالرمل �ساعة �أو �أكرث حتى ي�صلن �إىل املدر�سة‪.‬‬
‫لل�صدقة‪ ،‬كان �أخوها مي�شي على قدميه‪.‬‬ ‫ا�ستغرق �أبوها يف جل�سات ال�شواء وال�رشاب والزار‬
‫\ ف�صل من رواية قيد الن�شر‪.‬‬ ‫ف�أم�سكت ماله ورعت غنمه و�إبله حتى ت�ضاعف يف‬
‫‪248‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أرم ــلة‬
‫الري�شة‬
‫حممد حلمي ّ‬
‫ّ‬ ‫ترجمة‪:‬‬ ‫مي�شيل التيولي�س ‬
‫�شاعر ومرتجم من فل�سطني‬

‫بعنف قدمه املت�س ّكعة‬ ‫ٍ‬ ‫منطل ًقا خل ًفا نحو احلائط‪ ،‬ويرفع‬ ‫جتل�س �إىل طاولة الفح�ص ملفوف ًة بالرّداء الورق ّي البنف�سج ّي‪،‬‬
‫فوق دوالب مقعده‪ ،‬مت�سائلاً ‪ �« :‬إ ًذا‪ ،‬ما ر�أيك مبا يجري؟»‪،‬‬ ‫واحدٌ من هذه ا أللوان اجلميلة اململّة املختارة للنّ�ساء‪ ،‬كما‬
‫وهي تعتقد � أ ّن هذا مفتت ٌح بار ٌع لطبيب ن�سا ٍء ذك ٍر‪ ،‬ليقدّمه‬ ‫� أ ّنها قد تكون حماول ًة لتغطية نف�سها ب�صندوق ثلاّ ج ٍة مثل‬
‫�إىل مري�ض ٍة �أنثى‪ ،‬و�إىل �سلطة ج�سدها الذّاتيّة‪ ،‬لكن بعد ذلك‪،‬‬ ‫الرّداء الورق ّي‪ ،‬كما ا إلفريز وجدرانه كلّها‪ ،‬ويط ّوقها مثل‬
‫وقبل �أن ت�ستطيع ا إلجابة‪ ،‬يقول ثاني ًة‪« :‬واو‪� ،‬سنتان‪ ،‬مل‬ ‫مت�ساقط‪ .‬حتدّق من هذا الترّ كيب‪ ،‬وت�سحب‬ ‫ٍ‬ ‫خ�شب متناث ٍر �أو‬
‫ٍ‬
‫حت�صلي على اجلن�س خالل �سنتني؟»‪ ،‬ومثبّتًا � إ ّياها بنظر ٍة‪،‬‬ ‫ياقة الرّداء العالية حول ف ّكها أل�سفل‪ ،‬لذلك ت�ستطيع �أن‬
‫وهي تدرك � أ ّنه دورها لتقول‪« :‬واو»‪.‬‬ ‫جتيب على �أ�سئلته دون احلديث عرب قناع الورق‪.‬‬
‫� إ ّنه يعتقد � أ ّنها تكذب‪.‬‬ ‫�أجابت‪« :‬نعم»‪« ،‬ال»‪ ،‬وهما اجلواب نف�سه‪ ،‬نعم‪ ،‬مل حت�صل‬
‫التّجوال �أف�ضل من املكان �أحيا ًنا‪ ،‬ومن البيت‪ ،‬ومن‬ ‫جماع جن�س ٍّي ملا يقرب من �سنتني‪ ،‬ال‪ ،‬مل حت�صل على‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫تو�سع فكر ًة � أ ّن التّجوال �إمكانيّةٌ‪،‬‬
‫املق�صد‪� .‬أحيا ًنا ت�ستطيع �أن ّ‬ ‫جماع جن�س ٍّي ملا يقرب من �سنتني‪ ،‬ويهزّ طبيب النّ�ساء‬ ‫ٍ‬
‫وفر�صةٌ‪ ،‬وموهبة اكت�شاف ا أل�شياء‪ -‬قد يكون هناك‪ ،‬ذلك‬ ‫ر�أ�سه‪ ،‬ويقول‪ � :‬إ ّنها ثاني ًة حتّى ا آلن‪ ،‬راف ًعا ب�رصه عليها‬
‫املكان الّذي مل تف ّكر بر ؤ�يته‪ ،‬ومل تعمل بجدٍّ مبا فيه الكفاية‬ ‫قائلاً ‪« :‬واو»‪« ،‬واو»‪ .‬ويدور مبقعده قليلاً متاب ًعا ليقر� أ‬
‫لتجده؛ والتّجوال �أحيا ًنا �أف�ضل أل ّنها جترب نف�سها على‬ ‫ين؛ � إ ّنها مري�ضةٌ جديدةٌ‪ ،‬واملمرّ�ضة املهنيّة‬ ‫الرّ�سم البيا ّ‬
‫جاري املجاور‪ ،‬تتج ّول‬ ‫احلركة‪ ،‬ويو ًما ما‪ ،‬يف املركز التّ ّ‬ ‫مالحظات كثري ًة‪ .‬يقول‪« :‬ماذا تفعلني‪ ،‬تقتلني‬ ‫ٍ‬ ‫عملت‬
‫نحو مكتب ٍة تتعامل معها ناد ًرا‪ ،‬هي مكتبة بارينز ونوبل‪،‬‬ ‫زوجك؟» � إ ّنها ت�سمعها مزح ًة‪ ،‬مزح ًة ك�أ ّنها كا�سحة جلي ٍد‬
‫لل�سفل ك ّل‬ ‫رف كتب �آداب املعا�رشة‪ ،‬وت�سحب أ‬ ‫وتقف �أمام ّ‬ ‫خارجةٌ من فمه ب�رسع ٍة جدًّا‪ ،‬ومن الوا�ضح � أ ّنه مل يف ّكر‬
‫«موت»‪ ،‬و�إىل ك ّل ن�صيح ٍة‬ ‫كتاب‪ ،‬وتنتقل �إىل «�أرمل ٍة»‪ ،‬و�إىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫�سلوب ي�ستخدمه ملعاجلة النّ�ساء‬ ‫للحظ ٍة ماذا يقول‪ .‬ربمّ ا � أ ٌ‬
‫ومف�ضلتها احلاليّة «�أرملةٌ ال تتحلّى‬ ‫ّ‬ ‫‪،‬‬‫ة‬‫دقيق ٍ إ ٍ أ ّ ّ ً‬
‫ق‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫�‬ ‫حلاح‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫املطلّقات الغا�ضبات‪� ،‬أو غري املتز ّوجات يف لو�س �أجنلو�س‪،‬‬
‫بالللئ‪� ...‬أو �إذا جر ؤ�ت‪ ،‬ف� إ ّنها تكون �سوداء �أو رماد ّي ًة»‪.‬‬ ‫ّآ‬ ‫حيث يبدو � أ ّن هناك الكثري من حاالت اللّقاء غري ال�شرّ ع ّي‪،‬‬
‫التّجوال لي�س �أف�ضل �أحيا ًنا‪ � ،‬إ ّنه الرّعب من عدم وجود‬ ‫�سلوب ي�ستخدمه ليوا�سي على «ما‬ ‫لقاءات‪ -‬ربمّ ا � أ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫�أو لي�ست‬
‫مكان لتذهب �إليه‪ ،‬ال مكا ٌن يحتاجها �أن تكون‪� ،‬أو يريدها‬ ‫ٍ‬ ‫ه�ؤالء الرّجال املهتزّون»‪ ،‬لكنّها مل تعرف �أن جتد يف نف�سها‬
‫�أن تكون‪ ،‬وال �أحدٌ يريدها �أن تكون بال ّطريقة الّتي يريدها‪.‬‬ ‫ي�ضا‪ ،‬ومل حت�رض نف�سها من �أجل‬ ‫�أن تعاقبه على هذا التّعليق � أ ً‬
‫�ساعات طويل ًة معتم ًة‪ ،‬ر�أ�سها �أ�سفل الو�سائد‪ ،‬وحتت‬ ‫ٍ‬ ‫ث ّم تنام‬ ‫�أن تطحن متا ًما يف كم هي �صلبةٌ هذه املالحظة‪ ،‬وكيف � أ ّنه‬
‫اللّحاف‪ ،‬وعندما ت�ستيقظ‪ ،‬تلتوي آللئها الورد ّية فوق‬ ‫من غري امل�صدّق خروجه عن اخل ّط‪ .‬ربمّ ا ما يحميه هو � أ ّنها‬
‫الغرور‪ � ،‬إ ّنها تريحها؛ هناك مزايا للعي�ش يف مثل ثقاف ٍة‬ ‫زواجا �سعيدًا‪ � .‬إ ّنها تعرف � أ ّن ك ّل واح ٍد يقول �أ�شياء‬ ‫عا�شت ً‬
‫ن� ّساء ٍة‪.‬‬ ‫غبيّ ًة‪ ،‬وتعرف كيف ت�سامح‪ ،‬وت�سامح يف الزّواج ال� ّسعيد‪.‬‬
‫� إ ّنها تعرف ما املق�صود بكلمة «�أرمل ٍة» منذ �أن كانت يف‬ ‫تنظر �إىل ا أل�سفل نحوه وهو على مقعده‪ .‬تبقي نظر ًة لطيف ًة‬
‫ال� ّسابعة ع�رشة من عمرها‪ ،‬وجتل�س مت�ضايق ًة يف مقرّ ٍر‬ ‫يخ�صها‪ ،‬نظر ًة مع‬ ‫على وجهها‪ ،‬نظر ًة تعلّمتها من زمي ٍل ّ‬
‫معنون بـ«النّ�ساء واملظهر»‪ ،‬حيث فري ٌق معل ّ ٌم بو�ساطة‬ ‫ٍ‬ ‫كاف لك‪ ،‬لتجمع �إىل‬ ‫بوقت ٍ‬ ‫وقت معل ّ ٍق فيها‪ ،‬نظر ًة ت�سمح ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مثليّتني م�سرتجلتني ازدرائيّتني من � أ ّي �شي ٍء تدركه ك�أنثًى‪.‬‬ ‫وقت يقف‬ ‫ٍ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ع‬
‫ً‬ ‫فظي‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫ً ًّ‬‫غب‬ ‫ا‬ ‫ئ‬ ‫�شي‬ ‫قلت‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫�‬ ‫قة‬
‫ّ ّ أّ‬ ‫ي‬ ‫ال�ض‬ ‫مدركاتك‬
‫�سمج‪،‬‬
‫واحدٌ من ا أل�ساتذة يحت ّل كر�سيًّا متحرّ ًكا على نح ٍو ٍ‬ ‫بغبا ٍء‪ .‬بالتّ�أكيد هو ي�سمع‪ ،‬فقط‪ ،‬ما �سال من فمه‪ ،‬وبد� أ ليقول‬
‫م�صاب ب�شل ٍل دماغ ٍّي �أو‬ ‫ٌ‬ ‫تقريبًا على اجلنب‪ ،‬ومنذ ميالده‬ ‫�شيئًا‪ -‬ربمّ ا ليعتذر‪ -‬يغيرّ ر�أيه‪ ،‬ث ّم ينظر �إىل ا أل�سفل لينتقل‬
‫بت�صلّب ا ألن�سجة املتعدّد‪ ،‬وهي لن تعرف �أبدًا‪ ،‬وكره ا أل�ستاذ‬ ‫ين‪ ،‬وينظر �إىل ا ألعلى‪،‬‬ ‫ال�صفحة الثّانية من الرّ�سم البيا ّ‬ ‫�إىل ّ‬
‫‪249‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�ضا‪ .‬حتّى طرق اللاّ و ّيني املعتمدة‬ ‫متل كليهما � أ ً‬ ‫ت�ستطيع �أن أ‬ ‫وبنجاح‬
‫ٍ‬ ‫(ملحوظ‪ -‬مرئ ٌّي‪ -‬وا�ض ٌح) والذ ٌع‪،‬‬‫ٌ‬ ‫م�شهدي‬
‫ٌّ‬ ‫للنّ�ساء‬
‫يف ا ألرامل‪ ،‬ف� إ ّنها ت�صنّفه ّن مع البغايا والنّ�ساء املطلّقات‪،‬‬ ‫�سنوات مت�أ ّخر ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫للنثو ّية حتّى‬ ‫يبقيها من ا ّدعاء � أ ّي وال ٍء أ‬
‫ف�صل ‪ ،21‬مقطع ‪ ،14‬وقال الرّ ّب �إىل مو�سى‪� ،‬أرملةٌ‪� ،‬أو امر�أةٌ‬ ‫خارجا عن ت�ص ّورات ا أل�ستاذ الغا�ضبة؛‬ ‫ً‬ ‫عندما �صنّفت نف�سها‬
‫موم�س‪ ،‬ه�ؤالء �سوف ال ي�أخذه ّن‪ :‬لكن‬ ‫ٌ‬ ‫مطلّقةٌ‪� ،‬أو جمدّفةٌ‪� ،‬أو‬ ‫املعادالت الّتي ذهبت ببع�ض ا أل�شياء على طول �سطو ٍر‪-‬‬
‫�سوف ي�أخذ عذراء من �شعبه لتكون زوج ًة‪ .‬و أل ّنه هذا هو‬ ‫‪ -‬حذا ؤ�ها عايل الكعب كان قبولاً بالعرج دون �أن تلقي‬
‫عال يف العيادة‪،‬‬ ‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ملف ال ّط ّب النّ�سائ ّي‪ ،‬فقد �ضحكت‬ ‫ّ‬ ‫بالاً ‪ ،‬على قدم امل�ساواة مع ت�صلّب ا ألن�سجة املتعدّد �أو‬
‫نظرات مر ّكز ًة‪ � ،‬إ ّنه يريد كثريًا‬ ‫ٍ‬ ‫وينظر �إليها مو ّظف اال�ستقبال‬ ‫ال� ّشلل‬
‫جدًّا �أن يعرف املر ّبع الّذي تقر ؤ�ه‪« ،‬بغ ٌّي‪ ،‬جمدّفةٌ‪ ،‬عاهرةٌ‪،‬‬ ‫حيوي‪ ،‬غري م�ش ّو ٍه‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫حجاب طرح على حل ٍم‬‫ٌ‬ ‫‪� -‬أحمر �شفاهها‪،‬‬
‫�أرملةٌ»‪ � ،‬إ ّنه مر ّب ٌع �شام ٌل‪ ،‬وهي تعني ك ّل توري ٍة متخيّل ٍة يف‬ ‫خاطئ ‪ -‬نحافتها‪ -‬اجلينيّة كما لو كانت‪ -‬بطريق ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫وغري‬
‫هذا املر ّبع‪.‬‬ ‫ما �أكرث امتال ًء با إلرادة‪ ،‬م�ستمدّةٌ عرب احلرمان إل�سعاد عامل‬
‫بجدّ ّي ٍة �أكرث‪ ،‬تكتب كلمة «�أرملة»‪.‬‬ ‫الذّكورة‪...‬‬
‫لي�س أل ّنها غري منطقيّ ٍة يف اال�ستبيان‪ � ،‬إ ّنها حماولةٌ �أكرث‬ ‫بعمق �أكرث من � أ ٍّي منهم �سال�سل‬ ‫�أ�ستاذها املع ّوق عرف ٍ‬
‫اجل�سدي الفعل ّي‪ .‬لقد‬ ‫ّ‬ ‫ح�سا�سا �أكرث عن و�ضعها‬ ‫إلعطائهم � إ ً‬ ‫ا ألنوثة‪ .‬ماذا كانت املخادعة‪ -‬وكانت تعرف هذا حتّى‬
‫تفاج�أت با أل�سى‪ � ،‬إ ّنه الثّبات‪ ،‬و� إ ّنه �شيءٌ مل ٌّح‪ ،‬و� إ ّنه ا ألمل‬ ‫مما‬ ‫ذلك احلني‪ -‬كانت اعتقدت ا أل�ستاذ قد عانى �أكرث ّ‬
‫اجل�سدي القا�سي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عانت‪ -‬مهما كان قد حدث لها؛ وهي عرفت من هذه‬
‫�أحيا ًنا ت�شعر � أ ّنها بحال ٍة ه�ستري ّي ٍة‪ ،‬كما لو � أ ّن ك ّل خليّ ٍة‬ ‫احل�صة الدّرا�سيّة منذ فرت ٍة طويل ٍة‪ � ،‬أ ّن «�أرمل ًة» عنت «فار ًغا»‬ ‫ّ‬
‫وانفعال‪ .‬لقد‬
‫ٍ‬ ‫وفوران‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫باهتياج‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫يف ج�سدها ت�رضب بق ّو ٍة‬ ‫يف ال� ّسن�سكريتيّة ‪ ،‬وهذه فار ٌغ ال تكون تعني �إلاّ جن�سيًّا‪،‬‬
‫�صدمها هذا يف البداية‪ ،‬فهذه موجةٌ من الع�صبيّة والوح�شيّة‬ ‫ال لقانق للكعكة‪ ،‬وال �سجق للق ّفاز‪ ،‬تلك طبيعة ال� ّشيء‪،‬‬
‫كن�ستها �أما ًما‪ ...‬لكنّها جاءت لتفهم اجل�سم الّذي ال ي�ستطيع‬ ‫لكنّها مل ت�أخذ بعد هذا املرح يف ال� ّسابعة ع�رشة‪ ،‬ومل تكن‬
‫مقاومة احلزن ك ّل حلظة �صح ٍو‪ ،‬ذلك � أ ّن اجل�سم �سي�رصّ على‬ ‫جم ّهز ًة باجلر�أة الوقحة‪ .‬لقد جاءت لتعجب كم�ؤمن ٍة حقيقيّ ٍة‬
‫تو ّق ٍف لوقت مر�ضيّة احلزن‪.‬‬ ‫مب�ساواة اجلن�سني‪ ،‬وهي غري م�ستعدّ ٍة لتقدمي اعتذا ٍر‪ ،‬ودون‬
‫حلاح‪� ،‬ضح ٌك‬ ‫لذلك‪ ،‬كانت ت�رصخ بق ّوة وت�ضحك‪ ،‬ت�ضحك ب� إ ٍ‬ ‫خج ٍل جن�س ٍّي‪....‬‬
‫تعليق ممك ٍن من‬ ‫ٍ‬ ‫يطالب بوجوده‪ ،‬وعقلها يقفز نحو � أ ّي‬ ‫«� إ ًذا‪ ،‬ما ر�أيك مبا يجري؟» �س�ألها ثاني ًة‪.‬‬
‫� أ ّي واح ٍد‪� ،‬أو � أ ّية �صف ٍة ميكن �أن تكون نكت ًة‪ ،‬وهزلاً ‪ ،‬وعل ًفا‬ ‫كاف‬ ‫وقت ٍ‬ ‫تن ّخل غذاءها ا آلن‪ .‬عدم تنخيل غذائها هو ألخذ ٍ‬
‫ال�ضحك‪ ،‬وهي عرفتها � أ ّنها �ستحدث عندما حدثت‪،‬‬ ‫مل�سار ّ‬ ‫لتخ�رس �شهيّتها‪ .‬فرتاتها تو ّقفت‪ ،‬لقد خ�رست كثريًا جدًّا من‬
‫ال�ضاحكة حولها‪ ،‬وت�شعر ك�أ ّنها‬ ‫فقد كانت ت�شعر بالوجوه ّ‬ ‫وزنها‪ � .‬إ ّنها تقف �أغلب �أم�سياتها يف مطبخها‪ ،‬جمروف ًة‬
‫زجاج‪ ،‬والوجوه حدّقت مرّ ًة واحد ًة و�ضحكت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وقفت خلف‬ ‫بالغذاء‪ ،‬تطعم نف�سها ب�شك ٍل �رسي ٍع كما ت�ستطيع �أن تبلع‪.‬‬
‫�شفاههم وعيونهم و�أفواههم كلّها ت�ضحك‪ ...‬وكانت ت�ستطيع‬ ‫قالت لها � أ ّمها يف �أغلب ا ألحيان كطفل ٍة‪« :‬ال تقفي هنا‬
‫�أن ت�سمع قرن ثور ج�سدها اليائ�س‪ .‬لقد افرت�ضت � أ ّن ه�ؤالء‬ ‫معلف‪� .‬إكرا ًما للرّ ّب‪ ،‬اجل�سي‬ ‫ٍ‬ ‫ت�أكلني مثل احليوانات على‬
‫الّذين حولها �أدركوا فرحهم لتعا�ستها‪ ،‬لكن هل كانوا‬ ‫ن�سان متح�ضرّ ٍ»‪ ،‬وجرّبت‪ ،‬جل�ست �إىل طاول ٍة‬ ‫وكلي مثل � إ ٍ‬
‫يعلمون � أ ّن ج�سدها دفع هذا الي�أ�س �إىل ا ألمام؟‬ ‫ف�ضيّ ٍة‪،‬‬
‫�شموع‪ ،‬ومندي ٍل‪ ،‬و�أواين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�صغري ٍة يف غرفة الفطور مع‬
‫وبذلك‪� ،‬سوف تذهب �إىل البيت بعد وجودها يف بع�ض‬ ‫وقدح نبي ٍذ‪ ،‬وقدح ما ٍء‪ ،‬وحرّكت �سلطانيّة فواك ٍه �أو �أزها ٍر‪،‬‬
‫ا�ستقبال �أو حفل ٍة‪ ،‬و�سوف ت�شعر � أ ّن �أع�صابها تتو ّقد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جت ّمعات‬ ‫�سلوك �إغوائ ٍّي �إىل حالته‬
‫و�آنية الو�سط‪ ،‬و�أزاحت جملاّ ٍت‪ ،‬وك ّل ٍ‬
‫وتتق ّطع بع�صبيّ ٍة‪ ،‬وهي متعاركةٌ مع اله�سترييا‪ ،‬و�سوف‬ ‫ال� ّسو ّية‪ ،‬لكن هذه احل�شمة مغايرةٌ كلّيّ ًة لالنهيار ا ألخالق ّي‬
‫�شخ�ص �ضحك من‬ ‫ٍ‬ ‫تخجل من نف�سها‪ ،‬و�سوف تعرف � أ ّن ك ّل‬ ‫يف داخلها‪ .‬جتل�س �إىل املائدة‪ ،‬لكنّها قد تكون حجر الرّ ّب‬
‫دب �أو راح ٍة‪ ،‬ب�أ ّنها لي�ست هي منظرًا حزينًا ليكون هنا‪.‬‬ ‫�أ ٍ‬ ‫ال�صباح يف‬ ‫الّذي تقدّم له الهبات‪ ،‬والغذاء مل يزل هناك يف ّ‬
‫مبن �أو مباذا ت�ستطيع �أن تثق ا آلن؟ �ستقول لنف�سها‪�« :‬أنت‬ ‫ال�صواين‪-‬‬ ‫طيّات حجرها ّ‬
‫حتاولني كثريًا؛ �أنت ال حتتاجني �أن جترّبي بجدّ ّي ٍة �أكرث»‪،‬‬ ‫امللف ال ّطبّ ّي‪ ،‬توجد مر ّبعات قليلةٌ يف �إحداها‬ ‫ّ‬ ‫يف تعبئة‬
‫ي�ضا‪ � ،‬إ ّنه ج�سدها الّذي ي�رصّ على � أ ّي �شي ٍء‬ ‫لكن لي�س ذلك � أ ً‬ ‫عالمة (?) �أو (‪� )x‬أو �سوا ٌد كلّيّ ًة فقط‪ ،‬وعندما ت�صل �إىل‬
‫ال�ضحك‪.‬‬
‫يقدّمه ّ‬ ‫عزب» �أم «متز ّو ٌج‪ »،‬وال يوجد مر ّب ٌع �آخر‪ ،‬ال‬ ‫خياري «� أ ٌ‬
‫‪250‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫برنتوود‪ ،‬والنّ�سيج املغزول املرم ّي فوق مقعدها‪ -‬لتغطية‬ ‫ي�س�أل ال ّطبيب‪« :‬متري ٌن؟»‪ ،‬م�سندًا ظهره �إىل احلائط‪ ،‬لي�ستند‬
‫اللّطخات؟ ليمنع اللّطخات؟ ال ت�ستطيع �أن ت�ؤ ّكد‪ ،‬لكن يف‬ ‫على كوعه فوق غطا ٍء مطل ٍّي بالكروم إلحدى �سالل النّفايات‬
‫املرّات ال� ّس ّت �أو ال� ّسبع الّتي تغادر فيها العيادة تق ّومه‪،‬‬ ‫ين‪،‬‬ ‫ال ّطويلة‪ .‬تقر� أ خماطر ًة‪ .‬يتو ّقف النّظر �إىل ر�سمها البيا ّ‬
‫وت�سحبه ب�شدّ ٍة ثاني ًة‪ � ،‬إ ّنها ال حت ّب الرّمي هناك‪ ،‬وال حت ّب‬ ‫وهي ا آلن ترتاح على من�ضدة الفورمايكا ال ّطويلة‪ ،‬ن�صفها‬
‫ذلك الّذي يحتفظ بانطباعها‪ .‬تخربها املعاجلة ك ّل مرّ ٍة �أن‬ ‫داخلها ون�صفها ا آلخر خارجها‪ .‬جل�س ال ّطبيب ب�شك ٍل فجائ ٍّي‬
‫ال تقلق ب�ش�أنه‪ ،‬و�سوف ت�صلحه‪ ،‬لكنّها ال تريد طبيبًا مق ّو ًما‬ ‫مقرتحا للمرّة الثّانية «ت�رسي ًعا»‪ ،‬و�أخريًا تقول‪:‬‬ ‫ً‬ ‫�إىل ا ألمام‪،‬‬
‫يرمي النّ�سيج بعد �أن تغادر‪� ...‬شيءٌ داخل ٌّي مقل ٌق‪ ،‬مقل ٌق‬ ‫«�أنا �آ�سفةٌ‪ ،‬ال �أعرف ماذا تعني «ت�رسي ٌع»؟ �أم�شي كثريًا‪ .‬يف‬
‫حلاح‪ � .‬إ ّنها ت�ضايقها كثريًا‪ ،‬حيث جعلها ترتك املعالج‬ ‫ب� إ ٍ‬ ‫ال�صباح‪ ،‬باكرًا‪ ،‬ربمّ ا �أميالاً كثري ًة‪ .‬ال �أعرف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مع بع�ض املالحظات عن حياتها‪ ،‬كال� ّشعر �أو ال ّظفر الّذي‬ ‫يقف من مقعده قائلاً ‪« :‬ال �ألعاب ريا�ضيّ ًة؟»‪ ،‬وي�سحب‬
‫ال�صالون‪ � .‬إ ّنه غري منطق ٍّي‪ � ،‬إ ّنها ال‬
‫ق�صته وتركته خلفها يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫جانب‬
‫ٍ‬ ‫ا ألذرع املعدنيّة لطاولة الفح�ص‪ ،‬واحدةٌ على ك ّل‬
‫ت�رصّ على ذلك‪� ،‬أو حتّى � أ ّنه ال بدّ �أن يكون‪ � .‬إ ّنها ال تثق بهذه‬ ‫منها‪.‬‬
‫ال�ضبابيّة للمهن ّي �أو ال� ّشخ�ص ّي‪ ،‬وال ت�ستطيع �أن تقدّر التّبديل‬ ‫ّ‬ ‫واندفاع‪« :‬ال»‪ ،‬مف ّكر ًة �أن تقول‪ :‬لي�ست �شيئي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫�أجابت ب�رسع ٍة‬
‫هذا يف �أفكارها وم�شاعرها غري املحميّة‪ ،‬وال تثق ب�أخالق‬ ‫لي�ست ر ؤ�يتي‪ ،‬لكنّها ال‪ .‬هي تعرف كيف � أ ّنها �شا ّذةٌ بالنّ�سبة‬
‫ال�صداقة �أو العائلة‪ -‬وهي‬ ‫املهنيّني فوق جمموعة مبادئ ّ‬ ‫�إىل معظم النّا�س‪ ،‬وعندما يكون �أحدهم يف البيت ليط ّوقها‪،‬‬
‫ت�شعر � أ ّنها � أ ّدت واجبها جتاه عائلتها من خالل «مقابلة‬ ‫حيث املكان الّذي تنتمي �إليه‪ ،‬فال يه ّم‪ ،‬لكنّها ا آلن تتو ّقف‬
‫معالج»‪ ،‬وعندما ي�أتي االقرتاح من ال ّطبيب‪ ،‬كما تعرف‬ ‫ٍ‬ ‫�شخ�ص جتاهها‪ ،‬قائل ًة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫حا�سة � أ ّي‬
‫عن �إ�ضافة الوقود �إىل ّ‬
‫� أ ّنه �سي�أتي بالتّ�أكيد‪ ،‬ت�أخذ دوا ًء م�ضا ًدا لالكتئاب‪ ،‬وترتك‬ ‫قلي ٌل ممك ٌن‪.‬‬
‫بعمق بال� ّشخ�ص الّذي‬ ‫العيادة وال تعود �أبدًا‪ � .‬إ ّنها حمتارةٌ ٍ‬ ‫لف من �أجل تنغيم اجلزء ا ألو�سط‪ � ،‬إ ّنك‬ ‫�أخربها‪ �« :‬إ ّنها �آلة ٍّ‬
‫�شخ�ص �آخر‪ ،‬ويريد �أن يعاجله كيميائيًّا يف‬ ‫ٍ‬ ‫يدر�س عقل‬ ‫لف»‪.‬‬
‫جتل�سني عليها‪ -‬ال �أعرف ملاذا ت�س ّمى «�آلة ٍّ‬
‫الوقت نف�سه‪� .‬أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ‪.‬‬ ‫لف‪ ،‬وال ركوب د ّراج ٍة‪� ،‬أنا‬ ‫واندفاع‪« :‬ال �آلة ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫�أجابت ب�رسع ٍة‬
‫‪ ...‬من امل�ستحيل � إ ًذا �أن تذهب �إىل ا ألطبّاء‪ � ،‬إ ّنه يختلف مع‬ ‫يف احلقيقة �أم�شي‪ ،»...‬وكانت على و�شك �أن تقول‪ :‬و�أعمل‬
‫يتو�صل �إليه م�ساعد ال ّطبيب‪ ،‬يقول‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ � ،‬إ ّنه‬ ‫ّ‬ ‫ني‬
‫ك ّل تخم ٍ‬ ‫ي�ضا‪ � ،‬إ ّنها تعرف � أ ّنه من‬‫كثريًا يف بيتي‪ ،‬لكنّها مل تقل ذلك � أ ً‬
‫بنزق‪« :‬ارمي ذلك‬ ‫ال يعتقد � أ ّنه حول �س ّن الي�أ�س‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ير ّد ٍ‬ ‫املمكن �أن تكون عرّا ًفا يف لو�س �أجنلو�س‪� ،‬أ�سهل من �أن تقول‬
‫املرهم بعيدًا؛ � إ ّنه غري مفي ٍد»‪ ،‬وهي �سعيدةٌ بذلك‪ ،‬لقد قر�أت‬ ‫اعرتاف‪ ،‬حقيق ًة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫� إ ّنك ل�ست معتا ًدا على �ألعاب الرّيا�ضة‪ ،‬هو‬
‫و�صفته بتم ّع ٍن؛ حتذيرات ال�سرّ طان‪ ،‬لكنّها �أنفقت مالاً كثريًا‬ ‫ظروف جمهد ٍة‪� -‬شيءٌ ال ميكن �أن‬ ‫ٍ‬ ‫�أن تكون �أق ّل ح ًّظا‪ ،‬يف‬
‫مقابل ن�صائحه وعانت أل�سابيع عدّ ًة‪ ،‬بعد زيارتها ا ألوىل‬ ‫تعرتف به يف بلد ٍة خياليّ ٍة‪ -‬لكن عمل البيت متري ٌن‪ ،‬وك ّل‬
‫�إىل م�ساعد ال ّطبيب‪ .‬لي�س هناك � أ ّي عذ ٍر لهذا التّ�شخي�ص‬ ‫هذا ما تعنيه هي لتبد�أ‪.‬‬
‫اخلاطئ‪ ،‬وبالتّ�أكيد مل يت�سترّ على م�ساعده‪ ،‬ووجدت ذلك‬ ‫كلمات فوق ن�رش ٍة �إعالنيّ ٍة مثبّت ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫�أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ!! ثالث‬
‫مذهلاً ‪ ،‬وهي منزعجةٌ جدًّا جدًّا‪ ،‬وحتاول �إبقاء غطا ٍء عليه‪،‬‬ ‫هاتف يف الزّاوية املجاورة‬ ‫ٍ‬ ‫قطب‬ ‫مب�سما ٍر �صغ ٍري على‬
‫وحتاول �أن ال تقطع ر�أ�سه‪.‬‬ ‫لل�ضحك عاليًا‪� .‬أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ‪،‬‬ ‫لبيتها‪ .‬هذا ما دفعها ّ‬
‫� إ ّنها مع بورتيا يف حفلة ع�شا ٍء‪ ،‬وهم ي�ضحكون‪� ،‬ضائع ًة‬ ‫هاتف‪ ،‬وربمّ ا هنالك‬ ‫ٍ‬ ‫وقلي ٌل من عالمات التّع ّجب‪ ،‬ورقم‬
‫رجال عاملني يقفون ا آلن‬ ‫ٍ‬ ‫زواج ميّتني‪ ،‬ومن‬ ‫للحظ ٍة من � أ ٍ‬ ‫كلمات فقط؛‬ ‫ٍ‬ ‫ثم ٌن‪ ،‬ال تتذ ّكر‪ -‬يف احلقيقة تتذ ّكر الثّالث‬
‫ل�ساعات طويل ٍة يف املطبخ‪ ،‬وتنظر حولها‪ ،‬حمرّر ًة من‬ ‫ٍ‬ ‫�أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ وعالمات التّع ّجب‪ .‬هل كانت هناك‬
‫املحامني الّذين ير ّدون على اال ّت�صاالت الهاتفيّة‪� ،‬أو من‬ ‫جمموعةٌ من الق�سائم مع رقم الهاتف‪ ،‬ترفرف يف الرّيح‬
‫مو ّظفي البنك ال� ّشخ�صيّني بطيئي ا إلجابة ا آلن‪ ...‬ولذلك‬ ‫الّتي حتدثها حركة املوا�صالت؟ � إ ّنها ال ت�ستطيع �أن تتذ ّكر‬
‫�ستكون مع بورتيا يف اخلارج‪ ،‬ويف النّهاية �ست�ضحكان‪،‬‬ ‫ي�ضا‪.‬‬
‫ذلك � أ ً‬
‫و�شخ�ص ما بدون ف�ش ٍل �سوف يقول‪�« :‬آه‪ ،‬ا ألرملتان‬ ‫ٌ‬ ‫وتقفزان‪،‬‬ ‫ت�س�أل‪ :‬ماذا ميكن ملثل هذا البند �أن يعد؟ ما هو النّادر الّذي‬
‫ال� ّسعيدتان!»‪.‬‬ ‫ميكن �أن يكون يف ا ألريكة؟ ك ّل ا ألرائك �أعرفها‪ ،‬تت�أ ّمل‪ ،‬وك ّل‬
‫ال�ضحك‪.‬‬
‫�ستتو ّقفان عن ّ‬ ‫�رشائح اللّحم الكبرية امل�سكرة‪ ...‬وتختار �أنت هذه‪ ...‬لكن‬
‫�ستنظران �إليه‪.‬‬ ‫بعد ذلك تف ّكر با ألريكة‪ ،‬امل�ضجع‪ ،‬يف عيادة ال ّطبيب يف‬
‫‪251‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أناهيم‪ ،‬كاليفورنيا‪ ،‬أل ّن ديزين ف ّكر ب�أ ّن الفيلم ف�شل ف�شلاً‬ ‫�ستنظران �إىل بع�ضهما البع�ض‪.‬‬
‫م�ست�ساغ‪ ،‬ومثل ّي اجلن�س‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫دب خمبو ٌل‪ ،‬وغري‬ ‫هائلاً ‪ ،‬و� أ ّن �أداء ّ‬ ‫�ستنتظران بهدو ٍء حتّى يغادر هذا ال� ّشخ�ص‪.‬‬
‫كان يقول � إ ّن املقابلة «�صنوبرةٌ طافيةٌ» مثل واح ٍد من �أزواج‬ ‫�سوف ال تقوالن �شيئًا‪.‬‬
‫�سنان‪ ،‬وال �أحد يخرب‬ ‫زجاج بداخله عود تنظيف � أ ٍ‬ ‫� أ ّمها‪ ،‬وك�أ�س ٍ‬ ‫احلزن فيها �شام ٌل جدًّا‪� ،‬سفيهٌ جدًّا‪ ،‬وبطيئةٌ العودة للغ�ضب‬
‫دب حمتم ٌل �أن يكون هناك يف غرفة‬ ‫ّ‬ ‫ووكيل‬ ‫الق�صة احلقيقيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثاني ًة‪.‬‬
‫حترير املقابلة‪ ،‬يت�أ ّكد ب�أ ّن الفيلم التّايل مع ديزين ال يقارن‪.‬‬ ‫كثريٌ من حياة النّا�س ق�صريةٌ لهذا ال� ّسبب‪.‬‬
‫دب‪.‬‬
‫كلّه مم ٌّل‪ ،‬ومبتذ ٌل جدًّا؛ ت�شعر � أ ّنها �أحرجت جتاه ّ‬ ‫‪ ...‬م�ستحي ٌل � إ ًذا الذّهاب �إىل ا ألطبّاء‪.‬‬
‫� إ ّنها تبحث عن اخليال لكن قبل �أن جتده‪ ،‬ث ّمة �أ�ضواء فوق‬ ‫وبحروف كبري ٍة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫�أر�شدت يف يو ٍم من ا أل ّيام �إىل لوح ٍة جديد ٍة‬
‫�صور ٍة بك براون الكاريكاتور ّية ال�ضرّ ور ّية‪ .‬كان لها الكثري‬ ‫بحروف �أ�صغر حتتها قر�أت‬ ‫ٍ‬ ‫«�أطيلي عمر زوجك»‪ ،‬وبعدها‬
‫ال�صور الكاريكاتور ّية لـ بك‬ ‫من النّقا�شات مع زوجها حول ّ‬ ‫للك�سدة لع�صري الرّ ّمان»‪ .‬هي مل‬ ‫عبار ًة‪« :‬الق ّوة امل�ضا ّدة أ‬
‫براون‪ ،‬كما هم دائ ًما تقريبًا يت�ص ّورانهما جن�سيًّا المر� أ ٍة‬ ‫تهن من ا إلعالن‪ ،‬ومل تقلق‪ ،‬ومل تت�ضايق؛ � إ ّنها فقط حائرةٌ‬
‫ل�شخ�ص‬
‫ٍ‬ ‫عجو ٍز �شمطاء‪ ،‬جدّ ٍة تذهب �إىل الغدد التّنا�سليّة‬ ‫ال�صبيانيّة‪ � .‬إ ّنه �إعالن لـ ‪،POM‬‬ ‫بغبائها املطلق‪ ،‬بغفلتها ّ‬
‫مثل مهن ٍة ال �أحد‪ ،‬مفرت�س ًة حقيقيّ ًة‪� .‬صورة مايو‪ � /‬أ ّيار‬ ‫قلب بدلاً من دائر ٍة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شكل‬ ‫ع‬‫وحرف الـ ‪ O‬لـ ‪ ، POM‬مو�ضو ٌ‬
‫الكاريكاتور ّية ت�ص ّور �شا ًّبا يف مطا ٍر‪ ،‬يلتقي مع جرانيّ‬ ‫يل بالكامل‪ ،‬بالكامل‪ ،‬يف هذا ا إلعالن‪ ،‬وت�صمي ٌم‬ ‫القلب � آ ٌّ‬
‫وهي على ركبتيها بانت�شا ٍء وا�ص ٍل �إىل �رساويلها من �أجل‬ ‫ال�ض ّخ‪ ،‬وحجراتها الدّمو ّية‪ .‬هي‬ ‫للع�ضلة وقدراتها على ّ‬
‫عوراته‪ .‬حار�س �أم ٍن ببذل ٍة زرقاء يقيّد راعيًا �أملانيًّا يهم�س‬ ‫تفهم � أ ّن فريق ا إلعالن يجل�س حول طاول ٍة كبري ٍة‪ ،‬يف ّكرون‬
‫اب‪�« :‬سيّدي‪� ،‬أعتقد � أ ّنك تو ّد �أن‬ ‫مري نحو �أذن ال� ّش ّ‬ ‫ب�شك ٍل ت� آ ٍّ‬ ‫ه�ستريي‪ ،‬جل�سةٌ‬ ‫ٍّ‬ ‫م�ضحك‬
‫ٍ‬ ‫ب»�أطيلي عمر زوجك» ب�شك ٍل‬
‫تعرف � أ ّنها لي�ست جز ًءا من �أمن املطار»‪ .‬كال الوجهني‬ ‫م�شرتكةٌ م�ضحكةٌ‪ ،‬ونداءٌ واحدٌ من ه�ؤالء املزايدين لك ّل‬
‫الذّكرين‪ -‬حار�س ا ألمن‪ ،‬والرّجل املبادر جن�سيًّا‪ -‬ده�شا‬ ‫زيجات ت�شبه‬
‫ٍ‬ ‫�سنوات الب�ؤ�س الزّوجيّة‪ -‬هي تفهم � أ ّن هناك‬
‫بحماقة من حولهم‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬لكن ما ال ت�ستطيع فهمه هو كيف � أ ّن النّ�سخة مل تطرح‪،‬‬
‫اب‪-‬‬ ‫ش‬
‫ّ ّ‬ ‫ال�‬ ‫كتف‬ ‫خلف‬ ‫ا‬‫م‬‫ً‬ ‫متا‬ ‫العمر‬ ‫منت�صف‬ ‫ث ّمة وجه امر� أ ٍة يف‬ ‫� إ ّنها فكرةٌ م�ضحكةٌ يف النّهاية و�رش�سةٌ‪.‬‬
‫وجهٌ يف احل�شد متا ًما‪ -‬لكنّها ترتدي خ ّط االنكما�ش نف�سه‬ ‫يقول ماريان ويجنز � إ ّنه ا ألف�ضل يف رواي ٍة لها‪� :‬أن حت ّب‬
‫لف ٍم كما هي فعلت‪ .‬لديها قلي ٌل من نقاط الكلف ال� ّسوداء‬ ‫�شخ�صا ما هو �أن توافق لتموت مرّتني يف احلياة‪� ،‬أو‬ ‫ً‬
‫لعينيها وحتدّق نحو امل�سافة جيّدًا فوق ر�أ�س جرانيّ ؛‬ ‫لتع ّمر ال �شيء‪ .‬ما يحدث عندما يطيل �أحدٌ عمر قرينه هو‬
‫وال�ضعيف جن�سيًّا‪.‬‬ ‫الرّواق ّي ّ‬ ‫ات ج�سد ّي ٍة �ص ّماء‪...‬‬ ‫ني‪ ،‬وم�ض ّخ ٍ‬ ‫عمرٌ تخزين ٌّي‪ ،‬كوجود يقط ٍ‬
‫ال�صباح ال� ّساعة‬ ‫جدّة بك بروان ال تريد �أن ت�شاهد يف هذا ّ‬ ‫عالنات �ص ّماء‪.‬‬‫ٍ‬ ‫و� إ‬
‫‪.04:20‬مل يزل ت�صويرٌ �آخر المر� أ ٍة بدون توا�ص ٍل جن�س ٍّي‪� ،‬أو‬ ‫‪ ...‬م�ستحي ٌل � إ ًذا الذّهاب �إىل ا ألطبّاء‪.‬‬
‫عميق‪ ،‬امر� أ ٍة بدون رخ�ص ٍة جن�سيّ ٍة‪ ،‬مرمى النّكتة‪ ،‬وا أل�سو�أ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫�صباحا‪ ،‬حمدّق ًة‬ ‫ً‬ ‫يف �صباح يو ٍم ما ا�ستيقظت ال� ّساعة الرّابعة‬
‫�شخ�ص‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫ً أ ّ‬ ‫ة‬ ‫متنازل‬ ‫تزل‬ ‫ومل‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ٌّ‬ ‫ي‬ ‫وهمج‬ ‫‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫مقرف‬ ‫تها‬ ‫�شهيّ‬ ‫لوقت طوي ٍل �إىل �أن نه�ضت �أخريًا‬ ‫نحو ال ّظلمة الفارغة‪ٍ ،‬‬
‫ومت�ساحم ًة‪ ،‬و�إحراجها لك ّل واح ٍد يجب �أن يدوم‪.‬‬ ‫وذهبت �إىل احل ّمام‪ .‬ث ّمة جملّة بالي بوي عدد � أ ّيار‪ /‬مايو‬
‫هي تعرف � أ ّنها تبد� أ جلعله رخاميًّا جتاه �شخ�صيّ ٍة تدعى‬ ‫‪ 2004‬يف ال� ّسلّة �أمام املرحا�ض؛ �صورة ا أل�شقر ال� ّشا ّذ بام‬
‫«�أرملةٌ»‪ ،‬غري ملمو�س ٍة‪ ،‬ومظلمةٌ‪ ،‬وحزينةٌ بالتّعريف‪،‬‬ ‫�أندر�سون موجودةٌ على الغالف‪� .‬أخذت املجلّة معها �إىل‬
‫و�ضعيفةٌ جن�سيًّا‪ .‬ج�سدها يحارب ألجلها‪ ،‬ولبع�ض وجو ٍد‬ ‫دب‪ ،‬ومل تكن ممتع ًة‬ ‫ال�سرّ ير‪ ،‬وبد�أت تقر� أ املقابلة مع جوين ّ‬
‫تعرتف بوجود مثل ا ألوك�سجني‪ ،‬واملاء‪ ،‬واملعي�شة‪.‬‬ ‫كما يجب �أن تكون‪� ،‬أو ربمّ ا هي �أق ّل ا�ستمتا ًعا‪ ،‬أل ّنها تعرف‬
‫كعار�ض‬
‫ٍ‬ ‫بالفعل �أن مدحرج احلجارة كيث ريت�شاردز‪ ،‬خدم‬
‫ق�ص�ص خياليّ ٍة وكاتبة مقال ٍة من‬
‫ٍ‬ ‫\ مي�شيل التيولي�س (كاتبة‬ ‫دب ل كابنت جاك �سبا ّرو يف قرا�صنة‬ ‫للم�ص ّور بالرّ�سم ّ‬
‫الواليات املتّحدة) �أ�ستاذةٌ م�ساعدةٌ يف اللّغة ا إلجنليز ّية يف‬
‫بعنوان‬ ‫جامعة كاليفورنيا يف �أرفني‪ .‬ن�رشت رواي ًة واحد ًة‬
‫الكاريبي‪ � .‬إ ّنها تريد من املقابلة �أن تالم�س امل�شاكل مع‬
‫ٍ‬
‫لن»‪ ،‬وظهرت ق�ص�صها يف‪The Antioch Review, The Sant :‬‬ ‫««حتّى ا آ‬ ‫دب على عدّ ٍة‪ ،‬مع جمموع ٍة‬ ‫منتجي ديزن ‪ ،‬عندما و�صل ّ‬
‫‪ ،ta Monica Review‬و�أكرثها يف ‪ ZYZZYVA‬يف الفرتة ا ألخرية‪.‬‬ ‫خمتلف ٍة من �أ�سنانه املغ ّطاة بالذّهب‪ .‬مل يكن هناك � أ ّي ذك ٍر‬
‫للتّ�صوير � أ ّنه قد تو ّقف‪� ،‬أو ليلة االفتتاح � أ ّنها دفنت يف‬
‫‪252‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الزائــرة‬
‫دنـــى غــــايل‬
‫كاتبة من العراق تقيم يف الدمنارك‬

‫ال�رصخة على �شا�شة التلفزيون من ف ّم امر�أة جال�سة على‬ ‫(‪)1‬‬


‫االر�ض‪ ،‬قريبا من مكان االنفجار و�سط بغداد‪.‬‬ ‫ال�ساعة تقارب الواحدة ظهرا‪ .‬يزدحم املكان من حولنا‬
‫�رصخات مكتومة‪� .‬أفواه مفتوحة‪ .‬زوايا الفم تت�شقق‬ ‫برائحة احرتاق احلواف للخبز املحم�ص‪ ،‬واملاء املغلي يدور‬
‫والل�سان يلعق دما دافئا‪ ،‬ي�سيل على زجاج الكامريا؛ لي�ست‬ ‫يف الكوبني ويذيب حبات القهوة فت�شهق وتبقبق ومتوت‬
‫عيني‪ .‬ال �صوت‪.‬‬
‫�سوى ّ‬ ‫على ال�سطح‪ .‬ي�ضحك‪ .‬بقايا جبنة �صفراء يتخلى يل عنها‬
‫(‪)3‬‬ ‫ويكتفي بدهن خبزته مبربى التوت‪ .‬ن أ�كل بنهم وب�رسعة‬
‫�أدخل بعد منت�صف الليل بحذر اىل غرفة ابنتي وهي الزائرة‬ ‫وب�رسحان‪ .‬و�شي�ش ال�شارع يت�رسب من �شق النافذة بتموج‬
‫النائمة‪� .‬أطمئن انها دافئة يف تلك الليلة اخلريفية الباردة‪.‬‬ ‫ين‪ .‬الزجاج ينفتح على �ضو ِء �سما ٍء خريفية‪� .‬ساقاي‬ ‫�إىل �أذ ّ‬
‫غرفتها كما هي عدا املدف أ�ة‪ ،‬مطف أ�ة مذ غادر ْتنا‪ .‬جبينها‬ ‫متتدان �إىل الكر�سي الذي بجانبي‪ .‬وهو �أمامي على املائدة‬
‫وانحنيت ألق ّبلها‪ .‬ت�صحو مرعوبة‬
‫ُ‬ ‫اقرتبت‬
‫ُ‬ ‫متعرق عندما‬
‫ّ‬ ‫يحرك امللعقة‪ .‬مل نغت�سل منذ‬ ‫يعيد ت�شغيل حا�سوبه بينما ّ‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫وتت�شبث بيدي وتظ ّل ت�رصخ ب�على �صوتها بهلع‪� .‬جل�س‬ ‫البارحة‪ ،‬منذ العا�رشة ليال �أظن‪ .‬تيب�س غ�شاء ابي�ض رقيق‬
‫على طرف ال�رسير و�أح�ضنها بقوة‪� .‬أبقى ل�ساعتني من دون‬ ‫على �أ�صابعنا وخدينا ومناطق على �شعر ر�أ�سينا‪ .‬كنت‬
‫حراك‪ .‬كيف تن�صتت �إىل هواج�سي‪ ،‬و�أنا ل�ست �سوى قلق‬ ‫قفزت من الفرا�ش اىل املائدة ملتفّة باللحاف‪ ،‬وهو إل�شعال‬
‫يتج�سد يف فكر ٍة ت�شبه عيبا وراثيا‪ ،‬من دون �صوت‪ .‬ال رغبة‬ ‫�سيجارة قبل �أن يهييء لنا �شيئا لنفطر به وي أ�تي به مرة‬
‫وكنت قد‬
‫عندي للعي�ش وللموا�صلة‪ ،‬قلت لها من دون �صوت ُ‬ ‫واحدة‪ .‬جائعان‪ ،‬متعبان‪ ،‬م�شعثان‪� .‬أراهن على نظرته‬
‫ت�سللت أل ّ‬
‫ودعها!‬ ‫ُ‬ ‫�صوب النافذة؛ �أ�س ِك ُت ك َّل جر�س انذار و�ألعن قوانني العمل‬
‫(‪)4‬‬ ‫وااليجار وال�ساعات اال�ضافية واخلفارات والنظام وتعاقب‬
‫كابو�س‪ .‬نتناوب لنه َّز بع�ضنا‪ .‬الهواء قليل‪ .‬نو�سع من‬ ‫ال�شم�س والقمر واملوت‪� .‬صامتان‪ .‬يفرغ الكوبان‪� .‬أنه�ض‪..‬‬
‫فتحة النافذة‪� .‬أقول كثريا وال�صوت ال يطلع‪ .‬ملفات حبي�سة‬ ‫نظرته �إىل �أين‪ ،‬وجهتي املطبخ ألغلي املزيد من املاء‪.‬‬
‫احلا�سوب‪ .‬نح�سبها جيدا‪ .‬هل ح�سبناها حقا؟ ما املعنى؟‬ ‫ترافقني �رشاهة نهار و�أنا عارية ور�أ�سي ي�سري على االر�ض‬
‫�أنا غري مقتنعة! �أ�شيح بوجهي بعيدا عن الكتابة واحلروف‬ ‫بخفّة‪.‬‬
‫والوقت كثيف فقط عندما منار�س احلب‪ .‬واحلب يكون‬ ‫املاء ينزل من احلنفية بعط�س ٍة قوية وير�شّ ني مرة واحدة‬
‫بديهيا فقط حينها! �أو يف�سح للرغبة الطريق لتتحرر مني‬ ‫ف أ��رصخ‪.‬‬
‫وتروح بذاتها تغتنم الفر�صة مهوو�سة لت ؤ�كد يل �إين على‬ ‫أ‬
‫ثم يعود لينتظم يف تدفّقه ونب�ضي‪�� .‬ستيقظ من نومي‬
‫خط أ�‪� .‬إين كنت دوما على خط أ�‪ .‬الوقت املتاح قليل فتقودنا‬ ‫كزائرة عابرة �أو �إين ا�ستعدت ذاكرة‪.‬‬
‫ب أ�ق�صى �رسعة لها‪ .‬الوقت املتاح اليجعله يرتخي بهذه‬ ‫(‪)2‬‬
‫فلت العقال و�س أ�رتبك و�سريتبك ونتلك أ�‪.‬‬
‫ال�رسعة و�أدرك �أين �أ ّ‬ ‫ال�رصخة يف لوحة مونك‪.‬‬
‫حدود هذا الزمن تبهرين‪ .‬هوة �ساحقة هذه الربهة التي �أكاد‬ ‫ال�رصخة البعيدة من بيت اجلريان ملوت أالب‪.‬‬
‫�أتراجع فيها وهو يحاول فيها �أن يعني الرغب َة لتتمكن منا‬ ‫ال�رصخة املختلفة ت�صعد من الفرا�ش العايل فوقي اىل‬
‫ويحاول �أن يعلو هو و�صوته لي�سكت �صوتا و�سوا�سا انتقل‬ ‫�سقف الغرفة و�أنا طفلة �أنام على ح�شي ٍة حتت على االر�ض‪،‬‬
‫مني اليه‪ .‬هذا الزمن الذي �أحاذر فيه لئال يطلع �صوت مني‬ ‫ا�ستثناء ب�سبب احلمى‪ ،‬جانب �رسير �أمي و�أبي‪.‬‬
‫�أو تنزلق فكرة‪� .‬أُق�سم �أحاذر ألعينهما بي أ��سي يف اجناح‬ ‫ال�رصخة من امر�أ ٍة تدفع بر�أ�س وليدها قبلي يف الردهة‬
‫املحاولة جمددا ودموعي تطفر‪ -‬لي�ست �سوى �أداة م�ساعد ٍة‬ ‫املجاورة‪.‬‬
‫يدي وهما تت�شبثّان برقبته‪َ ،‬تقْبالن �إذاً �أن‬‫�أخرى‪ ،‬غري ّ‬ ‫ال�رصخة بر ؤ�ية الكتاب الذي و�صل اخريا‪ ،‬ي�صاحبه غثيان‬
‫غرق حمدق‪.‬‬
‫تنت�شالين من ٍ‬ ‫مر من الكتابة وما �ص َد َر للكاتبة حديثا‪.‬‬‫ّ‬
‫‪253‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ق�ص�ص ق�صرية جدا‬


‫حممــد جنيـــم‬
‫�شاعر وقا�ص من املغرب‬

‫عمرها‪ ،‬كان كلبه �صغريا ميلك عينان بلون غابات‬ ‫� إمر�أة فان غوخ‬
‫الأ مازون‪ .‬كانا يلتقيان يف املدر�سة‪ ،‬يلعبان يف‬ ‫يندفع الدم �ساخنا داخل �رشايني املر�أة امل�ستلقية‬
‫احلديقة القريبة‪ ،‬هو يالعب القطة ذات الفرو الناعم‬ ‫عارية يف لوحة فان غوخ‪ ،‬تخرج املر�أة من اللوحة‪،‬‬
‫مثل الثلج‪ ،‬وهي تداعب الكلب ال�صغري‪.‬‬ ‫وجتل�س على كر�سي م�صنوع من اخل�شب الرفيع‪،‬‬
‫الولد يالعب البنت بكل براءة‪ ،‬ي�ضحكان‪ ،‬يبحثان عن‬ ‫الكر�سي الذي كان يجل�س عليه جيم�س جوي�س وهو‬
‫الفرا�شات يف الغابات واحلدائق املجاورة‪.‬‬ ‫يكتب رائعته اخلالدة يولي�سي�س‪.‬‬
‫وفج�أة كربا وكرب الكلب‪ ،‬هرمت القطة ذات الفرو‬ ‫كانت املر�أة وحيدة‪ ،‬فيما ت�سقط قطرات املطر التي‬
‫الناعم مثل الثلج‪ ،‬كرب الكلب �صاحب العينني بلون‬ ‫تهيج الأ زهار يف احلديقة املجاورة‪.‬‬
‫غابات الأ مازون‪.‬‬ ‫�سحبت املر�أة العارية �سيجارة من نوع» كازا»‬
‫‪ -‬اغت�صب الولد البنت بدون رحمة‬ ‫احلقري ‪ ،‬من يد خيالية جليم�س جوي�س‪ ،‬وهي ت�ضحك‪،‬‬
‫‪� -‬سيق الولد �إىل ال�سجن‬ ‫دخنت ب�رشاهة وعمدت على ترك ال�سيجارة تر�سل‬
‫‪ -‬هجرت البنت �إىل مدينة بعيدة‬ ‫دخانها �إىل الكتب القدمية املوجودة يف مكتبة جيم�س‬
‫‪ -‬عرث على الكلب مقتوال بال�س ّم الذي يقذفه عمال‬ ‫جوي�س‪ ،‬عادت املر�أة العارية لت�ستلقي يف لوحة فان‬
‫ال�ضالة‪.‬‬
‫البلدية للكالب ّ‬ ‫غوخ التي خرجت منها دون �إذن منه‪ ،‬لتدخن �سيجارة‬
‫ون�سي النا�س احلكاية‪.‬‬ ‫واحدة يف هذه الليلة املمطرة ويف هذه الغرفة التي مل‬
‫الراق�صة والعبيد‬ ‫يكمل فيها جيم�س جوي�س روايته اخلالدة يولي�سي�س‪.‬‬
‫ر� آها ترق�ص يف حفل‪ ،‬يف احلفل ثلة من العبيد‪،‬‬ ‫ليلى واملجنون‬
‫بع�ضهم يدخن غليونا‪ ،‬و� آخر ر�ش على �سجائره عطرا‬ ‫كانت ليلى قد �أ�صيبت بانهيار ع�صبي حاد‪ ،‬وقيل‬
‫فرن�سيا من الأ نواع الفاخرة جدا‪ ،‬عطر � آالن دولون‪،‬‬ ‫�إنها �أ�صبحت جمنونة وكانت �أمها ت�أخذها مرة يف‬
‫و�إيف �سان لوران‪ ،‬احللبة مليئة بالعبيد‪ ،‬فكرت‬ ‫كل �شهر لزيارة الطبيب املخت�ص يف �أمرا�ض النف�س‬
‫يف �شيء غريب‪� .‬أين توجد ال�صحراء‪ ،‬ملاذا تذكرت‬ ‫واجلهاز الع�صبي‪ ،‬يفح�صها‪ ،‬الطبيب‪ ،‬وي�سلمها و�صفة‬
‫ال�صحراء و�أنا يف هذا احلفل‪ ،‬مازالت الراق�صة ترق�ص‬ ‫الدواء‪ ،‬لتتناوله مدة ن�صف عام‪�.‬أم�س ذهبت ليلى‬
‫ب�شبق �شيطاين‪ ،‬فكرت ملاذا متلك هذه الراق�صة مثل‬ ‫برفقة والدتها �إىل طبيبها املعالج وجدت على الباب‬
‫تلك الأ �سنان البي�ضاء‪ ،‬فكرت ملاذا تبتلع ل�سانها‬ ‫الفتة كبرية مكتوب عليها ‪:‬‬
‫يف كل مرة تخرجه طويال مثل ل�سان �سحلية نادرة‪.‬‬ ‫الطبيب �أ�صيب بانهيار ع�صبي حاد‪ ،‬وقيل �إنه �أ�صيب‬
‫�أخريا عرفت ال�رس‪ ،‬ملاذا تذكرت ال�صحراء ؟ عرفت �أن‬ ‫بجنون‪ ،‬ويعالج حاليا عند الطبيب املخت�ص يف‬
‫الراق�صة متوت من العط�ش‪ .‬لهذا فهي متلك مثل هذا‬ ‫املعدة والأ معاء‪ ،‬يف العيادة املجاورة‪ .‬لأ ن كل �أطباء‬
‫الل�سان الطويل‪ ،‬وعرفت ملاذا تذكرت كل هذا‪ ،‬يف مثل‬ ‫اجلهاز الع�صبي – يف املدينة –فقدوا �أع�صابهم‬
‫هذه ال�ساعة املت�أخرة من اليوم‪ .‬عرفت ملاذا ه�ؤالء‬ ‫و�أ�صيبوا بجنون‪.‬‬
‫مل يراق�صوا تلك الراق�صة‪ ،‬لقد كانوا كلهم‬ ‫العبيد‪َ ،‬‬
‫خم�صيون وكانت �أ�سنانهم بي�ضاء مثل الثلج‪ ،‬مل تكن‬ ‫القطة والكلب‬
‫هناك يف احللبة امر�أة �شقراء‪ ،‬كنت فقط �أحلم‪ ،‬لكن‪،‬‬ ‫حني كانت �صغرية‪ ،‬كانت متلك قطة �صغرية كان‬
‫ملاذا �أحلم بالعبيد؟‪.‬‬ ‫لها فرو ناعم مثل الثلج‪ ،‬كان هو �صغريا‪ ،‬يف مثل‬
‫‪254‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املجل�س حياة ؛ كف�ضاء يف الروح‬


‫حمود ال�شكيلي‬
‫قا�ص من ُعمان‬

‫الأ خرى من ال�شارع الذي �أ�سمع منه �أ�صوات الفرامل‪،‬‬ ‫كيف يل �أن �أ�صف مكانا ما ؟ حترم الديانات و�صف‬
‫وارتطام ال�سيّارات ببع�ضها‪ ،‬و�أ�صوات �سيارات‬ ‫تفا�صيل الأ ج�ساد بدقة فا�ضحة‪ .‬كيف يل‪� ،‬أو لك �أن‬
‫الإ �سعاف امل�رسعة بالداخلني �إىل الرتاب‪.‬‬ ‫ت�صف مكانا �أحببته ؟ جمل�سا �أو غرفة �صغرية يف‬
‫�أدخل جمل�سي الذي لي�س ملكي‪ ،‬ويف كل �صبح‬ ‫مكان ما‪ ،‬ملكا �أو غري ملك‪ ،‬هل يق�ضي �أحدنا حياته‬
‫�أجترّد فيه من كل �شيء‪ ،‬و�ألب�س ال ُّتبّان الأ بي�ض فيه‪،‬‬ ‫يف مكان لي�س له ؟‬
‫�أ�شعل جهاز التربيد‪ ،‬و�أخرج �إىل احلمّام م�ستحمّا‬ ‫�أحببت هذا املكان‪� ،‬إنه كفر�ض ل�صالة يف � آخر الليل‪،‬‬
‫من وعثاء النوم‪ ،‬ومن ال�سوائل التي خرجت من‬ ‫�إن املجل�س الذي �أجْ لِ�سَ ه ويجل�سني و�أجال�سه و�أجل�س‬
‫�صلبي وق�ضيبي‪ ،‬غا�سال �أ�سناين البي�ضاء مبعجون‬ ‫معه و�أجل�س فيه‪ ،‬ويجل�سني اجللو�س ويجل�س معي‪،‬‬
‫لي�س �أبي�ض‪.‬‬ ‫ويجل�س جلو�سي �صار مني‪ ،‬و�رصت �أنا قطعة من‬
‫ي�ستقبلني املجل�س باردا‪.‬‬ ‫بنائه!‬
‫� آخذ كوب لنب وماء ورطبا ‪� ،‬أطالع اجلزيرة �إىل �أن‬ ‫هكذا �رصت مادة �أ�سا�سية �ضمن حمتويات هذا‬
‫ي�أتي القرف‪ ،‬اقر�أ‪� ،‬أكتب‪� ،‬أفتح االنرتنت‪� ،‬أطالع ما‬ ‫املجل�س‪ ،‬ف�إن �أخرجوين من املجل�س تناثرت �شظايا‬
‫�أ�ستطيع من بريد ومواقع �أدبية ونقدية‪� ،‬أبحث عن‬ ‫كما يتناثر ال�سقف بعد ك�رس القواعد‪.‬‬
‫م�صطلحات‪� ،‬أجل أ� �إىل خمطوطي البحثي‪� ،‬أ�ضبط فيه‬ ‫ال يجوز يل �أن �أغادر هذا املكان‪� ،‬إنه قطعة من‬
‫املراجع والهوام�ش‪� ،‬أكتب و�أعدِّل ما قد كتبته �سابقا‬ ‫القلب‪ ،‬ودم يف الروح‪� ،‬أحبه كامر�أة �صوفيّة تقرئني‬
‫من مقدمات الأ بواب وخواتيمها‪� ،‬أبحث عن نهايات‬ ‫ال�شعر ال�صويف بعد منت�صف ليل مقمر ‪.‬‬
‫للق�ص�ص‪.‬‬ ‫يقبع املجل�س الذي �أحب يف الروح‪ ،‬لكن كيف بهذا‬
‫�أت�أمل من نافذة املجل�س �شابا يقف بني بنايتني‬ ‫املكان �أن ي�سكن الروح وي�ساكنها العمر؟‬
‫عند الظهرية‪ ،‬يدخن التبغ ملتفتا �إىل بدلته الزرقاء‪،‬‬ ‫ال ‪� .‬إن اخليال ي�أخذه من واقعه الّذي �شيِّد فيه‪،‬‬
‫ثم يغيب عن ناظري بعد �أن دا�س تبغه بعقب حذائه‬ ‫ويجعله يف م�صاف الأ عزاء غري املزعجني يف‬
‫الأ �سود يف �سبخة ترابيّة‪.‬‬ ‫� آخر الليل‪� ،‬أو قبل الفجر بقليل‪ .‬بل �إن اخليال الذي‬
‫�شعرت �أن ال�شاب الذي ر�أيته كان ي�شبهني‪ ،‬يف فرتة‬ ‫يبادلني �إياه هذا املجل�س الذي �أكتب منه‪ ،‬و�أكتب‬
‫قد م�ضت مبتعدة عن حياة ع�شت فيها خائفا من‬ ‫فيه‪ ،‬وها �أنا الآ ن ‪ -‬ولي�س غدا ‪� -‬أكتب �إىل املجل�س‬
‫كل عني تراين‪� ،‬أو ر�أتني �أرتكب جرمية‪ ،‬وهي جرمية‬ ‫الذي �أحب كل احلب‪ ،‬وعذرا �أيها املجل�س �س�أك�شف‬
‫عار ومنكر وف�ضيحة كربى يف جمتمعنا البدائي‬ ‫ما فيك لنف�سي‪.‬‬
‫املختلف واملتخلّف يف �أحيان لي�ست قليلة‪ ،‬حدث‬ ‫�إن يف املجل�س �أ�شياء كثرية‪ ،‬وما فيه �أورثني الفقر‬
‫�أن خفت من النا�س حلظة �أن بد�أت �أد�س التبغ يف‬ ‫يف ال�صيف‪� ،‬إنني ال �أخرج من جمل�سي يف رحلة‬
‫�أمعائي و�رشايني القلب والرئتني والأ معاء اخلفيفة‬ ‫ال�صيف اجلهنّميّة احلارة على مدن النفط‪ ،‬ها هو‬
‫والغليظة والثقيلة‪ ،‬وها هو ذا ال�شاب خائفا‪� ،‬أو‬ ‫اهلل ي�أخذ الربد معو�ضا به النفط الذي مل نر �أثره‬
‫بدا ك�أنه خائف من �أعني النا�س‪� ،‬إنه ينزوي بني‬ ‫على �سحنات الب�رش‪.‬‬
‫بنايتني‪ ،‬بنتْ له ظلة‪ ،‬ي�ستظل ظهرية �صيف حار‪.‬‬ ‫الب�رش الذين �أراهم وهم يعربون املكان �إىل ال�ضفة‬
‫‪255‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قد �أحب معرفة الوقت منك‪ ،‬افعل بي ما ت�شاء‪� ،‬أحلم‬ ‫رغم �أنك �أيها املجل�س تقذفني بحبيبات ماء �صغرية‬
‫�أن ال �أغادرك‪ ،‬ف�أنت اجلنة‪ ،‬بل �إنك �سيد اجلنّات‬ ‫ت�أتي من الأ على‪ ،‬من �شقة كبرية يقطنها دكتور‬
‫كلها‪� .‬إين �أعدك �أن ال �أقرب �شجرة التفاح؛ حتى �إن‬ ‫نباتي من الهند‪� ،‬إال �إين �أحب اجللو�س معك‪� ،‬أفكر من‬
‫جعت فيك‪.‬‬ ‫�أين ت�أتي هذه احلبيبات ال�صغرية التي تنزل على‬
‫�أنت املر�أة الثانية‪ ،‬بل �إن احلب الذي بيننا يجعلك‬ ‫طاولة كانت للطعام‪ ،‬وحولتها حياتي العبثية �إىل‬
‫يف م�صاف املر�أة الأ وىل‪ ،‬و�أعتذر عن كل الليايل‬ ‫طاولة حا�ضنة للكتب والأ وراق؟‬
‫التي دخلتك فيها و�أنا يف خفة الالوعي‪.‬‬ ‫�أنت �صديق �صدوق �أيها املجل�س‪ ،‬و�أنا �أحب جدرانك‬
‫�أنا �أعي جيدا �أنك بالن�سبة يل �أوىل القبلتني‪ ،‬وكان‬ ‫ال�صفراء‪ ،‬واعذرين �إن حولت �صبغك الأ �صفر �إىل �أ�سود‬
‫اهلل قد ر� آين كثريا عندما �صليت فيك‪ ،‬وكنت �أقر�أ‬ ‫بالر�صا�ص‪ ،‬ف�أنا �أكتب يف �أي مكان‪� ،‬إن كلمني �أحد‬
‫القر� آن والتوراة والإ جنيل يف حمراب �سجادة بها‬ ‫وكان يف يدي قلم فقد �أكتب مكاملته دون وعي‪،‬‬
‫وردتان‪ ،‬يف الوردة اليمنى كنت قد كتبت ا�سمي‪،‬‬ ‫وها هي مكاملة هاتفية مدونة على �إحدى جدرانك‪،‬‬
‫ويف الوردة الي�رسى كنت قد كتبت «ب�سياء»‪ .‬بهاتني‬ ‫�إنها مكاملة كانت قد و�صلتني من كندا‪� ،‬صديقتي‬
‫الكلمتني اللتني كتبتا يف ال�سجادة كنت �أدع كل من‬ ‫وحبيبتي «�إ�رساء علي» تكلمت من كندا وكانت‬
‫طلب �سجادة �أن يركع وي�سجد عابدا �إياي وب�سياء‬ ‫تنوي ركوب القطار‪ ،‬وقالت �إنها حتلم متمنية لو �أن‬
‫كذلك‪ ،‬و�إين حولت ذاتي �إله ًاً‪ ،‬وقريتي هي الأ خرى‬ ‫يدها يف يدي‪ ،‬وقلت لها �إين �أي�ضا �أحلم متمنيا لو‬
‫�صارت نبياً‪ ،‬و�أنا ر�سالتها على هذه الأ ر�ض‪.‬‬ ‫�أن �شفتي يف �شفتها ثم �ضحكت‪ ،‬وقالت ا�صرب حتى‬
‫�أجزم �أيها املجل�س العزيز‪ ،‬احلبيب �إىل الروح والقلب‬ ‫جتمعنا غرفة يف مدينة‪ .‬وهي قد وعدتني �رضورة‬
‫�أنك تعرف ب�سياء جيدا‪� ،‬إنك تعرفها �أكرث من �أهلها‬ ‫�أن نلتقي يف الأ ردن‪� ،‬شتاء هذا العام‪ ،‬و�أنا بدوري‬
‫الأ حياء والأ موات‪� ،‬إنها طفلة �أو �أين �أنا الطفل‬ ‫وعدتها ب�رضورة اللقاء‪ ،‬ها هي « �إ�رساء علي» قد‬
‫الر�ضيع الباحث عن حلمة هنا و�أخرى هناك ‪� ،‬أحلم‬ ‫�أغلقت مكاملتها بعد �أن �أ�سمعتني �صوتها �أكرث من‬
‫�أن �أكرب قليال؛ كي �أف�ض بكارة تربتها الطاهرة‬ ‫ع�رش دقائق‪ ،‬وها �أنا قد كتبت « �أحبك يا �أ�رساء علي‪،‬‬
‫العذراء حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫ووعدا �سنلتقي‪ ،‬و�إين �أي�ضا م�شتاق �إليك»‪.‬‬
‫�أيّها املجل�س الذي �أحب‪� :‬إذا ما متّ فيك فا�سع بجهد‬ ‫قد تطالبني العائلة الكبرية بدين‪ ،‬ف�إين �أكتب الآ ن‬
‫منك �أن ال تخرج جثتي من �إحدى زواياك‪ ،‬اجعل‬ ‫�أن عليّ مبلغا وقدره مائة ريال‪ ،‬كنت قد ت�سلفتها‬
‫يل قربا بني زواياك ال�ست‪ ،‬و�إن مل ي�صدق �أحد �أنك‬ ‫لرحلة جنونية قمت بها قبل �سنة‪ ،‬و�إين الآ ن حائر‬
‫مكون من �ست زوايا فاخربهم ي�أتوا لل�سالم عليّ‬ ‫فيك‪ ،‬و�أنا �أفكر كثريا ‪ :‬هل �أرجعت املبلغ الذي‬
‫حيا �أو ميتا‪.‬‬ ‫ت�سلفته من �أمي؟‬
‫�أرجو �أن ال تدع �أحدا يخرج منك �أي كتاب‪ ،‬و�أنا الآ ن‬ ‫رص على ذلك‪،‬‬ ‫هي تقول �إين قد �أرجعته‪ ،‬ودائما ت� ّ‬
‫�أخربك �أن عندما حل جونو‪ -‬ابن �أخته لت�سو نامي‬ ‫و�أنا ال �أذكر �إن �أرجعته �أم ال ؟ وتن�صحني �أم رميا�س‬
‫‪ -‬خفت عليك كثريا‪ ،‬كخوف الأ م على ابنها‪ ،‬وبهذا‬ ‫خمافة ال�شبهة �أن �أرجع النقد مرّة �إذا مل �أ�ستطع‬
‫�أنا �أبوك‪� ،‬أو �أمّ ك ‪ ،‬و�أنت ابني العزيز‪.‬‬ ‫التذكّ ر‪.‬‬
‫ال عليك �أيها املجل�س‪� ،‬أين ال�ساعة التي يف اجلدار ؟‬

‫‪256‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اليوم ما قبل الأخري من حياة �صياد �أعمى‬


‫حممــود الرحــبي‬
‫قا�ص من ُعمان‬

‫قلبي‪ ،‬لذلك قررت �أن �أختفي بعيدا يف عمق البحر‪ ،‬يجب‬ ‫(�إىل حممد العلوي‪� ،‬صياد من �صور ) يعي�شان هو وزوجته يف‬
‫�أن تعلمي ب�أن اجلرافات تفعل فعلتها ب�رشاهة‪ ،‬فال�صغري‬ ‫كوخ خ�شبي �أمام البحر‪ ،‬ولأ نه كان يبد�أ يومه يف الظالم ف�إن‬
‫يجرفونه والكبري بطبيعته اليقرتب من ال�شواطئ �إال نادرا‪.‬‬ ‫قدره �أال يكون له يوم �أخري يف حياته‪ .‬فخامتة �أيامه يجب‬
‫بذلك �ستتعب‪� ،‬أمل ت�شعر ب�أنك غدوت كبريا مع الأ يام‪.‬‬ ‫�أن تكون اليوم ما قبل الأ خري قيا�سا بزمن الوجود والب�رش‪....‬‬
‫�أ�شعر �أحيانا ب�أن قوتي بد�أت تذبل‪ ،‬فب�سبب بعد امل�سافة‬ ‫وفيما يلي تفا�صيل �أمينة‪ ،‬وحوار ف�صيح‪ ،‬ملا وقع له يف ذلك‬
‫والتجديف الطويل‪� ،‬صارت �أنفا�سي تخرج وتدخل مب�شقة من‬ ‫اليوم ‪-:‬‬
‫�صدري وك�أن �أ�شياء �أخرى تزاحم طريقها‪ ،‬ولكن الحيلة يل ‪.‬‬ ‫�أحدهم �أعطاين رياال مقطوعا‪ .‬مرارا �أمرتك ب�أال تذهبي للبيع‬
‫تراجعت املر�أة جهة املطبخ‪ ،‬فهي رغم كربها الوا�ضح �إال �أن‬ ‫يف الظالم‪.‬‬
‫التجاعيد مل تغز كثريا خدها املنب�سط واملحفوف بالطم�أنينة‪،‬‬ ‫يف ال�شتاء تختلط �صالة الفجر بالظالم‪.‬‬
‫وجبهتها ال�ساطعة ك�صفحة املعدن يف قاع املاء‪ ،‬وعيناها‬ ‫هه‪� .‬إذن �أ�صبح كالنا يعمل يف الظالم‪� ،‬أنا �أ�صيد يف الظالم‬
‫اللتان تتنقالن بحب على كل ماتقعان عليه‪ ،‬حتى على النار‬ ‫و�أنت تبيعني يف الظالم ‪ ،‬يا حلياة الظلمات هذه ‪.‬‬
‫حتت القدور وعلى الظالل التي تزحف برتتيب �أزيل طيلة‬ ‫ماذا �سنفعل بالريال املقطوع ‪.‬‬
‫النهار‪،‬وعلى الفرا�شات وهي حتط ب�سالم كما حتط الظالل‪،‬‬ ‫ال �أعرف‪ .‬رمبا �س�أ�ستعني ب�أول زائر �إىل بيتنا‪.‬‬
‫وعلى اجلمادات املوزعة بي�رس يف حميط الكوخ‪.‬‬ ‫كل هذا ال�صيد الزهيد‪ ،‬وفوق ذلك يعطوننا رياال مقطوعا‪.‬‬
‫�إقرتبت من املطبخ الذي كان عبارة عن �شق �صفيحي يف‬ ‫ما �أ�صيبه ال ي�شبه ب�أي حال ما ي�صيده الزاحفون �إىل البحر‬
‫الكوخ ال�سعفي الذي ي�سكنان فيه‪ ،‬يغطي بوابته رداء ثقيل‬ ‫عندالغب�ش‪،‬ما �أجنيه الينبت �إال يف الظالم‪.‬‬
‫حالك مرتع بالظالل والبلل‪ ،‬ترفعه املر�أة من طرفه �أثناء‬ ‫�أنت الوحيد الذي يذهب �إىل البحر ليال يف هذه القرية‪.‬‬
‫دخولها وخروجها‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬وما �أ�سحبه على قلَّته ‪ ،‬يعني الكثري‪ ،‬فبعد �أن مات ها�شل‬
‫وال�صياد بعينيه الفارغتني املنك�ستني �إىل الأ ر�ض‪ ،‬مل تغز هو‬ ‫مل يعد �أحد يعرف قيمة �سمكاتي‪ ،‬كان هو من يتهافت عليها‬
‫الآ خر التجاعيد وجهه‪ ،‬يرتدي د�شدا�شة تنح�رس حلد الركبة‪،‬‬ ‫وي�ستقبلني قبل اجلميع �أمام البحر‪.‬‬
‫حمفوفة �أطرافها مبا ر�سمته منذ زمن يد امللوحة من خرائط‬ ‫بعد موت ها�شل خفتت عزميتك ومل تعد ت�ستمتع كما كنت‬
‫باهتة وتعرجات ‪ ،‬قدماه حافيتان ولكنهما قويتان ب�أظفار‬ ‫بالذهاب �إىل ال�صيد‪.‬‬
‫خ�شنة عري�ضة ‪ ،‬و�ساعداه امل�شعران ‪ ،‬بديا �صلبني ب�سبب‬ ‫لي�س هذا مايخفت همتي‪� ،‬إن �شيئا � آخر �أكرب من ذلك بكثري‪.‬‬
‫التجديف اليومي ‪ ،‬منت�صبني كمجدافني‬ ‫�أعرف ما تق�صد‪ ،‬فال�صيادون يتحدثون كثريا عن جرافات‬
‫يحفهما ال�شعر‪ ،‬ورقبته عري�ضة وظهره واقف كجذع قدمي ‪.‬‬ ‫ال�سمك البعيدة‪ ،‬ولكن ما حاجتك بهم‪ ،‬ف�أنت الت�صل �إىل تلك‬
‫كان الكوخ الذي يقطنان فيه �سعفي بكامل حيطانه �صنع‬ ‫امل�سافة التي ي�صلها الآ خرون‪.‬‬
‫من �أعواد ال�سعف ال�سميكة وعمد بجذوع نخل �صلبة‪� ،‬سقفه‬ ‫هه ‪ .‬مل يعد الأ مر يفرق كما كان يف ال�سابق‪ ،‬علي الآ ن �أن‬
‫�صفيحي منعه من دخول املطر وما ت�سحبه الرياح‪ ،‬وبابه‬ ‫�أ�شق طريقا طويلة حتى �أ�صل �إىل م�أوى ال�سمك يف املاء‪ ،‬يف‬
‫خ�شبي موارب دائما تت�صدره حلقة حديد �سوداء حتتها‬ ‫ال�سابق كنت ازحف خطوتني يف الظالم و�أجد ما �أ�شاء‪�،‬إن‬
‫�صفحة معدن �أل�صقت عمدا لكي ي�سمع العجوزان طرقات‬ ‫اجلرافات هي التي قادت ال�صيادين اىل �أن يبتعدوا كثريا‬
‫الزائر قبل دخوله‪.‬‬ ‫للبحث عن رزقهم‪ ،‬لذلك ف�إن �سعره اليني و�أن يرتفع وذلك‬
‫تك تك تتك ‪ .‬ال�سالم عليكم‬ ‫لأ ن م�شقة كبرية نحتاجها لإ خراجه من البحر‪.‬‬
‫ادخل ‪ .‬وعليك ال�سالم والرحمة‬ ‫�أالتخاف على روحك من الغرق‪ ،‬ملاذا ال ت�صرب وت�صيد قريبا‬
‫�أنا نا�رص ياعمي‬ ‫من ال�شاطئ وتنتظر مايرزقنا اهلل به‪.‬‬
‫ا�سرتح بجانبي يا نا�رص‪ ،‬جيد �أنك �أتيت‪� ،‬أحدهم �أعطى‬ ‫وهل بقي رزق يف ال�شاطئ‪ ،‬جربت ذلك وكنت �أ�ست�سلم للنوم‬
‫زوجتي رياال مقطوعا‪ ،‬هل كنت معهم يف امل�سجد اليوم يف‬ ‫و�أ�صحو لأ جد ال�شبكة فارغة‪ ،‬و�أمل الك�آبة ال�سوداء يعت�رص‬
‫‪257‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�ساحل‪ ،‬كان بع�ض االطفال وهم يف غمرة اللعب تتمايل‬ ‫�صالة الفحر؟‬
‫�أج�سادهم كال�رساب من بعيد‪ ،‬بع�ض ال�صيادين يحنون‬ ‫ال‪.‬‬
‫ظهورهم يف جوف مراكبهم ويحركون �أياديهم بجهد‪ ،‬وثلة‬ ‫‪.............‬‬
‫منهم يتجمعون يف دائرة ن�شطة وهم ين�سجون ب�صمت و�أنني‬ ‫هل الريال مقطوع بالكامل؟‬
‫حبال �شبكة طويلة‪ ،‬ن�سوة يحمن وفوق ر�ؤو�سهن �أوعية ماء‬ ‫ال �أعرف‪� .‬أح�رضي الريال يا �سامله‪.‬‬
‫وحبات عرق ت�سطع من ر�ؤو�سهن الن�صف حا�رسة‪.‬وناحية‬ ‫ملاذا يفعلون ذلك بنا‪ ،‬مل يحدث لنا مثل هذا من قبل‪ ،‬هل‬
‫اجلنوب‪ ،‬حيث ير�سل البحر وجهه ول�سانه‪ ،‬كان راعي غنم‬ ‫يعقل �أن يخرج �أحدهم من بيت اهلل لي�شرتي �سمكا بريال‬
‫يتقرف�ص بالقرب من �شياهه و�إحدى عينيه مغم�ضتني‪ ،‬ورا�ؤه‬ ‫مقطوع‪ ،‬نحن ال نطلب �صدقة من �أحد‪� ،‬إنه رزقنا ‪.‬‬
‫عجوز ي�شعل غليونا ثم ينف�ض حمتوياته قرب حذائه امل�صنوع‬ ‫ال عليك ياعمي‪� .‬س�أجد الفاعل و�س�أطلب منه ان يبدل الريال ‪.‬‬
‫من ربل اجلمال‪ .‬وغري بعيد عنهم كانت �أ�شجار �ضخمة‬ ‫ال بد �أن �أحدهم ر� آه وهو ي�شرتي ال�سمك منك‪.‬‬
‫مر�صعة ب�أع�شا�ش الغربان التي يعلو منها نقيق حاد ي�ضفي‬ ‫تقرتب املر�أة ويف يدها � آنية بها متر ودلة قهوة و�إناء ماء‬
‫على املكان �شعورا باحلنني ‪�.‬إقرتبا من القارب ال�سعفي‪ ،‬كان‬ ‫تطفو منه ر�ؤو�س فناجني مثلومة احلواف‪ .‬ت�ضع الآ نية على‬
‫العجوز يحمل وعاء به زيت كبد �سمك اجليذر وفلينة قطنية‬ ‫الأ ر�ض وت�صافح ال�ضيف ثم تناوله الريال‪.‬‬
‫تغط�س يف قاعه‪،‬رفع ال�شاب حبل املر�ساة من بطن القارب ثم‬ ‫�إنه مقطوع بالفعل‪ ،‬ولكن الأ رقام مل مي�سها �شيء‪ .....‬التقلق‬
‫قربها جهة �أنفه‪ ،‬ت�شممها قبل �أن مي�سحها بالقطنة املغمو�سة‬ ‫ياعمي طاملا �أن الأ رقام وا�ضحة ف�إن الريال �سليم‪ ،‬ورغم‬
‫يف الزيت‪ ،‬وظل يفركها طويال وال�صياد الأ عمى يقف وراءه‬ ‫ذلك �س�أبدله لك بريال من عندي ‪.‬‬
‫مرددا عينيه الفارغتني بارتياح بني املدى البحري ال�شا�سع‬ ‫اذا كان �سليما كما قلت فال داعي لأ ن تبدله يل ‪ .‬والآ ن قل يل‬
‫والأ ر�ض حتته ‪ ،‬بعد ذلك وزن ال�شاب املجدافني بيديه‬ ‫هل من جديد يف البلدة؟‬
‫وحركهما يف جميع اجلهات‪ ،‬ثم فك وثاقهما وانكب يربطهما‬ ‫اجلديد هو ما تعرفه ويعرفه كل النا�س‪،‬ال�رشكة �ستو�سع‬
‫بكل جهده و�أنني �ضعيف يخرج من �صدره‪ ،‬وحني انتهى نف�ض‬ ‫بناءها ورمبا كوخك �سيكون مهددا بالزوال‪� ،‬إنهم ميرون على‬
‫بطرف القارب يديه من الق�رش الف�سفورية التي التق�صقت بهما‪،‬‬ ‫البيوت وينذرون �أ�صحابها بالأ مر الذي �سيقع‪.‬‬
‫ثم ر�سم ابت�سامة على ثغره كعالمة انت�صار‪ ،‬بعدها قاد الأ عمى‬ ‫�أعرف ذلك‪ ،‬ولكني لن �أدعهم يقرتبون من بيتي ‪.‬‬
‫من �إحدى يديه و�أودعه باب بيته ‪.‬‬ ‫يقولون ب�أنهم يعو�ضون ال�ساكنني �أمام البحر ب�أموال جمزية‪،‬‬
‫ادخل لنتغدى‪.‬‬ ‫الكثريون �أبدوا رغبتهم يف ذلك‪،‬خا�صة و�أنه مل يعد البحر يدر‬
‫�أح�سنت ياعمي‪� ،‬س�أتركك‪ ،‬لدي عمل كثرييف البيت‪.‬‬ ‫عليهم �سمكا كما كان عليه احلال‪.‬‬
‫�سحب ال�شاب خطواته جهة ال�شاطئ ومن هناك رمق �رسبا من‬ ‫ماذا �س�أفعل ب�أموالهم ولي�س يل عمل غري هذا ال�صيد‪� ،‬إين‬
‫نوار�س الظهرية تبحر ب�أجنحتها البي�ضاء مطلقة �رصاخها‬ ‫الوحيد يف هذه البلدة الذي ي�شق طريقه �إىل البحر يف الظالم‬
‫وهي تتعارك على ال�سمك املتقافز‪ .‬توارى بعدها مبتعدا جهة‬ ‫كل يوم ‪.‬‬
‫بيته وهو يتلفت مينة حيث بد�أ الأ طفال وبع�ض ال�صيادين‬ ‫�إن لديهم طريقة يف �إقناع النا�س‪.‬‬
‫يرتكون قواربهم هاربني من قيظ الظهرية‪.‬‬ ‫�سمعت �أن ال�رشكة نف�سها هي من يقوم بجرف ال�سمك يف عر�ض‬
‫يف تلك اللحظة كان ال�صياد يتحدث وهويدخل ثم يتحدث وهو‬ ‫البحر‪ ،‬لقد بد�أوا بطردنا بهدوء من هناك‪ ،‬من قلب البحر‬
‫يجل�س فوق احل�صرية‪.‬‬ ‫ودون �أن ن�شعر‪ ،‬هل يوجد عنف �أكرب من ذلك‪.‬‬
‫لو ر�أيتيه كيف كان ي�ساعدين و�أنفا�س فرح تخرج من �صدره‪،‬‬ ‫ما باليد حيلة يا عمي‪ ،‬اجلميع يف النهاية �سيغادر ال�ساحل‪،‬‬
‫ك�أمنا تركه لنا ها�شل بعد موته و�أو�صاه علينا ‪.‬‬ ‫ولنبحث لنا عن �سكن وحياة جديدة‪.‬‬
‫ثم �أكمال حديثهما ومائدة طعام �صغريه تتو�سطهما‪.‬‬ ‫كل �إن�سان حر فيما �سيفعله ولكني لن �أترك حياتي ب�سهولة‪،‬‬
‫ماذا �ستفعل �إذا جاءك مندوب ال�رشكة؟‪.‬‬ ‫�إن مل �أ�شم هواء البحر كل �صباح ف�س�أموت خمتنقا‪.‬‬
‫�سوف �أرد له طلبه‪ ،‬لن �أفارق كوخي ماحييت‪.‬‬ ‫‪................‬‬
‫واذا �أ�رصوا عليك‪.‬‬ ‫�س�أدعك الآ ن ياعمي‪.‬‬
‫بعد وقفة مت�شنجة‪ ،‬حترك ال�صياد متح�س�سا احلائط ال�سعفي‬ ‫لي�س قبل �أن ت�ساعدين‪ ،‬هيا قم معي �إىل القارب لندهن حبل‬
‫للكوخ‪ ،‬حيث و�ضع يف زاوية مظلمة �صندوقا خ�شبيا قدميا‪،‬‬ ‫املر�ساة بزيت كبد �سمك اجليذر فرائحته ت�ساعد يف جلب ال�سمك‬
‫قام منفعال و �أدمي الطعام ملت�صقا بكفه اليمنى‪.‬‬ ‫ناحية ال�شبكة‪ ،‬كما علي �أن ات�أكد من ثبات املجدافني‪.‬‬
‫هل ترين هذا ال�صندوق‪ ،‬به �سالح ورثته عن �أبي‪ ،‬مل ا�ستعمله‬ ‫خرجا من الكوخ فا�ستقبلتهما املراكب املوزعة على خط‬
‫‪258‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫م�سبحته ويحرك خرزاتها ببطء وهو يتمتم ب�صالة خافتة‪.‬‬ ‫يوما‪� ،‬سوف �أ�شهره يف وجه من ي�ضطرين �إىل ذلك ‪.‬‬
‫تطوي �سجادتها ثم تتقدم �إىل زاوية يف العري�شة وهي ت�ضع‬ ‫كانت املر�أة تنظر �إىل حيث �أ�شار زوجها وعالمات الريبة‬
‫فوق الأ ثايف الثالث ‪� ،‬إناء املعدن ‪،‬ومن هناك تتطاير �إىل نافذة‬ ‫تت�سلق وجهها كظالل خ�شنة‪.‬‬
‫تطل على البحر‪ ،‬روائح الأ بهرة ثم ال�صوت امللتهب للح�ساء‪.‬‬ ‫وكما يف كل ليلة ‪ ،‬يف قلب الظالم يدفع ال�صياد بقدمني‬
‫ويف و�سط البحر‪� ،‬أمت ال�صياد �صالته ‪ ،‬ثم رفع قدميه فنب�ضت‬ ‫حافيتني قاربه ال�سعفي من �صفحة الرمل املل�ساء ‪ ،‬باجتاه‬
‫منهما عروق ن�شطة م�ستجيبة يف �سحب ال�شبكة من البحر �إىل‬ ‫�أ�صابع البحر التي تثب منتف�ضة حني يالم�س القارب �أطرافها‬
‫بطن القارب ‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫املر�أة تفتح عينيها ‪ ،‬وتنه�ض ‪ ،‬ثم تغو�ص يف عمق قريب من‬ ‫كانت �ستارة الظالم تطوق جزءا من املكان ‪ ،‬ويف كبد الأ فق‬
‫زاوية يف بيتها‪ ،‬تغلق الباب عليها‪ ،‬حيث ي�سمع من الداخل‬ ‫‪ ،‬قمر وحيد يبدو كعني تربق لتفرج عن جزء � آخر من عتمة‬
‫حركة �أ�سطل وخرير ماء‪ ،‬ثم تخرج ومتتمة ال�صالة تتتابع من‬ ‫امل�شهد‪.‬‬
‫بني �شفتيها وهي تفر�ش �سجادتها ‪.‬‬ ‫تالم�س �أ�صابع ال�صياد رطوبة املاء ‪ ،‬ي�سحب طرف د�شدا�شته‬
‫كانت ال�سمكات ال�صغرية تتلبط وهو ي�ستلها بيديه ويودعها‬ ‫دافعا القارب جهة املاء‪ ،‬ثم يرفع �ساقه اليمنى يتبعها بثنية‬
‫جوف كي�س قطني بجانبه‪ ،‬ثم يحرك جمدافيه مقرتبا‬ ‫من يديه على �إثرهما يرتفع بقية ج�سده خفيفا �إىل بطن القارب‬
‫من ال�شاطئ ‪ ،‬فيهب ال�صيادون الزاحفون فجرا �إىل البحر‬ ‫‪.‬‬
‫مل�ساعدته‪ ،‬ينزعون ما بقي ملت�صقا يف �شبكته ويودعونها يف‬ ‫يقب�ض طريف املجدافني و ي�سحب ب�أنفه كتلة غليظة من‬
‫كي�س �صغري �أتت به زوجته‪.‬‬ ‫الهواء ي�ستعني بها لدفع القارب الذي �سيتقدم خمتفيا يف بطن‬
‫يف بكارة الغب�ش التي ال تلبث �أ�ضواء ال�شم�س و�أن ت�شعلها‬ ‫الظالم‪.‬‬
‫ك�أمنا لرت�سل نداءها الأ ول حلركة الكون‪ ،‬هنا تت�ضح حركة‬ ‫ومن بعيد ‪...‬وراء ظهره املتواري ‪ ،‬كانت امر�أته ت�شيعه بنظرها‬
‫كل �شيء‪ ،‬املوج يتقافز ك�أطفال فرحني ‪ ،‬والنوار�س تبحر يف‬ ‫وهي تتمتم ب�صالة خافتة ‪.‬‬
‫الف�ضاء �أ�رسابا باجتاه ال�شاطئ‪ ،‬حيث ال�صيادون يبد�أون يف‬ ‫عينا ال�صياد الأ عمى �شاخ�صتان يف الأ فق والقارب يتحرك‬
‫�شق طريقهم ناحية البحر‪.‬‬ ‫ببطء‪ ،‬يف مقدمته تتقافز فقاعات املاء‪،‬ومب�ؤخرته ير�سم خيطا‬
‫وحده ال�صياد الأ عمى ينهي عمله‪ ،‬ك�أمنا ينهي نهارا يتجه‬ ‫زبديا �ضعيفا بدا كطريق حمروثة تت�شكل يف ال�سدمي‪.‬‬
‫عك�س الزمن‪ ،‬حاثا خطى قاربه نحو ال�شاطئ‪ ،‬بحا�سته‬ ‫ت�سحب املر�أة ج�سدها ناحية العري�شة ‪ ،‬التي تهز الريح �أطرافها‬
‫املتوثبة والرا�صدة واملدربة منذ �أزل على طريق البحر‪ .‬كان‬ ‫ال�سعفية ‪ ،‬عازفة طرقات تتوازى مع ك�رسات املوج ‪.‬‬
‫بتلك احلا�سة الفوالذية ‪ ،‬ي�ستطيع �أن ي�صل �إىل طريق عودته‬ ‫وغري بعيد من ذلك كانت خر�سانات �إ�سمنتية بد�أت تت�شكل‬
‫م�سرت�شدا بكل ماتر�سله الطبيعة يف بكارة ذلك ال�صباح‬ ‫وتقرتب كوحو�ش نائمة تلتهم ببطء �صفاء امل�شهد‪.‬‬
‫من �أ�صوات وروائح‪ ،‬كان كل �شيء يف املحيط ي�ساعده على‬ ‫يتقدم ال�صياد �إىل قلب البحر ‪ ،‬والقمر يف الأ على ي�ضيء طريقه‬
‫الو�صول الهادئ �إىل مر�ساه‪.‬‬ ‫الهادئ ‪� .‬إىل �أن �أرخى جمدافيه م�صيخا ‪ ،‬قبل �أن يلقي ال�شبكة‬
‫تتقافز ال�سمكات يف ال�شبكة‪ ،‬تتالمع كالنجوم حبيباتها‬ ‫التي ا�ستلها من مكان يف املركب ‪ ،‬والتي طارت مبهارة يف‬
‫الف�سفورية‪ ،‬وتربق ب�شدة مع االنعكا�س اخلفيف لل�شم�س‪.‬‬ ‫الف�ضاء ثم طفت حلظات قبل �أن تغو�ص يف قلب املاء‪ ،‬ويف‬
‫يتقدم ال�صياد �إىل حيث تقف امر�أته منتظرة‪ ،‬منت�شيا فرحا‬ ‫الأ على علق �أحد �أطرافها بخ�شبة القارب ‪.‬‬
‫ب�إنهاء يوم عمله‪ ،‬منخراه املنفرجان بال�سعادة يت�ساوقان مع‬ ‫ت�سند املر�أة ر�أ�سها على املخدة‪ ،‬ثم تقلب رم�شيها يف الظالم‬
‫حديثه املتقد ‪.‬‬ ‫مت�أملة وبريق من عينيها ي�سطع ويلتقي �ضو�ؤه مبا ير�سله‬
‫تقوده من يديه �إىل قلب العري�شة ‪ ،‬تناوله احل�ساء ال�ساخن‬ ‫القمر من �ألوان تراوغ فتحات العري�شة ‪.‬‬
‫‪،‬ثم تتوارى مبتعدة وكي�س ال�سمك يف يدها‪ ،‬خمرتقة �سحابة‬ ‫ويف اللحظة عينها‪ ،‬حيث �أناخ ال�صياد قاربه‪ ،‬كان القمر ير�سل‬
‫الغب�ش‪.‬‬ ‫�أ�شعته على القارب ور�أ�س ال�صياد املطبق عينيه وابت�سامة‬
‫يرت�شف ال�صياد احل�ساء‪ ،‬م�رسحا عينيه يف الفراغ ‪ ،‬ثم يتمدد‬ ‫انت�شاء تت�سع من ثغره الغائب‪.‬‬
‫م�سرتيحا ‪.‬‬ ‫املر�أة تغفو والتمتمات التي توقفت م�سرتيحة يف ثغرها التعب‬
‫تتقدم املر�أة بالكي�س جتاه ال�سوق‪ .‬ويف الطريق‪ ،‬وكما يحدث يف‬ ‫‪ ،‬ت�سقط على وجهها ماي�شبه اجلناح الأ بي�ض ‪.‬‬
‫كل مرة‪ ،‬ي�ستقل طريقها العائدون من �صالة الفجر‪ ،‬وي�شرتون‬ ‫وال�صياد بعد �أن قذف بال�شبكة ‪ ،‬انتظر غافيا‪ ،‬بني خفقات هواء‬
‫كل ما بيدها يف ذلك الكي�س‪ ..‬ويف هذا ال�صباح نقدها احدهم‬ ‫التيار الهادئ الذي يرتفع فوق الأ مواج كح�صري مت�صاعد يهب‬
‫رياال مثلوما‪.‬‬ ‫على ج�سده قبل �أن يعلو ويكمل طريقه يف الظالم‪ .‬ثم ي�ستل‬
‫‪259‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عط ــ�ش‬
‫امتنـــان ال�صمـــادي‬
‫كاتبة من الأ ردن‬

‫معا‪ ،‬فعندى الكثري من الأ خبار �أود �أن �أ�رصح لك‬ ‫مكاملة هاتفية‪..‬رنت لها �أو�صايل ‪،‬عندما �سمعت‬
‫بها ‪،‬لأ نك فتاة ذكية جدا وجميلة �أي�ضا‪ ...‬غمزها‬ ‫�صوتك يردد بحنان ‪ :‬ماذا تريدين يا عزيزتي ؟‬
‫بعينه وهو يدير ظهره قائال‪:‬‬ ‫�أرجو �أن تطلبي �شيئا �أحققه لك؟‬
‫‪� -‬سوف �أعود �رسيعا‪ ،‬وتتحدثني كما ت�شائني ‪،‬لن‬ ‫جتر�أت وقلت‪� :‬أمتنى �أن �أجل�س معك �ساعة‪�...‬ساعة‬
‫�أتاخر!‬ ‫فقط‪ ،‬حتى �أبوح لك مبا مل �أبحه لنف�سي ‪!.‬‬
‫و�أنا لن �أبوح ب�شيء اذهب كما تريد ‪ ،‬ومتتع بوقتك‬ ‫توقعت جميئك‪ ،‬فجئت‪ ،‬هيا ارتدي مالب�سك‬
‫ما �شئت فحرام على تلك امل�سافة التي قطعتها �أن‬ ‫ب�رسعة �سوف نخرج يف نزهة ت�ستغرق �ساعة‪ ،‬كما‬
‫ت�ضيع دون ا�ستثمار ؟!‬ ‫وعدتك‪ ،‬لقد قطعت م�سافة �أربعمائة كم من �أجل‬
‫و�أنا �سوف ا�ستثمرها �أي�ضا ‪�« ،‬شيطان يف اجلنة‪/‬‬ ‫�ساعة‪...‬هيا ب�رسعة‪...‬‬
‫هرني ميللر» �أول ما وقعت عليه عيناي‪ ،‬تناولته‬ ‫ماذا ارتدي؟ و�أي لون ينا�سب حديثي و�أ�شجان‬
‫وبد�أت �أقلب ال�صفحات عبثا‪ ،‬املهم �أال �أنك�رس �أمام‬ ‫قلبي ؟ احرتت لكن حريتي مل تطل عندما �أدركتني‬
‫قلبي ‪...‬‬ ‫عقارب ال�ساعة حمذرة‪.‬‬
‫�ساعات طوال و�أنا �أنتظرك ‪�...‬أ�رس لنف�سي ب�أنني لن‬ ‫�أنا جاهزة ‪ ،‬هيا لنخرج قبل �أن تتبخر �أحالمي‬
‫�أحتدث �إليك لكنني �أنتظرك ‪...‬يف كل مرة جل�سنا‬ ‫‪ ،‬ويذوب ف�ؤادي على نب�ض مت�صلب ينتظر �أ�شهر‬
‫فيها معا‪ ،‬كنت تبد�أ احلديث �أنت وتنهيه �أنت‬ ‫جميئك ‪ ،‬الآ ن �سوف �أ�رسح عيني يف عينيك‪� .‬أ�شكو‬
‫وي�ضيع منت�صفه بالإ �شارة �إىل �صمتي و�رضورة‬ ‫لها و�أ�سمع منهما �شكوى �أي�ضا ‪ ،‬فهذا زمان ال‬
‫اخلروج على هذا ال�صمت والتحدث عن همومي‬ ‫يفرق بني �أحد‪ ،‬وال تعجزه امل�سافات التي بيننا‬
‫وم�شكالتي «فال بد ل�صدى احلياة اجلامعية‬ ‫حتى ميار�س ق�سوته‪�!...‬إنني �أحرتق وعقلي ما عاد‬
‫اجلديدة التي �أعي�شها �أن ينعك�س على حياتي‬ ‫ي�ستوعب �أيامي ! وعجزت ذاكرتي عن ت�سجيل‬
‫العلمية»‬ ‫يومياتها ‪ ،‬فبد�أت الذكريات تدفن الذكريات ‪.......‬‬
‫كنت دائما �أ�ستمع ل�شكواك‪ ،‬و�أتفاعل معها بكل ما‬ ‫لن نخرج ‪�...‬إنني �أختنق ال �أ�ستطيع �أن �أطفئ ما‬
‫اوتيت من �إح�سا�س ‪ ،‬و�أخفف عنك قدر ما �أ�ستطيع‬ ‫بجعبتي‪� ،‬أرجو �أن تتفهم خويف من هذا العامل‬
‫ال بل فوق ما �أ�ستطيع لتخرج مرتاحا م�رسورا ‪،‬‬ ‫و�أنت بعيد عني !�أرجوك �ساعة‪�...‬ساعة فقط �أعدك‬
‫و�أنت تقول بفرح‪ :‬يف املرة القادمة �سوف �أكون‬ ‫ب�أن �أخلع �ساعة يدي و�أ�ضعها �أمامي على الطاولة‬
‫امل�ستمع و�أنت املتحدثة ‪�...‬أبت�سم ويبد�أ قلبي‬ ‫حتى �أتذكر حجمي احلقيقي كلما جرفني احلديث‬
‫بالتقاط ال�صور لكل الأ �شياء حتى �أخربك بها‬ ‫‪،‬لأ رتد �إىل ال�ساعة!‬
‫عندما نلتقي ‪ ...‬لكن ال�صور ترتاكم ‪ ،‬وت�ضيع عرب‬ ‫‪-‬لقد دعاين بع�ض الأ �صدقاء حل�ضور فيلم جديد‪،‬‬
‫ذكريات باتت تتعفن يف غرفة مظلمة‪...‬‬ ‫يجب �أن �أذهب مل�شاهدته معهم الآ ن لقد �أوقعوين‬
‫قالت جدتي بحدة ‪ :‬هذا لقاء مهم يجمع �أ�صدقاءه‬ ‫يف حرج‪�،‬أنا مل �أت�صل بهم �إال لل�سالم عليهم والآ ن‬
‫ال�شباب هل تريدينه �أن ي�أخذك معه ويجل�سك بني‬ ‫ال �أ�ستطيع االن�سحاب‪...‬افهمي موقفي ‪ ،‬ف�أنت‬
‫�أحاديثهم ب�صفتك ابنته املدللة؟ �أو لعلك تريدينه‬ ‫التي تقدر الأ مور دوما‪� ،‬سوف �أعود مبكرا وجنل�س‬
‫‪260‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‪ ..‬ن�صـــو�ص‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫تثبت �أن احلياة الزوجية كذبة كبرية‪ ،‬و�رساب‬ ‫�أن يرتاجع بكالمه �أمام زمالئه؟ بنات � آخر زمن!‬
‫نرك�ض وراءه‪ ،‬وعندما ن�صل �إليه جنده قد تنحى‬ ‫تخليت عن حدتي ‪،‬و�أطرقت م�ست�سلمة ‪ ،‬ولرمبا‬
‫�إىل مكان � آخر لنعاود الكرة_با�سم الأ مل_نلهث‬ ‫كانت هذه هي املرة الأ وىل التي �أ�ست�سلم بها‬
‫خلفه‪.‬‬ ‫لنقا�ش دون نقا�ش‪.‬‬
‫بدات م�شاعري حتدثك وعيناي توا�سيك ‪،‬و�شفتاي‬ ‫جئت بعد منت�صف الليل ‪ ،‬كانت عيناي مغم�ضتني‬
‫تدعو لك‪...‬‬ ‫‪،‬على ماتبقى من دموع ‪ ،‬ويداي غائرتني يف‬
‫�صوت جدتي من املطبخ‪:‬الع�شاء جاهز‪...‬نه�ضت‬ ‫�صفحات الكتاب ‪� .‬صوت جدتي تقول‪ :‬ملاذا‬
‫با�سم دعوة الع�شاء هذه املرة‪ ،‬واجليد منك �أنك‬ ‫ت�أخرت �إنها نائمة‬
‫اغلقت الباب خلفك‪ ،‬حتى ال ي�سمع �أحد �رصاخ‬ ‫ل�ست نائمة يا جدتي ‪ ،‬وما زلت �أنتظر بني رجف‬
‫القلب وعقم الل�سان‬
‫ف�ؤادي بعدك‪.‬‬
‫– �سوف �أراها يف ال�صباح ‪�،‬أنا متعب الآ ن ‪...‬‬
‫لن �أبحث عن رفيق جديد لروحي العط�شى التي‬
‫�صوت خطواته يرتفع باجتاه غرفتي ‪ ،‬فتح الباب‪،‬‬
‫�سوف تيب�س �أوراقها غدا عندما تل�سع ال�شم�س‬
‫ل�ست نائمة‪ ،‬ياحل�سن حظي!! ‪ ،‬اقرتبت وجل�ست‬
‫وجعها ‪...‬الآ ن فقط قررت �أن �أبكي ب�صوت عال‪،‬‬ ‫بجانبي بحنانك املعهود ‪ ،‬بد�أت تتحدث برموز‬
‫لعلي �أغ�سل خطيئة نف�سي التي اقرتفت منذ �سنني‬ ‫غام�ضة‪ ،‬دون مقدمات ‪ ،‬ا�ستمعت �إليك بحر�ص ‪،‬‬
‫وهي تنتظر على املحطات �أمال �أن تبوح ب�رس‬ ‫كعادتي‪ ،‬لأ نني �إذا �أخل�صت يوما‪ ،‬فهذا يعني‬
‫روحها ‪ ،‬ووجع قلبها املخنوق بكل الآ هات عله‬ ‫م�صيبة على عاتقي «لأ ن �إخال�صي �رش�س قاتل‬
‫ي�صري �صوتا جميال؟؟؟‬ ‫ال يرحم نف�سه»‪.‬‬
‫فتح الباب مرة �أخرى ليقول ‪�:‬سوف � آتي يف ال�شهر‬ ‫�إنها زوجتك هذه املرة ‪ ،‬ف�أنت ال ت�ستطيع �أن‬
‫القادم وجنل�س معا وتتحدثني‪�...‬أغلقت عيني وهو‬ ‫ت�ستمد من بريق عينيها بريقا خا�صا ي�شكل لك‬
‫يتحدث‪ ،‬ولأ ول مرة �أ�رسرت‪ :‬ليتك مل ت� ِأت‪.........‬‬ ‫الر�ؤية االجتماعية التي تتمنى‪...‬‬
‫ليتك مل ت� ِأت‪.‬‬ ‫عدت لكالمك اجلميل و�صوتك احلنون ‪ ،‬و�أخذت‬

‫«غروب» ‪ ..‬جبال ُعمان‪ -‬من ار�شيف املجلة‬

‫‪261‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫متابعات‬

‫من �أعمال الفنان �أحمد البحراين‪ -‬العراق‬

‫‪262‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرتجمة والفل�سفة‬
‫يف العامل العربي‬
‫عبدال�سالم بنعبد العايل‬
‫مفكر من املغرب‬

‫ولكن‪ ،‬هل تكمن «مهمة املرتجم» يف �أن يوفر للقارئ‬ ‫�أعتزم يف هذه الورقة الدعوة �إىل �إعمال الفكر يف هذه‬
‫�أمهات الن�صو�ص؟ ولنقت�رص هنا على جمال الفل�سفة‬ ‫احلركة الن�شطة املحمودة التي ت�شهدها بع�ض امل�ؤ�س�سات‬
‫ما دمنا ب�صدد احلديث عنه بالأ �سا�س‪ ،‬هل تكمن مهمة‬ ‫وبع�ض بيوت احلكمة‪ ،‬والتي تتناف�س فيها �أقطار عربية‬
‫املرتجم يف �أن ي�ضع بني يدي امل�شتغلني يالفل�سفة‬ ‫غري قليلة لتوفري الن�صو�ص الفل�سفية الكربى للم�شتغلني‬
‫�أمهات الكتب؟ وهل ميكن لرتجمة الن�صو�ص الفل�سفية �أن‬ ‫بالفل�سفة يف عاملنا العربي‪.‬‬
‫تتم مبعزل عن خما�ض فل�سفي؟‬ ‫لي�س من ال�رضوري بطبيعة احلال �أن ن�ؤكد على �أهمية‬
‫�أ�رشنا منذ قليل اىل حماوالت الرتجمة التي كانت تتم‬ ‫هذا الن�شاط الثقايف الهام الذي يوفر للمرتجمني ال�رشوط‬
‫فيما �سبق‪ ،‬الظاهر �أنه مهما قلنا عما كان ي�شوب تلك‬ ‫املادية ال�رضورية التي بدونها لن تقوم للرتجمة قائمة‪.‬‬
‫املحاوالت من عيوب اال �أننا ال ن�ستطيع‪ ،‬على رغم ذلك‪،‬‬ ‫لذلك فنحن ل�سنا يف حاجة �إىل �أن ننبه �أننا ال نتوخى هنا‬
‫�أن ننفي �أنها كانت تتم يف خ�ضم خما�ض فل�سفي‪ ،‬فال‬ ‫التقليل من �أهمية حركة الرتجمة هاته‪� .‬إال �أننا نرى �أن‬
‫اختيار الن�صو�ص وال انتقاء امل�صطلحات‪ ،‬كل ذلك مل يكن‬ ‫ذلك ال يعفينا من مواكبة التفكري يف حدود هذه احلركة‬
‫ليتم مبعزل عن جدال ثقايف عام‪ .‬بعبارة موجزة فان‬ ‫لإ ثبات مالها وما عليها‪ .‬فال مفر لرتجمة الن�صو�ص‬
‫الرتجمة مل تكن � آنئذ لتتم بعيدا عن االن�شغال الفل�سفي‪.‬‬ ‫الفل�سفية من �إبراز الفل�سفة الكامنة وراء العملية‪ ،‬وحتديد‬
‫كنا ننقل يف الأ غلب عن غري اللغات الأ م‪ ،‬عن لغات‬ ‫املفهوم الثانوي عن الرتجمة وعن الفل�سفة يف الوقت‬
‫و�سيطة كما يقال‪ ،‬اال �أن نقلنا ذاك كان ال ينف�صل عن‬ ‫ذاته‪.‬‬
‫خما�ض فل�سفي �أو ه ّم فكري على الأ قل‪ .‬كانت الرتجمات‬ ‫ال بد يف البداية �أن ن�شري �أن هذه احلركة جاءت لت�صحح‬
‫على عالتها تواكب جداال ثقافيا عاما‪ .‬ترجمنا بع�ض‬ ‫«�أخطاء» مرحلة �سابقة قد يرى فيها البع�ض �أنها مل تكن‬
‫ن�صو�ص ديكارت‪ ،‬اال �أن ذلك كان يدخل يف �سياق‬ ‫�إال مرحلة طبعتها عقلية «الربيكوالج»‪ ،‬واقت�رص فيها‬
‫ان�شغال ثقايف مل يكن ينح�رص يف جمال الفل�سفة وامنا‬ ‫املرتجمون على تناول ما «حتت �أيديهم» من م�ؤلفات‪،‬‬
‫كان يطال ميدان الأ دب ومنهج درا�سته‪ .‬نقلنا بع�ض‬ ‫وتوظيف ما ي�ستعملونه من لغات‪ ،‬وا�ستخدام ما يتوفرون‬
‫ن�صو�ص مارك�س وفرويد عن الفرن�سية واالجنليزية‪ ،‬اال‬ ‫عليه من �إمكانيات‪ .‬لذا فما يبدو منطلقات �أ�سا�سية حلركة‬
‫�أننا جتادلنا كثريا وترددنا طويال يف توظيف كلمات‬ ‫الرتجمة البديلة هاته هو �إ�سنادها الرتجمة اىل �أهل‬
‫ويف ترجمة مفهومات ونقل م�صطلحات‪ .‬لنذكر على‬ ‫االخت�صا�ص‪ ،‬وحر�صها ال�شديد على �أال تتم الرتجمة اال‬
‫�سبيل املثال ترددنا يف ا�ستعمال �ألفاظ مثل التجاوز‬ ‫عن اللغة الأ م‪ ،‬و�أن تبد�أ �أ�سا�سا ب�أمهات الكتب وعيون‬
‫والت�شي ؤ� واالغرتاب واال�ستالب والوعي الزائف بالن�سبة‬ ‫امل�صادر‪ .‬والظاهر �أن ما «تراكم» حتى الآ ن خلري دليل على‬
‫لبع�ض ن�صو�ص هيجل ومارك�س‪� ،‬أو كلمات الكبت والدافع‬ ‫التزام ال�ساهرين على هذه الرتجمات بكل تلك املبادئ‪.‬‬
‫والنكو�ص واالنكار بالن�سبة لبع�ض ن�صو�ص فرويد‪ ..‬ال‬ ‫ويكفي على �سبيل املثال �أن نلقي نظرة �رسيعة على‬
‫نلم�س اليوم نوعا من هذا اجلدال عند من ينقلون ن�صو�ص‬ ‫منجزات «املنظمة العربية للرتجمة» يف جمال الفل�سفة‬
‫هيجل �أو هو�رسل �أوهايدغر‪� .‬أو لنقل على الأ �صح ان نقل‬ ‫حتى نت�أكد من �صحة ما �أ�رشنا اليه‪ .‬فقد ا�ستطاعت تلك‬
‫ه�ؤالء اىل اللغة العربية ال يتم يف �سياق ا�ستثمار فكري‬ ‫املنظمة �أن توفر للقارئ العربي عناوين �أ�سا�سية يف‬
‫ملتونهم‪.‬‬ ‫تاريخ الفل�سفة على اختالف مدار�سه واجتاهاته‪.‬‬
‫‪263‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بـ«�أن ترجماته ولدت ميتة»‪ .‬لقد �سبق لبع�ض مرتجمينا‬ ‫رمبا ال يرجع الأ مر هنا فح�سب اىل الطابع امل�ؤ�س�سي‬
‫�أن نقلوا ن�صو�صا �أ�سا�سية يف جمال الفل�سفة‪ ،‬وهذا‬ ‫الذي �أخذ ي�سم الرتجمة يف عاملنا العربي‪ ،‬و�إمنا اىل‬
‫الذي �أوم�أنا اليه كان ينقل عن اللغات الأ م‪ ،‬اال �أن تلك‬ ‫مفهوم الرتجمة ذاته الذي تفرت�ضه هذه املمار�سة‪ .‬ذلك‬
‫الن�صو�ص مل تلق ا�ستجابة يف �سوق التبادل املعريف‪ :‬فلم‬ ‫�أن الرتجمة تطرح هنا مبعزل عن خما�ض فكري‪ ،‬وتفهم‬
‫تدخل يف �شبكات فكرية وعالئق �أخرى‪ ،‬ومل ترث انتقادا‬ ‫�أ�سا�سا على �أنها نوع من التهي ؤ� للن�صو�ص الكربى كي‬
‫ومل تُ�ستثمر ومل توظّ ف‪ .‬ولي�ست قليلة الأ مثلة التي ت�ؤكد‬ ‫تغدو متي�رسة للقارئ العربي الذي ينوي اال�شتغال‬
‫ذلك‪ .‬ويكفي �أن نذكر ترجمات بع�ض م�ؤلفات فرويد على‬ ‫بالفل�سفة والذي يعتزم �إعمال الفكر يف تراثها‪ .‬الرتجمة‬
‫يد �صفوان وزيور و�سامي علي‪ ،‬وترجمة بع�ض م�ؤلفات‬ ‫هنا عملية متهيدية‪� .‬إنها مثل التحقيق ت�سعى لتوفري‬
‫لوك ورو�سو‪� ،‬إىل غري ذلك من الرتجمات املهمة كر�سالة‬ ‫الن�ص ملن يعتزم �إعمال الفكر فيه‪ .‬وهي ت�سعى �أن ت�ضع‬
‫�سبينوزا ور�سالة فتغن�شتاين وحفريات فوكو‪..‬وهي‬ ‫«بني يدي» القارئ العربي �أمهات الن�صو�ص‪ .‬فهي اذن‬
‫ترجمات �أ�صبح من املتعذر حتى احل�صول عليها �شعورا‬ ‫حلظة �سابقة ممهدة لكل تفل�سف‪ .‬ما تهدف اليه هو �إيجاد‬
‫من نا�رشيها رمبا بال جدوى �إعادة الن�رش‪.‬‬ ‫الن�ص يف لغة عربية‪ ،‬حتى وان تطلب الأ مر �أن يقبع يف‬
‫على هذا النحو فان ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية ال‬ ‫قاعة انتظار �إىل �أن يحني وقت ا�ستخدامه‪ ،‬واال�شتغال به‬
‫ميكن اال �أن تتلب�س املمار�سة الفل�سفية ذاتها‪ ،‬ولن تعود‬ ‫وعليه‪.‬‬
‫الرتجمة جمرد فعل يف تلك الن�صو�ص‪ ،‬و�إمنا تغدو تفاعال‬ ‫لكن ماذا لو كانت ن�صف عملية التفل�سف تكمن يف فعل‬
‫معها‪ ،‬لن تعود تفكريا يف تلك الن�صو�ص‪ ،‬و�إمنا تفكري‬ ‫الرتجمة ذاته؟ اذا كانت الفل�سفة حوارا فهي بالأ وىل‬
‫بها‪ .‬لعل هذا هو ما يف�رس كون الرتجمة الفل�سفية تظل‬ ‫حوار بني ن�صو�ص وبني لغات‪ .‬بهذا املعنى ال ميكن‬
‫عملية المتناهية حتى داخل اللغة الواحدة‪ .‬فما دام الن�ص‬ ‫الف�صل بني حلظتني ‪ :‬حلظة �إعداد الن�ص وترجمته‪ ،‬ثم‬
‫الفل�سفي مو�ضع فكر فهو يرتجم وتعاد ترجمته‪ .‬ويكفي‬ ‫حلظة ا�ستخدامه والتفكري فيه‪ .‬اذا كان معظم الفال�سفة‬
‫�أن نذكر �أقرب مثال �إلينا‪ ،‬وهو نقل الن�صو�ص الأ ملانية‬ ‫املعا�رصين مرتجمني‪ ،‬فلي�س ذلك �سعيا منهم اىل توفري‬
‫�إىل اللغة الفرن�سية‪.‬‬ ‫ن�صو�ص وامنا وعيا منهم �أن ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية‬
‫تتمخ�ض عن ذلك نتيجتان‪� :‬أوالهما �أن الرتجمة لي�ست‬ ‫واعادة ترجمتها من �صميم املمار�سة الفل�سفية‪ .‬ال �أعني‬
‫م�س�ألة م�ؤ�س�سة فح�سب‪ .‬ال ميكن للرتجمة‪ ،‬وترجمة‬ ‫بذلك فح�سب �أن هايدغر وفوكو و� آلتو�سري والكان ودريدا‬
‫الأ مهات الفل�سفية �أن ت�سند فقط �إىل منظمات وقطاعات‬ ‫وريكور‪ ،‬ال �أعني فح�سب �أن كل واحد من ه�ؤالء يرتبط‬
‫وزارية و«بيوت حكمة» تراكم الن�صو�ص الكربى يف‬ ‫ا�سمه مب�صنف نقله اىل لغته‪ ،‬وامنا ب�أن كال منهم مل يفت أ�‬
‫رفوف املكتبات‪« .‬بيوت احلكمة» هنا هي‪� ،‬أوال وقبل‬ ‫يعدل ترجمات الن�صو�ص التي كان ي�ستثمرها‪ .‬ان كال‬
‫كل �شيء‪ ،‬املمار�سة اليومية ملن ي�شتغل بالفل�سفة ومن‬ ‫من ه�ؤالء كان يعيد النظر يف ترجمة الن�ص عندما كان‬
‫ي�شغل باله بها‪ .‬الرتجمة الفل�سفية‪ ،‬مثل الفل�سفة‪ ،‬ه ّم‬ ‫يعيد قراءته‪� .‬أو لنقل بالأ وىل انه كان يعيد قراءته ب�إعادة‬
‫فكري ومعاناة من «يفلح» الن�صو�ص ويع�شق اللغة‬ ‫ترجمته‪.‬‬
‫ويرعى �صقلها و�صفاءها‪ .‬رمبا ال ميكنها �أن ت�ستغني‬ ‫لقد اعتقدت امل�ؤ�س�سات التي �أوكلت اىل نف�سها ال�سهر على‬
‫ماديا عن امل�ؤ�س�سات واملنظمات‪ ،‬اال �أنها ال ميكن البتة‬ ‫الرتجمة �أن ق�ضية الفل�سفة عندنا هي غياب الن�صو�ص‬
‫�أن تتم خارج «خمتربات» الفكر‪ ،‬وبعيدا عن قاعات الدر�س‬ ‫الكربى‪ ،‬و�أن ترجمة الن�صو�ص وتوفريها بلغة عربية تنقل‬
‫وف�ضاءات «االنتاج» الفل�سفي‪.‬‬ ‫عن اللغة الأ م هو ال�سبيل الأ �ضمن حلل تلك املع�ضلة‪ .‬بيد‬
‫النتيجة الثانية تتجاوز م�س�ألة الرتجمة كي تطال ق�ضية‬ ‫�أن ترجمة �أمهات الكتب الفل�سفية ال تكمن يف اعدادها كي‬
‫الفل�سفة ذاتها و�شكل ممار�ستها يف عاملنا العربي‪ .‬فما‬ ‫تكون مو�ضع تفكري‪ ،‬انها لي�ست حتقيقا لكتب واقرتاحا‬
‫دامت عالئقنا بالن�صو�ص الكربى عالئق ال تتعدى‬ ‫مل�صطلحات‪ .‬بل هي �إعمال فكر واعادة ت�أويل ف�إعادة‬
‫الف�ضول املعريف‪ ،‬ف�إننا �سنظل نتوهم �أن متلّك تلك‬ ‫ترجمة‪.‬‬
‫الن�صو�ص يتحقق مبجرد نقلها �إىل لغتنا دون بذل جهد‬ ‫ثم ان م�س�ألة ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية ال تقت�رصعلى‬
‫متوا�صل النف�صالنا عنها‪ ،‬و�إذكاء حدة التوتر بيننا‬ ‫ندرة ما نقل �إىل العربية من الأ مهات‪ ،‬و�إمنا تتعدى ذلك‬
‫وبينها‪.‬‬ ‫�إىل ما عبرّ عنه �أحد مرتجمينا الكبار عندما ا�شتكى‬
‫‪264‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سعد البازعي‬
‫وجدل التجديد فـي ال�شعر ال�سعودي‬
‫�صابــر احلبا�شـــة‬
‫كاتب وباحث من تون�س‬

‫�صورة تقريبية ومكثفة تختزل امل�شهد يف‬ ‫يقع كتاب الناقد والأ كادميي ال�سعودي‬
‫نقاط تبدو عالية التمثيل للعنا�رص الكثرية‬ ‫الدكتور �سعد البازعي «جدل التجديد‪ :‬ال�شعر‬
‫التي يزخر بها»‪�(.‬ص‪ ،)12‬فهل جنح الكتاب‬ ‫ال�سعودي يف ن�صف قرن» ال�صادر م�ؤخرا‬
‫يف حتقيق هذا الهدف؟ نرتك الإ جابة عن‬ ‫يف الريا�ض عن وزارة الثقافة والإ عالم‪،‬‬
‫هذا ال�س�ؤال‪ ،‬الآ ن‪ ،‬لأ ن تقرير �إجابة مُ ن�صفة‬ ‫�ضمن �سل�سلة تُعنى بر�صد امل�شهد الثقايف‬
‫حتتاج �إىل قراءات متعددة الأ طراف ولأ هل‬ ‫يف اجلزيرة العربية‪ ،‬وقد و�ضع الباحث يف‬
‫مكّة‪ ،‬الأ درى ب�شعابها‪� ،‬أوال وبالذات‪ ،‬وما نو ّد‬ ‫الت�صدير برنامج الكتاب‪ ،‬ف�أ�شار �إىل �أنه ي�سعى‬
‫القيام به يف هذا احليّز املحدود �إمنا هو تقدمي‬ ‫�إىل «ر�سم �صورة للم�شهد ال�شعري يف اململكة‬
‫الكتاب تقدميا عامّ ا‪.‬‬ ‫العربية ال�سعودية عرب ما يقارب اخلم�سة �أو‬
‫ولع ّل الباحث قد ا�ستبق احتجاجات املنتقدين‬ ‫ال�ستة عقود املمتدة منذ خم�سينيات القرن‬
‫املُفرتَ�ضني لعمله بقوله «�أتوقع �أن تكون هذه‬ ‫الع�رشين وحتى اليوم»(�ص‪.)9‬‬
‫املحاولة غري مر�ضية للبع�ض �سواء كانوا ممن‬ ‫وي�رشح البازعي املق�صود بعنوان الكتاب‬
‫كان ميكن للكتاب �أن ي�شملهم بو�صفهم �شعراء‪،‬‬ ‫بقوله «ولن يخفى على القارئ �أن التجديد‬
‫�أي يقعون يف دائرة البحث‪ ،‬لكنهم مل يدخلوا‬ ‫املق�صود هنا مرادف للمفردة ال�شائعة‬
‫فعليا يف �إطاره من خالل التحليل �أو الإ �شارة‬ ‫الأ خرى‪� ،‬أي «التحديث» �أو «احلداثة»» ويعلل‬
‫لأ عمالهم‪� ،‬أو من الدار�سني الذين يرون �أن‬ ‫اختياره مل�صطلح التجديد بدال من التحديث‬
‫البحث �أغفل ماهو مه ّم �أو �أهم ممّا هو متناوَلٌ »‬ ‫واحلداثة بـ»كرثة ما �أ�صاب الأ خرية حتديدا‬
‫(�ص‪ )13‬ويجيب عن هذه االهتمامات بقوله‬ ‫من ا�ستعمال �أفقد املفردة بع�ض دالالتها‬
‫�إنّ «الكتاب لي�س ت�أريخا للم�شهد ال�شعري يف‬ ‫و�أغرقها يف �أبعاد �أيديولوجية حتتاج معها‬
‫اململكة �أو خمتارات لق�صائد متثل ذلك امل�شهد‪،‬‬ ‫�إىل املراجعة»(�ص‪.)9‬‬
‫و�إمنا هو قراءة لبع�ض جوانبه»(�ص‪.)13‬‬ ‫وي�رشح الكاتب مق�صوده بلفظة «اجلدل» يف‬
‫ويو�ضح البازعي منهجه يف الكتاب مربزا‬ ‫ّ‬ ‫عنوان هذا الكتاب‪ ،‬فيجعلها داللتني �إحداهما‬
‫�أنه اختار الأ �سلوب املو�ضوعاتي ‪ /‬التاريخي‬ ‫م�ستمدة من مفهوم «الديالكتيك» �أو «اجلدلية‬
‫لإ جناز قراءته مل�شهد ال�شعر ال�سعودي‪ .‬ويبينّ‬ ‫الهيغلية» القائمة على «تنازع الأ �ضداد»‪� ،‬أما‬
‫الباحث �أنه حاول مراعاة اختالف االجتاهات‬ ‫الداللة الثانية فهي احلوار املحتدم على �شكل‬
‫ال�شعرية واالهتمامات املو�ضوعية �إىل جانب‬ ‫خطابات نقدية ومواقف �سجالية ذات طابع‬
‫البعد التاريخي �أو املراحل التي برزت تلك‬ ‫�سو�سيو ثقايف حول م�رشوعية التجديد �أو‬
‫االجتاهات واالهتمامات �أثناءها‪ .‬وي�رضب‬ ‫التحديث‪�( .‬ص‪)10‬‬
‫مثال جمعه يف معاجلة مو�ضوع الذات والآ خر‬ ‫وي�شري البازعي �إىل �أن كتابه الواقع يف مائتي‬
‫بني �ستة �شعراء ميتدون زمنيا من حممد العامر‬ ‫�صفحة من القطع املتو�سط �إمنا هو «ر�سم‬
‫‪265‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على عبداهلل ال�صيخان وحممد الثبيتي وعلي‬ ‫الرميح يف منت�صف القرن الع�رشين وحممد‬
‫الدميني و�أ�شجان هندي‪.‬‬ ‫الدميني وح�سن ال�سبع يف �أواخره‪ ،‬حماوال تبني‬
‫�أمّ ا الف�صل الثالث من هذا الق�سم فقد تناول‬ ‫ما قد يوجد بينهم من وجوه التقاء واختالف‪،‬‬
‫«ق�صيدة النرث‪ :‬الطريق الآ خر �إىل ال�شعر» عر�ض‬ ‫يف الآ ن نف�سه(�ص‪.)15‬‬
‫فيه الباحث �إىل مناذج لل�شعراء فوزية �أبو‬ ‫وي�ضع البازعي يف الق�سم الأ ول من كتابه‬
‫خالد وحممد الدميني و�إبراهيم احل�سني و�أحمد‬ ‫�إ�ضاءات �أولية حدد فيها ما �أ�سماه معامل امل�شهد‬
‫املال‪.‬‬ ‫ال�شعري التاريخية والثقافية واملنهجية‪،‬‬
‫وينتهي الكتاب بقائمة من امل�صادر واملراجع‬ ‫متطرقا �إىل مكونات التجربة ال�شعرية‪.‬‬
‫العربية‪.‬‬ ‫وانطلق يف الق�سم الثاين �إىل �إبراز � آفاق التجديد‬
‫هذا الكتاب – على الرغم من خلوّه من خامتة‬ ‫دار�سا يف الف�صل الأ ول من هذا الق�سم ال�شعراء‬
‫تو�صل �إليها‬
‫عامّ ة تربز �أه ّم النتا‪A‬ئج التي ّ‬ ‫الرومان�سيني الرمزيني (ح�سن عبداهلل القر�شي‬
‫الباحث – يقوم على جانب كبري من االن�ضباط‬ ‫ونا�رص �أبو حيمد وحممد �سعيد امل�سْ لِم)‪ .‬واهتم‬
‫املنهجيّ ‪ ،‬يتمثل �أ�سا�سا يف احرتام املنهج الذي‬ ‫يف الف�صل الثاين بتحليل جدلية الذات والآ خر‬
‫اختاره الباحث ويف حماولته عدم االجنرار‬ ‫عند ال�شاعرين حممد الرميح وحممد فهد‬
‫وراء الأ حكام امل�سبقة �أو �أحكام القيمة‪.‬‬ ‫العي�سى‪ .‬واعتنى الف�صل الثالث بالإ �شكالية‬
‫ويُع ّد هذا العمل مكمال مل�رشوع مو�سوعة ال�شعر‬ ‫نف�سها عند ال�شعراء غازي الق�صيبي و�سعد‬
‫ال�سعودي وفاحتة جلدل خ�صيب‪ ،‬نتوقع �أن‬ ‫احلميدين وحممد الدميني وح�سن ال�سبع‪.‬‬
‫«يع�صف» �إيجابيا بر�صانة عرو�ض الباحث‬ ‫واهتم الباحث يف الق�سم الثالث من كتابه‬
‫ونقوده الن�صية‪ ،‬ولكنها – وهذا قدرها – تبقى‬ ‫بق�ضية ا�ستك�شاف الذات عند �شعراء ال�سبعينات‬
‫جزئية وانتقائية‪ ،‬ع�سى �أن تتفتق قرائح النقاد‬ ‫والثمانينات‪ ،‬فدر�س مناذج من «حداثة‬
‫على قراءات وت�أويالت تُرثي «جدل التجديد‬ ‫التفعيلة»‪ ،‬كما يقول‪ ،‬يف باقتني من ال�شعراء‪،‬‬
‫يف ال�شعر ال�سعودي» الذي �أطلقه �سعد البازعي‬ ‫الأ وىل �شملت حممد العلي و�سعد احلميدين‬
‫من عقاله‪.‬‬ ‫و�أحمد ال�صالح‪ ،‬والباقة الثانية ا�شتملت‬

‫‪266‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�سركون بول�ص‬
‫يف (حامل الفانو�س يف ليل الذئاب)‬
‫�شاكـر جميد �سيفو‬
‫�شاعر وكاتب من العراق‬

‫على مركز ال�صورة وهو مدار اجلذب لذاتية مت�صوفة ترتد‬ ‫ي�أتي ال�شاعر اىل العامل م�ستقبال �أوجاعه وم�ستبقا داللة‬
‫اىل حقول التماهي مع االخر يف املطابقة واملجان�سة بني‬ ‫الكينونة التي تت�ضمن ت�سلط احلرمان واملمنوعات‪ ،‬يتنازع‬
‫مفرتق طرق اخلطاب اليومي‪،‬هنا ت�أ�سي�س ملزاوجة بني‬ ‫مع عر�ش الوجود يف �صوره املحتدمة وح�ضورها املتمركز‬
‫الزمان والذكريات (�سري خبيئة يف الع�شب‪/‬لن يقر�أ احد‬ ‫وراء ا�سطورة او خرافة او حادثة‪،‬بهذا املنحى ي�شري �رسكون‬
‫تفا�صيلها‪،‬اعرا�س الفرا�شات يف عوا�صم الندى‪/،‬وللديدان‬ ‫يف ن�صو�صه (�شاي مع م�ؤيد الراوي وغناء على ايقاع الطبلة‬
‫حتت االر�ض والئمها‪/،‬لل�صقور حروبها يف الهواء!‪/‬‬ ‫وال�سيتار _اىل عبد القادر اجلنابي وحلم احلمال على ج�رس‬
‫نادتني اال�شجار لأ نام ‪/‬ويف حلمي وجدت بابا بني الغابة‬ ‫القلعة_اىل جليل القي�سي يف كركوك ‪0)000‬‬
‫والطريق‪�....‬ص‪9‬‬ ‫ان ال�شاعر مينحنا �أق�صى املتع ال�شعرية يف اكت�شافاته‬
‫ان التوالد ال�صوري هنا ير�شح عن عملية ت�شاكل ثنائي بني‬ ‫لقاءات �شعرية وك�شوفات موجوداته‪،‬وهي اوىل رحالت‬
‫(الزمان والذكريات‪،‬حيث تنطلق الذكرى من احللم ليوفر‬ ‫ال�شخ�صية‪،‬مرة مالحقا املا�ضي ومتدثرا به واخرى �صادما‬
‫جدلية العالقة بني �صيغة النداء ولعبة املتخفي يف تثبيت‬ ‫باحلا�رض املرير ونهايات �شخو�صة املبكرة‪،‬تلك التي ن�ؤدي‬
‫املنت‪،‬وهنا يقرتب ال�شاعر من طبيعة الذكريات لتجرتح‬ ‫ادوارا مركبة تكت�شف قيم الآ خر باثارة التعب وارتداء‬
‫م�شهدا للحمولة ال�شعرية يف تعدد نظم الداللة‪،‬حيث تلتب�س‬ ‫عنا�رص احلياة ونامو�سها االبدي‪ ...‬يتجه الن�ص يف جمموعة‬
‫الذاكرة مبحتوياتها وت�شكل نواة مركب امتالك الأ �شياء‬ ‫(حامل الفانو�س يف ليل الذئاب ) اىل ت�شييد خالياه بالتوالد‬
‫�أي العناية بامتالك اال�شياء ال�صغرية والعناية بها‪ ،‬وذلك‬ ‫ال�صوري من عينات ان�سانية �ضاجه باحلياة بكيانيتها‬
‫ماي�شري اليه با�شالر يف (تكوين العقل العلمي )‪ ،‬ان حمور‬ ‫وتوجهها‪ ،‬وتلك هي احالم ال�شاعر املندثرة حتت وط�أة‬
‫احللم واخليال موجه اىل مفروكة زمانية وهي (الذكريات –‬ ‫املكابدات يف تاريخ الطفولة واحللم واملالحق ال�سريية‬
‫الذاكرة) (اللقية –اخلزانة) ح�سب تعبري الكاتب خالد خ�ضري‪،‬‬ ‫االخرى‪........‬‬
‫و�سط متازح اال�ستعارات ال�صورية والت�شاكل ال�صوري بني‬ ‫ان افعال الن�ص ترتد دائما اىل ابتكار نهايات ا�رستها‬
‫املركز والهام�ش بني املنت وحمتوياته وعالمات الت�أ�سي�س‬ ‫ووجودها من كينونة تاريخية ي�شبع ال�شاعر عرب ن�سيجها‬
‫االوىل‪ ،‬فال�شاعر يقف يف اوىل عتبات احلياة ومن ثم يدخل‬ ‫ذلك االلتبا�س اللفظي يف اللغة واملعنى وهذا ما يحقق‬
‫اىل �صريورة الأ �شياء (و�سط الدخان‪،‬كلمة ولدت هناك وال تريد‬ ‫اق�صى االنزياح م�ستمدا هذه التمارين العالية يف خلق‬
‫ان متوت هنا ‪/‬ان مل نقلها نحن‪،‬من يقولها ‪/‬ومن نحن ان مل‬ ‫املعادلة ال�شعرية بقوى الفكر والفل�سفة والر�ؤى النف�سية‪،‬‬
‫نقلها‪�...‬ص‪) 15‬ان ا�سئلة ال�شاعر عن بنى الكينونة تت�شاكل‬ ‫ان ثمة تعر للمعادلة الرتداء الذات التي ت�ستعني بالآ خر‬
‫مع العامل يف نقطة جوهرية هي بذرة الت�أ�سي�س واالنبعاث‪،‬‬ ‫لالكت�شاف واجرتاح الرغبات ال�شديدة للنف�س (هل انا � آخر‬
‫حيث يختتم ال�شاعر �صورته بهذه الأ �سئلة الكونية التي ت�ؤ�س�س‬ ‫االنتني‪ /‬اذا �أتبع �شمعة اىل نهايتي‪ ،‬ام انا اول من �سلفوا‪/‬‬
‫للبعد الزمني �سمعته املكانية (العامل فتحة‪ ،‬حتر�سها ك�سور‬ ‫�أملل دوزنه العك�سية يف الزمن‪،‬من قبل ومن بعد )‬
‫مراة‪ ،‬على دكة الطني‪ ،‬تعربمنها )‬ ‫ان ذات ال�شاعرة املوجعة تبوح يف تلفظها ال�سريي وتوجه‬
‫خمتلف ا�شكال اخلليقة‪ :‬ي�أتي اجلميع ‪/‬ليدلفوا ‪/‬اىل هذا‬ ‫الكتابة ال�شعرية اىل االقرتان بالرغبة التدمريية يف ت�سميتها‬
‫الزقاق‪�..‬ص‪17‬‬ ‫للرموز واال�شياء بني اكت�شافاتها اجلديدة واخرتاعها للجروح‬
‫نكت�شف هنا حياة تتقاذفها رياح الزمان وتعطي لنا‬ ‫اجلديدة يف طوفان ف�ضيات الب�ؤرة املركزية وت�شطيبها‪:‬‬
‫اح�سا�سا باملكان عرب مفردة العامل يف ن�سيجها البنيوي‬ ‫(وحدي يف الغابة‪ ،‬والغابة انا؟ �ص‪ )6‬يركز ال�شاعر هنا‬
‫‪267‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫نحن الذين ننام‪ \...‬فرا�شنا على االر�ض‪ ,‬را�سخ\ يف‬ ‫لل�صورة الكلية للحياة حيث يجمع ال�شاعر بني جزيئات‬
‫مطالنا\ النبيذ وال�سجائر \ نطوف على موجة ال�سترييو\‬ ‫امل�شهد الطق�سي وير�شح منه بالتايل هذا الت�شاكل الوجودي‬
‫ج�سدا اىل ج�سد مع االفالك‪�...‬ص ‪ )44‬ويجعل ال�شاعر ا�شياءه‬ ‫(الزمكاين) لي�شكل خال�صة احلكاية يف مقاربتها احل�سية‬
‫يف �صورها الفخمة حيث ي�ستح�رض لغة خ�شنة ع�صية يكاد‬ ‫امليثيولوجية‪ ،‬ففي ال�صورة التالية يجتزح ال�شاعر ف�ضاء‬
‫يتوحد معها بدءا باحلنني اىل االمكنة والتفا�صيل ال�صغرية‪,‬‬ ‫دراماتيكيا يقع على منتجهة املتعة وانت�صا�ص اللذة يف‬
‫والوجع و�سوء الطالع وف�شل احلياة واندثارها‪ ,‬بهذه االن�سجة‬ ‫االقرتاب من كالم لروالن بارت‪ ،‬اىل ان ي�صل اىل م�ضاعفة‬
‫املت�ضادة يف �سريتها احلياتية ‪ ,‬جند هذا التو�صيف للتالم�س‬ ‫الرمز واليات بثه الداليل‪ ،‬ونتق�صى داخل اجلهاز اللغوي‬
‫الذهني وحتويل ال�شعر اىل م�رسد للتمرد بني �صعود ممكن‬ ‫لل�شاعر ماتبثه الذات ال�شاعرة من عالئق الكالم منطقا‬
‫وفراغ الممكن وامتالء المتناهي حيث تنفتح ا�شارات‬ ‫للولوغو�س ح�سب تعبري (مارتن هايدجر ) وبامكاننا تفكيك‬
‫ال�صورة التالية من خالل ممار�سة ال�شاعر مللفوظاته الدالة‬
‫الرموزية والداللية لتفجر طاقة اخللق ال�شعري‪ ,‬بهذا يعطي‬
‫يف ت�رسيح املعنى وفق عملية مت�سعة تكاد ت�ؤدي اىل الأ تالف‬
‫ال�شاعر لل�شعر جدواه من جهة وقدرته على االمتاع واثارة‬ ‫والنفي (وهي العملية التي جندها اي�ضا لدى هيدجر الذي‬
‫اال�سئلة‪ (:‬على ق�سمات املدينة\ يف رفوف الدخان املتلبد‬ ‫يرى ان �سعة ورحابة حمولة احل�صول للوجود يف احل�ضور‬
‫حتى اعلى \�سارية هناك\ تت�ضح الكتابة يوما فيوما‪\..‬‬ ‫قد تتجلى لنا االن ب�شكل اكرث حدة واحلاح ًا عندما نكت�شف‬
‫لنعرف ان ا�صنامنا را�ضية التعوزها القرابني‪� .‬ص‪)53‬‬ ‫ان الغياب ذاته والغياب بال�ضبط‪ ،‬يظل متعينا من خالل‬
‫ت�ستوعب بنيات ن�صو�ص ال�شاعر مفارقة انف�صال الذات‬ ‫احل�صول يف ح�ضور الوجود‪ ،‬وغالبا ما يتم رفعه اىل اق�صى‬
‫عن ن�شوتها ويتمدد با�سرتخاء هذا النف�صال احلاد لي�شكل‬ ‫درجات الغمو�ض والغرابة)‪.‬‬
‫م�ساحة تتمدد بني بنية امل�سكوت عنه باجتاه املنت ال�شعري‬ ‫تكفيني هذه املو�سيقى‪ ،‬التي ت�رشبها اخلليقة بكل م�ساماتها‪،‬‬
‫من خالل انزياح ا�ستعاري ي�صري الورقة مر� آة ال�ستهالل‬ ‫ك�أ�سفنجة ظم�أى‪ ،‬يكفيني �صوت �ضائع حتمله ايل الريح‪،‬‬
‫الن�ص وحتركه يف ف�ضاء غرائبي �سوريايل‪ ( :‬ي�صل ال�صوت\‬ ‫تكفيني وم�ضة برق قد تك�شف يل‪� ،‬أي موكب يتهي أ� للمثول‬
‫الذي ربته الديامي�س ويدعوين‪ \..‬حفيف العامل االخر يف‬ ‫امامي‪،‬خلف هذا ال�ستار الغريب الذي ين�سجه املطر‪�.‬ص‪30‬‬
‫غابة الليل‪ ,‬ليل ليلي‪ ,‬ي�أتي يف اخر �ساعة\ ليك�رس ختم‬ ‫ميثل احللم قيمة ان�سانية يف اهداء ال�شاعر ملقتنياته وهو‬
‫النعا�س اله�ش\ ليقلب اوراق تقوميي ب�أدق مايتقنه ال�رشق\‬ ‫احللم الذي يو�صل الآ خرين للفردو�س‪ ،‬فمن خالل البنى‬
‫من جت�سدات اللوعة\ موظفا مل�سته القدرية يف مكان اجلرح‬ ‫املنبثقة التي تتوالد على �شكل تقابالت حت�رض �صورة الآ خر‬
‫ك�أ�صبع الرب‪� ..‬ص‪)96‬‬ ‫يف ذات ال�شاعر وهو يج�سد حقيقة الرمز وعالقته وفاعليته‬
‫ان ثمة مراوغة ايحائية تف�ضح بنية الداخل الن�صي املغاير‬ ‫اخلطابية‪ ،‬لين�رصف اىل تعددية املعاين‪،‬حيث ي�شكل الدال‬
‫الذي يجمع وحدات الن�سيج ال�شعري‪ ,‬ان ن�ص ال�شاعر يجذب‬ ‫احللم هنا حامال ومولدا للمعنى‪( :‬قطعنا احللم ن�صفني ‪/‬‬
‫ف�ضاءه اىل امكنة واقعية وتخيليه تراجيدية بدءا بلعبة‬ ‫ب�شفرة امل�صري ‪/‬لنا ن�صفه ‪/‬والبقية لالخرين‪ ،‬ذات �صيف‬
‫االغرتاب واالنغالق واالنفتاح على �سطح اللوحة ال�شعرية‬ ‫بدا ‪/‬انه الفردو�س‪ ...‬او غدا‪ ،‬غدا يف الثالثة‪�.‬ص‪)34‬‬
‫يحقق ال�شاعر بلغته االيحائية وبالغتها املركبة حركة‬
‫الظهار طبيعة التحوالت املكثفة يف العامل حتت هيمنة‬
‫فاعلة للن�ص وفية‪ ،‬حيث ي�سعى القامة بنى حكائية حتقق‬
‫ال�ضياع والعبثية وهي معادلة على �صعيد احلكائي‪ ,‬وتتمثل‬ ‫وجتمع بني اجلمايل واحتدام العالقات ال�صورية التي‬
‫هذه املتقابالت يف مالمح املغايرة الن�صية واملخيال‬ ‫ترثي ال�ضخ ال�شعري لوحدات املنت وفتوحاته‪ ،‬و�ضمن‬
‫الرتميزي وتتج�سد هذه الر�ؤية يف معظم ن�صو�ص املجموعة‪:‬‬ ‫هذا التو�صيف ي�شكل ج�سد الن�ص بوحدات ال�شحن ال�شعري‬
‫( �شموئيل و�سماء اكرث‪ ,‬هذا الرداء بني ا�صابعي ‪ ,‬ال�شيوخ يف‬ ‫ومقومات لق�ص وف�ضاء الداللة ويتمو�ضع املكان بالزمان‪،‬‬
‫ال�صني‪ ,‬هو الر�سالة واجلريدة‪ ,‬طرق خمتلفة اىل روما ‪ ,‬هذا‬ ‫الواقعة بامل�شهد كي يتمثل البنى ال�شعرية (يف كيانها‬
‫هو يومي‪ ,‬اىل امرئ القي�س يف طريقه اىل اجلحيم‪ ,‬طقو�س‬ ‫كوكبة من االحداث الدالة على الوجود العيني) (هكذا‬
‫الطبيعة‪ ,‬اىل اجل غري م�سمى‪ ,‬جاء وحتت مئزره �سكني ‪,‬‬ ‫اردتك‪/‬بدءا من اقدم احالمي يف هذا املكان ‪/‬بعينه‪ ،‬هذا‬
‫وحلم احلمال على ج�رس القلعة وحامل الفانو�س يف ليل‬ ‫الزمان بالذات‪� /‬شجرتي‪ .‬كهفي االمني‪/‬مرقد مر�ساتي\ اىل‬
‫الذئاب‪)....‬‬ ‫اجل غري م�سمى‪\...‬مباركة \ هذه القرية النائمة\ وبوركنا‬
‫‪268‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫خــوان غويت�سول ــو‬
‫«االربعينية» واخليال الديني ال�صويف‬
‫حممـــد �آيــت لعميم‬
‫باحث ومرتجم من املغرب‬

‫�أعماله وخوان املبتدع من قبل خوان من خالل تخيله‪ .‬بني‬ ‫يعترب الكاتب اال�سباين خوان غويت�سولو –نزيل مراك�ش‪-‬‬
‫خوان الذي يحاكي نف�سه حماكاة �ساخرة وبني خوان الهادئ‬ ‫من �أبرز الكتاب املعا�رصين‪ ،‬وذلك �أنه حافظ على الطابع‬
‫املت�أمل‪.‬‬ ‫االلتزامي يف الأ دب؛ �إ�ضافة �إىل �أنه دافع ويدافع عن االنفتاح‬
‫لقد عرف خوان من الناحية ال�سيا�سية بعدائه املعلن وال�رصيح‬ ‫الثقايف ونبذ كل عن�رصية �ضيقة �ش�أنه �ش�أن �أ�صدقاءه‬
‫للدكتاتور فرانكو وهو الآ ن يدافع بالكلمة واحل�ضور الفعلي‬ ‫كارلو�س فوينتي�س‪ ،‬وكونرتكرا�س وكار�سيا ماركيز‪ .‬ناهيك‬
‫عن ق�ضايا ال�شعوب امل�ست�ضعفة (فل�سطني‪ ،‬العراق‪ ،‬ال�شي�شان‪،‬‬ ‫عن �أنه تبنى ت�صورا يف الكتابة الروائية ينه�ض على مزج‬
‫البو�سنة‪ ،‬اجلزائر‪ ،)...‬هو رجل من دعاة ال�سالم ويرف�ض احلرب‬
‫�سجالت متنوعة و�أنواع �أدبية خمتلفة‪ ،‬يجعلها تتحاور فيما‬
‫(ف�أمه ذهبت �ضحية احلرب الأ هلية يف ا�سبانيا وهو ابن �ست‬
‫�سنني) وقد كان هذا االختفاء املفاجئ لوجه الأ م جرحا غائرا يف‬ ‫بينها؛ وهكذا فهو ينتمي ل�ساللة د�شن لها �رسفانت�س برائعته‬
‫نف�سه‪� .‬أما من الناحية اجلمالية فقد «ا�ستعاد تقنية ما بعد احلداثة‬ ‫الدونكيخوط‪.‬‬
‫املتمثلة يف التنا�ص و�أ�ضاف عليها نكهة عربية لي�س فقط من‬ ‫لقد متثل خوان غويتي�سولو در�س �رسفانت�س متثال جيدا‪� ،‬سواء‬
‫جانب اقرتا�ض اال�ست�شهادات من م�ؤلفني عرب �أو ايرانيني‪ ،‬ولكن‬ ‫على م�ستوى الكتابة �أو على م�ستوى التنظري‪ ،‬فانحاز �إىل الكتابة‬
‫�أي�ضا‪ .‬مبحاكاة القواعد الرا�سخة اخلا�صة باملو�سيقى والهند�سة‬ ‫التي تنبذ اخلطية جانبا وحتتفي بالتقطيع والقفز واملراوحة‬
‫العربية‪ ،‬التكرارات‪ ،‬والتجريدات‪ ،‬والتنويعات املن�سابة حول‬ ‫والذهاب والإ ياب‪ ،‬وتتعاي�ش فيها �أنواع القول املختلفة‬
‫مو�ضوعة وحيدة‪ ،‬االرجتاالت‪ ،‬الزخرفة والعفوية»(‪)2‬ويف هذا‬ ‫واملتقابلة‪ ،‬ال�سخرية واجلد‪ ،‬احللم والواقع‪ ،‬الهذيان والت�أمل‪...‬‬
‫االجتاه ميكن القول كما ذهب �إىل ذلك ‪ Edmud withe‬ب�أن خوان قد‬ ‫�أما على م�ستوى التنظري فقد كانت روافده وم�شاربه متعددة‪،‬‬
‫�أبدع ما ميكن ت�سميته «اخليال امل�أ�سلم»(‪)la fiction Islamisant( )3‬‬ ‫تنهل من باختني‪ ،‬وامل�ؤرخ ال�شهري �أمريكوكا�سرتو؛ لكن �رسفانت�س‬
‫ويف هذا ال�سياق تندرج جمموعة من �أعماله التي ا�ستوحى فيها‬ ‫هو الآ خر كان ميده بت�صورات حول طبيعة الكتابة‪ ،‬فقد كان‬
‫اخليال الديني كما جتلى عند املت�صوفة امل�سلمني كروايته‬ ‫خوان ي�ستلهم بع�ض الإ جابات الواردة يف رواية الدونكيخوطي‪،‬‬
‫«ف�ضائل الطائر املتوحد»‪ ،‬و«الأ ربعينية»‪.‬‬ ‫فقد �س�أله مرة �أحد النقاد قائال‪« :‬بعد حماوالتكم العديدة يف‬
‫كتابة الروايات االتوبيوغرافية ال�ساخرة واجلادة بدءا من‬
‫‪ -1‬داللة العنوان‪:‬‬ ‫«م�شاهد بعد املعركة» �إىل «احلظرية املمنوعة ومرورا» مبمالك‬
‫ت�شكل عنوان الرواية من رقم دال‪ ،‬هو الأ ربعينية وقد ترجمت‬ ‫الطوائف» هل ميكن �أن نعرف ما انتم ب�صدد كتابته‪� ،‬ألقى عليه‬
‫�إىل الفرن�سية بعنوان «الربزخ» وكال الرتجمتني ت�شريان �إىل املدة‬ ‫خوان نظرة �ساخرة و�شاذة ف�أجابه «�إذن‪� ،‬أنا ب�صدد كتابة‬
‫الزمينة التي تق�ضيها الأ رواح يف احلياة الربزخية قبل اال�ستعداد‬ ‫«الق�صة احلقيقية لغزو خوان غويتي�سولو اجلديد»‪� ،‬س�أله الناقد‪،‬‬
‫للبعث‪ ،‬وقد ورد يف القر� آن الكرمي قوله تعاىل‪« :‬وبينهما برزخ‬ ‫هل انهيتموها‪ ،‬ف�أجابه كيف ميكن �أن �أنهيها‪ ،‬وان خوان اجلديد‬
‫�إىل يوم يبعثون»(‪.)4‬‬ ‫هذا ال زال مل يولد بعد»؛ هذا اجلواب م�أخوذ من مقطع ورد يف‬
‫�إن هذا الرقم له داللة كونية‪ ،‬فهو يدل على االنتظار واال�ستعداد‬ ‫رواية الدونكيخوطي‪.‬‬
‫للجزاء �أو العقاب؛ وله ح�ضور قوي يف �سياقات متعددة‪ ،‬فمثال‬ ‫يتحدث فيه �رسفانت�س عن حوار دار بني الفار�س التائه و‪Gines‬‬

‫طوفان نوح عليه ال�سالم دام �أربعني يوما‪ ،‬داوود و�سليمان‬ ‫‪ de pasamonte‬حول الكتاب الذي كان يكتبه هذا الأ خري‪� ،‬ساله دون‬
‫عليهما ال�سالم حكما �أربعني �سنة‪ ،‬مو�سى عليه ال�سالم وحممد‬ ‫كيخوطي عن عنوان الكتاب ف�أجابه «حياة ‪،»Gines de pasamonte‬‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم �أوحي لهما يف �سن الأ ربعني‪ ،‬مكث مو�سى‬ ‫�س�أله دون كيخوطي هل �أكملته‪ ،‬ف�أجابه الآ خر كيف ميكن �أن‬
‫يف طور �سيناء �أربعني يوما‪ ،‬العربانيون غري امل�ؤمنني عوقبوا‬ ‫(‪)1‬‬
‫يكتمل‪� ،‬إذا كانت حياتي نف�سها مل تكتمل»‪.‬‬
‫بالتيه �أربعني �سنة يف ال�صحراء‪ ،‬ي�ستمر احلداد عند الأ فارقة‬ ‫ما ي�ستفاد من هذا الدر�س هو �أن الكتابة م�رشوع ال يكتمل‪ ،‬و�أن‬
‫�أربعني ليلة‪ ،‬وعند البوذيني الكارمي الذي يهيئ للبعث ي�ستمر‬ ‫قارئ خوان ينبغي �أن مييز بني خوان احلقيقي املبثوت داخل‬
‫‪269‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرواية ما يلي‪:‬‬ ‫�أربعني يوما‪� .‬إن هذا الرقم يدل على اكتمال الدورة‪ ،‬دورة ينبغي‬
‫«تفرت�ض كتابة ن�ص ما وجود �شبكة مرهفة من العالقات فيما‬ ‫�أن ت�صل لي�س فقط �إىل تكرار ب�سيط ولكن �إىل حتول جذري‪� ،‬إنها‬
‫بني العقيدات ال�صغرية التي ت�ؤلفه‪ .‬كل الروافد ت�صب هناك‪:‬‬ ‫مرور �إىل نظام � آخر من الفعل واحلياة‪� .‬إنه عدد يرمز �إىل دورة‬
‫فالأ حداث اخلارجية‪ ،‬وجمريات املعي�ش‪ ،‬وامليوالت واال�سفار‪،‬‬ ‫احلياة والالحياة(‪.)5‬‬
‫وال�صدف حينما متتزج بالقراءات وال�صور واال�ستيهامات ت�شكل‬ ‫لقد وظف خوان يف الأ ربعينية هذا الرقم توظيفات عدة تدل على‬
‫ح�شدا اتفاقيا‪ ،‬ح�سب ن�سق توليفي‪ ،‬من التقاطعات والتوافقات‬ ‫االنتقال والعزلة والدمار‪ .‬فقد ظهر هذا العدد يف بداية الرواية‬
‫وتطابقات الذاكرة والب�صائر املباغتة والتيارات املتناوبة ولقد‬ ‫للداللة على االنتقال من حياة الكثافة �إىل حياة اخلفة واللطافة‪،‬‬
‫(‪)8‬‬
‫ارت�سمت كتابة هذا الكتاب يف �أفقي ع�شية عام احلرب»‪.‬‬ ‫يقول ال�سارد‪:‬‬
‫�إن هذه اجلملة التد�شينية تلعب دور الدليل يف حديقة الرواية‬ ‫«يف اللحظة التي بد�أت ا�ستعد فيها لإ مالء الكتاب على نحو‬
‫ذات ال�سبل املت�شعبة‪ ،‬فالن�ص يف جملته يراوح بني م�شاهد من‬ ‫مادي ق�ضيت نحبي‪ .‬ثم انف�صلت عن ذاتي حينما انتقلت من‬
‫الواقع املعي�ش‪ ،‬ا�سفار ال�سارد املتعددة (فرن�سا‪ ،‬القاهرة‪ ،‬تركيا‪،‬‬ ‫الزمن الوجيز �إىل الالمتناهي‪ .‬فدخلت توا �إىل حالتي اخلفة‬
‫مراك�ش)‪ ،‬يركب الطائرة‪ ،‬ي�ستقل ال�سيارة‪ ،‬ي�شاهد الأ خبار املتلفزة‪،‬‬ ‫واللطافة‪ ،‬ر�أيت نف�سي من خارج‪� .‬أ�صم �أعمى دون روح �أو �شعور‪،‬‬
‫ي�ستحم يف حمام �شعبي‪ ،‬يرتاد حلقة ال�رشقاوي وال�صاروخ‪.‬‬ ‫حماطا برعاية �أهلي‪ ،‬و�إزاء الأ مل ال�صامت لزوجتي مكثت برهة‬
‫وبني م�شاهد التيه يف عامل اخلفة واللطافة‪ ،‬واحللم‪ ،‬هذه احلركة‬ ‫�أخرى يف احلجرة و�أنا �أحر�ص على �أال �أعكر مبيوعتي حركات‬
‫املكوكية هي التي ت�سبب لدى القارئ التبا�سا ودوارا‪.‬‬ ‫احلداد‪ ،‬منتظرا ال�شخ�ص املكلف بغ�سلي بغية الت�أكد من �أن‬
‫«�إن رواية الربزخ �أو الأ ربعينية عنوان �أ�صيل‪ ،‬وهي منوذج لعمل‬ ‫ال�شعائر �ستنفذ ح�سب � آخر رغباتي ورغم �أن مفهوم الزمن يف‬
‫غني ب�إيقاعات �صارخة‪� ،‬صارخة بخفة دمها وبقوة م�ضبوطة‬ ‫الربزخ الفا�صل بني العاملني يتوقف وميحى‪ ،‬ف�أنا �أتذكر �أنني‬
‫وب�صمت غزير �ضمني يفرق فيما بني هذه الن�صو�ص الأ ربعني‬ ‫رتبت الن�ص ذهنيا كما رتبت �صفحاته املرتاكبة خالل الت�سكع‬
‫الق�صرية‪ ،‬مو�ضوعاتها القائدة واخزة‪ ،‬و�ضعت يف �سل�سلة وحبكة‬ ‫(‪)6‬‬
‫العام للأ رواح يف فرتة الأ ربيعنية»‬
‫(‪)9‬‬
‫متقاطعتني ن�سجتا بطريقة دقيقة»‬ ‫وقد ورد هذا العدد �أي�ضا يف �سياق احلديث عن اجلحيم اجلوي‬
‫‪ )2‬يف احلرب‪:‬‬ ‫على العراق الذي دام �أربعني يوما من الق�صف املتوا�صل من‬
‫كتبت رواية الأ ربعينية عام احلرب على العراق (‪،)1991‬‬ ‫طرف احللفاء‪.‬‬
‫ومو�ضوعة احلرب تخرتق حبكة الرواية‪ ،‬فاحلرب حا�رضة دائما‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل هذا فقد اختار الروائي �أن يق�سم روايته �إىل �أربعني‬
‫ودائما تعود‪ ،‬تدور من بلد �إىل � آخر على طول القرن الع�رشين‪،‬‬ ‫ف�صال �صغريا‪ ،‬واعترب �أن فعل الكتابة وفعل القراءة �شبيه بحجر‬
‫وها هي تد�شن القرن ‪ .21‬خملفة بذلك م�شاهد م�ؤملة وكارثية‬ ‫�صحي يدوم �أربعني يوما‪ ،‬فلكتابة ن�ص روائي ال بد من العزلة‬
‫وقيامية‪ ،‬رعب ت�شرتك فيه كل الأ را�ضي املدمرة‪ ،‬فمن �إبادة‬ ‫والتقوقع‪ ،‬و�أي�ضا لقراءة هذا الن�ص ال بد و�أن يلوذ القارئ‬
‫امل�ست�ضعفني �إىل هروب الأ برياء �إىل املنايف‪ ،‬واخلروج من‬ ‫ب�أربعينيته �أي عزلته حتى ال يت�شو�ش ف�ضاء قراءته وا�ستيعابه‬
‫م�سقط الر�أ�س ومن م�شهد الطفولة‪.‬‬ ‫للن�ص‪.‬‬
‫�إن احلرب تروي باللون الأ حمر هذا الكتاب‪ ،‬وتلغم الرتكيب‬ ‫يقول ال�سارد‪« :‬ف�ش�أن كل الأ وبئة ين�شد الوباء الذي ترعرع يف‬
‫الروائي وا�ستمرارية اجلمل‪� ،‬إنها تغرز خمالبها يف نرث الرواية‪،‬‬ ‫حما�صيل الروائي امتداده الطبيعي بعد مرور الأ ربعينية‪ ،‬يف‬
‫�إنها تدمريات برجمها التطور نف�سه للتقنية العمياء‪.‬‬ ‫�صورة القارئ الذي يتلقى اقرتاحه املعدي واملخ�صب ومبجرد‬
‫يقول ال�سارد‪« :‬بني الأ حالم وال�سحب‪� ،‬أطللت بر�أ�سك‪� ،‬أو ما ظننت‬ ‫ما يتج�شم هذا الأ خري خماطرة املغامرة يعي�ش بدوره �أربعينية‬
‫�إنه ر�أ�سك دون �أن ت�ستطيع تدعيم هذا الظن مبر� آة مغيثة فر�أيت‬ ‫الكاتب و�أربعينية القارئ و�أربعينية الكتاب �أو�ضاع ال غنى عنها‬
‫م�شهد ال�شتات القا�سي لأ مم بكاملها‪ � ،‬آالف م�ؤلفة من خالئق‬ ‫(‪)7‬‬
‫لإ حداث الكلمة املكتوبة �أثرها التحويلي الن�شيط»‪.‬‬
‫عمياء تائهة‪ ،‬وهي تفر من �أرا�ضي متكل�سة ومتحجرة‪ ،‬عرب‬ ‫لقد �شكل العدد �أربعني حمورا �أ�سا�سيا يف بناء العامل الروائي‬
‫غابات حتولت �إىل رماد و�أنهار بدون ماء‪ ،‬هل كان ذلك وعيدا‬ ‫يف الأ ربعينية �سواء من الناحية امل�ضمونية �أو من الناحية‬
‫افتتاحيا لأ لفية م�ش�ؤومة �ست�شتت ال�شعوب يف هدير غام�ض‪،‬‬ ‫املعمارية للن�ص‪ ،‬وقد حقق الن�ص ذلك االن�سجام الع�صي بني‬
‫�صوب �شتى االجتاهات؟ وهل تبحث هذه ال�شعوب عن ملج أ� لها‬ ‫خيوط الن�سيج الن�صي‪ .‬فن�ص الأ ربعينية ي�صيب قارئه بالدوار‪،‬‬
‫يف حميط العتمات الثخينة املتما�سكة هربا من جحيم ال�سالح‬ ‫لأ نه ن�ص مكتبة كثف فيه ال�سارد جمموعة من االن�شغاالت‬
‫(‪)10‬‬
‫النووي واحلرب الكيماوية النهمة املحرقة»‪.‬‬ ‫احلياتية والثقافية واال�ستيهامية‪ .‬وعلى عادة الرواية املثقفة‬
‫لقد اختار ال�سارد �ساحة جامع الفنا مبراك�ش م�رسحا لأ حداث‬ ‫واملكتبية‪ ،‬ف�إنه يتخللها خطاب نقدي موازي معلن هو مبثابة‬
‫احلروب‪ ،‬وك�أنه ي�ستعيد لل�ساحة ا�سمها الأ �سطوري الذي ي�شري‬ ‫دليل للقراءة وموجه مل�ساراتها‪ ،‬ورد يف اجلملة املفتتح من‬
‫‪270‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫يتعلق بالعامل الأ خروي بني ال�سارد و�صديقته التي كانت مبثابة‬ ‫�إىل الإ فناء والإ عدام والقتل‪� ،‬إذ يلمح ال�سارد يف جماله الب�رصي‬
‫دليل له‪ ،‬لكنها تخلت عنه عندما �أراد الذهاب لزيارة اجلحيم‪،‬‬ ‫و�صول �أوىل عربات اجلثث قادمة من باب الفتوح وال�سمارين‬
‫فبياتري�س يف الكوميديا الإ لهية قادت دانتي يف الفردو�س‪ ،‬يف‬ ‫وريا�ض الزيتون و�شارع حممد اخلام�س‪ ،‬تفرغ حمولتها لت�شكل‬
‫حني �أن فرجيل هو الذي كان دليله يف اجلحيم‪ .‬وبالن�سبة ل�سارد‬ ‫�أكواما هائلة من �أج�سام خملعة �أو متخ�شبة‪� ،‬أفواه م�رشعة‪ ،‬عيون‬
‫الأ ربعينية‪ ،‬فقد كانت املر�أة ذات املظلة هي دليله‪ ،‬كان جحيم‬ ‫جاحظة‪� ،‬أج�ساد موثقة‪� ،‬أقفية خرقها الر�صا�ص‪� ،‬صدور خرمتها‬
‫ال�سارد هو نتاج م�شاهداته يف الطفولة للوحات جريوم بو�ش‬ ‫البنادق الر�شا�شة‪� ،‬رضبات �صوبت �إىل الظهر غيلة‪ ،‬وجوه جمدتها‬
‫وحفريات غو�ستاف دوري‪ ،‬والكتب الأ خروية‪.‬‬ ‫الغازات ال�سامة‪ ،‬في�ضانات من الدم تتقدم يف ال�شوارع املحاذية‬
‫�إذا ما �أمعنا النظر جيدا يف هذا الن�سيج ال�ضخم من ال�صور‬ ‫لبنك املغرب‪� ،‬أهي دماء تف�صدت من �رشايني حمرومي بن�سودة‬
‫وامل�شاهد القيامية املرعبة‪ ،‬نالحظ �أن ال�سارد انحاز ب�شكل كبري‬ ‫�أم من متظاهري �شوارع وهران‪� ،‬أم من �أذالء الأ حياء ال�شعبية‬
‫ومعلن للخيال الديني الإ �سالمي املتمثل يف �إجناز ابن عربي‪.‬‬ ‫يف القاهرة �أم من �شهداء �صربا و�شاتيال �أم من الأ مهات اللواتي‬
‫فال�شعلة الأ وىل مليالد هذا الن�ص نبعت من ن�ص عرث عليه‬ ‫باغتهن الق�صف يف �شوارع بريوت‪� ،‬أم من الأ طفال املكد�سني‬
‫ال�سارد يف كتاب الفتوحات املكية (البن عربي)‪ ،‬وكان مبثابة‬ ‫�أكواما يف جحيم خميم ال�شطي �أم هي فقط قيعان دجلة والفرات‬
‫�إطار للن�ص‪ ،‬يقول ابن عربي متحدثا عن العامل الأ خروي «‪..‬ف�إنها‬ ‫غمرت مدينة ال�سبعة رجال‪.‬‬
‫دار انفعال �رسيع ال بطء فيه كباطن هذه الن�ش�أة الدنياوية يف‬ ‫�إن خوان غويت�سولو يدمج املغرب يف هذيانه الذي يتحول �إىل‬
‫اخلواطر التي لها �سواء‪ ،‬فالإ ن�سان يف الآ خرة مقلوب الن�ش�أة‪،‬‬ ‫خيال ر�ؤيوي ليتمدد هذا اال�ستيطان للمغرب لي�شمل الكائن‬
‫فباطنه ثابت على �صورة واحدة كظاهر هنا‪ ،‬وظاهر �رسيع‬ ‫العربي واللغة العربية والثقافة الإ �سالمية‪ ،‬فجامع الفنا يف�سح‬
‫(‪)13‬‬
‫التحول يف ال�صور كباطنه»‬ ‫املجال لرتكيا واملقطم بالقاهرة والقباب والقبور واملنازل‬
‫�إن هذه الإ �شارة القوية للمت�صوف املر�سي –ال�شيخ الأ كرب وختم‬ ‫والزوايا واملدار�س التي قطعها منذ �سنني باحثا عن «احلب‬
‫الأ ولياء‪ -‬كانت هي النواة التمهيدية لعمل فر�ض نف�سه على‬ ‫اخلال�ص»(‪.)11‬‬
‫ال�سارد منذ مدة‪.‬‬ ‫�إن في�ضان الدم غمر ال�ساحة والدروب وت�رسب �إىل مكتبة ال�سارد‬
‫وحني املقارنة بني ت�صورات ابن عربي للجحيم وت�صورات‬ ‫الذي ا�ستغاث بجريانه لينقذوا على الأ قل املخطوطات وجذاذات‬
‫دانتي نلمح نقدا مبطنا لدانتي الذي كان يقذف بعداته وخ�صومه‬ ‫هذا الن�ص (الأ ربعينية)‪ ،‬وكتب املت�صوفة امل�سلمني وامل�سيحيني‬
‫�إىل اجلحيم ملحا على الغيظ واالنتقام‪ .‬يقول ال�سارد‪« :‬فهل‬ ‫واليهود‪ ،‬و�أ�شعار دانتي وابن عربي والدليل الروحي وكتاب‬
‫يفرت�ض تبنيه (�أي دانتي) للأ خرويات ح�سب ال�صيغ الأ وىل‬ ‫املعراج‪ ،‬وهو ي�رصخ «ال ت�سمحوا �أن يغمر الدم تعابري الذكاء‬
‫الإ ن�ساين والف�ؤاد الب�رشي فيمحوها‪ ،‬وال متكنوه من �إبطال مفعول‬
‫املعقدة من كتاب «املعراج تقدما ما يف الطريق القدمي للإ ن�سان‬
‫الكلمات اجلوهرية»(‪.)12‬‬
‫حول ال�سالم والت�آلف؟ وملاذا الإ حلاح على الغيظ والعقاب بدل‬
‫�إن رواية الأ ربعينية هي رواية �أقوى من اخلطابات ال�سيا�سية‬
‫العفو واملغفرة؟ �ألي�س من الأ جدى االعت�صام باملت�صوفة وترك‬
‫لإ دانة احلرب يف العامل‪.‬‬
‫اللعنات املغتاظة جانبا و�إىل الأ بد؟»(‪.)14‬‬
‫فلماذا هذا امليل البن عربي واالنت�صار له؟ يف حوار بني ال�سارد‬ ‫‪ )3‬ابن عربي ودانتي‬
‫و�صديقته هذه الأ خرية تثري انتباهه �إىل �رضورة تعميق املقارنة‬ ‫تكمن �أ�صالة الأ ربعينية يف جناحها يف حبك كل هذه اخليوط‬
‫بني الكوميديا الإ لهية ومعراج ابن عربي والذي �سبق للم�ست�رشق‬ ‫باملو�ضوعة الثقافية الكربى حول اجلحيم‪ ،‬وبذلك جعلت جل‬
‫الكبري «� آ�سني بال�سيو�س» �أن �أبرز الأ ثر الكبري للمعراج على‬ ‫الأ دب القيامي يتحاور‪ ،‬ن�صو�ص الكوميديا الإ لهية ون�صو�ص‬
‫الكوميديا‪ ،‬قائال‪« :‬فمفهوم الرحمة الإ لهية لدى ختم الأ ولياء ال‬ ‫ابن عربي ورواية املعراج والدليل الروحي ملولينو�س‪ ،‬ولوحات‬
‫يطابق يف �شيء مفهومها لدى ال�شاعر‪ ،‬كما �أن ختم الأ ولياء ال‬ ‫الفنان الت�شكيلي جريوم بو�ش (�إ�شارات الرواية فقط للوحة‬
‫ميكنه �أن ي�شاطر هنا ق�ساوته وانعدام �أحا�سي�سه»(‪.)15‬‬ ‫حدائق امللذات ومل ت�رش للوحته اجلحيم املو�سيقي) وحمفورات‬
‫�إن دانتي كما �صورته �صديقة ال�سارد من خالل تلهفه على ح�رش‬ ‫غو�ستاف دوري‪ ،‬ور�سوم ت�شخ�ص اجلحيم بري�شة وا�ضع الر�سوم‬
‫معار�ضيه وخ�صومه يف دوائر جحيم الهالكني يخ�ضع ملر�ض‬ ‫املزينة للكوميديا‪ ،‬واحل�ضور اخلافت للمعري �صاحب ر�سالة‬
‫نف�سي طفويل و�شبه منحرف‪ .‬فبدل �أن يت�أثر ملعاناة املعذب‬ ‫الغفران‪ ،‬وهي من �أوىل الن�صو�ص التي عاجلت الرحلة �إىل العامل‬
‫البائ�س‪ ،‬يلتذ بالت�أمل فيه‪.‬‬ ‫الآ خر‪ ،‬مل يظهر يف الرواية �إال ببيته ال�شهري خفف الوطء ما �أظن‬
‫يعرتف ال�سارد لدانتي بريادته يف ت�أ�سي�س لغته القومية‪ ،‬و�أن‬ ‫�أدمي الأ ر�ض �إال من هذه الأ ج�ساد‪.‬‬
‫�أ�شعاره النفاذة قوية لكنه يالحظ «�أن فهمه الهند�سي البارد‬ ‫�إن هذا احل�شد الكبري للأ دب الأ خروي‪� ،‬أ�ضفى على الرواية بعدا‬
‫للعامل الآ خر ي�صطدم مببادئ ع�رصنا و�أحا�سي�سه‪� .‬إن �رضاوة‬ ‫ثقافيا و�سمح مبناق�شة جمموعة من الق�ضايا احل�سا�سة فيما‬
‫‪271‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫االكتفاء الذين وليت منهم الأ دبار فرارا»‬


‫(‪)20‬‬
‫�أو�صافه ال�رش�سة ال تن�سجم وقيم الت�سامح والرحمة التي تهدي‬
‫لكل جنته‪ ،‬وكل واحد يتخيل فردو�سه اخلا�ص‪ ،‬والرفقة التي‬ ‫خطانا اليوم»(‪.)16‬‬
‫يريد لذلك مل يلتق خوان مع املعري الذي تخيل فردو�سه ناديا‬ ‫�إن ما يربر انحياز خطاب الرواية ورهانها البن عربي هو‬
‫�أدبيا كبريا‪ ،‬كان ميكن للمعري �أن يلتقي ببورخي�س الذي ت�صور‬ ‫مفهومه املت�سامح للرحمة الإ لهية التي و�سعت كل �شيء‪ ،‬و�سعت‬
‫الفردو�س مكتبة‪.‬‬ ‫حتى نازيل اجلحيم‪� ،‬إذ العذاب بالن�سبة لهم رحمة‪.‬‬
‫و�أخريا لنقل كما قال ه�شام جعيط «�إن خوان غويتي�سولو ينتمي‬ ‫لقد علقت �صديقة ال�سارد حول الأ بيات امل�شهورة البن عربي لقد‬
‫�إىل �صنف الكتاب املثقفني‪ ،‬ي�شبه �شيئا ما بورخي�س الذي كان‬ ‫�صار قلبي قابال كل �صورة فمرعى لغزالن وديرا لرهبان وبيتا‬
‫هو الآ خر مهموما بالعاملية ومهتما بالثقافة العربية لكنه كان‬ ‫لأ �صنام وكعبة طائف و�ألواح توراة وم�صحف قر� آن �أدين بدين‬
‫�أكرث ارتباطا با�ستيهامات �أوربوية‪ ،‬يف حني �أن غويت�سولو ولج‬ ‫(‪)17‬‬
‫احلب �أنى توجهت ركائبه فاحلب ديني و�إمياين‬
‫بعمق يف الثقافة العربية –الإ �سالمية التي جتري دما�ؤها يف‬ ‫قائلة‪« :‬فلو كان رداء الرحمة ي�شمل كل خملوق وحتى اجلمادات‬
‫عروقه ليظل �أكرب ممثل للأ دب الإ �سباين املعا�رص‪ .‬ف�أهمية خوان‬ ‫– وهي �أمم �أمثالكم‪ -‬ت�سبح باخللق واخلالق‪� ،‬أمل ميزق ابن عربي‬
‫غويتي�سولو تكمن يف �أنه �أدخل الكائن العربي والإ �سالمي يف‬ ‫بذلك حجب دانتي‪ ،‬وحدود ر�ؤيته لعامل ماوراء القبور؟»(‪.)18‬‬
‫ثنايا بناء روائي معا�رص‪ ،‬و�أ�صيل ومدوخ‪ ،‬وقد ظل بعيدا عن كل‬ ‫�إن هذه الإ حاالت وال�شواهد وهذه املقاي�سات بني ابن عربي‬
‫(‪)21‬‬
‫�أدب ا�ست�رشاقي»‬ ‫ودانتي تك�شف لنا بجالء عن ميل ال�سارد �إىل ا�ستبطان اخليال‬
‫�إن الأ ربعينية رواية كتبت بيد مقبو�ضة‪ ،‬ا�ستطاع كاتبها �أن‬ ‫الديني الإ �سالمي لأ نه يلبي حاجته يف دعوته لل�سالم والت�سامح‬
‫يقب�ض على اخليط الناظم حلبكتها ون�سيجها وهي �إدانة �صارخة‬ ‫واحلب‪ .‬لذلك وجدنا ال�سارد ينت�رص البن عربي وللفكر ال�صويف‬
‫للحرب يف �شتى �أ�شكالها و�صيغها‪.‬‬ ‫�ضد خ�صومه‪ ،‬لدرجة �أنه �أر�سل ه�ؤالء اخل�صوم �إىل العذاب املهذب‪،‬‬
‫وهي ف�ضاء لتعاي�ش الثقافات ولتعاي�ش اخليال الديني الإ �سالمي‬ ‫يقول‪« :‬متثل هذه ال�شخ�صيات التي ترتدي مالب�س �أنيقة‪ ،‬وحتيط‬
‫وامل�سيحي‪ ،‬و�إن كانت يف الأ خري‪.‬‬ ‫بها هالة الف�ضيلة والقدا�سة‪ ،‬ابن تيمية وتوركيمادا‪ ،‬ومنيذيت‬
‫تنت�رص للخيال الإ �سالمي الذي مثله ابن عربي‪.‬‬ ‫ياليو‪� ،‬إنهم ال يعانون من �أي عذاب‪ ،‬فال كربيت يغلي‪ ،‬وال نه�ش‬
‫ملحوظة‪ :‬هذه الورقة �ألقيت يف يوم درا�سي حول خوان‬ ‫يتوا�صل‪ ،‬وال كالب يحمى �إىل حد احلمرة‪� ،‬إمنا عذابهم مهذب �شديد‬
‫غويتي�سولو مبراك�ش بح�ضوره‪.‬‬ ‫النفاذ‪ ،‬فهم يت�أملون من �أدانوا واتهموا بالبدعة واملزدكية والكفر‬
‫الهوام�ش‬
‫واالنحراف ال�شائن‪ ،‬وهم يتقلبون يف دوائر الر�ضوان‪ ،‬ال�شيخ‬
‫الأ كرب ختم الأ ولياء ابن عربي‪ ،‬احلالج‪ ،‬الب�سطامي‪ ،‬وال�سهروردي‬
‫‪.linda Gould, comment lire Juan Goytisolo, p161‬‬ ‫ ‬‫‪-1‬‬
‫‪Edmund White, le flâneur, Juan Goytisolo passeur des frontières‬‬ ‫‪ - 2‬‬ ‫وال�شاذلية امللهمون املهجورون‪ ،‬وال�سني الذكر ميغيل دي‬
‫‪(p.151., in Juan G ou les paysages d’un flâneur‬‬ ‫مولينو�س‪ ،‬و�ضون خو�سي ماريا بالنكو‪ ،‬ف�أي در�س لقنوه‪ ! ‬ملا‬
‫‪ -3‬نف�سه �ص‪.152‬‬ ‫ت�صوروا فردو�سهم �أو جنتهم ناديا مغلقا مق�صورا على طائفة‬
‫‪ -4‬القر� آن الكرمي‪،‬‬ ‫(‪)19‬‬
‫�صغرية‪ ،‬وجهلوا �أن رحمة الواحد الأ حد ال يحيط بها ح�رص»‬
‫‪Jean chevalier, Dictionnaire des symboles, quarante, p‬‬ ‫‪ -5‬‬
‫‪ -6‬الأ ربعينية‪ ،‬خوان غويتو�س‪ ،‬ترجمة ابراهيم اخلطيب‪ ،‬دار الفنك‪� ،‬ص‪9‬‬ ‫ينت�رص ال�سارد للمت�صوفة امل�سلمني وامل�سيحيني �ضدا على‬
‫‪ - 7‬نف�سه‪� ،‬ص‪.12‬‬ ‫الطوائف التي تكفر وتبدع وتتهم �أعداءها بالزندقة واملزدكة‬
‫‪ -8‬نف�سه‪� ،‬ص‪.20‬‬ ‫والكفر‪.‬‬
‫‪ - 9‬كلود�أوليي‪� ،» Transit en temps réel « ،‬ص‪� ،146‬ضمن كتاب (خوان غوي�ستولو‬
‫�أو م�شاهد مت�سكع) تن�سيق عبد اللطيف بن �سامل‪.‬‬
‫ونلمح من طرف خفي �أن ال�سارد يت�صور فردو�سه خاليا من‬
‫‪ -10‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪35‬‬ ‫الأ دباء واملتفيهقني واملدعني واملتحلقني فهو ميقت املنتدى‬
‫‪ -11‬ه�شام جعيط‪� ،L’être arabe dans une constriction ،‬ص‪.130‬‬ ‫الكبري‪ ،‬قالت له املر�أة‪:‬‬
‫‪ - 12‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.80‬‬ ‫«لو كنت �أعرفك حق املعرفة لقلت �إن هذه املرتبة‪ ،‬لي�ست باملرتبة‬
‫‪ -13‬الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬اجلزء ‪� 1‬ص‪.251‬‬
‫‪ -14‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.87‬‬
‫التي تنا�سبك‪� ،‬أنا ال �أت�صورك مطلقا يف �إحدى تلك امل�سامرات‬
‫‪ - 15‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.70‬‬ ‫الن�شطة‪ ،‬التي تخلب لب مواطنيك بني ال�شعراء والروائيني‪ ،‬والنقاد‬
‫‪ -16‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.75‬‬ ‫وفقهاء اللغة وعلماء النحو‪ ،‬و�أنت تناف�سهم يف مو�ضوعات �أدبية‬
‫‪ -17‬ابن عربي‪ ،‬ترجمات الأ �شواق‪� ،‬ص‪.763‬‬ ‫�إىل الأ بد الآ بدين‪ ،‬ف�أي عقاب قا�س �أن ترغم على حتمل �صحبة‬
‫‪ - 18‬الأ ربعينية‪� ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ -19‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.40‬‬
‫اجلامعيني واملتملقني املزينني بالأ و�سمة واملدللني من و�سائل‬
‫‪ -20‬الأ ربعينية‪� ،‬ص‪.87‬‬ ‫الإ عالم وكل تلك الزمرة الغبية من الكتبة وال�شعراء اللوطيني‪،‬‬
‫‪ -21‬ه�شام جعيط‪ ،‬نف�س املقال املذكور‪� ،‬ص‪.132‬‬ ‫وربات الفن املتحذلقات وفاقدي ال�شخ�صية املنتفخني بغرور‬
‫‪272‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�آمال مو�سى‬
‫وجتليات املاء وال�ضوء يف �شعرها‬
‫�أحمـــد اجلــــوّ ة‬
‫كاتب و�أكادميي من تون�س‬

‫ديوانني الحقني بالأ ول‪� -‬أمارة قوية وعالمة ثابتة على‬ ‫مقــدّ مة ‪:‬‬
‫نهل ال�شعر يف هذه املدوّنة التون�سية املعا�رصة من حبات‬ ‫�إذا كان �إن�شاء الكون يف ن�صو�ص العقيدة والديانات قد‬
‫املاء‪.‬‬ ‫ارتبط بالعنا�رص الأ ربعة (املاء‪ -‬الهواء – النار‪ -‬ال�رشاب)‪،‬‬
‫و�إذا كان املاء دائم التدفّق بال�شعر يف �أعمال � آمال مو�سى‪،‬‬ ‫ف�إنّ �إن�شائية ال�شعر لدى � آمال مو�سى قد تولّدت من تفاعل‬
‫ف�إنّ عديد الق�صائد لديها تُ�رشق بالنار وال�ضياء‪ ،‬ومتزج بني‬ ‫املاء والأ �ضواء‪ .‬فالنّاظر يف ما �أ�صدرته من دواوين(‪)1‬‬
‫عن�رصين ي�شرتكان جوهرا ويختلفان �صفات وهيئات‪.‬‬ ‫تربز �أمامه عالمات عديدة دالة على تردّد املاء والأ �ضواء‬
‫ّ‬
‫املتولدة عن ح�ضوره‪:‬‬ ‫‪ -1‬جتليات املاء واحلاالت ال�شعرية‬ ‫يف ق�صائد ال�شاعرة‪ ،‬ويف عناوين الدواوين‪.‬‬
‫جتلّى لنا عن�رص املاء الذي متاهت به الأ نثى ال�شاعرة‬ ‫�إنّ تخيرّ ها «�أنثى املاء» عنوانا وا�سما للديوان الأ ول‪،‬‬
‫جتليا بارزا يف �أول الدواوين‪� .‬إنّ ق�صائده حافلة بدوران‬ ‫وتف�ضيلها «خجل الياقوت» عنوانا لديوانها الثاين ممّا ي ؤ�كّد‬
‫هذا الدال الأ كرب وجريانه يف عناوين الن�صو�ص ويف‬ ‫جريان كالمها ال�شعري يف جداول املاء وعامل الأ �ضواء‪.‬‬
‫ت�ضاعيفها(‪ .)3‬و�إنّ هذا الدال كثيف احل�ضور يف هذا العمل‬ ‫فالتّ�سمية الوا�سمة لباكورة ما فا�ضت به قريحتها �شعرا‬
‫ال�شعري الأ ول‪ ،‬وهو منت�رش يف العمل الثاين لكن بن�سبة‬ ‫ت ؤ�كّد اجلوهر املائي لل�شاعرة املتكلمة يف ق�صائد الديوان‪،‬‬
‫تقل عن ن�سبة تواتره يف «�أنثى املاء»‪� .‬إنّ بع�ض ق�صائده‬ ‫وحتوّل املعدن الأ نثوي كينونة مائية ان�سيابية‪.‬‬
‫تر�شح ماء مثلما هي احلال يف ق�صائد «املدللة»‪« ،‬فرحة»‪،‬‬ ‫و�أما عنوان الديوان الثاين فهو ا�شتقاق من �صفات الأ نوثة‬
‫«الأ نبياء يف اخلارج ينتظرون»‪« ،‬عزف منفرد»(‪.)4‬‬ ‫�صفة لها ات�صال بالأ لوان وعدول بها من تورّد الب�رشة‬
‫ويبدو تراجع هذا الدال يف «ثالث الدواوين» �أمرا ي�سري‬ ‫ح�شمة وحياء لدى الإ ن�سان �إىل توقّد املعدن الثمني يف عامل‬
‫املالحظة �إذ مل جند فيه غري ن�صو�ص قليلة ومقاطع‬ ‫الأ حجار الكرمية‪ .‬و�إذا كان عنوان الديّوان الثّالث ال ي�شي‬
‫متباعدة جمعها لفظ املاء ومتعلقاته وذلك يف ق�صائد‪:‬‬ ‫باملاء والأ �ضواء ومبتعلقاتهما‪ ،‬ف�إن ت�ضاعيف ق�صائده‬
‫«العي�ش بثالثة عنا�رص»‪�« ،‬سكارى ال�صحو»‪ ،‬بيت‬ ‫تنطوي على ما يف املاء والأ �ضواء من �سيالن وملعان‪.‬‬
‫املف�ضل(‪.)5‬‬
‫ّ‬ ‫اال�ستحمام‬ ‫لكن مباذا نف�سرّ تخيرّ ال�شاعرة � آمال مو�سى �إجراء كالمها‬
‫و �إذا ما بدا املاء عن�رصا غالبا يف تكوين �شعرية الق�صائد‬ ‫يف �سياقات املاء وجداول الأ �ضواء؟ وكيف يتحوّل هذان‬
‫يف الديوان الأ ول و�أق ّل ح�ضورا يف العملني الالحقني به‪.‬‬ ‫العن�رصان وما دار يف حوزتهما من عن�رصين م�ألوفني‬
‫فلأ نّ «اال�شتغال» على هذا الدال الطبيعي ي ؤ��شرّ على تنويع‬ ‫يف عامل الطبيعة �إىل عالمتني م�ؤ�س�ستني كيان الق�صيدة‬
‫يف اال�ستخدام‪ ،‬وعلى تو�سيع الدائرة التي يتحرك داخلها‬ ‫وجتربة ال�شاعرة يف الكتابة؟‬
‫الكالم ال�شعري‪.‬‬ ‫تخيرّ نا �إجابة عن هذين ال�س�ؤالني وا�ستجالء لإ ن�شائية املاء‬
‫‪ -1‬ماء التو ّله واال�شتهاء ‪:‬‬ ‫والأ �ضواء يف مدونة ال�شاعرة عددا من الن�صو�ص واملقاطع‬
‫للماء يف الطقو�س واملمار�سات الرمزية التعبدية‪� .‬ش�أن‬ ‫التي بدا فيها ك ّل عن�رص منهما حمور الكالم ال�شعري‬
‫عظيم ومنزلة جلّى‪ ،‬وهو يف الديانات ال�سماوية و�سيلة‬ ‫وقطب الرحّ ى يف عملية الإ بداع اللفظي‪ .‬ف�إذا كان ما جاء‬
‫التطهر والطهارة‪ .‬ويف التقاليد امل�سيحية واليهودية عالقة‬ ‫يف ت�صدير حممود امل�سعدي(‪ )2‬لديوان «�أنثى املاء» مما‬
‫مباركة ربانية وت�أييد �إلهي‪ ،‬وهو عند امل�سلمني مرتبطّ‬ ‫ي�ؤكد انبثاق ق�صائده من �أ�سطورة نر�سي�س ومن عجيب‬
‫بالطهارة التي ي�ستلزمُ ها �أداء الفرائ�ض ال�رشعية وبغ�سل‬ ‫عرائ�س البحر‪ ،‬ف�إنّ تدفّق املاء‪ -‬مبا هو مكوّن �شعري يف‬
‫‪273‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يتبادل املاء و�أنثاه الأ دوار واملواقع وتنغلق الق�صيدة على‬ ‫الكعبة امل�رشفة التي يوليها امل�صلون واحلجّ اج وجوههم‬
‫فعل االنتظار �صيفا‪.‬‬ ‫وقلوبهم(‪.)6‬‬
‫لكن كيف ا�ستدعت � آمال مو�سى يف �شعرها هذا العن�رص‬
‫من �إن�شائية الت�صوير �إىل �إن�شائية التخييل والت�أويل‬
‫�إذا جتاورنا التحليل الإ ن�شائي الذي يق�رص النّظر يف‬ ‫الذي حظي بالتقدي�س يف الثقافات والديانات؟‬
‫الأ �شعار على الأ ن�ساق البنائية دون كبري عناية ب�أبعاد‬ ‫لعل ق�صيدة «�أنثى املاء» التي جاءت وا�سمة لديوانها الأ ول‬
‫الكالم ال�شعري من �شاعر �إىل �شاعر ومن ق�صيدة �إىل �أخرى‪،‬‬ ‫متثّل املفتاح الذي ي�ساعد القارئ على ولوج عامل ن�صو�صها‬
‫وتعمّقنا �أبعاد «�أنثى املاء» وجوّدنا النّظر يف مرموزات‬ ‫وا�ستدراج كالمها ال�شعري حتى يبوح مبكنوناته‪ ،‬وعلى‬
‫الن�ص‪� ،‬أمكننا العبور من التحليل‬
‫هذا الدال الذي يحتوي ّ‬ ‫ا�سكناه طبيعة الإ بداع اللفظي والتخيلي يف �شعرها‪.‬‬
‫ترد هذه الق�صيدة جمال �شعرية �أربعا تت�صدرها جملة‬
‫�إىل الت�أويل‪.‬‬
‫�إنّ املاء امل�شتهى‪ ،‬والرّغبة امللحة يف التخوي�ض فيه بحثا‬ ‫ا�ستفهامية وجيزة‪ :‬لمِ َ ي�أتينا املاء‪ /‬يجري متلظيا من �شدة‬
‫عن �رسّه وق�صد االلتحام به لتكوين زوج من ذكر و�أنثى‬ ‫العط�ش‪.‬‬
‫يُ�رشع كالم ال�شاعرة على ف�ضاءات عديدة ويفتحُ ه على‬ ‫و تتزع بقية اجلمل ال�شعرية يف الق�صيدة �إىل التمدّد حمافظة‬
‫جمازات متنوّعة‪.‬‬ ‫على الالزمة االبتدائية فيتعدد اال�ستفهام البالغي وتقوم‬
‫‪� -‬أول جماز يف هذه الق�صيدة هو جماز اجل�سد واملق�صود‬ ‫بني وحدات الق�صيدة ظواهر التوازي النحوي‪ -‬الرتكيبي‪،‬‬
‫بهذا املجاز هو ماء الأ نوثة وجريان �صفاتها وقيام‬ ‫ويغدو امللفوظ دائرا على ذات املتلفظ فين�ساب الكالم‬
‫حاالتها وا�ستواء هي�آتها‪ .‬ف�إذا اقت�رصنا من املاء على‬ ‫ال�شعري ان�سياب املاء رقراقا مبثل قولها ‪:‬‬
‫قريب �صفاته جم�سّ مة يف �صفاء اللون وملعان ال�سطح‬ ‫مل ال �أ�صبح � ّرس املاء ؟ ‪ /‬مل ال �أكون �أنثاه ؟‬
‫وعُ ذوبة املذاق حني ينهمر مطرا ويرتقرق جداول و�أنهارا‪،‬‬ ‫�أنتظره يف اجلرّة‪ /‬حتى قدوم ال�صيف‬
‫بان لنا �أنّ ت�شهّي املتكلّمة حلوال يف املاء وذوبانا فيه‬ ‫�إنّ البنية املقطعية املتعاودة بوجوه من الت�شابه حينا‬
‫والتماثل حينا � آخر متنح الق�صيدة خ�صائ�ص �إن�شائية‬
‫يُ�صيرّ انها �رسّا له‪ ،‬ت�ش ٍّه يعيد �إىل الأ نوثة منزلتها ويقرّها‬
‫قيمة جديرة بالتج�سّ د يف عامل نزعت فيه احلياة احلديثة‬ ‫متيزها عما �سواها‪ .‬و�أمّا اال�ستفهام بخ�صو�ص املاء‬
‫�إىل ت�شيئ املوجودات والذوات و�إىل امتهان الأ نوثة بدعوى‬ ‫والتدرج بال�س�ؤال املخ�صو�ص به من �صيغة اجلمع يف �أوىل‬
‫اجلمل ال�شعرية �إىل �صيغة املفرد يف بقية اجلمل فم�ؤ�رش‬
‫حتريرها‪.‬‬
‫�إنّ تع�شّ ق الأ نثى �أنوثتها يربز يف عيّنات �أخرى من مدوّنة‬ ‫على �أن املاء هو الدال الأ كرب يف هذه الق�صيدة وعلى �أنه‬
‫ال�شاعرة من قبيل «�صالة اجلمر»‬ ‫الكلمة املو�ضوع فيها (‪ .)Le mot thème du poème‬لكن ماهي‬
‫و «نافورتي»‪ .‬فهي حني ت�صدّر الق�صيدة الأ وىل بقولها‪:‬‬ ‫ال�صور التي تت�شكّل بها �صلة املاء بال�شاعرة؟‬ ‫ّ‬
‫مُ تيّمـة‪� /‬أغت�سل ب�أنوثتي ‪ /‬جمرة مبلّلة‪� /‬صابئة تعبد‬ ‫�إذا جتاورنا ال�صورة الأ وىل امل�صوغة يف �أوىل اجلمل‬
‫ال�شعرية ونبّهنا �إىل طبيعتها املفارقة ب�سبب «جريان املاء‬
‫كوكبها (‪)7‬‬
‫تُ�صيرّ الأ نوثة مدار الكالم ال�شعري وت�صوّر تولّهها بذاتها‬ ‫متلظيا من �شدة العط�ش»‪ ،‬وانقالب العن�رص على حقيقته‬
‫فت�ستدعي النقي�ضني مو�صوفا و�صفة يف تركيب غري م�ألوف‬ ‫ال�صور جم�سّ مة‬‫مبا هو عن�رص �إرواء للظّ م�أ‪ ،‬بدت لنا بقية ّ‬
‫بني النار واملاء‪ ،‬وتلتقط �إ�شارة تومئ �إىل تاريخ عقيدة � آمن‬ ‫لقاء عجيبا بني املاء والأ نثى وا�شتهاء متبادال بينهما‪� .‬إنّ‬
‫�أ�صحابها بالتطهري والتعميد(‪� .)8‬إنّ �صورة التولّه باجل�سد‬ ‫اقتفاء املاء خلطوات املتكلمة يف اجلملة ال�شعرية الثـانية‬
‫الأ نثوي وقد � آلفت فيها ال�شاعرة بني عن�رصين من عنا�رص‬ ‫و ن�سيانه جمرى ال�سواقي وم�سقط املطر ممّا يقلب العالقة‬
‫التكوين توحي مبا لهذا البعد املح�سو�س من �أبعاد الأ نثى‬ ‫امل�ألوفة بني الإ ن�سان واملاء‪ .‬غري �أنّ ا�شتهاء املاء لأ نثاه‬
‫من تقدمي واعتبار‪ ،‬ومن حر�ص على �إ�رشاع عوامل التخيل‬ ‫�رسيعا ما ي�صري ت�شهيا تعبرّ عنه هذه الأ نثى ب�صورتني‬
‫ف�سيحة ي�صري بها املرجع يف الق�صيدة �إملاعا وت�صري الذات‬ ‫تو ّد من خاللهما النفاذ �إىل حقيقة هذا العن�رص والك�شف‬
‫املتكلمة مقدودة من جماز ومن �إيحاء قريب وبعيد‪.‬‬ ‫عن �سبب احتجابه‪ ،‬مثلما توّد احللول فيه لتكون �رسّه‬
‫وهذا �ش�أن الكالم ال�شعري الأ نثوي يف ق�صيدة «نافورتي»(‪)9‬‬ ‫و�أنثاه‪ ،‬تنتظر موعد جميئه وت� ّرس بلقياه‪.‬‬
‫هكذا يح ّل املاء يف الق�صيدة مكوّنا �إن�شائيا مهيمنا على التي تنبني بهذا الدال امل�سيطر يف الديوان وترتبط بهذا احليّز‬
‫معجمها‪ ،‬وبنية النحو والرتكيب والت�صوير فيها‪ ،‬وهكذا الهند�سي الذي يتدفّق منه املاء غزيرا‪ .‬وال�شّ اعرة املتكلّمة‬
‫‪274‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املتكرّرة‪.‬‬ ‫يف هذا الن�ص الوجيز املتكوّن من جمل �شعرية �أربع تنتقل‬
‫هكذا ينقلب «التدلّل» الذي �أوهم به عنوان الق�صيدة وعُ ّد من‬ ‫من زمان بعيد �إىل حا�رض قائم‪ ،‬وتوظّ ف امل�شريات الزمانية‬
‫ال�صفات الأ نثوية احلميدة يف عامل الع�شق ويف ق�صائد التغزّل‬ ‫ال�صلة بني جن�س‬ ‫(‪ ( )Les déictiques‬كنت‪ -‬ال �أزال‪ -‬والآ ن)‪ .‬وتعقد ّ‬
‫والنّ�سيب ا�ستك�شافًا للذّات الأ نثوية‪ ،‬ال مبا هي تعداد ل�صفاتها‬ ‫امل�ؤنث وجن�س املذكّر‪ ،‬وتكثف التعبري عن حركة ال�رصاع‬
‫البادية على حميّا النّ�ساء وهي�آتها الظاهرة يف حركات اجل�سد‪،‬‬ ‫التاريخي بني اجلن�سني من خالل ما دار بينها وبني �ضدّها‬
‫و�إنمّ ا مبا هي جواهر و�أ�رسار خمفيّة يف عمق هذه الذات‪.‬‬ ‫الذي تركته يَخُ طها و�أورثته ريا�ض الكالم فاكتمل‪.‬‬
‫و تنحو ق�صيدة «العي�ش بثالثة عنا�رص» هذا املنحى �إىل‬ ‫�إنّ اجلملة الثانية «تركت �ضدّي يخّ طني فاكتمل» ت�صوغ �شعرا‬
‫ا�ستك�شاف الأ نوثة العميقة ب�إبراز مواد الت�شكّل‪� .‬إنّ املقطع الذي‬ ‫طبيعة ال�صرّ اع التاريخي املديد الذي �أدّى �إىل حتكم ال�ض ّد يف‬
‫تخيرّ ناه من هذه الق�صيدة(‪ )14‬يتكوّن من ثالث جمل �شعرية‬ ‫�ضدّه و�إىل انقالب و�ضع الأ نثى بعد �أن كانت «وحيا م�سرت�سال‬
‫ينتظمها الفعل امل�ضارع املن�سوب �إىل �ضمري املتكلم واملعبرّ‬ ‫ونافورة �أبدية»‪ .‬هكذا تن�شئ ال�شاعرة مبجاز الكالم ر�ؤيتها‬
‫عن اال�سرت�سال واملعاودة (�أ�سمع �صورتي تردّدين‪� -‬أحت�سّ �س‬ ‫لتاريخ الأ نثى وت�ستعيد ب�إ�شارات خاطفة وعبارات فيها �إملاع‪،‬‬
‫رخامي‪� -‬أنادي الأ �صداف)‪.‬‬ ‫عديد الكتابات املندرجة يف �إطار «الأ دبيات الن�سائية» تنظريا‬
‫وما تقيمه الذّات ال�شاعرة من جتاوب بني �أناها و�صورتها من‬ ‫و�إبداعا وذلك من قبيل ما يوجد يف ت�آليف �سيمون دي بوفوار‬
‫جتاوب يف �أوىل اجلمل ومن متثيل له ب�صورة �أهازيج القبيلة‬ ‫ونوال ال�سعداوي وفاطمة املرني�سي من ت�أكيد ملنزلة الأ نثى‬
‫التي تناطح خيامُ ها ال�سّ حب والغمام املكتنز‪ ،‬وما تُثنّى به من‬ ‫عرب التاريخ و�سبقها الرجل �إىل ت�أمني املعا�ش للعائلة يف‬
‫ت�صوير لهذا التّجاوب يف اجلملة الثانية حني تتح�سّ �س رخامّها‬ ‫املجتمعات الأ مومية‪.‬‬
‫تكنية عن نعومة اجل�سد و�صفاء الب�رشة‪ ،‬وملّا ت�شِ ُف مادة اجل�سد‬ ‫وال�شاعرة حني تورد تاريخ اجلن�سني تركّز كالمها اخلتامي‬
‫بهذا التح�سّ �س فتتحوّل فج�أة من �سكون الترّ اب �إىل رفرفته‪ ،‬وما‬ ‫يف ما تُب�شرّ به من ا�ستعادة لو�ضعية �أنثوية بديعة تخيرّ ت‬
‫تُثلّث به من ت�صوير الفعل املجازي يف اجلملة املوالية حني‬ ‫لت�شكيلها �صورة الوحي يهبط على �أنبياء اهلل و�صورة النافورة‬
‫تنادي العنا�رص البحريّة من �أ�صداف وحيتان و�سفن «�صيرّ تها‬ ‫مبا ترمز �إليه من ارتفاع البناء ومن ح�سن التّ�شييد و�أناقة‬
‫العرائ�س غرقا يف البحر»‪ ،‬ك ّل هذا التلوين يف الت�صوير يحمل‬ ‫التّزويق لتجميل ال�ساحات العامّة و�إ�شاعة البهجة يف نفو�س‬
‫القارئ �إىل �أجواء �شعرية ف�سيحة في�صري املاء من�شط ولذاكرته‬ ‫الب�رش‪.‬‬
‫الأ دبيّة والأ �سطورية ومو�سعا دائرة تخيله‪.‬‬ ‫�إنّ التولة بالذات وتع�شّ ق الأ نا يكاد ينظ ُم ق�صائد ال�شاعرة يف‬
‫‪ -2‬ماء االغت�سال‪:‬‬ ‫�أعمالها ويوجد بينها حلمة متينة‪ .‬وحني ال تورد � آمال مو�سى‬
‫لئن كان ماء التولّه واال�شتهاء ماء مرتقرقا يف عديد الق�صائد‬ ‫لفظ املاء ومتعلّقاته يف عناوين النّ�صو�ص‪ ،‬يجرى هذا الدال يف‬
‫«لآ مال مو�سى» مُ �شّ كال لعديد التّ�صاوير يف كالمها ال�شّ عري‪،‬‬ ‫�رشايني ق�صائدها ويكون د ّم احلياة فيها‪ .‬وت�شهد بهذا الت�شكّل‬
‫ف�إنّ ماء عن ماء يفرق‪ .‬لقد تفرّد املاء يف «عزف منفرد‪)15(»3‬‬ ‫املائي ل�شعرها ن�صو�ص من قبيل «املدللة»(‪ ،)10‬و» الأ نبياء‬
‫بلون � آخر وطعم مغاير ملا �ألفناه من طبيعة له يف �سائر‬ ‫يف اخلارج ينتظرون»(‪ )11‬و«العي�ش بثالثة عنا�رص»(‪.)12‬‬
‫الق�صائد‪.‬‬ ‫يحدّد عنوان الق�صيدة الأ وىل طبيعة يف الإ ن�سان عامّة ويف‬
‫يندرج هذا الن�ص الوجيز يف «ت�شكيلة �شعرية» كونّتها ن�صو�ص‬ ‫املر�أة حتديدا‪ .‬و�إذا كان املاء هو العن�رص الأ وحد يف عدد من‬
‫خم�سة مرقّمة عدّتها � آمال مو�سى «جملة مو�سيقية» وفيها عزف‬ ‫ق�صائد ال�شاعرة فهو يف هذه الن�صو�ص يلتقي بعنا�رص �أخرى‬
‫على �أنغام تبدو متباعدة ينفرد داخلها ك ّل عزف بنغم خم�صو�ص‬ ‫من �أبرزها الل�ؤل ؤ� فيجتمع بذلك بريق املاء وملعان ال�ضياء‪.‬‬
‫به‪ .‬والعزف املنفرد الثّالث ي�ستق ّل عن �سائر «املعزوفات» يف‬ ‫تحُ دّد املتكلمة يف ق�صيدة «املدلّلة» �أناها بهذا الكالم ال�شعري‪:‬‬
‫هذه اجلملة املو�سيقية ويدور ‪-‬خالفا لها‪ -‬على �ضمري املتكلم‬ ‫يطوف ب�شعابي املريدونَ ‪ /‬مائي‬ ‫ُ‬ ‫لُـ ؤ�ْلـُ َو ٌة ‪ /‬خَ ويل �أدورُ‪ /‬و‬
‫اجلمع بهذه ال�صياغة‪:‬‬ ‫الل�ؤل ُؤ� ‪ /‬حب ُة الرّمل نطفتي ‪ /‬ت�شكّـلتُ ‪ /‬يف قَط َر ِة النَّدى‪)13( ! ‬‬
‫كلّنا موعودون باالغت�سال الأ خري‪ /‬بالأ ثواب املزرك�شة بالبيا�ض‬ ‫وهي جتمع يف ت�شكيل �أنوثتها بني املاء والرمل والنّدى‬
‫‪ /‬ك ّل ما فيها غرفة نوم ‪ /‬يف حجم اجل�سد‪)16(.‬‬ ‫واحلجارة الكرمية‪ ،‬وحتوّل الأ نوثة حمور دوران ومركز حركة‬
‫خا�صة لأ نّ‬
‫يبدو اللحن املعزوف يف هذه الق�صيدة حلنا حزينا ّ‬ ‫�صوفية ونقطة اجنذاب‪� .‬إنّ هذا االنزراع يف الكون من خالل‬
‫الوعد يكون عادة مما يُفرح الإ ن�سان ويبهجه بينما كان وع ُد‬ ‫الت�شكّل يف قطرة الندى‪،‬و توحّ د ماء الأ نوثة بالل�ؤل�ؤ‪ ،‬ودوران‬
‫االغت�سال متعلّقا بامل�صري الأ خري جم�سّ ما يف حادثة املوت‪� .‬إنّ‬ ‫الذّات حول ذاتها دوران الفرا�ش حول الأ ج�سام امل�ضيئة تمُ ثّل‬
‫�إن�شائية الت�أليف يف هذا العزف تبدو خمالفة ملا وجدناه يف‬ ‫ا�ستعارات �شعريّة يحتجب ب�سببها مرج ُع الكالم فال تتحدّد‬
‫العيّنات التي اعتمدناها يف تناول ما و�سمناه بـ» ماء التولّه‬ ‫هويّة املتكلّمة رغم �أ�سلوب الإ ثبات‪ ،‬واعتماد اجلملة الإ �سمية‬
‫‪275‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قد يكتفي النّظر ال�رسيع يف مدوّنة � آمال مو�سى ويف ديوانها‬ ‫واال�شتهاء»‪ ،‬كما تبدو حركة التّ�صوير يف هذا الن�ص الوجيز‬
‫أخ�ص بر ّد هذا ال�شّ عر �إىل �أ�سطورة نر�سي�س و�إىل‬
‫الأ ول على وجه � ّ‬ ‫هادئة ال متور بالكنايات املغلقة �أو باال�ستعارات البعيدة‪.‬‬
‫عُ جْ ب الأ نثى ب�أنوثتها وتع�شّ قها لأ ناها‪ ،‬وقد يبدو �أن ال�شاعرة‬ ‫�إن االغت�سال الأ خري تعبري قريب عن املوت والفناء‪ ،‬والأ ثواب‬
‫املتكلمة ب�صوتها الفردي يف ج ّل ن�صو�صها قد تخيرّ ت املاء‬ ‫املزرك�شة بالبيا�ض �صياغة يُدرك بعدُها من �أق�رص �سبيل‪،‬‬
‫واملر� آة والقمر عنا�رص تتملى يف �ضوء �صفائها �صورتها التي‬ ‫وغرفة النّوم ال�ضيقة كناية قريبة عن القرب‪.‬‬
‫تراها بهيّة‪ ،‬حماكية يف ذلك نر�سي�س الأ �سطورة الذي وقع يف‬ ‫و يقرتب هذا البعد اجلنائزي للماء يف ق�صيدة «عزف منفرد‪»3‬‬
‫املياه التي كان يدمي النظر يف �سطحها املتلأ لئ ويُعجب ملر�أى‬ ‫من �شبيهه يف ق�صيدة «مرايا الغياب» يف ديوان» «ي�ؤنثني‬
‫�صورته منعك�سة على هذا ال�سطح تعبريا عن اخليالء والتولّه‬ ‫مرتني»‪ .‬ف�إذا كان املاء هو العن�رص املولّد لفكرة االن�شغال‬
‫بالذات(‪ )21‬غري �أن التمعّن يف ق�صائد ال�شّ اعرة التي تُظهر فيها‬ ‫باملوت واللّحد‪ ،‬ف�إن املر� آة مبا هي ج�سم �صقيل تولّد يف‬
‫احتفاء ب�أناها‪ ،‬وتجُ ري فيها كالمها ال�شّ عري على ماء الأ نوثة‬ ‫الق�صيدة الثّانية الفكرة ذاتها ملّا يت�شخّ �ص الغيابُ ويت�شكّل يف‬
‫الذي يحتويها من كل اجلهات‪ ،‬ويف جداول االفتتان باجل�سد‬ ‫�أكرث من هيئة وي�ستحيل على ح ّد عبارة ال�شاعرة «العبا ماهرا‪،‬‬
‫املزدهي‪ ،‬متعّن � آيل �إىل اكت�شاف �أبعاد �أخرى لهذا ال�شّ عر‪.‬‬ ‫ال ي�سجّ ل يف مرمانا �سوى هدف املوت» (‪.)17‬‬
‫�إنّ قراءة عديد الق�صائد يف �ضوء �أ�سطورة نر�سي�س التي عوّل‬ ‫�إنّ �شعري َة الغياب واملوت التي يكون املاء �أحد عنا�رصها‬
‫عليها علماء التحليل النف�سي ( فرويد – الكان) وو�صلوها‬ ‫�شعر ّي ٌة متواترة يف �أعمال الأ دباء عامّة وال�شعراء حتديدا لكنّ‬
‫مب�س�ألة اللببيدو وبالالوعي وبحاالت احللم والهذيان‬ ‫�صياغتها لديهم تختلف من جتربة �إىل �أخرى‪ ،‬فمحمود دروي�ش‬
‫والبارانويا (‪ )22( )paranoïa‬تغيّب �أبعادا �إن�شائية مهمّة ل�شعر‬ ‫حني كتب «جداريّته» �سنة ‪ 1999‬بعد �أن واجه بيا�ض املوت‬
‫� آمال مو�سى وذلك من قبيل‪:‬‬ ‫يف غرفة امل�ست�شفى �أح�س ب�أنه «وحيد يف نواحي هذه الأ بدية‬
‫‪ -1‬البوح واملكا�شفة‬ ‫البي�ضاء»(‪ ،)18‬وكانت هذه املواجهة العجيبة مما فجّ ر مطوّلة‬
‫ال�صوت ال�شّ عري �صوتا متوغّ ال‬
‫واملق�صود بهذا البعد �أن يتحوّل ّ‬ ‫�شعرية مليئة بالبوح والتذكّر‪ .‬وكان ال�شّ اعرو القا�ص «�إدغار‬
‫يف الذات ال�ستجالء باطنها وت�صوير غورها‪ .‬فحني يدور الكالم‬ ‫�أالن بو» من الأ دباء الذين ت أ�مّلوا طويال م�س�ألة املوت يف �صلته‬
‫ال�شعري يف ن�صو�ص ال�شّ اعرة على �أناها دوما مبثل هذه‬ ‫باملاء ف�شكّل من ذلك الت أ�مّل لوحات ت�صور �أفكارا فل�سفية‬
‫املحاورة املغالية يف احلميميّة‪:‬‬ ‫وم�شاعر وجودية‪.‬‬
‫امل�ستفي�ضة ‪� /‬أريدكِ هناك ‪ /‬يف �أعايل‬
‫َ‬ ‫�أناي اجلملية ‪ /‬الرواي َة‬ ‫لقد تولىّ غا�ستون با�شالر يف كتابه «املاء والأ حالم» حتليل‬
‫الزرقة ‪ /‬ت�رسقني البحر وفيه تختفني(‪)23‬‬ ‫�شعريّة احللم عند هذا الأ ديب ا�ستنادا �إىل عن�رص املاء و�أورد‬
‫تنك�شف حجبّ الذّات وترتاءى هواج�سها فت�ص ُري الق�صيدة مر� آة‬ ‫اخلا�صة‬
‫ّ‬ ‫ال�صور‬
‫جملة من الآ راء لع ّل من �أهمّها �أنّ «قدر ّ‬
‫�صقيلة عاك�سة جلوهر تن�شُ د ال�شاعرة متلّكه والتفرّد به‪ .‬وهي‬ ‫باملاء‪ -‬لدى يو‪ -‬ت�ساير‪ -‬تدقيقا �شعرية احللم الرئي�سية التي‬
‫�إذ تُبدي تعلّقا بهذا اجلوهر املائي ورغبة دائمة يف �أن يكون‬ ‫هي �شعرية حلم املوت» و�أنّ «ك ّل ماء �أ�صله يف البداية نقي‬
‫املاء عامل حلّها وترحالها‪ ،‬و�أن تكون قرينة املوجة و�شبيهة‬ ‫ميت�ص املعاناة‬
‫ّ‬ ‫هو – عند يو‪ -‬ماء ال بد �أن ي�صري داكنا‪ ،‬و�أن‬
‫ال�صور التي تعبرّ بها عن هذا‬‫عرو�س البحر‪ ،‬ال تنفكّ عن تقليب ّ‬ ‫ال�سوداء‪ ،‬و�أنّ ك ّل ماء حي هو ماء م�صريُه �أن يغدو ثقيال‪ ،‬بطيء‬
‫اجلوهر املن�شود‪.‬‬ ‫اجلريان»(‪.)19‬‬
‫�إنّ املكا�شفة والبوح البارزين يف �شعر � آمال مو�سى يرتبطان مبا‬ ‫هكذا يكون املاء عن�رصا من العنا�رص البانية ل�شعرية الق�صائد‬
‫اعتربته جوهر الكتابة‪ ،‬وهو يف تقديرها «تعري ُة للذات وللنف�س‬ ‫ومولّدا لإ ن�شائية «الكالم ال�سامي» (‪ )Le Haut Langage‬هكذا ين� أش�‬
‫وللوعي الفردي واجلماعي املطلق»(‪ )24‬مبا عدّته كتابة الذات‪.‬‬ ‫�رضب من التوازي والت�آلف بني �أنوثة الطبيعة و�أنوثة اجل�سد‬
‫ولي�ست هذه الكتابة ترو ُم تعرية الذات ملجرّد التعرية وك�شف‬ ‫وقد ي�ؤول التعلق باجل�سد ومتلي مباهجه �إىل الإ قرار برنج�سية‬
‫امل�ستور من اجل�سد وال�سلوك‪ .‬فامل�رشوع الإ ن�شائي الذي و�ضعت‬ ‫غالبة يف هذا ال�شعر مثلما ذهب �إىل ذلك امل�سعدي‪.‬‬
‫ال�شاعرة معامله الكربى بتحويل املاء من عن�رص طبيعي‬ ‫لع ّل القراءة الأ وىل التي �أجنزها حممود امل�سعدي و�ضمّنها‬
‫�إىل مكوّن �شعري مهيمن يف عامل ق�صائدها‪ ،‬م�رشوع �أ�سا�سه‬ ‫ت�صدير هذا الديوان‪ .‬ومتابعة عدد من الق�صائد يف العملني‬
‫«ال�شّ غف العا�صف البتكار كينونة �أنثوية �أ�سا�سيّة ومركزّية‬ ‫الالحقني به ت ؤ�كّدان هذا املنزع يف تقبّل هذا ال�شعر‪ ،‬ولع ّل ما‬
‫يف عامل ال�شعر بدال عن كينونة فرعية‪ ،‬ت�شغل موقع املو�ضوع‬ ‫ختم به امل�سعدي ت�صديره «�أنثى املاء» حني قال‪« :‬وهيهات‬
‫ال�شعري يف ن�سق ق�صيدة الرجل العربي»(‪.)25‬‬ ‫�أن ي�سلم من عجبه الطاوو�س الكامن فيك وفيها ويف جميع‬
‫�إنّ م�رشوعها االن�شائي يقوم �ضدّا مل�رشوع �شاعر جماهريي‬ ‫النا�س على ال�سواء»(‪ )20‬يُ�سيّج قراءة هذا ال�شّ عر ويوجّ ه فعلّها‬
‫�سارت ق�صائده على �أل�سنة النا�س ومتكّنت من وا�سع االنت�شار‬ ‫وجهة بينة‪.‬‬
‫‪276‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بف�ضل التلحني والغناء‪ .‬ف�إذا ع ّد نزار قباين �شاعر املر�أة �آمال مو�سى ت�صويرا وتفكريا‪ ،‬ويكون عن�رصا ذا وجه وقفا‪.‬‬
‫وحمرّرها من و�ضعية احلرمي‪ ،‬ف�إنّ � آمال مو�سى تروم ب�شعرها فوجه املاء وجريانه اخل�صيب هما م�أمول ال�شاعرة ون�شدانها‬
‫منزلة �أرقى للأ نثى‪ ،‬و�أمّا قفا املاء و�سيالنه الرتيب فممّا‬ ‫�إنطاق الأ نثى ب�صوتها ال�شّ خ�صي وب�شعرها ال�رسّي‪.‬‬
‫و�إذا كان اجل�سد هو املرك ُز الذي عليه دوران هذا ال�شّ عر فيما ي�شبه تعايُنه ال�شاعرة وتعانيه معاناة �شديدة‪.‬‬
‫الطق�س وال�شعرية‪ ،‬فلي�س الق�صد من ذلك �أن ي�صري اجل�سد م�صدر الهوام�ش‬
‫�إغواء و�إغراء و�إنمّ ا باعتباره معربا �إىل» روح الأ نوثة» اخلال�صة‪� )1( .‬أ�صدرت ال�شاعرة ‪� - :‬أنثى املاء‪� ،‬رسا�س للن�رش‪ -‬تون�س ‪1997‬‬
‫لقد حتدّث علي ح�سن الفواز عن «الكتابة ب�رشوط اجل�سد» ‪ -‬خجل الياقوت‪ ،‬دار �رشقيات للن�رش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الأ وىل ‪.1999‬‬
‫‪ -‬ي�ؤنثني مرّتني‪� ،‬رسا�س للن�رش‪ -‬تون�س‪.2005 -‬‬
‫باعتبارها «مغامرة يف ا�ستجالء هيوىل اجل�سد والوجود وفطرة (‪ )2‬يقول حممود امل�سعدي‪« :‬وقد يُخيل �إليك حني تقر�ؤها �أنّ نفحة من الروح‬
‫اللغة و�رسّانيتها وباعتبارها �أي�ضا كتابة يف ن�ص اخل�صب اليونانية التي ولدت من املاء عرائ�س البحر املغريات هي التي حدت بال�شاعرة‬
‫هنا �إىل مغامرة الغو�ص على طوايا نف�سها و�أ�رسار ذاتها والولوج يف جدلية ما‬ ‫والإ رتقاء»(‪)26‬‬
‫بني الأ نوثة واجل�سد واملاء من ن�سب �سحري قد ال ينك�شف �رسّه �إال ب�شبه التجلّى‬
‫وهو يعترب هذه الكتابة بابا �إىل نا�سوت اجل�سد و�إىل �أ�سطورة ال�صويف» «�أنثى املاء» �ص ‪.3‬‬
‫(‪ )3‬من الق�صائد التي تت�أ�س�س بهذا الدال نذكر‪� :‬أنثى ال�صيف �ص ‪� – 15‬أعايل‬ ‫خطيئته القدمية وحلوله يف البحث عن طهرانية م�ضادة‪.‬‬
‫� إنّ تركيز الكالم ال�شعري يف اجل�سد وجتلّياته الظاهرة واملخفية الزرقة �ص ‪ - 19‬وردة اخلريف �ص ‪� -21‬صالة اجلمر �ص ‪� -47‬أنثى املاء �ص‬
‫‪ -59‬نهر اليدين ‪.81‬‬
‫ي�ؤ�سّ �س لبناء ن�ص احلرية التي تعلقت بها ال�شاعرة وداومت (‪ )4‬خجل الياقوت‪ ،‬ال�صفحات‪.77 ،48 ،39 ،21 :‬‬
‫التعبري عنها يف �صياغات تتعدّد لكنها تت�آلف وتتنادى يف (‪ )5‬ي�ؤنثني مرتني‪ ،‬ال�صفحات ‪.118- 28-24 :‬‬
‫(‪Dictionnaire des symboles, p 374 )6‬‬
‫جتاوب م�ستدمي‪.‬‬
‫(‪� )7‬أنثى املاء �ص‪.47‬‬
‫(‪� )8‬أنثى املا�ص �ص ‪ -46‬ال�صائب‬ ‫ّقة‬ ‫ف‬ ‫املتد‬ ‫وباملوجة‬ ‫املرتقرق‬ ‫باملاء‬ ‫تتماهى‬ ‫وال�شاعرة حني‬
‫وتغت�سل ب�أنوثتها(‪� )27‬إنمّ ا تر�سم �صورا موحية مل�رشوعها (‪ )9‬ال�صابئة‪ :‬اللفظة � آرامية الأ �صل تطلق على فرقتني ‪ 1 :‬جماعة املنوائيني �أتباع‬
‫ال�شّ عري الذي تُ�شيّده على مهل‪ ،‬وهي ت�سند هذا املعمار بركيزة يوحنا املعمدان ‪� -2‬صابئة حران الذين عا�شوا زمنا يف كنف الإ �سالم‪ .‬ورد ذكرهم‬
‫يف القر�آن ثالث مرات بجانب اليهود والن�صارى‪ ،‬وذكرهم ال�شهر �ستاين يف كتابه‬
‫فكرية حداثية تع ّد نقي�ضا لر�ؤية متتهن اجل�سد والأ نوثة وتعمل «امللل والنحل» والدم�شقى يف «نخبة الدهر يف عجائب البحر» يحر�ص ال�صابئة‬
‫على حجبهما توقّيا من الفتنة والإ غواء والوقوع يف الدّن�س‪ .‬على تطهري �أنف�سهم من دن�س ال�شهوات واالرتقاء بها �إىل عامل الروحانيات‪ ،‬من‬
‫فحني تخاطب � آمال مو�سى ابنة � آدم الكامنة فيها ويف كل �أنثى طقو�سهم التطهر باملاء �إذا مل�سوا ج�سدا‪ ،‬املو�سوعة العربية املي�سرّ ة‪ ،‬دار نه�ضة‬
‫لبنان للطباعة والن�رش‪ ،‬بريوت ‪ 1986‬مج ‪� 2‬ص ‪.1112‬‬
‫(‪ )10‬خجل الياقوت �ص ‪.21‬‬ ‫من الب�رش بهذه النّربة املعاتبة‪:‬‬
‫طال متلمُلك يا ابنة � آدم‪َ /‬ت ُعدّين ذخائر التفاح‪ :‬خطيئة‪ /‬خطيئة (‪ )11‬خجل الياقوت �ص ‪.48‬‬
‫(‪ )12‬ي�ؤثــّثـني مرتني �ص ‪.21‬‬ ‫‪ /‬خطايا (‪)28‬‬
‫(‪ )13‬خجل الياقوت �ص ‪.21‬‬
‫الق�صة الدّينية على �سبيل التّ�ضمني �أو (‪« )14‬ي ؤ�نّـثني مرتني» ال�صفحتان ‪ .25 ،24‬واملقطع يبد�أ بقول ال�شاعرة ‪� :‬أ�سمع‬ ‫وت�ستعي ُد �أم�شاجا من ّ‬
‫التنا�ص حتوّل جمرى الكالم وت�شحنّه بر�ؤاها راف�ضة �أن تكون �صورتي تردّدين ويقف عند قولها «غرقا يف البحر»‬
‫(‪« )15‬خجل الياقوت» �ص ‪.77‬‬
‫(‪ )16‬ي�ؤنثني مرتني �ص ‪.124‬‬
‫ابنة � آدم «�أنثى يخبّئ فيها [� آدم الذكر] املاء»‪ ،‬و�أن يكون م�ص ُري‬
‫(‪ )17‬ي�ؤنثني مرتني �ص ‪.124‬‬ ‫الإ ناث موتهنّ غرقي(‪.)29‬‬
‫�إنّ ماء عن ماء يفرق‪ .‬فاملاء الذي تتغنّى به ال�شاعرة وتروم �أن (‪« )18‬جدارية حممود دروي�ش» ريا�ض الري�س للكتب والن�رش‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة‬
‫الأ وىل ‪� 2000‬ص ‪.10‬‬
‫(‪Gaston Bachelard, l’eau et les rêves, Essai sur l’imagination de la matière. )19‬‬
‫«تُ�صبح �رسّه» و«تكون �أنثاه» هو ماء الأ نوثة احلية‪ ،‬املتوثّبة‪.‬‬
‫‪.Librairie Jose Corti 1942, p.p.58-59‬‬ ‫�أما املاء الذي تُنبّه �إىل خطره وعقيم جريانه بني الن�ساء فهو‬
‫ماء الفحولة الذكورية‪ ،‬وهو ماء اجل�سد البيولوجي الذي يُحقّق (‪�« )20‬أنثى املاء» الت�صدير �ص‪.4‬‬
‫(‪.Dictionnaire des symboles p.659 )21‬‬
‫(‪.Encyclopaedia Universalis, France SA,1985 Corpus p.921 )22‬‬ ‫الإ جناب ويكون �رشطا لتكرار اجلن�س الب�رشي‪.‬‬
‫قد ُي ؤ�وّل فكر ال�شّ اعرة على غري مقا�صدها فتكون دعواها �إفناء (‪� )23‬أنثى املاء �ص ‪ ( 19‬من ق�صيدة �أعايل الزرقة)‪.‬‬
‫لل�سّ اللة و�إبطاال لوظائف اجل�سد‪ .‬غري �أنّ �إمعان النّظر يف ما (‪ )24‬من �شهادة قدّمتها ال�شاعرة يف مدينة تورينو الإ يطالية‪ ،‬انظر موقع ال�شاعرة‬
‫على االنرتنيت ‪.amel moussa@yahoo.fr‬‬
‫تقرتحه من بدائل للتعاي�ش بني اجلن�سني ينفي هذا الت�أويل (‪ )25‬نف�سه‪.‬‬
‫املغايل وي�ست�رشف �أفقا تتجاوز فيه الأ نثى و�ضعية «الوعاء» (‪ )26‬علي ح�سن الفوّاز‪ � ،‬آمال مو�سى‪ ،‬الكتابة ب�رشوط اجل�سد‬
‫‪.Ali fwaaz@yahoo.com .‬‬ ‫الذي يخبّئ فيه «الذكر» ماء فحولته‪ ،‬وتتخلّ�ص من واقع متوت ‬
‫(‪ )27‬العبارة واردة يف ق�صيدة «�صالة اجلمر»‪ ،‬ديوان �أنثى املاء �ص ‪.47‬‬
‫(‪ )28‬من ق�صيدة «�أنثى يُخبّئ فيها املاء» ديوان ي ؤ�نّثني مرّتني �ص ‪.39‬‬ ‫فيه الإ ناث غرقى‪.‬‬
‫على هذا النحو من بناء اللقطة ال�شعرية والوم�ضة الفكرية (‪ )29‬تقول ال�شاعرة‪« :‬ف�أدركت ملاذا كل الإ ناث مينت غرقى» نف�سه �ص ‪.40‬‬
‫يتجلّى املا ُء مولّدا �إن�شائيا ي�شحّ ن الكالم ال�شعري يف ق�صائد ‪ vv‬جزء من درا�سة طويلة ‪ ..‬انظر موقع املجلة نف�س العدد‪.‬‬
‫‪277‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مرام امل�صري‬
‫�أنوثة ولغة يف العراء‬
‫بيـــان ال�صفـــدي‬
‫�شاعر وكاتب من �سورية‬

‫من املالم�سة اجلميلة‪.‬‬ ‫يف ال�شعر العربي الآ ن ظاهرة بد�أت ترتدَّد يف �أعمال‬
‫اجل�سد يف ق�صائد مرام (وهي �شاعرة ج�سد بامتياز)‬ ‫العديد من ال�شاعرات‪� ،‬إنها احلديث عن اجل�سد بجر�أة‬
‫حزمة من اخل�رضة والأ لوان‪ � ..‬آفاق مفتوحة‪ ..‬ومزيج‬ ‫ومترّد‪ ،‬وك�أن يقظة �أنوثية مت�أخرة تريد �أن تنتقم‬
‫�سحري من البهجة واخليبة والأ مل‪ ..‬موجات ال‬ ‫ملرحلة طويلة من القمع والكتمان الق�رسي‪.‬‬
‫تتوقف من الن�شوة والإ حباط ‪ ..‬ويف هذا ما ي�ؤ�رش‬ ‫و�إذا كانت �أكرث هذه التجارب مملوءة بردة فعل �ضيقة‬
‫�إىل الداللة الأ بدية له‪ ..‬فهو تكثيف للحياة واملوت‪..‬‬ ‫الأ فق ومليئة بعقد متورمة‪ ،‬بل هي �أحيان ًا ا�ستعرا�ض‬
‫للقاء والفقد الأ بديني يف هذه الدنيا‪:‬‬ ‫خارج ال�شعر‪� ،‬إال �أن جتربة ال�شاعرة ال�سورية مرام‬
‫كفقري ي�أكل‪ /‬حتى التخمة‪ /‬خوف ًا من يوم‪ /‬ال‬ ‫امل�رصي حالة الفتة من التحليق بعيداً عن معاناة‬
‫طعام فيه‪� /‬أنظر �إليك‪ /‬يف ح�ضني‪..‬‬ ‫الأ نثى باملعنى ال�ضيق‪ ،‬لتغدو �شاعرة حب ب�أ�صفى‬
‫�أو‪ :‬مللم بيديك‪ /‬باقة‪ /‬خ�رصي الطرية‪ /‬من على‬ ‫و�أ�رش�س ما يف احلب من جتليات‪.‬‬
‫ال�رسير‪ /‬املليء ب�أ�شالء ‪ /‬ال�ضحايا‪..‬‬ ‫�إنها حالة خا�صة مت�ألقة يف ق�صيدة النرث التي‬
‫يف �شعر مرام انت�شاء بالأ نوثة‪ ،‬فهي خمتالة بها‪..‬‬ ‫تكتبها ال�شواعر العربيات‪ ،‬ذلك �أن جتربتها الطويلة‬
‫فخورة ‪ ..‬تراها ب�ؤرة حياة ولذة بال عُ قد‪ ،‬وكذلك‬ ‫مع ال�شعر ات�سمت ب�إخال�ص تام له‪ ،‬ففيما قدمته‬
‫الرجل يف ق�صائدها‪ ،‬فهو غريه يف �أكرث ق�صائد‬ ‫ان�شغال عميق بق�صيدة دافئة وحرة‪ ،‬تعمل دوم ًا‬
‫ال�شعر الن�سائي العربية‪� ،‬إنه �رشيك ‪..‬نا�سج اللحظات‬ ‫على احلفر العميق يف اجل�سد ‪ ..‬وحتويله �إىل �أغنية‬
‫العابقة بال�سحر‪ ..‬و�أحيان ًا بالبالهة والندم‪ ،‬ولعله‬ ‫متمردة و�صادمة‪:‬‬
‫�أحيان ًا الطرف الأ �ضعف‪� ..‬إنه لي�س �سيداً وال � آمراً وال‬ ‫ت�شعلني الرغبة‪ /‬وتت�ألق عيناي‪� /‬أح�رش الأ خالق‬
‫ناهياً‪� ،‬إنه بب�ساطة رجل يحب بكل ب�ساطة وعمق‪..‬‬ ‫يف �أقرب درج ‪� /‬أتقم�ص ال�شيطان‪ /‬و�أع�صب عيون‬
‫ولذة و�أمل‪ ،‬كذلك املر�أة‪� ،‬إنها املانحة والباحثة‪،‬‬ ‫مالئكتي‪ /‬من �أجل‪ /‬قبلة‪� /‬أو‪ :‬عرى بنظراته‪/‬‬
‫والتي ال تكف عن القب�ض على احلياة حتى اللحظة‬ ‫نهدي اخلجولني‪ /‬حولني المر�أة جميلة‪ /‬ثم نفخ‬
‫الأ خرية‪:‬‬ ‫يف ج�سدي ‪/‬روحه ‪ /‬هادراً‪ /‬رعداً و�صواعق‬
‫كان بودي منحك‪ /‬مروجا عذراء ‪ /‬وج�سداً فتي ًا‬ ‫ولعل من النادر �أن نقر�أ هذا البوح امللهوف المر�أة‬
‫‪ /‬وها �أنا �أمامك يا حب ‪ /‬بج�سد‪ /‬م َّر عليه ل�صو�ص‬ ‫تتحدث عن �أعمق حاالت اال�ضطراب والنزوات‪ ،‬وال‬
‫‪/‬الأ عوام ‪ /‬وببطن ‪ /‬تكوَّرت احلياة فيه ‪ /‬وبثديني‬ ‫تتورع عن ا�ستخدام لغة مك�شوفة �أحياناً‪ ،‬وحتكي‬
‫‪ /‬تفجَّ رت منهما مياه بي�ضاء لأ فواه جائعة ‪/‬‬ ‫عن تفا�صيل حميمة من قلق العالقة مع الآ خر حتى‬
‫لكنني ‪� /‬أمنحك يا حب ‪� /‬شهوتي اجلميلة ‪ /‬ن�ضرِ ة‬ ‫لو كان زوجاً‪:‬‬
‫‪ /‬كعا�شقة غرَّة‪..‬‬ ‫�ساعدين يا زوجي الطيب‪� /‬أن �أغلق‪ /‬هذه الكوَّة‪/‬‬
‫ويف هذا الإ طار نكون مع العالقة العاطفية بكل‬ ‫التي انفتحت‪ /‬يف �أعلى حائط �صدري‪ /‬امنعني‬
‫�إرباكاتها و�سال�ستها و� آالمها‪ ،‬وهذا ما جنده يف‬ ‫يا زوجي احلكيم‪� /‬أن �أعتلي‪ /‬كعب �أنوثتي‪ /‬فعند‬
‫ت�صويرها ملختلف احلاالت التي تعرب عن ت�شابك‬ ‫مفرتق الطريق‪� /‬شاب ‪ /‬ينتظرين‬
‫اخليوط بني الرجولة والأ نوثة يف �إطار �شفيف من‬ ‫وقد قدمت يف �شعرها العديد من الق�صائد التي‬
‫املهارة التعبريية‪:‬‬ ‫تتحدث عن هذه العالقة امل�ضطربة‪ ،‬ومنحتها الكثري‬
‫‪278‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫املر�أة خال�صة حياة‪ ..‬جرح ًا مفتوح ًا على الأ بدية‪،‬‬ ‫الرمانة‪ /‬املحتفظة ب�أ�رسار‪ /‬لآ لئها‪ /‬التزال تنتظر‪/‬‬
‫وحلم ًا كبرياً يف وح�شة عامل قا�س ٍ‪:‬‬ ‫�أن تخلع‪ /‬ق�رشتها الالمعة‪� /‬أو‪ :‬رجل الق�ش‪ /‬خدع‬
‫امر�أة كل الرجال �أنا وال رجل يل ‪ /‬امر�أة كل البالد‬ ‫ع�صافريي‬
‫�أنا وال بلد يل ‪ /‬امر�أة الأ حرف والكلمات ‪ /‬امر�أة‬ ‫وهي تتغنى بالرجولة ورموزها ب�رصاحة‪ ،‬وهذا‬
‫البحور واجلبال‪ /‬امر�أة اللذات والأ مل‪� /‬أو‪� :‬أنا التي‬ ‫جانب الفت جداً حيث تعمل ال�شاعرة العربية عادة‬
‫مل يعد لها وطن �سوى ‪ /‬الورق والكلمات‪� /‬أنا التي‬ ‫على التورية‪� ،‬أو ال�شكوى �أو الإ ح�سا�س باالنتقام �أو‬
‫مل ‪/‬يعد لها �رسير‪� /‬سوى �أر�صفة الأ مل‪� /‬أنا ف�ضيلة‬ ‫حت�س باملهانة والغدر ب�شكل دائم‪ ،‬لكن �شاعرتنا‬
‫الفا�ضالت ‪ /‬مانحة اللذات والفرح‪ /‬راف�ضة احلرب‬ ‫تفاجئنا بتغن ٍّ �صاف ٍ بالرجولة وتفا�صيلها‪ ،‬مع‬
‫والدماء ‪ /‬قارئة القلب والروح‬ ‫قدر وا�ضح من النزعة ال�شـَّهَوية‪ ،‬وب�إح�سا�س ٍ عال ٍ‬
‫و�إذا كان البناء الأ �سا�سي لق�صيدتها يعتمد الب�ساطة‬ ‫بالتكاف ؤ� مع الرجل‪:‬‬
‫اخلادعة �أي تلك التي تخفي حرفتها ومهارتها‬ ‫كلما غادرين ‪ /‬رجل‪� /‬أزداد جماالً‪� /‬أو‪ :‬امر�أة يف‬
‫متاماً‪ ،‬وتر�سم م�شهدها بتلقائية وعنا�رص �شديدة‬ ‫عر�س �شهوتها‪ /‬ت�ضج مبالئكة رجل‬
‫الأ لفة‪ ،‬فهي مع ذلك تطور هذا البناء على نحو‬ ‫و�أدوات ال�شاعرة الفتة به�شا�شتها اخلادعة اجلميلة‪،‬‬
‫فيه الكثري من الت�أمل والإ حاالت �أحياناً‪ ،‬فتغتني‬ ‫فقلما نقر�أ �شعراً بهذه العفوية والتق�شف البالغي‬
‫الق�صيدة عندها بالكثري من اخلفايا التعبريية التي‬ ‫واملو�سيقي‪ ،‬حيث املفردة ال�سهلة ال�شائعة‪ ،‬واجلملة‬
‫حتتاج �إىل ت�أمل وك�شف‪:‬‬ ‫التلف وال تدور‪ ،‬وال تتداخل �أجزا�ؤها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الب�سيطة التي‬
‫احليطان لها ‪ � /‬آذان ‪ /‬ت�سمعك تئنّ وال ترد‪/‬‬ ‫لكن مع ذلك فهذا ال�شعر حمت�شد باالختالف واجلدة‬
‫رس لها بكل �شيء ‪ /‬ت�ؤكد لك دائم ًا ‪/‬‬ ‫ت�ستطيع �أن ت� ّ‬ ‫واجلر�أة واجلمال والدفء‪ ،‬لهذا حتتل ق�صيدة مرام‬
‫ب�أنها كاحليطان خر�ساء‪ /‬تتحمل �رضبات ر�أ�سك‬ ‫مكانتها من ذلك الأ داء اجلديد الذي يغو�ص عميق ًا‬
‫عليها ‪ /‬وت�سندك و�أنت تقع ‪ /‬تراك تبكي وال ت�أخذك‬ ‫يف احلاالت الإ ن�سانية‪ ،‬ويجهد بو�ضوح �إىل تقدمي‬
‫بالرغم ‪/‬من الت�صاقك بها ‪ /‬بني ذراعيها‪ /..‬على‬ ‫نف�سه بلغة تبتعد كثرياً عن اال�ستعرا�ض البالغي‬
‫احليطان نعلق ظاللنا ‪ /‬ظاللنا الراق�صة وال�ساقطة‪/‬‬ ‫لتقدم بد ًال منه جملة من التقنيات اخلفية‪ ،‬يف �إطار‬
‫مالب�سنا وم�سامرينا‪ /‬احليطان لها �شفاه‪ /‬احليطان‬ ‫دائم من حركة امل�شهد‪ ،‬فت�أخذ الكثري من جماليات‬
‫باردة‪/‬‬ ‫الثقافة الب�رصية‪ ،‬فالعديد من ق�صائدها م�شاهد‬
‫�شفاهي ال متنحها‪ /‬النار‪..‬‬ ‫مكثفة من �سينما �شعرية على الورق‪ ،‬وقد حتولت‬
‫�أو‪� :‬أعطني حباً‪ /‬كفاف يومي‪ /‬وال تثقل يومي على‬ ‫�إىل حالة �شعرية‪:‬‬
‫‪ /‬قلبي احلزين‪ /‬مبثقال ذرة‪ /‬خذين ‪ ..‬وال ت�رضبني‬ ‫يف ال�شارع امل�ؤدي‪� /‬إىل منزلها‪� /‬صالونها‬
‫غ�ض الطرف عن �أخطائي ‪ /‬وابعث بر�سُ ل‪/‬‬ ‫بوردة‪َّ /‬‬ ‫م�ضيء‪ /‬طيفها‪ /‬يت�أرجح‪ /‬كقنديل‪ /..‬تريد من‬
‫قبل �أن تط أ� �أر�ضي‬ ‫اهلل‪� /‬أن يلوح لها مبروحة‪ /‬ن�سائمه‪� /‬أو يبل�سم‬
‫�إذاً من الوا�ضح �أن جوهر �شعر مرام قائم على‬ ‫ب�أنفا�سه‪ /‬حروقها‪ /‬ك�أم حنون‬
‫هذا العراء الوا�ضح‪� ،‬أنوثة ال تخجل من نف�سها‪ ،‬بل‬ ‫والالفت تلك العذوبة التي تغلب على ال�صياغة‪،‬‬
‫تتقدم وتناجي �أعمق �أ�رسارها �أمامنا‪ ،‬وهذا العراء‬ ‫فالإ طار الذي يجمع التعبري عن لهفة احلب و�شهوته‬
‫التعبريي تقابله لغة عارية �أي�ضاً‪ ،‬غري مثقلة‬ ‫وخيباته ميتزج غالب ًا ب�أداء �ضمني و�شفاف كما يف‬
‫ب�أ�ساطري وجمازات بعيدة‪ ،‬ولي�س فيها تع ُّب ٌد طويل‬ ‫قولها‪:‬‬
‫�أمام ال�شكل ومعاناة خـَلقه‪� ،‬إنها بب�ساطة تعمل على‬ ‫�أنا �سارقة ال�سكاكر‪� /‬أمام دكانك‪ /‬دبقت �أ�صابعي‪/‬‬
‫منح العادي واحلميم �أق�صى ما ت�ستطيع ليكون‬ ‫ومل �أجنح‪ /‬بو�ضع واحدة‪ /‬يف فمي‬
‫م�ساحة ده�شة وخلق وحياة وجـِدَّة‪ ،‬وهذا رهان‬ ‫يف لغة مرام ال�شعرية �صوت ر�سويل �أحيان ًا ك�أنه‬
‫قلما ينجح يف ال�شعر‪ ،‬لكن مرام امل�رصي جعلتنا‬ ‫قادم من معبد‪ ،‬لكنه جماور لل�شوارع والأ �رسَّة‬
‫من�سك هذا النجاح ب�أيدينا‪.‬‬ ‫والنوافذ واحلانات‪ ،‬ولعله طالع منها‪ ،‬حيث تكون‬
‫‪279‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ابراهيم احلجري يف «ا�ستثناء»‬


‫كينونة مفرطة الأ وجاع‬
‫ر�شيـــد طــــالل‬
‫كاتب من املغرب‬

‫فرعية يطرح �ضمنيا نية اعتبار الن�صو�ص الق�ص�صية‬ ‫التني الكتابة عند �إبراهيم احلجري عن مراوحة مواقعها‬
‫الق�صرية جدا تكميلية بالنظر للإ كراه التجني�سي العام‪،‬‬ ‫يف خارطة التنميط والتجني�س‪� ،‬إنها لي�ست مراوحة هينة‬
‫الذي يحكم املجموعة الق�ص�صية ككل‪.‬‬ ‫بني فناءات النقد وال�شعر والق�صة‪ ،‬بل ع�صية ومتمنعة‪،‬‬
‫تتحكم يف توارد املادة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» و�ضعية‬ ‫وندرك من موقعنا كقراء �أن الكاتب دلف م�سارها‬
‫ت�رسيدية مزدوجة‪ :‬الأ وىل ي�شيد معاملها �سارد ب�ضمري‬ ‫الإ بداعي بان�شغال حذر وقلق ومتوتر وهو يجرتح �أ�سئلته‬
‫الغائب يقف م�شاهدا �أو �شاهدا على ما يحدث ويجري‬ ‫�أو ين�شد رهاناته يف دغل الكتابة ومعرتكها‪ ،‬واعيا مبدى‬
‫من وقائع وتقلبات عا�صفة مب�صائر حيوات �شخ�صياته‪،‬‬ ‫اقتدار هذا اجلن�س �أو ذاك على التعبري عن هذه الق�ضية‬
‫وال�صوغ الق�ص�صي يف هذه احلالة يكون مكر�سا مل�سافة‬ ‫�أو تلك‪.‬‬
‫فا�صلة بني ذاتية ال�سارد ومو�ضوعاته وعوامله‪� ،‬إذ يدين‬ ‫يعود �إبراهيم احلجري بعد �أول �إ�صدار ق�ص�صي م�شرتك‬
‫تفا�صيلها البارزة بعني وا�صفة‪ ،‬وقد يحدث �أن يتعقب‬ ‫(�أبواب مو�صدة) �سنة ‪� ،2000‬إىل فتح دفة �إ�صدار � آخر‬
‫�أثارها املند�سة واملتوارية تلميحا‪� ،‬أو يلتقط غمو�ضها‬ ‫جديد مبجموعة ق�ص�صية ثانية حتت عنوان» ا�ستثناء»‬
‫ومبهمها احتماال‪ ،‬حتى ت�ستوي متخيال يف�شي �صور‬ ‫يف مطلع �سنة ‪ ،2009‬وذلك يف طبعة �أنيقة من احلجم‬
‫واقع م�سرت�سل التف�سخ‪ ،‬عري�ض الآ الم‪ ،‬ت�سحق قدريته‬ ‫املتو�سط عن دار الن�رش مقاربات‪ ،‬وت�أتي هذه املجموعة‬
‫املتغطر�سة �شخو�ص ال�سارد الغفل‪ ،‬وقد يحدث ا�ستثناء‬ ‫الق�ص�صية حبلى مبالمح جتهر بن�ضج �صوت �صاحبها‬
‫�أن تنفلت منه باحثة عن طراوتها وغظاظتها املفتقدة‬ ‫الق�ص�صي‪� ،‬إذ متكن فيها بكل اقتدار من �إحقاق تفرده‬
‫يف «خال�ص م�ؤقت»‪ ،‬ت�شهد عليه عربدة �أو جمون �أو‬ ‫وخ�صو�صيته يف التعامل مع مو�ضوعاته‪� ،‬شخو�صا‬
‫�سكر �أو حلظة لذة مقتن�صة‪ ،‬لكن �رسعان ما ت�ؤوب هذه‬ ‫ولغة وبناء وتخييال‪ ،‬م�شيدا �رصح ذلك التوازن ال�صعب‪،‬‬
‫«التعوي�ضات» ح�سرية حد الفزع‪� ،‬إذ تعود لت�ست�سلم لذات‬ ‫واملت�أرجح بني متاح الأ دوات الق�ص�صية من جهة‪،‬‬
‫القدر مرة �أخرى‪.‬‬ ‫وممكنها على م�ستوى ال�صوغ الر�ؤيوي ابداعيا من جهة‬
‫وتنفذ عرب الو�ضعية الت�رسيدية املزدوجة مادة ق�ص�صية‬ ‫�أخرى‪ .‬ومن هذا املنطلق حاولنا مقاربة مظاهر الت�رسيد‬
‫�شديدة التنوع يف مو�ضوعاتها‪ ،‬وتنزع يف معظمها‬ ‫الق�ص�صي يف تعالقها مبكونات الر�ؤية‪ ،‬التي ا�ستحكمت‬
‫نحو �سرب دقيق ملكمن االن�شغاالت والهواج�س وال�صور‬ ‫يف �صوغ حيز التفاعل بني �أ�سئلة الذات وهموم الواقع‪.‬‬
‫التي �أم�ست مرتتبة عن �رشط معاي�شة الذات ال�ساردة‬ ‫ت�ضم املجموعة «ا�ستثناء» �ستة ع�رش ن�صا ق�ص�صيا‪،‬‬
‫وامل�رسودة لواقع مرتع بفداحات القبح والأ وجاع‪ ،‬هذا‬ ‫ق�صد امل�ؤلف �أن تكون حتت تعاقد ر�أ�سي «ق�ص�ص»‪،‬‬
‫�سواء من موقع ات�صالها الق�رسي واملبا�رش بظواهره‬ ‫يت�ضح توطينه تدوينا على ظهر الغالف �إىل جانب عتبتي‬
‫وم�شاهده‪� ،‬أو يف حلظات انف�صالها عنه عرب منفذ «خط‬ ‫امل�ؤلف والعنوان‪� ،‬أما ما يربو عن ثالثني ن�صا � آخر فقد‬
‫الهروب»‪� ،‬إذا جازت لنا ا�ستعارة هذا املفهوم من جيل‬ ‫�أراد لها �أن تخ�ضع لنمط تعاقدي قرائي مغاير وخمتلف‪،‬‬
‫دولوز‪ ،‬وان�ساللها نحو الكامن يف الداخل‪� ،‬أو احلميمي يف‬ ‫حتيلنا عليه عبارة» ق�ص�ص ق�صرية جدا»‪ ،‬واملثري يف هذا‬
‫ذات الكينونة‪.‬‬ ‫التعاقد �أنه مازال اجلدال وال�سجال حوله على امل�ستوى‬
‫وتف�ضي حتققات الت�رسيد الق�ص�صي يف انثيالها‬ ‫النقدي يفي�ض �صخبا ب�ش�أن �إقرار �رشعيته الأ جنا�سية‪،‬‬
‫وا�سرت�سالها �إىل انتظام مكاين متقلب الوجوه‪ ،‬حيث ترد‬ ‫ولعل امل�ؤلف يرغب من خالله �أن ين�شغل القارئ باختياره‬
‫ق�ص�ص «ا�ستثناء» موزعة مكانيا بني القرية واملدينة‪،‬‬ ‫لهذا النمط التعاقدي‪ ،‬هذا و�إن كان و�ضعه كعتبة ن�صية‬
‫‪280‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫�أو عرب مادة احللم �أحيانا �أخرى‪:‬‬ ‫ف�إىل جانب ما يجرانه خلفهما من حموالت و�أبعاد‬
‫ـ ت�سمح التذكرات واال�سرتجاعات بان�رساب �أمكنة �أخرى‬ ‫مرجعية‪ ،‬ثمة ما ين�أى ب�صورة املكان عن كل تكل�س داليل‬
‫عربها‪ :‬ك�أن تغ�شى ال�سارد يف ق�صة «مغارة احلقيقة»‬ ‫�أو تنميط يف التخييل‪ ،‬فالقرية واملدينة و�إن ح�رضتا‬
‫تلك ال�صورة املتذكرة عن وفاة الأ ب‪« :‬ذكرتني بهواء‬ ‫ك�إطارين مكانيني �شاملني لتجربة احلكي الق�ص�صي‪،‬‬
‫اللحود رائحة الرتاب‪ ،‬عندما �أمرين الفقيه ب�أن �أكون‬ ‫ف�إنهما �رسعان ما ي�ستحيالن يف ترددهما �إىل دوال‬
‫� آخر من ي�ضع ج�سد �أبي داخل اللحد‪�(».‬ص‪ .)38:‬و�أي�ضا‬ ‫مكانية متعددة الوجوه‪ ،‬فتغدو املدينة مدنا‪ ،‬والقرية‬
‫يف ق�صة «امر�أة فوق الطاولة» حيث انتابته ذكرى‬ ‫قرى‪ ،‬ومن هنا تتدفق ا�ستثنائية ح�ضور املكان يف‬
‫جتربة حب قدمي مع «�شمي�سة»‪« :‬كان ع�شق «�شمي�سة» قد‬ ‫انف�صاماته وت�شظياته �إىل �أمكنة �أخرى‪ ،‬وميكن �أن نلم�س‬
‫ا�ستيقظ بداخله فج�أة‪ ،‬انتف�ض دافئا ج�سده ملا ا�ستعاد‬ ‫على �سبيل املثال ال احل�رص يف الق�ص�ص التالية‪« :‬النظر‬
‫�أول مل�سة جل�سدها املكتنز‪�(».‬ص‪� .)13:‬أما يف ق�صة‬ ‫من حتت» و«خطيبته ذات العطر القوي»و«وجهه يف‬
‫«مثل هذا احل�رش» فتتدافع يف ذاكرة ال�سارد و�صايا‬ ‫ال�سوق» و«الر�سام» و«مثل هذا احل�رش»‪ ،‬كيف ي�ستدرجنا‬
‫الأ ب‪ ،‬و�صور �أخرى عن �أيام اجلامعة والن�ضال‪ ،‬و�أول‬ ‫ال�سارد من مكان �إىل � آخر‪ ،‬ومن ركن �إىل � آخر‪� ،‬سواء يف‬
‫عالقة حب‪« :‬تذكر �أيها العربي �أيامك هنا بال�ضبط‬ ‫ف�ضاء القرية �أو املدينة‪� ،‬أو ك�أن يجمع بينهما يف حلظة‬
‫على هذا الع�شب الطري‪� :‬أثار �أقدامكما تراها غائرة يف‬ ‫ا�ستيهام �أو تذكر �أو حلم‪ ،‬وبهذا تغتني املو�ضوعات‬
‫الرثى و�أنت حتاذي تلك التادلوية ال�شقراء التي علمتك‬ ‫املطروقة‪ ،‬و�أي�ضا الر�ؤية الق�ص�صية بقيم ت�أويلية داللية‬
‫�أبجديات الع�شق‪�(»...‬ص‪ .)38:‬والالفت ب�شكل عام يف هذه‬ ‫م�ضافة‪ ،‬ت�سم �إما تناغما �أو تنافرا» كينونة الأ نا ال�ساردة‬
‫الق�ص�ص �أنها جتري يف ف�ضاء املدينة‪ ،‬لكن من خالل‬ ‫واملن�رسدة يف م�سار انفعالها وتفاعلها مع ما يفي�ض به‬
‫دوال مكانية �أخرى‪ ،‬لقد �أم�ست املدينة ب�ؤرة تفي�ض بتلك‬ ‫معي�شها من م�شاهد القبح والتف�سخ‪.‬‬
‫الكثافة الداللية التي تختزنها طبيعة التجربة الذاتية‪،‬‬ ‫وت�شكل الأ مكنة باعتبارها حا�ضنة لتجارب احلكي‬
‫وهنا ال تخفى تقاطعات الزمن ومتف�صالته باملكان وفق‬ ‫الق�ص�صي املختلفة بعدا من �أبعاد الوجود والكينونة‪،‬‬
‫اال�شرتاطات التي حتكم وعي الذات وجتربتها يف احلياة‬ ‫ف�إنها ما فتئت يف «ا�ستثناء» تنفلت عن ذلك التوظيف‬
‫والوجود‪.‬‬ ‫الواقعي الفج‪ ،‬وامل�شيد �أ�سا�سا على وحدة املكان املنغلق‬
‫ـ اقتحام فناءات احللم واال�ستيهام يحدث ت�صدعا وتك�سريا‬ ‫قيميا على البعد الواحد والداللة الوحيدة‪ ،‬فاملدينة‬
‫يف ان�سياب اخلط الت�رسيدي‪ ،‬هذا �إىل جانب ترقي�ش املادة‬ ‫والقرية ا�ستدعيا كيانات مكانية �أخرى بقيم متفاوتة‬
‫الق�ص�صية ب�شطحات تبدو �أقرب �إىل تيار الوعي �أو اللم�سة‬ ‫و�أبعاد ت�صل حد الت�ضاد واملفارقة‪ ،‬وبهذا يجري تن�سيب‬
‫ال�رسيالية‪ ،‬لكن �ضمن اال�ستحداثات املمكنة للجن�س‬ ‫املكان على م�ستوى الر�ؤية الق�ص�صية والتخييلية‪ ،‬ولنا‬
‫الق�ص�صي‪ ،‬وعلى هذا الأ �سا�س مل تعد احليوات الداخلية‬ ‫�أن منعن مثال يف ال�صورة املمنوحة ت�رسيديا لهذه‬
‫لل�شخ�صيات الق�ص�صية مطمورة �أو متوارية‪ ،‬تلفها لبو�سات‬ ‫الدوال املكانية‪ :‬املقهى وال�شارع واجلامعة واحلافلة‬
‫التعتيم‪ ،‬بل غدت م�ستبطنة املكامن‪ ،‬تف�شي ما ميور يف‬ ‫والبار والغرفة وال�سوق وال�ساحات والدروب والأ زقة‪...‬‬
‫�أوارها من �أ�رسار خبيئة �أو منكتمة‪ ،‬وبذاك مينح الت�رسيد‬ ‫حتما �ست�ستوقفنا �سال�سة الربط بني زواياها‪ ،‬و�أي�ضا‬
‫الق�ص�صي للأ مكنة يف «ا�ستثناء»ح�ضورا جوانيا‪ ،‬تتقل�ص‬ ‫تلك املرونة املخ�صبة للمتخيل الق�ص�صي من داخل‬
‫فيه الأ بعاد الهند�سية وترتاجع ل�صالح التجربة الداخلية‬ ‫دغل الأ غوار النف�سية والوجودية‪� ،‬إىل �أن نلج عمقا‬
‫ب�أبعادها الفينومنولوجية‪ ،‬ومن ثم نتحول عن النظر �إىل‬ ‫فنومينولوجيا مدثرا بفي�ض الأ وجاع وانغمارها‪ ،‬كلما‬
‫الأ مكنة يف �صلب �رشوط خرائطية وهند�سية برانية‪ ،‬كما‬ ‫ان�سدل على ال�سارد مفردا وامل�رسود جمعا همر ن�شازات‬
‫تر�سمها فو�ضى الواقعي واملرجعي‪ ،‬فنعمد �إىل متثلها‬ ‫الواقع وقبحه‪.‬‬
‫وفق �صوغ تخييلي يتجاذبه جذل التجربة الداخلية يف‬ ‫ويف �سياق جتليات املكان الق�ص�صي يف«ا�ستثناء»‪ ،‬عرب‬
‫مترت�سها بني �أفياء الوعي والالوعي‪ .‬وب�صورة عامة‬ ‫خ�صو�صية �إمكانات ت�رسيده‪ ،‬ميكن �أن ت�شدنا بوابات‬
‫فالأ مكنة امل�ستدعاة يف احللم واال�ستيهام تكر�س �سمة ذاك‬ ‫انبجا�س الدوال املكانية من خالل انعطافات يف جمرى‬
‫التعدد والت�شظي عرب دوال مكانية ت�سترب مناحي الكينونة‬ ‫التواتر الق�ص�صي‪ ،‬هذه االنعطافات تقدح زندها حم�أة‬
‫الظليلة‪ ،‬فنتمكن من �إدراك املرئي فيها والالمرئي‪.‬‬ ‫التذكر واال�سرتجاع حينا‪� ،‬أو تنفذ عرب �شقوق اال�ستيهام‪،‬‬
‫‪281‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فعلي خم�صب للتوا�صل خطابيا مع الآ خر‪ ،‬هنا تن�شط‬ ‫عند ا�ستجماع م�ؤ�رشات املحكي احللمي يف ق�صة‬
‫ا�ستقراءات عني الذات ال�ساردة حلركات و�أفعال ووقائع‬ ‫«�أ�ضغاث �أحالم» يرتاءى ج�سد الأ نا املن�رسد م�شلول‬
‫عاملها املحيط مبادة الداخل امل�شبعة بالقلق واخلوف‪،‬‬ ‫احلركة يف �ساحة �ضيقة �شبيهة بالقرب‪ ،‬ويف ظل انطمار‬
‫وك�أن ال�سارد بذلك يفتح دواليب اال�ستيهام ليمار�س لعبة‬ ‫حركة اجل�سد تن�شط حركة املكان يف اجتاه اجل�سد‪� ،‬إنها‬
‫�رسدية ت�أخذ يف االت�ساع فور م�صادفتها لتمظهرات‬ ‫حركة مت�سمة بالعنف تتق�صد اجل�سد يف البدء‪� ،‬إذ تغزوه‬
‫اخلارج‪ ،‬حيث تنفلت جتربة الأ عماق والداخل‪.‬‬ ‫بر�شقات الإ �سفلت الال�سعة‪ ،‬ثم يتالحق هذا العنف مغريا‬
‫ويت�صادى يف ق�صة «مغارة احلقيقة» حمكيان اثنان‪:‬‬ ‫منط فعله‪ ،‬الذي ي�صري ق�ضما خال�صا للج�سد‪� ،‬أو لنقل‬
‫حمكي اال�ستيهام وحمكي الذاكرة‪ ،‬ومن خاللهما تن�سج‬ ‫تدمريا كامال له‪� .‬إنها �صورة رمزية عن عدوانية املكان‬
‫معمارية ق�ص�صية يحكمها منطق التوازي‪ ،‬على الأ قل من‬ ‫(تقابلها يف ق�ص�ص �أخرى �صورة حميمية) حتيل على‬
‫حيث البعد املكاين وداللته (املغارة = القرب)‪ ،‬فاملغارة‬ ‫عنف رمزي يح�رض كمعادل لن�شاز وقبح العامل الذي‬
‫م�رسح جتربة ا�ستيهامية‪ ،‬والقرب واللحد ا�ستدعاء خال�ص‬ ‫يحياه مو�ضوعيا الأ نا احلامل من�صهرا بال�رضورة مع‬
‫لذكرى وفاة الأ ب‪ ،‬وبني حدث دخول ال�سارد وخروجه‬ ‫الأ نا املحلوم به(‪ ،)1‬ويف م�شهد � آخر من احللم ينبج�س‬
‫من املغارة تتالحق الأ حداث كثيفة‪ ،‬بدءا من �إح�سا�س‬ ‫�رصيحا م�ؤ�رش عجز �أنا احللم عن مواجهة ذات العامل‪� ،‬إذ‬
‫ال�سارد بالده�شة نحو ثالثة �أمكنة‪ :‬املغارة واجلامعة‬ ‫اكتفي فقط بال�رصاخ والوجع والأ مل‪.‬‬
‫والبنايات ال�ضخمة وال�شاهقة‪� ،‬إال �أن دخول املغارة يف‬ ‫وانعطف الت�رسيد احللمي يف «�أ�ضغاث �أحالم» �إىل عامل‬
‫حد ذاته هو مغامرة ا�ستيهامية مقرتنة بالبحث عن‬ ‫كابو�سي خميف‪ ،‬تتوج�س فيه الأ نا احلاملة وهي نف�سها‬
‫حقيقة الذات يف قلب هذا املكان العتيم‪ ،‬وهنا يرتاءى‬ ‫الأ نا املحلوم بها من مالحقة ال�رشطة لها على �إثر ن�شاط‬
‫كيف يتوازى مرة �أخرى البحث يف املكان مع البحث يف‬ ‫ن�ضايل يف �صفوف الطلبة يف اجلامعة‪ ،‬وتنتهي املالحقة‬
‫الذات(مغارة احلياة)‪ ،‬كما تطفو تخييليا �صورة املكان‬ ‫ب�شكل فجائي بتواجدها يف زنزانة ال�رشطة‪ ،‬وهو مكان‬
‫املبدي عن عنفه وعدوانيته‪« :‬حت�س�ست قدمي احلافيتني‬ ‫بدا مفرط الفظاعة‪ ،‬وهنا مرة �أخرى ينجلي عنف املكان‪،‬‬
‫طعم املغارة‪ .‬كان �صلدا وخ�شنا و�صعب الوطء‪.‬ل�سعتني‬ ‫الذي ع�ضده ال�سارد تنا�صيا بالإ حالة على ف�ضاء الزنزانة‬
‫حبيبات رملية �ضخمة‪ .‬فتلك�أت مت�أملا‪�(».‬ص‪،)38 :‬‬ ‫يف رواية»جنمة �أغ�سط�س» ل�صنع اهلل �إبراهيم‪ ،‬لكن كعتبة‬
‫ثم ت�أخذ معامل املكان يف االنح�صار وال�ضيق (�ضاقت‬ ‫�أدنى مقارنة بزنزانة ال�رشطة يف احللم‪.‬‬
‫امل�سالك يف وجهي)‪ ،‬بعد ذلك تتوقف حركة ال�سارد عن‬ ‫�إن عنف الأ مكنة احللمية يدنينا من العنف الكامن يف غمر‬
‫البحث(فتوقفت)‪ ،‬هنا تع�رس الر�ؤية وي�ستحيل البحث �إىل‬ ‫احلياة الداخلية‪ ،‬ويقابله عنف من نوع � آخر يف ق�صــة»‬
‫تيه و�ضياع‪ .‬وتبقي الق�صة على كثافتها‪ ،‬فينفجر �أ�سى‬ ‫وجهه يف ال�سوق»‪ ،‬ف�إذا كان الأ ول يتم مب�ؤ�رشات رمزية‬
‫ال�سارد يف خ�ضم تهاوي وتداعي املكان كليا على ج�سده‬ ‫�إ�ستعارية(‪)2‬يف مادة احللم‪ ،‬ف�إن الثاين يتم بالقيا�س �إىل‬
‫يف م�شهد يح�رش فيه الأ موات غا�ضبني‪ ،‬وينغلق طوق‬ ‫العامل اخلارجي(املدينة الغول)‪ ،‬حيث العنف �صورة من‬
‫اال�ستيهام با�ستحالة اخلال�ص‪ ،‬و�أي�ضا بالعودة �إىل نقطة‬ ‫�صور القبح التي يتدثر بها العامل‪« :‬ا�ستقبلني املدخل‬
‫البدء وبنف�س الفعل امل�ؤ�س�س لها‪« :‬وجدتني فج�أة وجها‬ ‫الق�صديري بنتانة فظيعة تنبعث من قنوات الواد احلار‬
‫لوجه �أمام بوابة املغارة‪�(».‬ص‪« = )38:‬وجدتني واقفا‬ ‫املك�شوفة‪ .‬تطفو على �سطحها �أنواع القمامات‪ .‬قوافل‬
‫�أمام باب املغارة‪.)39( ».‬‬ ‫ال�رصا�صري و�رساق الزيت واجلرذان تنغل على جذران‬
‫يتمطى حمفل الكتابة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» زاحفا‬ ‫الأ كواخ احلقرية‪� .‬أمام الأ كواخ وجوه مغلفة بتجاعيد قهر‬
‫ومتمرت�سا يف جيوب الأ مكنة املهملة واملهم�شة‪ ،‬حيث‬ ‫مكتوم تعر�ض �أمامها ب�ضاعة و�ضيعة»(�ص‪.)47:‬‬
‫يجري التقاط تفا�صيل القبح واالبتذال والتف�سخ‪ ،‬ففي‬ ‫ـ تتخلل امل�ضامني الإ �ستيهامية ق�ص�ص عديدة يف‬
‫ق�صة «مقام � آخر الزمان»‪ ،‬على �سبيل املثال ال احل�رص‪،‬‬ ‫«ا�ستثناء»‪ ،‬وقد �ساهمت بدورها يف انتيال دوال مكانية‪،‬‬
‫خري دليل على ذلك‪� ،‬إذ ترتاءى �شخ�صية «�سليمان‬ ‫ا�ستمدت كثافتها من كينونة ذات �ساردة ومن�رسدة‬
‫ال�سويحلي» �رشيدة وتائهة‪ ،‬تتقاذفها فو�ضى املكان‬ ‫�ضاجة بالقلق واخلوف والتوج�س‪ .‬و�إذا ت�أملنا ق�صة‬
‫العارمة‪ ،‬والأ كرث من ذلك �أنها تل�سع وعيه ب�إح�سا�سات‬ ‫«حوار الأ عني» �سوف ي�ستوقفنا اعتماد احلكي الق�ص�صي‬
‫فظيعة باحلرمان‪ .‬وبهذا يغدو الهام�ش واملهم�ش مكمنا‬ ‫على لغة االحتمال واالفرتا�ض والتكهن‪ ،‬يف ظل غياب‬
‫‪282‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫حني يبقى امل�ستقبل هالميا ومعلق التطلعات‪ ،‬ال يعد ب�شيء‬ ‫متفتقا ب�أنطلوجيا الوجع‪ ،‬يف ذات الوعي ال�شقي‪.‬‬
‫على الإ طالق‪� ،‬سوى بهواج�س موجعة ووعي �أ�سيان‪.‬‬ ‫وميكن �أن ترتد �إلينا نف�س ال�صورة املتخيلة عن هام�شية‬
‫تراهن الكتابة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» على ذلك احلد‬ ‫املكان يف ق�صة» النظر من حتت»‪ ،‬لكن لي�س باملنظور‬
‫الأ دنى من االمتالء يف اجل�سد الق�ص�صي‪ ،‬من خالل‬ ‫املركز على الفرد‪/‬الذاتي فقط بل ميتد القهر والب�ؤ�س �إىل‬
‫ا�ستح�ضار كثافة احلكاية عرب �رشوطها املكانية‬ ‫اجلماعة‪/‬املو�ضوعي �أي�ضا‪ ،‬ف�إذا ا�ستقر�أنا املقطع املعنون‬
‫والزمانية‪ ،‬و�أي�ضا عرب طبيعة �شخو�صها ولغتها‬ ‫ب» ف�ضاء هام�شي جدا» حيث انوجاد ال�سارد الغفل‬
‫ومتخيلها‪ .‬كما ال تفقد ق�ص�ص الكاتب انغرا�س ق�سمات‬ ‫يف ف�ضاء القرية‪ ،‬التي بدت يف ن�أيها معزولة ومهم�شة‬
‫توترها ال�رسدي(‪ ،)5‬واملتولد عن عالقات مت�شعبة بني‬ ‫ومتهالكة‪ ،‬تزداد حمنة �أهلها بظروف الطبيعة القا�سية‪،‬‬
‫الذات ال�ساردة وذاتها‪� ،‬أو مع عاملها‪ ،‬وي�ضفي التوتر من‬ ‫ويف �سياق عالقة الذاتي باملو�ضوعي ال يح�صد ال�سارد‬
‫خالل عملية احلبك يف م�سار الأ حداث �أثرا ديناميا ت�سفر‬ ‫يف وعيه باملكان �سوى التياعه باحل�رسة واخليبة‪ ،‬ومن ثم‬
‫عن جماليته تلك االنتظارات‪ ،‬والتي تو�سم يف الغالب‬ ‫ال ندرك جغرافيا املكان �إال �ضمن �رشط �إبداعي هو �رشط‬
‫بالاليقني‪ ،‬ملا �سي�ؤول �إليه احلبك ودرجات تعقده‪ ،‬وال‬ ‫وعي الذات بها‪ ،‬وبهذا تن�أى هذه اجلغرافيا عن ذلك التمظهر‬
‫تخفى م�ساهمة التوتر يف بنينة فعل التلقي ذاته‪.‬‬ ‫الرباين ك�أ�شكال هند�سية‪ ،‬وت�صري �أكرث �إيغاال يف جتارب‬
‫الذات ومفازات كينونتها يف عاملها ذاك‪� .‬إذ» ال يرجع‬
‫وب�صورة عامة ف�إن اقت�صادية العامل الق�ص�صي لدى‬
‫الإ ن�سان �إىل العامل رجوع الذات �إىل املو�ضوع‪� ،‬أو العني‬
‫«احلجري» تبقى ذات مرونة خفية‪ ،‬ال ميكن مالم�سة‬
‫�إىل اللوحة‪ ،‬وال حتى كاملمثل �إىل ديكور خ�شبة امل�رسح‪.‬‬
‫خ�صو�صيتها الفنية �إال عرب تعقب ال�سارد يف و�ضعيتيه‪،‬‬ ‫�إن الإ ن�سان والعامل مرتبطان ارتباط احللزون ب�صدفته‪:‬‬
‫و�ضمن عامل غا�ص بالقبح والتناق�ض والعنف‬ ‫فالعامل ي�ؤلف جزءا من الإ ن�سان‪� ،‬إنه بعده‪ ،‬وبقدر ما يتغري‬
‫واالنك�سار‪ ،‬ت�ستن�سخ مناذجه الب�رشية امل�صطلية بوهج‬ ‫العامل يتغري الوجود(الكينونة‪ -‬يف – العامل)»‪.)3(.‬‬
‫دائه وا�ست�شاطة عدواه‪ .‬وقد تكرر بع�ضها بحكم �سيطرة‬ ‫وعلى هذا الأ �سا�س تلج الكتابة الق�ص�صية عند «احلجري»‬
‫قدر م�أ�ساوي على م�صري حيواتها‪ .‬و�أمام هذا العامل‬ ‫العوامل الهام�شية متجاوزة احلاجز الر�سمي بخطاباته‬
‫املتهاوي ال�رصوح يف قيمه ومعانيه‪ ،‬ال يلوح الكون‬ ‫و�صوره وكرنفاليته‪ ،‬كي حتتفي به كح�ضور ال ميكن طم�س‬
‫نخرا �أو فارغا‪� ،‬أو حتى فاقدا لكل معنى‪� ،‬إنه بكل ب�ساطة‬ ‫ما يبوح به من اختالف يف جغرافيا الكتابة الأ دبية‪،‬‬
‫ف�ضاء ع�صي ومتمنع عن �سيطرة الذات ال�ساردة‪ ،‬كي يكون‬ ‫وبذلك مينح الكاتب �رشعية �إبداعية تنفذ منها الفئات‬
‫بحجم �أحالمها وتطلعاتها وجنونها‪ ،‬وب�صورته تلك يغدو‬ ‫املهم�شة واملن�سية واملهملة خارطة املتخيل ال�رسدي‪.‬‬
‫م�شاك�سا ومنفلتا يف ت�سيبه وفو�ضاه‪ ،‬يتعذر تغيريه �أو‬ ‫و�إذا كانت «خربة الإ ن�سان باملكان و�إدراكه له يختلفان‬
‫عقد م�صاحلة معه‪ ،‬ما دام تداعيه ممعنا يف الت�سارع نحو‬ ‫عن خربته و�إدراكه للزمان‪ ،‬فبينما يدرك الزمان �إدراكا‬
‫ال�ضياع بو�صفه املولد احلقيقي مل�شاعر اخلوف والقهر‪،‬‬ ‫غري مبا�رش من خالل فعله يف الأ �شياء‪ ،‬ف�إن املكان يدرك‬
‫ومن ثم يرتد برتاجيعه ال�صاخبة على الكينونة ال�ساردة‬ ‫�إدراكا ح�سيا مبا�رشا‪ ،‬يبد�أ بخربة الإ ن�سان جل�ســــده‪،)4(».‬‬
‫واملن�رسدة ب�أوجاع قريرة وعري�ضة ومفرطة‪.‬‬ ‫على هذا الأ �سا�س يرت�سم املكان يف» ا�ستثناء» وفق‬
‫الهوام�ش‬ ‫ت�رسيد ق�ص�صي يك�شف عن توا�صل زمني معه‪ ،‬فال مكان‬
‫‪.conter les rèves :Jean daneil gollo,Ed.José corti,1993,p.206‬‬ ‫‪-1‬‬ ‫بدون زمانه‪� ،‬إذ تختلف �إيقاعات التجربة الذاتية بح�سب‬
‫‪ -2‬لأ ن كلمة «ر�أت» التي بها يعلن احللم عن نف�سه ال حتيل على»�رشوط‬ ‫انتظامات الزمن‪ ،‬وما ي�سبغه عليها من �أبعاد‪.‬‬
‫حقيقية للم�شاهدة الفزيائية‪� ،‬إنها طريقة يف التكلم‪ .‬لأ ن الإ �ستعارة هي‬
‫الأ داة الوحيدة بدون �شك التي يتوفر عليها وعي املتكلم كي ي�صف النظام‬ ‫يغدو املا�ضي بظالله امل�شتل الذي تنهل منه الذاكرة‬
‫الذي يحــــتجز بوا�سطته احللم‪:».‬‬ ‫ال�رسدية �صورها احلميمة واملوجعة يف نف�س الآ ن‪� ،‬أما‬
‫‪.conter les réves :p.245 -‬‬ ‫احلا�رض فقد ا�ستفحلت مكابداته والتفت م�سالكه و�أم�سى‬
‫‪ -3‬فن الرواية‪ :‬ميالن كونديرا‪ :‬ترجمة‪،‬بدر الدين عرودكي‪� ،‬إفريقيا‬ ‫انحالله را�سخا ومتجدرا‪،‬ال تقوى الذات على مواجهته‬
‫ال�رشق‪� ،2001،‬ص‪.39/36 :‬‬
‫‪ -4‬م�شكلة املكان الفني‪ :‬يوري لومتان‪ :‬ترجمة وتقدمي‪� ،‬سيزا قا�سم‪ ،‬عيوم‬ ‫وتغيريه‪ ،‬اكتفت فقـــط بجعله مرئيا‪ ،‬عـلى نحو ما عــبـــر‬
‫املقاالت‪ ،‬حمور جماليات املكان‪ ،‬العدد‪� ،8‬سنة ‪�،1987‬ص‪.59 :‬‬ ‫عنه «كونراد» بقوله‪� »:‬إن مـــهمتي هي �أن �أجعلك ترى»‪،‬‬
‫‪.la tension narrative :Raphael baroni,paris,seuil,2007‬‬ ‫‪-5‬‬ ‫وبغ�ض النظر عما �إذا كان العامل الذي نراه حمببا �أم ال‪ ،‬يف‬
‫‪283‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ف�ضيلة الفاروق بني التاء املربوطة‬


‫والتاء املفتوحة موت يف تاء اخلجل‬
‫عبد الرحمان تربما�سني‬
‫ناقد و�أكادميي من اجلزائر‬

‫البنت رمبا تعي�ش يف قلق �أكرث مما تعي�ش يف راحة‪.‬‬ ‫بني الربط والفتح ق�ضية و�رصاع �ضحاياه يف الدرجة الأ وىل‬
‫يف الربط والت�صفيد تكمن احلياة واملوت‪ ،‬فهي حية كج�سد‬ ‫ن�سوة وبن�سبة �ضعيفة وهام�شية رجال! وبني الربط والفتح‬
‫وانفعال لكن جزءا من هذا اجل�سد ميت م�صفد لأ نها ال متلك‬ ‫موت! لذا �أود �أن �أنقلكم �سادتي �إىل عامل � آخر عامل ي�شبه املوت‬
‫حريته متحكم فيه يف غالب الأ مر من �شخ�صية من�سية �أو‬ ‫�إن مل يكن املوت نف�سه‪� .‬إنه عامل الربط والت�صفيد‪ .‬يف حدود‬
‫جمهولة و�إن كانت معروفة فهي عر�ضة للق�ضاء والقدر‪� ،‬أما‬ ‫قراءاتي املتوا�ضعة يبدو يل �أن ف�ضيلة �أول من تعر�ض لهذه‬
‫�إن كانت البنت ال تعلم ف�إن �أو�ضاعها عر�ضة للت�أزم يوم‬ ‫الق�ضية يف عامل الإ بداع ق�ضية الت�صفيد‪« ،‬ما �أب�شع �أن تكون‬
‫زفافها ويوم دخلتها‪ ،‬و�إن كانت تعلم بحالها فقد تت�شجع‬ ‫(‪)1‬‬
‫الواحدة منا عرو�سا»‪.‬‬
‫على حتدي الرجال وي�صبح الأ مر لها لعبة وت�صري عالمة‬ ‫لذا حري بي �أن �أت�ساءل عن تاء اخلجل هل هي مربوطة �أم‬
‫دالة بني الذكور‪ ،‬وما كان �شبحا خميفا بالن�سبة للأ هل ي�صري‬ ‫مفتوحة؟‬
‫واقعا‪.‬‬ ‫يف �أ�صل تكونها ون�ش�أتها ويف الفرتة ت�أبى �أن تكون �إال‬
‫هذا هو اخلوف الذي �أرق الروائية وجعلها ترف�ض مثل هذه‬ ‫مفتوحة �إذ كل التاءات الدالة على الت�أنيث والواردة يف القران‬
‫التقاليد التي تقيد كل �شيء ال ي�سلم منها ال املر�أة وال الرجل‬ ‫جاءت مفتوحة �إال تاء (ال�صلوة‪/‬ال�صالت)‪.‬‬
‫وال يعني ذلك دعوة منها لإ ثارة الفتنة �أو ن�رش الرذيلة‬ ‫�أما تاء اخلجل فيبدو يل �أنها يف حرية من �أمرها لأ نها‬
‫�إمنا ال�صورة امللعونة التي تتهي أ� لها الن�ساء بقلوب واجفة‬ ‫عر�ضة للو�أد من حني لآ خر‪ ،‬ولذا فهي تعي�ش حالة ا�ضطراب‬
‫مرجتفة مرتقبة‪ ،‬ثوب العرو�س وفحولة الذكورة‪ ،‬و�إعالن‬ ‫والالا�ستقرار بني الربط والفتح‪ ،‬بني من �شئن ان تكون‬
‫النحر املوفق‪ ،‬و�إال كانت الكارثة بني الأ �رستني �أ�رسة العري�س‬ ‫مربوطة ومن �شاءوا �أن تكون مفتوحة‪ .‬في�ؤول بها الأ مر �إىل‬
‫و�أ�رسة العرو�سة لذا تقول الكاتبة «ما �أب�شع �أن تكون الواحدة‬ ‫املوت غدرا �أو اغت�صابا �أو انتحارا‪ ،‬ويف البدء كان الو�أد‪[.‬‬
‫منا عرو�سا»‪ .‬هذا هو املوت الأ ويل‪ ،‬واملوت احلقيقي لكال‬ ‫�إن تاء اخلجل �إن كانت مفتوحة كما يوحي العنوان باعتباره‬
‫الطرفني وهال ترك النا�س على فطرتهم بال �سحر وال �شعوذة‪.‬‬ ‫مفتاح الولوج �إىل عامل الن�ص‪ ،‬ف�إن املنت يوحي ب�أنها‬
‫�إنه التعدي الأ ول واالنتهاك احلقيقي جل�سد الأ نثى والتعدي‬ ‫مربوطة‪ ،‬وال تفتح �إال بحل �سحري‪ ،‬و�سبب ربطها؛ اخلوف من‬
‫الثاين على كرامة الرجل الذي وبال �شك �سي�صري حمل ال�شبهة‬ ‫العار‪ ،‬واالغت�صاب‪ ،‬والعهر‪ ،‬ويف ذات الوقت هذا الربط يحمل‬
‫بني �أقرانه لأ ن فحولته انحنت �أمام الأ نوثة‪ ،‬و�أن الأ نوثة‬ ‫ثنائية‪ :‬خفية ‪/‬ظاهرة ومتناق�ضة‪ ،‬وثنائية املوت واحلياة‪،‬‬
‫حتولت �إىل جدار �أنهك قواها العقلية واجل�سدية (ال�ضمري يعود‬ ‫فالربط والت�صفيد يحمي البنت من احلل والفتح من ال�شاب‬
‫على الأ نوثة)‪� .‬أي ثقافة هذه التي تئد الأ ج�ساد وهم �أحياء‪،‬‬ ‫غري املنا�سب وغري الزوج ال�رشعي‪ ،‬وحتى الزوج ال يقوم‬
‫هذا هو املوت الأ ول الذي ميار�س بني التاء املربوطة والتاء‬ ‫بالفتح �إال بعد �أن يبطل مفعول ال�سحر ف�أول الفتح ي�أتي من‬
‫املفتوحة ال ل�سبب �سوى تاء اخلجل �أن تكون �أنثى‪ ،‬موت وقتل‬ ‫قبل من قامت بال�سد والغلق ثم ي�أتي دوره‪.‬‬
‫ميار�سه الأ هل �ضد �أبنائهم‪ ،‬وهو نوع من الإ رهاب اخلفي قبل‬ ‫والتناق�ض يتمثل يف ت�شجيع البنت ‪ -‬الال مق�صود‪-‬‬
‫�أن يقوم الإ رهاب احلقيقي مبمار�ساته‪.‬‬ ‫على املعا�رشة الربانية مع من حتب لأ نها تعلم‪�/‬إن‬
‫�إن ف�ضيلة كمبدعة حتمل ر�سالة ح�ضارية م�شفرة تبثها من‬ ‫علمت[[ �أن الولوج ي�ستحيل مادامت م�صفدة وكل‬
‫خالل ن�صو�صها ت�ستنفر فيها القوم‪ ،‬وترد �صورا �شتى جل�سد‬ ‫احل�سابات مبنية على الولوج فتنحرف البنت وت�صبح‬
‫الأ نوثة وما يفعل به وقد تقوم هي مبمار�سة فعل املوت على‬ ‫لعوبة‪ ،‬وهذا الأ مر ال يح�سب له من قبل الأ هل وبالأ حرى‬
‫بع�ض �أبطالها وت�ستثني من حتب وذالك من �أجل لفت انتباه‬ ‫الأ م‪� ،‬إ�ضافة �إىل بع�ض العواقب الثانوية التي جتعل‬
‫‪284‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫برميها من �أعلى ج�رس يف البالد العربية ج�رس»�سيدي مْ�سيد»‬ ‫�أفراد املجتمع �إىل ما يحيط بهذا اجل�سد املنهوك الذي ترعبه‬
‫بق�سنطينة‪.‬‬ ‫ليلة الفرح‪.‬‬
‫هذه ق�سوة الأ هل �ضد املغت�صبات ولو يف �سن مبكر‪� ،‬سن‬ ‫�إن الربط والت�صفيد هو نوع من االغت�صاب اخلفي الذي‬
‫ال�صغريات‪« .‬ميينة» الكربى رف�ضها �أهلها ومل يعرتفوا بها‬ ‫يعد موتا م�ؤقتا �أو خفيا‪ ،‬موت ب�شع لأ نه ي�أتي من ثنائية‬
‫رغم علمهم ب�أنها خطفت و�أمام �أعينهم‪ ،‬وملا زارها �أخوها‬ ‫االغت�صاب والت�صفيد الذي مل يهتم به املجتمع لي�رشع‬
‫اجلندي وجدها قد ماتت‪ .‬فالروائية مار�ست فعل القتل واملوت‬ ‫له قوانني رادعة حتمي اجل�سد املنهوك‪ ،‬وب�شع لأ نه يحمل‬
‫على «ميينة» حلظات ق�صرية قبل دخول �أخيها الذي ‪-‬رمبا‪-‬‬ ‫ثنائية �ضدية حائط الأ نوثة وانحناء الذكورة‪ ،‬والتهمة ثنائية‬
‫�سيعرتف بها ويرفع من معنوياتها لأ نه من اجليل اجلديد لكن‬ ‫ت�شكيك يف عفة الأ نوثة ويف فحولة الذكورة التي مل ت�ستطع‬
‫الكاتبة مل متكنه من ذلك‪ ،‬لأ نها متار�س فعل املجتمع وتعك�س‬ ‫�إجناز الفتح‪ .‬تقول الراوية‪ :‬تقرتب �سهام ابنة عم البطلة منها‬
‫واقعه ومعتقداته وثقافته عرب �صفحات الرواية‪.‬‬ ‫وتو�شو�ش لها‪:‬‬
‫ورغم ذالك فف�ضيلة الفاروق تبحث عن «هواء ال متل�ؤه‬ ‫هل ر�أيت العرو�س‪ ،‬كانت م�صفحة (�ص‪)26‬‬
‫رائحة االغت�صاب»(‪ )4‬كما تقول‪ ،‬وال روائح املوت‪� ،‬إذن البد‬ ‫(‪)2‬‬
‫مل ترد عليها‪ .‬تقول‪ :‬كرهت نف�سي وكرهت منظر الن�ساء‪.‬‬
‫من «الرحيل» والرحيل يف حد ذاته موت لأ نه يعادل البقاء‪،‬‬ ‫�إن احلديث عن امل�صفحات(‪ )3‬وتخليده يف �صفحات الرواية‪،‬‬
‫والبقاء موت‪.‬‬ ‫يعد قلقا ح�ضاريا يثري الوجع! و�سبقا �رسديا و�سمة حميدة‬
‫�إن البقاء يف اجلزائر يف الت�سعينيات من القرن املا�ضي‬ ‫حت�سب لف�ضيلة الفاروق‪ .‬لذا قمت با�ستبيان يف �شهر �أبريل‬
‫ي�ساوي االنتحار �أو املوت ومن ثم فالبقاء بالن�سبة للأ نثى‬ ‫�سنة‪ 2007‬على عينة �ضمت �ستني طالبة كانت الإ جابة من‬
‫املبدعة كف�ضيلة �أو �أي �صحفية �أو كاتبة جريئة معناه‬ ‫ثمان وخم�سني وكانت النتائج كالآ تي‪:‬‬
‫االنتحار �أو املوت ومن ثم تكون املعادلة كالآ تي‪:‬‬ ‫‪ 76.3‬باملائة ال ي�ؤمن بالت�صفيد‬
‫الت�صفيد = املوت‬ ‫‪ 92.72‬باملائة ال يعانني من الت�صفيد‬
‫البقاء = االنتحار‬ ‫‪ 60‬باملائة ال ير ينه واقيا‬
‫البقاء = االغت�صاب‬ ‫‪ 94.54‬يف�ضلن الرتبية ال�صاحلة على الت�صفيد‬
‫البقاء = املوت غدرا‬ ‫‪ 29.09‬منهن م�صفدات ( الن�سبة مرتفعة يف نظري كمثقف)‬
‫الرحيل = ثنائية �ضدية البقاء واملوت‪.‬‬ ‫ن�سبة اخلوف من عقدته بلغت ‪ 40‬باملائة‬
‫�إن الرحيل هو نوع من املوت لأ ن احلياة يف بالد الغري هي‬ ‫املالحظة الإ يجابية التي توقفنا عندها هي �أن‪83.63‬‬
‫كاملوت مهما توفرت �سبل العي�ش احل�ضارية‪ ،‬فرائحة الرتاب‬ ‫باملائة يرف�ضن الت�صفيد مما ي�ؤيد ر�أي الكاتبة «ما �أب�شع‬
‫والأ هل والتوابل الروحية التي تنبثق من هنا وهناك ومن‬ ‫�أن تكون الواحدة منا عرو�سا‪ ،‬و�أن ن�سبة اخلوف على البنت‬
‫خمتلف ت�ضاري�س هذا الوطن هي التي تنع�ش النف�س وتدفع‬ ‫تكون لدى الأ م باعتبارها هي التي تقوم بالت�صفيد فالالئي‬
‫عنها احلزن ولو كانت احلياة �شاقة‪.‬‬ ‫�صفدتهن �أمهاتهن بلغن ‪ 37.5‬باملائة ثم العمة ‪15.50‬‬
‫الرحيل هو نوع من املوت الثاين‪ ،‬وهو نوع من االحتجاج‬ ‫باملائة‪.‬‬
‫على ما هو �سائد يف الوطن يف الت�سعينيات من القرن املا�ضي‬ ‫و�أخري ف�إن ن�سبة ‪ 60‬باملائة من البنات ال يعلمن ب�أنهن‬
‫(‪� 1991‬إىل ‪ 2007‬لأ ن املوت بفعل الإ رهاب مل ينته بعد)‪.‬‬ ‫م�صفدات وهذا قد يثري قلقا لديهن ورمبا ن�ستنتج �أي�ضا �أن‬
‫يف هذه املعادلة يغدو الرحيل وما فيه من ال�ضجر والقلق‬ ‫احلوار بني الأ م والبنت يكون حمط ال�س�ؤال مادامت هذه الن�سبة‬
‫النف�سي واحل�رسة التي ت�صحب هذا الرحيل �ألأ ف�ضل من البقاء‬ ‫جتهل �إن كانت م�صفدة �أو غري م�صفدة‪ ،‬وهي ن�سبة تثري القلق‬
‫املحاط بالثالثي امللعون‪:‬‬ ‫مبعنى �أن املوت يحيط باجلو الأ �رسي و�أن التوا�صل الذي‬
‫‪ - 1‬املوت غدرا بر�صا�صة طائ�شة‪� ،‬أو بر�صا�صة تنطلق من‬ ‫يحيي النفو�س ينعدم‪ ،‬ال �أقول هذا الذي تق�صده الكاتبة �إمنا‬
‫م�سد�س جبان لأ نه ال يقوى على املواجهة الند للند فكرا‬ ‫هذا مدار الرعب بني التاء املربوطة والتاء املفتوحة‪.‬‬
‫وبدنا‪.‬‬ ‫تقوم الرواية مبمار�سة فعل القتل عن طريق الأ ب على �أ�صغر‬
‫‪ -2‬االغت�صاب حتت �سلطة «املح�شو�شة» وال�سيف امل�سلط‬
‫(‪)5‬‬
‫�أنثى م�رشوع بناء الأ �رسة «رمية» ال�صغرية التي اغت�صبت من‬
‫على الرقاب وما �شابه ذلك‪.‬‬ ‫قبل رجل �أحدب وق�صري يف الأ ربعني من عمره يقوم والدها‬
‫‪285‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يكون غائبا‪ ،‬رمبا لأ ن الأ ذن تع�شق قبل العني �أحيانا‪.‬‬ ‫‪ -3‬االنتحار �سببه يف الرواية‪ :‬ال�سبي واالغت�صاب عنوة‪،‬‬
‫�إذن رف�ض ف�ضيلة فيه من الأ �صالة ما يبني ال ما يهدم لأ ن‬ ‫والفعل القبيح �أمام اجلمع متى رف�ضت احلرة االمتثال‬
‫فيه من احل�شمة ما يدل على ذلك‪.‬‬ ‫لرغبات اخلاطفني‪.‬‬
‫ف�ضيلة يف روايتها مار�ست كل �شيء‪ ،‬مار�ست احلب‪ ،‬والقتل‬ ‫وف�ضيلة تعالج يف روايتها ق�ضية الأ نثى اجل�سد املنهوك ال من‬
‫والرحيل‪� ،‬أي جنون هذا الذي تفعله هذه الروائية ال�صاعدة‪.‬‬ ‫زاوية ت�سلط الذكور على الإ ناث‪ ،‬و�إمنا من زاوية امر�أة تنتمي‬
‫كيف لعا�شقة(‪ )6‬كالراوية تع�شق ن�رص الدين وتعمل جاهدة‬ ‫بجذورها العميقة يف التاريخ �إىل جمتمع كانت ال�سيادة فيه‬
‫على �إبعاده عن القتل ويف ذات الوقت تقتل �أبطالها وتبكيهم‬ ‫للمر�أة �أيام «ديهيا»‪\.‬‬
‫وجتننهم وتتلذذ بجنونهم تلذذ الكتابة الإ بداعية �أو ترحلهم‬ ‫ف�ضيلة ككل الأ ورا�سيات الالئي ن�ش�أن يف الريف يع�شن بعقلية‬
‫هذا ما تقوله يف �صفحة ‪« 87‬قتلت كل �أبطايل تقريبا مل يبق‬ ‫«ديهيا» التي �أخت�رصها يف هذا املثل البليغ القائل» ميا بابا‬
‫غري ن�رص الدين �أبعدته �أكرث من مرة عن املوت اخرتعت له‬ ‫�ساكو ي�شور\\» �أي ما معناه «ملء اخلزينة �أبي و�أمي»‪.‬‬
‫�ألف �سبب للقائي ولكن بطلتي التي ارتديت قناعها مل تعد‬ ‫�إن متردها �أو رف�ضها جاء نتيجة وراثية ال كنتيجة مكت�سبة‬
‫تفكر باحلب �صارت تفكر بالرحيل‪».‬وهذا القول جعلني �أخل�ص‬ ‫من التعليم املزدوج �أو من املدينة‪ ،‬جاء من بيئتها الأ ورا�سية‬
‫�إىل م�صري ال�شخ�صيات يف تاء اخلجل والذي حددته بني التاء‬ ‫اجلبلية التي منحت للمر�أة ال �أقول هام�شا وا�سعا من احلرية‬
‫املربوطة والتاء املفتوحة وهو‪« :‬رزيقة» انتحرت‪« ،‬ميينة»‬ ‫و�إمنا حرية تامة‪.‬‬
‫املغت�صبة ماتت و«ميينة» ال�صغرى �أخر�صت بفعل �أمر من‬ ‫�أنا ال �أحتدث عن التحرر و�إمنا عن احلرية كان الرجل يف‬
‫والدتها» ‪(« tais toi yamina‬مبعنى ا�صمتي) و�سكتت �إىل الأ بد‬ ‫الأ ورا�س يقد�س املر�أة كما قد�سها الإ �سالم ويحرتمها و�سن‬
‫وهذا ما يج�سد فعل القمع املمار�س �ضد الأ نثى‪� .‬أما «راوية»‬ ‫لذلك قوانني هي مبثابة العرف يف القانون املدين احلايل‪،‬‬
‫فجنت وهذا نوع من �إ�سقاط الذات الفنية على �شخو�صها �إذ‬ ‫ميكن املر�أة من ممار�سة �ش�ؤونها بكل حرية دون �أن يعرت�ضها‬
‫البد «لراوية» �أن جتن ليكتمل فعل الق�ص والإ بداع و�إال ف�إن‬ ‫الرجل ولو بنظرة‪� .‬أ�أكد لكم جازما �أن هذه احلرية هي التي‬
‫ف�ضيلة الفاروق �ستخ�رس فعل ال�رسد �إىل الأ بد وينتهي فعل‬ ‫جعلت ظاهرة الطالق وهو �أبغ�ض احلالل عند اهلل يكون �سهال‬
‫الق�ص وال نتمكن من قراءة «اكت�شاف الهوة»‪.‬‬ ‫يف املناطق الأ ورا�سية‪ ،‬وقد تطلق املر�أة الرجل طبقا للمثل‬
‫الهوام�ش‬ ‫ال�سابق الذي �أوردته يف معر�ض حديثي عن التمرد واحلرية‪،‬‬
‫‪ -1‬ف�ضيلة الفاروق‪ :‬تاء اخلجل (رواية) دار الري�س بريوت �ص‪26‬‬ ‫لذا فهي تنظر �إىل القمع االجتماعي الواقع على املر�أة من‬
‫\ ‪ -‬املجتمعات العربية كانت تئد الأ نثى خوفا من العار‬ ‫هذه الزاوية زاوية حفيدة «ديهيا»�أوال وزاوية املر�أة املتعلمة‬
‫\\ يف الغالب ال تعلم �أنها م�صفدة اللهم �إذا �صفدت وهي كبرية يف �سن‬ ‫ثانيا‪.‬‬
‫ال�ساد�سة فما فوق‬
‫‪ - 2‬تاء اخلجل �ص‪26‬‬ ‫ففي حواراتها التي قر�أتها ال تتهجم على الدين �أو تزدريه كما‬
‫‪ - 3‬امل�صفحات‪ :‬نعني بهن البنات امل�صفدات‪ .‬والت�صفيد هو عملية �سحرية‬ ‫ينظر �إليها بع�ض املثقفني والذين يدعون �أنهم قر�أوها‪ ،‬ففي‬
‫تقوم بها الأ م �أو العمة �أو �أي امر�أة جتاه البنت يف �سن مبكرة ك�أن متررها‬
‫على خيط �سبع مرات وتقول للبنت �أنا حيط يعني جدار وهو خيط والبنت‬ ‫خمتلف خطاباتنها الإ لكرتونية التي تر�سلها يل‪ ،‬كنت �أجد‬
‫تردد معها‪� .‬أو تو�شم لها يف فخذها �أو تقوم ب�إح�ضار �سبع حبات حم�ص‬ ‫فيها ولها دائما وجهة نظر �صائبة جتاه الدين‪ ،‬و�أن م�س�ألة‬
‫وتعقد عليها عملية الت�صفيد ويف كل ذلك تردد البنت �أنا حيط وهو خيط‪.‬‬
‫وت�صبح �أنوثة البنت م�ستحيلة اخلرق من �أي كائن ما كان �إال �إذا �أزيل عنها‬ ‫الدين ونظرته للمر�أة زيفت من قبل �أدعيائه‪( .‬ال نن�س ب�أنها‬
‫الت�صفيد وال ميكن �إزالته �إال من قبل املر�أة التي قامت بالت�صفيد �إثر ذلك‬ ‫من �أ�رسة متدينة �أبا عن جد �أ�رسة متعلمة كانت متار�س الطب‬
‫ي�صبح امل�ستحيل ممكن‪ .‬ويتمكن الذكر من الولوج يف الأ نثى وتتم عملية‬ ‫و�أغلب �أفراد �أ�رستها دكاترة يف العلوم الدقيقة)‪.‬‬
‫الفتح وهذه العملية موجودة ومتداولة يف خمتلف املناطق وجمربة‪.‬‬
‫‪ - 4‬نف�سه �ص‪37‬‬ ‫هذا التدين اجلديد هو الذي جاء بثقافة جديدة ثقافة �سلطة‬
‫‪ - 5‬املح�شو�شة ‪ :‬بندقية �صيد تق�ص ق�صبته لت�صبح خفيفة وعملية‬ ‫الذكور على الإ ناث‪ ،‬لكن �سلطة الأ مومة املوروثة يف العروق‬
‫\ ‪-‬ديهيا ‪ :‬هي ا�سم ملكة الأ مازيغ التي �أطلق عليها العرب �أثناء الفتح‬
‫الإ �سالمي ا�سم الكاهنة‬ ‫بقيت �سائدة يف املر�أة الأ ورا�سية وبقي ذلك الرف�ض مالزما‬
‫\\ ‪� -‬ساكوا‪ :‬هو مبثابة كي�س مزدوج كبري ين�سج من ال�صوف وال�شعر‬ ‫لها يف دمائها‪ ،‬فف�ضيلة ال ترف�ض قيم الإ �سالم و�إمنا ترف�ض‬
‫تو�ضع فيه احلبوب كالقمح له قدرة ا�ستيعاب ت�صل �إىل القنطارين‪.‬‬
‫ي�شور‪( :‬بت�شديد ال�شني و�ضمه )مملوء‪.‬‬ ‫القيم التي بالغوا فيها �إىل �أن و�صلت درجة التحريف‪ ،‬املر�أة ال‬
‫‪ - 6‬الع�شق قمة احلب‪ -‬ي�أتي بعد هذه املراتب‪ :‬الغرام‪ -‬الإ فتان‪ -‬الوله‬ ‫تتكلم‪ ،‬ال تتعلم‪ ،‬لكي ال تعرف الكتابة وحتى ال تكون �ساحرة‪،‬‬
‫‪ -‬الده�ش‪ -‬الفناء عن ر�ؤية النف�س‪.‬‬ ‫ال ترفع ر�أ�سها‪ ،‬ت�صفق عند �س�ؤال �سائل عن رب البيت حني‬
‫‪286‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سو�سن العريقي‬
‫فـي ديوانها ال�شعري «�أكرث من الالزم»‬
‫عمر حممد عمر‬
‫�شاعر وناقد من اليمن‬

‫وجتدر الإ �شارة �إىل �أن ال�شاعرة �سو�سن العريقي من‬ ‫ي�شكل مو�ضوع العالقة بني الرجل واملر�أة واحداً من‬
‫الأ �صوات ال�شعرية ال�شابة ‪ -‬من جيل الت�سعينات من القرن‬ ‫�أهم املو�ضوعات التي تكر�س معظم الأ ديبات اليمنيات‬
‫املا�ضي‪ -‬والتي ا�ستطاعت �أن ت�شق طريقها باقتدار على‬ ‫�إنتاجهن الأ دبي‪� ،‬شعراً و�رسداً‪ ،‬ملعاجلته واخلو�ض فيه‬
‫دروب الإ بداع ال�شعري‪ ،‬و�أن تلفت الأ نظار نحو نتاجها‬ ‫وفق ًا لر�ؤيتهن باعتبارهن طرف ًا يف املعادلة احلياتية‬
‫الإ بداعي‪..‬‬ ‫التي طرفها الآ خر الرجل‪.‬‬
‫ومن خالل تتبع �إنتاجها ال�شعري منذ الت�سعينات وحتى‬ ‫وح�ضور هذا املو�ضوع يف الإ نتاج الإ بداعي للأ ديبات‬
‫اليوم‪� ،‬سواء املن�شور كق�صائد مفردة �أو �ضمن جمموعتيها‬ ‫اليمنيات �أمر له مايربره‪ ،‬ذلك لأ ن النظرة املهيمنة على‬
‫ال�شعريتني؛ «مربع الأ مل» ‪2004-‬م‪ ،‬واملجموعة التي بني‬ ‫جمتمعنا جتاه املر�أة مازالت قا�رصة‪ ،‬فالنظرة العامة‬
‫�أيدينا«�أكرث من الالزم»‪ ،‬ي�ستطيع املتتبع �أن يالحظ �أنها‬ ‫نحو املر�أة �أو حول عالقتها بالرجل تقوم يف الأ غلب على‬
‫ت�سري يف خط �صاعد من ق�صيدة �إىل �أخرى‪ ،‬ومن جمموعة‬ ‫قاعدة �أن املر�أة تابع للرجل �أو عن�رص مكمل لبع�ض من‬
‫�إىل �أخرى �أي�ضاً‪ ،‬الأ مر الذي يعك�س تطور جتربتها ال�شعرية‪،‬‬ ‫جوانب حياته‪ ،‬وهذا الأ مر ال يقت�رص على عامة النا�س‪،‬‬
‫و�أي�ض ًا يعك�س عنايتها مبلكتها ال�شعرية و�صقلها‪.‬‬ ‫و�إمنا يتعداهم �إىل اخلا�صة �أي�ضاً‪� ،‬إىل �رشيحة املتعلمني‬
‫ويف هذه القراءة النقدية ملجموعة «�أكرث من الالزم»‬ ‫وحتى من بع�ض من ن�صفهم باملثقفني‪.‬‬
‫�سنقف على مو�ضوع العالقة بالآ خر‪ -‬الرجل‪ -‬ور�ؤية‬ ‫ومن نافل القول �أن ن�شري �إىل الظروف االجتماعية‬
‫ال�شاعرة لها‪ ،‬وكيفية معاجلتها لإ �شكالية العالقة بني‬ ‫املو�ضوعية ك�سبب لوجود تلك النظرة �إىل املر�أة يف‬
‫الطرفني‪ ،‬فمما ال�شك فيه �أن ال�شاعرة العريقي قد واجهت‬ ‫جمتمعنا وا�ستمرارها حتى اليوم‪ ،‬ولكننا ل�سنا ب�صدد‬
‫وتواجه مثل تلك النظرة القا�رصة نحوها كامر�أة‪ ،‬يف �إطار‬ ‫القراءة االجتماعية للعالقة بني طريف املعادلة احلياتية‬
‫عالقتها بالآ خر‪� ،‬أي كانت طبيعة العالقة التي تربطها‬ ‫«الرجل ‪ -‬املر�أة»‪ ،‬لذا �سنح�رص تركيزنا على جتليات‬
‫بذلك «الآ خر»‪ ،‬وهذا ماعربت عنه ن�صو�ص املجموعة‬ ‫�إ�شكالية العالقة بني املر�أة والرجل من خالل قراءة ذلك‬
‫والتي ي�شكل هذا املو�ضوع هاج�س ًا رئي�سي ًا يف معظمها‪..‬‬ ‫عرب منظور �شعري �إبداعي جتلى بو�ضوح يف جمموعة‬
‫�إن مامييز �شاعر عن � آخر‪ ،‬بل مبدع عن � آخر‪ ،‬هو ر�ؤيته‬ ‫«�أكرث من الالزم» لل�شاعرة ال�شابة �سو�سن العريقي‪.‬‬
‫للمو�ضوع الذي يج�سده يف عمله الإ بداعي‪ ،‬وكلما كانت‬ ‫�صدرت جمموعة«�أكرث من الالزم» �أواخر عام ‪2007‬م‪،‬‬
‫تلك«الر�ؤية» التي ينطلق منها املبدع خمتلفة عما هي‬ ‫وكانت املجموعة قد فازت بجائزة اال�ستحقاق الأ دبية‬
‫عليه عند غريه‪ ،‬كلما ح�سب ذلك ل�صاحله و�شكل عالمة‬ ‫من دار نعمان للثقافة يف لبنان‪ ،‬يف نف�س العام وهي‬
‫فارقة يف م�شواره الفني والإ بداعي‪.‬‬ ‫تقع يف«‪� »90‬صفحة من القطع املتو�سط‪ ،‬و�ضمت بني‬
‫وتناول مو�ضوع العالقة بالآ خر عند ال�شاعرة العريقي‬ ‫دفتيها«‪ »23‬ن�ص ًا موزع ًا على �أربعة عناوين رئي�سية‬
‫ي�شكل عالمة فارقة عندها ومييزها عن غريها من‬ ‫هي‪:‬‬
‫الأ ديبات الالتي طرقن هذا املو�ضوع �شعراً �أو نرثاً‪ ،‬فهي‬ ‫‪ -‬بدون جدران‪ -‬ت�سعة ن�صو�ص‪..‬‬
‫تنطلق يف تناولها للمو�ضوع‪ -‬العالقة بالآ خر‪ -‬من‬ ‫‪ -‬يد واحدة‪� -‬سبعة ن�صو�ص‪..‬‬
‫قاعدة الوعي والإ دراك لطبيعة الإ �شكالية بني الطرفني‪ ،‬لذا‬ ‫‪ -‬ليالن‪ -‬ثالثة ن�صو�ص‪..‬‬
‫جندها تتجه نحو تو�صيف جوهر الإ �شكالية يف العالقة‬ ‫‪ -‬تق�شري‪� -‬أربعة ن�صو�ص‪..‬‬
‫‪287‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عربي» التي �سبقت الإ �شارة �إليها‪.‬‬ ‫بينهما‪ ،‬ففي ق�صيدة«مقا�س عربي» تقول ال�شاعرة‪:‬‬
‫والأ مر اليقت�رص على الق�صيدتني التي ا�ست�شهدنا بنماذج‬ ‫ادخل يف كينونة احللم املمتد ‪ /‬براكني �ضوئية ‪/‬يف‬
‫منهما‪ ،‬ولكن هاج�س �إ�شكالية العالقة مع «الآ خر» جنده‬ ‫دهاليزك ‪/‬لكني �أتعرث ‪/‬ب�أزمنتك الظامئة ‪�/‬إىل �إعادة‬
‫يف �أكرث من ن�ص يف املجموعة‪ ،‬فهو يكاد �أن ي�شكل‬ ‫�صياغتي ‪/‬على مقا�سك ‪�/‬أتعرث بقامة رجولتك ‪/‬التي‬
‫القا�سم امل�شرتك لعدد غري قليل من ق�صائد �أو ن�صو�ص‬ ‫جتلدك ‪/‬قبل �أن جتلدين‪..‬‬
‫املجموعة‪.‬‬ ‫�إن �إ�شكالية العالقة مع الآ خر‪-‬الرجل‪ ،‬كما ت�شخ�صها‬
‫ويف مواجهة نظرة«الآ خر» جتاه ال�شاعرة‪-‬املر�أة‪ -‬بكل‬ ‫�سو�سن العريقي يف املقطع ال�سابق تكمن يف �أمرين؛ الأ ول‪:‬‬
‫عنا�رصها ومفرداتها �سابقة الذكر‪ ،‬جند �أن ال�شاعرة‬ ‫ان الآ خر«الرجل» اليتعامل مع املر�أة بهويتها وكينونتها‬
‫التخ�ضع لتلك النظرة �أو ت�ست�سلم مل�شيئة الآ خر‪ ،‬ورغبته‬ ‫امل�ستقلة بذاتها‪ ،‬و�إمنا يرغب يف �إعادة ت�شكيلها وفق ًا‬
‫يف �إعادة �صياغتها‪ ،‬و�إمنا تعرب عن رف�ضها لتلك النظرة‬ ‫ملعايريه هو ونظرته �إليها‪ ..‬والأ مر الثاين‪ :‬ان مفهوم �أو‬
‫القا�رصة ومتردها على رغبات الآ خر التي تنتق�ص من‬ ‫معيار«الرجولة» عند الآ خر‪ ،‬ي�شكل عبئ ًا عليه هو ذاته قبل‬
‫هويتها وكينونتها‪ ،‬ففي ق�صيدة«عني �سحرية» تعرب عن‬ ‫�أن يكون عبئ ًا على«املر�أة»‪.‬‬
‫رف�ضها ملحاولة الآ خر امتالك املا�ضي بقولها‪« :‬ي�أبى‬ ‫�إن الآ خر«الرجل» يف هذه الق�صيدة لي�س �شخ�ص ًا حمدداً‬
‫�ضعفي �أن يبوح بانك�ساره» وت�ؤكد ذلك الرف�ض بعبارة‬ ‫له عالقة ماب�شخ�ص ال�شاعرة‪ ،‬ولكنه الرجل ب�صفة عامة‪،‬‬
‫«ذاكرتي‪ /..‬التي �أعلنت متردها‪..»..‬‬ ‫�أي رجل كان يف جمتمعنا العربي‪ ،‬فعنوان الق�صيدة الذي‬
‫ويتجلى التمرد بو�ضوح يف ال�سطور التالية‪:‬‬ ‫اختارته ال�شاعرة بعناية فائقة «مقيا�س عربي»‪ ،‬قد‬
‫�أتخلى عن انحداري ‪ /‬يف تقم�صي دور ‪ /‬اليليق ب�صدقي‬ ‫جاء ليح�رص الأ زمة �أو الإ �شكالية بني الطرفني املعادلة‬
‫‪�/‬أظل واقفة‪/ ..‬حتى التبتلعني الكرا�سي ‪/‬امل�أهولة‬ ‫احلياتية «الرجل‪ -‬املر�أة» يف �إطار جغرايف حمدد‬
‫بال�شك‪..‬‬ ‫هوالبالد العربية‪..‬‬
‫�إن �ألفاظ مثل«ي�أبى‪/‬متردها‪/‬اليليق ب�صدقي‪�/‬أظل‬ ‫واليقت�رص الأ مر على حماولة الآ خر«الرجل» �إعادة ت�شكيل‬
‫واقفة‪ /‬حتى التبتلعني‪ »..‬جميعها ج�سدت موقف ال�شاعرة‬ ‫�شخ�ص املر�أة على مزاجه‪ ،‬بل �أن هناك متظهرات �أخرى‬
‫من نظرة و�سلوك الآ خر جتاهها‪ ،‬ويف ق�صيدة«مقا�س‬ ‫تكون عنا�رص �أو جزئيات لإ �شكالية العالقة بني الطرفني‬
‫عربي» �أي�ض ًا تعرب ال�شاعرة عن رف�ضها ملحاولة«الآ خر»‬ ‫م�صدرها الآ خر «الرجل»‪ ،‬ومنها حماولة امتالك املا�ضي‪،‬‬
‫�إعادة �صياغتها على مقا�سه مع االختالف يف الأ �سلوب‬ ‫التجاهل‪ ،‬وال�شك‪ ..‬تلك اجلزئيات عربت عنها ال�شاعرة يف‬
‫التي تعرب من خالله عن رف�ضها فنجدها بعد �أن �شخ�صت‬ ‫عدة ق�صائد �ضمتها املجموعة‪ ،‬ففي الق�صيدة الأ وىل يف‬
‫جوهر الإ �شكالية يف العالقة مع الآ خر«يف املقطع الأ ول‬ ‫املجموعة «عني �سحرية» تناولت ال�شاعرة تلك اجلزئيات‬
‫الذي ا�ست�شهدنا به» تقول‪:‬‬ ‫الثالث حيث تقول‪:‬‬
‫لذلك‪� / ..‬ألوذ بامل�سافات القريبة ‪/‬من بوابة الن�سيان‬ ‫حني ت�شتعل يف خيالك‪ /‬لهفة التفا�صيل‪/‬وت�رص على‬
‫‪/‬اتكوم �ضوءاً يطهرين ‪/‬من مياهك الآ �سنة ‪�/‬أ�ستعيد‬ ‫امتالك مافات ‪/‬ي�أبى �ضعفي �أن يبوح بانك�ساره ‪/‬ترتاكم‬
‫�أنفا�سي ‪�/‬أمللم ماتبقى من حوا�سي ‪/‬ا�ستفي�ض ندا ًء‬ ‫يف عينيك ‪/‬ق�سوة التجاهل ‪/‬متعن يف ايقاظ ذاكرتي ‪/‬‬
‫متو�س ًال ‪/‬ملحكمة القلب الطينية ‪�/‬أن تنفي دمي ‪/‬من‬ ‫التي �أعلنت متردها‪�/ ..‬أتخلى عن انحداري ‪/‬يف تقم�صي‬
‫�سطوة خالياك‬ ‫دور ‪/‬اليليق ب�صدقي ‪�/‬أظل واقفة‪/ ..‬حتى التبتلعني‬
‫ال�شاعرة هنا تعرب عن رف�ضها ملحاولة �إعادة �صياغتها‬ ‫الكرا�سي ‪/‬امل�أهولة بال�شك‪/ ..‬ف�أجد �أن المفر من الهرب‬
‫باللجوء �إىل الن�سيان حيناً«�ألوذ بامل�سافات القريبة‪ /‬من‬ ‫‪ /‬بعد مات�أكد يل ‪� /‬أنك �ستزرع يف باب حياتي ‪ /‬ماي�شبه‬
‫بوابة الن�سيان» وحين ًا � آخر بالتطهر من ت�أثري الفكرة التي‬ ‫العني ال�سحرية‪!..‬‬
‫يحملها الآ خر جتاهها «اتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك‬ ‫يف هذه الق�صيدة كثفت ال�شاعرة �إح�سا�سها بالإ �شكالية يف‬
‫الآ �سنة»‪ ،‬ومرة ثالثة بالتو�سل �إىل القلب ‪ -‬العاطفة ‪-‬‬ ‫عالقتها مع الآ خر«الرجل»‪ ،‬وجمعت �أكرب قدر من عنا�رص‬
‫لتحريرها من �سطوته «ا�ستفي�ض ندا ًء متو�س ًال ‪ /‬ملحكمة‬ ‫�أو مفردات الإ �شكالية يف تلك العالقة«امتالك مافات‪/‬‬
‫القلب الطينية‪� ..‬إلخ»‪.‬‬ ‫التجاهل‪/‬ال�شك‪ »..‬م�ستثنية م�س�ألة رغبة الآ خر يف �إعادة‬
‫ان مترد ال�شاعرة ورف�ضها لنظرة الآ خر جتاهها بقدر‬ ‫�صياغتها على مقا�سه وهو ماخ�ص�صت له ق�صيدة «مقا�س‬
‫‪288‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫مثل «ارحل اليك‪ /‬اعانق فيك ‪/‬اتغلغل فيك‪ » ..‬وغريها‬ ‫ماهي رد فعل طبيعي جتاه �سلوك وتفكري الآ خر نحوها‪،‬‬
‫من االلفاظ امل�شابهة قد عك�ست توقع ال�شاعرة �إىل �شكل‬ ‫�إال انه رد فعل واع وعقالين‪ ،‬لذا مل جند ال�شاعرة مبقابل‬
‫العالقة التي تتمناها مع الآ خر‪ ،‬فالآ خر ن�صف ذاتها التي‬ ‫تلك النظرة ت�سعى �إىل فك االرتباط بالآ خر �أو التخل�ص‬
‫ت�سعى �إليها لت�صل �إىل االكتمال‪ ،‬وهذا ماتقوله ال�شاعرة‬ ‫من العالقة االن�سانية التي تربطها به‪ ،‬بل جندها تختم‬
‫يف �أكرث من ق�صيدة وبالذات � آخر ق�صائد املجموعة والتي‬ ‫ق�صيدة «مقا�س عربي» بالت�أكيد على ا�ستمرارية العالقة‬
‫حملت عنوان «هطول»‪ ..‬ففي هذه الق�صيدة جندها تلح‬ ‫بني الطرفني وبقائها ‪-:‬‬
‫على ت�أكيد ذلك املعنى �أو تلك الفكرة كقولها ‪:‬‬ ‫( اتهجاك‪� / ...‬أدخل مرة �أخرى ‪/‬يف كينونة احللم املمتد‬
‫( دائم ًا معك‪ /..‬تغرقني � آهات التمني ‪�/‬أترقب هطولك‬ ‫‪/‬براكني �ضوئية يف دهاليزك‪/..‬لكني هذه املرة ‪/‬ال‬
‫املالئكي ‪ /‬يف جوانحي ‪/‬كي اتوهج ‪/‬كي احيا العمر يف‬ ‫اتعرث ‪�/‬إال بظلي االعمى ‪/‬الذي ي�سبقني �إليك‪!! ..‬‬
‫ان ادراك ال�شاعرة ل�صريورة العالقة بني طريف املعادلة‬
‫حلظة‬
‫احلياتية «الرجل ‪ -‬املر�أة» �ساعدها على بلورة ر�ؤيتها‬
‫�أو كقولها‪« :‬االقمار تن�أى عن مدن الغياب و�أنا �أحمل‬ ‫للعالقة مع الآ خر‪ ،‬فكما انها مل ت�سع �إىل فك االرتباط به‪،‬‬
‫عينيك قمراً لأ �ستعيد ح�ضوري »‬ ‫�أي�ض ًا جندها الت�سعى �إىل �إعادة �صياغته وفق ر�ؤيتها �أو‬
‫وخال�صة القول‪ :‬ان ال�شاعرة �سو�سن العريقي ا�ستطاعت‬ ‫ح�سب رغبتها‪ ،‬ولو حتى من منطلق رد الفعل على رغبته‬
‫يف مو�ضوع العالقة بني الرجل واملر�أة‪ ،‬ونظرة املجتمع‬ ‫للقيام بذلك معها‪ ،‬وامنا تن�شد مفهوم ًا � آخر لعالقتها معه‪،‬‬
‫�إىل «املر�أة » و�إىل عالقتها بالرجل‪ ،‬ان تقدم ر�ؤية مغايرة‬ ‫عالقة تقوم على �أ�سا�س من التكامل والتماهي امل�ؤطر‬
‫عماهو �سائد وم�ألوف‪ ،‬وان تقدم �أي�ض ًا بدي ًال من�شوداً ملا‬ ‫بالعاطفة ‪ -‬احلب ‪ -‬وجت�سد ر�ؤيتها تلك يف �أكرث من‬
‫ينبغي ان تكون عليه العالقة بني الطرفني‪ ..‬تلك الر�ؤية‬ ‫ق�صيدة‪ ،‬ففي ق�صيدة «اكت�شاف» بعد �أن تقر ال�شاعرة‬
‫املغايرة مو�ضوعي ًا قد � آزرتها ر�ؤية فنية �أي�ضاً‪� ،‬إذ �أن‬ ‫با�ستحالة القطيعة مع الآ خر �أو االبتعاد الكلي عنه‪.‬‬
‫ال�شاعرة ج�سدت م�شاعرها ور�ؤاها �سواء يف هذا املو�ضوع‬ ‫( �أرحل عنك‪/ ..‬متزقني النداءات ‪/‬يف ف�ضاءات احلرية ‪..‬‬
‫�أم يف غريه من مو�ضوعات الق�صائد الأ خرى عرب �أ�سلوب‬ ‫)‬
‫فني يعتمد كثرياً على ال�صور ال�شعرية مبختلف ا�شكالها‬ ‫بعد اقرارها بذلك تتجه نحو ت�أكيد �صريورة العالقة بني‬
‫اجلزئية والكلية‪ ،‬وبر�ؤية حديثة يف ر�سم ال�صور والعنا�رص‬ ‫الطرفني وا�ستمراريتها وفق ًا لر�ؤية التقوم على قاعدة‬
‫املكونة لها‪ ،‬وهو الأ مر الذي يحتاج �إىل قراءة خا�صة‬ ‫التابع واملتبوع‪ ،‬فتقول ‪:‬‬
‫به كون ال�شاعرة تعول على ال�صورة �أكرث من املو�سيقى‬ ‫«اعانق فيك ‪ /‬زحمة الت�سا�ؤل ‪�/‬أ�سبح يف �سطور ‪/‬متاهت‬
‫ال�شعرية والتي مل تخل املجموعة منها وان كانت ال�سمة‬ ‫�أوردتها يف عمق حنيني ‪�/‬أ�ستعيد ذاتي بك ‪/‬الت�صق‬
‫الغالبة على الن�صو�ص هي ق�صيدة النرث‪.‬‬ ‫بركامي فيك ‪/‬فتتقاطر ‪/‬حناناً‪/ ..‬ظ ًال ‪/‬و�ضوءاً‪!! ...‬‬
‫لقد متيزت ال�شاعرة يف تناولها ملو�ضوع العالقة مع‬ ‫ال�شاعرة يف هذا املقطع تنظر �إىل «الآ خر» باعتباره‬
‫الآ خر با�ستيعابها لال�شكاليات القائمة يف الوعي اجلمعي‬ ‫عن�رص تكامل مع وجودها وكينونتها‪ ،‬فهي ت�ستعيد‬
‫ذاتها من خالل عالقتها به‪ ،‬عالقة تقوم على التماهي‬
‫جتاه ق�ضية املر�أة وق�ضية العالقة بني طريف املعادلة‬
‫معه «ا�سبح يف �سطور‪ /‬متاهت �أوردتها يف عمق حنيني»‪،‬‬
‫احلياتية‪ ،‬وبالتايل ف�إنها عندما طرقت املو�ضوع �إمنا‬ ‫وهو ماينتج عنه �أن يتحول الآ خر يف حلظة التماهي معها‬
‫انطلقت من التجربة والوعي معاً‪ ،‬لذا وجدنا تناولها‬ ‫�إىل دفقات من حنان وظل و�ضوء «الت�صق بركامي فيك‪/‬‬
‫للمو�ضوع يت�سم بالعقالنية‪ ،‬كما وجدناها ت�سعى �إىل‬ ‫فتتقاطر‪ /‬حناناً‪ /‬ظالً‪ /‬و�ضوءاً »‪.‬‬
‫تقدمي البديل ملاينبغي ان تكون عليه العالقة بني‬ ‫ان التوحد بالآ خر والتكامل معه على دروب احلياة هو‬
‫الطرفني‪ ،‬ومل تنزلق يف �رشك ردود الأ فعال العنيفة جتاه‬ ‫ماتن�شده ال�شاعرة وتعمل على ت�أكيده يف �أكرث من ق�صيدة‪،‬‬
‫«الآ خر» �أو االنفعاالت العاطفية التي تخدم «االنا» على‬ ‫ففي ق�صيدة «اكت�شاف» �سابقة الذكر تقول ‪:‬‬
‫ح�ساب «الآ خر»‪� ،‬إمنا اعتمدت الر�ؤية والهدوء يف قول‬ ‫«�أرحل �إليك‪ / ..‬بريق ًا يتناثر ‪ /‬يف م�ساحات التوحد»‬
‫ماتريد واثبات هويتها وكينونتها وحقها يف احلياة مع‬ ‫فت�ؤكد �سعيها �إىل �أن تكون العالقة مع الآ خر «توحد»‪،‬‬
‫الآ خر نداً لند‪ ،‬وح�سبها ذلك توفيق ًا يف هذا االجتاه‪.‬‬ ‫اندغام يبنى على التكاف ؤ� والتكامل‪ ،‬لذا ف�إن الفاظ ًا‬
‫‪289‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫«ال ميكن الوثوق بال�شعر»‬


‫ر�ؤية معا�صرة لل�شعر احلديث‬
‫دلـــدار فـــلمز‬
‫كاتب من �سورية‬

‫«تنبع جوهرية الفكرة التي جاءت عنوانا‬ ‫«ال ميكن الوثوق بال�شعر» هو عنوان كتاب‬
‫للكتاب‪ ،‬جلهة �إثارتها ملفهوم املعيار ال�شعري‪.‬‬ ‫نقدي لل�شاعر والناقد ال�سوري عهد فا�ضل‬
‫فقد د�أب النقاد وال�شعراء‪ ،‬على حد �سواء على‬ ‫يتناول من خالله ال�شعر العربي اجلديد‪.‬‬
‫التعامل مع مو�ضوع املعيار من منطلق‬ ‫ير�صد فا�ضل يف الكتاب الذي يت�ألف من‬
‫الوثوقية يف كثري من الأ حيان‪ .‬هذه الوثوقية‬
‫‪ 34‬مقالة منف�صلة عن بع�ضها البع�ض ن�رش‬
‫جعلت من ق�ضية املبادالت النقدية �أمرا بالغ‬
‫ق�سم كبري منها يف ال�صحافة اليومية وحتمل‬
‫ال�صعوبة‪ .‬وقيمة املبادالت النقدية �إنها ت�سمح‬
‫للمعيار الذي تعر�ض للتغييب‪ ،‬حتت م�سميات‬ ‫كل واحدة منها عنوان ًا خا�ص ًا بها «حقيقة‬
‫�شتى‪� ،‬أن يظهر ويرتك �أثرا يف احلركة الأ دبية‪.‬‬ ‫النق�ص‪ ،‬عودة الغنائية‪� ،‬أ�سئلة ال�شعر تواجه‬
‫هكذا تفهم التغريات اجلوهرية التي ت�سم‬ ‫�سكون العامل‪ ،‬التخييل‪� ،‬شعرية الفقدان‪ ،‬خلخلة‬
‫حركات التغيري الأ دبي‪ .‬و�إال كيف ميكن فهم‬ ‫النموذج ال�سائد‪ ،‬اجلغرايف واللغوي‪ ،‬اال�ستثمار‬
‫قبول معيار الآ ن‪ ،‬بينما كان يتعر�ض للرف�ض‬ ‫ال�سيا�سي لل�شعر‪ ،‬احلكاية توحّ د عامل الق�صيدة‪،‬‬
‫والأ بعاد يف زمن ما�ض؟ الرف�ض‪ ،‬هناك‪،‬‬ ‫االنرتنت والأ دب‪� ،‬أزمة جيل ال�سبعينات‪ ،‬رحلة‬
‫والقبول‪ ،‬هنا‪ ،‬هو املبادلة النقدية‪ ،‬وهي قيمة‬ ‫الطائر املجازية‪ ،‬اليقني والقلق‪ ،‬هادي دانيال‬
‫االختبار الأ دبي‪« .‬‬ ‫وجدار التفعيلة‪ ،‬اليومي والأ �سطوري‪ ،‬التعبري‬
‫وال�شكل الفني‪� ،‬أجيال �شعرية جديدة‪ ،‬ق�صائد‬
‫ويبني مدى �أهمية االختالف يف طرائق كتابة‬
‫ال�شعرية ويعطي احلق لل�شاعر يف �أن ينقلب‬ ‫للحب‪ ،‬قيمة الت�شتت‪ ،‬قلق الهوية‪ ،‬دم�شق‬
‫على نف�سه يف كل كتاب �شعري �أو حتى يف كل‬ ‫املفقودة‪� ،‬أ�صوات تخرتق املكان‪ ،‬عالقة مع‬
‫ق�صيدة له لأ ن كل ق�صيدة تترب�أ ال�شعرية من‬ ‫املكان‪ ،‬ال�صداقة وال�شعر‪ ،‬ال�شعر واملنفى‪،‬‬
‫�أدواتها ‪ ،‬وتخون م�سمياتها يف �أحيان كثرية‬ ‫الأ بيقوري الغريب‪ ،‬يف هجاء هذا الكوكب‪،‬‬
‫فمن املعروف �أن ال�شعرية ال ت�ؤمن بالقانون‬ ‫ال ميكن الوثوق بال�شعر‪ ،‬الأ نا ب�صفتها جزءا‬
‫واحلتميات و�أن �صياغة ا�ستمرار ال�شعرية‬ ‫من التاريخ‪ ،‬البحث عن الق�صيدة‪ ،‬التوقيعات‪،‬‬
‫�ضمن مفهوم الإ عادة والتكرار يفقد نكهة‬ ‫املثال ال�شعري‪ ،‬جماليات ال�شعر اليمني اجلديد‪،‬‬
‫اللذة الع�صية والغام�ضة يف الكتابة‪« .‬ال�شعر‬ ‫موازاة املخترب ال�شعري‪».‬‬
‫ال يتكرر‪ ،‬بل يتجدد‪ ،‬يف � آلية ع�صية غري قابلة‬ ‫يناق�ش الكاتب �شعر �أكرث من خم�سة و�أربعني‬
‫للتو�ضيح �إال من خالل الأ ثر» �ص ‪8‬‬ ‫�شاعراً عربي ًا معا�رصاً يحاول فيها البحث يف‬
‫يت�ضح هذه ب�شكل وا�ضح وقوي يف ال�شعر‬ ‫ال�شاعرية اجلديدة التي ظهرت يف � آفاق ال�شعر‬
‫العربي اجلديد‪ ,‬نتلم�س ذلك ب�شكل ملفت يف‬ ‫العربي اجلديد وجذور ومنابع هذه ال�شاعرية‬
‫ق�صيدة النرث وق�صيدة التفعيلة ففي النرث جتدد‬ ‫مو�ضح ًا يف مقدمة الكتاب الأ �سباب التي‬
‫ال�شكل واملحتوى ح�سب ما يريد ال�شاعر ويف‬ ‫دفعته �إىل �أن يكتب كتاب ًا من هذا النوع‪:‬‬
‫‪290‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫بالتاريخ يعني‪ ،‬يف ال�سياق الغربي‪ ،‬ا�ستلهام‬ ‫التفعيلة يتغري ال�شكل بني البحور والنرث ليمنح‬
‫اجلذر اليوناين‪ ،‬وتغري املفهوم لي�صبح عالقة‬ ‫�شكال حيويا �أكرب يف �إي�صال املحتوى ‪:‬‬
‫بني املعرفة والتاريخ‪.‬‬ ‫«يف كل ق�صيدة‪ ،‬رمبا يف كل لقطة �أو �صورة‪.‬‬
‫يف كتاب ال�شاعر جوزيف عي�ساوي يتجلى‬ ‫من خالل كل كتاب تتغري ال�شعرية‪ ،‬وتتوقف‬
‫هذا الإ ح�سا�س من ارتهان جلذره املفهومي‪،‬‬ ‫م�ؤقتا‪ ،‬ولوهلة‪ ،‬عند الن�ص ثم ال تلبث �أن‬
‫بل يظهر نف�سه �شعرياً‪ ،‬يف �سياق من الت�أرجح‬ ‫تت�رسب �إىل الن�ص الثاين‪� ،‬أو الن�ص الآ خر‪ .‬هنا‬
‫بني متجيد العامل وال�سخط عليه‪ .‬هذا الت�أرجح‬ ‫ال ميكن الوثوق بال�شعر �إال كاحتمال مفتوح‬
‫هو العالمة الدالة على طبيعة تلك العالقة‪�« ،‬ص‬ ‫على نق�ض نف�سه‪� ».‬ص‪10‬‬
‫‪32-31‬‬ ‫ويتحدث عن �أهمية الزمن وفقدانه يف ال�شعر‬
‫يتناول الناقد جمموعة من الق�ضايا التي مت�س‬ ‫حيث يحلل ذلك �إىل عوامل‪ :‬الذاكرة والفقدان‬
‫روح ال�شعر يف الق�صيدة ويبني مدى �أهمية كل‬ ‫والت�ضاد‪ ,‬ويعترب الزمن النربا�س الذي يعك�س‬
‫عن�رص منها يف بناء الق�صيدة ويطلعنا على‬ ‫العالقة بني املعرفة والتاريخ من ناحية وبني‬
‫�أ�رسار وخفايا ونقاط مت�شابكة باال�شتغال‬ ‫ال�شعر واالجتماع من ناحية �أخرى م�ستنداً‬
‫داخل حقل الق�صيدة من عدد من املجموعات‬ ‫يف تناوله على مقولة (الإ ح�سا�س الهيغلي‬
‫ال�شعرية من خمتلف البلدان الناطقة بالعربية‬ ‫بالثنائيات وي�سميه الوعي ال�شقي) وبالإ �ضافة‬
‫ومن ه�ؤالء ال�شعراء‪� :‬أدوني�س‪ ,‬عبد املنعم‬ ‫�إىل � آراء بع�ض النقاد كهارولد بلوم و�إح�سان‬
‫رم�ضان‪� ،‬سامر �أبو هوا�ش‪ ،‬حممد املزروعي‪،‬‬ ‫عبا�س التي ي�ؤكد من خاللها �أنها �أحد عنا�رص‬
‫فوزي ميني‪ ،‬ناظم ال�سيد‪ ،‬هادي دانيال و�أحمد‬ ‫املهمة التي ترافق التطور يف الن�ص ال�شعري‬
‫الوا�صل‪.‬‬ ‫وهو ما تتميز به التجارب ال�شعرية القوية‪.‬‬
‫بالإ �ضافة �إىل �أ�سماء �أخرى يتناول كل منها‬ ‫�إنه ير�صد من خالل هذا املفهوم التجارب‬
‫على حدة مبنظوره النقدي اخلا�ص‪.‬‬ ‫ال�شعرية يف الت�سعينيات حيث ق�سم كبري من‬
‫يقع الكتاب �ضمن �سل�سلة من الكتب النقدية‬ ‫تلك التجارب تفتقد هذه العن�رص الهام ويتناول‬
‫اجلديدة التي حتاول الت�أ�سي�س ل�شعر عربي‬ ‫داخل هذا املفهوم كتاب لل�شاعر جوزيف‬
‫جديد وحديث يف الوقت نف�سه دون االن�سياق‬ ‫عي�ساوي يحمل عنوان «�شاي لوقاحة ال�شاعر»‬
‫متام ًا خلف الفهم الغربي ولكن مع االحتفاظ‬ ‫ويرى فا�ضل ب�أن ال�شاعر جنح يف حتقيق هذه‬
‫مب�سافة كافية عن ال�شعر العربي الكال�سيكي‬ ‫املالمح �ضمن حقول ق�صائد‪.‬‬
‫ونقده االنطباعي‪.‬‬ ‫«يعك�س االح�سا�س الطاغي بالوقت والزمن‪،‬‬
‫الكتاب من �إ�صدارات وزارة الثقافة وال�سياحة‬ ‫وهو االح�سا�س الذي عرب عنه «غوته» يف‬
‫يف اليمن ويقع يف ‪� 318‬صفحة من القطع‬ ‫«احلقيقة وال�شعر» ب�أنه من مميزات ال�شعر‪.‬‬
‫الو�سط‪.‬‬ ‫ومن املعروف �أن مفهوم الإ ح�سا�س الكبري‬

‫‪291‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عائ�شــة الب�ص ــري‬


‫فـي «�شرفة مطف�أة»‬
‫أ�حمــد الدمنــاتي‬
‫�شاعر وناقد من املغرب‬

‫اخلن�ساء ووالدة وماري ها�سكل وفروخ فرخزاد‬ ‫ال�رشفة لي�س �شمعة �أو نارا �أو قنديال لتطف�أ‪،‬مكان‬
‫و�شمبو�سكا ودوناتيال بيزوتي‪.‬‬ ‫يت�سع للأ لفة واحلنني‪،‬مت�شبع بهواء يخرج من غابة‬
‫�سنبحث يف ليل م�سالك املتخيل عن ق�صيدة ال ت�أوي‬ ‫القلب نقيا بدون دخان مدف�أة‪.‬يف �إطفاء ال�رشفة‬
‫لبيتها باكرا‪،‬ت ع�شق الت�رشد والتجول وال�سفر‪،‬‬ ‫دخول يف العتمة‪�،‬سفر يف الظلمة والتيه‪،‬ال�رشفة‬
‫والت�سكع يف املقاهي‪ ،‬واملنتزهات واحلدائق‬ ‫بو�صلة الروح حني تغيب ال�سنونوات يف رحلة‬
‫العمومية‪ ،‬متمردة على كل الو�صايا والقوانني‬ ‫م�ستعجلة لأ ق�صى فلوات املعنى ‪،‬وهي الذاهبة بنية‬
‫القبلية التي حتد من جموح حريتها‪.‬‬ ‫العودة بعد هجرة ق�صرية‪.‬‬
‫ممُ ْ عِنة يف احت�ضان كائناتها بعناية كبرية‪ ،‬ك�أنها‬ ‫ملاذا �إ�سناد ال�رشفة للعتمة؟ ومن ال�رشفة نطل على‬
‫تخاف من فقدها �أو تال�شيها �أو ن�سيانها‪ ،‬و�ضمن‬ ‫العامل والكائنات والذات‪ ،‬ذواتنا املوزعة يف ذوات‬
‫هذا الإ ح�سا�س الرتاجيدي‪ ،‬تُقيم خملوقاتها يف‬ ‫�أخرى‪ ،‬ذات الكتابة‪ ،‬ذات اجلنون بقلق الإ بداع‪،‬‬
‫الق�صيدة خوفا من حر ال�صيف وقر ال�شتاء‪� .‬إقامة‬ ‫ذات الإ ن�صات ملخلوقات �صغرية ت�شتكي �أملها‬
‫تحُ ارب منفى اله�شا�شة ولو وقتيا‪،‬ال ت�شيخ يف‬ ‫ب�صمت لت�ستنفر ذائقتنا لنخون ن�سيانها باللغة �أو‬
‫عنادها مع حماورة الكائنات‪.‬تقول ال�شاعرة عائ�شة‬ ‫الق�صيدة‪.‬‬
‫الب�رصي يف ق�صيدة(�صقيع)‪:‬‬ ‫فال�رشفة لي�س معطى مكانيا مفتوحا فقط ‪ ،‬بل هي‬
‫مد يدك‪،‬‬ ‫�رشفة اللغة حني تطل منها الذات ال�شاعرة على‬
‫اقطفني‪،‬‬ ‫حرائقها وحدائقها ال�رسية لبناء دالها الن�صي عرب‬
‫ف�أنا‬ ‫بوابة التماهي مع الكائنات‪.‬‬
‫زهرة الرباري‬ ‫وك�أنها تكتب ن�شيدها ال�شعري م�ستمدة عمق‬
‫ال �أحتمل‬ ‫كينونتها الإ بداعية من الكتابة والوجود واحلياة‬
‫تعاقب الف�صول‬ ‫منت�شية باللغة‪ /‬امل�أوى‪ ،‬مبتهجة بالق�صيدة‪/‬‬
‫‪...............‬‬ ‫امل�سكن‪ ،‬وك�أن هذا العبور تعلن عن نف�سه �إ�سرتاتيجية‬
‫‪...............‬‬ ‫تعي اختياراتها اجلمالية ‪.‬‬
‫يدك الباردة‬ ‫بمِ حبة الق�صيدة �إن�صاتا لأ �رسارها اخلبيئة يف �أق�صى‬
‫كال�صقيع‪،‬‬ ‫زاوية من املخيلة وجتاويف الذات ال�شاعرة‪،‬تلتم�س‬
‫من بعيد‬ ‫القراءة عمق املعا�رشة الهادئة لق�صائد تنمو �رسيعا‬
‫ترجفني‪.‬‬ ‫كزهر ال�صبار وهي تتهي أ� ل�صنع َفرَحِ هَا اخلا�ص‬
‫�إن فعل القطف يحيل رمزيا على اخلوف من ال�شيخوخة‬ ‫بن�شوة الإ بحار يف اللغة �سفرا‪ ،‬والكتابة مالذاً‪.‬‬
‫وال�سقوط والتال�شي والغياب والفناء‪،‬واخلوف‬ ‫والبد �أن تكون ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي من �ساللة‬
‫من دورة الف�صول وتعاقبها‪،‬وانتظار الزمن‬ ‫�شعرية متجذرة بعمق يف تُربة ال�شعر الكوين ت�ضم‬
‫‪292‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬
‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫اململ يجعل عملية املد(مد اليد) ال�سبيل احلقيقي �أبي العالء املعري‬
‫للإ ح�سا�س بالدفء واالطمئنان‪.‬يف هذه الق�صيدة‬
‫خفف الوطء ما�أظنُّ �أدمي الأ ر‬ ‫ِ‬
‫بالذات توظف ال�شاعرة الق�صيدة البيا�ض‪،‬وك�أنها‬
‫�ض �إال من هذه الأ ج�سا ِد‬ ‫ت�رشك القارئ واملتلقي يف عملية �إنتاج الن�ص‪�.‬إنها ‬
‫دميقراطية الإ بداع‪ ،‬والفراغات منت � آخر يقر�أ بالعني وقبيحٌ بنا ‪ ،‬و�إن قدم العهـ‬
‫د ‪ ،‬هوان الآ باء والأ جدا ِد‬ ‫ ‬ ‫وبحا�سة القلب وحد�س الب�صرية‪.‬‬
‫حمرقة قاتلة تدلك عليها ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي �رس �إن ا�ستطعت يف الهواء رويداً‬
‫ال اختيا ًال على رفات العبا ِد‬ ‫و�أنت مُ قبل على قراءة ق�صيدتها‪ ،‬وهج باللغة‪ ،‬‬
‫وتوهج باملتخيل‪� ،‬سفر �شفيف ت�ؤثثه الكلمات‪ ،‬متيل ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي يف عاملها ال�شعري‬
‫ال مكان فيه للفو�ضى‪ ،‬دقة يف اختيار الكلمات �إىل احلفر يف اجل�سد كما يف الكون باحثة عن ق�صيدة‬
‫واملفردات‪ ،‬كما يختار عا�شق حلبيبته مزهرية ورد طازجة مفعمة مباء اللغة واحلياة ‪�،‬شاعرة تك�شف‬
‫ه�شا�شة الكائنات بيد تر�سم العامل‪.‬‬ ‫غياب‪.‬‬
‫طري بعد طول ٍ‬
‫هذا الف�سيف�ساء الباذخ يف الن�ص هو ما يجعلك تحَ ن يف اجتاه خلق ق�صيدة ‪،‬ب�إ�رشاقاتها‪،‬بفورانها‪،‬‬
‫لق�صيدتها‪�،‬أو تئن من املخاطرة يف ن�سج عالقة بهجومها املبكر على الذات ال�شاعرة‪.‬‬
‫�صداقة معها‪�.‬صداقة يفتحها املرئي والهام�شي ينه�ض املنجز الن�صي لعائ�شة الب�رصي على‬
‫والعاطفي واملن�سي واليومي واجلواين ب�ألفة ت�ضيق اال�ستمرار يف مقاومة فداحة العزلة من خالل فعل‬
‫بها العبارة �إذا ات�سعت الر�ؤيا‪ .‬تقول ال�شاعرة يف الكتابة ال�شعرية‪.‬‬
‫تقول يف ق�صيدة (قمر)‬ ‫ق�صيدة(خ�شوع) ‪:‬‬
‫�أكلما اكتمل‬ ‫حاذر‬
‫هذا القمر ي�رص‬ ‫�ضع حذاءك‬
‫على النوم‬ ‫على عتبة القلب‬
‫يف �رشفتي‪...‬‬ ‫حاذر‪،‬‬
‫وال يخجل‪.‬‬ ‫حتت رماد‬
‫بهذا املعنى‪ ،‬تنخرط الكتابة ال�شعرية يف ت�أ�سي�س‬ ‫اجل�سد‬
‫متخيلها عرب االنت�ساب للزمن الوجودي الآ �رس‪.‬الليل‬ ‫رفات �أحبة‬
‫كزمن �صمت‪،‬هدوء‪�،‬إن�صات الذات لفورانها‬ ‫اختاروا املوت‬
‫ك�أنها تُعيد ترتيب طفولة اللغة التي ق�صت جدائلها‬
‫يف الذاكرة‬
‫يف منت�صف الغواية‪� ،‬أو قبل قليل بِحُ لم ت�شيده رق�صة‬
‫فاخرتت ملرثياتهم‬
‫الغجر على بعد ميل من �شهقة الهواء‪.‬‬
‫بيا�ضات‬
‫الهوام�ش‬ ‫�صمتي‪.‬‬
‫هنا يح�رض الن�ص الغائب �أو هجرة الن�ص يف املنت ‪ -1‬عائ�شة الب�رصي‪� ،‬رشفة مطف�أة‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البي�ضاء ‪،‬ط‪،1‬‬
‫‪�، 2004‬ص‪1-41‬‬
‫ال�شعري عند ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي الذي يحيل ‪ -2‬ن‪.‬م‪�.‬س‪�،‬ص ‪.42‬‬
‫على الأ بيات ال�شعرية ال�شهرية للفيل�سوف ال�شاعر ‪ -3‬ن‪.‬م‪�.‬س‪�،‬ص ‪.27‬‬

‫‪293‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جماليات املكان العماين‬


‫كانت املجلة �سبّاقة بتلك احللة الزاهية ا أللوان‪.‬‬ ‫يف ثمانينيات القرن الع�رشين تعرف ُت على جملة‬
‫وقد �أفدت من املجلة – تلك‪ -‬وما زلت �أحتفظ ببع�ض‬ ‫«�أخبار �رشكتنا» يف �أول ا ألمر مل ي�ستهوين اال�سم‪،‬‬
‫�أعدادها‪ ..‬لكن ال�صديق الكاتب حممد عيد العرميي‬ ‫لكنني ت�صفحت ا ألعداد املتوفرة �آنذاك و�أعجبت‬
‫فاج�أين ب�أن �أر�سل يل ّ ن�سخة‬ ‫مبا حوته من مو�ضوعات‬
‫«طازجة» من كتاب ( ُعمان‬ ‫�شيقة و�صور جميلة الم�ست‬
‫– ا إلن�سان واملكان‪ -‬مقاالت‬ ‫حاجتي للمعرفة عن املكان‬
‫من جملة �أخبار �رشكتنا)‬ ‫وا إلن�سان العماين‪ ،‬خ�صو�صا ً‬
‫بعد يومني من حلظة �صدوره‬ ‫بع�ض الدرا�سات القيّمة التي‬
‫وتد�شينه وحني ت�صفحت الكتاب‬ ‫احتوتها مثل‪:‬‬
‫وجدت �أنه يرفد العديد مما قد‬ ‫تراث ُعمان اجليولوجي‬
‫احتوته املجلة من مو�ضوعات‬ ‫وهي درا�سة (م�صوّرة)‬
‫�شيقة تهم القارئ وبني دفتيه‬ ‫مهمة ن�رشت على حلقات‪.‬‬
‫ي�ستطيع املطلع واملتلقي ان يقر� أ‬ ‫وهناك درا�سات حول �أماكن‬
‫الكثري من الدرا�سات امل�صحوبة‬ ‫اال�ستقرار والرتحال وحوا�رض‬
‫بال�صور عن كنوز و�آثار ُعمان‬ ‫املدن والبيئات ال�صحراوية‬
‫يف بيئاتها املتنوعة‪.‬‬ ‫واجلبلية والبحرية ودرا�سات‬
‫�إذا املقاالت التي ت�ضمنها‬ ‫عن الطيور واحليوانات‬
‫الكتاب ثروة معرفية عن احلياة‬ ‫والزهور‪ ..‬تلك الدرا�سات‬
‫والبيئة العُمانية ُكتبت معظمها‬ ‫واال�ستطالعات النادرة تثري‬
‫�أو جلها ب�شغف وروح علمية‬ ‫الده�شة بتنوعها وغنا�ؤها‪.‬‬
‫الم�ست بواقعية املكان الذي انطلقت منه وبتفا�صيل‬ ‫وقد متيزت املجلة ‪� -‬أي�ضاً‪ -‬بح�ضور ال�صورة‬
‫دقيقة ال غنى عنها لباحث يف �سياق درا�سته وقراءته‬ ‫الفوتوغرافية بكامل �أناقتها �سواء بح�ضورها مفْردة‬
‫من املكان العُماين �سواء ً ما نُ�رش يف «املجلة» وهذا‬ ‫�أو تلك ال�صور امل�صاحبة لال�ستطالعات وهي �صور‬
‫«الكتاب» كقيمة معرفية وجمالية‪.‬‬ ‫التقطها م�صورون حمرتفون (عرب بع�ض هذه ال�صور‬
‫ط‪.‬م‬ ‫تعرف ُت على امل�صور العُماين املتميز حينذاك‪ -‬حممد‬
‫الو�ضاحي‪� -‬ضمن جمعية الت�صوير) ألماكن ُعمانية‬

‫‪294‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‪ ..‬متابعـــات‬

‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ُغي‬
‫الكتابة‪ ..‬التي ت رِّ‬
‫تتعمد بع�ض الدول �أال تعطي للكاتب قيمة‪ ،‬بل‪� ،‬إذا �أعطته بع�ض ًا من تلك القيمة (�أو �أخذها هو) فهو يف‬
‫حمل �ضعف وهوان حيث بيدها خيوط اللعبة‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬نتحدث عن الدول العربية‪ ،‬بالأ خ�ص �أكرث من غريها‪ -‬تتعمد (رمبا‪ ،‬بق�صد) و�ضع الكاتب يف هذه‬
‫الزاوية‪ ،‬من منطلق‪� ،‬أن للكتابة حياة وجتريب ًا ومغامرة وك�شف ًا وبوح ًا وف�ضح ًا وتغيرياً‪.‬‬
‫الكتابة‪ ،‬هنا‪ ،‬هناك‪( ..‬املفرت�ض) �أينما تكون‪ ،‬تلك التي تذهب بعيداً يف اال�ستثناء واخللق والتجديد‬
‫والبناء‪ ،‬التي ال يراد لها‪( ،‬لدينا) �أن تكون لها حياة‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬تظهر اخليارات (املتاحة) امام الكاتب يف �أفق �ضيق‪ ،‬وم�ساحة وهواء �أ�ضيق‪ ،‬ولهذا يتكرر املتكرر‪،‬‬
‫وال جديد‪ ،‬حتت كل �شم�س جديدة‪.‬‬
‫فما دام من يحدد اخليارات هو ال�سلطة‪ ..‬وال�سلطة العربية قد حددت �سقفها �سلف ًا من الكاتب والكتابة‬
‫املغايرة‪.‬‬
‫�إذا‪� ،‬أ�سفل ذلك ال�سقف الكا�شف لذاته‪َ ،‬ت ْذبُل كل كتابة مهما كانت نوعيتها (نرث‪� ،‬شعر‪ ،‬الكتابة‬
‫ب�أنواعها)‪.‬‬
‫يف هذه امل�سافة ال�ضيقة‪ ،‬ت�ضيق الكلمات بكاتبها‪ ،‬وت�صل به �إىل حالة من الت�أزم‪ ،‬وتذهب به بعيداً �إىل‬
‫«جوانية»‪� ،‬أعمق‪ .‬وهنا‪ ،‬تتحدد وتت�شكل الكتابة (اجلميلة) يف هذا امل�ضيق بالكتابة الذاتية (ر�سائل‬
‫«حقيقية ومتخيلة» و�شطحات «�أناوية») وال�رسد والتبا�ساته وغمو�ضه وكتابة ال�شعر املتلبّ�س �أو املغْرق‬
‫يف الرمزية‪ ،‬التي قد يتعمدها الكاتب وال�شاعر بالهروب �إىل الأ مام من مثلث الرقابات (االجتماعية‪،‬‬
‫الدينية والر�سمية) املعروفة والتي قد تطال معي�شته �أو رقبته‪.‬‬
‫تلك الرقابة تنتظر من ُي�ؤججها وير�شدها بالإ �شارات والك�شف والت�أويل‪ ،‬والقول يف العمل (الكتابي)‬
‫بعلم �أو بدونه‪.‬‬
‫وما دامت كل الأ مة (العربية) ال ت�صنع �إبرة قلم (هي‪ ..‬ت�صنع اخليوط) فهي بالت�أكيد‪ ،‬ال حتب مثل هذا‬
‫النوع من اال�شتغال املعريف‪ ،‬لأ نه يناق�ض �سكونية احلال التي تعي�ش فيه منذ زمن طال تدهّ ره‪.‬‬
‫وحتى �أولئك الكتّاب الذين يعي�شون يف املنايف لي�سوا مبن�أى عن �أ�سوار �أوطانهم اللينة وال�شوكية‪ ،‬هذا‬
‫لي�س انتقا�ص ًا من الكاتب العربي‪ ،‬همومه وم�شاغله وجهاده واجتهاده‪ ،‬ولكن‪ ،‬الكتابة العربية‪ ،‬رغم‪،‬‬
‫كل عذاباتها‪ ،‬الطريق �أمامها طويل‪ ،‬لت�صل مثل نظرياتها يف �أمريكا اجلنوبية‪( ،‬التي هي‪� ،‬أقرب �إلينا‪،‬‬
‫الكتابة التي نحتاج �إليها من �أجل التغيري) لت�صنع تاريخها ومغامراتها وتفّردها وجدّتها ونوعيّتها‪،‬‬
‫�أمام الطبيعة والديكتاتوريات (ال�صغرية والكبرية)‪.‬‬
‫طالب املعمري‬

‫‪295‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 61‬يناير ‪2010‬‬


‫جمـلـة ف�صليــة ثقافيــة‬
‫‪A Cultural Quarterly in Arabic‬‬
‫‪Editor - in - Chief‬‬
‫‪Saif Al Rahbi‬‬
‫‪Email: saif@alrahbi.info‬‬
‫‪.P.O. Box, 855. Postal Code.. 117. Al-Wadi Al-Kabir‬‬
‫‪Sultanate of Oman. Tel.: 24601608 Fax.: 24694254‬‬
‫‪Directed By‬‬
‫‪Khalaf Al Abri‬‬
‫‪Email: khalf301@hotmail.com‬‬

‫إشـــــــارات‬
‫نتوجه اىل الأ�صدقاء الكتاب والأدباء والفنانني ب� أن موادهم‬
‫يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين(‪ )Email‬يكون على العناوين‪:‬‬
‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬
‫‪nizwa99@nizwa.com‬‬
‫‪ -‬املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل اىل � أية جهة � أخرى للن�رش و� إال �سنوقف ‪ � -‬آ�سفني ‪ -‬التعامل‬
‫مع � أ�صحابها‪ -‬املواد املر�سلة تكتب بخط وا�ضح � أو تطبع باحلا�سب الآيل‪ .‬ويف�ضـل � إر�سـالهـا‬
‫عـلى قر�ص مدمج � أو بالربيـد االلكتــروين‬
‫‪ -‬ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات‬
‫فنيـة و� إخراجية‪ -‬املواد التي ترد للمجلة ال ترد لأ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش و� أحيانا‬
‫تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار‪.‬‬
‫عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت‬
‫‪www.nizwa.com‬‬
‫طبعت مبطابع‪ :‬م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�رش واالعالن‬
‫�ص‪.‬ب‪ 974 :‬م�سقط‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عمان‪ ،‬البدالة‪24604477 :‬‬
‫فاك�س‪24699642 :‬‬
‫االعالنات‪ :‬العمانية لالعالن والعالقات العامة‬
‫مبا�رش‪24699467 -24600482 :‬‬
‫�ص‪.‬ب‪ 2202 :‬روي‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عُمان‬
‫‪Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR‬‬
‫‪PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING‬‬
‫‪.P.O. Box, 974. Postal Code.. 113. Muscat. Sultanate of Oman‬‬
‫‪Tel.:24604477 Fax.: 24699643‬‬
‫‪Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS‬‬
‫‪Tell.: 24600483, 24699467‬‬
‫‪P.O. Box 3303. P.C. 112 Ruwi Sultanate of Oman‬‬
‫العـــدد احلــادي وال�ســـتون‬
‫يناير ‪ 2010‬م ‪ -‬حمرم ‪ 1431‬هـ‬

You might also like