Professional Documents
Culture Documents
61
ت�صـــدر عــن:
م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة
والن�شر واالعالن العــدد احلـادي وال�سـتون
يناير 2010م -حمرم 1431هـ
الرئي�س التنفيذي عنوان املرا�سلة:
�ص.ب 855الرمز الربيدي117 :
عبداهلل بن نا�صر الرحبي الوادي الكبري ،م�سقط � -سـلطنة عُمان
هاتف)00968 ( 24601608:
رئي�س التحرير فاك�س)00968( 24694254 :
ال�ســـعار:
أ
�ســـــيف الرحـــبي �سلطنة عُمان ريال واحـد -ا إلمــارات
10دراهم -قطــر 15رياال -البحـرين
مدير التحـرير 1.5دينــار -الكويت 1.5دين ــار -
ال�سـعودية 15ريــاال -الأردن 1.5دينار
طــالب املعمـري � -سوريا 75لرية -لبنان 3000لرية
-م�صر 4جنيهات -ال�سودان 125
جنيها -تون�س ديناران -اجلــزائر
اال�شراف الفني واالخراج 125دينـ ــارا -ليبي ــا 1.5دينار -
خلف العربي املغرب 20درهما -اليمن 90رياال
-اململكة املتحدة جنيهان -امريكا 3
دوالرات -فرن�سا 20فرنكا -ايطـ ــاليـا
4560لرية.
اال�شرتاكات ال�سنوية:
للأ فراد 5 :رياالت عُمانية ،للم� ؤ�س�سات:
10رياالت عمانية -تراجع ق�سيمة
اال�شرتاك.
وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة
� إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى
العنوان التايل:
م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر
واالعالن �ص.ب - 3002 :الرمز
الربيدي 112روي � -سلطنة عُمان.
في هذا العدد
s
s
s
4
االفتتاحية:
-عنا�رص امل�شهد� :سيف الرحبي
8
lحمور :عبداللطيف اللعبي ..وجائزة «غونكور» الفرن�سية.
20
الدرا�سـات:
-اي�ضاح نظم ال�سلوك اىل ح�رضات ملك امللوك :نا�رص بن
جاعد اخلرو�صي :تقدمي وحتقيق :وليد حممود خال�ص -حول
معنى الغربة والغرابة� :شاكر عبداحلميد -ا ألمل /العزلة/التطهري
(منوذج التوحيدي) :هالة �أحمد ف�ؤاد -حممود الربيكان ..حماولة
�أولية للتعرف عليه� :صالح نيازي -جملة «�شعر» اللبنانية
مراجعة الروافد والت� ّشكالت (حممد املاغوط وبول �شاوول):
حبيب بـوهرور -ق�صيدة النرث و�إ�شكاالتها عند عبدالعزيز
املقالح :حممد يحيى احل�صماين -مركزية القيمة ..يف الثقافة
العربية الكال�سيكية :عبدال�ستار جرب -عامل ا إلن�شاء املغلق..
ماركيوز ونقد لغة ال�سيا�سة :عماد عبداللطيف -احلطيئة
وم�ستويات ال�صورة الفنية يف �شعره� :سمية الهادي -الذاكرة
امل�ضادة يف روايات منت�رص القفا�س و�أحمد زين :ل�ؤي حمزة
عبا�س -تنويعات على معنى ا ألدب -للم�ست�رشق الفرن�سي:
�شارل بالّر تعريب :رمزي رم�ضاين.
146
لقـــــاءات:
-فاطمة ال�شيدية :عبدالرزاق الربيعي.
-خليل النعيمي :حممد املزديوي.
-خالد مطاوع :عابد ا�سماعيل.
166
ت�شكــــــيل:
-املينا بهجة ال�صياغة اال�سالمية � :سعد اجلادر .
178
م�ســــــــرح:
« -معجزة القدي�س انطوان» :موري�س مايرتالينك ترجمة:
عبداملنعم ال�شنتوف.
-امل�شهد الأ خري :حواء ح�سان عزت.
^ Email: nizwa99@omantel.net.om ^ تر�سل املقاالت با�سم رئي�س التحرير..
194
�سينمــــــــا:
� -سوف ت�سفك دماء �سيناريو :بول توما�س �أندر�سن ترجمة:
مها لطفي.
218
�شعـــــــــــر:
-ف�سوافا �شمبود�سكا� :أحمد �شافعي� -أ�شياء ال�سيدة التي
ن�سيت �أن تكرب :من�صف الوهايبي -من وحي القرا�صنة هالل
احلجري -مرمي :جرج�س �شكري -كـ«�سرية النائم يف ال�سكون»:
مو�سى حوامدة -ق�صائد :منال �أحمد -ق�صائد :ابراهيم زويل -
يتنا�سلون كالطحالب :عبداملجيد الرتكي.
242
ن�صـــــو�ص:
-دون �أن ت�سمي ا أل�شياء ب�أ�سمائها :هدى اجلهورية -ماكينة
الفرا�شة :جوخة احلارثية � -أرملة :مي�شيل التيولي�س ترجمة:
حممد حلمي الري�شة -الزائرة :دنى غايل -ق�ص�ص ق�صرية:
حممد جنيم -املجل�س حياة :كف�ضاء يف الروح :حمود ال�شكيلي
-اليوم ما قبل ا ألخري من حياة �صياد �أعمى :حممود الرحبي
-عط�ش :امتنان ال�صمادي
262
متابعــــات:
-الرتجمة والفل�سفة يف العامل العربي :عبد ال�سالم بنعبد العايل-
�سعد البازعي وجدل التجديد يف ال�شعر ال�سعودي� :صابر احلبا�شة-
�رسكون بول�ص يف (حامل الفانو�س يف ليل الذئاب)� :شاكر جميد
�سيفو -خـوان غويت�سولـو «االربعينية» واخليال الديني ال�صويف:
حممد �آيت لعميم� -آمال مو�سى وجتليات املاء وال�ضوء يف �شعرها:
�أحمد اجلوّة -مرام امل�رصي� :أنوثة ولغة يف العراء :بيان ال�صفدي-
ابراهيم احلجري كينونة مفرطة ا ألوجاع :ر�شيد طالل -ف�ضيلة
الفاروق بني التاء املربوطة والتاء املفتوحة موت يف تاء اخلجل:
عبد الرحمن تربما�سني� -سو�سن العريقي يف ديوانها ال�شعري
«�أكرث من الالزم» :عمر حممد عمر« -ال ميكن الوثوق بال�شعر» ر�ؤية
معا�رصة لل�شعر احلديث :دلدار فلمز -عائ�شة الب�رصي يف «�رشفة
مطف�أة»� :أحمد الدمناتي -جماليات املكان ال ُعماين -الكتابة التي
تغيرّ :طالب املعمري.
^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها ،واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من � آراء ^
افتتاحية
عنا�صر امل�شهد
هذه الرطانة احلداثيّة التي تزيد خطورتها على التقليد -1-
ال�سطحي الذي يدّعي الرتاث،وهو الذي �سحق الرتاث والذي ق�رص بال�شعر كرثته وتعاطي كل أ�حد له حتى
مبعناه ا إلبداعي اخلالّق وا�ستعا�ض بالفتات والق�شور-، الغوغاء وال�سفلة
هذه املمار�سة ،هي التي جعلت الكتابة م�رسحا ً للبالهة (الع�سكري -يف كتاب ال�صناعتني)
املدعيّة والغباء املتعامل وتفريخ العقد وا ألحقاد هذه العبارة العا�صفة يف غ�ضبها ورف�ضها من قبل ناقد
ال�صغرية .وتلك النـزعة يف الكتابة تقدم نف�سها �صعبة �أملعي مثل الع�سكري� ،رصخة احتجاج ملا حلق ال�شعر
املنال ومعقدة ،وهي ال حتتوي �إال على اخلواء املفربك وا ألدب يف ع�رصه من ركاكة وانحدار مقيت ،جعل اجلهلة
يف ن�صو�ص وجمل ذات بريق براين� ،إذ لي�س كل ما يلمع وا ألدعياء ي�سطون على هذا احلقل الذي هو من ال�سموُّ
ذهبا ً كما قيل ،ذهب الكتابة يف مكان �آخر متاماً.. والرفعة مبكان ق�ص ّي و«�صعب �سلّمه» ..عبارة الع�سكري
يف ال�شعر ،يف الرواية التي �أ�ضحت ،يف جانب كبري �أو �رصخته تن�سحب على ا ألماكن والع�صور مبختلفها.
منها،ت�شبه ال�رصعة اال�ستهالكية ،ولي�ست حاجة تعبريية وهي دفاع عن احلقيقة ا إلبداعيّة ا أل�صيلة يف وجه
وروحيّة تتلم�س �شكال ً بعينه .وما ن�صادفه يف املجال الزيف وا إل�سفاف والرطانة حيث ال�سما�رسة والد ّجالون
النقدي «التفكيكي» وغريه من هول املعاناة ،و�أنت تقر�أ، �أ�صبحوا يحتلون احللبة من كل حدْب و�صوب .والتب�س
جبينك يت�صبب عرقا ً وت�رسح بني اجلملة وا ألخرى ،لعلك على القارئ الب�سيط الفرق اجلوهري بني احلقيقي
جتد �ضالة املعنى �أو الالمعنى الذي يرتطم ب�أعماقه والزائف وغامت احلدود وامل�سافات .خا�صة يف غياب
الكائن والكتابة(،كما يف �أ�صقاع املعرفة العميقة، املعيار النقدي ال�صادق موقفا ً والكا�شف معرفة ،وف�ساد
النظرة واملوح�شة) ،لكنك يف النهاية لن جتد �إال التفا�صح الذوق ..يف امل�شهد ا ألدبي الراهن ،يكفي �أن نلقي نظرة
والتذاكي وتلك الرطانة البائ�سة التي ال تزيدك �إال ظم� أ ولو �رسيعة على النتاجات املطبوعة واملن�شورة لتك�شف
وم�سغبة ..يف جو امليديا والكذب يلتب�س م�شهد الكتابة البداهة الطبيعية ملقولة الع�سكري يف الكثري من هذا
ومتحى احلدود وتت�ساوى. النتاج .ومما يزيد ا ألمر فداحة يف زمننا هو تطور �أدوات
ال�شاعر والكاتب الذي �أفنى حياة وعمرا ً ليقول متزّق الن�رش الطباعي وااللكرتوين والف�ضائي ،مما يو�سع رقعة
روحه وي�ؤ�رش ملرحلته وع�رصه ،يت�ساوى مع مهرجي االنحطاط ا ألدبي مب�سافات �ضوئية عن زمن �أ�سالفنا.
هذا امل�شهد� ،أحفاد الرطانات ،بكافة �أنواعها ،واالنحدار ويجعل فرز احلدود بني النقي�ضني �صعبا ً وملتب�سا ً على
ا ألدبي والقيمي. غري القارئ املتمرّ�س..
و�أ�صبح (ا ألدب) مطيّة لالنتهازيينّ يف الو�صول �إىل
[ [ [ غايات ،هي يف الطرف النقي�ض ،من جوهره ونبله
بعد قرون من زمن الع�سكري �أ�شار الفيل�سوف ا ألملاين اجلمايل وا إلن�ساين.
فريدريك نيت�شه� ،إىل الفكر الذي �أ�صبح مقرفاً ،ألن الت�سويق ا إلعالمي الذي يعتمد على توفر ال�رشط املادي
ا ألوغاد ت�سللوا �إىل عرينه فلوثوا �ساحته و�أحلقوا به العار وال�شطارة والعالقات العامة ..اذا كانت هذه امل�س�ألة
وا إلهانات. ال يخلو منها زمن �أو ثقافة و�أ�سلوب تعبري ..فرطانة
«احلداثة» وغمو�ضها املفتعل ،ذاك القادم من ال�سطحيّة
-2- واجلهل والفربكة ،ولي�س الغمو�ض (بالطبع) القادم من
«�أيتها الطهارة �رشوط املعرفة ا إلبداعية ،البعيدة الغور وا ألبعاد وهي
�إنك موجعة نازفة» تالم�س هاويات الوجود وتعقّد احلياة وا إلن�سان (الغمو�ض
نحن يف �آخر عام �سيلتحق ال �شك بجحافل ا ألعوام التي املا�سي) ،من فرط ما يختزن من طبقات داللية وجمالية.
نزوى العدد / 61يناير 2010
افتتاحية ..افتتاحية ..افتتاحية..
s
s
s
الفن و�سحره ا آل�رس. �سبقته والتي �ست�أتي بعده ،م�شكلة حميط ا ألزمان املندفع
�شخ�صيات تظهر وتختفي ،بع�ضها ل�صفحات قليلة �صوب املجهول.
لكنها �ضمن الن�سيج العام للرواية ترتك �أثرا ً يف نف�س ال م�شاعر وال طعم �إال طعم اخل�سارة واخلذالن ،طعم الغدر
القارئ ،ترتك جراحاً .وهي يف غمرة عبورها ال�رسيع والزيف الذي يجود به زمن االنحطاط الكا�رس على ا ألر�ض
ت�ضيء م�رسح ا ألحداث ،كما ا ألحالم الثوريّة والثقافية العربيّة.
والعاطفية� ،أحالم الطفولة والعمر الهارب� .أحالم ذلك ال �شيء غري هذا االرتطام العدمي الكبري بجدار التاريخ
اجليل �أو ا ألجيال التي �ض ّحت و�شقت �أميا �شقاء وت�ضحية والزمن ،وهما ا ألكرث مرارة وعقابا ً خا�صة حني يعي�ش
لتجد نف�سها �آخر املطاف يف �أر�ض م�رضوبة بزلزال ا إلن�سان يف هكذا برهة ،ال تتك�شف خباياها �إال عن كل ما
الف�ساد والقذارة ،ي�سومها النخا�سة واالنتهازيون اجلهلة هو قبيح ومت�ضع وال �إن�ساين..
«الرخا�ص» بالدارجة اجلزائريّة. ونفاج�أ� ،أو مل نعد ْ نفاج�أ ،حني يجرف هذا الطوفان
رغم كل ذلك ال�ضوء الكا�شف الذي من فرط كثافته يبلبل االنحطاطي ب�رشاً ،كنت تظن بهم غري ذلك ،كنت تعلق
الب�رص والب�صرية ،الذي ي�سلطه الروائي اجلزائري على ما عليهم ق�شة ا ألمل ا ألخرية..
�آلت �إليه �أمور الراهن العربي ومن زوايا ونوافذ متعددة رواية اجلزائري �أمني الزاوي (�شارع �إبلي�س) تندرج يف
ت�ستدرج دوما ً نحو القعر ا ألق�صى للدمار ا إلن�ساين ،مي�ضي هذا ال�سياق االرتطامي ،الذي ال ي�ساوم وال يلّطف وال
قارئ (�شارع ابلي�س) يف الرواية مبتعة جماليّة عالية، ي�ستطرد فيما ال طائل له� ،إنه ي�أخذ قارئه على نحو
كل العنا�رص موظفة يف �سياقها املقنع فنياً ،كل �شيء له �صاعق ومبا�رش ،مبا�رشة الفن ا أل�سا�سي الذي يحرق
مكانه و�سط هذه الفو�ضى واالنهيار ال�شاملني. �صانعه من فرط �صدقه ويحرق تاريخه املتخرث ،ملقاربة
الفن يث�أر بطريقته دائماً ،وا أل�سطر ال�سابقة ت�أخذ احلقيقة املغيبّة دوماً ،خلف ُحجب امل�سلّمات والقيم التي
م�صداقيتها من قراءة الرواية ،التي هي من الغنى �أ�ضحت ثابتة يف وعي املنظومات وا ألفراد ،وان ُقوربت
وا إلدها�ش ،حتتاج اىل قراءات ومقاربات خمتلفة �أكرث فعلى َخفر ومواربة وترميز معظمه ي�سبح يف الغمو�ض،
تف�صيال وا�ستق�صاء. الالمقنع ابداعا ً وتاريخاً..
-3- �أمني الزاوي ينق�ض يف (�شارع ابلي�س) على تلك القيم
يف وجه من وجوه االغرتاب الكثرية املتعددة ،التي والت�صوّرات التي �شكلت منظومات الوعي العربي
�ش ّكلت العامل اجلوهري ل ألدب والفل�سفة ،هو ذلك ال�شعور املعا�رص ،من جزائره اىل م�رشقه ،ويف يده معول النق�ض
املهيمن باالنف�صال عن املحيط وا أل�شياء والقيم ال�سائدة والته�شيم ..مل يعد �شتم اال�ستعمار بديال ً جمدياّ ،على ما
املتداولة ... �أحلقه من خراب ،عن م�ساءلة الداخل ،م�ساءلة كيانية
�شعور ال يخفف فداحته �أي توّ�سالت يحاول الفرد املغرتب ت�صل اىل م�شارف «اخليانة» مبعناها اخلالّق.
�أن ي�ستدعيها وميار�سها ليزيح ثقل هذا ال�شعور �أو يخفف م�ساءلة «الثورات» ،الوقائع واملفاهيم ،انطالقا ً من
من �سطوته التي تطبع ال�سلوك والتعبري... الثورة اجلزائريّة التي ينزع عنها الزاوي ،كل تلك الهالة
لي�س ال�شعور بخ�رسان الوجود وا�ضطراب الكينونة يف املقد� ّسة ،حتى دم�شق وبريوت امل�رسح الواقعي واملتخيّل
منحاه الوجودي (االنطولوجي) فح�سب ،و�إمنا ال�شعور لهذه الرواية الفريدة ..حتى الثورة الفل�سطينية وااليرانية،
املغرتب جتاه املعي�ش اليومي و�أمناط احلياة ،من ال�سكن وجممل الن�سيج االجتماعي الذي ي�شكل املرحلة
وطبيعة العالقات املاديّة املح�ضة يف بلدان ال تفت� أ احلا�رضة.
جتر ذبول االدعاء ب�أنها متماهية مع تراثها وتاريخها ولكي يقول الزاوي �أمني ،كل تلك ا أل�شياء امل�صنوعة من
امل�رشق ،وهي يف واقع احلال لي�ست متماهية �إال مع اجلحيم واملفارقة امل�أ�ساوية ،كان عليه �أن يه�ضم �أدوات
اجلانب ال�سلب ّي وقيمه من هذا الرتاث ،كما هي كذلك تعبري وجتريب ا�ستقاها من �أكرث من م�صدر ،لت�ش ّكل
يف االلتقاء حد َّ التماهي واالن�سحاق مع قيم احل�ضارة لحُ مته اخلا�صة التي ي�ستطيع من خاللها �أن ي�سجل هذه
املهيمنة (الغربية االمريكيّة ) يف الربهة الراهنة ... ال�شهادة ،لي�س باملعنى الوثائقي بالطبع ،و�إمنا ب�أدوات
نزوى العدد / 61يناير 2010
افتتاحية ..افتتاحية ..افتتاحية..
s
s
s
s
s
s
املرتاميّة حتى �أعماق املحيط الهندي ،الذي �سي�صفه �صلب وحقيقي يف حياته كي ي�سند روحه وال يتكئ �إىل
مواطن (لوتي) بعده بقليل� ،أعني الكاتب الفرن�سي (بول حائط الهباء املطلق..
نيزان) الذي مل يكن يف البحرية و�إمنا يف احلزب ال�شيوعي �إنه ي�شبه احلاج �أو البحار فعالً ،لكن هذين ا ألخريين
– الفرن�سي ،حني كانت ايديلوجيا هذا احلزب ت�شكل نوعا ي�ستندان �إىل ُمثل وقناعات ثابتة ،وهو يف حالته �أقرب
من حلم خال�ص للنخب الثقافية يف العامل -و�صفه �إىل البحث عن حقيقة غام�ضة �أو معجزة م�ستحيلة احلدوث
بجحيم الب ّحارة. �إال باملوت رمبا ،وهو يدرك هذا ورغم ذلك ا إلدراك ا ألليم
عرب ر�ؤية كاتبني فرن�سيينّ جابا هذه ا أل�صقاع النائيّة يوا�صل �سريه وهروبه من �أ�شباح غام�ضة �إىل �أفق �أكرث
املوح�شة والتي جت� ّسد الف�صل ا ألكرث جحي ّمية ورعبا ً يف غمو�ضاً ،لكنه �أكرث تفتحا ً على عوامله الداخليّة ،وما يظن
الطبيعة . �أنه اخلري واحلق واجلمال .هذه املفاهيم التي يف غيابها
على م�ستوى الكوكب ا ألر�ضي برمته رمبا ...تلتقي يكمن ال�شغف بها وتكمن عظمتها احلقيقيّة ..وينفجر من
ر�ؤيتهما يف و�صف هذه املناطق التي �أحكمت ق�سوة الطق�س هذا الغياب منا�ضلون �أ�شاو�س تخلّدهم الكتب والتاريخ .
واملعي�ش طوقها على كل الكائنات وا أل�شياء .وجعلت ينفجر مرتّحلون يف ليل الفكر ،وم�سافرون ال ينظرون �إال
الب�رش يف امتحان دائم �أمام هول هذا امل�شهد الذي مت�سي �إىل ا ألحذية والطرقات..
فيه احلياة �أ�شبه مبعجزة النبع الذي يتف ّجر يف �صحراء جدَل ا ألحذية والطرقات ،جدل معّقد ال يعرفه �إال من َقدَح
قاحلة ي�سحلها بركان اجلفاف من غري هوادة وال رحمة، زناد امل�سافة ،وخرب الرت ّحل والفراق يف وح�شة الليايل
�أ�شبه مبعجزة وادي العيون يف رواية عبدالرحمن منيف والنا�س نيام.
(مدن امللح) ..
ميكن القول يف هذا ال�سياق� ،إن الطبيعة نف�سها متتحن
-5-
وتخترب عنفها اخلا�ص ،على هذه البقعة من �أر�ض الب�رش (كنا يف طريقنا �صوب اخلليج ،الذي يعد �أكرب امل�سطحات
واجلوارح .حدود هذا العنف ،ا ألفق ال�شا�سع الالحمدود املائيّة اخلانقة يف العامل ،وهو �ساخن منذ ا ألزل لوقوعه
للق�سوة حيث يبقى الربع اخلايل �شاهدها ا ألكرب ،درة بني �شواطئ ملتهبة حيث يندر جدا ً �أن ت�سقط عليها قطرة
تاجها امللكي. مطر ،وحيث ال�سهول ال تعرف اخل�رضة ،وحيث ال يتطور
تخترب عنفها وق�سوتها كما يخترب الب�رش جيو�شهم وهي �شيء يف هذا اجلدب ال�رسمدي �إال مملكة اجلماد فح�سب .
ت�ستعد خلو�ض املعارك يف تخوم ال�صحراء احلارقة �أو ومع ذلك كانت الرطوبة اخلانقة ترهقنا وجتهدنا ،وكل
يف املدن امل�أهولة باحلدائق املخ�رضة وا ألنهار ،وكما �شيء مل�سناه وجدناه رطبا ً دافئاً ،بل كنا نتنف�س البخار
يخترب اجل�سد املكبوت حتى االنفجار� ،أناه ا ألخرى� ،أناه ك�أمنا كنا واقفني فوق حمام ماء يغلي� ،أما ال�شم�س
العا�شقة وقد �أمطرته حنانا ً و�شهوة بعد طول غياب ... العنيفة فقد �أبقتنا يف درجة احلرارة نف�سها �صباح م�ساء،
تقر� أعن رحلة الفرن�سي يف ذلك الزمان البعيد القريب حيث ت�رشق وتغرب �صفراء باهتة دون �أن نرى �أ�شعتها ،ألن
ت�صعد �سيارتك الواقفة �أمام العمارة ،وقد حتولت �إىل كتلة البخار يحجبها ب�ضباب ال�شمال).
من اللهب .تدير زرَّ التكييف (هذا ما مييزك عن ا أل�سالف) املقطع �أعاله ا�ستُل من مقال الرحالة و�ضابط البحرية
تتحدث بق�سوة �إىل امر�أتك التي تبادلك نف�س احلدّة ،تدير الفرن�سيّة والكاتب (بريلوتي) وهو اال�سم امل�ستعار
زر الراديو ،تنهال عليك �أخبار وتقارير الزحف القادم، لـ(جولني فيو) .1923-1850ح�سب املرتجم العماين
(�ضيوف احلداثة والعوملة) فريو�سات اخلنازير. يعقوب بن نا�رص املفرجي.
و�أوبئة �أخرى يف الطريق لتكتمل عنا�رص هذا امل�شهد قليلة هي الكتابات املرتجمة للرحالة غري ا إلجنليز،
القيامي ال�سعيد. والذين جابوا �صحارى اخلليج واجلزيرة العربية وبحارها
�سيف الرحبي
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
�صدمه هذا الرحيل املبكر ،كما �صدمنا ،لدرجة �أن يرتطم باملوت كارتطامه بق�ضايا الفكر والوجود.
ا أل�ستاذ �أركون حني �ألتقيه يف م�ؤمتر �أو منا�سبة ر�شيد كان ا ألكرث عمقا بيننا ،و�إن �آثر الطريقة
و�أذكره بر�شيد يلوذ بال�صمت من هول �صدمة ال�سقراطية يف عدم الكتابة �إال قليال ،هو املتبحر
الغياب. على ال�صعيد الفل�سفي واملعريف عامة .كان
يف �سياق هذه ا إل�شارات �إىل نزهات مقربة يتحدث �أثناء نزهاتنا الكثرية �ساعات و�ساعات
بريال�شيز ،كيف يل �أن �أن�سى هدى بركات ،وكان حول فكرة �أو فيل�سوف �أو �شاعر ،حتى ي�ضيعنا
�أول �أيام ال�سنة اجلديدة ،حني اقرتحت عليها �أن �أحيانا يف دوائر متاهاته النظرية الوا�سعة �سعة
نلتقي يف املقربة ،وهي قريبة من بيتها اجلديد، املقربة واملدينة.
قالت مازحة�« :سيف �أول �أيام ال�سنة ،ويف مقربة، ترى هل كان ر�شيد رحمه اهلل ،ونحن نتجول
�شو ها التفا�ؤل اجلميل؟» بني ا أل�رضحة وا ألجداث ،يفكر يف ميتة مدوية
م�أ�ساوية على هذا النحو؟ حني �أبلغني �صموئيل
k k k
�شمعون خرب انتحاره ،نقال عن عبد القادر اجلنابي،
قرب هرني باربو�س وكنت حينها يف ع ّمان ،مل �أ�صدق واعتقدت أليام
�أنها مزحة �سوريالية ،حتى قر�أت مقالة ال�صديق
ثقب
�أغلق الباب و�أنظر من ِ حممد بني�س يف �صحيفة «احلياة».
عا�صف ٍة
ِ �أتذكر �أنني عرّفت «ر�شيد» على «�سيدي بني�س»،
�إىل احل�شد الب�رش ِّي كما �أخذته ،وهو املنعزل غالبا ،عن �أجواء
و�أعرف ،بعد قليل � ...ستنتق ُل املذبحة املثقفني العرب� ،إىل يو�سف اخلال ،وكان هناك
بتفا�صيلها �صدفة� ،أدوني�س وخالدة �سعيد حيث �أعجبوا �أميا
�إىل قلبي. �إعجاب بهذا املغربي الذي يتدفق معرفة وذكاء
kمن ق�صيدة مهداة �إىل عبداللطيف اللعبي وا أل�سطر ا آلنفة ي�صل حدود العبقرية.
كتبت قبل �سنني. �آخر مرة ر�أيت فيها ر�شيد ال�صباغي كان مبعية
�س .الرحـبي حممد �أركون ،كان من �أخل�ص �أ�صدقائه ،وقد
s
s
s
املنا�ضل املعزول،
()1
والت�ضامن العاملي
ترجمة � :سعيد بوخليط عبد اللطيف اللعبي
كاتب ومرتجم من املغرب
العدالة. كيف يكتب بجروحه دون ت�أجيجها ثانية ،جمازفا
اعتقلت بداية �سنة ،1972بتهمة امل�س ب�أمن الدولة. بافتقاد املو�ضوعية املقد�سة التي تعطي �إمكانية
كنت ،قد �أ�س�ست �سنة �« 1966أنفا�س» « ،» Souffles جملة ا�ست�ساغة خطاب ما �أو ا�ستبعاده ؟ �أن تفح�ص ذاك الذي
�أدبية وثقافية �أ�ضحت مع مر ال�سنني منربا للفكر تعذر الدفاع عنه ،مثل جراح حائر �أمـام الأ مل الغريب
الثوري باملغرب� .ساهمت� ،أي�ضا يف �إن�شاء جمعية ملري�ضه ،وبالتايل لي�س لـه من اختيار � آخر ،غري �إجراء
للبحث الثقايف ودار «�أطالنط» « » Atlantes للن�رش� .أخريا، عملية جراحية من منطلق ال�صدفة ،حتى يتبني ثم يقوم
�أ�صدرت باملغرب �أوىل �أعمايل الأ دبية. بعمل ما ؟ هل ميكننا تقدمي �شهادة «فاترة» ،حينما
انخرطت �سنة 1969باحلزب ال�شيوعي املغربي ،ثم يتعلم اجل�سد ثانية بطريقة ما وظائفه وال ت�ست�ضيء
تركته �سنة � 1970صحبة منا�ضلني � آخرين .فو�ضعنا، الأ عني بنور النهار ،ثم تخرج الكلمات من الفم دون �أن
بالتايل كمهمة ،فتح م�سار لبديل ي�ساري ،يتجاوز جتابه قط �أقفال ال�صمت وكذا �أ�سواره املرتفعة .عندما
حدود وعجز املعار�ضة التقليدية .يف خ�ضم احلقبة يتوقف ظل املحقق على الت�أثري فيك ،لكي ال حتلق �إال
التمهيدية للربنامج ال�سيا�سي ،الإ يديولوجي والتنظيمي بني هذه الكوابي�س حيث ت�شع الت�شوهات على �صدرك
لهذه احلركة اجلديدة ،جاء اعتقايل وحظر املجلة التي مثل �أورام احلمى ،وتتح�صن امل�أ�ساة الفردية داخل � آخر
�أ�رشفت عليها. �أكواخ ليل الهمجية الكبري.
�أريد الت�أكيد ،ب�أن الي�سار الإ يديولوجي الذي ان�ضويت لكي ال نخادع .ي�سهل اقت�سام الفرح ،االعتقادات
()2
داخله ،مل يدع قط للعنف على طريقة.La guérilla : �أو الطموحات �أكرث من املعاناة حينما ت�شمل هاته
�سواء احل�رضية �أو الغيفارية ،كما كان الأ مر رائجا الأ خرية اجل�سد ،الروح والوعي .ثم ت�صري ذاكرة ثانية
تلك الفرتة .ال�رصاع الطبقي ،بالن�سبة �إليه ،قد ي�ؤدي توخز با�ستمرار.
�إىل تغريات بنيوية (مبا يف ذلك �سيا�سية) كان البلد يف نقولها بكل و�ضوح� ،إن ال�شخ�ص الذي عا�ش التجربة
حاجة �إليها. الطويلة ل�س�ؤال املحقق واالعتقال ،ي�صبح مفرط
ابتد�أت حمنتي فجر 27يناير .1972االعتقال ،وبعده احل�سا�سية .مما ي�صعب عليه �أخذ م�سافة حيال
التعذيب مبا�رشة .كانت يل الفر�صة ،للتحدث عن الوقائع هذه التجربة ،تلهمه لكي يتحدث عن هذا املا�ضي
بني م�ضامني الن�صو�ص الأ دبية .لكن �سيكون من املفيد املن�رصم.
هنا ،الرتكيز على داللة هاته اللحظة بال�ضبط ،والقطيعة لكن بالرغم من ذلك ،يجب �أن حتاول �إكراه نف�سك حتى
اجلذرية التي حتدثها مع ت�صور الزمان واملكان، ت�ستعيد هذا الواقع ،وجتعل الإ طالع على مناطق معتمة
ينقلب معها و�ضع ال�رشط الإ ن�ساين �إىل �شيء � آخر .كل ممكنا� ،سعينا لإ خفائها والتكتم عليها مراعاة للكرامة
الذين عا�شوا هذا التعميد الغريب� ،سيحتفظون دائما ال�شخ�صية .جتنب التباهي ،وتقدم ب�شهادتك حتت ق�سم
11 نزوى العدد / 61يناير 2010
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
تعر�ض له يف الأ مكنة ال�رسية لالعتقال والتعذيب. يف �أنف�سهم ،بجرح ال يندمل جراء التمزق .هناك �إذن
يقوم النظام ال�سجني على ا�سرتاتيجية �أخرى يف التحطيم املاقبل :حياة تقريبا عادية� ،أفراح� ،أحزان ،طموحات،
وتقوي�ض ال�صفة الإ ن�سانية ،فقد � آثر �صيغة املوت البطيء. االندماج يف ن�سيج �سو�سيوثقايف ،االرتباط احلتمي
خرباء هذا النظام ،فهموا جيدا ب�أن الإ ن�سان لي�س �إن�سانا، بالقانون ،وعقالنية �أو العقالنية ن�سق ما .لكن كذلك،
نتكلم هنا ب�شكل عام� ،إال �إذا حقق عددا معينا من العالقات، انت�ساب للج�سد ،للآ خرين ،والعامل .ثم �أي�ضا املابعدي:
ب�شكل متقابل :هكذا من الإ دراك احل�سي فالإ دراك الفعلي، �ش�ساعة املجهول ،حيث تتخرب كل الروابط ،يتال�شى
من اليد �إىل الدماغ ،التطبيق ثم النظرية ،من الإ ن�سان �أتفه حق ،تتعطل وظيفة كل و�ضع جمتمعي �أو فكري
�إىل الإ ن�سانية عرب ن�ساء ورجال ملمو�سني ،من الإ ن�صات لل�شخ�ص ،يختزل الفرد �إىل �رصامة كتلته الدماغية،
�إىل الكالم ،اخلا�ص فالعام ،والعك�س بالعك�س منذ بداية ثم لدمه وعظامه وغ�رضوفه .داخل فتحة هذا الباب
الالئحة. الأ ر�ضي ،الذي �سينغلق عليه فال �شاهدا ،وال �شفيعا،
بيد �أن هذه العالقات لي�ست عمليات جمردة منار�سها �أو االتكال على �أي �شيء مما ميكن يف الزمان املعتاد
يف و�ضع م�صطنع .فهي غري ممكنة ،وبالتايل �إجرائية �إال و�ضع حدود لل�سلوكات واالبتزازات .وحده ،ميزان
�إذا انغم�س الإ ن�سان يف و�سط حيث تتواجد داخل حركة القوة الفيزيائية ال�رش�سة ي�شتغل ،خا�صة حينما ينتقل
خا�صة بها ،كل العنا�رص التي تخول له �أن يرتجم �إىل امل�ستجوب �إىل الأ فعال .املعركة ،التي �سي�ستلم �إليها
�أفعال هويته الإ ن�سانية .ال يتحقق الو�ضع الإ ن�ساين� ،إال �إذن ،وعي ال�ضحية مهولة .ت�أتي حلظة ،ينتقل فيها
داخل البوتقة االجتماعية� ،أي يف ج�سم حي. الأ مل من اجل�سد ،بعد �أن حطمه كليا ،لكي يحتل حقل
ي�ستهدف النظام ال�سجني ،انتزاع الفرد من ذلك ،وكذا الوعي ذاته .فال�شخ�ص الذي يهذي ،فقد بالت�أكيد جل
مغط�س احلياة .مما ينتج عنه ،كائـن خمتزل �إىل �أب�سط قدراته الذهنية واحليوية .بعد زمان معني ،ف�إن الرغبة
تعبرياته ،منقطع عن العامل و�أ�شباهه ،لكن �أي�ضا كائن الوحيدة التي ميكنه تخيلها تتمثل يف تلك املوت النعمة.
ت�شظى و�أ�ضحى م�شوها. �أظن ،قد الم�سنا هنا� ،أق�صى حلظة عزل املنا�ضل .ف�صل
يت�أتى الأ مر ،من عملية بطيئة جلراحة الأ ع�صاب .ي�ضع مطلق ،يدرك اجلالدون كيفية توظيفه ل�صاحلهم ،ق�صد
الرتوي�ض كهدف ،نهايته اخلا�صة :لن تكون هناك حاجة اال�ستفادة من �أثر املفاج�أة ،مع ت�أخر ان�سياب املعلومة.
للرتوي�ض ،لقد حتول ال�شخ�ص �إىل � آلة خا�ضعة ،تنظم ح�سب ن�ستخل�ص من ذلك ،مع الأ �سف ،ب�أن الت�ضامن ولأ �سباب
ما تبقى له من قدرات وقوى حمركة ،تدمريه الكلي. مو�ضوعية ،ال يلعب دوره يف اللحظة الأ كرث ق�سوة بل
�أمام هاته اال�سرتاتيجية امل�ؤ�س�ساتية التي تهي�أت وامل�صريية.
وحتددت طيلة قرون ،ال ميلك املعتقل �أية ا�سرتاتيجية �سيجتاز املنا�ضل هذه املحنة �أم ال .فقط ،تكوينه
�أخرى م�ضادة لها عملية ب�شكل مبا�رش .من ال�رضوري� ،أن الفيزيائي والع�ضوي ثم الذهني يكفل له �إمكانية كتلك.
يتدرب كثريا على «مهنته الع�سرية» ،حتى يكون ب�إمكانه يف حني ،ال �شخ�ص �أتته فكرة القيام ب�إجراء ك�شف طبي
حتمل الال-حمتمل ،والعثور على الثغرات التي تبيح لـه، قبل هذا النوع من االختبار .لذا� ،أن تقاوم �أم ال ،م�س�ألة
لي�س فقط تعطيل الآ لة اجلهنمية ،لكن و�ضع حد ملفعولها مرتوكة لل�صدفة.
الدموي. �صدر احلكم يف حقي� ،شهر غ�شت : 1973ع�رش �سنوات
فيما يخ�ص و�ضعيتي ال�شخ�صية� ،إذا �أمكنني الوقوف �سجنا .للو�صول �إىل ذلك ،كان من الالزم خو�ض ن�ضاالت
يف وجه ذلك �أثناء ال�سنوات الأ وىل من اعتقايل ،فالف�ضل متعددة� ،صحبة رفاقي ( ال�سيما الإ �رضاب عن الطعام
يرجع �إىل واقعتني �أ�سا�سيتني :ال�شعر وم�ساندة �أ�رستي �إىل الذي ا�ستمر 33يوما) للإ �رساع بانعقاد املحاكمة
جانب عائالت رفاقي. وبالتايل معرفة م�صريي.
ال يلعب الت�ضامن العاملي ،دوره الفوري .حينما اعتقلت، مقارنة ،مع ما مييز حلظة �إخفاء املنا�ضل ،يبدو ب�أن
عانيت من غياب �سواء يف املغرب �أو باقي العامل العربي، التجربة ال�سجنية ت�ستند على نظام من املعا�ش الإ ن�ساين
حلركة دميقراطية ت�ضع �ضمن برنامج ق�ضاياها الأ �سا�سية �أكرث �ألفة وحتمال �إذا جاز لنا قول ذلك .لأ ن نوع العنف
الدفاع عن حقوق الإ ن�سان .ف�ضال ،على �أن م�ساندة والعزل ،املمار�س على املعتقل ال مياثل بتاتا ،مع ما
12 نزوى العدد / 61يناير 2010
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
�إ�ضافة �إىل موقف «� » Ghislain Ripault أ�شري� ،إىل �صدور الكاتب يعترب �أحيانا كنوع من الرتف ،داخل بلدان يتم
�أعمايل الأ دبية (�ضمنها الأ عمال ال�سابقة عن االعتقال). فيها اال�ستهزاء ب�أب�سط احلقوق الأ ولية ،وحيث اغتيال
توجت هذه املبادرات باحل�صول �سنة 1979على املعار�ضني ميثل تقريبا �أحد مكونات اللعبة ال�سيا�سية.
اجلائزة العاملية لل�شعر ،التي ت�رشف عليها امل�ؤ�س�سة �إذا ،ا�ستثنيت �أقلية من املثقفني الأ �صدقاء ،جتا�رسوا لكي
الوطنية للفنون بـ روتردام Rotterdamوجائزة احلرية �سنة ي�رصخوا على امتداد ال�صحراء ،فقد مت ب�شكل عام ،احرتام
،1980املمنوحة يف العام ذاته لل�شاعر الكوبي «Armando القاعدة الذهبية لل�صمت.
» valladaresوالكاتبة الرو�سية «.» Lydia Tchoukovskaïa �أوال ،مكنني ال�شعر طيلة مرحلة االنعزال لكي �أعقلن
احلقبة ،التي �رسدتها هنا ب�رسعة� ،شكلت بالن�سبة يل و�ضعي اجلديد و�أن�سنته مع جتاوز ت�شوهاته الأ كرث فظاعة.
انبعاثا وئيدا لكنه غري قابل للتقهقر .لكي �أو�ضح ف�ضل ف�أن �أكتب� ،صارت بالن�سبة �إيل �إعالنا عن الوجود ،وذاتا
هذا الدعم ،وظفت با�ستمرار �صورة :عار�شات االحت�ضان. حية ت�صـارع عمليـة املـوت البطـيء .املجموعـة ال�شعريـة:
ت�شري �إىل وجود نوافذ مفتوحة داخل زنزانتي� ،أ�ستمد [ ]l>arbre de fer fleuritالتي متكنت من �إ�صدارها بفرن�سا .مثلت
منها ،جوهر االبت�سامة الب�رشية ،ثم �أجمل �شم�س �أخوية �أول فجوة يف دوائر العزل التي فر�ضوها علي.
بني النا�س �أبعد من كل احلدود امل�صطنعة. ثانيا ،دعم العائالت ،بحيث تفاعلوا مثل حبل �رسة جديد
الذي ي�ستفيد من هذا الت�ضامن ،يح�س لأ ول مرة منذ يعيد ربطنا ثانية بالعامل اخلارجي ،بكل مربرات البقاء،
�أن غا�ص يف ليل اال�ستبداد ،كونه قد جنا� .شعور كهذا ثم �أن تع�شق وت�صارع .هاته العائالت ،ويف مقدمتهن
بالأ مان حيوي حقا داخل جتربة ،حتى لو حتددت العقوبة الأ مهات ،الزوجات ،الأ خوات ،كان عليهن �أي�ضا بدورهن
داخلها زمانيا ،ف�إن ال�شك املطلق ي�ستمر يف التحومي االعتياد كثريا على هذه «احلرفة ال�صعبة»� .أغلبهن �أميات،
على م�صري املعتقل ،خا�صة يف بلدان يظل فيها الو�ضع ال يعرفن من ال�سيا�سة �إال ت�أثريها على ثمن اخلبز ،العمل،
القانوين �شبحيا ،ومو�ضوع �أية نزوة ظرفية للحكام(.)3 ال�صحة واملدر�سة ،...لقد ج�سدن يل �أف�ضل مر�شد لإ عادة
يدرك املعتقل الآ ن ،املواطنة البديلة التي اكت�سبها من اكت�شاف القارة الإ ن�سانية ،حقا �إن�سانية.
خالل الوعي الكوين .روابط القوة تغريت� ،أرادوا �أم كرهوا، بالتايل� ،أعتقد ب�أن الت�ضامن العاملي (خا�صة يف
مفرو�ض على �سجانيه �إدراك هذه احلقيقة اجلديدة. املرحلة الأ وىل حيث ي�ستحيل لأ �سباب �إدارية� ،سيا�سية،
�إحدى الدرو�س امل�ستخل�صة يف ر�أيي من هاته التجربة، ومعطيات �أخرى االت�صال مبا�رشة باملعتقل) ،عليه
اخلا�صية الذكية والفعالة حلمالت الت�ضامن ال�شخ�صية. ال�سعي ق�صد تع�ضيد هذا ال�سند الفريد يف نوعه والفوري،
�شكلت هذه الق�ضية� ،أ�صل جداالت �أحيانا بوليميكية كما ج�سدت ذلك عائالت املعتقلني .حبل ال�رسة بالن�سبة
داخل املنظمات واملجموعات التي تنا�ضل من �أجل حرية له�ؤالء ،ب�إمكانهن �أي�ضا �أن ي�شكلن �أف�ضل و�سيط بني حجج
معتقلي هذا البلد �أو ذاك .لكن املع�ضلة ،ال تتمو�ضع بني الت�ضامن و�ضحايا القمع.
عبادة الإ يقونات ،و�أق�صى دمقرطة .يف احلالة املغربية، �إحدى �أوىل الن�ضاالت التي خ�ضتها مع جمموعتي،
مكنت احلمالت ال�شخ�صية �أحيانا من �إطالق �رساح «ر�أ�س ان�صبت على احلق يف تبادل الر�سائل مع الأ �صدقاء ،خا�صة
الالئحة»� ،إىل جانب عدد معني من الرفاق ،يف الوقت ذاته. الأ جانب .وبالفعل ،ك�رس هذا الفعل الكفاحي تدريجيا،
ب�صفة عامة ،حملة كتلك ت�ساعد على �إ�شعار قطاعات حاجز الف�صل املفرو�ض ،وحت�سي�س الر�أي العاملي
من الر�أي اخلا�ص ،حيث لن يكون الو�ضع ذاته مع �سجناء بو�ضعيتي .نتيجة لهذا االنفتاح ،ف�إن �صديقي «Ghislain
جمهولني .على الفعل الت�ضامني وعدم التغا�ضي عن � » Repaultصاحب جملة «� ،» Barbare أخذ على عاتقه منذ
هذا االمتياز .لكن الأ مر ،هنا ال يتعلق �أبدا بالعمل على 1975مهمة �أدت �سنوات بعد ذلك �إىل خلق جلنة دولية
تف�ضيله. للدفاع عن حريتي (هيئات من فرن�سا ،بلجيكا� ،سوي�رسا،
�أطلق �رساحي �شهر يوليو � ،1980سنة ون�صف قبل املوعد �أملانيا الفيدرالية ،وكذا م�ساندة جمموعة من املجالت
املحدد .بالتايل ،مل �أمتتع على الفور بحقوقي املدنية. وال�شخ�صيات الفرن�سية) ،ويف غ�ضون ذلك جمموعات
كان من ال�رضوري القيام مبحاوالت طيلة �أربعة �سنوات، من منظمة العفو الدولية (هولندية خ�صو�صا) ا�ستطاعت
تدعمني يف ذلك حركة جديدة من الت�ضامن باخلارج، الو�صول �إيل ،ون�سج عالقات معي بوا�سطة الرتا�سل.
13 نزوى العدد / 61يناير 2010
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
الأ �سباب .مهمة متعبة ،حيث الإ �شباعات املدونة بطريقة حتى �أح�صل على جواز �سفري .يقال هذا ،و�أنا مل �أ�سرتجع
م�شتتة لها يف الغالب ذكرى الرماد ،بقدر ال نهائية مكائد بعد ،وظيفتي كمدر�س ،وخا�ضع دائما دخل بلدي ملراقبة
الطغاة. �رسية تقريبا (بريد ،تليفون).
لنتفاهم جيدا ،ال نناق�ش هنا �رشعية امل�سار الت�ضامني، حرية ال�سجني ،بالن�سبة للحركة الت�ضامنية ،لي�ست �إال
�إجماال ،حتدد هذا الأ خري عالقة قوى .ي�صعب معها، مرحلة ،الأ كرث �أهمية بالت�أكيد� .إال �أن الن�ضال ،حل�صول
جتريده عن النظام القائم يف العالقات الدولية ،عالقات املعتقل ال�سابق على كل حقوقه ،ال يجب �أن ي�ضعف .حياة
حتكم هنا �أو هناك اجلماعات ال�سيا�سية واملدنية .يف عامل احلرية ،عند الكثريين من قدماء املعتقلني ،تعترب �سجنا
وكذا جمتمعات تعمل وفق معايري ال�سلطة ثم امل�صلحة، ثانيا �أحيانا �أكرث جهنمية مقارنة مع الأ وىل .ف�إىل جانب
احلجة الأ خالقية هي قطعا هنا ذات وزن ن�سبي. التحديدات التي مت�س احلرية الفردية ،تطرح بحدة ق�ضية
�إال �أن مقيا�س حقيقة ال�شيء ،وحتى واقعيته ،ال يجب الك�سب املادي .نتحدث هنا ،عن دائرة احلجز ،الأ كرث
�أن ت�صبح قط مطلقا ،الحتواء الفعل الت�ضامني داخل نفاذا .تقوي�ضها ،وم�ساعدة ال�ضحية للخروج منها ،لي�ست
حلقة التو�ضيب .عليه التمكن من التفكري با�ستمرار يف ب�أقل املهام املطروحة على الفعل الت�ضامني.
ا�ستقاللية الذاتية ،حريته ومطلقه اخلا�ص. تتوقف �شهادتي ال�شخ�صية هنا .لأ نني �أ�شعر باحلاجة
�إذا كان هناك من خمطط ،يجدر اال�شتغال عليه ب�رسعة. ملناق�شة م�س�ألة �أخرى ذات طابع عام ،رغبة يف فتح
فهو بالت�أكيد ،ذاك الذي ي�ستمد �رشعيته املطلقة من ق�ضية ال�سجال.
الإ ن�سان ،حترره ،كرامته ،حقه يف التعبري احلر وال�سعادة الفكرة املنطلق ،لهاته ال�شهادة كانت كما يلي « :املنا�ضل
فوق الأ ر�ض. املعزول ،والت�ضامن العاملي» .هناك خطورة ،يف قراءة
الهوام�ش هذا املقرتح بطريقة � آلية :الت�ضامن ،ي�ضع حدا للعزل �أو
1Abdellatif Laâbi : les rêves sont têtus, écrit politiques, éditions Paris - 1 ينتهي العزل بوجود الت�ضامن .ب�شكل مفارق ،يبدو ب�أن
.– méditerranée, 2001, P. 11-20
الت�ضامن ميثل العبارة القوية والفعالة لهذه املعادلة.
وهي نف�س املداخلة التي �شارك بها اللعبي يف ندوة متحورت حول :
«حقوق الإ ن�سان واحلريات» ،نظمها الوزير الأ ول الفرن�سي داخل اجلمعية يكفي ،وجوده لكي ي�ستقيم التوازن بني اجلائر واملظلوم،
الوطنية �أيام 31/29ماي .1985 ال�ضحية واجلالد .بينما ،ال ن�سائل مبا�رشة الن�سق امل�ؤ�س�س
- 2مفهوم م�ستعار من الإ �سبانية ،ي�ستعمل من �أجل الإ �شارة �إىل معارك لعالقة كهاته .لأ ن الت�ضامن يندرج عموما �ضمن م�سار
مبجموعات �صغرية ،متحركة ومتكيفة متار�س حرب ا�ستنزاف وكمائن،
والقيام بهجومات ع�سكرية ،تقودها وحدات نظامية �أو جماعة من «املمكن» ،فهو يخ�ضع للق�ضية الهيغيلية التي تعترب،
امل�ؤيدين� .إن خطط ،la guérillaهي �إحدى �أقدم �أ�شكال احلروب غري «العقالين واقعي» والعك�س �صحيح.
املت�ساوية بني طرف �ضعيف و� آخر قوي .يحدد املقاتلون �أهدافا ع�سكرية �أما عن �ضحية اال�ستبداد ،فهو يو�شك بني طيات هذا
وال ي�سي�ؤون �إىل املدنيني كما هو ال�ش�أن مع التنظيمات الإ رهابية� .أما
عن �أبرز رموز فكر .la guérilla :فنجد :عبد الكرمي اخلطابي ،ماوت�سي املنطق ،التحول �إىل �صنف امل�ستفيد .حقه املطلق يف :
تونغ ،ت�شي غيفارا وتوما�س �إدوارد لورون�س (املرتجم). (التعبري احلر ،التنظيم النقابي �أو ال�سيا�سي ،االعتقادات
- 3لقد عرفت �أ�شياء من هذا القبيل� .سنة � ،1975سحبوين من زنزانتي، الدينية �أو الإ يديولوجية� ،إلخ) .يختفي ل�صالح املطالبة
لكي يزجوا بي يف ق�ضية جديدة ،مت�س �أمن الدولة وعزيل ملدة �ستة �أ�شهر
داخل حي الإ عدام� .ستتوقف ،املتابعات �سنتني بعد ذلك .نظرا ،لتفاهة الوحيدة باحلرية الفيزيائية .ينتقل رهان ن�ضاله �إىل
امللف الكاريكاتورية. م�ستوى ثان .بهذا العمل ،ي�ؤثر الت�ضامن يف النتائج دون
s
s
s
خمتـ ـ ــارات
�شعريــة
ترجمة وتقدمي �سعيد بوكرامي
عبداللطيــف اللعــبي
كاتب ومرتجم من املغرب
s
s
s
ور�سام يحقق اجنازه بنف�سه يقيم يف ج�سده
وبوا�سطة كلمات لي�س مريحا
تعرف طريقها �إىل القلب �إنه م�سكون باالرواح
ها هو حقل �ألغام
ين�شد بنربات �صادقة من املفرو�ض اكرتا�ؤه
الزمته القدمية لفرتة العطل
كانت الأ ر�ض تتظاهر الندى
�أنها ت�سمعها للمرة الأ وىل جمرد ماء
حيل يف احلياة لكنه ماء عا�شق
حتى و�إن كنا �أبرياء ال �أنفي �أبدا
من دم قريب لنا �أن الكتابة ترف
فيحدث لكنه الرتف الوحيد
�أن نقتل الذي ال ي�ستغل فيه االن�سان
احلياة فينا �سوى ذاته
عدة مرات النبي يحطم الأ وثان
بدل املرة الواحدة بينما الطاغية
احلجاب ي�شيد الن�صب
الذي يغطي عيوننا
�أفتح نافذة
و ف�ؤادنا
حديقتي ال�رسية
احلواجز
حطم املجتاحون كل �شيء
التي نن�صبها
�أخذوا معهم
حول ج�سد م�شبوه
حتى �رس حديقتي
ال�شفرة الباردة
غالبا
التي نواجه بها الرغبة
ما �أح�س بالنق�ص
الكلمات ومذنب يف مكان ما
التي نبيع ون�شرتي عندما �أتلقى التهاين
يف �سوق الأ كاذيب املزدهر ال انتظر �شيئا من احلياة
الر�ؤى �أنا ذاهب
التي نخنقها يف املهد للقائها.
اجلنون املقد�س
الذي نحتجزه وراء الق�ضبان الر�ض �أكثـر �صربا
أ
الذعر تنتظر من�شدها
الذي ي�صيبنا به اخلارج عن امل�ألوف الذي يت�أخر قليال
حوار الطر�شان ثم يح�رض
الذي رفع �إىل مرتبة الفن الكامل ممالئا جميال
الدين ب�رسعة ينال العفو
الأ كرث تق�سيما لأ نه يعزف املو�سيقي قليال
17 نزوى العدد / 61يناير 2010
عبداللطيف اللعبي ..عبداللطيف اللعبي..
s
s
s
s
s
s
ثم ت�رضب به الأ ر�ض �سبع مرات لأ ن القتلة يل باملر�صاد
العنة ال�سماء والطاغية �أمي
كنت وقتها يف املغارة اعملي �أن يكون جلدي
حيث املحكوم بالإ عدام يقر�أ داخل الظلمة بال لون
وير�سم على اجلدران القتلة يل باملر�صاد
حمب�سا لوحو�ش امل�ستقبل
�أمي
مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما
ال تتكلمي �أمامي
كانت قد تركت يل طقما �صينيا للقهوة
�أخ�شى �أن �أتعلم لغتك
تك�رست فناجينه الواحد تلو الآ خر القتلة يل باملر�صاد
غري� آ�سف عليها ،لأ نها كانت ب�شعة
اليوم ،عندما �أكون وحيدا �أمي
�أ�ستعري �صوت �أمي اختبئي عندما ت�صلني
�أو بالأ حرى ما يتكلمه ل�ساين دعيني يف من�أى عن �إميانك
بكل جتديفه ،وفظاظته،ولعناته القتلة يل باملر�صاد
بال�سبحة ال�ضائعة للم�ست�ضعفني �أمي
وكلماتها املهددة لكل الكائنات ميكن �أن تكوين فقرية
مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما لكن ال تلقيني يف ال�شارع
غري �أين الرجل الأ خري القتلة يل باملر�صاد
الذي يتكلم لغتها. يا �أماه
�ساعتان يف القطار لو �أنك متانعني
تنتظرين �أياما �أف�ضل
خالل �ساعتني يف قطار كي ت�ضعيني يف العامل
�أ�ستعر�ض �رشيط حياتي من يدري
مبعدل دقيقتني لكل عام قد تكون �رصختي الأ وىل
ن�صف �ساعة للطفولة م�صدر ابتهاجي وابتهاجك
و�أخرى لل�سجن �س�أقفز �إذن يف ال�ضياء
احلب والكتب والت�رشد كهبة من حياة حلياة.
�إىل روح �إبراهيم بوعرام� ،شاب مغربي مت �إغراقه تقت�سم الباقي
يف نهر ال�سني بباري�س يف الأ ول من �شهر ماي �سنة يد رفيقتي
،1995من طرف ع�صابة عن�رصية قادمة من جتمع تن�صهر �شيئا ف�شيا يف يدي
ر�أ�سها فوق كتفي للجبهة الوطنية التي تنتمي �إىل اليمني املتطرف.
�أخف من ميامة لغة �أمي
عند و�صولنا مل �أر �أمي منذ ع�رشين عاما
�س�أكون يف اخلم�سني تركت نف�سها متوت جوعا
من العمر يحكون �أنها كانت
�س�أ�ستمر يف احلياة تنزع كل �صباح
�ساعة �أخرى . منديل ر�أ�سها
19 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�سـ ــات
20
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تعود عالقة املحقّق بهذا الكتاب �إىل ع�رش �سنوات خَ لَت ،وذلك يوم ظفر مبخطوطه
وهو يبحث يف زوايا املخطوطات العمانية التي حتتفظ بها وزارة الرتاث والثقافة،
وخزانة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي ،و�رشع عندها يقر�أ ،ويدوّن ملدة
لي�ست بالقليلة ،وكانت ثمرة تلك القراءة بحث طويل ن�رشه يف كتابه (الأ دب يف
اخلليج العربي -درا�سات ون�صو�ص) ،ووعد يف ذلك البحث �أن يقوم بتحقيق هذا
الكتاب حتقيق ًا علمياً ،وتقدميه بن�رشة نقدية تليق مبكانته ،ومرّت �سنوات كثار
حتى ُقيّ�ض له �أن ينتهي منه ب�سبب �ضخامة حجمه ،وع�رس مادته ،وا�ستغالق
عبارته ،مع �أنَّ �صاحبه ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان اخلرو�صي �أراده كتاب ًا �سهالً،
�سائغ ًا للقارئني ،غري �أنَّ املادة العلمية التي �ضمّها الكتاب بني دفَّتيه هي مر ّد تلك
ال�صعوبة ،وبعد هذا ،الت�أخر يف االنتهاء منه ،وقد بذل املحقّق �أق�صى جهده يف قراءة
النّ�ص ،والتعليق عليه ،وجتلية م�صطلحه ،مع �رشوح �أخرى مما يقت�ضيه التحقيق،
وهو مبّني فيما بعد بتف�صيل.
يبدو يل �أن هناك �أ�سباب ًا حدت بالفكر الإبا�ضي � إىل العدول عن
م�صطلح الت�صوف واتخاذ ال�سلوك م�صطلح ًا منها االعتزاز
بال�شخ�صية ،والرغبة يف التميز فجميع الفرق � إال يف حاالت
نادرة تتخذ من هذا امل�صطلح �شعار ًا لها ف�آثر الفكر الإبا�ضي
م�صطلح ًا هو من داخل الت�صوف نف�سه غري �أن له خ�صو�صية
وا�ضحة فاتخذه م�صطلح ًا له
()6
على فوائد جمة . .وهو خامتة جهابذة علماء عمان» وقد اقت�ضت طبيعة املو�ضوع �أن يك�رس املحقق هذه
وهو �أي�ض ًا «العالمة الرئي�س . .واحلرب الرباين امل�شار �إليه املقدمة على املباحث الآ تية:
بالبنان ،وكان الفرد الوحيد يف علم الأ �رسار»( )7وكان -1التعريف مب�ؤلف الكتاب ،وثقافته ،ومكانته العلمية.
«را�سخ القدم يف علمي احلقيقة وال�رشيعة»( ،)8وال �شك �أن -2حتليل مادة الكتاب.
الفتى وقد تفتحت عيونه على ذلك اجلو العلمي ال�صايف � -3إ�شكالية العزلة الثقافية.
قد �أخذ ما �شاء له الأ خذ ،فوالده ميلأ ال�سمع والب�رص، -4ن�سبة الكتاب �إىل م�ؤلفه.
م�شغول بالعلم والإ فتاء والت�أليف ،وال ريب يف �أن هناك -5و�صف املخطوطتني املعتمد عليهما يف التحقيق.
مكتبة ت�سند ذلك يرجع �إليها الوالد ومن بعده الولد فيفيدان -6عمل املحقّق يف حتقيق الكتاب.
منها� .إن ذلك كله قد جعل الفتى يلتفت منذ وقت مبكر وي�أمل املحقق �أن تكون هذه املباحث وافية باملطلوب،
�إىل العلم ،واملداومة على �أخذه والتزود منه ،وحتدثنا كا�شفة عن جوانب من هذا الكتاب النفي�س الذي من
امل�صادر �أن ديدن �أخوة ال�شيخ نا�رص وم�سلكهم كان كذلك، املمكن عدّه بامتياز من �أعمدة ال�سلوك الإ با�ضي العماين،
وخ�صو�ص ًا �أخوه ال�شيخ نبهان ،وبه يكنى الوالد فيقال له وخ�صو�ص ًا يف جانبه النظري.
()9
�أبو نبهان. -2-
وال تقدم امل�صادر �شيئ ًا عن نوعية العلوم التي تلقاها
ال�شيخ نا�رص بن جاعد هو �صاحب كتاب �إي�ضاح نظم
ال�شيخ نا�رص غري �أننا ن�ستطيع ا�ستنتاج نوعيتها من خالل
ال�سلوك كما م ّر �سابقاً ،و�سنحاول االقرتاب من هذه
البيئة التي تفي أ� ظاللها ،والكتب( )10التي تركها ،ويقف ال�شخ�صية العلمية الكبرية.
يف مقدمة تلك العلوم القر� آن الكرمي وعلومه ،واحلديث ولعل �أهم ما يواجهنا من �صعوبات يف هذا االقرتاب هو �أنَّ
ال�رشيف ،والفقه ،والأ �صول ،وعلم الكالم ،والفل�سفة مع امل�صادر ت�ضنّ علينا ب�صورة مف�صلة حلياة ال�شيخ نا�رص
زاد وفري من علوم العربية كالنحو وال�رصف والبالغة من مولده �إىل وفاته ،فهي تقدم نتف ًا عن هذه احلياة مع
والأ دب والأ خبار ،بالإ �ضافة �إىل علوم ملحقة بها وجدنا �شيء ي�سري عن تفا�صيلها ،بالإ �ضافة �إىل عبارات املديح
ال�شيخ مهتم ًا بها كالنبات والفلك والتاريخ )11(،ولعل والثناء ،وهو �أمر لي�س بجديد يف كتب الرتاجم� ،إذ طاملا
الكتاب الذي بني �أيدينا خري �شاهد على ما نقول ،فقد اكتفت بلمحة �رسيعة هي �أقرب �إىل ح�سوة الطائر ال تنقع
عالج ال�شيخ فيه م�سائل علمية �شتى ت�شري �إىل تلك العلوم غلة �أو تبني غام�ضاً ،غري �أن جمع تلك النتف ،وترتيبها
التي ح�صلها ،وعاد ثانية فوظفها يف كتابه ،كما �إننا جند ترتيب ًا زمني ًا مع اال�ستعانة ب�إ�شارات من هنا وهناك
بني كتبه الكثرية كتاب ًا �سماه (احلق اليقني) وفيه «تناول ي�ساعد على �إبراز ال�صورة ب�شيء قريب من الكمال فيه من
جوانب متعددة من ق�ضايا العقيدة»( ،)12وكتاب ًا � آخر �سماه الفجوات ما ال يخفي على املدقق.
(لطائف املنن يف �أحكام ال�سنن) حاول �أن يرتب فيه كتاب ًا وحتدثنا امل�صادر �أنه «نا�رص بن جاعد بن خمي�س بن
يف احلديث ال�رشيف هو (اجلامع ال�صغري لل�سيوطي) ترتيب ًا مبارك بن يحيى بن عبد اهلل بن نا�رص بن حممد بن حيان
خمتلفاً� ،إذ «�صنَّفه �صاحبه على احلروف الهجائية بينما بن زيد بن من�صور بن ورد بن الإ مام اخلليل بن �شاذان
ال�شيخ نا�رص �أخذ يبوب الكتاب على الأ حاديث النبوية»(،)13 ()1
بن الإ مام ال�صلت بن مالك اخلرو�صي الأ زدي القحطاين»
ولل�شيخ نا�رص كتاب ثالث عنوانه (ال�رس اخلفي يف ذكر ومن الوا�ضح �أن ن�سبه يعود �إىل اثنني من الأ ئمة الذين
�أ�رسار النبات ال�سواحلي) وهو كتاب «طبي �شعبي ذكر فيه ()2
بويعوا بالإ مامة يف �أوقات خمتلفة.
العالج ب�أنواع النباتات املوجودة هناك يف �رشق �أفريقيا. ولد ال�شيخ نا�رص يف بلد العلياء ( )3وادي بني خرو�ص �سنة
.وفيه مقدمة . .ذكر فيها م�صطلحات اللغة ال�سواحلية )4(1192للهجرة يف بيت علم ،وفقه ،وتدري�س ،وم�شاركة
وما فيها من تفخيم امل�سمى وت�صغريه . .و�أورد �أ�سماء يف احلياة العامة ،فوالده ال�شيخ �أبو نبهان ،جاعد بن خمي�س
الأ �شجار باللغة ال�سواحلية»( ،)14وله كتب �أخرى ت�ؤكد ما من �أعالم العلماء يف عُ مان «كان املتقدم على �أهل زمانه
ذهبنا �إليه �سابقاً ،كما جند وفرة من مروياته التاريخية بالعلم ،والف�ضل ،وال�رشف ،واتخذه النا�س قدوة يف مرا�شد
عن �أحداث خمتلفة وقعت بعمان يحفظها �صاحب التحفة دينهم وم�صالح دنياهم ،وقلده الأ فا�ضل �أمرهم ملا علموا
من�سوبة �إليه ،وك�أنه مل يجد �سوى ذلك العامل الثبت املدقق من علمه وورعه» )5( ،وهو «ال�شيخ العامل الرباين الرئي�س. .
ينقل عنه ،ويثبت ما ينقله يف كتابه(� ،)15أما فتاواه و� آرا�ؤه وكفى به �شيخ ًا را�سخ ًا يف العلم وت�صانيفه الكثرية م�شتملة
22 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وقد ا�ستجاب ال�سيد �سعيد بن �سلطان �إىل هذا الطلب كما الفقهية فهي كثرية جداً( ،)16وقد �أ�شار الفا�ضل الدكتور
�سرنى� .إن وجهة الن�ص ت�شري بقوة �إىل �أن ال�شيخ قد نال مبارك الرا�شدي �إىل �أن لل�شيخ نا�رص «�أجوبة كثرية مل يعنت
مكانة حمرتمة ،ومنزلة �سامية بني امل�سلمني كافة ،و�أتباع �أحد بجمعها و�إخراجها حتى الآ ن ومنها جمموعة �أجوبة
الديانات الأ خرى على حد �سواء ،ومن هنا تنادوا جميع ًا �أر�سلها �إىل ال�شيخ �سعيد بن يو�سف امل�صعبي باملغرب»(،)17
لن�رصته ودرء بالء الزمان عنه ،وال جتتمع تلك الفرق وهي �إن ذلك كله ،وغريه كثري ي�شري بقوة �إىل �سعة املعارف التي
متفرقة يف مقاالتها ،نقول ال جتتمع على �شخ�ص واحد ما ح�صلها ال�شيخ نا�رص ،و�أفاد منها فيما بعد يف ت�أليف
مل يكن ذا فكر م�ستنري ،وعقل راجح ،ونف�س عالية �شعارها كتبه من جهة ،ومعاجلة الأ حداث التي �شارك فيها من
االعتدال والنظر مبيزان الق�سط والعدل �إىل اجلميع ،ومن حيث التوجيه ،والن�صح من جهة �أخرى؛ ويعجب املرء من
هنا احتدت كلمتهم على ن�رصته وهذا مما يح�سب له بال قدرته على التوفيق بني �شغفه العلمي ،وم�شاغله الدنيوية
�شك. التي ق�صد منها – ح�سب اجتهاده – �إقامة ال�رشع ،ون�رش
()22
وقد �صنع ال�سيد �سعيد بن �سلطان البو�سعيدي العدل ،وال �شك �أن هذا يعني ان�رصاف ًا تام ًا للعلم مع اهتمام
ما ي�صنعه امللوك ،والقادة عادة من تكرمي العلماء باحلياة ،و�ش�ؤونها مما حقق ذلك التوازن بينهما .والذي
«فكتب بالو�صول �إليه ،فلما و�صل حباه وكرمه وعظمه دعا �إىل هذا الكالم ما ر�أيناه من اهتمام ال�شيخ نا�رص
وك�ساه .ومهما م�شى خطوة يف ح�رض �أو �سفر �أخذه يف ووالده بالأ حداث ال�سيا�سية التي جرت بعمان فقد كانا
�صحبته و�أطعمه من طعامه وا�ست�شاره يف �أكرث �أموره م�شاركني فيها بفعالية وا�ضحة ،وهذا ما حدا ب�صاحب
يف طول زمانه»( ،)23ومل يكتف بهذا بل ا�ست�صحبه معه التحفة �إىل �أن يكرث من النقل عنهما وهو يدون تاريخ
�إىل زجنبار حني ق�صدها �سنة 1243هـ( ،)24ف�إذا علمنا ()18
عُ مان.
�أن ال�شيخ نا�رص تويف �سنة 1264هـ فيكون قد ق�ضى وقد ظ ّل ال�شيخ نا�رص م�شتغ ًال بالعلم �إىل � آخر حياته ،عرف
الع�رشين ال�سنة الأ خرية من حياته يف زجنبار ،ومن له معا�رصوه ،ومن �أتى بعدهم تلك املنزلة العلمية التي
الثابت �أنه تويف( )25فيها «يف املكان امل�سمى املتوين و�صل �إليها كما �سرنى فيما بعد ،ويبدو �أنه ظ ّل م�ستقراً يف
()26
وقربه م�شهور هناك». بلده العلياء التي ولد فيها حتى بد�أ يف االنتقال منها �إىل
وقد ترك ال�شيخ نا�رص �أثراً قوي ًا فيمن جاء بعده من �أماكن �أخرى ،ونراه ي�صل �إىل نزوى ،وفيها �ألّف كتابه مدار
العلماء والأ دباء غري �أن اثنني منهما ت�أثرا به ت�أثراً كبرياً، حديثنا ،وهو �إي�ضاح نظم ال�سلوك ،ويظهر من فقه الأ حداث
نلحظ هذا يف ما تركاه من كتب ،وما نظماه من ق�صائد، �أن معي�شته فيها كانت �أقرب �إىل ال�ضيق منها �إىل ال�سعة،
()27
و�أولهما هو العالمة املحقق �سعيد بن خلفان اخلليلي وقد �صوَّر هو بنف�سه معي�شته تلك من خالل بيتني �أوردهما
املتويف �سنة 1287للهجرة ،فقد كان ال�شيخ نا�رص «على �صاحب التحفة هما:
قمة امل�شايخ والعلماء الذين كانوا اليد املعاونة له ي�أخذ معي�شتنا خبز لغالب قوتنا
مب�شورتهم وي�ستفيد من � آرائهـم»( )28وعنه «تلقى ال�شيخ ()19
وماء وليمون وملح وقا�شع
�سعيد علومه الأ وىل فقد كان يرتدد عليه مب�سقط»( )29فدر�س ف�إن ح�صلت مع �صحة اجل�سم والتقى
عليه «العلم الإ �سالمي الوا�سع ك�أ�صول الدين ،و�أ�صول الفقه ()20
فيا حبذا هذا مبا هو قانع
بتو�سع والفقه ب�أبوابه املختلفة»( ،)30وقد حفظ املحقق وهما – بال �شك – يعبرّ ان تعبرياً دقيق ًا عن تلك احلال
اخلليلي رحمه اهلل تلك اليد لل�شيخ نا�رص فهو ما يفت أ� ال�ضيقة التي � آل �إليها غري �أن م�سحة الزهد والتعفف
يذكره حماط ًا بالإ جالل واالحرتام ،ولعل قوله عنه يف وا�ضحة فيهما مما ي�ؤكد ما �سرناه فيما بعد من اكتفائه
مقدمة كتابه مقاليد الت�رصيف خري ت�أكيد على ما نذهب بالقليل عن ر�ضا وقناعة ،غري �أن ما يلفت النظر حق ًا هو
�إليه فرناه يقول « :فقد منَّ اهلل عليَّ ب�ألفية مغنية يف هذا ما �ساقه �صاحب التحفة نق ًال عن ذي الغرباء خمي�س بن
الفن ال�رشيف و�سميتها واحلمد هلل مبقاليد الت�رصيف وملا را�شد العربي وهو قوله« :وعمَّت هذه الأ خبار مع جميع
اطلع على نظامها العامل الرباين والبحر النوراين وحيد الفرق الإ �سالمية واليهودية والن�رصانية واملجو�سية
دهره بال ممانعة وفريد ع�رصه بال ممانعة �أبو حممد فت�أ�سفوا يف نفو�سهم مبا �أ�صاب عبد الرحمن ،ثم اجتمعوا
نا�رص بن العالمة املولوي الويل �أبو نبهان جاعد بن خمي�س يف بندر م�سقط بح�رضة �سيدهم وموالهم �سعيد بن �سلطان
اخلرو�صي �أمرين �أن �أثبت عليها �رشح ًا لطيف ًا خمت�رصاً»(،)31 وقالوا ال ير�ضى �أحد مبثل هذا من الأ مراء يف علمائهم»(،)21
23 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�إليه يف كتابه (الفتح املبني) ،وي�ضم �إليه ق�صائد �أخرى ويتبني من هذا الن�ص «�أن �إقدامه على ال�رشح كان بتوجيه
ويجعله كتاب ًا عنوانه (�سبائك اللجني امللقب بقرة العني)، من �شيخه العالمة الكبري نا�رص بن �أبي نبهان رحمهما
وما يزال هذا الكتاب خمطوط ًا( )38يقول يف مقدمته: اهلل تعاىل»( ،)32وقد ظهر �أثر العلوم التي تلقاها املحقق
«ملا كان على احلر �إذاعة احلمد لأ هل احلمد من املجرب اخلليلي عن ال�شيخ نا�رص يف كتبه ،واجتاهه ال�سلوكي يف
الواجب الذي ال ين�سل �إىل ال�سالب . .فيا �أيها ال�سائل عن �شعره ونرثه على حد �سواء.
�إي�ضاح ا�سم هذا امل�سمى . .ذلك هو ال�شيخ املفخم املعظم. . �أما الثاين فهو امل�ؤرخ وال�شاعر حميد بن حمد بن
نا�رص بن ال�سيد �أبي نبهان العالم»( )39ثم ينتقل �إىل ال�شعر رزيق( )33املتويف �سنة 1290هـ الذي �أف�سح جما ًال رحب ًا
فيحفظ يف هذا الكتاب خم�سني ق�صيدة يف مدحه ترتاوح لل�شيخ نا�رص ووالده ال�شيخ جاعد يف كتابيه الفتح
بني ع�رشة �أبيات ،و�أربعني بيت ًا يحاول فيها جاهداً �إبراز املبني ،وال�شعاع ال�شائع باللمعان ،ويبدو �أن عالقته
جوانب ال�شيخ العلمية وال�سلوكية التي متيّز بها ،وتظهر بهما كانت وثيقة �إذ ي�سوق ذكرهما يف كتابيه مقرون ًا
يف هذا العمل و�سواه مظاهر من الوفاء يقل نظريه ،وك�أنَّ بالتجلة والرفعة ،كما يحفظ يف الفتح املبني بع�ض ًا
ابن رزيق يقتفي �أثر قوله تعاىل( :وهل جزاء الإ ح�سان �إال من مرا�سالت ال�شيخ نا�رص ،وكان ال�شيخ نا�رص يثني
الإ ح�سان) ،فهو يرد لل�شيخ بهذه الأ �شعار ومو�صول الذكر عليه( ،)34ويحفظ يف الفتح املبني مطالع �ست ق�صائد
�أياديه العلمية البي�ضاء التي �أ�سبغها عليه تلك التي انتفع رثى بها ال�شيخ نا�رص بعد وفاته منها قوله:
بها �شاعراً ،وم�ؤلفاً. خال جمل�س الفقه الأ ني�س من الأ ن�س
-3- فمن ذا �إىل التدري�س يف ذروة الدر�س
وقد �أخّ رنا لأ �سباب منهجية واحداً من العلوم التي ظهرت ومنها:
جليّة يف م�صنفات ال�شيخ نا�رص ،وخ�صو�ص ًا يف هذا ذهب ال�ضياء فيومنا �إظالم
الكتاب ،وذلك لأ هميته ،وتوجيهه �شخ�صيته وجهة معينة،
()35
ما هكذا يا يومنا الأ يام
ونريد به الت�صوف �أو علم ال�سلوك ،ومن الثابت �أنّه تلقّاه وغريها ،كما ينظم ق�صيدة طويلة ي�ضمنها عنوانات كتب
عن �أبيه ذوق ًا وريا�ضة ،ومنّاه هو بجهده ال�شخ�صي قراءة ال�شيخ نا�رص ،ويقول يف هذا ما ن�صه« :وقد نظمت يف
وفهم ًا واقتناعاً .وقد ذاع يف امل�صادر مبا ال يدع جما ًال ا�سم هذه الكتب ق�صيدة . .لأ جل م�صاحبتي لل�شيخ نا�رص
لل�شك �أن ال�شيخ نا�رص ووالده قد اتخذا من ال�سلوك طريقة املذكور �أيام حياته ،ومطلع هذه الق�صيدة �شعراً:
لهما يف احلياة وك�أنهما كانا يعمّقان ذلك امل�رشب الذي قيل يل� :سم �أنت ما �صنف ال�شيـ
وجد يف الثقافة العمانية من حيث ا�صطناعه لهما �شعاراً ـخ من الكتب نا�رص ذو الفعال
وطريقة .ولع ّل هناك من العوامل التي دعت �إىل اتخاذ الفقيه النبيه جنل �أبي نبـ
تلك الطريقة منها ذلك الن�سب الذي وقفنا عنده فيما مي الندى ف�صيح املقال ـهـان ُّ
�سبق من حيث االت�صال املبا�رش ب�إمامني من الأ ئمة مما ف�أثبت يف ق�صيدتي هذه ت�سمية هذه الكتب على
ولّد �إح�سا�س ًا ثقي ًال بحجم امل�س�ؤولية الدينية امللقاة على ()36
التف�صيل».
عاتقهما ،و�رضورة حمل تلك الأ مانة ب�إخال�ص وت�أديتها وال �شك يف �أهمية هذه الق�صيدة فقد حفظ بها ابن
كما هي بال زيادة �أو نق�صان .ومن هذه العوامل الثقافة رزيق عنوانات كتب ال�شيخ نا�رص ،و�ستكون هي الدليل
الدينية اخلا�صة التي تلقّاها الوالد واالبن واختيارهما املوثق ملن يريد البحث عن هذه الكتب ودرا�ستها
جانب الزهد واالن�رصاف عن الدنيا من هذه الثقافة مما ف�ستقدم له مادة ثمينة عن عددها ،وحجم العمل الذي
حملهما على تطبيق ما �أخذاه بدقة ،ومنها �أي�ض ًا االقتناع قدمه ال�شيخ نا�رص ،وا�ضطلع به.
الكامل بتلك الوجهة يف احلياة التي ت�ؤثر اخللوة والعزوف ونرى ابن رزيق يقطع ال�شوط �إىل نهايته يف عالقته
عن امللذات وهو مما يتالءم مع تركيب �شخ�صيتهما بال�شيخ نا�رص حني ي�ؤلف كتاب ًا خا�ص ًا عنه يجمع فيه
ومنحاهما يف احلياة ،وقد بينّ لنا الفا�ضل �أحمد بن �سعود ق�صائده التي قالها يف مدحه ،فنحن نقر�أ له يف الفتح
ال�سيابي معامل ذلك االجتاه الذي تبناه الوالد وولده وهو املبني متحدث ًا عن نف�سه« :وقد مدحت ال�شيخ العامل
يقوم على «عمق الت�أمل يف الوجود والتعمق يف علم الكالم الف�صيح �أبا حممد نا�رص بن ال�شيخ العالمة �أبي نبهان
والفل�سفة واملنطق واخللوة وكرثة الأ وراد»( ،)40ونالحظ �أنه �أيام حياته بجملة ق�صائد»( ،)37غري �أنه هنا يجمع ما �أ�شار
24 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أم روحية بني ال�سلوك والطريق ،ف�إذا علمنا بعد ذلك �أن يجعل من هذا التوجه مدر�سة ي�سميها «املدر�سة اجلاعدية
الت�صوف( )50هو «العكوف على العبادة واالنقطاع �إىل اهلل �أو البونبهانية ،وهذه املدر�سة �صاحب فكرها العالمة
تعاىل والإ عرا�ض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد يف ما الرئي�س �أبو نبهان جاعد بن خمي�س اخلرو�صي . .وبعد وفاة
يقبل عليه اجلمهور من لذة ومال وجاه واالنفراد عن اخللق ()41
�أبي نبهان حمل ابنه ال�شيخ نا�رص . .فكر تلك املدر�سة»
يف اخللوة والعبادة»( ،)51نقول �إذا علمنا هذا �أدركنا الت�شابه وهذا هو الذي ر�أيناه متحقق ًا يف �سرية ال�شيخ نا�رص وكتبه
بني مدلول امل�صطلحني �إىل حد كبري من حيث �إن ال�سلوك على حد �سواء.
هو التطبيق العملي جلملة الأ فكار التي � آمن بها ال�سالك ومن ال�رضوري �أن نقف عند نقطة �أكد عليها الفا�ضل
مل يهتم ال�صوفية وراح يطبقها على نف�سه ،ويبدو يل �أن هناك �أ�سباب ًا حدت ال�سيابي وهي قوله ..« :حتى �إن الإ با�ضية مل يطلقوا
بالفكر الإ با�ضي �إىل العدول عن م�صطلح الت�صوف واتخاذ على ذلك التوجه ا�سم الت�صوف بل �أطلقوا عليه
قبل القرن ال�سلوك م�صطلح ًا منها االعتزاز بال�شخ�صية ،والرغبة يف ا�سم ال�سلوك فال�شعر الذي تكون فيه نزعة �صوفية
ال�سابع الهجري التميز فجميع الفرق �إال يف حاالت نادرة( )52تتخذ من هذا ي�سمونه �شعر ال�سلوك»( ،)42ونحن نعلم �أن ال�سلوك
بتدوين م�صنفات امل�صطلح �شعاراً لها ف�آثر الفكر الإ با�ضي م�صطلح ًا هو م�صطلح ين�ضوي حتت م�صطلحات ال�صوفية التي
يف ال�سلوك بل من داخل الت�صوف نف�سه غري �أن له خ�صو�صية وا�ضحة يكرثون ذكرها ،ويرتبط به م�صطلح �آخر هو (الطريق)،
دونوا يف الفكر فاتخذه م�صطلح ًا له ،و�سبب ثان ا�ست�ض�أنا فيه مبالحظة ويتحدثون عنه بتف�صيل غري �أن ما يهمنا منه هو
ال�صويف وعا�شوا �أوردتها الدكتورة �سعاد احلكيم وهي قولها «ومل يهتم معرفة مدلوله ال�صويف الذي �سرنى �أنه يقرتب كثرياً
ال�صوفية قبل القرن ال�سابع الهجري بتدوين م�صنفات يف من املدلول الذي اختاره االجتاه اجلاعدي �شعاراً له،
وفقاً لل�سلوك ال�سلوك بل دونوا يف الفكر ال�صويف وعا�شوا وفق ًا لل�سلوك فال�سلوك هو «تهذيب الأ خالق لي�ستعد العبد للو�صول
ال�صويف ومل ال�صويف ومل تتعدد امل�ؤلفات يف الت�صوف العملي وال�سلوك بتطهري نف�سه عن الأ خالق الذميمة مثل حب الدنيا
تتعدد امل ؤ�لفات يف �إال بعد القرن ال�ساد�س – ال�سابع الهجري حيث دخل واجلاه ومثل احلقد واحل�سد والكرب والبخل . .وبالنهج
الت�صوف العملي الت�صوف مرحلة الرتبية ال�صوفية ومناهج الت�سليك»(،)53 على الأ خالق احلميدة مثل العلم واحللم واحلياء
وال�سلوك �إال بعد فك�أنَّ الفكر الإ با�ضي �أراد يف وقت مت�أخر �أن ي�شارك يف والعدالة»( ،)43وهو �أي�ض ًا «انتقال من منزل عبادة
القرن ال�ساد�س
()54
هذا املو�ضوع فوجد �أمامه نق�ص ًا يف جانب ووفرة يف �إىل منزل عبادة باملعنى وانتقال بال�صورة من عمل
جانب � آخر ف�آثر الأ ول لكي يزيده ثراء وخ�صوبة .وهناك م�رشوع على طريق القربة من اهلل �إىل عمل م�رشوع
– ال�سابع الهجري �سبب ثالث �أكاد �أذهب �إىل �أنه �أهم الأ �سباب و�أقواها ويتمثل بطريق القربة �إىل اهلل بفعل وترك ،وانتقال بالعلم
حيث دخل يف كون ال�سلوك ومدلوله العميق ي�شري �إىل النقاء الذي ظل من مقام �إىل مقام( )44ومن جتلٍ �إىل جتلٍ واملنتقل هو
الت�صوف مرحلة حمتفظ ًا به من حيث التحامه الوثيق بال�رشيعة و�أحكامها ال�سالك»( )45فال�سالك �إذا هو «العبد الذي تاب عن هوى
الرتبية ال�صوفية ورغبة الإ ن�سان يف اتخاذ طريق معني لعبادة ربه يتمثل نف�سه و�شهواتها وا�ستقام يف طرق احلق باملجاهدة
ومناهج الت�سليك يف اخللوة ،وتالوة القر� آن والأ وراد فح�سب ،يف حني اختلط والطاعة والإ خال�ص»( ،)46فال�سلوك والت�سليك وفق ما
الت�صوف ومدلوله مب�ؤثرات �أجنبية �أبعدته عن منبعه تقدم هو «تربية الإ ن�سان الروحية الذهنية كما تظهر
ال�صايف ،وهو الزهد ،و�أدخلته يف م�سارب فكرية مت�شعبة على م�ستوى ال�سلوك النف�سي . .وهو تدري�س على
�أو�صلت بع�ض الفقهاء �إىل اتهام بع�ض ال�صوفية بالكفر، امل�ستوى العملي يتمتع بكل ما للتدري�س من مناهج
وهو ما ن�أي الفكر الإ با�ضي بنف�سه عنه ،واكتفي بال�سلوك وف�صل املت�صوفة احلديث عن �أنواع وثوابت»(َّ ،)47
()55
منهج ًا وطريقة وتفاع ًال مع احلياة و�أحداثها. ال�سلوك وال�سالكني ،و�شققوا املو�ضوع ت�شقيق ًا خ�صب ًا
ولعلنا – بعد ما تقدم – ن�ستطيع القول �إن ال�شيخ مفيداً مماال جمال لإ يراده هنا( ،)48ويقرتب من م�صطلح
نا�رص قد �سار على نهج والده طلب ًا و�سلوكاً ،وعرف له ال�سلوك م�صطلح �آخر هو الطريق الذي «يخت�رص جملة
الآخرون تلك املنزلة التي و�صل �إليها ف�أ�صبح ي�شار الطريق �إىل اهلل لذلك كان من ال�شمول بحيث تندرج
له على �أنه من علماء عمان الكبار ،غري �أن ال�سلوك حتته التجربة ال�صوفية بكاملها ابتداء من تنبه القلب
الذي اتخذه منهج ًا وطريقة ظل هو ال�سمة املميزة من غفلته مروراً مبجاهدة النف�س وريا�ضتها و�صو ًال
ملكانته العلمية� ،إذ جند تلميذه العالمة املحقق ()49
�إىل الن�شاط الروحي وتفتح فعالياته».
�سعيد بن خلفان اخلليلي ي�صفه فيقول« :وملا اطلع وال يخفي على املدقق العالقة الوثقى �سواء �أكانت لغوية
25 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تق�سيم عناية ال�رشاح بالديوان ق�سمني كبريين :يتمثل على نظمها( )56العامل الرباين( )57والبحر النوراين� . .أبو
الأ ول يف �رشح الديوان كله ،ويبدو الثاين يف �رشح ق�صيدة حممد نا�رص ابن العالمة املولوي الولـي �أبو نبهان
واحدة� ،أما الأ ول وهو �رشح الديوان كله فقد و�صلتنا جاعـد بن خمي�س اخلليلـي اخلـرو�صي»( ،)58فرنى
�رشوح خمتلفة له لعل �أ�شهرها �رشح ح�سن البوريني، العالمة اخلليلي ي�صفـه بالعالـم الرباين والبحـر
وعبد الغني النابل�سي ،وقد جمع ر�شيد بن غالب الدحداح النورانـي ،وي�صف والده باملولوي( ،)59والويل(،)60
اللبناين هذين ال�رشحني يف كتاب واحد �سماه (�رشح وهي من م�صطلحات ال�صوفية وال�سلوك ،ويلح ابن
ديوان ابن الفار�ض) �ضم فيه �رشح البوريني برمته مع رزيق هو الآخر على مثل هذه الأ و�صاف يطلقها على
نبذ من �رشح النابل�سي عند كل بيت ،وو�ضع �إ�شارات تعني
ال�شيخ نا�رص فهو املولوي( ،)61والقطب( ،)62والويل(،)63
على التفرقة بني ال�رشحني ،ومن �رشوح الديوان �أي�ض ًا
�رشح �أحمد �أحمد املخزجني وعنوانه (املدد الفائ�ض عن
وال�صويف( ،)64وجتد هذه امل�صطلحات مكان ًا رحب ًا يف
�رشح ديوان ابن الفار�ض) ،و�رشح �أمني اخلوري امل�سمى كتب ال�صوفية يديرون عليها معانيهم ومراتب ال�سلوك �إن ال�شيخ نا�صر قد
(جالء الغام�ض يف �رشح ديوان ابن الفار�ض) ،ومن ال�رشوح عندهم ،نلمح من جهة �أخرى عند التدقيق يف عنوانات
كتب ال�شيخ نا�رص اجتاه ًا �صوفي ًا وا�ضح ًا فنحن نقر�أ
�سار على نهج والده
احلديثة �رشح كرم الب�ستاين ،ود .عبد اخلالق حممود ،ود.
�إبراهيم ال�سامرائي. مثـالً :كتاب الإ خـال�ص( ،)65كتاب مبد�أ الأ �سفار ،كتاب طلباً و�سلوكاً ،وعرف
�أما الق�سم الثاين فهو �رشح ق�صيدة واحدة من الديوان ،وقد نالت الك�شف ،كتاب املعـارج ،كتاب منتهي الكرامـات، له آالخرون تلك
الق�صيدة امليمية التي مطلعها: كتاب ال�رس العلـي ،كتاب �سالمة احلال( ،)66ومعلوم �أن املنزلة التي و�صل
�رشبنا على ذكر احلبيب مدامة تلك العنوانات ذات مدلوالت �سلوكية فمن ال�رضوري �إليها ف أ��صبح ي�شار له
�سكرنا بها من قبل �أن يخلق الكرم �أن ت�ضم مادتها مباحث مقاربة للعنوان �إن مل تكن
والتائية الكربى( )70التي مطلعها:
على أ�نه من علماء
مطابقة له ،فال�سفر ،واملعراج ،والكرامة ،وال�رسّ،
�سقتني حميا احلب راحة مقلتي والك�شف من م�صطلحات القوم ،وال�شيخ نا�رص يعلم عمان الكبار ،غري أ�ن
وك�أ�سي حميا من عن احل�سن جلَّتِ هذا حق العلم ،ومل يكن ليويل هذا اجلانب اهتمامه ال�سلوك الذي اتخذه
نقول :نالت تينك الق�صيدتان اهتمام ال�رشاح فقامت
()71
()67
من الت�أليف لوال ر�سوخ قدمه فيه علم ًا وذوقاً. منهجاً وطريقة ظل
حولهما �رشوح كثرية فنواجه للق�صيدة الأ وىل �رشح داود
بن حممود القي�رصي ،و�رشح حممد بن حممد الغمري وا�سمه -4- هو ال�سمة املميزة
الزجاجة البلوريـة يف �رشح الق�صيدة اخلمرية ،و�رشح املوىل ملكانته العلمية مل يكن غريب ًا بعد ما تقدم �أن يت�صدى ال�شيخ نا�رص ل�رشح �شعر
علم�شاه عبد الرحمن وغريها( .)72وحظيت التائية الكربى ابن الفار�ض ،ويختار ق�صيدتني له هما من العيون يف �شعره،
بن�صيب �أكرب من عناية ال�رشاح �إذ زادت �رشوحها على الع�رشة ونحن نعلم ،وال�شيخ نا�رص رحمه اهلل يعلم قبلنا(� ،)68أن البن
منها �رشح داود القي�رصي ،و�رشح عمر بن �أحمد الغزنوي، الفار�ض «مكانته الظاهرة الالمعة بني املت�صوفة . .كما يعد
و�رشح �سعيد الدين الكا�ساين الفرغاين ،و�رشح عبد الرزاق ر�أ�س ًا ل�شعراء ال�صوفية من العرب»( ،)69وهكذا فقد ا�ستكمل ال�شيخ
القا�شاين وغريها( ،)73ومل يكن ال�شيخ نا�رص بعيداً عن ذلك كله �أدواته ب�أنواعها جميعاً :القراءة والفهم من جهة ،وال�سلوك
�إذ ي�رصح يف مقدمة هذا الكتاب �أي �إي�ضاح نظم ال�سلوك مبا والذوق من جهة �أخرى فليقم بهذا العمل كما قام به � آخرون
ي�أتي . .« :و�أقوى و�أج ّل و�أ�رشف نظم عرفناه يف هذا العلم نظم قبله .غري �أننا نود هنا تقدمي ملحة موجزة عن اعتناء ال�رشاح
ال�شيخ العارف �أبي حف�ص عمر بن ال�شيخ �أبي احل�سن علي بن بديوان ابن الفار�ض يكون عون ًا على ك�شف عمل ال�شيخ نا�رص،
املر�شد بن علي احلموي ن�سب ًا وامل�رصي مولداً . .وهو املعروف وت�ضعه يف حمله ال�سليم بني �أعمال �أولئك ال�رشاح.
بابن الفار�ض ،و�أعظم ما نظمه يف العلم منظومته التائية ونقرر بداية �أنه مل يظفر ديوان من دواوين ال�شعراء العرب
وهي التي �سماها نظم ال�سلوك»( .)74فهو يعلم جيداً مكانة ابن بعناية ال�رشاح كما ظفر ديوان ابن الفار�ض ،ف�إذا ا�ستثنينا
الفار�ض ال�شعرية ،ومنزلته بني �شعراء الت�صوف ،ومل يقت�صـر دواوين بع�ض ال�شعراء الكبار مثل املتنبي واملعري الذي
االهتمام بابن الفار�ض على ال�شيخ نا�رص وحده بني العلماء نال ديوانه الأ ول (�سقط الزند) عناية ال�رشاح بينما مل
وال�شعراء العمانيني( ،)75بل لعله تلقى ذلك االهتمام من والده يَحْ ظَ ديوانه الثاين (اللزوميات) بعناية تذكر ،ويدخل يف
ال�شيخ جاعد الذي نراه «مت�أثراً �إىل حد كبري مبنهج ابن الفار�ض هذا االجتاه ديوان احلما�سة لأ بي متام ،نقول �إذا ا�ستثنينا
يف تائيته نظم ال�سلوك»( ،)76وخ�صو�ص ًا يف ق�صيدته ال�شهرية تلك الدواوين وهي قليلة جداً بالقيا�س �إىل اجلمهرة
(حياة املهج) التي �رشحها هو بنف�سه «ل�شدة غمو�ض وعمق الكبرية من الدواوين التي و�صلتنا ف�إن �شعر ابن الفار�ض
�أفكارها»( ،)77ونرى العالمة �سعيد بن خلفان اخلليلي ي�رشح هو يقف يف املقدمة من حيث االهتمام وال�رشح .ومن املمكن
26 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف قلبي ر�سوم و� آثار ت�سد باب الفتوح وتت�شبث ب�أذيال الروح ()78
الآ خر �أبيات ًا من ق�صيدة ابن الفار�ض امليمية التي مر ذكرها
ف�أتلو حينئذ تلو الغري و�أحذو حذوه يف ال�سري»( ،)86وبعد �أن يقدم كما �إن ت�أثر ال�شيخ �سعيد يف �شعره «ب�سلطان العا�شقني يف الأ دب
بني يدي ال�رشح بع�رشة ف�صول تت�ضمّن مباحث خمتلفة يقول: العربي ابن الفار�ض ال�سيما يف نونيته الكربى»( )79وا�ضح بينّ
« . .و�إذ بلغ الكالم هذا املبلغ لزم تق�صري �أذياله فلرنجع �إىل «مع مالحظة �أنه قد �أ�سهب يف ذكر �أخبار الأ نبياء واملر�سلني
املق�صود من ال�رشح املوعود للق�صيدة التي مطلعها قوله،)87(».. �أكرث من ابن الفار�ض»(� ،)80أما ال�شاعر الكبري �أبو م�سلم البهالين
ثم ي�سوق البيت الأ ول ويبد�أ ب�رشحه .ونحن مع �إعجابنا بذلك فله التائية املعروفة املثبتة يف ديوانه التي بلغت عدتها نحو
ال�رشح الفريد الذي وظف فيه �صاحبه لغة خا�صة ذات �إيحاءات �ألف و�ستمائة بيت ،وال �شك �أنه ينظر فيها �إىل تائية ابن الفار�ض
وظالل ،مع خ�صوبة جلية يف الت�أويل ،وا�صطناعه منهج ًا الكربى ،غري �أنه جعلها مقاطع تكفل كل مقطع بواحد من �أ�سماء
خا�ص ًا به مل يت�أثر فيه ب�سابق عليه كما �أ�شار هو بنف�سه ،نقول اهلل احل�سنى و«دعاه �سبحانـه يف هذه الق�صيدة بجميع �أ�سمائه
بالرغم من ذلك كله ف�إنه ي�سلك مع بقية ال�رشوح ،ويقوي ما احل�سنى وتو�سل �إليه فيها»( ،)81ومطلعها:
ذهبنا �إليه يف بداية احلديث ،وهو �إن الكتاب كله قام على هو اهلل با�سم اهلل ت�سبيح فطرتي
�رشح التائية الكربى وحدها ،وقد �صنع هذا ال�صنيع كل من
()82
هو اهلل �إخال�صي ويف اهلل نزعتي
تقدم الكا�شاين وت�أخر عنه ،وك�أنهم وجدوا �ضالتهم يف تلك ومن ال�رضوري �أن ن�شري هنا �إىل �أن �أولئك ال�شعراء والعلماء
الق�صيدة من حيث ك�شفها مقا�صد ابن الفار�ض ،وت�صوير العمانيني حني ت�أثروا بابن الفار�ض وغريه من �شعراء
حاالته ،وا�ستبطان مقاماته التي تنقل فيها واحداً بعد واحد، املت�صوفة وم�ؤلفيهم �إمنا اختاروا ما يالئم عقيدتهم
ولي�س يف هذا كبري غ�ضا�ضة غري �أن ال�شيخ نا�رص يختط لنف�سه ومذهبهم ،وقد �أملحنا �إىل هذا فيما �سبق ،ولهذا اختاروا
نهج ًا خمتلف ًا وهنا تكمن الأ همية ،وتتمثل معامل هذا االختالف م�صطلح ال�سلوك ،ون�أوا به عن احللول ،ووحدة الوجود
يف �أن ال�شيخ قد جمع يف كتابه ق�صيدتني البن الفار�ض ال وما �إليهما ذلك الذي قال به بع�ض املت�صوفة ،كما �أن ابن
واحدة ،هما التائيتان ال�صغرى والكربى وعليهما �أقام كتابه، الفار�ض نف�سه ين�ضوي حتت ذلك التيار «املتم�شي مع
وال نقول �رشحه لأ نه هو بنف�سه اختار لفظة الكتاب كما �سرنى
()83
�أ�صول الدين ،املحافظ على تعاليم الكتاب وال�سنة»
العتبارات كثرية ،ولن�سلك الطريق من �أوله. ومن هنا جاء ذلك االهتمام به من لدن ال�شعراء والعلماء
يبني ال�شيخ نا�رص عالقته ب�شعر ابن الفار�ض قبل ال�رشوع العمانيني للتوافق بينهما :منطلق ًا ونتيجة.
يف ت�أليف هذا الكتاب فيقول« :واعلم �أين ملا نظرت �إىل -5-
منظومة هذا ال�شيخ واعتربت معانيها فكلما الح يل معنى بينَّ امل�رسد ال�رسيع الذي قدمناه �سابق ًا عن اهتمام ال�رشاح
من معاين �شيء من بيوتها ر�سمت حتته ب�أ�شد �إيجاز ب�شعر ابن الفار�ض �أنهم حني ت�صدوا لل�رشح يف الق�سم الثاين
تذكرة لنف�سي لئال يغيب عليَّ حني �أهمل �أمرها ،ومل يكن كانوا يكتفون ب�رشح ق�صيدة واحدة من �شعره ،وعليها تقوم
الق�صد ليكون كتاب ًا باقي ًا بعدي ،ومل �أر�سم غري تقدمي لفظ كتبهم ،ف�إذا انتقلنا �إىل التخ�صي�ص قلنا �إنهم حني ت�صدوا
البيت مبعناه وهو الذي ق�صدت بيانه لنف�سي ال �رشح ل�رشح التائية الكربى �أفردوا الكتاب بر�أ�سه لها مل يخلطوه
املعاين ،ف�إنه لو �رشح كل بيت ما يحتمله من املعاين بق�صيدة �أخرى ،ويف الوقت عينه مل تظفر التائية ال�صغرى
لأ ف�ضى �إىل جملدات كثرية( )88وللحق قارئه امللل»(،)89 ب�رشح منف�صل كالذي ر�أيناه مع الكربى؛ غري �أننا يف عمل
ونحن ن�شعر منذ الوهلة الأ وىل بنربة التوا�ضع التي ت�شع ال�شيخ نا�رص جند �أنف�سنا �إزاء عمل خمتلف متاماً ،وقبل الدخول
يف الكالم ال�سابق فهو يبد�أ بداية متوا�ضعة من حيث �إنه يف تفا�صيل هذا العمل نقف عند واحد من �أ�شهر �رشاح التائية
مل يرده كتاباً ،بل �أرادها تعليقات على الأ بيات يحتفظ هو عبد الرزاق الكا�شاين ،فبعد �أن ي�سهب يف احلديث عن مكانة
بها لنف�سه لتكون عون ًا له �إن �أراد العودة �إىل ال�شعر بعد التائية ،و�أهميتها ال�صوفية يتحول ليبني جهده معها فيقول:
حني .فهل بد�أ ال�شيخ ب�صنع اجلزازات ،وكل جزازة هي «فانبعثت مني دواعي التقرب �إليها واال�ستئنا�س ،وا�ستنطقتها
ال�رشح املبدئي الب�سيط للبيت ،وتتواىل الأ بيات ،وتتكاثر للإ ينا�س بعد الإ يا�س حتى �إذا �أن�ست مبجاورتي و�أخذت من
بعد هذا اجلزازات فال�رشوح؟ فقه الن�ص ي�شري �إىل هذا، م�سامرتي طفقت �أن�ضو نقاب تعززها بيد التوحيد ،و�أك�شف
غري �أنه مل يكتف عند هذا احلد ،بل انتقل �إىل عمل �آخر حجاب متنعها ب�أيدي الت�أييد و�أح ّل معاقد دررها ومنا�ضد
كان النواة لهذا الكتاب ،ولعله ر�أي �أن ما علَّق به على غررها مبحالل الت�أنق والتحقيق و�أنامل الت�أمل والتدقيق. .
الأ بيات مل يكن كافي ًا فاتخذ وجهة �أخرى م�صغي ًا لن�صيحة فلما ت�صفحتها مراراً وقلبتها �أطواراً واحتظيت مبعانيها على
من ن�صحه واقتناع ًا منه بهذا النهج اجلديد ،يقول. .« : قدر ما قدر يل من اال�ستعداد( ،)84وجدتها مبنية على قواعد
واعلم �أن ال�شيخ بد�أ بنظم ال�سلوك من غري �أوله بل من العلم والعرفان منبئة عن نتائج الك�شف والوجدان»(� ،)85إىل �أن
مراتبه العلية بقوله� :سقتني( ،)90و�أوهمت �صحبي( ،)91وهو يقول . .« :ومل �أرجع يف �إمالئه �إىل مطالعة �رشح له كي ال ترت�سم
27 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
على هذه الرواية املروية التي حكاها ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه ق�صد نظم ال�سلوك �إىل اهلل تعاىل كله فكان ابتداء �سلوك
و�سلم عن اهلل تعاىل وجعل قاعدتها ومنتهاها يف �رشح ثالثة �صحبه الذين ذكرهم مل ي�أت ابتداء �سلوكهم وعرف �أنه
�أ�سماء اهلل تعاىل من �أ�سماء ذاته و�صفة رابعة من �صفات ذاته كان ينبغي له غري ذلك فعمل لها ر�أ�سا( ،)92وبد�أ بال�سلوك
جل وعال وهي ال�سميع والب�صري والقدير ومل يزل متكلماً ،وقال من �أوله يف مائة وثالثة �أبيات( )93للموا�صلة ،ونحن
وهذه بال � آلة التعريف هي �صفات ذات املرء التي هي عقله �أحببنا �أن نبتدئ ب�إي�ضاحه من �أوله ،و�أ�شار علينا بع�ض
فهو �سميع ب�صري قدير متكلم وجعل اهلل تعاىل هذه الذات و�أنها الإ خوان برتك الكتاب ملن ي�أتي وي�شاء النظر فيه ف�أجبته
هي يف احلقيقة �سميعة ب�صرية متكلمة قديرة وبها كان العقل وجمعته و�سميته كتاب �إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات
عقالً»( )100ويريد ال�شيخ نا�رص بالرواية املروية التي حكاها ملك امللوك وجز�أته ثالثة �أجزاء»( ،)94هل نفهم من قوله
ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم عن اهلل تعاىل قوله« :كنت كنزاً ال�سابق �أنه يرى الق�صيدتني �شيئ ًا واحداً ،والبد ملن يريد
مل �أعرف ف�أحببت �أن �أعرف فخلقت خلق ًا كي �أعرف فبي كانوا الت�صدي ل�رشح الثانية فلن يت�سنى له هذا �إال بعد �رشح
وبي عرفوين وما تقرب عبدي ب�شيء �أحب �إيل مما افرت�ضت الأ وىل ،فك�أنَّ الأ وىل و�سيلة الدخول �إىل عامل الثانية؟ .نحن
عليه و�إذا تقرب مني عبدي بفرائ�ضي وبالنوافل �شرباً تقربت نعلم �أن من الباحثني من ذهب �إىل �أن التائية الكربى
منه ذراع ًا و�إن تقرب مني ذراع ًا تقربت منه باعاً . .وال يزال «لي�ست �إال ترجمة حلياة ال�شاعر الروحية كتبها عن نف�سه
يتقرب �إيل بفرائ�ضي وبالنوافل حتى �أحبه ف�إذا �أحببته توليت وق�ص فيها ما تعاقب عليه من �أطوار احلب وما بنف�سهّ ،
�أمره وكنت �سمعه الذي ي�سمع به وب�رصه الذي يب�رص به ول�سانه عاناه من �ألوان الريا�ضات واملجاهدات ،وما خ�ضع له من
الذي يتكلم به ويده التي يبط�ش بها ،)101(»..ومن املفيد �أن ن�شري �رضوب املحن والآالم يف كل طور من هذه الأ طوار»(� ،)95أو
�أو ًال �إىل �أن هذا احلديث القد�سي قد �أفاد منه ال�صوفية كثرياً قبل هي «و�صف ملعراجه الروحي نظاماً»( ،)96كما نرث فيها
ابن الفار�ض وبعده يف حديثهم عن احلب الإ لهي(� )102أي حب اهلل ابن الفار�ض «اختباراته ال�شخ�صية و�رسد �أحواله النف�سية
للعبد من جهة ،وحب العبد هلل من جهة �أخرى ،غري �أن توجيه �رسداً بعيداً عن اال�ستق�صاء واحل�رص»( ،)97ونعلم �أي�ض ًا
ال�شيخ نا�رص له من حيث عالقته بابن الفار�ض يقوم على �أن من الباحثني من �سلك طريق ًا �آخر �إذ اعترب �أن التائية
�أمرين �أولهما �إن ال�سمع والب�رص والقدرة بهذا الو�صف الوارد الكربى «جماع لبقية ق�صائده التي تبدو كتجارب جاهدة
يف احلديث هي مواهب من اهلل للعبد املحب ،ولن ي�صل �إىل هذه وحماوالت غري تامة يف �سبيل و�صول ال�شاعر �إىل غايته،
املرحلة �إال بعد قطعه طريق ًا طوي ًال من املجاهدات والريا�ضات، فلو رتبت جميعها ترتيب ًا نف�سي ًا مت�سامق ًا وطبيعة التجربة
غري �أن هذا الو�صول �إىل هذه املرتبة – وهو الأ مر الثاين – ال ال�صوفية جلاءت نقاط ًا �صاعدة على خط بياين واحد ترتبع
ي�سقط عنه التكاليف والفرائ�ض بداللة ا�ستمراره القيام بها التائية على قمته عالمة و�صول �إىل النهاية والغاية»(،)98
والإ حلاح على هذا اال�ستمرار ،فك�أن ال�شيخ نا�رص يرى �أن ابن وهي �أي�ض ًا «نهاية مطاف ال�سري احلثيث لل�شاعر يف طريق
الفار�ض واالجتاه ال�سلوكي الذي التزم هو به موافق لأ حكام حبه الإ لهي . .فهي بهذا حم�صلة بقية ق�صائد الديوان التي
ال�رشيعة � ،آخذ منها ،معتمد عليها ،وك�أنه من جهة �أخرى ينفي متثل جتاربه القا�رصة عن بلوغ الغاية»(� ،)99أقول ،نحن
عنه ما اتهم به من خروج على ال�رشيعة .وهكذا يتبدَّى لنا هنا نعلم هذا ،وكرثة �أخرى من الدار�سني كان لها ر�أيها القريب
بقوة ما �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من اكتمال الق�صيدتني� ،إذ و�صل ابن من الر�أيني ال�سابقني ،ولكن ال�شيخ نا�رص يختط لنف�سه
الفار�ض �إىل مرحلة متقدمة من طريقه ال�صويف يف التائية طريق ًا ثالث ًا يختلف عن الطريقني ال�سابقني ،ويرى �أن هذه
الكربى ،وعلى هذا �سيقوم هو بر�ؤية الق�صيدتني بنظرة تكاملية احلياة الروحية البن الفار�ض يف �أطوارها الأ وىل مل تبد�أ
تك�شف لنا بدايات ذلك الطريق الذي بد�أ يف الو�صول �إىل نهايته يف التائية الكربى� ،أو ق�صائد الديوان كلها كما ر�أينا ،بل
يف الكربى ،ولن يتحقق هذا الك�شف بغري الرجوع �إىل التائية يراها متمثلة يف تائيته ال�صغرى فقط ،ومن هنا توجب
ال�صغرى فهي بداية الطريق و�أوله. �سلوك الطريق من �أوله ،والوقوف عند ال�صغرى ملالحظة
�أما الأ مر الثاين فهو عنوان الق�صيدة �إذ نرى ال�شيخ نا�رص ذلك التطور الروحي ور�صده ،كما �إنه يعدل هنا عما قرره
يقدم لها عنوان ًا يكاد يكون جديداً مل نره يف امل�صادر �سابق ًا فقد �أخذ بن�صح من ن�صحه ،وجعل من الق�صيدتني
التي بني �أيدينا ،يقول . .« :و�أعظم ما نظمه ابن الفار�ض و�رشحهما كتاب ًا ذا ثالثة �أجزاء بح�سبان �أنهما �شيء واحد،
يف العلم منظومته التائية وهي التي �سماها نظم ال�سلوك فهو لي�س �رشح ًا باملعنى املبا�رش لل�رشح بل ر�صد للتطور
�إىل ح�رضات ملك امللوك وكلمة ح�رضات نحن اخرتناها الروحي البن الفار�ض من خالل الق�صيدتني.
و�إال فهو �سماها �إىل خدمة ملك امللوك»( .)103واعتماداً وقبل الدخول �إىل منهج الكتاب نقف عند �أمرين نراهما مهمني
على هذا �سمى كتابه (�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات يتعلقان بالتائية الكربى وحدها� .أما الأ ول فيتلخ�ص فيما
ملك امللوك) كما �رصح بذلك هو بنف�سه .والبد من الوقوف يراه ال�شيخ نا�رص من �أن ابن الفار�ض «ركَّب جميع كالمه فيها
28 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أدخل فيما عرف بت�صنيف العلوم( )107غري �أنه ي�ستند �إىل قلي ًال عند هذا العنوان (اجلديد) الذي يذهب �إىل �أن الق�صيدة
� آية وحديث� ،أما الآ ية فهي قوله تعاىل( :وما خلقت اجلن هي (نظم ال�سلوك �إىل خدمة ملك امللوك) وهو خمالف
والإ ن�س �إال ليعبدون) ،و�أما احلديث فهو حديث املعرفة الذي للوثيقة التي بني �أيدينا يف ديباجة الديوان التي كتبها
م َّر �سابقاً ،وينطلق منهما ليقول « . .وهذا يدل على �أن اهلل �سبط ابن الفار�ض ،ويقدم لنا فيها مراحل ت�سمية ق�صيدة
تعاىل عامل الغيب وال�شهادة مل يخلق اخللق �إال لأ جل العبادة جده �إذ كان عنوانها �أول ما نظمت (�أنفا�س اجلنان ونفائ�س
كما �شاء من عباده»( ،)108ويق�سم العبادة بعد هذا ثالثة �أق�سام اجلنان) ،ثم �صار ا�سمها (لوائح اجلنان وروائح اجلنان) ،ثم
هي« :ك�شفي وهو علم التوحيد . .والق�سم الثاين احلقيقة وهو ينقل �سبط ابن الفار�ض عن �أبيه عن جده �أنه ر�أي ر�سول
علم الباطن والق�سم الثالث ال�رشيعة»( ،)109وك أ�نَّه يذكرنا اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم «يف املنام وقال له :يا عمر ما
بتق�سيم ذي النون امل�رصي للمعرفة من �أن ق�سمها الأ ول «حظّ �سميت ق�صيدتك ؟ فيجيب ابن الفار�ض� :سميتها يا ر�سول
م�شرتك بني عامة امل�سلمني وثانيها معرفة خا�صة باحلكماء اهلل( :لوائح اجلنان وروائح اجلنـان) .فيقول ر�سول اهلل :بل
نا�صر اخلرو�صي.. والعلماء ،وق�سمها الثالث خا�ص بالأ ولياء الذين يرون اهلل �سمهـا نظـم ال�سلوك ف�سميتها بذلك»( .)104ومل نقف عند
وكالم ابن الفار�ض بقلوبهم»( ،)110وهو تق�سيم �سنجد له �صدى يف كتابات من جاء ر�ؤية ال�شاعر لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف املنام
ما دام له خمرج بعد ذي النون من حيث تفرقتهم بني علوم ال�رشيعة واحلقيقة، فهذا يخرجنا عما نحن فيه غري �أن العنوانات ال�سابقة
حقّ يف الت�أويل فال ويعمق ال�شيخ نا�رص بعد هذا حديثه عن هذه العلوم من حيث تختلف اختالف ًا بيّن ًا عما اختاره ال�شيخ نا�رص �إذ ي�رصح
و�سائل اكت�سابها فرياها تتمثل بثالث طرق هي «طريقة ب�أن ابن الفار�ض هو الذي �سماها (نظم ال�سلوك �إىل خدمة
ي�ص ّح �أن ي�ؤول � إ ّال و�سائل ال�رشيعة ،وطريقة و�سائل التجريد من احلقيقة ،وطريقة ملك امللوك) فهل يقدم ال�شيخ نا�رص عنوان ًا جديداً معتمداً
على الوجه احلقّ املكا�شفة براية املحبة»( )111ويف�صل احلديث عن هذه الطرق على م�صادر مل يطلع عليها من در�سوا التائية؟ وخ�صو�ص ًا
ما احتمل له... بقوله «ف�أما علم ال�رشيعة و�أق�سامها فقد تكفل كثري من العلماء �أن هذه اجلمهرة من الدار�سني تتخذ من ديباجة الديوان
وال يجمل ب�أهل بت�رشيحها ،و�أما علم احلقيقة طريقة وو�سائل التجريد وطريقة التي �سقناها قبل قليل معتمداً يف عنوانات الق�صيدة
املكا�شفة براية املحبة ف�أقل بيان ًا و�إن تكلم فيها بع�ض العلماء باعتباره ن�ص ًا موثق ًا ذا �سند �صحيح ال يف�صل بني ال�سبط
العلم الرتفّع على نرثاً ونظم ًا فكالمهم فيها �أ�شد غمو�ض ًا من كالم العلماء يف واجلد �سوى االبن ،والثالثة ال يو�صفون بكذب� ،أو تغيري
العلماء الكبار � إذا علم ال�رشيعة الظاهرة»( )112ويخرج بعد هذا �إىل تبيان �أنَّ �أقوى النتفاء �أ�سبابه وحر�صهما :االبن وال�سبط على ت�أدية ما
�أظهر ر�أياً �أف�ضل ما عرفه من نظم يف هذين العلمني الأ خريين هو تائية ابن قاله ابن الفار�ض كما جاء على ل�سانه بال تغيري العتبارات
من ر�أيهم ،بل الفار�ض الكربى .ومن الوا�ضح �أن ال�شيخ نا�رص يفيد كثرياً من كثرية :دينية و�أ�رسية وما �إليها ،وللم�س�ألة وجه �آخر يتمثل
الرتاث ال�صويف( )113املعتدل الذي قر�أه ب�إمعان ودقة فطاملا يف عنوان خام�س للق�صيدة يقدمه �أحد �أ�شهر �رشاح التائية
يظهر ر�أيه على حتدث املت�صوفة عن عالقة الت�صوف بال�رشيعة من جهة، وهو عبد الرزاق الكا�شاين �إذ ي�سمي �رشحه (ك�شف الوجوه
ح�سن �أدب فيما واتخاذهم طريقة تختلف عنها يف عبادة اهلل من جهة �أخرى، الغر ملعاين نظم الدر) ،وال تهمنا تتمة العنوان وهي
بينه وبني الذي كما �إن ابن خلدون وهو يقدم ت�صوراً لعلوم ع�رصه حتدث عن (�رشح تائية ابن الفار�ض الكربى امل�شتهرة بنظم ال�سلوك)
عار�ضه. علوم ال�رشيعة ور�أي �أنها �صنفان�« :صنف خم�صو�ص بالفقهاء فهذا من �صنع املطبعة؛ لأ ن الكا�شاين نف�سه ي�رصح با�سم
و�أهل الفتيا ،و�صنف خم�صو�ص بالقوم – يريد ال�صوفيـة – يف كتابه فيقول . .« :يف ق�صيدته – �أي ابن الفار�ض – الغراء
القيـام بهذه املجاهدة ،والكالم يف الأ ذواق واملواجد العار�ضة امل�سماة بنظم الدر»( ،)105ويقول« :و�سميته – �أي ال�رشح
يف طريقها»( ،)114ومل يخرج ال�شيخ نا�رص عن هذا املعنى – ك�شف الوجوه الغر ملعاين نظم الدر»( ،)106فهذا عنوان
بيد �أنه �أ�ضاف �إليه تلك ال�صعوبة والع�رس اللذين يتميز بهما خام�س للق�صيدة هو (نظم الدر) ،وهذا ما يجعلنا نتوقف
العلمان الثاين والثالث بح�سبان �أنهما ي�صدران عن جتربة عن القطع يف هذه امل�س�ألة ،واعتبار العنوان الذي تبناه
�شخ�صية ،وي�ستخدمان م�صطلحات خا�صة ال يعرفها على وجه ال�شيخ نا�رص �أحد العنوانات التي �أطلقت على الق�صيدة
الدقة �إال �أهل هذا الطريق وحدهم ،ولذلك نراه يعود مرة �أخرى يف انتظار درا�سة م�ستقلة للعنوان وحده ،ويبقى �أمر �آخر
فيقدم تق�سيم ًا � آخر للعلوم م�ستنداً فيه على حديث لر�سول اهلل معلق ال ن�ستطيع البت فيه وهو ال�سبب الذي حدا بال�شيخ
�صلى اهلل عليه و�سلم هو (�أعطاين ربي ثالثة علوم :علم �أمرت �إىل �إحداث ذلك التغيري يف العنوان باختيار لفظة بدل
بتبليغه وهو علم دينه تعاىل ،وعلم خيرّ ت بني ك�شفه وكتمانه �أخرى فهذا مما مل يبيّنه لنا.
وهو علم احلقائق وعلم �أخذ عليّ بكتمانه وك ّل ذلك يف الكتاب ا�صطنع ال�شيخ نا�رص منهج ًا خا�ص ًا به يف ت�أليف هذا الكتاب
املبني)( ،)115ومع مالحظة �إ�شارة احلديث الوا�ضحة �إىل ارتباط يقوم على الرتتيب والتنظيم ،الأ جزاء فالأ بواب ،وت�سبقها
تلك العلوم بالقر� آن الكرمي� ،أو بتعبري القوم اتكاء احلقيقة على مقدمة ،فك�أنَّ هناك خيط ًا خفي ًا ينتظم اجلميع ليو�صل �إىل
ال�رشيعة ،نقول ف�إن ال�شيخ نا�رص يتخذ من هذا احلديث و�سيلة النهاية فرناه يعالج يف املقدمة جمموعة من الق�ضايا هي
29 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ق�ضية اخلالف التي �أ�شار �إليها بينه وبينهم وهو يحتمل عملية لتبيان طريقة تعامله مع �شعر ابن الفار�ض ،واخلطوات
�شيئني :خالف مذهبي وهو ما �أملعنا �إليه �سابقاً ،وخالف التي �سي�سلكها يف �رشحه الق�صيدتني .ون�ستطيع تبني ثالثة
منهجي وهو �أ�شبه بالنتيجة للخالف املذهبي ،فك�أنَّ �أخذه معامل رئي�سة تنتظم ال�رشح كله� ،أما املعلم الأ ول فهو «�صفة
بنهج معني يف ال�سلوك يتعامل به مع الق�صيدتني �أبعده مزج املعنى بتقدير �ألفاظه»(� ،)116أي �أنه �سيعمد �إىل النظرة
عن تلك ال�شطحات والتهوميات ،وتقدمي �رشوح توحي الكلية لل�شعر القائمة على البحث عما وراء املعنى الظاهري
باالنخالع من ال�رشيعة وتدخل يف املحظور ،كما هو عليه الذي ت�شي به الأ لفاظ وهو الذي «طلب نف�سه �إىل معرفته من
احلال يف ال�رشوح املتقدمة ،فهذا كله مما �سيبتعد عنه هذا نظم هذا الناظم يف منظومته»( )117على اعتبار �أن «الفطن تلوح
الكتاب ،وفيه ت�أكيد على النهج امل�ستق ّل الذي �سيتخذه. له املعاين �إذا انفتح له التقدير»( ،)118ويريد بهذا �أنه لن ينظر
�أ�رشنا فيما �سبق �إىل �أن ال�شيخ ق�سم كتابه ثالثة �أجزاء وجعل �إىل ال�شعر الذي بني يديه نظرة تقريرية جافة بل �سينظر �إىل
لكل جزء عنواناً� ،أما الأ ول فهو «يف تخلي�ص النف�س والروح �إىل الرتكيب باعتباره ن�ص ًا مفتوح ًا ميثل ت�أويالت متعدّدة ،وعلى
مراتب الكمال براية حمبة املريدين» ،وفيه يبني ا�ستعداد ابن هذا فهو �سي�أخذ بالت�أويل لكن بنوع واحد منه وهو القريب نا�صر اخلرو�صي..
الفار�ض ل�سلوك الطريق ،و�أخذه بالو�سائل من جتريد ،وقطع الذي يحتمله ال�شعر ،وهذا هو املعلم الثاين �إذ يقول« :واعلم ولو قال
العالئق بالدنيا وزخرفها متهيداً لل�سفر الطويل .واجلزء الثاين �أن لها ت�أوي ًال باطن ًا خفي ًا علوي ًا �سماوي ًا روحاني ًا وت�أوي ًال
«يف كمال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم براية حمبة املرادين ظاهراً ج�سدانياً ،ونحن اكتفينا باجللي الظاهر املمكن فهمه قائل � إ ّن �شرح
ويف التوحيد هلل املجيد» ،ويعمد فيه ال�شيخ �إىل تو�ضيح مقا�صد بالغالب من العقول ال�سليمة و�أعر�ضنا عن الباطـن . .ومن توغل ك ّل بيت
ال�شاعر عن احلقيقة املحمدية ومنزلتها ،وبداية االقرتاب من ف�إنه يلوح له من باطن ما نورده ف�إنه يكون له كالإ قليد»(،)119 من نظم
التوحيد مبعناه ال�صويف ،و�أما اجلزء الثالث والأ خري فهو يف ويقدّم لذلك النهج �سبب ًا هو �إن التف�سري الباطن «رمبا �إذا وقف
«مقامات احلقيقة ويف التوحيد ويف كمال النبي �صلى اهلل عليه الغالب من املتعلمني تق�رص عقولهم ف�إما �أن ي�صوّروا ما ابن الفار�ض
عليه و�سلم» ،وك�أنَّ هذا الباب ثمرة للبابني ال�سابقني من حيث ال يجوز و�إما �أن ي�سيئوا بنا ظناً»( ،)120وك�أنَّ ال�شيخ نا�رص �أراد يحتمل أ�ن
جنح الريا�ضيات واملجاهدات ،وو�صول ال�شاعر �إىل غايته يف هذا الكتاب للكافة ال تقت�رص عليه النخبة فقط غري �أنه ترك يكون
الك�شف ومعرفة التوحيد احلقيقي. الباب مفتوح ًا لذوي الأ فهام العميقة ال�سابرين غور الرتاكيب كتاباً وا�سعاً
وهذا التتابع البديع للأ جزاء ي�شري �إىل مرافقة ال�شيخ ف�أمامهم ف�سحة وا�سعة كي يت�أولوا ،وميعنوا يف الت�أويل ،فالن�ص
الدقيقة ل�سلوك ابن الفار�ض وتطوره الروحي ،وتنقله بني خ�صب يعني على هذا ،وال�رشح منفتح على الدالالت جميع ًا لكان �صادقاً.
املراحل مرحلة فمرحلة مما نراه مب�سوط ًا يف التائيتني. ال مينعه التحفظ والتوقي اللذان �أرادهما ال�شيخ من االنطالق
ومل يرق لل�شيخ �أن يرتك هذا التعميم الذي نلحظه وا�ضح ًا والعطاء ،ومل يكن مبقدور ال�شيخ نا�رص �أن ي�صنع غري هذا فهو
على الأ بواب فاتخذ من داخلها ف�صو ًال و�أبواب ًا �أو�صلها �إىل مرتبط بال�رشيعة و�أحكامها من جهة ،وهو من جهة �أخرى �أمني
�سبعة وع�رشين ف�ص ًال وجعل لكل واحد منها هي الأ خرى على الن�ص الطويل الذي بني يديه فلي�س له �إال �أن يقول ،وعلى
عنواناً ،فالباب الأ ول «يف االنتباه من رقدة اجلهالة املتلقي �أن ي�سمع ويت�أول وهذا �ش�أن الكتب وال�رشوح التي متكث
و�سنة الغفلة» والباب الثاين «يف املكا�شفة مب�شاهدة يف الأ ر�ض تنفع النا�س.
جمال املحبوب» والثالث «يف االت�صال باملحبوب بوقفة �أما املعلم الثالث والأ خري فهو قيام الكتاب كله ،وانطالق
املواقفة يف طريق مكة» ،وبالباب الثاين ع�رش يبد�أ اجلزء ال�رشوح جميعها من فكره الإ با�ضي الذي ميثله خري
الثاين من الكتاب وهو «يف �سفر النبي �صلى اهلل عليه متثيل ،فهو وا�سع العلم به خبري بدروبه فلي�س له �إال �أن
و�سلم وهو ال�سفر الرابع املخ�صو�ص به» ،وك أ�نَّه ي�شري �إىل يتخذه هادي ًا ويجعل من مباحثه �صوىً يف طريقه الطويل
�إ�رسائه ومعراجه �صلى اهلل عليه و�سلم ،ويبد�أ اجلزء الثالث الذي �سيقطعه مع ابن الفار�ض ،فرناه يقول ...« :وقد �رشح
بالباب التا�سع ع�رش وهو «يف التوحيد مبعرفة الذات بع�ض من تالمذة تلميذ الناظم ب�رشح �سماوي �أغم�ض
الإ لهية ويف مقامات احلقيقة وال�سلوك» ،وينتهي الكتاب معاين �رشحه �أ�شد غمو�ض ًا من معاين النظم و�أبعد على
بالباب ال�سابع والع�رشين وهو «يف التنبيه على التوحيد الفهم ب�أ�ضعاف م�ضاعفة( )121ف�صار ك�أنه ال فائدة فيه �إال
الإ لهي» .ومن ال�رضوري �أن ن�شري هنا �إىل �أن ال�شيخ ينتهي للعارف ملعاين النظم ،والعارف ملعاين النظم غري حمتاج
من �رشح التائية ال�صغرى يف الباب الثالث ،ويبد�أ بالكربى �إىل ال�رشح ف�سهلته ب�ألفاظ قريبة ومل �أرد �أن �أورد معانيه
عند الباب الرابع ،ويف هذا ت�أكيد ملا ذهب �إليه من �أن التي �أوردها للخالف الذي بيننا وبينهم فاخرتعت لها
التائية ال�صغرى هي ر�أ�س وبداية ال�سلوك على حد قوله، معاين ظاهرة بيّنة موافقة لال�ستقامة لأ ن النظم يحتملها
�إذ ا�ستغرقت الف�صول الباقية وهي �أربعة وع�رشون ف�ص ًال يف الت�أويل وما ال ي�صح يف ميزان اال�ستقامة( )122فلي�س
بقية الكتاب ،وفيها وقف عند التائية الكربى ب�أبياتها بت�أويل لكالم»( ،)123ومكمن الأ همية يف هذا الكالم يظهر يف
30 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
عن هذا الواقع ما ن�ستطيع ت�سميته باالكتفاء الداخلي كنوع التي بلغت �سبعمائة وواحداً و�ستني بيتاً ،ويبدو جلي ًا لنا
من احلماية الذاتية وفق قانون التحدي ،واال�ستجابة ،فالدولة ذلك اجلهد ال�ضخم الذي بذله ال�شيخ نا�رص ال يف متابعة
على مدى قرون متطاولة تعتنق مذهب ًا خمتلفاً ،ور�أي ًا �سيا�سي ًا رحلة ابن الفار�ض وحدها ،بل يف ت�شقيق مراحل تلك
مناق�ضاً ،و�سلوك ًا مرفو�ضاً ،و�أهل عمان باملقابل ميتلكون الرحلة ،ووقوفه عند كل مرحلة م�شرياً �إليها ،ومالحظ ًا
ر�ؤيتهم املذهبية اخلا�صة ،وموقفهم ال�سيا�سي املنف�صل عن الفروق الدقيقة بينها ،ومنبه ًا �إىل �أن هذه الرحلة من خالل
ال�سياق العام ،فال مف ّر عندئذ من اللجوء �إىل الداخل تعتمل فيه الريا�ضات واملواجيد تتجه �صاعدة �إىل الأ على يف تهذيب
االجتاهات ،وتتباين فيه الر�ؤى بعيداً عمّا يجري يف اخلارج، الروح ،وت�صفيتها متهيداً لقطف الثمرة مما هو معروف
ف�إذا كان هذا �صحيح ًا من حيث البعد املكاين ،واالقتناع مبا عن غايات الت�صوف الكربى ،وي�ضاف �إىل ما �سبق تلك
هو موجود يف الداخل ،واالكتفاء باملخزون الذاتي� .أقول� ،إذا الوقفات التي تطول �أحيان ًا فتبلغ �صفحات حني يفردها
كان هذا �صحيح ًا بالن�سبة ملا �سبق ،فهل ي�صحّ من وجهة للحديث عن م�صطلح معني� ،أو مناق�شة ق�ضية كالمية،
أي�ضا؟ مبعنى هل ا�ستتبع هذا االكتفاء انقطاع ًا ثقافياً، ثقافية � ً �أو ر ّد على بع�ض املخالفني ،وهو ي�صطنع لتلك الوقفات
ومعرفي ًا عما يجري يف اخلارج؟ �إنَّ الإ جابة املنهجية على هيئة منهجية تتمثل يف ا�ستخدامه م�صطلح (بيان) ،فك�أنَّ
هذا ال�س�ؤال ت�ستدعي نَخْ ًال �شام ًال ملفا�صل احلياة الثقافية يف هذا (البيان) �أ�شبه ب�إ�شارة منه �إىل �أنّه �سي�ستطرد قلي ًال
عمان متتد لقرون ،وهذا لي�س مو�ضعه هنا ،كما انّه لي�س مبكنة لإ ي�ضاح ما م َّر بح�سبان �أنّه مل ي�ستوف احلديث عنه يف
باحث واحد �أن ينه�ض بهذا العمل الكبري ،غري �أنَّ التوقف عند الكالم ال�سابق ،وقد كرثت هذه (البيانات) حتى من املمكن
حمورين رئي�سيني من حماور الثقافة ميكن �أن ينفخ احلياة يف جعل بع�ضها مباحث منف�صلة ب�سبب اكتمال منهجيتها،
هذا املو�ضوع ،ويو�صل �إىل نتائج ميكن االطمئنان �إليها بدرجة وو�ضوح غاياتها.
كبرية ،ونريد باملحور الأ ول الطبّ وال�صيدلة ،ونق�صد باملحور -6-
الثاين هذا الكتاب الذي بني �أيدينا بح�سبان �أنّه من �أه ّم كتب ولع َّل ما تقدّم يف�سح املجال قلي ًال للوقوف عند ظاهرة �أ�شار
(ال�سلوك) التي و�صلتنا ،وقد اعتمد فيه م�ؤلفه على علوم خمتلفة �إليها بع�ض الدار�سني ،وهم يتحدّثون عن م�سرية احلياة
ما كان له �أن يتبحّ ر فيها لوال توا�صل ثقايف ملمو�س بينه، الفكرية ،والأ دبية يف عمان ،ونعني بها العزلة الثقافية ،فهم
وبني اخلارج ه ّي أ� له االطالع على ع�رشات امل�صادر �سواء يف يذهبون اعتماداً على مقولة املركز والأ طراف �إىل �أنّ عمان
التخ�ص�ص الدقيق� ،أو ما هو قريب منه – كما �سرنى – ممّا من �أقاليم الأ طراف ،وهذا ي�ستتبع بال�رضورة عزلة ثقافية من
�أتاح له حترير هذا الكتاب. نوع ما ،وقد وقفت عند ظاهرة العزلة املكانية يف بحث �سابق،
وقد در�س املحقّق يف منا�سبة �سابقة حركة الطبّ وممّا جاء فيه �أنّ «الرتاث العماين يف �أغلبه ...ي�صدر عن الفكر
وال�صيدلة يف عمان من خالل عائلة علمية �رصفت جهدها الإ با�ضي ،وهو املذهب املنت�رش بعمان منذ زمن قدمي ...وعلماء
لهذين العلمني هي �آل ها�شم ،وقد وقف مط ّو ًال عند �أحد الإ با�ضية �أنف�سهم ال ينكرون جمموعة من الق�ضايا متيّز بها
�أعالمها الكبار وهو الطبيب ال�صيديل را�شد بن عمرية، املذهب ...مثل التم�سّ ك بالكتاب وال�سّ نة ،والعمل مبا جاء فيهما،
ونخل تراثه العلمي الذي ما يزال خمطوط ًا ويقع ب�سبعة واملحافظة على الفرائ�ض ،ورف�ض ال�سلطة املتجبرّ ة الظاملة،
وتو�صل �إىل �أنَّ هذا الطبيب ورث الطبّ ،وال�صيدلة ّ كتب، وهو مربط الفر�س يف هذا املو�ضع ،ويحدّثنا التاريخ العماين
عمّن �سبقه ،و�أورثه مَ نْ جاء بعده ،وكان يعتمد املالحظة، عن كرثة احلروب ،والنزاع الذي وقع بني ال�سلطة احلاكمة،
والتجربة يف عمله ممّا ي�شي ب�إفادته من املراكز الطبية و�أهل عمان ب�سبب رف�ضهم �سيا�سة القهر ،والبط�ش التي يرونها
يف ع�رصه ،وقبله مثل دم�شق ،وبغداد ،والقاهرة ،وفار�س خمالفة لأ �صول ال�رشع ،وجند هذا منذ عهد معاوية بن �أبي
كاف على املنجز العربي وغري العربي يف الطب مع اطالع ٍ �سفيان الذي مل يكن له يف عمان �سلطان على ح ّد قول حمقّق
وال�صيدلة ،وم�صادرهما املعتربة يف هذين املجالني، ك�شف الغمّة»( ،)124وي�ستمر هذا الأ مر �إىل وقت مت�أخر حتى
ولذلك ر�أينا �أ�سماء �أعالم عربية ،وغري عربية ،وم�صادر �أنّنا جند اللغوي ال�شهري �أبا بكر بن دريد املتويف �سنة 321
عربية ،وغري عربية ترتدّد يف كتبه ،وهو يفيد منها ،ومن للهجرة يوثّق يف �شعره ما نزل ب�أهل عمان من كوارث على
التجارب ،واملالحظات ،وير ّد على بع�ض مَ نْ �سبقه يف بع�ض يد حممد بن نور عامل اخلليفة العبا�سي املعت�ضد ،حتى �أنَّ
الأ حيان ،وي�ضيف �إليهم يف �أحيان �أخرى ممّا ي�شري �إىل ابن رزيق ي�صف ما وقع و�صف ًا م�سهب ًا من �أنَّ حممد بن نور
متكّن ملحوظ ،ور�سوخ يف هذين العلمني ،وال �ش ّك �أنَّ توفّر «ا�ستوىل على كافة عمان ،وفرّق �أهلها ،وعاث يف البالد ،و�أهلك
تلك امل�صادر قد وفد من اخلارج على هيئة املخطوطات كثرياً من احلرث والأ والد ...وجعل على �أهلها النكال والهوان،
ممّا يقطع بوجود توا�صل قوي بني ذاك اخلارج ،وهذا ودفن الأ نهار ،و�أحرق الكتب»( ،)125ممّا ي�شري �إىل ا�ستمرار
الداخل ،ومل مينع ذلك التوا�صل اختالف يف الر�أي� ،أو النزاع ،واالختالف بني ال�سلطة املركزية ،وعمان ،وقد تولّد
31 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�إىل �إعادة نظر جا ّد وفق املقوالت ال�سابقة ،واملو�ضوع، ابتعاد يف املكان ،فاحلكمة هي ال�ضالّة املن�شودة فلت�ؤخذ
بع ُد بحاجة �إىل در�س وا�ستق�صاء ،غري �أنَّ ما �سلف قدّم من منابعها ،وهكذا كان.
�شواهد ال تدفع عن (الوهم) الذي يقع فيه بع�ض الدار�سني، ويقال مثل ما �سلف عن هذا الكتاب الذي ميكن اعتباره بامتياز
وهم يطلقون الأ حكام جزافاً ،ومن املمكن �أن يقال �شيء مم ّث ًال حلركة الت�أليف يف (ال�سلوك) مب�صطلح القوم هنا ،فلي�س
قريب من هذا الكالم عن اجلوانب الأ خرى من تلك احلياة الأ مر ت�أليف ًا وح�سب ،بل هو ا�ستعداد ،وا�ستكمال للأ دوات ،و�أخذ
الثقافية – وهي كثرية متنوعة – بغية ا�ستكمال ال�صورة، ن�ص نادر ظفرت به يف ثنايا املخطوط ي�شري بالعزم ،ويف ّ
وتقدمي امل�شهد ب�صورة متكاملة ،وعند ذاك �ستبدو هذه ال�شيخ نا�رص فيه �إىل �أنَّ ابن الفار�ض «قد توغّ ل يف علم اللغة،
ال�صورة على غري ما ا�ستقرّ عند بع�ض الدار�سني متاماً، واملعاين ،والبيان ،واملنطق ،والفل�سفة ،والبديع ،والعرو�ض،
بل �ستظهر وهي مزدانة بالتفاعل ،جملّلة بالتوا�صل �أخذاً والنحو ،وكفي ب�سبك نظمه ،وجنا�سه دلي ًال على ما قلناه»،
بال�رشائط املو�ضوعية لأ يّ حياة فكرية �أدبية تريد لنف�سها �أقول� ،إذا كان ابن الفار�ض قد توغّ ل يف تلك العلوم على ح ّد
البقاء ،واال�ستمرار ،ومل تكن احلياة الثقافية يف عمان قول ال�شيخ نا�رص� ،أفال يحتاج ك�شف تلك العلوم ،والتنويه بها،
بعيدة عن ذلك البتّة. ومعرفة موا�ضعها �إىل علم معادل ،وتوغّ ل مكافئ يكون مبكنته
-7- حتقيق ذلك الك�شف؟ �إنَّ اجلواب املنهجي لن ي�أتي �إ ّال بالإ يجاب،
كتاب (�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك) ثابت والكتاب كلّه معر�ض رحب ،وف�ضاء متّ�سع يومئ �إىل هذا الأ مر،
الن�سبة �إىل ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان اخلرو�صي ،ولتحقيق وي�شري �إليه� ،إذ جند مفردات تلك العلوم ظاهرة مرّة هكذا عياناً،
هذه الن�سبة �سلكنا ثالثة طرق� ،أولها ن�سبة الكتاب �إىل ال�شيخ وم�سترتة �أخرى تدعم البناء العام للكتاب ،ون�ضيف �إىل ما ذكره
عند غري واحد من الباحثني قدمي ًا وحديثاً ،وثانيها ت�رصيح ال�شيخ نا�رص تف�سري القر� آن الكرمي ،والقراءات ،واحلديث النبوي،
ال�شيخ نا�رص نف�سه بن�سبة الكتاب �إليه ،وثالثها ورود عنوانه والتاريخ ،والفلك ،ويقف (الت�صوف) هناك ،و(ال�سلوك) هنا يف
ال�رصيح يف ثنايا الكتاب نف�سه ،و�سنقف عند ك ّل واحدة من مقدمة تلك العلوم� ،إذ جند ال�شيخ مطّ لع ًا على م�صادره املعتربة،
هذه الطرق تف�صيالً. وخابراً �أ�سماء ال�صوفية الكبار ،متتبّع ًا �أخبارهم ،وناق ًال الكثري
�أمّا الطريق الأ ول فهو ورود ن�سبته �إىل ال�شيخ نا�رص عند من �أقوالهم ،هذا عن الظاهر� ،أمّا ما �أ�رشنا �إليه بامل�سترت فرنيد
جملة من العلماء ،والباحثني قدمياً ،وحديث ًا فرنى ابن به تلك النظريات الفل�سفية ،والأ قاويل املاورائية ،والت�صورات
رزيق ي�سمّيه (كتاب تف�سري نظم ال�سلوك)( ،)126ولي�س هناك التي قامت عليها بنية الت�صوف بدءاً من ال�سالك ،وانتها ًء
من �ضري يف اختالف الت�سمية فهذه عادة قدمية درج عليها بالقطب ،وبني االثنني (�سفر) �شاقّ متنوع ذو �أفانني ،وقد
�أ�صحاب كتب الرتاجم حني ي�سوقون الكتاب بعنوان خمت�رص، دخلت تلك النظريات الفل�سفية الت�صوف ،وخ�صو�ص ًا يف طوره
مثال ذلك كتاب ابن قتيبة الدينوري (املتويف �سنة 276 املت�أخر مثل نظرية املثال الأ فالطونية ،والفي�ض الأ فلوطينية،
للهجرة) يف الدفاع عن العرب ،وجمادلة ال�شعوبية فرنى واحلقيقة املحمدية ،وغريها� ،إذ جند ال�شيخ خبرياً بها ،موظّ ف ًا
ابن الندمي ي�سمّيه (الت�سوية بني العرب والعجم) ،ومثله �إياها خري توظيف يف بناء كتابه ،وجماري ًا ابن الفار�ض يف
القفطي ،والذهبي ،وال�صفدي� ،أمّا القا�ضي عيا�ض في�سميه تالوينه الروحية ،وحتوالته الوجدانية� ،أمّا امل�صطلح ال�صويف
(كتاب العرب والعجم) ،ومثله ابن فرحون ،وابن حجر، فقد كان الباقعة فيه ،والباقعة الداهية من الرجال اخلبري
�أمّا �صاحب العقد الفريد في�سميّه (كتاب تف�ضيل العرب)، بالأ مر على ح ّد قول اخلليل يف العني� ،أقول ،كان الباقعة فيه
وي�سمّيه �صاحب الآثار الباقية (كتاب تف�ضيل العرب على من حيث �إحاطته به ،وحتركه الدقيق بني طبقات ت�أويالته
العجم)( ،)127فهذه �أربعة عناوين خمتلفة ،غري �أنَّ الثابت املختلفة ،وقدرته على متييز الفروق الدقيقة بني تلك الأ فواج
يف ا�سمه هو (ف�ضل العرب والتنبيه على علومها) ،ويقال املتتابعة من امل�صطلحات ،ومل يتهي أ� له ذلك بغري اطالع على
مثل هذا عن كتب كثرية �أخرى( )128لي�س هناك جمال م�صادره ،وتدقيق يف مظانه ،وال تنب�سط هذه العلوم ذلك الب�سط
التف�صيل فيها ،فابن رزيق يختار من العنوان الكامل بغري مكتبة كبرية قدّمت له من الزاد �أوفره ،ومن الثمر �أن�ضجه،
كلمتني ،وي�ضيف �إليهما كلمة من عنده جري ًا على العادة و�أعانته على دخول عامل ابن الفار�ض املت�سع اجلنبات،
ال�سابقة التي �أ�رشنا �إليها ،ويتعر�ض الباحث �سلطان بن املتنوع امل�سالك بقدم ثابتة ،وخطوة را�سخة ،وقد حتمّل
حممد احلرا�صي( )129لهذا الكتاب ،ويثبت ن�سبته �إىل ال�شيخ املحقِّق �إي�ضاح ذلك كلّه :الظاهر ،وامل�سترت ،را ّداً املعاجلات �إىل
نا�رص اعتماداً على خمطوطته املحفوظة بوزارة الرتاث �أ�صولها ،و�شارح ًا امل�صطلح – وما �أكرثه – الذي يوظّ فه ال�شيخ
والثقافة ب�سلطنة عُ مان ،كما ي�شري �إليه الباحث �إبراهيم نا�رص يف �سبيل تقريب النّ�ص ،وجتلية مراميه.
بن يحيى العربي ،وي�ؤكد ن�سبته �إىل ال�شيخ نا�رص اعتماداً وت�أ�سي�س ًا على ما تقدّم ف�إنَّ ما يقال عن عزلة ثقافية
على خمطوطته املحفوظة مبكتبة معايل ال�سيد حممد عانت منها احلياة الثقافية يف عمان مو�ضوع بحاجة
32 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال�سري دائم ًا بال�سلوك من ح�رضة �إىل ح�رضة �أعلى ،و�أقرب؛ لأ نَّ بن �أحمد البو�سعيدي( ،)130ويقطع فهر�س خمطوطات وزارة
ذلك من �رشط �سلوك �صدق املحبة ،و�صحة الت�صوف» ،وعلى الرتاث القومي والثقافة بهذه الن�سبة حيث يقول�« :إي�ضاح
هذا يكون العنوان الذي اختاره ال�شيخ نا�رص بنف�سه هو (�إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك ،اخلرو�صي ،نا�رص
نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك) ،وهو ثابت الن�سبة �إىل بن جاعد بن خمي�س بن مبارك بن �أبي نبهان»( ،)131فهذه
ال�شيخ نا�رص بن �أبي نبهان كما �سقناه يف الطرق الثالثة. الإ �شارات جميعها ت�ؤكد هذه الن�سبة مبا ال يدع جما ًال
-8- لل�شكّ.
ويتمثّل الطريق الثاين يف ت�رصيح ال�شيخ نا�رص نف�سه بن�سبة
كان االعتماد يف حتقيق هذا الكتاب على ن�سختني (ن�ص يف ن�ص ن�رشته حتت عنوان ّ الكتاب �إليه� ،إذ جاء يف ّ
خمطوطتني ،جُ علت الأ وىل (�أ ّماً) ،وقوبلت الثانية على ال�سلوك العُماين) للمحقّق ال�شيخ �سعيد بن خلفان اخلليلي ،وهو
(الأ م) الأ وىل ،وهما تامّتان مل ينق�ص منهما �شيء �إالّ يف من تالميذ ال�شيخ نا�رص كما م َّر بنا� ،أقول جاء فيه �أنّ املحقق
بع�ض املوا�ضع التي وقع فيها طم�س مل ي�ؤثر يف القراءة اخلليلي �س�أله عن املحبة بقوله ...« :و�س�ألت ال�شيخ نا�رص بن
كثرياً ،وقد �أعانت املقابلة على جتاوز هذا الطم�س ،وهذا �أبي نبهان عن حمبة اهلل لعبده ،فقال :حمبة اهلل �رشحها طويل،
مف�صل عنهما: بيان َّ وقد ذكرناها يف كتابنا الإ خال�ص بنور العلم ،واخلال�ص من
-1الن�سخة الأ وىل ،ورمزنا لها بـ (الأ �صل) ،وهي حمفوظة الظلم ،وذكرها الغزايل ،وهي على �أق�سام ...وهذا يحتاج �إىل
بوزارة الرتاث والثقافة حتت رقم ،88/1456وعدد �أوراقها �رشح طويل جداً ،وذكرنا يف كتابنا �رشح نظم ال�سلوك �إىل
مائة وت�سع و�أربعون ورقة ،وهي ن�سخة نفي�سة؛ لأ نّها ن�سخة ح�ضـرات ملك امللوك ،وال يتّ�ضح بيانها �إ ّال ببيان �أق�سامها،
امل�ؤلف� ،إذ يرد ما ي�ؤكد هذا يف � آخرها ،وهو« :وتاريخ متام
و�أ�صلها»( ،)132فها هو ال�شيخ نا�رص يوثّق ن�سبة كتابني �إليه ال
ت�أليفه ثامن رجب �سنة 1243بالردة من �سمد نزوى» ،كما
كتاب ًا واحداً� ،أولهما كتاب (الإ خال�ص) ،وثانيهما هذا الكتاب،
ي�شري فهر�س خمطوطات وزارة الرتاث �إىل هذا بقوله...« :
وقد و�صل كتاب (الإ خال�ص)� ،أمّا هذا الكتاب فهو ي�رصّح
املخطوط من ن�سخ امل�ؤلف الذي ذكر مكان الن�سخ»( ،)133ومن
بن�سبته �إليه ،ويختار له عنوان ًا قريب ًا من التمام ي�ؤكد ما
املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أنَّ ال�سنة التي انتهي فيها ال�شيخ نا�رص
من ت�أليف هذا الكتاب ،ون�سخه ،وهي 1243للهجرة هي ال�سنة ذكرناه �سابقاً.
نف�سها التي انتقل فيها من عمان �إىل زجنبار ،وبقي بها �إىل �أن ويبقى الطريق الثالث ،وهو الأ خري ،وهو ورود العنوان ال�رصيح
توفّاه اهلل كما ر�أينا. يف املخطوطني ،ف�إذا علمنا �أنّ واحدة من الن�سختني هي بخطّ
وقد كُ تبت هذه الن�سخة بخط �أ�سود وا�ضح معتاد ،وكُ تب ال�شعر امل�ؤلف نف�سه وهي ن�سخة وزارة الرتاث ،وهي الأ قدم كما
امل�رشوح بخطّ �أغلظ متييزاً له عن ال�رشح كما جاء ت�سل�سل �سرنى� ،أقول� ،إذا علمنا هذا �أدركنا كم يحمل هذا الت�رصيح
املقدمات ،والأ بواب بخط �أحمر �إ�شارة �إىل ابتداء كالم جديد، من ثقة تامة ،واطمئنان ال يداخله �شكّ يف هذه الن�سبة ،فقد
وي�ض ّم الوجه الواحد من الورقة خم�سة وع�رشين �سطراً ،مع جاء يف � آخر خمطوط الوزارة ما ي�أتي ...« :وهذا � آخر كتاب
ثماين ع�رشة كلمة يف ال�سطر الواحد على وجه التقريب ،وهناك �إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك» ،ويرد يف ثنايا
ت�آكل يف بع�ض �أطراف الأ وراق ،وطم�س لعلّه من � آثار الرطوبة الن�سخة الثانية ،وهي ن�سخة مكتبة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد
و�صل �إىل بع�ض الكلمات فم�سحها ،وعلى العموم فهي ن�سخة ن�صه ...« :ف�أقول ،و�أنا عبد الرحمن نا�رص بن البو�سعيدي ما ّ
جيدة مقروءة ،ويكفي �أنّها ن�سخة امل�ؤلف لي�ضفي عليها �أهمية، �أبي نبهان ...الباب الأ ول من اجلزء الأ ول من كتاب �إي�ضاح
ونفا�سة. نظم ال�سلوك �إىل ح�رضة ملك امللوك» ،ويرد النّ�ص نف�سه يف
-2الن�سخة الثانية ،ورمزنا لها بـ [�س] ،وهي حمفوظة ن�سخة الوزارة هكذا ...« :ف�أقول ،و�أنا عبد الرحمن نا�رص بن
مبكتبة معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي بال�سيب ،وهي �أبي نبهان ...الباب الأ ول من كتاب �إي�ضاح نظم ال�سلوك �إىل
�أحدث من ال�سابقة� ،إذ يعود تاريخ ن�سخها �إىل �سنة 1288 ح�رضات ملك امللوك» ،ويرد ثانية يف هذه الن�سخة ،وذلك حني
ن�صه �« :آخر كتاب نظم للهجرة ،كما جاء يف � آخرها ،وهذا ّ يقول ال�شيخ نا�رص نف�سه ...« :ولكن طلبني بع�ض من الأ �صحاب
ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك ،وال حول وال قوة �إ ّال باهلل �أن �أجمع ذلك له فكان كما تراه ،و�سمّيته :كتاب �إي�ضاح نظم
العلي العظيم ،و�ص ِّل اللهم على �سيدنا حممد و� آله و�صحبه، ال�سلوك �إىل ح�رضات ملك امللوك» ،فك�أنَّ هذه الإ �شارات جميعها
وكان متامه يوم االثنني من نهار حادي من �شهر �شعبان تقطع بهذه الن�سبة التي نريد �إثباتها ،كما تقطع بالعنوان
من �سنة 1288على مهاجرها �أف�ضل ال�صالة وال�سالم ،ن�سخه النهائي للكتاب ذلك الذي ا�ستخل�صناه من واقع املخطوطني
لل�شيخ والده ،و�صفيّ ودّه الثقة القا�ضي خلفان بن حاكم بن نف�سيهما ،وممّا ي�ضاف هنا �أي�ض ًا �أنَّ ال�شيخ �رصَّح يف مو�ضع
�إ�سماعيل احلمريي الإ با�ضي ،بقلم احلقري راجي رحمة ربّه � آخر بال�سبب الذي جعله يختار (ح�رضات) بدل (ح�رضة) ،وذلك
القدير �أفقر خلق اهلل ،و�أحوجهم �إليه �سامل بن علي بن نا�رص يف قوله ...« :واملراد بجمع احل�رضات احرتازاً عن الوقوف عن
33 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ترتدّد عنده عبارات مثل( :يعرفونه عواده)( ،ا�ستعانوا با�سمه بن علي الإ �سماعيلي بيده».
القا�صدون) و(ي�سمّونه �أهل الت�صوف) و(يختلفون �أهل اهلل)، وتقع هذه الن�سخة ب�أربعمائة و�سبع و�ستني �صفحة من
وغريها ،ويقول ابن عقيل ...« :وهذه اللغة القليلة هي التي يعبرّ القطع الكبري ،وهي مكتوبة بخط �أ�سود وا�ضح معتاد� ،أمّا
عنها النحويـون بلغة� :أكلونـي الرباغيث ...فـ (الرباغيث) فاعل الأ حمر فقد كُتب به ت�سل�سل املقدمات والأ بواب كالن�سخة
�أكلوين»( ،)135فلع ّل هذا من بقايا الت�أثر بتلك اللهجة �سواء يف الأ وىل ،كما كتب ال�شعر امل�رشوح بخطّ �أغلظ متييزاً له
الكالم �أم يف الكتابة ،وهذا يثبت �أنَّ هذه الكتب ال تقدّم فوائدها عن ال�رشح كما هو عليه احلال يف الن�سخة الأ وىل ،وت�ض ّم
يف العلم الذي اختّ�صت به فقط بل تتعدّاه �إىل فوائد لغوية، ال�صفحة خم�سة وع�رشين �سطراً ،و�أربع ع�رشة كلمة يف
واجتماعية ،وهو ما حلظناه يف هذا الكتاب ،و�أ�رشنا �إليه يف ال�سطر الواحد على وجه التقريب ،وممّا مييّز هذه الن�سخة
موا�ضعه. و�ضوح خطّها ،وخلوّها من الت�آكل ،والطم�س �إذ يبدو �أنّها
هذه هي �أه ّم املالحظات التي ر�أينا �إثباتها هنا ،وهي قد حفظت ب�شكل جيد ممّا دعا �إىل احتفاظها بالأ �صل الذي
تفتح الباب وا�سع ًا جلملة من الدرا�سات �سواء منها ما تركت عليه ،وقد �أعانت هذه الن�سخة على قراءة كثري من
هو متعلّق بالأ �سلوب� ،أو املجتمع� ،أم ما هو متعلّق بـ الكلمات املطمو�سة ،وغري الوا�ضحة يف الن�سخة الأ وىل.
(ال�سلوك) نف�سه ،ولن تتحقّق تلك الغايات بغري النظر ومن ال�رضوري �أن ن�شري �إىل بع�ض املالحظات التي �أ�صبحت
ال�شامل �إىل م�ؤلفات ال�شيخ نا�رص الأ خرى ،وتقدمي درا�سات �أقرب �إىل الظاهرة يف الن�سختني �سواء يف امل�ضمون �أم ر�سم
مف�صّ لة عن تلك اجلوانب التي �أ�رشنا �إليها. الكلمات ،وهي:
-9- -1هناك �سقط يف الأ م يف ثالثة موا�ضع� ،أوله مبقدار ع�رشين
من املمكن تلخي�ص العمل الذي قام به املحقّق خدمة لهذا ورقة ،وثانيه مبقدار ورقتني ،وثالثه مبقدار خم�س ورقات،
الكتاب بالنقاط الآ تية: وكان االعتماد يف جرب هذا ال�سقط على [�س] وحدها ،وقد �أ�شري
-1تقدمي قراءة �سليمة للن�سخة (الأ م) ،هي التي ارت�ضاها �إىل ذلك يف موا�ضعه.
امل�ؤلف لكتابه ،ومتثّلت هذه القراءة يف �إعادة ن�سخ هذه (الأ م) -2ي�شيع يف [�س] الت�صحيف ،والتحريف وهما الآ فتان اللتان
مرة �أخرى متهيداً للمقابلة. ابتليت بهما املخطوطات العربية ،وقدّمت ن�سخة (الأ �صل)
-2مقابلة الن�سخة الثانية ،وهي التي رمزنا لها بـ [�س] على معونات جمّة يف �إ�صالح ذلك الت�صحيف ،والتحريف ،بالإ �ضافة
(الأ مّ) ،و�إثبات الفروق يف الهوام�ش. �إىل االجتهاد ال�شخ�صي ،واال�ست�ضاءة بال�سياق يف اختيار ر�سم
-3عر�ض �أبيات التائيتني على ديوان ابن الفار�ض املطبوع معينّ للكلمة ،وقد �أ�شري �إىل ذلك كلّه يف موا�ضعه.
بتحقيق علمي ،و�إثبات االختالفات يف الهوام�ش ،وقد �أفادت -3تعمد الن�سختان �إىل ت�سهيل الهمز مثل :بئر ،اجلائزة،
هذه العملية يف �إثبات �أنّ ال�شيخ رحمه اهلل كان ميتلك ن�سخ ًا الو�سائل ،تكتب هكذا :بري ،اجلايزة ،الو�سايل ،وقد �أثبتنا ما هو
خمتلفة للديوان يوازن بينها ،ويختار ما ي�ستق ّر عليه من متعارف عليه يف الكتابة املعروفة اليوم.
قراءات خمتلفة للأ بيات. -4تعمد الن�سختان كذلك �إىل �رضوب من الكتابة تختلف عمّا هو
-4ر ّد الآ يات الكرمية �إىل موا�ضعها يف �سورها مع �أرقامها. متعارف عليه اليوم ،وقد متكّنا من ر�صد ظاهرتني �أوالهما �إ�ضافة
-5تخريج الأ حاديث ال�رشيفة ،والآ ثار النبوية يف كتب احلديث الياء �إىل الكلمة ،وكانت الك�رسة وحدها تكفي مثل (جتلّتِ ) تكتب
املعتمدة ،وم�صادر الت�صوف ،والأ دب. (جتلّتي) ،و(ق�ضيتِ ) تكتب (ق�ضيتي) ،وهكذا ،وثانيهما ا�ستخدام
-6تخريج ال�شعر ،وهو قليل جداً ،وقد اعتمد املحقّق على �ألف الإ طالق يف موا�ضع من حقّها �أن تكون �ألف ًا مق�صورة مثل
الديوان� ،أو امل�شهور من م�صادر ال�شعر. (املنى) تكتب (املنا) ،و(القِرى) تكتب (القرا) وهكذا ،وقد اعتمدنا
-7الرتجمة للأ عالم ترجمات خمت�رصة مفيدة مع الإ حالة ما هو متعارف عليه اليوم كما يف النقطة ال�سابقة.
�إىل م�صادر هذه الرتاجم ،و�أغفلت الرتجمة للم�شهورين منهم -5يبدو �أنَّ ال�شيخ رحمه اهلل كان يثبت الآ يات الكرميات من
كالأ نبياء عليهم ال�سالم خ�شية �أن تكون الرتجمة يف هذه احلال حفظه ،ولذلك الحظنا يف الكثري منها تغيرياً ،وبرتاً ،وتقدمياً،
ف�ضو ًال وزيادة. وت�أخرياً ،وقد �أثبتنا الآ يات بحروفها كما وردت يف امل�صحف
-8تخريج الأ قوال التي ي�ست�شهد بها امل�ؤلف يف ثنايا كتابه، بال �إ�شارة �إىل مواطن التغيري ل�سبب معروف هو اتفاق امل�سلمني
وهي غالب ًا �أقوال لكبار ال�صوفية ،وكان املعتمد يف هذا جميعهم على م�صحف واحد.
التخريج م�صادر الت�صوف املعتمدة يف هذا املجال. -6يعمد امل�ؤلف يف كثري من املوا�ضع �إىل ا�ستخدام ظاهرة
-9تقدمي �رشوح خمت�رصة وافية للم�صطلح ال�صويف الذي لغوية موجودة يف اللهجة الأ زدية وهي «�أنَّ الفعل �إذا �أ�سند
يوظّ فه امل�ؤلف ،وكان الق�صد من هذا العمل تقريب النّ�ص �إىل �إىل ظاهر مثنّى �أو جمموع �أُتي فيه بعالمة تدلّ على التثنية �أو
القارئ ،ومعرفة املرامي البعيدة التي يريدها ابن الفار�ض، اجلمع»( ،)134مثل قولهم :قاما الزيدان ،وقاموا الزيدون ،ولذلك
34 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
مهمة �سنقف عندها فيما بعد ،ويف الفتح املبني� ،ص 179منظومة مفيدة وال�شيخ نا�رص معاً ،وكان االعتماد يف ذلك ال�رشح على معاجم
عن ن�سب بني خرو�ص ،وينظر كذلك كتاب عمان الدميقراطية الإ �سالمية، امل�صطلح ال�صويف التي قدّمت خدمة جليلة لهذا العمل من
د .ح�سني غبا�ش ،وهو درا�سة علمية منهجية عن نظام الإ مامة و�أ�صولها
وتقاليدها مع مفا�صل مهمة من تاريخها. حيث جمع امل�صطلحات يف مكان واحد ،وتقدمي � آراء خمتلفة
( )3تقع على �سفح اجلبل الأ خ�رض من جهة ال�شمال ،ينظر بحث الفا�ضل يف �رشح امل�صطلح الواحد.
مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي� ،ص.116 -10تقدمي �رشوح هي �أقرب �إىل التو�ضيح لبع�ض الق�ضايا
( )4حتفة الأ عيان ،175/2 ،والبو�سعيديون حكام زجنبار� ،ص،84 الكالمية ،والفل�سفية التي يعاجلها امل�ؤلف ،مع حماولة معرفة
و�أعالم عمان� ،ص ،156و�شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي ،الفا�ضلة �رشيفة
اليحيائي ،ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش� ،ص.24 جذورها ،وربطها بال�سياق العام للفكرين الكالمي ،والفل�سفي
( )5حتفة الأ عيان.147/2 ، عند امل�سلمني ،مع الرتكيز على الفكر الذي ي�صدر منه ال�شيخ
( )6الفتح املبني� ،ص.147 نا�رص ،وهو الفكر الإ با�ضي ،وقد اعتمدنا على امل�صادر
(� )7شقائق النعمان.139/1 ،
( )8ينظر بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي� ،ص،116 املوثوقة يف هذا العمل.
وينظر �أبو م�سلم الرواحي ،د .حممد بن �صالح نا�رص� ،ص.120 وي�أمل املحقّق �أن يكون قد قدّم خدمة نافعة للرتاث
( )9ومن �إخوان ال�شيخ نا�رص غري نبهان :يحيى و�سعيد وخمي�س ،والأ خري العماين عموماً ،وللرتاث ال�سلوكي خ�صو�صاً ،وهو يكرّر ما
هو الذي طُ لب منه �أن يكون �إمام ًا قبل عقد الإ مامة لعزان بن قي�س ف�أبى، تبنّاه يف منا�سبات �سابقة من �رضورة االهتمام مب�صنفات
ينظر بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي� ،ص،118
و�شقائق النعمان ،140/1 ،وعمان الدميقراطية الإ �سالمية ،د .ح�سني ال�شيخ نا�رص اخلرو�صي ،وتراثه الفكري ،والنظر بجّ د �إىل
غبا�ش� ،ص ،216وما بعدها. االجتاه ال�سلوكي الذي مثّله ال�شيخ جاعد بن خمي�س خري
( )10قدّم الباحث �إبراهيم بن يحيى العربي ثبت ًا ممتازاً لكتب ال�شيخ متثيل ملا فيه من خ�صوبة ،وجتارب وجدانية عميقة،
نا�رص جعله يف ق�سمني هما :م�ؤلفاته املوجودة ،والكتب غري املوجودة، والتوجّ ه �إىل تبيان امل�ؤثرات العامة يف هذا االجتاه �سواء
حوى الأ ول ثمانية كتب ،و�ض ّم الثاين �سبعة ع�رش كتاباً ،ور�سالة ،والكتب
الثمانية املوجودة ما تزال خمطوطة عدا الكتاب الذي حقّقه وهو كتاب �أكانت عربية �أم غري عربية ملا يف هذا التبيان من تعميق
(الإ خال�ص) ،وهذا الكتاب ،ومل يذكر كتاب ًا لل�شيخ نا�رص هو �رشح ق�صيدة ملا �أ�رشنا �إليه �سابق ًا من نق�ض مقولة العزلة الثقافية،
والده (حياة املهج) الذي قامت بتحقيقه الباحثة عالية بنت ح�سن بن ولن يتحقّق هذا كلّه �إالّ بتظافر اجلهود املخل�صة ،والر�ؤية
حممد العجمي ،وقدّمته �إىل جامعة ال�سلطان قابو�س -كلية الآ داب والعلوم
االجتماعية -ق�سم اللغة العربية باعتباره ر�سالة ماج�ستري ب�إ�رشاف حمقّق العلمية املنهجية يف تناول ذلك الدر�س ،وعند ذاك يتجلّى
هذا الكتاب. االعتناء بالرتاث العماين يف �أجلى �صوره قائم ًا على
( )11يالحظ هذا الت�شابك يف العلوم الذي مييز ثقافة ال�شيخ نا�رص ،وهو ما العلم واملنهج معاً.
�أ�رشنا �إليه يف الت�صدير ،ويومئ بقوة �إىل الوحدة من خالل التعدد ،العلوم وال يفوت املحقّق يف ختام هذه املقدمة �أن يتقدم بوافر ال�شكر
املختلفة تخدم غر�ض ًا واحداً.
( )12بحث �سماحة املفتي العام لل�سلطنة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي والتقدير �إىل معايل ال�سيد حممد بن �أحمد البو�سعيدي املوقر
عن العمانيني و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا، الذي فتح مكتبته العامرة �أمام الباحث كي ينهل من معينها
�ص ،183-182وينظر �شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي ،الفا�ضلة �رشيفة العذب ،كما مل يرتدّد يف تلبية طلب املحقّق لت�صوير الن�سخة
اليحيائي ،ر�سالة ماج�ستري ،مل تن�رش� ،ص 24وما بعدها ،ومما يذكر هنا من الكتاب التي حتتفظ بها املكتبة ،وهذا لي�س بغريب على
�أنَّ هذا الكتاب و�صل �إلينا �ساملاً ،وهناك ن�سخ منه ،وعنوانه الكامل (العلم
املبني وحق اليقني) ،ينظر عنه مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص) �ص-72 �سماحته ،و�سعة �صدره ،ودعمه امل�ستمر للباحثني ،كما يتقدم
.73 لتف�ضلها
ّ املحقق بوافر �شكره �إىل وزارة الرتاث والثقافة
( )13بحث �سماحة املفتي ال�سابق� ،ص .183ومما يذكر هنا �أي�ض ًا �أن هذا باملوافقة على ت�صوير الن�سخة من الكتاب التي حتتفظ بها ،كما
الكتاب و�صل هو الآ خر �سامل ًا من ال�ضياع ،وهناك ن�سختان منه ،ينظر
تف�صيل هاتني الن�سختني يف مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص)� ،ص.74 ي�شكر املكتبة الرئي�سة يف جامعة ال�سلطان قابو�س ،وخ�صو�ص ًا
( )14املرجع ال�سابق� ،ص.183 االخوة الأ فا�ضل يف قاعة عمان� ،إذ �سهّلوا عمله مبا و�ضعوا
( )15ينظر حتفة الأ عيان يف موا�ضع متفرقة مثل20/2 :و24و 140و حتت يديه من م�صادر ،ومراجع ،كما ي�شكر الزمالء الكرام الذين
141و 143و 144و و145و 147و 149وغريها كثري. �أعانوه يف �إجناز هذا العمل ،وهم كرث ،و� آخر دعوانا �أن احلمد
( )16ينظر على �سبيل املثال الفتح املبني� ،ص 103وما بعدها.
( )17بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي� ،ص.118 هلل ربّ العاملني.
( )18ينظر حتفة الأ عيان يف موا�ضع متفرقة ،وخ�صو�ص ًا 147/2و،162 الهوام�ش
وهناك تف�صيالت �أخرى تهم امل�ؤرخ يراها القارئ مبثوثة يف التحفة.
( )19القا�شع بلغة �أهل عمان نوع �صغري من ال�سمك ،ينظر �إزاحة الأ غيان ( )1ينظر الفتح املبني� ،ص ،146و�شقائق النعمان.139/1 ،
عن لغة �أهل عمان ،ال�شيخ احلارثي� ،ص.108 ( )2ينظر يف ترجمة هذين الإ مامني والأ حداث التي جرت يف ع�رصيهما:
( )20حتفة الأ عيان.175/2 ، حتفة الأ عيان 108/1و 203/2وال�شعاع ال�شائع باللمعان� ،ص 48و،67
( )21حتفة الأ عيان.175/1 ، وك�شف الغمة� ،ص264و ،312و�شقائق النعمان204/2 ،و ،207وتقدم
( )22هو ال�سيد �سعيد بن �سلطان بن الإ مام �أحمد بن �سعيد البو�سعيدي ،ولد هذه الكتب م�سارد مف�صلة عن الأ ئمة غري �أن م�رسد �صاحب ال�شقائق ذو
�سنة 1204هـ ،وتويف �سنة 1273هـ ،كان من كبار ال�سا�سة وحكم طوال �صبغة منظمة ب�شكل وا�ضح ،وما يهمنا فيه �أن هناك �سبعة ع�رش �إمام ًا
ن�صف قرن .وقعت يف عهده �أحداث ج�سام عاجلها بحكمة ،وقد �ألف عنه من اليحمد وبني خرو�ص الذين ينتمي �إليهم ال�شيخ نا�رص ،ولهذا داللة
35 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الإ �سالمي ،د .عبد الرحمن بدوي� ،ص ،15وما بعدها فقد �ساق كثرياً من ابن رزيق كتاب ًا �صغرياً �سماه (بدر التمام يف �سرية ال�سيد الهمام �سعيد
تلك احلدود ،وينظر كذلك كتاب احلركة ال�صوفية يف الإ �سالم ،د .حممد علي بن �سلطان بن الإ مام احلميد �أحمد بن �سعيد البو�سعيدي) ،وقد طبع ملحق ًا
�أبو ريان� ،ص ،18وما بعدها ،فقد �أورد خم�سة ع�رش تعريف ًا للت�صوف مع بكتابه الفتح املبني ،وفيه تف�صيالت تاريخية و�سيا�سية واجتماعية مفيدة،
مناق�شتها و�رشحها. وينظر عنه كذلك :جهينة الأ خبار� ،ص ،233و�شقائق النعمان،236/2 ،
( )51مقدمة ابن خلدون.1097/3 ، والعمانيون و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا ،بحث
( )52حتدث الدكتور عمر فروخ عن الغرباء وال�سياحني ،والنورانية، ل�سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطنة� ،ص ،177وما
واملقربني ،وهي م�صطلحات مرادفة للمت�صوفة غري �أنها مل تنت�رش بعدها ،ويقول فيه( :وكان الرجل الذي �أعطى �أفريقيا ال�رشقية عنايته
كانت�شار الت�صوف وال�صوفية ،ينظر كتابه الت�صوف يف الإ �سالم� ،ص،25 البالغة هو ال�سلطان �سعيد بن �سلطان الذي �أ�س�س �إمرباطورية هناك)،
وي�شري د .كامل ال�شيبي �إىل �أنّ الزهاد يف ال�شام ي�سمّون جوعيني ،ينظر �ص ،180وعمان الدميقراطية الإ �سالمية� ،ص ،155وما بعدها ،واملوجز
كتابه ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع ،339/1 ،ومعلوم �أنّ اجلوع واحد املفيد� ،ص ،33وما بعدها ،وال�شعر العربي العماين يف املهجر الأ فريقي،
من و�سائل املت�صوفة للو�صول �إىل احلقيقة مثل العزلة ،ولب�س اخل�شن من الفا�ضل �سبيت الغيالين ،ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش� ،ص 25وما بعدها.
الثياب وغريها. ( )23حتفة الأ عيان ،175/2 ،ويف كتاب البو�سعيديون حكام زجنبار،
( )53املعجم ال�صويف� ،ص.712 �ص� ،83أن ال�سيد �سعيد كان يحرتم ال�شيخ وكذلك كان اجلميع.
( )54من املهم �أن ن�شري هنا �إىل �أن هذا اجلانب بحاجة �إىل مزيد من ( )24ينظر جهينة الأ خبار� ،ص.237
الدرا�سة والبحث ولي�س هنا مو�ضعها كي تت�ضح ال�صورة وي�ستقيم املنهج. ( )25ينظر حتفة الأ عيان ،175/2 ،والفتح املبني� ،ص.150
( )55ومما ي�ساعد على هذا ت�أكيد الق�شريي من �أن (كل �رشيعة غري مقيدة ( )26جهينة الأ خبار� ،ص.237
باحلقيقة فغري مقبول ،وكل حقيقة غري م�ؤيدة بال�رشيعة فغري مقبول)، ( )27ال حاجة بنا للتعريف باملحقق اخلليلي فهو علم م�شهور وعامل كبري،
ينظر الر�سالة الق�شريية ،261/1ومل يقل الق�شريي هذا الكالم �إال بعد ر�ؤيته ينظر عنه ر�سالة الفا�ضلة �رشيفة اليحيائي مع م�صادرها ،وبحوث الندوة
�أنا�س ًا من ال�صوفية يتخففون من الفرائ�ض ويذهبون يف كالمهم مذاهب التي �أقامها املنتدى الأ دبي تكرمي ًا له ،و�صدرت يف كتاب ،وينظر للمحقق
توحي باخلروج على �أحكام ال�رشيعة. كتابه (الأ دب يف اخلليج العربي) ،اجلزء الثالث حيث عرّف باملحقق
( )56مقاليد الت�رصيف �أرجوزة طويلة يف علم ال�رصف نظمها العالمة اخلليلي.
اخلليلي ثم �رشحها بنف�سه ،وهناك درا�سات قامت عليها ،ينظر بحوث ( )28ال�شيخ اخلليلي ،الفا�ضلة �رشيفة اليحيائي� ،ص.24
الندوة التي �أقيمت تكرمي ًا له باملنتدى الأ دبي� ،سنة 1994م. ( )29بحث الفا�ضل مبارك الرا�شدي عن العالمة اخلليلي� ،ص.116
( )57وو�صفه ال�شيخ �سامل ال�سيابي كذلك بال�شيخ الرباين يف كتابه �أ�صدق ( )30املرجع ال�سابق� ،ص.116
املناهج ،ينظر �ص.57 ( )31مقاليد الت�رصيف.3/1 ،
( )58مقاليد الت�رصيف ،3/1 ،ومن املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن العالمة ( )32بحث �سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطنة عن
اخلليلي نف�سه و�صف بالقطب وذلك على ل�سان ال�شاعر الكبري �أبي م�سلم اخلليلي فقيه ًا وحمققاً� ،ص.14
البهالين حيث حتدث عنه يف ديوانه فقال( :مل يت�صل بي كيفية تبتل �سيدي ( )33ابن رزيق هو حميد بن حممد بن رزيق بن بخيت بن غ�سان النخلي،
القطب اخلليلي ) ...و�أعادها ثالث مرات ،ينظر ديوان �أبي م�سلم� ،ص.153 ولد �سنة 1198للهجرة وتويف �سنة 1290للهجرة ،يحتل منزلة متقدمة
( )59املولوي من كان من �أتباع املولوية وهي طريقة �صوفية تن�سب �إىل بني �شعراء وم�ؤرخي عمان ،ينظر عن �سريته و� آثاره بحث الدكتور �سعيد
م�ؤ�س�سها جالل الدين الرومي املتويف �سنة 672للهجرة ،ويلقب مبوالنا، الها�شمي ،ومقدمة حتقيق �سلك الفريد 10/1 ،وما بعدها.
وت�سمى اجلاللية ن�سبة �إليه �أي�ضاً ،ويلحظ الدار�سون تقارب ًا بني جالل الدين ( )34ي�أتي ذكر ابن رزيق يف هذا الكتاب �أي�ضاً.
الرومي وابن الفار�ض يف �سلوكهما ال�صويف وقولهما بوحدة ال�شهود وهي ( )35ينظر الفتح املبني� ،ص ،151وما بعدها.
غري وحدة الوجود التي قال بها غريهما ،وهي نهاية الطريق ال�صويف من ( )36الفتح املبني� ،ص.151
حيث و�صول الروح �إىل عوامل بعيدة والدخول يف مناطق ح�سا�سة بغري ( )37امل�صدر ال�سابق� ،ص.158
امتزاج باحلق كما قال غريهم ،وهذا قول املت�صوفة املحافظني على ( )38اطلع املحقّق على ن�سخة منه يف مكتبة معايل ال�سيد حممد بن
ال�رشيعة ،فهل يو�صف ال�شيخ نا�رص ووالده باملولوي ن�سبة �إىل املولوية �أحمد البو�سعيدي بال�سيب ويقع مبائة واثنتني وثالثني �صفحة من القطع
ب�سبب اقرتابها من ابن الفار�ض من جهة ومت�سكها ب�أهداب ال�رشيعة من املتو�سط ،مكتوب بخط وا�ضح بالأ �سود والأ حمر ،وهذا من الكتب الواجب
جهة �أخرى؟ �أم �إنَّ املولوية – كما هو معروف – جتيز وراثة الطريقة فقد درا�ستها وحتقيقها ا�ستكما ًال مل�رشوع ن�رش كتب ال�شيخ نا�رص رحمه اهلل.
ظلّت م�ستمرة يف �أبناء جالل الدين ،و�أحفاده ،ونراها هنا يف ال�شيخ نا�رص، (� )39سبائك اللجني ،خمطوط و.1
ووالده ال�شيخ �أبي نبهان؟ هذا املو�ضوع حمتاج �إىل مبحث م�ستقلّ ،ينظر ( )40و( )41و( )42بحثه عن �أبي م�سلم البهالين� ،ص.51
عن املولوية ووحدة ال�شهود ،ووراثة الطريقة ،دائرة املعارف الإ �سالمية ( )43معجم م�صطلحات ال�صوفية ،د .عبد احلليم احلفني� ،ص.133
مادة (مولوية) بالإ جنليزية ،مدخل �إىل الت�صوف الإ �سالمي ،د� .أبو الوفا ( )44املقام هو ما يتو�صل �إليه العبد عن طريق الأ عمال ،ويرد معه م�صطلح
الغنيمي� ،ص ،213وما بعدها ،يف الت�صوف الإ �سالمي ،نيكل�سون، احلال وهو ال يكت�سب بالأ عمال و�إمنا هو منَّة �إلهية مينّها الرب للعبد ،ينظر
�ص ،152وما بعدها ،وابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي ابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي حلمي� ،ص ،171وينظر
حلمي� ،ص ،10ومعجم العامل الإ �سالمي� ،ص ،622وما بعدها ،وللدكتور بتف�صيل �أكرث كتاب ال�سيوطي والت�صوف ،د .عبد اخلالق حممود� ،ص.88
عبد القادر حممود ر�أي خمالف ملا تقدم ،ينظر كتابه الفل�سفة ال�صوفية ( )45ينظر املعجم ال�صويف ،د� .سعاد احلكيم� ،ص.585
يف الإ �سالم� ،ص 534وما بعدها ،وال�صلة بني الت�صوف والت�شيع ،د .كامل ( )46معجم �ألفاظ ال�صوفية ،د .ح�سن ال�رشقاوي� ،ص.232
ال�شيبي.476/1 ، ( )47املعجم ال�صويف ،د� .سعاد احلكيم� ،ص.721
( )60الويل :هو من توىل احلق �أمره وحفظه من الع�صيان ،ومن توالت ( )48ينظر املرجع ال�سابق� ،ص 585وما بعدها.
طاعته من غري �أن يتخللها ع�صيان ،وهو العارف باهلل و�صفاته بح�سب ما ( )49ال�سابق� ،ص 721-720وينظر كذلك مو�سوعة م�صطلحات الت�صوف
ميكن ،املواظب على الطاعات املجتنب عن املعا�صي ،ينظر ا�صطالحات واف.
الإ �سالمي ،د .رفيق املعجم� ،ص ،573ففيه تف�صيل ٍ
ال�صوفية ،الكا�شاين� ،ص 76مع م�صادر التحقيق. ( )50يف تعريف الت�صوف م�شكلة كبرية ب�سبب كرثة احلدود التي يقدمها
( )61ينظر الفتح املبني� ،ص.150 املت�صوفة له ،وقد جمع الأ �ستاذ نيكل�سون ثمانية و�سبعني تعريف ًا له ،غري
( )62ينظر �سبائك اللجني ،ابن رزيق ،خمطوط ،و ،115ومما يذكر هنا �أن �أننا ن�أخذ هنا جوهره وجتربته الباطنية فح�سب ،ينظر تاريخ الت�صوف
36 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
لأ نف�سهم من منهج هو (ال�سلوك). ال�شيخ جاعد بن خمي�س و�صف يف موا�ضع كثرية بالقطب الرباين ،ينظر
( )76اجتاهات الأ دب العماين يف الع�رص احلديث ،د .علي عبد اخلالق، ال�شعاع ال�شائع باللمعان� ،ص 69على �سبيل املثال ،والقطب هو الواحد
ر�سالة دكتوراه مل تن�رش� ،ص.334 الذي هو مو�ضع نظر اهلل من العامل يف كل زمان ،ينظر ا�صطالحات
( )77املرجع ال�سابق� ،ص.334 ال�صوفية ،الكا�شاين� ،ص ،153مع م�صادر التحقيق.
( )78حقّق هذا ال�رشح حمقّق هذا الكتاب ،ون�رشه يف اجلزء الثالث من ( )63ينظر �سبائك اللجني ،و.3
كتابه (الأ دب يف اخلليج العربي). ( )64امل�صدر ال�سابق ،و.1
( )79و(� )80شعر �سعيد بن خلفان اخلليلي� ،إعداد الفا�ضلة �رشيفة ( )65هو كتاب (الإ خال�ص بنور العلم واخلال�ص من الظلم) ،وقد و�صل
اليحيائي ،ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش� ،ص.65 وقام بتحقيقه وكتابة مقدمة جيدة له الفا�ضل� /إبراهيم بن يحيى بن
( )81العمانيون و�أثرهم يف اجلوانب العلمية واملعرفية ب�رشق �أفريقيا، حمدان العربي ،وقدّمه �إىل كلية دار العلوم – ق�سم الفل�سفة الإ �سالمية �سنة
�سماحة ال�شيخ �أحمد بن حمد اخلليلي مفتي عام ال�سلطة� ،ص ،186وينظر 1998م باعتباره ر�سالة جامعية لنيل درجة املاج�ستري ،و�ستكون لنا معه
كذلك تطور الأ دب يف عُ مان ،د� .أحمد دروي�ش� ،ص.187 وقفات ،بح�سبان �أن ال�شيخ نا�رص ي�شري �إليه مرات يف هذا الكتاب.
( )82ديوان �أبي م�سلم� ،ص ،42وما بعدها ،ومما يذكر هنا �أنَّ �شاعراً ميني ًا ( )66ينظر الفتح املبني� ،ص.150
من �شعراء الت�صوف هو �أبو بكر ال�سقاف املتويف �سنة 992للهجرة قد (� )67إن كتب ال�شيخ نا�رص بحاجة �إىل بحث خا�ص يكون �أ�شبه بالتمهيد
عار�ض تائيتي ابن الفار�ض ال�صغرى والكربى بتائيتني من نظمه ممّا من حيث معرفة �أماكن وجودها ون�سخها وو�صفها و�صف ًا علمياً ،وتكون
ي�شري �إىل اهتمام املناخ ال�صويف بابن الفار�ض ،ينظر عن تائيتي ال�سقاف نقطة البداية ق�صيدة ابن رزيق التي �أ�رشنا �إليها �سابقاً ،والثبت الذي �صنعه
بحث د .عبد اهلل حممد الغزايل (�أبو بكر ال�سقاف وتائيته) املن�شور مبجلة الباحث �إبراهيم بن يحيى العربي وهذا ما ق�صدناه بالتمهيد� ،أما تتمة العمل
معهد املخطوطات العربية ،القاهرة ،املجلد ،40اجلزء الثاين ،نوفمرب �سنة والدخول فيه فيتمثالن يف حتقيق هذه الكتب حتقيق ًا علمي ًا ون�رشها خدمة
1996م ،وي�ضاف �إىل ما تقدّم �أنّ �شاعراً من �شعراء القرن التا�سع هو عبد لهذا االجتاه يف الفكر والأ دب بعمان ،الذي مل يوله الدار�سون عناية كبرية.
القادر بن حممد ،و�شهرته ابن ق�ضيب البان نظم تائية طويلة عار�ض بها ( )68تعرّ�ض ال�شيخ نا�رص يف هذا الكتاب ،ويف موا�ضع كثرية ملكانة ابن
تائية ابن الفار�ض ،ينظر املو�سوعة ال�صوفية� ،ص .482كما �إنَّ �شاعراً من الفار�ض ،ويكفي �أن نثبت ن�ص ًا واحداً لتبيان ر�أيه فيه ،يقول ال�شيخ نا�رص:
�شعراء القرن الثامن الهجري هو عامر الب�رصي قد نظم تائية هو الآ خر على « ...واعلم �أنَّ كل علم عند اهلل تعاىل عظيم �سخّ ر له �إن�سان ًا يحبّه ويتعلّمه...
غرار تائية ابن الفار�ض بلغت عدتها خم�سمائة و�ستة �أبيات ،ونراه ي�رصح يتناهي فيه فيظهر على ل�سانه ب�أف�صح و�أحكم حكمة يف الف�صاحة في�صري
يف مقدمتها �أنه ين�سج على منوال ابن الفار�ض يف تائيته فيقول ...( :ف�إنه عامل الوجود معجزة لغريه من بعده �إىل يوم القيامة ،وال �شك �أن هذا الناظم
ملا ر�أي الإ خوان . .ما ت�ضمنته ق�صيدة �أبي حف�ص عمر بن الفار�ض... يف هذا العلم هو معجزة جلميع خلق اهلل تعاىل ما خال النبي �صلى اهلل عليه
التائية يف علم التوحيد من النظم الفائق . .التم�س مني املقرب لدى منهم. . و�سلم ،» ...يف كالم طويل ،وهو يبينّ مكانة ابن الفار�ض عند ال�شيخ نا�رص،
ترتيب ق�صيدة على وزن تلك الق�صيدة ورويّها) ،ينظر تائية عامر الب�رصي، واالجتاه ال�سلوكي عموما.
�ص ،20وجند مبحث ًا غني ًا عن عامر وتائيته وعقيدته يف كتاب ال�صلة ( )69ابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي حلمي� ،ص ،7وفيه
بني الت�صوف والت�شيع ،د .كامل م�صطفي ال�شيبي ،115/2 ،وما بعدها مع ترجمة وافية البن الفار�ض.
م�صادره ،ومل يكن الق�صد �إح�صاء مَ نْ عار�ض ابن الفار�ض يف تائيته ،فهم ( )70يذهب د .عاطف جودة ن�رص ،ومعه جمهرة من الدار�سني �إىل �أن ابن
كرث ،غري �أنّ هذه ال�شواهد ت�شري �إىل �شهرة التائية ،وانت�شارها. الفار�ض هو «�أ�ستاذ الفن التائي يف ال�شعر العربي ،وذلك �أنَّه ا�ستحدث
( )83ابن الفار�ض ،واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي حلمي� ،ص.42 ق�صيدتني :الأ وىل التائية ال�صغرى ،والثانية التائية الكربى املعروفة
( )84يرجي مالحظة الأ �سلوب الذي ي�ستخدمه الكا�شاين الذي يقوم على بتائية ال�سلوك ،وقد ن�سج على منواله يف هذا الفن �صوفية � آخرون ك�إبراهيم
املجازات والت�صوير ،وينحو نحو الزخرفة وتعميق ظالل الأ لفاظ ،وهذا هو الد�سوقي ،وقطب الدين الق�سطالين ،وال�سيد �أحمد البدوي ،واحتذوا حذو
�ش�أن �أ�سلوب ال�صوفية يف كتاباتهم وخ�صو�ص ًا املت�أخرين منهم ،ومن هنا ابن الفار�ض يف التعبري عن � آرائهم» ،ينظر كتابه �شعر عمر بن الفار�ض،
ات�صف ما قدموه بالعمق واخل�صوبة ،واللغة املتميزة مقرتنة بامل�ضمون �ص ،306ولذلك فلي�س غريب ًا �أن يت�أثر �شعراء ال�سلوك العمانيون – كما
العميق. �سرنى – بابن الفار�ض �أ�سوة بغريهم من �شعراء هذا امل�رشب.
( )85ك�شف الوجوه الغر.9-8/1 ، ( )71من املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن الإ مام جالل الدين ال�سيوطي قد �رشح
( )86امل�صدر ال�سابق.9/1 ، الق�صيدة اليائية البن الفار�ض يف كتاب �سماه (الربق الوام�ض يف �رشح
( )87ال�سابق.46/1 ، يائية ابن الفار�ض) ،ومطلع اليائية:
( )88لعل ال�شيخ يومئ هنا من بعيد �إىل تلك الق�صة التي وردت يف �سائق الأ ظعان يطوي البيد طي
ديباجة ديوان ابن الفار�ض وملخ�صها �أن �أحد ال�شيوخ من معا�رصي ابن منعم ًا عرج على كثبان طـي
الفار�ض ،وكان من �أكابر علماء زمانه ،ا�ست�أذن ابن الفار�ض يف (�رشح ومنه ن�سخ خمطوطة يف القاهرة ،ودم�شق ،واملغرب ،وقطر ،ويعمل الباحث
ق�صيدة نظم ال�سلوك ،فقال له ،يف كم جملد ت�رشحها؟ فقال :يف جملدين، على حتقيقه الآ ن.
فتب�سم ابن الفار�ض وقال :لو �شيءت ل�رشحت كل بيت منها يف جملدين)، ( )72من املفيد �أن ن�شري هنا �إىل �أن هناك �رشوح ًا بالفار�سية لهذه
وعلى هذا �سيكون ال�رشح �ألف جملد ويزيد وهو مما لي�س يف طاقة الب�رش، الق�صيدة ،ينظر ابن الفار�ض واحلب الإ لهي� ،ص .101
ينظر الديوان� ،ص ،27و�رشح الديوان ،7/1 ،ويعود ال�شيخ نا�رص �إىل هذا ( )73ينظر عن هذه ال�رشوح ابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي
املو�ضوع يف خامتة الكتاب ليقول عن بيت التائية الكربى الأ خري . .( :ولو حلمي� ،ص ،90وما بعدها ،وتائية ابن الفار�ض و�رشوحها العربية ،د .عبد
�أمليت لك �رشح هذا البيت ومعانيه ومعاين معانيه لأ ف�ضى �رشحه �إىل �ألف اخلالق حممود ،ر�سالة ماج�ستري مل تن�رش ،جامعة القاهرة� ،ص ،26وما
جملد) ينظر �إي�ضاح نظم ال�سلوك و.147 بعدهـا .وفيها تف�صيل مفيد لتلك ال�رشوح ،ومن ال�رضوري �أن ن�ؤكد هنا
(� )89إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1 على �أن = �أغلب الذين ت�صدوا لتلك ال�رشوح �إن مل يكونوا كلهم من ذوي
( )90ي�شري ال�شيخ نا�رص �إىل الكلمة الأ وىل من بيت التائية الكربى الأ ول، امل�رشب ال�صويف فك�أنهم كانوا ي�سريون يف �أر�ض هم عارفون خباياها
وهو: �سابرون �أعماقها.
�سقتني حميا احلب راحة مقلتــي (� )74إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1
وك�أ�سي حميا من عن احل�سن جلت ( )75ولعل للفظة ال�سلوك الواردة يف عنوان الق�صيدة عالقة باعتناء
( )91وي�شري هنا �إىل الكلمتني الأ وىل والثانية من بيت التائية الكربى العلماء وال�شعراء العمانيني بها من حيث �إنها تت�شابه مع ما اختاروه
37 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قو ًال لعلي بن احل�سني ر�ضي اهلل عنهما مفاده �أنّه «لو علم �أبو ذ ّر ما يف قلب الثاين وهو:
�سلمان لقتله وقد � آخى ر�سول اهلل بينهما ،فما ظنكم ب�سائر اخللق» ،على و�أوهمت �صحبي �أن �رشب �رشابهم
اعتبار �أن ل�سلمان جانب ًا يف علم ال�رسّ ،ومثله قول �أبي هريرة« :حفظت من �سـر �رسي يف انت�شائي بنظـرة
ر�سول اهلل من وعاءين ،ف�أما �أحدهما فبثثته ،و�أما الآ خر فلو بثثته لقطع ينظر ديوان ابن الفار�ض� ،ص ،84وما بعدها.
هذا البلعوم» ،ينظر عن هذا كلّه مع �رشحه :ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع، ( )92ر�أ�س ًا يريد به متهيداً �أو مدخالً.
،31/1وما بعدها� ،إنَّ هذا و�أمثاله يرد يف هذا املو�ضع ،وال�شيخ نا�رص ( )93هذا هو عدد �أبيات التائية ال�صغرى ،وهي يف الديوان كذلك كما ذكر
يحرت�س خ�شي ًة من �سوء الفهم. ال�شيخ نا�رص مائة وثالثة �أبيات ،ينظر الديوان� ،ص.80-71
( )121ير�صد ال�شيخ نا�رص ظاهرة مهمة تبدت يف �رشوح التائية الكربى (� )94إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و ،1نالحظ هنا �أن ال�شيخ ي�شري �رصاحة �إىل
وهي ا�ستغالقها على الفهم وتوظيف م�صطلحات �صوفية كثرية وا�ستخدام عنوان كتابه النهائي ،وهو ما �سنقف عنده بعد قليل يف توثيق ن�سبة
لغة خا�صة ال ي�ستطيع التعامل معها �سوى النخبة ،ويف هذا يقول الدكتور الكتاب �إىل ال�شيخ نا�رص.
حممد م�صطفي حلمي عن �أولئك ال�رشاح �إن (بع�ضهم مل ي�سلم من اجلموح ( )95ابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د .حممد م�صطفي حلمي� ،ص.93
وال�شطط وم�سايرة الهوى ،والذهاب يف ت�أويل كثري من الأ لفاظ ت�أوي ًال هو ( )96يف الت�صوف الإ �سالمي ،نيكل�سن� ،ص.120
�أبعد ما يكون عن املعاين التي تنطوي عليها) ،ينظر كتابه ابن الفار�ض، ( )97الت�صوف يف الإ �سالم ،د .عمر فروخ� ،ص.138
�ص.95 ( )98تائية ابن الفار�ض و�رشوحها العربية ،د .عبد اخلالق حممود ،ر�سالة
(� )122أهل اال�ستقامة هم �أتباع املذهب الإ با�ضي وال تزال هذه العبارة ماج�ستري مل تن�رش� ،ص.2
م�ستعملة للداللة على املذهب الإ با�ضي ،ينظر الإ مامة عند الإ با�ضية ،مالك ( )99املرجع ال�سابق� ،ص.15
بن �سلطان احلارثي� ،ص ،88ويف رائعة �أبي م�سلم يف رثاء العالمة نور (� )100إي�ضاح نظم ال�سلوك و .1و�سنقف بتف�صيل فيما بعد عند هذه
الدين ال�ساملي التي مطلعها: الق�ضية الكالمية املعقّدة.
وحياتنا تعدو �إىل امل�ضمــار ريب املنون مقار�ض الأ عمار (� )101إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1
�إ�شارة �إىل اال�ستقامة حيث يقول: ( )102ينظر حول هذا املو�ضوع كتاب ابن الفار�ض واحلب الإ لهي ،د.
مه ًال همام اال�ستقامة ما الذي غادرت من هول ومن �إذعار حممد م�صطفي حلمي� ،ص.173
�إرجع ف�إن اال�ستقامة �أرملت �إرحم يتيمك وهو دين الباري (� )103إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1
ينظر ديوانه� ،ص ،331وللعالمة �أبي �سعيد الكدمي كتاب بثالثة �أجزاء ( )104ينظر ديوان ابن الفار�ض� ،ص ،27 ،81وينظر �رشح ديوان ابن
عنوانه (اال�ستقامة) ،بحث فيه ق�ضايا فقهية وكالمية خمتلفة ،ينظر طبعة الفار�ض.7-6/1 ،
وزارة الرتاث القومي والثقافة� ،سلطنة عُ مان� ،سنة .1985 ( )105ك�شف الوجوه الغر� ،ص 7و�ص.9
(� )123إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.2 ( )106امل�صدر ال�سابق� ،ص.9
( )124ينظر الأ دب يف اخلليج العربي.541/3 ، ( )107يحتل تق�سيم العلوم وت�صنيفها منزلة مهمة يف الرتاث العربي،
( )125الفتح املبني� ،ص ،208ويقول �أي�ضاً� ،ص ...« : ،216وملا ركدت وقدم فيه الفال�سفة واملفكرون مباحث وكتب ًا كثرية ت�شري �إىل ا�ستيعاب
زعازع بغي اخللفاء العبا�سيني عن عمان ،وانقطعت مادتهم عنها بالبغي، وا�ستق�صاء ،ور�ؤى خا�صة �أي�ضاً ،ينظر على �سبيل املثال كتاب �إح�صاء
والعدوان عقد �أكابر عمان بالإ مامة على اخلليل بن �شاذان» ،وينظر كذلك العلوم للفارابي وما كتبه ابن خلدون يف املقدمة ،وغريها.
تاريخ عمان املقتب�س من كتاب ك�شف الغمة� ،ص ،54وما بعدها. (� )108إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1
( )126ينظر الفتح املبني� ،ص.132 ( )109امل�صدر ال�سابق ،و.1
( )127ينظر تف�صيل هذا املو�ضوع يف مقدمة حتقيق كتاب (ف�ضل العرب ( )110ينظر ال�صلة بني الت�صوف والت�شيع ،97/1 ،ومدخل �إىل الت�صوف
والتنبيه على علومها) بتحقيقي� ،ص ،10وما بعدها. الإ �سالمي� ،ص.101
( )128ينظر مقدمة حتقيق ف�ضل العرب� ،ص ،11وما بعدها. (� )111إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.1
( )129ينظر (البعد ال�صويف يف الفكر الإ با�ضي) ،ر�سالة دكتوراه غري ( )112امل�صدر ال�سابق ،و.1
من�شورة ،اجلامعة الإ �سالمية العاملية ،ماليزيا� ،سنة 2007م� ،ص.8 (� )113أطلق املت�صوفة على (علمهم) �أ�سماء كثرية مثل علم الباطن ،وعلم
( )130تنظر مقدمة حتقيق كتاب (الإ خال�ص) لل�شيخ نا�رص .ر�سالة احلقيقة ،وعلم الدراية وغريها وهي كلها تقابل ال�رشيعة� ،أما التجريد
ماج�ستري غري من�شورة ،كلية دار العلوم� ،سنة 1998م� ،ص.73 الوارد يف الن�ص فرياد به التوجه بالكلية �إىل اهلل �سبحانه ونزع ال�شهوة
( )131ينظر فهر�س خمطوطات الأ دب� ،ص.108 للدنيا وزخرفها ا�ستعداداً لل�سفر يف الطريق الطويل ،ينظر عن هذه الق�ضايا،
( )132الأ دب يف اخلليج العربي ،د .وليد حممود خال�ص ،441/3 ،وي�ضاف ديباجة ديوان ابن الفار�ض� ،ص ،20ومدخل �إىل الت�صوف الإ �سالمي ،د.
هنا �أمر � آخر هو �أقرب �إىل القرينة منه �إىل الدليل ،وهو ت�رصيح ال�شيخ �أبو الوفاء الغنيمي� ،ص ،96وما بعدها ،وال�صلة بني الت�صوف والت�شيع ،د.
نا�رص يف ثنايا املخطوط با�سم والده ال�شيخ �أبي نبهان رحمه اهلل ،وذلك كامل ال�شيبي 413/1 ،و.417
حني يقول ...« :كما قال والدنا ال�شيخ �أبو نبهان ر�ضي اهلل عنه يف مرتبة ( )114مقدمة ابن خلدون ،1099/3 ،والبن خلدون كالم نفي�س حول هذا
التلوين» ،وي�سوق بيت ًا من ق�صيدته ال�شهرية (حياة املهج) ،فهذا الت�رصيح املو�ضوع ب�سطه يف املقدمة ،فلينظر هناك.
يحمل يف ت�ضاعيفه ما يدعو �إىل االطمئنان �أنَّ �صاحب هذا الكتاب هو �أحد (� )115إي�ضاح نظم ال�سلوك ،و.2
�أوالد �أبي نبهان ،ف�إذا تعانقت الأ دلة و�صلنا �إىل �أنَّه ال�شيخ نا�رص ال غري. ( )116امل�صدر ال�سابق ،و.2
( )133فهر�س خمطوطات الأ دب� ،ص.108 (� )117إي�ضاح نظم ال�سلوك .و ،2ولع ّل ال�شيخ كان م�صيب ًا فيما ذهب �إليه
( )134ينظر �رشح ابن عقيل على الأ لفية.80/2 ، من �إمكان �إ�ساءة الظن به لدى بع�ض املتعلمني� ،إذ لدينا �إ�شارات كثرية
(� )135رشح ابن عقيل على الأ لفية ،85/2 ،وقد الحظ حمقق كتاب تنبه �إىل �رضورة احلذر يف التعامل مع �ألفاظ القوم وا�صطالحاتهم على
(الإ خال�ص) هذا الأ مر �أي�ض ًا يف كتاب (الإ خال�ص) ،ممّا ي�ؤكد �شيوع هذه اعتبار �أنها ذات خ�صو�صية ومدلوالت معينة.
الظاهرة يف كتب ال�شيخ الأ خرى ،ينظر كتاب (الإ خال�ص)� ،ص.178 ( )118و( )119و( )120امل�صدر ال�سابق .والإ قليد الوارد يف الن�ص هو
املفتاح ،ومن املفيد �أن نو�ضح هنا �أنَّ ال�شيخ حني يتحدث عن (�إ�ساءة
[ هذا البحث مقدمة كتاب «اي�ضاح نظم ال�سلوك يف الظن) �إنمّ ا ي�صدر عن علم وا�سع مبا رمي به القوم قبله من تهم ب�سبب
ح�رضة ملك امللوك» لنا�رص بن جاعد اخلرو�صي. عباراتهم امل�ستغلقة ،وكان هذا منذ وقت مبكر يف الإ �سالم حتى �أنّنا نقر�أ
38 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حول معنى
الغربة والغرابة
�شاكـــــر عبداحلميد
ناقد و�أ�ستاذ علم نف�س من م�رص
«م�شيت ويف منت�صف طريق احلياة،
وجدت نف�سي يف غابة مظلمة
دركت �أنه قد �ضاعت منى معامل الطريق»
حينها �أ ُ
اللهية»
«دانتي ،الكوميديا إ
يف حديثه عن «هاملت» يف «حما�رضات حول الفنون اجلميلة» قال الفيل�سوف
الأ ملاين ال�شهري هيجل�« :إن هاملت ذو قلب جميل ونبيل ،وهو لي�س �ضعيفًا ،يف
�أعماقه ،على الإ طالق ،لكنه ذو �شعور قوي جتاه احلياة ،ومن ثم ف�إنه ،وخالل ذلك
ال�ضعف الذي يالزمه ،خالل ك�آبته ،كان يندفع نحو الي�أ�س� ،إن لديه �إح�سا�سً ا حقيقيًا
ب�أن الهواء املحيط به معب أ� بالكذب ،لكن دون عالمة خارجية وا�ضحة على ذلك ،ولي�س
أي�ضا؛ فكل �شيء لي�س كما هناك من �أ�سا�س حمدد ل�شكوكه ،لكنه كان ي�شعر بالغرابة � ً
ينبغي �أن يكون ،وقد كانت تنتابه الظنون حول تلك الأ حداث املرعبة التي حدثت،
ثم يلقي �شبح �أبيه – �إليه -بتفا�صيل �أكرث ،ويف داخله ي�شعر بالرغبة يف االنتقام،
ويفكر على نحو مطرد يف الواجب الذي يوحي به �إليه قلبه ،لكنه ال ي�ستطيع �أن يقوم
بتنفيذه� ،إنه لي�س مثل ماكبث ،فهو مل يندفع يف غ�ضب عا�صف ،ومل يوجه غ�ضبته
نحو «اليرت�س» بل ظل ،على العك�س من ذلك ،قابعًا يف تلك احلالة من العجز املقيم
اخلا�صة بروح داخلية جميلة ال ت�ستطيع ،هي نف�سها� ،أن تندمج يف عالقات خا�صة
مع عاملها احلا�رض املحيط بها»(.)1
lالغربة يف جوهرها ،غربة عن املكان� ،أو حتى ،غربة يف
املكان،
lالغرابة نوع من ال�شك وعدم اليقني ،والغمو�ض �أو االلتبا�س
والريبة املالزمة للمكان ،والزمان ،والتاريخ ،والوجود � ،إنه
التبا�س يتعلق بالفرد �أو بالثقافة �أو بهما معًا
s
s
s
قوة هائمة ال ميكن ال�سيطرة عليها ،قوة متر ما بني أي�ضا.
يت�صاعد ليبلغ مرتبة الرعب � ً
احلياة واملوت ،وتعرب حدود العقالنية الب�رشية كي يهيمن الغريب عندما ت�ضطرب حالتا الوعي والالوعي
()8
ت�ؤ�س�س ،فيما بني هذه احلدود ،مناطق خا�صة بها لدينا ،فت�صبح الذات مهددة والواقع غري � آمن ،حينئذ
والغرابة نوع من احل�ضور يدل على الغياب ،ح�ضور يجيء التهديد داخله ،من حيث ال ندري وال نتوقع فيهز
للموت يدل على غياب احلياة ،ح�ضور للخوف يدل ا�ستقرار هذه الذات وتوازنها.
على غياب الأ من ،ح�ضور للقلق يدل على غياب أي�ضا هو القيمة الثقافية لكن القريب قد يكون الغريب � ً
اال�ستقرار والتوازن .والغرابة كذلك هي «اجلليل» واجلانب البنائي الإ يجابي من خرباتنا احلديثة� ،إنه قد
اخلا�ص بع�رصنا كما قال هارولد بوم ،كما �أ�رشنا ي�شتمل على ح�سا�سية مميزة وان�صهار ما بني االنفعال
�سابقًا(.)9 والت�أمل والفعل الإ بداعي ،ومن ثم قد تتجلى فيه
بالن�سبة لدريدا حتوم الغرابة وراء تلك الروابط غري جماليات احلداثة ،وما بعدها.
امل�ستقرة املوجودة بني الدال واملدلول ،وامل�ؤلف قد ف�رس «�أوتو رانك» يف درا�سته «فكرة حول
والن�ص ،وترتبط بالأ �شباح والغياب ،وح�ضورها دائم املقد�س» كلمة «الغرابة» يف اللغة الأ ملانية التي ً
يف الفن والفكر واحلياة� ،أما بالن�سبة لبودريار ف�إن ذلك ت�شري يف جوهرها� ،إىل حاجة الإ ن�سان لأ ن «يج�سد
دريدا: امليل اخلا�ص للغرابة لالزدواجية ،والتحول والتجول ما خوفه يف �أ�شكال غري طبيعية» .والغرابة هي
الغرابة حتوم بني الواقع واخليال ،وكذلك اخلداع الب�رصي امللح اخلا�ص التج�سيد املعا�رص للجليل بل �إنها اجلليل اخلا�ص
بها هو ما مينحها دورًا مركزيا يف التج�سيد لل�صور بع�رصنا كما �أ�شار هارولد بلوم ،و�أنه مثلما قد يكون
وراء تلك من امل�ستحيل فهم الرومانتيكية دون فهم اجلليل
املحاكية الثانوية غري ذات الأ �صل املحدد Simulacraوالتي
الروابط غري هي �أ�صل الغرابة(.)10 بو�صفه �إحدى نقاطها اجلوهرية ،كذلك ال ميكن فهم
امل�ستقرة املوجودة وقد جتددت القوة الت�أويلية للغرابة ،دائمًا ،مرة بعد �أخرى، احلداثة وما بعدها على نحو م�ستقل عن الغرابة
بني الدال يف الأ دب والفن الت�شكيلي وال�سينما ،وكذلك كل ما يرتبط وت�شكيالتها الغريبة؛ فالغرابة ،هي احلداثة وما بعد
واملدلول ،وامل�ؤلف باحل�سا�سية الفنية الكلية املعا�رصة يف الأ فالم اخليالية، أي�ضا(.)5
احلداثة � ً
�أفالم اخليال العلمي والأ �شباح والرعب والواقع االفرتا�ضي، أي�ضا الدخيل �أو ،الآ خر ،غري امل�ألوف، الغريب هو � ً
والن�ص ،وترتبط وغريها. والغرابة هي فئة املخيف من امل�شاعر والأ فكار التي
بالأ �شباح والغياب، وعلى نحو يت�سق مع تراث مارك�س وجورج �سيميل ترجع بنا نحو �شيء ما قدمي نعرفه ،كان م�ألوفًا لنا منذ
وح�ضورها دائم والكان ،ف�إن كر�ستيفا قد الحظت ذلك االتفاق بني وقت طويل كما قال فرويد(.)6
يف الفن والفكر الغرابة ،وبني اختالل ال�شعور بال�شخ�صية ،وهو �أمر كان مل تكن الغرابة �أو «الأ لفة غري امل�ألوفة» Familiar unfamiliari
موجودًا ،على نحو ما ،لدى فرويد ،لكنها تبتعث ذلك ityلدى فرويد� ،أو غريه ،يتعلق باجلديد �أو الغريب فقط،
واحلياة التاريخ الطويل للغرباء ،تلك الكائنات ال�شبحية الأ قرب، بل بغري امل�ألوف الذي ينطوي على جوانب م�ألوفة� ،أو
�إىل �أنف�سنا� ،أكرث مما قد نريد �أن ندرك ،وكذلك ه�ؤالء ذوو غري امل�ألوف الذي يح�رض معه -عند م�ستوى الإ دراك �أو
احلاجات غري املختلفة عن حاجاتنا كثريًا كما �أ�شار الذاكرة �أو احللم -قريني امل�ألوف� ،شبحه امل�ألوف� ،شبح
تودوروف. والد هاملت ،مثالً ،غري امل�ألوف ،ذلك ال�شبح الغريب الذي
ويف قراءته ملفهوم «الأ مة» يف املكان والزمان يف احلقبة
يح�رض يف هيئة �شبيهة بالوالد ،امللك امل�ألوف ،لكنه
ما بعد اال�ستعمارية ،ا�ستخدم «هومى بابا» مفهوم الغرابة
لدى فرويد �إىل احلديث عن حياة املهاجرين ،والأ قليات امل�ألوف الذي �أ�صبح نتيجة لغيابه باملوت ،وح�ضوره،
والعائ�شني يف املنايف ،وجوهر املدينة ،والتي متثل «املكان ك�شبح ،غري م�ألوف ،من ثم كان ينبغي �أن يكون ،على
الذي حتدث فيه عمليات التوحد �أو دمج �أو التمثل النا�شيءة نحو ما ،ظال �شبحياً� ،شبيهًا ،بامل�ألوف� ،أو قرينًا يجمع
اجلديد»« .وما �سماه «بابا» «تعقد املعي�شة» قد يف�رس ،كذلك، بني احلي وغري احلي ،ويعيد جت�سيد �صفات احلي ،وغري
من خالل نظرية ما ،حول الغريب .ذلك الذي يهز ا�ستقرار احلي ،احلا�رض والغائب معًا ،يف تكوين فريد يثري
الأ عراف والتقاليد الرا�سخة حول املركز والهام�ش ،وحول ال�شكوك ،وهذه ال�شكوك املتعلقة بالغرابة ،املتوجهة نحو
الأ �شكال املكانية للقومية .وقد مت ا�ستخدام امل�صطلح اخلا�ص املوتى الأ حياء ،والأ حياء املوتى نحو امل�ستحيل الذي
بالغرابة كذلك يف �رشح عمليات النمو الع�شوائي للمدن يعود عرب احلدود ،هي جوهر الغرابة(.)7
الكبرية يف �أماكن كثرية من العامل مثل ا�سرتاليا وبنجالدي�ش والغرابة يف مظهرها ال�شبحي ،ميكن تعريفها على �أنها
41 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حيث الوجه بعد اجلراحة التجميلية جميل ولكن دون تعبري، وغريها من بالد العامل(.)11
�إذ �إن مالحمه حمايدة وغريبة. باخت�صار تتعلق الغرابة بذلك الإ ح�سا�س الذي يتولد لدينا
قد ترتبط الغرابة كذلك بامل�ضحك والفكاهة ،وال�ضحك قد عندما نوجد عند حدود غري � آمنة من اخلربة� ،أي عندما ت�ستثار
يرتبط باخلوف ،وقد يرتبط اخلوف بالغرابة ،وترتبط الغرابة بداخلنا تلك امل�شاعر من ال�شك وااللتبا�س ورمبا اخلوف �أو
بالفن. حتى الرعب ،وهي خربة ملتب�سة ت�شتمل على جوانب خا�صة
ويحدث ال�شعور بالغرابة عندما تالحظ نوبات اجلنون بالأ لفة والنظام ومعها يف وقت واحد عدم الأ لفة والفو�ضى
و�أعرا�ضها وغريها من الأ عرا�ض التي قد تبدو معها حياة واالنتهاك للم�ألوف واملعروف معًا ،وهي خربة �شبيهة كذلك
النا�س جمرد حياة � آلية �أو ميكانيكية (كما يف الف�صام بتلك اخلربة التي تظهر ،بكرثة ،يف ال�رسد والغرابة ،ويف الفن
الكاتاكوين �أو التخ�شبي مثالً). عامة ،على �أنها خربة جمالية ،غري �سارة ،وقد تكون مرعبة الغرابة :
والغرابة موجودة يف �أدب العبث (يف انتظار جودو مثالً) ومع ذلك ،ف�إننا قد نبحث عنها ،ون�سعى وراءها ،لأ �سباب
وحيث االنتظار فعل �إن�ساين م�ألوف ،ولكن انتظار من ال �سنذكرها الحقًا.
م�صطلح مهم يف
يجيء وما ال يجيء ،وقد ي�ستثار هذا ال�شعور بالغرابة التفكري والنقا�ش
تاريخ الغرابة
أي�ضا كا�ستجابة للدمى وغريها من الأ �شياء امليكانيكية � ً املعا�صر الدائر
التي ت�سلك وتتحدث كالب�رش �أو احليوانات .وقد قال يل �سوف ن�ستخدم كلمتي «الغرابة» و«الغريب» مبعنى واحد، عرب عدد من
ال�صديق الناقد امل�رسحي� /أحمد عبد الرازق �أبو العالء: مع الوعي ب�أن الغرابة هي احلالة العامة وال�صفة الكلية
ذات مرة «مل تعد �أعمال م�رسح العبث الآن ،لدى بيكيت للمو�ضوع الذي ندر�سه� ،أما الغريب فهي �صفة لعمل فني احلقول املعرفية
و�أوني�سكو هي الغريبة الآن ،احلياة هي التي �أ�صبحت غريب �أو �شخ�ص غريب� ،أو �سلوك غريب �أو قول غريب بعينه. التي ت�شتمل
غريبة� ،أفعال الب�رش �أ�صبحت غريبة ،العامل �أ�صبح الغرابة :م�صطلح مهم يف التفكري والنقا�ش املعا�رص الدائر على الفل�سفة
غريبًا». عرب عدد من احلقول املعرفية التي ت�شتمل على الفل�سفة والأ دب واالجتماع
أي�ضا م�س�ألة متعلقة باملخيف �أو املرعب قد يكون الغريب � ً والأ دب واالجتماع والدرا�سات ال�سينمائية والعمارة والتحليل
كاملوت واجلثث و�أكل حلوم املوتى ،والدفن حيًّا (كما يف النف�سي وغريها .ويعود الكثري من الأ همية املن�سوبة لهذا والدرا�سات
ق�ص�ص دراكيوال و�أفالمه مثالً) وعودة املوتى ،وغري ذلك من امل�صطلح وداللته �إىل درا�سة فرويد املبكرة له عام 1919 ال�سينمائية
الظواهر هكذا تعد ق�صة يحيى حقي «الفرا�ش ال�شاغر» التي تلك التي حدد فيها طبيعته فقال�« :إنه يتعلق بتلك امل�شاعر والعمارة
حتتوي على عملية م�ضاجعة للجثث منوذجً ا فريدًا يف الأ دب غام�ضا وعجيبًا،
ً اخلا�صة جتاه �شيء ال يكون ،بب�ساطة ،فقط والتحليل النف�سي
العربي يف هذا ال�ش�أن ،وكذلك احلال يف ق�ص�ص «ر�سائل على نحو غري عادي ،ولكنه ،يكون وعلى نحو �أكرث حتديدًا،
احلائط الرطيب» خلريي �شلبي ،و»القرين وال �أحد» ل�سليمان م�ألوفًا على نحو غريب»( .)12هكذا قد تنبع غرابة �شيء ما وغريها
فيا�ض ،و»تلك الرائحة» و»�رشف» ل�صنع اهلل �إبراهيم وغريها من الأ لفة ال�شديدة به بعد �أن مت كبته ثم عاود الظهور يف
من الأ عمال الغريبة. الالوعي الفردي �أو اجلمعي ،على الأ قل هذا هو املعنى اخلا�ص
أي�ضا -وهذا ما مل لكن ا�ستجابة الغرابة قد حتدث � ً بالغرابة لدى فرويد وثمة معايري �أخرى �سريد ذكرها.
يذكره فرويد -ل�شيء غريب يف جماله �أو جميل ب�شكل الغريب ،هكذا هو مزج يتم بني امل�ألوف وغري امل�ألوف،
غريب� ،شيء يرتبط بالن�شوة �أو االنت�شاء خا�صة حينما وقد ي�أخذ ال�شكل اخلا�ص ب�شيء م�ألوف يظهر على نحو
نقول عنه�« :إنه �أجمل من �أن يكون حقيقيًّا»� ،إنه يذكرنا غري متوقع يف �سياق غريب وغري م�ألوف� ،أو ي�أخذ ال�شكل
ب�شيء ما �أو �شخ�ص ما ،كان جمي ًال لكنه مات ،الآن، اخلا�ص ب�شيء «غريب» يظهر على نحو غري م�ألوف،
ونرى «ذلك النور الغريب على وجهه»؛ وهنا قد يكون غري متوقع ،ولكن يف �سياق م�ألوف ،وقد ينبع الإ ح�سا�س
�شعور الرهبة هو جوهر الغرابة. بالغرابة ،من �شعور املرء ب�أن الأ �شياء مقدرة عليه �أو
وقد ي�شتمل الغريب على �شيء جميل ،لكنه ،يف الوقت نف�سه، يق�صد منها �أن حتدث ،هكذا ،و�أنه ال فكاك له منها ،وهو
خميف ،كما يحدث عندما ن�شاهد �أحد �أفالم الرعب اجلميلة ال يفهم �سبب حدوثها له دون �سواه وك�أنها قدرية� ،أو غري
فنيًّا من حيث الت�صوير والإ �ضاءة واملو�سيقى والتمثيل... مفهومة� ،أو حتى ،غري مربرة.
أي�ضا وبحيث قد نخ�شى �أن �إلخ ،ولكنها مرعبة ،لنا ،انفعاليًّا � ً وقد حتدث الغرابة ،نتيجة جمرد التكرار لأ حداث� ،أو كلمات،
ن�شاهدها ،ليالً ،وحدنا. ومن خوف املرء �أن يفقد عينيْه �أو �أع�ضاءه الأ خرى� ،أو من
أي�ضا يف حاالت االلتبا�س املرتبطة بال�صمت يحدث الغريب � ً ر�ؤيته ل�شخ�ص قد فقد �أحد �أع�ضاء ج�سمه� ،أو قام بجراحة
والعزلة والظلمة وما يتعلق بال�رسى ،واخلفي ،لكنه الذي ترقيعية يف مو�ضع ما من وجهه ،ويتحدث ،كما يف حالة
يظهر ،الآ ن ،يف دائرة ال�ضوء .وحتى لو كان هذا ال�ضوء بع�ض املطربني واملطربات وممثلي ال�سينما وممثالتها؛
42 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الأ وروبي فقال�« :إن العدم يقف على الأ بواب ،ومن ثم كانت �شحيحً ا� ،أو مت�رسب ًال بالظل والعتمة ،الن�سبية ،ف�إنه موجود
تلك الغرابة من كل نوع» .وكذلك قال هيدجر بعد ذلك�« :إن هناك ،دائمًا ،يو�شك على الظهور ،وتعد حالة «الو�شوك» هذه
العادي ،يف �أعماقه ،لي�س عاديًّا� ،إنه م�ضاعف بالغ العادية، مهمة هنا ،كما �أن ذلك الإ ح�سا�س ب�أن �شيئًا ما على امل�شارف،
�إنه غريب» .كما �أن الطابع اجلوهري لوجودنا يف العامل، م�شارف الوعي والإ دراك ما بني احلدوث والالحدوث ،فهو �إىل
بالن�سبة �إىل هيدجر ،هو طابع غريب ،ال م�ألوف ،ل�سنا يف الآ خر قد يجعله غريبًا؛ فمع اخلوف يت�شتت االنتباه ويفرز
بيتنا� ،أو يف بيت العامل ،بل نحن يف حالة ماثلة من القلق الإ درنالني ،فيتجه الإ ن�سان �إىل الهرب �أو املواجهة �أو �أن
()15
الذي ن�شعر ،خالله ،بالغرابة يتجمد مكانه يف خوف خميف بدرجة غريبة.
حماوالت أ�ولية لفهم الغرابة أي�ضا بنظرة الأ نا �إىل الآخر على امل�ستويينْ
يرتبط الغريب � ً
حتدث �أوغ�سطني الثقايف والإ ثني ،كما يف نظرة الأ وروبيني �إىل املهاجرين
(430-354م) يف leontios يف «اجلمهورية» يحكي �سقراط ق�صة عن ليونتيو�س اجلدد و�سلوكياتهم الغريبة ،كذلك ما ي�سمى والنظرة
بن �أجاليون ،و�إنه كان ذات مرة عائدًا من معبد «برييه» الإ �ست�رشاقية� . .إلخ ،ويرتبط بالغريب وبالغام�ض ،كل ما
اعرتافاته ،عن ور�أي خارج اجلدار ال�شمايل جثثًا ممددة و�شعر بالرغبة يف قد يكون لغرابته -ووجوده يف �سياق غريب– خميفًا.
ولع البع�ض، �إلقاء نظرة عليها ،و�أح�س -يف الوقت ذاته -بالنفور وحاول وقد كانت تقنيات الإ نرتنت واال�ستن�ساخ و� آالت �إر�سال
باالبتعاد عن االبتعاد عنها ،فظل حلظات يقاوم نف�سه وقد حجب وجهه ال�صوت وال�صورة احلديثة كلها كذلك غريبة عندما ظهرت،
اجلمال والذهاب بيديْه ،ولكن الرغبة غلبته �أخريًا ،ففتح عينيه الوا�سعتني كما �أنها قد تظل بالن�سبة �إىل كثريين هنا ،و�أنا منهم ،غريبة،
وهرع نحو املوتى هاتفًا« :فلتمت ْع عينيْك �أيها التع�س بهذا عنا حتى الآ ن.
نحو نقي�ضه� ،أي املنظر الرائع» ويف�رس �سقراط هذا املوقف ب�أنه يج�سد �رصاعً ا وقد كانت ردود �أفعال النا�س حني �شاهدوا العر�ض ال�سينمائي
القبح ،والتطلع، بني احلكمة -والعقل -التي كانت تقت�ضي االبتعاد عن الأ ول يف مقهي جراند كافيه ،يف باري�س وخرجوا م�رسعني
كذلك ،نحو م�شاهدة مثل هذه املناظر ،وبني الرغبة والغ�ضب واالنفعال خائفني من �صورة قطار غريب يتقدم نحوهم من ال�شا�شة.
الذي ي�سري يف اجتاهات معار�ضة للعقل فتدفع �صاحبها �إىل
كل ما يرتبط أي�ضا ب�سبب كل وهكذا ي�سيطر الإ ح�سا�س بالغرابة واخلوف � ً
()16
مثل هذا املوقف
باملوت من جثث ما يوهم ب�أنه غريب.
كذلك حتدث �أوغ�سطني (430-354م) يف اعرتافاته ،عن
كما �أن «�صندوق باندورا» املليء بال�رشور قد يفتح على
وظالم وخوف ولع البع�ض ،باالبتعاد عن اجلمال والذهاب نحو نقي�ضه،
ات�ساعه؛ �إذا كانت هوية الإ ن�سان عر�ضة للمعاجلات الغريبة،
ورعب وجمهول �أي القبح ،والتطلع ،كذلك ،نحو كل ما يرتبط باملوت من
للتحويل وحتى للم�ضاعفة من خالل الهند�سة الوراثية وعالج
جثث وظالم وخوف ورعب وجمهول وغياب وقد �أطلق
وغياب وقد �أطلق ()17
�أوغ�سطني على هذا الدافع ا�سم «�شهوة الأ عني». اجلينات واجلراحات الرتقيعية والآ الت التعوي�ضية للج�سد
�أوغ�سطني على واال�ستن�ساخ وغريها ،يف عامل �أ�صبح النا�س فيه �أكرث فقرًا
�شهوة أ
العني ومعاناة وموتًا رمبا �أكرث من ذي قبل ،وحيث تزداد الأ مور
هذا الدافع ا�سم ()13
�سوءًا كل يوم وال يبقى �سوى الأ مل يف هذا العامل الغريب
هكذا ،ف�إنه ويف الكتاب العا�رش من كتابه «االعرتافات»
«�شهوة الأ عني» حتدث القدي�س �أوغ�سطني عما �سماه «�شهوة الأ عني» The Lust
أي�ضا ،مبا يتعلق الغريب يف املجال الفني والأ دبي � ً
of the Eyesوربطها بعملية الف�ضول �أو حب اال�ستطالع ،وقال ي�سمى التنا�ص؛ حيث تعاود ن�صو�ص �أخرى الظهور يف
أي�ضا ،با�ستثارة
�إنها عملية ح�سية ،و�إنها هي التي تقومً � ، ن�ص معني فتحدث لرباعته� ،أو لرداءته ،ا�ستجابة غريبة
الرغبة يف املعرفة لدينا؛ حيث هنا نوع من الإ غراء يكون لدينا؛ ففي الإ عجاب ال�شديد غرابة ،ويف النفور ال�شديد
حمفوفًا �أكرث باخلطر .وذلك �أنه� ،إ�ضافة �إىل �شهوة البدن التي أي�ضا ،يف الولع واالفتنان غرابة ويف النفور غرابة � ً
تكمن يف الإ �شباع للحوا�س والرغبات ،وحيث عبيدها بعيدون أي�ضا.
واملقت غرابة � ً
نوعً ا ما عن الهالك ،هنا نوع � آخر من التوق الغالب �أال وهو لدى دريدا «يف �أطياف مارك�س» كان كل �شيء لدى مارك�س
أي�ضا بحوا�س اجل�سد ،لكنه يتعلقوالولع املحدد ،الذي يرتبط � ً يتحدث عن الأ طياف �أو الأ �شباح التي تزور �أوروبا ،وكل �شيء
�أكرث بالروح ،ويتجلى على نحو بالغ يف املعرفة والتعلم ،وال يتعلق ب�أفكار االغرتاب والثورة والتكرار ،له �صلة ما ،بفكرة
يجد متعته يف البدن ،بل يف القيام بتجارب من خالله ،و�إنه أي�ضا �أن دريدا قد فكر الغريب .و�إنه لي�س من قبيل امل�صادفة � ً
يتج�سد يف ذلك الولع باملعرفة ،ويكون الإ ب�صار هو احلا�سة يف �أن يكون العنوان الفرعي لكتابه الكبري عن مارك�س هو
الرئي�سة بني احلوا�س ،لديه ،يف اكت�ساب تلك املعرفة اخلا�صة «مارك�س – حول الغرابة» .)14(Marx – das Unhimlich
به ،و�أنه يف «الكتاب املقد�س» وخا�صة لدى القدي�س جون والغرابة فكرة حمورية لدى دريدا ،واملدر�سة التفكيكية،
الذي �أطلق عليه ا�سم «�شهوة الأ عني». وكذلك بالن�سبة �إىل مارك�س ونيت�شه ،قبله ،ففي مفتتح كتابه
ويقارن �أوغ�سطني بني املتعة احل�سية التي تبحث عن «�إرادة القوة» ( )1988 – 1883حتدث نيت�شه عن العدم
43 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف اعرتافاته الدينية ،تلك� ،أقر �أوغ�سطني �أن ما لفت انتباهه املو�ضوعات اجلميلة واملتجان�سة واملتنا�سقة الناعمة
يف البداية ،مل تكن هي تلك املعجزات املوجودة يف الطبيعة، الفواحة جميلة الرائحة ،وبني حب اال�ستطالع �أو
�أو ت�أمله لعظمة اخلالق ،بل تلك الدراما احلية ،هذه ال�رصاعات الف�ضول املعريف الذي يحدث من �أجل التجربة يف ذاتها،
ال�صغرية املوجودة يف الطبيعة التي لفتت انتباهه وجذبت وي�سعى وراء كل ما هو نقي�ض للجمال ،غري مهتم مبا
�شهوة عينيْه» �أو ف�ضولها املعريف املخيف ،و�أبعدته ،م�ؤقتًا، يعانيه خالل ذلك من عنت و�ضيق ،فال�شغف املوجَّ ه له،
عن اهلل. �شغف املعرفة والتجربة والتجريب ،يكون ،هنا ،غالبًا،
مل يكن �أوغ�سطني مولعًا باجلانب الإ يجابي املرتبط بحب ويت�ساءل �أوغ�سطني« :فما تلك املتعة التي تكمن يف
اال�ستطالع �أو الف�ضول املعريف� ،أي ذلك اجلانب املرتبط ر�ؤيتنا جلثة متعفنة ممزقة قد جتعلنا نرتعد؟ وحتى
بالبحث العلمي ،واال�ستق�صاء املنظم لأ �رسار الطبيعة واحلياة؛ لو كانت تلك اجلثة ترقد على مقربة منا ،ف�إننا نتجه
فقد كانت الطبيعة ،بالن�سبة �إليه ،مكانًا ال يت�سم بالعقل، مندفعني �إىل هناك من �أجل �أن جنعل �أنف�سنا ن�شعر
م�صيدة ن�صبت القتنا�ص �أي غافل قادته خطاه واجتذبه باحلزن ،و�أن يتحول لون وجهنا �إىل ال�شحوب .هذا على
ف�ضوله ،ذلك املنحرف ،بعيدًا عن طريق اهلل(.)19 الرغم من �أننا قد نخ�شى �أن نرى تلك اجلثة خالل نومنا،
هكذا ،ف�إن �أوغ�سطني ،على الرغم مما �ألقاه من �إ�ضاءات وكما لو كان الأ مر هو �أن �أحدًا� ،سيقوم بدفعنا ،عندما
كا�شفة عن عالقة الف�ضول املعريف بالبحث عن الغريب ن�ستيقظ ويجربنا على الذهاب والر�ؤية لتلك اجلثة،
وغري اجلميل �أو املنفر يف احلياة ،وعلى الرغم من ا�ستك�شاف نحن ال نكون خالل اليقظة يف حاجة �إىل �أن يدفعنا �أحد
الطبيعة من خالل هذا الولع �أو ذلك ال�شغف ،ف�إنه قام بنقده للم�شاهدة؛ فنحن نذهب �إىل هناك ب�إرادتنا احلرة».
أي�ضا
من منظور ديني ،لكنه خالل ذلك ،كان قد فتح الطريق � ً ولقد جاءت كل تلك امل�شاهد الغريبة التي تعر�ض على
�أمام عديدين ممن جاءوا بعده ،وت�أملوا هذا ال�شغف من وجهة امل�رسح من مثل ذلك الف�ضول املري�ض -كما يقول �أوغ�سطني،
نظر مغايرة(.)20 «ومن ثم كان �سعينا املتوا�صل ،ذاك؛ الكت�شاف �أ�رسار قوى
الطبيعة ،تلك التي تتجاوز قدراتنا ،هنا ال تكون هناك فوائد
ما بعد أ�وغ�سطني جننيها من وراء املعرفة� ،إال املعرفة ذاتها ،ومن خالل مثل
بعد �أوغ�سطني تزايد االهتمام مبا ي�سمى «اجلليل» sublimeوقد تلك املعرفة املحرفة (غري ال�سوية) ن�ستلهم الفنون ال�سحرية
كان امليل �إىل اجلليل ي�صنف لدى فال�سفة كثريين على �أنه من خالل هذه ال�شهوة وذلك الولع».
يقع �ضمن نطاق ،الغريب ،واملخيف والقبيح ،وكان الغريب وقد �أقام �أوغ�سطني �أ�س�س حالة الف�ضول املعريف �أو
هو الأ كرث ح�ضورًا وتدمريًا بني هذه االنواع ،وقد �أ�شار �إدموند حب اال�ستطالع اخلا�صة بنا على �أ�س�س �أخرى ،غري تلك
بريك نف�سه �إىل ذلك ال�شعور �صعب التف�سري والذي يزداد الأ �س�س اخلا�صة بالر�ضا الناجت عن الإ �شباع للمتع احل�سية
ح�ضوره بكثافة �ضمن �شبكة الإ ح�سا�سات اخلا�صة بالغمو�ض اجلمالية املرتبطة باجلميل واجلذاب� ،أو املرتبطة بت�أمله؛
والتي ترتبط عادة بالرعب وظلمة الليل املطبقة حني قال: ففي الف�ضول «و�شهوة الأ عني» ثمة متع معرفية �أكرث منها
«ي�ضيف الليل جوانب كثرية �إىل خماوفنا املرتبطة باخلطر، ح�سية ،متع ناجتة عن الولع بالغريب ،الولع باملخيف ،الولع
كما �أن �أفكارنا املوجودة بداخلنا حول الأ �شباح والعفاريت باملنفر ،متعة الف�ضول التي ترتبط باجلثث واملوتى وعامل
والتي ال ن�ستطيع �أن نكِّون �صورة وا�ضحة عنها ،ت�ؤثر يف الظالل اخلفية و�أ�رسار الليل والكوابي�س والرعب ،وهكذا ف�إن
عقولنا بدرجة وا�ضحة»(.)21 املو�ضوعات ،غري اجلميلة ،التي يفرت�ض فيها �أنها تنفرنا،
وقد كان تهديد الغريب والغرائبي من الأ فكار والأ حداث، هي ما اهتم به �أوغ�سطني ،بو�صفها ،كما قال ،نوعً ا من
خالل الفرتة الرومانتيكية ،هو ما جعل هيجل يحاول االنحراف ،حالة من الف�ضول املعريف ،املنحرف ،الذي يقرتب
�أن ي�ستعيد ذكرى اجلليل احلقيقي يف ن�صو�ص العهد من املر�ض الذي ينبغي �إبعاده عن القلب ونفيه من الوجدان،
القدمي و�أن يحافظ عليها .لقد حاول يائ�سً ا – كما هذا على الرغم من بحث هذا الفيل�سوف عن جتليات عديدة
ي�شري فيدلر – �أن يغلق الباب اخلا�ص مبملكة ال�سحر لهذا ال�شغف يف الطبيعة واحلياة ،وكما يتجلى ذلك لديه يف
واجلاذبية املغناطي�سية وال�شياطني ،وكل تلك الأ �شكال قوله« :ما ذلك الذي يحدث عندما جنل�س يف البيت ،ونرى
العليا اخلا�صة بالظهور والتجلي وامل�شي �أثناء النوم ال�سحلية ت�صطاد الذباب ،ونرى كذلك عنكبوتًا يوقع ،ذلك
وما �شابه ذلك؛ فحاول �أن يطرد كل تلك القوى الظالمية الذباب ،يف �شباكه عندما يندفع مقرتبًا منه؟ ملاذا ال ميكن �أن
ال�شبحية من مملكة الفن الوا�ضح وال�شفاف ،من وجهة نعترب �شعور الف�ضول ،لدينا� ،شبيهًا بذلك ،هل ملجرد �أن تلك
نظره ،هذا على الرغم من ان�شغاله ومعا�رصيه بهذه كائنات �صغرية دقيقة؟ �إنني من خالل ت�أملي لها تو�صلت
أي�ضا(.)22
اجلوانب � ً �إىل متجيدك �أيها اخلالق العظيم الوهاب لكل الكائنات»(.)18
44 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
و«الغرابة» م�صطلح م�ستخدم بكرثة يف الفل�سفة ويف بعد حماولة هيجل تلك بنحو ثمانني عامً ا ،كتب فرويد مقا ًال
الكتابات التحليلية النف�سية والأ دبية ،و�أخريًا املعمارية مهمًّا حول الغريب بعنوان ،The uncannyظهر عام ،1919وهي
الآن .وقد و�صف هيدجر الغرابة ب�أنها ذلك «احليز كلمة وجدنا �صعوبة يف ترجمتها ترجمة دقيقة �إىل العربية،
املكاين الفارغ �أو اخلاوي الناجت من فقدان الإ ميان بل �إن فرويد نف�سه وجد �صعوبة كبرية يف �أن يجد املرادف
بال�صور املقد�سة .فالإ ن�سان العاجز عن الإ ميان يرتك الدقيق لها يف الأ ملانية ،فبحث �ضمن لغات غربية و�رشقية
الغريب :خربة غريبًا يف الفراغ والعدم»(.)23 عدة (من بينها العربية) عن املعنى املنا�سب ووجد �أن �أقرب
جمالية خميفة ووفقًا ملا جاء يف قامو�س �أوك�سفورد للغة االجنليزية ،ف�إن املعاين �إليها هو« :ظهور غري امل�ألوف �ضمن �إطار م�ألوف»،
�أول ت�سجيل للكلمة مبعنى «لي�س � آمنًا كي تتم الثقة فيه» أي�ضا «الغريب عن البيت»،وكذلك« :حتول وقال �إن من معانيها � ً
ال تتعلق مب�صادر قد ظهر عام ،1773ويف عام 1785كانت الكلمة تعني أي�ضا �إنها فئة جمالية موجودة امل�ألوف �إىل غريب» ،وقال � ً
واقعية حمددة، «املكان اخلطري وغري الآ من» .كما حدد لوي�س بورخ�س �أول تقع على �أطراف اجلليل ،وترتبط دون �شك باملخيف.
وهي لي�ست حالة ظهور لهذه الكلمة يف الق�صة والرواية يف عمل كتبه وليم لكن �أحا�سي�س الغرابة لي�ست هي تلك الأ حا�سي�س
عقلية خال�صة بيكفورد ي�سمى «فاتك» Vattek؛ حيث جاء فيه احلديث عن اخلا�صة بالرعب الهائل ،وال القلق املعتدل ،كما �أنها ال
ذلك «القوطى ال�رشقي الغريب» عام .1784وقد تكرر ظهور ترتبط بال�رضورة بال�سحر والهالو�س والت�صوف واخلربات
انفعالية ،بل امل�صطلح مرات عديدة خالل القرن التا�سع ع�رش لدى كتاب الباطنية اخلا�صة؛ فكل ما يت�صل مبا وراء الطبيعة لي�س،
يف املنزلة بني كثريين مرتبطً ا مبقابالت مع الظل �أو ال�شيطان ،وو�صفت بطبيعته ،غرائبيًّا ،بل قد يكون طبيعيًّا وعاديًّا وم�ألوفًا
املنزلتي؛ منزلة
نْ قلعة دراكيوال يف رواية «برام �ستوكر» املعروفة على ل�سان لدى كثريين� .إن الغرائبي غريب من حيث طبيعته ،ومن
العقل ومنزلة الراوي ب�أنها «قلعة غريبة ،بحيث �سيطر اخلوف علىَّ و�أخذ حيث الأ ماكن التي يظهر فيها ،وكذلك احلاالت التي
بتاليبي» .بل لقد ظهرت روايات بعد ذلك حتت عناوين مثل: يتجلى من خاللها ،ويكت�شف� ،أنه ي�شرتك مع كل الأ نواع
ال�شعور ،منزلة املنزل الغريب The uncanny Houseملارى بندرد Mary Pendared اخلا�صة باخلوف ،لكنه يت�سم «بال خ�صو�صية» �أو «ال
الت�صديق ،بفعل عام 1929وغريها(.)24 حتديد» معني يتعلق به.
الإ يهام الفني، وتقابل كلمة غريب uncannyيف الإ جنليزية ،كلمة etrangeteيف �إنه ،الغريب ،يرتبط بكل ما هو قيد لل�شك واال�ضطراب واخلوف
الفرن�سية ،ومن هنا كان عنوان رواية �ألبري كامي ال�شهرية واالرتياب ،وتنبع قوته من عدم قابليته للتف�سري الواحد� ،إنه
ومنزلة عدم «الغريب»؛ قا�صدًا �أن ي�شري -من خالل هذا العنوان � -إىل �إح�سا�س حملق بعدم الراحة �أو الطم�أنينة ،هكذا ت�شري كلمة
الت�صديق ،بفعل غرابة الأ �شخا�ص يف املكان ،وغرابة �سلوكهم فيه ،وغرابته uncannyيف الإ جنليزية� ،إىل حالة تتجاوز املعرفة املتعينة
غرابة الأ حداث، �شخ�صا
ً بالن�سبة �إليهم؛ حيث قتل مري�سو – بطل الق�صة – املحددة ،حالة �شبحية من الإ دراك والفهم وال�شعور ،حالة
وجمافاتها، � آخر غريبًا عنه وغريبًا عن فرن�سا ،يف اليوم الذي ماتت �أمه ترتبط بكل ما هو منذر باخلوف �أو اخلطر ،بكل ما يو�شك �أن
– �أم مري�سو -دون �سابق معرفة وثيقة بينهما ومن ثم كان أي�ضا.
يحدث دون �أن نعرف م�صدره املحدد ،وهو نوع جمايل � ً
للمنطق والعقل، �سلوكه مت�سمًا بالغرابة. هل نتذكر ما يحدث لنا حني نتابع �أحد �أفالم الرعب ،وت�ستثار
من خالل ي�شرتك الغريب يف كل تلك الأ نواع املتعلقة باخلوف، بداخلنا حالة من الرتقب والتوقع واالنتظار الذي نتجمد
غمو�ضها الغريب أي�ضا
يف كل خ�صائ�صها املميزة ،لكنه ،من خالل ذلك � ً خاللها يف مكاننا ،وقد نتوقف عن التنف�س م�ؤقتًا ونحن
وامللتب�س هذا. ي�شكل تلك الالخ�صو�صية املتعلقة به ،والتي هي بدورها نتوقع يف التو واللحظة ،حدوث جرمية مرعبة� ،أو ظهور �شبح
خ�صو�صية مميزة له ،خ�صو�صية تدعم من خالل تعدد �أو وح�ش خميف� ،أو م�صا�ص دماء� ،أو م�ستذئب قاتل� . .إلخ؟ �إن
الكلمات الدالة على هذا الغريب .ومن خالل ح�ضوره الغرائبي كما يتجلى هنا هو هذا الإ ح�سا�س ،اجلمايل ،وحيث
اخلا�ص يف لغات كثرية ،كما �أ�شار �إليها فرويد يف مقاله؛ هنا ،خربة جمالية دفينة ووا�ضحة ،غري مريحة ،وخربة نقي�ض
حيث ت�شري الكلمة يف اليونانية مث ًال �إىل «الغريب ما يحدث عندما ن�شاهد فيلمًا كوميديًّا �أو رومان�سيًّا� ،أو ننظر
الأ جنبي» عن البلد ،ويف الالتينية �إىل «املكان �إىل لوحة مثل «املوناليزا» مثالً.
الغريب» ،ويف لغات �أخرى كثرية رجع �إليها فرويد «الغريب» ،هنا ،خربة جمالية خميفة ال تتعلق
يرتبط امل�صطلح بكل ما هو خميف ومثري للرهبة ،ومبا مب�صادر واقعية حمددة ،وهي لي�ست حالة عقلية
أي�ضا(.)25
يتجاوز جمرد الإ ثارة للرعب امل�ؤقت � ً خال�صة انفعالية ،بل يف املنزلة بني املنزلتينْ ؛ منزلة
هكذا تنبع قوة هذه الكلمة وهذا املفهوم من عدم �إمكانية العقل ومنزلة ال�شعور ،منزلة الت�صديق ،بفعل الإ يهام
الت�أطري املحدودة له ،من كونه يتعلق بذلك الإ ح�سا�س املحلق الفني ،ومنزلة عدم الت�صديق ،بفعل غرابة الأ حداث،
املهوم الطليق بعدم الراحة ،دومنا حاجة �إىل الإ �شارة هنا وجمافاتها ،للمنطق والعقل ،من خالل غمو�ضها الغريب
� إىل م�صدر حمدد للخوف �أو الرعب؛ ولذلك ف�إن كلمة uncanny وامللتب�س هذا.
45 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
أي�ضا ،امليت يف احلي �أو احلي يف امليت ،الظاهر يف احلا�رض � ً يف الإ جنليزية تعني حرفيًّا :ما وراء املعرفة ،beyond kenوهذه
الباطن ،والباطن يف الظاهر ،املتجلي يف املختفي واملختفي، بدورها م�شتقة من كلمة cannyالتي تعني القدرة وامتالك
يف املتجلي؛ مما قد يعمل على تو�سيع احلدود اخلا�صة بكل املعرفة واملهارة .ولأ ن هذه الكلمة تتعلق باخلوف الطليق
مفردة يف هذه الثنائيات ،وكذلك تو�سيع احلدود وامل�سافات �أو املهموم �أو احلر ،دون املرتبط مب�صدر حمدد ،فهي ترتبط
أي�ضا ،ويظل ذلك احليزبينهما ،وغمو�ض خا�ص بهذه احلدود � ً كذلك – كما �أ�شار فرويد بكل ما هو منذر باخلوف ،كل ما
املكاين وال�سيكولوجي ،معلقًا ،ما بني املا�ضي واحلا�رض، يو�شك على الوقوع ،دون معرفة م�صدره احلقيقي ،كل ما
الواقع واملتخيل ،احل�ضور بو�صفه ال حمدودًا م�ستحي ًال مي�سك ميكن �أن يظهر فج�أة (كالأ �شباح مثالً) ،وهي كذلك نوع من
ب�أ�صابعه �أنامل الغياب ،وحيث تعمل حاالت التهيب والرهبة خوف ي�ستثار من خالل �أعمال فنية و�أدبية� . .إلخ ،ولي�س من
واخلوف والتوقع ،هنا ،على ا�ستح�ضار هذا البعد الغريب من خالل م�صادر واقعية� .إنها خربة جمالية خميفة ،ولكنها قد
�أبعاد اخلربة وحتويلها؛ فيكون حرًّا يف حركته ،وحركته لي�ست أي�ضا(.)26
تكون ممتعة � ً
�إرادية دائمًا ،وال واعية دائمًا� .إنه �شعور عقالنى يتحرك نحو بالطبع ال ميكن النظر �إىل ما قاله فرويد على �أنه
اال�ستك�شاف والفهم واال�ستيعاب واخلروج من تلك احلالة دقيق متامً ا ،وينبغي الت�سليم به هكذا؛ وذلك لأ ن اخلربة
امللتب�سة� ،إنه هنا �أ�شبه ب�أ�سلوب معريف ال يتعرف احلدود، اجلمالية املخيفة املمتعة ال ميكن �أن تكون هكذا مطلقة
ومن ثم ال يعرتف بذلك اجلانب من التفكري الذي يحدد معامل ونحن نتعر�ض لعمل جمايل حمدد ،فيلم مرعب مثالً� ،أو
تلك احلدود� .إنها خربة ال تكون موجودة داخل الذات فقط وال ق�صة من ق�ص�ص الأ �شباح .فنحن نعرف �أننا قد نخاف من
خارجها فقط ،بل جتمع بني االثنينْ ،الذات وخارجها ،معًا الأ حداث التي تقع يف هذا الفيلم ،وقد نغلق التليفزيون،
يف �أ�سلوب معريف واحد. وخا�صة عندما يعر�ض هذا الفيلم ليالً ،وقد يغادر البع�ض
الأ �سلوب املعريف كما يعرف يف علم النف�س هو طريقة منا قاعة ال�سينما� ،أو يطوي �صفحات الرواية املرعبة
املرء اخلا�صة يف احل�صول على املعلومات من العامل، ب�رسعة� . .إلخ� .إذن فامل�صدر هنا معروف ويتعلق بالعمل
أي�ضا،
ويف ت�شغيلها داخل املخ ،ثم التعبري عنها � ً أي�ضا ،هو تلكالفني املحدد ،لكن ما هو طليق �أو حر هنا � ً
ب�أ�ساليب �إبداعية� ،أو غري �إبداعية .والأ �سلوب املعريف احلالة العامة التي ي�ستثريها هذا العمل ،فنحن عندما
مكون يجمع بني االنفعال والتفكري والتعبري؛ ومن ثم ن�شاهد فيلمًا مرعبًا ي�ستثار لدينا الإ ح�سا�س باخلوف من
ف�إن الغرابة هنا مكون خا�ص يف �إدراك العامل ،ويف م�صادر متعددة ،كالأ حداث والأ زياء واملو�سيقى وال�ضوء
أي�ضا،
التفكري فيه ،ويف التعبري عن هذا الإ دراك والتفكريً � ، وطبيعة ال�شخ�صيات ومالحمها و�أ�صواتها ومكان
ب�أ�شكال غريبة. الأ حداث واملواقف� ...إلخ� ،أي من حالة عامة ،ولي�س من
لكن العن�رص الغالب على هذه اخلربة ،هنا ،هو ذلك االنفعال م�صدر واحد بعينه داخل هذا الفيلم املخيف ي�ستثري
املرتبط بالتهيب والوجل واخلوف و�أحيانًا الرعب ،واالنفعال بداخلنا �أفكارًا وم�شاعر �سبق كبتها كما �أ�شار فرويد.
الواقع يف براثن االلتبا�س ،وال�شك ،ومن ثم ي�أتى التفكري ذات مرة ،قال جورج لوكات�ش �إن الرواية ت�شبه �شبحً ا ما،
والتعبري ،بعد ذلك ،فيج�سد العمل الفنى – �أو التعبري -تلك �إنها ،يف جوهرها ،بال م�أوى خا�ص� ،إنها تظل هائمة على
الأ حوال االنفعالية واملعرفية التي خرب الفنان و�أدركها وجهها دومً ا؛ وذلك لأ نها ن�شاط خا�ص من �أن�شطة اخللق
وعاي�شها قبل �أن يج�سدها يف عمله. الفني الذي يولد يف زمن معني ،كما �أن �شكلها هو نوع من
وهكذا ف�إن الأ عمال الفنية ،جتريدية كانت �أو جت�سيدية، املعاجلة والأ داء الذاتي لذلك الإ طار اخلا�ص بالزمن الذي
�إمنا تقدم لنا احلا�رض اخلا�ص بالفن �أو الفنان �أو الواقع �أو أي�ضا � -أنظهرت فيه .وقدر الرواية -كما قال لوكات�ش � ً
الذاكرة ،موهمة لنا بح�ضوره �أمامنا ،يف حني �أنها تكون يعاد تف�سريها ،مرة بعد الأ خرى ،و�أن يعاد حتديدها ،مرة بعد
أي�ضا ،ذلكقد غابت عنا مثلما تكون قد غابت عن الفنان � ً الأ خرى ،و�أن يعاد �إبداعها ،مرة بعد الأ خرى ،وذلك عندما
الذي حاول �أن مي�سك بها قبل �أن تغيب ،كما قال بودلري، ال ت�صبح مالئمة� ،أو يكون معناها مل يعد يعك�س التغريات
وحاول �أن يقدمها لنا بو�صفها حلظات �أو جت�سيدات �أخرى، االجتماعية والثقافية اجلارية� ،أو �أنه �أ�صبح غريبًا ،ولعل هذا
معرو�ضة هنا� ،أمامنا ،كحالة ما من حاالت احل�ضور ،لكنه أي�ضا – كما قال لوكات�ش -الذي جعل امللحمة هو ال�سبب � ً
احل�ضور الذي ي�شبه الغياب� ،أو على الأ قل ي�شى به .هكذا تكون تختفي وتخلي مكانها ل�شكل جديد هو الرواية(.)27
اللوحات م�سكونة بالغياب ،ب�شيء يجيء من املا�ضي� ،أو من أي�ضا ،ذلك ال�شعور هكذا يحتوي الغريب ،ويت�ضمن ،وي�ستثريً � ،
امل�ستقبل ،ما�ضي الفنان �أو احلياة� ،أو عامل الفن �أو م�ستقبل بالتنبه واالهتمام والت�شويق والتوقع ،وكل تلك اخلربات
أي�ضا ،وهنا يكون ح�ضور تلك احلاالت ح�ضورًا ذلك كلهً � ، اخلا�صة بح�ضور املمكن واملحتمل وامل�ستحيل ،ح�ضور
�شبحيًّا ،ح�ضورًا ميزج ما بني الواقع واملتخيل ،واحلا�رض، املا�ضي يف احلا�رض ،وتوقع خا�ص للم�ستقبل وامل�ستقبل يف
46 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
فهو «�إذا ذكر احلق هجر و�إذا دعا �إىل احلق زجر» ...الغريب يف والغائب ،والتجلى واخلفاء ،وحتى لو كان هذا اخلفاء متعلقًا
اجلملة «كله حرقة ،وبع�ضه فرقة ،وليله �أ�سف ،ونهاره لهف، أي�ضا بامل�ستقبل ،ف�إنه يكون امل�ستقبل يف �ضوء املا�ضي � ً
وغذا�ؤه حزن ،وع�شا�ؤه �شجن ،وخوفه وطن»(.)29 واحلا�رض� ،أي يف �ضوء ما�ضيه اخلا�ص ،ذلك الغائب احلا�رض
والغريب «من هو يف غربته غريب ،بل الغريب من لي�س ()28
أي�ضا.
� ً
له ن�سيب ،بل الغريب من لي�س له من احلق ن�صيب». هكذا قد تك�شف الغرابة يف الفن عن احل�ضور ،احل�ضور
�أغرب الغرباء هو أي�ضا «من غربت �شم�س جماله ،واغرتب يف والغريب � ً اخلا�ص ل آلثار والبقايا اخلا�صة باملا�ضي يف احلا�رض،
الغريب يف وطنه، �أقواله و�أفعاله ،وغرب يف �إدباره و�إقباله ،وا�ستغرب يف والآخر يف الذات ،وهي توحى ،كذلك مبناخ عام ما،
يكون و�سط النا�س طمره و�رسباله ،و�أغرب الغرباء من �صار غريبا يف وطنه، مناخٍ يرتكز حول ح�ضور ما ،وحالة حا�رضة تكون
وال يندمج معهم، و�أبعد البعداء من كان بعيدا يف حمل قربه»(.)30 موجودة على نحو قلق غري م�ستقر بني الزمان واملكان،
أي�ضا «�إن ظهر ظهر ذليال ،و�إن توارى توارى عليالً».الغريب � ً بني املادي والالمادي ،الواقعى وغري الواقعى ،يعاي�شها
يظل غريبا عنهم ويت�سائل �أبو حيان التوحيدي� :أما �سمعت القائل (املتنبي) �إح�سا�س ما بالعامل وك�أن الأ لفة قد غادرته ،و�أنه قد
ويظلون غرباء حني قال: �أ�صبح غريبًا ،ورمبا كئيبًا ،و�أننا قد �أ�صبحنا غرباء
عنهم؛ حيث مب التعلل ال �أهل وال وطن عنه� ،أو ال ننتمى �إليه؛ مما يذكرنا بعجزنا عن �أن نكون
وال ندمي وال ك�أ�س وال �سكن حا�رضين مع الآخرين �أو من خاللهم� ،إنه ح�ضور الغياب
تتحول الغربة وغياب احل�ضور ،غياب احل�ضور الذي ي�ستبدل بح�ضور
أي�ضا «يد الغريب ق�صرية»« ،ول�سانه �أبدًا كليل»ي�ؤكد كذلك � ً
لديه � إىل وطن وينتهي التوحيدي من ر�سالته و�شكواه قائال لنف�سه وللإ ن�سان املرء وحياته غيابه وموته ،ذاته املوجودة يف املا�ضي
ثانٍ ،لكنه وطن ال عامة �« :أنت الغريب يف معناك» �أي �أنت الغريب يف وطنك، القريب� ،أو البعيد ،وامل�ستقبل الذي قد تكون موجودة
ميل
يكفيه وال أ الغريب يف حياتك ،الغريب يف وجودك ،الغريب يف مبتداك أي�ضا.
فيه � ً
كيانه ،ومن ثم وخربك� ،أنت الغريب يف معناك. املفاهيم ال�شقيقة للغرابة
ويف درا�سته املهمة حول «االغرتاب» ،ينتهي حممود رجب
فهو «يف غربته مثلما الغرابة حالة متداخلة بني حاالت ،حالة حدودية،
�إىل �أن الغريب عند التوحيدي هو ذلك الإ ن�سان ال�شقى الذي �أو بينية ،تقع ما بني انفعاالت اخلوف والرهبة والت�شويق
غريب وعن غربته ينطق و�صفه باملحنة بعد املحنة ،والذي يعي�ش هذا العامل وحب اال�ستطالع واملتعة وغريها ،ومثلما هي حالة معرفية
غريب ،يظل يف ب�شعور االقتالع ،ال يقوى على اال�ستيطان يف وطن ،و�إن وجدانية توجد يف منطقة التداخل بني جمموعة من العمليات
غربة دائمةً .وهنا �أغرب الغرباء هو الغريب يف وطنه ،يكون و�سط النا�س وال املعرفية والوجدانية املتداخلة كالتذكر والتخيل والتوهم
يندمج معهم ،يظل غريبا عنهم ويظلون غرباء عنهم؛ حيث والإ دراك والفقدان لليقني وااللتبا�س واالنفعال ،فكذلك
يقرتب التوحيدي تتحول الغربة لديه �إىل وطن ثانٍ ،لكنه وطن ال يكفيه وال ميلأ حال الغرابة ،كم�صطلح� ،إنه يقع �ضمن �شبكة من املفاهيم
� إىل حد ما من كيانه ،ومن ثم فهو «يف غربته غريب وعن غربته غريب ،يظل املعرفية امل�شتبكة امل�شرتكة لعل من �أهمها :الغربة واالغرتاب
املعنى اخلا�ص يف غربة دائمةً .وهنا يقرتب التوحيدي �إىل حد ما من املعنى والتغريب واال�ستغراب .وفيما يلي حماولة لف�ض بع�ض ذلك
بالغرابة لدى اخلا�ص بالغرابة لدى هيدجر؛ وحيث وجود الإ ن�سان ،يف بيته اال�شتباك بني هذه املفاهيم.
ووطنه ،ويف هذا العامل ،وجود يف جوهره ،غريب(.)31
هيدجر؛ وحيث تكاد تكون حماولة التوحيدي هذه للحديث عن الغربة، -1الغربــة Starngement
وجود الإن�سان ،يف حماولة وحيدة ،هنا حديث عن غربة الإ ن�سان يف الزمان يف «الإ �شارات الإ لهية» لأ بي حيان التوحيدي يتحدث ذلك
بيته ووطنه ،ويف واملكان وقد كان التوحيدي يتحدث عن حالة ،وغريبة على املفكر العظيم عن الغريب الذي ن�أي عن وطن بني باملاء
هذا العامل ،وجود نحو خا�ص. والطني وبعد عن �أحباب له ،هذا غريب عادي ،ميكنه �أن يعود
يف تاريخ الفكر االجتماعي الغربي ،ثمة عامل اهتم كثريا �إىل وطنه �إن �شاء ،على الرغم من �أنه �أحيانًا ما يكون غريبًا
يف جوهره، مبو�ضوع الغربة وكتب درا�سة مهمة حول «الغريب» وكان ال �سبيل له �إىل الأ وطان ،وال طاقة به على اال�ستيطان»� .أما
غريب. هو جورج �سيميل عامل االجتماع الأ ملاين ()1918-1858 «�أغرب الغرباء» فهو -كما يرى التوحيدي -ذلك «الذي
فيما يلي مقاربة لتلك املحاولة. طالت غربته يف وطنه» وقل حظه من احلبيب وال�سكن ،ال يجد
طريقًا �إىل وطنه�« ،إن ح�رض غاب و�إن غاب كان حا�رضًا»
جورج �سيميل وعمل الغريب
ولدى التوحيدي «�أغرب الغرباء من �صار غريبًا يف وطنه،
ظهر املقال املهم حول عمل الغريب جلورج �سيميل ،G. Simmel و�أبعد البعداء من كان قريبًا يف حمل قربه «�أغرب الغرباء
�أوالً ،كحا�شية على مقال كبري له عام ،1908وكان عنوانه» أي�ضا حني يكون يف وطنه يتم جتاهله من �أهله� ،إذا �أقبل مل � ً
املكان والتنظيم املكاين للمجتمع» ،ثم ظهر كمقال م�ستقل يرحبوا به و�إذا ابتعد مل ي�س�ألوا عنه ،و�إذا حتدث مل ي�سمعوا له،
47 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
عندما ي�صل الغريب ،يكون خارج نظام العالقات االجتماعية، بعد ذلك ،خالل العام نف�سه ،وقد كتب �سيميل �أعما ًال مهمة
ويفر�ض ح�ضوره ،كذلك ،عددًا من امل�شكالت على النظام �أخرى مثل «فل�سفة املال» و�شبكة عالقات القرابة» واملدينة
املوجود ،وقد تتغري اجلماعة كي ت�ستدمج داخلها الغريب، واحلياة العقلية وغريها ،كما كان له ت�أثريه البالغ يف
وتكون هناك بع�ض النتائج املرتتبة على هذا التغري؛ حيث مدر�سة �شيكاغو الأ مريكية يف علم االجتماع التي ازدهرت ما
تكون هناك توقعات خا�صة من اجلماعة ،و�شكوكً ا ،فيما بني عامي 1935و .1951وقد اهتمت بعلم اجتماع املدنية، �أمّ ا جورج �سيميل
يتعلق بال�سلوكيات اخلا�صة بالغرباء واملهاجرين ،الذين قد قامت كذلك بتطوير املنحى الرمزي التفاعلي يف درا�سة فقد ات�سع تعريفه
ميثلهم بعد ذلك بطرائق معينة. الفنيات والظواهر االجتماعية وقد خلط بع�ض �أبرز علمائها،
�إن ما اهتم به �سيميل ،بوجه خا�ص ،كان هو الغريب وخا�صة روبرت بارك ،بني مفهوم الغريب عند �سيميل للغريب فلم يعد
الذي يف�شل يف �أن ي�صبح ع�ضوًا م�شاركً ا ب�شكل كامل ومفهوم «الإ ن�سان الهام�شي» كما طوره بارك نف�سه و� آخرون هو ذلك ال�شخ�ص
يف اجلماعة ،وقد قال �إن هذا الف�شل قد يحدث لأ �سباب أي�ضا ،يوجد يف بعد ذلك ،ذلك الإ ن�سان الذي يكون غريبًا» � ً الذي ي�أتي اليوم
ثالثة هى :مو�ضوعية الغريب ،والنق�ص املتعلق بعدم عاملينْ وال ينتمي �إىل �أحدهما على نحو حمدد ،عامل الداخل ويذهب غدًا،
امتالكه �شيئًا ما من ممتلكات اجلماعة ،وثالثًا �شعوره وعامل اخلارج ،عامل اجلماعة الأ وىل ،وعامل اجلماعة الثانية؛
اخلا�ص بالغربة. حيث يعاين اال�ضطراب الروحي ،ويت�سم بالوعي ال�شديد ويكون بل الذي ي�أتى
وقد كان �سيميل يق�صد باملو�ضوعية �أن الغريب ،كوافد على غري م�ستقر انفعاليًّا ،لكن العامل احلا�سم هنا ،هو �أن الإ ن�سان وقد ال يذهب
اجلماعة ،يقرتب من نزعاتها وميولها �أو �سلوكياتها اخلا�صة الهام�شي قد يكون ع�ضوًا �أ�صي ًال يف اجلماعة ،انتمى �إليها من غدًا ،هو � إمكانية
والفريدة باجتاه �أو وعي يت�سم باملو�ضوعية؛ ذلك لأ نه قبل ،لكنه ،م�ستبعد منها ،يعي�ش على �أطرافها ،يحيا حياة �أقل
لي�ست لديه جذور م�شرتكة تربطه بها .وبذلك ال تكون هناك قيمة ورفاهية ،بينما الغريب لدى �سيميل ،هو «�شخ�ص ي�أتي
للبقاء و� إمكانية
م�شاركة فعالة ،بل مو�ضوعية ما ،مبعنى �أنه قد يحاول �أن اليوم وقد ال يذهب غداً» ،تتم ا�ست�ضافته لكنه يبقى مو�ضعا للذهاب ،حالة
يفهم طبيعة هذه اجلماعة من م�سافة ،عن بعد ،هو يقرتب للمقارنة واالختالف. ما بني الإقامة
منها فعالً ،لكن اقرتابه يكون حذرًا ،ويكون �سلوكه مزيجً ا ويك�شف ال�شكل االجتماعي للغريب عن ولع �سيميل والرحيل ،لكنه ال
من البعد والقرب ،الالمباالة ،واالهتمام .وعلى هذا النحو، الكبري باملفارقة امل�ؤكدة للتناق�ضات واختالط الأ �ضداد
قد يكون هذا معربًا عن نوع من احلرية ،احلرية يف الإ دراك يف احلياة االجتماعية؛ فدائمًا ما يكون الب�رش مهتمني
يتمتع ال بحرية
والفهم والتقييم والبعد عن التحيز الذي تفر�ضه ع�ضوية بدخول �شخ�ص جديد �إىل جماعتهم ،وكثريًا ما يجلب الإقامة ،وال
الفرد العميقة يف اجلماعة .هنا قد يعالج الغريب خرباته الغريب معه احتمالية ما للتغري ،وقد يكون هذا التغري بحرية الرحيل؛
وعالقاته ،مع اجلماعة ،بنوع من الو�ضوح واملو�ضوعية .وقد مهددًا للجماعة .وما مل تكن هذه اجلماعة� ،أو تلك ،مت�أكدة وذلك لأ نه يكون
�رضب �سيميل مثا ًال هنا ،به�ؤالء الق�ضاة الذين كانت املدن من قدرتها على التعامل املنا�سب خالل مواجهتها مع
الإ يطالية يف املا�ضي ت�ستدعيهم حل�سم بع�ض الق�ضايا داخل الغريب ،وما مل تكن معدة �أو جمهزة ،فعالً ،للتعامل له مو�ضعه املحدد
الأ �رس واجلماعات. مع املظاهر املتعلقة باحتماالت التغري ،فقد تعود تلك اخلا�ص يف نطاق
هكذا ف�إن الغريب على الرغم من �أنه قد يقيم عالقات اجلماعة وتنك�ص على عقبيْها يف اجتاه تلك املعايري اجلماعة ،لكنه ال
طيبة وقريبة مع اجلماعة ف�إنه �سيظل ينظر �إليه ،كغريب، غري املرنة والتقليدية اخلا�صة بها. يكون منتميًا � إليها
يف �أعني الآخرين� .إنه لن يكون مالكًا لأ ي �أر�ض �صلبة والغريب هنا هو� :شخ�ص ال يعرفه �أحد ،قادم جديد يف مكان
فيها ،كما قال �سيميل باملعنى املادي وكذلك الت�صورى. ما ،واحد ،من خارج اجلماعة� ،شخ�ص لي�س ع�ضوًا يف عائلة، على نحو حمدد،
هكذا يكون الغريب حرًّا ،ومتحركً ا ،ال روابط ،ال قرابات، �أو جماعة� ،أو جمتمع . .لكن هذا هو التعريف القامو�سى � إنه �شخ�ص على
ال ممتلكات ،مع �أي جماعة خا�صة؛ لكنه وب�سبب عدم للغريب� ،أما جورج �سيميل فقد ات�سع تعريفه للغريب فلم يعد حدود اجلماعة،
وجود روابط دائمة معها ،يظل غريبًا ،وتزداد هذه الغربة هو ذلك ال�شخ�ص الذي ي�أتي اليوم ويذهب غدًا ،بل الذي ي�أتى على هام�ش
ب�سبب وجود ذلك الإ ح�سا�س الدائم بها حول نف�سه يف وقد ال يذهب غدًا ،هو �إمكانية للبقاء و�إمكانية للذهاب ،حالة
عالقته باجلماعة. ما بني الإ قامة والرحيل ،لكنه ال يتمتع ال بحرية الإ قامة ،وال اجلماعة ،ال ينتمي
مع تزايد �ألفة الغريب مبعايري اجلماعة امل�ضيفة له ،يفرت�ض بحرية الرحيل؛ وذلك لأ نه يكون له مو�ضعه املحدد اخلا�ص � إليها على الرغم
�أنه �سي�شعر بزيادة التقارب بينهما ،لكن ما يحدث هو العك�س؛ يف نطاق اجلماعة ،لكنه ال يكون منتميًا �إليها على نحو من وجوده معها
وذلك لأ نه مع تزايد ت�شابهه مع اجلماعة امل�ست�ضيفة له ،ف�إنه حمدد� ،إنه �شخ�ص على حدود اجلماعة ،على هام�ش اجلماعة،
�سيظل ي�شعر �أكرث ب�أنه وافد عليها ،خارجى بالن�سبة �إليها ،ال ال ينتمي �إليها على الرغم من وجوده معها ،وقد ي�ستورد
ينتمى �إليها؛ �إذ �أن �ألفته مبن وفد عليهم وبطرائقهم يف احلياة �سلوكيات وخ�صائ�ص و�سلعًا ال تنتمي �إىل اجلماعة �أو ال تقوم
متيل �إىل �أن جتعله بعيدًا عن تقريب تلك الفجوة التي كانت ب�إنتاجها ويدخلها �إليها.
48 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حياة اجلماعة ،فحتى لو �أمكن تقبل الغريب داخل اجلماعة، تف�صل بينهما.
أي�ضا بالن�سبة �إليها ،وبالن�سبة �إىل نف�سه،
ف�إنه �سيظل غريبًا � ً مبعنى �آخر ،ف�إنه مع تزايد �ألفة الغريب ب�أ�ساليب حياة
�إنه يظل كذلك ،غريب الداخل an inside –outsiderوع�ضوًا يف اجلماعة ،ف�إن جانبًا من ذاته� ،سيبد�أ يف املقارنة بني
أي�ضا.
جماعة خارجية غريبة عنه � ً جماعته القدمية� ،أو �إطاره املرجعى ال�سابق ،وبني الإ طار
هكذا يك�شف مفهوم «الغريب» لدى جورج �سيميل عن ثنائية اخلا�ص باجلماعة اجلديدة ،و�سيبد�أ يف املقارنة ،كذلك،
جتمع بني حرية الغريب يف التجول ،واحلركة يف املكان ،من بني كيفية حل جماعته القدمية بع�ض امل�شكالت ،وبني
ناحية ،وبني حتديد هذه احلركة وتثبيتها عند نقطة معينة ال كيفية تعامل اجلماعة اجلديدة معها؛ عندها �سيبد�أ
ي�سمح له بتجاوزها؛ من ناحية �أخرى ،هي حرية وال حرية، يف النظر �إىل نف�سه كغريب؛ فهو «بو�صفه ع�ضوًا يف
حرية مقيدة ،حرية منقو�صة .ومن ثم ،ف�إن كان ذلك املفهوم اجلماعة» ،قريب وبعيد يف الوقت نف�سه؛ حيث هناك
أي�ضا ،مثلما �صار مفهوم الغرابة لدى لديه مفهومً ا مزدوجً ا � ً جوانب م�شرتكة ،بينه وبينها ،تقوم على �أ�سا�س الفهم
أي�ضا ،يجمع بني الأ لفة .وعدم الأ لفة
فرويد ،مفهومً ا مزدوجً ا � ً الإ ن�سانى امل�شرتك العام ،ولكن فيما يتعلق بقربه من
ت�أثر فرويد أي�ضا يجمع بني عدم الأ لفة يف بداية قدومه هنا الغريب � ً هذه اجلماعة وبعده عنها ،تن� أش� توترات معينـه ال تكون
�إىل املكان ،والأ لفة ،مع ا�ستمرار وجوده فيه ،ولكنه ،على م�شرتكة.
بفكرة �سيميل أي�ضا بني �أ�صحاب املكان الرغم من هذه الأ لفة ،يظل غريبًا � ً أي�ضا �إنه عندما تواجه جماعة ما غريبًا، وقد قيل هنا � ً
هنا عن الغرابة، الأ �صليني� .إنه متجول بالقوة ،ولي�س مقيمًا بالفعل ،وفقًا أي�ضا بالغرابة اخلا�صة بها ،بالن�سبة �إليه� ،أي
ف�إنها تواجهه � ً
على الرغم من مل�صطلحات �أر�سطو ،حالة جتول قائمة هنا يف كل حلظة �إذ معتقداتهم و�أفكارهم وتوقعاتهم التي تختلف عن «الآ خرين»
اختالف املنطلق مل يتغلب بعد على حريته يف املجيء والذهاب ،فيجمع دائمًا الذين ينتمي �إليهم هذا الغريب؛ وك�أن الغرابة هنا ،جزء طبيعي
بني القرب والبعد ،الإ قامة والرحيل ،احل�ضور والغياب. من فكرة الذات والهوية ،فمثلما نكون مت�شابهني وخمتلفني
اخلا�ص بكل منهما أي�ضا ،مثل الفقراء واملهم�شني والغرباء ،وفقًا ل�سيميل � ً أي�ضا فيما بيننا ،نكون كذلك على نحو ما �أكرث ت�شابهًا � ً
بحكم املنطلقات هم �أعداء الداخل ،عن�رص موجود داخل اجلماعة بالن�سبة �إىل الآ خرين املختلفني عنا� ،أو يف مواجهتهم ،ومن
املختلفة لكل وخارجها ،يف الوقت نف�سه .وقد �رضب هذا العامل بحكم ثم نظل غرباء عنهم وهم غرباء عنا .وعندما يتزايد ال�شعور
منهما ،هذا �سيميل توجهه ال�سو�سيولوجى� ،أمثلة من جمال التجارة ،الذين باالختالف ،ف�إن �أع�ضاء جماعة ما ،ومن �أجل احلفاظ على
يف رحالتهم خا�صة ما كان يفعله التجار اليهود يف �شعورهم بالت�شابه والهوية اجلماعية امل�شرتكة ،قد مييلون -
ب�سبب توجهه �أوروبا ،يف املا�ضي ،حيث كانوا ،كما قال ،يح�رضون �إىل على نحو مبا�رش � -إىل ر�ؤية -من هو خارج اجلماعة -على
االجتماعي ،وذاك، بع�ض البلدان ويقيمون فيها فرتة (يقرتبون) ويبيعون �أنه غريب ،خمتلف� ،صورة �سلبية من الذات اجلماعية ،وت�ؤدي
فرويد ،بحكم وي�شرتون ،ثم يغادرونها (يبتعدون) لفرتة ،ثم يعودون. مثل تلك املواجهات مع الغريب �إىل تكوين �أفكار و�صور
توجهه التحليلي رمبا ت�أثر فرويد بفكرة �سيميل هنا عن الغرابة ،على الرغم من منطية ،جامدة عنه� ،إ�ضافة �إىل تولد م�شاعر ال�شك جتاهه،
اختالف املنطلق اخلا�ص بكل منهما؛ فالغريب لدى �سيميل وقد يتحول ال�شك �إىل خوف وجتنب ،وقد تتحول غربته هذه
النف�سي وغري م�ألوف ي�صبح م�ألوفًا ثم يغيب فرتة ليعود ،يحدث �إىل غرابة ،وذلك من خالل النظر �إليه على �أنه م�ألوف وغري
هذا على امل�ستوى املكاين ،وعلى م�ستوى التفاعل بني فرد م�ألوف ،معروف وغام�ض ،قريب وبعيد.
وجماعة� ،أو جماعة وجماعة �أخرى ،وخالل ذلك كله ،ينقل هكذا يك�شف مفهوم الغرابة االجتماعية لدى جورج
�إليها قيمه و�أفكاره و�سلعه ،وي�ؤثر فيها وتت�أثر به .كذلك فكرة �سيميل عن الطريقة التي حتدد من خاللها جماعة
الغرابة لدى فرويد ،هي فكرة �أو �صورة �أو انفعال م�ألوف عن معينة اجلماعات الأ خرى ،فالغربة لي�ست متعلقة،
�شيء م�ألوف ،مَّ ربه الفرد يف طفولته �أو اجلماعة الب�رشية يف أي�ضا باجلماعات الغريبة هنا ،بفرد غريب فقط ،بل � ً
ما�ضيها (كان م�ألوفًا) ثم غاب �أو اختفي (مت كبته) ف�أ�صبح الأ خرى ،اجلماعات الوافدة والأ فكار الوافدة ،و�أ�ساليب
غري م�ألوف ،ثم عاد مرة �أخرى (كم�ألوف وغري م�ألوف) يف احلياة الوافدة ،وقد تتغلب هذه الأ فكار والأ �ساليب على
�سياق غريب ،و�إنه يف وجوده ،وغيابه ،هناك� ،شك ما ،يتعلق مثيالتها لدى جماعة معينة ،لأ �سباب عديدة ،فتتقبلها
به ،وتخوف ما يحيط به .كما �أن حركة ظهور الغريب لدى وت�صبح هي ال�سائدة لدى اجلماعة الأ �صلية كما يف
�سيميل وغيابه ،ح�ضوره واختفاءه ،مثل الغرابة لدى فرويد، تقبل �أ�ساليب و�أ�شكال �سلوكية جديدة ،يف البيع وال�رشاء
�أمر يتكرر دائمًا ،رمبا لدى ال�شخ�ص نف�سه .وعرب الأ �شخا�ص، واملالب�س والأ زياء وغريها .هنا قد ي�صح لنا �أن نقول
وال يتوقف �أبدًا. �إن هذه اجلماعة قد �أ�صبحت بفعل ذلك الغريب ،غريبة،
وهكذا ف�إن ال�شكل العام� ،أو البنية العامة ،للفكرة ،هنا، أي�ضا ،حتى عن نف�سها.� ً
واحدة تقريبًا ،لدى �سميل وفرويد ،لكن مع اختالف بينهما وللغريب كذلك ،قدرته على �إثارة اال�ضطراب يف كل �شيء يف
49 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الطريق لظهور م�صطلح االغرتاب لديه؛ حيث ترد كلمة غريب يف املحتويات والتفا�صيل ،بحكم املنطلقات املختلفة
لو�صف �أو ت�سمية هذا الوجود � -أو املوجود -الذي «ينتقل» لكل منهما ،هذا �سيميل ب�سبب توجهه االجتماعي ،وذاك،
�إليه الإ ن�سان «�أو ي�ضع» فيه �أو «ي�سقط» عليه �شيئًا من قدراته فرويد ،بحكم توجهه التحليلي النف�سي ،فالغربة ،لدى
و�صفاته ،وعملية النقل �أو الو�ضع �أو الإ �سقاط خارج الذات، �سيميل� ،إمكانية موجودة دائمًا ،هنا وهناك يف احلياة،
هي نف�سها «الفكرة» التي �سوف يطلق عليها بعد ذلك ا�سم وحتى لو ن�سيناها ،كما قال ،ف�إنها «تلقى بظاللها،
االغرتاب ،والذي يتجلى يف هذا املوجود «الغريب» الذي فج�أة ،بيننا ،وتكون ،تلك الظالل� ،أ�شبه بال�ضباب ،الذي
هو من خلق الإ ن�سان و�إبداعه ،والذي يتحول في�صري وك�أنه ال ن�ستطيع و�صفه بالكلمات»(.)32
اخلالق .واالغرتاب بهذا املعنى اجلديل امليتافيزيقي ،لي�س ميكننا �أن ن�ستفيد مبفهوم الغربة لدى �سيميل هنا يف تف�سري
�أمرًا �أبديًّا �أزليًّا؛ لأ نه ين� أش� يف �أو�ضاع تاريخية تتميز �أ�سا�سً ا كل ما يتعلق مبا ن�سميه الآ ن باجلماعات واملناطق الع�شوائية
بالتمزق وال�شقاء والعبودية»(.)33 يف م�رص ،ه�ؤالء الغرباء ن�سبيًا الذين يعي�شون على �أطراف
ويرتبط املعنى اخلا�ص باالغرتاب هنا ،كذلك ،باال�ستالب، املدن �أو حتى يف داخلها ،كما ميكننا اال�ستفادة به يف تف�سري
وفقدان الإ ن�سان لذاته �أو �ضياعها يف ظل حتكم خا�ص �أحوال امل�رصيني �أو غريهم يف بالد الغربة ،وكذلك ما حل
لل�سلطة املهيمنة� ،أو اغرتابه عن ذاته بفعل عمليات بالنا�س ،الآ ن ،ف�أ�صبحوا غرباء حتى يف �أوطانهم وقل الأ مر
امليكنة �أو الآلية ،وذلك حني يجد �أن الآالت والكائنات نف�سه عن كل من هو هام�شي يف هذا العامل.
وي�سيها ،هي رِّ والأ فكار التي ابتكرها كي ي�سيطر عليها الغربة هنا ،نقي�ض ذلك ال�شعور بالتماثل والتناغم والتقارب،
التي �أ�صبحت ت�سيطر عليه وت�سيرّ ه ،وهذا هو املعنى الغربة ،هنا لي�ست ،خا�صة ،بفرد ،بل قد تكون منطا ،عاما،
اخلا�ص باالغرتاب التكنولوجي واالقت�صادي عند هيجل يف احلياة وال�سلوك والتفكري وهي قد تكون املدخل الأ �سا�سي
أي�ضا �إىل جمال الفن؛ حيث ومارك�س ،لكنه معنى ميتد � ً حلدوث االغرتاب.
الكائنات الآلية املوجودة يف ال�سينما الآن كال�سيبورج -2االغرتاب Alienation
مثالً ،ذلك الكائن املخلق من �إن�سان و�آلة (كما يف فيلم يف مناق�شة هيجل لفكرة «روح ال�شعب» ،كان ال�شعب عنده
Terminatorمث ًال �أو غريه) والذي �صنعه الإ ن�سان خلدمة جت�سيدًا عينيًّا للروح؛ وذلك لأ نه حينما تتج�سد الروح ،وت�صري
�أغرا�ضه ي�صبح هو امل�سيطر واحلاكم والأ مر �صحيح ظاهرة متجلية يف التاريخ على هيئة ظروف اجتماعية
يف حالة فرنك�شتني وغريه من الكائنات املخلقة بل و�سيا�سية واقت�صادية� . .إلخ ،ف�إنها ت�ؤلف «عندئذ» م�صري
والأ عمال الفنية كما يف �أ�سطورة «بيجماليون» مث ًال ال�شعب .وعند مناق�شته روح امل�سيحية وم�صريها ،ناق�ش تاريخ
أي�ضا.
� ً ال�شعب اليهودي من خالل حياة النبي �إبراهيم :وانف�صاله عن
أي�ضا مب�صطلح نحن نعتقد �أن لهذا امل�صطلح �صلته العميقة � ً �أ�رسته ووطنه ،وغربته عن كل ال�شعوب التي مر بها ،وكيف
الإ �سقاط؛ وذلك لأ ن الإ �سقاط �إمنا ينطوي على نوع من كان ذلك كله من �أجل �أن يعود �إىل الذات واال�ستقالل .وروح
التج�سيد لأ فكارنا وت�صوراتنا وانفعاالتنا على �شيء خارجى، �إبراهيم هذه كما يقول هيجل هي م�صري ال�شعب اليهودي
�شيء ،من خالله ،نرى �أنف�سنا ،كما هو حال حائط دافن�شي، وقوامه الذي يتمثل يف فقدان ال�صلة احلية ،التي ي�صنعها
وكائنات ،يج�سدها،
ٍ والذي عليه يرى الفنان �أ�شكا ًال و�صورًا احلب ،بني الإ ن�سان والعامل ،بني الإ ن�سان والآ خرين ،بني
بعد ذلك ،يف �أعماله ،هنا يكون احلائط يف البداية و�سيلة الإ ن�سان واهلل .فالعامل ي�صبح جمرد �أ�شياء جامدة بال حياة
نبتكرها نحن ونغذيها ونطورها بالأ فكار وال�صور ،و�سيلة ال وال روح ،تمُ ْتلك للمتعة �أو للمنفعة �أو ل�ضمان الأ من ،وحيث
قيمة لها يف ذاتها� ،إال �أن تكون مثرية لل�صور والأ خيلة لدينا، الآ خرون هم �أعداء ،ينبغي احلذر منهم �أو ا�ستخدامهم لتحقيق
لكن هذه الو�سيلة قد ت�صبح ،بعد ذلك ،هي الهدف واملحفز النفع ،ويكون اهلل ،هكذا ،يف �ضوء الت�صور اليهودي ،غريبًا
الذي ال ن�ستطيع العمل �إال من خالله ك�ش�أن كل املعينات التي عن العامل ،منف�صالً ،متعاليًا متامً ا عن العامل والإ ن�سان،
يلج أ� �إليها بع�ض الفنانني كاملو�سيقى الهادئة والتدخني �أو ال تربطه بالعامل والطبيعة �إال �صلة التحكم وال�سيطرة ،وال
حتى املخدرات. عالقة تربطه بالإ ن�سان �إال عالقة ال�سيد بالعبد.
كما �أن العمل الفني عندما ينجز قد يتحول ،كذلك� ،إىل �شيء ويقول هيجل ،كذلك� ،إن امل�سيحية هي التي كافحت �ضد روح
غريب عن الفنان� ،شيء ال ينتمي �إليه بقدر انتمائه �إىل العبودية والتملك واالنف�صال املوجودة يف اليهودية ،و�إن
الآ خرين .ومثلما كان مفهوم العمل عند هيجل ينطوي على ال�سيد امل�سيح قد جاء ليقيم االن�سجام بني النا�س واحلياة من
جانب �إيجابي يتمثل يف حتول العامل من كائن فرد �إىل فرد خالل احلب .وقد ا�ستخدم هيجل كثريًا يف «روح امل�سيحية»
أي�ضا يتمثل يف انف�صال العمل عن اجتماعي ،وجانب �سلبى � ً وم�صريها» وما بعدها من كتابات كلمة «غريب» على نحو
�صاحبه؛ �إىل حد �أنه قد ي�صبح قوة م�ضادة له ت�سلبه ذاته متزايد مقارنة بكتاباته ال�سابقة ،و�إن هذه الكلمة قد مهدت
50 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تول�ستوي لعملية جلد العبيد بال�سوط يف القرن التا�سع عندما ي�صبح عبدًا لهذا العمل ولأ �صحابه فكذلك قد ينطوي
ع�رش؛ حيث ا�ستنكر تول�ستوي هذا ال�سلوك الغريب واملتوح�ش العمل الفني على جانب �إيجابي يتحول من خالله الفنان من
والغبي� :إحداث الأ مل لدى الآ خرين ،وت�ساءل :ملاذا بال�سوط، فرد منعزل �إىل كائن اجتماعي وجانب �سلبي ،ي�صبح العمل،
فقط ولي�س من خالل الوخز �أو ك�رس الأ كتاف �أو غري ذلك؟ ملجرد العمل ،ب�رصف النظر عن قيمته( )34حالة �سلبية تف�صل
وك�أن فعل اجللد «امل�ألوف» ،يف ذلك الوقت ،قد �أ�صبح غري الفنان عن «عمله ،وت�صبح �أعماله �صورًا جمرد �صور قد
م�ألوف وغريبًا ،من خالل الو�صف له وتكراره ،من وجهة ت�رسق الروح منه ،كما كان بلزاك ي�شري.
نظر تول�ستوي؛ ومن ثم طرح بع�ض االقرتاحات لتغيريه،
-3التغريب Estrangement
من الناحية الظاهرية ،ولي�س من الناحية اجلوهرية حيث
مل ي�ستنكر تول�ستوي ذلك النوع من العقاب ،يف جوهره� ،أي يف جمال امل�رسح خالل القرن الع�رشين قال برتولت بريخت
�إحداث الأ مل يف جوهره ،ولكنه ا�ستنكر الطريقة التي يتم بها، �إن �أثر التغريب؛ يت�شكل من خالل حتويل املو�ضوع . .من �شيء
كما �أنه اقرتح طرائق بديلة له. عادي ،م�ألوف ،قابل للفهم على نحو مبا�رش� ،إىل �شيء غريب
وقد ا�ستخدم تول�ستوي -كما يقول �شكلوف�سكي -تكنيك على نحو خا�ص ،مثري لالهتمام وغري متوقع .وكما قال
نزع الأ لفة عن امل�ألوف هذا ،على نحو دائم؛ وذلك لأ نه بريخت ف�إن �أنواع االغرتاب اجلديدة م�صممة �أو مق�صود منها
بقدر ما ي�صبح الإ دراك اعتياديا ،بقدر ما ي�صبح �آليًّا، فقط �أن حترر الظواهر االجتماعية املقيدة من طابع الأ لفة
و�إن �إحدى وظائف الفن الأ كرث �أهمية �أن يواجهنا ب�صدمة الذي يقيدها ويبعدها عن فهمنا لها يف �أيامنا هذه ،و�أطلق
ما حتى ال نعود جمرد �ضحايا للعادة؛ فالأ عمال الفنية بريخت عليها ا�سم االغرتابات اجلديدة ،New Alienationsوطالب
ت�ساعدنا على �أن ن�ستعيد متعة الإ ثارة مبا يف احلياة، باالن�شغال بها كل يوم .ويقول بريخت كذلك« :لقد تو�صل
و�أن نرى ،بذلك ،الأ �شياء امل�ألوفة من جديد� . .إن تكنيك امل�رسح القدمي وامل�سارح يف القرون الو�سطى �إىل تغريب
الفن يكمن كما قال �شكلوف�سكي يف «�أن يجعل الأ �شياء �شخ�صياتها عن طريق ا�ستخدامها لأ قنعة النا�س واحليوانات،
غري م�ألوفة ،ويجعل الأ �شكال مبهمة كي تزيد من �صعوبة �أما امل�رسح الآ �سيوي فما يزال حتى اليوم ي�ستخدم امل�ؤثرات
الإ دراك ومن دوام مدة بقائه ،و�إن فعل الإ دراك يف الفن املو�سيقية والتمثيلية ال�صامتة لإ حداث التغريب .ومع ذلك،
هو غاية يف ذاته ،ويجب �أن ميتد وي�ستمر� .إن خربتنا ف�إن تكنيك هذه امل�ؤثرات ي�ستند � -إىل حد بعيد -على
بعملية الرتكيب يف الفن هي مو�ضع االعتبار ال الناجت الإ يحاء املغناطي�سي اكرث من التكنيك الذي بف�ضله يتو�صلون
النهائي»(.)37 �إىل االندماج االنفعايل يف ال�شخ�صية(.)35
وكما يذكر الناقد عبد الفتاح كليطو ف�إن كل حديث عن ووفقًا ملا قال برتولت بريخت وكذلك ال�شكالنيون الرو�س
«الغرابة» ،هو بال�رضورة حديث عن «الأ لفة» .و�إننا «�إذا ف�إن قوة ال�شكل الفني �إمنا تنبع من قدرته على التغريب،
قمنا بت�صنيف القائلني ،ف�إننا ال�شك �سنقف على قائل �أو الإ بعاد م�ؤقتًا ،ملتلقيه ،بعيدًا عن املعايري والقيم
معني مو�سوم بالغرابة؛ لأ نه يبتعد عن الت�صورات امل�ألوفة، اخلا�صة بعواملهم االجتماعية املحددة ومن خالل ما
لدى جمتمع ما ،وهذا القائل الغريب يظهر يف �أ�شكال عدة. �أطلق عليه ا�سم «�أثر التغريب alienation effectمن خالل
فهناك املجنون واملهرج واملجذوب وال�ساحر وال�شاعر. التحويل للمو�ضوع من حالته العادية وو�ضعه امل�ألوف
وكمثال على هذا ال�صنف ميكن �أن نذكر �رصاحة :خرافة ،وهو �إىل حالة غري عادية :حتول الأ م �إىل «زوجة» لرجل �آخر
�شخ�ص اختطفته اجلن ،ثم عاد بعد مدة �إىل �أهله و�صار ينطق غري الأ ب مثال(.)36
بكالم غريب (ومن هنا عبارة :حديث خرافة)� .إن القول الذي وهكذا ف�إن من �أجل فهم القرن الع�رشين ،وما بعده يف الفل�سفة
ي�ستدعي انتباهنا هو القول الغريب ،الذي يبدو بهذه ال�صفة والأ دب والثقافة وال�سيا�سة وغريها ،ينبغي �أن نعرف ذلك
عندما نقارنه مع منط م�ألوف من القول� .إن الغرابة تنم، الدور والت�أثري الذي قام به ال�شكالنيون الرو�س ،وخا�صة
كما يقول ابن ر�شد معلقًا على فن ال�شعر «ب�إخراج القول غري يف ت�أكيدهم الكبري على فكرة نزع الأ لفة عن امل�ألوف Def
خمرج العادة»(.)38 � ،familiarizationأي التغريب� ،أو جعل الأ مر غريبًا .فقد حاول
ه�ؤالء النقاد -وبخا�صة فيكتور �شكلوف�سكي -تنظيم
-4اال�ستغراب ذلك التكوين الغريب امل�سمى الأ دب وفهمه وتطويره ،و�أن
لي�س املق�صود هنا حماولة بع�ض املفكرين �أمثال ح�سن ي�سجلوا كذلك قوة الأ دب ،وبخا�صة ال�شعر ،يف نزع الأ لفة عن
حنفي الرد على مفهوم اال�ست�رشاق orientalismمبفهوم م�ضاد امل�ألوف ،يف �إحداث �شعور بالغرابة ،يف جعل كل الإ دراكات
وهو اال�ستغراب � ،Occidentalismأي الرد على نظرة الغرب �إىل واملعتقدات امل�ألوفة غريبة وغري م�ألوفة .ويف مقاله املهم
ال�رشق من خالل �صورة معينة� ،سلبية يف معظمها ،ومن ثم املعنون بـ»الأ دب ك�أ�سلوب» ا�ست�شهد �شكلوف�سكي مبناق�شة
51 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
من مر�ض �أو غريه ،وقال الأ �صمعي� :أغرب الرجل �إغرابًا� ،إذا ينبغي �أن نفهم الغرب بنظرة مماثلة هي «اال�ستغراب» .لي�س
جاء ب�أمر غريب ،والغربة :احلدة ،وا�ستغرب الدمع � :سال، هذا مق�صدنا يف هذا ال�سياق ،فما نق�صده هنا هو تلك احلالة
والإ غراب :كرثة املال ،وح�سن احلال .وال َغرّبُ :الذهب ،و�أ�سود اخلا�صة من الده�شة التي حتدث عندما نرى �شيئًا �أو ن�سمعه،
غرابي وغربيب �شديد ال�سواد ،وقال احلجاج :واهلل لأ �رضبنكم فن�ستغرب ظهوره �أو حدوثه ،نعتقده غريبًا عن �سياقه� ،أو
�رضب غراب الإ بل ،وقال ابن الأ ثري :هذا مثل �رضبه لنف�سه غري م�ألوف ،نعجب منه ،وقد نعرب عن ذلك ب�صوت ينم عن
مع رعيته يهددهم؛ ذلك �أن الإ بل �إذا وردت املاء ،فدخل عليها الإ عجاب �أو اال�ستهجان ،وبرفع حاجبي العينينْ �أو غري ذلك
غريبة من غريها� ،رضبت وطردت حتى تخرج عنها ،ومن من تعبريات الوجه واليديْن اال�ستغراب هنا متعلق بطبيعة
أي�ضا :الدلو العظيمة.
معانيها � ً ال�شيء الذي ندركه يف حلظة معينة وكذلك طبيعة �إدراكنا له
هكذا جمع معنى الغربة واالغرتاب والغرابة -يف وا�ستجاباتنا نحوه والتي غالبًا ما تكون ا�ستجابة �رسيعة،
العربية -بني احلدة يف الن�شاط والتمادي واملاء والدمع لي�س فيها ذلك العمق الوجداين �أو االنفعايل �أو ذلك البعد
الغزير و�إ�سوداد اللون وكرثة �أو ا�شتداد ال�ضحك �أو املر�ض املعريف املرتبط بظاهرة الغرابة.
�أو الكالم� ،أو اللون� ،أ�سود �أو �أبي�ض �أو �أحمر� . .إلخ(.)39 قد تبد�أ الغرابة باال�ستغراب ،وقد تنتهي ونحن يف حالة
أي�ضا :الذهب والف�ضة واملاء الذي يقطر ومن معاين الغريب � ً ما من اال�ستغراب ،لكن اال�ستغراب هنا جمرد حالة
بكرثة ،والغرب والغياب وغروب ال�شم�س� ،أو العدم ،والنزوح م�ؤقتة �أو �رسيعة ،قد توجد وت�صاحب �أو تعقب انفعال
عن الأ هل ،وغري ذلك من املعاين التي ت�شري �إىل املبالغة يف الغرابة يف جتلياته احلياتية �أو الفنية ،لكن اال�ستغراب
حدة قول �أو انفعال �أو حدث ،وهي -يف معظمها -معانٍ هو كما قلنا ،حالة �سطحية ،منده�شة ،قد ال ي�صاحبها
ترتبط مبفردات احلياة اليومية العربية القدمية كالإ بل اخلوف� ،أو الرعب ،وكذلك تلك اال�ستجابة اجلمالية
أي�ضا
واملاء والطيور واالرحتال والعَودة؛ وكلها معانٍ مهمة � ً اخلا�صة امل�صاحبة للغريب.
يف تف�سري الغربة باملعنى املكاين ،واللغوي وكذلك املعنى
الغرابة يف العربية
االجتماعي املرتبط باال�ستبعاد والنفي والتجاهل كما كان
احلال لدى التوحيدي مث ًال وكذلك قد تفيد كثريًا يف تف�سري يف الدرا�سات العربية القدمية واحلديثة ،هناك اهتمام بغريب
الغرابة املرتبطة بكل ما هو غري م�ألوف ،لكنها غري مفيدة الأ لفاظ« ،وغريب القر� آن» ،وغريب احلديث� ،أي غريب الأ لفاظ
يف تف�سري االغرتاب باملعنى الفل�سفي والوجودي ،وال الغرابة احلو�شي منها وال�شارد والوارد ،ولدى ابن منظور يف «ل�سان
باملعنى االنفعايل واجلمايل الذي نق�صده يف كتابنا احلايل. العرب» ،الغريب هو البعيد عن �أر�ضه وعن نا�سه وقد قالت
لكن �أقرب املعاين �إىل «الغرابة» يف العربية هو مفهوم العرب« :قذفته نوى غربه� ،أي بعيدة» ،و�أ�صابه �سهم غرّب� ،أي
الوح�شة. ال يدري راميه ،واغرتب فالن �إذا تزوج من غري �أقاربه ،وقالوا:
وجه كمر� آة الغريبة ،لأ نها يف غري قومها فمر� آتها �أبدًا جملوة؛
عن الوح�شة والغرابة لأ نها نا�صح لها يف وجهها .وقالوا« :وخد كمر� آة الغريبة»
وفق ًا ملا جاء يف املعاجم العربية ،وحتديداً «ل�سان العرب» �أي والغريبة هنا املر�أة التي مل تتزوج يف قومها ،فال جتد
البن منظور ،ف�إن كل �شيء ال ي�ست�أن�س بالنا�س هو وح�شي، يف ن�ساء ذلك احلي من يعني بها ،ويبني لها ما حتتاج �إىل
كما �أنه� :إذا �أقبل الليل ا�ست�أن�س كل وح�شي وا�ستوح�ش كل �إ�صالحه من عيب ونحوه؛ فهي حمتاجة �إىل مر� آتها التي ترى
ان�سي .والوح�شة :ال َفرَق �أي اخلوف من اخللوة والعزلة ،ويقال: فيها من ينكره من ر� آها ،فمر� آتها دائمًا جملوة.
�أخذته وح�شةٌ� ،أي احتاج �إىل من ي�ست�أن�س به ،وا�ستوح�ش منه: والغربة :النزوح عن الوطن واالغرتاب والتغرب ،ويف
مل ي�أن�س به فكان بالن�سبة �إليه كالوح�ش. احلديث �أن النبي� ،صلى اهلل عليه و�سلم� ،سُ ئل عن الغرباء:
كما ارتبطت الوح�شة لدى العرب كذلك بعامل ال�سحر فقال الذين يحيون ما �أمات النا�س من �سنتي .ويف حديث
واجلن ،وبطبيعة املكان فقالوا :مكان موح�ش :خالٍ ، � آخر� :إن الإ �سالم بد�أ غريبًا و�سيعود غريبًا ،فطوبى للغرباء،
و�أر�ض وحْ �شة (بالت�سكني)َ :ق ْفرٌ ،و�أوح�ش املكان من �أهله واملق�صود� :إن الإ �سالم كان يف �أول �أمره كالغريب الوحيد
وتوح�ش :خال. الذي ال �أ�صل عنده ،لقلة امل�سلمني يومئذٍ ،و�سيعود غريبًا كما
وذهب عنه النا�س ،ويقال كذلك للمكان الذي ذهب عنه النا�س: كان� ،أي يقل امل�سلمون يف � آخر الزمان في�صريون كالغرباء،
قد �أوح�ش .وتوح�شت الأ ر�ض� :صارت وحِ �شة �أي خالية. وطوبى للغرباء� . .أي اجلنة لهم ويقال كذلك رجل غريب:
وهكذا ،ف�إن الوح�شة �ضد الأ ن�س وال يكون �أن�س �إال بوجود لي�س من القوم ،والغرباء :الأ باعد .وفر�س غِّرب :كثري العدو،
الب�رش ،وعندما يغيب الب�رش ي�صبح املكان قفراً خالياً؛ ومن و�أغرب الرجل يف منطقه �إذا مل يبق �شيء �إال تكلم به ،و�أغرب
ثم ف�إن الوح�شة هي �صفة للمكان املوح�ش و�صفة كذلك به� :أي �صنع به �صنعًا قبيحً ا .و�أغرب الرجل �إذا �أ�سود وجهه
52 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وكل تلك الكائنات اخلرافية ،ويقول كيف �صاحبها� ،أو ل�شعور الإ ن�سان يف ذلك املكان املوح�ش عندما يكون وحده
قتلها� ،أو تزوجها . .الخ يف حماولة منه لتحويل خوفه يف عزلة.
�إىل طم�أنينة ،ووح�شته �إىل �أن�س وائتنا�س ،وتوهمه �إىل وهناك معانٍ �أخرى للوح�شة نذكر بع�ضها ،فالوح�ش
�إبداع. واملوح�ش :اجلائع من النا�س وكذلك احليوان ،خللوه من
لي�ست الفروق بني الوح�شة والغرابة حا�سمة ،لكن الوح�شة الطعام ،ويقال :توح�ش جوفه� ،أي خال من الطعام ،وبات
لي�ست هي الغرابة ،الوح�شة قد متهد الطريق حلدوث الغرابة، وحْ �ش ًا ووحِ �شاً� :أي جائعاً ،و�أوح�ش الرجل وتوح�ش :جاع،
الوح�شة حالة من ال�شعور بالعزلة واخلوف ،قد حتدث معها وبتنا �أوحا�شاً� :أي جياعاً.
الغرابة �أو ال حتدث ،الوح�شة حالة ترتبط باملكان اخلاوي والوح�شة كذلك :الهم ،واخللوة واخلوف والأ ر�ض امل�ستوح�شة
اخلايل من الب�رش الذي يكون تربة خ�صبة لنمو م�شاعر اخلالية ،ويقال كذلك ،وح�ش الرجل� :إذا �ألقى بثوبه و�سالحه
الغرابة ،الغرابة خطوة تالية للوح�شة ،لكن الغرابة قد حتدث وجرى ،خمافة �أن يُلحق به.
دون �إح�سا�س �سابق لها بالوح�شة ،الغرابة ترتبط باخلوف ويكون للمكان املوح�ش ت�أثريه البالغ على انفعاالت
والر�ؤية �أو ال�سماع لغري امل�ألوف املثري للفزع ،غري الآ من، الإ ن�سان يف حاالت العزلة واجلوع واخلوف واالفتقار
الغربة حياتية وفنية والوح�شة غالب ًا حياتية ،لي�ست هناك للأ من ،فيبالغ يف ت�صويره للأ �شياء ويف �إدراكه لها ،فيما
متعة جمالية خا�صة يف الوح�شة ،بينما توجد مثل تلك �سُ مِّي بالتوهم ،وهي حالة حتدث للإ ن�سان واحليوان وقد
املتعة يف الغرابة .بعبارة �أخرى ،قد متهد الوح�شة لظهور ذكرها اجلاحظ يف كتاب احليوان يف ن�ص مهم نذكره
الإ بداع اجلمايل كما يف ال�شعر مث ًال وكما �أ�شار اجلاحظ �إىل باخت�صار فيما يلي:
ذلك .لكن الغرابة قد ترتبط بالتلقي لأ نواع خا�صة من الإ بداع فقد ذكر اجلاحظ يف «كتاب احليوان» ما قاله �أبو �إ�سحاق
والإ �ستجابة لها على نحو خا�ص. من �أن �أ�صل هذا الأ مر وابتداءه� ،أن القوم ملا نزلوا بالد
كل ما هو غريب وغري م�ألوف قد يثري اخلوف والده�شة وحتى الوح�ش ،عملت فيهم الوح�شة ،ومن انفرد وطال مقامه يف
النفور وجذور هذه العملية موجودة يف الطفولة ،طفولة العقل البالد واخلالء والبعد من الإ ن�س ا�ستوح�ش ،وال�سيما مع قلة
الذي ينمو كثريا عرب العمر ،وطفولة الوجدان الذي يبدو �أنه الأ �شغال واملذاكرين .والوحدة ال تقطع �أيامهم �إال باملنى �أو
ال ينمو كثريا عرب العمر ،وك�أنه م�شدود ب�أوتار تربطه بجذور التفكري ،والفكر رمبا كان من �أ�سباب الو�سو�سة . .و�إذا ا�ستوح�ش
�ضاربة يف �أعماق الإ ن�سان القدمية. الإ ن�سان متثَّل له ال�شيء ال�صغري يف �صورة الكبري ،وارتاب،
خامتة وتفرق ذهنه ،وانتق�صت �أخالطه ،فر�أي ما ال يُرى ،و�سمع ما
ال يُ�سمع وتوهم على ال�شيء الي�سري احلقري� ،أنه عظيم جليل.
اجلدير بالذكر �أن مفهوم الغرابة مطروح �أي�ض ًا يف بع�ض ثم جعلوا ما ت�صوَّر لهم من ذلك �شعراً تنا�شدوه ،و�أحاديث
الكتابات الرتاثية العربية املهمة ومنها ما جاء مث ًال لدى توارثوها فازدادوا بذلك �إمياناً ،ون� أش� عليه النا�شيء وربي به
ابن عربي �أو لدى ابن �سينا وكذلك لدى ال�سهروردي فيما الطفل ،ف�صار �أحدهم يتو�سط الفيايف وت�شمَّل عليه الغيظان
�سمي بالغربة الغريبة والتي كانت تدور حول احلكايات يف الليايل احلناد�س فعند �أول وح�شة وفزعة وعند �صياح بوم
اخليالية حلي ابن يقظان �أو ما �شابه ذلك من احلكايات. وجماوبة �صدى ،وقد ر�أي كل باطل وتوهم كل زور ،ورمبا
ولي�ست هناك ،عدا ذلك ،درا�سات حول الغرابة ،يف كان يف �أ�صل اخللق والطبيعة كذاب ًا نفَّاجاً ،و�صاحب ت�شنيع
العربية ،جديرة بالذكر ،وال �أق�صد طبعًا تلك الدرا�سات وتهويل ،فيقول يف ذلك من ال�شعر على وفق هذه ال�صفة ،فعند
اخلا�صة حول الغرائبية �أو اخليال ،بل الغرابة املرتبطة ذلك يقول :ر�أيت الغيالن وكلمت ال�سعالة ثم يتجاوز ذلك �إىل
باخلوف وجتلياته ،وباملخيف ،وغري امل�ألوف يف �أن يقول :قتلها ،ثم يتجاوز ذلك �إىل �أن يقول :رافقها ،ثم
()40
يتجاوز ذلك �إىل �أن يقول :تزوجها».
الفن ،على وجه التحديد .حيث ي�ستثري العن�رص اخلا�ص هذا ن�ص بديع من ن�صو�ص اجلاحظ ،وفيه يربط بني
بالغريب ،وي�ستح�رض معه ،توترا غري مريح ،كان موجودًا املكان اخلايل املوح�ش وبني عمل العقل ون�شاط التوهم
يف الأ دب القوطي والفن الرومانتيكي ،وق�ص�ص الأ �شباح وهيمنة اخلوف وح�ضوره ،حني تتغري �أبعاد املدركات،
ثم �أنه ذلك العن�رص �أ�صبح خا�صية مميزة للفن ال�سرييايل وتتمثل الأ �شياء ال�صغرية «للمتوح�ش» يف �صور كبرية،
احلديث .هكذا تعتقد رابينوفيت�ش �أن حتليل فرويد للغريب فريى «ما ال يُرى» ،وقد ي�ست�سلم خلوفه وي�صيبه الرعب،
كبعد �سيكولوجى يتعلق باخلربة اجلمالية ،حتليل يفتح يزداد �شعوره بالوح�شة ،ي�ستوح�ش ،وقد ي�صبح �شاعراً،
الطريق �أمام الفن(.)41 �أو قد يكون بطبيعته كذاباً ،في�صبح «�أ�صدق الكالم
أي�ضا للتفكري �أو طريقة
أي�ضا و�سيلة � ً
قد يكون الغريب � ً – لديه �أكذبه» ،في�صور يف ق�صائده الغيالن وال�سعالة
53 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s
�إن الأ مل جتربة وثيقة ال�صلة بالوح�شة والعزلة لأ ن ال�سعادة واملتعة بطبيعتها
با�سطة ،فنحن حني نكون �سعداء ،نعي�ش دربا من االن�سجام مع العامل اخلارجي
مما قد ي�ؤدي بنا �إىل ن�سيان ذواتنا .ولعل حلظة ال�سعادة وفقا لهذا الت�صور
تعرب عن غفلة ما تكتنف الوعي �إذ ي�سقط مفتونا مبا يحقق له ال�سعادة ،متوهما
لربهة �أنه باق ال يزول� .أي �أن ال�سعادة خدعة وفخ من�صوب للوعي يفقد داخله
قدرته على ر�ؤية العمق املوح�ش للوجود املو�ضوعي املبتذل� .أما الأ مل ،ف�إنه
حلظة �إفاقة مباغتة ،حيث معاي�شة حلظة الفقد للأ مان الوهمي ،واالن�سجام
ال�سعيد الزائف .ومن ثم ،يعزلنا الأ مل على حدة ،ويك�شف لنا يف ق�سوة عاتية عن
وجودنا الفردي املوح�ش فا�ضحا عالقاتنا الواهية مبا حولنا ،ممزقا روابطنا
التي ظنناها وثيقة بالكون .ذلك �أن املرء حينما حتل به كارثة ي�شعر �أن الكون
يدفعه بوح�شية ،فيدرك لأ ول مرة �أنه يقف ب�إزاء خ�صم خارجي هو كل ماعداه
من � آخرين وكائنات و�أ�شياء ،بل حتى املطلق ذاته .حينئذ يغدو الإ ن�سان املت�أمل
وحيداً مهجورا يف جانب ،والعامل كله واهلل ،يف جانب � آخر.
s
s
s املدجن لطاقات الذات .حينئذ تغدو العزلة م�ستحيلة،
حلبيب �إن زال مل يزل خياله ،ومل يغب مثاله!! ومن
ناحية ثانية ،ف�إن احل�ضور الناحل ال�شاحب للذات هو �شديدة الوط�أة قا�سية وم�ؤملة ،وخمرتقة دوما بخياالت
مر�آة خمايلة ،كمرايا ال�سحر املخادعة التي حتول الآ خر املفتقد مهما كانت جتلياته .ورغم �أننا يف �سياقنا
العذاب �إىل عذوبة� ،أو الزائف �إىل حقيقي ،ولعلها مرايا هذا ،نواجه ذات مل ت�ستطع قط �أن تتقن دورها االجتماعي،
ال�سحر الكا�شفة عرب النبوءة. رغم كل حماوالتها� ،إال �أن حلمها الطموح الذي �سعت �إليه،
ان مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى ما بني ومل تنله �أبدا ،مازال يهج�س يف عزلتها املوح�شة ب�إمكانات
اخلداع واحلقيقة ،فهي تكت�سب �إمكاناتها الت�أويلية .ال عرب حتققه .و�إذا كانت العزلة كو�ضعية م�ؤ�سية موح�شة هي نتاج
ح�ضورها ال�شبحي فح�سب ،بل عرب زاوية توجه الوعي الذي لإ خفاق الذات يف �إقامة عالقة مثمرة ناجحة مع الآ خر
يقر�أها �أو ي�ؤول معناها .ومن ثم ،فبقدر �إمكانات اخلداع، االجتماعي� ،أو الدنيوي عامة ،ف�إنها ،ومن خالل وعي
تكون �إمكانات انك�شاف احلقيقة ،فهي عائق وحجاب، الذات بعمق احتياجها وهاج�سها الدنيوي� ،ستظل دوما
و�إ�شارة دالة يف � آن � .آي �أن قدرتها على الإ غواء �أو التهديد م�ساحة جلدل الذات مع الآ خر عرب م�سارب خفية ومتنوعة،
تتنا�سب طرديا مع ا�ستعدادات الذات القارئة املتفح�صة يف طاملا كانت الذات الدنيوية حا�رضة ومناوئة خارج �إطار
�أحوال ذاتها ،ومدى تهيئها للإ غواء� .إنها ممار�سة جدلية ال�سيطرة الكاملة للذات املثال وحلمها املفارق.
الطابع بني طريف الذات ت�ضمر �رصاعا عنيفا وقا�سيا، �إن الأ مل يف �سياق العزلة املوح�شة لي�س قرين
االعرتاف العلني ت�سعى من خالله كل ذات لتدمري الأ خرى ،و�إعادة �إنتاج الق�سوة والعنف والتناق�ض فح�سب ،بل كذلك قرين
والندم قد يكون القمع عليها ،بطرق خمتلفة ومتفاوتة ما بني املراوغة ال�ضجر من خواء العامل وتفاهته ،وعبثيته وف�ضاءاته
يف بع�ض الأ حيان واملواجهة ال�ساخرة. القا�سية املليئة بال�سخط واملقت والتهديد والوح�شة
خدعة ال واعية ولعل هذا ال�رصاع اخلفي يدمر الإ ح�سا�س بال�ضجر بني والن�سيان والظنون وامللل ،بل �شديدة ال�ضيق على
متار�سها الذات حلظة و�أخرى م�شيعا حالة من اخلوف والفزع يف ثنايا ات�ساعها الظاهري �إىل درجة حما�رصة الروح بالي�أ�س
الذات ،خوف من الآ تي الدنيوي ،ومن اخلطر اخلارجي املطلق و�إذاللها و�إزهاقها .ولعل ال�ضجر الأ عمق هو
�ضد ذاتها و�ضد الذي مل يزل مهددا الذات مبزيد من الإ حباطات والآ الم ذلك ال�ضجر الذي تعانيه الذات �إزاء ذاتها الدنيوية
الآ خرين غري املحتملة .ذلك �أن حتقيق الآ مان الداخلي مرتبط بخلق القابعة داخلها ،والتي لي�ست �سوى مر�آة �صدئة
م�ساحة لالن�سجام والود واحلميمية اخلفية بني الذات عاك�سة لقبح العامل وخوائه ،بل ل�شبحيته وذبوله
وذاتها ،ولي�س العك�س .حيث مل تزل الذات ،رغم ما ميكن وا�ضمحالله� .إن ح�ضور هذه الذات لي�س �سوى
�أن نطلق عليه معاناة املوقف احلدي للإ ن�سان ،متار�س ح�ضور باهت منتهب ،بل منتهك ال�رس مهتوك ال�سرت
ترددها الفا�ضح بني ال�سقوط يف وهم االبتذال والو�ضعية واخل�صو�صية ،م�ستباح ممت�ص الطاقات والقدرات يف
وعالقات الت�شيوء واال�ستخدام ،من ناحية وبني الإ ختيار دوائر الكرب وال�شكوى والبالء والو�ساو�س واالعتياد
النهائي للوجود الأ �صيل ،من ناحية �أخرى .وهكذا ،حني الكئيب املدمر لكل �إمكانات الإ بداع اخلالق واملتجدد.
يغدو ظهر املرء للجدار ،ويواجه احلقيقة �صادمة عارية، ورغم هذا احل�ضور الذابل ال�شاحب للذات الدنيوية
ولي�س هناك بديل ،ويف الوقت نف�سه ،يواجه ف�ضاء الإ غواء يف ف�ضاء العزلة املوح�شة� ،إال �أنها مل تزل ت�شكل
الدنيوي مبمكناته الالنهائية ووعوده ال�ساحرة رغم تهديدا عارما ،حيث تكت�سب خطورتها من و�ضعها
زيفها ،حينئذ ،ي�صبح ف�ضاء العزلة ،ف�ضاء للرعب والفزع اليائ�س الباهت ،و�ضع املحنة .فمن ناحية ،ت�سعى
والو�سوا�س امل�ؤرق ،رعب مواجهة امل�صري النهائي للذات تلك الذات البتزاز ذاتها ،وا�ستمالة عطفها عليها ،علها
ما بني العدم والوجود!! تف�سح لها م�ساحة للبوح والف�ضف�ضة بكامنات النف�س
�إن امل�صري هو وجود الإ ن�سان� ،أي حياته و�أفعاله ،وقد ولواعجها ،و�إحباطاتها املتوالية ،وحيث تنرث الدمع
�صارت غريبة عنه� ،أي �أنه وعي بالذات ،لكنه وعي يف ح�رضتها طالبة للراحة من كرب الي�أ�س والأ �سى� .أن
بها من حيث هي �آخر منف�صالً ،مغايرا مغرتبا عنه، هذه امل�ساحة جديرة با�ستثارة �أ�شواق الذات ،وبعث
بل م�ستلبا له وهو ما يعني �أن �أفعال الإ ن�سان التي الروح يف هواج�سها الدنيوية وتثبيت دعائم ح�ضورها
ت�شكل وت�ؤلف وجوده وم�صريه ،والتي هي من خلقه عرب معاناة ال�شفقة والرحمة بهذه الذات املحبطة،
و�إبداعه ،ت�صري حني تتخارج وتتحقق ،وتثمر نتائجها ومعاونتها بفتح نوافذ الأ مل الدنيوي ثانية .وهكذا
�إن �سلبا و�إيجابا ،ومت�س الآخرين والكائنات والأ �شياء، تغدو م�ساحة البوح م�ساحة ال�ستباحة الأ دنى للأ على،
�شيئا � آخر غريه ،غريبا عنه ،وقد تكون عدوا له .هنا وا�ستنفاده داخل ف�ضائه الوهمي ،ف�ضاء احتدام ال�شوق
57 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
متعدد الإ مكانات .وهكذا فمن هجري الأ �رس وال�ضيق يبدو امل�صري و�ضعية ديناميكية جدلية من خلق
واجلدب الدنيوي ،وعرب طريق الآ الم و�أ�شواكه وعقباته الإ ن�سان و�صناعة يده ،ومل يعد الأ مر حم�ض قهر �أو
وعدميته القا�سية تولد �إمكانات احلنني الروحي لواحة �إحباط ناجت من اخلارج والآخر ،بقوانينهما القمعية
اهلل الوارفة �سعيا لفتح ف�ضاء احللم املفارق املتعايل. بكافة م�ستوياتها ،واملدمرة حلرية الإ ن�سان ،لكنه
ولعل هذا الف�ضاء احلامل ال يغدو حم�ض تعوي�ض لإ حباط �أ�صبح اغرتابا ذاتيا له �سمت جديل ميتافزيقي� .أي
احللم الدنيوي ،بقدر ما ي�صبح حماية للذات من النكو�ص �أن الذات ت�صري مو�ضوعا ،والأ نا تغدو ال�-أنا ،والإ رادة
والرتاجع ،ناهيك عن كونه �سيفتح بدوره م�ساحات جديدة التي هي من �أجل الذات ت�صبح �إرادة �ضد الذات� .أي
للجدل مع الآ خر الن�سبي على حد �سواء ذات �سمت �أكرث �أن �أفعال املرء وامل�ؤلفة لوجوده وم�صريه تتعاىل
�إيجابية و�إبداعا ورقيا .وبينما ت�سعى الذات عرب ف�ضاء عليه وتتوجه �ضده بينما تتحول �إرادته اجلزئية �إىل
حلمها املفارق لذوق حالوة الراحة والعز يف ظل الو�صال �إرادة كلية� ،أو لنقل تغدو �إرادته �إرادة من �أجل الآخر
والأ ن�س بالرب اجلميل املع�شوق ،متار�س ت�أ�سي�س ح�ضورها تعرب عن قوانينه وقيمه ومعايريه ،وتتحرك لتحقيق � إن فعل الندم
الوجودي الأ �صيل .ذلك �أن ف�ضاء احللم املفارق هو املر� آة م�صاحله ،ال م�صالح الذات اخلالقة لها� ،أيا كان الآخر. ال�صاخب ي�ؤ�س�س
املجلية لفكرة ال�شخ�صية التي تدركها الذات كلوامع الربق �إن حلظة الوعي بغربة امل�صري الذاتي هي حلظة ملركزية الذات بو�صفها
ال�رسابية يف هجري العدم وظلمته القامعة .ولعلها حلظة م�ؤملة تواجه الذات فيها تناهيها وقهرها وعجزها مركزية كونية تولد
امليالد احلقة ،ميالد الروح عرب �إمدادها مباء احلياة وابتذالها الوجودي واملعريف والقيمي� .أو لنقل �أنها
الإ لهية ،ووعد اخللود ،وحلم االكتمال امل�ستحيل ،ولعلها حلظة مواجهة انهيار احللم ،وقد دمرته �إختيارات قدا�ستها من عمق
تطلعات الهيمنة اخلالقة من خالل ف�ضاء الذات الكونية الذات الغافلة امل�ستلبة حل�ساب معايري اخلارج والآخر جنايتها وتطاولها
احلاوية للكل ،و�إمكانات احلرية الالنهائية!! الدينوي الزائفة واملخايلة الوهمية ،بل غدت عونا لها على املطلق!!
وميكننا القول ب�أن جتربة العزلة والأ مل بكل ما تنطوي على ذاتها احلقة .ومن ثم عانت الذات قهر اخلارج
عليه من م�ؤ�سيات و� آالم �ستغدو معربا وحيدا من �أجل والداخل ،و�أردتها ممار�ساتها ال�سلوكية و�إحباطاتها
التطهر والتجاوز و�صناعة امل�صري مبا هو اختيار ذاتي امل�ؤ�سية.
�أ�صيل متحرر من كل �أ�شكال القمع والهيمنة داخليا و�إذ غدت ممار�سات الذات واختباراتها ف�ضاء ال�ستالبها
وخارجيا ،ولي�س حم�ض ممار�سة تراجيدية مدمرة اخلفي ،ورماال متحركة تغو�ص فيها �أقدام الذات دون �أن
لالغرتاب الذاتي .حينئذ ي�صبح ف�ضاء العزلة ف�ضاء تدري ،فها قد �أتت حلظة املباغتة املعرفية القا�سية �إذ
�إيجابيا �إذ تتفتح نوافذ الذات على حلم الأ ن�س الأ بدي، تعي الذات عمق جرحها وتعريه ،حيث ال �أمل داخل هذه
�أن�س االمتالء بح�ضور الآ خر الإ لهي ،والتحرر من كل املدارات املبتذلة �سوى املزيد من الت�شظى واال�ستالب،
�أ�شكال اال�ستالب ،وممار�سة الوعي الذاتي اخلالق� ،أي وظلمة امل�صري.
بزوغ فجر ال�شخ�صية �أو الإ ن�سان الكامل ،اجلدير وحده يقول التوحيدى :
بال�سمت الإ ن�ساين� .إن هذا البزوغ �سيغدو �إمكانية حبلى «يا هذا ...ماذا يجئ من هذا التهافت ،وهذه الذلة،
ب�إمكانات الوعد االخروي ،ومن ثم �ستعاي�ش الذات من وهذا اجلهل؟يا عدو نف�سه ...يا جانيا على روحه ...ما
خالله القلق اخلالق ،قلق ال�شوق للمطلق ،وال�شاهد على �أرداك لنف�سك ...وما �أق�سى قلبك على مهجتك� ...إمنا
ح�ضوره ومفارقتنا �إياه!!. �أتيت من اختيارك الردى ...بلى :عجزي عني هو الذي
ويبقى ال�س�ؤال قائما ،كيف تتم هذه االنتقالة للوعي فدم فمى ،و�أجل�أنى �إىل ندمي ...و�شوقني �إىل بطالين
من ال�سلب للإ يجاب داخل ف�ضاء العزلة املوح�شة وعدمي ...ياهذا:ا�ستغثت فما �أغثت ...و�س�ألت فما
بتناق�ضاتها امل�ؤ�سية؟ �أعطيت ،و�أعتذرت فما قبلت و�أ�صبت فما عزيت ،فبقيت
و�أوىل خطوات الذات على طريق حتقيق هذه االنتقالة، هكذا بالعراء منزور ال�صرب ،مغروز الوحر ،قد نقب
هي �إعالن م�أمت الذات احلقة ،واتهام ذاتها الدنيا باغتيال خفي ،ودمي ظلي ،ذهب �أكرثي ،وبقي �أقلي».
وقتل حلم الذات املثال .وبينما تنوح الذات الثكلى على ومن املثري لالنتباه حقا� ،أن ينطوي هذا الوعي ال�سلبي
ذاتها احللم ،متار�س تدمري ذاتها الدنيا القاتلة ،من خالل بامل�صري املتناهي امل�ؤمل ،حال العزلة املوح�شة ،بكل
�إدانتها و�إذاللها وتعرية كل �أقنعتها ومزاعمها الزائفة، تناق�ضاتها امل�ؤ�سية على نقي�ضه الإ يجابي .حيث �أن
وتدمري �أداتها اللعينة ،اجل�سد الفيزيقي� .أي �أن الذات ال�سري بال�سلب والعدم �إىل نتائجه النهائية هو ال�سبيل
الكاتبة توجه كل ي�أ�سها و�ضجرها ،وعنفها وغ�ضبها الوحيد لقهره وجتاوزه وانبثاق نقي�ضه الوجودي اخلالد
58 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ومواجهتها اليائ�سة �إياها ،تتحرر من �أحابيل الت�ضليل وطاقاتها التدمريية نحو ذاتها امللتب�سة ب�آخرها الدنيوي
والتخييل التي �أوقعتها الذات الدنيا يف �شباكه املعقدة املتخيل ،بدال من توجيهه فعليا للآ خر الواقعي �أو للتهديد
وامللتب�سة .ومتار�س الذات الكاتبة عنفها التخييلي على اخلارجي .ذلك �أن تهديد الداخل �أ�صبح هو العدو احلقيقي
ذاتها الدنيا� ،سعيا لقتلها ال جمرد �أ�رسها وح�صارها، الذي يت�ضاءل �إىل جواره كل �إغواء اخلارج و�سحره .وهو
وكبح جماحها وتروي�ض �شهواتها .وبالطبع ال يحقق الأ مر الذي يعني �أن الذات مازالت متار�س ح�ضورها يف
القتل حم�ض التحرر الذاتي من �أ�رس الدنيوي بقدر ما يهب عمق حلظة �رصاعية تتبادل فيها ،وذاتها الدنيا عنفا
الذات �إنفرادها الطاغي املطلق بال�سلطة الذاتية ،ونفي �أي بعنف ،وقمعا بقمع ،حيث ت�سعى كل منهما لإ بادة الأ خرى،
�إمكانية للمناوءة �أو ال�رصاع ب�أ�شكاله املتنوعة امل�ضمرة و�سحقها عرب م�ساحات التخيل بكل ما تنطوي عليه من
واملعلنة على حد �سواء� .إنه احللم الطموح لإ جناز التماهي طاقات تدمريية ،وخالقة يف � آن.
مع لأ لوهية حيث تتوافق الإ رادتني� ،إرادة الإ ن�سان ،و�إرادة يقول التوحيدي:
اهلل ،فال خمالفة وال ع�صيان ،وال رب وال عبد حينئذ يغدو «ياهذا� ...أما تعلم �أنك متقلب بني هذه الأ وزار،
التوحيدي: القتل عالجا جذريا ي�ست�أ�صل الثنائية ،ويعفي من ذلك التي �إن مل ت�سقطها بالتوبة عنك �رصت حطب �أهل
«وذوب ج�سم... االلتبا�س الإ ن�ساين بني ال�شيطان واهلل !! النار ...دعواك كلها وقاحة ،و�رسك كله خبيث ،و�سريك
وت�صعد نف�س، ولعل �أهم ما يلفتنا يف هذا ال�سياق ،هو ذك الإ ح�سا�س يف الباطل حثيث ،وجهرك نفاق ،وباطنك �شقاق،
وانهمال دمع... الفادح واملكثف بالذنب واجلناية �أو اخلطيئة ،وال�سقوط و�سكوتك غيلة ،ومعاملتك اختال�س ،و�أمانيك �أدران
وا�ستحالة من الرحمة الإ لهية ،وا�ستحقاق العقاب الإ لهي ،و�سعري و�أدنا�س ،ووعظك خديعة ،واتعاظك ريح ،وعظك غثاء،
اجلحيم!! وكلك هباء ،وعبادتك رياء ... ...بنيت �أمرك كله على
�سحنة ...و�شوق والبد لنا من وقفة هادئة مت�أنية عند معنى اخلطيئة املكر والغيلة ،وعلى الغ�ش واملكيدة ،وعلى الهوى
يوهن �أركان �أو ماهيتها امللتب�سة ما بني ال�سلب والإ يجاب .ذلك واملطعمة ،وعلى اخل�سا�سة والنجا�سة ...واجلهالة
اجل�سد ...فاعطف �أن اخلطيئة �أو اقرتاف وجناية الذنب تعني حدوث والنذالة ،وعلى طلب العاجلة دون الآجلة .فال جرم
رحمك اهلل-على �رشخ �أو توتر عنيف يف العالقة بني اهلل والإ ن�سان، بار �سعيك يف حياتك ...وانبرت �أملك يف كدحك مباال
�إذ يجلب الإ ن�سان بخطيئته اال�ضطراب والف�ساد �إىل ثمرة له عندك .فما �أ�ش�أم نا�صيتك على نف�سك ...وما
�شبح قد حتكم فيه النظام الكوين املحكم والبديع� ،أي �أن ارتكاب ال�رش �أطوعك ل�شيطانك ... ...ياهذا� ...سلكت طرق املهالك...
البلوى ،و�أقام بني يعني عدم اخل�ضوع للنظام الإ لهي �أو ع�صيان النامو�س الويل لك الويل ،ملثلك �سجرت اجلحيم ،وملثلك �أعد
احلياة والردى ،ال ذلك �أن كل �شيء يف هذا العامل الذي خلقه اهلل، العذاب الأ ليم ...ال ترجع يف �أمورك كلها �إال �إليه� ...أيها
يذوق �أحدهما على تابع له معتمد عليه ،ممتثل متام االمتثال لقوانينه اجلاين على نف�سه ...لعلك عند اهلل كافر� ...أين العذر يف
و�سلطته املطلقة وم�شيئته النافذة� .أما الإ ن�سان، اجلناية ...ياهذا� :أتدرى من �شيطانك؟ �أنت �شيطانك...
متامه» فبتميزه العقلي واللغوي ،وامتالكه حق التكليف، اقت�ص من نف�سك ،فقد قتلتك ،ثم �أق�صيها منك بعد
و�إرادة الع�صيان� ،أو كما يذهب كريكجور �إىل �أن كل قتلها .قتلتك بالت�سويل وقتلتها بالتعويل ،فكان ق�رص
ما ورثه الإ ن�سان من خطيئة �آدم هو قابلية الوقوع كما الت�ضليل والتخييل ...قيل القتل �أعفي من الأ �رس...
يف اخلطيئة ،فهو وحده القادر على اخلروج عن هذا �أنت واهلل ال�شقي ...املطرود من باب الكرامة �إىل فناء
النظام ،حيث ميكنه خمالفة الأ وامر الإ لهية وعدم الهوان ،وعذرة الذل ،و�ساحة احل�رسة ...جترع مرارة
�إطاعتها ،وتدمري عالقة التبعية امل�ست�سلمة ،واالنقياد الك�أ�س املرتعة ...بالي�أ�س ...فت فوتا ال �إدراك بعده،
العبودي املطلق للربوبية و�رشائعها ،لهذا كان هناك وبدت بيودا العود معه ...يا عدو نف�سه ،وجالب حتفه
دوما الوعد والوعيد ،والرتغيب والرتهيب .ومن ثم، بيده ...ويا جمهزا على روحه بخنجره».
فاخلطيئة �أو الذنب هما دوما �أمام اهلل ،و�إزاء قوانينه وهكذا تقت�ص الذات من ذاتها اخل�سي�سة التي �سولت لها
و�رشائعه� ،إنها حالة دينيه باملقام الأ ول ،ناهيك عن ال�سقوط يف هذا الدن�س الدنيوي ،وا�ستطاعت باملكر
ت�أثريها االجتماعي والأ خالقي. واحليلة واملراوغة واخلديعة والرياء اختال�س ذاتها،
ورغم الطابع ال�سلبي لهذه احلالة ،ف�إن كل من يرتكب وجعلها تعول عليها ،وت�ستند �إليها ،خمايلة �إياها بوجه
املع�صية ي�ؤكد ذاته وا�ستقالله ب�صورة ما �إزاء اهلل �صديق حميم يخفي كونها العدو الأ ول ،بل املت�آمر على
بع�صيانه �إياه ،وحتديه للو�صايا والأ وامر الإ لهية. اغتيالها وتدمريها!! �أي �أن الذات الكاتبة بتعريتها القا�سية
ويف كل مرة يرتكب فيها املرء املع�صية ،ف�إنه يجدد الفا�ضحة لذاتها ،تعرية الذل ،وانح�سار القناع الزائف،
59 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
املطلق ذاته .فاخلاطئ الآ ثم ،قار يف عمق النظرة الإ لهية فعل التمرد ثانية ،كما ميار�س ح�ضوره اليائ�س مطلقا
املتفر�سة املرت�صدة الغا�ضبة املتوعدة ،كما �أنه قار يف ماثال �أمام اهلل.
عمق النظرة الف�ضولية املنتهكة للح�شد ،ولعلها املتطلعة ذلك �إن ا�ستمرار الذات يف املع�صية �أو التقلب بني
بحنني وح�سد وتوق لنموذج االنقالب الآ ثم ،ومدارات الأ وزار ،وعدم ا�ستجابتها ل�صوت ال�ضمري الأ خالقي �أو
احلرية الآ �رسة ،حرية ال�سقوط خارج كل الدوائر وال�سلطات للوازع والأ مر الدينى يدعم حالة الي�أ�س ويكثفها!! �إنه
والأ نظمة .غري �أن هذا ال يتحقق للخاطئ الآ ثم �إال �إذا مار�س وعي عبثي حاد بالال جدوى ،و�سري يف طريق البيدودة
وعيه بخطيئته ،واعرتف بجر�أته وتطاوله ،وعاي�ش اللحظة الذي ال رجوع منه على عك�س ما قد يبدو من �أنه
يف �أعلى جتلياتها الوجودية ،جتلى الأ مل والعذاب وقلق ح�ضور ا�ستبدادي للأ نا !!
مواجهة فراغ احلرية ودوار العبث الالنهائي حني تنتفي ولعل هذه اللحظة تعد من اللحظات القليلة النادرة يف الزاوية ال�صوفية،
كل القوانني ،ومنار�س وجودنا يف اخلالء اخلرب. حياة الإ ن�سان الفرد التي يواجه فيها اهلل ،وميثل �أمامه تعترب اجل�سد عالمة
وال بد لنا من التنبه ل�شيء هام يف هذا ال�سياق ،هو داخل عالقة ثنائية وا�ضحة ال�ضدية والتناق�ض .ورغم �أن
كم االلتبا�س واملفارقة الكامنني داخل هذه اللحظة الإ ن�سان ،من وجهة النظر الدينية ،ماثل دوما �أمام اهلل� ،إال ودليال �شاهدا على
املعقدة للوعي حيث تت�أرجح الذات اخلاطئة ما بني �أن وعى الذات بذاتها ،وخطيئتها يف تلك اللحظة يجعلها �صدق دعوى ال�صويف،
العذاب والأ مل الناجمني عن ارتكاب اخلطيئة ،بل تعي هذا املثول وعيا مكثقا عاتيا يف وط�أته و�شدة وتفانيه املخل�ص يف
الفزع والرعب �إذ تواجه الذات حريتها املدمرة ،وتقف ت�أثريه� .إنه الوعي بكون الذات حما�رصة بالنظرة الإ لهية توجهه نحو الفناء
وحيدة �أمام املطلق ،من ناحية ،وبني اللذة والن�شوة املتفر�سة ،نظرة الوعيد ب�سعري اجلحيم وعقاب الآ خرة، يف ربه .حيث تغدو
املجنونة حني تغدو ممار�سة اخلطيئة والوعي بها وانح�سار الرحمة والعطف الإ لهي!! �إنها نظرة تتناق�ض عالمات التحول
م�ساحات لنمو ال�شعور الذاتي بالتفوق والإ �ستثناء كلية مع نظرة اخللق الأ وىل ،نظرة املحبة وع�شق اجلمال
والتميز ،بل ال�سعي العنيف لإ ق�صاء الكل ،و�إعالن فيما ن�ص احلالج ،ونظرة الرحمة االمتنانية ال�شمولية
والذبول والذوبان
ح�ضور �شمويل يطوي الكل داخله وينفي �أي �إمكانية التي اخرج اهلل بها اخللق من ح�صار العدم الإ مكاين ،فيما لذلك الكيان ال�صلب
للمغايرة ،ومن ثم لل�رصاع �أو االختالف ،من ناحية ارت�أي ابن عربي .ورغم ق�سوة النظرة الإ لهية املهلكه املتما�سك تعبريا عن
�أخرى .ووفقا لالنحياز النهائي ،يتحدد م�صري الذات ال�صاعقة ،نظرة البيدودة� ،إال �أن ح�ضورا ما �أعلن عنه �إزاء تقدمي ال�صويف ج�سده
و�إمكانات ح�ضورها. الإ له ،ح�ضورا مل يتجاهله الرب بعد ،تطاوال مازال ي�ستحق قربانا على مذبح
يقول احلالج -: اهتمام الرب والتفاته ،بل غ�ضبه ووعيده .بعبارة �أخرى، الع�شق الإلهي
�أريـدك ال �أريـدك للـثواب ورغم املردود ال�سلبي للخطيئة ،دينيا و�أخالقيا� ،إال �أنها
ولكـنـي �أريــدك للعـقـاب ممار�سة قد تنطوي على �إيجابية ما ،جتعل منها ف�ضاء
فكل م�آربي قد نلت منها خ�صبا وثريا ،ولعله �رضوريا وحتميا لكي ت�ؤ�س�س الذات
�سوى ملذوذ وجدي بالعذاب من خالل خو�ضها فيه فرادتها ووجودها الأ �صيل� .أو كما
ثم يقول: يقول كريكجور �أن اخلطيئة هي �أقوى تعبري عن الوجود
كفرت بدين اهلل والكفر واجب لأ ن �شعورنا بها لي�س �شيئا � آخر �سوى �شعورنا العميق
لدى وعند امل�سلمني قبيح بوجودنا وفرديتنا .والرجل املذنب يجد نف�سه وحيدا متاما
�إن �شيئا ما من�رسبا من احلالج يف عروق التوحيدي ،وظال �أمام اهلل ،وهو ميار�س ال�سري يف طريق الوح�شة املطلقة،
ما من �أثر م�سيحي مندرج يف ر�ؤية كليهما! طريق ال�شيطان ،حيث االنف�صال ال عن اهلل ،والذات املثال
و�إذا كانت الذات اجلاحمة ت�ؤكد ح�ضورها امل�ستقل والندى (العبودية املح�ضة احلقة) فح�سب ،بل عن الآ خرين
�إزاء اهلل عرب الذنب واجلناية ،ف�إنها كذلك ت�شعر بكونها على مبعايريهم الأ خالقية والدينية ،و�رشائعهم املعلنة!!�أو لنقل،
�صلة باهلل مبقت�ضى ذلك الفعل نف�سه الذي به انف�صلت عن �إن االنف�صال عن احل�شد �سواء عن طريق ال�سلب �أو الإ يجاب
اهلل!! ذلك �أنه من الآ ن و�صاعدا �ستغدو قرارات الذات على هو بداية ال�سعي اجلموح لت�أ�سي�س الفرادة واخل�صو�صية
�صلة دائمة بالأ زيل لوعيها مبثولها اخلاطئ �أمام اهلل .ولعل الذاتية ،وحتقيق املثول احلقيقي �أمام اهلل ،مثول الأ نا
الذات يف هذه اللحظة املزلزلة حل�ضورها النمطي وثوابتها املناوئة!!ورغم كون اخلطيئة متثل انتهاكا م�ستمرا لقوانني
امل�ألوفة ،تتماهي �شعوريا مع الع�صيان الأ ول والذي كان الإ له ونظمه وعوامله ،ورغم كونها انف�صاال �صارخا عن
�سببا يف الهبوط من اجلنة ،وت�أ�سي�س احل�ضور الب�رشي كل هذا� ،إال �أنها �إعالن يائ�س عن الوجود ،بل لعلها ات�صاال
�أو ال�سقوط يف قب�ضة العامل املادي العدمي� .إنها حلظة دائما وحميما ،بكل ما هو �سوى الفرد اخلاطئ الآ ثم ،حتى
60 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s الطرد خارج ف�ضاءات العزة والكرامة والرحمة الإ لهية
الذات بوعيها هذا تقتن�ص ذاتها من دائرة التناهي وال�ضياع
والفناء ،بل من التجائها �إىل ذاتها اخلربة اخلاوية!! يقول �إىل الهوان واحل�رسة ،حيث انح�سار ظل احلق وجوده عن
التوحيدي-: ذلك ال�شقي ،ومعاناة الذل والوح�شة العارمة .لقد ان�صاعت
«ك�أنه لي�س لك �إىل اهلل �أوبة� ...إن عدو اهلل ال ير�ضى الذات التوحيدية لالختيار الدينوي املبتذل ،فطردت من
منك �إال بالبعد عن باب اهلل! و�إال بالعقوق والهوان من جنة اخلالن الأ ول ،رفاق الطريق يف زمان الرباءة والأ مان
ثواب اهلل ،و�إال باملقت واخل�رسان عند مالئكة اهلل� ،إال والتناغم ،و�ألقي بها يف عامل الغربة وخ�ضم �رصاع البقاء
ب�سواد الوجه عند �أولياء اهلل ...يا هذا كيف ا�صف لك الوح�شي العدمي!!
احرتاقك يف حالك وتقلبك يف معروف زمانك ...وازدراء وتنطوي جتربة الذات امل�أ�ساوية العنيفة يف هذا ال�سياق
ال�صغري والكبري لك وتقزز الرفيع والو�ضيع منك». على مفارقة الفتة ،فمن ناحية ،ت�سعى الذات القتنا�ص
وي�شكل الوعي بعمق اخلطيئة ووط�أة احل�ضور وحيدا ح�ضورها ومتيزها الفردي وجوديا ومعرفيا وقيميا من
موح�شا �أمام اهلل �إمكانات التوبة �أو الإ نابة والرجوع �إىل عمق اندراجها الغافل يف العامل الطبيعي البهيمى ،واحل�شد
احلق وال�صواب!! �إن فعل الإ نابة هنا يوازي رمزيا فعل االجتماعي الغوغائي ،بل والعالقة الدينية القانونية من
العودة لأ ح�ضان الأ لوهية ور�أب ال�صدع الوجودي معرفيا خالل �إعالن فرديتها املناوئة العا�صية .ومن ناحية
وقيميا !! ذلك ال�صدع الذي جنم عن فعل اخللق!! ثانية ،ت�سعى الذات لتحقيق �إن�سانيتها احلرة الأ �صيلة
يقول الق�شريي-: بو�صفها خملوقة على ال�صورة الإ لهية ،وال يتحقق اكتمالها
«قال ذو النون-: الوجودي واملعريف واخلالق �إال ببزوغ هذه ال�صورة عرب
حقيقة التوبة �أن ت�ضيق عليك الأ ر�ض مبا رحبت حتى مراياها� .إنها ال�صورة التي تزين هذا احل�ضور الإ ن�ساين
تكون لك قرار؟ ثم ت�ضيق عليك نف�سك ...الملج أ� من بزينة العبودية املح�ضة للمعبود ،ولي�س �إدعاء الطغيان
اهلل �إال �إليه» والندية الربوبية �إزاء اهلل !! �أو كما يقول التوحيدي-:
و�إذا كانت التوبة ت�ستدعي للأ ذهان توبة �أدم التي �أورثها «�ألوهية �شائقة وعبودية الئقة( ...يا هذا :زين حقيقتك
ذريته ،فيما يت�صور �أبو حف�ص نقال عن الق�شريي ،ف�إن باحلق . . ...يا هذا� ...أقم حدود العبودية ب�آداب النف�س،
التوبة هنا هي توبة ال عن الذنب �أو اخلطيئة ،لكنها توبة ثم متن درجات اخل�صو�صية حلالوات الأ ن�س ...وخف
عن ح�ضور الأ نا و�إعالنها فرديتها املناوئة يف وجه احلق! من حال تكون بها م�ستدرجا ف�إن هلل �أ�رسارا يف غيوبه...
�أو كما يقول احلالج-: تفرد ...و�أقام كل من �سواه على درجة العاجز الناق�ص،
«بيني وبينك �إين ينازعنيفارفع بلطفك �إين من البني» ليكون وحده �إلها بالكمال ،ويكون غريه خلقا على
وهكذا ،ف�إن م�ساحات الغفران والت�سامح الإ لهي هنا، اختالف احلال بعد احلال»
والتي ال تكت�سب م�صداقية ح�ضورها وعظمتها �إال عرب وهكذا ،ال تطاول �أو جتاوز للعبد داخل م�ساحات الكمال
خطيئة �إن�سانية وجتاوز عظيم التطرف والبغي لن تغدو الإ لهي ،لكن حتري�ضا ما منبثا داخل هذه التحذيرات من
م�ساحات الغفران ال�رشعي الربوبي للعبد العا�صي!! �أو مكر اهلل!! بل �إن العبور من حالة الغفلة واال�ستالب الدنيوي
ميكننا القول ب�أنها �ستغدو م�ساحات لغفران العا�شق �إىل حالة الإ ن�سانية املكتملة بال�صفات الإ لهية ،والعبودية
للمع�شوق ،وت�ساحمه الربح!! وهو ما يعني عبور البينونة املح�ضة ،ال يتم �إال عرب مطهر الذنب واجلناية ،جناية
الإ لهية الإ ن�سانية ،والقرار بل التماهي يف ف�ضاء الغبطة �إعالن الربوبية التي تتبلور عرب ندية ارتكاب املع�صية
الأ زلية فيما يطلق عليه التوحيدي ،حيث يقول-: هللّ.
و�إعالن التمرد يف وجه ا ّ
«الغبطة هي املطلوب لك ،واملرادة بك ...الغبطة يف ان وعى الذات بخطيئتها هو ما يك�سب هذه اخلطيئة
النجوة من هذه الدار� ...إىل حمل جتد فيه النعيم طبيعتها املناوئة ومغزاها التمردي ،وهو ما يجعل الذات
�صافيا ،واحلق باديا ،حيث املوىل يدنيك حل�رضته حتقق ح�ضورها يف ب�ؤرة النظرة الإ لهية وعمقها!! انها
فتتنعم ...اليلتهب . .يف �صدرك نف�س ،وال يخمد بني حالة مناق�ضة حلالة الغافل اخلاطئ ال�ساقط من عني
يديك قب�س!!» اهلل بل انها ا�سرتداد للذات من وهدة ال�سقوط والالمباالة
ومن ثم ،لعل العبور للقدا�سة يتحقق يف �أغلب الأ حيان عرب الإ لهية� .إن الوعي باخلطيئة بو�صفها ع�صيانا مناوئا
ارتكاب املع�صية اخلارقة للنامو�س الإ لهي!! مرياث �إن�ساين للإ له و�رشائعه ينت�شل الذات من ممار�سة ح�ضورها و�إنيتها
�أ�سطوري قدمي ت�رسب للر�ؤية ال�صوفية الإ �سالمية!! وحريتها ب�صورة عدمية تلتهم وجودها وتورثها �إح�سا�سا
و�إذا كان ارتكاب الذنب �أو اخلطيئة يف �سياق الغفلة �أو �شقيا بكونها ملقاة وحيدة مهملة يف هذا العامل !! �أي �أن
61 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
و�إذا كانت اخلطيئة تعني االنف�صال والفردية ،ف�إن الندم الغياب املعريف هو قتل للذات الإ ن�سانية احلقة الراقية،
والأ �سف ،النوح والبكاء والعويل� ،أو التوبة والتفكري ،يعيد وا�ستالب عارم لوجودها ،ف�إن الوعي بهذا الفعل هو حلظة
الذات �إىل حظرية الآ خرمب�ستوياته املختلفة� ،إىل حظرية �إعالن م�أمت هذه الذات العليا� .أو بعبارة �أخرى ،يظل ال�شعور
امل�شاركة� .أو لنقل �أن العلنية التي متار�س هنا عرب الندم امل�ؤ�سي بفداحة الذنب وعمق كارثة الفقد الذاتي م�ضمرا
ال�صاخب هي ح�ضور �أمام الآ خر الن�سبي واملطلق يف � آن خمتفيا من مرايا الوعي ،يغلى به الداخل وميور ،لكنه يقمع
!! ورغم �أن الذات ت�سعى لتدمري احل�ضور الذاتي يف هذا دوما يف ظل �سطوة الذات الدنيوية وطغيانها ،وخمايالتها
الف�ضاء الدنيوي� ،إال �أن فعل االعرتاف العلني بالذنب الوهمية بال�سعادة واللذة!! ومع انتباهه الوعي يفور ال�شعور
واجلناية والندم عليه قد ي�ؤدي لنتيجة عك�سية �أي �أنه قد امل�ؤ�سى بالذنب والندم والإ حباط ثائرا م�سفرا عن ق�سوته
يعيد ت�أ�سي�س ح�ضور الذات و�سطوتها يف �إطار �أكرث فاعلية وحدته ،معمقا الإ ح�سا�س بال�شقاء واالنف�صام الذاتي ،بل
وت�أثريا وهيمنة هو �إطار التائب العائد ممتلك �إمكانات يدفع الذات �إىل معاناة جتربة الفقد معاناة �صاخبة ،ومن
القدا�سة .ولعل ممار�سات جماعات البكائني يف الب�رصة ثم النوح عليها ،والغرق يف بكاء عارم تكفريا عن اخلطيئة التناق�ض ال�صويف
والكوفة بعد مقتل احل�سني لي�ست بعيدة عن هذا ال�سياق، وتطهر منها!! ما بني الرغبة
فلي�ست امل�س�ألة حم�ض حترر من عقدة الذنب ،بل �إنها قد �إن النوح والبكاء على املفقود هو �شكل من �أ�شكال ا�ستثارة يف تدمري اجل�سد
تكون م�ساحة ل�سطوة الذات على الآ خرين ب�صورة مراوغة!! واحلنني اجلارف للذات املفقودة!! بل �إنه حماولة لإ حياء والإبقاء عليه �أن تلك
فاالعرتاف العلنى والندم قد يكون يف بع�ض الأ حيان وبعث هذا املفقود على م�ستوى الذاكرة بو�صفها حالة
خدعة ال واعية متار�سها الذات �ضد ذاتها و�ضد الآ خرين، خالقة متجددة �سعيا لتحقيق الكينونة وجتاوز حالة ال�شكوى لي�ست ت�أملا
فبينما تلقي عب أ� الذنب على كاهل الآ خر املعرتف له، ال�سقوط والت�شظي الذاتي!! �صرفا � ،إمنا هي �أمل
وحترر من ثقله ،ت�ؤ�س�س �سطوتها و�سيطرتها وجدانيا يقول التوحيدي-: تتخلله اللذة ،ولذة
و�شعوريا عرب م�ساحات الرثاء والعطف واالنبهار ب�شجاعة «ياهذا� ...إن وجدت بني �رسك وعالنيتك نفرة ال�شك، حمكومة بالأ مل،
املعرتف والتفاعل مع موقفه الرتاجيدي البطويل ،حيث ووح�شة الظن ...وك�آبة الي�أ�س ...فاعلم �أنك مطرود من
يغدو مر� آة للآ خر كا�شفة لعذاباته وغواياته .ولعلها تتحرر، الباب ...حينئذ وكل عينك بالدموع ...و�ألهج بالندم
وبهذا فهي فعل
وحترره معها من ثقل مفهوم الذنب ،وتفتح له م�ساحات على غاية الولوع� ... ... ...شوق مالهبة ال تخمد ،ووجد ي�ضايف بني اللذة
التوبة ،لكنها تورطه �أكرث ف�أكرث يف انبهاره بها و�سقوطه بك غالئله ال تربد وت�سليم لك من ف�ضلك ال يجحد، والأ مل ويجمعهما
حتت �سطوتها الطاغية و�سحرها املقد�س!! �إن فعل الندم وتلذذ بذكرك ال يالم امل�ستهام عليه ...وهيماين عليك معا
ال�صاخب هنا ي�ؤ�س�س ملركزية الذات بو�صفها مركزية فيك لأ ن البينونة بيني وبينك �ساقطة ،والكينونة يل
كونية تولد قدا�ستها من عمق جنايتها وتطاولها على بك»
املطلق!! وميكننا القول ب�أن هذا النوح والبكاء هو �شكل من �أ�شكال
ويثري انتباهنا �أحد ن�صو�ص التوحيدي حول بكاء الذات الإ عالن ال�صاخب عن الندم ،وهو �إعالن �أمام �شهود عيان
على ذاتها املفقودة� ،إذا يقول-: ال الآ خر املطلق فح�سب ،بل �أمام كافة جتلياته الكونية
«يا هذا�:إن كنت ثاكال فنح على ما �أ�صبت به ...يا هذا اجلزئية!! ومن ثم كان احلديث عن ملأ الدنيا �رصاخا
�:إذا كان من يفقد غريه فيعذر وي�سمى ثاكال ،فما تقول ولطما ،وا�ستدعاء النواحني للم�شاركة يف نعي الذات� . .إلخ،
فيمن فقد نف�سه ،هذا واهلل �أحق بالبكاء ،و�إذا بكي الأ ول يقول التوحيدي.
دمعا ،فالأ وجب �أن يبكي الثاين دما» «يا هذا لو علمت ما قد ح�صل بك ...مللأ ت الدنيا �رصاخا
يثري هذا الن�ص العديد من الت�سا�ؤالت ،فمثال ما داللة على نف�سك و�س�ألت النواحني �أن ي�سعدوك بالبكاء على
ا�ستخدام لفظة الثكل يف هذا ال�سياق ،وهو يعني ما فاتك� .أي م�صيبة �أعظم من م�صيبتك؟ ياهذا :فتنت
لغويا ثكل الأ م لوليدها؟ ترى هل لهذه الداللة ارتباط بهذه الزينة احلائلة وذهبت مع هذه العاجلة الزائلة»
بت�صور التوحيدي لعالقة الذات الإ ن�سانية ككل بروحها فا�سكب الآن دموعك على هذه احلال ...ف�إن الدموع
الراقية(ن�سبها الإ لهي)؟ حيث تغدو هذه الروح كاجلنني املنحدرة على هذه اخلدود الن�رضة �شفاء للأ كباد
املنطوي يف رحم الذات من حيث (متامها الوجودي)� ،أي املحرتقة بالندامة والأ �سف ...فهلم حتى نت�شاكي
خلقتها املتكاملة ،والذي يتحقق بكامل ح�ضوره ويولد ونتباكي ...فقد �رصنا �إىل حد العطب ...وانتهينا �إىل
جميال بهيا حينما تتجاوز الذات م�أزق �سقوطها الوجودي، حرمي الي�أ�س وعر�ضة القنوط ...حني كان الذنب كله
وغفلتها الدنيوية ،وتتحلي بال�صفات الإ لهية ،فتتجلي لنا ،وحتى ك�أنا �شقينا بنا ،وحرمنا منا».
62 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قوله �سالف الذكر ف�إن (الدموع املنحدرة على هذه اخلدود الروح بزينتها على الكون معلنة حياة الذات احلقة!!
الن�رضة �شفاء للأ كباد املحرتقة بالندامة والأ �سف). �أو كما يقول التوحيدي:
و�أول ما يثري االنتباه يف هذه ال�صورة اجلميلة املركبة «ال �سبيل لك� ...إال برف�ض الرذائل كلها :قليلها وكثريها،
هو ذلك االقرتان بني الدموع (املاء ال�ساخن املتدفق من وحتلي بالف�ضائل ب�أ�رسها :دقيقها وجليلها .وهذه
العني عرب فعل البكاء) من ناحية ،والأ كباد املحرتقة �صورة �إلهية متى حركت نف�سك �إليها ،وجلبت بزينتها،
بالنريان الداخلية ،نريان الندم والأ �سى والأ �سف .ويقدم وبرزت ببهجتها ،زارتك مالئكة ال�سماء بالتحية بعد
لنا �أحد الباحثني حتليال الفتا لهذه العالقة نعتمده يف التحية ،و�أهدت �إليك العطية بعد العطية ،وكرمت بني
هذا ال�سياق يرى الباحث وفيق �سليطني يف كتابه ال�شعر الربية .و�رصت �إذا دعوت �أجبت ،و�إذا متنيت �أ�صبت،
ال�صويف� ،أن الدموع(املاء) ت�ؤثر يف النار الداخلية التي و�إذا توهمت حققت ،و�إذا �أوم�أت اكتفيت ،و�إذا �أ�رشت
نتج عنها احرتاق الأ كباد وت�سهم يف التخفيف من قوة بلغت ،و�إذا قلت كان قولك م�سموعا ...و�سعيك م�شكورا
ا�شتعالها بحيث ال ي�ؤدي فعلها احلارق �إىل التدمري وعملك مربورا».
الكلي للذات و�سلب وجودها ،ومن ثم فهي ت�شفي الأ كباد �أما �إذا ا�ست�سلمت الذات لغفلتها ،وغا�صت يف اختيار الدنيوي
املحرتقة وتنزل عليها بردا و�سالما من �أثر النار احلارقة. ال�سفلي ,مات جنينها داخلها ،وعا�شت ك�أم ثكلى ال تعي
ويف نف�س الوقت ،ف�إن النار ت�ؤثر يف الدمع� ،إذ� ،أنها يف حجم م�صيبتها بو�صفها �أ�ضحت قربا مظلما لوليدها الذي
الوالدة الروحية �إتقادها جتففه وجتفف من حدة �إراقته وهدره يف اخلارج فقد قبل �أو يوجد ،و�إذا تفيق الذات على وعيها بالكارثة
للعارف تتحقق وبذلك حتفظ للذات قدرا من وجودها اخلا�ص ،ومن ثم ف�إن تبد�أ النوح والبكاء على فقيدها املحتوى داخلها ،والذي ال
عرب تدمري هذا التفاعل بني النقي�ضني(املاء/النار) يحقق التجدد �سبيل �إىل لفظه خارجها ،و�إال لفظت وجودها ذاته.
الذات الدنيوية واحليوية واال�ستمرارية اخل�صبة ملعاي�شة حلظة النوح ولعل احلديث عن البكاء دما يثري بدوره الت�سا�ؤل .ترى هل
واحتياجاتها والبكاء على الذات املفقودة .ويف الوقت نف�سه يهدف �إىل يومئ من طرف خفي �إىل �رضورة �إراقة دم الذات الدنيا
تقلي�ص فاعلية كل من النقي�ضني حيث ميت�ص كل منهما القاتلة بو�صفه الفداء الواجب تقدميه عو�ضا عن الفقد
مبعنى � إخ�ضاعها طاقة الآ خر ،وال ي�سمح له بال�سري �إىل مداه الأ ق�صى فيحطم املريع للذات الوليدة الراقية .خا�صة� ،أن الدم ينطوي على
املطلق لهيمنة الذات حتطيما كليا �سواء عرب االحرتاق .الكلي بنار احلزن داللته املزدوجة ،فهو ،و�إن حوي معنى اجلرح واملوت
الروح ،ف� إن الداخلي� ،أو الغرق الكامل يف طوفان الدموع امل�سكوبة والإ راقة ،ف�إنه يحوي معنى احلياة وا�سرتداد الوجود!!
الوالدة الطبيعية املنحدر عالمة احلزن اخلارجي. ناهيك عن خروجه املجازي من العني (ذلك ال�شق ال�صغري
غري �أن املاء والنار هما من �شارات الباطن احلي الذي كاجلرح يف وجه الإ ن�سان) الذي ي�صل ،ويف�صل يف � آن بني
تتحقق عرب ي�صدران عنه ،ومن ثم فهما مرتبطان بالباطن الذاتي ،ولذا ظلمة الباطن ،وكمونه ،وما بني ا�ستنارة اخلارج و�سفوره!!
�شبحية الكيان فهما يتهيجان بفعل احلنني �إليه ،احلنني لذاتها الباطنية ترى هل خروج الدم من العني اجلرح عرب البكاء هنا هو
ال�صويف دون املفقودة ،وحركتهما هي تفعيل للباطن وت�أ�سي�س له على خروج للفا�سد املطمور �أو للموت من داخل الروح �إىل
الق�ضاء عليه!! ح�ساب الظاهر� .أو تدمري الظاهر اجل�سدي حل�ساب الباطن اخلارج ومن ثم فهو لي�س تنفي�سا عن كربها فح�سب ،بل
الروحي عرب االحرتاق والإ غراق!! �سعيا اللتئام اجلرح؟! مل تعد العني نبعا للمياه ال�ساخنة
�إن الداللة التدمريية لكل من املاء والنار هنا تنطوي على املنبثقة من عمق الذات ،لكنها غدت نبعا للدماء احلارة
نقي�ضها التطهريي حيث �أن التدمري يعني حرق �أدران تغت�سل عربه نظرة الذات اجلريحة متطهرة من كدر احل�سي
الذات الدنيوية و�شهواتها (ولذا اختار الأ كباد) ،واالغت�سال وكرثته امل�ضللة .وتغم�ض العني �أو يكف تفجر الدماء
من خطاياها وذنوبها. من النبع حني يلتئم اجلرح فيظلم الب�رص لت�ضئ �أنوار
ومن عمق الداللة التطهريية لكل من املاء والنار هنا الب�صرية ،وت�صفو مراياها ،ويتوجه النظر �إىل الداخل
تنبثق داللة احلياة فها هي النار تن�ضج الأ كباد ،وها هي اكت�شاف لإ مكانات احلياة ال املوت يف نبع الدم احلار ،نبع
الدموع تنحدر �سيال حيا على اخلدود الن�رضة حتوي داللة الوجود ،بحثا عن حقيقة الروح مر� آة حلقيقة اهلل� ،أو عني
اخل�صوبة والن�ضارة واجلمال والنماء ،بل لعلها حتمل دفء العني ،م�صا�ص التوحيد!!�إنه ميالد النظرة من الدم ،نظرة
الداخل �إىل تلك العيون املوح�شة عاك�سة �صفاءه وحميميته ت�سرتد وحدة الوجود �إذ ترتد خلالقها ،فرت�أب �صدع الوجود
يف مراياها ،مزيلة غ�شاوة و�صد�أ الوح�شة ،م�شيعة حالة الناجم عن نظرة اخللق الأ وىل!!
من الإ ن�س مبعنى احلياة بو�صفها تيارا متدفقا من الأ مان ويجدر بنا هنا �أن نتوقف عند تلك العالقة املعقدة بني
والراحة الوارفة وطم�أنينة اخللود الفردو�سي!! الدموع املنحدرة ،واخلدود الن�رضة ،والأ كباد املحرتقة يف
63 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
� آفة� ،أي �إىل الدار العلوية مير من خالل نفي الذات خارج وال يكفي فعل البكاء والنوح بكل ما ينطوي عليه من
الف�ضاء الإ ن�ساين بو�صفه ف�ضاء اجتماعيا باملقام الأ ول. دالالت رمزية واحدة لإ عادة بعث الذات الراقية بعد
بل �إن م�س�ألة تدمري اجل�سد و�صهره يف �أتون التجربة موتها� ،إن مل يدعم بال�سلوك الفعلي ذي الطابع االنتقامي
ال�صوفية تتم من خالل الت�صور ال�صويف للج�سد بو�صفه الت�أديبي ،حينئذ تكتمل حلظة معاي�شة الأ مل ،خما�ض ميالد
امتدادا للكيان االجتماعي .ومن ثم ف�إن االنقطاع والعزلة الذات العليا ،بذورتها احلقة ،يقول التوحيدي:
عن االجتماعي تتطلب تقوي�ض �أركان وجوده املختزن يف «يا هذا ...نح على نف�سك نوح الثكول ،وكا�شفها
الذات� ،أي �أن الإ طاحة بحاجز الوجود اجل�سدي هي تقوي�ض مكا�شفة الن�صوح العقول ،وافتتح �أمرها ب�أن تفطمها
رمزي للكيان االجتماعي ،واقتالع للأ نانية عرب تدمري عن عادتها ،وتكظمها على جر�أتها ...ف�إذا �رصخت
احتياجاتها اجل�سدية ،وهكذا ،ف�إن العنف الذي كان من عليك فا�ضحة لك ،ف�إمتهنها �صائنا لها ،وذللها ...وخذ
املفرت�ض توجيهه نحو املجتمع �ستوجهه الذات نحو ذاتها حقيقتك بال�صرب ف�إنه ملح حال ،وال ظفر ملن �صرب
اجل�سدية دافعة �إياها �إىل التفتت واالنحالل ،متحررة من له ،وال جناة ملن ال �أناة معه ...ياهذا :ال�سعيد من... ي ؤ��س�س اجل�سد
�إعاقتها �إياها عن التوا�صل مع ذاتها احلقة مر� آة ربها!! تلذذ بالفقر ...ووجد بالعدم ...وحي باملوت ...يا هذا. . ال�صويف �سطوته
غري �أن ما يلفتنا يف هذا التجربة هو ذلك التناق�ض اخلفي �إن م�ضغ احلنظل احلوايل على ب�سالته ومرارته قليل املقد�سة من حيث
ما بني الرغبة ال�صوفية امللحة يف تدمري اجل�سد ،وما بني يف طلب الدار العلوية ،والنوم يف املزابل ،وجماورة ما ينفي وجوده،
�أهميته و�رضورة الإ بقاء عليه وميكننا فهم هذا التناق�ص الكالب �سهل مع امل�صري �إذا كان حيث ال مر�ض...
من عدة وجوه �أو زوايا. وال � آفة ،وال عاهة ،بل االنتحار ...وزهق الروح هني وح�ضوره املادي
�أوال :الزاوية ال�رشعية ،والتي اهتم بها ال�صوفية ،خا�صة �إذا كان ذلك طريقا �إىل اهلل الذي هو مالك الأ ولني الواقعي ،واملعياري
ه�ؤالء الذين �سعوا للم�صاحلة بني الت�صوف ،و�أهل ال�سنة، والآخرين ...ياهذا ...ما و�صل الوا�صلون �إال بنزع الروح، طبيعيا وعقليا!!
بعد كارثة احلالج ،ومنهم ال�رساج والق�شريي والغزايل وقلع ال�رض�س ،واحرتاق ال�صفة ،وتبدل ال�سمة ،وجترع
الذي بلور هذه الزاوية ال�رشعية يف �شكلها النا�ضج!! العلقم ومعانقة البالء ،وللتجايف عن املهاد الوثري،
وتتلخ�ص هذه الت�صورات يف ت�أكيد �أن تدمري الكيان والتقلب على �أحل�سك النابت� ...صحبة امللوك ال تنال
اجل�سدي الإ ن�سانى يعني تدمري التواجد ال�رشعي له ،مبعنى �إال باجرتاح العلقم والوجه متهلل ،و�إال ب�رشب ال�سم
قدرته على القيام بحقوق اهلل وواجباته وعباداته ومن ثم والوجه ال�ضاحك� ،إال بنحر النف�س والقلب طيب ،و�إال
ف�إن اجل�سد هو �أداة ال�صويف وو�سيلته الأ �سا�سية للتقرب بتحمل البالء والت�سليم واقع� .أما تعلم �إن من تلذذ
العبودي �إىل اهلل� .أ�ضف �إىل ذلك ،اعتبار تدمري اجل�سد اعتداء بالبلوى قرب فرجه».
على خلقة اهلل الذي ال حق لأ حد يف تدمريها �إال �صاحبها و�أول ما يثري انتباهنا يف هذا الن�ص هو ذلك الإ ذالل
وبارئها ،ومن ثم فهو �أمر يدخل يف اطار املع�صية وهي الذي ت�سعى الذات العليا ملمار�سته على ذاتها الدنيا كي
الر�ؤية التي �سيطورها ابن عربي فيما بعد ،لكن من زاوية ما تق�ضي على مناوءتها �إياها ،ومتردها عليها ،فتكبح
جمالية الطابع �إذ ي�صبح اجل�سد جملى جمايل �إبداعي للذات جموحها ،وحتطم غرورها وكربياءها الأ جوف ،وتقو�ض
الإ لهية .وقد ناق�ش التوحيدي هذه امل�س�ألة تف�صيال يف �سلطتها و�سطوتها!! وهو الأ مر الذي يبد�أ من فطامها عما
مقاب�ساته حني كان يناق�ش م�س�ألة االنتحار عموما ،م�ؤكدا �ألفت من عادات خمتلفة ،وطرائق للحياة مبعنى �إجبارها
اجتماع العقل والوحي والبديهة والعادة القائمة على كون على اال�ستغناء الق�رسى عنها ،ومن ثم تدمري ذاتها الدنيوية
هذا الفعل فاح�ش ومكروه لأ نه يعتدي على اخلالق وملكه، املرتفة ب�شقيها احل�سي واملعنوي بكل �أ�شكالها ودرجاتها
�أو كما يقول : املتفاوتة� ،إنه ما يعني يف نهاية الأ مر تدمري اجل�سد ذاته
«ال يجب �أن يفرق الإ ن�سان بني هذه الأ جزاء امللتحمة حتى يذوب وينحل وحتول �سماته ،ويغدو كال�شبح ،بل قد
والأ ع�ضاء امللتئمة ولي�س هو رابطها ،وال هو على ي�صل الأ مر �إىل حد االنتحار و�إزهاق الروح بو�صفه ثمنا
احلقيقة مالكها ،بل هو �ساكن يف هذا الهيكل ملن زهيدا للتوا�صل مع الأ �صول الإ لهية مرة �أخرى .وبالطبع،
�أ�سكنه فيه ،وجعل عليه ...عمارة امل�سكن وحفظه ف�إن الت�صعيد هنا ت�صعيد جمازي الطبع ي�شري �إىل ذلك
وتنقيته و�إ�صالحه وت�رصيفه على ما يعينه على طلب النوع من املوت االختياري الذي �سيطلق عليه ال�صوفية،
ال�سعادة يف العاجل والآجل؟! وخا�صة ابن عربي فيما بعد (املوت الأ حمر) �أو خمالفة
ثانيا :الزاوية ال�صوفية ،والتي تعترب اجل�سد عالمة ودليال النف�س يف �أغرا�ضها �أي ذبحها!!
�شاهدا على �صدق دعوى ال�صويف ،وتفانيه املخل�ص يف ولعلنا نالحظ �أن العبور �إىل حيث ال مر�ض وال عاهة وال
64 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�سطوة اجل�سد وغروره وح�ضوره املت�أبي على التال�شي توجهه نحو الفناء يف ربه .حيث تغدو عالمات التحول
واالختفاء .بل �أن هذا الوعي املتجدد ب�شبحية اجل�سد، والذبول والذوبان لذلك الكيان ال�صلب املتما�سك تعبريا
واملوازي لفعل �إذابته و�إ�ضنائه و�إنهاكه ،هو وعى متجدد عن تقدمي ال�صويف ج�سده قربانا على مذبح الع�شق الإ لهي
بالإ مداد الإ لهي الوجودي واملعريف ،ومعاي�ش له .كما �أنه ولعلنا نالحظ �أن ا�ستخدام �أو�صاف الذبول والتحول
يدفع الذات �إىل مزيد من فعل الإ نهاك والتال�شي للج�سد، والوهن والذوبان وحتول ال�سمات �إلخ� ،أو�صاف تنطوي
وهو فعل يحوي مقاومته النقي�ضة داخله ،والتي حتول على ا�ستمرارية متجددة ال تتحقق بنهايتها املطلقة ،وهي
دون التدمري الكلى للج�سد .حينئذ ي�صبح اجل�سد ال�شبحي التدمري الفعلي الكامل للج�سد .يقول التوحيدي:
�سعيا ناق�صا دوما نحو االكتمال با�ستعادة �شفافيته «وذوب ج�سم ...وت�صعد نف�س ،وانهمال دمع ...وا�ستحالة
وا�ستنارته الأ �صلية مرة �أخرى من خالل ا�ستنارة الروح �سحنة ...و�شوق يوهن �أركان اجل�سد ...فاعطف رحمك
�أو الداخل عرب الك�شوف الإ لهية املعرفية املتجددة .عندما اهلل-على �شبح قد حتكم فيه البلوى ،و�أقام بني احلياة
ي�ستنري ذلك الكيان ال�شبحي اجل�سدي يغدو �صورة مر� آوية، والردى ،ال يذوق �أحدهما على متامه».
جملي ودليل و�إ�شارة ،بل براحا ت�أويليا منطويا على معاين ولعل هذا احلر�ص على ا�ستخدام �صيغة امل�صدر ،والأ فعال
الغيبي بكل كثافتها وخ�صوبتها وتنوعها الالنهائي امل�ضارعة يربز لنا تلك اال�ستمرارية املتجددة �أو تلك
وبالطبع ف�إن التحقق الكامل باحلياة النورية الروحية املعاي�شة احلية لفعل �إفناء اجل�سد ،و�إنهاكه دون تدمريه
املطلقة� ،أو بالردى (العدم املح�ض للج�سد) �أمر غري ممكن كلية!! �إن الذات ال�صوفية اجل�سدية ت�ستحيل عرب هذه
يف هذا العامل ،لأ نهما يعنيان ال�سكون املطلق فيما وراء اال�ستمرارية املتجددة �إىل �شبح يقيم بني احلياة والردى،
املوت ،وما دمنا يف �سياق احلياة ،فنحن ما زلنا يف �سياق وال يذوق �أحدهما على متام ،وهو ت�شبيه جمازي له
التوتر واحلركة والقلق ،والت�أرجح بني النقائ�ض!! �أي �أن داللته الهامة يف هذا ال�سياق ،ذلك �أن �شبحية الكيان
حتقق النهايات الكاملة يعني انتفاء ال�سعي ،ومن ثم انتفاء اجل�سدي تعني تخل�صه من كثافته الوجودية ثقله املادي،
الطزاجة الوجودية واملعرفية التي هي �أ�سا�س التجربة وت�سمه باللطافة الن�سبية ،وك�أنه ي�ستعيد �إمكانات وجوده
ال�صوفية ،و�أ�صل حيويتها وجتددها وثرائها .حينئذ يغدو الروحي القدمي ب�صورة ما ،مما ي�سهل االت�صال بالغيبي
اجل�سد ال�صويف الظاليل ف�ضاءا جامعا بني اجل�سد والفقد، واملفارق!! �أي �أن الكيان ال�صويف يتجاوز عرب هذه
احل�ضور والغياب ،احلركة وال�سكون ،القلق والطم�أنينة، ال�شبحية منطقة الواقع املظلم الكثيف ،وحدوده املادية
متام الوجود ،و�إمكانية اكتماله املفتوحة دوما �أو بلغة وقوانينه ال�رضورية القمعية ،عقليا وطبيعيا �إىل منطقة
التوحيدي ...االقرتاح واالرتياح!! احللم واخليال!!وحني ميار�س املت�صوف ح�ضوره اجل�سدي
ويلتفت الباحث وفيق �سليطني يف هذا ال�سياق �إىل فكرة ال�شبحي الطيفي يف ف�ضاء احللم واخليال ،يغدو م�ساحة
هامة حول التناق�ض ال�صويف ما بني الرغبة يف تدمري حية برحة وحرة لإ مكانية تالقى املتناق�ضات وحتقق
اجل�سد والإ بقاء عليه .ير�صد الباحث انطواء هذه الرغبة على املحاالت� ،أو تالقى الإ ن�ساين والإ لهي على �صعيد ال�شهود
ال�شكوى واال�ستعطاف ،ويرى �أن تلك ال�شكوى لي�ست ت�أملا املعريف والر�ؤى اخليالية!!ومن ثم يغدو الكيان اجل�سدي
�رصفا� ،إمنا هي �أمل تتخلله اللذة ،ولذة حمكومة بالأ مل، ال�شبحي كيانا واعدا حرا منفلتا من كل القيود والقوانني،
وبهذا فهي فعل ي�ضايف بني اللذة والأ مل ويجمعهما معا. وكافة �أ�شكال القمع واحل�صار العقلي وال�رشعي ،الواقعي
�أي �أنه يوحد بنف�سه بني لذة ال�شعور بالتال�شي و�أمل اخلوف والطبيعي .ولعل هذا ال�سعي ال�صويف يهدف طموحا �إىل
منه ،فال�شكوى هنا لي�ست طلبا للو�صل �أو �شكاية من الهجر، �إطالق وحترير كافة طاقات اجل�سد ال�صويف ،ولي�س تدمريه
بل مغامرة بالكيان و�إ�شفاق عليه يف وقت واحد ،وهي والق�ضاء عليه.
�شكوى ال تنتظر �إزالة علتها ،بل تربو ال�ستمراريتها .حينئذ وبينما يجمع هذا اجل�سد ال�شبحي الظاليل بني النور
لن ي�صبح املوت ال�صويف نقي�ضا للحياة ،بل فعل يتدفق والظلمة ،بني املجرد واحل�سي ف�إنه ي�شكل م�ساحة لوعى
فيها �أو حياة �أ�سمى داخل احلياة� ،إذ ي�صبح �إ�ضناء اجل�سد الذات بطبيعتها اجل�سدية الفانية العدمية يف مقابل
و�إنهاكه �إطاحة به من حيث هو مكان لل�سلطة الطبيعية، الطبيعة املطلقة اخلالدة للروحي والإ لهي ،ومن ثم تدرك
يف نف�س الوقت� ،إبقاء عليه من حيث هو ف�ضاء للع�شق حقيقة وجودها امل�ستعار ،و�إمكانات تال�شيها واختفائها!!
واملحبة .ذلك �أن امل�ضي بالتدمري لغايته الق�صوى يهدد ناهيك عن وعيها احلاد بانعدام ا�ستقالليتها الذاتية� ،إذ
بن�سف التجربة من �أ�سا�سها ،وبتدمري �أملها املعذب ،ولذتها ال وجود لها على احلقيقة �إال من خالل الإ مداد الإ لهي
امل�ؤملة .ناهيك عن �أن االحتفاظ بهذه احلالة ال�شبحية هو املتجدد امل�ستمر بالوجود ،وهو ما ي�ؤدي �إىل حتطيم
65 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
احلنظل املب�رس(الذي ي�سبب كلوح الوجه) ،واقتحمت احتفاظ بالكيان ال�صويف يف منطقة التوتر ما بني الفناء
اجلمر امل�سعر ...و�أويت �إىل املنابل ،و�أ�صبحت كال على والبقاء لعدم �إجها�ض م�ساحات الإ مكانية الالنهائية،
كل كاهل ...فال يهمنك ما كان ،فقد �أف�ضيت �إىل جوارنا... �أو �إحباط الرغبة وتدفقها ،والق�ضاء على مو�ضوعها
ولوال ما جترعت من الب�أ�ساء وال�رضاء ،لوجهنا ،ما وحيويتها!!و�أخريا ،ف�إذا كانت الوالدة الروحية للعارف
كنت اليوم ت�صري �إىل حظرية قد�سنا ،وال كنت ت�ؤهل تتحقق عرب تدمري الذات الدنيوية واحتياجاتها مبعنى
لب�سطنا و�أن�سنا� ...أيها ال�صاحب متى انفتح ب�رصك �إخ�ضاعها املطلق لهيمنة الروح ،ف�إن الوالدة الطبيعية
لطلب حياة نف�سك ،ان�رشح �صدرك يف تعرف كمالك تتحقق عرب �شبحية الكيان ال�صويف دون الق�ضاء عليه!!
وف�ضلك ...وبدك لروحك منك غايتك ،وحن ف�ؤادك �إىل ولعل هذه الر�ؤية ال�صوفية اخليالية تنطوي على ظالل
الفح�ص عنك مبا ...يوجدك بك ،وي�صفيك منك ...ا�صف ما من التجربة الواقعية للذات يف الف�ضاء الدنيوي.
من كدر النف�س العائقة لك عن معانى القد�س الالئقة فعلى �سبيل املثال� ،أال ميكن �أن يكون اخلوف ال�شديد من
بك ،ف�إن يف �صفائك ات�صال بقائك ويف كدرك دوام املر�ض� ،أو فقدان العافية� ،أو ال�شيخوخة بكل مثالبها،
فنائك». �أو حتى الت�شوه ،وما ميكن �أن ينجم عن هذا كله من فقد
وهكذا تتجلى الذات لذاتها بو�صفها عالمة و� آية و�إ�شارة القبول االجتماعي �أو ال�سقوط يف �سياق النبذ االجتماعي،
ناطقة بالقدرة الإ لهية ومبعاين القد�س اخلالدة الالئقة كامنا وراء هذا ال�سعي املحموم الالواعى باجل�سد يف
بها� ،صافية نقية كمياه النبع املتفجرة من الأ غوار م�سار الإ نهاك والذبول والنحول والوهن� ...إلخ؟ مبعنى �أن
البعيدة� ،أو كالنور ال�ساطع امل�شع الطارد لظلمه العدم من يدفع اخلوف الذات �إىل ا�ستنفاد اجل�سد و�إنهاكه من �أجل
جنبات الذات ولعله ولد من �أعماقها الغام�ضة!! وعرب هذا قهر اخلوف ذاته ،بل قهر الآ خر االجتماعي ومعايريه
املخا�ض الذاتي تعيد الذات ت�صفح ذاتها �أو قراءة ن�صها و�صورة املثال اجل�سدي املقبول اجتماعيا!! ناهيك
الذاتي يف �ضوء هذه الإ مدادات الغيبية املتجددة� .إنها عن كون اجل�سد الناحل الواهن املنهك هو ج�سد قمعي
القراءة التي تغو�ص بها مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا بطبيعته لنظرة الآ خر الدينوي� ،صادم ملعايريه ،منتهك
ملتب�سة املغزى ما بني اخلداع واحلقيقة ،يف ممالك احللم خل�صو�صيته ،مهدد حل�ضوره ،وجم�سد للمخاطر املحيطة
والنب�ؤات املفارقة� ،إذ تتك�شف �إمكانات التحقق بالو�صال به ،ومن ثم فهو يت�سلط عليه ب�سطوة الرعب وال�صدمة!!
واالئتنا�س والأ لفة احلقة يف حظرية القد�س الإ لهي بعد كل ولعلها �صدمة الإ نفالت من قب�ضته وهيمنته املعيارية
ال�شقاء واملعاناة الدنيوية!! عليه!! �إن اجل�سد ال�صويف الناحل ال�شبحي هو ف�ضاء حمري
غري �أن هذا االجنالء ملرايا الذاتي مبا يحقق تبادل نظرة يتحدى نظرة الآ خر الدينوي ،ويهدد يقينه املعياري،
الأ ن�س مع الإ له داخل م�ساحة الب�سط والو�صال ،ال ميكن �أن وي�ضعه يف مو�ضع االلتبا�س ،قراءة وت�أويال حيث يغدو
يبلغ ذروة حتققه واكتماله �إال يف ملكوت مر� آة احل�ضور بالن�سبة له ج�سدا غام�ضا خفيا خمتلفا ،منفردا لكنه
الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى ما بني اخلداع واحلقيقة، م�ستفز دوما اللتقاط نظرته ،والرتب�ص به!! ومن ثم،
احلب ،مر� آة احل�ضور الناحل للذات هنا ملتب�سة املغزى ي�ؤ�س�س اجل�سد ال�صويف �سطوته املقد�سة من حيث ما ينفي
ما بني اخلداع واحلقيقة ،حب الذات لذاتها �أوال!!�أو لنقل، وجوده ،وح�ضوره املادي الواقعي ،واملعياري طبيعيا
جتاوز حالة العنف التدمريي ،والوعي الت�شا�ؤمي يف عالقة وعقليا!!
الذات بذاتها ،ومبا �سواها �إىل م�ساحات احلب والرحمة ومن عمق الإ ذالل واالمتهان الذي متار�سه الذات �إزاء
والتعاطف والت�سامح والوعي اجلمايل وهو ما يتنامى ذاتها ،ينبثق كربيا�ؤها وواليتها ،وتعي الذات �إمكانات
تدريجيا ،وب�صورة متجددة عرب �إذابة الكيان الدنيوي، خلودها وجتاوزها ،وتتك�شف لذاتها من جديد ،حيث تولد
واكت�شاف جذور اخللود الكامنة يف عمق الكيان !! الذات اجلديد من عمق �أنقا�ض الذات القدمية املتف�سخة،
يقول التوحيدي:
املراجع
«�أيها الكائن املبتدع بالقدرة الإ لهية ،واخللق
-1امام عبد الفتاح امام :كريكجور رائد الوجودية ،دار الثقافة للن�رش امل�صطنع بامل�شيئة الربانية ت�أمل مواقع �آياته فيك
والتوزيع /القاهرة. وا�ستنطق �شواهد �آثاره عليك ...وك�أين بك قد وجدت
-2وفيق �سليطني :ال�شعر ال�صويف بني مفهومي االنف�صال والتوحد/، ن�سيم الو�صال ...وك�أين بك ،وقد جلي عليك امللك
القاهرة. بزينته «وقيل لك» �أرو فطاملا ظميت ،وا�سعد فطاملا
-3ابو حيان التوحيدي :الإ �شارات الإ لهية حتقيق وداد القا�ضي ،بريوت. �شقيت ،وتنعم لطاملا �ضنيت» فقد م�ضغت يف حمبتنا
66 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حممود الربيكان
حماولة �أولية للتعرّف عليه
�صـــالح نيـــازي
�شاعر ومرتجم من العراق
ُو ِل َد حممود الربيكان عام 1931مبدينة الزبري لأ بوينْ جنديينْ .كان والده تاج َر �أقم�شة،
ومعروف ًا برثائه .امتلك بيتينْ فخمينْ واحداً بالب�رصة و� آخر بالزبري .ملحمود �ستة �أخوة،
وترتيبه الثاين بينهم ،بعد الأ خت الكربى خاتون ،وكانت �أوّل معلمة زبريية بالزبري.
�أُعْ جِ ب حممود يف �صباه ،بجدّه لأ مّه ،وا�سمه «�أحمد اخلال» .كانت له مكتبة بيتية كبرية
ت�ضم بالإ �ضافة �إىل املراجع ،املجالّت والدوريّات� .إىل ذلك كان ع�ضواً يف مكتبة الزبري
الأ هلية .تعرّف حممود يف الغالب� ،أوّل ما تعرّف ،على الكتاب عن طريق جدّه .طاملا تردّد
على هذه املكتبة ،وطاملا ا�ست�شهد ب�أقوال جدّه.
ال نعرف �إ ّال النزْر القليل عن �سنوات درا�سة حممود بالب�رصة ،ما عدا ما ذكره حممود عبد
الوهاب عنه ،يوم كانا يف ال�صفّ الثاين املتو�سط .قال :انتزع املدرّ�س عن ق�ص ٍد م�سبق،
دفرتاً بغالف �أنيق من بني جمموعة دفاتر الإ ن�شاء التي بني يديه ،ونادى:
-حممود داود الربيكان
مبعطف
ٍ «نه�ض من مقعده يف الزاوية الي�رسى من ال�صفّ ،طالب معتدل القامة ،يتدثر
خفيف .م�شى نحو املدر�س �إزاء ال�سبورة .ناوله املدرّ�س الدفرت ،وطلب منه �أن يقر�أ الإ ن�شاء
الذي كتبه .فج�أة �أ�صبح ال�صفّ مكان ًا � آخر ،وارتع�شت يف وجوهنا كلماتُ حممود و�صو ُر ُه
وجمل ُه ك�أنها تتواثب حتت جلودنا…»
lاملعروف بني النقّاد �أنّ �أ�سلوب الربيكان يف بع�ض ق�صائده املجوّدة ذو خ�صي�صة
بغ�ض النظر عن �أف�ضليّته على غريه �أم ال .من �أين
خمتلفة عن ال�شعراء املجايلني لهّ ،
جاء هذا االختالف؟ من الر�سم؟ من املو�سيقى؟ من ال�سينما؟
lتكرّرت «الظلمات» و«النور» مرات عديدة جد ًا يف �شعر الربيكان ،ويف ك ّل مرّة تقوم
بنف�س الدور� .أي �أنها بقيت خام ًا مل ي�صنّع منها �شيئ ًا جديدا.
العراقي الوحيد الذي جعل مادّة ال�صمت لغة �أ�سا�سيّة يف قد نقر�أ فيما ذُكِ ر �أعاله نبوغ ًا �صغرياً مبكراً ،ولكنْ
الق�صيدة .هل لهذا ال�سبب كان ال�صخب يف �شعره ال يعني مما يلفت النظر ،ما ورد يف و�صف دفرت الإ ن�شاء ب أ�نّه
ال�ضجيج بقدر ما يعني فو�ضى نا�زشة تقطع االن�سجام؟ ذو «غالف �أنيق» .هل كان الربيكان يهت ّم بال�شكل
لكن ما ثقافة الربيكان؟ اهتمامه بامل�ضمون وربمّ ا �أكرث؟ �سرنى ذلك فيما
ربمّ ا مل يذك ْر �أح ٌد من الذين اعتنوا بالربيكان و�شعره، بعد .ما بني عام � ،1951-1950أُ�صيبت جتارة الوالد
�شيئ ًا عن الكتب الأ دبية العربية التي كان مولع ًا بها، بنك�سة .هل لهذه احلادثة �أثرٌ يف �شعره؟
كما مل ي�س أ�لْه �أحد من الذين �أجروا معه مقابالت عن هل كانت منعطف ًا نف�س ّي ًا يف حياته ،بحيث جعلته
ذلك .ك ّل ما �أخربونا به ب أ�نّه كان مهت ّم ًا بالفل�سفة، ينكبّ على الكتاب؟
وباملو�سيقى الكال�سيكية ،وكان معجب ًا �أ�ش ّد الإ عجاب ما عالقة االبن بالأ ب؟ هل كان الأ ب ذا �سطوة م�ستبدة ميكن اال�ستدالل
بال�شاعر الهندي طاغور ،الذي يقول عنه �« :شاعر داخل البيت ،بحيث �أ�صبح الق�رص -على فخامته-
�سجن ًا من نوعٍ ما؟ وملاذا �ألحّ الربيكان على ت�صوير
على تنوّع قراءات
و�صافحقيق ّي عميق الروح والذين يظنّون �أنّه جمرّد ّ الربكان ال�شعرية
ينظرون �إىل �صوره الظاهرة وال ينفذون �إىل روحه». ال�سجناء ،وهو مل يدخ ْل �سجناً؟ يقول ر�شيد يا�سني�»:شغلتْ
ومن ال�شعراء الذين �أعجب الربيكان بهم« :ريلكه م�س�أل ُة ال�سجن ،والأ هوال التي يالقيها امل�سجونون فك َر الأ جنبية يف
يتميّز بتعبريه عن قلق الروح ،لوركا ل�شعره نكهة الربيكان �إىل احل ّد الذي جعله يعود �إليها ليعاجلها يف مرحلة الحقة يف
خا�صة ،وطريقته يف ا�ستعمال ال�صور بديعة .تي. ّ �شعره م ّر ًة بعد م ّر ًة حتّى بدا وك�أنّ الأ مر من اال�ستحواذ حياته ،ولكنْ ما
� ْأ�س� .إليوت �شاعر يعي موقفه ،ويف النماذج اجليّدة امل�ضني .ومَ نْ يقر�أْ ق�صائد الربيكان حول هذا املو�ضوع
واملنولوجات الدرامية الفريدة التي كتبها على �أل�سنة
من ذكر ملكوناته
خا�ص .وم�رسحيّته ال�شعريّة« :مقتل ّ من �شعره ف ّن الأ وىل .بالإ�ضافة
يف الكاتدرائيّة» عمل فريد يف ميدان �صعب للغاية. بع�ض ال�سجناء ي�صعبْ عليه �أنْ يُ�صدّق �أنّ هذا ال�شاعر مل
الو�صف الدقيقَ املوجع ملعاناة َ يدخل ال�سجن ،و�أنّ هذا فالآ راء التي
بابلو نريودا وناظم حكمت يف �أف�ضل حاالتهما
ال�سجني و�أحا�سي�سه و�أفكاره� ،إنمّ ا هو نتاجُ قدر ٍة فائقة طرحها تلذذية
يخلقان �شعرا ًّ له �أبعاده على ب�ساطته الظاهريّة
على ا�ستبطان م�شاعرالآ خرين ومتثّلها…» للربيكان، مثرية ولكن قد
(و�إن كانا يف بع�ض حاالتهما يجنحان �إىل النرثيّة)، ال �شكّ « ،قدرة فائقة» على ا�ستبطان املخلوقات احليّة،
وهناك � آخرون .ال�شاعر اال�سباين خمينث الذي يلفت وقد تطوّرت يف �سنوات الن�ضج الثقايف� ،إىل ا�ستبطان
ي�صعب علينا �أن
النظر بغنائيته يف زمن يكاد يودّع الغنائية .فرو�ست اجلمادات .لكنْ هل كان الربيكان ي�صوّر �سجن ًا و�سجناء، ندخلها يف �أيّ باب
احلميم الرحب كال�سهول .با�سرتناك املنتف�ض يف �أم بيئة مغلقة ،وح�صاراً نف�سياً ،و�إحباطاً؟ املعروف �أنّ من �أبواب النقد
ثلوج الوحدة .ييت�س ،باوند� ،أراغون وغريهم ،و�شعراء الربيكان در�س القانون يف كلية احلقوق ،ملدّة �سنتينْ ،
ما بعد احلرب مثل يفت�شنكو .واحلقيقة �إنني �أميل على غري رغبة منه .ان�صبّ همّه على درا�سة الفل�سفة،
�إىل ال�شعراء الذين ميثلون نوع ًا من عظمة الروح ولكنّه �أذعن �إىل م�شيئة والده ،يف البداية ،ث ّم ترك
الإ ن�سانية ،وال يبهرين الت أ�نّق واال�صطناع…» (حوار الدرا�سة .يبدو �أنّ ك�شف عالقة حممود ب�أبيه �رضورية يف
�أجراه ح�سني عبد اللطيف). �أية درا�سة �أكادميية ،لأ نها تلقي �ضوءاً جديداً على معظم
ميكن اال�ستدالل من الت�رصيحات �أعاله على تنوّع قراءات املفهومات الغام�ضة التي ت�شيع يف ق�صائده املهمّة.
الربكان ال�شعرية الأ جنبية يف مرحلة الحقة يف حياته، قبل االنتقال �إىل مرحلة تالية ،ينبغي ذكر �أمر يبدو
ولكنْ ما من ذكر ملكوناته الأ وىل .بالإ �ضافة فالآ راء التي خا�صة .فقد كان ملحمود مكتب فخم ن�سبي ًا ذا �أهميّة ّ
طرحها تلذذية مثرية ولكن قد ي�صعب علينا �أن ندخلها يف ومنعزل داخل البيت .يف هذا املكتب ،عُ دّة كاملة من
�أيّ باب من �أبواب النقد� .أما جنوح نريودا وناظم حكمت �أدوات اخلطّ والر�سم .كان حممود خطّ اط ًا ور�سّ اماً .منا �إىل
«يف بع�ض حاالتهما �إىل النرثيّة» ،فال ميكن �أن ي�صدر ر�أي علمي� ،إنّه كان ين�سخ من كبار اخلطّ اطني ،ويقلّد �أو يعيد
كهذا �إ ّال ممن يعرف اللغتني اال�سبانية والرتكية ،لأ ن ال�سبب ر�س َم �أ�شهر اللوحات العامليّة الأ جنبيّة .قيل يل كذلك� ،إنه
قد يعود �إىل الرتجمة . .بالإ �ضافة �إىل ذلك فلي�ست النرثيّة يف هذا املكتب كان ينعزل عن �ضو�ضاء �أخوته ال�صغار
عيبا باملطلق ،و�إمنا قد تكون �سبب ًا �أ�سا�سي ًا يف جودة الن�ص يف الطابق الأ �سفل .هل كان املكتب يا تُرى �صومعة تعلّم
كما عند �شيك�سبري و�أليوت مثالً .على �أيّة حال� ،أوّل ما يثري جللَد والتدرّب على االتقان؟ هل تعلّم فيه فيها حممود ا َ
االنتباه يف �شعر الربيكان وكذلك يف نرثه ،عباراته املثقلة ال�صمت اخلالّق وما �أكرثه يف �شعره .رمبا هو ال�شاعر
68 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
لوحة ر�سم .وهذا � ّرس وقوفها بني بني .ما يهمنّا هنا ال برنني �سحيق ال يت أ�تّى �إىل �أحد �إ ّال بعد طول ت أ�مّل وتنقري
جناحها الن�سبي وال �إحباطها ،و�إنمّ ا طريقة الربيكان يف يف الأ �ساليب القدمية ،و�إ ّال بعد ت�شبّع بها .يبدو �أنّ الربيكان،
املحاكاة. وال �أدري هل كان متدين ًا �أ ْم ال ،قد ا�ستلف من القر� آن ثالثة
من حيث الأ لوان ا�ستخدم ال�شاعر« :احلافة الدكناء»، عنا�رص �أ�سا�سية ،هي :
«الأ �ضواء الر�صا�صية»« ،امل�صباح»« ،خ�رضة يف جنّة -1الظلمات -2 .النور -3 .الرياح.
الليل» «خطّ ًا غام�ض ًا خفيف» ،و«ظلّ». تكرّرت «الظلمات» و«النور» مرات عديدة جداً يف �شعر
�أمّا التعابري التي تدلل على �أ ّن ال�شاعر تعامل مع الربيكان ،ويف ك ّل مرّة تقوم بنف�س الدور� .أي �أنها بقيت
الق�صيدة كلوحة يف �أتّون الت�شكّل ،فهي مثالً« :يندفع خام ًا مل ي�صنّع منها �شيئ ًا جديداً .يقول يف ق�صيدة « :عندما
الر�صيف� ،إىل املدى» .الر�صيف ال يندفع ،ولك ّن اخلطّ ي�صبح عاملنا حكاية»:
املر�سوم على اللوحة هو الذي ميت ّد باندفاع �إىل عمق «على الظلمات كانت �أر�ضهم تطفو لغري مدى /تعاف ال�شم�س
املدى .وما انعكا�س الأ �ضواء الر�صا�صية على حافة دكنتها ويكره جدبها القمرُ /وع�رص النور كان زمانهم ،مل
الر�صيف الداكنة� ،إالّ تفاعل الأ لوان وتداخالتها داخل ت�شه ِد «ال ُع�صرُ ُ» /من الظلمات ما �شهدا»
اللوحة .بالإ �ضافة �إىل تعبريي« :تر�سم خ ّط ًا ذاهباً»، (ال يفوتنا �أنّ الظلمة يف القر� آن تقوم مبثابة الرحم الذي
و«تر�سم خ ّط ًا غام�ض ًا خفيف» .حترّكت اللوحة برفيف يولد منه النور� ،أو االنبعاث عموماً) �أمّا الرياح فقد تطوّرت
امل�صابيح لأ ّن برفيفها �ستتغيرّ الأ �شكال والظالل، يف �شعر الربكان من قوّة دينية تدمريية م�سيرّ ة� ،إىل رمز
وي�سري الإ ن�سان الوحيد. النفتاح اجلهات ومعها انفتاح احلريّة �« :أوثر �أن �أبقى|على
ازدادت الأ بيات غمو�ضاً ،والغمو�ض عن�رص �أ�سا�سي يف ك ّل جوادي .و�أهيم من مهب ريح| �إىل مهبّ ريح» ( من ق�صيدة
عمل فنيّ عميق ،يف جملة« :يف جنّة الليل اخلرافيّة» .هكذا عن احلريّة) ،و�إما �أن تكون �أمارة من �أمارات اخلراب الكلّي،
�أدخل ال�شاعر عن�رصاً ت�أريخ ّي ًا بدائياً ،فتو�سّ عت احلرية ،وال كما يف ق�صيدته :
�سيّما �أنّ الق�صيدة تنتهي ب�إن�سان وحيد ي�سري .ملاذا كان �صوت .الرياحْ /هي بع ُد �سيّدة «�سقطتْ فنارات العوامل دون ٍ
وحيداً؟ من �أين جاء؟ و�إىل �أين ذاهب؟ وهل عنوان الق�صيدة: الفراغ .وك ّل متجه مباحْ »
«خطّ ان متوازيان» ،يدلّ على طول امل�سافة ،و�إىل �أنّه لن املعروف بني النقّاد �أنّ �أ�سلوب الربيكان يف بع�ض ق�صائده
ي�صل �إىل �شيء؟. املجوّدة ذو خ�صي�صة خمتلفة عن ال�شعراء املجايلني له،
ما تقدّم �أعاله جمرد افرتا�ضات ،مع ذلك ال ب ّد من �إ�ضافة بغ�ض النظر عن �أف�ضليّته على غريه �أم ال .من �أين جاء هذا ّ
افرتا�ض �آخر .ما عالقة هذه الق�صيدة بلوحة الر�سّ ام االختالف؟ من الر�سم؟ من املو�سيقى؟ من ال�سينما؟
الهولندي )1709-1638( Miendert Hobbemaاملعنونة: ذكر يل �أحد �أقرباء حممود املقرّبني ،املقيمني بلندن �أنّ
«الطريق يف ميدلهام�س» التي و ُِ�صفتْ ب�أنها« :من حممود كان يبعث �إليه بر�سائل ،رمبا يحتفظ ببع�ضها الآ ن،
�أكرث اللوحات �شهرة يف العامل» .يف هذه اللوحة طريق يطلب فيها كتب ًا فل�سفية باللغة الإ نكليزية ،وكتب ًا �أخرى عن
ت�صطفّ على جانبيه �أ�شجار عالية نحيفة اجلذوع حياة الر�سّ امني واملو�سيقيني العامليني ،و�ضمن القائمة
بال �أغ�صان ولك ّن ر�ؤو�سها متعرّ�شة بالأ وراق الداكنة �أي�ض ًا �أعمال مو�سيقية ،و�أوبرات مع ن�صو�صها .ذكرنا يف
ني متوازيينْ . اخل�رضة .الطريق يواجه امل�شاهد بخ ّط ْ �أوّل هذه املداخلة� ،أنّ حممود كان ر�سّ ام ًا يحاكي لوحات
اخلطّان عري�ضان يف البداية ولكنهما يوهمان �أنهما عاملية .كيف ا�ستفاد الربيكان من الر�سم يف بناء ال�صورة
يقرتبان من بع�ضهما كلّما ابتعدا وك�أنهما �سيلتقيان ال�شعريّة؟ يف ق�صيدة »:خطّ ان متوازيان» يقول الربيكان:
يف النهاية ،ولكن هيهات� .شَ بّه النقّاد ،انحدار ا�صطفاف «يندفع الر�صيفْ � /إىل املدى ،حافته الدكناء �صخر ّي ْه
الأ �شجار بانحدار �أعمدة التلغراف .هذه اللوحة معرو�ضة تعك�س �أ�ضواء ر�صا�صيهْ /تر�سم خطّ ًا ذاهب ًا عنيفْ
يف الـ NATIONAL GALLERYبلندن ،وهي موجودة عادة �إىل املدى /يندفع الر�صيفْ /مندفع ًا ب�ألف م�صباح لها
يف دليل املتحف. رفيفْ /وخ�رضة يف جنّة الليل اخلراف ّيهْ /تر�سم خطّ ًا
االختالف بني ق�صيدة الربيكان وهذه اللوحة هو االختالف غام�ض ًا خفيفْ � /إىل املدى /وفوق �أر�ض ال�شارع الكبري/
بني ثقافتني �أو بيئتينْ .جعل الربيكان الر�صيف �صخر ّي ًا ظِ لٌّ ،و�إن�سان وحيد ي�سري»
ال تدري من �أين يبتدئ وال �أين ينتهي وك أ�نّه �شارع مبلّط عالج ال�شاعر هذه الق�صيدة _ كما ال يخفي _ كمعاجلة
69 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال يزعج الآخرين…وكان �إذا اثارته �إمياءة بارعة ملمثل يف �صحراء .ما من خملوقات حلميّة �أو نباتية ،ما من وبر
�أو ممثلة� ،أو م�شهد ين ّم عن ذكاء يف الإ خراج حترّكت �أو �شعر �أو ري�ش ،وحتى ما من �سماء ،لأ نّ الربيكان عتّمها
يده ،لت�ضغط على يدي معرباً بحركته ال�صامتة اخلفيّة بدليل وجود امل�صابيح .رفيف امل�صابيح ذاته يذكّر برعب
هذه ،عن �إعجابه مبا يرى» .وهذا �شاهد �آخر من �أهلها، م�صابيح هيت�شكوك املتحركة يف املواقف املفزعة .بهذه
يوم كان الربيكان ي�سكن بالكويت ملدة ثالثة �أعوام املثابة قلّ�ص الربيكان امل�شهد حتى يزيد من وحدة ذلك
مع �أقربائه ،وله جناحه اخلا�ص .روى ال�شاهد لكاتب الإ ن�سان ال�سائر ،وك�أنّ الدنيا �ستطبق عليه.
هذه ال�سطور ،قائ ًال »:ب�أننا كنّا نتحلّق حوله �صغاراً �أمّا لوحة «هوبيما» فمعنية مبادّة احلياة والإ خ�صاب
وكباراً ،ال لريوي ق�صة فيلم ،و�إنمّ ا ليحلّل ك ّل �صغرية وال�سم ّو الروحي� .إنها قبل ك ّل �شيء ،معنيّة بالنموّ .يف هذه
وكبرية يف الفيلم ،ويعلّق بدقّة على اللقطات املهمّة اللوحة تقف �أنت كمُ�شاهد يف و�سط �شارع ترابي طازج �إنْ
فيه» .كيف انعك�س هذا التدقيق التحليلي يف �صوره �صحّ التعبري ،عليه بقايا نداوة .النداوة بح ّد ذاتها �إخ�صاب
ال�شعرية؟ لننظ ْر قلي ًال يف ق�صيدة «حار�س الفنار» ميكن القول
من نوع ما ،بعك�س ق�صيدة الربيكان املعنية بالتقلّ�ص� .إىل � إنّ ال�سينما هي
التي تعترب من �أه ّم ق�صائده ،ومن �أكرثها غمو�ضاً .لكنْ ميني اللوحة رجل ،ي�شذّب �أ�شجاراً� ،أق�رص من قامته� ،إنّه بال
قبل ذلك لنتعر ّْف على بع�ض ما قاله بع�ض النقّاد �شكّ يهيّئها حلياة �أف�ضل ،ويف الوقت نف�سه يجدّدها .بعد امل�صدر الثاين
عنها. ذلك ،نرى منعطفا ً �إىل اليمني يقف يف بدايته فتى وفتاة لثقافة الربيكان.
يرى عبد الرحمن طهمازي يف كتابه« :حممود الربيكان يف حوارهام�س عميق ،لأ نّ ر�أ�سيهما متقاربان وخلفهكم املعروف �أن معظم
درا�سة وخمتارات»� ،أنّ ما قاله الربيكان يف ت�ضاعيف هذه بيت� .إىل ال�شمال نرى من بعيد كني�سة ،وبها �أعطى الر�سّ ام
الق�صيدة من �أنّ « :الرياح/هي بعد �سيّدة الفراغ»« ،تطلّب �أن ال�شعراء العراقيني
قيمة روحية للم�شهد .هذه القيمة الروحية متثلت بثالثة ال�شباب يف �أواخر
يكون امل�شهد مرئ ّي ًا من الذروة :الفنار جتهّزنا ب�شعور ال يق ّل عنا�رص� .أ ّو ًال علو الأ �شجار الذي دلّل على عل ّو ال�سماء ،ذلك
هيبة عن عزلة الرقيب املعاقب ،هو زمهرير الوح�شة .ففي الأ ربعينات وبداية
لأ ن الأ �شجار املتوازية على اجلانبني قريبة من املُ�شاهد
الذرى يظهر ال�شاعر احلديث وحيداً ال يتقبّل املوا�ساة ،وال اخلم�سينات،
فال ب ّد له �أن يرفع ر�أ�سه �أىل �أعلى حتى يراها .وثاني ًا ما
تعنيه امل�سامرة ،متمكن ًا من امل�شهد املتوالد حتّى �أق�صاه، ت أ�ثّروا ،ب�صورة �أو
وب�صرياً مبا هو حيّ ،ومبا كان ح ّياً ،ومبا تطبخه الظلمات �أن يرفع را�سه حتى يرى غيوم ًا بي�ضاء متفرقة عالية ج ّداً،
من �أحياء مل�ستقبل ظامل ال�شهيّة…» ومعها نوار�س �شاهقة و�صغرية فوق �سمت الر�أ�س تقريباً. �أخرى ،بالأ فالم
الن�ص
ّ هذا كالم فيه ا�ستطرادات لفظيّة بعيدة عن لوحة تتغنى بالإ خ�صاب ب�أعمق هارمونية ،و�أثرى توا�شجاً. ال�سينمائية .كان
املبحوث. قبل �أن نن�سى ،يف ال�شارع الرتابي النديّ يقابلك من بعيد على ر�أ�سهم عبد
�أمّا حامت ال�صكر فيعترب «�صورة (حار�س الفنار) قناع ًا رجل مي�شي بتوءدة مع كلبه .الكلب ال ينظر �إىل الأ مام و�إمنا
هو ملتفت �إىل �شماله �صوب الفتى والفتاة .ولأ نهما �سيمرّان
الوهاب البياتي
للرائي املنتظر وهو يراقب الأ فول القادم .لكنْ مراقب
وم�ستهدف يف � آن واحد� .أراد �أنْ يعت�صم بعزلته لريى. بك فال ب ّد �أن الطريق الرتابي �سيمت ّد خلفك �أي �أنّه طريق
تارك ًا للرياح (ال�سيادة على الفراغ) بينما يتلهّى هو ب�إعداد مفتوح ،وك�أنّ احلياة ال نهاية لها.
املائدة وتهيئة الك�ؤو�س مت�سائالً: ميكن القول �إ ّن ال�سينما هي امل�صدر الثاين لثقافة
. .متى يجيء /الزائر املجهول؟ الربيكان .املعروف �أن معظم ال�شعراء العراقيني ال�شباب
وال ميكن �أنْ تُخطئ العني هذا الزائر (الآ تي) الذي يجيء يف �أواخر الأ ربعينات وبداية اخلم�سينات ،ت أ�ثّروا،
(بال خطى) ويدقّ على الباب ليدخل (يف برود)� .إنّه (الغام�ض ب�صورة �أو �أخرى ،بالأ فالم ال�سينمائية .كان على ر�أ�سهم
املوعود)الذي يناجيه ال�شاعر بغنائية حادّة ت�شف عنها عبد الوهاب البياتي .ولأ ن البياتي مل تكن التقنية
ال�صفات الكثرية ،الزائدة �أحيان ًا �أو امل�سوقة بهاج�س التوكيد من همومه ،لذا اقت�رص ت�أثره على امل�شاهد الب�رصية.
الذي يعك�س اخلوف من عدم اخلوف �أو الت�شخي�ص». مبعنى �آخر مل تكن تعنيه �صناعة الفيلم � :إخراج ًا
�أ ّو ًال مل يكن حار�س الفنار مراقب ًا و�إمنا كان ينتظر .ما من ومتثيالً ،وت�صويرا .الربيكان على العك�س .كان يتابع –
لفظة تدلّ على املراقبة ،ولكن يبدو �أن اجل ّو البولي�سي الذي بف�ضل لغته الإ جنليزية -املجالّت الأ جنبية ،ويقر�أ �آراء
كان الناقدان يعي�شان حتت وط�أته هو الذي �أوحى لهما النقّاد يف خمتلف �صناعة الفيلم .يقول عي�سى مهدي
باملراقبة .ث ّم �إنّ الق�صيدة ليلية تنعدم معها الر�ؤيا .الظالم ال�صقر �« :أتذكّر جل�ساتنا يف ال�سينما .ال�صالة املعتمة
هنا كالظلمة القر� آنية مبثابة رحم وك�أن جميء الزائر �أ�شبه وحممود يجل�س بجواري �صامتاً� ،أو يتكلّم هم�س ًا حتّى
70 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
من االعرتاف ،ب أ�نّها تذكّرين ،بق�صيدة م�شهورة عنوانها: ما يكون مبخا�ض عظيم ولكنّه ال يخلو من خماطر.
«بانتظار الربابرة Waiting for the Barbariansلل�شاعر الإ غريقي C. يقول ال�صكر كذلك« :تارك ًا للرياح (ال�سيادة على الفراغ)
.P. Cavafyوفيها انتظار غريب من نوعه ،ي�شرتك فيه حتى بينما يتلهّى هو ب�إعداد املائدة وتهيئة الك�ؤو�س» .كيف
الإ مرباطور الذي ا�ستيقظ فيه مبكّراً ال�ستقبال �أعدائه .ها هو يتلهّى؟ .الراوية انتهي من �إعداد املائدة وتهيئة املائدة �أ ّو ًال
الإ مرباطور يجل�س عند بوّابة املدينة الكبرية ،على كر�سيّ ث ّم راح ينتظر بعد ذلك:
عر�شه ،ويلب�س تاجه ر�سم ّياً .امل�ست�شارون كذلك ،يرتدون «�أعددت مائدتي وه ّي�أت الك�ؤو�س متى يجيء؟
حللهم احلمراء يف انتظار الربابرة .ال يتغيّب من حفل من ناحية �أخرى ،ف�إنّ توقيت« :متى يجيء» ،دقيق� .أي
اال�ستقبال هذا �إ ّال اخلطباء ،لأ نّ الربابرة ميلّون من البالغة �أن �إكمال عدّة ال�ضيافة يدلّل على تلهّف حار�س الفنار
و�إلقاء اخلطب� .إ ّال �أن النا�س ينفرطون �إىل بيوتهم مهمومني، لو�صول الزائر .بهذه احليلة الفنّية �ش ّد الربيكان قارئه معه
يف ق�صيدة لأ نّ الليل قد حلّ ،ولأ ن الر�سل عادوا من احلدود وذكروا �أنّ بالرتقّب.
الربيكان حار�س الربابرة غري موجودين .تُختتم الق�صيدة بهذيْن البيتينْ : يقول حامت ال�صكر �أي�ض ًا « :ومن فناره يراقب احلار�س حركة
الفنار انتظار «والآ ن ما الذي �سنكون عليه بدون الربابرة؟ – العامل وهذا تلخي�ص ف ّذ ملوقف ال�شاعر وهو يطلق كائناته
كان ه�ؤالء الربابرة ح ّال من نوعٍ ما» ال�شعريّة يف بحر غام�ض ويراقب حياتها املحفوفة باخلطر،
ال
ل�شبح يكون ح ّ يف ق�صيدة الربيكان حار�س الفنار انتظار ل�شبح يكون مكتفي ًا بعزلته ،نادم ًا على �أنّه �أ�سلم مولوداته لهذا امل�صري
من نو ٍع ما. ح ّال من نوعٍ ما .ولكنْ مَ نْ هذا ال�شبح؟ هل هو من مادة املجهول ،فراح يعاقب ذاته بتذكريها مب�صريها» .قبل ك ّل
ولكنْ مَنْ هذا ب�رشية؟ �أم ماذا؟ يبدو �أنّ حار�س الفنار رمز لل�شاعر الذي �شيء ،ما من «حركة للعامل يف الق�صيدة /وثاني ًا ما هي
ال�شبح؟ هل هو يهدي الآ خرين ،ولكنّه الآ ن هو نف�سه على و�شك االنطفاء الكائنات ال�شعرية التي �أطلقها حار�س الفنار؟ .وما دامت
من مادة ب�شرية؟ كغروب � آلهة فاغرن ،وهولدرلني .تبد�أ الق�صيدة على �إيقاع غري موجودة فكيف يراقب حياتها املحفوفة باخلطر؟ �أكرث
�أم ماذا؟ يبدو �أنّ بحر الكامل .جلي َل التفاعيل فخماً� .إيحا ًء بجالل املنا�سبة من ذلك لي�س يف الق�صيدة ندم ،وما من عقاب.
وفخامة ال�ضيف: حامت ال�صكر –على اجتهاده – �ضحية بيئته .بيئة
حار�س الفنار رمز �أعددتُ مائدتي . .وه ّي�أتُ الك�ؤو�س . .متى يجيء عدوانيّة مدعاة للهلع .راكدة .متطيرّ ة .ت أ�ثّر مب�صطلحاتها
لل�شاعر الذي الزائ ُر املجهولُ ؟ ف�أف�سدت عليه نظراته النقديّة .هذه قب�صة مما ا�ستعمله
يهدي الآ خرين، �أوقدتُ القناديل ال�صغا ْر من مفردات :يراقب ،الهاج�س ،اخلوف ،يطلق ،حياة
ولكنّه الآ ن هو ببقيّة الزيت امل�ضئِ حمفوفة باخلطر ،مكتفي ًا بعزلته�( ،إذنْ ملاذا كان يراقب
نف�سه على و�شك فهل يطول االنتظار؟» حركة العامل) ،امل�صري املجهول ،يعاقب ذاته…» تلك
االنطفاء كغروب قد ن�سمع موج ًا ب�إيقاع �أعددتُ مائدتي،وال�سيّما بتكرار م�صطلحات تنطبق �أكرث ما تنطبق على بيئة �سيا�سية
حرف الدال ،ولكنْ من وراء �ستار �أو جدار ،لأ نّ القناديل ال مرتدية ،ال على حار�س فنار رمزي ،ذي موقف فل�سفي.
�آلهة فاغرن، ت�صمد �أ ّو ًال �أمام الرياح ل�صغرها ،وثانيا لأ نّ الزيت على وجد طرّاد الكبي�سي «يف (�شخو�ص) ق�صائد الربيكان
وهولدرلني و�شك النفاد .بهذه املثابة و�ضعنا ال�شاعر يف حالة ت أ�زّم �شخو�ص ًا «مهزومة باملعنى االغرتابي» .ما املعنى
وترقّب� .أي �أن ال�شاعر �أدخل هنا ،بحذق ،عن�رص الزمن الذي االغرتابي؟ ث ّم عدّد �أنواع االنهزامات يف جملة من الق�صائد،
ارتبط بالقناديل وزيتها .من هنا ت�أتي �أهميّة قوله« :فهل �سيا�سياً ،واجتماعياً ،ومدني ًا �أو مدين ّياً� ،أو مهزومة يف
يطول االنتظار؟» غربتها .وحينما و�صل �إىل ق�صيدة حار�س الفنار قال:
ما الذي يريد الربيكان قوله يف هذه الق�صيدة؟ هل ح ّل «مهزومة يف انتظارها ،انتظار الذي ي�أتي».
اخلراب التام يف املدينة �أو يف احل�ضارة عموماً ،بحيث مل لكنْ لي�س يف ق�صائد الربيكان انهزام من �أيّ نوع كان .لو
ي ُع ْد لل�شاعر من دور ،وها هو ينتظر �سفينة الأ �شباح « :ليغيب �ألقينا نظرة على نهايات ق�صائد الربيكان /لوجدناها يف
يف بح ٍر من الظلمات لي�س له حدود» .يف تلك اللحظات الغالب مفتوحة ،وك�أنّ قلقها م�ستمر وحريتها متوا�صلة.
احلا�سمة مت ّر يف ذهن حار�س الفنار م�شاهد مرعبة ملا م ّر رمبا الأ قرب �إىل ال�صواب القول �إنّ راوية الق�صيدة الربيكانية
يف هذا العامل من خراب .لكنْ يف املقاطع التالية ينف�ضح :حمبط مبعناها الإ جنليزي Frustrationوهي حالة الي�أ�س الذي
�أمر حار�س الفنار لأ ن له �صفات خارقة ال يتمتع بها ب�رش: ما يزال فيه �أمل� ،أو �أمل ي�شوبه ي�أ�س.
اجليو�ش /يف �أ�ضخم ْ «�أب�رصتُ � آد َم يف تعا�سته ،ورافقتُ قبل الدخول �إىل مقوّمات هذه الق�صيدة املجوّدة ،ال ب ّد
71 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
النعو�ش /غ ّنيْتُ � آالف املوا�سمِ .من�شغ ًال دائم ًا بهند�سة الفراغ الأ بي�ض للق�صيدة ِلتُ�ش ّك َل ْ الغزواتُ ،ن�ؤتُ بحمل � آالف
همتُ يف �أر�ض اجلمالْ /وو�صلتُ �أطراف املحالْ /ور�أيتُ بالتايل نقطة واحدة يف كينونة ال�شاعر املتوحّ د…»
كيف ُت َد ّم ُر املدنُ املهيبة يف اخلفاءْ� /شاهدتُ ما يكفي( .امللف� ،ص.)91
يذكر ر�شيد يا�سني « :كان الربيكان يوم التقيته �أوّل وكنتُ ال�شاه َد احليَّ الوحيدْ /يف �ألف جمزرة بال ذكرى/
مرّة ،فتى نحيفاً� ،أدنى �إىل الطول منه �إىل ال ِق�صرَ ،يف نحو وقفتُ مع امل�ساءْ� /أت أ�مّل ال�شم�س التي حتمرّ .كان اليوم
الثامنة ع�رشة� ،أو التا�سعة ع�رشة… ولكنّه كان بجبهته عيدْ /ومكبرّ ات ال�صوت قالت :ك ّل �إن�سانٍ هنا /هو جمر ٌم
العالية ونظّارته الطبية وب�أدبه اجل ّم ونربته الدافئة ،يبدو حتى يُقا َم على براءته الدليلْ»
�أكرب من �سنّه ب�سنوات…كان حممود ودوداً ،متوا�ضعاً،
بعيداً كل البعد عن الت�صنّع ،و�إن يكنْ من الوا�ضح �أنّه كان
يبدو �أن الربيكان يتحدّث عن مفهوم ال�شاعر الذي ال
ميوت .ال�شاعر �ساعة يكون �شاهداً يف ك ّل الع�صور .حتى يبدو �أن الربيكان
ذا ثق ٍة عالية بنف�سه وقدراته اخلالّقة» .يعقد ر�شيد يا�سني يتحدّث عن
بعد ذلك مقارنة طريفة بني �شخ�صيّتي ال�سيّاب والربيكان : يف ً املدن اخلفيّة يف البحار» .يتحدث عن الأ موات،
«كان ال�سيّاب – بلغة علماء النف�س � -شخ�صية انب�ساطيّة، كما يتحدث عن النيا�شني و�أ�سلحة القرا�صنة ،و�سبائك مفهوم ال�شاعر
فيها �شيء من عفويّة �أهل الريف وانفتاحهم ،و�شيء من الذهب ،وجدائل ال�شعر والأ �صابع املحطمّة النحيلة .هذه الذي ال ميوت.
خبث الطفولة ومرحها ال�صاخب� ،أمّا الربيكان فقد كان – الرحلة البحرية �أ�شبه برحلة فاغرن البحرية ،ولكن بدون ال�شاعر �ساعة
و�أظنّه ما زال – �شخ�ص ًا خجوالً ،هادئاً ،ميا ًال �إىل االنطواء، التفتي�ش عن اخلامت( .يبدو �أ ّن الربيكان مت�أثر ببحار
ال يتخلّى عن حتفظه حتى مع �أقرب �أ�صدقائه .ومل يكنْ يكون �شاهداً يف ك ّل
فاغرن وهي بال �شك �أغرب بحار) قد يكون من املفيد
لل�سياب – رحمه اهلل – من �أ�رسار �شخ�صيّة ،فقد كانت التوقف قلي ًال عند نهاية الق�صيدة : الع�صور .حتى يف
�ش�ؤونه ال�شخ�صية ،حتى تلك التي تتعلّق بحياته العاطفية «�أنا يف انتظار اللحظة العظمى� /سينغلق املدار…/ ًاملدن اخلفيّة يف
واجلن�سية ،مادة حديثه املف�ضلة مع جل�سائه على مائدة
وال�ساعة ال�سوداء �سوف تُ�شَ ُّل جتمد يف اجلدارْ� /أنا يف البحار» .يتحدث
�رشابه الليلية املعتادة يف حانات �أبي نوا�س �أو �شارع
الر�شيد �آنذاك� .أمّا الربيكان فقد كان دوم ًا كجبل اجلليد انتظار /وال�ساعة ال�سوداء تنب�ض – نب�ض �إيقاعٍ بعيدْ/ عن الأ موات،
العائم ال ترى منه العني �سوى �سطحه الظاهر ،بينما تظ ّل رقّا�صها مت�أرج ٌح ق ِل ٌق مييل �إىل اليمنيْ� /إىل الي�سارْ� /إىل كما يتحدث عن
ت�سعة �أع�شاره حمتجبة حتت املاء». اليمنيْ� /إىل الي�سارْ� /إىل الي�سار»
النيا�شني و�أ�سلحة
كان راوية الق�صيدة يف البداية ،قد �أع ّد املائدة ،وه ّي أ� ي�ضيف ر�شيد يا�سني �شيئ ًا مهم ًا عن �شخ�صيّة الربيكان« :ال القرا�صنة،
الك�ؤو�س ،فال ب ّد �أنّ حا�سّ ة �سمعه كانت يف �أق�صى تركيز ي�شكو وال يتذمر �أمام �أحد من �أ�صدقائه ،وال يتخلّى عمّا درج
بف�ضل الظالم� .أمّا يف املقطع �أعاله فتخفت مع« :ي�شلّ» عليه يف عالقاته مع النا�س من �أدب ،و�سماحة خلق…من و�سبائك الذهب،
و«يجمد» ،ث ّم بت�شبيه نب�ض ال�ساعة بنب�ض �إيقاعٍ بعيد .بهذه دواعي الإ ن�صاف �أن �أ�ضيف �إىل �أنّ حمموداً ال يدانيه يف وجدائل ال�شعر
الو�سيلة الفنيّة ت�صعد حا�سّ ة الب�رص ،وهي قلِقة وم�ستوفزة .رفعة خلقه �أحد مما عرفتُ ،فطوال هذه ال�سنني التي امتدّت والأ �صابع املحطمّة
�إنّها الآ ن مت�سمرّة على رقّا�ص ال�ساعة .الزمن بكلمات من ربيع العمر حتى خريفه املكفهر املوح�ش ،ال �أذكر �أنّه النحيلة
�أخرى هو �سيّد الفراغ يف نهاية املطاف ،ومن قبل كانت تفوّه �أمامي بكلمة تخد�ش احلياء ،وال �أذكر �أنّه جتنّى يف
الرياح �سيّدة الفراغ .لكنْ ملاذا كرّر �« :إىل الي�سار» م ّرتينْ ؟ حكمه على �أحد� ،أو ذكر �أحداً ب�سوء».
�أمّا مهدي عي�سى ال�صقر فيقول « :حممود الربيكان قليل هل تعبت عيناه من مالحقة رقّا�ص الزمن ،فرتك نقطة
الكالم .هو النقي�ض لبدر �شاكر ال�سيّاب الذي يتدفّق يف اليمني وركّز يف نقطة واحدة( .هذا �إذا مل يكنْ يف ال�صورة
احلديث ،و�أنه ي�رشب ويلهو ويروي النكات الالذعة داللة �سيا�سية).
عن �شخ�صه وعن الآخرين ،والذي يرتك نف�سه عر�ضة قبل االنتقال �إىل �أخطر مرحلة �شعريّة يف حياة الربيكان،
للأ هواء – �أهوائه و�أهواء الغري – تطوّح به كيف ت�شاء، قد يكون من املفيد ،ر�سم �صورة �شخ�صيّة له من خالل ما
وت�ؤرجحه نزوات وغرائز تلتهب وتنطفئ يف تتابع يبعث
على احلرية والذهول… كان بدر يحبّ ن�صب الفخاخ
كتبه عنه بع�ض الذين عرفوه �شخ�ص ّياً.
واملقالب لأ �صدقائه املقرّبني وكان حممود يتفادى هذه ا ً ّق
ل �
أ مت الربيكان كان ذكر ريا�ض �إبراهيم »:منذ البداية
املقالب بذكاء� .أذكر مرة كنا نزور فيها بغداد (كنت وقتها �ضاجّ ًا بال�شعر واحلياة ،حتى وهو يف ملكوت ال�صمت
بالب�رصة) وجل�سنا يف �أحد النوادي ،فا�ستغ ّل بدر ان�شغال واالعتكاف… جمعتني و�إيّاه جل�سات طويلة وكثرية.
حممود وال�ضوء اخلافت يف املكان وعمد �إىل �سكب مقدار كنت �أرقبه خاللها ف�أجده قلِق ًا ال يعرف اال�ستقرار ،مرهف ًا
من (العرق) من ك�أ�سه يف ك�أ�س (الع�صري) امام حممود ،على ح�سّ ا�س ًا ت�ؤرقه كلمة يف نهاية �شط ٍر ما من �إحدى ق�صائده،
72 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s اهلل يف كرّا�سة الت�رشيح مر�سومهْ» �أمل �أن يراه ثم ًال يف نهاية اجلل�سة� ،إالّ �أ ّن الربيكان اكت�شف
خلت الأ بيات �أعاله من الفعل� .إذ ما من تفاعل بني احلاكم اللعبة ،ومل يتحققْ لبدر ما �أراد» (امللف – �ص )107
واملحكوم ،فال�سلطة قررت وما على املواطن �إ ّال الطاعة لننظر الآ ن يف الأ �ساليب ال�شعرية التي ي�ستخدمها الربيكان،
والتنفيذ .لنتابع الق�صيدة قلي ًال : ورمبا متثّل املراحل الفنّية التي م ّر بها .ال ميكن حتديد
أ�صناف من اخلمر (وال يك�شف عن ٍ «دم الأ حبار ممزوج ًا ب� املراحل زمن ّي ًا لأ نها متداخلة .املرحلة الأ وىل بدا فيها
أقرا�ص
� ّرس املقاديرِ) /خال�صات من الأ حالمِ – /يف �صورة � ٍ �أ�سلوب الربيكان �رسدياً ،وتنحو ق�صائده منحى احلكاية،
�رشاب ،حقن يف الدم حتت اجللدِ� /أ�صوات ال�رصا�صريِ/ ٍ مثل ق�صائده املعروفة �« :أ�سطورة ال�سائر يف نومه» ،و«�أغنية
م�سجّ لة ملَنْ يرغبُ /جماناً /فخ ْذ ما �شيءت من �سوق حبّ من معقل املن�سيني» و«عندما ي�صبح عاملنا حكاية»
الأ �ساطري» و«هواج�س عي�سى بن �أزرق يف الطريق �إىل الأ �شغال ال�شاقّة».
يف املقطع �أعاله ثالثة �أفعال فقط« :وال يُك�شَ ُف عن � ّرس من خ�صائ�ص ال�شعر احلكائي� ،أنّ ت�أثريه يت�ضخّ م ويت�سع
املقادير» .عدم الك�شف هنا يثبّت كال الزمن واحلركة يف من توايل ال�صور ومراكماتها� .أيْ قلّما يعتمد على مفاج�أة
الفعل فيجعله �أقرب �إىل فحوى الأ �سماء .الو�صفة جاهزة يف �صورة �أو �إيقاع� ،أو تركيب مبتكر .الزمن فيها ينتقل
وخمتومة .لذا فهو فعل خارج عن �أيّة عملية يف حت�ضري من حلظة �إىل �أخرى ب�صورة عاديّة طبيعية .الأ فعال يف
تلك الو�صفة. ق�صائد كهذه ،ت�أخذ �صيغة الفعل املا�ضي املقطوع ال�صلة
الفعل الثاين « :ملن يرغب جمّ اناً» ،ال عالقة له بالو�صفة باحلا�رض وامل�ستقبل .زمن راكد يف مكانه ،ال ي�أتي �إليك،
والطريقة الوحيدة لاللتقاء به هو الذهاب �إليه .زمن له
كذلك.
�صفات الطلل .متثّل هذه املرحلة نزعة الربيكان �إىل ك�شف
الفعل الثالث « :فخذْ» ،وهو فعل �أمر يت�شابه واال�سم يف
احلياة االجتماعية ،وبال�رضورة الظروف ال�سيا�سية .اتخذ
البناء� ،أ ّوالً ،وما من دور له �أي�ضاً.
�أ�سلوب الربيكان يف املرحلة الثانية� ،صيغ املبا�رشة ،بحيث
يف املقطع التايل من الق�صيدة : ما�ض منقطع ،بل �أ�صبح حتى الفعل املا�ضي ال ي�شري �إىل ٍ
«متاثيل من ال�شمع املظالّت /نباتات /من الإ �سفنج يف �إىل حدث ال يزال قائم ًا يف مراحل التكوين ،كما يف «ق�صائد
املتنزّه العام /قوانني مثبتة ب�أطراف امل�سامري /على جتريدية» ،وال �سيّما يف ق�صيدته الثالثة «عن احلرّية» :
اجلماجم ال�صمّ /تواريخ /معاد �صنعها من �أحدث الآ الت/ «قدّمتمويل منز ًال مزخرف ًا مريح /لقاء �أغن ّيهْ /تطابق
�أخبار تقارير» ال�رشوط� /أُوثر �أن �أبقى /على جوادي و�أهيم من من مهبّ
يخلو املقطع �أعاله من الأ فعال ب أ�يّة �صيغة .جمرّد �أ�سماء ريحْ � /إىل مهبّ ريحْ »
ذات جر�س خميف� .إنّ هذا التماثل القاتل ،يكون على �أكرثه هنا الفعل املا�ضي« :قدمتمويل» ،متوا�صل مع احلا�رض
و�ضوحاً ،يف البحر ال�شعري الذي اختاره الربيكان بال�صيغة بدليل �« :أوثر �أن �أبقى» .بكلمات �أخرى ف�إن ما عر�ضتموه
ال�صعبة من بحر الهزج ،وقد تراوح بني :مفاعيلن مفاعيلن، يل ما يزال قائماً ،و�أنّ رف�ضي ما يزال قائماً .
ومفاعلنت مفاعيلن� .أمّا القوايف فقد تراوحت يف ثالث يف هذه املرحلة كما يبدو متيّز �أ�سلوب الربيكان با�ستخدام
نربات حازمة ،ت�سكينها � ّرس �إرعابها « :خمتومهْ ،مر�سومهْ»، الأ �سماء على ح�ساب الأ فعال ،وهذا �شيء طبيعي يف ك ّل
و«قوارير ،مقادير� ،رصا�صري» ،و«مظالّت ،نباتات � ،آالت». �شعر ذهني �أو منطقي� ،أو حينما ي�صل ال�شاعر �إىل قناعات
تنوّعها قاتل كتنوّع التعذيب .على �أيّة حال ،ال تظهر جاهزة كالبديهيّات .قال املتنبي :
الأ فعال يف هذه الق�صيدة� ،إ ّال يف الأ بيات الأ ربعة الأ خرية: جريانها وهم � ّرش اجلوار لها /و�صحبها وهم � ّرش
«عن اخلبز الذي مل يُخرتعْ بعد /و�إ ْذ يرجتف الإ ن�سان يف الأ �صاحيب /ف�ؤاد ك ّل حمبّ يف بيوتهم /ومالُ ك ّل �أخيذ
حلظة تفكريْ /يكون الأ مر قد متّ /وهل للموت تربيرْ». املال حمروب /ما �أوجه احل�رض امل�ستح�سنات به /ك�أوجه
ال ميتلك هذا الإ ن�سان الذي يعاد ت�صنيعه من جديد، البدويّات الرعابيب /ح�سن احل�ضارة جملوب بتطرية
ح�سب قالب مُ عَ ّد للجميع� ،إالّ الأ فعال االنعكا�سية ويف البداوة ح�سن غري جملوب� /أين املعيز من الآ رام
كاحليوان .يرجتف فقط .وحتى �أثناء هذا االرجتاف ناظرة /وغري ناظرة يف احل�سن والطيب»
الق�صري ،يكون« :الأ مر قد متّ»� ،أي ال �أهمية لالرجتاف. املقطع �أعاله كما ال يخفي خال من �أيّ فعل� .أمّا الربيكان
بد�أ الربيكان ق�صيدته باجلانب العاطفي �أو الغريزي فيقول يف ق�صيدة « :يف ال�سقوط اجلماعي»:
من الإ ن�سان ،وهو احلبّ الذي يكون �أكرث �صدقاّ وت�أثرياً «دموع احلبّ جاهزة وخمتومهْ /ب�أنواع القواريرِ /عيون
73 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الربيكان ،لي�شمل املخلوقات الدنيا وحتى اجلمادات .فيه �إذا ترافق مع الدموع .ولك ّن الدموع هذه املرّة« :جاهزة
�أي�ض ًا اكت�شافات ب�رصية و�سمعيّة مل يعرفْها الربيكان من وخمتومة ب�أنواع القوارير» .عاد ال�شاعر ثانية �إىل
قبلُ� .أنهار غام�ضة حتت الأ ر�ض« ،ال �صوت لها وال �شك َل لها» الغريزة ،يف نهاية الق�صيدة �أي بالفعل :يرجتف،
و«ال �أثرلها يف �أيّة خريطة ،و«ال يف �أيّ دليل �سياحي» كما ولك ّن الأ مر قد متّ .مرّت بنا حل ّد الآن مرحلة الربيكان
يقول .من قبل ،مل يكن الربيكان يرى يف ال�صخرة �إالّ و�سادة االجتماعية ،وبعد ذلك ح ّل تفا�ؤله بثورة 1958ث ّم
عند التعب ،ولكنّه يف ديوان «عوامل متداخلة يعرّفنا على خيبته بها ،ولكن لكونه �شاعراً تربوياً ،بالدرجة الأ وىل،
�ستة �أنواع من ال�صخور يف ق�صيدته الغريبة« :درا�سات راح ميجّ د احلرّية الفردية .ما من �شاعر غريه يف ال�شعر
يف عامل ال�صخور» .يف هذه ال�صخور نقر�أ فيزيائيّتها العربي كتب عن احلرية الفردية وبنف�س العمق.
و�أ�رسارها .نقر�أ فيها حزنها و�شعرها ،ودفء �أمومتها .يقول «جئت ْم بوج ٍه �آخ ٍر جديدْ /يل متق ٌن ح�سب املقايي�س
با�سم املرعبي (يف مقدمته ملا اختاره من �شعر الربيكان): املثاليهْ� /شكراً لكم .ال �أ�شتهي عين ًا زجاجيهْ /فم ًا من
«�إن ق�صائده مثل «درا�سات يف علم ال�صخور» – ب�شكل
املطّ اط /ال �أبتغي �إزالة الفرق .وال �أريد� /سعادة التماثل
خا�ص – تذكّر بطبيعة البحث العلمي من حيث التق�صّ ي
واال�ستغراق ،رمبا ب�سبب مبا�رش من طبيعة املو�ضوع ،كذلك
الكاملْ� /شكراً لكم .دعوه يبقى ذلك الفا�صلْ� /ألي�س عبداً
حلرَفية العالية والإ حكام حتى لَت�أخذ الق�صيدة
ب�سبب من ا ِ يف ال�صميم �سيّد العبيد».
�صفة «العلمية» ال �أكرث». يف الوقت نف�سه �أمعن الربيكان يف اختبار جوهر الإ ن�سان،
فلع ّل العلّة كامنة فيه .فامتحن �أ ّو ًال �أن�ساق احل�ضارات
�أمّا يف ق�صيدة «نوافذ» ،فال يركّز الربيكان نظرنا على وكيف بنيت ،وكيف �آلتْ �إىل ال�سقوط ،ف�أ�صابه الت�شا�ؤم،
نافذة واحدة� ،أو على نوافذ مت�شابهة .ثماين نوافذ خمتلفة. و�رست �إليه عدوى الالّجدوى .ربمّ ا هذا ما عناه مهدي
نافذة فتاة يلوح ظلّها مرّة �أو م ّرتينْ خلف ال�ستارة ،ونافذة عي�سى ال�صقر« :و�أظنّه مع مرور ال�سنني انتهي �إىل قناعة
ك�سيح يحاور الفراغ ،ونافذة عجوز متت ّد يدها املعروقة، ترى ب أ�نّه يكفي الإ ن�سان �أن يقيم له بيت ًا متوا�ضع ًا �آمن ًا
لتعرف الوقت ،وهل توارت ال�شم�س .م�شهد الطفل حيث يربّي فيه �أطفاله ،على �أح�سن وج ٍه ممكن بال �أحالم يف
يُ�سحب �إىل الداخل…�إلخ يختتم الربيكان هذه النوافذ بـ امل�ستقبل ،وال �أمنيات بعيدة ،ما دام ك ّل �شيء ،يف نهاية
«نافذة ال�شاعر» « :يفتحها للنور والريح وعطر الأ ر�ض/ املطاف ،عبث ًا وقب�ض ريح» (امللف�-ص )107
يهجم منها �صخب العامل /يغلقها ك�أنمّ ا لآ خر الزمان/ رمبا تواطن الربيكان �إىل هذه القناعة ك�إن�سان ،ولكن
ومثلما يُغلق تابوت �إىل الأ بد». ك�شاعر مل يخم ْد له توق ،فراح ي�صوغ عامل ًا جديداً ولكنْ
يف ديوان «عوامل متداخلة ق�صائد نفي�سة ،كم كان بودّي �أن بعق ٍم نيت�شوي هذه املرّة .متثّل ق�صيدة « :حار�س الفنار»،
�أتوقّف عند ك ّل ق�صيدة ،لوال ق�رص الوقت .ولكن ميكن القول، هذه املرحلة خري متثيل ،وهي بال �شكّ من ف�ضليات ال�شعر
�إنني لو �سئلتُ عن �أف�ضل �أربعة دواوين عراقية ظهرت يف العربي احلديث .نرى �أ�سلوب الربيكان يف هذه املرحلة ،وقد
القرن املا�ضي ،لكان ديوان «عوامل متداخلة» واحداً منها �أ�صبح ذا جر�س عالٍ وقور ،وفيه ثقة خطيب م�صلح ،كما
وعن جدارة .هل تن ّب أ� الربيكان مبوته؟ �أغرب تنب�ؤ: �أ�صبحت �صوره ال�شعريّة �أكرث كثافة وغمو�ضاً .مع ذلك مل
ب�صوت خفي�ض
ٍ «على الباب نق ٌر خفيفْ /على الباب نق ٌر ي�أت ذلك الزائر الذي انتظره حار�س الفنار ،ف�شاخ الزمن
ولكنّ �شديد الو�ضوحْ /يعاود ليالً� .أراقبه� .أتوقّعه ليلة بعد يف رقّا�ص ال�ساعة ال�سوداء فوقه ،ومل يع ْد لدورانها معنى.
ليل ْه � /أ�صيخ �إليه ب�إيقاعه املتماثلِ /يعلو قلي ًال قليال الك ّل يف انتظار غودو .الك ّل يف انتظار الربابرة .من هذا
ويخفت� /أفتح بابي /ولي�س هناك �أحدْ /من الطارق القنوط املرّح ،من هذا الإ حباط امل�ضني ،كان الربيكان يع ّد
املتخفي؟ تُرى؟� /شبح عائ ٌد من ظالم املقابرْ� /ضحيّة نف�سه ،لأ خطر مرحل ٍة يف حياته ال�شعريّة :مرحلة اال�ستبطان
ما�ض م�ضى وحياة خلتْ � /أتتْ تطلب الث�أر؟ /روح على ٍ والتقمّ�ص .ديوان «عوامل متداخلة» (ق�صائد– 1970
،)1992ميثّل هذه املرحلة خري متثيل.
الأ فق هائمة �أرهقتها جرميتها� /أقبلت تن�شد ال�صفح ي�ض ّم هذا الديوان حوايل ثماين ع�رشة ق�صيدة ،ن�رشتها
واملغفرهْ /ر�سول من الغيب يحمل يل دعوة غام�ضهْ/ جملة �أقالم �ضمن ملفّها مع مقدمة تقريبية حلامت ال�صكر.
ومهراً لأ جل الرحيل». يف هذا الديوان ا�ستقطار لك ّل املراحل ال�سابقة التي مرّ بها
دعْ كَ يا حممود من �شيك�سبري ،وهاملت ،و�شبح والده دنكن، الربيكان .فيه قناعات راكزة ،كتلك القناعات التي يتو�صل
وافتح الباب للطارق ال�صامت وام�ض معه� .إم�ض معه .ال �إليها احلكماء بعد طول جتارب .اجلمل مفعمة باحلكمة
مف ّر من الرحيل يا عزيزي حممود. �إالّ �أنّها خالية من الوعظ .يف هذا الديوان يتو�سّ ع عامل
74 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
خلقت جماعة «�شعر» ابتداء من العام 1957م تاريخ �صدور بيان الكتابة
اجلديدة ليو�سف اخلال( )1مناخا فكريا وتيارا �إبداعيا متميزا عن كل التيارات
الفكرية ،وا إلبداعية التي �سبقته� ،سواء من حيث الطرح التنظريي لل�شعر �أومن
حيث تفعيل هذا الطرح من خالل ا إلبداع املتفرّد الذي متثل يف ال�شعر اجلديد
بنوعيه ال�شعر احلر وق�صيدة النرث ،هذه ا ألخرية وجدت ا ألر�ض اخل�صبة التي
منت وازدهرت فيها ،فقد �سجل �أن �أول اهتمام جدي بال�شعر املنثور كان اهتمام
جماعة «�شعر» اللبنانية التي �صدرت �شتاء 1957م ،وكانت �أول جمموعة طبعت
لواحد من جماعتها هو �أن�سي احلاج ب�أ�شهر ،ثم تبعهما �شوقي �أبو �شقرا ويو�سف
اخلال وف�ؤاد رِفقه ،و�آخرون ،ولكن املالحظ �أن ت�سمية ال�شعر املنثور مل ت�صبح
(ق�صيدة نرث) �إال بعد اكت�شاف �أدوني�س كتابا فرن�سيا عنوانه (ق�صيدة النرث من
بودلري حتى الوقت الراهن) لكاتبته (�سوزان بارنار).
lجيل جملة �شعر بتنظرياته و�إبداعاته يف جمال ق�صيدة النرث �أ�ضحى ميثل جيل
الر�ؤيا ال�شعرية احلداثية ،لأن احلداثة يف متظهرها الفني هي ر�ؤيا قبل �أن تكون
�أي ت�شكّل فني �آخر.
lاملاغوط :من خ�صائ�ص الت�شكيل ال�شعري عنده �ضمن �إطار الق�صيدة ال�شفوية
تكثيف ال�صورة ال�شعرية ذاتها ،بحيث ي�ستطيع املتلقي �أن يحيد عن م�س�ألة
املو�سيقى اخلارجية يف �إطارها التقليدي لأنه وجد ال�سر الت�شكيلي املتمثل يف
جمموعة االنفعاالت الكبرية التي ت�شع من اللغة ال�شعرية.
� lشاوول :يبحث دائما يف كيمياء ال�شعر و�أحالم اليقظة املا ورائية ،ووعيه
الت�صويف ،وكتابة كل ما يخطر على باله وتدوينه يف كل حلظة لأنه القادر على
خلق كينونة الأ�شياء.
ب _ تقدمي الرتجمات ال�شعرية للق�صائد ا ألجنبية وقد �صدرت الطبعة ا ألوىل لهذا الكتاب عام 1959م
وذلك دون التزام القافية والوزن وهذا ما جعلها يف باري�س ،وبعد �شهور من �صدوره كتب �أدوني�س
متثل �أمنوذجا -لالحتذاء -وممار�سة طقو�س كتابة مقاال عنوانه (يف ق�صيدة النرث) ن�رشه يف جملة «�شعر»
جديدة. �شتاء عام 1960م( ،)2فكان �أول من �أطلق على هذا
ت�صب يف خدمة ق�صيدة ج _ تثبيت مفهومات جديدة ّ النوع من الكتابة ت�سمية (ق�صيدة) كما فعلت �سوزان
النرث �أهمها : برنار ،ومل يكتف بذلك فقد ن�رش ق�صيدة نرث عنوانها
.1الت�شكيل املو�سيقي اجلديد البعيد عن ا إليقاعية «مرثية القرن ا ألول «يف العدد نف�سه من جملة �شعر،
التقليدية. فبدت مقالته وك�أنها مقدمة لق�صيدته النرثية»(.)3
.2حترير اللفظ من �سلطة ال�شعر من خالل هدم ويف عام � 1960أ�صدر ال�شاعر �أن�سي احلاج ديوانه
الفا�صل بني ا أللفاظ ال�شعرية وا أللفاظ غري ال�شعرية. ال�شعري «النرثي» املو�سوم بـ«لن» وكتب مقدمة يُن ّظر
.3كتابة الق�صيدة وقراءتها كبنية ر�ؤيوية مغلقة فيها للنوع ال�شعري اجلديد �أي ق�صيدة النرث ،اعتمد
ومتكاملة يف الوقت نف�سه ،والدعوة للتخلي عن فيها على �أفكار �سوزان بارنار يف كتابها ال�سابق،
التفكك البنائي الذي يقدم على ال�شكلية «باعتبار فطرح �إ�شكالية �صياغة ال�شعر من النرث وقدرة ال�شاعر
�أن ق�صيدة النرث ذات �شكل قبل كل �شيء ،ذات وحدة على توليد ن�صو�ص �شعرية من �أعمال نرثية ،لكون
مغلقة ،هي دائرة �أو �شبه دائرة ال خط م�ستقيم هي ا آلداب العاملية كلها �أنتجت يف نرثها �شعرا عظيما،
جمموعة عالئق تنظم يف �شبكة كثيفة ،ذات تقنية ألن ال�شعر ال يقف عند حدود الوزن والقافية �أو البحر
حمددة وبناء تركيبي مو ّحد منظم ا ألجزاء ،متوازن، والرو ّي .
تهيمن عليه �إرادة الوعي ،التي تراقب التجربة ال�شعرية وقد مثّل احلاج لهذا «بن�شيد االن�شاد» يف العهد القدمي
()7
وتقود توجيهها». من الكتاب املقد�س وب�شعر �سان جون بري�س(� ،)4أي
وتلتقي هذه املفاهيم مع الربنامج ال�شعري ليو�سف عو�ض ا إليقاع النمطي بالر�ؤيا ال�شعرية �أو الكيان
اخلال م�ؤ�س�س جملة �شعر ،الذي ميكن قراءته يف الواحد املغلق على حد ّ تعبريه الذي تزيد من تفاعله
النقاط ا آلتية: ()5
فرادة التجربة وعمقها.
[ التعبري عن التجربة احلياتية على حقيقتها كما ويتحدد دور جملة �شعر يف م�ساعدة ق�صيدة النرث
يعيها ال�شاعر بجميع كيانه� ،أي بعقله وقلبه معا. و�إعالء �ش�أنها ون�رشها وت�أكيد فنيتها يف النقاط
[ تطوير ا إليقاع ال�شعري العربي و�صقله على �ضوء ا آلتية:
امل�ضامني اجلديدة. �أ -التكفل بن�رش الدرا�سات التي تتعر�ض بالنقد
[ االعتماد يف بناء الق�صيدة على وحدة التجربة والتحليل (ا إليجابي) للدواوين ال�شعرية احلداثية التي
واجلو العاطفي العام ال على التتابع العقلي والت�سل�سل تتخذ من ق�صيدة النرث �أمنوذجا للكتابة والثورة ،كما
املنطقي. تكفلت املجلة �أي�ضا بن�رش الدرا�سات ال�شعرية النظرية،
[ ا إلن�سان يف �أمله وفرحه ،يف خطيئته وتوبته ،يف ودواوين �شعرية متميزة .ففي العدد احلادي ع�رش
حريته وعبوديته ،يف حقارته وعظمته ،يف حياته من جملة �شعر ،ظهرت �أول حماولة تنظريية للتوجه
وموته ،هو املو�ضوع ا ألول وا ألخري ،كل جتربة ال اجلديد ،ممثلة يف مقالة �أدوني�س بعنوان «حماولة يف
يتو�سطها ا إلن�سان هي جتربة �سخيفة ال ي�أبه لها تعريف ال�شعر احلديث» فقد وُ�ضحت يف هذه املقالة
ال�شعر اخلالد العظيم. ت�أثريات املفاهيم ال�رسيالية على �أدوني�س ،ف�إذا
[ وعي الرتاث الروحي العقلي العربي وفهمه على به يعرف ال�شعر ب�أنه ر�ؤيا وك�شف ،و�إذا به يعتربه
حقيقته و�إعالن هذه احلقيقة وتقييمها كما هو ،دون نوعا من املعرفة ونوعا من ال�سحر ،وتغيري يف نظام
خوف �أو تردد. ا أل�شياء والنظر �إليها .بل �إنه يرى �أن ال�شعر يغري �إيقاع
[ الغو�ص يف �أعماق الرتاث الروحي العقلي ا ألوروبي، نقل الواقع ب�إيقاع �إبداعه ،ويحجب واقعا �أغنى ،وراء
وفهمه والتفاعل معه. »()6
وقائع العامل...
76 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أ�سا�سيا لدى �شعراء احلداثة العربية ،فكان غائبا [ ا إلفادة من التجارب ال�شعرية التي حققّها �أدباء
حا�رضا ،يف �آن ،غائب بالفعل؛حا�رض بالقوة ،لكنه العامل ،فعلى ال�شاعر اللبناين احلديث �أال يقع يف خطر
الغياب الذي ال يف�ضي �إىل ن�سيان ،بقدر ما يف�ضي �إىل االنكما�شية كما وقع ال�شعراء العرب قدميا بالن�سبة
الت�شبث بالغائب ،لي�صبح ح�ضورا فادحا ،بال غفران، ()8
ل ألدب ا إلغريقي.
()10
انه نوع من املهدي املنتظر». د � -إعالء �شعار االحتواء ا إلبداعي املتميز دون
� - 2ضعف ال�شعر التقليدي وانحطاطه �أمام الرغبة يف �إق�صاء ،حيث مثلت املجلة �إطارا للتجارب ال�شعرية
معاي�شة الواقع املعي�ش ،بعيدا عن املعاي�شة الو�صفية اجلديدة وميدانا لل�شعراء ال�شبان الروّاد يف ميدان
الغنائية ،و�إمنا خلق ف�ضاء عامل جديد يوازي ويعادل ق�صيدة النرث.
العامل املو�ضوعي املعي�ش� ،إنها حلظة خلق الق�صيدة وكان مناخ ن�شاط جماعة �شعر �أكرث مالءمة
الر�ؤيا كمظهر من مظاهر احلداثة ،وهذا ما عملت لتفعيل الر�ؤى وا ألفكار والطاقات التجديدية� ،أكرث
اجلماعة على جتاوزه وجت�سيده خا�صة �إذا علمنا من �أي مناخ �سابق بحيث اجتمعت جمموعة من
«�أن ق�صيدة النرث قد جاءت يف �سياق ملمح احلداثة ا أل�سباب ع ّجلت بانت�شار �أفكار اجلماعة انت�شارا
وهو التجاوز.وتخليها عن الوزن �أو ا إليقاع اخلارجي وا�سعا يف ال�ساحة ا ألدبية وا إلبداعية العربية
رمبا يكون �أهم خطوة من خطوات هذا التجاوز، نذكر منها ما ي�أتي:
ألنها اخلطوة التي بد� أ بها �ألف ميل م�سرية ق�صيدة -1تنامي التو ّجه نحو ا آلخر ا ألوروبي فكريا
()11
النرث». و�إبداعيا ،من خالل بعث حركية التجربة ا ألدبية
-3ميل الكثري من �شعراء اخلم�سينات �إىل «الكتابة خا�صة من الثقافة الفرن�سية والثقافة ا ألجنلو �أمريكية،
بالنرث» ،خا�صة ال�شعراء الواقعيني وال�شيوعيني الذين فقد قر� أ �أع�ضاء اجلماعة ب�شغف كبري �إ�رشاقات
اقرتبوا من النرث ال يف �أ�سلوبهم ولغتهم فح�سب ،بل رامبو ،وف�صله يف اجلحيم و�أزهار ال�رش و�س�أم باري�س
يف اجلو وا ألداء خا�صة عند عبد الوهاب البياتي، لبودلري ،و�أنا�شيد مالدورور للوثر يامون ،فوقفوا على
ونذير طعمة ،و جربا �إبراهيم جربا ،وقد متيزت «ترجمات النتاج الغربي من ال�شعر خا�صة ممّا �أثبت
كتابات ه�ؤالء بالعمل على تب�سيط اجلملة ال�شعرية �أن مو�ضوع الق�صيدة املرتجمة ،والغنائية التي تزخر
انطالقا من ب�ساطة املفردة وب�ساطة الرتكيب بحثا بها ،و�صورها ووحدة االنفعال والنغم فيها عنا�رص
عن جماهريية ال�شعر ومقروئيته الوا�سعة بني �أفراد قادرة على توليد ال�صدمة ال�شعرية دون حاجة �إىل
ال�شعب. وزن وقافية(.)9
يف ظل هذا املناخ ر�سمت جملة �شعر ا�سرتاتيجية كما كان ل�صدور كتاب ا ألديبة والناقدة الفرن�سية
ق�صيدة النرث كملمو�س حداثي مبني على جت�سيد
�سوزان برنار «ق�صيدة نرث من بودلري حتى الوقت
حلظات الرف�ض ،وفق حممول من حمموالت
الراهن» �أثر ٌ كبيرٌ ر�سم وحدّد كلّ مفاهيم ال�شعرية
احلداثة ،فلي�ست «ق�صيدة النرث يف جتاوزها
ال�شكل القدمي جمرد رف�ض له ،و�إمنا هي جزء من احلداثية اجلديدة عند جماعة �شعر ،فقد كتب ا أل�ستاذ
م�ؤامرة على التقليد الذي ال يعك�سنا .ولهذا فهذه ال�شاعر رفعت �سالمّ يف التقدمي لرتجمة كتاب �سوزان
اخليانة لي�ست �رشفا فح�سب بل هي قبل ذلك برنار قائال:
عمل طبيعي �إح�سا�سي جتاه هذا التقليد الذي «لكتاب (ق�صيدة النرث من بودلري حتى الوقت
ي�شبه �سجنا �رشط التحرّر منه هدمه حتى على الراهن) ل�سوزان برنار تاريخ عربي ،وفاعلية م�ؤكدة
ما فيه» ،)12(.خا�صة �إذا الحظنا �أن ق�صيدة النرث يف ال�شعرية العربية منذ �صدور طبعته ا ألوىل عام
التي تدعو �إليها هذه اجلماعة هي ق�صيدة تعمل 1958م بباري�س ،بل رمبا كانت فاعليته ،عربيا،
على �أن تفارق الق�صيدة العمودية ،مفارقة �شكلية �أعمق و�أفدح من فاعليته فرن�سيا ،يف جماله احليوي
وم�ضمونية ال رجعة فيها .وهذا عك�س ق�صيدة ا أل�صلي ،مفارقة ت�ضيء يف بع�ض وجوهها �آليات
التفعيلة التي ظلت حمتفظة بعالقات خمتلفة التفاعل الثقايف و�أ�شكالها العربية ...وطوال هذه
مع النمط القدمي ،ب�رشط �أال يفهم من هذا �إحداث ال�سنني-قرابة ا ألربعني �سنة-ظل الكتاب هاج�سا
77 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
م�ستوى الن�صو�ص ا إلبداعية� ،أم على م�ستوى النقد قطيعة تامة �أي�ضا مع الرتاث « ،ألن ق�صيدة النرث
والتنظري»(.)15 كما عرفنا قبلُ لها �صلة بهذا الرتاث ب�إحالتها
لهذا مثلت جماعة �شعر ،يف تقديري ،احللقة �إليه� ،سواء منه القدمي ،حني و�صلها عن طريق
ال�شاذة من حلقات ال�شعرية العربية بامتياز. الرتاث ال�صويف بظهوره فيها� ،أو احلديث حني
ألنها �أقرّت ب�رضورة الهدم والبناء ولكن دون �أن و�صلها بال�شعر املنثور و�إرجاعها �إليه �إرجاعا
تُن ّ ِم َط ما تبني وال ت�شكّل ما ت�ؤ�س�س.فلقد حاول
()13
رئي�سا ».
تعرف مو�سوعة «برن�ستون» لل�شعر وال�شعرية « Princeton
بع�ض �أع�ضائها وعلى ر�أ�سهم �أن�سي احلاج
و�أدوني�س ،ويو�سف اخلال تثبيت بع�ض املفاهيم ، »Encyclopedia of Poetry and Poeticsق�صيدة النرث على النحو
ا ألولية لق�صيدة النرث بالرغم من �إميانهم �أن ا آلتي« :هي ق�صيدة تتميز ب�إحدى� ،أو بكل خ�صائ�ص
الثابت �شكل جاهز والنمط قيد يعيق الر�ؤيا ال�شعر الغنائي ،غري �أنها تُعر�ض على ال�صفحة على
والتحديث ،فحددوا خ�صائ�ص ق�صيدة النرث التي هيئة النرث ،و�إن كانت ال تعد كذلك...وتختلف ق�صيدة
احتوت �ضمنيا على مبادئ اجتاههم يف الكتابة النرث عن النرث ال�شعري ( )Poetic Proseب�أنها ق�صرية
والثورة ،هذا ما يعر�ضه الدكتور رفعت �سالم يف ومر ّكزة ،وعن ال�شعر احلر()Free Verseب�أنها ال تلتزم
نظام ا ألبيات ،وعن ق�صيدة النرث ب�أنها عادة ذات
النقاط ا آلتية :
�إيقاع �أعلى ،وم�ؤثرات �صوتية �أو�ضح ،ف�ضال عن �أنها
� أ -يجب �أن ت�صدر ق�صيدة النرث عن �إرادة بناء وتنظيم
�أغنى بال�صورة وكثافة العبارة .وقد تت�ضمن ق�صيدة
واعية ،فتكون كال ّ ع�ضويا م�ستقال ،وهذا ما يتيح لنا
النرث ر�ؤيا داخلية و�أوزانا عرو�ضية .ويرتاوح طولها
�أن منيزها عن النرث ال�شعري الذي هو جمرد مادة،
على وجه العموم ،بني �صفحة (فقرة �أو فقرتني)وثالث
فالوحدة الع�ضوية خا�صية جوهرية يف الق�صيدة.
�صفحات �أو �أربع ،مبعنى �أنها متاثل الق�صيدة الغنائية
ب -هي بناء فن ّي متميز.فق�صيدة النرث ال غاية املتو�سطة الطول ،و�إذا جتاوزت هذا الطول ف�إنها تفقد
لها خارج ذاتها� ،سواء �أكانت هذه الغاية روائية �أو ()14
توتراتها و�أثرها ،وت�صبح تقريبا نرثا �شعريا».
�أخالقية �أو فل�سفية �أو برهانية .فهناك جمانية يف يت�ضح من التعريف املو�سوعي ال�سابق لق�صيدة
الق�صيدة ،وميكن حتديد املجانية بفكرة الالزمنية. النرث �أن هذا اللون من ا ألدب يف ال�شعرية الغربية
ج – الوحدة والكثافة ،فعلى ق�صيدة النرث �أن تتجنب التي متثل الرافد ا أل�سا�سي جلماعة �شعر ،هو محُ كم
اال�ستطرادات وا إلي�ضاح وال�رشح ،وكل ما يقودها �إىل التعريف ،حمدد ا ألدوات ووا�ضح الغايات خا�صة عند
()16
ا ألنواع النرثية ا ألخرى». الفرن�سيني ،الذين ُعدّوا رواد هذا الت�شكيل ال�شعري
�أما �أن�سي احلاج فقد عر�ض يف مقدمة ديوانه «لن» املتفرد واجلديد ،يف حني جاءت املفارقة الكربى يف
تعريفا لق�صيدة النرث ركز ّ خالله على ثالثية ا إليجاز ا�سرتاتيجية جماعة �شعر �أنهم تبنوا التعريف ال�سابق
والتوهج واملجانية ،ك�رشوط �أ�سا�سية لالنتقال من وانطلقوا يف التنظري لق�صيدة النرث من نقطة انتهاء
مرحلة االحتذاء با إلرثيني �إىل �أمنوذج ا إلبداعيني النقد الفرن�سي -فيما �أر�ساه من مفاهيم خا�صة عند
يقول: �سوزان برنار-دون �أن يكون لديهم النموذج ا إلبداعي
«...لتكون ق�صيدة النرث ق�صيدة نرث� ،أي ق�صيدة حقا، التطبيقي «وهو ما فعله كل من �أدوني�س يف مقالته
ال قطعة نرثية فنية� ،أو محُ مّلة بال�شعر� ،رشوط ثالثة: مبجلة �شعر اللبنانية عدد 14ل�سنة 1960م ،و�أن�سي
ا إليجاز (االخت�صار) ،التو ّهج ،واملجانية .فالق�صيدة، احلاج يف مقدمته لديوانه «لن» ،وفخري �صالح
�أي ق�صيدة ...ال ميكن �أن تكون طويلة ،وما ا أل�شياء يف جملة ف�صول امل�رصية ،وغريهم من النقاد ممن
ا ألخرى الزائدة �سوى جمموعة من املتناق�ضات، �سار على نهجهم ،ومن الدالئل التي ت�ؤكد على تبني
يجب �أن تكون ق�صيدة النرث ق�صرية لتوفّر عن�رص تعريف لق�صيدة النرث يبتعد متاما عن تواجدها
ا إل�رشاق ،ونتيجة الت�أثر الكلّي املنبعث من وحدة الفعلي يف الوطن العربي� ،أن الذين تبنوا هذا التعريف
ع�ضوية واحدة.)17(».. من ال�شعراء والنقاد عادوا مرة �أخرى لهدم ما تبنوه،
و�أرى �أن هذا الكالم ألن�سي احلاج ما هو �إال �صدى بل بلغ احلد تبني عك�س ما كان متاما� ،سواء على
78 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
بل نقنع اجليو�ش باخليانة ،كما تقول :يعني ،نقنعهم مبا�رش لكالم �سوزان برنار حول �رشوط االرتقاء
()20
بالفو�ضى �أي�ضا». بالنرث �إىل ال�شعرية� ،أي البحث عن حتقيق ا إليجاز
ويت�ضح مما �سبق �أن نون اجلماعة التي جتنبا لال�ستطرادات وا إل�سهامات التف�سريية� ،أي كل
ي�ستعملها �أدوني�س والتي تعود بال�رضورة اىل ما قد ي�ؤول بها �إىل �أنواع النرث ا ألخرى ،ثم التو ّهج
جماعة ال�شعر ،هي حد ّ جت�سيد الف�صل بني ا ألنا و�صوال �إىل جمانية الق�صيدة ذاتها .تقول...»:وقد
وا آلخر يف متظهراته املختلفة ،ا ألنا الفو�ضوية، حاول ُت ا إل�شارة �إىل ال�رشوط ال�رضورية لو�صول
الهدامة ،اخلالقة ،احلاملة بر�ؤيا تتجدد بتجدد ق�صيدة النرث �إىل جمالها اخلال�ص� ،أي �أن ت�صبح
الرائي ذاته ،فال تقع يف �سوداوية النمط وال ق�صيدة حقا ال قطعة نرثية منمقة �إىل هذا احلد �أو
�سلطوية ا إلرث متار�س الرف�ض الذي يهز ّ العامل ذاك :فا إليجاز والكثافة واملجانية ،لي�ست بالن�سبة
يف حلظة خما�ض الق�صيدة ،وتعلن الت�أ�سي�س من لها مثلما ر�أينا عنا�رص جمال حمتملة ،و�إمنا عنا�رص
منرب احلرية ا إلبداعية يقول: جوهرية حقًا بدونها ال وجود لها.)18(»...
«هكذا نخطط وجودا يجعل الوجود حولنا غريبا، �أما الفقرة يف الن�ص ا أل�صلي فهي على النحو ا آلتي :
ميحوه ،ي�سلبه احل�ضور ،هكذا ن�سقط وجند خال�صنا «j’ai tenté d’indiquer …les conditions nécessaires pour que le poème en prose..
atteigne sa beauté propre, c’est a dire soit vraiment un « poème » et non un
يف ال�سقوط ،هكذا نعلن �أنف�سنا غواة وخائنني.الهاوية
morceau de prose plus ou moins travaillé : brièveté, intensité, gratuité sont pour
ت�أتي معنا ،نعرف ذلك� ،سنعمّقها� ،سنو� ّسعها� ،سن�صنع
lui ,nous l’avons vu, non des éléments de beauté possibles, mais vraiment des
لها �أجنحة من الريح وال�ضوء...املكان يقاومنا، ()19
» … élément constitutifs sans les quels il n existe pas
ا أل�شياء تقاومنا ،املا�ضي واحلا�رض يقاومنا ،البعيد
وحدة معنا ،وال �سالح لهذا البعيد غري ح�ضورنا و�أعتقد �أن احلاج قد �سلم ّ متاما مبعطيات برنار� ،إىل
ال�شعري »(. )21 درجة �أنه مل ي�ستطع �أن يخلع على مقتب�ساته من برنار
طابعا �شخ�صيا ،وا�صطالحا �أقرب �إىل ا إلبداعية منه
وذهب �أدوني�س يف خطابه �إىل �أن�سي احلاج� ،إىل
�إىل النقل احلريف ،هذا ما يت�ضح يف الرتجمة ا آلتية
حتديد موقف اجلماعة املرحلي ( )22من الرتاث .فرف�ض
لل�رشوط الثالثة :
االنزواء يف �إحدى زواياه املقد�سة ألنه ال يعدو �أن
يكون جزءا من ح�ضورنا ولي�س هو ح�ضورنا ذاته، Suzanne Bernard �أن�سي احلاج
يقول :
«لي�س الرتاث مركزا لنا .لي�س نبعا ولي�س دائرة Brièveté اليجاز
إ
حتيط بنا .ح�ضورنا ا إلن�ساين هو املركز والنبع. Intensité التوهج
وما �سواه والرتاث من �ضمنه ،يدور حوله .كيف Gratuité املجانية
يريدوننا �إذن �أن نخ�ضع ملا حولنا ؟ لن نخ�ضع،
�سنظل يف تواز معه� ،سنظل يف حماذاته ،وقبالته، وقد �أثنى �أدوني�س على تنظريات احلاج و�إبداعاته
وحني نكتب �شعرا �سنكون �أمناء له ،قبل �أن نكون يف جمال الت�أ�سي�س لق�صيدة النرث العربية ،يف ر�سالة
�أمناء لرتاثنا� .إن ال�شعر �أمام الرتاث ال وراءه. بعثها �إليه من باري�س �أوائل العام 1961م .حتدّدت
فليخ�ضع تراثنا ل�شعرنا نحن ،لتجربتنا نحن... من خاللها الفل�سفة العامة جلماعة �شعر من جهة،
من هنا الفرق احلا�سم بيننا وبني ا إلرثيني :ال وفل�سفة ق�صيدة النرث من جهة �أخرى ،يقول يف بع�ض
يقدم نتاجهم �إال ّ �صورة ال�صورة� ،أما نحن فنخلق منها:
�صورة جديدة»(.)23 «..يُ�سمينا ا إلرثيون «الفو�ضى» .ي�سموننا �أي�ضا
وتت�ضح مما �سبق �أ�س�س التنظري للنوع ال�شعري اجلديد «اخليانة» .هكذا نبدو يف �أعينهم .للمرة ا ألوىل ،ال
عند اجلماعة عموما و�أن�سي احلاج و�أدوني�س على يخطئون النظر .فاحلق �أننا نعلن فو�ضانا وخيانتنا.
وجه التخ�صي�ص ،بحيث مل تعد ق�صيدة النرث جمرد يف ذلك العامل املمغنط باجليف املقد�سة.وال نكتفي،
ثورة �شكلية وم�ضمونية يف احلركة ال�شعرية العربية
79 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تنامي الر�ؤيا .من هنا ف�إن كل ر�ؤيا هي تغيري احلديثة بل هي ثورة جذرية على كل ما �سبقتها من
لنظام ا أل�شياء؛وقفز خارج منطقها يفرز لغته ا أل�شكال ال�شعرية ومفاهيمها ،با�ستقالليتها ورقيّها.
اخلا�صة ،لغة التغيري والتحول ،ألن الر�ؤيا هي وحني يعود �أدوني�س بذاكرته �إىل مرحلة ت�أ�سي�س
حتويل لعالقات ا أل�شياء .ومن هنا كانت الر�ؤيا جملة �شعر وبعث ق�صيدة النرث كملمح من مالمح
خروجا عن ا أل�شكال امل�ألوفة� ،إىل �أ�شكال حمدّدة جت�سيد احلداثة ال�شعرية ،يطرح ثالثة مبادئ �أ�سا�سية
بقابلية جاهزة� .إن الر�ؤيا هي مترد على �سلطان كانت وراء ت�شكيل النموذج اجلديد بعيدا عن املفاهيم
النموذجية الفنية املوروثة ودخول يف �أ�شكال الفرن�سية «الربنارية» التي �سادت حينها فيقول :
غري معروفة مثلما هي موقف من العامل ،و�شكل «وقد تبنينا ما ا�صطلحنا على ت�سميته بـ«ق�صيدة تعتمد ق�صيدة
من �أ�شكال الوعي الفني له.)25(»... النرث ،انطالقا من ثالثة مبادئ (م�ستقلة عن الر�ؤيا على
لهذا ثارت نظرية ال�شعر عند اجلماعة على التق�سيم مفهوماتها الفرن�سية ) �أوجهها فيما ي�أتي: الطرح املركّب،
التقليدي ال�سلفي للق�صيدة العربية حني تنظر �إىل [ ا ألول هو �أن ال�شعرية العربية ال ت�ستنفدها ا ألوزان، حيث تتنا�سل
العامل نظرة ح�سية ،تُ�شيِّئُه تارة وجتزئه تارة �أخرى، على الرغم من كمالها وغناها فنيا ،و�أن هذه اللغة
فال تعك�سه �إال ّ ظاهريا من خالل الو�صف .يف حني تزخر ُ ب�إمكانات تعبريية ،طرائق وتراكيب يتعذر �أن
املو�ضوعات وتتولد
تت�شكّل الر�ؤيا كم�رشوع فكري و�إبداعي انطالقا من ن�ضع لها حدا نهائيا تقف عنده ،فهي لغة مفتوحة ا ألن�ساق بني
مراجعة الثوابت ال�سابقة ،فتهدم النمط والنموذج على الالنهاية. املجرّد واحل� ّسي،
وترف�ض االحتذاء ك�سبيل لتحقيق �شاعرية معينة، [ الثاين هو ابتكار طرق و�أ�شكال �أخرى للتعبري الثابت واملتغري،
حينها ت�صبح الق�صيدة الر�ؤيا ق�صيدة ال تتحدث ال�شعري ،تواكب الطرّق وا أل�شكال القائمة على الوزن يف �إطار بنية
عن العامل بل حتدث العامل ،ألن «الق�صيدة ال�سلفية وت�ؤاخيها ،مبا يغني اللغة ال�شعرية العربية ،وينوّعها �شبكية تركيبية
تنقل العامل جم�سما �إىل �أ�شياء ،يف حني �أن الق�صيدة ويعدّدها ،ويف هذا �إثراء للمخيلة وللذائقة �أي�ضا. مفتوحة الحتواء
الر�ؤيا تكت�شف العامل يف ُكلّيته احلقيقية ،يف وحدته [ الثالث هو الرغبة العميقة يف جعل اللغة العربية
الكونية...ال�شاعر الر�ؤيوي يكت�شف ا أل�شياء .وبني مفتوحة على جميع التجارب ال�شعرية يف العامل،
بنيات �إ�ضافية
()26
االنفعال واالكت�شاف فرق �أ�سا�سي». ويف و�ضعها� ،إبداعيا ،على خريطة ا إلبداع الكوين تفر�ض ح�ضورها
� إ ّن املتتبع مل�سار ق�صيدة النرث عند جماعة �شعر، بخ�صو�صيتها لكن يف الوقت نف�سه بانفتاحها �أمام ال�شاعر،
ومن انت�سب �إليهم يف مرحلة ال�ستينيات ،يدرك ()24
والنهائيتها ،تفاعال ومقاب�سة ً وحوارا» يف حني تنطلق
مبا�رشة �أن التنظري ال�سابق حول «الق�صيدة الر�ؤيا» من هنا ن�ستطيع �أن نقول �إن جيل جملة �شعر الق�صيدة ال�شفوية
قد جتاوز جانبه املجرّد ،و�أ�ضحى تنظريا يجد بتنظرياته و�إبداعاته يف جمال ق�صيدة النرث من الطرح
م�سوغات تفاعله داخل ال�رصاع االجتماعي والفكري �أ�ضحى ميثل جيل الر�ؤيا ال�شعرية احلداثية، الواحد(املفرد)
يف مرحلة ال�ستينيات من القرن املا�ضي ،وهذا ما ألن احلداثة يف متظهرها الفني هي ر�ؤيا قبل �أن
جعل ق�صيدة النرث ت�صطبغ -يف تقديري-بال�صبغة تكون �أي ت�شكّل فني �آخر ،فاملبادئ ا ألدوني�سية
والن�سق الفكري
ا إليديولوجية� ،إميانا من ال�شاعر �أن ا ألدب (ال�شعر) هو ال�سابقة ال جت�سد التحوّل يف النظر �إىل املوروث الواحد �ضمن بنية
تعبري عن �أيديولوجيا كيفما جتلى �أو متظهر ،من هنا الفني و«ا إلبداعي» العربي و�إمنا متثل يف خيطية تتفاعل
ثُب ِّ َت ال�شكل وتعدّدت الر�ؤيا التي �أ�س�ست لها جماعة تقديري مرحلة انتقال نحو تفعيل الر�ؤيا �إبداعيا كلما زاد �إ�شراق
�شعر ،وكتب على �أ�سا�سها �أن�سي احلاج ويو�سف اخلال عرب ّ ق�صيدة النرث ،فقد «كان هذا التحول يعني الكلمة وتوترها
و�أدوني�س وحممد املاغوط ،وظهر تيار جديد من على �صعيد املمار�سة ال�شعرية االنتقال من لغة ال�شعري
ال�شعراء ال مييل �إىل �إثارة ا ألبعاد امليتافيزقية بقدر التعبري �إىل لغة اخللق ،ومن لغة التقرير �أو
ما يطرح وي�صدّر ألفكار �إيديولوجية وقومية ووطنية ا إلي�ضاح �إىل لغة ا إل�شارة ،ومن التجزيئية �إىل
�ضمن �إطار ال�شكل املتفرّد اجلديد؛ فانق�سمت ق�صيدة الكلية ،ومن النموذجية �إىل اجلديد ،ومن االنفعال
النرث �إىل ق�سمني ،ق�سم يرتكز على مبادئ اجلماعة بالعامل �إىل الك�شف عنه ،ومن املنطق �إىل الالوعي
يف ربط الن�ص ال�شعري بالر�ؤيا ،وق�سم ثان يرتكز ومن ال�شكلية القبلية �إىل �أ�شكال خا�صة يفرزها
80 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
-تعدد ا ألبعاد -البعد الواحد على �شحن اللغة العادية والكلمة اليومية بالطاقة
-تعدد ا أل�صوات -ال�صوت املفرد ال�شعرية كفارق جوهري بني كالم ال�شعر والكالم
-املناخ الدرامي -املناخ الغنائي النرثي العادي ،وهذا ما ا�صطلح عليه جمال باروت
«بالق�صيدة ال�شفوية وهي الق�صيدة التي تطرح
-البنية ال�شبكية -البنية اخليطية
ت�سا�ؤالت ا إلن�سان يف املدينة العربية املعا�رصة.
(الرتكيبية) حيث تلتقط توتر احلياة اليومي ،و�رشائحها،
-ا أل�شياء ال�صغرية(اجلزئية) -الر�ؤيا الكلية(ال�شمولية) و�صريورتها وحلظاتها ا إلن�سانية امل�ستمرة ،وا أل�شياء
-اللغة -الكالم ال�صغرية منها وم�شاعرها اليومية ،لتكون وجدانا
-حركة ال�شعور يف الكالم -حركة الر�ؤيا فنيا لها»(.)27
()29
يف ال�صور ويذكر باروت �أن حممد املاغوط ميثل النموذج
�أما نقاط اال�شرتاك والتوافق بني الق�صيدة ال�شفوية
�إذا كان احلاج ال�شفوي لق�صيدة النرث ،خا�صة بعد ديوانه «حزن
والق�صيدة الر�ؤيا فقد ح�رصها الدكتور عبد العزيز
يف �ضوء القمر» ال�صادر عام 1959م و«غرفة
بديوانه«لن»يعك�س موايف يف نقاط عديدة نذكر منها ما ي�أتي:
مباليني اجلدران»1964م� ،أي بعد مرحلة التنظري
اجلانب الر�ؤيوي [ اتخاذ اللغة املتداولة و�سيلة لتفجري �شعرية
ا ألويل لق�صيدة النرث من طرف احلاج و�أدوني�س،
لق�صيدة النرث، التقرير.
ف�إذا كان احلاج بديوانه «لن» يعك�س اجلانب
[ اال�ستناد على احلد�س االنطباعي احل�سي .
ف�إن املاغوط ميثل [ البحث عن �شعرية الن�ص ،والعمل على نفي �شعرية
الر�ؤيوي لق�صيدة النرث ،ف�إن املاغوط ميثل
اجلانب ال�شفوي اجلانب ال�شفوي منها ،ومع هذا فهما ي�شرتكان
اجلملة.
منها ،ومع هذا [ اكت�شاف ال�شعرية يف العامل ،ال �إ�ضفاء ال�شعرية يف جانب تخطي ال�شكل اخلارجي للق�صيدة
فهما ي�شرتكان ()30
عليه. العربية)28(.ويختلفان يف نقاط �أ�سا�سية ميكن
ومن مناذج املاغوط يف الق�صيدة ال�شفوية يف ح�رصها فيما ي�أتي:
يف جانب تخطي �أوال :اعتماد ق�صيدة الر�ؤيا على الكلمة ك�إ�شعاع داليل
ال�شكل اخلارجي مرحلة ال�ستينيات ،ن�صه املو�سوم بـ(اله�ضبة)
والذي ا�ستمد ثقافته من الكالم اليومي ،و� ُشحنت م�شبع باملحموالت الفكريةوالطروحات الثقافية
للق�صيدة العربية والفنية ،حيث ت�صبح اجلملة جمموعة من ا إل�شارات
كلماته بطاقات �شعرية �أبعدته عن الكالم النرثي
وقرّبته �أكرث ف�أكرث من ال�شعر املفعم بالتواترات والعالمات امل�شفّرة التي حتيلنا نحو اكت�شاف العامل
الغنائية ،القريب �إىل الغمو�ض ،ولكن من دون وفق الذات ال�شاعرة بعيدا عن الو�صف� .أما الق�صيدة
الولوج �إىل متاهات الر�ؤيا و�أعماق الذات فق�صيدة ال�شفوية فغايتها �إعداد الكلمة العادية التي تلقي
اله�ضبة عبارة عن ر�ؤية تالم�س الواقع املعي�ش طاقات �شعرية تقربها من الكالم ال�شعري وتبعدها
لل�شاعر يف �إطار حركية املجتمع والوطن� ،ضمن عن ا إلخبار والو�صف والتقرير.
ف�ضاءات تعبريية ر�ؤيوية �شفافة ابتعدت عن ثانيا :تعتمد ق�صيدة الر�ؤيا على الطرح املر ّكب ،حيث
ا إليغال ال�رسيايل يقول : تتنا�سل املو�ضوعات وتتولد ا ألن�ساق بني املجرّد
ال ت�صفعني �أيها القدر واحل� ّسي ،الثابت واملتغري ،يف �إطار بنية �شبكية
على وجهي �أمتار ٌ من ال�صفعات تركيبية مفتوحة الحتواء بنيات �إ�ضافية تفر�ض
ها �أنا ح�ضورها �أمام ال�شاعر ،يف حني تنطلق الق�صيدة
والريح تع�صف يف ال�شوارع ال�شفوية من الطرح الواحد(املفرد) والن�سق الفكري
�أخرج من الكتب واحلانات والقوامي�س الواحد �ضمن بنية خيطية تتفاعل كلما زاد �إ�رشاق
خروج ا أل�رسى من اخلنادق الكلمة وتوترها ال�شعري.
�أيها الع�رص احلقري كاحل�رشه ويك�شف حممد جمال باروت هذه الفروق يف الثنائية
يا من �أغريتني باملروحة بدل العوا�صف ا آلتية :
وبالثقاب بدل الرباكني -الق�صيدة الر�ؤيا -الق�صيدة ال�شفوية
81 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تتفاعل الر�ؤية احل�سية داخل بنية الق�صيدة لتولّد لنا لن �أغفر لك �أبدا
�إيقاعا مو�سيقيا يت�سلل �إىل نفو�سنا ،حينها ندرك �أن �س�أعود �إىل قريتي ولو �سريا على ا ألقدام
الق�صيدة ال�شفوية املاغوطية هي ق�صيدة «جماهريية» ألن�رش حولك ال�شائعات فور و�صويل
بامتياز ،ميتزج فيها احلزن بالثورة واحلرية ،يقول: و�أرمتي على ا ألع�شاب و�ضفاف ال�سواقي
..ف�أنا �أ�سهر كثريا يا �أبي كالفار�س بعد معركة منهكه
�أنا ال �أنام حلقات النار
ِ بل كما تعرب الكالب املدربة
حياتي – �سواد وعبودية وانتظار �س�أعرب هذه ا ألبواب والنوافذ
ف�أعطني طفولتي هذه ا ألكمام والياقات
و�ضحكاتي القدمية على �شجرة الكرز حملقا كالن�رس
و�صنديل املعلق يف عري�شة العنب فوق خفر العذارى و�آالم العمال
()33
ألعطيك دموعي ،وحبيبتي و�أ�شعاري با�سطا جناحي كال�سنونو عند ا أل�صيل
�أما ق�صيدة الر�ؤيا فتعّد ق�صيدة ال�شاعر اللبناين بول بحثا عن �أر�ض عذراء
�شاوول(« )24وجهك الغياب ا ألق�صى» منوذجا ر�ؤيويا كلما الم�سها كو ٌخ �أو ق�رص
لق�صيدة النرث يف ذات املرحلة بامتياز ،فمنذ عام �أمري ٌ �أو مت�سول
1974م تاريخ �صدور «�أيها الطاعن يف املوت»� ،أوىل وثبت جاحمة ً يف الهواء
جمموعاته ال�شعرية ،يوا�صل �شاوول ت�رشيع كتابته كالفر�س الوح�شية �إذا م� ّسها ال�رسج.
على التجريب واالختبار ،منقِّبا ً عن الكنوز والينابيع ر�ض،�أ ُ
والغيوم وا ألمطار العالية ،كا�شفا ً ا آلفاق ، ،متابعا ً مل توجد ولن توجد �إال يف دفاتري.
مهمة ال�شاعر املطلقة يف ارتياد احلرية واملجهول، ح�سنًا �أيها الع�رص
معلِّيا ً اجل�سور التي تقرِّب بني الثقافات وجوانب لقد هزمتني
املعرفة.حيث العمل على ا�ستح�ضار الالوعي ك�آلية ولكنني ال �أجد يف كل هذا ال�رشق
من �آليات الكتابة الفو�ضوية املكثفة واملجانية. مكانا مرتفعًا
ا ألمر الذي ي�سهم �أكرث ف�أكرث وعن ق�صدية (�إرادية) يف ()31
�أن�ص ُب عليه رايه ا�ست�سالمي.
غمو�ض و�إبهام ق�صيدة النرث ،فقد �أ�صاب لغتها تفكك ومن خ�صائ�ص الت�شكيل ال�شعري عند املاغوط
يف العالقات ،بتفريغ املفردات من دالالتها املعروفة �ضمن �إطار الق�صيدة ال�شفوية تكثيف ال�صورة
امل�ألوفة و�شحنها ب�أخرى غريبة غري م�ألوفة ،فتغر ُب ال�شعرية ذاتها ،بحيث ي�ستطيع املتلقي �أن يحيد
الرتاكيب وال�صور ويغم�ض املعنى ويتبهّم ،وبخا�صة عن م�س�ألة املو�سيقى اخلارجية يف �إطارها
�أن هذا ال�شحن يجري حتت هاج�سني من هواج�س التقليدي ألنه وجد ال�رس الت�شكيلي املتمثل
احلداثة وهما التجريب والر�ؤيا ،والر�ؤيا يف ق�صيدة يف جمموعة االنفعاالت الكبرية التي ت�شع من
النرث تتغذى ب�شكل رئي�سي من عامل الالوعي(.)35 اللغة ال�شعرية املاغوطية� ،إنه «يتوجه �إىل احل�س
يقول بول �شاوول : مبا�رشة ،ويتكئ على مفردات و�صور ح�سية
ثم ا�ستدرت با�ستمرار� ،إن الت�شبيه بكافة �أق�سامه واال�ستعارة
كان وجهك الغياب ا ألق�صى بلونيها ،كلها مادية ح�سية با�ستمرار يف �شعر
طاعنا يف الليل املاغوط...ويف احلقيقة ال ميكن لنا �إدراك �أبعاد
كلماتك ا ألبجدية بني لغة الق�صيدة املاغوطية� ،إال �إذا قر�أنا الق�صيدة
�شقوق ال�ساعات كاملة ،وهذه خا�صية ال�شعر الرفيع الذي ي�شكل
زهرة اجلمر على رماد اجلفن ()32
ن�سيجا ع�ضويا واحدا ال انف�صام فيه».
لو كان الب�ؤب� ؤ ينعم باحلمّى وتت�ضح هذه اللغة ال�شفوية يف ديوانه «حزن يف �ضوء
لو كان ال�صدر �صفحة ال�سكون القمر»�أين يعود بنا �إىل املنابع ا ألويل لل�شعر ،حيث
82 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
للحرية التي ال حتدها حدود النقد ،أل ّن النقد مطلق رع�شة تخلي احلوا�شي
وال�شعر ن�سبي ،ولذلك فهما ال يلتقيان وفق مبادئ يتفرّد املوت على عري احللبات وا أل�سوار
الكتابة اجلديدة. �إذا ارتفعت بني حلظات الدم
ويت�ضح مما �سبق �أن ال�شاعر وفق الر�ؤيا يتموّج ال�سهل حتت
«ال�شا�ؤولية» يجب �أن يبحث دائما يف كيمياء ثقل الري�ش والغناء
بول �شاوول ،هو ال�شعر و�أحالم اليقظة املا ورائية ،ووعيه الت�صويف، �رضبة يف العدم
�شاعر �إ�شكايل وكتابة كل ما يخطر على باله وتدوينه يف كل يهتز رنني الوادي
ومثري للجدل منذ حلظة حتى ال يعاين من ا إلخفاق ال�شعري ،ألنه وتعم الفجاج
ظهوره يف بداية القادر على �إعادة خلق كينونة ا أل�شياء وحتويل يف ا أليدي امل�صلوبة بني الن�سيان
ال�سبعينيات ،حيث الزمن �إىل �إبداع �شعري ، به ينت�رص على فنائه من �سوف ي�رشق بعد الطوفان
رف�ض الدخول يف الذاتي ك�إن�سان. بعد الربقة ا ألخرية التي ت�شعر احلجارة والعروق
عباءة ا آلخرين وقد جتلت هذه الر�ؤيا يف الكتابة عرب م�ساره ا إلبداعي بعد ليلة ال�صيف التي تلمع يف كل النجوم
�إىل غاية دواوينه ا ألخرية حيث يقول يف ديوانه كان وجهك الغياب ا ألق�صى
�أويف عباءة النقد «بو�صلة الدم»: حتى قلت الفجر الفجر
املِ�ؤدلج حينها، وتنتظر منقارا يفجر ال�صخور كل تلفت حجر ٌ للذكرى
وما زال يرف�ض وتنتظر طفال يزيل احلدود بني الطب�شور والثلج بني �أهرام الوقت املقطوع
اال�ست�سالم احلديد والليلك بني احلجر واحلمامة لو تدخل مالحمي اجلدران
للمعايري اجلاهزة. وتنتظر ف�صوال تن�رش حريتها يف الينابيع وا ألمطار (حتى تنفجر الغ�صة)
كما يرف�ض
()37
والهواء (حتى �أُبرت على �ضفة الثانية كالوداع)
اال�ست�سالم لغواية ويت�ضح التحطيم البنيوي لنمط الق�صيد العربية ي يغبط طلوع امل�أ�ساة عر ٌ
التقليدية ،بل حتي لتجارب ال�شاعر يف ميدان ق�صيدة �آه ! يا حار�س العبث
الإعجاب ،لذلك النرث نف�سه ،من خالل ديوانه املو�سوم« :ك�شهر طويل يد ٌ تدغدغ ثمر البحر
كانت جتربته من الع�شق» �أي عمد �شاوول �إىل تق�سيم الديوان تق�سيما ج�سد يحفظ احل�ضور
ال�شعرية ،يف ر�ؤيويا نابعا من ذاته الراف�ضة ل ألمنوذج ال�شكلي عندها عربت �أحد الف�صول
تقديري ،عبارة حتي يف دواوينه ال�سابقة ،فقد ت�ألفت املجموعة من ()36
و�أغلقت عليك.....
عن مقرتحات �أربعة �أق�سام .الق�سم ا ألول يحتوي على ع�رشة مقاطع. لقد �أحالنا الن�ص ال�سابق �إىل مقاربة م�ستوي الت�شكيل
جديدة للق�صيدة والق�سم الثاين بعنوان «ن�ساء» يحتوي على ثالثني الر�ؤيوي عند بول �شاوول ،فهو ال�شاعر ا إل�شكايل
املعا�صرة املت�شكّلة مقطعا .والق�سم الثالث بعنوان «�أحوال اجل�سد» يحتوي واملثري للجدل منذ ظهوره يف بداية ال�سبعينيات ،حيث
على ثالثة مقاطع ذات عناوين :توابع اجل�سد ،بالدات رف�ض الدخول يف عباءة ا آلخرين �أويف عباءة النقد
يف �إطار ق�صيدة اجل�سد ،ال�ضوء .والق�سم الرابع بعنوان « املطر القدمي» املِ�ؤدلج حينها ،وما زال يرف�ض اال�ست�سالم للمعايري
النرث يحتوي على ثالثة مقاطع. اجلاهزة .كما يرف�ض اال�ست�سالم لغواية ا إلعجاب،
يف هذه املجموعة يتفاعل دور ال�شاعر ويتّ�سع لذلك كانت جتربته ال�شعرية ،يف تقديري ،عبارة
موغال يف التجربة من املتناهي يف ال�صغر �إىل عن مقرتحات جديدة للق�صيدة املعا�رصة املت�شكّلة
املتناهي يف الكرب .ك�أنه مي�سح روحه بزيت ال�شوق يف �إطار ق�صيدة النرث؛من خالل العمل على التدمري
وال�ضعف الغيا ما يقف حائال بني الع�شق وفكرة البنيوي للق�صيدة التقليدية ،وتدمري اللغة املركبة
الع�شق ،بني الرغبة والفكرة الرغبة ،بني اجل�سد للت�شكيل التقليدي ذاته ،ومع هذا وذاك ي�رص ّ علي
وفكرة اجل�سد ،وي�شتعل بولعه وخبله و�شبقه تدمري الذات مبعني التجاوز امل�ستمر لها ،ومبعنى
وقدا�سته ،بجحيمه ورماده ،وقهره وحقده ، التجريب الذي ال يتوقف ،انه التجريب املبني على
وحنانه وق�سوته .وذلك يف نف�س ملحمي وقريحة فل�سفة احلداثة امل�ستمر بحثا ً عن املجهول� ،أو طلبا ً
83 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ـPrinceton Encylopedia of poetry and poetics .enlarged ()14 ال ت�ستكني وال تهد�أ ،تتح� ّس�س ا ألمكنة وتت�شمم كل
ed.( princeton university press.1974 ) p.664
نقال عن ديب ،حممد .ق�صيدة النرث بني املوهبة الفردية والرافد
ما يعبق ويفي�ض ويتجلى يف عا�صفة وجدانية
الغربي ،جملة الطريق ،العدد الثالث� ،سبتمرب ،بريوت .1993 ال تبقي وال تذر.
( )15ـ ال�ضبع ،حممود �إبراهيم .ق�صيدة النرث وحتوالت ال�شعرية �إن هذه املجموعة التي تتميز بلغة نا�ضجة وجريئة
العربية،ط ،1الهيئة العامة لق�صور الثقافة ،القاهرة� ،2003،ص
.307 وجمازفة ،جتعل املتلقي يعي�شها وي ّح�سها بجميع
( )16ـ �سالم ،رفعت .مقدمة ترجمة كتاب �سوزان برنار ،ق�صيدة حوا�سه يف العني وا ألذن وا ألنف واجللد والل�سان،
النرث من بودلري حتي الوقت الراهن ،ج � ،1ص 08 فيت�شهى يلهث يف متابعة �إيرو�سية تلهب العني
( )17احلاج� ،أن�سي .مقدمة ديوان «لن»�ص .12
( )18بارنار� ،سوزان .ق�صيدة النرث من بودلري حتى الوقت الراهن، واخليال معا ،يقول:
اجلزء الثاين� ،ص .605 يا�صباحات م�رشقة من ا ألبد �إىل ا ألبد على م�ضارب
Bernard, suzan .le poème en prose de Baudelaire jusqu>à ()19 الدم والكلمات
nos jours, paris 1959 p 763
(� )20أدوني�س .زمن ال�شعر ،ط ،6مزيدة ومنقحة ،دار ال�ساقي ، يا�صباحات ا ألح�صنة الطافرة من ال�رشايني
بريوت� 2005 ،ص .320 يا�صباحات ا ألر�ض الواحدة والزمن الواحد واملوت
( )21امل�صدر نف�سه� ،ص .321 الواحد
( )22هذا املوقف امل�صرّ ح به يف هذه الر�سالة ،هو موقف مرحل ّي
تغري مع تغري النظرة اخلا�صة �إىل الرتاث لدى اجلماعة يف مرحلة ترتع�ش حلظة وتتال�شى يف موكب النحا�س
ال�سبعينات وما بعدها ،حيث �أ�ضحي البحث يف الرتاث يلهم يلمع البلور املغرب ُ
اجلماعة ،رغبة منها يف الوقوف على ال�شاذ واملتغري فيه و�صوال ()38
تت�رضَّج نعامة ٌ بغيابها
آللية التحديث واحلداثة.
(� )23أدوني�س .زمن ال�شعر� ،ص .321 الهوام�ش
( )24جملة ا آلداب (البريوتية)».حوار مع �أدوني�س حول جملة (�شعر)
وق�صيدة النرث» ،العدد � ،10 /9سنة �2001ص .47 ( )1كان ذلك يف 31يناير (جانفي) ،1957بعد �سنتني من عودة
( )25باروت ،جمال .ال�شعر يكتب ا�سمه� ،ص �ص .54 ، 53 يو�سف اخلال من �أمريكا التي كان �سافر �إليها يف ،1948وت�شكيل
( )26باروت ،جمال .ال�شعر يكتب ا�سمه� ،ص .57 جملة �شعر �صحبة �أدوني�س وخليل حاوي ونذير العظمة.
( )27املرجع ،نف�سه� ،ص .90 ينظر :خري بك ،كمال .حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�رص،
( )28نف�سه� ،ص .92 ط ،2امل�رشق للطباعة والن�رش والتوزيع ،بريوت � ،1986ص 72
( )29باروت ،جمال .ال�شعر يكتب ا�سمه� ،ص .97 ( )2لتدقيق التاريخ فقط �أذكر �أن �أدوني�س كان قد ن�رش هذه املقالة
( )30ينظر موايف عبد العزيز .ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل يف العدد 14من جملة �شعر ربيع .1960
املرجعية� ،ص .123 ( )3ن�ش�أت ،كمال� .شعر احلداثة يف م�رص ،الهيئة امل�رصية العامة
للكتاب ،القاهرة � 1998ص .203
( )31املاغوط ،حممد .الديوان ،دار العودة بريوت ،د ط ،د ت ، ( )4بري�س� ،سانت جون ( . )Perse ،Saint-Johnولد يف
�ص 323ـ .325 قوادلوب يوم 31ماي 1887وتويف يف جزيرة جيون الفرن�سية
( )32خن�سة ،وفيق ،درا�سات يف ال�شعر ال�سوري احلديث ،ديوان يوم� 20سيبتمرب. ،1975 ،ينظر:
املطبوعات اجلامعية ،اجلزائر � ،1981ص66 )Dictionnaire Encyclopédique De La Littérature Française , art :( Saint-John-
( )33املاغوط ،حممد ،حزن يف �ضوء القمر ،دار العودة بريوت ( )5ينظر ،احلاج� ،أن�سي .ديوان «لن» ،املقدمة ،ط 1بريوت
� ،1973ص ،25نقال عن وفيق خن�سة ،درا�سات يف ال�شعر ال�سوري �1960ص�.ص 5ـ .15
احلديث� ،ص.74 ( )6موايف ،عبد العزيز .ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل املرجعية،
( )34بول �شاوول� ،شاعر لبناين ولد عام ،1948كتب ق�صيدة �ص .121
النرث منذ بداياته ا ألوىل وتفرد بلغته الهاربة من منوذج الت�شكيل ( )7موايف ،عبد العزيز .ق�صيدة النرث من الت�أ�سي�س �إىل املرجعية ،
املعجمي ،من �أعماله� .أيها الطاعن يف املوت� ،أوراق الغائب ،نفاد �ص 122
ا ألحوال ،منديل عطيل..الخ ( - )8ينظر :خري بك ،كمال .حركة احلداثة يف ال�شعر العربي
( )35القعود ،حممد عبد الرحمن .ا إلبهام يف �شعر احلداثة� ،ص املعا�رص� ،ص �ص .78 ،77
.164 (� )9أبو جهجة ،خليل.احلداثة ال�شعرية العربية� ،ص .134
(� )36شاوول ،بول .ديوان «�أيها الطاعن يف املوت»،ط ،2امل�ؤ�س�سة (� )10سالّم ،رفعت .مقدمة ترجمة كتاب �سوزان برنار ،ق�صيدة النرث
العربية للدرا�سات والن�رش ،بريوت �1981 ،ص �ص 51ـ 57 من بودلري حتي الوقت الراهن ،ج � ،1ص .07
(� )37شاوول ،بول .بو�صلة الدم ،ريا�ض الري�س للكتب والن�رش، ( - )11القعود ،حممد عبد الرحمان .ا إلبهام يف �شعر احلداثة� ،ص
لبنان � 2004ص10 .154
(� )38شاوول ،بول .ك�شهر طويل من الع�شق ،ريا�ض الري�س للكتب ( )12املرجع نف�سه� ،ص .155
و الن�رش ،لبنان� ،2001 ،ص. 21 ( )13نف�سه� ،ص .156
s
s
s
رمبا يكون من املجازفة القول� :إن ال�شعر يف جانب كبري منه يختزل بع�ض خوا�ص
الإ يديولوجيا يف ا�ستبطان الذاكرة اجلماعية ,وتعميق الإ ح�سا�س ب�إن�سانية
الإ ن�سان .ولهذا فكثريا مايثري اخلروج على قواعده وتقاليده الفنية �أوار املعارك
واخل�صومات :فتتولد الأ �سئلة ,وتطرح الإ �شكاليات ,وينق�سم النا�س بني متقبل
م�ؤيد ,ومعار�ض راف�ض .ولأ نه – �أي ال�شعر– ال ميتلك �صفة املقد�س كما هو
احلال مع الإ يديولوجيا؛ ف�إن معاركه ال تلبث �أن تخبو ,وتتال�شى وتخمد نارها
على مدى لي�س ببعيد .مما يتيح لل�صيغ اجلديدة التبلور واالنتظام يف �سلك
الإ بداع واكت�ساب �رشعية التقبل من الذائقة الفنية اجلماعية.
وعلى الرغم من االعرتاف النقدي بق�صيدة النرث �إال �أن ذلك مل وقد يكون من فائ�ض القول ونافلة الإ ي�ضاح الإ �شارة �إىل
ي�سهم ب�شكل حا�سم يف بلورة مفاهيمها� ،سواء على امل�ستوى مفا�صل التحوالت والتجديد يف �شعرنا العربي ,وما �أثارته
النقدي �أو التنظريي «فالكتابات النقدية العربية عن هذا تلك التحوالت من معارك وخ�صومات منذ الع�رص العبا�سي
النمط من الكتابة ال�شعرية مازالت تراوح مكانها منذ �أن وحتى الآ ن .ابتداء من ب�شار و�أبي نوا�س و�أبي متام ,ومرورا
ب�رشت حركة جملة «�شعر» بها ,بو�صفها خمرجا لأ زمة باملتنبي واملعري �إىل �شعراء الإ حياء و�أبولو واملهجر,
احلداثة ال�شعرية»( .)3ولعلنا ال نبالغ �إذا قلنا� :إن بع�ض تلك ووقوفا عند نازك وال�سياب وجماعة �شعر التفعيلة.
الكتابات كانت �أقرب �إىل الدعاية الرخي�صة منها �إىل النقد ومع ما �أثارته تلك التجارب وما قوبلت به من الإ نكار
البناء امل�ؤ�س�س .و�أما الدرا�سات اجلادة – وهي النزر القليل وال�صد� ,إال �أن ذلك ال يبلغ مع�شار ما �أثارته وقوبلت به
– فقد ظهرت م�شوبة بكثري من احلذر واخلوف من االجنرار جتربة ق�صيدة النرث .فما تزال حتى الآن – وبعد مرور
�إىل �سوق الدعاية .ومن الدرا�سات التي قاربت ق�صيدة النرث ن�صف قرن من عمرها – مثار جدل واختالف وا�سع
كتاب «الن�ص امل�شكل»( )4للناقد حممد عبد املطلب ,وهو من يف الأ و�ساط الأ دبية والنقدية .ورمبا يحق لنا القول:
الكتب القليلة التي تناولت ق�ضايا الق�صيدة يف جتلياتها �أنه ال وجه للمقارنة بني ما �أحدثته �أ�صدا�ؤها ,وبني
املختلفة� ,سواء على امل�ستوى التنظريي �أو التطبيقي. �أ�صداء التجارب ال�سابقة �صحيح �أنها – �أي التجارب
وفيه قام امل�ؤلف – من منطلق امل�ؤيد للظاهرة – بر�صد ال�سابقة – مل تنتزع االعرتاف النقدي بها �إال بعد لأ ي؛
امل�ستوى الإ يقاعي للق�صيدة باعتباره – �أي الإ يقاع – من ولكنها يف الغالب اخرتقت ح�صن الذائقة منذ ال�رشارة
�أكرث الق�ضايا الت�صاقا مبفهوم ال�شعر يف الذاكرة العربية. الأ وىل« ,فقد كان جريرٌ والفرزدق والأ خطل و�أمثالهم
وما يهمنا من ذلك �أنه وبعد ن�صف قرن من �إعالن ميالد يعدون حمدثني .وكان �أبو عمر بن العالء يقول :لقد كرث
الظاهرة ,ومع االعرتاف النقدي بها منذ ما يزيد على هذا املحدث وح�سن حتى لقد هممت بروايته»( .)1ف�أبو
العقدين ,فمازالت النظرة النقدية الفاح�صة للم�ؤيدين عمرو ال يعرتف نقديا بالتجربة اجلديدة عند �شعرائها
– ناهيك عن املعار�ضني – تتعامل مع ق�صيدة النرث على الثالثة :جرير والفرزدق والأ خطل ؛ ولهذا �أحجم عن
�أنها ظاهرة �إ�شكالية بكل معنى للكلمة .ولعل �إطالق «عبد رواية �شعرهم ,ولكن �إعجابه بالتجربة وا�ستح�سانه
املطلب» ت�سمية «الن�ص امل�شكل» – وهو يريد بالطبع ق�صيدة لها يعني �أنها قد اخرتقت ذائقته ال�شعرية والم�ست
النرث – على كتاب ينظّ ر لهذا امل�ستوى من الكتابة لهو خري ح�سه الفني.
�شاهد على عمق الفجوة الفنية التي تعي�شها الق�صيدة. وبنوع من املغامرة امل�ستندة �إىل كثري من احلقائق والأ دلة
فهي بحق ظاهرة �إ�شكالية لي�س مب�ستواها الإ يقاعي نرى �أن موقف �أبي عمرو بن العالء – كنموذج لرف�ض
والفني فح�سب؛ بل �إن جوانب الإ �شكالية فيها متنوعة اجلديد «نقديا» وتقبله «جماليا» – يكاد يكون موقفا عاما,
ومتعددة :ابتداء من الت�سمية والتجني�س ,مرورا باخل�صائ�ص وينطبق على كل حركات التجديد ال�شعري ما قبل ق�صيدة
وال�رشوط الفنية ,وانتهاء بامل�رشوعية واالنتماء .ويبدو �أن النرث .فمع االنبثاقات الأ وىل يف م�سار التحول والتجديد
هذا الرثاء الإ �شكايل يقابله فقر املواهب التي ارتادت هذا لكل حركة كان النقاد واملحافظون يهاجمون اجلديد
النبع – با�ستثناء املواهب امل�ؤ�س�سة� :أدوني�س واملاغوط ب�شدة ,ويعتربونه مارقا وخارجا على القواعد والأ عراف
واحلاج ,وبع�ض الت�سعينيني ,ونفر من هنا وهناك – هو الفنية املتبعة؛ ومع ذلك فقد كان – �أي اجلديد – يف الآ ن
من دفع نقادا و�شعراء كرث �إىل ت�سجيل مواقف متباينة ذاته متقبال وم�ست�ساغا من الذائقة العامة ومت�صاحلا معها
ومتعددة جتاه هذا الوليد ,ترتاوح بني :الرف�ض والقبول ,يحمله الركبان وتغني به اجلواري وين�شد به يف املجال�س
والتحفظ ,وقد تبد�أ بالت�أييد لتنتهي �إىل الرف�ض( ,)5ورمبا العامة وجمال�س البالط.
تبد�أ من الرف�ض لتنتهي �إىل القبول �أو التحفظ. غري �أن الو�ضع يختلف مع ق�صيدة النرث؛ فهي و�إن
ويف التجربة النقدية للأ �ستاذ الدكتور :عبد العزيز املقالح «ا�ستطاعت خالل العقدين الأ خريين �أن تنتزع االعرتاف
ما يك�شف �صحة هذا اال�ستنتاج .فهو واحد من النقاد الذين النقدي بها ,لكنها مل ت�ستطع اخرتاق الذائقة ال�شعرية التي
تباينت مواقفهم ,وتعددت ر�ؤاهم �إزاء ق�صيدة النرث .وال�شك مازالت تف�صل ف�صال تاما بني حقلي ال�شعر والنرث ,م�ستندة
فقد كان له – كما كان لغريه من النقاد املجددين – ف�ضال يف ف�صلها هذا �إىل �رضورة وجود �إيقاع وزين ت�ستطيع
عن املربرات الفنية ,مربراتهم املو�ضوعية :كاالنحياز الإ ذن تعرفه والتمتع برتديد �صداه يف ال�شعر»(.)2
86 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s للجديد واالنت�صار لأ �شكاله املختلفة مهما بلغت مغايرتها
غياب املرجعية النقدية والإ طار النظري لهذا النمط من الكتابة
حر�ص املقالح �سواء يف خطابنا النقدي العربي� ,أو يف اخلطاب النقدي الغربي وجتاوزها� .إال �أن اخلروج ال�صارخ واملغايرة التامة يف
,وبا�ستثناء كتاب الباحثة الفرن�سية «�سوزان برنار» املو�سوم ق�صيدة النرث ملا ت�أ�صل من �أعراف ال�شعر وقوانينه مما
يف �أغلب كتاباته بـ«ق�صيدة النرث منذ بودلري �إىل الوقت الراهن» والذي هو يف �ألفته الذائقة اجلمعية يظل �أهم املربرات التي �صنعت تلك
بعد ذلك على الأ �صل �أطروحة الباحثة للدكتوراه و�صدرت طبعته الأ وىل املواقف.
التذكري ب�صعوبة 1958م ؛ فقد ولدت ق�صيدة النرث العربية «م�صطلحا ومفهوما»
خلوا من �أي �سند ت�أ�صيلي �أو مرجعية نقدية. جناية املوقف النقدي:
�شروط ق�صيدة وكان �أدوني�س قد تلقف الكتاب يف طبعته الفرن�سية وقبل �أن نقف على حقيقة موقف املقالح ,نعود فن�ؤكد �أن النقد
النرث ,و� إنها لي�ست ليطرح العام التايل ل�صدوره 1959م «ق�صيدة النرث», املجاين الذي جايل ق�صيدة النرث ونا�رص ق�ضاياها بدون وعي
عمال �سهال ميكن ويعدد خ�صائ�صها والتمايزات الأ �سا�سية بني ال�شعر والنرث. منهجي �أو نقدي ال يقل جناية عليها عن جناية بع�ض املواهب
كتابتها مبجرد �ساعده يف تبني الق�صيدة والتنظري لها ال�شاعر اللبناين ال�ضحلة والفقرية التي مار�ست فو�ضى الكتابة ال�شعرية و�أغرقت
�أن�سي احلاج وبقية �أع�ضاء جملة «�شعر» التي انحازت الق�صيدة بوابل الغمو�ض وال�ضبابية والتعمية وانتهكت �أخ�ص
الطموح لذلك متاما لهذا امل�رشوع وقامت بدور املروج له. خ�صائ�ص العمل الفني مبربر التجريب والتحديث.
؛ «� إن الق�صيدة يف هذا ال�سياق يرى غري واحد من النقاد والأ دباء �أن �أدوني�س وال�شك يف �أن اخلطاب النقدي هو من يتحمل فو�ضى
الأ جد تتطلب قد �أخذ حرفيا جهود «�سوزان برنار« وما كتبته عن ق�صيدة اخلطاب ال�شعري ,لي�س من منطلق الو�صاية عليه – فذلك
من ال�شروط ما النرث يف مرجعيتها الغربية ,ونظر به لق�صيدة النرث العربية دون �أمر مرفو�ض – بل من موقع امل�س�ؤولية الوظيفية ؛ ف�إنارة
�أن ي�شكك يف تلك اجلهود� ,أو �أن ميار�س عملية نقدية عليها(.)7 الأ عمال الإ بداعية ,وتوجيهها ,وتقوميها ,و�إ�ضاءة جوانب
ال تتطلبه �أية ويرى � آخر – بعد مقابلته الأ فكار الواردة يف مقدمة ديوان ال�سلب �أو الإ يجاب فيها ,هي وظيفة النقد و�أ�صل وجوده.
ق�صيدة �أخرى, «لن «بالأ فكار الواردة يف كتاب �سوزان برنار «�أن �أن�سي احلاج وعندما يتخلى النقد عن وظيفته و�أ�صل وجوده ,تت�سابق
و� إن االمتثال يرتجم عبارات الناقدة الفرن�سية �أو يعيد �صياغتها للتعبري عن الأ �صوات املت�شاعرة ,واملواهب ال�ضحلة والفقرية لأ ب�سط
لهذه ال�شروط ر�ؤيته ملفهوم ق�صيدة النرث وال جديد يف كالم �أن�سي احلاج مقومات الفن ؛ العتالء عر�ش ال�شعر والتباهي باالنتماء
�سوى ال�شحنة احلما�سية والرغبة يف الهدم»( .)8وبع�ضهم يغايل �إىل مملكته العظيمة ,وهو منها براء ,ومن هذه الزاوية يرى
تتطلب � إمكانات فريى �أن «�أدوني�س �أمم – لع�رشين عاما تالية – م�صطلحات بع�ض النقاد�« :أن ق�صيدة النرث �أ�صبحت يف �أغلب الكتابات
لغوية وثقافية ال «�سوزان برنار» حول ال�شعر :الك�شف ,الر�ؤيا ,العرافة ,الهدم, «حمار ال�شعراء» ميتطيها كل من يفتقر �إىل توازن كي
تتوافر � إال للقليل ال�شاعر النبي ...الخ لت�شكل مرتكزات خطابه الكتابي ؛ فتنتقل ي�صعد �سلم ال�شعر الطويل وال�صعب .وقد �أدى هذا �إىل
ممن امتلكوا – من جديد – عربه �إىل الآ خرين ,دون �إحالة – هذه املرة �سطوع جنم �شعراء «حداثيني» �ضحلي املوهبة فقراء يف
– �إىل امل�صدر� ,أو معرفة به»( .)9ومغاالة هذه النظرة يدفعنا لغتهم وخيالهم .وعو�ض �أن ينربي النقد العربي �إىل تقومي
الأ دوات والتقنيات لالختالف و�إياها ,لعلمنا �أن �أدوني�س – مهما كان موقفنا من هذه الو�ضعية ال�شعرية عرب تطوير املجهودات الأ وىل يف
ال�شعرية الأ حدث, بع�ض �أفكاره – �صاحب م�رشوع حداثوي نه�ضوي ,وله ر�ؤيته التنظري لق�صيدة النرث ف�إنه �ساير تلك اجلوقة املتنافرة
وممن امتلكوا النقدية امل�ستندة �إىل كم معريف تراثي قل �أن يلتم�س عند غريه الأ �صوات مرة حتت ذريعة النزعة الو�صفية الفجة ,وتارة
القدرة على من �أع�ضاء حركة �شعر �أو �أن�صار احلداثة ,ومع �أننا ال ن�شك يف عرب ح�شو املقاربة النقدية مبفاهيم غام�ضة تقمع القارئ,
�إفادته من قراءته للآ خر الغربي لكن ال �أحد ب�إمكانه الت�شكيك وتفقده ثقته بنف�سه ,وتلوي عنق الن�ص من خالل ت�أويالت
التعوي�ض عن يف قدراته الإ بداعية �أو النقدية. بعيدة ,همها الوحيد �أن ت�سبغ م�رشوعية على ن�ص �شعري,
العنا�صر الغائبة وما يعنينا من هذا كله �أن ق�صيدة النرث يف والدتها العربية لي�س فيه من ال�شعر �سوى اال�سم»(.)6
كعن�صري الإيقاع افتقرت كليا خللفية تنظريية ذات جذور عربية ,وم�سوغ �إننا لن نبالغ �إذا قلنا �إن النقد قد �أ�صيب يف ح�رضة ق�صيدة
والقافية. هذا الغياب – بر�أي الناقدة وجدان ال�صائغ – «االنق�سام النرث بجلطة دماغية و�شلل ن�صفي �أفقدته فاعليته و�صوته
احلاد يف �أركان واقعنا الفكري بني متحم�س ل�رشعية النقي فغدا يهمهم بكلمات متناثرة غري مفهومة ,وما يثري
هويتها و�رضورة ح�ضورها املت�سق مع طبيعة الع�رص اال�ستغراب �أن ال�شق الآ خر منه – وهو املتجه �صوب الق�صيدة
و�آلياته اجلبارة ...يف حني ي�صمها بع�ضهم ب�أق�سى ال�سمات اجلديدة «ق�صيدة التفعيلة»– ظل معايف وقائما بدوره الوظيفي
حتى �أنهم يقرنون بينها وبني التغريب من �أجل تهمي�ش على الوجه احل�سن ,وهو ما يدفعنا للت�سا�ؤل عن �أ�سباب �أزمة
الرتاث والإ طاحة بالأ �صالة»( , )10ولهذا ظلت معتمدة كليا النقد امل�صاحب لق�صيدة النرث .ولأ نه لي�س يف نيتنا تق�صي كل
ومنذ يومها الأ ول على الإ طار النظري الذي قدمه �أدوني�س �أ�سباب الأ زمة ومظاهرها – �إذ لي�س هذا مكانه – ف�إن ما يعنينا
و�أن�سي احلاج ؛ وهو كما ر�أينا م�ستمد بحرفيته �أو معاد منها هو ما نعتقد �أنه ر�أ�س الأ �سباب وذروة �سنامها ؛ �أال وهو
87 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
كذلك فللقارئ �أن يت�ساءل – ونحن معه – عن الكيفية ال�صياغة – على �أح�سن الأ حوال – من كتاب «�سوزان
التي تعامل بها اخلطاب النقدي ,واملرجعية التي ا�ستند برنار» وحتديدا من ف�صول بعينها .وقد ظلت هذه النتف
�إليها يف حواره وتعاطيه مع الق�صيدة� !! . .أم �أنه وقف التي قدمها �أدوني�س واحلاج املرجعية املتاحة – ورمبا
مبهورا �أمام هذا الن�ص املغاير يف ا�سمه ,ون�سبه ,و�رشوطه الوحيدة – لكل من تتوق نف�سه �إىل معرفة الإ طار النظري
الفنية كما وقف من قبل �أمري ال�شعراء �أحمد �شوقي مبهورا واملرجعية النقدية لق�صيدة النرث ما يقرب من �أربعني عاما
بتقنية ال�صاروخ والطائرة فكان و�صفه لهما و�صفا �شكليا يف ظل غياب تام للكتاب,ال ترجمة ,ال قراءة نقدية ,ال
م�سطحا هو �أقرب �إىل التقرير منه �إىل ال�شعر .وامل�ؤ�سف حقا عر�ض للمحتويات ,حتى �أ�صبحت تلك ال�شذرات كما يقول
�أن يتمثل النقد هذه الو�ضعية ,مكتفيا مبا �أماله عليه موقف رفعت �سالم« :موا�صفات جاهزة ,جمردة ,مطلقة لق�صيدة
االنبهار والإ عجاب ,ف�أخذ ي�صف وميدح بعيدا عن الغو�ص النرث� ,صاحلة لكل زمان ومكان ...مبا حولها – تاريخيا
يف �أعماق الق�صيدة ,ودون اال�شتباك مع مناذجها املختلفة, – �إىل «مانيفي�ستو» لق�صيدة النرث العربية �,سيدخل دائرة
والأ دهي من ذلك �أن هذا املوقف امل�سطح – امل�سمى جمازا املحفوظات املقررة على ال�شعراء القادمني»( .)11وقد ا�ستمر
نقدا – مل يطرح نف�سه مبنطق احلوار واملو�ضوعية ,بل �إن غياب الكتاب – وهو املرجع النقدي الوحيد لق�صيدة
النزق والتع�صب كانا رئته التي يتنف�س بها ,ومنطقه الذي النرث– �إىل �أن قام الباحث العراقي د /زهري جميد مغام�س عبدالعزيز املقالح:
يحاور به .ولهذا لي�س غريبا �أن يتقل�ص جمهور ق�صيدة ب�أول ترجمة له �صدرت عن دار امل�أمون ببغداد 1993م يجب الرتكيز
النرث ,وينف�ض النا�س من حولها ,فخطاب – كهذا – ال مب�ساحة 300ورقة ,ويف املقدمة يقول املرتجم� :إن الكتاب
ي�ستند �إىل قوة املرجعية واملحاجة املنطقية – ظنا منه يف الأ �صل « »814ورقة و�أنه – �أي املرتجم – قد نظر على اخل�صائ�ص
ب�أن الزعيق كفيل ب�إرهاب الآخر وبالتايل �إقناعه – هو فيه فوجد للم�ؤلفة ا�ستطرادات كثرية ,ومالحظات هام�شية, اجلوهرية
خطاب ال يخدم نف�سه ف�ضال عن خدمة من ي�رصخ با�سمه, وق�صائد ل�شعراء غري معروفني مما ا�ضطره للتغا�ضي عن يف الفن
بل �إن جنايته عليه �أكرب من جنايته على نف�سه لأ نه �أ�صال ق�سم كبري من ذلك ,واكتفي برتجمة ما ر�آه جديدا ونافعا عموما
يف حكم املنتهي. مما ميكن �أن ي�ضيف لونا جديدا �إىل �ألوان معرفتنا ,ومبربر
ويف هذا ال�سياق يرى الناقد الدكتور :عبد العزيز املقالح �إن فني بحت – ح�سب ر�أيه – تخلى املرتجم �أي�ضا عن نقل وال�شعر بوجه
خطورة هذا امل�سلك النقدي ,وجنايته على ق�صيدة النرث ال يقل بحور ال�شعر الفرن�سي يف الف�صل الثاين ,كما �أهمل ما خا�ص
عن اجلناية التي �أحلقها بها �أعدا�ؤها ,كما يقول�« :إذا كانت و�صفه بالعر�ض التاريخي الطويل للدادية وال�رسيالية
ت�سمية هذا اجلديد ال�شعري بـ» ق�صيدة النرث» قد �أعاقت انت�شاره, بحجة �أنها من املو�ضوعات التي باتت معروفة للقارئ
و�أفقدته التعاطف احلميم ,و�إذا كان الت�شكيك يف ن�ش�أته العربية العربي( .)12يت�ضح من مقدمة املرتجم �أنه اجتز�أ ق�سما
قد �أفقده جمهورا وا�سعا من حمبي الرتاث و�أن�صاره ,ف�إن النقد كبريا من الن�ص الأ �صلي للكتاب ,وقد و�صف الدكتور رفعت
املتع�صب املتحرر من املو�ضوعية قد جنى على هذا اجلديد �سالم هذا االجتزاء بقوله�« :إن الكتاب املرتجم ال ي�ساوي
ال�شعري رمبا �أ�ضعاف ما جنته الت�سمية والت�شكيك معا ,و�أية �أكرث من ع�رش م�ساحته الكلية .و�أما احلذف الذي �أتى على
جناية يف حق هذا ال�شكل الإ بداعي الأ جد قيا�سا لأ قدميته من ت�سعة �أع�شار الكتاب فلم ي�ستند �إىل معيار واحد . .ولهذا
هذا الت�سطيح النقدي»( , )17وي�ستدل املقالح بعينة لهذا النقد ي�صف الرتجمة بالع�شوائية( .)13واحلقيقة �أن الكتاب جهد
بقول ال�سوري حممد ع�ضيمة « :ق�صيدة النرث هي ق�صيدة علمي متميز ,ويكفي املرتجم جمدا �أنه جعله يف متناول
وعي و�صحو� ,أما ق�صيدة الإ يقاع فهي ق�صيدة �سكر ودوخة... القارئ العربي :املتخ�ص�ص والعادي بعد �أن احتجب عنه
�أمل نتعب من الدوران والدوخة� ,أمل ت�ضجر الذائقة العربية من ما يزيد عن �أربعة عقود ,ولو كانت ترجمته معيبة �أو
الإ يقاع و�سال�سته . .التفعيلة يف طريقها �إىل االنقرا�ض� . .أال مبت�رسة بال�شكل الذي �أ�شار �إليه «�سالم» ما حاز على
يكفيها هذا الزمن املمتد� . .أن�صح �شعراء الإ يقاع ب�أن يكتبوا املركز الأ ول ك�أف�ضل كتاب مرتجم عام 1997م بعد �أن
املراثي ل�شاهدات قبور ق�صائدهم املوقعة . .وكما ال�شعر �أعادت الهيئة العامة لق�صور الثقافة امل�رصية طباعته
العمودي �سوف جنهز على التفعيلة – ,وي�ضيف ع�ضيمة – �إن يف دي�سمرب .)14(1996ومع ذلك تبقى املالحظة جديرة
�شعراء التفعيلة والأ نظمة الديكتاتورية العربية تو�أمان ابتلت باالحرتام خا�صة �أنها �صادرة عن باحث متخ�ص�ص وله
بهما الأ مة منذ اال�ستقالل وحلد ال�ساعة– و�إنه – مع ق�صيدة ات�صال مبا�رش بالن�ص الأ �صلي للكتاب( .)15وما يعنينا هو
النرث بد�أت تبا�شري الدميقراطية �سيا�سيا وفنيا . .و�إن �شعراء �أن الكتاب حتى يف ترجمته املت�أخرة « »1993مل ميثل
التفعيلة �أو العموديني اجلدد ,يدربهم الإ يقاع على العبودية ب�أكمله �أمام القارئ العربي .ومع ذلك ف�سنعد تاريخ �صدور
والذل والتبعية ولذا �رسعان ما ي�ستجيبون لأ دنى �إ�شارة من الرتجمة الأ وىل منه – �أيا كانت املالحظات عليها– هو
ال�سلطة ومن احلاكم الثقايف وال�سيا�سي»( ,)18يعقب املقالح على تاريخ االطالع على كتالوج ق�صيدة النرث( .)16و�إذا كان الأ مر
88 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الإ يقاع يف ق�صيدة النرث ,ق�صيدة نرث بحد ذاتها ,ولها من هذه العينة املجانية من النقد فيقول :هل و�صل النقد الأ دبي
�إ�رشاقة الأ لفاظ وتوهج العبارات ما تفتقر �إليه كثري من العربي �إىل هذه الدرجة من فقدان املعايري الفنية واالجتماعية
ق�صائد النرث احلالية .ويف خ�ضم هذه ال�شاعرية �ضاع والأ خالقية؟ وهل هناك �أ�سو�أ �أو �أ�شنع من مثل هذه املحاولة
التعريف ,وبني هذين ال�صوتني «املت�شنج ,وال�شاعري» اجل�سور للإ �ساءة �إىل �إبداعنا ال�شعري ب�أ�شكاله املختلفة؟ وهل
�ضاعت ق�صيدة النرث ,وجنى عليها �أ�صحابها �أكرث مما جناه رداءة الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي والثقايف وراء هذه الرداءة
عليها �أعدا�ؤها .وميكننا القول �أن النقد الذي رافق ق�صيدة النقدية ؟ وكم عدد الذين �سوف ي�ستجيبون لهذا ال�صوت يف
النرث و�ساند م�سريتها مل يخرج – با�ستثناء بع�ض الأ قالم احلياة الأ دبية تلك التي تتعاي�ش فيها الأ �شكال �أو تختلف يف
– عن هذين ال�صوتني :املت�شنج ال�صاخب ,واالنفعايل حدود من املو�ضوعية والر�ؤية احلري�صة على التب�شري باجلديد
ال�شاعري ,وهذا – بر�أيي – �أحد �أهم �أ�سباب الركام النرثي والأ جد ,ومن منطلقات ت�ؤ�س�س مل�ستقبل خمتلف يقوم على تراكم
الذي نراه اليوم ميلأ ال�صفحات الثقافية وت�سود به ال�صحف معريف وثقايف ال ي�صدر فيه الإ بداع عن فراغ مميت(.)19
واملجالت الأ دبية. ويف مكان �آخر يورد املقالح عري�ضة دفاع ًا عن ق�صيدة النرث
�أما املالحظة الثانية :فخال�صتها �أن ثمة م�ؤ�رشا يتعلق لأ حد املتحم�سني الأ ذكياء لها هو خليل املو�سوي ,نقتطف
مبوقف املقالح النقدي تدل عليه الن�صو�ص النقدية منها قوله�« :إن الق�صيدة «الن�ص» لي�ست نرثا و�إمنا �شعر كامل
ال�سابقة .و�إذا عرفنا �أن بني الن�صني والتعقيبني ما يقرب املو�سيقى ,لكنها مو�سيقى غري م�ستوردة من حمالت الفراهيدي
غلبة روح من الع�رشين عاما ت�أكد �أننا ب�صدد موقف نقدي م�س�ؤول و�إمنا من حمالت �أرقى و�أكرث ع�رصية� ...إن ق�صيدة النرث تعتمد
يت�سم بالو�سطية واالعتدال واملغايرة لتلك الأ �صوات �أ�سا�سا على املو�سيقى الداخلية :وثمة فرق كبري ,وكبري جدا,
امل�س�ؤولية املنفلتة .وقبل �أن ن�رشع يف االحتكاك مع هذا املوقف
واالعتدال – والكالم مازال للمو�سوي – بني الإ يقاع امل�ستورد من خارج
البد �أن نثبت حقيقة مانراه خ�شية �أن يفهم من الطرح «�أنا» ال�شاعر وبني الإ يقاع الداخلي احلار ,ف�إذا كان الإ يقاع
يف املوقف ال�سابق عك�س ذلك ,وهي �أننا ل�سنا �ضد �أو مع هذا ال�شكل اخلارجي يتوالد من توارد الكلمات �ضمن م�سار عرو�ضي
النقدي على ح�ساب ذلك ال�شكل �أو الأ �شكال ال�شعرية الأ خرى .وال راق�ص ف�إن الإ يقاع الداخلي يتولد من متا�س الكلمات و�ضعفها,
نروم مبا طرحناه �سابقا امل�س مب�رشوعية ق�صيدة النرث فتتفجر وتتحول طبيعة �أج�سادها من خالل برق �شعري كثيف...
للمقالح من فهي �شكل فني ينبغي – بل يجب – �أن يعطى حقه من
ق�صيدة مما يجعل احلرارة تدب يف �أو�صال الكلمات واحلروف ,وجتري
االهتمام والدرا�سة الواعية املن�ضبطة ب�رشوط الفن بعيدا
احلياة يف عروقها فتخرج غري م�ألوفة وتذوب الكلمات املتفجرة
النرث عن الفو�ضى �أو الدعاية الرخي�صة ؛ الدرا�سة التي من �ش�أنها
بح�س التجربة والر�ؤيا وت�شق �إيقاعها اخلا�ص العاري ويدخل
�إبراز مواطن الإ يجاب وتنميتها والتعرف على مواطن اخللل ()20
ال�شعر �إىل �أعماق الروح فتعي�ش الده�شة والن�شوة والإ يقاع»
ومقاربتها .والأ خذ بيد هذا اجلن�س الفتي وو�ضعه يف
املكان الالئق به .وعذرنا �إن تناثرت بع�ض الأ فكار هنا �أو ويف تعقيب املقالح على هذه املرافعة يقول« :وبالرغم من
هناك التي توحي بغري ما ق�صدنا �أنها من باب �إثبات واقع امتالك الأ �ستاذ املو�سوي نا�صية احلجة يف الدفاع عن الق�صيدة
نقدي لي�س �إال. الأ جد بل والقدرة على مهاجمة خ�صومها ف�إن لغته ال�شاعرية
قد �أ�ضاعت عليه كثريا من احلجج التي �أوردها يف درا�سته...
تطور موقف املقالح : �إن هذه التعريفات اخليالية املغرقة يف ال�شاعرية ال تدعم
خ�شية الوقوع يف �رشك الأ حكام اجلاهزة نعلن تخلينا – م�ؤقتا موقف الق�صيدة الن�ص «الق�صيدة الأ جد» ,بقدر ما تدعم التيار
– عما �أ�رشنا �إليه �سابقا من غلبة روح امل�س�ؤولية واالعتدال اال�ستنكاري املدعوم بقوة ال�سلف والرتاث ,وهي ت�سعى �إىل
يف املوقف النقدي للمقالح من ق�صيدة النرث حتى ال يقال تكري�س التناق�ض والتناحر حول مفاهيم الأ لفاظ ومدلوالتها,
�أننا نن�سج خيوط ما حددناه ور�سمنا �أبعاده �سلفا .ومن �أجل بدال من الرتكيز على اخل�صائ�ص اجلوهرية يف الفن عموما
ذلك �سنكتفي ونحن نتق�صى �أبعاد املوقف النقدي عند ناقدنا وال�شعر بوجه خا�ص»( .)21واعتقد �أن املقالح قد كفانا م�ؤنة
املقالح – بر�صد م�سارات التحول وحمطات التطور وحيثيات اال�شتباك مع هذه النوعية من النقد املنفلت كما يقول� ,إال �أن
ذلك دومنا �إ�صدار �أحكام �أو اخلو�ض يف التحليل الذي ميكن ذلك ال مينع �أن ن�سجل مالحظتني هما بر�أينا غاية يف الأ همية:
له �أن يخدم ذلك اال�ستنتاج .وغري ذلك فنرتكه للقارئ ووعيه الأ وىل� :أن غلبة ال�صوت املت�شنج واالنفعال احلاد عند حممد
النقدي. ع�ضيمة قد دفعه �إىل اعتبار الق�صيدة موازيا مو�ضوعيا
ولعل �أول ما ي�صادفنا هو موقف التنكر والرف�ض ,فبعد للواقع االجتماعي وال�سيا�سي؛ ومن ثم ر�أي �أن ق�صيدة النرث
�إعالن ميالد ق�صيدة النرث يف لبنان وتبني جماعة «جملة قرين احلرية والدميقراطية بينما ق�صيدة الوزن معادل
�شعر» لها ,جند املقالح يف مقدمة ديوانه الثاين «م�أرب مو�ضوعي للعبودية والدكتاتورية� ,أما املو�سوي فقد غلب
يتكلم» الذي �أ�صدره 1972م مب�شاركة عبده عثمان يرف�ض على نقده ال�صوت ال�شاعري فكانت حماولته لتعريف
89 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
.الخ ولكنه مع كل تغيري طر�أ على معمار الق�صيدة كان ال يزال هذا ال�شكل ال�شعري وي�صفه بالفقاعات والطفح النرثي,
يتمتع ويطرب مبو�سيقى ال�شعر ,ومل يجر ؤ� �أحد ممن خا�ض غمار حيث يقول « :من امل�ستحيل اعتبار تلك الفقاعات اللبنانية
التجديد ال�شكلي �أن ي�صدم ذائقته بكالم نرثي على �أنه �شعر املعروفة بق�صيدة النرث وما �شابهها �شعرا جديدا وحديثا
�أو يقول له� :إن ال�شعر لي�س له مو�سيقى .ومن هذا املنطلق فقد �أو م�ستقبليا»(.)22
ر�أي املقالح �أن ق�صيدة النرث �ستظل ال�شكل الأ كرث رف�ضا من وقد بنى املقالح هذا املوقف الراف�ض على �أ�سا�س افتقار هذا
املتلقي� »:إن بع�ض املتلقني على ا�ستعداد لتقبل هذا اللون من ال�رضب ال�شعري لل�سمة الأ �سا�سية لل�شعر �أال وهي الوزن ,ومع
الأ دب على �أنه نرث فني ,لكن الغالبية العظمى ترف�ضه باعتباره �أنه – �أي املقالح – ظهر يف هذه املقدمة منحازا متاما للجديد
�شعرا ,وترف�ض �أن ترى ال�شعر وقد تخلى نهائيا من كل عنا�رصه ال�شعري باعتباره وجودا م�ساويا «لل�صدى الراع�ش لإ يقاع
الفنية ,ويف مقدمتها الوزن»(.)29 الع�رص ,والأ ثر البارز للب�صمات الفكرية التي خلفها القرن
ومع �أن املقالح قد �أفرد لهذا ال�شكل ال�شعري الأ حدث بع�ض الع�رشون على م�شاعر �أمتنا العربية ,ويف وعي و�ضمائر
الوريقات يف ر�سالته للماج�ستري «الأ بعاد املو�ضوعية والفنية مثقفيها ووجداناتهم»(� )23إال �أن الوزن ظل معياره للتفريق بني
حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن» �إال �أنه مل يتخل عن الوزن ال�شعر والنرث ,وللتدليل على فاعلية هذا املعيار يف ح�سم التمييز
ك�رشط لل�شعر ,فقد ر�أي �أن ق�صيدة حممد امل�ساح وعبد الودود بني ما هو �شعري وما هو نرثي ي�ستدل املقالح مبقولة بول
�سيف «�أنا وحبيبتي ورحلة احلب «تفوق ع�رشات الق�صائد فالريي« :ال�شعر رق�ص ,والنرث م�شي» ويرى �أنها «كما كانت
العمودية واجلديدة ولكنها كانت تغدو �أكرث تفوقا لو �أنه قد �صاحلة بالأ م�س البعيد للتفريق بني ال�شعر والنرث التقليديني,
توافر لها الوزن»( , )30وال يبدو من هذا املقتب�س – مع ما فيه من فهي كذلك �صاحلة اليوم للتفريق بني ال�شعر اجلديد وق�صيدة
�إ�شادة – �أن ثمة حتوال كبريا طر�أ على موقفه جتاه ق�صيدة النرث, النرث �أو نرث الق�صيدة البريوتية»( ,)24وعلى هذا الأ �سا�س يتبنى
و�أما احتكاكه مع بع�ض مناذجها يف ر�سالته العلمية فمن باب املقالح تعريفا لل�شعر ميثل الوزن ن�صف بنيته ,ذلك هو قول
الإ حاطة بامل�شهد ال�شعري اليمني لي�س �إال ,وهو �أمر فر�ضته نازك املالئكة« :ال�شعر جتارب منغمة»( ,)25ووفقا لهذا التعريف
طبيعة ر�سالته و�شمولية مو�ضوعها؛ ولذا فقد كانت املو�ضوعية – وهو يف نظره �أ�صدق تعريف – ي�ؤكد الناقد املقالح على
طاغية على �أحكامه النقدية يف �أثناء قراءته لتلك النماذج .ففي �أهمية املو�سيقى يف ال�شعر ,فريى �رضورة «�أن يحتفظ ال�شعر
حتليله لق�صيدة عبد الرحمن فخري «بلقي�س تبكي بدمعي» اجلديد بقدر من املو�سيقى يحفظ للتجربة ت�أثريها و�سلطانها
وهي ق�صيدة نرثية �ألفيناه يقول« :وكما تعددت م�ستويات هذه على النفو�س وال �أ�ؤمن حتى الآ ن باملو�سيقى الداخلية التي
الق�صيدة يف ال�شكل ويف درجة الو�ضوح ,ويف الوزن فقد تعددت جتعل الأ لفاظ مبو�سيقاها الذاتية كما يقول البع�ض ت�ستغني عن
كذلك م�ستوياتها من حيث اجلودة والرداءة»( .)31ويت�ضح من هذا املو�سيقى اخلارجية ف�إنه ال غنى يف ال�شعر عن مو�سيقى الوزن
املقتب�س – و�سابقه – �أن الرف�ض الذي �ألفيناه يف مقدمة ديوان حتى و�إن مت اال�ستغناء �أحيانا عن مو�سيقى القافية .ويف �إطار
«م�أرب يتكلم» قد حتلل وخفت حدته ,و�أن ثمة معايري �أخرى التعريف الأ خري« :ال�شعر جتارب منغمة» ينبغي �أن تختفي �أو
غري الوزن دخلت قامو�س الناقد لتكون �ضمن مقايي�س ال�شعر على الأ قل ال يح�سب �شعراء ذلك الطفح النرثي الذي يولد بعيدا
وا�شرتاطاته ,وهو ما ينبئ بتحول جديد يف املوقف النقدي؛ عن النغم ال�شعري حتى لو ا�شتمل ذلك الطفح على جتارب ذات
لأ ن تو�سيع مقايي�س ال�شعر هو بال �شك اخلطوة الأ وىل لالجتاه قيمة»(� .)26إن خلو ق�صيدة النرث من مو�سيقى الوزن هي – �إذن
�صوب ق�صيدة النرث �إذ هي نتاج طبيعي للتحلل من ال�رشوط كاف للرف�ض �إذ مل يكن– حيثية املقالح لرف�ضها ,وهو مربر ٍ
التقليدية لهذا الفن ,وال م�شاحاة يف ذلك فنحن نعلم �أن التجديد الوزن ميثل لديه معيارا للتمايز بني ال�شعر والنرث فح�سب بل
يف �أ�شكال ال�شعر وقوالبه مل يبد�أ �إال مع انهيار ال�رشط التقليدي �إنه «الرباط ال�رسي بني احلداثة واملوروث ,و�إذا كانت قد حدثت
ال�شهري «ال�شعر قول موزون مقفي يدل على معنى» لتحل حمله جتاوزات من خالل ما ي�سمى بق�صيدة النرث فهي خارج حدود
�أو بالقرب منه مفاهيم اخليال واملجاز وبالغة الكالم .ومع �أن الق�صيدة اجلديدة»( .)27ويراد بالق�صيدة اجلديدة يف كل مقوالت
املقالح مازال متم�سكا – حتى اللحظة – مبعيار الوزن ف�إن املقالح ق�صيدة ال�شعر احلر ,ذلك ال�شكل الذي غادر مو�سيقى
لهجته و�أ�سلوب تعامله مع تلك النماذج النرثية توحي بتحفظه ال�شطرين ولكنه التزم مو�سيقى التفعيلة ,وهي كما يرى غري
عليها ولي�س رف�ضه لها كما �سبق له ذلك ,و�شتان بني الرف�ض واحد من الدار�سني وحدة الإ يقاع يف ال�شعر ب�شكل عام( .)28وما
والتحفظ ,ف�إذا اعتربنا �أن الأ ول يعني« :الرتك «والثاين يعني : نريد �أن ن�صل �إليه هو �أن متلقي ال�شعر اجلديد– �أي ق�صيدة
«االحرتاز من الوقوع يف اخلط�أ»( , )32فذلك ي�شري �إىل �أن �إمكانات التفعيلة – مل يفقد �صوت املو�سيقى التي �ألفتها �أذنه منذ �أطربه
احلوار يف موقف التحفظ متوافرة ومتى مازالت �أ�سباب الوقوع بها ال�شاعر اجلاهلي الأ ول� ,صحيح �أن معمار الق�صيدة تغري
يف اخلط أ� تعدلت املفاهيم والأ فكار وتغريت– بالتايل– ولكنه – �أي املتلقي – قد اعتاد جتديد البناء ال�شكلي للق�صيد,
املواقف. وحملقت عيناه يف معمار املو�شحات واملربعات واملخم�سات.
90 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الداخلي فهو مفهوم غري وا�ضح لديه حتى اللحظة ,و�سبق له وثمة �إجماع بني عدد من الباحثني ممن �سبق لهم واحتكوا
و�أعلن ذلك �رصاحة بقوله« :وال �أ�ؤمن حتى الآ ن باملو�سيقى مع امل�شهد النقدي اليمني ب�أن العام 1976م قد �شهد �أول
الداخلية التي جتعل الأ لفاظ مبو�سيقاها الذاتية كما يقول البع�ض ()33
انعطافة يف موقف املقالح باجتاه منا�رصة ق�صيدة النرث
ت�ستغني عن املو�سيقى اخلارجية ف�إنه ال غنى يف ال�شعر عن من خالل ما ن�رشه من درا�سات وبحوث �ضمنها كتابه
مو�سيقى الوزن حتى و�إن مت اال�ستغناء �أحيانا عن مو�سيقى «قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص» ,وهو من الكتب التي
القافية»( .)38ولعل الت�ساهل يف ا�ست�صحاب حيثيات ومربرات متثل البدايات املتحفزة للمقالح ,ومن الكتب التي �أثارت
حتول موقف الناقد من الوزن �إىل الإ يقاع الداخلي قبل �أن ي�ضع ق�ضايا اجلديد والقدمي ,بل اجلديد والأ جد( , )34وفيه درا�سة
مفهوما حمددا للإ يقاع يزيل به لب�س ما �سبق و�أعلنه ,ويكون بعنوان «مالمح التجربة املعا�رصة لق�صيدة النرث يف
مربرا كافيا ومقنعا لهذا التحول ؛ هو من دفع ب�أحد الباحثني اليمن» �سبق للمقالح ون�رشها يف جملة احلكمة العددين:
�إىل ر�ؤية هذا التحول من زاوية �أخرى رمبا تقلل من املو�ضوعية 48و , 50مار�س ومايو 1976م ,ويف الدرا�سة التي هدفت
التي حاولت الدرا�سة �أن تظهر بها( , )39فثمة �إ�شارة على درجة بالأ �سا�س للتعريف برموز ق�صيدة النرث و�شعرائها يف اليمن
من الأ همية ذكرها الدكتور ريا�ض القر�شي ,وهي �أن قبول �أبدى املقالح تعاطفه وترحيبه بهذا ال�شكل ب�صورة غري
املقالح بق�صيدة النرث يف هذه املرحلة «ي�أتي من زاوية ال�رصاع م�سبوقة ,مفتتحا الدرا�سة مبا ي�شبه االعتذار والرتاجع عن
بني اجلديد والقدمي ,وبد�أ فيه املقالح منت�رصا لأ �صحاب اجلديد, حتفظه الذي �سبق و�سجله يف كتاباته الفائتة حيث يقول:
خا�صة و�أن الذين مار�سوا هذا اللون من ال�شعر كانوا من �أن�صار «وكنت يف كتابي «الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة
اجلديد التفعيلي يف بداية الأ مر ...ومما يدل على �أن هذا القبول ال�شعر املعا�رص يف اليمن» وقبله يف مقدمة ديوان «م�أرب
كان من باب االنت�صار للجديد فقط �أنه تراجع عنه بعد ذلك يتكلم» قد �أظهرت بع�ض التحفظات حول ق�صيدة النرث...,
وبخا�صة حني ال ين�رصف نقده �إىل املقارنة بل �إىل درا�سة �شعر ومنذ ذلك احلني والق�صيدة النرثية ت�شغلني ومناذجها
�شاعر »( )40و�إذا نحن و�ضعنا هذه املالحظة بجوار قول املقالح: الأ كرث جتاوزا و�شعرية ت�شدين وتدعوين �إىل جتاوز موقفي
«�أنا م�ؤمن باجلديد ال�شعري حد التطرف»( )41حُ ق لنا موافقة املتحفظ»( , )35ويبدو �أن املقالح قد جتاوز موقف التحفظ
�صاحبها الر�أي ,خا�صة ونحن واجدون يف مقوالت املقالح مب�سافات ,وحتول �إىل موقف امل�ساندة والت�أييد مبحاولته
من مثل هذه الأ حكام« :و�إذا كانت ق�صيدة النرث تقدم الآ ن يف توفري الدعم اللوج�ستي ,وو�ضع الإ طار النظري لهذا الوليد
بالدنا �أن�ضج ما �أعطت يف الأ قطار العربية ف�إن الف�ضل يف ذلك الفتي .ومن هذا املنطلق ر�أي �أن« :الفن الأ �صيل كلما خرج
راجع �إىل جهود ومواهب عدد من ال�شعراء اليمنيني ال�شبان ويف من �رشوطه التقليدية وقع يف �إطار �رشوط �أكرث �صعوبة .ومل
مقدمتهم :ح�سن اللوزي ,وذو يزن ,وحممد امل�ساح ,وعبد الرحمن يعد �صحيحا باملرة �أن الق�صيدة اجلديدة �أ�سهل من الق�صيدة
فخري ,وعبد الودود �سيف ,وحممود علي احلاج ,و�شوقي �شفيق, العمودية خلروج الأ وىل على بع�ض ال�ضوابط اخلليلية .كما
و� آخرون ال �أتذكر �أ�سماءهم الآ ن»( , )42فقد كان من ال�سابق �أنه لي�س �صحيحا – كذلك – �أن ق�صيدة النرث �أ�سهل من
لأ وانه يف تلك املرحلة احلديث عن ق�صيدة نرث نا�ضجة يف �إطار االثنني خلروجها نهائيا عن دائرة اخلليل ولكونها �صارت
القطر الواحد ,ناهيك عن املفا�ضلة بينها وبني ق�صائد الأ قطار م�شيا بعد �أن كانت الق�صيدة – على حد التعبري التقليدي
الأ خرى؛ نظرا لعدم تبلور مفاهيمها النظرية ,وه�شا�شة الإ طار – رق�صا ,ونحن ن�ؤكد �أن الرق�ص يف ق�صيدة النرث وهو
املرجعي النقدي لق�صيدة النرث العربية ب�شكل عام .ولي�س هذا – هنا – ال�شعر �أكرث وجودا – و�إن مل يكن �أكرث رنينا – يف
ر�أيي فح�سب ,بل هو ر�أي املقالح نف�سه ,ففي املقابلة التي ق�صيدة النرث منه يف املنظومات العمودية»( )36ويف �سعيه
�أجراها معه عبد الرحمن �إبراهيم للعدد الأ ول من جملة «الثقافة لتوفري الغطاء النظري بحث الناقد جذور هذه الق�صيدة,
اجلديدة» 1978م – �أي بعد عامني من هذه الدرا�سة – وجدنا وتتبع ينابيعها الأ وىل يف الرتاث العربي وعر�ض من ثم
املقالح يقول« :ومن املالحظ �أنه ال الق�صيدة التفعيلية ,وال خل�صائ�صها ,والأ �شواط التي قطعتها .وغريها من الق�ضايا
ق�صيدة النرث تكتب ب�شكل ثابت ,فما تزال كلتا الق�صيدتني حتت مو�ضوع حديث املبحث القادم.
التجريب ,ومل تطرح ق�ضاياهما ب�شكل جدي حتى الآ ن»(.)43 ووا�ضح هنا �أن املقالح انطلق من املعايري نف�سها التي بنى
ويف كتابه �أزمة الق�صيدة العربية املن�شور بعد تلك الدرا�سة بـ9 عليها موقف الرف�ض ,وهي تلك املت�صلة بالرق�ص يف ال�شعر»
�سنوات – �أي – 1985نراه يقول« :قد مير وقت طويل قبل �أن املو�سيقي» و�إن كان وا�ضحا مبا عناه بالرق�ص عندما رف�ض
ت�صبح الق�صيدة الأ جد كائنا حيا له مالحمه اخلا�صة ومعامله ق�صيدة النرث – �أي خلوها من مو�سيقى الوزن – ف�إنه هنا مل
املميزة وعنا�رصه املتكاملة»( )44مبا ي�ؤكد �أن احلديث عن التميز يطلعنا كيف حتقق الرق�ص «املو�سيقى» لهذه الق�صيدة .ومع �أنه
�سابق لأ وانه .ومع ذلك فقد كانت املو�ضوعية �سمة غالبة وبارزة قد �أ�شار �إىل �أن« :الإ يقاع الداخلي– قد حل حمل الوزن ,وحمل
يف هذه الدرا�سة ,حتى و�إن جاءت يف قالب االنت�صار للجديد ؛ رنني القافية»( , )37فمن غري الوا�ضح كذلك مبا عناه بالإ يقاع
91 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ولت�أكيد �صعوبة �رشوط الق�صيدة و�أنها لي�ست بالأ مر الهني فقد قدم فيها املقالح �أفكارا غاية يف الأ همية ميكن �أن نعدها
يفرق املقالح بني �شاعر ق�صيدة النرث و�شاعر الق�صيدة التقليدية: الأ �سا�س �أو الأ ر�ضية التي ا�ستند عليها يف مواقفه بعد ذلك –
في�شبه الأ ول مبن يحاول �أن ي�صنع متثاال من الرتاب ,البد �أن ومنها على �سبيل املثال تلك التي �ضمتها اخلامتة ,كقوله�« :إن
يكون �أقدر يف �إمكاناته الذهنية والفنية مبئات املرات من ذلك ق�صيدة النرث املتجاوزة ملا توا�ضع النا�س على ت�سميته بال�شعر
الذي ي�صنع التمثال من الف�ضة �أو الذهب ,لأ ن قيمة التمثال املنظوم وبالنرث امل�شعور� ,ست�صبح عما قريب الق�صيدة ال�صورة
الأ خري يف خامته ,وكذلك قيمة الق�صيدة البيتية يف تراثيتها... �أو الق�صيدة اللوحة ,وهي ق�صيدة نابعة من ع�رصها ولها
�أما الق�صيدة النرثية ف�إن ال�شاعر البد �أن ي�ضيف مبوهبته ما زمنها اخلا�ص ت�ستغني بلغتها امل�رشقة وب�إيقاعها الدرامي
يعو�ض به عن فقدان الإ يقاع والقافية والبيتية( ...)51ولأ ن عن كل الفنون البالغية املوروثة ,وهي حقا ق�صيدة ال�شعر احلر
�شعراء هذه الق�صيدة مل يحققوا هذا التعوي�ض يف ق�صائدهم لأ نها حتررت نهائيا من عن�رصي الوزن والتقفية وقد كانا
فقد حتفظ املقالح �إزاء كثري من املحاوالت النرثية – و�شدد من من �أهم ومن ابرز العنا�رص التي يت�آلف منها عمود الق�صيدة
ا�شرتاطاته فر�أي�« :أنه ال ميكن كتابة ق�صيدة نرثية ال لأ نها �شي التقليدية ,ورغم ذلك فقد بقيت �شعرا ,و�شعرا متجاوزا ,وهي
يخالف التقاليد ال�شعرية ,وال لأ ن النا�س ينبغي �أن يظلوا �أ�رسى يف اليمن عالمة من عالمات اجلدة واملعا�رصة يف �شعر اليمن
�شكل �شعري معني و�إمنا لأ ن �رشوط ق�صيدة النرث �أ�صعب من احلديث»( ,)45غري �أن هذه الأ فكار– بر�أي باحث � آخر – «مل تكن
�أن ي�ستجيب لها �شاعر .وهذه ال�رشوط من اال�ستحالة بحيث ال لتمثل مرحلة انعطاف يف موقفه؛ لأ ن املحاورات التي �أجريت
ميكن اخل�ضوع لها ,ولذلك فال ميكن �أن يظهر �شاعر يكتب بالنرث معه بعد ن�رشه لهذه الدرا�سة مل تعك�س موقفا م�ساندا وم�ؤيدا
�شعرا حقيقيا �إال �إذا كان ميتلك طاقة �شعرية م�ستقبلية جتعله لهذه الق�صيدة و�إمنا كانت تدل على مرونة جتاهها»(.)46
ي�ستغني عن كل �شكل وقاعدة مبا �سوف يوفره من خ�صائ�ص ومن تلك املحاورات التي ا�ستدل بها الباحث ور�أي فيها
�شعرية ,وعنا�رص تعبريية تهدم اخل�صائ�ص يف الذهن العربي نوعا من املراجعة يف املوقف النقدي امل�ساند لق�صيدة
بحكم الأ لفة وبت�أثري العادة والوراثة»(� )52إن عبارات املقالح النرث تلك التي �أجراها معه جلريدة احلوادث الناقد
– هنا – ال حتمل موقفا مرتاجعا �أو غري م�ساند بقدر ما «توحي جهاد فا�ضل ,ومنها قول املقالح« :ال �أجد نف�سي كثريا
بالقلق على ق�صيدة النرث والتخوف من الأ دعياء والعابثني يف الق�صيدة التي تخلو من الإ يقاع ,كما �أجد �صعوبة يف
بحرمة هذا ال�شكل ,خا�صة بعد �أن وجدوا فيه مالذا لإ فراغ االقرتاب من كثري من النرثيات .يف حني �أن بع�ض هذه
�رصاعاتهم وهلو�ساتهم ,يف ظل الفراغ النقدي وغياب املعايري النرثيات وبخا�صة عندما ت�صدر عن �شعراء كبار تكون
ال�صارمة – على �صفحات ال�صحف واملجالت – ليجد القارئ �أكرث �شعرية من ال�شعر ال�سائد»( ,)47وقوله« :و�أنا عندما
نف�سه �أمام �سيل من املعميات والطال�سم والإ غراب املمجوج �أحتدث عن ال�شعر اجلديد ف�إمنا �أحتدث عن م�ستوى معني
والرثثرات الفجة ,ويف �أح�سن الأ حوال �أمام جمل وعبارات منه ,عن م�ستوى توافرت له اللغة اجلديدة والرتكيب
م�شتتة تنعدم فيها الفكرة املركزية ,مما يعك�س �ضعف ,بل الفني ال�شعري .فلي�س كل من كتب بهذا ال�شكل �أو كل من
وق�صور الت�أ�صيل الثقايف النظري ,بل غيابه �أحيانا عند تالعب بالتفعيالت �أو �أهملها �شاعرا جديدا �أو يحق له
�أ�صحاب تلك الرثثرات»(.)53 �أن ينت�سب �إىل هذا العامل املده�ش العظيم»( .)48تلك هي
من هذا املنطلق – وهو منطلق وجيه – كان حر�ص �أدلة الباحث على �أن موقف املقالح من ق�صيدة النرث كان
املقالح يف �أغلب كتاباته بعد ذلك من�صبا على التذكري مرنا ولي�س م�ؤيدا �أو م�ساندا ,واحلقيقة �أنني مل �أجد �سواء
ب�صعوبة �رشوط ق�صيدة النرث ,و�إنها لي�ست عمال �سهال فيما قر�أت� ,أو يف ما ا�ستدل به الباحث ما يوحي برتاجع
ميكن كتابتها مبجرد الطموح لذلك ؛ «�إن الق�صيدة الأ جد املقالح عن موقفه امل�ؤيد واملنا�رص لق�صيدة النرث( ,)49فلي�س
تتطلب من ال�رشوط ما ال تتطلبه �أية ق�صيدة �أخرى ,و�إن ثمة تراجع ,وكلما يف الأ مر �أنه – �أي املقالح – انتقل من
االمتثال لهذه ال�رشوط تتطلب �إمكانات لغوية وثقافية ال موقف الت�أييد املطلق – كما مل�سناه يف درا�سته ال�سابقة
تتوافر �إال للقليل ممن امتلكوا الأ دوات والتقنيات ال�شعرية – �إىل موقف الت�أييد امل�رشوط .وقد كان لهذا االنتقال
الأ حدث ,وممن امتلكوا القدرة على التعوي�ض عن �أ�سبابه ودوافعه.
العنا�رص الغائبة كعن�رصي الإ يقاع والقافية»( .)54وهذه ويبدو �أن كرثة النماذج الرديئة التي افرزها موقف الت�أييد
اال�شرتاطات – مع ت�شددها – لي�ست �إال من باب امل�ساندة املطلق لبع�ض من ر�أي يف ق�صيدة النرث مركبا �سهال ومطية
والن�رصة ,والت�شدد يف اال�شرتاطات – �أحيانا – هو نوع ذلوال قد �أ�صابته بخيبة �أمل ف�أراد �أن ي�صلح ما �أف�سده ه�ؤالء
من توفري احلماية من االخرتاق الذي تلقاه الفنون من من ت�سطيح للق�صيدة والعبث بها ,فكان �أن حتفظ على جتاربهم,
ذوي املواهب ال�ضحلة .وق�صيدة النرث مولود فتي ,ووريث ونبه املت�شاعرين منهم �إىل �أن �« :رشوط ما ي�سمى بق�صيدة النرث
�رشعي للتحلل من �رشوط ال�شعر التقليدي ,ويف ذلك ما تفوق تلك ال�رشوط التي ت�ستلزم كتابة الق�صيدة اجلديدة»(, )50
92 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وللتذكري فهو يبد�أ بالرف�ض (مقدمة م�أرب يتكلم – )1972 يغري املتطلعني واملت�شاعرين التخاذها مطيتهم �إىل
ثم التحفظ �أو القبول امل�رشوط بتحقق الوزن( ( )60الأ بعاد عامل ال�شعر العظيم ,و�سواء �أكان ذلك بح�سن نية منهم
املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن – )1973 �أو ب�سوء نية ف�إن النتيجة واحدة – �إذا �سمح لهم بذلك
ثم القبول غري امل�رشوط �إال من �رشط الكتابة (قراءة يف �أدب – وهي قتل هذا املولود قبل �أن ي�ستوي عوده ويقوى
اليمن املعا�رص – )1976و�أخريا القبول املت�شدد بال�رشوط عموده .ويف ظل املغايرة والتجاوز اللذين ظهرت بهما
التي حتقق مبد�أ التعوي�ض عن �رشوط الق�صيدة التقليدية (من هذه الق�صيدة ودفعت بالعديد للت�شكيك يف �شعريتها,
البيت �إىل الق�صيد – , 1983و�أزمة الق�صيدة العربية ,م�رشوع ي�صبح الت�شدد يف ال�رشوط التي تثبت عك�س ذلك �أمرا
ت�سا�ؤل – .)1985 مفروغا منه .وعلى ذلك ميكن القول �أن لي�س ثمة تراجع
ويبدو �أن ت�شدد املقالح لل�رشوط التي حتقق �شعرية ق�صيدة يف موقف الت�أييد ولكنه االنتقال من موقف الت�أييد
النرث مل يجد له �صدى �أو فاعلية لدى املوجة اجلديدة من املطلق �إىل موقف الت�أييد امل�رشوط ,وهذا االنتقال هو
�شعراء ق�صيدة النرث الذين غدت الق�صيدة على �أيديهم �أكرث يف �إطار املوقف الواحد ,وبهذا ي�صبح املنحنى التطوري
�إغراقا يف النرثية ,ناهيك عن دخولها �رساديب التعمية ملوقف املقالح من ق�صيدة النرث هكذا :رف�ضا – حتفظا
والطال�سم وقتل املعنى ال�شعري .ويف ا�ستمرار هذه الو�ضعية – قبوال مطلقا – قبوال م�رشوطا.
وا�ستمراء الزحف النرثي وغلبته يف املنت ال�شعري ما قد ولي�س من �شك ب�أن احتكاك املقالح وا�شتباكه امل�ستمر مع بع�ض
يدفع كثريا من منا�رصي الق�صيدة �إىل التخلي عن مواقفهم مناذجها قد �أحدث تطورا يف فكره النقدي ,ور�سخ كثريا من
امل�ساندة ,والتزام جانب ال�صمت يف الأ قل ,ولي�س هناك ما املفاهيم التي كانت م�شو�شة لديه قبل ذلك ,كمفهوم الإ يقاع
مينع بع�ضهم من تبني مواقف ال تخدم هذا ال�شكل ال�شعري واملو�سيقى الداخلية وغريها من املفاهيم ,ويف درا�سته
الأ جد؛ نقول هذا الكالم ونحن نلمح يف الأ فق بوادر موقف املتميزة عن �أزمة الق�صيدة العربية � ,أ�صداء ذلك التطور .وعلى
جديد للمقالح رمبا ينطوي مبعنى من املعاين على بع�ض �سبيل املثال فقد كانت املو�سيقى الداخلية –لديه – مع بداية
ما �أ�رشنا �إليه �سابقا ,ن�شم رائحة هذا املوقف يف حوار ن�رش تعاطيه �سلبا مع ق�صيدة النرث مفهوما غري معرتف به( , )55ثم
حديثا للمقالح وفيه �س�ؤال عن موقفه من هذه الق�صيدة, �أ�صبحت يف مرحلة تعاطيه االيجابي مفهوما معرتفا به ولكنه
ولأ همية ال�س�ؤال والإ جابة ف�سوف نثبتهما جميعا خامتة م�شو�ش وغري وا�ضح� .أما يف هذه الدرا�سة فقد �أ�صبحت مفهوما
ملبحثنا هذا. وا�ضحا وحمددا ,فهي« :املو�سيقى التي ي�صنعها توازي الأ �شياء
ال�سائل :ال تزال ق�صيدة النرث مو�ضع رف�ض الكثري من النقاد وت�ضادها ,املو�سيقى التي تقر�أها العني يف اللوحة ويف �إيقاع
وال�شعراء الكبار عربيا ،هل تن�ضم �إليهم �أم �أن لك موقفا خمتلفا املعمار ,ويف الإ يقاع الداخلي للغة بعد �أن تغادر مكانها يف
؟ يبدو �أنك ان�ضممت �إليهم ؟ القامو�س»( .)56وهذا التطور يف املفاهيم والأ فكار – �إذا ق�سناه
املقالح :ال �أريد �أن �أزكي نف�سي و�أقول �إنني عندما بد�أت من زاوية القبول والرف�ض – ال ي�سجل موقفا جديدا ,وال يعني
حماولتي ال�شعرية الأ وىل يف �أواخر اخلم�سينات كانت نرثية �أن املقالح مل ينظر لق�صيدة النرث على �أنها �شعر حقا �إال يف
وكنت يف البداية �أكتب ق�صائد عمودية �أهاجم فيها �شعر الأ وزان هذه املرحلة ,كما ذهب �إىل ذلك �أحد البحاثة( ,)57وما ي�ؤكد هذا
والقوايف ،وهناك دليل علي ذلك ق�صيدة كتبتها عام 1960 االدعاء – �إن �صح – �أن املقالح بنى درا�سته لق�صيدة النرث يف هذا
ومن�شورة يف ديواين الأ ول �أو الثاين كانت تدعو �إيل التحرر من الكتاب من منطق الأ زمة التي �أحدثها ال�شعر املعا�رص ب�أ�شكاله
�سيطرة الوزن والقافية و�إيل كتابة ال�شعر احلر (ق�صيدة النرث) املتنوعة وقوالبه املختلفة بوجه عام .وكما در�س �أزمة ال�شكل
و�أتذكر من تلك الق�صيدة بيتا يقول : والت�سمية والتو�صيل والو�ضوح والغمو�ض والإ يقاع و�رصاع
رق�صت روعة عليه احلمري وخرجنا ن�سيل �شعرا مقفى الأ جيال . .يف الق�صيدة اجلديدة «ق�صيدة التفعيلة»( )58فقد
فهذه املقدمة ت�ؤكد �أنني علي الأ قل �إن مل �أكن من �أن�صار ق�صيدة بحث كذلك �إ�شكاليات الت�سمية والتجني�س والت�شكيل والبدايات
النرث فل�ست من �أعدائها ،مع �أن كتاباتي الكثرية جدا واملنا�رصة واجلذور . .يف ق�صيدة النرث( , )59وذلك يعني �أن املقالح – هنا
لهذا ال�شكل من ال�شعر الذي تبنيت له م�صطلحا �صار معروفا يف – مل يحتك معها �إال باعتبارها �شكال �شعريا متفقا �سلفا على
بع�ض الأ و�ساط النقدية وهو (الق�صيدة الأ جد) مقارنة بالق�صيدة �شعريته ,مثلها مثل ق�صيدة ال�شكل التفعيلي ,ودرا�ستها يف هذه
اجلديدة التي هي ق�صيدة التفعيلة ،ويف كتابي (�أزمة الق�صيدة احلالة لي�ست نوعا من االعرتاف بها ,بل هي نوع من الإ جابة
العربية . .م�رشوع للت�سا�ؤل) ما يعطي �إجابة �شاملة يف موقفي على الت�سا�ؤالت التي تثريها دائما الأ �شكال اجلديدة لي�س يف
جتاه ق�صيدة النرث ،ولكن بعد �أن اختلط احلابل بالنابل وتعالت الع�رص احلديث و�إمنا يف كل زمان ومكان .وهذا ما ي�ؤكد زعمنا
�أ�صوات قتل الآ باء والأ مهات ،فقد تراجعت مو�ضوعيا و�رصت ال�سابق ويثبت – حتى اللحظة – املنحنى الذي ر�سمناه مل�سار
�أرى كل الأ �شكال ال�شعرية النا�ضجة جديرة بالبقاء والتعاي�ش، املوقف النقدي التطوري من ق�صيدة النرث عند ناقدنا املقالح.
93 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
� -27أ�صوات من الزمن اجلديد ,درا�سات يف الأ دب العربي املعا�رص و�أن من حق كل الزهور �أن تتفتح يف حديقة الإ بداع ال�شعري
– �ص.25 عمودية كانت الزهرة �أو نرثية ،املهم �أن تكون زهرة و�أن حتمل
-28ينظر :النقد الأ دبي احلديث – �ص , 436وينظر:ع�ضوية املو�سيقى يف
الن�ص ال�شعري– �ص.50 قدرا من �ضوع ال�شعر ورائحة الإ بداع.)61( . .
� -29أ�صوات من الزمن اجلديد ,درا�سات يف الأ دب العربي املعا�رص الهوام�ش
– �ص.120
-30ينظر :الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن -1ال�شعر وال�شعراء– ج.63/1
– �ص.393 -2ق�صيدة النرث العربية :الإ طار النظري والنماذج اجلديدة – فخري �صالح
-31الأ بعاد املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن – جملة ف�صول :املجلد –16العدد الأ ول – �صيف � – 1997ص.163
– �ص.390 -3الأ �س�س النظرية لق�صيدة النرث يف الأ دب العربي احلديث – ح�سن خمايف
-32ينظر :ل�سان العرب – ابن منظور – مادتي – :رف �ض ,ح ف ظ. – جملة نزوى – العدد � – 38إبريل � –2004ص.129
-33ينظر :النقد الأ دبي احلديث يف اليمن :الن�ش�أة والتطور – �ص,250 -4الكتاب من �إ�صدارات الهيئة العامة لق�صور الثقافة –القاهرة –
وق�صيدة النرث يف نقد عبد العزيز املقالح– �ص ,157عبد العزيز املقالح .1999
وت�أ�صيل النقد الأ دبي احلديث يف اليمن– �ص , 82وال�شعر املعا�رص يف -5منثل لهذا التيار بـ :خليل حاوي ,وحممد املاغوط .وهما من م�ؤ�س�سي
اليمن – عبد الرحمن �إبراهيم – �ص .239 جملة �شعر وكتاب ق�صيدة النرث فيها ,فقد �أعلن املاغوط بعد ان�سحابه
- 34ينظر :النقد الأ دبي احلديث يف اليمن:الن�ش�أة والتطور – �ص.125 من احلركة �أنه مل يكن �سوى كاتب قطع نرثية ب�سيطة و�أنه �سمي �شاعرا
- 35قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص– �ص.22 و�شاعرا حديثا على غرارهم دون �إرادته .ينظر :نزوى – العدد – 38ابريل
- 36نف�سه – �ص.23 � –2004ص.143
- 37نف�سه – �ص.63 -6الأ �س�س النظرية لق�صيدة النرث يف الأ دب العربي احلديث – ح�سن خمايف
� -38شعراء من اليمن – �ص.79 – �ص.129
-39لي�س �رشطا – كما �أرى – �إن يكون تعديل املواقف ومراجعة الأ فكار -7ينظر :مقدمة يف ق�صيدة النرث العربية – بول �شاول – �ص, .153
م�صحوبا مبا يربر ذلك �إذ الإ ن�سان حر فيما يعمل ويعتقد .ولكني �أرى ذلك ق�صيدة النرث العربية ,مالحظات �أولية – رفعت �سالم – �ص .302ف�صول:
�رشطا الزما فيمن يحتل مكانة علمية �أو �أدبية كمكانة الدكتور املقالح. املجلد –16العدد الأ ول – �صيف .1997
- 40ينظر :النقد الأ دبي احلديث يف اليمن :الن�ش�أة والتطور– �ص.250 -8ق�صيدة النرث العربية ,الإ طار النظري والنماذج اجلديدة – فخري
- 41من �أغوار اخلفاء �إىل م�شارف التجلي – �ص.150 �صالح – جملة ف�صول– �ص.166
- 42قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص – �ص.33 -9ق�صيدة النرث العربية ,مالحظات �أولية – رفعت �سالم – جملة ف�صول–
- 43ثرثرات يف �شتاء الأ دب العربي – �ص.111 �ص.302
� - 44أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص.116 -10الق�صيدة وف�ضاء الت�أويل -ينظر� :ص .150,149
- 45قراءة يف �أدب اليمن املعا�رص – �ص.73 -11ق�صيدة النرث العربية – رفعت �سالم – جملة ف�صول – ينظر� :ص301
- 46ق�صيدة النرث يف نقد عبد العزيز املقالح – �ص.158 .303 ,
- 47ثرثرات يف �شتاء الأ دب العربي – �ص.126 -12ينظر :املقدمة – �ص – 8’7طبعة الهيئة العامة لق�صور الثقافة
- 48نف�سه – �ص.120 – القاهرة – .1996
- 49ولي�س يف تلك الأ قوال ما ي�شري �إىل غري ذلك وحديث املقالح – يف -13ق�صيدة النرث العربية – رفعت �سالم – �ص.311
كل مقوالته – عن «ال�شعر اجلديد «الق�صد منه «�شعر التفعيلة �أو ال�شعر احلر» -14ينظر :مقدمة املرتجم لكتاب مي�شيل �ساندرا – قراءة يف ق�صيدة النرث
ولي�س ق�صيدة النرث. – �إ�صدارات وزارة الثقافة وال�سياحة – �صنعاء – .2004
-50من البيت �إىل الق�صيدة – �ص.32 -15هو الذي راجع وقدم ترجمة الكتاب نف�سه لراوية �صادق الذي
-51ينظر :من البيت �إىل الق�صيدة – �ص.32 �صدرعام2000عن دار �رشقيات بالقاهرة.
-52نف�سه – �ص.33 , 32 -16وقبل هذا التاريخ مل يطلع عليه �إال القليل و�صفهم رفعت �سالم
-53ال�شعر املعا�رص يف اليمن ,درا�سة فنية – عبد الرحمن �إبراهيم – مركز بالآ حاد ,ور�أي �أن كل واحد منهم وظفه حل�سابه ال�شعري� ,أو النقدي� ,أو
عبادي للدرا�سات والن�رش – �صنعاء – � – 2005ص.243 – حتى – العقائدي ,دون �أن يبيحه بكامله للآ خرين مت�سائال (هل ميثل
ذلك �شكال من معادلة املعرفة = ال�سلطة ؟) ينظر :ق�صيدة النرث العربية
� - 54أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص.116
– ف�صول :جملد –16العدد� –1997 –1ص.301
-55ينظر�:شعراء من اليمن – �ص.79 -17على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – عبد العزيز املقالح – امللحق
-56ال�شعر بني الر�ؤية والت�شكيل – �ص.233 الثقايف ل�صحيفة الثورة – �صنعاء – – 2004/9/23العدد .14530:
-57ينظر :ق�صيدة النرث يف نقد املقالح – �ص.160 -18ينظر:على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – عبد العزيز املقالح
-58ينظر� :أزمة الق�صيدة العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص ,22وما بعدها. – امللحق الثقايف ل�صحيفة الثورة – �صنعاء – –2004/9/23العدد
-59نف�سه – �ص ,70وما بعدها. � – 14530 :ص.16
-60ي�ستنتج ذلك من قول املقالح عن ق�صيدة «�أنا وحبيبتي ورحلة احلب» -19على هام�ش جتربة الق�صيدة الأ جد – �ص.16
لل�شاعرين امل�ساح وعبد الودود �سيف «هذه املقاطع الثالثة من ق�صيدة النرث, � -20أزمة الق�صيد العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – �ص .75
تلتقي مع الق�صيدة اجلديدة – ككل ق�صائد النرث اجليدة – يف ال�صورة والتجربة � -21أزمة الق�صيد العربية م�رشوع ت�سا�ؤل – ينظر� :ص .77,76
وطريقة التناول وال ينق�صها لتغدو ق�صيدة جديدة جيدة �سوى الوزن» .الأ بعاد � -22شعراء من اليمن – �ص.79
املو�ضوعية والفنية حلركة ال�شعر املعا�رص يف اليمن – �ص.393 � -23شعراء من اليمن – �ص.69
-61حوار مع الدكتور عبد العزيز املقالح – حاوره حممد احلمام�صي -24نف�سه – �ص.79
– جملة ال�شعر :جملة ف�صلية ي�صدرها احتاد الإ ذاعة والتلفزيون امل�رصي -25نف�سه – �ص.79
-العدد � - 122أغ�سط�س . .2006 -26نف�سه – �ص.79
94 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
لكي تُ�صبح م�ؤلف ًا يف الثقافة العربية الكال�سيكية ،عليك �أن تكون حجة ،وحتظى
بالإ جماع على كونِك كذلك ،وهو �رشط يُتيح مل�ؤلفاتِك �أن يُعرتف بها كن�صو�ص،
يف عا ٍمل �أو ثقافة ال ت�ست�سيغ وجود ن�ص جمهول امل�ؤلف� ،أو م�ؤلف نكرة .يقول
عبد الفتاح كيليطو« :ال يكفي لقول ما ان يتوفر على (انتظام خا�ص) كي
يعترب ن�صا ،ينبغي ،ف�ضال عن ذلك� ،أن ي�صدر عن� ،أو يرقى به �إىل قائل يقع
الإ جماع على انه حجة .حينئذ يكون الن�ص كالما م�رشوعا ينطوي على �سلطة،
وقو ًال م�شدوداً �إىل م�ؤلف -حجة .وهكذا فقد كان امل�ؤلف -النكرة �أمرا متعذر
الت�صور.
عبدالفتاح كليطو:
lكيف يتحول متكلم �إىل م ؤ�لف حجة ..امل ؤ�لف عندما ي�صبح
حجة ،يولد من جديد ويطلق عليه ا�سم جديد.
lتتغري االزمان وتتغري ميادين املعرفة ،ولكن التطلع اىل
حتديد ن�سب الن�صو�ص ال يتغري ،وان اتخذ مظهرا �آخر.
فمثال تبذل اليوم جمهودات �ضخمة للتنقيب عن �آيديولوجية
امل�ؤلفني و�سرب اغوار ال وعيهم.
لي�س كافياً ،وبحاجة �إىل و�ضوح �أدق. وبهذا املعنى ميكن للعبارة( :ن�ص جمهول امل�ؤلف) �أن
لنعطي م�سبق ًا بع�ض الإ �شارات التو�ضيحية عن معنى يعترب من قبيل اجلمع بني املت�ضادين»(� .)1أال يعني هذا
م�صطلح (م�ؤلف حجة) .يقول كيليطو �إننا بحاجة �إىل درا�سة �أن للم�ؤلف قيم ًة �أكرب من نتاجه ،و�أن الن�صو�ص تبقى
تُبني لنا «كيف يتحول متكلم �إىل م�ؤلف حجة»( ،)6ومن ناق�صة �أو مُ علَّقة ما مل تُن�سب �إىل م�ؤلف ما؟ ،فال يُ�صار �إىل
يُطالع تراج َم امل�ؤلفني القدمية وكتب الطبقات وم�صنفات االهتمام بها� ،إال بعد �أن تن�سب� ،أي حتظى ب�أبوة �أحدهم(.)2
الرجال يكت�شف �إنها ال ترفدنا بالكثري ب�ش�أن الكيفية التي �إنها كاالبن ال�ضال� ،أو الأ بناء املجهويل الن�سب ،الذين
ي�صبح فيها م�ؤلف ًا ما حجة يف جمال معني من العلوم يتعر�ضون �إىل االحتقار والإ ق�صاء يف ثقافة تُعلي من
واملعارف ال�سائدة � آنذاك ،ومنها الأ دب طبعاً ،فهي تركز قيمة االنت�ساب البيولوجي (الع�ضوي)� ،أو �رشف الأ رومة،
يف الغالب على مرحلة لقاء امل�ؤلف ب�شيوخه و�أ�ساتذته، تهمي�ش ليايل �شهرزاد و�إق�صاءها عن َ وهذا ما يُف�رس مث ًال
فهم ميثلون امل�ؤ�س�سة التعليمية ،وعلينا �أن ن�ستبعد ت�صور دائرة االهتمام ،لأ نها من هذا املنظار بال م�ؤلف ،جمهولة
ما يطلق عليه البع�ض ت�سمية امل�ؤلف الع�صامي ،فهذا مما الن�سب ،ف�ض ًال عن �أ�سباب �أخرى بالت�أكيد �أدَّت �إىل �ض�آلة
ال تتيحه لنا هذه الرتاجم عن امل�ؤلفني احلجج� ،إذ يبدو العناية الدرا�سية بها قدمياً ،ي�ؤكد ذلك كيليطو بقوله:
�أن مرحلة التلمذة واكت�ساب العلم واملعرفة من ال�شيوخ «العرب مل يعجبوا قط كبري الإ عجاب ب�ألف ليلة وليلة. .
هي �أهم مرحلة يف حياة امل�ؤلف ،لكي يمُ نح ال�صالحية فلي�س هناك ما يزعج مثل ت�أليف ال يرقى به �إىل م�ؤلف
والإ جازة يف الكتابة( ،)7ليُ�صبح واحداً منهم ،وينتقل من بعينه»(� .)3إنه �أم ٌر انعك�س �أو تغلغل يف احل�سا�سية القرائية
ؤلف حج ًة دور الأ خذ �إىل دور العطاء ،فحني يُ�صبح امل� ُ �أو ال�سماعية للمتلقني � آنذاك ،وينطبق �إىل حد ما على
يُطلب �إليه يف العادة �أن يكتب كتاب ًا يف اخت�صا�صه� ،إما املعا�رصين ،وك�أنك بحاجة �إىل �أن تعرف من هو م�ؤلف
�أن يكون وفق ًا لطلبٍ «�رصيح متليه ظروف خا�صة (مث ًال الن�ص الذي تقر�أه� ،أو �أن يكون لك ت�صو ٌر عنه ،ي�ؤثر ب�شكل
امل�ستظهري للغزايل) �أو بناء على طلب �ضمني توحي به �أو ب�آخر يف �إدراكك للن�ص ،وحني ال تتوفر لديك مثل هذه
بع�ض امل�شاكل املعلقة يف الهواء (البخالء للجاحظ)»(،)8 املعرفة �أو الت�صور ،ف�إنك �ستلج أ� �إىل افرتا�ضها �أو تركها
وك�أن الكتابة تتطلب «�أمرا� ،أو ،وهذا �سيان� ،أُذنا»( .)9هذا �شاغرة تنتظر االمتالء .وكم �سن�شعر بنوع من ال�صدمة
الأ مر يُلقي �ضوءاً ي�سرياً ،لكن له �أهميته ،ب�ش�أن ظاهرة عندما نعلم �أن هذا الن�ص مزيف �أو م�رسوق �أو منتحل،
الت�أليف يف الثقافة العربية الكال�سيكية ،حيث يجب �أال حينها �سيفقد الن�ص وم�ؤلفه جزءاً كبرياً من قيمتهما(.)4
يكون الت�أليف ،كما يفهم من الكالم ال�سابق ،حتت دافع لنتذكر ،يف �سبيل التو�ضيح والتعزيز� ،أن �صحة احلديث
ذاتي داخلي ،بل يُف�ضل �أو هكذا هو احلال عليه عُ رف ًا �أن النبوي تتوقف على «احلكم بعدالة رواته»( ،)5لذا انق�سمت
يكون خارجياً ،وهذا يدل �أي�ض ًا على �إن الكتابة ب�شكل بنيتُه الن�صيّة �إىل طبقتني ،هما( :ال�سند ،املنت) ،حيث الأ ول
عام هي مبثابة اتفاق �أو عقد بني الكاتب و�صاحب الطلب هو �سل�سلة رواة املنت التي تنتهي �إىل النبي ،والثاين هو ما
�أو الأ ذن ،وهذا الأ مر يبدو ب�شكل �أو�ضح يف الكتابات قاله النبي نف�سه ،والعالقة بينهما �أن الأ ول يحدد م�صداقية
ال�رسدية ،فاملتلقي «يف �أغلب الأ حيان هو الذي يطلب و�صحة الثاين ،ف�إن عُ رث على خلل يف �إحدى حلقات هذه
ال�رسد من الراوي» ،وك�أن هذا التعاقد ال�ضمني بينهما هو ال�سل�سلة من راوٍ �أو ناقل غري ذي ثقة ،فيُطرحُ احلديثُ جانب ًا
جت�سيد لقاعدة �شبه عامة وهي �أن «ال�رسد يكون جوابا عن وال ي�ؤخذ به ،ف�ض ًال عن �أنه ال ميكن ت�صور �أو قبول حديث
�س�ؤال»( ،)10وفق ًا لذلك يقول كيليطو« :ندرك ملاذا تعر�ض بال �سند �أ�صالً .وقد �أثَّرت ،على ما يبدو لنا ،طريقة تعامل
امل�ؤلفات الكال�سيكية نف�سها جوابا على �س�ؤال� ،أو طلب� ،أو الثقافة العربية الكال�سيكية مع احلديث النبوي كن�ص،
التما�س عاجل .الكاتب يرت�صد با�ستمرار عرو�ضا� ،أو عقدا يف مفهوم الن�ص ب�شكل عام ،مع تباين وفارق القيمة
تتمخ�ض مقت�ضياته عن خطاب مطابق للطلب»( ،)11فج ّل الهرياركية (الرتاتبية) للحديث كن�ص له مكانته اخلا�صة،
امل�ؤلفني القدماء يذكرون يف «افتتاحيات م�صنفاتهم �أن بخالف الن�صو�ص الأ خرى ،ومنها املنتمية للحقل الأ دبي.
�شخ�صا طلب منهم �إن�شاء كتاب يف مو�ضوع من املوا�ضيع، وخ�صو�صية الت�أثري تكمن يف معيارية االعرتاف بالن�صو�ص
ال ي�سمونه عادة ،وقد يكون ذا نفوذ �أو جمرد �صديق»(،)12 وقبولها امل�رشوط ب�إ�سنادها �أو ن�سبتها �إىل م�ؤلف ما،
لنتذكر �أن بع�ضهم كان يهدي كتابه �إىل �شخ�صية �سيا�سية يجب �أن يكون حجة �أو علم ًا يف جماله� ،أو معرتف ًا به� ،أو
يف الأ غلب� ،إىل من كانوا ي�ضعون �أنف�سهم حماة ورعاة معروف ًا على �أقل تقدير� ،إذ يتجلى لنا هنا مفهوم امل�ؤلف
للأ دب و�أربابه ،بعد �أن يذكر ه�ؤالء امل�ؤلفون يف مقدماتهم يف الثقافة العربية الكال�سيكية ب�شكل وا�ضح ن�سبياً ،لأ نه
96 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s �أن (�س) �سين ًا �أو فالن ًا من ه�ؤالء طلب منه اخلو�ض يف
لالعرتاف به يف عامل الن�صو�ص ،بل ان حظوظه ومكانته
يف هذا العامل تزداد ب�إرتباطه مب�ؤلف دون غريه ،وال�سيما هذا الأ مر ومعاجلته وبيان ر�أيه يف كتاب ،وك�أن ثمة عقداً
�إذا نا�سبَت طبيعة الن�ص م�ؤلف ًا حجة يف اخت�صا�صه ،فلو �ضمني ًا بينهم يقوم على تبادل املنافع ،يقول كيليطو:
انك ولّدت كالم ًا يف الزهد وموعظة النا�س ،كما يقول «الكتابة تتم تنفيذا لطلب من �سلطة ،و�سواء �أكان هذا
اجلاحظ (255هـ868/م)« :ثم قلت :هذا من كالم بكر بن الطلب فعليا �أم ال ،فاملهم �أن الكتاب يتوجه يف النهاية
كان الكتاب عبد اهلل املزين وعامر بن عبد قي�س العنربي وم�ؤرق �إىل هذه ال�سلطة على �شكل �إهداء .الكتاب ي�ؤول يف النهاية
القدامى يرون العجلي ويزيد الرقا�شي ،لت�ضاعف ح�سنه ولأ حدث له �إىل مكتبة ال�سلطة»(� .)13أو رمبا كان الكتاب القدامى يرون
يف الكتابة �أمراً ذلك الن�سب ن�ضارة ورفعة مل تكن له ،ولو قلت :قالها �أبو يف الكتابة �أمراً ج�سيم ًا خطرياً ،لذا فهم «بحاجة �إىل
ج�سيماً خطرياً، بكر ال�صويف �أو عبد امل�ؤمن �أو �أبو ن�ؤا�س ال�شاعر �أو االحتماء وراء �سلطة ما لل�رشوع يف الت�أليف»( ،)14كما
ح�سني اخلليع ،ملا كان لها اال مالها يف نف�سها ،وباحلرى يُعلل كيليطو هذه الظاهرة .لكن لمِ َ ال يكون يف الأ مر بع ٌد
لذا فهم «بحاجة ان تغلط يف مقدارها فتبخ�س من حقها»( .)19فانت�ساب � آخر يرتبط �أو يتعلق ِبكُنه مفهوم امل�ؤلف نف�سه؟� .أنه ما
� إىل االحتماء وراء الكالم �أو الن�ص اىل م�ؤلف �شهري تك�سبه بعداً جمالياً ،ما زالت �صورة الكاتب �أو مفهومه تتلبّ�س مفهو َم امل�ؤلف� ،أو
�سلطة ما لل�شروع هو �إال وق ٌع نف�سي طيب لدى متلقيه� ،أي �أنه �أثر نف�سي، تُلب�سُ ها الثقاف ُة �إياه ،ليبقى مكب ًال يف �إطار املعنى الأ ول
يف الت�أليف ،كما يُعلي من �ش�أن القول ويرفعه �أو ي�ساويه مع مرتبة قائله للكاتب وهو «املدون �أو النا�سخ»(� ،)15أي مبعنى انه من
يُعلل كيليطو هذه ال�شهري لو نُ�سب اليه� ،أو كان هو قائله حق ًا ولي�س جمازاً، ميتهن الكتابة للآ خر ،وهو املعنى نف�سه الذي �ساد �أوروبا
وي�سقط من هذه املرتبة �أو املكانة لو نُ�سب اىل غريه قبل القرن ال�ساد�س ع�رش ،كما يُ�شري �إىل ذلك ليترييه ،يف
الظاهرة .لكن لمِ َ ممن �إ�شتهر بخالف طبيعته ،فيُ�ستهجن ويُ�ستنكر منه حني انه منذ القرن ال�سابع امليالدي برز عربياً ،مفهوم
ال يكون يف الأ مر ذلك� ،سواء �صدر منه �أو افرت�ضت ن�سبته اليه .فمن الالزم امل�ؤلف ،الذي ميكن �أن نُطلقه على �أول من �صنّف كتاب ًا
بع ٌد �آخر يرتبط �أو �إذن «اختيار اال�سم الذي �سيتبنى الكالم ،والذي �سيحدد وكان يف املثالب ،وهو زياد بن �أبيه (56هـ675/م) ،وهو
يتعلق ِبكُنه مفهوم موقف املتلقي ازاءه»( ،)20لأ ن �إ�سم امل�ؤلف «و�أ�صله والأ ر�ض كتاب مفقود ،مل ي�صل �إلينا ،لكن هذا املفهوم مل يتحرر
امل�ؤلف نف�سه؟. التي �أنبتته ،وتفا�صيل ترجمته� ،إمارات وعالمات تُثبت كلي ًا من �سيطرة مفهوم الكاتب الذي اكت�سب معنى جديداً
هوية الن�ص ،وتحُ دد موقعه يف خريطة املعنى»( .)21وكل مع كتاب بن �أبيه ،وهو املُ�صنِّف ،لتكون الكتابة � ،آنذاك،
�أنه ما زالت �صورة نوع �أدبي كال�سيكي ،كما ي�ستنتج كيليطو ،حتفُّه �أ�سما ُء مهن ًة تعني التدوين �أو الن�سخ �أو النقل �أو الت�صنيف(.)16
الكاتب �أو مفهومه عديدة مل�ؤلفني ينبغي �أن تن�سب لها �أف�ضل الن�صو�ص، وهذا التحول يف امل�سرية احلياتية للم�ؤلف احلجة
تتلبّ�س مفهو َم �أعالم هي وحدها القادرة على �أن جتعل «الكالم مقبوال، ينعك�س حتى على ا�سمه ،كما يالحظ كيليطو ،فيُبدَّل
امل�ؤلف� ،أو تُلب�سُ ها ما دامت تتمتع بخلفية ن�صية معرتف بها» ،ميكن با�سم � آخر ،فمَن هو مثالً�« :أبو حممد القا�سم بن علي
الثقاف ُة � إياه، «لأ حدها �أن يحل حمل الآخر»( ،)22مبعنى �أنه لن ي�شكل بن حممد بن عثمان؟� .إنه احلريري . .فك�أن امل�ؤلف
فرق ًا كبرياً لو �أنك ن�سبت ن�ص ًا ما اىل �أحدهم ثم ن�سبته عندما ي�صبح حجة ،يولد من جديد ويطلق عليه ا�سم
ال
ليبقى مكب ً اىل غريه �ضمن النوع نف�سه ،ذلك �أنهم ي�شرتكون بخ�صائ�ص جديد»( ،)17وهو �أمر ينطبق على الغالبية العظمى من
يف � إطار املعنى �أ�سلوبية متقاربة جداً ،تكاد ال تبني عالماتها الفارقة امل�ؤلفني القدامى ،وعادة ما يطلق عليهم معا�رصوهم
الأ ول للكاتب وهو بينهم ،لأ نهم ميتثلون لقواعد و�أعراف الت�أليف للنوع �ألقاب ًا وكنى وم�سميات جديدة ،يجب �أخذها بنظر
«املدون �أو النا�سخ» الذي يكتبون فيه ،فيعيدون �إنتاجها وتثبيت خ�صائ�صها االعتبار ،لأ نها بر�أي كيليطو «متلي املوقف الذي
الأ �سلوبية التي ترجع اىل النوع �أكرث من رجوعها اىل ينبغي التزامه جتاههم»(.)18
�أ�ساليبهم الفردية اخلا�صة ،وهذا �سَ هَّل �آنذاك عملية لنعُ د �إىل م�س�ألة الن�سب� ،إىل االرتباط امل�شيمي للن�ص
الإ نتحال والن�سب املزيف وكوّن منها ظاهرة بارزة ،يرى مب�ؤلفه ،حيث كان الأ خري مرك َز املعنى �أو حمورَه ،بخالف
لـ«ما�ض حافلٍ بامل�ؤلفني
ٍ فيها كيليطو نوع ًا من التمجيد �صورته التي انقلبت الآن ر�أ�س ًا على عقب ،حني �أُعلن عن
()23
امل�شهورين الذين ينبغي اقتفاء عربتهم �أي كالمهم» ، موته ،وقُطع احلبل ال�رسي �أو امل�شيمي عن ن�صه ،الذي
يف ثقافة بلغ فيها هذا التمجي ُد مبلغ ًا يُ�ستهج ُن فيه �أَعلن عقوقَه �أو ا�ستقاللَه عنه ،يف زمن مل يكن يجر ؤ�
احلديث واجلديد ويُ�ست�صغرُ ،ويُ�شتد ال�رصاع معه ،اىل �أن حتى على امل�ساواة مع منتجه (م�ؤلفه) ،فما بالك
يُثبت ح�ضوره ،ويزيح عن كاهله �أو ينف�ض عن ج�سده باال�ستغناء عنه واالرتفاع عليه ،حني كان يف احلقبة
املثخن بجراح النزاع �سها َم الإ تهامات ،من بدعة �أو الكال�سيكية للثقافة العربية يت�شبث بالأ بوة و�سيل ًة
97 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
معا�رصيه ،وليحظى كتابه بال�شهرة �أي�ضاً� ،أن يفعل مثل بع�ض �أكابر الكتاب ُ �رسقة �أو طعن ،وغريها ،وكان
ما فعل اجلاحظ �أو من هو دونه �أو �أقل منه �ش�أناً� ،إن مل و�أ�شهرهم يلج�ؤون يف بادئ �أمرهم وحديث عهدهم
نقتنع بعائدية هذا القول اىل اجلاحظ ،لت�شكيكنا بن�سبة بالت�أليف اىل ن�سبة كتاب لهم اىل م�ؤلف قدمي بَلغت
الر�سائل �أو بع�ضها اليه( ،)26لكن �أمر ن�سبتها اليه تبقى �شهرتُه الآفاقَ وحفّه الزم ُن باملجد وال�رشف والرفعة ،وقد
م�ؤ�رشاً نافع ًا لت�أييد هذا الإ عرتاف ،بر�أينا ،فقد تعو ُد هذه نُفاج أ� الآن ب�إعرتاف �أ�شهرهم ،بقوله« :ورمبا �ألفت الكتاب
الر�سائل �أو بع�ضها لأ حد امل�ؤلفني املت�أخرين بعد الذي هو دونه يف معانيه و�ألفاظه ،فاترجمه با�سم غريي،
اجلاحظ ،دفعته �إحدى الأ �سباب الآنفة اىل ن�سبة ت�أليفه و�أحيله على من تقدمني ع�رصه مثل ابن املقفع واخلليل،
اىل اجلاحظ ،وهذه �إحدى الإ حتماالت يف تف�سري الن�سبة، و�سلم �صاحب بيت احلكمة ،ويحيى بن خالد ،والعتابي، هيمنة ال�سمات
�أو انها تعو ُد اىل م�ؤلف جمهول مل يُذكر ا�سمُه على ومن �أ�شبه ه�ؤالء من م�ؤلفي الكتب ،في�أتيني القوم الأ �سلوبية عرب
متونها ،لكن خ�صائ�صها الأ �سلوبية �شديدة ال�شبه ب�أعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان �أحكم من هذا الأ عراف النوعية
بخ�صائ�ص اجلاحظ ،وهذا ما رجَّ ح احتمالية ن�سبتها الكتاب ،ال�ستن�ساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ ،ويكتبونه
اليه ،وهذه تُعيدنا اىل عالقة امل�ؤلف بالنوع الذي يكتب بخطوطهم ،وي�صيرّ ونه �إماما يقتدون به ،ويتدار�سونه على الت�أليف،
فيه ،وت�صلح مثا ًال على هيمنة ال�سمات الأ �سلوبية عرب بينهم ،ويت�أدبون به ،وي�ستعملون �ألفاظه ومعانيه يف التي تخلق �أو
الأ عراف النوعية على الت�أليف ،التي تخلق �أو تفر�ض كتبهم وخطاباتهم ،ويروونه عني لغريهم من طالب ذلك تفر�ض بدورها
بدورها �صورة خا�صة بامل�ؤلف� ،أو مبعنى �أدق مب�ؤلفها اجلن�س فتثبت لهم به ريا�سة ،وي�أمت بهم قوم فيه ،لأ نه مل �صورة خا�صة
ال�ضمني ،فتن� أش� م�سافة توتر بني امل�ؤلف احلقيقي يرتجم با�سمي ،ومل ين�سب اىل ت�أليفي» ،يالها من خطة بامل�ؤلف،
وامل�ؤلف ال�ضمني ،قد يكون فيها الأ خري �صورة خمالفة �أو حيلة يلج أ� اليها هذا الكاتب ليمنح �أح َد كتبِه �شهر ًة
للأ ول ،وغالب ًا ما ال يعك�س حقيقته ،وال يكون ظ ًال له ،وال ومكانة يف عامل يبدو حكراً على �أعالمِ املا�ضي من �أو مبعنى
يمُ ثل جت�سيداً �أو تعبرياً عن جتاربه الذاتية .ويف حني امل�ؤلفني الأ موات ،ويك�شف لنا يف اعرتافه عن مدى �أدق مب�ؤلفها
يُ�شكل الأ ول حموراً مركزي ًا لتحديد قيمة الن�ص ،يمُ ثل ال�صعوبة واملعاناة التي يلقاه امل�ؤلفون املعا�رصون يف ال�ضمني ،فتن� أش�
مفهومه التاريخي والعياين بني ًة قارة يف �سُ لّم القيم الإ عرتاف بهم ،وانتزاعه بعد جُ هد جَ هيد ،والأ مر ،على ما م�سافة توتر بني
الرتاتبية يف الثقافة التي ينتمي اليها ،يبدو الأ خري يبدو هنا ،ال يتعلق بكون امل�ؤلف القدمي حجة لأ نه فقط امل�ؤلف احلقيقي
مفهوم ًا ن�سبي ًا يفتقر اىل التحديد املن�ضبط ،ي�صفه قدمي� ،إمنا لكون الن�ص �أو الكتاب اجلديد املن�سوب اليه
كيليطو باالعتباطي ،مقابل مفهوم النوع الذي يغدو �سيُتيح لطلبة العلم و�أهله فر�صة لن�سخه وتدري�سه وامل�ؤلف
حمدداً �أ�شد التحديد ،ويدفعنا اىل ع ِّد مفهوم امل�ؤلف ون�رشه والت�أديب به� ،أي �أنه يتحول اىل مادة جديدة ال�ضمني ،قد
ني لفكرة موت امل�ؤلف ال�ضمني ولي َد النوع ،ويف هذا تبط ٌ لوظيفتهم كن�ساخ و�أ�ساتذة �أو �شيوخ علم ومت�أدبني� .إننا يكون فيها
احلديثة ب�صيغة �أو �صورة �أخرى ،كما نرى من جانب بازاء مناخ خا�ص ب�ش�أن �إ�شكالية الت�أليف والن�رش يف الأ خري �صورة
كيليطو ،حني تُق�صي �سلطة امل�ؤلف من حمورية �أو الثقافة العربية الكال�سيكية ،ولن نتوقع �أن يكون هذا خمالفة للأ ول،
مركزية �إنتاج املعنى ،لتُثبت بد ًال عنها �سلطة �أخرى هي الكاتب هو اجلاحظ( ،)24وهو يعرتف يف �إحدى ر�سائله
النوع يف الن�صو�ص الكال�سيكية قدمياً ،وتحُ يلها اىل ب�سلوكه هذا ،و�سينكر بع�ضنا بالت�أكيد م�شكك ًا يف بع�ض وغالب ًا ما ال
�سلطة القارئ يف الن�صو�ص املعا�رصة حديثاً .لكن �إذا هذه الر�سائل من �صحة ن�سبتها اليه ،ومن َث َّم عودة هذا يعك�س حقيقته،
كان الن�ص يف الع�صور الغابرة ال يُعرتف به �إن مل الإ عرتاف له ،ملا يحظى به اجلاحظ من مكانة رفيعة وال يكون ظ ًال
يُتن�سب مل�ؤلف ما ليحدد قيمته ومعناه ،ف�إن للنوع هنا املقام يف تاريخ الأ دب العربي ،تدفع اىل اال�ستغراب من له ،وال يمُ ثل
دوراً ثانوياً ،ويف هذا تناق�ض وا�ضح يف الر�أي ال�سابق، قول كهذا ميكن �أن ي�صدر عنه ،ف�إن �أيّدنا هذا الإ نكار جت�سيداً �أو
فكيف تُب ّد ُد حرية اال�ستفهام هنا؟ .لنتذكر تو�ضيح كيليطو وجزمنا به ،ف�إنه لن يُ�سقط �صح َة ما ورد يف هذا
ب�ش�أن �أن لكل نوع �أعالمُ ه من امل�ؤلفني ،و�إن نحن قد االعرتاف الذي يك�شف لنا كيف كان «امل�ؤلف يف �أعني تعبرياً عن
جرّدنا هذه الأ عالم من اخل�صائ�ص الأ �سلوبية الفردية املعا�رصين له ،مناف�سا ينبغي التنقي�ص من قيمته»(،)25 جتاربه الذاتية
و�إرتقينا بها لت�صبح خ�صائ�ص �أ�سلوبية للنوع ،فهذا ُف�ضل عليه م�ؤلِف ًا قدمي ًا حجة
�إن مل يُعرِّ�ضه حل�سدهم ،ي َّ
يعني �أننا قُمنا بعملية متاهي ومطابقة بينهم وبني يحظى بح�سن التقدير ،فيدفعه ذلك� ،إما اتقاء ل�رش احل�سد
النوع ،وهذه العملية تخلق نوع ًا من التوحيد بينهم يف �أو تفادي الإ ق�صاء والتهمي�ش والتعر�ض للطعن �أو ال�رسقة
اجلانب الإ بداعي �أو الكتابي فقط ،ولي�س يف اجلانب �أو الإ تهام بالبدعة� ،أو لرغبة منه يف االحتيال على
98 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أ�ش ّد و�ضوح ًا وتقارب ًا من مفهوم امل�ؤلف احلقيقي ،و�أن العياين وال�شخ�صي للم�ؤلف ،ولنفرت�ض �أن للم�ؤلف
الأ خري يرتبط بالنوع من خالل ذاته الأ خرى الن�صية �صورتني ،ن�سمي الأ وىل ال�شخ�صية �أو الأ �صلية ،وهي التي
ولي�ست ال�شخ�صية ،فيتبدى يف و�ضوح �أقل كمفهوم ن�صي، تد ّل عليه ك�شخ�ص له �سريته وحياته اخلا�صة خارج ما
مقارنة بالنوع �أو بامل�ؤلف ال�ضمني .هذا يعني �أن كيليطو كتبه ،حيث ميكن �أن يُطلق عليه وفق ًا لذلك بـ«امل�ؤلف
كان يتحدث عن امل�ؤلف احلقيقي ولي�س ال�ضمني ،وهو الأ �صلي» ،ون�سمي الثانية ال�صورية �أو املفرت�ضة �أو
ما يقت�ضي منا ت�صحيح التو�ضيح ال�سابق .بيد انه لإ زالة ذات متج�سدة يف اخليالية ،وهي التي تدل عليه �أو على ٍ
ما يتمخ�ض من لب�س يف عالقة النوع بامل�ؤلف ال�ضمني كتاباته ،بالإ مكان �أن يطلق عليه تبع ًا لذلك بـ«امل�ؤلف
يجب التنويه اىل ان للنوع �سلطته يف حتديد معنى ال�ضمني» �أو ال�صوري كما هو �شائع الآن يف الدرا�سات
وقيمة الن�ص الكال�سيكي ،ب�شكل بارز ،يف الأ نواع التي ال النقدية احلديثة(� ،)27أو من اجلائز لنا ت�سميته بامل�ؤلف
ت�سمح بف�ضاء �أو�سع من التعبري الذاتي ،وهذا ما نعرث الكتابي �أو الن�صي ،تقريب ًا اىل خ�صو�صية املو�ضوع من
عليه يف الن�صو�ص ال�شعرية ،حيث هيمنة الأ عراف امل�صطلحات ال�سابقة .على �أية حال ف�إن عملية التوحيد
النوعية عليها كبرية جداً ،وقد ر�أينا ب�شار بن برد ال�ضخم ال�ضمنية بني النوع وامل�ؤلف الأ خري ،التي مل ي�رصح بها
اجلثة (كم�ؤلف حقيقي) ،تعك�سه مر� آ ُة ق�صيدة الغزل التي �أو يو�ضحها كيليطو ،جتعل منهما مركزاً واحداً تقريب ًا
يكتبها يف �صورةٍ متناق�ض ٍة فيط ُل علينا هزي ًال نحي ًال لتحديد املعنى والقيمة ،حني يُن�سب ن�ص ما مل�ؤلف
(كم�ؤلف �ضمني) ،وكذلك كان احلال بالن�سبة ملعظم معروف يف نوع �أو منط بعينه من الكتابة ،فن�سبة
ال�شعراء الذين �أُجربوا على االلتزام ب�إحتذاء منوذج جمموعة من الر�سائل اىل اجلاحظ ،هي ن�سبة اىل ذاته �أو
الق�صيدة اجلاهلية ،وهي من املفارقات يف �أمناطٍ خطابي ٍة �صورته الكتابية �أو الن�صية (كم�ؤلف �ضمني) ولي�س اىل
تُو�صفُ ب�أنها بَوحية وذات م�ساحة �أكرب للتعبري الذاتي، �شخ�صه� ،أو بالأ حرى هي ن�سبة اىل جمموع ما كتبه ،اىل
لكنها يف الثقافة الكال�سيكية جتنح لر�سم �صورة منطية الذات املتكونة واملتبلورة يف كتاباته� ،أو كما �سيقول
�أو منوذجية لذات امل�ؤلف الن�صية يجب �إعادة �إنتاجها، الكثري منا بب�ساطة اىل �أ�سلوبه� ،إذ �سيكون ما ي�شبه النق�ص
يف حني �أن الن�صو�ص النرثية كانت متتلك قدراً �أو�سع حني تُن�سب ن�ص ًا اىل نوع فقط دون �أن تن�سبه اىل �أحد
ن�سبي ًا من احلرية ،لتباين قوة الأ عراف النوعية التي �أعالمه ،بل يكاد الأ مر يبقى غري م�ست�ساغ �أن يظل الن�ص
تنتمي اليها ،ولكونها تتحدث عن موا�ضيعَ �أبعد عن يف ربقة نوع فقط دون �أن يرقى به اىل م�ؤلف حجة ،وما
الذاتية ب�شكل ما. يُ�سهل هذا الأ مر هو نبوغ �أعالم يف نوع �أدبي ما،
رمبا توغلنا ب�إطناب ،يف عالقة امل�ؤلف ،بذاتي ِه احلقيقية يج�سدون �أو ميثلون هذا النوع بجدارة كبرية ،وك�أنهم،
والن�صية ،بالنوع ،فلنَعد �أدراجنا قلي ًال اىل اجلاحظ، بذواتهم الن�صية طبعاً ،عالماته الأ �سلوبية اخلا�صة .لكننا
فثمة ما ميكنه �أن يعيننا يف تفهم املناخ الثقايف �ألمَ نُ�ساوي هنا بني �سلطة النوع و�سلطة امل�ؤلف يف
لع�رصه فيما يخ�ص �إ�شكالية الت�أليف فيه ،والظاهرة حتديد املعنى والقيمة؟ .يبدو هذا حا�ص ًال ب�شكل ما .كيف
التي مل�سناها يف ن�سبة الن�صو�ص اىل م�ؤلفني �أموات �إذن نتفق مع كيليطو على ان مفهوم امل�ؤلف �إعتباطي
كانوا �أعال َم زمانهم ،هو �أن فكرة الت�أليف مل تتكون كما مقابل مفهوم النوع الوا�ضح والثابت؟ ،وقد ف�سرّ نا حديثه
فهمها الأ دباء القدامى �إال بعد �أن ا�ستقرت «�سنة ت�سطري ب�إنه يتكلم عن امل�ؤلف ال�ضمني ،وقد تبني لنا ان مفهوم
الكتب» يف نهاية القرن الثاين للهجرة� ،أي يف الن�شاط
الأ خري متماه و�شبه متطابق مع مفهوم النوع� ،إذن �إما
املكثف ملا �سُ مي بع�رص التدوين ،يف حني انه قبل هذا
الع�رص ،ميكن القول انه «مل تعلق �أهمية لفكرة انت�ساب
انه ال يتحدث هنا عن امل�ؤلف ال�ضمني �إمنا عن احلقيقي،
الت�أليف مل�ؤلف معني»( )28كما ي�ؤكد امل�ست�رشق هـ .ا. �أو ان عالقة ال�ضمني بالنوع لديه غري وا�ضحة .االحتمال
جب ( ،)1965مو�ضح ًا �أن مفهوم امل�ؤلف كان عبارة عن الثاين ن�ستبعده لأ ن كيليطو ي�ؤكد �أن النوع هو من يخلق
«الأ ديب الذي ينظم مادة الكتاب �أو ينظم حمتوياتها، امل�ؤلف ال�ضمني ،وهذا �أمر تو�ضح لدينا �آنفاً ،بقي
وهذه املواد كانت تتداولها تالمذ ُة امل�ؤلف �شفوي ًا االحتمال الأ ول الذي يقودنا اىل امل�ؤلف احلقيقي ،هل هو
وال تدون يف �صورة مقرر كامل �إال بعد وفاته بعدة فع ًال مفهوم �إعتباطي �أي غري حمدد؟ .لقد �أدركنا يف
�سنوات»( ،)29و�إ�ستمر هذا احلال حتى الن�صف الثاين معر�ض ال�سعي لتبديد حرية االلتبا�س يف مركزية حتديد
من القرن الثاين ،وهذا يك�شف لنا �أن الظاهرة ال�سابقة املعنى والقيمة للن�صو�ص بني امل�ؤلف والنوع يف الثقافة
ابتد�أت بعد التاريخ الأ خري ،ومن اخلط أ� تعميمها كظاهرة العربية الكال�سيكية� ،أن مفهومي النوع وامل�ؤلف ال�ضمني
99 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
-14لن تتكلم لغتي .86 :هذا الأ مر يبدو ب�شكل �أكرث جال ًء بالن�سبة تغطي جممل التاريخ الأ دبي العربي القدمي ،وهو �أمر مل
لل�شعراء ،فمن املعلوم �أن ال�شاعر «يف املجتمع الإ �سالمي التقليدي كان يتحره كيليطو بدقة ،ف�سقط يف �شرِ اك الإ �ستقراء الناق�ص
يعي�ش يف كنف �سلطان �أو �أمري �أو ثري تربطه و�إياه عالقات متقلبة
تتطور وفقا للظروف االجتماعية وال�سيا�سية» .ينظر( :يف الكتابة والتعميم املجانب لل�صواب.
والتجربة .د .عبد الكبري اخلطيبي ،ترجمة :د .حممد بردة ،دار العودة، ولو خل�صنا اىل �إ�ستنتاج مركزي ملا تقدم ،ف�إننا �سنح�رصه
بريوت ،ط� ،1980/1ص.)38 : يف �إطار قيمة امل�ؤلف يف الأ دب العربي القدمي ،حيث ميكن
-15الثابت واملتحول ،بحث يف الإ تباع والإ بداع عند العرب .ج� :3صدمة
احلداثة ،ادوني�س ،دار العودة ،بريوت ،ط ،1983/4ج� ،3ص.23 : القول �أن هذا الأ دب يقوم على فكرة (امل�ؤلف -الأ �صل)،
-16ينظر :م .ن .24 :و�أدوني�س ي�ستند يف الإ �شارة �إىل كتاب بن �أبيه اىل كما ي�سميه كيليطو ،فال ي�صري ملفوظٌ ما ن�ص ًا �أدبي ًا �إال
كتاب بروكلمان «تاريخ الأ دب العربي ،ج� ،1ص ،»251-250 :ومل ي�رش
اىل الطبعة وتاريخها. معرتف به»( ،)30لكن ظواهر مثل ٍ «حني ي�صد ُر عن �سن ٍد
-17الغائب.16 : االنتحال والتزييف والغ�ش للن�صو�ص كانت �أمراً �شائع ًا
-18املقامات.142 : يف الثقافة العربية الكال�سيكية ،فكيف ميكن للأ دب �أن
� -19إقتب�سه كيليطو من «البخالء .حتقيق :طه احلاجري .القاهرة ،دار
املعارف� ،1971 ،ص ،»8-7 :يف الكتابة والتنا�سخ.74 : يركن اىل فكرة امل�ؤلف -الأ �صل فقط؟ .يجيب عن ذلك
-20الكتابة والتنا�سخ.74 : كيليطو« :هذا ال يغري من واقع �أن ملفوظ ًا ما� ،صحيح ًا
-21الغائب.63-62 : ؤلف �ضامنٍ ل�صحته كان �أو منتحالً ،هو بحاجة اىل م� ٍ
-22الكتابة والتنا�سخ.75 :
-23م .ن .77 :يف حني يرى د .عبد اهلل �إبراهيم ان هذه الظاهرة كي ي�صري ن�صا»( ،)31وهذا �صحيح لأ ن الن�سبة الزائفة �أو
جاءت نتيجة ان «الثقافات ال�شفاهية مل توفر ظروفا ت�ساعد على اخلاطئة ،بوجودها ذاته ،ت�ؤكد �أن الن�ص كان «ال ي�ستطيع
حماية ن�صو�صها الأ دبية ،وهي يف واقع احلال ال ت�ستطيع ذلك ،لأ ن تلك
الن�صو�ص رهينة التداول ال�شفاهي الذي يتعر�ض الكراهات ،وانزياحات، �أن يفر�ض نف�سه دون �إ�سم م�ؤلف يكفله ويثبت �صدقه»(.)32
واق�صاءات كثرية» ،فغالب ًا ما كانت «تدمج ال�شذرات ،والنبذ املتبقية �إنه �إهتما ٌم بال ٌغ بامل�ؤلف ،ب�أبوة الن�ص على ح�ساب الن�ص
من ن�صو�ص متماثلة يف املو�ضوع واال�سلوب ،فتظهر من تلك االم�شاج نف�سه ،هذا �أم ٌر يعود ،على ما يبدو ،اىل النزعة العربية
ن�صو�ص جديدة ت�سهل ن�سبتها اىل هذا او ذاك ،وتخ�ضع لروح الع�رص الذي
تعرف فيه» (التلقي وال�سياقات الثقافية .د .عبد اهلل ابراهيم ،دار الكتاب يف معرفة �أ�صل الأ �شياء ،وحتديد ن�سبها ،يعدّها بال�شري
اجلديد ،بريوت ،ط� ،2000/1ص.)101 : (� )1973إحدى خ�صائ�ص العقلية البدوية(.)33
-24الإ قتبا�س ال�سابق من �إحدى ر�سائل اجلاحظ املعنونة «كتاب ف�صل
ما بني العداوة واحل�سد .املجلد االول ،حتقيق :حممد عبد ال�سالم هارون. الهوام�ش
القاهرة� ،1964 ،ص� ،»351 :أورده كيليطو يف الكتابة والتنا�سخ-80 :
.81 -1الكتابة والتنا�سخ ،مفهوم امل�ؤلف يف الثقافة العربية الكال�سيكية.
-25م .ن.81 : ترجمة :عبد ال�سالم بنعبد العايل ،املركز الثقايف العربي ،بريوت،1985 ،
-26يقول كيليطو« :تتغري االزمان ةتتغري ميادين املعرفة ،ولكن التطلع �ص.14-13 :
اىل حتديد ن�سب الن�صو�ص ال يتغري ،وان اتخذ مظهرا � آخر .فمثال تبذل اليوم -2على خالف ما يح�صل اليوم يف الدرا�سات النقدية ،فاالجتاهات
احلديثة ال�سيما التفكيكية ونظرية التلقي ترى �أن «الن�ص حمكوم دائما
جمهودات �ضخمة للتنقيب عن � آيديولوجية امل�ؤلفني و�سرب اغوار ال وعيهم» بالتوالد ،وان الكتابة تكتب الكتابة ،مما يجعلها تق�ضي على اي �صوت
(الغائب.)65 : خارجها يدعي �أبوة الن�ص» .انظر( :التفاعل الن�صي ،التنا�صية ،النظرية
-27يقول والكر جب�سون« :من ال�سائد ،الآ ن ،يف قاعات الدرا�سة ويف النقد واملنهج .نهلة في�صل االحمد ،كتاب الريا�ض ( ،)104عن م�ؤ�س�سة اليمامة
اي�ضا ،التمييز ،بدقة ،بني م�ؤلف الفن الأ دبي واملتكلم املتخيل �ضمن عمل ال�صحفية ،الريا�ض1423 ،هـ� ،ص.)89 :
الفن» ،منبه ًا اىل �أن الأ خري هو الأ كرث فائدة لدرا�سة الأ دب ،لأ ن «املتكلم - 3الكتابة والتنا�سخ.59 :
(يق�صد امل�ؤلف ال�ضمني) يكون اللغة وحده ،و�إن ذاته الكاملة تتوقف على -4ينظر :م .ن.60 :
ال�صفحة التي امامنا على نحو جلي» ،على خالف امل�ؤلف احلقيقي الذي -5م .ن.48 :
يبدو «مكتنفا باال�رسار ،ومفقودا يف التاريخ» ،اي ال نعرف عنه �سوى -6الأ دب والغرابة ،درا�سات بنيوية يف الأ دب العربي .عبد الفتاح كيليطو،
ا�شياء قليلة ان مل تكن نادرة لبع�ضهم .ينظر :امل�ؤلفون واملتكلمون والقراء دار الطليعة ،بريوت ،ط� ،1997 /3ص.15 :
ال�صوريون .والكر جب�سون ،من كتاب :نقد ا�ستجابة القاريء ،من ال�شكالنية -7يقول كيليطو�« :ضمانة اكت�ساب املعرفة تتميز باحل�صول على الإ جازة،
اىل ما بعد البنيوية ،حترير :جني ب .تومبكنز ،ترجمة :ح�سن ناظم ،علي اي الإ ذن برواية ن�ص� ،أو ن�صو�ص ،مينحه الأ �ستاذ لتلميذه» (املقامات،
حاكم ،مراجعة وتقدمي :د .حممد جواد ح�سن املو�سوي ،املجل�س الأ على ال�رسد واالن�ساق الثقافية .عبد الفتاح كيليطو ،ترجمة :عبد الكبري ال�رشقاوي.
للثقافة ،م�رص� ،1999 ،ص.43 : دار توبقال ،الدار البي�ضاء ،املغرب .ط� ،1993 /1ص.)147 :
-28درا�سات يف ح�ضارة اال�سالم .هاملتون جب ،حترير� :ستانفورد �شو، -8الأ دب والغرابة.78 :
وليم بولك .ترجمة :د .اح�سان عبا�س ،د .حممد يو�سف جنم ،د .حممود زايد. -9املقامات.149 :
دار العلم للماليني ،بريوت ،بدون تاريخ� ،ص.301 : -10الغائب ،درا�سة يف مقامة للحريري .عبد الفتاح كيليطو ،دار توبقال،
-29م .ن.301 : الدار البي�ضاء ،املغرب ،ط ،1987/1ط� ،1997/2ص.49 :
-30املقامات.60 : -11املقامات .149 :وك�أن املرء لن يكون م�ؤلف ًا �إال حني «ي�سري يف اجتاه
-31م .ن.60 : طلب اجلماعة» ،كما يقول كيليطو( :ينظر :م .ن.)148 :
-32م .ن.60 : -12لن تتكلم لغتي .عبد الفتاح كيليطو ،دار الطليعة ،بريوت ،ط/1
-33ينظر :تاريخ الأ دب العربي ،منذ ن�شوئه حتى �أواخر القرن اخلام�س � ،2002ص.86 :
ع�رش امليالدي (التا�سع للهجرة) .ريجي�س بال�شري ،ترجمة :د .ابراهيم -13احلكاية والت�أويل ،درا�سات يف ال�رسد العربي .عبد الفتاح كيليطو ،دار
الكيالين ،مطبعة اجلامعة ال�سورية ،دم�شق ،1956 ،ج� ،1ص.165 : توبقال ،املغرب ،ط� ،1999/2ص.74 :
s
s
s
جتليات الفكر الأ حادي البعد .و�أفرد اخلامتة املوجزة كان ماركيوز �أحد �أبرز �أع�ضاء هذه املدر�سة ،ورمبا
لعر�ض ت�صور للم�ستقبل و�إمكانيات التغيري. كان من �أكرثهم اهتماما باللغة بعامة ،ولغة
كانت لغة ال�سيا�سة قا�سما م�شرتكا يف ال�سيا�سة خا�صة .اننا ندرك �أن �أفكار ماركيوز متثله
مو�ضوعات الكتاب قاطبة ،وذات ح�ضور مزدوج؛ وحده ،لكنها يف الوقت ذاته تعطي �صورة ،قد تكون
فهي دوما �سبب ونتيجة� .سبب لتخدر املجتمع دقيقة ،ملقاربة مدر�سة فرانكفورت بوجه خا�ص،
ونتيجة له .فاملجتمع �أحادي البعد والفكر �أحادي واملقاربة املارك�سية بوجه عام ،للغة ال�سيا�سة. ي ؤ�كد ماركيوز
البعد يُنتجان لغة �أحادية البعد ويَنتجان عنها وكال املقاربتني كان –وال يزال -ذا ت�أثري كبري أ�همية اللغة يف
يف الوقت ذاته .ومل يكن غريبا ،من ثم� ،أن يفرد يف معظم توجهات نقد لغة ال�سيا�سة .وتعد كتابات
ماركيوز يف هذا ال�سياق من �أهم ما كتبه الرعيل
املجتمع املعا�صر؛
ماركيوز �أكرب ف�صول الكتاب لنقدها وحتليلها.
افتتح ماركيوز هذا الف�صل باقتبا�س م�أخوذ الأ ول من م�ؤ�س�سي النظرية النقدية ،فيما يتعلق بنقد «فالكلمة هي
عن روالن بارت ،هو «�إن كل كتابة �سيا�سية لغة ال�سيا�سة. التي ت أ�مر وتنظم،
يف الو�ضع الراهن للتاريخ ال ميكن �إال �أن ت�ؤكد �سوف نركز يف تناولنا لنقد لغة ال�سيا�سة عند وهي التي حتث
وتعزز عاملا بولي�سيا» (ماركيوز.)121 ،1964 ماركيوز على م ؤ�لَّفني اثنني من م�ؤلفاته؛ هما: النا�س على العمل
وميكن القول �إن نقد ماركيوز للغة ال�سيا�سة كان الإ ن�سان ذو البعد الواحد» ،و«مقال يف التحرر»(.)3
يت�ضمن امل�ؤلفان �أهم �أفكار ماركيوز عن لغة
وال�شراء والقبول»،
حا�شية تف�صيلية على عبارة بارت .لقد عُ ني لقد ا�ستطاع رجال
ماركيوز ببيان امليول املميزة للفكر �أحادي ال�سيا�سة .ويف حني يركز الأ ول على خ�صائ�ص اللغة
البعد كما تتجلى يف لغته ،وبع�ض اخل�صائ�ص امل�سيطرة والآ ثار التي تحُ دثها ،يركز الثاين على ال�سيا�سة و�صناع
الرتكيبية للغة املجتمع �أحادي البعد ،ووظائفها �إمكانيات مقاومة اللغة ال�سائدة وبدائلها املمكنة. الر أ�ي العام ،الذين
وكيفية عملها ،واملقاربات الفل�سفية املعنية يف نقد اللغة �أحادية البعد يدركون هذه
بتحليلها ،وطرق مقاومتها .وا�ستمد ،غالبا، يف عام � 1964أ�صدر ماركيوز م�ؤلفه ذائع ال�صـيت أالهمية ،مب�ساعدة
�أمثلته من املجتمع الأ كرث «ر�أ�سمالية» وهو «الإ ن�سان ذو البعد الواحد» .حاول ماركيـوز فـي هذا م ؤ��س�سات البحث،
الواليات املتحدة الأ مريكية ،واملجتمع الأ كرث الكتاب �أن يجيب عن ت�سا�ؤلني؛ الأ ول :ملاذا مل تندلع أ�ن يتكلموا
«ا�شرتاكية» وهو االحتاد ال�سوفييتي( .)4وجدير الثورة يف الدول ال�صناعية املتقدمة ،التي اع ُتـبرِ ت
بالذكر �أن ماركيوز ،مل يفا�ضل بني املجتمعني ويفر�ضوا لغة
املهاد النموذجي للثورة يف �أدبيات مارك�سية خا�صة .لغة
الأ مريكي وال�سوفييتي؛ فكالهما ،من وجهة متعددة؟ والثاين :ملاذا �أ�صبحت الثورة «الطبيعية»
نظره ،جمتمع �أحادي البعد ،وكالهما يتبنى م�ستبعدة بل م�ستحيلة يف هذه الدول �إبان ت�أليفه طق�سية تع�سفية
لغة �أحادية البعد .وهو ما يربر جتاور الأ مثلة كتابه؟ وال�س�ؤاالن يخ�صان ما�ضي «الثورة» يف هذه تقوم بت�ضليل
التي تنتمي �إىل املجتمعني يف �سياق التحليل، املجتمعات وحا�رضها وم�ستقبلها. متلقيها ،وت�شبه
وا�شرتاكهما يف النتائج. يف �سياق �إجابته عن هذين ال�س�ؤالني قدم ماركيوز يف عملها ال�سحر
ي�ؤكد ماركيوز �أهمية اللغة يف املجتمع املعا�رص؛ ت�صوره لطبيعة املجتمعات ال�صناعية املتقدمة
«فالكلمة هي التي ت�أمر وتنظم ،وهي التي حتث والتنومي
(الر�أ�سمالية واال�شرتاكية) ،وطبيعة الإ ن�سان الذي
النا�س على العمل وال�رشاء والقبول» (نف�سه.)123 يعي�ش فيها .وكان مركز هذه الت�صورات فكرة «البعد املغناطي�سي.
لقد ا�ستطاع رجال ال�سيا�سة و�صناع الر�أي العام، الواحد» ،والتي اعترب �أنها �سمة ملجتمع و�إن�سان
الذين يدركون هذه الأ همية ،مب�ساعدة م�ؤ�س�سات ع�رصه ،و�أنها العلة وراء �إجها�ض الثورات املمكنة.
البحث� ،أن يتكلموا ويفر�ضوا لغة خا�صة .لغة طق�سية ففي ظل جمتمع �أحادي البعد و�إن�سان �أحادي
تع�سفية تقوم بت�ضليل متلقيها ،وت�شبه يف عملها البعد لي�س ثمة �سبيل لتطور نقد حقيقي للمجتمع،
ال�سحر والتنومي املغناطي�سي. ومن ثم ال �سبيل لتغيريه .ق�سّ م ماركيوز كتابه �إىل
وقد ذكر ماركيوز يف ثنايا كتاب «الإ ن�سان ذو البعد مفتتح وق�سمني وخامتة .ناق�ش يف مفتتحه ما �أطلق
الواحد» بع�ض ما ميكن �أن نطلق عليه اخل�صائ�ص عليه ظاهرة «تخدر النقد» .وعالج يف الق�سم الأ ول
الرتكيبية والتداولية والطباعية للغة �أحادية البعد. خ�صائ�ص املجتمع �أحادي البعد ،ويف الق�سم الثاين
102 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
التي ترجع �إىل افرتا�ض عالقة �شخ�صية بني املتكلم تتمثل هذه اخل�صائ�ص يف:
واملخاطب ،و�إعادة ت�أ�سي�س عالقة التبعية على عك�س �أوال :انها لغة مبنية على التوفيق بني املتعار�ضات.
ما قد يوجد يف الواقع؛ حيث يحل «�أنا لكم» حمل وحتقق ذلك عن طريق �إدراج املتعار�ضات يف بنية
«�أنتم يل»� . .إلخ .ويرى ماركيوز �أنه ال يهم كثريا متينة م�ألوفة .وميثل ماركيوز لهذه اخلا�صية
ما �إذا كان الأ فراد امل�ستهدفون ي�صدقون هذه اللغة ب�أ�سماء من قبيل»القنبلة النظيفة»« ،الإ �شعاعات
�أم ال؛ «لأ ن فاعليتها تكمن يف �أنها ت�شجع وت�سهل الذرية غري امل�ؤذية» ،وبتعبريات من قبيل «طاقة
توحد الأ فراد ذاتيا مع الوظائف التي ي�ؤدونها هم تدمريية مريحة» .وي�صف مثل هذه الرتاكيب ب�أنها
والآ خرون يف املجتمع القائم» (نف�سه.)129 ذات طابع �سوريايل حم�ض ،حتتفي بالتناق�ض الذي
خام�سا :انها لغة تفر�ض توحدا ا�ستبداديا بني كان �ألد �أعداء املنطق ،و�أ�صبح ،يف �سياق هذه اللغة،
هوية ال�شخ�ص الإ ن�ساين ووظيفته .ويتحقق هذا هو املنطق ذاته .هذا التناق�ض يقرب لغة املجتمع
التوحد بوا�سطة هيمنة اال�سم على اجلملة من �أحادي البعد من لغة املجتمع القمعي اال�ستبدادي
ناحية ،وبوا�سطة �أ�شكال متعددة من اخت�صار بناء الذي يقدمه �أورويل ب�شعاراته املبنية على التعار�ض؛
اجلملة من ناحية �أخرى .ويهدف هذا التوحد �إىل «ال�سالم هو احلرب»« ،املعرفة هي اجلهل». .
خلق بناء ومفردات �أ�سا�سية ي�صبح من ال�صعب �إلخ .تلك اللغة التي يُعاد �إنتاجها يف املجتمعات
معها التعبري عن االختالف والتمايز واالنف�صال. املعا�رصة ،عندما تُ�سمّى احلكومة امل�ستبدة حكومة»
وهو ما يتحقق بدوره بوا�سطة فر�ض �صور ثابتة، دميقراطية» ،وعندما تُ�سمَّى االنتخابات املزورة
حتول دون تطور املفاهيم والتعبري عنها .وميثل انتخابات»حرة» (نف�سه �ص.)126
ماركيوز لهذه اللغة ببع�ض العبارات امل�أخوذة من ثانيا :انها لغة مبنية على التكرار� ،إىل احلد الذي
جملة (التاميز الأ �سبوعية)؛ مثل( :فرجينيا بريد)� ،أو ي�صف فيه ماركيوز الكالم يف عامل الإ ن�شاء املغلق
( م�رص نا�رص)( .)5ويرى �أن طريقة ا�ستعمال املجلة -عامل االت�صال اجلماهريي -ب�أنه لي�س �إال «تنقيل
للم�ضاف �إليه» جتعل الأ فراد يبدون وك�أنهم جمرد للمرتادفات والأ لفاظ املتكررة» (نف�سه .)125هذا
زوائد ،جمرد �صفات ملحلهم �أو مهنتهم �أو رب عملهم التكرار الالمتناهي يحوِّل اجلملة �إىل �صيغة من �صيغ
�أو م�رشوعهم» (نف�سه.)129 التنومي املغناطي�سي ،تقوم با�ستبعاد كل ما يخالفها
�ساد�سا :انها لغة ت�شيع فيها عالمات الو�صل �أو يعار�ضها �أو يطرح نف�سه بديال لها .و�أخريا ي�ؤدي
الطباعية .وتقوم هذه العالمات بتحقيق وظائف التكرار �إىل �إ�ضفاء �ألفة كاذبة على اجلملة نتيجة
مهمة؛ فهي� ،أوال ،تدمج العنا�رص املكونة للجملة تكرارها .وعلى الرغم من �إقرار ماركيوز ب�أن التكرار
يف �إطار جديد ال يوجد فيه متييز بني هذه العنا�رص. �سمة لغة الإ عالن ف�إنه يربهن على �أن لغة ال�سيا�سيني
ويو�ضح ماركيوز هذه الوظيفة باملثال الآ تي: متيل �إىل االحتاد بلغة الإ عالن.
«لقد كر�س رجل جورجيا القوي ،احلاكم -ذو- ثالثا :انها لغة �أمرية مقفلة «ال تربهن على �شيء
احلاجبني -الواطئني وقته يف الأ �سبوع املا�ضي وال تف�رس �شيئا ،و�إمنا هي تبلغ القرار �أو احلكم
لواحد من تلك االجتماعات ال�سيا�سية» .ويرى �أن �أو الأ مر .وتقرر اخلط أ� وال�صواب ب�صورة ال تقبل
ا�ستخدام عالمات الو�صل الطباعية يف هذا املثال نقا�شا» (نف�سه .)139هذه اللغة الأ مرية التي تعلن
ت�ستهدف تذويب احلاكم ومن�صبه و�سماته اجل�سدية �أكرث مما تربهن ،ت�سلب بدورها �إمكانيات الك�شف
ووظائفه ال�سيا�سية يف بنية ثابتة متحجرة غري عن التناق�ض؛ فلي�س ثمة ما ميكن االختالف عليه!
قابلة لالنق�سام ،تفر�ض نف�سها ،برباءتها وطابعها كما �أنها تفر�ض عالقة �سلطوية حمددة يد�شنها فعل
املبا�رش ،على القارئ .ويالحظ ماركيوز �أن هذه الأ مر الذي يحدد العالقة بني املتكلم واملخاطَ ب
الظاهرة ت�شيع يف اجلمل التي تربط بني ال�سيا�سة بو�صفها عالقة بني � آمر وم�أمور.
والتقنية والقوات امل�سلحة؛ مثل «�أبو القنبلة-هـ»، رابعا :انها لغة خطابية ،قائمة على التوجه املبا�رش
و«فون براون -خمرتع ال�صواريخ -العري�ض- من املتكلم �إىل املخاطب .لغة «�أنا منكم ولكم وبكم. .
املنكبني» .ويرى �أن مثل هذه اجلمل ذات نتيجة �إلخ» .تلك اللغة التي ت�ضفي طابعا من الأ لفة الزائفة
103 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تُ�سمَّى احلكومات امل�ستبدة «حكومات دميقراطية»، �سحرية ومنومة مغناطي�سيا؛ فهي تعر�ض �صورا
واالنتخابات املزورة «انتخابات نزيهة»�...إلخ، ت�ستدعي وحدة ال تقاوم ،وتقيم ان�سجاما بني
(نف�سه .)126هذه الظاهرة كان قد ر�صدها �أورويل متناق�ضات ال ميكن التوفيق بينها يف الواقع .حيث
وجعلها �سمة املجتمعات اال�ستبدادية احلديثة ،حتى يُنجب «الأ ب» املحبوب واملهاب (الأ ب املنجب)،
�أ�صبحت هذه اللغة تعرف به .و�أ�صبح م�صطلح»اللغة القنبلة الهيدروجينية لإ بادة احلياة .وهكذا تنجز
الأ ورويلية» �إ�شارة �إليها .لكن ماركيوز يرف�ض �أن هذه التقنية وظيفتها الثانية؛ �أعني التوفيق بني
ين�سب هذه الظاهرة �إىل �أورويل؛ فهي ،من وجهة املتناق�ضات.
نظره ،ت�شيع يف اخلطاب اللغوي ال�سيا�سي الدارج �سابعا :انها لغة حتتفي باالخت�صارات .وعلى الرغم
قبل �أورويل بحقبة طويلة .وال تكمن اجلدة �إذن ،وفق من �إدراك ماركيوز �أن هذه االخت�صارات قد تكون
ماركيوز ،يف �إطالق الت�سميات املناق�ضة حلقيقة مربرة يف كثري من الأ حيان نتيجة طول امل�صطلح؛
امل�سمَّى ،بل يف طبيعة ا�ستجابة املتلقني لهذه ف�إنه يرى يف بع�ض هذه االخت�صارات «حيلة من حيل
الت�سميات .فهو يرى �أن الر�أي العام واخلا�ص بات العقل» .ويرجع ذلك �إىل �أن احلروف االخت�صارية
يقبل ب�صورة عامة هذه الأ كاذيب .وهو ما يراه تخفي البعد الداليل الكامن يف املفردات املكونة
عالمة على انت�صار املجتمع على التناق�ضات التي للم�صطلح .ومن ثم تلغي �إمكانية حتقق تلقي نقدي
ينطوي عليها. له .فحني يذكر « »NATOباحلروف فح�سب ،يغيب اال�سم
تك�شف اخل�صائ�ص ال�سابقة ،التي تمُ يز اللغة �أحادية الأ �صلي وهو» منظمة معاهدة �شمال الأ طل�سي»،
البعد ،عما ي�سميه ماركيوز «ميول الفكر الأ حادي». والذي ي�ؤدي ذكره �إىل طرح �أ�سئلة من قبيل� :إذا كانت
ويذكر ماركيوز �أن هذا الفكر مييل �إىل: هذه املعاهدة تخ�ص الدول الواقعة �شمال الأ طل�سي،
-1املفهوم املقل�ص �إىل �صور ثابتة فلماذا التحقت تركيا واليونان(وبعد ذلك دول
-2ال�صيغ املنومة مغناطي�سيا ،التي تربر نف�سها �رشق �أوروبا) بها؟ يقوم االخت�صار بحجب ال�صفات
بنف�سها ،ومتنع تطور املفهوم املكونة للم�صطلح ،التي تكمن يف الدالالت املعجمية
املح�صن �ضد التناق�ض
ّ -3الإ ن�شاء للمفردات املكوِّنة له ،وخ�صائ�صها ال�صوتية،
-4ال�شيء ( �أو ال�شخ�ص) املتحد يف الهوية مع والعالقات النحوية وال�رصفية .ويقوم م�ستخدم اللغة
وظيفته (نف�سه.)134 يف هذه احلالة با�ستح�ضار اال�سم دون �أية دالالت
هذه امليول الأ ربعة ت�ؤدي �إىل �إجها�ض البعد �أو �إيحاءات م�صاحبة« .وهكذا ي�صبح املعنى ثابتا،
النقدي للغة .فهي تنتج لغة حتول دون تطور مزورا ،ثقيل الوطء ،ويفقد كل قيمة عرفانية مبجرد
املفاهيم ،وت�ؤدي �إىل اال�ست�سالم للوقائع حتوله �إىل رمز �صوتي مكرر» نف�سه .132وقد �أدرك
املبا�رشة .ومن ثم ت�صبح عاجزة عن الك�شف عن وا�ضعو الأ �سماء القوة التي متتلكها االخت�صارات،
العوامل الكامنة وراء هذه الوقائع �أو م�ضمونها والوظائف التي ميكن �أن حتققها ،وهو ما يظهر يف
التاريخي� .إن الفكر �أحادي البعد ،وفقا ملاركيوز، �شيوعها الكبري يف قطاعات مثل الأ �سلحة (النووية
مييل �إىل �إنتاج لغة وظيفية ،لغة خمت�رصة، خا�صة) واملعاهدات والقرارات ال�سيا�سية(.)6
موحدة ،مهمتها التن�سيق والربط .لغة متناغمة ثامنا :انها لغة حافلة بالكلي�شيهات .وال يرجع ذلك
متنا�سقة تناه�ض النقد وال تقبل املراجعة. �إىل كرثة ا�ستخدام الكلي�شيهات ،بل �إىل حتول كلمات
يف �سياق تقريبه للت�أثريات التي حتدثها اللغة اللغة ذاتها �إىل كلي�شيهات؛ نتيجة التوحيد بني
�أحادية البعد يف الإ ن�سان �أحادي البعد يعقد الأ �شياء ووظيفتها ،وتقييد منو املفاهيم.
ماركيوز عالقات م�شابهة بني ت�أثري هذه اللغة تا�سعا� :أنها لغة ال ت�سمي الأ �شياء ب�أ�سمائها احلقيقية،
وت�أثري ظواهر �أخرى؛ اجتماعية وفيزيائية ،مثل بل رمبا ت�سميها بنقي�ضها .وميثل ماركيوز لذلك
التنومي املغناطي�سي وال�سحر والطقو�س .وت�شرتك بحاالت كانت �شائعة يف ع�رصه ،وال تزال .من قبيل
هذه الظواهر الثالث يف �أن الفاعل(املنوِّم ،ال�ساحر، �أن احلزب ال�سيا�سي الذي يعمل على تطوير الر�أ�سمالية
وا�ضع الطقو�س) ميار�س �سيطرة كاملة على املفعول والدفاع عنها يُ�سمي نف�سه «احلزب اال�شرتاكي» ،و�أن
104 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s به (املنوَّم ،امل�سحور ،امل�شارك يف الطقو�س) .كما
بالت�أثريات التي حتدثها الطقو�س وال�سحر
والتنومي املغناطي�سي �إىل �إ�ضعاف التفا�ؤل �أن الأ دوات التي ي�ستخدمها الفاعل تكون م�شبعة
ب�ش�أن �إمكانية مقاومتها ،من ناحية ،ويفر�ض –غالبا -بخ�صائ�ص الفعل .ف�أدوات ال�ساحر»
�إجراءات معينة لتفعيل هذه املقاومة من ناحية �سحرية» ،و�أدوات املنوِّم «منوِّمة» ،و�أدوات الطق�س
�أخرى .فاخلا�ضع للغة �أحادية البعد يحتاج �أن «طق�سية» .و�أخريا ف�إن املنوَّم وامل�سحور واملت�أثر
يعي �أنه م�ضلل ،و�أن من يقوم بت�ضليله حري�ص بالطقو�س ال يدرك �أنه واقع حتت ت�أثري قوة �أكرب
على التخفي من جهة ،و�إنكار عملية الت�ضليل منه ،بل يكون على يقني من �أنه يتحرك مبطلق
ذاتها ،من جهة �أخرى .ولي�س كل �أفراد املجتمع �إرادته ،ويقاوم مقاومة �رش�سة حماوالت حتريره من
قادرين على حتقيق هذا الوعي؛ �أي قادرين على �سطوة هذه القوة العليا� .أي �أن الواقع حتت �سيطرة
ينتقد ماركيوز اكت�شاف �أنهم خا�ضعون ل�سلطة خفية تتحكم هذه القوى يربر لنف�سه �سلوكياته و�أفعاله ،ويخلق
دعوة فال�سفة يف �أفعالهم .بل ،رمبا ،يقاومون مقاومة �شديدة لها �إطارا ذاتيا ،كما لو �أنها تتحرك مبعزل عن �أية
اللغة التحليليني من يحاول الك�شف عن واقع خ�ضوعهم ،قد ت�صل قوة �أخرى(.)7
�إىل حد العدائية .ولأ ن املجتمعات ال�صناعية �إن ربط الت�أثري الذي حتدثه اللغة �أحادية
� إىل ا�ستخدام قد �أ�صبحت غري قادرة ،ورمبا غري راغبة ،يف
لغة رجل ال�شارع، البعد بالت�أثري الذي حتدثه هذه الظواهر الثالث
اكت�ساب هذا الوعي ف�إن الثورة املحتملة ت�صبح يت�ضمن ب�شكل �أ�سا�س �إعادة تر�سيم العالقة بني
�أو اللغة الدارجة م�ستبعدة ،ورمبا م�ستحيلة .والأ فراد امل�ؤهلون، املتكلم (منتج اللغة) واملخاطب (م�ستهلكها)،
بو�صفها لغة �إىل حد ما -وفقا ملاركيوز -لتحقيق هذا الوعي خا�صة على امل�ستوى العام .كما �أنه ي�ستهدف
التحليل اللغوي. هم من مل يندجموا بعد يف املجتمعات �أحادية و�ضع مفهوم للغة ال تكون فيه اللغة جمرد �أداة
البعد؛ �أي اجلماعات التي مل تخ�ضع لعملية
� إذ ي�ؤدي ذلك � إىل الت�ضليل كلية� ،أو ب�شكل كامل ،مثل جماعات
لو�صف العامل بل لتثبيته �أو تغيريه �أو تزييفه.
تقلي�ص اللغة وال تكون جمرد �أداة للتوا�صل بني الأ فراد الذين
الهيبز ،وال�سورياليني ،واملنا�ضلني ال�سود .وهي
وحتويل لغة اجلماعات نف�سها التي يرى فيها ماركيوز الأ مل ي�ستخدمونها ،بل �أداة تمُ كن بع�ض»ممتلكيها»
الوحيد يف التغيري. من ال�سيطرة على الآ خرين .بالإ �ضافة �إىل �أنه
الفل�سفة � إىل لغة ي�ستبعد الت�صور ال�شائع للغة بو�صفها و�سيطا
�سلوكية بدال مل يتوقف ماركيوز عند �سرب العالقات اجلدلية بني
املجتمعات ال�صناعية؛ �إن�سانها وفكرها ولغتها� ،أو �شفافا ،لت�صبح و�سيطا مبهما وغام�ضا ،غمو�ض
من �أن تكون لغة –با�ستخدام م�صطلحاته -بني املجتمعات �أحادية و�إبهام الطقو�س وال�سحر .و�أخريا ،ف�إنه ينزع عن
كا�شفة البعد والإ ن�سان �أحادي البعد ولغته وفكره �أحاديي اللغة �صفة «الطبيعية» ،ويوجه االنتباه �إىل
البعد ،بل حاول �سرب العالقة بني التحليل اللغوي عمليات ال�ضبط والتخطيط امل�سبق واملحكم
الذي تقدمه بع�ض فل�سفات اللغة وهذه العنا�رص الذي تخ�ضع له.
الأ ربعة .يخ�ص�ص ماركيوز( )1964الف�صل ال�سابع �إ�ضافة �إىل ربط الأ ثر النهائي للغة على الإ ن�سان بالأ ثر
من كتابه لنقد التحليل اللغوي الذي روجت له الفل�سفة الذي يحدثه ال�سحر والطقو�س والتنومي املغناطي�سي،
التحليلية .ويركز نقده على مبادئ هذه املدر�سة يف ربط ماركيوز بني خ�صائ�ص حمددة للغة و�إحدى هذه
التحليل اللغوي ،متخذا من �أفكار فيل�سوف اللغة الظواهر .فقد ذهب �إىل �أن ا�ستعمال امل�سند التحليلي
الأ ملاين لودفيغ فيتيغن�شتني(،)1951-1889 وا�ستخدام العالمات الطباعية الفا�صلة ( ،)-واجلمل
خا�صة تلك الواردة يف م�ؤلفه الأ خري»مباحث املبنية على التعار�ض بني املكونات حتول الكالم
فل�سفية» ،ممثال لهذه املبادئ .ينتقد ماركيوز دعوة �إىل جمل و�صيغ منوِّمة مغناطي�سيا .وربط كذلك بني
فال�سفة اللغة التحليليني �إىل ا�ستخدام لغة رجل بع�ض املمار�سات اللغوية والتنومي املغناطي�سي؛
ال�شارع� ،أو اللغة الدارجة بو�صفها لغة التحليل مثل الإ عالنات وعبارات ال�سيا�سيني؛ بحيث يُ�صبح
اللغوي� .إذ ي�ؤدي ذلك �إىل تقلي�ص اللغة وحتويل لغة التعر�ض لهذه املمار�سات اللغوية �شبيها ،يف � آثاره،
الفل�سفة �إىل لغة �سلوكية بدال من �أن تكون لغة كا�شفة. بالتعر�ض لعملية تنومي مغناطي�سي.
كما ينتقد اقت�صار الفل�سفة اللغوية التحليلية على ي�ؤدي ربط الت�أثريات التي حتدثها اللغة
105 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
واملفردات لي�ست �إال �أفعاال �أخالقية و�سيا�سية» جمرد و�صف اللغة ،متهكما على ت�رصيح فتغن�شتني
(نف�سه� .)215-214إن هذا التوجه نحو ال�سيا�سي امل�شهور� :إن الفل�سفة «ترتك كل �شيء كما هو» .ويراه
واالجتماعي عند ماركيوز لي�س �سمة التحليل دليال وبرهانا على النزعة ال�سادية –املازوكية
اللغوي املبتغى فح�سب ،بل �سمة الفل�سفة احلقة؛ الأ كادميية ،وعلى هوان املثقفني ونكرانهم لذواتهم
�أي الفل�سفة العالجية .ولكي تقوم الفل�سفة من ناحية ،واالن�صياع للعامل الذي ينطق بهذه اللغة ركز ماركيوز يف
مبهمتها العالجية يف «عامل كلي ا�ستبدادي» من ناحية ثانية .ويك�شف عن �أن هذه الفل�سفة حتتفي
يجب �أن تكون هذه املهمة �سيا�سية .ومتثل دعوة
نقده للغة ال�سيا�سية
بالكلمة وترف�ض ما تك�شفه هذه الكلمة عن املجتمع على املجتمعات
ماركيوز �إىل فل�سفة لغة عالجية ،و�إىل حتليل الذي ينطق بها؛ م�ؤدية بذلك �إىل تعمية االجتماعي
لغوي يربط اللغوي بال�سيا�سي واالجتماعي الذي يكمن يف اللغوي .كما ينتقد ال�صورة الزائفة
ال�صناعية الكربى؛
لبنتني من م�رشوع متناثر يف كتاباته ي�ستهدف التي تقدمها الفل�سفة التحليلية عن اللغة ،والتي خا�صة الواليات
مقاومة اللغة �أحادية البعد. يلخ�صها ت�أكيد فتغن�شتني �أن «كل عبارة يف لغتنا املتحدة الأ مريكية
ميكن النظر �إىل كتاب «الإ ن�سان ذو البعد الواحد» منظمة على �أح�سن ما يكون يف حد ذاتها» .بينما واالحتاد ال�سوفييتي
على �أنه طرح مت�شائم لو�ضعية الإ ن�سان يف العامل يرى ماركيوز �أن احلقيقة هي �أن «كل عبارة خمتلة ال�سابق .وعلى
املعا�رص .وذلك ا�ستنادا �إىل معطيات فعلية ،من النظام �أي�ضا ،اختالل العامل الذي تعرب عنه اللغة» الرغم من ت�شابه
قبيل �شيوع نربة الي�أ�س من �إمكانية قيام الثورة يف (نف�سه .)200و�أخريا ينتقد جتاهل هذا النمط من
املجتمعات ال�صناعية ،والرتكيز على مظاهر �سيطرة
بع�ض خ�صائ�ص لغة
التحليل اللغوي ملا هو مغاير وتناحري ،وما ال ال�سيا�سة امل�ستخدمة
امل�ؤ�س�سات التي تخدم م�صالح القلة على عقول ميكن عقله مب�صطلحات اال�ستعمال الدارج .وهو
ال�شعوب ونفو�سها .و�أخريا ،ق�رص احتماالت التغيري يف هذه املجتمعات
بذلك يتجاهل جماال ثريا للمعرفة؛ ملجرد وقوعه
على حترك جماعات املهم�شني من املنبوذين مع لغة ال�سيا�سة
وراء املنطق ال�صوري واحل�س العام (نف�سه .)204
اجتماعيا والعاطلني عن العمل والأ قليات العرقية. امل�ستخدمة يف
ينطلق نقد ماركيوز للفل�سفة التحليلية من
� .إلخ .وهي جماعات ال ت�شي قدراتها الفعلية جمتمعات �أخرى،
ب�إمكانية التغيري .لكن ماركيوز ،فيما يتعلق باللغة، ت�صور يرى �أن وظيفة الفل�سفة لي�ست احلفاظ على
الواقع الكائن وتركه كما هو ،بل تفجريه وتدمريه ف� إن لكل جمتمع
رمبا كان �أكرث تفا�ؤال .وقد يرجع ذلك �إىل �أنه وزَّع لغة �سيا�سية
املهام التي ميكن من خاللها حترير اللغة من �أ�رس تدمريا .وهو ما يتطلب جتاوز و�صف الوقائع
البعد الواحد .لقد دعا ،كما �سبق �أن �أو�ضحت� ،إىل املعطاة �إىل التفاعل معها وك�شف القناع عما ذات ت�أثري خا�ص
فل�سفة لغة عالجية ،و�إىل حتليل لغوي كا�شف .كما تخفيه .فل�سفة ال تت�صالح مع املجتمع القمعي وا�ستجابات خا�صة.
دعا يف �سياقات �أخرى �إىل مقاومة هذه اللغة عن ال�سلطوي بل تقاومه .ومن ثم ميكن �أن نتفهم وال يرجع ذلك
طريق االحتفاء باللغة العارية ،ورمبا الوقحة ،التي النربة التهكمية الالذعة التي ت�رسي يف تفنيدات � إىل اخل�صو�صية
تعيد ت�سمية الأ �شياء ب�أ�سمائها (نف�سه.)123-122 ماركيوز ملبادئ الفل�سفة التحليلية ،التي تقع الثقافية
وهي مهام ميكن �أن يقوم بها الفيل�سوف واللغوي على طرف النقي�ض من ت�صوراته عن الفل�سفة،
التي ميار�سها بالفعل .كما تتيح لنا كذلك تفهم
واالجتماعية
وال�صحفي ورجل ال�شارع� . .إلخ .لكن هذه املقاومة واالقت�صادية
�ستكون جزئية ،واحلل الذي تقدمه �سيكون جزئيا نربة الإ عجاب التي ت�رسي يف ا�ستعرا�ض ماركيوز
بدوره� .أما احلل ال�شامل ف�سوف يتحقق فح�سب عن لنماذج مغايرة من التحليل اللغوي ،ا�ستطاع للمجتمعات فح�سب،
طريق �إك�ساب الأ فراد وعيا حقيقيا بالعامل ،ف «لن املحللون فيها ،بوا�سطة ا�ستخدام لغة متمايزة بل � إىل خ�صو�صية
ي�صبح تقرير امل�صري الذاتي فعليا وواقعيا �إال �إذا مل عن اللغة التي يحللونها� ،أن ي�ستك�شفوا «عامل اللغة التي
تعد هناك جماهري ،بل جمرد �أفراد متحررين من الإ ن�شاء القائم الكلي اال�ستبدادي الذي يتم فيه ت�ستخدمها كذلك
كل دعاية ،ومن كل تكييف مذهبي ،ومن كل حتكم دمج خمتلف �أبعاد اللغة ومتثلها» .ويمُ ثل لهذه
وتالعب ،وقادرين على معرفة الوقائع وفهمها وعلى التحليالت بتحليالت كارل كراو�س الذي «�أثبت
تقرير احللول املمكنة» نف�سه .262وهكذا يرتبط �أن الدرا�سة الداخلية للغة والكتابة والرتقيم
ظهور ه�ؤالء الأ فراد بن�ش�أة �ضمري نقدي ،ميكنهم والأ خطاء املطبعية ميكن �أن تك�شف عن نظام
من �إدراك «حقيقة» هذا العامل وتغيريه .هذا ال�ضمري �أخالقي و�سيا�سي كامل . .و�أن الرتاكيب والقواعد
106 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أعداء الوطن و�أ�صدقاءه ،واخلري وال�رش ،وكيف ي�سلك النقدي يتحقق بوا�سطة املعرفة ،ويتكلم لغة املعرفة
ب�إزاء كل �شيء .ولكن هذه اللغة ال تخدم �إال م�صالح التي «تفجر عامل الإ ن�شاء املغلق وبنيته املتحجرة»
من ميتلكها .وهكذا يعرِّف ال�سيا�سيون امل�ستفيدون (نف�سه.)137
من احلرب ،مثال ،الفالح الفيتنامي ،الذي يدافع عن «نحو التحرر» :الرف�ض الكبري
بالده ،ب�أنه «ب�رش �أدنى� ،إرهابي قا�سي القلب ،وناكر وتهدمي الكون اللغوي القائم
للجميل»� .أما الطيار الأ مريكي الذي يلقي النابلم بعد �أربع �سنوات من �صدور «الإ ن�سان ذو البعد الواحد»،
على القرى العزالء فيو�صف ب�أنه «بطل التحرير، ذي الطابع الت�شا�ؤمي واملكر�س لنفي �إمكانية الثورة،
املحب للإ ن�سانية»( .)9هذه اللغة ال ي�صلح معها �إال كان طالب فرن�سا ،و�أوروبا عامة ،يفر�ضون واقعا
التدمري .و�أوىل خطوات تدمري «الكون اللغوي القائم» جديدا؛ �أ�صبحت فيه الثورة لي�ست ممكنة فح�سب،
هي �إحداث قطيعة �شاملة معه ،ونفيه من واقع بل متحققة �أي�ضا .لقد �أثرت ثورة الطالب يف مايو
اال�ستخدام؛ «فالقطيعة مع م�ستمر ال�سيطرة ،ينبغي �أن 1968يف ماركيوز كثريا؛ لي�س لأ نها احتفت به
جتر �إىل قطيعة مع مفردات لغة ال�سيطرة» نف�سه.62 وو�ضعت ا�سمه فوق الفتاتها( ،)8بل لأ نها ،وهي تتبنى
هذه القطيعة والنفي يتحققان عن طريق �إن�شاء لغة بع�ض �أفكاره ،كانت تنزع عنه ،م�ؤقتا ،ت�شا�ؤميته.
جديدة .وهو ما يتحقق بدوره ،جزئيا ،بوا�سطة «فن قبيل ثورة الطالب كان ماركيوز على و�شك �أن ينتهي
معاجلة الكلمات»؛ الذي ي�ستهدف «تخلي�ص الكلمات من ت�أليف كتاب �صغري احلجم ،بعنوان «مقال يف
واملفاهيم من املعاين اللقيطة التي حمله �إياها التحرر» .ويو�شك الكتاب �أن يكون مانيف�ستو لثورة
النظام القائم» نف�سه .25لقد �شغلت ظاهرة فقدان حمتملة �أو لـ«الرف�ض الكبري» .وجاءت الثورة .وقرر
الكلمات معانيها احلقيقية ماركيوز .ور�أي فيها ماركيوز ،الذي مل يكن قد ن�رش كتابه� ،أن ين�رشه كما
قمعا للب�رش وتخريبا للغة .وقد نقل ب�إعجاب �شديد هو ،مكتفيا ببع�ض الهوام�ش التي تخ�ص «الواقع
عبارة دافيد �س .برودير ،التي ير�صد فيها ما �أ�سماه اجلديد» .وكان الكتاب وهام�شه معنيان ،يف موا�ضع
«التخريب املنهجي ملعنى الكلمات وماهيتها» .وهو كثرية ،مبا ميكن �أن نطلق عليه «تثوير اللغة».
تخريب يُلقي ال�سيا�سيون بذوره ،وترعاه و�سائل لقد �أدرك ماركيوز �أن بناء جمتمع حر جديد يرتبط
الإ عالم .وبح�سب برودير ف�إنه «عندما يتعود النا�س ببناء لغة �سيا�سية جديدة ووجدان جديد .وكانت
�سماع الكالم عن معارك عنيفة يف «املنطقة منزوعة �صيحته «على ه�ؤالء (يق�صد من ي�سعون لتحقيق
ال�سالح»� ،أو عن جرحى يف حالة اخلطر «عقب مظاهرة جمتمع حر) �أن يتكلموا لغة جديدة» تعبريا عن
غري عنيفة» ،ي�صبح املرء غري بعيد عن فقدان �سالمة �إدراكه خلطورة الدور الذي ميكن �أن تقوم به لغة
ح�سه» نف�سه� .122إن �إ�صالح اللغة يحتاج �إىل �أكرث ال�سيا�سة يف املجتمعات القائمة .فلغة ال�سيا�سة
من مفرداتها جديدة؛ �إنه يحتاج �إىل وعي وح�سا�سية هي «درع النظام القائم» (ماركيوز،)121 :1969
جديدين ،يدعمان هذه املفردات وتدعمهما. وهي �أداة القمع التي ي�ستخدمها يف تروي�ض
يتخلق الوعي اجلديد واحل�سا�سية اجلديدة واللغة مواطنيه .هذه اللغة القمعية/الكاذبة ي�سميها
اجلديدة يف �إطار التمرد والرف�ض .وحني يدمَّ ر ماركيوز ،مبا يليق بها �أن ت�سمّى به؛ �إنها لغة
«الكون اللغوي القائم» �سوف يتوقف «امل�صنع «داعرة»« ،عاهرة»« ،خرقاء» .ينقل ماركيوز،
الكالمي» للمجتمعات ال�صناعية املعا�رصة يف هذه الت�سميات ،دالالت االنحالل اجلن�سي
عن �إنتاج اللغة «الداعرة» .لقد ر�صد ماركيوز والتخبط ال�سلوكي �إىل لغة ال�سيا�سة؛ فلي�ست
حاالت واقعية من تهدمي الكون اللغوي القائم، الدعارة والعهر بيع اجل�سد بل �إفقاد الكلمات
قامت بها جماعات الرف�ض يف ع�رصه (الأ قليات، معانيها احلقيقية ،وتربير حرب يباد فيها �شعب
الهيبيني ،الطالب) التي كانت متثل ،بالن�سبة من الأ برياء (�إ�شارة �إىل حرب فيتنام).
له ،الأ مل يف التحرر .هذه اجلماعات قامت مبا �إن لغة ال�سيا�سة «الداعرة» ،امل�سيطرة يف الآ ن ذاته،
ي�سميه ماركيوز «انقالب منهجي يف املعاين»، ال تقبل الإ �صالح .فهي جتتذب يف فلكها كل ما
�أو «انتفا�ضة لغوية منهجية» .وقد حتقق هذا يربط الإ ن�سان بعامله .تثبت له و�ضعيته ،وحتدد له
107 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
� -5إطالق ت�سميات جديدة ،مبنية على املجاز يف االنقالب �أواالنتفا�ضة بوا�سطة عدد من العمليات
معظمها ،لت�شري �إىل �إدراك خا�ص ملاهية جماعة ما، املنف�صلة؛ هي:
�أو �شخ�ص ما� ،أو �شيء ما� . .إلخ .وميثل ماركيوز لذلك -1قيام بع�ض هذه اجلماعات با�ستخدام مفردات
ببع�ض الت�سميات ال�شائعة يف العامية الأ مريكية، بريئة� ،شائعة اال�ستخدام يف احلياة اليومية ،و�إطالقها
مثل ت�سمية املثقفني «ر�أ�س البي�ضة» ،وت�سمية على �أفعال ي�صفها النظام القائم بـ«املحرمات».
املحلل النف�سي «م�ضيق الدماغ» ،وت�سمية التليفزيون مثل ا�ستخدام كلمة «رحلة» ( )tripللإ �شارة �إىل ارتياد
«�أنبوب الفرج»� . .إلخ .ويرى �أن هذه اللغة ال�شعبية جتمعات الهيبيني ،وا�ستخدام كلمة «ع�شب»()grass
«تت�صدى ب�سخرية مثرية وحانقة للكالم الر�سمي للإ �شارة �إىل املاريجوانا .وت�ستهدف �إعادة الت�سمية،
ون�صف الر�سمي» (ماركيوز .)123 :1964و�أن يف يف هذه احلالة ،التخل�ص من الدالالت ال�سلبية التي
�شيوع هذه الت�سميات وغناها و�إيحائها ما يدل على يل�صقها النظام القائم ب�سلوكيات اجلماعة و�أ�شيائهم.
و�إ�ضفاء طابع الأ لفة والعادية عليها.
�أن رجل ال�شارع ي�ؤكد �إن�سانيته يف لغته اخلا�صة
� -2إعادة ت�سمية الأ �شخا�ص مبا يجدر بهم �أن ي�سمَّوا
بو�ضعه �إياها على قطب معار�ض لل�سلطات القائمة،
به يف الواقع .وذلك مثل الإ �شارة �إىل �أحد القيادات
و�أن �إعادة ت�سمية الأ �شياء ب�أ�سمائها ميثل انفكاكا من
العليا ب�أنه «اخلنزير فالن» ،بدال من «الرئي�س فالن»،
ال�سيطرة و�إعالنا للتمرد والرف�ض.
�أو «امللك فالن»� ،أو «العاهل فالن» .وي�ؤدي هذا
-6توليد ا�ستجابات �ساخرة مثل ال�ضحك والأ هاجي الفعل ،وفقا ملاركيوز� ،إىل اخلال�ص من �أكاذيب اللغة
والتهريج .وعلى الرغم من �أن ماركيوز ي�صف هذه العقائدية ودالالتها ،و�إىل حتطيم الهالة التي حتيط
الأ �شكال من االحتجاج ب�أنها �سلبية وفو�ضوية ورمبا ب�أولئك املوظفني واحلكام� .إ�ضافة �إىل �سحب «اال�سم
ال �سيا�سية ،ف�إنه يرى �أنها كثريا ما تق�ض م�ضاجع املرائي الكاذب الذي يتباهون بحمله» نف�سه.65
النظام القائم .ويرى �أن ع�رصه ي�شهد منوا لظاهرة ويرى ماركيوز �أن هذه املمار�سة البد و�أن تندرج يف
احتقار قيم ال�سيا�سيني التي يجهرون باعتناقها، �إطار ال�سياق ال�سيا�سي للرف�ض الأ كرب ،لأ نها ت�شكل
ويجردونها يف الوقت ذاته من معانيها .ويرتبط هذا بالفعل مظهرا من مظاهر التحرير.
باحتقار ما ي�سميه «روح اجلد» ،التي تطبع خطب -3ا�ستخدام املفردات ال�سامية املتعالية ،ذات
ال�سا�سة املحرتفني �أو ن�صف املحرتفني ،و�أفعالهم املكانة اخلا�صة يف املجتمع ال�سائد ،وحتميلها
بطابعها .فقد «�أخذ املتمردون يف بعث ال�ضحك مبفاهيم عادية يومية تخ�ص جماعة «الرف�ض» .مثل
اليائ�س ،والتحدي املاجن الذي عُ رف به املهرجون، �إعادة ا�ستخدام كلمة «الروح» ،ذات املفهوم ال�سامي
وذلك لنزع الأ قنعة عن ت�رصفات هذه اجلماعة النقي يف الكون اخلطابي امل�سيطر ،يف تراكيب جديدة،
اجلادة التي بيدها احلل والربط يف كل �شيء» لتحمل داللة جديدة ،تنزع ما تنطوي عليه من �سمو،
(ماركيوز.)107 :1969 وتدخلها يف �سياق الكون اخلطابي جلماعة الرف�ض.
رمبا تكون هذه اال�ستجابات التي ي�سميها ماركيوز مثل ت�سمية جماعات ال�سود «البلوز» (« )10غذاء الروح»،
ب «ال�سلبية» ،من �أكرث اال�ستجابات فعالية �إزاء وتعريف �أنف�سهم ب�أنهم «�أخوة يف الروح».
خطاب ال�سيا�سيني .فهذه اال�ستجابات «الهازئة» -4ا�ستخدام املفردات ال�سلطوية يف �سياق جديد ينزع
جادة ب�أق�صى ما يكون ،خا�صة حني تواجه عنها �سلطويتها .مثل ا�ستخدام بع�ض ال�شباب لتعبري
ن�صو�صا �أو كالما كاذبا .فاللغة التي تناق�ض «�سلطة الزهور»؛ �إ�شارة �إىل القوة التي يكت�سبها فعل
واقعها ال حتتمل كل هذا «اجلد» �إزاءها .والبد �إلقائهم الزهور على ال�رشطة يف املظاهرات .وي�ؤدي
من بع�ض اال�ستهزاء الغا�ضب ،ونحن نتلقاها. هذا الفعل �إىل نقل ال�سلطة ممن يُفرت�ض فيه امتالكها؛
�إنها تقول لنا� :أنا كاذبة ،وتخرج لنا ل�سانها. �أعني ال�رشطي ذي البندقية والع�صا� ،إىل من يُفرت�ض
تقول لنا� :أعلم �أنكم تكت�شفونني ،لكنني �سوف فيه عدم امتالكها؛ �أعني املتظاهر املم�سك بالزهور.
�أظل �أفعل و�أ�سيطر؛ ف�أنا الأ قوى .ورمبا يكون الفعل وينطوي كذلك على �سحب ال�سلطة من البندقية
الوحيد القادر على �إرباكها هو �أن ن�ضحك �إزاءها والع�صا لت�صبح كامنة يف الزهرة.
108 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
لإ جنازها ،والآ ثار التي تنتج عنها� .أما نقده لنمط ب�أعلى �صوت ممكن� ،ضحك من القلب ،رمبا يربكها
التحليل اللغوي ال�سائد لدى الفال�سفة التحليليني، قليال ،ورمبا يولد لدى الآ خرين �ضحكا م�شابها
وحتديده ل�سمات التحليل الذي يقرتحه ،وتنظريه يحفزهم على �إدراك الكذب.
لأ �شكال مقاومة اخلطاب ال�سيا�سي اللغوي امل�سيطر، ميكن �إدراج معظم العمليات ال�سابقة يف �إطار التحويل
�سواء تلك التي مور�ست بالفعل من قبل جماعات الداليل للمفردات بوا�سطة �إعادة التعريف �أو �إعادة
الرف�ض �أو تلك التي يدعو ملمار�ستها ،وتف�سريه ،و�إن الت�سمية .وهي عملية هدفها الأ �سا�س بناء معجم
كان حد�سيا ،للطريقة التي تعمل بها لغة ال�سيا�سة- خا�ص جلماعات الرف�ض ،يواجه معجم اجلماعات
فهي مما ميكن ا�ستثماره يف حماولة ت�أ�سي�س �إطار امل�سيطرة .ومن امل�ؤكد �أن ا�ستبدال املعجم ،مع �أهميته
نظري ملقاربة نقدية لنقد لغة ال�سيا�سة. ال�شديدة ،ال يكفي وحده لتهدمي الكون اللغوي القائم.
فقواعد اللغة� ،أية لغة ،وظواهرها البالغية رمبا تكون الهوام�ش واالحاالت
ذات ت�أثري �أقوى يف تدعيم ال�سلطة القائمة .رمبا -1مل �أ�ستطع العثور على �أية درا�سة بغري العربية تخ�ص نقد ماركيوز
كان ماركيوز معنيا با�ستعرا�ض ممار�سات نقدية للغة ال�سيا�سة .ومل يرد ذكر �أية درا�سة عن �أفكار ماركيوز حول لغة
حدثت بالفعل ،على الرغم من �أن هذه املمار�سات مل ال�سيا�سة يف الببليوجرافيا التي �أوردها املوقع الر�سمي لهربرت
ماركيوز على ال�شبكة الدولية للمعلومات ،الذي يقدم ببليوجرافيا
ملا كتب عن ماركيوز بالفرن�سية والأ ملانية والإ جنليزية (عنوان
تكن فاعلة ب�شكل جذري يف مواجهة لغة ال�سيا�سة
امل�سيطرة .ومع ذلك ف�إن هذه املمار�سات �سوف تظل املوقع ،www. marcuse. org/herbert :تاريخ الدخول �إىل
ملهمة ودالة لكونها ،يف معظمها ،ممار�سات عفوية املوقع .2008-06-22والدرا�سة الوحيدة التي ا�ستطعت الو�صول
و�شعبية ومتثل جزءا من حركات رف�ض اجتماعي(� .)11إليها ،وعُ نيت ببع�ض �أفكار ماركيوز حول لغة ال�سيا�سة هي درا�سة
كيلرن ،2006Kellnerبعنوان»من ‘� ‘1984إىل ‘الإ ن�سان ذو البعد
لقد ركز ماركيوز يف نقده للغة ال�سيا�سية على الواحد‘� :أفكار نقدية حول �أورويل وماركيوز» .وهي مقال �صغري
املجتمعات ال�صناعية الكربى؛ خا�صة الواليات احلجم ،ال يتجاوز �سبع �صفحات .ويتوقف عند تقدمي مقارنة �أولية
املتحدة الأ مريكية واالحتاد ال�سوفيتي ال�سابق .بني نقد ماركيوز للغة ال�سيا�سية ونقد �أورويل لها .لكنه يف الواقع
ي�ستنفد جل طاقته يف ر�صد االختالفات بني الأ �صول الفكرية لهما،
وعلى الرغم من ت�شابه بع�ض خ�صائ�ص لغة و�أ�سلوب كتاباتهما .وتتبقى فقرات معدودة تخ�ص مقاربتيهما
ال�سيا�سة امل�ستخدمة يف هذه املجتمعات للغة ال�سيا�سية .وقد �أ�شار كيلرن لدرا�سة �أخرى عُ نيت باملقارنة بني
مع لغة ال�سيا�سة امل�ستخدمة يف جمتمعات نقد لغة ال�سيا�سة عند �أورويل وماركيوز؛ هي درا�سة �إيان �سالتر
«�أورويل وماركيوز» ،لكن الباحث مل ي�ستطع الو�صول �إليها .ومل
حتظ �أفكار ماركيوز حول لغة ال�سيا�سة باهتمام يُذكر من اللغويني
�أخرى ،ف�إن لكل جمتمع لغة �سيا�سية ذات ت�أثري
خا�ص وا�ستجابات خا�صة .وال يرجع ذلك �إىل العرب .وميكن تربير ذلك ب�أ�سباب خمتلفة؛ من بينها غياب التوجه
اخل�صو�صية الثقافية واالجتماعية واالقت�صادية النقدي يف الدرا�سات اللغوية العربية املعا�رصة� .إ�ضافة �إىل تناثر
للمجتمعات فح�سب ،بل �إىل خ�صو�صية اللغة �أفكار ماركيوز حول اللغة يف ثنايا درا�ساته ،وارتباطها ال�شائك
بفل�سفته بعامة ،وامتزاج حتليالته وتو�صيفاته ،ب�إرها�صاته
ونبوءاته وحتري�ضاته. التي ت�ستخدمها كذلك.
رمبا ال ميدنا ماركيوز بتنظري لإ جراءاته امل�ستخدمة -2بع�ض معلومات عن النظرية النقدية ونقد لغة ال�سيا�سة .
يف حتليل اخلطاب ال�سيا�سي ،ورمبا ات�سمت قائمة -3الكتابان مرتجمان �إىل العربية .وقد �صدر «الإ ن�سان ذو البعد
الواحد» برتجمة جورج طرابي�شي و�سوف نعتمد على طبعته الثالثة
م�صطلحاته ببع�ض الغمو�ض � .إ�ضافة � إىل لغته ذات ال�صادرة عن دار الآ داب يف بريوت � .1988أما «مقال يف التحرر»
()12
الطابع املجازي ،والتي متيل � إىل التكرار والإ طناب ،ف�سوف نعتمد على ترجمة عبد اللطيف �رشارة ال�صادرة عن دار
والتي و�صفها � آلن هاو ( )2003ذات مرة ب «النرث العودة يف بريوت ،1971حتت عنوان «نحو ثورة جديدة» .وقد
احتجنا ،يف موا�ضع حمدودة� ،إىل الرجوع �إىل الرتجمات الإ جنليزية،
حني مل ت�سعفنا الرتجمات العربية يف الفهم.
املنيع ،الذي ال يكاد يُفهم منه �شيئا» .وعلى الرغم من
ذلك ف�إن كتابات ماركيوز تنطوي على ا�ستب�صارات -4ركز ماركيوز يف «الإ ن�سان ذو البعد الواحد» على ا�ستخدام
مده�شة خا�صة فيما يتعلق بتحديده لطبيعة العالقات اللغة يف املجتمع الأ مريكي .وقد خ�ص ا�ستخدام اللغة يف املجتمع
التي تربط بني الإ ن�سان واللغة واملجتمع � .إ�ضافة � إىل ال�سوفيتي بتحليل خا�ص يف �سياق درا�سته للمارك�سية ال�سوفيتية،
التي �صدرت بعنوان «املارك�سية ال�سوفييتية :حتليل نقدي» يف عام
مقدرته املتميزة على الك�شف عن الظواهر املميزة .1958
للغة �أحادية البعد والوظائف التي ت�سعى هذه الظواهر -5من الوا�ضح �أن الرتكيب الإ �ضايف الأ خري «م�رص نا�رص» ي�ستهدف
109 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الوقت املعلوم ينفذ ال�شخ�ص مو�ضوع التنومي تعليمات منوِّمه؛ فقد �أكرث من جمرد الربط بني احلاكم والبلد التي يحكمها .وهو ما
ين�صب مظلة �شاطئ يف غرفة اجللو�س� ،أو يقدم لكل من اجلال�سني يو�ضحه الت�صور اال�ستعاري الذي يقوم عليه الرتكيب؛ �أعني :الأ مة/
كوبا من اللنب� ،أو يرك�ض على �أربع وينبح كالكلب .وعندما ت�س�أله �شخ�ص .هذا الت�صور يوظَّ ف يف �أحيان كثرية لتربير العدوان على
ملاذا يت�رصف بهذه الغرابة ف�إنه يقدم على الفور تف�سريات معقولة الأ مة بعد حتويلها –ا�ستعاريا� -إىل جمرد ال�شخ�ص الذي يحكمها،
لت�رصفاته هذه .هذا التف�سري يقدم مثاال ال ين�سى على قدرة العقل والذي ميكن حتويله –ا�ستعاريا كذلك� -إىل �شيطان �أو �إرهابي.
على التربير (العقلنة) .Rationalizationوبينما يعرف كل واحد من وعلى ذلك ف�إن تعبري «م�رص نا�رص» ال ينفي ال�شعب فح�سب ،بل
حا�رضي جتربة التنومي ال�سبب احلقيقي لهذه الت�رصفات الغريبة، التاريخ كذلك� .إن تركيب «م�رص نا�رص» ،يف املثال ال�سابق ،يتحرك
ف�إن �أي م�شاهد مل ير بداية التجربة ،قد يقتنع متاما مبربرات ال�شخ�ص يف اجتاه م�ضاد ملا يحدده ماركيوز� .إنه ال يقيد ال�شخ�ص ،و�إمنا
مو�ضوع التنومي » .ورمبا ال تختلف بع�ض التربيرات التي يقدمها الوطن .فحني تت�أ�س�س عالقة �إ�ضافة/ملكية بني الرئي�س والوطن ال
املدافعون عن ت�أييدهم لبع�ض ال�سيا�سيني عن التربيرات التي يتحول الأ فراد فح�سب �إىل زوائد �أو تابعني لرئي�سهم ، . .بل يتحول
يقدمها هذا الذي «ينبح كالكلب» لنباحه� .إن ربط ت�أثري لغة ال�سيا�سة الوطن ،مبواطنيه وجغرافيته وتاريخه �إىل ملكية للرئي�س .وهي
بت�أثري التنومي املغناطي�سي قد يولد بع�ض ال�شك يف �إمكانية �إبطال ا�ستعارة �أخرى تخفي الكثري ،وحتر�ض على الكثري .وميكن �أن ي�ؤدي
هذا الت�أثري .وميهد لتقبل وتفهم خمتلف �أ�شكال املقاومة ،مهما الرتكيب ،خا�صة حني يطلق يف معر�ض الو�صف �إىل ما ي�شبه عالقة
بلغت حدتها ونوعها ،من اخلا�ضع للت�ضليل اللغوي. الن�سب (الأ بوة)� .إن الرئي�س (الأ ب) هو الذي ينجب الوطن (االبن).
-8كان الطالب يرفعون الفتات مكتوب عليها «امليمات الثالثة»، وهو ،من ثم� ،أب �أبنائه (املواطنني) .والوطن (االبن) ما كان ليوجد
م�شريين �إىل مارك�س وماوت�سي تونغ وماركيوز. (�أو يزدهر ويتطور� . .إلخ) �إال بعمل الأ ب (الرئي�س) .والرتكيب نف�سه
-9قد يكون من املثري مقارنة اللغة التي ا�ستخدمتها الإ دارة قد ينتج ا�ستعارة �أخرى تختلف يف طرفيها لكنها ت�ؤدي الوظيفة
نف�سها ،هي ا�ستعارة :الرئي�س زوج ،والوطن زوجته .وهي ا�ستعارة
الأ مريكية قبيل و�أثناء الغزو الأ مريكي لفيتنام ()1975-1961
ينتجها الرتكيب يف �إطار الثقافات التي تن�سب املر�أة لزوجها
�سواء يف التربير للغزو �أو و�صف عملياته الع�سكرية واجلنود
(مثل كثري من املجتمعات الريفية يف م�رص) .والعالقة بني الرئي�س
الأ مريكيني و»العدو» ،باللغة التي ا�ستخدمتها قبيل و�أثناء غزوها
والوطن وفق هذه اال�ستعارة عالقة ع�صمة .فالوطن يف ع�صمة
العراق(-2003؟) .وثمة حد�س مبدئي لدي بوجود ت�شابهات عديدة،
الرئي�س .واملواطنون؛ �أبناء الوطن وبناته ،حتت و�صايته .هذه
على الرغم من فارق اختالف احلدثني وفارق الزمن. اال�ستعارة نف�سها تنتج ا�ستعارة �أخرى يرددها املنتفعون من �أي
-10البلوز � Bluesأغاين ي�ؤلفها ويلحنها ويغنيها الأ مريكيون حكم حني يُنادون ب «زواج كاثوليكي» بني الوطن والرئي�س؛ �أي �أن
ال�سود .يغلب عليها ال�شجن .وتت�ألف من مقاطع �شعرية ثالثية يحكم مدى احلياة .وتنطوي هذه اال�ستعارة على و�صف للوطن ب�أنه
الأ بيات. �أنثى ،وحكم على بقية املواطنني باخل�صاء ،فلي�س ثمة ذَكَ ر �إال ال�سيد
(The American Heritage Dictionary of the English Language. 2000.
الرئي�س .ومن ثم ف�إن الأ وطان (ومواطنيها) التي ترغب يف �أن ت�صل
.)Houghton Mifflin Company �إىل اال�ستقالل والن�ضج ،وفق اال�ستعارتني ال�سابقتني ،يجب عليها
-11من غري الع�سري الوقوف على ممار�سات نقدية م�شابهة قامت �أن متار�س «قتل الأ ب» ،و«قتل الزوج» �أي�ضا .و�أن تنتمي فح�سب �إىل
بها جماعات الرف�ض االجتماعي يف معظم املجتمعات .وعلى �سبيل ذاتها؛ �أعني مواطنيها.
املثال ،يذكر نا�رص �أحمد �إبراهيم يف كتابه «الأ زمات االجتماعية -6درا�سة نقدية ال�ستخدام االخت�صارات يف �أ�سماء الأ �سلحة
يف م�رص يف القرن ال�سابع ع�رش» (ن�رش دار الآ فاق العربية،)1998 ، االنووية ميكن الرجوع � إىل درا�سة مارتن مونتجموري Montg 1995
�أن الأ هايل كانوا ميار�سون متردا من نوع خا�ص على ال�سلطة gomeryبعنوان «مدخل �إىل اللغة واملجتمع» .236-231وي�شري
امل�سيطرة ،متثل يف �إطالق ت�سميات �ساخرة ومثرية للتهكم على مونتجموري �إىل درا�سة �أخرى تف�صيلية قدمها بول �شيلتون يف عام
ممثلي ال�سلطة .ويورد امل�ؤلف �أمثلة متعددة لهذه الت�سميات ،مثل ،1982بعنوان «كالمـنووي :اللغة النووية والثقافة والدعاية».
�إطالقهم «زلعة ال�سم» على حممد با�شا ،و«ال�شيطان» على �إبراهيم -7يذكر �إدوارد بونو يف كتابه «التفكري املتجدد» �ص ،15ال�صادر
با�شا ،و«املجنون» على ح�سني با�شا الدايل� . .إلخ. برتجمة �إيهاب حممد عن الهيئة امل�رصية العامة للكتاب يف
-12مثل امل�صطلح املركزي يف نقده للغة ال�سيا�سية ،وهو «عامل � ،2005أنه» يف حالة التنومي املغناطي�سي ميكن الإ يحاء لل�شخ�ص
الإ ن�شاء املغلق». املنوَّم بفعل �أ�شياء غريبة بعد الإ فاقة من غيبوبة التنومي .ويف
s
s
s
يت�أ�س�س الن�ص ال�شعري ،بوجه عام ،من جملة من الرتاكيب يحكمها ن�سيج من
العالقات الرتابطية وال�سياقية .وينبني الرتكيب ال�شعري على امللفوظ الذي
يوجه بدوره م�سار اخلطاب وحتوالته .ومن هنا ،ف�إذا اعتربنا �أن اجلملة هي
�أ�سا�س اخلطاب( )1و�أنها يف اللغة تت�أ�س�س على الت�أليف القائم على ت�شابك
عالئقي� ،أمكننا �أن ننظر �إليها على اعتبار املحتوى اخلربي؛ فيمكن و�صف
اجلملة ب�سمة واحدة متميزة� ،أال وهي �أن لها حممو ال ً� Predicateأو م�سنداً .وقد
الحظ بنفني�ست(� )Benvenisteأن اللغة قد ت�ستغني عن الفاعل �أو املبتد�أ �أو
املفعول وغري ذلك من املقوالت اللغوية ولكنها لن ت�ستغني �أبدا عن امل�سند(.)2
ويحدد تودوروف Todorovالن�ص الأ دبي بقوله�« :إن العمل الأ دبي ،مل يعد �إال
ك�أي منطوق لغوي � آخر ،غري م�صنوع من الكلمات ،بل �إنه م�صنوع من جمل،
وهذه اجلمل خا�ضعة مل�ستويات متعددة من الكالم.)3( » .
� lإن القدرة اللغوية تعد �أ�سا�سا لقوة الإبداع .واحلطيئة �صاحب تفوق
لغوي معرتف به من قبل النقاد القدامى واملحدثني .وذلك بحكم انتمائه
ملدر�سة عبيد ال�شعر ،ومالزمته ال�شديدة ل�شعر زهري .لذلك كان �شديد
الثقة بنف�سه ،معتدا بها ،ال ينازعه كثري من ال�شعراء قول ال�شعر.
lالن�ص جمموعة من البنيات الن�سقية ،ميكن تتبع م�سار بنى الت�ضاد
داخل الن�ص ال�شعري لدى احلطيئة ،اعتمادا على التعامل الن�صي الذي
ي�ستنطق البنى ال�شعرية ،من �أجل الو�صول � إىل غاياته العلمية .خا�صة
و�أن الن�صو�ص اخل�صبة هي الن�صو�ص التي ت�ستوعب بنية الت�ضاد ،لأ نها
جتعل الن�ص متحركا بعيدا عن ال�سكونية.
ملا �سبقه من ن�صو�ص مماثلة .ولو حدث هذا – وكثريا وكان لكرثة اهتمام النقاد بك�شف القوانني الداخلية
ما يحدث -ف�إن الن�ص �سي�سقط وي�صبح ن�صا فا�شال للن�صو�ص دور كبري يف �إعطاء �صبغة جديدة للنقد؛
كتقليد مف�ضوح .وال بد هنا من ذكاء املر�سل الذي �إذ �أ�صبح «و�صفا للعبة الدالالت ،وبحثا عن قوانني
هو املبدع كي ينقذ الن�ص من ال�سقوط .وخري ال�سبل تبنني الن�ص»(.)4
يف ذلك هو اال�ستعانة بال�شفرة .وال�شفرة هي اللغة ولقد تو�سعت فكرة االعتقاد ب�أن الن�ص عامل ذري
اخلا�صة بال�سياق»(.)10 مغلق .بل لقد �أ�صبح ف�ضاء مفتوحا من العوامل الداللية
ومن خالل هذه ا إلطاللة ال�رسيعة ،ميكن القول: التي جتعل من ا إلنتاج ا ألدبي م�رشوعا كتابيا قابال
�إن الن�ص ال�شعري يخ�ضع يف م�ساره �إىل جمموعة مل�ستويات عدة من القراءات والت�أويالت .ذلك �أن الن�ص
من امل�ستويات ،تنبع �أ�سا�سا من جملة العالقات. «لي�س تلك اللغة التوا�صلية التي يقننها النحو ،فهو ال
فتتحرك ال�صورة ال�شعرية وفقها ،متلم�سة �أحيانا يكتفي بت�صوير الواقع �أو الداللة عليه .فحيثما يكون
درجة معينة من الكثافة والتوترات .وكرة الن�ص داال ...ف�إنه ي�شارك يف حتريك وحتويل الواقع
�أخرى تتحرك حول االن�سجام والت�ضاد ،وتارة الذي مي�سك به يف حلظة انغالقه»(.)5
نحو الت�شاكل والتباين .ولعل البحث يف كل فاالنطالق يكون من الواقع والعودة قد ال ت�ؤول
امل�ستويات ي�صبح �رضبا من الوهم ،نظرا لكرثة �إليه ومن هنا نقتنع بفكرة «حتول الن�ص �إىل جمال
هذه امل�ستويات وت�شعبها .و�إمنا ميكن اال�سرت�شاد يُلعب فيه وميار�س ويُتمثل التحويل ا إلب�ستمولوجي
ببع�ضها لتكون عينة على مدى التفاعل املوجود واالجتماعي وال�سيا�سي .فالن�ص ا ألدبي خطاب
بني خمتلف امل�ستويات التي ين�شئها الن�ص يخرتق حاليا وجه العلم وا إليديولوجيا وال�سيا�سة،
ال�شعري ،والذي ينبني �أ�سا�سا على العملية
ويتنطع ملواجهتها وفتحها و�إعادة �صهرها.)6(».
التخييلية .وا�ستكماال لذلك ،نحاول ا�ستنباط
وعليه ي�صبح ا ألمر كما يقره توجه روالن بارث من
مظاهر الكثافة احلا�صلة يف الن�ص ال�شعري لدى
احلطيئة يف تفاعله مع دالالت ال�صورة الفنية. �أن الكتابة عن الن�ص ما هي �إال احتفال معريف ،و�أن
اخلطاب حول الن�ص ال ميكن �إال �أن يكون ن�صا هو
�أ -الكثافة: ذاته ،فقد بد� أ اجلميع ينظرون �إىل الن�ص غري منجز ما
يت�شكل الن�ص ال�شعري من جملة من امل�ستويات التي دامت قراءته متوا�صلة ،بل �إنه يف دالالته يت�ضاعف
حتدد خ�صائ�صه النوعية .فيعمل اجلانب ا إليقاعي مثل املتوالية الريا�ضية ،تبعا لتعدد القراءات.)7(.
على بلوة الت�شكيل ال�صوتي والنغمي له .ويعمل على هذا االعتبار ،ميكن التفريق بني م�صطلح ن�ص
اجلانب النحوي على تنظيم كيفية ا�ستغالل الطاقات وم�صطلح خطاب وذلك �أن اخلطاب هو«فعل ا إلنتاج
الرتكيبية من خالل معاين النحو .وعليه ي�صبح كتلة اللفظي ونتيجته امللمو�سة وامل�سموعة واملرئية،
معقدة ت�سري حركيته اعتمادا على قدرة التعبري، بينما الن�ص هو جمموع البنيات الن�سقية التي
و�سل�سلة االختيارات التي تتحكم فيها ال�شخ�صية تت�ضمن اخلطاب وت�ستوعبه»(.)8
املبدعة ال�شاعرة .وت�أتي درجة الكثافة باملقدار الذي �إذ تتحول الر�سالة –يف منظور جاكب�سون (-)Jakobson
يجعلها تتوخى الفعل ا إلبداعي امل�ساهم يف حتديد �إىل ن�ص �أدبي يف حالة القول ا ألدبي .و«تنحرف
منط ال�صورة «وهي ذات خا�صية توزيعية بارزة، الر�سالة عن خطها امل�ستطيل ،وتعك�س توجه حركتها،
وهذا يجعلها قابلة للقيا�س الكمي والنوعي ،وتت�صل وتثنيها �إليها� ،إىل داخلها ،بحيث ال ي�صبح املر�سل
�أ�سا�سا يف تقديرنا مبعيار الوحدة والتعدد يف ال�صوت باعثا واملر�سل �إليه متلقيا .و�إمنا يتحول االثنان
وال�صــورة ،وهذا �إىل فار�سني متناف�سني على م�ضمار واحد ي�ضمهما
يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ون�سبة املجاز وعمليات ويحتويهما هو القول �أي الن�ص.)9(».
احلذف يف الن�ص ال�شعري»(.)11 وتتمو�ضع الر�سالة على �سياق يفر�ض عليها توجها
�إن ال�صياغة اللغوية التي ميلكها ال�شاعر ،والتي معينا فتكون خا�ضعة له «فال�سياق كتقليد �أدبي
بها ينتج ن�صه ال�شعري وفقا ل�سياق ال�شعور را�سخ قد يتغلب على الن�ص ويجعله جمرد حماكاة
112 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s واحلُرْفَة َ القُدْمى و�أن ع�شـرينا وا إلح�سا�س ،يجعل «اللغة ال�شعرية تبدو ك�أنها
زرعوا احلُروث و�أننا ال نـــزر ُع تك�شف عن بنيتها ا أل�صيلة التي ال تتمثل يف �شكل
فبعث َت لل�شعراء مبعث داحـ�س� أ خا�ص حمدد ب�صفات معينة ،و�إمنا يف حالة ،يف
و كالب�سو�س ِعقَالَهَا تتـــــكو َّ ُع درجة من احل�ضور والكثافة التي ميكن �أن ت�صل
يـخف
ْ ومنعتني �شتم البخيل فلم �إليها �أية متتالية لغوية ،بحيث تخلق حولها
�شتمي ف�أ�صبح �آمنا ال يـــــفز ُع هام�شا من ال�صمت يعزلها عن الكالم العادي
و�أخذ َت �أطرار الكالم فلم تـد ْع املحيط بها»( .)12و�صفات ال�صورة تت�شبع بنمط
�شتما ي�رض ُّ وال مديـــحا ينفــ ُع احلياة االجتماعية ومظاهر ا أل�شياء واملوجودات
وبُعث ْ َت للدنيا تجُ م ِّ ُع مــــالها البيئية« .وينبغي �أن ن�شري �إىل �أن ال�صورة
وتَ�صـــــُر ُّ جزيتها ود�أْبا جتم ُع ال�شعرية باعتبارها وثيقة ال�صلة بنف�سية ال�شاعر
ف�إنها حتما �سوف تنطبع بطابع هذه النف�سية،
ومنع َت نف�سك ف�ضلها ومنَـحتها
ونف�سية املجتمع الذي ينتمي �إليه ال�شاعر ،لهذا
�أهل الفِــعال ف�أن َت خري ٌ مـــول ُع غلبت النزعة الو�صفية املادية على معظم ال�شعر
حتى يجئ �إليك ِعل ْ ٌج نـــاز ٌح اجلاهلي؛ ألن نف�سية اجلاهلي نف�سية بدائية
في�صي َب َعفْوَتَها وعــــبد ٌ �أوكـ ُع مادية تدرك معاين ا أل�شياء يف �إطارها احل�سي �أو
ال�ضعْفي ومـ ْن ال خيرْ ُهُ والعَيْلةُ َّ يف �أ�شكالها الظاهرة»(.)13
()15
خيـــْر ٌ ومثلُهُم ُغـــثاء ٌ � أ ْجـم ُع وميكن لل�سياق �أن يكون ذا ح�ضور قوي يف توظيف
تنبني اللغة ال�شعرية لهذا الن�ص على درجة من التجربة ال�شعرية و«تظل العالقة بني ال�صورة وال�سياق
الكثافة التي حتقق له خ�صوبة فنية .ويتمثل ا ألمر الكلي للتجربة ال�شعرية املحرك ا أل�سا�سي الذي ينبغي
يف ظاهرتني فنيتني ا ألوىل احلذف ،والثانية ا ألبعاد �أن تنبع منه الدرا�سة .وتبلغ هذه العالقة حدا من
املجازية املبثوثة يف بع�ض الرتاكيب ال�شعرية. الكثافة والتوتر يف �صورة �شعرية ما يحيل فاعلية
�إن احلذف هو خا�صية لغوية عربية تبناه الكالم ال�صورة �إىل عملية من الفي�ض وا إل�ضاءة والك�شف ال
العربي ،بل �إنه حتول �إىل مزية كالمية .فاحلاذق حدود لها»(.)14
من يح�سن الكالم ب�أقل جهد ،و�أقل عدد من ا أل�صوات وتتبعا ملظاهر درجة الكثافة ،ن�سعى �إىل مدار�سة
التي تن�شيء الرتاكيب .لهذا كانت البالغة العربية ق�صيدة قالها احلطيئة يف عمر بن اخلطاب -ر�ضي
قدميا ت�ساوي ا إليجاز .ومن هذا املنطلق جاء الن�ص اهلل عنه -وهو يف �شدة من ال�ضيق عندما منع من
الذي بني �أيدينا ليحقق بع�ضا من مظاهر احلذف قول هجائه يف النا�س ،وعليه �أ�صبحوا ال يخ�شون
الذي يجعل الرتكيب يرتقي �إىل درجة الكثافة ،من ل�سانه ،ف�أفل جنمه ،و�صعُبت عليه احلياة يف ظل ا ألم
ذلك قوله( :يا �أيها امللك الذي �أم�ست له ب�رصى والبنني ،وق�سوة ابناء العمومة ،وظلم ذوي القربى.
وغزة �سهلها وا ألجرع) ،ومعناه �أن مدينة ب�رصى يقول:
وغزة وقعتا حتت حكم عمر -ر�ضي اهلل عنه- يا �أيها امللك الذي �أم�ســ ْت له
بفعل الفتوحات ،فدانتا له .وا ألمر هنا فيه كناية بُ�صـــرى وغزَّة �سهلها وا ألجر ُع
عن عظمة الفتح و�ش�ساعته .فاختزل الرتكيب كله ومليكها وق�سيمها عن �أمــره
يف كلمة (�أم�ست) .وجتنبا ل إلطالة �أي�ضا ،يوظف يُعـــطي ب�أمر َك ما ت�شاء ُ ومينـ ُع
يف البيت الثالث لفظة(ف�أ�شكني) وهي م�شكلة من �أ�شـكو �أليك ف�أ�شــكني ذريَّة
فعل وفاعل ومفعول به .واملق�صود بها (�أعني على ال ي�شبـــعون و�أمهم ال ت�شــب ُع
�شكواي) .وكذلك ا ألمر يف البيت الرابع ،يف قوله: كَثرُ ُوا عل َّي فما ميوت كبريهم
ر�ض ُع) وتقدير الكالم :وال ال�صغري ( وال ال�صغري امل ُ َ ـر�ض ُع
احل�ساب وال ال�صغري ُ امل ُ َ ِ حتى
املر�ضع �أي�ضا ميوت. وجفاء موالي ال�ضنني مبالـه
وتتبدى درجة الكثافة ،من جهة �أخرى ،عن طريق نف�س َهمُّها ب َي ُمــــوزَ ُع
وولُو َع ٍ
113 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ت�ساعد على فهم اخلطابات املختلفة ،منها: لعبة املجاز ال�شعري الذي يرتفع باملعاين والدالالت
-الت�سا�ؤل عمن فعل؟ وماذا فعل؟ و�أين؟ ومتى؟ �إىل م�ستوى فني رفيع .من ذلك قوله( :فبعث َت لل�شعراء
وكيف؟ وملاذا؟ مبعث داح�س �أو كالب�سو�س عقالها تتكو َّ ُع) ،فقد �شبه
-االرتباط املعجمي. ما فعله عمر بن اخلطاب-ر�ضي اهلل عنه -بال�شعراء
-االرتباط الرتكيبي احلا�صل بال�ضمائر و�أداة بحرب داح�س والغرباء� ،أو بحرب الب�سو�س ،اللتني
التعريف وا�سم العلم و�أ�سماء ا إل�شارة و�أدوات جرَّتا القبائل العربية �إىل حروب طاحنة �أتت على
العطف(.)18 ا ألخ�رض والياب�س .ويزيد هذا الت�شبيه من تعميق
وقد تعر�ض الل�سانيون بالدر�س �إىل ق�ضية االن�سجام الداللة .فال�شاعر احلطيئة يريد من خالل هذه ال�صورة
داخل الن�ص ،وارتبط هذا ا ألمر مبا يعرف ا آلن (حتليل �أن ير�سم معامل ا ألثر النف�سي الذي تركه �سلوك عمر.
اخلطاب) .فقد اعترب �إيزنربغ Isenbergاالن�سجام قيدا
ولقد جعل احلطيئة من ل�سانه �أداة ك�سب القوت .وعلى
من قيود حد الن�ص؛ �إذ هو متتالية من�سجمة من
اجلمل ...و�أ�شار ليون�س �إىل نف�س الظاهرة ولكن ب�أقل هذا ا ألمر كان النا�س يتحا�شونه ،بل ويغدقون عليه.
�رصامة مرجعا االن�سجام �إىل ما يف الن�ص من ال�صنعة ويحدث التكثيف �أي�ضا يف قوله ( و�أخذ َت �أطرار الكالم
باعتبار �أن الن�صو�ص يف الغالب ن�صو�ص �أدبية .
()19 فلم تدع �شتما ي�رض وال مديحا ينفع) ،وا ألطرار هي
و�إذا كان الن�ص ينبني على جملة من العالقات النواحي .فقد ارتفع التعبري ال�شعري من املعنوي �إىل
املت�شابكة فيما بينها وفق نظام �سياقي معني؛ احل�سي .وهي �صفة يف التعبري ال�شعري العربي القدمي.
ف�إن ان�سجام الن�ص مرهون با ألطر املعرفية التي فج�سد الكالم يف �صورة مادية على �سبيل اال�ستعارة
تَ�شكَّل �ضمنها .فما يبدو من�سجما للبع�ض ،قد املكنية .وك�أن الكالم عبارة عن ثوب له نواحيه
يبدو غري من�سجم للبع�ض ا آلخر .فاالن�ســجام وحوا�شيه ،ف�أم�سك بها عمر ثم طواها .وميكن �أن
رهني جملة املعارف احلا�صلة يف ذهن من�شئه يت�ضمن ال�شطر الثاين كناية عن �سوء احلال املعي�شية.
ومتلقيه خا�صة يف الن�صو�ص ا إلبداعية .و�إن فال�شاعر ،كما قلنا� ،إما مادح و�إما ذام .ويف الو�ضعني
ال�صعوبات التي ح�صلت يف البحث عن �إقامة ي�أخذ ماال .ويقول يف مو�ضع �آخر( :والعيلة ال�ضعفي
ان�سجام بني مكونات الن�ص� ،أفرزت جملة من ومن ال خريه ومثلهم غثاء �أجمع)� ،إذ ي�شبه �سوء حال
ا ألمور منها: الفقراء يف احلياء بحال غثاء ال�سيل وهو عبارة عن
-اقرتاح اعتبار القارئ مبثابة املعيد إلنتاج الن�ص. الزبد وما خالطه من ورق ال�شجر البايل.
-القول مبوت الكاتب من�شيء الن�ص كما ذهب ب -االن�سجام:
�إىل ذلك بارث Barthesيف كالم ال يخلو من املجاز
�إن «الن�ص ا ألدبي هو توليد – حتويل لقالب لغوي والت�صوير .ومثل هذا الطرح للم�س�ألة يجعل االن�سجام
يف زمان وف�ضاء مهما كان م�ستواهما بكيفيتني �أمرا قائما بني القارئ والن�ص �أكرث من قيامه بني
�أ�سا�سيتني هما جوهر �أي ن�ص و�رس حياته وتعيينه ،ا ألجزاء املكونة للن�ص(.)20
�سواء �أكان ذلك التوليد والتحويل لقوالب خارجية و�سعيا نحو تتبع معامل االن�سجام يف الن�ص ال�شعري
�أم داخلية»( .)16لقد طرح حممد مفتاح جملة من لدى احلطيئة ،نحاول االعتماد على بع�ض املقاطع
املعطيات اخلا�صة بالن�ص ،والتي من خاللها يحقق ال�شعرية التي وجدنا فيها حتقيقا لظاهرة االن�سجام،
الن�ص ان�سجامه «ف�إذا كان الزمان والف�ضاء من بني من خالل امتالكنا خللفية التجربة ال�شعرية لديه،
ثوابت الن�ص ف�إنهما بال�رضورة� -ضامنان الن�سجامه والتي �ساهمت كما يف �إجناز الرتكيب ال�شعري
املعنوي على اخل�صو�ص �إذ لي�س هناك ن�ص بدون الذي يحمل داخله ال�صورة املتناغمة مع واقعها،
ر�سالة موجهة �إىل متلق حقيقي �أو مفرت�ض ،حتتوي وامل�ستمدة ألجزائها ومكوناتها من �صميم احلياة
على معلومات مرتاكمة تي�رس فهمها وت�أويلها»( .)17االجتماعية العربية القدمية .يقول:
وكانت الل�سانيات احلديثة �صاحبة الف�ضل يف التحدث لنعم احل ُّي ح ُّي بني ُك ٍ
لـيب
عن ان�سجام الن�ص ،وقد اقرتحت بع�ض ا آلليات التي �إذا ما �أوقــــدوا فوق اليفا ِع
114 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
فال خري يُرجى منه .ويعترب البيت الذي ا�ستوعب ونعم احل ُّي ح ُّي بني ُكليـ ٍب
هذه ال�صورة نواة الن�ص ككل .فقد ت�شكلت ال�صورة �إذا اختــلط الدواعي بالدواعي
ال�شعرية املبنية على الت�شبيه ال�ضمني .وهو الذي �أمل ْ تر َ � أ َّن جـار بني زُهريٍ
انت�رشت داللته يف معاين ا ألبيات ا ألخرى .ألن ا ألمر ق�صري الباع لي�س بذي امــتناع
كله �سار على مدار �إبراز املمدوح ،ورفعه �إىل املكانة ولي�س اجلار جارُ بني كلي ٍب
العليا الالئقة به .ومن ثم كانت املفا�ضلة هي الوعاء مبُقْ�ص ًى يف املَحلِّ وال ُمــ�ضا ِع
ميكن القول� :إن الذي ا�ستوعب هذه الفكرة. همُ �صنعوا جلارهمُ ولي�س ْت
الن�ص ال�شعري ومن هنا ميكن القول� :إن الن�ص ال�شعري انبنى على ال�صـنَاع
يد ُ اخلــرقاء مثل يد َّ
انبنى على جزئيات �شعرية م�ستوحاة من الواقع احلياتي ويحر ُ ُم �رس ُّ جارتهم عليهم ْ
جزئيات �شعرية لدى ال�شاعر ،وقد ا�ستطاع توظيفها باملقدار ف القِـــ�صا ِع وي�أكل جارهم ْ �أُن ُ َ
م�ستوحاة من الذي يحقق للن�ص ال�شعري �شاعريته ،و�إيحاءه. وجار ُهمُ �إذا ما حلَّ فيـهم
الواقع احلياتي فال�شاعر من�سجم مع هذا الواقع ،وان�سجامه هذا على �أكناف رابـــــي ٍة يفا ٍع
لدى ال�شاعر، �شكَّل للن�ص ان�سجاما جمليا� ،سار باجتاه بناء لعمرُك ما قُرادُ بني ريا ٍح
وقد ا�ستطاع ال�صورة الفنية التي حملت معنى الكرم.
()21
�إذا نُزع القُــــرادُ مب�ستطاع
توظيفها باملقدار وت�أكيدا الن�سجام اجلمل ،ميكن تو�ضيح ا ألمر �أكرث. �إن القدرة اللغوية تعد �أ�سا�سا لقوة ا إلبداع .واحلطئية
الذي يحقق للن�ص فا�ستعمال الق�سم ،جر الرتكيب �إىل اال�ستعانة بالنفي �صاحب تفوق لغوي معرتف به من قبل النقاد القدامى
ال�شعري �شاعريته، الذي يكون م�ضادا للت�أكيد وقد مت بـ(لي�س) .وقد واملحدثني .وذلك بحكم انتمائه ملدر�سة عبيد ال�شعر،
جاءت يف معر�ض حديثه عن عدم �إق�صاء اجلار الذي ومالزمته ال�شديدة ل�شعر زهري .لذلك كان �شديد الثقة
و�إيحاءه .فال�شاعر
يالزم هذا املمدوح وهم(بنو كليب) .كما �أن االعتماد بنف�سه ،معتدا بها ،ال ينازعه كثري من ال�شعراء قول
من�سجم مع هذا على �ضمري اجلمع (هم) �ساهم يف تعميم �صفة الكرم ال�شعر .والن�ص الذي �أمامنا يحتكم �إىل لغة �شعرية
الواقع ،وان�سجامه على احلي كله .فال�شيمة جماعية ،وهذا يحمل داللة حمكمة ،ومتما�سكة .ويبدو ان�سجام اجلمل وا�ضح
هذا �ش َّكل للن�ص نقاء ا أل�صل والن�سب .وهي �صفة كان يحبها العربي. املعامل .حيث بني املعنى العام للن�ص على الق�سم الذي
ان�سجاما جمليا، فال وجود له خارج وجود احلي والقبيلة. �أُلف يف كالم العرب قدميا ،و�سياق توظيفه هو ت�أكيد
�سار باجتاه بناء لقد ت�شكلت ال�صورة الكلية للن�ص من خالل �رسد هذه املعنى ،وجعله غري قابل للنقا�ش .فكلمة(نِعْمَ) ت�أتي
ال�صورة الفنية التفا�صيل واجلزئيات .فكانت تلك ال�صورة م�ستوحاة يف �سياق التعبري عن مكانة املمدوح الذي يرتبع على
التي حملت معنى من �أ�شياء الواقع .ا�ستطاعت الر�ؤية ال�شعرية �أن تقيم جمد الكرم .ثم ي�سري الن�ص ال�شعري متلم�سا ان�سجامه
الكرم بينها جملة من العالقات من مثل اليفاع والكرمي، معتمدا اجلملة ال�رشطية بـ(�إذا) التي ت�ؤ�س�س �رشط الكرم
وال�صناع ،والبخل واخلرقاء...
َّ والكرم الذي هو �رشط الرقي والتفوق ا ألخالقي عند ا إلن�سان
العربي قدميا .ولعل معنى الكرم ،جاء من�سجما مع
ج -الت�ضاد:
�إيقاد النار فوق اليفاع ،واليفاع هو املكان العايل.
لقد طرحت الدرا�سات الل�سانية احلديثة فكرة ثم ي�سري الن�ص نحو ان�سجام �آخر ،يح�صل يف �سياق
الثنائيات ،انطالقا من البحوث الل�سانية التي ال�صناع).
املفا�ضلة التي تتم بني (يد اخلرقاء) و(يد َّ
جاء بها دو �سو�سري من مثل :اللغة/الكالم ،الدال/ واملفا�ضلة عادة عربية ،كانت ت�ستعمل إلبراز �شيء
املدلول ...،وبناء على ذلك ،ميكن طرح بع�ض ا أل�سئلة على ح�ساب �شيء �آخر .فكان �إبراز الكرم هنا قائما
منها« :متى ي�صح �أن يقال� :إن بني اللفظتني تقابال؟ على مثل هذه املفا�ضلة التي متت بني اليد اخلرقاء،
واجلواب :يكون بينهما تقابل حينما يرجعان �إىل نف�س ال�صناع وهي وهي املر�أة التي ال حت�سن العمل .ويد َّ
الطبقة في�شرتكان يف بع�ض املقومات ويختلفان املر�أة احلاذقة واملاهرة يف العمل .ويقابلها يف ذلك
يف بع�ضها[ ،مثل حار/بارد .و�صاعد/نازل»(.)22 الرجل الكرمي الذي يقدر معنى الكرم ،فيح�سن متثيله،
ومعروف �أن غرميا�س ( ) Greimasطور نظرية التقابالت والرجل البخيل الذي ال يقدّر هذا ال�صنيع ،وبالتايل
115 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
عالم كلفتني جمد َ ابن عمكــم الثنائية وجعلها يف مربعه ال�سيميائي املعروف.
والعي�س تخرج من �أعالم �أوطا�س وهذه التقابالت هي:
ما كان ذنب بغي�ض ال �أبا لكـم -تقابالت حمورية ال تقبل و�سطا :زوج/زوجة.
يف بائ�س جاء يحدو �آخر النـا�س -تقابالت مراتبية :كبري/و�سط�/صغري.
لقد مريتكم لو �أن درتكـــم -تقابالت متناق�ضة :متزوج�/أعزب.
يوما يجيئ بها م�سحي و�إب�سا�سـي -تقابالت مت�ضادة� :صعد/نزل.
وقد مدحتكم عمدا ألر�شــدكم -تقابالت تبادلية :ا�شرتى/باع .
()23
كيما يكون لكم متحي و�إمرا�ســي �إن التقابالت الثنائية التي جاء بها الطرح الل�ساين،
وقد نظرتكم �إع�شاء �صــادرة تنتمي عالئقيا �إىل بنية ما ،تت�شكل من جمموعة من
للخم�س طال بها حب�سي وتن�سا�سي امل�ستويات؛ امل�ستوى النحوي وال�رصيف والرتكيبي يف منحى ا إل�شادة
فما ملكت ب�أن كانت نفو�سـكم وا إليقاعي والداليل وغريه ...وم�صطلح بنية()Structure واملدح ،ف�إن،
كفارك كرهت ثوبي و�إلبا�ســـي يتباين مفهومه وفقا لتباين الطروحات النقدية املختلفة الرتكيب ال�شعري
ملا بدا يل منكم غيب �أنف�سكـم من مدر�سة �إىل �أخرى .فقد حدد جون بياجي()Jean Piajet
ومل يكن جلراحي منكم �آ�ســـي املكونات الثالثة التي تت�أ�س�س عليها البنية؛ باعتبارها
يجنح نحو �إعطاء
�أزمع ُت ي�أ�سا مبينا من نـوالكم نظاما من التحوالت ،يحوي قوانني خا�صة ،حتفظ له بنية م�ضادة من
ولن ترى طاردا للحر كاليـــا�س �شخ�صيته ،وتتخ�صب عن طريق التحوالت ،من دون ال�صور ،والرتاكيب
�أنا ابن بجدتها علما وجتـربة �أي تدخل لعنا�رص خارجية عنه .والبنية تتحكم فيها ت�ست�شعر عظمة
ف�سلْ ب�سعد جتدين �أعلم النــا�س مميزات ثالثة هي :ال�شمولية ( ،)Totalitéوالتحوالت (Transf مم املمدوح ،وترتقي
ما كان ذنب بغي�ض �أن ر�أي رجال ،)formationsوالتحكم الذاتي (. )L’autoréglage
()24
به �إىل م�صاف
ذا فاقة عا�ش يف م�ستوعر �شـا�س فال�شمولية تفيد �أن البنية نظام من العنا�رص الرفعة والعلو.
جار لقوم �أطالوا هون منــزله حتكمها قوانني معقدة ،ينجر عنها الكل الذي
وغادروه مقيما بني �أرمــــا�س يتميز بتلك العنا�رص( .)25والتحوالت تُفهمُ من خالل
دع املكارم ال ترحل لبــغيتها معرفة العنا�رص املكونة للبنية التي بدورها تكون
واقعد ف�إنك �أنت الطاعم الكــا�سي خا�ضعة �إىل مثل هذه التحوالت والقوانني التي
وابعث ي�سارا �إىل وُفْر مذمـمة تنظمها(� ..)26أما التحكّم الذاتي ،فمعناه �أن التحوالت
واحدج غليها بذي َعركـني قنعا�س املالزمة للبنية ،ال تتحرّك خارج حدودها ،و�أن
�سريي �أُما َم ف�إن ا ألكرثين ح�صى عنا�رصها تنت�سب دائما �إىل هذه البنية املحافظة
وا ألكرمني �أبا من �آل �شـــما�س على قوانينها( . .)27وهذا التحكم الذاتي يت�شكل
من يفعل اخلري ال يعدم جوازيه من ا ألن�ساق وال�سياقات املختلفة ،مما يدخل يف
ال يذهب العرف بني اهلل والـنا�س ()28
االعتبار نظاما معقّدا ومتناميا.
ما كان ذنبي �أن فلّت مـعاولكم وباعتبار الن�ص جمموعة من البنيات الن�سقية ،ميكن
من �آل ألي �صفاة �أ�صلــها را�س تتبع م�سار بنى الت�ضاد داخل الن�ص ال�شعري لدى
قد نا�ضلوك ف�سلوا من كنـانتهم احلطيئة ،اعتمادا على التعامل الن�صي الذي ي�ستنطق
()29
جمدا تليدا ونبال غري �أنكــا�س البنى ال�شعرية ،من �أجل الو�صول �إىل غاياته العلمية.
�إن البالغة العربية ن ّظرت قدميا ألمناط تعبريية كانت خا�صة و�أن الن�صو�ص اخل�صبة هي الن�صو�ص التي
ت�ستهوي ال�شعراء و�أ�صحاب ا إلبداع .من مثل الطباق ت�ستوعب بنية الت�ضاد ،ألنها جتعل الن�ص متحركا
واملقابلة .وقد �أ�سهبوا يف ا إل�شادة بهذين املح�سنني بعيدا عن ال�سكونية .يقول احلطيئة:
البديعيني .ولعلنا ال جنانب ال�صواب بالقول� :إن واهلل ما مع�رش الموا امر� أ ُجنُـًبا
التقارب كبري جدا .ولكن ال�رضورة املنهجية والتعبري يف �آل ألي بن � َشمَّا�س ب�أكــيا�س
116 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
للخم�س طال بها حب�سي وتَن�سا�سي) وكذلك ال�شاعر بامل�صطلح النقدي املعا�رص يحتم اعتماد الت�سمية
ظمئ ،وانتظر طويال حتى يُلتفت �إليه .ولكن �شيئا وااللتفاف حولها حتريا للدقة ،وحتقيقا للمو�ضوعية
مل يح�صل .وت�صل حدة الذم عندما ي�شبههم باملر�أة العلمية .والن�ص الذي �أمامنا ،ي�شتغل يف هذا املنحى؛
املبغ�ضة لزوجها(الفارك) .ويتحول الي�أ�س �إىل نواة �إذ تت�شكل حركيته الداللية وفق بنى الت�ضاد التي
تفرز �إيحاءها تراكيب الذم (�أزمع ُت ي�أ�سا مبينا من تن�رش ظاللها على خمتلف تراكيب الن�ص .والق�صيدة
نوالكم ولن ترى طاردا للحر كاليا�س). هذه ،وفق ما ي�شري الديوان ،كتبت يف �سياق املدح
�أما يف منحى ا إل�شادة واملدح ،ف�إن ،الرتكيب والذم؛ فهي مدح لبغي�ض وذم للزبرقان الذي ا�شتكاه
ال�شعري يجنح نحو �إعطاء بنية م�ضادة من لعمر بن اخلطاب – ر�ضي اهلل عنه -ولقد عاي�شت
ال�صور ،والرتاكيب ت�ست�شعر عظمة املمدوح، حـــياة احلطيئة كثريا من ق�سوة احلياة وغلظتها،
وترتقي به �إىل م�صاف الرفعة والعلو .ويتحرك فكان يتنقل باحثا عن م�سببات العي�ش؛ ف�أنّى وجدها
الن�ص ال�شعري من الي�أ�س ،واجلمود ،وال�ضياع، �أخذ بها .وقد وجد �ضالته مع بغي�ض .ففرح باملقام،
وا إلقامة بني ا ألرما�س(مقيما بني �أرما�س)� .إىل وا�ستهواه العي�ش الرغيد .بينما مل يجد ذلك مع
ال�سري احلثيث وقطع الفيايف وال�صحاري ،وتكبد الزبرقان و�أهله املعروف بالكرم وال�سخاء واجلود.
امل�شقة من �أجل الو�صول �إىل املمدوح �صاحب فتحركت م�شاعر ال�شاعر يف منحيني :منحى ا إل�شادة
الف�ضل والكرم (�سريي �أُما َم ف�إن ا ألكرثين ح�صى ببغي�ض ،ومنحى التعري�ض بالزبرقان .وجاء الن�ص
وا ألكرمني �أبا من �آل �شما�س) .وتتجلى قوة هذا
حافال ببنى الت�ضاد .وينطلق من بنية الق�سم(واهلل)،
املمدوح وعدم قدرة ا آلخرين على جماراته،
التي ت�ست�شعر عظمة املقام يف ديار (ابن �شمَّا�س).
يف قول ال�شاعر(من �آل ألي �صفاة �أ�صلها را�س).
وال�صفاة هي ال�صخرة املل�ساء التي تهزم املعاول وبنية التحقيق (لقد) املعتمدة على الالم املوطئة
والف�ؤو�س .وا ألمر كناية عن قوة ا أل�صل .وي�ستمر للق�سم ،وحرف التحقيق قد ،واملعرب عنها يف �سياق
الت�أ�سي�س على ذلك املنوال ،وي�ؤثث �صورة ا أل�صل التعري�ض بالزبرقان .وبني �سياق املدح والذم.
والن�سب بقوله(:قد نا�ضلوك ف�سلوا من كنانتهم تتحرك دالالت الن�ص .ففي معر�ض حديثه عن
جمدا تليدا ونبال غري �أنكا�س) .واملنا�ضلة هي املذموم ،تت�شكل جمموعة من اجلزئيات التي ت�ؤ�س�س
املفاخرة؛ وك�أن ا ألمر يتحول �إىل الرماة الذين للن�ص بنية الي�أ�س ،وهي( :لقد مريتكم لو �أن درتكم
ي�سلون النبال من كنانتهم ثم يرمون. يوما يجئ بها م�سحي و�إب�سا�سي) .وقد اعتمد التعبري
ولكن هناك النبل القوي الذي يتحمل الت�سديد وهناك ال�شعري ت�أ�سي�س ال�صورة الفنية التي ت�شخ�ص فكرة
النبل ال�ضعيف �أو(املنكو�س) .ويف ا ألخري تت�شكل، الي�أ�س؛ فقد متثل ال�شاعر نف�سه مي� ّسح �رضع الناقة،
داخل الن�ص ال�شعري ،التعار�ضات التي ت�صنع بنى وي�صدر �صوتا ت�ستعذبه النوق �أثناء احللب وهو(ب�س
مت�ضادة من مثل: ب�س) .ومع ذلك ال تدر الناقة احلليب .وكذلك ا ألمر
ال�شح الكرم بالن�سبة للزبرقان و�أهله .وي�ستمد �صورة فنية �أخرى
الي�أ�س ا ألمل للتعبري عن ذلك الي�أ�س باعتماده �أ�شياء م�ستوحاة من
الفقر الغنى البيئة التي ي�سكنها ،وذلك يف قوله(وقد مدحتكم عمدا
الهوان العزة ألر�شدكم كيما يكون لكم متحي و�إمرا�سي) ويق�صد به،
الكره احلب �أنه مدحهم مدحا خال�صا دون غريهم ولكنهم �أف�سدوه،
ا�ستمرار الن�سب زوال الن�سب فجعل ا إلمرا�س �أ�سا�سا يف ذلك ،وهو �أن يقع احلبل بني
وميكن التعليق ب�شيء من ا إليجاز حول هذه الثنائيات؛ البكرة وبني القعو فتخل�صه وترده للبكرة ،وبالتايل
كرم �آل بغي�ض يقابله �شح الزبرقان .وي�أ�س ال�شاعر من ي�صبح قادرا على �أداء وظيفته .وي�ؤ�س�س بنية �أخرى
احلياة يف حي الزبرقان يقابله ا ألمل الكبري والتطلع ت�ستمد داللتها من فكرة ال�صدور ،وهي التجاء العرب
�إىل عي�ش رغيد يف كنف بغي�ض .والفقر املدقع الذي قدميا �إىل �إي�صال النوق �إىل مرحلة كبرية من العط�ش
نال من ال�شاعر يقابله الفرح بالغنى واجلود من ثم ي�صدرون ،فرتتوي(وقد نظرتكم �إع�شاء �صادرة
117 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
متداخلة ومتقابلة»( .)34فهناك اختالفات يف ا ألمر. لدن بغي�ض .والهوان الذي القاه يف �ساحة الزبرقان
على �أن البحوث والدرا�سات تكاد جتمع على �أن تقابله العزةوالكرامة عند بغي�ض .والكره الذي �أ�صبح
امل�صطلح ينحدر من كلمتني يونانيتني هما)Iso( : يُكنّه آلل الزبرقان ،يقابله احلب الكبري الذي �أ�صبح
التي تعني الت�ساوي ،و( )Toposالتي تعني املكان، يكنه آلل بغي�ض .وزوال ن�سب �آل الزبرقان واندثاره
في�صبح امل�صطلح داال على ت�ساوي املكان �أو املكان (وقد �أ�شار �إليه با ألرما�س) يقابله امتداد الن�سب وقوة
املت�ساوي(.)35 عراقته و�صالبته لدى �آل بغي�ض(وقد �أ�شار �إليه بـ:
وجتدر ا إل�شارة �إىل �أن مفهوم الت�شاكل ارتبط �أ�صلها را�س).
مبفهوم التباين الذي يخالفه .وقد تناول حممد د -الت�شاكل:
مفتاح ب�شيء من التف�صيل درا�سة ظاهرة الت�شاكل
والتباين يف كتابه :حتليل اخلطاب .و�سنحاول يعترب الت�شاكل ( )Isotopieمن امل�صطلحات التي
اال�ستفادة من املنحى التطبيقي الذي ج�سده يف �أ�صبحت تغري كثريا من الدار�سني ،فراحوا ين ّظرون
خي ا�ستنباط الن�صو�ص التي تلبي بحثه مع تو ّ له وي�سعون �إىل اال�شتغال التطبيقي عليه .وقد اكتنف
الظاهرة املراد در�سها والتطبيق عليها .علما امل�صطلح بع�ض الغمو�ض .كونه قد وفد من الغرب،
�أن هذا الباحث قد اعتمد يف درا�سته للت�شاكل ومل يكن ا�ستعماله ا ألول ا�ستعماال �أدبيا؛ و�إمنا كان
والتباين على اجلانب ال�صوتي ،واجلانب املعنوي، الف�ضل يف نقله من حقل الفيزياء والكيمياء �إىل حقل
واجلانب املعجمي ،واجلانب الرتكيبي .وعلى ا ألدب ،يعود �إىل غرميا�س (« )Greimasوك�أي مفهوم
اعتبار ال�صورة الفنية تتحرك معاملها داخل جديد ف�إن املهتمني تلقوه باملناق�شة والتمحي�ص،
تفا�صيل اجلملة ال�شعرية امل�شكّلة �أ�سا�سا من ولكنه مل يرف�ض مع ذلك و�إمنا �سلموا بوجاهته
املفردة اللغوية .ف�إن البحث يركز على الت�شاكل كمفهوم �إجرائي لتحليل اخلطاب على �ضوئه»(.)30
الزمني والت�شاكل املكاين ،على اعتبار �أن ال�صورة وقد ت�ضاربت ا آلراء حول اجلانب التطبيقي
الفنية تتحرك بني هاتني الثنائيتني .وقد اختريت للم�صطلح ،فنجد غرميا�س قد ق�رصه على امل�ضمون،
مقاطع �شعرية تخدم هذا التوجه التطبيقي. بينما عممه را�ستي Rastierف�شمل التعبري وامل�ضمون
معا ،فهناك الت�شاكل ال�صوتي ،والت�شاكل النربي،
– 1الت�شاكل الزمني: واملعنوي.)31(...
تتج�سد معامل هذه الظاهرة الفنية ،التي ت�شكل م�ستوى ويورد حممد مفتاح تعريف را�ستي الذي مفاده
من م�ستويات ال�صورة الفنية ،يف قول احلطئية: �أن الت�شاكل هو تكرار لوحدة لغوية مهما كانت(.)32
عرف ُت منازال من �آل هـند وظاهرة التكرار تعد خا�صية �شعرية منذ ظهر ال�شعر.
عف ْت بني امل�ؤبَّل وال� ّشو ّي وهذا ا ألمر �سارت على منواله جمموعة( )Mيف (كتاب
تقادم عهدها وجرى عليها بالغة ال�شعر)؛ �إذ اعتربت الت�شاكل تكرارا مقننا
()36
�سف ٌّي للرياح على �سـف ّي لوحدات الدال نف�سها ظاهرة �أو غري ظاهرة� ،صوتية
�إن التعبري هنا مت بالزمن ،ولذلك ا�ستوجب ا�ستح�ضار �أو كتابية� ،أو تكرار لنف�س الوحدات الرتكيبية(.)33
العنا�رص املكونة له .فقد ذكرت منازل �آل هند .وهذه وتعدد الت�سميات يف النظرية النقدية احلديثة
املنازل قد تال�شت عرب الزمن ،و�سفت عليها الريح �أ�صبح ظاهرة م�ألوفة ،انطالقا من تعدد الثقافات،
الرتاب ،فغدت �أطالال تقادم عهدها .والر�ؤية ال�شعرية وخ�صو�صية التكوين لدى كل ناقد .ويف خ�ضم
هنا انبنت ب�شكل كلي على البنية الزمنية التي كان االختالف واالتفاق ،يجمع الدار�سون على �أن الن�ص
لها دورها الكبري يف �إزالة هذه الديار .وتلم�سا ملعامل عبارة عن بنية من العنا�رص الداخلية حتكمها
الرتكيب ال�شعري الذي �ساهم يف ت�أ�سي�س �صورة العالقات وال�سياقات .وهذه العنا�رص الداخلية «لي�ست
�شعرية تعرب عن التال�شي ،يحدث الت�شاكل الزمني بني جامدة �أو قارة بل هي تتحرك وتتغري يف �إطار الن�ص
لفظة (عفت) و(تقادم) ،فكلتا اللفظني عبرّ ت عن زوال كهيكل وهي تتوزع �ضمن �أقطاب داللية()Isotopies
118 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
يف غارة �أغارها على بني عب�س موطن ال�شاعر ،ف�أنعم عهد .يقول ال�شاعر يف مقطع �آخر:
عليه .وينبني الن�ص ككل على �إبراز معاين ال�سماحة قد مي أل اجلفنة ال�شيزى فيرتعـها
واملروءة والندى .ويت�أ�س�س الت�شاكل يف البيت ا ألخري من ذات خيفني مع�شاء �إىل ال�سحر
بني (من قبل) و(با ألم�س) .واملعنى زمني ،يحيل �إىل من كل �شهباء قد �شابت م�شافرها
املا�ضي ،فحدث التكرار يف املعنى. ()37
تنحاز من ح�سها ا ألفعى �إىل الوزر
قيل البيتان يف مدح طريف بن دفاع احلنفي .و�سي�أتي ا�ستكناه الت�شاكل املكاين الذي يعد،
ويحدث الت�شاكل الزمني يف البيت ا ألول بني هنا ،عن�رصا مكمّال يف بناء ال�صورة الكلية للن�ص �إن الن�ص ال�شعري
لدى احلطيئة (مع�شاء) و(ال�سحر) ،فكالهما يعرب عن معنى ال�شعري.
حافل بعن�صر أ -2الت�شاكل املكاين:
زمن :مع�شاء م�أخوذة من الع�شاء ،ومعناه �ن
الناقة تتع�شى �إىل وقت ال�سحر .وال� َس َحــر هو �ن الزمن يحتاج دوما �ىل املكان ال�ستيعاب ما املكان؛ ألن ال�شاعر
إ إ
قرب نهاية الليل .فيحدث التكرار بني اللفظتني يحدث من حركة و�سكون ا أل�شياء واملوجودات .و�إن ملت�صق به،
الزمنيتني .وي�ساهم هذا امل�ستوى التعبريي يف
�إجناز �صورة م�شهدية ،تر�سم لنا معنى الكرم الن�ص ال�شعري لدى احلطيئة حافل بعن�رص املكان؛ ومالزم له .ف أ�ين
واجلود؛ فاملمدوح مي أُل ال�شيزى (وهي اجلفنة) ألن ال�شاعر ملت�صق به ،ومالزم له .ف�أين ما حترك ما حترك نقلت
بلحم ناقة ذات خيفني .وهي ناقة تدر احلليب نقلت الذاكرة خمتلف املوجودات وا أل�شياء املحيطة الذاكرة خمتلف
بغزارة .ويحقق الت�شاكل هنا معنى االن�سيابية .به .ومنه كانت ال�صورة نتاجا ملجموعة من العالقات املوجودات أ
وال�شياء
فالليل ين�ساب ،وال� َّس َحر كذلك .وي�سـري هذا ا ألمر التي �صنعتها خميلة ال�شاعر ،لرتبط بينها وفق ر�ؤية املحيطة به .ومنه
�شعرية .يقول احلطيئة يف ا إل�شادة بن�سبه الذي يريده كانت ال�صورة حتى يتحقق يف ان�سياب احلليب من ال�رضع.
�أن ي�رضب �إىل بكر بن وائل؛ خا�صة و�أن احلطيئة ويقول �أي�ضا:
�أ�شتدت به �أزمة الن�سب يف جمتمع يتباهي كثريا نتاجا ملجموعة
ومناخ العافني يف زمن امل ْح
من العالقات التي باالنتماء �إىل ا أل�صل ال�رشيف ،والن�سب الرفيع: ـل �إذا �أجحرت حنني ال�شمال .
()38
�صنعتها خميلة هذا البيت من ق�صيدة مدح بها احلارث بن عبد يغوث� .إن اليمامة خري �ساكنها
ال�شاعر ،لرتبط وبعد ا إل�شادة باملمدوح ي�صل �إىل و�صف احلالة �أهل القُريَّة من بني ذهل(.)40
االجتماعية ال�سيئة التي مر بها ال�شاعر .وي�صبح واليمامة هنا ا�سم مكان يعج باخل�صوبة والنماء ،بينها وفق ر ؤ�ية
مناخ العافني الذين يطلبون املعونة يف زمن القحط ،فكان النا�س يلج�أون �إىل هذه املراعي ،في�أخذون �شعرية.
وانقطاع املطر وتيب�س ا ألر�ض ،هو عنوان الب�ؤ�س رزقهم حتى تعاود �أر�ضهم القاحلة �إخراج نبتها.
ال�شديد الذي تتك� ّشف �أبعاده من خالل الت�شاكل بني واملتمعن يف البيت ،يجد �أن الت�شاكل ح�صل بني
(زمن امل ْحل) ،وهو زمن القحط .و(� أ ْجحرت) .وهي (اليمامة) و(�أهل القريّة) .فهو تكرار للمكان؛ ألن
القرية يق�صد بها اليمامة. مبعنى القحط.
ويقول يف مو�ضع �آخر يف �سياق مدح بني ذهل: ويقول يف مو�ضع �آخر:
لعمـرك ما ذ ّم ْت لبوين وال قل ّ ْت وقع َت بعب�س ثم �أنعم َت فيــــهم
م�ساكنَها من نه�شل �إذ تــولّت ومن �آل بدر قد �أ�صبت ا ألكـابرا
لها ما ا�ستحلت من م�ساكن نه�شل ف�إن ي�شكروا فال�شكر �أدنى �إىل التُّقى
وت�رسح يف حافاتهم حيث حلّت .
()41
ف يا زيد ُ كافرا و�إن يكفروا ال �أُل ْ َ
يحدث تكرار املكان بلفظ مغاير بني (م�ساكن) تركت املياه من متــــيم بالقعا
و(حافاتهم) .وي�ساعد التعبري با أل�شياء على �إبراز مبا قد ترى منهم حلوال كراكرا
�صورة الكرم .وال�صورة ت�أ�سي�س حلالة االطمئنان وح ّي � ُسليم قد �أبـــرت �رشيدهم
التي ي�ست�شعرها ال�شاعر يف ذاته من جراء ومن قبل ما قتّل َت با ألم�س عامرا .
()39
ا إلقامة يف مرابع ه�ؤالء القوم .فالنوق ت�رسح يف ي�أتي هذا املقطع يف مدح (زيد اخليل) ،وكان قد �أ�رسه
119 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال�شعر .دار العلم للماليني .بريوت .ط� .3ص.45 تلك املراعي وتتحرك كيفما ت�شاء ،وهي كناية
( )15احلطيئة :الديوان ،رواية :ابن حبيب عن ابن ا ألعرابي و�أبي
عمرو ال�شيباين� ،رشح� :أبي �سعيد ال� ّسكري ،دار �صادر .بريوت. عن االطمئنان وال�سكينة التي يالقيها من يحلُّ
1981م� .ص 232وما بعدها. يف ذلك املكان .ويف �سياق ذكر املحبوبة ،وبُ ْعد
([) ا ألجرع :ما ا�ستوى وارتفع من الرمل .تتكوّع:تط� أ على كوعها. الو�صل وعذاباته ،وا�شتداد اللوعة من جراء تباعد
عفوتها� :أح�سن ما فيها� .أوكع :ركوب ا إلبهام على ال�سبابة يف ا ألمكنة ،يقول:
الرجل.
( )16حممد مفتاح :دينامية الن�ص (تنظري و�إجناز) ،املركز الثقايف وكم دون ليلى من عـدوّ وبلدة
العربي .الدار البي�ضاء .ط� .1990 .2ص.52 بها للعتاق الناجيات بــريد
( )17املرجع نف�سه .ال�صفحة نف�سها.
( )18لالطالع �أكرث يرجى العودة �إىل حممد مفتاح :دينامية الن�ص.
وخرْق يجر القوم �أن ينطقوا به
�ص 52وما بعدها
()42
ومت�شي به الوجناء وهي لهيد
( )19حممد ال�شاو�ش� :أ�صول حتليل اخلطاب يف النظرية النحوية ويحدث الت�شاكل بني(بلدة) و(خرْق) .واخلرق هي
العربية .كلية ا آلداب منوبة .ط 1تون�س.111/1 ،2001
( )20لالطالع �أكرث ينظر كتاب حممد �شاو�ش ال�سابق� .ص 112وما ا ألر�ض البعيدة .ف�أ�شار ال�شاعر باللفظة ا ألوىل بلدة
بعدها. للتدليل على بعد امل�سافة .وكرر ا ألمر نف�سه بلفظة
( )21الديوان� .ص.202/201 مغايرة وهي خرق للتدليل �أي�ضا على طول امل�سافة.
([) يوجد يف البالغة العربية القدمية ما ي�شبه هذا الطرح ويتمثل
يف الطباق.
ومن خالل هذا التكرار ،تغدو �صورة املعاناة هي
( )22حممد مفتاح :حتليل اخلطاب ال�شعري (ا�سرتاتيجية التنا�ص)، الغالبة على املقطع ال�شعري.
املركز الثقايف العربي ،ط ،3الدار البي�ضاء � ،1992ص.160
( )23املرجع نف�سه .ال�صفحة نف�سها. هوام�ش و�إحاالت:
Jean Piaget : Le Structuralisme. Presse Universitaire de France. Paris ( )1بول ريكور :نظرية الت�أويل .اخلطاب وفائ�ض املعنى .ترجمة:
)1970. p6/7 (24 �سعيد الغامني .املركز الثقايف العربي .املغرب .ط.2003 .1
(.Ibid. P8 )25 �ص.32
(.Ibid. P11 )26 ( )2املرجع نف�سه� .ص .35
(Ibid P13/14 )27 ( )3حممد بني�س:ظاهرة ال�شعر املعا�رص يف املغرب .دار العودة.
(Ibid. P14 )28 بريوت .ط� .1979 .1ص 20
([) التن�سا�س :العط�ش� .شا�س :وعر .قنعا�س :ال�شديد� .أنكا�س :النك�س ( )4املرجع نف�سه� .ص .21
من ال�سهام ،املنكو�س الذي جعل �أعاله �أ�سفله ،فهو �ضعيف �أبدا. ( )5جوليا كري�ستيفا :علم الن�ص .ترجمة :فريد الزاهي .دار توبقال
( )29الديوان� ،ص 105وما بعدها. للن�رش .املغرب .ط� .1997 .2ص.9
( )30حممد مفتاح :حتليل اخلطاب� ،ص.19 ( )6املرجع نف�سه� .ص .13
( )31املرجع نف�سه� ،ص.20/19 ()7عبد اهلل �إبراهيم :معرفة ا آلخر .املركز الثقايف العربي .املغرب.
( )32املرجع نف�سه� ،ص.21 ط� .1990 .1ص .26
( )33املرجع نف�سه ،ال�صفحة نف�سها. ( )8فا�ضل ثامر :اللغة الثانية .املركز الثقايف العربي .الدار البي�ضاء.
(� )34سمري املرزوق .جميل �شاكر :مدخل �إىل نظرية الق�صة ،الدار � .1994ص .75
التون�سية للن�رش ،ديوان املطبوعات اجلزائرية،دت� ،ص.118 ( )9عبد اهلل حممد الغذامي :اخلطيئة والتكفري .دار �سعاد ال�صباح.
( )35موالي علي بوخامت :م�صطلحات النقد العربي ال�سيمياءوي. الكويت .ط� .1993 .3ص.8
ا إل�شكالية وا أل�صول واالمتداد .من�شورات احتاد الكتاب العرب، ( )10املرجع نف�سه� .ص .9
دم�شق� ،2005ص.180 ([) على الرغم من �أن كالم �صالح ف�ضل هنا موجها �إىل الن�ص
( )36الديوان� ،ص137 ال�شعري املعا�رص �إال �أن ا ألمر ي�صلح على الن�ص ال�شعري القدمي
( )37امل�صدر نف�سه� ،ص149/148 ألنه يتبنى احلذف واملجاز .بل �إن املجاز من �أهم خ�صائ�صه .وعلى
([) اخليفان :هما ال�رضعان� .شهباء :النفي�سة من ا إلبل. هذا ا أل�سا�س وجد يف البالغة العربية ما يعرف با إليجاز وا إلطناب
([) العافني :الذين يطلبون املعونة .حنني ال�شمال� :صوت الريح وامل�ساواة.
الباردة. (� )11صالح ف�ضل� :أ�ساليب ال�شعرية املعا�رصة .دار ا آلداب .بريوت.
( )38الديوان� ،ص.157 ط� .1995 .1ص.24
( )39امل�صدر نف�سه� ،ص.185 ( )12املرجع نف�سه� .ص25
( )40الديوان� ،ص.192 ( )13م�صطفي الب�شري قط :قراءات يف النقد وا ألدب .مكتبة ا آلداب.
( )41امل�صدر نف�سه� ،ص.197 ط .1القاهرة � .2007ص.11
( )42امل�صدر نف�سه� ،ص.222 ( )14كمال �أبو ديب :جدلية اخلفاء والتجلي .درا�سات بنيوية يف
s
s
s
هل و�صلت الرواية العربية �إىل خانقها ال�ضيّق ،خانق حياتها الذي مل تعد قادرة معه
على �أن متنح �إن�سانها فر�صة للفعل واملواجهة وال�رصاع ،بعد �أن غدت احلياة نف�سها
دوران ًا مت�ص ًال يف حلبة مغلقة حُ �سم ال�رصاع داخلها م�سبقاً ،بعد �سيل من الإ جها�ضات
املتوالية التي يقف على ر�أ�سها �إجها�ض م�رشوع التحديث العربي ،وقد �أ�ضعفت هذه
الإ جها�ضات اجل�سد العربي مثلما بددت �أحالم �إن�سانه وخلخلت ركائزه �إىل حد كبري
وو�صلت مبقاومته �إىل درجة بات معها من ال�سهل العودة به �إىل مرحلة ما قبل الدولة،
فلم يعد ه ُّم الرواية العربية اليوم مو�صو ًال بهمومها يف مرحلة الت�أ�سي�س التي بلغت
ذروتها مع ثالثية جنيب حمفوظ وقد عملت على ت�أويل انهيار �سلطة الأ ب والتفكري
مبيالد االبن امل�ستقل ،والأ حفاد ذوي النزعات احلرة واالجتهادات املت�ضاربة( ،)1كما مل
يعد مو�صو ًال بتطلعها �إىل م�ستقبل �إن�سانها يف زمن حتكمه وتتحكم به �إرادات متقاطعة
كما يف رواية ال�ستينيات التي عملت على �إعادة �صياغة �إن�سان جنيب حمفوظ كي متنع
عنه راحة املقربة وترتكه معلق ًا على �صليب احلياة(.)2
lتعمل رواية منت�صر القفا�ش ( �أن ترى الآن ) على ا�ستمالة القارئ يف عالقة
م�صرح به ،للدخول � إىل لعبتها ال�سرديّة والوقوف
�شرط غري مكتملة ،ووعد غري ّ
على تفا�صيل احلياة التي تعتمل يف دواخلها.
lت�سعى رواية �أحمد زين (ت�صحيح و�ضع) لإنتاج قراءتها اخلا�صة مل�شهد
حياتي ال يخلو من التبا�س وتعقيد ،مثلما تعمل على تو�سيع م�ساحة احلياة
اليمنية التي مل يُقي�ض لها من قبل �أن تعي�ش � إ�شكاالتها اخلا�صة حتت جمهر
ال�سرد.
دون �أن تنقطع انقطاعا ً كليا ً عن التوا�صل مع �سواها من �إن ما حد�سه كتاب ال�ستينيات من م�ستقبل ال يب�رش
الوحدات� .إن ما يهدد الذاكرة هو نف�سه ما يهدد ا إلن�سان، بالطم�أنينة وما عملوا على متثله يف خطابهم الروائي هو
ليبدو تهديد الذاكرة وجها ً م�ؤثرا ً من وجوه تهديد الوجود ما يجده كتاب الرواية اليوم واقعا ً �شديد الوطء ،اتخذت
الذي لن يعود معقوال ً وحمتمال ً مع ارتباك الذاكرة وانك�سار الق�سوة فيه �أ�شكاال ً مبتكرة ،ك�أن جمتمعنا العربي ال يتفوّق � إن ما تعلنه الرواية
ح�ضورها� ،إن كل ارتباك لها �سيعني بال�رضورة خرقا ً يف �شيء قدر تفوقه يف �إنتاج الق�سوة وجتديد �أ�شكالها! اليوم من قلق
يوهب للن�سيان ،لتكون كتابتنا �سعيا ً حثيثا ً جتاه البيا�ض، فقد تراجع االبن خمتنقا ً باختناق الطبقة الو�سطى يف يظل �سارياً يف
مالمح و�أ�صوات وم�شاعر وتف�صيالت مت�شي بال توقف جتاه مهرجان ال�صعود والنزول غري املحكوم مبنطق �سوى امل�سافة الفا�صلة
املحو والغياب ،حمو العالقات اليومية التي �ست�شهد قبل منطقه اخلا�ص ،منطق الهمجية التي اقرتحت �أعرافها بني اال�صطالح
ذلك غرابة تهي�ؤها للذوبان البطيء يف حماليل الن�سيان� ،إنه بدائل لقوانني جمتمع مدين مل ي�ؤت له �أن يت�شكل على نحو ال�سابق وراهن
عامل الهفوة والزلة واالختناق واحللم امل�ستحيل الذي يعرّي مكني ،كما مل يعد مفهوم ا إلرادة بتحققاته ال�صعبة ي�شكل املنجز الروائي
عواملنا ال�صغرى ،يبدد ذواتنا ،يك�شفنا �أمام جنون الواقع وال معايريه يف �إنتاج وتوجيه اخلطاب الروائي يف عامل مل يفقد
معقوليته وهو يجعل من االلتبا�س واقعة ذهنية تتكرر �أمام م�صداقيته فح�سب ،بل فقد ،وذلك �أخطر ما فيه ،منطقيته،
بقلقه وغمو�ضه
ا�ستحالة ما يبحث عنه املرء من �إجابات ،ليكون االلتبا�س لتتجاوز الرواية التناق�ض القدمي بني الذاتي واجلمعي ،بني وانك�سار زمنيته،
نف�سه واحدة من ا�سرتاتيجيات عدة يعمل اخلطاب الروائي الفرد واملجتمع ،وهي النزعة التي دارت �أ�صال ً �ضمن البعد لت�ؤكد املعاجلات
من خاللها على مواجهة عامله ،مواجهة ن�صية ال ت�ستنفد ا إلن�ساين للحداثة ،منقادة نحو تيه يتعادل غياب املرء فيه النقدية املتعددة عدم
فاعليتها بالوقوف عند �آخر كلمة يف �رشيطها اللغوي ،وال داخل نف�سه مع غيابه خارجها ،ليمكن �أن ن�ستعيد مقولة قدرة م�صطلحات
تنتهي بانتهاء الرواية ن�صا ً منفردا ً يف حقل كاتبها� ،إنها مارك�س ال�شهرية وهي تنظر �إىل طبيعة العالقة بني الوعي مثل (الكتابة عرب
توا�صل مهمتها يف �إنتاج قراءتها لذاتها وللعامل من خالل واحلياة «لي�س الوعي هو الذي يحدد احلياة ،بل �إن احلياة النوعية) �أو (كتابة
ما ت�ؤديه من مهمات يف رفد حقل الكاتب وتنويع ر�ؤيته هي التي حتدد الوعي»( ،)3لت�صبح من منظور الهدم والبناء الت�شظي) �أو (الكتابة
عرب جمموعة من اال�سرتاتيجيات التي تقف يف مركزها يف حيز الثنائية نف�سها :لي�س الوعي هو ما يبني احلياة ،بل العابرة للأ جنا�س)،
جتزئة امل�شهد وهي تقول ب�أجزاء ال�صورة وتف�صيالتها ما �إن احلياة هي التي تهدم الوعي.
ال تقوله ال�صورة مكتملة ومرئية ،مما يتطلب من الرواية، �إن وجها ً م�ؤثرا ً من �أوجه (هدم الوعي) هو ما يتحكم
�أو حتى (رواية
ويهيئ لها املجال ،للنزول �إىل جزئيات الواقع و�شظاياه مبجريات جانب وا�سع من جوانب الرواية العربية اليوم، احل�سا�سية اجلديدة)
التي ال تبدو خارج ال�سياق الروائي ذات �ش�أن� ،إنها تكت�سب مثلما يبدو م�س�ؤوال ً عن �إنتاج وتوجيه حقول روائية على الإحاطة مبتغري
�أهميتها من دخولها يف �ضوء الرواية وانتظامها يف �أفقها يتوا�صل الهدم فيها من رواية �إىل �أخرى ،متمثال ً يف كل الكتابة الروائية التي
الداليل ،مثلما تفعل متوالية االحتماالت فعلها يف ك�رس مرّة وجها ً خمتلفا ً من �أوجه العالقة بني املرء ونف�سه، يبدو قلق الت�سمية
�أحادية الر�ؤية واحلد من عنف توجيهها للخطاب الروائي وبني املرء وجمتمعه الذي مل يعد مبقدورنا الت�سليم بحقيقة �سمة عميقة من
يف زمن ا أل�سئلة املتوالدة ،زمن ا إلجابات املفتوحة على انت�ساب كل منهما ل آلخر ،وقد دخلت فكرة الوطن نف�سها �سمات انحرافها،
ما ال ينتهي من االحتماالت وهي تردم الهوة بني الوهم مرحلة جديدة من االلتبا�س بعد �أن عا�شت عقودا ًطويلة قلق ووجها م�ؤثراً من
والواقع ومتنح كال ً منهما فر�صة الخرتاق ا آلخر واحلياة املواجهة وال�س�ؤال ،ليبدو املرء عندئذ عاريا ً وقد �سقطت وجوه فاعليتها،
احلرة داخله ،حيث تنتج الذاكرة قلقها يف نوع من مواجهة عنه �أردية الت�شكالت الرمزية للما�ضي ،وهبت رياح الراهن فهل ميكن �أن ن�سلّم
م�ستمرة بني املمكن وامل�ستحيل ،ي�صعب معها �أن ت�ستجيب عنيفة ف�أطاحت به كما يُطاح بورق اخلريف ،لي�ؤ�س�س هذا
هذه الكتابة ملحددات الت�سمية واال�صطالح التي ا�ستخدمت اجلانب من منجز الرواية العربية ر�ؤيته لذاته وللعامل بناء باملقابل بـ (الرواية
لتو�صيف التجارب (اجلديدة) يف الكتابة الروائية العربية، على موقفه من الذاكرة التي ما زالت تتمتع بح�ضور فاعل العربية اجلديدة)
�إن ما قدمه الروائيان منت�رص القفا�ش و�أحمد زين مينحنا يف اخلطاب الروائي ،وهي تُ�ستح�رض ال بو�صفها خا�صية مظلة الحتواء
فر�صة ملعاينة جانب مهم من جوانب الكتابة الروائية بناء وتع�ضيد بقدر ما ت�سهم ب�إنتاج فعلها امل�ضاد الذي متغريات الن�صو�ص
العربية اليوم وتفح�ص خ�صائ�صها ،وقد عمل كل منهما يف يربك احلا�رض مثلما يربك املوقف من امل�ستقبل ،فال تكون ومقاربتها يف بعد
�سمة م�شرتكة على تطوير مو�ضوعته من رواية �إىل �أخرى اللحظات الزمنية الثالث غري �صو ٍر تبددها الذاكرة ،بعد �أن ا�صطالحي واحد
وتو�سعة حقله مع �سعة الر�ؤية وانفتاحها وهما يعاجلان تخلخل انتظامها وتعبث مبنطقها ،فيبدو كل �شيء جمزّ� أ �إىل
مو�ضوعني خمتلفني ين�صت منت�رص فيه �إىل ما يعتمل يف وحدات �صغرى تدور كل وحدة منها يف فلكها اخلا�ص من
122 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s الدواخل ا إلن�سانية ل�شخ�صيات م�رصية مثقفة ،خمرتقا ً
حتولها �إىل �شيء ذي قيمة ،وهي تتوجه لرتميم الذاكرة التي
بدت منذ ال�سطر ا ألول للرواية مهددة بالن�سيان ،حيث تغيب امل�سافة بني الوهم والواقع ،فيما يوا�صل �أحمد مراقبة ما
�أ�سماء ا أل�صدقاء وا ألقارب واجلريان ،ثم تغيب الكلمات املهمّة، يحدث يف جمتمعه اليمني مت�أمال ً واقعه وهو يعي�ش الذروة
ت�سقط عن ا ألحاديث واحلوارات وال يتبقى �إال �شعور مفرغ من يف التداعي وااللتبا�س ،وهو يدخل طائعا ً منطقة معتمة من
التفا�صيل ،ال�شعور الذي ينمّي حدث الرواية وينظم مغامرتها الوهم.
يف النظر �إىل العامل عرب عيني (�إبراهيم) ،املحا�سب يف فندق �إن ما تعلنه الرواية اليوم من قلق يظل �ساريا ً يف
يُ�رشف على ا إلفال�س ،وهو يرى ،على امتداد الرواية ،تفا�صيل امل�سافة الفا�صلة بني اال�صطالح ال�سابق وراهن املنجز
انهيار حياته الزوجيّة ،مثلما ي�شهد يف برودة وت�سليم اهتزاز الروائي بقلقه وغمو�ضه وانك�سار زمنيته ،لت�ؤكد
العامل من حوله ،فثمة �إبراهيم �آخر ،على نحو �شبه دائم ،يكّمل املعاجلات النقدية املتعددة عدم قدرة م�صطلحات
دائرة التوج�س واملراقبة والتقاط ال�شعور� ،إنه ب�شكل ما� ،صاحب مثل (الكتابة عرب النوعية) �أو (كتابة الت�شظي) �أو
الرواية ،مثلما هو �صاحب ر�ؤيتها ،ف�إبراهيم الواثق من �أنه عا�ش (الكتابة العابرة ل ألجنا�س)� ،أو حتى (رواية احل�سا�سية
حياته من قبل هو الذي يبدو مهددا ً بفكرة الن�سيان «�صفحة اجلديدة) على ا إلحاطة مبتغري الكتابة الروائية التي
بي�ضاء �ستكون نف�سه لو ا�ستمر ن�سيانه وا�شتد ،وعليه البدء يف يبدو قلق الت�سمية �سمة عميقة من �سمات انحرافها،
كتابتها من جديد بطريقة جديدة .ورغم �إعجابه بالفكرة �إال �أنه ووجها م�ؤثرا ً من وجوه فاعليتها ،فهل ميكن �أن ن�سلّم
ت�أكد من عدم قدرته على مواجهة �صفحة بي�ضاء هي حياته»(،)6 باملقابل بـ (الرواية العربية اجلديدة) مظلة الحتواء
لذلك يبدو من الطبيعي �أن تُ�ستح�رض زوجته �سمرية ،مركز متغريات الن�صو�ص ومقاربتها يف بعد ا�صطالحي
اللعبة ال�رسدية و�أحد قطبيها امل�ؤثرين ،من خالل الن�سيان يف واحد ،و(اجلديدة) نف�سها ال تخلو من قلق هي ا ألخرى
�أول ح�ضور لها داخل الرواية ،فمالحمها تتبدى إلبراهيم� ،أثناء وال تتخلّ�ص من مقاربة زمنية فنية حققت �صدقها مع
وجوده يف عمله مبكتب املحا�سبة ،وا�ضحة خطفا ً لكنها �رسعان كل جتربة روائية �سابقة� ،إذا ما نُظر لها من منظور
ما تغيم يف مالمح �أخرى متداخلة ،لي�شكل ن�سيان مالحمها متغرياتها الكتابية ،فالرواية (التقليدية) مل تعد تقليدية
�أحد حمفزات احلدث الروائي �إن مل يكن حمفزها ا ألوحد الذي �إال بناء على منظور خمتلف زمني فني يف �آن ،لكنها
تتطوّر الوقائع مثلما ترتتب وتنمو انطالقا منه ،يف �إ�رصارها ا�ستطاعت ،على نحو �أو �آخر� ،أن متنح زمانها وجها ً
على تثبيت اللحظة عرب اال�ستعادة الفنية للغة اليوميات ،وهي جديدا ً حقق لها التقبل والتداول وال�شيوع ،ومكنها من
ت�شكّل ا�ستعارة الرواية ،وعرب اقرتاح ال�صورة الفوتوغرافية التي قول كلمة خمتلفة ،وا ألمر نف�سه مع الرواية احلديثة،
توثّق ارتباطها باحلدث والعمل على تطويره ،فباللغة ف�ضاء ً �أو روايتي احلداثة وما بعدها ،فلكل من هذه الروايات
وبال�صورة عالمة ً ت�سعي الرواية لدح�ض الن�سيان واحلّد من جدتها وخ�صو�صيتها يف زمنية ا إلنتاج الروائي.
قدرته على تغييب املالمح وحمو التفا�صيل «ال عجب �إذن �أن
الن :ال�صورة يف تل�ص�صها
�أن ترى آ
حتل ال�صورة حمل ا أل�صل كما يحل الن�سيان حمل الذاكرة ،ذلك
الن�سيان الذي ير�سخ ح�ضوره بت�شويه الذاكرة»(.)7 تعمل رواية منت�رص القفا�ش ( �أن ترى ا آلن )( )4على ا�ستمالة
�ستت�سمر عينا �إبراهيم عند ( الكامريا ) ،يف مقابل لن�سيان القارئ يف عالقة �رشط غري مكتملة ،ووعد غري م�صرّ ح به،
مالمح زوجته ،وقد ا�شرتتها �سمرية لتدوين �أحالمهما ،فقد للدخول �إىل لعبتها ال�رسديّة والوقوف على تفا�صيل احلياة
«كانت بها ومعه تريد �أن ترى ما مل تره»( )8يف ت�رصيح التي تعتمل يف دواخلها ،فاملخاطب الذي يبدو معنيّا ً بوعد
هو نوع من ا إلر�صاد الذي ميكن �أن يتم عن طريق جملة الر�ؤية مبا تنطوي عليه من متعة واكت�شاف يغدو جزءا ً مهما ً
ت�ؤدي فعال ً �أيديولوجيا ً يف توجيه احلدث وا إلرها�ص به. يف �إجناز اللعبة التي تقوم با أل�سا�س ،كما يذكر الكاتب يف
.فمن خالل الكامريا تعلن �سمرية ب�أ�سلوب غري مبا�رش حديث له نُ�رش يف �أخبار ا ألدب ،على ا�ستعادة فنية لكتابة
رغبتها يف ر�ؤية ما مل تره ،مثلها مثل �إبراهيم الذي ي�سعى اليوميات ،مبا ي�سوّغ وجود اللهجة �إىل جانب اللغة الف�صيحة،
بالر�ؤية لدح�ض الن�سيان ،وهما معا ً ين�شغالن بالكامريا وعدم اكتفائها باحلوار بل ان�سحابها على ال�رسد �أي�ضا ً مبا
خارج �إيقاع حياتهما املعتاد «تناول الكامريا – يومها ()5
حتمله اليوميات من «رغبة يف بلوغ احلقيقة عرب الذاكرة»
– والتفت �إىل زوجته»( ،)9ليحقق ظرف الزمان من ا ألهمية فعرب اليوميات تعمل الذات املعزولة على �إنتاج ذاكرتها
ما يعادل فعل الن�سيان ،فالكامريا مل تخرج يومها عن مركزا ً حلدث ما ،مركزا ً لزمنية هذا احلدث وملا يحيط به من
حالها كل يوم �إال ب�إيعاز من الن�سيان نف�سه ،ليبد� أ �إبراهيم عامل� ،إن الذات املعزولة ت�سعى عرب كتابة اليوميات لتحقيق
123 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ذاكرة� ،إنها ت�سبق على نحو ما ذاكرتها وتخلخل لعبته ال�شخ�صية م�ستغرباً� ،أول ا ألمر ،انزالق زوجته يف
موقعها �ضمن جمرى وقائع حياتنا ،فيتخلخل جراء اللعبة وهي تُ�سلّم نف�سها للكامريا ،يُ�سعد بها ويظهر لها
ذلك وعينا بالواقع وتربك �أحا�سي�سنا �إزاءه ،وهي كل الر�ضا مبباغتاتها ،ثم يت�ضايق من �صيحاتها ،ثم
الفر�ضية التي �ستجد ح�ضورا ً �أقوى يف (م�س�ألة وقت) يهم �أن يكتم فمها «وهي تكرر :يالال ،وك�أنها تطلبه هو
رواية منت�رص الالحقة ،ا ألمر الذي يُلم�س يف �سلوك ال الكامريا»( ،)10و�صوال ً �إىل االنتباه ب�أن فرحتها مرتبطة
الزوجة �أي�ضاً ،على الرغم من فرحها وهي ت�شاهد بعلو �صوتها وال�شعور «بهذا ال�صوت وقد مت �إ�ضافته �إليها
ال�صور واقرتاحها �أن ي�شرتيا كامريا للت�صوير الفوري �أو خرج من الكامريا »( ،)11ال�صوت الذي �سينقطع �أو يكاد
وموافقة �إبراهيم لكن بعد �أن ت�ستقر ا ألمور يف عمله على امتداد الرواية ،ليح�رض خارج حدود الف�صل ا ألول
مبا يك�شفه غياب الكامريا ومغادرتها مكانها املعتاد َم ْن يتحدث نيابة عنهَ ،م ْن يقوّله �أو يُف�صح عن �شعور
يف الرف العلوي� ،إن نوعا ً من العيب �أو الف�ضيحة �صاحبته ،من دون �أن تقول هي على نحو مبا�رش �سوى
املكتومة يعتمل ،دومنا �صوت ،حتت امل�شهد ،مهيئا ً كلمات جمتز�أة ال تكتمل معانيها �إال بارتباطها ب�سلوك
للحظة االنفجار املرئية وامل�سموعة حاملا تعرث ا آلخرين و�أقوالهم التي تتوا�صل يف ق�ضيتها هي ،حتى
�سمرية على واحدة من ال�صور «و�شنب ُخط حتت لتك�شف يف �أحيان كثرية عن دواخلهم وت�ضيء بع�ضا ً من
�أنفها»( ،)14وقد وا�صل �إبراهيم تكرار جملته �« :إنه زلة �أزماتهم حتت ذريعة متثيلها �أو االنتماء لها والدفاع عنها،
قلم « ،فهل كان الت�شويه زلة قلم حقاً؟ لكنها تغيب ،بالفعل ،ينح�رس ح�ضورها خلف ا ألحداث
ي�ضيء الف�صل ا ألول بفنيته وثراء معلوماته حركة الرواية وهي تتواتر وتنمو خلف مالمح ا آلخرين وظاللهم التي
وينمُّ عن حتوالتها ،تطورات حدثها ،مثلما يلمّح للدوافع �ستم أل امل�شهد ،و�إذا كانت �شخ�صيات مثل �سمراء و�أحمد
اخلفيّة ،التي �ستوا�صل خفاءها حمققة واحدة من ال�سمات و�سامي وبهاء قد ح�رضت من خالل (�إبراهيم ) ملتابعة
اجلماليّة للرواية يف اكتفائها مبالحقة اجلزء الظاهر من
احلدث وانتظار تطوره واال�ستمتاع به ،ف�إن �شخ�صيات
ا ألحداث عرب عيني �إبراهيم الذي تتوقف الرواية عند حدود
مثل ناهد وعبد العظيم مل حت�رض �إال للتعبري عن ر�ؤية
ما يرى وما يعلم ،و�أحيانا ً �أقل مما يعلم متنازلة عن اجلزء
الداخلي من وعيه ور�صيد خربته ،يف انتظام �رسدي ين�أي �سمرية ،لكنها تنحرف عن هدفها بطريقة �أو ب�أخرى،
يف لغته وبناه عن الثقل النف�سي والرخاوة العاطفية ،مبا خ�صو�صا ً فيما يتعلّق ب�شخ�صية اخلال عبد العظيم لتعبرّ
ي�شري �إىل قدرة منت�رص القفا�ش على تطوير حقله ال�رسدي عن ر�ؤيتها هي وتدافع عن وجودها الذي �أ�صبحت ق�ضيّه
والو�صول به �إىل مناطق جديدة ،غري منتظرة نوعا ً ما، �سمرية م�سوّغا ً له.
وهو يغادر ما قدمه يف روايته ا ألوىل( ت�رصيح بالغياب �إن حلظة وجودية �صادمة تقف بني دخول �إبراهيم �إىل
)1996 /على م�ستوى اللغة والر�ؤية والرتكيب ،كما اللعبة وانف�صاله عنها ،فاللعبة ال تنتهي مع انتهاء
يغادر ما قدمه يف جمموعته الق�ص�صية ( �شخ�ص غري الفلم وظهور ال�صور ،بل تت�صل يف حركة موجيّة،
مق�صود )1999/على م�ستوى النظرة وزاويتها وعلى تهتز ّ وتهز ّ معها ثوابت الرواية وتفا�صيل عاملها ،ومل
م�ستوى اللغة �أي�ضا ً وقد بدت م�س�ؤولة �إىل حد بعيد بت�ضا�ؤل يعد ال�صوت وحده ما يثري الغرابة ،فالزوجة نف�سها
ن�صيب ال�رسد فيها وازدياد ن�صيب ال�شعر عن �إ�ضافته �إىل تُ�ستبعد ،حال ظهور ال�صور ،لي�ؤكد �إبراهيم ل�صاحب
ما �أ�سماه �أدوار اخلراط بظاهرة الق�صة الق�صيدة �أو الكتابة حمل الت�صوير «ب�أنها موديل ي�ستخدمها إلعداد
عرب النوعية(.)15 �أعمال معر�ضه القادم»( ،)12ا ألمر الذي يك�شف رغبته
من ال�صعب النظر �إىل ما �أ�صاب �صورة �سمرية من ت�شويه يف االنف�صال عن حلظة الت�صوير� ،إ�سقاطها والتنازل
على �أنه هفوة عار�ضة �أو زلة قلم ميكن ر�صدها ومعاجلتها عنها ،ليتنازل ،مبا ي�شبه االرتباط ال�رشطي ،عن �سمرية
�ضمن حركة الف�صل ا ألول ور�صيد معلوماته ،فمع دخول والكامريا وحلظة االنفالت من ا إليقاع اليومي للحياة،
(�سمراء) �إىل بيت ال�رسد ،وحتديد موقعها ومنط عالقتها مع �إنه يتنازل عن الذكرى ل�صالح الن�سيان ،و�إذا كانت
كل من �إبراهيم و�سمرية يبد� أ غمو�ض ما بالت�أثري ال على الذاكرة تتطلب �صورة ،بتعبري برتراند ر�سل ،لتحيا
ما يُرى فح�سب بل وي�سهم مبقدار الر�ؤية ودرجتها ف�سمراء ومتد حياتنا بالقدرة على ت�صور ما حدث وعلى
مل تكن �صديقة �سمرية ومل ترها �سوى يف ليلة الفرح ويف ا�ستعادته على نحو �أو �آخر( ،)13ف�إن الفكرة تتحقق
(�صور) الزفاف ،لكنها تقرتب من �إبراهيم بال حدود ،فهو معكو�سة يف رواية منت�رص القفا�ش ،فال�صورة تتطلب
124 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
خارج املرتقّب واملنتظر ،مبا يبني حول �إبراهيم �سورا ً من «ال ي�ستطيع �أن يوقفها عند حد يف �أي �شيء بينهما ،فلم
ال�صور ،ال�سليمة منها وامللوّثة ،وهي حتجب عنه �أ�شياء تكن احلدود مطروحة يف عالقتهما ،واقتنعا ب�أن راحتهما
كان مب�ستطاعه فعلها بي�رس ويف �أي وقت ،لتحقق الر�ؤية احلقيقية يجدانها يف وجودهما معاً ،وي�سعدان بتحقيقها
يف (�أن ترى ا آلن) فعلها العك�سي ،فما يراه �إبراهيم حقا ً هو ب�أي �شكل ودون تردد»( .)16لتبد� أ مفارقة الرواية ،وتن�ش� أ
ما مل يتوقعه �أو ينتظره ،وهو ما مل يره يف اعتياد احلياة مراوغتها ،وينه�ض التبا�سها الفعلي ،فهي ال تكتفي
و�ألفة �أ�شيائها ،فتبدو احلياة ،حياته ،مرئية ومر�صودة من بتق�سيم ا�سم واحد بني �شخ�صيتني ( �سمرية �سمراء ) بل
قبل ال�صور التي تكمل مع ت�صاعد احلدث �إجناز ح�صارها تُبدّل من �أدوارهما �إىل الدرجة التي يوهم التن�صي�ص
وتطل «كمتل�ص�ص ال يريد �أن ينتبه �إليه»( ،)22لتكتمل ال�سابق ب�أنه يخ�ص عالقة �إبراهيم ب�سمرية ،زوجته ،التي
الفرجة ،خارج اللعبة الروائية نف�سها� ،أو فوق ما ميكن يبدو من املعقول �أن تكون بال حدود ،لكنها تخ�ص �سمراء
� إن وجهاً م�ؤثراً �أن تتحمله حدودها ،لنعود فنطرح ،يف �آخر ر�ؤيتنا ،فكرة يف الوقت الذي تُن�سى فيه مالمح �سمرية خمتلطة مبالمح
�إبراهيم ا آلخر الذي ينظر فريى. . ا آلخرين ،مثلما يتطوّر ح�ضور �سمراء وهي تتابع حياة
من �أوجه (هدم
ـ م�س�ألة وقت :مواجهة املمكن وامل�ستحيل �إبراهيم بتفا�صيلها باللقاء املبا�رش مرَّة ،وعرب الهاتف
الوعي) هو ما مرَّة �أخرى ،لتندثر �أهم املعلومات عن �سمرية حتت تالل
يتحكم مبجريات بني قو�سني من ال�صمت تن�شيء (م�س�ألة وقت)( )23خطابها،
من تراب ا آلخرين ،مثل م�شكلتها مع ا إلجناب التي ال
جانب وا�سع من وتوا�صل تفتيت زمنيتها مبا تقرتحه من بنية مقطعية
ترد �إال ورودا ً عار�ضا ً يف حيّز الت�شويه «اخلطوط ال�سوداء
يعمل ال�صمت فيها على تبيي�ض امل�ساحة الفا�صلة بني
جوانب الرواية �أك�سبت وجهها �شكل . .لي�س فقط وجوه مهرجي ال�سريك
مقطع و�آخر ،يف خطاب الرواية ين�شيء ال�صمت خطابه،
العربية اليوم، ويف عنايتها بالوقت ،م�شكلتها ا أل�سا�س ،تعلن قلق الذين يبالغون يف و�ضع املاكياج على وجوههم .ال .هناك
مثلما يبدو �شخ�صياتها ازاء اللحظة الفا�صلة ،اللحظة التي تتماهي �شكل �آخر� ،أيكون حينما بكت بعد علمها ب�أنها ال�سبب يف
فيها احلدود بني الواقعي واملتخيل ،فتن�رش غرابة احلدث عدم ا إلجناب� .أ�سالت دموعها ا آليليرن وا آلي �شادو »(.)17
م�س�ؤو ًال عن � إنتاج كما مل تكن �إجابة �سمراء عن �س�ؤال �إبراهيم �إن كانت
وتوجيه حقول ظال ً كثيفا ً يُعيد بناء احلقائق ال�صغرية ت�أ�سي�سا ً على ما
تقرتحه الذاكرة من �صور �إذ �أن «التذكر هو �أكرث ف�أكرث توافق على ت�صويرها غري ت�أكيد �رصيح لن�سيان �سمرية،
روائية يتوا�صل عملية ال تعني ا�سرتجاع ق�صة بل القدرة على ا�ستح�ضار مما مينحها ت�أثريا ً يف حركة ال�رسد ،ومنط حتوالته،
الهدم فيها من �صورة» ،بتعبري �سوزان �سونتاغ( ،)24هذه ال�صورة التي ومبا يك�شفه من معلومات تظل معها املعلومة ا أل�سا�س
رواية � إىل �أخرى ت�شكل جمرى احلياة ،مثلما تخلخل انتظامها وتربك حول امل�شوّه الفعلي لل�صور طي الكتمان ،لكنها مع ذلك
فاعليتها وهي تن�شيء ترا�سلها بني عاملي احلياة واملوت �ستدخل حيّز االنتظار بالن�سبة إلبراهيم الذي يرتقب �أن
مبا تنطوي عليه مثل هذه العالقة من �أ�سئلة �صعبة ت�صارحه «يف الوقت الذي تراه منا�سبا ً وبعد �أن ت�أخذ
و�إجابات م�ستحيلة ،فتخت�رص قدرة الرواية للبحث يف كفايتها»( )18خمتزلة قوة تدمري دومنا �سبب حمدّد فهي
حقيقة زيارة رنا ليحيى ،الزيارة التي متت بعدما ماتت وجدت نف�سها هكذا «�أو مبعنى �أدق ت�شعر كلما متادت يف
رنا غرقاً ،وقد عرثوا على جثتها عند قاع النيل بعد ال�سخرية من رجالها بفرح و�سعادة ون�شوة ال جتدها يف
خم�س �ساعات من غرق املعديّة ،لتقدم الرواية يف عدم �أي �شيء �آخر»( ،)19لتبدو م�س�ؤولة عن حياة �إبراهيم وهي
وقوف يحيى على �سبب الت�أخر يف العثور عليها واحدة تتابعها ،وحتيط بتفا�صيلها ،مثلما تنتظر ما ينجم عنها
من �أهم خ�صائ�صها وهي تفتح �شبكة من احتماالت ال من �سلوك ،كل ذلك مواجه مبا ي�شبه التواطوء �أو الت�سليم
حتدد ت�صورا ً وال ت�ؤدي �إىل حل «وال يعرف حتى ا آلن من قبل �إبراهيم الذي ينتظر �أن متر ّ �أزمته مع ال�صور،
�سبب ت�أخرهم يف العثور عليها ،هل لكرثة من مت انت�شالهم مثلما متر �أزمته يف العمل ،وت�ستعيد حياته هدوءها
من ا ألحياء واجلثث �أم لت�أخر الغوا�صني يف الو�صول �إىل ورتابتها ،فهي (فرتة) �أخرى و(تعدّي) بناء ً على جملة
موقع احلادث �أم ألنها مل تعد �إىل مكانها عند القاع �إال �أ�سا�سية يف حياته و» دليل على طريقته يف احلياة يف �أن
بعد مرور هذا الوقت»(� ،)25إنها حترّك �أمواج احتماالتها يجعل ا أليام ت�صلح ما تريد وتف�سد ما تريد وما عليه �إال
على �سطح الرواية ال فيما يخ�ص واقعة غرق رنا فح�سب �أن ينتظر»( )20ك�أنه بذلك ينتظر نتائج قراره هو ويرتقّب
بل مبا يجعل من االلتبا�س واقعة ذهنية تتكرر مع يحيى تطوراته يف «البحث عن جانب من حقيقة مراوغة ولكنها
لت�ؤكد ،على نحو ما ،ا�ستحالة ما يبحث عنه من �إجابات، ماثلة �أي عن جانب من الر�ؤية»( ،)21لكن للحياة حركتها،
125 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
امللك ،وما ال�صلة بينهما �إال �س�ؤال يوجهه ال�شاب لـ (ملك وما تبحث عنه الرواية وهي توا�صل حركتها املوجية يف
الزمان)�« :أتدري ما بينك وبني مدينتك؟ فقال امللك :يومان املنطقة الفا�صلة بني الواقعي واملتخيل ،وهي تن�شيء
ون�صف .عند ذلك قال له ال�شاب� :أيها امللك �إن كنت نائما ً وهم حركتها بني احلياة واملوت ،فتنتقل ب�سيل احتماالتها
فا�ستيقظ� ،إن بينك وبني مدينتك �سنة ً للمُ ِجدّ ،وما �أتيت يف من املمكن �إىل غري املمكن من دون �أن تهج�س بانتقالها
يومني ون�صف �إال ألن املدينة كانت م�سحورة»( ،)28يك�شف لت�ساوي عندئذ بني منزلتي االحتمال وتوحد بني املمكن
التباين يف ت�صور الزمان بني ال�شاب وامللك ،ملك الزمان، وامل�ستحيل ،ان�شغال الغوا�صني وعدم و�صولهم �إىل موقع
املنطقة التي ت�سعى «م�س�ألة وقت» الكت�شافها من دون احلادث يعادالن عدم عودة اجلثة �إىل مكانها �إال بعد مرور
�أن جتد لذلك �سبيالً� ،إذ ي�شكل الزمان م�شكلة الرواية التي الوقت الذي ت�ؤدي فيه زيارتها الغريبة ليحيى ،ا ألمر الذي دخلت فكرة الوطن
ي�ضيء العنوان على نحو خماتل �أحد وجوهها وهو يعمل يتكرر مع يحيى يف حماولته تف�سري �ضحكة رنا حينما
على تخلي�صها من حمموالتها لتوجيهها وجهة عامة، تكت�شف ورقة الطلبات املنزلية يف جيب قمي�صه وقد نف�سها مرحلة
�شعبية وم�ؤتلفة ،حموال ً �إياها من (م�شكلة) �إىل (م�س�ألة) ارتدته بدل بلوزتها املقطوعة خالل زيارتها «فلماذا جديدة من االلتبا�س
حتمل من الب�ساطة والعر�ضية ما ت�ؤكد معه خماتلتها �ضحكت رنا؟ هل ألن �آخر ما قر�أته قبل �أن تعود �إىل موتها بعد �أن عا�شت عقوداً
وهي حتوّل (الزمان) �إىل (الوقت) ،وهي تندفع �إىل الهوة كان جمرد قائمة بطلبات منزلية �أم ألنها �أثناء قراءتها طويلة قلق املواجهة
ال�صعبة بني ال�س�ؤال واحتماالت ا إلجابة ،هذه امل�شكلة التي كانت ترى قلقه وهو معها �أم كان �ضحكها من �شيء �آخر وال�س�ؤال ،ليبدو
تعمل الرواية على مقاربتها عرب الذاكرة وهي تبحث يف حدث يف مكان �آخر»(.)26 املرء عندئذ عارياً
احلا�رض عما ي�ؤكد املا�ضي ويربهن على �صدق حوادثه، �ستكون متوالية االحتماالت واحدة من ا�سرتاتيجيات
لكنها يف دوامة بحثها تبدد فكرة احلا�رض بعد �أن تُزيح اخلطاب الروائي الذي يت�سع موجة �إثر موجة وهو مع وقد �سقطت عنه
�أُلفته ،تطمره حتت ركام املا�ضي و�شظايا ا�ستعاداته ات�ساعه ينطفئ� ،أو يتبدد� ،أو يذوب ،لكنه يحافظ على �أردية الت�شكالت
التي تُ�صبح مع تقدم الرواية �أكرث قوة من احلا�رض نف�سه، ر�ؤيته حلدثه املركزي ،ح�ضور رنا بعد موتها ،بو�صفه الرمزية للما�ضي،
فيحا�رص وهم املا�ضي عندئذ جمريات احلا�رض ويربك حقيقة تعززها �إ�شارات متعددة :البلوزة ،والقمي�ص، وهبت رياح الراهن
جريانه� ،إنها حلظة انك�سار الزمان بني زمن ال�شاب وزمن ورقم ناهد ،وورقة الطلبات املنزلية ،وهي احلقيقة عنيفة ف�أطاحت
امللك ،زمن رنا وزمن يحيى ،زمن ا أل�سئلة املتوالدة وزمن التي تت�أ�س�س عليها �شبكة االحتماالت الالحقة قبل
به كما يُطاح بورق
ا إلجابات املفتوحة على ما ال ينتهي من االحتماالت، �أن تتماهي يف احتمال ال حدود له .هذه ا إل�سرتاتيجية
فتبدو الوقائع ،ومنها واقعة زيارة رنا ليحيى «�أ�شبه التي �ستوجه م�سار اخلطاب الروائي حتى �آخر كلمة اخلريف
بالذكرى التي تُدخلها الذاكرة �إىل زمن الدميومة� ،أوالزمن يف �رشيطه اللفظي وهو يقع يف (ال�صمت) قبل �أن
الذي تبتلعه الذاكرة وتخلّفه يف �أعماق الكائن الذي ينقطع كالمه ويقع يف البيا�ض:
�أ�ضاع مفتاح ذاكرته»( ،)29فهو يخطو م�أخوذا ً مبا تر�سمه «�سامعني؟
الذاكرة من �أخيلة وما ت�ستح�رضه من ت�صورات� ،إن الذاكرة ـ �أيوه.
توا�صل فاعليتها وهي ت�ؤ�س�س انتباهات اخلطاب الروائي مل يعرف يحيى من �س�أله هل الرجل �أم رنا �أم �أحد
بناء على قوانينها ،وهي تعمل على نحو �ضدي� ،إنها امل�سحورين �أم �أمه ت�س�أله «�أنت �أجازه النهارده؟» �أجابهم
يف الوقت الذي تربك تلقي يحيى للعامل وتخلخل موقفه كلهم بالكلمة نف�سها .وما �إن قالها حتى تال�شت �أ�صواتهم
منه جراء عدم قدرتها على تقدمي فهم وا�ضح ،منتظم ك�أن �إجابته كانت املوافقة على �صمتهم»(.)27
ومعقول ،حلادثة ح�ضور رنا وهي ت�ستعيدها وتدقق �إن يحيى ال يعمل على غلق دائرة ال�س�ؤال بالوقوف على
يف تف�صيالتها ،تعمل ،من جانب �آخر ،على �إنقاذ يحيى �إجابة حمددة �أو احتمال واحد� ،أقرب االحتماالت �إىل
من الغرق يف بحر البطالة� ،إنها حبل ا إلنقاذ الذي � أ ّمن الذهن و�أكرثها مقبولية ،كما ال يعمل على ترك الدائرة
له العمل يف مكتب التوزيع ،ومل يكن ميلك ميزة ت�ؤهله مفتوحة ،دومنا �إجابة ،لكن احتماالته تتواىل لتكون
للعمل �أهم من ميزة الذاكرة التي ا�ستحوذ من خاللها على امتدادا ً لل�س�ؤال نف�سه ،و�أ�صداء ً ال نهائية ل�صوت ينبثق من
اهتمام �صاحب املكتب� ،إنها الذاكرة التي تخلخل حتى منطقة الاليقني ،هذه املنطقة التي ت�سعى الرواية للوقوف
ما نظنه عن �أنف�سنا ففي البداية ظن ذاكرته �ستكون نقطة على �أر�ضها الرخوة ،وهي ترعى زمنني تطلقهما عتبتها
�ضعفه ،و�رسعان ما وجدها متده مبا يريد يف �أي وقت، امل�ستلة من �ألف ليلة وليلة ،وهي ت�ضع ال�شاب مبواجهة
126 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
جمهر ال�رسد� ،إ�شكاالت العمالة اليمنية الوافدة �إىل اململكة مثلما ت�ؤدي دورها يف ر�ؤية ما ال يرى وقد ا�ستح�رضت
العربية ال�سعودية ،يف واحدة من املراحل الزمنية ال�صعبة املعديّة ،يف واحد من �أجمل مقاطع اخلطاب الروائي ،على
يف حياة اليمن وال�سعودية على نحو خا�ص ،وحياة البلدان حائط غرفة يحيى فور ا�ستيقاظه ،لتكون الر�ؤية ،بح�سب
العربية على نحو عام� . .إنها مرحلة غزو الكويت من قبل ملفوظ اخلطاب ،وجها ً من وجوه اليقظة ال طيفا ً من
النظام العراقي ال�سابق ،مبا خلفته من تداعيات م�أ�ساوية �أطياف املنام «نزل من ال�رسير ووقف و�سط الغرفة ليت�أكد
مل تنته مع االن�سحاب املميت للجي�ش العراقي ،بل د�شنت من �أنه ال يحلم .وعندما �شك �أنه ما زال يف احللم خرج
زمنا ً عربيا ً ع�سريا ً ترك �آثارا ً عميقة يف وجدان املواطن من غرفته وعاد �إليها وفتح ال�شباك و�أطل منه .م�ستحيل
العربي مثلما خلخل جمريات حياته داخل بلده وخارجه، �أن يكون يف حلم �إال �إذا كان من ا ألحالم التي ترى نف�سك
ا ألمر الذي تعدى دور اخللفية العامة للحدث الروائي وهو فيها و�أنت حتاول �أن ت�ستيقظ وتتخل�ص مما حتلم به»(،)30
يعمل على تعيني زمنية �أحداثه �إىل امل�شاركة الفاعلة يف �إنه ي�ستعيد �صوت ال�شاب يف عتبة الرواية وهو ينبه امللك
بناء احلدث و�إغناء مظاهره ،وقد عملت رواية (ت�صحيح «�إن كنت نائما ً فا�ستيقظ» ،دافعا ً الرواية عرب الذاكرة
و�ضع) على ر�صده منذ جملتها االفتتاحية وهي ت�ستعري �إىل ر�ؤية ما مل يُر بعني يحيى من قبل هي تعيد تقدمي
مقولة با�شالر (بدون البيت ي�صبح ا إلن�سان كائنا ً مفتتاً، امل�شهد على نحو مرئي بناء على ما تقدم من تف�صيالت،
�إنه البيت يحفظه عرب عوا�صف ال�سماء و�أهوال ا ألر�ض)، فاملعدية تُ�ستح�رض طبقا ً ل ألو�صاف التي ذكرتها ناهد،
املقولة التي ك�شفت بجالء �شعري ما ميكن �أن ي�ؤديه غياب �صديقة رنا ،بركابها وحيواناتها و�سياراتها وعرباتها
البيت من تهدمي ل إلن�سان ،فهل ت�سعى الرواية وهي جتعل الكارو� ،إنهم يُ�ستح�رضون ال يف �سبيل ت�أكيد وجودهم� ،أو
من مقولة با�شالر بابا ً للدخول �إىل عواملها ل إل�شارة �إىل الدفاع عن حلظاتهم ا ألخرية قبل واقعة الغرق بل ليكونوا
بيت غائب و�إن�سان مفتت جراء هذا الغياب؟ �شهودا ً على وجود املعديّة يف غرفة يحيى ،وهي اللحظة
تفتح الرواية بابا ً ثانيا ً تقرتب فيه �أكرث من عواملها التي ي�ؤخذ فيها الركاب املوتى بده�شة �أن يكونوا هنا،
اخلا�صة عرب مقولة لعبد اهلل الربدوين (عرفته مينياً، حما�رصين بحائط و�سقف ين�شغلون بالنظر �إىل �أعلى
يف تلفته خوف ،وعيناه تاريخ من الرمد) ،فهل عيّنت حيث من املفرت�ض �أن تكون �سماء فلم يجدوا �سوى �سقف
الرواية مبقولة الربدوين ما �أملحت �إليه مبقولة با�شالر، مب�صباحه املطف�أ ،تُ�ستح�رض املعديّة على اجلدار �صورة
وهل اخت�رصت بني املقولتني م�ساحة من املراقبة ثابتة ولنتذكر بدورنا ت�صور �سوزان �سونتاغ ال يتحرك
تظل بالن�سبة للقارئ هاج�سا ً خفيا ً قبل الو�صول �إىل كل من كان فوقها وال يتكلمون� ،إنهم يعي�شون بعد املوت
ده�شتهم ويوا�صلون �شهادتهم على وجود املعديّة يف
ف�صلها ا ألول؟
الغرفة ،الوجود الذي يحيا قلقه اخلا�ص وينمّي احتماالته
�إن (ت�صحيح و�ضع) تئن قبل �أن تتكلم ،وتومئ قبل �أن
بني احلقيقة واحللم ،حيث يكون احللم يف عامل منت�رص
تُف�صح ،ك�أنها ت�ستعيد ،وهي تتطلّع للحظتها اخلا�صة،
القفا�ش رديفا ً للخيال ووجها ً من وجوهه ،وهو ا آللية
تاريخا �صامتا ً من املرارة والهوان ،ذلك الهوان الذي
يقدم على دفعات منتظما ً يف �شظايا و�أجزاء من وقائع التي يُ�ستح�رض العجائبي من خاللها بو�صفه ا�ستيهاما ً
يوطد عالقته بال وعينا وبـ» الغرابة التي ت�سكننا» ح�سب
بقيت خارج حماولة معاجلة و�ضع �أنا�سها فيبدو ت�صحيح جان بلمان نويل(� ،)31إنه القنطرة الق�صرية بني املمكن
الو�ضع نف�سه نوعا ً من موا�صلة اللعبة ا ألليمة وهي متد وامل�ستحيل وهو اللحظة التي ترتا�سل خاللها �أحالم
يف زمن العمالة وتو�سع من غربة �أ�صحابها ،فالرواية، املوتى مع �أحالم ا ألحياء لتوا�صل الرواية يف مزيج
بناء على ذلك ،ت�ؤجل الك�شف عن مرجعية عنوانها حتى �أحالمهما ن�سج حكايتها وهي تعي�ش دينامية املواجهة
ال�صفحة الثامنة واخلم�سني ،ك�أمنا لت�ؤكد و�ضعا ً غري بني التذكر والن�سيان.
قانوين يقيد �شخو�صها الرئي�سيني وهم يندفعون يف ليل
احلدود ومتاهاتها ( عندما كان يعود مرّة �أخرى �إىل غلق ـ ت�صحيح و�ضع :حرب مع الذاكرة
ا ألكيا�س ،بلهب ال�شمعة والري�شة امل�سننة ،وملا ا�ستبط� أ ت�سعى رواية �أحمد زين (ت�صحيح و�ضع)( )32إلنتاج قراءتها
عودة هويته �إىل جيبه ،مد ّ يده ال�سرتجاعها ،فنه�ضت اخلا�صة مل�شهد حياتي ال يخلو من التبا�س وتعقيد،
والدفرت بني �أ�صابعي ،مفتوحاً ،قر�أت بغري ا�ستعجال ،بع�ض مثلما تعمل على تو�سيع م�ساحة احلياة اليمنية التي مل
بياناته :مت ت�صحيح و�ضعه بتاريخ،1990/11/29 : يُقي�ض لها من قبل �أن تعي�ش �إ�شكاالتها اخلا�صة حتت
127 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
حلظات مواجهته فيدخل يف متوالية �أ�سئلة تنفتح ومتتد ا�سم الكفيل :م�ؤ�س�سة رهف للتجارة واملقاوالت)(،)33
مع توايل التجارب وت�صاعدها�»:أح�ست �أنه مل يعد لها مبا يجيب �ضمنا ً عن اعتماد الرواية عددا ً من التقنيات
وطن� ،شعرت بفراغ مكانه ،فراغ �أليم .هل الوطن جمرد ال�رسدية يف ال�ضمائر وحتوالتها ،والزمن مبراوحته
�أمكنة ،جغرافيا ،والنا�س هم حركتها ،عافيتها� .إذا كان وتداخله ،وعن جتزئة امل�شهد التي تقف وحدها خ�صي�صة
ذلك نعم ،فلي�س هناك وطن ...ال وطن ألنه ال يوجد نا�س، م�ؤثرة ميكن �أن تقول ب�أجزاء ال�صورة وتف�صيالتها ماال
وال حركة ،فقط �أ�شباح ،خملوقات تفتك بها الفاقة»(،)37 تقوله ال�صورة مكتملة ومرئية من النظرة ا ألوىل� ،إن
من هنا ميثل ال�سعي املتوا�صل الجتياز احلدود حربا ً الرواية تعمل با�ستعادة تفا�صيل ال�صورة مرّة بعد �أخرى
تتعدى املوانع اجلغرافية لت�شتبك مع ا ألزمنة اخلا�صة على تهجئة م�شاهدها قبل �أن ت�صل بها �إىل قراءة حمكمة،
لل�شخ�صيات فتكثف وعيها لتكت�شف �رضاوة وجودها والرواية بذلك ،حتقق مراوحتها الزمنية وهي توزع مادة
وتعمّق �شعورها بغربة وا�سعة ت�ستعيد الرواية ر�صدها العر�ض على الق�صة كلها «وهي ت�صيرّ ال�رضورة تفننا ً �إذ
ومواجهتها ،مثلما ت�ستعيد دورها يف توجيه ال�شخ�صيات جتزيء الرتتيب عن عمد ،في�ضيع كل معنى اال�ستمرارية،
نحو م�صائر تكون يف الغالب معلومة ومتوقعة بالن�سبة وبذلك ال تالحظ الفجوات املوجودة بني ا ألحداث التي
لها على الرغم من ق�سوتها وعنف نتائجها ،فتنظر كلما تتناولها الق�صة»( ،)34خ�صو�صا ً و�أن الرواية ال تنتهج
ات�سعت غربتها �إىل مرايا �أعماقها ،وتواجه من جديد معنى خطا ً ت�صاعديا ً يف تقدمي ق�صتها� ،إنها «كتابة تراكم
الوطن «الذي حتتفظ به ك�صورة عتيقة ،لي�س له �أدنى �شبه ال�صور وت�ستوحي الذاكرة الب�رصية وال�سمعية ،وحتر�ص
مب�سقط الر�أ�س ذاك ،رمبا هو جمرّد ذريعة فقط ،حتى ال على �إ�رشاك القارئ يف �سريورة اال�ستبطان والت�أمل� ،إن
نتيه �أو نتبدد بال هوية يف اخلواء والالمكان»(،)38 (ت�صحيح و�ضع) ال تهتم باحلبكة املحكمة ،وال بت�سل�سل
فتت�صاعد �أزمة ال�شخ�صيات وت�شتبك وقائعها وهي ا ألحداث وا ألزمنة ،و�إمنا ت�سعى �إىل ا�ستح�ضار عامل
حتكي حكاية عبورها بني خانقني وتراكم �صور حروبها من�سوج من نتف امل�شاهدات العالقة بالذهن ،ومن �أم�شاج
املا�ضية منها واحلا�رضة ،هذه احلروب التي تتوجها التذكرات»( )35حيث تتجز� أ الق�صة �إىل ق�ص�ص تتج�سد يف
حرب ا إلن�سان �ضد نف�سه� ،ضد وجوده وذاكرته ،فهي كل منها ال�شخ�صيات الرئي�سية� :شائف ،قبول� ،سامل،
«حرب ت�شب يف عراء الكائن ،بينه وبني نف�سه ،حرب قا�سم ،مثلما ت�سحب يف دوامتها عددا ً من ال�شخ�صيات
ال�ستعادة ال�صورة ا ألوىل «للهناءة» �أو ل�رسقة ا إلميان الثانوية التي ت�شكّل وهي حتكي وقائع غربتها �صوت
من جديد ،بحرافة «املواطن الثاين» ،حرب �ضد النظرة، الرواية املوجع والعميق ،لتت�ضافر ال�شخ�صيات ،الرئي�سية
�أو �ضد اال�ست�سالم �أ�رسى �شعور آلخر بال�شفقة .باخت�صار منها والثانوية ،يف حلم متوا�صل ال بحياة كرمية �آمنة
هي حربهم مع الذاكرة»( )39فيبدو م�سوغا ً عندئذ �أن تعي�ش و�إمنا باجتياز احلدود ،بكل ما يتطلبه هذا احللم من ثمن
ال�شخ�صيات من خالل حكاياتها نوعا ً من احلرية ،فهي باه�ض و�سعي مرير ،حيث يغور املرء يف حلظات غربته
�إذ تعاين �أزمتها يف املكان والزمان الواقعيني تعمل ،يف منف�صال ً عما حوله ،غريبا ً عن ذاته وج�سده ،في�شهد عندئذ
�شكل من �أ�شكال املواجهة �أو الرد ،على التخل�ص من حدود وقائع انتهاكه يف غرف درك احلدود كما لو كانت توجه
زمنها الداخلي لتعي�ش اللحظة املا�ضية جنبا ً �إىل جنب �ضد �أج�ساد �أخرى مبا ي�شري الندحار عالقته مع الذات
مع حلظتها الراهنة ،تعمّق كل منهما ا ألخرى ومتنحها وا آلخر والعامل والكون ،فاجل�سد هو (بيت الكائن) و(الدليل
بعدا ً معنويا ً تظل الرواية من دونه بحاجة �إىل ما مي أل ا ألقوى على الكينونة) ،وهو يعي�ش داخل الرواية حتوالت
ثغراتها الزمنية وينظم حركة ال�رسد فيها ،وهي ال تكتفي يفقد معها خ�صو�صيته وح�صانته فتنمو داخله ابتداء من
ب�أن تتنقل حرة بني ا ألزمنة الثالثة فح�سب ،بل وتتكرر انتهاكات احلدود ،بذرة االغرتاب ،وتتحكم� ،إىل حد بعيد،
عودتها �إىل املا�ضي با�ستمرار يف حركة دائبة بينه وبني مبا ين�ش� أ بينه وبني العامل من عالقات ،مثلما تغدو م�س�ؤولة
امل�ستقبل مبا يخلق �رسدا ً لولبياً ،ي�شبه يف حركته الزمنية عن �أفعاله داخل الرواية ،فوجود اجل�سد «وو�ضعيته يف
حركة اللولب( ،)40يعمل على املقاربة وامل�ؤ�آخاة بني �صور اخلطاب الثقايف مبثابة النواة �أو البنية العميقة التي
زمنية عدة ي�ؤدي فيها اال�سرتجاع دورا ً م�ؤثرا ً مب�ستوياته تتمحور حولها كل اخلطابات الفرعية امل�شكلة واملمثلة
املختلفة يف تفاوتها بني ما�ض بعيد و�آخر قريب ،لكن لهذا املنت الثقايف يف جممله»( ،)36مثلما ي�شهد معنى
هيمنة اال�سرتجاع اخلارجي ،العودة �إىل ما قبل بداية الوطن من خالل امتهان اجل�سد وغياب الذاكرة واحدة من
128 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
ال ي�أمنون فيها خيانات ليلية �أو عمليات ث�أر مباغتة الرواية ،و�ضعف ح�ضور اال�سرتجاع الداخلي ،العودة �إىل
يرتكبها ملكيون وجمهوريون على ال�سواء ،لت�ؤاخي يف ما�ض الحق لبداية الرواية ت�أخر تقدميه يف الن�ص ،تك�شف
مراقبتها بني زمنني تعمل على املقاربة بينهما مقاربة عن �أهمية دعم احلدث الروائي الراهن بحوادث هي بع�ض
�آيديولوجية مينحها ال�رسد حيزا ً منتظما ً داخل �شبكة من تاريخه البعيد ،مثلما تو�سع من م�ساحة التجارب
حوادثه« :لكن وبني حني و�آخر ،و�أثناء ما كانت متر ّ اخلا�صة لل�شخ�صيات لتنفتح على التاريخ العام لليمن
بال�صورة الكبرية للرئي�س يظهر فيها مبت�سماً ،املعلقة لتنتقي من �سل�سلة وقائعه ما يتنا�سب مع حلظتها احلالية
�أ�سفل من �صورة �صغرية� ،إطاراتها م�شغولة بزخارف ويعمق ظاللها ا إلن�سانية ،ف�أحداث الرواية التي تبد� أ مع
«قهوة أ�مريكية»: دقيقة ،جتمع امللكني ال�سعودي في�صل وا ألردين احل�سني �أغ�سط�س 1990حيث تع�صف متغريات احلدث ال�سيا�سي
ذاكرة للم�ستقبل، والرئي�س جمال عبد النا�رص ومعهم ا إلمام ...كانت ت�سرتق ب�أحوال اليمنيني داخل اململكة العربية ال�سعودية وتنتهي
تاريخ للن�سيان نظرات �إليها ،وتنو�ش بر�أ�سها لك�أمنا يف حلم طويل»(،)43 مع موت زوج االبنة الكربى للجدة ،بعد �أن ي�شتد به مر�ض
تعمّق (قهوة فالرواية تن�شغل من خالل معاجلتها الزمنية ب�إ�ضاءة ال�سل ،بعد حترير الكويت ب�سنتني ،جتد مت�سعها ب�شبكة من
حلظات متلك ت�أثريها يف تاريخ ال�شعب اليمني وحياة اال�سرتجاعات التي ت�ؤكد �أهمية الزمن يف اخلربة الب�رشية
�أمريكية) �أنا�سه ،مثلما متلك �أن تعمّق �س�ؤال ال�شخ�صيات وهي وتفوقه داخل الرواية على الزمن اخلارجي الفيزياوي،
ما �سعت توا�صل دومنا انتهاء رحلتها بحثا ً عن م�أوى �آمن وحياة فيتجلى الزمن التاريخي ل ألحداث ،على الرغم من عدم
(ت�صحيح و�ضع) كرمية ،لذلك فلي�س من الغريب �أن ت�ستعيد الرواية يف عناية الرواية برتاتبية وقائعها ،من خالل جمموعة من
لك�شفه و� إ�ضاءته ف�صلها ا ألخري جانبا ً من رحلة ال�شخ�صية عرب احلدود بعد ا إل�شارات ملا قبل وقوع احلرب يف نوع من الر�صد مل�سرية
مع حمافظتها �أن تثّبت بع�ض تفا�صيل اتفاقها مع املهربني ،ك�أنها تبد� أ ا ألحداث وتوجهاتها« :فكر قبل �أن يدهمه ذلك ا ألمل� ،أنه
يف ليل ال�صحراء متاهة جديدة ،هذه املتاهة التي �شكّلت بعيد هناك رمبا �ستن�شب حرب� ،سيقاتل فيها ا ألمريكيون
على امتيازها بعدا ً قدريا ً تفر ّ منه ال�شخ�صية لكنها جتد نف�سها بعد طول
يف ر�ؤية املجتمع والكويتيون وال�سعوديون معا ً�ضد العراق .وقال �إنها عار�ض
.معاناة �أ�سرية حبائله لن يطول ،حدث و�سينتهي ،و�إذا بقي كيف �سيطالهم
اليمني من ـ قهوة �أمريكية :ذاكرة للم�ستقبل ،تاريخ للن�سيان هم اليمنيون املقيمون هنا يف الريا�ض �أو �أي مدينة
الداخل والإن�صات �أخرى»( )41ليتوا�صل الربط بني تداعيات احلدث ال�سيا�سي
تعمّق (قهوة �أمريكية)( )44ما �سعت (ت�صحيح و�ضع) لك�شفه
ل�صوت � إن�سانه و�إ�ضاءته مع حمافظتها على امتيازها يف ر�ؤية املجتمع واحلياة اليومية لليمنيني بت�أثرياته املبا�رشة التي تقدمها
� إن�صات املراقب اليمني من الداخل وا إلن�صات ل�صوت �إن�سانه �إن�صات الرواية بطرائق خمتلفة ترد يف معظم ا ألحيان ب�صيغة
املكت�شف الذي املراقب املكت�شف الذي ي�ضع كل �شيء �أمامه مو�ضع ا أل�سلوب غري املبا�رش احلر ،مثلما تت�ضمن يف احلوار
ي�ضع كل �شيء املعاينة وال�س�ؤال� ،إذ يوا�صل �أحمد زين فاعلية خطابه ال�صامت لل�شخ�صيات ،وهي توا�صل مراقبتها ملا حولها
الروائي التي تنه�ض على جتزئة امل�شهد للوقوف على مرتقبة ما �ست�ؤول �إليه م�صائرها «و�أخذ ي�صغي لكلمات
�أمامه مو�ضع يقر�أها (كذا) �أحدهم لعا�رش مرّة على �سبيل الت�أكد �إن كل
تف�صيالته ،ليكون كل تف�صيل فيه �صورة دالة تنه�ض عرب
املعاينة وال�س�ؤال. املجاورة مع �رشيط �صور اخلطاب الروائي ب�أداء فاعليتها ما يقال لي�س خط� أ مطبعيا ً وال زلة جريدة» نحن مل نفعل
و�إنتاج دالالتها ،فال�صورة تنتظم يف (قهوة �أمريكية) �شيئا ً غري م�ساواتهم باملقيمني ا آلخرين» «لكن يا �سيدي.
بو�صفها كلمة يف جملة مرئية� ،إنها حتقق بالغتها � .ألي�س له عالقة مبوقف حكومتهم من الغزو العراقي
وتنتج جمازها يف ر�ؤية عامل يت�آكل و�إن�سان يدور يف للكويت»( ،)42مثلما ت�شكل مراقبة احلدث ال�سيا�سي جزءا ً
حلقة وا�سعة من التيه ،وهو يعي�ش تناق�ضه مبا حتفل به من ال�رسد نف�سه يف �سعيه إلر�ضاء زمنية �أحداث الرواية
املادة ال�رسدية من متثيل تُطعّم من خالله مبقاطع و�صفية فقد حتوّل بيت اجلدة تدريجاً ،وبعد �أ�سابيع قليلة من
متوالية إلعالنات ال�سلع وهي تهيمن بلوحاتها ال�ضخمة االنت�صار اخلاطف لقوات التحالف� ،إىل نزل �صغري ،ا ألمر
على جمرى احلياة اليومية وتتحكم برغبات �إن�سانها، الذي توا�صل معه ال�شخ�صيات بحثها عن زمنها اخلا�ص
مثلما تتحكم مبجرى التاريخ وتدل على حتوالته «بدا يف خ�ضم ا ألحداث فت�ستعيد بع�ض تفا�صيل حياتها خالل
لعارف �أن تلك الطريقة املبتكرة للوحات ا إلعالن ،التي حكم ا إلمام ،بزيارات ع�ساكره الليلية� ،أو خالل انت�شار
تنت�رش يف الزوايا والتقاطعات وال�شوارع الرئي�سية التي جنود عبد النا�رص يف البالد� ،أيام الثورة على امللكية،
تزدحم بالنا�س ،وفوق �أ�سطح املنازل وبجوار �إ�شارات وهي تلتقط ح�ضورها العبثي وتراقب حياتهم يف خيام
129 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
تُبث من خالل الراديو لترتكب جميعها يف م�ؤدى لغوي املرور ،تعبري عن عهد جديد تدخله �صنعاء»( ، )45ليكون
«تخيلتني �سمكة علقت يف �أع�شاب �شوكية داخل قف�ص العهد اجلديد يف جماز الرواية هو عهد تقدم ا إلعالن ال
زجاجي ،مملوء ماء و�أ�شجارا ً �صناعية �صغرية ،ور�أيت ال�سلعة واندحار ا إلن�سان� ،إذ تظل ال�سلعة املعلن عنها حلما ً
عيني جاحظتني ،والمعتني من الرعب ،ا�ست�سلمت لل�صورة، بعيد املنال ورغبة غري متحققة تعمل الرواية على قراءتها
�أخذت �أتفرّج عل ّي� ،رصت مادة للفرجة ،يف �إعالن تلفزيوين يف اللحظة التي تقر� أ فيها جمتمعها ،حيث «تُقدّم احلياة
طويل ،مع هذه القائمة غري املنتهية من �أ�صناف ا ألطعمة نف�سها بكاملها على �أنها تراكم هائل من اال�ستعرا�ضات،
املختلفة والكماليات وا ألدوات املنزلية وال�سب�شل �أوفر، كل ما كان يُعا�ش على نحو مبا�رش يتباعد متحوال ً �إىل
بريزيدن ،بوردن ،ميلو� ،أندفوود ،لورباك� ،سنو وايت ،هوت متثيل ،)46(»representationلتقول الرواية من خالل ا إلعالن
�إن�سباي�س ،فرياند لفلي»)49(...وهي املتاهة التي �سي�شرتي ما مل تقله يف نظرها مل�شهدها احلياتي ،م�شهد مدينتها
عارف منها بكل ما ميلك علبة قهوة �أمريكية ،و�سيف�شل التي مل تكن �سوى قرية كبرية خرجت من ع�صور �سحيقة
مرّة بعد �أخرى يف �صنعها مبذاق رائع كما ي�شاهد يف وهي «تُ�سقط ما ت�صدر عنه املدن من مواءمة بني احل�سبان
ا إلعالنات مكتفيا ً ب�أنه وجد �أخريا ً عزاء له يف التعرف الدقيق والقيم اجلمالية ،ومالءمة بني احلاجات ا إلن�سانية
على املنتجات ا ألمريكية ،هذه املنتجات التي وهبت وتكامل الكالم اجلماعي»(.)47
الرواية عنوانها و�سورت عاملها بجدار من لوحات ا إلعالن �إن لوحة ا إلعالن ال تقول نف�سها فح�سب ،وال تكتفي
ال�ضخمة ،ليوا�صل تخبطه حتت �سطوتها باحثا ً عن (تاريخ ب�أن ت�سوّق ب�ضاعتها� ،إنها تقولنا على نحو ما ،ومتنح
�شخ�صي) ميكن من خالله �أن يعي�ش يف امل�ستقبل ،حيث يبدو �إن�ساننا فر�صة �ضبابية للعي�ش فيها وال�شعور ب�شبع
احلا�رض زمنا ً متوقفاً� ،إنه ي�سعى للم�شاركة يف احلياة على غريب ،وا إلح�سا�س بنظافة مل يعتدها ملجرد ر�ؤية
طريقته ،واال�شتباك معها يف �سبيل �إنتاج ذاكرة للم�ستقبل، �إعالن �صابون اليف بوي ،وال�شعور برائحته تعبق
حيث يكون احلا�رض نف�سه ما�ضيا ً ويعا�ش بو�صفه تذكرا ً ك�أجنحة املالئكة� ،إنها ت�شهد تفكك عاملها الواقعي،
يعي�شه املرء كما يعي�ش حلما ً �أو كابو�سا ً وي�ستعيده يف جتزئته وت�شظيه �إىل �صور ب�سيطة ،تُ�صبح ال�صور
م�شاهد متوالية على امتداد الرواية ك�أمنا يف فلم �سينمائي، الب�سيطة كائنات واقعية وحوافز فعالة ل�سلوك يف
م�شاهد تتجاور يف حركيتها فيما تتداخل عنا�رص ا إلعالن حالة تنومي(.)48
فيها ملتحمة خارج الوقت الذي يبدو هو ا آلخر غري متوافر �إن ا إلعالن يف رواية �أحمد زين يتخلل احلدث ،يخرتقه
ال يقدم �سوى عي�ش منفلت وال نهائي« ،فالوقت ي�شبه �أبدية ويت�سع فيه ،وهو يف الوقت نف�سه ي�سوره وير�سم حدوده
رخي�صة»( ، )50ا ألبدية التي تعم ّق �شعور عارف با إلغرتاب، ب�أطياف حلمية تعتمل فيها الروائح والطعوم وا أل�صوات،
تبعده عن نف�سه وت�سحبه من حلظته (التاريخية) الفا�صلة، جماالت ح�سية للنظافة والتنا�سق واجلمال تُنتج طباقها
ففي الوقت الذي يكون عارف فيه داخل املظاهرة لن مبواجهة جماالت دنيا يت�آكلها التلوث والركود هي
ين�شغل بغري اللوحات ا ألنيقة وعواملها الفارهة «حني جماالت احلياة التي جتعل من �إن�سانها مقابل قوة ا إلعالن
تخ�ضه ،ترفعه تارة وتنزله مرّة �أخرى، ّ راحت احل�شود القاهرة مادة للعر�ض حيث يكف عن �أن يكون متفرجاً،
مل يدر عارف ملاذا ان�شغل بتلك اللوحات ا ألنيقة ،التي ويزداد �إح�سا�سه ب�أنه مادة للفرجة ،ليكون املتفرِّج
تعك�س رجاال ً ون�ساء ير�شون عطورا ً فارهة على �أج�سادهم، واملتفرَّج عليه يف وقت واحد� ،إنها متاهة ال�سلعة التي
ويقتحمون العامل بروائحهم اجلميلة ،وفكر يف ذلك اجل�سد تنتقل من مراقبة العامل الروائي �إىل لغته لتبدو م�س�ؤولة
الرجويل �شبه العاري ،بال�صدر الف�سيح والبطن امل�شدود، �إىل حد بعيد عن �إنتاج العامل ،مثلما حتدد م�س�ؤوليتها
بالقرب منه زجاجة عطر �أنيقة ،فيما كتب �أ�سفل ا إلعالن يف �إنتاج وعينا به ،ف�إن ال�سمة الرتكيبية يف لغة ( قهوة
()51
ا�سم الوكيل ال�شهري للعطورات العاملية يف دول اخلليج» �أمريكية) تهيء لها املجال لت�ستح�رض ال�سلعة مباركاتها
،بعيدا ً عن خماوفه التي تتكرر على امتداد الرواية ب�أنه التجارية �إىل جوار �أحاديث النا�س اليومية امللتقطة يف
�سيموت بر�صا�صة طائ�شة� ،أو �أثناء انفجار قنبلة� ،صدفة، البا�صات وال�شوارع واملقاهي ،وامللفوظات ا إلنكليزية
مد�سو�سة يف مالب�س قبيلي ،هذا ال�شعور الذي حتول �إىل داخل معهد تعليم اللغة ،وحوار ال�شخ�صيات الذي ال يرتفع
نوع من ترقب وانتظار بني جمموعة من امل�شاهد التي عن اللهجة اليمنية ،وعناوين ال�صحف ،وا ألغاين النادرة
حتفل بالقنابل وا أل�سلحة ،قنابل يدوية يلهو بها ال�صبيان العربية منها وا إلنكليزية ،ت�ؤدى عرب ال�شخ�صيات �أو
130 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�إن بحث عارف عن تاريخ �شخ�صي وهو يحمل عجزا ً و�أ�سلحة تطل من ثياب العابرين ،ا ألمر الذي يدفع عارف
جن�سيا ً نتج عن رف�سة متوح�شة مبقدمة جزمة لتخيل ميتة منا�سبة ال تبعد كثريا ً عن اللحظة التي ينف�صل
ع�سكرية دخلت فتحة �رشجه وغارت عميقا ً ينتج فيها عن دوامة اليومي ونزيف م�شاهده لي�ستبدلها مبيتة
جمازه مبواجهة م�ستقبل لن يتحقق ،ف�إن ما حتلم به درامية متخيلة داخل دار عر�ض �سينمائي يف �ضوء ال�شا�شة
ال�شخ�صية من تاريخ م�رشّف وت�سعى للح�صول عليه التي تعر�ض فيلما ً�أمريكيا ًما دامت كل ا ألفالم التي تعر�ض
عرب ا�شرتاكها ،ولو م�صادفة ،باملظاهرة ،لن يكون غري �أمريكية �سيتلقى عارف الر�صا�صة بعد �أن يلمح ملعة عيني
هدم متوا�صل لذاتها ،ت�شظية ومتزّق يقابالن ما حلمت قاتله ،ليكمل هروبه من موت جماين �إىل موت مق�صود
به ويبددان حلميته مع ت�صاعد ا ألمل والظنون ،مع يقود �إىل الفخر� ،إن التخيل لن يعمل ،بذلك ،على ت�أجيل
توجه عارف للتفكري ب�أنه كائن مغت�صب ،ومع �س�ؤال الواقع بقدر ما يعمل على اقرتاح نهاية على اخلو�ض فيه،
طبيب ا ألمرا�ض التنا�سلية الذي يتجنب النظر �إليه هي �إحدى النهايتني اللتني ينتظرهما عارف ،يرتقبهما،
وهو يحوّل ا ألمل �إىل حكم والظن �إىل اندحار�« :شاذ؟ يعي�ش تف�صيالتهما :موت امل�صادفة واجلنون ،وهما
تفاج� أ فظل �صامتاً ،ظن الرجل �أنه مل يفهم ،فعاد ي�س�أل يلوحان مثل �شبحني يف نهاية امل�شهد بعد �أن افتُتحت
ب�صيغة �أكرث �رصاحة :خمنوث ق�صدي؟»(. )53 بهما الرواية نف�سها وهي تقرتح �أقواال ً لنايبول ،ونيت�شه،
�سيتقارب موقف قبول يف (ت�صحيح و�ضع) وعارف وباموق ،وراكب با�ص عتبة للدخول �إىل عواملها� ،إنها
يف (قهوة �أمريكية) من انتهاك ج�سديهما ،ومراقبتهما ت�ؤ�س�س عرب غياب ا إلرادة ،واالغرتاب ،واجلنون ،م�ؤديات
كما لو كانا يراقبان ج�سدين غريبني ،ال�شعور الذي ا ألقوال وحمموالتها ،مقرتبات عاملها قبل �أن تخو�ض
يدفع الرواية باجتاه النهاية الثانية بعد �أن متثلت فيه ،ك�أن الرواية ح�سمت موقفها من العامل ومل يبق �أمامها
النهاية ا ألوىل بت�صور موت مق�صود ،نهاية اجلنون غري �أن ت�ؤدي متثيالت خطوتها ا ألخرية ،مبا يوطد ال�صلة
التي تظلل الرواية بغمامتها الدكناء فترتك �أثرها باديا ً بني (ت�صحيح و�ضع) و(قهوة �أمريكية) وهما يبنيان على
يف تفا�صيل امل�شاهد ويف �أعماق ال�صور ،و�إذا كانت �أنقا�ض مفهوم الوطن يف اللحظة التي «يتحول االن�سان
(ت�صحيح و�ضع) قد ان�شغلت بحرب ا إلن�سان �ضد نف�سه، فيها �إىل ق�صبة جوفاء تر ّجع الذكريات وتعي�ش انحدارا ً ال
�ضد وجوده وذاكرته يف �سبيل ا�ستعادة ال�صورة ا ألوىل يكاد يتوقف عند حد»( ،)52فالرواية ا ألخرية ال تتعامل مع
للهناءة ،فن هناءة (قهوة �أمريكية) يف حربها إلنتاج عامل جديد وال تقرتح منطقة مبتكرة� ،إنها تو�سع امل�ساحة
ذاكرة ميكن �أن متكث هناك ،يف امل�ستقبل ،حيث ال �شيء التي ان�شغلت بها الرواية ا ألوىل وتعمّق احلفر فيها
غري املرء وتاريخه ال�شخ�صي ي�ؤ�آخي كل منهما ا آلخر، م�ستعيدة �أحا�سي�س قبول يف (ت�صحيح و�ضع) مبواجهة
ي�سنده ويتكئ عليه ،حيث تتحرّك ال�شخ�صية بني طريف وطنها ،وهي تعمل جاهدة يف �سبيل االنفالت منه لتحقيق
الفتنة املكللني بال�سواد :طرف املوت وطرف اجلنون، حلمها باجتياز احلدود مثلما تعيد �إطالق �س�ؤالها يف
و�إذا كان ا ألول ان�سحابا ً نهائيا ً من احلياة ،وذهابا ً معنى الوطن وتعي�ش على نحو �صامت �إجابتها� ،ست�ستعيد
لغزيا ً ال جواب له ،ف�إن الثاين ي�شكل فتنته مبواجهة حياة (قهوة �أمريكية) ج�سامة ال�س�ؤال وتعي�ش �أ�صداء �إجابته عرب
ع�صية على املواجهة ،ع�صية �أمام ال�س�ؤال ،فما يولد من انك�سار احلا�رض ،غيابه �أو �سقوطه �أو متاهيه يف البحث
�أغرب �أ�شكال الهذيان ،بتعبري مي�شيل فوكو ،هو» �شيء عن (تاريخ �شخ�صي) ينه�ض حائال ً �أمام غدر امل�ستقبل،
كان خمتفيا ً كال�رس من خالل مفارقة عجيبة� ،إنه ي�شبه ليعادل غدرُ احلا�رض غدرَ امل�ستقبل ،يُنتجه ويُف�ضي �إليه،
حقيقة ال ميكن الو�صول �إليها يف قلب ا ألر�ض»( ، )54هذا وهما معا ً يقتاتان على املا�ضي ،يجردانه من �أهميته
ال�رس الذي دفع عارف مرارا ً للهروب من م�شاهد اجلنون وي�سطوان عليه ،مثلما يك�شفان تناق�ضه مبواجهة تاريخ
وهي تتكرر �أمامه ك�أنها تُنتج ذاتها بتلقائية واعتياد، وطني عريق� ،إن البحث عن تاريخ �شخ�صي يف ظل عراقة
حتى ليبدو االنحدار باجتاه اجلنون �أمرا ً مدركاً ،على تاريخ وطني عملية ال تخلو من مفارقة والتبا�س ،عراقة
الرغم من خ�شيته ،ومنتظرا ً على الرغم من ا�ستحالة تُنتج اجلغرافيا فيها �أ�سطوريتها ،وعرب ا أل�سطورة حتقق
التكهن به� ،إنه يحدث ملن حولنا كما لو كان مقدمة ملا ح�ضورها مكانا ً �أول للذاكرة ،الذاكرة الب�رشية هذه املرّة،
�سيحدث لنا. حيث ال يعد ثمة جمال للذاكرة الفردية حتيا من خالله
�إن اخل�شية تدفع عارف لهوة اجلنون ،اخل�شية تناديه، وتنمو فيه.
131 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
(�)44أحمد زين ،قهوة �أمريكية ،رواية ،املركز الثقايف العربي ،بريوت مثلما نادته الر�صا�صة مليتة م�رشّفة ،فتنعك�س �صورته يف
2007
()45م .ن16 : عيون ا آلخرين ن�صف عار يعرب ال�شوارع املكتظة منتظرا ً
()46جي ديبور ،جمتمع الفرجة ،ت� .أحمد ح�سان ،دار �رشقيات ،القاهرة الر�صا�صة من جديد ،من دون �أن يجد مفرا ً من �س�ؤال نف�سه
9 :1994 قبل انزالقه �إىل مهاوي اجلنون :هل كنت تطارد تاريخا ً
()47في�صل درّاج ،رواية تواجه مدينة عربية ،جريدة (احلياة) اللندنية
2007/7/17 �أم �صورة؟
()48يرن :جي ديبور ،م� .س�)49( 67:أحمد زين ،م� .س67 : الهوام�ش:
()50م .ن)51( 35 :م .ن)52( 81 :حممد برادة ،م� .س
(�)53أحمد زين ،م� .س113 : ()1ينظر� :صربي حافظ ،نقل املركزية الروائية وجماليات �رسد ما بعد
()54مي�شيل فوكو ،تاريخ اجلنون يف الع�رص الكال�سيكي ،ت� .سعيد بنكراد، احلداثة ،جملة(ا ألقالم) العراقية ع2ني�سان�/آيار7: 1998
املركز الثقايف العربي 43 :2006 ()2ينظر:د .في�صل درّاج ،نظرية الرواية والرواية العربية ،املركز الثقايف
العربي ،بريوت ط286 : 2
م�صادر البحث ()3كارل مارك�س ،القلب ا آليديولوجي ،كتاب :الفل�سفة احلديثة ،ن�صو�ص
ـ الروايات: خمتارة ،اختيار وترجمة :حممد �سبيال وعبد ال�سالم بنعبد العايل� ،أفريقيا
�أحمد زين: ال�رشق ،املغرب 132: 2001
_ ت�صحيح و�ضع ،دار االنت�شار العربي ،بريوت 2004 ()4منت�رص القفا�ش� ،أن ترى ا آلن ،رواية ،دار �رشقيات ،القاهرة 2002
_ قهوة �أمريكية ،املركز الثقايف العربي ،بريوت 2007 ()5مريي ورنوك ،الذاكرة يف الفل�سفة وا ألدب ،ت .فالح رحيم ،دار الكتاب
اجلديد املتحدة ،بريوت 159: 2007
منت�رص القفا�ش: ()6منت�رص القفا�ش ،م� .س8 :
_ �أن ترى ا آلن ،دار �رشقيات ،القاهرة 2002 ()7مي التلم�ساين� ،صفحة بي�ضاء هي حياته ،جملة ( قوافل ) الريا�ض ع18
_ م�س�ألة وقت ،روايات (الهالل) القاهرة ،عدد 709يناير2008 دي�سمرب 54 : 2002
ـ الكتب: ()8منت�رص القفا�ش ،م� .س9 :
_ �أ� .أ .مندالو ،الزمن والرواية ،ت .بكر عبا�س ،مراجعة �إح�سان عبا�س ،دار ()9م .ن)10( 9 :م .ن)11( 10 :م .ن)12(10 :م .ن10 :
�صادر ،بريوت1997 ()13ينظر :مريي ورنوك ،م� .س37:
_ �أدوار اخلّراط� ،أن�شودة للكثافة ،دار امل�ستقبل العربي ،القاهرة 1995 ()14منت�رص القفا�ش ،م� .س11:
_ جي ديبور ،جمتمع الفرجة ،ت� .أحمد ح�سان ،دار �رشقيات ،القاهرة ( )15ادوار اخلّراط� ،أن�شودة للكثافة ،دار امل�ستقبل العربي ،القاهرة 1995
1994 188 :
_ �سوزان �سونتاغ ،االلتفات �إىل �أمل ا آلخرين ،ت .جميد الربغوثي� ،أزمنة ( )16منت�رص القفا�ش ،م� .س)17( 11 :م .ن)18( 29 :م .ن31 :
للن�رش والتوزيع ،عمّان 2005 ( )19م .ن)20( 31 :م .ن37 :
_ �شجاع م�سلم العاين ،قراءات يف ا ألدب والنقد ،احتاد الكتاب العرب ،دم�شق ( )21ادوار اخلرّاط ،ن�ص ور�ؤيتان ،جريدة ( �أخبار ا ألدب ) القاهرة24 ،
1999 مار�س 2002
_ في�صل درّاج ،نظرية الرواية والرواية العربية ،املركز الثقايف العربي، ( )22منت�رص القفا�ش ،م .ن118 :
بريوت ط2 ( )23منت�رص القفا�ش ،م�س�ألة وقت ،روايات (الهالل) القاهرة ،عدد 709
_ كارل مارك�س ،القلب ا آليديولوجي ،كتاب :الفل�سفة احلديثة ،ن�صو�ص يناير2008
خمتارة� ،إختيار وترجمة :حممد �سبيال وعبد ال�سالم بنعبد العايل� ،أفريقيا (� )24سوزان �سونتاغ ،االلتفات �إىل �أمل ا آلخرين ،ت .جميد الربغوثي� ،أزمنة
ال�رشق ،املغرب 2001 للن�رش والتوزيع ،عمّان 85 :2005
_ مي�شيل فوكو ،تاريخ اجلنون يف الع�رص الكال�سيكي ،ت� .سعيد بنكراد، ( )25منت�رص القفا�ش ،م� .س)26( 10 :م .ن)27( 35 :م .ن123 :
املركز الثقايف العربي 2006 ( )28م .ن5 :
_ مريي ورنوك ،الذاكرة يف الفل�سفة وا ألدب ،ت .فالح رحيم ،دار الكتاب ( )29جابرع�صفور ،هوام�ش للكتابة /م�س�ألة وقت ،جريدة(احلياة) اللندنية
اجلديد املتحدة ،بريوت 2007 2008/2/20
_ الدوريات: ( )30منت�رص القفا�ش ،م� .س115 :
_ جملة(ا ألقالم) العراقية ع2ني�سان�/آيار� :1998صربي حافظ ،نقل ( )31ينظر:د .يو�سف �شكري� ،شعرية ال�رسد الروائي عند ادوار اخلراط ،جملة
املركزية الروائية وجماليات �رسد ما بعد احلداثة (عامل الفكر) ع2مج� 30أكتوبر256 :2001
(� )32أحمد زين ،ت�صحيح و�ضع ،رواية ،دار االنت�شار العربي ،بريوت 2004
_ جملة (ف�صول) القاهرية مج 16ع :1998/4معجب الزهراين ،متثالت ()33م .ن58 :
اجل�سد يف مناذج من الرواية العربية املعا�رصة (� )34أ� .أ .مندالو ،الزمن والرواية ،ت .بكر عبا�س ،مراجعة �إح�سان عبا�س،
_ جملة (عامل الفكر) الكويتية ع2مج� 30أكتوبر :2001د .يو�سف �شكري، دار �صادر ،بريوت 89 :1997
�شعرية ال�رسد الروائي عند ادوار اخلراط ( )35حممد برادة� ،أحمد زين يبحث عن وطن غائب يف رحلة ال تنتهي،
_ جريدة ( �أخبار ا ألدب) القاهرية 24 ،مار�س :2002ادوار اخلرّاط ،ن�ص جريدة (احلياة) اللندنية 2005/9/30
ور�ؤيتان ( )36معجب الزهراين ،متثالت اجل�سد يف مناذج من الرواية العربية
_ جريدة(احلياة) اللندنية : 2008/2/20جابرع�صفور ،هوام�ش للكتابة/ املعا�رصة ،جملة (ف�صول) القاهرية مج 16ع79 :1998/4
م�س�ألة وقت (� )37أحمد زين ،م�,س88 :
_ جريدة (احلياة) اللندنية :2007/7/17في�صل درّاج ،رواية تواجه مدينة ( )38م .ن)39( 167 :م .ن107 :
عربية ( )40د� .شجاع م�سلم العاين ،قراءات يف ا ألدب والنقد ،احتاد الكتاب العرب،
_ جريدة (احلياة) اللندنية : 2005 /9/30حممد برادة� ،أحمد زين يبحث دم�شق 64 :1999
عن وطن غائب يف رحلة ال تنتهي . (� )41أحمد زين ،م� .س)42( 19 :م .ن)43( 20 :م .ن146 :
132 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قليلة هي املنا�سبات التي خا�ض فيها امل�ست�رشق الفرن�سيّ �شارل ب ّال يف م�سائل
الأ دب وق�ضاياه و«�ش�ؤونه الدّاخليّة» .ودرا�ساته املفردة يف هذا الباب تع ّد
على ر�ؤو�س الأ �صابع قيا�سا �إىل غريها من الدّرا�سات التي ولىّ فيها –كعامّ ة
امل�ست�رشقني -وجهه قبلة ال ّت�أريخ -الأ نرتوبولوجي العامّ -لثقافة العرب
و�أحوالهم ال�سيا�سية واالجتماعية دون عناية بتفا�صيل اخلطاب وق�ضاياه الآ نيّة
( -synchronique -الأ �سلوبية ،الفنية ،البالغية..؛ والنّظريّة –نظرية الأ دب،)-
ودون خروج عن منطق تغليب الإ يديولوجي (ق�ضيّة ال�شّ عوبيّة ،مثال ،وهي من
الق�ضايا الأ ثرية التي ال يخلو كتاب م�ست�رشق من �أ�صدائها وق�ضايا ال�صرّ اع
الدّاخليّ على ال�سّ لطة…�إلخ) ودون خروج –يف القراءة -عن منطق ال ّت�أثري
الأ جنبيّ يف الثّقافة العربيّة .وهو منطق �أحاديّ يقنع فيه امل�ست�رشقون غالبا –
بل دائما -بو�ضع ثقافة العرب يف مو�ضع املنفعل ال الفاعل ،الآ خذ ال املعطي…
فك�أنمّ ا هي –خالفا لثقافات الدّنيا كلّها -ثقافة قا�رصة ،ال متلك حركة نف�سها
وال تتطوّر ذاتيّا ،من الدّاخل .فقدرها –كما هو �ش�أنها اليوم� -أن تظ ّل حتت رحمة
يف ومقوالتها ما ي�شاء ،ون�صيبها من الإ بداع ما يجودالآ خر ي�صنع مبنتجها الثّقا ّ
به غريها عليها !
� lأن «منوذج» الأ دب نف�سه وما يقوم عليه خطابه من ف ّنيّات وطرائق يف الكتابة مل
يدر�س بعد… ولذلك ال نعرف �إن كان هذا «الأ دب» نوعا �أدبيا �أو �أ�سلوبا ف ّنيّا �أو
فل�سفة من فل�سفات الكتابة �أو منهجا �أو غري ذلك… فك ّل ما نعرفه ال يتعدّى ما
قاله اجلاحظ عن �صفة يف �صفاته و�أنه «الأ خذ من كل �شيء بطرف»!
� lأمر �آخر مهمّ� ،أن النماذج الذي عر�ضها بال والأ مثلة التي �ضربها � إمنا اتكل
�أ�صحابها فيها على اجلاحظ و�أدبه.
méta- -الدّافع الثاين ميكن تنزيله يف �إطار «امليتا-نظري» ( مقدّ مة املرتجم :
.)théoriqueونعني بذلك ما تطرحه قراءة �شارل ب ّال –امل�ست�رشق، ومن الدّرا�سات املهمّة التي تذكر لـ«بالّ» يف حقل البحوث
امل ؤ�رّخ -يف مفهوم الأ دب من ق�ضايا و�إ�شكاليات .ولي�س من باب الأ دبيّة اخلال�صة �أو �شبه الأ دبيّة ،ف�ضال عن هذه الدّرا�سة التي
ف�ضول القول �أن �أ�ضفنا �صفة امل ؤ�رّخ وامل�ست�رشق و�أبرزناهما. نعر�ضها معرّبة ،درا�سة «الأ دب العرب ّي وق�ضايا الأ دب املقارن»
فتوابع ال ّت�أريخ واال�ست�رشاق ماثلة حتّى يف هذه الدّرا�سة التي ( )littérature arabe et problèmes de littérature comparéeوقد عرّبناها هي
كان يُفرت�ض �أن تكون نظريّة خال�صة �أو �أقرب �إىل النّظر ،وهاج�س الأ خرى و�ستن�رش قريبا ،ودرا�سة له �أخرى يف اجل ّد والهزل
الإ يديولوجي حا�رض دائما. ()seriousness and humour in early Islamوما عدا ذلك ف�آرا�ؤه يف ما
-ويف هذا املقال فر�صة �أخرى لالطّ الع على وجه � آخر من
اتّ�صل بالأ دب العرب ّي ال تخرج عن بع�ض ال�سّ ياقات العار�ضة
فل�سفة اال�ست�رشاق ومناهجه وطرائق ا�شتغاله يف غري احلقول
ونخ�ص منها كتابه امل�شهور :الو�سط ّ يف ت�ضاعيف كتبه
التي اعتاد �أن يرتادها ويتحرّك يف م�سارحها ،ونعني احلقل
الب�رصي ودوره يف تكوين اجلاحظ (Le milieu basrien et la formation
خا�صة .ومل تخل هذه الدّرا�سة من بع�ض �أ�صدائه ال ّت�أريخي ّ
…)de Gâhizو�أغلبها حماوالت عامّة جمملة تكتفي بالإ طاللة
وهفواته �أي�ضا.
العابرة ،والوم�ضة ال�سرّ يعة ،واحلكم االنطباع ّي الذّات ّي املت�رسّع
-النّقطة الثّانية :تتّ�صل بالبحث يف امل�صطلحات الف ّنيّة عامّة
خا�صة .وهو مبحث مل ويف ما اتّ�صل منها بالأ نواع الأ دبيّة ّ �أحيانا .فال ت�شقيق وال حتقيق .وقد انتبه امل�ست�رشق نف�سه يف
ُيقننّ �إىل اليوم ومل يقعّد .و�إنمّ ا ظ ّل يجري وفق ال�سّ انح والدّاعي. ما ي�شبه القراءة الذّاتيّة �إىل خ�صائ�ص منهجه الغالب على
ويف هذا املقال عيّنة منهجيّة الب ّد من تدبّرها والوقوف على الكتاب املذكور (الو�سط الب�رصيّ ) . .بـ«التّحليق» (. .)survol
خ�صالها و�أوجه تطويرها ت�أ�سي�سا ملنهج علميّ يف قراءة ومل يفته �أن يدعو امل�ست�رشقني من بعده �إىل جتاوز هذا املنهج
الأ نواع الأ دبيّة العربيّة القدمية :ن�ش�أتها ،م�صطلحها (وت�أ�صيله)، ال ّت�أريخي الزّماين ( )diachroniqueت�أ�سي�سا لقراءة داخليّة يف ن�صو�ص
�أ�شكالها و�إ�شكالياتها وطرائق تطوّرها…. خا�صة –وهو مو�ضوع كتابه ومدار �أغلب بحوثه -ويف اجلاحظ ّ
ن�ص مهمّ ،متعدّدة �أوجه ما نقدّمه هنا –منعا للإ طالةّ - عامّة ما �أنتجته الثّقافة العربيّة الإ �سالميّة القدمية.
لن�ص
الإ فادة منه والإ �ضافة �إليه .وهو لي�س وح�سب ترجمة ّ ونح�سب �أ ّن هذه الدّرا�سة التي نقدّم اليوم للقارئ �إنمّ ا ت�ستجيب،
ّ�ص يف �أ�صله الأ وّل حما�رضة و�إنمّ ا هو �أ�شبه بالتّحقيق .لأ نّ الن ّ مبعنى ما من املعاين� ،إىل هذا املطلب وتنخرط يف هذا امل�رشوع
ّ�ص الفرن�سيّ املكتوب �شفويّة دوّنت بالفرن�سيّة .ولئن احتمل الن ّ املن�شود.
هنات امل�شافهة وا�ستطاع �أن يكيّفها ويلجم تنطّ عها وا�ستطاع وممّا دعانا �إىل تعريبها� ،أمور - :مو�ضوعها �أوّال ،ومداره
�أن يكيّفها فظ ّل مع ذلك متنا�سقا مفهوما ،فقد كان علينا �أن اخلا�ص
ّ على مفهوم «الأ دب» العرب ّي مرتاوحا بني املفهوم
ّ�ص وا�ضحا نتدبّر الأ مور ونحتال على اللّغة ونحبرّ ها ليظ ّل الن ّ (الأ دب يف مفهومه اجلاحظ ّي الأ وّل) واملفهوم العا ّم (الأ دب
يف العربيّة -ي�ستويف �رشوط الفهم والإ فهام� ،-أمينا يف الآ ن يل و�صناعة خلطاب خم�صو�ص خمتلف �ألوانه مبا هو ف ّن قو ّ
ذاته على م ؤ�دّى اللّ�سان الأ وّل وحافظا حلرمة اال�صطالحي من .)littératureوما �أحوجنا اليوم �إىل مراجعة هذا «املفهوم»
الأ لفاظ فيه .ومن هنا كانت بع�ض الزّيادات التي اقت�ضاها امل�شكل ،وتدبّره ،والوقوف على �أ�س�سه ،ومنطلقاته،
ال�سّ ياق ودفع �إليها املو�ضع ولوازمه .ويف املقال وقد حو�رض وفل�سفته…متهيدا للك�شف عن نقاب «النّوع» –نوع
به يف جمهو ٍر عاملِ ،غربيّ ،واتُّخذ له من املراكب املنهجيّة الأ دب -هذا الذي ظ ّل جمهوال �إىل �أيّامنا؛ ال منلك من �أ�رساره،
منهج التّنويع والأ خذ من ك ّل �شيء بطرف –كمنهج الأ دب، والعلم ب�أغواره �شيئا يذكر �أو يُتذاكر ! فحاله كحال امل�أ�ساة
مو�ضوع املحا�رضة وقطب رحاها -عدد من العبارات الالّتينيّة قبل جميء �أر�سطو �أو هو �أهول .و�إالّ فهل من علم لنا اليوم
والإ �سبانيّة… وقد اجتهدنا يف نقلها .وع�سى �أن نكون قد �أفلحنا بهذا اخلطاب وخ�صائ�صه الف ّنيّة الإ ن�شائيّة ( )poétiques؟ وهل
يف ذلك و�أ�سدينا خدمة �إىل خدمة الأ دب العربيّ القدمي ومريديه غادر الدّار�سون فيه «من مرتدّم» ما جاء عن اجلاحظ –�أو
واملنافحني عنه. بع�ض البع�ض منه -من جمل مقت�ضبة ت�سم الأ دب ب أ�نّه
تنويعات على معنى أ «الأ خذ من ك ّل �شيء بطرف»؟ فهل علمنا منطق هذا الأ خذ
()1
الدب مثال وطرائق ت�رصيفه و�إجرائه يف اخلطاب ؟ وهل عرفنا
عندما �رشّفني �أرمون � آبال وودّين بدعوتي �إىل املجيء و�إلقاء حدود هذه الأ طراف املق�صودة ؟ وهل بحثنا عمّا يقيّد هذا
هذه املحا�رضة يف بروك�سل بدا يل ك أ�نّه يرغب يف [احلديث التّعريف الذي قتل بحثا –وال بحث� -أو يكمّله؟؟؟
عن] مو�ضوع من موا�ضيع الأ دب العربيّ وعن �س�ؤال الأ دب على لهذا الأ �سئلة بع�ض �أطراف جواب يف هذا الدّرا�سة .ومن هنا
وجه اخل�صو�ص .وكان يل ذلك منا�سبة لإ دخال بع�ض النّظام �أهمّيتها .فلعلّها �أن تكون بداية عوْد �إىل درا�سة معمّيات هذا
على �أفكار كانت ال تزال بع ُد ملتب�سة يف ذهني .فقبلت الدّعوة املفهوم الغام�ض الذي ال يكاد يتن�سّ ب ،وال نكاد نخرج فيه �إىل
على عجل؛ على �أنيّ ،ما يف ذلك �شكّ ،لن �أعرف يف �ساعة واحدة اليوم عمّا �سطّ ره امل�ست�رشق الإ يطايل كارلو نلّينو و�إليه يعود
من الزّمن �إىل ر�سم تاريخ هذا الأ دب املتعدّد الأ �شكال �سبيال. الف�ضل يف زيارة هذا املبحث والنّب�ش عليه يف مدافنه الأ لفيّة.
134 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
التي جتمع بني �صفتني :كونها حممودة ،وموروثة عن ال�سّ لف وملّا كانت �سبل البحث يف هذه امل�س�ألة كثرية ال تكاد حت�صى،
ال�صالح.
ّ ف�س�أختار منها ما ميكّنني ،باتّباع م�سلك لولبيّ يتنا�سب يف
ويالحظ نلّينو بعد ذلك �أنّ كلمة «�أدب» ،يف �صيغة املفرد ،قد جملته �إىل ح ّد ما مع منهج «الأ دب» ،من التّوجّ ه �إىل �صميم
تدققت ولطف معناها ما �إن و�صل العرب �إىل درجة من احل�ضارة الق�ضيّة حيث �سنجد –بالطّ بع� -صاحبنا اجلاحظ :القطب الذي
�أرفع لتدلّ –من جهة -على القواعد املُ�سهمة يف تكوين الأ خالق عليه تدور يف نهاية املطاف رحى الأ دب كما تقول العرب.
يالحظ نلّينو العمليّة ممّا ال حتويه التّعاليم القر� آنيّة والتّقليديّة (املوروثة)، من املفيد دائما يف جمال بحثنا ،بغية فهم املعنى العميق
ومن جهة �أخرى ،على العوائد احل�سنة مكت�سب ًة كانت �أو فطريّة، مل�صطلح من امل�صطلحات الف ّنيّة التي تعرت�ضنا� ،أن نلج أ�
بعد ذلك أ� ّن كلمة وعلى جملة املبادئ الرتبوية الالّزمة ملن يروم التّحلّي يف �إىل فقه اللّغة منذ البداية و�أن ن�ستح�رض علم الدّاللة على
«�أدب» ،يف �صيغة �سلوكه بالالّئق من �أخالق علية املجتمع -وهو ما يقرّبه طول الطّريق :فهو علم غالبا ما كان هاديا� ،إذ ميكّن من
املفرد ،قد تدققت الأ �ستاذ غابرييلّي من معنى «ال�سّ لوك احل�ضاريّ » [يف امل�صطلح حما�رصة التّ�صوّرات الأ �سا�سيّة ويك�شف يف حاالت كثرية
الالّتينيّ ] )urbanitas(-ويدلّ �أخريا على جملة املعارف الدّنيويّة عن مالمح قد تكون غام�ضة تتعلّق بنف�سيّة م�ستعملي
ولطف معناها ما التي الب ّد لك ّل طبقة من الطّ بقات �أن تكت�سبها التزاما مبا يتنا�سب يل ال�شهري اللّغة .وهذا ما كان قد �أدركه امل�ست�رشق الإ يطا ّ
� إن و�صل العرب � إىل ووظائفها (مثل الق�ضاة واملعلّمني وكتّاب الدّواوين.) . . كارلو �أ .نلّينو الذي خ�صّ �ص -منذ تكليفه �سنة -1910
درجة من احل�ضارة وباالنتقال من طور الرّواية ال�شّ فويّة �إىل طور التّوا�صل الكتابيّ ، 1911ب�إلقاء درو�س يف الأ دب باللّغة العربيّة يف جامعة
تولّد عن هذه املبادئ و�أمناط ال�سّ لوك واملوروثات التّقليديّة القاهرة -درو�سه الأ وىل للتّعريف بكلمة «�أدب» التي
�أرفع لتدلّ –من ال�صنفوالتّعاليم املكوّنة للأ دب ثالثة �أ�صناف من الكتب :ي�ض ّم ّ كان قد اتخذها علماء العربيّة م�صطلحا داالّ على املادّة
جهة -على القواعد خللُق». ال�صبغة الأ خالقيّة� ،أو لنقل» �أدب ا ُ الأ وّل الكتابات ذات ّ التي يدرّ�سون وحتليل دالالتها .ورغم قِدم الف�صل الذي
امل ُ�سهمة يف تكوين ( )adab-parénèseوي�ض ّم الثّاين الكتب اجلامعة املوجّ هة للخا�صة مهّد به نلّينو لكتابه املدر�سيّ ،وقد ن�رش بالإ يطاليّة ث ّم
( )gens du mondeوحتتوي على مقطوعات من النّرث وال�شّ عر والأ خبار بالفرن�سيّة( ،)2ف إ�نّه ال يزال يحتفظ بك ّل قيمته؛ وال �شيء فيه
الأ خالق العمليّة املتنوّعة والطّ رف والنّوادر التي حت�سن الإ فادة منها يف املجال�س ي�ستح ّق التنقيح الب�سيط �إالّ بع�ض النّقاط –وذلك �إذا خيرّ نا
ممّا ال حتويه الرّفيعة؛ وهذا هو ما ن�سمّيه «الأ دب-الثّقافة» ( )adab-cultureوبه طبعا �أن نكتفي بالتحليل اخلارج ّي للم�صطلح و�أعر�ضنا
التّعاليم القر�آنيّة ال�صنف يتّ�صل «الأ دب-فنّ احلياة» ( )adab-savoir-vivre؛ وي�ض ّم ّ عن ال ّت�أريخ لـ«النّوع».
والتّقليديّة الثّالث كتبا تعليميّة موجّ هة �إىل العاملني يف �شتّى امل�شاغل � أس�ُعر�ض �إذن عن �إعادة ما قاله هذا العالّمة مكتفيا ب�إبراز
الفكريّة ،و�أ�صنافا من الكتب املوجِّ هة )6()vade-mecum؛ وهذا هو م�س�ألتني تف�صيليّتني.
(املوروثة) ،ومن «الأ دب-التّكوين املهنيّ » (.)adab-formation professionnelle يللقد �أخذ نلّينو يف غري م�شقة ،ودعا �إىل الأ خذ ،بالتّ�شقيق الدّال ّ
جهة �أخرى ،على ها �أنا �أفرغ من تلخي�ص عمل نلّينو الذي �أراه ،ال�ستناده �إىل الذي اقرتحه فولري�س ( )Vollersمنذ عام ،1906وقد ذهب فيه
العوائد احل�سنة مدوّنات متميّزة و�رشوح معجميّة دقيقة ،منطلقا مكينا [للبحث �إىل �أنّ «�أدب» مفرد �أُبدل منذ حقبة ما قبل الإ �سالم �إىل �صيغة
يف ق�ضيّة الأ دب]. اجلمع «� آداب» العائدة بدورها �إىل املفرد « َد�أب» الوارد ذكره
مكت�سب ًة كانت �أو ومع ذلك ،فعلى قدر ما لهذا التحليل الذي قدّمه من نفا�سة، يف القر� آن( )3مبعنى العادة وال�سّ نّة واملنزلة ،ومثلُه ما جنده يف
فطريّة ،وعلى جملة ف�إن مفهوم الأ دب يظل جمانبًا للأ �صل ،منفلتا ( )fuyanteعند ال�صاحلني قبلكم»(� .)4إ ّال �أنّني �أرى
احلديث النّبويّ « :ف إ�نّه د�أب ّ
املبادئ الرتبوية الباحثني العرب ممّن �سعوْا �إىل تعريفه فاقرتحوا جمموعة �أنّ كلمة «د�أب»� ،ش�أنها يف ذلك �ش�أن كلمة �سنّة ،كان لها يف
من التّق�سيمات امل�صطنعة واخلاطئة بالنّظر �إىل حقيقة الأ �صل معنى مادّيّ هو معنى «ال�سّ بيل وامل�سلك» و�أنّ زوجه
الالّزمة ملن يروم [الأ دب] املتحولة� .إذ مل ير ه�ؤالء ال ّنقّاد �أ ّن الأ دب يف الثّاين �« :أدب» ،ملجرد �أن حاجة مّا -تكاد تكون غام�ضة-
التّحلّي يف �سلوكه مفهومه الوا�سع كان واقعا على ثالثة م�ستويات متوالج قد دفعت [العرب] �إىل اخرتاعه ،الب ّد �أن يغطّ ي مفهوما �أبعد
بالالّئق من �أخالق بع�ضها يف البع�ض الآخر تواجلا حميميّا –�إن جازت هذه يف التّجريد .و�أنت ال جتد هذه الكلمة يف القر� آن يف حني تظهر
ال�صّ ورة :م�ستوى �أخالقيّ ،وم�ستوى اجتماع ّي وم�ستوى يف بع�ض الأ حاديث( )5حيث يدلّ الفعل «�أدّب» ،امل�شتقّ من
علية املجتمع. فكريّ . اال�سم ،على معنى التّعليم والتّلقني والفاع ُل :هو اللهّ .وبعد
واحلقّ �أنه ال وجود حل ّد فا�صل بني هذه املالمح املتعدّدة للأ دب ظهور الإ �سالم وا�صلت كلمة «د�أْب» م�شوارها �إىل اليوم دون
ذي املحتوى اجلامع �أ�سا�سا لقواعد ال�سّ لوك املوروثة عن ال�سّ لف �أن تتمحّ �ض �إىل ا�صطالح فنّيّ خم�صو�ص بينما اكت�سبت كلمة
�سواء �أكان من العرب �أم الفر�س �أو حتّى من اليونان. «�سنّة» قيمة دينيّة واكت�سب «الأ دب» معنى موازيا ،هو معنى
لقد كانت الغاية احلقيقيّة من وراء الأ دب –باخت�صار -تكوين دنيويّ خال�ص .من جهة �أخرى ،يقابل املعجميّون بني «�إرب»
يف بطرائق امل�سلم املتو�سّ ط يف احلقل الدّينيّ والأ خالقيّ والثّقا ّ خا�صة�« -أريب» ،من ناحية ،و«�أدب» و«�أديب»، و«�إرابة» و– ّ
متنوعة �س�أ�سعى �إىل تبيان بع�ض خطوطها الكربى مركّزا يف من ناحية ثانية .والأ ريب :الذّكيّ ،دقيق الفهم ،والبارع يف ك ّل
ذلك ،وهل من �شكّ ،على الظّ اهرة اجلاحظيّة التي يبدو �أنّ نلّينو �صناعة� .أمّا الأ ديب :فاجلامع للخ�صال املكوّنة للأ دب� :أعني،
ال يعرفها حقّ املعرفة. على ح ّد املدرك منها ،جملة العوائد والأ �ساليب و�أمناط ال�سّ لوك
135 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�إنَّ �أ ْمدَحَ ما يمُ دح به الأ ديبُ ( ،)homme de lettresعند ابن �شُ هيد هذا يف القرن املا�ضي ،عندما ا�ضطر علماء العربية ،كما كان �ش�أن
نف�سِ ه ،و�سمُه بال�شّ اعر اخلطيب ال مبعنى �« :شاعر وخطيب» ،بل الأ تراك قبلهم� ،إىل تعريب م�صطلحنا [الغربي] « ،« littératureوقع
مبعنى الكاتب ذي الطّ بع الفريد اجلاري على الوِزان نف�سِ ه من اختيارهم يف احلني على كلمة «�أدب» لتدلّ على املق�صود ،وعلى
(ال�صنعتني) �أو يف كِ ال ّ ال�صناعتينْ
الي�رس وال�سّ ال�سة يف كلتا ّ اجلمع «� آداب» –الذي هو اليوم �أو�سع انت�شارا من غريه -وحتّى
الفنَّينْ ،ال�شّ عر والنّرث ،وهما املكوّنان الأ �صليّان للأ دب. على «�أدبيّات» وهو اللّفظ الوحيد الذي اقرتحه هـ .فيهر H. Wehr
وثمّة عبارة �أخرى موازية وهي خمتلفة عن الأ وىل متام للدّاللة على مفهوم littératureحماكيا يف ذلك ،بال �شكّ ،كلمة
االختالف يف �صميمها وهي عبارة «ال�شّ اعر الأ ديب» التي كثريا «�أدبيّات» ( )edebiyetالترّ كيّة.
ما جندها عند املتقدّمني وت�ستحقّ �أن نقف عندها بُرهة ما دمنا كنت �أفكّر �إذن [كما قلت � آنفا] يف البحث يف وعي علماء العربيّة
نروم التّعريف بالأ ديب. العميق عمّا ميكن �أن يعلّل اتخاذ هذه الكلمة لتعريب م�صطلح
«ال يغدو الإ ن�سان �شاعرا بل يولد �شاعرا» .كذا يقول الإ �سبان ( ،)littératureذلك �أنّ �أيّ مفكّر دنيويّ ال ميلك بعد �أن ي�سمع ما �أنا
بارعني ( .)el poeta nace y no se haceوكذا متاما موقف املربَّزين من يلب�صدد قوله �إ ّال �أن يعجب ملا بلغته [الكلمة] من تو�سّ ع دال ّ
نقّاد العرب الذين يُعلون يف الأ قدار من �ش�أن ال�شّ اعر املطبوع، ( )extension de sensيبدو يف ظاهره على قدر من الغل ّو كبري.
«ال�شّ اعر املولود �شاعرًا» ،وهو الذي لفرط غناه عن تعلّم و�إنّني لأ عرتف بتوا�ضع �أنّ ك ّل جهودي قد ذهبت �سدًى ،و�أنّه الب ّد
ال�صناعة ،ك�أنّ ال�شّ عر �سجيّة فيه بل وك أ�نّه –�إن �أخذنا باملعتقد ّ للمرء من التّحلّي بقدر كبري من ح�سن ال ّنيّة بل قل من ال�سّ ذاجة
القدمي -يتكلّم على ل�سانه �شيطان. لإ جراء هذه الكلمة على جمموع الإ نتاج الأ دبيّ ( littéraireيف حني
كان اخلطيب القدمي ِ�صنو ال�شّ اعر ث ّم ح ّل حملّه بعد ذلك –على مل يكن «الأ دب» ميثّل من هذا املجموعِ �إ ّال ق�سما من �أق�سامه،
الأ ق ّل منذ القرن الرّابع هـ / .العا�رش م - .ال النّاثر الب�سيط و�إمنا وكان يق�صي ك ّل امل�ؤلفات ذات التّوجّ ه الدّينيّ �أو التّقنيّ وهي
الكاتب املرت�سّ ل .ويف حتفة ابن �شهيد الف ّنيّة الق�صرية املو�سومة امل ؤ�لّفات التي تكوّن الأ غلبيّة ال�سّ احقة للكتابة النّرثيّة ،هذا من
بـ «التّوابع والزّوابع» ،ال يزال اخلطيب هو الرّج َل امللهم بينما ناحية ،كما يق�صي من ناحية �أخرى ال�شّ عر كلّه مبا هو �شعر
ين الذي يكتب الرّ�سائل هو يف غريه من م ؤ�لّفاته الكاتب الدّيوا ّ و�إن كان هذا ال�شّ عر ال يحتاج مبا هو ديوان العرب ،كما �أ�شار
الدّيوانيّة يف نرث م�سجوع ث ّم ي�سرت�سل �ساعة اال�شتغال بهواياته عليّ م�ؤخّ را �صديق يل تون�سيّ � ،إ ّال �إىل �شيء من املكر واحليلة
�إىل بع�ض الرّيا�ضات الأ دبيّة كالو�صف واملناظرات وغريها من لإ دخاله يف دائرة الأ دب.
ال�صنعة� .أمّا عبارة «�شاعر �أنواع التّ�صنيف التي ت�ضارعها يف ّ ويف اجلملة ف إ�نّه من املحتمل �أن ال يكون [الدّار�سون] املعنيّون
�أديب» يف املقابل فالكلمة الأ وىل فيها مزدوجة الدّاللة �إذ تدلّ قد ذهبوا لريوا الأ �شياء عيانا ومل ي�شعروا ب�أنف�سهم يوما – وذلك
ال�صنعة تعلّماعلى ال�شّ اعر املولود �شاعرا والنّاظم الذي تعلّم ّ د�أبهم غالبا منذ بدايات ع�رص النّه�ضة -معنيّني باملعنى
دون متييز بينهما .بينما ت�شري الكلمة الثّانية �إىل �أمر � آخر مغاير اال�شتقاقيّ لكلمة «�أدب» :هذا املعنى الذي غاب عن الأ نظار منذ
يف اخلطيب؛ �إنها ت�شري �ضمنيا ال �إىل معنى العلم الباطنيّ ، زمن بعيد.
املوحى �إيحاء� )science infuse( ،أو املوهبة الفطرية اخلارقة �أعرف جيّدا �أنّنا لو �أخ�ضعنا كلمة «« litteraturaالالّتينيّة �إىل معاجلة
بل �إمنا ت�شري على العك�س من ذلك �إىل معنى االجتهاد يرمي م�شابهة الكت�شفنا �أنّها كانت تدلّ يف الع�رص الكال�سيكيّ على
[ال�شاعر من خالله] �إىل اكت�ساب املعارف الدّنيويّة –و�إ ّال لكان الكتابة والنّحو �أو العلم –وهي �أمور ال تدخل يف باب الأ دب-
عاملا -التي يفرت�ض �أن تقوم مقام الأ ّ�س والعماد لأ يّ ن�شاط �إ ّال �أنّ كلمة ،»litterae« يف النّهاية ،كانت ت�ستعمل للدّاللة على
�أدبيّ ،نرثيّ –بطبيعة احلال. جمموع الإ نتاج الأ دبيّ مبا يف ذلك التّاريخ �أومل يكن �سي�رسون
وبذا حني نقول عن رجل مّا �إنّه «�شاعر �أديب» فهذا يعني -من ( )Ciceronيتذمّر لبعد التاّريخ عن الآ داب ! (abst historia litteris nost
جهة� -أنّه ينظم �شعرا و�أنّه من املربّزين يف ذلك و-من جهة ) tris؛ �أما العربيّة ،فلئن دخلت يف �أدبها بع�ض امل ؤ�لّفات التي
�أخرى� -أنّ له ثقاف ًة دنيويّة وا�سعة �أي ن�صيبا ممّا ن�سميه بـ يغالىَ يف ن�سبتها �إىل التّاريخ مثل مروج الذّهب للم�سعوديّ ،
«الأ دب-الثقافة العامة» ( )l’adab-culture généraleوهو بال�رضورة ف�إنّ التّاريخ العلميّ ( )histoire techniqueال يندرج �ضمن هذا الباب
�أو�سع جماال من «الأ دب -الثقافة االجتماعية (املدنية)» (l’adab- مطلقا.
)culture mondaineالذي �سبق له �أن �أخذ منه وهو �رضوريّ –�إن ونخ�ص
ّ تدلّ كلمة «بيان» [يف املقابل] عند بع�ض الكتّاب،
رغب الأ ديب يف تعاطيه -الحرتاف �صنعة الأ دباء وممار�سة منهم ابن �شُ هيْد ،ال�شّ اعر والنّاثر الأ ندل�سيّ ،وهو من �أبناء القرن
«الأ دب-الفنّ اجلميل» ( )l’adab-belles lettresالذي يقابل على 5هـ11/م ، .على املوهبة الأ دبيّة باملعنى العامّ .وقد كان
ح ّد التقريب –�إن مل �أكن خمطئا يف ذلك -ما كان يطلق عليه بالإ مكان اتّخاذ هذه الكلمة للدّاللة على معنى الأ دب (littérat ب
الرّومان ت�سمية ( humaniores litteraeالأ دب الإ ن�ساينّ). ُـق�صى ،يف هذه احلالة ،من )tureعلى اختالف �أ�شكاله �رشطَ �أن ي َ
يل الب�سيط غاية الب�ساطة الذي اعتمدته هذا التّم�شّ ي الدّال ّ تاريخ البيان العربيّ ك ّل الإ نتاج ال�شّ عريّ والنّرثيّ غري املتوفّر
ما هو يف نهاية املطاف �إالّ لعبة لأ نّه يقدّم معنى واحدا على خ�صال ف ّنيّة متميّزة .واللهّ وحده يعلم �إن كان عدد الآ ثار
لكلمة «�أديب» ،وهو املعنى الذي كنت �أبغي ا�ستظهاره. املتميّزة قليالً!
136 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
وعظ ت�ستلطفه الأ نف�س .و�أقرب امل�سالك لبلوغ هذه الغاية يقوم ومن البديه ّي غاية البداهة �أن يكون بالإ مكان ا�ستخراج
�أوّال على التّ�ضحية بالعمق خدم ًة لالِت�ساع ،كما يقوم ،ثانيا، غريه من املعاين بالدّرجة نف�سها من الي�رس؛ وهاك مثاال :
ملن ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيال ،على تخيرّ ما خفّ على النّف�س من �إثر حما�رضة كنت قد �ألقيتها بالعربيّة يف مدينة فا�س ،اعتلى
النّ�صو�ص املتوفّرة ،وعلى حتلية التّحليل اجلا ّد بالطّ ريف من �شابّ مغربيّ املكان الذي كنت قد �أودعت فيه وما كان �أ�شبهه
النّوادر ،واملتخيرّ من الأ �شعار ،بل حتّى ب�أن يقطع الأ ديب –كما ب�أقفا�ص الأ �سود .و�سمعت مغربيّا �آخر يقول له ب�صوت خافت
هو �ش�أن اجلاحظ يف البيان [والتّبيني] واحليوان -ف�صال من «كن �أديبا» �أي مبعنى «[ »sois poliتعقّل /كن مهذّبا] ال مبعنى
ف�صول كتابه قطعا مفاجئا ،مباغتا ،قا�صدا بذلك �إىل �أن ي�سلّي «كن مثقّفا».
القارئ �ساردا عليه نادرة من النّوادر يكون املق�صود منها لقد قابلت ،رغب ًة يف ال�سري على خطى جهابذة علم وظائف
الإ �ضحاك و�إن بدت ال رابط ي�شدّها �إىل ال�سّ ياق. الأ �صوات ( ،)phonologieبني «�أديب» و»خطيب»؛ وقد قدم اجلاحظ
�إ ّن التّ�سلية غالبا ما تنتهي �إىل الإ �ضحاك ،ولطاملا �ش ّد نف�سه يف ر�سالة له �سيكون لنا يف �ش�أنها حديث � آخر مقابلة
انتباهي تواتر خو�ض اجلاحظ يف تعليل ال�ضّ حك وب�ساطة �أخرى عميقة الدّاللة .وهاك ما يقول �« :إمنا ا�شتقّ ا�سم املعلّم من
الواقع الذي يبعث [يف نوادره] على ال�ضّ حك .و�إنّني لأ ح�سب العلم ،وا�سم امل ؤ�دّب من الأ دب .وقد علمنا �أنّ العلم هو الأ �صل
�أ ّن م�أتى �إحلاحه �إمنا هو –حتديدا -رغبته يف التّ�صدّي ()7
والأ دب هو الفرع .والأ دب �إمّا خلق �أو رواية» . .
�إىل نزعة تعميم اجلدّ .ومن الوا�ضح اجلل ّي �أ ّن رغبته يف �إنّ اجلاحظ –وهو الأ ديب بامتياز -ال يخ�شى تقدمي العلم يف
تخفيف امللل الذي قد تفرزه امل�ؤلفات العلميّة هي التي الرّتبة .ذلك �أنه عامل �أي�ضا مبعنى مّا من املعاين.
جعلته يبتكر �أدبا هو يف الآن نف�سه تعليميّ ،بل ووعظيّ، وامله ّم يف هذا ال�شّ اهد �أنّه يفرّع الأ دب فرعني �« :أدب خُ لق»
ولكنه م�ست�ساغ القراءة ،لذيذ بف�ضل �أ�سلوبه املرح وبف�ضل و»�أدب رواية»� ،أو على الأ �ص ّح الأ دقّ :اكت�ساب املعارف يف
الفقر الهزليّة التي تت�ضمّنها ن�صو�صه. احلقل الدّنيويّ ،وحت�صيل املعرفة بل والتّبحّ ر فيها �أي�ضا
يل ( )puérilالتب�سيطيّ هو ،للأ �سف ،ك ّل ما هذا الأ �سلوب الطّ فو ّ ( .)éruditionو�سرنى مع ذلك �أ ّن الأ دب اجلاحظي يعر�ض �أمورا
�ضحَ كة (plaisant
اا�ستبقاه العرب و[لأ جله] اعتربوا اجلاحظ جمرّد ُ �أخرى مغايرة ،و�أنّه لي�س بالإ مكان البتّة �إدراجه �إدراجا
)tinدون الوعي بـ[قيمة] ما كان يدرّه عليهم من ف�ضل. كامال يف هذين البابينْ .
بعد اجلاحظ� ،سيتكيّف الأ دب بح�سب الأ ذواق ال�شّ خ�صيّة، لنذهبْ يف بحثنا قدما :تقابل العلمَ� ،أي «العلم الدّينيّ »� ،أي�ضا،
و�سيكون على قدر رحابة عقول الكتّاب الذين �سيو�سّ ع منهم من املعرفةُ� ،أي «املعرفة الدّنيويّة»؛ وهي مقابلة تغدو مبقت�ضاها
يو�سّ ع من خمتاراته وي�ضيّق من ي�ضيّق –من ناحية ،-والذين املعرفة يف نهاية املطاف م�ساوية للأ دب (مبعنى «الرواية»).
�سينتهي بهم الأ مر ،يف الأ غلب الأ عمّ ،حتت طائلة «� آفة العلم» : يف –�إن كان لنا به حاجة -وهو ولنا على ذلك دليل � آخر �إ�ضا ّ
النّ�سيان –من ناحية �أخرى .ويف ك ّل احلاالت تقريبا �سيُن�سى �أنّ كتاب ابن قتيبة [ 213هـ 276 -هـ] املو�سوم بـ «كتاب
روح النّموذج اجلاحظيّ .ولن ي�ستبقى منه �إ ّال الظّ اهر .و�سي�صل املعارف»(� )8إنمّ ا هو كتاب �أدب ال كتاب تاريخ كما يزعم
الأ مر �إىل ح ّد �سي�أخذ فيه بع�ضهم بالعلم [اخلال�ص] والتعليم بع�ضهم.
متنا�سني ن�صيب الهزل (�أو الت�سلية) ،ومن هنا �سنح�صل على لقد كان الأ ديب� ،أو لنقل بلغتنا � ،l’honnête hommeإذن ،يف القرن
�أدب بالغ اجل ّديّة ،حمدود املحتوى ،متدبّر التّ�صنيف؛ يف حني الثّالث هـ/ .العا�رش م .هو الرّجل الّذي له من التّكوين واملعرفة
�سينهمك غريهم يف التّ�سلية متنا�سني ن�صيب التّعليم والتّكوين يف احلقول الدّنيويّة ما يخوّل له �أن يحظى بالقبول والرتحيب
و�سيقدّمون لنا �أدبا هزليّا� ،أو قل م�سلّيا بب�ساطة� ،ستمثّله طائفة يف جمل�س من املجال�س ( .)salonبل ليت أ�لّق يف هذا املجل�س
من جمامع النّوادر. وي�سطع جنمه ويرتك �أثرا يف تاريخ العمل الأ دبيّ �أي�ضا �إمّا
ومبا �أنّ اجلدّيني من علماء العربيّة ال ي�شريون �إ ّال قليال �إىل هذا ملا �سيكون قد نقله من � آثار �إىل رواد جمال�سه �أو تالميذه؛ و�إمّا
املكوّن من مكوّنات الأ دب� ،أراين ملزما بقول بع�ض الكالم فيه. لمِ ا �سيكون قد احتال به –متخذا منهجا يف التّ�صنيف غالبا
نعلم اليوم �أن مدار�س املو�سيقى والغناء التي قامت بعد ما تجُ هل مبادئه -حلفظ هذه الآ ثار يف م ؤ�لّف �سيكون بالطّ بع
الإ �سالم يف املدن املقدّ�سة –وهذا من املفارقات -قد �شجّ عت داخال يف باب الأ دب قائما على ثقافة عامّة متطورة.
على تكوّن فكاهيّني ( )humoristesحقيقيني هاجروا �إىل العراق وملّا كانت كتب العلماء مُ �سْ هبة بطبعها ،منظّ مة� ،صارمة ،مملّة،
وكوّنوا [هناك] بدورهم م�ضحِّ كني ذوي مواهب متنوّعة .و�صار حمدّدة يف مو�ضوعها ،موجّ هة �إىل جمهور من العلماء واملثقّفني،
الظّ رف -هذا الذي جعل منه �صاحب الأ غاين خ�صلة تفخر بها كان لِزاما على الأ دباء �أن يتّخذوا موقعا مقابال [وتكون
املدينة [املنوّرة] -ميزة كربى لبالطات العبّا�سيّني وجمال�سهم م ؤ�لّفاتهم] �ألطف م�أخذا ،و�أكرث تنوّعا ،و�أق ّل تنظيما؛ وتكون
يف القرن الثالث هـ /.التّا�سع م . .ولنا يف الكتيّب املو�سوم بـ موجّ هة �إىل جمهور �أو�سع –بال�ضرّ ورة .وهذا ما يجعل «القا�سم
«املو�شّ ى» [للو�شّ اء] خري �شاهد على ذلك .فقد لعب الظّ رفاء، ال�صحيحامل�شرتك» –كما نقول اليوم -بني الكتب ذات النّ�سب ّ
وكانوا من �سادة الع�رص ،والقيان (اجلواري املغنيّات) دورا مهمّا �إىل الأ دب مبعناه الأ �صيل يتلخّ �ص يف هذه القاعدة « :الأ خذ من
يف تهذيب الأ ذواق و�أثّروا يف تطوّر الآ داب .ويف هذه الأ و�ساط ك ّل �شيء بطرف» �سعيا �إىل تكوين يف غري �إمالل وجريا على
137 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
s
s
s
(الأ خالقيّ ) .وابن املقفع –وهو من �أ�صل فار�سيّ -هو على وجه مع [حدث] النّه�ضة [الأ وروبيّة] ومع ذلك فقد �أدّى �إىل مثل ما
التّحديد من حتمّل �أعباء �إدخال هذا العن�رص احلا�سم يف الأ دب �أدّت �إليه من نتائج .وميكن �أن نق ّر يف ي�رس ب�أنّ القرنينْ الأ ّولينْ
[العربيّ ] النّا�شيء وخلق النّرث الأ دبيّ يف الوقت نف�سه. للهجرة �إمنا ميثّالن مرحلة البحث ال�سّ طحيّ [= التّنقيب] يف ك ّل
وجدير بالذّكر �أن كتابات هذا الرّجل �إنمّ ا هي بالأ حرى ّخ�ص�ص فلم يكن قد عُ رف بعد. ميادين العمل الفكريّ � ،أمّا الت ّ
كتابة جادّة حازمة .وما هي من الأ دب �إال مبا حتويه ل�ست يف حاجة �إىل �إطالة الوقوف على ن�ش�أة –وتطوّر-
من مبادئ �أخالق وقواعد �سلوك ،ولكن ثمة �أي�ضا �أماثيل العلوم الإ �سالميّة التي ظ ّل حقلها الإ جرائ ّي ينزع رغم ك ِّل
( )apologuesكليلة ودمنة .وقدميا كتبتُ [يف �ش�أنها]« :لئن �شيء �إىل جعل الأ مّة الإ �سالميّة عاملا منغلقا ال انفتاح
تلقّى العرب هذه الترّ جمة مبجّ لني فلأ نهم وجدوا فيها، له على العامل اخلارجيّ ،وال �أنا يف حاجة �إىل �إطالة
ين كان جاريا يف �شكلها الأ دبيّ� ،رضبا من الق�ص�ص احليوا ّ احلديث عن العلوم التّابعة للعلم الدّين ّي مثل علم اللّغة
معروفا عندهم» .وقد ارتكبت هناك خط�آ �ستتيح يل هذه (=علم املعجم) والنّحو والتّاريخ -الّذي كان ال يزال بدائيّا
املحا�رضة فر�صة �إ�صالحه� .إذ مل يكن للعرب من ق�ص�ص ب�سيطا -وقد بد�أت هذه العلوم تن� أش� بف�ضل االِ�ستغالل
حيواينّ .ومل يثبت مطلقا �أن امل�سلمني من �أ�صل عرب ّي - املبا�رش للوثائق التي كان قد جمّعها فريق من الباحثني
وكانوا يف اجلملة ميثلون �أقلّيّة -قد حتمّ�سوا لتلقّي كليلة [الأ وائل].
ودمنة كبري حتمّ�س .وثمّة مقطع يف ر�سالة من�سوبة �إىل لقد �سارت املوا ّد التي جمّعها ه�ؤالء العلماء بني حلقات
اجلاحظ هي «ذم �أخالق الكتّاب» مفيد يف هذا ال�صّ دد. املثقّفني يف الكثري من العوا�صم .ومن هناك انتقل �أ�صحاب
[يقول اجلاحظ] …« :ثم النّا�شيء فيهم [ويعني الكتّاب] الفكر العلميّ (الو�ضعيّ ؟) � )l’esprit positifإىل احلقل الثاين [من
�إذا (…) روى ل ُب ُزرْج ِمهْر �أمثاله ،ولأ رد�شري عَ هْده ،ولعبد حقول البحث] ب�أن دوّنوا [ب�أنف�سهم] ثمرة �أبحاثهم كتاب ًة �أو
احلميد ر�سائله ،والبن املقفَّع �أدبه ،و�صيرَّ كتاب مَ ْزدَك انتدبوا ال�ستن�ساخها تالميذهم .ولعلّه من الع�سري هنا غاية
معدن علمه ،ودفرت كليلة ودمنة كنْز حكمته ظ َّن �أنَّه الع�رس �أن نقدّر حقّ التّقدير دور رجال من طينة الأ �صمعيّ � ،أو
()11
الفاروق الأ كرب يف التّدبري…�إلخ» �أبي عبيدة� ،أو املدائنيّ ،ممّن نعلم من خالل الفهر�ست [البن
لقد ظ ّل �إدمان قراءة كتاب كليلة ودمنة يف �أوا�سط القرن النّدمي] وغريه من الآ ثار �أنهم جت�شّ موا م�شاقّ �إدخال النّظام
الثّالث هـ / .التّا�سع م .عالمة مميزة للكتّاب الفر�س .ولئن على هذه الفو�ضى من الوثائق ،وجتميع ك ّل مادّة فيها تنت�سب
�أثّرت �أعمال ابن املقفع ت�أثريا وا�سعا يف الأ دب الالّحق –ويف �إىل مو�ضوع بعينه يف كتب مفردة ( )monographiesال نعرف عنها
ما جرى من الكتب جمرى الدّرو�س الأ خالقيّة ال�سّ لوكية على اليوم يف �أغلب الأ حيان �إال عناوينها .و�سيكون �أ�ش َّد من ذلك ع�رسا
وجه اخل�صو�ص -فال ب ّد �أن نالحظ �أنّ ما يوقف عليه يف الأ دب تقدي ُر ما �أ�سداه مثقّفو هذه احلوا�رض من �أعمال ال�ستغالل الآ داب
العربي من احلكايات املثليّة احليوانيّة �إمنا يعود الف�ضل فيه، وا�ستثمارها .ذلك �أنّ ما �أُعْ مِل من نظر يف مادّة العلم (données de
يف �أغلبه –بل ب�أكمله� -إىل الفر�س .وح�سبي �أن �أذكر منهم �سهل � )l’éruditionإمنا كان ،كما هو ال�شّ �أن يف �أوربا ،عمال جماعيّا .ففي
بن هارون �صاحب كتاب النّمر والثّعلب الذي اكت�شف �أخريا جمال�س علية القوم كان امل�شاركون كثريا ما ينتهزون فر�صة
بع�ض قدماء طلبتنا –وهو ال�سّ يّد عبد القادر املهريي -ق�سما ُ لقائهم فيعبرّ ون عن � آراء لهم فريدة حول خرب من الأ خبار� ،أو
منه .
()12
ي�صوغون �أحكاما نقديّة حول بيت من الأ بيات� ،أو يتبادلون
مت يف القرن الثّاين �أال ينبغي �أن نعترب العمل اجلماعيّ الّذي ّ �أفكارا ثم يزهدون بعد ذلك يف تدوينها كتابة� .أما ن�صو�صهم،
هـ /الثّامن م .يف الكتابات الإ ن�سانيّة العربيّة لت�أ�سي�س روايات �إن وجدت �أ�صال ،فلم ي�صلنا منها �شيء .ومع ذلك مل يذهب هذا
غراميّة نعرف بع�ض عناوينها من خالل الفهر�ست حماولة النّ�شاط الفكريّ �سدى ،لأ نه كان من بني �أعوان ه�ؤالء «�صيادو
للتّ�صدّي ملفهوم الأ دب ذي الأ �صول الفار�سية واالِنتقال �إىل فرا�شات» ( .)chasseurs de papillonsواجلاحظ ،ال �شكّ ،واحد منهم؛
مرحلة الآ داب ([ )belles lettresذات الرّوح] العربيّة ؟ حتّى تلميذه �أبو حيان يعرتف ب�أنه قد تعاطى هذه الرّيا�ضة� .أ
لقد �ضاع هذا الأ دب الرّوائيّ الغزير غاية الغزارة ومل يبق منه ومل يكتب ابن اجلوزيّ «�صيد اخلاطر» ()La chasse aux idées؟
�إال بع�ض الآ ثار (املجنون وليلى مثال) املبثوثة يف ت�ضاعيف من الأ حكام املتواترة واملوا�ضع امل�شرتكة ( )lieu communالقول
كتب الأ دب الالّحقة ولي�س بالإ مكان اليوم البتة حتديد ن�صيب ب�أنّ ن�شاط املتبحّ رين يف العلم �إمنّا كان يف ق�سم منه نتيجة
اخليال الفرديّ يف هذه اجلماهر ( )compilationsالأ �صليّة �أو الّتي ملواقف ال�شّ عوبية التي كان ال ب ّد من ال ّر ّد عليها بالإ عالء من
تع ّد �أ�صليّة .ومبا �أن هذه الروايات الغرامية �رضب من �رضوب �ش�أن عنا�رص الثّقافة العربيّة الأ �صيلة .فلقد �أغرق العراقَ منذ
الإ نتاج الأ دبيّ ي�ستجيب �إىل مطلب ما ،وينزع �إىل �إ�شباع �أذواق القرن الثاين هـ / .الثامن م� .سي ٌل من الترّ جمات عن الفهلوية
القرّاء ،و�أحيانا �إىل فر�ض منط من الأ مناط الف ّنيّة عليهم قد ك�شفت للعرب عن وجود ح�ضارة �ألفيّة عريقة –يف بلد كانوا
يدوم عهده وقد ال يدوم ،ففي انت�شار ن�سخ منها ثم يف اندثارها اخلا�صة �أمامها ذاوية ال ّ قد غزوه-؛ [ح�ضارة] بدت �أجمادهم
بعد القرن الرّابع /العا�رش م .ما يربهن على �أنها بعد �إذ كانت تكاد تذكر .يغلب على هذه الكتب املرتجمة عن الفهلوية� ،سواء
م�ستطابة طيلة فرتة مّا من الزّمان قد �أتى عليها النّ�سيان. �أكانت من كتب الأ خالق �أم من كتب التاريخ ،الطابع الوعظيّ
139 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
الأ دبية ما يدل على �أن العرب كانوا يجدونه �أخفّ على نفو�سهم وما ت�أثري رجال الدّين املتنامي بربيء من هذه املجافاة العامّة
و�أروح لقلوبهم .وما من �أثر يوناين –يف املقابل -حظي مبثل لآ ثار كانت تع ّد ال �شك مغالي ًة يف اخلفّة غلوّا كثريا ،وطويلة يف
تلك العناية من مرتجمه .و�إين لأ ت�ساءل كيف كان القرّاء ،ممن الوقت نف�سه طوال زائدا و�صل �إىل ح ٍّد تخلّى معه النّ�ساخُ عنها،
هم على قدر من الف�ضول كاف ملحاولة قراءة ن�ص مرتجم، و ُقطِّعت [عند غريهم] �إن جاز القول تقطيعا .ولقد جدّت ف�ضال
يتو�صلون �إىل فهم الرتجمات [اليونانية] التي تعر�ض عليهم عن ذلك �أحداث مهمّة وجّ هت الأ دب وجهته النّهائية.
وت�أويلها ت�أويال �صحيحا .فقد ظل كتاب فن ال�شعر (La Poét و («persia capta «لقد غزت فار�س املغزوّة غالبها (�أو غازيها)»
()13
)tiqueلأ ر�سطو يف ن�سخة متّى بن يون�س م�ستغلقا ،ع�صيّا .وذلك )»ferum victorem cepitكذا قيل وتواتر القول.
ن�ص � آخر
ال�شك ما يف�رس كونه مل يلهم النقاد العرب مطلقا .ثمة ّ ولكن مثل هذه الـغزوة التي كان ب�إمكانها �أن ت�أتي على
مو�ضوعه �أي�رس مدخال من الأ ول وهو كتاب تعبري الر�ؤيا (La الإ �سالم ،وتقوّ�ض �أركانه ،مل تف�ض �إىل نتائج وخيمة .والف�ضل
)clé des songesلأ رتيميدور الإ يفيزي ( )Artémédore d’Ephèseترجمه يعود يف ذلك �إىل ما �صنعه لإ عادة الأ مور �إىل ن�صابها رجا ٌل يف
حنني بن �إ�سحاق ون�رشه حديثا توفيق فهد( .)14وهو كتاب ال القرن الثالث هـ / .التا�سع م .تبيّنوا اخلطر بو�ضوح ،وانتدبوا
يُفهم مع ذلك �إال بت�صحيحات النا�رش وزياداته. �أنف�سهم مفلحني لإ زاحته� .أعني بذلك املعتزلة الّذين �ألقى بهم
هو ذا �ش�أن الأ دب النرثي يف بداية �أمره ،ال يبدو مدينا يف العتمة ،بعد �إذ �سطع جنمهم يف الآ فاق ،انتقا ُم �أهل ال�سّ نّة
يف �شيء �إىل اليونان بينما يبدو مدينا يف كل �شيء �إىل واجلماعة .وذلك يف زمن كانت ك ّل الأ خطار الداهمة –حل�سن
فار�س .وقد كان من الطبيعي �أن يعمل �أن�صار ال�سيادة حظّ الإ �سالم دينًا -قد �أزيحت؛ فو�ضعوا م�شعل الثقافة و«الأ دب»
العربية ك َّل ما يف و�سعهم للتخل�ص من هذا الت�أثري اخلطري بني �أيدي ال�شّ يعة املعتدلة.
:بتمجيد الرتاث العربي و�إثرائه يف حذر �سعيا �إىل خلق ومن املعلوم �أن ه�ؤالء املعتزلة كانوا يزعمون �أنه بالإ مكان
�أ�شكال جديدة من «الأ دب» .فبعد العمّال الذين كانوا قد االِحتكام �إىل العقل يف كل �شاردة وواردة م�ستهدين يف
جاءوا مبا يلزم من موا ّد لل�رشوع يف البناء ،بل و�رشعوا يف ذلك ،داخل �إطار الإ �سالم ،بالفكر الإ غريقيّ .وبذا �أ�صبح
ت�شييد ال�صرّ ح ،وبعد الفنّان ابن املقفع الذي كان قد ختم الدواء لداء الت�أثري الفار�سي واقعا ،ب�صورة عجيبة ولكن
على هند�سته بخامت فار�سي ،كان الب ّد �أن ي�أتي فنّان �آخر منطقيّة ،بيد اليونان ،و�إن كان ال بد �أن نعرتف هنا ب�أن
ميا ٌل جب َّل ًة �إىل القول بتعدّديّة الثقافة ،متم�س ٌك يف الوقت الإ رث اليوناين مل ي�ؤثّر يف نهاية املطاف �إال ي�سريا يف
نف�سه مت�سّ كا �شديدا ب�أولويّة العروبة ،في�شتغل على هذه عقلية امل�سلم املتو�سط� ،أي تلك العقلية التي كان ي�سعى
املوا ّد جمتمعة لإ متام البناء القائم .ومل يكن هذا الفنّان «الأ دب» حتديدا �إىل تكوينها.
–حتما� -إال اجلاحظ ،الذي انتدب نف�سه ال وح�سب ليك�سب ولئن كانت �إيران قد وفّرت للثّقافة العربيّة الإ �سالميّة �أمثاال
خا�صة -لي�ستخل�ص هذه املواد �شكال �أدبيّا و�إنمّ ا –و ربمّ ا ّ �أخالقيّة ومبادئ �سيا�سيّة و[�أ�سّ �ست لها] ،بف�ضل ابن املقفّع،
منها مذهبا للثّقافة والأ دب. بداية �أدب دنيويّ مل يكن له من رونق فنّيّ خم�صو�ص -ومع
و�إن كان الب ّد من تعريف �إ�سهامه ال�شّ خ�صيّ يف كلمة ،فيمكن �أن ذلك خرج عن ج ّديّة امل ؤ�لّفات العلميّة ،ف�إنّ اليونان قد جاءت
�أقول �إنّه يقوم على برنامج ومنهاج. العرب بـ[�أهمّ] منتجات فكرها :وهو املنطق ،منهاج النّظر،
لقد حتولت العنا�رص الثّقافية العربيّة ،والفار�سيّة ،والهنديّة، بن�ص �أدبيّ خال�ص واحد.
ولكنّها مل متدّهم ّ
واليونانيّة ،بعد �أن جُ معت و�أُ�ضيفت �إىل العلوم الإ �سالميّة �إىل فهومريو�س مل يكن معروفا �إال باالِ�سم .و�أح�سب �أن مر ّد ذلك
كتلة هائلة مل تكن �أك ُرث العقول مو�سوع ّي ًة بقادرة على امتالكها ال لإ همال كامل [مق�صود] ،و�إمنا للع�رس الذي كان يعانيه
يف ك ّليّتها .ولذا كان من الالئق ،ح�سب اجلاحظ� ،أن يُرتك ن�ص �شعريّ .وهذا املرتجمون كلّما وجدوا �أنف�سهم يف ح�رضة ٍّ
امل�سلمون الراغبون يتخ�ص�صون يف بع�ض املعارف –وهنا ما ذكره يف الأ يّام الأ خرية ج .فايت ( )G. Wietالذي عرث بعد لأ ي
نالحظ �أنه كان يثق يف قدرة معا�رصيه -ولكن مع ترغيبهم يف على مقطع يت�ضمن اعرتافا [من بع�ضهم] بالعجز.
�أمر � آخر ،ودفع �أكرب عدد ممكن منهم نحو ما �أ�سميته بـ «الأ دب- ين تف�سرّ ه بال �شك �إنّ الف�شل اجلزئيّ ملحاولة �أقلمة الفكر اليونا ّ
الثقافة العامة» ( .)adab culture généraleوكان البد لأ جل ذلك من غرابة ( )exotismeهذا الفكر الّتي كثريا ما كانت تتداخل ومفهوم
تخيرّ م�سلك ،وحتديد معيار ،وت�أ�صيل منهاج للعمل(.)15 البدعة.
لعله لي�س من الغل ّو يف �شيء القول ب�أن اجلاحظ �إمنا كان يتوق وثمة ف�ضال عن ذلك عامل � آخر ال يبدو يل �أنّ �أحدا قد �أواله ما
�إىل تكوين عقول �أجود �إن�شاء بدل تكوين عقول �أكرث امتالء؛ ي�ستحقّ من عناية :فممّا جتدر مالحظته �أن الأ دب الإ غريقيّ
وعلى ذلك تدو ٍر كلمة �أدب ،التي ر�أي �أنه من املنا�سب االحتفاظ كان �أق ّل حظّ ا من الآ ثار الفهلويّة .فقد ا�ستفادت هذه الأ خرية
بها ،الت�صالها يف الآ ن نف�سه بطريقة اكت�ساب املعرفة (العقلية) منذ البدء من �إ�سهام مرتجم يف حجم ابن املقفع -هذا الكاتب
وباملعرفة نف�سها -و�إن كنت لأ ت�ساءل هنا �إن مل يقر�أ حمققو احلقيقي الذي عرف كيف يقرّب �إىل الأ ذهان العربية فكرا
ن�صو�ص اجلاحظ كلمة «�أديب» –يف بع�ض ال�سياقات على �أجنبيا ،هو يف احلقيقة فكر ب�سيط ن�سبيا .ففي عدم ت�أخر كتاب
الأ قل -على �أنها «�أريب»� .أما عن قراءة كلمة «�أدب»� ،أو اجلمع كليلة ودمنة رغم �صعوبات البداية عن �أن ي�ؤخذ م�أخذ التحفة
140 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
والأ مثال �إمنا يكاد يكون يونانيا ب�أكمله ويتعلق –يف ما عدا «� آداب» ،فال تثري –يف املقابل� -أي �إ�شكال وال يبدو �أن اجلاحظ
mor ااجلانب الأ دبي (الأ خالقي) ( ،)éthiqueوالأ خالقي العملي ( كان يجد حرجا يف تو�سيع احلقل الإ جرائي لهذه الكلمة.
-)rale pratiqueمبنهج من مناهج املعرفة .وللمرء �أن يجد حتى ولي�س الربنامج الذي ينادي به اجلاحظ بذي �صيغة ملزمة وال
[القولة ال�سقراطية امل�شهورة] «كل ما �أعرفه �أنني ال �أعرف � آلية ،و�إال لتناق�ض ذلك مع طباعه ،وما د�أب عليه� ،إذ كان هو
�شيئا». نف�سه ب�صدد البحث عن �سبيل يتّبعه ،وما كان عند نف�سه �إال ناقال
�أما املنهج املن�شود فيقوم قبل كل �شيء على ال�شّ ّك املنهجي –لنقل فو�ضويا ( -)brouillonيرتجم عن �شواغل ع�رصه .وقد بني
امل�ؤدي –مب�شيئة اهلل� -إىل اليقني ،وعلى التف�سري العقلي [�أبو عثمان] اخلطوط الكربى لهذا الربنامج بلم�سات �رسيعة
للظواهر الفيزيائية ،ور ّد اخلارق (� )merveilleuxإىل املعتاد ومتفرقة ال ت�سعفنا ر�سالة املعلّمني –التي �سبق �أن متثّلتُ منها
لعله لي�س من الغل ّو والقابل للتف�سري ،والتخل�ص من الأ �ساطري واخلرافات التي ال بجملة -لفهمها .لأ نها ،من جهة� ،إمنا كانت تتوجه �إىل املعلمني
يف �شيء القول ب�أن توجب «الكتب» القبول بها .كما يقوم �أي�ضا على املالحظة دون �سواهم ،ولأ ن املُجَ مهِر ( )anthologueالذي احتفظ لنا ببع�ض
اجلاحظ � إمنا كان ال�شخ�صية( )16والتحليل ،والنظر يف الأ خبار ،و-خا�صة -يف مقاطعها مل ير لها من فائدة فاقتطعها ا�ستثقاال يف �أخطر
اخللق الذي يَعترب ك ّل خملوق فيه ذا دور ومكانة ،ويف موا�ضعها و�أدلّها .وبح�سب املقاطع املحفوظة[ ،يرى اجلاحظ
يتوق � إىل تكوين احليوان والإ ن�سان –احليوان العاقل ،-ويف الروابط بني �أنه] ال بد من االنطالق من العلوم الدينية ،وحفظ القر� آن وطائفة
عقول �أجود � إن�شاء الإ ن�سان وحميطه ،ويف �آثار الرتبة… �صاحلة من الأ حاديث دون التعمق يف علم الكالم املوقوف
بدل تكوين عقول ومبد�أ البحث هذا ال يعطي القياد يف �شيء ملبد�أ ال�سلطة .ففي على املخت�صني� .أما النحو ،فين�صح اجلاحظ املعلمني ب�أن ال
كتاب احليوان مثال ،حيث يجتهد اجلاحظ يف اال�ستدالل على يعلموا منه �إال احلد الأ دنى الذي ال غنى عنه ملنع الوقوع يف
�أكرث امتالء؛ وعلى اخلالق باخللق ،ال ي�ستخدم املعطيات التقليدية -وهي كثرية اللحن .والريا�ضيات اخت�صا�ص عنده هي �أي�ضا ولكنه ال يدعو
ذلك تدو ٍر كلمة يف اجلملة� -إال لدعم ا�ستدالله� ،أو لت�سلية قرائه بني الفينة منها �إال �إىل تعليم «العقد» (– )comput digitalولعل يف ذلك ما
�أدب ،التي ر�أي والأ خرى؛ وهو ال يتقيد حتى ب�أحكام �أر�سطو التي مل يحرم نف�سه يثبت �أن هذا ال�رضب من احل�ساب ( )dactylonomieكان قد �سُ بقَ
من نقدها ذاهبا �إىل حد االدّعاء (( )prétendreكذا)( )17ب�أن العرب �إىل اعتماده لإ جراء عمليات ح�سابية ب�سيطة -مع ت�أجيل النظر
�أنه من املنا�سب كانوا يعرفون عن احليوان قدر ما يعلمه فال�سفة اليونان. يف الأ رمتيطيقا الهندية والهند�سة .وال �شك �أنه قد قدم �إ�شارات
االحتفاظ بها، و�إنيّ لإ ىل �أحكام على هذا القدر من املجازفة (� )!( )imprudenteأر ّد �أخرى خم�صو�صة .ففي بقايا هذه الر�سالة ما يك�شف �أنه كان
الت�صالها يف الآ ن فقر علم احليوان عند العرب و�إن كان ال بد من البحث له كذلك يويل �أهمية –يف م�ستوى التكوين الأ ويل � -إىل فن اخلطابة (rhét ي
نف�سه بطريقة يقينا عن �أ�سباب �أخرى. � ،)toriqueأو فلنقل فن الكتابة والبالغة (.)balâgha
وكتاب البيان والتبيني من نوع مغاير� .إال �أن املنهج [الذي ولو اكتفينا ،كما فعل العرب يف ما يبدو ،بظاهر ال�سياقات التي
اكت�ساب املعرفة يقوم عليه] يظل هو هو .ومع ذلك فلي�س لل�شواهد التي تكوّن �أورد اجلاحظ فيها �أبياتا من ال�شعر �أو مقاطع من النرث داعيا
(العقلية) وباملعرفة �سداه املحكم من ال�سّ مات ما لغريها يف �سائر م�ؤلفات اجلاحظ �إىل حفظها لإ عادة ا�ستخدامها يف الوقت املنا�سب ،مل يف�ض بنا
نف�سها. الأ خرى� .إذ تبدو غاية كتاب البيان ،وهو يف الآ ن نف�سه جمهرة ذلك �إال �إىل �إ�ساءة فهم برناجمه الذي ال ميكن يف احلقيقة ف�صله
من املنثور واملنظوم ،ومقاالت يف فن ال�شعر والبالغة ،جامعة عن منهجه.
بني تكوين الذائقة وتعليم الأ �سلوب. �إن القراءة املتب�رصة لكتاب الرتبيع والتدوير مفيدة يف هذا
و�سيعتني املت�أخرون عن اجلاحظ ،مامل يتهموه بالعجز عن الباب غاية الإ فادة .ففي هذا الكتيّب املهمل املن�سيّ ،يبحث
تعليم البيان� ،أي فن الكتابة ،بال�شواهد خا�صة و�سينظرون �إليها اجلاحظ ب�شكل �ساخر هازل يف كل الق�ضايا التي كانت
على �أنها مناذج [متبعة]. تُطرح على وعي رجل عقالين م�سلم يف القرن الثالث هـ/.
و�سرنى �أن �أديبا قريوانيا عا�ش بني القرن الرابع واخلام�س التا�سع.م .ويعرب عما ي�سميه �أندريه ميكال ،يف �أطروحة
هـ /.التا�سع والعا�رش م ، .وهو احل�رصي ،ي�ستلهم هذه ال�شواهد له ب�صدد �إعدادها حول اجلغرافيا الب�رشية« ،هموم العقل
لي�ؤلف منها –م�ستعينا بغريها �أي�ضا من املراجع ولكن دون الأ �سا�سية»� .إنه ي�سلم زمام املبادرة دائما للإ ن�سانيات
�أن ي�ضيف �سطرا واحدا� ،أو يكاد ،من عنديات نف�سه -جمموعة العربية ( )humanités arabesولكنّه ال يحب �أن يحتفظ منها
�أوىل مو�سومة بـ «زهر الآ داب» حتتوي على ن�صو�ص من ال�شعر �إال مبا ال يت�صادم والعقل .ويدفع �إىل �إ�سقاط ك ِّل ما كان
والنرث ق�صرية ن�سبيا ليتي�سرّ للمن�شود من الأ دباء عنده حفظها �أ�سطوريا فيها بينّ الأ �سطوريّة �أو خرافيّا� .أمر واحد كان
عن ظهر قلب ،وحماكاة �أ�سلوبها .و�سيكون لهذا الأ ديب نف�سه يكبح جماحه ،على كره منه يف ما يبدو ،وهي املعطيات
كتاب خمتارات � آخر هو «جمع اجلواهر» خم�ص�ص هذه املرة الآتيات من طريق الوحي [القر�آين].
ب�أكمله للنوادر والنّكت اجلياد ،والطرف املتنوعة ،ولكن دون ولي�س ملن كان من القراء ذا �صرب على الذهاب �إىل تخوم كتاب
الفاح�ش منها لأ ن للح�رصي ذوقا طيبا مييل به �إىل الرغبة يف الرتبيع �أن يلحظ دون �أن ينتابه �شيء من العجب �أنّ اجلاحظ
تعليم � آداب الكالم الطريف الظريف واملتميز الرّاقي يف � آن واحد. ي�صنع الأ دب يف هذا الن�ص على منوال ابن املقفع القدمي –وقد
و�إين لأ عترب احل�رصي ممثال منوذجيا للـ»�أدب» يف نهاية القرن ذكر باملنا�سبة مرة -و�أنّ ما ينقله –مع ذلك -من احلِكم
141 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
البحريني الذين عدّهم ر�ؤو�س الكذب(� .)21إن ر�ؤية العامل عنده، الرابع هـ /.العا�رش م .وميكن معه �أن نقدِّر امل�سلك الذي قطعه
يف جمملها ،جزئية .فالأ ر�ض عنده ي�سكنها �صنفان من ال�شعوب «الأ دب» على �شفا الهاوية .وحل�سن احلظ ،ا�ستطاع الع�سكري �أن
� :شعوب متوح�شة (من بينها �أجدادنا نحن [الغربيني]) و�أمم يك�شف املبد�أ الذي كان قد حتكّم يف ت�أليف البيان وجاء بف�ضل
متح�رضة يرى يف وثنيتـها �أمرا مفارقا (غري عادي)؛ ويح�صي اجلاحظ ،وهو من �أوائل دار�سيه ،مب�ساهمة حا�سمة يف النقد
من هذه الأ مم �أربعا :العرب والفر�س والهند واليونان .وال ي�صح الأ دبي ب�أن �أحكم تنظيم [مواد]ه يف ذكاء .ومما ي�ؤ�سف له �أنّه
�أن نت�شدد معه جلهله ب�أمر الرومان مبا �أن ابن حزم يف القرن ما من �أحد فكّر يف انتداب نف�سه للقيام بعمل مواز حول كتاب
اخلام�س هـ / .احلادي ع�رش م .لن يعرف عن وثنيتهم �شيئا احليوان و�سائر امل�ؤلفات التي ال حتتوي على مقاالت نظرية
وذلك يف زمن مل يكن الغرب فيه يف املقابل يعرف اليونان [جمردة] و�إمنا [تكتفي ب�أن] تغري العقل بالبحث وتدعوه �إىل
�أدنى املعرفة. التفكري.
�س�أجتنب طبعا ت�صنيف اجلاحظ بني اجلغرافيني رغم �أن ت�أثريه لعلكم تذكرون �أن الأ دب عند اجلاحظ هو «�أدب خلق» كذلك
يف اجلغرافيا كان ت�أثريا مبا�رشا .وقد تبني �أندريه ميكال عن («خُ لُق» التي �أرف�ض بالطبع قراءتها كـ «خَ لْق» مبا �أن اخللق
حقّ وهو يقارن بني ن�سختي [كتاب امل�سالك واملمالك لـ[ابن مق�صور على اهلل)( .)18فلقد ا�ستثمر هو بدوره هذا الق�سم من الأ دب
خرّداذبة [ت 300هـ912/م] �أن الن�سخة الثانية منهما تتنازل –ولكنه �أبى �إال �أن ينحرف [فيه] عن [م�سلك] ابن املقفع .فبدال
عن �أمور كثرية ل�صالح «الأ دب» وت�ست�شهد ب�صورة تكاد حرفية من االكتفاء بالعر�ض اجلاف للمواعظ الأ خالقية ،ذهب يف
باجلاحظ الذي مل مت ّر عن وفاته �إال �سنوات قليلة. كتاب البخالء ،وهو جمع من النوادر والقطع املتنوعة مل يبلغ
ولئن مل يخلّف اجلاحظ كتابا واحدا يف التاريخ فقد مدح يف بعد درجة الت�شاكل ،مذهب النقد ال�ساخر للطباع (il castigat ridendo
منا�سبات كثرية هذا العلم الذي ميكّن النّا�س فيما هو يخربهم )19()moresكما �أدخل [مبد�أ] التفكري والبحث يف «الأ دب الوعظي»
عن الأ مم املا�ضني من قيا�س درجة تقدم الإ ن�سانية ويحثّ على ( )adab parénèseمبا كتبه من مقاالت يف بع�ض العيوب واملقابح
()22
ا�ستدامة كمالها. من قبيل احل�سد والكذب والكرب وهي �أمور نقلت [الأ دب] من
�إنه يدرج ب�شكل طبيعي يف م�ؤلفاته ن�صيبا من الأ خبار جمال الأ خالق �إىل علم النف�س.
والق�ص�ص بل ويكتب النقد التّاريخي يف عدد من مقاالته ولئن كان حتليله ملالمح ال�شّ خ�صيات على درجة عالية من
ذات الطّابع ال�سيا�سيّ-الدّينيّ .ولكنه ال يبدو على معرفة ال ّدقّة ف إ�نّه ما من «منوذج»( )20وقع ا�ستخال�صه بعد ،و�إن كان
باملنطق التّعاقب ّي (� )chronologieأو هو على الأ قل ال يظهر يف يف ر�سالة القيان ما يك�شف �أن اجلاحظ كان قادرا على جتاوز
كل مو�ضع �إال مبظهر املعادي للنظام والنظامية .لنقل �إذن املالحظة الآ نية لريتقي �إىل درجة الت�أليف .ولن يبتكر «منوذج»
بع�ض املعطيات التاريخية يف «الأ دب» دعما لئن �أُدخلت ُ �إال يف القرن التايل مع حكاية �أبي املطهّر الأ زدي -التي �ستكون
لهذا احلكم من الأ حكام �أو ذاك فال بدّ ،ليُطبَّق منهجُ «الأ دب» مدينة للجاحظ يف �أمور كثرية -ومع مقامات الهمذاين .و�سيظل
بذكاء يف حقل التاريخ ،من انتظار اليعقوبي وامل�سعودي، هذان الكاتبان –وال �سيما الأ ول -ي�ضعان ن�صب عيونهما
خا�صة ،هذا الذي كان له وللمذكور قبله الف�ضل يف الك�شف التكوين الأ خالقي للجمهور (املتلقي) بينما �سرتتقي � آثارهما
عما وراء حدود العامل الإ �سالمي وحماولة ترغيب القراء يف بنوع «الأ دب» –لفرتة وجيزة جدّا ،للأ �سف� -إىل م�صاف الكتابة
[االطالع على] تاريخ فرن�سا .وهذان الكاتبان مت�شيّعان. االأ دبية الفنية ( )littéraireالأ �صفي �صفاء والأ �شد جتردا (désintéress
ال ميكنني �أن �أتو�سع �أكرث يف �أمر اجلاحظ الذي ال تخفي عليّ .)sée
هناته ولكنه يحظى عندي بكل ت�سامح .لأ نه لئن مل يفلح دائما وقد نقل اجلاحظ �أي�ضا �إىل «الأ دب» معارف مل يكن للمرء
يف كل �أعماله ،ولئن مل يتو�صل �إىل كبح جماح نف�سه ،ولئن �أن يتوقع وجودها فيه ال �سيما اجلغرافيا التي هي �أقرب ما
�أرخى القياد ملزاج الفنان فيه ،ف�إنه مل يجمع يف �شخ�صه ما هو تكون يف كتاباته �إىل الإ ثنولوجيا واجلغرافيا الب�رشية منها
دون ذلك من اخل�صال الالزمة لتطوير العقل الب�رشي ب�شكل كان �إىل و�صف امل�سالك عند اجلغرافيني التقليديني .و�شدت انتباهه
يب�رش حق التب�شري بامل�ستقبل .وقد اعرتف له [الأ دباء] العرب خا�صة الروابط بني الإ ن�سان وحميطه ،والبنية االجتماعية،
الذين بدوْا عاجزين عن جماراته ومماراته ب�أنه معلم العقل وال�سمات الفيزيائية والأ خالقية ل�سكان احلوا�رض الكربى،
والأ دب� )23(.إنه مونتاين ( )Montaigneالعربي الذي لعله مع ذلك وطباع ال�شعوب…�إلخ .وبعيدا عن االِكتفاء بدار الإ �سالم ،امتد
قد تكلم �أمام مقاعد فارغة �أو فلنقل مفرغة� ،أفرغها ابن قتيبة، به الف�ضول �إىل �شعوب ق�صيّة كالهند مثال .وقد �سنحت يل منذ
الإ مام الآ خر للثقافة والأ دب. �سنوات فر�صة يف دلهي للقيام مبداخلة حول الهند والهنود
فبينما كان اجلاحظ قد جمّ د روح الف�ضول ،وبدا منفتحا على من منظور اجلاحظ .ويجدر �أن �أقول هنا �إن احل�ضور قد عجبوا
املعارف الآ تية من اخلارج ،مع االِحرتاز من حدود هذه الآ فاق لدقة ت�سجيالته .واحلق �أنني كنت قد �أرهقت نف�سي كثريا يف
ومن اخلطر الذي كانت متثّله فار�س ،وطالب �أبناء دينه ب�إيالء تلقط هذه الت�سجيالت من كل � آثاره .ويبقى �أفق اجلاحظ مع
خا�صة وبعدم الأ خذ ب�شيء قبل متحي�صه، عنايتهم بالنّظر ّ ذلك حمدودا لأ نه مل ي�سافر قطّ ولذلك مل يتمكن من حت�صيل
و�أعطى للبحث وجهة متمكّنة يف احلداثة ،اعترب الفقيه ابن مالحظات �شخ�صية بينما �أبى على نف�سه الوثوق يف �أخبار
142 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
قتيبة [يف املقابل] ،وكان ي�صغُر اجلاحظ ب�أق ّل من ن�صف قرن ،هوام�ش :
� - 1أ�صل الدّرا�سة [ ( :تاريخ] الأ دب العربي من البدايات �إىل ع�رص اخلالفة ب�شكل نهائيّ �أن العرب هم وكالء احلكمة ،و�أرباب الربهان
الأ موية) النّا�صع ،و�أنّ على كل ثقافة �أن تدور ،لذلك ،يف فلك ما جاءوا
Charles Pellat, Variations sur le thème de l>adab, in : Etudes sur
l>histoire socio-culturelle de l>Islam (VIIè-Xvè s. ), VARIORUM REPRINTS,
به �أي :القر� آن ،واللّغة العربيّة ،وال�شّ عر .ومن الي�سري �أن يف�ضي
.London, 1976 ذلك [بالعرب] �إىل اعتبار �أنّ ك ّل امل�شاكل قد حُ لّت وينتهي بهم
NALLINO (Carlo-Alfonso). La Littérature arabe des origines à l>époque de la 2 �إىل التخلّي عن ك ّل روح بحث و�إىل [ال�شرّ وع يف] �إقامة جرد
dynastie umayyade. Paris, G. P. Maisonneuve, 1950
والكتاب جممع للدرو�س التي قدمها الأ �ستاذ كارلو �ألفون�سو نلينو بالعربية يف
باملعارف الواجب اكت�سابها .وحتَّى ال �أُتَّه َم باالِنحياز �س�أكتفي
جامعة القاهرة من �سنة � 1910إىل .1911وقد ترجم هذا الكتاب �إىل الفرن�سية ب�رسد بع�ض اجلمل من �أطروحة ميكال »:لئن جنح ابن قتيبة
امل�ست�رشق الفرن�سي �شارل ب ّال نف�سه باعتماد الن�سخة الإ يطالية الّتي ن�رشها يف الظّ هور مبظهر الرّجل اجلدّيّ يف مواجهة هذا البهلوان
ماريو نالينو (.)Mario Nallino الكاريكاتوريّ [املق�صود هنا هو اجلاحظ طبعا] الذي �أ�سهم
ني َد�أَبًا َفمَا حَ َ�صدتمُّ ْ َف َذرُو ُه فيِ �سُ ن ُب ِل ِه ِ�إ َّال - 3يف القر�آن ( :قَالَ َت ْزرَعُ ونَ �سَ ْب َع �سِ ِن َ
َقلِي ًال ممِّ َّا َت أ�ْكُ لُونَ ) يو�سف47- [هو نف�سه] يف �إقرار هذه ال�صورة له ،فلأ نه يقابل –يف واقع
اف عَ َل ْيكُم ِّم ْث َل َيوْمِ ْ أَالحْ زَابِ .مِ ْث َل َد�أْبِ َقوْمِ ( َوقَالَ ا َّلذِي �آمَنَ يَا َقوْمِ ِ�إنيِّ �أَخَ ُ الأ مر -قلق البحث اجلاحظيّ وهيجانه ( )nervositéببناء حمكم
نُوحٍ وَعَ ا ٍد َو َثمُو َد وَا َّلذِينَ مِ ن َب ْعدِهِ ْم َومَا اللهَّ ُ ُيرِي ُد ظُ ْلمًا ِّل ْل ِعبَادِ) غافر .31-30 النّظام ي�ستجيب لقلق وعي �إ�سالميّ حيرّ ته �أمارات الف�شل
(املرتجم).
- 4واحلديث املق�صود هو املعروف بحديث قيام اللّيل :عَ نْ �أَبِي �أُمَا َم َة ر َِ�ضيَ الدّنيويّ الأ وىل وم�شهد التّمزّق الرّوحي .و�ستجد �أعمال ابن
اللهَّ ُ َت َعالىَ عَ ْن ُه قَالَ :قَالَ رَ�سُ ولُ اللهَّ ِ َ�صلَّى اللهَّ ُ عَ َل ْي ِه وَ�سَ َّل َم ع َل ْي ُك ْم ِب ِقيَامِ ال َّليْلِ َف ِإ� َّن ُه يف يف هذه قتيبة مبا هي برنامج دينيّ و�سيا�سيّ و�أخالقيّ وثقا ّ
ني َق ْب َل ُكمَْ ،و�إِنَّ ِقيَا َم ال َّليْلِ ُق ْر َب ٌة ِ�إلىَ اللهَّ َِ ،و َم ْنهَا ٌة عَ نِ ْ ِإال ْثمَِ ،و َت ْك ِف ٌري ال�صالحِ ِ َ
َد�أَبُ َّ الظّ روف ما ميثّل لها ويعظّ م من �ش�أنها .وال يرجع [جناح] هذه
لِل�سَّ ِّيئَاتِ َ ،ومَطْ َر َد ٌة لِلدَّا ِء عَ نِ الجْ َ�سَ ِد
�أَخْ رَجَ ُه الترِّ ْمِ ذِيُّ َوالحْ َاكِ ُم وَا ْل َب ْي َهقِيُّ فيِ ال�شُّ عَبِ (املرتجم). الأ عمال �إىل ما للتّو�سّ ع يف املعرفة من لوازم و�إكراهات كما
- 5يعني �شارل بال خا�صة احلديث النبوي املعروف «�أدبني ربي ف�أح�سن تق ّر بذلك عادة را�سخة بل يرجع على العك�س من ذلك تقريبا �إىل
ت�أديبي»( .املرتجم). هذا البناء –والبناء مرادف االِن�سجام والإ لزام -الذي غلّق ابن
� ،vade-mecum - 6أو «ما يحمله املرء معه» يف حلّه وترحاله -وتلك �صفة قتيبة فيه الأ بواب دون الإ ن�سان اجلديد» .
الكتاب �أ�صالة -تعني يف �أ�صلها الالتيني الأ وّل « :تعال معي» ،وهي يف
وال�صحيفة التي يحملها املرء معه اال�صطالح :الدّليل ،والكتاب املدر�سيّ ّ ، احلق �أنه «�إن�سان جديد» هو ذاك الذي �سيكوّنه – ولقرون
للعودة �إليها �أنّى �شاء وا�ستفتائها يف �أمر من الأ مور. عديدة� -أدب ابن قتيبة الذي �رسعان ما �ستثقل كاهله –رغم
- 7ر�سائل اجلاحظ ،حت .عبد ال�سّ الم حممّد هارون ،ط .جار اجليل – بريوت ،د. ذلك كلّه -رهون متخلدة ( )hypothèque imprescreptibleبذمة �شعوره
ت ( 1979؟) ج� ،3 .ص( 34 .املرتجم).
- 8لالطّ الع ،انظر :ابن قتيبة ،كتاب املعارف ،حت .ثروت عكا�شة ،ط ،4 .دار ّيني املتهيّج وامل�شدود الوثاق مع ذلك �إىل �سنّة ملزمة. ال ّد ّ
املعارف� ،سل�سلة ذخائر العرب ،د .ت( .املرتجم). �إذا كان العقل الب�رشيّ –يف ما يقول فرن�سوا بيكون� -إن هو �إال
- 9القا�ضي املق�صود هو الذي حتدث عنه اجلاحظ يف ق�صة بديعة من الق�ص�ص ذاكرة وخيال وعقل ،فقد كان يف «�أدب» اجلاحظ ما ميثّله �أبلغ
التي ت�ؤثث كتاب احليوان:
َّا�س حاكم ًا قطُّ وال «كان لنا بالبَ�رصة قا�ض يقال له عب ُد اللهّ بنُ �سوَّار ،مل َي َر الن ُ متثيل ،و�أ�سهبه ،و�أكمله مبا �أنه كان ي�ستح�رض الذاكرة ،والعقل،
ِزمِّيت ًا وال رَكيناً ،وال وقوراً حليماً� ،ضبط من نف�سه ،وملَك من حركته مث َل الذي ويدعو اخليال ي�ستظهره يف حمكم الأ �سلوب� .إن هذا الأ دب ،الذي
�ضبَط وملَك ،كان ي�صلّي الغدا َة يف منزله ،وهو قريب الدَّار من م�سجده ،في أ�ْتي كان يُفرت�ض يف نهاية املطاف �أن ي�شجّ ع يف � آن واحد على
جمل�سَ ه فيحتبي وال يتَّكئ ،فال يزالُ منت�صب ًا وال يتحرَّك له ع�ضوٌ ،وال يلتفت ،وال
يح ُّل حُ ْبوَته ،وال يحوِّل رِج ًال عن رجل ،وال يَعتمد على �أحد �شِ قَّيه ،حَ تَّى ك أ�نّه بنا ٌء تلقني املعرفة ،و�إثراء املعارف بالبحث العقلي املتب�رص ،وعلى
مبنيٌّ � ،أو �صخر ٌة من�صوبة…» (املرتجم). االِجتهاد من �أجل حتقيق جمالية كانت قد بد�أت تتبلور معاملها،
انظر :كـ .احليوان ،حت .عبد ال�سالم هارون ،ج� ،3 .ص( .345-343 .املرتجم). �سيقت�رص دوره بعد ابن قتيبة على تكوين �أح�سن الق�ضاة وكتاب
- 10احلكم م�أخوذ –دون الإ �شارة �إىل ذلك -من قول للجاحظ جاء فيه . .« :
فاحللم هو اال�سم اجلامع لكل ف�ضل وهو �سلطان العقل القامع للهوى»اجلاحظ، الدواوين وال�سادة ؛ �أي –باخت�صار -على تكوين امل�سلم الكامل
كتاب كتمان ال�رس وحفظ الل�سان ،الرّ�سائل ،حت عبد ال�سالم هارون ،ط .مكتبة دون ا�ستعانة بغري الذاكرة.
اخلاجني بالقاهرة ،1964 ،ج� ،1 .ص(142 .املرتجم). لنقل بلغة �أخرى� :إن �أبواب االجتهاد التي فتحها اجلاحظ على
ّ�ص كامال –وهو مهمّ…« -ثم النا�شيء فيهم [ويعني الكتاب] �إذا - 11الن ّ م�رصاعيها �سيعيد ابن قتيبة �إغالقها .ولن تفتح بعدها �إال يف
وطئ مقعد الريا�سة ،وتورَّك م�شورة اخلالفة ،وحُ جزت ال�سَّ َّل ُة دونه ،و�صارت
الدواة �أمامه ،وحفظ من الكالم فتيقه ،ومن العلم مُ لحه ،وروى لبُزرْجمهْر �أمثاله، ظروف ا�ستثنائيّة حتت �ضغط بع�ض العقول املتمرّدة على
ولأ رد�شري عَ هْده ،ولعبد احلميد ر�سائله ،والبن املقفَّع �أدبه ،و�صيرَّ كتاب َم ْزدَك التّ�سوية املفرو�ضة( .)24ويف اجلملة� ،ستظل الذّاكرة هي العن� َرص
معدن علمه ،ودفرت كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ �أنَّه الفاروق الأ كرب يف التدبري، الأ �سا�سيّ يف تكوين امل�سلم� .أما اخليال ف�سيكفّ عن الظهور
ّا�س يف العلم بالت�أويل ،ومُ عاذ بن جبلٍ يف العلم باحلالل واحلرام، وابن عب ٍ
وعليُّ بن �أبي طالب يف اجلر�أة على الق�ضاء والأ حكام ،و�أبو الهذيل العالَّف يف ال�صوفية� -إال يف ما اقت�رص من النّ�صو�ص –يف ما عدا النّ�صو�ص ّ
نيجلزْء والطَّ فرة ،و�إبراهيم بن �سيار النظَّ ام يف املكامنات واملجان�سات ،وح�س ٌ ا ُ على املبحث ال�شّ كلي اخلال�ص .وهناك �أي�ضا �سيف�سح هذا اجلهد
النَّجَّ ار يف العبارات والقول بالإ ثبات ،والأ �صمعيُّ و�أبو عبيدة يف معرفة اللغات املجال �رسيعا للجمود .ولن تعود كنوز العقل خم�صو�صة �إال
والعلم بالأ ن�ساب .فيكون �أوّل بدْوه الطعن على القر�آن يف ت�أليفه ،والق�ضاء عليه
بتناق�ضه .ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأ خبار ،وتهجني من نقل الآثار .ف�إن ا�سرتجح بنخبة قليل عديدها من املفكّرين املحظوظني الذين لن يكونوا
�أح ٌد عنده �أ�صحاب الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم فتل عند ذكرهم �شدقه ،ولوى ب�أكملهم من خلّ�ص امل�سلمني.
143 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
جبل ،وهي يف منازلهم ومنا�شيءهم ،فقد نزلوا كما ترى بينها ،و�أقاموا معها، عند حما�سنه ك�شحه .و�إن ذُكر عنده �شرُ يّح جرَّحه ،و�إن نُعت له احل�سن ا�ستثقله،
وهم �أي�ض ًا من بني النّا�س وح�شٌ � ،أو �أ�شباه الوح�ش. و�إن وُ�صف له ال�شعبيُّ ا�ستحمقه ،و�إن قيل له ابن جُ بري ا�ستجهله ،و�إن قدَّم عنده
والع�ض والأ كل، ّ وربمَّ ا؛ ب ْل كثرياً ما يُبتلون بالناب واملخلب ،وباللدغ واللَّ�سع، النَّخعيُّ ا�ست�صغره…» .اجلاحظ ،ذم �أخالق الكتّاب ،الرّ�سائل حت .عبد ال�سالم
فخرجتْ بهم احلاجة �إىل تعرُّف حالِ اجلاين واجلارح والقاتل ،وحال املجنيِّ هارون ،ج� ،2 .ص( 192-191 .املرتجم).
عليه واملجروحِ واملقتول ،وكيف الطَّ لبُ والهرب ،وكيف الداء والدواء ،لطول - 12انظر � :سهل بن هارون ،كتاب النمر والثعلب ،حققه وقدّم له وترجمه �إىل
احلاجة ،ولطول وُقوع الب�رص ،مع ما يتوارثون من املعرفة بالدَّاء والدواء ،ومن الفرن�سية عبد القادر املهريي ،من�شورات اجلامعة التون�سية ،كلية الآداب والعلوم
هذه اجلهة عرفوا الآثار يف الأ ر�ض والرَّمل ،وعرفوا الأ نوا َء وجنوم االهتداء ،لأ نَّ الإ ن�سانية( .1973 ،املرتجم).
بال�صحا�صح الأ مالي�س -حيث ال �أمارة وال هادي ،مع حاجته �إىل ك َّل من كان َّ - 13املثل الأ �صليّ كامال هو :
بعد ال�شَّ قّة -م�ضط ٌّر �إىل التما�س ما ينجيه و ُي ؤ�ْديه. )Graecia capta ferum victorem cepit, et artes intulit agresti Latio. (Horace
وحلاجته �إىل الغيث ،وفِراره من اجلدْب ،و�ضنِّه باحلياة ،ا�ضطرته احلاجة �إىل ويعني « :غزت اليونان قاهرها وحملت الفنون �إىل �أعماق الريف الالتيني».
تعرُّف �ش�أنِ الغيث. وهو مثل م�أثور عن هورا�س ت�رصّف �شارل ب ّال يف �أطرافه معتربا �أن ما �صنعه
ولأ نه يف ك ِّل حالٍ يرى ال�سَّ ماء ،وما يجري فيها من كوكب ،ويرى التَّعاقب الفر�س بالعرب –ثقافيّا -من جن�س ما �صنع الإ غريق بالالّتينية( .املرتجم)
بينها ،والنّجوم الثوابت فيها ،وما ي�سري منها جمتمع ًا وما ي�سري منها فارداً، FAHD (Toufic). Le «Livre des Songes» d>Artémidore d>Ephèse, traduit du - 14
وما يكون منها راجع ًا وم�ستقيماً. grec en arabe par Hunayn b. Ishaq (m. en 260/873), édition critique avec introduct-
و�سئلت �أعرابيَّة فقيل لها� :أتعرفني النجوم؟ قالت� :سبحانَ اللهّ �أما �أعرف �أ�شباح ًا .tion par Toufic Fahd
وُقوف ًا عليَّ ك َّل ليلة. .Damas, 1964, in-8°, XXVII (en français) + 444 pages (en arabe), 3 planches
وقال اليقطريّ :و�صف �أعرابيٌّ لبع�ض �أهل احلا�رضة جنوم الأ نواء ،وجنوم (املرتجم)
االهتداء ،وجنوم �ساعات اللّيل وال�سُّ عو ِد والنُّحو�س ،فقال قائ ٌل ل�شيخ عباديٍّ كان » faire un choix, opérer un dosage et inculquer une méthode de travail « - 15
حا�رضاً� :أما ترى هذا الأ عرابيَّ يعرف من النُّجوم ما ال نعرف قال :ويل �أمِّك ،منْ - 16هذا ماي�سميه اجلاحظ بـ«العيان» ولطاملا احتفل به يف كتبه( .املرتجم)
ال يعرف �أجذاع بيته؟ قال :وقلت ل�شيخٍ من الأ عراب قد خر َِف ،وكان من دُهاتهم: - 17نح�سب �أن هذه املالحظة يف غري حملّها متاما؛ �أو هي ( )déplacéكما
�إين ال �أراكَ عارف ًا بالنُّجوم قال� :أما �إنّها لو كانت �أكرث لكنتُ ب�ش�أنها �أب�رص ،ولو يقول الفرن�سيّون �أنف�سهم وقد انحرف فيها عن طريق احلقّ واملو�ضوعيّة العلميّة
كانت �أق َّل لكنت لها �أذْكر. ومال مع الهوى والع�صبيّة .و�أف�ضل ما ير ّد به على �أمثالها ما قاله يف املناظرة
و�أك ُرث �سببِ ذلك كلِّه – بعد َفرْط احلاجة ،وطول املدار�سة – ِد ّق ُة الأ ذهان، امل�شهورة �أبو �سعيد ال�سريايف ردّا على متّى بن يون�س حيث يقول يف اليونان :
وجودة احلفظ ،ولذلك قال جمنونٌ من الأ عراب – لمَ ّا قال له �أبو الأ ْ�صبَغِ بن «…ولكنهم من بني الأ مم �أ�صحاب عناية باحلكمة والبحث عن ظاهر هذا
أعرف من ال يعرفني؟ فلو كان لهذا ِربْعيّ � :أما تعرِف النجوم؟ قال :وما يل � ُ العامل وباطنه ،وعن كل ما يت�صل به وينف�صل عنه ،وبف�ضل عنايتهم ظهر ما
الأ عرابيِّ املجنون مث ُل عُ قول �أ�صحابه ،لعرف مثل ما عرفوا( .» ...حيوان /ج.6 ظهر وانت�رش ما انت�رش وف�شا ما ف�شا ون� أش� ما ن� أش� من �أنواع العلم و�أ�صناف
�ص)31-29 . ال�صنائع ،ومل جند هذا لغريهم».
وهذا الكالم الذي نقلنا ال فخر فيه وال مزايدة وال ع�صبيّة ،وال «ادّعاء» وهي وتع�صبت وملت مع الهوى ،ف�إن علم العامل مبثوث يف ّ قال �أبو �سعيد� :أخط�أتَ
ال�صفحات التي بلغ فيها التّفكري العلميّ اجلاحظيّ على خالف ذلك من �أن�صع ّ العامل بني جميع من يف العامل ،ولهذا قال القائل:
منتهاه منهجا وفكرا وم�صطلحا� .أال تراه قد �أجمل و�صف طبيعة العلم العربيّ «العلم يف العامل مبثوث ونحوه العاقل حمثوث»
القدمي ؟ (علم جتريبيّ يف منطلقه ،عمليّ يف منتهاه ) �أوال تراه قد بينّ دور الترّ بة وكذلك ال�صناعات مف�ضو�ضة على جميع من على جدد الأ ر�ض؛ ولهذا غلب
وعامل املكان فيه ؟؟ �أال ترى �أنّه قد انطلق من النّ�صو�ص يف حكمه ؟ وراعى عل ٌم يف مكان دون علم ،وكرثت �صناعة يف بقعة دون �صناعة؛ وهذا وا�ضح
هموم الذّات ( )sujetيف �آرائه؟؟ �إلخ والزيادة عليه م�شغلة؛ ومع هذا ف�إمنا كان ي�صح قولك وت�سلم دعواك لو كانت
ول�سنا ندري مرّة �أخرى ماذا دهي ب ّال حتّى يذهب هذا املذهب ؟ وهل كان يونان معروف ًة من بني جميع الأ مم بالع�صمة الغالبة ،والفطنة الظاهرة،
�سيذكر االدّعاء لو جاء اجلاحظ بعك�س ما جاء به ؟ والبنية املخالفة ،و�أنهم لو �أرادوا �أن يخطئوا ملا قدروا ،ولو ق�صدوا �أن يكذبوا
بن�ص اجلاحظ قابلة - 18مالحظة بال هذه لئن كانت �صحيحة يف ما يتعلّق ّ ما ا�ستطاعوا و�أن ال�سكينة نزلت عليهم ،واحلق تكفل بهم ،واخلط أ� ترب�أ منهم؛
للنقا�ش ما عمّمناها .فكلمة «خلق» وما حف بها مل تكن حكرا على الإ لهي يف والف�ضائل ل�صقت ب�أ�صولهم وفروعهم ،والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم؛
كالم العرب .ح�سبنا �أن نذكر هنا �أن مدار هذا الدال على الإ ن�شاء وال�صناعة وهذا جه ٌل ممن يظنه بهم ،وعنا ٌد ممن يدعيه لهم؛ بل كانوا كغريهم من الأ مم
والو�ضع والتقدير وهذه �أمور كما تت�صل بالإ لهي –لنقل على وجه احلقيقة- ي�صيبون يف �أ�شياء ويخطئون يف �أ�شياء ،ويعلمون �أ�شياء ويجهلون �أ�شياء،
تت�صل بالب�رشي –و�إن باملعنى املجازي .جدير باملالحظة �أي�ضا �أن كل ما يف وي�صدقون يف �أمور ويكذبون يف �أمور ،ويح�سنون يف �أحوال وي�سيئون يف �أحوال
هذا الأ �صل اللغوي (خ ،ل ،ق) من معان �إمنا يقربه من احلقل الأ دبي ويغر�سه فيه. (…)
�أ فلي�س الأ دب –منظومه ومنثوره� -إال خلقا و�صناعة وتدبريا وو�ضعا…؟ �أبو حيان التوحيدي –الإ متاع وامل�ؤان�سة – الليلة الثامنة( .املرتجم)
انظر يف هذا ل�سان العرب مثال ونح�سب �أنّ كالم ب ّال املذكور تعليق على كالم اجلاحظ يف اجلزء الثالث من كتاب
خللْق :التقدير؛ وخلَق أَال ِد َمي يَخْ لُقه خَ لْقاً :قدَّره ملا يريد قبل القطع وقا�سه وا َ احليوان وجاء فيه « :وق َّل معنًى �سَ مِعنا ُه يف باب َمعْرف ِة احليوان من الفال�سفة،
ليقطع منه مَزاد ًة �أَو قِربة �أَو خُ ّفاً؛ قال زهري ميدح رجالً: وقر�أناه يف كتبِ الأ طبَّا ِء واملتكلمني �ِ -إ َّال ونحنُ قد وجدناه �أو قريب ًا من ُه يف
ْـ�ض القومِ يَخْ لُقُ ،ثم ال َيفْري ولنتَ َتفْري ما خَ َلقْتَ ،وبع ُ أَ �أ�شعار العَرب والأ عراب ،وَيف معرف ِة �أهلِ لغَتنا ومِ لّتنا ،ولوال �أنْ يطولَ الكتابُ
يقول� :أَنت �إذا قدَّرت �أَمراً قطعته و�أَم�ضيتَه وغريُك يُقدِّر ما ال يَقطعه أَلنه لي�س لذكرتُ ذلك �أجمعَ ،وعلى �أنيِّ قد تركتُ تف�س َري �أ�شعا ٍر كثرية ،و�شواهد عديدة مما ال
مبا�ضي ال َعزْم ،و�أَنتَ م َّ�ضاء على ما عزمت عليه؛ وقال الكميت: يعرفه �إ َّال الرَّاوي ُة النِّحرير؛ مِ نْ خوف التطويل»( .احليوان)268 /3 ،
�أَرادُوا �أَن تُزا ِي َل خالِقاتٌ �أَ ِد َمي ُهمَُ ،يقِ�سْ نَ و َيفْترَ ِينا واجلاحظ �أعلم مبا يقول من �شارل بال ومنّا� .ألي�س هو الذي كتب احليوان وا�ستند
ي�صف ابني نِزار من مَعدّ ،وهما َربِيع ُة ومُ �ضرَ � ،أَراد �أَن ن�سَ بهم و�أَدِميهم واحد، فيه �إىل معارف الأ عراب و� آدابهم حتى غدا كتابا «عربيّا �أعرابيّا» على ح ّد تعبري
ف إ�ِذا �أَراد خالقاتُ أَالدمي الت ْفرِيقَ بني ن�سَ بهم تبينَّ لهن �أَنه �أَدمي واحد ال يجوز اجلاحظ نف�سه ،لكرثة ما �أثّثه من ن�صو�ص �أعرابيّة ؟!!
خَ ْلقُه للقطع ،و�رضَب الن�ساء اخلالِقاتِ مث ًال للن�سّ ابني الذين �أَرادوا التفريق بني �ألي�س هو القائل يف حيوانه مربهنا على معرفة الأ عراب بعاملهم الذي يحيون
ابني نِزار ،ويقال :زا َيلْتُ بني ال�شيئني وز َّيلْتُ �إذا َف َّرقْت .ويف حديث �أُخت �أُ َم َّي َة بن فيه وملحّ ا على �أنّ معارفهم تلك لي�ست من جن�س املعرفة العلميّة امل�ؤ�سّ �سيّة
ال�صلْت قالت :فدخَ َل عليَّ و�أَنا �أَخلُقُ �أَدِمي ًا �أَي �أُ َقدِّره أَلقْطَ عه. �أَبي َّ و�إنمّ ا هي من ال�ضرّ ب العمليّ ؟ :
حلفِرية خللِيقةُ :ا َ
وقال احلجاج :ما خَ َلقْتُ ِ�إ َّال َف َريْتُ ،وال وَعَ دْتُ ِ�إ َّال َو َفيْتُ .وا َ «…و�إنمَّ ا �أعتمد يف مثل هذا على ما عند الأ عراب ،و�إن كانوا مل َي ْعرِفوا �شكل ما
املَخْ لوقة يف أَالر�ض ،وقيل :هي أَالر�ض ،وقيل:هي البئر التي ال ما َء فيها ،وقيل: احتِيجَ �إليه منها من جهة العناية والفالية ،وال من جهة التذاكر والتك�سُّ ب ،ولكن
هي ال ُّنقْرة يف اجلبل يَ�سْ تَنقِع فيها املاء ،وقيل :اخلليقة البئر �ساعة تحُ ْ فَر .ابن هذه الأ جنا�س الكثرية ،ما كان منها �سبع ًا �أو بهيم ًة �أو م�شرتك اخللْق ،ف إ�نمّ ا هي
ال�صمّان حلفْر .قال �أَبو من�صور :ر�أَيت ِب ِذرْوة َّ حلدِيثاتُ ا َ خللُق الآبا ُر ا َ أَالعرابي :ا ُ مبثوثة يف بالد الوحْ �ش :من �صحراء� ،أو وادٍ� ،أو غائط� ،أو غي�ضة� ،أو رملةٍ� ،أو ر�أ�س
144 نزوى العدد / 61يناير 2010
درا�ســات . .درا�ســات . .درا�ســات
s
s
s
�أمر �آخر مهمّ� ،أن النماذج الذي عر�ضها بال والأ مثلة التي �رضبها �إمنا اتكل قِالت ًا تمُ ْ�سِ ك ما َء ال�سماء يف َ�صفا ٍة خَ لَقها اهلل فيها ت�سميها العرب خَ الئقَ ،
�أ�صحابها فيها على اجلاحظ و�أدبه .عد يف ذلك �إىل مقدّمة الر�سالة البغدادية خللْ�صاء من جبال الدَّهْ ناء دُحْ الن ًا خلقها اهلل يف بطون الواحدة خَ لِيقةٌ ،ور�أَيت با َ
لأ بي املطهّر الأ زدي ومتنها و�ستجدك �أمام كتاب مدين يف ك ّل �شاردة فيه أَالر�ض �أَفواهُ ها َ�ض ِّي َقةٌ ،ف إ�ِذا دخلها الداخل وجدها ت َِ�ضيقُ مرة و َتتَّ�سِ ُع �أُخرى،
وواردة �إىل مفهوم احلكاية عند �أبي عثمان –فك�أنها �إخراج فنّيّ لهذا املفهوم- ثم ُيفْ�ضي ا َمل َم ُّر فيها �إِىل قَرار للماء وا�سع ال يوقف على �أقْ�صاه ،والعرب �إذا
و�إىل نوع املفاخرة واملنافرة ونوع املحا�سن وامل�ساوي… �إلخ وال يختلف ر�ض يمَ أُْل ال ُغدْرانَ ا�س َت َقوْا خليلهم و�شفاههم
بال ِ َت َربَّعوا الدهناء ومل يقع ربيع أَ
الأ مر كبري اختالف مع الهمذاين يف مقاماته… وال تن�س �أن الهمذاين واحد من من هذه الدُّحْ الن.
جواحظ زمانهم .وله من املقامات :املقامة اجلاحظية… وهي لي�ست املقامة والفْكَ يخلُقه وتخَ َّلقَه واخْ َت َلقَه وافْرتاه :ابتدَعه؛ خللْقُ :الكذب .وخلَق الكذبَ ِإ وا َ
اجلاحظية الوحيدة فيها .فك ّل ملقاماته جاحظية لو تت أ�مّل. ومنه قوله تعاىل :وتخْ لُقون �إِفكاً .ويقال :هذه ق�صيدة مخَ ْ لوقة �أَي َمنْحولة �إِىل
.2هذا �إن كان مق�صد ب ّال بالنموذج :النوع الأ دبي� .أما �إن كان مق�صده «مناذج غري قائلها؛ ومنه قوله تعاىل� :إِنْ هذا �إِال خَ لْقُ أَالوَّلني ،فمعناه َكذِبُ أَالولني،
ال�شخ�صيات» فالأ مر �أبعد يف اخلط إ� من الأ ول .لأ نّ اجلاحظ مل يكتف بالإ جادة وخُ لُق أَالوَّلني قيل� :شِ يم ُة أَالولني ،وقيل :عاد ُة أَالوَّلني؛ ومَن قر�أَ خَ لْق أَالوَّلني
يف �صناعة ال�شخ�صيات و�إبداعها ك�أح�سن ما يكون يف �أدبه . .بل تعدّى ذلك فمعناه افْترِ ا ُء أَالوَّلني؛ قال الفراء :من قر�أَ خَ لْقُ أَالوَّلني �أَراد اختِالقهم وكذبهم،
�إىل التنظري ل�صناعة ال�شخ�صيات (عد يف ذلك على �سبيل املثال �إىل مقدمة ومن قر�أَ خُ لُق أَالولني ،وهو �أَحبُّ ِ�إيلَّ ،الفراء� :أَراد عادة أَالولني؛ قال :والعرب
البخالء و�إىل ك .البيان واحليوان…) بل مل يكفه ذلك حتى ذهب �إىل و�ضع خللْق ،وهي اخلُرافات من أَالحاديث ا ُمل ْف َتعَلةِ؛ تقول حدَّثنا فالن ب أ�َحاديث ا َ
جداول ت�صنف فئات النا�س ومناذجهم وطبقاتهم ويبحث لك ّل منوذج منها عن وكذلك قوله� :إِنْ هذا ِ�إ َّال اخْ تِالق؛ وقيل يف قوله تعاىل �إِن هذا ِ�إ َّال اختِالق �أَي
�أوجه «منطيته» حال ّي ًة كانت �أم مقاليّة �أم فعاليّة .وقد ترك لنا من ذلك يف كتبه تَخَ رُّ�ص .ويف حديث �أَبي طالب� :إِنْ هذا �إِال اختالق �أَي كذب ،وهو ا ْفتِعال من
والبْداع ك أ�َنَّ الكاذب تخلَّق قوله ،و�أَ�صل اخلَلق التقدير قبل القطع. خللْق ِإ
ا َ
خزائن �أثثها مبا تعدّى من اخل�صائ�ص املظهر املرئي لل�شخ�صيّات �إىل خمربها الليث :رجل خا ِل ٌق �أَي �صانع ،وهُ نَّ اخلالقاتُ للن�ساء( .املرتجم).
اخلفيّ فر�صد للنا�س �أ�رضبا من «الن�سك» متباينة وعينات من «الأ ماين» ق�صة متوارثة جاء فيها : � - 19أ�صل هذه القولة امل�شهورة ّ
خمتلفة و�أ�صنافا من احليل واملكائد واالحتجاجات متنوعة و�أمناطا من الكالم م ّر على بع�ض املمثلني الكوميديني الإ يطاليني ( ،)arlequinزمن ظل فيه ي�شتهي
واللهجات والبالغات بل والرطانات …�إلخ وعينات ذلك ال حت�صى وال تن�س �أن �أن يكتب له ال�شاعر �-سانتوي ( -)Santeuilكلمة يعلقها على �ستائر م�رسحه.
اجلاحظ �صاحب نظريّة يف الطباع ال وال تن�س �أن مفهوم احلكاية عنده �إمنا ولكن لل�شاعر �ساعات يح�رض فيها الإ لهام �أو يغيب .وقد غاب هذه املرة وطال
يت�أ�س�س على مفهوم النموذج النمطيّ …ومل يفهمه حق الفهم رجل كما فهمه غيابه .حتى نفد �صرب املمثّل فتنكّر يف بع�ض �أزيائه امل�رسحية وحمل �سيفا من
�أبو املطهّر الأ زدي وهو تلميذه. اخل�شب و�أخذ يطوف بحجرة ال�شاعر ي�شاك�سه ويعابثه م�ؤديا يف كل مرة دورا
ل�سنا ندري بعد هذا الذي ذكرناه لك من �أين جاء ب ّال بهذه املالحظات وهو الذي وانق�ض عليه فج�أة و�أخذ بتالبيبه ي�س�أله :من �أنت ؟ ّ جديدا .فاحتال له ال�شاعر
عوّدنا ب�إ�رسافه وتزيّده يف ادعاء معرفة �أغوار اجلاحظ و�أطواره حتّى ك أ�نّه هو ف�أجاب الآخر�« :أنا �شاعر امل�رسح الإ يطايل !» .فر ّد الأ ول –وقد عرف �صاحبه من
الذي خلقه وك�أنه الوريث ال�شرّ عيّ لكتبه �أو الو�صيّ وك أ�نّه العارف الفرد الأ وحد �أدواره « :ومن �أنا �إذن ؟ لعلني بهلوان �سان-فيكتور» !
ب�أدبه (ويف هذه الدرا�سة بع�ض من ذاك االدّعاء). بكالمه هذا ر ّد ال�شاعر على �سخف املمثل وحماقاته بال�سخرية والتّهكّم فكال
على ك ّل حال لنا �إن �شاء اهلل �إىل هذا املو�ضوع عودة يف غري هذه ال�صفحات. له باملكيال نف�سه.
(املرتجم). وانتهي هذا امل�شهد بالرجلني يتعانقان .وكان ذلك منا�سبة ظفر املمثّل فيها
- 21قال اجلاحظ معلال عزوفه عن تخ�صي�ص «باب جمرد» يف كتابه مببتغاه ونال ما طلبه من ال�شاعر وكان جملة تعلّق اليوم على بع�ض امل�سارح
–احليوان« -ملا ي�سكن املِلحَ والعذوبة ،والأ نها َر والأ دوية ،واملناقع واملياه . .Castigat ridendo mores :
اجلارية ،من ال�سَّ مَك وممَّا يخالف ال�سَّ مك ممَّا يعي�ش مع ال�سمك» « :لأ نيِّ مل �أج ْد �أي ت�صلح الكوميديا الأ خالق بال�ضحك .وهذا ما ن�سميه نحن اليوم �أحيانا
يف �أكرثه �شِ عراً يجمع ال�شّ اهد ويُوثق منه بح�سْ نِ الو�صف ،وين�شِّط مبا فيه من بالنقد ال�ساخر �أو ال�سخرية( .املرتجم)
غري ذلك للقراءة ،ومل يكن ال�شّ اهد عليه �إ ّال �أخبار البحْ ريِّني ،وهم قو ٌم ال يعدُّون - 20ل�سنا ندري على وجه ال ّدقّة ما يعنيه ب ّال بـ «النّموذج» (: )type
القول يف باب ال ِفعْل ،وكلّما كان اخل ُرب �أغرب كانوا به �أ�ش ّد عُ جْ باً ،مع عبارة غثَّة، .1ف�إن كان املق�صود النوع الأ دبي .فكالم ب ّال غري دقيق وال �صحيح لأ نّ
وخمارج �سَ مِجة … «اجلاحظ ،احليوان ،ج� ،6 .ص.»16 اجلاحظ ما كتب من كتاب يف باب الأ خالق خال�صا خملّ�صا .فك ّل ما كتبه �إمنا
وهذا الكالم مما ميكن اال�ستدالل به على قيمة الأ دبي ،اجلمايلّ ،البيا ّين يف كتبه. كان م�سكونا بهاج�س فنّيّ �أدبيّ .وك ّل ما جاء به –وهذا هو املهمّ� -إمنا �أجراه
ف إ�نّه كما ترى ال يقبل من النّ�صو�ص ما ا�ستويف ال�شرّ ط املعريفّ ،العلميّ املجرّد. يف �أجنا�س �أدبية ونزّله يف قوالب نوعيّة متميّزة بع�ضها معروف –وقد در�ست
يل ما( .املرتجم)يف �أي�ضا من مقدار جما ّ �إذ الب ّد للمعر ّ مناذج منه -كالنادرة – والبخالء عيّنة منها متميّزة -وبع�ضها جمهول مغمور
- 22وا�رضب يف هذا الباب مثال مقولته ال�شهرية « :وينبغي �أن يكونَ �سبيلُنا مل يدر�س �إىل اليوم كنوع املفاخرة واملناظرة واملحا�سن وامل�ساوي… وهي
ملَن بعدَنا ،ك�سبيلِ مَن كان قبلنا فينا ،على �أنَّا وقد وجدْنا من العربة �أك َرث ممّا �أنواع مل تخرج بعد عما ي�سميه تودوروف بالأ نواع النظريّة ()genres théoriques
وجدوا ،كما �أنَّ مَن بعدَنا يج ُد من العِربة �أك َرث ممّا وجدْنا» –احليوان (املرتجم) لتدخل �إىل جمهرة الأ نواع التاريخية ( )genres historiquesومل تنعتق لذلك من
- 23هذا احلكم من �أ�شهر ما قيل يف اجلاحظ و�أدبه وقد نقله ياقوت احلموي �إ�سار واقعها الذي حتفّه املفارقات –�أ فال ترى �أن هذه الأ نواع موجودة معدومة
يف الآن نف�سه �أو قل هي موجودة مبعنى معدومة ؟! حالها اليوم كحال امل�أ�ساة
يف الإ ر�شاد .وقد غدا ل�شهرته كاملثل ال�سائر فقد جاء يف معجم ياقوت م�صحوبا قبل �أر�سطو �أو �أ�سوء من ذلك ؟
بق�صة كتلك الق�ص�ص التي اعتاد العرب على قراءتها يف كتب الأ مثال .وهذه ّ ومع ذلك فقد كتبت درا�سة حول �أدب املحا�سن وامل�ساوي عنوانها :
اجلملة نف�سها �سيجعل منها �شفيق جربي عنوان كتابه :اجلاحظ معلم العقل Un genre littéraire arabe : al-Mahâsin wa-l-masâwî, Ed. maisonneuve et
والأ دب. .larose, Paris, 1977
�أما عن الق�صة املعنية « :وحدث �أبو القا�سم ال�سريايف قال :ح�رضنا جمل�س وهي �أطروحة دكتوراه لإ براهيم جريا�س .وعلى �أهميتها وما يب�شرّ به عنوانها
الأ �ستاذ الرئي�س �أبي الف�ضل [بن العميد ،وهو من «جواحظ زمانهم»] فق�رص من عناية بق�ضايا النّوع ،ف إ�نّها تظل –�إجماال -درا�سة �سطحيّة مدر�سيّة يغلب
رجل باجلاحظ و�أزرى عليه وحلم الأ �ستاذ عنه .فلما خرج قلت له � :سكتَّ �أيها عليها املنزع ال ّت�أريخي التّب�سيطي وال �شيء فيها مما يتّ�صل بهذا الذي �أ�سماه
الأ �ستاذ عن هذا اجلاهل يف قوله الذي قال مع عادتك بالرد على �أمثاله .فقال: «نوعا �أدبيّا عربيّا» �إذ ال ذكر فيها ملا يعنيه بالنوع وال بخ�صائ�صه وعنا�رص
مل �أجد يف مقابلته �أبلغ من تركه على جهله ،ولو واقفته وبينت له النظر يف خطابه وال مبكوناته الإ ن�شائية…
كتبه� ،صار �إن�ساناً .يا �أبا القا�سم كتب اجلاحظ تعلم العقل �أو ًال والأ دب ثانياً. زد على ذلك كلّه ،ولنبق يف حدود هذا الذي �أ�سماه �شارل بال «منوذجا»� ،أن
عن ياقوت احلموي -معجم الأ دباء( .املرتجم) «منوذج» الأ دب نف�سه وما يقوم عليه خطابه من ف ّنيّات وطرائق يف الكتابة مل
- 24لع ّل املق�صود بالت�سوية هنا هو ذلك احلر�ص على تقدير الفروق بني يدر�س بعد… ولذلك ال نعرف �إن كان هذا «الأ دب» نوعا �أدبيا �أو �أ�سلوبا ف ّنيّا �أو
امل�ستويات الثالثة :الذاكرة (النقل) ،العقل ،اخليال والإ حلاح على �رضورة فل�سفة من فل�سفات الكتابة �أو منهجا �أو غري ذلك… فك ّل ما نعرفه ال يتعدّى ما
توازنها( .املرتجم). قاله اجلاحظ عن �صفة يف �صفاته و�أنه «الأ خذ من كل �شيء بطرف»!
145 نزوى العدد / 61يناير 2010
ح ــوار
146
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
فاطمة ال�شيدية
الق�صيدة نزهتي الكونية يف بحرية من املو�سيقى
(نحن حمكومون بالأ مل) ,وباحلب �أي�ضا
حوار :عبد الرزاق الربيعي
كاتب من العراق يقيم يف عُ مان
ت�ؤمن الدكتورة فاطمة ال�شيدية �أن الكتابة م�رشوع �أخري للحياة واحللم و �رشفتها
الداخلية ،التي تهرب �إليها كلما ت�صاعد احلزن يف �أوردتها ،لتغرق يف بحرية
من املو�سيقى� ،أو يف فنجان قهوة لتنعم بال�سالم هربا من حنني املرايا للدم
واحلزن ,و ثمرة الت�أمل يف الكون والوجود والكائنات ،ثم الدافع للو�صول به
–ال�شاعر -للحزن لإ دراكه حلالة من الالجدوى !
الأ ماكن الأ وىل متنعنا من الأ مكنة الأ خرى ،وجتربنا على
املكوث يف دروبها الفردو�سية وماهي كذلك!
147
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ني ب ِه
يل زا ٌد �أ�ستَع ُ
بهذه اللغة ال�شعرية تتحاور مع الأ �شياء وتف�رس العامل دُنيايَ ه ْل َ
على الرّحيلِ ،ف�إنيّ فيكِ محُ َتبَ�س املحيط حماولة �أن تعي�ش تفا�صيل حياتها كنحلة
تتنقل بني �أزهار الكلمات ,متنقلة بني عدة �أعمال bbع�شت طفولتك يف بيئة مائية هل تبللت
وظيفية :مكتبها يف وزارة الرتبية والتعليم ,ع�ضويتها كلماتك برذاذ البحر؟
هيئة تدري�س اجلامعة العربية الكندية املفتوحة وهيئة نعم ع�شت طفولة مائية ،وللمفارقة ع�شت بني ملح
حترير جملة �شعريات (ليبيا) و�أن�شطتها املتعددة يف �أجاج ،وعذب فرات ،فبني البحر الذي كان مهد
النادي الثقايف واجلمعية العمانية للكتاب والأ دباء طفولتي الأ وىل ،ورفيق املتبقي من الذاكرة واحللم،
العمانيني ,وهذا لن ي�شغلها عن موا�صلة ا�شتغاالتها وبني ال�سواقي التي دثَّرت الروح ب�أغانيها ،و�أحالم
الكتابية يف ال�شعر والنرث وال�رسد والنقد ,وفاطمة من الع�صافري على الأ �شجار التي منت مبحاذاتها
�أكرث ال�شاعرات العمانيات تواجدا يف امل�شهد الثقايف تدحرجت خطواتي الأ وىل ،ورمبا دمعاتي الأ ثرية،
العماين �,صدر لها) هذا املوت �أكرث اخ�رضارا -دار الأ مر مل يكن خرافيا وال �أ�سطوري اجلمال؛ بل كان يف
الر�ؤيا -م�سقط ,1997 / و(خالخيل الزرقة) دار منتهى الب�ساطة والبدائية ،ولكنها الأ رواح والذاكرة
التي جتعل املا�ضي هيكال تطوف حوله ما تبقى من املدى -دم�شق2004 /
ورواية (حفلة املوت ) ،دار االنت�شار العربي 2007 العمر ،لقد تبللت روحي ولي�س كلماتي وح�سب ،و�أ�شعر
الآ ن �أنني كلمت طرقت بحر الكلمات ف�أنني البد �أن و(مراود احللكة) -من�شورات وزارة الرتاث
والثقافة -م�سقط 200 /ولها عدة كتب خمطوطة �أحرك يدي وب�أ�صابعي كمن يحاول �أن ي�سبح متاما،
قيد الطباعة منها كتابها (�أ�سلوبية الن�ص) الذي هو و كلما قررت �أن �أكتب علي �أن �أ�ستنجد بكل ذلك املاء،
�أطروحة الدكتوراه يف الل�سانيات الن�صية والأ �سلوبية وبكل حالوة وطالوة الأ �شياء القدمية ،عليّ �أن �أكتب
يف الل�سانيات التي ح�صلت عليها من جامعة الريموك مبداد املوج كما يقول نيت�شه:
يف هذا احلوار حاولنا االقرتاب من عاملها ال�شعري «�أحمكوم علي �إذن باخلرب�شة ؟
لذلك كلما ا�ستولت علي بجر�أة دواتي وم�رشوعها يف الكتابة والنقد .
bbيرتفع يف ن�صو�صك �صوت الفجيعة ,ولو ب�شكل �أكتب ب�أمواج من املداد
خفي وهام�س ,هل الكتابة تعبري عن مكنونات كيف ين�ساب ذلك مرتعا �سخيا!؟»
الال�شعور الذي تختزن به خماوف الإ ن�سان من bbالأ ماكن الأ وىل حتفر يف الذات �أخاديد عميقة ,
املوت والأ مرا�ض وهو ي�سبح يف بحر الوجود ماذا حفرت (�صحم) يف ذاتك ؟
املكان هو روح �شبحية ت�سكننا ،روح ت�صلح �أن تكون املتالطم ؟
ترياقا للغربة والعزلة معا ،ت�صبح حالة ميتافيزيقية �صوت ال�شعر هو �صوت الداخل ،وهو ذلك ال�صوت
للذات ،ال ت�ستطيع فعال �أن حتدد ما فعلت بك ،الأ ماكن امل�شتغل على الواعي والالواعي من الذات ،لذا جنده
الأ وىل(�صحم بالن�سبة يل) ،هي حالة احلفر اخلالد ي�رسف يف البوح يف ثنايا الن�ص ،والفجيعة الوجودية
التي ال متلك بعد زمن ما �سوى االرتداد نحوها التي يخت�رصها ذلك ال�صوت؛ هي ثمرة الت�أمل يف
ا�ستجداء لروائحها ،وارتعا�شة ع�شاقها ،و�أ�صوات الكون والوجود والكائنات ،الت�أمل الذي هو دور
موتاها ،وحنينها امل�ستبد ،و�أحالمها وانك�ساراتها، ال�شاعر ورمبا قيمته ،ثم الدافع للو�صول به للحزن
واحلزن غري املربر ،والعرثات الطفلية ،والرباءة التي تو�صل
ّ لإ دراكه حلالة من الالجدوى .وهي ثمرة
تقف دونك ودون الفهم الكارثي الذي تتمنى لو �أنه �إليها ال�شعراء والفال�سفة معا منذ �أقدم الع�صور .انظر
مل يكن. مايقول �أبو العالء �أحد �أكرث �أ�صوات الفجيعة علوا
الأ ماكن الأ وىل متنعنا من الأ مكنة الأ خرى ،وجتربنا وارتدادا يف ال�صدى..
على املكوث يف دروبها الفردو�سية وماهي كذلك!، �أم ٌر بدا ثم �أخفَى� ،ش أ� َنهُ ،ق َد ٌر
ورائحتها املقد�سة ،و�صوتها النبيذي اله�ش مهما كالنّا ِر ماتتْ ،فلم يُن�شرَ ْ لها قَب�س
148 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
والر�ؤية والت�أمل واجلمال كلها تغريت وتلونت تباعدت بنا الأ مكنة �أو غربتنا الدروب .والعزلة التي
وانترثت ،والبحر وال�صحراء ،واليتم واملاء ،و�أرواحنا
هي فري�ضة حمنة الكتابة والوعي ،جتعلنا نعي�ش
و�أج�سادنا و�أحالمنا ،والق�صي املعتم والوردي منا؛
مكاننا اخلا�ص وزمننا اخلا�ص ،وجتعلنا ن�رصخ
كلها انترثت؛ فلم ال ننترث!؟
مع �إميل �سيوران�« ..أنا ممنوع من الزمن .وملا كنت
عاجزا عن متابعة �إيقاعه ف�إين �أتعلق بتالبيبه� ،أو bbولرمبا اال�ستقبال احلافل الذي ت�ستقبل به
�أت�أمله لكني ل�ست فيه �ألبته .كما �أنه لي�س يفّ .وعبثا الروايات الن�سويات يف اخلليج كرواية«بنات
الريا�ض» مثال هو الذي حفزك لكتابة «حفلة �أطمع يف قليل من زمن اجلميع»
bbهل انعك�س هذا على كتاباتك ال�شعرية املوت»؟
-ال بالطبع ،بل لقد �أردت ب�إ�رصار �أن �أبتعد عن تلك وال�رسدية؟
املناطق امل�ستفزة للحم الب�رشي ،املتحفز لال�ستثارة نعم ،مازلت �أ�سرية الطني والبحر والرمل والإ ن�سان
ال�سهلة ال�رسيعة واملجانية ،روايتي طيبة مبا يكفي املائي ،بب�ساطة مازالت �أ�سرية الرائحة �إذ البحر
لتكون يف خانة الب�سطاء والفكرة العميقة ،واحلنان يتنف�س ويلقي بفو�ضاه على �شواطئ احلنني ،والن�سوة
امل�ستنفد من قبل طاقات ال�رش التي ال قبل للإ ن�سان يت�ضوعن باحلنّاء والبخور ،وال�ساقية متر عرب �أحوا�ض
بها ،وجارحة مبا يكفي لتكون نقداً �رصيح ًا وجاداً النخيل يف ترف ودالل وب�ساطة الب�سيط من الأ �شياء.
للكثري من الت�رصفات الذكورية احلمقاء ،ولكل ولذا رمبا �أميل يف كتابتي للونيّة ،وللح�س واجلر�س
اال�ستالب التاريخي التهمي�شي للمر�أة ،وحادة مبا واملو�سيقى ،كما �أميل بعمق معمّق ومق�صود ل�رسد
يكفي لأ ن تكون �رصخة �ضد ظلم مت�صاعد ومتوارث التفا�صيل النف�سية الداخلية ،وللم�شهد الكلي اخلارجي
لهذا الإ ن�سان ،الذي �سرُ قت من حتى �إن�سانيته على مر ب�شكل جممل وعام كن�ص متكامل ليحظى امل�شهد
التاريخ بالعبودية والعن�رصية والتمييز ،وحنونة مبا اخلارجي ب�صورة كليّة ،وامل�شهد الداخلي ب�إ�سهاب
يكفي لأ ن ت�رصّح ب�أنه ال حياة وال �سعادة ،بال حب! نبيل.
bbبعد ثالث جمموعات �شعرية فاج�أت الو�سط bbما املقولة التي حر�صت على طرحها يف هذه
الثقايف العماين بروايتك «حفلة املوت» هل الرواية؟
كتابتك للرواية �إقرار ب�أن الزمن هو زمن الرواية؟ -لقد حر�صت على طرح عدة مقوالت �أهمها:
املر�أة �إن�سان كامل ولي�س ناق�صاً. وكيف تنظرين لهذه املقولة ؟
جمتمع ال يقدر املر�أة جمتمع متخلف.
ال �أبدا ..كتبت الرواية لأ نني �شعرت �أنني �أرغب �أن
الب�رش مت�ساوون يف �إن�سانيتهم بكل الأ لوان والأ �شكال
�أكتب رواية ،كانت الفكرة متخلّقة يف ر�أ�سي ويف
والأ حجام والأ عراق ،وكل عن�رصية ،هي ظلم طارئ، دفاتري منذ فرتة طويلة جدا ،وكان يجب �أن ترى
النور – لوال تخوفاتي غري املربرة -قبل جمموعتي
و�رش م�ستزرع.
حني ننظر للأ �شياء من عدة زوايا ،ميكننا �أن نراها
الثالثة ،وكانت كما كل م�شاريعي طويلة الأ مد ،وقد
بعدة �أ�شكال ت�أتي بعد فوات الأ وان بقليل..
الأ �ساطري هي قيمة املحكي وال�شفهي يف املجتمعات،عن املقولة �أعتقد �أنها �صادقة �إىل حد ما ،ومع هذا
ويجب ا�ستثمارها يف املكتوب كي ال تندثر.
لنكن يف منطقة الو�سط هذا زمن النرث ،زمن ال�شعري
نحن حمكومون بالأ مل( �سعد اهلل ونو�س) ،وباحلب وال�رسدي منه ،زمن الغائم والالدقيق من التجني�س
�أي�ضا!
والتو�صيف وامل�سميات ،ثقيلة هي الت�سميات الآ ن،
امل�رسح ابتلع الفنون جميعا ،وخلق حالة من االحتاد bbما الذي بر�أيك يجعل فن الرواية «مت�أخرا»
والت�سوية وال�صلح معها ،وال�شعر فعل فعلته هذه ن�سبيا يف الو�سط الثقايف العماين عن بقية
منذ ا�سخيلو�س واملالحم وت�صالح مع املو�سيقى الفنون؟
والفن ،الكون �أ�صبح منثورا ،واحلزن والوجع والع�شق يف البدء ال ميكننا تعميم هذا احلكم ،هناك روايات
149 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ت�صدرها وتعلي �ش�أنها يف اليوم ال�سابق ،ثم �سنعرج عمانية قدمية وغنيّة و�إن مل تنل حظها من ال�شهرة،
على جماليات احلزن و�رضورة االكتئاب للمبدع ومل تعد متداولة بيننا .كما �أن هناك روايات حققت
عند فان جوخ الذي قطع �أذنه حلبيبته ،وفتنة العبث �شهرة عالية ،ومن ثم فطبيعة الرواية حتتاج ن�ضجا
عن �سلفادور دايل ،وقد ن�صل للمو�سيقى حينها يف الأ �ساليب والتجربة ،حتتاج �أن تكتبها بعد
�سيعلو النقا�ش بني جمالية غناء الن�ص الف�صيح عن م�شوار من الكالم �أو الغناء �أو ال�صمت ،م�شوار من
مار�سيل خليفة� ،أو ماجدة الرومي مثال ،وبني فاغرن الت�أين والتثبت ،ولذا �أرى الأ مر طبيعيا جدا ومربرا،
�أو موزارت يف املو�سيقى الكال�سيكية ،متباهني قليال بالإ �ضافة �أننا نبد�أ غالبا من حيث ينتهي الآ خرون،
باملعرفة الناق�صة ،وا�ستعرا�ض املعلومات ال�سطحية والبد �أن يكون نتاجنا الثقايف ب�شكل عام متوازيا
�أحيانا كثرية ،وحتتد �أ�صواتنا عند مناطق االختالف ن�سبيا مع الن�سبة ال�سكانية وعدد املثقفني ،والكتاب
وترتاخي حنانا عند مناطق االتفاق ...نتكلم يف كل و�ضمن هذه احل�سابات لدينا عدد ال ب�أ�س به من
�شيء من طريقة اللب�س حتى نوع ماركة املكياج، الروايات والروائيني ،كما �أن امل�شهد يت�سع كل يوم،
والأ لوان املحببة لل�شاالت!! .. والقطار يتحرك ب�رسعة �أكرب ،والعجلة تدور وتور
هل ر�أيت هكذا �أعي�ش و�أكتب �ضمن اللغة التي هي كل ..فلنت�أمل ولن�أمل ..
�شيء يف �أي �شكل كتابي� ،إنها احلياة ..احلياة كلها. bbهل �ستوا�صلني هذه اللعبة؟
نعم! �إنها مغرية ولذيذة جدا وت�ستفز �شغبي الداخلي � bbأ�صبحت مقلة �شعريا ,هل �أكلت �أنياب الرواية
للتجريب فيها ،متاما ككلمة لعبة ،التي �أ�شعر �أنها والدرا�سة الأ كادميية تفاحة ق�صيدة فاطمة؟
نعم �أ�صبحت مقلة جدا �شعريا ،ولكن لي�س لأ ي �سبب ترجعني للوراء كثريا ،وجتعلني �أجيب فورا بنعم
مما ذكرت� ،أو لأ ي �سبب منطقي � آخر ،ولكنني مل �أعد وبحما�س ،مع �أنني غري متيقنة متاما من الإ جابة،
�أ�ستطيع �أن �أكتب �شعرا ،كما كنت �أفعل بكرثة وع�شق، لكن ما �أنا واثقة منه� ،أنني �أحب �أن �ألهو مع اللغة
يبدو �أنني انترثت مبا مل يعد ي�سعف التكثيف ،بت دائما ك�صديقة حميمة ،نتقاذف الأ �شياء القريبة
�أقرب لالندياح يف ب ؤ�َر املاء ،من جتمع ال�ضوء يف ونحن نقهقه ب�صوت عايل حني نتكلم عن غباء الرجل
قب�ضة الق�صيدة ،و�أميَل لع�صري التفاح من ق�ضمته ال�رشقي ونظرته للمر�أة ،ثم نن�سحب مبرح �أقل ملناطق
املتوح�شة ،و�أخ�شى �إذ اقرتب من ال�شعر �أن جترحني �أكرث وجعا و�ضبابية ،وثقال مو�ضوعيا للحديث عن
�أنياب الق�صيدة� ،أو �أجرحها ،كما �أخ�شى كثريا وكثريا الت�صوف وجمالياته عن حمي الدين بن عربي �أو
جدا �أن �أكف متاما عن جتني�س كتابتي بعد وقت احلالج� ،أو عن التطور التاريخي للق�صيدة العربية من
لي�س بطويل ،ولكن ما �أعرفه جيدا �أنني لن �أكف عن امرئ القي�س حتى �أدوني�س وحممود دروي�ش ،مرورا
الكتابة. باملتنبي النبي املغرور ،وحكيم املعرّة ،ثم �سنذهب
يف �أم�سية ل�صديق رائع �أحب ما يكتب من �شعر كنت للفل�سفة للحديث عن احلرية واحلقيقة والوجود عند
�أعت�رص داخلي ،و�أنا �أقول :يا �إلهي كيف مازال يكتب �سارتر �أو هايدغر �أو غريهما م�ستح�رضين �سقراط
�شعرا؟! �أمل يتعب؟ لقد جرحني ال�شعر �إذ ترك ن�صله و�أفالطون و�أر�سطو وابن ر�شد وابن �سيناء والفل�سفة
معلقا يف روحي ،وبات دمي �أكرب و�أكرث �سيالنا من العربية العظيمة� ،ساخطني على املت�شدقني العرب
نفاف الق�صيدة!!! الذين �أهملوا هذه الفل�سفة يف رك�ضهم احلثيث وراء
bbبد�أت الكتابة �شاعرة ق�صيدة نرث ووا�صلت هذا كل غربي ،وهم ال ميلكون حتى �أبجديات الثقافة
النهج اجلمايل � ,أي �أن تدرجك كان �ضمن منطقة العربية التي نهل منها علماء وفال�سفة الغرب الذين
حددتها بنف�سك منذ البدء ,ما هي اخلطوات بذلك بوعي وواقعية ،وقد نعرج لل�سيا�سة التي لن
الفنية التي قطعتها يف طريق املغايرة �ضمن هذا نطيل الوقوف عندها لأ نها باتت متناق�ضة حد عدم
الإ طار؟ قدرة كائن واعي على الكالم املنطقي فيها لأ نها
�أنا وريثة تقليدية للق�صيدة العربية ،بكل مراحلها تثبت كل يوم �أنها تتفّه وحتقّر كل املفاهيم التي
150 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
النقدية ،ويف تعاطي من ال ميلك �أدوات النقد معه وطقو�سها وبحورها ،قراءة وكتابة ،كما �أحمل كل
كيفما اتفق ،م�صدّرا نف�سه بامل�سمى العظيم (ناقد) الأ �شياء ال�ضدية التي قد ال تتخيل تناق�ضاتها داخلي
وما �رضه لو قال �أنا قارئ ومتابع ،وخفف على اجتماعيا و�إن�سانيا وثقافيا ،والتي جاهدت خللعها
نف�سه عبء امل�صطلح والتنظري ،وت�سويق امل�سميات، ورمبا مل �أفعل متاما ،ومل �أقر�أ ن�صا منثورا �إال يف
وت�شويه احلقائق. اجلامعة ،ومل �أقر�أ ن�صا غربيا �إال مرتجما ،لكنني
فالأ �سلوبية منهج علمي دقيق وي�شمل عدة مباحث، �أي�ضا �أحمل داخلي بذرة االختالف وجمالية التمرد،
ولي�ست هي حتليل الن�ص لغويا من ظاهره فقط - فحني �شعرت ب�أن ما ي�شبهني ويكتبني هو ق�صيدة
كما �شاع يف درا�ساتنا امل�سلوقة على عجل� -إن كل النرث ،كان من واجبي �أن �أ�رصخ نعم (هذه هي!) و�أن
ما يتناول الدر�س البالغي والنقدي والن�ص والتنا�ص �أخل�ص لها حتى الكفر مبا �سبقني منها ،و�أن �أبد�أ من
والكثري من املناهج النقدية واملدار�س الأ دبية يدخل حيث انتهت متاما ،وهذا ما حدث ،و�رصت �أقول �أنني
�ضمن الأ �سلوبية التي هي مبتكر علمي ثقايف غربي منها بد�أت ..وال �أعرف �إىل �أين �س�أنتهي!!
يتقاطع قليال مع البالغة العربية ،ولكن لي�س ب�شكل bbيف حوار �سابق اعتربت التعاطي مع الكتابة
كلي وال حتى كبري ،وهي علم كبري ومت�شعب ،در�سه «ورطة» هل �أنت نادمة على دخولك هذه
�أكادميون ولغويون درا�سات م�ستفي�ضة ،ومازال الورطة؟
يحظى بالكثري من اال�شتغاالت الأ كادمية الغربية ،يف ورطة؟ نعم ،و�أي ورطة وجودية هي الكتابة؟! دافئة
حني نتعلق بحوافه فقط ،وينت�سب �إليه كل من له �أو وقا�سية ،ناعمة وجارحة يف ذات الآ ن ،ولكن نادمة؟
لي�س له دراية به ،وهنا تكمن امل�شكلة! ال� ،إنها ورطة حنونة جدا ،و�أنا �أحبها ،و�أع�شق تورطي
bbالن�ص ال�شعري ف�سيف�ساء من اجلماليات فيها ،لأ ننا �إذ جنيء متورطني فنحن نع�شق هذا التورط
والعنا�رص الفنية ,يف ن�صك ال�شعري لأ ي عن�رص بعد حني ،ونتلذذ مبازو�شية به ،وبق�سوته ،ون�ستعذب
جمايل تعطني الأ ولوية ؟ �ساديته يف �أرواحنا ،مب�شارطه يف قلوبنا ،و�رصخاته
ال�شعور ،وال�صورة ،واللغة ،وهكذا بهذا الرتتيب الوح�شية يف دمنا ،وال نرى لنا وجودا خارجه ،وال
�أرى ممكنات و�رضورات الن�ص ال�شعري يف خلق نرى �أنف�سنا �إال �ضمن �رشاكه الطيبة ،وخمالبه النبيلة،
جمالياته ،وبناء عوامله اللينة والناعمة ،واجلارحة ومراياه احلنونة� ،أال ترى كيف نحب �أوطاننا و� آبائنا
والقادرة على ال�سكون والركون يف الذاكرة ال�شعرية، و�أمهاتنا وبيوتنا و�أ�صدقائنا و�أحبائنا ،رغم �أننا
والقب�ض عليها من قبل املتلقي ال�شعري. كثريا ما نكون غري را�ضني متاما عنهم ،وكثريا ما
bbكناقدة وباحثة كيف تقيمني التجربة ال�شعرية يكونون هم وحدهم �سبب �أحزاننا و�شقائنا اخلالد..
العمانية احلديثة؟ ولكنها �أقدرانا ..وهل �أكرث من الع�شق ورطة قا�سية
�أعتقد (كقارئة ومتابعة ،وهذا �أهم بالن�سبة يل) �أنها وحنونة يف ذات الوقت!
بخري نوعا ما ،من حيث �أنها متوازنة ومتوازية، bbدر�ست الأ �سلوبية �أكادمييا هناك من يعترب
مبختلف التوجهات ال�شعرية واملدار�س والأ جيال الأ �سلوبية داء لكل دواء من حيث ميكن درا�سة �أي
الفنية ،ورمبا �أي�ضا لكونها ت�سري ببطء نبيل ،وهدوء ن�ص درا�سة �أ�سلوبية على ح�ساب املناهج الأ خرى
واعي ،غري مفتعلة لل�ضجيج والدعائية،كما تفعل و�أنت كباحثة ,هل ترين �أن الأ �سلوبية كمنهج
الكثري من التجارب العربية الأ خرى ،ولكن مع هذا �أ�صبحت مطية النقاد مثلما كان العرب يعتربون
ينق�صها الكثري �أي�ضا! ينق�صها اجلدل واحلراك، بحر الرمل مطية ال�شعراء؟
والتنوع والقوة يف احل�ضور والتفاعل مع الآ خر بالطبع هذا كالم به الكثري من املغالطات العلمية
اخلارجي ،كي ال تبدو يف �سري مري�ض قد ي�ؤدي بها الفجة ،امل�شكلة لدينا تكمن يف التعميم ،ويف ال
للموت ،الذي هو عك�س الهدوء واال�شتغال ال�صامت. مو�ضوعية الرتجمة غالبا ،ويف تذبذب امل�صطلح،
bbهل �أنت را�ضية عن م�ستوى املتابعة النقدية ويف التطبيق التع�سفي من قبل البع�ض للمناهج
151 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
s
s
s
خليل النعيمي
َم ْن يقبل �أي تنازل يف اللغة ،يقبل �أي تنازل يف احلياة
حوار :حممــد املزديوي
كاتب من املغرب يقيم يف فرن�سا
قيمة الكاتب هو �أن يكون دائما �ضد املحيط الذي يوجد فيه،
لأ ن الكاتب �ضم ُري املجتمع وهو من�شق با�ستمرار
s
s
s
حركة الـ«� ،»situationistesأو فل�سفة الأ و�ضاع ،وهي حركة الذي كان �سائداً يف العامل العربي � ،آنذاك ،والآ يل ،دون
�ألقت ال�ضوء ب�شدة على اخلا�صية الراكدة �أو ال�ساكنة �أو ريب� ،إىل اجلمود فالإ ندثار� ،إنْ ْمل يُجدد.
الال متحركة للفكر الي�ساري العاملي الذي كان �سائداً vvوهل يف هذه الفرتة ظهر كتابك «موت
� آنذاك .هذه اللقاءات املتوترة واخلاطفة هي التي �سته ّز ال�شعر»؟
�أركان تكويني النف�سي والعقلي والإ بداعي .وكان �أحد يف هذه الفرتة �أ�صدرتُ كتيّبا �صغريا ا�سمه «موت ال�شعر»
�أه ّم الأ �سماء يف هذا التيار ،تيار الثقافة النقدية املُجدِّد وهذا الكتاب �صدر يف باري�س عن دار ن�رش �صغرية،
هو «غي دوبور» الذي كتب «املجتمع امل�شهدي» .وقد و�أُعيد طبعه يف جملة درا�سات عربية ال�صادرة عن دار
كان �أحد الأ عمدة الأ �سا�سية يف ذلك احلني .كان هناك ،الطليعة ،يف بريوت .هذا الكتيب اعتمد على درا�سة ل�شعر
�أي�ضاً� ،إىل جانبه �صديقه «فانيغيم» الذي كتب �أكرث �أدوني�س باعتباره �أحد كبار ال�شعراء العرب الأ حياء،
من خال�صة ومن كتاب يعالح فيها و�ضع الإ ن�سان يف وانطلَقَ من نظرة خا�صة �إىل دور ال�شعر وارتباط ال�شاعر
املجتمع الر�أ�سمايل .وتكمن �أهمية هذه احلركات يف بال�سلطة وعالقة ال�شعر باجلمهور وبالتايل حمدودية
�أنها كانت ترف�ض النهج ال�ستاليني ،وحتى الرتوت�سكي الت�أثري النقدي لل�شعر يف الفكر الإ ن�ساين على امل�ستوى
املت�شدد ،وحتاول �أن تخلط «مارك�س» بـ«هيغل» ،وهي ال�سيا�سي وعلى م�ستوى الوعي �أي�ضاً .لكنني فيما بعد مل
حني نتحدث عن تكاد تكون على حافة احلركة الفو�ضوية� ،إنْ مل تكن �أتابع هذه الأ طروحة التي �ضمّنتُها يف «موت ال�شعر» .
احلرية فبالفعل «فو�ضوية نقدية» بحق .ومهما يكن الأ مر فقد �شغ َفتْني vvمن املفرو�ض �أنك جئت �إىل باري�س لدرا�سة
� إننا حني ن�صل احلركة الفو�ضوية والتي كنتُ � ،أنا �أي�ضاً ،و�إىل �سنوات الطب ،لكنك ال تكاد تذكر هذا اجلانب حني تتحدث
� إىل باري�س ن�شعر عديدة� ،أعترب نف�سي تابع ًا لها .للحركة الفو�ضوية ،عن بدايات باري�س وتركز �أكرث على اجلوانب
فج�أة وك�أننا التي كانت ترف�ض «ال�سلطة» رف�ض ًا عميق ًا « ،ال�سلطة ال�سيا�سية والفل�سفية والفكرية ،فهل لأ نك م�أخوذ
اجلنيّ الذي خرج ال�سيا�سية» ،و«�سلطة الثقافة ال�سائدة» ،و«�سلطة الدين» .بالثقافة �أكرث؟
هذا ،كله� ،ألقى ال�ضوء ب�شدة ،وب�شكل حا�سم ،على امل�صري �أت�صور �أن ال�سبب يف ذلك هو �إن�شغايف بفكرة املجتمع.
من القمقم .حت�س املحتمل والبائ�س الذي تنتظره احلركات الي�سارية ف�أنا كبدوي ن�ش�أتُ يف ال�صحراء وكربتُ فيها ،تعلمتُ
نف�سك خفيف ًا الكال�سيكية وبخا�صة يف العامل العربي .وقد انبثقَتْ � ،صدفة ودخلتُ اجلامعة فيما بعد ،لأ در�س الطب
وجميالً ،حتى لو يف ذلك الوقت� ،أكرث من حماولة عربية �شبابية لإ نتاج والفل�سفة .كانت حتركني رغبة عميقة يف التوا�صل مع
كنت ب�شعا �أو ملهاجمة �أو تك�سري الو�ضع ال�سيا�سي العربي امليت ،الآ خرين .كنت �أت�صور دائما �أنه ال ميكن �أن ننفذ �إىل قلب
مما �أدى �إىل �إن�شاء بع�ض ال�صحف �أو بع�ض الن�رشات الكائن �إ ّال عرب الفكر .و�أن العمل املادي ،جراحي ًا �أو غري
من بينها «�سلطة املجال�س» للعفيف الأ خ�رض ،ون�رشة جراحي ،لي�س و�سيلة �أكيدة لتقريب النا�س بع�ضها من
«الرغبة الإ باحية» لعبد القادر اجلنابي ،ومنها ن�رشة بع�ض .و�أن العمل بعالقاته االجتماعية املزيفة ،غالباً،
�صغرية �أ�صدرتها �أنا مب�ساعدة رفاق � آخرين ا�سمها ما يكون م�صدر نفور و�إرهاق .ولأ نني من عائلة �أُمّ ية،
«�أهواء» ،وكان �شعارها« :للنقد والتحري�ض والتخريب /ومن قبيلة �أُمّ ية بالكامل� ،رصت �أح�س بقرابة عميقة مع
من �أجل الثورة املبا�رشة» .باعتبار �أن تخريب العالمَ املفكرين والفال�سفة والكتاب الذين �أقر�ؤهم .كانوا هم
القدمي �شغف ،كما يقول «باكونني» .و�أ ْت َبعْتُ هذه الن�رشة � آبائي احلقيقيني .حتى �أنني عندما زرت �أثينا ،و�صعدت
ال�صغرية والتي ا�ستمرت لفرتة ق�صرية ،بتنظريات �إىل �صخرة الأ كروبول ،كنتُ �أكتب بر�أ�سي ،و�أنا �أَرْقى،
�إ�ضافية حول مفهوم «الثورة املبا�رشة» .تنظريات الجُ مَل التالية« :ي�صع ُد اجلب َل بعد ع�رشين قرن ًا الرجلُ
كُ ِتبَتْ على عدة دورات ،وكانت مت�أثرة ب�شكل �أ�سا�سي الذي جاء من بادية ال�شام .ي�صعده باحث ًا عنهم ،عن
بالنزعة النقدية التي كانت منت�رشة � ،آنذاك .كنتُ �أت�صور � آبائه ،الذين عرفهم �أكرث مما عرف �أباه ».هذا املقطع
�أن «الثورة املبا�رشة» التي �ستتخلّ�ص من �سيطرة الفكر يلخ�ص تقريب ًا اهتمامي العميق بالفكر وبالكتابة
احلزبي ،والديني ،واجلُموعي عليها� ،ستخلِّ�صنا� ،أي�ضاً .وبالأ دب .لأ نني �أت�صور �أن االنتقال من جمتمع بدوي
كنتُ �أرى فيها «ثورة الفرد الواعي» يف حياته اليومية .م�سطح و�أفقي ،وهو جمتمع �إىل حد ما غري تراتبي
وكنتُ �أعتربها �إحدى ال�رضورات التي يجب على الإ ن�سان وال تراكم فيه ،ال للرثوة وال للمعرفة� ،إىل جمتمع مثل
العربي �أن يتمرَّ�س بها من �أجل تطوير الو�ضع اخلانق ،املجتمع الدم�شقي ثم املجتمع الباري�سي ،بعد ذلك،
155 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
الرواية .وبد�أتُ �أُن�شيء عالقة جديدة بالوجود .وبالفعل، جعلني �أح�س ب�أهمية االت�صال بالآ خر ،و�أبحث عن
ف�إن الرواية ،فيما بعد ،هي التي جعلتني �ألتقي بذاتي طريق �أكرث حميمية وعمقاً ،غري طريق املهنة ،للو�صول
اجلديدة ،بعد �أن تخل َّْ�صتُ ،ولو ن�سبياً ،من م�شاعري �إىل ما �أُريد .ووجدتُ �أن الكتابة ،والرواية منها ب�شكل
اللغوية القدمية ،م�شاعري التي تكاد تكون حمدودة خا�ص ،قد تكون �أف�ضل الو�سائل لبلوغ ذلك .وال بد� ،أن
الأ ثر .هي التي نقلتني �إىل طور جديد ،طور �رصتُ فيه ثمة م�سالكَ �أخرى للتف�سري ،لكن تف�سريي هو هذا.
قادراً على �أن �أنظر �إىل العالمَ و�إىل الآ خرين نظر ًة �أخرى vvحتدثت عن «موت ال�شعر» ،والتج�أت �إىل
كنت �أُح�سّ ها� ،أنا �شخ�صياً� ،أكرث مدنية و�أكرث حت�رضاً كتابة الرواية ،ولك العديد منها ،فهل هذا الزمن هو
و�أكرث عمق ًا و�أكرث نقداً .ومن هذا املنطلق تابعْتُ كتابة زمنُ الرواية؟ ثم �إنك تكتب �أدب الرحلة �إىل جانب
الرواية .و�أت�صور �أن الناقد د .جابر ع�صفور الذي قال: الرواية ،فهل الرواية عاجزة عن قول كل ما تريد �أن
«�إن الرواية ،الآ ن ،هي ديوان العرب» على حق ،لأ ننا تعرب عنه؟ انتقايل من
نرى ،الآ ن ،ك ّل ال�شعراء العرب تقريبا يكتبون الرواية� ،أو بد�أتُ ن�شاطي الأ دبي �شاعراً ،و�أ�صدرتُ �أول كتاب يل
ينتقلون من ال�شعر �إليها� ،أو �إىل ما ي�شبهها� ،أو على الأ قل
دم�شق � إىل باري�س
«�صوَر من ردود الفعل لأ حد �أفراد العامل وهو ديوان ُ وانتقايل من قبل
�إىل الكتابة «املروية» .لكن امل�س�ألة تظل ،كما �أت�صوّر، الثالث» وكنت طالب ًا يف كلية الطب يف جامعة دم�شق.
�أعقد من ذلك بكثري ،وهم لذلك ،غالباً ،ما يف�شلون .لأ ن والديوان مُ نِع يف دم�شق بعد �أ�سابيع من �صدوره ،مع من البادية � إىل
الت�صوّر ال�شعري للعامل ،غري الت�صوّر الروائي للوجود. �أنه متت املوافق ُة على طبعه وتداوُله�ُ .صودِر ،و�أُعْ دِم، دم�شق فتّح عينيّ ،
ال�شعر يعالج العالمَ ،ال�صورة� ،أما الرواية فتعالج ومل يبق لديّ منه �إال ن�سخة واحدة للذكرى .قد يكون بعمق ،على �أهميّة
«الوجود» ،الكينونة الفردية باخل�صو�ص .وطبع ًا ذلك املنع التع�سّ في ،عام ًال من عوامل هربي من ال�شعر، املكان .و�صرت
هذا المينع �أن يتنا َف َذ الت�صوران ،و�أن يتالحَ ما ،ولكن �أو هرب ال�شعر مني� ،إذا �أردنا الدقة .وعلى �أي حال،
حت�س نف�سك «خالقاً» و«مبدعاً»، بقلم مَ ن؟ يف الرواية ّ
أح�س ب�شكل من� ّ
كنتُ يف ذلك الوقت� ،أقر�أ كثرياً ،والتقيتُ بدوي�ستوف�سكي
ال لل�شخو�ص الروائية ،فح�سب ،ولكن «للأ و�ضاع» وجعلتني قراء ُتهُ ،هو ب�شكل خا�ص� ،إ�ضافة �إىل كتاب
الأ �شكال ،مباهية
الإ ن�سانية� ،أما يف ال�شعر ف�أنت يف مرحلة �أخرى. � آخرين� ،أنتقل من طور �إىل طور .من طور الوعي ال�شعري العالقة اخلفية
vvكيف انتقلت �إىل �أدب الرحلة؟ املُ�سطَّ ح العاطفي الربّاق اللفظي الذي يكاد يكون َلغْواً، وال�سرية بني
�أنت تعرف �أنه قد �صدر يل قبل الآ ن� ،سبع روايات وثالث �إىل طور � آخر .طور جعلني �أق�شع ُّر حت�سُّ � آس�ً ،وارتباكاً. الكائن واملكان
كتب حول الرحالت ...الكتاب الأ خري «قراءة العامل» جعلني �أعيد النظر يف عالقتي ال�شخ�صية بكل �شيء
حاز على جائزة ابن بطوطة للرّحلة املُعا�رصة ،التي تقريباً .وهو �شعور كان بالن�سبة يل يف ذلك الوقت
متنحها دار ال�سويدي يف �أبو ظبي� .أما ملاذا التج�أتُ ال ميكن ت�صوّره ،لأ نه ،بب�ساطة ،يقع يف نطاق املقدّ�س
�إىل كتابة الرحلة؟ فمنْ يدري؟ لكنني �أ�ستطيع �أن �أُبَ�سِّ ط الذي ال يخطر التفكري فيه ،حتى جمرّد التفكري ،على
الأ مر ف�أقول �إن انتقايل من دم�شق �إىل باري�س وانتقايل البال .مع دي�ستوف�سكي� ،أدركتُ �أن على الكائن �أن ي�شك
من قبل من البادية �إىل دم�شق فتّح عينيّ ،بعمق ،على بكل �شيء .حتى بعائلته ،ب�أهله ،ب�أبيه ،ب�أخيه .يف هذه
أح�س ب�شكل من الأ �شكال ،مباهية �أهميّة املكان .و�رصت � ّ الأ ثناء حدث ،فج�أة ،ما ي�شبه القطيعة بيني وبني ال�شعر.
العالقة اخلفية وال�رسية بني الكائن واملكان .وبد�أتُ �أرى ال�شعر الذي كان «يربطني بقومي» كاحلمار الأ ليف� ،أو
ما يحيط بي ب�شكل � آخر .حتى �أنني �رصت �أنظر �إىل �أبي لنقل كخروف جمهَّز للت�ضحية به ،دون �أن يدري ،وهو
يل و�أنا يف املدينة و�إىل الآ خرين وهو يف ال�صحراء و�إ ّ فخور بذلك .لقد بدا يل �أنه من ال�سهل �أن ننج ّر وراء �ألفاظ
وك�أننا جزء من «الأ مكنة» ال كائنات م�ستقلة عنها. تهاجم املحظورات �أو تهاجم املمنوعات دون �أن نتمكّن
وبد�أتُ �أخلط بني الكائن واملكان .وبالتايل ف�إن املكان من التعمٍّق النقدي يف حقيقتها .وقد تكون امل�صادرة
مل َيعُد �شيئا جمرَّدا ...مل يعُد منظراً وال مَ �شهداً ،ومل يعد �ساهمت يف ت�رسيع َترْكي لل�شعر لأ ين اكت�شفتُ �أن غواية
حجارة و�أنواراً و�شوارع ،فح�سب .لقد �صار بالن�سبة الأ لفاظ قد تكون �أكرب من الرغبة يف الإ دراك ،وهو على
«و�ضع ًا �إن�سانياً» له اعتباره اخلا�ص� .إنه كالكائن يل ْ �أي حال �أمر رهيب .وفيما بعد �أدركت خطورة مثل هذا
يحيا وميوت� .أق�صد يتجدد مثله ويهرتئ .ثمة �أماكن الإ بت�سار بعد �أن تب َّينْتُ �أن الأ و�ضاع هي التي ت�سيء �إىل
نن�ساها ،وال نعود نزورها .وهناك �أمكنة تغدو ،فج�أة، احلياة ال ال�صيغ وال البالغات .يومها خط َفتْني فكرة
156 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
�أو ال�سابع ع�رش �أو الرواية االجتماعية ،لكن لكي ال نذهب «على املو�ضة» ،يزورها النا�س مع �أنها ال ت�ضيف لهم
بعيداً علينا �أن نعرتف �أن لي�س هنا ال �شكل وال م�ضمون �شيئاً .و�إذا ما �أردنا �أن نذهب يف هذا املنطق �إىل � آخره،
وال هيئة وال حدود للعمل الروائي .الرواي ُة هي �أيّ كتاب ن�ستطيع �أن نقول �« :إن املكان هو كل �شيء يف الوجود».
بني دفتني ومكتوب عليه كلمة «رواية» ،ح�سب تعريف وا�ضح؟ للمكان حياته .له �أبعاده وتعقيداته ،وله
الربتغايل �ساراماغو .لكن امل�شكل هو كيفية تقييم هذا معتقداته .لكن كتابتي عن الأ مكنة تكاد تكون كتابة
ملُ�س َت ْقبِلني .هل يهمنا هذا ال�شكل
العمل من ِقبَل القرّاء وا ُ �رسية للرواية� .أو هي الرواية من وجهة نظر مكانية،
�أم ذلك ال�شكل الآ خر ،هذه م�س�ألة �أخرى� .أما م�س�ألة جلوء بالأ حرى .لأ ين عندما �أحكي عن الأ مكنة �أجد لنف�سي،
ال ُكتّاب العرب �إىل تخييل ال�سرية الذاتية �أو �إىل �إن�شاء �أي�ضا ،مكاناً .ولكن �أين هو مكاين ؟
عمل روائي اعتباراً من الأ نا ،هو ،يف الواقع� ،شيء ل تفعل ذلك؟ ما هو هدفك� ،أو غر�ضك؟
vvولكن مِ َ
يحدث كثرياً ،وهو ،مع الأ �سف ،تقلي ٌد ملا يحدث الآ ن ما يجعل كتابة الرحلة ممتعة هو �شعور اخرتاق احلدود
يف الغرب البورجوازي .لأ ن احلياة يف الغرب �صارت، الفعلي عندما نرحل .وبالفعل ن�صري نح�س �أننا نتجاوز
منذ ع�رشات ال�سنني ،حمدودة ومريحة ومل َيعُد فيها �أي كل احلدود عندما نرتك املكان الذي نحن فيه ،الذي
مُ غامَ رة وال �أي اكت�شاف .ولي�س ذلك حكم قيمة� ،أو م�سَ بَّة، �ألفناه ،والذي عرفناه و�أن�ش�أنا فيه �صداقات و�أقمنا فيه
�إنه جمرد �إخْ بار مبا هو واقع .لكن لذلك ت�أثرياً �سيئاً، عالقات �إىل مكان � آخر.
ب�شكل �أو ب�آخر ،على الإ بداع ،وبخا�صة على الرواية التي يف الرحلة يغدو َترْك املكان امل�ألوف �شبه �أ�سطورة.
ال تقوم �إال على «�إ�شكالية ما» .هكذا يجد «الباري�سي»، وهذا الإ ح�سا�س الغام�ض هو نوع من العالقة احلميمة،
مثالً ،نف�سه وهو يكتب رواية ،مدفوع ًا بقوة ،حتى ال بني الكائن واملكان ،قبل �أن �أي �شيء � آخر .فعندما نرتك
نقول «مجُ ْ برَاً» ،على تخييل حياته اليومية .لكننا ال املكان امل�ألوف وننتقل �إىل مكان � آخر ،خا�صة �إذا كان
نفهم الكتاب العرب الذين �سيقلدون هذا النمط من املنتقل �أو الراحل �أو امل�سافر مبدع ًا �أو كاتب ًا �أو مفكراً
الكتابة «ال�صقيعية» ،وحياتهم ملأ ى بالب�ؤ�س والقمع ف�إن «احلدود» عنده تتقل�ص وتتال�شى كثرياً .وبالتايل
واال�ستالب والعمالة والنذالة والإ حباط .وهي حياة ال ي�صري ي�شعُر بحرية �أكرث .وقد ي�شْ عُر �أي�ض ًا ب�أن كتابة
حتتاج �إىل و�صف مبتذل ،و�إمنا �إىل نقد عميق وجبّار. الرحلة هي اللحظة الوحيدة التي لي�س عليه �أن يتقيد
يجب �أن يخرج الكاتب العربي� ،إذن ،من دوالب تقليد فيها بنمط معني ،ال من حيث �شكل الكتابة وال من حيث
الغرب ،على م�ستوى ال�شكل ،وامل�ضمون .فلي�س كل ما امل�شاعر وال من جهة اخلطاب .فهي كتابة ال يتوجه
يفعله الغرب �صاحلاً ،وال كل ما يطبِّلُ له الغرب ي�ستحق فيها �إىل �أحد� ،أو على الأ قل ،هذا ما �أح�س به �أنا .وهو
الإ حرتام� .إن غياب احلدث «الفاجعي» �أو احلدث املبدع ما �أ�سمّيه �أنا « :الكتابة املبا�رشة» لأ نها كتابة حيَّة،
يف احلياة الغربية جعل �أكرث كُ تّاب الغرب ،تقريباً، � آنيّة ،ت�صف العالقة العاطفية مع ما ،ومَ نْ ،نرى ونعاي�ش
ومنذ ع�رشات ال�سنني ،يكتبون �سِ يرَ َهُ م الذاتية ،و�أحيانا «على احلارك» .هي ال «تفَبرْ ك» ،وال تُزيِّف .هي �أ�صدق
يغرقون يف تفاهاتهم ،بحجة كتابة اليومي والعابر، الكتابات لأ نها كتابة تفر�ضها عالقة املنظور وعالقة
مثل الروائية الفرن�سية «كري�ستني �أنغو» التي تكتب عن الإ ح�سا�س بني الكاتب وبني املكان الذي يتحرك فيه.
كل تفا�صيل حياتها اليومية ،دون �أي بعد وجودي، يف كتابة الرحلة لي�س هناك ر�سالة� .أو هي ر�سالة �إىل
حتى ال نقول ميتافيزيقي .وعندما نقر�أ ما تكتب نكت�شف جمهول .ر�سالة ال تعني �أحداً غري كاتبها (مع �أين ال زلت
الت�سطيح الهائل حتى للحدث العادي الذي قد يكون �أح�س نف�سي كاتبا مهت ّم ًا ب�شكل من الأ �شكال باملحيط
يحمل يف بنيته ُبعْداً درامي ًا � آ�رساً .لأ ن كتابة التفا�صيل الذي ن�ش�أتُ فيه والذي �أتوجه �إليه يف كتابتي) .هي نوع
هي الأ خرى فن .وهي ال قيمة لها �إال مبا حتمله من ر�ؤى من الفانتازيا .نوع من التمتع ال�شخ�صي باملكان بغ�ض
و�أ�ساطري خفية .امل�س�ألة �إذن هي كيف نكتب التفا�صيل، النظر عن �أي دوغما .وهو ما يعطيها بالفعل بُعداً � آخر.
وملاذا؟ خارج هذا التقليد هناك ،بالت�أكيد ،كتّاب عرب vvيوجد تيار جديد يطلق عليه كتابة الأ نانة؟
يكتبون ب�شكل � آخر ،وتثريهم م�صائر �أخرى .وبت�صوّري �س�ؤالك يجعلني �أفكر يف �س�ؤال :ما هي الرواية �أ�صال؟
تكمن العبقرية الروائية يف الآ تي :جميع الكتّاب ،يف هل هي �سرية ذاتية �أم هل ميكن لل�سرية الذاتية �أن ُت ْكتَب
ر�أيي ،بدءاً بدوي�ستوف�سكي وانتهاء ب�إدوارد اخلراط كرواية ،وهل علينا �أن نكتب روايات القرن التا�سع ع�رش
157 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
يكتبون �سريتهم الذاتية با�ستمرار .وال يكتب الكاتب �إال قارئا وروائيا ما هو ر�أيك يف املنجز العربي
رواية واحدة طول حياته .لكن عبقرية الكاتب ت�أتي من روائيا...
�أت�صور �أن املنجز الروائي العربي يف الإ جمال �إيجابيّ . ان�شغاله باللغة� .سحر اللغة ،والتمرّ�س بها قد ي�سمحان
هناك كتاب عرب كبار .وكثريون منهم لهم �إجنازات للكاتب بكتابة حياته ع�رشات املرات دون �أن يكون ثمة
رائعة .برغم ذلك ثمة عوائق حتد من انطالقة الكاتب ت�شابه بينها.
جتوْهره� .أمران �أ�سا�سيان يجب التنديد العربي ،ومن َ vvكيف ترى عالقتك �أنت باللغة؟
بهما عندما نتحدث عن الإ بداع العربي :غياب احلرية، بالن�سبة يل اللغة �أمر �أ�سا�سي ال من �أجل الكتابة فح�سب،
وتعلّق الكتاب بال�سلطة .و�إذا مل يكن من ال�رضوري و�إمنا من �أجل ال�سلوك .فالكائن ال�صامت ال موقف له،
الربهنة على غياب احلرية العميق يف العامل العربي، وال مكان يف التاريخ .وال �أكاد �أت�صوّر مبدع ًا بال لغة
ف�إن التعلّق بذيول ال�سلطة يحتاج �إىل �أكرث من «كالم». خا�صة به .وما �أ�سميه �أنا «الكتابة العربية الواحدة»
ويكفي �أن ن�شري �إىل �أن املنا�صب الر�سمية �أو �شبه املنت�رشة اليوم ب�شدة يعود بالت�أكيد �إىل هذا املناخ
الر�سمية ،ب�أ�شكالها املختلفة ،من رئا�سات التحرير، اللغوي الذي ُفرِّغ من حمتواه .اللغة ،لكن لي�س اللغة
�إىل املحررين� ،إىل الإ حتادات الأ دبية� ،إىل الأ عمدة احليادية ،ولكن تلك التي حتمل فكراً ولها بُعد نقدي
يف ال�صحف� ،إىل ...كلها ترتبط ب�شكل �أو ب�آخر ب�سلطة ب�شكل �أ�سا�سي ،هي التي ت�ستهويني ،وحترّكني .وهذه
ثقافية �أو �سيا�سية .نحن ال ندعو �إىل ا�ستقالة جماعية لي�ست هي لغة القوامي�س ،وال لغة ال�صيغ الغريبة ،وال
من �أجل الإ بداع ،لكننا ب�صدد ت�شخي�ص بع�ض العوائق اال�ستيهامات اللفظية ،وال التزيينات ،وال اال�شتقاقات
التي قد تكون �أ�سبابها �أه ّم بكثري من الأ دب عند مَ نْ الكربى� ،إنها لغة احلياة احلرة .لغة الكائن الذي �أدرك �أن
يكون م�ضطراً ملمار�ستها .لكن هذا ال يغيرّ يف الأ مر حترره يبد�أ من ل�سانه ،ولي�س فقط من عواطفه .وقد �سبق
�شيئاً ،لأ نها تبقى عائق ًا �أ�سا�سياً ،وبخا�صة عندما تهيئ خللَعاء»« :مَ نْ يقبل �أي تنازل يفوكتبت يف روايتي «ا ُ
ملمارِ�سها �شهرة �سهلة ال ت�ستند �إىل �إجناز عبقري� .إىل اللغة ،يقبل �أي تنازل يف احلياة» و�أعتقد �أن ذلك يكفي
ذلك ميكن �أن ن�ضيف رُعْ ب الرقابة بح ّديْها :رقابة ل�رشح الأ همية الق�صوى التي �أح�س �أن اللغة جديرة بها.
ال�سلطة ( والرقابة الذاتية جزء منها) ،ورقابة القارئ � vvإذا كان الروائيون من دوي�ستوف�سكي �إىل اخلراط
املحتمل (مع �أن الكتاب العربي مل ي�صل �إىل مرتبة مل يفعلوا �شيئا �سوى �أنهم كتبوا حياتهم ،فلماذا
ال�سلعة املربحة ،بعد). مل تكتب �أنت �شيئا عن عملك الطويل يف اجلراحة
هذه العوائق الأ �سا�سية� ،أو املُثبِّطات املعرفية� ،أو اخل�شية والطبّ وال عن �إقامتك يف باري�س منذ فرتة طويلة،
العميقة الالمفهومة� ،أو اال�ستيعاب املمنهج للكتاب علما �أن روائيني عربا وعجما كتبوا عن هذه املدينة
من قبل القوى القادرة على ا�ستيعابهم ،و�أمور �أخرى التي مل يعرفوها �إالّ وهم يف ترانزيت...
كثرية مثل احلياء الإ جتماعي ،والتربير ،وحبّ التال�ؤم، نعود لنف�س امل�شكلة .لي�ست هناك قوانني ثابتة يف
واخلوف من نُفور الآ خرين ،و ...هي التي جتعل الكتابة املو�ضوع� .إ�ضافة �إىل �أين �إنْ مل �أكتب ،بعد ،عن اجلراحة
العربية ،اليوم ،كتابة «فاترة» �إىل ح ّد ما �أو باردة �أو
وال عن باري�س ،فهذا ال يعني �أنني لن �أكتب يوما ما
بائخة �أو م�ستعادة �أو تقليدية� ،أو بال قيمة تاريخية، عن هذا املو�ضوع .املهم لي�س ملاذا مل يكتب كاتب عن
�أو ال ت�ستحق القراءة� ،أو كتابة �شبه مقروءة ومفهومة هذه املهنة �أو هذا املكان بل هو كيف يكتب ،وملاذا؟
حتى قبل �أن نقر�أها .ملاذا؟ لأ نها كتابة بال جديد ،و�إنْ
�أما متى يكتب ،فذلك �أمر ثانويّ .حني يكتب الكاتب
بدت متجددة با�ستمرار .طبعاً ،هناك كُ تّاب عرب كبار رواية عليه �أن يطرح دائما الأ �سئلة الأ �سا�سية يف فعل
،كما قلتُ ،يكتبون ما يفكرون فيه ولهم دور �أ�سا�سي الكتابة �« :أكتبُ ملنْ ؟ وملاذا؟ وكيف؟» وحني جنمع هذه
يف احلياة االجتماعية العربية .لكننا ب�صدد التعميم ،ال الأ �سئلة الثالث ن�ستطيع �أن نتخيل كيف ميكن للقاريء
التخ�صي�ص.
احل�صيف �أن يدرك منذ ال�سطور الأ وىل ،جناح الكاتب �أو
ف�شله ،قبل �أن يتعذّب يف قراءة ال جدوى منها ،يف �أكرث vvوالرتجمة؟ �أي دور تلعب؟
بدخول الرتجمة �إىل حلبة الإ بداع� ،صار الو�ضع �أكرث الأ حيان.
vvيوجد تراكم روائي عربي رهيب ،و�أنت باعتبارك �سوءً .و�أحب �أن �أ�ضيف �أن الكاتب العربي امل�س َتلَب
158 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
يعاين اليوم من م�س�ألة الرتجمة �أكرث مما يعاين من عدم تتنا�سل كالفِطْ ر ،وتثري كثريا من اجلدل ..ما هو ر�أيك
اكرتاث قرائه مبا يكتب .وهذه ظاهرة خطرية ومميتة .فيها؟
يف ر�أيي �أي�ضا �أن م�س�ألة اجلوائز ،مع �أنها مفيدة للكتاب وت�شارك يف هذه اخلديعة القاتلة دور الن�رش وال�صحف
العرب ،و�أنا �أهنّئ الكتّاب الفائزين بها قد ت�صبح� ،أحيانا، واملعلقني الثقافيني وال�سلطات الثقافية وطبعاً ،الكتاب
عبئا على الإ بداع .هذه اجلوائز �ستكون� ،إن ا�ستمرت على �أنف�سهم .و�أكاد �أت�ساءل من جديد « :ملن نكتب؟ لنا؟ �أم
هذا ال�شكل ،ال�رضبة القا�ضية �أو الق�شة التي �ستق�صم ظهر لهم؟ ويخطر يل �أن �أ�ضيف �أحيان ًا على غالف رواياتي
الإ بداع العربي .لأ ن الكاتب العربي �أ�صبح يكتب من �أجل اجلملة التالية» :مل ترتجم �أعماله �إىل �أي لغة� ».إن م�شكلة
احل�صول على هذه اجلائزة العربية �أو تلك...و�أح�س �أننا الغرب والرتجمة ،عامل �أ�سا�سي � آخر لتحطيم الإ بداع عند
قريبا �سن�شهد ظاهرة جديدة هي «كُ تّاب قيد الطلب»، الكائن العربي� .إ ْذ يعتقد الكثري من الكتّاب العرب �أنه
ُحتدِّد لهم �سلطة ما� ،أو جائزة ما� ،أو هيئة ثقافية ما، عندما يرتجم ي�صبح عاملياً .هذه الكذبة احلقرية هي
مو�ضوع ًا تختاره هي وعليهم �أن يكتبوا رواية حوله! التي �ست�سمّم� ،أو �أنها �سممت من قبل ،احلياة الثقافية
ت�ص َّورْ .هذه اجلوائز �ستدمّ ر وعي الكاتب العربي ...لأ نه العربية� .أعي�ش يف باري�س منذ عقود ،و�أتردد با�ستمرار
يجب �أن نعرف �أنه ال ميكن �أن يكون للكاتب قيمة ال على املكتبات ودور العر�ض الثقافية ،ومل �أَ َر �إال نادراً
باجلائزة وال بالرتجمة ،و�إمنا ب�إبداعه اخلا�ص .و�أن جداً جداً ،يف واجه ِة �أي مكتب ٍة كتاب ًا عربي ًا مرتجماً ،ال
قيمته الأ �سا�سية تكمُنُ يف نقده العميق ملجتمعه ،ال يف لأ دوني�س وال ملحمود دروي�ش وال ل�صغار املُترَ ْجَ مني..
اعرتاف الهيئات الثقافية الر�سمية به ..قيمة الكاتب هو وال لكبارهم �إال نادراً ،وخالل �أيام معدودة ،وبعدها
يختفي كل �شيء .م�س�ألة الرتجمة � ،إذن ،لي�ست م�س�ألة
�أن يكون دائما �ضد املحيط الذي يوجد فيه ،لأ ن الكاتب
�إبداع فح�سب ،و�إمنا هي� ،أي�ضاً ،م�س�ألة �سيا�سية وم�س�ألة
�ضم ُري املجتمع وهو من�شق با�ستمرار .و�أنا ال �أت�صوّر
�أنظمة وم�س�ألة كُ تّاب وم�س�ألة عالقات مبا�رشة .اخلطورة
وجود كاتب حقيقي يف الغرب �أو يف العامل العربي
ال تكمن يف الرتجمة و�أنا ل�ستُ �ضد الرتجمة ،و�أنا لوال
را�ض عن الو�ضع الذي يوجد فيه . .ما هو مربر الكتابة ٍ الرتجمة ملا كنتُ ،الآ ن ،يف باري�س .لوال ترجمة العرب
�إذا؟ �أولي�س هو النقد املعريف ،والتعر�ض بال�سوء لو�ضع لدوي�ستوف�سكي ولتول�ستوي ولكبار الكتّاب ملا كنتُ الآ ن
ال نوافق عليه؟ الكتابة هي التورط يف مواقف تاريخية هنا وال تكلمت هذا الكالم .ويف تراثنا العربي الإ �سالمي
ولي�ست تربيرا لل�سوء واالبتذال� .أحب الكتابة بعينني نحن نعرف الدور الأ �سا�سي الذي لعبه بيت احلكمة يف
قا�سيتني ،ولكن من �سيمنحك اجلائزة هذه املرة؟ زمن امل�أمون للرتجمة واالت�صال بثقافات العامل القدمي
� vvأ�صدرت يف ال�سابق رواية مل ت�ستخدم فيها وكان هذا ال جهد ةالهائل وراء التطور الذي حدث ال
الرتقني ،ومل تُ�ستقبَل بكثري من الرتحاب ،فهل هو يف ال�رشق فح�سب و�إمنا يف الغرب �أي�ضا .امل�شكلة،
دليل �إ�ضايف على طغيان املحافظة يف الواقع اليوم ،هي ا�ستيالب الكتاب العرب بالرتجمة ونخ�شى
العربي؟ �أن يتحول املبدع العربي �إىل دجاجة تبي�ض كتب ًا لكي
تتكلّم عن رواية «اخلُـلَعاء» .لقد القتْ بع�ض االهتمام تُترَ ْجَ م ،وعندما ترتجم تُرمى يف مزابل الغرب.
ثمة م�س�ألة اجلوائز الأ دبية التي �أ�صبحت عند �صدورها .ولكن ،لندَعْ ذلك الآ ن فله �ش�أن � آخر. vv
خالد مطاوع
هويتي املزدوجة �أ�شعر معها با أللفة وبالغربة معا ً
حوار :عابــد ا�سماعيــل
�شاعر ومرتجم من �سور ية
يجمع ال�شاعر الأ مريكي ،من �أ�صل ليبي ،خالد مطاوع ،بني ر�صانة الربوف�سور
و�شفافية ال�شاعر� ،إذ تار ًة يتحدّث عن الق�صيدة بثقة الأ كادميي ،العارف
بتاريخية اخلطاب الأ دبي ،ومراحل تطوره ،وتار ًة يلج أ� �إىل عفوية املبدع للك�شف
لطرف التغلّبَ على
ٍ عن جماهيل املجاز ،وا�سرتاجتيات الإ لهام .على �أنّه ال يرتكُ
الآ خر ،بل ينجحُ يف جعلِ ثقافته تتناغم مع موهبته ،لر�سم �صورته ككاتب
مهاجر ،مزدوج اللّغة ،يقي ُم بني برزخني ح�ضاريني خمتلفني� .أ�صدر مطاوع
ثالثة دوواين �شعرية ،باللّغة الإ جنليزية ،كان � آخرها (�أموري�سكو) ،2008 ،كما
�أنه نقل �إىل الإ جنليزية ن�صو�ص ًا لعدد من ال�شعراء العرب ،من بينهم �أجمد نا�رص
و�سعدي يو�سف و�أدوني�س ،ونال جوائز مرموقة يف الواليات املتحدة ،تقديراً
جلهوده كمرتجم.
s
s
s
ك�أنهم فالحني فعالً ،وال ي�شعرون بباقي �أمريكا، التقيتُ ال�شاعر يف دم�شق ،خالل زيارة قام بها م�ؤخّ راً،
وال يعرفون �أمريكا ،كما �أنك جتد بع�ض املثقفني يف وكان هذا احلوار عن جتربته:
القاهرة يظنون �أنه �إذا مل يحدث ذاك الأ مر يف القاهرة، vvماذا تعني لك الإ قامة بني برزخني ثقافيني ،وكيف
بالتايل مل يحدث يف العامل كله ،وهذا ما �أ�سمّيه النمط تعرّف الهوية ك�شاعر مزدوج اللغة؟
املتحجّ ر للعوملة ،ولكن يُهي أ� يل �أن الكوين احلقيقي هو �أرى �أن الهوي َة �شيء يُفر�ض على الإ ن�سان �أكرث مما
القابل دائم ًا للتغيري ،والقابل دوم ًا ال�ستقطاب الفكر هو يختاره .حني نقابل �شخ�ص ًا ما ،جند �أن خلفيتنا
اجلديد. وخلفيته ،ديننا �أو دينه ،لغتنا �أو لغته� ،أوهى �أو
� vvإذاً �أنت ال تخ�شى على الذات املحلية من الت�صدع �أ�ضعف من الظرف اخلارجي الذي جند �أنف�سنا فيه� ،أو
�أو االن�سحاق �أمام هذا النمط الأ على الذي تقدمه عادة يحكم تلك العالقة بيننا ،مبعنى� ،أنّ عالقتنا بالآ خر ال
ثقافة العوملة؟ تخ�ضع لقاعدة ثابتة� ،أي �أنك ال تتعمّد �أن تتعامل مع
ال ،الذي نخاف عليه نوع من الأ �صالة ،يف �أن يكون الآ خر دائم ًا طبق ًا لهذه الهوية.
النمط جتاري واحد� ،أو منط تفكري �سيا�سي واحد، vvهل الهوية معطى ثابت �أم متحول؟
يتحكم يف الأ مور ككل ،والذي تخاف منه هو االنحالل طبع ًا هي متحولة لأ ن ظروف احلياة تتحوّل ،ون�شعر
يف منط واحد مي�سك بالأ مور كلها .لكن التبادلية بني �أن هوية ال�شخ�ص بذاتها ،والتي ينبثق منها العامل
الثقافات يجب �أن تبقى دائم ًا قابلة للتبدّل .و�أنا االجتماعي ،تتجلّى يف �صور و�أ�شكال خمتلفة.
ر�أيي� ،أن كل و�ضع مقدر له �أن يكون دائم ًا حملياً ،فلي�س � vvأنت خالد مطاوع ،ليبي ،مت�شبع بالثقافة العربية،
هناك �إن�سان عاملي عاملي ،فالإ ن�سان دائم ًا يف و�ضع وتعب باللغة االنكليزية، رّ ولكنك �أي�ض ًا �أمريكي ،تكتبُ
حملّي متغيرّ ،لأ نه يتعامل مع ظروف متغيرّ ة .امل�شكلة ف�أنت تقيم يف هذه املنطقة الرمادية بني ثقافتني،
التي �أراها يف عملية العوملة هي �أننا ن�ستورد �أفكاراً ماذا تعني لك هذه االزدواجية؟
فقط ال�ستريادها� .أن ي�أتينا ذوق ون�أخذه كما هو ،دون �أنا �أ�شعر باالثنني معاً ،و�أ�ستطيع �أن �أتعامل معهما
�أن نخ�ضعه للتحليل� .أنا ال �أخاف من �شيء ي�أتي يل، بالأ ريحية نف�سها ،وهما م�ألوفان بالن�سبة يل ،ويف
ولكن يجب �أن �أطوره و�أتعامل معه ،وال �أ�ست�سلم له، بع�ض الأ وقات� ،أ�شعر �أنني غريب يف االثنني معاً.
فامل�شكلة �أننا ن�شعر يف الأ جواء الفنية والأ دبية يف ما �أريد قوله هو �أن هذا ال�شعور بالأ لفة والغربة معاً،
العامل العربي ،ب�أن �أكرث النا�س ا�ستيعاب ًا للعاملية ،هم م�ستمرّ ،وحقيقة �أنا ال �أ�شع ُر بال�رشخ الكبري بينهما،
�أكرث النا�س تنميط ًا لها ،لكن النا�س الذين يخافون ف�أنت يف نهاية الأ مر تتعامل مع ب�رش يتعاملون مع
العوملة ،هم الذين يتعاملون معها وال يعرفون ذلك، �أو�ضاع اقت�صادية واجتماعية فيها ت�شابه كبري ،هنا
�ض �أنها حمافظة فرتى الطبقة املتو�سطة ،التي ُيفترَ ُ �أو هناك ،ولو �أن العادات والتقاليد تختلف ،ولكن لي�س
يف العامل العربي هي التي تتابع الأ فالم الهوليودية �إىل احلد الذي ت�شعر به �أنك بني ثقافتني.
مثالً ،وهي تزعم �أنها ال حتب هوليود ،لكنها تتابع vvهل تعتقد �أننا نتجه �إىل عوملة �شاملة ،حتى يف
�أفالمها. الفكر واملفاهيم ،مبعنى �أننا نتجه �إىل �إنتاج ما ي�سمى
� vvإذاً هي الطبقة الأ كرث ت�أثراً؟ بالإ ن�سان الكوزموبولتي؟
طبع ًا هي الأ كرث ت�أثراً ،وهي تت�أثر ب�أي �شيء ،فتكت�شف ح�سب ر�أيي الإ ن�سان العوملي دائم ًا يتبدّل ،ويف اللحظة
�أن الذين يدافعون عن املحلية ،هم �أقل النا�س حمليةً، التي يتعرف فيها على ماهيته ،ينتهي كمفهوم� .أحيان ًا
وترى عائالت �إ�سالمية حمافظة ،تتابعُ �أفالم ًا نذهب �إىل مدن كبرية ،مثل نيويورك �أو القاهرة ،فن�شعر
هوليودية بحتة كما قلت ،ف�أنت ،كم�ستهلك لهذه �أن الأ هايل �أو املثقفني لي�س كلهم بالطبع ،بل البع�ض
الأ فالم ،ال متلك �أية ق�ضية ،وهي متغلغلة فيك ،وال منهم ،ي�شعرون �أنهم موجودون يف مركز العامل ،والذي
متلك �أمامها ر ّداً �أو نقداً. مل يحدث يف هذا املكان ،مل يحدث �أبداً ،ف�أنا �أجد مث ًال
vvتق�صد ال متلك ما �أ�سماه ادوارد �سعيد نوع ًا من �أن بع�ض املثقفني يف نيويورك يت�رصفون ويفكرون
161 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
�أن ت�أتي ،عندما ت�أتي .لكن �أي�ضاً ،هناك �شعراء كرث املقاومة النقدية لها ،لي�س باملعنى الع�سكري �أو
مثالً ،حتى �شعراء عرب ،يكتبون ب�شكل يومي فعندما العُ نفي ،بل الثقايف؟
ي�ستيقظ (�سعدي يو�سف) كل يوم �صباحاً� ،أحيان ًا بر�أيي �أن الذي يحدث ،ي�شبه ق�ص ًة ق�صري ًة جداً لكاتب
ي�أتيه الإ لهام ،و�أحيان ًا ال ي�أتيه ،ف�أنا ال �أقول �أنه ال ا�سمه (مارمادول بيكتال) ،الذي �سبق وترجم القر� آن،
يوجد ق�صيدة بدون �إلهام .هناك ق�صائد ،ت�أتي ،ولكن و�أ�سلم الحقاً ،وعنده حكاية عن «كاراكوز» �صعيدي
�أحيان ًا ت�أتيكَ فكرة ،مل ترد يف ذهنك من قبل ،ومل يف م�رص ،يف نهاية القرن التا�سع ع�رش ،وجهه �أحمر،
تتخيلها ،وهذا نوع من الإ لهام .املوهبة �أ�سا�سية، ويتكلم بلغة عربية ركيكة جداً ،لكنه ،ك�شخ�صية حملية،
لكن التعليم ي�صقلها .يف �أمريكا يقولون للطالب الذي ا�ستوعبت �شخ�صية اجلندي االنكليزي الوافد ،و�أدخلتها
يريد �أن يكتب عن البحر� ،أنّ �أول �شيء يجب �أن يقر�أه يف نظام الكاراكوز ال�ساخر ،وعرفت كيف ت�ضحك
هو (موبي ديك) لهرمان ملفيل ،ويجب �أن يقر�أ �أي�ض ًا عليه .هنا ،املقاومة تعني �أن ت�أخذ املادة الأ جنبية
(�أومريو�س) لديريك وولكت .عليك �أن تراقب ال�شعراء وحتاورها ،وت�ستوعبها ،وتُدخِ لُها يف حمورِكَ .
الذين حتدثوا عن مو�ضوع ما ،وماذا فعلوا حياله، vvاملقاومة لي�ست الرف�ض ،و�إمنا هي متثّل
ومن ثم ت�شقّ طريقك بنف�سك ،واملهم يف الأ مر �أن جتد وامت�صا�ص؟
�صوتك �أو تكت�شفه� ،أي �أن تحُ دث �رشخ ًا يف احلائط �أنا بالن�سبة يل ،عندما �أتى الطوفان ،يف عهد نوح ،مل
�أنّ
الكبري .حتى العرب كانت تن�صح ال�شاعر املبتدئ ب�أن يقل اهلل لنوح تعلّم �أن حتيا حتت املاء ،بل �أمره �أن يبني عالقتنا
يذهب ويحفظ ع�رشة � آالف بيت ثم ين�ساها. �سفينة ،ويطفو فوق املاء ،حتى يتحكّم بها ،وبر�أيي بالآ خر ال
� vvأود �أن �أ�ستمر يف ال�س�ؤال عن الق�صيدة ،وخا�صة حتى النا�س العاديني الأ مريكان ،ي�شعرون بقوة تخ�ضع
تلك التي تكتبها �أنت .يلحظ املتتبع �أن ثمة نزوع ًا �أمريكا ،وطوفانها ،ويعانون من هيمنة النمط الواحد، لقاعدة
لديك للدمج بني البالغي ،الرفيع « »Sublimeواليومي، مثلنا� ،أو �أكرث ،وهم ي�شعرون ب�رضورة املقاومة. ثابتة
املبا�رش .)conversational( ،ما �رس هذا التناق�ض� ،إذا كان � vvأريد �أن �أعود �إىل اهتمامك الأ �سا�سي� .أنت �شاعر
ثمة من تناق�ض ،وكيف جتد التناغم بني الهاج�سني؟ و�صدر لك حتى الآن ثالثة دواوين �شعرية من (خ�سوف
�-أنا الآ ن �أراجع ن�سخة مرتجمة من ديواين (فلك اال�سماعلية) عام ،1995ومن ثم فلك الأ �صداء يف
الأ �صداء) ،بالعربية ،وفيه ،بالأ خ�ص ق�صيدتان 2003والآن (�أموري�سكو – � .)2008أود �أن �أبد�أ طبع ًا
طويلتان واحدة ا�سمها (يف اجلوار) و�أخرى عن ب�س�ؤال عن الكتابة الإ بداعية ،بو�صفك �أ�ستاذ يف هذا
التلفزيون ا�سمها (بثّ ) وهذه الأ خرية هي التي يوجد النوع من الكتابة ،كيف ميكن �أن نعلّ َم كتاب َة الق�صيدة،
فيها �رشارة االحتكاك بني الغنائي وال�شفوي .يف كال �ألي�س ال�شعر نتاج موهبة ،وهل ميكن تروي�ض املخيلة
الق�صيدتني ،ثمة ما ي�شبه الكتابة الآ لية ،كما يقول حقاً ،و�إخ�ضاعها ل�ضوابط ومعايري؟
بريتون ورامبو- -واحدة من الإ جابات �أن الإ بداع ال يُعلّم ،وال ت�ستطيع
vvتق�صد التداعي احلر للأ فكار! �أن تعلّمه ،ولكن الطالب ميكن �أن يتعلم ،فالذي يحدث
نعم ،ولكن حتى التداعي احل ّر يجب �أن يخ�ضع ل�شيء يف ور�شات الكتابة� ،أن الطالب ،طبعاً ،يجب �أن ميتلك
من الرقابة� .أنا يف واحدة من الق�صائد كنت �أحب املوهبة ،و�أول بداية املوهبة هي الرغبة� .إذا كان
�أن يت�صارع الغنائي مع اليومي ،وهذا دائم ًا موجو ٌد بالإ مكان تعلم الر�سم �أو املو�سيقى ،فلماذا ال ميكن
عندي ،حتى يف الديوان اجلديد�( ،أموري�سكو) ،وهناك تعلّم ال�شعر!
�شيء ي�شبه روح احلنني ،من جهة ،وروح الرباغماتية � vvإذاً �أنت ال تعترب الق�صيدة نتاج �إلهام غام�ض،
الأ مريكية ،التي هي �أ�ص ًال ال ت�صدّق ال�شعر ،من جهة �سحري ،بل هي يف ،نهاية املطاف ،ن�ص يخ�ضع ملبادئ
�أخرى .بالن�سبة للغنائية ،ف�أنا ،كما قلت لك� ،أتيت من و�أ�س�س ميكن بكل ب�ساطة �أن نتعلّمها؟
عائلة فالحية من طبقة متو�سطة ،ولي�س لها عالقة حني ي�أتي الإ لهام يجب عليك �أن ت�شتغل عليه قليالً،
بال�شعر� ،أق�صد جتنح �إىل عدم ت�صديق لل�شعر� .أنا دائم ًا ويكون لديك ا�ستعداد وبحث ،وميكن بعد ذلك للكتابة
162 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
ال�شيء ،تبد�أ بقطّ ة وتتو�سّ ع ،وترتكّ ب ب�شكل مرجاين، ال �أ�صدق ال�شعر ،لكنني �أدافع عنه ،يف نف�س الوقت.
بحيث دائم ًا ت�أتيها مادة جديدة وتتكوم عليها .وفيها � vvأريد �أن �أ�سلّط ال�ضّ وء على منبع الغنائية يف
�رصاع بني الغنائي مع ال�شفوي .ت�أتيك فكرة ثم ق�صيدتِكَ .هل هي جمرّ ُد ح�سا�سية رومانتيكية مت�أخّ رة،
تدونها ،وتدع معلومات الال وعي متتلئ ،وخا�صة �إذا تعلّمتها من ال�شعراء الغربيني (بايرون ،كيت�س،
كان املو�ضوع كبرياً ،ثم تن�سى ما كتبت ،حتى ي�أتي وردزورث) �أم �أنها �أي�ض ًا مرتبطة بطفولة فالحية .ما
وقت الكتابة ،وبعد �أن تنتهي ،تعو ُد وتقر�أُ ذاكَ الذي �رس هذه النو�ستاجليا ،وهذا التجاور بني الوجدانية
ك َت ْب َت ُه بعنيٍ باردةٍ وقا�سية. امل�رشقية والرباغماتية االنكلو�-ساك�سونية؟
vvمن هو القارئ الذي حتب �أن تخاطبه؟ هل هو قارئ �-أقول لك� ،إن ق�صيدة (مقدمة) لل�شاعر وردزورث ،عمل
عربي �أم �أمريكي� ،أم هو قارئ كوين ،بال�رضورة؟ مثري ومهم جداً ،و�أي�ض ًا فيه �شجن .وقد ت�أثرتُ بها،
يقول باختني يف كتاباته الأ وىل ،عندما كان عمره وهي ق�صيدة ملحمية حتكي عن ا�ستعادة املا�ضي� .أنا
� 22سنة ،وكان عبقري ًا �أ�ص ًال �إن اخلطاب ال�شعري هو حقيقة تركتُ ليبيا و�أنا �شاب �صغري يف �سن اخلام�سة
بني ال�شّ اعر وقارئ متخيل� ،أي �أنّ كل ق�صيدة تُنبِتُ ع�رشة ،وكنتُ راغب ًا يف الهروب ،ولكني �أي�ض ًا �شعرتُ
قارءَها بنف�سها .ثمة دائم ًا قارئ و�شاعر متخيل، بعد مدة �أن هناك �أ�شياء مل تكتمل ،و�أن هناك �أ�شياء
وهما االثنان يف غوا�صة يف قاع البحر ،ال ي�ؤثر كثرية كانت جميلة� .أعتقد �أنّ ذكريات املا�ضي
فيهما الر�أي العام ،وال ي�ؤثر فيهما �شخ�صية ال�شاعر حا�رضة يف ق�صائدي.
ذاتها� .أنا �أتوجّ ه �إىل قارئ مركّ ب ،عربي و�أمريكي، � vvإذاً هي ح�صيلة لت�أثرك بالنمط الرومانتيكي،
وال�شاعر (ويتمان) موجود يف كل كتبي ،وبالطبع ممث ًال بال�شعر االنكليزي ،وبع�ض الأ �صداء البعيدة من
القارئ الأ مريكي يعرف (ويتمان) ،لكن هناك ق�صائد طفولتك؟
ت�ضم رموزاً قر� آنية وكنعانية ،و�سواها ،قد ت�صعب �-أجل� .أود القول �إنني خرجتُ من بلدي ،لأ نني كنت
على القارئ الأ مريكي ،ولي�س ،بال�رضورة على القارئ �أ�شعر �أنه ال م�ستقبل يل فيه ،مع �أنه الآ ن �أ�صبح لدي
العربي. فيه حياة و�أ�صدقاء كرث� ،أق�صد ليبيا طبعاً .وا�ستمر
vvهل ت�ؤمن مبا ي�سميه ماالرميه ،ال�شعر ال�صايف، عندي نوع من احلنني �إىل احلياة التي كان ميكن �أن
�أم �أن الق�صيدة ينبغي �أن تنقل ر�سالة ما يف النهاية حتدث .رمبا هو نوع من احلنني �إىل امل�ستقبل الذي
�إىل القارئ؟ كنت �أعرف �أنه لن يحدث �أبداً� ،أو �إىل ال�شخ�ص الذي
طبع ًا �أنا �أقول �إن الر�سالة لي�ست هي الأ يديولوجيا، كان ميكن �أن �أكونه� .أحن �إىل �شعور بانتماء ما ،كان
ولكن تعطي للقارئ �شيئ ًا يعمل عليه ،وهي طالعة من ميكن �أن يكون ،وهذا ما �أعي�ش ،بدونه الآ ن ،ولكن ،ال
عمل نف�ساين وروحاين لل�شاعر ،ولكن كلّما و�ضحت ب�أ�س.
الر�سالة للقارئ �أ�صبحت الق�صيدة �أ�سو�أ .الغمو�ض يف vvكيف تكتب الق�صيدة؟ هل ثمة طقو�س خا�صة؟ هل
ال�شعر �رضوري �أحياناً ،وق�صيدة (الأ ر�ض اخلراب) متحو �أكرث مما تدون؟ ومن هو القارئ الذي تتوجه
لإ ليوت ،مثال على ذلك. �إليه؟
vvذكرتَ ،من قبل ،ويتمان ،ذاك ال�شاعر املتدفق ال يوجد لدي طقو�س ،و�أمتنى �أن �أجل�س ب�شكل يومي،
كال�سيل ،وهو يختلف كثرياً عن �إليوت ،امليتافيزيقي، ولكن يف احلقيقة �أ�شعر �أنني �أكتب ال�شعر عندما �أحتاج
الفل�سفي .ماذا تعلّمت من (ويتمان)؟ �إليه� ،أو �أ�شعر به �أنه موجود� ،أو �أ�شعر مبخزونه ،و�أحيان ًا
من الق�صائد التي �أحبها لل�شاعر (ويتمان) ق�صيدة يجب �أن �أفرغ وقت ًا كبرياً لأ بد�أ يف الكتابة ،و�أنتظر .ال
�أ�سمها (النائمون) حيث كتبها بروح احلنان واملحبة، �أنتظر ق�صيد ًة ت�أتي ،بل �أنتظر �أن تتكون ،يعني �أن
وجتده يخلقُ من نف�سِ ه مالك ًا � آخر ،وفع ًال ت�شعر فيها �أكتب �شيئاً ،و�أنتظر .يف ديوان (�أموري�سكو) ،يوجد �أربع
روح االن�سيابية ،والرغبة يف االحتواء ،وااللتحام �أو خم�س ق�صائد �أتتني جاهزة� ،أو عملت عليها ب�شكل
بالآ خر. ب�سيط ،لكن البقية �أخذت وقتاً .ثمة ق�صيدة غريبة بع�ض
163 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
من الدين .لذلك ما زالت يف تاريخي ،وما زالت مل�س ك ّل �شيء تقريباً ،واحت�ضان vvت�شع ُر برغب ِت ِه يف ِ
موجودة معي� ،إىل حد ما ،طبع ًا هذه اعتربها من املتناق�ضات.
اجلانب الروحاين يف الدين ولكن … طبعاً( ،ويتمان) �شاعر �شا�سع و�ضخم ،ولكنه كان
vvوماذا عن اجلانب الدوغمائي؟ وحيداً ،رغم �أنه مل يكن خجوالً ،لكن يف �أحالمه،
يف احلقيقة� ،أنا نفرتُ منه ،وكان جزءاً من حياتي كان �شخ�ص ًا وحيداً ،و�إىل ح ّد ما ،مقهوراً ،لكن روح
كطفل .لكن يجذبني البعد الروحاين يف الدين ،و�أفهم املحبة والروحانية الإ ن�سانية ،تنبثق لديه من حبّ ج ّم
متام ًا جوهره الرمزي. للحياة ،وللأ مكنة.
vvهل يجذبك بُعده ال�شعائري ،الطق�سي ،اخلرايف؟ vvما عالقتك باملكان ك�شاعر؟
ومن �أين �أتتك تلك الك�آبة �أيام اجلمعة؟ احلقيقة �أنني ال �أعرف ما �إذا كنت �أحبّ اكت�شاف
احلققية� ،أنا ال �أعلم. الأ مكنة� ،أو �أنني ال �أجيد اكت�شافها � ...أنا دائم ًا �أتكلم
vvدعني �أنتقل �إىل �س�ؤال عن عالقتك بال�شعر العربي عن املكان .وثمة مدن كثرية يف ق�صائدي .هناك من
احلديث ،هل تواكبه ،هل �أنت مطلع على ال�شعر اجلديد يقول �إنني �أحاول �أن �أكوّنَ خريطة �أخرى للعامل ،ورمبا
الذي يُكتب يف العامل العربي ،ومن هم �شعرا�ؤك م�رشوعي الأ خري الذي �أقدمت عليه ،وهو �إعادة النظر
املف�ضلون؟ يف تاريخ ليبيا� ،أو ال�شخ�صيات الليبية �أو املنطقة
مطلع بقدر الإ مكان ،و�أنا الآ ن على و�شك ن�رش ثامن الليبية ،بعد االحتواء الإ غريقي �أو الروماين.
ديوان مرتجم يل ،هو (خمتارات لأ جمد نا�رص) .كما vvتق�صد �إحياء فكرة التعددية الثقافية والأ دبية
�أنني على و�شك االنتهاء من ن�رش خمتارات كبرية املرتبطة باملكان؟
لأ دوني�س. بال�ضبط .مث ًال لدي ق�صيدة طويلة ا�سمها (�رشق
vvوطبعا �صدر لك خمتارات باالنكليزية (ل�سعدي قرطاج) وهي مبثابة ا�ستعادة للتاريخ الروماين والذي
يو�سف) ،ونلت جوائز قيمة؟ هو جزء من تاريخ ليبيا .ثمة دائم ًا �أولئك الأ فارقة
�أنا ترجمت كتب ًا ل�شعراء مل يكونوا معروفني منهم الذين ي�أخذون مراكب من ليبيا ،ويريدون الذهاب بها
مرام امل�رصي ،وجمال حداد ،واميان مر�سال� .أما �إىل �إيطاليا .هذه اللعبة التاريخية ما زالت م�ستمرة
فا�ضل العزاوي فقد ترجمتُ له ديوانني .املهم �أنني حتى الآ ن .من هنا �أ�شعر �أنني دائم ًا يف املكان الذي
مطلع ب�شكل جيد على �شعر ال�شعراء الذين ترجمتهم هجرتُ منه .وي�صبح التاريخ نف�سه طريق ًة يف العثور
يف كتب ،مث ًال فا�ضل �أو �سعدي يو�سف �أو �أجمد نا�رص على مكان خا�ص بك.
�أما� ،أدوني�س ف�صعبٌ ،وم�رشوعه كبري ،و�أنا ما زلتُ مل vvهل املكان� ،إذاً ،جمرد ا�ستعارة؟ و�إىل �أي حد
�أ�ستوعب كتاب (الكتاب). تعتربه حقيقي ًا يف الق�صيدة؟ هل هو حيلة �شعرية؟
� vvأنت ترتجم كتاب «الكتاب»؟ و�أنت ذكرت الإ �سكندرية وقرطاج وبنغازي ،و�سواها؟
ال ،هي خمتارات تغطي �أكرث من ن�صف قرن من م�سرية ال ،املكان ،يف احلقيقة ،يجب �أن يوحي بحالة �شعرية ،ال
�أدوني�س ال�شعرية .ال�شعر ال يتغري كثرياً ،وجوهرياً ،من بحيلة �شعرية ،و�أق�صد مث ًال �أنني حني �أ�ستذكر بنغازي
جيل �إىل جيل ،ونحن ل�سنا �إزاء �سجل مدين .وعودة يف وقت الغروب� ،أو يف يوم اجلمعة� ،أ�شع ُر ب�شي ٍء من
�إىل �س�ؤالك ،ت�ستطيع �أن تقول �أين مطّ لع �شيئ ًا ما ،و�أقر�أ الي�أ�س ،حقيقة ،و�أنا ذكرتُ يف �إحدى ق�صائدي �أن
ما يُكتب يف جريدة (احلياة) ويف (القد�س العربي) �صباحات يوم اجلمعة كانت متلأ ين باحلزن .كنتُ
و(ال�سفري الثقايف) بالطبع ،ولكنني ال �أ�ستطيع �أن �أقول �أ�شع ُر �أننا ن�صل �إىل حفرة من الزّمن ،ونقع فيها.
�أنني ملم مبا فيه الكفاية. vvما عالقتك بالدين؟
� vvأنت مطلع على اجلدل الدائر بني ال�شعر املوزون عالقتي بالدين ،تنح�رص يف الإ ح�سا�س بالكون،
واملقفى ،وبني ق�صيدة النرث اخلالية من الوزن ،لكن وب�صغر الإ ن�سان ،وكرب الب�رشية .هذه الأ �شياء �أخذتُها
164 نزوى العدد / 61يناير 2010
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
vvهل لديك نظرية �أو فل�سفة خا�صة بالرتجمة� ،أم �أن الغنية بالإ يقاع .ما مفهوم الإ يقاع عند خالد مطاوع،
الن�ص هو الذي يفر�ض منط َقهُ؟ وكيف يرتجم نف�سه يف ق�صيدته الإ نكليزية؟
�أحد التحديات التي واجهتني يف ترجمة �أجمد نا�رص ت�ستطيع �أن تقول �أن �أذين االنكليزية �أقوى من �أذين
مث ًال هو �أنه يكتب ق�صائد الكتلة يف ديوانه (حياة العربية ،ف�أنا �أحيان ًا ال �أ�سمع �إيقاع الق�صيدة العربية،
ك�رسد متقطّ ع) .وثمة لعب على اجلملة العربية بحيث بقدر ما �أ�سمع الإ يقاع الذي ين�سجم معي .خذ �شاعراً
تبدو طويلة جداً ،وكان ال ب ّد من ك�رسها ،وتقطيعها. مثل �سعدي يو�سف� ،إنه يكتب التفعيلة غالباً ،لكنني مل
ذكرتُ هذا لأ قول �إنه ال توجد فل�سفة خا�صة بي ،وال �أبحث له عن �أوزان ،metersيف الإ نكليزية� .أنا �شخ�صي ًا
ت�ستطيع �أن تقول �أنك تريد �أن تتبع فل�سف ًة حمدّدة. �أكتب الق�صيدة على غرار تيد هيوز ولي�س روبرت
�أ�ؤمن بالنظرية الرباغماتية ،فاحللول ،يف الرتجمة، فرو�ست� ،أي �أكتب ال�شعر احلرّ ،وهذا يعني �أن الإ يقاع
ت�أتي من خالل التجربة. مه ّم جداً بالن�سبة يل .وقد ترجمتُ �سعدي يو�سف بروحٍ
vvدعنا نتحدث ب�شكل �أو�ضح .هل الحظتَ فرق ًا مث ًال «رمتي ٍة» ولكن لي�س بروحٍ وزنية.
بني ترجمة ق�صيدة �سعدي يو�سف وق�صيدة �أدوني�س، vvالوزن ال يرتجم ولكن الإ يقاع ميكن �أن يتحوّل؟
وهل اتبعتَ مقاربتني خمتلفتني؟ �أنا قمتُ بذلك ،وقر�أتُ مع �سعدي القراءة الأ ولية،
نعم ،ولكن يُه ّي أ� يل� ،إىل ح ّد ما� ،أن عفويتي ،كمرتجم، وحاولت �أن تكون يف نف�س عدد الدقّات �أو نف�س عدد
مهمّة جداً� .أنا �أرغب ب�أن �أ�صبح �شاعراً خمتلف ًا حني املقاطع املوجودة يف البيت تقريباً .فالإ يقاع �إذاً
�أترج ُم ل�شاع ٍر � آخر ،و�رسعان ما �أ�صبحُ مرتجم ًا خمتلف ًا موجود يف االنكليزية ،وميثل حركة ما يف مقطع
ن�ص خمتلف .وعندما تتعامل مع حال الدخول يف ٍ طويل �أو ق�صري ،وفق ًا لفكرة جتذب تلك الدقات ،وتعك�س
خمتارات �أدوني�س ،وخا�صة الق�صائد الطويلة يف �أفكاراًَ ،ناهيك عن وقفات ال�صمت ،و�أنا منتبه لهذه
ديوانه (تنب أ� �أيها الأ عمى) مثالً ،يجب �أن تكون مرناً، العملية ب�شكل غريزي ،عفوي ،ولي�س ب�شكل مدرو�س،
وال تخاف على �صورتكَ ك�شاعر ،ف�أنا ال �أخاف على ويف �شعري ،يهمّني جداً قراءة الق�صيدة ب�صوت عايل،
�صورتي ك�شاعر عندما �أترجم. لت�ساعدين يف الكتابة �أو الرتجمة.
vvثمة من يقول �إن �سعدي يو�سف ترجم (ويتمان) � vvأحيان ًا جتد خل ًال �إيقاعي ًا فتعي ُد كتابة املقطع،
بالطريقة نف�سها التي ترجم بها (ريت�سو�س) ،وكانت ولكن ثمة ق�صائد تخفي دالالتها �أكرث مما تُف�صِ حُ عنها.
نربته ال�شعرية وا�ضحة يف الرتجمتني� ،أال تخ�شى �أن كيف تتعامل ،كمرتجم ،مع تلك الفجوات �أو ذاك التواري
يطغى �صوتك ك�شاعر على الن�ص الذي ترتجمه؟ الدائم للمعنى؟
رمبا هذا يحدث ،حني ت�صبح �شاعراً مه ّماً ،رمبا. ال �أح ّب ُذ مقولة «الرتجمة خيانة» .بالعك�س ،الرتجمة
و�سعدي يو�سف ،حني ترجم ويتمان مل يخرت قدراً كافي ًا �أمانة كربى ،والرتجمة بالن�سبة يل هي نفخة الروح
من الن�صو�ص ،يف احلقيقة ،و�شعرت �أنها خمتارات يف الطني ،فهي �صعبة و�أنت حتاول ،كما يقول الناقد
�صغرية تلك التي �أجنزها ،و�أعتقد لو �أنّ �سعدي �صرب هارولد بلوم� ،أن ت�سيء قراءة الن�ص بقدرٍ كب ٍري من
مع ويتمان ،لكانت النتيجة �أف�ضل .واحدة من �أهم االنتباه� .أنا مع مقولة بلوم هذه حول مفهوم القراءة
الن�صائح التي و�صلتني ك�شاعر هي �أنك يجب �أن ال القوية ال�ضالة� .إن وجود ما ي�سمّيه بلوم قلق الت�أثر،
جت َد �صوتك �أبداً� .أنا يف احلقيقة ال �أخاف ،والدواوين بني املرتجم وال�شاعر ،حالة �صحية ،ف�أنتما يف الن�ص
التي �أترجمها ،تتغري ،وم�شكلتي �أنني ما زلتُ �أنوّع الواحد نف�سه ،لكنك ،كمرتجم ،حتاول �أن جتعله ملكك.
و�أ�ستطيع �أن �أنتقل من �أ�سلوب �إىل �أ�سلوب ب�شكل �رسيع. هو لك ولي�س لك ،يف الوقت نف�سه� .إنّ خلق التناغم
ك�شاعر� ،أنا قلق �أ�سلوبياً ،ورمبا وجودي ًا �أي�ضاً� .أنا واملوازاة بني لغتك ،ولغة الن�ص الأ �صلي ،هو الرّهان.
ل�ستُ يف حالة وعي مق�صودة� ،أثناء الرتجمة ،و�أترك هي رق�صة طويلة ،يحاول االثنان من خاللها االقرتاب
�شيئ ًا للعفوية ،و�إال تُقتَلُ الق�صيدة قيد الرتجمة. كثرياً من بع�ضهما ،لكي يرق�صان معاً.
165 نزوى العدد / 61يناير 2010
ت�شكيل
166
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
املينا..
بهجة ال�صياغة الإ�سالمية
�سعـــد اجلـــادر
كاتب وباحث من العراق
�إنّ ماكتب عن ا�ستخدام املينا يف تو�شية امل�صاغ الإ �سالمي نادر وقليل؛ اذ مل
يحظ هذا الفن الرفيع ،الذي يدعم وينوّع القوّة التعبرييّة للم�صاغ بدرا�سات
توازي �ألقه وجمالياته.
لقد وجد منذ القدم �أنّ امل�صاغ من املعادن النفي�سة يكت�سب جاذبية متميزة
ان زخرف �أو طعم بالأ حجار الثمينة �أو و�شح باملينا .فاملينا زينة ال�صياغة
وبهجتها؛ وكان ابتكارا �شيّقا وتقنية فذّة عوّ�ضت امل�صاغ عن �ألوان الأ حجار
الكرمية والثمينة وثقلها و�أ�سعارها؛ اذ ت�شع املينا امللونة على خلفية املعدن
النفي�س ك�أنها جواهر حقيقية لكنها من �صنع االن�سان.
167
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
الثالث ( 1792-1840ق.م ).املحفوظة يف املتحف ويظهر تاريخيا ان طالء امل�صاغ باملينا جاء عو�ضا عن
امل�رصي يف القاهرة ،حيث ا�ستخدم ال�صائغ املينا تطعيمه باالحجار؛ ففي الثقافات القدمية ،كامل�رصية
بالبارد� ،أي على �شكل �رشائح من الزجاج �أو االحجار واليونانية والفار�سية ،كانت املينا ت�ستخدم يف زينة
الثمينة مثل العقيق االحمر والالزورد والفريوز طعّم احللي �أحيانا دون �صقلها لكي يكت�سب مظهرها وقع
بها امل�صوغة مب�ستوى �سطحها فتظهر وك�أنها مزينة االحجار الثمينة كالالزورد والفريوز؛ ثم �أ�صبح هذا
باملينا امللونة. الفن جميال يج�سد ذاته خا�صة وانه ميكن �إعداد ت�شكيلة
�أما بالن�سبة ال�ستخدام املينا يف زينة امل�صاغ فال يزال متنوعة من �ألوان املينا و ن�رشها على �سطح التحفة.
موطن اخرتاعها غري م�ؤكد .وقد �أ�شار باحثون اىل �أ�صول كما انّ مامييّز املينا عن التطعيم باالحجار هو تنوّع
ومواقع خمتلفة ،لكنهم مل يتفقوا على مكان االبتكار االلوان امل�ستخدمة وثباتها على املعدن؛ وكذلك الفرق
بالتحديد ،فرتكّ زت االقرتاحات على م�رص �أو اليونان الكبري يف ال�سعر :فثمن املينا �أقل بكثري من ثمن االحجار
�أو ال�صني �أو الهند �أو ال�شام �أو القفقا�س �أو ايران ،ويف الكرمية و�شبه الكرمية .وعلى خالف املينا التي تلت�صق
�أوربا ذكرت ارلندة .ومن امل�ؤرخني من قال باحتمال ع�ضويا بامل�صوغة ،فان احلجر معرّ�ض دائما لل�سقوط
وجود عدّة مراكز منف�صلة ومتباعدة ا�ستخدمت املينا ؛ اىل جانب اغراء ال�صاغة لنزع االحجار عن امل�صوغة
ب�شكل متواز دون ان يت�أثر �أحدها باالخر .و باعتبار عند �إذابة معدنها النفي�س ل�شتى الغايات .كما ترفع
ان املينا مادة زجاجية لذا فان الثقافات القدمية التي املينا قيمة امل�صوغة وتنوّع �صورتها الفنية وتركيبها
عرفت املعادن و�صناعة الزجاج رمبا تعلمت تزيني اللوين؛ وذلك حتى بالن�سبة للمينا ال�سوداء التي تعك�س
�سطوح امل�صوغات باملينا امللونة واملينا ال�سوداء. براعة ال�صاغة يف احل�صول على فعل الت�ضاد بني
وبالن�سبة للفنون اال�سالمية فانه مل تدر�س بعد �أ�صول اللونني الف�ضي واال�سود والعالقة املتبادلة بني امللء
وبداية وتطور ا�ستخدام املينا يف تو�شيح امل�صاغ، والفراغ.
انّ من �أقدم مناذج وقع املينا هي احللي امل�رصية
لكن امل�سلمني خلّفوا حتفا �صياغية مزينة باملينا
التي ترجع اىل اال�رستني الثانية ع�رشة والثالثة ع�رشة
تعود ملختلف الفرتات التاريخية واالقاليم اجلغرافية.
( 1660 -2000ق.م ،).ومنها �صدرية �أمينمحت
وترجع فرادة وندرة التحف ال�صياغية املطعمة باملينا
اىل اندثار امل�صاغ اال�سالمي نتيجة عمليات الإ ذابة
الدورية للمنتجات ال�صياغية.
رمبا تكون كلمة املينا العربية مقتب�سة من الفار�سية
�أو الهندية اللتني ت�ستخدمان نف�س الكلمة .ويف الرتاث
اال�سالمي هناك املينا �أو التزجيج �أو معادن مزينة
بالزجاج ...كتعابري تعني املينا انطالقا من املادة
اال�سا�سية التي تكوّنها :فقد ذكرها اجلاحظ والهمداين
با�سم املينا ،وو�صفها الو�شّ اء بالف�صو�ص ،كما جاءت
عند الو�شّ اء والقا�ضي الر�شيد واجلزنائي با�سم الزجاج
�أو التزجيج؛ و�أ�شار ابو احل�سن علي بن يو�سف احلكيم
اىل املينا ال�سوداء با�سم «املنيّل».
واذا كانت املينا متوفرة بي�رس يف الوقت احلا�رض
و�أ�سعارها لي�ست باهظة فان احلال مل يكن كذلك يف
املا�ضي ،اذ كانت املينا من املواد النادرة وكان
ال�صاغة يح�ضرّ ون م�ساحيقها ب�أنف�سهم وكان ذلك من
اال�رسار املهمة لل�صنعة.
ويكاد يقت�رص فن املينا يف بع�ض االقاليم كالعراق �صحن هندي مزيّن بزخارف نباتية وجنميّة مو�شاة باملينا امللونة ،القطر� 20.8 :سنتيمرت
والقفقاز على املينا ال�سوداء؛ بينما تو�شّ ح ف�ضة
168 نزوى العدد / 61يناير 2010
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
جمموعة من احللي الف�ضية وجدت مع �سبائك من القبائل يف اجلزائر باملينا امللونة دون ال�سوداء؛ يف
الف�ضة وم�سكوكات بويهية و�سامانية وغزنوية م�ؤرخة حني ي�ستخدم �صاغة ايران واملغرب املينا امللونة
يف الفرتة بني 1040 -949للميالد ي�ضم معلّقات وال�سوداء.
و قطع لزينة االحزمة و�أقراط و�أ�ساور وخوامت وعلبا ان �أقدم ا�شارة معروفة ال�ستخدام املينا يف فنون
حرزيّة ،وبع�ض هذه اللقى مذهب ومزين بن�صو�ص امل�سلمني ذكرها زكي حممد ح�سن (فنون اال�سالم،
كتابية و�أ�شكال حيوانية ومطعم باملينا ال�سوداء. � ،1948ص ،)510-508(.عن ابريق يف دار الآ ثار
.)James Allan, Islamic Jewellery and Archaeology, Spink & Son, 1986, P.7 - 8 العربية (املتحف اال�سالمي يف القاهرة حاليا) ين�سب
وعن �أبي الريحان البريوين (تويف �سنة 430للهجرة) اىل اخلليفة االموي مروان الثاين (حكم بني -744
يف (كتاب اجلماهر يف معرفة اجلواهر� ،ص-224 . 749للميالد) ويحمل زخارف نباتية وحيوانية رمبا
)225باب « يف ذكر املينا» ،ا�ستعر�ض فيه املواد كان بع�ضها مزينا باملينا.
املكونة للمينا وخوا�صها و�ألوانها وا�ستخداماتها. ويف مقالة اجلاحظ ( 255 -160للهجرة)( ،بني
ويف متحفي املرتوبوليتان يف نيويورك وماير يف �أن�صار الكتب و�أن�صار ال�شعر ،كتاب احليوان) ،ذكر
القد�س حلي ايرانية منها �أ�ساور وحروز وخوامت ملواد متنوعة منها الزجاج والف�سيف�ساء واملينا.
وعنا�رص لقالئد و�أحزمة ترجع اىل الفرتة بني القرنني وعن الو�شّ اء ( 325 - 246للهجرة 939 - 860 /
احلادي ع�رش والثالث ع�رش للميالد بع�ضها مزيّن للميالد) يف كتابه (املو�شّ ى� ،أو الظرف والظرفاء،
باملينا ال�سوداء. �ص( )187انه مل يكن م�ستح�سنا ملتظرّفات الن�ساء يف
ولنف�س الفرتة يعر�ض كتاب (Seven Thousand Years of Jewell و املجتمع العبا�سي التختم باملينا والعقيق والف�ضة...
)lery, 1989, p. 215ثالث حلي ايرانية منها علبتان حرزيّتان الن ذلك كان من لب�س الرجال واالماء.
منفذتان بالف�ضة املذهبة ومعلّقة من الذهب وكلها وي�شري الهمداين ( 360 -280للهجرة) يف (كتاب
مزين باملينا ال�سوداء.
اجلوهرتني ،باب ق�سوم الكواكب� ،..ص ،)67 .بان
ومن نف�س التاريخ تعود جرّة ايرانية من الف�ضة
للمريخ املينا االخ�رض.
املذهبة واملزينة باملينا ال�سوداء حمفوظة يف متحف
ويذكر القا�ضي الر�شيد بن الزبري من القرن اخلام�س
الفن اال�سالمي بربلني.
ويعر�ض كتاب (Rachel Hasson, Early Islamic Jewellery, 1989,
للهجرة يف كتابه (الذخائر والتحف� ،ص ،)38 .انّ قطر
)P.95حزاما �سوريا من الذهب يرجع اىل نهاية القرن الندى بنت �أبي اجلي�ش خمارويه �أهدت اىل املعت�ضد
باهلل يف يوم نريوز من �سنة 282للهجرة هدية ثمينة
كان بينها ع�رشون �صينية ف�ضة وع�رشون �صينية
ذهبا « جمري بزجاج».
ويف كتاب (Rachel Ward, Islamic Metalwork, 1993, p. 27-28 and
الفريوزي بعدة �أطياف ،وكذلك االخ�رض الزمردي الثالث ع�رش وبداية القرن الرابع ع�رش للميالد مزخرف
ال�شفّاف واالبي�ض املعتم الذي ي�ستخدم بفعالية قويّة بوحدات نباتية ون�صو�ص كتابية ن�سخية وعليه � آثار
كخلفية لبقية الأ لوان .فيما زيّنت بع�ض امل�صوغات تو�شية باملينا ال�سوداء.
باالزرق الالزوردي فقط .وقد مار�س الفر�س تقنيّات وقد �أبدع ال�صفويون (1722 -1501م) باملينا
املف�ص�صة واملحفورة واملر�سومة واملينا ّ املينا املر�سومة على امل�صاغ والتي كانت �أحيانا تناف�س
ال�سوداء ( .)1و�أجود حتف املينا نفّذها �صاغة �أ�صفهان املنمنمات املر�سومة على العاج .وعرف بالط �شاه
وبهبهان بالقرب من �شرياز. عبا�س ال�صفوي (1629 – 1587م) بزينته بامل�صاغ
ازدهرت فنون ال�صياغة يف العهد الفاطمي (-297 من املعادن النفي�سة و�أثاثه املحلّى باملينا ،كما
567هـ1171 -909 /م) ،وقد و�صف امل�ؤرخون، و�شحت باملينا االدوات ال�شخ�صية مثل قب�ضات و
وخا�صة املقريزي يف خططه ،عن �شيوع ا�ستخدام �أغمدة ال�سيوف واخلناجر ،باال�ضافة اىل العلب.
الف�ضة املطعمة باملينا يف زمانه وانت�شار تقنيتها وتوا�صلت فنون املينا يف ظل اال�رسة القجاريّة
يف م�رص .وعن ما �أخرج من خزائن ق�رص امل�ستن�رص (1925 -1796م) ،حيث و�شحت باملينا احللي
باهلل يف �سنتي 461 – 460للهجرة ،عندما ا�ستبيحت وال�صحاف واال�سلحة البي�ضاء بدعمها بزخارف كتابية
دولته ،نفائ�س كثرية منها م�صوغات مو�شحة باملينا ووحدات نباتية وهند�سية و�أ�شكال احليوانات والطيور،
«املنقو�شة بغرائب النقو�ش وال�صنعة « ،ومنها « طاوو�س ا�ضافة اىل ال�شخو�ص االدمية ،ومن ذلك الت�أكيد على
ذهب مر�صع بنفي�س اجلوهر ،عيناه من ياقوت �أحمر، جمال الن�ساء الذي ينعك�س بجاذبية الوجه والعيون
وري�شه من الزجاج املينا املجري بالذهب على �ألوان
ال�سود الكحيلة واالفواه ال�صغرية ،حتى �أ�ضحت هذه
ري�ش الطاوو�س».
امل�صوغات وثائق ماديّة عن �أذواق النا�س ومو�ضات
ويف متاحف :اال�سالمي يف القاهرة واملرتوبوليتان يف
خا�صة وان املينا القجارية املر�سومة �أزيائهم وحليهمّ ،
نيويورك وماير يف القد�س وبناكي يف �أثينا جمموعة
حلي فاطمية من م�رص و�سورية منها �أ�ساور وخالخل عك�ست قدرات �أبرز الر�سامني � آنذاك.
ودبابي�س �شعر وعلب حرزية ومعلّقات و�أقراط مزخرفة ويذكر Leo Bronsteinيف بحثه عن املينا يف الفنون
باملينا امللونة؛ ومن �أبرزها معلّقة من الذهب على الفار�سية �ضمن كتاب ( )Survey of Persian Art.Pope A.Uب�أن
�شكل هالل يتو�سطه طريان متناظران منفذين باملينا �ألوان املينا التي ا�ستخدمها ال�صاغة الفر�س متعددة
املف�ص�صة ذات االلوان االحمر والبنّي واالزرق على
ّ �ضمّت �أطيافا ورديّة تتدرّج برقّة وال تكون �صافية بل
خلفيّة �سوداء. لها ظالل زرقاء ،ا�ضافة اىل االزرق امللكي واالزرق
(Marilyn Jenkins and Manuel Keene, Islamic Jewellery In The
s
s
s ومهرة ال�صناع و�أر�سلوهم اىل اال�ستانة ،فطعّم القادمون خالل القرنني الثامن ع�رش والتا�سع ع�رش.
(Geza Feher, Craftsmanship in Turkish – Ruled Hungary, 1975, p. 26
فنون العثمانيني بالطراز ال�صفوي .وكان يخدم يف
and (Saad AL-Jadir, Arab and Islamic Silver, 1981, P. 23) and
م�شاغل بالط العثمانيني يف القرن ال�ساد�س ع�رش �أكرث
(.)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P.149
اخت�ص بع�ضهم بالتو�شية باملينا ّ من مائة فنان �صائغ
ومن �أروع مناذج املينا اال�سالمية تلك التي كانت تزين
امللونة واملينا ال�سوداء.
بالط تيمور لنك ( 1405 -1336للميالد) ،ومنها
ويذكر Yanni Petsopoulosيف كتابه (Tulips, Arabesque and Turb و
مكتبه الذهبي املو�شى باملينا الزرقاء واخل�رضاء.
)ban, p. 44طا�سة من الف�ضة املذهبة واملزيّنة باملينا
وقد زينت الزخارف النباتية يف حلي �أوزبك�ستان باملينا
ال�سوداء حتمل تاريخ 1577( 985للميالد).
امللونة وباملينا ال�سوداء .ومن �أهم مراكز �صياغة
وي�ستعر�ض كتاب (Garo Kurkman, Ottoman Silver Markks, 1966, P.
املينا االوزبكية مدينتي بخارى وخيوة .وكانت �ألوان
)226 and P. 238 - 251مناذج متنوعة من تراث املينا ال�سوداء
املينا امل�ستخدمة يف بخارى قليلة ،وتكون عادة بلون
العثمانية يف فرتة ازدهارها ابان القرن التا�سع ع�رش
�أخ�رض �أو �أزرق ،كما ا�ستخدم ال�صاغة �أحيانا �ألوانا
مما كان ي�صنع يف عدد من املواقع ال�صياغية مثل «
�أخرى كالبنّي واالحمر واال�صفر.
(.)Johannes Kalter and Margarita Pavoli, Uzbekistan, 1977, p. 294 – 310 وان».
و�شهد القرن التايل تعاظم ا�ستخدام املينا وتنوع �أمّ ا يف الهند فقد برّزت فنونها ال�صياغيّة با�ستخدام
تقنياتها ،من ذلك �صندوق �أقالم من القرن ال�سابع املينا «ميناكاري» .ورغم وجود هذه التقنية يف
ع�رش حمفوظ مبتحف طوبقبو�رساي با�سطنبول مزين امل�صنوعات الهندية ال�سابقة لال�سالم كما يف بع�ض
باملينا البي�ضاء ومطعم بالياقوت والزمرد .كما يذكر حتف املركز البوذي يف تاك�سيال ،غري ان انت�شار املينا
�أرن�ست كونل يف كتابه (الفن اال�سالمي� ،1966 ،ص .يف ظل حكم املغول امل�سلمني �شجّ ع ال�صاغة وطوّر
)179انه يف القرن ال�سابع ع�رش كانت �أغماد وقب�ضات مهاراتهم اىل احلد الذي كان مبقدورهم ر�سم منمنمة
�أو �صورة كاملة باملينا على قطعة �صغرية من الف�ضة اخلناجر الرتكية تزخرف باملينا ال�شفّافة.
وهناك معلّقة و قفل حزام من الف�ضة العثمانية املزينة �أو الذهب تظهر الطيور واالزهار واال�شجار و�أوراقها
باملينا امللونة يف كتاب (�سعد اجلادر ،زخرفة الف�ضة ب�ألوانها الطبيعية .وكانت التفا�صيل دقيقة ومتقنة
واملخطوطات عند امل�سلمني� ،1989 – 1988 ،ص .حتى ليت�صوّر امل�شاهد بانها �صور زيتية.
204و �ص .)211 .ومتثل املعلّقة امل�شار اليها مثاال لقد قدّم املغول لقامو�س �صياغة املينا العاملية حتفا
نادرا يف م�صاغ املينا اال�سالمية ،فهي حلية على �شكل �ساحرة تهب املتلقي لذّة ب�رصيّة فريدة ناجمة عن
وردة مطرّزة باال�سالك الف�ضية الرقيقة ومو�شاة باملينا
امللونة Plique- a- jourوترجمتها احلرفيّة� :ضوء النهار؛ اذ
ال ت�ستند املينا يف هذه التقنية على خلفيّة املعدن بل
بطريقة ت�شدّها حواجز �أ�سالك التطريز ،فتهب احللية
وقعها اجلمايل عند تعري�ضها لل�ضوء ،وذلك من خالل
الت�ضاد احلا�صل بني الف�ضة و�ألوان املينا ال�شفافة.
و�شهد القرن التايل تعاظم ا�ستخدام املينا وتنوع
تقنياتها ،من ذلك �صندوق �أقالم من القرن ال�سابع ع�رش
حمفوظ مبتحف طوبقبو�رساي با�سطنبول مزين باملينا
البي�ضاء ومطعم بالياقوت والزمرد .كما يذكر �أرن�ست
كونل يف كتابه (الفن اال�سالمي� ،1966 ،ص )179انه
يف القرن ال�سابع ع�رش كانت �أغماد وقب�ضات اخلناجر
الرتكية تزخرف باملينا ال�شفّافة.
علبة ايرانية مذهبة ومطعمة بال�شذر ومو�شحة باملينا امللونة ،الطول� 15 :سنتيمرتا وقد ت�أثرت بلدان البلقان ،كما يف هنغاريا والبو�سنة،
باال�ساليب الفنية العثمانية ومنها التو�شية باملينا
171 نزوى العدد / 61يناير 2010
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
من الوجهني .و�أغلب املينا الهنديّة و�أو�سعها انت�شارا جتليات ايقاعات وكتل االلوان وجتاورها و�أطيافها
هي املينا املحفورة التي ا�ستخدم ال�صاغة فيها االلوان وبرّاقيتها ،مما �أ�ضاف اىل م�صاغ املينا بهجة اللوحة
االحمر واالخ�رض واالزرق واال�صفر ا�ضافة اىل االبي�ض امللونة ال�ساطعة واملده�شة .ومن �أهم مراكز �إنتاج
وال�شذري .وقد �ضاعف ال�صاغة جاذبية املينا وتنويع امل�صاغ املغويل املو�شح باملينا دلهي و� آغرا وجيبور
جمالياتها بتقنيات �صياغية �أخرى يف زينة نف�س وملتان ولكنو ورامبور وك�شمري وبناري�س.
التحفة ،ا�ضافة اىل تطعيمها باالحجار النفي�سة والعاج (.)Mark Zebrowski, Gold, Silver & Bronze from Mughal India, 1997, p. 54 - 93
واملنمنمات .ورمبا تكون �أكرب حتف املينا الهندية تلك وكان اليران ت�أثريا مبا�رشا يف تطوير �صياغة املينا
املهداة اىل العراق ،وهي املق�صورة الف�ضيّة املو�شحة الهندية ،اذ ق�ضى االمرباطور املغويل همايون فرتة
باملينا امللونة والتي �أقيمت يف �رضيح املرت�ضى علي ابعاد يف بالط الفر�س ،ولدى عودته اىل البنجاب عام
يف النجف :ففي �سنة 1356للهجرة �أمر امام البهرة 1560ا�صطحب معه فنانني و�صنّاعا مهرة يف خمتلف
�سيف الدين ب�صنع مق�صورة جديدة ل�رضيح االمام الفنون الزخرفية بينهم �صاغة املينا ،ف�أ�صبحت
علي ،وقد ا�ستم ّر العمل لإ جنازها يف الهند مدّة تزيد
البنجاب �أول مركز �صياغي تتطوّر فيه �أ�ساليب املينا
على خم�س �سنوات ،وبلغ مقدار ماحتتويه من الذهب
اخلال�ص ع�رشة � آالف وخم�سمائة مثقال ا�ضافة اىل املغولية وتنت�رش اىل خمتلف �أنحاء الهند منذ منت�صف
مليوين مثقال من الف�ضة املو�شحة باملينا امللونة ،وقد القرن ال�ساد�س ع�رش .ومن �سمات �صياغة املينا عند
و�ضعت مكان املق�صورة القدمية �سنة 1361للهجرة املغول هو تزيني خمتلف �سطوح امل�صوغة و�أحيانا
يف احتفال ديني ومدين كبري.
وقد �ضعف فن املينا ب�أفول جنم املغول ،وال ت�ضاهي
امل�صوغات احلديثة التي �أنتجت يف بع�ض املراكز
القدمية مثل ملتان ما كان ي�صاغ يف ع�رص االباطرة
املغول امل�سلمني.
�أما بالن�سبة للمينا ال�سوداء فقد ا�ستخدمها ال�صاغة
امل�سلمون على نطاق وا�سع �شملت خمتلف بقاعهم:
العامل املاليوي والهند و�أوا�سط � آ�سيا وايران واليمن
وال�شام والعراق والقفقا�س والبلقان واملغرب.
ويدعى �شغل املينا يف فل�سطني « املحبرّ « ن�سبة اىل
احلرب وم�ؤ�رشا اىل اللون اال�سود للمينا.
وكانت احللي الفل�سطينية املزينة باملينا ال�سوداء يف
نهاية القرن التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين ذات
�شعبية ورواج ،وكان من جملة ال�صاغة �رشك�س و�أرمن
ممن توافد على بالد ال�شام منذ نهاية القرن التا�سع
ع�رش ،حتى ان اال�ساور املزيّنة باملينا ال�سوداء يف
جنوب االردن كانت تدعى «�أ�ساور �رشك�س».
وكانت الف�ضة املو�شحة باملينا ال�سوداء يف م�رص
تدعى « الف�ضة امل�سكويف» ن�سبة اىل مو�سكو وبالتايل
اىل تقنية املينا القفقا�سية واملدن الرو�سية الرائدة يف
هذا املجال مثل توال.
و�أبدع �صاغة داغ�ستان بتزيني الف�ضة باملينا امللونة
وال�سوداء؛ ومن مراكز �صياغتها قريتي كوبات�شي
وكوموخ. علبة الراحل في�صل االول ،ملك العراق ،مطعمة باملينا ال�سوداء ،من عمل ال�صائغ زهرون ،الطول � 15.3سنتيمرت
.)Iskusstvo Dagestana / The Art of Dagestan, 1981, p. 44, 70, 79
s
s
s
اخلالفة مبا �ضمّته الكنوز املكت�شفة يف االندل�س مثل واذا كان فن املينا ال�سوداء قد ازدهر يف الف�ضة
كنز لو�شة يف غرناطة وكنز جرو�شة يف العامريّة القفقا�سية ،كما يف زينة احللي وال�صحاف واخلناجر:
وكنز مدينة الزهراء .وقد توزعت لقى هذه الكنوز بني (Saad AL-Jadir, Arab and Islamic Silver, 1981, P. 146) and
)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P. 179 and P. 247
املتاحف اال�سبانية مثل (Linstitute Valencia de Don Juan de
)Madridومتاحف العامل ،مثل فكتوريا و�ألربت يف لندن فقد �أبدع ال�صابئة العراقيون بتطعيم الف�ضة باملينا
وفرير غالري يف بالتيمور ،وقد �صنعت هذه احللي من ال�سوداء وا�شتهر بينهم زهرون وعني�سي و� آخرون وا�صلوا
الذهب والف�ضة والنحا�س ،منها اال�ساور والتيجان ابداعهم ال�صياغي حتى خم�سينات القرن الع�رشين.
وامل�شابك والقالئد واملعلّقات املتنوعة بع�ضها على ويف الرتاث ال�صياغي املاليوي حتف مو�شحة باملينا،
�شكل ال�سمك �أو الهالل �أو ذات تكوينات جنميّة متوالدة لكن �أ�شد مامييّزها هو التو�شيح الكثيف القفال االحزمة
من تركيب مثلثني بالن�سبة للنجمة ال�سدا�سية ومربعني باملينا ال�سوداء.
بالن�سبة للنجمة الثمانية ،وقد نفّذت بتقنيات متنوعة �أما يف الغرب اال�سالمي فقد تطوّرت فنون �صياغة
منها التطريز والتحبيب والطرق والتخرمي والتطعيم املينا يف قرطبة وغرناطة .وبلغ هذا الفن �أوجه خالل
باالحجار والتو�شية باملينا. القرنني الرابع ع�رش واخلام�س ع�رش للميالد ،حتى ان
تابع الغرناطيون تراث ال�صياغة االندل�سية ،وقد �سلم بع�ض مهرة �صاغة غرناطة كانوا يعملون يف بالطات
عدد من حتفهم ال�صياغية �أهمها تلك املحفوظة يف امللوك امل�سيحيني .ومن �أبرز التحف االندل�سية املزينة
متاحف ا�سبانيا التي يظهر منها تركيز ال�صاغة على باملينا ال�سوداء كان منرب جامع قرطبة الذي �صنع
تقنيتي التطريز والتو�شية باملينا؛ حتى ان بع�ض العلب عام 365للهجرة والذي �ضاع �أثره لكنه ظ ّل خالدا
العاجية االندل�سية ال�شهرية زينت ب�أ�رشطة من الف�ضة يف كتب التاريخ ،كما لدى االدري�سي واحلمريي ،ب�أنه
املو�شحة باملينا. �صنع من ال�صندل االحمر واال�صفر واالبنو�س والعود
واذا كانت حلي االندل�سيات تزين باملينا فان حلي الرطب واملرجان ،و�أو�صاله وح�شواته التي بلغت �ستا
رجالهم من خناجر و�سيوف و�رسوج اخليل وزينتها وثالثني �ألف ح�شوة �سمّرت مب�سامري الذهب والف�ضة
و�شحت كذلك باملينا .ومن �أ�شهر �أمثلة حلي الن�ساء املثبتة و«املنيّلة».
القالدة الغرناطية التي تعود اىل نهاية القرن التا�سع وكثريا مات�شري امل�صادر الفنية اىل «حتفة عظيمة»،
للهجرة /اخلام�س ع�رش للميالد ،واملحفوظة يف متحف وهو ال�صندوق اخل�شبي امل�صفح بالف�ضة املطروقة
املرتوبوليتان ،وهي م�صنوعة من الذهب املزخرف واملذهبة واملزخرف بوحدات مورقة ون�صو�ص كتابية
واملع�شّ ق باملينا ال�سوداء ،والذي �أمر احلكم امل�ستن�رص
ب�صنعه البنه ووريثه ه�شام امل�ؤيد عام 976 / 366؛
ومن الن�صو�ص الكتابية التي تزينه « :عمل بدر وطريف
« (مانويل جوميث مورينو ،الفن اال�سالمي يف ا�سبانيا،
� ،1977ص 396 .و �ص .)402 .وكذلك:
()Al- Andalus, The Art of Islamic Spain, 1992, p. 208- 209 and p. 214
كما يحتفظ متحف املرتوبوليتان بخوذة غرناطية بالتخرمي والتطريز والتحبيب واملو�شح باملينا ذات
فريدة من نهاية القرن التا�سع للهجرة م�صنوعة من االلوان االبي�ض واالخ�رض واالحمر ال�شفاف .ومن �أروع
املف�ص�صة ذات االلوان
ّ احلديد والذهب والف�ضة واملينا ال�سيوف الغرناطية ودالّياتها املحفوظة مناذج منها
االحمر واالبي�ض واالخ�رض واالزرق واال�سود. يف املكتبة الوطنية يف باري�س واملتحف الوطني يف
ويذكر �أبو احل�سن علي بن يو�سف احلكيم الذي عا�ش يف مدينة كا�سل االملانية ويف متحف فكتوريا و�ألربت يف
�أيام ال�سلطان �أبي فار�س عبد العزيز املريني خالل لندن ...هو ال�سيف الذي غنمه امل�سيحيون بعد �أ�رسهم
الن�صف الثاين من القرن الثامن للهجرة /الرابع ع�رش ملحمد الثاين ع�رش (�أبو عبد اهلل ال�صغري) � ،آخر ملوك
للميالد يف كتابه (الدوحة امل�شتبكة يف �ضوابط دار بني ن�رص ،يف معركة الل�سانة عام 1483 / 888م
ال�سكة � ،ص )89 .حليا مطعمة باملينا :ففي معر�ض واملحفوظ يف املتحف احلربي مبدريد؛ وهو من
كالمه عن تذويب احللي ل�سك النقود يقول « :ووجه جمال �صنعته وزينته بالف�ضة والذهب والعاج واملينا
العمل يف احللي على �أي حال كان مطبوعا كالدنانري املف�ص�صة ذات االلوان االبي�ض واالحمر
ّ ال�سوداء واملينا
وبع�ض اخلالخل و (ما) ي�شبهها �أو كان غري مطبوع، الياقوتي ،ك�ألوان �أ�سا�سية ،واال�سود واالخ�رض الزمردي
فما كان منه منيّال �أو مزجّ جا �أو كثري الل�صاق فلينزع ال�شفاف كخلفية لونية ،تقدّم هذا ال�سيف كتحفة
ذلك منه لئال يتخلّق به ويع�رس خال�صه ،فاذا نزع ذلك جموهرات فريدة يف زخارفها بالتطريز والتطعيم
جعل على حدة اىل �أن ي�شحّ ر...ويحمى �سائره بالنار والتخرمي والوحدات الهند�سية والفروع النباتية
حميا بليغا ويخترب.»... والن�صو�ص الكوفية وتقنيات االخراج والوقع الفني.
توا�صلت فنون املينا يف ال�صياغة املغاربية ،ففي
الع�رص احلديث تركزت �صياغة املينا يف ثالث مناطق
�أ�سا�سية اليزال بع�ضها فعّاال حتى الوقت احلا�رض،
ا�ضافة اىل ممار�سة بع�ض ال�صاغة لفنون املينا يف
مواقع �أخرى متفرقة؛ وفيما يلي نظرة على اخل�صائ�ص
العامّ ة للتطعيم باملينا يف املناطق اجلغرافيّة الرئي�سيّة
الثالث:
-ترتكّ ز �صياغة املينا اجلزائرية يف قرى ه�ضاب
منطقة القبائل الكربى ،مثل بني ينّي وواديا�س
وتكموت خرّو�ش و� آيت االربعاء وذراع امليزان؛ واليزال
بع�ض �صاغة هذه القرى يو�شحون م�صاغهم باملينا،
ومعظم االنتاج ي�ستهلك يف ال�سياحة؛
� -أما املينا التون�سية فقد مار�سها �صاغة مدينة
تون�س؛ لكن االكرث �شهرة هما موقعا موكنني ،املدينة
ال�ساحلية ال�صغرية جنوب �سو�سة ،وجزيرة جربة؛
-ويف املغرب تتوزع �صياغة املينا يف قرى جبال
�سو�س ،ويف جنوب االطل�س ال�صغري بني تزنيت و اغرم،
وتتجه نحو اجلنوب حتى جبل باين .و�أهم املراكز هي
تزنيت و تهالة عند قبائل �أملن ،ويف منطقة تفراوت
ولدى قبائل � آيت ووازغيت يف �سفح جبل �سريوا؛
ا�ضافة اىل مواقع �أخرى يف ال�شمال والو�سط مثل
مكنا�س وخنيفرة ووزّان وفا�س وال�صويرة ومرّاك�ش.
املف�ص�صة واملحفورة منذ ّ كما ازدهرت �صياغة املينا معلقة فل�سطينية مزينة مب�شهد معماري مطعم باملينا ال�سوداء ،الطول � 18سنتيمرتا
نهاية القرن ال�سابع ع�رش وبالذات يف مكنا�س بت�شجيع
174 نزوى العدد / 61يناير 2010
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
ف�سيف�سائية لونية م�ستمرة ت�ضفي على امل�صوغة روحا ال�سلطان ا�سماعيل ( )1727 -1672عندما اتخذها
�رشقية �أخّ اذة. عا�صمة مللكه و�شجع العمارة والفنون التي ا�ستلهمت
و يف الوقت احلا�رض ،ترتاجع الفنون التقليدية بفعل تراث االندل�س وم ّراّك�ش وفا�س .وتتوا�صل فنون املينا
هجوم العوملة التي حتا�رص توا�صل الرتاث الفني املف�ص�صة واملينا ال�سوداء يف تزنيت ،كما ميار�سهاّ
للم�سلمني ،و�إهمال دول امل�سلمني بتطوير الفنون، بع�ض �صاغة الرباط و�سال والدار البي�ضاء ومرّاك�ش،
والوهن العام للو�ضع الثقايف� ،إ�ضافة اىل مناف�سة وذلك ل�سد االحتياجات ال�سياحية بالدرجة الرئي�سية.
االنتاج االيل للعمل اليدوي الذي يتطلب اجنازه ويالحظ وجود عوامل م�شرتكة و�أخرى خمتلفة متيز
�صربا ووقتا طويال .وال ت�شجع هذه الظروف ال�صاغة حتف املينا يف املواقع املغاربية الثالثة :فرغم
لال�ستمرار يف حرفهم فيرتكونها اىل مهن �أخرى اختالف �أ�شكال ومناذج امل�صوغات بني هذه املناطق
للح�صول على �أرزاقهم. والبعد اجلغرايف وتباين �أمناط العي�ش واللهجات
وهناك الآ ن طريقان :االول اندثار الفنون الرتاثية واالذواق فيما بينها ،اّال ان فنونها ال�صياغية ت�شرتك
وبقائها يف �صفحات التاريخ و�أركان املتاحف؛ املف�ص�صة؛ كما انّ
ّ عامّ ة بظاهرة ا�ستخدام املينا
والثانية �أحيا�ؤها وبعثها على �أ�س�س معا�رصة كجزء من االلوان امل�ستخدمة يف م�صاغ املينا املغاربية موحدة
التطور االقت�صادي والثقايف لبالد امل�سلمني بابتكار وهي االزرق الغامق واالخ�رض الفاحت واال�صفر.
�صيغ حتافظ على خ�صو�صية هذه املنتجات و�صورتها وجتدر الإ �شارة اىل تو�شية بع�ض مناذج الف�ضة املغربية
الفنية اال�سالمية من ناحية ،كما توفر منتجات الفنون باملينا امللونة وال�سوداء امل�صاحبة لتطعيم امل�صاغ
باالحجار الثمينة والف�صو�ص الزجاجية يف � آن واحد،
مما يك�سب امل�صوغة وقعا �أخّ اذا نتيجة ت�ضاعف
املفعول اجلمايل للمينا واالحجار والزجاج.
كما يالحظ ندرة ا�ستخدام كتل من املينا ال�سوداء يف
م�صاغ املغرب ،بل غالبا ماتكون زينة املينا ال�سوداء
على �شكل خطوط �صارمة ت�شكل نقو�شا هند�سية ورمزية
ونباتية خالية من الزخارف االدمية واحليوانية.
وبذلك فان ال�صورة الفنية للمينا املغاربية متغايرة
يف جمالياتها؛ لكن �أ�شدّها جاذبية و�إبهارا ووحدة
هي امل�صوغات القبائليّة التي تعك�س �أحد ال�سمات
البارزة للزخرفة اال�سالمية ،وهي تق�سيم امل�صوغة اىل
حقول متناظرة ومكرّرة وتغطية كل �سطوحها بالنقو�ش
امللوّنة :فالظهور اجلليّ وال�صورة الفنية النافذة
للف�ضة القبائلية تقدّمها
والوحدة ال�صياغية الر�صينة ّ
كواحدة من �أهم الواجهات اال�سالمية املتميزة لفنون
ال�صياغة اال�صيلة واملتفردة :فاحللي القبائلية �ضخمة
احلجم وثقيلة الوزن ،اّال ان النقو�ش املنّفذة باملينا
اال�صفر الليموين واالزرق البنف�سجي واالخ�رض ال�شذري
التي تتكامل مع وقع ف�صو�ص املرجان االحمر القاين
املرتا�ص و غري امل�صقول والكريّات الف�ضيّة ال�صلدة
خمتلفة االحجام ،وتزيينها مبعلّقات متنوعة اال�شكال
مثل الكف والنجمة وورقة البلّوط ،والتنفيذ الدقيق
قالدة جزائرية ،من منطقة القبائل ،مطعمة باملرجان ومو�شاة باملينا امللونة واملتقن وجمال التجاور اللوين يك�سب ف�ضة القبائل
قوّة وتاثريا وانطباعا باخلفّة وااللق� ،إ�ضافة اىل م�سحة
175 نزوى العدد / 61يناير 2010
ت�شكيل ..ت�شكيل ..ت�شكيل
s
s
s
وتايلند ممن يوا�صل فنانوه �أ�شغال املينا ب�صورتها الرتاثية مردودا اقت�صاديا جيدا من ناحية ثانية.
الفنية التقليدية لكل من تلك البلدان ،والتي ي�صدّر بع�ض فماذا جند يف فنون املينا اال�سالمية املعا�رصة؟
منتجاتها اىل اخلارج .ويف الغرب االوروبي واالمريكي � -ضعف الإ نتاج ال�صياغي اال�سالمي املو�شى باملينا،
هناك �رشكات متخ�ص�صة ي�سود منتجاتها طابعا ومن ذلك تكرار ال�صاغة للنماذج القدمية ،وتدهور
حداثويا عامليا �صار ينت�رش يف خمتلف بلدان العامل. املهارات التقنية لدى ال�صاغة املحدثني ،و�ضعف روح
ويف بلدان امل�سلمني �صدى متنوعا لهاتني الظاهرتني، االبتكار والتجديد؛ ا�ضافة اىل تغيرّ �أذواق امل�ستهلكني
مثل �إغراق �أ�سواق بع�ض البلدان اال�سالمية ك�أقطار الذين اليجدون �أمامهم �سوى امل�صاغ احلداثوي
اخلليج مب�صوغات مينا حديثة غربية وهندية و�صينية العاملي ،خا�صة وان الفنانني امل�سلمني املعا�رصين
ورو�سية وتايلندية� .أما املثال االخر فهو عن ت�أثر غري قادرين على �ش ّد النا�س اىل منتجاتهم ال�صياغية؛
امل�صاغ اال�سالمي مبا يرده من اخلارج ،مثل انتاج اىل جانب دخول املكننة ب�شكل وا�سع يف ال�صياغة،
ميداليات و�أو�سمة ماهي � اّإل �صدى للنماذج الغربية، وحتوّل من تبقّى من املعلمني /اال�سطوات اىل مهن
كالأ و�سمة املغربية مثل «الو�سام العلوي ال�رشيف» �أخرى؛ وكذلك تفكك العالقة التاريخية التقليدية بني
و«و�سام اال�ستحقاق الع�سكري ال�رشيفي» ،وكالهما الفنان املعلم وبني تالمذته ،والتي كانت �أحد االركان
مزين باملينا .وكذلك احلال بالن�سبة ملعظم االو�سمة اال�سا�سية لتطوير الفنون احلرفيّة ومنها ال�صياغة .كما
والنيا�شني يف عدد من الدول العربية واال�سالمية: �أدى م�سح الغربيني لأ �سواقنا وجمعهم لآ ثارنا وحتفنا
)Saad AL-Jadir, KUNUZ, Islamic Silver Treasures, 1995, P. 189
كمواد للتجارة املربحة يف الغرب اىل افراغ املجال
وحل�سن احلظ فان انتاج املينا اال�سالمية املعا�رصة مل اال�سالمي من امل�صاغ القدمي للمينا الذي �ألهم ال�صاغة
يتوقف رغم ال�ضعف الذي � آل اليه ،اذ تتوا�صل �أعمال واحلرفيني التقليديني و�شجعهم على التوا�صل واالبداع
املينا يف عدة مواقع ا�سالمية مثل الهند وباك�ستان والتجديد واالبتكار.
وايران وم�رص واجلزائر واملغرب وتتزايد �شعبيتها. -وعامليا هناك عدد من البلدان مثل رو�سيا وال�صني
غري ان اقت�صار �أ�شغال املينا املعا�رصة يف العامل
املف�ص�صة واملينا ال�سوداء
ّ اال�سالمي على املينا
واملينااملر�سومة غالبا واملينا املحفورة نادرا يعني
انّ ال�صاغة امل�سلمني مل يتعرّفوا و � /أو يوظفوا تنوّع
تقنيات املينا الغربية احلديثة والتي �ساهم التطور
العلمي والتقني بازدهارها :وهي تقنيات عديدة �أخرى
الجمال هنا ل�رشح كل منها ومما ال �أعرف مقابال
ال�سمائها بالعربية؛ ولكل من هذه التقنيات طريقة
خا�صة لتنفيذها تفرز فاعليّة خمتلفة لوقع �ألوانها
ول�صورتها الفنية .ومنها:
Basse- taille, Camaieu, Decal application, Foils, Grisaille, Impasto,
Plique-a-jour, Racu enamelling, Sgraffito, Stencils, Silkscreen enamels,
Torch- fired enamels etc…(Glenice Lesley Matthews, Enamels Enameli-
)ing Enamelists, 1984, p. 141 – 171
s
s
s حجما من االفران التقليدية ،اذ انّ فرنا تبلغ حرارته
اخلا�صة.
ّ وجميعها من جمموعتي
ويف املخطوطة ثروة من املعلومات امل�ستقاة من مئات امل�صادر
بعدّة لغات؛ كما �أن املو�ضوع يقدّم الول مرّة .وهو ذو �أهمية
780درجة مئوية الي�ستغرق �أكرث من دقيقتني ون�صف
تاريخية وثقافية وفنية و�صياغية وزخرفية ولونية وتقنية (تبعا حلجم النموذج) الذابة املينا على �سطح املعدن؛
وجمالية :حيث يلقي ال�ضوء على تاريخ املينا العاملية ال�سابقة حيث ميكن تخ�صي�ص غرفة �صغرية يف الدار ملمار�سة
واملوازية لال�سالم ،كامل�رصية والفار�سية واال�شورية واالغريقية فنون املينا .وكل هذه املنجزات احلديثة من �ش�أنها
واال�سكيثية والرومانية ،ا�ضافة اىل ال�صينية واليابانية ،والبيزنطية
واالوربية والرو�سية .ث ّم ي�ستعر�ض العمل جماله الرئي�سي يف العامل فتح � آفاق وا�سعة الجراء نقلة نوعية يف تطوّر فنون
اال�سالمي ،فيتعرّ�ض اىل ال�صور اجلمالية املتنوعة ملجاميع م�صاغ املينا املعا�رصة يف العامل اال�سالمي تو�سّ ع وتنوّع
املينا يف خمتلف مواقعه ،و يركّ زعلى �صياغة املينا يف االندل�س و وجتدّد االنتاج مع احلفاظ على فرادة ال�صورة الفنية
بالد املغرب ،وعن �أ�صولها وم�ؤثراتها ،مثل ت�أثري �صياغة املينا
االندل�سية والفاطمية على فنون املينا االوربية .كما ي�شمل العمل املتميزة مل�صاغ املينا اال�سالمي.
تنوع تقنيات �صياغة املينا و»باليت» �ألوانها وخلفيته .ا�ضافة اىل الهوام�ش:
درا�سات مقاربة ومقارنة لوقع جماليات املينا ،مثل الزجاج املموّه
باملينا واخلزف ذو الربيق املعدين والتذهيب والدم�شقة والتطعيم -1تقنيات املينا :املينا امللونة نوع من الزجاج ال�شفاف م�سحوق
باالحجار الثمينة وبالزجاج .... بدقة.
وكان الغر�ض من و�ضع هذه املخطوطة توثيق هذا اجلانب اجلميل وهناك تقنيات متعددة ال�ستخدام املينا ،لكن �أو�سعها انت�شارا يف
من ثقافة امل�سلمني ،وا�رشاك النا�س مب�صادرها ومعارفها ،واثارة امل�صاغ اال�سالمي �أربعة �أنواع:
البهجة وال�رسور يف نفو�سهم ،وت�صحيح � آراء باحثني غربيني عن املف�ص�صة ، Cloisonnéوهي �أهم تقنية مينا ا�ستخدمها ال�صاغة
ّ -املينا
فنون امل�سلمني ،والدعوة للحفاظ على الرتاث اال�سالمي ،والتحفيز الفاطميون وااليوبيون واالندل�سيون واملغاربة .والجناز هذه التقنية
على احياء بهاء وابهار ال�صورة الفنية للمينا اال�سالمية على �أ�س�س ي�ؤخذ �سلك معدين ي�شكّل بوا�سطته الزخرف املراد تزيينه باملينا
معا�رصة ،مما يوفّر فر�ص عمل جديدة ،ويو�سّ ع جماالت ال�صناعات بوا�سطة حلمه عموديا على �سطح امل�صوغة ،فتكوّن هذه اال�سالك
الفنيّة ويطوّر جتارة منتجاتها حمليّا واقليميّا وعامليّا. ال�شبكة الزخرفية التي تظهر على �شكل خاليا فارغة ميالهاال�صائغ
-3جميع ال�صور املن�شورة يف هذه املقالة من نف�س املجموعة: مب�ساحيق املينا بحيث يبقى كل لون م�ستقال يف «�سجنه» ومعزوال
www.al-jadir-collect.org.uk jadir959@yahoo.co.uk
ب�شكل حمكم عن باقي االلوان ،ث ّم تو�ضع القطعة يف الفرن لت�سخينها
واذابة املينا ،بعدها ي�سحب النموذج من الفرن ويرتك ليربد وتت�صلّب
�ألوانه ،ث ّم ت�صقل النتزاع ال�شوائب واحل�صول على الفاعليّة الزجاجية
للمينا وعلى وقع جتاورها اللوين الزاهي.
-املينا املحفورة ، Champleveالتي �شاع ا�ستخدامها يف امل�صاغ
املغويل اال�سالمي يف الهند .وهذه التقنية �أي�رس من �سابقتها ،كما انها
معاك�سة لها :فعو�ضا عن ر�سم الزخرف املراد تلوينه ب�أ�سالك بارزة
تثبّت على �سطح املعدن ،فان الزخرف يف هذه احلالة يتكون بطريقة
احلفر الذي يكوّن �شبكة من القنوات الرقيقة مف�صولة عن بع�ضها
بحافات دقيقة تن�رش عليها م�ساحيق املينا لتمال االخاديد الزخرفية،
بعدها يو�ضع النموذج يف الفرن لي�سخن ويربد وي�صقل بنف�س الطريقة
ال�سابقة.
-املينا املر�سومة ، Paintedالتي جوّد بها ال�صاغة االيرانيون؛ وهي
تقنية خمتلفة عن �سابقتيها ،حيث التف�صل �ألوان املينا عن بع�ضها
بوا�سطة اال�سالك �أو احلفر ،وامنا تتجاور �ألوانها فوق �سطح امل�صوغة.
لذلك تعتمد املينا املر�سومة على مهارة ال�صائغ يف ال�سيطرة على
درجات احلرارة املختلفة الالزمة الذابة االلوان املتنوعة للمينا كي
الت�سيل فيختلط بع�ضها ببع�ضها االخر؛ وعادة مايجمع املعلّم /
اال�سطة الذي ينفّذ هذه التقنية بني موهبتي ال�صياغة والر�سم.
-املينا ال�سوداء ، Nielloالتي تتميّز بدورها عن �أنواع املينا
املتقدمة ،اذ يطعم الذهب �أو الف�ضة لي�س مب�سحوق زجاجي كما يف
املينا امللونة ،بل مب�سحوق معدين هو خليط من الف�ضة والنحا�س
والر�صا�ص والكربيت التي متزج وت�صهر ثم تربّد وت�سحن مكوّنة
مادّة على �شكل م�سحوق �أ�سود ي�شبه الكحل يتم ا�ستخدامه بنف�س تقنية
املينا املحفورة .وتزيّن باملينا ال�سوداء غالبا الف�ضة الربّاقة عالية
العيار كالف�ضة اال�سرتلينية.
-2هذا املقال م�ست ّل من خمطوطة (�سعد اجلادر ،فنون املينا يف
امل�صاغ اال�سالمي ،الرباط .)1994وي�ضم العمل � 478صفحة
�سوار من فل�سطني مطعم بامليناء ال�سوداء :االرتفاع� 6 :سنتيمرتات ت�شمل �أكرث من �أربعمائة حتفة من الف�ضة اال�سالمية املو�شحة باملينا،
مما �أبدعه مئات ال�صاغة امل�سلمني وغريهم؛ وجلّها مل ين�رش �سابقا؛
177 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�رسح
178
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
امل�ؤلف:
يعترب موري�س مايرتلينك (1862ـ � )1949أحد �أبرز كتاب بلجيكا� .أبدع على امتداد
والبحاث العلمية نذكر من بينها حياته العديد من الدواوين ال�شعرية وامل�رسحيات أ
و«العمى» 1890و«باليا�س و«المرية مالني» 1889و«الدخيل» أ «مالذات �ساخنة» أ
وميلي�ساند» 1892و«�أالدين وبالومي�س» 1894و «حياة النحل» 1900و«ذكاء
الورود» 1907و«الع�صفور أالزرق» 1909و«حاكم �ستيلموند» .1919ح�صل
الكاتب عام 1911على جائزة نوبل آ
للداب.
كتب امل ؤ�لف هذه امل�رسحية عام 1903بهدف ك�شف مواكب الزيف والنفاق التي
كانت �سائدة يف الطبقة أالر�ستقراطية البلجيكية التي كان ينتمي �إليها .لقي هذا
العمل جناحا �ساحقا؛ �إذ ترجمت �إىل لغات عاملية عدة كما مت تقدميها على خ�شبة
امل�رسح يف العديد من البلدان دون انقطاع منذ �صدورها �إىل �أيامنا هاته.
ال�شخ�صيات:
القدي�س �أنطوان .ال�سيد غو�ستاف .ال�سيد �آ�شيل .الطبيب .الراهب .عميد ال�رشطة .جوزيف.
الن�سة هورتن�س .فرجيني� .أبناء وبنات أالخ� .أبناء عمومة� .ضيوف� .إلخ..
عونا ال�رشطة .آ
179
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
�أ�سفل ثوب القدي�س مكررة بطريقة � آلية وجمنونة� :أيها الفصل األول
القدي�س �أنطوان ،كن بنا رحيما� .أيها القدي�س الكرمي� .صل يف مدينة �صغرية بالفالندر البلجيكي .دهليز منزل
من �أجلنا! برجوازي وا�سع وقدمي .على الي�سار باب كبرية تنفتح
القدي�س �أنطوان :والآ ن ،ا�سمحي يل ب�أن �أدخل و�أغلقي الباب.
على ال�شارع .يف العمق �سلم من ب�ضع درجات ي�ؤدي
فرجيني (وهي تنه�ض مت�شنجة) :هي ذي املم�سحة .ام�سح
قدميك (يبادر القدي�س �أنطوان �إىل ال�صدع بالأ مر دون
�إىل باب كبرية زجاجية تقود �إىل املنزل .على اليمني
مهارة) .هيا ،بهمة �أكرب.. باب �أخرى .على امتداد اجلدار �أريكة مغ�شاة بفرو اخللد،
تغلق الباب ب�ضعة مقاعد ،م�شجب علقت عليه قبعات ومعطف
طويل..الخ.
القدي�س �أنطوان (م�شريا �إىل الباب على اليمني) :الآ ن�سة عند رفع ال�ستارة ،تظهر العجوز فرجيني م�شمرة عن
م�سجاة هنا.
فرجيني (باندها�ش وابتهاج) :بالفعل .كيف عرفت؟ هذا
�أكمامها ،عارية ال�ساقني ،منتعلة حذاء كبريا و�سط
مده�ش� .إنها هناك يف القاعة الكبرية .املر�أة امل�سكينة. اجلرادل النحا�سية واخلرق واملكان�س وامل�ساحات
مل تكن تبلغ من العمر غري �سبعة و�سبعني عاما .عنفوان وهي تنظف البالط الرخامي باملاء الغزير .وبني حني
ال�شباب! �ألي�س كذلك؟ هل تعلم �أنها كانت �شديدة التقوى و� آخر ،توقف عملها وتتمخط بجلبة ومت�سح بطرف
وم�ستحقة لكل ثناء .لقد ت�أملت كثريا .ثم �إنها كانت ثرية. وزرتها الزرقاء دمعة كبرية .ي�سمع قرع جر�س الباب.
لقد �سمحت لنف�سي ب�أن �أقول �إنها تركت مليونني .مليونان. تذهب فرجيني لكي تفتح ،ونرى على العتبة عجوزا
هذا كثري.. طويل القامة نحيفا عاري الر�أ�س حايف القدمني� ،أ�شعث
القدي�س �أنطوان :نعم. �شعر الر�أ�س واللحية ،وقد ارتدى ك�ساء بنيا مما يلب�سه
فرجيني� :سوف يرث ابنا �أخيها ال�سيد غو�ستاف وال�سيد الرهبان ،وقد تلطخ بالوحل ون�صل لونه و�أ�صبح عبارة
�أ�شيل و�أبنا�ؤهما كل �شيء� .سوف يكون هذا املنزل من عن �أ�سمال.
ن�صيب ال�سيد غو�ستاف .غري �أنها �أو�صت ببع�ض الهبات
للأ ب الراهب ،البواب ،حار�س الكني�سة ،الفقراء ،الكاهن، الول
امل�شهد أ
الأ ربعة ع�رش ي�سوعيا ولكل اخلدم بح�سب املدة الزمنية فرجيني والقدي�س �أنطوان
التي ق�ضوها يف خدمتها و�أنا �أقدمهم .لقد خدمتها ثالث
فرجيني (م�رشعة الباب قليال) :ما الذي يحدث؟ هي ذي
وثالثني عاما ،و�سوف �أح�صل على ثالثة � آالف .هذا جيد!
املرة ال�ساد�سة والثالثون التي يقرع فيها اجلر�س ..مت�سول
القدي�س �أنطوان :بالفعل.
� آخر؟ ما الذي تريده؟
فرجيني :مل تكن مدينة يل ب�شيء ،وقد واظبت دائما على
القدي�س �أنطوان� :أريد �أن �أدخل.
دفع م�ستحقاتي .ومهما نقل؛ فلن نعرث على كثري من �أرباب
فرجيني :ال .ال� .أنت مغمور بالوحل .ابق حيث �أنت .ما الذي
العمل الذي ي�أتون بعد املوت مبثل �صنيعها .كانت امر�أة
تطلبه؟
قدي�سة� .سوف تواريها الرتاب اليوم .ومل يبق �أحد �إال وبعث
القدي�س �أنطوان� :أطلب الدخول.
بباقات ورد .ينبغي �أن ترى ال�صالون؛ �إذ �أنه ي�رشح القلب.
فرجيني :ملاذا؟
ثمة ورود على ال�رسير وفوق الطاولة والكرا�سي والأ رائك
القدي�س �أنطوان :لكي �أحيي الآ ن�سة هورتن�س.
والبيانو .لي�س �سوى الورود البي�ضاء ،وامل�شهد يف جممله
فرجيني :لكي حتيي الآ ن�سة هورتن�س .ما هذه احلكاية؟ من
جميل .ال نعرف كيف نرتب الأ كاليل (ي�سمع قرع اجلر�س
فتذهب لتفتح الباب ولتعود ب�إكليلني) وها هما اثنان �أي�ضا �أنت؟
(تفح�ص وتخترب ثقل الأ كاليل)� .أم�سك هذين الإ كليلني القدي�س �أنطوان� :أنا القدي�س �أنطوان.
الرائعني �إىل �أن �أنتهي من التنظيف (ت�سلم الإ كليلني �إىل فرجيني :من بادو؟
القدي�س �أنطوان الذي مي�سك طوعا بكل �إكليل يف يد� .سوف القدي�س �أنطوان :متاما.
ن�شيعها هذا امل�ساء �إىل املقربة ،وينبغي �أن يكون كل �شيء هالة القدي�س ت�شتعل وتت�ألق
نظيفا ،ولي�س عندي من الوقت �إال.. فرجيني :يا ي�سوع! يا مرمي! هذا �صحيح!( ..تفتح الباب على
القدي�س �أنطوان :قوديني �إىل حيث ي�سجى جثمانها. م�رصاعيها ،تهوي على ركبتيها �شابكة يديها حول املكن�سة
فرجيني� :أقودك قرب اجلثمان؟ الآ ن؟ وهي تتلو ب�رسعة التحية الإ جنيلية ثم تقبل ب�إجالل بالغ
180 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
قوديني قرب اجلثمان. القدي�س �أنطوان :نعم.
فرجيني� :سبق �أن قلت لك �إنه ال ميكنني �إزعاجهم وهم مل فرجيني :ال .ال ميكنني فعل ذلك .ينبغي �أن ننتظر قليال؛ �إذ
يفرغوا بعد من تناول الطعام. مل يفرغوا بعد من تناول طعامهم.
القدي�س �أنطوان :من هم؟ القدي�س �أنطوان� :إن الرب ي�ستعجلني .لقد �أزف الوقت.
فرجيني :ال�سادة وكل �أفراد العائلة وحق الرب .ابنا �أخيها فرجيني :ما الذي تريده منها؟
ال�سيد غو�ستاف وال�سيد �أ�شيل و�أبنا�ؤهما ال�سادة جورج، القدي�س �أنطوان� :سبق �أن قلت لك ذلك� .إنني �أرغب يف �أن �أرد
�ألربيك وديزيري و�أبناء وبنات العم والراهب والطبيب، �إليها احلياة.
ومن �أي�ضا؟ �أ�صدقاء و�أقرباء مل نرهم من قبل وقد قدموا فرجيني :ترغب يف �أن ترد �إليها احلياة؟ ترغب جادا يف
من �أماكن بعيدة جدا� .إنهم �أنا�س ذوو ثراء �شديد. �أن حتييها.
القدي�س �أنطوان � :آه! القدي�س �أنطوان :نعم.
فرجيني :هل ر�أيت ال�شارع؟ فرجيني :لكنها ميتة منذ ثالثة �أيام.
القدي�س �أنطوان� :أي �شارع؟ القدي�س �أنطوان :لهذا ال�سبب �أرغب يف �أن �أحييها.
فرجيني� :شارعنا بحق الرب! ال�شارع الذي يوجد فيه فرجيني� :سوف حتيا ك�ش�أنها يف ال�سابق.
منزلنا. القدي�س �أنطوان :نعم.
القدي�س �أنطوان :نعم. فرجيني :لكن لن يكون ثمة ورثة؟
فرجيني� :إنه �شارع جميل .وكل املنازل الواقعة يف اجلانب القدي�س �أنطوان :طبعا.
الأ ي�رس ما عدا الأ ول ،وهو كما تعرف جيدا ،الأ �صغر ،هم يف فرجيني :ما الذي �سوف يقوله ال�سيد غو�ستاف؟
ملكية الآ ن�سة� .أما تلك التي توجد يف اجلانب الأ مين ،فتعود القدي�س �أنطوان :ال �أعلم.
لل�سيد غو�ستاف .ثمة اثنا وع�رشون منزال ،وهذا مال طائل. فرجيني :والثالثة � آالف وثالثمائة فرنك التي �أعطتنيها؛
القدي�س �أنطوان :بالفعل. لأ نها كانت ميتة� ،سوف ت�ستعيدها؟
فرجيني (م�شرية �إىل الهالة) :انظر! �إن �شيئك ينطفئ. القدي�س �أنطوان :طبعا.
القدي�س �أنطوان (متح�س�سا هالته) :نعم� .أعتقد ذلك بالفعل. فرجيني :هذا مزعج.
فرجيني� :أال ت�شتعل ملدة طويلة؟ القدي�س �أنطوان :هل عندك نقود �أو مدخرات �أخرى؟
القدي�س �أنطوان :هذا يتوقف على الأ فكار التي تغذيها. فرجيني :ال �أملك فرنكا واحدا ،وعندي �أخت معاقة تلتهم
فرجيني� :إنهم ميلكون غابات و�ضياعا ومنازل .ولل�سيد كل ما �أربحه.
غو�ستاف م�صنع كبري للن�شا ،وهو م�شهور با�سمه .ما من القدي�س �أنطوان� :إذا كنت تخ�شني من فقدان الثالثة � آالف
�شك يف �أنها تعرفه � .آه! �إنها بالفعل عائلة �شديدة الطيبة فرنك...
والرثاء .هناك �أربعة منهم ال يفعلون �شيئا عدا �إقرا�ض النا�س فرجيني :ثالثة � آالف وثالثمائة فرنك.
مبالغ من املال � .آه! كل هذا جميل .وهناك �أ�صدقاء ومعارف القدي�س �أنطوان� :إذا كنت تخ�شني فقدانها ،ف�إنني لن
وم�ست�أجرون .كل ه�ؤالء جا�ؤوا�،إذن ،من �أجل ح�ضور مرا�سيم �أحييها.
الدفن ،ومنهم من جاء من �أماكن بعيدة .يقال �إن �أحدهم فرجيني� :ألي�س ثمة و�سيلة لكي �أحتفظ بها وحتيا الآ ن�سة
�سافر يومني كاملني كي ال يخلف املوعد� .سوف �أريك �إياه، هورتن�س من جديد؟
وهو �صاحب حلية رائعة� .إنهم يتناولون غذاءهم هناك ،ومل القدي�س �أنطوان :ال .يلزمك �أن تختاري بني �أمرين .لقد نزلت
يفرغوا بعد ،وال ي�سعنا �إزعاجهم� .إنه حفل غذاء كبري� :أربعة �إىل الأ ر�ض ب�سبب �صلواتك ولك �أن تختاري.
وع�رشون طبقا ،وقد ر�أين بعيني الئحة الطعام� .سوف يقدم فرجيني (بعد حلظة تفكري)� :أحيها على �أية حال (هالة
املحار ونوعان من احل�ساء ،وثالثة �أطباق فواحت وع�صيدة القدي�س ت�شتعل وتت�ألق) ماذا يحدث لك؟
الالنكو�ست و�سمك ال�سلمون على طريقة �شوبري ،هل تعلم �أي القدي�س �أنطوان :لقد �أ�شعت ال�رسور يف قلبي.
�شيء هو؟ فرجيني� :شيئك�،إذن ،ي�شتعل.
القدي�س �أنطوان :ال. القدي�س �أنطوان :نعم ،و�ضد �إرادتي.
فرجيني :وال �أنا �أي�ضا .يبدو �أنه �صنف جيد ،لكننا لن نذوق فرجيني :هذا مثري ،لكن ال تبق�،إذن ،واقفا قرب ال�ستائر
منه �شيئا .ولن تقدم ال�شمبانيا ب�سبب احلداد ،لكن كل �أنواع البي�ضاء .ميكن للنار �أن متتد �إليها.
اخلمور الأ خرى �سوف تكون حا�رضة .كان للآ ن�سة هورتن�س القدي�س �أنطوان :لي�س ثمة من خطر؛ فهي �شعلة �سماوية.
181 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
�أمتنى �أن تكون عر�ضة له� .سوف يدمدم ال�سيد غو�ستاف �أف�ضل خمزن للخمور يف املدينة� .سوف �أحر�ص على �أن
غا�ضبا �إن مل يكن كل �شيء نظيفا والمعا �أثناء مرور �أجلب لك ك�أ�سا مرتعة �إذا كانت ثمة ف�ضلة ،و�سوف تقيم
ال�ضيوف من هنا .لي�س هو بال�شخ�ص املت�ساهل ،ثم �إنه بنف�سك اجلودة .انتظر! �سوف �أذهب لأ رى ما يفعلون( .ت�صعد
يلزمني تنظيف الأ واين النحا�سية .هناك� ،أدر ال�صنبور،الأ دراج وتزيح ال�ستارة لتنظر من خلل الباب الزجاجي)
هكذا� ،أح�سنت .ناولني اجلردل� .أال ت�شعر بالربد يف قدميك؟
�أعتقد �أنهم �رشعوا يف �أكل ال�سلمون على طريقة �شوبري.
�شمر�،إذن ،عن ثيابك لأ نك �سوف تتبلل .انتبه �إىل الإ كليلني.
انظر! هو ذا جوزيف وهو ينقل الأ نانا�س .تلزمهم �ساقيتان
�ضعهما فوق املقعد هناك .جيد جدا (ي�أتي �إليها القدي�س�أخريتان قبل �أن يفرغوا .هيا! اجل�س (يذهب القدي�س لكي
�أنطوان باجلردل) �شكرا� .أنت لطيف جدا .يلزمني جردل يجل�س فوق الأ ريكة) ال .ال .لي�س فوق الأ ريكة املغ�شاة؛
� آخر (ت�سمع �ضجة �أ�صوات وكرا�س تتحرك) ا�سمع! ما الذي
لأ نك ملطخ بالوحل ،ولكن فوق هذا املقعد .ينبغي �أن
يحدث؟ �سوف �أذهب لأ رى (تذهب �إىل الباب الزجاجي) �أنتهي من عملي (يجل�س القدي�س �أنطوان فوق مقعد فيما
انظر! لقد نه�ض ال�سيد .ما الذي يحدث؟ هل هم مغتاظون؟ تعاود فرجيني العمل) وتذهب لأ خذ جردل من املاء) انتبه!
ال �أعتقد؛ لأ ن الآ خرين ي�أكلون .جوزيف ميلأ ك�أ�سي ال�سيد
ارفع �ساقيك؛ لأ نني �سوف �أدلق املاء .ال ،ال تبق هنا؛ لأ نك
والراهب .لقد انتهوا من �أكل ال�سلمون .ال�سيد يخرج ،وميكنني
ت�ضايقني ،ولي�س املكان بعد نظيفا .اذهب هناك يف تلك
�أن �أكلمه �أثناء مروره و�أن �أقول له �إنك...
الزاوية و�أ�سند املقعد �إىل اجلدار (ميتثل القدي�س ملا ت�أمره
القدي�س �أنطوان :نعم .نعم .اذهبي�،إذن ،فورا.
به) �سوف تكون هناك يف م�أمن ،ولن تتبلل قدماك� .أل�ست
فرجيني :ح�سنا! اترك اجلردل؛ فلم تعد بي حاجة �إليه. جائعا؟
هناك .خذ املكن�سة .ال مت�سكها هكذا .اذهب�،إذن ،واجل�سالقدي�س �أنطوان :ال� .شكرا� .أنا يف عجلة من �أمري .اذهبي�،إذن،
(ميتثل القدي�س �أنطوان ويذهب للجلو�س فوق الإ كليلني و�أخربي ال�سادة.
املو�ضوعني فوق املقعد) �أنت! ما الذي تفعله؟ لقد جل�ست فرجيني� :أنت م�ستعجل؟ ما الذي �سوف تفعله �إذن؟
فوق الإ كليلني! القدي�س �أنطوان :معجزتان �أو ثالث.
القدي�س �أنطوان� :أ�س�ألك املعذرة؛ فنظري �ضعيف.
فرجيني :ال ميكننا �أن نقول لهم �شيئا وهم بعد حول املائدة.
فرجيني� :أيها الوقح .ها هما نظيفان .ما الذي �سوف يقوله
ينبغي �أن ننتظر �إىل �أن يفرغوا من احت�ساء القهوة� .سوف
ال�سيد غو�ستاف عند ر�ؤية هذين الإ كليلني .من ح�سن احلظ
ي�ستاء ال�سيد غو�ستاف كثريا .وال علم يل �أي�ضا بالطريقة
�أنه مل يلحقهما �رضر كبري وميكننا �أن نعيد ترتيبهما. التي �سوف ي�ستقبلونك بها .فهو ال يرغب يف �أن ندخل فقراء
اجل�س هناك و�ضعهما فوق ركبتيك والزم الهدوء .ال تتحرك
�إىل املنزل ،وال يلوح عليك مظهر الرثاء.
خ�صو�صا؛ لأ نك �سوف ترتكب حماقات �أخرى (تركع على
القدي�س �أنطوان :ال .لي�س القدي�سون ب�أثرياء.
ركبتيها قبالة القدي�س) �أرغب يف �أن �أ�صلي من �أجلك...
فرجيني :لكنهم يتو�صلون بالهبات رغم ذلك..
القدي�س �أنطوان :افعلي�،إذن ،وال تنزعجي.
القدي�س �أنطوان :نعم ،لكن هاته الهبات ال ت�صل �إىل
فرجيني :باركني ما دمنا وحيدين؛ لأ نه �إذا جاء ال�سادة،
ف�سوف يحملونني على اخلروج ،ولن �أراك �أبدا .امنحني الآ ن ال�سماء.
بركتك .امنحها يل وحدي �أنا العجوز التي هي يف م�سي�س فرجيني :هذا غري ممكن! الكهنة�،إذن ،هم من ي�ستحوذون
على ما نعطيه؟ قيل يل ذلك ،لكنني مل �أ�صدقه .طيب! ها �أنا
احلاجة �إليها.
القدي�س �أنطوان (ينه�ض ويباركها فيما هالته ت�شتعل): يف حاجة ما�سة �إىل املاء� .أ�صغ �إيل!
يا ابنتي� .أباركك؛ لأ نك طيبة وب�سيطة الروح والقلب دون القدي�س �أنطوان :ماذا؟
خبث �أو خ�شية حيال العجائب الكبرية والوفية لواجباتك فرجيني� :أال ترى ذلك ال�صنبور النحا�سي على ميينك؟
املتوا�ضعة .اذهبي ب�سالم يا ابنتي و�أخربي �سيدك.. القدي�س �أنطوان :بلى.
تخرج فرجيني ويجل�س القدي�س �أنطوان فوق املقعد .وبعد فرجيني� :إنها النافورة وبجانبها جردل فارغ .هل ميكنك
فرتة وجيزة ،يدخل ال�سيد غو�ستاف متبوعا بفرجيني من �أن متلأ ه؟
الباب الزجاجي القدي�س �أنطوان :بكل �رسور.
فرجيني :لن �أمتكن من تنظيف املكان كله �إذا مل ي�أت
�أحد لنجدتي ،ولي�س ثمة من ي�ستطيع ذلك .تع�صف احلرية امل�شهد الثاين
باجلميع .لي�س التح�ضري جلنازة بالعمل الهني ،و�أنت تعرف ال�سيد غو�ستاف (ب�صوت مهتاج ومتوتر) :ما الذي يحدث؟
ذلك جيدا .من ح�سن احلظ �أن ذلك ال يحدث كل يوم ،وال ما الذي تريده؟ من �أنت؟
182 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ال�شارع ،لكنه ال يتمكن من زحزحته قيد �أمنلة .يبدو مبلبل القدي�س �أنطوان (ينه�ض بتوا�ضع) :القدي�س �أنطوان.
اخلاطر) �سيدي؟ ال�سيد غو�ستاف� :أجمنون �أنت؟
ال�سيد غو�ستاف :ما الذي يحدث؟ القدي�س �أنطوان :من بادو.
ال�سيد غو�ستاف :ما هاته املزحة؟ ل�ست يف مزاج جيد لكي جوزيف :ل�ست �أدري ما به� .إنه مت�سمر وال ميكنني حتريكه
�أ�ضحك .هل �رشبت؟ ما �سبب وجودك هنا؟ ما الذي تريده؟ من مو�ضعه.
ال�سيد غو�ستاف� :سوف �أ�ساعدك. القدي�س �أنطوان� :أريد �أن �أحيي الآ ن�سة عمتك.
ال�سيد غو�ستاف :كيف؟ �أن حتيي عمتي (موجها اخلطاب �إىل يحاوالن زحزحة القدي�س الذي يظل ثابتا كالطود
فرجيني) �إنه �سكران .ملاذا �سمحت له بالدخول؟ (خماطبا ال�سيد غو�ستاف (ب�صوت خافت) � :آه! �إنه خطري؛ فلن�أخذ
القدي�س �أنطوان) ا�سمع يا �صديقي وكن عاقال .ال وقت لدينا حذرنا� .إن له قوة خارقة للم�ألوف .لنحاول التعامل معه
للمزاح� .سوف نقوم بدفنها اليوم .عد غدا وهاك ع�رشة بهدوء .لعلك تفهم جيدا يا �صديقي �إننا نقوم اليوم بدفن
عمتي امل�سكينة التي ت�ستحق كل تقدير. �سنتات.
القدي�س �أنطوان (ب�شيء من العناد) :ينبغي �أن نحييها القدي�س �أنطوان� :أنا هنا لكي �أحييها.
ال�سيد غو�ستاف :لكنك تفهم جيدا �أن الوقت لي�س منا�سبا؛ اليوم..
ال�سيد غو�ستاف� :سوف تفعل ذلك الحقا بعد املرا�سيم فاحلجل الفاخر يربد واملدعوون ينتظرون ،ثم �إننا ال نرغب
يف ال�ضحك. وبكيفية جيدة .هيا .اخلروج من هنا.
يظهر ال�سيد � آ�شيل عند مدخل الباب الزجاجي وهو مي�سك احلياة. إليها القدي�س �أنطوان :لن �أخرج ما مل �أعد �
ال�سيد غو�ستاف (منفجرا) � :آه! لقد طفح بي الكيل .هل تعلم منديال
�إنك قد بد�أت ت�ضايقني .ال�ضيوف ينتظرون ( يذهب لفتح ال�سيد �أ�شيل :من هذا ال�شخ�ص يا غو�ستاف؟ ما الذي يحدث؟
نحن يف انتظار احلجل الثمني. باب ال�شارع) هيا .هي ذي الباب� .أ�رسع.
ال�سيد غو�ستاف :الذي يحدث �أن ال�سيد ال يرغب يف احلياة. إليها القدي�س �أنطوان :لن �أخرج ما مل �أعد �
ال�سيد غو�ستاف � :آه! هكذا� ،إذن .ح�سنا! �سوف نرى (يفتح االن�رصاف.
ال�سيد �أ�شيل :هل هو �سكران؟ الباب الزجاجي وي�رصخ) جوزيف!
ال�سيد غو�ستاف :طبعا! امل�شهد الثالث
ال�سيد �أ�شيل :اقذف به �إىل اخلارج ،ولننته من هذه املهزلة. فرجينـــي ،القـدي�س �أنطــوان ،ال�سيــد غــو�ستـاف
لن ن�ضيع غذاء لذيذا ب�سبب �شخ�ص �سكران؟ وجوزيف
ال�سيد غو�ستاف :لي�س ثمة من و�سيلة.
ال�سيد �أ�شيل :لي�س ثمة من و�سيلة ،كيف؟ � آه! �أرغب يف �أنجوزيف (يظهر فوق ال�سلم وهو يحمل بيديه طبقا كبريا
�أت�أكد حقيقية. يتطاير منه البخار)� :سيدي؟
ال�سيد غو�ستاف :حاول بنف�سك �إن �شئت. ال�سيد غو�ستاف (ناظرا �إىل الطبق) :ما هذا؟
ال�سيد �أ�شيل :لن �أ�شتبك مع �أفاق من هذا النوع ،لكن ثمة جوزيف :احلجل الفاخر.
جوزيف امل�سكني.ال�سيد غو�ستاف :ح�سنا! �سلم الطبق �إىل فرجيني ،واقذف
ال�سيد غو�ستاف :حاولنا دون جدوى ،ومل يبق �إال �أن نلج أ� بهذا ال�سكري �إىل اخلارج ،وب�رسعة..
جوزيف (وهو يناول فرجيني الطبق) :ح�سنا �سيدي (وهو
�إىل العنف
يظهر مدعوون �آخرون عند الباب الزجاجي ،وكانوا جميعهم يقرتب من القدي�س) هيا يا �صديقي .هل �سمعت؟ لي�س �رشب
ب�أفواه مكتظة بالطعام ومي�سكون مبناديل حتت �أذرعهم �أو اخلمر بكل �شيء .هيا ،اخرج من هنا .لنن�سل من هنا بهدوء
و�إال فحذار من �أحطم وجهك؛ لأ ن قب�ضتي قوية .ل�ست على
حول �أعناقهم
�أح�سن ما يرام؟ انتظر ،انتظر! افتحي الباب يا فرجيني..
امل�شهد اخلام�س ال�سيد غو�ستاف :انتظر� .سوف �أذهب لأ فتحها..
ال�شخ�صيات نف�سها وعدد من ال�ضيوف يفتح باب ال�شارع
جوزيف :ح�سنا .ح�سنا! هذا يكفي؛ لأ نه لن يخرج يف �سيارة �ضيف :ما الذي يحدث؟
( ي�شمر عن �أكمامه ويب�صق يف راحتيه) �سوف نرى ( مي�سك � آخر :ماذا تفعل يا غو�ستاف؟
بالقدي�س �أنطوان بعنف لكي يقذف به دفعة واحدة �إىل � آخر :ما الذي يريده هذا الرجل؟
183 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ف�أخت�ص بالأ حرى بالآ الت الزراعية و�أدوات احلرث .هذا � آخر :من �أين انبعث هذا؟
مبعوث من ال�سماء ،القدي�س الأ كرب �أنطوان �شخ�صيا الذي ال�سيد غو�ستاف� :إنه ال يرغب يف اخلروج ،وقد ارتكبت
يرغب يف احلديث معك (يخاطب الراهب بهم�س) هذا �شخ�ص فرجيني جمددا حماقة �أخرى .ويكفي �أن ترى فقريا لكي
جمنون ،وعلينا �أن ندفعه بهدوء �صوب الباب دون �أن يفطن تفقد اتزانها .واحلق �أنها مفرطة يف الغباء؛ �إذ �سمحت
�إىل مق�صدنا ،وما �أن يحتويه اخلارج حتى نلقي عليه بتحية لهذا املجنون الذي يرغب يف ر�ؤية العمة بزعم �إحيائها
امل�ساء وننتهي من الأ مر كله.. بالدخول.
ال�شخ�صيات ذاتها ،الراهب واملدعوون �ضيف :ينبغي �أن تخرب ال�رشطة .ابعث يف طلب �رشطيني..
الراهب (بنربة �أبوية)� :أيها القدي�س الكبري �أنطوان� .إن ال�سيد غو�ستاف :ال .ال .ال �أريد �أي ح�ضور لأ عوان ال�رشطة.
خادمك املتوا�ضع يتمنى لك مقاما �سعيدا فوق هذه الأ ر�ض ينبغي �أن نتجنب الف�ضيحة خ�صو�صا يف هذا اليوم.
التي تكرمتم بت�رشيفها بح�ضوركم املقد�س .ما الذي ترغب ال�سيد �أ�شيل :غو�ستاف؟
فيه قدا�ستكم؟ ال�سيد غو�ستاف :ماذا؟
القدي�س �أنطوان� :أن �أحيي الآ ن�سة هورتن�س.. ال�سيد �أ�شيل :هل الحظت وجود قطعتي رخام �أو ثالث
الراهب� :صحيح �أن ال�سيدة الطيبة ميتة وا �أ�سفاه! لكن مت�آكالت على الي�سار هناك يف �أق�صى الدهليز؟
معجزة من هذا القبيل �سهلة بالن�سبة لأ كرب قدي�سينا .لقد ال�سيد �أ�شيل� :أعرف ذلك .لي�س الأ مر بذي �أهمية� .إنني �أفكر
كان للفقيدة العزيزة تقدير خا�ص لكم� .سوف �أقودكم �إىل يف ا�ستبدال الرخام بالف�سيف�ساء.
حيث هي م�سجاة ،ولتتكرم قدا�ستكم ب�أن تتبعني (يتجه ال�سيد �أ�شيل� :سوف يكون الأ مر �أكرث �إثارة لل�ضحك.
نحو باب ال�شارع وهو يعينه للقدي�س �أنطوان) من هنا.. ال�سيد غو�ستاف� :سوف يكون بالأ حرى �أكرث حداثة� ،أما ما
القدي�س �أنطوان( :م�شريا �إىل الباب على اليمني) :ال .الطريق يخ�ص هذا الباب ب�ستائره البي�ضاء ،ف�إنني �أفكر يف واجهة
من هنا. زجاجية ترمز �إىل القن�ص وال�صناعة والتقدم مع حوا�ش
الراهب :لتتكرم قدا�ستكم بقبول اعتذاري ملعار�ضتكم؛ ذلك تزينه ومتثل للفواكه واحلجل..
�أن اجلثمان ب�سبب التوافد الكثيف للزوار ،قد و�ضع يف ال�سيد �أ�شيل� :إنني �أرى ذلك فعال..
املنزل املقابل الذي تعود ملكيته �أي�ضا للفقيدة العزيزة. ال�سيد غو�ستاف� :أما فيما يهم غرفة مكتبي (ي�شري �إىل الغرفة
القدي�س �أنطوان( :م�شريا �إىل الباب على اليمني)� :إنه هناك. على اليمني) ف�إنني �أفكر يف نقلها �إىل هنا ،و�سوف �أخ�ص�ص
الراهب (برخاوة �أكرث) :لتتكرم قدا�ستكم كي تقتنع بالعك�س الغرفة الواقعة يف اجلانب الآ خر للموظفني.
و�أن تتبعني حلظة �إىل ال�شارع ،و�سوف ترى ال�شمعدانات ال�سيد �أ�شيل :متى ت�رشع يف التنفيذ؟
و�ستائر احلداد ال�سوداء. ال�سيد غو�ستاف� :أياما قليلة بعد املرا�سيم .لن يكون من
القدي�س �أنطوان (م�شريا بوثوق �إىل الباب على اليمني): املنا�سب �أن �أ�رشع من الغد.
�سوف �أدخل هناك. ال�سيد � آ�شيل :نعم ،لكن يف انتظار ذلك ،ينبغي التخل�ص من
مدعو :لي�س الرجل �سويا. هذا الدخيل.
ال�سيد غو�ستاف� :إنه يبالغ بع�ض ال�شيء. ال�سيد غو�ستاف� :إنه يت�رصف كما لو �أنه يف منزله..
مدعو :لنفتح الباب ونلقي به جميعا �إىل اخلارج.. ال�سيد �أ�شيل (خماطبا القدي�س �أنطوان) :هل ترغب يف
ال�سيد غو�ستاف :ال �أرغب يف ف�ضيحة؛ �إذ قد يغ�ضب وهو �أريكة؟
�شخ�ص خطري ذو قوة عاتية .وقد حاولت مبعية جوزيف القدي�س �أنطوان (ب�سذاجة) :ال� .شكرا .ال �أح�س ب�أي تعب.
ـول�سنا ذوي بنيتني �ضعيفتني ـ �أن نحركه من مو�ضعه ،لكن ال�سيد �أ�شيل :دع الأ مر يل و�سوف �أقوم مبا يلزم (يقرتب من
دون جدوى .يبدو الأ مر عجيبا ،لكنه مت�سمر يف الأ ر�ض.. القدي�س �أنطوان ليخاطبه بود) :هه يا �صديقي ،من �أنت؟
ال�سيد � آ�شيل :لكن ،من قال له �إن اجلثمان موجود هناك؟ القدي�س �أنطوان� :أنا القدي�س �أنطوان.
ال�سيد غو�ستاف� :إنها جمددا فرجيني التي ما من �شك يف ال�سيد �أ�شيل :نعم .نعم .هذا مفهوم (خماطبا الآ خرين) �إنه
�أنها ثرثرت دون ح�سيب �أو رقيب.. يتم�سك مبزاعمه ،لكنه لي�س خبيثا (يلمح الراهب و�سط
فرجيني� :أنا يا �سيدي؟ لي�س الأ مر كذلك .كنت منهمكة يف املدعووين الذين يحيطون بالقدي�س �أنطوان ويتفح�صونه
عملي ،ومل �أزد على �أن قلت نعم .ال� .ألي�س كذلك �أيها القدي�س بف�ضول ير�شح بال�سخرية واحلذر) لكن ،هو ذا ال�سيد الراهب
�أنطوان؟ ( ال يجيب القدي�س) �أجب�،إذن ،عندما نخاطبك الذي عرفك وجاء ليقوم بالواجب جتاهك .اقرتب �سيدي
ب�أدب.. الراهب؛ فالقدي�سون اخت�صا�صك بدون منازع� ،أما �أنا،
184 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
جمربين على العناية باملجانني والأ فاكني وال�سكارى. القدي�س �أنطوان (وهو دائم االمتثال) :مل تخربين بذلك.
الطبيب :هل ترغب يف �سماع ر�أيي؟ فرجيني :هل ر�أيتم؟ �إنه قدي�س ،وكان يعلم م�سبقا بكل
ال�سيد غو�ستاف :ها �أنا م�صغ �إليك. �شيء� .أقول لكم �إنه يعلم كل �شيء.
الطبيب� :إننا نواجه جمنونا ذا �أطوار عجيبة ،لكنه م�سامل ال�سيد � آ�شيل (مقرتبا من القدي�س وهو يربت على كتفه) :هيا
بدون �شك .غري �أنه قد يتحول �إىل �شخ�ص خطري �إذا نحن �أيها ال�شهم .حترك .اللعنة!
�أزعجناه� .إنني �أعرف هذا ال�صنف من الب�رش ،وهذا احلديث املدعوون :هل �سوف يخرج؟ �ألن يخرج؟
�رس بيننا .وهما يبدو من غرابة هذا االختيار ،ف�إنه ال ال�سيد � آ�شيل :لدي فكرة.
يت�ضمن �أية �إ�ساءة للفقيدة العزيزة .وعليه ،ال �أرى من �أجل ال�سيد غو�ستاف :ما هي؟
جتنب الف�ضيحة �أية غ�ضا�ضة باعتبار ب�ساطة ما يطلبه يف ال�سيد � آ�شيل� :أين الطبيب؟
�أن ن�أذن له بالدخول للحظات �إىل الغرفة. مدعو :ما زال حول املائدة؛ �إذ مل يفرغ بعد من �أكل
ال�سيد غو�ستاف :لن يحدث ذلك ما حييت .كيف �سيكون ال�سلمون..
حالنا �إذا متكن �أي وافد من �أن يقتحم هكذا منزل عائلة ال�سيد غو�ستاف :اذهبوا�،إذن ،و�أح�رضوه (�سوف نخرب
نبيلة بذريعة عبثية تتمثل يف �إحياء ميتة مل تلحق به �أي الطبيب) هذا �صحيح� .إنه جمنون وهو اجلدير بالتعامل
�أذى.. معه..
الطبيب :على ر�سلكم؛ واخليار لكم �أوال و� آخرا .ثمة ،من يدخل الطبيب وفمه مكتظ بالطعام واملنديل حتت
جهة ،ف�ضيحة جم�سدة؛ لأ نه ما من �شيء �سوف يحمله على ذقنه..
العدول عن رغبته ،وهناك ،من جهة �أخرى ،تنازل ب�سيط لن الطبيب :من ؟ جمنون؟ مري�ض؟ �سكران؟ (يرى القدي�س) �إنه
ي�ضريكم يف �شيء.. فقري م�سكني وال ي�سعنا فعل �شيء .ح�سنا يا �صديقي� .أل�ست
ال�سيد � آ�شيل :الطبيب على �صواب. على ما يرام؟ هل ترغب يف �شيء؟
الطبيب :لي�س ثمة ما تخ�شونه ،و�أنا �أحتمل امل�س�ؤولية كاملة. القدي�س �أنطوان� :أريد �أن �أحيي الآ ن�سة هورتن�س.
ثم �إننا �سوف �سوف نكون ح�ضورا و�سوف ندخل �صحبته. الطبيب � :آه! جيد جدا� .أفهم؛ فل�ست طبيبا .هل ت�سمح يل ب�أن
ال�سيد غو�ستاف :ليكن .ولننته من الأ مر .بيد �أنه ال ينبغي �أم�سك بيدك؟ (يج�س لوزتيه) �أال ت�شعر ب�أمل؟
لأ حد �أن يحيط علما بهذه املغامرة ال�سخيفة.. القدي�س �أنطوان :ال.
ال�سيد � آ�شيل� :إن جواهر العمة مو�ضوعة فوق املدف�أة. الطبيب (يج�س جبينه ور�أ�سه) وهنا؟ �أال حت�س ب�شيء حني
ال�سيد غو�ستاف� :أعرف ذلك ،و�سوف �أكون حري�صا .ال �أخفي �أ�ضغط ب�إ�صبعي؟
عنك كوين غري واثق (خماطبا القدي�س �أنطوان) هيا .من هنا. القدي�س �أنطوان :ال.
ادخل ،هيا .ب�رسعة �أكرث؛ لأ ننا مل نتناول غذاءنا بعد.. الطبيب :هذا جيد� .أمل ت�شعر �أبدا بالدوار؟
يدخلون جميعا �إىل الغرفة على اليمني متبوعني بالقدي�س القدي�س �أنطوان� :أبدا.
�أنطوان الذي ت�شتعل هالته بقوة الطبيب :والأ جداد� ،ألي�ست ثمة حوادث مزعجة؟ لننظر هنا.
الف�صل الثاين جيد جدا .تنف�س بعمق� .أكرث� .أكرث .هذا جيد .ما الذي ترغب
فيه يا �صديقي؟
�صالون .يف العمق �سجي على �رسير كبري جثمان الآ ن�سة القدي�س �أنطوان� :أرغب يف الدخول �إىل هذه الغرفة.
هورتن�س� .شمعدانان م�شتعالن ،غ�صن �صنوبر �إلخ ..على الطبيب :ملاذا؟
الي�سار باب ،على اليمني باب زجاجي ينفتح على احلديقة. القدي�س �أنطوان :لكي �أحيي الآ ن�سة هورتن�س.
تدخل �شخ�صيات الف�صل ال�سابق جميعها عرب الباب الواقع الطبيب� :إنها لي�ست هناك.
على الي�سار متبوعني بالقدي�س �أنطوان الذي يعني له ال�سيد القدي�س �أنطوان� :إنها هناك ،و�أنا �أراها.
غو�ستاف مو�ضع ال�رسير.. ال�سيد غو�ستاف :لن يرتاجع قيد �أمنلة.
الول
امل�شهد أ ال�سيد � آ�شيل :ما ر�أيك لو حقنته ب�إبرة؟
الطبيب :ملاذا؟
ال�سيد غو�ستاف ،القدي�س �أنطوان ،فرجيني ،ال�سيد ال�سيد � آ�شيل :لكي تنيمه ،و�سوف ن�ضعه بعدها يف ال�شارع.
� آ�شيل ،مدعو ،الطبيب ،املر�أة العجوز.. الطبيب :ال حماقات من ف�ضلكم ،ثم �إن ذلك خطري.
ال�سيد غو�ستاف :هو ذا جثمان الفقيدة العزيزة .ها �أنت ال�سيد � آ�شيل :هذا م�ؤ�سف .بيد �أننا ل�سنا معنيني بذلك ،ول�سنا
185 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ال�سعيدة.. ترى ب�أنها ميتة حقا .هل ر�ضيت الآ ن؟ اتركنا الآ ن ب�سالم.
فرجيني :بلى .بلى .يلزمنا �أن ن�صدق ذلك .مل يعد ثمة من لنخت�رص هذا االختبار .قودي ال�سيد عرب باب احلديقة.
�شك .قلت لكم ذلك جيدا� .إنه قدي�س كبري .انظروا �إليها كيف القدي�س �أنطوان� :أ�ست�سمحكم ( يتقدم �إىل و�سط الغرفة
حتيا� .إنها يانعة كوردة. ويتوقف عند حافة ال�رسير ،ثم يتوجه باخلطاب �إىل
ال�سيد غو�ستاف (يقرتب من ال�رسير ويقبل املر�أة التي عادت اجلثمان ب�صوت قوي وجهري) انه�ضي!
�إىل احلياة) :عمتي .عمتي العزيزة� .أنت �إذن! ال�سيد غو�ستاف :انتظر ،فهذا يكفي .لي�ست بنا قدرة على �أن
ال�سيد � آ�شيل (يقرتب بدوره) :و�أنا يا عمتي الطيبة .هل نتحمل كثريا عبث �شخ�ص غريب ب�أنبل م�شاعرنا� .أ�ستحلفك
عرفتني؟ �أنا � آ�شيل ،ابن �أخيك � آ�شيل.. للمرة الأ خرية..
امر�أة عجوز :و�أنا يا عمتي ال�صغرية؟ �أنا ابن �أخيك القدي�س �أنطوان� :أ�ست�سمحكم (يقرتب �أكرث من ال�رسير
ايونتني. وب�صوت قوي و� آمر) انه�ضي!
�شابة �صغرية :و�أنا يا عرابتي الغالية ،هل عرفتني؟ و�أمام ده�شة اجلميع� ،أتت املر�أة امليتة يف البدء بحركة
�أنا �صغريتك فالنتني التي �أهديتها كل �أدوات مطبخك خفيفة .فتحت عينيها قليال وفكت يديها ثم انت�صبت ببطء
الف�ضية.. و�سوت و�ضع طاقيتها وهي تنظر حولها بامتعا�ض وا�ستياء
ال�سيد غو�ستاف� :إنها تبت�سم.. ثم �أخذت تفرك بهدوء لطخة �شمع اكت�شفتها لتوها فوق
ال�سيد � آ�شيل :ال ،بل يبدو عليها اال�ستياء.. ياقة الثوب .ران للحظة �صمت كثيف ،ثم كانت فرجيني
ال�سيد غو�ستاف� :إنها تتذكرنا جميعا.. �أول من ان�سلت من و�سط اجلمع ثم رك�ضت نحو ال�رسير
ال�سيد � آ�شيل (وهو ينظر �إىل العمة وهي تفتح �شفتيها وحترك وقد �أطارت الده�شة �صوابها ثم ارمتت بني ذراعي املر�أة
�شفتيها) :انتبهوا� ..سوف تتكلم! العائدة �إىل احلياة..
فرجيني :يا �إلهي! لقد ر�أت الرب ،و�سوف تبوح لنا مبتع فرجيني � :آن�سة هورتن�س! �إنها حية .انظروا �إليها وهي تفرك
ال�سماء .اركعوا! اركعوا! لطخة ال�شمع� .إنها تبحث عن نظارتيها .ها هما .ها هما.
ال�سيد � آ�شيل :ا�سمعوا! ا�سمعوا! القدي�س �أنطوان .القدي�س �أنطوان .معجزة! معجزة! اركعوا!
امل�شهد الثاين اركعوا!
ال�سيد غو�ستاف :مهال .اخر�سي .ال تتفوهي بحماقات؛ فلي�س
الآن�سة هورتن�س ،ال�سيد غو�ستاف ،القدي�س �أنطوان، الوقت منا�سبا.
ال�سيد � آ�شيل ،فرجيني ،الطبيب ،جوزيف.. ال�سيد �أ�شيل :ال جدال فيما نراه� .إنها حتيا.
الآ ن�سة هورتن�س( :ب�صوت حاد وغا�ضب ،فيما كانت مدعو :لكن هذا غري ممكن .ما الذي فعله؟ �أي فعل �أتاه؟
تنظر �إىل القدي�س �أنطوان وقد الح االنزعاج والقرف على ال�سيد غو�ستاف :هذا غري معقول� .سوف ت�سقط جمددا.
وجهها) :من هذا ال�شخ�ص؟ من �سمح لهذا البائ�س بالدخول ال�سيد � آ�شيل :ال.ال� .أ�ؤكد لكم .انظروا كيف تتطلع �إلينا.
�إىل غرفتي؟ لقد لطخ كل ال�سجاجيد� .إىل الباب� .إىل الباب. ال�سيد غو�ستاف :ما �أفت أ� عاجزا عن الت�صديق� .أي عامل نوجد
تعلمني جيدا فرجيني �إنني �أمنع الفقراء من... فيه؟ مل تعد ثمة قوانني .ما ر�أيك �أيها الطبيب؟
القدي�س �أنطوان (رافعا يده بطريقة � آمرة)� :صه! الطييب (مت�ضايقا) :ر�أيي؟ ماذا تريدين �أن �أقول؟ هذا ال
توقفت العمة بكيفية مباغتة وملا تكمل عبارتها بعد، يعنيني يف �شيء ومل تعد يل �صلة بهذه الق�ضية .هذا عبثي
وظلت خر�ساء وعاجزة عن �إ�صدار �أي �صوت. و�شديد الب�ساطة يف � آن .و�إذا كانت حتيا؛ فهذا يعني �أنها
ال�سيد غو�ستاف (خماطبا القدي�س �أنطوان) :ينبغي �أن مل متت ،وهذا يحدث �أحيانا .لي�س يف الأ مر ما يدعو �إىل
تعذرها؛ فال علم لها بعد مبا هي مدينة لك به.لكننا على الده�شة �أو اعتباره معجزة .ومهما يكن ،ف�أنا ل�ست م�س�ؤوال.
علم بذلك .فما �أتيته لي�س يف متناول اجلميع� .أن يكون ال�سيد غو�ستاف :لكنك قلت بنف�سك �إن..
�صدفة �أو �شيئا � آخر؛ فهذا �أمر � آخر � .آه! ال علم يل ب�شيء ،وما الطبيب :قلت .قلت� .أوال ،مل �أ�ؤكد �أي �شيء ،كما �أود �أن �أثري
�أعرفه يف كل الأ حوال �إنني �سعيد جدا وفخور ب�أن �أ�شد على انتباهكم �إىل �أنني ل�ست من قرر الوفاة ،بل �إنه كانت لدي
يدك.. �شكوك جدية مل �أرغب يف �أن �أف�ضي بها �إليكم لكي ال �أمنحكم
القدي�س �أنطوان� :أرغب يف االن�رصاف .عندي مهمة. �أمال مغلوطا� .أما فيما عدا ذلك ،فلي�س فيما ح�صل ما يثبت
ال�سيد غو�ستاف � :آه! ال من ف�ضلك .لي�س بهذه الطريقة .لن �شيئا ،ومن املحتمل جدا �أن ال تعي�ش طويال.
تخرج من هنا خلو اليدين .ال علم يل مبا �سوف تعطيك �إياه ال�سيد �أ�شيل :مهما يكن ،ف�إنه ينبغي لنا �أن نعود �إىل البداهة
186 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
عمتي؛ فهذا �ش�أنها ،ولن �أت�رصف با�سمها� .أما فيما يخ�صنا ،ونقر بها جميعا؛ لأ ن احلياة ال تقدر بثمن .ومبا �أنه �أف�صح
ف�سوف �أ�ست�شري �صهري .و�أن يكون ما حدث م�صادفة �أو �شيئا عن ال مباالة جعلته عديال لنا ،ف�إنني �أت�ساءل مل ال ي�شاطرنا
� آخر؛ ف�إننا �سوف ندفع ثمن هذه امل�صادفة دون مناق�شة ،اجللو�س حول املائدة وينهي معنا غذاء قطعه مب�صادفة
�سعيدة ...ما ر�أيكم؟ ولن ت�شعر بالندم على ما �أتيت� .ألي�س كذلك يا � آ�شيل؟
ال�سيد �آ�شيل :على العك�س� .أنا على يقني من �أنك لن تندم ..غمغمة م�ؤيدة
ال�سيد غو�ستاف :ال نتمتع برثاء �شديد؛ فلدينا وفرة من البنني ال�سيد غو�ستاف :هو ذا الر�أي ال�سديد الذي ير�ضي اجلميع.
والبنات ،لكننا نعرف كيف نقر بالف�ضل لأ هله ..ينبغي �أن كان ينبغي لنا �أن نفكر فيه (خماطبا القدي�س �أنطوان) ما
تعرتف ـ على الأ قل حفاظا على �رشف العائلة ـ ب�أنه ال ر�أيك؟ يكفي �أن نرتا�ص قليال لكي نرتب لك مكانا �صغريا.
قدرة لنا على القول �إن غريبا �أو جمهوال و�إن يكن فقريا قد مكان ال�رشف! لقد انتظر احلجل طويال وال بد �أنه قد برد،
�أ�سدى لنا �صنيعا دون �أن ي�ستحق مكاف�أة تراعي مواردنا لكن ال يهم؛ ف�شهيتنا طيبة .اتفقنا ،ولن تكون ثمة طقو�س؛
التي �أكرر �أنها حمدودة ،و�أن ال نت�أخر يف الوفاء بها � .آه! فنحن �أنا�س طيبون وغري تياهني كما ترى..
�أعرف �أن �صنيعك من النوع الذي يعلو على �أية مكاف�أة .ملن القدي�س �أنطوان :ال بكل ت�أكيد .ا�سمحوا يل ،وال �أ�ستطيع بكل
تقول ذلك؟ �أعرف ،فال تقاطعني ،لكن ذلك لي�س ذريعة كي �أ�سف� .إنهم ينتظرونني..
ال نفعل �شيئا .ما الذي تريده؟ وما تقديرك مل�ستحقاتك؟ لن ال�سيد غو�ستاف :لن ترف�ض دعوتنا ،ثم من الذي ينتظرك؟
القدي�س �أنطوان :ميت � آخر.. ت�س�ألنا جباال؛ لأ ننا ال ن�ستطيع ذلك.
ال�سيد � آ�شيل� :صهري على �صواب .لكن يف انتظار ح�صول ال�سيد غو�ستاف :ميت! ميت � آخر! لن يحدث ذلك � .آمل �أن ال
اتفاق بيننا ،لدي اقرتاح لن يلزمك يف �شيء ،وهو �أن جنمع ت�ؤثر علينا ميتا .تتخلى عنا من �أجل ميت!
ال�سيد � آ�شيل :ال� .إنني �أدرك مق�صوده .لعلك تف�ضل رمبا بع�ض املال ،وميكنك �أن تطلب ما ت�ستحقه ب�رسعة..
القدي�س �أنطوان� :أرغب يف االن�رصاف الرتباطي مبهمة يف النزول �إىل املطبخ� .سوف ت�شعر رمبا هناك براحة �أكرب.
ال�سيد غو�ستاف :ميكنه �أن يعاود ال�صعود لتناول القهوة. مكان � آخر.
ال�سيد غو�ستاف:مهمة يف مكان � آخر؟ �أية مهمة ميكنها �أن ال�سيد �أ�شيل :هه! �إنه غري ممتنع ،ويبدو �أنه ي�ؤثر هذا االقرتاح.
ت�شغلك؟ ال .هذا غري ممكن والئق .ما الذي �سوف يقوله النا�س �إنني �أفهم .فرجيني! اتركي �سيدتك؛ فلم تعد بحاجة �إىل
عنا �إذا �سمعوا ب�أننا تركنا من �أعاد �إلينا فقيدتنا العزيزة خدماتك ورافقي ال�سيد وعرفيه على ف�ضائك ال�صغري� .سوف
يذهب هكذا؟ �إذا كنت ال ترغب يف �شيء ،و�أنا �أفهم لباقتك ي�أكل من كل الأ �صناف ،هه! �أعتقد �أنكما لن تت�ضايقا من
و�أقر بها ،فال �أقل من �أن تر�ضينا بقبول تذكار �صغري� .أوه! بع�ضكما البع�ض (يقرتب من القدي�س ويربت على كتفه
لي�س �شيئا ذا بال ،ال تخ�ش �شيئا :علبة �سيجار ،دبو�س لربطة وبطنه مبودة) �أح�سنت الإ دراك� ،ألي�س كذلك؟ اذهب �أيها
العنق� ،أو غليونا م�صنوعا من زبد البحر ننق�ش عليه جميعا العجوز املاكر! � آه ،يا لك من عجوز ماكر!
فرجيني (بارتياع)� :سيدي؟ ا�سمك وعنوانك وتاريخ ميالدك..
ال�سيد غو�ستاف :ما الذي يحدث؟ أن.. � أ�ستطيع القدي�س �أنطوان :ال� .شكرا ،ال �
فرجيني :ال علم يل مبا يحدث ،لكن الآ ن�سة فقدت القدرة ال�سيد غو�ستاف� :أ�أنت جاد؟
على الكالم.. تت�صور.. القدي�س �أنطوان� :أكرث مما
ال�سيد � آ�شيل (وهو يخرج علبة �سيجاره) :على �أية حال ،ال�سيد غو�ستاف :كيف؟ هل فقدت القدرة على الكالم؟
�سوف يكون من دواعي �رسورنا �أن ندخن معا �سيجارا .هذا فرجيني :ال يا �سيدي .انظر� .إنها تفتح فمها وحترك �شفتيها
وت�شري بيديها ،لكن ،مل يعد لها �صوت.. رجاء لن ي�سعك رف�ضه..
ال�سيد غو�ستاف :ما الذي يحدث لك يا عمتي؟ هل ترغبني القدي�س �أنطوان� :شكرا ،لكنني ال �أدخن..
يف �أن تقويل �شيئا؟ (ت�شري داللة الإ يجاب) وال ت�ستطيعني؟ أن � ينبغي إذن؟ � تريده، ال�سيد غو�ستاف :هذا حمبط .ما الذي
تكون لك رغبة ما .يكفي �أن تتكلم؛ لأ ن كل ما يف املنزل هيا! ابذيل بع�ض اجلهد؛ فلي�س الأ مر �سوى �شلل عار�ض .ما
ملك لك .وكل ما فيه ملك ميينك ،ولي�س يف م�ستطاعنا �أن بك؟ ما الذي ترغبني فيه؟ (خماطبا القدي�س �أنطوان) ما
نقول �أف�ضل مما قلناه �أو على الأ قل ما ي�سعنا قوله ب�أمانة .قولك فيما يحدث؟
القدي�س �أنطوان :لن تتكلم �أبدا. غري �أنك ت�سيء �إلينا بان�رصافك بهذه الطريقة..
ال�سيد � آ�شيل :ا�سمعوا! لدي فكرة �أعتقد �أنها جيدة .حيث �إن ال�سيد غو�ستاف :لن تتكلم �أبدا؟ لكنها تكلمت منذ فرتة
ال�سيد يرف�ض قبول �أي �شيء ،و�أنا �أفهم �ش�أن �صهري لباقته وجيزة وقد �سمعتها ب�أذنيك ،بل �إنها قالت لك �أ�شياء غري
187 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
بب�ساطة �أن هذا ال�شخ�ص ميتلك قوة ع�صبية عجيبة ،و�أنه م�ستحبة..
يبالغ يف ا�ستخدامها لكي يتيح لنف�سه مزحات قد تكون القدي�س �أنطوان :كان ذلك ن�سيانا من جانبي ..لن ي�سمع لها
هامة ،لكنها غري مالئمة للظرف الع�صيب الذي نوجد فيه. �صوت بعد الآ ن..
لقد جاء يف الوقت املنا�سب ،وهذا كل ما يف الأ مر .ومن ال�سيد غو�ستاف� :أال ميكنك �أن تعيده لها؟
املحتمل جدا �إن مل يكن موجودا هنا �أن �أكون �أنا �أو �أي واحد القدي�س �أنطوان :ال.
منكم ال�سبب يف حدوه هذه املعجزة ما دمنا نعني بها... ال�سيد غو�ستاف :ومتى يعود لها �صوتها؟
ال�سيد غو�ستاف :ما الذي ينبغي علينا �أن نعمله؟ القدي�س �أنطوان :لن يعود مطلقا..
الطبيب� :أن مننعه من الإ زعاج ب�أن ن�ضعه يف مو�ضع � آمن؛ ال�سيد غو�ستاف :كيف؟ هل �ستبقى خر�ساء �إىل � آخر �أيامها؟
لأ نه �شخ�ص خطري.. القدي�س �أنطوان :نعم.
ال�سيد غو�ستاف :هذا �صحيح ،وقد حان الوقت لكي ننتهي ال�سيد غو�ستاف :ملاذا؟
من هذه املهزلة .لقد �ضقت ذرعا بها (يرفع �صوته بالنداء) القدي�س �أنطوان :لقد ر�أت �أ�رسارا عجيبة ال ي�سعها البوح
جوزيف! بها.
جوزيف� :سيدي؟ ال�سيد غو�ستاف� :أ�رسار! �أية �أ�رسار؟
ال�سيد غو�ستاف :ارك�ض �إىل مقر ال�رشطة يف �أق�صى ال�شارع القدي�س �أنطوان� :أ�رسار من عامل الأ موات.
و�أح�رض معك �رشطيني واحر�ص على �أن يحمال معهما ال�سيد غو�ستاف :من عامل الأ موات؟ ما هاته املزحة
الأ �صفاد .يتعلق الأ مر ب�شخ�ص خطري وقادر على فعل �أي اجلديدة؟ ماذا تظننا؟ ال يا �صغريي ،لن جتري الأ مور
�شيء ،وقد برهن على ذلك جيدا. هكذا! لقد تكلمت ،وقد �سمعناها وكلنا �شهود على ذلك .لقد
جوزيف :حا�رض �سيدي.. منعتها من الكالم بخبث ولغر�ض بد�أت �أتلم�سه الآ ن� .سوف
يخرج راك�ضا تعيد �إليها �صوتها يف التو واللحظة و�إال..
القدي�س �أنطوان� :أطلب منكم الإ ذن باالن�سحاب.. ال�سيد �أ�شيل :مل يكن من ال�رضوري �أن تعيد �إليها احلياة
ال�سيد غو�ستاف :نعم يا عزيزي .تظاهر بالغباء؛ فالوقت لكي ترتكها وهي بهاته احلالة..
منا�سب .نعم� ،سوف تتمكن من االن�سحاب ،و�سوف تكون ال�سيد غو�ستاف� :إذا مل تكن قادرا على �أن تعيدها لنا كاملة
م�شفوعا مبوكب رائع وموقر ..انتظر! كما كانت قبل تدخلك ال�صفيق ،فما كان يحق لك �أن تقحم
ال�سيد � آ�شيل :نعم يا �صديقي ،لن ت�شعر ب�أي �ضيق ،و�سوف نف�سك..
توا�صل مزحاتك ال�صغرية والإ ف�صاح عن طاقاتك يف مكان ال�سيد �أ�شيل :هذا فعل �سيء..
�أكرث روعة ولي�س �أقل متيزا ويدعى مقر املخفر .هل تعلم ما ال�سيد غو�ستاف :وخيانة للثقة..
يعنيه ممر التبغ؟ ال�سيد �أ�شيل :خيانة للثقة .هذا هو ال�صواب ،ولن نغفر لك..
القدي�س �أنطوان :التبغ .ال� ،شكرا ،لكنني ال �أدخن مطلقا... ال�سيد غو�ستاف :لعلك ت�أمل �أن تبتزنا..
ال�سيد �أ�شيل :ح�سنا ال�سيد �أ�شيل :من الذي رجاك �أن ت�أتي؟ من املحزن �أن �أقول
�سوف تعلم .والآ ن� ،إليك هذه الن�صيحة .حني ي�أتي ه�ؤالء ذلك ،لكنني كنت �أف�ضل �أن �أراها ميتة على �أن �أجدها يف
ال�سادة الذين �سوف ي�رشفونك مبرافقتك� ..أعتقد �أنني �أ�سمع هذه احلالة .هذا �سلوك مفرط يف الق�سوة والإ يالم بالن�سبة
وقع خطواتهم اخلفيفة واملن�سجمة ..لقد و�صلوا! ملن يحبونها .ال يحق لك �أن ت�أتي هكذا بذريعة املعجزة كي
امل�شهد الثالث تزعج �أنا�سا مل يلحقوا بك �أي �أذى ،وتزرع امل�صيبة � .آه! كننا
�سوف نرى من �سوف ي�ضحك يف النهاية..
يدخل جوزيف ويف �أثره مفت�ش وعون �رشطة.. الطبيب :ا�سمحوا يل ..الهدوء من ف�ضلكم ..لقد �أ�ساء هذا الرجل
مفت�ش ال�رشطة (م�شريا �إىل القدي�س �أنطوان) :هل هذا هو الت�رصف بكيفية ال تقبل اجلدل ،لكن ال ي�سعنا م�ؤاخذته؛ �إذ
ال�شخ�ص الغريب الذي ارتكب اجلرمية؟ من املحتمل �أنه غري م�س�ؤول (يقرتب من القدي�س �أنطوان)
ال�سيد غو�ستاف :متاما.. دعني �أفح�ص عينيك �أيها ال�صديق .جيد ،هذا ما كنت �أعلمه.
مفت�ش ال�رشطة (وا�ضعا يده على القدي�س �أنطوان)� :أوراق مل �أتدخل حني كان اجلميع ي�شكره بحرارة على معجزة بعث
هويتك؟ احلياة لكي ال �أبدو كاملتطفل على ما ال يعنيني .كنت �أعلم
القدي�س �أنطوان� :أية �أوراق؟ بحقيقة ما يحدث ،وها �أنتم ترون مثلي �أنها مل تكن ميتة.
مفت�ش ال�رشطة� :ألي�ست عندك �أوراق؟ كنت مت�أكدا من ذلك.. لي�س يف الأ مر ما هو فوق طبيعي �أو �رس عجيب ،واحلكاية
188 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
ميتة ،وحني ر�ؤيتها بغتة لهذا ال�شخ�ص ذي ال�سحنة ال�سيئة ما ا�سمك؟
داخل غرفتها ،ا�ستيقظت و�رشعت يف ال�رصاخ عليه بحدة القدي�س �أنطوان :القدي�س �أنطوان..
و�شجاعة .ولكي ينتقم خليبته ،عمد ول�ست �أدري كيف ،لأ ن مفت�ش ال�رشطة :قدي�س ماذا؟ القدي�س �أنطوان؟ لي�س هذا
الطبيب هو من �سيتكلف بال�رشح� ،إىل �إفقادها القدرة على با�سم �شخ�ص م�سيحي� .أريد الآ خر ،احلقيقي..
الكالم .وهو يرف�ض رغم �إحلاحنا يف الرجاء �أن يعيده �إليها، القدي�س �أنطوان (برقة �شديدة) :لي�س عندي ا�سم � آخر..
وذلك يف حماولة طبيعية لالبتزاز .الحظ �أنني ال �أتهم و�إمنا مفت�ش ال�رشطة :لنكن م�ؤدبني� ،ألي�س كذلك؟ �أين �رسقت ثوب
�أ�ستنتج فقط� .أما فيما يخ�ص البقية فعليك ب�س�ؤال الطبيب.. النوم هذا؟
الطبيب� :سوف �أقدم بني يدي عميد ال�رشطة كل التف�سريات القدي�س �أنطوان :مل �أ�رسقه� .إنه ملكي..
ال�رضورية ،و�سوف �أكتب تقريرا �إذا رغبتم يف ذلك.. مفت�ش ال�رشطة� :أنا الذي �أكذب� ،إذن؟ هكذا� ،ألي�س كذلك؟ قل
ال�سيد �أ�شيل� :أود �أن �أقرر يف انتظار ذلك �أن لي�س ثمة من وال تنزعج..
خط�أ .فالرجل حمتال و�رشير �أو جمنون ،ورمبا كان االثنني القدي�س �أنطوان :ال �أعرف� .أعتقد رمبا �أنك خمطئ..
يف � آن ،وهو يف كل الأ حوال �شخ�ص خطري ينبغي الزج به مفت�ش ال�رشطة� :إنني �أ�سجل وقاحاتك اجل�سورة .من �أين
يف مكان � آمن.. �أنت؟
مفت�ش ال�رشطة :هذا م�سلم به ،و�سوف نخل�صكم من كل هذا. القدي�س �أنطوان :من بادو..
رابوفو؟ مفت�ش ال�رشطة :بادو؟ ما هذا؟ �أين توجد؟ ويف �أية �شعبة؟
ال�رشطي :حا�رض �أيها املفت�ش.. القدي�س �أنطوان ،يف �إيطاليا..
مفت�ش ال�رشطة :الأ �صفاد؟ مفت�ش ال�رشطة� :أعرف ،لكنني �أجتاهل لكي �أحمله على
ال�سيد غو�ستاف� :أيها ال�سادة ،لقد جت�شمتم الكثري من العناء الكالم � .آه! �أنت �إيطايل؟ كنت �أ�شك يف ذلك .من �أين �أتيت؟
برحابة �صدر ،و�سيكون من بالغ �رسورنا �أن تتف�ضلوا قبل القدي�س �أنطوان :من اجلنة..
مغادرتكم مب�شاركتنا تناول ك�أ�س من ال�رشاب.. مفت�ش ال�رشطة� :أية جنة؟ �أين يوجد �إذن الأ �رشار فوق هاته
مفت�ش ال�رشطة :ال يتعلق الأ مر ب�أي رف�ض� ،ألي�س كذلك يا الأ ر�ض؟
رابوفو؟ خ�صو�صا و�أن رجلنا لي�س مت�ساهال.. القدي�س �أنطوان� :إنها املكان الذي ت�صعد �إليه الأ رواح
ال�سيد غو�ستاف :جوزيف� ..أح�رض قنينة وك�ؤو�سا (يخرج املخل�صة بعد املمات؟
جوزيف) �سوف نفرغ ك�ؤو�سنا يف وقت واحد متمنني ال�شفاء مفت�ش ال�رشطة � :آه! جيد جدا� .إنني �أفهم؛ فال�سيد يتخابث
لعمتي.. ويعبث بي .وبعد الوقاحات ،ي�أتي ال�سيد ليمار�س
مفت�ش ال�رشطة :ال �أرى ب�أ�سا �إذا لبثنا معكم بع�ض الوقت.. الروحانيات .ح�سنا .ق�ضيتك وا�ضحة ولن ت�أخذ كثريا من
ال�سيد غو�ستاف� :أما زالت ال�سماء متطر؟ الوقت .وبعد ،هل لك �أن حتيطنا مبا ال نعلمه؟ ما الذي
مفت�ش ال�رشطة :طوفان! مل �أعد �أن عربت ال�شارع ،لكن انظر �رسقته؟
معطفي.. ال�سيد غو�ستاف� :أن يكون قد �رسق ،فهذا ما ال جر�أة يل بعد
ال�رشطي :ال نعرف �إن كان املاء �أو الثلج ،لكن يقينا �إنه على ت�أكيده ،وال وقت يل لكي �أقوم باجلرد ،كما �أنني ال
الأ �سو�أ.. �أحب �أن �أت�رسع يف االتهام ،وينبغي للمرء قبل كل �شيء �أن
يدخل جوزيف حامال �صينية ويوزع الك�ؤو�س تباعا يت�سمت العدل .غري �أن ما فعله �أكرث ج�سامة..
على احلا�رضين.. مفت�ش ال�رشطة :كنت مت�أكدا..
مفت�ش ال�رشطة (يرفع ك�أ�سه)� :سيداتي �سادتي ،نخبكم! ال�سيد غو�ستاف :هل تعلم بامل�صيبة التي �أملت بنا؟ بينما
ال�سيد غو�ستاف (يقرع ك�أ�سه بك�أ�س املفت�ش) :نخبك! (يقرع كنا نبكي فقيدتنا الغالية وننهي طعام الغداء ان�سل هذا
اجلميع ك�ؤو�سهم بك�أ�س املفت�ش) مرة �أخرى؟ الرجل �إىل منزلنا بذريعة ما وملقا�صد ال تخفى على
مفت�ش ال�رشطة :بكل امتنان (يتلمظ) �إنه �رشاب لذيذ! اللبيب .وقد ا�ستغل بب�ساطة اخلادمة و�سذاجتها لكي تفتح
القدي�س �أنطوان� :أنا ظم�آن� ..أرغب يف ك�أ�س ماء.. له باب الغرفة حيث كان ي�سجى اجلثمان .كان ي�أمل
مفت�ش ال�رشطة (مقهقها) :ك�أ�س ماء؟ غري معقول .هل بداهة ا�ستغالل الفو�ضى والأ مل الناجتني عن امل�صيبة لكي
ت�سمعون هذا الع�صفور؟ �سوف يكون لك ما تريد ،فانتظر يا ي�صطاد يف املاء العكر وينجز عملية رابحة .رمبا عرف
�صغريي �إىل �أن نخرج ،و�سوف تتلقاه يف فمك �ساخنا .هيا. بو�ساطة �رشيك له ب�أن جموهرات العمة و�أوانيها الف�ضية
كفانا تلك�ؤا .رابوفو� ،إيل بالأ �صفاد ،و�أنت مد يديك.. مر�صو�صة فوق املدف�أة .ومن �سوء حظه �أن العمة مل تكن
189 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
s
s
s
رجعتني لي�ش؟؟؟� ،أنت �أكرت واحد بيعرف �أنو قراراتي (تنظرال�سيدة ناحية الرجل الذي يتجاهلها ،طبعا
دائما فا�شلة جتاهك (هو مي�سك �سيجارة وي�شعلها) ما طوال احلوار ال�سابق ومازالت الأ غنية م�ستمرة)
بقدر بعّد عنك ،كل مرة كنت �أتركك فيها كنت �أدعي -هي( :ب�صوت غري �صوتها) واهلل العظيم بحبك،
اهلل �أنك ما تعود حتاكيني حتى طيب منك لأ نك مر�ض (ت�ضحك) �أنت مو �شاطر �إال بهالكلمة� ،شو بتعرف عن
� ,أنت �رسطان عم يتغلغل فيي �شوي �شوي .اطمن خل�ص احلب ،عن الإ خال�ص عن الإ حرتام ،بتعرف ب�س كلمة :
�سيطرت على كل �شي فيني �رصت هون هون هون بحبك.واهلل كرت خريك لأ نك بتحبني ،ن�سيت �أين �شخ�ص
هون(م�شرية لأ ماكن خمتلفة من ج�سدها) لك �رصت ما بينطاق مئت ونكدي ،ما �أنت النكد بعينه
بدمي بروحي �شو بدك �أكرت من هيك� .شوبدك (ت�سكت فج�أة لأ نها تالحظ حركة من الرجل
الذي مي�سك جريدة كانت مو�ضوعة على الطاولة (يعلو �صوت البكاء ،يطفي ال�سيد �سيجارته ويغري
بجنبه ،يبد�أ ت�صفحها ,ت�سكت ال�سيدة لثوان ثم من جل�سته موجها �أنظاره نحوها).
تنفجر منها �ضحكة ه�ستريية� ،أما هو فال يبدي -هي :احلمد هلل �أخريا عم بتمتعني بجمال عيونك
حبيبي ،ي�ؤبروين هالعيون �شو بحنب ،جاوبني قلي �أي حركة)
�شو احلل ؟ �شو الزم نعمل ؟ -هي :م�سكت اجلريدة خري �إن �شا اهلل� .....شو حبيبي
-هو .....: خايف يكون راح عليك �شي تظاهرة ثقافية� ،أو �شي
-هي :مابتعرف ؟! �أكيد و�إال كنت لقيت حل من مادة نقدية!!!؟ حابب تقرا طيب مو غلط ب�س الغلط �أنك
زمان( .ت�سكت لثوانٍ ناظرة �إليه) ....بحبك كتري مع كل هالثقافة يلي حاملها وبتنظّ ر فيها ناح النا�س
ب�س واهلل تعبت تعبت منك ومعك وحتى بدونك� ،شو مو �أدران حتل م�شاكلك مع مرتك.
ياعمري حاكيني.
(ال�سيد يقلب اجلريدة ل�صفحة �أخرى)
-هو......:
-هي :حط هاجلريدة من �إيدك وحاجة م�سخرة ,رد
(يعود ال�سيد جلل�سته ال�سابقة ليتابع �رشوده يف
خلينا نالقي حل ،خلي حياتنا تهدى لك رد �,شو بدك
العدم)
يعني �أين �ضب غرا�ضي متل كل مرة و�أحمل حايل
و�أم�شي وجتي بعد يومني ت�صاحلني،حبيبي بحب �ألك -هي :ب.....
�أنو هاحلل انتهى مفعوله ،خل�ص و�أته وما عاد منه (ت�سكت ،تقف تخلع معطفها،ت�ضب �شعرها
فائدة(.هدوء) اهلل يخليك رد طيب ع الأ ليل اطلع فيني امل�شلوح على كتفيها ،ت�شعل �سيجارة وجتل�س
من جديد) حتى ح�س �أنك عم ت�سمعني.
-هي :ياهلل �أدي�ش كنت مب�سوطة �أول ما تعرفت عليك، (تبد�أ بالبكاء املر الهادىء)
كانت الدنية كلها مو و�سعانتني ،كنت وقت حتاكيني -هي :نف�س امل�شاكل الدائمة وال مرة خل�صنا منها،
�أو �شوفك ما بعرف �شو بي�رصيل ،.....،وحبيتك وظليت �رصت �أكره �أطلع معك من البيت� ،أكره نقابل حدا
عم حبك ع �أد ما يف حب بقلوب النا�س ،كل يلي �أو يجي حدا لعنا ،وامل�شكلة �أين ما عاد �أدرت �ضل
حوليي كانوا يخانقوين ويلوموين من عالقتي معك بالبيت وجي بوجك طول الوقت واهلل حاولت بكل
ومن كل احلب يلي عم حبك ياه ،نبهوين كتيري �أنو احللول ب�س ما عم القي حل معك ،لك �شو بدك مني
هالعالقة لح تكون نهايتي �إذا ما ترويت وهديت ،ما لي�ش تزوجتني.
رديت ع حدا وظليت حبك ،وحبك حلد ما تخليت عن
الكل �أهلي رفقاتي ا�ساتذتي �شغلي �شهادتي تخليت (تبد�أ بال�رصاخ)
عن كل �شي كرمالك ،درت ظهري وما همني �إال �أنت -هي :لي�ش ما تركتني روح �أخر مرة!!!؟ لي�ش
192 نزوى العدد / 61يناير 2010
م�سرح ..م�سرح ..م�سرح
s
s
s
-هي :ال�،شويف� ،شبك ،لي�ش وقعت� ،أكيد عم متزح، و�أين معك ،وهلق �شوف لوين و�صلت �شوي تانية بروح
ال جتنني ،خل�ص ما منتطلق �أ�صال ما بقدر ب�س كنت ع م�شفى املجنني من عمايلك وال مباالتك جتاهي
عم ا�ستفزك لتحكي ،ال حتكي ب�س اهلل يخليك فتح وجتاه عالقتنا.
عيونك ،خل�ص ب�سكت ما عاد �أحكي ،حبيبي ياهلل (تنظر ل�سيجارتها والرماد الذي مازال متما�سكا،
قوم ،قووووووووووووم،ال ترتكني ،ال ترتكني حلايل، تطفئ ال�سيجارة مت�سح دموعها املنهمرة بكرثة،
ال �أنت ما متت� ،أنت معي ،ما بقدر كون بالك� ،أنت تخلع حذاءها وترميه ،تتدىل قليال على كر�سيها،
كل �شي عندي� ،أنت �أنا ،ياعمري قووم ما فيك متوت تبت�سم ابت�سامات متقطعة ،تنظر للرجل املرتاخي
بدوين �أنت وعدتني منوت �سوا ،حاكيني ،ال حتاكيني اجل�سم والأ طراف ،تدير وجهها ،مت�سك مبر�أة
ب�س فتح عيونك مو�ضوعة �أمامها ت�شد جتاعيد وجهها القليلة
الظاهرة ومت�سح مكياجها الذي �سال نتيجة (ت�ضمه �إىل �صدرها)
البكاء)
-هي �:أخخخخخخخخخ يا قلبي ما بدي �شي غري
تكون معي � ،آ�سفة ما كان بدي نتخانق ب�س �أنت -هي :وجي دبل متل هالوردات ،ما عاد فيه روح
جربتني ا�ستفزيتني معها مع �أنك بتعرف �أين بغار وال رونق
منها ،حاولت ما �أحكي وما قلك �شي ب�س ما تركتلي ( يف هذه الأ ثناء يقوم الرجل بحركات ت�شنجية
جمال ،كنت مو �شايف حدا غريها ،حتى رفقاتك بطيئة ويحل ربطة عنقه قليال ،يهم بالكالم �إال
الحظوا ،ورغم هال�شي ما حكيت ب�س نزلت مني �أنه ال ينبذ ببنت �شفه يعاود جل�سته املتهدلة،ثم
دمعة وم�سحتها �شو ذنبي �إذا هنن نبهوك �شو ذنبي يغم�ض عينيه)
�إذا بهدلوك .لي�ش �رصخت فيني م�سكتني من �إيدي
وجريتني ع البيت ،حبيبي عميل �شو ما بدك روح ( ال�سيدة و�أثناء نظرها يف املر� آة)
معها حبها،خوين �سهار رقو�ص،عميل �أي �شي ب�س -هي :بتعرف وال مرة كنت جدية بهالقرار متل هلق
فتح عيونك،عم قلك فتح عيونك� ،أنت عاي�ش ،ما لحنحن الزم نتطلق ( ت�ضع املر�أة جانبا وتنظر �إليه)الزم
�أ�سمحلك متوت ما بدييييي ،ما فيك تروح ملني بدك
ننهي هالق�صة ننهيها متاما مو ناخد فرتة ا�سرتاحة
ترتكني مع مني .بدونك �أنا مو �أنا ،يا عمري.
وال نعيد التفكري باملو�ضوع ،الزم نتطلق� ،إذا بت�سمح
فتح عيونك عم حاكيك مبوت عالقتنا و�أنت مغم�ض تخفت اال�ضاءة لتتحول لبقعة �ضوء على املر�أة
عيونك .فتح عيونك من �شان اهلل فتحن من�شان احلب والرجل.
(ت�ضع ر�أ�سها على ر�أ�سه مت�سح �شعره ،تبكي، يلي جمعنا.
(تهجم عليه وجتل�س على الأ ر�ض عند قدميه تقبله ،متابعة قول :بحبك التروح ،فتح عيونك،
حبيبي ) ت�ضع يديها على رجليه وتخبطه �صارخة)
�إعتام -هي :فتح عيونك حاكيني
(يف هذه اللحظة يتداعى ج�سد الرجل لي�سقط
مالحظات :
عن الكر�سي �إىل الأ ر�ض)
هناك مقطوعات غنائية ومو�سيقية يتم اختيارها وادخالها
عند مقاطع خمتلفة من احلوار ،وهذه املقطوعات تخدم العمل (ت�سكت هي لثوان حتاول ا�ستيعاب ما حدث وتبد�أ
وت�ساهم يف ت�صعيد احلالة احلوارية ال�صادرة من �شخ�ص بال�رصاخ امل�صحوب بالعويل،مت�سك بالرجل،
واحد. حتاول �إيقاظه)
193 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما
194
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
�إن فيلم بول توما�س �أندر�س «�سوف ت�سفك دماء» م�أخوذ ب�شكل جزئي عن رواية �أبتم �سنكلري «برتول»
.1927حيث جند املخرج يظهر نهج ًا وان�ضباط ًا جديدين دون �أن يتخلى عن مقايي�سه الفنية .وي�ستطيع
املرء �أن يح�س هذا مبا�رشة منذ اللقطة الأ وىل التي تظهر تالل كاليفورنيا �سنة 1898حتت �سماء زرقاء
بلورية ويتدفق مبا�رشة �رشيط �صوت كالفي�ضان فيثري يف امل�شاهد �شعوراً بالرهبة والتوقع.
وقد كان لتعاون �أندر�سن مع مدير ت�صويره ال�سينمائي روبرت ال�سويت �أثره الكبري يف حتقيق اجلو
والإ طار واخللفية املنا�سبة ملو�ضوع الفيلم وقد نال ال�سويت جائزة الأ و�سكار عن عمله هذا حيث انه
�أبدع يف ت�صوير املكان بكل تفا�صيله وات�ساعه وكذلك ت�صوير النريان امل�شتعلة خلف بالينفيو .والرمزية
-يف لقطة للغيوم ال�سماوية التي تنعك�س يف بركة النفط � ..إلخ .وغريه من ا�ستخدام للكامريا ا�ستخدام ًا
فني ًا يدخلها يف �صلب الأ حداث ويعك�س من خاللها روح ًا حيّه تنبثق منها �سواء لتعك�س الروح الدينية
�أو لتعك�س الروح ال�رشيرة عندما تتدفق خارج �أج�ساد امل�ؤمنني .ولقد كان لل�صورة دور كبري يف ت�أكيد
املعنى الكلي للفيلم من حيث انه حرب �أعلنت عرب الأ ر�ض الأ مريكية يف القرن الع�رشين لتظهر �أي دين
�سي�صبح الدين الأ مريكي ,امل�سيحية �أم الر�أ�سمالية.
�إن �شخ�صية بالينفيو امللحمية والتي ج�سدها دانيال داي لوي�س مبهارة ا�ستحوذت على كل من �شاهده،
وبقيت كل لقطة وكل م�شهد يف الذاكرة وك�أنه �إن�سان عاي�شناه �أعوام ًا و�أعوام وا�صبح جزءاً من ذاكرتنا.
فهو ال �شك كان �أكرب من �إطار �أية لقطة فخرج منها لأ نها ال ت�ستطيع ا�ستيعابه وحتول �إىل عمالق مهيمن
على الفيلم وامل�شاهد.
�إن عمل بول توما�س �أندر�سن �إ�ضافة حقيقية للفن ال�سينمائي.
تتمة العدد ال�سابق
195
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
املعلمة :لقد جئت م�سافة طويلة ألنك طلبتني �شخ�صيا ً وقد قطع �إىل:
اقرتح ال�سيد برودي �أن .... داخلي .مكتب دانيال/املخيم الرئي�سي .يوم �آخر.
دانيال :لقد انتهى هذا ا ألمر� .سي�أخذك �أحدهم �إىل �سان يجل�س دانيال مع امر�أة ،معلمة/م�رشفة تدعى فاين كالرك (يف
فران�سي�سكو� ،إذا مل تقبلي عر�ضي ف�أنا ا�ضيّع وقتي معك - � )30أح�رضت لتتكلم مع دانيال حول م�ساعدة هـ.و..
لدي عمل .لدي عمل مهم. ن�سمع خالل امل�شهد كله كل ا أل�صوات من اخلارج ،حفر ،رجال،
قطع �إىل: الخ.
داخلي .خزان عمالق قيد الت�شييد -نهار ًا املعلمة :هل ب�إمكانه القراءة.
يقف دانيال ،فلت�رش واجلميع داخل خزان عمالق يف منت�صف دانيال - :كال-
مرحلة بنائه .ا ألر�ض متدرّجه وم�سطحة لت�شكل �ساحة مدّرج املعلمة :هل يعرف ب�ضع كلمات؟ ليقر� أ -هل هنالك كلمات
قطرها 400قدم وعمقها 30قدماً .لقد حفرت ا ألر�ض ليجعلو ميكن متييزها؟
منها مكانا ً لتخزين النفط. دانيال :ال �أدري.
يعيد دانيال النظر �إليها مع فلت�رش وا ألوالد .عرب الطريق نحو املعلمة :هل ذهب �إىل املدر�سة.
اخلزان يتقدّم �إيلي �صنداي. دانيال� :إنه �أذكى من �أي طفل ر�أيته يف حياتك؟
يخطو الطريق الطويل ويتجه نحو دانيال ويقول: املعلمة :ت�سهيالتنا -
�إيلي :متى نح�صل على �أموالنا ،يا دانيال؟ دانيال :ال �أريده ان يذهب ألي مكان� ،أريدك �أنت ان ت�أتي �إىل
ينظر دانيال نحوه .ي�سري مبحاذاته وي�صفع �إيلي مبا�رشة على هنا.
وجهه .يتج ّمد �إيلي يف مكانه( .للتذكرة� :إيلي يف 15من العمر) املعلمة :املدر�سة التي منلكها تخ�ص �أوالد �آخرين وهي �ستكون
ي�صفعه ثانية ،بيد مفتوحه .مبا�رشة على الوجه .ت�سيل دموعه مكان جيد جدا ً له .ميكنه ان يكون مع باقي ا ألطفال ولدينا
وهو ي�رصخ من قوة هذه ال�صفعة الوح�شية. �ستة معلمني �آخرين.
تو ّقف. دانيال :ب�إمكاين ان �أبني مدر�سة هنا و�ستتمكنني من �إح�ضار
كل �شيء جامد مكانه لربهة من الزمن .ي�صفعه ثانية .يرتاجع باقي ا ألوالد �إىل هنا � -أعر�ض عليك بناء مدر�سة على اي �شكل
�إيلي �إىل الوراء ،ويركع على قدميه. تريدينه.
دانيال :ال�ست من ي�شفي املر�ضى ور�سول الروح القد�س؟ املعلمة :نعم ،ولكن ه�ؤالء ا ألوالد لديهم عائالت يف �سان
متى �ست�أتي وتعيد ال�سمع �إىل �إبني؟ اال ت�ستطيع فعل ذلك؟ فران�سي�سكو.
�إيلي :كان عليك �أن ترتكني �أبارك البئر ،لو فعلت ذلك ملا حدث دانيال� :سنح�رض عائالتهم .ب�إمكاننا بناء �أح�سن مدر�سة يف
هذا له - هذه الوالية .يقولون �أنك �أح�سن معلمة يف هذه البالد� .إذا ً ملاذا
ي�صفع �إيلي مرة ثانية ،مبا�رشة على وجهه. ال تكون لك مدر�ستك اخلا�صة؟
�إيلي :ما كان لك �أن تفعل ذلك - - املعلمة� :أنا �أ�سكن يف �سان فران�سي�سكو.
ي�صفعه مرة ثانية .اجلميع يقفون حوله �صامتني. دانيال :لي�س بعد ا آلن� .سوف �أبني مدر�سة م�ؤقته خالل �شهر من
�إيلي� :أنت مدين لكني�سة الر�ؤيا الثالثه بخم�سة �آالف دوالر كجزء الزمن ومبجرد �أن ت�صبحي �أنت هنا �سوف ن�ضع خطط ملكان
من الرتتيبات التي و�ضعناها. �أكرب يبني خالل عام من ا آلن� .سوف ادفع لك الفي دوالر يف
دانيال� :س�أجعلك ترتك هذا املكان و�أدفنك حتت ا ألر�ض ،يا ال�سنه كراتب وابني لك بيتا ً �أي�ضاً .هل يبدو هذا منا�سبا ً لك؟
�إيلي� .إبعد عن وجهي. املعلمة :كال لي�س منا�سباً .انت حمتاج إلر�سال �إبنك �إىل �سان
�إيلي� :ستتعلم الدر�س قريبا ً - فران�سي�سكو �إذا ما كنت تريده ان يتعلم كيف يتعامل مع مر�ضه.
ي�صفعه مرة ثانية .تو ّقف. هو حمتاج للذهاب �إىل املدر�سة.
�إيلي :هنالك �شيء �آخر �سي�أتيك. دانيال :نعم �أم ال؟
يغادر �إيلي .تو ّقف .ثم: املعلمة :كال ،يا �سيدي.
قطع �إىل: دانيال� :سوف اطلب منك مرة واحدة فقط.
داخلي .مزرعة �صنداي .ليالً. املعلمة :لقد فعلت ذلك .بناء املدر�سة هنا قد يكون �أف�ضل لك
تر ّكز الكامريا بلقطة مقرّبة متو�سطة على �إيلي .وجهه �أحمر ولكن ذلك لي�س اف�ضل إلبنك.
ومليء بالكدمات من �رضب دانيال له .ن�سمع �صوت خارجي دانيال :ح�سنا ً �إذا ً �أخرجي من هنا .اخرجي �سوف ار�سل من
للعائلة وهي تتناول الطعام ،جمرد حمادثة -جتل�س الكامريا ي�أخذك �إىل �سان فران�سي�سكو.
مع �إيلي فرتاقب وجهه العاب�س وهو ي�ستدير نحو �آبيل� .أخرياً: املعلمة :اال تريدين ان �أراه؟
�إيلي :انت رجل �أبله ،يا �آبيل. دانيال :كال.
196 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
انتهى هـ.و ..من �رشب احلليب ووا�ضح �إنه يف حالة نعا�س - يف املقابل ويف نف�س اللحظة ينظر �آبيل عرب املائدة نحو ابنه.
عيناه متثاقلتان ،خمدرتان ثم ي�سقط نائماً. �إيلي :لقد �سمحت لواحد ان ي�أتي ويدو�سنا جميعاً.
زاوية ،غرفة النوم. لقد �سمحت له بالدخول والقيام بعمله وانت رجل �أبله جتاه ما
حتمل ا ألم �صنداي هـ.و� ..إىل ال�رسير ت�ضعه به وتغ ّطيه كان ميكن �أن نفعل .مل يكن لديك �سوى املاعز وال�صخور بينما
باملالءة. كنا �أغنياء.
قطع �إىل: �أبيل :لقد �سمعت كالمه ،يا �إيلي -لقد حاولت -
خارجي .حارة يف الطريق .مقاطعة ايزابيلال. �إيلي :مل تفعل �شيئا ً �سوى اجللو�س� .أنت ك�سول و�أنت غبي.
دانيال يف مكان �آمن ،مظلم ،هادئ وهو راكع على ركبتيه (تو ّقف).
ور�أ�سه مدفون بني �ساقيها وقد �أم�سك بها �إىل احلائط( .تو ّقف). هل تعتقد �أن اهلل �سي�أتي �إليك هنا وينقذك من غبائك؟
ينتهي مما يفعله ثم يعطيها بع�ض املال. انه ال ينقذ ا ألغبياء ،يا �آبيل.
يرتّب �شعره ،ومي�سح العرق من على وجهه بقطعة قما�ش رثّة يدفع �إيلي املائدة �أمامه باجتاه �آبيل ،ويقرّبها منه بحيث
�أخرجها من جيبه ثم يغادر. يل�صقه يف احلائط.
تال�شي ال�ضوء ،قطع �إىل: يقفز �إيلي ،يتحرك باجتاهه .يخاف �آبيل.
خارجي .حمطة قطار/بالقرب من ليتل بو�سطن .يوم �آخر. �إيلي� :سوف �أمزقك �إىل قطعتني ب�سبب ما فعلته.
قطار و�صل لتوه والنا�س تخرج منه -كثري من النا�س اجلدد ايها الرجل الغبي .ايها الرجل الغبي ال�صغري.
/حميط جديد حول املكان -الكامريا تبقى خلف ب�شكل ظلّي ي�صفع والده على وجهه.
وهو يخطو خارج القطار. �آبيل :يا بني� ،أرجوك اوقف هذا� .أرجوك.
الكامريا تتبع هذا ال�شاب �إيلي :كيف جاء �إىل هنا؟ هل تريد �أن تعرف؟ انا �أعرف.
الغريب (يف الثالثينات) لقد ر�أيت هذا يف ر�ؤيا� .إنه ابنك الغبي� .إنه بول هو من قال له �أن
وهو ي�شق طريقه �إىل ي�أتي �إىل هنا� .أنا �أعرف هذا .هو الذي قال له �أن ي�أتي �إىل هنا
الر�صيف. وهو الذي قال له كيف �سيقيّمك لقد ذهب �إليه وقال« ،والدي
جاء فليت�رش وقد ج ّهز الغبي ،ال�ضعيف �سوف يتخلى عن ن�صيبه � -إذهب وخذه »-
ما يريد حتميله على وانت حققت ما فعله ابنك الغبي بوالده الغبي.
ظهر القطار الذي ح�رض قطع �إىل:
لتوّه .وهوي قوم بعملية داخلي .بار/مقاطعة ايزابيلال .ليال ً
املفاو�ضة /مناق�شا ً يف خ�ضم ليلة �صاخبة �سكرانه جدا ً يف مقاطعة ايزابيلال نرى
رجال �ستاندارد �أويل دانيال ال�سكران املنتحي جانبا ً ي�ستمتع با أل�شياء من على بعد.
الو�سطاء حول ا أل�سعار ت�سري باجتاهه امر�أة م�شاغبة حملية وت�أخذ مقعدا ً بجانبه.
و�أجرة ال�شحن. (تو ّقف).
الرجل الغريب ي�سري قطع �إىل:
وينظر ثم يتجه بعيدا ً عن داخلي .منزل �صنداي .تلك اللحظة
امل�ستودع ب�إجتاه ليتل تعتني االم �صنداي وماري وروث بـ هـ.و ..وهي تقوم باطعام
بو�سطن - اجلميع.
قطع �إىل: زاوية .ا ألم �صنداي.
خارجي -منطقة احلفر ت�سكب قليال ً من الوي�سكي يف ك�أ�س �صغري من حليب املاعز.
-نهارا ً ت�أخذ هذا وت�ضعه �أمام هـ.و ..لي�رشبه .فيفعل ذلك .حتاول ماري
نحن ا آلن يف منت�صف وروث التكلم معه.
النهار واحلرارة �شديدة. قطع �إىل:
ي�سري الرجل الغريب حيث داخلي .بار/مقاطعة ايزابيلال .تلك اللحظة.
الرافعات واحلفر واحلركة. يخاطب دانيال املر�أة امل�شاغبة -انها ت�ضع يدها على ملتقى
ينظر حول املكان -ينظر �ساقيه وهو ي�رشب.
حول املكان - فليت�رش الواقف بقربه يراقب ما يحدث.
اخلزّان ممل� ؤ �إىل ن�صفه قطع �إىل:
بالنفط يف تلك اللحظة داخلي .منزل �صنداي .تلك اللحظة.
197 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
هرني :مل تكن تعرف عني؟ والرافعة الثالثة تنتج ا آلن �أربع �أو خم�س رافعات قيد ا إلن�شاء
دانيال :من كان يقطن مبحاذاتي يف فون دوالك؟ ا آلن ولقد ت�ضاعف العمل� .إنه �سريك.
هرني :عائلة رينتول. قطع �إىل:
(تو ّقف). خارجي .منزل بالينفيو .نهاراً.
يتج ّمد دانيال يف مكانه ويت�أثر كثرياً. الكامريا تتبع دانيال وهو يف طريقه �إىل منزله -يقرتب منه -
هرني:وعائلة �سيكل اخذت املنزل املجاور ا آلخر ملكان �سكنك الغريب جال�س �أمام البيت ينتظر .يالحظ دانيال وجوده فيقف
� -أنا �إبن ماريون براندز وباتريك بالينفيو. -
دانيال � :أدخل. دانيال :هل ب�إمكاين م�ساعدتك؟
ميد يده وي�صافح يد هرني -ثم يعانقه -مي�سك ر�أ�سه وينظر الغريب :دانيال؟
�إىل وجهه وعيناه ويرى �شيئا ً -يتكلم هرني؛ دانيال :من تكون؟
هرني :دانيال ،انا ميت من اجلوع. الغريب� :إ�سمي هرني.
قطع �إىل: دانيال :نعم؟
داخلي .منزل بالينفيو .نهاراً .فيما بعد. هرني� :أنا هرني
ي�أكل هرني ب�رشاهة من وجبة و�ضعت �أمامه على مائدة ي�صل دانيال فيقفا معاً.
ا إلفطار .يجل�س دانيال و هـ.و ..على حجره. دانيال :كيف ميكنني م�ساعدتك؟
نراقب هرني يتكلم وي�أكل ب�سكون من منظور هـ.و.. هرني� :أنا هرني بالينفيو -انا من فون دوالك.
لقطة مقرّبة هـ.و ..يراقبه. دانيال يف حالة هدوء.
نعيد ال�صوت لن�سمع: هرني� :أنا اخوك من ام ثانية.
هرني :قر�أت عنك يف ال�صحف .وح�رضت ب�أ�رسع ما ميكن. (تو ّقف).
دانيال :هل تعرف �إذا ما كان والدنا� ،إذا ما كان باتريك حيا ً هرني :باتريك هو والدي.
�أم ميتاً؟ دانيال :من �أنت؟
هرني :ال �أدري. هرني� :أنا هرني.
دانيال :ووالدتي؟ دانيال :من هي �أمك؟
هرني :ال �أَدْ ِري هرني :ماريون براند�س� .أنا من بوند دوالك ،وي�سكون�سون.
دانيال :وماذا عن والدتك؟ ماريون؟ كانت املعلمة. �أنا -والدي � -أنا ولدت بعدك بخم�س �سنوات .قر�أت عنك يف
معلمة املدر�سة .انت ل�ست خمطئاً؟ ال�صحف .عن بئرك املتد ّفق .جئت من مكان بعيد ألراك.
هرني :هذا �صحيح. دانيال :كيف �أعرف هذا؟
دانيال :هل هي حيّه �أم ميتة؟ يفتح �شنطته ويغطي دانيال بع�ض �أوراق التعريف.
هرني� :إنها ميتة. ينظر دانيال �إليها مليّا وينظر له مليّا ً �أي�ضاً .في�صبح عاطفياً.
دانيال :من �أين �أنت �آت؟ (تو ّقف).
هرني :من نيومك�سيكو. دانيال :كم عمرك؟
دانيال :نعم� ،أعرف ذلك ،ولكن من �أين؟ هرني :انا يف الثامنة والثالثني.
هرني� :سيلفر�سيتي ،لقد كنت هناك ملدة عامني. دانيال :انت �آت من هناك؟ �أين؟ من �أين انت قادم؟
قطع ونعود �إىل هـ.و ..ويتال�شى ال�صوت .نراقبه وهو يراقب هرني :كال -كال -مل �أذهب �إىل هناك من �سنني طويلة -
هرني الذي ي�أتي ويتكلم ي�أكل ويتكلم .ثم نعود �إىل احلوار مع جئت من نيومك�سيكو.
ال�صوت. دانيال :من هم �شقيقاتي؟
هرني لقد كنت �أحاول احلفر اخلا�ص بي لعدة �سنني. هرني :انابيل واليانور.
�أنقب عن البرتول يف تك�سا�س ولويزيانا .وعملت يف دانيال :ماذا تعرف عن والدتي ،ما ا�سمها؟
�سبندل�ستوب هرني :ويلال.
دانيال :هل كان �شيئا ً منتجاً؟ (تو ّقف) يهتز دانيال قليالً.
هرني :كال .لي�س مثلك .لي�س مثل جناحك. هرني :احتفظ والدي بهذا �رسّا ً -ولكنني علمت به وكذلك العديد
دانيال :هل �أنت متزوج؟ من النا�س -يا دانيال � -أعرف �أن هذا غريبا ً ولكنني انتظرت
هرني :كال� .أم�ضيت بع�ض الوقت يف ال�سجن .ق�ضيت وقتا ً �سيئا ً طوال عمري ألراك مرة ثانية.
طويالً .مل يكن لدي �شيء وقد �ألقي القب�ض عل ّي يف لويزيانا. (تو ّقف)
198 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
ما يف نف�سي. عملت مع جمموعة من امل�ساجني املقيّدين ملدة �ستة �أ�شهر �أبني
(تو ّقف على دانيال) الطرق .كان ذلك وقتا ً �صعباً .هل انت متزوج؟
دانيال :هل انت غا�ضب؟ دانيال :ملاذا �سجنت؟
هرني - :من ماذا؟ هرني� :صدّقني او ال ت�صدقني ف�إنني رغم كل املوبقات التي
دانيال :هل �أنت ح�سود؟ هل ي�صيبك �شعور باحل�سد؟ اقرتفتها يف حياتي ،فعندما �ألقي القب�ض عل ّي مل �أكن قد
هرني :ال اعتقد كذلك. ارتكبت �شيئاً .ولكنني فعلت ن�صيبي من ا ألمور التي ال يجوز
(تو ّقف). الكالم عنها.
دانيال :يف داخلي �سباق دائم .ال �أريد ان ينجح �أحد غريي� .أكره دانيال :هل فكرت يوما ً يف العودة �إىل املنزل؟
معظم النا�س. هرني :نعم .هل فكرت �أنت؟
هرني :ذلك اجلزء � -أن اعمل وال اجنح -اختفى كليا ً مني كل دانيال :كال.
ف�شلي ال�سابق مل يعد له وجود -مل �أعد اهتم كال�سابق - عودة �إىل هـ.و ..يراقب بال �صوت بينما يتكلم دانيال .ينظر
يف ،فهو فيك -دانيال� -:إذا كان هذا َّ �إىل هرني نظرة قا�سية .تو ّقف .نعود �إىل دانيال و هـ.و ..على
(تو ّقف). ح�ضنه .يعود ال�صوت.
متّر بي �أوقات ارى خاللها النا�س ال متلك ما ي�ستحق دانيال :لدي عائلتي اخلا�صة ا آلنز واهتماماتي اخلا�صة.
ا إلعجاب. قطع �إىل:
نقرة .تو ّقف. خارجي .منطقة الرافعة فيما بعد
دانيال� :أال تريد �أن تنجح؟ هـ.و ..نام على الكر�سي .ي�أخذه دانيال وي�ضعه يف ال�رسير ثم
هرني :كنت احلم و�أجري وراء جناح مثل جناحك -وا آلن ال يخرج بهدوء هو وهرني من املنزل.
�أريد �إال �أن �أبقى حيّاً .مل يعد لدي التكري�س ل أل�شياء الذي كان قطع �إىل:
لدي �سابقاً. داخلي .منطقة الرافعة .فيما بعد.
(نقرة). الكامريا مع دانيال وهرني ،ي�سريان بني الرافعات والعمال يف
�أنا ال �أ�شعر بهذا ا آلن. ورديتهم الليلية.
دانيال� :إنك ك�سول وهذا هو ا ألمر .ولي�س عليك ان تكون كذلك. ثالث رافعات �أخرى قيد ا إلن�شاء.
لقد در�ست النا�س مليّا ً و�أخذت منهم ما �أريد. يعرّفه دانيال على بع�ض الرجال؛
وهذا ي�شعرين بالغثيان ،ألنني �أرى �أن جميع النا�س ك�ساىل .من دانيال« :من ف�ضلكم قولو مرحبا ً ألخي هرني».
ال�سهل ا�صطيادهم -كان با�ستطاعتي �أن اجعل النا�س تفكر هذا �أخي ،هرني ،من فوند دوالك ،وي�سكون�سن».
ب�أ�شياء ال تريد تقبلها -ولكنني فعلت -وهذا ما جعلني �أقرف «�أخي»..
منهم جميعاً. زاوية ،دانيال وهرني .فيما بعد.
�أريد ان �أح�صل على مال كثري يكفيني ألحترك بعيدا ً عن �أي يجل�س هرني ،ي�سري دانيال حول املكان .الرافعات ت�ضخ يف
�إن�سان. اخللفية وهما يتكلمان.
هرني :ماذا �ستفعل بـ هـ.و.. دانيال :ما الذي كانت تعرفه والدتي.
دانيال :ال �أدري� .أرجو �أن يكون ا ألمر م�ؤقتاً. هرني :ال �أدري .ال �أدري �إذا ما كانت تعرف وحتيد بر�أ�سها �إىل
الناحية ا ألخرى � -أم �إذا كانت ال تعرف بتاتاً� .أنا عرفت قبل
�أن يقول يل والدي.
دانيال :كيف؟
هرني :كنت �أعمل مع وين�شل هيدريك ،هل تذكر ذلك؟
دانيال :نعم.
هرني :لقد عاملني دائما ً كابن له .وكان يكره باتريك .هذا ما
قاله وين�شل يل .فقد حاول �إثارتي �ضده ك�أبن غري �رشعي -
ولكنني ذهبت ووجدته و�أحببته �أكرث .وكما تعرف كنا نلتقي
�أنا ووالدي كثريا ً بال�رس -ومل يبعدين عنه بتاتاً.
هرني :ملاذا غادرت؟
دانيال :عملت لدى البحوث اجلغرافية وذهبت �إىل كان�سا�س مل
و�ضح
�أ�ستطع البقاء هناك .فقط مل �أ�ستطع -من ال�صعب ان � أ ّ
199 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
وي�رصخ حتت ذراعه مثل اللعبة. هل يعود �صوتك �إليك؟ ال �أدري .رمبا ال �أحد يعرف ذلك .قد ال
داخل غرفة النوم يعرف الطبيب ذلك
يفتح هرني الباب على م�رصاعيه ،نحو دانيال ليوقظه - نقرة.
هرني :دانيال .دانيال. دانيال� :أنا �أرى �أ�سو� أ ما يف النا�س.
ي�ستيقظ دانيال ،ويرى هذا. ال �أريد �أن �أحتاج للنظر �أبعد من ر�ؤيتهم ألح�صل على ما �أريد.
هرني :تعاىل ،تعاىل ،انه�ض وغادر املكان فوراً. �أريد �أن �أحكم وان ال �أ�رشح ما بداخلي ابدا ً لقد بنيت احقادي
يتجه اجلميع �إىل اخلارج عرب اللهب - - عرب ال�سنني قليال ً بقليل ،يا هرني -
قطع �إىل: -وجودك هنا يعطيني نف�سا ً �آخر-
ً
خارجي .منزل بالينفيو -ليال .تلك اللحظة ال ا�ستطيع ا إل�ستمرار يف هذا لوحدي ...
انهم يقفون يف اخلارج بينما يحرتق املنزل حتت اللهب يحمل �إحالل طويل طويل �إىل:
دانيال هـ.و .بني ذراعيه وي�رصخ يف وجهه؛ خارجي .الرافعات � -صباحاً.
دانيال :ماذا تفعل؟ ماذا تفعل بي؟ تكلم .تكلم� .أعرف �أنك يجل�س هـ.و .ويراقب حقول النفط والعمل برمته.
ت�سمعني؛ تكلّم .ليلعنك اهلل .ليلعنك اهلل .ماذا تفعل بنا؟ ماذا انه يراقب دانيال وهرني يتكلمان مع مورجان رئي�س العمال
تفعل؟ ويقومان ببع�ض ا ألعمال على الرافعة.
يحرتق منزل بالينفيو. يخرج دانيال ويرتك هرني لريى �شيئا ً ما.
قطع �إىل: لقطة مقربة لوجه هـ.و..
خارجي .ر�صيف القطار .ليتل بو�سطن .نهاراً. احد
زاوية ،الرافعة منرة َو ِ
ي�سري دانيال وهـ.و .معاً .كالهما الب�س ثياب الرحلة .يركبان ينظر هـ.و ..حول بقايا الفحم الناجت عن الرافعة ا ألوىل ،وينظر
القطار. �إىل قطعة ا ألر�ض الكبرية املكتنزة التي فقدت.
قطع �إىل: قطع �إىل:
داخلي .القطار .بعد حلظات داخلي .منزل بالينفيو -ليالً.
يجل�س دانيال و هـ.و .يف القطار يف مق�صورة خا�صة بهم - . ينام دانيال وهرني يف غرفتني -
ينتظران �إنطالقه .من الوا�ضح �أن دانيال يخبئ �شيئا ً ويقاوم زاوية .هـ.و..
عواطفه. �صاح ي�سري نحو غرفة هرني -ويخرج زجاجة �صغرية ٍ �إنه
يعانق هـ.و .ب�شدّه يقبّل ر�أ�سه مرة تلو ا ألخرى. منوذج للنفط اخلام -ويرتكها تن�سكب -حماوطا ً غرفة هرني
تو ّقف .ينظر هـ.و .اليه .يتكلم دانيال حماوال ً التوا�صل؟ بخط منها -ثم يعود نحو غرفة اجللو�س -واملطبخ-
دانيال� :س�أعود فوراً� .س�أذهب ألخاطب �سائق القطار� .س�أعود لقطة مقرّبة هـ.و..
مبا�رشة .ابقى هنا .ابقى انت هنا؟ يف املطبخ -ي�أخذ الكربيت -ي�شعله -ويقربه من النفط -
يهز هـ.و .بر�أ�سه كعالمة للموافقة -يرتك دانيال. الذي ي�شتعل كال�صاروخ على النار -
تو ّقف ق�صري مع هـ.و .يف لقطة مقرّبة طويلة جداً .نتو ّقف مع لقطة مقرّبة هـ.و ..يراقب النار.
وجه هـ.و .وهو يجل�س .يتال�شى ال�صوت ببطء - لقطة مقربة .دانيال
-يتحرك القطار قليالً .ينه�ض وينظر �إىل خارج ال�شباك -من الدخان يبد� أ يف الت�رسب �إىل اللقطة املقرّبة -عرب وجهه -
منظوره نرى دانيال ي�سري بعيدا ً عن ر�صيف القطار. وببطء ميتلئ ا إلطار بدخان �أغمق -وتظهر �شعلة النار تت أل أل
زاوية .دانيال. على وجهه.
تقوده الكامريا وهو ي�سري بعيداً. زاوية ،ال�ستائر يف الغرفة الرئي�سية.
زاوية .هـ.و. تتو ّقف الكامريا ب�إحكام على القما�ش -اللهب ينطلق من �أ�سفل
يدخل هـ.و .يف حالة ع�صبية في�رصخ لوالده ويتحرك ليرتك ا إلطار -ويحيط بال�ستائر.
القطار. زاوية هـ.و..
ولكن فلت�رش مينعه من ذلك فهو هناك ليم�سك به ويهدئه. انه يجل�س على ا ألر�ض مع الكربيت ،معرّ�ضا ً ال�ستائر وقطع
يبد� أ القطار يف التحرك �إىل ا ألمام. ا ألثاث املختلفة للنار.
هـ.و :.كال .كال.كال.كال.كال.كال زاوية ،هرني.
مي�سك فلت�رش به ب�إحكام وهو يرف�س وي�رصخ. يندفع خارج ال�رسير نحو الغرفة ا ألخرى -
لقطة مقرّبة لدانيال. يرى هـ.و ..يجل�س يف منت�صف النريان ،فيخطف الكربيت من
وبينما ينطلق القطار يف اخللفية ي�ستمر دانيال يف امل�سري. يده ،ويحمله ،ويتجه نحو غرفة دانيال حامال ً هـ.و ..الذي ير ّف�س
200 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
تيلفورد :نحب ان نفعل ذلك �أي�ضاً. وقفة ق�صرية على هذه امل�سرية الطويلة بعيداً ،بينما يغادر
دانيال :ما هو عر�ضك بالن�سبه لتالل كويوت القطار.
تيلفورد :نحن ندفع .150.000 قطع �إىل:
دانيال :هذا اتفاق مقبول .ولكن �س�أبقي ا ألجهزة واملعدات داخلي القطار يتحرك
اخلا�صة بي. تتو ّقف الكامريا على فلت�رش و هـ.و ..وهما م�سافران يف
تيلفورد� :سيكون با�ستطاعتك �رشاء كل ا ألجهزة واملعدات التي مق�صورتهما اخلا�صة .مي�سك فلت�رش هـ.و ..مهدئا ً فريبت على
تريدها بـ . 150.000 ر�أ�سه ويكلمه بنعومة -
دانيال� :أف�ضل �أدواتي �أكرث .انها م�صنوعة خ�صي�صا ً يل وهي لقطة مقرّبة لفلت�رش وهو يفعل هذا.
تعمل �أف�ضل ما ميكن معي. قطع �إىل:
تيلفورد .لن نعيد حفر وبناء حفارات جديدة ونغامر بتخريب داخلي .غرفة املائدة .ليالً.
البئر. دانيال وهرني معا ً يف حالة �سكر .يجل�سان ويتكلمان .دانيال
دانيال :ذلك اجلزء ال يهمني. يومئ بر�أ�سه .وهو يف حالة من ال�سكر متنعه من ترك عينيه
تيلفورد� :إذا �سندفع 100.000 مفتوحتني.
دانيال :ح�سناً. دانيال� :إنه لي�س �إبني� .إنه حتى لي�س �إبني.
نقره. هرني :ماذا تعني؟
دانيال :ماذا؟ ماذا بعد؟ دانيال :انه لي�س ابني.
تيلفورد :لديك 11.000فدان يف ليتل بو�سطن .لديك بئر م�شيّد يبد� أ باالنهيار مي�سك بع�صاه ،وينظر �إىل ا أل�سفل.
وقد د ّمر - - دانيال� -:إن ق�ضيبي ال ينت�صب فكيف �س�أ�صنع طفالً.
دانيال :مل يد ّمر .ولدي ثالث �آبار م�ؤكده �أنت مل تنتبه� .إنها هل ق�ضيبك يعمل ،يا هرني؟
ثالث �آبار م�ؤكدة. هل �أورثنا �أبوك هذا؟
تيلفورد� :سنجعلك مليونرياً .من دقيقة �إىل �أخرى و�أنت جال�س تو ّقف.
هنا. دانيال� :س�ألتك �س�ؤاالً...
نقره. هرني -:عندما �أكون حمظوظاً.
دانيال :ماذا �س�أعمل �أي�ضاً. ي�سقط دانيال متال�شيا ً .يلتقطه هرني ويحمله بعيداً.
نقره. قطع �إىل:
تيلفورد :هل ت�س�ألني �أنا؟ داخلي .قاعة مارونيك/مقاطعة ايزابيلال -نهارا ً
دانيال ماذا �س�أعمل �أي�ضاً. بعد مرور يوم .غرفة اجتماعات لطيفة يف مركز مقاطعة
تيلفورد :اعتني بابنك. ايزابيلال -هنالك مائدة ،ب�ضع كرا�س يف غرفة اجتماعات
دانيال.... :؟ خا�صة يف القاعة املا�سونية املحلية.
تيلفورد :ال �أعرف ماذا �ستفعل. يدخل دانيال وهرني �إىل غرفة اجتماعات وهما يف كامل
مالب�سهما ونظافتهما.
داخل قاعة االجتماعات هذه ،ينتظرهما رجالن (يف ا ألربعني)
جـ جـ .كارتر و هـ.م .تيلفورد� .إنهما من جانب �رشكة �ستاندارد
�أويل .يت�صافح اجلميع ،ا أل�صدقاء القدامى واملتناف�سون
يتبادلون التحية ويجل�سون.
تيلفورد :كيف حال ابنك؟
دانيال� :شكرا ً ل�س�ؤالك.
تيلفورد :هل هنالك ما ميكننا عمله؟
دانيال� :س�ؤالك يكفي.
تيلفورد� :إذا :ما هي خططك؟
دانيال :هل هذا من �أجل �رشاء �أر�ض هنا؟
تيلفورد :نعم.
دانيال :ذكرت الربقية �أن املو�ضوع حول �إيجار تالل الكويوت
اخلا�صة بي.
201 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
ثم �أر�ض املتحدة للبرتول -ثم املحيط البا�سيفيكي. دانيال :لو كنت مكاين وعر�ضت عليك �ستاندارد ان ت�شرتي ما
يقف دانيال مع �آل روز وجايك كويف وهرني يناق�شون طريق معك مبليون دوالر ...ملاذا؟
انابيب النفط. نعم ملاذا؟
هرني :ملاذا مل ت�ست�أجر ا ألر�ض التي ميلكها باندي؟ تيلفورد :انت تعرف ملاذا.
�آل روز :حاولنا -ولكنه مل يكن راغباً. دانيال :قل يل ملاذا.
دانيال - :ملاذا ال يريد رجل عجوز يف الثمانني من العمر تيلفورد :هل �ستدخل عمل امل�صايف.
ت�أجري ار�ضه لي�صبح ثرياً؟ هل �ستبني �شبكة �أنابيب ،يا دانيال؟
�آل روز� :س�أكلمه حول حق املرور ألنابيب النفط -قد ير�ضى دانيال :رمبا �س�أفعل ..انها لي�ست �سوى �ستة وثمانني ميال ً
بذلك �إذا ما كان -دانيال � - -إذا مل تتمكن من فعل ذلك يف فوق التالل نحو املحيط وم�صفاة يونيون �أويل � -إذا ما الذي
ذلك الوقت فكيف تظن انك �ستفعله ا آلن؟ هوه؟ �آل؟ �سيمنعني؟ ا أل�سعار التي �ستحددها للربميل -
(خماطبا ً هرني) تيلفورد -:نحن ال ن�ضع ا أل�سعار ..
�سنزوره قريباً. دانيال -:طبعا ً انتم تفعلون -واجور �شحنكم تذهلني -انتم ال
يدخل فلت�رش ،عائدا ً من رحلته .فيحيّي الرجال ويجل�س لي�شارك ت�ضعون هذه ؟ �إذا قل يل ملاذا ؟
يف املحادثة .يالحظ دانيال وجوده فيتبادالن النظرات ،ثم؛ تيلفورد :ألنه عليك �أن تفعل ذلك .لديك نفط حتت قدميك اكرث
قطع �إىل: مما ت�ستطيع التعامل به .نحن نعرف جميعا ً كم �أنت قوي .ولكن
أ ً
داخلي .منزل فلت�رش .ليال -بعد ب�ضعة �يام. هذا كبري على �شخ�ص واحد.
يتكلم دانيال وهو يج ّهز حقيبة� ،صوته هام�س وك�أنا يف �آن ا آلون لكي ن�أخذ عنك لن�ساعدك على احلركة .انت مغامر كبري
غيبوبه؛ لقد عاد فلت�رش من رحلته مع هـ.و ،.وهما يوا�سيان جداً ،ول�ست رجل �رشكة ،دعنا ن�أخذ من هنا وجنعلك غنيّاً.
بع�ضهما. (نقرة� ).سكون لفرتة طويلة -نقرة طويلة جداً.
فلت�رش :كم عر�ضوا؟ دانيال :هل قلت يل كيف يجب �أن �أدير عائلتي.
ال جواب. نقرة. تيلفورد :قد يكون �أكرث �أهمية لك ا آلن بعد ان حتققت من احلقل
دانيال :من �سخرية القدر ان ي�أتوا �إلينا ويقرعوا الباب �ألي�س ونحن نعر�ض عليك �رشاءه.
كذلك؟ حماولني �رشاء ما قمنا به -عليهم ان يحفروا ب�أيديهم (نقرة).
الرتاب كما فعلنا نحن -تريدهم ان ي�شرتوا ما تعبنا كثريا ً دانيال :يف احد الليايل � -سوف �آتي �إىل داخل بيتك ،اينما كنت
للح�صول عليه؟ نائما ً -و�سوف �أقطع عنقك.
ليحفروا ب�أظافرهم كما فعلنا جميعا ً � ...سنقوم بها بهذه تيلفورد :ماذا؟ عن ماذا تتكلم يا دانيال .هل جننت؟
الطريقة وال نحتاج �إىل التذلّل. دانيال - :هل �سمعت ما قلت؟
�رضبه � .سكون) .ثم: تيلفورد - :نعم� ،سمعت ،ملاذا تقولها؟
دانيال :كان على تلك املر�أة الغبية ان تدعنا نبني م�ست�شفى دانيال :انت ال تقول يل عن ولدي.
هنا ...كم م�ساحة غرفته؟ تيلفورد -:ملاذا تت�رصف كاملجنون وتقول انك �ستقطع
فلت�رش :انه يت�شارك يف حجرة مع �صبي �آخر. عنقي؟
دانيال� :أي ولد. كارتر :دانيال ،ما هذا؟ متالك نف�سك.
فلت�رش :ا�سمه كان يالرد� .إنه �أكرب ،حوايل الثانية ع�رشة � -إنه تيلفورد :نحن ال نقول لك �شيئاً� .أنا �آ�سف �أنك قد ت�أذيت� .أريدك
هناك منذ عام. ان تكون عاقالً.
دانيال :كم حجم الغرفة؟ يقف دانيال .يفعل هرني مثله.
فلت�رش� :صغرية .انها مكان �صغري� ،ستة بثمانية. دانيال� :سرتى ماذا �س�أفعل.
دانيال :كان على تلك املر�أة ان ت�سمع كالمي. يخرج دانيال وهرني.
كان من املمكن ان نبني لهم مكانا ً �أف�ضل.. قطع �إىل:
نقره داخلي .مكتب دانيال يف املخيم الرئي�سى .نهاراً.
فلت�رش :ماذا تعرف عن هرني؟ لقطة مقرّبة خلريطة املنطقة.
دانيال� :أوه هوه. يتحرك �إ�صبع من داخل ا إلطار بدءا ًمن �أر�ض بالينفيو ا ألمريكية
يتغري وجه دانيال قليالً. -ي�سري على ممر -نحو القطعة الثانية التي حتمل ا�سم :باندي
فلت�رش :دعني �أر�سل �أحدا ً �إىل فوند دوالك لري عائلتك وي�س�أل - -ثم ت�ستمر �إىل ا ألمام عرب اجلبال ،نحو القطعة الثانية التي
دانيال :هل تعتقد حقا ً �أنني لن اعرف �شقيقي -؟ حتمل ا�سم بـ ل باربر واوالده ثم مقاطعة �سان لوي�س اوبي�سبو.
202 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
�سنمتطي ظهور ا ألح�صنة عرب اجلبال واريدك ان ت�أتي معنا. و�أن �أ�أخذ هكذا؟
ماري ت�صمت خجال ً وفج�أة تتحرك نحو �آبيل. (نقرة)
دانيال :ماري � -سنذهب نحو املحيط. هل ت�شعر باحل�سد؟
ماري :ال اريد �أن �أذهب معك. فلت�رش :نعم.
ينزل دانيال عن احل�صان وتتعلق ماري ب�آبيل. دانيال :لقد عملنا معا ً لفرتة طويلة ،يا فلت�رش .ولكنك ل�ست �أخي
دانيال :اريد ان تذهب ماري معي لب�ضعة �أيام. وهذا قد ي�شعرك باحل�سد.
�سوف اركب عرب اجلبال نحو البحر و�أريدها معي. فلت�رش :هذا عملي كما هو عملك �أي�ضا ً واملو�ضوع هو فقط -
�آبيل� :إنها ال تريد الذهاب .لقد قالت لك هذا تواً. ما هو ا ألف�ضل بالن�سبة للعمل -من �أجل �سالمة عملنا ،لي�س
نقرة .ينظر دانيال نحو روث؛ هنالك �سوء �إذا ما ات�صلنا بـ فوند دوالك وعائلتك -
دانيال :روث؟ هل تودين الذهاب لركوب اخليل معي؟ دانيال :ال تتكلم عن املو�ضوع بعد ا آلن �أو �أن تقوم مبخاطبتهم
روث :نعم � -إنه �أخي .هذا كل املو�ضوع.
ا ألم �صنداي :كال هي لن تذهب. (نقرة)
يخطو دانيال بالقرب من �آبيل وماري خلفه؛ فلت�رش :ماذا �ستفعل مع �إيلي
دانيال� :س�أعطيك ثالثة دوالرات �إ�ضافية يف ال�شهر يف بطاقة دانيال :ال �شيء �إيلي لي�س �سوى ولد.
ا إلئتمان اخلا�صة بك. فلت�رش� :إنه خطري .هل تعلم �أنه يج ّمع املال -ليجد م�سار العهد
�آبيل- : ومعظم رجالنا من�ض ّمون لكني�سته.
دانيال :هذا العر�ض �إ�ضافة �إىل دخلك ،يا �آبيل ،يجب ان ت�أخذه دانيال� :أرجو �أن يجده.
وتدع ماري تذهب معي لب�ضعة �أيام. فلت�رش� :أعتقد �أنه علينا �أن ندفع له �شيئاً.
ماري :اذهب من هنا. نقرة.
دانيال :ماري -من الذي �أعطاك هذا الثوب؟ �أخذت تبدو على دانيال مظاهر اجلنون يف تلك اللحظة -
من الذي جلب لك املال والطعام الطيب؟ هل تعلمني انني انا دانيال :كان على تلك املر�أة الغبية ان ت�أخذ عر�ضنا لبناء
الذي قمت بذلك؟ �أريد �أن �آخذك لرتين املحيط وميكنك م�ساعدتي م�ست�شفى .يا لغباءها.
يف عملي. يجل�س دانيال.
ماري :اذهب� .أيها ال�شيطان. دانيال :يجب ان ا�صطحب معي ماري ال�صغرية يف هذه الرحلة
دانيال :كال ،كال .ل�ست �شيطانا. -فقد ي�ساعد هذا يف �إظهار الرغبه يف التعا�ضد واحل�صول
هل قال لك �إيلي هذا؟ �إيلي هو على احلق يف املرور على ا ألنابيب -املظهر القوي لالرتباط
ال�شيطان -انا ان�سان طيب العائلي يوحي بالنجاح اكرث -
ولقد �ساعدتك لكي ت�سعدي - ينظر فلت�رش �إىل دانيال -
�إذا تعايل �إيلَّ ا آلن يا ماري. قطع �إىل:
لدي عمل هام وبا�ستطاعتك خارجي .املخيم الرئي�سي .نهاراً.
م�ساعدتي ميكنك ان تكوين �أ�رسج عامل ثالثة �أح�صنة وح ّملها مب�ؤن ملخيم وبالعدة
�رشيكتي .تو ّقف .هذه حلظة وا�سلحة ال�صيد -كل هذا من �أجل رحلة دانيال -
غري مريحة �شديدة التوتر - زاوية .لقطة مقرّبة لنماذج من النفط اخلام.
يعاود دانيال ركوب فر�سه. وهذه و�ضعت يف جرار غلفت من �أجل �سالمتها وو�ضعت يف
يتجه مبا�رشة نحو املخيم اجليوب على ا ألح�صنة .هنالك �أربع زجاجات مر�سلة كنماذج
الرئي�سي ،ويلتقي مع هرني على كل منها ن�سبة ثقل اخلام.
- ميتطي دانيال وهرني ا ألح�صنه ويتح�رضان لرحلتهما -
-ويتجهان معا ً نحو التالل. زاوية .دانيال.
قطع �إىل: يركب اجلواد نحو مزرعة �صنداي.
خارجي� .أر�ض باندي .نهاراً.
زاوية .منزل �صنداي.
يركب دانيال وهرني على الواجهة ا ألمامية ،مع ابيل ،ا ألم �صنداي ،ماري وروث اللتان
حافة تله ن�شاهد منها �إىل يعمالن يف حديقة �صغرية بد�أت تنمو -دانيال يركب حتى
ا�سفل �أر�ض باندي .هذا هو ي�صل �إىل هناك:
املكان الذي مروا عليه �سابقا ً دانيال :ماري ،هل حتبني ان ت�أتي معنا يف رحلة للتخييم؟
203 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
s
s
s
ثم: �سواد وهو يدير ر�أ�سه نحو املاء -ثم وهو يرفعه �إىل �أعلى
ب.ل .هاربر :هل �أنت رجل متدين؟ ال�ستن�شاق الهواء ،ثم الفتا ً ر�أ�سه ليبقي نظره م�صوبا ً نحو
دانيال� :أنا �أنتمي لكني�سة العامل. هرني -الذي ي�سبح عائدا ً بقربه -ي�سقط ال�صوت �إىل الداخل /
ب.ل .هاربر :مل �أ�سمع يف حياتي عن هذه الكني�سة. اخلارج/الداخل/اخلارج/يتنف�س ماء /يتنف�س/ي�شهق -ينظر
دانيال :هل انت تنتمي؟ �إىل هرني ..
ب.ل.هاربر :كال. بد� أ جنون االرتياب عند دانيال.
يدخل خادم �صيني يحمل املزيد من الطعام لي�ضعه على قطع �إىل:
املائدة -ويحل ا آلتي: ً
داخلي .مطعم �سانتا بوال/بار -ليال فيما بعد.
يراقب دانيال الرجل ال�صيني وهرني وهما ينظران لبع�ضهما ت�صحب الكامريا دانيال يف منت�صف غداء �صاخب مع رجال
البع�ض .هنالك نب�ض غريب من اكت�شاف ا آلخر بينهما. يونيون �أويل و�آخرين ُكرث.
يراجع دانيال نف�سه مت�سائال ً هل الحظ هو �شيئاً� .أو انه فقد يراقب دانيال هرني يف اجلانب ا آلخر من الغرفة وهو يغازل
عقله؟ �إمر�أة.
ي�ضع الرجل ال�صيني الطعام ب�رسعة على املائدة ،ينظر هرني تو ّقف .يرتك هرني املر�أة وي�سري من مكانه ليجل�س بجانب
�إىل �أ�سفل؛ ويبدو منهمكا ً بوجبة الطعام - دانيال.
االبنة( :بغنج �شديد) هرني -هل �أنت متزوج؟ هرني :دانيال .هل ا�ستطيع �أخذ �شيئا ً من املال حتى نعود �إىل
هرني :كال .انا ل�ست كذلك. ليتل بو�سطن؟ �سوف اعيدها لك عندما ن�صل �إىل البيت.
االبنة :دانيال؟ ميد يده �إىل جيبه ويعطيه �شيئا ً من املال كما ي�سلمه كد�سة
دانيال :كال. �أخرى.
االبنة :ملاذا؟ انت �شديد اجلاذبية. هرني :كال .انا ل�ست بحاجة لكل هذا .جمرد ب�ضعة دوالرات.
دانيال :ألنني رجل �أعمال. دانيال :خذها.
تو ّقف .يتناوالن املزيد من الطعام .تو ّقف. هرني :دانيال -
حتدّق به وبهرني . دانيال :خذها كلها .من ف�ضلك .ام�سكها.
قطع �إىل: هرني :ح�سناً� .س�أراك �صباحاً.
خارجي .مزرعة هاربر .ليالً. يهز بر�أ�سه .تو ّقف .دانيال.
انه منت�صف الليل .ي�سري دانيال بهدوء خارج البيت ،ويقطع قطع �إىل:
ال�شارع نحو بيت اخلدم ،كوخ �صغري ذو غرفة واحدة. داخلي .غرفة يف فندق �سانتا بوال .ليال ً
قطع �إىل: دانيال �صباحا ً مفتح العينني يف �رسيره ،ينظر �إىل ال�سقف
داخلي .منطقة اخلدم .ليالً. وك�أمنا به م�س من اجلنون� .صوت خارجي ن�سمعه من الغرفة
اخلادم ال�صيني نائم .يدخل دانيال -يجل�س على ال�رسير- املجاورة حيث هرني واملر�أة .تو ّقف .ثم:
وي�ضع يده فوق فمه -ي�ستيقظ: قطع �إىل:
داخلي� .أر�ض مزرعة ب.ل .هاربر -بعد �أيام -الغ�سق
يلتقي دانيال وهرني مع ب.ل .هاربر (يف اخلم�سينات) وولديه
و�أحد مالحظي املزرعة وهم ي�ضعون اخلريطة التف�صيلية
للمواقع مبا يتعلق مبد �أنابيب النفط وهم يقفون يف منت�صف
احلقل -
ينظر اجلميع حول املكان ،يتكلمون تفا�صيل تقنية عن الطول،
�سعر امليل ،الخ ،الخ ،هنالك اتفاقية -ويدعو هاربر دانيال
وهرني لق�ضاء الليل -وهذا يقودنا �إىل:
قطع �إىل:
داخلي .بيت مزرعة هاربر .الغ�سق.
يجل�س دانيال وهرني �إىل مائدة كبرية يف بيت جميل جداً ،غني
من الطراز الفكتوري.
عائلة هاربر مع ا ألم وفتاة �شابة جميلة مغناجة (يف
الع�رشينات) يتناولون الطعام ويتجاذبون �أطراف حديث عادي
205 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
يدخل �إىل ال�رسير وما زال يرتدي ثيابه وي�ستلقي �صاحياً. دانيال :اريدك ان حتافظ على هدوئك -واريدك ان جتيب على
تو ّقف. �أ�سئلتي.
زاوية ،دانيال .بعد �ساعات .ال�صباح الباكر. يومئ بر�أ�سه« ،نعم».
انبلج الفجر ويُ�سمع �صوت خفيف يوقظ دانيال فيفتح عينيه دانيال :هل تعرف �أخي؟
على و�سعهما . تو ّقف .ال يجيب .يهزّه دانيال .يهز الرجل ال�صيني ر�أ�سه
يقف ،ينظر من ا�سفل الباب -ينظر �إىل ما ي�شري �إىل احلياة من «كال».
حتت ال�شق. دانيال :هل تعرفه؟
يقف ،يذهب نحو النافذه ويرى: ي ّهز ر�أ�سه ثانية «كال».
من منظور دانيال -اثر �ضعيف من على بُعد ،على اجلانب دانيال� :أريدك �أن جتيب على �س�ؤايل وال �أريدك �أن تتكلم لغتك
ا آلخر من احلقل ،هرني ميتطي احل�صان ويغادر املكان - االجنليزية التي هي كلغة احلمام -ال �أريد كالما �صينيا ً
يتجه بعيدا ً نحو التالل. كاذباً .اجبني مبا�رشة .لقد نظرت �إليه نظرة معرفة -ملاذا؟
يجمع دانيال حاجياته ب�رسعه ،في�صبح جاهزاً ،ويغادر هل اعتقدت انك تعرفه؟
الغرفة. اخلادم ال�صيني :اعتقدت ذلك ،ولكنني كنت خمطئاً.
قطع �إىل: دانيال :ماذا ظننت؟
داخلي .منزل هاربر الريفي .الرواق .تلك اللحظة اخلادم ال�صيني :ظننت �أنه رجل من املكان الذي بنينا فيه
يتحرك دانيال بهدوء خارج الغرفة ،عرب الرواق ،وخارج الباب خطوط ال�سكة احلديد ولكنه لي�س نف�س الرجل.
ا ألمامي .. دانيال :متى؟
قطع �إىل: اخلادم ال�صيني :كنت خمطئاً� .إنه لي�س هو.
خارجي .منزل هاربر الريفي .الفجر. دانيال« :متى» قلت؟.
ميتطي اجلواد ويغادر املكان ليلحق بهرني - اخلادم ال�صيني :منذ �سنني .منذ زمن طويل.
قطع �إىل: دانيال� :أين بنيت خطوط ال�سكة احلديد؟
داخلي .التالل/الغابة� .صباحا ً اخلادم ال�صيني :هنا يف كاليفورنيا.
يتبع دانيال �آثار هرني خالل الغابة الكثيفة - دانيال :من ظننته؟
مالحظة املخرج :هذا م�شهد طويل يتابع دانيال املري�ض بال�شك اخلادم ال�صيني :كنت خمطئاً.
يالحق حماولة العثور على هرني .يتحرك من النهار �إىل الليل. تو ّقف .يغادر دانيال املَ َكان
نتابع البناء �إىل ان ي�صل دانيال �إىل �شيء يحثّه على التو ّقف. قطع �إىل:
وينزل من على ح�صانه - داخلي .منزل هاربر .ليال ً
-يتحرك �إىل ا ألمام -يف الظالم ،يرى مل�سافة مائة ياردة �إىل يدخل دانيال ويتوجه بهدوء نحو غرفته؛
ا ألمام ،بني ا أل�شجار ،ح�صان هرني. قطع �إىل:
-يتحرك �إىل ا ألمام - داخلي .الرواق .املنزل .تلك اللحظة
هرني (�صوت خارجي) مل يكن عليك �أن تتبعني ،يا دانيال - ي�ستدير دانيال حول الزاوية ،ويتجه نحو غرفته ،فيوقفه منزل
يدور دانيال لريى هرني ،خلفه بعيدا ً عنه ب�ضعة �أقدام يحمل االبنة وقد ظهر ج�سدها من خالل ثياب النوم.
م�سد�سا ً . االبنة :ال�سيد بالينفيو -
هرني :كان عليك �أن ترتكني �أرحل ،مل يكن هذا ليحدث يتو ّقف دانيال يف حالة �صقيع -ثم يتابع التحرك ب�رسعة
اختالفاً. �شديدة نحو الغرفة.
دانيال :من �أنت؟ قطع �إىل:
هرني :ال �أحد .انا ل�ست �أحدا ً . داخلي .الغرفة .تلك اللحظة
يتناول دانيال م�سد�سه ،من على جانبه. يغلق دانيال الباب -ويتو ّقف للحظة �ساكناً .يتنف�س بثقل/
هرني :كال ،كال ،كال ،دانيال .. م�صاب بارتياب مر�ضي /جمنونا ً -ي�ستمع عند الباب -
يرفع دانيال يده ويطلق النار -يتوارى هرني ب�رسعة �إىل تو ّقف .لقطة مقربة على دانيال -
اخللف وراء �شجرة. ينزل �إىل ا ألر�ض وينظر من ال�شق يف �أ�سفل الباب ،ينتظر ،ينظر،
هرني :ال تطلق النار .انا ال �أريد �أن �أ�ؤذيك. ينتظر ،ينظر -
دعنا نرتك بع�ضنا فقط. مير ظل �أمامه -
دانيال :من �أنت؟ زاوية .ال�رسير.
206 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
هويته. هرني� :أنا ال �أحد ،انا ل�ست �رشيراً ،انا فقط ،كنت فقط �أحاول
لقطة مقربة لبطاقة الهوية ،يدر�سها جيداً .ا�سم هرني بالينفيو ان �أ�صل.
..الخ الطول ،الوزن ،الخ. يخرج دانيال من الظلمة ،وهو يطلق النار ،ويتحرك باجتاه
ي�أخذ ا�شياء من �شنطة هرني وي�ضعها يف �شنطته .يجد مدونة ال�شجرة.
�صغرية .يفتحها دانيال بيده ال�سليمة فيجد فيها كلمات ذات ال ميلك هرني �أي خيار� ،سوى ان يتحرك ملتفا ً حول ال�شجرة
داللة: ويطلق النار باملثل.
«فوند دوالك» «هرني بالينفيو» «اخي دانيال» تخرتق ر�صا�صة مبا�رشة يد دانيال ،فتفجرها �إىل �أجزاء .ي�سقط
هذه �صحيفة كتبها هرني بالينفيو احلقيقي .يقلّب دانيال �إىل اخللف.
ال�صفحات فتغطيها الدماء ،تو ّقف .ي�أخذ ال�صحيفة وي�ضعها يرك�ض هرني ب�رسعه نحوه ومي�سك مب�سد�س دانيال ويركع.
يف �شنطته .ينه�ض على قدميه. هرني :ملاذا �شهرت م�سد�سك عل ّي ،اللعنة؟
قطع �إىل: دانيال :من �أنت؟
خارجي .غابة .فيما بعد. هرني :ما كان يجب ان ي�صل ا ألمر �إىل هذا ،يا دانيال.
يتناول دانيال رف�شا ً من �أمتعته ويبد� أ بيده ال�سليمة حماولة مل �أكن �أريد �إطالق النار عليك.
حفر قرباً. دانيال :قل يل من �أنت.
�أثناء مالحظتنا لدانيال خالل فرتة ق�صرية من ال�سهل �أن نرى هرني :انا جمرد �إن�سان يبغي اخلال�ص .انا ل�ست �أحداً .انا ل�ست
�أن هذا �سوف ي�أخذ وقتا ً طويال ً و�سيكون عمال ً �صعبا ً القيام �سيئا ً -دعني �أرى يدك -
به. دانيال :مت�أملا ً اما من يده �أو ب�سبب غ�ضبه من هرني الذي
قطع �إىل: خدعه وهو ي�أن وي�رصخ مثل حيوان جمروح.
خارجي .نف�س املكان� .صباحا ً دانيال :كال ،كال ،كال ،من �أنت؟ من �أنت؟
دانيال نائماً .احلفرة قد تكون رمبا بعمق قدمني وبطول �ستة �آه ه ه ه ه ه ه ه ه ه
�أقدام - هرني :ال ت�رصخ ،يا دانيال .اهد�أ .دمك ،دمك ...
ي�ستيقظ .ينظر حوله .يحاول احلفر مرة ثانية .وثانية. دانيال � :آه ه ه ه كال .كال .كال .كال .اللعنة .اللعنة جاااااا هل لدي
قطع �إىل: �أخ؟ هل لدي �أخ ،من �أنت؟
خارجي .نف�س املكان .بعد الظهر. هرني :دانيال من ف�ضلك تو ّقف.
لقد حفر ما يكفيه .يجر ج�سد هرني نحو القرب -ويبد� أ يف �إعادة دانيال :ملااااذا .ملاااذا وثقت بك؟ ملاذا وثقت بك؟
العفار فوق اجلثة. هرني :قابلت رجال ً يف كنج �سيتي قال �أنه �أخوك ،كنا �أ�صدقاء
تو ّقف .قطع �إىل: لب�ضعة �شهور ،نعمل يف كنج �سيتي وكان يبحث عن طريقه �إليك
خارجي .نف�س املكان .فيما بعد يا دانيال ،مل يكن لدينا �أي مال .مات مري�ضا ً بال�سل .مل ي�ؤذه
دانيال على و�شك ا إلغماء يعود ويراجع اليوميات ..زاغ نظره �أحد ومل يقتله �أحد ،ال �شيء �سيء يف املو�ضوع ولكنه �أخربين
عنك وجمرد �أخذت ق�صته -وا�ستخدمت يومياته -دانيال ،انا
�صديقك -انا ال �أحاول قتلك �أو �أ�ؤذيك ،جمرد اريد ان اعي�ش -
يدفن دانيال نف�سه يف ا ألمل والدموع واملذلة.
وبينما يحاول هرني النظري �إىل جرح دانيال .ميد دانيال يده
�إىل جيبه حيث يخفي م�سد�س 22ويوجهه مبا�رشة �إىل ج�سد
هرني ويطلق النار .يتعرث هرني ويهوى �إىل اخللف � -رضبة
واحده من هذا امل�سد�س ترتد �إىل داخل اجل�سد حلظة واحده وال
يكون هنالك دماً.
-يحدث هذا ،يراقبه دانيال ويتجمد هرني -ي�أخذ دانيال
قا�س جدا ً /
البنادق ا ألخرى من يدي هرني -كل هذا �شيء ٍ
ملوث/قذر/غري م�رسحي -ي�سقط هرني فج�أة �إىل ا ألر�ض.
تو ّقف .يعاين دانيال �أمل مربح ويتلوى والدم ين�سكب من يده.
ينظر �إىل يده ويرى �أنها كلها ما زالت هناك.
هذا م�شهد مطوّل يتابع فقط دانيال .ي�سرتد نف�سه قليال ً و�أول
�شيء يقوم به هو العودة �إىل �شنطة هرني والنظر يف بطاقة
207 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
للخال�ص وطريقك الوحيد ملا تريد. ويده تنب�ض متثاقلة ويقر� أ من الكتاب ...
نقرة. «�إذا ما اجتمعت بذلك الرجل الذي هو �شقيقي ف�سوف ا�شعر
باندي :ممكن �أن ت�أخذها يوم ا ألحد .اليوم الذي يلي التايل .يف اكرث»...
كني�سة الر�ؤيا الثالثة. «�سوف �أقول له مرحبا ً وا�صافح يده بحرارة وانظر �إىل
تو ّقف .نقرة. عينيه»..
دانيال� :س�أدفع لك ثالثة �آالف دوالر. دانيال مير مبا�رشة فوق القرب وهو يقر� أ ..
باندي :ــ قطع �إىل:
دانيال :كم يدفع لك �إيلي؟ زاوية ،ج�سد دانيال .فيما بعد.
باندي� :آخذ مايل من الروح القد�س. بعد مرور �ساعات .تو ّقف لقطة متو�سطة .يدخل حبل �إىل ا إلطار
دانيال� :س�أدفع لك خم�سة �آالف دوالر. بيدي عجوز .احلبل ملفوف حول ج�سد دانيال -ومقفل.
باندي :من �أجل ماذا؟ ال�صوت اخلارجي لل�شخ�ص الذي فعل هذا بدانيال يختفي .وبعد
دانيال :من �أجل حق املرور. ب�ضع دقائق -يجر دانيال بعيداً ،يجر خلف ا ألح�صنة.
باندي :انا ال �أملك هذه ا ألر�ض. تدور الكامريا معه ،على ا ألر�ض ،وي�شد على �أر�ض حمراء وعرة
دانيال - :من الذي يفعل؟ -ر�أ�سه يهتز وي�رضب ا ألر�ض.
باندي� :إيلي �سيفعل .كني�سة الر�ؤيا الثالثة. قطع �إىل:
لقطة مقرّبة لدانيال .كل �شيء يخرج �إىل العلن. داخلي .منزل باندي .بعد برهة من الزمن.
دانيال :هل اعطيته �إياها؟ يفتح دانيال عينيه .انه يجل�س على كر�سي �إىل املائدة ،على
باندي :نعم هذا �صحيح� .إنها هبتي �إىل الكني�سة عندما �أموت اجلهة املقابلة لباندي (ثمانني عاماً) والذي ي�ضع امامه على
- املائدة م�سد�س .انه �ضعيف جداً ،عجوز ،له عينان حلوتان.
دانيال :متى فعلت هذا؟ باندي :مرحباً ،يا دانيال.
باندي :لقد تبعت �إيلي منذ �أن كان �صبياً. دانيال :من �أنت؟
لقد جاء ووعظ بجانبي عندما احرتقت زوجتي وحفيدتي يف باندي� :أنا باندي.
بكارزفيال .لقد �شفاين من التهاب مفا�صلي ...و�أوجاع ر�أ�سي . (تو ّقف ق�صري) .يبد� أ دانيال بالتح� ّسن والعرق يت�صبّب من
-لقد كان ذلك منذ ثالث �سنوات. وجهه ،م�صاب بنوع من ال�صدمة ،يبد� أ بالكالم.
دانيال :من املمكن �أن جند طرق حول هذا املو�ضوع ت�سمح دانيال� :أود �أن �أ�ست�أجر �أر�ضك .حاولت ان ا�ست�أجر ار�ضك من
له باحلفر ونعطيك ماال ً �أكرث بكثري -هذا قد ال يكون قانونيا ً قبل ولكنك رف�ضت انا دانيال بالينفيو وانا �أنقب عن النفط ـ
ومتطابقا ً معهم - و�أود ـ هل لديك قليل من املاء؟
باندي :عندما �أغادر هذه الدنيا ،ف�إن ب�إمكان الكني�سة ان تفعل ما باندي� :أعرفك واعرف ما تريد ولكنني �أف�ضل �أن ال �أفعل.
ت�شاء ...ولكن ال �أريد ان اعي�ش بقية حياتي هكذا -مرافقا ً للحفر. دانيال :الرب و�ضع النفط حتت ا ألر�ض يف مزرعتك ملن لديه
و�سوف يت�شارك حفيدي والكني�سة بهذه الرثوة عندما ي�أتي ال�شجاعة يف البحث عنه� .إنه موجود هناك لي�صبح �أحدهم ثرياً.
الوقت لهم. هل �ستخطو �إىل ا ألمام معنا وت�أخذ ح�صتك؟
دانيال :يا �سيد باندي � -أنابيب البرتول �شديدة � -إنها لن تعكر � -أح�رض ما �أعطاك �إياه اهلل -
�صفو حياتك. باندي� :أعرف �أنك ترغب يف حق املرور يف هذه ا ألر�ض .انك
باندي :ب�إمكانك بناء �شبكة انابيبك �شمال �أر�ضي ،بعيدا ً عني تقوم ببناء �شبكة انابيب.
-دون �أحداث �أية فو�ضى. يهز دانيال بر�أ�سه« ،نعم»
دانيال� :شكراً. باندي :اهلل قال يل مبا عليك ان تفعله -
باندي :ولكن عليك ان تغت�سل بدماء احلمل. دانيال :ما هذا؟
دانيال :ما الذي يجب ان افعله؟ باندي :يجب ان تغت�سل يف دماء ي�سوع امل�سيح �سيدنا -
باندي :ان تكون جزءا ً من الكني�سة. دانيال :ولكنني كذلك .لقد فعلت ذلك ..
دانيال - :ولكن اذا تريدين �أن �أفعل؟ باندي :انت كاذب.
باندي :ان ت�سمع كلمة �إيلي وت�ستمع �إىل توراته .وحت�صل على (نقرة).
املغفرة عن هذه اخلطيئه التي فعلتها .هذا كل ما اطلبه منك. دانيال :لقد كنت -
دانيال :خطيئتي عن -ماذا؟ احلفر؟ باندي� :أنت تقول كذبا ً �أمامه.
باندي ينظر �إليه وك�أنه يريد ان يقول�« ،أنت تعرف»- عليك �أن تغت�سل بدماء ي�سوع امل�سيح � -إنها طريقك الوحيد
208 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
�آخر .لي�س هنالك �شيء �آخر� .إنه يقف بديال ً للخال�ص .لن حت�صل باندي :ــ
على اخلال�ص بالف�ضة والذهب ولكن بدم ي�سوع امل�سيح. دانيال - :ماذا -؟
وقد يقول �أحدهم �إقر� أ كتبا ً جيدة ،افعل �أفعاال ً جيدة ،ع�ش حياة باندي :ب�إمكانك ان تدفن �شيئا ً بعيدا ً يف قرب ،ولكن اهلل يرى كل
جيده ول�سوف حت�صل على اخلال�ص� ،سوف حت�صل على اللعنة. �شيء وعليك �أنت �إجابته يف النهاية.
هذا ما �ستح�صل عليه .جميع كتب ا ألر�ض لن تبقيك خارج نقرة.
اجلحيم دون تكفري دوااااء ي�سوع امل�سيح� .إما ي�سوع امل�سيح �أو باندي :انت تعرف خطيئتك.
ال �شيء لكل خاطئ على �أر�ض اهلل .دانيال بالينفيوا خطي ا آلن دانيال -:هذا الرجل جاء يبحث عني ،هدّد حياتي -وهدّد
نحوي !!!!!! ابني -هذا الدجال -كانت يف معر�ض الدفاع عن النف�س.
يقف دانيال ي�صل عند �إيلي فوق املن�صة. باندي -:قل هذا هلل� .إن ا ألمر بينك وبيني وبني اهلل .ثق مبا
�إيلي� :شكرا ً ملجيئك ايها ا ألخ دانيال. اقوله لك .اال تريد ان يغفر اهلل لك ما فعلت.
دانيال� :شكراً ،يا �إيلي. دانيال-:
�إيلي :بيننا ا آلن خاطئ يبغي اخلال�ص! دانيال هل انت زاوية -بعد حلظات
خاطئ؟ يقف دانيال ،يج ّمع نف�سه للمغادرة -يناوله باندي ا�سلحته
دانيال :نعم. -يجمع دانيال امل�سد�سات -تو ّقف .حلظة من الثقة بينهما
ايلي :الرب ال ي�سمعك ،قلها له. -ينظر دانيال �إليهم -ثم؛ ينظر من النافذة فريى -:حفيد
دانيال :نعم. باندي ال�صغري ،وليم ( 12عاماً) ي�أتي ب�إجتاه املنزل.
ايلي :اركع على ركبتيك ثم ارفع نف�سك امامه. لقطة مقرّبة لدانيال بعد حلظات ،يدخل وليم -تو ّقف .منهك
يركع دانيال على ركبتيه. القوى ،يخرج.
ايلي :انظر نحو ال�سماء وقلها. قطع �إىل
دانيال :ال اعرف ما �أقول. داخلي .كني�سة الر�ؤيا الثالثة .بعد يوم
ايلي :دانيال ،لقد جئت �إىل هنا وجلبت معك اخلري والرثاء ولكنك يدخل دانيال نظيف املحيا ،بعد ب�ضعة �أيام .ميلك �إيلى ا آلن
اي�ضا ً جلبت معك عاداتك ال�سيئة ك�إن�سان مرتدّ. مكتبا ً وب�ضعة م�ؤيدين يقفون معه .يالحظ وجود دانيال فيقف
لقد تبعت �شهواتك نحو الن�ساء ولقد تخلّيت عن ابنك ابنك الذي وقد جفل بع�صبية.
ربيته ،لقد تخليت عن كل �شيء ألنه كان مري�ضا ً ولقد ع�صيت يحملقان يف بع�ضهما البع�ض.
اهلل -ولذلك فعليك ان ترددها ا آلن وتقول «�أنا مذنب» قلها، �إيلي� :إياك �أن ت�رضبني.
قل «�أنا مذنب». داخلي .كني�سة الر�ؤيا الثالثة .نهارا ً
لقطة مقرّبة -دانيال تبد� أ الكامريا يف لقطة مقرّبة على دانيال .الكني�سة ا آلن
تبد� أ اجلموع بالتململ وهم يحاولون ت�شجيعه ليقولها - مزدحمة باحل�ضور .عمال .عائلة �صنداي� ،أتباع ،فالحون ،الخ
دانيال يغلي. �آل روز وباندي.
�إيلي :قلها :انا خاطئ. وقد ح ّطم احلائط اخللفي للكني�سة وو�ضعت مكانه خيمة كبرية
دانيال :انا خاطئ. حماطة با ألو�ساخ و�ألواح خ�شب ا ألر�ضية حيث قام �إيلي
ب�أعمال التو�سيع.
ي�سري �إيلي حول املكان بخيالء وعظمة والعرق يت�صبب منه
وهو يقف على خ�شبة املن�صة يلهث .الكني�سة مليئة باحلما�س
واحلرارة.
�إيلي� :أمتنى من كل قلبي �أن يتمكن كل �إن�سان من اخلال�ص ولكن
الق�ضية لي�ست كذلك .قانون اخلال�ص العاملي كذب ،امتنى �أن
يتمكن كل �إن�سان من اخلال�ص .ولكنهم ال ي�ستطيعون ! كال ال
ي�ستطيعون! لن تتمكن من اخلال�ص �إذا ما ..؟
الكني�سة� - :إذا ما رف�ضت الدم!
�إيلي� :إذا ما رف�ضت الدم ،هذا �صحيح ! و�إذا مل يكن من �أجل
التكفري عن الدماء فكان من ا ألوىل لكم نزع �سقوف الكنائ�س
وحرقها� .إنها ال ت�ساوي �شيئاً .لوكن طاملا كان الدم على
كر�سي الرحمة فيمكن للخاطئ ان يعود ،ولي�س عن �أي طريق
209 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
دفء ينبعث من املوجودين هناك جميعا ً ... ايلي :انا �آ�سف ايها الرب.
يبد� أ دانيال با إلح�سا�س ..يلم�سون ر�أ�سه من اخللف وكتفيه دانيال :انا �آ�سف �أيها الرب.
مانحني �إياه حباً. ايلي :اريد الدم.
يالحظ �إيلي هذا. دانيال� :أريد الدم.
�إيلي -:هذا يكفي ا آلن -هذا يكفي -يجب ان ي�أخذ الروح ايلي :لقد تخليت عن ابني.
القد�س �إىل داخله ولوحده ا آلن -ي�ستدير �إيلي مبتعدا ً -يتوزع دانيال :لقد تخليت عن ابني.
اجلميع ببطء مبتعدين عن دانيال - ايلي :لن �أرتد ابداً.
قطع �إيل: دانيال :لن �أرتد �أبداً.
خارجي .الكني�سة .نهاراً. ايلي :كنت �ضائعا ً ولقد وجدت نف�س ا آلن.
دانيال يف اخلارج حماطا ً باخلريين من النا�س وعمال الرافعات دانيال :كنت �ضائعا ً ووجدت نف�سي ا آلن.
واجلميع. ايلي :لقد تخليت عن ابني.
ت�أتي ا ألم �صنداي وماري وروث ويحيونه ويغدقون عليه ينظر دانيال نظرة �صارمة نحو ايلي .تو ّقف.
العواطف والدفء -تو ّقف .ينتهي هذا امل�شهد مباري يقف دانيال بني تكذيبها/الر�ضوخ �إليها/واالنفجار يف وجه
ودانيال. �إيلي.
قطع �إيل: ايلي :خاطبه وقلها ايها اخلاطئ.
داخلي .مكتب خميم بالينفيو الرئي�سى .نهاراً. دانيال :تخلّيت عن ابني.
يجل�س دانيال وفلت�رش -دانيال �ساكتاً. ايلي :خاطبه .قلها ب�صوت عا ٍل.
فلت�رش :ماذا تريد؟ دانيال :تخليت عن ابني .تخليت عن ابني .تخليت عن ابني.
يهز دانيال ر�أ�سه «ال �شيء» �إيلي :تو� ّسل من �أجل الدم.
دانيال :انها حول ال�ضحكة ا ألخرية يا فلت�رش. دانيال :اعطني الدم يا ايلي ،دعني اخل�ص مما �أنا فيه.
دانيال� :أريد ان اعيد هـ.و� ..إىل هنا خارج تلك املدر�سة. يا الهي اعطني الدم فقط ودعني اخل�ص مما �أنا فيه.
فلت�رش - :ملاذا؟ يتالعب �إيلي مب�شاعر اجلمهور .دانيال على ركبتيه.
دانيال :لن �أ�رشح ما يف نف�سى لك -اذهب واح�رضه �أعده �إىل �إيلي :هل تقبل ي�سوع امل�سيح كمخل�ص �إلهي؟
هنا -البد ان هنالك واحد يف تلك املدر�سة م�ستعد لتعليمه دانيال :نعم.
كيف يتكلم وهذا ميكن ان ن�أخذه وندفع له �أكرث من ذلك املكان �إيلي :اخرج من هنا ايها ال�شيطان.
- ي�صفع �إيلي دانيال على وجهه.
فلت�رش :ملاذا ال ت�أتي معي؟ لت�أخذ �إجازة من كل هذا. �إيلي :اخرج ايها ال�شيطان ! اخرجي ايتها اخلطيئة !
دانيال ال يجيب ،يجمع بع�ض ا أل�شياء ويخرج - ي�صفعه �إيلي مرة ثانية بق�سوة.
قطع �إىل: �إيلي :هل تقبل كني�سة الر�ؤيا الثالثة كمر�شد روحي لك؟
داخلي .مدر�سة ال�صم�/سان فران�سي�سكو -البهو -بعد �أيام. دانيال :نعم.
امتعة هـ.و .و�ضعت يف حزمة ،وفليت�رش يقوده �إىل اخلارج وهو ي�صفع �إيلي دانيال على وجهه مرة ثانية.
يودّع وي�شكر الهيئه التعليمية. �إيلي� :أخرج من هنا �أيها ال�شبح! �أخرج من هنا و�أرجع �إىل
يخرج هـ.و .وفليت�رش. مكانك!
قطع �إىل: ي�صفع �إيلي دانيال مرة ثانية .ثم يدفع بيده جبهة دانيال
داخلي� .سيارة بالينفيو النقل اخلا�صة .نهاراً. ليدفعه �إىل اخللف.
هـ.و ..وفلت�رش يف القطار .يراقب فلت�رش هـ.و ..ومعهما �شاب �إيلي :هل تقبل ي�سوع امل�سيح كمخل�ص لك؟
يف الع�رشينات يدعى جورج رينولدز ،وهو مدرّ�س جاء معهم دانيال :نعم �أقبل.
من املدر�سة وهو يراجع كتاب �إ�شارات لغوية ويراجع �إ�شارات يح�رض �أحد �أتباع �إيلي وعاء ماء مقد�سا ويناوله �إىل �إيلي الذي
التخاطب مع هـ.و ..وهذا يت�ألف من ا إل�شارة �إىل اال�شياء �أو مي�سك دانيال من �شعره وي�شد ّ ر�أ�سه �إىل اخللف ،ويرتك املاء
ا إلي�ضاحات مرتافقة مع حركات منا�سبه ،الخ. ين�سكب فوقه ...
ي�أتي فلت�رش ليجل�س معهم. يقف دانيال -تو ّقف .ي�أخذ مقعده.
قطع �إىل: يحييه النا�س مرحبني ،ومي�سكوا به ،يلم�سوه ،يهنئونه ،الخ.
خارجي .حقول النفط/ليتل بو�سطن .نهاراً. ي�أتي باندي ومي�سك كتف دانيال -اطفال �صغار ي�أتون
ي�سري فلت�رش عرب الرافعات مع هـ.و ..وجورج -يجدو دانيال - ليلم�سون يديه -ن�ساء يهدئنه مرحبات به.
210 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
به ا آلن -وهكذا ف�أنت تبدو غبيا ً يا هاملتون .الي�س كذلك؟ ي�سري دانيال نحوهم يركع على ركبتيه ويعانق هـ.و -..مي�سك
تيلفورد :نعم. وجهه ويقبله -ي�سري بعيدا ً معه لينفرد به -
دانيال :قلت لك ما الذي كنت �س�أقوم به - جورج وفلت�رش يراقبانه.
مل ي�ستطع دانيال ان مينع نف�سه من دفع املائدة بردفه وهو زاوية ،هـ.و ..ودانيال
يتحرك بعيدا ً -تن�سكب ا أل�شياء. ي�سريان يعانقه بني ذراعيه.
قطع �إيل: قطع �إىل:
داخلي .خيمة/مكان �إقامه .ليالً. داخلي .مطعم فاخر/ايزابيلال كونتي -ليال ً -فيما بعد
هـ.و ..ودانيال معاً؟ يجل�س دانيال و هـ.و ..يف مطعم فاخر -رجال هـ.و ..تتدىل من
دانيال :اعتقد انه علينا ان نرتك هنا يا هـ.و ..ال اعتقد انه الكر�سي -وهو يجل�س �صامتاً.
ب�إمكاننا البقاء. دانيال� :سن�أتي لك بوجبة جيده -هذا كل ما نحتاج اليه هنا
يقوم ب�إ�شارات تقول «�أنت و�أنا»« ،علينا ان نغادر املكان». وجبة قوية جيده غالية الثمن -هل �أنت جائع؟
يقوم ب�إ�شارات تقول« ،كلمني ».هـ.و ..يَت َ َكلَّم. تو ّقف .دانيال مت�ضايق .ي�أتي نادل اليهم.
هـ.و :..ال �أريد �أن �أترك هنا. دانيال� :رشيحتني من اللحم .ووي�سكي؟
دانيال :ملاذا؟ النادل :نعم.
هـ.و :..ال �أريد ان �أتكلم بعد ا آلن ال �أحب ذلك. دانيال :وماء ٌ له .وحليب
دانيال :هنالك �أ�سباب .وال �أريد ان ابقى هنا بعد ا آلن -عل ّي تو ّقف .دانيال .تو ّقف .على هـ.و.
�أن �أغادر. يحدثون بع�ضهم البع�ض.
هـ.و :..ال اريد �أن �أتكلم بعد ا آلن. دانيال :لقد عر�ضت علينا �ستاندارد مليون دوالر ك�إيجار لليتل
يجل�س دانيال و هـ.و ..معا ً لربهة من الزمن .ينه�ض دانيال بو�سطن.
ويغادر املكان -تو ّقف .هـ.و ..لوحده... قلت لهم ال.
ثم� :إنحالل تدريجي طويل ،طويل ،طويل �إىل : وقعنا اتفاق مع يونيون و�سوف نبد� أ يف �شبكة ا ألنابيب ن�ستطيع
داخلي� .سيارة بالينفيو النقل اخلا�صة 1924 -احلدث ان نراه غداً.
ا ألخري/مو�سيقى). نقرة.
بعد خم�سة ع�رش عاماً .هنالك ثالثة رجال -ب�إمكاننا �أن نرى دانيال :هل ت�سمعني؟ هل انت تنظر �إيل وت�ستطيع حقا ً �سماع
اثنني منهم� ،أحدهما جورج رينولدز ،من املدر�سة ،وهو يتكلم �صوتي؟ ماذا تفعل؟
ب�صوت عال �إىل �سكرتريه بالقرب منه والتي تقوم بالطبع بينما تو ّقف .يجل�سان ـــ
يتكلم جورج -جورج ينظر مع �شخ�ص ظهره نحو الكامريا- دانيال� :سوف ن�أتي بذلك املدر�س لي�ساعدك ويهتم بكل هذا.
الكامريا تندفع �إىل �إجتاههم. ألنني احتاج �إليك� .أحتاج �إىل م�ساعدتك.
جورج« :ال �شك انك �ست�شاركني الر�أي ب�أنه لدينا �أ�سباب عديدة لقطة مقرّبة .دانيال.
تدفعنا ألن ن�شكر احلاكم ا ألعلى لكل ا أل�شياء على النمو الوا�ضح ينظر �إىل اجلانب ا آلخر من املطعم ويرى �شيئا ً -فت�ضيق عيناه
-ويقف ،تاركا ً هـ.و..
تتبعه الكامريا عرب املكان اجلميل -وهو ي�صل �إىل مائدة
�أخرى :يجل�س هنا هـ.م .تيلفورد ،من �ستاندارد �أويل ،الذي
قابلناه �سابقا ً وهدده دانيال .يجل�س مع زوجته.
يقف دانيال بقربه.
دانيال :اريدك �أن تنظر �إىل هناك.
تيلفورد :مرحباً ،يا دانيال.
دانيال :انظر �إىل هناك .هذا �إبني .هل تراه؟
�أترى؟
تيلفورد :دانيال ..
دانيال :هل تراه؟ لن تقول يل كيف �أن�شئ عائلتي.
قلت لك ان ال تقل يل كيف �أن�شئ عائلتي �إذا ماذا ترى؟
تيلفورد :انا �سعيد من اجلك ان كل �شيء ..
دانيال :عقدت اتفاقا ً مع يونيون وابني �سعيد و�آمن و�أنا �أعتني
211 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
اجلميع وهم يركعون على ركبهم .وي�صلّون. ألعمالنا ،والتطور املجزي ملمتلكاتنا واخلدمات الهامة
قطع �إىل: التي متكنا من �إ�سدائها للجمهور .هذا �أف�ضل زمن يف تاريخ
خارجي .مزرعة �صنداي/منطقة املخيم الرئي�سي .نهاراً. ال�رشكات وال �شك �أن جميع امل�ساهمني يوافقونني على هذا
حفلة زفاف ت�أخذ مكانها يف اخلارج على موائد رحالت ،الخ الر�أي .كل هذا مردّه للم�ساعدة ال�ضخمة التي قدمتموها لتطوير
فرقه مو�سيقى نحا�سية� .آل روز وجمموعة �أخرى من املرموقني ممتلكاتنا اجلديدة.
موجوده هناك. �أتطلع �إىل ر�ؤيتكم يف زفايف انا وماري وامل�شاركة يف هذا
زاوية ،هـ.و.. اليوم املجيد واملقد�س معكم .املخل�ص لكم هـ.و ..بالينفيو.».
يجل�س مع جورج الذي يف�سرّ له ما يتمناه له �أهل اخلري وقد تتحرك الكامريا حولهم لتظهر :هـ.و ..يف الثالثة والع�رشين وهو
جاءوا واحدا ً واحدا ً ليهنئونه ويباركون خطواته وميطرونه يوقع هذه الر�سالة جلورج� ،سكرتريه ومف�سرّ كالمه.
ب�شالل من املديح. هـ.و� ..شاب جميل ال�صوره ،انيق اللبا�س وقوي .يوقع على �شيء
قطع �إىل: �آخر جلورج ،والذي يو ّقع بدوره وينتهي عملهم.
خارجي .الرافعات/مزرعة �صنداي .م�سا ًء ينه�ض هـ.و ..ي�سري نحو عربة النقل حيث جتل�س ماري .ماري
يجل�س هـ.و ..وجورج وفلت�رش ،يجتمعون بعيدا ً عن احلفلة ... يف الع�رشين من العمر جميلة املحيا .يطبع هـ.و ..قبلة على
يحاول فلت�رش �إ�ستخدام لغة ا إل�شارات. جبينها ،ويجل�س قبالتها وي�شريان �إىل ا ألمام و�إىل اخللف -
فلت�رش :لغة �إ�شاراتي رهيبة ،انا �آ�سف. وخارج النافذ] تبد� أ االر�ض ال�صحراوية بالتغري.
ي�ؤ�رش هـ.و ..وك�أنه يريد �أن يقول «كال� ،إنه لي�س كذلك». �إنها مغطاة كليّا ً برافعات البرتول ألميال و�أميال.
فلت�رش :هل من ا ألف�ضل ان �أتكلم بدال ً عن ذلك؟ تو ّقف.
يهز هـ.و ..بر�أ�سه موافقاً« ،نعم» ،تابع». قطع �إىل:
فلت�رش :هل يعرف هو ما يجري؟ داخلي .حمطة قطار ليتل بو�سطن .نهاراً.
هـ.و/..جورج...ماذا؟ يخطو هـ.و .وماري خارج القطار �إىل حفلة ترحيب رائعة.
فلت�رش :الزفاف. هنالك اخليرّ من النا�س و�أفراد املجتمع ،عمال النفط.. ،الخ
هـ.و /..جورج :كال. جتد ماري و هـ.و� .أبيل ،وا ألم �صنداي وروث.
فلت�رش :هل �ستخربه؟ قطع �إىل:
هـ.و/..جورج :نعم. داخلي .منزل عائلة �صنداي اجلديد .نهاراً.
نقرة. نوع من حفلة لقاء يف هذا املنزل اجلديد املبني يف و�سط
هـ.و/..جورج :مل يكن يعنيه ان ي�شاهد زفايف يف كني�سة �أو �أن احلقول اجلديدة.
يرى عودتي �إىل ليتل بو�سطن .انه ال يحرتم ديني بتاتاً. تف�سرّ ماري لـ هـ.و .الكالم وهما يجل�سان مع �آبيل وا ألم �صنداي
تو ّقف .هنالك �سكون بينهم جميعا ً لربهة من الزمن. وروث وبع�ض ا آلخرين يف غرفة الطعام .روث �أ�صبح لها زوج
ينه�ض فلت�رش ومي�شي حول املكان. وهنالك بع�ض ا ألوالد حول املكان ،الخ.
هـ.و/..جورج :لدي ممتلكات �أريد تطويرها ،يا فلت�رش وي�رشفني حوار يدور بني �أفراد العائلة.
�أن تكون �رشيكا ً يل -االفتتاحات يف مك�سيكو بالقرب من �إحالل تدريجي �إىل:
تامبيكو -هل هذا مو�ضوع يهمك التفكري به؟ داخلي كني�سة الر�ؤيا الثالثه.نهارا ً
تو ّقف .ثم يقول فلت�رش التايل ب�رسعة: يقف هـ.و ..وماري عند املذبح �أمام الق�سي�س (يف ال�سبعني).
فلت�رش :حتما ً �أفعل .ولكن هذه �أ�شياء عليك �أن تنهيها معه - جاءت عائلة �صنداي وجمتمع عمال النفط لي�شاهدو الفرح.
ممكن �أن اكون معك� ،إذا ما �أردت ذلك -ولكن عليك �أن تخربه تغيرّ داخل الكني�سة وقد �أعيد تزيينها خ�صي�صا ً لهم.
عنها تدريجياً. زاوية ،بني اجلموع.
نقرة. هنالك فلت�رش (يف ا ألربعينات) يتابع هـ.و ..وماري بزهو
لقد �أ�صبحت رجال ً جيدا ً يا هـ.و .مل �أكن ألفتخر بك �أكرث لو كنت وحب.
ابني. لقطة مقربة .ماري .ت�ستمع وتنظر نحو الق�س.
هـ.و/..جورج� :شكرا ً لك. لقطة مقرّبة هـ.و .يراقب فم الق�س .ي�أخذ ذلك الق�سم بعمق
فلت�رش :هل تريدين هناك؟ وي�شارك يف تلك االحتفالية بكل تفا�صيلها.
يهز هـ.و ..ر�أ�سه« ،كال» يتابعان الكالم. يختفي ال�صوت ونراقب ق�سم زواجه ب�صمت،
�إحالل تدريجي �إىل: الق�س -:يف عني اهلل �أنتما زوج وزوجة.
داخلي .منزل �صنداي اجلديد .ليالً. يطلب من جموع امل�صلني الركوع وال�صالة .تو ّقف .ومراقبه
212 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
نقره. داخل هذا املنزل املبني حديثا ً ويف غرفة نوم ي�ستلقي هـ.و..
دانيال� :إذا كنتم تخططون لذلك. وماري معاً.
هـ.و/.جورج :لقد قرّرنا ذلك عندما رف�ضت ال�سماح بالزواج تو ّقف .ي�شريان لبع�ضهما �إ�شارات حب .لقطة مقربة على وجه
الكن�سي - هـ.و..
دانيال :لقد قررنا معا ً ان نقيم العر�س هنا. قطع �إىل:
هـ.و/.جورج :لقد قرّرت .وانا �أردت �أن �أكون مع عائلة ماري داخلي .منزل بالينفيو بالقرب من البحر .نهاراً /الغ�سق
يف يوم زفافنا -ما زال ب�إمكاننا �أن نقيم حفلة هنا ،يف نرى نقاطا خمتلفة من منزل دانيال وممتلكاته على ال�شاطئ
املنزل� ،إحتفالية - يف كاليفورنيا.
دانيال :ملاذا مل تقل يل ذلك من قبل؟ رخام بارد من الع�رص الفكتوري/طراز غوطي� .ضخم .قاعات
هـ.و/.جورج :مل يكن هنالك �سببا ً للقتال حول هذا املو�ضوع وممرات ،غرف نوم ،مطبخ� ،أرا�ضي ،مرائب� ،إ�سطبالت ،مالعب
معك .لقد �سبق وقررت منذ البداية� ،أن هذا يجب �أن يكون زفاف تن�س ،ردهات ،برك ،قاعات رق�ص ،منطقة رماية مالعب
كني�سة -واعرف �أنك غري موافق على معتقداتي .. بولنج.... ،الخ
دانيال� :إذا �أنت ت�شعر هكذا وال تريدين �أن �أعرف؟ قطع �إىل:
وال متلك اللياقة الكافيه لكي ت�سمح يل باملفاو�ضة معك؟ داخلي -منزل بالينفيو -الردهة /ممر القاعة -نهارا ً (فيما
هـ.و/.جورج� :إمياين لي�س مو�ضوع مفاو�ضة .وكذلك �إميان بعد)
ماري .دعنا نقيم حفلة هنا لنحتفل بزواجنا -نحن نحب ذلك. ي�أتي هـ.و ..وجورج ي�سريان يف هذا املمر الطويل املظلم -
تو ّقف .يقف دانيال وي�سري حول املكان - يدخلون من الباب ا ألمامي.
نالحظ انه لي�س خفيف احلركة كما كان �سابقا ً -وا�صبحت تتحرك الكامريا �إىل لقطة مقرّبة على هـ.و .وهما ي�صالن �إىل
حركته تعبرّ عن �سنّه .تو ّقف. مكتب دانيال.
دانيال :هل هذا هو ا ألمر �إذاً؟ قطع �إىل:
هـ.و/.جورج :هذا �شيء �صعب عل ّي قوله ،ولكنني �س�أقول لك داخلي .منزل بالينفيو -مكتب دانيال -تلك اللحظة
�أوالً :انا �أحبك كثرياً. نرى دانيال ا آلن ،هو �أكرب �سنّاً ،يف مكتبه والذي هو يف احلقيقة
تو ّقف .نقره .ثم: �صغري وفو�ضوي.
هـ.و/.جورج :هنالك �صفات -جايك كويف هنا ،يعمل مع �ستور�س ،وقد بقي رفيقه الوحيد
طورتها و�شاهدتها عرب يف العمل وكذلك �سكرتري �آخر .يدخل هـ.و� ..إىل الداخل ،يبدو
ال�سنني .تعلمت ان �أحب ما على دانيال انه جاهز ل�شيء؛
�أفعل كما علمتني .وا آلن، دانيال :كيف كانت رحلتك؟
�أملك �رشكة واريد �أن �أبد� أ - يف�رس جورج /ويتكلم بدال من هـ.و..
افتقد العمل يف اخلارج .افتقد هـ.و .جورج :جيده� ،شكراً.
احلقول وهذه ال�رشكة �ست�سمح نقره.
يل �أن ا�ستعيد ذلك .ولذلك ف�أنا ي�شري هـ.و .ويتكلم جورج:
اريد �أن ا�ستقيل من عملنا معا ً هـ.و/.جورج :هل ميكن �أن نبقى لوحدنا؟
والذهاب �إىل مك�سيكو. دانيال :لقد ذهبت لتح�رض عائلة �صنداي� ،أين هم؟
دانيال :يتو ّقف عند ذلك كله. هـ.و/.جورج :نحن بحاجة ألن نبقى منفردين ،من ف�ضلك.
ينظر حوله وينظر �إىل جورج. دانيال :ه�ؤالء �أقرب العاملني معي با�ستطاعتهم ان ي�سمعوا كل
دانيال (خماطبا ً جورج) انا ال �شيء� .أين كنت؟
�أ�صدق انك تقول يل ما يقوله ف�ضل ان اتكلم معك على انفراد. هـ.و/.جورج� :أنا � أ ّ
ابني. دانيال :انت ال ت�ستطيع الكالم� .إذا ملاذا ال جتاوبني على �س�ؤايل
جورج- - : حول �أين كنت؟
دانيال (خماطبا جورج) هذه نقره.
لي�ست كلماته -ماذا حتاول هـ.و/.جروج :لقد تزوجت.
ان تثري هنا؟ ال ت�شري له بهذا!
دانيال :ملاذا؟
ال تفعل! �أنا �أخاطبك!
هـ.و/.جروج :قررنا �أنا وماري ان نتزوج يف مزرعة �صنداي
ي�شري جورج �إىل هـ.و .دانيال
يف ليتل بو�سطن .ولقد قررنا �أن نلغي م�شاريع الزواج هنا.
213 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
s
s
s
�إنه �شيء يقال أل�سمعه �أنا. �إيلي :كيف ت�سري خمططات حفل الزفاف؟
بعد تفكري طويل؛ وتو ّقف طويل ،ي�صبح �إيلي جاد جداً. دانيال- :
�إيلي -:متى ن�ستطيع البدء باحلفر؟ �إيلي� :آمل ان يكون هـ.و .وماري يف حالة جيدة ،ينتظران اليوم
دانيال :حاالً. الكبري الذي ينتظرهما.
�إيلي :وكم من الوقت يتطلب �إدخال البئر؟ دانيال- :
دانيال :ب�رسعة �شديدة. �إيلي� :شيء رائع .نعم ،كانت �أعمايل وا�سعة جداً.
�إيلي :تريد الكني�سة مبلغ مائة الف دوالر مقدمة زائد اخلم�سة كنت �أعمل يف الراديو ،ال �أدري ان كنت ت�سمع بثّي ،ولكنني ا آلن
�آالف التي لها. مهتم ب�صناعة ا ألفالم التي نعمل عليها ،وهكذا ...
دانيال :هذا حق متاماً. �أ�شياء كثرية حدثت - ،ولكن �أن �آتي �إىل هنا و�أجدك و�أراك
نقرة .تو ّقف .ثم: يف حالة جيده فهذا �شيء رائع واملجال �أمامنا مفتوح لتلحق
�إيلي :اتفقنا. بالركب.
دانيال� :أي �إتفاق. نقرة .يا �شقيقي بالزواج -نحن ا�شقاء ،يا دانيال.
�إيلي� -:أنا نب ّي كاذب و�إالهي خرافة� .إذا كان هذا ما ت�ؤمن به، زاوية ،بعد حلظات.
�إذا �س�أقوله. يجل�سان معا ً وي�سكب دانيال له ك�أ�ساً ،في�رشبه �إيلي دفعة
دانيال :قله وك�أنك تعنيه متاماً. واحدة .وكذلك ي�رشب دانيال،
�إيلي :دانيال. تتحرك الكامريا ببطء �إىل الداخل.
دانيال :قله وك�أنه موعظتك . �إيلي :دانيال� :أرجو ان ال يزعجك جميئي باكرا ً بب�ضعة �أيام -
�إيلي :هذا غباء ،يا دانيال. ولكنني جئتك ب�أخبار هامة -لقد توفى اهلل ال�سيد باندي.
دانيال :هل تريد هذه ال�صفقة؟ يتو ّقف �إيلي .ير�سم عالمة ال�صليب ويتلو �صالة �صامتة ثم:
ايلي�« :أنا نبي كذاب و�إالهي خرافة» هل هذا ح�سن؟ �إيلي :لقد عا�ش حتى ( - )103ومبوته فتحت و�صيته.
نقرة .ولذلك ف�إن كني�سة الر�ؤيا الثالثة كوريثه لرثوته،
دانيال :هذه املناطق قد حفرت.
�سي�سعدها �أن ت�شاركك العمل.
�إيلي :كال مل حتفر.
دانيال -ي�سعدين �أن �أراك يا ايلي -
دانيال� :إنها تدعى م�صارف مياه� .أنا �أمتلك كل ما حولها � -إذا
�إيلي :نعم� ،شكرا ً لك ،يا دانيال -انا �سعيد بر�ؤيتك �أي�ضاً.
�س�أح�صل على كل ما حتتها. نقرة �رسيعة .دانيال يحملق به فقط .تو ّقف .تو ّقف
�إيلي :ولكن هذه املنطقة لي�س بها رافعات. تو ّقف.
هذه �أر�ض باندي -هل تفهم؟ �إيلي :ما ر�أيك؟ نقرة� .ستت�رشّف الكني�سة ب�أن تقيم عمال ً معك.
دانيال :هل تفهم �أنت؟ �أنا �أ�رشب ماءك ،يا �إيلي. دانيال :ي�سعدين �أن اقيم عمال ً معك يا �أخ �إيلي.
�أنا �أ�رشبها كلها .كل يوم .ا�رشب دم احلمل من �أر�ض باندي. ي�أخذ �إيلي يد دانيال.
ايلي� :آه �أوه. �إيلي :هذا �شيء رائع ،رائع� ،آه يا دانيال ،ليباركك اهلل:
�سكوت غري مريح بينهما ،ثم:
دانيال :هنالك �رشط واحد.
�إيلي- :
دانيال� :أريد منك �أن تقول يل حاال ً انك نب ّي مزيف وان �إالهك
خرافة.
�إيلي :ماذا؟
دانيال� :أريدك �أن تقول يل �أنك كنت وما زلت نب ّي مزّيف و�أن
�إالهك خرافة.
�إيلي -ولكن هذا كذب.
دانيال-:
�إيلي :هذا كذب .ال �أ�ستطيع �أن �أقول هذا.
دانيال :ال يهمني �إن كان هذا �صحيحا ً �أم ال؛ �إنه ما عليك
ان تفعله �إذا ما �أردت ان حتفر هذه امل�ساحات و�إذا ما �أردت
امل�شاركة يف هذه الرثوة.
215 نزوى العدد / 61يناير 2010
�سينما� ..سينما� ..سينما
s
s
s
s
s
s
ي�سقط دانيال نحو ا ألر�ض -ويتنف�س بثقل وقد امت أل بالدماء جيبي .هل تعتقد ان اهلل �سيوازن ا�ستثماراتك؟ اهلل ال ينقذ
-تو ّقف قليل معه على وجهه. ا ألغبياء ،يا �إيلي� .أنت مفل�س و�أنت عاجز وانت منتهي.
زاوية ،على الدرج امل�ؤدي �إىل قاعة البولينج. ايلي :ال �أنا ل�ست كذلك.
ترتاجع الكامريا لرنى جاك كويف ينزل من على ال�سالمل ببطء دانيال :هل اعتقدت �أن غناءك ورق�صك وخرافاتك �سوف تنقذك؟
-ببطء -فتظهر له امل�شهد الرهيب: انا الر�ؤيا الثالثة! انا الذي اختاره ا إلله .ألنني اذكى منك� .أنا اكرب
ويرى الدم املن�سكب على ا ألر�ض -ويرى دانيال - منك واكرث حكمة وانا ل�ست نبيا ً مزيفاً ،ايها الولد املتباكي.
تو ّقف على وجه جايك وحقيقة هذه الفو�ضى -ي�ستدير دانيال لقد انتهيت.
حوله - ايلي :ال مل انتهي ،كال.
دانيال :لقد انتهيت. دانيال :نعم.
قطع �إىل: ايلي :اعرف بقعة يف �أر�ض باندي مل حتفر حتى ا آلن ...
داخلي هـ.و/.منزل ماري -يتابع. لقطة مقربة لدانيال ،يتو ّقف ..
هـ.و .وماري وهو ينهي كلمته لها؛ ايلي :هنالك بقعة واحدة ت�ستحق احلفر.
هـ.و/ .ماري :كم من النا�س ي�ستطيعون القول �أنهم قد عرفوا يبقى دانيال �ساكنا ً -وبعد ب�ضع دقائق ،يتقدم نحو �إيلي ،ويف
حب حياتهم منذ اللحظة التي ب�إمكانهم تذ ّكرها؟ طريقه �إليه يلتقط عامود ف�ضي ثقيل -يرتاجع �إيلي �إىل اخللف
�أنا ال �أعرف الكثريين .واعترب هذا ال�شعور �أعمق �سعادة ا�شعر زاحفا ً على ا ألر�ض -ي�أتي دانيال فوقه ويجل�س على �صدره -
بها. ويثبت ذراعاه -ويدفع العامود �إىل ا�سفل نحو جمجمة �إيلي.
�أنت التي �أقي�س بها كل �شيء �آخر. زاوية ،تنظر �إىل دانيال .تقوده �إىل �إيلي -تو ّقف.
مل يلب�س �أحد خامتي ومل يقدم ألحد �سواك. قطع �إيل:
انا لك وكنت كذلك منذ اللحظة ا ألوىل التي تقابلنا فيها منذ داخلي .هـ.و/.منزل ماري .م�سا ًء.
زمن بعيد. جتمع اجلميع يف غرفة جلو�س جميلة.
«يا بنيتي ال�صغرية ال ميكنك ان ترتكبي �أي خط� أ يف نظري. ي�شري هـ.و .نحو ماري ،وهي تف�رس لل�ضيوف ،هذه كلمته لها:
حبك اف�ضل ما يف هذا العامل ،يا ماري عندما �أكون معك ال هـ.و/.ماري� :أنا �أعتقد ب�صدق انني اعتربتك مثال ً �أعلى منذ
�أعود ا�شعر باخلوف. اللحظة ا ألوىل التي قابلتك فيها .و�أعرف �أنني �س�أعتربك عالية
�أنا زوجك احلبيب هـ.و ..متت أل ماري بالعاطفة من جراء ما املقام كزوجة يل لدرجة انني لن �أخاطبك بكلمة قا�سية« .يا
قاله لها. فتاتي ال�صغرية»� ،س�أعمل ما يف و�سعي ألك�سبك واحتفظ بك
تو ّقف .لقطة مقرّبة على هـ.و .وهو ينظر �إىل كل �شيء حوله و�س�أكون �أ�سعد �إن�سان يف العامل �إذا ما ا�ستطعت �أن �أرى اخلامت
مت�ضمنا ً ماري وال�ضيوف .تو ّقف. الذي و�ضعته يف �إ�صبعك كل يوم وحتى �آخر �أيام حياتي.
يبت�سم هـ.و.... قطع �إىل:
ال�صوت يختفي تدريجياً. داخلي .منزل بالينفيو .قاعة البولينغ .يتابع
النهاية
تنظر الكامري مبا�رشة �إىل �أ�سفل على االر�ض اخل�شبية الوا�سعة.
ي�سيل الدم ببطء داخل ا إلطار.
انه ينت�رش ويتحرك مثل ار�ض بطيئة االنزالق -يغطي ا ألر�ض.
تتحرك الكامريا �إىل اخللف قليال ً لتظهر؛ -الدماء ت�سيل من
جمجمة �إيلي واجلرح الذي يف ر�أ�سه ملتوي ب�شكل خطري وال
يتحرك.
دانيال يجل�س بعيدا ً عن اجل�سد.
لقطة مقرّبة لدانيال.
عيناه رطبتان وفقد نف�سه من �شدة املعركة ،ينظر على ما فعلت
يداه .تو ّقف.
يجر دانيال جثة �إيلي على ممر قاعة البولينج تاركا ً خط من
الدم وراءه -
يرميه نحو قوارير لعبة البولينج و�إىل �أ�سفل من الفتحة التي
ت�ؤدي �إىل املخزن.
فوق عند خط البولينغ.
217 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شعر
218
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
219
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
«وطالء الباب من الناحيتني ،ت�صوري بكم؟» �أف�ضل �أر�ض املدنيني.
«زالل بي�ضتني ،وملء ملعقة طعام من ال�سكر» �أف�ضل البالد املغزوة على البالد الغازية.
«مل يكن له دخل ،ما الذي ح�رشه» �أف�ضل �أن يكون يل اعرتا�ضاتي.
«الزرق فقط ،واملقا�سات ال�صغرية فقط» أ �أف�ضل جحيم الفو�ضى عن جحيم النظام.
�أف�ضل حكايات أالخوين جرمي عن ال�صفحات أالوىل «خم�س مرات وال �أحد يرد»
«موافق ،كان ميكن �أن �أفعل هذا ،و�أنت �أي�ضا كان يف اجلرائد.
أ
ميكن �ن تفعليه» �أف�ضل الورق بدون زهور على الزهور بدون ورق.
«ح�سن �أنها مل ترتك وظيفة بعد الظهر» �أف�ضل الكالب غري معقوفة أالذناب.
«ال �أعرف ،رمبا أالقارب» �أف�ضل العيون الفاحتة ما دامت عيناي داكنتني.
«هذا الق�سي�س ممثل حقيقي .
()1
�أف�ضل أالدراج.
«مل �أ�صل قط �إىل هذا املو�ضع من اجلبانة» �أف�ضل �أ�شياء كثرية مل �أدرجها فيما �سبق
«حلمت به أال�سبوع املا�ضي ،هكذا على فج أ�ة» عن �أ�شياء كثرية غري مدرجة هنا.
«ابنته �شكلها لي�س �سيئا» �أف�ضل أال�صفار مبعرثة
«يح�صل لنا جميعا» عن اال�صطفاف من �أجل رقم.
للرملة ،هذا واجب» �أعمل ما يف و�سعي أ �أف�ضل زمن احل�رشة على زمن النجوم.
«كان �إح�سا�سها �أكرث وقارا بالالتينية» �أف�ضل مل�س اخل�شب.
«جاءت وراحت» �أف�ضل �أال �أ�س أ�ل كم تبقى ومتى.
«مع ال�سالمة يا مدام» �أف�ضل النظر حتى يف احتمال
«تعال نخطف لنا بريتني يف �أي مكان» �أن يكون لهذا الوجود �أ�سبابه.
«ات�صل بي ،ونتكلم»
«�إما رقم � 4أو »12
جنازة
«�أنا �س أ�م�شي من هنا» «فج أ�ة هكذا ،من كان يتوقع؟»
«نحن ال» «التوتر وال�سجائر� ،أنا قلت له»
«لي�ست �سيئة� ،شكرا»
حتت جنمة �صغرية معينة «فك هذه الزهور»
«�أخوه �أي�ضا قلبه يتعبه ،يبدو �نها وراثة يف �عتذر لل�صدفة �ين ��سميها ال�رضورة.
أ أ أ أ
�أعتذر لل�رضورة لو كنت �أخط أ�ت. العائلة»
أ أ
ويا �سعادة ال حتزين �ين �تخذك لنف�سي. أ
«ما كنت �س�عرفك بهذه اللحية»
وليغفر يل املوتى �أن ذكراهم جمرد بارق. «غلطته ،كان دائما يح�رش نف�سه»
«هذا الرجل اجلديد كان ينبغي �أن يلقي كلمة� .أنا ال �أعتذر للزمن على كم العامل الذي يغيب عني للحظة.
�أعتذر حلبيب قدمي �أين �أعامل حبا جديدا ك أ�نه أالول. �أراه هنا»
ويا �أيتها احلروب البعيدة �ساحميني على رجوعي «كازك يف وار�سو ،تادك �سافر»
�إىل البيت بالزهور. «�أنت الوحيد الذي كان ذكيا و�أح�رض مظلة»
ويا �أيتها اجلراح الفتوحة �ساحميني على وخزي «وما �أهمية �أنه كان أالكرث موهبة فيهم جميعا»
�إ�صبعي. «هي جمرد معرب ،لن ت�ستقر عليها با�سكا»
«طبعا كان على حق ،ولكن هذا �أي�ضا مل يكن �عتذر ملح�رض االجتماع ،وللذين ي�صيحون من داخل
أ
الهاوية. ال�سبب»
221 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�أعتذر ألهل حمطات القطارات �أين �أنام مطمئنة يف �أما آالن ،فهو متكور على نف�سه
يغط يف النوم. اخلام�سة �صباحا.
احلب أ أ
املطارد ،على �ضحكي �حيانا. َ �آ�سفة� ،أيها أالمل
الول �آ�سفة �أيتها ال�صحاري �أنني ال �أجري مبلعقة ماء.
و�أنت �أيها ال�صقر ،يا نف�س الطائر يف القف�ص يقولون
احلب أالولَ هو أاله ُم، �إن َّ ل�سنوات،
يا من حتملق دومنا حراك ،ودائما �إىل نف�س النقطة ،هو البالغُ الرومانتيكية،
ولكن لي�س يف حالتي. ا�صفح عني حتى �إذا حدث وحنطوك.
�أعتذر لل�شجرة �أن قُطعت من �أجل قوائم �أربعة كان �شي ٌء بيننا وما كان،
ظل �شي ٌء وما ظل �إال غيابا. منا�ضد.
آ
ال ترتع�ش يداي الن لل�سئلة ال�ضخمة عن أالجوبة ال�صغرية. �أعتذر أ
و�أنا �أحت�س�س تذكاراتي ال�سخيفةَ ويا حقيقة ،ال تلتفتي كثريا �إيلّ.
�و الر�سائ َل املربوط َة ٍ
بخيط ـ أ ويا جالل ،كن �شهما معي.
واحتملني ،يا غمو�ض الوجود� ،أنا التي ن�سلت من لي�س حتى �رشيطا من حرير.
يف لقائنا اليتيم بعد �سنني: حجابك تلك اخليوط.
ويا روح ،ال تلوميني ألين نادرا جدا ما �شعرت بك .ل�سنا �سوى مقعدين يتبادالن الكالم
�أعتذر لكل �شيء ألين ال �أ�ستطيع �أن �أكون يف كل على طريف من�ضدة باردة.
�أحبائي آالخرون مكان.
�أعتذر للجميع ألنني ال �أعرف كيف �أ�صري كل رجل ال يزالون يتنف�سون داخلي بعمق.
�أما هذا وكل امر�أة.
و�أعرف �أنه مهما طال بي العي�ش فلن يعذرين �شيء فال يجد من الهواء
ما يكفي لتنهيدة. ما دمت �أنا عقبتي ،ال �سواي.
احلال
ِ فال ت أ�خذ علي يا كالم �أنني �أقرت�ض الكلمات الثقال وبرغم هذه
َّ
يفعل ما مل يفلح آالخرون فيه بعد: ثم �أكدح من �أجل تخفيفها.
ال يطفو على الذاكرة،
ال يظهر حتى يف أالحالم، العودة �إىل البيت
ولكنه �سبيلي الوحيد �إىل املوت. عاد �إىل البيت .مل يقل �شيئا.
عزاء بدا وا�ضحا ،مع ذلك� ،أن ثمة خطبا.
ا�ستلقى يف كامل ثيابه.
دارون. جاذبا الغطاء حتى ر�أ�سه.
يقولون �إنه كان يقر�أ الروايات لي�سرتخي، �ضاما ركبتيه �إىل �صدره.
ولكن روايات من نوع حمدد: هو على م�شارف أالربعني
ال تنتهي �أبدا على نحو غري �سعيد. ولكن لي�س يف هذه اللحظة.
و�إن حدث و�صادف مثل هذا، هو آالن بال�ضبط مثلما كان يف رحم �أمه
غ�ضب كان يقذف الكتاب يف املدف أ�ة. ٍ ففي تك�سوه �سبع طبقات من اجللد ،يف عتم ٍة حا�ضنة.
�صدق �م كذب،أ غدا �سوف يلقي حما�رضة يف التجان�س
�أمام الفلكيني الرو�س من دار�سي املجرات الكربى� .نا على �مت ا�ستعداد للت�صديق.
أ أ
222 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
ر�ضيتم �أم �أبيتم، م�ستظهرا يف ر�أ�سه كل تلك أالماكن أ
والزمنة،
جليناتكم تاريخ �سيا�سي ال بد �أنه كان مكتفيا من أالنواع املحت�رضة،
جللودكم مظهر �سيا�سي، وانت�صارات أالقوياء على أال�ضعفني،
ولعينكم �سمت �سيا�سي. أ و�رصاعات ال تنتهي من �أجل البقاء،
للذي تقولون رنة �سيا�سية، وكلها ،طال أالجل �أم ق�رص� ،إىل الزوال.
حقت له �إذن تلك النهايات ال�سعيدة ،ولو يف وللذي ت�صمتون عنه داللة،
وهي ،يف هذه احلالة �أو تلك، الروايات،
�سيا�سية. على تناق�صها.
حتى حينما تق�صدون التل هكذا
فاخلطى التي ت�سريون بها �سيا�سية مل يكن من بديل عن النهاية ال�سعيدة،
على �أر�ضية �سيا�سية. اجتماع �شمل احلبيبني ،ت�صالح العائلتني،
حتى الق�صائد الال�سيا�سية �سيا�سية تبدد ال�شكوك ،مكاف أ�ة أالوفياء،
حتى القمر ال�ساطع فوق ر ؤ�و�سنا ا�ستعادة الرثوات ،اكت�شاف الكنوز،
مل يعد آالن جمرد ف�ضي. �صالح �أمر اجلريان العنيدين،
�أكون �أو ال �أكون ،تلك هي امل�س أ�لة. ا�ستعادة ال�سمعة العطرةِ ،خ ْذْالن اجل�شعني،
م�س أ�لة؟ �أية م�س أ�لة؟ �إليكم يا �أعزائي ر�أيي: اقرتان العوان�س بالق�ساو�سة أالثرياء،
�إنها م�س أ�لة �سيا�سية. طرد املزعجني �إىل قارات �أخرى،
�إلقاء مزيفي الوثائق من على ال�سالمل،
لي�س عليكم حتى �أن تكونوا كائنات ب�رشية اقتياد املغوين �إىل املذبح،
لتكون لكم قيمة �سيا�سية. أ
�إيواء اليتامى� ،صفاء بال الرامل،
يكفي �أن تكونوا نفطا خاما هوان املتعجرفني ،اندمال اجلراح،
�أو طعاما مركزا� ،أو �أي خامة ت�شا ؤ�ون. �إياب أالبناء ال�ضالني،
�أو حتى طاولة يف م ؤ�متر �ضاعت �شهور �إلقاء ك ؤ�و�س احلزن يف املحيط،
يف اجلدال حول �شكلها: غرق املناديل يف دموع الفرح،
أ
ترى حول طاولة م�ستديرة �م مربعة بهجة عامة واحتفال،
نتفاو�ض على احلياة واملوت؟ والكلب فيدو،
أ
الكلب الذي تاه يف الف�صل الول،
فيما ب�رش يحت�رضون
وحيوانات تهلك، يظهر نابحا يف �سعادة،
وبيوت حترتق، يف أالخري.
وغيطان تبور، أ�بناء هذا الزمان
أ أ أ
متاما كما يف �كرث الزمان ن�يا
نحن �أبناء هذا الزمان،
و�أقلها �سيا�سة.
وهذا الزمان �سيا�سي.
البع�ض يحب ال�شعر كل � أش�ن ،يف الليل كان �أو يف النهار،
البع�ض .. كل � أش�ن لكم� ،أو لنا� ،أو لهم
�إذن لي�س الكل. �سيا�سي.
ٌّ كل � أش� ٍن
223 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
وطفل ميت يهزه �شخ�ص. بل ولي�س �أغلبية الكل �إمنا �أقل القليل
فالمر فيها ملزم دعكم من املدار�س أ
�أمامهم طريق مل يعد الطريق ال�صحيح
ومن ال�شعراء �أنف�سهم ،لن تتجاوز الن�سبة اثنني يف وال اجل�رس الذي ينبغي
�أن مير على نهر وردي بغرابة. أاللف.
من حولهم �إطالق نار ،قريب �أحيانا وبعيد �أحيانا يحب ..
ومن فوقهم طائرة حتوم �إىل حد ما.
ولكن الواحدة حتب ح�ساء املكرونة بالدجاج
حتب املجامالت واللون أالزرق� ،أو حتب و�شاحا �شيء من اخلفاء �سوف يكون منا�سبا
والف�ضل منه البالدة التامة أ
قدميا لديها،
والف�ضل من ذلك العدم أ أ أ
الواحدة حتب �ن تثبت �صحة ر�يها
لوهلة �أو لفرتة. وحتب �أن تقتني كلبا
�شيء ما مل يزل منتظرا ،لكن �أين وماذا؟
�شخ�ص ما �سوف يتجه �إليهم ،لكن متى ومن، ال�شعر ..
ويف كم �صورة وب أ�ية نية؟ ولكن �أي �شيء هو ال�شعر؟
لو بيده اخليار كم من �إجابة مهتزة
فلعله يختار �أال يكون العدو على هذا ال�س ؤ�ال.
ويرتك لهم بع�ض احلياة. �أما �أنا فال �أعرف وال �أعرف ويف ذلك �أت�شبث
كما يف �سور �سلم
�إعالن ينقذين.
�نا مهدئ. أ
�أنا فعال يف البيت من النا�س
ويل ت أ�ثريي يف العمل. من النا�س َمن يفر من النا�س
ميكن �ن متتحنني أ يف بلد من البالد
�مام من�صة ال�شهادة. أ حتت �شم�س
�نا ��صلح الفناجني املك�سورة. أ أ وغيم.
أ
كل ما عليك هو �ن تتناولني من النا�س من يفرون
ترتكني �أذوب �أ�سفل ل�سانك
تاركني من خلفهم
تتجرعني فقط
كل �شيء لهم
مع ك أ��س من املاء.
تاركني حقوال بذروها
أ
�عرف كيف �عدل احلظ املائل أ وب�ضع دجاجات وكالب
أ
وكيف �تلقى الخبار ال�سوداء. أ ومرايا مل تعد �سوى النار
أ أ
��ستطيع �ن �قلل الظلم أ تب�رص نف�سها فيها.
و�أعو�ض عن غياب الرب
�أو �أن �أختار خمار أالرملة املالئم متاما على ظهورهم جرار وحزم
لوجهك. تفرغ ومتتلئ من يوم �إىل يوم.
ما الذي تتوقون �إليه ـ يحدث خل�سة �أن يقف �شخ�ص ما،
�آمنوا فقط باحلنان الكيميائي. ويف الزحام خبز �شخ�ص ما يخطفه �شخ�ص ما
224 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�أكيد م�ستورد. نت و�أنتِ
�أ َ
�إىل ال�سيد ك ك من بايتم �أنتما ال تزاالن �شابني
�أنت تتعامل مع ال�شعر احلر ،وك أ�نه حر متاما .ولكن ال�شعر مل يفت �أوان �أن تتعلما االنطالق.
(مهما يكن و�صفنا له) كان ،وال يزال ،و�سيظل ،لعبة .ولكل
ومن قال
لعبة ـ كما يعرف كل طفل ـ قواعدها .طيب ،ملاذا ين�سى أ
الكبار هذا؟ �إنكم ينبغي �ن تبقوا منتبهني؟
�إىل بو�زسكا من رادك: دعوين �آخذ هاويتكم
حتى امللل ال بد من و�صفه بحما�س .فكم من �شيء يحدث يف و�أبطِّ نها بالنوم
يوم ال يحدث فيه �شيء �ست�شكرون يل �أنني
�إىل بولي�سالف ل ك ومن وار�سو
�أمنحكم �أربعة خمالب
�آالمك الوجودية تنفرط ب�سهولة �شديدة .والنا�س عندها ما
والعماق املقب�ضة .أ
و«الفكار العميقة» يكفيها من الي أ��س أ ت�سقطون عليها.
كما يقول عزيزي توما�س (توما�س مان طبعا ،ومن غريه؟) بيعوين �أرواحكم
«ينبغي �أن حتملنا على االبت�سام» .ونحن نقر�أ ق�صيدتك مل يعد هناك مرابون �آخرون.
«املحيط» جند �أنف�سنا نتخبط يف بركة �ضحلة .عليك �أن تنظر
يف حياتك باعتبارها مغامرة فريدة حدثت لك .هذه هي ال�رشير نف�سه مل يعد له وجود.
ن�صيحتنا الوحيدة يف الوقت الراهن.
�إىل مارك ،من وار�سو �أي�ضا كيف تكتب ال�شعر أ�و ال تكتبه
عندنا مبد�أ هو �أن كل الق�صائد التي تدور عن الربيع ال �إىل هليودور من برزمياي�سل:
ت�ست أ�هل الن�رش .هذا املو�ضوع مل يعد له وجود يف ال�شعر .هو
موجود بقوة وحيوية يف احلياة ،طبعا .ولكن هذه نقرة وهذه تقول يف ر�سالتك�« :أعرف �أن يف ق�صائدي �أخطاء كثرية،
نقرة. لكن وما امل�شكلة؟ لن �أتوقف لت�صحيحها» .طيب ،ملاذا
�إىل ب ل من حي روكلو يا هليودور؟ رمبا ألنك تقد�س ال�شعر �أكرث مما ينبغي؟ �أم
اخلوف من الكالم املبا�رش ،واملحاولة امل�ضنية امل�ستمرة رمبا تعتربه �أمرا تافها؟ كلتا الطريقتني يف معاملة ال�شعر
وال�سو�أ هو �أنهما تعفيان ال�شاعر املبتدئ من خاطئتان ،أ
إل�ضفاء بعد ا�ستعاري على كل �شيء ،واالحتياج الالمنتهي أ
�رضورة اال�شتغال على �شعره .من اللطيف دائما �ن نحكي
�إىل �إثبات �أنك �شاعر يف كل بيت :هذه خماوف ت�سيطر على
ملعارفنا عن روح ال�شاعر التي تلب�ستنا يوم اجلمعة ال�ساعة
كل �شاعر كبري مبتدئ .ولكنها قابلة للعالج� ،إذا مت الت�شخي�ص
ثالثة �إال ربع الظهر و�أخذت تهم�س يف �آذاننا ب أ��رسار غام�ضة
يف الوقت املنا�سب. بحما�سة كبرية ،فكنا ال نكاد جند الوقت لتدوينها .ولكن يف
�إىل ز ك من بوزنان البيت ،وخلف أالبواب املو�صدة ،ت أ�تي هذه الروح لت�صحح
ا�ستطعت �أن تقحم من الكلمات اجلليلة يف ق�صائدك الق�صرية وحتذف وتعدل تلك أالقوال آالتية من عامل �آخر .أالرواح
�أكرث مما ا�ستطاعه �أغلب ال�شعراء يف �أعمار كاملة :الوطن، لطيفة و�أنيقة ولكن حتى ال�شعر يا هليودور له وجهه
احلقيقة ،احلرية ،العدالة .تلك الكلمات لي�ست رخي�صة .تلك أالر�ضي».
الكلمات يجري فيها دم حقيقي ،ال ميكن �أن يغنينا عنه
املداد. �إىل ه و من بوزنان ،الراغب يف �أن يكون مرتجما
�إىل مي�شال يف نواي تارج: «يجب على املرتجم �أال يخل�ص للن�ص وح�سب .عليه �أي�ضا �نأ
حذر ريلكه ال�شعراء ال�شباب من املوا�ضيع ال�ضخمة الكا�سحة، يك�شف كل جمال ال�شعر فيما يحافظ على �شكله ويحتفظ قدر
والكرث تطلبا للن�ضج الفني .و�أ�شار عليهم ألنها أال�صعب أ امل�ستطاع بروح الع�رص و�أ�سلوبه».
بالكتابة عما يرونه حولهم ،وعن الطريقة التي يق�ضون بها �إىل جرازيانا من �ستاراتوفي�س:
�أيامهم ،وعما �ضاع منهم ،وعما وجدوه .وحثهم على �إدخال هيا بنا ننزع أالجنحة ونحاول الكتابة ونحن واقفون على
أال�شياء املحيطة بنا �إىل الفن ،وكذلك �صور أالحالم ،وما �أقدامنا ،ممكن؟
ت�ستدعيه الذاكرة .وكتب يقول «�إذا بدت احلياة اليومية تافهة �إىل ال�سيد ج ك من وار�سو
لك ،فال تلق اللوم يف هذا على احلياة� .أنت الذي يقع عليك «�أنت حمتاج �إىل قلم جديد .القلم الذي معك يغلط كثريا .هو
225 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�إىل م�صاعب ال�شباب طموحات كتابية ،فال بد �أن يتحلى اللوم .فلي�س فيك من ال�شاعر ما يكفي إلدراك ثراء احلياة».
املرء ببنية ذات قوة ا�ستثنائية لكي يحتمل .مكونات هذه قد تبدو لك هذه الن�صيحة تافهة وثقيلة الدم .وهذا ما جعلنا
البنية ينبغي �أن حتتوي على� :إ�رصار ،اجتهاد ،قراءة وا�سعة، نوجهها لك من خالل واحد من �أكرث �شعراء العامل نخبوية ..
ف�ضول ،مالحظة ،فتور جتاه الذات ،ح�سا�سية جتاه آالخرين، انظر كم �أثنى على ما ي�سمى بـ أ
«ال�شياء العادية».
تفكري نقدي ،ح�س كوميدي ،واعتقاد را�سخ ب أ�ن العامل �إىل �أوال من �سوبوت
ي�ستحق ما يلي� :أ ـ �أن يبقى موجودا ،ب ـ حظ �أف�ضل مما توفر أ
«تعريف لل�شعر يف جملة واحدة ـ طيب» .عندنا على القل
له حتى آالن .املحاوالت التي �أر�سلتها ت�شري فقط �إىل الرغبة حوايل خم�سمائة تعريف ،ولكن ال يوجد بينها ما يفحم
يف الكتابة وال �شيء �آخر مما �سبق و�صفه .عملك ال ي�ستهدف املرء بدقته و�شموله .كل واحد منها يعرب عن ذائقة ع�رصه.
غريك. من جانبنا ،ال نحاول �أن جنرب يدنا ،ب�سبب نزوع فطري
�إىل كايل من لودز: �إىل ال�شك .ولكننا نتذكر مقولة جميلة لكارل �ساندبرج:
«ملاذا» هي �أهم كلمة يف لغة هذا الكوكب ،ورمبا يف املجرات «ال�شعر :يوميات يكتبها كائن بحري ،يعي�ش على الرب ،حاملا
أالخرى �أي�ضا. بالطريان».
�إىل بالت�سيت من �سكاري�سكو كام: �إىل ل ك ب ك من �سلوب�سك
الق�صائد التي بعثتها ت�شري �إىل �أنك ف�شلت يف معرفة فارق «نريد من �شاعر يقارن نف�سه بـ �إيكارو�س �أكرث بكثري مما
�أ�سا�سي بني ال�شعر والنرث .مثال ،يف الق�صيدة التي عنوانها تك�شف عنه الق�صيدة الطويلة املرفقة بر�سالتك .يا �سيد ب
«هنا» جمرد و�صف نرثي عادي لغرفة وما حتتويه من ك �أنت مل ت�ضع يف ح�سبانك �أن �إيكارو�س هذا الزمن يطري
�أثاث .يف النرث يقوم هذا الو�صف بوظيفة حمددة� :أنه يهيئ فوق �أفق خمالف ألفق الزمن ال�سحيق .فهو يرى طرقا �رسيعة
امل�شهد حلدث قادم .ففي حلظة� ،سوف ينفتح الباب ،و�سوف مغطاة بال�سيارات وال�شاحنات ،ومطارات ،ومدارج طيارات،
يدخل �شخ�ص ،و�سوف يحدث �شيء� .أما يف ال�شعر فالو�صف ومدنا �ضخمة ،وموانئ ع�رصية ف�سيحة ،و�أ�شياء �أخرى من
نف�سه هو الذي ينبغي �أن «يحدث» .كل �شيء ي�صبح ذا �أهمية، هذا القبيل� .أال يحتمل �أن مترق جنب �أذنه طائرة؟
وذا معنى :اختيار ال�صور ،و�أماكنها ،وال�شكل الذي تتخذه من �إىل م�سرت بر .ك من ال�سكي
خالل الكلمات .وال بد لو�صف غرفة عادية �أن يتحول �أمام ق�صائدك النرثية مت أ�ثرة بال�شاعر العظيم الذي يبدع �عماله
أ
والح�سا�س الكامن يف هذا �أعيننا �إىل اكت�شاف تلك الغرفة ،إ الالفتة وهو يف حالة ن�شوة كحولية .قد جنازف ونخمن
الو�صف ال بد �أن ي�صل �إىل القارئ .و�إال ،ف�سوف يبقى النرث ال�شاعر الذي ي�سيطر عليك ،ولكن أال�سماء لي�ست �شاغلنا هنا
نرثا ،مهما اجتهدت يف تقطيع جملتك �إىل �أبيات منظومة. يف نهاية املطاف .بل القناعة امل�ضللة ب أ�ن الكحول يي�رس
أ
وال�سو�أ من كل ذلك� ،أن �شيئا ال يحدث بعد هذا». والح�سا�س رهافة، فعل الكتابة ،ويك�سب اخليال جر�أة ،إ
وي ؤ�دي عددا �آخر من الوظائف النافعة يف حتري�ض روح
ال�شاعر والعامل ال�شاعر .يا عزيزي م�سرت ك ،ال هذا ال�شاعر ،وال �أي �شاعر ممن
عرفناهم معرفة �شخ�صية ،بل وال �أي �شاعر �آخر كتب �أي �شيء
يقولون �إن �أول جملة يف اخلطبة هي أالكرث �صعوبة .ح�سن، عظيم وهو حتت الت أ�ثري اخلال�ص لل�رشاب القوي .كل أالعمال
هي آالن خلفي على �أية حال .ولكن لدي �شعورا ب أ�ن كل جملة اجليدة خرجت من اجلهد ،واالتزان امل ؤ�مل ،دومنا طنني لطيف
�آتية ـ ثالثة كانت �أو �ساد�سة �أو عا�رشة وما تالها حتى �آخر يف الر�أ�س« .كثريا ما ت أ�تيني �أفكار مع الفودكا ،ولكن بعدها
�سطر ـ �ستكون على القدر نف�سه من ال�صعوبة ،ما دام املفرت�ض يي�صيبني ال�صداع» هكذا قال في�سبيان�سكي Wyspiansk
�أن �أتكلم عن ال�شعر .ما �أقل ما قلته يف هذا املو�ضوع ،يو�شك .kiولو �أن ال�شاعر ي�رشب ،فهو ي�رشب بني ق�صيدة وق�صيدة.
يف واقع أالمر �أال يكون �شيئا على إالطالق .وكلما �أقول فيه هذه هي احلقيقة العارية .لو كان الكحول ي ؤ�دي �إىل �شعر
�شيئا� ،إذا ب�شك و�ضيع ينتابني يف �أنني مل �أح�سن القول .لذلك عظيم ،لكان واحد من كل اثنني يف هذه البلد هورا�س على
فمحا�رضتي �ستميل �إىل إاليجاز ،وكل العيوب مغفورة متى أالقل .وهكذا نحن مرغمون �إىل حتطيم خرافة �أخرى .ون أ�مل
كانت قليلة اجلرعات. �أنك �سوف تخرج �ساملا من حتت أالنقا�ض.
أ أ
يت�شكك ال�شعراء املعا�رصون حتى يف �نف�سهم� ،و رمبا يف
�أنف�سهم على أالخ�ص .فهم ال يعرتفون على أ
املل �أنهم �شعراء �إىل �إ .ل .من وار�سو:
�إال بعد متنع ،ك أ�منا هم يخجلون من هذا أالمر بع�ض ال�شيء. رمبا عليك �أن تتعلم �أن حتب بالنرث
ولكن ما �أ�سهل االعرتاف يف هذا الزمان ال�صاخب بغلطاتك، �إىل �إ�سكو من �سيريادز
أ أ
ال�شباب بالفعل مرحلة خماتلة يف حياة املرء .ولو ��ضفنا خا�صة �إن كانت مغلفة على نحو جذاب على القل ،مقارنة
226 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�أو تخ ُّلق الروائع .فبو�سع املرء �أن يحرز �شيئا من النجاح يف مع �إدراك مزاياك ،وهي املخبوءة يف أالعماق ال تلقى منك
ت�صوير �ألوان معينة من العمل العلمي .ف إ�ذا باملعامل ،وخمتلف �أنت نف�سك �إميانا بها ...عند ملء اال�ستمارات� ،أو الدرد�شة
آالالت ،واملعدات الوا�ضحة تعود �إىل احلياة يف م�شاهد قد مع الغرباء� ،أي حينما ي�صعب على ال�شعراء �إخفاء مهنتهم،
جتذب انتباه اجلمهور للحظات .وتكون حلظات ال�شك هذه حينئذ ي ؤ�ثر ال�شعراء م�صطلحا عاما هو «الكاتب»� ،أو يثبتون
دراماتيكية للغاية ،مبا �أنها حلظات جت َرى فيها التجربة للمرة �أ�سماءهم �أو الوظائف التي يعملون بها بجانب الكتابة
أاللف مع تعديل رهيف يف خطواتها �إىل �أن تتحقق النتيجة حيثما ينبغي �أن يثبتوا كلمة «ال�شاعر» .فاملوظفون والغرباء
املن�شودة؟ �أما أالفالم التي تتناول الر�سامني فتكون خالبة، يتعاملون ب�شيء من الريبة واحلذر عندما يتبني لهم �أنهم
يف ت�صويرها لكل مرحلة من مراحل تكوين لوحة �شهرية ،بدءا يتعاملون مع �شاعر .و�أح�سب الفال�سفة قد يلقون مثل ذلك.
من اخلطوط املر�سومة بالقلم الر�صا�ص ،وحتى �آخر �رضبة و�إن بقي و�ضعهم �أف�ضل ،ما دام بو�سعهم غالبا �أن يزخرفوا
بالفالم التي تتناول املو�سيقيني: فر�شاة .ويغرم الكثريون أ مهنتهم بهذا اللقب أالكادميي �أو ذاك .ف أ��ستاذ الفل�سفة يبدو
بب�صي�ص النغمة أالول �إذ يرتدد يف �ذين املو�سيقي حتى يخرج
أ آالن �أكرث احرتاما بكثري.
يف النهاية عمال نا�ضجا يف قالب �سيمفوين .وذلك كله بالطبع ولكن ال يوجد �شيء ا�سمه �أ�ستاذ ال�شعر .فقد يعني هذا يف نهاية
بالغ ال�سذاجة ال يو�ضح تلك احلالة الذهنية الغريبة التي ي�شيع أالمر �أن ال�شعر وظيفة تقت�ضي درا�سة متخ�ص�صة ،وامتحانات
باللهام ،ولكن فيه على أالقل ما ميكن النظر �إليه �أو ت�سميتها إ دورية ،ومقاالت نظرية ذات حوا�ش وببليوجرافيات ،ثم
إالن�صات له. �شهادات يف نهاية أالمر لها طقو�س ملنحها .و�سوف يعني ذلك
أ
�أما ال�شعراء فهم ال�سو� .فعملهم غري قابل للت�صوير ،وال �مل
أ أ �أنه ال يكفي �أن تك�سو ال�صفحات ب أ�جمل الق�صائد كي تكون
له يف ذلك .فمنذا الذي يقوى على م�شاهدة �شخ�ص يجل�س �إىل �شاعرا .بل �سيتمثل العن�رص احلا�سم يف ورقة تافهة عليها
من�ضدة� ،أو ي�ستلقي على كنبة حمملقا يف اجلدار �أو ال�سقف ختم ر�سمي .ولنتذكر ال�شعر الرو�سي يف جمده ،فذات يوم تعر�ض
بال حركة� .إىل �أن يكتب �سبعة �أبيات ليحذف �أحدها بعد خم�س جوزف برود�سكي Joseph Brodskyـ وهو الذي �سيحظى
ع�رشة دقيقة ،ثم متر �ساعة �أخرى ،خاللها ال يحدث �شيء ... يف قابل أاليام بنوبل يف أالدب ـ حلكم بالنفي الداخلي أل�سباب
لقد �أتيت على ذكر إاللهام .وال�شعراء املعا�رصون يراوغون مثل هذه .فقد اعتربوه «طفيليا» ألنه مل يكن حا�صال على
�إن �سئلوا عن ماهيته� ،أو حقيقة وجوده .ولي�س ذلك ألنهم مل �شهادة ر�سمية تخول له احلق يف �أن يكون �شاعرا...
يعرفوا نعمة ذلك الدافع الداخلي .بل ألنه ال ي�سهل عليك �أن منذ �سنوات عديدة ،حظيت ب�رشف ومتعة اللقاء بربود�سكي
تو�ضح ل�شخ�ص �أمرا �أنت نف�سك ال تفهمه. �شخ�صيا .والحظت �أنه الوحيد ـ بني من عرفت من ال�شعراء ـ
حني يحدث ويطرح �أحد علي هذا ال�س ؤ�ال� ،هرب بدوري منه .لكن
أ الذي ي�ستمتع بو�صف نف�سه بال�شاعر .فقد كان ينطق الكلمة بال
ها هي ذي �إجابتي :لي�س إاللهام ميزة مق�صورة على ال�شعراء �إجفال.
�أو الفنانني عموما .فهناك اليوم ،و�أم�س ،و�سيبقى هناك دائما بل على العك�س ،كان ينطقها بحرية مقتحمة .وال بد �أن يكون
من النا�س من يزورهم إاللهام .وه ؤ�الء يت أ�لفون من كل الذين �رس ذلك هو تذكره للمذلة القا�سية التي عومل بها يف �شبابه.
اختاروا مهنهم عن وعي ،وميار�سونها مبحبة وخيال .قد يكون يف البالد ال�سعيدة ،التي ال ي�سهل فيها امتهان كرامة إالن�سان،
فيهم أالطباء ،واملعلمون ،والب�ستانيون ،وبو�سعي �أن �أعد قائمة يتوق ال�شعراء بالطبع �إىل من ين�رش لهم ،ويقر�أهم ،ويفهمهم،
تربو على مائة مهنة .ه ؤ�الء ي�صبح عملهم مغامرة واحدة ولكنهم ال يفعلون ـ �إن فعلوا ـ �إال القليل �إعال ًء ألنف�سهم عن القطيع
م�ستمرة ما ا�ستمرت قدرتهم على اكت�شاف حتديات جديدة يف العادي واللغظ اليومي .غري �أن العهد مل ين أ� بنا بعد عن العقود
هذا العمل .فامل�صاعب واالنتكا�سات ال تقهر ف�ضولهم .ومن كل أالوىل من هذا القرن [الع�رشين] حيث كان ال�شعراء يتحرون
م�شكلة ي�صلون �إىل حلها ،تن� أش� جمموعة جديدة من أال�سئلة. �صدمتنا ،فيلب�سون غريب امللب�س ويعمدون �إىل ما انحرف
وليكن إاللهام ما يكون ،لكنه يولد من دوام «ال �أعرف». من ال�سلوك .ولكن ذلك كله كان من قبيل اال�ستعرا�ض .فدائما
ال يوجد الكثري من ه ؤ�الء النا�س .ف أ�غلب �أهل أالر�ض يعملون ما كانت ت أ�تي حلظة ،يغلق فيها ال�شعراء �أبوابهم ،ويتخففون
ليعي�شوا .يعملون ألنهم ال بد �أن يعملوا .ال يختارون هذه من عباءاتهم ،وزخرفهم ،وعدتهم ال�شعرية ،ويواجهون ـ وهم
الوظيفة �أو تلك عن �شغف بها ،فظروف حياتهم تختار عنهم. نف�سهم ـ تلك املزقة البي�ضاء �صامتون �صابرون منتظرون �أ ِ
العمل اخلايل من احلب ،العمل اململ ،العمل الذي ال قيمة له ال�ساكنة من الورق .فذلك يف النهاية ما يع َّول عليه.
�إال �أن أالعمال أالخرى مل ت�صل �إىل مثل ما و�صل �إليه من ملل لي�س من قبيل ال�صدفة �أن �أفالم ال�سري الذاتية لعظماء العلماء
وخلو من احلب ،هذا العمل واحد من �أ�شق �ألوان الب ؤ��س الب�رشي. والفنانني تظهر بالع�رشات .في�سعى �أ�شد املخرجني طموحا �إىل
ولي�س هناك بادرة على �أن القرون القادمة �سوف تنتج �أف�ضل �إنتاج ت�صوير مقنع للحظات خلق املكت�شفات العلمية املهمة
227 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
حتت ال�شم�س ،هذا ما كتبته يا �سليمان ،ولكنك �أنت نف�سك مما مت �إنتاجه حتى آالن.
ولدت جديدا حتت ال�شم�س .والق�صيدة التي ابتكرتها هي وهكذا ،وبرغم �أين �أنكر على ال�شعراء احتكارهم إ
لللهام� ،إال
�أي�ضا جديدة حتت ال�شم�س ،ما دام مل يكتبها من قبلك �أحد. �أنني �أ�ضعهم يف جماعة منتقاة من �أ�صفياء احلظ.
وكل قارئ لك جديد حتت ال�شم�س ،ما دام من عا�شوا من قبلك أ
وهنا ،قد تثور �شكوك معينة لدى جمهوري .فجميع �نواع
ما قر�أوا ق�صيدتك .وال�صنوبرة التي ت�سظل بها غري نابتة اجلالدين ،والطغاة ،واملتع�صبني ،والدمياجوجيني الذين
يف مو�ضعها منذ فجر الزمان .و�إمنا �أتت �إىل الوجود عرب ي�سعون �إىل القوة على وقع حفنة �شعارات �صاخبة ،هم �أي�ضا
�صنوبرة �شبيهة ب�صنوبرتك ،لكنها لي�ست مماثلة لها متاما. ي�ستمتعون مبا يعملون ،وي ؤ�دون واجباتهم بحما�سة خالقة.
و�إنني يا �سليمان �أود �أن �أ�س أ�لك �أي جديد حتت ال�شم�س تعتزم نعم ،هذا �صحيح ،ولكنهم «يعرفون» .يعرفون ،وما يعرفونه
�أن تعمل آالن فيه؟ �أهو �إ�ضافة جديدة �إىل أالفكار التي عربت كاف لهم وال حاجة �إىل املزيد .فلي�سوا يريدون �أن يتعرفوا
عنها من قبل؟ �أم رمبا يغويك آالن �أن تنق�ض بع�ضها؟ لقد على �أي �شيء �آخر ،ما دام ذلك قد يبطل حجج قوتهم .وكل
ذكرت الفرح فيما �سبق من عمل لك ،فماذا لو كان �رسيع معرفة ال تف�ضي �إىل �أ�سئلة جديدة متوت :ألنها تف�شل يف
الزوال؟ �أتكون ق�صيدتك اجلديدة حتت ال�شم�س عن الفرح �أيها احلفاظ على درجة احلرارة الالزمة إلدامة احلياة .يف �أغلب
اجلامعة ؟ تراك بد�أت فعال يف تدوين مالحظاتك� ،أتعتمد احلاالت املتطرفة ،احلاالت املعروفة يف التاريخني القدمي
على امل�سودات؟ �أ�ستبعد �أن تقول «�إمنا كتبت كل �شيء ،ولي�س واحلديث ،تكون [هذه املعرفة] خطرا مميتا على املجتمع.
لدي ما �أ�ضيفه ،فلي�س ل�شاعر على وجه أالر�ض �أن يقول ذلك، وذلك �رس تقديري الكبري لعبارة «ال �أعرف» ال�صغرية .هي
ناهيك عن �أعظم ال�شعراء من �أمثالك». تو�سع حياتنا فت�شمل�صغرية ،وهي تطري ب أ�جنحة عمالقةِّ .
العامل ،مهما يكن ظننا حني يروعنا �ش�سوعه وهواننا� ،وأ الف�ضاءات الكامنة فينا وتلك االمتدادات الوا�سعة التي تتدىل
ي�صعب علينا عدم اكرتاثه مبعاناة الفرد ،والنا�س ،واحليوان، فيها �أر�ضنا ال�صغرية .لو مل يقل �إ�سحق نيوتن قط لنف�سه «ال
ورمبا النبات ،ففيم يقيننا هذا ب أ�ن النبات ال ي�شعر أ
بالمل، �أعرف» ،فرمبا كانت التفاحات وقعت على �أر�ض حديقته
ومهما يكن ظننا بامتداداته تخرتقها �أ�شعة النجوم املحاطة ال�صغرية وقوع حبات ال�صقيع ،ولعله يف �أف�ضل احلاالت
بالكواكب التي بد�أنا للتو يف اكت�شافها ،الكواكب امليتة كان �سيتناولها فيلتهمها بتلذذ .ولو مل تقل بنت بلدي ماري
�أ�صال؟ امليتة ال تزال؟ ما يدرينا ،مهما يكن ظننا بهذا امل�رسح �سكلودوف�سكا كوري Marie Sklodowska-Curie
الالنهائي الذي حجزنا فيه تذاكر ،ولكنها تذاكر قِ�رص لنف�سها «ال �أعرف» ،فرمبا كانت انتهت معلمة للكيمياء يف
�أعمارها يدفع �إىل ال�ضحك ،حمددة بتاريخني اعتباطيني، مدر�سة ثانوية تعلم بنات العوائل املحرتمة ،ولكانت �أنهت
مهما تكن ظنوننا بهذا العامل ،هذا العامل مده�ش. �أيامها وهي متار�س هذه الوظيفة املحرتمة مع ذلك .ولكنها
ولكن «مده�ش» هذه �صفة تخفي �رشكا منطقيا .فنحن ظلت تقول «ال �أعرف» فقادتها هذه العبارة ال مرة واحدة
نده�ش أل�شياء هي يف النهاية بنت طبائع معروفة معرتف بل اثنتني �إىل ا�ستوكهومل التي جتازى فيها أالرواح القلقة
بها �إطالقا ،بنت و�ضوح ن أ�لفه .مق�صدي آالن� ،أنه ال وجود املت�سائلة بجائزة نوبل.
ملثل هذا العامل الوا�ضح �أ�صال .فاندها�شنا موجود بذاته ،ال وال�شعراء ،احلقيقيون ،ينبغي �أال يكفوا عن قول «ال �أعرف».
باملقارنة مع �شيء �سواه. فكل ق�صيدة هي جهد يتلو هذه العبارة ،ولكن مبجرد اطراح
م ؤ�كد� ،أننا يف كالمنا اليومي ،ال نتوقف عن قول عبارات املرحلة أالخرية على ال�صفحة� ،إذا بال�شاعر يرتدد ،ويدرك
مثل «العامل العادي» و«احلياة العادية» و«ال�سياق العادي �أن هذه إالجابة بالذات مل تكن �إال جمرد حل م ؤ�قت ال ي�صلح
للحداث» � ...أما يف لغة ال�شعر ،حيث الكالم يوزن بالكلمة، أ مطلقا كحل نهائي .وهكذا يبقى ال�شعراء على املحاولة،
أ
ال وجود ل�شيء معتاد �و طبيعي .ال حجر كذلك وال الغيمة وعاجال �أم �آجال جتد النتائج املتعاقبة ل�سخطهم على
التي تعلوه .ال يوم كذلك وال الليلة التي تتلوه .أ
والهم �أنه ال �أنف�سهم بع�ض م ؤ�رخي أالدب ،فيجمعونها مبا�سك ورق كبري
وجود عادي ،ال وجود ألي كائن يف هذا العامل ميكن نعته ويعدونها «نتاجهم ال�شعري» ...
بالعادي. �أحيانا �أحلم مبواقف ال حتقق لها .ي�شطح اخليال بي �حيانا
أ
يبدو �أن عمل ال�شعراء �سوف يجد دائما من يتمه لهم. ف أ�راين على �سبيل املثال وقد حظيت بفر�صة الدرد�شة مع
�سليمان احلكيم كاتب تلك املرثية امل ؤ�ثرة لغرور جميع
هام�ش م�ساعي الب�رش [�أي �سفر اجلامعة]� .أمامه �أنحني باحرتام
- 1يف الن�ص �إ�شارة �إىل Belmondoولعل املق�صود هو املمثل الفرن�سي �شديد ،فهو يف النهاية واحد من �أعظم ال�شعراء ،بالن�سبة يل
جان بول بلموندو Jean-Paul Belmondo على أالقل .وبانتهاء ذلك� ،أ�شد على يده ،و�أقول «ال جديد
228 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
�أ�شياء ال�سيدة التي ن�سيت �أن تكرب
من�صف الوهايبي
�شاعر من تون�س
و�أم�سكَ ذيلَ قافيةٍ ، 1ـ �شـارع ال�س ّيدة يف أ�فريو
َطخات ح ٍرب
ُ ،ب�صما ُتها ل
قوادم طائ ٍر َ ُ وقلت يدِي ُ بـني منزلنا يف �أفـريو وقنطرة البح ِر
البيا�ض،
ِ يف �أغـدو على َم َه ٍل
�صو َب
ري ْ يكارو�س وهو يط َُ يت �إ وقلت كيف ن�سِ ُ ٌ
م�سال�ش ِّ و�أ ْ
روح
يت�شبـ ُه بي
والكالم الذي ّ
متبكتو»؟ «خمطوط ْ
ِ يف يتعـر ُف وجهي ّ مل يزلْ
يت ملوكَ �أوتيك َا وقد جل�سوا عج ٍل ن�سِ ُ ومن َ ويـر�شـدين
موائدهم،
ْ امل�ساء �إىل
َ تغـيـر ح ّقـا كثريا! �شـارع قد ٌّ
هموا وال �رش ُبوا وما ّ
فيهم الغريب» ،وكان وقالوا�« :سوف ننتظر ولـك ّنـني مل �أزلْ مثلما ُ
كنت
ْ َ بـني ابت�سامة �أ ّمـي
واقفا بقناعه اخلاوي؟
أ
يت من ل َه ٍف ع�صا �شوقي �بي �شقرا، احلي �أغـدو بـه ومـدر�سة ّ
وكيف ن�سِ ُ
وقد لب�ست طريق النهر،كي جتري روح. و�أ ْ
كيف؟كالخ�شاب؟ َ على أالمواه أ 2ـ غا�سرتونوميا
عناب،
وال ِ وكنت �أهبط يف �سماء ال ّتني أ
واحلرفة ال ُق ْد َمى و�أ ّن ع�شريتي
ْ
يذوب،
ُ امل�صنوع من �شمع
ُ جناحي
َ كان زرع(احلطيئة)أ أ
الكروم و� ّنني ال � ُ
َ زرعوا
وكنت �أعولُ دون �صوت(كان بي �شيء من
أال�سماك وهي هناكَ �إىل �شوقي �أبي �شقرا
مت �أعني قرار ال ّنهر)، م�ص ٍ ْ ت�رصخ يف جدار ْ ّرت يف أال�شيا ِء حويل فك ُ
�أهبط قرب دارتنا جتل�س فوق مائدة الظهرية: ُ وهي
ك أ�نيّ �أحفن أال�سماك يف نبع ،و�أبقار تالطف ي�صنع
ُ �صحن من ال ّزيتون �أخ�رض ظ ّل َح ّب منه ٌ
وقفت
ْ طفلة يف �أناةٍ زيت ُه،
على جنب الطّ ريق ،ك أ� ّنها �أختي (وخفت عليك، ُ�ضا ِر،
نب اململـّح واخل َ لمون واجل ِ ال�س ِ قِ طَ ٌع من ّ
�سوف يط ّل «�سنغريا»،
ّ بات ال ّثلج تطفو يف زجاجة مكع ُ ّ
من باب احلكاية ذئبها ،بلبا�س ج ّدتنا ني
وال�سكاك ُ ّ املالعق
ُ عناب واملانجْ ا أ
�سلـ ّ ُة ال ِ
ونظّ اراتها)! عودي و�س، الك ؤ� ُ
و�أ ّمي وهي ذاهلة تعـ ّد حقيبتي وتخيط �أزراري والبطاط�س،
ِ املتبلِ
�رشائح اللح ِم ّ ُ
ونحن معا نداري دمعنا �ص...
املحم ُّ �سيدتيخب ُز ّ
هوة والفجر �أر�ض (كم على خطّ الـّذرى من ّ �صابع ألعي َد ت�شكي َل احلياةِ،ٍ ثالث �أ
قلت يكفيني ُ
ووهاد �أودية �سيقطعها ٌ،لر َّد �شاردها وبرية أ
وري�ش ٌة ّ
229 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
10ـ Saudade ال�ســـمك الطّ ــائ ِر
نــحو ّ
�أذكــر من بيـتـك يف مرتـوال ال يــ أ�به فينا ألحــ ْد!
مر�آة جمــعــتــنا 8ـ قرفلة ألجيتو غون�سالفا�س
طــيـفيـن!
ْ يف غـب�ش املاء ال ّدافئ
الب�ستان
ْ حـني دخـلـنا املقـرب َة
فـيـما كان الفجر أالندل�سِ ي
يف بـورتو
يـتـنـفـّـ�س يف لوزيتـانيا
ووقـفـنا بـيـن يـدي ْه
يـتـ�سلّـق زئـبـقها
مل تـ أ�خذ مـن بـاقتها
يـلعـق فيها
غـري قـرنـفـلةٍ ،
اجلـ�سدين!
ْ بـلـ�سان املاء بـخار
غ�صان
ْ و�ضـعـتـها،وهي تـبـاعد بـيـن أال
11ـ خــريــف فوق القرب،وقـالت:
كــان على أال�شــجار �إذن! «واحـدة تـكفي لتـعـطّ ــر عـيـنـي ْه!»
�أن ت�ســـتــنــبت �أجــنحــةً، 9ـ نـاوو�س
يــح
الر ُ وتالحــق ما �أخذتـــه ّ ع�ضاء هـذا جـ�سد خملوع أال
مــن أالوراق! ْ
ناوو�س
ٍ �سنمـ ّدده يف
12ـ �شــتــاء (�أعني يف �صندوق اللّيل احلجري)
�ســندور مــعا و�س أ��صقـل �أ ّياما �أخرى
يف ا�ســتدارة �أ�صــواتــنا الخـ ِر لـك من ج�سدي آ
كاجلــذور
ْ ثـم �أمـ ّددها
ّ
وهي تــبــحث جاهد ًة، �شياء!
ْ أ
ال مع ـندوقال�ص
ّ ذات يف
يف مداراتــها 9ـ نـــوم
عــن بــقايا رطـوبة
ــحيح. مـرات �أو�صيـتـكَ ّ
ال�ش ْ الــ�شــتاء ّ
هذا ّ
البيت �أن ال تـرتك م�صباح
ْ
13ـ قــراءة ـ حني تغادرـ
يــح
الر ُوحـدها ّ مـ�شـتـعـال!
الغــ�صـون
ْ تــعــرف كــيف تــباعد بـني ات
مر ٍذكّ رتـك ّ
ــ�سغ
وحــده ال ّن ُ ا ّنـي عندي ما يكفي من �ضو ٍء
يــلــون
ّ يـعــرف كــيف ألهـدهـد نوم ْ
املي ْـت!
ــ�ضور �أوراقــها
َ يــخ
ْ والن �أنا وحدي آ
ــوت
ال�ص ُ وحــده ّ ـ وقـد ا�ستيقظ ـ
واحلركــات،
ِ ال�صــوامت
بــني احلــروف ّ قـل لـي ماذا �أفعل
مهــل
ي�ضيئ على ٍ يف هذا اللّيلِ
يــبــيـن.
ْ ويــ�ســمــي الذي ال
ّ زيـت!؟
وال م�صباح ي�ضيء وال ْ
231 نزوى العدد / 61يناير 2010
�شـــعــر � ..شـــعــر � ..شـــعــر
s
s
s
s
s
s
مري ــم
جرجــ�س �شكـــري
�شاعر من م�رص
s
s
s
كـ«�سرية النائم فـي ال�سكون»
مو�سى حوامدة
�شاعر من فل�سطني
s
s
s
ق�صائد
منـــال أ�حمـــد
�شاعرة من عُ مان
s
s
s
ق�صائد
�إبراهيــم زولـــي
�شاعر من ال�سعودية
s
s
s
يتنا�سلون كالطحالب
عبداملجيد الرتكي
�شاعر من اليمن
242
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�سيف خُ لق لـ �أبيه ولي�س لها هي ..خُ لق متجهما تُوقف نفي�سة با�ص املدر�سة بالقرب من فيال تتكون
وعاب�سا و�شديد االنزواء� .إال �أنه كان نافرا ومتنائيا، من طابقني .تُ�شري �إىل �صديقاتها بتكلف« :هذا هو
ويرتك امل�سافة بينهما لتكرب وتكرب�..إىل �أن يخرتقها بيتنا..هنا �أعي�ش» لكن ال �أحد يكرتث ملالحظتها تلك.
والده بال�رضب العنيف لكي ي�صبح رجال حقيقيا. تدخل من بوابة الفيال الأ مامية ،لتخرج �إىل البوابة
هكذا �أخذه منها ،وجعل منه طفال � آخر ال تعرفه ،وال اخللفية دون �أن تلتفت .ت�صل �إىل منزلها الق�صي
ت�شعر جتاهه �إال ب�شبه ب�سيط بطفلها الذي ذهب بعيدا. بني البيوت املرتا�صة .بيت �صغري ،يحيط به حو�ش
كانت تريد بنتا جميلة تعق�ص لها �شعرها بال�رشائط، منخف�ض ،زرعت بداخله �أمها املجنونة عوي�ش – كما
وتلب�سها املالب�س التي حتيكها بيديها وتذهب �إىل يلقبها اجلريان -الكثري من الأ زهار والورود امللونة،
بنات اجلريان �أيام العيد ب�أجمل زينة .تريد بنتا و�أ�صبحت هذه هي ت�سليتها الوحيدة بعد انف�صالها
تهبها وقتها وفراغها عندما ي�سافر زوجها ليعمل يف عن زوجها ،وبعد �إ�صابتها بحاالت متكررة من ما
ال�سعودية ،ويبقى هناك لأ �شهر طويلة ،تريد �ضم ابنتها ي�شتبه �أنه �رصع.
�إىل �صدرها لتنام ،وهي ت�شعر بالأ مان .تريد بنتا تكرب مل تعد عوي�ش تفعل �شيئا مهما يف حياتها ،تُعد القهوة
يف البيت ال�صغري وتنادي ا�سمها ،وتطعم مثلها القطط وتخرج �صحنا من التمر .تفرت�ش ح�صرية �صغرية،
ال�ضالة ،وحتب النباتات ورعايتها وت�شذيب �أطرافها. وت�سقي الأ �شجار .ال تخرج �إال نادرا �إىل جاراتها،
كانت ت�ضع يدها طويال على بطنها ،وتتلم�س طفلتها ونفي�سة ال تتبادل معها الكثري من الكالم .تن�شغل
التي ترف�سها بنعومة مغرية طوال الليل والنهار ،وهي بالدرا�سة طوال الوقت ،وبالتحدث �إىل جدتها التي
تتلذذ بذلك احلديث ال�رسي الذي يدور بينهما ،وال �أحد باتت ت�سري على كر�سي مزود بالعجالت..الدرا�سة
�سواهما يفهمه ،كانت تخربها بكل �أ�رسارها ،وك�أن واجلدة كانا خال�صها الوحيد من الإ ح�سا�س بالوحدة،
�صديقة جديدة تت�شكل يف �أح�شائها ،تتخيل �أنها تلم�س ومن �أم ال تبادلها الكالم ،بينما يغيب �أخوها الأ كرب
�أذنها وتخربها بالكثري من احلكايات ،ويف حو�ض �سيف عند عمه يف والية عربي.
املزرعة الذي تغطيه �أ�شجار النخيل واملاجنو من جهة بعد والدة نف�سية �أ�صيبت عوي�ش بحالة من الهذيان،
ومن جهة �أخرى تغطيه �أ�شجار املوز ت�سرتخي عوي�ش وك�أن م�سا قد �أ�صابها بعد خروج ذلك اجل�سد منها.
بج�سدها ،وتلهو باملاء وك�أنها تالعب �شخ�صا ما ال كانت تنام يف �رسير امل�ست�شفى وزوجها ينتظرها يف
يراه �أحد غريها� .شخ�ص تعرفه ،ومتتلئ به وت�شعر �أنه اخلارج ،وحتيط �أمها واملمر�ضة بر�أ�سها ،بينما تقف
يكفيها عن �أي �شيء � آخر. الطبيبة بني �ساقيها ترتقب �أن تلد عوي�ش مولودها
كان زوجها «را�شد» غائبا حتى يف ح�ضوره يق�ضي الثاين..كان قد مرّت �سبع �سنوات منذ والدتها لـ �سيف،
الليل يف ال�سهر ،وال�رشب بعيدا حيث ال�سمر و�شجر وكانت تنتظر احلمل الثاين بلهفة كبرية� ،إال �أنها
الغاف الوفري مع �شلة الأ �صدقاء اخلائبني مثله ،و�أولئك كابدت املوت وهي تلد.
العاطلني عن العمل .يعود مرتنحا ،ومتعبا .ي�سقط على �أمها اخلبرية ب�أمور الن�ساء كانت تهم�س يف �أذنها:
�رسيره كما ت�سقط نخلة جافة �أتعبها الوقوف يف وجه «وجع البنت يختلف عن وجع الولد ..البنت تطلع عني
املحل ،لكنها ال تكرتث له فثمة كائن � آخر ت�شعر �أنها �أمها» فمنذ �أن ر�أت ا�ستدارة بطنها قالت لها« :هذي
معنية به ،ي�شغلها بكلها عنه ،بينما ي�أوي «�سيف» يف بنت ،وهم البنات �إىل املمات» .فرحت عوي�ش كثريا،
فرتة الليل يف بيت جده ،وجدته. وكادت �أن تطري �إىل ال�سماء .كانت تنتظر بنتا لأ ن
243 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
جميلة ..مربوك ..مربوك» �أغم�ضت عوي�ش عينيها منذ �أن دخلت ال�شهر ال�سابع ،و�أخربتها عني �أمها
وا�ست�سلمت لنوم عميق وبعيد. الب�صرية ب�أمور الن�ساء �أن كل العالمات ت�شري �إىل
ا�ستيقظت على �صوت املمر�ضة التي �أح�رضت طفلتها �أنها حتبل بفتاة ،وهي حتيك املالب�س القطنية ذات
نظيفة والمعة وملفوفة ب�شكل جيد يف قماطها. الأ لوان اجلميلة ،وتفكر با�سم جميل تهبه لها ،ولكنها
طلبت منها املمر�ضة �أن تر�ضعها لكنها رف�ضت ذلك، مل جتد �أجمل من ا�سم نفي�سة لأ ن هذه الطفلة �ستكون
حاولت املمر�ضة �أن جتربها على فك �أزرار قمي�صها �أنف�س ما لديها و�ستحبها �إىل حد جنوين .منذ ذلك
لتلقم الطفلة اجلائعة حلمة �صدرها لكنها رف�ضت ذلك اليوم �أطلقت عليها ا�سم نفي�سة� ،أخذت تتحدث �إليها
وبد�أت ال�رصاخ� ..رصخت كاملجنونة. وتناديها با�سمها الذي �أحبته كثريا ،وكانت ت�شعر �أنه
�أم عوي�ش قالت �إنه احل�سد ،ويف ق�صة �أخرى قالت يليق بها..
�إن جنيا يكيدها ،و�ضعت لها «مغبارا» قرب �صالة والدتها لـ �سيف كانت ي�سرية..ثمة �أمل ميكن ال�صرب
املغرب .و�ضعت لها واحدا بعد الآ خر..لكن دون عليه ،يكرب الأ مل ثم يرتاجع..يكرب ثم يرتاجع �إىل �أن
فائدة. انزلق بهدوء ،و�أطلق �رصخته الأ وىل يف احلياة.
حتى �أن الطبيب احتار يف �أمرها ،ويف جل�سة نقا�ش لكن نفي�سة تركت روح عوي�ش معلقة يف ال�سقف ال
�صغرية مع الزوج ،والأ م قال الطبيب�« :إنه االكتئاب هي قادرة على العودة �إىل اجل�سد ،وال هي قادرة على
الذي ي�صيب بع�ض الأ مهات بعد الوالدة..حتتاج �إىل الو�صول �إىل ال�سماء .هكذا بقت بني بني ..وك�أن ج�سدها
عناية كبرية» ثم التفت �إىل الزوج قائال« :خ�صو�صا رف�ض الروح كما رف�ضتها ال�سماء ،فانح�رشت يف
من قبلك �أنت» .ان�سحبت �أم عوي�ش من �أمامه متذمرة، �سقف غرفة امل�ست�شفى امل�شحونة ب�رصاخ الأ خريات
وهي تتمتم �« :أطباء � آخر زمن..ال يعرفون �شيئا.. القادمات من الواليات املختلفة من �أجل الوالدة.
اكتئاب!! كانت روح عوي�ش معلقة يف هذه الفتاة.. �رصخت �أم عوي�ش« :ابنتي بحاجة �إىل عملية» .قالت
كانت حت�سب الأ يام يوما يوما لأ جل �أن تراها ..من الطبيبة« :و�ضع اجلنني جيد ،وهي بخري ..ميكنها �أن
�أين جاء االكتئاب ..من �أين !» .مل يعلق الزوج ،كان ت�صمد»�.صمدت عوي�ش ل�ساعات طويلة ،و�أمل هائل
يفكر يف �سهرة امل�ساء ،وثمن ال�رشاب ،وهو يتح�س�س ينبت يف ظهرها ،ويكرب ب�رسعة مرعبة ثم ما يلبث �أن
جيبه الفارغ. يختفي ،ويتال�شى كال�سحر.
اجلارة �أم ح�سن هي التي �أر�ضعت نفي�سة مع ابنها �شعرت �أن كائنا خبيثا تلب�س بج�سدها كائنا �أكله
ح�سن كانت تدر احلليب بكرثة ،ومل متانع �أبدا يف احل�سد لكي ال تتم �أفراحها جيدا� ،رصخت الطبيبة
جف
تقدمي هذه اخلدمة خ�صو�صا و�أن حليب عوي�ش ّ الهندية بلهجة متك�رسة« :بو�ش ..بو�ش .يا اهلل .يا اهلل»
من االكتئاب �أو احل�سد،والأ دوية التي كانت تتناولها دفعت عوي�ش بكل قوتها ،والطبيبة ت�رصخ« :بيبي
با�ستمرار ،ولكن بعد �أن بد�أ حليب �أم ح�سن يف التناق�ص جاي ..بيبي جاي» دفعت بطاقة خرافية مل تعرف
اعتذرت لـ �أم عوي�ش ،وذلك بعد �أن �أكملت نفي�سة ال�ستة من �أين كانت ت�ستعريها ،ثم �شعرت بذلك ال�شيء ،وهو
�أ�شهر. ينزلق بني �ساقيها.
احلقيقة �أنها ادعت �أن حليبها بد�أ بالتناق�ص ،و�أنه مل تلتفت عوي�ش لتنظر لوجه الطفلة ،والدكتورة
بالكاد يكفي طفلها ال�صغري ،لأ ن احلديث عن نفي�سة ت�ضعها على �صدرها ،وكمية هائلة من الدم والأ و�ساخ
املنحو�سة بد�أ يكرث ..ال تكف احلارة ب�أكملها يف تلك تغطيها� .أ�شاحت عوي�ش بوجهها بعيدا ،ونفي�سة تطلق
القرية عن التحدث عن جلبها ال�ش�ؤم منذ ميالدها، �رصخات متوا�صلة دون توقف.
فمر�ض عوي�ش الذي مل يفهمه الطب �أحدث �ضجة نظرت عوي�ش بقرف لذلك الكائن اللزج الذي ا�ستلقى
هائلة يف القرية..حتى �أن موت املاعز والبقر نُ�سب �إىل على �صدرها ،ورائحة الدم تنت�رش بقوة يف املكان.
�ش�ؤمها بالرغم من �أن الطبيب البيطري الذي زارهم مل ت�ضم نفي�سة كما حلمت طويال �أن تفعل ذلك ،بقيت
�أكد �أن ثمة وباء يتف�شى بني احليوانات �إال �أن �أحدا جامدة يف مكانها ،وال طاقة لها لفعل �شيء تقاذفت
مل ي�صدقه ،كما �أن نح�س نفي�سة تطاول �إىل ال�سماء، الطبيبة واملمر�ضات التهنئة من كل �صوب «طفلة
244 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
لأ �شهر قيا�سا ب�أقرانها ..فهي تدخل عامها الثاين دون وحجب نزول املطر !!
خطوات متوازنة ،ودون �أن ت�سمي الأ �شياء ب�أ�سمائها.
مل تفلح ابت�سامتها يف جذب انتباه والدها �أو اهتمامه [ [ [
ب�ضمها �إىل �صدره �أو تقبيلها..كما مل يفعل ذلك مطلقا من ح�سن حظ نفي�سة �أنها بد�أت بتناول الطعام
طوال عاميها الفائتني..كان يكتفي مبراقبتها عن املهرو�س.كانت حتب الهري�س والعر�سية ،والأ رز مع
بعد ،ويتلم�س الأ عذار الكثرية للهرب. املرق.كانت �شهيتها مفتوحة ،و �أم عوي�ش ال تكف
يف هذه اللحظة بقي را�شد جامدا يف مكانه كمن ينظر عن االعتناء بها عناية فائقة .حتيك لها املالب�س،
�إىل عفريت �صغري �سينقل �إليه عدوى مر�ض ما �إذا وحت�رض لها الأ لعاب .بينما عوي�ش مل تفارقها الك�آبة
مل�سه� ،أو ت�صادم معه .ظلت ترفع يديها �إىل الأ على يف منذ الوالدة ،وكانت تغرق يف حاالت غري مربرة من
حماولة منها للمحافظة على توازنها لتبقى واقفة، البكاء.
وقبل �أن تقع يف ح�ضنه ا�ستل را�شد ج�سده واقفا ،وقال مل ي�صرب زوجها را�شد كثريا .كان بحاجة لـ امر�أة
قبل �أن يخرج للجدة« :ميكنك �أن تعتني بـ عوي�ش، يعتليها يف امل�ساء ،ويغرز فيها �شهواته الكثرية ،ولكن
ونفي�سة� ..أعدك �س�أر�سل لك املال».. عوي�ش مل تعد �صاحلة ،كانت تنكم�ش ويت�صلب ج�سدها
�ألقت اجلدة غ�ضبها دفعة واحدة يف وجهه وهي ت�رصخ كقطعة من البال�ستيك بال حياة كلما حاول االقرتاب
بحنق وغ�ضب « :كما وعدت عوي�ش عندما �سافرت �أول منها ،ورغم رعونته �إال �أنه مل يتجر�أ يف حياته كلها
مرة ..املال ال يكفي لل�سم الذي ت�رشبه ..امل�سكينة ظلت على معا�رشتها رغما عنها.
تخيط املالب�س لبنات احلارة �إىل �أن انك�رس ظهرها، بعد �أن انق�ضت �إجازته قرر �أن ي�سافر �إىل ال�سعودية
وتعبت �أ�صابعها� ..أنا ال �أ�صدقك ..اذهب حلال �سبيلك». جمددا لكن قبل ذلك ذهب �إىل �أمها لكي يخلي �سبيلها
رفعت �أم عوي�ش يدها بحزن �إىل ال�سماء « اهلل يخلي ويطلقها ،تفهمت �أم عوي�ش ذلك جيدا ،ف�أخربها
�أحمد ابني الغايل �أحمد ..لن يق�رص �أبدا بعد �إنهائه �أنه �سري�سل لهم املال الذي يُعني اجلدة على تربية
اجلامعة �سي�رصف على �أمه و�أخته وابنة �أخته ،ولن الأ والد ثم طلب �أن يرى �سيف فخرج �إليه .كان وقتها
نحتاج �إليك �أبدا». يف التا�سعة من عمره فقال له« :ما ر�أيك �أن ترتبى
منذ �أن ولدت «نفي�سة» ،وهي جترب االنقالب على يف بيت عمك؟» .التفت را�شد �إىل اجلدة ،وطلب منها
ظهرها وبطنها واحلبو ومن ثم امل�شي حتت نظرات ب�إ�رصار كبري �أن يرتبى �سيف يف بيت عمه فرف�ضت،
جدتها التي �أحبتها ب�شكل خرايف وغري متوقع بينما وعلقت قائلة« :منذ متى تتذكر �أخاك طالب ،و�أنتما مل
�سيف ذهب مع والده �إىل بيت عمه يف منطقة الظاهرة تتحادثا منذ زواجك بابنتي؟»
بر�ضا تام ،وترك الباطنة املنطقة املطلة على البحر، فرد عليها بانك�سار« :ذهبت �إليه ،وحتدثنا � ..أخربته
والتي تتكاثر فيها احلكايات ك�شجرات النخيل ،ذهب عن ظرف عوي�ش ال�صحي ،وانه ينبغي عليّ �أن �أ�سافر
�إىل املجهول الذي اختاره له والده ،و�أوم أ� له �سيف جمددا لل�سعودية ..هو الذي قال يل �سيف ال يرتبى بني
باملوافقة دون �أي نقا�ش �أو تفاو�ض. احلرمي ..ينبغي �أن يرتبى بني الرجال ..مع �أوالده..
والدته الت�صقت بدرجات ال�سلم ذلك اليوم دون �أن تفهم حمود و نا�رص ،و�أنا اقتنعت بكالمه».
�إىل �أين يغادر �سيف ،مل ينحن لـ يقبل �أخته ال�صغرية غ�ضبت اجلدة وارتفعت نربة �صوتها« :وماذا عن
التي رف�ض �أن يلعب معها ،وكان يب�صق بوجه �أي �أحد «نفي�سة»؟»
يقول له �إنها �أختك ال�صغرية ولوال حماية جدتها لكان زاد انفعال را�شد ،وهو يقول« :نفي�سة هي ال�سبب يف
قد ارتكب �سيف جرمية فادحة بروحها ال�صغرية .فكم كل ما حدث لأ مها ..هي ال�سبب يف كل �شيء..لقد جنت
مرة حاول �أن يلقي بها من على ال�سلم ،وكم من مرة عوي�ش ،وهي التي مل تفعل �شيء طوال ت�سعة �أ�شهر
حاول �أن يثقب �أذنيها مبق�ص الأ ظافر ،وكم من مرة احلمل �سوى �أن تنتظر جميئها».
ع�ض �أ�صابعها �إىل �أن تورمت بلون بنف�سجي ،وال تن�س قفزت نفي�سة بينهما خارجة من الغرفة..بد�أت تقذف
اجلدة �أبدا �أنه ذات مرة �أخفاها بعيدا عن اجلميع لأ كرث �ساقيها يف حماولة منها للم�شي بعد �أن ت�أخرت
245 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
املحمر« :عربي بعيدة جدا عن الباطنة يا ولدي». من �ساعة بحثت عنها اجلدة يف كل مكان كاملجنونة
قال كمن يدو�س على رغبته يف البكاء« :دعي خايل �إىل �أن �سمعت �صوت �رصاخها يف برميل النفايات.
�أحمد يح�رضكم» ،ثم نظر �إىل «نفي�سة» نظرة �إزدراء �رضبته �رضبا مربحا ذلك اليوم ومل يبكِ ..بقي جامدا
وقال« :لكن ال حت�رضوا هذه الغبية معكم» .ان�سحبت كقطعة خ�شبية �إىل �أن قال« :ملاذا تهتمني بها ..انظري
دموع غزيرة على وجنتي اجلدة� ..ضمته �إىل �صدرها ماذا فعلت ب�أمي ..اجلميع يقول �أنها �ستقتلنا جميعا
وك�أنها لن تراه ثانية .ثم قاده «را�شد» من يده بعد �أو �ستحولنا �إىل جمانني!!»
�أن �أودع احلقيبة التي تخ�صه يف «كريل» البيك كانت نفي�سة تن�شج بالبكاء ،وكانت اجلدة ال تعريه
االب الأ حمر والقدمي .لكن وما �أن تخطى �سيف باب اهتماما كبريا ،وتكتفي ب�أن تعنفه كلما �أ�ساء لأ خته.
احلو�ش حتى بد�أت عوي�ش بال�رصاخ ب�صوت مرتفع يف عطلة اخلمي�س واجلمعة كان احمد ي�أتي من �سكن
�إىل �أن فزعت نفي�سة ،واندفعت باكية هي الأ خرى يف اجلامعة ،ويح�رض لهما احللوى ،في�أكل كل احللوى
ح�ضن جدتها .هرعت عوي�ش و�سحبت �سيف من يد دون �أن مينحها قطعة واحدة ..كان يقول لـخاله�« :إنها
والده واحت�ضنته بقوة ،وهي تبكي وتبكي� ..أزاحها �صغرية� ..ستغ�ص �إن �أكلتها» ،وكان �أحمد ي�ضحك،
را�شد عنه �إال �أن �سيف انح�رش يف ح�ضنها ،وهو يخفي وتعجبه م�شاك�ساته الطفولية بالرغم من ق�سوتها.
رغبته يف البكاء ،وين�شغل مب�سح دموعها الغزيرة �إىل �أحمد هو ال�شخ�ص الوحيد رمبا الذي كان ي�ستطيع
�أن هد�أت .بعدها انح�سب جمددا ،وركب بالقرب من �أن ميت�ص غ�ضب �سيف غري املربر .كان ي�أخذه �إىل
والده يف ال�سيارة التي م�ضت م�رسعة ،دون توقف، امل�شاوير الق�صرية�..إىل دكان العم حمد املطل على
ودون التفات �إ�ضايف.. ال�شارع العام ،ويح�رض له دفاتر و�ألوانا لي�شخبط
تلك الليلة مل تتوقف عوي�ش عن ال�رصاخ ،ونامت عليها..بينما والده ال يعرف �سوى �أن يلطمه وي�رضبه
نفي�سة نومة متنغ�صة يف ح�ضن جدتها ،وك�أن خوفا لأ تفه الأ �سباب ،وخ�صو�صا يف الفرتات التي متر وال
ما قد تلب�س بها هي الأ خرى. ي�ستطيع ال�رشب فيها ب�شكل جيد نظرا جليبه الفارغ..
ولأ ول مرة ينام «�سيف» يف منزل غري منزله ومنزل �إال �أن �سيف كان يخاف والده كثريا ويكن له االحرتام
جدته ..لأ ول مرة يغادر الباطنة منذ والدته لوال يف الوقت نف�سه .كان م�ستعدا لأ ن يب�صق يف وجه �أمه
زيارته اليتيمة لـ م�سقط عندما كانت تخ�ضع والدته �إن طلب منه ذلك ،بالرغم من �أن عوي�ش كانت حتبه
جلل�سات عالج يف م�ست�شفى ابن �سينا. كثريا ،وتفرط يف تدليله �إال �أنه كان يتبع خطى �أبيه
را�شد ذهب لزيارة طالب الذي �أنعم اهلل عليه باخلري ب�شكل غريب.
الكثري ،وكان من ا�شهر التجار ،له بيت ي�شبه الق�صور، مل يح�رض �أحمد لتوديع �سيف عند ذهابه �إىل عربي
وثمة خري كثري ونعمة .قال لـ �سيف�« :ستعي�ش هنا يف لأ نه كان يف فرتة االمتحانات النهائية يف جامعة
هذا الق�رص الكبري� ..سترتبى مع �أبناء عمك� .س�أطمئن ال�سلطان قابو�س ..حاول �أن يحادثه عرب الهاتف
عليك هنا» .ابتلع �سيف ريقه من املجهول املقبل.. �إال �أنه رف�ض �أن يتحدث �إليه متعلال ب�أعذار طفولية
مل يبت�سم ،ومل يتذمر �أي�ضا .دلف �إىل الداخل حيث كل و�ساذجة.
الوجوه واجمة ،وك�أن م�صيبة كبرية حلت على البيت حمل �سيف دفاتره و�أ�شياءه يف حقيبة كبرية ..تعلق
مبجرد جميئه.. يف ح�ضن جدته طويال ثم �س�ألها�« :ألن ت�أتوا لزيارتنا
الول من رواية قيد اال�شتغال.
[ الف�صل أ يف عربي؟» فردت عليه والدموع تغرق وجهها
s
s
s
ماكينة الفرا�شة
جوخــة احلـــارثية
روائية من عُ مان
امر�أة فارعة الطول قد وقفت قبالته ونزعت برقعها عن يف تلك الليلة حني كان عزان زوج �ساملة راجعا من
وجهها .هد�أ روعه و�س�ألها« :من �أنت؟ وماذا تريدين؟» ال�سهرة عند البدو متلكه �إح�سا�س بالن�شوة ،كانت الرمال
نظرت املر�أة مبا�رشة يف عينيه� ،أربكه جمالها امل�صمم حتت قدميه ناعمة جدا وقد خلع نعليه لي�ستمتع بربودتها
وبريق عينيها الوا�سعتني� ،أربكته رائحتها الفاغمة الهادئة � ،آن�سه اكتمال القمر وهو يطبع ظالال �أليفة على
وقربها املربح منه ،لكن كالمها �أفقده ال�سيطرة�« :أنا الكثبان الرملية ،من بعيد الحت له �أنوار «العوايف»
جنية و�ألقب بالقمر و�أريدك �أنت»� .ستظل عبارتها تطن وك�أنها عامل ال يعرفه ،لقد �أم�ضى مع �أ�صدقائه من
يف ر�أ�سه �أعواما كثرية بعد ذلك�« :أنا جنية و�ألقب بالقمر البدو �شطرا من الليل يف الأ حاديث وال�سمر� ،أن�شد بع�ضهم
و�أريدك �أنت» .مل يعرف عزان ن�ساء كثريات يف حياته و�ضحكوا ،عزفوا على الناي والربابة ،وقد قرر عزان �أن
ومل يعرف بكل ت�أكيد امر�أة على هذا القدر من اجلر�أة، يعود �إىل العوايف م�شيا تاركا �سيارات �أ�صدقائه ذات
تلقب بالقمر؟ �إنها ت�ستحق لقبا �أعظم� ،إنها �أجمل من الدفع الرباعي ،مل تكن بيوت البدو املتناثرة حتت عرق
�أي �شيء ر� آه �أو �سرياه يف حياته ،لقد الحت له حتت الرمل الكبري تبعد كثريا عن العوايف ،لكن البلدتني مل
�ضوء القمر ك�أنها من احلور العني التي ب�رش اهلل بها تتما�سا قط ،ظلت العوايف متم�سكة بثباتها وطابعها
عباده امل�ؤمنني .مالت عليه فت�أبط نعليه وهرب ،رك�ض الزراعي ،وظل البدو – على الرغم من ا�ستقرارهم
ب�أق�صى �رسعته باجتاه العوايف عاجزا عن التفكري يف الظاهري وا�ستبدالهم بيوت اال�سمنت بخيام ال�شعر
�أي �شيء. -يحتقرون فكرة الثبات وغر�س اجلذور ،ويعتمدون
مل تعد جنية لبيتها و�إمنا ذهبت لبيت �صديقتها ،وقفت �أ�سا�سا على رعي اجلمال والغنم ،لقد ظلوا حمتفظني
عند الباب اخل�شبي و�صاحت« :يا خزينة..يا خزينة»، بزيهم التقليدي وطباعهم احلرة ،وباحلدود ال�صارمة
فخرجت خزينة ت�سوي برقعها على وجهها« :خري يا التي تف�صلهم عن «احل�رض».
القمر؟» قالت« :تعايل� ،ستبيتني معي الليلة»� .سارت مل يعد عزان ي�شعر باالنقبا�ض يف جل�سات ال�سمر هذه،
معها خزينة طويال حتى الح بيتها �« :أخي راقد يف عرق ومل تعد تلك ال�سحابة الثقيلة حتط على قلبه كلما انخرط
الرمل ال�رشقي و�أنا و�أنت �سنبيت بالداخل» ،حني �أقعيتا معهم لتمثل له �أن كل �أحاديثهم و�ضحكهم جمرد لهو
متقابلتني قالت خزينة« :اي�ش �صار؟» ردت �صديقتها دنيوي ،مل تعد ذكرى ولديه امليتني تن�شب يف حلقه
بهدوء« :هرب» �ضحكت خزينة حتى انبطحت �أر�ضا: كالغ�صة و�سط الغناء ،ومل يعد يح�س �أنه مثقل بالدنيا
«حا�شا هلل هذا ما رجل!!..هرب؟ هاهاها!! ..هرب منك ويريد �أن يتال�شى عن زيفها ،مل يعد الإ ح�سا�س بالفرح
يا القمر؟ »..لكن جنية مل ت�ضحك .انتظرت حتى فرغت �إح�سا�سا مذنبا يف �أعماقه وال املتعة �رسابا ينبغي عدم
�صديقتها من ال�ضحك ثم قالت�« :أريده و�س�أح�صل عليه»، الوقوع يف �رشكه .كان ي�ستعيد بع�ض مقاطع املن�شدين
م�سحت خزينة دمعها الطافر بطرف ردائها و�أ�ضافت ويحاول �ضبط �إيقاع قدميه على �إيقاع النغمة يف ر�أ�سه،
مزيدا من اخل�شب للنار املتقدة بجانبهما ،ثم قالت« :يا تراءى له وجه حفيدته اجلديدة ،لقد �أ�صبح جدا وهو يف
القمر هذا الرجل باين عليه ما نافع للن�سوان» .متددت منت�صف الأ ربعني� ،أح�س فج�أة باللهفة للو�صول �إىل
جنية وقالت« :لكني �أريده و�سي�أتيني ،القمر ال تريد بيته والدخول للغرفة الو�سطى لريى وجهها ال�صغري
�شيئا وال حت�صل عليه» .هزت خزينة ر�أ�سها« :يا �أختي النائم ،كان يبت�سم لنف�سه ويكاد يدندن طربا حني باغته
هذا الرجل متزوج بنت ال�شيخ م�سعود� ،شيخ قبيلتهم ظل ب�رشي بني الكثبان ،ب�سمل عزان وتراجع خطوتني
كلها ..تظنني �أنه �سيرتكها ليتزوجك �أنت؟»� ،ضحكت للوراء لكن الظل تقدم نحوه بثقة� ،صاح عزان« :من
جنية� ،ضحكت �ضحكتها املجلجلة ال�شهرية ،قالت هناك؟» ففاج�أه �صوت �أنثوي�« :أنا» .بعد هنيهة كانت
247 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�سنوات قليلة� ،أطعمت النوق الأ �صيلة متر اخلال�ص خزينة لنف�سها وهي ترى �أ�سنانها الل�ؤل�ؤية« :ما �أجدرها
وال�سمن البلدي وع�سل النحل ،و�شاركت بها يف �سباقات بلقب القمر..كاد النا�س �أن ين�سوا �أن ا�سمها جنية»،
الهجن حتى جنحت يف بيع �إحداها لأ حد �شيوخ �أبوظبي و�ضعت جنية يديها خلف ر�أ�سها وقالت ل�صديقتها:
بع�رشين �ألف ريال ،ا�ستخرجت للناقة جواز �سفر �أ�سمتها «من قال لك �أين �أريد �أن �أتزوجه؟ القمر ال ت�ؤمر �أحدا
فيه «غزيلة» ،و�شحنتها �إىل �أبو ظبي ،وحني قب�ضت عليها�..أنا مل �أخلق لأ خدم رجال و�أطيعه ..ي�رسق حاليل
ثمنها ا�ستبدلت باخليمة بيتا من اال�سمنت امل�سلح ا�شرتت ومينع عني �أخي و�صاحباتي...يوم يقول ال تطلعي،
له ال�سجاجيد واملنادي�س من �سوق مطرح� ،سخرت علنا ويوم يقول ال تلب�سي ،ويوم يقول تعايل ويوم يقول
من جريانها الذين بنوا بيتا بطابقني وظلوا يق�ضون روحي..ال..ال..ال يا خزينة عزان �سيكون يل ولن �أكون
حاجتهم حتت �شجريات ال�سمر ال�صحراوية خارج البيت له�...سي�أتيني حني �أ�شاء ويذهب حني �أ�شاء...منذ ر�أيته
اجلديد املزود بخم�سة حمامات ،مل ت�ست�سلم لتبطل يف الرم�سة مع الرجال و�أنا �أعرف �أن هذا الرجل �سيكون
�أخيها املنغويل فدربته على رعي الغنم والإ بل ،حني للقمر..وهرب؟..هرب!! رك�ض ك�أين جني فاج�أه وهرب!..
مات �أبوها تنف�ست ال�صعداء و�أحكمت �سيطرتها على يرف�ضني �أنا؟ القمر؟ مل يخلق الرجل الذي يرف�ضني
حياتها ومالها وحريتها ،وملا تفتحت �أنوثتها وو�صل بعد يا خزينة�..سي�أتيني عزان هذا جاثيا على ركبتيه».
خربعبريها القا�صي والداين لقبها النا�س بالقمر، �سكتت ال�صديقتان طويال ترقبان النار التي خمدت
ا�ستهز�أت بخطابها الكثريين وتفرغت لأ خيها وثروتها، �شيئا ف�شيئا ثم نامتا.
قالت لنف�سها �إنها حني �سرتى رجلها �ستعرفه و�ست�أخذه، حني كربت جنية كان بيتها هذا – املكون من غرفتني
ا�صطفت ال�صديقات وتاجرت مب�شغوالتها اليدوية مفتوحتني على �صالة مطلة على احلو�ش بجدار واطئ ال
املميزة� ،أ�صبح بيتها قبلة لل�ضيوف واملحتاجني ي�صل لل�سقف -جمرد خيمة وا�سعة وكان �أبوها متالفا
وهابها الرجال والن�ساء. للمال .مل تر �أمها منذ خلقت ومل ت�شغل نف�سها بال�س�ؤال
حني �أ�صيب �أخوها بك�ساح مفاجئ �أغلقت بيتها و�أقامت عنها� .أحبت �شيئا واحدا فقط يف العامل� :أخاها الأ �صغر،
معه �شهورا يف م�ست�شفيات احلكومة البعيدة معتمدة على كل � آثار اجلروح يف ج�سدها ناجمة عن املعارك التي
�صديقاتها يف رعاية غنمها و�إبلها ،طُ رِدتْ مرارا من �أق�سام خا�ضتها مع ال�صبيان دفاعا عنه ،كانت تهرع من
املدر�سة االبتدائية �إليه لت�س�أله عمن � آذاه ،حت�شو مريولها
الرجال يف امل�ست�شفيات فلفت بطانيتها عليها ونامت يف
املدر�سي الأ �صفر داخل البنطال الوا�سع وتنطلق �إىل
املمرات ،قال لها الأ طباء ت�رصيحا وتلميحا �إنه منغويل
معاركها اليومية ،وحني توقف ال�صبيان عن �رضب
�أ�صال وقد عجزت رجاله الآ ن فماذا ترجني منه؟ دفعها
�أخيها �أو مناداته باملخبول كانت قد و�صلت �إىل املرحلة
النا�س النتظار خال�صه باملوت فاعتزلتهم ،حني يئ�ست الإ عدادية ،ويف الإ عدادي عرفت �أنها مل تخلق لتجل�س يف
من امل�ست�شفيات حملته للبيت و�أغلقت عليهما الباب، �صف رطب مع خم�سني طالبة ت�سمع كالما غريبا عن
داوته طويال بكل ما و�صفه املجربون وما ابتكرته هي النحو والأ رقام والعلوم من الفجر �إىل الع�رص ،مل حتب
من خلطات الأ ع�شاب ،واظبت على دهن رجليه العاجزتني �أحذية املدر�سة البي�ضاء التي يتحول بال�ستيكها �إىل
بزيت الزيتون ال�ساخن وم�سحوق القرنفل وعلى حماولة اللون الأ �سود بعد �أ�سبوع على الأ كرث ،وال زي الإ عدادي
�إيقافه م�ستندا عليها� ،ألقت بثقله على ظهرها القوي الرمادي اخلايل من �أي زخرفة ،املتجعلك با�ستمرار ب�سبب
وجرجرت رجليه يف ال�صالة ذهابا و�إيابا ،مزجت الزحام واحلر� ،ضايقتها لهجة املدر�سات امل�رصيات
احلنظل مع ع�شبة «املخي�سة» و�سقته ال�رشاب املر كل وال�سودانيات الغريبة ،ومل ت�ستوعب فكرة اجللو�س يف
�صباح ،م�سحت لعابه بكمها ومل ت�سمح لنظرة العجز يف مكان واحد طوال اليوم ،تركت املدر�سة وتخل�صت من
عينيه ال�ضيقتني امل�ستطيلتني بثنيها عن عزمها� ،صمَّتْ الركوب منح�رشة يف �سيارة بيك � آب مع ع�رش بدويات
�أذنيها عمن ي�ستهزئ مبحاوالتها ونذرت حياتها لأ خيها. �أخريات ترتجرج �أج�سادهن ال�صغرية وت�صطفق من الريح
حني فتحت جنية بنت �سعيد باب بيتها ونحرت ناقتني املحملة بالرمل �ساعة �أو �أكرث حتى ي�صلن �إىل املدر�سة.
لل�صدقة ،كان �أخوها مي�شي على قدميه. ا�ستغرق �أبوها يف جل�سات ال�شواء وال�رشاب والزار
\ ف�صل من رواية قيد الن�شر. ف�أم�سكت ماله ورعت غنمه و�إبله حتى ت�ضاعف يف
248 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�أرم ــلة
الري�شة
حممد حلمي ّ
ّ ترجمة: مي�شيل التيولي�س
�شاعر ومرتجم من فل�سطني
بعنف قدمه املت�س ّكعة ٍ منطل ًقا خل ًفا نحو احلائط ،ويرفع جتل�س �إىل طاولة الفح�ص ملفوف ًة بالرّداء الورق ّي البنف�سج ّي،
فوق دوالب مقعده ،مت�سائلاً �« :إ ًذا ،ما ر�أيك مبا يجري؟»، واحدٌ من هذه ا أللوان اجلميلة اململّة املختارة للنّ�ساء ،كما
وهي تعتقد � أ ّن هذا مفتت ٌح بار ٌع لطبيب ن�سا ٍء ذك ٍر ،ليقدّمه � أ ّنها قد تكون حماول ًة لتغطية نف�سها ب�صندوق ثلاّ ج ٍة مثل
�إىل مري�ض ٍة �أنثى ،و�إىل �سلطة ج�سدها الذّاتيّة ،لكن بعد ذلك، الرّداء الورق ّي ،كما ا إلفريز وجدرانه كلّها ،ويط ّوقها مثل
وقبل �أن ت�ستطيع ا إلجابة ،يقول ثاني ًة« :واو� ،سنتان ،مل مت�ساقط .حتدّق من هذا الترّ كيب ،وت�سحب ٍ خ�شب متناث ٍر �أو
ٍ
حت�صلي على اجلن�س خالل �سنتني؟» ،ومثبّتًا � إ ّياها بنظر ٍة، ياقة الرّداء العالية حول ف ّكها أل�سفل ،لذلك ت�ستطيع �أن
وهي تدرك � أ ّنه دورها لتقول« :واو». جتيب على �أ�سئلته دون احلديث عرب قناع الورق.
� إ ّنه يعتقد � أ ّنها تكذب. �أجابت« :نعم»« ،ال» ،وهما اجلواب نف�سه ،نعم ،مل حت�صل
التّجوال �أف�ضل من املكان �أحيا ًنا ،ومن البيت ،ومن جماع جن�س ٍّي ملا يقرب من �سنتني ،ال ،مل حت�صل على ٍ على
تو�سع فكر ًة � أ ّن التّجوال �إمكانيّةٌ،
املق�صد� .أحيا ًنا ت�ستطيع �أن ّ جماع جن�س ٍّي ملا يقرب من �سنتني ،ويهزّ طبيب النّ�ساء ٍ
وفر�صةٌ ،وموهبة اكت�شاف ا أل�شياء -قد يكون هناك ،ذلك ر�أ�سه ،ويقول � :إ ّنها ثاني ًة حتّى ا آلن ،راف ًعا ب�رصه عليها
املكان الّذي مل تف ّكر بر ؤ�يته ،ومل تعمل بجدٍّ مبا فيه الكفاية قائلاً « :واو»« ،واو» .ويدور مبقعده قليلاً متاب ًعا ليقر� أ
لتجده؛ والتّجوال �أحيا ًنا �أف�ضل أل ّنها جترب نف�سها على ين؛ � إ ّنها مري�ضةٌ جديدةٌ ،واملمرّ�ضة املهنيّة الرّ�سم البيا ّ
جاري املجاور ،تتج ّول احلركة ،ويو ًما ما ،يف املركز التّ ّ مالحظات كثري ًة .يقول« :ماذا تفعلني ،تقتلني ٍ عملت
نحو مكتب ٍة تتعامل معها ناد ًرا ،هي مكتبة بارينز ونوبل، زوجك؟» � إ ّنها ت�سمعها مزح ًة ،مزح ًة ك�أ ّنها كا�سحة جلي ٍد
لل�سفل ك ّل رف كتب �آداب املعا�رشة ،وت�سحب أ وتقف �أمام ّ خارجةٌ من فمه ب�رسع ٍة جدًّا ،ومن الوا�ضح � أ ّنه مل يف ّكر
«موت» ،و�إىل ك ّل ن�صيح ٍة كتاب ،وتنتقل �إىل «�أرمل ٍة» ،و�إىل ٍ ٍ �سلوب ي�ستخدمه ملعاجلة النّ�ساء للحظ ٍة ماذا يقول .ربمّ ا � أ ٌ
ومف�ضلتها احلاليّة «�أرملةٌ ال تتحلّى ّ ،ةدقيق ٍ إ ٍ أ ّ ّ ً
ق د ل ق � حلاح � و ة املطلّقات الغا�ضبات� ،أو غري املتز ّوجات يف لو�س �أجنلو�س،
بالللئ� ...أو �إذا جر ؤ�ت ،ف� إ ّنها تكون �سوداء �أو رماد ّي ًة». ّآ حيث يبدو � أ ّن هناك الكثري من حاالت اللّقاء غري ال�شرّ ع ّي،
التّجوال لي�س �أف�ضل �أحيا ًنا � ،إ ّنه الرّعب من عدم وجود �سلوب ي�ستخدمه ليوا�سي على «ما لقاءات -ربمّ ا � أ ٌ
ٍ �أو لي�ست
مكان لتذهب �إليه ،ال مكا ٌن يحتاجها �أن تكون� ،أو يريدها ٍ ه�ؤالء الرّجال املهتزّون» ،لكنّها مل تعرف �أن جتد يف نف�سها
�أن تكون ،وال �أحدٌ يريدها �أن تكون بال ّطريقة الّتي يريدها. ي�ضا ،ومل حت�رض نف�سها من �أجل �أن تعاقبه على هذا التّعليق � أ ً
�ساعات طويل ًة معتم ًة ،ر�أ�سها �أ�سفل الو�سائد ،وحتت ٍ ث ّم تنام �أن تطحن متا ًما يف كم هي �صلبةٌ هذه املالحظة ،وكيف � أ ّنه
اللّحاف ،وعندما ت�ستيقظ ،تلتوي آللئها الورد ّية فوق من غري امل�صدّق خروجه عن اخل ّط .ربمّ ا ما يحميه هو � أ ّنها
الغرور � ،إ ّنها تريحها؛ هناك مزايا للعي�ش يف مثل ثقاف ٍة زواجا �سعيدًا � .إ ّنها تعرف � أ ّن ك ّل واح ٍد يقول �أ�شياء عا�شت ً
ن� ّساء ٍة. غبيّ ًة ،وتعرف كيف ت�سامح ،وت�سامح يف الزّواج ال� ّسعيد.
� إ ّنها تعرف ما املق�صود بكلمة «�أرمل ٍة» منذ �أن كانت يف تنظر �إىل ا أل�سفل نحوه وهو على مقعده .تبقي نظر ًة لطيف ًة
ال� ّسابعة ع�رشة من عمرها ،وجتل�س مت�ضايق ًة يف مقرّ ٍر يخ�صها ،نظر ًة مع على وجهها ،نظر ًة تعلّمتها من زمي ٍل ّ
معنون بـ«النّ�ساء واملظهر» ،حيث فري ٌق معل ّ ٌم بو�ساطة ٍ كاف لك ،لتجمع �إىل بوقت ٍ وقت معل ّ ٍق فيها ،نظر ًة ت�سمح ٍ ٍ
مثليّتني م�سرتجلتني ازدرائيّتني من � أ ّي �شي ٍء تدركه ك�أنثًى. وقت يقف ٍ ا، ع
ً فظي ا ي
ً ًّغب ا ئ �شي قلت ك ن � قة
ّ ّ أّ ي ال�ض مدركاتك
�سمج،
واحدٌ من ا أل�ساتذة يحت ّل كر�سيًّا متحرّ ًكا على نح ٍو ٍ بغبا ٍء .بالتّ�أكيد هو ي�سمع ،فقط ،ما �سال من فمه ،وبد� أ ليقول
م�صاب ب�شل ٍل دماغ ٍّي �أو ٌ تقريبًا على اجلنب ،ومنذ ميالده �شيئًا -ربمّ ا ليعتذر -يغيرّ ر�أيه ،ث ّم ينظر �إىل ا أل�سفل لينتقل
بت�صلّب ا ألن�سجة املتعدّد ،وهي لن تعرف �أبدًا ،وكره ا أل�ستاذ ين ،وينظر �إىل ا ألعلى، ال�صفحة الثّانية من الرّ�سم البيا ّ �إىل ّ
249 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
ي�ضا .حتّى طرق اللاّ و ّيني املعتمدة متل كليهما � أ ً ت�ستطيع �أن أ وبنجاح
ٍ (ملحوظ -مرئ ٌّي -وا�ض ٌح) والذ ٌع،ٌ م�شهدي
ٌّ للنّ�ساء
يف ا ألرامل ،ف� إ ّنها ت�صنّفه ّن مع البغايا والنّ�ساء املطلّقات، �سنوات مت�أ ّخر ٍة،
ٍ للنثو ّية حتّى يبقيها من ا ّدعاء � أ ّي وال ٍء أ
ف�صل ،21مقطع ،14وقال الرّ ّب �إىل مو�سى� ،أرملةٌ� ،أو امر�أةٌ خارجا عن ت�ص ّورات ا أل�ستاذ الغا�ضبة؛ ً عندما �صنّفت نف�سها
موم�س ،ه�ؤالء �سوف ال ي�أخذه ّن :لكن ٌ مطلّقةٌ� ،أو جمدّفةٌ� ،أو املعادالت الّتي ذهبت ببع�ض ا أل�شياء على طول �سطو ٍر-
�سوف ي�أخذ عذراء من �شعبه لتكون زوج ًة .و أل ّنه هذا هو -حذا ؤ�ها عايل الكعب كان قبولاً بالعرج دون �أن تلقي
عال يف العيادة، ب�صوت ٍ
ٍ ملف ال ّط ّب النّ�سائ ّي ،فقد �ضحكت ّ بالاً ،على قدم امل�ساواة مع ت�صلّب ا ألن�سجة املتعدّد �أو
نظرات مر ّكز ًة � ،إ ّنه يريد كثريًا ٍ وينظر �إليها مو ّظف اال�ستقبال ال� ّشلل
جدًّا �أن يعرف املر ّبع الّذي تقر ؤ�ه« ،بغ ٌّي ،جمدّفةٌ ،عاهرةٌ، حيوي ،غري م�ش ّو ٍه،
ٍّ حجاب طرح على حل ٍمٌ � -أحمر �شفاهها،
�أرملةٌ» � ،إ ّنه مر ّب ٌع �شام ٌل ،وهي تعني ك ّل توري ٍة متخيّل ٍة يف خاطئ -نحافتها -اجلينيّة كما لو كانت -بطريق ٍة ٍ وغري
هذا املر ّبع. ما �أكرث امتال ًء با إلرادة ،م�ستمدّةٌ عرب احلرمان إل�سعاد عامل
بجدّ ّي ٍة �أكرث ،تكتب كلمة «�أرملة». الذّكورة...
لي�س أل ّنها غري منطقيّ ٍة يف اال�ستبيان � ،إ ّنها حماولةٌ �أكرث بعمق �أكرث من � أ ٍّي منهم �سال�سل �أ�ستاذها املع ّوق عرف ٍ
اجل�سدي الفعل ّي .لقد ّ ح�سا�سا �أكرث عن و�ضعها إلعطائهم � إ ً ا ألنوثة .ماذا كانت املخادعة -وكانت تعرف هذا حتّى
تفاج�أت با أل�سى � ،إ ّنه الثّبات ،و� إ ّنه �شيءٌ مل ٌّح ،و� إ ّنه ا ألمل مما ذلك احلني -كانت اعتقدت ا أل�ستاذ قد عانى �أكرث ّ
اجل�سدي القا�سي.
ّ عانت -مهما كان قد حدث لها؛ وهي عرفت من هذه
�أحيا ًنا ت�شعر � أ ّنها بحال ٍة ه�ستري ّي ٍة ،كما لو � أ ّن ك ّل خليّ ٍة احل�صة الدّرا�سيّة منذ فرت ٍة طويل ٍة � ،أ ّن «�أرمل ًة» عنت «فار ًغا» ّ
وانفعال .لقد
ٍ وفوران،
ٍ باهتياج،
ٍ يف ج�سدها ت�رضب بق ّو ٍة يف ال� ّسن�سكريتيّة ،وهذه فار ٌغ ال تكون تعني �إلاّ جن�سيًّا،
�صدمها هذا يف البداية ،فهذه موجةٌ من الع�صبيّة والوح�شيّة ال لقانق للكعكة ،وال �سجق للق ّفاز ،تلك طبيعة ال� ّشيء،
كن�ستها �أما ًما ...لكنّها جاءت لتفهم اجل�سم الّذي ال ي�ستطيع لكنّها مل ت�أخذ بعد هذا املرح يف ال� ّسابعة ع�رشة ،ومل تكن
مقاومة احلزن ك ّل حلظة �صح ٍو ،ذلك � أ ّن اجل�سم �سي�رصّ على جم ّهز ًة باجلر�أة الوقحة .لقد جاءت لتعجب كم�ؤمن ٍة حقيقيّ ٍة
تو ّق ٍف لوقت مر�ضيّة احلزن. مب�ساواة اجلن�سني ،وهي غري م�ستعدّ ٍة لتقدمي اعتذا ٍر ،ودون
حلاح� ،ضح ٌك لذلك ،كانت ت�رصخ بق ّوة وت�ضحك ،ت�ضحك ب� إ ٍ خج ٍل جن�س ٍّي....
تعليق ممك ٍن من ٍ يطالب بوجوده ،وعقلها يقفز نحو � أ ّي «� إ ًذا ،ما ر�أيك مبا يجري؟» �س�ألها ثاني ًة.
� أ ّي واح ٍد� ،أو � أ ّية �صف ٍة ميكن �أن تكون نكت ًة ،وهزلاً ،وعل ًفا كاف وقت ٍ تن ّخل غذاءها ا آلن .عدم تنخيل غذائها هو ألخذ ٍ
ال�ضحك ،وهي عرفتها � أ ّنها �ستحدث عندما حدثت، مل�سار ّ لتخ�رس �شهيّتها .فرتاتها تو ّقفت ،لقد خ�رست كثريًا جدًّا من
ال�ضاحكة حولها ،وت�شعر ك�أ ّنها فقد كانت ت�شعر بالوجوه ّ وزنها � .إ ّنها تقف �أغلب �أم�سياتها يف مطبخها ،جمروف ًة
زجاج ،والوجوه حدّقت مرّ ًة واحد ًة و�ضحكت، ٍ وقفت خلف بالغذاء ،تطعم نف�سها ب�شك ٍل �رسي ٍع كما ت�ستطيع �أن تبلع.
�شفاههم وعيونهم و�أفواههم كلّها ت�ضحك ...وكانت ت�ستطيع قالت لها � أ ّمها يف �أغلب ا ألحيان كطفل ٍة« :ال تقفي هنا
�أن ت�سمع قرن ثور ج�سدها اليائ�س .لقد افرت�ضت � أ ّن ه�ؤالء معلف� .إكرا ًما للرّ ّب ،اجل�سي ٍ ت�أكلني مثل احليوانات على
الّذين حولها �أدركوا فرحهم لتعا�ستها ،لكن هل كانوا ن�سان متح�ضرّ ٍ» ،وجرّبت ،جل�ست �إىل طاول ٍة وكلي مثل � إ ٍ
يعلمون � أ ّن ج�سدها دفع هذا الي�أ�س �إىل ا ألمام؟ ف�ضيّ ٍة،
�شموع ،ومندي ٍل ،و�أواين ّ ٍ �صغري ٍة يف غرفة الفطور مع
وبذلك� ،سوف تذهب �إىل البيت بعد وجودها يف بع�ض وقدح نبي ٍذ ،وقدح ما ٍء ،وحرّكت �سلطانيّة فواك ٍه �أو �أزها ٍر،
ا�ستقبال �أو حفل ٍة ،و�سوف ت�شعر � أ ّن �أع�صابها تتو ّقد، ٍ جت ّمعات �سلوك �إغوائ ٍّي �إىل حالته
و�آنية الو�سط ،و�أزاحت جملاّ ٍت ،وك ّل ٍ
وتتق ّطع بع�صبيّ ٍة ،وهي متعاركةٌ مع اله�سترييا ،و�سوف ال� ّسو ّية ،لكن هذه احل�شمة مغايرةٌ كلّيّ ًة لالنهيار ا ألخالق ّي
�شخ�ص �ضحك من ٍ تخجل من نف�سها ،و�سوف تعرف � أ ّن ك ّل يف داخلها .جتل�س �إىل املائدة ،لكنّها قد تكون حجر الرّ ّب
دب �أو راح ٍة ،ب�أ ّنها لي�ست هي منظرًا حزينًا ليكون هنا. �أ ٍ ال�صباح يف الّذي تقدّم له الهبات ،والغذاء مل يزل هناك يف ّ
مبن �أو مباذا ت�ستطيع �أن تثق ا آلن؟ �ستقول لنف�سها�« :أنت ال�صواين- طيّات حجرها ّ
حتاولني كثريًا؛ �أنت ال حتتاجني �أن جترّبي بجدّ ّي ٍة �أكرث»، امللف ال ّطبّ ّي ،توجد مر ّبعات قليلةٌ يف �إحداها ّ يف تعبئة
ي�ضا � ،إ ّنه ج�سدها الّذي ي�رصّ على � أ ّي �شي ٍء لكن لي�س ذلك � أ ً عالمة (?) �أو (� )xأو �سوا ٌد كلّيّ ًة فقط ،وعندما ت�صل �إىل
ال�ضحك.
يقدّمه ّ عزب» �أم «متز ّو ٌج »،وال يوجد مر ّب ٌع �آخر ،ال خياري «� أ ٌ
250 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
برنتوود ،والنّ�سيج املغزول املرم ّي فوق مقعدها -لتغطية ي�س�أل ال ّطبيب« :متري ٌن؟» ،م�سندًا ظهره �إىل احلائط ،لي�ستند
اللّطخات؟ ليمنع اللّطخات؟ ال ت�ستطيع �أن ت�ؤ ّكد ،لكن يف على كوعه فوق غطا ٍء مطل ٍّي بالكروم إلحدى �سالل النّفايات
املرّات ال� ّس ّت �أو ال� ّسبع الّتي تغادر فيها العيادة تق ّومه، ين، ال ّطويلة .تقر� أ خماطر ًة .يتو ّقف النّظر �إىل ر�سمها البيا ّ
وت�سحبه ب�شدّ ٍة ثاني ًة � ،إ ّنها ال حت ّب الرّمي هناك ،وال حت ّب وهي ا آلن ترتاح على من�ضدة الفورمايكا ال ّطويلة ،ن�صفها
ذلك الّذي يحتفظ بانطباعها .تخربها املعاجلة ك ّل مرّ ٍة �أن داخلها ون�صفها ا آلخر خارجها .جل�س ال ّطبيب ب�شك ٍل فجائ ٍّي
ال تقلق ب�ش�أنه ،و�سوف ت�صلحه ،لكنّها ال تريد طبيبًا مق ّو ًما مقرتحا للمرّة الثّانية «ت�رسي ًعا» ،و�أخريًا تقول: ً �إىل ا ألمام،
يرمي النّ�سيج بعد �أن تغادر� ...شيءٌ داخل ٌّي مقل ٌق ،مقل ٌق «�أنا �آ�سفةٌ ،ال �أعرف ماذا تعني «ت�رسي ٌع»؟ �أم�شي كثريًا .يف
حلاح � .إ ّنها ت�ضايقها كثريًا ،حيث جعلها ترتك املعالج ب� إ ٍ ال�صباح ،باكرًا ،ربمّ ا �أميالاً كثري ًة .ال �أعرف. ّ
مع بع�ض املالحظات عن حياتها ،كال� ّشعر �أو ال ّظفر الّذي يقف من مقعده قائلاً « :ال �ألعاب ريا�ضيّ ًة؟» ،وي�سحب
ال�صالون � .إ ّنه غري منطق ٍّي � ،إ ّنها ال
ق�صته وتركته خلفها يف ّ ّ جانب
ٍ ا ألذرع املعدنيّة لطاولة الفح�ص ،واحدةٌ على ك ّل
ت�رصّ على ذلك� ،أو حتّى � أ ّنه ال بدّ �أن يكون � .إ ّنها ال تثق بهذه منها.
ال�ضبابيّة للمهن ّي �أو ال� ّشخ�ص ّي ،وال ت�ستطيع �أن تقدّر التّبديل ّ واندفاع« :ال» ،مف ّكر ًة �أن تقول :لي�ست �شيئي، ٍ �أجابت ب�رسع ٍة
هذا يف �أفكارها وم�شاعرها غري املحميّة ،وال تثق ب�أخالق لي�ست ر ؤ�يتي ،لكنّها ال .هي تعرف كيف � أ ّنها �شا ّذةٌ بالنّ�سبة
ال�صداقة �أو العائلة -وهي املهنيّني فوق جمموعة مبادئ ّ �إىل معظم النّا�س ،وعندما يكون �أحدهم يف البيت ليط ّوقها،
ت�شعر � أ ّنها � أ ّدت واجبها جتاه عائلتها من خالل «مقابلة حيث املكان الّذي تنتمي �إليه ،فال يه ّم ،لكنّها ا آلن تتو ّقف
معالج» ،وعندما ي�أتي االقرتاح من ال ّطبيب ،كما تعرف ٍ �شخ�ص جتاهها ،قائل ًة: ٍ حا�سة � أ ّي
عن �إ�ضافة الوقود �إىل ّ
� أ ّنه �سي�أتي بالتّ�أكيد ،ت�أخذ دوا ًء م�ضا ًدا لالكتئاب ،وترتك قلي ٌل ممك ٌن.
بعمق بال� ّشخ�ص الّذي العيادة وال تعود �أبدًا � .إ ّنها حمتارةٌ ٍ لف من �أجل تنغيم اجلزء ا ألو�سط � ،إ ّنك �أخربها �« :إ ّنها �آلة ٍّ
�شخ�ص �آخر ،ويريد �أن يعاجله كيميائيًّا يف ٍ يدر�س عقل لف».
جتل�سني عليها -ال �أعرف ملاذا ت�س ّمى «�آلة ٍّ
الوقت نف�سه� .أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ. لف ،وال ركوب د ّراج ٍة� ،أنا واندفاع« :ال �آلة ٍّ
ٍ �أجابت ب�رسع ٍة
...من امل�ستحيل � إ ًذا �أن تذهب �إىل ا ألطبّاء � ،إ ّنه يختلف مع يف احلقيقة �أم�شي ،»...وكانت على و�شك �أن تقول :و�أعمل
يتو�صل �إليه م�ساعد ال ّطبيب ،يقول :ال ،ال � ،إ ّنه ّ ني
ك ّل تخم ٍ ي�ضا � ،إ ّنها تعرف � أ ّنه منكثريًا يف بيتي ،لكنّها مل تقل ذلك � أ ً
بنزق« :ارمي ذلك ال يعتقد � أ ّنه حول �س ّن الي�أ�س ،ال ،ال ،ير ّد ٍ املمكن �أن تكون عرّا ًفا يف لو�س �أجنلو�س� ،أ�سهل من �أن تقول
املرهم بعيدًا؛ � إ ّنه غري مفي ٍد» ،وهي �سعيدةٌ بذلك ،لقد قر�أت اعرتاف ،حقيق ًة،ٌ � إ ّنك ل�ست معتا ًدا على �ألعاب الرّيا�ضة ،هو
و�صفته بتم ّع ٍن؛ حتذيرات ال�سرّ طان ،لكنّها �أنفقت مالاً كثريًا ظروف جمهد ٍة� -شيءٌ ال ميكن �أن ٍ �أن تكون �أق ّل ح ًّظا ،يف
مقابل ن�صائحه وعانت أل�سابيع عدّ ًة ،بعد زيارتها ا ألوىل تعرتف به يف بلد ٍة خياليّ ٍة -لكن عمل البيت متري ٌن ،وك ّل
�إىل م�ساعد ال ّطبيب .لي�س هناك � أ ّي عذ ٍر لهذا التّ�شخي�ص هذا ما تعنيه هي لتبد�أ.
اخلاطئ ،وبالتّ�أكيد مل يت�سترّ على م�ساعده ،ووجدت ذلك كلمات فوق ن�رش ٍة �إعالنيّ ٍة مثبّت ٍة ٍ �أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ!! ثالث
مذهلاً ،وهي منزعجةٌ جدًّا جدًّا ،وحتاول �إبقاء غطا ٍء عليه، هاتف يف الزّاوية املجاورة ٍ قطب مب�سما ٍر �صغ ٍري على
وحتاول �أن ال تقطع ر�أ�سه. لل�ضحك عاليًا� .أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ، لبيتها .هذا ما دفعها ّ
� إ ّنها مع بورتيا يف حفلة ع�شا ٍء ،وهم ي�ضحكون� ،ضائع ًة هاتف ،وربمّ ا هنالك ٍ وقلي ٌل من عالمات التّع ّجب ،ورقم
رجال عاملني يقفون ا آلن ٍ زواج ميّتني ،ومن للحظ ٍة من � أ ٍ كلمات فقط؛ ٍ ثم ٌن ،ال تتذ ّكر -يف احلقيقة تتذ ّكر الثّالث
ل�ساعات طويل ٍة يف املطبخ ،وتنظر حولها ،حمرّر ًة من ٍ �أريكةٌ كبريةٌ نادرةٌ وعالمات التّع ّجب .هل كانت هناك
املحامني الّذين ير ّدون على اال ّت�صاالت الهاتفيّة� ،أو من جمموعةٌ من الق�سائم مع رقم الهاتف ،ترفرف يف الرّيح
مو ّظفي البنك ال� ّشخ�صيّني بطيئي ا إلجابة ا آلن ...ولذلك الّتي حتدثها حركة املوا�صالت؟ � إ ّنها ال ت�ستطيع �أن تتذ ّكر
�ستكون مع بورتيا يف اخلارج ،ويف النّهاية �ست�ضحكان، ي�ضا.
ذلك � أ ً
و�شخ�ص ما بدون ف�ش ٍل �سوف يقول�« :آه ،ا ألرملتان ٌ وتقفزان، ت�س�أل :ماذا ميكن ملثل هذا البند �أن يعد؟ ما هو النّادر الّذي
ال� ّسعيدتان!». ميكن �أن يكون يف ا ألريكة؟ ك ّل ا ألرائك �أعرفها ،تت�أ ّمل ،وك ّل
ال�ضحك.
�ستتو ّقفان عن ّ �رشائح اللّحم الكبرية امل�سكرة ...وتختار �أنت هذه ...لكن
�ستنظران �إليه. بعد ذلك تف ّكر با ألريكة ،امل�ضجع ،يف عيادة ال ّطبيب يف
251 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
�أناهيم ،كاليفورنيا ،أل ّن ديزين ف ّكر ب�أ ّن الفيلم ف�شل ف�شلاً �ستنظران �إىل بع�ضهما البع�ض.
م�ست�ساغ ،ومثل ّي اجلن�س. ٍ دب خمبو ٌل ،وغري هائلاً ،و� أ ّن �أداء ّ �ستنتظران بهدو ٍء حتّى يغادر هذا ال� ّشخ�ص.
كان يقول � إ ّن املقابلة «�صنوبرةٌ طافيةٌ» مثل واح ٍد من �أزواج �سوف ال تقوالن �شيئًا.
�سنان ،وال �أحد يخرب زجاج بداخله عود تنظيف � أ ٍ � أ ّمها ،وك�أ�س ٍ احلزن فيها �شام ٌل جدًّا� ،سفيهٌ جدًّا ،وبطيئةٌ العودة للغ�ضب
دب حمتم ٌل �أن يكون هناك يف غرفة ّ ووكيل الق�صة احلقيقيّة، ّ ثاني ًة.
حترير املقابلة ،يت�أ ّكد ب�أ ّن الفيلم التّايل مع ديزين ال يقارن. كثريٌ من حياة النّا�س ق�صريةٌ لهذا ال� ّسبب.
دب.
كلّه مم ٌّل ،ومبتذ ٌل جدًّا؛ ت�شعر � أ ّنها �أحرجت جتاه ّ ...م�ستحي ٌل � إ ًذا الذّهاب �إىل ا ألطبّاء.
� إ ّنها تبحث عن اخليال لكن قبل �أن جتده ،ث ّمة �أ�ضواء فوق وبحروف كبري ٍة:
ٍ �أر�شدت يف يو ٍم من ا أل ّيام �إىل لوح ٍة جديد ٍة
�صور ٍة بك براون الكاريكاتور ّية ال�ضرّ ور ّية .كان لها الكثري بحروف �أ�صغر حتتها قر�أت ٍ «�أطيلي عمر زوجك» ،وبعدها
ال�صور الكاريكاتور ّية لـ بك من النّقا�شات مع زوجها حول ّ للك�سدة لع�صري الرّ ّمان» .هي مل عبار ًة« :الق ّوة امل�ضا ّدة أ
براون ،كما هم دائ ًما تقريبًا يت�ص ّورانهما جن�سيًّا المر� أ ٍة تهن من ا إلعالن ،ومل تقلق ،ومل تت�ضايق؛ � إ ّنها فقط حائرةٌ
ل�شخ�ص
ٍ عجو ٍز �شمطاء ،جدّ ٍة تذهب �إىل الغدد التّنا�سليّة ال�صبيانيّة � .إ ّنه �إعالن لـ ،POM بغبائها املطلق ،بغفلتها ّ
مثل مهن ٍة ال �أحد ،مفرت�س ًة حقيقيّ ًة� .صورة مايو � /أ ّيار قلب بدلاً من دائر ٍة. ٍ ب�شكل عوحرف الـ Oلـ ، POMمو�ضو ٌ
الكاريكاتور ّية ت�ص ّور �شا ًّبا يف مطا ٍر ،يلتقي مع جرانيّ يل بالكامل ،بالكامل ،يف هذا ا إلعالن ،وت�صمي ٌم القلب � آ ٌّ
وهي على ركبتيها بانت�شا ٍء وا�ص ٍل �إىل �رساويلها من �أجل ال�ض ّخ ،وحجراتها الدّمو ّية .هي للع�ضلة وقدراتها على ّ
عوراته .حار�س �أم ٍن ببذل ٍة زرقاء يقيّد راعيًا �أملانيًّا يهم�س تفهم � أ ّن فريق ا إلعالن يجل�س حول طاول ٍة كبري ٍة ،يف ّكرون
اب�« :سيّدي� ،أعتقد � أ ّنك تو ّد �أن مري نحو �أذن ال� ّش ّ ب�شك ٍل ت� آ ٍّ ه�ستريي ،جل�سةٌ ٍّ م�ضحك
ٍ ب»�أطيلي عمر زوجك» ب�شك ٍل
تعرف � أ ّنها لي�ست جز ًءا من �أمن املطار» .كال الوجهني م�شرتكةٌ م�ضحكةٌ ،ونداءٌ واحدٌ من ه�ؤالء املزايدين لك ّل
الذّكرين -حار�س ا ألمن ،والرّجل املبادر جن�سيًّا -ده�شا زيجات ت�شبه
ٍ �سنوات الب�ؤ�س الزّوجيّة -هي تفهم � أ ّن هناك
بحماقة من حولهم. ذلك ،لكن ما ال ت�ستطيع فهمه هو كيف � أ ّن النّ�سخة مل تطرح،
اب- ش
ّ ّ ال� كتف خلف امً متا العمر منت�صف ث ّمة وجه امر� أ ٍة يف � إ ّنها فكرةٌ م�ضحكةٌ يف النّهاية و�رش�سةٌ.
وجهٌ يف احل�شد متا ًما -لكنّها ترتدي خ ّط االنكما�ش نف�سه يقول ماريان ويجنز � إ ّنه ا ألف�ضل يف رواي ٍة لها� :أن حت ّب
لف ٍم كما هي فعلت .لديها قلي ٌل من نقاط الكلف ال� ّسوداء �شخ�صا ما هو �أن توافق لتموت مرّتني يف احلياة� ،أو ً
لعينيها وحتدّق نحو امل�سافة جيّدًا فوق ر�أ�س جرانيّ ؛ لتع ّمر ال �شيء .ما يحدث عندما يطيل �أحدٌ عمر قرينه هو
وال�ضعيف جن�سيًّا. الرّواق ّي ّ ات ج�سد ّي ٍة �ص ّماء... ني ،وم�ض ّخ ٍ عمرٌ تخزين ٌّي ،كوجود يقط ٍ
ال�صباح ال� ّساعة جدّة بك بروان ال تريد �أن ت�شاهد يف هذا ّ عالنات �ص ّماء.ٍ و� إ
.04:20مل يزل ت�صويرٌ �آخر المر� أ ٍة بدون توا�ص ٍل جن�س ٍّي� ،أو ...م�ستحي ٌل � إ ًذا الذّهاب �إىل ا ألطبّاء.
عميق ،امر� أ ٍة بدون رخ�ص ٍة جن�سيّ ٍة ،مرمى النّكتة ،وا أل�سو�أ، ٍ �صباحا ،حمدّق ًة ً يف �صباح يو ٍم ما ا�ستيقظت ال� ّساعة الرّابعة
�شخ�ص، ٍ ي ل
ً أ ّ ة متنازل تزل ومل ، ة
ٌّ ي وهمج ،ٌ ة مقرف تها �شهيّ لوقت طوي ٍل �إىل �أن نه�ضت �أخريًا نحو ال ّظلمة الفارغةٍ ،
ومت�ساحم ًة ،و�إحراجها لك ّل واح ٍد يجب �أن يدوم. وذهبت �إىل احل ّمام .ث ّمة جملّة بالي بوي عدد � أ ّيار /مايو
هي تعرف � أ ّنها تبد� أ جلعله رخاميًّا جتاه �شخ�صيّ ٍة تدعى 2004يف ال� ّسلّة �أمام املرحا�ض؛ �صورة ا أل�شقر ال� ّشا ّذ بام
«�أرملةٌ» ،غري ملمو�س ٍة ،ومظلمةٌ ،وحزينةٌ بالتّعريف، �أندر�سون موجودةٌ على الغالف� .أخذت املجلّة معها �إىل
و�ضعيفةٌ جن�سيًّا .ج�سدها يحارب ألجلها ،ولبع�ض وجو ٍد دب ،ومل تكن ممتع ًة ال�سرّ ير ،وبد�أت تقر� أ املقابلة مع جوين ّ
تعرتف بوجود مثل ا ألوك�سجني ،واملاء ،واملعي�شة. كما يجب �أن تكون� ،أو ربمّ ا هي �أق ّل ا�ستمتا ًعا ،أل ّنها تعرف
كعار�ض
ٍ بالفعل �أن مدحرج احلجارة كيث ريت�شاردز ،خدم
ق�ص�ص خياليّ ٍة وكاتبة مقال ٍة من
ٍ \ مي�شيل التيولي�س (كاتبة دب ل كابنت جاك �سبا ّرو يف قرا�صنة للم�ص ّور بالرّ�سم ّ
الواليات املتّحدة) �أ�ستاذةٌ م�ساعدةٌ يف اللّغة ا إلجنليز ّية يف
بعنوان جامعة كاليفورنيا يف �أرفني .ن�رشت رواي ًة واحد ًة
الكاريبي � .إ ّنها تريد من املقابلة �أن تالم�س امل�شاكل مع
ٍ
لن» ،وظهرت ق�ص�صها يفThe Antioch Review, The Sant : ««حتّى ا آ دب على عدّ ٍة ،مع جمموع ٍة منتجي ديزن ،عندما و�صل ّ
،ta Monica Reviewو�أكرثها يف ZYZZYVAيف الفرتة ا ألخرية. خمتلف ٍة من �أ�سنانه املغ ّطاة بالذّهب .مل يكن هناك � أ ّي ذك ٍر
للتّ�صوير � أ ّنه قد تو ّقف� ،أو ليلة االفتتاح � أ ّنها دفنت يف
252 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
الزائــرة
دنـــى غــــايل
كاتبة من العراق تقيم يف الدمنارك
عمرها ،كان كلبه �صغريا ميلك عينان بلون غابات � إمر�أة فان غوخ
الأ مازون .كانا يلتقيان يف املدر�سة ،يلعبان يف يندفع الدم �ساخنا داخل �رشايني املر�أة امل�ستلقية
احلديقة القريبة ،هو يالعب القطة ذات الفرو الناعم عارية يف لوحة فان غوخ ،تخرج املر�أة من اللوحة،
مثل الثلج ،وهي تداعب الكلب ال�صغري. وجتل�س على كر�سي م�صنوع من اخل�شب الرفيع،
الولد يالعب البنت بكل براءة ،ي�ضحكان ،يبحثان عن الكر�سي الذي كان يجل�س عليه جيم�س جوي�س وهو
الفرا�شات يف الغابات واحلدائق املجاورة. يكتب رائعته اخلالدة يولي�سي�س.
وفج�أة كربا وكرب الكلب ،هرمت القطة ذات الفرو كانت املر�أة وحيدة ،فيما ت�سقط قطرات املطر التي
الناعم مثل الثلج ،كرب الكلب �صاحب العينني بلون تهيج الأ زهار يف احلديقة املجاورة.
غابات الأ مازون. �سحبت املر�أة العارية �سيجارة من نوع» كازا»
-اغت�صب الولد البنت بدون رحمة احلقري ،من يد خيالية جليم�س جوي�س ،وهي ت�ضحك،
� -سيق الولد �إىل ال�سجن دخنت ب�رشاهة وعمدت على ترك ال�سيجارة تر�سل
-هجرت البنت �إىل مدينة بعيدة دخانها �إىل الكتب القدمية املوجودة يف مكتبة جيم�س
-عرث على الكلب مقتوال بال�س ّم الذي يقذفه عمال جوي�س ،عادت املر�أة العارية لت�ستلقي يف لوحة فان
ال�ضالة.
البلدية للكالب ّ غوخ التي خرجت منها دون �إذن منه ،لتدخن �سيجارة
ون�سي النا�س احلكاية. واحدة يف هذه الليلة املمطرة ويف هذه الغرفة التي مل
الراق�صة والعبيد يكمل فيها جيم�س جوي�س روايته اخلالدة يولي�سي�س.
ر� آها ترق�ص يف حفل ،يف احلفل ثلة من العبيد، ليلى واملجنون
بع�ضهم يدخن غليونا ،و� آخر ر�ش على �سجائره عطرا كانت ليلى قد �أ�صيبت بانهيار ع�صبي حاد ،وقيل
فرن�سيا من الأ نواع الفاخرة جدا ،عطر � آالن دولون، �إنها �أ�صبحت جمنونة وكانت �أمها ت�أخذها مرة يف
و�إيف �سان لوران ،احللبة مليئة بالعبيد ،فكرت كل �شهر لزيارة الطبيب املخت�ص يف �أمرا�ض النف�س
يف �شيء غريب� .أين توجد ال�صحراء ،ملاذا تذكرت واجلهاز الع�صبي ،يفح�صها ،الطبيب ،وي�سلمها و�صفة
ال�صحراء و�أنا يف هذا احلفل ،مازالت الراق�صة ترق�ص الدواء ،لتتناوله مدة ن�صف عام�.أم�س ذهبت ليلى
ب�شبق �شيطاين ،فكرت ملاذا متلك هذه الراق�صة مثل برفقة والدتها �إىل طبيبها املعالج وجدت على الباب
تلك الأ �سنان البي�ضاء ،فكرت ملاذا تبتلع ل�سانها الفتة كبرية مكتوب عليها :
يف كل مرة تخرجه طويال مثل ل�سان �سحلية نادرة. الطبيب �أ�صيب بانهيار ع�صبي حاد ،وقيل �إنه �أ�صيب
�أخريا عرفت ال�رس ،ملاذا تذكرت ال�صحراء ؟ عرفت �أن بجنون ،ويعالج حاليا عند الطبيب املخت�ص يف
الراق�صة متوت من العط�ش .لهذا فهي متلك مثل هذا املعدة والأ معاء ،يف العيادة املجاورة .لأ ن كل �أطباء
الل�سان الطويل ،وعرفت ملاذا تذكرت كل هذا ،يف مثل اجلهاز الع�صبي – يف املدينة –فقدوا �أع�صابهم
هذه ال�ساعة املت�أخرة من اليوم .عرفت ملاذا ه�ؤالء و�أ�صيبوا بجنون.
مل يراق�صوا تلك الراق�صة ،لقد كانوا كلهم العبيدَ ،
خم�صيون وكانت �أ�سنانهم بي�ضاء مثل الثلج ،مل تكن القطة والكلب
هناك يف احللبة امر�أة �شقراء ،كنت فقط �أحلم ،لكن، حني كانت �صغرية ،كانت متلك قطة �صغرية كان
ملاذا �أحلم بالعبيد؟. لها فرو ناعم مثل الثلج ،كان هو �صغريا ،يف مثل
254 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
الأ خرى من ال�شارع الذي �أ�سمع منه �أ�صوات الفرامل، كيف يل �أن �أ�صف مكانا ما ؟ حترم الديانات و�صف
وارتطام ال�سيّارات ببع�ضها ،و�أ�صوات �سيارات تفا�صيل الأ ج�ساد بدقة فا�ضحة .كيف يل� ،أو لك �أن
الإ �سعاف امل�رسعة بالداخلني �إىل الرتاب. ت�صف مكانا �أحببته ؟ جمل�سا �أو غرفة �صغرية يف
�أدخل جمل�سي الذي لي�س ملكي ،ويف كل �صبح مكان ما ،ملكا �أو غري ملك ،هل يق�ضي �أحدنا حياته
�أجترّد فيه من كل �شيء ،و�ألب�س ال ُّتبّان الأ بي�ض فيه، يف مكان لي�س له ؟
�أ�شعل جهاز التربيد ،و�أخرج �إىل احلمّام م�ستحمّا �أحببت هذا املكان� ،إنه كفر�ض ل�صالة يف � آخر الليل،
من وعثاء النوم ،ومن ال�سوائل التي خرجت من �إن املجل�س الذي �أجْ لِ�سَ ه ويجل�سني و�أجال�سه و�أجل�س
�صلبي وق�ضيبي ،غا�سال �أ�سناين البي�ضاء مبعجون معه و�أجل�س فيه ،ويجل�سني اجللو�س ويجل�س معي،
لي�س �أبي�ض. ويجل�س جلو�سي �صار مني ،و�رصت �أنا قطعة من
ي�ستقبلني املجل�س باردا. بنائه!
� آخذ كوب لنب وماء ورطبا � ،أطالع اجلزيرة �إىل �أن هكذا �رصت مادة �أ�سا�سية �ضمن حمتويات هذا
ي�أتي القرف ،اقر�أ� ،أكتب� ،أفتح االنرتنت� ،أطالع ما املجل�س ،ف�إن �أخرجوين من املجل�س تناثرت �شظايا
�أ�ستطيع من بريد ومواقع �أدبية ونقدية� ،أبحث عن كما يتناثر ال�سقف بعد ك�رس القواعد.
م�صطلحات� ،أجل أ� �إىل خمطوطي البحثي� ،أ�ضبط فيه ال يجوز يل �أن �أغادر هذا املكان� ،إنه قطعة من
املراجع والهوام�ش� ،أكتب و�أعدِّل ما قد كتبته �سابقا القلب ،ودم يف الروح� ،أحبه كامر�أة �صوفيّة تقرئني
من مقدمات الأ بواب وخواتيمها� ،أبحث عن نهايات ال�شعر ال�صويف بعد منت�صف ليل مقمر .
للق�ص�ص. يقبع املجل�س الذي �أحب يف الروح ،لكن كيف بهذا
�أت�أمل من نافذة املجل�س �شابا يقف بني بنايتني املكان �أن ي�سكن الروح وي�ساكنها العمر؟
عند الظهرية ،يدخن التبغ ملتفتا �إىل بدلته الزرقاء، ال � .إن اخليال ي�أخذه من واقعه الّذي �شيِّد فيه،
ثم يغيب عن ناظري بعد �أن دا�س تبغه بعقب حذائه ويجعله يف م�صاف الأ عزاء غري املزعجني يف
الأ �سود يف �سبخة ترابيّة. � آخر الليل� ،أو قبل الفجر بقليل .بل �إن اخليال الذي
�شعرت �أن ال�شاب الذي ر�أيته كان ي�شبهني ،يف فرتة يبادلني �إياه هذا املجل�س الذي �أكتب منه ،و�أكتب
قد م�ضت مبتعدة عن حياة ع�شت فيها خائفا من فيه ،وها �أنا الآ ن -ولي�س غدا � -أكتب �إىل املجل�س
كل عني تراين� ،أو ر�أتني �أرتكب جرمية ،وهي جرمية الذي �أحب كل احلب ،وعذرا �أيها املجل�س �س�أك�شف
عار ومنكر وف�ضيحة كربى يف جمتمعنا البدائي ما فيك لنف�سي.
املختلف واملتخلّف يف �أحيان لي�ست قليلة ،حدث �إن يف املجل�س �أ�شياء كثرية ،وما فيه �أورثني الفقر
�أن خفت من النا�س حلظة �أن بد�أت �أد�س التبغ يف يف ال�صيف� ،إنني ال �أخرج من جمل�سي يف رحلة
�أمعائي و�رشايني القلب والرئتني والأ معاء اخلفيفة ال�صيف اجلهنّميّة احلارة على مدن النفط ،ها هو
والغليظة والثقيلة ،وها هو ذا ال�شاب خائفا� ،أو اهلل ي�أخذ الربد معو�ضا به النفط الذي مل نر �أثره
بدا ك�أنه خائف من �أعني النا�س� ،إنه ينزوي بني على �سحنات الب�رش.
بنايتني ،بنتْ له ظلة ،ي�ستظل ظهرية �صيف حار. الب�رش الذين �أراهم وهم يعربون املكان �إىل ال�ضفة
255 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
قد �أحب معرفة الوقت منك ،افعل بي ما ت�شاء� ،أحلم رغم �أنك �أيها املجل�س تقذفني بحبيبات ماء �صغرية
�أن ال �أغادرك ،ف�أنت اجلنة ،بل �إنك �سيد اجلنّات ت�أتي من الأ على ،من �شقة كبرية يقطنها دكتور
كلها� .إين �أعدك �أن ال �أقرب �شجرة التفاح؛ حتى �إن نباتي من الهند� ،إال �إين �أحب اجللو�س معك� ،أفكر من
جعت فيك. �أين ت�أتي هذه احلبيبات ال�صغرية التي تنزل على
�أنت املر�أة الثانية ،بل �إن احلب الذي بيننا يجعلك طاولة كانت للطعام ،وحولتها حياتي العبثية �إىل
يف م�صاف املر�أة الأ وىل ،و�أعتذر عن كل الليايل طاولة حا�ضنة للكتب والأ وراق؟
التي دخلتك فيها و�أنا يف خفة الالوعي. �أنت �صديق �صدوق �أيها املجل�س ،و�أنا �أحب جدرانك
�أنا �أعي جيدا �أنك بالن�سبة يل �أوىل القبلتني ،وكان ال�صفراء ،واعذرين �إن حولت �صبغك الأ �صفر �إىل �أ�سود
اهلل قد ر� آين كثريا عندما �صليت فيك ،وكنت �أقر�أ بالر�صا�ص ،ف�أنا �أكتب يف �أي مكان� ،إن كلمني �أحد
القر� آن والتوراة والإ جنيل يف حمراب �سجادة بها وكان يف يدي قلم فقد �أكتب مكاملته دون وعي،
وردتان ،يف الوردة اليمنى كنت قد كتبت ا�سمي، وها هي مكاملة هاتفية مدونة على �إحدى جدرانك،
ويف الوردة الي�رسى كنت قد كتبت «ب�سياء» .بهاتني �إنها مكاملة كانت قد و�صلتني من كندا� ،صديقتي
الكلمتني اللتني كتبتا يف ال�سجادة كنت �أدع كل من وحبيبتي «�إ�رساء علي» تكلمت من كندا وكانت
طلب �سجادة �أن يركع وي�سجد عابدا �إياي وب�سياء تنوي ركوب القطار ،وقالت �إنها حتلم متمنية لو �أن
كذلك ،و�إين حولت ذاتي �إله ًاً ،وقريتي هي الأ خرى يدها يف يدي ،وقلت لها �إين �أي�ضا �أحلم متمنيا لو
�صارت نبياً ،و�أنا ر�سالتها على هذه الأ ر�ض. �أن �شفتي يف �شفتها ثم �ضحكت ،وقالت ا�صرب حتى
�أجزم �أيها املجل�س العزيز ،احلبيب �إىل الروح والقلب جتمعنا غرفة يف مدينة .وهي قد وعدتني �رضورة
�أنك تعرف ب�سياء جيدا� ،إنك تعرفها �أكرث من �أهلها �أن نلتقي يف الأ ردن� ،شتاء هذا العام ،و�أنا بدوري
الأ حياء والأ موات� ،إنها طفلة �أو �أين �أنا الطفل وعدتها ب�رضورة اللقاء ،ها هي « �إ�رساء علي» قد
الر�ضيع الباحث عن حلمة هنا و�أخرى هناك � ،أحلم �أغلقت مكاملتها بعد �أن �أ�سمعتني �صوتها �أكرث من
�أن �أكرب قليال؛ كي �أف�ض بكارة تربتها الطاهرة ع�رش دقائق ،وها �أنا قد كتبت « �أحبك يا �أ�رساء علي،
العذراء حتى يومنا هذا. ووعدا �سنلتقي ،و�إين �أي�ضا م�شتاق �إليك».
�أيّها املجل�س الذي �أحب� :إذا ما متّ فيك فا�سع بجهد قد تطالبني العائلة الكبرية بدين ،ف�إين �أكتب الآ ن
منك �أن ال تخرج جثتي من �إحدى زواياك ،اجعل �أن عليّ مبلغا وقدره مائة ريال ،كنت قد ت�سلفتها
يل قربا بني زواياك ال�ست ،و�إن مل ي�صدق �أحد �أنك لرحلة جنونية قمت بها قبل �سنة ،و�إين الآ ن حائر
مكون من �ست زوايا فاخربهم ي�أتوا لل�سالم عليّ فيك ،و�أنا �أفكر كثريا :هل �أرجعت املبلغ الذي
حيا �أو ميتا. ت�سلفته من �أمي؟
�أرجو �أن ال تدع �أحدا يخرج منك �أي كتاب ،و�أنا الآ ن رص على ذلك، هي تقول �إين قد �أرجعته ،ودائما ت� ّ
�أخربك �أن عندما حل جونو -ابن �أخته لت�سو نامي و�أنا ال �أذكر �إن �أرجعته �أم ال ؟ وتن�صحني �أم رميا�س
-خفت عليك كثريا ،كخوف الأ م على ابنها ،وبهذا خمافة ال�شبهة �أن �أرجع النقد مرّة �إذا مل �أ�ستطع
�أنا �أبوك� ،أو �أمّ ك ،و�أنت ابني العزيز. التذكّ ر.
ال عليك �أيها املجل�س� ،أين ال�ساعة التي يف اجلدار ؟
s
s
s
قلبي ،لذلك قررت �أن �أختفي بعيدا يف عمق البحر ،يجب (�إىل حممد العلوي� ،صياد من �صور ) يعي�شان هو وزوجته يف
�أن تعلمي ب�أن اجلرافات تفعل فعلتها ب�رشاهة ،فال�صغري كوخ خ�شبي �أمام البحر ،ولأ نه كان يبد�أ يومه يف الظالم ف�إن
يجرفونه والكبري بطبيعته اليقرتب من ال�شواطئ �إال نادرا. قدره �أال يكون له يوم �أخري يف حياته .فخامتة �أيامه يجب
بذلك �ستتعب� ،أمل ت�شعر ب�أنك غدوت كبريا مع الأ يام. �أن تكون اليوم ما قبل الأ خري قيا�سا بزمن الوجود والب�رش....
�أ�شعر �أحيانا ب�أن قوتي بد�أت تذبل ،فب�سبب بعد امل�سافة وفيما يلي تفا�صيل �أمينة ،وحوار ف�صيح ،ملا وقع له يف ذلك
والتجديف الطويل� ،صارت �أنفا�سي تخرج وتدخل مب�شقة من اليوم -:
�صدري وك�أن �أ�شياء �أخرى تزاحم طريقها ،ولكن الحيلة يل . �أحدهم �أعطاين رياال مقطوعا .مرارا �أمرتك ب�أال تذهبي للبيع
تراجعت املر�أة جهة املطبخ ،فهي رغم كربها الوا�ضح �إال �أن يف الظالم.
التجاعيد مل تغز كثريا خدها املنب�سط واملحفوف بالطم�أنينة، يف ال�شتاء تختلط �صالة الفجر بالظالم.
وجبهتها ال�ساطعة ك�صفحة املعدن يف قاع املاء ،وعيناها هه� .إذن �أ�صبح كالنا يعمل يف الظالم� ،أنا �أ�صيد يف الظالم
اللتان تتنقالن بحب على كل ماتقعان عليه ،حتى على النار و�أنت تبيعني يف الظالم ،يا حلياة الظلمات هذه .
حتت القدور وعلى الظالل التي تزحف برتتيب �أزيل طيلة ماذا �سنفعل بالريال املقطوع .
النهار،وعلى الفرا�شات وهي حتط ب�سالم كما حتط الظالل، ال �أعرف .رمبا �س�أ�ستعني ب�أول زائر �إىل بيتنا.
وعلى اجلمادات املوزعة بي�رس يف حميط الكوخ. كل هذا ال�صيد الزهيد ،وفوق ذلك يعطوننا رياال مقطوعا.
�إقرتبت من املطبخ الذي كان عبارة عن �شق �صفيحي يف ما �أ�صيبه ال ي�شبه ب�أي حال ما ي�صيده الزاحفون �إىل البحر
الكوخ ال�سعفي الذي ي�سكنان فيه ،يغطي بوابته رداء ثقيل عندالغب�ش،ما �أجنيه الينبت �إال يف الظالم.
حالك مرتع بالظالل والبلل ،ترفعه املر�أة من طرفه �أثناء �أنت الوحيد الذي يذهب �إىل البحر ليال يف هذه القرية.
دخولها وخروجها. نعم ،وما �أ�سحبه على قلَّته ،يعني الكثري ،فبعد �أن مات ها�شل
وال�صياد بعينيه الفارغتني املنك�ستني �إىل الأ ر�ض ،مل تغز هو مل يعد �أحد يعرف قيمة �سمكاتي ،كان هو من يتهافت عليها
الآ خر التجاعيد وجهه ،يرتدي د�شدا�شة تنح�رس حلد الركبة، وي�ستقبلني قبل اجلميع �أمام البحر.
حمفوفة �أطرافها مبا ر�سمته منذ زمن يد امللوحة من خرائط بعد موت ها�شل خفتت عزميتك ومل تعد ت�ستمتع كما كنت
باهتة وتعرجات ،قدماه حافيتان ولكنهما قويتان ب�أظفار بالذهاب �إىل ال�صيد.
خ�شنة عري�ضة ،و�ساعداه امل�شعران ،بديا �صلبني ب�سبب لي�س هذا مايخفت همتي� ،إن �شيئا � آخر �أكرب من ذلك بكثري.
التجديف اليومي ،منت�صبني كمجدافني �أعرف ما تق�صد ،فال�صيادون يتحدثون كثريا عن جرافات
يحفهما ال�شعر ،ورقبته عري�ضة وظهره واقف كجذع قدمي . ال�سمك البعيدة ،ولكن ما حاجتك بهم ،ف�أنت الت�صل �إىل تلك
كان الكوخ الذي يقطنان فيه �سعفي بكامل حيطانه �صنع امل�سافة التي ي�صلها الآ خرون.
من �أعواد ال�سعف ال�سميكة وعمد بجذوع نخل �صلبة� ،سقفه هه .مل يعد الأ مر يفرق كما كان يف ال�سابق ،علي الآ ن �أن
�صفيحي منعه من دخول املطر وما ت�سحبه الرياح ،وبابه �أ�شق طريقا طويلة حتى �أ�صل �إىل م�أوى ال�سمك يف املاء ،يف
خ�شبي موارب دائما تت�صدره حلقة حديد �سوداء حتتها ال�سابق كنت ازحف خطوتني يف الظالم و�أجد ما �أ�شاء�،إن
�صفحة معدن �أل�صقت عمدا لكي ي�سمع العجوزان طرقات اجلرافات هي التي قادت ال�صيادين اىل �أن يبتعدوا كثريا
الزائر قبل دخوله. للبحث عن رزقهم ،لذلك ف�إن �سعره اليني و�أن يرتفع وذلك
تك تك تتك .ال�سالم عليكم لأ ن م�شقة كبرية نحتاجها لإ خراجه من البحر.
ادخل .وعليك ال�سالم والرحمة �أالتخاف على روحك من الغرق ،ملاذا ال ت�صرب وت�صيد قريبا
�أنا نا�رص ياعمي من ال�شاطئ وتنتظر مايرزقنا اهلل به.
ا�سرتح بجانبي يا نا�رص ،جيد �أنك �أتيت� ،أحدهم �أعطى وهل بقي رزق يف ال�شاطئ ،جربت ذلك وكنت �أ�ست�سلم للنوم
زوجتي رياال مقطوعا ،هل كنت معهم يف امل�سجد اليوم يف و�أ�صحو لأ جد ال�شبكة فارغة ،و�أمل الك�آبة ال�سوداء يعت�رص
257 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
ال�ساحل ،كان بع�ض االطفال وهم يف غمرة اللعب تتمايل �صالة الفحر؟
�أج�سادهم كال�رساب من بعيد ،بع�ض ال�صيادين يحنون ال.
ظهورهم يف جوف مراكبهم ويحركون �أياديهم بجهد ،وثلة .............
منهم يتجمعون يف دائرة ن�شطة وهم ين�سجون ب�صمت و�أنني هل الريال مقطوع بالكامل؟
حبال �شبكة طويلة ،ن�سوة يحمن وفوق ر�ؤو�سهن �أوعية ماء ال �أعرف� .أح�رضي الريال يا �سامله.
وحبات عرق ت�سطع من ر�ؤو�سهن الن�صف حا�رسة.وناحية ملاذا يفعلون ذلك بنا ،مل يحدث لنا مثل هذا من قبل ،هل
اجلنوب ،حيث ير�سل البحر وجهه ول�سانه ،كان راعي غنم يعقل �أن يخرج �أحدهم من بيت اهلل لي�شرتي �سمكا بريال
يتقرف�ص بالقرب من �شياهه و�إحدى عينيه مغم�ضتني ،ورا�ؤه مقطوع ،نحن ال نطلب �صدقة من �أحد� ،إنه رزقنا .
عجوز ي�شعل غليونا ثم ينف�ض حمتوياته قرب حذائه امل�صنوع ال عليك ياعمي� .س�أجد الفاعل و�س�أطلب منه ان يبدل الريال .
من ربل اجلمال .وغري بعيد عنهم كانت �أ�شجار �ضخمة ال بد �أن �أحدهم ر� آه وهو ي�شرتي ال�سمك منك.
مر�صعة ب�أع�شا�ش الغربان التي يعلو منها نقيق حاد ي�ضفي تقرتب املر�أة ويف يدها � آنية بها متر ودلة قهوة و�إناء ماء
على املكان �شعورا باحلنني �.إقرتبا من القارب ال�سعفي ،كان تطفو منه ر�ؤو�س فناجني مثلومة احلواف .ت�ضع الآ نية على
العجوز يحمل وعاء به زيت كبد �سمك اجليذر وفلينة قطنية الأ ر�ض وت�صافح ال�ضيف ثم تناوله الريال.
تغط�س يف قاعه،رفع ال�شاب حبل املر�ساة من بطن القارب ثم �إنه مقطوع بالفعل ،ولكن الأ رقام مل مي�سها �شيء .....التقلق
قربها جهة �أنفه ،ت�شممها قبل �أن مي�سحها بالقطنة املغمو�سة ياعمي طاملا �أن الأ رقام وا�ضحة ف�إن الريال �سليم ،ورغم
يف الزيت ،وظل يفركها طويال وال�صياد الأ عمى يقف وراءه ذلك �س�أبدله لك بريال من عندي .
مرددا عينيه الفارغتني بارتياح بني املدى البحري ال�شا�سع اذا كان �سليما كما قلت فال داعي لأ ن تبدله يل .والآ ن قل يل
والأ ر�ض حتته ،بعد ذلك وزن ال�شاب املجدافني بيديه هل من جديد يف البلدة؟
وحركهما يف جميع اجلهات ،ثم فك وثاقهما وانكب يربطهما اجلديد هو ما تعرفه ويعرفه كل النا�س،ال�رشكة �ستو�سع
بكل جهده و�أنني �ضعيف يخرج من �صدره ،وحني انتهى نف�ض بناءها ورمبا كوخك �سيكون مهددا بالزوال� ،إنهم ميرون على
بطرف القارب يديه من الق�رش الف�سفورية التي التق�صقت بهما، البيوت وينذرون �أ�صحابها بالأ مر الذي �سيقع.
ثم ر�سم ابت�سامة على ثغره كعالمة انت�صار ،بعدها قاد الأ عمى �أعرف ذلك ،ولكني لن �أدعهم يقرتبون من بيتي .
من �إحدى يديه و�أودعه باب بيته . يقولون ب�أنهم يعو�ضون ال�ساكنني �أمام البحر ب�أموال جمزية،
ادخل لنتغدى. الكثريون �أبدوا رغبتهم يف ذلك،خا�صة و�أنه مل يعد البحر يدر
�أح�سنت ياعمي� ،س�أتركك ،لدي عمل كثرييف البيت. عليهم �سمكا كما كان عليه احلال.
�سحب ال�شاب خطواته جهة ال�شاطئ ومن هناك رمق �رسبا من ماذا �س�أفعل ب�أموالهم ولي�س يل عمل غري هذا ال�صيد� ،إين
نوار�س الظهرية تبحر ب�أجنحتها البي�ضاء مطلقة �رصاخها الوحيد يف هذه البلدة الذي ي�شق طريقه �إىل البحر يف الظالم
وهي تتعارك على ال�سمك املتقافز .توارى بعدها مبتعدا جهة كل يوم .
بيته وهو يتلفت مينة حيث بد�أ الأ طفال وبع�ض ال�صيادين �إن لديهم طريقة يف �إقناع النا�س.
يرتكون قواربهم هاربني من قيظ الظهرية. �سمعت �أن ال�رشكة نف�سها هي من يقوم بجرف ال�سمك يف عر�ض
يف تلك اللحظة كان ال�صياد يتحدث وهويدخل ثم يتحدث وهو البحر ،لقد بد�أوا بطردنا بهدوء من هناك ،من قلب البحر
يجل�س فوق احل�صرية. ودون �أن ن�شعر ،هل يوجد عنف �أكرب من ذلك.
لو ر�أيتيه كيف كان ي�ساعدين و�أنفا�س فرح تخرج من �صدره، ما باليد حيلة يا عمي ،اجلميع يف النهاية �سيغادر ال�ساحل،
ك�أمنا تركه لنا ها�شل بعد موته و�أو�صاه علينا . ولنبحث لنا عن �سكن وحياة جديدة.
ثم �أكمال حديثهما ومائدة طعام �صغريه تتو�سطهما. كل �إن�سان حر فيما �سيفعله ولكني لن �أترك حياتي ب�سهولة،
ماذا �ستفعل �إذا جاءك مندوب ال�رشكة؟. �إن مل �أ�شم هواء البحر كل �صباح ف�س�أموت خمتنقا.
�سوف �أرد له طلبه ،لن �أفارق كوخي ماحييت. ................
واذا �أ�رصوا عليك. �س�أدعك الآ ن ياعمي.
بعد وقفة مت�شنجة ،حترك ال�صياد متح�س�سا احلائط ال�سعفي لي�س قبل �أن ت�ساعدين ،هيا قم معي �إىل القارب لندهن حبل
للكوخ ،حيث و�ضع يف زاوية مظلمة �صندوقا خ�شبيا قدميا، املر�ساة بزيت كبد �سمك اجليذر فرائحته ت�ساعد يف جلب ال�سمك
قام منفعال و �أدمي الطعام ملت�صقا بكفه اليمنى. ناحية ال�شبكة ،كما علي �أن ات�أكد من ثبات املجدافني.
هل ترين هذا ال�صندوق ،به �سالح ورثته عن �أبي ،مل ا�ستعمله خرجا من الكوخ فا�ستقبلتهما املراكب املوزعة على خط
258 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
م�سبحته ويحرك خرزاتها ببطء وهو يتمتم ب�صالة خافتة. يوما� ،سوف �أ�شهره يف وجه من ي�ضطرين �إىل ذلك .
تطوي �سجادتها ثم تتقدم �إىل زاوية يف العري�شة وهي ت�ضع كانت املر�أة تنظر �إىل حيث �أ�شار زوجها وعالمات الريبة
فوق الأ ثايف الثالث � ،إناء املعدن ،ومن هناك تتطاير �إىل نافذة تت�سلق وجهها كظالل خ�شنة.
تطل على البحر ،روائح الأ بهرة ثم ال�صوت امللتهب للح�ساء. وكما يف كل ليلة ،يف قلب الظالم يدفع ال�صياد بقدمني
ويف و�سط البحر� ،أمت ال�صياد �صالته ،ثم رفع قدميه فنب�ضت حافيتني قاربه ال�سعفي من �صفحة الرمل املل�ساء ،باجتاه
منهما عروق ن�شطة م�ستجيبة يف �سحب ال�شبكة من البحر �إىل �أ�صابع البحر التي تثب منتف�ضة حني يالم�س القارب �أطرافها
بطن القارب . .
املر�أة تفتح عينيها ،وتنه�ض ،ثم تغو�ص يف عمق قريب من كانت �ستارة الظالم تطوق جزءا من املكان ،ويف كبد الأ فق
زاوية يف بيتها ،تغلق الباب عليها ،حيث ي�سمع من الداخل ،قمر وحيد يبدو كعني تربق لتفرج عن جزء � آخر من عتمة
حركة �أ�سطل وخرير ماء ،ثم تخرج ومتتمة ال�صالة تتتابع من امل�شهد.
بني �شفتيها وهي تفر�ش �سجادتها . تالم�س �أ�صابع ال�صياد رطوبة املاء ،ي�سحب طرف د�شدا�شته
كانت ال�سمكات ال�صغرية تتلبط وهو ي�ستلها بيديه ويودعها دافعا القارب جهة املاء ،ثم يرفع �ساقه اليمنى يتبعها بثنية
جوف كي�س قطني بجانبه ،ثم يحرك جمدافيه مقرتبا من يديه على �إثرهما يرتفع بقية ج�سده خفيفا �إىل بطن القارب
من ال�شاطئ ،فيهب ال�صيادون الزاحفون فجرا �إىل البحر .
مل�ساعدته ،ينزعون ما بقي ملت�صقا يف �شبكته ويودعونها يف يقب�ض طريف املجدافني و ي�سحب ب�أنفه كتلة غليظة من
كي�س �صغري �أتت به زوجته. الهواء ي�ستعني بها لدفع القارب الذي �سيتقدم خمتفيا يف بطن
يف بكارة الغب�ش التي ال تلبث �أ�ضواء ال�شم�س و�أن ت�شعلها الظالم.
ك�أمنا لرت�سل نداءها الأ ول حلركة الكون ،هنا تت�ضح حركة ومن بعيد ...وراء ظهره املتواري ،كانت امر�أته ت�شيعه بنظرها
كل �شيء ،املوج يتقافز ك�أطفال فرحني ،والنوار�س تبحر يف وهي تتمتم ب�صالة خافتة .
الف�ضاء �أ�رسابا باجتاه ال�شاطئ ،حيث ال�صيادون يبد�أون يف عينا ال�صياد الأ عمى �شاخ�صتان يف الأ فق والقارب يتحرك
�شق طريقهم ناحية البحر. ببطء ،يف مقدمته تتقافز فقاعات املاء،ومب�ؤخرته ير�سم خيطا
وحده ال�صياد الأ عمى ينهي عمله ،ك�أمنا ينهي نهارا يتجه زبديا �ضعيفا بدا كطريق حمروثة تت�شكل يف ال�سدمي.
عك�س الزمن ،حاثا خطى قاربه نحو ال�شاطئ ،بحا�سته ت�سحب املر�أة ج�سدها ناحية العري�شة ،التي تهز الريح �أطرافها
املتوثبة والرا�صدة واملدربة منذ �أزل على طريق البحر .كان ال�سعفية ،عازفة طرقات تتوازى مع ك�رسات املوج .
بتلك احلا�سة الفوالذية ،ي�ستطيع �أن ي�صل �إىل طريق عودته وغري بعيد من ذلك كانت خر�سانات �إ�سمنتية بد�أت تت�شكل
م�سرت�شدا بكل ماتر�سله الطبيعة يف بكارة ذلك ال�صباح وتقرتب كوحو�ش نائمة تلتهم ببطء �صفاء امل�شهد.
من �أ�صوات وروائح ،كان كل �شيء يف املحيط ي�ساعده على يتقدم ال�صياد �إىل قلب البحر ،والقمر يف الأ على ي�ضيء طريقه
الو�صول الهادئ �إىل مر�ساه. الهادئ � .إىل �أن �أرخى جمدافيه م�صيخا ،قبل �أن يلقي ال�شبكة
تتقافز ال�سمكات يف ال�شبكة ،تتالمع كالنجوم حبيباتها التي ا�ستلها من مكان يف املركب ،والتي طارت مبهارة يف
الف�سفورية ،وتربق ب�شدة مع االنعكا�س اخلفيف لل�شم�س. الف�ضاء ثم طفت حلظات قبل �أن تغو�ص يف قلب املاء ،ويف
يتقدم ال�صياد �إىل حيث تقف امر�أته منتظرة ،منت�شيا فرحا الأ على علق �أحد �أطرافها بخ�شبة القارب .
ب�إنهاء يوم عمله ،منخراه املنفرجان بال�سعادة يت�ساوقان مع ت�سند املر�أة ر�أ�سها على املخدة ،ثم تقلب رم�شيها يف الظالم
حديثه املتقد . مت�أملة وبريق من عينيها ي�سطع ويلتقي �ضو�ؤه مبا ير�سله
تقوده من يديه �إىل قلب العري�شة ،تناوله احل�ساء ال�ساخن القمر من �ألوان تراوغ فتحات العري�شة .
،ثم تتوارى مبتعدة وكي�س ال�سمك يف يدها ،خمرتقة �سحابة ويف اللحظة عينها ،حيث �أناخ ال�صياد قاربه ،كان القمر ير�سل
الغب�ش. �أ�شعته على القارب ور�أ�س ال�صياد املطبق عينيه وابت�سامة
يرت�شف ال�صياد احل�ساء ،م�رسحا عينيه يف الفراغ ،ثم يتمدد انت�شاء تت�سع من ثغره الغائب.
م�سرتيحا . املر�أة تغفو والتمتمات التي توقفت م�سرتيحة يف ثغرها التعب
تتقدم املر�أة بالكي�س جتاه ال�سوق .ويف الطريق ،وكما يحدث يف ،ت�سقط على وجهها ماي�شبه اجلناح الأ بي�ض .
كل مرة ،ي�ستقل طريقها العائدون من �صالة الفجر ،وي�شرتون وال�صياد بعد �أن قذف بال�شبكة ،انتظر غافيا ،بني خفقات هواء
كل ما بيدها يف ذلك الكي�س ..ويف هذا ال�صباح نقدها احدهم التيار الهادئ الذي يرتفع فوق الأ مواج كح�صري مت�صاعد يهب
رياال مثلوما. على ج�سده قبل �أن يعلو ويكمل طريقه يف الظالم .ثم ي�ستل
259 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
عط ــ�ش
امتنـــان ال�صمـــادي
كاتبة من الأ ردن
معا ،فعندى الكثري من الأ خبار �أود �أن �أ�رصح لك مكاملة هاتفية..رنت لها �أو�صايل ،عندما �سمعت
بها ،لأ نك فتاة ذكية جدا وجميلة �أي�ضا ...غمزها �صوتك يردد بحنان :ماذا تريدين يا عزيزتي ؟
بعينه وهو يدير ظهره قائال: �أرجو �أن تطلبي �شيئا �أحققه لك؟
� -سوف �أعود �رسيعا ،وتتحدثني كما ت�شائني ،لن جتر�أت وقلت� :أمتنى �أن �أجل�س معك �ساعة�...ساعة
�أتاخر! فقط ،حتى �أبوح لك مبا مل �أبحه لنف�سي !.
و�أنا لن �أبوح ب�شيء اذهب كما تريد ،ومتتع بوقتك توقعت جميئك ،فجئت ،هيا ارتدي مالب�سك
ما �شئت فحرام على تلك امل�سافة التي قطعتها �أن ب�رسعة �سوف نخرج يف نزهة ت�ستغرق �ساعة ،كما
ت�ضيع دون ا�ستثمار ؟! وعدتك ،لقد قطعت م�سافة �أربعمائة كم من �أجل
و�أنا �سوف ا�ستثمرها �أي�ضا �« ،شيطان يف اجلنة/ �ساعة...هيا ب�رسعة...
هرني ميللر» �أول ما وقعت عليه عيناي ،تناولته ماذا ارتدي؟ و�أي لون ينا�سب حديثي و�أ�شجان
وبد�أت �أقلب ال�صفحات عبثا ،املهم �أال �أنك�رس �أمام قلبي ؟ احرتت لكن حريتي مل تطل عندما �أدركتني
قلبي ... عقارب ال�ساعة حمذرة.
�ساعات طوال و�أنا �أنتظرك �...أ�رس لنف�سي ب�أنني لن �أنا جاهزة ،هيا لنخرج قبل �أن تتبخر �أحالمي
�أحتدث �إليك لكنني �أنتظرك ...يف كل مرة جل�سنا ،ويذوب ف�ؤادي على نب�ض مت�صلب ينتظر �أ�شهر
فيها معا ،كنت تبد�أ احلديث �أنت وتنهيه �أنت جميئك ،الآ ن �سوف �أ�رسح عيني يف عينيك� .أ�شكو
وي�ضيع منت�صفه بالإ �شارة �إىل �صمتي و�رضورة لها و�أ�سمع منهما �شكوى �أي�ضا ،فهذا زمان ال
اخلروج على هذا ال�صمت والتحدث عن همومي يفرق بني �أحد ،وال تعجزه امل�سافات التي بيننا
وم�شكالتي «فال بد ل�صدى احلياة اجلامعية حتى ميار�س ق�سوته�!...إنني �أحرتق وعقلي ما عاد
اجلديدة التي �أعي�شها �أن ينعك�س على حياتي ي�ستوعب �أيامي ! وعجزت ذاكرتي عن ت�سجيل
العلمية» يومياتها ،فبد�أت الذكريات تدفن الذكريات .......
كنت دائما �أ�ستمع ل�شكواك ،و�أتفاعل معها بكل ما لن نخرج �...إنني �أختنق ال �أ�ستطيع �أن �أطفئ ما
اوتيت من �إح�سا�س ،و�أخفف عنك قدر ما �أ�ستطيع بجعبتي� ،أرجو �أن تتفهم خويف من هذا العامل
ال بل فوق ما �أ�ستطيع لتخرج مرتاحا م�رسورا ، و�أنت بعيد عني !�أرجوك �ساعة�...ساعة فقط �أعدك
و�أنت تقول بفرح :يف املرة القادمة �سوف �أكون ب�أن �أخلع �ساعة يدي و�أ�ضعها �أمامي على الطاولة
امل�ستمع و�أنت املتحدثة �...أبت�سم ويبد�أ قلبي حتى �أتذكر حجمي احلقيقي كلما جرفني احلديث
بالتقاط ال�صور لكل الأ �شياء حتى �أخربك بها ،لأ رتد �إىل ال�ساعة!
عندما نلتقي ...لكن ال�صور ترتاكم ،وت�ضيع عرب -لقد دعاين بع�ض الأ �صدقاء حل�ضور فيلم جديد،
ذكريات باتت تتعفن يف غرفة مظلمة... يجب �أن �أذهب مل�شاهدته معهم الآ ن لقد �أوقعوين
قالت جدتي بحدة :هذا لقاء مهم يجمع �أ�صدقاءه يف حرج�،أنا مل �أت�صل بهم �إال لل�سالم عليهم والآ ن
ال�شباب هل تريدينه �أن ي�أخذك معه ويجل�سك بني ال �أ�ستطيع االن�سحاب...افهمي موقفي ،ف�أنت
�أحاديثهم ب�صفتك ابنته املدللة؟ �أو لعلك تريدينه التي تقدر الأ مور دوما� ،سوف �أعود مبكرا وجنل�س
260 نزوى العدد / 61يناير 2010
ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص ..ن�صـــو�ص
s
s
s
تثبت �أن احلياة الزوجية كذبة كبرية ،و�رساب �أن يرتاجع بكالمه �أمام زمالئه؟ بنات � آخر زمن!
نرك�ض وراءه ،وعندما ن�صل �إليه جنده قد تنحى تخليت عن حدتي ،و�أطرقت م�ست�سلمة ،ولرمبا
�إىل مكان � آخر لنعاود الكرة_با�سم الأ مل_نلهث كانت هذه هي املرة الأ وىل التي �أ�ست�سلم بها
خلفه. لنقا�ش دون نقا�ش.
بدات م�شاعري حتدثك وعيناي توا�سيك ،و�شفتاي جئت بعد منت�صف الليل ،كانت عيناي مغم�ضتني
تدعو لك... ،على ماتبقى من دموع ،ويداي غائرتني يف
�صوت جدتي من املطبخ:الع�شاء جاهز...نه�ضت �صفحات الكتاب � .صوت جدتي تقول :ملاذا
با�سم دعوة الع�شاء هذه املرة ،واجليد منك �أنك ت�أخرت �إنها نائمة
اغلقت الباب خلفك ،حتى ال ي�سمع �أحد �رصاخ ل�ست نائمة يا جدتي ،وما زلت �أنتظر بني رجف
القلب وعقم الل�سان
ف�ؤادي بعدك.
– �سوف �أراها يف ال�صباح �،أنا متعب الآ ن ...
لن �أبحث عن رفيق جديد لروحي العط�شى التي
�صوت خطواته يرتفع باجتاه غرفتي ،فتح الباب،
�سوف تيب�س �أوراقها غدا عندما تل�سع ال�شم�س
ل�ست نائمة ،ياحل�سن حظي!! ،اقرتبت وجل�ست
وجعها ...الآ ن فقط قررت �أن �أبكي ب�صوت عال، بجانبي بحنانك املعهود ،بد�أت تتحدث برموز
لعلي �أغ�سل خطيئة نف�سي التي اقرتفت منذ �سنني غام�ضة ،دون مقدمات ،ا�ستمعت �إليك بحر�ص ،
وهي تنتظر على املحطات �أمال �أن تبوح ب�رس كعادتي ،لأ نني �إذا �أخل�صت يوما ،فهذا يعني
روحها ،ووجع قلبها املخنوق بكل الآ هات عله م�صيبة على عاتقي «لأ ن �إخال�صي �رش�س قاتل
ي�صري �صوتا جميال؟؟؟ ال يرحم نف�سه».
فتح الباب مرة �أخرى ليقول �:سوف � آتي يف ال�شهر �إنها زوجتك هذه املرة ،ف�أنت ال ت�ستطيع �أن
القادم وجنل�س معا وتتحدثني�...أغلقت عيني وهو ت�ستمد من بريق عينيها بريقا خا�صا ي�شكل لك
يتحدث ،ولأ ول مرة �أ�رسرت :ليتك مل ت� ِأت......... الر�ؤية االجتماعية التي تتمنى...
ليتك مل ت� ِأت. عدت لكالمك اجلميل و�صوتك احلنون ،و�أخذت
262
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
الرتجمة والفل�سفة
يف العامل العربي
عبدال�سالم بنعبد العايل
مفكر من املغرب
ولكن ،هل تكمن «مهمة املرتجم» يف �أن يوفر للقارئ �أعتزم يف هذه الورقة الدعوة �إىل �إعمال الفكر يف هذه
�أمهات الن�صو�ص؟ ولنقت�رص هنا على جمال الفل�سفة احلركة الن�شطة املحمودة التي ت�شهدها بع�ض امل�ؤ�س�سات
ما دمنا ب�صدد احلديث عنه بالأ �سا�س ،هل تكمن مهمة وبع�ض بيوت احلكمة ،والتي تتناف�س فيها �أقطار عربية
املرتجم يف �أن ي�ضع بني يدي امل�شتغلني يالفل�سفة غري قليلة لتوفري الن�صو�ص الفل�سفية الكربى للم�شتغلني
�أمهات الكتب؟ وهل ميكن لرتجمة الن�صو�ص الفل�سفية �أن بالفل�سفة يف عاملنا العربي.
تتم مبعزل عن خما�ض فل�سفي؟ لي�س من ال�رضوري بطبيعة احلال �أن ن�ؤكد على �أهمية
�أ�رشنا منذ قليل اىل حماوالت الرتجمة التي كانت تتم هذا الن�شاط الثقايف الهام الذي يوفر للمرتجمني ال�رشوط
فيما �سبق ،الظاهر �أنه مهما قلنا عما كان ي�شوب تلك املادية ال�رضورية التي بدونها لن تقوم للرتجمة قائمة.
املحاوالت من عيوب اال �أننا ال ن�ستطيع ،على رغم ذلك، لذلك فنحن ل�سنا يف حاجة �إىل �أن ننبه �أننا ال نتوخى هنا
�أن ننفي �أنها كانت تتم يف خ�ضم خما�ض فل�سفي ،فال التقليل من �أهمية حركة الرتجمة هاته� .إال �أننا نرى �أن
اختيار الن�صو�ص وال انتقاء امل�صطلحات ،كل ذلك مل يكن ذلك ال يعفينا من مواكبة التفكري يف حدود هذه احلركة
ليتم مبعزل عن جدال ثقايف عام .بعبارة موجزة فان لإ ثبات مالها وما عليها .فال مفر لرتجمة الن�صو�ص
الرتجمة مل تكن � آنئذ لتتم بعيدا عن االن�شغال الفل�سفي. الفل�سفية من �إبراز الفل�سفة الكامنة وراء العملية ،وحتديد
كنا ننقل يف الأ غلب عن غري اللغات الأ م ،عن لغات املفهوم الثانوي عن الرتجمة وعن الفل�سفة يف الوقت
و�سيطة كما يقال ،اال �أن نقلنا ذاك كان ال ينف�صل عن ذاته.
خما�ض فل�سفي �أو ه ّم فكري على الأ قل .كانت الرتجمات ال بد يف البداية �أن ن�شري �أن هذه احلركة جاءت لت�صحح
على عالتها تواكب جداال ثقافيا عاما .ترجمنا بع�ض «�أخطاء» مرحلة �سابقة قد يرى فيها البع�ض �أنها مل تكن
ن�صو�ص ديكارت ،اال �أن ذلك كان يدخل يف �سياق �إال مرحلة طبعتها عقلية «الربيكوالج» ،واقت�رص فيها
ان�شغال ثقايف مل يكن ينح�رص يف جمال الفل�سفة وامنا املرتجمون على تناول ما «حتت �أيديهم» من م�ؤلفات،
كان يطال ميدان الأ دب ومنهج درا�سته .نقلنا بع�ض وتوظيف ما ي�ستعملونه من لغات ،وا�ستخدام ما يتوفرون
ن�صو�ص مارك�س وفرويد عن الفرن�سية واالجنليزية ،اال عليه من �إمكانيات .لذا فما يبدو منطلقات �أ�سا�سية حلركة
�أننا جتادلنا كثريا وترددنا طويال يف توظيف كلمات الرتجمة البديلة هاته هو �إ�سنادها الرتجمة اىل �أهل
ويف ترجمة مفهومات ونقل م�صطلحات .لنذكر على االخت�صا�ص ،وحر�صها ال�شديد على �أال تتم الرتجمة اال
�سبيل املثال ترددنا يف ا�ستعمال �ألفاظ مثل التجاوز عن اللغة الأ م ،و�أن تبد�أ �أ�سا�سا ب�أمهات الكتب وعيون
والت�شي ؤ� واالغرتاب واال�ستالب والوعي الزائف بالن�سبة امل�صادر .والظاهر �أن ما «تراكم» حتى الآ ن خلري دليل على
لبع�ض ن�صو�ص هيجل ومارك�س� ،أو كلمات الكبت والدافع التزام ال�ساهرين على هذه الرتجمات بكل تلك املبادئ.
والنكو�ص واالنكار بالن�سبة لبع�ض ن�صو�ص فرويد ..ال ويكفي على �سبيل املثال �أن نلقي نظرة �رسيعة على
نلم�س اليوم نوعا من هذا اجلدال عند من ينقلون ن�صو�ص منجزات «املنظمة العربية للرتجمة» يف جمال الفل�سفة
هيجل �أو هو�رسل �أوهايدغر� .أو لنقل على الأ �صح ان نقل حتى نت�أكد من �صحة ما �أ�رشنا اليه .فقد ا�ستطاعت تلك
ه�ؤالء اىل اللغة العربية ال يتم يف �سياق ا�ستثمار فكري املنظمة �أن توفر للقارئ العربي عناوين �أ�سا�سية يف
ملتونهم. تاريخ الفل�سفة على اختالف مدار�سه واجتاهاته.
263 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
بـ«�أن ترجماته ولدت ميتة» .لقد �سبق لبع�ض مرتجمينا رمبا ال يرجع الأ مر هنا فح�سب اىل الطابع امل�ؤ�س�سي
�أن نقلوا ن�صو�صا �أ�سا�سية يف جمال الفل�سفة ،وهذا الذي �أخذ ي�سم الرتجمة يف عاملنا العربي ،و�إمنا اىل
الذي �أوم�أنا اليه كان ينقل عن اللغات الأ م ،اال �أن تلك مفهوم الرتجمة ذاته الذي تفرت�ضه هذه املمار�سة .ذلك
الن�صو�ص مل تلق ا�ستجابة يف �سوق التبادل املعريف :فلم �أن الرتجمة تطرح هنا مبعزل عن خما�ض فكري ،وتفهم
تدخل يف �شبكات فكرية وعالئق �أخرى ،ومل ترث انتقادا �أ�سا�سا على �أنها نوع من التهي ؤ� للن�صو�ص الكربى كي
ومل تُ�ستثمر ومل توظّ ف .ولي�ست قليلة الأ مثلة التي ت�ؤكد تغدو متي�رسة للقارئ العربي الذي ينوي اال�شتغال
ذلك .ويكفي �أن نذكر ترجمات بع�ض م�ؤلفات فرويد على بالفل�سفة والذي يعتزم �إعمال الفكر يف تراثها .الرتجمة
يد �صفوان وزيور و�سامي علي ،وترجمة بع�ض م�ؤلفات هنا عملية متهيدية� .إنها مثل التحقيق ت�سعى لتوفري
لوك ورو�سو� ،إىل غري ذلك من الرتجمات املهمة كر�سالة الن�ص ملن يعتزم �إعمال الفكر فيه .وهي ت�سعى �أن ت�ضع
�سبينوزا ور�سالة فتغن�شتاين وحفريات فوكو..وهي «بني يدي» القارئ العربي �أمهات الن�صو�ص .فهي اذن
ترجمات �أ�صبح من املتعذر حتى احل�صول عليها �شعورا حلظة �سابقة ممهدة لكل تفل�سف .ما تهدف اليه هو �إيجاد
من نا�رشيها رمبا بال جدوى �إعادة الن�رش. الن�ص يف لغة عربية ،حتى وان تطلب الأ مر �أن يقبع يف
على هذا النحو فان ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية ال قاعة انتظار �إىل �أن يحني وقت ا�ستخدامه ،واال�شتغال به
ميكن اال �أن تتلب�س املمار�سة الفل�سفية ذاتها ،ولن تعود وعليه.
الرتجمة جمرد فعل يف تلك الن�صو�ص ،و�إمنا تغدو تفاعال لكن ماذا لو كانت ن�صف عملية التفل�سف تكمن يف فعل
معها ،لن تعود تفكريا يف تلك الن�صو�ص ،و�إمنا تفكري الرتجمة ذاته؟ اذا كانت الفل�سفة حوارا فهي بالأ وىل
بها .لعل هذا هو ما يف�رس كون الرتجمة الفل�سفية تظل حوار بني ن�صو�ص وبني لغات .بهذا املعنى ال ميكن
عملية المتناهية حتى داخل اللغة الواحدة .فما دام الن�ص الف�صل بني حلظتني :حلظة �إعداد الن�ص وترجمته ،ثم
الفل�سفي مو�ضع فكر فهو يرتجم وتعاد ترجمته .ويكفي حلظة ا�ستخدامه والتفكري فيه .اذا كان معظم الفال�سفة
�أن نذكر �أقرب مثال �إلينا ،وهو نقل الن�صو�ص الأ ملانية املعا�رصين مرتجمني ،فلي�س ذلك �سعيا منهم اىل توفري
�إىل اللغة الفرن�سية. ن�صو�ص وامنا وعيا منهم �أن ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية
تتمخ�ض عن ذلك نتيجتان� :أوالهما �أن الرتجمة لي�ست واعادة ترجمتها من �صميم املمار�سة الفل�سفية .ال �أعني
م�س�ألة م�ؤ�س�سة فح�سب .ال ميكن للرتجمة ،وترجمة بذلك فح�سب �أن هايدغر وفوكو و� آلتو�سري والكان ودريدا
الأ مهات الفل�سفية �أن ت�سند فقط �إىل منظمات وقطاعات وريكور ،ال �أعني فح�سب �أن كل واحد من ه�ؤالء يرتبط
وزارية و«بيوت حكمة» تراكم الن�صو�ص الكربى يف ا�سمه مب�صنف نقله اىل لغته ،وامنا ب�أن كال منهم مل يفت أ�
رفوف املكتبات« .بيوت احلكمة» هنا هي� ،أوال وقبل يعدل ترجمات الن�صو�ص التي كان ي�ستثمرها .ان كال
كل �شيء ،املمار�سة اليومية ملن ي�شتغل بالفل�سفة ومن من ه�ؤالء كان يعيد النظر يف ترجمة الن�ص عندما كان
ي�شغل باله بها .الرتجمة الفل�سفية ،مثل الفل�سفة ،ه ّم يعيد قراءته� .أو لنقل بالأ وىل انه كان يعيد قراءته ب�إعادة
فكري ومعاناة من «يفلح» الن�صو�ص ويع�شق اللغة ترجمته.
ويرعى �صقلها و�صفاءها .رمبا ال ميكنها �أن ت�ستغني لقد اعتقدت امل�ؤ�س�سات التي �أوكلت اىل نف�سها ال�سهر على
ماديا عن امل�ؤ�س�سات واملنظمات ،اال �أنها ال ميكن البتة الرتجمة �أن ق�ضية الفل�سفة عندنا هي غياب الن�صو�ص
�أن تتم خارج «خمتربات» الفكر ،وبعيدا عن قاعات الدر�س الكربى ،و�أن ترجمة الن�صو�ص وتوفريها بلغة عربية تنقل
وف�ضاءات «االنتاج» الفل�سفي. عن اللغة الأ م هو ال�سبيل الأ �ضمن حلل تلك املع�ضلة .بيد
النتيجة الثانية تتجاوز م�س�ألة الرتجمة كي تطال ق�ضية �أن ترجمة �أمهات الكتب الفل�سفية ال تكمن يف اعدادها كي
الفل�سفة ذاتها و�شكل ممار�ستها يف عاملنا العربي .فما تكون مو�ضع تفكري ،انها لي�ست حتقيقا لكتب واقرتاحا
دامت عالئقنا بالن�صو�ص الكربى عالئق ال تتعدى مل�صطلحات .بل هي �إعمال فكر واعادة ت�أويل ف�إعادة
الف�ضول املعريف ،ف�إننا �سنظل نتوهم �أن متلّك تلك ترجمة.
الن�صو�ص يتحقق مبجرد نقلها �إىل لغتنا دون بذل جهد ثم ان م�س�ألة ترجمة الن�صو�ص الفل�سفية ال تقت�رصعلى
متوا�صل النف�صالنا عنها ،و�إذكاء حدة التوتر بيننا ندرة ما نقل �إىل العربية من الأ مهات ،و�إمنا تتعدى ذلك
وبينها. �إىل ما عبرّ عنه �أحد مرتجمينا الكبار عندما ا�شتكى
264 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
�سعد البازعي
وجدل التجديد فـي ال�شعر ال�سعودي
�صابــر احلبا�شـــة
كاتب وباحث من تون�س
�صورة تقريبية ومكثفة تختزل امل�شهد يف يقع كتاب الناقد والأ كادميي ال�سعودي
نقاط تبدو عالية التمثيل للعنا�رص الكثرية الدكتور �سعد البازعي «جدل التجديد :ال�شعر
التي يزخر بها»�(.ص ،)12فهل جنح الكتاب ال�سعودي يف ن�صف قرن» ال�صادر م�ؤخرا
يف حتقيق هذا الهدف؟ نرتك الإ جابة عن يف الريا�ض عن وزارة الثقافة والإ عالم،
هذا ال�س�ؤال ،الآ ن ،لأ ن تقرير �إجابة مُ ن�صفة �ضمن �سل�سلة تُعنى بر�صد امل�شهد الثقايف
حتتاج �إىل قراءات متعددة الأ طراف ولأ هل يف اجلزيرة العربية ،وقد و�ضع الباحث يف
مكّة ،الأ درى ب�شعابها� ،أوال وبالذات ،وما نو ّد الت�صدير برنامج الكتاب ،ف�أ�شار �إىل �أنه ي�سعى
القيام به يف هذا احليّز املحدود �إمنا هو تقدمي �إىل «ر�سم �صورة للم�شهد ال�شعري يف اململكة
الكتاب تقدميا عامّ ا. العربية ال�سعودية عرب ما يقارب اخلم�سة �أو
ولع ّل الباحث قد ا�ستبق احتجاجات املنتقدين ال�ستة عقود املمتدة منذ خم�سينيات القرن
املُفرتَ�ضني لعمله بقوله «�أتوقع �أن تكون هذه الع�رشين وحتى اليوم»(�ص.)9
املحاولة غري مر�ضية للبع�ض �سواء كانوا ممن وي�رشح البازعي املق�صود بعنوان الكتاب
كان ميكن للكتاب �أن ي�شملهم بو�صفهم �شعراء، بقوله «ولن يخفى على القارئ �أن التجديد
�أي يقعون يف دائرة البحث ،لكنهم مل يدخلوا املق�صود هنا مرادف للمفردة ال�شائعة
فعليا يف �إطاره من خالل التحليل �أو الإ �شارة الأ خرى� ،أي «التحديث» �أو «احلداثة»» ويعلل
لأ عمالهم� ،أو من الدار�سني الذين يرون �أن اختياره مل�صطلح التجديد بدال من التحديث
البحث �أغفل ماهو مه ّم �أو �أهم ممّا هو متناوَلٌ » واحلداثة بـ»كرثة ما �أ�صاب الأ خرية حتديدا
(�ص )13ويجيب عن هذه االهتمامات بقوله من ا�ستعمال �أفقد املفردة بع�ض دالالتها
�إنّ «الكتاب لي�س ت�أريخا للم�شهد ال�شعري يف و�أغرقها يف �أبعاد �أيديولوجية حتتاج معها
اململكة �أو خمتارات لق�صائد متثل ذلك امل�شهد، �إىل املراجعة»(�ص.)9
و�إمنا هو قراءة لبع�ض جوانبه»(�ص.)13 وي�رشح الكاتب مق�صوده بلفظة «اجلدل» يف
ويو�ضح البازعي منهجه يف الكتاب مربزا ّ عنوان هذا الكتاب ،فيجعلها داللتني �إحداهما
�أنه اختار الأ �سلوب املو�ضوعاتي /التاريخي م�ستمدة من مفهوم «الديالكتيك» �أو «اجلدلية
لإ جناز قراءته مل�شهد ال�شعر ال�سعودي .ويبينّ الهيغلية» القائمة على «تنازع الأ �ضداد»� ،أما
الباحث �أنه حاول مراعاة اختالف االجتاهات الداللة الثانية فهي احلوار املحتدم على �شكل
ال�شعرية واالهتمامات املو�ضوعية �إىل جانب خطابات نقدية ومواقف �سجالية ذات طابع
البعد التاريخي �أو املراحل التي برزت تلك �سو�سيو ثقايف حول م�رشوعية التجديد �أو
االجتاهات واالهتمامات �أثناءها .وي�رضب التحديث�( .ص)10
مثال جمعه يف معاجلة مو�ضوع الذات والآ خر وي�شري البازعي �إىل �أن كتابه الواقع يف مائتي
بني �ستة �شعراء ميتدون زمنيا من حممد العامر �صفحة من القطع املتو�سط �إمنا هو «ر�سم
265 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
على عبداهلل ال�صيخان وحممد الثبيتي وعلي الرميح يف منت�صف القرن الع�رشين وحممد
الدميني و�أ�شجان هندي. الدميني وح�سن ال�سبع يف �أواخره ،حماوال تبني
�أمّ ا الف�صل الثالث من هذا الق�سم فقد تناول ما قد يوجد بينهم من وجوه التقاء واختالف،
«ق�صيدة النرث :الطريق الآ خر �إىل ال�شعر» عر�ض يف الآ ن نف�سه(�ص.)15
فيه الباحث �إىل مناذج لل�شعراء فوزية �أبو وي�ضع البازعي يف الق�سم الأ ول من كتابه
خالد وحممد الدميني و�إبراهيم احل�سني و�أحمد �إ�ضاءات �أولية حدد فيها ما �أ�سماه معامل امل�شهد
املال. ال�شعري التاريخية والثقافية واملنهجية،
وينتهي الكتاب بقائمة من امل�صادر واملراجع متطرقا �إىل مكونات التجربة ال�شعرية.
العربية. وانطلق يف الق�سم الثاين �إىل �إبراز � آفاق التجديد
هذا الكتاب – على الرغم من خلوّه من خامتة دار�سا يف الف�صل الأ ول من هذا الق�سم ال�شعراء
تو�صل �إليها
عامّ ة تربز �أه ّم النتاAئج التي ّ الرومان�سيني الرمزيني (ح�سن عبداهلل القر�شي
الباحث – يقوم على جانب كبري من االن�ضباط ونا�رص �أبو حيمد وحممد �سعيد امل�سْ لِم) .واهتم
املنهجيّ ،يتمثل �أ�سا�سا يف احرتام املنهج الذي يف الف�صل الثاين بتحليل جدلية الذات والآ خر
اختاره الباحث ويف حماولته عدم االجنرار عند ال�شاعرين حممد الرميح وحممد فهد
وراء الأ حكام امل�سبقة �أو �أحكام القيمة. العي�سى .واعتنى الف�صل الثالث بالإ �شكالية
ويُع ّد هذا العمل مكمال مل�رشوع مو�سوعة ال�شعر نف�سها عند ال�شعراء غازي الق�صيبي و�سعد
ال�سعودي وفاحتة جلدل خ�صيب ،نتوقع �أن احلميدين وحممد الدميني وح�سن ال�سبع.
«يع�صف» �إيجابيا بر�صانة عرو�ض الباحث واهتم الباحث يف الق�سم الثالث من كتابه
ونقوده الن�صية ،ولكنها – وهذا قدرها – تبقى بق�ضية ا�ستك�شاف الذات عند �شعراء ال�سبعينات
جزئية وانتقائية ،ع�سى �أن تتفتق قرائح النقاد والثمانينات ،فدر�س مناذج من «حداثة
على قراءات وت�أويالت تُرثي «جدل التجديد التفعيلة» ،كما يقول ،يف باقتني من ال�شعراء،
يف ال�شعر ال�سعودي» الذي �أطلقه �سعد البازعي الأ وىل �شملت حممد العلي و�سعد احلميدين
من عقاله. و�أحمد ال�صالح ،والباقة الثانية ا�شتملت
s
s
s
�سركون بول�ص
يف (حامل الفانو�س يف ليل الذئاب)
�شاكـر جميد �سيفو
�شاعر وكاتب من العراق
على مركز ال�صورة وهو مدار اجلذب لذاتية مت�صوفة ترتد ي�أتي ال�شاعر اىل العامل م�ستقبال �أوجاعه وم�ستبقا داللة
اىل حقول التماهي مع االخر يف املطابقة واملجان�سة بني الكينونة التي تت�ضمن ت�سلط احلرمان واملمنوعات ،يتنازع
مفرتق طرق اخلطاب اليومي،هنا ت�أ�سي�س ملزاوجة بني مع عر�ش الوجود يف �صوره املحتدمة وح�ضورها املتمركز
الزمان والذكريات (�سري خبيئة يف الع�شب/لن يقر�أ احد وراء ا�سطورة او خرافة او حادثة،بهذا املنحى ي�شري �رسكون
تفا�صيلها،اعرا�س الفرا�شات يف عوا�صم الندى/،وللديدان يف ن�صو�صه (�شاي مع م�ؤيد الراوي وغناء على ايقاع الطبلة
حتت االر�ض والئمها/،لل�صقور حروبها يف الهواء!/ وال�سيتار _اىل عبد القادر اجلنابي وحلم احلمال على ج�رس
نادتني اال�شجار لأ نام /ويف حلمي وجدت بابا بني الغابة القلعة_اىل جليل القي�سي يف كركوك 0)000
والطريق�....ص9 ان ال�شاعر مينحنا �أق�صى املتع ال�شعرية يف اكت�شافاته
ان التوالد ال�صوري هنا ير�شح عن عملية ت�شاكل ثنائي بني لقاءات �شعرية وك�شوفات موجوداته،وهي اوىل رحالت
(الزمان والذكريات،حيث تنطلق الذكرى من احللم ليوفر ال�شخ�صية،مرة مالحقا املا�ضي ومتدثرا به واخرى �صادما
جدلية العالقة بني �صيغة النداء ولعبة املتخفي يف تثبيت باحلا�رض املرير ونهايات �شخو�صة املبكرة،تلك التي ن�ؤدي
املنت،وهنا يقرتب ال�شاعر من طبيعة الذكريات لتجرتح ادوارا مركبة تكت�شف قيم الآ خر باثارة التعب وارتداء
م�شهدا للحمولة ال�شعرية يف تعدد نظم الداللة،حيث تلتب�س عنا�رص احلياة ونامو�سها االبدي ...يتجه الن�ص يف جمموعة
الذاكرة مبحتوياتها وت�شكل نواة مركب امتالك الأ �شياء (حامل الفانو�س يف ليل الذئاب ) اىل ت�شييد خالياه بالتوالد
�أي العناية بامتالك اال�شياء ال�صغرية والعناية بها ،وذلك ال�صوري من عينات ان�سانية �ضاجه باحلياة بكيانيتها
ماي�شري اليه با�شالر يف (تكوين العقل العلمي ) ،ان حمور وتوجهها ،وتلك هي احالم ال�شاعر املندثرة حتت وط�أة
احللم واخليال موجه اىل مفروكة زمانية وهي (الذكريات – املكابدات يف تاريخ الطفولة واحللم واملالحق ال�سريية
الذاكرة) (اللقية –اخلزانة) ح�سب تعبري الكاتب خالد خ�ضري، االخرى........
و�سط متازح اال�ستعارات ال�صورية والت�شاكل ال�صوري بني ان افعال الن�ص ترتد دائما اىل ابتكار نهايات ا�رستها
املركز والهام�ش بني املنت وحمتوياته وعالمات الت�أ�سي�س ووجودها من كينونة تاريخية ي�شبع ال�شاعر عرب ن�سيجها
االوىل ،فال�شاعر يقف يف اوىل عتبات احلياة ومن ثم يدخل ذلك االلتبا�س اللفظي يف اللغة واملعنى وهذا ما يحقق
اىل �صريورة الأ �شياء (و�سط الدخان،كلمة ولدت هناك وال تريد اق�صى االنزياح م�ستمدا هذه التمارين العالية يف خلق
ان متوت هنا /ان مل نقلها نحن،من يقولها /ومن نحن ان مل املعادلة ال�شعرية بقوى الفكر والفل�سفة والر�ؤى النف�سية،
نقلها�...ص) 15ان ا�سئلة ال�شاعر عن بنى الكينونة تت�شاكل ان ثمة تعر للمعادلة الرتداء الذات التي ت�ستعني بالآ خر
مع العامل يف نقطة جوهرية هي بذرة الت�أ�سي�س واالنبعاث، لالكت�شاف واجرتاح الرغبات ال�شديدة للنف�س (هل انا � آخر
حيث يختتم ال�شاعر �صورته بهذه الأ �سئلة الكونية التي ت�ؤ�س�س االنتني /اذا �أتبع �شمعة اىل نهايتي ،ام انا اول من �سلفوا/
للبعد الزمني �سمعته املكانية (العامل فتحة ،حتر�سها ك�سور �أملل دوزنه العك�سية يف الزمن،من قبل ومن بعد )
مراة ،على دكة الطني ،تعربمنها ) ان ذات ال�شاعرة املوجعة تبوح يف تلفظها ال�سريي وتوجه
خمتلف ا�شكال اخلليقة :ي�أتي اجلميع /ليدلفوا /اىل هذا الكتابة ال�شعرية اىل االقرتان بالرغبة التدمريية يف ت�سميتها
الزقاق�..ص17 للرموز واال�شياء بني اكت�شافاتها اجلديدة واخرتاعها للجروح
نكت�شف هنا حياة تتقاذفها رياح الزمان وتعطي لنا اجلديدة يف طوفان ف�ضيات الب�ؤرة املركزية وت�شطيبها:
اح�سا�سا باملكان عرب مفردة العامل يف ن�سيجها البنيوي (وحدي يف الغابة ،والغابة انا؟ �ص )6يركز ال�شاعر هنا
267 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
نحن الذين ننام \...فرا�شنا على االر�ض ,را�سخ\ يف لل�صورة الكلية للحياة حيث يجمع ال�شاعر بني جزيئات
مطالنا\ النبيذ وال�سجائر \ نطوف على موجة ال�سترييو\ امل�شهد الطق�سي وير�شح منه بالتايل هذا الت�شاكل الوجودي
ج�سدا اىل ج�سد مع االفالك�...ص )44ويجعل ال�شاعر ا�شياءه (الزمكاين) لي�شكل خال�صة احلكاية يف مقاربتها احل�سية
يف �صورها الفخمة حيث ي�ستح�رض لغة خ�شنة ع�صية يكاد امليثيولوجية ،ففي ال�صورة التالية يجتزح ال�شاعر ف�ضاء
يتوحد معها بدءا باحلنني اىل االمكنة والتفا�صيل ال�صغرية, دراماتيكيا يقع على منتجهة املتعة وانت�صا�ص اللذة يف
والوجع و�سوء الطالع وف�شل احلياة واندثارها ,بهذه االن�سجة االقرتاب من كالم لروالن بارت ،اىل ان ي�صل اىل م�ضاعفة
املت�ضادة يف �سريتها احلياتية ,جند هذا التو�صيف للتالم�س الرمز واليات بثه الداليل ،ونتق�صى داخل اجلهاز اللغوي
الذهني وحتويل ال�شعر اىل م�رسد للتمرد بني �صعود ممكن لل�شاعر ماتبثه الذات ال�شاعرة من عالئق الكالم منطقا
وفراغ الممكن وامتالء المتناهي حيث تنفتح ا�شارات للولوغو�س ح�سب تعبري (مارتن هايدجر ) وبامكاننا تفكيك
ال�صورة التالية من خالل ممار�سة ال�شاعر مللفوظاته الدالة
الرموزية والداللية لتفجر طاقة اخللق ال�شعري ,بهذا يعطي
يف ت�رسيح املعنى وفق عملية مت�سعة تكاد ت�ؤدي اىل الأ تالف
ال�شاعر لل�شعر جدواه من جهة وقدرته على االمتاع واثارة والنفي (وهي العملية التي جندها اي�ضا لدى هيدجر الذي
اال�سئلة (:على ق�سمات املدينة\ يف رفوف الدخان املتلبد يرى ان �سعة ورحابة حمولة احل�صول للوجود يف احل�ضور
حتى اعلى \�سارية هناك\ تت�ضح الكتابة يوما فيوما\.. قد تتجلى لنا االن ب�شكل اكرث حدة واحلاح ًا عندما نكت�شف
لنعرف ان ا�صنامنا را�ضية التعوزها القرابني� .ص)53 ان الغياب ذاته والغياب بال�ضبط ،يظل متعينا من خالل
ت�ستوعب بنيات ن�صو�ص ال�شاعر مفارقة انف�صال الذات احل�صول يف ح�ضور الوجود ،وغالبا ما يتم رفعه اىل اق�صى
عن ن�شوتها ويتمدد با�سرتخاء هذا النف�صال احلاد لي�شكل درجات الغمو�ض والغرابة).
م�ساحة تتمدد بني بنية امل�سكوت عنه باجتاه املنت ال�شعري تكفيني هذه املو�سيقى ،التي ت�رشبها اخلليقة بكل م�ساماتها،
من خالل انزياح ا�ستعاري ي�صري الورقة مر� آة ال�ستهالل ك�أ�سفنجة ظم�أى ،يكفيني �صوت �ضائع حتمله ايل الريح،
الن�ص وحتركه يف ف�ضاء غرائبي �سوريايل ( :ي�صل ال�صوت\ تكفيني وم�ضة برق قد تك�شف يل� ،أي موكب يتهي أ� للمثول
الذي ربته الديامي�س ويدعوين \..حفيف العامل االخر يف امامي،خلف هذا ال�ستار الغريب الذي ين�سجه املطر�.ص30
غابة الليل ,ليل ليلي ,ي�أتي يف اخر �ساعة\ ليك�رس ختم ميثل احللم قيمة ان�سانية يف اهداء ال�شاعر ملقتنياته وهو
النعا�س اله�ش\ ليقلب اوراق تقوميي ب�أدق مايتقنه ال�رشق\ احللم الذي يو�صل الآ خرين للفردو�س ،فمن خالل البنى
من جت�سدات اللوعة\ موظفا مل�سته القدرية يف مكان اجلرح املنبثقة التي تتوالد على �شكل تقابالت حت�رض �صورة الآ خر
ك�أ�صبع الرب� ..ص)96 يف ذات ال�شاعر وهو يج�سد حقيقة الرمز وعالقته وفاعليته
ان ثمة مراوغة ايحائية تف�ضح بنية الداخل الن�صي املغاير اخلطابية ،لين�رصف اىل تعددية املعاين،حيث ي�شكل الدال
الذي يجمع وحدات الن�سيج ال�شعري ,ان ن�ص ال�شاعر يجذب احللم هنا حامال ومولدا للمعنى( :قطعنا احللم ن�صفني /
ف�ضاءه اىل امكنة واقعية وتخيليه تراجيدية بدءا بلعبة ب�شفرة امل�صري /لنا ن�صفه /والبقية لالخرين ،ذات �صيف
االغرتاب واالنغالق واالنفتاح على �سطح اللوحة ال�شعرية بدا /انه الفردو�س ...او غدا ،غدا يف الثالثة�.ص)34
يحقق ال�شاعر بلغته االيحائية وبالغتها املركبة حركة
الظهار طبيعة التحوالت املكثفة يف العامل حتت هيمنة
فاعلة للن�ص وفية ،حيث ي�سعى القامة بنى حكائية حتقق
ال�ضياع والعبثية وهي معادلة على �صعيد احلكائي ,وتتمثل وجتمع بني اجلمايل واحتدام العالقات ال�صورية التي
هذه املتقابالت يف مالمح املغايرة الن�صية واملخيال ترثي ال�ضخ ال�شعري لوحدات املنت وفتوحاته ،و�ضمن
الرتميزي وتتج�سد هذه الر�ؤية يف معظم ن�صو�ص املجموعة: هذا التو�صيف ي�شكل ج�سد الن�ص بوحدات ال�شحن ال�شعري
( �شموئيل و�سماء اكرث ,هذا الرداء بني ا�صابعي ,ال�شيوخ يف ومقومات لق�ص وف�ضاء الداللة ويتمو�ضع املكان بالزمان،
ال�صني ,هو الر�سالة واجلريدة ,طرق خمتلفة اىل روما ,هذا الواقعة بامل�شهد كي يتمثل البنى ال�شعرية (يف كيانها
هو يومي ,اىل امرئ القي�س يف طريقه اىل اجلحيم ,طقو�س كوكبة من االحداث الدالة على الوجود العيني) (هكذا
الطبيعة ,اىل اجل غري م�سمى ,جاء وحتت مئزره �سكني , اردتك/بدءا من اقدم احالمي يف هذا املكان /بعينه ،هذا
وحلم احلمال على ج�رس القلعة وحامل الفانو�س يف ليل الزمان بالذات� /شجرتي .كهفي االمني/مرقد مر�ساتي\ اىل
الذئاب).... اجل غري م�سمى\...مباركة \ هذه القرية النائمة\ وبوركنا
268 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
خــوان غويت�سول ــو
«االربعينية» واخليال الديني ال�صويف
حممـــد �آيــت لعميم
باحث ومرتجم من املغرب
�أعماله وخوان املبتدع من قبل خوان من خالل تخيله .بني يعترب الكاتب اال�سباين خوان غويت�سولو –نزيل مراك�ش-
خوان الذي يحاكي نف�سه حماكاة �ساخرة وبني خوان الهادئ من �أبرز الكتاب املعا�رصين ،وذلك �أنه حافظ على الطابع
املت�أمل. االلتزامي يف الأ دب؛ �إ�ضافة �إىل �أنه دافع ويدافع عن االنفتاح
لقد عرف خوان من الناحية ال�سيا�سية بعدائه املعلن وال�رصيح الثقايف ونبذ كل عن�رصية �ضيقة �ش�أنه �ش�أن �أ�صدقاءه
للدكتاتور فرانكو وهو الآ ن يدافع بالكلمة واحل�ضور الفعلي كارلو�س فوينتي�س ،وكونرتكرا�س وكار�سيا ماركيز .ناهيك
عن ق�ضايا ال�شعوب امل�ست�ضعفة (فل�سطني ،العراق ،ال�شي�شان، عن �أنه تبنى ت�صورا يف الكتابة الروائية ينه�ض على مزج
البو�سنة ،اجلزائر ،)...هو رجل من دعاة ال�سالم ويرف�ض احلرب
�سجالت متنوعة و�أنواع �أدبية خمتلفة ،يجعلها تتحاور فيما
(ف�أمه ذهبت �ضحية احلرب الأ هلية يف ا�سبانيا وهو ابن �ست
�سنني) وقد كان هذا االختفاء املفاجئ لوجه الأ م جرحا غائرا يف بينها؛ وهكذا فهو ينتمي ل�ساللة د�شن لها �رسفانت�س برائعته
نف�سه� .أما من الناحية اجلمالية فقد «ا�ستعاد تقنية ما بعد احلداثة الدونكيخوط.
املتمثلة يف التنا�ص و�أ�ضاف عليها نكهة عربية لي�س فقط من لقد متثل خوان غويتي�سولو در�س �رسفانت�س متثال جيدا� ،سواء
جانب اقرتا�ض اال�ست�شهادات من م�ؤلفني عرب �أو ايرانيني ،ولكن على م�ستوى الكتابة �أو على م�ستوى التنظري ،فانحاز �إىل الكتابة
�أي�ضا .مبحاكاة القواعد الرا�سخة اخلا�صة باملو�سيقى والهند�سة التي تنبذ اخلطية جانبا وحتتفي بالتقطيع والقفز واملراوحة
العربية ،التكرارات ،والتجريدات ،والتنويعات املن�سابة حول والذهاب والإ ياب ،وتتعاي�ش فيها �أنواع القول املختلفة
مو�ضوعة وحيدة ،االرجتاالت ،الزخرفة والعفوية»()2ويف هذا واملتقابلة ،ال�سخرية واجلد ،احللم والواقع ،الهذيان والت�أمل...
االجتاه ميكن القول كما ذهب �إىل ذلك Edmud witheب�أن خوان قد �أما على م�ستوى التنظري فقد كانت روافده وم�شاربه متعددة،
�أبدع ما ميكن ت�سميته «اخليال امل�أ�سلم»()la fiction Islamisant( )3 تنهل من باختني ،وامل�ؤرخ ال�شهري �أمريكوكا�سرتو؛ لكن �رسفانت�س
ويف هذا ال�سياق تندرج جمموعة من �أعماله التي ا�ستوحى فيها هو الآ خر كان ميده بت�صورات حول طبيعة الكتابة ،فقد كان
اخليال الديني كما جتلى عند املت�صوفة امل�سلمني كروايته خوان ي�ستلهم بع�ض الإ جابات الواردة يف رواية الدونكيخوطي،
«ف�ضائل الطائر املتوحد» ،و«الأ ربعينية». فقد �س�أله مرة �أحد النقاد قائال« :بعد حماوالتكم العديدة يف
كتابة الروايات االتوبيوغرافية ال�ساخرة واجلادة بدءا من
-1داللة العنوان: «م�شاهد بعد املعركة» �إىل «احلظرية املمنوعة ومرورا» مبمالك
ت�شكل عنوان الرواية من رقم دال ،هو الأ ربعينية وقد ترجمت الطوائف» هل ميكن �أن نعرف ما انتم ب�صدد كتابته� ،ألقى عليه
�إىل الفرن�سية بعنوان «الربزخ» وكال الرتجمتني ت�شريان �إىل املدة خوان نظرة �ساخرة و�شاذة ف�أجابه «�إذن� ،أنا ب�صدد كتابة
الزمينة التي تق�ضيها الأ رواح يف احلياة الربزخية قبل اال�ستعداد «الق�صة احلقيقية لغزو خوان غويتي�سولو اجلديد»� ،س�أله الناقد،
للبعث ،وقد ورد يف القر� آن الكرمي قوله تعاىل« :وبينهما برزخ هل انهيتموها ،ف�أجابه كيف ميكن �أن �أنهيها ،وان خوان اجلديد
�إىل يوم يبعثون»(.)4 هذا ال زال مل يولد بعد»؛ هذا اجلواب م�أخوذ من مقطع ورد يف
�إن هذا الرقم له داللة كونية ،فهو يدل على االنتظار واال�ستعداد رواية الدونكيخوطي.
للجزاء �أو العقاب؛ وله ح�ضور قوي يف �سياقات متعددة ،فمثال يتحدث فيه �رسفانت�س عن حوار دار بني الفار�س التائه وGines
طوفان نوح عليه ال�سالم دام �أربعني يوما ،داوود و�سليمان de pasamonteحول الكتاب الذي كان يكتبه هذا الأ خري� ،ساله دون
عليهما ال�سالم حكما �أربعني �سنة ،مو�سى عليه ال�سالم وحممد كيخوطي عن عنوان الكتاب ف�أجابه «حياة ،»Gines de pasamonte
�صلى اهلل عليه و�سلم �أوحي لهما يف �سن الأ ربعني ،مكث مو�سى �س�أله دون كيخوطي هل �أكملته ،ف�أجابه الآ خر كيف ميكن �أن
يف طور �سيناء �أربعني يوما ،العربانيون غري امل�ؤمنني عوقبوا ()1
يكتمل� ،إذا كانت حياتي نف�سها مل تكتمل».
بالتيه �أربعني �سنة يف ال�صحراء ،ي�ستمر احلداد عند الأ فارقة ما ي�ستفاد من هذا الدر�س هو �أن الكتابة م�رشوع ال يكتمل ،و�أن
�أربعني ليلة ،وعند البوذيني الكارمي الذي يهيئ للبعث ي�ستمر قارئ خوان ينبغي �أن مييز بني خوان احلقيقي املبثوت داخل
269 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
الرواية ما يلي: �أربعني يوما� .إن هذا الرقم يدل على اكتمال الدورة ،دورة ينبغي
«تفرت�ض كتابة ن�ص ما وجود �شبكة مرهفة من العالقات فيما �أن ت�صل لي�س فقط �إىل تكرار ب�سيط ولكن �إىل حتول جذري� ،إنها
بني العقيدات ال�صغرية التي ت�ؤلفه .كل الروافد ت�صب هناك: مرور �إىل نظام � آخر من الفعل واحلياة� .إنه عدد يرمز �إىل دورة
فالأ حداث اخلارجية ،وجمريات املعي�ش ،وامليوالت واال�سفار، احلياة والالحياة(.)5
وال�صدف حينما متتزج بالقراءات وال�صور واال�ستيهامات ت�شكل لقد وظف خوان يف الأ ربعينية هذا الرقم توظيفات عدة تدل على
ح�شدا اتفاقيا ،ح�سب ن�سق توليفي ،من التقاطعات والتوافقات االنتقال والعزلة والدمار .فقد ظهر هذا العدد يف بداية الرواية
وتطابقات الذاكرة والب�صائر املباغتة والتيارات املتناوبة ولقد للداللة على االنتقال من حياة الكثافة �إىل حياة اخلفة واللطافة،
()8
ارت�سمت كتابة هذا الكتاب يف �أفقي ع�شية عام احلرب». يقول ال�سارد:
�إن هذه اجلملة التد�شينية تلعب دور الدليل يف حديقة الرواية «يف اللحظة التي بد�أت ا�ستعد فيها لإ مالء الكتاب على نحو
ذات ال�سبل املت�شعبة ،فالن�ص يف جملته يراوح بني م�شاهد من مادي ق�ضيت نحبي .ثم انف�صلت عن ذاتي حينما انتقلت من
الواقع املعي�ش ،ا�سفار ال�سارد املتعددة (فرن�سا ،القاهرة ،تركيا، الزمن الوجيز �إىل الالمتناهي .فدخلت توا �إىل حالتي اخلفة
مراك�ش) ،يركب الطائرة ،ي�ستقل ال�سيارة ،ي�شاهد الأ خبار املتلفزة، واللطافة ،ر�أيت نف�سي من خارج� .أ�صم �أعمى دون روح �أو �شعور،
ي�ستحم يف حمام �شعبي ،يرتاد حلقة ال�رشقاوي وال�صاروخ. حماطا برعاية �أهلي ،و�إزاء الأ مل ال�صامت لزوجتي مكثت برهة
وبني م�شاهد التيه يف عامل اخلفة واللطافة ،واحللم ،هذه احلركة �أخرى يف احلجرة و�أنا �أحر�ص على �أال �أعكر مبيوعتي حركات
املكوكية هي التي ت�سبب لدى القارئ التبا�سا ودوارا. احلداد ،منتظرا ال�شخ�ص املكلف بغ�سلي بغية الت�أكد من �أن
«�إن رواية الربزخ �أو الأ ربعينية عنوان �أ�صيل ،وهي منوذج لعمل ال�شعائر �ستنفذ ح�سب � آخر رغباتي ورغم �أن مفهوم الزمن يف
غني ب�إيقاعات �صارخة� ،صارخة بخفة دمها وبقوة م�ضبوطة الربزخ الفا�صل بني العاملني يتوقف وميحى ،ف�أنا �أتذكر �أنني
وب�صمت غزير �ضمني يفرق فيما بني هذه الن�صو�ص الأ ربعني رتبت الن�ص ذهنيا كما رتبت �صفحاته املرتاكبة خالل الت�سكع
الق�صرية ،مو�ضوعاتها القائدة واخزة ،و�ضعت يف �سل�سلة وحبكة ()6
العام للأ رواح يف فرتة الأ ربيعنية»
()9
متقاطعتني ن�سجتا بطريقة دقيقة» وقد ورد هذا العدد �أي�ضا يف �سياق احلديث عن اجلحيم اجلوي
)2يف احلرب: على العراق الذي دام �أربعني يوما من الق�صف املتوا�صل من
كتبت رواية الأ ربعينية عام احلرب على العراق (،)1991 طرف احللفاء.
ومو�ضوعة احلرب تخرتق حبكة الرواية ،فاحلرب حا�رضة دائما، �إ�ضافة �إىل هذا فقد اختار الروائي �أن يق�سم روايته �إىل �أربعني
ودائما تعود ،تدور من بلد �إىل � آخر على طول القرن الع�رشين، ف�صال �صغريا ،واعترب �أن فعل الكتابة وفعل القراءة �شبيه بحجر
وها هي تد�شن القرن .21خملفة بذلك م�شاهد م�ؤملة وكارثية �صحي يدوم �أربعني يوما ،فلكتابة ن�ص روائي ال بد من العزلة
وقيامية ،رعب ت�شرتك فيه كل الأ را�ضي املدمرة ،فمن �إبادة والتقوقع ،و�أي�ضا لقراءة هذا الن�ص ال بد و�أن يلوذ القارئ
امل�ست�ضعفني �إىل هروب الأ برياء �إىل املنايف ،واخلروج من ب�أربعينيته �أي عزلته حتى ال يت�شو�ش ف�ضاء قراءته وا�ستيعابه
م�سقط الر�أ�س ومن م�شهد الطفولة. للن�ص.
�إن احلرب تروي باللون الأ حمر هذا الكتاب ،وتلغم الرتكيب يقول ال�سارد« :ف�ش�أن كل الأ وبئة ين�شد الوباء الذي ترعرع يف
الروائي وا�ستمرارية اجلمل� ،إنها تغرز خمالبها يف نرث الرواية، حما�صيل الروائي امتداده الطبيعي بعد مرور الأ ربعينية ،يف
�إنها تدمريات برجمها التطور نف�سه للتقنية العمياء. �صورة القارئ الذي يتلقى اقرتاحه املعدي واملخ�صب ومبجرد
يقول ال�سارد« :بني الأ حالم وال�سحب� ،أطللت بر�أ�سك� ،أو ما ظننت ما يتج�شم هذا الأ خري خماطرة املغامرة يعي�ش بدوره �أربعينية
�إنه ر�أ�سك دون �أن ت�ستطيع تدعيم هذا الظن مبر� آة مغيثة فر�أيت الكاتب و�أربعينية القارئ و�أربعينية الكتاب �أو�ضاع ال غنى عنها
م�شهد ال�شتات القا�سي لأ مم بكاملها � ،آالف م�ؤلفة من خالئق ()7
لإ حداث الكلمة املكتوبة �أثرها التحويلي الن�شيط».
عمياء تائهة ،وهي تفر من �أرا�ضي متكل�سة ومتحجرة ،عرب لقد �شكل العدد �أربعني حمورا �أ�سا�سيا يف بناء العامل الروائي
غابات حتولت �إىل رماد و�أنهار بدون ماء ،هل كان ذلك وعيدا يف الأ ربعينية �سواء من الناحية امل�ضمونية �أو من الناحية
افتتاحيا لأ لفية م�ش�ؤومة �ست�شتت ال�شعوب يف هدير غام�ض، املعمارية للن�ص ،وقد حقق الن�ص ذلك االن�سجام الع�صي بني
�صوب �شتى االجتاهات؟ وهل تبحث هذه ال�شعوب عن ملج أ� لها خيوط الن�سيج الن�صي .فن�ص الأ ربعينية ي�صيب قارئه بالدوار،
يف حميط العتمات الثخينة املتما�سكة هربا من جحيم ال�سالح لأ نه ن�ص مكتبة كثف فيه ال�سارد جمموعة من االن�شغاالت
()10
النووي واحلرب الكيماوية النهمة املحرقة». احلياتية والثقافية واال�ستيهامية .وعلى عادة الرواية املثقفة
لقد اختار ال�سارد �ساحة جامع الفنا مبراك�ش م�رسحا لأ حداث واملكتبية ،ف�إنه يتخللها خطاب نقدي موازي معلن هو مبثابة
احلروب ،وك�أنه ي�ستعيد لل�ساحة ا�سمها الأ �سطوري الذي ي�شري دليل للقراءة وموجه مل�ساراتها ،ورد يف اجلملة املفتتح من
270 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يتعلق بالعامل الأ خروي بني ال�سارد و�صديقته التي كانت مبثابة �إىل الإ فناء والإ عدام والقتل� ،إذ يلمح ال�سارد يف جماله الب�رصي
دليل له ،لكنها تخلت عنه عندما �أراد الذهاب لزيارة اجلحيم، و�صول �أوىل عربات اجلثث قادمة من باب الفتوح وال�سمارين
فبياتري�س يف الكوميديا الإ لهية قادت دانتي يف الفردو�س ،يف وريا�ض الزيتون و�شارع حممد اخلام�س ،تفرغ حمولتها لت�شكل
حني �أن فرجيل هو الذي كان دليله يف اجلحيم .وبالن�سبة ل�سارد �أكواما هائلة من �أج�سام خملعة �أو متخ�شبة� ،أفواه م�رشعة ،عيون
الأ ربعينية ،فقد كانت املر�أة ذات املظلة هي دليله ،كان جحيم جاحظة� ،أج�ساد موثقة� ،أقفية خرقها الر�صا�ص� ،صدور خرمتها
ال�سارد هو نتاج م�شاهداته يف الطفولة للوحات جريوم بو�ش البنادق الر�شا�شة� ،رضبات �صوبت �إىل الظهر غيلة ،وجوه جمدتها
وحفريات غو�ستاف دوري ،والكتب الأ خروية. الغازات ال�سامة ،في�ضانات من الدم تتقدم يف ال�شوارع املحاذية
�إذا ما �أمعنا النظر جيدا يف هذا الن�سيج ال�ضخم من ال�صور لبنك املغرب� ،أهي دماء تف�صدت من �رشايني حمرومي بن�سودة
وامل�شاهد القيامية املرعبة ،نالحظ �أن ال�سارد انحاز ب�شكل كبري �أم من متظاهري �شوارع وهران� ،أم من �أذالء الأ حياء ال�شعبية
ومعلن للخيال الديني الإ �سالمي املتمثل يف �إجناز ابن عربي. يف القاهرة �أم من �شهداء �صربا و�شاتيال �أم من الأ مهات اللواتي
فال�شعلة الأ وىل مليالد هذا الن�ص نبعت من ن�ص عرث عليه باغتهن الق�صف يف �شوارع بريوت� ،أم من الأ طفال املكد�سني
ال�سارد يف كتاب الفتوحات املكية (البن عربي) ،وكان مبثابة �أكواما يف جحيم خميم ال�شطي �أم هي فقط قيعان دجلة والفرات
�إطار للن�ص ،يقول ابن عربي متحدثا عن العامل الأ خروي «..ف�إنها غمرت مدينة ال�سبعة رجال.
دار انفعال �رسيع ال بطء فيه كباطن هذه الن�ش�أة الدنياوية يف �إن خوان غويت�سولو يدمج املغرب يف هذيانه الذي يتحول �إىل
اخلواطر التي لها �سواء ،فالإ ن�سان يف الآ خرة مقلوب الن�ش�أة، خيال ر�ؤيوي ليتمدد هذا اال�ستيطان للمغرب لي�شمل الكائن
فباطنه ثابت على �صورة واحدة كظاهر هنا ،وظاهر �رسيع العربي واللغة العربية والثقافة الإ �سالمية ،فجامع الفنا يف�سح
()13
التحول يف ال�صور كباطنه» املجال لرتكيا واملقطم بالقاهرة والقباب والقبور واملنازل
�إن هذه الإ �شارة القوية للمت�صوف املر�سي –ال�شيخ الأ كرب وختم والزوايا واملدار�س التي قطعها منذ �سنني باحثا عن «احلب
الأ ولياء -كانت هي النواة التمهيدية لعمل فر�ض نف�سه على اخلال�ص»(.)11
ال�سارد منذ مدة. �إن في�ضان الدم غمر ال�ساحة والدروب وت�رسب �إىل مكتبة ال�سارد
وحني املقارنة بني ت�صورات ابن عربي للجحيم وت�صورات الذي ا�ستغاث بجريانه لينقذوا على الأ قل املخطوطات وجذاذات
دانتي نلمح نقدا مبطنا لدانتي الذي كان يقذف بعداته وخ�صومه هذا الن�ص (الأ ربعينية) ،وكتب املت�صوفة امل�سلمني وامل�سيحيني
�إىل اجلحيم ملحا على الغيظ واالنتقام .يقول ال�سارد« :فهل واليهود ،و�أ�شعار دانتي وابن عربي والدليل الروحي وكتاب
يفرت�ض تبنيه (�أي دانتي) للأ خرويات ح�سب ال�صيغ الأ وىل املعراج ،وهو ي�رصخ «ال ت�سمحوا �أن يغمر الدم تعابري الذكاء
الإ ن�ساين والف�ؤاد الب�رشي فيمحوها ،وال متكنوه من �إبطال مفعول
املعقدة من كتاب «املعراج تقدما ما يف الطريق القدمي للإ ن�سان
الكلمات اجلوهرية»(.)12
حول ال�سالم والت�آلف؟ وملاذا الإ حلاح على الغيظ والعقاب بدل
�إن رواية الأ ربعينية هي رواية �أقوى من اخلطابات ال�سيا�سية
العفو واملغفرة؟ �ألي�س من الأ جدى االعت�صام باملت�صوفة وترك
لإ دانة احلرب يف العامل.
اللعنات املغتاظة جانبا و�إىل الأ بد؟»(.)14
فلماذا هذا امليل البن عربي واالنت�صار له؟ يف حوار بني ال�سارد )3ابن عربي ودانتي
و�صديقته هذه الأ خرية تثري انتباهه �إىل �رضورة تعميق املقارنة تكمن �أ�صالة الأ ربعينية يف جناحها يف حبك كل هذه اخليوط
بني الكوميديا الإ لهية ومعراج ابن عربي والذي �سبق للم�ست�رشق باملو�ضوعة الثقافية الكربى حول اجلحيم ،وبذلك جعلت جل
الكبري «� آ�سني بال�سيو�س» �أن �أبرز الأ ثر الكبري للمعراج على الأ دب القيامي يتحاور ،ن�صو�ص الكوميديا الإ لهية ون�صو�ص
الكوميديا ،قائال« :فمفهوم الرحمة الإ لهية لدى ختم الأ ولياء ال ابن عربي ورواية املعراج والدليل الروحي ملولينو�س ،ولوحات
يطابق يف �شيء مفهومها لدى ال�شاعر ،كما �أن ختم الأ ولياء ال الفنان الت�شكيلي جريوم بو�ش (�إ�شارات الرواية فقط للوحة
ميكنه �أن ي�شاطر هنا ق�ساوته وانعدام �أحا�سي�سه»(.)15 حدائق امللذات ومل ت�رش للوحته اجلحيم املو�سيقي) وحمفورات
�إن دانتي كما �صورته �صديقة ال�سارد من خالل تلهفه على ح�رش غو�ستاف دوري ،ور�سوم ت�شخ�ص اجلحيم بري�شة وا�ضع الر�سوم
معار�ضيه وخ�صومه يف دوائر جحيم الهالكني يخ�ضع ملر�ض املزينة للكوميديا ،واحل�ضور اخلافت للمعري �صاحب ر�سالة
نف�سي طفويل و�شبه منحرف .فبدل �أن يت�أثر ملعاناة املعذب الغفران ،وهي من �أوىل الن�صو�ص التي عاجلت الرحلة �إىل العامل
البائ�س ،يلتذ بالت�أمل فيه. الآ خر ،مل يظهر يف الرواية �إال ببيته ال�شهري خفف الوطء ما �أظن
يعرتف ال�سارد لدانتي بريادته يف ت�أ�سي�س لغته القومية ،و�أن �أدمي الأ ر�ض �إال من هذه الأ ج�ساد.
�أ�شعاره النفاذة قوية لكنه يالحظ «�أن فهمه الهند�سي البارد �إن هذا احل�شد الكبري للأ دب الأ خروي� ،أ�ضفى على الرواية بعدا
للعامل الآ خر ي�صطدم مببادئ ع�رصنا و�أحا�سي�سه� .إن �رضاوة ثقافيا و�سمح مبناق�شة جمموعة من الق�ضايا احل�سا�سة فيما
271 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
s
s
s
�آمال مو�سى
وجتليات املاء وال�ضوء يف �شعرها
�أحمـــد اجلــــوّ ة
كاتب و�أكادميي من تون�س
ديوانني الحقني بالأ ول� -أمارة قوية وعالمة ثابتة على مقــدّ مة :
نهل ال�شعر يف هذه املدوّنة التون�سية املعا�رصة من حبات �إذا كان �إن�شاء الكون يف ن�صو�ص العقيدة والديانات قد
املاء. ارتبط بالعنا�رص الأ ربعة (املاء -الهواء – النار -ال�رشاب)،
و�إذا كان املاء دائم التدفّق بال�شعر يف �أعمال � آمال مو�سى، ف�إنّ �إن�شائية ال�شعر لدى � آمال مو�سى قد تولّدت من تفاعل
ف�إنّ عديد الق�صائد لديها تُ�رشق بالنار وال�ضياء ،ومتزج بني املاء والأ �ضواء .فالنّاظر يف ما �أ�صدرته من دواوين()1
عن�رصين ي�شرتكان جوهرا ويختلفان �صفات وهيئات. تربز �أمامه عالمات عديدة دالة على تردّد املاء والأ �ضواء
ّ
املتولدة عن ح�ضوره: -1جتليات املاء واحلاالت ال�شعرية يف ق�صائد ال�شاعرة ،ويف عناوين الدواوين.
جتلّى لنا عن�رص املاء الذي متاهت به الأ نثى ال�شاعرة �إنّ تخيرّ ها «�أنثى املاء» عنوانا وا�سما للديوان الأ ول،
جتليا بارزا يف �أول الدواوين� .إنّ ق�صائده حافلة بدوران وتف�ضيلها «خجل الياقوت» عنوانا لديوانها الثاين ممّا ي ؤ�كّد
هذا الدال الأ كرب وجريانه يف عناوين الن�صو�ص ويف جريان كالمها ال�شعري يف جداول املاء وعامل الأ �ضواء.
ت�ضاعيفها( .)3و�إنّ هذا الدال كثيف احل�ضور يف هذا العمل فالتّ�سمية الوا�سمة لباكورة ما فا�ضت به قريحتها �شعرا
ال�شعري الأ ول ،وهو منت�رش يف العمل الثاين لكن بن�سبة ت ؤ�كّد اجلوهر املائي لل�شاعرة املتكلمة يف ق�صائد الديوان،
تقل عن ن�سبة تواتره يف «�أنثى املاء»� .إنّ بع�ض ق�صائده وحتوّل املعدن الأ نثوي كينونة مائية ان�سيابية.
تر�شح ماء مثلما هي احلال يف ق�صائد «املدللة»« ،فرحة»، و�أما عنوان الديوان الثاين فهو ا�شتقاق من �صفات الأ نوثة
«الأ نبياء يف اخلارج ينتظرون»« ،عزف منفرد»(.)4 �صفة لها ات�صال بالأ لوان وعدول بها من تورّد الب�رشة
ويبدو تراجع هذا الدال يف «ثالث الدواوين» �أمرا ي�سري ح�شمة وحياء لدى الإ ن�سان �إىل توقّد املعدن الثمني يف عامل
املالحظة �إذ مل جند فيه غري ن�صو�ص قليلة ومقاطع الأ حجار الكرمية .و�إذا كان عنوان الديّوان الثّالث ال ي�شي
متباعدة جمعها لفظ املاء ومتعلقاته وذلك يف ق�صائد: باملاء والأ �ضواء ومبتعلقاتهما ،ف�إن ت�ضاعيف ق�صائده
«العي�ش بثالثة عنا�رص»�« ،سكارى ال�صحو» ،بيت تنطوي على ما يف املاء والأ �ضواء من �سيالن وملعان.
املف�ضل(.)5
ّ اال�ستحمام لكن مباذا نف�سرّ تخيرّ ال�شاعرة � آمال مو�سى �إجراء كالمها
و �إذا ما بدا املاء عن�رصا غالبا يف تكوين �شعرية الق�صائد يف �سياقات املاء وجداول الأ �ضواء؟ وكيف يتحوّل هذان
يف الديوان الأ ول و�أق ّل ح�ضورا يف العملني الالحقني به. العن�رصان وما دار يف حوزتهما من عن�رصين م�ألوفني
فلأ نّ «اال�شتغال» على هذا الدال الطبيعي ي ؤ��شرّ على تنويع يف عامل الطبيعة �إىل عالمتني م�ؤ�س�ستني كيان الق�صيدة
يف اال�ستخدام ،وعلى تو�سيع الدائرة التي يتحرك داخلها وجتربة ال�شاعرة يف الكتابة؟
الكالم ال�شعري. تخيرّ نا �إجابة عن هذين ال�س�ؤالني وا�ستجالء لإ ن�شائية املاء
-1ماء التو ّله واال�شتهاء : والأ �ضواء يف مدونة ال�شاعرة عددا من الن�صو�ص واملقاطع
للماء يف الطقو�س واملمار�سات الرمزية التعبدية� .ش�أن التي بدا فيها ك ّل عن�رص منهما حمور الكالم ال�شعري
عظيم ومنزلة جلّى ،وهو يف الديانات ال�سماوية و�سيلة وقطب الرحّ ى يف عملية الإ بداع اللفظي .ف�إذا كان ما جاء
التطهر والطهارة .ويف التقاليد امل�سيحية واليهودية عالقة يف ت�صدير حممود امل�سعدي( )2لديوان «�أنثى املاء» مما
مباركة ربانية وت�أييد �إلهي ،وهو عند امل�سلمني مرتبطّ ي�ؤكد انبثاق ق�صائده من �أ�سطورة نر�سي�س ومن عجيب
بالطهارة التي ي�ستلزمُ ها �أداء الفرائ�ض ال�رشعية وبغ�سل عرائ�س البحر ،ف�إنّ تدفّق املاء -مبا هو مكوّن �شعري يف
273 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يتبادل املاء و�أنثاه الأ دوار واملواقع وتنغلق الق�صيدة على الكعبة امل�رشفة التي يوليها امل�صلون واحلجّ اج وجوههم
فعل االنتظار �صيفا. وقلوبهم(.)6
لكن كيف ا�ستدعت � آمال مو�سى يف �شعرها هذا العن�رص
من �إن�شائية الت�صوير �إىل �إن�شائية التخييل والت�أويل
�إذا جتاورنا التحليل الإ ن�شائي الذي يق�رص النّظر يف الذي حظي بالتقدي�س يف الثقافات والديانات؟
الأ �شعار على الأ ن�ساق البنائية دون كبري عناية ب�أبعاد لعل ق�صيدة «�أنثى املاء» التي جاءت وا�سمة لديوانها الأ ول
الكالم ال�شعري من �شاعر �إىل �شاعر ومن ق�صيدة �إىل �أخرى، متثّل املفتاح الذي ي�ساعد القارئ على ولوج عامل ن�صو�صها
وتعمّقنا �أبعاد «�أنثى املاء» وجوّدنا النّظر يف مرموزات وا�ستدراج كالمها ال�شعري حتى يبوح مبكنوناته ،وعلى
الن�ص� ،أمكننا العبور من التحليل
هذا الدال الذي يحتوي ّ ا�سكناه طبيعة الإ بداع اللفظي والتخيلي يف �شعرها.
ترد هذه الق�صيدة جمال �شعرية �أربعا تت�صدرها جملة
�إىل الت�أويل.
�إنّ املاء امل�شتهى ،والرّغبة امللحة يف التخوي�ض فيه بحثا ا�ستفهامية وجيزة :لمِ َ ي�أتينا املاء /يجري متلظيا من �شدة
عن �رسّه وق�صد االلتحام به لتكوين زوج من ذكر و�أنثى العط�ش.
يُ�رشع كالم ال�شاعرة على ف�ضاءات عديدة ويفتحُ ه على و تتزع بقية اجلمل ال�شعرية يف الق�صيدة �إىل التمدّد حمافظة
جمازات متنوّعة. على الالزمة االبتدائية فيتعدد اال�ستفهام البالغي وتقوم
� -أول جماز يف هذه الق�صيدة هو جماز اجل�سد واملق�صود بني وحدات الق�صيدة ظواهر التوازي النحوي -الرتكيبي،
بهذا املجاز هو ماء الأ نوثة وجريان �صفاتها وقيام ويغدو امللفوظ دائرا على ذات املتلفظ فين�ساب الكالم
حاالتها وا�ستواء هي�آتها .ف�إذا اقت�رصنا من املاء على ال�شعري ان�سياب املاء رقراقا مبثل قولها :
قريب �صفاته جم�سّ مة يف �صفاء اللون وملعان ال�سطح مل ال �أ�صبح � ّرس املاء ؟ /مل ال �أكون �أنثاه ؟
وعُ ذوبة املذاق حني ينهمر مطرا ويرتقرق جداول و�أنهارا، �أنتظره يف اجلرّة /حتى قدوم ال�صيف
بان لنا �أنّ ت�شهّي املتكلّمة حلوال يف املاء وذوبانا فيه �إنّ البنية املقطعية املتعاودة بوجوه من الت�شابه حينا
والتماثل حينا � آخر متنح الق�صيدة خ�صائ�ص �إن�شائية
يُ�صيرّ انها �رسّا له ،ت�ش ٍّه يعيد �إىل الأ نوثة منزلتها ويقرّها
قيمة جديرة بالتج�سّ د يف عامل نزعت فيه احلياة احلديثة متيزها عما �سواها .و�أمّا اال�ستفهام بخ�صو�ص املاء
�إىل ت�شيئ املوجودات والذوات و�إىل امتهان الأ نوثة بدعوى والتدرج بال�س�ؤال املخ�صو�ص به من �صيغة اجلمع يف �أوىل
اجلمل ال�شعرية �إىل �صيغة املفرد يف بقية اجلمل فم�ؤ�رش
حتريرها.
�إنّ تع�شّ ق الأ نثى �أنوثتها يربز يف عيّنات �أخرى من مدوّنة على �أن املاء هو الدال الأ كرب يف هذه الق�صيدة وعلى �أنه
ال�شاعرة من قبيل «�صالة اجلمر» الكلمة املو�ضوع فيها ( .)Le mot thème du poèmeلكن ماهي
و «نافورتي» .فهي حني ت�صدّر الق�صيدة الأ وىل بقولها: ال�صور التي تت�شكّل بها �صلة املاء بال�شاعرة؟ ّ
مُ تيّمـة� /أغت�سل ب�أنوثتي /جمرة مبلّلة� /صابئة تعبد �إذا جتاورنا ال�صورة الأ وىل امل�صوغة يف �أوىل اجلمل
ال�شعرية ونبّهنا �إىل طبيعتها املفارقة ب�سبب «جريان املاء
كوكبها ()7
تُ�صيرّ الأ نوثة مدار الكالم ال�شعري وت�صوّر تولّهها بذاتها متلظيا من �شدة العط�ش» ،وانقالب العن�رص على حقيقته
فت�ستدعي النقي�ضني مو�صوفا و�صفة يف تركيب غري م�ألوف ال�صور جم�سّ مةمبا هو عن�رص �إرواء للظّ م�أ ،بدت لنا بقية ّ
بني النار واملاء ،وتلتقط �إ�شارة تومئ �إىل تاريخ عقيدة � آمن لقاء عجيبا بني املاء والأ نثى وا�شتهاء متبادال بينهما� .إنّ
�أ�صحابها بالتطهري والتعميد(� .)8إنّ �صورة التولّه باجل�سد اقتفاء املاء خلطوات املتكلمة يف اجلملة ال�شعرية الثـانية
الأ نثوي وقد � آلفت فيها ال�شاعرة بني عن�رصين من عنا�رص و ن�سيانه جمرى ال�سواقي وم�سقط املطر ممّا يقلب العالقة
التكوين توحي مبا لهذا البعد املح�سو�س من �أبعاد الأ نثى امل�ألوفة بني الإ ن�سان واملاء .غري �أنّ ا�شتهاء املاء لأ نثاه
من تقدمي واعتبار ،ومن حر�ص على �إ�رشاع عوامل التخيل �رسيعا ما ي�صري ت�شهيا تعبرّ عنه هذه الأ نثى ب�صورتني
ف�سيحة ي�صري بها املرجع يف الق�صيدة �إملاعا وت�صري الذات تو ّد من خاللهما النفاذ �إىل حقيقة هذا العن�رص والك�شف
املتكلمة مقدودة من جماز ومن �إيحاء قريب وبعيد. عن �سبب احتجابه ،مثلما توّد احللول فيه لتكون �رسّه
وهذا �ش�أن الكالم ال�شعري الأ نثوي يف ق�صيدة «نافورتي»()9 و�أنثاه ،تنتظر موعد جميئه وت� ّرس بلقياه.
هكذا يح ّل املاء يف الق�صيدة مكوّنا �إن�شائيا مهيمنا على التي تنبني بهذا الدال امل�سيطر يف الديوان وترتبط بهذا احليّز
معجمها ،وبنية النحو والرتكيب والت�صوير فيها ،وهكذا الهند�سي الذي يتدفّق منه املاء غزيرا .وال�شّ اعرة املتكلّمة
274 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
املتكرّرة. يف هذا الن�ص الوجيز املتكوّن من جمل �شعرية �أربع تنتقل
هكذا ينقلب «التدلّل» الذي �أوهم به عنوان الق�صيدة وعُ ّد من من زمان بعيد �إىل حا�رض قائم ،وتوظّ ف امل�شريات الزمانية
ال�صفات الأ نثوية احلميدة يف عامل الع�شق ويف ق�صائد التغزّل ال�صلة بني جن�س ( ( )Les déictiquesكنت -ال �أزال -والآ ن) .وتعقد ّ
والنّ�سيب ا�ستك�شافًا للذّات الأ نثوية ،ال مبا هي تعداد ل�صفاتها امل�ؤنث وجن�س املذكّر ،وتكثف التعبري عن حركة ال�رصاع
البادية على حميّا النّ�ساء وهي�آتها الظاهرة يف حركات اجل�سد، التاريخي بني اجلن�سني من خالل ما دار بينها وبني �ضدّها
و�إنمّ ا مبا هي جواهر و�أ�رسار خمفيّة يف عمق هذه الذات. الذي تركته يَخُ طها و�أورثته ريا�ض الكالم فاكتمل.
و تنحو ق�صيدة «العي�ش بثالثة عنا�رص» هذا املنحى �إىل �إنّ اجلملة الثانية «تركت �ضدّي يخّ طني فاكتمل» ت�صوغ �شعرا
ا�ستك�شاف الأ نوثة العميقة ب�إبراز مواد الت�شكّل� .إنّ املقطع الذي طبيعة ال�صرّ اع التاريخي املديد الذي �أدّى �إىل حتكم ال�ض ّد يف
تخيرّ ناه من هذه الق�صيدة( )14يتكوّن من ثالث جمل �شعرية �ضدّه و�إىل انقالب و�ضع الأ نثى بعد �أن كانت «وحيا م�سرت�سال
ينتظمها الفعل امل�ضارع املن�سوب �إىل �ضمري املتكلم واملعبرّ ونافورة �أبدية» .هكذا تن�شئ ال�شاعرة مبجاز الكالم ر�ؤيتها
عن اال�سرت�سال واملعاودة (�أ�سمع �صورتي تردّدين� -أحت�سّ �س لتاريخ الأ نثى وت�ستعيد ب�إ�شارات خاطفة وعبارات فيها �إملاع،
رخامي� -أنادي الأ �صداف). عديد الكتابات املندرجة يف �إطار «الأ دبيات الن�سائية» تنظريا
وما تقيمه الذّات ال�شاعرة من جتاوب بني �أناها و�صورتها من و�إبداعا وذلك من قبيل ما يوجد يف ت�آليف �سيمون دي بوفوار
جتاوب يف �أوىل اجلمل ومن متثيل له ب�صورة �أهازيج القبيلة ونوال ال�سعداوي وفاطمة املرني�سي من ت�أكيد ملنزلة الأ نثى
التي تناطح خيامُ ها ال�سّ حب والغمام املكتنز ،وما تُثنّى به من عرب التاريخ و�سبقها الرجل �إىل ت�أمني املعا�ش للعائلة يف
ت�صوير لهذا التّجاوب يف اجلملة الثانية حني تتح�سّ �س رخامّها املجتمعات الأ مومية.
تكنية عن نعومة اجل�سد و�صفاء الب�رشة ،وملّا ت�شِ ُف مادة اجل�سد وال�شاعرة حني تورد تاريخ اجلن�سني تركّز كالمها اخلتامي
بهذا التح�سّ �س فتتحوّل فج�أة من �سكون الترّ اب �إىل رفرفته ،وما يف ما تُب�شرّ به من ا�ستعادة لو�ضعية �أنثوية بديعة تخيرّ ت
تُثلّث به من ت�صوير الفعل املجازي يف اجلملة املوالية حني لت�شكيلها �صورة الوحي يهبط على �أنبياء اهلل و�صورة النافورة
تنادي العنا�رص البحريّة من �أ�صداف وحيتان و�سفن «�صيرّ تها مبا ترمز �إليه من ارتفاع البناء ومن ح�سن التّ�شييد و�أناقة
العرائ�س غرقا يف البحر» ،ك ّل هذا التلوين يف الت�صوير يحمل التّزويق لتجميل ال�ساحات العامّة و�إ�شاعة البهجة يف نفو�س
القارئ �إىل �أجواء �شعرية ف�سيحة في�صري املاء من�شط ولذاكرته الب�رش.
الأ دبيّة والأ �سطورية ومو�سعا دائرة تخيله. �إنّ التولة بالذات وتع�شّ ق الأ نا يكاد ينظ ُم ق�صائد ال�شاعرة يف
-2ماء االغت�سال: �أعمالها ويوجد بينها حلمة متينة .وحني ال تورد � آمال مو�سى
لئن كان ماء التولّه واال�شتهاء ماء مرتقرقا يف عديد الق�صائد لفظ املاء ومتعلّقاته يف عناوين النّ�صو�ص ،يجرى هذا الدال يف
«لآ مال مو�سى» مُ �شّ كال لعديد التّ�صاوير يف كالمها ال�شّ عري، �رشايني ق�صائدها ويكون د ّم احلياة فيها .وت�شهد بهذا الت�شكّل
ف�إنّ ماء عن ماء يفرق .لقد تفرّد املاء يف «عزف منفرد)15(»3 املائي ل�شعرها ن�صو�ص من قبيل «املدللة»( ،)10و» الأ نبياء
بلون � آخر وطعم مغاير ملا �ألفناه من طبيعة له يف �سائر يف اخلارج ينتظرون»( )11و«العي�ش بثالثة عنا�رص»(.)12
الق�صائد. يحدّد عنوان الق�صيدة الأ وىل طبيعة يف الإ ن�سان عامّة ويف
يندرج هذا الن�ص الوجيز يف «ت�شكيلة �شعرية» كونّتها ن�صو�ص املر�أة حتديدا .و�إذا كان املاء هو العن�رص الأ وحد يف عدد من
خم�سة مرقّمة عدّتها � آمال مو�سى «جملة مو�سيقية» وفيها عزف ق�صائد ال�شاعرة فهو يف هذه الن�صو�ص يلتقي بعنا�رص �أخرى
على �أنغام تبدو متباعدة ينفرد داخلها ك ّل عزف بنغم خم�صو�ص من �أبرزها الل�ؤل ؤ� فيجتمع بذلك بريق املاء وملعان ال�ضياء.
به .والعزف املنفرد الثّالث ي�ستق ّل عن �سائر «املعزوفات» يف تحُ دّد املتكلمة يف ق�صيدة «املدلّلة» �أناها بهذا الكالم ال�شعري:
هذه اجلملة املو�سيقية ويدور -خالفا لها -على �ضمري املتكلم يطوف ب�شعابي املريدونَ /مائي ُ لُـ ؤ�ْلـُ َو ٌة /خَ ويل �أدورُ /و
اجلمع بهذه ال�صياغة: الل�ؤل ُؤ� /حب ُة الرّمل نطفتي /ت�شكّـلتُ /يف قَط َر ِة النَّدى)13( !
كلّنا موعودون باالغت�سال الأ خري /بالأ ثواب املزرك�شة بالبيا�ض وهي جتمع يف ت�شكيل �أنوثتها بني املاء والرمل والنّدى
/ك ّل ما فيها غرفة نوم /يف حجم اجل�سد)16(. واحلجارة الكرمية ،وحتوّل الأ نوثة حمور دوران ومركز حركة
خا�صة لأ نّ
يبدو اللحن املعزوف يف هذه الق�صيدة حلنا حزينا ّ �صوفية ونقطة اجنذاب� .إنّ هذا االنزراع يف الكون من خالل
الوعد يكون عادة مما يُفرح الإ ن�سان ويبهجه بينما كان وع ُد الت�شكّل يف قطرة الندى،و توحّ د ماء الأ نوثة بالل�ؤل�ؤ ،ودوران
االغت�سال متعلّقا بامل�صري الأ خري جم�سّ ما يف حادثة املوت� .إنّ الذّات حول ذاتها دوران الفرا�ش حول الأ ج�سام امل�ضيئة تمُ ثّل
�إن�شائية الت�أليف يف هذا العزف تبدو خمالفة ملا وجدناه يف ا�ستعارات �شعريّة يحتجب ب�سببها مرج ُع الكالم فال تتحدّد
العيّنات التي اعتمدناها يف تناول ما و�سمناه بـ» ماء التولّه هويّة املتكلّمة رغم �أ�سلوب الإ ثبات ،واعتماد اجلملة الإ �سمية
275 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
قد يكتفي النّظر ال�رسيع يف مدوّنة � آمال مو�سى ويف ديوانها واال�شتهاء» ،كما تبدو حركة التّ�صوير يف هذا الن�ص الوجيز
أخ�ص بر ّد هذا ال�شّ عر �إىل �أ�سطورة نر�سي�س و�إىل
الأ ول على وجه � ّ هادئة ال متور بالكنايات املغلقة �أو باال�ستعارات البعيدة.
عُ جْ ب الأ نثى ب�أنوثتها وتع�شّ قها لأ ناها ،وقد يبدو �أن ال�شاعرة �إن االغت�سال الأ خري تعبري قريب عن املوت والفناء ،والأ ثواب
املتكلمة ب�صوتها الفردي يف ج ّل ن�صو�صها قد تخيرّ ت املاء املزرك�شة بالبيا�ض �صياغة يُدرك بعدُها من �أق�رص �سبيل،
واملر� آة والقمر عنا�رص تتملى يف �ضوء �صفائها �صورتها التي وغرفة النّوم ال�ضيقة كناية قريبة عن القرب.
تراها بهيّة ،حماكية يف ذلك نر�سي�س الأ �سطورة الذي وقع يف و يقرتب هذا البعد اجلنائزي للماء يف ق�صيدة «عزف منفرد»3
املياه التي كان يدمي النظر يف �سطحها املتلأ لئ ويُعجب ملر�أى من �شبيهه يف ق�صيدة «مرايا الغياب» يف ديوان» «ي�ؤنثني
�صورته منعك�سة على هذا ال�سطح تعبريا عن اخليالء والتولّه مرتني» .ف�إذا كان املاء هو العن�رص املولّد لفكرة االن�شغال
بالذات( )21غري �أن التمعّن يف ق�صائد ال�شّ اعرة التي تُظهر فيها باملوت واللّحد ،ف�إن املر� آة مبا هي ج�سم �صقيل تولّد يف
احتفاء ب�أناها ،وتجُ ري فيها كالمها ال�شّ عري على ماء الأ نوثة الق�صيدة الثّانية الفكرة ذاتها ملّا يت�شخّ �ص الغيابُ ويت�شكّل يف
الذي يحتويها من كل اجلهات ،ويف جداول االفتتان باجل�سد �أكرث من هيئة وي�ستحيل على ح ّد عبارة ال�شاعرة «العبا ماهرا،
املزدهي ،متعّن � آيل �إىل اكت�شاف �أبعاد �أخرى لهذا ال�شّ عر. ال ي�سجّ ل يف مرمانا �سوى هدف املوت» (.)17
�إنّ قراءة عديد الق�صائد يف �ضوء �أ�سطورة نر�سي�س التي عوّل �إنّ �شعري َة الغياب واملوت التي يكون املاء �أحد عنا�رصها
عليها علماء التحليل النف�سي ( فرويد – الكان) وو�صلوها �شعر ّي ٌة متواترة يف �أعمال الأ دباء عامّة وال�شعراء حتديدا لكنّ
مب�س�ألة اللببيدو وبالالوعي وبحاالت احللم والهذيان �صياغتها لديهم تختلف من جتربة �إىل �أخرى ،فمحمود دروي�ش
والبارانويا ( )22( )paranoïaتغيّب �أبعادا �إن�شائية مهمّة ل�شعر حني كتب «جداريّته» �سنة 1999بعد �أن واجه بيا�ض املوت
� آمال مو�سى وذلك من قبيل: يف غرفة امل�ست�شفى �أح�س ب�أنه «وحيد يف نواحي هذه الأ بدية
-1البوح واملكا�شفة البي�ضاء»( ،)18وكانت هذه املواجهة العجيبة مما فجّ ر مطوّلة
ال�صوت ال�شّ عري �صوتا متوغّ ال
واملق�صود بهذا البعد �أن يتحوّل ّ �شعرية مليئة بالبوح والتذكّر .وكان ال�شّ اعرو القا�ص «�إدغار
يف الذات ال�ستجالء باطنها وت�صوير غورها .فحني يدور الكالم �أالن بو» من الأ دباء الذين ت أ�مّلوا طويال م�س�ألة املوت يف �صلته
ال�شعري يف ن�صو�ص ال�شّ اعرة على �أناها دوما مبثل هذه باملاء ف�شكّل من ذلك الت أ�مّل لوحات ت�صور �أفكارا فل�سفية
املحاورة املغالية يف احلميميّة: وم�شاعر وجودية.
امل�ستفي�ضة � /أريدكِ هناك /يف �أعايل
َ �أناي اجلملية /الرواي َة لقد تولىّ غا�ستون با�شالر يف كتابه «املاء والأ حالم» حتليل
الزرقة /ت�رسقني البحر وفيه تختفني()23 �شعريّة احللم عند هذا الأ ديب ا�ستنادا �إىل عن�رص املاء و�أورد
تنك�شف حجبّ الذّات وترتاءى هواج�سها فت�ص ُري الق�صيدة مر� آة اخلا�صة
ّ ال�صور
جملة من الآ راء لع ّل من �أهمّها �أنّ «قدر ّ
�صقيلة عاك�سة جلوهر تن�شُ د ال�شاعرة متلّكه والتفرّد به .وهي باملاء -لدى يو -ت�ساير -تدقيقا �شعرية احللم الرئي�سية التي
�إذ تُبدي تعلّقا بهذا اجلوهر املائي ورغبة دائمة يف �أن يكون هي �شعرية حلم املوت» و�أنّ «ك ّل ماء �أ�صله يف البداية نقي
املاء عامل حلّها وترحالها ،و�أن تكون قرينة املوجة و�شبيهة ميت�ص املعاناة
ّ هو – عند يو -ماء ال بد �أن ي�صري داكنا ،و�أن
ال�صور التي تعبرّ بها عن هذاعرو�س البحر ،ال تنفكّ عن تقليب ّ ال�سوداء ،و�أنّ ك ّل ماء حي هو ماء م�صريُه �أن يغدو ثقيال ،بطيء
اجلوهر املن�شود. اجلريان»(.)19
�إنّ املكا�شفة والبوح البارزين يف �شعر � آمال مو�سى يرتبطان مبا هكذا يكون املاء عن�رصا من العنا�رص البانية ل�شعرية الق�صائد
اعتربته جوهر الكتابة ،وهو يف تقديرها «تعري ُة للذات وللنف�س ومولّدا لإ ن�شائية «الكالم ال�سامي» ( )Le Haut Langageهكذا ين� أش�
وللوعي الفردي واجلماعي املطلق»( )24مبا عدّته كتابة الذات. �رضب من التوازي والت�آلف بني �أنوثة الطبيعة و�أنوثة اجل�سد
ولي�ست هذه الكتابة ترو ُم تعرية الذات ملجرّد التعرية وك�شف وقد ي�ؤول التعلق باجل�سد ومتلي مباهجه �إىل الإ قرار برنج�سية
امل�ستور من اجل�سد وال�سلوك .فامل�رشوع الإ ن�شائي الذي و�ضعت غالبة يف هذا ال�شعر مثلما ذهب �إىل ذلك امل�سعدي.
ال�شاعرة معامله الكربى بتحويل املاء من عن�رص طبيعي لع ّل القراءة الأ وىل التي �أجنزها حممود امل�سعدي و�ضمّنها
�إىل مكوّن �شعري مهيمن يف عامل ق�صائدها ،م�رشوع �أ�سا�سه ت�صدير هذا الديوان .ومتابعة عدد من الق�صائد يف العملني
«ال�شّ غف العا�صف البتكار كينونة �أنثوية �أ�سا�سيّة ومركزّية الالحقني به ت ؤ�كّدان هذا املنزع يف تقبّل هذا ال�شعر ،ولع ّل ما
يف عامل ال�شعر بدال عن كينونة فرعية ،ت�شغل موقع املو�ضوع ختم به امل�سعدي ت�صديره «�أنثى املاء» حني قال« :وهيهات
ال�شعري يف ن�سق ق�صيدة الرجل العربي»(.)25 �أن ي�سلم من عجبه الطاوو�س الكامن فيك وفيها ويف جميع
�إنّ م�رشوعها االن�شائي يقوم �ضدّا مل�رشوع �شاعر جماهريي النا�س على ال�سواء»( )20يُ�سيّج قراءة هذا ال�شّ عر ويوجّ ه فعلّها
�سارت ق�صائده على �أل�سنة النا�س ومتكّنت من وا�سع االنت�شار وجهة بينة.
276 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
بف�ضل التلحني والغناء .ف�إذا ع ّد نزار قباين �شاعر املر�أة �آمال مو�سى ت�صويرا وتفكريا ،ويكون عن�رصا ذا وجه وقفا.
وحمرّرها من و�ضعية احلرمي ،ف�إنّ � آمال مو�سى تروم ب�شعرها فوجه املاء وجريانه اخل�صيب هما م�أمول ال�شاعرة ون�شدانها
منزلة �أرقى للأ نثى ،و�أمّا قفا املاء و�سيالنه الرتيب فممّا �إنطاق الأ نثى ب�صوتها ال�شّ خ�صي وب�شعرها ال�رسّي.
و�إذا كان اجل�سد هو املرك ُز الذي عليه دوران هذا ال�شّ عر فيما ي�شبه تعايُنه ال�شاعرة وتعانيه معاناة �شديدة.
الطق�س وال�شعرية ،فلي�س الق�صد من ذلك �أن ي�صري اجل�سد م�صدر الهوام�ش
�إغواء و�إغراء و�إنمّ ا باعتباره معربا �إىل» روح الأ نوثة» اخلال�صة� )1( .أ�صدرت ال�شاعرة � - :أنثى املاء� ،رسا�س للن�رش -تون�س 1997
لقد حتدّث علي ح�سن الفواز عن «الكتابة ب�رشوط اجل�سد» -خجل الياقوت ،دار �رشقيات للن�رش والتوزيع ،القاهرة ،الطبعة الأ وىل .1999
-ي�ؤنثني مرّتني� ،رسا�س للن�رش -تون�س.2005 -
باعتبارها «مغامرة يف ا�ستجالء هيوىل اجل�سد والوجود وفطرة ( )2يقول حممود امل�سعدي« :وقد يُخيل �إليك حني تقر�ؤها �أنّ نفحة من الروح
اللغة و�رسّانيتها وباعتبارها �أي�ضا كتابة يف ن�ص اخل�صب اليونانية التي ولدت من املاء عرائ�س البحر املغريات هي التي حدت بال�شاعرة
هنا �إىل مغامرة الغو�ص على طوايا نف�سها و�أ�رسار ذاتها والولوج يف جدلية ما والإ رتقاء»()26
بني الأ نوثة واجل�سد واملاء من ن�سب �سحري قد ال ينك�شف �رسّه �إال ب�شبه التجلّى
وهو يعترب هذه الكتابة بابا �إىل نا�سوت اجل�سد و�إىل �أ�سطورة ال�صويف» «�أنثى املاء» �ص .3
( )3من الق�صائد التي تت�أ�س�س بهذا الدال نذكر� :أنثى ال�صيف �ص � – 15أعايل خطيئته القدمية وحلوله يف البحث عن طهرانية م�ضادة.
� إنّ تركيز الكالم ال�شعري يف اجل�سد وجتلّياته الظاهرة واملخفية الزرقة �ص - 19وردة اخلريف �ص � -21صالة اجلمر �ص � -47أنثى املاء �ص
-59نهر اليدين .81
ي�ؤ�سّ �س لبناء ن�ص احلرية التي تعلقت بها ال�شاعرة وداومت ( )4خجل الياقوت ،ال�صفحات.77 ،48 ،39 ،21 :
التعبري عنها يف �صياغات تتعدّد لكنها تت�آلف وتتنادى يف ( )5ي�ؤنثني مرتني ،ال�صفحات .118- 28-24 :
(Dictionnaire des symboles, p 374 )6
جتاوب م�ستدمي.
(� )7أنثى املاء �ص.47
(� )8أنثى املا�ص �ص -46ال�صائب ّقة ف املتد وباملوجة املرتقرق باملاء تتماهى وال�شاعرة حني
وتغت�سل ب�أنوثتها(� )27إنمّ ا تر�سم �صورا موحية مل�رشوعها ( )9ال�صابئة :اللفظة � آرامية الأ �صل تطلق على فرقتني 1 :جماعة املنوائيني �أتباع
ال�شّ عري الذي تُ�شيّده على مهل ،وهي ت�سند هذا املعمار بركيزة يوحنا املعمدان � -2صابئة حران الذين عا�شوا زمنا يف كنف الإ �سالم .ورد ذكرهم
يف القر�آن ثالث مرات بجانب اليهود والن�صارى ،وذكرهم ال�شهر �ستاين يف كتابه
فكرية حداثية تع ّد نقي�ضا لر�ؤية متتهن اجل�سد والأ نوثة وتعمل «امللل والنحل» والدم�شقى يف «نخبة الدهر يف عجائب البحر» يحر�ص ال�صابئة
على حجبهما توقّيا من الفتنة والإ غواء والوقوع يف الدّن�س .على تطهري �أنف�سهم من دن�س ال�شهوات واالرتقاء بها �إىل عامل الروحانيات ،من
فحني تخاطب � آمال مو�سى ابنة � آدم الكامنة فيها ويف كل �أنثى طقو�سهم التطهر باملاء �إذا مل�سوا ج�سدا ،املو�سوعة العربية املي�سرّ ة ،دار نه�ضة
لبنان للطباعة والن�رش ،بريوت 1986مج � 2ص .1112
( )10خجل الياقوت �ص .21 من الب�رش بهذه النّربة املعاتبة:
طال متلمُلك يا ابنة � آدمَ /ت ُعدّين ذخائر التفاح :خطيئة /خطيئة ( )11خجل الياقوت �ص .48
( )12ي�ؤثــّثـني مرتني �ص .21 /خطايا ()28
( )13خجل الياقوت �ص .21
الق�صة الدّينية على �سبيل التّ�ضمني �أو (« )14ي ؤ�نّـثني مرتني» ال�صفحتان .25 ،24واملقطع يبد�أ بقول ال�شاعرة � :أ�سمع وت�ستعي ُد �أم�شاجا من ّ
التنا�ص حتوّل جمرى الكالم وت�شحنّه بر�ؤاها راف�ضة �أن تكون �صورتي تردّدين ويقف عند قولها «غرقا يف البحر»
(« )15خجل الياقوت» �ص .77
( )16ي�ؤنثني مرتني �ص .124
ابنة � آدم «�أنثى يخبّئ فيها [� آدم الذكر] املاء» ،و�أن يكون م�ص ُري
( )17ي�ؤنثني مرتني �ص .124 الإ ناث موتهنّ غرقي(.)29
�إنّ ماء عن ماء يفرق .فاملاء الذي تتغنّى به ال�شاعرة وتروم �أن (« )18جدارية حممود دروي�ش» ريا�ض الري�س للكتب والن�رش ،بريوت ،الطبعة
الأ وىل � 2000ص .10
(Gaston Bachelard, l’eau et les rêves, Essai sur l’imagination de la matière. )19
«تُ�صبح �رسّه» و«تكون �أنثاه» هو ماء الأ نوثة احلية ،املتوثّبة.
.Librairie Jose Corti 1942, p.p.58-59 �أما املاء الذي تُنبّه �إىل خطره وعقيم جريانه بني الن�ساء فهو
ماء الفحولة الذكورية ،وهو ماء اجل�سد البيولوجي الذي يُحقّق (�« )20أنثى املاء» الت�صدير �ص.4
(.Dictionnaire des symboles p.659 )21
(.Encyclopaedia Universalis, France SA,1985 Corpus p.921 )22 الإ جناب ويكون �رشطا لتكرار اجلن�س الب�رشي.
قد ُي ؤ�وّل فكر ال�شّ اعرة على غري مقا�صدها فتكون دعواها �إفناء (� )23أنثى املاء �ص ( 19من ق�صيدة �أعايل الزرقة).
لل�سّ اللة و�إبطاال لوظائف اجل�سد .غري �أنّ �إمعان النّظر يف ما ( )24من �شهادة قدّمتها ال�شاعرة يف مدينة تورينو الإ يطالية ،انظر موقع ال�شاعرة
على االنرتنيت .amel moussa@yahoo.fr
تقرتحه من بدائل للتعاي�ش بني اجلن�سني ينفي هذا الت�أويل ( )25نف�سه.
املغايل وي�ست�رشف �أفقا تتجاوز فيه الأ نثى و�ضعية «الوعاء» ( )26علي ح�سن الفوّاز � ،آمال مو�سى ،الكتابة ب�رشوط اجل�سد
.Ali fwaaz@yahoo.com . الذي يخبّئ فيه «الذكر» ماء فحولته ،وتتخلّ�ص من واقع متوت
( )27العبارة واردة يف ق�صيدة «�صالة اجلمر» ،ديوان �أنثى املاء �ص .47
( )28من ق�صيدة «�أنثى يُخبّئ فيها املاء» ديوان ي ؤ�نّثني مرّتني �ص .39 فيه الإ ناث غرقى.
على هذا النحو من بناء اللقطة ال�شعرية والوم�ضة الفكرية ( )29تقول ال�شاعرة« :ف�أدركت ملاذا كل الإ ناث مينت غرقى» نف�سه �ص .40
يتجلّى املا ُء مولّدا �إن�شائيا ي�شحّ ن الكالم ال�شعري يف ق�صائد vvجزء من درا�سة طويلة ..انظر موقع املجلة نف�س العدد.
277 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
مرام امل�صري
�أنوثة ولغة يف العراء
بيـــان ال�صفـــدي
�شاعر وكاتب من �سورية
من املالم�سة اجلميلة. يف ال�شعر العربي الآ ن ظاهرة بد�أت ترتدَّد يف �أعمال
اجل�سد يف ق�صائد مرام (وهي �شاعرة ج�سد بامتياز) العديد من ال�شاعرات� ،إنها احلديث عن اجل�سد بجر�أة
حزمة من اخل�رضة والأ لوان � ..آفاق مفتوحة ..ومزيج ومترّد ،وك�أن يقظة �أنوثية مت�أخرة تريد �أن تنتقم
�سحري من البهجة واخليبة والأ مل ..موجات ال ملرحلة طويلة من القمع والكتمان الق�رسي.
تتوقف من الن�شوة والإ حباط ..ويف هذا ما ي�ؤ�رش و�إذا كانت �أكرث هذه التجارب مملوءة بردة فعل �ضيقة
�إىل الداللة الأ بدية له ..فهو تكثيف للحياة واملوت.. الأ فق ومليئة بعقد متورمة ،بل هي �أحيان ًا ا�ستعرا�ض
للقاء والفقد الأ بديني يف هذه الدنيا: خارج ال�شعر� ،إال �أن جتربة ال�شاعرة ال�سورية مرام
كفقري ي�أكل /حتى التخمة /خوف ًا من يوم /ال امل�رصي حالة الفتة من التحليق بعيداً عن معاناة
طعام فيه� /أنظر �إليك /يف ح�ضني.. الأ نثى باملعنى ال�ضيق ،لتغدو �شاعرة حب ب�أ�صفى
�أو :مللم بيديك /باقة /خ�رصي الطرية /من على و�أ�رش�س ما يف احلب من جتليات.
ال�رسير /املليء ب�أ�شالء /ال�ضحايا.. �إنها حالة خا�صة مت�ألقة يف ق�صيدة النرث التي
يف �شعر مرام انت�شاء بالأ نوثة ،فهي خمتالة بها.. تكتبها ال�شواعر العربيات ،ذلك �أن جتربتها الطويلة
فخورة ..تراها ب�ؤرة حياة ولذة بال عُ قد ،وكذلك مع ال�شعر ات�سمت ب�إخال�ص تام له ،ففيما قدمته
الرجل يف ق�صائدها ،فهو غريه يف �أكرث ق�صائد ان�شغال عميق بق�صيدة دافئة وحرة ،تعمل دوم ًا
ال�شعر الن�سائي العربية� ،إنه �رشيك ..نا�سج اللحظات على احلفر العميق يف اجل�سد ..وحتويله �إىل �أغنية
العابقة بال�سحر ..و�أحيان ًا بالبالهة والندم ،ولعله متمردة و�صادمة:
�أحيان ًا الطرف الأ �ضعف� ..إنه لي�س �سيداً وال � آمراً وال ت�شعلني الرغبة /وتت�ألق عيناي� /أح�رش الأ خالق
ناهياً� ،إنه بب�ساطة رجل يحب بكل ب�ساطة وعمق.. يف �أقرب درج � /أتقم�ص ال�شيطان /و�أع�صب عيون
ولذة و�أمل ،كذلك املر�أة� ،إنها املانحة والباحثة، مالئكتي /من �أجل /قبلة� /أو :عرى بنظراته/
والتي ال تكف عن القب�ض على احلياة حتى اللحظة نهدي اخلجولني /حولني المر�أة جميلة /ثم نفخ
الأ خرية: يف ج�سدي /روحه /هادراً /رعداً و�صواعق
كان بودي منحك /مروجا عذراء /وج�سداً فتي ًا ولعل من النادر �أن نقر�أ هذا البوح امللهوف المر�أة
/وها �أنا �أمامك يا حب /بج�سد /م َّر عليه ل�صو�ص تتحدث عن �أعمق حاالت اال�ضطراب والنزوات ،وال
/الأ عوام /وببطن /تكوَّرت احلياة فيه /وبثديني تتورع عن ا�ستخدام لغة مك�شوفة �أحياناً ،وحتكي
/تفجَّ رت منهما مياه بي�ضاء لأ فواه جائعة / عن تفا�صيل حميمة من قلق العالقة مع الآ خر حتى
لكنني � /أمنحك يا حب � /شهوتي اجلميلة /ن�ضرِ ة لو كان زوجاً:
/كعا�شقة غرَّة.. �ساعدين يا زوجي الطيب� /أن �أغلق /هذه الكوَّة/
ويف هذا الإ طار نكون مع العالقة العاطفية بكل التي انفتحت /يف �أعلى حائط �صدري /امنعني
�إرباكاتها و�سال�ستها و� آالمها ،وهذا ما جنده يف يا زوجي احلكيم� /أن �أعتلي /كعب �أنوثتي /فعند
ت�صويرها ملختلف احلاالت التي تعرب عن ت�شابك مفرتق الطريق� /شاب /ينتظرين
اخليوط بني الرجولة والأ نوثة يف �إطار �شفيف من وقد قدمت يف �شعرها العديد من الق�صائد التي
املهارة التعبريية: تتحدث عن هذه العالقة امل�ضطربة ،ومنحتها الكثري
278 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
املر�أة خال�صة حياة ..جرح ًا مفتوح ًا على الأ بدية، الرمانة /املحتفظة ب�أ�رسار /لآ لئها /التزال تنتظر/
وحلم ًا كبرياً يف وح�شة عامل قا�س ٍ: �أن تخلع /ق�رشتها الالمعة� /أو :رجل الق�ش /خدع
امر�أة كل الرجال �أنا وال رجل يل /امر�أة كل البالد ع�صافريي
�أنا وال بلد يل /امر�أة الأ حرف والكلمات /امر�أة وهي تتغنى بالرجولة ورموزها ب�رصاحة ،وهذا
البحور واجلبال /امر�أة اللذات والأ مل� /أو� :أنا التي جانب الفت جداً حيث تعمل ال�شاعرة العربية عادة
مل يعد لها وطن �سوى /الورق والكلمات� /أنا التي على التورية� ،أو ال�شكوى �أو الإ ح�سا�س باالنتقام �أو
مل /يعد لها �رسير� /سوى �أر�صفة الأ مل� /أنا ف�ضيلة حت�س باملهانة والغدر ب�شكل دائم ،لكن �شاعرتنا
الفا�ضالت /مانحة اللذات والفرح /راف�ضة احلرب تفاجئنا بتغن ٍّ �صاف ٍ بالرجولة وتفا�صيلها ،مع
والدماء /قارئة القلب والروح قدر وا�ضح من النزعة ال�شـَّهَوية ،وب�إح�سا�س ٍ عال ٍ
و�إذا كان البناء الأ �سا�سي لق�صيدتها يعتمد الب�ساطة بالتكاف ؤ� مع الرجل:
اخلادعة �أي تلك التي تخفي حرفتها ومهارتها كلما غادرين /رجل� /أزداد جماالً� /أو :امر�أة يف
متاماً ،وتر�سم م�شهدها بتلقائية وعنا�رص �شديدة عر�س �شهوتها /ت�ضج مبالئكة رجل
الأ لفة ،فهي مع ذلك تطور هذا البناء على نحو و�أدوات ال�شاعرة الفتة به�شا�شتها اخلادعة اجلميلة،
فيه الكثري من الت�أمل والإ حاالت �أحياناً ،فتغتني فقلما نقر�أ �شعراً بهذه العفوية والتق�شف البالغي
الق�صيدة عندها بالكثري من اخلفايا التعبريية التي واملو�سيقي ،حيث املفردة ال�سهلة ال�شائعة ،واجلملة
حتتاج �إىل ت�أمل وك�شف: التلف وال تدور ،وال تتداخل �أجزا�ؤها، ّ الب�سيطة التي
احليطان لها � /آذان /ت�سمعك تئنّ وال ترد/ لكن مع ذلك فهذا ال�شعر حمت�شد باالختالف واجلدة
رس لها بكل �شيء /ت�ؤكد لك دائم ًا / ت�ستطيع �أن ت� ّ واجلر�أة واجلمال والدفء ،لهذا حتتل ق�صيدة مرام
ب�أنها كاحليطان خر�ساء /تتحمل �رضبات ر�أ�سك مكانتها من ذلك الأ داء اجلديد الذي يغو�ص عميق ًا
عليها /وت�سندك و�أنت تقع /تراك تبكي وال ت�أخذك يف احلاالت الإ ن�سانية ،ويجهد بو�ضوح �إىل تقدمي
بالرغم /من الت�صاقك بها /بني ذراعيها /..على نف�سه بلغة تبتعد كثرياً عن اال�ستعرا�ض البالغي
احليطان نعلق ظاللنا /ظاللنا الراق�صة وال�ساقطة/ لتقدم بد ًال منه جملة من التقنيات اخلفية ،يف �إطار
مالب�سنا وم�سامرينا /احليطان لها �شفاه /احليطان دائم من حركة امل�شهد ،فت�أخذ الكثري من جماليات
باردة/ الثقافة الب�رصية ،فالعديد من ق�صائدها م�شاهد
�شفاهي ال متنحها /النار.. مكثفة من �سينما �شعرية على الورق ،وقد حتولت
�أو� :أعطني حباً /كفاف يومي /وال تثقل يومي على �إىل حالة �شعرية:
/قلبي احلزين /مبثقال ذرة /خذين ..وال ت�رضبني يف ال�شارع امل�ؤدي� /إىل منزلها� /صالونها
غ�ض الطرف عن �أخطائي /وابعث بر�سُ ل/ بوردةَّ / م�ضيء /طيفها /يت�أرجح /كقنديل /..تريد من
قبل �أن تط أ� �أر�ضي اهلل� /أن يلوح لها مبروحة /ن�سائمه� /أو يبل�سم
�إذاً من الوا�ضح �أن جوهر �شعر مرام قائم على ب�أنفا�سه /حروقها /ك�أم حنون
هذا العراء الوا�ضح� ،أنوثة ال تخجل من نف�سها ،بل والالفت تلك العذوبة التي تغلب على ال�صياغة،
تتقدم وتناجي �أعمق �أ�رسارها �أمامنا ،وهذا العراء فالإ طار الذي يجمع التعبري عن لهفة احلب و�شهوته
التعبريي تقابله لغة عارية �أي�ضاً ،غري مثقلة وخيباته ميتزج غالب ًا ب�أداء �ضمني و�شفاف كما يف
ب�أ�ساطري وجمازات بعيدة ،ولي�س فيها تع ُّب ٌد طويل قولها:
�أمام ال�شكل ومعاناة خـَلقه� ،إنها بب�ساطة تعمل على �أنا �سارقة ال�سكاكر� /أمام دكانك /دبقت �أ�صابعي/
منح العادي واحلميم �أق�صى ما ت�ستطيع ليكون ومل �أجنح /بو�ضع واحدة /يف فمي
م�ساحة ده�شة وخلق وحياة وجـِدَّة ،وهذا رهان يف لغة مرام ال�شعرية �صوت ر�سويل �أحيان ًا ك�أنه
قلما ينجح يف ال�شعر ،لكن مرام امل�رصي جعلتنا قادم من معبد ،لكنه جماور لل�شوارع والأ �رسَّة
من�سك هذا النجاح ب�أيدينا. والنوافذ واحلانات ،ولعله طالع منها ،حيث تكون
279 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
فرعية يطرح �ضمنيا نية اعتبار الن�صو�ص الق�ص�صية التني الكتابة عند �إبراهيم احلجري عن مراوحة مواقعها
الق�صرية جدا تكميلية بالنظر للإ كراه التجني�سي العام، يف خارطة التنميط والتجني�س� ،إنها لي�ست مراوحة هينة
الذي يحكم املجموعة الق�ص�صية ككل. بني فناءات النقد وال�شعر والق�صة ،بل ع�صية ومتمنعة،
تتحكم يف توارد املادة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» و�ضعية وندرك من موقعنا كقراء �أن الكاتب دلف م�سارها
ت�رسيدية مزدوجة :الأ وىل ي�شيد معاملها �سارد ب�ضمري الإ بداعي بان�شغال حذر وقلق ومتوتر وهو يجرتح �أ�سئلته
الغائب يقف م�شاهدا �أو �شاهدا على ما يحدث ويجري �أو ين�شد رهاناته يف دغل الكتابة ومعرتكها ،واعيا مبدى
من وقائع وتقلبات عا�صفة مب�صائر حيوات �شخ�صياته، اقتدار هذا اجلن�س �أو ذاك على التعبري عن هذه الق�ضية
وال�صوغ الق�ص�صي يف هذه احلالة يكون مكر�سا مل�سافة �أو تلك.
فا�صلة بني ذاتية ال�سارد ومو�ضوعاته وعوامله� ،إذ يدين يعود �إبراهيم احلجري بعد �أول �إ�صدار ق�ص�صي م�شرتك
تفا�صيلها البارزة بعني وا�صفة ،وقد يحدث �أن يتعقب (�أبواب مو�صدة) �سنة � ،2000إىل فتح دفة �إ�صدار � آخر
�أثارها املند�سة واملتوارية تلميحا� ،أو يلتقط غمو�ضها جديد مبجموعة ق�ص�صية ثانية حتت عنوان» ا�ستثناء»
ومبهمها احتماال ،حتى ت�ستوي متخيال يف�شي �صور يف مطلع �سنة ،2009وذلك يف طبعة �أنيقة من احلجم
واقع م�سرت�سل التف�سخ ،عري�ض الآ الم ،ت�سحق قدريته املتو�سط عن دار الن�رش مقاربات ،وت�أتي هذه املجموعة
املتغطر�سة �شخو�ص ال�سارد الغفل ،وقد يحدث ا�ستثناء الق�ص�صية حبلى مبالمح جتهر بن�ضج �صوت �صاحبها
�أن تنفلت منه باحثة عن طراوتها وغظاظتها املفتقدة الق�ص�صي� ،إذ متكن فيها بكل اقتدار من �إحقاق تفرده
يف «خال�ص م�ؤقت» ،ت�شهد عليه عربدة �أو جمون �أو وخ�صو�صيته يف التعامل مع مو�ضوعاته� ،شخو�صا
�سكر �أو حلظة لذة مقتن�صة ،لكن �رسعان ما ت�ؤوب هذه ولغة وبناء وتخييال ،م�شيدا �رصح ذلك التوازن ال�صعب،
«التعوي�ضات» ح�سرية حد الفزع� ،إذ تعود لت�ست�سلم لذات واملت�أرجح بني متاح الأ دوات الق�ص�صية من جهة،
القدر مرة �أخرى. وممكنها على م�ستوى ال�صوغ الر�ؤيوي ابداعيا من جهة
وتنفذ عرب الو�ضعية الت�رسيدية املزدوجة مادة ق�ص�صية �أخرى .ومن هذا املنطلق حاولنا مقاربة مظاهر الت�رسيد
�شديدة التنوع يف مو�ضوعاتها ،وتنزع يف معظمها الق�ص�صي يف تعالقها مبكونات الر�ؤية ،التي ا�ستحكمت
نحو �سرب دقيق ملكمن االن�شغاالت والهواج�س وال�صور يف �صوغ حيز التفاعل بني �أ�سئلة الذات وهموم الواقع.
التي �أم�ست مرتتبة عن �رشط معاي�شة الذات ال�ساردة ت�ضم املجموعة «ا�ستثناء» �ستة ع�رش ن�صا ق�ص�صيا،
وامل�رسودة لواقع مرتع بفداحات القبح والأ وجاع ،هذا ق�صد امل�ؤلف �أن تكون حتت تعاقد ر�أ�سي «ق�ص�ص»،
�سواء من موقع ات�صالها الق�رسي واملبا�رش بظواهره يت�ضح توطينه تدوينا على ظهر الغالف �إىل جانب عتبتي
وم�شاهده� ،أو يف حلظات انف�صالها عنه عرب منفذ «خط امل�ؤلف والعنوان� ،أما ما يربو عن ثالثني ن�صا � آخر فقد
الهروب»� ،إذا جازت لنا ا�ستعارة هذا املفهوم من جيل �أراد لها �أن تخ�ضع لنمط تعاقدي قرائي مغاير وخمتلف،
دولوز ،وان�ساللها نحو الكامن يف الداخل� ،أو احلميمي يف حتيلنا عليه عبارة» ق�ص�ص ق�صرية جدا» ،واملثري يف هذا
ذات الكينونة. التعاقد �أنه مازال اجلدال وال�سجال حوله على امل�ستوى
وتف�ضي حتققات الت�رسيد الق�ص�صي يف انثيالها النقدي يفي�ض �صخبا ب�ش�أن �إقرار �رشعيته الأ جنا�سية،
وا�سرت�سالها �إىل انتظام مكاين متقلب الوجوه ،حيث ترد ولعل امل�ؤلف يرغب من خالله �أن ين�شغل القارئ باختياره
ق�ص�ص «ا�ستثناء» موزعة مكانيا بني القرية واملدينة، لهذا النمط التعاقدي ،هذا و�إن كان و�ضعه كعتبة ن�صية
280 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
�أو عرب مادة احللم �أحيانا �أخرى: ف�إىل جانب ما يجرانه خلفهما من حموالت و�أبعاد
ـ ت�سمح التذكرات واال�سرتجاعات بان�رساب �أمكنة �أخرى مرجعية ،ثمة ما ين�أى ب�صورة املكان عن كل تكل�س داليل
عربها :ك�أن تغ�شى ال�سارد يف ق�صة «مغارة احلقيقة» �أو تنميط يف التخييل ،فالقرية واملدينة و�إن ح�رضتا
تلك ال�صورة املتذكرة عن وفاة الأ ب« :ذكرتني بهواء ك�إطارين مكانيني �شاملني لتجربة احلكي الق�ص�صي،
اللحود رائحة الرتاب ،عندما �أمرين الفقيه ب�أن �أكون ف�إنهما �رسعان ما ي�ستحيالن يف ترددهما �إىل دوال
� آخر من ي�ضع ج�سد �أبي داخل اللحد�(».ص .)38:و�أي�ضا مكانية متعددة الوجوه ،فتغدو املدينة مدنا ،والقرية
يف ق�صة «امر�أة فوق الطاولة» حيث انتابته ذكرى قرى ،ومن هنا تتدفق ا�ستثنائية ح�ضور املكان يف
جتربة حب قدمي مع «�شمي�سة»« :كان ع�شق «�شمي�سة» قد انف�صاماته وت�شظياته �إىل �أمكنة �أخرى ،وميكن �أن نلم�س
ا�ستيقظ بداخله فج�أة ،انتف�ض دافئا ج�سده ملا ا�ستعاد على �سبيل املثال ال احل�رص يف الق�ص�ص التالية« :النظر
�أول مل�سة جل�سدها املكتنز�(».ص� .)13:أما يف ق�صة من حتت» و«خطيبته ذات العطر القوي»و«وجهه يف
«مثل هذا احل�رش» فتتدافع يف ذاكرة ال�سارد و�صايا ال�سوق» و«الر�سام» و«مثل هذا احل�رش» ،كيف ي�ستدرجنا
الأ ب ،و�صور �أخرى عن �أيام اجلامعة والن�ضال ،و�أول ال�سارد من مكان �إىل � آخر ،ومن ركن �إىل � آخر� ،سواء يف
عالقة حب« :تذكر �أيها العربي �أيامك هنا بال�ضبط ف�ضاء القرية �أو املدينة� ،أو ك�أن يجمع بينهما يف حلظة
على هذا الع�شب الطري� :أثار �أقدامكما تراها غائرة يف ا�ستيهام �أو تذكر �أو حلم ،وبهذا تغتني املو�ضوعات
الرثى و�أنت حتاذي تلك التادلوية ال�شقراء التي علمتك املطروقة ،و�أي�ضا الر�ؤية الق�ص�صية بقيم ت�أويلية داللية
�أبجديات الع�شق�(»...ص .)38:والالفت ب�شكل عام يف هذه م�ضافة ،ت�سم �إما تناغما �أو تنافرا» كينونة الأ نا ال�ساردة
الق�ص�ص �أنها جتري يف ف�ضاء املدينة ،لكن من خالل واملن�رسدة يف م�سار انفعالها وتفاعلها مع ما يفي�ض به
دوال مكانية �أخرى ،لقد �أم�ست املدينة ب�ؤرة تفي�ض بتلك معي�شها من م�شاهد القبح والتف�سخ.
الكثافة الداللية التي تختزنها طبيعة التجربة الذاتية، وت�شكل الأ مكنة باعتبارها حا�ضنة لتجارب احلكي
وهنا ال تخفى تقاطعات الزمن ومتف�صالته باملكان وفق الق�ص�صي املختلفة بعدا من �أبعاد الوجود والكينونة،
اال�شرتاطات التي حتكم وعي الذات وجتربتها يف احلياة ف�إنها ما فتئت يف «ا�ستثناء» تنفلت عن ذلك التوظيف
والوجود. الواقعي الفج ،وامل�شيد �أ�سا�سا على وحدة املكان املنغلق
ـ اقتحام فناءات احللم واال�ستيهام يحدث ت�صدعا وتك�سريا قيميا على البعد الواحد والداللة الوحيدة ،فاملدينة
يف ان�سياب اخلط الت�رسيدي ،هذا �إىل جانب ترقي�ش املادة والقرية ا�ستدعيا كيانات مكانية �أخرى بقيم متفاوتة
الق�ص�صية ب�شطحات تبدو �أقرب �إىل تيار الوعي �أو اللم�سة و�أبعاد ت�صل حد الت�ضاد واملفارقة ،وبهذا يجري تن�سيب
ال�رسيالية ،لكن �ضمن اال�ستحداثات املمكنة للجن�س املكان على م�ستوى الر�ؤية الق�ص�صية والتخييلية ،ولنا
الق�ص�صي ،وعلى هذا الأ �سا�س مل تعد احليوات الداخلية �أن منعن مثال يف ال�صورة املمنوحة ت�رسيديا لهذه
لل�شخ�صيات الق�ص�صية مطمورة �أو متوارية ،تلفها لبو�سات الدوال املكانية :املقهى وال�شارع واجلامعة واحلافلة
التعتيم ،بل غدت م�ستبطنة املكامن ،تف�شي ما ميور يف والبار والغرفة وال�سوق وال�ساحات والدروب والأ زقة...
�أوارها من �أ�رسار خبيئة �أو منكتمة ،وبذاك مينح الت�رسيد حتما �ست�ستوقفنا �سال�سة الربط بني زواياها ،و�أي�ضا
الق�ص�صي للأ مكنة يف «ا�ستثناء»ح�ضورا جوانيا ،تتقل�ص تلك املرونة املخ�صبة للمتخيل الق�ص�صي من داخل
فيه الأ بعاد الهند�سية وترتاجع ل�صالح التجربة الداخلية دغل الأ غوار النف�سية والوجودية� ،إىل �أن نلج عمقا
ب�أبعادها الفينومنولوجية ،ومن ثم نتحول عن النظر �إىل فنومينولوجيا مدثرا بفي�ض الأ وجاع وانغمارها ،كلما
الأ مكنة يف �صلب �رشوط خرائطية وهند�سية برانية ،كما ان�سدل على ال�سارد مفردا وامل�رسود جمعا همر ن�شازات
تر�سمها فو�ضى الواقعي واملرجعي ،فنعمد �إىل متثلها الواقع وقبحه.
وفق �صوغ تخييلي يتجاذبه جذل التجربة الداخلية يف ويف �سياق جتليات املكان الق�ص�صي يف«ا�ستثناء» ،عرب
مترت�سها بني �أفياء الوعي والالوعي .وب�صورة عامة خ�صو�صية �إمكانات ت�رسيده ،ميكن �أن ت�شدنا بوابات
فالأ مكنة امل�ستدعاة يف احللم واال�ستيهام تكر�س �سمة ذاك انبجا�س الدوال املكانية من خالل انعطافات يف جمرى
التعدد والت�شظي عرب دوال مكانية ت�سترب مناحي الكينونة التواتر الق�ص�صي ،هذه االنعطافات تقدح زندها حم�أة
الظليلة ،فنتمكن من �إدراك املرئي فيها والالمرئي. التذكر واال�سرتجاع حينا� ،أو تنفذ عرب �شقوق اال�ستيهام،
281 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
فعلي خم�صب للتوا�صل خطابيا مع الآ خر ،هنا تن�شط عند ا�ستجماع م�ؤ�رشات املحكي احللمي يف ق�صة
ا�ستقراءات عني الذات ال�ساردة حلركات و�أفعال ووقائع «�أ�ضغاث �أحالم» يرتاءى ج�سد الأ نا املن�رسد م�شلول
عاملها املحيط مبادة الداخل امل�شبعة بالقلق واخلوف، احلركة يف �ساحة �ضيقة �شبيهة بالقرب ،ويف ظل انطمار
وك�أن ال�سارد بذلك يفتح دواليب اال�ستيهام ليمار�س لعبة حركة اجل�سد تن�شط حركة املكان يف اجتاه اجل�سد� ،إنها
�رسدية ت�أخذ يف االت�ساع فور م�صادفتها لتمظهرات حركة مت�سمة بالعنف تتق�صد اجل�سد يف البدء� ،إذ تغزوه
اخلارج ،حيث تنفلت جتربة الأ عماق والداخل. بر�شقات الإ �سفلت الال�سعة ،ثم يتالحق هذا العنف مغريا
ويت�صادى يف ق�صة «مغارة احلقيقة» حمكيان اثنان: منط فعله ،الذي ي�صري ق�ضما خال�صا للج�سد� ،أو لنقل
حمكي اال�ستيهام وحمكي الذاكرة ،ومن خاللهما تن�سج تدمريا كامال له� .إنها �صورة رمزية عن عدوانية املكان
معمارية ق�ص�صية يحكمها منطق التوازي ،على الأ قل من (تقابلها يف ق�ص�ص �أخرى �صورة حميمية) حتيل على
حيث البعد املكاين وداللته (املغارة = القرب) ،فاملغارة عنف رمزي يح�رض كمعادل لن�شاز وقبح العامل الذي
م�رسح جتربة ا�ستيهامية ،والقرب واللحد ا�ستدعاء خال�ص يحياه مو�ضوعيا الأ نا احلامل من�صهرا بال�رضورة مع
لذكرى وفاة الأ ب ،وبني حدث دخول ال�سارد وخروجه الأ نا املحلوم به( ،)1ويف م�شهد � آخر من احللم ينبج�س
من املغارة تتالحق الأ حداث كثيفة ،بدءا من �إح�سا�س �رصيحا م�ؤ�رش عجز �أنا احللم عن مواجهة ذات العامل� ،إذ
ال�سارد بالده�شة نحو ثالثة �أمكنة :املغارة واجلامعة اكتفي فقط بال�رصاخ والوجع والأ مل.
والبنايات ال�ضخمة وال�شاهقة� ،إال �أن دخول املغارة يف وانعطف الت�رسيد احللمي يف «�أ�ضغاث �أحالم» �إىل عامل
حد ذاته هو مغامرة ا�ستيهامية مقرتنة بالبحث عن كابو�سي خميف ،تتوج�س فيه الأ نا احلاملة وهي نف�سها
حقيقة الذات يف قلب هذا املكان العتيم ،وهنا يرتاءى الأ نا املحلوم بها من مالحقة ال�رشطة لها على �إثر ن�شاط
كيف يتوازى مرة �أخرى البحث يف املكان مع البحث يف ن�ضايل يف �صفوف الطلبة يف اجلامعة ،وتنتهي املالحقة
الذات(مغارة احلياة) ،كما تطفو تخييليا �صورة املكان ب�شكل فجائي بتواجدها يف زنزانة ال�رشطة ،وهو مكان
املبدي عن عنفه وعدوانيته« :حت�س�ست قدمي احلافيتني بدا مفرط الفظاعة ،وهنا مرة �أخرى ينجلي عنف املكان،
طعم املغارة .كان �صلدا وخ�شنا و�صعب الوطء.ل�سعتني الذي ع�ضده ال�سارد تنا�صيا بالإ حالة على ف�ضاء الزنزانة
حبيبات رملية �ضخمة .فتلك�أت مت�أملا�(».ص،)38 : يف رواية»جنمة �أغ�سط�س» ل�صنع اهلل �إبراهيم ،لكن كعتبة
ثم ت�أخذ معامل املكان يف االنح�صار وال�ضيق (�ضاقت �أدنى مقارنة بزنزانة ال�رشطة يف احللم.
امل�سالك يف وجهي) ،بعد ذلك تتوقف حركة ال�سارد عن �إن عنف الأ مكنة احللمية يدنينا من العنف الكامن يف غمر
البحث(فتوقفت) ،هنا تع�رس الر�ؤية وي�ستحيل البحث �إىل احلياة الداخلية ،ويقابله عنف من نوع � آخر يف ق�صــة»
تيه و�ضياع .وتبقي الق�صة على كثافتها ،فينفجر �أ�سى وجهه يف ال�سوق» ،ف�إذا كان الأ ول يتم مب�ؤ�رشات رمزية
ال�سارد يف خ�ضم تهاوي وتداعي املكان كليا على ج�سده �إ�ستعارية()2يف مادة احللم ،ف�إن الثاين يتم بالقيا�س �إىل
يف م�شهد يح�رش فيه الأ موات غا�ضبني ،وينغلق طوق العامل اخلارجي(املدينة الغول) ،حيث العنف �صورة من
اال�ستيهام با�ستحالة اخلال�ص ،و�أي�ضا بالعودة �إىل نقطة �صور القبح التي يتدثر بها العامل« :ا�ستقبلني املدخل
البدء وبنف�س الفعل امل�ؤ�س�س لها« :وجدتني فج�أة وجها الق�صديري بنتانة فظيعة تنبعث من قنوات الواد احلار
لوجه �أمام بوابة املغارة�(».ص« = )38:وجدتني واقفا املك�شوفة .تطفو على �سطحها �أنواع القمامات .قوافل
�أمام باب املغارة.)39( ». ال�رصا�صري و�رساق الزيت واجلرذان تنغل على جذران
يتمطى حمفل الكتابة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» زاحفا الأ كواخ احلقرية� .أمام الأ كواخ وجوه مغلفة بتجاعيد قهر
ومتمرت�سا يف جيوب الأ مكنة املهملة واملهم�شة ،حيث مكتوم تعر�ض �أمامها ب�ضاعة و�ضيعة»(�ص.)47:
يجري التقاط تفا�صيل القبح واالبتذال والتف�سخ ،ففي ـ تتخلل امل�ضامني الإ �ستيهامية ق�ص�ص عديدة يف
ق�صة «مقام � آخر الزمان» ،على �سبيل املثال ال احل�رص، «ا�ستثناء» ،وقد �ساهمت بدورها يف انتيال دوال مكانية،
خري دليل على ذلك� ،إذ ترتاءى �شخ�صية «�سليمان ا�ستمدت كثافتها من كينونة ذات �ساردة ومن�رسدة
ال�سويحلي» �رشيدة وتائهة ،تتقاذفها فو�ضى املكان �ضاجة بالقلق واخلوف والتوج�س .و�إذا ت�أملنا ق�صة
العارمة ،والأ كرث من ذلك �أنها تل�سع وعيه ب�إح�سا�سات «حوار الأ عني» �سوف ي�ستوقفنا اعتماد احلكي الق�ص�صي
فظيعة باحلرمان .وبهذا يغدو الهام�ش واملهم�ش مكمنا على لغة االحتمال واالفرتا�ض والتكهن ،يف ظل غياب
282 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
حني يبقى امل�ستقبل هالميا ومعلق التطلعات ،ال يعد ب�شيء متفتقا ب�أنطلوجيا الوجع ،يف ذات الوعي ال�شقي.
على الإ طالق� ،سوى بهواج�س موجعة ووعي �أ�سيان. وميكن �أن ترتد �إلينا نف�س ال�صورة املتخيلة عن هام�شية
تراهن الكتابة الق�ص�صية يف «ا�ستثناء» على ذلك احلد املكان يف ق�صة» النظر من حتت» ،لكن لي�س باملنظور
الأ دنى من االمتالء يف اجل�سد الق�ص�صي ،من خالل املركز على الفرد/الذاتي فقط بل ميتد القهر والب�ؤ�س �إىل
ا�ستح�ضار كثافة احلكاية عرب �رشوطها املكانية اجلماعة/املو�ضوعي �أي�ضا ،ف�إذا ا�ستقر�أنا املقطع املعنون
والزمانية ،و�أي�ضا عرب طبيعة �شخو�صها ولغتها ب» ف�ضاء هام�شي جدا» حيث انوجاد ال�سارد الغفل
ومتخيلها .كما ال تفقد ق�ص�ص الكاتب انغرا�س ق�سمات يف ف�ضاء القرية ،التي بدت يف ن�أيها معزولة ومهم�شة
توترها ال�رسدي( ،)5واملتولد عن عالقات مت�شعبة بني ومتهالكة ،تزداد حمنة �أهلها بظروف الطبيعة القا�سية،
الذات ال�ساردة وذاتها� ،أو مع عاملها ،وي�ضفي التوتر من ويف �سياق عالقة الذاتي باملو�ضوعي ال يح�صد ال�سارد
خالل عملية احلبك يف م�سار الأ حداث �أثرا ديناميا ت�سفر يف وعيه باملكان �سوى التياعه باحل�رسة واخليبة ،ومن ثم
عن جماليته تلك االنتظارات ،والتي تو�سم يف الغالب ال ندرك جغرافيا املكان �إال �ضمن �رشط �إبداعي هو �رشط
بالاليقني ،ملا �سي�ؤول �إليه احلبك ودرجات تعقده ،وال وعي الذات بها ،وبهذا تن�أى هذه اجلغرافيا عن ذلك التمظهر
تخفى م�ساهمة التوتر يف بنينة فعل التلقي ذاته. الرباين ك�أ�شكال هند�سية ،وت�صري �أكرث �إيغاال يف جتارب
الذات ومفازات كينونتها يف عاملها ذاك� .إذ» ال يرجع
وب�صورة عامة ف�إن اقت�صادية العامل الق�ص�صي لدى
الإ ن�سان �إىل العامل رجوع الذات �إىل املو�ضوع� ،أو العني
«احلجري» تبقى ذات مرونة خفية ،ال ميكن مالم�سة
�إىل اللوحة ،وال حتى كاملمثل �إىل ديكور خ�شبة امل�رسح.
خ�صو�صيتها الفنية �إال عرب تعقب ال�سارد يف و�ضعيتيه، �إن الإ ن�سان والعامل مرتبطان ارتباط احللزون ب�صدفته:
و�ضمن عامل غا�ص بالقبح والتناق�ض والعنف فالعامل ي�ؤلف جزءا من الإ ن�سان� ،إنه بعده ،وبقدر ما يتغري
واالنك�سار ،ت�ستن�سخ مناذجه الب�رشية امل�صطلية بوهج العامل يتغري الوجود(الكينونة -يف – العامل)».)3(.
دائه وا�ست�شاطة عدواه .وقد تكرر بع�ضها بحكم �سيطرة وعلى هذا الأ �سا�س تلج الكتابة الق�ص�صية عند «احلجري»
قدر م�أ�ساوي على م�صري حيواتها .و�أمام هذا العامل العوامل الهام�شية متجاوزة احلاجز الر�سمي بخطاباته
املتهاوي ال�رصوح يف قيمه ومعانيه ،ال يلوح الكون و�صوره وكرنفاليته ،كي حتتفي به كح�ضور ال ميكن طم�س
نخرا �أو فارغا� ،أو حتى فاقدا لكل معنى� ،إنه بكل ب�ساطة ما يبوح به من اختالف يف جغرافيا الكتابة الأ دبية،
ف�ضاء ع�صي ومتمنع عن �سيطرة الذات ال�ساردة ،كي يكون وبذلك مينح الكاتب �رشعية �إبداعية تنفذ منها الفئات
بحجم �أحالمها وتطلعاتها وجنونها ،وب�صورته تلك يغدو املهم�شة واملن�سية واملهملة خارطة املتخيل ال�رسدي.
م�شاك�سا ومنفلتا يف ت�سيبه وفو�ضاه ،يتعذر تغيريه �أو و�إذا كانت «خربة الإ ن�سان باملكان و�إدراكه له يختلفان
عقد م�صاحلة معه ،ما دام تداعيه ممعنا يف الت�سارع نحو عن خربته و�إدراكه للزمان ،فبينما يدرك الزمان �إدراكا
ال�ضياع بو�صفه املولد احلقيقي مل�شاعر اخلوف والقهر، غري مبا�رش من خالل فعله يف الأ �شياء ،ف�إن املكان يدرك
ومن ثم يرتد برتاجيعه ال�صاخبة على الكينونة ال�ساردة �إدراكا ح�سيا مبا�رشا ،يبد�أ بخربة الإ ن�سان جل�ســــده،)4(».
واملن�رسدة ب�أوجاع قريرة وعري�ضة ومفرطة. على هذا الأ �سا�س يرت�سم املكان يف» ا�ستثناء» وفق
الهوام�ش ت�رسيد ق�ص�صي يك�شف عن توا�صل زمني معه ،فال مكان
.conter les rèves :Jean daneil gollo,Ed.José corti,1993,p.206 -1 بدون زمانه� ،إذ تختلف �إيقاعات التجربة الذاتية بح�سب
-2لأ ن كلمة «ر�أت» التي بها يعلن احللم عن نف�سه ال حتيل على»�رشوط انتظامات الزمن ،وما ي�سبغه عليها من �أبعاد.
حقيقية للم�شاهدة الفزيائية� ،إنها طريقة يف التكلم .لأ ن الإ �ستعارة هي
الأ داة الوحيدة بدون �شك التي يتوفر عليها وعي املتكلم كي ي�صف النظام يغدو املا�ضي بظالله امل�شتل الذي تنهل منه الذاكرة
الذي يحــــتجز بوا�سطته احللم:». ال�رسدية �صورها احلميمة واملوجعة يف نف�س الآ ن� ،أما
.conter les réves :p.245 - احلا�رض فقد ا�ستفحلت مكابداته والتفت م�سالكه و�أم�سى
-3فن الرواية :ميالن كونديرا :ترجمة،بدر الدين عرودكي� ،إفريقيا انحالله را�سخا ومتجدرا،ال تقوى الذات على مواجهته
ال�رشق� ،2001،ص.39/36 :
-4م�شكلة املكان الفني :يوري لومتان :ترجمة وتقدمي� ،سيزا قا�سم ،عيوم وتغيريه ،اكتفت فقـــط بجعله مرئيا ،عـلى نحو ما عــبـــر
املقاالت ،حمور جماليات املكان ،العدد� ،8سنة �،1987ص.59 : عنه «كونراد» بقوله� »:إن مـــهمتي هي �أن �أجعلك ترى»،
.la tension narrative :Raphael baroni,paris,seuil,2007 -5 وبغ�ض النظر عما �إذا كان العامل الذي نراه حمببا �أم ال ،يف
283 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
البنت رمبا تعي�ش يف قلق �أكرث مما تعي�ش يف راحة. بني الربط والفتح ق�ضية و�رصاع �ضحاياه يف الدرجة الأ وىل
يف الربط والت�صفيد تكمن احلياة واملوت ،فهي حية كج�سد ن�سوة وبن�سبة �ضعيفة وهام�شية رجال! وبني الربط والفتح
وانفعال لكن جزءا من هذا اجل�سد ميت م�صفد لأ نها ال متلك موت! لذا �أود �أن �أنقلكم �سادتي �إىل عامل � آخر عامل ي�شبه املوت
حريته متحكم فيه يف غالب الأ مر من �شخ�صية من�سية �أو �إن مل يكن املوت نف�سه� .إنه عامل الربط والت�صفيد .يف حدود
جمهولة و�إن كانت معروفة فهي عر�ضة للق�ضاء والقدر� ،أما قراءاتي املتوا�ضعة يبدو يل �أن ف�ضيلة �أول من تعر�ض لهذه
�إن كانت البنت ال تعلم ف�إن �أو�ضاعها عر�ضة للت�أزم يوم الق�ضية يف عامل الإ بداع ق�ضية الت�صفيد« ،ما �أب�شع �أن تكون
زفافها ويوم دخلتها ،و�إن كانت تعلم بحالها فقد تت�شجع ()1
الواحدة منا عرو�سا».
على حتدي الرجال وي�صبح الأ مر لها لعبة وت�صري عالمة لذا حري بي �أن �أت�ساءل عن تاء اخلجل هل هي مربوطة �أم
دالة بني الذكور ،وما كان �شبحا خميفا بالن�سبة للأ هل ي�صري مفتوحة؟
واقعا. يف �أ�صل تكونها ون�ش�أتها ويف الفرتة ت�أبى �أن تكون �إال
هذا هو اخلوف الذي �أرق الروائية وجعلها ترف�ض مثل هذه مفتوحة �إذ كل التاءات الدالة على الت�أنيث والواردة يف القران
التقاليد التي تقيد كل �شيء ال ي�سلم منها ال املر�أة وال الرجل جاءت مفتوحة �إال تاء (ال�صلوة/ال�صالت).
وال يعني ذلك دعوة منها لإ ثارة الفتنة �أو ن�رش الرذيلة �أما تاء اخلجل فيبدو يل �أنها يف حرية من �أمرها لأ نها
�إمنا ال�صورة امللعونة التي تتهي أ� لها الن�ساء بقلوب واجفة عر�ضة للو�أد من حني لآ خر ،ولذا فهي تعي�ش حالة ا�ضطراب
مرجتفة مرتقبة ،ثوب العرو�س وفحولة الذكورة ،و�إعالن والالا�ستقرار بني الربط والفتح ،بني من �شئن ان تكون
النحر املوفق ،و�إال كانت الكارثة بني الأ �رستني �أ�رسة العري�س مربوطة ومن �شاءوا �أن تكون مفتوحة .في�ؤول بها الأ مر �إىل
و�أ�رسة العرو�سة لذا تقول الكاتبة «ما �أب�شع �أن تكون الواحدة املوت غدرا �أو اغت�صابا �أو انتحارا ،ويف البدء كان الو�أد[.
منا عرو�سا» .هذا هو املوت الأ ويل ،واملوت احلقيقي لكال �إن تاء اخلجل �إن كانت مفتوحة كما يوحي العنوان باعتباره
الطرفني وهال ترك النا�س على فطرتهم بال �سحر وال �شعوذة. مفتاح الولوج �إىل عامل الن�ص ،ف�إن املنت يوحي ب�أنها
�إنه التعدي الأ ول واالنتهاك احلقيقي جل�سد الأ نثى والتعدي مربوطة ،وال تفتح �إال بحل �سحري ،و�سبب ربطها؛ اخلوف من
الثاين على كرامة الرجل الذي وبال �شك �سي�صري حمل ال�شبهة العار ،واالغت�صاب ،والعهر ،ويف ذات الوقت هذا الربط يحمل
بني �أقرانه لأ ن فحولته انحنت �أمام الأ نوثة ،و�أن الأ نوثة ثنائية :خفية /ظاهرة ومتناق�ضة ،وثنائية املوت واحلياة،
حتولت �إىل جدار �أنهك قواها العقلية واجل�سدية (ال�ضمري يعود فالربط والت�صفيد يحمي البنت من احلل والفتح من ال�شاب
على الأ نوثة)� .أي ثقافة هذه التي تئد الأ ج�ساد وهم �أحياء، غري املنا�سب وغري الزوج ال�رشعي ،وحتى الزوج ال يقوم
هذا هو املوت الأ ول الذي ميار�س بني التاء املربوطة والتاء بالفتح �إال بعد �أن يبطل مفعول ال�سحر ف�أول الفتح ي�أتي من
املفتوحة ال ل�سبب �سوى تاء اخلجل �أن تكون �أنثى ،موت وقتل قبل من قامت بال�سد والغلق ثم ي�أتي دوره.
ميار�سه الأ هل �ضد �أبنائهم ،وهو نوع من الإ رهاب اخلفي قبل والتناق�ض يتمثل يف ت�شجيع البنت -الال مق�صود-
�أن يقوم الإ رهاب احلقيقي مبمار�ساته. على املعا�رشة الربانية مع من حتب لأ نها تعلم�/إن
�إن ف�ضيلة كمبدعة حتمل ر�سالة ح�ضارية م�شفرة تبثها من علمت[[ �أن الولوج ي�ستحيل مادامت م�صفدة وكل
خالل ن�صو�صها ت�ستنفر فيها القوم ،وترد �صورا �شتى جل�سد احل�سابات مبنية على الولوج فتنحرف البنت وت�صبح
الأ نوثة وما يفعل به وقد تقوم هي مبمار�سة فعل املوت على لعوبة ،وهذا الأ مر ال يح�سب له من قبل الأ هل وبالأ حرى
بع�ض �أبطالها وت�ستثني من حتب وذالك من �أجل لفت انتباه الأ م� ،إ�ضافة �إىل بع�ض العواقب الثانوية التي جتعل
284 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
برميها من �أعلى ج�رس يف البالد العربية ج�رس»�سيدي مْ�سيد» �أفراد املجتمع �إىل ما يحيط بهذا اجل�سد املنهوك الذي ترعبه
بق�سنطينة. ليلة الفرح.
هذه ق�سوة الأ هل �ضد املغت�صبات ولو يف �سن مبكر� ،سن �إن الربط والت�صفيد هو نوع من االغت�صاب اخلفي الذي
ال�صغريات« .ميينة» الكربى رف�ضها �أهلها ومل يعرتفوا بها يعد موتا م�ؤقتا �أو خفيا ،موت ب�شع لأ نه ي�أتي من ثنائية
رغم علمهم ب�أنها خطفت و�أمام �أعينهم ،وملا زارها �أخوها االغت�صاب والت�صفيد الذي مل يهتم به املجتمع لي�رشع
اجلندي وجدها قد ماتت .فالروائية مار�ست فعل القتل واملوت له قوانني رادعة حتمي اجل�سد املنهوك ،وب�شع لأ نه يحمل
على «ميينة» حلظات ق�صرية قبل دخول �أخيها الذي -رمبا- ثنائية �ضدية حائط الأ نوثة وانحناء الذكورة ،والتهمة ثنائية
�سيعرتف بها ويرفع من معنوياتها لأ نه من اجليل اجلديد لكن ت�شكيك يف عفة الأ نوثة ويف فحولة الذكورة التي مل ت�ستطع
الكاتبة مل متكنه من ذلك ،لأ نها متار�س فعل املجتمع وتعك�س �إجناز الفتح .تقول الراوية :تقرتب �سهام ابنة عم البطلة منها
واقعه ومعتقداته وثقافته عرب �صفحات الرواية. وتو�شو�ش لها:
ورغم ذالك فف�ضيلة الفاروق تبحث عن «هواء ال متل�ؤه هل ر�أيت العرو�س ،كانت م�صفحة (�ص)26
رائحة االغت�صاب»( )4كما تقول ،وال روائح املوت� ،إذن البد ()2
مل ترد عليها .تقول :كرهت نف�سي وكرهت منظر الن�ساء.
من «الرحيل» والرحيل يف حد ذاته موت لأ نه يعادل البقاء، �إن احلديث عن امل�صفحات( )3وتخليده يف �صفحات الرواية،
والبقاء موت. يعد قلقا ح�ضاريا يثري الوجع! و�سبقا �رسديا و�سمة حميدة
�إن البقاء يف اجلزائر يف الت�سعينيات من القرن املا�ضي حت�سب لف�ضيلة الفاروق .لذا قمت با�ستبيان يف �شهر �أبريل
ي�ساوي االنتحار �أو املوت ومن ثم فالبقاء بالن�سبة للأ نثى �سنة 2007على عينة �ضمت �ستني طالبة كانت الإ جابة من
املبدعة كف�ضيلة �أو �أي �صحفية �أو كاتبة جريئة معناه ثمان وخم�سني وكانت النتائج كالآ تي:
االنتحار �أو املوت ومن ثم تكون املعادلة كالآ تي: 76.3باملائة ال ي�ؤمن بالت�صفيد
الت�صفيد = املوت 92.72باملائة ال يعانني من الت�صفيد
البقاء = االنتحار 60باملائة ال ير ينه واقيا
البقاء = االغت�صاب 94.54يف�ضلن الرتبية ال�صاحلة على الت�صفيد
البقاء = املوت غدرا 29.09منهن م�صفدات ( الن�سبة مرتفعة يف نظري كمثقف)
الرحيل = ثنائية �ضدية البقاء واملوت. ن�سبة اخلوف من عقدته بلغت 40باملائة
�إن الرحيل هو نوع من املوت لأ ن احلياة يف بالد الغري هي املالحظة الإ يجابية التي توقفنا عندها هي �أن83.63
كاملوت مهما توفرت �سبل العي�ش احل�ضارية ،فرائحة الرتاب باملائة يرف�ضن الت�صفيد مما ي�ؤيد ر�أي الكاتبة «ما �أب�شع
والأ هل والتوابل الروحية التي تنبثق من هنا وهناك ومن �أن تكون الواحدة منا عرو�سا ،و�أن ن�سبة اخلوف على البنت
خمتلف ت�ضاري�س هذا الوطن هي التي تنع�ش النف�س وتدفع تكون لدى الأ م باعتبارها هي التي تقوم بالت�صفيد فالالئي
عنها احلزن ولو كانت احلياة �شاقة. �صفدتهن �أمهاتهن بلغن 37.5باملائة ثم العمة 15.50
الرحيل هو نوع من املوت الثاين ،وهو نوع من االحتجاج باملائة.
على ما هو �سائد يف الوطن يف الت�سعينيات من القرن املا�ضي و�أخري ف�إن ن�سبة 60باملائة من البنات ال يعلمن ب�أنهن
(� 1991إىل 2007لأ ن املوت بفعل الإ رهاب مل ينته بعد). م�صفدات وهذا قد يثري قلقا لديهن ورمبا ن�ستنتج �أي�ضا �أن
يف هذه املعادلة يغدو الرحيل وما فيه من ال�ضجر والقلق احلوار بني الأ م والبنت يكون حمط ال�س�ؤال مادامت هذه الن�سبة
النف�سي واحل�رسة التي ت�صحب هذا الرحيل �ألأ ف�ضل من البقاء جتهل �إن كانت م�صفدة �أو غري م�صفدة ،وهي ن�سبة تثري القلق
املحاط بالثالثي امللعون: مبعنى �أن املوت يحيط باجلو الأ �رسي و�أن التوا�صل الذي
- 1املوت غدرا بر�صا�صة طائ�شة� ،أو بر�صا�صة تنطلق من يحيي النفو�س ينعدم ،ال �أقول هذا الذي تق�صده الكاتبة �إمنا
م�سد�س جبان لأ نه ال يقوى على املواجهة الند للند فكرا هذا مدار الرعب بني التاء املربوطة والتاء املفتوحة.
وبدنا. تقوم الرواية مبمار�سة فعل القتل عن طريق الأ ب على �أ�صغر
-2االغت�صاب حتت �سلطة «املح�شو�شة» وال�سيف امل�سلط
()5
�أنثى م�رشوع بناء الأ �رسة «رمية» ال�صغرية التي اغت�صبت من
على الرقاب وما �شابه ذلك. قبل رجل �أحدب وق�صري يف الأ ربعني من عمره يقوم والدها
285 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
يكون غائبا ،رمبا لأ ن الأ ذن تع�شق قبل العني �أحيانا. -3االنتحار �سببه يف الرواية :ال�سبي واالغت�صاب عنوة،
�إذن رف�ض ف�ضيلة فيه من الأ �صالة ما يبني ال ما يهدم لأ ن والفعل القبيح �أمام اجلمع متى رف�ضت احلرة االمتثال
فيه من احل�شمة ما يدل على ذلك. لرغبات اخلاطفني.
ف�ضيلة يف روايتها مار�ست كل �شيء ،مار�ست احلب ،والقتل وف�ضيلة تعالج يف روايتها ق�ضية الأ نثى اجل�سد املنهوك ال من
والرحيل� ،أي جنون هذا الذي تفعله هذه الروائية ال�صاعدة. زاوية ت�سلط الذكور على الإ ناث ،و�إمنا من زاوية امر�أة تنتمي
كيف لعا�شقة( )6كالراوية تع�شق ن�رص الدين وتعمل جاهدة بجذورها العميقة يف التاريخ �إىل جمتمع كانت ال�سيادة فيه
على �إبعاده عن القتل ويف ذات الوقت تقتل �أبطالها وتبكيهم للمر�أة �أيام «ديهيا»\.
وجتننهم وتتلذذ بجنونهم تلذذ الكتابة الإ بداعية �أو ترحلهم ف�ضيلة ككل الأ ورا�سيات الالئي ن�ش�أن يف الريف يع�شن بعقلية
هذا ما تقوله يف �صفحة « 87قتلت كل �أبطايل تقريبا مل يبق «ديهيا» التي �أخت�رصها يف هذا املثل البليغ القائل» ميا بابا
غري ن�رص الدين �أبعدته �أكرث من مرة عن املوت اخرتعت له �ساكو ي�شور\\» �أي ما معناه «ملء اخلزينة �أبي و�أمي».
�ألف �سبب للقائي ولكن بطلتي التي ارتديت قناعها مل تعد �إن متردها �أو رف�ضها جاء نتيجة وراثية ال كنتيجة مكت�سبة
تفكر باحلب �صارت تفكر بالرحيل».وهذا القول جعلني �أخل�ص من التعليم املزدوج �أو من املدينة ،جاء من بيئتها الأ ورا�سية
�إىل م�صري ال�شخ�صيات يف تاء اخلجل والذي حددته بني التاء اجلبلية التي منحت للمر�أة ال �أقول هام�شا وا�سعا من احلرية
املربوطة والتاء املفتوحة وهو« :رزيقة» انتحرت« ،ميينة» و�إمنا حرية تامة.
املغت�صبة ماتت و«ميينة» ال�صغرى �أخر�صت بفعل �أمر من �أنا ال �أحتدث عن التحرر و�إمنا عن احلرية كان الرجل يف
والدتها» (« tais toi yaminaمبعنى ا�صمتي) و�سكتت �إىل الأ بد الأ ورا�س يقد�س املر�أة كما قد�سها الإ �سالم ويحرتمها و�سن
وهذا ما يج�سد فعل القمع املمار�س �ضد الأ نثى� .أما «راوية» لذلك قوانني هي مبثابة العرف يف القانون املدين احلايل،
فجنت وهذا نوع من �إ�سقاط الذات الفنية على �شخو�صها �إذ ميكن املر�أة من ممار�سة �ش�ؤونها بكل حرية دون �أن يعرت�ضها
البد «لراوية» �أن جتن ليكتمل فعل الق�ص والإ بداع و�إال ف�إن الرجل ولو بنظرة� .أ�أكد لكم جازما �أن هذه احلرية هي التي
ف�ضيلة الفاروق �ستخ�رس فعل ال�رسد �إىل الأ بد وينتهي فعل جعلت ظاهرة الطالق وهو �أبغ�ض احلالل عند اهلل يكون �سهال
الق�ص وال نتمكن من قراءة «اكت�شاف الهوة». يف املناطق الأ ورا�سية ،وقد تطلق املر�أة الرجل طبقا للمثل
الهوام�ش ال�سابق الذي �أوردته يف معر�ض حديثي عن التمرد واحلرية،
-1ف�ضيلة الفاروق :تاء اخلجل (رواية) دار الري�س بريوت �ص26 لذا فهي تنظر �إىل القمع االجتماعي الواقع على املر�أة من
\ -املجتمعات العربية كانت تئد الأ نثى خوفا من العار هذه الزاوية زاوية حفيدة «ديهيا»�أوال وزاوية املر�أة املتعلمة
\\ يف الغالب ال تعلم �أنها م�صفدة اللهم �إذا �صفدت وهي كبرية يف �سن ثانيا.
ال�ساد�سة فما فوق
- 2تاء اخلجل �ص26 ففي حواراتها التي قر�أتها ال تتهجم على الدين �أو تزدريه كما
- 3امل�صفحات :نعني بهن البنات امل�صفدات .والت�صفيد هو عملية �سحرية ينظر �إليها بع�ض املثقفني والذين يدعون �أنهم قر�أوها ،ففي
تقوم بها الأ م �أو العمة �أو �أي امر�أة جتاه البنت يف �سن مبكرة ك�أن متررها
على خيط �سبع مرات وتقول للبنت �أنا حيط يعني جدار وهو خيط والبنت خمتلف خطاباتنها الإ لكرتونية التي تر�سلها يل ،كنت �أجد
تردد معها� .أو تو�شم لها يف فخذها �أو تقوم ب�إح�ضار �سبع حبات حم�ص فيها ولها دائما وجهة نظر �صائبة جتاه الدين ،و�أن م�س�ألة
وتعقد عليها عملية الت�صفيد ويف كل ذلك تردد البنت �أنا حيط وهو خيط.
وت�صبح �أنوثة البنت م�ستحيلة اخلرق من �أي كائن ما كان �إال �إذا �أزيل عنها الدين ونظرته للمر�أة زيفت من قبل �أدعيائه( .ال نن�س ب�أنها
الت�صفيد وال ميكن �إزالته �إال من قبل املر�أة التي قامت بالت�صفيد �إثر ذلك من �أ�رسة متدينة �أبا عن جد �أ�رسة متعلمة كانت متار�س الطب
ي�صبح امل�ستحيل ممكن .ويتمكن الذكر من الولوج يف الأ نثى وتتم عملية و�أغلب �أفراد �أ�رستها دكاترة يف العلوم الدقيقة).
الفتح وهذه العملية موجودة ومتداولة يف خمتلف املناطق وجمربة.
- 4نف�سه �ص37 هذا التدين اجلديد هو الذي جاء بثقافة جديدة ثقافة �سلطة
- 5املح�شو�شة :بندقية �صيد تق�ص ق�صبته لت�صبح خفيفة وعملية الذكور على الإ ناث ،لكن �سلطة الأ مومة املوروثة يف العروق
\ -ديهيا :هي ا�سم ملكة الأ مازيغ التي �أطلق عليها العرب �أثناء الفتح
الإ �سالمي ا�سم الكاهنة بقيت �سائدة يف املر�أة الأ ورا�سية وبقي ذلك الرف�ض مالزما
\\ � -ساكوا :هو مبثابة كي�س مزدوج كبري ين�سج من ال�صوف وال�شعر لها يف دمائها ،فف�ضيلة ال ترف�ض قيم الإ �سالم و�إمنا ترف�ض
تو�ضع فيه احلبوب كالقمح له قدرة ا�ستيعاب ت�صل �إىل القنطارين.
ي�شور( :بت�شديد ال�شني و�ضمه )مملوء. القيم التي بالغوا فيها �إىل �أن و�صلت درجة التحريف ،املر�أة ال
- 6الع�شق قمة احلب -ي�أتي بعد هذه املراتب :الغرام -الإ فتان -الوله تتكلم ،ال تتعلم ،لكي ال تعرف الكتابة وحتى ال تكون �ساحرة،
-الده�ش -الفناء عن ر�ؤية النف�س. ال ترفع ر�أ�سها ،ت�صفق عند �س�ؤال �سائل عن رب البيت حني
286 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
�سو�سن العريقي
فـي ديوانها ال�شعري «�أكرث من الالزم»
عمر حممد عمر
�شاعر وناقد من اليمن
وجتدر الإ �شارة �إىل �أن ال�شاعرة �سو�سن العريقي من ي�شكل مو�ضوع العالقة بني الرجل واملر�أة واحداً من
الأ �صوات ال�شعرية ال�شابة -من جيل الت�سعينات من القرن �أهم املو�ضوعات التي تكر�س معظم الأ ديبات اليمنيات
املا�ضي -والتي ا�ستطاعت �أن ت�شق طريقها باقتدار على �إنتاجهن الأ دبي� ،شعراً و�رسداً ،ملعاجلته واخلو�ض فيه
دروب الإ بداع ال�شعري ،و�أن تلفت الأ نظار نحو نتاجها وفق ًا لر�ؤيتهن باعتبارهن طرف ًا يف املعادلة احلياتية
الإ بداعي.. التي طرفها الآ خر الرجل.
ومن خالل تتبع �إنتاجها ال�شعري منذ الت�سعينات وحتى وح�ضور هذا املو�ضوع يف الإ نتاج الإ بداعي للأ ديبات
اليوم� ،سواء املن�شور كق�صائد مفردة �أو �ضمن جمموعتيها اليمنيات �أمر له مايربره ،ذلك لأ ن النظرة املهيمنة على
ال�شعريتني؛ «مربع الأ مل» 2004-م ،واملجموعة التي بني جمتمعنا جتاه املر�أة مازالت قا�رصة ،فالنظرة العامة
�أيدينا«�أكرث من الالزم» ،ي�ستطيع املتتبع �أن يالحظ �أنها نحو املر�أة �أو حول عالقتها بالرجل تقوم يف الأ غلب على
ت�سري يف خط �صاعد من ق�صيدة �إىل �أخرى ،ومن جمموعة قاعدة �أن املر�أة تابع للرجل �أو عن�رص مكمل لبع�ض من
�إىل �أخرى �أي�ضاً ،الأ مر الذي يعك�س تطور جتربتها ال�شعرية، جوانب حياته ،وهذا الأ مر ال يقت�رص على عامة النا�س،
و�أي�ض ًا يعك�س عنايتها مبلكتها ال�شعرية و�صقلها. و�إمنا يتعداهم �إىل اخلا�صة �أي�ضاً� ،إىل �رشيحة املتعلمني
ويف هذه القراءة النقدية ملجموعة «�أكرث من الالزم» وحتى من بع�ض من ن�صفهم باملثقفني.
�سنقف على مو�ضوع العالقة بالآ خر -الرجل -ور�ؤية ومن نافل القول �أن ن�شري �إىل الظروف االجتماعية
ال�شاعرة لها ،وكيفية معاجلتها لإ �شكالية العالقة بني املو�ضوعية ك�سبب لوجود تلك النظرة �إىل املر�أة يف
الطرفني ،فمما ال�شك فيه �أن ال�شاعرة العريقي قد واجهت جمتمعنا وا�ستمرارها حتى اليوم ،ولكننا ل�سنا ب�صدد
وتواجه مثل تلك النظرة القا�رصة نحوها كامر�أة ،يف �إطار القراءة االجتماعية للعالقة بني طريف املعادلة احلياتية
عالقتها بالآ خر� ،أي كانت طبيعة العالقة التي تربطها «الرجل -املر�أة» ،لذا �سنح�رص تركيزنا على جتليات
بذلك «الآ خر» ،وهذا ماعربت عنه ن�صو�ص املجموعة �إ�شكالية العالقة بني املر�أة والرجل من خالل قراءة ذلك
والتي ي�شكل هذا املو�ضوع هاج�س ًا رئي�سي ًا يف معظمها.. عرب منظور �شعري �إبداعي جتلى بو�ضوح يف جمموعة
�إن مامييز �شاعر عن � آخر ،بل مبدع عن � آخر ،هو ر�ؤيته «�أكرث من الالزم» لل�شاعرة ال�شابة �سو�سن العريقي.
للمو�ضوع الذي يج�سده يف عمله الإ بداعي ،وكلما كانت �صدرت جمموعة«�أكرث من الالزم» �أواخر عام 2007م،
تلك«الر�ؤية» التي ينطلق منها املبدع خمتلفة عما هي وكانت املجموعة قد فازت بجائزة اال�ستحقاق الأ دبية
عليه عند غريه ،كلما ح�سب ذلك ل�صاحله و�شكل عالمة من دار نعمان للثقافة يف لبنان ،يف نف�س العام وهي
فارقة يف م�شواره الفني والإ بداعي. تقع يف«� »90صفحة من القطع املتو�سط ،و�ضمت بني
وتناول مو�ضوع العالقة بالآ خر عند ال�شاعرة العريقي دفتيها« »23ن�ص ًا موزع ًا على �أربعة عناوين رئي�سية
ي�شكل عالمة فارقة عندها ومييزها عن غريها من هي:
الأ ديبات الالتي طرقن هذا املو�ضوع �شعراً �أو نرثاً ،فهي -بدون جدران -ت�سعة ن�صو�ص..
تنطلق يف تناولها للمو�ضوع -العالقة بالآ خر -من -يد واحدة� -سبعة ن�صو�ص..
قاعدة الوعي والإ دراك لطبيعة الإ �شكالية بني الطرفني ،لذا -ليالن -ثالثة ن�صو�ص..
جندها تتجه نحو تو�صيف جوهر الإ �شكالية يف العالقة -تق�شري� -أربعة ن�صو�ص..
287 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
عربي» التي �سبقت الإ �شارة �إليها. بينهما ،ففي ق�صيدة«مقا�س عربي» تقول ال�شاعرة:
والأ مر اليقت�رص على الق�صيدتني التي ا�ست�شهدنا بنماذج ادخل يف كينونة احللم املمتد /براكني �ضوئية /يف
منهما ،ولكن هاج�س �إ�شكالية العالقة مع «الآ خر» جنده دهاليزك /لكني �أتعرث /ب�أزمنتك الظامئة �/إىل �إعادة
يف �أكرث من ن�ص يف املجموعة ،فهو يكاد �أن ي�شكل �صياغتي /على مقا�سك �/أتعرث بقامة رجولتك /التي
القا�سم امل�شرتك لعدد غري قليل من ق�صائد �أو ن�صو�ص جتلدك /قبل �أن جتلدين..
املجموعة. �إن �إ�شكالية العالقة مع الآ خر-الرجل ،كما ت�شخ�صها
ويف مواجهة نظرة«الآ خر» جتاه ال�شاعرة-املر�أة -بكل �سو�سن العريقي يف املقطع ال�سابق تكمن يف �أمرين؛ الأ ول:
عنا�رصها ومفرداتها �سابقة الذكر ،جند �أن ال�شاعرة ان الآ خر«الرجل» اليتعامل مع املر�أة بهويتها وكينونتها
التخ�ضع لتلك النظرة �أو ت�ست�سلم مل�شيئة الآ خر ،ورغبته امل�ستقلة بذاتها ،و�إمنا يرغب يف �إعادة ت�شكيلها وفق ًا
يف �إعادة �صياغتها ،و�إمنا تعرب عن رف�ضها لتلك النظرة ملعايريه هو ونظرته �إليها ..والأ مر الثاين :ان مفهوم �أو
القا�رصة ومتردها على رغبات الآ خر التي تنتق�ص من معيار«الرجولة» عند الآ خر ،ي�شكل عبئ ًا عليه هو ذاته قبل
هويتها وكينونتها ،ففي ق�صيدة«عني �سحرية» تعرب عن �أن يكون عبئ ًا على«املر�أة».
رف�ضها ملحاولة الآ خر امتالك املا�ضي بقولها« :ي�أبى �إن الآ خر«الرجل» يف هذه الق�صيدة لي�س �شخ�ص ًا حمدداً
�ضعفي �أن يبوح بانك�ساره» وت�ؤكد ذلك الرف�ض بعبارة له عالقة ماب�شخ�ص ال�شاعرة ،ولكنه الرجل ب�صفة عامة،
«ذاكرتي /..التي �أعلنت متردها..».. �أي رجل كان يف جمتمعنا العربي ،فعنوان الق�صيدة الذي
ويتجلى التمرد بو�ضوح يف ال�سطور التالية: اختارته ال�شاعرة بعناية فائقة «مقيا�س عربي» ،قد
�أتخلى عن انحداري /يف تقم�صي دور /اليليق ب�صدقي جاء ليح�رص الأ زمة �أو الإ �شكالية بني الطرفني املعادلة
�/أظل واقفة/ ..حتى التبتلعني الكرا�سي /امل�أهولة احلياتية «الرجل -املر�أة» يف �إطار جغرايف حمدد
بال�شك.. هوالبالد العربية..
�إن �ألفاظ مثل«ي�أبى/متردها/اليليق ب�صدقي�/أظل واليقت�رص الأ مر على حماولة الآ خر«الرجل» �إعادة ت�شكيل
واقفة /حتى التبتلعني »..جميعها ج�سدت موقف ال�شاعرة �شخ�ص املر�أة على مزاجه ،بل �أن هناك متظهرات �أخرى
من نظرة و�سلوك الآ خر جتاهها ،ويف ق�صيدة«مقا�س تكون عنا�رص �أو جزئيات لإ �شكالية العالقة بني الطرفني
عربي» �أي�ض ًا تعرب ال�شاعرة عن رف�ضها ملحاولة«الآ خر» م�صدرها الآ خر «الرجل» ،ومنها حماولة امتالك املا�ضي،
�إعادة �صياغتها على مقا�سه مع االختالف يف الأ �سلوب التجاهل ،وال�شك ..تلك اجلزئيات عربت عنها ال�شاعرة يف
التي تعرب من خالله عن رف�ضها فنجدها بعد �أن �شخ�صت عدة ق�صائد �ضمتها املجموعة ،ففي الق�صيدة الأ وىل يف
جوهر الإ �شكالية يف العالقة مع الآ خر«يف املقطع الأ ول املجموعة «عني �سحرية» تناولت ال�شاعرة تلك اجلزئيات
الذي ا�ست�شهدنا به» تقول: الثالث حيث تقول:
لذلك� / ..ألوذ بامل�سافات القريبة /من بوابة الن�سيان حني ت�شتعل يف خيالك /لهفة التفا�صيل/وت�رص على
/اتكوم �ضوءاً يطهرين /من مياهك الآ �سنة �/أ�ستعيد امتالك مافات /ي�أبى �ضعفي �أن يبوح بانك�ساره /ترتاكم
�أنفا�سي �/أمللم ماتبقى من حوا�سي /ا�ستفي�ض ندا ًء يف عينيك /ق�سوة التجاهل /متعن يف ايقاظ ذاكرتي /
متو�س ًال /ملحكمة القلب الطينية �/أن تنفي دمي /من التي �أعلنت متردها�/ ..أتخلى عن انحداري /يف تقم�صي
�سطوة خالياك دور /اليليق ب�صدقي �/أظل واقفة/ ..حتى التبتلعني
ال�شاعرة هنا تعرب عن رف�ضها ملحاولة �إعادة �صياغتها الكرا�سي /امل�أهولة بال�شك/ ..ف�أجد �أن المفر من الهرب
باللجوء �إىل الن�سيان حيناً«�ألوذ بامل�سافات القريبة /من /بعد مات�أكد يل � /أنك �ستزرع يف باب حياتي /ماي�شبه
بوابة الن�سيان» وحين ًا � آخر بالتطهر من ت�أثري الفكرة التي العني ال�سحرية!..
يحملها الآ خر جتاهها «اتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك يف هذه الق�صيدة كثفت ال�شاعرة �إح�سا�سها بالإ �شكالية يف
الآ �سنة» ،ومرة ثالثة بالتو�سل �إىل القلب -العاطفة - عالقتها مع الآ خر«الرجل» ،وجمعت �أكرب قدر من عنا�رص
لتحريرها من �سطوته «ا�ستفي�ض ندا ًء متو�س ًال /ملحكمة �أو مفردات الإ �شكالية يف تلك العالقة«امتالك مافات/
القلب الطينية� ..إلخ». التجاهل/ال�شك »..م�ستثنية م�س�ألة رغبة الآ خر يف �إعادة
ان مترد ال�شاعرة ورف�ضها لنظرة الآ خر جتاهها بقدر �صياغتها على مقا�سه وهو ماخ�ص�صت له ق�صيدة «مقا�س
288 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
مثل «ارحل اليك /اعانق فيك /اتغلغل فيك » ..وغريها ماهي رد فعل طبيعي جتاه �سلوك وتفكري الآ خر نحوها،
من االلفاظ امل�شابهة قد عك�ست توقع ال�شاعرة �إىل �شكل �إال انه رد فعل واع وعقالين ،لذا مل جند ال�شاعرة مبقابل
العالقة التي تتمناها مع الآ خر ،فالآ خر ن�صف ذاتها التي تلك النظرة ت�سعى �إىل فك االرتباط بالآ خر �أو التخل�ص
ت�سعى �إليها لت�صل �إىل االكتمال ،وهذا ماتقوله ال�شاعرة من العالقة االن�سانية التي تربطها به ،بل جندها تختم
يف �أكرث من ق�صيدة وبالذات � آخر ق�صائد املجموعة والتي ق�صيدة «مقا�س عربي» بالت�أكيد على ا�ستمرارية العالقة
حملت عنوان «هطول» ..ففي هذه الق�صيدة جندها تلح بني الطرفني وبقائها -:
على ت�أكيد ذلك املعنى �أو تلك الفكرة كقولها : ( اتهجاك� / ...أدخل مرة �أخرى /يف كينونة احللم املمتد
( دائم ًا معك /..تغرقني � آهات التمني �/أترقب هطولك /براكني �ضوئية يف دهاليزك/..لكني هذه املرة /ال
املالئكي /يف جوانحي /كي اتوهج /كي احيا العمر يف اتعرث �/إال بظلي االعمى /الذي ي�سبقني �إليك!! ..
ان ادراك ال�شاعرة ل�صريورة العالقة بني طريف املعادلة
حلظة
احلياتية «الرجل -املر�أة» �ساعدها على بلورة ر�ؤيتها
�أو كقولها« :االقمار تن�أى عن مدن الغياب و�أنا �أحمل للعالقة مع الآ خر ،فكما انها مل ت�سع �إىل فك االرتباط به،
عينيك قمراً لأ �ستعيد ح�ضوري » �أي�ض ًا جندها الت�سعى �إىل �إعادة �صياغته وفق ر�ؤيتها �أو
وخال�صة القول :ان ال�شاعرة �سو�سن العريقي ا�ستطاعت ح�سب رغبتها ،ولو حتى من منطلق رد الفعل على رغبته
يف مو�ضوع العالقة بني الرجل واملر�أة ،ونظرة املجتمع للقيام بذلك معها ،وامنا تن�شد مفهوم ًا � آخر لعالقتها معه،
�إىل «املر�أة » و�إىل عالقتها بالرجل ،ان تقدم ر�ؤية مغايرة عالقة تقوم على �أ�سا�س من التكامل والتماهي امل�ؤطر
عماهو �سائد وم�ألوف ،وان تقدم �أي�ض ًا بدي ًال من�شوداً ملا بالعاطفة -احلب -وجت�سد ر�ؤيتها تلك يف �أكرث من
ينبغي ان تكون عليه العالقة بني الطرفني ..تلك الر�ؤية ق�صيدة ،ففي ق�صيدة «اكت�شاف» بعد �أن تقر ال�شاعرة
املغايرة مو�ضوعي ًا قد � آزرتها ر�ؤية فنية �أي�ضاً� ،إذ �أن با�ستحالة القطيعة مع الآ خر �أو االبتعاد الكلي عنه.
ال�شاعرة ج�سدت م�شاعرها ور�ؤاها �سواء يف هذا املو�ضوع ( �أرحل عنك/ ..متزقني النداءات /يف ف�ضاءات احلرية ..
�أم يف غريه من مو�ضوعات الق�صائد الأ خرى عرب �أ�سلوب )
فني يعتمد كثرياً على ال�صور ال�شعرية مبختلف ا�شكالها بعد اقرارها بذلك تتجه نحو ت�أكيد �صريورة العالقة بني
اجلزئية والكلية ،وبر�ؤية حديثة يف ر�سم ال�صور والعنا�رص الطرفني وا�ستمراريتها وفق ًا لر�ؤية التقوم على قاعدة
املكونة لها ،وهو الأ مر الذي يحتاج �إىل قراءة خا�صة التابع واملتبوع ،فتقول :
به كون ال�شاعرة تعول على ال�صورة �أكرث من املو�سيقى «اعانق فيك /زحمة الت�سا�ؤل �/أ�سبح يف �سطور /متاهت
ال�شعرية والتي مل تخل املجموعة منها وان كانت ال�سمة �أوردتها يف عمق حنيني �/أ�ستعيد ذاتي بك /الت�صق
الغالبة على الن�صو�ص هي ق�صيدة النرث. بركامي فيك /فتتقاطر /حناناً/ ..ظ ًال /و�ضوءاً!! ...
لقد متيزت ال�شاعرة يف تناولها ملو�ضوع العالقة مع ال�شاعرة يف هذا املقطع تنظر �إىل «الآ خر» باعتباره
الآ خر با�ستيعابها لال�شكاليات القائمة يف الوعي اجلمعي عن�رص تكامل مع وجودها وكينونتها ،فهي ت�ستعيد
ذاتها من خالل عالقتها به ،عالقة تقوم على التماهي
جتاه ق�ضية املر�أة وق�ضية العالقة بني طريف املعادلة
معه «ا�سبح يف �سطور /متاهت �أوردتها يف عمق حنيني»،
احلياتية ،وبالتايل ف�إنها عندما طرقت املو�ضوع �إمنا وهو ماينتج عنه �أن يتحول الآ خر يف حلظة التماهي معها
انطلقت من التجربة والوعي معاً ،لذا وجدنا تناولها �إىل دفقات من حنان وظل و�ضوء «الت�صق بركامي فيك/
للمو�ضوع يت�سم بالعقالنية ،كما وجدناها ت�سعى �إىل فتتقاطر /حناناً /ظالً /و�ضوءاً ».
تقدمي البديل ملاينبغي ان تكون عليه العالقة بني ان التوحد بالآ خر والتكامل معه على دروب احلياة هو
الطرفني ،ومل تنزلق يف �رشك ردود الأ فعال العنيفة جتاه ماتن�شده ال�شاعرة وتعمل على ت�أكيده يف �أكرث من ق�صيدة،
«الآ خر» �أو االنفعاالت العاطفية التي تخدم «االنا» على ففي ق�صيدة «اكت�شاف» �سابقة الذكر تقول :
ح�ساب «الآ خر»� ،إمنا اعتمدت الر�ؤية والهدوء يف قول «�أرحل �إليك / ..بريق ًا يتناثر /يف م�ساحات التوحد»
ماتريد واثبات هويتها وكينونتها وحقها يف احلياة مع فت�ؤكد �سعيها �إىل �أن تكون العالقة مع الآ خر «توحد»،
الآ خر نداً لند ،وح�سبها ذلك توفيق ًا يف هذا االجتاه. اندغام يبنى على التكاف ؤ� والتكامل ،لذا ف�إن الفاظ ًا
289 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
«تنبع جوهرية الفكرة التي جاءت عنوانا «ال ميكن الوثوق بال�شعر» هو عنوان كتاب
للكتاب ،جلهة �إثارتها ملفهوم املعيار ال�شعري. نقدي لل�شاعر والناقد ال�سوري عهد فا�ضل
فقد د�أب النقاد وال�شعراء ،على حد �سواء على يتناول من خالله ال�شعر العربي اجلديد.
التعامل مع مو�ضوع املعيار من منطلق ير�صد فا�ضل يف الكتاب الذي يت�ألف من
الوثوقية يف كثري من الأ حيان .هذه الوثوقية
34مقالة منف�صلة عن بع�ضها البع�ض ن�رش
جعلت من ق�ضية املبادالت النقدية �أمرا بالغ
ق�سم كبري منها يف ال�صحافة اليومية وحتمل
ال�صعوبة .وقيمة املبادالت النقدية �إنها ت�سمح
للمعيار الذي تعر�ض للتغييب ،حتت م�سميات كل واحدة منها عنوان ًا خا�ص ًا بها «حقيقة
�شتى� ،أن يظهر ويرتك �أثرا يف احلركة الأ دبية. النق�ص ،عودة الغنائية� ،أ�سئلة ال�شعر تواجه
هكذا تفهم التغريات اجلوهرية التي ت�سم �سكون العامل ،التخييل� ،شعرية الفقدان ،خلخلة
حركات التغيري الأ دبي .و�إال كيف ميكن فهم النموذج ال�سائد ،اجلغرايف واللغوي ،اال�ستثمار
قبول معيار الآ ن ،بينما كان يتعر�ض للرف�ض ال�سيا�سي لل�شعر ،احلكاية توحّ د عامل الق�صيدة،
والأ بعاد يف زمن ما�ض؟ الرف�ض ،هناك، االنرتنت والأ دب� ،أزمة جيل ال�سبعينات ،رحلة
والقبول ،هنا ،هو املبادلة النقدية ،وهي قيمة الطائر املجازية ،اليقني والقلق ،هادي دانيال
االختبار الأ دبي« . وجدار التفعيلة ،اليومي والأ �سطوري ،التعبري
وال�شكل الفني� ،أجيال �شعرية جديدة ،ق�صائد
ويبني مدى �أهمية االختالف يف طرائق كتابة
ال�شعرية ويعطي احلق لل�شاعر يف �أن ينقلب للحب ،قيمة الت�شتت ،قلق الهوية ،دم�شق
على نف�سه يف كل كتاب �شعري �أو حتى يف كل املفقودة� ،أ�صوات تخرتق املكان ،عالقة مع
ق�صيدة له لأ ن كل ق�صيدة تترب�أ ال�شعرية من املكان ،ال�صداقة وال�شعر ،ال�شعر واملنفى،
�أدواتها ،وتخون م�سمياتها يف �أحيان كثرية الأ بيقوري الغريب ،يف هجاء هذا الكوكب،
فمن املعروف �أن ال�شعرية ال ت�ؤمن بالقانون ال ميكن الوثوق بال�شعر ،الأ نا ب�صفتها جزءا
واحلتميات و�أن �صياغة ا�ستمرار ال�شعرية من التاريخ ،البحث عن الق�صيدة ،التوقيعات،
�ضمن مفهوم الإ عادة والتكرار يفقد نكهة املثال ال�شعري ،جماليات ال�شعر اليمني اجلديد،
اللذة الع�صية والغام�ضة يف الكتابة« .ال�شعر موازاة املخترب ال�شعري».
ال يتكرر ،بل يتجدد ،يف � آلية ع�صية غري قابلة يناق�ش الكاتب �شعر �أكرث من خم�سة و�أربعني
للتو�ضيح �إال من خالل الأ ثر» �ص 8 �شاعراً عربي ًا معا�رصاً يحاول فيها البحث يف
يت�ضح هذه ب�شكل وا�ضح وقوي يف ال�شعر ال�شاعرية اجلديدة التي ظهرت يف � آفاق ال�شعر
العربي اجلديد ,نتلم�س ذلك ب�شكل ملفت يف العربي اجلديد وجذور ومنابع هذه ال�شاعرية
ق�صيدة النرث وق�صيدة التفعيلة ففي النرث جتدد مو�ضح ًا يف مقدمة الكتاب الأ �سباب التي
ال�شكل واملحتوى ح�سب ما يريد ال�شاعر ويف دفعته �إىل �أن يكتب كتاب ًا من هذا النوع:
290 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
بالتاريخ يعني ،يف ال�سياق الغربي ،ا�ستلهام التفعيلة يتغري ال�شكل بني البحور والنرث ليمنح
اجلذر اليوناين ،وتغري املفهوم لي�صبح عالقة �شكال حيويا �أكرب يف �إي�صال املحتوى :
بني املعرفة والتاريخ. «يف كل ق�صيدة ،رمبا يف كل لقطة �أو �صورة.
يف كتاب ال�شاعر جوزيف عي�ساوي يتجلى من خالل كل كتاب تتغري ال�شعرية ،وتتوقف
هذا الإ ح�سا�س من ارتهان جلذره املفهومي، م�ؤقتا ،ولوهلة ،عند الن�ص ثم ال تلبث �أن
بل يظهر نف�سه �شعرياً ،يف �سياق من الت�أرجح تت�رسب �إىل الن�ص الثاين� ،أو الن�ص الآ خر .هنا
بني متجيد العامل وال�سخط عليه .هذا الت�أرجح ال ميكن الوثوق بال�شعر �إال كاحتمال مفتوح
هو العالمة الدالة على طبيعة تلك العالقة�« ،ص على نق�ض نف�سه� ».ص10
32-31 ويتحدث عن �أهمية الزمن وفقدانه يف ال�شعر
يتناول الناقد جمموعة من الق�ضايا التي مت�س حيث يحلل ذلك �إىل عوامل :الذاكرة والفقدان
روح ال�شعر يف الق�صيدة ويبني مدى �أهمية كل والت�ضاد ,ويعترب الزمن النربا�س الذي يعك�س
عن�رص منها يف بناء الق�صيدة ويطلعنا على العالقة بني املعرفة والتاريخ من ناحية وبني
�أ�رسار وخفايا ونقاط مت�شابكة باال�شتغال ال�شعر واالجتماع من ناحية �أخرى م�ستنداً
داخل حقل الق�صيدة من عدد من املجموعات يف تناوله على مقولة (الإ ح�سا�س الهيغلي
ال�شعرية من خمتلف البلدان الناطقة بالعربية بالثنائيات وي�سميه الوعي ال�شقي) وبالإ �ضافة
ومن ه�ؤالء ال�شعراء� :أدوني�س ,عبد املنعم �إىل � آراء بع�ض النقاد كهارولد بلوم و�إح�سان
رم�ضان� ،سامر �أبو هوا�ش ،حممد املزروعي، عبا�س التي ي�ؤكد من خاللها �أنها �أحد عنا�رص
فوزي ميني ،ناظم ال�سيد ،هادي دانيال و�أحمد املهمة التي ترافق التطور يف الن�ص ال�شعري
الوا�صل. وهو ما تتميز به التجارب ال�شعرية القوية.
بالإ �ضافة �إىل �أ�سماء �أخرى يتناول كل منها �إنه ير�صد من خالل هذا املفهوم التجارب
على حدة مبنظوره النقدي اخلا�ص. ال�شعرية يف الت�سعينيات حيث ق�سم كبري من
يقع الكتاب �ضمن �سل�سلة من الكتب النقدية تلك التجارب تفتقد هذه العن�رص الهام ويتناول
اجلديدة التي حتاول الت�أ�سي�س ل�شعر عربي داخل هذا املفهوم كتاب لل�شاعر جوزيف
جديد وحديث يف الوقت نف�سه دون االن�سياق عي�ساوي يحمل عنوان «�شاي لوقاحة ال�شاعر»
متام ًا خلف الفهم الغربي ولكن مع االحتفاظ ويرى فا�ضل ب�أن ال�شاعر جنح يف حتقيق هذه
مب�سافة كافية عن ال�شعر العربي الكال�سيكي املالمح �ضمن حقول ق�صائد.
ونقده االنطباعي. «يعك�س االح�سا�س الطاغي بالوقت والزمن،
الكتاب من �إ�صدارات وزارة الثقافة وال�سياحة وهو االح�سا�س الذي عرب عنه «غوته» يف
يف اليمن ويقع يف � 318صفحة من القطع «احلقيقة وال�شعر» ب�أنه من مميزات ال�شعر.
الو�سط. ومن املعروف �أن مفهوم الإ ح�سا�س الكبري
اخلن�ساء ووالدة وماري ها�سكل وفروخ فرخزاد ال�رشفة لي�س �شمعة �أو نارا �أو قنديال لتطف�أ،مكان
و�شمبو�سكا ودوناتيال بيزوتي. يت�سع للأ لفة واحلنني،مت�شبع بهواء يخرج من غابة
�سنبحث يف ليل م�سالك املتخيل عن ق�صيدة ال ت�أوي القلب نقيا بدون دخان مدف�أة.يف �إطفاء ال�رشفة
لبيتها باكرا،ت ع�شق الت�رشد والتجول وال�سفر، دخول يف العتمة�،سفر يف الظلمة والتيه،ال�رشفة
والت�سكع يف املقاهي ،واملنتزهات واحلدائق بو�صلة الروح حني تغيب ال�سنونوات يف رحلة
العمومية ،متمردة على كل الو�صايا والقوانني م�ستعجلة لأ ق�صى فلوات املعنى ،وهي الذاهبة بنية
القبلية التي حتد من جموح حريتها. العودة بعد هجرة ق�صرية.
ممُ ْ عِنة يف احت�ضان كائناتها بعناية كبرية ،ك�أنها ملاذا �إ�سناد ال�رشفة للعتمة؟ ومن ال�رشفة نطل على
تخاف من فقدها �أو تال�شيها �أو ن�سيانها ،و�ضمن العامل والكائنات والذات ،ذواتنا املوزعة يف ذوات
هذا الإ ح�سا�س الرتاجيدي ،تُقيم خملوقاتها يف �أخرى ،ذات الكتابة ،ذات اجلنون بقلق الإ بداع،
الق�صيدة خوفا من حر ال�صيف وقر ال�شتاء� .إقامة ذات الإ ن�صات ملخلوقات �صغرية ت�شتكي �أملها
تحُ ارب منفى اله�شا�شة ولو وقتيا،ال ت�شيخ يف ب�صمت لت�ستنفر ذائقتنا لنخون ن�سيانها باللغة �أو
عنادها مع حماورة الكائنات.تقول ال�شاعرة عائ�شة الق�صيدة.
الب�رصي يف ق�صيدة(�صقيع): فال�رشفة لي�س معطى مكانيا مفتوحا فقط ،بل هي
مد يدك، �رشفة اللغة حني تطل منها الذات ال�شاعرة على
اقطفني، حرائقها وحدائقها ال�رسية لبناء دالها الن�صي عرب
ف�أنا بوابة التماهي مع الكائنات.
زهرة الرباري وك�أنها تكتب ن�شيدها ال�شعري م�ستمدة عمق
ال �أحتمل كينونتها الإ بداعية من الكتابة والوجود واحلياة
تعاقب الف�صول منت�شية باللغة /امل�أوى ،مبتهجة بالق�صيدة/
............... امل�سكن ،وك�أن هذا العبور تعلن عن نف�سه �إ�سرتاتيجية
............... تعي اختياراتها اجلمالية .
يدك الباردة بمِ حبة الق�صيدة �إن�صاتا لأ �رسارها اخلبيئة يف �أق�صى
كال�صقيع، زاوية من املخيلة وجتاويف الذات ال�شاعرة،تلتم�س
من بعيد القراءة عمق املعا�رشة الهادئة لق�صائد تنمو �رسيعا
ترجفني. كزهر ال�صبار وهي تتهي أ� ل�صنع َفرَحِ هَا اخلا�ص
�إن فعل القطف يحيل رمزيا على اخلوف من ال�شيخوخة بن�شوة الإ بحار يف اللغة �سفرا ،والكتابة مالذاً.
وال�سقوط والتال�شي والغياب والفناء،واخلوف والبد �أن تكون ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي من �ساللة
من دورة الف�صول وتعاقبها،وانتظار الزمن �شعرية متجذرة بعمق يف تُربة ال�شعر الكوين ت�ضم
292 نزوى العدد / 61يناير 2010
متابعـــات ..متابعـــات ..متابعـــات
s
s
s
اململ يجعل عملية املد(مد اليد) ال�سبيل احلقيقي �أبي العالء املعري
للإ ح�سا�س بالدفء واالطمئنان.يف هذه الق�صيدة
خفف الوطء ما�أظنُّ �أدمي الأ ر ِ
بالذات توظف ال�شاعرة الق�صيدة البيا�ض،وك�أنها
�ض �إال من هذه الأ ج�سا ِد ت�رشك القارئ واملتلقي يف عملية �إنتاج الن�ص�.إنها
دميقراطية الإ بداع ،والفراغات منت � آخر يقر�أ بالعني وقبيحٌ بنا ،و�إن قدم العهـ
د ،هوان الآ باء والأ جدا ِد وبحا�سة القلب وحد�س الب�صرية.
حمرقة قاتلة تدلك عليها ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي �رس �إن ا�ستطعت يف الهواء رويداً
ال اختيا ًال على رفات العبا ِد و�أنت مُ قبل على قراءة ق�صيدتها ،وهج باللغة ،
وتوهج باملتخيل� ،سفر �شفيف ت�ؤثثه الكلمات ،متيل ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي يف عاملها ال�شعري
ال مكان فيه للفو�ضى ،دقة يف اختيار الكلمات �إىل احلفر يف اجل�سد كما يف الكون باحثة عن ق�صيدة
واملفردات ،كما يختار عا�شق حلبيبته مزهرية ورد طازجة مفعمة مباء اللغة واحلياة �،شاعرة تك�شف
ه�شا�شة الكائنات بيد تر�سم العامل. غياب.
طري بعد طول ٍ
هذا الف�سيف�ساء الباذخ يف الن�ص هو ما يجعلك تحَ ن يف اجتاه خلق ق�صيدة ،ب�إ�رشاقاتها،بفورانها،
لق�صيدتها�،أو تئن من املخاطرة يف ن�سج عالقة بهجومها املبكر على الذات ال�شاعرة.
�صداقة معها�.صداقة يفتحها املرئي والهام�شي ينه�ض املنجز الن�صي لعائ�شة الب�رصي على
والعاطفي واملن�سي واليومي واجلواين ب�ألفة ت�ضيق اال�ستمرار يف مقاومة فداحة العزلة من خالل فعل
بها العبارة �إذا ات�سعت الر�ؤيا .تقول ال�شاعرة يف الكتابة ال�شعرية.
تقول يف ق�صيدة (قمر) ق�صيدة(خ�شوع) :
�أكلما اكتمل حاذر
هذا القمر ي�رص �ضع حذاءك
على النوم على عتبة القلب
يف �رشفتي... حاذر،
وال يخجل. حتت رماد
بهذا املعنى ،تنخرط الكتابة ال�شعرية يف ت�أ�سي�س اجل�سد
متخيلها عرب االنت�ساب للزمن الوجودي الآ �رس.الليل رفات �أحبة
كزمن �صمت،هدوء�،إن�صات الذات لفورانها اختاروا املوت
ك�أنها تُعيد ترتيب طفولة اللغة التي ق�صت جدائلها
يف الذاكرة
يف منت�صف الغواية� ،أو قبل قليل بِحُ لم ت�شيده رق�صة
فاخرتت ملرثياتهم
الغجر على بعد ميل من �شهقة الهواء.
بيا�ضات
الهوام�ش �صمتي.
هنا يح�رض الن�ص الغائب �أو هجرة الن�ص يف املنت -1عائ�شة الب�رصي� ،رشفة مطف�أة ،دار الثقافة ،الدار البي�ضاء ،ط،1
�، 2004ص1-41
ال�شعري عند ال�شاعرة عائ�شة الب�رصي الذي يحيل -2ن.م�.س�،ص .42
على الأ بيات ال�شعرية ال�شهرية للفيل�سوف ال�شاعر -3ن.م�.س�،ص .27
s
s
s
ُغي
الكتابة ..التي ت رِّ
تتعمد بع�ض الدول �أال تعطي للكاتب قيمة ،بل� ،إذا �أعطته بع�ض ًا من تلك القيمة (�أو �أخذها هو) فهو يف
حمل �ضعف وهوان حيث بيدها خيوط اللعبة.
وهنا ،نتحدث عن الدول العربية ،بالأ خ�ص �أكرث من غريها -تتعمد (رمبا ،بق�صد) و�ضع الكاتب يف هذه
الزاوية ،من منطلق� ،أن للكتابة حياة وجتريب ًا ومغامرة وك�شف ًا وبوح ًا وف�ضح ًا وتغيرياً.
الكتابة ،هنا ،هناك( ..املفرت�ض) �أينما تكون ،تلك التي تذهب بعيداً يف اال�ستثناء واخللق والتجديد
والبناء ،التي ال يراد لها( ،لدينا) �أن تكون لها حياة.
لهذا ،تظهر اخليارات (املتاحة) امام الكاتب يف �أفق �ضيق ،وم�ساحة وهواء �أ�ضيق ،ولهذا يتكرر املتكرر،
وال جديد ،حتت كل �شم�س جديدة.
فما دام من يحدد اخليارات هو ال�سلطة ..وال�سلطة العربية قد حددت �سقفها �سلف ًا من الكاتب والكتابة
املغايرة.
�إذا� ،أ�سفل ذلك ال�سقف الكا�شف لذاتهَ ،ت ْذبُل كل كتابة مهما كانت نوعيتها (نرث� ،شعر ،الكتابة
ب�أنواعها).
يف هذه امل�سافة ال�ضيقة ،ت�ضيق الكلمات بكاتبها ،وت�صل به �إىل حالة من الت�أزم ،وتذهب به بعيداً �إىل
«جوانية»� ،أعمق .وهنا ،تتحدد وتت�شكل الكتابة (اجلميلة) يف هذا امل�ضيق بالكتابة الذاتية (ر�سائل
«حقيقية ومتخيلة» و�شطحات «�أناوية») وال�رسد والتبا�ساته وغمو�ضه وكتابة ال�شعر املتلبّ�س �أو املغْرق
يف الرمزية ،التي قد يتعمدها الكاتب وال�شاعر بالهروب �إىل الأ مام من مثلث الرقابات (االجتماعية،
الدينية والر�سمية) املعروفة والتي قد تطال معي�شته �أو رقبته.
تلك الرقابة تنتظر من ُي�ؤججها وير�شدها بالإ �شارات والك�شف والت�أويل ،والقول يف العمل (الكتابي)
بعلم �أو بدونه.
وما دامت كل الأ مة (العربية) ال ت�صنع �إبرة قلم (هي ..ت�صنع اخليوط) فهي بالت�أكيد ،ال حتب مثل هذا
النوع من اال�شتغال املعريف ،لأ نه يناق�ض �سكونية احلال التي تعي�ش فيه منذ زمن طال تدهّ ره.
وحتى �أولئك الكتّاب الذين يعي�شون يف املنايف لي�سوا مبن�أى عن �أ�سوار �أوطانهم اللينة وال�شوكية ،هذا
لي�س انتقا�ص ًا من الكاتب العربي ،همومه وم�شاغله وجهاده واجتهاده ،ولكن ،الكتابة العربية ،رغم،
كل عذاباتها ،الطريق �أمامها طويل ،لت�صل مثل نظرياتها يف �أمريكا اجلنوبية( ،التي هي� ،أقرب �إلينا،
الكتابة التي نحتاج �إليها من �أجل التغيري) لت�صنع تاريخها ومغامراتها وتفّردها وجدّتها ونوعيّتها،
�أمام الطبيعة والديكتاتوريات (ال�صغرية والكبرية).
طالب املعمري
إشـــــــارات
نتوجه اىل الأ�صدقاء الكتاب والأدباء والفنانني ب� أن موادهم
يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين( )Emailيكون على العناوين:
nizwa99@omantel.net.om
nizwa99@nizwa.com
-املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل اىل � أية جهة � أخرى للن�رش و� إال �سنوقف � -آ�سفني -التعامل
مع � أ�صحابها -املواد املر�سلة تكتب بخط وا�ضح � أو تطبع باحلا�سب الآيل .ويف�ضـل � إر�سـالهـا
عـلى قر�ص مدمج � أو بالربيـد االلكتــروين
-ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات
فنيـة و� إخراجية -املواد التي ترد للمجلة ال ترد لأ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش و� أحيانا
تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار.
عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت
www.nizwa.com
طبعت مبطابع :م� ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�رش واالعالن
�ص.ب 974 :م�سقط ،الرمز الربيدي � 112سلطنة عمان ،البدالة24604477 :
فاك�س24699642 :
االعالنات :العمانية لالعالن والعالقات العامة
مبا�رش24699467 -24600482 :
�ص.ب 2202 :روي ،الرمز الربيدي � 112سلطنة عُمان
Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR
PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING
.P.O. Box, 974. Postal Code.. 113. Muscat. Sultanate of Oman
Tel.:24604477 Fax.: 24699643
Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS
Tell.: 24600483, 24699467
P.O. Box 3303. P.C. 112 Ruwi Sultanate of Oman
العـــدد احلــادي وال�ســـتون
يناير 2010م -حمرم 1431هـ