Professional Documents
Culture Documents
الرسول في الدراسات
الستشراقية المنصفة
محمد شريف الشيباني
القسم الوأل
إضاءات استشراقية على السيرة
النبوية
الجزيرة العربية عشية البعثة النبوية
لقد ألهمت شخصية الرسول الكثير من الباحثين ف ي الش رق و الغ رب ،فدرس وا س ماتها
بفيض من المؤلفات الممتي صممورت حيمماة محمممد و تن اولت ج وانب عظمت ه و عبقريت ه ،و ص فة
البطولة الملحمية في سيرته التي انضوت في ثناياها حيمماة الممة ،تجسممدت كحقيقمة تاريخيممة ناصممعة
عبر دعوته التي أحدثت انقلبا في حياة تلك القبائل العربية المتناحرة فعمقتهما ام ةة رائمدةة أخمذت بيمد
2
أمم و شعوب في معارج الرقي و التقدم ،هاديا أيها إلممى سممبيل النممور ،و لممم تلبممث إل ردحمما قصمميرا
حتى انقلبت ثورة عالمية معطاةء خيراة و عدالة و معرفة.
أن عظمة الرسمول البممارزة للعيمان ،تكممن فممي انممه كممان حاممل رسمالة سممماوية توحيديممة ،
شمولية تهدف أساسا ة إلى إصلحا حياة البشرية عامة ،و نقلها من البربرية إلى الوثنية إلممى الحضممارة
التوحيدية اليقينية ..يقول مؤلف "قصة الحضارة" الباحث المريكي وول ديوارنت :
نبيا ة كبيرا ،و توحيديا كامل و لم يكن له نظير جاء لصلحا البشر ((.1 )) كان محمد
و منذ نعومة أظافره تبدت فيه علمات النباهة و النب وغ ،و ظل ت مرافق ةة إي اه ف ي س ائر
أطموار حيماته ،و لمذا شمدت المستشمرقين لدراسمتها ،كمما سمبق أن اسمتوقفت كتماب السميرة النبويمة
المسلمين الذين بحثوا بالتفصيل علئم النبوة و دللتها في حيمماته – عليممه السمملم – بممدءاة مممن مولممده
حتى التحاقه بالرفيق العلى ،بل ذهب الكثير منهم إلى بحث علمات نبوته ،فيما كمان يممتردد حموله
القول بأن امة العرب سيكون لهمما نبيهمما المرتقممب ،و سمميخرج مممن مكممة ،و انممه سمميكون مممن قبيلممة
قريش ،و على وجه التحديد من أسرة بني هاشم.
جزيرة العرب ،خاصة و لها سدانة الكعبة ،و كانت إلى ذلك فرعين :قريممش "البطمماحا" الممتي تسممكن
قلب مكة ،و قريش "الظواهر" التي تقطن الضواحي – و تضم بهما بطون أميمة و نوفمل وزهمرة و
مخزوم و أسد و جمح و سهم و هاشم و تيم و عممدي – و هممي بممذلك تؤلممف أرسممتقراطية المدينممة ،و
تهيمن على مختلف النشطة اقتصاديا و اجتماعيا في أواسط بلد العرب غربها ،ناهيك عما كان لها
من تجارة واسعة مع البلد المجاورة استدعت عقد اتفاقات مع رؤسمائها ،إذ كمانت القوافمل التجاريمة
منظمة ،و تسير بين مكة و بلد الشام و اليمن ،متبعة طريق التجارة الرئيسي المار بمكة .و أكسممبت
قريش – بفضل تعظيم العرب الكعبة و حجمهم إليها – فوائممد اقتصممادية ،و نفمموذاة روحيمما ة و سياسمميا ة
بين القبائل. 2
)) و الحجر السود كان من أهم معبودات العممرب و ل يممزال للن بمكممة فممي البنمماء
المسمى "الكعبة" ،و قد ذكر المؤرخ الروماني "سيسلس" الكعبة فقال :إنها كانت في مدته اشممرف
معابد العالم طراة و أقدمها ،و ذلك قبل الميلد بخميس عامةا ،و قال المؤرخ "سلفستر دي ساسممي" ان
الحجر السود ربما كان من رجوم السماوات ،فإذا صح ذلك فلبد أن أنسانا ة قد بصر بممه سمماقطا ة مممن
الجو ،و الحجر موجود الن في جانب بئر "زمزم" و الكعبة مبنية فوقهما ،و الممبئر – كممما تعلمممون
– منظرا حيثما كان سار و مفرحا ،ينبجس من الحجر الصم كالحياة من الممموت ،فممما بممالكم بهمما إذا
كانت تفيض :
و قد اشتق لها اسمها زمزم من صوت تفجيرها و هديرها ،و العرب تزعمم انهما انبجسمت تحمت
أقدام هاجر و إسماعيل فيضا ة من ا و شفاةء ،و قممد قدسممها العممرب ،و الحجممر السممود ،و ممما شممادوا
عليهما الكعبة منذ ألف السنين .وما أعجب هذه الكعبة و أعجب شأنها ،فهممي فممي هممذه الونممة قائمممة
على قواعدها ،و عليها الكسوة السوداء ،يبلغ ارتفاعها سبعا ة و عشرين ذراعةا ،حولها دائرة مزدوجممة
من العمد ،و بها صفوف من المصابيح ،وبها نقوش وزخارف عجيبة ،و ستوقد تلك المصابيح الليلممة
لتشرق تحت النجوم المشرقة ،فنعم اثر الماضي هي ،و نعم ميراث الغممابر .هممذه كعبممة المسمملمين ،و
من أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب ،و من دلهي إلى مراكش ،تتوجه أبصممار العديممد المجمهممر
من عباد ا المصلين شطرها ،و تهفو قلوبهم نحوها خمس مرات هذا اليوم و كل يوم .نعممم ،لهممي و
ا من اجل مركز المعمورة و اشرف أقطابها ((. 3
)) و إنما من شرف بئر زمزم و قدسية الحجر السود ،و من حج القبائل إلى ذيمماك المكممان،
كان منشأ مدينة مكة .و لقد كانت هذه المدينة وقتا ة ما ذات بال و شأن ،و أن كانت الن فقممدت كممثيراة
من أهميتها .و موقعها من حيث هممي مدينممة سمميء جممدةا .إذ هممي واقعممة فممي بطممن مممن الرض كممثير
الرمال ،وسط هضاب قفرة و تلل مجدبة ،على مسافة بعيدة من البحر ،ثم يمتاز لها جميع ذخائرها
من جهات أخرى ،حتى الخبز .و لكن الذي اضطر إلى إيجاد هذه المدينة هو أن كممثيرا مممن الحجيممج
كان يطلبون المأوى ،ثم أن أماكن الحج ما زالت من قديم الزمان تستدعي التجارة ،فممأول يمموم يلتقممي
فيه الحجيج يلتقي فيه كذلك التجممار و الباعمة .و النمماس حممتى وجممدوا أنفسممهم مجتمعيممن لغممرض مممن
الغراض رأوا انه ل بأس عليهم أن يقضوا كل ممما يعممرض لهممم مممن منممافع و أن لممم يكممن ذلممك فممي
الحسبان ،لذلك صارت مكة سوق بلد العرب باجمعها ،و المركز لكل من كان من التجار بين الهنممد
و بين الشام و مصر و بين إيطالية ،و قد بلغ سكانها في حين من الحيان مائة ألف نسمة بين بائعين
و مشممترين و ممموردين لبضممائع الشممرق و الغممرب و باعممة للمممأكولت و الغلل ،و كممانت حكومتهمما
ضربا من الجمهورية الرستقراطية عليها صبغة دينية ،و ذلك أنهم كانوا ينتخبون لها عشممرة رجمال
من قبيلة عظمى ،فيكون هؤلء حكام مكة و حراس الكعبة.
و كانت الكعبة لقريش في عهد محمد ،و أسرة محمد من قبيلة قريممش ،و كممان سممائر المممة
مبددةا في أنحاء تلك الرمال قبائل تفصلها بين الواحدة و الخرى البيد و القفار ،و على كل قبيلة أمير
أو أمراء ،و ربما كان المير راعيا أو ناقل أمتعة ،و يكممون فممي الغممالب غازيمما .و كممانت الحممرب ل
تخمد بين بعض هذه القبائل و بعضها الخر .و لم يك يؤلف بينهم حلممف علنممي إل التقممائهم بالكعبممة،
حيث كان يجمعهم على اختلف و ثنياتهم مذهب واحد ،و هي رابطة الدم و اللغة((. 4
يقول المستشرق الهولندي رينهارت دوزي ) (1884-1820مؤلف تاريخ الدولة السلمية فممي
الندلس و المغرب ،و مدرسة اللغة العربية في ليدن ،يقول في في مؤلفه "عرب أسبانية" :
)) كان يوجد على عهد محمد في بلد العرب ثلث ديانات :الموسوية و العيسوية و الوثنية((.
ثم مضى الباحث باسطا ة عادات الوثنين الذميمة حتى انتهى الى القول :
)) في عهد هذه الحوال الحالكة ،ووسط هذا الجيل الشديد الوطأة ،ولممد محمممد بممن عبممد امم فممي
شهر أغسطس 29منه عام ،570من هذا نممرى أن العممالم النسمماني كممان بحاجممة الممى حممادث جلممل
يزعج الناس عما كانوا فيه ،و يضطرهم الى النظمر و التفكيمر فمي اممر الخمروج م ن الممأزق المذي
تورطوا به ((. 5
و لقد كتب باحث غربي عن الوضع الذي آلت أليه الحضارة النسانية قبل ضهور الممدعوى
السلمية بقوله :
)) في القرنين الخامس و السادس ،كان العالم المتمدين ،على شفا السقوط في هاوية
الفوضى ،لن العقائد التي تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ،و لم يك ثمة ما يعتممد بممه مممما
يقوم مقامها و كان يبدو وقتئذ أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤهمما جهمود أربعممة ألف سممنة مشممرفة
على التفكك و النحلل ،و أن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليممه مممن الهمجيممة إذ أن
القبائل تتحارب و تتناحر ،فل قانون و ل نظام .أما النظم التي خلفتهمما المسمميحية فكممانت تعمممل علممى
التفرقة و النهيار ،بدل من التحاد و النظام فكانت المدينة التي تشبه شممجرة ضممخمة متفرعممة ،امتممد
ظلها إلى العالم كله ،واقفة تترنح ،و قد تسرب إليها العطب حتى اللباب ،و بين مظمماهر هممذا الفسمماد
الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم المعروف جميعه ((. 6
اهتم المستشرقون بأوضاع شبه الجزيممرة العربيممة قبممل عموممما ة و بالوثنيممة العربيممة خصوصممةا ،يقممول
الدكتور جواد علي :
)) و قد عنممي المستشممرقون بهممذا الموضمموع ،فكتبمموا بحوثمما فيممه .و مممن هممولء )ولهمموزن(
J.Wellhausenص احب كت اب )بقاي ا الوثني ة العربي ة( Arabischen Heidentumsو
)دتلف نيلسن( Detlef Nielsonو )لودولف كريل( Ludolf Krehlو غيرهم.
و لقد اعتمد )ولهوزن( على ما نقلممه )يمماقوت الحمممودي( مممن كتمماب الصممنام الممذي لممم يكممن
مطبوعا ة و ل معروفا ة ايام ألف )ولهوزن( كتابه عن الوثنية العربية.
و يعد كتاب )ولهوزن( أوسع مؤلف في موضوعه كتبه مستشروق عن الوثنية العربية ،إنممما
تبعته حديثا ة جملة بحوث عن الصنام العربية ،إنما تبعته حدثيا جملة بحمموث عممن الصممنام العربيممة
التي عثر عليها في الكتابات مما فات ذكراها في كتاب )ولوزن( ،لن أكثر النصمموص الجاهليممة لممم
تكن قد نشرت يومئذ ،و بدهيا ة لم يكن في اسممتطاعة هممذا الرجممل أن يبحممث بشمميء مممن التفصمميل فممي
الوثنية ببلد العرب الجنوبية .و لذا كممان أكممثر ممما جمماء فممي كتمماب )ولهمموزن( مسممتمداة مممن روايممات
الخباريين ،و لذا كان ضروريا إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو و أمثاله ،لنحصل على
صورة شاملة عن أديان الغرب قبل السلم((. 7
و كان للوضع القبلي علقة بعبادة الصممنام ،فاللهممة الجاهليممة كمانت آلهمة قبليمة ،و عبادتهمما
عبادة متوارثة ،فالصنم هو رمز القبيلة و ممثل الوحدة بين أفرادهما ،و الموكمل بالمدفاع عنماه ،و لمذا
عبده البناء أخذا من الباء .و كان أي خروج عن عبادة صممنم القبيلممة يعنممي الخممروج عممن إرادتهمما،
وأي تشكيك بهذا المعبود يعني تفكيكا ة لوحتها ..و التي هي إدارة شيوخ القبيلة و ساداتها.
)) نعم كان في إمكان أصحاب الكلمة و السيادة و الرئاسة تغيير أصنام القبيلممة وتبممديل آلهتهمما ..
فهو هم السادة ،و الناس تبع لساداتهم ،و في المثل " الناس علممى ديممن ملمموكهم" لقممد أضمماف السممادة
أصناما إلى قبائلهم .فبعدت و تمسك أتباعها بعباداتها ،و كانهم قد تلقوا أوامرهم من السماء .و نبذت
قبائل بعض أصنامها بأمر من ساداتها ،و دخلممت قبائممل فممي السمملم بممدخول سمميدها فيممه ،و دخلممت
أخرى قبل ذلك في النصرانية لتنصر سادتها ،بكلمة أقنعت الرئيممس أو بعممد محمماورة أو بممأبلل مممن
مرض قيل له انه ببركة ذلك الدين ،فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال و ل جواب((. 8
د .جواد علي :المفصل في تاريخ العرب قبل السإلما ،ج ، 6ص .16-15 7
السلم
الحدث الكوني العظيم
تلك هي الوضاع الجتماعية و القتصادية التي كانت سممائدة فممي جزيممرة العممرب ،و كممذلك
الحالممة الفكريممة الدينيممة المهيمنممة علممى مشمماعر العممرب قبيممل ظهممور السمملم ،مممن وثنيممة مشممركة ،
وحركممات دينيممة ضممعيفة قوامهمما اليهوديممة و المسمميحية و الحنفيممة ...إلممى جممانب ظهممور محمماولت
إصلحات دينية محلية ،إذ ظهر قبل السلم عدد من النبيمماء العممرب المصمملحين ،ورد ذكرهممم فممي
القران الكريم اذ بعث ا النبي هوداة في قبيلة عاد و صممالحا ة غفممي ثممود و سمواهما ممن أنبيمماء عهمد
الجاهلية ..و هكذا ضلت جزيرة العرب تعيش مرحلة مخاض تاريخي ،يقول توماس كاريل :
)) و على هذه الطريقة عاش العرب دهمموراة طمموالة خمماملي الممذكر غامضممي الشممأن ،أناسمما ذوي
مناقب جليلة و صفات كبيرة ،ينتظرون من حيث ل يشعرون اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ،و يطيممر
في الفاق صيتهم ،و يرتفع إلى عنان السماء صوتهم ،و ما ذلممك ببعيممد ،و كأنممما كممانت وثنيمماتهم قممد
وصلت إلى طور الضمحلل و أذنت بالسقوط و قد حدثت بينهم دواعي اختلل و فوران(( .9
و لم تقتصر أوضاع شبه الجزيرة على سيطرة الوثنية و عبادة الصنام فيها ،بل فممي كونهمما
خاضعة للنظام القبلي الذي فرض حالة النقسام السياسي و التمزق الداخلي ،بسبب كون كممل قبيلممة
تشكل وحدة سياسية و اقتصادية – اجتماعية مستقلة ،مما قاد إلى نشوب صراعات قبلية حممالت دون
توحيد الجزيرة العربية و جمع كلمة العرب ،حتى إذا جمماء السمملم قضممي علممى الوثنيممة المخزيممة و
القبلية الخطرة ،بقيادة محمد .. يقول وليم موير في كتابه حياة محمد :
)) كانت أولى الخصائص التي تلفت انتباهنا ،إذاة هممي انقسمام العممرب إلممى جماعمات لتعممد و ل
تحصى ،خاضعة لقانون في الشرف و الخلق واحد ،و متمسكة بأهداب عادات واحدة ،و متحدثة
في العم الغلب بلغة واحدة ،و لكن كلة منها مستقلة عن الخرى .كانت تلممك الجماعممات ل تعممرف
طمأنينة و ل استقراراة و كثيراة ما نشبت الحروب بينهما و حتى لو اتفممق أن جمعتهمما رابطممة الممدم أو
رابطة المصلحة فسرعان ما كانت تتفرق لتفه السباب وتستلم لعداواتها الحقود .و هكذا كممان خليقما ة
10
بمن يرجع البصر ،قبيل بزوغ السلم إلى التاريخ العربي ،أن يرى – و كأنممما بواسممطة المبممداع
، - Kaleidoscopحالة من التمازج و التنافر ل تفتأ تتغير و تتقلب ،مما أدى إل ى إجه اض أيم ا
محاولة من محاولت الوحدة الشاملة ..و كان لبد لهذه المشكلة مممن أن تحممل عممن طريممق أيممما قمموة
توفق إلى إخضاع العرب أو جمع شملهم ،و لقد حل محمد المشكلة(( . 11
و يتحدث القس لوزون في كتابه )ا في السماء(( عن النقلب المنتظر الذي قمماده الرسممول
،بقولة :
)) لقد بعث محمد رسو ة
ل إلى العرب و عاشت بلد العرب الزمان الطويلممة عاكفممة علممى عبممادة
12
الصنام و توغلت في ذلك حتى احتاجت إلى انقلب ديني عظيم (( .
و هكذا كان النممبي محمممد ه ذا الرس ول ،ال ذي تمك ن ف ي المرحل ة المقبل ة بفض ل كف احه
النساني المرير أن يحقق ذلك النجاحا العظيم و التحول الكبير ليس في الجزيرة العربية وحسب ،بممل
على الصعيد العالمي أيضا .و يتحدث مولنا محمممد علممي عممن عظمممة الرسممول فممي نشممر الوحدانيممة
السلمية في بلد العرب و قضاءه على الوثنية ،قائلة :
)) من حضيض هذه الوثنية المخزية انتشممل الرسممول محمممد )عليممه اللم( بلد العممرب كلهمما فممي
فترة من الزمان القصير ل تعدوا عشرين عامةا .انه لم يستأصممل الوثنيممة مممن بلد العممرب استئصممالة
نهائيا ة فحسب ،بل أضرم في قلوب أولئك العرب أنفسهم شرارة مممن الحماسممة لوحدانيممة امم دفعتهممم
إلى النطلق بعيدا في كل رجا ة من إرجاء العالم المعروف آنذاك لرفع راية اللممه الواحممد ،أيضمما .و
هذا الفطام لبلد برمته – يمتد على مساحة هائلة مقدارها مليون و مئتا ألممف ميممل مربممع – عممن لعنممة
الوثنية التي كانت تهيمن عليه هيمنممة مطلقممة نتيجممة الرث و التقاليممد الراسممخة ،فممي مممدة ل تتجمماوز
خمس قرن ،بحيث اكتسبت ذلك البلد لقب )محطممم الوثممان( المشممرف ،أقممول أليممس هممذا الفطممام هممو
أعظم معجزة قدر للعالم أن يشهدها فممي تمماريخه كلمه؟ إل يسممتحق الرجممل الممذي أحممدث هممذا التحممول
التقدمي لقب )خير النام( استحقاقا ة ل مراء فيه (( .13
الباب الوأل
من مولده ) (إلى مبعثه )(
10
مولده ) (
كانت حياة الرسول محمد متميزة عن حياة أقرانه ،فقد ولد يتيمما ة ،إذ ممات أبموه عبمد ام بمن
عبد المطلب بن هاشم ،وهو في بطن أمه آمنة بنت وهممب بممن عبمه منمماف عممام الفيممل الموافممق لعممام
570للميلد . . .يقول القس الفرنسي لوازون في محاضرة له عن الرسول محمد :
)) أواخر جميع النبياء كان يعتقد المسلمون هو محمد الذي ولد في مكة لعشر ليممال مضممت مممن
ابريل سنة 570للميلد ،وكانت عائلته شرف عائلة في قريش ،وهى إحدى القبائممل الشممهيرة فممي
بلد العرب ،وصاحب النسب المرتقي إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل ،وقد كان جده متوليا ة سممدانة
الكعبة ،وكانت دار حكومتهم ،معبد ديانة العرب الوثنيممة ،وتموفي والممده عبممد امم قبممل ولدتممه ،و
توفيت أمه وهو ابن ستة أعوام ،وكان على أعظممم ممما يكممون مممن كممرم الطبمماع وشممريف الخلق ،
ومنتهى الحياء ،وشدة الحساس ،وقد كفله جده وهو ابن ست سنوات وأثناء كفالته بدأت تظهر مممن
محمد علمات الذكاء ورجاحة العقل ،ومر بصبيان يلعبون فدعوه للعب معهم ،فأجابهم أن النسان
خلق للعمال الجليلة ،والمقاصد الشريفة ،ل للعمال السافلة والمور الباطلممة ،وكممان علممى خلممق
عظيم ،وشيم مرضية ،شفوقا ة على الطفال ،مطبوعا ة على الحسان ،غير متشدق في نفسه ،و ل
صلف في معاملته مع الناس ،وكممان حممائزةا قمموة إدراك عجيبممة ،وذكمماء مفممرط ،وعواطممف رقيقممة
شريفة ((. 14
)) إني عند ا لخاتم النبيين ،وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بتأويل ذلك ،أنا دعوة أبممي
إبراهيم وبشارة عيس بي ،ورؤيا أممي المتي رأت حيمن وضمعت أنمه خمرج منهما نمور أضماءت ل ه
قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين ((. 16
و تذكر كتب السيرة السلمية والحديث أن اليهود اضطربوا يوم مولد الرسول ،ففي روايممة لم
)) كان يهودي قد سكن بمكة فلما كان الليلة التي ولد فيها رسول ا قال :يا معشر قريش هل
ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا :ل نعلم قال :انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه المممة بيممن كتفيممه
علمة ،فانصممرفوا فسممألوا فقيممل لهممم قممد ولممد لعبممد المطلممب غلم فممذهب اليهممودي معهممم إلممى أمممه
فأخرجته لهم فلما رأى اليودي العلمة خر مغشمميا ة عليممه وقممال :ذهبممت النبمموة مممن بنممى إسممرائيل يمما
معشر قريش أما وا ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب ((. 17
ولم يغب على بال المستشرق والوزير الروماني كونستانس جيورجيو ) المولود عام (1916
في كتابه " :نظر ة جديدة في سيرة رسول ا" ،أن يممذكر أن السمميد المسمميح قممال لحمموارييه حسممب
رواية في إنجيل يوحنا :إنه سيأتي بعممدي شممخص يقممويكم ويحميكممم وإنممه سيرسممل إليكممم" بمماركلت"
لنني لن أدعكم يتامى ،وقد أعلن المسيحيون بعد صعود السيد المسيح أن "باركلت" هو نفسممه روحا
القدس . . .يقول جورجيو :
)) ويرى المسمملمون أن النصممارى حرفمموا كلمممة السمميد المسمميح ،لنممه قممال انممه سمميأتي بعممدي "
بريكلي توس" ومعناها باليونانية ) أحمد (وهو بمعنى ) الممممدوحا ( .وهممو اسممم نممبي المسمملمين .و
) محمد ( معناها الكثر مدحا ة .ويروى أن اليهمود ذكمروا همذه الكلممة "بريكمي تمول" ويعلم ون أن
السمميد المسمميح سمميخلفه ) أحمممد ( ،لن اليهممود ) والعهممدة علممى الروايممة ( ليلممة ولدة رسممول امم
اضطربوا كثيراة ،وتخوفوا من وضع آمنة((. 18
)) هذه الصحة الخلقية والجسمية التي يدين بهمما إلممى الباديممة ،سمماعدته كممثيراة علممى تحمممل ممما
ابتلي به بعد من محن .
ة
كان محمد يحب إعادة ذكريات تلك الفترة ،كثيرا ما كان يقول " :إن من نعم ا علي الممتي ل
تقدر ،أني ولدت في قريش أشرف القبائل ،وأني نشأت في بادية بني سعد ،أصح المواطن بالحجاز "
وقد بقيت منطبعة في نفسه صور البادية التي كانت أول الشياء تأثيراة في حسممه عنممدما كممان يسممرحا
فيما مع الرعاة فيتسلق شرفا ة ليلحظ القطعان في مراعيهةا.
ك .جيورجيو :نظرة جديدة في سيرة رسول ا ،ص ) 23ترجمة د .محمد التونجي(. 18
12
على أن استعداده للتأمل والوحدة لم يكن لينسجم مع أخلق أقرانه الصاخبة ،فكان يفضل
اعتزالهم في ألعابهم ،ويذهب وحيداة حيث الهدوء والسكون . 19((0
وتتحدث كتب الحديث والسيرة عن دلئل النبوة التي ظهرت له أثناء طفولته في بادية بنممى سممعد
التي ترويها ة حليمة السعدية ،حين حضرت إلى مكة مع نساء عشيرتها للتماس تربية أطفال أشراف
مكة حسبما درجت عليه الطبقممات الرسممتقراطية الممتي تعهممد بأبنائهمما للمراضممع مممن القبائممل البدويممة
لتنشئهم التنشئة الصحية في أجواء البادية .ومن جهتهم نقل المستشرقون ممن دونوا سيرة النبي عن
تلك الكتب بما يخص طفولة الرسول ودلئل النبوة .
ولقد جاء في كتب السيرة والحديث عن طفولته ) صلوات ا عليه ( علممى لسممان أمممه بالرضمماع
حليمة السعدية ،قولها :
» قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شممهباء فقممدمت علممى أتممان
لي ومعي صبي لنا وشارف لنا وا ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ول نجممد فممي
ثديي ما يغذيه ول في شارفنا ما يغذيه ،فقدمنا مكة فو ا ما علمت منا امرأة إل وقد عرض عليهمما
رسول ا فتأباه إذ قيل إنه يتيم الب فو ا ما بقى من صواحبي امرأة إل أخممذت رضمميعا ة غممره ،
فلما لم أجد غيره قلت لزوجي إني لكره أن أرجع من بين صواحباتي وليس معي رضيع ،لنطلقممن
إلى ذلك اليتيم فلخذنه .فذهبت فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيمض ممن اللبمن يفموحا منمه المسممك
وتحته حريرة خضراء راقدةا على قفاه يغط ،فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منممه
رويداة ،فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا ة ففتح عينيه ينظر إلي فخرج مممن عينيممه نممور حممتى
دخل خلل السماء ،وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأعطيته ثدي اليمن فأقبل عليه بما شمماء مممن لبممن ،
فحولته إلى اليسر فأبى ،وكانت تلك حاله بعد .قالت فروي وروي أخوه ،ثم أخذته بما هو إلى أن
جئت به رحلي ،فأقبل عليه ثدياي بما شاء ا من لبن ،فشرب حتى روي وشرب أخوه حممتى روي
،فقام صاحبي تعني زوجها إلى شارفنا تلك فإذا بها لحافل فحلب فشر ب وشربت حتى روينمما وبتنمما
بخير ليلة .فقال صاحبي يا حليمة وا إني لراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ممما بتنمما بممه الليلممة
من الخير والبركة حين أخذناه ،فلم يزل ا يزيدنا خيراة .قالت حليمة رضممي امم عنهمما فممودعت أم
النبي ثم ركبت أتاني وأخذته بي ن ي دي فس بقت دواب الن اس ال ذين ك انوا مع ي ،وه م يتعجب ون
منها .م قدمنا منازل بي سعد ول أعلم أرضا ة من أرض ا أجدب منهمما وكممانت غنمممي تممروحا علممي
حين قدمنا شباعا ة لبنا ة فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطممرة لبمن ول يجممدها فممي ضمرع حممتى كممان
الحاضر من قومنمما يقولممون لرعممانهم :اسممرحوا حيممث يسممرحا راعممي غنممم بنممت أبممي ذؤيممب فممتروحا
أغنامهم جياعا ة ما نبض بقطرة لبن و تروحا أغنامي شباعا ة لبنا ة (( .20
و تتحدث كتب السيرة كذلك عن خبر شق صدر الرسول واستخراج علقة س وداء م ن قلب ه ،
مما يرمز لعصمته و تطهره ..
19آتيين دينيه و سليمان بن إبراهيم :محمد رسول ا ترجمة د .عبد الحليم محمود ،د .محمد عبد
الحليم محمود ،ص .84
20رواه إسحاق و البيهقي و الطبراني و أبو نعيم و أبو يعلممي و ابممن راهويممة عممن حليمممة و حسممنة
الهيثمي.
13
هذا ،وقد علق آتيين دينه في كتابه )) :محمد رسول ا(( على حادثة شق صدر الرسول بقوله :
)) سجل القرآن هذه الحادثة في قوله الم نشرحا ل ك ص درك ،ووض عنا عن ك وزرك ،ال ذي
أنقض ظهرك . ...
هذه القصة ككل القصص التي من نوعها ،والتي يجدها القارىء أثناء قراءته هممذا الكتمماب يجممب
أن تؤول تأويلة رمزيا ة .والقصة التي نحن بصددها تعنى :أن امم شممرحا صممدر محمممد إلممى الفممرحا
بحقيقة التوحيد ،إذ أزال عنه منذ الطفولة وزر الوثنية (( .21
)) وكان بين هؤلء العرب التي تلك حالهم ،أن ولمد الرجمل محممد )عليمه السملم ( عمام 570
ميلدي ،وكان من أسرة بني هاشم من قبيلة قريش ،وقد مات أبوه قبل مولده ،ولما بلغ عمممره سممتة
أعوام توفيت أمه ،وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل ،فقام عليه جده الشيخ الممذي كممان نمماهز
المائه من عمر ،وكان صالحا ة بارا وكان ابنه عبد الله أحب أولده إليه ،فأبصرت عينه الهرمممة فممي
محمد صورة عبد ا فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه ،وكان يقول )) :ينبغي أن يحسن القيام علممى
ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر السرة والقبيلة حسنا ة وفضلة (( .22
و تتحدث كتب السيرة السلمية ،أن جده كان يعتقد بأن محمداة سيكون نبي العرب ،ولممم يكممن
هذا مستغربا ة ،في تلك المرحلة الممتي تنتظممر ولدة تاريخيممة جديممدة ،ويقممول الكمماتب جيورجيممو فممي
دراسته حياة الرسول ، واستدلل معاصريه بأنه سيكون الرسول المرتقب :
)) والمر المسلم به أن العرب -في الماضي -لم يدهشوا من ولدة نبي ،لن مثل هممذا المممر
حصل في بعض أنحاء جزيرتهم قبلا ة .حتى آمنة ،لم يبد عليهاة العجممب ،فقممد روي أنهمما سمممعت أن
ابنها نبي ،فلم تندهش لهذه البشرى ،لن أرض العرب ،لم تكن أرضا ة منجبة للنبياء وحسب ،بل
كانت مهاداة لفراد خاطبوا ا تعالى ،بل إن كل أنبياء الجزيرة خاطبوا ربهم (( . 23
)) ففي شبه الجزيرة العربية المترامية الطراف ،خلفا ة للقطار الخرى ،وصحرائها الممتي ل
يعترضها حاجز . . .ترى البصر يمتد إلممى اللنهايممة مممن كممل طممرف ،صممحراء ممتممدة الرجمماء ،
وسماء ل نهاية لها . . .ولهذا فليس فيها ما يمنع إمكانية معرفممة امم وملئكتممه .ولممم تكممن مصممادفة
الخالق في هذه الصحراء الواسعة حالة استثنائية نادرة ،كا كما لم تكن ولدة نبي فيها خارقة للعادة.
آتيين دينه :محمد رسول ا ،ص .85 21
ويروي بالضافة إلى آمنة _ إذ أقرباء محممد جميعما ة علمموا أن همذا الطف ل نمبي .وممع همذا
فإنهم لم ينظروا إليه نظرة لم أعجاب ،كما لم تختلف رعايتهم له عن رعاية غيره من أطفال قريش.
ربما كانت نظرتهم لم إلى ولدة النبي عادية ،لن المهم في المر أن هذا النبي في النهايممة يسممتطيع
أن يؤدى رسالته التي سيتلقاها (( . 24
)) هذا هو سيد المرسلين ،هذا سيد العالين ،هذا يبعثه ا رحمة للعالمين ،فقيل له وما علمممك
بذلك فقال :أنكم حين أشرفتم به من العقبة لم يبق شجر ول حجممر إل خممر سمماجداة ،ول يسمجدان إل
لنبي ،و أني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة و أنا نجده في كتبنمما ،وسممأل
أبا طالب أن يرده خوفا ة عليه من اليود (( . 25
ولقد بحث الكاتب النكليزي توماس كارليل قضية لقمماء الرسممول ببحي را الراه ب ،وم ا ك ان
لهذا اللقاء من أثر على توجيه للتفكر في قضايا ا لحياة والخلق . . .وقد رد كارليل في كتابه البطال
على تلك المزاعم التي تقول إن ذلك الراهب قد لقنه العلم و انه وراء النبوة الممتي أنزلممت علممى النممبي
محمد يقول :
» ولما شب محمد وترعرع ،صار يصحب عمه فممي أسممفار تجاريممة وممما أشممبه ،وفممي الثامنممة
عشر من عمره نراه فارسا ة مقاتلا ة يتبع عمه في الحروب ،غير أن أهم أسفاره ربممما كممان ذاك الممذي
حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ،رحلة إلى مشارف الشام ،إذ وجد الفتى نفسممه هنالممك فممي عممالم
جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الهمية جداة في نظره ،أعنى الديانمة المسمميحية .وانممي لسممت أدري
ماذا أقول عن ذلك الراهمب سممرجياس )بحيمرا ( المذي يزعمم أن أبما طمالب ومحممداة سمكنا معمه فمي
الدار ،ول ماذا عساه أن يتعلمه غلم في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما ،فإن محمداة لممم يكممن
يتجمماوز إذ ذاك الرابعممة عشممر ،ولممم يكممن يعممرف إل لغتممه ،ول شممك أن كممثيراة مممن أحمموال الشممام
ومشاهدها لم يك في نظره إل خليطا ة مشوشما ة م ن أشممياء ينكرهما ول يفهمهما .ولكمن الغلم كمان ل ه
عينان ثاقبتان ،ول بد من أن يكون قد انطبع على لوحا فؤاده أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضممميره
،ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشي ،وتحلها له يد الزمان يوما ة ما ،فتخممرج
منها أراء وعقائد ونظرات نافذات ،فلعل هذه الرحلة الشامية كمانت لحممد أوائمل خيمر كمثير وفوائمد
جمة (( . 26
)) كانت حالة أغلب المكيين -كأبي طالب -تضطرهم إلى التجارة ،فممإقليمهم مممن أشممد القمماليم
جدبا ة ،ولذلك لم يكن من الممكن لقانطيه أن يعيشوا إل بالتعامل مممع اليمممن وسممورية ،اللممذين تربممط
بينهما مكة ،فكانت قوافلها تذهب إلى اليمن الذي أطلق عليه "القليم العربممي السممعيد " للبحممث عممن
منتجاته والمنتجات التي تصل إليه عن طريق البحر ،فيبتاعون مما تنتممج الحبشممة والهنممد والصممين ،
من التوابل والعطر والبخور ،والتبر ،والحرير ،وفي عودتهم إلى الحجاز يضمميفون إلممى ذلممك تمممر
يثرب أو الطائف . .ثم يذهبون بعد ذلك إلى سورية ليستبدلوا ببضائعهم منتجاتهم الزراعية :كالقمح
،والشعير ،والرز ،والتين ،والزبيب ،يضاف إليها ما يوجد في سورية مما يصدره إليها اليونان
والرومان .ولم تكن النساء بمعزل عن هذا النوع من التجارة :فقد كن يخترن من يخرج فممي ممالهن
للتجار في مقابل جمزء ممن الربمح .هكمذا كمانت تفعمل خديجمة بنمت خويلمد ذات المثراء الواسمع ،
والحسب النبيل .وفي ذات يوم أرسلت إلى محمد – وقد كانت تسمع بما له من عقل متزن ،وأمانممة
وإخلص -فعرضت عليه أن يسير على رأس تجارتها إلممى الشممام > ،وأن تمنحممه فممي مقابممل ذلممك
ضعف ما كانت تمنح عادة لغيره (( . 27
زوأاج الرسول
توماس كارليل :البطال ص .68 : 26
و تزوج النبي محمد خديجة بنت خويلد وهو ابن خمسة وعشرين عاما ة ،بينما كانت هممي فممي
الربعين ،وعلى جانب من الثراء والجمال )) ،ويقممال إنهمما تزوجتممه لممما عرفممت عنممه مممن المانممة
والخلص والنباهة ،وإنها رأت فيه علمممات النجابممة والنبموة ،وان غلمهمما ميسممرة أخبرهمما حيمن
رجع من رحلته مع الرسول من الشام بأنه شاهد في الهاجرة ملكين يظلنه من الشمس ((. 29
لقد اتفقت الدارسات الستشراقية على أن النبي شهر بممأخلقه السممامية وأمممانته وشممرف نفسممه،
يقول الباحث والمستشممرق البلجيكممي ألفممرد الفممانز ،فممي كتممابه علممم النفممس :عممن أخلقممه وأمممانته
وزواجه من خديجة :
)) شب محمد حتى بلغ ،فكان أعظم الناس مروءة وحلما ة وأمانممة ،وأحسممنهم جوابمما ة ،وأصممدقهم
حديثا ة ،وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالمين ،وبلغت أمانته وأخلقه المرضممية خديجممة
بنت خويلد القرشية ،وكانت ذات مال ،فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مممع غلمهمما
ميسر ،فحرج وربح كثيراة ،وعاد إلى مكة واخبرها ميسرة بكراماته ،فعرضت نفسممها عليممه وهممي
أيم ،ولها أربعون سنة ،فأصدقها عشرين بكرة ،وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة ،ثم بقيت معه
حتى ماتت (( . 30
هذا ،وقد توقف المفكر النكليزي توماس كارليل عند زواج الرسول الحازم المين مممن خديجممة
التي أعجبت به ،وحبه العميق إياها ،وعيشه معها تلك العيشة الهادئة ،حممتى ثممار فممي أعممماقه ألممق
النبوة :
)) وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة ،وكيف أنه كان أولة يسافر في تجارات لها إلى أسممواق
الشام ،وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والمانة ،وكيف جعل شممكرها لممه يممزداد وحبهمما
ينمو ،ولما زوجت منه كانت في الربعين ،وكممان هممو لممم يتجمماوز الخامسممة والعشممرين ،وكممان ل
يزال عليها مسحة من ملحة .
ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة ،يخلص لها الحب وحدها ،ومما
يبطل دعوى القائلين أن محمداة لم يكن صادقا ة في رسالته ،بل كان ملفقا ة مممزوراة أنممه قضممى عنفمموان
شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ،لم يحمماول أثناءهمما إحممداث ضممجة ول دوى ،
مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ،ولما يك ال بعد الربعين أن تحممدث برسممالة سممماوية .
ومن هذا التاريخ تبتدىء حوادثه وشواذه ،حقيقة كانت أم مختلقة ،وفي هذا التاريخ توفيت خديجة .
نعم ،لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادىء الساكن ،وكان حسبه من الذكر والشمهرة حسممن
آراء الجيران فيه ،وجميل ظنونهم به ،ولممم يممك إل بعممد أن ذهممب الشممباب واقبممل المشمميب أن فممار
بصدره ذلك البركان الذي كان هائجا ة ،و ثار يريد أمراة جليلة وشأنا ة عظيما ة (( . 31
وكتب المستشرق البلجيكي الب هنري لمنس ) ل ( 1977_ 186الذي عرف بدراسته عن
عرب الجاهلية والعهد الموي ،فصلة في أحد مؤلفاته )عهد السلم( يقول :
))ن محمممداة بعممد أن تممزوج بخديجممة أصممبح معروفمما ة فممي قممومه ،وكممان النمماس يجلممون أوصممافه
ويحمدون سيرته ،ويلقبونه بالمين أي الصادق الذي يعتمد عليه ((. 32
)) وحرر ثراء خديجة زوجها محمداة ممن العموز ،وفسممح لمه المجممال لحتلل مركممز اجتمماعي
مرمرق في مجتمع مكة الذي يقدر الثراء (( .33
وهنا ل بد لنا من وقفة ،عند آراء المستشرقين أمثال لمنس وغلوب باشا عن عزوا تبوؤ محمد
مكانة مرموقة في مكة بفضل ثروة زوجته خديجة .
ومن إقرارنا بأن زواجه يسر له شؤون حياته وحرره من المشاكل المادية ،ليجعله أكممثر تفرغمما ة
للنواحي الروحية ،ولكن هيهات لهذا أن يعزز مكانته الجتماعية ويممدفعه لتسممنم ذرى المجممد بسممبب
ثروة زوجته لنه كان أبعد عن حياة البذخ ،دائم التبتل والتأمل ،بل يمكن القول إن نجاحا الرسول
مكانته في قبيلته وفي أخلقه ،وأهانته وعصمته . . .
)) هذا ،ولقد أمن له هذا الزواج اليسر والرخاء ،فكان يقضي أوقات الفراغ في عمله بالتجممارة
في العزلة والتأمل في ما بلغته القوام العربية من التردي الخلقممي ،كممما كممان يخلممو -قبممل رسممالته
بثلثة أعوام -إلى غار حراء خلل شهر رمضان للتبتل و توزيع الطعام على الفقراء ((. 34
ويتحدث الباحث النكليزي مونتجمري وات فمي كتمابه » محممد فمي مكمة « أن الرسمول بع د
زواجه من خديجة ،أخذ يرتقي سمملم النجمماحا فممي مجتمعممه المكممي ،لمكممانته فممي عشمميرته ولخلقممه
السامية . . .وأن خديجممة رغممم اهتمامهمما بالمسممائل الماديممة كممانت أعجممب بكفمماءاته الروحيممة وخيممر
معوان له في المرحلة التالية ،يقول :
)) كانت السنوات التي تلت زواجه سنوات لم إعداد لعملمه فمي المسمتقبل .ولممم يحفمظ لنما شمميء
عنهمما يسمممح لنمما بإعممادة تكمموين مراحممل هممذا السممتعداد .وأفضممل ممما نفعممل هممو أن نقمموم ببعممض
الستنتاجات مما وصلنا فيما بعد .كهذه اليات في سورة الضممحى ) /93مم -6مم (8مم الممتي يبممدو أنهمما
ترجع لتجارب محمد الولى.
يمكن أن نستنتج من هذه اليات أن إحدى مراحل تفتحه كانت إدراكه أن يممد المم قممد أخممذت بيممده
بالرغم من مصائب الدهر وسنعرف بعض الشارات إلى هذه السنوات الغامضة بعد ((. 35
وكانت خديجة رضي الله عنها خير رفيقة الحياة في مرحلة نبوته اللحقممة وأممما ة لولده ،يقممول
آتيين دينيه :
)) كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول .وبقيت -طيلة حياتهمما -زوجممه الوحيممدة المحببممة
التي ل يجد غيرها إلى قلبه سبيلة .وقد أنجبت له سبعة أولد ،ثلثة ذكور هممم :القاسممم ،والطمماهر
والطيب ،وأربع إناث :رقية ،وزينب ،وأم كلثوم ،وفاطمة .وبعد مولد القاسم الذي كان أول مممن
أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم .لكم سعد محمد بممأن منحممه اللممه طفل ذكممرا ولكممم
أعز محمد هذا الطفل وأحبه ،ولكم حزن حين أصابته المقادير ،وهو ما زال بعد في دور الطفولة .
وأراد الله أن يكون مصي الطاهر والطيب مصير القاسم ،فمات الجميع قبل بعثة الرسول .
أما البنات فقد عشن إلى ظهور السلم وكن من أوليات أسلمن ،وسمماعدن جاهممدات ،فممي سممبيل
الله ورسوله ((. 36
)) كيف تعرف محمد إلى خديجة ،وكيف أمكن أن يحصل علممى ثقتهمما ويممتزوج بهمما ،الجممواب
على الشق الول ل زال غير معروف عندنا ،وأما علممى الشممق الثمماني فقممد اتفقممت الخبممار علممى أن
محمداة كان في الدرجة العليا من شرف النفس ،وكان يلقب بالمين ،أي بالرجل الثقة المعتمممد عليممه
إلى أقصى درجة ،إذ كان المثل العلى في الستقامة (( . 37
وعن رفيع أخلقه وسامي خصاله وعصمته من النزلق في مهاوي الرذيلممة يتحممد المستشممرق
جرسان دتاسي ،قائلا ة :
))أن محمداة ولد في حضن الوثنيممة ،ولكنممه منممذ نعومممة أظفمماره أظهممر بعبقريممة فممذة ،انزعاجمما ة
عظيما ة من الرذيلة وحبا ة حاداة للفضيلة ،وإخلصا ة ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلمق علي ه
مواطنوه في ذلك العهد اسم المين (( .38
مونتجمري وات :محمد في مكة )ترجمة شعبان بركات( ،ص .75 35
وبديهي أن يعتبر الباحثون المسمملمون والمؤرخممون العممرب تلممك الصممفات ،و هممذه السممجايا مممن
دلئل النبوة ،و تتمثل أشد ما تتمثل بعصمة اللممه رسمموله المرتقممب مممن أجممواء الرذيلممة الشممائعة فممي
جاهلية العرب ،وأنه صمملوات امم عليهممى كممان يشممعر انطلقمما ة مممن حدسممه بممأن عليممه البتعمماد عممن
المعاصي والموبقات ،وأن اللممه جلممت عظمتممه اختمماره لداء رسممالة عظيمممة . . .وعممن هممذا المممر
يتحدث الباحث الرجنتيني دون بايرون ) _ 1839مم ( 1900في مؤلفه » :أتح لنسفك فرصممة «
فيقول :
» ل يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينتممه أرق مممن معاصممريه ،وأنممه يفمموقهم جميعمما ة
ذكاء وعبقرية ،وأن الله اختاره لمر عظيم وقد اتفق المؤرخون علممى أن محمممد بممن عبممد اللممه كممان
ممتازاة بين قومه بأخلق حميدة ،من صدق الحديث والمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى
سماه أهل بلده المين ،وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهممم وأمانمماتهم ،وكممان ل
يشرب الشربة المسكرة ،ول يحضر للوثان عيداة ول احتفالة ،وكان يعيش مما يممدره عليممه عملممه
من خير ،ذلك أن والده لم يترك له شيئا ة يذكر ،ولما تزوج خديجة كان يعمل بأموالها )( .39
إذاة ،كانت حياة الرسول الولى ،قبل أن ينزل عليه الوحي حياة الهدوء والسلم ،يميل للدعة ،
مما وقف تجاهه المستشرق اليرلندي السممير وليممم ممموير ) ( 1867-1808فممي كتممابه )السمملم( ،
فقال :
)) إن محمداة لم يكن في وقت من الوقات طامعا ة في الغنى ،إنما سعيه كممان لغيممره ،ولممو تممرك
المر لنفسه لثر أن يعيش في هدوء وسلم قانعا ة بحالته (( .
ويقول المستشرق سيديو ،في الجزء الول من كتابه ) :تاريخ العرب( :
)) ولقد بلغ محمد من العمر خمسا ة وعشرين سنة استحق بحسن مسرته واستقامته مممع النمماس أن
يلقب بالمين ثم استمر على هذه الصفات الحميدة حتى نممادى بالرسممالة ودعمما قممومه إليهمما فعارضمموه
أشد معارضة ،ولكن سرعان ما لبوا دعوته وناصروه ،وما زال فممي قممومه يعطممف علممى الصممغير
ويحنو على الكبير ،ويفيض عليم من عمله وأخلقه (( . 41
وعن هذه القضية يتحدث المؤرخ والمستشرق النكليزي السير موير في كتابه ) :حياة محمد ( :
))إن محمداة نبي المسلمين لقب بالمين منمذ الصممغر بإجممماع أهمل بلممده لشممرف أخلقمه ،وحسمن
سلوكه .ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداة أسمى مممن أن ينتهممي إليممه الواصممف ،ول يعرفممه مممن
جهله .وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيممد ،وذلممك التاريممخ الممذي تممرك محمممداة فممي طليعممة
دون بايرون :اتح لنفسك فرصة )تعريب عبد المنعم محمد الزيادي( 39
وجاء في أحدى روايات كتب الحديث الشريف :أنهم قالوا :نحكم أول من يمدخل ممن بماب بنمي
شيبة ،فكان أول من دخل منه ،فاخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه ،وأمر كممل فخممذ مممن
قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه م أخذه فوضعه بيده الشريفة (( . 43
وقد استرعت هذه الحادثة انتباه المستشرق اللماني أغسطينوس موللر ) (1894 -1148الذي
درس اللغة العربية في فيينا ،فتوقف عندها مليا ة ،وقال في كتابه » السلم « :
)) ذكر أن قريشا ة هدمت الكعبة ،وكان النبي هو ابن -35-منة يشتغل معهم ،وتعرض لتنازع
قريش برفع الحجر السود فيضعه مكانه ،ثم تعرض لسياسة النبي محمد في هذا المقام وأنه أدهممش
قريشا ة بسياسته الرشيدة .
ولقد راحا بعض المستشرقين يعلممق علممى هممذا الحممادث تعليقممات مليئممة بالتقممدير والعجمماب لهممذه
الشعلة العبقرية التي مكنت محمدأ من تفهم الموقف بسرعة عظيمممة ،والتوسممل بهممذه الحيلممة البريئممة
إلى إرضاء زعماء قريش جميعاة (( . 44
كما توقف الب هنري لمنس عند هذه الحادثة فقال :
)) لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ،وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليممه بوضممع الحجممر
السود في مكانه ،وكادوا يقتتلون ،فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الله الهاشمممي ،
قائلين هذا هو المين (( .45
رواه احمد و أبو داود الطياسي و البيهقي و أبو نعيم و يعقوب بن سفيان و حسنة الهيثمي. 43
)) ل بد أن يكون محمد قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم هذه الفكرة الممتي بسممطت السمملم
بين مختلف القبائل ،ول يبعد أن يكون محمد قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ،
وأنه يفوقهم جميعا ة ذكاةء وعبقرية ،وأن ال قد اختمماره لمممر عظيممم وقممد اتفممق المؤرخممون علممى أن
محمداة كان ممتازاة بيممن قممومه بممأخلقه جميلممة ،مممن صممدق الحممديث ،والمانممة ،والكممرم وحسممن .
الشمائل و التواضع ،حممتى سممماه أهممل بلممده – الميممن – و كممان ممن شممدة ثقتممم بمه يودعممون عنممده
ودائعهم وأماناتهم ،و كان ل يشرب الشربة المسكرة ل يحضر للوثان عيداة ول احتفا ة
ل(( . 46
أجل ،لقد شهر عن الرسول ابتعاده عن الوثنية السائدة في قريش ،وكان دائم التفكير في أحوال
أمته ،ينأى عن كل أسباب التلوث الفكري والعملي ،فعصمممته إرادة اللممه عممن ارتكمماب المعاصممي ،
يأنس في نفسه الحدس فيما هو مقبل عليه ،بمرحلة تأمله في الحقيقة الزليممة لسممر الوجممود وجمموهر
اللوهية . . . .يقول المستشرق كادا دوفيك ) (1877_1805في مؤلفه » :مفكرو السلم « :
)) أن محمداة من سن الخامسة والعشرين إلمى الربعيممن كمان كممثير التفكيمر هادئمما ة سماكنةا ،وكمان
حليما ة تقيا ة حسن الخلق ،وانه عندما بلغ الربعين توجهت جميع قواه العقلية إلممى جهممة التأمممل فممي
جوهر اللوهية ،والبحث عن الحقيقة الدينية ومذ ذاك أخذ يعتزل الناس ويخلو بنفسه في غار حراء
بقرب مكة (( . 47
)) لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه -كما قلت -بأهواله ومخاوفه وروانقه ومبمماهرة ،لممم يممك
هناك من الباطيل ،ما يحجب ذلك عنه ،فكان لسان حال ذلممك السممر الهائممل ينمماجيه » :هأنممذا « .
فمثل هذا الخلص ل يخلو من معنى الهي مقدس ،و ما كلمة مثل هذا الرجل ال صوت خارج من
صميم قلب الطبيعة ،فإذا تكلم فكل الذان برغمها صاغية ،وكل القلوب واعية ،وكل كلم مما عمدا
ذلك هباء وكل قول جفاء ،وما زال منذ العوام الطوال ،منذ أيام رحله وأسممفاره ،يجممول بخمماطره
آلف من الفكار :ماذا أنا ؟ وما ذلك الشيء ،العديم النهاية الذي أعيش فيه ،والممذي يسممميه النمماس
كونا ة ؟ وما هي الحياة ؟ وما هو الموت ؟ وماذا أعتقد ؟ وماذا أفعل ؟ فهل أجابته على ذلممك صممخور
جبل حراء ،أو شماريخ طود الطور ،أو تلك القفار والفلوات ؟ كل ول قبة الفلك الممدوار ،واختلف
الليل والنهار ، ،ول النجوم الزاهرة والنواء الماطرة .لم يجبه ل هذا ول ذاك ،ومما للج واب عمن
ذلك إل روحا الرجل وأل ما أودع الله فيه من سره .
وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه ،فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هممذه هممي كممبرى
المسائل وأهم المور ،وكل شيء عديم الهمية في جانبها ،وكان لم إذا بحث عن الجواب في فممرق
اليونان الجدلية ،أو في روايات اليهود المبهمة ،أو نظام وثنية العرب الفاسدة ،لم يجده .وقممد قلممت
إن أهم خصائص البطل ،وأول صفاته وأخرها ،هي أن ينظر مممن خلل الظممواهر إلممى البممواطن ،
فأما العادات والستعمالت والعتبمارات والصمطلحات ،فينبمذها حميمدة كمانت أو رديئمة .وكمان
يقول في نفسه ) :هذه الوثان التي يعبدها القوم ل بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ممما هممي لممم
إل رمز له وإشارة إليه ،وأل فهي باطل وزور ،وقطع من الخشب ل تضير ول تنفع ( .
وما لهذا الرجل والصنام ،وأنى تؤثر في مثله أوثممان ولممو رصممعت بممالنجوم ل بالممذهب ،ولممو
عبدها الجحاجح من عدنان والقيال من حمير ،أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافممة ؟ إنممه فممي
وادد وهم في واد ،هم يعمهون في ضللهم ،وهو ماثل بين يمدي الطبيعمة قمد سمطعت لعينيمه الحقيق ة
الهائلة ،فإما أن يجيبها و إل فقد حبط سعيه ،وكان من الخاسرين .فلتجبهمما يمما محمممد ،أجممب ،لبممد
من أن توجد الجواب ،أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الممذي أقممام محمممداة وأثمماره ؟ حمممق
وأيم الله ،وسخافة وهوس ،أي فائممدة لمثممل هممذا الرجمل فمي جميممع بلد العممرب ،وفمي تمماج قيصمر
وصولجان كسرى ،وجميع ما بالرض من تيجان وصوالجة ،وأين تصير الممالك والتيجان والدول
جميعها بعد حين من الدهر ،أفي مشيخة مكة ،وقضميب مفضمض الطمرف ،أو فمي ملمك كسمري و
تاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة ؟ كل ،إذن فلنضرب صفحا ة عن مممذهب الجممائرين القائممل أن
محمداة كاذب ونعد مواقفهم عاراة وسبة « وسخافة وحمقأ« فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع (( . 48
الباب الثاني
من البعثة إلى الهجرة
الفصل الوأل
البعـــــــــــــــــــــثة
الوحي وأبدء البعثة
لقد عرف عمن النمبي أن ه ك ان دائمب العتكماف يتأممل فمي سمر الوجمود ،حبمب إلي ه الخلموة
والتحنث ،يقض اليام الطوال في العزلة والتعبد . . .
وكان نزول الوحي عليه في شهر رمضان من عام 610ميلدية حين بلغ الربعيممن مممن عمممره
وهو في غار حراء « فهو المصطفى المختار ليكون للناس كافة بشيراة ونذراة .. . .
يتحدث المستشرق الفرنسي جان توزنون كرو ) ( 1924 _ 1867في كتابه » العرب « عن
مقدمات النبوة وبدء البعثة في مقدمة كتابه بقوله :
))أن ا اصطفى محمداة لرشاد أمته ،وعهد إليممه هممدم ديممانتهم الكاذبممة وإنممارة أبصممارهم بنممور
الحق ،فأخذ من ذلك العهد ينممادى باسممم الواحممد الحممد ،بحسممب ممما أوحممى إليممه وبمقتضممى عقيممدته
الراسخة (( .إلى أن قال :
)) وقذف في نفس محمد مجموع كتاب ملن بالسرار واللهية ،وأوحى إليممه مجموعممة حقممائق
تجتاز مسافة عقله الطبيعي ،لذلك فإن ا علم النسان بالقلم « علمه ما لم يعلم ،هذا هو سر الوحي
،وهو مر الكلمة المكتوبة ،و كانت الكلمة المكتوبة وحيا ة إلهيةا((.49
)) وفي نواحي سنة 610للميلد ،بلغ محمد أشده ،فكان ل يقدر أن يتصور حال قومه بممدون
أن يتألم ،وكان يرى أن أمراة ضروريا ة ينقصه وينقص قومه ،وكان العرب ،كل قبيلة منهمم عاكفمة
على صنمها ،وكانوا يقولون بالجن والشباحا والغيلن ،ولكنهم كانوا في غفلة عنها ،وكانت هممذه
من كل فكر غير الفكممر بللممه ،وكممان قممد الغفلة هي الموت الروحي ،وكان قلب محمد قد خل
فمي نظمره غيمر واجمب الوجمود الحمد تجرد من كمل قموة غيمر همذه القموة ،وكمان ليمس
الفترة العزلة ،فكان يشممعر فممي خلمموته فممي الصمد ،إلى أن قال » :وأحب محمد في تلك
جبل حراء بسرور عميق ،يتزايد يومأ فيوما ة « فكان يقض هناك السابيع وليممس معممه إل قليممل مممن
الغذاء ،لن نفسه كانت تلتذ بالصوم والتهجد « ((. 50
وتفكمره وتحدث المفكر النكليزي توماس كارليل فمي كتمابه البطمال عمن اعتكماف الرسمول
بحقائق الحياة وأسرار الكون حين يقول :
» وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس في شهر رمضان ،فينقطع إلممى السممكون والوحممدة دأب
العرب وعادتهم ،ونعمت العادة ما أجل وأنفع ،ول سيما الرجل كمحمد ،لقد كممان يخلممو إلممى نفسممه
فيناجي ضميره صامتا ة بيممن الجبممال الصممامتة ،متفتحمما ة صممدره لصمموات الكممون الغامضممة الخفيممة .
آجل ،حبذا تلك عادة ونعمت ،فلما كان في الأربعين من عمره وقممد خل إلممى نفسمه فممي غممار بجبممل
) حراء ( قرب مكة شهر رمضان ،ليفكر في تلك المسائل الكبرى ،إذ هممو قممد خممرج إلممى خديجممة
ذات يوم ،وكان قد استصحبها ذلك العام و أنزلها قريبا ة من مكان خلوته ،فقال لها :انه بفضممل المم
قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر ،وأنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشممك وبممرحا الخفمماء ،
وآن جميع هذه الصنام محال ،وليست إل أخشابا ة حقيرة ،وان ل المه ال المم وحممده ل شممريك لمه ،
فهو الحق وكل ما خله باطل ،خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلممق والكائنممات إل ظممل لممه وسممتار
يحجب النور البدي والرونق السرمدي ،ا اكبر وا الحمد ،ثم السلم وهو آن نسلم الأمممر لمم ،
ونذعن له ،ونسكن إليه ،ونتوكمل عليمه ،وآن الق وة كمل الق وة فمي السمتنامة لحكممه ،والخضموع
لحكمته ،والرضا بقسمته ،أية كانت في هذه المدنيا وفمي الخمرة ،ومهمما يصمبنا بمه ام ول و كمان
الموت الزؤام فلنلقه بوجه مبسوط و نفس مغتبطممة راضممية ،و نعلممم أنممه الخيممر وآن ل خيممر إل همو
((. 51
ويتابع كارليل الحديث عن هممذا العتكمماف والتفكممر فممي شممؤون الحيمماة والكممون ،إذ كشممفت لممه
الحقيقة وأنيرت بصيرته ،مع نزول الوحي عليه « بقوله :
))نعم ،هو نور ا قممد سممطع ئ روحا ذلممك الرجممل فأنممار ظلماتهمما ،هممو فيمماء بمماهر كشممف تلممك
الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلك ،وقد سماه محمد _عليه السمملم _ وحيمما ة و» جبريممل
« ،وأينا يستطيع أن يحدث له اسما ة ،ألم يجيء في النجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والدراك ،ول
شك أن العلم والنفاذ إلى صميم المور وجواهر الشياء سر من أغمض السرار ل يكمماد المنطقيممون
يلمسون منه إل قشوره .وقد قال نوفاليس » :أليس اليمان هو المعجزة الحقة الدالة علممى اللممه ؟ «
فشعور محمد -إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة _ بأن الحقيقة الممذكورة همي أهمم مما
يجب على الناس علمه ،لم يك إل أمراة بديهيا ة ،وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه مممن الهلك
والظلمة ،وكونه قد أصبح مضطراة إلى إظهارها للعمالم أجمممع ،همذا كلمه همو معنمى كلممة ) محممد
رسول الله( وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين((. 52
لقممد أنممار نممزوع الرسممول إلممى الوحممدة والتأمممل الوجممداني العميممق ،مفكممراة بالشممؤون الدينيممة
والقضايا الجتماعية ،أنار له الطريق لدراك جوانب الفساد وضروب الضلل في المجتمع المكي،
كما كشف له الحقيقة الزلية :حتمية وجود خالق فرد صمد ،ول بد بالتممالي أن يخضممع هممذا الكممون
الكبير لنواميس تديره ~ ،من أصنام قريش وأوثانها .
ويتحدث المؤرخ اللماني كارل بروكلمان في كتابه » :تاريخ الشعوب السمملمية « عممن بعثممة
الرسول بقوله :
)) وأغلب الظن أن محمداة قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جداة ،وهو
أمر لم يكن مستغربا ة عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبممادة الوثنيممة عممن
أرواء ظمئهم الروحي .و تذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلتممه ببعممض اليهممود والنصممارى ،
أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والنجيل هزيلة إلممى
حد بعيد .ومع اليام أخذ اليمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه ،فيتجلى له فرغ اللهممة الخممرى
(( . 53
ويجدر بنا أن نقف عند نقطة هامة ،أثارهمما بروكلممان عرضمما ة ،لكممن وقممف عنممدها الكمثير ممن
البمماحثين الفرنسمميين ،وهممي أن الرسممول ق د أخ ذ م ن اليه ود والمس يحيين أخب ارهم الس الفة ،
ومعلوماتهم الدينية والتاريخية ليشككوا بصمدق الموحي ،لينتهمموا إلممى القمول بمأن القمرآن مممن تممأليف
محمد ،ولقد أشار الباحث العربي اللبنمماني الممدكتور عمممر فممروخ فممي تعليقممه علممى كتمماب بروكلمممان
بقوله :
)) أكثر المبشرين والمستشرقين يذكرون أن الرسممول اتصممل ببعممض النصممارى واليهممود وأخممذ
عنهم عدداة من المعلومات الدينية والتاريخية .ثم هممم يممذكرون أن هممذه المعلومممات كممانت خاطئممة أو
ناقصة .
المبشممرين أممما وجممه الحممق فخلف ذلممك .إل أننممي ل أريممد أن أريممد هنمما علممى
والمستشرقين مفنداة جميع أقوالهم فذلك مما يطول ،ومما اشتعل بممه نفممر مممن العلممماء أيضمما كالشمميخ
في القرآن يشبه بعض مما محمد عبده .ولكنني أقول أن العرب أنفسهم قالوا للرسول أن ما
يقوله علماء اليهود ،فنزلت اليات الكريمة ) - 26/192م : (197مم وانه لتنزيل رب العممالمين .
الروحا المينك .على قلبك لتكون من المنذرين .بلسان عربي مبين .وانه لفي زبر الولين ك نزل به
.أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ؟ .
فالخلف إذن ل يتناول أن بعض المعلومات التي فممي القممرآن تشمبه بعممض المعلوممات الممتي فممي
التوراة ،بل في زعم هؤلء بأن القرآن فهم هذه المعلومممات فهمما ة خاطئمما ة فممي رأيهممم أو أخممذها مممن
مصادر غير موثوقة .فالقضية كانت من العرب الولين ومن المستشرقين اليوم قضية تعصمب فقمط
((. 54
)) وفي أمكان المرء أن يتخيل ،في يسر ،ما استشعره الشمماب الحسمماس مممن وحممدة وانفممراد ،
والثر الذي لذ ل بد لذا الوضع أن يتركه في تكوينه العقلي .والواقع أن ما نزل عليه بعد من وحي
لم يهبط في خواء ، Vacuumبل هبممط فممي جممو مممن السممتبطان Introspeetionالمحت وم و
التسمماؤل الروحممي -وهممو الجمو الممذي يلئممم فممي العممادة حيمماة غلم فقممد أبمماه وأممه ،وعممدم الخمموة
والخوات (( . 55
والى جانب كونه رجل فكر وذا طبيعة روحية ،كان رجلة عمليا ة واقعيمما ة ،أدرك نممواحي الفسمماد
في مجتمع قبلي وثني ،فابتعد عنه وهداه التفكير إلى بلوغ الحقيقة الزليممة القائمممة علممى فكممرة اللممه
الواحد . . .يتابع ) روم لندو ( ،قائلة :
))كان محمد تقيأ بالفطرة ،وكان من غير ريب مهيممأ لحمممل رسممالة الصمملحا الممتي تلقاهمما فممي
رؤاه .وبالضممافة إلممى طممبيعته الروحيممة ،كممان فممي جمموهره رجلة عمليمما ة عممرف مممواطن الضممعف
ومواطن القوة في الخلق العربي ،وأدرك أن الصلحات الضروريه ينبغي أن تقدم إلى البدو الممذين
ل يعرفون انضباطا ة والى المدينين الوثنيين ،في آن معا ة ،علممى نحممو تممدريجي .وفممي المموقت نفسممه
كان محمد يملك إيمانا ة ل يلين بفكرة اللمه الواحممد -وهممى فكممرة لممم تكممن جديممدة كممل الجممدة فممي بلد
العرب -وعزما ة راسخا ة على استئصممال كممل أثممر مممن آثممار عبممادة الصممنام الممتي كممانت سممائدة بيممن
الوثنيين العرب(( .56
أما الباحث العسكري جان باغوت غلوب ،الذي عممرف فممي البلد العربيممة باسممم غلمموب باشمما ،
حيث كان رئيسا ة لركان الجيش الردني ،فقد كتب عن تحنث الرسممول ،ونممزول المموحي عليممه فممي
كتابه » :الفتوحات العربية الكبرى « ،بقوله :
)) واقترب عام 610ميلدية ،وكان محمد قد بلغ الربعين من عمره وازداد ميله إلى الوحدة
والتأمل .وكان يهرب من طرقات مكمة المحرقمة المغمبرة ،ويلجمأ إلمى كهموف الجبمال القريبمة ممن
الوادي العتيق الذي تقبع فيه المدينة ليقض فيا أحيانا ة أياما ة متوالية .وتسرحا أفكار الرجل متممأملة فممي
هذه القمم الجرداء الداكنة التي يراها من فتحات الكهمموف ،والممتي ل تظهممر عليهمما نأمممة حيمماة ،ول
تفصلها عن بعضها إل شعاب عميقة ضمميقة مممن الخاديممد والوديممان الجافممة ،و تعممود فتممتركز علممى
فلسفة الحياة الخرى التي كان قد سمع نتفا ة عنها من اليهود والنصارى ،وعلى وجود اله واحد أحممد
قوي صمد عنده الجنة السرمدية والحياة السعيدة الزلية ،يمنحها للمؤمنين من عباده ،وعنده جحيممم
بما فيما من عذاب ل نهاية له ينزله بالكفرة وغير الصالحين .
وكان يعود إلى بيته وقد أثقلته هذه الفكار فيبوحا بها إلى زوجته الوفية خديجة التي ما برحا يجممد
عندها المستقر والمراحا والحث والتشجيع وقد مزجت في رعايتها له بين حب الزوج وحنان الم .
وألف محمد اللجوء إلى الغار في الجبال في فترات معينة من شهر رمضان طلبا ة للتأمل والتعبممد
والتفكيممر والتهجممد .وبينممما كممان يتعبممد فممي غممار حممراء حسممب عممادته إذ نممزل عليممه جبريممل رأس
الملئكة (( . 57
)) أول ما بدىء به رسول ال من الوحي :الرؤيا يا الصالحة في النوم ،وكان ل يممرى رؤيمما
إل جاءت مثل فلق الصبح ،ثم حبب إليه الخلء ،وكان يخلممو بغممار حممراء ،فيتحنممث فيممه - ،وهممو
التعبد الليالي ذوات العدد -قبل آن ينزع إلى أهله ،ويتزود لذلك ،ثممم يرجممع إلممى خديجممة ،فيممتزود
لمثلها ،حتى جاءه الحق -وفي رواية :حممتى فجممأة الحممق -وهممو فممي غممار حممراء ،فجمماء الملممك ،
فقال :اقرأ ،قال :قلت :ما أنا بقارلي ،قال :فأخذني فغطني ،حتى بلغ منممى الجهممد ،تممم أرسمملني
فقال :اقرأ ،فقلت ما أنا بقاريء ،قال :فأخذني فغطني ثانية حتى بلممغ منممى الجهممد ،تممم أرسمملني ،
فقال :اقرأ :فقلت :ما أنا بقارلي ؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ،تم أرسلني ،فقال :
و اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق النسان من علق ،اقرأ وربك الكممرم الممذي علممم بممالقلم ،علممم
النسان ما لم يعلم و ) . ( 5-1 /96فرجع بها رسول ا يرجف فؤاده ،فدخل على خديجة
بنت خويلد ،فقال :زملونى ،زملونى ،فزملوه حتى ذهب عنه الممروع ،فقممال لخديجممة -وأخبرهمما
الخبر : -لقد خشيت على نفسي ،فقالت له خديجة :كل ،أبشر ،فو الله ل يخزيممك المم أبممدا ،أنممك
الكل ،وتكسب المعدوم ،و تقري الضيف ،وتعيممن علممى ن لتصل الرحم ،و تصدق الحديث ،وتحمل
نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة ،حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قص -وهو ابن عممم
خديجة ،أخي أبيها -وكان امرءأ تنصر فممي الجاهليممة ،وكممان يكتممب الكتمماب العممبراني ،فكتممب مممن
النجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ،وكان شيخا ة كبيراة قد عمى ،فقالت له خديجة :يا ابن عم ،
اسمع من ابن أخيك ،فقال له ورقة :يا ابن أخي ،ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللمه خ بر م ا رأى ،
فقال له ورقة » :هذا الناموس الذي نزل ال على موسى ،يا ليتني فيما جذعا ة ،ليتني أكممون حيمماة إذ
يخرجك قومك « .فقال له الرسول : أو مخرجي هم ؟ قال :نعم ،لم يأت رجل قط بمثل ما جئت
به إل عودي ،وان يدركني يومك حيا ة أنصرك نصراة مؤزراة ،ثم لم ينشب ورقممة أن تمموفي ،وخممر
الوحي ((. 58
)) هكذا كان محمد بحراء ،فكان ينشد الكون في تلك الجبال إلممى كممان يممذهب يخلممو بنفسممه فممما
متأمل في السماء ذات الكواكب ،إلى ما كان في يسمعه من أعمق أعماق قلبه ،وهو الرجل الممي
الفطري الصادق ،و ذلك الصوت هو صوت الحقيقة البدية ((. 59
»لم يكن محمد ممن لم يعرف العالم الباطن ،نعم ،لم يكن متصوفا ة بالمعنى المعروف ،إل انه
كان عن يرى أن المور التي في الغيب أعظم من المور التي تحت الحمس ،المشمهود أدنمى درجمة
من المحجوب ،فالنظام الروحي في نظره هو الهم وهو الوجود الحقيقي (( .60
بينما كتب المشتشرق اليوغسلفي الدكتور التر بتكين ) ( 1907~1833في مؤلفه )الحياة تبممدأ
بالربعين « ،قائلة :
))في أحدى ليال شهر رمضان بينما كان محمد نائما ة في أحممد كهمموف حممراء ،عمماد فتجلممى عليممه
ذلك الشبح ،وفي يده قطعة من الحرير عليها كتابة ،وقال له ذلك الشخص :اقممرأ أ ،فأجممابه :لسممت
بقاريء ،فأعاد عيه القول ثانيا ة :اقرأ -اقرأ أ باسم ربك الذي خلممق ،خلممق النسممان مممن علممق إلممى
آخر السروة فردد محمد هذه الكلمات ،وأحس بالنور قد أشرق عليه « .61
أما المستشرق الروسي ماكس مايرهوف ) _ 1815م ( 1887م فقد قممال فممي كتممابه ) :العمالم
جامع الصول في احاديث الرسإول ،ج ، 11ص .276-275 58
السلمي ( :
))أن محمداة عام 610للميلد كان كثير التفكير والنفراد ،وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه
في جبل حراء قرب مكة ،فرأى ذات يوم رؤيا هي أن الملك جبريل تجلى لممه ،ونمماوله كتابمما ة وقممرأ
عليه هذه اليات ص السورة السادسة والتسعون من القرآن اقرأ باسم
ربك الذي خلق الخ نزل عليه هذا الكلم وحيا ة فأخبر امرأته بما وقع ،ثم جاء وحى آخممر فيممما
بعد ،فلما شعر تغطى بثوب فسمع هذه الكلمات يا أيها الم دثر ق م فأن ذر ودربممك فكممبر ) (74/3
ومنذ ذلك الحين اقتنع بأن الله اختاره مبشراة بعقيدة جديممدة ،و تسمممى برسممول اللممه ليممدعو إلممى اللممه
بلسان عربي مبين (( . 62
أن نزول الوحي على النبي محمد ك ان إيممذانا ة ببممدء المرحلممة التاريخيممة الحاسمممة الجديممدة فممي
حياته -عليه السمملم -أولة ،وفممي حيمماة شممبه الجزيممرة العربيمة ثانيمما ة ،لقممد كمان السمملم منعطفمما ة
تاريخيا ة كبيراة ،ول بد لنتشاره من أن يصطدم بكل القيم والعادات والتقاليد والعبممادات السممائدة . . .
فالدعوة الجديدة تحمل في ثاناياها خصوصية مرحلتها وعالمية الدعوة دونما تناقض أو تنافر ،فهممي
تسعى إلى صلحا النسان وصلحا المجتمع ،ونبذ العادات القبليممة الذميمممة كموأد البنممات والعبممادات
الوثنية ونقلها إلى العادات النسانية السممامية ،ورأسممها العبممادة التوحيديممة الممتي تقممول بوحدانيممة اللممه
وربوبيته .
يقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيمه غروسميه صماحب كتمابي ) ،الحمروب الصمليبية( ،و
) مدنيات من الشرق ( في مؤلفه الخير :
))كممان محمممد لممما قممام بهممذه الممدعوة شممابا ة كريممما نجممداة ،ملن حماسممة لكممل قضممية شممريفة ،
وكان أرفع جداة من الوسط الذي يعيش فيممه ،وقممد كممان العممرب يمموم دعمماهم إلممى اللممه منغمسممين فممي
الوثنيممة ،وعبممادة الحجممارة ،فعممزم علممى نقلهممم مممن تلممك الوثنيممة إلممى التوحيممد الخممالص البحممت ،
وكممانوا يهتفممون بالفوضممى ،وقتممال بعضممهم بعضمما ة فممأراد أن تؤسممس لهممم حكومممة ديموقراطيممة
موحممدة ،وكممانت لهممم عممادات وحشممية همجيممة صممرفة ،فممأراد أن يلطممف أخلقهممم ،ويهممذب مممن
خشونتهم ((. 63
بينا نظر اليه المستشرق السويسري ادوار مونتيه ) ( 1882 - 1810مم مدير جامعممة جنيممف
ومدرس اللغات الشرقية -في مؤلفه » :المدنية الشرقية « « نظرته إلى النبياء التوراتيين القممدماء
بقوله :
» كان محمد نبيا ة بالمعنى الممذي كممان يعرفممه العممبرانيون القممدماء ،ولقممد كممان يممدافع عممن عقيممدة
خالصة ل صلة لها بالوثنيمة ،وأخممذ يسممعى لنتشمال قممومه ممن ديانممة جافمة ل اعتبممار لهما بممالمرة ،
وليخرجهم من حالة الخلق المنحطة كل النحطاط ،ول يمكن أن يشك ل فممي إخلصممه ،ول فممي
الحمية الدينية التي كان قلبه مفعما ة بها ((. 64
)) كان محمد نبيا ة صادقا ة ،كممما كممان أنبيمماء بنممى إسممرائيل فممي القممديم ،كممان مثلهممم يممؤتى رؤيمما
ويوحى إليه ،وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود اللوهية متمكنتين به كما كانتا متمكنتين في أولئممك
النبياء أسمملفه فتحممدث فيممه كممما كممانت تحممدث فيهممم ،ذلممك اللهممام النفسممي ،وهممذا التضمماعف فممي
الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشرى المرائي والتجليات والوحي والحوال الروحيممة الممتي مممن
بابها (( . 65
هذا ،ول بد من وقفة مطولة في دراسة صدق الرسول وصممحة الرسممالة السمملمية ،فممي بحممث
مستقل سندرس فيه حقيقة الوحي ،وأن محمداة لم يؤلف القممرآن ،ونممرد علممى المزاعممم الستشممراقية
التي اتهمت الرسول بالصرحا والجنون والحتيال ،وبأن الوحي الذي سمعه في رؤاه الصممادقة كممان
صوت الحقيقة البديمة ،صموت الل ه المذي اختماره ليكمون رسمولة للنماس كافمة . . . ..ونقمول :أن
الرسالة التي نزلت على الرسول قد حملته أعباء هائلة فوق طاقة البشر ،يقول آتيين دينيه :
)) نزل المموحي كجممذوة وهاجممة بممددت مممن نفممس محمممد كممل شممك ،و أشممعلت فيممما تلممك المممال
اللشعورية ،و تلك القوى الكامنة التي كدسها في نفسه خمس عشر سنة تقضت في التأمل والتحنث
.لقد فح الوحي عينيه على آفاق شاسعة .وأطلعه على ما يجمب أن يقموم بمه نحمو تلمك الرسممالة ممن
جهود جبارة خطرة .لم يدر بخلد محمد يومأ ما أنه سيحمل هذا العبء ،الهائممل ،ولثممن كممان بعممض
الرهبان قد تنبئوا بشي ،منممه ،فممإنه لممم يعممر تنبممؤاتهم أي اهتمممام ،بممل لقممد نسمميها ،وان اضممطرابه
وخوفه ،حينا فوجي بالوحي ،من أن يكون فريسة لتخيلت شيطانية ،ليؤكدان لنا صحة ما نقول .
وهذا محمد الذي كممان يفممر مممن الختلط ببنممي جنسممه ،والممذي كممان يممأبى أيممة وظيفممة مممن تلممك
الوظائف العامة ،التي كان مواطنمموه علممى اسممتعداد لن يمنحوهمما إيمماه ،وقممد أصممبح -تحممت تممأثير
الوحي -مستعدا لن يواجه الحياة الصاخبة الجارفممة ،وقممد امتل قلبممه إيمانمما ة مكينمما ة ،وأفعمممت نفسممه
بشجاعة ل تلين ،و تأهب للقيام بالرسالة ،بل تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليممما إنسممان .ولقممد
تأهب ،في غير ما خوف أو إشفاق من تلك المتحانات الهائلة التي ل مفر مممن أن يبتلممى بهمما أمثمماله
من الهداة المرسلين .في تلك الليلة الخالدة ،ليلة القدر ،نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كممان
محفوظا ة بها إلى السماء الدنيا ،التي تنتشر مباشرة فوق كرتنمما الرضممية .وفممي هممذه السممماء الممدنيا
وضع القرآن في بيت العزة ،ذلك البيت الذي على سمت بيت الله :الكعبة المقدسة ((. 66
الفصل الثاني
الدعوة السلمية
في
مسيرتاها الكفاحية
المسلمون الوأائل وأسرية الدعوة
لقد كان قمينا ة بتلك الدعوة السلمية أن تكون كفاحية المسيرة ،وخاصة فيممما يتصممل بانطلقتهمما
التي بدأت سراة ،ومن ثم بالمجاهرة والعلنية ،إذ أقصرت بادىء ذي بدء على قلة مممن المسمملمين ،
في طليعتهم زوج الرسول خديجة من النساء وأبو بكر من الرجال ،وعلى بن أبي طالب من الفتيممان
،وزيد بن حارثة من الموالي ،و بلل من العبيد .
ومن ثم انضم إلى صفوف المسلمين عدد من الرجالت الذين كان لهم دورهم البارز في التاريممخ
السلمي . . .يتحاث » آتيين دينيه « عن تلك المجموعة السلمية الولى وممارستها العقيدة سراة
،وبالتالي مسيرة الحركة في هذه المرحلة بقوله :
)) هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين كانت تحيا حياة مليئة بالنفعالت والعواطف .حقا ة ممما
أجمل اجتماعهم في عبادة ا مستخفين عن أعين الناس .لشد ما كانوا يأخمذون حمذرهم كيل يمثيروا
انتباه المشركين .وفي هذه الظروف ل يمكن للدعوة السلمية أن تنشر إل سراة ،وبين الصمدقاء ،
ولهذا كان تقدم السلم في سنواته الثلث الولى بطيئا ة جداة (( . 67
ولم يلق الرسول إل إعراضا وهزءاة جابههما ب ه سممكان مك ة ،بمل سمرعان مما ة ثمارت ثمائرة
قريش حين دعا ة -عليه السلم -إلى نبذ عبادة الصممنام ،واللتفممات إلممى الديانممة التوحيديممة . . . .
وكان قادة مكة من مشركي قريش متمسكين بتقاليدهم الدينية عكوفا ة على الوثان ،ورموا الرسول
بأقبح النعوت ،من سحر وشعر وكهانة وجنون ،وأطلقوا عليه لقب الصابىء لخروجممه علممى عقيممدة
أجداده ،وساموه مر العذاب . . .ويتحدث المفكر النكليزي توماس كارليل عما لقمماه الرسممول مممن
عشيرته وعاناه في محاولته إقناع أفرادها بصحة ما يؤمن به ،فقال :
)) وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك ،فما كان يصادف إل جحوداة وسخرية ،حتى أنممه لممم يممؤمن
به في خلل ثلثة أعوام إل ثلثة عشر رجلة ،وذلك منتهى البط ،و بئس التشجيع ،ولكنه المنتظر
في مثل هذه الحال ،وبعد هذه السنين الثلث أدب مأدبة لربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيبا فذكر
دعوته ،و انه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون ،و أنها المسألة الكمبرى بمل المسمألة الوحيمدة ،
فيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره ؟ وبينما القوم صامتون حيرة و دهشة وثب على ،وكان غلممما ة فممي
السادسة عشر ،وكان قد أغاظه سكوت الجماعة فصاحا في أشممد لهجممة أنممه ذاك النصممير والظهيممر .
ول يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداة ومعادينه وكلهم قرابته ،وفيممه أبممو طممالب عممم محمممد وأبممو
علي ،ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلم في السادسة عشمر ،يقوممان فمي وجمه العمالم بمأجمعه
كانت مما يدعو إلى العجب المضحك ،فانفض القوم ضاحكين ...ولكن المممر لممم يممك بالمضممحك ،
بل كان نهاية في الجد والخطر(( . 68
وإذا كان الرسول يحظى بحماية قممبيلته -بنممى هاشممم – حسممب العممراف القبليممة ،وكممذلك
المسمملمين بعض المؤمنين من أسرهم القرشية ،تبعا ة للعراف نفسها ،فقممد لق مستضممعفو
أقس أنوع الظلم والضطهاد ،وعوملوا بمنتهى الوحشية ،إذ تفنممن القرشمميون فممي عممذابهم ،حممتى
سقط منهم الشهداء ،مما دل على اليمان العميق لولئمك المسمملمين الوائمل الممذين صممدوا للهمجيممة
الشرسة لمشركي قريش ،ودلل صمودهم البطولي على قوة السلم ومنعته رغم طراوة عوده .
ومن جهة ثانية ،دلل صمود المسلمين الوائل علممى أن العقيممدة الممتي آمنمموا بهمما هممي أقمموى مممن
جميع نوازعهم ،بلغ لديهم الثبات على المبدأ ذروة التضحية بالذات والمال في سبيل أن تبقممي شممعلة
السلم متألقة نيرة . . .
وكان نضال الرسول ملحميا ة ،لم إيمانه بالرسالة عميقا ة ،لم تثنه مواقف قممومه عممن المضممي فممي
نشر الدعوة ،مما تحدث عنه المستشرق اليطالي ميخائيل ايمارى في كتممابه )تاريممخ المسمملمين( ،
فقال :
)) وحسب محمد ثناءة عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظممة واحممدة فممي موضمموع رسممالته
على كثرة فنون المساومات واشتداد المحن وهو القائل "لو وضممعوا الشمممس فممي يمينممي والقمممر فممي
يساري على أن أترك هذا المر ما تركته " .عقيدة راسخة ،وثبات ل يقاس بنظير ،و همممة تركممت
العرب مدينين لمحمد بن عبد ا ،إذ تركهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر (( . 69
)) هل كان قوي النفوذ ؟ نعم ،فقد كانت أسرته تقوم بسدانة الكعبة ،وتتولى شؤون مكممة ،تلممك
المدينة المقدسة ،ولذا كان مركزه وما اتصف به من أخلق كريممة يمؤهلنه ليكمون موضمع الثق ة .
ولكن حينها دعا محمد إلى السلم اصطدم بأسرته وقبيلته ،وجر علممى نفسممه عممداءهما ،فقممد كممان
تحطيم الوثان يقضي على سيطرة قريش على الكعبة وما تستفيده من قدوم الحجاج (( .70
)) يمكننا أن نلقى نظرة عامة شاملة على الثر التاريخي الذي قممامت بممه الممدعوة إلممى السمملم ،
خاصة أثرها في الدائرة القريبة ،التي كانت دعوة محمد موجهة إليها بطريممق مباشممر قبممل غيرهمما،
حقاة ل جدة ول طرافة في هذه الدعوة ،ولكن قد استعيض عنها بأن محمداة قد بشممر برسممالة السمملم
للمرة الولى بحماس ل يفتر ولم تعوزه المثابرة ،وبعقيدة ثابتة بأن هذا الدين يحقق صممالح الجماعممة
الخاصة ،وقد كان في ذلك كله مظهرا إنكار الذات ،برغم سممخرية الجمهممور ،إذ الحممق أن محمممداة
كان بل شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية ،تلك كممانت طرافتممه برغممم
قلة المادة التي كان يبشر بها(( .71
غمممر أن الرسمممول بل غ م ن اليم ان برس الته درج ة ل رج وع فيه ا ورغ م كمممل
الخمماطر و المزالممق ،وكممل أسمماليب الوعممد والوعيممد ممما كممان بمقممدوره ،أن يممتراجع قيممد أنملممة عممن
مسمميرته ،وهممو علممى ثقممة تامممة بممأن امم مؤيممده بنصممر ول ريممب ،وأن الرسممالة ل بممد أن تعممم
مستقبلة ،ولممذا مضممى مسممتهينا ة بكممل الصممعاب ليقينممه أن نشممر رسممالة التوحيممد فممي الجممواء الوثنيممة
ل بممد أن تممؤلب عليممه العممداء وتقمموده إلممى خصممومة القيممادة القرشممية ،يقممول المممؤرخ المريكممي
واشنجتون ارفنج :
)) لقي الرسول من أجل نشر السلم كثيراة من العناء ،وبذل عدة تضمحيات .فقمد شمك الكمثير
في صدق دعوته ،وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحا ة كبيراة ،وتعممرض خلل إبلغ المموحي إلممى
الهانات والعتداءات والضطهادات ،بل اضممطر إلممى أن يممترك وطنممه ويحممث عممن مكممان يهمماجر
إليه . . .فقد كان في الربعين من عمره حينا نزل عليه الوحي وعانى كثيراة سنة بعد أخرى في نثر
السلم بين أفراد قبيلته (( . 72
وبدوره تناول الباحث النكليزي توماس كارليل موقف قريش من الرسممول وكفمماحه المريممر فممي
نشر الدعوة وموقف عمه أبى طالب ،فقال :
جولد تسهير :العقيدة و الشريعة في السلم )ترجمة طائفة من علماء الزهر ( ،ص .6-5 71
واسنطون ارفنج )نقل عن كتاب روحا الدين السلمي ،ص .(437 72
37
)) وسرى أمر محمد ببط ،ولكنه سريان على كل حال .وكان عمله بالطبع سيء ،الوقممع لممدى
كل إنسان ،إذ جعلوا يقولون » :من هذا الذي زعممم أنمه أعقمل منما جميعما ة ،والمذي يعنفنما ويرمينما
بالحمق وعبادة الخشب ،وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويممؤمن بممه وحممده ،وأن يكممون لممه مممن
نفسه ما يشغله عن العالم ،وأن ل يسخط القموم ويمثير غضمبهم علي ه فيخطمر بمذلك حيماته ،فأجمابه
محمد " :و ا لو وضعوا الشمس فمي يمينمي والقممر فمي يسماري علمى أن أتمرك همذا الممر حمتى
يظهره ا أو أهلك فيه ما تركته" كل ،فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئا ة مممن عنصممر الطبيعممة
ذاتها ل تفضله الشمس ول القمر ،ول أي مصنوعات الطبيعة ،ول بد لتلممك الحقيقممة مممن أن تظهممر
برغم الشمس والقمر ،مما دام قمد أراد أن تظهمر ،وبرغمم قريمش جميعهما ،وبكمره سمائر الخلئمق
والكائنات .نعم ل بل أن تظهر ول يسعها إل أن تظهر ،بذلك أجاب محمد ،ويقممال انممه اغرورقممت
عيناه :لقد أحس من عمه البر والشفقة ،وأدرك وعورة الحال ،وعلم أنه أمممر ليممس بممالهين الليممن ،
ولكنما أمر صعب المراس ،مر المذاق ((. 73
ومممع ذلممك لممم يكممن جميممع المسمملمين الوائممل علممى هممذا المسممتوى والسممتعداد للتضممحية ،
فكمان هنماك ممن لنمت قنمماته فلمم يصمبر ولمم يصممد أممام العممذاب ،فممانتزعت ممن شممفاههم كلممات
الممردة عممن السمملم ،رغممم إيمممانهم بالرسممالة ،مممما جعلهممم يعممانون المريممن ،مممرارة الخجممل
والشممعور بالهزيمممة ،ومممرارة تنكرهممم للسمملم والممتزامهم بممدين أجممدادهم ،ويتحممدث المستشممرق
الرومانى » جيورجيممو« عمن الوضمماع السممائدة ،قبممل أتحمماذ الرسممول قممرار هجممرة المسمملمين إلممى
الحبشة ،بقوله :
)) لم يكن إيمان بعض من أسلم مؤخراة بمستوى المسلمين الوائل ،كما لم يكن لهممم ذلممك العممزم
الذي يجابه شدائد المشممركين ،ولسمميما أن قريشمما ة زادت مممن عممدائها حيممث منعممت النمماس مممن بيممع
المسلمين والشراء منهم ،كما منعت الزواج منهم ،أو التزوج ببناتهم .ففي مكة ،كانت التجارة هي
الوسيلة الوحيدة للعيش ،فعندما امتنعوا عن التعامل معهممم شمملوا حركتهممم وهممذا ممما دفممع بعممض مممن
أسلموا مؤخراة إلى التخلي عن إيمانهم والرتداد إلى دين أجدادهم ((. 74
ويتحدث المستشرق الفرنسي ه آتييممن دينيممه ،عممن مأسمماة المسمملمين وآلم الرسممول لفتنتهممم ،
وقراره الشجاع بهجرتهم إلى الحبشة ،قائلة :
ك .جيورجيو :نظرة جديدة على سإيرة رسإول ا ،ص .116 74
38
)) وامتلت نفس الرسول حزنا ة ،أمام هذه المآسي التي كان يتحملها ضعاف المسمملمين الممذين ل
يجدون من يحميهم .حقا ة إن شجاعة المعذبين والشهداء في سبيل ا برهنت على إسلمهم العميممق ،
ولكنه رأى أن من الخير أل يستمر هذا البلء ،فنصح الضعفاء ومن لم تدعهم الضرورة إلممى البقمماء
في مكة بالهجرة إلى الحبشة حيث المسيحيون ،وحيممث التسممامح والعممدل اللممذان اشممتهر بهممما ملكهمما
النجاشي((. 75
وتدل فكرة الهجرة إلى الحبشة على ما تعانيه الحركة السلمية من تعثر وضممغوط نفسممية وآلم
جسدية في أتون ذلك الصراع بين العقيدتين الوثنية والتوحيدية ،ونلخص بما يلممي السممباب المباشممر
لتلك الهجرة :
لقد كان قممرار الرسممول حكيم ا ة وواقعي ا ة لحماي ة المس لمين م ن الضممطهاد ،وحمايممة الحركممة
السلمية -مستبعدين الراء الستشراقية الخرى -فجاء تصميمه على هجممرة المسملمين وأن يبقممى
هو في مكة يواجه ذلك العصار العاتي ،يقول جيورجيو :
))وقر رأيه أخيراة على ترحيل المسلمين إلممى الحبشممة ،بينممما يبقممى هممو فممي مكممة ،متحملة كممل
الخطار .ولم يقم أي من النبياء السابقين بمثل هل ا التصميم((. 77
وتوجست القيادة القرشية من هجرة المسلمين إلى الحبشة شراة مسممتطيراة ،فحمماولت دون جممدوى
أن تقبض عليهم وتحول دون إبحارهم ،فثارت ثاثرتها لفلتهم من قبضممة الكفممر ،وأخممذت تحسممب
لهذه الهجرة ألف حساب ،فاستقر رأيها على إيفاد رجليممن ممن لممدنها همما عمممرو بمن العمماص داهيممة
العرب وعمارة بن الوليد ليطلبا إلى النجاشي إعادة المسلمين على أنهم مارقون من الدين . . .وفعلة
،تحدث سفيرا قريش مع النجاشي في مهمتهما هذه ،إل أن دفاع المهاجر جعفر بن أبي طممالب عممن
السلم بحضرة النجاشي ،كان له أثممره العميممق فممي وجممدانه .ورأى بالرسممالة الجديممدة دينمما ة جديممداة
يعترف بالرسالت السماوية السابقة ،ويقر بوحدانيممة ام ،ورفممض الشمرك والوثنيمة ،وينهممى عمن
فواحش الجاهلية ويدعو إلى مكارم الخلق .فكان أن رفض طلب القيادة القرشية ،ومنممح المسمملمين
حق اللجوء ،فوجدوا بحواره أمنا ة ودعة .
ويتحدث الباحث السلمي مولنا محمد علمى فمي كتمابه » :حيماة محممد ورسمالته « ع ن آثمار
الهجرة السلمية على القيادة القرشية ،بقوله :
)) وحيممن عمماد الوفممد القرشممي مممن الحبشممة بخفممي حنيممن تخطممى غيظهممم كممل حممد ،لقممد واصمملوا
اضطهادهم المسلمين في اهتياج مضاعف .كانوا حتى ذلك الحين يشهدون صبر المسلمين على هذه
المحن القاسية في دهش عظيم ،ولكن الهجرة إلى الحبشة أعطتهم برهانا ة قاطعا ة علممى أن المسمملمين
مستعدون لمختلف ضروب المخاطر ،ولتحمل كل لون من ألوان التعذيب في سبيل عقيدتهم ،وعلممى
أنهم لن يحجموا عن خوض غمار المخاطر كلها في سممبيل امم .وفمموق هممذا ،فعنممدما تسممامع سممائر
المسلمين في مكة بالرعاية الكريمة التي أسبغها النجاشي على إخوانهم شخص عممدد منهممم فممي العممام
التالي إلى الحبشة .و تعرف هذه الهجممرة بممالهجرة الثانيممة إلممى الحبشممة .وبممذل القرشمميون قصممارى
جهدهم لكبح جماحا هذه الهجرة ،ولكن دونما طائل (( . 78
ورغم اقتناعنا ة المسبق باختلق خبر )الغرانيق العلي( ،لكننمما آثرنمما الوقمموف عنممده لنممه عمليمما ة ،
أثار ضجة كبرى في الدراسات السلمية ،ونبهت الكممثير مممن المستشممرقين للتوقممف عنممدها ،بممل
للتحقق من مدى صحتا تاريخيا ة لما فيها من مساس برسول السمملم ،وشخصمميته العظيمممة وحقيقممة
الصلح المؤقت المزعوم بينه وبين الزعامة القرشية . . .ويندرج في جملة من تحدث بها علممى أنهمما
حقيقة ثابتة المؤرخ اللماني كارل بروكلمان الذي ذهب به الرأي إلى أنه رغم ما يعمممر قلبممه م ن
إيمان بوحدانية الله جل جلله وبالتالي بطلن آلهة قريش ،فقد اعممترف فممي البممدء بممآلهتم الغرانيممق
الثلث ،اللت والعزى ومناة ،يقول :
))ولكنه على ما يظهر اعترف فى السنوات الولى من بعثتممه بآلهممة الكعبممة الثلث اللممواتي كممان
مواطنوه يعتبرونها بنات ا .ولقد أشار إليهن في إحدى اليات الموحاة إليه بقوله " :تلك الغرانيممق
العلى وان شفاعتهن لترتجى " .أما بعد ذلك حين قوى شعور النممبي بالوحدانيممة فلممم يعممترف بغيممر
الملئكة شفعاء عند ا ،وجاءت السورة الثالثة والخمسون )النجمم ( وفيهما إنكممار لن تكممون اللهممة
الثلث بنات ا .ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسممليم إل تحممولة أغممراه بممه الشمميطان ،
ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد أوقات النبي ضيقا ة في مكة ،ثممم ممما لبممث أن أنكممره و تممبرأ منممه فممي
اليوم التالي ((. 79
والغريب أن الباحث العسكري غلوب باشا ،قممه أورد خممبر )الفرايممق( رغممم التجمماه العسممكري
لكتابه " :الفتوحات العربية الكبرى" وما يحرص عليه غالبا ة ممن الموضمموعية فقممد سمماق الخمبر نقلة
عن المستشرقين الذين سبقوه في التشكيك برسالة السلم ،ونحن ل نرى في ذلممك بممدعا ة ،إذ وقممع
في هذا الشرك الكثير من كتاب السيرة المسلمين ورواة الحاديث الضعيفة ،يقول :
)) وكان وجوه مكة وشيوخها يجلسون ذات يوم في العراء على مقربة من الكعبة عنممدما اقممترب
منهم محمد واقتعد مجلسه معهم ،وبعد صمت قصير بدأ النممبي يتلممو علممى مسممامعهم سممورة النجممم ،
فيحدثهم عن الوحي والتنزيل وكيف وقف الملك جبريل على بعد خطمموتين منممه حممدثهم عممن زيممارة
الملك الثانية ،عند سدرة المنتهى ،ثم مضى يقول . . .ثم رأى من آيات ربه الكبرى .أفرأيتم
اللت والعزى ،و قناة الثالثة الخرى .ألكم الذكر وله النثى ،تلك إذا قسمة ضيزى* ورأى سادة
قريش الرسول وهو يشهد لهذه اللهة الثلثمة ،ثمم رأوه فمي نهايمة السمورة وهمو يسمجد فمي صملته
فسجدوا معه جميعا ة وأخذوا يصلون معه .ول ريب في أن هذا الحادث يقيم الدليل على أن أهل مكممة
كانوا يعترفون بصورة عامة بوجود إله عظيه واحد .ولكنهم كانوا يرون أن آلهتهم المحلية هذه هي
سبيل للوساطة عنده .وكانوا يقولون إنهم على استعداد لتباع النبي في عبادة امم شممريطة أن يكممون
على استعداد للعتراف بدور آلهتهم الصمغرى .وسمرعان مما وقعمت مهادنمة آنيمة وتموقفت حملت
العذاب والضطهاد .
ولكن الرسول مما فمتىء أن ع اد إلمى داره وشمعر بضمميره يعمذبه ،فهمل ممن الحمق أن يهمادن
الشرك حتى ولو كانت غايته إنقاذ أتباعه من الضطهاد وظهر له جبريممل مممن جديممد وأخممذ يعمماتبه .
وأحس باللم والخوف من الله .انه ل يرضى عن تراجعه وقرر أن يتراجع عن ممموقفه السممابق وأن
يواجه من جديد غضب قومه .وعاد إلى القوم فأكمل على مسامعهم السورة علممى النحممو الممذي يبممدو
في القرآن .وأثار هذا التراجع سخط أهل مكة واستفزهم فعادوا إلى اضطهاد المسلمين (( .80
ويعتممبر المستشممرقون أن اعممتراف الرسممول بالله ة الثلث كممان وراء هممدف سياسممي لكسممب
النصار في مكة والمدينة والطائف ،واستمالة عدد من زعممماء قريممش . . .غيممر أنممه مممن الهميممة
بمكان ،التأكيد على أن الرسول الذي عرف طوال عمره بروحه الكفاحية العاليممة الممتي ل تهممادن
ل يمكن البتة أن يعترف بتلك اللهة ،ويقع في فممخ الشممرك الممذي كممان أسمماس دعممواه القضمماء عليممه
وإقامة الوحدانية . .وهذا مما يؤكد بدوره اختلق هذا الخبر المدسوس في كتممب الحممديث المشممهورة
بضعفها وعدم ثقة رواتها .
و نممرى أن نثبممت هنمما مممارد بممه البمماحث اللبنمماني الممدكتور عمممر فممروخ فممي تعليقممه علممى كتمماب
بروكلمان ومناقشته تمسك المبشرين بهذه الرواية ،يقول ذلك العلمة :
)) الكلم في هذا الموضوع كثير ،وجله خارج عن الحقيقة .وخلصة الموضوع توجز في ممما
يلي :
*
ضيزى :جائرة .
" زعم توم من الرواة أن الرسول قواة يوما ة في سورة النجم ) السورة : ( 53مم أفرأيت م اللت
والعزى ومناة الثالثة الخرى ) اليات _ 19مم ( 20ثممم قممرأة بعممدها " :تلممك الغرايممق العلممى وان
شفاعتهم لترتجى ".
وأمسك المبشرون وبعض المستشرقين بهذه الروايه وزعموا أن الرسول لممم أنممما فعممل ذلممك لممما
قاومه مشركو مكة ،فأحب أن يقترب منهم فمدحا آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراجعمما ة عممن تشممدده فممي
التوحيد ومجابهة الصنام .
ولقد وجدت أن أحسن رد على هذه الفرية ما ذكره العالم الهندى المشهور مولنا محمد على :
قال :إن هذه الرواية وردت عنممد الواقممدى وعنممد الطممبرى ،ومممع ذلممك فإنهمما ل ظممل لهمما مممن
الحقيقة ،فإن كل عمل من أعمال رسول ا مناقض لمثل هذا التجاه .أضف إلى ذلك أن الواقدي
معروف بسرد السرائيليات وبسرد الخرافات .وكذلك الطبري معروف بالجمع الكممثير وباستقصمماء
الروايات مهما كان حظها من الصحة .
على أننا لو رجعنا إلى رواية محمد بن اسحق أو إلى صحيح البخاري وهو الممذي لممم يغممادر ممن
حياة الرسول شيئا ة إل ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثراة .وابن اسحق جاء قبل الواقممدي بممأربعين سممنة
وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيممد .ومممع ذلممك لممم يممذكر هممذه القصممة .ثممم إن الواقممدي
معروف عند المحدثين بأنه يضع الحاديث وأنه غير ثقة فيما يممروي ،وكممذلك لممم يممذكرها أحممد مممن
رواة الحديث .
وإذا عدنا إلى قراءة اليات نفسها بالتسلسمل وجمدناها :أفرأيممت اللت والعمزى ،ومنماة الثالثمة
الخرى؟ ألكم الذكر وله النثى .تلك إذن قسمة ضيزى ،إن هي إل أسماء سيتموها أنتممم وآبمماؤكم ممما
أنزل ا بها من سلطان إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس ،ولقد جاءهم من ربهم الهدى.
فليس من المعقول أن تحشر بين هذه اليات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة السمملمية
((. 81 وصلب دعوة محمد
وجدير بالذكر أن المفكر العربي السمملمي محمممد حسممين هيكممل نمماقش بممدوره مسممألة "الغرايممق
العلى" ورد على ادعاءات المستشرقين الذين اعتروها مسلمة ،وفي مقدمتهم المستشرق النكليممزي
وليم موير ،فخلص إلى القول :
)) هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيممق وهمي حجمج واهيمة ل تقموم
أمام التمحيص(( .82
محمد حسنين هيكل :حياة محمد ،ص ) 163-162راجع دراسإته القيمة في كتاباه المذكور(. 82
42
هذا ،وإن كان خبر "الغرانيق" غير صحيح ،فالثابت أن قريشا ة لم تهادن الرسول البتة ،بل
كانت في هذه المرحلة التاريخية ،التي اختلق في سياقها هذا الخبر ،علممى أشمد عنفهمما ومحاربتهمما
الدعوة السلمية ،التي كانت تعاني صعوبات جمة ،ومع ذلك اسممتطاعت أن تحقممق نصممرا كممبيرا
عبممد في إسلم رجلين هما من أبممرز وجمموه قريممش وأشممجع أبطالهمما . .وهممما حمممزة بممن
المطلب وعمر بن الخطاب ،وذلك في السنة السادسة للبعثة . . .
وكان لسلم هذين الرجلين أثره البالغ علممى مسممار الحركممة السمملمية ،إذ شممجع النمماس علممى
الدخول في السلم ،فكان أن تحولت الدعوة للمرة الثانية للعلنية ،بعد أن اضطرت إلممى السممرية
إبممان الهجمممة الشرسممة ،يتحممدث البمماحث السمملمي مولنمما محمممد علممى عممن أثممر إسمملم همماتين
الشخصيتين الضخمتين -حمزة وعمر -في مسار الدعوة السلمية بقوله :
)) وكان في إسلم عمر منعة للجماعة السلمية الفتية التي كان عودهمما ممما زال أطممرى مممن أن
يواجه عاصفة المعارضة .وإنما أعز الله السلم بحمزة وعمر في السنة السادسة من رسالة محمممد
،فحتى ذلك الحين لم يجرؤ المسلمون علممى ممارسممة شممعائرهم علنممةا .وكممانوا قممد حصممروا نشمماطهم
الديني ضمن جدران دار الرقم الربعة .حتى إذا أعلن عمممر إ سمملمه استشممعروا أنهممم أمسمموا مممن
القوة بحيث يخرجون من نطاق السرية ،فأخذوا يقيمون صلواتهم على نحو علني في البيت الحممرام
) الكعبة( ،وفي غضون ذلك دخل في كنف السلم كثير من أبناء الطبقات الدنيا (( .83
)) و على الرغم من أن إسلم هذين الرجلين -حمزة وعمر -قد شجع النبي إل أنممه فممي المموقت
نفسه حفز كبراء قريش على أن يوسعوا نشاطهم ضد الدعوة السلمية .وخافوا أن يممؤدي اغتيممالهم
المسلمين من القرشيين إلى نزاعات دموية في المدينة ول سيما مع بني هاشم ((. 84
اتخذت قرارها المجرم بفرض الحرم الجماعي عل قبيلة بي هاشم لمعتهمما الرسممول ض د أع دائه ،
وذلك حين أفلست جميع محاولتها السابقة ليقاف مسيرة الدعوة السلمية ،يقول مولنا محمد علي
:
)) حتى إذا مني القرشيون بالخيبة في تلك المحاولت جميعا ة عزموا علممى اللجمموء إلممى سمملحهم
الخير .كان ذلك في السنة ألسابعة للدعوة ،وكانت كثرة المسلمين قد وفقت إلى الفرار بأنفسها إلمى
الحبشة .وكان هزة وعمر قمد اعتنقما السملم ،وكمذلك أب و طمالب قمد رفمض صمراحة ،أن يخممذل
الرسول نزول عند مطلب قريش .وباستثناء أبي لهب كان بنو هاشم كلهم قد عقممدوا العممزم علممى أن
ينصروه ويقاتلوا دفاعا ة عنه حتى الرجل الخير .وفوق هذا ،فقد راحا نور السلم ينتشر مممن قبيلممة
إلى قبيلة .من أجل ذلك قرر القرشيون إذ يفرضوا حرما ة اجتماعيا ة علممى بممي هاشممم ،فل يممتزوجون
منهم ول يزوجونهم ول يبيعونهم شيئا ة ول يبتاعون منهم شيئا ة .ثم أنهممم كتبمموا صممحيفة بهممذا المعنممى
وعلقوها في ) جوف ( الكعبة لكي يعطوها معنى القداسة .فلما سممع بنمو هاشممم بهممذا شخصموا إلممى
موطن منعزل من
85
مكة يعرف بالشعب (( .
ووقفت قبيلة بني هاشم موقفا ة شجاعا ة بتأييدها الرسول وقبلت الحرم الجتماعي رغممم أن السمملم
لم يعم سائر أفرادها ،وينبع موقفها هذا من موقف أبي طمالب م ن جهمة ،ولحترامهما النمبي م ن
جهة ثانية ،فرفضت التخلي عنه في أيام محنته . . .
هذا ،وشكل الحرم الجتمماعي مصمماعب جديمة أمممام الممدعوة السملمية ،إذ مممرت فمي مرحلممة
جمود بعد نهضتها السابقة ،فلم يعد بالامكان أن يتصل المسلمون بالقبائل العربية وهم محصممورون
داخل شعب أبي طالب ،ذلك أن بني هاشم قبلوا ببطولة ملحمية أن يقفمموا مممع الرسممول فممي محنتممه ،
ويعيشوا في أشد الظروف قساوة في ظل المقاطعة القرشية اجتماعيا ة واقتصاديا ة .
وشهد العام العاشر للبعثة تحولة في أسلوب محاربة قريمش المدعوة السملمية إذ عرضمت علمى
الرسول أن ل يتعرض لديانة أجدادهم وأن ل يتعرضوا بدورهم للمسلمين شريطة أن يممدعهم ودينهممم
ويدعوه ودينه . . .وكان أن تم اللقاء بين الطرفين في منزل عم الرسول أبي طالب وهو على فممراش
الموت . . .لكن موقف الرسول ظل ثابتا ة فلم يقبل بأي شكل من أشكال التراجع عن نشر رسممالته
في صفوف المشركين ،ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله . . . .
)) فصبوا له الشراك وبثوا الحبائل وأقسموا باللهة ليقتلممن محمممد بأيممديهم ،وكممانت خديجممة قممد
توفيت ،وتوفي أبو طممالب ،وتعلمممون -أصمملحكم المم -أن محمممداة ليممس بحاجممة إلممى أن ترثممى لمه
ولحاله النكراء إذ ذاك ومقامه الضنك وموقفه الحرج ،ولكن اعرفوا معي أن حاله إذ ذاك من الشممدة
والبلء كما لم ير إنسان قط ،فلقد كان يختبىء في الكهوف ،ويفر متنكراة إلى هذا المكان وإلممى ذاك
،ل مأوى ول مجير ول ناصر ،تتهدده الحتوف وتتوعده الهلكات ،وتفغر له أفواهها المنايا ،وكان
المر يتوقف أحيانا ة على أدنى – كإجفال فرس من أفراس أتباع محمد -فلممو حممدث ذلممك لضمماع كممل
شيء ولكن أمر محمد -ذلك المر العظيم -ما كان لينتهي على مثل تلك الحال((. 86
)) لقد طرد محمد في المرحلة الولى من قبل قريش ،في حين أن هاشما ة لم تطرده ،إذ حماه
أبو طالب ،وخرج معه من مكة إلى الشعب ،ولكن قبيلة هاشم هذه المرة هي الممتي أقمموت طممرده .
ومنذ الساعة التي صمم فيا رئيمس قبيلممة هاشممم علمى طممرد محممد تب دلت شخصممية محمممد نمبي
السلم ،وغدت أشبه برجال الثورة الفرنسية .فالذين يسيرون على مبدأ مخالفة القوانين ل يحميهممم
القانون .وساءت أوضاع محمد بعد طرده بشكل يفوق من خرج عممن حمايممة القممانون أيممام الثممورة
الفرنسية ،لن من يقتل شخصمما ة فرنسمميا ة تعمماقبه محكمممة الثمورة ،وهمي وحممدها المتي تحماكم همؤلء
الشخاص وتحكمهم .أما في مكة فإن من طرد من قبيلته هدر دمه ،وبإمكممان أي امرىممه أن يقتلممه ،
أو يبيعه ،أو يستعبده .حتى إن أحرقه أحدهم حيا ة ل يعاقب حارقه .لن المطرود مممن القبيلممة يغممدو
شيئا ة ل قيمة له ،وبالتالي غير لئق لن يخضع أحد للمحاكمة بسببه ،فهو من طبقة ل تعتممبر مممن
ذوي الحياة (( . 87
السراء وأ المعراج
توماس كارليل :الباطال ،ص .75-74 86
تلك في خضم النضال البطولي الذي خاضه الرسول لنشر الدعوة السلمية ،وفي
الظروف الصعبة من محاربة كفار قريش إياه ،والحصار المفممروض علممى المسمملمين كممان الحممدث
العظيم :السراء والمعراج الذي أوقع بلبلة فكرية في صفوف المسلمين وزاد في تعنت المشممركين ،
إلى بيت المقدس ،وعروجه إلى السماوات السبع وبلوغه سدرة المنتهى ... أي إسراء الرسول
هذا و قممد سمماهمت الدراسممات الستشممراقية فممي بحممث مسممألة السممراء والمعممراج مممن زاويتهممما
اليمانية والعلمية وإعادة طرحا مسألة طالما أثارها المسملمون أنفسمهم ممن قبمل -أي كيفيمة السمراء
وهل أسري به بالروحا والجسد معا ة أم بالروحا وحده . . . -
وتقترب نظرة المستشرقين من موقف عقلنيي المسلمين الذين يعتقدون بممأن السممراء والمعممراج
كانا بالروحا فقط ،اعتماداة على حديث عائشة التي ترى أن السراء كان ضربا من الرؤيا الصادقة .
يقول المستشرق الفرنسي آتيين دينيه في كتابه " :محمد رسول ا " :
)) أثار السراء والمعراج كممثيراة مممن المناقشممات بيممن علممماء السمملم ،فبعضممهم يممرى أن ذلممك
معجزة حصلت فعلة بالروحا والجسد في اليقظة ،بينما يعتمد الخرون على أصح الثار ،من بينهمما
حديث عائشة زوج الرسول المفضلة وبنت أبي بكر ،ويرون أن الروحا وحدها هي التي أسممري بهمما
وعرج إلى السماء ،وليس ذلك إل رؤيا صادقة ،كما كان يحصل كثيرا للرسول أثناء نومه (( . 88
هذا ،ولقد أدلى الباحث الروماني ك .جيورجيو برأيممه بهممذه المسممألة 0،فهممو رغممم اعتقمماده أن
إسراء الرسول ومعراجه قد تما بالروحا فقممط ،وهممذا ليممس بغريممب علممى أصممحاب الممرؤى العظيمممة
الصادقة ،لكنه يؤكد احترامه للعقيدة السلمية حتى وإن ذهب بعض مفكريها إلى القممول بالسممراء
بالروحا والجسد معا ة في تلك الرحلة العجازية ،التي تفوق كل خيال ،وتتجمماوز موضمموعية العلمموم
الفيزيائية ،فيقول :
(( وعلم الفيزياء ،وإن لم يقبل هذا الموضوع ،فإنني أحترم العقيدة السلمية ،وأقبممل كممل ممما
جاءت به من الناحية الدينية .ولدينا نحن المسيحيين اعتقادات دينية ل يقبل بها علم الفيزياء كممذلك ،
مع ذلك فنحن نقبل بها ،ونعتبرها من صلب معتقداتنا ((. 89
وكان لمسألة السراء والمعراج وقعها الخطير فمي مسمار المدعوة السملمية إذ قموبلت بسمخرية
قريش وهزئها ،بينما أحدثت بلبلة في الصف السلمي الذي كاد أن ينشق على نفسه بين مصدق و
مشكك لول وقفة أل بكر الحازمة التي صدت تيار البلبلة الفكرية التي كممادت أن تحممدث شممرخا ة وردة
في الصف السلمي . . .
وحين أدركت قريش نبأة الحلف الجديد المعقود بيممن محمممد وأنص ار المدينممة ،خشمميت ازديمماد
نفوذه واستشراء خط الدعوة السلمية ،إذ غدا ذا منعة من قبيلممتي الوس والخممزرج ،لممذا شممرعوا
يضيقون الخناق على مسمملمي مكممة ،ومكممروا تممآمراة لحكممام خطممة يغتممالون بهمما الرسممول و بالتممالي
القضاء على السلم قبل أن يفلت من أيديهم زمام المبادرة .
ويحلل الباحث النكليزي غلوب باشا الوضع العام الناشيء عن الهجرة السلمية مممن مكممة إلممى
يثرب لتلك الفئة التي غالبيتها من الفقراء والمسممحوقين والممتي اضممطرت أن تقطممع 250ميلة ميل
على القدام في ظروف قاسية جداة ،ومن ثم يخلص إلى القول :
)) ولم تنقض سبعة أسابيع أو ثمانية حتى كان جميع المسمملمين قممد همماجروا مممن مكممة باسممتثناء
النبي نفسه وابن عمه علي بمن أبممى طممالب وولمده بمالتبني زيممد بمن حارثمة ورفيقمه الميمن أبمو بكمر
الصديق .وارتد عن السلم نفر خوفا ة من أهلهم بينما حال هؤلء دون هجرة نفر آخممر ،وجممدير بنمما
أن نعترف هنا بأن محمداة أبدى جرأة منقطعة النظير ببقائه في مكة حيث لم يعد يحظى بحمايمة عم ه
أبو طالب كبير بني هاشم .
وأدركت قريش خطورة ما وقع من تطور وهممالهم أن المسمملمين أخممذوا يقيمممون الن فممي يممثرب
مجتمعا ة متلحم الوشائج خارجا ة على نفموذهم وبعيممداة عمن متنماول أيممديهم ،وأنهمم شممرعوا يكسممبون
أنصاراة إلى جانبهم من أبناء القبائل الخرى الذين قممد يتحولممون إلممى معمماداة قريممش .واجتمممع كبممار
القوم في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد ورأى بعضهم أن محمداة هو سبب كل ما يواجهونه من
متاعب ،وان من الخير لهم لممو تخلصمموا منممه فممي أسممرع وقممت ممكممن قبممل أن يتمكممن مممن اللحمماق
بأصحابه في يثرب (( .90
كان بمنزل الرسول أمانات وضعها عنده المشركون لثقتهم في طهارته ،فأبت نفسه الهجرة قبممل
رد المانات إلى أهلها ،لذلك أتى بعلمي المخلمص الموفي ،وكلفمه بردهما ،بعمد أن أخممبره بنبممأ دار
الندوة ،وقال له » :نم على فراشي ،و تسممج بممبردى هممذا الخضممرمي الخضممر ،فنممم فيممه فممإنه لممن
يخلص إليك شيء تكرهه منهم «((. 91
وبحث المستشرق الفرنسي سيديو في كتممابه " :خلصممة تاريممخ العممرب " مسممألة خلص النممبي
محاطا ة بالعناية اللهية ،من مكيدة القرشيين ،بقوله :
أن يجعمل )) فدفع ا شرهم ،وه و أولمى أن يحفمظ نمبيه القمائم بالمدعوة ل ه ،وأحمق
الدهر (( . 92 كيدهم في نحورهم وما زال آخذاة بيمينه ،حتى غني له الزمن ،وصفق له
وكممانت الهجممرة السمملمية إيممذانا ة بعهممد جديممد ،ومرحلممة عتيممدة فممي مسمميرة الممدعوة السمملمية
وجاءت تأكيداة على الهوية الشمولية لدعوة التي لم تكن قاصرة على قريش وإنما جاءت لتغيممر واقممع
المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية ،و صهرها في بوتقة السلم ،ومن ثم لتؤكد أنها رسممالة
عالمية للناس كافة .
باب الثالث
من الهجرة إلى وأفاتاه
الفصل الوأل
الهجرة وأ إقامة الدوألة السلمية الوألى
الهجرة إلى المدينة
50
مممع العممام الثممالث عشممر للبعثممة السمملمية ،حممدثت الهجممرة النبويممة الممتي كممانت مبممدءاة للتاريممخ
السلمي ،مممن مكممة -عاصمممة الشممرك -إلممى المدينممة -قاعممدة السمملم الولممى -يقممول توممماس
كارليل :
)) وممممن همممذه الهجمممرة يبتمممدىء التاريمممخ فمممى المشمممرق ،والسمممنة الولمممى ممممن الهجمممرة
توافمممق 622ميلديمممة ،وهمممى السمممنة الخامسمممة والخمسمممون ممممن عممممر محممممد ،فمممترون أنمممه
كممان قممد أصممبح شمميخا ة كممبيراة ،وكممان أصممحابه يموتممون واحممداة بعممد واحممد ويخلممون أمممامه مسمملكا ة
وعراة ،وسبيلة قفراة وخطة نكممراة موحشممة ،فممإذا هممو لممم يجممد مممن ذات نفسممه مشممجعا ة ولمحركمما ة ،
ويفجممر بعزمممه ينبمموع أمممل بيممن جنممبيه ،فهيممات أن يجممد بارقممات المممل فيممما يحممدق بممه مممن
عوابس الخطوب ويحيط به من كالحمات المحمن والملمممات ،وهكممذا شممأن كمل انسممان فمي مثمل همذه
الحوال (( . 93
)) لقد نفذت روحا السلم من محمد رسول ا إلى المسلمين ،إلى الهداة والصالحين ،وإن هذه
الروحا القوية حدت بالنبي إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ،بينها كان أعداؤه من المشركين يجدون
في البحث عنه ليؤذوه بل ليذيقوه ريب المنون ،ومن الغريب أن أعداء النبي لم يقنعوا أنفسهم بتركه
مكة بل تعقبوه في هجرته ،وهناك ضربوا على منزله سياجا ة من الحيطة لجل القبض عليه ،ولكن
روحا السلم الدفينة في أعماق الهمة ،ألهمته أن يتناول قبضة من تممراب فتناولهمما وربممى بهمما عليممم
فأخذتهم سنة من النوم تمكن خللها النبي من النجاة منهم إلى الصحراء حيث اختفى في غار هناك ،
ل تقل إن اختفاءه في الغار يجول دون هلكه وحتف ه ،ولكمن السملم ومما فمي ثنايماه ممن روحانيمة
وقوة ،جعل الحمام يبيض على باب الغار ،ولما أفاق أعداؤه من غشيانهم تتبعوا أثممره إلممى الغممار ،
وأخذتهم هواجس الظن ،لعلمهم بأن النبي ل يمكن بأي حال أن يكون في الغار ،فمن يممرد أن يممؤمن
بوحدانية ا ،فعليه أن يشاهد بسهولة يد ال المحركة للكائنات من غير أن تبصرها العيممن المجممردة
وخاصة عندما أحيطت حياة النبى من يد العدوان برعاية الطير الممذي انممدفع إلممى حمايممة محمممد بيممد
الله الخافية عن البصار(( . 94
)) وما ان شعر محمد بالخطر حتى أوعز لفئة قليلة ممن آمنوا بدعوته ،وكممانوا مهممددين بشممكل
خاص ،على الهجرة إلى الحبشة .ثم ما لبث أن نظم هجرة أتباعه بالتدريج إلى ثممرب الممتي عرفممت
فيما بعد باسم ) المدينمة ( .وائتمممر المكيمون لقتمل النمبي ،وعلمم بمالمر ،وتمكمن م ن النجماة بشممبه
معجزة بمساعاة شجاعة من ابن عمه علي ،كممما تقممول كتممب السمميرة .وفممي المدينممة اسممتقبل محمممد
بالتهليل في شهر تموز عام 622م ،وكانت » الهجرة « التي يحممدد بهمما المسمملمون مطلممع سممنتهم ،
والتي تعتبر بداية التاريخ السلمي .وتعني اللفظة حرفيا ة ترك البلد الى أخرى ،والمنفى ،والنجاة
بالنفس .أما الدين فقد أضفى عليها معنى خاصا ة هو الخلص من الجهل ،ورفض الشممر ،واطممراحا
الكفر ،وبكلمة تكون الهجرة فعل ايمان .ومن المفيد التذكير بممأن الهجمرة )ابتعماد طمموعى وإن يكممن
محدداة بأسباب ل إرادية( يتجدد بل انقطاع اذا حدث اذلل أو اضطهاد .وعلممى المسمملم أن ) يهمماجر
اذا اقتضى المر ليجاهد في سبيل الله حتى يزول كل ظلم ((. 95
)) وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداة ،كلها من رأي رسول ا .خمسة وعشرون منها
خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلقة بين المسلمين وأصحاب الديممان الخممرى
،ولسيما اليهود وعبدة الوثان .وقمد دون همذا الدسمتور بشمكل يسممح لصمحاب الديمان الخمرى
بالعيش مع المسلمين بحرية ،ولهم أن يقيموا شعاثرهم حسب رغبتهم ،ومن غير أن يتضممايق أحممد
الفرقاء .وضع هذا الدستور في السنة الؤلى للهجمرة ،أى عمام 623م .ولكممن فمي حمال مهاجمممة
المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده ((. 96
وحقق المجتمع الديني في ظل الدستور الجديد نقلة نوعية ،وثممورة اجتماعيممة ،اذ غممدت المممة
السلمية هممي البممديل العملممي للعصممبية القبليممة ،والخمماء والمسمماواة عوضمما ة عممن طبيعممة العلقممات
الجتماعية الجائرة ...وأخذ بالسطوع نجم الرسول الذى أصبح عملي ا ة الحمماكم السياسممي للمدينممة ،
فكان الداعية والنبى والحاكا والقاثد العسكرى وأصبحت سيرة حياته تاريخا ة للحركة السلمية .
)) كانت المدينة مأهولة عندما هاجر اليها النبي بقبائممل عممدة ،منهمما العربيممة ومنهمما اليهوديممة.
) أرى من السهل التمييز بينها على هذا النحو ،و ان كان من يدعون بمماليود قممد ل يخرجممون عممن
كونهم عربأ تحولوا الى اليوديممة ( .وكممان اليهممود ينقسمممون الممى ثلث قبائممل تعمممل اثتممان منهمما فممي
الزراعة و تعيش على زراعة النخيل والحبوب ،أما الثالثة فتضم فنيين يعملون فممي صممياغة الممذهب
والفضة وصناعة السلحة .أما العرب فكانوا قبيلتين :الوس والخزرج ،ولم تكن قد انقضممت أربممع
سنوات على توقف الحرب بينهما ليحل محلها السلم ،وليصبح للقبيلتين ريئس واحممد هممو عبممد امم
بن أبي يتولى قيادتهم وزعامتهم معا ة (( . 97
)) إن محمممداة لممم يلبممث أن أصممبح لممه تفمموق روحممي وزمنممي بعممد سممنين قلئممل مممن الجهمماد
والضطهاد ،كما يدل على ذلك غير آية من القرآن ،وذلك بتحول أهل المدينة إلممى السمملم بفضممل
ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به الرسول .وغدا السلم دينا قويا ما لبث أن انتشممر بيممن الشممعوب عممن
طريق الوعد والوعيد (( . 98
تخريب السلم من الداخل واليقاع بين المسلمين ،وقد تشكلت من ركائز ثلث :
أولة :القبائل العربية التى ما زالت محافظممة علممى وثنيتهمما ،و تلتقممي مممع قريممش فممي اتجاهاتهمما
الدينية ومصالحها القتصادية .
ثانيا ة :اليهود بقبائلهم وتجمعاتهم السكنية الثلثة ) قينقاع وقريظة والنضير ( وذلك حيممن شممعروا
بخطر الدعوة السلمية التي عملت على تقويض نفمموذهم الممديني ومكممانتهم القتصممادية ،فكممانوا أن
عمدوا الى إثارة الفتن بين المسلمين وحبك الدسائس ضدهم ،وهذا ما قمماد الرسممول فممي مرحلممة تاليممة
إلى تقويض وجودهم في المدينة ،اذ أجلى القبيلتين الوليين ) قينقاع والنضير ( وأنفذ حكممم السمميف
في القوة الثالثة ) قريظة ( حين تأكد من تآمرهمما و تواطئهمما مممع قريممش ،والحلممف العممادى للرسممول
) في معركة الخندق (.
ثالثا ة :المنافقون ،وهم الحركة السياسية التي تزعمها عبممد المم بممن أبممي ،الممتي أعلممن أفرادهمما
اسلمهم ظاهراة ،لكنهم ظلوا يكيدون للسلم وللمسلمين ويحاولون اليقاع بيممن النصممار ) مسمملمي
المدينة ،وهو السم الممذي أطلقممه الرسممول علممى قبيلممتي الوس والخممزرج اللممتين نصممرتا السمملم (
والمهاجرين ) مسلمي مكة ( الذين هاجروا الى المدينة .
الصراع القتصادي
وكان السهم الخطير الذي لعبته مكة ،هو الحصار القتصادي الذي ضربته على المدينة ،وكان
له أثره في تعجيل الصراع ما بين قوتي الشرك والسلم ،رغم أن الرسول الكريم كان يهدف الى
نشر الدعوة بالوسائل السلمية ،إل أن موقف العدو الذى يسيء إلى القضاء على الدعوة في مهدها ،
بخنقها اقتصاديا ة فرضت على المسلمين المواجهة ،يقول توماس كارليل :
)) وكانت نية محمد حتى الن أن يشهر دينممه بالحكمممة والموعظممة الحسممنة فقممط ،فلممما وجممد أن
القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الصغاء إلى صوت ضممميره وصمميحة لبممه ،
حتى أرادوا أن يسمكتوه فل ينطمق بالرسمالة -عمزم ابمن الصممحراء علمى أن يمدافع عمن نفسمه دفماع
رجل ،ثم دفاع عربي ،ولسان حمماله يقممول ) أممما وقممد أبممت قريممش ال الحممرب فلينظممروا أى فتيممان
54
هيجاء نحن ( -وحقا رأى أن أولئك القوم صموا آذانهم عن كلمة الحممق وشممريعة الصمدق ،وأبموا إل
التمادي في ضللهم يستبيعون الحريم ويهتكممون الحرمممات ويسمملبون وينهبمون ويقتلممون النفممس الممتى
حرم ا ،ويأتون كل اثم ومنكر ،وقد جمماءهم محمممد مممن طريممق الرفممق والنمماة فممأبوا لممم ل عتممواة
وطغيانا ة ،فليجعل المر اذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم ،الى كل مسرودة حصداء وسممابحة
جرداء ،وكذلك قضى محمد بقية عمممره وهمي عشمر سمنين اخممرى فمي حمرب و جهمماد لممم يسممترحا
غمضة عين و ل مدر فواق و كانت النتيجة ما تعلمون (( .99
ومن هذا المنطلق الفكرى يتحدث المستشرق الفرنسي جممان بممروا فممي كتممابه » :محمممد نممابليون
السماء « بقولة :
)) إن إبلغ الرسالة الى العالم هو الهدف الول والخير للنبي محمد ،ولم تكن مشمماغل السممرة
والحياة لتحول بينه وبين أدائها أبداة ،وإنك إذا نظرت الى عنممف قريممش ومؤامراتهمما الدمويممة وربممط
جأثسها على اغتياله مراراة ،بل اذا نظرت الى كل القبائل العرية حينذاك ،ألفيت الفزو جممل عملهمما
،ولم يكن النبي إلى ذلك الوقت -وإن كثر حوله الرجال -قد -اذن له في النضممال ودفممع العممدوان
بالعدوان ،ولكن بعد كل تلك العتداءات جاء الموحي اللهممى يبيمح لمه حمرب المعتمدين أذن لل ذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وان ا على نصرهم لقمدير ،الممذين أخرجمموا ممن ديممارهم بغيمر حممق لممم ل أن
يقولوا ربنا ال ) (22 /39
) الحج ( وجاء أيضا ة وقاتلوا في سبيل ا الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ا ل يجب المعتدين
) .100 (( (2 / 190
وهذا ،ما دفع المستشرقين لن ينظروا الى الرسول كنبي ورجل دولة وقائد عسكرى حين قممرن
الدين بالسيف والدعوة بالقوة ،يقول المستشرق اة .أفريمان في كتابه " :تاريخ العرب ":
)) وجد النبي – الذي ل كرامة له في عشيرته -الولء والجلل في مدينة الهجرة .وأخذ النممبى
يظهر تدريجيا ة في صورة جديدة .فالنبي المضطهد يتحول الن المى محمارب ظمافر .واذا فشملت :
نذر النبي وبشائره في اقناع قريش فإن سلطان الفاتح سيرغمهم على القتناحا (( .101
جان باروا :محمد ناباليون السماء )ترجمة محمد بانداق( ،ص .52 100
ا .فريمان :تاريخ العرب )نقل عن كتاب الفتوحات العرباية الكبرى ص .(79 101
55
وما إن زلت الية القرآية التي تأذن للمسلمين بقتال أهل الشرك حتى أدرك المسمملمون أن عليهممم
واجبا ة مقدما ة .هو نشر الرسالة سلما ة وحربا ة ،ومجابهة أعداء السلم عسكريا ة ،لن هؤلء يهممدفون
أساسا ة إلى القضاء على الدولة السلمية الولى . . .
فكان أن تحول المسلمون إلى جيئ الثممورة السمملمية وغممدت المدينممة قاعممدة النطلق للعمليممات
العسكرية الموجهة ضد مكة ،وكانت فاتحة لتاريخ السلم العسكري ،وقادت إلى أول مواجهممة ممما
بين الطرفين فى موقعة بدر . . .
56
الفصل الثاني
حروأب الدعوة السلمية
المدينة قاعدة الثورة السلمية
كانت الهجرة إلى المدينة حدثا ة تاريخيما ة عظيمما ة فمي تاريمخ الجزيمرة العربيمة ،ممع قيمام الث ورة
السلمية ،المحاطة بأعداء الداخل والخارج ،ناهيك برسوخ الدعوة السلمية التي اشممتد سمماعدها
في قاعدتها الجديدة بعد أن كانت مطاردة في مكة ،ولممذا ترتممب عليهمما أن تحسممب حسممابها لمواجهممة
أعداء السلم ،لنهم يخشون وجودها خشية تدفعهم للسعي للنقضاض عليها عند أول بارقممة تسممنح
لهم ،ثم لن الرسالة لم تكن مقصورة على مكة والمدينة ،وإنما لتنشر في جميع أرجاء بلد العممرب
. ..وهذا ما يحدوها لن تعد العدة لمواجهة طويلة مع أعداء حركة التوحيد ،وخاصة بعد أن أنمزل
ال آية الذن بالقتال أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان ا على نصرهم لقدير) الحممج آيممة . (39
وهكذا كانت حروب الدعوة السلمية في عهممد الرسممول ،تزيممل الحممواجز القبليممة وتسممقط الوثنيممة ،
فوحد العرب و تعلي راية وحدانية إل في ربوعهم .
))أشبه بدوريات الستطلع القتالية التي تجري عادة قبل المعركة لتعرف جهاز الخصم الدفاعي
وسبر نقاط القوة ونقاط الضعف فيه((. 102
وكممانت هممذه الحركممات ضممرورة فممي بممدء تاريممخ الثممورة السمملمية لدراسممة طبيعممة المنطقممة ،
ولظهار قوة المسلمين ويقظتهم ضد تحركات العداء .
ويتحدث الباحث العسكري جان باغوت غلوب عن طيبعة الخطط السوقية ) الستراتيجية ( التي
اتبعها الرسول في صراعه مع قاعدة الشرك العربي :مكة في عهده ،قائلة :
))وكانت الخطط السوقية التي اتبعها النبي بين عامي 623و 630هي عيممن الخطممط السمموقية
التي اتبعها فيصل ولورنس في الحملة بين عامي 1916و . 1918فلقد احتفظ التراك في الحرب
الكونية الولى محاميات ضخمة في مكة والمدينة وكانت هذه الحاميات تعتمد في بقائها على قوافممل
البل بل على الخط الحديدي بين المدينة ودمشق ،وقد عزز المير فيصل ولورنس مواقعهممما إلممى
الشمال من المدينة حيث كانا في وضع يمكنهما من قطع شريان حياتها مع سوريه .
وكان الغزو بالنسبة إلى العرب وسيلة طبيعية للخلص من العوز .ولقد تولت القيام بالغزوات
الصغيرة الولى جماعات صغيرة من المهاجرين .ولم يشترك أهل المدينة في هذه المشاريع ،لكن
أهل مكة والمدينة على السواء لم يكونوا قد ألفوا العمليات الحربية ،وهى العمليات التي يقضي فيهمما
البدو الرحل أوقات فراغهم ،ول تعرفها الجماعات التي تعمل في التجارة أو الزراعة .لكن أيا ة من
الغزوات الولى لم تحقق نجاحا ة مذكورا ،فلقد كانت أنباء الحملة تصمل إلمى قريمش قبمل وقوعهما ،
بينما كانت النباء التي تصل إلى المسلمين إما متأخرة أو مفتقرة إلى الدقة .
وفي خريف عام 623ميلدية مرت قافلة كبير ة تضم نحواة مممن ألممف بعيممر محملممة بالبضممائع
التي تملكها قريش ويتولى قيادتها أبو سفيان أحد كبار أعداء النبي في مكة قاصدة الشمال إلى غزة .
وقد حاول المسلمون قطع الطريق عليها في ذهابها ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك .
ولكن بينممما كممان رجممال مكممة والمدينممة يعيشممون فممي همماتين المممديتين كممانت الصممحراء الفسمميحة
المكشوفة مأهولة بقبائل متفرقة من البدو وتعيش على الرعي ،وبداة النبي يمدرك أن مسمماعدة همؤلء
البدو ضرورية لنجاحا حملته الصممحراوية ولممذا فقممد شممرع وبصممورة تدريجيممة يقيممم علقممات معهممم
ولسيما مع قبيلة جهينة التي كانت تقيم آنذاك كما تقيم اليوم بين المدينة والبحر (( . 103
موقعة بدر
تعتبر موقعة بدر من أهم المواقع السرية في التاريخ العسكري السلمي لنهمما المعركممة الولممى
التي خاضتها قوات الثورة السلمية ضد قوى الشرك التي تزيممدها ثلثممة أضممعاف ،وكممانت ترمممي
إلى تصفية الحركة السلمية الفتية في المدينة ،حين لقاها الرسول بقمواته الممتي قممدر عمددها 313
رجل ) ثلثة وسبعون منهم من المهاجرين الذين تطالب مكة برؤوسممهم والبقي ة ممن النصمار ( عمد
قرية بدر الصغيرة القريبة من المدينة والواقعمة علمى طريممق القوافممل بيمن مكممة والشممام ،وذلمك فممي
السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة .
وحين تقابل المعسكران السلمي والمكمي ،لمم يكمن الطرفمان فمي حالمة نفسمية واحمدة ،كمان
المسلمون كتلة متراصة مضبطة تحفزها حمية دينية طاغيممة وروحا عسممكرية منظمممة لنهمما تحممارب
دفاعا ة عن العقيدة والنفس والوجود . . .
بينما كان معسكر الشرك موزعا ة في نوازعه فبعضهم أرادها حربا ة ضروسأ تقضممي علممى شممعلة
السمملم لنهمما شممكل خطممراة يهممدد المجتمممع الرسممتقراطي القرشممي ،كممما أرادهمما آخممرون تطمينمما ة
لمصالحهم التجارية المهددة ،على حين كان ثمة فريق ل يريد الحرب أصلة مممع أبمماء العمومممة مممن
المهاجرين ،يقول غلوب باشا في كتابه " :الفتوحات العربية الكبرى " :
)) وهكذا تقدمت قريش إلى المعركمة وهممى موزعمة بيمن القبمال والحجممام كمما أن بنمى زهمرة
أخوال النبي رفضوا القتال وعادوا إلى مكة .أما نفسية المسلمين فكانت على النقيض من ذلك تماممما ة
،فلقد كان في المهاجرون يائسممين تخلمموا عممن كممل ممما يملكممونه فممي مكممة ول يحملممون إل سمميوفهم ،
يضاف إلى هذا أن المسلمين تخلوا عن العصبيات القبلية والعائلية التي تربطهم بعد أن أكد لهم النبي
أن المسلمين هم إخوانهم فقط .فالخوف من سفك دماء القرباء ،وهممي النزعممة الممتي كبحممت جممماحا
قريش ،وحدت من إقبالهم على المعركة والتي ل تزال مسيطرة على عقلية البدو مممن العممرب حممتى
اليوم لم تكن معروفة عند المسلمين الوائل ،الذين قيل إن بعضهم قتلواة آباءهم أو إخوانهم إذا كانوا
من المشركين .يضاف إلى هذا أن تعودهم الوقوف في صفوف منتظمة خمس مرات في اليوم لداء
فريضة الصلة مؤتمين بقائدهم قد أوحى إلى عقولهم الباطنة بشي ،مممن النضممباط ،ومممن الممروحا
العسكرية المنظمة .يضاف إلى هذا أن المهاجرين والنصار كانوا تحممت تممأثير حميممة دينيممة عارمممة
وهم يشهدون قائدهم محمداة بين ظهرانيهم يشترك معهم في القتال (( .104
))وبعمممد ذلمممك شمممرحا النمممبي خطت ه الحربيمممة للمسممملمين ،وهمممي خطمممة ابتمممدعها فليمممب
أبممو السممكندر المكممدوني قبممل ألممف سممنة تقريبمما وتممدعى باليونانيممة )فممالنثر (ferlange ،وهممي
عبارة عن اصطفاف الجنود إلى جانب بعضهم بعضا ة وتلتصق نهاية الصممف الول فممي أول الصممف
الثمماني ،وهكممذا حممتى يتكممون مممن المجممموع شممكل هندسممي كممالمثلث أو المربممع أو الممداري .ويقممف
الجميممع بهممذه الشممكال بمواجهممة العممدو ،فممي هيممن تكممون ظهممورهم نحممو الممداخل .وبهممذا الشممكل
ل يقمممدر العمممدو علمممى مهممماجمتهم ممممن الخلمممف ،لنمممه حيثمممما اتجمممه قمممابله الجنمممود مسمممتعدين .
هممذا )التكتيممك العسممكري( هممو الممذي يممدعى باليونانيممة ) فممالنثر( لهممذا سممميت وحممداتهم العسممكرية
اليونانية قديما ة بهذا السم .وقد اتبع محمد هذه الخطة لول مرة في تاريخ الجزيرة العربية .وفي
معركة بدر بالذات .هممذه الخطممة ،إضممافة إلممى شممجاعة المسملمين .كممانت سممبب نصمرهم فمي هممذه
المعركة .
وقد رتبت ) فلنثرات ( المسلمين في ذلك اليوم بشكل مثلث .ارتفممع فيممه ثلث رايممات إسمملمية
في رؤوس المثلث وقد ابرز محمد عبقريته العسكرية في تنظيمه هذا المثلث واستحكام كل جندي
في مكانه واستقباله العدو ،من غير استدباره (( . 105
وأسفرت المعركة عن فوز ساحق للمسلمين في معركة لم تدم أكثر من سمماعة ،وهزيمممة منكممرة
المصدر الساباق ص .95 104
للجيش المكي الذي فقد فيها قادة قريش وصناديدها فكانت ضربة قاصمة لمعسكر الشرك . .
)) أدرك محمد ،بعد انتصاره فممي بممدر أنممه كتممب عليممه )القتممال الشممامل( ضممد المكييممن ،إذ أن
ازدهارهم متعلق بمكانتهم ،وكان عليهم أن يستعيدوا ما فقدوه في بدر ،حتى يحافظوا على وضعهم
والقضاء على سيطرة محمد على طريق الشمال .فلم يكن محمد ينتظر إذاة من المكيين سوى ازديمماد
حدة النضال حتى أنه كرس كل قواه لتقوية نفسممه وإضممعاف أعممدائه .وكممانت أخبممار بممدر ومشمماهدة
الغيمة قد أدتا إلى ازدياد قوة محمد ،وأصبح أهل المدينة أكثر رغبة في الشتراك بغزواته((. 106
)) وقد نجم عن هذا النزاع أزمة سياسية جعلت تشتد يوما ة بعد يوم ،تأكد عندها لمحمد استحالة
تحقيق الفكرة التي كان يرمي إليها من التأليف بين قلوب اليهود والعرب وإيجاد أمة مؤلفة من جميع
عناصر يثرب .وكان لبد من عمل حاسم إزاء بني قينقاع ،وهم يسممكنون داخممل المدينممة فممي حممي
واحد من أحياء العرب فتطهر المدينة وأحياء النصار من غير المسلمين (( . 107
وكان لهذه العملية آثارها البعيدة ،لتأكيد الوحدة السياسية للمدينة ،وانتزع السيادة المطلقة عليها
،وجعلها حصراة في أيادي المسلمين .
التي قادها بنفسه ضد القبائل العربية المتحالفة مع قريش والتي هدفت إلى غزو المدينة ،انطلقا ة من
موقف تحالفها ممع قريممش قموى الشمرك ودرجمماة ممع شممرعة الغمزو السممائدة لمدى القبائمل ...المفكممر
العسكري غلوب باشا باحثا ة قضية العلقة بين مدينتي مكة و المدينة مع القبائل العربية بقوله :
))على الرغم من أن العداء كان في هذه الفمترة قائممما ة بيمن ممدينتي مكمة و المدينممة إل أن القبائمل
البدويممة الممتي تعيممش فممي الصممحاري المجمماورة لعبممت دوراة هاممما ة فممي المشمماحنات الممتي قممامت بيممن
المديتين .وكان هؤلء البدو بتجوالهم المستمر بيممن المممدينتين يممؤدون دوراة بممارزاة فممي نقممل الخبممار
والمخابرات وهي ضرورة عسكرية كان المسلمون مفتقرين إليها أشد الفتقممار فممي البدايممة .يضمماف
إلى هذا أن هذه القبائل كانت تحتل الصحراء المكشوفة وكانت قادرة عممن هممذا الطريممق علممى حمايممة
القوافل أو نهبها ،وكانت قريش واثقة من أنها لو استطاعت ضمممان ولء هممؤلء البممداة فممإن قوافلهمما
تستطيع أن تنجو من الغزاة المسلمين ،أما إذا أفلح النبي في كسب ولء هممذه القبائممل فممإن أهممل مكممة
جوعا .كان المسلمون قد فازوا بصداقة ة سيصبحون محصورين داخل مدينتهم ويتعرضون للتضوع
قبيلة جهينة التي تقيم في السهل الساحلي ،لكن قبيلتي غطفان وبممي سممليم المقيمممتين فممي الشممرق ممن
المدينة ظلتا حليفتين لقريش .ودفعت هذه الوضاع المسلمين إلى القيام بغزوات صغيرة عديدة ضممد
هاتين القبيلتين لرهابهما وإقناعهما بأن صداقة محمد خير لهما من التحالف مع أهل مكة (( .108
معركة احد
كان للهزيمة القاسية التي حلت بالجيش المكي ،دورها فممي ضممياع هيبتمه ،مضمافا ة إليهما عمليممة
الحصار القتصادي السلمي لمكة عن طريق تحركات السرايا السلمية التي هيمنممت عمليمما ة علممى
طريق القوافل الواصلة بين مكة والشام . .مما جعل القيادة القرشية تعيش أحلممك ظروفهمما ،خاصممة
وان قوام حياة مكة يرتكز على التجارة أساسا ة .وكان لهذين العاملين الهممامين أن عجل فممي تسممريع
المواجهة ثانية بين قريش والمسلمين ،ليمحو المشركون عنهم عار الهزيمممة أولة ،ولفتممح الطريممق
أمام تجارة قريش ثانيا ة .
ومن هنا شكل المكيون جيشا ة قوامه ثلثة آلف محمارب بمإمرة أبمي سمفيان المذي تحمرك بق واته
باتجاه المدينة ،وعسكر في شمالها قرب جبل أحد حيممث التقمى هنمماك بممالقوة السملمية المؤلفمة ممن
ستمئة وخمسين رجلة بقيادة الرسول . . .
وكان أن وضع الرسول خطته حطته الحربية لمجابهممة جيممش العممداء الممذي يفمموقه عممدة وعممدداة
اعتممماداة علممى مبممدأ القتممال الجممماعي و مجابهممة العممداء بكتلممة بشممرية متراصممة .ويتحممدث البمماحث
العسكري المستشرق جيورجيو عن ..خطة الرسول الحربية والسلوب الذي اتبعه صايغا ة ذلممك علممى
لسان النبي محمد بقوله :
تشممكلوا )) إن خطتنا الحربيمة اليمموم همي خطتنما فممي يموم بمدر تمامما ة ،فعليكمم أن
الصفوف المتكاملة المتراصة ،حتى ل يجد الخصم فرصة لشممق الصممفوف ومحمماربتكم مممن الخلممف
علينا اليوم أن نقدر قوة خصمنا ،ففيه الن جيش من الفرسان ،مئتا فارس بقيادة خالد بممن الوليممد ،
وبإمكان هؤلء الفرسان أن يبددوا صفوفنا .عندما تتشكل صفوفنا المتراصممة بكممل مربممع أو دائممرة
تثبت تجاه أية حملة من المشاة ،أما إذا كانت الحملة من الفرسان فإن صفوفنا تقممع فممي خطممر .وقممد
نستطيع أن نصد صف الفرسان الول ،و لكننا أيقنا أننا سنفاجأ بسيل من الخيل والفرسان يلحقونمما
من الصف الول ،وسيشتت شملنا حتما ة .ومن الواضح أن سرعة حركة الخيل لن تسمح لنا بإعممادة
تنظيم صفوفنا كما كانت .
لم إذا أراد خالد بن الوليممد مهاجمتنمما فسمميأتينا مممن هممذه الناحيممة ،لن هممذا السممهل يسممهل حركممة
جياده .
أن الموقع الذي أشار إليه محمد كان شعبا ة فممي جبممل أحممد ،تكممثر فيممه الحقممول .وان عممبر هممذه
الحقول أحد نحو الجنوب فقد وصل إلى الدينة .وفي ذلك الشعب تلة قليلة الرتفاع ،تدعي )عينيممن(
فقسم محمد الرماة من المشاة إلى قسمين برئاسة )عبد الله بممن جممبير( حيممث أمممره أن يتخممذ مكممانه
على تلك التلة ،وعدد هاتين الفرقتين خمسون نفممراة علممى رأي بعممض المممؤرخين ،ومئممة نفممر علممى
رأى آخرين ،وأعتقد أن عددهم مئة ،كل فرقة خمسون (( . 109
لقمممد أدرك الرسمممول الهميمممة السمممتراتيجية لهضمممبة عينيمممن ،وأنهممما تشمممكل خطمممراة سممماحقا ة
علممى المسمملمين إن اسممتطاع المشممركون مبمماغتتهم ممن الخلممف . . .وعمليمما ة كممانت مسمميرة المعركممة
تجممري فممي صممالح المسمملمين ،فممما إن التحممم الطرفممان حممتى ظهممر النصممر جليمما ة لصمماحا المسمملمين
الذين أخذت تتحرك قواهم بصفوف متراصة منتظمة يستحيل اختراقها ساحقة قوى الخصممم ،دافعممة
العدو إلممى الخلممف ،وممما عتممم أن دب الرعممب والممذعر فممي صممفوفه ،فممتراجع منهزممما ة فانكشممفت
صفوفه . . .
ولقد دللت مسيرة المعركة على عبقرية الرسول العسكرية في تحقيق النصر في المرحلة الولممى
وإدراكه موقع الخطر الذي وقع فيه المقاتلون المسلمون بارتكابهم الخطأ الفادحا حين خالفوا الرسممول
عمن فسارعوا إلى جمع الغنمائم ممن معسممكر العمدو المنهممزم ،ونممزل الرممماة بمدورهم متخليمن
مممموقعهم السمممتراتيجي فكمممانوا أن فتحممموا الثغمممرة القاتلمممة المممتي تبينهممما الرسمممول ووضمممع لجلهممما
الرممماة خشممية قيممام خيالممة العممدو ،بقيممادة خالممد بممن الوليممد بحركممة التفمماف مباغتممة مممن الخلممف ،
وكان لتخلي الرماة عن مواقعهم علممى الجنمماحا اليسممر ممما عممدا قلممة قليلممة بقيممت مممع قائممدها عبممد امم
بممن جممبير ،أن تبممدل سممير المعركممة وقلبممت موازينهمما ،وتحممولت هزيمممة الجيممش المكممي الكيممدة
إلى نصر ،فكاد أن يفنى الجيممش السمملمي لممول ثبممات قلممة التفممت حممول رسممول امم واستبسمملت
استبسممالة ملحميمما ة بعزيمممة ل تقهممر ،وهممي تممذود عممن صمماحب الرسممالة ،حممتى تمكنممت أن تفتممح
طريقمما ة حممتى مضمميق عينيممن الممذي تكسممرت عنممده هجمممة المشممركين . . .مممما اضممطر قممادتهم
إلى النسحاب من المعركة بعد أن تواعد الفريقان على اللقاء في بدر العام المقبل ،واعتبر المكيممون
أنفسهم منتصرين وثممأروا للهزيممة فمي بممدر ،إذ أوقعمموا الكممثير مممن القتلممى فممي صممفوف المسملمين
الذين مثل بجثثهم . . .ول يخفى أن غالبية المؤرخين السلميين عممدوا موقعممة أحممد نصممراة لقريممش
وهزيمة للمسلمين .
ك .جيورجيو :نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ،ص .254 109
62
على إن للستشرق المنصف كلمته إذ لم ير في معركة أحد هزيمة للمسلمين ،ولممم تكممن بالتممالي
نصرا للمشركين ،وهمذا مما استعرضمه المستشمرق جيورجيمو مناقشما ة أراء الم ؤرخين السملميين
كباحث عسكري ،انطلقا ة من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ،يقول :
))يذكر المؤرخون السلميون أن المسلمين خسروا في معركمة أحمد .وهمذا المرأي يحتماج إلمى
مناقشة .ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة ،وسألناه :ممما هممي علمممة
الخسارة الحربية ؟ ،لجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلد ،وأزال جيش العدو ،عممد
عندئذ منتصراة ،أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فل تعتمبر الدول ة خاسمرة .فألمانيما
في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها ،ووصلت جيوشها حتى شممواطيء نهممر الفولغمما ،ولنهمما لممم
تستطع دحر جيش روسيا دحراة كاملة فإن ألمانيمما لممم تعتممبر منتصممرة تماممما ة .فالدولممة تعتممبر ظممافرة
بشرطين :أولهما احتلل الدولة المغلوبة ،وثانيهما إخماد حركة الجيش .
والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلل المدينة ،كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد
.فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين ،فإن فلوله عادت فتجمعت في اليمموم الثمماني ،فعنممدما عمماد محمممد
إلى مدينه )كما سنذكر ( كمان تحمت سميادته جيمش منظمم .فعمن وجه ة نظمر محمارب متخصمص -
برأيي -لم يخسر المسلمون في معركة أحد ،إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب ،لن جيممش مكممة
لم يفن جيش المسلمين ،كما لم يحتل المدينة ((. 110
ومما عزز معنويات المسلمين ،ودلل على قوة الجيش السلمي وتماسكه ،أن الرسول قام في
اليوم التالي لمعركة أحد ،بحركة عسممكرية بارعممة طممارد فيمما جيممش مكممة إلممى منطقممة تعممرف باسممم
) حمراء السد ( إل أن الجيش المكي آثر عدم الشتباك مع الجيش السلمي والعودة الى مكة . . .
» أصابت هزيمة أحد الدعوة السلمية بما يشبه الجزر بعد المد المذي حققمه نصممر بمدر ،ولممما
كان النصر في بدر قد عزي إلى نصره ا وعونه للمؤمنين فقد صعب على هؤلء أن يفهممموا لممماذا
ضنت العناية اللهية عليهم بالنصرة فممي أحممد .و تمموالت اليممات منممزلت علممى النممبي ،لتعينممه فممي
الحفاظ على الروحا المعنوية القويممة عنممد المسمملمين .وسممورة آل عمممران فممي القممرآن طافحممة بمماللوم
والتثريب على عبد الله بن أبي وأتباعه لتخاذلهم وبالوعد للمسلمين بالنصر النهائي والتأكيد لهممم بممأن
ال أراد لهم النكسار ليبتليهم ويمتحنهم (( . 111
كانت العلاقة بين المسلمين واليهود متوترة انعدمت فيها الثقة وخاصة بعد إجلء يهود بني قينقاع
،واستهانة يهود بنى النضير بالمسلمين بعد معركة أحد ،واهتزاز هيبممة الرسممول وعزمه م عل ى
اغتياله وهو في عقر دارهم ،فكان أن اتخممذ الرسممول قممراره الحاسممم لتصممفية أعممداء السمملم داخممل
المدينة . . .
وذهب المستشرقون في تأويل أسمباب إجلء الرسممول ي ود بنمى النضمير شممي الممذاهب ،ومنهما
التشكيك بصحة رواية مؤامرتهم لغتيال الرسول .
» ويرى الدكتور إسرائيل ولغنسون مؤلف كتاب » :تاريخ اليهود فممي بلد العممرب « أن إنممذار
بنى النضير بوجوب الجلء عن المدينة كان بمثابة انتقام منهم على عدم اشتراكهم في معركة أحممد ،
إذ أنها غزوة موجهة إلى مدينة يثرب ،فكان على بنى النضير أن يخرجوا للقاء العدو ،كما تقضى
به شروط المعاهدة المعقودة بين المسلمين واليهود (( . 112
وكان لهذه التحركات العسكرية أن وطدت دعممائم الحكممم السمملمي فممي المدينممة ،وقمموت سمماعد
المسلمين ،وشلت حركة قريش التي تميزت في تلك المرحلة بالسلبية ،يقول غلوب باشا :
)) ولعل المفارقة العظيمة بين الجانبين في هذه السنوات من سنوات المعارك تبدو واضحة جلية
فيما تميز به المسلمون من نشاط ل حممدود لممه ،وممما تميممزت بممه قريممش مممن سمملبية وجمممود .وظممل
المسلمون يقومون بغزوات وسرايا من هممذا النمموع ،مممن قاعممدتهم فممي المدينممة ضممد القبائممل البدويممة
الحليفة لقريش مستعينين فيها بحلفائهم من البدو .أما الفراد الذين يظهرون عداء شديداة للمسلمين أو
للنبي فكان مصيرهم القتل(( . 113
كان الرسول يدرك أن معركة ما بين المسلمين والمشركين واقعممة ول منمماص ،ولممذلك كممانت
أعماله تهدف إلى لممم إعطمماء الثممورة السمملمية زخممما ة وقمموة اسممتعداداة للمسممتقبل ،وأضممعاف لجبهممة
العداء ،يقول مونتجمرى وات :
)) وهكذا استطاع محمد في الفترة الواقعة بين موقعة أحد وحصار المدينة -وإن عجز عن منع
المكيين من تكوين حلف ضده -أن يمنع كثيرا من القبائل من النضمام إليهم ،وزادت القمموى الممتي
نقل عن كتاب محمود الدرة :معارك العرب الكبرى ،ص .122 112
كانت في حوزته .ولم يكن يستطيع أن ينظر إلى الهجوم المهدد له بدون قلممق ولكنممه لممم يفقممد المممل
((. 114
وتشير التقديرات الولية إلى أن عدد الحلف الجديد يتراوحا ما بين عشرة آلف وأربعة وعشرين
ألفا ،زجت كلها في المعركة الجديدة بهدف القضاء على الرسالة السلمية ...
وأمام هذا الخطر المحدق من الحشد الهائل ،اتخذ الرسول قراره باتخاذ الجممراءات الدفاعيممة
الكفيلة بحماية المدينة ،واستقر الرأي على حفر خندق لحماية القسممم المكشمموف مممن المدينممة ،عملة
باقتراحا سلمان الفارسي ،فبداء بتنفيذه فوراة ،واشترك سائر المسلمين بحفره يتقدمهم النبي وقد تم
فعلة إنجازه في فترة ستة أيام قبل وصول الحزاب إلى المدينة .
ويقيم ك .جيورجيممو عاليمما ة خطممة الرسممول فممي موقعممة الخنممدق الممتي حممازت إعجمماب المفكريممن
والباحثين العسكريين ،بقوله :
))ولم تكن خطة محمد الحربية هذه سبب إعجاب الناس العاديين وحسب ،بممل مبعممث إكبممار
من وجهة نظر رجال الحرب المتخصصين .إذ كيف استطاع محمد استنباط هذه الخطة وإنجازها
،لن النبوغ ليس في استنباط الخطة وحسب ،بل فممي تنفيممذها أيضمما ة .فالممذين يقيمممون فممي منممازلهم
ويقرأون على صفحات الجرائممد الخطممط الحربيممة والعمليممات العسممكرية الممتي يقمموم بهمما رجممال ضممد
خصومهم ل يقدرون مدى العناء الذي يعانيه القائد في تنفيذ مثل هممذه الخطممط فممي سمماحة المعركممة .
وقد كان حفر الخندق في الجزيرة لمنع هجوم جيش معاد جديداة ،يشبه » الفالانج « الذي خططه في
معاركه السابقة من حيث الجدة والبراعة (( . 115
وعمليا ة ،فإن الخندق الجديد حال دون اقتحام جيش العدو المدينمة فمي هجموم كاسمح ،واضمطره
إلى في ضرب الحصار عليها شهراة كاملة دون .أن يتمكن من اختراق الخطوط الدفاعية السمملمية
،يقول غلوب باشا محللة :
)) ولم يكن حلفاء قريش من قبائل البادية يستسيغون طعم الحرب الثانية ،وسممرعان ممما أخممذت
المؤن تنضب والحتكاك ينشب بين الحزاب .وقد أثار الكثير منه رسل محمد الذين أخذوا يبممذرون
الخلفات سراة في صفوف المشركين ،و راحت إبل قريش وجيادها تنفممق لنقممص المرعممى .ورغممم
أن أبا سفيان كان القائد العام للحملة اسميا ة إل أن الحزاب اتبعت نظاما ة غريبا ة للقيممادة ،وهممو إسممناد
أمرها في كل يوم إلى واحد ممن رؤسمائهم وعلممى الرغممم ممن أن همذا النظممام كمان ضممروريا ة لتهدئمة
حوافز الغيرة والحسد بين مختلف القادة إل أن مثل هممذا الممترتيب جعممل أيمة عمليمة منظمممة للحصممار
أمراة مستحيلة (( . 116
ويحلل الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتابه » :محمد في المدينة « أهمية النصر الممذي
حققه الرسول بل بدبلوماسيته على أعدائه ،بقوله :
)) ولن نألو جهدةا في تقدير أهمية هذا النتصار الدبلوماسي لن هجوم قريظة من الجنوب على
مؤخرة المسلمين كان بمكانه القضاء على رسالة محمد .لقد دل تفسممخ المحالفممة علممى فشممل المكييممن
فشلة ذريعا ة في عملهم ضد محمد .وأصبح المستقبل مكفهممراة بالنسممبة إليهممم .لقممد اسممتخدموا أقصممى
جهودهم لزاحته عن المدينة ،فبقي فيها أكثر نفوذاة مما مضى ،وذلك بسبب فشممل المحالفممة .كممما
ماتت تجارتهم مع سورية ،وفقدوا الكثير من مكانتهم .ولم يعودوا يأملون ،حممتى لممو انقطممع محمممد
عن مجابهتهم ،في الحتفاظ بثرواتهم ومكانتهم .وهو يستطيع أن يسممتخدم القمموة المسمملحة ضممدهم ،
ويحاول أبادتهم كما حاولوا أبادته .ومن الغريب أن بعض المكيين ،وهم الشعب الواقعي لم يأخممذوا
بالتساؤل عما إذا لم يكن من الفضل قبول محمد وديانته ((. 117
ومع الهزيممة العسممكرية المممرة المتي أحماقت بقموى الحمزاب ظهمر المسملمون قمموة عسمكرية ل
يستهان بها ،وطفقت القبائممل الوثنيممة تخشممى جممانبه . .وعمليمما ة ،انتقممل زمممام المبممادرة بعممد معركممة
الخندق ليدي المسمملمين ،إذ أصممبحوا منممذ ذلممك اليموم فممي موقممع الهجمموم ،تأكيممداة لرؤيمة الرسممول
لمسيرة الصرع المستقبلية مع قريش ،حين قال صلوات ا عليه :
و لكن ما إن فشل حصار الحزاب وتفرق شملهم حممتى أحممس بنممو قريظممة بفداحممة الخطممأ الممذي
ارتكبوه نتيجة نقضهم العهد مع الرسول ...يقول جيورجيو :
)) بني قريظة نقضوا عهد المدينة ،فاتحدوا مع أعدائها ،في حين أن الواجب كمان يحمدوهم إلمى
الدفاع عن بلدتهم ضد المهاجمين .والرسول ف ي معرك ة أح د ق إلى له م إن ه ذه الح رب دينيممة ،
ولستم مضطرين إلى الخممروج مممع المسمملمين ،والحممرب فممي صممفهم ،ولسمميما أن المعركممة جممرت
خارج المدينة ،أما الن فهم داخل الخندق .
حين رأى بنمو قريظمة أن المشمركين رحلموا ،وتفمرغ لهمم المسملمون ،أحسموا بمالخط يمداهمهم
لخيانتهم ،فتحصنوا في قلعهم ومنازلهم (( . 118
وسارع المسلمون بضرب الحصار على منازلهم الشممبيه بممالقلع الحجريمة بقيمادة علمى بمن أبمي
طالب مدة خمسة وعشرين يوما ة ،فقرروا في نهايتها الستسلم والنممزول علممى حكممم النممبي محمممد ،
وقبلوا بتحكيم حليفهم من الوس سعد بن معاذ ،الذي أصدر حكم وفق الشريعة الوسمموية "بممأن تقتممل
المقاتلة ،وتقسم الموإلى وتسبى الذرية والنساء « ...
ويتابع جيورجيو متحدثا ة عن الحكم الذي صدر بحق اليهود ،بقوله :
)) خالفت قريظة العهد ،وأهملت العقد ،وسعت إلى التفاق مع الخصوم لضرب المسملمين ممن
الخلف ،لذا توجب عليهم العدام .لم يصدر المسلمون هذه الفتوى ،بل أعلنها رجل اعتمبره اليهمود
صديقا ة لهم ،وهم الذين اختاروه لهذه المهمة .وبعد صممدور هممذا الحكممم بممرأ علممي النسمماء والطفممال
الذين لم يبلغوا سن الرشد ،والشيوخ المسنين .أما الباقون فمممن دخممل فممي السمملم برئممت سمماحته ،
وأما الباقون فقد ثبتوا في القلع والمنازل ،وحاربوا ببسالة حتى قتلوا عن بكرة أبيهم (( . 119
هذا ،وقد ناقش الباحث السلمي مولنا محمد علي الحكممم الممذي صممدر بحممق بنممى قريطممة ورد
علممى اتهامممات المستشمرقين المتعماطفين ممع اليهممود حيمن اعتمبروه جممائراة ،بممأنه تمم وفمق الشممريعة
الموسوية ،وإن الذي أصدره هو قاض من اختيارهم ،يقول :
وعممددهم )) وهكذا حكم سعد ،وفقا ة للشريعة الموسوية ،بقتل ذكممور بنممي قريظممة ،
ثلثمئة ،وبسبي نسائهم وأطفالهم ،وبمصادرة ممتلكاتهم .ومهما بدت هذه العقوبة قاسية فقممد كممانت
على وجه الضبط العقوبة التي كان اليهود ينزلونها ،تبعا ة لتشممريع كتممابهم المقممدس ،بممالمغلوبين مممن
أعدائهم ،وإلى هذا فإن جريمة الغدر الشائنة التي اتهممم بهمما بنممو قريظممة خليممق بهممم ،فممي مثممل تلممك
الظروف ،أن ل تجازى بأيما عقوبة أخف ،حتى في عصر المدنية هذا .كان القاضي من اختيارهم
،وكان الحكم منطبقا ة أشد انطباق مع شريعتهم المقدسة نفسها .وفوق ذلممك ،فقممد أدينمموا بخيانممة مممن
نوع خطير .فهل من المنطق في شيء أن ينتقد الرسول لهذا السبب ؟ إن كل اعممتراض علممى قسمموة
هذه العقوبة هو اعتراض على الشريعة الموسوية .إنه في الواقع انتقاد ل شعوري لتلك الشممريعة ،و
تسليم بأن شريعة أكثر إنسممانية يجممب أن تحممل محلهمما ،وأيممما مقارنممة بالشممريعة السمملمية فممي هممذا
الصدد خليق بها أن تكشف ،في وضوحا بالغ ،أي قانون رفيق عطوف ،رحيممم قممدمه السمملم إلممى
الناس (( .120
وكان من نتائج تصفية بني قريظة ،القضاء التام على السمملطة اليهوديممة فممي المدينممة ،و توطيممد
السلطة السلمية فيها دينيما ة وسياسمميا ة واقتصماديا ة ،كمما أخمذ دورهما يكمبر علمى القبائمل الوثنيمة فمي
جزيرة العرب ،التي أخذت تحسب للمسلمين ألف حساب ...
صلح الحديبية
ونتيجة للعمليات العسكرية التي حققت فيما الدعوة السلمية النصر تلو النصممر ،ظهممرت كقمموة
بارزة مركزها المدينة ،إنما تمتد ذراعها إلى أبعد نقطة في الجزيرة العربية ،وتوجت عمليا ة بصمملح
الحديبية بين المسلمين وقرشيي مكة ...وذلك حين أتتخذ الرسول عليه السلم قراره الخطير بذهابه
إلى مكة مسلما ة معتمراة ...
لقد كممانت هممذه الحركممة مفاجممأة ليممس للمشممركين فحسممب ،بممل للمسمملمين كممذلك ،يقممول البمماحث
العسكري الروماني جيورجيو :
)) كان المسلمون يظنون أن النبي سيهاجم خيبر أو مكة ليفك الحصار ،لكنه ارتأى حلة آخر
لم يتوقعه المسلمون ،ذلكم هو ذهاب المسلمين جميعا ة معه لداء العمرة ،في حين أن مكة تحمل فمي
طياتها الضغينة والحقد لمحمد . فهممي المتي جيشممت الجيموش لحربمه .وممع ذلممك فقممد صممم علمى
الذهاب إليها .وقد ظنوا بادىء ذي بدء أنه يريد فتحها .لكنه أجابهم بأنه يريد زيارتها ل حربها .
وهكذا سار ،و معه ألفا رجل ،وعدة ممات ممن الجمممال إلمى مكممة فمي الشمهر الثماني م ن فصمل
الشتاء سنة 628المطابقة للسنة السادسة(( .121
وبعد تردد ،اتتخذ ت قريش قرارها بمنع الرسممول والمسمملمين مممن دخممول مكممة ولممو سمملما ة كممما
أحجزت لديها رهينة رسول رسول ام إليهمما عثمممان ابمن عفممان ،وتممأهبت للحمرب ،يقمول البمماحث
العسكري غلوب باشا في معالجة هذا الموضوع :
)) لكن قريشا ة لم تقتنع بنوايما الرسمول السمليمة .فسمارعت تسملح نفسمها وتتخمذ مواقعهما علمى
طريق المدينة للدفاع عن مكة .ولم يكن المعمرون من المسلمين يحملون إل السمميوف ،ولممم يكونمموا
في وضع يمكنهم من خوض القتال ويبدو أن محمدا بحركته هممذه مممع جممماعته نصممف المسمملحين قممد
ارتضى المغامرة ،وكانت مغامرة من طراز نادر .وعنمدما وجمد المسملمون طريمق مكمة مغلقما ة فمي
وجوههم انحرفوا ناحية اليمين ومروا إلى الغرب من مواقممع العممدو واقممتربوا مممن مكممة مممن الطريممق
المؤدي إليها من ساحل البحر ثم توقفوا عند الحديبية ،وهي على مسيرة يوم إلى الغرب مممن مكممة .
وعندما سمع أهل مكة بأن محمداة قد التف حول جناحا مواقعهم الدفاعية تراجعوا مسممرعين إلممى مكممة
وأصر الرسول على دخول مكة سلما ة ،مؤكداة العتراف بقدسية الكعبة ،لكممن قممراره السياسممي
الخطر هذا قد يدفعه للجوء إلى الحل العسكري ،رغم عدم تكافؤ القوى السلمية والمكية ،إذ خرج
المسلمون عزلة إل من أسلحتهم الفردية وكان عددهم دون عدد القرشيين بكممثير ،ومممع ذلممك تخمموف
القرشيون من مجابهة المسلمين حين علموا بمبايعتهم الرسول على القتال حتى آخر رجل ،بالمبايعة
التي عرفت " بيعة الرضوان" دفاعا عن العقيدة ،ولذا سارعوا جديا ة بفتح صممفحة المفاوضممات مممع
المسلمين ،يقول جيورجيو :
)) ولقد تخوف المشركون ،ولسيما قريش ،من بيعة الرضوان ،التي بموجبها يتعهدون بتنفيممذ
ما يأمرهم رسول ا ، وإن كان مخالفا ة لمعتقداتهم .فلقا تصوروا أن الرسول أخذ هممذه البيعممة ،
لنه سيهاجمهم ،وسيقتل من يقاوم ،ويأسر من يستسمملم .لقممد كممانت قريممش علممى يقيممن مممن براعممة
محمد العسكرية ،بعد أن لمسوا منه ذلك في المعارك السابقة ،كما أيقنمموا بممأن المسمملمين يتحلممون
بيقظة تامة .ووثقوا بأن محمداة إن صمم على احتلل مكة فعل .
ولهذا أطقوا مراحا عثمان فوراة ،وأعادوه إلى الحديبية ،وحملمموه رسممالة إلممى النممبي ، مفاده ا
أنهم مستعدون للمباحثة معه ،وسيرسلون وفداة لذلك (( .123
وأخيرةا توصل الطرفان إلى عقد صلح الحديبية الذي يقر السلم بين الطرفيممن ممدة عشمر سمنوات
،وكان النص النهائي للوثيقة :
» باسمك اللهم :هذا ما صاحا عليه محمد بن عبد ال سهيل ابن عمرو على وضممع الحممرب عممن
الناس عشر سنين ،يأمن فيها الناس ،ويكف بعضهم عن بعض ،على أن من أتى محمداة من قريش
بغير إذن وليه رده عليهم ،ومن جاء قريشا ة ممن مع محمد لم يردوه عليه ،وأنه بيننا بيعة مكفوفة ،
وأنه ل اسلال ول إغلل ،وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخممل فيممه ،ومممن أحممب أن
يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه .وأنك ترجع عنا عامك هذا فل تدخل علينمما مكممة ،وأنممه إذا
كان عام قابل خرجنا عنك فادخلها بأصحابك فأقمت بهمما ثلثمما ة ومعممك سمملحا راكممب و السمميوف فممي
القرب ،ل يدخلونها بغيرها .
خاتم خاتم
محمد رسول سهيل بن
ا عمرو
شهود عقد الصلح :أبو بكر ،عمر بن الخطاب ،على بن أبي طالب .
وكتب :وكان هو كاتب الصحيفة ،عبد الرحمن بن عوف ،عبد اللممه بممن سممهيل بممن عمممرو ،
فتح خيبر
يدخل فتح خيبر في إطمار علقمات الرسمول بمماليهود الممذين مثلموا الثمورة المضممادة للسمملم فمي
جزيرة العرب ،وكان ليهود خيبر مع بنمي النضمير دور بمالغ الخطمورة فمي إقاممة الحلمف المعمادي
للقوة السلمية الذي عرف باس الحزاب وحاول القضاء عليهمما فمي موقعمة الخنممق .يقمول البمماحث
السلمي مولنا محمد علي :
ولكنمما ل ))أما موقعة خيبر فقد حدثت بعد صلح الحديبية ،في السنة السممابعة للهجممرة
نحسممب ،بقممدر ممما يتعلممق المممر بأثرهمما فممي العلقممات السمملمية اليهوديممة ،أن مممن الخممروج عممن
الموضوع أن نتحدث عنها في هذا الفصل .فحين نفي بنو النضير من المدينة نزلت كثرتهم الكممبرى
وبخاصة زعماؤهم وأعيانهم ،في خيممبر ،معقممل اليهممود فممي بلد العممرب ،علممى مبعممدة مئممتي ميممل
تقريبا ة ،من المدينة .وكان اليهود ينعمون ثمة بسلطان مستقل ،وكانوا قد حصممنوا الموقممع تحصممينا ة
قويا ة .حتى إذا وفد عليم بنو النضير غرست بذرة العداوة للسلم في قلوبهم .وما إن نشممبت معركممة
الحزاب حتى راحوا يحرضون المكيين ،وقبيلة غطفان ،والقبائل البدوية ،على المسمملمين بممل لقممد
وفقوا إلى اكتساب تعاون بني قريظة أيضا ة .ورسخت جذور القوة السلمية في المدينممة بعممد إخفمماق
حملة الحزاب .ولكن الحقد اليهودي لم يزدد إل ضراوة ،لقد أجروا مفاوضات سرية مع عبممد اللممه
ابن أبي ،زعيم المنافقين الذي حكم لهم توكيداة جازما ة أنه ل يزال في إمكانهم محمق القموة السمملمية
(( .125
وكممان لصمملح الحديبيممة الممذي ،عقممد بيممن الرسممول ومشممركي قريممش أن سممرع فممي تطممور
الحداث ،إسقاط آخر قلع اليهودية فمي جزيممرة العممرب ...لقممد اعتقمد يهمود خيمبر أن همذا الصمملح
الممذي عقممد بشممروط مجحفممة بحممق المسمملمين ،يشممكل دليلة علممى ضممعفهم ...فراودتهممم المممال
بالقضاء على الدولة السلمية فممي المدينممة قضمماء تاممما ة .وذلممك بتحممالفهم مممع قبيلممة غطفممان ،يقممول
جيورجيو :
)) حين علم سكان خيبر أن المسلمين عقدوا هدنة مع أهل مكممة صمممموا علممى حربهممم وحممدهم ،
وذلك بأن يهاجموا المدينة بصورة خاطفة .ولكن محمداة أعد ألفا ة وخمسمئة محارب لحرب خيممبر،
في حين أن اليهود يستطيعون تجهيز عشرين ألف مقاتل (( .126
وحاصر جيش المسلمين بقيادة على بن إلى طالب معاقل اليهود في خيبر ،وسممرعان ممما أخممذت
قلعهم تتساقط الواحدة تلو الخرى ،ودان اليهود بسلطان المسلمين ....
))وأحسن محمد معاملة اليهود .إذ سمح لمن يريد منهممم بالرحيممل ،وحمممل ممما يريممدون ،عممدا
التمر والغنم والغلال .وبرواية أخرى عدا أثاث المنازل .أما من لم يرد الرحيل فليبق ،وله الحريممة
في العمل الذي يريد .كما انممه منممع المسمملمين مممن الممزواج بالنسمماء اليهوديممات علممى طريقممة الممزواج
بالمتعة و"المتعة " زواج مؤقت بنساء المة المغلوبة .وللمسلم كامل الحرية في اقتنمماء النسمماء علممى
أساس هذا الزواج _ .أما إذا كانت النساء قلة فيوزعن عليهم بالتساوي .
كما أن عليا ة منع الجنود المسلمين من دخول بساتين اليهود ،والعبث بحقول الخيممل ،كيل يممؤذوا
فواكههم أو أشجارهم .وكي يوطد محمد العلقممة بيممن المسملمين واليهمود عقمد قرانمه علمى صممفية
إحدى نسائهم .
وكان يسكن في وادي القرى -قرب تلك الديار -قبيلتان يهوديتان ،وقبيلتان أخريان سكنتا فممدك
وتيماء .فبعد أن رأوا انتصار المسلمين في خيبر عقدوا معهم صلحا ،يدفعون فيه الجزية المسممتحقة
(( .127
غزوأه مؤتاة
هذا ،ولقد جرى بين فتح خيمبر وفت ح مكمة عمدد ممن السممرايا العسمكرية والغمزوات المتي قادهما
الرسممول بنفس ه أو أنف ذها بقي ادة ص حابته .كممان بعضممها بمثابممة حملت تأديبيممة أو دوريممات
استطلع ،لكن أهم حملة حدثت في تلك الفترة هي غزوة مؤتة لنها جرت داخل الراضمي الواقعمة
تحت النفوذ البيزنطي ،يقول غلوب باشا :
)) ومممع كممل هممذه العوامممل فقممد أعممد النممبي فممي شممهر سممبتمبر /أيلممول /عممام 629حملممة
عسممكرية كممبيرة الهميممة وكممثيرة التنظيممم ،وكممان القصممد منهمما غممزو بعممض الراضممي الخاضممعة
للسمميطرة البيزنطيممة ،وتقممول الروايممات العربيممة إن القصممد مممن الحملممة كممان الثممأر لبعممض الرسممل
المسلمين الذين أوفدهم النبي إلى المنطقة .كان الثممأر دفاعمما ة أقمموى فممي الحممروب العربيممة مممن الفتممح
والحتلل .
وأقام النبي معسكراة على بعد بضعة أميال إلى الشمال من المدينة وأمر المتطوعين من المسلمين
بالتجمع فيه وولى زيد بن حارثة ولده بالتبني -قيادة الحملة التي ضمت نحوا من ثلثة آلف رجل .
وكانت هذه هي الحملة السلمية الولى على هذا النطاق الضخم التي خرجت إلممى هممدف بعيممد عممن
المدينة ،وتطلب أعداد مثل هذه الحملة وقتا طويل .ولذا فممان أنباءهمما بلغمت ممما يسمممى الن بشممرق
الردن قبل تحركها (( .128
وكان أن التقى الجيشان السلمي والبيزنطي في مؤتة ،وكانت النسبة بين الجيشممين هممي واحممد
إلى سبعة لصاحا الروم وحلفائهم من القبائل العربية الموالية لهم ،ورغم عدم تكافؤ القوى فممي العممدد
والعدة ،لم يتردد المسلمون الذين عمر اليمان قلوبهم ثم فممي خمموض المعركممة .وكممانت النتيجممة أن
سقط قائد القوات ،السلمية زيد بن حارثة والقائدان جعفر بن أبي طالب وعبممد امم بممن رواحممة ...
وهنا ظهرت عبقرية خالد بن الوليد الذي اعتنق السلم ،وكان ذا خبرة عالية في القيممادة العسممكرية
فاستطاع أن ينقذ الجيش السلمي من الفناء بانسحابه المنظم والعودة به إلممى المدينممة ،فنممال بفضممل
ذلك اللقب الذي أطلقه عليه الرسول :سيف ا .
فتح مكة
كان صلح الحديبية الذي عقد ما بين الرسول والمشركين مجحفا ة بظاهره بحق المسلمين سممرعان
ما انقلب لصالحهم ،وبلغ المر أن طلبت قريش بالذات إلغمماء البنممود الممتي اعتبرهمما البعممض مذلممة ،
وخاصة ما يتعلق بأولئك الذين يلجؤون إلى محمد هربا ة من قريش بأن يعيدهم إلى مكة ...والذين لممم
يلبثوا أن انقلبوا عصبة مسلحة تهدد قريشا ة تهديداة جديا ة .
وعمليا ة ،فقد نشأت تلك العصبة بقيادة أبي بصير مممن مسمملمي مكممة الممذين لممم يسممتطيعوا اللحمماق
بالمدينة ،تنفيذاة لتفاق صلح الحديبية ،فنزلوا العيص على ساحل البحر وطفقوا يغيرون على قوافل
قريش يستلبون أموالها ويفتكون بقواتها ،ويتحدث جيورجيو عن تلك العصبة المجاهدة بقوله :
)) ولممم يمممض حيممن حممتى ازداد عممددهم ،واسممتطاعوا أن يؤلفمموا جيشمما ة فأخممذوا يغيممرون
على قوافل مكممة .فتضممايقت جماعممة قريممش كممثيراة منهممم ،فاضممطرت إلممى مراسمملة النممبي تس أله
بأرحامها أل آواهم فل حاجة لهم بهم .فطالبهم رسول الله بكتاب خطممي كممي سممنداة لممه وعهممداة .
وبهذا نقض هذا الشرط من كتاب العهد .وما فممتئت الشممروط الممتي لممم تكممن لصماحا المسملمين يممزول
مفعولهمما شمميئا ة فشمميئا ة ،وممما هممي إل مممدة وجيممزة حممتى غممدا صمملح الحديبيممة كلممه فممي صمماحا
المسلمين (( .129
ولم ينقمض طويممل وقممت حممتى أخممذت قريممش تتملمممل مممن هممذه التفاقيممة ،الممتي تحممولت لصمماحا
المسلمين إذ مكنتهم من نشر الدعوة السلمية مما دفع المشركين إلى التذمر ومحاول ة نقمض صملح
الحديبية ،وإلغائه من جانب واحد ،لكن سرعان ما شعرت بالخطممأ ،وحمماولت أن تتممدارك المممر ،
لكن بعد فوات الوان ،إذ أتتخذ الرسول قراره بفتح مكة .
)) وكان الرأي العام في مكة قد تحول فممي هممذه الونممة تحممولة واضممحا ة إلممى جممانب المسمملمين .
وأدرك النبي أن الوقت قد حان لتوجيه ضربته النهاية الى قريش.
وسرعان ما أمنت له القبائل البدويمة الذريعمة أو المممبرر .وكمانت هنمماك قبيلتممان إحمداهما تسمممى
خزاعة والخرى بنو بكر تعيشان متجاورتين خارج مكة ،وبينهما ثممارات قديمممة منمذ عهممد الجاهليمة
.وكانت خزاعة حليفة النبي بينما كان بنو بكر حلفاء لقريش .وحدث في هذه الونممة أن أرادت بكممر
الثأر بن خزاعة فخرج نفر منها لمباغتة أعدائهم على ماء خمارج مكمة ،وأوقعموا بمالخزاعيين عماداة
من الصابات القاتلة .وخرج بديل بممن ورقمماء أحممد شمميوخ خزاعممة والممذي قممام بممدور الوسمماطة فممي
الحديبية على رأس وفد من قومه إلى المدينة ،فأخبروه بنقض قريش لعهدها ،وأن غممدر بنممي بكممر
حلفاء قريش يعتبر خرقا لمعاهدة الحايبية .ويبدو أن النبي قرر أن الفرصة جممد مؤاتيممة للقيممام بعمممل
حاسم إزاء قريش وراحا في يناير /كانون الثمماني /عممام 630يممأمر المسمملمين بالتممأهب للحممرب ،
وسيطر الرعب على زعماء قريش الذين كانوا يدركون ول شك ما بلغه نفوذ محمممد وسمملطانه وراحا
أبو سفيان قائدها في معركة أحد وأحد كبار أعداء النمبي ومعارضميه يسمرع إلمى المدينمة ولكمن همذا
القائد المتغطرس وزعيم قريش لم يسمتطع مقابلممة النمبي أن رفمض السمماحا لمه بمقمابلته واضممطر أن
يرجو أبا بكر وعمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب الوساطة والشفاعة عند محمد فضنوا بها عليممه
وعاد إلى مكة مخذول مهانا ة (( .130
وسار الرسول على رأس جيش قوامه عشرة آلف مقاتل قاصدين مكة لفتحها ..ويربط البمماحث
السلمي مولنا محمد علي فتح مكة بالنبوءة الموسوية بقوله :
))وأخيرا سار الرسول ،على رأس عشرة آلف من أتبمماعه الممبررة ،إلممى مكممة فممي العاشممر ممن
رمضان ،من السنة الثامنة للهجرة ،وهكذا حققت النبوءة المتي انطلقمت ،قبممل ألفممي عمام ،ممن بيممن
شفتي موسى " وأتى مع عشرة آلف من القديسين " ) سفر التثنية . (2 :33
وليس في التاريخ بعد الموسوي أيما حادثة أخرى تتحقق بها هذه الكلمممات النبوئيممة .يمما لهمما مممن
ظاهرة أعجوبية ،لقد كان عدد المسلمين عشرة ألف مقاتل ،وكانوا في الوقت نفسه كلهممم )بممررة (
كما جاء في النبوءة .
إن هدفهم في الحياة لم يكن بأية حال خوض غمار الحرب وسفك الدماء ولكن إقامة قواعممد الممبر
ولو كلفهم ذلك حياتهم (( .131
وحين أدرك القرشيون أل قبل لهممم بمواجهمة المسمملمين قبلموا السممتلم دونممما قتممال ،ولقممد أورد
العلمة الفرنسي لوزوذ في كتابه " :ا في السممماء" دخممول الرسممول الكعبممة وقضمماءه علممى رممموز
الوثنية ،وذلك بتحطيم الصنام المنتشرة حولها :
)) ولما فتح محمد مكة جاء بيت ال الكعبة في احتفال وفيها – - 360صنما ة فكان محمممد يقفممر
جان بااغوت غلوب :الفتوحات العرباية الكبرى ،ص .150 – 149 130
أمام كل صنم ثم يضربه بعصاه ويقول جاء الحق وزهق الباطل أن الباطممل كممان زهوقمما ة فيهمموي
على الرض تحت أقدامه (( .132
ولقد قوم الباحث السلمي مولنا محمد علي هذه الحادثة التاريخية الفريدة بقوله :
)) إن تاريخ العالم ليعجز عن تزويدنا بنظير لهذا الصفح الكريم الذي أغدقه الرسول على أمثممال
أولئك المجرمين الكبار .أن الضممرب علممى وتممر المممواعظ الداعيمة إلممى الصممفح والغفممران ل يكلممف
المرء شيئا ة كثيراة ،ولكن عفو المرء عن معذبيه ليحتاج إلممى قممدر مممن الشممهامة عظيممم ،و بخاصممة
حين يكون أولئك المعذبون تحت رحمته .وهذا النفساحا في مدى العطف النسمماني والعفممو الكريممم
ل نقع عليه في حياة يسوع .فالحق أن يسوع لم تتح له الفرصة لممارسة فضيلة العفو ،ذلك بأنه لممم
يكسب في أيما يوم السلطة التي تمكنه من الرد على مضطهديه (( .133
أما الباحث العسكرى غلوب باشمما ،فقممد اعتممبر نصممر الرسممول عظيممما ة لنممه حققممه دونممما إراقممة
دماء ،وتمكن من كسب قلوب الجميع ،فكان أن برزت مزاياه كرجل دولة وسياسة ...
)) وهكذا تم فتح مكة دون إراقة دماء إلى حد كبير .وعلى الرغم من أن النبي كممان قممد عممانى
الضطهاد في المدينة ،وعلى الرغم من أن عدداة من ألد أعداءه كانوا ل يزالون يعيشممرن فيهمما ،إل
أنه اكتسب قلوب الجميع بما أظهره من رحمة وعفو في يوم انتصاره .ول ريب في أن هذا التسممامح
أو هذه الفطنة السياسية التي اتصف بها النبي كرجل دولة ،كانت غريبممة علممى العممرب الممذين كممانت
وقد حقق النصر الكبير بسياسته ودبلوماسيته اكثر منممه صفة النتقام من خصالهم ومزاياهم .
بعمله العسكري .ول ريب في أن عظمته تقوم في أنه أدرك في عصر يسوده العنممف وسممفك الممدماء
أن الفكار أقوى من القوة والعنف ((. 134
وكان لموقف الرسول من القرشيين ،أن دخلوا في دين ا أفواجا ة أفواجا ة ،فقد أسلم في اليممام
العشرة الولى ألفا قرشي .....وكانت مدة مكوثه في مكة خمسة عشر يوما ة أسلم فيا غالبية السممكان
،ولقد رأى منصفو المستشرقين بفتح مكة سملما ة المرد القماطع ،والمدليل السماطع ،علمى أن السملم
ليس دين السيف وحسب ،بل هو دين السلم كذلك ،ومن هذه القموال اعمتراف السممير وليممم مموير ،
حين علق على هذه الحادثة التاريخية ،بقوله :
)) على الرغم من أن البلدة رحبت بسلطانه ترحيبا ة بهيجمما ة ،فلممم يكممن جميممع سممكانها قممد اعتنقمموا
الدين الجديد ،ولم يكونوا قد اعترفوا رسميا ة بصحة دعواه النبوئية .ولعله عقد العزم على أن يسمملك
ههنا ذلك النهج الذي سلكه في المدنية ،ويدع الناس يدخلون في السلم ،شيئا ة بعد شيء ،من غيممر
إكراه (( .135
وليم موير :حياة محمد )نقل عن كتاب مولنا محمد علي ،ص .(208 135
74
كان للنصر العظيم الذي حققه الرسول بفتح مكة مسلما ة ودخول قريش السلم أن أقض مضاجع
القبائل المشركة القاطنة قرب مكة ،ولسيما هوازن في شمال شرقيها ،ثقيف فمي جنموب شممرقيها .
فكان أن تحالفتا واتفقتا على تولية مالك بن عوف النصممري قيممادة الحملممة الموجهممة ضممد المسمملمين .
للنقضاض على مكة وأخذها بغتة ....
ولحن سرعان ما تناهى إلممى مسممامع الرسممول م ن أرص اده م ا يتممم مممن حشممود ضممد القمموى
السلمية فخرج هو للقائها بحيش بلغ أثني عشر ألف رجل ،إذ انضمم إليمه ألفمان ممن مسمملمي مكممة
الجدد ..وتحركت القوات السلمية صوب الطممائف ،وعمبرت طلئعممه وادي حنيممن دون أن تنتبممه
إلى كمائن العداء ...يقول غلوب باشا :
)) وكانت كثرة المسلمين العددية وثقتهم من النصر سببين كما يدو فممي إظهممار ممما أظهممروه فممي
هذه المعركة من افتقار إلى الستعداد والحيطة .فلم يكد المسلمون يتحركون عنممد الفجممر عممبر وادي
حنين الضيق حتى باغتهم العممدو مممن جميممع الجهممات بعممد أن كمممن لهممم فممي شممعاب المموادي .كممانت
المباغتة كاملة تمام الكمال ،ولم يتح لهم الوقت للثبات وتنظيم صفوفهم .وتراجعت طلئعهممم فزعممة
ل تلوي على شيء وسرعان ما دب الرعب في الجيش كله وراحا ينهزم محاولة الفرار مممن المموادي
الضيق وقد سادته الفوضى(( .136
و تعقب الرسول بنفسه قوات ثقيف إلى مدينتهم الحصينة :الطائف ،نضرب حولهمما الحصممار
والرجوع بقواته إلى مكة ..يقول غلوب باشا :
» وكان انتصار المسلمين في حنين كاملة حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة بين أعداد
وفيرة من البل والغنم ،كما أسروا عدداة ضخما ة من السرى معظمهم من نساء هوازن
وأطفالها ،وعندما عاد النبي عن الطائف دون أن تمكن من فتحها شرع يقسم الغنائم والسلب بين
رجاله .ووصل إليه وفد من هوازن المهزومة المغلوبة على أمرها يرجوه إطلق سراحا النسوة
والطفال من السرى ،وسرعان ما لبى النبي الطلب بما عرف عنه من دماثة و تسامح ،فلقد كان
ينشد من جديد في ذروة انتصاره أن يكسب الناس أكثر من نشدانه عقابهم وقصاصهم (( .137
ودفع هذا الوقف المتسامح من أعداء الرسول إلى أن يعلنوا إسلمهم ،فأسلمت هوازن في
البدء لتتبعها بعد ذلك ثقيف ،وهذا ما جعل القبائل العربية تترى مسارعة إلى إعلن إسلمها ،
فأسلمت قبيلة طييء ...وأصبح إلى الرسول صاحب أعظم قوة سياسية وعسكرية على الجزيرة
العرب.
غزوأة تابوك
إن انضواء جزيرة العرب تحت لواء السلم ،وبروز الرسول كموحد للعرب وظهمموره كحمماكم
ديني وسياسي وعسكري ،وانتشار السلم كعقيممدة سممماوية انتشمماراة واسممعا ة ..كممل ذلممك أخممذ يقلممق
جان بااغوت غلوب :الفتوحات العرباية الكبرى ،ص .158 -157 136
137
المصدر الساباق ،ص .159
75
المبراطورية البيزنطية -رغم أن الرسول كان يتعاطف مع الدولة الرومانية في قتالها ضد فار س -
فتحركت كوامن الغيممرة الدينيممة والحسممد لتممك النتصممارات البمماهرة ...لممذلك رأت بيزنطممة أن تهممب
مسارعة إلى القضاء على هذا الخطر الجديممد قبممل اسممتفحاله ،وأخممذ قيصممر الممروم يعممد العممدة للقيممام
بحملة عسكرية على الجزيرة العربية عن طريق سورية بهدف القضاء على المسلمين ....
ووصلت الرسول أخبار عن تلك الحملة ،وأن عدداة مممن القبائممل المسمميحية انضمممت إلممى الممروم
لقتال العرب المسلمين ،ولذا سارع إلى إعداد جيش لملقاة العدو عند الحدود الفاصلة بيممن الجزيممرة
العربية وسورية ،تم تجهيزه على جناحا السرعة وقوامه 30ألف مقاتل بينهم عشممرة آلف فمارس ،
وخرج على رأس ذلك الجيش في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة .كما انضم إليممه الكممثير مممن
القبائل العربية أثناء مسيرته ،مما دفع المروم إلمى العممدول عمن حممرب المسمملمين ،كمما فممر رؤسماء
القبائل المسميحية حيمن يئسمموا ممن وصمول الحملممة البيزنطيممة ،وبعممدها صممالحوا الرسممول ،وأبمدوا
استعدادهم لدفع الجزية وعقد معاهدة معه ،إذ أدركوا أن قمموة السمملم جعلممت دولممة الممروم العظمممى
تخش مواجهتها .
))ونظم عدداة من نقاط الرتكاز على الحدود الشمالية للجزيرة العربية التي تربطها بلد الشممام ،
وذلك بعقد التحالفات مع سكان تلك المنطقة ،وانضمام بعضهم إلى الثورة السلمية ((. 138
ورأى الباحث العسكري غلوب باشا أن ما هدفت إليه غزوة تبوك ،هو بسط السيطرة السلمية
حتى الحدود البيزنطية يقول :
)) ول ريب في أن الهدف من هذه الحملة كان رفع الرايممة السمملمية علممى حممدود الممروم ،ولممم
يكن النبي قد نسي معركة مؤتة ،ولذا فقد عزم على الثأر لها (( .139
الفصل الثالث
سياسة الرسول التوحيدية
الرسول وأ رسالة التوحيد
إن المسيرة الكفاحية للدعوة السلمية ،ونضال الرسول الملحمي لنشر رسالة السلم ،ومن ثم
الحروب التي خاضتها الدعوة ضد النظمة القبلية الوثنية ،جميع هذه المور التي استعرضناها في
الصفحات السابقة ،كان هدفها نشر راية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية ....
وإذا كمانت المدعوة السملمية توحيديمة علمى صمعيد الفكمر المديني فهمي بمدورها توحيديمة علمى
الصعيدين السياسي والجتممماعي ،إذ اسممتطاعت عممبر نضممال الرسممول الملحمممي أن تتمموج بتوحممدي
جزيرة العرب وصهر القبائل المتنافرة في بوتقة السلم كتلة واحدة متراصة.
هذا ،وقد ظهرت سياسة الرسول التوحيدية مع استقراره في المدينة التي فتحهمما بممالقرآن الكريممم
وحده في أعقاب الهجرة ،وإرساء قاعدة الدولممة السمملمية الولممى ،ووضممع أول دسممتور للمدينممة ،
وهكذا أخذت تبلور مفاهيم المة السلمية . . .
الأمة السلمية
كانت الحياة العربية قبل السلم تقوم أساسا ة على نمطية خاصة ،فالقبيلة هي التنظيم الجتماعي
السياسي الذي يظم حياة الفرد في القبيلة ،فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبليا ة ،وليس هناك أيممة
رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها ،بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحار بة ،وإذا ما قامت
أحلف قبلية ،فلمناصرة قبيلة على أخمرى ،وبالتحديمد كمانت القبيلمة العربيمة تشمكل وحمدة سياسمية
مستقلة . .ومن هنا كان النقلب الذي أحدثه الرسول عميقا ة في حياة الجزيرة العربية إذ اسممتطاع
بسياسته الكفاحية التي تمليها روحا السلم أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقممى بهمما علممى
سيد التطور الجتماعي لتظهر في إطار المة السملمية . . .ويبحمث المستشمرق ممونتجمري وات
الفرق بين مفهومي القبيلة والمة ،بقوله :
)) الفرق البديهي بين المة والقبيلة هو أن المة تقوم على الدين ،بينما تقوم القبيلة على القرابممة
،ول نجد هذه الفكرة في أية نظرية ،ولكنها فكرة ضمنية كامنة ((. 140
وكان التطور السياسي للممة السملمية المتي وضمع أسسمها فمي المدينمة ،ثمم تطمورت بمإجلء
اليهود عنها ،وانتشار السلم في جزيرة العرب ،يعني فيما تعنيه الجماعة في زمن خلفاء الرسمول
فغدا يشمل الجماعات والجناس والشمعوب المتي تعيشمها فمي ظمل » دار السملم « تمييمزاة لهما ع ن
هذا ،ويناقش المستشرق الفرنسمي مارسميل بموازار فمي كتمابه » :إنسممانية السملم « فكمرة »
المة السلمية « ومغايرتها المفهوم الغربي ،وعلقة الفرد بهذه البلعة ،يقول :
))ليس لفكرة " المة " السلمية مقابل في فكر الغرب ول في تجربتممه التاريخيممة .فالجماعممة
السلمية ،وهى تجمع من المؤمنين يؤلف ينهم ربمماط سياسممي ودينممي فممي آن واحممد ،ويتمحمورون
حول كلم ا القدسي و توحدهم العزة بالنتساب إلممى التنزيممل الخيممر والحقيقممي ل تطممابق فكممرة »
الشعب « التي كانت سائدة عند مسيحي القرون الوسطى ،ول فكرة " المة " الغربيممة الممتي راجممت
في القرن الثامن عشر .وصعوبة التوافق منبثقة عن فكرة الكائن البشري .فالنسان يسهم ،بالنسممبة
إلى الفكر الغربي ،في الحياة الجتماعية المقسمة إلى طبقات ومراتب بنشمماطه الخمارجي والفعلمي ،
وعلى العكس من ذلك فإن الفرد يندمج في السلم بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شممهادته ،
الفردية واستبطان إرادتممه وصممفاته الخاصممة كمممؤمن ،فالنيممة المعلنممة والجهممر بممالكلم شممرطان مممن
شروط النتماء إلى المجتمع .وبصورة تلزمية يحدد المتثال لمشيئة ال البنية الجتماعية .وهكممذا
تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو ال (( .141
وكان دستور المدينة نصيا ة سياسيا ة للرسول ولرسالته التوحيدية ،فقد سممرت فيممه القبائممل العربيممة
القاطنة في المدينة حتى رغبت عدة قبائممل أن تممدخل فممي ظممل وثيقممة المدينممة ،لتتمتممع بحمايممة السمملم
السلمي ،الذي شكل قاعدة المة السلمية المقبلممة القائمممة علممى أسممس دينيممة ،يقممول مممونتجمري
وات :
)) وكانت المشكلة الولى هي استتباب السلم بين مختلف قبائل المدينة .وكانت مشكلة ليست في
المدينة فقط بل في كل شبه الجزيرة العربية .ولما نجح محمد في إقامة » السلم السمملمي « فممي
المدينة مع القبائل المجاورة ،أرادت قبائل أخرى أن تستفيد من النظام الجديد .ولم يعمارض محممد
من جهة امتداد نظام السلمة الذي أقامه إذا كانت الترتيبان التفصيلية مرضممية ،فممإن امتممداده يممؤدي
إلى قدر كبير من السلمة .تخيل محمد نفسه يتوسع بالمممة السمملمية -أي جماعممة الممذين يعتنقممون
السلم أو يؤمنون بالله_ ،دون اعتناق السلم ،وقد احتموا به أو برسوله (( .142
ويرى كثير من الباحثين في الشرق والغرب ،وكذلك لفيف من المستشرقين أن اهتمممام الرسممول
مارسإيل باوزار :إنسانية السإلمية ،ص .183-182 141
بقبائل الشمال ،كان من أهدافه السمملمية تمموجيه العممرب نحممو بلد الشممام إدراكمما ة منممه لهميممة هممذه
المنطقة استراتيجيا ة لمستقبل الدعوة السمملمية ،لتكممون مجممالة للفتوحممات المقبلممة . .وتأمينمما "للسمملم
السلمي" الذي يقوم حق التقويم القضايا الجتماعية والدينية والسياسممية والقتصممادية معمما ة انطلقمما ة
من )) اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسممي اجتممماعي واقتصممادي علممى أسممس دينيممة ((
.143
ويبحث المفكر مونتجمري وات في مكان آخر الهمية القتصادية للتجارة مع بلد الشام بالنسبة
لجزيرة العرب ولمستقبل الفتوحات السلمية ،يقول :
))وكانت مسألة أخرى تشغل حكم محمد .وهي أنه كان يحرم القتال والنهب بين المسلمين وبهذا
إذا دخل عدد كبير من القبائل أو قبلممت زعامممة محمممد لهمما ،فكممان عليممه أن يبحممث عممن متنفممس آخممر
لطاقاتها ،وقد نظر محمد إلى المستقبل ووجمد أن ه يجمب تموجيه غرائمز الغمزو لمدى العمرب نحمو
الخارج ،نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربية ،كممما أدرك إلممى حممد ممما أن نمممو طريممق
سورية هو إعداد للتوسع(( .144
هذا ،وناقش الباحث العسكري محمممود الممدرة ،ممما ذهممب إليممه البمماحثون العسممكريون الغربيممون
والمستشرقون ورد عليهم بما يؤكد عالمية الرسالة وطموحا الرسول إلى أن يعم السلم المعمممورة
وخاصة البلدان المجاورة لجزيرة العرب يقول :
)) والحقيقة هي أن محمداة قد رسم لمته خطوط السياسة السوقية )الستراتيجية ( ساعة حصممار
المدينة ،فضل عن الحركات العسكرية التمهيدية الممتي أمممر بهمما باتجمماه الممديار الشممامية ،وبأحمماديثه
المعروفة بهذا الخصوص .كما أن رسالته كما جاء في القرآن الكريم تؤكد على أنها للعالمين جميعا ة
(( .145
ومن الثابت أن الرسول في أحاديثه ورؤاه المستقبلية كان مدركا ة بإيمان النبي المرسل أن رسممالة
السلم ستعم الرض ،وقناعته هذه لم تتزحزحا البتة حممتى فممي أحلممك الظممروف السياسممية وأشممدها
خطورة على مستقبل السلم إبان موقعة الخندق أو الحزاب حيث تجلت شخصية الرسول العظيمممة
ورؤاه العملقة مما حفر في وجدان المسلمين عميقا ة ،وغدت نبوءة الفتوحات واقعمما ة ،حيممن انطلقممت
رايات الفتح خارج الجزيرة تأكيداة على عالمية الرسالة ،ولندع منا للباحث السمملمي مولنمما محمممد
على تحليل هذه القضية النبوءة ،يقول :
))أن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني -أيضمما ة
على أمة من المم .ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادى ،جنبا ة إلى جنممب مممع أتسمماعها فممي سمماعة
الحرج الوطني العظيم .
إنه لمن سمات شخصية الرسول المميزة أنه كان يضفي رواء على أيما شيء يشارك في صممنعه
.فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة .ولئن كان ،من ناحيممة ،حكممم الملمموك رجولممة ،لقممد
كان _في الوقت نفسه _ أكثر الرجال جللة ملكيةا .وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر صلد .وبذلوا
كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه .وهكذا اقترحا على الرسول ،الذي كان قد رسم حدود الخندق بيممديه
الثنتين ،أن يجيز لهم النحراف بعض الشيء ،عن الخطمة الصمملية ،فلمم يكممن منمه إل أن تنمماول
معولة وانهمك فممي أداء المهمممة الممتي أعجممزت رجمماله ل لقممد هبممط إلممى جمموف الخنممدق وراحا يقممرع
الصخرة بعنف ،فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكممد الرسممول يلمحهمما حممتى صمماحا ،
يتبعه أصحابه » ،ا اكبر« وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام قد آلت إليممه
.وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت ،مطلقة شرارة النار نفسها .وكرة ثانيمة ارتفممع التكممبير » :
ا أكبر« ولحظ الرسول أنه وهب مفاتيح المملكة الفارسية .وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة
قطعا وأعلن الرسول أنه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه ثم أوضح قائلة إنه ،في المرة الولممى ،
اهلع على قصر قيصر ،وفي المرة الثانية على قصر أكاسرة فارس ،وفي المرة الثالثة علمى قصممر
صنعاء ،وإنه أنبىء ،أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلد كلها .أنهمما لظمماهرة رائعممة .ولقممد كممانت
قوة جبارة ،تتألف من أربعة وعشرين ألف رجل ،تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم الستعداد
لسحق السلم .وكانت بلد العرب كلهما متعطشممة لمدماء المسملمين .وفمي غممرة م ن سممحب همذا
الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعا ة قصيا ة يؤذن بالقوة التي ستتم للسلم في المستقبل .أليممس
ذلك شيئا ة يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلي الحكمممة والكلممي العلممم يسممتطيع
أن يكشف للرسول أسرار المستقبل هذه في لحظة كان السلم مهدداة فيها بالفناء المطلق ؟ (( .146
هذا ،وإن دلت هذه الرسائل على أمر فتلك الغاية التي كانت وراء قصممد الرسممول ،وهممي نشممر
العقيدة السلمية خارج جزيرة العرب ،لن السلم دين عالمي ،وأنه رسول ال إلى الناس كافة .
أن اشتملت هذه الرسائل جميعها على المدعوة إلمى الوحدانيمة ،وكمانت متوجمة باليمة الكريممة المتي
تدعو أهل الكتاب إلى تحقيق ما هو ،مشترك بين جميع الديان السماوية ،أي عبمادة اللمه وحمده وأن
ل يكون له شريك من آلهة أخرى ،أو بشر ،تقول الية الكريمة :
قل يا أهل الكتاب تعالواة إلى كلمه سواء بيننا وبينكممم أل نعبممد إل امم ول نشممرك بممه شمميئا ة ول
يتخذ بعضنا بعضا ة أربابا ة من دون ا ،فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) س ، 3الية .(64
)) والواقع أن الية تلفت النتباه إلى مبدأ لو اصطنع اليموم إذن لوضممع حممداة لجميممع المنازعممات
الدينية ،صاهراة مختلف النظمة في دين كوني واحد ،وصاهراة البشرية كلها في أخوة كلية واحدة .
إنه يقرر ،ابتغاء إزالة الفروق جميعا ة ،أن كممل ممما هممو مشممترك بيممن جميممع الديممان يجممب أن يقبلممه
الجميع ،كأساسي يبدأ به ،ثم تشاد فوق السماس بيمع التفاصميل الدينيمة المتناغممة ممع همذه الحقيقمة
الساسية .وهكذا تستطيع أديان العالم كلها أن تتلقى على أرض مشتركة و تسوي خلفاتها بطريقة
حبية .والواقع أن فكرة الدين النتقائي التي انبثقت مؤخراة تنسجم مع الحقيقة نفسممها الممتي دعمما إليهمما
السلم منذ ثلثة عشر قرنا ة (( .147
لقد كانت مواقف الحكام والملوك مختلفة في ردود أفعالها حين تلقت رسائل رسول اللممه يق ول
آتيين دينيه في كتابه " :حمد رسول ا" :
)) فتلقي المنذر ،ملك البحرين الرسالة فأسلم ،وكذلك فعل نائب ملممك اليمممن .وبعممث المقمموقس
ملك مصر بالهدايا الثمينة إلى محمد ،وكان من بين تلك الهدايا جارية شابة بارعة الجمال يقال لها :
مارية القبطية ،تزوجها محمد .وكان من بينها أيضا ة حمار يقال له يعفور وبغلممة تممدعى دلممدل .أممما
هرقل لم إمبراطور الرومان والنجاشي ملك الحبشممة ،فقممد رد كممل منهممما الممدعوة برسممالة غايممة فممي
التلطف والحترام .غير أن كسرى ملك الفرس أقسم ليعمماقبن النممبي علممى جرأتممه ،فنممزل عليمه فممي
الحال غضب ا ،أن اغتاله ابنه شيرويه ،وتبوأ عرشه .ومزق الحارث بن أبي شمر رسالة النبي
،فرأى ملكه يتمزق ،جزاء له من ال على تمزيق رسالة محمد ،وكان الحارث بن عميممر الرسممول
الوحيد الذي استقبل استقبالة مشينا ة ،ثم اغتيل عند الكرك بالبلقاء بمأمر ممن شمرحبيل الغسممانى حماكم
تلك البلد التي كانت تخضع للرومان (( .148
هذا و تتفاوت مواقف المستشرقين والباحثين الغربيين من مسألة حقيقة الوفممود ،بيممن التصممديق
والنكار والدهشة والعجاب ،والتشكيك في صحة المر . . .رغم ثبوتها وخاصة بعد العثور على
الرسالة التي وجهها الرسول إلى المقوقس حاكم مصر ،يقول الباحث العسكري غلوب باشا :
)) حكم بعض المؤرخين المعاصرين أثاروا بعض الشكوك فممي موضمموع الرسممائل فليممس هنمماك
في ما حفظ عن حياة النممبي ممما يشممير أن النممبي قممد تصممور أو توقممع احتلل سممورية وفممارس .ولقممد
أدهشت النتصارات العظيمة التي حققها العرب بعد وفاة النبي المسلمين أنفسهم ،وهممي انتصممارات
ما كانت لتتحقق لول أن النممبي قممد تنبممأ بوقوعهمما .لكممن ماريممة القبطيممة كممانت مممن الناحيممة الخممرى
شخصية تاريخية ((. 149
هذا وقد ناقش الباحث السلمي مولنا محمد علمى ،الظمروف المتي أحماطت بتموجيه الرسمائل
إلى الملوك وإيمانه العميق بالنتصار النهائي للسلم ،وأن ضياءه سمميعم المعمممورة ،وأن السمملم
مولنا محمد علي :حياة محمد و سإيرته ،ص .196 – 195 147
يمتلك القوى الذاتية للصمود ،رغم كل القوى المضادة وأنها تشممير إلممى نقطممة هامممة أخممرى هممي أن
محمداة كان رسول من الله ،وهيهات أن يكون دجال أو صاحب عقلية منحرفة ،كما ذهب إلى ذلممك
بعض المستشرقين المعادين لرسالة السلم ،يقول :
)) إن الظروف التي أحاطت بتوجيه هذه الرسائل إلى الملوك والمراء لتستحق شيئاة من التأمممل
والعتبار .فلو أن الرسول وجهها بعد إخضاع بلد العرب برمتهمما إذاة لكممان فممي أمكممان البمماحث أن
يعتبرها إجراء أوحى به الطموحا .ولكن ما الظروف التي كانت سائدة فعل في تلك الونة ؟
كانت المدينة قد حوصرت قبل ذلك باثني عشر شهراة ليس غير ،وكان ثمة أمل ضئيل في نجمماة
نفس مسلمة واحدة .لقد كان المسلمون ،حتى في ذلك الحين أضعف من أن يشقوا طريقهم إلى مكممة
لداء فريضة دينية هامممة كالحممج .وكممان المشممركون ل يزالممون هممم أصممحاب السمملطان ،حممتى لقممد
فرضوا شروط الصلح ،منذ فترة يسيرة ،علممى المسمملمين .وفممي كممل ناحيممة مممن بلد العممرب كممان
السلم محاطا ة بالعداء .وكان تناثر المسلمين هنا وهناك ل يغير من الموقف إل قليلة . .ومع ذلك
فإن إيمان الرسول بانتصمار السملم النهمائي لمم يمتزعزع لحظمة واحمدة ،فمي وجمه تلمك الظمروف
الموئسة كلها ،كان الرسول واثقما ة كممل الثقمة ممن أن السمملم سمموف يسمود آخممر المممر ،وكمان فممي
ميسوره أن يرى بعين بصيرته النافذة ذلك اليوم الذي سينير ضياؤه فيه كل زاوية من زوايا العممالم .
إلى هذا الحد كان إيممانه بقموة السملم عميمق الجممذور ،وإن فمي همذا لمدرسة نافعما ة لبعمض مسملمي
العصر الحاضر الضعيفي الثقة بإمكان انتشار السلم فممي ديممار الغمرب ،ذلممك بممأنهم يعتقمدون بمأنه
ليس ثمة إمبراطورية جبارة تسنده و تدعمه " .أن الحق ل يعتمد ،في بقائه وانتصاره ،على القمموة
.إن له من القوة الذاتية ما يمكنه من الصمود " .وهذه النقطممة جممديرة أيضمما ة باعتبممار الناقممد العممادي
للسلم .أمن الممكن لدجال من الدجالين أن ينعم بمثل هذا اليمان الراسخ بنجاحه النهائي ؟
مردها إلى عقلية منحرفة أن يتأملوا قليلة في النجاحا العظم الذي حظي بممه السمملم بعممد سممنوات
معدودات انقضت على توجيهها .وإذا كانت هذه الوقائع تشير إلممى أن محمممداة لممم يكممن ل دجممالة ول
معتوها ة فلم يبق إذاة غير استنتاج واحدا يفرض نفسه على الناقد النزيمه -أعنمى أن ه كمان رسمولة م ن
رسل الله -إن هذه الرسائل لتثبت أيضا ة الحقيقة القائلة بأن الرسول اعتبر السمملم منممذ البممدء ،دينمما ة
عالميا ة .لم النصرانية لممم تممدع العالميممة .ويسمموع نفسممه لممم يممدع مثممل هممذا الوضممع لقممد قممال ،فممي
وضوحا ،انه جاء لهداية خراف إسرائيل الضالة .بل رفض أن يصلى على امرأة غيممر إسممرائيلية .
أما محمد ،صلوات الله عليه ، -فقد أعلن علمى العكمس منممذ فجممر بعثتمه بالمذات ،أنمه مرسممل إلمى
البشر كافة .ولم تكن هذه دعوى فارغة .والحق أنه لم يدخر وسممعا ة لتحقيمق همذا المثمل العلمى فمي
حياته هو ،فدعا مختلف الملوك إلى قبول الحق الذي جاء به السلم (( .150
ويتحدث المستشرق الروماني جيورجيو عن هذه المرحلة في حياة الرسول فيقول :
)) ونصل هنا إلى نقطة هامة في حياة النبي متص لة بع ام الوفممود ،فالمسمملمون يسمممون هممذه
السنة التاسعة " عمام الوفممود " أي "سممنة السممفراء والبعثممات " فعحمممد قب ل تس ع س نوات م ن ه ذا
التاريخ خرج من مكة كيل يقتله المشركون ،وهاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر .وكانت الهجرة كما
رأينا ذات قيمة معنوية كبيرة للمسلمين .ولم ننس أن قريشا ة منحت جائزة قدرها مئة ناقممة لمممن يمنممع
محمداة عن هذه الهجرة حيا ة أو ميتا ة .في ذلك الوقت ،وقد مضى تسع سنوات علممى الهجممرة ،وفممق
النبي إلى فتح مكة ،كما وفق إلى دخول خصومه الذين كمانوا يرغبمون فمي قتل ه ،فمي السملم ،
حتى عكرمة بن أبى جهل أسلم ،وسقط في ميدان الجهاد شهيداة ،كما أسلم أبو سفيان الذي كان قائممد
جيش مكة في أحد والخندق ،وعينه النبي حاكما ة على نجران ،وغدا خالممد بممن الوليممد أحممد القممواد
البارزين من المشركين ،من أبرز قواد السلم ،و ملقب بسيف ال .ولم يفتح محمد في هذه السممنة
) التاسعة ( مكة وحدها ،بل فتح الجزيرة كلها ،وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين .وقممد
انتشر السلم من السنة الولى للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها /822ألف كم 2تقريبمما ة ((
.151
وفود القبائممل العربيممة ،بكممل وينتقل المستشرق جيورجيو للحديث عن كيفية استقبال الرسول
بساطة و تواضع جم ،وهو الحاكم الفعلي لكل جزيرة العرب يقول :
)) وقد استقبل النبي في ذلك العممام السممفراء والممثليممن عمن القبائممل فممي المدينممة ل .ولكممثرة هممذه
الستقبالت سمي هذا العام »بعام الوفود« .ولن محمد في ذلك الوقت رئيس الجزيرة العربية كلها
دينيا ة وسياسيا ة وعسكريا ة .ومع هذا فإن الوفود ،عندما كممانت تفممد عليممه ،تممراه جالسمما ة علممى حصممير
مضفور من ورق شجر النخيل ،وهذا هو أثاث المنزل كلمه .وعنممدما كممان يفممد الوفممد يسممتقبله بلال
المؤذن الحبشي ،ويدخله غرفة النبي . وحين تحط الوفود في المدينة كانت تنزل فممي بيممت "رملممة
بنت الحارث" الواقع في محلمة )النجاريممة( ،ضمميوفا ة علممى الحكوممة .وكممثيراة ممما لن يفيمض عممدد
الوفود ،فيضيق المنزل بهم ،مما حدا بالنبي إلى أن يأمر بأن تنصب الخيام في المسممجد ،لينممزل
فيها من ل يجد مكانا ة في المنزل (( .152
)) تقول الرواية التقليدية للسنتين الخيرتين من حياة محمد إن معظممم القبائممل فممي شممبه الجزيممرة
العربية دخلت السلم و تسمي السنة التاسعة للهجرة ) نيسان 631-630م ( » عممام الوفممود « فقممد
أرسلت كل قبيلة وفدها إلى محمد لعتناق مبادىء الدين الجديد (( .153
ك .جيورجيو :نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ،ص .370-369 151
المفكر السلمي مولنا محمد على ،في عام الوفد خير رد على أولئك المتعصبين مممن أعممداء
السلم الذين لم يروا أنه انتشر إل بحد السيف وحده . . .وأن السلم كان من أقمموى بممواعث نشممره
في سائر أرجماء الجزيممرة العربيمة . . .وأن الرسمول المذي كمان يعمرض نفسمه علمى أفمراد القبائمل
ووجوهها فل يرى سوى العراض عنه والسخرية به ،بله الهانة والتعذيب قممد أخممذت هممي تسممعى
إليه ،وكيف كان يستقبلها ،وأنه -عليه السلم -لم يرفممع الحسممام إل دفاعمما عممن حممق ،فممذوداة عممن
وجود ،وإعلء لكلمة ال في ربوع الجزيرة العربية ،يقول :
)) وكان السلم قد اكتسب الن شعبية عامة ،في طول بلد العرب وعرضها .لقد انتشممر نبمما ة
النتصار النهائي إلى أقمص زوايما الجزيمرة .ولمم يكممن النماس غمافلين عمما جمرى ،طموال سمنوات
وسنوات ،بين الرسول وقريش ،في لهفة وشوق ،مراحل الصرع كلها .لقد عرفمموا كيممف عممذبته
قريش وعذبت أصحابه لتبشيرهم بالفضيلة وبوحدانية ا ،وكيف قامت -بعد هجرتهم – بمحاولت
متعددة استمرت ثماني سنوات ،لسحق المسلمين .والواقع أن الممذين شممهدوا مواسممم الحممج السممنوية
حملوا هذه النباء إلى زوايا البلد القصوى .وكان الناس على علم أيضا ة بنبوءة الرسول القائلممة بممأن
كل مقاومة للسلم سوف تتلشى آخر المر .وهكذا أخذت الوفود تتدفق على المدينة من كل حدب
وصوب .فكان الرسول يستقبلها في حفاوة بالغممة ،ويعلمهمما مبمماديء السمملم فممي لطممف ليممس بعممده
لطف .وكان يبعث مع الذين يعتنقون السلم بمعلم يفقههم في الدين .وهكممذا تقمماطرت إلممى المدينممة
في النصف الول مممن هممذه السممنة بالممذات وفممود مقبلممة مممن مممواطن قصممية ،كمماليمن وحضممرموت
والبحرين وعمان ل والتخوم الشامية والفارسية .يالتحريف الحقممائق ! إن الجهممل والهمموى يعممزوان
انتشار السلم إلى اصطناع السيف .على حين أن الواقممع يقممول إن انتشممار السمملم ظممل راكممداة ممما
بقيت حالة الحرب بين المسلمين والمشركين .فما إن أقر السلم حتى انتشر السمملم فممي كممل ناحيممة
بخطى واسعة ل لقد بدا وكان قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين ا أفواجا ة بعد
أفواج .ولم يبعث في أيما يوم بحملة عسكرية إلى أيما بلد من تلمك البلد المتي أقبلمت الوفمود منهما .
تلك هي الحقيقة التي شاءت سخرية القممدر أن تحممرف إلممى اليمموم تحريفمما ة متعمممداة .فلطالممما سمماعدت
الحرية والسلم ،ولسوف يظلن يساعدان إلى البد ،على انتشار السلم (( .154
ول )) مع أن السملم عمم الجزيمرة كلهما فمي السمنة التاسمعة فمان محممداة لمم يكمره اليهمود
النصرى على قبول دينه ،لنهم أهل الكتاب .و قد جاء في رسالة محمممد إلممى أبممي الحممارث أسممقف
نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد السلم تحسن كثيراة ،يقول في الرسالة :
بسم ا الرحمن الرحيم ،من رسول ا إل ى أب ي الح ارث أس قف نج ران الكممبر وقساوسممته
مولنا محمد علي :ص .221 154
84
وأساقفه ل أما بعد ،فليعلم السقف الكبر وقساوسممته وأسمماقفته أن كنائسممكم ومعابممدكم وصممومعاتكم
ستبقى كما هي ،وأنكم أحرار في عباداتكم .ولن يزاحا أحد منكمم عمن منصمبه ومقمامه ،ولمن يبممدل
شيء .كما لم يبدل في مراسم دينكم ،ما دام الساقفة صادقين ،ويعملون حسب تعاليم الممدين .فمممن
أدى ذلك فإن له ذمة ا وذمة رسول ، ومن منعه فإنه عدو الله ولرسوله .
تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين ) وكذلك اليهود ( في الجزيرة أحممرار فممي أداء شممعائرهم ،
ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم .وقد قدم في السنة التاسعة وفد من مسمميحي نجممران يرأسممهم أبممو
الحارث السقف الكبر ،وعبد المسيح السقف ،واليهم رئيس القافلة ،وحين أرادوا الدخول علممى
النبي ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة ،فأخذ سممكان المدينممة بهممذه الثيمماب .وبعممد أن زاروا
النبي سألوه أن يسمح لهم بممأداء شممعائرهم فطلممب منهمم أن يممؤدوا صمملواتهم فممي مسمجد المدينممة ،
فدخلوا واتجهمموا نحمو بيممت المقممدس « و تعبممدوا هنمماك . .ل شممك أن النممبي كممان يحممترم المسمميحين
احتراما ة خاصا ة ،لن القرآن ذكرهم وأكرمهم .وقد أشار ا تعالى إلى هذه النقطة في محكممم كتممابه
في سورة المائدة )الخامسة( في الية ) : ( 82لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا ،ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا :إنا نصارى ذلك بأن منهممم قسيسممين ورهبانمما
وأنهم ل يستكبرون و يقول في الية التي بعدها :وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعنهممم
تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون :ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، ويقول بعدها كممذلك
وما لنا ل نؤمن بال وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ويقول بعدها
فأثابهم ا بما قالوا جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ،وذلك جزاء المحسنين . 155((
هذا ويجدر القممول إن سياسممة التسممامح الممديني الممتي اتبعهمما الرسممول تجمماه أصممحاب الممديانات
الخممرى اسممتلهاما ة لممروحا السمملم ،غممدت – فيممما بعممد_ قاعممدة لخلفمماء الرسممول ،فممي ظممل الدولممة
ألسلمية العظمى التي ضمت و أمما مختلفة وأصحاب ديانمات ظلموا يمارسمون شممعائرهم فمي ظمل
الحماية السلمية ،وكان لسياسة هذه التسامح أن حظيممت بمماحترام وتقممدير المفكريممن والمستشممرقين
المنصفين فعقدوا المقارنة بن تسممامح السمملم وتعصممب الصممليبيين ،يقممول المستشممرق ميشممون فممي
كتابه » :تاريخ الحروب الصليبية « :
))إن السلم الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الديان الخرى ،وهو الذي أعفممى البطاركممة
والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان _على الخصوص _ لعكوفهم على العبادات ولم
يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس ..
ويزيمد البماحث نفسممه فمي كتمابه " ،سممياحة دينيممة فمي الشمرق" ،،متحممدثا ة عمن تاريممخ العلقممات
السلمية المسيحية ،وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة ،
يقول :
ميشون :تاريخ الحروب الصليبية ) نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ،ص .(383 156
85
))وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روحا التعامل وفضممائل حسممن المعاملممة ،
وهممما أقممدس قواعممد الرحمممة والحسممان عنممد الشممعوب والمممم ،كممل ذلممك بفضممل تعمماليم نممبيهم
محمد ((. 157
وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين السلمي دينا ة عالميا ة ،بدءاة من مراحله الولممى أيممام
الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أصقاعا ة شاسعة ،يقول المستشرق جولد تسهير :
)) سار السلم لكي يصبح قوة عالميممة علممى سياسممة بارعممة ،ففممي العصممور الولممى لممم يكممن
اعتناقه أمراة محتوما ة فإن المممؤمنين بمممذاهب التوحيممد أو الممذين يسممتمدون شممرائعهم مممن كتممب منزلممة
كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعمموا ضممريبة الممرأس ) الجزيممة ( أن يمتعمموا
بحرية الشعائر وحماية الدولة السلمية ،ولم يكن واجب السلم أن ينفذ إلى أعممماق أرواحهممم أنممما
كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية .بل لقد ذهب السلم في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ،ففي الهند
مثلة كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل و المعابد في ظل الحكم السلمي (( .158
حجة الوداع
كان السلم يتوطد بقوة وثبات ،و تطهرت البلد من الوثنية إلى البد ،وأدرك الرسول أنه قممد
أدى الرسالة ،وأتم المانة بنشر دعوة التوحد حين دانت له جزيممرة العممرب وانضمموت تحممت الرايممة
السلمية الظافرة .
وفممي حجممة المموداع ،الممتي اجتمممع فيهمما مئممة وأربعممة وعشممرون ألممف مسمملم قصممدوا الممبيت
الحرام فممي مكممة مممن سممائر أرجمماء الجزيممرة العربيممة ،خطممب فيهممم الرسممول خطبتممه الخيممرة الممتي
عرفت باسم خطبة حجة الوداع ،والتي أعلن فيا بعد أن نزل عليه الوحي اللهي اليوم أكملت لكممم
دينكم ،وأتممت عليكم نعمتي ،ورضيت لكم السلم دينمما ة ، أعل ن أن الش يطان ق ل يئممس أن يعبممد
بأرضكم هذه أبداة ،ولكنه رضي أن يطاع فيها سوى ذلك مما تحقممرون مممن أعمممالكم فاحممذروه علممى
دينكم . . .
وقممال فممي خطبتممه :أيهمما النمماس اسمممعوا قممولي واعقلمموه :تعلمممن أن كممل مسمملم أخممو المسمملم ،
وأن المسلمين أخوة ،فل يحل لمرىء من أخيه ،إل ما أعطمماه عممن طيممب نفممس منممه ،فل تظلمممن
أنفسكم .
وقال :اللهم هل بلغت ؟ فأجاب المسلمون :نعم ،فقال رسول ا » اللهم فاشهد « .
أجل ،لقد بلغ الرسول رسالت ربه ،وبلغ السلم مرحلة الكمال فممي جزيممرة العممرب ،فكممانت
جولد تسهير ) نقل عن كتاب النظاما السياسإي في السإلما ،ص .21 158
86
هذه الخطبة بمثابة ،إعلن ذلك النبأ العظيم ،نبأ استكمال الدين على خير وجه . . .وكان أن تحقق
ذلك النقلب التاريخي الكبير الذي غير مسار بلد العممرب ،فحولهمما مممن مجموعممة قبائممل متنمماحرة
تدين بالوثنية إلى أن تتوحد في كتلة متراصة تحت رايممة السمملم الظممافرة لتبممدأ بعممد وفمماة الرسممول
وانتقاله إلى الرفيق العلى في العام الحادي عشر للهجرة ) 632م ( بنشر راية السلم خارج بلد
العرب ،ليعم المناطق الشاسعة من العالم تأكيدا على أنه دين سماوي للناس كافة . . .
)) و تكللت المهمممة الضممخمة بالنجمماحا ،فعنممدما انتقممل محمممد إلممى جمموار ربممه كممانت السممكينة و
ترفرف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية ،بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبممل
،مع شدة تعلقها بالتدمير وأخذ الثأر .وكان الدين السلمي هو الذي مهممد السممبيل إلممى هممذا الئتلف
((. 159
القسم الثاني
الفصل الوأل
عظمة الرسول وأ عبقريته المتكاملة
الستشراف بين النصاف وأالجحود :
إذا كان الرسول في عرف المسلمين سيد الرسل وإممام البشمر فمآراء المستشممرقين والمفكريمن
الغربيين تتفاوت في تقويمه ،وطبيعي أن تتباين وجهات نظرهم فيه عليه أفضممل الصمملة والسمملم ،
تباينا ة قد يبلغ حد التناقض .
وطبيعي ،أن ترد أسباب الختلف في المواقف الاستشراقية إلممى حممالت الستشممراق ومنمماهجه
الفكرية المتأرجحة بين الجحود والنصاف ،الكره والمحبة ،السخرية والحترام ،وذلك لما أدركممه
المستشرقون من العلقة العضوية التي ل تنفصم بين الرسالة والرسممول ،وارتكمماز السمملم كعقيممدة
وشريعة على القرآن ) كتاب ا ( والسنة -أحاديث الرسول وأقواله وأفعاله وتقريره . . .
فبعد أن فرض السلم نفسه عالميا ة ،كان طبيعيا ة أن تستأثر سيرة النبى وشخصمميته ومنمماقبه
باهتمام المستشرقين والمفكرين الغربيين . . .يقول المفكر الفرنسي المعاصممر مارسمميل بمموازار فممي
كتابه » إنسانية السلم « ،متحدثا ة عن طبيعة المواقف واتجاهات المستشرقين في الغرب ،بقوله :
)) لقد سبق أن كتب كل شيء عن نبي السلم .فأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها
في أدق تفاصيلها .والصورة التي خلفها محمد عن نفسممه تبممدو ،حممتى وإن عمممد إلممى تشممويهها » ،
علمية « في الحدود المتي كشمف فيهما ،وهمي تندممج فمي ظماهرة السملم ع ن مظهمر ممن مظماهر
المفهوم الديني ،و تتيح إدراك عظمته الحقيقية .ول رب أن تقدم نبي السلم يتلمون تلوينممات دقيقممة
تبعا ة لمواقف ثلثة :الرغبة النابعة مممن المود والحممترام ،أو مممن السممخرية ،فممي إثبممات أن السمملم
هو ،على الخص ،من صممنع رجممل ،والسممعي إلممى أتحمماذ تطممور البيئممة الجتماعيممة دليلة لتفسممير
ظهوره ،والعتقاد بأنه كلم ا ،ومحمد الذي يوليه المسلمون ول ريب نوعمما ة مممن الجلل الممورع
قد يكون من الخطر إساءة تأويله ،هو على وجه الحصممر المبشممر بممالكلم السممرمدي ول يتمتممع فممي
نظر المؤمنين بالهمية التي يتمتع بها يسوع المسيح مثل في نظر المسيحيين .
ومع ذلك يبدو الطلع على حياته ضرورياة ،نظراة للعلقة الوثقى بين الرسالة والرسول ،فمممع
أن القرآن يلح على طبيعة النبي البشممرية البحتممة ،إل أنممه يجعممل منممه » أسمميرة حسممنة ،يقتممدي بهمما
المؤمنون (( . 161
وفي عداد أولك الذين أنصفوا الرسول وأعطوه بعض حقه ،وتمثلوا روحا السلم ،وأدركمموا
موضوعيا ة أهمية الرسول التاريخية ،بعيداة عن المواقف المتزمتة أو المتعصبة معه أو ضممده ،يقممف
في الطليعة الدكتور مايكل هارت صاحب كتاب » :المائة الوائل « ،الذي يشدنا إلى أن نقممف معممه
عند نظرته العلمية ،التي وضعها لتصنيف عظممماء التاريممخ ،ضمممن سمملم ترتيممبي ،اختمماره حسممب
مقاييس منطقية يمليهما أولة وأخيمراة ،أثمر همذه الشخصمية فمي التاريمخ فمي مرحلتهما ،وفمي تكموين
اتجاهات المراحل التالية وديمومة هذا الثر .وكان منطلقه الذي وضممعه لنفسممه يرتكممز علممى النقمماط
الثلث التالية :
.1الهمية الولى للشخاص الذين أثمروا فمي التاريمخ تمأثيراة دائمما سمواء فمي ذلمك الشخصمية
المشهورة أو المغمورة أو الشريرة ،المتواضعة أو المغرورة .
.2العتماد في تصنيفه السابق على الشخصيات التي أثرت على الصعيد العالمي وعدم الخذ
بالشخصيات التي أثرت على الصعيد المحلي . . .
.3وفي تقرير مكانة الشخص ،أخذ الباحث بعين العتبار أهمية الحركة التاريخية التي أسهم
162
بها ،رغم إدراكه أن ضرورة حركة التطور التاريخية ليست ناجمة عن عمل أفراد . .
وتبعا ة لهذه المعايير العلمية التي وضعها هممذا البمماحث لولئممك المئممة الممذين اعتممبر كل منهممم مممن
الشخصيات الرائدة حقا ة في التاريخ ،كان الرسول على رأس السلم ،وهكذا ليس بدعا ة بالنسبة لنمما
نحن العرب المسلمين ،أن نرى في صنيعه بادرة إنصاف عظيمة ونظرة علمية متجردة ،من مفكر
غربي ،اضطر معهمما إلممى تقممديم التممبرير والممدفاع عممن اختيمماره لنممه يقممدم كتممابه لبنمماء جلممدته ممن
الغربيين . .فهو يقول في دراسته شخصية الرسول وأثره في التاريخ :
)) إن اختياري محمداة ليكون الول في قائمة أهم رجال التاريخ ربما أدهش كثيراة من القراء إلى
حد قد يثير بعض التساؤلت ،ولكن في اعتقادي أن محمداة كان الرجل الوحيد فممي التاريممخ الممذي
نجح بشكل أسمى وأبرز في كل المستويين الديني والدنيوي .
لقممد أسممس محمممد ونش ر أح د أعظي م الدي ان ف ي الع الم ،وأصممبح أحممد الزعممماء العممالميين
السياسيين العظام .ففي هذه اليام وبعد مرور ثلثة عشر قرنا ة تقريبمما ة علممى وفمماته ،ل يممزال تممأثيره
قويا ة عارما ة (( .163
وحين أجرى المؤلف مقارنة بين محمد والمسيح وجدهما متساويين فمي العظمممة ،غيممر أنمه قممدم
محمداة لكزنه هو الذي قام بإرساء قواعد الدين السلمي و نشره بنفسممه بينممما نجممد أن المسمميح عليممه
السلم قدم رسالة روحية وأفكارا أخلقية سامية ،إلة إن علم اللهوت ألمسيحي مدين للقديس بممولس
،وأضاف إليها قسما ة كبيراة مما يؤلف العهد الجديد في الكتاب المقدس ...
ويتحدث هارت في مقدمة كتابه عن مبررات تصممنيف الرسممول ف ي مرتبممة أعلممى مممن يسمموع
المسيح ،بقوله :
)) ولن في اعتقادي أن محمداة له تأثير شخصي على صياغة الدين السلمي أكممثر مممما كممان
ليسوع من تأثير على الدين المسيحي (( . 164
)) إذ محمداة أعظيم عظماء العالم ،ولم يجد الدهر بعد بمثله والدين الذي جاء بممه أوفممى الديممان
وأتمها و أكملها(( . 165
لقد اشتملت شخصية الرسول على شمائل عظيمة وصفات نبيلة ومزايمما حميممدة ،دفعممت شمماعراة
لبنانيا ة هو الستاذ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي إلى نظممم القصممائد فممي مممدحا الرسممول
الذي أشرقت شمس الهداية على يديه ،فكان ذلمك الفاتمح الفمذ المذي حمول القفمار القاحل ة إلمى مدنيمة
مشربة بأنوار رسالة السلم التي لم تكن للعرب وحمدهم بمل للنسمانية جمعماء ،يق ول القمروي فمي
محاضرة له عن رسول :
)) فل وليم شكسبير ،ول فكتور هوغو ،ول لون تولسممتوى ،ول غيرهممم مممن أمثممالهم يطولممون
مهما اشرأبت أعناقهم إلى الدرجة السفلى من تلك المنصة العالية التي يقف عليها محمد بن عبد ال ،
لنه الرجل الذي تلتقي أكمل الصفات في قلبه الكبير ،وعقله الفريد ورقته المتناهية وروحه المتدفقممة
بشرف الحساس وروحا العاطفة (( . 166
ويتحدث البحاثة اللبناني لبيب الرياشي في كتممابه :نفسممية الرسممول العربممي ،عممن أثممر الرسممول
عليه حين اطلع على سمميرة حيمماته ودرس رسممالته ،فكممان أن شممعر بالنممدم لنممه جهممل سممابقا ة عظمممة
الرسول ونفسيته » وهو المام العظم « وحسب المرء أن يستنير بهديه ويعمممل بسممنته حممتى يغممدو
إنسانا ة آخر ،ولو أن العرب اليوم أدركوا الجوهر الحقيقي لسمميرة سمميد الرسممل ،لغيممروا ممما بأنفسممهم
أول وغيروا العالم ثانيا ة ،يقول :
)) أما لو أدرك المسلمون سيرة الرسول بجوهرهمما ،وشممرع الرسممول بسممنائه ،وحكممم الرسممول
بجللها ،وإبداع الضمائر الجديدة التي ابتدعها الرسول بحدتها الوضاءة ،وعملوا بما أدركمموا لكممان
المسلمون غير هؤلء المسلمين ،ولكان العالم غيممر هممذا العممالم -ثممم قممال -أممما لممو درس عشمماق
الرسول وعشمماق العظممماء والحكممماء والمبممدعين غيممر العممرب ،بطهممارة وجممدان وبممراءة سممريرة ،
وتحليل عبقري ،حياة الرسول العربي ،وسمو الرسول العربي وبراءة سريرته وأعممماله وشممرعه ،
لستكشفوا أعظيم شخصية وأقدس رسالة للتاريخ النساني ،ولقممد طممالعت مئممات المجلممدات وقممرأت
حياة ألوف العظماء والرسل ،ولكن مئات المجلدات وحياة ألوف العظماء والرسل ممما فعلممت بنفسممي
وأثرت في دماغي وهذبت وثقفت وأدهشت ،مثلما فعلت حياة الرسول العربي العممالمي ،محمممد بممن
عبد ا (( . 167
))أنا أومن ،شأن كل مسلم .بأنه كان لكل أمة إنسانها المثل )سوبرمان ( ،أو الكوكب السمماطع
الذي أعطاها النور ،والمصلح الذي ألمها فكرات نبيلممة ،والرسممول الممذي رفممع مممن شممأنها أخلقيمما ة .
ولكن محمداة هو الرسول العظم Par excellenceلنه ليس رسول أمة واحدة بل رسول أمم
العالم كافة ،ولنه هو -دون غيره من النبياء -أعلن اليمان بجميممع رسممل العممالم جممزءاة أساسمميا ة
من العقيدة التي بشر بها ،وبذلك وضع الساس لسلم سرمدي بين مختلف المم .ولنه »همو أعظيممم
الصمملحين جميعمما ة« )بمموزوورث سممميث (Bosworth Smithمم باعتبممار أنممه أحممدث تحممولة نحممو
الفضل لم يحدث نظيره ل قبله ول بعده ،ولنممه -أخيممراة » -أوفمر النبيماء والشخصميات الدينيمة
حظا ة من النجاحا « »الموسوعة البريطانية « تحت مادة » :قرآن« .
إن أحكامنا على الرجال يجب أن تبنى على ما حققوه من أعمال ،ولقد أنجز محمد الرسول في
مدى عشرين سنة مما عجمزت ع ن إنجمازه قمرون ممن جهمود المصملحين اليهمود والنصمارى برغمم
السلطة الزمنية التي كانت تساندهم .لقد استأصل من بلد كامل تراث أجيال من الوثنيممة » والخرافممة
« وسممرعة التصممديق ،والجهممل » والبغمماء« والقمممار ،ومعمماقرة الخمممر ،واضممطهاد الضممعيف ،
والحرب الضروس ،ومئات من الشرور الخرى .وليمس فمي اسمتطاعة التاريمخ أن يمدلنا علمى أي
مصلح آخر وفق إلى إحداث تحول في مثل هذه الروعممة والتمممام ،وعلممى مثممل هممذا النطمماق الواسممع
خلل فترة في مثل هذا القصر » .فلم يكن الصلحا في أي يوم م ن اليمام ميؤوسمما ة منمه أكمثر ممما
كان ،عند ظهور الرسول -كما لحظ ميووير - Muirولم يكن أكثر كمالة منممه عنممدها التحممق
بالرفيق العلى .وبكلمة أخرى » ،كان ذلممك ولدة ممن الظلمممة إلممى النممور « كممما يقمول كارليممل .
وحياة في مثل هذه العظمة ل يمكن أن تكون خلواة من كمونيات Potentialitiesعظيم ة ،بنسممبة
مماثلة للمستقبل .إنها ل يمكن أن توحي إلى أيما قلب من القلوب بأنبل الفكرات الدائرة حممول خدمممة
النسانية .وإذا كان في سمات خلقه سمة اكبر تميزاة من غيرها فتلممك السمممة هممي حممدبه علممى اليممتيم
والرملة ،ونصرته للضعيف والمسكين ،وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف .إنها حيماة
رجل عاش لله ومات في سبيل ا » .إن يكن قد قدر لنسان على سطح هذه الرض أن يجد ا في
يوم من اليام ،وإن يكن قد قدر لنسان أن يقف حياته لخدمة ا بدافع خير وعظيم فليس مممن ريممب
في أن نبي بلد العرب هو ذلك الرجل « لييونارد .168 ()« Leonard
ولكن ،رغم تركيزه على العوامل الزمانية والمكانية في مرحلتها التاريخية ،والتي كانت مقدمة
التحولت الكبيرة التي هي ابنة واقعها ومرحلتها « لم يغفممل مممونتجمري وات ،الممدور الكممبير الممذي
الذي هو في شخصيته وعظمته مزيج من السجايا الرائعة والمواهب العالية ، اضطلع به الرسول
يقول :
)) ولول هذا المزج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد لكان من غيممر الممكممن أن
يتم هذا التوسع ،ولستنفذت تلك القوى الجبارة فممي غممارات علممى سمورية والعممراق دون أن تممؤدي
لنتائج دائمة .ونستطيع أن نميز ثلث هبات مهمة أوتيها محمد ،وكانت كل واحممدة منهمما ضممرورية
لتمام عمل محمد بأكمله .
لقد أوتي أول موهبة خاصة على رؤية المستقبل .وكان ثانيما ة رجمل دولمة حكيممما ة ..وكمان ثالثما ة
رجل إدارة بارعا ة .169 (( ....
)) كلما فكرنا في تاريخ محممد وتاريمخ أوائمل السملم ،تملكنما المذهول أممام عظممة مثمل همذا
العمل .ول شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصا ة للنجاحا لم تتحها لسوى القليل من
الرجال ،غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماما ة .فلو لم يكن نبيا ة ورجل دولة وإدارة ولممو
لم يضع ثقته بالله ،ويقتنع بشكل ثابت بأن ا أرسله ،لما كتب فصمملة مهممما ة فممي تاريممخ النسممانية .
ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الهتمممام ،مممن جديممد ،برجممل
هو أعظيم رجال "أبناء آدم " (( . 170
)) إن شخصية محمد ثورية وانقلبية ،تفوق مقدرة الشخص الموهموب العمادي ،فلمم تنتمج بلد
العرب قبله ول بعده فرداة أثر في مجموع تاريخ العالم ،ويكون من المضحك حقا ة الدعاء أنه نتيجممة
محتمة لحالة بلد العرب الفكرية والقتصادية في القرن السابع بعد المسيح ،بل أن مبدأه الممذي جمماء
به هو مبدأ اعتنقته أمم سرعان ما تحققت فكرته في بلد العرب لنها نافعة ولم يكن فيها ما يحممارب
لجله غيرها من الديانات السابقة ((. 171
أجل ،إن شخصية الرسول ثورية وانقلبية ،فهي ثورة في فعلها وانية مجيئها كحممدث تمماريخي
كوني في مرحلتها كضرورة حتمية لعالم يعج بالمتناقضات ويتهيأ للتبديل بهدم قيم قديمة باليممة وبنمماء
عالم جديد ومجتمع متقدم ...
لقد جمع الرسول في برديه كفاءات متعددة كنبي ملهم وقائد سياسي فذ ،ومشرع بارز ،ورجممل
عسكري من الطراز الول ،كتب الستاذ فريد وجدي في الموسوعة الفرنسية لروس :
)) ومن أعجب العجيب أن الذي أتى بكل هذه العمال يعني ) محمد (كان قائممداة ،مشممرعا ة ،
قاضيا ة ،إماما ة ،واعظا ة ،خطيبا ة ورب أسرة ،فكانت قيادته أحسن القيادات وكممان يخمموض الغمممرات
فيكشفها عن أصحابه .وشرعه أعمدل الشمرايع للن .وقضماؤه أقموم القضمية .وكمان وعظمه أنفمذ
وعظ إلى النفوس وخطبته تأسر اللباب ،وكممان فممي أسممرته مممن العممدل والرأفممة بحيممث كممان يجلممب
شاته ،ويعين على عملهن .فإن ضن ضان على )محمد بن عبد ا ( بالرسالة فليسمح لممي أن أقممول
إنه أرق من الرسول (( . 172
المناضل الفذ
ولقد أوضحت لنا سيرة الرسمول ،أي مناضمل فمذ همو ،والقمدر المذي يتحلمى بمه ممن الشمجاعة
والقوة مع دماثة الخلق والرقة ،وأية إنجازات استطاع أن يحققهما فمي مرحلمة وجيمزة ،وقمد تحمدث
أستاذ السامية ومحرر مجلة العالم الشرقي ،المستشممرق السمموجي سينرسممتن ) ( 1866وصمماحب
كتابي » :القرآن و النجيل المحمدي و تاريخ حياة محمد « فقال في مؤلفه الخير :
)) إنا لم ننصف محمداة إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيممم الصممفات وحميممد المزايمما ،فلقممد خمماض
تشارلس ارمان )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(159 171
محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهممل والهمجيممة ،مصممراة علممى مبممدئه ،وممما زال يحممارب
الطغاة حتى انتهى بمه المطماف إلمى النصممر الممبين ،فأصمبحت شممريعته أكممل الشممرائع وهمو فمموق
عظماء التاريخ (( . 173
العبقرية المتكاملة
أن عبقرية الرسول ،في عرف الدارسين عبقرية متفردة متكاملممة ،فهممي تقممدم صممورة للنسممان
الكامل والنممبي والداعيمة ورجممل الفكممر والسياسممة والقائممد العسممكري ،والمصمملح الجتممماعي الكممبير
والرجل المخلص الصادق المين ،الذي امتل رجولة وحيوية . . .
نابليون السماء
ويتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه » محمد نابليون السماء « عممن تلممك العبقريممة
المتكاملة ،التي ثقفت في مدرسة الحياة بقوله :
)) وكان محمد نبيا ة ومشرعا ة وسياسيا ة وملكا ة عظيما ة وخطيبمما ة مفوهما ة وقائمداة خطيمراة محنكمما ة ،وإن
كان لم يدخل جامعة من جامعات الرومان ،ول مدرسة من مدارس فارس ،إن محمداة قد كبر اسمه
واعتز بربه حتى عرف باسمممه وحممده دون ذكممر أسممرته كممما عممرف نممابليون ،وإن محمممداة لنممابليون
السماء (( . 174
)) أن محمداة كان هو النبي والملهم والمؤسس ،لم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا ...ومممع
ذلك فلم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر ،أو من طبقة أخرى غير طبقات بقيمة المسملمين .إن
شعور المساواة والخاء الذي أسسه بين أعضاء الجمعية السلمية ،كان يطبممق تطبيقمما ة عمليمما ة حممتى
على النبي نفسه (( . 175
جان باروا :محمد ناباليون السماء ) ترجمة محمد صالح البنداق ( ص .52 174
وكان لتلك العبقرية المتكاملة التي جمعت التفكير العميق بالعمل الدؤوب وحسن الدارة والنجاحا
كداعية يجتذب القلوب أن حقق للممدعوة السمملمية النجمماحا ،يقمول المستشممرق النكليممزي صممموئيل
زويمر ) ( 1904 ~1843في كتابه " يسوع في إحياء الغزالي " :
))أن عبقرية محمد هي السبب في نجاحه واستطارة شأنه ،يضاف إلى هذا كله معرفته العظيمة
بالديانات في عهده ،وقوته في اجتذاب القلمموب إليممه ،ومقممدرته فممي الدارة والحممرب ،ولبمماقته فممي
السياسة الفائقة (( . 176
نبوغ وأ ذكاء وأ حسن سياسة
هذا ،و قد اتسمت عبقرية الرسول بالنبوغ و الذكاء اللذين ،امتلكهما ،مقرونين بحسن السياسممة
،فاستطاع في فترة وجيزة أن ينشر الدعوة السلمية الخيرة .
(( كان محمد أزكى العرب في عهده وأكثرهم تقوى ودينا ة ،وأرحبهم صدراة ،وأرفقهم بأعممدائه
وخصوم دينه ،وما استقامت إمبراطورته الخارقة إل بسبب تفوقه على رجممال عصممر ،وأممما الممدين
الذي راحا يدعو إليه فقد كان خيرا عظيما ة على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به (( . 177
)) لعل الرسول محمدةا كما كان يلقب نفسه -لم يكن أسمى من مواطنيه -ولكن المؤكد أنه لم
يكن يشبهم ،كان صاحب خيال ،في حين أن العرب مجردون عن الخيممال ،وكممان ذا طبيعممة دينيممة
ولم يكن العرب كذلك ،وكان محمد يقبح ما كان عليه قومه من عادات جاهلية كانوا يعكفون عليهمما،
وكان على جانب مثالي من التواضع للناس واليمان بربه .وهذه من عوامل تقدم رسالته (( . 178
)) نزل القرآن على محمد نبي المسلمين بل نبي العالم ،جاء بدين إلى العممالم عظيممم ،وبشممريعة
كلها آداب وتعاليم ،وحري بنا أن ننصف محمداة في الحديث عنه لننا لم نقممراة عنمه إل كممل صممفات
)) فدونكم محمداة ،انه رمز للسياسة الدينية الصحيحة ،واصدق من نهج منهاجها المقمدس فممي
البشرية كافة ،ولم يكن محمد إل مثالة للمانة المجسمة والصدق البريء وما زال يدأب لحيمماة أمتممه
ليله نهاره (( . 180
)) حقا ة يا محمد إنك الشاعر العظم « حقا ة إنك السوبرمان الول العالمي ،رسول الثقافة والعلمم
،رسول الهداية والتضحية ،رسول الفلسفة الجديدة ،رسول النسانية الجديدة ((. 181
ويظل محمد القدوة والرمز ،ليس في عهده فحسب ،بل حتى عهدنا هممذا وإلممى يمموم يبعثممون . .
فحري بنا كعرب ومسلمين أن نحتذي حذوه ،يقول المفكر السوري الستاذ ميشيل عفلق في كتابه
» :في سبيل البعث « :
» حتى الن كان ينظر إلى حياة الرسول محمد من الخارج ،كصورة رائعة وجدت لنعجب بهمما
ونقدمها ،فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل ،لنحياها ،كل عربي فممي المموقت الحاضممر يسممتطيع
أن يحيا حياة الرسول العربي ،ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر ،طممبيعي أن يعجممز
أي رجل مهما بلفت عظمته أن يعمل ما عمل محمد ،ولكن من الطبيعي أن يستطيع أي رجممل مهممما
ضاقت قدرته أن يكون مصغراة ضئيلة لمحمممد ،ممما دام ينتسممب إلممى المممة الممتي حشممدت كممل قواهمما
فأنجبت محمداة ،أو بالحرى ما دام هممذا الرجمل فمرداة مممن أفممراد الممة الممتي حشممد محمممد كمل قممواه
فأنجبها ،في وقت مضى تلخصت في رجل واحد كل حياة هذه المممة فممي نهضممتما الجديممدة تفصمميلة
لحياة رجلها العظيم ،كان محمد كل العرب ،فليكن كل .العرب اليوم محمداة ((. 182
)) ولم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراة بدين وحسممب ،بممل كممان كممذلك مؤسممس سياسممة
غيرت مجرى التاريخ ،وأثرت في تطور انتشار السلم فيما بعد على أوسع نطاق (( . 183
)) لم يكن محمد نبي العرب بالرجل الفاتح للعرب فحسب بل للعالم لممو أنصممفه النمماس ،لنممه لممم
يأت بدين خاص بالعرب ،وان تعاليمه الجديرة بالتقدير والعجاب تدل علممى أنممه عظيممم فممي دينممه ،
عظيم في صفاته ،وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين ((. 184
أما المفكر النكليزي المستشرق بوسورث اسمث ) (1892-1815فقد خاطب العقل الوروبي
،ورأى أن من النصاف أن ينظر إلى رسول السلم بمحبة واحترام ،لنه من جهممة بشممر برسممالة
عظيمة تحمل الخير للبشرية جمعاء ،ولكونه من جهة ثانيممة عظيممما ة فممي كفمماءاته العاليممة ،وسممجاياه
الكريمة ،وان الغرب المسيحي ل بد أن يقدره مستقبلة حق التقدير ،يقول :
)) إذا قدرنا تاريخ السلم فنظرنا إليه من نافذة النصاف فإنما نقدر صاحبه الذي أسسه ووضع
حجره الساسي ،وهو -محمممد -الممذي ل نسممتطيع أن نقممول فممي حقممه إل أنممه رجممل عظيممم بعقلممه
وعمله وأخلقه وبلغته و تدينه ،وسمميحمل لمه المنصممفون ممن النصممارى وغيرهمم الخلص ممتى
عرفوه في المستقبل (( . 185
وأخيرا ،فإن معيار عظمة النبياء والقادة والمصلحين يظهر في مدى النجممازات الممتي حققوهمما
على الصعيدين المحلي والعالمي ،وتظل إنجازاتهم مستمرة راسخة باسقة ،يقول غوستاف لوبون :
)) إذا كانت قيمة الرجال تقدر بعظمة أعمالهم فعن المستطاع القول :إن محمداة كممان مممن أعظممم
الشخصيات التي عرفها التاريخ (( . 186
أما الباحث الفرنسي المستشرق ديزريه بلنشيه فقد وجد في شممخص النممبي مزيجمما ة نمادرا ممن
الكفمماءات إذ حقممق إنجممازات عظيمممة ممما زالممت راسممخة ثابتممة تقمموم دليلة قاطعمما ة علممى عظمتممه ،
يقول :
)) إن النبي محمداة يعد من أبرز واشهر رجال التاريخ ،فقمد قمام بثلثمة أعممال عظيممة دفع ة
واحدة ،وهى أنه أحيا شعبا ة ،وأنشأ إمبراطورية ،وأسس دينا (( . 187
غوسإتاف لوباون )نقل عن كتاب آتيين دينيه محمد رسإول ا ،ص .(325 186
ديزريه بالنشيه :دراسإات في التاريخ الديني )نقل عن كتاب هذا هو السإلما ص .(88 187
99
الفصل الثاني
محمد وأ القيادة الدينية
لقد كانت الهجرة إلى المدينة ،مرحلة تاريخية هامة في حياة المسلمين وفي حياة رسول السلم
،فمع قيام الدولة السلمية الولى في المدينة نجمت أمام الرسول قضايا هامممة فممأبرزته قائممداة دينيمما ة
وسياسيا ة وعسكريا ة . .وهنا سنعالج موضوع القيادة الدينية ،كصاحب دعوة ورسالة . . .
)) لم يكن محمد محبا ة للدنيا قط ،وقد لقي من الستهزاء مممن قممومه والهانممات ،حممتى اضممطر
إلى الهرب ،وكانت له آراء عالية ،واعتقاد حسن بربه ،ويقين بشريعته فوق كل يقين ،أي رسول
من الرسل هو ؟ ويدلنا على ذلك قوله " :لو وضعوا الشمس في يميني والقمر فممي يسمماري علممى أن
أترك هذا المر ما تركته" (( . 188
لقد كانت الروحا النضالية ،التي كافح الرسول بها بصلبة إرادة ،وعزم ل يليممن مثممار إعجمماب
الباحثين من الشرق والغرب ،لدرجة لم يقدر معها المفكر الفرنسممي الكممبير فرانسمموا فولممتير ،رغممم
علمانيته ،أن يكتم إعجابه بتلمك الشخصمية الفمذة للمناضمل والداعي ة المديني فمي شمخص الرسمول ،
فيقول :
و اشنطن ارفنج :نقل عن مجلة الرفيق المجلد الثاك العدد الراباع. 188
100
)) أن في نفس محمد لشيئا ة عجيبا ة طريفا ة رائعا ة يحمل النسان على العجاب والتقدير ،ولعمممري
إن الرجل وقف وحده يدعو إلى ا ،ويتحمل الذى في سبيل هذه الممدعوة سممنوات عديممدة ،وأمممامه
الجموع المشركة ،تعمل جهدها لمعاكسته وقتل فكرته ،إنه إذاة يستحق كل تقدير وتمجيد (( . 189
)) أن طبيعة محمممد الدينيممة تممدهش كممل بمماحث مممدقق نزيممه المقصممد ،بممما يتجلممى فيهمما مممن شممدة
الخلص ،فقد كان محمد مصلحا ة دينيا ة ذا عقيدة راسخة ،ولم يقم إل بعد أن تأمل كثيراة وبلغ سممن
الكمال بهاتيك الدعوة العظيمة ،التي جعلته من أسطح أنمموار النسممانية فممي الممدين ،وهممو فممي قتمماله
الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند أبناء زمنه ،كان في بلد العرب أشبه بنبي مممن أنبيمماء بنممي
إسرائيل الذين نراهم كبارا جداة في تاريخ قومهم ،ولقد جهل كثيراة من النماس محممداة بخسموه حقمه ،
ذلك لنه من المصلحين النادرين ،الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها(( . 190
يؤكد هذا الباحث فكرته تلك ،بوصف رسول ا بممأنه نممبي مممن النبيمماء يسممائل فممي جزيممرة
العرب أنبياء التوراة لدى العبرانيين القدماء ،كما يتطرق إلى نضاله لخراج أمته من ضلل الوثنية
والخلق المنحطة إلى معارج الوحدانية والصلحا ،بتلك الحمية الدينية العظيمة ،يقول :
))كان محمد نبيا ة بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء ،ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة
ل صلة لها بالوثنية ،وأخذ يسعى لنتشال قومه من ديانممة جافممة ل اعتبممار لهمما بممالرة ليخرجهممم مممن
حالة الخلق المنحطة كل النحطماط ،ول يمكمن أن يشمك ل فمي إخلصممه ول فمي الحميمة الدينيمة
التي كان قلبه مفعما ة بها(( . 191
الهدم وأ البناء
كانت رسالة السلم ،المتي دعما إليهما النمبي رس الة بنماء ،لكنمه لمم يشمد بنماءه علمى أسمس
المجتمع القديم ،و إنما على أسس جديدة ،ول سبيل إلى تحقيق غاياته السامية هذه إل بهمدم أسممس
المجتمع القديم المبني على الوثنية ،ليشيد صرحا السلم .فل بناء دون هممدم ،ول فكممر جديممد دون
معارضة القديم .
ادوارد مونتيه :المصدر الساباق )نقل عن كتاب عقيدة المؤمن ،ص .(24 191
101
)) كان محمد يعلن أنه رسول ا تعإلى ،لصمملحا ديممن إبراهيممم المطهممر الممذي أفسممده أبنمماؤه ،
وأقام العبادة القويمة التي أنشأها ذلك النبي ،فسدت على مر الزمن ،وليؤيد وهو -خاتمممة الرسممل
-ما كان ا أنزله على من سلفه من النبياء :موسى وداود وأشعيا وعيسى .
إذ هذه الجدران العالية ،لدليل على قوة عظيمة لمحمد ،مثال القيادة ورمز السياسة (( . 192
إ ذا كان الرسول يحمل في نضاله ورسالته برنامجا ة ثوريا ة إصلحيا ة للمجتمع ،أبرزه كمصمملح ،
فإن إصلحه هذا قد امتد حتى كل جوانب الحياة جميعا ة :دينيا ة وسياسيا ة واجتماعيمما ة واقتصمماديا ،فقممام
بتنظيم المجتمممع علمى قاعمدة المسماواة والعمدل وفممي ظممل الحريمة الفكريممة والدينيممة والسممماحة بيممن
الشعوب ،كل ذلك في إطار أخوة إسلمية عريقة بإنسانيتها كريمة بمثلها .
)) إن محمداة نبي السلم الذي آمن به الن أكثر من مئتي مليممون نفممس ،قممد قممام بعمممل جليممل ،
فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الهلية وسفك الدماء وتقممديم الضممحايا البشممرية إلممى
معرفة الله الواحد ،وأنار أبصممارهم بنممور اليمممان ،وأعلممن أن جميممع النمماس متسمماوون أمممام اللممه
د .وغسطون كريستا :الكياسإة الجتماعية )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(114 192
102
سبحانه ،والحق الذي ل مراء فيه ،أن محمداة قام بعمل عظيم وانقلب كبير في العالم (( . 193
بينما يرى المفكر ميسمر أن الدور العظيم الذي اضطلع به الرسول ، ه و إس قاط الض للت
التي كان العرب يؤمنون بها إلى اقتراب من الحقائق الزلية فكان أن انتصر جوهر الدين السمملمي
الذي هو الوحدانية ،يقول ميسمر :
)) وعند الفلسفة المحققين أن الرجال أولي العظمة الذين تبقى أعمالهم علممى مممدى الممدهر ،هممم
من أهل النباهة الكبرى الذين يجيئون لصلحا العالم ،وشفاء عصرهم من مرضه ،وما فعله محمد
هو أنه لما رأى ضلل الناس في معرفة الخليقة ،عزم على إرشادها ،وتطبيق قوانين الطبيعة على
أمور العالم ،بقدر ما كان معروفا ة في ذلك الوقت ،لذلك أعلن الوحدة اللهيممة ،بممدلة مممن الخرافممات
التي مقتضاها تثليث إله ،وجعله مركبا ة من الب والبن وروحا القدس ،فالوحدانية هممي أسمماس ديمن
السلم وسبب نصرة محمد (( .194
)) قطع محمد بعد المسيح بستمائة عممام خطمموة إلممى المممام ضممخمة هائلممة مممن الوثنيممة الصممماء
الموات إلى وحدانية متنورة ،بيد أنه وإن مات فاتحا ة ،وتخلممص بممذلك مممن أن يكممون رئيسمما ة لغرفممة
تعذيب عربية ،وجد من المستحيل أن يشد قومه العرب إلى عقيدته اللهية دون ترغيبهممم وترهيبهممم
بوعود في النعيم للمؤمنين ،ووعيد في العذاب الليم للشقياء الجاحدين ،بعد انفصال أرواحهم عممن
أبممدانهم ،كممما أنممه رضممي أيضمما ة ،ولكممن بعممد عديممد الحتجاجممات الصممادقة المخلصممة ،بالصممفات
الخارقة ،التي الصقتها به عقلية أتباعه الخرافية الصبيانية ،وهكذا فإنه يحتاج اليوم أيضا ة إلى إعادة
استكشافه من جديد ،والتعرف إلى طبيعته الحقيقة قبل أن يعود السلم كإيمان حي (( . 195
الستشراقية ،بمختلف اتجاهاتها ،وقد جاء في الموسوعة البريطانيممة الطبعممة الحاديممة عشممر ،تحممت
مادة "القران " ما يؤكد هذه الحقيقة ،ويقممدم الممدليل علممى النجمماحا المممذهل الممذي حققممه فممي مجتمعممه،
بقولها :
))كان محمد بين شخصيات العالم الدينية جميعا ة ،أوفرهم حظا ة من النجاحا (( . 196
لقد صهر الرسول أمته المشرذمة إلى قبائل متناحرة في أمة إسلمية ،بقيت ثابتة على مممدار
التاريخ » مقاومة أسباب الفنمماء « ويتحممدث الكمماتب الفرنسممي الكممبير غوسممتاف لوبممون عممن النجمماحا
العظيم الذي حققه الرسول ،بقوله :
)) فمما ل ريب فيه أن محمداة أصاب في بلد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات الممتي
ظهرت قبل السلم ومنها اليهودية والنصرانية ولذلك ل ترى حداة لفضل محمد على العرب(( . 197
)) هل بالمكان إنكار فضل محمد نبي العرب الذي قام بإصلحات غريبة وعظيمة فكانت خالدة
196الموسإوعة البريطانية ،مادة القران )نقل عن كتاب حياة محمد و رسإالته لمولنا محمد علي ،
ص .(279-278
197غوسإتاف لوباون )نقل عن روح الدين السإلمي ص .(440
198نجيب أرمنازي :الشرع الدولي في السإلما ص .56
104
لبلده ،فقد جعل أهلها يعبدون ا ويهجرون عبادة الصنام )وهو الذي منع واد البنات وحرم شرب
الخمر ولعب الميسر( ،وترك لمته مبدءاة ل يزال ،وعليه يعمل المليين من الناس(( . 199
ويتحدث الكاتب السلمي مولانا محمد على في بحثمه ع ن صمفات الرسمول المميمزة كمصملح ،
وعن عظيم ما قام به في تحويل المجتمع الغارق في الجهالة وضروب الفساد الديني والخلقممي
والجتماعي ،بقوله :
)) والواقع أن أيما مصلح لم يجد قط شعبه غارقا ة في الممدرك السممفل مممن الجهالمة بقمدر مما كمان
العرب غارقين عند ظهور الرسممول .كممانوا يجهلممون المبمماديء الحقممة فممي الممدين والسياسممة والحيمماة
الجتماعية على حد سواء .ولم يكن لديهم فن عظيم أو علم وافر يتباهون بهما ،ل ولم يكن لهممم أي
اتصال بسائر أجزاء العالم .وكممان التماسممك القممومي شمميئا مجهممولة لممديهم ،إذ كممانت كممل قبيلممة مممن
قبائلهم تشكل وحدة مستقلة بينها وبين زميلتها ما صنع الحداد .وكانت اليهودية قممد بممذلت قصممارى
جهدها لصلحهم ،ولكن على غير طائل .وكانت النصرانية أيضا ة قد أخفقت في محاولت مسائلة.
كذلك فشلت حركة الحناف ،التي نشأت على نحو واهن ،كفشل الحركتين السابقتين ،وتلشت من
غير أن تخلف أيما أثر في المجتمع العربي .وإنما بعث الرسول الكرم لنتشال شممعب كهممذا الشممعب
الضائع من وهدة الجهالة .فما هي غير سنوات معدودات حممتى محمما جميممع ضممروب الفسمماد الممديني
والخلقي والجتماعي الراسخة الصول في بلد العرب ،و حتى خلق تربة تلك الديار -إذا جمماز
التعبير -خلقا ة آخر .لقد حل أصفى شمكل ممن أشمكال الوحدانيمة محمل صمنوف الخرافمات واشمكال
الوثنية المنحطة .فإذا بأبناء الصحراء نصف الممبرابرة أنفسممهم يفعممون بحميممة جديمدة لقضممية الحممق
إفعاما ة حملهم إلى أقاصي العالم ليؤدوا رسالة ا .وفي ما يتصل بعبادة الخالق ،بزوا أعظيم الزهاد
والنساك ،من غير أن يرفضوا العالم أو يتخلوا عنه .فما إن يطرق الذان مسامعهم فممي غمممرة مممن
حياتهم اليومية الناشطة ،حتى يطرحوا همومهم الدنيوية ويسجدوا خاشعين للممرب .وكممانوا ينفقممون
معظم لياليهم في عبادة ال .وهكذا فقد كانوا ،برغم وجممودهم فممي هممذا العممالم ،منفصمملين عممن هممذا
العالم .وبالتالي فإن صلواتهم كان يلزمها دائما ة إيمان حي لم يعرفه أيما ناسك معتزل في صممومعته
البتة (( . 200
)) لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكممون دينمما ة لكممل المممم لنممه
دين كمال ورقي ،دين دعة و ثقافة ،دين رعايمة وعنايمة ،ول يسممعنا أن ننقصمه ،وحسمب محممد
ثناء عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته (( . 201
جون ديفولبوت :العجائب )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(185 199
)) والنقطة الثانية التي تميز محمداة من سائر المصلحين الروحيين العظممام وأنبيمماء العممالم تتصممل
بعالمية رسالته .فقد حمل كل نبي رسالة كل من أولئممك النبيمماء مقصممورة علممى شممعب بعنممه .فقممد
حمل كل نبي رسالة النور والهداية إلى أمه مخصوصة أو بلد مخصوص .وليمس ممن ريمب فمي أن
تطهير النفس البشرية كانت هي رسالة كممل منهممم ،ولكممن هممذه الرسممالة كممانت محممدودة دائممما ة .آممما
رسالة محمد فكانت كونيه ،ونوره كان عالميا ة ،ونطاق مشاركته الوجدانيممة كممان يسممتغرق البشممرية
كلهمما .مممال تعممالى :و ممما أرسمملناك إل رحمممه للعممالمين ) (21/107وقممال :وم ا أرسمملناك
إل كافة للناس بشيراة و نذيراة ولكن أكثر الناس ل يعلمون ) ( 34/28وقال :تبارك الممذي نممزل
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراة ) ( 52/ 1وقال :قل يا أيها الناس إني رسول إليكممم
جميعا ة ) ، ( 7/158والواقع أن هذه اليات ل تعدو أن تكون قلة من كثر نص فيها القممرآن الكممرم
على أن الرسول قد بعث للنهوض بالجنس البشرى كله .وفوق هذا ،فإن القرآن الكريم يتحدث عن
نفسه فيقول :وما تسألهم عليه من أجر ،إن هو إل ذكر للعالمين ) . ( 12/104
لقد أتى على النسانية حين من الدهر كمانت مجمزأة فيمه إلمى ع دة » مقصمورات « كتيممة ،إذا
جاز التعبير .كانت كل أمة منكمشة على نفسها ضمن تخوم وطنها ،منعزلة كل النعزال عن سائر
المم .كانت وسائل المواصلت محدودة .وطبيعي أن ل يتوقع المرء في مثل هذه الحوال اتسمماعا ة
في العقلية كبيراة .فقد كان استشراف كل أمة مقصممورا علممى بيئتهمما المباشممرة ،فهممي تحسممب نفسممها
الكل في الكل .وهكذا لم يكن في مسمتطاع الحكممة اللهيمة إل أن تبعمث إلمى كمل أم ة بنمبي مسمتقل
كيفممت رسممالته وفممق حاجاتهمما وأحوالهمما الخاصممة .ولقممد أدى هممؤلء النبيمماء المختلفممون مهمت هممم
الخصوصية :أعني إحياء أمة بعينها .ولكن طاقتهم الروحية كانت ،مثل حقل رسممالتهم ،محممدودة
النطاق .فكانت الشعلة تتوهج فترة من الزمان ثم تخبو شيئاة بعممد شمميء ،حممتى انطفممأت آخممر المممر
انطفاء كاملة .وعندئذ كانت الحاجة تنشا ة إلى مصلح روحي ينير العصر المظلم .ومن ثم إلممى بعثممة
نبوية إثر بعثة نبوية .ولكن بينا حققت العناية اللهية مصلحة النسممان الروحيممة ،باختيارهمما الرسممل
حينا ة بعد حين من بين مختلف المم ،أدى ذلك إلى نشوء انطباعية شممديدة الذى ،فقممد شممرعت كممل
أمة ،لجهلها بما أغدق ا على المم الخرى من أفضال مماثلة ،تعتقد أنها هي شعب ا المختار .
وهذا ما غذى الفكرة الضارة القائلة بالمحاباة اللهية ،وما رافق ذلممك مممن شممرور ملزمممة .ولتقمموم
هذا الشعور بالتمييز العنصري ،وإزالة الحقاد التي خلقتها التخوم الجغرافيممة والجتماعيممة وبعممض
الحواجز المصطنعة ،ولصهر النسانية في كل واحد مممتراص ،شمماءت الحكمممة اللهيممة أن تبعممث
نبيا ة عالميا ة ذا رسالة إلى الجنس البشري كله ،نبيا ة ل تتخطى قمموته الروحيممة كممل تخممم فحسممب ،بممل
تحتفظ فوق ذلك بفعاليتها إلى آخر الدهر أيضا ة .وهكذا ها إن تمممت سلسمملة النبيمماء الملييممن بظهممور
حلقتها الخيرة ،يسوع ،الذي أرسل -ونحن نستعمل هنا كلماته نفسها » -إلى خراف السرائيليين
الضالة « حتى آن الوان لن تشممرق شمممس الروحانيممة علممى الفممق الممديني لتضمميء ،العممالم كلممه .
106
وهكذا ظهر الرسول الذي كان » رحمة للعالمين « » وحرر النسانية من أصممفاد الجهممل والخرافممة
والفساد .وإنما كان النبياء السابقون أشبه بمصابيح إلهية كثيرة ذات ضممياء يكفممي هممذه الحجممرة أو
تلك ،ومن هنا مست الحاجة إلى مصابيح مختلفة تطابق مختلف المناطق الجغرافية والقوميممة .لقممد
سفحت نورها حولها ،فإذا بكل ما هممو واقممع ضمممن نطاقهمما مشممرق ،متممألق .ولكممن ممما إن بزغممت
الشمس من رمال بلد العرب حتى أمست البشرية في غير حاجة إلى تلك المصممابيح .ولكممن ضممياء
الشمس ل يمكن أن يحل محله أيما ضياء آخر ،وهو كاف لنارة العالم إلى يوم يبعثون (( . 202
)) وإذا تذكرنا أخيراة على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يمتع به زعيم من زعماء
العرب ،والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها ،اسمتطعنا أن نسممتخلص أنمه ل بمد
أن يكون محمد الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير بمه إنسممانا ة فموق مسمتوى البشممر حقما ة ،
وأنه لبد أن يكون نبيا ة حقيقيا ة من أنبياء ا ((. 203
)) أن ظاهرة دين محمد تبدو لول وهلة لغزاة غربيا ة لسيما متى علمنا أن هذا الممدين الجديممد لممم
يفرض فرضا ة على أحد (( . 204
يوسف نعيي عرافمة فممي خطبمة لمه فممي عيممد المولممد النبموي عمام 1346هممم 1927م إلممى معاهممدة
الرسول مع أصحاب الديانات الخرى ،لسيما المسيحيين منهم ،فيقول :
)) إن محمداة هو باني أساس المحبة والخاء بيننا ،فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم ،من ذلك
ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ،حيث عاهد الرهبان خاصممة والمسمميحيين عامممة ،علممى أن
يدفع عنهم الذى ،ويحمي كنائسهم وعلى أن ل يتعدى على أحد من أسمماقفتهم ول يجممبر أحممداة علممى
ترك دينه ،وان يمدوا بالمساعدة لصلحا دينهم وأديرتهم ،كما أن القممرآن نطممق بمحبممة المسمميحيين
للمسلمين وبودتهم لهم ،وإن الية الشممريفة :و لتجممدن أقربهممم مممودة للممذين آمنمموا الممذين قممالوا إنمما
نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ة وأنهم ل يستكبرون ، لتبعث على شد أواصر الصداقة بيمن
الطرفين ،بل حتى مع الشعب السرائيلي في أكثر الوقات ،إننا لنعلم أن ما أتى بمه الرسمل موسممى
وعيسى ومحمد ما هو إل لصلحا العالم ل لفساده وخرابمه ،ومما الكتمب الثلثممة المنزلمة إل نمور
صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلثة أشعة ،كل منها للبشر(( . 205
))مؤسس أمة ومملكممة وهدايممة ،وهممذا أمممر ل مثيممل لممه ،وهممو المممي الممذي ل يعممرف القممراءة
والكتابة (( . 206
أما القس الفرنسي لوازون ،فيتحدث عن جلل الرسول وعظمته الدينيممة بممروحا مممن النصمماف
والتجرد:
)) محمد -بل التباس ول نكران -من النبيين والصديقين وهو رسول ا ،بل إنه نممبي عظيممم
جليل القدر والشأن أمكنه بإرادة ا تكوين الملة السلمية وإخراجهمما إلممى الوجممود بممما صممار أهلهمما
ينيفون على الثلثمائة مليون من النفوس ،وداسوا بخيولهم سلطنة الرومان ،وبرمماحهم قطعموا دابمر
أهل الضلل إلى أن صارت ترتعد من ذكرهم فرائص الشرق والغرب(( . 207
يوسإف نعيم عرافة ) نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ( 110 205
)) قد ينحرف المؤرخ عن موضوعه ليتأمل حياة رجل نممال سمملطة خارقممة علممى عقممول أتبمماعه
وعماله ووضعت عبقريته نظاما ة أساسيا ة دينيا ساميا ة سياسيا ة ،وما زال يحكم المليين من البشممر مممن
أجناس مختلفة وصفات متباينة ،وان نجاحا محمد كمشرع بين أقممدم المممم السمميوية ،وثبممات نظمممه
على مدى أجيال طويلة ،في كل نواحي الهيكل الجتماعي ،دليل علممى أن ذلممك الرجممل الحمماذق قممد
كونه مزيج نادر من الكفاءات (( . 208
أن عالمية الرسالة السلمية وإنسمانيتها قمل جعلمت م ن النمبي محممد ،رسمول البشممرية جمعماء
وزعيم مريدي الخير للنسانية ،وذلك كما يرى المستشرق السويسري ممماكس فممان برشممم ) 1863
_مم ( 1921بمعرض حديثه عن دوره التاريخي العظيم في حياة العرب والشعوب الممتي دخلممت فممي
السلم ،فارتقت من وهاد الضللة إلى معارج النور والحضارة ،يقول فممي كتممابه » :العممرب فممي
آسية « :
)) إن محمداة نبي العرب من أكبر مريدي الخير للنسانية ،وإن ظهور محمد للعممالم أجمممع إنممما
هو أثر عقل عال ،وإن افتخرت آسية بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم ،إن من الظلممم
الفادحا ،أن نغمط حق محمد المذي جماء ممن بلد العمرب وإليهمم ،وهمم علمى مما علمنماه ممن الحقمد
البغيض قبل بعثه ،ثممم كيممف تبممدلت أحمموالهم الخلقيممة والجتماعيممة والدينيممة بعممد إعلنممه النبمموة ،
فتلي :الحياة. 208
دايفد بانجامين كلداني )عبد الحد داوود ( :محمد في الكتاب المقدس .82 ، 209
109
وبالجملة مهما ازداد المرء إطلعا ة على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مسممتوى النسممان ،إنممه
ل يجوز أن ينسب إلى محمد ما ينقصه ،ويدرك أسباب إعجماب الملييمن بهمذا الرجمل ويعلمم سممبب
محبتهم إياه و تعظيمهم له (( .210
و تلخص الموسوعة البريطانية السيرة الكفاحية لحياة الرسول محمد واجتهماده فمي رفمع رايمة
التوحيد وعظمته عريا ة وإسلميا وعالميا ة فقول :
))إن محمداة اجتهد في الله وفي نجاة أمته ،وبالصح اجتهد في سبيل النسانية جمعاء (( .
211
الفصل الثالث
محمد وأ القيادة السياسية
كان الرسول عليه السلم إلى جانب ميزاته المتعددة الجوانب قائداة سياسيا ة عظيما ة ورجل دولة فذاة ،
في أمة تأخذ طريقها في البناء ،بعد حركة هدم ،والتوحد بعمد تجزئمه و تفرقممة . .إنهما مرحلمة
انعطاف تاريخي كبير ،ليممس فممي إطممار شممبه جزيممرة العممرب فحسممب ،بممل انعطمماف فممي حيمماة
الشعوب والمم ،فمرحلة عظيمة كهذه تحتاج إلى قيادة سياسية عظيمة هممي بحجممم هممذا التحممول
الكبير . . .
القائد وأالمشرع
لقد تجلت قيادته السياسية مع بدء مرحلة التاريخ السلمي أي مع الهجرة إلى المدينة ،وقيام الدولممة
العربية السلمية الولى ،فكان عليه السلم القائد والحاكم والشرع يضع خطط البناء الداخلي ،
والمجابهة مع العدو الخارجي ،بتزامن غاية في الدقة والتنظيم :
)) كان محمد زعيما ة سياسيا ة بأسمى معاني الزعامة السياسية منى معني وسيادة ،هممذه كممانت تتجلممى
في أروع المظاهر التي عرفها بنممى النسممان ،وخليممق بممي وأنمما فممي صممدر الكلم مممن الزعامممة
السياسية أن أدحض فرية وأرد بهتانا ة ،ل يزالن عالقين في أذهان قاصري العقول ،الممذين ل
يملكون ذرة من حصافة الرأي ،و تلك الفرية وذلك البهتان هما ما يردده أولئك الغبياء ،الذين
يزعمون أن ل علقة بين الدين والسياسة ،وأن لة رابطة تربط أحممدها بممالخر .إن مممن الخطممأ
أن يظن ظان هذا (( . 212
هارون ماركوس :حياة محمد نبي المسلمين )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(109 212
111
إن دارس سيرة الرسول في مختلف أدوار حيمماته منممذ أن صممدع بالرسممالة ،ودوره العظيممم فممي
تبممديل واقممع الجزيممرة العربيممة المجممزأة وتوحيممد القبائممل العربيممة ،وإعلء اسممم امم فممي معقممل
الوثنية ،قد دللت على بعد النظر لديه وسممداد الممرأي ،يقممول المستشممرق السمموجي كازانوفمما )
( 1903 - 1937في مؤلفه " :حضارة الشرق " :
)) إن التعقل ونضوج الفكر اللذين دل عليهما ،إذ أظهر اليات الولى الموحاة إليه ،وحممن سياسممته
في توحيد القبائل العربيمة رغمم الخرافمات المتأصمملة ،وفمي تمييمز ممما ينبغمي البقماء عليمه ممن
تقاليدها القديمة ،كلها أدلة على أنه كان له في المور نظممر سممديد ،كممان يممرى الغايممة ويسممعى
إليها بغريزة السياسي العاقل ،ونورانية النبي الصادق على السواء ((. 213
)) إذا بحثنا عن محمد إجماليا ة نجده ذا مزاج عصبي و فكر دائم التفكير ونفس باطنها حممزن ،وأممما
مداركه فهي تمثل شخصا ة يعتقد بإله واحد ،وبوجود حياة أخرى ،ويتصف بالرحمة الخالصممة ،
والحزم في الرأي والعتقاد ،ويضاف إليه أنه رجل حكومممة ،وأحيانمما ة رجممل سياسممة وحممرب ،
ولكنه لم يكن ثائراة بل كان مسالما ة (( . 214
وكان الرسول الحاكم ،متميزاة حسممب اعممتراف المستشممرقين بالكفمماءة العظيممة والقيممادة السياسمية
الفذة . . .وكانت صفته القيادية بارزة طاغية على سجاياه الخرى ،يقول المستشرق اليطممالي
البنس كايتان في كتابه » :أديان العرب « :
)) أن مزية محمد هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي مموحى إليمه ،وليمس فمي وسمع
أحد فهم محمداة أن يحط من كرامته ،ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه وظلم محمداة ((. 215
كازانوفا :حضارة الشرق ،ص .23 213
فالنسان ،النبي والمام والحاكم ،كان يرعى شؤون العامة ويصممر علممى حسمن تطممبيق العممدل علمى
الجميع ،يقول المستشرق اللماني برتلمي سانت هيليار في كتابه » :الشرقيون وعقائدهم « :
))كان محممد رئيسمما ة للدولمة وسمماهراة علممى حيمماة الشمعب وحريتممه ،وكممان يعماقب الشمخاص المذين
يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كممان يعيممش النممبي
بين ظهرانيها ،فكان النبي داعيا ة إلى ديانة الله الواحد ،وكمان فمي دع وته همذه لطيفما ة ورحيمما ة
حتى مع أعدائه وإن في شخصيته صفتين همما ممن أجمل الصمفات المتي تحملهما النفمس البشمرية
وهما العدالة والرحمة (( .216
ولقد تحدث المفكر عبد الرحمن عزام في كتممابه » :بطممل البطممال « عممن الرسممول الحمماكم وحسممن
سياسته وحكمته في تصريف المور فقال :
)) صفة عظمى من صفات الرسول وهي مثل لرجال الدولة والسياسة والقممادة فممي جميممع ميممادين
الصلحا .لعلهم كذلك واجدون فيما ما يمكنهم من النجاحا ،فإن محمداة بما أوتي مممن الخلق ،
وما وهب من حسن السياسة ،و تصريف المور ،ووضعها في نصابها ،قد أوتي النجاحا الذي
لم يؤته أحد قبله ول بعده .
هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلة عاليا ة لرجل الدولة ،وسترون بهمما ميممزة علممى مممن سممبقه
من النبياء والرسل والبطال ،ولقد كانت أكثر وضوحا ة في المدينممة حيممث اسممتلزمت الحمموال
أن يكون نبي المة وزعيمها وقائدها ،وحيث أخممذ التشممريع السمملمي يتنمماول الحيمماة السياسممية
والجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة ،حين كممانت الممدعوة ل تممزال فممي بممدايتها ،
متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بال ،وإنذارهم حسابه وعقابه ،ذلك الفرق بيممن مظهممري
الدعوة في بيئتين مختلفتين ،جعل بعض كتاب الملل الخرى يحاولون أن يصمموروا محمممداة فممي
شخصيتين مكي ومدني يقولون هذا نبي ،وهذا رجل دولة وصاحب سلطان ((. 217
ويتحدث الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتابه » محمممد فممي المدينممة « عممن عظمممة الرسممول
ومواهبه التي امتاز بها ،وكانت وراء نجاحه وإنجازاته الكبيرة ،فهو إلى جانب موهبته لرؤية
المستقبل وإدراكه الواقع الجتماعي ،ذو ميزتين اثنتين هما :كونه رجممل دولممة حكيممما ة وإداريمما ة
بارعا ة ،يقول :
)) وكان محمد رجل دولة حكيما ة .ولم يكن هدف البناء الساسي الممذي نجممده فممي القممرآن الكريممم
سوى دعم التدابير السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية .ولقد ألححنا خلل هذا الكتاب غالبا ة
على استراتيجية محمد السياسية البعيدة النظر وعلى إصلحاته الجتماعية .ولقممد دل علممى بعممد
نظره في هذه المسائل النتشار السريع الذي جعل مممن دولتممه الصممغيرة إمبراطوريممة ،وتطممبيق
المؤسسات الجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلل أكثر من ثلثة عشر قرنا ة .
وكان محمد رجل إدارة بارعا ة .فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجممال الممذين ينممدبهم للمسممائل
الدارية ،إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئا ة مممتردداة .
وكانت الدولة التي أسسها محمد ،أصبحت عند وفاته ،مؤسسة مزدهممرة تسممتطيع الصمممود فممي
وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها ،ثم إذا بها بعد فترة تتلءم مع الوضمع الجديمد وتتسممع
بسرعة خارقة اتساعا ة رائعا ة (( . 218
)) وكثيرا ما يذاع أن محمداة بين في المرحلة الولى من دعوته أفكار السلم العقيديه الساسية ،ثم
بسط في زمن لحق طرق العبادة و إقامة الشعائر ،والتشممريع الجتممماعي والجزائممي ،وجممماع
الشريعة القرآنية التي قام عليا السلم فممي أوائممل عهممده .وبعممد أن كممانت دعمموته عربيممة بشممكل
أساسي في مكة ،غدت عالمية الطابع في المدينة .وقد أكد النقد التاريخي هذا التكهممن بصممورة
جزئية على صعيد تسلسل الحداث بمفهومه الدقيق غير أن المسلم يعلل الوقممائع بشممكل مغمماير .
فليس للتنزيل بالفعل في نظره مظهران ،مظهر ديني وآخر اجتممماعي سياسممي .بممل هممو يتمثلممه
على العكس من ذلك كل مقدما ة بشكله الجمالي .واعتمد السلم في أول أمره النمماة والقنمماع ،
وما كان للمرحلة التشريعية أن تتحقق إل حين تكون جنين مجتمع تضامني ،وعليممه يكممون هممذا
المجتمع قد ظهر منطقيا ة في مرحلة تالية على مرحلة التبشممير بالحيمماة الخممرى .وفممي مكممة بممداة
السلم بإعداد الفراد -المسلمين الوائل -الذين كانوا بحاجة ،وهممم بعممد أقليممة مضممطهدة ،
إلى خلق ل إلى تشريع اجتماعي ما كانوا ليستطيعوا أن يطبقوه .وفيما بعد أقام السلم بالمدينممة
من الفراد الذين سبق إعدادهم عن طريق الدين مجتمعا ة قائممما ة علممى المسمماواة والتعمماون و بممادل
المنافع ومزوداة نظم أوحى بهمما مممن المم أو مسممتلهمة مممن نممور هممدايته .ول يقلممل هممذا التسلسممل
الزمني للحداث الذي يرسم مسار ولدة المجتمع السلمي من طابع الممدين الشمممولي ،بممل هممو
على العكس يعظم من شأنه (( . 219
وقد ناقش الباحث العربي السملمي عبممد الرحممن عمزام بعممض آراء المستشمرقين ،ممممن رأوا فممي
مونتجمري وات :محمد في المدينة ،ص .511 218
)) لو أن الذين يظنون هذا الظمن كمانوا بعيمدي النظمر لمرأوا محممداة ال واعظ فمي مكمة ،همو محممداة
الناسك في المدينة ،الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي ا ،والذي يممموت وهممو رأس
الدولة ،ودرعه مرهونة عند يهودي .
بل لرأوا محمداة الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة في الطممائف بالسممخرية والحجممارة ويقيمممونه إذا
جلس من العياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداة الذي يناول مفتاحا الكعبممة لعثمممان بممن طلحممة
يوم الفتح ويقول :اليوم يوم بر ووفاء .
لو أن هؤلء الذين جعلوه نبيا ة في مكة ،ورجل دولة في المدينة لحظموا كيمف وضمعت نمواة الدولمة
في أيام المحنة ،لما حسبوها من غرس يثرب بل علموا أنها نتيجة محتومممة للصممراع العنيممف ،
الذي دام ثلث عشرة سنة ،ونتاج للدعوة من وقت أن قال ا عز وجل :فاص دع بم ا تممؤمر
وأعرض عن المشركين .
فذات الرسول التي وقف ت فمي وج ه المشمركين ثلثممة عشمر عامما ة بمكممة ل تعجمز ،ول تهمن ،ول
تيأس ،هي ذاته التي فاضت فممي المدينممة علممى شممؤون الممدنيا فممدلت علممى ممما فيهمما مممن الحيويممة
والقوى التي جعلتها أهلة للتغلب على كل معضلة فمي وقتهما ومناسممبتها .تلمك القموى والصمفات
التي لم تجتمع لحد قبله ول بعده ،جعلته من أية ناحية نظرت إليه كامل وأسوة حسنة ،بل مممن
مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول ا سممواء كممان فممي أيممام الممدعوة المجممردة عممن
السلطة ،أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية ،ذاتا ة موفقة ناجحة ،انصرفت إلممى امم
بكليتها فجعلته أمامها ،ووضعت ما عداه وراءها ،هو في كلتا القريتين الناسك العابممد ،البمماكي
بين يدي خالقه ،وهو فيهما الزاهد ،يعرض عليمه أصمحابه أن يوطئموا ل ه فراشما ة ،فيقمول » :
مالي وللدنيا ،مما أنما والمدنيا إل كراكمب اسمتظل تحمت شمجرة ثمم راحا و تركهما «. .لمم يغمره
السلطان بشيء من المظاهر ،ول خرج به عن التواضع والتياسر .
فأي تنافر يجد النقاد فمي حيماة الرسمول ،ليجعلموا ممن شخصمه شخصمين وه و يكافمح فمي مكمة ول
سلطان له ،ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي خلقها؟ لقد كان همه فيهما جمعيا ة إلممى
اللحظة الخيرة ،نشر دينه ،وغايته بسط سيادة السلم على الشرك .
وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة ،وحياته في المدينة ،وهو في الولى يتوسل بالصبر على
الذى والسخرية ،ويتقى بعرف الجاهلية الموت مع أنه ل يقر ذلممك العممرف ،ويسممعى لهممدمه ،
ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة ،ويجممادل علممى دينممه ،ويممدعو إليممه ،ويخممرج مممن كممل
كارثة برأي صائب ،ويعد لكل حالة تدبيرا محكما ة .وفي الثانية يتخممذ مممن نصممرة أهلهمما تكممأة ،
فيعاهد اليهود والمشركين ،ويتقي الممموت بممدرع الدولممة الممتي نظمهمما وينجممو مممن ) الحممزاب (
بحسن الرأي ،ويغلب المصائب بموفق التدبير؟
ثلث عشرة سنة قضاها في فم السد ،دون أن يستطيع السد أن يطبق عليه أنيابه ،وعشر سنين في
المدينة يحاول فيها السد أن يمسك بالفريسة ،وفي هذه وتلك يبدي رسول ا من حسن الرأي ،
115
وبارع السياسة والصبر ،وسعة الصدر والتدبير ما يوقمع السممد فممي شممبكت الفريسممة ،فممإذا مما
انتهى إلى النصر الحاسم المعجز ،وبهت الذين كفروا » قالوا :لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشا ة
،لكان النبي الخالص من الشوائب . .لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصممر علممى حيمماة
الوعظ ،وظنوا أن أكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل ،ففكمروا فمي مصمير المدعوة
نفسها ،لشاركونا في العجاب به مرشداة وواعظا ة ،ومنظما ة وفاتحا ة ((. 220
ولقد رأى الباحث السممباني العلمممة سممان اليممار فممي مممؤلفه » :تعمماليم اللغمة العربيممة « أن مبمماديء
تجاوزت أفكار الكثير من المفكرين والمصمملحين الحرية الفكرية التي دعا إليها الرسول محمد
،بقوله :
)) إن أوضح مباديء الحرية الفكرية قد كشفت أمثال -لمموثير وكممالفين -وعمماد الفضممل فيهمما إلممى
رجل عربي من رجال القرن السابع ،ذلك هو صاحب شريعة السلم (( .221
الحرية النسانية
وكان السلم دعوة لحرية النسان ،والقضاء على العبودية ،فأنزل الحرية النسانية أعلى عليين ،
ولذا رأيناه عليه السلم يول عناية خاصة لتحرير الرقاء ،عن طريق إلغاء مصممادر الممرق أولة
،و تشجيع المؤمنين على تحرر عبيدهم ،انطلقا ة من قاعدة أن من أعتق عبداة أعتق الله له بكل
عضو عضواة من أعضائه من عذاب النار .
وكان الرسول في مجتمعه السلمي إماما ة في إقرار مبدأ تحرير العبيد ،حتى أن أسممرى الحممرب لممم
يعتبرهم عبيدا ،وسمح لهم بدفع الفدية أو تعليم أبناء المسلمين لفك إسارهم.
هذا ،وستكون لنا وقفة خاصة لدراسة الحرية في الرسالة السلمية .
كان الرسول كقائد سياسي ورجل حكم وإدارة بالغ الحرص على تطبيق المسمماواة علممى الجميممع ،
خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين ،يقول مولنا محمد علي :
)) وفممي إقامممة العدالممة كممان الرسممول منصممفا ة حممتى التوسمموس .كممان المسمملمون وغيممر المسمملمين ،
والصدقاء والعداء ،كلهم سمواء فمي نظمره .وحمتى قبمل أن يبعمث إلمى النماس كمانت أممانته
وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام ،وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم
فيما .وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكما ة في منازعاتهم كلها .وعلى الرغم مممن حقممد
اليهود العميق الجذور على السلم فإن الرسول حكم -عندما عرض عليه ذات مرة نممزاع بيممن
يهودي ومسلم -لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر ،بذلك ،من السمملم بممل ربممما
بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفممر بممذلك مممن السمملم .ول حاجممة بنمما إلممى تبيممان أهميممة
خسارة كهذه بالنسبة إلى السلم في أيام ضعفه ومحنته تلك ،فالمر أوضح من أن يحتمماج إلممى
بيان .و باختصار ،فقد كان تجسيداة للية القرآنيممة الممتي تقممول :ي ا أيهمما الممذين آمنمموا كونمموا
قوامين لله شهداء بالقسط ،ول يجرمنكم شنآن قوم على أل تعدلوا ،اعدلوا هو أقممرب للتقمموى ،
واتقوا ا ،إن ا خبير بما تعملون . ولقد نبه ابنته ،فاطمة ،إلى أن أعمالها وحدها سمموف
تشفع لها يوم القيامة .وقال أيضا ة » :لو أن فاطمة بنت محممد سممرقت لقطعممت يممدها « .وفيمما
كان على فراش الحتضار ،قبيل وفمماته بقليممل ،سممأل كممل مممن لممه عليممه ديممن أن يتقاضمما ه ذلممك
الدين ،ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه .
و في معاملته مع الخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة .كممان يضممع نفسممه
على قدم المساواة مع سائر الناس .وذات يوم ،وكان قد احتل في » المدينة « مقاما ة أشبه بمقام
الملك ،وفد عليه يهودي يقتضيه دينا ة ما ،وخاطبه في جلفممة وخشممنونه قممائلة إن بنممي هاشممم ل
يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر .فثارت ثاثرة عمر لوقاحة اليهودي ،ولكن الرسممول
عنفه ذاهبا ة إلى أن الممواجب كممان يقتضممي عمممر أن ينصممح كلة مممن المممدين والممدائن :أن ينصممح
المدين -الرسول -برد الدين مع الشكر ،وأن ينصح الدائن بالمطالبممة بممه بطريقممة أليممق .ثممم
دفع إلى اليهودي حقه وزيادة ،فتممأثر هممذا الخيممر تممأثراة عظيممما ة بممروحا العممدل والنصمماف عنممد
الرسول ،ودخل في السلم .وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الجام ،حممان
وقت إعداد الطعام ،فمهد إلى كل امرىء في القيام بجانب من العمل ،وانصرف هو نفسممه إلممى
جمع الوقود .لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي .
وكان يراعي ،في معاملته خدمه ،مبدأ المسمماواة نفسممه ،وقممال أنمس " :خممدمت رسممول ام
عشر سنين فما قال لي أف قط ،وما قال لشيء صنعته لم صنعته ،ول لشيء تركته لم تركته
» .ولم يبق أيما عبد على عبموديته .فممما إن يممؤل إليمه عبممد رقيممق حممتى يسممارع إلممى إعتمماقه .
وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادما ة أو امرأة «(( .222
)) أن محمداة هذا الرجل الملهم ،الذي أقام السلم ،ولد حوالي 570ميلدية في قبيلة عربية تعبممد
الصنام ،ولد يتيما ة محبا ة للفقراء والمحتاجين والرامل واليتامى والرقمماء والمستضممعفين .وقممد
أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله .فقد حطم
الصنام بيديه ،وأقام دينا ة يدعو إلى ا وحممده ،ورفمع عمن المممرأة قيمد العبوديمة الممتي فرضممتها
تقاليد الصحراء ،و نادى بالعدالة الجتماعية وقد عرض عليه فممي آخممر أيممامه أن يكممون حاكممما ة
بأمره ،أو قديسا ة ،ولكنه أصر على أنممه ليممس إل عبممداة مممن عبمماد المم أرسممله إلممى العممالم منممذراة
وبشيراة (( . 223
جيمس متشنر )نقل عن كتاب قالو في السلم بقلم حسن الشيخ خضر الظالمي ص .(50 223
118
الفصل الرابع
محمد الداعية وأ القيادة الفكرية
أن الصفة القيادية للرسول بتعدد أشكالها تتجلى بتكامل تلك الشخصية فهو إلى جانب دوره الكممبير
الذي لعبه في إطار سيرته الحياتية كنبي وقائد سياسي وعسكري ومصلح اجتماعي كان يممبرز دائممما ة
كرجل فكر وداعية ،إلى جانب ما وهب من الخيال والنبوغ والبحمث ،يق ول المستشمرق النكليمزي
المؤرخ داز ) ( 1907-1812في كتابه » مع الشرق والغرب « :
))أن محمداة كان مجموعة من الخيال والنبوغ والبحث :كان محمد زراعيا ة وطبيبا ة وقانونيا ة وقائممداة
،اقرأ ما جاء في أحاديثه تعرف صدق ما أقول (( . 224
أجل ،أن عودة إلى دراسة السممنة النبويممة وكتممب الحمماديث والطلع علممى مممواقفه المتعممددة فممي
السيرة الرشيدة لتوضح لنا أي رجل فكر كان . .وحسبنا علما ة أن السنة هي المصدر الثاني للتشممريع
السلمي بعد القرآن الكريم .
الرسول مفكرا ا
هذا ،ولقد وقفنا في دراستنا السيرة الحياتية للرسول في أكثر من محطة ،لنشير إلى ميزة التفكيممر
في حياته ،فقد عرفناه قبل البعثة ذلك النسان الممذي يبحممث عممن الحقيقممة ويتفكممر فممي أسممرار الحيمماة
والكون ،فكان أن تكشفت له الحقائق معرية زيف الوثنية قبل أن ينممزل عليممه المموحي ،بممل اسممتطاع
بعميق تفكيره أن يقترب من الحقائق الزلية ،وأصبح مهيممأ لن يكمون نبيما ة بعمد نضمجه الفكمري . .
فطبيعي أن من سيكون قائداة لمة بعد إعادة خلقها من جديد ،أن يكون عبقريا ة فممي فكممره ونابغممة فممي
منهجه . . .
وكانت الجوانب الفكرية للرسول تعتبر الركيزة الولى لعبقريته وعظمته ،بل وضعها المستشرق
مونتجمري وات في مقامة معالم تلك العبقرية الخالدة ،وتميزت بكونهمما تجمممع الحممدس إلممى التفكيممر
العميق الذي يحلل الواقع ويستشرف آفاق المستقبل ،يقول .وات فممي كتممابه » :محمممد فممي المدينممة
«:
)) لقد أوتي الرسول موهبة خاصة على رؤية المسممتقبل فكممان للعممالم العربممي بفضممله ،أو بفضممل
الوحي الذي نزل عليه حسممب رأي المسمملمين ،أسمماس فكممري ) إيممديولوجي ( حلممت بممه الصممعوبات
الجتماعية ،وكان تكوين هذا الساس الفكري يتطلممب فممي المموقت نفسممه حدسمما ة ينظممر فممي السممباب
الساسية للضطراب الجتماعي في ذلك العصر ،والعبقرية الضرورية للتعبير عن هذا الحدس في
داز :مع الشرق و الغرب )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(184 224
119
وإذا كانت جوانب دراسة القيادة الفكرية عند الرسول أكثر من أن نستطيع حصممرها فسممنقف عنممد
نقطة هامة في شخصيته كرجل فكر داعية ،أل وهى فصاحته عليه السلم وبلغته ...
فالرسالة السلمية هي دعوة يحتاج الجاهر بها إلممى النضممال فممي سممبيل نشممر التعمماليم ،إلممى قمموة
القناع الفكري وصلبة النضال العملي توسلة لبلوغ الغايات المرجوة . . .يقول البمماحث السمموجي
المستشرق السير ماكس سايكس ): (1927-1876
))إن محمداة قد استطاع بعبقريته الفذة والتعليمات الواسعة المعنى أن يجمممع التفكيممر إلممى العمممل ،
فكانت مملكته من هذا العالم كان نبيا ة ثاقب الفكر وكان مشرعا ة ،وكان حاكما ة بين الناس (( .226
))وكانت لهجة الداعي إليه ،تلك اللهجة التي تسمو فمموق حممدود النسممانية ،وكممانت نظرتممه الممتي
يشع منها الضياء ،تخرجهم من الظلمات إلى النور ،فيسرعون إلى اعتناق السلم بين يديه (( . 227
،بقوله : ويتحدث دينيه عن قوة المعاني وسحر بيان الرسول
)) وكانت المعاني تتدفق غزيرة من ألفاظه الموجزة ،الممتي تعممبر عمن ممراده خيممر التعمبير .أممما
سحر بيانه فكان شيئا الهيا ة ،يغزو القلوب ويأسر اللب ول يقوى أحد على مقاومته (( . 228
)) اللغة العربية أفصح اللغات آدابا ة .وهى لغة أمة على رأسها محمد النبي العربممي ،وهممو أفصممح
من نطق بالضاد ،ولقد جاء بأفصح ما يمكن في خلل كلماته المأثورة عنه ،
لذلك نحترمه و نحترم لغته ((. 229
ويتابع المستشرق الفرنسي برتلمي هربلو ) (1695-1625فممي مممؤلفه "المكتبممة الثريممة " فكممرة
مواطنه ،عن البلغة العربية وفصاحة الرسول ،بقوله :
))إن اللغة العربية لهى أعظيم اللغات آدابا ة ،وأكثرها بلغة وفصاحة ،وهممي لغممة الضمماد ،ولقممد
تغنى محمد نبي السلم بما يدل علممى شممرف هممذه اللغممة بقمموله " :أنمما أفصممح مممن نطممق بالضمماد "
وصحيح عنه ذلك لن كلماته المأثورة تدل عليه (( .230
)) يكفى النبي العربي عظمة أنه خلد اللغة العربية وقدمها ،وأوجب على جميع أتباع دينه تعلمها
إلى أن قال :
إننا نعظم ذكر من خلد لمتنا أعظيم مجد وأشرف تاريخ وأسمى منزلة ،وحفظ لغتنمما مقدمممة إلممى
المصدر الساباق ،ص .326 228
باوسإتيل غليوما )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(114 229
بارتلمي هربالو :المكتبة الشرقية )المكتبة الشرقية :معجم يشتمل على فلسفة و اداب الشرق(. 230
121
أبد الدهر ،لنبرهن على أننا نكرم محمداة -النمبي العربمي ،ونحتفممل .بمذكرى مولمده المبمارك ،إننما
نقدر محمداة وأعمال محمد وعظمة محمد وغاية محمد (( . 231
وكان لفصاحة الرسول وبلغته أن جعلت منه -إلى جانب ما تحلى به من مزايا أخرى -أعظم
القادة والمصلحين الدينيين ،يقول صموئيل زويمر :
)) إن نبي السلم كان ول شك من أعظم القمواد الممدينيين ويصممدق عليممه القمول أيضمما ة إنمه كممان
مصلحا ة قديراة وبليغا ة فصيحا ة وجنديا ة مغواراة (( .232
ويقول الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت ) ( 1650 - 1597في كتممابه مقالممة "فممي المنهمماج"
معربا ة عن إعجابه ببلغة العربية وفصاحة الرسول وإعجاز القران :
)) نحن والمسلمون في هذه الحياة ،ولكنهم يعملون بالرسممالتين العيسمموية والمحمديممة ،ونحممن ل
نعمل بالثانية ،ولو أنصفنا لكنا معهم جنبا ة إلى جنب ،لن رسالتهم فيهمما ممما يتلءم مممع كممل زمممان ،
وصاحب شريعتهم محمد ،الذي عجز العرب عممن مبمماراة قرآنممه وفصمماحته ،بممل لممم يممأت التاريممخ
برجل هو أفصح منه لسانا ة ،وأبلغ منطقما ة ،وأعظمم من ه خلقمةا ،وذلمك دليمل علمى مما يتمتمع ب ه نمبي
المسلمين من الصفات الحميدة التي أهلته لن يكون نبيا ة في آخر حلقممات النبيمماء ،ولن يعتنممق دينممه
مئات المليين من البشر « .233
الفصل الخامس
محمد وأ القيادة العسكرية
العبقرية وأ الفداء
من خلل الدراسة التي استعرضنا فيها سميرة رسمول ام ،ع بر المواقمف الستشمراقية ،ركزنما
على نقاط هامة ،في حياة الرسول ،الشجاعة والصممبر والثبممات علممى العقيممدة ،سممواء تعلممق المممر
بمواجهة مشركي قريش في مكممة ،عنممد بممدء الممدعوة واضممطهاد المسمملمين الوائممل ،أو فممي العمممل
العظيم الذي اضطلع به وهو انتقاله من مكة إلى يثرب التي غدت المدينة ،فيما عرف بالهجرة الممتي
عدها المستشرق الروماني ك .جيورجيو أعظم عمل فدائي قام به محمد ف ي سمبيل السملم حيممن
انفصم عن قبيلته فداء " لعقيدته " أو في القيادة العسكرية السياسية التي خاضها طوال مدة إقامته في
المدينة ،فكان أن صارع قوى المشركين طمموال عشمرة أعموام صمراعا ة تموج بانتشمار السملم فممي
ربوع جزيرة العرب . .
)) وقبل أن يرسل الله محمداة بالدعوة إلى السلم وإزالمة الوثنيمة ،الممر المذي حققمه بنجمماحا ،
كان أهدأة وأصدق رجل في مكة .ولم يكن بالمحارب أو المشرع ،ولكن بعد أن تحمل رسالة النبمموة
،أصبح أفصح المتكلمين وأشجع العمرب ،وكمان يحمارب الكفمار وسميفه فمي يمده ،ليمس لمصملحته
الشخصية ،ولكن من أجل مجد ا ،وقضية دينه ،وهو السلم وقد عرض ا عليه مفاتيح كنمموز
الرض ،ولكنه رفضها ،وعندما توفي كان فقيرا (( . 235
العدو من غير استدبار حسب رأي جيورجيو) ، (236فحاز بفضل تلك العبقرية مممع إيمممان المسمملمين
العميق راية النصر ،وكانت بالتالي هزيمة جيش يفوق عدده ثلثة أضعاف الجيش السلمي .
كما برزت عبقرية الرسول العسكرية في موقعة أحد ،حين درس طبيعة الموقع العسكري ،وتنبممه
لمكمن الخطر ،فكان أن وضع خطة مدروسة فممي تشممكيل الصممفوف المتكاملممة المتراصممة ،حممتى ل
يمكن للخصم أن يشق الصفوف ،مما مكن جيممش المسمملمين مممن مواجهممة جيممش العممدو الممذي يفمموقه
عدديا ة بأربعة أضمعاف ،وكمانت بشمائر النصمر مواكبمة للمسملمين ل ول الخطممأ المذي ارتكبمه النبالمة
مخالفو أوامر الرسول طمعا ة في الغنام ..
ول يغرب عن البال كيف برزت شخصية القائد العسكري للرسول فممي أحلممك الظممروف وخاصممة
في معركة حنين ،حين تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر ،ولقممد حلممل البمماحث العسممكري محمممود
الدرة ،هذه الواقعة بقوله :
)) ليس في حياة قادة الجيوش مواقف عصيبة وخطرة كموقفهم من هزيمممة جيوشممهم فممي ميممدان
المعركة ،وقلئل في التاريخ هم الذين استطاعوا بفضل شخصممياتهم وعزائمهممم وقممف تيممار الهزيمممة
في جنودهم والحيلولة دون وقوع الكارثة والخسران .والنادر فيهم من حممول الهزيمممة إلممى نصممر .
أما محمد القائد وقد تحدثنا عن موقفه في معركة أحد وتحويله تيار المعركة مممن هزيمممة منكممرة إلممى
انسحاب ناجح نراه في هذا الموقف في أوج عظمته ومجده العسكري الخالد ،ول نغالي إذا قلنا إنممه
بز من كان قبله في هذا المضمار ولم يشاركه في مجده هذا أحد قبله ،حيث لم يستسلم للمر الواقممع
ولم تخذله نفسه كما خذلت قبله ،حيث لم يستسلم للمممر الواقممع و لممم تخممذله نفسممه كممما خممذلت اثنممي
عشر ألفا ة من جنده نفوسهم (( . 238
))وقد كانت صلبة محمد وجلدته سببا ة في توق ف المحمماربين عممن هربهممم ..فكممان أن انتهممت
ك .جيورجيو :نظرة جديدة في حياة الرسإول . - 236
)) أن محمداة كان ول شك من أعظم القواد المسلمين الدينين ،ويصدق عليه القول أيضا ة انه كممان
مصلحا ة قديراة وبليغا ة فصيحا ة وجريئا ة مغواراة ،ومفكراة عظيممما ة ،ول يجمموز أن ننسممب إليممه ممما ينممافي
هذه الصفات ،وهذا قرآنه الذي عمر صدره ،تاريخه يشهدان بصحة هذا الدعاء (( . 240
.1في تأليف وتنظيم الجيوش ،فكان الرسول أول من عبأ معبا ة كاملة في هذه الحرب الدفاعية
لحماية الدعوة السلمية . .
.2في أسلوب القتال :وضع الخطط العسكرية المناسبة واستخدامه طبيعة أرض المعركة .
.3وضمع مبماديء جديمدة للحمرب ،منهما أولة المباغتمة ،إذ يتحمرك بكتممان وسمرية وحمذر ،
ويستخدم أسمملوب التوريممة . .وثانيمما ة السممتطلع وترصممد حركممة الخصمموم . .وثالثمما المقممدرة علممى
الحركة ،فقد أثبت جيش المسلمين قدرته على السير مسافات بعيممدة بسممرعة فائقممة مممع الصممبر علممى
شظف العيش ،واحتمال قسوة الطبيعة والمناخ . . .
.4التوفيق بين السياسة والحرب ،وذلك بعقده العهود والمحالفات مع القبائممل العربيممة والهتمممام
بالجبهة الداخلية ،لئل يؤخذ المسلمون على حين غرة ،ولم يكن الرسول يكتفممي بالنصممر العسممكري
بل يسعى دائما ة إلى تحقيق نصر سياسي في كسب الخصوم والعداء . . .
.5استخدام سلحا الدعاية ،وخلق ممما يسمممى بالرتممل أو الطممابور الخممامس فممي قلممب العممداء ،
ولنذكر كلمة الرسول في وصف هذا السلحا حين قال " :نصمرت بممالرعب مسميرة شممهر " ،كممما
يؤكد خطورة أسلوب الدعاية تمهيداة لتحقيق النصر العسكري في ميادين القتال ،وإلى جانب الحرب
الدعائية استخدام الرسول أيضا ة ،الخدعة والتمويه ،وهممو القائممل "الحممرب خدعممة" ،وكممذلك حممرب
العصاب لبلبلة صفوف العداء وإدخال الوهن في عزائم المحاربين (( . 241
هذا ،وإن المعارك العديدة الممتي خاضممها الرسممول بنفسممه خلل عشممرة أعمموام والممتي بلغممت تسممع
عشرة غزوة ،وكذلك السرايا التي أنفذها ،قد أثبتت مكانته العسممكرية ومزايمماه القياديممة حممتى تمكممن
من تحقيق النصر العظيم ،ففي السنة التاسعة للهجرة كان محمد حس ب تقري ر جيورجي و » :ق د
فتح الجزيرة العربية كلها ،وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسمملمين ،وقممد انتشممر السمملم مممن
السنة الول للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822ألف كم 2تقريبا ة (( . 242
أن النجاز العظيم الذي حققه الرسول كقائد عسكري ومشرع ومناضل لمحو الوثنيممة مممن جزيممرة
العرب ،بله النصر العظيم الذي حققه في نشر السلم بسائر أرجاء الجزيرة العربية لم يكممن سمموى
جانب واحد من جوانب عبقريته العسكرية ،إذ وضع كذلك أساس مجابهة الدولة البيزنطيممة ،حيممن
قام بحملته العسكرية الخيرة التي عرفت باسم غزوة تبوك ،وكان من نتائج ثمارهما أن عقمد الكمثير
من المراء العرب المسيحيين المتحالفين مع الدولة البيزنطية ،معاهدات معه " على عدم المهاجمممة
والحرب والوقوف على الحياد " 243. . .وليس هذا فقط بل صمم عمليمما ة علممى غممزو سممورية وعقممد
لواء القيادة لسامة بن زيد تنفيذاة لهذا الهدف قبل أن يلقى ربه بقليل .
الفصل السادس
محمد الرسول وأ المعجزات
لقد ذكرت الدراسممات التاريخيممة السمملمية ،وخاصممة كتممب السمميرة والحممديث علمممات النبمموة
وبشائر الرسالة ،نقلة عن الرواة الوائل الذين أكثروا من ذكرها ،تعظيممما ة لمكانممة الرسممول وإعلء
لقدر الرسالة . . .ولقد وقف عدد مممن البمماحثين والمفكريممن العممرب والمستشممرقين الغربييممن موقفمما ة
نقدنيا من مسألة علمات النبوة هذه . . .
يقول صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية محمد" عن بشائر الرسالة :
)) والمؤرخممون يجهممدون أقلمهممم غايممة الجهممد فممي استقصمماء بشممائر الرسممالة المحمديممة . .
يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه ،وممما أيممدته الحمموادث
أو ناقضته ،وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته ،ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير اليمان
وتفسير العيان ،وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة ،فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة فمي آثمار
تلك البشائر التي سبقت الميلد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر السلم ؟ ل موضع هنا لختلف
. .فما من بشائرة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة ،
أو كان ثبوت السلم متوقفا عليها .
لن الذين شهدوا العلمات المزعومة يوم الميلد ،لممم يعرفمموا يومئممذ مغزاهمما ومؤداهمما ،ول
عرفوا أنها علمة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سممنة .ولن الممذين سمممعوا بالممدعوة
وأصاخوا للرسالة بعد البشائر بأربعين سنة ،لم يشهدوا بشائرة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها
ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه .
وقد ولد مع النبي عليه السمملم ،أطفممال كممثيرون فممي مشممارق الرض ومغاربهمما ،فممإذا جمماز
للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيممره .ولممم تفصممل الحمموادث بممالحق
بين المصدقين والمكابرين إل بعد عشرات السنين ...يوم تأتي الدعوة باليات والبراهين غنيممة عممن
شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين .
أما العلمة التي ل التباس فيا ول سبيل إلى إنكارها فهي علمة الكون وعلمة التاريخ .
قالت حوادث الكون :لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة .
وقالت حقائق التاريخ :لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ...
و ل كلمة لقائل بعد علمة الكون و علمة التاريخ (( .245
إل أن المعجزة الحية الباقية حتى يومنا هذا هي إنجازات الرسول التي كانت عمليا ة ضممربا ة مممن
ضروب الخوارق النسانية حين أخرج العرب من ظلمات الجاهلية إلى حضمارة السملم المتي تشمع
بأنوار المدينة التي هيهات أن تنطفيء ،يقول الشاعر اللبنمماني الكممبير بشممائرة الخمموري )_ 1885
( 1968الكممبير بالخطممل الصممغير فممي صممحيفة الممبرق متحممدثا ة عممن الصمملحا الممديني الجتممماعي
للرسول :
)) أن للرسول محمد في عنفوان شبابه من المعجزات ما يقف دونه الفكر صاغراة ،ولكن لمه
وهو في أيام الدعوة ما تصغر عنده عظمة العظيم ،ويبطل عنده سحر الساحر ،إنه وقد أخرج أمة
بأسرها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء المدنية ،إنه وقد أبدل معائب الجاهلية بمحاسن السلم ،و
إنه وقد أبطل وأد البنات ،وحممرم الزنممى ،ونقممى القلمموب مممن العممداوات ،إنممه وقممد أذل لسمميفه كممل
سيف ،ولعرشه كل عرش ،إنه وهو كذلك ليس في عيني أعظم منه ،وهو البن الناشمميء فقيممراة ،
الدارج يتيماة ،الحامل السعد في وجهه ،والطمر في قلبه ،والمل في عينيه ،والحكمة في شفتيه ((
. 246
))أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القممرآن والحقيقممة إنهمما لكممذلك ،وإذا قممدرنا ظممروف
العمر الذي عاش فيه ،واحترام أتباعه إيمماه احتراممما ة ل حممد لممه ،ووازنمماه بآبمماء الكنيسممة أو بقممديس
القرون الوسطي ،تبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد نبي المسمملمين أنممه لممم يممدع القممدرة علممى
التيان بالمعجزات وما قال شيئا ة إل فعله وشاهده منه في الحممال أتبمماعه ،ولممم ينسممب إليممه الصممحابة
معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ،فأي برهان أقطع من ذلك ،ولقد كان محمممد يممذهب
من آخر حياته كما ذهب من مبدأ أمره إلى أنه رسممول امم حقمما ة ،وإنممي أعتقممد أن الفلسممفة المسمميحية
المالية ستعترف له بذلك يوما ة من اليام ((. 247
بداهة الرسالة
_مم ( 1929عن حيمماة الرسممول ويتحدث المستشرق الفرنسي الفونس آتيين دينيه ) 1861
الحافلممة بالعظممام ،بممأنه _عليممه السمملم _ لممم يعتمممد فممي نشممر الرسممالة السمملمية علممى الخمموارق و
المعجزات المادية و تلك مأثرة عظيمة له ،يقول في كتابه " :محمد رسول ا" :
)) والحق أنا نرى من بين جميع النبيمماء الممذين أسسمموا ديانممات ،أن محمممداة هممو الوحيممد الممذي
اسممتطاع أن يسممتغني عممن مممدد الخمموارق والمعجممزات الماديممة ،معتمممداة فقممط علممى بداهممة رسممالته
ووضوحها ،وعلى بلغة القرآن اللهية ،وإن في اسممتغناء محمممد عممن مممدد الخمموارق والمعجممزات
لكبر معجزة على الطلق (( . 248
ويتابع الكبير الفرنسي في دراسة شخصية الرسول مبرزاة عظمته وكمالته العليا ،يقول :
)) إن في مرأى المؤمنين وفي أعمالهم لصممورة تلمحهمما منعكسممة مممن مممآثر محمممد ،وإذا ممما
كانت بالطبع باهتة قياسا ة إلى كمالته العليا ،فإنها ل جدال في صحتها ،هذا على حين نجد قياصممرة
روما مع دقة تماثيلهم ل يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صممورة مممن الخيلء
،أن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شميئا ة ممن الحيماة ،وإنمه لب وحي همذه الحقيقمة
المقررة أن قامت برؤوسنا فكرة نشر لوحات في تاريخ محممد همذا ،تمثممل المممآثر الدينيممة لتبماعه ،
وبعض صور من حياة محمد ،وبعض مدن الحجاز الذي هو وطنه (( . 249
)) إن انطواء حياة الرجل العظيم على قدر من الشممرارة اللهيممة أقمموى بأسمما ة مممما لممدى إخمموانه
الضعفاء لية حافلة بالمعاني للعالم كافة !
ذلك أن رسالته تؤذن ببدء مرحلة جديدة في قصة هذا العالم .
ول شك أن القوى التي يفك أسارها ستكون رهن إشارته ،وستكون أهم أدوار مقممامه فممي هممذه
الرض موضع الترحاب أو المحاكاة من العالم الذي كان مجرد ظهوره فيه ذا أثر في خطه ومجراه
!
وإن القلوب الساذجة العقل لتروحا تنسج الخوارق وشيا ة تحيط به حياة الرجل العظيم ،غافلة عن
أن هذه الخوارق تغض من شأن النصر النساني الذي يحرزه بطلها ((. 250
جوسإتاف جرونيباوما )نقل عن مقدمة كتاب قالو في السإلما حسن الشيخ خضر الظالمي(. 250
129
ويذكر جرونيباوم أن الرسول كان حريصا ة على التأكيممد بممأنه بشممر صممدع بممأمر مممن امم لنشممر
رسالة السلم ،يقول :
)) حرص محمد مدة رسالته على أن يؤكد للناس أنه بشر ،ذو طبيعة إنسانية وأنه بفضل من
ا اختير رسولة و تعالى . .
وفيها عدا هذه الخصوصية _خصوصية اختياره للرسالة _ ليممس ثمممة شمميء يفممرق بينممه وبيممن
إخوانه من البشر .
وإن علمه بالغيب لمحدود بما يريد ا أن يعلمه إياه .
فكل ما لم يرشده إليه الوحي فأمر قد يضل فيه السبيل .
و كلما لج أعدائه في تحديهم إياه بأن يثبت أقواله بإحدى المعجزات أبى ذلممك .غيممر عممابيء
بسخرية الساخرين ،و خيبة أمل المتشكيين ..ذلك أن رسالته هي آيته ،إمارته!.
وقالوا لول أنزل عليه آيات من ربه ؟ قل إنما اليات عند الله ،وإنما أنما نممذير ممبين ،أولممم
يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكممرى لقمموم يؤمنممون – (29/50
).251 51
ويحلل جرونيباوم السباب التي دفعت كتاب سيرة الرسول فممي سممياق تعظيممم الرسممول إلممى
إضفاء المعجزات والخوارق عليه تأكيداة لصورة القداسة والحترام الماثلممة فممي نفمموس المسمملمين ...
يقول :
)) ولم يكد ينقض على وفاته طويل زمن حتى ثار الخيال الشعبي متغلبا ة على نصوص الوحي
نفسها ،ومغطيا ة الحتجاجات الفاترة التي أبممداها ذوو الضمممير الحممي مممن الفقهمماء _وراحا يقممص مممن
جديد سيرة النبي واضعا ة إياه في صورة الساحر القوي_!!.
ولقد رانت عليهم تلك الرغبة الساذجة في تعظيم البطل برفعه فوق درجة النسممانية إلممى أقممص
حد مستطاع ،وظاهرها على ذلك التقليد العريق الذي يؤكد من الكبير الشخصممية الفممذة ،بممما ينسممب
إليها من تعاون العالم الروحي كله وإياها (( . . . . 252
))ومممن جممانب آخممر ينبغممي أن نممذكر أن الممدين السمملمي نحممالف كممل المخالفممة لهممذه البممراج
المتشامخة التي تسقط من ضربة واحدة ،لن له قوة كامنة وصلبة ومتانة . .
وفي الواقع ،فبماذا يمكن أن يهاجمه النقممد ،فممي تاريممخ محمممد أنممه تقريبمما ة خممال مممن الخمموارق
والمدهشات ،وليس فيه تقريبا ة من المسلمات إل ما في الديانة الكاثوليكية من معتقدات طاهرة نقيممة .
فهل توجد هممذه الخمموارق فممي الشممعائر والطقموس ،إنممك لممو رجعممت بالممدين السمملمي إلممى قواعممده
الساسية لما وجدته قد زاد على الدين الفطري إل نبوءة محمد ،وإدراكا ة حقيقيا ة وفهما ة صحيحا ة لمعنى
القضاء والقدر الذي يعد صفة عامة لكل الممذين يممدركون بقمموة عقممولهم ،ودقممة شممعورهم :أنهممم فممي
احتياج شديد إلى أن يسيروا في هذه الحياة بنظام دقيق ،وخطة محكممة ،أكمثر مممما يعممد عقيمدة ممن
العقائد ،أو أصلة من أصول الأيمان الخ (( . 253
المعجزات اللهية
أما المفكر النكليزي صاحب كتاب " :البطال " ،توماس كارليل فيرى أن الرسول في سيرته
الحياتية لم يعتمد مطلقا ة على المعجزات ،وإنما يذكر من يدعوهم إلى السلم بالمعجزة اللهية الممتي
تكمن في سر الوجود المبثوث في الكون ،إنها المعجزة المتي تؤكمد حقيقمة الخمالق وعظمتمه ،يقمول
كارليل :
)) وكان محمممد إذا سممئل أن يممأتي بمعجممزة قممال :حسممبكم بممالكون معجممزة ،انظممروا إلممى هممذه
الرض ،أليست من عجائب صنع ا وآية على وجوده وعظمته ؟ هذه الرض التي خلقها امم لكممم
سبل تسعون في مناكبها وتممأكلون مممن رزقممه ،وهممذا السممحاب المسممير فممي الفمماق ل ة ونهج لكم فيها
يدرى من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود ،ثم يسممح بمممائه ويهضممب ليحيممي
أرضا ة مواتا ة ،ويخرج منها نباتا ة وغيلة واعانبا ة ،أليس ذلك آية ،والنعام خلقها لكممم تحممول الكلأ لبنمما ة
وهي فخر لكم ،والسفن _وكثيراة ما يذكر السفن _ كالجبال العظمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز
في سوا ،اليم لها حاد من الريح ،وبينا تسير إذا هي قد وقفت بغتة ،وقد قبض ال الريح .معجزات
و ا كل هذه ،وأي معجزات بعدها تريدون ،ألستم أنتم معجزات ؟ لقد كنتم صغاراة وقبل ذلممك لممم
تكونوا البتة ثم لكم جمال وقوة وعقممل ،ثممم وهبكممم الرحمممة أشممرف الصممفات ،وتهرمممون ويممأتيكم
المشيب وتضعفون وتهن عظمامكم وتموتمون فتصمبحون غيممر موجمودين "ثمم وهبكممم الرحممة" لقمد
أدهشتني جداة هذه الجملة ،فإن ال ربما كان خلق الناس بل رحمة ،فماذا كان يكون أمرهممم ! هممذه
من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة ،وكذلك أرى في محمد دلثممل شممعرية كممبيرة ،وآيممات علممى
أشرف المحامد وأكرم الخصال ،وأتبين فيه عقلا ة راجحا ة وعينا ة بصمميرة وفممؤاداة صممادق ورجلة قويمما ة
عبقريا ة ،لو شاء لكان شاعراة فحلة أو فارسا ة بطلة أو ملكا ة جليلة ،أو أي صنف مممن أصممناف البطممل
(( . 254
ولكن ،إن أجمعت غالبية الدراسات الستشراقية على نفي صفة الخوارق والمعجزات عن إلى
سول ورأت في نضاله الملحمي معجزته النس انية الكممبرى ،فممإن العلمممة البريطمماني المستشممرق
هيليار بلرن يرى في مؤلفه » :فكرة الحياة « معجزة رسالة السلم فممي النجممازات الممتي حققتهمما
حين وحدت بلد العرب ،وأكدت كونيتها بخروجها من النطاق العربي إلى الصعيد العالمي ،فكانت
حقيقة ثابتة وحضارة مشرقة ،يقول :
)) بينما كانت مممدن المبراطوريممة البيزنطيممة ،تحتفممل بانتصممارات المممبراطور هرقممل علممى
الفرس ،وبينما كان الناس في سرور وجذل عظيمين ،حدثت العجزة المحمدية ،حدث من لممم يكممن
أحد ينتظره ول يفطن له ،حدث أمر كان أقرب إلى الهزة الرضممية أو الفيضممان العممام فممي سممرعته
وشدته ،ووقوعه دونما سابق إنذار ول إشارة .
لم يكن هنماك أعمراض سمبقت همذا الحمدث العظيمم الضمخم ،ول إممارات تمدعو إلمى انتظماره
والتهيؤ له ،ولم يكن مضى على انتصارات ،هرقممل الكممبير سممنوات قلئممل ،لممما مشممى إلممى أرض
المبراطورية فرسان من الصحراء ،ما سمممع عنهممم أحممد شمميئا ة إل ممما كممان يقممال مممن أنهممم جماعممة
يضربون أرض الصحراء على خيولهم وإبلهم طلبا ة للكل والماء ،وأنهم قوم من البدو (( .
الفصل السابع
أخلق الرسول وأ مناقبه
لقممد عنيممت كتممب الحممديث والسمميرة النبويممة وكممذلك الدراسممات التاريخيممة السمملمية ،بشمممائل
الرسول ومناقبه ،ودرست بالتفصيل عاداته بل عمله اليومي ،ومنها ما أفردت لها فصولة وأقساما ة
للتحدث عن مناقبه ،أو وضعت كتب مستقلة تناولت فيها عرف باسم الشمائل المحمدينممة . .وكممانت
بممدورها مجممالة للبمماحثين الغربييممن والمستشممرقين فممي دراسمماتهم ذلممك الجممانب الخلقممي والخلقممي
للرسول . . . .
ويتحدث المستشرق ديسون عن اهتمام الباحثين السلميين في سيرة الرسول ،يقول :
)) ولقد راحا الكتاب المسلمون يصفون نبيهم فما تركوا ناحية من صفاته وأخلقه إل عرفوا بها
وأشاروا إليها (( .256
))كانت حياته اليومية صورة صادقة للتعاليم القرآنية ،لقد كان هو تجسمميداة ،إذا جمماز التعممبير ،
لكل ما أوصى القرآن الكريم به .وكما أن كتمماب امم دسممتور أخلق سممامية لنممماء ملكممات النسممان
المتعددة ،كذلك فإن حياة الرسول معرض عملي لتلك الخلق كلها .وهكذا فإن لممدى المسمملم هاديمماة
من مزدوجا ة :القرآن الكريم من الناحية النظرية ،وحياة الرسول كمثل كامل (( . 257
والمعلم الول والقدوة الحسنة ،وقد جاء في القرآن الكريم :لقد كان لكم في رسول ا أسوة حسنة
) الحزاب (21/وعند هذه النقطة يقول الكاتب الفرنسي الكسندر دوما :
)) كان محمد معجزة الشرق لما في دينه من معالم ،وفي أخلقه من سممو ،وفمي صمفاته ممن
محامد (( .
فالرسول هو القدوة الخلقية الحسممنة ،وهممو القائممل عممن صممدق " :إنممما بعثممت لتهممم مكممارم
الخلق " وكممان طبيعيمما ة أن تكممون سمميرته _عليممه السمملم _ كاملممة ناصممعة نقيممة ،معصممومة عممن
الثام . . .هذا . .ولقد رأى المفكر النكليزية جون أروكس بعصمة الرسول معياراة لعظمته ،يقول
:
)) لم نعلم ان محمداة تسربل بأية رذيلة مدة حياته لذلك نراه عظيمةا(( .258
)) وما كان محمد بعابث قط ،ول شاب شيئا ة من قوله شائبة لعب ولهو .بمل كمان الممر عنمده
أمر خسران وفلحا ،ومسألة فناء وبقاء .ولم يك منه إزاءها إل الخلص الشديد والجد المر .فأممما
التلعب بالقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فممما كممان مممن شممأنه قممط .وذلممك عنممدي أفظممع
الجرائم إذ ليس هو إل رقدة القلب ،ووسن العيممن عممن الحممق ،وعيشممة المممرء فممي مظمماهر كاذبممة ،
وليس كل ما يستنكر من مثل هذا النسان هو أن جميع أقممواله وأعممماله أكمماذيب ،بممل إنممه هممو نفسممه
أكذوبة .ورأى خصلة المروءة والشرف _شعاع الله_ متضائلة في مثل ذلك الرجل ،مضطربا ة بين
عوامل الحياة والموت ،فهو رجممل كمماذب .ل أنكممر أنممه مصممقول اللسممان ،مهممذب حواشممي الكلم ،
محترم في بعض الزمان والمكنة ،ل تؤذيك بادرته ،لين المس رقيق الملمس ،كحمض الكربممون
تراه على لطفه سما نقيعا ة ،وموتا ة ذريعا ة (( . 259
براءة طبعه
لقد اتسمت بساطة الخلق المحمدي ،في سممائر مراحممل حيمماته بابتعمماده عممن الريمماء والتصممنع ،
يعرف تماما ة حق قدره ،فكممان عظيممما ة فممي وقفتممه الشممجاعة ،وإرادتممه الصمملبة ،وعزمممه الممذي ل
يلين ،ماضيا ة أبداة إلى ما أرسل إليه . . .يقول توماس كارليل :
)) وإني لحب محمداة لبراءة طبعه من الرياء والتصنع .ولقد كان ابن القفار هذا رجلة مسممتقل
جون أروكس :عظماء التاريخ ،ص .83 258
الرأي ،ل يعممول إل علممى نفسممه ،ل يممدعي ممما ليممس فيممه .ولممم يممك متكممبراة ،ولكنممه لممم يكممن ذليلة
ضرعا ة .فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده ال وكممما أراد .يخمماطب بقمموله الحممر المممبين قياصممرة
الروم وأكاسرة العجم ،يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الخرة .وكان يعممرف لنفسممه
قدرها (( . 260
))أما محمد فكان كريم الخلق حسن العشرة ،عذب الحديث ،صحيح الحكم ،صادق اللفظ ،
وقد كانت الصفة الغالبة عليه هي صحة الحكم ،وصراحة اللفظ ،والقتناع التام بما يقبلممه ويقمموله ،
إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ،بما يتجلى فيها من شدة الخلص ،فقد
كان محمد مصلحا ة دينيا ة ،ذا عقيدة راسخة ولم ينهض -إل بعد أن تأمل كثيرا ،وبلغ سممن الكمممال _
بهاتيك الدعوة العظيمة ،التي جعلته من أسطع أنمموار النسممانية ،وهممو فممي قتمماله الشممرك والعممادات
القبيحة التي كانت عند أباء زمنه ،كان في بلد العرب أشبه بنبي من أنبياء بي إسرائيل الذين كممانوا
كبارا جدا فممي تاريممخ قممومهم ،ولقممد جهممل كممثير مممن النمماس محمممداة بخسمموه حقممه ،وذلممك لنممه مممن
المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها (( . 261
وكانت تلممك البسمماطة منسممجمة مممع طبعممه الهممادي المفكممر ،وهممذا ممما اسممتدعى انتبمماه المممؤرخ
والمستشرق المريكي أورينج فقال في كتابه " :الحياة و السلم " :
))كان النبي الخير بسيطا ة خلوقا ة ومفكراة عظيما ة ذا آراء عاليممة ،وإن أحمماديثه القصمميرة جميلممة
ذات معان كبيرة ،فهو إذاة مقدس كريم (( .262
))ويزعم المتعصبون والملحدون أن محمداة لم يكن يريد بقيممامه إل الشمهرة الشخصمية ومفمماخر
الجاه والسلطان .كل و أيم ا ،لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابممن القفممار والفلمموات ،المتوقممد
المقلتين ،العظيم النفس ،المملوء رحمة وخيراة وحنانا ة وبممراة وحكمممة وحجممى وإربممه ونهممى ،أفكممار
غير الطمع الدنيوي ،ونوايا خلف طلب السمملطة والجمماه ...ولحيممف و تلممك نفممس صممامتة كممبيرة ،
ورجل من الذين ل يمكنهم إل أن يكونوا مخلصين جادين .فينما ترى آخرين يرضون بالصلحات
الكاذبة ويسيرون طبق العتبممارات الباطلمة ،إذ تمرى محمممداة لممم يممرض أن يتلفممع بممألوف الكماذيب
ويتوشح بمتبع الباطيل ،لقد كان منفرداة بنفسه العظيمة بحقائق المور والكائنات . 263 (( ،
)) وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلممما ة وعممدوانا ة ،وشممد ممما نجممور ونخطيممء إذا
حسبناه رجلة شهويا ة ،ل هم له إل قضاء مآربه من الملذ ،كل فما أبعد ما كان بينه وبين الملذ أيا ة
كانت ،لقد كان زاهداة متقشفا ة في مسممكنه ومممأكله ومشممربه وملبسممه وسممائر أمموره وأحمواله ،وكممان
طعامه عادة الخبز والماء ،وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نممار ،وإنهممم ليممذكرون _ونعممم ممما
يذكرون _ أنه كان يصلح ثوبه ويرفوه بيده ،فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة ؟ فحبذا محمد مممن رجممل
خشن اللباس خشن الطعام ،مجتهد في ا ،قائم النهار ساهر الليل ،دائب في نشر دين اللممه ،غيممر
طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجممال مممن رتبممة أو دولممة أو سمملطان ،غيممر متطلممع إلممى ذكممر أو
شهرة كيفما كممانت ،رجممل عظيممم وربكممم ،وإل فممما كممان ملقيمما ة مممن أولئممك العممرب الغلظ تموقيراة
واحتراما ة ،وإكباراة وإعظاما ة ،وما كان ممكنمما أن يقمودهم ويعاشمرهم معظمم أوقماته ثلثمما ة وعشمرين
حجة ،وهم ملتفون به ،يقاتلون بين يممديه ،ويجاهممدون حمموله ،لقممد كممان فممي هممؤلء العممرب جفمماء
وغلظة وبادرة وعجرفة ،وكانوا حماة النوف ،أباة للضيم ،وعري المقادة صعاب الشكيمة ،فمممن
قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا ،فذلك وأيم الله بطممل كممبير ولممول ممما
أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضممعوا لمه ول أذعنموا ،وكيممف وقممد كممانوا أطمموع لمه ممن
بنانه ،وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لممما كممان مصمميبا ة
من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده ،فكذلك تكون العظمة ،وهكممذا يكممون البطممال
(( . 264
الرسول وأ المرأة
هذا ،و قد حاولت القلم الستشراقية المغرضة أن تنفث سمممومها فممي رسممول السمملم حيممن
ألصقت فيه تهمة الشهوانية وتهالكه على النساء . .يقممول مممونتجمري وات فممي كتمماب " :محمممد فممي
المدينة" :
)) وهناك اتهام أوروبي مسيحي لمحمد بأنه شهواني أو أنه ،بلغة القرن السابع عشممر ،الفظممة
» فحاش مسن « غير أن هذه التهمة تسقط إذا فحصناها على ضوء الفكار السائدة في عصر محمد
.كان الفكر السلمي في أول ظهور السلم يميل إلى تضخيم شخصية النبي ورفعها فوق مسممتوى
البشر ،ويوجد حديث يقول ) إن محمداة قد أعطي من قوة الرجولة ما يجعله يسممتطيع أن يقسممم ليلتممه
بين جميع نسائه ( .
ول شك أننا هنا بصدد حديث موضوع لن الحديث العادي يقول بأن محمداة كان يخصص ليلممة
لكل واحدة من نسائه ،ونستطيع على كممل حمال أن نحكمم ممن وراء ذلمك علممى موقمف بعممض أتبماع
محمد منه .كان المسلمون الول سيئي الظن بالعزوبية ،وكانوا يعارضممونها فممي كممل مناسممبة حممتى
الزهاد في السلم كانوا عادة متزوجين (( . 265
هذا ،ويرد إميل درمنغهم على هجمموم المستشممرقين الممذين يتنمماولون حيمماة الرسممول الخاصممة ،
وعابوا عليه تعدد زوجاته وشبقه الجنسي ،يقول :
))وإن بعضهم يعيب محمداة في كثرة ميله إلى النساء ،فإنه مما ل مشمماحة فيممه ،أن محمممداة لممم
يكن شرها ة ول فخوراة ولمتعصبا ة ولمنقاداة للمطامع ،بل كان حليما ة رقيق القلب عظيممم النسممانية ((
. 266
ويناقش الباحث الفرنسي -المستشرق إتيين دينيه في كتممابه " :محمممد رسممول امم " مممن يعيممب
على الرسول حبه النساء ،بقوله :
)) كان محمد يحب النساء ،وقد عاب عليه الكثير من العممداء ذلممك .وحقمما ة كممان محمممد رجلة
بكل ما في الكلمة من معان خلقية ومادية ،ورجولته امتازت بالعفة التي ل تتعارض مع أسباب اللذة
البريئة المجردة من الدنس ،وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالعفة والحياء
الخاليتين من كل تكلف ورياء ،ل كحياء المغالين في الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة .
وإذا كان محمد قد عقد على ثلث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إل باثنتي عشممرة منهممن .أممما
الخريات فتزوجهن لسباب سياسية محضة ،إذ كانت كل القبائل ترغب في شرف مصاهرته .وقد
كثرت عليه الطلبات في شأن ذلك ويروى أن عزة أخت دحية الكلبي ماتت من شممدة الفرحممة عنممدما
نبئت أن الرسول قبل الزواج بها وقد كان الرسول يعطف على النساء جميعا ة وحاول في كممل مناسممبة
أنصافهن .فحرم أول ما حرم وأد البنات ،تلك العادة القبيحة القاسية التي تحدثنا عنها فيها سبق .ثم
وضع حداة لتعدد الزوجات ،فجعل العدد القصى منهن أربعا ة ،وزاد على ذلممك أن نصممح المممؤمنين
بالتفكير في الية . . . :فانكحوا ما طاب لكم من النساء ،مثنمى و ثلث وربماع ،فمإن خفتمم ألة
تعدلوا فواحدة . . .
ومممن أحمماديثه » :أبغممض الحلل إلممى امم الطلق « . . .وأتبممع ذلممك بممأن منممح المممرأة حممق
المطالبة بالطلق إن لم يوف الرجل بوجباته الزوجية (( . 267
)) وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البممالغ تستشممار قبممل زواجهمما ،وأصممبح المهممر ل
يعطى للب بل للعروس نفسها ،وقد وصف أعداء السلم تلك السنة الحكيمة بأنها " :شراء للمرأة
" .وهم لم يسمعوا ،فيها أظن ،ذلك الجواب المفعم الذي يمكممن أن يممرد بممه المسمملمون عليهممم حينمما
يقولون لهم :إن المهر في بعض القطار الغربية يدفعه والد البنت إلممى رجلهمما ! . . .وفمموق ذلممك ،
فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أي حق في التصرف في مال امرأته .
ومنح الرسول المرأة كذلك حق في الميممراث . -وحقهمما بممه :نصممف حممق الممذكر ،وذلممك لن
المرأة ل تدفع مهراة كالرجل وليس مكلفا ة بحاجات البيت (( . 268
ومن جهتممه نمماقش العقمماد فممي كتممابه » عبقريممة محمممد « آراء المستشممرقين فيهمما خممص علقممة
الرسول بالمرأة ،وفند مزاعمهم عن انسياقه وراء رغباته الجنسية ونزواته . .فالرسممول برأيممه هممو
أول يقيم علقات طبيعية مع المرأة وثانيا ة هو طبيعي بحبه المرأة يقول :
)) ونحن قبل كل شيء ل نرى ضيراة على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها ،هذا
سواء في الفطرة _ ل عيب فيه ،وهذه النفس السوية يمكننا أن نفهمها بجلء حين نرى أن المرأة لم
تشممغله عممما تشممغل المممرأة الرجممل المفممرط فممي معرفممة النسمماء عممن مهممام المممور والقيممام بالعبمماء
الجسام . .فمهما قال هؤلء فلن يستطيعوا أن ينكروا أن محمداة قد حقق ما لم يحققممه بشممر قبلممه ول
بعده ،لم يشغله عن هذا شيء ،ل امرأة ول غير امرأة ،فإن كانت عظمة الرجل قممد أتمماحت لممه أن
يعطي الدعوة حقها ،ويعطي المرأة حقها ،فالعظمة رجحان وليست بنقص ،وهذا السممتيفاء السممليم
كمال وليس بعيب (( . 269
ودلت الدراسات المنصفة عممن حيمماة الرسممول أن زواجممه مممن نسممائه كممان بعيممداة عممن السممتلم
للنزوات الجنسية والنغماس باللذة ،على عكس ما ذهب إليه المستشرقون المغرضون يقول العقاد :
))قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لممدليل علممى فممرط الميممول الجنسممية ،قلنمما إنممك ل
تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لنه لم يتزوج قط .فل ينبغي أن تصف محمممداة بممأنه مفممرط
الجنسية لنه جمع بين تسع نساء . 270 ((0 ،
وإلى جانب الناحية الجتماعية الخلقية ،كانت ،سياسية في زواجه يقول مولنا محمد على :
))ثم إن بعض السباب السياسية أفضت أيضا ة إلى زواج الرسول من بعض نسممائه .فزواجممه
من جويرية مثلة كان نعمة عظمى على قومها .إنمه لممم يضممع حممداة لعممداوة بنممي المصممطلق المريممرة
فحسب ،ولكنه شدهم إلى المسلمين برباط من الصداقة قوي أيضا ة ،وفوق هذا ،فقد كان من النتائممج
المباشرة لذلك الزواج إطلق سراحا مئات السرى من أبناء تلك القبيلة .فهل كان غرضممه مممن هممذا
الزواج شيئا ة آخر غير الغرض الديني ؟ وكذلك كان اليهود ألد أعداء السلم فممي بلد العممرب .وقممد
حاول الرسول أن يتألف قلوبهم أيضا من طريق البناء بامرأة من نبيلتهم .ولكمن حقمد اليهممود أثبمت
هذه المرة أنه أقوى من أن يتأثر بإجراءات الرسول السترضائية ،لقد أصروا على عممداوتهم ،ولممم
يكنوا في أيما يوم عن إنزال الذى بالسلم .ومع ذلممك فقممد بممذل الرسممول قصممارى جهممد ه لتممألفهم .
وكانت ميمونة أرملة أيضا ة ،وكانت تنتسب إلى قبيلة معاديممة ،برغممم أن الظممروف الممتي قممادت إلممى
زواجها من الرسول كانت مختلفة بعض الشيء . ،كانت أختها قد تزوجت العباس ،عممم الرسممول ،
ومن هنا لم تكد تعرض على الرسول الزواج منها حممتى وجممد نفسممه غيممر قممادر علممى الرفممض (( ،
. 271
بل إن زواج الرسول من رملة بنت أبى سفيان _حسب رأي العقاد_ كان إنسانيا ة سياسمميا ة ،فقممد
تم بدافع النجدة النسانية ..والمل في أن يكسب أبمما سممفيان إلممى صممفه " عسممى أن يهممديه ذلممك إلممى
الدين" .و بما يعطف في قلبه و يرضي من كبريائه(( .272
وكتب المفكر المصري واصف باشا بطرس غالي ،في مؤلفه " :فروسية العممرب المتوارثممة"
رداة على افتراءات بيرون ضد الرسول و تعصبه الفاضح :
)) كان محمد يحب النساء ويفهمهن ،وقل عمل جهممد طمماقته .لتحريرهممن ،وربممما كممان ذلمك
بالقدوة الحسنة التي استنها إضافة للقواعد والتعاليم التي وضعها ،وهو يعممد بحممق مممن أكممبر أنصممار
المرأة ،إن لم يكن عظيم الحترام والتكريم لهن ،لم يكن ذلك خاصا ة منممه بزوجمماته ،بممل كممان ذلممك
شأنه مع جميع النساء على السواء (( . 273
ويخلص مولنا محمد علي إلى توضيح أن تعدد الزوجات في السلم استثناء للقاعممدة ،وليممس
قاعدة ثابتة ،هدفها إصلحا المجتمع ،وصون الخلق ،وأن زواج الرسول بأكثر مممن واحممدة جمماء
انسجاما ة مع رسالة حياته الخلقية والدينية :
عن المصدر الساباق ،ص .156 270
)) ومن هنا نرى أن زيجات الرسول كلها كانت تستهدف غرضا ة أخلقيا ة باطنا ة .فقد نشأت فممي
حياته ظروف لم يكن في ميسوره تجاهلها ،انسمجاما ة منمه ممع رسمالة حيماته الخلقيمة والدينيمة ،أن
يقصر نفسه على زوجة واحدة ،لقد كان خير البشرية مرهونا ة بسلوك هذه السممبيل ،فلممم يحجممم عممن
سلوكها .وإنما قض زهرة حياته ،بل القسم العظم من كهولته ،فممي كنمف اممرأة مفممردة ،مظهممراة
بذلك أن الزواج من واحدة هو القاعدة فممي الحمموال السمموية .حممتى إذا تهممدد الخطممر طهممارة النسمماء
وعفافهن ،ومس المر وضعهن الجتماعي ،لممم يتقمماعس عممن الخممذ بالبممديل الوحممد _أعنممي تعممدد
الزوجات _ ولكن علينا أن ل ننسى أن ذلك كان مجرد استثناء للقاعدة قصد به مواجهة حالت شاذة
،وليس القاعدة نفسها (( .274
ومن هنا ،نجد أن التهم الستشراقية الممتي تلصممق بالرسممول الشممهوانية ،تتهمماوى أمممام النقممد ،
وتتسمماقط أمممام الحقممائق التاريخيممة . .بممل إن رسممالة السمملم كممانت خيممراة للمممرأة إذ جعلتهمما صممنواة
للرجل ،وعماداة للسرة ،وأعطتا الحقوق القانونيممة والقتصممادية وعممززت مكانتهمما الجتماعيممة . .
فرسالة السلم العالميممة الممتي حملممت الخيممر ،وحققممت العدالممة والمسمماواة لبنمماء المجتمممع الواحممد ،
والخاء بيممن الشممعوب المختلفممة حممري بهمما أن تكممون حاملممة الخيممر والعممدل للمممرأة ،وعملممت علممى
المحافظة على عفتها ،يقول الباحث والروائي اللماني ويلكي كولنز ،في كتممابه » :جمموهرة القمممر
«:
)) لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفاف ،وحذر من السير على خلفهما ،مشميراة
إلى ما في هذين من النقص والخسة ،وكم لمثل هذا من نظير في شريعته السامية (( . 275
نكران ذاتاه
وكان الرسول في سيرته الحياتية معروفا ة بنكران الذات ،وتضحيته بثروته في سبيل العقيممدة ،
يقول المؤرخ المريكي واشنطون إرفنج :
))كان الرسول في كل تصرفاته ناكراة ذاتممه ،رحيممما ة بعيممداة عممن الكممبير فممي الممثراء والمصممالح
المادية ،فقد ضحى بالماديات في سبيل الروحانيات (( .276
واشنطون ارفنج :نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ،ص .438 276
140
المستشرق السباني جان ليك ) (1897-1822في كتابه " :العرب " مؤكداة هذه الحقيقة :
((وحياة محمد التاريخية ل يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها ا نفسه بألفاظ قليلة ،بين بها
سبب بعث النبي )محمد( وما أرسلناك إل رحمة للعالمين .
وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ،ولكل محتاج إلى المساعدة ،كممان
محمد رحمة حقيقة لليتممامى والفقممراء وابممن السممبيل والمنكمموبين والضممعفاء والعمممال وأصممحاب الكممد
والعناء ،وإني بلهفة وشوق لن أصلى عليه وعلى أتباعه (( . 277
))إن محمداة كان يتصف بكثير مممن الصممفات كمماللطف والشممجاعة ،وكممرم الخلق ،حممتى إن
النسان ل يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات فممي نفسممه ،ودون أن يكممون
هذا الحكم صادراة عن غير ميل أو هوى ،كيف ل وقد احتمممل محمممد عممداء أهلممه وعشممرته سممنوات
بصبر وجلد عظيمين ،ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يممده مممن يممد مصممافحه حممتى لممو
ل كانوا أم أطفال دون أن يسمملم عليهممم ،كان يصافح طفلة ،وأنه لم يمر بجماعة يوما ة من اليام رجا ة
وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ،وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها ،و تجذب القلوب إلى
صاحبها جذبا ة ،وقد كان محمد غيوراة ومتحمسا ة ،وما كانت حماسته إل لغرض نبيل ،ومعنممى سممام
،فهو لم يتحمس إل عندما كان ذلك واجبا ة مفروضا ة ل مفر منه ،فقممد كممان رسممول مممن امم ،وكممان
يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه ،كما أنه لم ينس يوما ة من اليام كيانه أو الغرض الممذي بعممث
من أجله ،دائما ة كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البليا ،حتى انتهى إلمى إتممام مما يريمد
((. 278
وأما الكاتب النكليزي السير وليم موير فيتنمماول فممي مممؤلفه " :حيمماه محمممد " سممجايا الرسممول
وشمائله ولين عريكته وتعامله مع الطفال ،فيقول :
)) ومن صفات محمد الجليلة الجديرة بالذكر ،والحريممة بممالتنويه ،الرقممة و الحممترام ،اللممذان
كان يعامل بهما أصحابه ،حتى أقلهم شأنا ة ،فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت فممي نفسممه ،
ورسخت محبته عند كل من حوله ،وكان يكره أن يقول ل ،فإن لممم يمكنممه أن يجيممب الطممالب علممى
سؤاله ،فضل السكوت على الجواب ،ولقد كان أشد حياء من العذراء فممي خممدرها ،وقممالت عائشممة
رض ا عنها ،وكان إذا ساءه شيء تبينا ذلك في أسممارير وجهممه ،ولممم يمممس أحممداة بسمموء ال فممي
جان ليك :العرب ،ص .43 277
لين باول :رسإالة في تاريخ العرب ؟)نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ،ص .(438 278
141
سبل ا ،ويؤثر عنه أنه كان ل يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيراة ،ول يرفض هدية
مهداة إليه مهما كانت صغيره ،وإذا جلس مع أحد أيما ة كمان لمم يرفمع نحموه ركبتمه تشمامخا ة وكمبراة ،
وكان سهلة لين العريكة مع الطفال ،ل يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السمملم ،وكممان
يشرك غيره في طعامه (( . 279
رجاحة عقله
ويتناول الباحث و المؤرخ – الفرنسي كاردفو ) ( 1933-1872جانب بساطة الرسول ولين
عريكته وسهولة خلقه مقرونا ة برجاحة العقل واتزان التفكير فيقول في كتابه ":العرب " :
))ومن المعروف عن _محمد_ أنه مع أميتمه كمان أرجمح النماس عقلة ،وأفضملهم رأيما ة ،دائمم
البشر ،مطيل الصمت ،لين الجانب ،سهل الخلق ،يكثر الذكر ويقل اللغو ،يستوي عنده في الحق
القريب والبعيد ،والقوي والضعيف ،يحب المساكين ،ل يحقر فقيراة لفقره ،ول يهاب ملكا ة لملكه ،
يؤلف أصحابه ول ينفرهممم « ويسمماير مممن جالسممه أو قمماومه ،ول يحيممد عممن صممافحه حممتى يكممون
الرجل هو المنصرف ،يجلس على الرض ،ويخصف النعل ،ويرقع الثوب (( . 280
إذ رقة قلب رسول ا و ، مشهودة له في س يرته الحياتي ة ،وك ان ف ؤاده يتفط ر حزن ا ة عل ى
إخوانه في النسانية للفساد الواقعين به " ،والقرآن الكريم يشهد على ذلك حين يقممول ولعلممك بمماخع
نفسك إل يكونوا مؤمنين ) (26/3ولقد عني عناية بالغة بمصلحة أتباعه وخيرهم " .
ويتناول المفكر النكليزي توماس كارليل فمي كتمابه " :البطمال " جموانب ممن حيماة الرسمول
تظهر رقة قلبه ومحبته لصدقائه و رحمته ،وأنه كان أخا ة للنسانية جمعاء ،يقول :
)) وكانت آ خر كلماته تسبيحا ة وصلة ،صوت فؤاد يهم بين الرجمماء والخمموف أن يصممعد إلممى
ربه .ول تحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله ،كلة بل زادته فضلة ،وقد يروى عنه مكرمات عالية
،منها قوله حين رزىء بغلمه » :العين تدمع ،والقلب يوجع ،ول نقول ما يسخط الرب « .ولما
استشهد موله زيد ) بن حارثمة ( فممي غممزوة " مؤتمة " قممال محمممد " :لقممد جاهممد زيممد فممي ام حممق
جهاده ،ولقد لقي ال اليوم فل بأس عليه " ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلممك يبكممي علممى جثممة أبيهمما ،
وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعا ة ! فقالت " :ممماذا أرى ؟ " ،قممال :
" صديق يبكي صديقه " .مثل هذه القوال وهمذه الفعممال ترينمما فمي محمممد أخمما النسممانية الرحيمم ،
أخانا جميعا ة الرؤوف الشفيق ،وابن أمنا الولى وأبينا الول ((. 281
و كممانت رقممة قلممب الرسممول و رحمتممه و خصمماله الخممرى المتسمممة بالنسممانية تنطبممق علممى
279وليم موير :حياة محمد )نقل عن كتاب "باطل الباطال" ،عبد الرحمن عزاما ،ص .(45-44
280كادفور :العرب .
281توماس كارليلي :الباطال ،ص .85-84
142
مصداقية قوله » :الخلق كلهم عيال ال « ؟ يقول جان ليك في كتابه " :العرب " :
))ما أجمل ما قال المعلم العظيممم ) محمممد ) (الخلمق كلهمم عيمال المم وأحمب الخلممق إلممى المم
أنفعهم لعياله (( . 282
محبة أصدقاءه
أما الباحث السلمي مولنا محمد علي فيتحدث عن جوانب الرحمة في حياة الرسممول ومحبتممه
أصدقاءه ،يقول :
)) وكان الرسول يحب أصحابه حبا ة جما ة .وكان إذا ما صافح أحداة منهم لم يسحب يممده إل بعممد
أن يسحبها صاحبه .وكان ل يلقى الناس إل بوجه باسم .وفي رواية عن جرير بن عبممد امم أنممه لممم
يمر النبي إل وعلى وجهه ابتسامة .وكان في بعممض الحيممان يمممازحا أصممحابه ويممداعبهم مممداعبات
بريئة .وكان يتحدث إليهم تاركا ة نفسه على سجيتا غير مصطنع أيما تحفظ قد يوقع فممي نفوسممهم أنممه
أسمى منهم مقاما ة ، . .ولم يكن ليمتدحا أو يثني على نفسه البتة .وكان يحمل أولد أصحابه بين يديه
ويحتضنهم .وكانوا يوسخون ملبسه في بعض الحيان ،وكممان أيممما مسممحة مممن السممتياء لممم تكممن
لتطيف بوجهه .وكان يكره الغتياب ويحظممر علممى زائريممه أن يممذموا أحممداة مممن أصممحابه ،إذ كممان
_كما قال _ حسن الظن بهم جميعا ة .وكممان يبممدأ أصممحابه إذا لقيممم ،بالسمملم ،ويبممدأهم بالمصممافحة
أيضا ة .وكان يناديهم أحيانا بأسماء التحبب تعبيراة عن مممودته لهممم .وكممان ل يصممادقه أحممد منهممم إل
رعى صداقته وقدرها حق قدرها .وكان أبو بكر خليله وصممفيه حممتى اللحظممة الخيممرة .وكممان مممن
دأب الرسول أن يتذكر _في تأثر غض _ وفاة خديجة وإخلصها ،حتى بعد انقضاء سنوات طويلممة
على وفاتها .وكان زيد ،عبده المعتق ،شديد التعلق به إلممى حممد جعلممه يممؤثر البقمماء فممي كنفممه علممى
الذهاب مع أبيه إلى مسقط رأسه .وكممان يتغاضممى عمن منمماحي الضمعف عنمد النمماس وليلممح إليهمما
مجرد إلماحا .وحتى إذا وقف في المسلمين خطيبا ة تحدث عن الوسيلة إلى التخلص مممن عيممب معيممن
من غير أن يدع أيما امرىء يشعر أن الرسول يشير إليه . 283 (( ،
رحمته بالعداء
والحديث عن سماحة الرسول ومحبته أصدقاءه ،ل بد أن يقود إلى موقف الرسول من العداء
. .فالرحمة والسماحة هما سمتان طبيعيتان في جبلته تبرزان فممي تعممامله مممع أصممدقائه أو أعممدائه .
يقول مولنا محمد على :
)) وسماحة الرسول نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم .فقد كان عبد ال بممن أبممي عممدواة
للسلم ،وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط ليقاع الذى بالممدين الجديممد ،محرضمما ة المكييممن
واليهود تحريضا ة موصولة على سحق المسلمين .ومع ذلك فيوم توفي عبد ا دعا الرسممول ربممه أن
يغفر له ،بل لقد قدم رداءه إلى أهله كي يكفنوه به .والمكيون الذين أخضعوه وأصحابه ،دائما ة وأبداة
،لشد التعذيب بربرية منحهم عفواة عاما ة .وفي إمكان المرء أن يخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح
دنيوي النزعة أن يعاملهم بها .ولكن صفح الرسول كان ل يعرف حدوداة .فقد غفر لهم ثلثممة عشممر
عاما ة من الضطهاد والتآمر .وكثيراة ما أطلق سراحا السرى في سماحة بالغة ،رغم أن عددهم بلغ
في بعض الحيان ستة آلف أسير .وفي رواية عن عائشة أنه لم ينتقم في أيممما يمموم مممن اليممام مممن
امرىء أساء إليه .صحيح أنه أنزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نممادرة جممداة ،وفممي فممترات جممد
متباعدة .ولكن تلك الحالت كانت تطوى كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجممدي
في تقويمهم وإصلحهم .والحق أن ترك أمثال هؤلء المجرمين سممالمين غممانمين كممان خليقمما ة بممه أن
يني استحسان الذى والتشجيع عليه .والرسول لم يلجا ة إلى العقوبة قط حيثما كان ثمة مجممال لنجمماحا
سياسة الصفح كرادع إن لم نقل كإجراء إصلحي .ولقد أسبغ عفوه على أتباع الديان جميعا ة _يهود
،ونصارى ،وؤثنيين ،وغيرهم _ إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب (( . 284
الرحمة وأ العنف
غير أن موقف الرسول من العداء ل بد أن يقود عمليمما ة ،إلممى مناقشممة المواقممف الممتي تفممرض
على القائد فرضا ة فتدفعه إلى الشدة الممتي يراهمما البعممض قسمموة وعنفمما ة . . ،فالرسممالة السمملمية هممذه
النبتة التي نشأت في مناخ عدائي ل يمكن أن تظهر كدوحة جبارة دون أن تكون على مواقممف جديممة
في مواجهة العنف المضاد ،في إطار المجابهة بين قوتين أو أحيانا ة القيام بأعمال رادعة تمنممع تممآمر
العداء و تزيل أخطارهم المستقبلية ،يقول توماس كارليل :
)) ولم تخل الشعوب الشديدة التي وقعت له مع العممراب مممن مشمماهد قسمموة ،ولكنهمما لممم تخممل
كذلك من دلئل رحمة وكرم وغفران .وكان محمد ل يعتذر من الولى ول يفتخر بالثانيممة .إذ كممان
يراها من وحى وجدانه وأوامر شعوره ،ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ول شعوره بالظنين ((. 285
ومن العجب أن بعض المستشرقين الحاقدين ألصقوا بالرسول تهمة القسوة والجبن ..فكمان أن
انبرى من صفوف رجالتهم من عرفوا حقيقة الخلق المحمدي ،وطبيعة الرسالة السمملمية السمممحة
ليدافعوا عن الرسول ،وينافحوا عن الرسالة ،مظهرين بطلن ما نفثتممه أقلم الحاقممدين ،ومممن بيممن
أولئك المنصفين الذين قدروا الرسول حمق قمدره الممؤرخ المستشممرق الفرنسممي سميديو المذي أعطممى
الحضارة السلمية حقها ،يقول :
))من التجني على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكتاب إلى محمد القسوة والجبن .فقد
نسي هؤلء أن محمداة لم يأل جهداة في إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التي كانت ذات حظوة لدى
العرب ،كحظوة المبارزات بأوروبة فيها مضى .وكأن أولئك الكتاب لممم يقممرأوا آيممات القممرآن الممتي
قضى محمد فيها على عادة الوأد الفظيعة .وكأنهم لم يفكروا في العفو الكريم الذي أنعم بممه علممى أل
أعدائه بعد فتح مكة ،ول في الرحمة التي حبا بها ،كثيراة من القبائممل عنممد ممارسممة قواعممد الحممرب
الشاقة ،ول إلى ما أبداه من أسف على بعض المم الشديدة ،وكأنهم لم يبصروا أن المة أم القبائممل
العربية كانت تعد النتقام أمراة واجبا ة وأنها ترى من حق كممل مخلممص أن يقتممل مممن غيممر عقمماب مممن
يكون خطراة عليها ذات يوم . . .وكأنهم لم يعلممموا أن محمممداة لممم يسممئ ،اسممتعمال ممما اتفممق لممه مممن
السلطان العظيم ،قضاء لشهوة القسوة الدنيئة ،وأنه لم يأل جهداة _في الغالب _ في تقويم من يجور
من أصحابه ،والكل يعلم أنه رفض _بعد غزوة بدر_ رأي عمممر بممن الخطمماب فممي قتممل السممرى ،
وأنه عندما حل وقت مجازاة بني قريظة ترك الحكم في مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ ،وأنه
صفح عن قاتل عمه حمزة ،وأنه لم يرفض _قط _ ما طلب إليه من اللطف والسماحا (( . 286
)) إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات واللوف . .وقد كممان المئممات واللمموف
الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضممون لسمميوف المشممركين ول يعرضممون أحممداة لسمميوفهم ،وكممانوا
يلقون عنتا ة ول يصيبون أحداة بعنت ،وكانوا يخرج ون ممن ديمارهم ليماذاة بأنفسمهم وأبنمائهم ممن كيمد
الكائدين ونقمة الناقمين ،ول يخرجون أحداة من داره .
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا ة من النبي العزل المفرد بيممن قممومه الغاضممبين عليممه ،بممل
أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد القوياء المتحكمين ،ولما تكاثروا وتناصروا حملوا
السيف ليدفعوا الذى ،ويبطلوا الرهاب والوعيمد ،ولمم يحملموه ليبمدأوا أحمداة بعمدوان أو يسمتطيلوا
على الناس بالسلطان .
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم ولم تكن كلها إل حروب دفاع وامتناع .
أما الغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين ،فلو كان هو باعثا ة لليمان ،لكان أحرى
الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية هم فسقة المشممركين وفجرتهممم ،وأصممحاب الممترف والممثروة
فيهم ،ولكن طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعممة .فمإن حيماة النعيممم بعممد
الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين ،بل لعلهمما أشممهي إلممى الأوليممن وأدنممى ،ولعلهممم
أحرص عليها وأحن ،لن الحرمان بعد التذوق والسممتمرار أصممعب مممن حرمممان مممن لممم يممذق ولممم
يتغير عليه حال .
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر . . .ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من
سإيديو ) :نقل عن كتاب السإلما باين النصاف و الجحود ،ص .(134 286
145
و بعد أن وقفنا عند منافحة المفكر العربي عباس محمود العقاد عن الرسول ونفممي ممما جمماء بممه
المستشممرقون مممن اتهامممات مغرضممة ،ونظممرات مجحفممة ،وأقاويممل باطلممة نقممف عنممد رد البمماحث
النكليزي توماس كارليل على تلك الفرية المتي تمذهب إلممى أن السمملم لمم ينتشممر إل بحمد السميف ،
يقول هذا الكاتب المنصف :
)) ولقد قيل كثيراة في شأن نشر محمد دينه بالسيف ،فإذا جعممل النمماس ذلممك دليلة علممى كممذبه ،
فشد ما أخطأوا وجاروا ،فهم يقولون ما كان الدين لينتشر ل ول السميف ،ولكمن مما ه و المذي أوجمد
السيف ؟ هو قوة ذلك الدين ،وأنه حق .والرأي الجديد أول ما ينشممأ يكممون فممي رأس رجممل واحممد ،
فالذي يعتقده هو فرد _فرد ضد العالم أجمع _ ،فإذا تناول هذا الفرد سيفا ة وقام في وجممه الممدنيا فقلممما
والله يضيع .وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال ،أو لم تممروا
أن النصرانية كانت ل تأنف أن تستخدم السيف أحيانا ة ،وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسممون ،
وأنا ل أحفل كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أو بأية آلة أخرى ،فلنممدع الحقممائق تنشممر سمملطانها
بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ،لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرهما فإنهما لمن تمزم إل
ما كان يستحق أن يهزم ،وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خيممر منهمما ،بممل ممما هممو أحممط
وأدنى .فإنها حرب ل حكم فيها إل الطبيعة ذاتها ،ونعم الحكم ما أعدل وما أقسط ،وما كان أعمممق
جذراة في وأذهب أعراقا ة في الطبيعة ،فذلك هو الذي ترونه بعد الهرج و المرج والضوضاء والجلبة
ناميا ة زاكيا ة وحده .
أقول الطبيعة أعدل حكم ،بلى ما أعدل وما أعقل وما أرحم وما أحلم ،إنك تأخذ حبمموب القمممح
لتجعلها في بطن الرض ،وربما كانت هذه الحبوب مخلوطة بقشور و تبن وقمامة وتراب ،وسممائر
أصناف القذاء ،ولكن ل بأس عليك من ذلك ،وألممق الحبمموب بجميممع ممما يخالطهمما مممن القممذى فممي
جوف الرض العادلة البارة فإنها ل تعطيك إل قمحا ة خالصا ة نقيا ة ،فأما القذى فإنها تبلعه في سممكون
و تدفنه ،و لنذكر عنه كلمة ،وما هي إل برهة حتى نرى القمح زاكيا ة يهتز كأنه سممبائك البريممز ،
والرض الكريمة قد طوت كشحا ة على القذاء وأغضت ،بل إنها حولتها كمذلك إلمى أشمياء نافعمة ،
ولم تشك منها شممجواة ول نصمبا ة .وهكمذا الطبيعمة فممي جميممع شممؤونها ،فهممي حممق ل باطمل ،وهمي
عظيمة وعادلة ورحيمة حنون ،وهي ل تشترط في الشيء ،إل أن يكون صادق اللباب حر الصميم
،فإذا كان كذلك حمته وحرسته ،أو كان غير ذلك لم تحمه ولمم تحرسممه ،فمترى لكمل شميء تحميمه
الطبيعة روحا ة من الحق ،أليس شأن حبوب القمح هممذه والطبيعممة هممو ،وا أسممفاه ،شممأن كممل حقيقممة
كبرى جاءت إلى هذه الدنيا أو تجيء ،فيها بعد ؟ أعني أن الحقيقة مزيج مممن حممق وباطممل نممور فممي
ظلم ،وتجيئنا الحقائق في أثواب من القضايا المنطقية و نظريات علمية من الكائنات ،ل يمكممن أن
تكون تامة صحيحة صائبة ،ثم ل بد من أن يجيء يوم يظهر فيه نقصها وخطأها وجوهرها فتممموت
وتذهب ،نعم يموت ويذهب جسم كل حقيقة ،ولكن الممروحا تبقممى أبممداة ،ويتخممذ ثوبمما ة أطهممر ،وبممدنا ة
أشرف ،وما يزال يتنقل من الثواب والبدان ،من حسن إلى أحسن وجيد إلى أجود ،سنة الطبيعممة
التي ل تتبدل .نعم إن جوهر الحقيقة الكريم حي ل يموت ،وإنما النقطة الهامة والمر الوحيد الممذي
يعرض في محكمة الطبيعة ومجلس قضائها هو هل هذا الروحا حق وصمموت مممن أعممماق الطبيعممة ؟
وليس بهام عند الطبيعة ما نسميه نقاء الشيء ،أو عممدم نقممائه ،وليممس هممو بالسممؤال النهممائي ،ليممس
عباس محمود العقاد :عبقرية محمد ص .36-35 287
146
المر الهام عند الطبيعة حينا تقدم اليها أنت لتصدر حكمها فيك ،هو أفيك أقذار وأكدار أم ل؟ وإنممما
هو أفيك جوهر وروحا صدق أم ل؟ أو بعبارة تشبيية ليس السؤال الهام عند الطبيعة هو أفيممك قشممور
أم ل؟ بل أفيك قمح ؟ أيقول بعض الناس إنه نقي ،إنى أقول له " :نعم نقي " نقى جداة ولكنك قشر ،
ولكنك باطل وأكذوبة وزور وثوب بل روحا ،ومجرد اصطلحا وعادة ،وممما امتممد بينممك وبيممن سممر
الكمون وقلممب الوجممود سممبب ول صمملة ،والواقممع أنممك ل نقممي ول غيممر نقممي ،وإنممما أنممت ل شمميء
والطبيعة ل تعرفك وإنها منك براء (( . 288
غير أننا فيها يتعلق بفممي الرهمماب . .عممن الخلممق المحمممدي ،أن النضممال البطممولي النسمماني
للرسول إن دل على شيء فعلى عظمة النبي وقوة شخصيته وصبره العظيم .فما أبعده عن الضمعف
والجبن والقسوة والرهاب . .لقد كان قوي الكبير فممي جميممع مممواقفه ،جمممع الرحمممة إلممى الحممزم ،
واللين إلى الثبات ،حتى تمكن أن ينشر رسالة ربه التي صدع بها ،يقول الكاتب ميخائيل طعمة في
مقالة له نشرتها جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا قبل الحتلل الصهيوفي :
)) لو لم يكئ خلق محمد عظيما لنقلب عليه محيطه ،ولو لم يكن خلق محمد عظيما ة لضعف
أمام ما اعترضه من العقبات ،ولرأى نفسه مضطراة إلى مجاراة محيطه ،ولما قوي على إحداث ما
أوجده من النقلب العظيم ،فبدل الضلل بالهدى ،والجهل بالعلم ،والهمجية بالمدنية (( . 289
العفو عد المقدرة
ويقودنإ مبعث رحمة الرسول بالاعداء ،و نفي سمة الرهاب عن الخلق المحمدي ،إلى تنمماول
جانب عملي في أخلق الرسول ،وهو عفوه عن أعدائه عند المقدرة .
يقول المستشرق البريطاني لين بول في مؤلفه " :درسالة في تاريخ العرب ":
)) إن ما تصف به ) محمد ( من الصبر واحتمال المكاره ،والعمو عنمد المقمدرة ،لبرهمان لنما
واضح على أنه كان صادقآ إذ يقمول :ل اكمراه فممي الممدين ) ( 2/256فمحم د ذو يقي ن راسمخ
وقوة عزم هاثله (( . 290
ويتناول الكاتب السلمي مولنا محمد علي مسألة العفو فممي أخلق الرسممول ،ممما تشممكله مممن
جانب هام في شخصيته ،يقول :
)) وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الشعاع فممي شخصممية الرسممول .لقممد وجممدت فيمه تجسممدها
الكامل .ولقد أوصاه القرأن الكريم بم) أن يأخذ بالعفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين (.
ولقد جاءه تفسممير ذلممك مممن لممدنه تعممالى .علممى هممذا النحممو ) :صممل مممن قطعممك ،وأعممط مممن
حرمك ،واغفر لمن أساء إليك ( .والحق أن هذه الوصية ) تبق عند الرسول حرفمما ة ميتمما ة أو موعظممة
توماس كارليل :الباطال ،ص .77-76 288
رخيصة .لقد عاش وفقها حتى في أحرج المواقف .وفي معركممة أحممد ،عنممدما جممرحا وسممقط علممى
الرض ،سأله أحد الصحابة أن يستنزل اللعنة على العدو ،فأجاب ) :أنا لم أبعمث لعانما ة للعمالمين ،
ولكن بعثت هاديا ورحمة . .اللهم اهممد قممومي فممإنهم ل يعلمممون ( .وذات مممرة جممذبه بممدوي طارحمما ة
دثاره حول عنقه ،وحين سئل الرسول لم لم يعامله بالمثل أجاب قائلة :إنه ل يرد على الشممر بالشممر
أبداة .وليس من ريب في أن ما أظهره عند فتح مكة من عفو كريم شيء يعز نظييه في تاريخ العممالم
كله .كان المشركون قد بذلوا كل جهد يمكن تصوره للقضاء على السلم واغتيال الرسول .ولكنممه
لم يوجه إليهم أي كلمة تعنيف على هذه الجرائم الرهيبممة كلهمما .لقممد أسممبغ عفمموه الجزيممل حممق علممى
أعداء من مثل إبي سفيان الذي لم يدخر وسعا ة في العمل على إيذاء السلم ،وعلى زوجته هند الممتي
لم تتورع عن مضغ كبد حمزة على نحو بربري شنيع ((. 291
أما الباحث النكليزي ولير موير فقد تحدث عن معاملة رسول ا ،أعداءه تلمك المعاملمة المتي
اتسمت بالرحمة والعفو ،حين فتحه مكة ،يقول :
)) وعامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حممتى مممع أهممل مكممة ،وهممم الممذين ناصممبوه العممداء
سممنين طمموالة ،وامتنعمموا مممن الممدخول فممي طمماعته ،كممما ظهممر حلمممه وصممفحه فممي حممالتي الظفممر
والنتصار ،وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له (( . 292
يقول مارسيل بوازار في كتابه " :إنسانية السلم " موضمحا ة نضمال الرسمول ومنمافحته ع ن
المجتمع السلمي الجنيني ،ورحمته وعفوه عند المقدرة :
)) وبالرغم من قتاليته ومنافحته ،فقد كان يعفو عنا المقدرة ،لكنه لم يكن ليلين أو يتسمماحا مممع
أعداء الدين .ويبدو أن مزايا النبي الثلث ،الورع والقتالية والعفو عند المقدرة ،قد طبعت المجتمع
السلمي في إبان قيامه ،وجسدت المناخ الروحي للسلم التباعي ،ول تنفك الحمماديث الشممريفة
والسيرة النبوية تصور في الذهان كرم الرسول و تواضممعه ،كممما تصممور اسممتقامته ونقمماءه ولطفممه
وحلمه .وكما يظهره التاريخ قائداة عظيما ة ملء ،قلبمه الرأفمة ،يصموره كمذلك رجمل دول ة صمريحا ة
قوي الشكيمة )ديمقراطيةا( ((. 293
» ))ولن رجلة ماضي العزم ل يؤخر عمل اليمموم إلممى غممد .وطالممما كممان يممذكر يمموم
توك « إذ أبى رجاله السير إلى مموطن القتمال ،واحتجموا بمأنه أوان الحصميد وبمالحر ،فقمال لهمم :
الحصيد؟ إنه ل يلبث إل يوما ة .فماذا تتزودون للخرة ؟ وامحر؟ نعم إنه حر ،ولكن جهنم أشد حممراة
.وربما خرج بعض كلمه تهكما ة وسخرية .إذ يقول للكفار : ،سمتجزون يموم القياممة ع ن أعممالكم
ويوزن لكم الجزاء ،ثم ل تبخسون مثقال ذرة (( . 294
)) عرف محممد بخلموص النيمة و الملطف ة و انصمافه فمي الحكمم ونزاهمة التعمبير عمن الفكمر
والتحقق ،وبالجملة كان محمد أزكى و أدين وأرحم عرب عصره ،وأشدهم حفاظا على الممذمام فقممد
وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل ،وأسس لهم دولة زمنية ودينية ل تزال إلى اليوم(( .296
الصدق وأالمانه
وعرف الرسول منممذ نعومممة أظفمماره أنممه الصممادق الميممن ،فكممانت سمميرته مفعمممة بالسممتقامة
مشحونة بالخلص . . .
يقول المؤرخ الفرنسي لتيس ) (1909-1847فممي مقالممة لمه نشممرتها مجلممة الهلل المصممرية
عن أمانة الرسول وصدقه في نضاله في سبيل نشر الرسالة ،ما جعله يحقق معجزة إشادة أول دولة
إسلمية :
)) إن محمدا كان مشهورا بالصدق منذ صباه ،حتى كان يلقب بالمين ،وما زال يسهر لحياة
دينه والعرب حتى مات ،وما مات حتى أسس دينا ة وأقام دولة ((. 297
أما المستشرق الفرنسي إميل برينغهام ) (1924-1857فقد حمماول أن يرسممم صمورة للرسمول
بالقلم ،إذ تقصى سائر مراحل حياته ليس في الكتب وحسب بل من روحا الحضارة التي غرسها فممي
نفوس أتباعه ،فكتب يقول في كتابه » :الشرق والسلم « :
)) إنني أردت أن أصور محمداة صورة مطابقة للواقع على قدر المكان كما فهمتها كما قرأتهمما
عنه في الكتب ،وكما رأيتها في أرواحا أتباعه الحية ،إلى أن قال :فنشا ة معتمداة على نفسه ،يرجممح
اليها في الكبيرة والصغيرة ،ويجهد ويعمل لحسب حياته من عرق جبينه ،إذ لم يكن ذا ثممروة تكفيممه
مؤنة السعي ،فكانت ثروته عند نشأته ،صدقه وأمانته ونزاهته وإخلصه ،وتلك لعمر اللممه الكممبير
الثروات وأغلها ،تلك كانت صفأته محمد في وسط منحل ل يعرف أخلقا ة ولنبلا ة ((. 298
ويتحدث الكاتب النكليزي توماس كارليل عن طبع الرسول المفكر وسداد أخلقه ويقدم صورة
قلمية عنه ،مظهراة مزاياه الخلقية والخلقية « التي ينبع منها النبل والشهامة والصدق ،يقول :
))ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شابا ة مفكراة « وقممد سممماه رفقمماؤه الميممن ،أي رجممل الصممدق
والوفاء ،الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره « وقد لحظوا أن ما من كلمة تخرج مممن فيممه إل وفيهمما
حكمة بليغة ،وإني لعرف عنه أنه كان كثير الصمت ،يسكت حيممث ل ممموجب للكلم ،فممإذا نطممق
فما شئت من لب وفضل وإخلص وحكمة ،ل يتناول غرضا ة فيتركه إل وقد أنممار شممبهته ،وكشممف
ظلمته ،وأبان حجته ،واستثار دفينته ،وهكذا يكون الكلم وإل فل .
وقد رأيناه طول حياته رجلة راسخ المبدأ ،صارم العزم ،بعيد الهممم ،كريممما ة بممراة رؤوفمما ة نقيمما ة
فاضلة حمراة ،رجلة شمديد الجممد مخلصما ة ،وهمو ممع ذلممك سممهل الجممانب ليمن العريكممة ،جممم البشممر
والطلقة ،حميد المعشر حلو اليناس ،بل ربما مازحا وداعب .وكان علممى العممموم تضمميء وجهممه
ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق ،لن من الناس من تكون ابتسامته كاذبممة ككممذب أعممماله وأحممواله ،
هؤلء ل يستطيعون أن يبتسوا .وكان محمد جميل الوجه ،وضيء الطلعة ،حسممن القامممة ،زاهممي
اللون ،له عينان سوداوان تللن ،وإنى لحب في جبينه ذلك العممرق الممذي كممان ينتفممخ ويسممود فممي
حال غضبه )كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمممراء لوالترسممكوت ( ،وكممان هممذا العممرق
خصيصة في نبي هاشم ،ولكنه كان أبين في محمد وأظهر .نعم ،لقد كمان همذا الرجمل حماد الطبمع
ناري المزاج ،ولكنه كان عادلة صادق النية ،كان ذكى اللب شهم الفؤاد ،لوذعيا ة كأنممما بيممن جنممبيه
مصابيح كل ليل بهيم ممتلئا ناراة ونوراة ،رجل عظيما بفطرته ،لممم تثقفممه مدرسممة ول هممذبه معلممم ،
وهو غني عن ذلك كالشوكة استغنت عن التنقيح ،فأدى عمله في الحياة وحده في أعممماق الصممحراء
((. 299
ولكن رغم ما اتصف به النبي من صفات الكمال الخلقي ،كان هناك عدد من المتشرقين بممدافع
التعصب العمى والحقد الطائفي الممدفين الممذي همو وليممد الحممروب الصممليبية ،دأبهممم تشممويه صممورة
الرسول و تروى الحقائق التاريخية . .فنهد لهم المستشرق الفرنسي ميسمر للرد عليهممم مسممفها تلممك
القاويل ،داحضا ة تلك التخرصات في كتابه » :العرب في عهد محمد « ،وذهممب إلممى الممرأي بممأن
كل من ينكر صدق محمد هو كاذب سفيه ل يتحدث بمموحى مممن ضمممره ونعممما ذلممك المنصممف الممذي
يقول :
)) ان من تسافه و انكر صدق محمد فقد بت بهممذه المسممألة دون ان يحلهمما ،و حمممل ضممميره
مسؤولية المكابرة ،و رمى بنفسه الى نهاية سيئة ،إذ ليس من وحي الضمير الحر ما يقمارفه أولئممك
المغرضون على محمد الذي اتصف بكل صفات الكمال (( . 300
))مهما احتفل المسلمون بعيد ميلد محمد فهو قليل ،لنه جاءهم بدين هو فوق الديممان ،وهممو
في نفسه كبير ،وفي أخلقه عظيم ،وفي شريعته سيد النبياء ،فعلى المنصفين أن يحتفلمموا بالممذكرى
عظماء التاريخ ،وفي طليعتهم محمد الرسول العربي القائد العلى لتحقيق شريعة ا على الرض ،
و تركيزها في صدور الناس (( . 301
ويغان مكسيم :نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(144 301
151
إن تعالير القممرآن قممد نفممذت ومورسممت خلل حيمماة محمممد الممذي _سممواء فممي أيممام تحملممه اللممم
وا.ضطهاد ،أو في زمن انتصاره ونجاحه _ أظهر أشرف الصفات الخلقية التي ل يتسممنى لمخلمموق
آخر إظهارها .
فكل صفات الصبر والثبات في عصره كانت و ترى أثناء الثلث عشرة سممنة الممتي تألمهمما فممي
مجاهداته الولى بمكة .ولم يشعر في كل زمان هذا الجهاد بأى تزعممزع فممي الثقممة بممال ،وأتممم كممل
واجباته بشمم و حمية.
كان مثابراة ،ل يخشى اعداءه لنه كان يعلم بانه مكلمف بهمذه الممأمورة م ن قبمل ام .وممن
كلفه بهذا العمل لن يتخل عنه ..
وقد أثارت تلك الشجاعة التي ل تعرف الجفول _تلك الشجاعة التي كانت حقا ة إحممدى ميزاتممه
وأوصافه العظيمة _ إعجاب واحترام الكافرين ،وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله . . .ومع ذلك فقد
تنبهت مشاعرنا ،وازداد إعجابنا به بعد ذلمك فمي حيماته الخيمرة ،أيمام انتصماره بالمديي ة ،عنمدما
كانت له القوة والقدرة على النتقام ،واستطاعته الخذ بالثأر ولم يفعل ،بل عفا عن كل أعدائه .
العفو والحسان والشجاعة ،ومثل هاتيك الصفات ،كانت ترى منه في كمل تلمك الممدة ،حمتى
إن عدداة عظيما ة من الكافرين اهتدوا إلى الاسلم عند رؤية ذلك .
عفا بل قيد ول شرط عن كل هؤلء الذين اضطهدوه وعممذبوه ،آوى إليممه كممل الممذين كممانوا قممد
نفوه من مكة ،وأغنى فقراءهم وعفا عن ألممد أعممدائه ،عنممدما كممانت حيمماتهم فممي قبضممة يممده وتحممت
رحمته ! ...
تلك الخلق الربانية التي أظهرها النبي الكريمم ،اقنعت العرب بأن حائزها يجب أن ل يكون
إل من لدن ا ،وأن يكون رجلة على الصراط المستقم حقمما ة ،وكراهيتهممم المتأصمملة فممي نفوسممهم ،
حولتها تلك الخلق الشريفة إلى محبة وصداقة متينة .
ونحممن نعتممبر أن نممبي بلد العممرب الكريممم ،ذو أخلق متينممة ،وشخصممية حقيقيممة ،وزنممت
واختبرت في كل خطوة من خطا حياته ولم ير فيها أقل نقص قط .
وبما أننا في احتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطمموات الحيمماة ،فحيمماة النممبي المقممدس
تسد تلك الحاجة .حياة محمد كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل الراقي ،والسخاء والكرم ،والشجاعة
والقدام ،والصبر والحلم ،والوداعة والعفو ،وباقي الخلق الجوهرية التي تكون النسانية .
نرى ذلك فيها بألوان وضاءة . .خذ أي وجه من وجوه الداب تتأكممد بأنمك تجمده موضمحا ة فممي
إحدى حوادث حياته .
152
ومحمد وصل إلى أعظم قوة ،وأتى إليه مقاوموه ووجدوا منه شفقة ل تجارى ،وكان ذلك سببا ة
في هدايتهم (( !... 302
))وباختصار فإنه مهما ندرس حياة النبي محمد نجدها على ال دوام عب ارة عممن كتلممة فضممائل
مجسمة مع نقاء سريرته وخلق عظيم ،وستبقى تلك الفضائل عديمة النظير على الطلق فممي جميممع
الزمان :في الماضي وفي الحاضر والمستقبل (( . 303
اللورد هيدلي ) :نقل عن اتيين دينيه :محمد رسإول ا ،ص .(27-25 302
القسم الثالث
الباب الوأل
صدق الرسول وأ صحة الرسالة
قيــام الدوألــة الســلمية وأ بــدء الصــراع الــديني بيــن
المسيحية وأ السلم
فمنذ أن صدع الرسول الكريم برسالة السلم ،وشممرع ينشممر الممدعوة ،وقعممت المجابهممة ممما بيممن
الدولة السلمية والدولة المسيحية البيزنطية . . . .وتممرك منمماخ الصممراع هممذا أثممره علممى المرحلممة
اللحقة في وقوع المجابهة المباشرة في أرض السلم إبان الحروب الصليبية ،وامتدت مممع ظهممور
أوروبة البرجوازية ،وانتشار حركة الستشممراق الممتي كممانت بممادىء ذي بممدء جممزءاة مممن المشممروع
الستعماري الغربي . . .ومن ثم وقوع الشرق في براثن الغرب ،كما خلق مناخ عدم الثقة ممما بيممن
الشرق المسلم والغرب المسيحي ،وما زالت آثاره ملموسة حتى اليوم .
154
ورغممم مواقممف السمملم اليجازيممة مممن الشممعوب والمعتقممدات المسمميحية ،فممإن السمملم ورسممول
السلم ظلة موضع الهجوم الشرس والعنيف .ويبسط المستشرق النكليزي مونتجمري وات فكرته
بدراسة الحقاد المسيحية الموجهة ضد السلم بقوله :
))ليس بين كبار رجال العالم رجل كثر شانئوه كمحمد .ومن الصعب فهم السبب الممذي دعمما إلممى
ذلك .فلقد كان السلم خلل قرون عدة العدو الكبير للمسيحية ،ولم تكن المسميحية ،فمي الحقيقمة ،
على اتصال مباشر بأية دولة أخرى منظمة توازي السلم في القمموة .فلقممد همموجمت المبراطوريممة
البيزنطية بعد أن فقدت مقاطعاتها فممي سممورية ومصممر فممي آسممية الصممغرى وافريقيممة ،بينممما كممانت
أوروبة الغربية مهددة في أسبانية وصقلية .
وأخذت الدعاية الكممبرى فممي العصممور الوسممطى ،حممتى قبممل أن توحممد الحممرب الصممليبية اهتمممام
المسيحيين حول طرد العمرب ممن الرض المقدسممة ،تعمممل علمى إقممرار فكممرة )العمدو الكممبر( فممي
الذهان ،ولو كانت تلك الدعاية خالية من كل موضوعية .
وأصبح محمد "ماهومد " ) أميو الظلمات ( حتى إذا ما حل القممرن الحممادي عشممر كممان للفكممار
الخرافية المتعلقة بالسلم والمسملمين والقائمممة فممي أذهماك الصمليبيين تمأثير يؤسمف لمه :فلقمد أنمذر
الصليبيون بمأن ينتظممروا أسممواة الممور مممن العممداء ،ولمما وجممدوا بيممن همؤلء العممداد كممثيراة مممن
المحاربين الفرسان شعروا بالريبة من السلطات الدينية المسيحية .ولهذا حمماول بطممرس الراهممب أن
يعالج هذا الوضع بإذاعة معلومات أصدق عن محمد والديانة التي يممدعو لهمما .وقممد حممدث فيممما بعممد
155
تطور كبير في هذا السبيل و لسيما منذ قرنين من الزمن ،وإن ظممل كممثير مممن الوهممام عالقمما ة فممي
الذهان (( .304
)) لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين السلم بطابع أسممود حالممك ،إممما جهلة وإممما
تعصبا ة ،إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمممد ودينممه ،فعنممدهم أن محمممداة كممان عممدواة
للمسيح .ولقد درست سيرة محمممد الرجممل العجيممب ،وفممي رأي أنممه بعيممد جممداة مممن أن يكممون عممدواة
للمسيح .إنما ينبغي أن يدعى منقذ البشرية ((. 305
))إن من أعظم الكبائر في نظر السلم ألشرك بالله ، . .وإن محمداة لم يدع لنفسه صممفة إلهيممة ،
وكثيراة ما صممرحا بممأنه بشممر يمموحى إليممه ،وأن السممبب فممي سممرعة انتشممار السمملم عممن غيممره مممن
الديان ،وهو عدم ادعاء النبي صفة إلهية ،وعدم دعوته إلى عبادة شخصه ،وكذلك تسممليم القممرآن
بصحة الديانات المنزلة من قبل (( . 306
بارنادشو ) نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ،ص .(107 305
وبممدوره يفنممد المستشممرق هنممري دي كاسممتري فممي كتممابه " :السمملم خممواطر وسممواخ " تهمممة
اللوهية عن محمد ،بقوله :
))وذهبوا إلى أن محمداة وضع دينه بادعائه اللوهية .ومن المستغرب قممولهم :إن محمممداة الممذي
هو عدو الصنام ومبيد الوثان ،كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب .بل لقد أغممرق
خيالهم في الضلل .فذهبوا إلى أبعد من ذلك .
وذهبوا إلى صورة "ماهومت" كانت تصنع من أنفس الحجار والمعادن بأحكم صنع وأدق إتقتان
(( . 307
)) ولقد أطلنا القول في تلك الضاليل لن تاريخ إسكندر المذكور لم يزلها ،ولنها تركممت أثممراة
في الذهان وصل إلى أهل هذه الأيام ،وتشبعت به أفكارهم في النبي وكتابه (( .
)) انه مما ل شك فيه أن وصف )محمد( بتلك الكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسممطى
عنه وعن ديانته ،قد خفت كثيراة في هذا العصر ،وصاروا ينشدون الحقيقة التاريخيممة عممن محمممد ،
وعن السلم الذي قلب وجه العالم ،وإن جماعة من المستشرقين يؤيمدون رسمالة محممد ،ويقول ون
إنه خاتم الرسل (( .308
هذا ،ووقف المستشرق السويري حنا دا قنبرت ) _ 1826مم ( 1912مواقف جميلة في دفمماعه
عن الرسول بعد دراسته الوثائق التاريخية لستنباط الحقائق الثابتة فيها يتعلق بمناق به ،فأكد في كتابه
" :محمد والسلم " ،عظمة الرسول :
)) إن ه كلمما ازداد البماحث تنقيبما ة فمي الحقمائق التاريخيمة الوثيقمة المصمادر فيهما يخمص الشممائل
المحمدية ،ازداد احتقاراة لعدائه الذين أشرعوا أسنة الطعن في محمد قبل أن يعرفره ،ونسبوا إليممه
ما ل يجوز أن ينسب إلى رجل حقير فضلة عن رجل كمحمممد الممذي يحممدثنا التاريممخ عنممه أنممه رجممل
عظم (( . 309
))لن اسم محمد معروفا ة في أوروبة في القرون الوسطى بأنه نبي ،وأنه خاتم النبيين ،وقمد جماء
ليتم التعاليم السابقة (( . 310
يقول الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتممابه " :محمممد فممي مكممة" ،دارسمما ة صممورة المموعي
النبوى عند محمد ،متطرق لثر كارليل على وعممي الغممرب وإدراكممه الحقيقممة المحمديممة ،ومواقممف
الكتاب الغربيين السابقة ،يقول :
)) منذ أن قام كارليل بدراسته عن محمد فمي كتممابه ) البطممال وعبمادة البطممل ( أدرك الغممرب أن
هناك أسبابا ة وجيهة للقتناع بصدق محمد .إذ أن عزيمته فمي تحممل الضمطهاد ممن أجمل عقيمدته ،
والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به ،وكان لهم بمثابة القائد ،وأخيممراة عظمممة عملممه فممي منجزاتممه
الخيرة ،كمل ذلمك يشمهد علمى اسمتقامته المتي ل تمتزعزع .فاتهمام محممد بمأنه )دجمال ( يمثير م ن
المشاكل أكثر مما يحل .ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حط من قدرها فمي الغمرب
كمحمد .فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسواة المور عن محمد ،وكلما ظهممر أي تفسممير
نقدي لواقعة من الوقائع ممكنا ة قبلوه (( . 311
ويتحدث مونتجمري وات في مكان آخر مفندةا التهامات التي وجهت إلى الرسول وجلها اتهامات
تمس ضمير أخلقه ،يقول :
))من الضروري في العالم الحديث حيث تتزايد التصالت الوثيقة بين المسيحين والمسلمين ،أن
يحاول كل منهما الوصول إلى نظرة موضوعية عن خلق محمد .فلقد كان التشهير الذي لقيه الكتاب
الوروبيين يتبعه غالبا ة تعظيم رومانطيقي لشخصيته ،وهمو تعظيمم قممام بمه غيرهمم ممن الوروبييمن
والمسلمين ،وهدف الدراسة التي تقوم بها أن تعمل على تكوين موقف واقعي من النتقادات المتعلقة
بالخلق ،وكان موضوعها محمداة وقد خلفتها لنا القرون الوسممطى .ة تممدور هممذه النتقممادات حممول
ثلث مسائل رئيسية :الخداع ،الشهوانية ،عدم الوفاء .
لقد نفي كارليل منذ أكثر من مئة سنة تهمة الخداع ،ومن ثم جعل العلماء يرفضونها أكثر فأكثر
،ومع ذلك ل تزال ،في بعض الحيان ،يتهم بها محمد .
وأقصى ما يصل إليه هذا إلرأي القول بأن محمداة لم يكمن يممؤمن بممما يموحى إليمه ،وأنمه لممم يتلمق
الوحى من مصدر خارجى عنه بل أنه ألف اليات عن قصد ثم أعلنها للناس بصورة خدع بها الناس
وجعلهم يتبعونه فضمن لنفسه بذلك من السلطة ما يرضي طموحه و حبه للمتعة.
ومثل هذه النظرة للمممور غيممر معقولممة .وذلممك لنهمما ل تفسممر لنمما بصممورة مرضممية لممماذا كممان
محمد ،في الفترة المكية ،مستعداة لتحمل جميع صنوف الحرمان ولماذا فاز باحترام رجممال شممديدي
الذكاء ذوى اخلق مستقيمة .
كما أن ذلك ل يجعلنا نفهم كيف نجح فممي تأسمميس ديانممة عالميمة أنجبممت رجممالة قداسممتهم واضممحة
للعيان ،ل يفسر كل ذلك بصورة مرضية إل إذا افترضنا صدق محمد أي أن نعتقد بأنه كان مقتنعمما ة
حقا ة بأن القرآن ليس ثمرة خياله بل أن كل ما نزل عليه كان من ا فهو بذلك حق (( . 312
يتابع مونتجمري وات قوله دارساة آراء الرسول ومواقفه و تفريقه بين ما هو وحي إلهي ،وما هو
آراؤه الخاصة ،بقوله :
)) ومهما كانت طريقته ،على كل حال ،فقد كانت لديه وسيلة ممما ،بممدون شممك ،لمعرفممة ممما إذا
كان الوحي الذي ينزل عليه هو من عند ا حقا ة .ويعني القول بأنه كان صادق ،إنه إذا كممان ينظممر
للكلم الذي يسمعه على أنه نازل من عد ا ،فذلك لنه كان يعتقد ذلك حقا ة ،و ل يخلط بينه وبيممن
أفكاره الشخصية .
ليست هناك أسباب كامنة لعتبار محمد دجالة بل هناك على العكس أسممباب قويممة تؤكممد صممدقه .
ونستطيع في مثل هذه الحالة الخاصة أن نبلغ درجة عالية من اليقين (( . 313
)) بقدر ما نرى صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصممحيحة ،
بقدر ما نرى من ضعف البرهان وسقوط الدلة لتأييد أقمموال الهجممو الشممديد « والطعممن القبيممح الممذي
اندفن على رأسه ،وانهار عليه من أفواه المغرضمين ،والمذين جهلموا حقيق ة محممد ومكمانته ،ذلمك
الرجل العظيم عند كل من درس صفاته العظيمة ،كيف ل وقد جاء بشرع ل يسعنا أن نتهمه فيممه ((
. 314
)) لقد أخطا ة من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر لنه لم يفهم مبدأه السممامي ،إن محمممداة جممدير
بالتقدير ،ومبدؤه حري بالتباع ،وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم ،وإن محمداة خير رجممل جمماء إلممى
العالم بدين الهدى والكمال ،كما أننا ل نرى أن الديانة السلمية بعيدة عن الديانة المسيحية (( . 315
ويتحممدث المسشممرق والممؤرخ الروسممي العلممة جممان ميكممائيليس ) ( 1791-1717فممي كتممابه
"العرب في آسية " باللهجة نفسها التي تكلمم بهما كمارل هينمرش بيكمر ،فمي دحمض مزاعمم الشمعوذة
والسحر التي ألصقها بالرسممول الستشممرقون المتعصممبون ،وشممدد علممى اهميممة الرسممالة الممتي حملهمما
للناس فكانت لصلحا النسانية ومتمشية وروحا المجتمعات في كل العصور ،يقول :
))لم يكن محمد نبي العرب المشعوذ ول الساحر ،كما اتهمه السفهاء في عهده ،وإنممما كممان رجل
ذا حنكة وإدارة وبطولة وقيادة وأخلق وعقيدة ،فلقد دعا لدينه بكمل صمفات الكممال ،وأتمى للعمرب
بما رفع فيه شأنهم ،ولم نعرف عن دينه إل ما يتلءم مع العصور مهما تطورت ،ومن يتهم محمداة
ودينه بخلف هذا فإنه ضال عن الطريقة المثلى ، .وحري بكل الشعوب أن تأخذ بتعاليمه (( . 316
يذكر الطباء أن المصمماب بالصممرع ،ل يفيممق منممه إل وقممد ذخممر عقلممه بأفكممار لمعممة ،وأنممه ل
يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي يتمتع بها محمد حتى قبل مماته بأسبوع واحممد ،وممما
كان الصرع يجعل من أحد نبيا أو مشممرعةا ،وممما رفممع الصممرع أحممداة إلممى مركممز التقممدير والسمملطان
يوما ة ،وكان من تنتابه مثل هذه الحالت في الزمنة الغابرة يعتبر مجنونا ة أو به مس من الجن ،ولو
كان هناك من يوصف بالعقل و رجاحته فهو محمد ((. 317
أما المستشرق اسبرنغر ،فقد ذهب في كتابه " :حياة محمد وعمله " إلى أن عوامل البعثة كممانت
نوبات هستيريا اشترت باسم شوتلين ،ولكن سوك هر غرنجه ،يرى ضممحالة هممذه الراد وأسسممها
الواهية ،فيقول :
)) يجب ان نقر بأن قيمة محمد انما هي ما يميزه عن سائر الهستيريين ((. 318
)) ولكننا ل نسمع أنه عض في خللها لسانه أو حدث ارتخاء في عضلته كممما يحممدث عممادة فممي
نوبات الصرع .وليس في تاريخ محمد ما يدل على انحطمماط قمموة العقممل الممتي يممؤدي إليهمما الصممرع
عادة ،بل نراه على الكفار يزداد ذهنه صفاء ،ويزداد قدرة على التفكير ،وثقة بالنفس ،وق وة فمي
الجسم والروحا والزعامة ،كلما تقدمت به السن حتى بلغ الستين من العمر .وقصممارى القممول إنمما ل
نجد دليلة قاطعأ على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع .ومهما يكن ذلممك الممدليل فممإنه ل
ينقع أي مسلم متمسك بدينه (( .319
أما مونتجمري وات فإنه يقول في كتابه " :محمد في مكة " :
))وليست طبيعة التجارب التي من هذا النوع _يجب اللحمماحا علممى ذلممك _ مهمممة بالنسممبة للفقيممه
المسلم والمسيحي ،والتأكيد بأن رؤى محمد كانت أوهاما ،كما قال البعض ،هو إصدار حكممم فقهممي
دون الطلع الكافي على ممما حممدث ،وبالتممالي التممدليل علممى جهممل مممؤلم بممالعلم ،والممرأي السمملي ،
لمؤلفين كم برلين ) (Ponlainو لعلم الفقه الصوفي الذي يمثلونه .
إن معرفة ما إذا كانت الرؤى خارجة أو خيالية أو عقلية ل يكون معياراة للحكممم علممى حقيقتهمما أو
صحتها .
ول شك أن التجارب )الخارجية ( أكثر تأثيراة فيمن يهتم بهمما ولكممن التجممارب العقليممة أسمممى ،لن
العقل اسمى من الحس .
وللمشكلة أهمية أساسية بالنسبة للشخاص الذين يدرسون علم النفممس الممديني ،ومممن المفيممد ،و ل
شك ،مقارنة تجارب محمد بتجارب القديسين والمتصوفين المسيحين .
أما بالنسبة للفقيه والمؤرخ فإن الشيء الرئيسي هو أن محمداة قد ميز ما يوحى إليممه وبيممن أفكمماره
الخاصة .وكذلك فليس للمظاهر الجسدية لتلقي الوحي أية أهمية بالنسبة للفقه ،وان كانت مهمة مممن
الناحية التاريخية .ولقد أكد أعداء السلم غالبا ة أن محمداة كان مصابا ة بالصرع ،وأن تجار به الدينية
لهذا ل قيمة لها .ولكن العراض الموصوفة ل تشبه أعراض الصمرع لن همذا النقمص يمؤدي إلمى
تخناذل جسدي وعقلي ،بينما ظل محمد حتى آخر حياته مالكا ة لقواه العقلية ،حتى ولمو أمكمن إدعماء
ذلك فإن الحجة تظل مناقضة لكل رأي سليم إذ لم تقم إل على الجهل والوهم ،لن المظاهر الجسدية
الملزمة ل تثبت ول تنفي قط بنفسها التجربة الدينية ((. 320
ويرد الكونت هنري دي كاستري فمي كتمابه » :خمواطر وسموانح « علمى أولئمك المذين أعمماهم
التعصب عن رؤية الحقيقة ،بقوله :
)) ومن ذلك الحين _أي البعثة _ أخذت شفتاه تنطلقان بألفاظ بعضها أشد قمموة وأبعممد مرمممي مممن
بعض ،والفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى أن يقممف لسممانه ول يطيعممه الصمموت ،ول يجممد مممن
اللفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفممع عمن ممدارك النسممان ،وسمما عمن أن يمترجمه قلممم أو لسممان .
وكانت تلك النفعالت تظهر على وجهه بادية ،فظن بعضهم أن بمه جن ة ،وهمو رأي باطمل ،لنمه
بداأ رسالته بعد الربعين ،ولم يشاهد عليه قبل ذلممك أى اختلل فممي الجسممم أو اضممطراب فممي القمموة
المادية ،وليس من الناس من عرف الناس جميعا ة أحواله فممي حيمماته كلهمما مثممل النممبي فلقممد وصممل
المحدثون عنه أنهم كانوا يعدون الشعر البيض في لحيته ،ولو أنه كان مريضا ة لما أخفممي مرضممه ،
لن المرض في مثل تلك الحوال يعتبر أمراة سماويا ة عند الشممرقيين .وليسممت حالممة محمممد سممر فممي
انفعالته وتأثراته بحالة ذي جنة ،بل كانت مثل التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها :لقد شممعرت
بأن قلبي انكسر بين أضلعي .وارتعشت مني العظام.
فصرت كالنشوان ،لما قام بي من الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة (( .321
)) أترون أن محمداة كان أخا خدع وتدليس ،وصاحب باطل ومين ،كل بعممدما وعينمما تمماريخه ،
ودرسنا حياته ،فان الخداع والمين والباطل والتدليس كممل أولئممك مممن نفمماق العقيممدة ،كممما انممه ليممس
للكذب قوة الصدق إلى أن قال :
إن حياة محمد وقوة تامله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته ،وجاهلية شممعبه ،وشممهامته
وجرأته وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الوثان ،وثباته وتقبله سخرية الساخرين ،وحميته في نشممر
رسالته وحروبه التي كان جيشه فيها أقل نفراة من عدوه ،ووثوقه بالنجاحا وإيمانه بالظفر ،وتطلعممه
إلى إعلء الكلمة وتأسيس العقيدة ،ونجواه التي ل تنقطع مع ال ،كل هذا لعظم دليل علممى أنممه لممم
يكن يضمر خداعا ،أو يعيش على باطل أو مين ،بل كان وراءهمما عقيممدة صممادقة ،ويقيممن مضمميء
في قلبه ،وهذا اليقين الذي مل روحه هممو الممذي وهبممه القمموة ،علممى أن يممرد الحيمماة فكممرة عظمممة ،
وحجة قائمة ومبدأ مزدوجا ة ،وهو وحدانية ال سبحانه ((. 322
وأمام إنكار بعض المستشرقين نبوة الرسول محمد ، يقف المستشممرق الفرنسممي القممس لمموازون
في كتابه » :الشرق « ،مؤكداة أن محمداة نبى مرسل من ا ،حمممل رسممالة السمملم رسممالة الحيمماة
...
)) إن محمداة بل التباس ول نكران كان من النبيين والصديقين ،وهو رسول الله القادر على كل
شيء ،بل انه نبي جليل القدر ،ومهما تحدثنا عنه فليس بالكثير في حقه ،لنه جاء إلى العالم بدين
جمع فيه كل ما يصلح للحياة (( . 323
إن دراسة سيرة رسمول ام تؤك د أن ه نمبي صمادق فمي دع وته ليمس بمدجال ول ممزور ،وأن
هنري دي كاسإتري :خواطر و سإوانح )نقل عن كتاب اتيين دينه ،محمد رسإول ا ،ص .(17 321
الشريعة السلمية صالحة لكمل زممان ومكمان ،يقمول المستشمرق اللمماني ديسمون ) _ 1817م
( في كتابه " :الحياة والشرائع ":
)) وليس يزعم أحد اليوم أن محمداة راحا يزور دينا ة ،وأنه كاذب في دعواه ،أفاك فممي دعمموته إذا
عرف محمدا ودرس سيرته ،وأشرف على ما يتمتع به دينه من تشريعات تصلح أن تظل مع الزمن
مهما طممال ،وكممل ممن يكتممب عمن محمممد ودينممه ممما ل يجمموز ،فإنممما هممو ممن قلممة التممدبر وضممعف
الطلع ((. 324
ويرى الباحث الستاذ ولز ،أن أسطع دليل على صدق الرسول يتمثل بإيمان أقرب المقربين إليممه
برسالة السلم حيث بشرهم بها ة ،يقول :
)) قد أجمعوا على أن أنصع الدلة على صدقه كون أهلمه )أي النمبي (وأقمرب النمماس إليمه أول
من آمن به ،فقد كانوا مطلعين على جميع أسراره ،ولو أرتابوا في صدقه لما آمنوا به (( . 326
يقول المفكر اللبناني شبلي شميل ) ( 1917-1860فممي إحممدى مقممالته الممتي نشممرها فممي مجلممة
المقتطف :
)) لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يص غي لما يظن من أن
دين السلم كذب ،وأن محمداة خداع مزور ،وآن لنمما أن نحممارب ممما يشمماع مممن مثممل هممذه القمموال
السخيفة المخجلة ،فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير ((. 327
أما المستشرق السوجي كازانوفا ) ( 1903_ 1837فقد كتب في مؤلفه :حضممارة الشممرق ،
يقول :
)) يهمني أن أجهر أولة بأني ل أسلم أصلة بكممل نظريممة يفهممم منهمما الريممب بصممدق محمممد ،وان
سيرة النبي العربي من بدايتها إلى نهايتا تدل على أنه ثبت رصين أمين ،ل مناص من القمرار بمأن
حقيقه الوحي
وذهب المستشرق السوجي رودلف دوتوراك ) _ 1852مم ( 1920أستاذ اللغات الشرقية فممي
جامعة براغ ،الذي ترجم حياة أبي فراس الحمدانى ودرس شعره ،في مؤلفه هذا ،إلى تأكيد صدق
النبوة ،ونزول الوحي على النبي محمد من السماء ،بالشريعة السلمية التي هي خلصة الكمال
الفكري ،يقول :
)) ومما ل ريب فيه ،أن محمداة نبي العرب كان يتحدث إلى الناس عن وحى مممن السممماء ،لنممه
أتى إلى العالم بدعوة من ورائها المعجزات واليات ،وهي أعظم شاهد على مدعاه ،ول يجمموز لنمما
أن نفند أراءه ،بعد أن كانت أيات الصدق باديممة عليهمما ،فهممو نممبي حممق ،وأولممى بممه أن يتبممع ،ول
يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بالسوء ،لنها مجموعمة كممالت إلمى النماس عاممة ((
. 329
)) ولسنا نحتاج في إثبات صدق ) محمممد ( إلممى أكممثرمن إثبممات أنممه كممان مقتنعمما ة بصممحة رسممالته
وحقيقة نبوته .أما الغرض من تلك الرسالة بالصل ،فهو إقامة إله واحد مقممام عبممادة الؤثممان الممتي
كانت عليها قبيلته مدة ظهوره (( . 330
ويتابع الكونت هنري دي كاستري تأكيد صدق الرسول وصحة الرسالة ،بممأنه كممان أميمما ة ل يقممراة
ول يكتب ،وبأنه كان يتلقى الوحي من السماء ،ويرد على المتقولين على الرسممول بممأنه أخممذ فكممرة
التوحيد من مطالعته التوراة والنجيل ،كما يؤكد حقيقممة أن اليممات القرآنيممة ل يمكممن أن تكممون مممن
صنع البشر ،يقول :
)) ما كان يقراة ول يكتب ،بل كممان كممما وصممف نفسمه مممرارا _ نبيمما ة أميمما ة _ وهمو وصممف لممم
يعارضه فيه أحد من معاصريه .ول شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيممث ل
يعلمه الناس ،لن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان ،على أن القممراءة والكتابممة كممانت معدومممة فممي
ذلك الحين من تلك القطار .ولم يكن بمكة قارىء أو كاتب سمموى رجممل واحممد ذكممره جارسممين دي
تاسي في كتابه الذي طبعه سنة ، 1874كذلك من الخطا ة _مع معرفة أخلق الشرقيين _ أن يستدل
على معرفة النبي للقراة والكتابة باختيار السمميدة خديجممة ) رضممي اللممه عنهمما ( ،ايمماه لمتاجرهمما فممي
الشام ،ولم تكن لتعهد إليه بأعمالها إن كان جاهلة غير متعلم ،فإنا نشاهد بيممن تجممار كممل قمموم غيممر
العرب وكلء ل يقرأون و ل يكتبون ،و هم في الغالب اكثرهم امانة و صدقةا.
أما فكممرة التوحيممد :فيسممتحيل أن يكممون هممذا العتقمماد وصممل إلممى النممبي م ن مط العته الت وراة
والنجيل ،إذ لو قرأ تلك الكتممب لردهمما ،لحتوائهمما علممى مممذهب التثليممث ،وهمو منمماقض لفطرتممه ،
مخالف لوجدانه منذ خلقه ،فظهور هذا العتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهممر فممي حيمماته ،
وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته .
أما صدق الرسول وسمو رسالته ،فقممد أخممذ ،كممثير مممن رجممال الكنيسممة ومممن رجممال السممتعمار
يشككون فيها ،ورغم الوضوحا الصارخ فممي صممدق الرسممول وفممي سمممو الرسممالة السمملمية ،فممإن
رجال الدين من المسيحين ورجال الستعمار ل يزالون يبدئون ويعيممدون فممي تممرداد التشممكيك ،إلممى
هؤلء وأولئك يقول الكونت :
والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك اليات عن رجل أمي ،وقد اعممترف الشممرق قاطبممة بأنهمما
آيات يعجز فكر بني النسان عن التيان بمثلها لفظا ة ومعنى ((. 331
آخر الرسل
أما المفكر لرثروب سودارد ،مقد رأى بثاقب بصيرته أن محمداة آخر الرسل وأنه جاء مقفيا ة على
آثارهم ،وان القرآن جاء مصدق للتوراة والنجيل معا ة :
))فالعتقاد كل العتقاد بأنه ل إله إل ا .وبأن محمداة رسوله من لدنه ،كما أنزل في القرآن أن
محمداة قد جاء بالقرآن مصدق للتوراة والنجيل .وأنه خاتم النيين .بعث من قبله موسى وعيسممى ((
. 332
أممما المستشممرق الفرنسممي دي سمملن ممماك غمموين ) _1810مم ، ( 1879الممذي وضممع فهممرس
المخطوطات الشرقية ،وترجمة لمقدمة ابن خلدون ،تناول فيها الرسول العربي في إطاره التاريخي
،والشريعة السلمية السمحاء ،فوجده متقدما ة على أقرانه من الرسممل ،ووجممد السمملم يتميممز عممن
باقي الشرائع ،يقول :
)) إن العرب أمة تمتاز بكثير من الصفات ،ولهمما ديممن جممامع شممامل ،ل يعيبممه إل مممن يجهلممه ،
وصاحب دينهم محمد الفقير ،وقبل أن نعرف الدين يجب أن نعرف من أتممى بمه ،وحقمما ة أقممول ليمس
كمحمد في سلسلة النبياء ،و ل كشريعته في سلسلة الشمرائع ،ل نبمالغ إذا قلنما إن محممداة خيمر ممن
أتى بشريعة ،ولقد وقف في وجه الطغاة من قريش ،حتى أتم ما أراد ،وبلمغ منتهمى الطريمق المذي
سلكه وعمل له ،وإذا به وبشريعته يتمتعان بذكر عاطر وحديث حسن ،وليممس باسممتطاعتنا أن نممثير
عليمها غبار الأنتقاص ((. 333
لوثروب سإتودارد ) :نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ،ص .(44 332
دي سإلن ماك غوين )في مقدمة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابان خلدون(. 333
166
العربي مصلحا ة كبييا ة ،عظيما ة في شخصه ،كبيراة في دعوته ،قمينمما ة بممالحترام والتقممدير ،وكممل مممن
تحامل عليه جاهل قدره ،يقول في كتابه » :تاريخ الخلفاء « :
)) إن محمداة يستحق كل إعجابنا و تقديرنا كمصلح عظيم ،بل ويستحق أن يطلق عليه لقب النبي
،وأل يصفي إلى أقوال المغرضين وأراء المتعصبين ،فإن محمداة عظيم في دينممه وفممي شخصمميته ،
وكل من تحامل على محمد فقد جهله وغمطه حقه (( . 334
بينممما وجممد غوسممتاف الثممالث السمموجي ) _1746مم ( 1792أن السمملم ديممن حممري أن يتبممع
لبساطته كدين ،وسماحته كشريعة ،يقول في كتابه » :السلم في الحجاز « :
)) إن الساس للدين السلمي بسيط جداة وهو _ل إله إل ا _ وأن محمممداة هممو الممذي أتممى بهممذه
الحقيقة ،ول يوجد في هذه الحقيقة ما يصادم ويخالف علوم العصر الحممالي ،فحمري بهمذا المدين أن
يتبع (( . 335
وقد درس بعض المستشرقين السلم فوجدوا ألة تعممارض بيممن وبيممن المسمميحية ،يقممول الممدكتور
ويلسن اليوغسلفي ) ( 1887_ 18 15في إحدى محاضراته :
))ة إننا إذا لم نعتبر محمداة نبيا ة ،فلن نستطيع أن ننكر أنممه مرسممل مممن امم ،ذلممك أنممه ليممس هنمماك
غيره قد راحا يفسر المسيحية الولى تفسيراة رائعا ة صادق ،وأن دينه الذي جاء به ل يعارض الديانممة
المسيحية ،وكل ما جاء به حسن (( . 336
ويتحدث المستشرق الكندي جيبممون ) ( 1827_ 1773فممي كتممابه " :محمممد فممي الشممرق" عممن
النبي محمد ورسالة السلم ،فيدفع كل الشكوك والظنون و القاويل التي تدور حول صدق الرسول
والرسالة ،ويعتبر أن أي اتهام يوجه إلى هذا الدين هو من قبيل الجهل أو التعصب يقول :
)) إن دين محمد خال من الشكوك والظنون ،والقرآن أكبر دليل على وحدانيممة امم ،بعممد أن مممر
محمد عن عبادة الصنام والكواكب .وبالجملة فدين محمد أكبر من أن تدرك عقولنا الحالية أسممراره
،ومن يتهم محمداة أو دينه فإنما ذلك من سوء التدبير أو بدافع العصبية ،وخير ممما فممي النسممان أن
يكون معتدلة في آرائه ،ومستقيما ة في تصرفاته (( . 337
بينما دعا المستشرق السباني إريك بنتام ) ( 1887_ 18 15في كتابه " :الحياة " إلى وقوف
المسيحيين والمسلمين على صعيد واحممد ،وفممي خنممدق واحممد ،ونبممذ العصممبية العميمماء والطممماع ،
وذلك لتأكيده أن المسلمين عميقو اليمان ،وأن السلم دين الخلق السامية الرشيدة ،يقول :
))إن السلم وتعاليم الرسول الكريم _محممد_ قممد تأصملت فمي نفموس المسملمين ،وخلقمت فيهمم
مناعة ضد قبول المذاهب الدينية المسيحية ،وإن الخلف الجوهري بينها وبين السلم يعود إلى أنه
ل يرضى أن يشرك مع ربه أحد ،وأن دين السلم هو ديممن الوداعممة والوفمماء والصممدق والمانممة ،
وكل ما جاء به ل ينكره الذواق السليمة ،والعقول الناضجة لممذلك فإننمما لممو أنصممفنا أنفسممنا لوحممدنا
صفوفنا مع المسلمين ولنبذنا ما بنا من عصبية عمياء خلقها لنا ذوو الطماع ،وسنها لنا مممن دفعممت
به شهواته ،وفي النفس ما فيها من التأثر البالغ من تلكم الفوارق التي أثبتها الدين (( . 338
وفي هذا المنطلق يقول العلمة وأستاذ علوم الكيمياء والفلك الفرنسي لمموزون ) 183_ 1786
( 7في كتابه » :ا في السماء « « ،مقارنا ة ما بين المديانتين السمماويتين الموسمموية والمحمديمة و
السلم ( وفرق مابينهما من النضواء العرقي ،والسماحة العالمية :
)) وليس محمد نبي العرب وحدهم ،بل هو أفضل نبي قال بوحدانية امم ،وإن ديممن موسممى وإن
كان من الديان التي أساسها الوحدانية إل أنه كان قوميا ة محضا ة وخاصا ة ببني إسرائيل ،وأممما محمممد
فقد نشر دينه بقاعمدتيه الساسمميتين وهممما الوحدانيمة والبعممث ،وقممد أعلنمه العمموم البشمر فمي أنحمماء
المسكونة ،وإنه لعمل عظيم يتعلق بالنسانية جملة وتفصيلة عند من يدرك معنى رسالة محمد الممذي
اعتنق مبدأه ،وعمل على رسالته أربعمئة مليون مممن النمماس .فرسممول كهممذا الرسممول يجممدر باتبمماع
رسالته ،والمبادرة إلى اعتناق دعوته ،إذ أنها دعوة شريفة ،قوامها معرفة الخممالق ،والحممث علممى
الخير ،والردع عن المنكر ،بل كان ما جاء به يرمي إلى الصلحا والصمملحا ،والصمملحا أنشممودة
المؤمن ،هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى (( . 339
أما الشاعر الفرنسي الكبير الفونس دي ل ممارتين فقممد أكممد فممي مممؤلفه » :رحلممة إلمى الشمرق «
صدق الرسول وصحة الرسالة ،وكشف عن جوانب من عظمة النبي محمد ودين السلم ،يقول :
))إن محمداة فوق البشر ودون الله ،فهو رسول بحكم العقل ،ودللت المعجزات تعضد ذلممك ،
وإن اللغز الذي حله محمد في دعوته فكشف فيها ع ن القيمم الروحيمة ،ثمم قمدمها لممة العمرب دينما ة
سماويا ة ،وسرعان ما اعتنقوه ،هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر (( . 340
هذا ،وفي ختام مبحثنا عن الرسول في الدراسات الستشراقية المنصفة ،نرى أن أقوال البمماحث
النكليزي توماس كارليل عن صدق الرسول والرسالة ،بما حوته من دفاع حار ،وعقلنيممة واعيممة
،وشمماعرية جميلممة ،تشممكل خيممر رد علممى مختلممف أراجيممف وادعمماءات البمماحثين والمستشممرقين
المغرضين ،وأنارت السبيل أمام كل ناشد معرفة :
» لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر ،أن يصغي إلممى ممما يظممن
من أن دين السلم كذب ،وأن محمداة خممداع مممزور ،وآن لنمما أن نحممارب ممما يشمماع مممن مثممل هممذه
القوال السخيفة المخجلة ،فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ممما زالممت السممراج المنيممر مممدة اثنممي
عشر قرنا ة لنحو مئتي مليون من الناس أمثالنمما خلقهممم امم الممذي خلقنمما ،أفكممان أحممدكم يظممن أن هممذه
الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه المليين الفائتة الحصر والحصار أكذوبة وخدعة ؟ أما أنمما
فل أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداة ،ولو أن الكممذب والغممش يروجممان عنممد خلممق امم هممذا الممرواج ،
ويصادفان منهم مثل ذلك التصمديق والقبمول ،فمما النماس إل بلمه ومجمانين ،ومما الحيمماة إل سممخف
وعبث ،وأضلولة كان أول بها أن ل تخلق .
فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم ،وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة .وبعد ،فعلى من
أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ،أن ل يصدق شيئا ة البتة من أقمموال أولئممك السممفهاء ،فإنهمما
ننتائج جيل كفر ،وعصر جحود وإلحاد ،وهي دليل على خبث القلوب ،وفسمماد الضمممائر ،وممموت
الرواحا في حياة البدان ،ولعل العالم لم ير قط رأيا ة أكفممر ممن هممذا وألم ،وهممل رأيتممم قممط معشممر
الخوان أن رجلة كاذبا ة يستطيع أن يوجد دينا ة وينشره.
عجبا ة والله ! إن الرجل الكاذب ل يقدر أن يبني بيتا ة من الطوب ،فهو إذا لم يكن عليما بخصائص
الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فممما ذلمك الممذي يبنيممه بمبيت ،وإنمما همو تمل ممن النقمماض ،
وكثيب من أخلط المواد .نعم ،وليس جديراة أن يبقمى علممى دعمائمه اثنمي عشمر قرنما ة يسممكنه مائتمما
مليون من النفس ،ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم كأنه لم يكن .وإني لعلم أنه على المرء أن
يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة ،وإل أبت أن تجيب طلبه وتعطيه بغيته .
كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار ،وإن زخرفوه حتى خيلوه حقا ة ،وزور وباطل وإن زينوه حتى
أوهموه صدق ،ومحنة والله ومصاب أن ينخاع الناس شعوبا ة وأمما ة بهذه الضاليل ،وتسممود الكذبممة
و تقود بهاتيك الباطيل .وإنما كما ذكرت لكم من قبيل الوراق المالية المزورة ،يحتال لها الكممذاب
حممتى يخرجهمما مممن كفممه الثيمممة ،ويحيممق مصممابها بممالغير ل بممه ،وأي مصمماب وأبيكممم ؟ مصمماب
كمصاب الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن تصيح بملء أفواهها " :هذه الوراق كاذبممة "
أما الرجل الكبير خاصة ،فإني أقول عنه يقينا ة إنه من المحممال أن يكممون كاذبمما ة ،فممإني أرى الصممدق
أساسه وأساس كل ما به من فضل ومحمدة ،وعندي أنه ما من رجممل كممبير ،ميرابممو أو نممابليون أو
بارنز ،أو كرمويل ،كفء للقيام بعمل ما ،إل وكان الصدق والخلص وحب الخيممر أول باعثمماته
على محاولة ما يحاول ،أعني أنه رجل صادق النية ،جاد مخلص قبل كممل شمميء ،بممل أقممول :إن
الخلص _الخلص الحر العميق الكبير_ هو أول خممواص الرجممل العضمميم كيفممما كممان .ل أريممد
إخلص ذلك الرجل الذي ليبرحا يفتخر للناس بإخلصه ،كل فإن هذا حقير جممداة وأيممم واللممه ،هممذا
إخلص سطحي وقح ،وهمو علممى الغمالب غمرور وفتنمة ،إنمما إخلص الرجمل الكممبير همو مممما ل
يسممتطيع أن يتحممدث بممه صمماحبه ،كل ،ول يشممعر بمه بممل لحسممب أنمه ربممما شممعر مممن نفسممه بعممدم
اخلص ،إذ أين ذاك الذي يستطيع أن يلزم منهج الحق يوما ة واحدأ؟.
نعم إن الرجل الكبير ل يفخر بإخلصه قط ،بل هو ل يسأل نفسه أهي مخلصة أو بعبارة أخممرى
أقول إن إخلصه غير متوقف على إرادته ،فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لممم يممرد
،فهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله ،حقيقة ل يستطيع أن يهرب من جللها الباهر مهما
حاول .هكذا خلق ال ذهنه ،وخلقة ذهنه على هذه الصورة هي أولى أسممباب عظمتممه ،وهممو يممرى
الكون مدهشا ة ومخيفا ة وحقا ة كالموت وحقا ة كالحياة ،وهمذه الحقيقمة ل تفمارقه أبمداة وإن فمارقت معظمم
الناس فساروا على غير هدى وخطوا في غياهب الضلل والعماية ،بل تظل هذه الحقيقة كل لحظممة
بين جنبيه ونصب عينيه ،كأنها مكتوبة بحروف مممن اللهممب ل شممك فيهمما ول ريممب .همما هممي ،همما
هي ،فاعرفوا هداكم ا أن هذه أولى صفات العظيم ،وهذا وحده الجوهري و تعريفممه ،وقممد توجممد
هذه في الرجل الصغير فهي جديرة أن توجد في نفس كل إنسان خلقه ال ،ولكنها من لموازم الرجمل
169
مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجل أصليا ة صافي الجوهر ،كريم العنصر فهو رسممول مبعمموث
من البدية المجهولة برسالة إلينا .فقد نسميه شاعراة أو نبيا ة أو إلها ة ،وسواء هذا أو ذاك أو ذلممك فقممد
نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره ،ولكنه صادر من لباب حقائق الشممياء .نعممم ،هممو يممرى
باطن كل شيء ل يحجب عنه ذلك باطل الصطلحات ،وكاذب العتبارات والعممادات والمعتقممدات
وسخيف الوهام والراء ،وكيف . .؟ وإن الحقيقة تسمطع لعينمه حمتى يكماد يعشمي لنورهما ،ثمم إذا
نظرت إلى كلمات العظيم شاعراة كمان أو فيلسمموفا ة أو نبيما ة أو فارسمما ة أو ملكما ة ،أل تراهمما ضمربا ة مممن
الوحى ؟ والرجل العظيم في نظرى لمخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون ،فهو جممزء مممن الحقممائق
الجوهرية للشياء ،وقد دل ال على وجوده بعدة آيات ،أرى أن أحدثها وأجدها هممو الرجممل العظيممم
الذي علمه ال العلم والحكمة ،فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء . . .
وعلى ذلك فلسنا نعد محمداة هذا قط رجلة كاذبمما ة متمنعمما ة يتممذرع بالحيممل والوسممائل إلممى بغيممة ،أو
يطمح إلى درجة ملك أو سطان ،أو غير ذلك من الحقائق والصممفائر .وممما الرسممالة الممتي أداهمما إل
حق صراحا ،وما كلمته إل صوت صادق صادر من العالم المجهول .كل ،ممما محممد بالكمماذب ول
الملفق ،وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة ،فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع
.ذلك أمر ا ،وذلك فضل ا يؤتيه من يشاء ،واللمه ذو الفضمل العظيمم ،وهمذه حقيقمة تمدمغ كمل
باطل وتدحض حجة القوم الكانوين (( .341
الباب الثاني
الرسول وأ رسالة الصلح
في مبحث الرسول والقيادة الدينية ،تناولنا الصلحا الديني الذي قام به بنقل جزيرة العرب من
الوثنية إلى الوحدانية . . .وفي مبحثنا هذا سنتناول جوانب أخرى من الصمملحا وخاصممة ممما يتعلممق
منها بجانبها الجتماعي .
))لم يكن الصلحا أعسر ول أبعد منالة منه وقت ظهمور محممد ،ول نعلمم نجاحما ة وإصملحا ة تمم
كالذي و تركه عند وفاته (( . 342
وقد بحث المستشممرق الفرنسممي العلمممة كمماردي فممو ) (1925 - 1969فممي مممؤلفه " :مفكممرو
السلم " في طبيعة ذلك الصلحا والنجاز الذي حققه حين نقل العرب من الجاهليممة إلممى مشممارق
أنوار رسالة السلم فكانت رسالة الرقي والحضارة والتمدين ،يقول كاردي فو :
)) لقد كان العرب في جاهليتهم يرتكبون الجرائم ،ويفعلون المنكرات ،ويتخبطون في ضللتهم
،حتى جاء رجل منهم اسمه _محمد_ فحاربهم لستئصال هذه العادات الموبوءة ،و دعاهم إلى دين
جديد ومبادئ قويمة ،فوحد صفوفهم وأصلح أمورهم وإذا بالعرب أمة لها شأنها ولها كيانها حضارة
وثقافة ،وتم لمحمد ما كان يريده منهم من اسمتاع أقواله واتخاذ آرائه ،وإذا ديممن محمممد فممي طليعممة
الديان السماوية رقيا ة وعظمة وحضارة ((. 343
وليم موير :حياة محمد )نقل عن كتاب عبد الرحمن عزاما ،باطل الباطال ،ص .(11 342
)) لقد كان العرب قبل السلم على جانب من الغلظة والخشونة ،ويعيشون عن طريممق الغممزو ،
و قد نزعت الرحمة من صدورهم ،وكانوا يعبدون الصنام ،ولكل قبيلممة صممنم حممتى جمعمموا فممي
كعبتهم ثلثمئة وستين صنما ة ،وجمماء _محمممد_ فممي أواخممر القممرن السممادس فممدعاهم إلممى السمملم ،
وأعلن أنه ل يجوز أن تتخذوا أصنامكم أربابا ة من دون ا ،وكان محمد علممى خلممق عظيممم فمماتبعوه
بعد أن لقى منهم الذى ،حيث دعاهم إلى دينه القويم وعرفوا أنه دين ل يصممادم الخيممر والنسممانية
وأنه جاء لصلحا المجتمع (( . 344
ويبحث المستشرق إدوار لين بدوره ،واقع الحياة الجاهلية وما حوته من عادات مخالفممة للشممرائع
السماوية ،يقول :
)) إنا ل ننكر أن العرب وإن كانت المية هي الغالبة فيهم ،إل أنهم على جانب من المذكاء ،وأن
أحدهم يحيد نظم الشعر ونثر الكلم ،وهممو أمممي عمماش فممي الباديممة ،وأن لهممم عممادات قبممل السمملم
يعكفون عليها ،من عبادة الصنام ،ووأد البنات ،والغزو وغير ذلك ،ولكن جاء السلم بواسمطة
محمد النبي العربي فمنعهم من ذلك ،وما زال يدعوهم إلممى دينممه وهممو عبممادة امم حممتى أحمماطوا بممه
وصدقوه ،وتركوا ما كان لديهم من عادات تأباها الشرائع السماوية (( . 345
)) لقد منع محمد الذبائح البشرية ووأد البنات والخممر والميسممر ،وكمان لهمذه الصملحات تمأثير
غير متناه في الخلق ،بحيث يجب أن يعد محمممد فممي صمف أعماظم المحسممنين للبشممرية وأن النقيمماد
لرادة ا تتجلى في محمد والقرآن بقوة ل تعرفها النصرانية ((. 346
هذا ،ولقد حقق السلم للمرأة قفزة نوعية في شأنها الجتماعي الحقمموقي ،متقدمممة علممى واقممع
روبارت اسإمث :احوال العرب قبل السإلما و باعده ،ص .18-17 344
)) والسلم قد رفع حال المرأة الجتماعيممة وشممأنها رفعمما ة عظيممما ة ،بممدلة مممن خفضممهما ،خلفمما ة
للمزاعم المكررة على غير هدى ،والقرآن قد منح المرأة حقوق ارثيه أحسن مممما فممي أكممثر قوانيننمما
الوروبية (( . 347
)) لقد جاء قرآن العرب على لسان نبيهم محمد العظيم ،وعلمهم كيف يعيشون فممي هممذه الحيمماة ،
وقد وحد صفوفهم وجمع كلمتهم وأدبهم حتى ل ترى أمة من المم أحسن منهمم ،وبالنهايمة اعتمممدوه
في كل أمورهم ،وكان يتلقى الوحي من ربه الذي يوحي إليه ،ثم ينقله إلى الناس ،بعد أن يكتبه لممه
الكتاب الذين انتدبهم لذلك (( . 348
)) هذا النبي الذي افتتح برسالته عصر العلم والنور والمعرفة ل بد أن تدون أقواله وأفعمماله علممى
طريقة علمية خاصة ،وبما أن هذه التعاليم التي قال بها ) يعنى النبي محمد ( هي وحي امم المنممزل
ورسالته ،فقد كان عليه أن يمحو ما تراكم على الرسالت السابقة من التبديل والتحوير ،وما أدخلممه
عليها الجهل من سخافات ل يعول عليها عاقل (( . 349
دكتور ماركس ) :نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ،ص .(40 349
173
)) إنا لو بحثنا عما تم على يد النبي المي محمد من الصلحا ،لما اسممتطعنا أن ننكممر أنممه أنجممز
أكثر وعوده ،وحقق قسما ة كبيراة من أمانيه ،ولو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش ،لكممان الإصمملحا
الذي أدخله على حياة المة العربية أتم وأوسع ،وممع ذلممك فممإن عملمه المذي عملمه فمي هممذه السممنين
القلئل التي قضاها فممي المدينممة بيممن الحممروب والمنافسممات الشخصممية والدسممائس والحممرب والمكممر
والنفاق لهو شيء عظيم ل ينكره إل مكابر عنيد أو متعصب أعمى(( .350
)) وتد وجدت في السلم حد المسألتين الجتماعيتين اللتين تشغلن العالم طممراة ،الول فممي قممول
القرآن :إنما المؤمنون إخوة ، والثانية ،فرض الزكاة ،وتخويممل الفقممراء حممق أخممذها إذا امتنممع
الغنياء من دفعها طوعا (( .351
إن اهتمممام الرسممالة السمملمية بالقضممايا الجتماعيممة وإيجمماد الحلممول الناجحممة للمشمماكل القائمممة،
وتحقيق إصلحا المجتمع وصلحه ترتبط بالسلم ليس مجرد دين وحسب ،بل لكونه دينمما ة ودولممة ،
فمن جهة ،نظم علقة النسان بخالقه عن طريق العبادات التي أكممدت علممى مبممدأ الوحدانيممة ،ومممن
جهة ثانية نظم الحياة الاجتماعية النسانية في إطار نظام سياسي أقامه ،وتنظيممم اجتممماعي أوجممده ،
ناهضين على أركان الشورى السلمية والعدالة والمساواة والحرية ،يقول الدكتور شاخت :
)) إن السلم يعني أكثر من دين ،إنه يمثل نظريات قانونية ،وسياسية ل وجملة القول إنه نظام
كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معا ة (( . 352
والعلقة بين الدين والنظام السمملميين علقممة عضمموية ،مؤسسممة علىوحممدة متماسممكة ل تنفصممم
عراها « وقد غدت مرتكزاة للتفكير السلمي ،يقول الدكتور فتز جيرالد :
))ليس السلم دينا ة فحسب ،ولكنه نظام سياسي أيضا ة ،ورغم أنه ظهر في العهممد الخيممر بعممض
أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين ،فإن صرحا
التفكير السلمي كله قد بني على أساس أن الجانبين
353
. متلزمان ل يمكن فصل أحدهما عن الخر ((
فالسمملم كممدين ودولممة حقممق صمملحا المجتمممع النسمماني ،يقممول البمماحث النكليممزي المستشممرق
مونتجمري وات :
)) ويمكن اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي علممى أسممس دينيمة
(( . 354
)) امتاز محمد بوضوحا كلمه ،ويسر دينه ،وأنه أتم من العمال ما أدهممش اللبمماب ،لممم يشممهد
التاريخ مصلحا ة أيقظ النفوس وأحيا الخلق الحسنة ،ورفع شأن الفضيلة في زمن قصممير كممما فعممل
محمد (( . 355
كما حلل رئيس وزراء الهنمد السممبق جمواهر لل نهممرو ،كيمف أن محمممداة خلمق أممة ،بحركتممه
الصلحية ،وأقام برسالته مدينة زاهرة وحضارة راقية ،ليخلص إلى القول :
)) كان محمد واثقا ة بنفسه ورسالته .وقد هيا ة بهذه الثقة وهذا اليمان لمته أسباب القمموة والعممزة و
المنعة (( .356
)) أنني ل أدعو إلى بدعة محدثة ،ول إلى ضللة مستهجنة ،بل إلى دين عربي قدم أوحمماه امم
إلى نبيه محمد فكان أمينا ة على بث دعوته بين قبائل رحل تلهت بعبادة الحجار والصممنام ،وتلممذذت
بترهات الجاهلية ،فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة ،ووحد كلمتم بعد أن كانت متفرقممة ،ووجممه
أنظارهم لعبادة الخالق ،فكان خير البرية على الطلق حبا ة ونسبا ة وزعامة ونبمموة ،هممذا هممو محمممد
الذي اعتق شريعته أربعمئة مليون مسلم ،منتشرين في أنحاء المعمورة ،يرتلون قرآنا ة عربيمما ة مبينمما ة
_إلى أن قال _:
فرسول كهذا جدير باتباع رسالته ،والمبادرة إلى اعتناق دعوته ،إذ أنها دعمموة شممريفة ،قوامهمما
معرفة الخالق ،والحض على الخير والردع عن المنكر ،بل كل ما جاء فيها ما يرمي إلى الصمملحا
والصلحا ،والصلحا أنشودة المؤمن ،وهو الذي أدعو إليه جميع النصارى (( . 357
))إنك تجتمعون اليوم محتفلين بمولد مصلح عظيم ،أل وهو النبي محمد ،فهممل لكممم أن تتشممربوا
من روحا الصلحا الذي يحمله محمممد ،فتخرجمموا لصمملحا مجتمممع ملممؤه الجهممل و الضممطراب ((
. 358
)) أنظر إلى ينبوع الجبل يضطرب مليئا ة صافيا ة ،كأنما هو شعاع دري فوق السممحب ،أرضممعت
ملئكة الخير طفولته في مهداة يوم كان بين أفلق الصخور المعشوشبة ،إنه ينحدر من السحابة فتيا ة
نقيا ة ،ثم يتنزى منها جذلن فرحا ة ،إنه يسير في الخاديد الوعرة ،جارفا ة أمامه من ألمموان الحصممباء
ما ل يحصى ،ساحبا ة في إثره أخوات من العيمون المثرارة ،كأنممما همو مرشممدها الميممن ،وأمما فمي
الوادي فالريماحين تنبثمق عنمد قمدميه ،والممروج تحيما م ن أنفاسمه ،ل يثنيمه ال وادي الظليمل ،و ل
الرياحين التي تطوق ساقيه ،وتحاول أن تسبيه وتستهويه بلحاظها الفواتن . .
وها هو العباب طاميا ة زاخراة ،ترفده الروافد فيخلع في مجراه على المصممار أسممماءها ،وتنشمما ة
عند أقدامه المدن ،بيد أنه ل ينمي ،فل يمبرحا هممادراة فينممدفع ،ل يثنيمه ثمان ،غلفما ة وراءه المنمائر ،
والصروحا نتاج خصبه وإنتاجه ،ذلك هو محمد بن عبد ا (( . 359
)) في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسممطين ظهممرت ديانممة أساسممها العممتراف بوحدانيممة امم «
وهذه الديانة تعرف بالمحمدية أو كممما يسمميها أتباعهمما السمملم ،وقممد انتشممرت همذه الديانممة انتشماراة
سريعا ة ،و مؤسس هذه الديانة هو العربي محمد ،وقد قض على عادات قومه الوثنية ،ووحد قبائل
العممرب ،وأثممار أفكممارهم وأبصممارهم بمعرفممة اللممه الواحممد ،وهممذب أخلقهممم وليممن طبمماعهم
وقلوبهم وجعلها مستعدة ،للرقي والتقدم ،ومنعهممم مممن سممفك الممدماء ووأد البنممات ،وهممذه العمممال
العظيمة التي قام بها محمد تدل على أنه من المصلحين العظام ،وعلى أن في نفسممه قمموة فمموق قمموة
البشر ،فكان ذا فكر نير ،وبصيرة وقممادة ،واشممتهر بدماثممة الخلق ،وليممن العريكممة ،والتواضممع
وحسن المعاملة مع الناس ،قض محمد أربعين سنة مع الناس بسلم وطمأنينة ،وكان جميممع أقمماربه
يحبممونه حبمما ة جممما ة ،وأهممل مممدينته يحممترمونه احتراممما ة عظيممما ة ،لممما عليممه مممن المبممادئ القويمممة ،
والخلق الكريمة ،وشرف النفس ،والنزاهة ((. 360
وهكذا فإن فضل الرسول محمد على العرب ل حممد لممه ،إذ أخرجهممم مممن الجاهليممة إلممى أنمموار
السلم ،يقول المستشرق اليرلندي المستر هربرت وايل في كتابه " :المعلم الكبير" :
)) بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهممر محمممد فممأزال كممل الوهممام ،وحممرم عبممادة الوهممام ،
وكان يلقبه الناس بالمين ،لما كان عليه من الصدق والمانة وهممو الممذي أرشممد أهممل الضمملل إلممى
السراط المستقيم (( . 361
)) إن من الظلم الفادحا أن نغمط حق محمد ،و العرب على ماعلمناهم من التوحش قبل بعثته ،ثممم
كيف تبدلت الحالة بعد إعلن نبوته ،وما أورته الديانة السلمية من النور فممي قلمموب الملييممن مممن
الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل ،لذا فمإن الشممك فممي بعثممة محممد إنممما همو شمك فمي
القدرة اللهية التي تشمل الكائنات جمعاء (( .362
تقول الشاعرة النكليزية الليدي إيفلين كوبرلد في كتابها " :الخلق " :
الثقافة الروسإية ،ج ، 7عدد .9 360
)) لعمري لقد استطاع محمد القيام بالمعجزات والعجائب ،لما تمكن من حمل هذه المة العربيممة
الشديدة العنيدة على نبذ الصنام ،وقبول الوحدانية اللهية ،ولقد كممان محمممد شمماكراة حامممداة إذ وفممق
إلى خلق العرب خلقا ة جديداة ،ونقلهم من الظلمممات إلممى النممور ،ومممع ذلممك كممان محمممد سمميد جزيممرة
العرب ،وزعيم قبائلهم ،فإنه لم يفكر في هذه ،ول راحا يعمل لسممتثمارها ،بممل ظممل علممى حمماله ،
مكتفيا ة بأنه رسول ا ،وأنه خادم المسلمين ،ينظف بيته بنفسه ،ويصلح حمذاءه بيمده ،كريمما ة بماراة
كأنه الريح السارية ،ل يقصده فقير أو بائس إل تفضل عليه بما لديه ،وكممان يعمممل فممي سممبيل امم
والنسانية (( . 363
)) إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم ،فهو أيضا نبي العمرب ومؤسمس جمامعتهم
القومية ،وكما أنه من الحمق والمكابرة أن ننكر أن ما لسيد قريش من بعيد الثر في توحيد اللهجات
العربية ،وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل ،بعد أن انهكها القتممال فممي قتممال الصممحراء ،و
تناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراة طال أمد الحماية الرومانيممة والفارسممية فممي البلممدين الشممقيقين
حتى الفتح السلمي .فممن الخطمل أن ننكمر مما للرسمول العربمي الكريمم وخلفمائه ممن يمد علمى أن
الشرق ،في إثارة تلك الحماسة والبطولة النادرة االمتدفقة في صدور أولئك الصيد الميممامين ،الممذين
كانوا قابعين في حزون الجزيرة وبطاحهمما ،فممي سممبيل الفتممح ،والمنافحممة لتحريممر الشممرق مممن رق
الرومان وأسر الفرس .
إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية ،وواضممع حجممر الزاويممة فممي صممرحا
نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود (( .364
)) لقد اعتنقت قبائل البدو في جزيرة العرب دنيا أتى به أمي ،فأقامت بفضل هذا الممدين فممي أقممل
من خمسين سنة دولة عظيمة كدولة السكندر وزينت جيدها بقلدة من المباني الفخمة الممتي هممي آيممة
في العجاز . . .
ايفلين كوبارلد :الخلق ص .66 363
ينشا ة من المعتقد القومي يقين ل يزعزعه شيء ،ومن مثل هذا اليقين تشتق أكثر حوادث التاريخ
أهمية ،فقد أيقن محمد أن ا أمر ،بالممدعوة إلمى ديمن جديممد أوحمي بمه إليمه لتجديمد العممالم فاسمتطاع
بفضل يقينه أن يقلب الدنيا (( .365
جاذبية الرسول
ولممم يكممن توحيممد الجزيممرة العربيممة بممالقوة والسمميف والبطممش كممما ذهممب عممدد مممن المستشممرقين
المغرضين ،بل وضع الرسول القوة حيث هي ضرورة ،بين استخدم الحب واللين والتسامح عنممدما
يقتض المر ،فكان لجميل سجاياه الثر العميق في جممذب القبائممل العربيممة إلممى دائممرة السمملم . . .
يقول المستشرق والمفكر اليرلندي لويس توماس ) ( 1887-1807في مممؤلفه » :الحضممارة فممي
الشرق « :
)) ل توجد أسرة في الجزيرة العربية ل تسمى أحد أبناءها محمداة باسم محمد النبي ،وفممي العممالم
ينتشر اسم محمد أكثر من انتشار بطرس ويوحنا ،لقد كان محمد أول من وحممد بيممن قبائممل الجزيممرة
وشعوبها ،وجمع كلمتها تحت راية واحدة ،وقد كان ظهموره حيممن الحاجممة إليمه ،ولقمد جمممع كلمممة
العرب ل بالقوة والشدة بل بكلم جذاب ،أخذ منهم كل مأخذ ،وتبعوه وصدقوه ،وقد فاق فممتى مكممة
غيره من الرسل ،بصفات لم تكن معروفة لمديهم ،وكمان يجممع بيمن القل وب المتفرقمة فتشمعر كلهما
بشعور قلب واحد (( . 366
ومن هذا المطلق يتحدث المستشممرق المريكممي انممدرا وليممامس فممي كتممابه " :أمريكممي فممي البلد
العربية " :
)) قد يكون اسم محمد أكثر السماء شيوعا ة في العالم ،وأشهر من حمل هذا السم علممى الطلق
عربي أبصر النور في قريممة نائيممة مممن أرض الجزيممرة العربيممة هممي مكممة عممام 571للميلد ،إليممه
أوحى ال كلمته فأجراها في كتاب ،و نشرها بين الناس ،ودعا أصحابه لليمان بالله الواحد ربمما ة
،وبمحمد بن عبد ا رسولة ،وبالعمل الصممالح ،والنهممي عممن المنكممر قبلممة ومصمملى ،آذنممت حيمماته
جديممداة ،وكتابمما ة بمغيب في الثالثة والثلثين بعد السممتمئة مممن الميلد ،تاركمما ة لقممومه دنيمما
منزلة ،ورسالة ضخمة لنشر الدين ،وإقامة الحضارة ،ولقد دعا محمد في عهده إلى أخوية جديممدة
،أخوية المسلم لخيه المسلم ،ل فرق بين أول وآخر ،سواء كان أميراة أم عبداة إل بالعمل الصممالح
والخير والحسان ،ثم أرسل قومه بعد هذا لغزو العممالم ،وتوحيممد الرض فممي صممعيد واحممد ،فممإذا
انقضت سنوات بعد وفاته ،وجدنا السلم ينتقل من نصر إلى نصر ،ومن فتح إلى فتح ،وإذا هممو
يضم العالم المعروف في عهده إلى سلطانه ،وإذا به يجمع بين الشرق والغرب (( . 367
اندرا وليامس :أمريكي في البلد العرباية )تعريب عمر أباو النصر(. 367
179
الباب الثالث
الفصل الوأل
الرسالة السلمية
نوعيتها وأ سر انتشارها
هوية الرسالة العالمية
لقد كان أثر الرسالة السلمية عميقا ة في جزيرة العرب التي تحققت وحدتها العملية في المرحلممة
الخيرة من حياة الرسول ،و مع أكتمال الدين السلمي . . .هذا ،وإن الثورة الكبيرة الممتي حممدثت
فيها لم تقف عند تلك الحدود ،بل سرعان مما خرجمت ألويمة المدعوة السملمية ،لتشممل سمائر بلد
العرب ثم العالم السلمي ،لتؤكد هويتهمما العالميممة ورسممالتها النسممانية فالسمملم ليممس ديممن العممرب
وحسب ،بل هو لسائر الشعوب والمم . . .يحدث الباحث الفرنسي المستشرق إتي ين دينيه عن وثبة
السلم ،بقوله :
)) عندما رفع ا إليه مؤسس السلم العبقري ،كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائيا ة ،وبكممل
دقة ،حتى في أقل تفاصيله شأنا ة .
وكانت جنود الله قد أخضعت بلد العرب كلها ،وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القيادة الضممخمة
بالشام .وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت ،عقب موت القائد الملهم ،بعممض الفتممن العارضممة ،إل أن
السلم كان قد بلغ من تماسك بنائه ،و من حرارة إيمان أهله ،ما جعله يبهر العالم بمموثبته الهائلممة
التي ل نظن ان لها في سجلت التاريخ مثيل .
ففي اقل من عمام ،ورغمم قلمة عمددهم ،اسمتطاع العمرب المجماد _وقمد انمدفعوا لول ممرة فمي
تاريخهم ،خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم _ أن يستولوا على أغلممب بقمماع العممالم
المتحضر القديم :من الهند إلى الندلس (( . 368
)) وبعد ظهور محمد الذي جعل قبائل العرب أمة واحدة ،تقصد مقصداة واحداة ظهرت للعيممان
أمة كبيرة مدت جناحا ملكها من نهر تاج في أسبانية إلى نهر الغانج فممي الهنممد ،ورفعممت علممى منممار
الشادة أعلم التمممدين فممي أقطممار الرض أيممام كممانت أوروبممة مظلمممة بحهممالت أهلهمما فممي القممرون
المتوسطة (( . 369
)) إن ولدة السلم وانتشاره يطرحان قضية نوعية خاصة إذ ل يجوز الكتفاء بالشارة إلممى أن
الجزيرة العربية بحاضرتيها مكة والمدينة ،كانت نقطة التقمماء المعجممزة التجاريممة الكممبرى والقوافممل
المتوجهة من الشرق إلى الغرب ،ومن أوروبة والشممرق الدنممى إلممى الهنممد والصممين ،ومممن البحممر
المتوسط إلى المحيط الهندي ،لن الكتفاء بهممذه الشممارة قممد يفهممم منممه أنممه بفضممل وقمموع الجزيممرة
العربية على مفمترق طمرق الحضمارات قمد تمم تممازج الديمان والثقافمات المتي لمم يكمن السملم إل
محصلة لها ومبشراة بها ،بل إنه خلفا ة لهممذا فقممد انطلممق مممن مكممة والمدينممة وشممبه الجزيممرة العربيممة
بصحاريها وواحاتها ،وراحا يشع على مدى قرون ،عقيدة واحدة وروحا ة جماعية مشتركة سينسممجم
عنها ثقافة نوعية أغنت الثقافات الخرى وجددتها وذلك عبر ثلث قممارات مممن الهنممد إلممى أسممبانية ،
ومن آسية الوسطى إلى قلب إفريقية .وظاهرة النتشار هذه ل تشبهها أيممة ظمماهرة أخممرى سممابقة أو
لحقة ،نعني هجرة الموجات البدوية العديدة من أقاسي آسية ،والغممزوات الوروبيممة الكممبرى علممى
أمريكة و إفريقية ،هذه الغزوات التي تتمتع بتفوق عسكري مطلق ،قمموامه المممدفع والبندقيممة أول و
الرشاش ثانيا ة .
ولم تكن الجزيرة العربية غزيرة السكان ،ولم يكن العرب يملكون ما يملك الفممرس والممبيزنطيون
مممن أسمملحة وفنممون حربيممة .و هكممذا فالمبراطوريممة العربيممة لممم تقممم إذاة علممى أسمماس مممن علقممات
) القوة ( التي تؤمن لها تفوق ساحقا ة .
زد على ذلك أنه ليس بالمكان تطبيق هذه الطروحممة أو تلممك مممن مقممولت ) ماركسممية ( مطلقممة
مختزلة على الظمماهرة السمملمية ،هممذه الطروحممة الممتي تفسممر حركممة التاريممخ وثموراته وتحممولته
بالمستوى التقني والعلقات القتصادية وصراع الطبقات الناجم عنها ((. 370
لقد شغلت قضية انتشار السلم وقوة وثبته أفكار العظماء ،ومنهم نمابليون المذي سممحر _كرجمل
عسكري_ بالفتوحات العربية السلمية ،وكان يممرى وراءهمما قمموة سممرية كامنممة فممي نشممأة السمملم
وقوته الذاتية ،وانتهى إلى النتيجة القائلة :
))إنه ،إذا طرحنما جانبما ة الظمروف العرضمية المتي تمأتي بالعجمائب ،فل بمد أن يكمون فمي نشمأة
السلم سر ل نعلمه ،وأن هناك علممة أولممى مجهولممة جعلممت السمملم ينتصممر بشممكل عجيممب علممى
المسيحية وربما كانت هذه العلة الولى المجهولة :أن هؤلء القوم ،الذي وثبموا فجمأة ممن أعمماق
الصحارى أمة قوية ،ومواهب عبقرية ،وحماس ل يقهر ،أو ربما كانت هذه العلممة شمميئا ة آخممر مممن
هذا القبيل ((. 371
مذكرات سإانت هلين ج ، 3ص ) 183نقل عن كتاب اتيين دينيه محمد رسإول ا ،ص .(336-335 371
182
)) ولكن إذا لم تكن مسلما ة ولم تنظر إلى القرآن على أنممه كتمماب منممزل مممن امم علممى محمممد فمممن
المتعذر عليك كمؤرخ أن تنظر إلى تفجر ذلك الينبمموع الحيمماتي الممذي راحا يزعممزع العممالم علممى أنممه
حقيقة دامغة ،وذلك دون الخوض في تبسيطات الفلسفة الوضعية وأحكامها السابقة .
إذ التسليم بهذه الحقيقة الساسية ل يلزما الستغناء عن اللجوء إلى التفسممير ،وإنممما يممدعونا سمملفا ة
بكل بساطة إلى أن ل نستثني هذا البعد الحياتي أو ذاك ،م ن حرك ة المولدة و النممو المتي تمارسمها
النسانية في مسيرتها التاريخية .
وفممي كممل تاريممخ مفعممم بالنسممانية تلعممب )الغايممات ( والهممداف دورا فمماعلة ل يقممل عممن دور
)السباب ( ((. 372
ومن هنا نجد أن انتشار السلم حدث بفعل قوته الذاتية ،و لممم ينجممم عممن أسممباب خارجيممة ،أو
حصراة بالنشاط العسكري للمسلمين ،يقول غارودي :
)) إذاة ل يمكن تفسير ظاهرة انتشار السلم بعوامل خارجية كالضعف البممالغ أو الغلل الممذي
انتاب المبراطوريات المهزومة ) المبراطورية الرومانية الشرقية وإمبراطورية الفممرس الساسممانية
وإمبراطورية الفيزيغوت في أسبانية ( كما ل يمكن تفسرها بعوامل عسكرية صرفة .
ولكممن السممباب العميقممة لممذلك النتشممار العاصممف أسممباب ) داخليممة ( تتصممل بجمموهر السمملم
وروحه ،فعشية موت النبي وعلممى مممدى اثنممتي عشممرة سممنة ) مممن _633مم 645م ( تمممت سمميطرة
العرب على فلسطين وسممورية وممما بيمن النمريممن ومصممر .ولمم تقمف فممي وجمه الموجممة الولممى إل
الحواجز الطبيعية كسلسلة جبال طوروس في آسية الوسطى ،وجبال شرقي إيران ،وصحارى ليبيممة
والنوبة في الغرب (( . 373
عملت اجتماعيا ة علممى تحقيممق المسمماواة والخمموة ،وناضمملت بممروحا مممن التسممامح ل تعممرف الحقمماد
الطائفية الدينية . .فكانت رسممالة تحريممر للشممعوب ل اسممتعباد ،وكممانت الشممعوب تسممتقبل المسمملمين
استقبال المحرر من ،ويتابع غارودي بحث قضية سر انتشار السلم وقوة جاذبيته « بقوله :
)) وهكذا وفي كل ممرة تتممم فيهمما هزيممة الطبقممة المسميطرة المكروهمة ممن شممعبها كممان العمرب
يستقبلون على أنهم محررون من قبل ضحايا الرهاب الجتماعي أو السياسي أو الضطهاد الديني.
كان انتصار العرب تحريراة وتخليصا ة ،فلقد حممرروا المسمميحيين القممائلين بطبيعممة واحممدة للمسمميح
المهتمين بالهرطقة من قبل المبراطورية البيزنطية ،كما حرروا النساطرة في بلد الفرس ،وقبائل
البربر المتي كمانت قممد تبنمت مممذهب السمقف )دونممات( والمتي اسممتعدى عليهما القممديس أوغسممطين ،
إمبراطور رومة ليبطش بها ،لنهمما مارقممة فممي نظممره ،كممما كممان انتصممار العممرب تحريممراة لليهممود
والنصارى الريوسيين وأتباع بريسيليان في أسبانية من اضمطهاد ) الكليمروس ( المتعصمب ،كمما
كان تحريراة للفلحين القباط في مصر الذين كانوا يعانون مممن ابممتزاز كبممار ملكممي الراضممي فممي
بيزنطة (( . 374
))إن أسبانية المعجزة من قبل ملوك لهوتيين ،وأساقفة شرسين ،قد فتحت ذراعيهمما للفمماتحين ..
وفي مدى عامين استولى العرب على بلد استغرق استرجاعها سبعة قرون .ولم تكن القضية قضية
غممزو أو اجتيمماحا بحممد السمميف وإنممما هممي مسممألة مجتمممع جديممد تترسممخ جممذوره القويممة فممي جميممع
التجاهات .أما مبدأ حرية ممارسة الشعائر _وهو حجممر الزاويممة لعظمممة كممل أمممة _ فكممان العممرب
حريصين على تطبيقه ،ففي كل المدن التي حكموها كانت كنيسة المسيحيين تقوم إلممى جممانب معبممد
اليهود (( . 375
))لقد كان الدين حافزاة فعالة على تأليف كيان متميممز لممم تصممدعه صممروف الممدهر ،ول الحتكمماك
بمختلف الحضارات على مر العصور ..ولقممد تمكممن المجتمممع السمملمي الممذي قممام علممى الممدين مممن
الصمود في وجه التفكيك السياسي ،ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخموم بيممن المدول كمبير
التأثير(( .376
)) لقد أظهرت الرسالة القرآنية وتعاليم النبي أنها تقدمية بشكل جوهري .وتفسر هذه الخصائص
انتشار السلم السريع بصوره خارقة خلل القرون الولى من تاريخه (( .377
كما اعتبر المستشرق الفرنسي هليار بلوك انتشار رسالة السلم معجزة حملممت للنسممانية الخيممر
والعطاء ،ونادت بالمثل العليا ،يقول في كتابه » :محمد والقرآن « :
)) إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها وبعد أثرها ،وعظيم نتائجها ،كانت مسوقة بقمموة
ل يستطاع تفسيرها ،وإن كان ما لممدينا مممن المصممادر والوثممائق يسمماعدنا علممى تفهممم السممباب الممتي
جعلتها أمراة واقعا ة منظوراة .
كانت الحركة دينية ،ما في ذلك شك ،فلم يخرج العممرب مممن جزيرتهممم للنهممب والسمملب ،وإنممما
خرجوا لنشر المدين الجديمد المذي جماء بمه محمممد ،والتبشممير بالمثمل العليما المتي نمادى بهما محممد ،
والصفات الجليلة التي دعا إليها محمد (( . 378
الفصل الثاني
الخوة السلمية بين الجناس وأ الشعوب
ل تافرقة عرقية أوأ جنسية في السلم
لقد سبق أن نوهنا في مبحث المساواة في السلم بالقول إن الرسالة حرصممت علممى إقامممة قواعممد
المساواة والخاء فممي الدولممة السمملمية دونممما أي خطممر للعممرق أو الجنممس أو الشممعوب والقوميممات
المختلفة ،ودونما تفريق بين أصحاب الديانات المتباينة أو اختلف بين مسلم وذمي . . .
)) لما أهلت آخر المر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء ،لم تعد المسيحية ،التي اختلطممت
بالغش والزيف ،وتمزقت بسبب النقسممامات الداخليممة ،وتزعزعممت عقائممدها الساسممية ،واسممتولى
على رجالها اليأس و القنوط من هذه الشكوك ،نقول إن ه لمم تعمد تلمك المسميحية قمادرة علمى مقاوممة
إغراء هذا الدين الجديد الذي بدد بضربة من ضرباته كل الشممكوك التافهممة ،وقممدم مزايمما جليلممة إلممى
جانب مبادئه الواضحة التي ل تقبل الجممدل ،وحينئممذ تممرك الشممرق المسمميح ،وارتمممى فممي أحضممان
العرب .ول عجب فقد منح السلم العبد رجاء ،والنسانية إخمماءة ،ووهممب النمماس إدراكمما ة للحقممائق
الساسية التي تقوم عليها الطبيعة البشرية (( . 379
)) إن نظرية الخوة السلمية ،والمساواة التي كممان المسملمون يؤمنممون بهمما ،ويعيشممون فيهما ،
أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقا ة .وكان أكثر خضوعا ة لهذا التأثير البؤساء الممذين حممرم عليهممم
المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق النسانية ((. 380
كايتاني :حوليات السإلما نقل عن كتاب السإلما و الحياة ،ص .67 379
جواهر لل نهرو :نقل عن كتاب النظاما السياسإي في السإلما ،ص .220 380
186
الخاء وأ المساوأاة
أن الخوة السلمية وقفت دائما ة بالمرصاد ضد النزعة العرقية ،فل فرق بين عربي وأعجمممي ،
أو أبيض وأسود ،فالجميع سواسية كأسنان المشط ،ويعاملون على قدم المساواة ،يقول المستشممرق
والمؤرخ بودلي :
))و ليس هناك أي عائق لوني للمسلم فل يهم أكممان المممؤمن أبيممض أو أسممود أو أصممفر ،فممالجميع
يعاملون على قدم المساواة (( .381
و تأسيسا ة على مبدأ الخموة النسمانية بيمن الجنماس والشمعوب ،حقمق السملم واقعيما ة ل نظريما ة
عملية توحيد مختلف الجناس في ظل المساواة والعدل السلميين ،يقول برج مؤكداة :
))إنه ليس هناك من مجتمممع آخممر سممجل لممه التاريممخ مممن النجمماحا كممما سممجل للسمملم فممي توحيممد
الجناس النسانية المختلفة ،مع التسوية بينها في المكانة والعمممل وتهيئممة الفممرص للنجمماحا فممي هممذه
الحياة (( . 383
ويتحدث المفكر النكليزي موير عن الرسالة السلمية وفق عقيدتها ،فيقول :
))ومن عقيدة السلم أن النسان أخو النسان (( .384
القبائل العربية المتناحرة إلى أمة عظيمة ضمت شممعوبا ة شممتى وأجناسمما ة مختلفممة ،وأعراقمما ة متباينممة ،
كان الجميع فيها يعاملون على قدم المساواة تضمهم رايمة الخمموة ،ويوحمدهم مبممدأ الديمقراطيممة فممي
ظل تلك الحضارة السلمية النسانية الزاهرة ،يقول في كتابه » :لمحات من تاريخ العالم « :
)) كان محمد واثق بنفسه ورسالته ،وقد هيا ة بهذه الثقة وهذا اليمممان لمتممه أسممباب القموة والعممزة
والمنعة ،وحولها من مكان صحراء إلى سادة يفتحون نصف العممالم المعممروف فممي زمممانهم ،كممانت
ثقة العرب وإيمانهم عظيمين ،وقد أضاف السلم إليها رسالة الخوة والمساواة والعدل ،بين جميع
المسلمين ،و هكذا ولد في العالم مبدأ ديمقراطي جديد ،فوثب الشعب العربممي بنشمماط فممائق أدهممش
العالم ،وقلبه رأسا ة على عقب .وإن قصة انتشار العرب في آسممية وإفريقيممة وأوروبممة ،والحضممارة
الراقية ،والمدينة الزاهرة التي قدموها للعالم هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ (( . 385
)) يبدو من النظرة الول أنه توجممد ظممروف ملئمممة جممداة للديمقراطيممة فممي داخممل السمملم .فممإن
السلم كان أعظم الديانات توفيقا ة في إزالة فوارق الجنس واللون والقومية (( . 386
)) وينبغي أن يحتفظ لغير إلمؤمنين بوضع خاص في مجتمع قائم بشكل أساسي على الدين .ومع
ذلك فليس شأن الجنممبي كشممأن » العممدو « فممي المدينممة القديمممة .وتتمثممل أصممالة النظممام السمملمي
بالنظر إلى ما كان سائداة في العصور الغريقية والرومانية فممي شمممولية المموحي و إرشممادية الممدين .
ويمثل تفوقه في هذا المضمار على اليهودية والمسيحية في تقبلممه الممديانات التوحديممة السممابقة ،الممتي
يصدقها السلم .ولكنه يجاوزها في الوقت نفسه إلى جانب توكيده على الوحممدة الجوهريممة للديممان
السماوية .
فالنسبية إذن قاعدة مقبولة في حقل التشريع ل حين يتعدى المر التوكيد الجوهري لعامة القانون
اللهي .وإليك إحدى أهم مساهمات السلم في تأليف مفهوم عالمي حممديث :التسممماحا وهممو واجممب
ديني وأمر شرعي .والقرآن واضح في الإشارة إليه :وأنزلنا إليك الكتاب بممالحق مصممدق لممما بيممن
يديه من الكتاب ومهيمنا ة عليه .فالحكم بينهم بما أنزل ا ،ول تتبع أهواءهم عما جاءك من الحممق .
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجمما ة ،ولممو شمماء امم لجعلكممم أمممة واحممدة ولكممن ليبلمموكم فممي ممما آتمماكم ،
فاستبقوا الخيرات .
وترتسم في هذا الطار العام ثلث فئات من غير المسلمين .فهناك أولة المشرك المدعو للممدخول
في الدين الجديد دون أن يتخذ بحقه تدبير طرد ،وليس أمامه نظريمما ة إذا ناصممب السمملم والمسمملمين
العداء إل أن يختار بين اعتناق الدين والقتال حتى الموت .وهناك ثانيا ة اعتنق لدين توحيممدي القمماطن
خمارج العمالم السملمي )الحربممي ( .ولكممن فمي وسممعه أن يقيممم مؤقتما ة فيممه تبعما ة لجمراء فمي غايمة
البساطة .ويبدو هذا النموذج الثاني أقرب إلى فكرة »الجنممبي« حسممب المممذهب الحممديث .و تضممم
الفئة الثالثة أخيممرا الموحممدين الممذين " تحميهممم " الجماعممة السمملمية .و كممثير ممما لجممأت الكتابممات
الغربية إلىعملية تعميم مفرطممة فممي التبسمميط فمماعتبرت هممؤلء »المحمييممن « بمثابممة »مممواطنين مممن
الدرجة الثانية « .والواقع أن هؤلء القوم كانوا أجانب خاضعين لقوانينهم الخاصة .و»محميين «
بالمعنى الفعلي للفظة ،لنهم مقيمون جغرافيا ة في المجال الخاضع سياسمميا ة وثقافيمما ة للسمملم .وكممانوا
يؤلفون أقليات دينية متناسقة تكفل أوضاعها نظم قانونية ملزمة إزاما ة شممديداة للغلبيممة المسمملمة لنهمما
جزء من التنزيل (( . 387
التعايش الخوي
إن السلم قدم نفسه كعقيدة دينية وشريعة ظهممرت فممي إطممار تنظيممم اجتممماعي تبلممور فممي الدولمة
السلمية عبر سائر المراحمل التاريخي ة السمابقة واللحق ة ،سمابقا ة إلمى تحقيمق فكمرة التعمايش بيمن
الشعوب والجناس والديان ،وإن نظرة واحدة لول دستور مكتوب في تاريخ البشرية ،وأقصد به
دستور المدينة يقدم لنا القوانين السائدة في أول دولة إسلمية قامت بعد الهجرة وحققت التعممايش بيممن
المسلمين واليهود والقبائل العربية التي لم تكن تعتنق السلم ،ومن ثم تطورت جوانب هذا التعايش
مع قيام الدولة السلمية التي ضمت شعوبا ة وأمما ة مختلفة ،حققت بينها النسجام والعدل والمساواة ،
بعيداة عن العصبية العرقية أو الستعلء الديني .يقول مارسيل بوازار :
(( وقممد فتممح السمملم البمماب للتعممايش علممى الصممعيد الجتممماعي والعرقممي حيممن اعممترف بصممدق
الرسالت اللهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ،وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشممترك
هم اليهود والنصارى عممبر إبراهيممم .لكنممه بممدا أنممه يرفممض الحمموار فممي المموقت ذاتممه علممى الصممعيد
اللهوتي حين ربط التنزيل القرآني بما جاء في الكتاب المقاس وأزال من العقيدة كل ما اعتممبر زيفمما ة
مخالفا ة للتوحيد بالمعنى الدقيق للكلمة .وأتاحا منطق تعاليمه القوي وبساطة عقيدته ،وما يرافقهمما مممن
مارسإيل باوزار :إنسانية السإلما ،ص .184-183 387
189
تسامح أتاحا كل همذا للشمعوب المتي فتمح بلدهما حريمة دينيمة تفموق بكمثير تلمك المتي أتاحتهما المدول
المسيحية نفسها ،ول سيما في حوض المتوسط الشرقي ،حيث كانت تحارب بقسوة الهرطقات التي
غالبا ة ما كممانت تتخممذ شممكل المطالبممة القوميممة .وبهممذا ل تغطممي "الجماعممة السمملمية" رقعممة » دار
السلم « ،فالفكرة الولى تتخذ طابع الموافقة الدينية ،و تضمممن الثانيممة بنيممة سياسممية ودينيممة معمما ة
تضم غير المسلمين تبعا ة لجراء محدد .
ويتيح التوحيد لكل إنسان شرف الندماج في الجنس البشري دون حصر ول مراعمماة خاصممة .و
تستتبع وحدة الرسالت احترام معتنقي التنزيلت السابقة ،في حين أن اعتناق السمملم يحقممق للفممرد
في موازاة ذلك ،مكان بلوغ الدرجة القصوى من الكمال بالنخراط في مجتمع المؤمنين .وبالفعممل
فإن شهادة أن "ل إله إل ا وأن محمداة رسول ا " التي ينخرط بها الفرد ،ويشارك مشمماركة تامممة
في المة السلمية تتضمن اعترافا ة مزدوجا ة :العتراف بوحدانية ا ،والعتراف بأن النبي محمداة
رسول من ا .و تبقى القيمة الجوهرية هي هي لجميع الناس بوصفهم أناسا ة .ومع هممذا فممإن شممعور
المسلم بالدعوة الربانية أهي موضوعيا ة من شعور أي إنسان آخر لنه يتبع أمر ا :
ويا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنى وجعلناكم شعوبا ة وقبائل لتعمارفوا إن أكرمكممم عنمد امم
اتقاكم أن ا عليم خبير . 388
)) وبالرغم من كون هذا المجتمع مفتوحا ة للجميع ،فممإنه ليممس فممي مكنممة الجماعممة أن تقبممل الممذين
رفضوا مقدماتها الساسية .أي السلم ،بصورة أعضاء كاملين .إل أنممه ليممس ممما يمنممع المممؤمنين
من إقامة علقات صداقة مع غير المسلمين .ما دامت هذه الروابط ل تشكل خطراة علممى الجماعممة .
وفي وسع الموحدين غير المسمين القاطنين في قلب وسلطة زعيمهم الديني المسؤول تجاه السمملطات
السمملمية .وقممد تممألفت "أمممم" مممن نمموع معيممن ،واتحممدت ،وخضممعت لنظامهمما الممديني الخمماص .
وانخرطت في البنية الجتماعية الفوقية للمجتمع السلم ي الذي يحميها.
وتعني كلمة )الذمة ( في أصل وضعها حسب المعجممات العربيمة ،الإيمممان والعهممد ،والميثماق ،
فالقضية إذاة قضية عقد تسمح الجماعة السلمية بموجبه للقوام الموحممدة الخاضممعة لهمما أن تحتفممظ
بدينها بكفالة السلم ،لقاء دفع ضريبة تعويضية واحترام بعممض موجبممات حممددتها الشممريعة بدقممة .
ويستمد مبدأ الجزية أساسه من القرآن ،أما طرق تطبيقها فقممد وضممعت فيممما بعمد ،و ل سميما خلل
حقبة الفتوحات .
وليممس طممابع معاهممدة الحمايممة ) الذمممة ( التشممريعي قممابلة للمقارنممة أو المماثلممة بأفكممار المممذهب
التشريعي الغربممي الرائجمة .أضممف إلممى ذلممك أن المؤسسممة تطممورت بتطممور تاريممخ المبراطوريممة
السلمية ،بتأثير النقول الخارجية وما نتممج عنهمما ممن تطممور بنممى العممالم السمملمي نحمو نموع مممن
العلمانية .وإنه ليكتفممي أن نسممتخرج خطمموط النظممام العامممة الكممبرى ممن ركممام كممثير التشممويش مممن
الحداث التاريخية ،والراء التشريعية ،والعلقات بين الحداث « ،لنبين كيف حاول السمملم منممذ
القرن السابع للميلد أن يقدم حلة لمشكلة القليات فريداة فممي نمموعه .والمقممابلت القانونيممة التاريخيممة
خطممرة ،لن المؤسسممات القديمممة نتمماج مفمماهيم بعيممدة جممداة فممي الغلممب عممن تطلعاتنمما أو إنجازاتنمما
الحديثة .
وتستحق جماعة غير المسلمين على أرض السلم أن تتنمماول بالتحليممل ،لنممه ثبممت أنهمما نهممج ل
مثيل له ،في الوقت الذي كان فيه الغرب على أهبة الخروج من العصور الوسطى وإدراك ضرورة
وضع النظمة المحددة للعلقات مع الغرباء (( .389
ل إكراه في الدين
ويتابع البمماحث الفرنسممي بمموازار عرفممه مظمماهر التسممامح السمملمي ،إن كفلممت الشممريعة لحمايممة
القوام المفتوحة بلدهم ،دون أن تمس حقوقهم وأوضاعهم ،رغم ظهور بعض التجاوزات الطفيفمة
بين ويخلص إلى القول :
))ويظهر أن السلم يتراءى أكثر تسامحا ة كلما قوي واشتد على الصعيدين الداخلي والخارجي .
وينم نص الآية القرآنية التي تمنع الكراه على اعتناق الدين عن تأكيد ل يتزعزع .وقوة المة تمموفر
للمؤمن أل يخش اليهودي و ل المسيحي ،وأن يحترم بالتالي شخصهما ودينهما ومؤسسمماتهما .وقممد
استوحت الجماعة السملمية أثنماء الموجمة الول لنتشمارها فمي الرض اسمتيحاء كمبيراة الترتيبمات
التحررية التي أغدقها النبي وخلفاؤه .وقد أهمل معظم القيود التي جدت بالتدريج .ولممم يرجممع إليهمما
ومنذ البدء أكد السلم أنه دين عالمي حضاري صالح لكممل الجنمماس ولمختلممف الشممعوب ،يقممول
المؤرخ والمستشرق السباني ريتين في كتابه " :التاريخ الخاص لسورية ولبنان " :
)) دين محمد قد أكد منذ الساعة الول لظهوره وفي حياة النبي أنه دين عام .فإذا كان ص الحا ة
لكل جنس كان صالحا بالضرورة لكل عقل ،ولكل درجة من درجات الحضارة ((. 392
)) وكذلك كم قام السلم بخدمات أخرى أسداها للنسانية ولممه ممماض بممديع مممن تعمماون الشممعوب
وتفاهمها ،وليس هنالك مجتمع آخر له ما للسلم من ممماض كلممه نجمماحا فممي جمممع كلمتممه مثممل هممذه
الشممعوب المعجممزة المتباينممة علممى بسمماط واحممد ،فممي ا لحقمموق والواجبممات ،وقممد برهنممت الطوائممف
السلمية في إفريقية والهند والهند الشرقية والجماعات الصغيرة منهم في الصين واليابان ،على أن
السلم يستطيع أن يوفق بين العناصر التي ل سبيل إلى التوفيق بينها ،وإذا ما أريد إحلل التعمماون
محمل الخلف بين المجتمعات في أن الشرق والغرب فإن وساطة السلم ضرورية ل غنى عنهمما ،
فهو وحده الكفيل بحل المشكلة التي تواجه أوروبا ة في علقاتها مع الشممرق ،فممإذا اتحمدا عظمم الممل
في أن تكون النتيجة سلما ة ،وأما إذا رفضت أوروبممة معاونممة السمملم وألقممت بنفسممها فممي أحضممان
خصومه فلن تكون العاقبة إل نكبة لهما معا ة (( .393
و بكلمة فإن السلم وحده القادر على تحقيمق الخماء النسماني والمسمماواة بيممن سمائر الشممعوب ،
يقول :
)) ما زال في مستطاع السلم أن يقدم للنسانية خدمة جليلة ،فليس هناك أية هيئممة سممواه يمكممن
أن تنجح مثله نجاحا ة باهراة في تأليف هذه الجناس البشرية المتنافرة في جبة واحدة أساسها المساواة
(( . 394
الفصل الثالث
رسالة السلم وأ مستقبل النسانية
الدوأر العالمي لرسالة السلم
إن الخوة السلمية بين الشعوب والجناس المختلفممة ،وعالميممة الديانممة السمملمية الناجمممة عممن
كونها ديانة تبشر بالسلم والصداقة بين الشعوب حققت للسلم إمكانية النتشمار الواسممع ،ومتمكنممة
من أن يكون له دوره العالمي في صنع مستقبل النسانية ،لقد جاء في مجلممة العممالم السمملمي الممتي
يرأس تحريرها مؤسسها القس البريطاني صممموئيل زويمممر ،فمي الكلمممة لمتي ألقاهما جمورج بمروك
عضو البرلمان البريطاني في جمعية المسلمين في مدينته بردفورد بإنجلترة ،قوله :
))إنه يستطيع أن يرد الهتمام بالدين السلمي إلى أنه دين عالمي بطبيعته ،ثم قال :أن السلم
دين السلم والمحبة بين البشر ،وإن ه يلعمب دوراة خطيمراة الن فمي ش ؤون العمالم ،و أنمي أعتقمد أن
خطره وتأثيره في مستقبل العالم سيزداد جيلة بعد جيل (( .395
))ذلك أن السلم لم يكن دينا ة للعرب فحسب ،وإنما همو ديمن النسمانية ممن أقصمى الرض إلمى
أقصاها (( . 396
أما الباحث جورج رو فينظر إلى عالمية السلم في ابتعادها عن الشكلية وأداء الشعائر ،يقول :
))ليس السلم مجرد شكل ،و ل هو مجرد شمعائر دينيمة تتفماوت درجمات أصمحابها فمي العممل
بها .ولكن الوصف المميز للسلم هو أنه دين عالمي معمول به أكثر من أي دين غيره (( .397
الصحيح كمنظومة اجتماعية سياسية ،واقتصادية روحية ،يقول المفكر اليرلندي برناردشو :
)) إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد هذا النبي الذي وضع دينه دائما ة موضع
الحترام والجلل ،فإنه أقوى دين على هضم جميع المدينات ،خالد خلود البد ،وإني أرى كممثيراة
من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة ،وسيجد هذا الدين مجماله الفسميح فممي القممارة الوروبيممة
بعد هذه الحرب ،وإذا أراد العالم النجاة من شممروره فعليممه بهممذا الممدين ،إنممه ديممن التعمماون والسمملم
والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراة مممن أممور الممدنيا إل رسمممته ووزنتممه بميممزان ل يخطممئ
أبدةا(( . 398
يقول الكبير الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه " :إنسانية السلم " :
))و تسمح ديمومة القناعة الدينية بالتشديد على صلحا السلم للزمممن الراهممن عممن طريممق أمثلممة
مستقاة من الحقبة المعاصرة ومن الماضي .وقد احتفظنا من القانون السلمي بما اعتبرنمماه ثابتمما ل
يتحول ،ل بوصفه قواعممد ابتممدعها أو اسممتنتجها الفقهمماء ،أنممما بوصممفه تعممبيراة عممن إجممراء روحممي
مرتبط بحضارة خاصة .وجوهر القانون وهبته الرادة اللهية ،فهو مممن هممذه الناحيممة ،وبصممورة
عامة جداة ،مثالي وثابت .و هكذا اهتم التفكير القانوني السلمي بالمحافظة على النظام المجتمعي
أكثر من اهتمامه ببناء مجتمع .وراحا يتطور مع نمو المجتمع ،وأكسبه مظهره الذممي مرانا ة كممبيراة
.ولم يعمل المظهر القانوني على عكس صورة عن الواقع بالتطابق مع الحداث ،بل كان مفروضا ة
فيه على العكس أن يوجهها بوصفه علما ة نظريا ة مرتبطا ة بجوهر القانون _الوحي_ وخاضعا ة له ،كما
أن الغصان جزء من الشجرة .وقد كان من الممكن أن تتلفى الواقعية العملية الممارسة في حممدود
الطر التي فرضها نظام أسمي اقتصار القانون على قتل أعلى مجرد أو علممى نمممط سمملوك ل يمكممن
بلوغه ،وباختصار ،بدا لنا أن روحا القانون السلمي أصلح لبحثنا من طريقة تطبيقه (( . 399
)) أن الناس ليتلهفون على دين يتفممق وحاجمماتهم ومصممالحهم الدنيويممة ،ول يكممون قاصممراة علممى
إرضاء مشاعرهم وإحساساتهم ،ويريدون أن يكون هذا الدين وسمميلة لمنهممم وطمممأنينتهم وسممعادتهم
في الدنيا والخرة ،وليس هناك من دين تتوفر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى السمملم ،إي
أنه ليس مجرد دين فحسب ،بل إن فيه حيمماة للنمماس ،لنممه يعلمهممم كيممف يحسممنون التفكيممر والكلم ،
ويحضهم على فعل الخير وصالح العمال ،ولممذلك سممرعان ممما شممق طريقممه إلممى القلمموب والفهممام
((. 401
ولقد أكدت التجارب التاريخية القديمة مدى ثباته وصلحيته ،يقول الدكتور ف .ف .بارتولد :
)) لقد أثبت السلم خلل مئات السنين والعوام مقدرته على البقاء ،وضرب المثل العلممى فممي
الخاء والمساواة ((. 403
ومن هذا المدلول يذهب المستشرق النجليزي صوئيل ممارغوليوث )_1868م _ ( 1940المذي
تحدث عن رسالة السلم في يوم مولد الرسول _ إلى أنهمما رسممالة حضممارة تحمممل فممي ذاتهمما طممابع
صلحية البقاء والستمرار:
)) أن يوم ميلد محمد ليوم عزيز على العالم ل على العرب فقط لنه لم يولد إل للمر عظيم أل
و هو رسالته التي بلغها للعام فاعتنقها قوم وتركها آخرون ،وهي طافحة بالحضممارة والتعمماليم الممتي
تخدم البشرية وتوليها زمام الحياة ،ولكنها رسالة أخذت بها أمة جهلت ما فيها ،وخير ما فيها طممابع
صلحية البقاء مع الزمن مهما طال وامتد (( . 404
لورا فيتشا فاليبري :مجلة الذكرى عدد ، 7دورة ، 1ص .23 401
ف .ف .باارتولد :نقل عن مجلة الذكرى ،العدد ، 3الدورة ، 1ص .64 403
صموئيل مارغوليوث :تاريخ سإوريا و لبنان )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص .(128 404
195
)) وأحيانا ة يتساءل البعض عما إذا كان نظام السلم يستطيع توليد أفكار جديدة ،وإصدار أحكممام
مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية :
فالجواب عن هذه المسألة ،هو أن في نظام السلم كل استعداد داخلي للنمو ،بل هممو مممن حيممث
قابليته للتطور يفضل كثيراة النظم المماثلممة . . .وإنممي أشممعر بكمموني علممى حممق ،أقممدر أن الشممريعة
السلمية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللزمة للنهوض (( . 405
)) إن السلم يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهممو يسممتطيع أن يتطممور دون أن يتضمماءل
خلل القرون ،ويبقى محتفظا ة بكل ما لديه من قوة الحياة والمرونة .فهو الذي أعطممى العممالم أرسممخ
الشرائع ثباتا ة ،وشريعة تفوق كثيراة الشرائع الوروبية . 406 (( ،
ويتحدث المستشرق الفرنسي مارسمميل بمموازار فممي كتممابه » :إنسممانية السمملم « ،عممن القممانون
السلمي وعالميته وأنه قابل » للتطبيق « :
)) ويبقى القانون السلمي في أيامنا أحد النظمة القانونية الكبرى ل إن أنه ينظم العلقممات بيممن
حوالي سبعمائة مليون نسمة .ويستلهم لنشماء القواعمد الدسمتورية فمي ع دة بلمدان .وتكبمح القناع ة
الدينية جماحا الوسط الجتماعي برمتممه .والتصممور الممذي يفرضممه التنزيممل ماثممل بشممكل خمماص فممي
الجماهير الشعبية التي تزداد أهميتها السياسية في ممموازاة تطممور بعممض الصمميغ الديمقراطيممة .فكممل
حركة من الحركات يشتد تلونها بالدين بازدياد نفاذها إلى الجماهير .فهذه الجماهير تقدم النفعممالت
بالنظام الجتماعي والتعبير عنممه ،كممما تقممدم فممي كممثير مممن الحيممان مممادته بالممذات .ويشممكل الممدين
عنصراة حيويا ة مؤثراة في العلقات بين الفراد و الزمر والمم ،تزداد فعاليته تدريجا ة على ما يبممدو ،
و تؤكممد الظمماهرة ،وتممدعم قابليممة القممانون السمملمي للتطممبيق ،و تسممهم فممي المموقت نفسممه مرونتممه
)) ويعود السلم بصورة إجمالية إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلت
التي يطرحها مصير النسان والمجتمع ،ويخلق التطور السياسي الداخلي للممدول حلممولة و تغييممرات
خاصة .ولقد تأكد أن جميع النتفاضات التي ساورت البلدان السلمية في عشرات السنين الخيممرة
كانت إسلمية بصورة حقيقية ،مهما تكن صبغة الزياء التي ألبستها و ل تزال هذه الحركممات جممادة
في استلهام الماضي المجتمعي .
و أصالة النظام السمملمي الولممى فممي مفهمومه للنسممان الجتممماعي الممذي يعممارض فممي آن معمما ة
الشيوعية التي تلشي الفرد في الجماعة ،والليبرالية التي تعممادي ممما بيمن الفممرد والمجتمممع .ويكفممل
التضامن بين أفراد المجتمع احترام حقوق النسممان داخممل الزمممرة وفممي الخممارج ،لنممه معتممبر أحممد
رعايا القانون المدولي .ويضمع السملم ثمم روحيتمه فمي مقابمل الماديمة الوضمعية المتي تسملخ ع ن
النسان إنسانيته ،حائلا ة بذلك دون أن تصبح الدولة يوما ة » الله اللة « الذي عرفه الغرب ،والذي
تجهد الدول المزعوم أنها » اشممتراكية « فممي فرضممه .ويحممول المعنممى الجممازم للمسممؤولية الفرديممة
_وهي أحد عوامل التحمرر الهاممة _ دون أن يخلمى النسمان عمن شخصمه للزممرة الفائق ة القمدرة :
ويوجه الخلص أول ما يوجه لمثل الدين العليا ل للمؤسسات الحكومية .و ترسيخ غايممات النسممان
المترفعة عن الدنيا ينزع إلى إخضاع الدولة للقانون بدلة من إخضاع الفرد للجهمماز السياسممي .وفممي
نظام فكري مماثل ينممادي السمملم علممى المسممتوى الممدولي بالتعمماون بيممن الشممعوب أكممثر مممما ينممادي
بالكتفمماء الممذاتي للهممم ،وينممادي مممذهبه القممانوني باختصممار :بالسممتقامة ،والعالميممة السمملمية ،
والواقعية ،والعتدال ،وكلها فضائل متوافقة مع طبيعة النسان الروحية (( . 408
ومممن هنمما تظهممر أفضمملية الرسممالة السمملمية علممى سممواها مممن الرسممالت السممابقة علممى لسممان
المستشرقين والمفكرين الوروبيين المنصفين ،ومن هذا التجاه يدلي المستشممرق الفرنسممي شممانليه
)) إن رسالة محمد هي أفضل الرسالت التي جاء بها النبياء قله ،لنها جاءت إلى الشعوب نقية
من كل عيب ،وخالية من كل نقص ،بل إنه يوجد فيها من التعاليم القيمة مال يوجد في غيرهمما مممن
الديانات (( . 409
بينما تحدث الفكر بارتلمي سانت هيلر بإعجمماب عمن الرسممول محمممد وعممن الرسممالة السمملمية
بقوله :
)) وقد كان دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده ،جزيل النعم على جميع الشعوب الممتي اعتنقتممه ((
. 410
بارناتشو :نقلة عن كتاب السلم في ضوء التشيع ،ج ، 1ص .197 411
بارناتشو :نقلة عن كتاب السلم في ضوء التشيع ،ج ، 1ص .197 412
» لو توخى الناس الحق لعلموا أن الدين السلمي هو الحل الوحيد لمشاكل النسانية (( . 415
الخيار السلمي
قد تناول المستشرق النمساوي ليبولد فايس الذي اعتنممق السمملم وعممرف باسممم محمممد أسممد ،فممي
كتابه :السلم على مفترق الطرق ،موضوع روحا السلم الذي جاء لخير البشممر جميعمما ة ولصممالح
النسانية قاطبة ،فنبي السلم قد بعثه ا ،وصحة للعالمين ،والسلم اليوم يقدم لنا حلة للمعضمملة
النسانية ولقضايا البشر ،إنه خيممار يممبرز علممى المسممتوى العممالمي إلممى جممانب الخيممارات الخممرى
كعقيدة دينية ونظام اجتماعي سياسي ،وحيممن تعقممد المقارنممة ممما بيممن الخيممار السمملمي والخيممارات
الخرى تظهر أرجحية السلم على ما سواه ،كرسالة عالمية تحمل الحلول العملية لقضايا النسممان
،يقول محمد أسد :
)) نحن نعد السلم أسمى من سائر النظم المدينة ،لنه يشمل الحياة بأسرها :انه يهتم اهتماممما ة
واحداة بالدنيا والخرة ،وبممالنفس والجسممد ،وبمالفرد والمجتمممع ،انمه ل يهتممم فقممط لممما فممي الطبيعممة
النسانية من وجود المكان إلى السوء ،بل يتم أيضا ة لما فيها من قيود طبيعية .إنممه ل يحملنمما علممى
طلب المحال ،ولكنه يهدينا إلى أن نستفيد أحسن الستفادة مما فينا من استعداد ،وإلى أن نصل إلممى
مستوى أسمى من الحقيقة _حيث ل ثقات و ل عداء بين المرأي وبيمن العممل .إن ه ليمس سمبيلة بيمن
السبل ،ولكنه السبيل ،وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاويا ة مممن الهممواة « ولكنممه الهممادي .
فأتباعه في كل ما فعل وما أمر أتباع للسلم عينه « وأما اطراحا سنته فهو اطممراحا لحقيقممة السمملم
((. 416
ليوباولد فايس )محمد أسإد( :السإلما على مفترق الطرق ،ص .103-102 416
ويتابع المستشرق النمساوي المسلم عرض فكرته هذه ليرى مدى صلحيتها فإذا ما بحث السلم
،كثقافة إسلمية لعبت دوراة حضاريا ة عظيما ة ،ليرى إلى أين تسير ،هل تمض إلى أمممام أم تممتراجع
إلى الخلف .. .يقول :
)) هذه إذاة حال السلم ،ربما ظهرت كذلك عند إلقماء أول نظممرة سممطحية .كممما ل شممك فممه أن
الثقافة السلمية شهدت نهضة مجيدة وعهداة من الزدهممار ،وكممان لهمما مممن القمموة ممما يلهممم الرجممال
جلئل العمال وأنواع التضحية ،ولقد غيرت معالم الشعوب وخلقت دولا ة جديدة ثم سممكنت وركممدت
وأصبحت كلمة جوفاء ،وها نحن أولء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحللها ،ولكن هل هذا كل ممما
في المر؟
إذا كنمما نعتقممد أن السمملم ليممس مدنيممة بيممن المممدنيات الخممر ،وليممس نتاجمما ة بسمميطا ة لراء البشممر
وجهودهم ،بل هو شرع سنه الله لتعمممل بمه الشممعوب فممي كمل مكممان وزممان ،فمإن الموقمف يتبممدل
تماما ة .ولكمن إذا كمانت الثقافمة السملمية فمي اعتقادنما نتيجمة لتباعنما شمرعا ة منمزلة فإننما حينئمذ ل
نستطيع أبداة أن نقول بأنها كسائر الثقافات خاضعة لمرور الزمن ومقيدة بقوانين الحياة العضمموية ثممم
إن ما يظهر انحللة في السمملم ليممس فممي الحقيقمة إل موتمما ة وخلء يحلن فممي قلوبنمما الممتي بلممغ مممن
نحولها وكسلها أنها ل تستمع إلى الصوت الزلي .ثم ليس ثمة علمة ظاهرة تدل على أن النسانية
_مع نموها الحاضر_ قد استطاعت أن تشب عن السلم ،بل إنها لم تستطع أن تخلق نظاممما ة خلقيمما ة
أحسن من ذلك الذي جاء به السلم .إنها لممم تسممتطع أن تبنممي فكممرة الخمماء النسمماني علممى أسمماس
عملي ما كما استطاع السلم أن يفعل حينما أتى بفكرة القومية العليا " :المممة" إنهمما لممم تسممتطع أن
تشيد صممرحا ة اجتماعيمما ة يتضمماءل التصممادم والحتكممار بيممن أهلممه فعلة علممى مثممال ممما تممم فممي النظممام
الجتماعي في السلم .إنها لم تستطع أن ترفع قدر النسان ول أن تزيد في شعوره بالمن ول فممي
رجائه الروحي ول سعادته (( . 418
لقد تأيد السلم _ولمدينا جميممع الدلمة علمى ذلمك _ بممما وصمل إليمه النسممان ممن أنمواع النتماج
النساني ،لن السلم كشف عنها وأشار إليها على أنها مستحبة قبممل أن يصممل إليهمما النمماس بزمممن
طويل .
ولقد تأيد أيضا ة على السواء بما وقع أثناء التطور النساني من قصور وأخطاء وعثرات لنه كممان
قد رفع الصوت عاليا ة بالتحذير منها قبل أن تتحقق البشرية أن هذه أخطاء .وإذا صممرفنا النظممر عممن
العتقاد الديني ،نجد ممن وجهممة نظممر عقليممة محممض ،كممل تشممويق إلممى أن نتبممع الهممدى السمملمي
بصورة عملية وبثقة تامة (( . 419
)) والحاصل أن إسلم المستقبل ودوره في العلقات الدوليممة رهممن بممما يصممنعه بهممما المسمملمون
أنفسهم .ويقدم التنزيل في هذا السياق ثقة مطمئنة وحافزاة قويا ة في وقت معا ة (( . 420
و يستشهد المستشرق الفرنسي بأقوال محمد عبده لتأكيد مقولته ،فيتابع فكرته :
)) وبالفعل فإن السمملم _حسممب قمول محممد عبمده _ لمم يغفمل الحمديث عمن فضمميلة واحمدة ممن
الفضائل الرئيسية .ول أهمل إنعاش مصدر واحد من مصادر عمل الخير .ول تغاضى عممن تحديممد
قانون واحد من قوانين النظام ،فقد هيا ة للنسان الذي بلغ سن الرشد أن يتحرر فكممره ويسممتقل عقلممه
في أبحاثه ،فينشا ة عن هذا الستقلل وذاك التحرر تفتح ملكاته الطبيعية ،و تيقظ إرادته ،وانطلقممه
على طريق الجهد .ومن يقراة القرآن كمما يجمب أن يقمراة يجممد فيممه ممن هممذه الناحيمة كنموزاة ل تفنمى
وغناءة ل حد له (( . 421
محمد عبده :الرسإالت ،ص ، 122نقل عن المصدر الساباق ،ص .(389 421
201
)) وهناك شيء مهم ،وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه ،وهذا هو الذي وجده العقممول العمليممة
في السلم ،لخلوه من السرار وعبادة القديسين ،ول حاجة به إلممى الهياكممل والمعابممد لن الرض
كلها مسجد ل ،وفوق ذلممك قممد يجممد بعممض أهممل مممذهب العتقمماد بممال دون غيممره مممن العصممريين
المتحيزين في التعبير عما عاج نفوسهم من التطلع ،قد يجدون في السلم المممذهب النقممي للعتقمماد
بال ،فيجدون فيه أبدع وأسمي أعمال العبادة ،وما يمكن أن يتخيله مممن معنممى ألفمماظ الممدعاء .ثممم
نزيدك شاهداة آخر ،وهو قول شرفيس " :السلم محقق أبلغ معنى لفضيلة اليثار على النفس بأقممل
بحث فيها من الوجهة النظرية " .وقد حصل في فرنسا وفي بلد أخرى من أوروبة وإفريقية وآسية
دخول أشخاص في السلم فرادى ،وربما كان ذلك مصداقا ة لهذا الحديث النبمموي الممذي معنمماه " قممد
يؤيد ال هذا الدين بالغرباء منه " .
ومن مميزات السلم الصيلة ملءمته لجميع الجنمماس البشممرية ،فلممم يكممن العممرب وحممدهم هممم
الذين اتبعوا السلم ،بل كممان مممن ضمممنهم مممن همو مممن فممارس كسمملمان الفارسممي ،وبعضممهم مممن
النصارى كورقة ،وبعضهم من اليهود كمخيرق وعبد ا بن سلم ،وبعضهم مممن الحبمماش كبلل
وغيرهم ،وجاء في القرآن الكريم :
و وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيراة ). ( 24/27
فدين الرسول محمد عليه السلم ،قد أكد ،من الساعة الولمى لظهموره ،وفمى حيمماة النمبي عليمه
السلم ،أنه دين عام صالح لكمل زممان ومكمان .ولمم إذا كمان صمالحا ة بالضمرورة لكمل جنمس كمان
صالحا ة بالضرورة لكل عقل ،إن هو دين الفطرة ،والفطرة ل تختلف فكان إنسان عن آ خممر .وهممو
لكل هذا صالح لكل درجة من درجات الحضممارة ،وهممو علممى ممما فيممه مممن تسممامح وبسمماطة ،سممواء
بالنظر لمذهب الصوفية يؤدي للعالم هداية و توفيقا ة ،سواء في ذلك الوروبي المتحضممر و الزنجممي
السود ،من غير أن يعوق حرية الفكر عن أحدهما ،ثم زيد على ذلك بالنسممبة لزنجممي انتشمماله مممن
عبادة الوثان .
ثم هو ل يعوق الرجل العملي الذي يرى حياته في العمممل ،ويعتممبر المموقت مممن ذهممب ،كالرجممل
النجليزي وكذلك ل يعوق الرجل الصوفي والشرقي التأمل فممي بممدائع الصممنع ،ويأخممذ بيممد الغربممي
المأخوذ بسحر الفن والخيال ل وليس هذا فحسب ،بل هو يستولي على لب الطبيب العصممري أيضمما ة
،بل فيه من الطهارة المتكررة في اليوم والليلة ،وتناسق حركات المصلي فممي الركمموع والسممجود ،
وما فيها من نماء للجسم ،وإفادة للصحة الجسمية والنفسية .
وعلى هذا فليس من الجرأة إذةا ،أن نظن أنه إذا هدأت الزوبعة المروعممة القائمممة ضممد السمملم ،
وضمن هو الحترام لكل الشعوب والديانات ،أنه سوى مستقبلة حافلة بأعظم المال وأعلها شمأنا ة .
202
فإذا ما دخل في الحضارة الوروبية بفضل اشتراكه العظيم في الحوادث ،فسيتضح سناه الحقيقممي ،
وستعرف المم المختلفة حقيقته التي حجبت عنهم زمنا ة ،وسيمد الكممل يممده لمحممالفته ،متنافسممين فممي
ذلك ،لن قيمته قد خبروها ،وعرفوا ما يستكن فيه من وسائل القوة التي ل حممد لهمما و ل نفمماد . . .
ولو نهض أتباع محمد عليه السلم وأفاقوا من سباتهم العميق لرجع لهم عزهممم السممالف ،وتمماريخهم
المجيد ،وصاروا أمة ل تعرف الجممور فممي معاملتهمما لكممل رعاياهمما ،ل فممرق بيممن مسمملم ومسمميحي
ويهودي ،و تبؤوا مكانهم الذي يليق بمجدهم (( . 422
422
إتيين دينيه :محمد رسإول ا ،ص .363-362
203