You are on page 1of 203

‫‪1‬‬

‫الرسول في الدراسات‬
‫الستشراقية المنصفة‬
‫محمد شريف الشيباني‬

‫القسم الوأل‬
‫إضاءات استشراقية على السيرة‬
‫النبوية‬
‫الجزيرة العربية عشية البعثة النبوية‬
‫لقد ألهمت شخصية الرسول ‪ ‬الكثير من الباحثين ف ي الش رق و الغ رب‪ ،‬فدرس وا س ماتها‬
‫بفيض من المؤلفات الممتي صممورت حيمماة محمممد ‪ ‬و تن اولت ج وانب عظمت ه و عبقريت ه‪ ،‬و ص فة‬
‫البطولة الملحمية في سيرته التي انضوت في ثناياها حيمماة الممة‪ ،‬تجسممدت كحقيقمة تاريخيممة ناصممعة‬
‫عبر دعوته التي أحدثت انقلبا في حياة تلك القبائل العربية المتناحرة فعمقتهما ام ةة رائمدةة أخمذت بيمد‬
‫‪2‬‬

‫أمم و شعوب في معارج الرقي و التقدم‪ ،‬هاديا أيها إلممى سممبيل النممور‪ ،‬و لممم تلبممث إل ردحمما قصمميرا‬
‫حتى انقلبت ثورة عالمية معطاةء خيراة و عدالة و معرفة‪.‬‬

‫عظمة أصحاب الرسالت‬


‫ل مرية في أن أصحاب الرسالة العظيمة عظماء في ذواتهم‪ ،‬عظماء في سمميرتهم‪ ،‬و هممم ان‬
‫ظهروا بمرحلة تاريخية بعينها تركو بصماتهم ليمس فمي مجتمعماتهم فحسمب ‪ ،‬بمل ممدوا ظلهمم علمى‬
‫التاريخ في مشممارق الرض و مغاربهمما‪ .‬و هممذا ممما حممدا بالمستشممرقين المنصممفين لدراسممة شخصممية‬
‫الرسول و تحليل صفاته الخلقية و الخلقية‪ ،‬و الهتمام بدوره القيممادي فممي المجتمممع كصمماحب رسممالة‬
‫سماوية لم تقتصر على العرب وحدهم ‪ ،‬بل كانت رسالة عالميممة ؟‪ ،‬صممالحة لكممل زمممان و مكممان‪ ،‬و‬
‫‪ ‬و ‪‬‬ ‫ك إل كانفةة للننا س‬
‫س نبشيراة و ننذيراة‬ ‫لقد جاء في تنزيل العزيز قوله تعالى ‪  :‬و ما الرنسللنا ن‬
‫س أني نرسوكل ا إنلليككلم نجميعا ة ‪. ‬‬
‫قكلل يا أييها النا ك‬

‫أن عظمة الرسمول البممارزة للعيمان ‪ ،‬تكممن فممي انممه كممان حاممل رسمالة سممماوية توحيديممة ‪،‬‬
‫شمولية تهدف أساسا ة إلى إصلحا حياة البشرية عامة‪ ،‬و نقلها من البربرية إلى الوثنية إلممى الحضممارة‬
‫التوحيدية اليقينية ‪ ..‬يقول مؤلف "قصة الحضارة" الباحث المريكي وول ديوارنت ‪:‬‬

‫نبيا ة كبيرا‪ ،‬و توحيديا كامل و لم يكن له نظير جاء لصلحا البشر ((‪.1‬‬ ‫)) كان محمد ‪‬‬

‫و منذ نعومة أظافره ‪ ‬تبدت فيه علمات النباهة و النب وغ‪ ،‬و ظل ت مرافق ةة إي اه ف ي س ائر‬
‫أطموار حيماته‪ ،‬و لمذا شمدت المستشمرقين لدراسمتها‪ ،‬كمما سمبق أن اسمتوقفت كتماب السميرة النبويمة‬
‫المسلمين الذين بحثوا بالتفصيل علئم النبوة و دللتها في حيمماته – عليممه السمملم – بممدءاة مممن مولممده‬
‫حتى التحاقه بالرفيق العلى‪ ،‬بل ذهب الكثير منهم إلى بحث علمات نبوته ‪ ،‬فيما كمان يممتردد حموله‬
‫القول بأن امة العرب سيكون لهمما نبيهمما المرتقممب ‪ ،‬و سمميخرج مممن مكممة ‪ ،‬و انممه سمميكون مممن قبيلممة‬
‫قريش‪ ،‬و على وجه التحديد من أسرة بني هاشم‪.‬‬

‫النفوذ السياسي وأ القتصادي وأ الروأحي لقريش مكة‬


‫‪:‬‬
‫كانت قبيلة قريش التي ينتسممب إليهمما الرسممول الكريممم ‪ ،‬تتميممز بيممن القبائممل العربيممة بنفوذهمما‬
‫السياسي و القتصادي و الروحي ‪ ،‬فقد توحدت بعد تفرق‪ ،‬و سكنت مكة منمذ حموالي مئمة سمنة قبمل‬
‫انبعاث نور السلم بقيادة قصي احد أجداد النبي محمد ‪ ، ‬الذي أسس دار الندوة ال تي ه ي بمثاب ة‬
‫مجلس المدينة ‪ ،‬و المكان الذي تعقد فيه الجتماعات للتباحث في المور العامة و الخاصة التي تهم‬
‫القبيلة دينيمما ة و دنيويممةا‪ ،‬و التشمماور بيممن وجمموه مكممة فممي قضممايا الحممرب و السمملم ‪ ،‬و بحممث الشممؤون‬
‫السياسية و القتصادية ‪ ...‬و كان لتلمك القبيلمة السميادة الروحيمة و السياسمية و القتصمادية فمي قلمب‬

‫وول ديورانت ‪ :‬نقل عن السإلما مبدأ و عقيدة ص ‪.48‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪3‬‬

‫جزيرة العرب‪ ،‬خاصة و لها سدانة الكعبة‪ ،‬و كانت إلى ذلك فرعين ‪ :‬قريممش "البطمماحا" الممتي تسممكن‬
‫قلب مكة ‪ ،‬و قريش "الظواهر" التي تقطن الضواحي – و تضم بهما بطون أميمة و نوفمل وزهمرة و‬
‫مخزوم و أسد و جمح و سهم و هاشم و تيم و عممدي – و هممي بممذلك تؤلممف أرسممتقراطية المدينممة‪ ،‬و‬
‫تهيمن على مختلف النشطة اقتصاديا و اجتماعيا في أواسط بلد العرب غربها‪ ،‬ناهيك عما كان لها‬
‫من تجارة واسعة مع البلد المجاورة استدعت عقد اتفاقات مع رؤسمائها‪ ،‬إذ كمانت القوافمل التجاريمة‬
‫منظمة‪ ،‬و تسير بين مكة و بلد الشام و اليمن‪ ،‬متبعة طريق التجارة الرئيسي المار بمكة‪ .‬و أكسممبت‬
‫قريش – بفضل تعظيم العرب الكعبة و حجمهم إليها – فوائممد اقتصممادية‪ ،‬و نفمموذاة روحيمما ة و سياسمميا ة‬
‫بين القبائل‪. 2‬‬

‫الكعبة المشرفة وأ الحجز السود وأ بئر زمزم ‪:‬‬


‫و كان لقريش رموز قدسية ثلثة بقيت في السلم‪ ،‬و هي الكعبمة المشمرفة المتي يحمج إليهما‬
‫العرب‪ ،‬و تضم الحجر السود‪ ،‬و إلممى جانبهمما بئممر زمممزم ‪ ...‬و يتحممدث المفكممر النكليممزي توممماس‬
‫كارليل عن رموزها الدينية و القدسية بقوله ‪:‬‬

‫)) و الحجر السود كان من أهم معبودات العممرب و ل يممزال للن بمكممة فممي البنمماء‬
‫المسمى "الكعبة" ‪ ،‬و قد ذكر المؤرخ الروماني "سيسلس" الكعبة فقال ‪ :‬إنها كانت في مدته اشممرف‬
‫معابد العالم طراة و أقدمها‪ ،‬و ذلك قبل الميلد بخميس عامةا‪ ،‬و قال المؤرخ "سلفستر دي ساسممي" ان‬
‫الحجر السود ربما كان من رجوم السماوات‪ ،‬فإذا صح ذلك فلبد أن أنسانا ة قد بصر بممه سمماقطا ة مممن‬
‫الجو ‪ ،‬و الحجر موجود الن في جانب بئر "زمزم" و الكعبة مبنية فوقهما‪ ،‬و الممبئر – كممما تعلمممون‬
‫– منظرا حيثما كان سار و مفرحا‪ ،‬ينبجس من الحجر الصم كالحياة من الممموت‪ ،‬فممما بممالكم بهمما إذا‬
‫كانت تفيض ‪:‬‬

‫و ل ماء‪ ،‬لكن قورها الدهر عووم‬ ‫بديمومة لظل في صحصحانها‬


‫و بارحها المسموم للوجه الطم‬ ‫ترى الل فيها يلطم الل مائجا ة‬
‫بواجها دون اللثام ملثم‬ ‫أظل إذا كافحتها‪ ،‬و كأنني‬

‫و قد اشتق لها اسمها زمزم من صوت تفجيرها و هديرها‪ ،‬و العرب تزعمم انهما انبجسمت تحمت‬
‫أقدام هاجر و إسماعيل فيضا ة من ا و شفاةء‪ ،‬و قممد قدسممها العممرب‪ ،‬و الحجممر السممود‪ ،‬و ممما شممادوا‬
‫عليهما الكعبة منذ ألف السنين‪ .‬وما أعجب هذه الكعبة و أعجب شأنها‪ ،‬فهممي فممي هممذه الونممة قائمممة‬
‫على قواعدها‪ ،‬و عليها الكسوة السوداء‪ ،‬يبلغ ارتفاعها سبعا ة و عشرين ذراعةا‪ ،‬حولها دائرة مزدوجممة‬
‫من العمد‪ ،‬و بها صفوف من المصابيح‪ ،‬وبها نقوش وزخارف عجيبة‪ ،‬و ستوقد تلك المصابيح الليلممة‬
‫لتشرق تحت النجوم المشرقة‪ ،‬فنعم اثر الماضي هي‪ ،‬و نعم ميراث الغممابر‪ .‬هممذه كعبممة المسمملمين‪ ،‬و‬
‫من أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب‪ ،‬و من دلهي إلى مراكش‪ ،‬تتوجه أبصممار العديممد المجمهممر‬
‫من عباد ا المصلين شطرها‪ ،‬و تهفو قلوبهم نحوها خمس مرات هذا اليوم و كل يوم‪ .‬نعممم‪ ،‬لهممي و‬
‫ا من اجل مركز المعمورة و اشرف أقطابها ((‪. 3‬‬

‫الموسإوعة الميسرة‪ ،‬ص ‪.1378‬‬ ‫‪2‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.64-63‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫مكة وأ مكانتها في جزيرة العرب ‪:‬‬


‫مما تقدم نجد أن مكة كانت قبلة العرب‪ ،‬لن جوانحها تضم الرممموز القدسممية للعممرب‪ ،‬بحكممم‬
‫موقعها التجاري الخطير‪ ،‬و لذا سرعان ما تطورت و غممدت الحاضممرة العربيممة الولممى فممي جزيممرة‬
‫العرب‪ ،‬يقول كارليل ‪:‬‬

‫)) و إنما من شرف بئر زمزم و قدسية الحجر السود‪ ،‬و من حج القبائل إلى ذيمماك المكممان‪،‬‬
‫كان منشأ مدينة مكة‪ .‬و لقد كانت هذه المدينة وقتا ة ما ذات بال و شأن‪ ،‬و أن كانت الن فقممدت كممثيراة‬
‫من أهميتها‪ .‬و موقعها من حيث هممي مدينممة سمميء جممدةا‪ .‬إذ هممي واقعممة فممي بطممن مممن الرض كممثير‬
‫الرمال ‪ ،‬وسط هضاب قفرة و تلل مجدبة‪ ،‬على مسافة بعيدة من البحر‪ ،‬ثم يمتاز لها جميع ذخائرها‬
‫من جهات أخرى‪ ،‬حتى الخبز‪ .‬و لكن الذي اضطر إلى إيجاد هذه المدينة هو أن كممثيرا مممن الحجيممج‬
‫كان يطلبون المأوى‪ ،‬ثم أن أماكن الحج ما زالت من قديم الزمان تستدعي التجارة‪ ،‬فممأول يمموم يلتقممي‬
‫فيه الحجيج يلتقي فيه كذلك التجممار و الباعمة‪ .‬و النمماس حممتى وجممدوا أنفسممهم مجتمعيممن لغممرض مممن‬
‫الغراض رأوا انه ل بأس عليهم أن يقضوا كل ممما يعممرض لهممم مممن منممافع و أن لممم يكممن ذلممك فممي‬
‫الحسبان‪ ،‬لذلك صارت مكة سوق بلد العرب باجمعها‪ ،‬و المركز لكل من كان من التجار بين الهنممد‬
‫و بين الشام و مصر و بين إيطالية‪ ،‬و قد بلغ سكانها في حين من الحيان مائة ألف نسمة بين بائعين‬
‫و مشممترين و ممموردين لبضممائع الشممرق و الغممرب و باعممة للمممأكولت و الغلل‪ ،‬و كممانت حكومتهمما‬
‫ضربا من الجمهورية الرستقراطية عليها صبغة دينية‪ ،‬و ذلك أنهم كانوا ينتخبون لها عشممرة رجمال‬
‫من قبيلة عظمى‪ ،‬فيكون هؤلء حكام مكة و حراس الكعبة‪.‬‬

‫و كانت الكعبة لقريش في عهد محمد ‪ ،‬و أسرة محمد من قبيلة قريممش‪ ،‬و كممان سممائر المممة‬
‫مبددةا في أنحاء تلك الرمال قبائل تفصلها بين الواحدة و الخرى البيد و القفار‪ ،‬و على كل قبيلة أمير‬
‫أو أمراء‪ ،‬و ربما كان المير راعيا أو ناقل أمتعة‪ ،‬و يكممون فممي الغممالب غازيمما‪ .‬و كممانت الحممرب ل‬
‫تخمد بين بعض هذه القبائل و بعضها الخر‪ .‬و لم يك يؤلف بينهم حلممف علنممي إل التقممائهم بالكعبممة‪،‬‬
‫حيث كان يجمعهم على اختلف و ثنياتهم مذهب واحد‪ ،‬و هي رابطة الدم و اللغة((‪. 4‬‬

‫لغتنا العربية البنت الشرعية للهجة قريش ‪:‬‬


‫و لم تقتصر معالم سيادة قريش على الجانبين الجتممماعي و القتصممادي و حسممب‪ ،‬بممل كممان‬
‫للهجة قريش سيادتها في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية‪ .‬و ما اللغة العربيممة الفصممحى‪ ،‬إل البنممت‬
‫الشرعية للهجة قريممش الممتي نممزل بهمما القممران الكريممم‪ ،‬و كممانت الداة "اللغويممة" الممتي وحممدت أبنمماء‬
‫الجزيرة العربية و أوصلت رسالة السلم إلى مختلف شعوب الرض‪.‬‬

‫يقول المستشرق الهولندي رينهارت دوزي )‪ (1884-1820‬مؤلف تاريخ الدولة السلمية فممي‬
‫الندلس و المغرب‪ ،‬و مدرسة اللغة العربية في ليدن‪ ،‬يقول في في مؤلفه "عرب أسبانية" ‪:‬‬

‫)) كان يوجد على عهد محمد في بلد العرب ثلث ديانات ‪ :‬الموسوية و العيسوية و الوثنية((‪.‬‬

‫المصدر الساباق‪ ،‬ص ‪.65-64‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫ثم مضى الباحث باسطا ة عادات الوثنين الذميمة حتى انتهى الى القول ‪:‬‬
‫)) في عهد هذه الحوال الحالكة‪ ،‬ووسط هذا الجيل الشديد الوطأة‪ ،‬ولممد محمممد بممن عبممد امم فممي‬
‫شهر أغسطس ‪ 29‬منه عام ‪ ،570‬من هذا نممرى أن العممالم النسمماني كممان بحاجممة الممى حممادث جلممل‬
‫يزعج الناس عما كانوا فيه‪ ،‬و يضطرهم الى النظمر و التفكيمر فمي اممر الخمروج م ن الممأزق المذي‬
‫تورطوا به ((‪. 5‬‬

‫شبه الجزيرة العربية قبيل البعثة النبوية ‪:‬‬


‫لقممد عرفممت الفممترة السممابقة لظهممور السمملم‪ ،‬عنممد المممؤرخين العممرب "بالجاهليممة"‪ ،‬اسممتنادا‬
‫للوصف الذي أطلقه القرآن على تلك الحقبة السابقة لدعوة النبي‪ ،‬تدليل على ما آلت إليه أحوال شممبه‬
‫الجزيرة العربية من تدهور و انحطاط‪ ،‬إذ ظهر الفساد في البر و البحر‪.‬‬

‫و لقد كتب باحث غربي عن الوضع الذي آلت أليه الحضارة النسانية قبل ضهور الممدعوى‬
‫السلمية بقوله ‪:‬‬

‫)) في القرنين الخامس و السادس‪ ،‬كان العالم المتمدين‪ ،‬على شفا السقوط في هاوية‬
‫الفوضى‪ ،‬لن العقائد التي تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت‪ ،‬و لم يك ثمة ما يعتممد بممه مممما‬
‫يقوم مقامها و كان يبدو وقتئذ أن المدينة الكبرى التي تكلف بناؤهمما جهمود أربعممة ألف سممنة مشممرفة‬
‫على التفكك و النحلل ‪ ،‬و أن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليممه مممن الهمجيممة إذ أن‬
‫القبائل تتحارب و تتناحر‪ ،‬فل قانون و ل نظام‪ .‬أما النظم التي خلفتهمما المسمميحية فكممانت تعمممل علممى‬
‫التفرقة و النهيار‪ ،‬بدل من التحاد و النظام فكانت المدينة التي تشبه شممجرة ضممخمة متفرعممة‪ ،‬امتممد‬
‫ظلها إلى العالم كله‪ ،‬واقفة تترنح‪ ،‬و قد تسرب إليها العطب حتى اللباب ‪ ،‬و بين مظمماهر هممذا الفسمماد‬
‫الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم المعروف جميعه ((‪. 6‬‬

‫التاجاهات الفكرية الدينية في جزيرة العرب قبل‬


‫البعثة ‪:‬‬
‫الوثنية في شبه الجزيرة العربية ‪:‬‬
‫لقد ارتبطت الحياة الجتماعية و الفكرية في شمبه الجزيمرة العربيمة بالذهنيمة الغيبيمة الوثنيمة‬
‫التي تجلت بعبادة الصممنام المختلفممة يتجممه إليهمما عابممدوها فممي تضممرعهم و ابتهممالتهم اعتقمماداة منهممم‬
‫القادرة على تسيير الحياة و المسيطرة على مصائر الناس‪ ،‬و أنها المنظمة لحركة الكون‪ ،‬هذا‪ ،‬و لقد‬

‫‪ 5‬رينهارت دوزي ‪ :‬عرب أسإبانيا ‪.‬‬


‫‪ 6‬وليم موير ‪ :‬حياة محمد ‪ .‬مولي محمد علي ‪ :‬محمد رسإول ا ص ‪) 13-12‬ترجمة مصطفى‬
‫فهمي و عبد الحميد جودة السحار(‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫اهتم المستشرقون بأوضاع شبه الجزيممرة العربيممة قبممل عموممما ة و بالوثنيممة العربيممة خصوصممةا‪ ،‬يقممول‬
‫الدكتور جواد علي ‪:‬‬

‫)) و قد عنممي المستشممرقون بهممذا الموضمموع‪ ،‬فكتبمموا بحوثمما فيممه‪ .‬و مممن هممولء )ولهمموزن(‬
‫‪ J.Wellhausen‬ص احب كت اب )بقاي ا الوثني ة العربي ة( ‪ Arabischen Heidentums‬و‬
‫)دتلف نيلسن( ‪ Detlef Nielson‬و )لودولف كريل( ‪ Ludolf Krehl‬و غيرهم‪.‬‬

‫و لقد اعتمد )ولهوزن( على ما نقلممه )يمماقوت الحمممودي( مممن كتمماب الصممنام الممذي لممم يكممن‬
‫مطبوعا ة و ل معروفا ة ايام ألف )ولهوزن( كتابه عن الوثنية العربية‪.‬‬

‫و يعد كتاب )ولهوزن( أوسع مؤلف في موضوعه كتبه مستشروق عن الوثنية العربية‪ ،‬إنممما‬
‫تبعته حديثا ة جملة بحوث عن الصنام العربية ‪ ،‬إنما تبعته حدثيا جملة بحمموث عممن الصممنام العربيممة‬
‫التي عثر عليها في الكتابات مما فات ذكراها في كتاب )ولوزن( ‪ ،‬لن أكثر النصمموص الجاهليممة لممم‬
‫تكن قد نشرت يومئذ‪ ،‬و بدهيا ة لم يكن في اسممتطاعة هممذا الرجممل أن يبحممث بشمميء مممن التفصمميل فممي‬
‫الوثنية ببلد العرب الجنوبية‪ .‬و لذا كممان أكممثر ممما جمماء فممي كتمماب )ولهمموزن( مسممتمداة مممن روايممات‬
‫الخباريين‪ ،‬و لذا كان ضروريا إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو و أمثاله ‪ ،‬لنحصل على‬
‫صورة شاملة عن أديان الغرب قبل السلم((‪. 7‬‬

‫و كان للوضع القبلي علقة بعبادة الصممنام‪ ،‬فاللهممة الجاهليممة كمانت آلهمة قبليمة‪ ،‬و عبادتهمما‬
‫عبادة متوارثة‪ ،‬فالصنم هو رمز القبيلة و ممثل الوحدة بين أفرادهما‪ ،‬و الموكمل بالمدفاع عنماه‪ ،‬و لمذا‬
‫عبده البناء أخذا من الباء‪ .‬و كان أي خروج عن عبادة صممنم القبيلممة يعنممي الخممروج عممن إرادتهمما‪،‬‬
‫وأي تشكيك بهذا المعبود يعني تفكيكا ة لوحتها ‪ ..‬و التي هي إدارة شيوخ القبيلة و ساداتها‪.‬‬

‫يقول الدكتور جواد علي ‪:‬‬

‫)) نعم كان في إمكان أصحاب الكلمة و السيادة و الرئاسة تغيير أصنام القبيلممة وتبممديل آلهتهمما ‪..‬‬
‫فهو هم السادة‪ ،‬و الناس تبع لساداتهم ‪ ،‬و في المثل " الناس علممى ديممن ملمموكهم" لقممد أضمماف السممادة‬
‫أصناما إلى قبائلهم ‪ .‬فبعدت و تمسك أتباعها بعباداتها‪ ،‬و كانهم قد تلقوا أوامرهم من السماء‪ .‬و نبذت‬
‫قبائل بعض أصنامها بأمر من ساداتها ‪ ،‬و دخلممت قبائممل فممي السمملم بممدخول سمميدها فيممه‪ ،‬و دخلممت‬
‫أخرى قبل ذلك في النصرانية لتنصر سادتها ‪ ،‬بكلمة أقنعت الرئيممس أو بعممد محمماورة أو بممأبلل مممن‬
‫مرض قيل له انه ببركة ذلك الدين‪ ،‬فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال و ل جواب((‪. 8‬‬

‫د‪ .‬جواد علي ‪ :‬المفصل في تاريخ العرب قبل السإلما‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪.16-15‬‬ ‫‪7‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.66-65‬‬ ‫‪8‬‬


‫‪7‬‬

‫السلم‬
‫الحدث الكوني العظيم‬
‫تلك هي الوضاع الجتماعية و القتصادية التي كانت سممائدة فممي جزيممرة العممرب‪ ،‬و كممذلك‬
‫الحالممة الفكريممة الدينيممة المهيمنممة علممى مشمماعر العممرب قبيممل ظهممور السمملم‪ ،‬مممن وثنيممة مشممركة ‪،‬‬
‫وحركممات دينيممة ضممعيفة قوامهمما اليهوديممة و المسمميحية و الحنفيممة ‪ ...‬إلممى جممانب ظهممور محمماولت‬
‫إصلحات دينية محلية‪ ،‬إذ ظهر قبل السلم عدد من النبيمماء العممرب المصمملحين‪ ،‬ورد ذكرهممم فممي‬
‫القران الكريم اذ بعث ا النبي هوداة في قبيلة عاد و صممالحا ة غفممي ثممود و سمواهما ممن أنبيمماء عهمد‬
‫الجاهلية‪ ..‬و هكذا ضلت جزيرة العرب تعيش مرحلة مخاض تاريخي ‪ ،‬يقول توماس كاريل ‪:‬‬

‫)) و على هذه الطريقة عاش العرب دهمموراة طمموالة خمماملي الممذكر غامضممي الشممأن‪ ،‬أناسمما ذوي‬
‫مناقب جليلة و صفات كبيرة‪ ،‬ينتظرون من حيث ل يشعرون اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ‪ ،‬و يطيممر‬
‫في الفاق صيتهم‪ ،‬و يرتفع إلى عنان السماء صوتهم‪ ،‬و ما ذلممك ببعيممد‪ ،‬و كأنممما كممانت وثنيمماتهم قممد‬
‫وصلت إلى طور الضمحلل و أذنت بالسقوط و قد حدثت بينهم دواعي اختلل و فوران(( ‪.9‬‬

‫و لم تقتصر أوضاع شبه الجزيرة على سيطرة الوثنية و عبادة الصنام فيها‪ ،‬بل فممي كونهمما‬
‫خاضعة للنظام القبلي الذي فرض حالة النقسام السياسي و التمزق الداخلي ‪ ،‬بسبب كون كممل قبيلممة‬
‫تشكل وحدة سياسية و اقتصادية – اجتماعية مستقلة‪ ،‬مما قاد إلى نشوب صراعات قبلية حممالت دون‬
‫توحيد الجزيرة العربية و جمع كلمة العرب‪ ،‬حتى إذا جمماء السمملم قضممي علممى الوثنيممة المخزيممة و‬
‫القبلية الخطرة ‪ ،‬بقيادة محمد ‪ .. ‬يقول وليم موير في كتابه حياة محمد ‪:‬‬

‫)) كانت أولى الخصائص التي تلفت انتباهنا ‪ ،‬إذاة هممي انقسمام العممرب إلممى جماعمات لتعممد و ل‬
‫تحصى ‪ ،‬خاضعة لقانون في الشرف و الخلق واحد‪ ،‬و متمسكة بأهداب عادات واحدة ‪ ،‬و متحدثة‬
‫في العم الغلب بلغة واحدة‪ ،‬و لكن كلة منها مستقلة عن الخرى‪ .‬كانت تلممك الجماعممات ل تعممرف‬
‫طمأنينة و ل استقراراة و كثيراة ما نشبت الحروب بينهما و حتى لو اتفممق أن جمعتهمما رابطممة الممدم أو‬
‫رابطة المصلحة فسرعان ما كانت تتفرق لتفه السباب وتستلم لعداواتها الحقود‪ .‬و هكذا كممان خليقما ة‬
‫‪10‬‬
‫بمن يرجع البصر‪ ،‬قبيل بزوغ السلم إلى التاريخ العربي ‪ ،‬أن يرى – و كأنممما بواسممطة المبممداع‬
‫‪ ، - Kaleidoscop‬حالة من التمازج و التنافر ل تفتأ تتغير و تتقلب‪ ،‬مما أدى إل ى إجه اض أيم ا‬
‫محاولة من محاولت الوحدة الشاملة ‪ ..‬و كان لبد لهذه المشكلة مممن أن تحممل عممن طريممق أيممما قمموة‬
‫توفق إلى إخضاع العرب أو جمع شملهم ‪ ،‬و لقد حل محمد المشكلة(( ‪. 11‬‬

‫‪ 9‬توماس كاريل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.68‬‬


‫‪ 10‬المبداع ‪ :‬الة تحتوي على قطع صغيرة من الزجاج الملون يرى باها الناظر أشكال شتى ذات منظر‬
‫باديع‪.‬‬
‫‪ 11‬وليم مور ‪ :‬حياة محمد‪.‬‬
‫‪8‬‬

‫و يتحدث القس لوزون في كتابه )ا في السماء(( عن النقلب المنتظر الذي قمماده الرسممول‬
‫‪ ،‬بقولة ‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫)) لقد بعث محمد رسو ة‬
‫ل إلى العرب و عاشت بلد العرب الزمان الطويلممة عاكفممة علممى عبممادة‬
‫‪12‬‬
‫الصنام و توغلت في ذلك حتى احتاجت إلى انقلب ديني عظيم (( ‪.‬‬

‫و هكذا كان النممبي محمممد ‪ ‬ه ذا الرس ول‪ ،‬ال ذي تمك ن ف ي المرحل ة المقبل ة بفض ل كف احه‬
‫النساني المرير أن يحقق ذلك النجاحا العظيم و التحول الكبير ليس في الجزيرة العربية وحسب‪ ،‬بممل‬
‫على الصعيد العالمي أيضا‪ .‬و يتحدث مولنا محمممد علممي عممن عظمممة الرسممول فممي نشممر الوحدانيممة‬
‫السلمية في بلد العرب و قضاءه على الوثنية ‪ ،‬قائلة ‪:‬‬

‫)) من حضيض هذه الوثنية المخزية انتشممل الرسممول محمممد )عليممه اللم( بلد العممرب كلهمما فممي‬
‫فترة من الزمان القصير ل تعدوا عشرين عامةا‪ .‬انه لم يستأصممل الوثنيممة مممن بلد العممرب استئصممالة‬
‫نهائيا ة فحسب‪ ،‬بل أضرم في قلوب أولئك العرب أنفسهم شرارة مممن الحماسممة لوحدانيممة امم دفعتهممم‬
‫إلى النطلق بعيدا في كل رجا ة من إرجاء العالم المعروف آنذاك لرفع راية اللممه الواحممد‪ ،‬أيضمما‪ .‬و‬
‫هذا الفطام لبلد برمته – يمتد على مساحة هائلة مقدارها مليون و مئتا ألممف ميممل مربممع – عممن لعنممة‬
‫الوثنية التي كانت تهيمن عليه هيمنممة مطلقممة نتيجممة الرث و التقاليممد الراسممخة‪ ،‬فممي مممدة ل تتجمماوز‬
‫خمس قرن‪ ،‬بحيث اكتسبت ذلك البلد لقب )محطممم الوثممان( المشممرف‪ ،‬أقممول أليممس هممذا الفطممام هممو‬
‫أعظم معجزة قدر للعالم أن يشهدها فممي تمماريخه كلمه؟ إل يسممتحق الرجممل الممذي أحممدث هممذا التحممول‬
‫التقدمي لقب )خير النام( استحقاقا ة ل مراء فيه (( ‪.13‬‬

‫القس لوزون ‪ :‬ا في السماء‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.24-23‬‬ ‫‪13‬‬


‫‪9‬‬

‫الباب الوأل‬
‫من مولده ) ‪ (‬إلى مبعثه )‪(‬‬
‫‪10‬‬

‫مولده ) ‪(‬‬
‫كانت حياة الرسول محمد ‪ ‬متميزة عن حياة أقرانه ‪ ،‬فقد ولد يتيمما ة ‪ ،‬إذ ممات أبموه عبمد ام بمن‬
‫عبد المطلب بن هاشم ‪ ،‬وهو في بطن أمه آمنة بنت وهممب بممن عبمه منمماف عممام الفيممل الموافممق لعممام‬
‫‪ 570‬للميلد ‪ . . .‬يقول القس الفرنسي لوازون في محاضرة له عن الرسول محمد ‪: ‬‬

‫)) أواخر جميع النبياء كان يعتقد المسلمون هو محمد الذي ولد في مكة لعشر ليممال مضممت مممن‬
‫ابريل سنة ‪ 570‬للميلد ‪ ،‬وكانت عائلته شرف عائلة في قريش ‪ ،‬وهى إحدى القبائممل الشممهيرة فممي‬
‫بلد العرب ‪ ،‬وصاحب النسب المرتقي إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل ‪ ،‬وقد كان جده متوليا ة سممدانة‬
‫الكعبة ‪ ،‬وكانت دار حكومتهم ‪ ،‬معبد ديانة العرب الوثنيممة ‪ ،‬وتموفي والممده عبممد امم قبممل ولدتممه ‪ ،‬و‬
‫توفيت أمه وهو ابن ستة أعوام ‪ ،‬وكان على أعظممم ممما يكممون مممن كممرم الطبمماع وشممريف الخلق ‪،‬‬
‫ومنتهى الحياء ‪ ،‬وشدة الحساس ‪ ،‬وقد كفله جده وهو ابن ست سنوات وأثناء كفالته بدأت تظهر مممن‬
‫محمد علمات الذكاء ورجاحة العقل ‪ ،‬ومر بصبيان يلعبون فدعوه للعب معهم ‪ ،‬فأجابهم أن النسان‬
‫خلق للعمال الجليلة ‪ ،‬والمقاصد الشريفة ‪ ،‬ل للعمال السافلة والمور الباطلممة ‪ ،‬وكممان علممى خلممق‬
‫عظيم ‪ ،‬وشيم مرضية ‪ ،‬شفوقا ة على الطفال ‪ ،‬مطبوعا ة على الحسان ‪ ،‬غير متشدق في نفسه ‪ ،‬و ل‬
‫صلف في معاملته مع الناس ‪ ،‬وكممان حممائزةا قمموة إدراك عجيبممة ‪ ،‬وذكمماء مفممرط ‪ ،‬وعواطممف رقيقممة‬
‫شريفة ((‪. 14‬‬

‫علمات النبوة في مولده ‪:‬‬


‫لقممد دلممت الدراسممات السمملمية لسمميرة الرسممول ‪ ، ‬علممى أن علمممات النبمموة ‪ ،‬قممد رافقتممه منممذ‬
‫ولدته ‪ ،‬وأن بعضا ة من تلك الدلئل كانت سممابقة علممى ميلده ‪ ،‬وتسممتدل علممى أنممه سمميكون للعممرب‬
‫نبيهم المرتقب ‪ . . .‬وليس هذا بالمر العجيب ‪ ،‬إذ كانت نبوة الرسول قديمة قدم ألخلق ‪ ،‬يقممول عليممه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬كنت نبيا ة وآدم بين الروحا والجسد (( ‪ 15‬وفمي روايمة ثانيمة للرسمول ‪ ‬يتح دث‬
‫فيها عن قدم رسالته ودلئل نبوته حين رأت أمه يوم مولده نوراة أضاء قصور الشام بقوله ‪: ‬‬

‫)) إني عند ا لخاتم النبيين ‪ ،‬وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بتأويل ذلك ‪ ،‬أنا دعوة أبممي‬
‫إبراهيم وبشارة عيس بي ‪ ،‬ورؤيا أممي المتي رأت حيمن وضمعت أنمه خمرج منهما نمور أضماءت ل ه‬
‫قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين ((‪. 16‬‬

‫و تذكر كتب السيرة السلمية والحديث أن اليهود اضطربوا يوم مولد الرسول ‪ ،‬ففي روايممة لم‬

‫‪ 14‬القس لوازون ‪ :‬نقل عن المقتطف‪ ،‬ج ‪ ، 4‬عدد ‪. 7‬‬


‫‪ 15‬أخرجه احمد و البخماري فمي التاريمخ و أبمو نعيممم و الطمبراني و ابمن سممعد و المبزاز و الحماكم‬
‫وصححه و اقره الذهبي عن مسيرة ‪ ،‬و الترمذي و صححه عن أبي هريرة‪.‬‬
‫‪ 16‬أخرجه المام أحمد والبزار والبيهقي والطبرانى وأبو نعيم عن العرباض بن ساريه وصححه‬
‫الهيثمي ورواه الحاكم وابن حبان وصححاه ‪.‬‬
‫‪11‬‬

‫المؤمنين عائشة أنها قالت ‪:‬‬

‫)) كان يهودي قد سكن بمكة فلما كان الليلة التي ولد فيها رسول ا ‪ ‬قال ‪ :‬يا معشر قريش هل‬
‫ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا ‪ :‬ل نعلم قال ‪ :‬انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه المممة بيممن كتفيممه‬
‫علمة ‪ ،‬فانصممرفوا فسممألوا فقيممل لهممم قممد ولممد لعبممد المطلممب غلم فممذهب اليهممودي معهممم إلممى أمممه‬
‫فأخرجته لهم فلما رأى اليودي العلمة خر مغشمميا ة عليممه وقممال ‪ :‬ذهبممت النبمموة مممن بنممى إسممرائيل يمما‬
‫معشر قريش أما وا ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب ((‪. 17‬‬

‫ولم يغب على بال المستشرق والوزير الروماني كونستانس جيورجيو ) المولود عام ‪(1916‬‬
‫في كتابه ‪ " :‬نظر ة جديدة في سيرة رسول ا" ‪ ،‬أن يممذكر أن السمميد المسمميح قممال لحمموارييه حسممب‬
‫رواية في إنجيل يوحنا ‪ :‬إنه سيأتي بعممدي شممخص يقممويكم ويحميكممم وإنممه سيرسممل إليكممم" بمماركلت"‬
‫لنني لن أدعكم يتامى ‪ ،‬وقد أعلن المسيحيون بعد صعود السيد المسيح أن "باركلت" هو نفسممه روحا‬
‫القدس ‪ . . .‬يقول جورجيو ‪:‬‬

‫)) ويرى المسمملمون أن النصممارى حرفمموا كلمممة السمميد المسمميح ‪ ،‬لنممه قممال انممه سمميأتي بعممدي "‬
‫بريكلي توس" ومعناها باليونانية ) أحمد (وهو بمعنى ) الممممدوحا ( ‪ .‬وهممو اسممم نممبي المسمملمين ‪ .‬و‬
‫) محمد ( معناها الكثر مدحا ة ‪ .‬ويروى أن اليهمود ذكمروا همذه الكلممة "بريكمي تمول" ويعلم ون أن‬
‫السمميد المسمميح سمميخلفه ) أحمممد ( ‪ ،‬لن اليهممود ) والعهممدة علممى الروايممة ( ليلممة ولدة رسممول امم ‪‬‬
‫اضطربوا كثيراة ‪ ،‬وتخوفوا من وضع آمنة((‪. 18‬‬

‫طفولته في بادية بني سعد ‪:‬‬


‫لقد كان لطفولة الرسول ‪ ‬في بادية بني سعد أثرها عل ى بنيت ه الجس دية ومس تقبلة عل ى تح وله‬
‫الفكري ‪ ،‬فقد تكون في تلك البادية استعداده للتأمممل الفكممري منممذ نعومممة أظفمماره ‪ ،‬يقممول المستشممرق‬
‫الفرنسي آتيين دينيه في كتابه ‪" :‬محمد رسول ا"‪:‬‬

‫)) هذه الصحة الخلقية والجسمية التي يدين بهمما إلممى الباديممة ‪ ،‬سمماعدته كممثيراة علممى تحمممل ممما‬
‫ابتلي به بعد من محن ‪.‬‬
‫ة‬
‫كان محمد يحب إعادة ذكريات تلك الفترة ‪ ،‬كثيرا ما كان يقول ‪ " :‬إن من نعم ا علي الممتي ل‬
‫تقدر‪ ،‬أني ولدت في قريش أشرف القبائل‪ ،‬وأني نشأت في بادية بني سعد‪ ،‬أصح المواطن بالحجاز "‬
‫وقد بقيت منطبعة في نفسه صور البادية التي كانت أول الشياء تأثيراة في حسممه عنممدما كممان يسممرحا‬
‫فيما مع الرعاة فيتسلق شرفا ة ليلحظ القطعان في مراعيهةا‪.‬‬

‫أخرجه الحاكم عن عائشة و حسنة ابن حجر‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫ك ‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سيرة رسول ا ‪ ،‬ص ‪) 23‬ترجمة د‪ .‬محمد التونجي(‪.‬‬ ‫‪18‬‬
‫‪12‬‬

‫على أن استعداده للتأمل والوحدة لم يكن لينسجم مع أخلق أقرانه الصاخبة ‪ ،‬فكان يفضل‬
‫اعتزالهم في ألعابهم ‪ ،‬ويذهب وحيداة حيث الهدوء والسكون ‪. 19((0‬‬

‫وتتحدث كتب الحديث والسيرة عن دلئل النبوة التي ظهرت له أثناء طفولته في بادية بنممى سممعد‬
‫التي ترويها ة حليمة السعدية ‪ ،‬حين حضرت إلى مكة مع نساء عشيرتها للتماس تربية أطفال أشراف‬
‫مكة حسبما درجت عليه الطبقممات الرسممتقراطية الممتي تعهممد بأبنائهمما للمراضممع مممن القبائممل البدويممة‬
‫لتنشئهم التنشئة الصحية في أجواء البادية ‪ .‬ومن جهتهم نقل المستشرقون ممن دونوا سيرة النبي عن‬
‫تلك الكتب بما يخص طفولة الرسول ودلئل النبوة ‪.‬‬

‫ولقد جاء في كتب السيرة والحديث عن طفولته ) صلوات ا عليه ( علممى لسممان أمممه بالرضمماع‬
‫حليمة السعدية ‪ ،‬قولها ‪:‬‬

‫» قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شممهباء فقممدمت علممى أتممان‬
‫لي ومعي صبي لنا وشارف لنا وا ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ول نجممد فممي‬
‫ثديي ما يغذيه ول في شارفنا ما يغذيه ‪ ،‬فقدمنا مكة فو ا ما علمت منا امرأة إل وقد عرض عليهمما‬
‫رسول ا ‪ ‬فتأباه إذ قيل إنه يتيم الب فو ا ما بقى من صواحبي امرأة إل أخممذت رضمميعا ة غممره ‪،‬‬
‫فلما لم أجد غيره قلت لزوجي إني لكره أن أرجع من بين صواحباتي وليس معي رضيع ‪ ،‬لنطلقممن‬
‫إلى ذلك اليتيم فلخذنه ‪ .‬فذهبت فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيمض ممن اللبمن يفموحا منمه المسممك‬
‫وتحته حريرة خضراء راقدةا على قفاه يغط ‪ ،‬فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منممه‬
‫رويداة ‪ ،‬فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا ة ففتح عينيه ينظر إلي فخرج مممن عينيممه نممور حممتى‬
‫دخل خلل السماء ‪ ،‬وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأعطيته ثدي اليمن فأقبل عليه بما شمماء مممن لبممن ‪،‬‬
‫فحولته إلى اليسر فأبى ‪ ،‬وكانت تلك حاله بعد ‪ .‬قالت فروي وروي أخوه ‪ ،‬ثم أخذته بما هو إلى أن‬
‫جئت به رحلي ‪ ،‬فأقبل عليه ثدياي بما شاء ا من لبن ‪ ،‬فشرب حتى روي وشرب أخوه حممتى روي‬
‫‪ ،‬فقام صاحبي تعني زوجها إلى شارفنا تلك فإذا بها لحافل فحلب فشر ب وشربت حتى روينمما وبتنمما‬
‫بخير ليلة ‪ .‬فقال صاحبي يا حليمة وا إني لراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ممما بتنمما بممه الليلممة‬
‫من الخير والبركة حين أخذناه ‪ ،‬فلم يزل ا يزيدنا خيراة ‪ .‬قالت حليمة رضممي امم عنهمما فممودعت أم‬
‫النبي ‪ ‬ثم ركبت أتاني وأخذته بي ن ي دي فس بقت دواب الن اس ال ذين ك انوا مع ي ‪ ،‬وه م يتعجب ون‬
‫منها ‪ .‬م قدمنا منازل بي سعد ول أعلم أرضا ة من أرض ا أجدب منهمما وكممانت غنمممي تممروحا علممي‬
‫حين قدمنا شباعا ة لبنا ة فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطممرة لبمن ول يجممدها فممي ضمرع حممتى كممان‬
‫الحاضر من قومنمما يقولممون لرعممانهم ‪ :‬اسممرحوا حيممث يسممرحا راعممي غنممم بنممت أبممي ذؤيممب فممتروحا‬
‫أغنامهم جياعا ة ما نبض بقطرة لبن و تروحا أغنامي شباعا ة لبنا ة (( ‪.20‬‬

‫و تتحدث كتب السيرة كذلك عن خبر شق صدر الرسول ‪ ‬واستخراج علقة س وداء م ن قلب ه ‪،‬‬
‫مما يرمز لعصمته و تطهره ‪..‬‬

‫‪ 19‬آتيين دينيه و سليمان بن إبراهيم ‪ :‬محمد رسول ا ترجمة د‪ .‬عبد الحليم محمود ‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد‬
‫الحليم محمود ‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ 20‬رواه إسحاق و البيهقي و الطبراني و أبو نعيم و أبو يعلممي و ابممن راهويممة عممن حليمممة و حسممنة‬
‫الهيثمي‪.‬‬
‫‪13‬‬

‫هذا‪ ،‬وقد علق آتيين دينه في كتابه ‪)) :‬محمد رسول ا(( على حادثة شق صدر الرسول بقوله ‪:‬‬
‫)) سجل القرآن هذه الحادثة في قوله ‪ ‬الم نشرحا ل ك ص درك ‪ ،‬ووض عنا عن ك وزرك ‪ ،‬ال ذي‬
‫أنقض ظهرك ‪. ...‬‬

‫هذه القصة ككل القصص التي من نوعها‪ ،‬والتي يجدها القارىء أثناء قراءته هممذا الكتمماب يجممب‬
‫أن تؤول تأويلة رمزيا ة ‪ .‬والقصة التي نحن بصددها تعنى ‪ :‬أن امم شممرحا صممدر محمممد إلممى الفممرحا‬
‫بحقيقة التوحيد ‪ ،‬إذ أزال عنه منذ الطفولة وزر الوثنية (( ‪.21‬‬

‫رعاية جده وأ تاوسميه له بالخير‬


‫هذا ‪ ،‬وتولى عبد المطلب بن هاشم جد الرسول محمد ‪ ‬رعاية حفيده و سماه محمداة ‪ .‬متوسما ة‬
‫به الخير‪ ،‬وكان يعتقد حسب مصادر الحديث _ بأنه سيكون له شأن ‪ .‬يقمول تومماس كارليمل متحمدثا ة‬
‫عن مولده وتوسم الخير به ‪:‬‬

‫)) وكان بين هؤلء العرب التي تلك حالهم ‪ ،‬أن ولمد الرجمل محممد )عليمه السملم ( عمام ‪570‬‬
‫ميلدي ‪ ،‬وكان من أسرة بني هاشم من قبيلة قريش ‪ ،‬وقد مات أبوه قبل مولده‪ ،‬ولما بلغ عمممره سممتة‬
‫أعوام توفيت أمه ‪ ،‬وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل ‪ ،‬فقام عليه جده الشيخ الممذي كممان نمماهز‬
‫المائه من عمر‪ ،‬وكان صالحا ة بارا وكان ابنه عبد الله أحب أولده إليه ‪ ،‬فأبصرت عينه الهرمممة فممي‬
‫محمد صورة عبد ا فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه ‪ ،‬وكان يقول ‪ )) :‬ينبغي أن يحسن القيام علممى‬
‫ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر السرة والقبيلة حسنا ة وفضلة (( ‪.22‬‬

‫و تتحدث كتب السيرة السلمية ‪ ،‬أن جده كان يعتقد بأن محمداة سيكون نبي العرب ‪ ،‬ولممم يكممن‬
‫هذا مستغربا ة ‪ ،‬في تلك المرحلة الممتي تنتظممر ولدة تاريخيممة جديممدة ‪ ،‬ويقممول الكمماتب جيورجيممو فممي‬
‫دراسته حياة الرسول ‪ ، ‬واستدلل معاصريه بأنه سيكون الرسول المرتقب ‪:‬‬
‫)) والمر المسلم به أن العرب ‪ -‬في الماضي ‪ -‬لم يدهشوا من ولدة نبي ‪ ،‬لن مثل هممذا المممر‬
‫حصل في بعض أنحاء جزيرتهم قبلا ة ‪ .‬حتى آمنة ‪ ،‬لم يبد عليهاة العجممب ‪ ،‬فقممد روي أنهمما سمممعت أن‬
‫ابنها نبي ‪ ،‬فلم تندهش لهذه البشرى ‪ ،‬لن أرض العرب ‪ ،‬لم تكن أرضا ة منجبة للنبياء وحسب ‪ ،‬بل‬
‫كانت مهاداة لفراد خاطبوا ا تعالى ‪ ،‬بل إن كل أنبياء الجزيرة خاطبوا ربهم (( ‪. 23‬‬

‫وتابع قوله ‪:‬‬

‫)) ففي شبه الجزيرة العربية المترامية الطراف ‪ ،‬خلفا ة للقطار الخرى ‪ ،‬وصحرائها الممتي ل‬
‫يعترضها حاجز ‪ . . .‬ترى البصر يمتد إلممى اللنهايممة مممن كممل طممرف ‪ ،‬صممحراء ممتممدة الرجمماء ‪،‬‬
‫وسماء ل نهاية لها ‪ . . .‬ولهذا فليس فيها ما يمنع إمكانية معرفممة امم وملئكتممه ‪ .‬ولممم تكممن مصممادفة‬
‫الخالق في هذه الصحراء الواسعة حالة استثنائية نادرة ‪ ،‬كا كما لم تكن ولدة نبي فيها خارقة للعادة‪.‬‬
‫آتيين دينه ‪ :‬محمد رسول ا ‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪21‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬البطال ‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪22‬‬

‫ك ‪ .‬جيورجيو ‪ :‬ص ‪.24‬‬ ‫‪23‬‬


‫‪14‬‬

‫ويروي بالضافة إلى آمنة _ إذ أقرباء محممد ‪ ‬جميعما ة علمموا أن همذا الطف ل نمبي ‪ .‬وممع همذا‬
‫فإنهم لم ينظروا إليه نظرة لم أعجاب ‪ ،‬كما لم تختلف رعايتهم له عن رعاية غيره من أطفال قريش‪.‬‬
‫ربما كانت نظرتهم لم إلى ولدة النبي عادية ‪ ،‬لن المهم في المر أن هذا النبي في النهايممة يسممتطيع‬
‫أن يؤدى رسالته التي سيتلقاها (( ‪. 24‬‬

‫كفالة عمه إياه‬


‫وحين توفى جد الرسول ‪ ‬عبد المطلب وهو في الثامنة من عمره ‪ ،‬كفلمه عممه أبمو طمالب رأس‬
‫أسرة بنى هاشم بعد أبيه ‪ ،‬فأحسن تربيته ‪ ،‬وسافر معه إلى الشام في بعض رحلته التجارية ‪ ،‬فالتقي‬
‫النبي محمد ‪ ‬وهو في الثانية عشر من عمممره بممالراهب ) بحيممرا ( واسمممه جرجيممس ‪ ،‬فممي بصممرى‬
‫الشام ‪ ،‬و توسم هذا الخير به علمات النبوة ‪ . . .‬ولقد أوصممي بحيممرا الراهممب أبمما طممالب أن يعنممي‬
‫بابن أخيه لنه سيكون النبي المرتقب وحذره من خطر اليهود ‪. . .‬‬

‫رحلته الوألى إلى بلد الشام وألقاؤه ببحرا الراهب‬


‫تقول كتب السيرة والحديث ‪ ،‬أن بحيرا الراهب حين رأى رسول ال قال وهو آخذ بيده ‪:‬‬

‫)) هذا هو سيد المرسلين ‪ ،‬هذا سيد العالين ‪ ،‬هذا يبعثه ا رحمة للعالمين ‪ ،‬فقيل له وما علمممك‬
‫بذلك فقال ‪ :‬أنكم حين أشرفتم به من العقبة لم يبق شجر ول حجممر إل خممر سمماجداة ‪ ،‬ول يسمجدان إل‬
‫لنبي ‪ ،‬و أني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة و أنا نجده في كتبنمما ‪ ،‬وسممأل‬
‫أبا طالب أن يرده خوفا ة عليه من اليود (( ‪. 25‬‬

‫ولقد بحث الكاتب النكليزي توماس كارليل قضية لقمماء الرسممول ‪ ‬ببحي را الراه ب ‪ ،‬وم ا ك ان‬
‫لهذا اللقاء من أثر على توجيه للتفكر في قضايا ا لحياة والخلق ‪ . . .‬وقد رد كارليل في كتابه البطال‬
‫على تلك المزاعم التي تقول إن ذلك الراهب قد لقنه العلم و انه وراء النبوة الممتي أنزلممت علممى النممبي‬
‫محمد ‪ ‬يقول ‪:‬‬

‫» ولما شب محمد وترعرع ‪ ،‬صار يصحب عمه فممي أسممفار تجاريممة وممما أشممبه ‪ ،‬وفممي الثامنممة‬
‫عشر من عمره نراه فارسا ة مقاتلا ة يتبع عمه في الحروب ‪ ،‬غير أن أهم أسفاره ربممما كممان ذاك الممذي‬
‫حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ‪ ،‬رحلة إلى مشارف الشام ‪ ،‬إذ وجد الفتى نفسممه هنالممك فممي عممالم‬
‫جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الهمية جداة في نظره ‪ ،‬أعنى الديانمة المسمميحية ‪ .‬وانممي لسممت أدري‬
‫ماذا أقول عن ذلك الراهمب سممرجياس )بحيمرا ( المذي يزعمم أن أبما طمالب ومحممداة سمكنا معمه فمي‬
‫الدار ‪ ،‬ول ماذا عساه أن يتعلمه غلم في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما ‪ ،‬فإن محمداة لممم يكممن‬
‫يتجمماوز إذ ذاك الرابعممة عشممر ‪ ،‬ولممم يكممن يعممرف إل لغتممه ‪ ،‬ول شممك أن كممثيراة مممن أحمموال الشممام‬

‫‪ 24‬المصدر ‪ ،‬ص ‪.25‬‬


‫‪ 25‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪15‬‬

‫ومشاهدها لم يك في نظره إل خليطا ة مشوشما ة م ن أشممياء ينكرهما ول يفهمهما ‪ .‬ولكمن الغلم كمان ل ه‬
‫عينان ثاقبتان ‪ ،‬ول بد من أن يكون قد انطبع على لوحا فؤاده أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضممميره‬
‫‪ ،‬ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشي ‪ ،‬وتحلها له يد الزمان يوما ة ما ‪ ،‬فتخممرج‬
‫منها أراء وعقائد ونظرات نافذات ‪ ،‬فلعل هذه الرحلة الشامية كمانت لحممد أوائمل خيمر كمثير وفوائمد‬
‫جمة (( ‪. 26‬‬

‫الرحلة الثانية إلى بلد الشام‬


‫ولم تكن رحلته إلى الشام برفقة عمه هي الوحيدة ‪ ،‬بممل كممانت رحلتممه الثانيممة وهممو ابممن عشممرين‬
‫عاما ة‪ ،‬التماسا ة للرزق على ما درج عليه المكيون في العمل بالتجارة « يقول آتيين دينيه ‪:‬‬

‫)) كانت حالة أغلب المكيين ‪ -‬كأبي طالب ‪ -‬تضطرهم إلى التجارة ‪ ،‬فممإقليمهم مممن أشممد القمماليم‬
‫جدبا ة ‪ ،‬ولذلك لم يكن من الممكن لقانطيه أن يعيشوا إل بالتعامل مممع اليمممن وسممورية ‪ ،‬اللممذين تربممط‬
‫بينهما مكة ‪ ،‬فكانت قوافلها تذهب إلى اليمن الذي أطلق عليه "القليم العربممي السممعيد " للبحممث عممن‬
‫منتجاته والمنتجات التي تصل إليه عن طريق البحر‪ ،‬فيبتاعون مما تنتممج الحبشممة والهنممد والصممين ‪،‬‬
‫من التوابل والعطر والبخور ‪ ،‬والتبر‪ ،‬والحرير ‪ ،‬وفي عودتهم إلى الحجاز يضمميفون إلممى ذلممك تمممر‬
‫يثرب أو الطائف ‪ . .‬ثم يذهبون بعد ذلك إلى سورية ليستبدلوا ببضائعهم منتجاتهم الزراعية ‪ :‬كالقمح‬
‫‪ ،‬والشعير ‪ ،‬والرز ‪ ،‬والتين ‪ ،‬والزبيب ‪ ،‬يضاف إليها ما يوجد في سورية مما يصدره إليها اليونان‬
‫والرومان ‪ .‬ولم تكن النساء بمعزل عن هذا النوع من التجارة ‪ :‬فقد كن يخترن من يخرج فممي ممالهن‬
‫للتجار في مقابل جمزء ممن الربمح ‪ .‬هكمذا كمانت تفعمل خديجمة بنمت خويلمد ذات المثراء الواسمع ‪،‬‬
‫والحسب النبيل ‪ .‬وفي ذات يوم أرسلت إلى محمد – وقد كانت تسمع بما له من عقل متزن ‪ ،‬وأمانممة‬
‫وإخلص ‪ -‬فعرضت عليه أن يسير على رأس تجارتها إلممى الشممام >‪ ،‬وأن تمنحممه فممي مقابممل ذلممك‬
‫ضعف ما كانت تمنح عادة لغيره (( ‪. 27‬‬

‫خبر لقاءه مع نسطور الراهب‬


‫و تتحدث كتب السيرة أيضا ة عن لقاءه ‪ ،‬بحيرا الراهب ‪ ،‬وفي كتب أخرى مع نسطور الراهممب ‪،‬‬
‫وكيف أنه جلس في ظل شجرة ‪ ،‬وأنه في الرواية الولى قال بحيرا الراهب لبي بكر ‪ )) :‬هذا والله‬
‫نبي ما استظل تحت ظلها بعد عيس إل محمد ‪ ، ‬بين كان تعليق نسطور ‪ )) :‬ما نزل تحت ظل هذه‬
‫الشجرة بعد عيس إل نبي (( ‪. 28‬‬

‫زوأاج الرسول‬
‫توماس كارليل ‪ :‬البطال ص ‪.68 :‬‬ ‫‪26‬‬

‫آتيين دينه ‪ :‬محمد رسول ا ‪ ،‬ص ‪.93 – 92‬‬ ‫‪27‬‬

‫رواه ابن منذر‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫‪16‬‬

‫و تزوج النبي محمد ‪ ‬خديجة بنت خويلد وهو ابن خمسة وعشرين عاما ة ‪ ،‬بينما كانت هممي فممي‬
‫الربعين ‪ ،‬وعلى جانب من الثراء والجمال ‪ )) ،‬ويقممال إنهمما تزوجتممه لممما عرفممت عنممه مممن المانممة‬
‫والخلص والنباهة ‪ ،‬وإنها رأت فيه علمممات النجابممة والنبموة ‪ ،‬وان غلمهمما ميسممرة أخبرهمما حيمن‬
‫رجع من رحلته مع الرسول من الشام بأنه شاهد في الهاجرة ملكين يظلنه من الشمس ((‪. 29‬‬

‫لقد اتفقت الدارسات الستشراقية على أن النبي شهر بممأخلقه السممامية وأمممانته وشممرف نفسممه‪،‬‬
‫يقول الباحث والمستشممرق البلجيكممي ألفممرد الفممانز ‪ ،‬فممي كتممابه علممم النفممس ‪ :‬عممن أخلقممه ‪ ‬وأمممانته‬
‫وزواجه من خديجة ‪:‬‬

‫)) شب محمد حتى بلغ ‪ ،‬فكان أعظم الناس مروءة وحلما ة وأمانممة ‪ ،‬وأحسممنهم جوابمما ة‪ ،‬وأصممدقهم‬
‫حديثا ة ‪ ،‬وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالمين ‪ ،‬وبلغت أمانته وأخلقه المرضممية خديجممة‬
‫بنت خويلد القرشية ‪ ،‬وكانت ذات مال ‪ ،‬فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مممع غلمهمما‬
‫ميسر ‪ ،‬فحرج وربح كثيراة ‪ ،‬وعاد إلى مكة واخبرها ميسرة بكراماته ‪ ،‬فعرضت نفسممها عليممه وهممي‬
‫أيم ‪ ،‬ولها أربعون سنة ‪ ،‬فأصدقها عشرين بكرة‪ ،‬وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة ‪ ،‬ثم بقيت معه‬
‫حتى ماتت (( ‪. 30‬‬

‫هذا ‪ ،‬وقد توقف المفكر النكليزي توماس كارليل عند زواج الرسول الحازم المين مممن خديجممة‬
‫التي أعجبت به ‪ ،‬وحبه العميق إياها ‪ ،‬وعيشه معها تلك العيشة الهادئة ‪ ،‬حممتى ثممار فممي أعممماقه ألممق‬
‫النبوة ‪:‬‬

‫)) وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة ‪ ،‬وكيف أنه كان أولة يسافر في تجارات لها إلى أسممواق‬
‫الشام ‪ ،‬وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والمانة ‪ ،‬وكيف جعل شممكرها لممه يممزداد وحبهمما‬
‫ينمو ‪ ،‬ولما زوجت منه كانت في الربعين ‪ ،‬وكممان هممو لممم يتجمماوز الخامسممة والعشممرين ‪ ،‬وكممان ل‬
‫يزال عليها مسحة من ملحة ‪.‬‬

‫ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة ‪ ،‬يخلص لها الحب وحدها ‪ ،‬ومما‬
‫يبطل دعوى القائلين أن محمداة لم يكن صادقا ة في رسالته ‪ ،‬بل كان ملفقا ة مممزوراة أنممه قضممى عنفمموان‬
‫شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ‪ ،‬لم يحمماول أثناءهمما إحممداث ضممجة ول دوى ‪،‬‬
‫مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ‪ ،‬ولما يك ال بعد الربعين أن تحممدث برسممالة سممماوية ‪.‬‬
‫ومن هذا التاريخ تبتدىء حوادثه وشواذه ‪ ،‬حقيقة كانت أم مختلقة ‪ ،‬وفي هذا التاريخ توفيت خديجة ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادىء الساكن ‪ ،‬وكان حسبه من الذكر والشمهرة حسممن‬
‫آراء الجيران فيه ‪ ،‬وجميل ظنونهم به ‪ ،‬ولممم يممك إل بعممد أن ذهممب الشممباب واقبممل المشمميب أن فممار‬
‫بصدره ذلك البركان الذي كان هائجا ة ‪ ،‬و ثار يريد أمراة جليلة وشأنا ة عظيما ة (( ‪. 31‬‬

‫وكتب المستشرق البلجيكي الب هنري لمنس ) ل ‪ ( 1977_ 186‬الذي عرف بدراسته عن‬

‫رواه ابن سعد و البيهقي و أبو نعيم و ابن عساكر‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫الفرد فانز ‪ :‬علم النفس‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬البطال ‪.68‬‬ ‫‪31‬‬


‫‪17‬‬

‫عرب الجاهلية والعهد الموي ‪ ،‬فصلة في أحد مؤلفاته )عهد السلم( يقول ‪:‬‬

‫))ن محمممداة بعممد أن تممزوج بخديجممة أصممبح معروفمما ة فممي قممومه ‪ ،‬وكممان النمماس يجلممون أوصممافه‬
‫ويحمدون سيرته ‪ ،‬ويلقبونه بالمين أي الصادق الذي يعتمد عليه ((‪. 32‬‬

‫ويقول غلرب باشا في كتابه الفتوحات العربية الكبرى ‪:‬‬

‫)) وحرر ثراء خديجة زوجها محمداة ممن العموز ‪ ،‬وفسممح لمه المجممال لحتلل مركممز اجتمماعي‬
‫مرمرق في مجتمع مكة الذي يقدر الثراء (( ‪.33‬‬

‫وهنا ل بد لنا من وقفة ‪ ،‬عند آراء المستشرقين أمثال لمنس وغلوب باشا عن عزوا تبوؤ محمد‬
‫مكانة مرموقة في مكة بفضل ثروة زوجته خديجة ‪.‬‬

‫ومن إقرارنا بأن زواجه يسر له شؤون حياته وحرره من المشاكل المادية ‪ ،‬ليجعله أكممثر تفرغمما ة‬
‫للنواحي الروحية ‪ ،‬ولكن هيهات لهذا أن يعزز مكانته الجتماعية ويممدفعه لتسممنم ذرى المجممد بسممبب‬
‫ثروة زوجته لنه كان أبعد عن حياة البذخ ‪ ،‬دائم التبتل والتأمل ‪ ،‬بل يمكن القول إن نجاحا الرسول ‪‬‬
‫مكانته في قبيلته وفي أخلقه ‪ ،‬وأهانته وعصمته ‪. . .‬‬

‫يقول المستشرق الفرنسي » مارسيل بوازار « في كتابه ))إنسانية السلم (( ‪:‬‬

‫)) هذا ‪ ،‬ولقد أمن له هذا الزواج اليسر والرخاء ‪ ،‬فكان يقضي أوقات الفراغ في عمله بالتجممارة‬
‫في العزلة والتأمل في ما بلغته القوام العربية من التردي الخلقممي ‪ ،‬كممما كممان يخلممو ‪ -‬قبممل رسممالته‬
‫بثلثة أعوام ‪ -‬إلى غار حراء خلل شهر رمضان للتبتل و توزيع الطعام على الفقراء ((‪. 34‬‬

‫ويتحدث الباحث النكليزي مونتجمري وات فمي كتمابه » محممد فمي مكمة « أن الرسمول ‪ ‬بع د‬
‫زواجه من خديجة ‪ ،‬أخذ يرتقي سمملم النجمماحا فممي مجتمعممه المكممي ‪ ،‬لمكممانته فممي عشمميرته ولخلقممه‬
‫السامية ‪ . . .‬وأن خديجممة رغممم اهتمامهمما بالمسممائل الماديممة كممانت أعجممب بكفمماءاته الروحيممة وخيممر‬
‫معوان له في المرحلة التالية ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) كانت السنوات التي تلت زواجه سنوات لم إعداد لعملمه فمي المسمتقبل ‪ .‬ولممم يحفمظ لنما شمميء‬
‫عنهمما يسمممح لنمما بإعممادة تكمموين مراحممل هممذا السممتعداد ‪ .‬وأفضممل ممما نفعممل هممو أن نقمموم ببعممض‬
‫الستنتاجات مما وصلنا فيما بعد ‪ .‬كهذه اليات في سورة الضممحى ) ‪/93‬مم ‪-6‬مم ‪(8‬مم الممتي يبممدو أنهمما‬
‫ترجع لتجارب محمد الولى‪.‬‬

‫‪‬ألم يجدك يتيما ة فآوى ‪ ،‬ووجدك ضال فهدى ‪ ،‬ووجدك عائ ة‬


‫ل فأغنى ‪.‬‬

‫هنري لمنس ‪ :‬عهد السلم ‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪32‬‬

‫جان باغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العربية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪33‬‬

‫مارسيل بوازار ‪ :‬انسانية السلم ‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪34‬‬


‫‪18‬‬

‫يمكن أن نستنتج من هذه اليات أن إحدى مراحل تفتحه كانت إدراكه أن يممد المم قممد أخممذت بيممده‬
‫بالرغم من مصائب الدهر وسنعرف بعض الشارات إلى هذه السنوات الغامضة بعد ((‪. 35‬‬

‫وكانت خديجة رضي الله عنها خير رفيقة الحياة في مرحلة نبوته اللحقممة وأممما ة لولده ‪ ،‬يقممول‬
‫آتيين دينيه ‪:‬‬

‫)) كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول ‪ .‬وبقيت ‪ -‬طيلة حياتهمما ‪ -‬زوجممه الوحيممدة المحببممة‬
‫التي ل يجد غيرها إلى قلبه سبيلة ‪ .‬وقد أنجبت له سبعة أولد ‪ ،‬ثلثة ذكور هممم ‪ :‬القاسممم ‪ ،‬والطمماهر‬
‫والطيب ‪ ،‬وأربع إناث ‪ :‬رقية ‪ ،‬وزينب ‪ ،‬وأم كلثوم ‪ ،‬وفاطمة ‪ .‬وبعد مولد القاسم الذي كان أول مممن‬
‫أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم ‪ .‬لكم سعد محمد بممأن منحممه اللممه طفل ذكممرا ولكممم‬
‫أعز محمد هذا الطفل وأحبه ‪ ،‬ولكم حزن حين أصابته المقادير ‪ ،‬وهو ما زال بعد في دور الطفولة ‪.‬‬
‫وأراد الله أن يكون مصي الطاهر والطيب مصير القاسم ‪ ،‬فمات الجميع قبل بعثة الرسول ‪.‬‬

‫أما البنات فقد عشن إلى ظهور السلم وكن من أوليات أسلمن ‪ ،‬وسمماعدن جاهممدات‪ ،‬فممي سممبيل‬
‫الله ورسوله ((‪. 36‬‬

‫المثل العلى في الستقامة وأ المانة‬


‫وأجمممع مؤرخممو السمميرة علممى اسممتقامة الرسممول ‪ ‬وأم انته الممتي اعممترف فيمما أعممداؤه قبممل‬
‫أصدقائه ‪ . . .‬وكان يلقب قبممل البعثممة بمالمين ‪ . . . .‬حمتى أن زواج خديجممة منهما سممببه اسمتقامته ‪،‬‬
‫يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والداب في بمماريس المستشممرق الفرنسممي كليمممان‬
‫هوار )‪ ( 1927- 1854‬في الجزء الول من كتابه ‪ ) :‬تاريخ العرب (( ‪:‬‬

‫)) كيف تعرف محمد إلى خديجة ‪ ،‬وكيف أمكن أن يحصل علممى ثقتهمما ويممتزوج بهمما ‪ ،‬الجممواب‬
‫على الشق الول ل زال غير معروف عندنا ‪ ،‬وأما علممى الشممق الثمماني فقممد اتفقممت الخبممار علممى أن‬
‫محمداة كان في الدرجة العليا من شرف النفس ‪ ،‬وكان يلقب بالمين ‪ ،‬أي بالرجل الثقة المعتمممد عليممه‬
‫إلى أقصى درجة ‪ ،‬إذ كان المثل العلى في الستقامة (( ‪. 37‬‬

‫وعن رفيع أخلقه وسامي خصاله وعصمته من النزلق في مهاوي الرذيلممة يتحممد المستشممرق‬
‫جرسان دتاسي ‪ ،‬قائلا ة ‪:‬‬

‫))أن محمداة ولد في حضن الوثنيممة ‪ ،‬ولكنممه منممذ نعومممة أظفمماره أظهممر بعبقريممة فممذة ‪ ،‬انزعاجمما ة‬
‫عظيما ة من الرذيلة وحبا ة حاداة للفضيلة ‪ ،‬وإخلصا ة ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلمق علي ه‬
‫مواطنوه في ذلك العهد اسم المين (( ‪.38‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في مكة )ترجمة شعبان بركات(‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫‪35‬‬

‫آتيين دينيه ‪ :‬محمد رسول ا ‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪36‬‬

‫كليمان هوار ‪ :‬تاريخ العرب‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫جرسان دتاسي ‪ :‬نقل عن كتاب )هذا هو السلم( ‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫‪38‬‬


‫‪19‬‬

‫وبديهي أن يعتبر الباحثون المسمملمون والمؤرخممون العممرب تلممك الصممفات ‪ ،‬و هممذه السممجايا مممن‬
‫دلئل النبوة ‪ ،‬و تتمثل أشد ما تتمثل بعصمة اللممه رسمموله المرتقممب مممن أجممواء الرذيلممة الشممائعة فممي‬
‫جاهلية العرب ‪ ،‬وأنه صمملوات امم عليهممى كممان يشممعر انطلقمما ة مممن حدسممه بممأن عليممه البتعمماد عممن‬
‫المعاصي والموبقات ‪ ،‬وأن اللممه جلممت عظمتممه اختمماره لداء رسممالة عظيمممة ‪ . . .‬وعممن هممذا المممر‬
‫يتحدث الباحث الرجنتيني دون بايرون ) ‪_ 1839‬مم ‪ ( 1900‬في مؤلفه ‪ » :‬أتح لنسفك فرصممة «‬
‫فيقول ‪:‬‬

‫» ل يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينتممه أرق مممن معاصممريه ‪ ،‬وأنممه يفمموقهم جميعمما ة‬
‫ذكاء وعبقرية ‪ ،‬وأن الله اختاره لمر عظيم وقد اتفق المؤرخون علممى أن محمممد بممن عبممد اللممه كممان‬
‫ممتازاة بين قومه بأخلق حميدة ‪ ،‬من صدق الحديث والمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى‬
‫سماه أهل بلده المين ‪ ،‬وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهممم وأمانمماتهم ‪ ،‬وكممان ل‬
‫يشرب الشربة المسكرة ‪ ،‬ول يحضر للوثان عيداة ول احتفالة ‪ ،‬وكان يعيش مما يممدره عليممه عملممه‬
‫من خير ‪ ،‬ذلك أن والده لم يترك له شيئا ة يذكر ‪ ،‬ولما تزوج خديجة كان يعمل بأموالها )( ‪.39‬‬

‫إذاة ‪ ،‬كانت حياة الرسول الولى ‪ ،‬قبل أن ينزل عليه الوحي حياة الهدوء والسلم ‪ ،‬يميل للدعة ‪،‬‬
‫مما وقف تجاهه المستشرق اليرلندي السممير وليممم ممموير )‪ ( 1867-1808‬فممي كتممابه )السمملم( ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬

‫)) إن محمداة لم يكن في وقت من الوقات طامعا ة في الغنى ‪ ،‬إنما سعيه كممان لغيممره ‪ ،‬ولممو تممرك‬
‫المر لنفسه لثر أن يعيش في هدوء وسلم قانعا ة بحالته (( ‪.‬‬

‫وقال ‪ ،‬في مكان آخر ‪:‬‬


‫))إن النبى محمداة في شبابه طبع بالهدوء والدعة والطهممر والبتعمماد عممن المعاصممي الممتي كممانت‬
‫قريش تعرف بها (( ‪.40‬‬

‫ويقول المستشرق سيديو ‪ ،‬في الجزء الول من كتابه ‪ ) :‬تاريخ العرب( ‪:‬‬

‫)) ولقد بلغ محمد من العمر خمسا ة وعشرين سنة استحق بحسن مسرته واستقامته مممع النمماس أن‬
‫يلقب بالمين ثم استمر على هذه الصفات الحميدة حتى نممادى بالرسممالة ودعمما قممومه إليهمما فعارضمموه‬
‫أشد معارضة ‪ ،‬ولكن سرعان ما لبوا دعوته وناصروه ‪ ،‬وما زال فممي قممومه يعطممف علممى الصممغير‬
‫ويحنو على الكبير ‪ ،‬ويفيض عليم من عمله وأخلقه (( ‪. 41‬‬

‫وعن هذه القضية يتحدث المؤرخ والمستشرق النكليزي السير موير في كتابه ‪) :‬حياة محمد ( ‪:‬‬
‫))إن محمداة نبي المسلمين لقب بالمين منمذ الصممغر بإجممماع أهمل بلممده لشممرف أخلقمه‪ ،‬وحسمن‬
‫سلوكه ‪ .‬ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداة أسمى مممن أن ينتهممي إليممه الواصممف ‪ ،‬ول يعرفممه مممن‬
‫جهله ‪ .‬وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيممد ‪ ،‬وذلممك التاريممخ الممذي تممرك محمممداة فممي طليعممة‬

‫دون بايرون ‪ :‬اتح لنفسك فرصة )تعريب عبد المنعم محمد الزيادي(‬ ‫‪39‬‬

‫وليم موير ‪ :‬السلم ‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪40‬‬

‫سيديو ‪ :‬تاريخ العرب ‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪41‬‬


‫‪20‬‬

‫الرسل ومفكري العالم (( ‪. 42‬‬

‫المين وأبناء الكعبة‬


‫ولما بلغ النبي محمد ‪ ‬من عمره الخامسة والثلثين ‪ ،‬تعرضت الكعبة للهدم ‪ ،‬فعمدت قريش إلى‬
‫بنائها ‪ ،‬فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر السود في مكانه ‪ ،‬اتفقوا علممى تحكممم‬
‫أول من يخرج لهم ‪ .. ،‬فكان ‪ ‬أول من خرج ‪ ،‬فحكم بينهم بأن يجعلوا الحجر السود فممي ثمموب ثممم‬
‫يرفعه من كل قبيلة رجل ‪.‬‬

‫وجاء في أحدى روايات كتب الحديث الشريف ‪ :‬أنهم قالوا ‪ :‬نحكم أول من يمدخل ممن بماب بنمي‬
‫شيبة ‪ ،‬فكان أول من دخل منه ‪ ،‬فاخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه ‪ ،‬وأمر كممل فخممذ مممن‬
‫قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه م أخذه فوضعه بيده الشريفة (( ‪. 43‬‬

‫وقد استرعت هذه الحادثة انتباه المستشرق اللماني أغسطينوس موللر ) ‪ (1894 -1148‬الذي‬
‫درس اللغة العربية في فيينا ‪ ،‬فتوقف عندها مليا ة ‪ ،‬وقال في كتابه » السلم « ‪:‬‬

‫)) ذكر أن قريشا ة هدمت الكعبة ‪ ،‬وكان النبي هو ابن ‪ -35-‬منة يشتغل معهم ‪ ،‬وتعرض لتنازع‬
‫قريش برفع الحجر السود فيضعه مكانه ‪ ،‬ثم تعرض لسياسة النبي محمد في هذا المقام وأنه أدهممش‬
‫قريشا ة بسياسته الرشيدة ‪.‬‬

‫ولقد راحا بعض المستشرقين يعلممق علممى هممذا الحممادث تعليقممات مليئممة بالتقممدير والعجمماب لهممذه‬
‫الشعلة العبقرية التي مكنت محمدأ من تفهم الموقف بسرعة عظيمممة ‪ ،‬والتوسممل بهممذه الحيلممة البريئممة‬
‫إلى إرضاء زعماء قريش جميعاة (( ‪. 44‬‬

‫كما توقف الب هنري لمنس عند هذه الحادثة فقال ‪:‬‬
‫)) لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة ‪ ،‬وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليممه بوضممع الحجممر‬
‫السود في مكانه ‪ ،‬وكادوا يقتتلون ‪ ،‬فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الله الهاشمممي ‪،‬‬
‫قائلين هذا هو المين (( ‪.45‬‬

‫حادثة بناء الكعبة مقدمة النبوة‬


‫لقد ربط المستشرق السوجي أرثر جيلمان في كتابه ‪ » :‬الشرق « بين هذه الحادثة الممتي منعممت‬
‫اقتتال القبائل العربية التي هي بطون لقريش ووحدت إرادتهم في بناء الكعبة ‪ ،‬وبين المرحلة اللحقة‬
‫لبدء البعثة ‪ ،‬والتي تشكل مقدمة للنبوة بقوله ‪:‬‬

‫موير ‪ ،‬وليم ‪ :‬حياة محمد ‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪42‬‬

‫رواه احمد و أبو داود الطياسي و البيهقي و أبو نعيم و يعقوب بن سفيان و حسنة الهيثمي‪.‬‬ ‫‪43‬‬

‫اغسطينوس موللر ‪ :‬السلم‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫هنري لمنس ‪ :‬عهد السلم ‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪45‬‬


‫‪21‬‬

‫)) ل بد أن يكون محمد قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم هذه الفكرة الممتي بسممطت السمملم‬
‫بين مختلف القبائل ‪ ،‬ول يبعد أن يكون محمد قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه ‪،‬‬
‫وأنه يفوقهم جميعا ة ذكاةء وعبقرية ‪ ،‬وأن ال قد اختمماره لمممر عظيممم وقممد اتفممق المؤرخممون علممى أن‬
‫محمداة كان ممتازاة بيممن قممومه بممأخلقه جميلممة ‪ ،‬مممن صممدق الحممديث ‪ ،‬والمانممة ‪ ،‬والكممرم وحسممن ‪.‬‬
‫الشمائل و التواضع ‪ ،‬حممتى سممماه أهممل بلممده – الميممن – و كممان ممن شممدة ثقتممم بمه يودعممون عنممده‬
‫ودائعهم وأماناتهم ‪ ،‬و كان ل يشرب الشربة المسكرة ل يحضر للوثان عيداة ول احتفا ة‬
‫ل(( ‪. 46‬‬

‫أجل ‪ ،‬لقد شهر عن الرسول ابتعاده عن الوثنية السائدة في قريش ‪ ،‬وكان دائم التفكير في أحوال‬
‫أمته ‪ ،‬ينأى عن كل أسباب التلوث الفكري والعملي ‪ ،‬فعصمممته إرادة اللممه عممن ارتكمماب المعاصممي ‪،‬‬
‫يأنس في نفسه الحدس فيما هو مقبل عليه ‪ ،‬بمرحلة تأمله في الحقيقة الزليممة لسممر الوجممود وجمموهر‬
‫اللوهية ‪ . . . .‬يقول المستشرق كادا دوفيك )‪ (1877_1805‬في مؤلفه ‪ » :‬مفكرو السلم « ‪:‬‬

‫)) أن محمداة من سن الخامسة والعشرين إلمى الربعيممن كمان كممثير التفكيمر هادئمما ة سماكنةا‪ ،‬وكمان‬
‫حليما ة تقيا ة حسن الخلق ‪ ،‬وانه عندما بلغ الربعين توجهت جميع قواه العقلية إلممى جهممة التأمممل فممي‬
‫جوهر اللوهية ‪ ،‬والبحث عن الحقيقة الدينية ومذ ذاك أخذ يعتزل الناس ويخلو بنفسه في غار حراء‬
‫بقرب مكة (( ‪. 47‬‬

‫مقدمات النبوة وأسر الوجود‬


‫أن هذه الحالة الفكرية التأملية التعبدية التي عاشها الرسول ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬كانت عمليمما ة المقدمممة‬
‫للنبوة ‪ ،‬فالبحث عن الحقيقة في شؤون الحيماة ‪ ،‬وواقمع العمرب ‪ ،‬ومسمائل المدين ل بمد أن يقمود إلمى‬
‫معرفة الحقيقة ‪ ،‬وان يقترب النسان أكثر فأكثر من خالقه ‪ ،‬خاصة ‪ ،‬وأنه كان علممى موعممد مرتقممب‬
‫مع الوحي اللهي ‪ . . . .‬يقول توماس كارليل في هذا الصدد ‪:‬‬

‫)) لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه ‪ -‬كما قلت ‪ -‬بأهواله ومخاوفه وروانقه ومبمماهرة ‪ ،‬لممم يممك‬
‫هناك من الباطيل ‪ ،‬ما يحجب ذلك عنه ‪ ،‬فكان لسان حال ذلممك السممر الهائممل ينمماجيه ‪ » :‬هأنممذا « ‪.‬‬
‫فمثل هذا الخلص ل يخلو من معنى الهي مقدس ‪ ،‬و ما كلمة مثل هذا الرجل ال صوت خارج من‬
‫صميم قلب الطبيعة ‪ ،‬فإذا تكلم فكل الذان برغمها صاغية ‪ ،‬وكل القلوب واعية ‪ ،‬وكل كلم مما عمدا‬
‫ذلك هباء وكل قول جفاء ‪ ،‬وما زال منذ العوام الطوال ‪ ،‬منذ أيام رحله وأسممفاره ‪ ،‬يجممول بخمماطره‬
‫آلف من الفكار ‪ :‬ماذا أنا ؟ وما ذلك الشيء ‪ ،‬العديم النهاية الذي أعيش فيه ‪ ،‬والممذي يسممميه النمماس‬
‫كونا ة ؟ وما هي الحياة ؟ وما هو الموت ؟ وماذا أعتقد ؟ وماذا أفعل ؟ فهل أجابته على ذلممك صممخور‬
‫جبل حراء ‪ ،‬أو شماريخ طود الطور ‪ ،‬أو تلك القفار والفلوات ؟ كل ول قبة الفلك الممدوار‪ ،‬واختلف‬
‫الليل والنهار ‪ ، ،‬ول النجوم الزاهرة والنواء الماطرة ‪ .‬لم يجبه ل هذا ول ذاك ‪ ،‬ومما للج واب عمن‬
‫ذلك إل روحا الرجل وأل ما أودع الله فيه من سره ‪.‬‬

‫وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه ‪ ،‬فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هممذه هممي كممبرى‬
‫المسائل وأهم المور ‪ ،‬وكل شيء عديم الهمية في جانبها ‪ ،‬وكان لم إذا بحث عن الجواب في فممرق‬

‫‪ 46‬اثر جيلمان ‪ :‬الشرق ‪ ،‬ص ‪.117‬‬


‫‪ 47‬كاد دوفيك ‪ :‬مفكروا السلم‪.‬‬
‫‪22‬‬

‫اليونان الجدلية ‪ ،‬أو في روايات اليهود المبهمة ‪ ،‬أو نظام وثنية العرب الفاسدة ‪ ،‬لم يجده ‪ .‬وقممد قلممت‬
‫إن أهم خصائص البطل ‪ ،‬وأول صفاته وأخرها ‪ ،‬هي أن ينظر مممن خلل الظممواهر إلممى البممواطن ‪،‬‬
‫فأما العادات والستعمالت والعتبمارات والصمطلحات ‪ ،‬فينبمذها حميمدة كمانت أو رديئمة ‪ .‬وكمان‬
‫يقول في نفسه ‪ ) :‬هذه الوثان التي يعبدها القوم ل بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ممما هممي لممم‬
‫إل رمز له وإشارة إليه ‪ ،‬وأل فهي باطل وزور ‪ ،‬وقطع من الخشب ل تضير ول تنفع ( ‪.‬‬

‫وما لهذا الرجل والصنام ‪ ،‬وأنى تؤثر في مثله أوثممان ولممو رصممعت بممالنجوم ل بالممذهب ‪ ،‬ولممو‬
‫عبدها الجحاجح من عدنان والقيال من حمير‪ ،‬أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافممة ؟ إنممه فممي‬
‫وادد وهم في واد‪ ،‬هم يعمهون في ضللهم ‪ ،‬وهو ماثل بين يمدي الطبيعمة قمد سمطعت لعينيمه الحقيق ة‬
‫الهائلة ‪ ،‬فإما أن يجيبها و إل فقد حبط سعيه ‪ ،‬وكان من الخاسرين‪ .‬فلتجبهمما يمما محمممد‪ ،‬أجممب ‪ ،‬لبممد‬
‫من أن توجد الجواب ‪ ،‬أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الممذي أقممام محمممداة وأثمماره ؟ حمممق‬
‫وأيم الله ‪ ،‬وسخافة وهوس‪ ،‬أي فائممدة لمثممل هممذا الرجمل فمي جميممع بلد العممرب ‪ ،‬وفمي تمماج قيصمر‬
‫وصولجان كسرى‪ ،‬وجميع ما بالرض من تيجان وصوالجة ‪ ،‬وأين تصير الممالك والتيجان والدول‬
‫جميعها بعد حين من الدهر‪ ،‬أفي مشيخة مكة ‪ ،‬وقضميب مفضمض الطمرف ‪ ،‬أو فمي ملمك كسمري و‬
‫تاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة ؟ كل‪ ،‬إذن فلنضرب صفحا ة عن مممذهب الجممائرين القائممل أن‬
‫محمداة كاذب ونعد مواقفهم عاراة وسبة « وسخافة وحمقأ« فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع (( ‪. 48‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬البطال ‪ ،‬ص ‪.70-69‬‬ ‫‪48‬‬


23
‫‪24‬‬

‫الباب الثاني‬
‫من البعثة إلى الهجرة‬

‫الفصل الوأل‬
‫البعـــــــــــــــــــــثة‬
‫الوحي وأبدء البعثة‬
‫لقد عرف عمن النمبي ‪ ‬أن ه ك ان دائمب العتكماف يتأممل فمي سمر الوجمود ‪ ،‬حبمب إلي ه الخلموة‬
‫والتحنث ‪ ،‬يقض اليام الطوال في العزلة والتعبد ‪. . .‬‬

‫وكان نزول الوحي عليه في شهر رمضان من عام ‪ 610‬ميلدية حين بلغ الربعيممن مممن عمممره‬
‫وهو في غار حراء « فهو المصطفى المختار ليكون للناس كافة بشيراة ونذراة ‪.. . .‬‬

‫يتحدث المستشرق الفرنسي جان توزنون كرو ) ‪ ( 1924 _ 1867‬في كتابه » العرب « عن‬
‫مقدمات النبوة وبدء البعثة في مقدمة كتابه بقوله ‪:‬‬

‫))أن ا اصطفى محمداة لرشاد أمته ‪ ،‬وعهد إليممه هممدم ديممانتهم الكاذبممة وإنممارة أبصممارهم بنممور‬
‫الحق ‪ ،‬فأخذ من ذلك العهد ينممادى باسممم الواحممد الحممد ‪ ،‬بحسممب ممما أوحممى إليممه وبمقتضممى عقيممدته‬
‫الراسخة (( ‪ .‬إلى أن قال ‪:‬‬

‫)) وقذف في نفس محمد مجموع كتاب ملن بالسرار واللهية ‪ ،‬وأوحى إليممه مجموعممة حقممائق‬
‫تجتاز مسافة عقله الطبيعي ‪ ،‬لذلك فإن ا علم النسان بالقلم « علمه ما لم يعلم ‪ ،‬هذا هو سر الوحي‬
‫‪ ،‬وهو مر الكلمة المكتوبة ‪ ،‬و كانت الكلمة المكتوبة وحيا ة إلهيةا((‪.49‬‬

‫ويتابع الباحث الفرنسي حديثه من بدء البعثة بقوله ‪:‬‬

‫)) وفي نواحي سنة ‪ 610‬للميلد ‪ ،‬بلغ محمد أشده ‪ ،‬فكان ل يقدر أن يتصور حال قومه بممدون‬
‫أن يتألم ‪ ،‬وكان يرى أن أمراة ضروريا ة ينقصه وينقص قومه ‪ ،‬وكان العرب ‪ ،‬كل قبيلة منهمم عاكفمة‬
‫على صنمها ‪ ،‬وكانوا يقولون بالجن والشباحا والغيلن ‪ ،‬ولكنهم كانوا في غفلة عنها ‪ ،‬وكانت هممذه‬
‫من كل فكر غير الفكممر بللممه ‪ ،‬وكممان قممد‬ ‫الغفلة هي الموت الروحي ‪ ،‬وكان قلب محمد قد خل‬
‫فمي نظمره غيمر واجمب الوجمود الحمد‬ ‫تجرد من كمل قموة غيمر همذه القموة ‪ ،‬وكمان ليمس‬

‫جان تورنون كرو ‪ :‬العرب ‪ ،‬مقدمة الكتاب‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫‪25‬‬

‫الفترة العزلة ‪ ،‬فكان يشممعر فممي خلمموته فممي‬ ‫الصمد ‪ ،‬إلى أن قال ‪ » :‬وأحب محمد في تلك‬
‫جبل حراء بسرور عميق ‪ ،‬يتزايد يومأ فيوما ة « فكان يقض هناك السابيع وليممس معممه إل قليممل مممن‬
‫الغذاء ‪ ،‬لن نفسه كانت تلتذ بالصوم والتهجد « ((‪. 50‬‬

‫وتفكمره‬ ‫وتحدث المفكر النكليزي توماس كارليل فمي كتمابه البطمال عمن اعتكماف الرسمول ‪‬‬
‫بحقائق الحياة وأسرار الكون حين يقول ‪:‬‬

‫» وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس في شهر رمضان ‪ ،‬فينقطع إلممى السممكون والوحممدة دأب‬
‫العرب وعادتهم ‪ ،‬ونعمت العادة ما أجل وأنفع ‪ ،‬ول سيما الرجل كمحمد ‪ ،‬لقد كممان يخلممو إلممى نفسممه‬
‫فيناجي ضميره صامتا ة بيممن الجبممال الصممامتة ‪ ،‬متفتحمما ة صممدره لصمموات الكممون الغامضممة الخفيممة ‪.‬‬
‫آجل ‪ ،‬حبذا تلك عادة ونعمت ‪ ،‬فلما كان في الأربعين من عمره وقممد خل إلممى نفسمه فممي غممار بجبممل‬
‫) حراء ( قرب مكة شهر رمضان ‪ ،‬ليفكر في تلك المسائل الكبرى ‪ ،‬إذ هممو قممد خممرج إلممى خديجممة‬
‫ذات يوم ‪ ،‬وكان قد استصحبها ذلك العام و أنزلها قريبا ة من مكان خلوته ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬انه بفضممل المم‬
‫قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر ‪ ،‬وأنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشممك وبممرحا الخفمماء ‪،‬‬
‫وآن جميع هذه الصنام محال ‪ ،‬وليست إل أخشابا ة حقيرة ‪ ،‬وان ل المه ال المم وحممده ل شممريك لمه ‪،‬‬
‫فهو الحق وكل ما خله باطل ‪ ،‬خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلممق والكائنممات إل ظممل لممه وسممتار‬
‫يحجب النور البدي والرونق السرمدي ‪ ،‬ا اكبر وا الحمد ‪ ،‬ثم السلم وهو آن نسلم الأمممر لمم ‪،‬‬
‫ونذعن له ‪ ،‬ونسكن إليه ‪ ،‬ونتوكمل عليمه ‪ ،‬وآن الق وة كمل الق وة فمي السمتنامة لحكممه ‪ ،‬والخضموع‬
‫لحكمته ‪ ،‬والرضا بقسمته ‪ ،‬أية كانت في هذه المدنيا وفمي الخمرة ‪ ،‬ومهمما يصمبنا بمه ام ول و كمان‬
‫الموت الزؤام فلنلقه بوجه مبسوط و نفس مغتبطممة راضممية ‪ ،‬و نعلممم أنممه الخيممر وآن ل خيممر إل همو‬
‫((‪. 51‬‬

‫ويتابع كارليل الحديث عن هممذا العتكمماف والتفكممر فممي شممؤون الحيمماة والكممون ‪ ،‬إذ كشممفت لممه‬
‫الحقيقة وأنيرت بصيرته ‪ ،‬مع نزول الوحي عليه « بقوله ‪:‬‬

‫))نعم ‪ ،‬هو نور ا قممد سممطع ئ روحا ذلممك الرجممل فأنممار ظلماتهمما‪ ،‬هممو فيمماء بمماهر كشممف تلممك‬
‫الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلك ‪ ،‬وقد سماه محمد _عليه السمملم _ وحيمما ة و» جبريممل‬
‫« ‪ ،‬وأينا يستطيع أن يحدث له اسما ة ‪ ،‬ألم يجيء في النجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والدراك ‪ ،‬ول‬
‫شك أن العلم والنفاذ إلى صميم المور وجواهر الشياء سر من أغمض السرار ل يكمماد المنطقيممون‬
‫يلمسون منه إل قشوره ‪ .‬وقد قال نوفاليس ‪ » :‬أليس اليمان هو المعجزة الحقة الدالة علممى اللممه ؟ «‬
‫فشعور محمد ‪ -‬إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة _ بأن الحقيقة الممذكورة همي أهمم مما‬
‫يجب على الناس علمه ‪ ،‬لم يك إل أمراة بديهيا ة ‪ ،‬وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه مممن الهلك‬
‫والظلمة ‪ ،‬وكونه قد أصبح مضطراة إلى إظهارها للعمالم أجمممع ‪ ،‬همذا كلمه همو معنمى كلممة ) محممد‬
‫رسول الله( وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين((‪. 52‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪50‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.71-70‬‬ ‫‪51‬‬

‫المصدر الساباق ‪ :‬ص ‪.72‬‬ ‫‪52‬‬


‫‪26‬‬

‫لقممد أنممار نممزوع الرسممول ‪ ‬إلممى الوحممدة والتأمممل الوجممداني العميممق ‪ ،‬مفكممراة بالشممؤون الدينيممة‬
‫والقضايا الجتماعية ‪ ،‬أنار له الطريق لدراك جوانب الفساد وضروب الضلل في المجتمع المكي‪،‬‬
‫كما كشف له الحقيقة الزلية ‪ :‬حتمية وجود خالق فرد صمد ‪ ،‬ول بد بالتممالي أن يخضممع هممذا الكممون‬
‫الكبير لنواميس تديره ‪ ~ ،‬من أصنام قريش وأوثانها ‪.‬‬

‫ويتحدث المؤرخ اللماني كارل بروكلمان في كتابه ‪ » :‬تاريخ الشعوب السمملمية « عممن بعثممة‬
‫الرسول بقوله ‪:‬‬

‫)) وأغلب الظن أن محمداة قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جداة ‪ ،‬وهو‬
‫أمر لم يكن مستغربا ة عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبممادة الوثنيممة عممن‬
‫أرواء ظمئهم الروحي ‪ .‬و تذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلتممه ببعممض اليهممود والنصممارى ‪،‬‬
‫أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والنجيل هزيلة إلممى‬
‫حد بعيد ‪ .‬ومع اليام أخذ اليمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه ‪ ،‬فيتجلى له فرغ اللهممة الخممرى‬
‫(( ‪. 53‬‬

‫ويجدر بنا أن نقف عند نقطة هامة ‪ ،‬أثارهمما بروكلممان عرضمما ة ‪ ،‬لكممن وقممف عنممدها الكمثير ممن‬
‫البمماحثين الفرنسمميين ‪ ،‬وهممي أن الرسممول ‪ ‬ق د أخ ذ م ن اليه ود والمس يحيين أخب ارهم الس الفة ‪،‬‬
‫ومعلوماتهم الدينية والتاريخية ليشككوا بصمدق الموحي ‪ ،‬لينتهمموا إلممى القمول بمأن القمرآن مممن تممأليف‬
‫محمد ‪ ،‬ولقد أشار الباحث العربي اللبنمماني الممدكتور عمممر فممروخ فممي تعليقممه علممى كتمماب بروكلمممان‬
‫بقوله ‪:‬‬

‫)) أكثر المبشرين والمستشرقين يذكرون أن الرسممول اتصممل ببعممض النصممارى واليهممود وأخممذ‬
‫عنهم عدداة من المعلومات الدينية والتاريخية ‪ .‬ثم هممم يممذكرون أن هممذه المعلومممات كممانت خاطئممة أو‬
‫ناقصة ‪.‬‬

‫المبشممرين‬ ‫أممما وجممه الحممق فخلف ذلممك ‪ .‬إل أننممي ل أريممد أن أريممد هنمما علممى‬
‫والمستشرقين مفنداة جميع أقوالهم فذلك مما يطول ‪ ،‬ومما اشتعل بممه نفممر مممن العلممماء أيضمما كالشمميخ‬
‫في القرآن يشبه بعض مما‬ ‫محمد عبده ‪ .‬ولكنني أقول أن العرب أنفسهم قالوا للرسول أن ما‬
‫يقوله علماء اليهود ‪ ،‬فنزلت اليات الكريمة ) ‪- 26/192‬م ‪: (197‬مم ‪ ‬وانه لتنزيل رب العممالمين ‪.‬‬
‫الروحا المينك ‪ .‬على قلبك لتكون من المنذرين ‪ .‬بلسان عربي مبين ‪ .‬وانه لفي زبر ‪ ‬الولين‬ ‫ك‬ ‫نزل به‬
‫‪ .‬أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ؟ ‪. ‬‬

‫فالخلف إذن ل يتناول أن بعض المعلومات التي فممي القممرآن تشمبه بعممض المعلوممات الممتي فممي‬
‫التوراة ‪ ،‬بل في زعم هؤلء بأن القرآن فهم هذه المعلومممات فهمما ة خاطئمما ة فممي رأيهممم أو أخممذها مممن‬
‫مصادر غير موثوقة ‪ .‬فالقضية كانت من العرب الولين ومن المستشرقين اليوم قضية تعصمب فقمط‬

‫كارل باروكلمان ‪ :‬تاريخ الشعوب السإلمية ‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪53‬‬

‫ززبر ‪ :‬كتب ‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫‪27‬‬

‫((‪. 54‬‬

‫طبيعة محمل الروأحية‬


‫لقد كان الرسول ‪ ‬ذا طبيعة روحيممة عاليممة ‪ ،‬جممم التفكيممر ‪ ،‬عميممق التقمموى ‪ ،‬حساسمما بطبعممه ‪،‬‬
‫متدينا ة بفطرته ‪ ،‬فرضت عليه أحواله الحياتية الخاصة وأسفاره و تعرفه على حقائق الحيمماة وتفكممره‬
‫بشممؤون الكممون ‪ ،‬أن يكممون مهيممأ ة لحمممل الرسممالة ‪ . . . .‬يقممول البمماحث النكليممزي المستشممرق روم‬
‫لندو ‪:‬‬

‫)) وفي أمكان المرء أن يتخيل ‪ ،‬في يسر ‪ ،‬ما استشعره الشمماب الحسمماس مممن وحممدة وانفممراد ‪،‬‬
‫والثر الذي لذ ل بد لذا الوضع أن يتركه في تكوينه العقلي ‪ .‬والواقع أن ما نزل عليه بعد من وحي‬
‫لم يهبط في خواء ‪ ، Vacuum‬بل هبممط فممي جممو مممن السممتبطان ‪ Introspeetion‬المحت وم و‬
‫التسمماؤل الروحممي ‪ -‬وهممو الجمو الممذي يلئممم فممي العممادة حيمماة غلم فقممد أبمماه وأممه ‪ ،‬وعممدم الخمموة‬
‫والخوات (( ‪. 55‬‬

‫والى جانب كونه رجل فكر وذا طبيعة روحية ‪ ،‬كان رجلة عمليا ة واقعيمما ة ‪ ،‬أدرك نممواحي الفسمماد‬
‫في مجتمع قبلي وثني ‪ ،‬فابتعد عنه وهداه التفكير إلى بلوغ الحقيقة الزليممة القائمممة علممى فكممرة اللممه‬
‫الواحد ‪ . . .‬يتابع ) روم لندو ( ‪ ،‬قائلة ‪:‬‬

‫))كان محمد تقيأ بالفطرة ‪ ،‬وكان من غير ريب مهيممأ لحمممل رسممالة الصمملحا الممتي تلقاهمما فممي‬
‫رؤاه ‪ .‬وبالضممافة إلممى طممبيعته الروحيممة ‪ ،‬كممان فممي جمموهره رجلة عمليمما ة عممرف مممواطن الضممعف‬
‫ومواطن القوة في الخلق العربي ‪ ،‬وأدرك أن الصلحات الضروريه ينبغي أن تقدم إلى البدو الممذين‬
‫ل يعرفون انضباطا ة والى المدينين الوثنيين ‪ ،‬في آن معا ة ‪ ،‬علممى نحممو تممدريجي ‪ .‬وفممي المموقت نفسممه‬
‫كان محمد يملك إيمانا ة ل يلين بفكرة اللمه الواحممد ‪ -‬وهممى فكممرة لممم تكممن جديممدة كممل الجممدة فممي بلد‬
‫العرب ‪ -‬وعزما ة راسخا ة على استئصممال كممل أثممر مممن آثممار عبممادة الصممنام الممتي كممانت سممائدة بيممن‬
‫الوثنيين العرب(( ‪.56‬‬

‫أما الباحث العسكري جان باغوت غلوب ‪ ،‬الذي عممرف فممي البلد العربيممة باسممم غلمموب باشمما ‪،‬‬
‫حيث كان رئيسا ة لركان الجيش الردني ‪ ،‬فقد كتب عن تحنث الرسممول ‪ ،‬ونممزول المموحي عليممه فممي‬
‫كتابه ‪ » :‬الفتوحات العربية الكبرى « ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) واقترب عام ‪ 610‬ميلدية ‪ ،‬وكان محمد قد بلغ الربعين من عمره وازداد ميله إلى الوحدة‬
‫والتأمل ‪ .‬وكان يهرب من طرقات مكمة المحرقمة المغمبرة ‪ ،‬ويلجمأ إلمى كهموف الجبمال القريبمة ممن‬
‫الوادي العتيق الذي تقبع فيه المدينة ليقض فيا أحيانا ة أياما ة متوالية ‪ .‬وتسرحا أفكار الرجل متممأملة فممي‬
‫هذه القمم الجرداء الداكنة التي يراها من فتحات الكهمموف ‪ ،‬والممتي ل تظهممر عليهمما نأمممة حيمماة ‪ ،‬ول‬

‫عمر فروخ )في هامش باروكلمان ‪ ،‬ص ‪.(34‬‬ ‫‪54‬‬

‫روما لندو ‪ :‬السإلما و العرب ‪ ،‬ص ‪.32-31‬‬ ‫‪55‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪56‬‬


‫‪28‬‬

‫تفصلها عن بعضها إل شعاب عميقة ضمميقة مممن الخاديممد والوديممان الجافممة ‪ ،‬و تعممود فتممتركز علممى‬
‫فلسفة الحياة الخرى التي كان قد سمع نتفا ة عنها من اليهود والنصارى ‪ ،‬وعلى وجود اله واحد أحممد‬
‫قوي صمد عنده الجنة السرمدية والحياة السعيدة الزلية ‪ ،‬يمنحها للمؤمنين من عباده ‪ ،‬وعنده جحيممم‬
‫بما فيما من عذاب ل نهاية له ينزله بالكفرة وغير الصالحين ‪.‬‬

‫وكان يعود إلى بيته وقد أثقلته هذه الفكار فيبوحا بها إلى زوجته الوفية خديجة التي ما برحا يجممد‬
‫عندها المستقر والمراحا والحث والتشجيع وقد مزجت في رعايتها له بين حب الزوج وحنان الم ‪.‬‬

‫وألف محمد اللجوء إلى الغار في الجبال في فترات معينة من شهر رمضان طلبا ة للتأمل والتعبممد‬
‫والتفكيممر والتهجممد ‪ .‬وبينممما كممان يتعبممد فممي غممار حممراء حسممب عممادته إذ نممزل عليممه جبريممل رأس‬
‫الملئكة (( ‪. 57‬‬

‫الوحي في كتب الحديث وأالسيرة‬


‫لقد اهتمت المصادر السلمية من كتب الحديث أو السيرة بمسألة الوحي ‪ ،‬حين صمماع الرسممول‬
‫محمد ‪ ‬بالرسالة ‪ ،‬إذ كانت هذه الحادثة هي النقلب الخطير في حياة محمممد ‪ ‬وبالتممالي فممي حيمماة‬
‫العرب ‪ . . .‬إذ بدأت منذ ذلك اليوم مرحلة تاريخية جديدة ‪ ،‬مع الدعوة السلمية ‪ . . .‬ونجد هنا مممن‬
‫المناسب أن نذكر أحدى روايات الحديث ‪ ،‬مممن روايممة للسمميدة عائشممة أم المممؤمنين عممن بممدء المموحي‬
‫بقولها ‪:‬‬

‫)) أول ما بدىء به رسول ال ‪ ‬من الوحي ‪ :‬الرؤيا يا الصالحة في النوم ‪ ،‬وكان ل يممرى رؤيمما‬
‫إل جاءت مثل فلق الصبح ‪ ،‬ثم حبب إليه الخلء ‪ ،‬وكان يخلممو بغممار حممراء ‪ ،‬فيتحنممث فيممه ‪ - ،‬وهممو‬
‫التعبد الليالي ذوات العدد ‪ -‬قبل آن ينزع إلى أهله ‪ ،‬ويتزود لذلك ‪ ،‬ثممم يرجممع إلممى خديجممة ‪ ،‬فيممتزود‬
‫لمثلها ‪ ،‬حتى جاءه الحق ‪ -‬وفي رواية ‪ :‬حممتى فجممأة الحممق ‪ -‬وهممو فممي غممار حممراء ‪ ،‬فجمماء الملممك ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ما أنا بقارلي ‪ ،‬قال ‪ :‬فأخذني فغطني ‪ ،‬حتى بلغ منممى الجهممد ‪ ،‬تممم أرسمملني‬
‫فقال ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬فقلت ما أنا بقاريء ‪ ،‬قال ‪ :‬فأخذني فغطني ثانية حتى بلممغ منممى الجهممد ‪ ،‬تممم أرسمملني ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬اقرأ ‪ :‬فقلت ‪ :‬ما أنا بقارلي ؟ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ‪ ،‬تم أرسلني ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫‪ ‬و اقرأ باسم ربك الذي خلق ‪ ،‬خلق النسان من علق ‪ ،‬اقرأ وربك الكممرم الممذي علممم بممالقلم ‪ ،‬علممم‬
‫النسان ما لم يعلم ‪ ‬و ) ‪ . ( 5-1 /96‬فرجع بها رسول ا ‪ ‬يرجف فؤاده ‪ ،‬فدخل على خديجة‬
‫بنت خويلد ‪ ،‬فقال ‪ :‬زملونى ‪ ،‬زملونى ‪ ،‬فزملوه حتى ذهب عنه الممروع ‪ ،‬فقممال لخديجممة ‪ -‬وأخبرهمما‬
‫الخبر ‪ : -‬لقد خشيت على نفسي ‪ ،‬فقالت له خديجة ‪ :‬كل ‪ ،‬أبشر ‪ ،‬فو الله ل يخزيممك المم أبممدا ‪ ،‬أنممك‬
‫الكل ‪ ،‬وتكسب المعدوم ‪ ،‬و تقري الضيف ‪ ،‬وتعيممن علممى‬ ‫ن‬ ‫لتصل الرحم ‪ ،‬و تصدق الحديث ‪ ،‬وتحمل‬
‫نوائب الحق ‪.‬‬

‫فانطلقت به خديجة ‪ ،‬حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قص ‪ -‬وهو ابن عممم‬
‫خديجة ‪ ،‬أخي أبيها‪ -‬وكان امرءأ تنصر فممي الجاهليممة ‪ ،‬وكممان يكتممب الكتمماب العممبراني ‪ ،‬فكتممب مممن‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪57‬‬


‫‪29‬‬

‫النجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ‪ ،‬وكان شيخا ة كبيراة قد عمى ‪ ،‬فقالت له خديجة ‪ :‬يا ابن عم ‪،‬‬
‫اسمع من ابن أخيك ‪ ،‬فقال له ورقة ‪ :‬يا ابن أخي ‪ ،‬ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللمه ‪ ‬خ بر م ا رأى ‪،‬‬
‫فقال له ورقة ‪ » :‬هذا الناموس الذي نزل ال على موسى ‪ ،‬يا ليتني فيما جذعا ة ‪ ،‬ليتني أكممون حيمماة إذ‬
‫يخرجك قومك « ‪ .‬فقال له الرسول ‪ : ‬أو مخرجي هم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬لم يأت رجل قط بمثل ما جئت‬
‫به إل عودي ‪ ،‬وان يدركني يومك حيا ة أنصرك نصراة مؤزراة ‪ ،‬ثم لم ينشب ورقممة أن تمموفي ‪ ،‬وخممر‬
‫الوحي ((‪. 58‬‬

‫الوحي صوت الحقيقة البدية‬


‫هذا ‪ ،‬وقد تناول عدد من المستشرقين قصية البعثة ونمزول الموحي علمى النمبي محممد ‪ ، ‬وأن‬
‫الصوت الذي سمعه في غار حراء كان حقا ة هو صوت الحقيقممة البديممة الممتي أنزلهمما اللممه عليممه عممن‬
‫طريق جبريل عليه السلم ‪.‬‬

‫يقول الب هنري لمنس ‪:‬‬

‫)) هكذا كان محمد بحراء ‪ ،‬فكان ينشد الكون في تلك الجبال إلممى كممان يممذهب يخلممو بنفسممه فممما‬
‫متأمل في السماء ذات الكواكب ‪ ،‬إلى ما كان في يسمعه من أعمق أعماق قلبه ‪ ،‬وهو الرجل الممي‬
‫الفطري الصادق ‪ ،‬و ذلك الصوت هو صوت الحقيقة البدية ((‪. 59‬‬

‫ويتابع الب هنرى لمنس ‪ ،‬قوله ‪:‬‬

‫»لم يكن محمد ممن لم يعرف العالم الباطن ‪ ،‬نعم ‪ ،‬لم يكن متصوفا ة بالمعنى المعروف ‪ ،‬إل انه‬
‫كان عن يرى أن المور التي في الغيب أعظم من المور التي تحت الحمس ‪ ،‬المشمهود أدنمى درجمة‬
‫من المحجوب ‪ ،‬فالنظام الروحي في نظره هو الهم وهو الوجود الحقيقي (( ‪.60‬‬

‫بينما كتب المشتشرق اليوغسلفي الدكتور التر بتكين )‪ ( 1907~1833‬في مؤلفه )الحياة تبممدأ‬
‫بالربعين «‪ ،‬قائلة ‪:‬‬

‫))في أحدى ليال شهر رمضان بينما كان محمد نائما ة في أحممد كهمموف حممراء‪ ،‬عمماد فتجلممى عليممه‬
‫ذلك الشبح ‪ ،‬وفي يده قطعة من الحرير عليها كتابة ‪ ،‬وقال له ذلك الشخص‪ :‬اقممرأ أ‪ ،‬فأجممابه ‪ :‬لسممت‬
‫بقاريء ‪ ،‬فأعاد عيه القول ثانيا ة ‪ :‬اقرأ ‪ -‬اقرأ أ باسم ربك الذي خلممق ‪ ،‬خلممق النسممان مممن علممق إلممى‬
‫آخر السروة فردد محمد هذه الكلمات ‪ ،‬وأحس بالنور قد أشرق عليه « ‪.61‬‬

‫أما المستشرق الروسي ماكس مايرهوف ) ‪_ 1815‬م ‪( 1887‬م فقد قممال فممي كتممابه ‪ ) :‬العمالم‬
‫جامع الصول في احاديث الرسإول ‪ ،‬ج ‪ ، 11‬ص ‪.276-275‬‬ ‫‪58‬‬

‫هنري لمنس ‪ :‬عهد السإلما ‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪59‬‬

‫المصدر الساباق ‪ :‬ص ‪.80‬‬ ‫‪60‬‬

‫التر باتكين ‪ :‬الحياة تبدأ باالرباعين‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫‪30‬‬

‫السلمي ( ‪:‬‬

‫))أن محمداة عام ‪ 610‬للميلد كان كثير التفكير والنفراد ‪ ،‬وكان يقصد إلى البادية ويخلو بنفسه‬
‫في جبل حراء قرب مكة ‪ ،‬فرأى ذات يوم رؤيا هي أن الملك جبريل تجلى لممه ‪ ،‬ونمماوله كتابمما ة وقممرأ‬
‫عليه هذه اليات ص السورة السادسة والتسعون من القرآن ‪ ‬اقرأ باسم‬
‫ربك الذي خلق ‪ ‬الخ نزل عليه هذا الكلم وحيا ة فأخبر امرأته بما وقع ‪ ،‬ثم جاء وحى آخممر فيممما‬
‫بعد ‪ ،‬فلما شعر تغطى بثوب فسمع هذه الكلمات ‪ ‬يا أيها الم دثر ق م فأن ذر ودربممك فكممبر )‪ (74/3‬‬
‫ومنذ ذلك الحين اقتنع بأن الله اختاره مبشراة بعقيدة جديممدة ‪ ،‬و تسمممى برسممول اللممه ليممدعو إلممى اللممه‬
‫بلسان عربي مبين (( ‪. 62‬‬

‫أن نزول الوحي على النبي محمد ‪ ‬ك ان إيممذانا ة ببممدء المرحلممة التاريخيممة الحاسمممة الجديممدة فممي‬
‫حياته ‪ -‬عليه السمملم ‪ -‬أولة ‪ ،‬وفممي حيمماة شممبه الجزيممرة العربيمة ثانيمما ة ‪ ،‬لقممد كمان السمملم منعطفمما ة‬
‫تاريخيا ة كبيراة ‪ ،‬ول بد لنتشاره من أن يصطدم بكل القيم والعادات والتقاليد والعبممادات السممائدة ‪. . .‬‬
‫فالدعوة الجديدة تحمل في ثاناياها خصوصية مرحلتها وعالمية الدعوة دونما تناقض أو تنافر ‪ ،‬فهممي‬
‫تسعى إلى صلحا النسان وصلحا المجتمع ‪ ،‬ونبذ العادات القبليممة الذميمممة كموأد البنممات والعبممادات‬
‫الوثنية ونقلها إلى العادات النسانية السممامية ‪ ،‬ورأسممها العبممادة التوحيديممة الممتي تقممول بوحدانيممة اللممه‬
‫وربوبيته ‪.‬‬

‫صلحية الرسالة وأوأحدانيتها‬


‫لذا ‪ ،‬فإن الكممثير ممن المستشممرقين المنصممفين رأوا فممي دعموة الرسممول دعمموة إصمملحية قوامهمما‬
‫صلحا المجتمعات و توحيديته ‪ :‬أي المناداة بوحدانية الله ‪ ،‬وان مرحلة النبوة الحقة التي جعلممت مممن‬
‫الرسول قطب أقطاب رجالت التاريخ العظماء ‪ ،‬وبطل البطممال الفممذاذ ‪ ،‬وخمماتم النبيمماء أصممحاب‬
‫الرسالت الخالدة ‪.‬‬

‫يقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيمه غروسميه صماحب كتمابي ‪) ،‬الحمروب الصمليبية( ‪ ،‬و‬
‫) مدنيات من الشرق ( في مؤلفه الخير ‪:‬‬

‫))كممان محمممد لممما قممام بهممذه الممدعوة شممابا ة كريممما نجممداة‪ ،‬ملن حماسممة لكممل قضممية شممريفة ‪،‬‬
‫وكان أرفع جداة من الوسط الذي يعيش فيممه ‪ ،‬وقممد كممان العممرب يمموم دعمماهم إلممى اللممه منغمسممين فممي‬
‫الوثنيممة ‪ ،‬وعبممادة الحجممارة ‪ ،‬فعممزم علممى نقلهممم مممن تلممك الوثنيممة إلممى التوحيممد الخممالص البحممت ‪،‬‬
‫وكممانوا يهتفممون بالفوضممى ‪ ،‬وقتممال بعضممهم بعضمما ة فممأراد أن تؤسممس لهممم حكومممة ديموقراطيممة‬
‫موحممدة ‪ ،‬وكممانت لهممم عممادات وحشممية همجيممة صممرفة ‪ ،‬فممأراد أن يلطممف أخلقهممم ‪ ،‬ويهممذب مممن‬
‫خشونتهم ((‪. 63‬‬

‫بينا نظر اليه المستشرق السويسري ادوار مونتيه ) ‪( 1882 - 1810‬مم مدير جامعممة جنيممف‬

‫ماكس ما يرهوف ‪ :‬العالم السإلمي‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫رينيه غوسإيه ‪ :‬مدينات الشرق‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫‪31‬‬

‫ومدرس اللغات الشرقية ‪ -‬في مؤلفه ‪ » :‬المدنية الشرقية « « نظرته إلى النبياء التوراتيين القممدماء‬
‫بقوله ‪:‬‬

‫» كان محمد نبيا ة بالمعنى الممذي كممان يعرفممه العممبرانيون القممدماء ‪ ،‬ولقممد كممان يممدافع عممن عقيممدة‬
‫خالصة ل صلة لها بالوثنيمة ‪ ،‬وأخممذ يسممعى لنتشمال قممومه ممن ديانممة جافمة ل اعتبممار لهما بممالمرة ‪،‬‬
‫وليخرجهم من حالة الخلق المنحطة كل النحطاط ‪ ،‬ول يمكن أن يشك ل فممي إخلصممه ‪ ،‬ول فممي‬
‫الحمية الدينية التي كان قلبه مفعما ة بها ((‪. 64‬‬

‫ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن ‪:‬‬

‫)) كان محمد نبيا ة صادقا ة ‪ ،‬كممما كممان أنبيمماء بنممى إسممرائيل فممي القممديم ‪ ،‬كممان مثلهممم يممؤتى رؤيمما‬
‫ويوحى إليه ‪ ،‬وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود اللوهية متمكنتين به كما كانتا متمكنتين في أولئممك‬
‫النبياء أسمملفه فتحممدث فيممه كممما كممانت تحممدث فيهممم ‪ ،‬ذلممك اللهممام النفسممي ‪ ،‬وهممذا التضمماعف فممي‬
‫الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشرى المرائي والتجليات والوحي والحوال الروحيممة الممتي مممن‬
‫بابها (( ‪. 65‬‬

‫هذا ‪ ،‬ول بد من وقفة مطولة في دراسة صدق الرسول وصممحة الرسممالة السمملمية ‪ ،‬فممي بحممث‬
‫مستقل سندرس فيه حقيقة الوحي ‪ ،‬وأن محمداة لم يؤلف القممرآن ‪ ،‬ونممرد علممى المزاعممم الستشممراقية‬
‫التي اتهمت الرسول بالصرحا والجنون والحتيال ‪ ،‬وبأن الوحي الذي سمعه في رؤاه الصممادقة كممان‬
‫صوت الحقيقة البديمة ‪ ،‬صموت الل ه المذي اختماره ليكمون رسمولة للنماس كافمة ‪ . . . ..‬ونقمول ‪ :‬أن‬
‫الرسالة التي نزلت على الرسول ‪ ‬قد حملته أعباء هائلة فوق طاقة البشر ‪ ،‬يقول آتيين دينيه ‪:‬‬

‫)) نزل المموحي كجممذوة وهاجممة بممددت مممن نفممس محمممد كممل شممك ‪ ،‬و أشممعلت فيممما تلممك المممال‬
‫اللشعورية ‪ ،‬و تلك القوى الكامنة التي كدسها في نفسه خمس عشر سنة تقضت في التأمل والتحنث‬
‫‪ .‬لقد فح الوحي عينيه على آفاق شاسعة ‪ .‬وأطلعه على ما يجمب أن يقموم بمه نحمو تلمك الرسممالة ممن‬
‫جهود جبارة خطرة ‪ .‬لم يدر بخلد محمد يومأ ما أنه سيحمل هذا العبء‪ ،‬الهائممل ‪ ،‬ولثممن كممان بعممض‬
‫الرهبان قد تنبئوا بشي ‪ ،‬منممه ‪ ،‬فممإنه لممم يعممر تنبممؤاتهم أي اهتمممام ‪ ،‬بممل لقممد نسمميها ‪ ،‬وان اضممطرابه‬
‫وخوفه ‪ ،‬حينا فوجي بالوحي ‪ ،‬من أن يكون فريسة لتخيلت شيطانية ‪ ،‬ليؤكدان لنا صحة ما نقول ‪.‬‬

‫وهذا محمد الذي كممان يفممر مممن الختلط ببنممي جنسممه ‪ ،‬والممذي كممان يممأبى أيممة وظيفممة مممن تلممك‬
‫الوظائف العامة ‪ ،‬التي كان مواطنمموه علممى اسممتعداد لن يمنحوهمما إيمماه ‪ ،‬وقممد أصممبح ‪-‬تحممت تممأثير‬
‫الوحي ‪ -‬مستعدا لن يواجه الحياة الصاخبة الجارفممة ‪ ،‬وقممد امتل قلبممه إيمانمما ة مكينمما ة‪ ،‬وأفعمممت نفسممه‬
‫بشجاعة ل تلين ‪ ،‬و تأهب للقيام بالرسالة ‪ ،‬بل تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليممما إنسممان ‪ .‬ولقممد‬
‫تأهب ‪ ،‬في غير ما خوف أو إشفاق من تلك المتحانات الهائلة التي ل مفر مممن أن يبتلممى بهمما أمثمماله‬
‫من الهداة المرسلين ‪ .‬في تلك الليلة الخالدة ‪ ،‬ليلة القدر ‪ ،‬نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كممان‬
‫محفوظا ة بها إلى السماء الدنيا ‪ ،‬التي تنتشر مباشرة فوق كرتنمما الرضممية ‪ .‬وفممي هممذه السممماء الممدنيا‬

‫ادوار رينيه ‪ :‬المدينة الشرقية‪.‬‬ ‫‪64‬‬

‫ادوار مونتيه ‪ :‬نقل عن الوحي المحمدي ‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪65‬‬


‫‪32‬‬

‫وضع القرآن في بيت العزة ‪ ،‬ذلك البيت الذي على سمت بيت الله ‪ :‬الكعبة المقدسة ((‪. 66‬‬

‫اتيين دينه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.110‬‬ ‫‪66‬‬


‫‪33‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫الدعوة السلمية‬
‫في‬
‫مسيرتاها الكفاحية‬
‫المسلمون الوأائل وأسرية الدعوة‬
‫لقد كان قمينا ة بتلك الدعوة السلمية أن تكون كفاحية المسيرة ‪ ،‬وخاصة فيممما يتصممل بانطلقتهمما‬
‫التي بدأت سراة ‪ ،‬ومن ثم بالمجاهرة والعلنية ‪ ،‬إذ أقصرت بادىء ذي بدء على قلة مممن المسمملمين ‪،‬‬
‫في طليعتهم زوج الرسول خديجة من النساء وأبو بكر من الرجال ‪ ،‬وعلى بن أبي طالب من الفتيممان‬
‫‪ ،‬وزيد بن حارثة من الموالي ‪ ،‬و بلل من العبيد ‪.‬‬

‫ومن ثم انضم إلى صفوف المسلمين عدد من الرجالت الذين كان لهم دورهم البارز في التاريممخ‬
‫السلمي ‪ . . .‬يتحاث » آتيين دينيه « عن تلك المجموعة السلمية الولى وممارستها العقيدة سراة‬
‫‪ ،‬وبالتالي مسيرة الحركة في هذه المرحلة بقوله ‪:‬‬

‫)) هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين كانت تحيا حياة مليئة بالنفعالت والعواطف ‪ .‬حقا ة ممما‬
‫أجمل اجتماعهم في عبادة ا مستخفين عن أعين الناس ‪ .‬لشد ما كانوا يأخمذون حمذرهم كيل يمثيروا‬
‫انتباه المشركين ‪ .‬وفي هذه الظروف ل يمكن للدعوة السلمية أن تنشر إل سراة ‪ ،‬وبين الصمدقاء ‪،‬‬
‫ولهذا كان تقدم السلم في سنواته الثلث الولى بطيئا ة جداة (( ‪. 67‬‬

‫علانية ألدعوة وأعداء قريش للسلم‬


‫وبعد ثلثة أعوام على بدء البعثة ‪ ،‬انتقلت الدعوة إلممى العلنيممة ‪ ،‬حيممث صممدع الرسممول ‪ ‬ب أمر‬
‫رمه لنثر رسالة السلم انطلقا ة من عشيرته القربين ‪ ،‬وبعممدها إلممى سممائر أفممراد قممبيلته فممي قريممش‬
‫المكية ‪. . . .‬‬

‫ولم يلق الرسول ‪ ‬إل إعراضا وهزءاة جابههما ب ه سممكان مك ة ‪ ،‬بمل سمرعان مما ة ثمارت ثمائرة‬
‫قريش حين دعا ة ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬إلى نبذ عبادة الصممنام ‪ ،‬واللتفممات إلممى الديانممة التوحيديممة ‪. . . .‬‬

‫آتيين دينه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.118-117‬‬ ‫‪67‬‬


‫‪34‬‬

‫وكان قادة مكة من مشركي قريش متمسكين بتقاليدهم الدينية عكوفا ة على الوثان ‪ ،‬ورموا الرسول ‪‬‬
‫بأقبح النعوت ‪ ،‬من سحر وشعر وكهانة وجنون ‪ ،‬وأطلقوا عليه لقب الصابىء لخروجممه علممى عقيممدة‬
‫أجداده ‪ ،‬وساموه مر العذاب ‪ . . .‬ويتحدث المفكر النكليزي توماس كارليل عما لقمماه الرسممول مممن‬
‫عشيرته وعاناه في محاولته إقناع أفرادها بصحة ما يؤمن به ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫)) وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك ‪ ،‬فما كان يصادف إل جحوداة وسخرية ‪ ،‬حتى أنممه لممم يممؤمن‬
‫به في خلل ثلثة أعوام إل ثلثة عشر رجلة ‪ ،‬وذلك منتهى البط ‪ ،‬و بئس التشجيع ‪ ،‬ولكنه المنتظر‬
‫في مثل هذه الحال ‪ ،‬وبعد هذه السنين الثلث أدب مأدبة لربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيبا فذكر‬
‫دعوته ‪ ،‬و انه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون ‪ ،‬و أنها المسألة الكمبرى بمل المسمألة الوحيمدة ‪،‬‬
‫فيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره ؟ وبينما القوم صامتون حيرة و دهشة وثب على ‪ ،‬وكان غلممما ة فممي‬
‫السادسة عشر ‪ ،‬وكان قد أغاظه سكوت الجماعة فصاحا في أشممد لهجممة أنممه ذاك النصممير والظهيممر ‪.‬‬
‫ول يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداة ومعادينه وكلهم قرابته ‪ ،‬وفيممه أبممو طممالب عممم محمممد وأبممو‬
‫علي ‪ ،‬ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلم في السادسة عشمر ‪ ،‬يقوممان فمي وجمه العمالم بمأجمعه‬
‫كانت مما يدعو إلى العجب المضحك ‪ ،‬فانفض القوم ضاحكين ‪ ...‬ولكن المممر لممم يممك بالمضممحك ‪،‬‬
‫بل كان نهاية في الجد والخطر(( ‪. 68‬‬

‫اضطهاد قريش للرسول وأالمسلمين الوأائل‬


‫لكن عداء قريش لرسالة السلم لم تثن الرسممول ول المسمملمين الوائممل عممن عقيممدتهم ‪ ،‬فاسممتمر‬
‫عليه الصلة والسلم على نشر الدعوة بروحا كفاحية مما لية ‪ ،‬كما لم تستطع كل أساليب الضممطهاد‬
‫والرهاب أن تنتزع اليمان من قلوب تلممك العصممبة السمملمية الصممغيرة بعممددها ‪ ،‬الكممبيرة بإيمانهمما‬
‫بالرسالة الجديدة ‪. . . . .‬‬

‫وإذا كان الرسول ‪ ‬يحظى بحماية قممبيلته ‪ -‬بنممى هاشممم – حسممب العممراف القبليممة ‪ ،‬وكممذلك‬
‫المسمملمين‬ ‫بعض المؤمنين من أسرهم القرشية ‪ ،‬تبعا ة للعراف نفسها ‪ ،‬فقممد لق مستضممعفو‬
‫أقس أنوع الظلم والضطهاد ‪ ،‬وعوملوا بمنتهى الوحشية ‪ ،‬إذ تفنممن القرشمميون فممي عممذابهم ‪ ،‬حممتى‬
‫سقط منهم الشهداء ‪ ،‬مما دل على اليمان العميق لولئمك المسمملمين الوائمل الممذين صممدوا للهمجيممة‬
‫الشرسة لمشركي قريش ‪ ،‬ودلل صمودهم البطولي على قوة السلم ومنعته رغم طراوة عوده ‪.‬‬

‫الصراع بين الوثنية وأالتوحيد‬


‫كان الصراع بين الوثنية والتوحيد على أشده ‪ ،‬وقد تجل فيه الثبات على العقيدة واليمان بالمبممدأ‬
‫لدى طرفي الصراع ‪ . . . .‬فمن جهة ‪ ،‬كان القرشيون حريصين بالغ الحممرص علممى طقمموس عبممادة‬
‫أسلفهم ‪ ،‬لسيما وقد جاءت الدعوة الجديدة لتهدم كل معتقداتهم ولتضرب مصممالحهم الرسممتقراطية‬
‫القائمة على ترابط العوامل السياسية والقتصادية والدينية ‪. . . .‬‬
‫كفاحية الرسالة السلمية‬
‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.73-72‬‬ ‫‪68‬‬
‫‪35‬‬

‫ومن جهة ثانية ‪ ،‬دلل صمود المسلمين الوائل علممى أن العقيممدة الممتي آمنمموا بهمما هممي أقمموى مممن‬
‫جميع نوازعهم ‪ ،‬بلغ لديهم الثبات على المبدأ ذروة التضحية بالذات والمال في سبيل أن تبقممي شممعلة‬
‫السلم متألقة نيرة ‪. . .‬‬

‫وكان نضال الرسول ملحميا ة ‪ ،‬لم إيمانه بالرسالة عميقا ة ‪ ،‬لم تثنه مواقف قممومه عممن المضممي فممي‬
‫نشر الدعوة ‪ ،‬مما تحدث عنه المستشرق اليطالي ميخائيل ايمارى في كتممابه )تاريممخ المسمملمين( ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬

‫)) وحسب محمد ثناءة عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظممة واحممدة فممي موضمموع رسممالته‬
‫على كثرة فنون المساومات واشتداد المحن وهو القائل "لو وضممعوا الشمممس فممي يمينممي والقمممر فممي‬
‫يساري على أن أترك هذا المر ما تركته "‪ .‬عقيدة راسخة ‪ ،‬وثبات ل يقاس بنظير‪ ،‬و همممة تركممت‬
‫العرب مدينين لمحمد بن عبد ا ‪ ،‬إذ تركهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر (( ‪. 69‬‬

‫رسالة السلم وأخطرها عل السلطة القرشية‬


‫وقد جر موقف الرسول ‪ ‬الثابت في نشر الدعوة عداء القبيلة ‪ ،‬ممثلة في السملطة القرشمية المتي‬
‫أخذت تخشى على مواقعها السياسية ومصالحها التجارية فضلة عن استيائها من ذم عباداتها وأوثانها‬
‫‪ ،‬يقول » وشنطون إرفنج « متحدثا ة عن مكانممة الرسممول ‪ ‬ف ي ق بيلته واص طدامه به ا حي ن ص دع‬
‫بالرسالة التي تشكل خطراة على السلطة القرشية ‪:‬‬

‫)) هل كان قوي النفوذ ؟ نعم ‪ ،‬فقد كانت أسرته تقوم بسدانة الكعبة ‪ ،‬وتتولى شؤون مكممة ‪ ،‬تلممك‬
‫المدينة المقدسة ‪ ،‬ولذا كان مركزه وما اتصف به من أخلق كريممة يمؤهلنه ليكمون موضمع الثق ة ‪.‬‬
‫ولكن حينها دعا محمد إلى السلم اصطدم بأسرته وقبيلته ‪ ،‬وجر علممى نفسممه عممداءهما ‪ ،‬فقممد كممان‬
‫تحطيم الوثان يقضي على سيطرة قريش على الكعبة وما تستفيده من قدوم الحجاج (( ‪.70‬‬

‫الثر التاريخي للدعوة السلمية‬


‫لقد شكلت الدعوة السلمية الممتي ل تعممرف الطبقيممة ‪ ،‬بمناداتهمما بالمسمماواة الجتماعيممة ‪ ،‬خطممراة‬
‫على الرستقراطية القرشية ‪ . . . .‬فالسلم دعوة إنسانية تبشر بالخاء والحرية والعدل والمساواة ‪،‬‬
‫وذلك لن الرسالة لم تكن مقصورة على الخاصة ‪ ،‬بل اجتذبت إلى صفوفها الفقممراء والعبيممد ‪ ،‬الممذين‬
‫رأوا بتعاليم السلم الصلحية ‪ ،‬إطلقهم ممن أمممر العبوديممة والفقممر ‪ ،‬وخلصمما ة روحيمما ة مممن عبممادة‬
‫الوثان ‪ ،‬فتطهراة بوحدانيممة اليمممان ‪ . . .‬هممذا ويممذهب البمماحث المجممرى جولممد تسممهير ) ‪- 1850‬‬
‫‪(1903‬مم في مؤلفه ‪) :‬العقيدة و الشريعة في السلم ( إلى دراسة الثر التاريخي للممدعوة السمملمية‬
‫في محيطها العربي بقوله ‪:‬‬

‫ميخائيل ايماري ‪ :‬تاريخ المسلمين‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫واشنطون ارفنج )نقل عن كتاب روح الدين السإلمي(‪.‬‬ ‫‪70‬‬


‫‪36‬‬

‫)) يمكننا أن نلقى نظرة عامة شاملة على الثر التاريخي الذي قممامت بممه الممدعوة إلممى السمملم ‪،‬‬
‫خاصة أثرها في الدائرة القريبة ‪ ،‬التي كانت دعوة محمد موجهة إليها بطريممق مباشممر قبممل غيرهمما‪،‬‬
‫حقاة ل جدة ول طرافة في هذه الدعوة ‪ ،‬ولكن قد استعيض عنها بأن محمداة قد بشممر برسممالة السمملم‬
‫للمرة الولى بحماس ل يفتر ولم تعوزه المثابرة ‪ ،‬وبعقيدة ثابتة بأن هذا الدين يحقق صممالح الجماعممة‬
‫الخاصة ‪ ،‬وقد كان في ذلك كله مظهرا إنكار الذات ‪ ،‬برغم سممخرية الجمهممور ‪ ،‬إذ الحممق أن محمممداة‬
‫كان بل شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية ‪ ،‬تلك كممانت طرافتممه برغممم‬
‫قلة المادة التي كان يبشر بها(( ‪.71‬‬

‫الوعد وأالوعيد وأالترغيب وأالترهيب‬


‫هذا ‪ ،‬وقد استخدمت السلطة القرشية جميع أسلحتها لمحاربة الدعوة السلمية ‪ ،‬التي وان كممانت‬
‫تعيش أجواء الحصار ‪ ،‬وتنتشر بصعوبة ‪ ،‬لنها أدركت جدية الخطر المقبل ‪،‬إذ أخذ بعض القرشيين‬
‫يتعاطفون مع هذه الفئة الصممامدة ‪ ،‬كممما كممان للرسممول ‪ ‬الداعي ة السمملمي الول عميممق الثممر فممي‬
‫وجدان من يحاججهم ويدعوهم إلى طريق الهدايممة ‪ ...‬فحيممن أدركممت قريممش فشممل أسمماليبها العقيمممة‬
‫لجأت إلى سلحا آخر هو سلحا الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ‪ ...‬لقد عرضممت علممى الرسممول‬
‫‪ ‬المال والجاه والسملطان والنسمماء ‪ ،‬علممى أن يتخلممى عمن رسممالته ‪ ...‬لكمن هيهمات أن تجمدي هممذه‬
‫الوسائل والساليب نفعا ة ‪ . . .‬فارتممدت إلممى أسمماليب اليممذاء النفسممي والجسممدي ‪ ،‬الممتي بلفممت مرحلممة‬
‫خطيرة ‪ ،‬إذ جرت محاولتان لقتله وهو يصلى في ظل الكعبة ‪.‬‬

‫غمممر أن الرسمممول ‪ ‬بل غ م ن اليم ان برس الته درج ة ل رج وع فيه ا ورغ م كمممل‬
‫الخمماطر و المزالممق ‪ ،‬وكممل أسمماليب الوعممد والوعيممد ممما كممان بمقممدوره ‪ ،‬أن يممتراجع قيممد أنملممة عممن‬
‫مسمميرته ‪ ،‬وهممو علممى ثقممة تامممة بممأن امم مؤيممده بنصممر ول ريممب ‪ ،‬وأن الرسممالة ل بممد أن تعممم‬
‫مستقبلة ‪ ،‬ولممذا مضممى مسممتهينا ة بكممل الصممعاب ليقينممه أن نشممر رسممالة التوحيممد فممي الجممواء الوثنيممة‬
‫ل بممد أن تممؤلب عليممه العممداء وتقمموده إلممى خصممومة القيممادة القرشممية ‪ ،‬يقممول المممؤرخ المريكممي‬
‫واشنجتون ارفنج ‪:‬‬

‫)) لقي الرسول من أجل نشر السلم كثيراة من العناء ‪ ،‬وبذل عدة تضمحيات ‪ .‬فقمد شمك الكمثير‬
‫في صدق دعوته ‪ ،‬وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحا ة كبيراة ‪ ،‬وتعممرض خلل إبلغ المموحي إلممى‬
‫الهانات والعتداءات والضطهادات ‪ ،‬بل اضممطر إلممى أن يممترك وطنممه ويحممث عممن مكممان يهمماجر‬
‫إليه ‪ . . .‬فقد كان في الربعين من عمره حينا نزل عليه الوحي وعانى كثيراة سنة بعد أخرى في نثر‬
‫السلم بين أفراد قبيلته (( ‪. 72‬‬

‫وبدوره تناول الباحث النكليزي توماس كارليل موقف قريش من الرسممول وكفمماحه المريممر فممي‬
‫نشر الدعوة وموقف عمه أبى طالب ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫جولد تسهير ‪ :‬العقيدة و الشريعة في السلم )ترجمة طائفة من علماء الزهر (‪ ،‬ص ‪.6-5‬‬ ‫‪71‬‬

‫واسنطون ارفنج )نقل عن كتاب روحا الدين السلمي ‪ ،‬ص ‪.(437‬‬ ‫‪72‬‬
‫‪37‬‬

‫)) وسرى أمر محمد ببط ‪ ،‬ولكنه سريان على كل حال ‪ .‬وكان عمله بالطبع سيء ‪ ،‬الوقممع لممدى‬
‫كل إنسان ‪ ،‬إذ جعلوا يقولون ‪ » :‬من هذا الذي زعممم أنمه أعقمل منما جميعما ة ‪ ،‬والمذي يعنفنما ويرمينما‬
‫بالحمق وعبادة الخشب ‪ ،‬وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويممؤمن بممه وحممده‪ ،‬وأن يكممون لممه مممن‬
‫نفسه ما يشغله عن العالم ‪ ،‬وأن ل يسخط القموم ويمثير غضمبهم علي ه فيخطمر بمذلك حيماته ‪ ،‬فأجمابه‬
‫محمد ‪ " :‬و ا لو وضعوا الشمس فمي يمينمي والقممر فمي يسماري علمى أن أتمرك همذا الممر حمتى‬
‫يظهره ا أو أهلك فيه ما تركته" كل ‪ ،‬فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئا ة مممن عنصممر الطبيعممة‬
‫ذاتها ل تفضله الشمس ول القمر ‪ ،‬ول أي مصنوعات الطبيعة ‪ ،‬ول بد لتلممك الحقيقممة مممن أن تظهممر‬
‫برغم الشمس والقمر ‪ ،‬مما دام قمد أراد أن تظهمر ‪ ،‬وبرغمم قريمش جميعهما ‪ ،‬وبكمره سمائر الخلئمق‬
‫والكائنات ‪ .‬نعم ل بل أن تظهر ول يسعها إل أن تظهر ‪ ،‬بذلك أجاب محمد ‪ ،‬ويقممال انممه اغرورقممت‬
‫عيناه ‪ :‬لقد أحس من عمه البر والشفقة ‪ ،‬وأدرك وعورة الحال ‪ ،‬وعلم أنه أمممر ليممس بممالهين الليممن ‪،‬‬
‫ولكنما أمر صعب المراس ‪ ،‬مر المذاق ((‪. 73‬‬

‫الهجرة إلى الحبشة‬


‫كمممان لعلنيمممة المممدعوة السممملمية أن شمممكلت منعطفممما ة تاريخيممما ة فمممي مسمممارها ‪ ،‬إذ لقمممى‬
‫المسلمون الوائل شممتى أفممانين العممذاب وضممروب الظلممم ‪،‬و تعرضمموا للفتنممة والقتممل ‪ ،‬فسممقط منهممم‬
‫الشهداء ‪ ،‬وهم صامدون مدللين بذلك على الثبات على إيمانهم العميق الذي هيهات أن تزعزعممه أيممة‬
‫قوة غاشمة ‪.‬‬

‫ومممع ذلممك لممم يكممن جميممع المسمملمين الوائممل علممى هممذا المسممتوى والسممتعداد للتضممحية ‪،‬‬
‫فكمان هنماك ممن لنمت قنمماته فلمم يصمبر ولمم يصممد أممام العممذاب ‪ ،‬فممانتزعت ممن شممفاههم كلممات‬
‫الممردة عممن السمملم ‪ ،‬رغممم إيمممانهم بالرسممالة ‪ ،‬مممما جعلهممم يعممانون المريممن ‪ ،‬مممرارة الخجممل‬
‫والشممعور بالهزيمممة ‪ ،‬ومممرارة تنكرهممم للسمملم والممتزامهم بممدين أجممدادهم ‪ ،‬ويتحممدث المستشممرق‬
‫الرومانى » جيورجيممو« عمن الوضمماع السممائدة ‪ ،‬قبممل أتحمماذ الرسممول قممرار هجممرة المسمملمين إلممى‬
‫الحبشة ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) لم يكن إيمان بعض من أسلم مؤخراة بمستوى المسلمين الوائل ‪ ،‬كما لم يكن لهممم ذلممك العممزم‬
‫الذي يجابه شدائد المشممركين ‪ ،‬ولسمميما أن قريشمما ة زادت مممن عممدائها حيممث منعممت النمماس مممن بيممع‬
‫المسلمين والشراء منهم ‪ ،‬كما منعت الزواج منهم ‪ ،‬أو التزوج ببناتهم ‪ .‬ففي مكة ‪ ،‬كانت التجارة هي‬
‫الوسيلة الوحيدة للعيش ‪ ،‬فعندما امتنعوا عن التعامل معهممم شمملوا حركتهممم وهممذا ممما دفممع بعممض مممن‬
‫أسلموا مؤخراة إلى التخلي عن إيمانهم والرتداد إلى دين أجدادهم ((‪. 74‬‬

‫ويتحدث المستشرق الفرنسي ه آتييممن دينيممه ‪ ،‬عممن مأسمماة المسمملمين وآلم الرسممول ‪ ‬لفتنتهممم ‪،‬‬
‫وقراره الشجاع بهجرتهم إلى الحبشة ‪ ،‬قائلة ‪:‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.74‬‬ ‫‪73‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة على سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫‪74‬‬
‫‪38‬‬

‫)) وامتلت نفس الرسول حزنا ة ‪ ،‬أمام هذه المآسي التي كان يتحملها ضعاف المسمملمين الممذين ل‬
‫يجدون من يحميهم ‪ .‬حقا ة إن شجاعة المعذبين والشهداء في سبيل ا برهنت على إسلمهم العميممق ‪،‬‬
‫ولكنه رأى أن من الخير أل يستمر هذا البلء ‪ ،‬فنصح الضعفاء ومن لم تدعهم الضرورة إلممى البقمماء‬
‫في مكة بالهجرة إلى الحبشة حيث المسيحيون ‪ ،‬وحيممث التسممامح والعممدل اللممذان اشممتهر بهممما ملكهمما‬
‫النجاشي((‪. 75‬‬

‫وتدل فكرة الهجرة إلى الحبشة على ما تعانيه الحركة السلمية من تعثر وضممغوط نفسممية وآلم‬
‫جسدية في أتون ذلك الصراع بين العقيدتين الوثنية والتوحيدية ‪ ،‬ونلخص بما يلممي السممباب المباشممر‬
‫لتلك الهجرة ‪:‬‬

‫‪ ‬الهروب من الضطهاد الجسدي والمعنوي والفلت من الحصار المادي ‪.‬‬


‫‪ ‬تجنيب المسلمين خطر الرتداد عن السلم ‪.‬‬
‫‪ ‬وتذهب بعض المصادر الستشمراقية إلمى العتقماد بمأن وراء الهجمرة أسمبابا ة أخمرى منهما‬
‫التجارة ‪ ،‬أو مخططا ة سياسيا ة ‪ ،‬هدف الرسول من ورائه الحصول على مساعدة حربية من الحبمماش‪.‬‬
‫في حين يتحدث بعممض المستشممرقين عممن ظهممور انشممقاق داخممل أمممة السمملم الناشممئة بيممن طممائفتين‬
‫متنافستين يقود كلة منهما أبو بكر وعثمان بن مظعون ‪ ،‬فعمل الرسول ‪ ‬على القضاء على الشممقاق‬
‫في مهده فأشار بالسفر إلى الحبشة لتأييد مخطط المحافظة على مصالح السلم (( ‪. 76‬‬

‫لقد كان قممرار الرسممول ‪ ‬حكيم ا ة وواقعي ا ة لحماي ة المس لمين م ن الضممطهاد ‪ ،‬وحمايممة الحركممة‬
‫السلمية ‪ -‬مستبعدين الراء الستشراقية الخرى ‪ -‬فجاء تصميمه على هجممرة المسملمين وأن يبقممى‬
‫هو في مكة يواجه ذلك العصار العاتي ‪ ،‬يقول جيورجيو ‪:‬‬

‫))وقر رأيه أخيراة على ترحيل المسلمين إلممى الحبشممة ‪ ،‬بينممما يبقممى هممو فممي مكممة ‪ ،‬متحملة كممل‬
‫الخطار ‪ .‬ولم يقم أي من النبياء السابقين بمثل هل ا التصميم((‪. 77‬‬

‫وتوجست القيادة القرشية من هجرة المسلمين إلى الحبشة شراة مسممتطيراة ‪ ،‬فحمماولت دون جممدوى‬
‫أن تقبض عليهم وتحول دون إبحارهم ‪ ،‬فثارت ثاثرتها لفلتهم من قبضممة الكفممر ‪ ،‬وأخممذت تحسممب‬
‫لهذه الهجرة ألف حساب ‪ ،‬فاستقر رأيها على إيفاد رجليممن ممن لممدنها همما عمممرو بمن العمماص داهيممة‬
‫العرب وعمارة بن الوليد ليطلبا إلى النجاشي إعادة المسلمين على أنهم مارقون من الدين ‪ . . .‬وفعلة‬
‫‪ ،‬تحدث سفيرا قريش مع النجاشي في مهمتهما هذه ‪ ،‬إل أن دفاع المهاجر جعفر بن أبي طممالب عممن‬
‫السلم بحضرة النجاشي ‪ ،‬كان له أثممره العميممق فممي وجممدانه ‪ .‬ورأى بالرسممالة الجديممدة دينمما ة جديممداة‬
‫يعترف بالرسالت السماوية السابقة ‪ ،‬ويقر بوحدانيممة ام ‪ ،‬ورفممض الشمرك والوثنيمة ‪ ،‬وينهممى عمن‬
‫فواحش الجاهلية ويدعو إلى مكارم الخلق‪ .‬فكان أن رفض طلب القيادة القرشية ‪ ،‬ومنممح المسمملمين‬
‫حق اللجوء ‪ ،‬فوجدوا بحواره أمنا ة ودعة ‪.‬‬

‫آتيين دينيه ‪ :‬محمد رسول ا ‪ ،‬ص ‪.145‬‬ ‫‪75‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في مكة ‪ ،‬ص ‪.189 – 182‬‬ ‫‪76‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ ،‬ص ‪.117‬‬ ‫‪77‬‬


‫‪39‬‬

‫ويتحدث الباحث السلمي مولنا محمد علمى فمي كتمابه ‪ » :‬حيماة محممد ورسمالته « ع ن آثمار‬
‫الهجرة السلمية على القيادة القرشية ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬
‫)) وحيممن عمماد الوفممد القرشممي مممن الحبشممة بخفممي حنيممن تخطممى غيظهممم كممل حممد‪ ،‬لقممد واصمملوا‬
‫اضطهادهم المسلمين في اهتياج مضاعف ‪ .‬كانوا حتى ذلك الحين يشهدون صبر المسلمين على هذه‬
‫المحن القاسية في دهش عظيم ‪ ،‬ولكن الهجرة إلى الحبشة أعطتهم برهانا ة قاطعا ة علممى أن المسمملمين‬
‫مستعدون لمختلف ضروب المخاطر‪ ،‬ولتحمل كل لون من ألوان التعذيب في سبيل عقيدتهم ‪ ،‬وعلممى‬
‫أنهم لن يحجموا عن خوض غمار المخاطر كلها في سممبيل امم ‪ .‬وفمموق هممذا ‪ ،‬فعنممدما تسممامع سممائر‬
‫المسلمين في مكة بالرعاية الكريمة التي أسبغها النجاشي على إخوانهم شخص عممدد منهممم فممي العممام‬
‫التالي إلى الحبشة ‪ .‬و تعرف هذه الهجممرة بممالهجرة الثانيممة إلممى الحبشممة ‪ .‬وبممذل القرشمميون قصممارى‬
‫جهدهم لكبح جماحا هذه الهجرة ‪ ،‬ولكن دونما طائل (( ‪. 78‬‬

‫نقد خبر »الغرانيق«‬


‫وفي تلك الفترة المتأزمة في تاريخ مسيرة الدعوة السلمية ‪ ،‬التي شهدت هجرة المسلمين إلى‬
‫الحبشة ‪ ،‬تحول أعظم رجلين من رجالت قريش إلى السلم وهما حمممزة عممم الرسممول وعمممر بممن‬
‫الخطاب ‪ ،‬فبلغ الصراع بين المشركين والمسلمين أعلى مراحل احتدامه ‪ ،‬وهنمما ‪ ،‬فممي هممذه الفممترة‬
‫بالذات يأتي خبر » الغرانيق العلى « ليحدث في سيرة الرسول ومسيرة الممدعوة السمملمية شممرخا ة ‪،‬‬
‫بإيمان النبي محمد وعسيرة السلم ‪. . .‬‬

‫ورغم اقتناعنا ة المسبق باختلق خبر )الغرانيق العلي(‪ ،‬لكننمما آثرنمما الوقمموف عنممده لنممه عمليمما ة ‪،‬‬
‫أثار ضجة كبرى في الدراسات السلمية ‪ ،‬ونبهت الكممثير مممن المستشممرقين للتوقممف عنممدها ‪ ،‬بممل‬
‫للتحقق من مدى صحتا تاريخيا ة لما فيها من مساس برسول السمملم ‪ ،‬وشخصمميته العظيمممة وحقيقممة‬
‫الصلح المؤقت المزعوم بينه وبين الزعامة القرشية ‪ . . .‬ويندرج في جملة من تحدث بها علممى أنهمما‬
‫حقيقة ثابتة المؤرخ اللماني كارل بروكلمان الذي ذهب به الرأي إلى أنه رغم ما يعمممر قلبممه ‪ ‬م ن‬
‫إيمان بوحدانية الله جل جلله وبالتالي بطلن آلهة قريش ‪ ،‬فقد اعممترف فممي البممدء بممآلهتم الغرانيممق‬
‫الثلث ‪ ،‬اللت والعزى ومناة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))ولكنه على ما يظهر اعترف فى السنوات الولى من بعثتممه بآلهممة الكعبممة الثلث اللممواتي كممان‬
‫مواطنوه يعتبرونها بنات ا ‪ .‬ولقد أشار إليهن في إحدى اليات الموحاة إليه بقوله ‪ " :‬تلك الغرانيممق‬
‫العلى وان شفاعتهن لترتجى " ‪ .‬أما بعد ذلك حين قوى شعور النممبي بالوحدانيممة فلممم يعممترف بغيممر‬
‫الملئكة شفعاء عند ا ‪ ،‬وجاءت السورة الثالثة والخمسون )النجمم ( وفيهما إنكممار لن تكممون اللهممة‬
‫الثلث بنات ا ‪ .‬ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسممليم إل تحممولة أغممراه بممه الشمميطان ‪،‬‬
‫ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد أوقات النبي ضيقا ة في مكة ‪ ،‬ثممم ممما لبممث أن أنكممره و تممبرأ منممه فممي‬
‫اليوم التالي ((‪. 79‬‬

‫والغريب أن الباحث العسكري غلوب باشا ‪ ،‬قممه أورد خممبر )الفرايممق( رغممم التجمماه العسممكري‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.92-91‬‬ ‫‪78‬‬

‫كارل باروكلمان ‪ :‬تاريخ الشعوب السإلمية ‪ ،‬ص ‪.35-34‬‬ ‫‪79‬‬


‫‪40‬‬

‫لكتابه ‪ " :‬الفتوحات العربية الكبرى" وما يحرص عليه غالبا ة ممن الموضمموعية فقممد سمماق الخمبر نقلة‬
‫عن المستشرقين الذين سبقوه في التشكيك برسالة السلم ‪ ،‬ونحن ل نرى في ذلممك بممدعا ة ‪ ،‬إذ وقممع‬
‫في هذا الشرك الكثير من كتاب السيرة المسلمين ورواة الحاديث الضعيفة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وكان وجوه مكة وشيوخها يجلسون ذات يوم في العراء على مقربة من الكعبة عنممدما اقممترب‬
‫منهم محمد واقتعد مجلسه معهم ‪ ،‬وبعد صمت قصير بدأ النممبي يتلممو علممى مسممامعهم سممورة النجممم ‪،‬‬
‫فيحدثهم عن الوحي والتنزيل وكيف وقف الملك جبريل على بعد خطمموتين منممه حممدثهم عممن زيممارة‬
‫الملك الثانية ‪ ،‬عند سدرة المنتهى ‪ ،‬ثم مضى يقول ‪  . . .‬ثم رأى من آيات ربه الكبرى ‪ .‬أفرأيتم‬
‫اللت والعزى ‪ ،‬و قناة الثالثة الخرى ‪ .‬ألكم الذكر وله النثى ‪ ،‬تلك إذا قسمة ضيزى* ‪ ‬ورأى سادة‬
‫قريش الرسول وهو يشهد لهذه اللهة الثلثمة ‪ ،‬ثمم رأوه فمي نهايمة السمورة وهمو يسمجد فمي صملته‬
‫فسجدوا معه جميعا ة وأخذوا يصلون معه ‪ .‬ول ريب في أن هذا الحادث يقيم الدليل على أن أهل مكممة‬
‫كانوا يعترفون بصورة عامة بوجود إله عظيه واحد ‪ .‬ولكنهم كانوا يرون أن آلهتهم المحلية هذه هي‬
‫سبيل للوساطة عنده ‪ .‬وكانوا يقولون إنهم على استعداد لتباع النبي في عبادة امم شممريطة أن يكممون‬
‫على استعداد للعتراف بدور آلهتهم الصمغرى ‪ .‬وسمرعان مما وقعمت مهادنمة آنيمة وتموقفت حملت‬
‫العذاب والضطهاد ‪.‬‬

‫ولكن الرسول مما فمتىء أن ع اد إلمى داره وشمعر بضمميره يعمذبه ‪ ،‬فهمل ممن الحمق أن يهمادن‬
‫الشرك حتى ولو كانت غايته إنقاذ أتباعه من الضطهاد وظهر له جبريممل مممن جديممد وأخممذ يعمماتبه ‪.‬‬
‫وأحس باللم والخوف من الله ‪ .‬انه ل يرضى عن تراجعه وقرر أن يتراجع عن ممموقفه السممابق وأن‬
‫يواجه من جديد غضب قومه ‪ .‬وعاد إلى القوم فأكمل على مسامعهم السورة علممى النحممو الممذي يبممدو‬
‫في القرآن ‪ .‬وأثار هذا التراجع سخط أهل مكة واستفزهم فعادوا إلى اضطهاد المسلمين (( ‪.80‬‬

‫ويعتممبر المستشممرقون أن اعممتراف الرسممول ‪ ‬بالله ة الثلث كممان وراء هممدف سياسممي لكسممب‬
‫النصار في مكة والمدينة والطائف ‪ ،‬واستمالة عدد من زعممماء قريممش ‪ . . .‬غيممر أنممه مممن الهميممة‬
‫بمكان ‪ ،‬التأكيد على أن الرسول ‪ ‬الذي عرف طوال عمره بروحه الكفاحية العاليممة الممتي ل تهممادن‬
‫ل يمكن البتة أن يعترف بتلك اللهة ‪ ،‬ويقع في فممخ الشممرك الممذي كممان أسمماس دعممواه القضمماء عليممه‬
‫وإقامة الوحدانية ‪ . .‬وهذا مما يؤكد بدوره اختلق هذا الخبر المدسوس في كتممب الحممديث المشممهورة‬
‫بضعفها وعدم ثقة رواتها ‪.‬‬

‫و نممرى أن نثبممت هنمما مممارد بممه البمماحث اللبنمماني الممدكتور عمممر فممروخ فممي تعليقممه علممى كتمماب‬
‫بروكلمان ومناقشته تمسك المبشرين بهذه الرواية ‪ ،‬يقول ذلك العلمة ‪:‬‬

‫)) الكلم في هذا الموضوع كثير ‪ ،‬وجله خارج عن الحقيقة ‪ .‬وخلصة الموضوع توجز في ممما‬
‫يلي ‪:‬‬

‫*‬
‫ضيزى ‪ :‬جائرة ‪.‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.69-67‬‬ ‫‪80‬‬


‫‪41‬‬

‫" زعم توم من الرواة أن الرسول قواة يوما ة في سورة النجم ) السورة ‪: ( 53‬مم ‪ ‬أفرأيت م اللت‬
‫والعزى ومناة الثالثة الخرى ‪ ) ‬اليات ‪_ 19‬مم ‪ ( 20‬ثممم قممرأة بعممدها ‪ " :‬تلممك الغرايممق العلممى وان‬
‫شفاعتهم لترتجى "‪.‬‬

‫وأمسك المبشرون وبعض المستشرقين بهذه الروايه وزعموا أن الرسول لممم أنممما فعممل ذلممك لممما‬
‫قاومه مشركو مكة ‪ ،‬فأحب أن يقترب منهم فمدحا آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراجعمما ة عممن تشممدده فممي‬
‫التوحيد ومجابهة الصنام ‪.‬‬

‫ولقد وجدت أن أحسن رد على هذه الفرية ما ذكره العالم الهندى المشهور مولنا محمد على ‪:‬‬

‫قال ‪ :‬إن هذه الرواية وردت عنممد الواقممدى وعنممد الطممبرى ‪ ،‬ومممع ذلممك فإنهمما ل ظممل لهمما مممن‬
‫الحقيقة ‪ ،‬فإن كل عمل من أعمال رسول ا مناقض لمثل هذا التجاه ‪ .‬أضف إلى ذلك أن الواقدي‬
‫معروف بسرد السرائيليات وبسرد الخرافات ‪ .‬وكذلك الطبري معروف بالجمع الكممثير وباستقصمماء‬
‫الروايات مهما كان حظها من الصحة ‪.‬‬

‫على أننا لو رجعنا إلى رواية محمد بن اسحق أو إلى صحيح البخاري وهو الممذي لممم يغممادر ممن‬
‫حياة الرسول شيئا ة إل ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثراة ‪ .‬وابن اسحق جاء قبل الواقممدي بممأربعين سممنة‬
‫وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيممد ‪ .‬ومممع ذلممك لممم يممذكر هممذه القصممة ‪ .‬ثممم إن الواقممدي‬
‫معروف عند المحدثين بأنه يضع الحاديث وأنه غير ثقة فيما يممروي ‪ ،‬وكممذلك لممم يممذكرها أحممد مممن‬
‫رواة الحديث ‪.‬‬

‫وإذا عدنا إلى قراءة اليات نفسها بالتسلسمل وجمدناها‪  :‬أفرأيممت اللت والعمزى ‪ ،‬ومنماة الثالثمة‬
‫الخرى؟ ألكم الذكر وله النثى‪ .‬تلك إذن قسمة ضيزى‪ ،‬إن هي إل أسماء سيتموها أنتممم وآبمماؤكم ممما‬
‫أنزل ا بها من سلطان إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس ‪ ،‬ولقد جاءهم من ربهم الهدى‪.‬‬

‫فليس من المعقول أن تحشر بين هذه اليات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة السمملمية‬
‫((‪. 81‬‬ ‫وصلب دعوة محمد ‪‬‬
‫وجدير بالذكر أن المفكر العربي السمملمي محمممد حسممين هيكممل نمماقش بممدوره مسممألة "الغرايممق‬
‫العلى" ورد على ادعاءات المستشرقين الذين اعتروها مسلمة ‪ ،‬وفي مقدمتهم المستشرق النكليممزي‬
‫وليم موير ‪ ،‬فخلص إلى القول ‪:‬‬

‫)) هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيممق وهمي حجمج واهيمة ل تقموم‬
‫أمام التمحيص(( ‪.82‬‬

‫إسلم حمزة وأعمر‬


‫كارل باروكلمان ‪ :‬تاريخ الشعوب السإلمية ‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪81‬‬

‫محمد حسنين هيكل ‪ :‬حياة محمد ‪ ،‬ص ‪) 163-162‬راجع دراسإته القيمة في كتاباه المذكور(‪.‬‬ ‫‪82‬‬
‫‪42‬‬

‫هذا ‪ ،‬وإن كان خبر "الغرانيق" غير صحيح ‪ ،‬فالثابت أن قريشا ة لم تهادن الرسول ‪ ‬البتة ‪ ،‬بل‬
‫كانت في هذه المرحلة التاريخية ‪ ،‬التي اختلق في سياقها هذا الخبر ‪ ،‬علممى أشمد عنفهمما ومحاربتهمما‬
‫الدعوة السلمية ‪ ،‬التي كانت تعاني صعوبات جمة ‪ ،‬ومع ذلك اسممتطاعت أن تحقممق نصممرا كممبيرا‬
‫عبممد‬ ‫في إسلم رجلين هما من أبممرز وجمموه قريممش وأشممجع أبطالهمما ‪ . .‬وهممما حمممزة بممن‬
‫المطلب وعمر بن الخطاب ‪ ،‬وذلك في السنة السادسة للبعثة ‪. . .‬‬

‫وكان لسلم هذين الرجلين أثره البالغ علممى مسممار الحركممة السمملمية ‪ ،‬إذ شممجع النمماس علممى‬
‫الدخول في السلم ‪ ،‬فكان أن تحولت الدعوة للمرة الثانية للعلنية ‪ ،‬بعد أن اضطرت إلممى السممرية‬
‫إبممان الهجمممة الشرسممة ‪ ،‬يتحممدث البمماحث السمملمي مولنمما محمممد علممى عممن أثممر إسمملم همماتين‬
‫الشخصيتين الضخمتين ‪ -‬حمزة وعمر‪ -‬في مسار الدعوة السلمية بقوله ‪:‬‬

‫)) وكان في إسلم عمر منعة للجماعة السلمية الفتية التي كان عودهمما ممما زال أطممرى مممن أن‬
‫يواجه عاصفة المعارضة ‪ .‬وإنما أعز الله السلم بحمزة وعمر في السنة السادسة من رسالة محمممد‬
‫‪ ،‬فحتى ذلك الحين لم يجرؤ المسلمون علممى ممارسممة شممعائرهم علنممةا‪ .‬وكممانوا قممد حصممروا نشمماطهم‬
‫الديني ضمن جدران دار الرقم الربعة ‪ .‬حتى إذا أعلن عمممر إ سمملمه استشممعروا أنهممم أمسمموا مممن‬
‫القوة بحيث يخرجون من نطاق السرية ‪ ،‬فأخذوا يقيمون صلواتهم على نحو علني في البيت الحممرام‬
‫) الكعبة( ‪ ،‬وفي غضون ذلك دخل في كنف السلم كثير من أبناء الطبقات الدنيا (( ‪.83‬‬

‫النصر المرحلي في مسار الدعوة السلمية‬


‫كان إسلم حمزة وعمر انعطافا ة في تاريخ الدعوة إذ تمكنممت مممن كسممر طمموق الحصممار القرشممي‬
‫وانتهت إلى النتشار بيممن القبائممل العربيممة المجمماورة ‪ ،‬فحققممت بممذلك نصممرا مرحليمما ة مؤقتمما ة ‪ ،‬لكممن‬
‫سرعان ما تحركت قريش هذه المرة بجديمة اكمبر‪ ،‬لنهما شمعرت بمالخطر المحمدق ينممو يومما ة بعمد‬
‫يوم ‪ ،‬ويشكل تهديداة حقيقيا ة لمصالحها القتصادية والسياسية ‪ ،‬لسيما حين سلكت الدعوة هذه المرة‬
‫سبيل التحدي وممارسة الشعائر السملمية علني ة وأخمذت تكسمب أنصماراة جمدداة ‪ ...‬يق ول البماحث‬
‫العسكري غلوب باشا ‪:‬‬

‫)) و على الرغم من أن إسلم هذين الرجلين ‪ -‬حمزة وعمر ‪ -‬قد شجع النبي إل أنممه فممي المموقت‬
‫نفسه حفز كبراء قريش على أن يوسعوا نشاطهم ضد الدعوة السلمية ‪ .‬وخافوا أن يممؤدي اغتيممالهم‬
‫المسلمين من القرشيين إلى نزاعات دموية في المدينة ول سيما مع بني هاشم ((‪. 84‬‬

‫حصار المسلمين في شعب أبي طالب‬


‫وفي هذه المرحلة المحرجة من مسيرة الدعوة ‪ ،‬اسممتخدمت القيممادة القرشممية سمملحها الخيممر إذ‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫‪83‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪84‬‬


‫‪43‬‬

‫اتخذت قرارها المجرم بفرض الحرم الجماعي عل قبيلة بي هاشم لمعتهمما الرسممول ‪ ‬ض د أع دائه ‪،‬‬
‫وذلك حين أفلست جميع محاولتها السابقة ليقاف مسيرة الدعوة السلمية ‪ ،‬يقول مولنا محمد علي‬
‫‪:‬‬

‫)) حتى إذا مني القرشيون بالخيبة في تلك المحاولت جميعا ة عزموا علممى اللجمموء إلممى سمملحهم‬
‫الخير ‪ .‬كان ذلك في السنة ألسابعة للدعوة ‪ ،‬وكانت كثرة المسلمين قد وفقت إلى الفرار بأنفسها إلمى‬
‫الحبشة ‪ .‬وكان هزة وعمر قمد اعتنقما السملم ‪ ،‬وكمذلك أب و طمالب قمد رفمض صمراحة ‪ ،‬أن يخممذل‬
‫الرسول نزول عند مطلب قريش ‪ .‬وباستثناء أبي لهب كان بنو هاشم كلهم قد عقممدوا العممزم علممى أن‬
‫ينصروه ويقاتلوا دفاعا ة عنه حتى الرجل الخير ‪ .‬وفوق هذا ‪ ،‬فقد راحا نور السلم ينتشر مممن قبيلممة‬
‫إلى قبيلة ‪ .‬من أجل ذلك قرر القرشيون إذ يفرضوا حرما ة اجتماعيا ة علممى بممي هاشممم ‪ ،‬فل يممتزوجون‬
‫منهم ول يزوجونهم ول يبيعونهم شيئا ة ول يبتاعون منهم شيئا ة ‪ .‬ثم أنهممم كتبمموا صممحيفة بهممذا المعنممى‬
‫وعلقوها في ) جوف ( الكعبة لكي يعطوها معنى القداسة ‪ .‬فلما سممع بنمو هاشممم بهممذا شخصموا إلممى‬
‫موطن منعزل من‬
‫‪85‬‬
‫مكة يعرف بالشعب (( ‪.‬‬

‫ووقفت قبيلة بني هاشم موقفا ة شجاعا ة بتأييدها الرسول وقبلت الحرم الجتماعي رغممم أن السمملم‬
‫لم يعم سائر أفرادها ‪ ،‬وينبع موقفها هذا من موقف أبي طمالب م ن جهمة ‪ ،‬ولحترامهما النمبي ‪ ‬م ن‬
‫جهة ثانية ‪ ،‬فرفضت التخلي عنه في أيام محنته ‪. . .‬‬

‫هذا ‪ ،‬وشكل الحرم الجتمماعي مصمماعب جديمة أمممام الممدعوة السملمية ‪ ،‬إذ مممرت فمي مرحلممة‬
‫جمود بعد نهضتها السابقة ‪ ،‬فلم يعد بالامكان أن يتصل المسلمون بالقبائل العربية وهم محصممورون‬
‫داخل شعب أبي طالب ‪ ،‬ذلك أن بني هاشم قبلوا ببطولة ملحمية أن يقفمموا مممع الرسممول فممي محنتممه ‪،‬‬
‫ويعيشوا في أشد الظروف قساوة في ظل المقاطعة القرشية اجتماعيا ة واقتصاديا ة ‪.‬‬

‫ثبات الرسول على المبدأ‬


‫رغم أن الحصار دام ثلث سنوات ‪ ،‬لكن ما لبث أن ظهرت المعارضة داخل صفوف القرشيين‬
‫لفك الحصار عن بني هاشم والمسلمين ‪ ،‬ولسيما بعد تممزق صمحيفة الطمرد الجمماعي المعلقمة فمي‬
‫الكعبة ‪ ،‬فكان أن عادت الدعوة مرة أخرى إلى نشاطها ‪.‬‬

‫وشهد العام العاشر للبعثة تحولة في أسلوب محاربة قريمش المدعوة السملمية إذ عرضمت علمى‬
‫الرسول أن ل يتعرض لديانة أجدادهم وأن ل يتعرضوا بدورهم للمسلمين شريطة أن يممدعهم ودينهممم‬
‫ويدعوه ودينه ‪. . .‬وكان أن تم اللقاء بين الطرفين في منزل عم الرسول أبي طالب وهو على فممراش‬
‫الموت ‪ . . .‬لكن موقف الرسول ‪ ‬ظل ثابتا ة فلم يقبل بأي شكل من أشكال التراجع عن نشر رسممالته‬
‫في صفوف المشركين ‪ ،‬ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله ‪. . . .‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫‪85‬‬


‫‪44‬‬

‫مصاعب على طريق الدعوة‬


‫وفي هذه المرحلة من مسمميرة الممدعوة السمملمية ‪ ،‬أصمميب الرسممول بضممربة ‪ ،‬قاسممية إذ تمموفيت‬
‫زوجته المخلصة خديجة ‪ ،‬وعمه وراعيه أبو طالب ‪ ،‬وشرعت قريممش تحمماربه بشراسممة وضممراوة ‪،‬‬
‫ويحدث توماس كارليل عن وضع الرسول الجديد بقوله‪:‬‬

‫)) فصبوا له الشراك وبثوا الحبائل وأقسموا باللهة ليقتلممن محمممد بأيممديهم ‪ ،‬وكممانت خديجممة قممد‬
‫توفيت ‪ ،‬وتوفي أبو طممالب ‪ ،‬وتعلمممون ‪ -‬أصمملحكم المم ‪ -‬أن محمممداة ليممس بحاجممة إلممى أن ترثممى لمه‬
‫ولحاله النكراء إذ ذاك ومقامه الضنك وموقفه الحرج ‪ ،‬ولكن اعرفوا معي أن حاله إذ ذاك من الشممدة‬
‫والبلء كما لم ير إنسان قط ‪ ،‬فلقد كان يختبىء في الكهوف ‪ ،‬ويفر متنكراة إلى هذا المكان وإلممى ذاك‬
‫‪،‬ل مأوى ول مجير ول ناصر ‪ ،‬تتهدده الحتوف وتتوعده الهلكات ‪ ،‬وتفغر له أفواهها المنايا ‪ ،‬وكان‬
‫المر يتوقف أحيانا ة على أدنى – كإجفال فرس من أفراس أتباع محمد ‪ -‬فلممو حممدث ذلممك لضمماع كممل‬
‫شيء ولكن أمر محمد ‪ -‬ذلك المر العظيم ‪ -‬ما كان لينتهي على مثل تلك الحال((‪. 86‬‬

‫طرد الرسول من قريش‬


‫ولكممن رغممم تلممك الصممعوبات الممتي واجههمما الرسممول ‪ ‬ف ي مس يرته الكفاحيممة لنشممر الممدعوة‬
‫السلمية ‪ ،‬لم يتوقف هنيهة عن متابعة تبليغ رسالت ربه ‪ ،‬وما كانت قريش لتتوقف بممدورها عممن‬
‫مهاجمته ومحاربته ‪ . . .‬وكان أخطر قرار اتخذته بعد تسلم عمه أبي لهممب زعامممة بنممى هاشممم خلفمما ة‬
‫لخيه أبي طالب هو طرد الرسول ‪ ،‬يقول المستشرق الروماني جيورجيو ‪:‬‬

‫)) لقد طرد محمد ‪ ‬في المرحلة الولى من قبل قريش ‪ ،‬في حين أن هاشما ة لم تطرده ‪ ،‬إذ حماه‬
‫أبو طالب ‪ ،‬وخرج معه من مكة إلى الشعب ‪ ،‬ولكن قبيلة هاشم هذه المرة هي الممتي أقمموت طممرده ‪.‬‬
‫ومنذ الساعة التي صمم فيا رئيمس قبيلممة هاشممم علمى طممرد محممد ‪ ‬تب دلت شخصممية محمممد ‪ ‬نمبي‬
‫السلم ‪ ،‬وغدت أشبه برجال الثورة الفرنسية ‪ .‬فالذين يسيرون على مبدأ مخالفة القوانين ل يحميهممم‬
‫القانون ‪ .‬وساءت أوضاع محمد ‪ ‬بعد طرده بشكل يفوق من خرج عممن حمايممة القممانون أيممام الثممورة‬
‫الفرنسية ‪ ،‬لن من يقتل شخصمما ة فرنسمميا ة تعمماقبه محكمممة الثمورة ‪ ،‬وهمي وحممدها المتي تحماكم همؤلء‬
‫الشخاص وتحكمهم ‪ .‬أما في مكة فإن من طرد من قبيلته هدر دمه ‪،‬وبإمكممان أي امرىممه أن يقتلممه ‪،‬‬
‫أو يبيعه ‪ ،‬أو يستعبده ‪ .‬حتى إن أحرقه أحدهم حيا ة ل يعاقب حارقه ‪ .‬لن المطرود مممن القبيلممة يغممدو‬
‫شيئا ة ل قيمة له ‪،‬وبالتالي غير لئق لن يخضع أحد للمحاكمة بسببه ‪ ،‬فهو من طبقة ل تعتممبر مممن‬
‫ذوي الحياة (( ‪. 87‬‬

‫السراء وأ المعراج‬
‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.75-74‬‬ ‫‪86‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.134‬‬ ‫‪87‬‬


‫‪45‬‬

‫تلك‬ ‫في خضم النضال البطولي الذي خاضه الرسول ‪ ‬لنشر الدعوة السلمية ‪ ،‬وفي‬
‫الظروف الصعبة من محاربة كفار قريش إياه ‪ ،‬والحصار المفممروض علممى المسمملمين كممان الحممدث‬
‫العظيم ‪ :‬السراء والمعراج الذي أوقع بلبلة فكرية في صفوف المسلمين وزاد في تعنت المشممركين ‪،‬‬
‫إلى بيت المقدس ‪ ،‬وعروجه إلى السماوات السبع وبلوغه سدرة المنتهى ‪...‬‬ ‫أي إسراء الرسول ‪‬‬
‫هذا و قممد سمماهمت الدراسممات الستشممراقية فممي بحممث مسممألة السممراء والمعممراج مممن زاويتهممما‬
‫اليمانية والعلمية وإعادة طرحا مسألة طالما أثارها المسملمون أنفسمهم ممن قبمل ‪ -‬أي كيفيمة السمراء‬
‫وهل أسري به ‪ ‬بالروحا والجسد معا ة أم بالروحا وحده ‪. . . -‬‬

‫وتقترب نظرة المستشرقين من موقف عقلنيي المسلمين الذين يعتقدون بممأن السممراء والمعممراج‬
‫كانا بالروحا فقط ‪ ،‬اعتماداة على حديث عائشة التي ترى أن السراء كان ضربا من الرؤيا الصادقة ‪.‬‬

‫يقول المستشرق الفرنسي آتيين دينيه في كتابه ‪" :‬محمد رسول ا " ‪:‬‬

‫)) أثار السراء والمعراج كممثيراة مممن المناقشممات بيممن علممماء السمملم ‪ ،‬فبعضممهم يممرى أن ذلممك‬
‫معجزة حصلت فعلة بالروحا والجسد في اليقظة ‪ ،‬بينما يعتمد الخرون على أصح الثار ‪ ،‬من بينهمما‬
‫حديث عائشة زوج الرسول المفضلة وبنت أبي بكر ‪ ،‬ويرون أن الروحا وحدها هي التي أسممري بهمما‬
‫وعرج إلى السماء ‪ ،‬وليس ذلك إل رؤيا صادقة ‪ ،‬كما كان يحصل كثيرا للرسول أثناء نومه (( ‪. 88‬‬

‫هذا ‪ ،‬ولقد أدلى الباحث الروماني ك ‪ .‬جيورجيو برأيممه بهممذه المسممألة ‪ 0،‬فهممو رغممم اعتقمماده أن‬
‫إسراء الرسول ومعراجه قد تما بالروحا فقممط ‪ ،‬وهممذا ليممس بغريممب علممى أصممحاب الممرؤى العظيمممة‬
‫الصادقة ‪ ،‬لكنه يؤكد احترامه للعقيدة السلمية حتى وإن ذهب بعض مفكريها إلى القممول بالسممراء‬
‫بالروحا والجسد معا ة في تلك الرحلة العجازية ‪ ،‬التي تفوق كل خيال ‪ ،‬وتتجمماوز موضمموعية العلمموم‬
‫الفيزيائية ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫(( وعلم الفيزياء ‪ ،‬وإن لم يقبل هذا الموضوع ‪ ،‬فإنني أحترم العقيدة السلمية ‪ ،‬وأقبممل كممل ممما‬
‫جاءت به من الناحية الدينية ‪ .‬ولدينا نحن المسيحيين اعتقادات دينية ل يقبل بها علم الفيزياء كممذلك ‪،‬‬
‫مع ذلك فنحن نقبل بها ‪ ،‬ونعتبرها من صلب معتقداتنا ((‪. 89‬‬

‫وكان لمسألة السراء والمعراج وقعها الخطير فمي مسمار المدعوة السملمية إذ قموبلت بسمخرية‬
‫قريش وهزئها ‪ ،‬بينما أحدثت بلبلة في الصف السلمي الذي كاد أن ينشق على نفسه بين مصدق و‬
‫مشكك لول وقفة أل بكر الحازمة التي صدت تيار البلبلة الفكرية التي كممادت أن تحممدث شممرخا ة وردة‬
‫في الصف السلمي ‪. . .‬‬

‫اتيين دينه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.157-156‬‬ ‫‪88‬‬

‫آتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.157-156‬‬ ‫‪89‬‬


‫‪46‬‬

‫اتاصال الرسول بقبائل العرب وأخروأجه إلى الطائف‬


‫كان للحصار الذي فرضته قريش على المسلمين وفقدان الرسول ‪ ‬حماية بنى هاشممم إيمماه ‪ ،‬أن‬
‫جعلته يسارع إلى التفكير في ضرورة نشر الرسالة السلمية خممارج حممدود مكممة ‪ . . .‬إذ أن رسممالة‬
‫السلم لم تكن البتة مقصورة على قبيلة قريش المكية ‪ ،‬بل كانت رسممالة لللنسممانية عامممة ‪ . . .‬وإذا‬
‫كانت الظروف الموضوعية فرضت على الرسول حين انتقال الرسالة من السرية إلى العلنية أن يبدأ‬
‫بالقرب فالقرب ‪ ،‬ويحصر جل نشاطه في مكة لتكون قاعدة ينطلق السلم منها إلممى بمماقي منمماطق‬
‫جزيرة العرب ‪ . . .‬فقد رأى الرسول الن مع الحصار الجديد أن ينشط لكسب القبائل العربية ‪.‬‬
‫و تأكيداة على هوية الرسالة الشمولية ‪ ،‬تابع الرسول نشر المدعوة بيمن قبائمل العمرب فمي مواسمم‬
‫الحج ‪ ،‬كما خرج إلى الطائف عارضا ة السلم على سادات ثقيف لكنه لم يلممق فممي محمماولته لجميعمما ة‬
‫إل العراض والسخرية واليذاء‪...‬‬
‫لكن ‪ ،‬رغم كل هذا وذاك تابع التصال بالقبائمل العربيممة فمي مواسممم الحمج إيمانما ة منمه بممأن ام‬
‫جاعل له مخرجا ة وأنه ل بد مظهر دين الحق وناصر نبيه‪.‬‬

‫بيعة العقبة ‪:‬‬


‫وفي العممام العاشممر للهجمرة ) ‪ 620‬م ( حممدث تحمول فممي حيمماة الرسمول ‪ ‬وف ي مس رة ال دعوة‬
‫السلمية معا ة ‪ ،‬حين التقى صلوات ا عليه برهط من الخزرج قادمين من يثرب )المدينممة( فبممايعوه‬
‫على السلم عند العقبة ‪ -‬موقع بين مكة والمدينة ‪ -‬أثناء قدومهم لداء فريضممة الحممج ‪ ،‬وفممي العممام‬
‫التالي بايعه اثنا عشر رجلة من الوس والخزرج » الذين نشممطوا فممي نشممر الرسممالة السمملمية فممي‬
‫يثرب ‪ ...‬ولما كان العام الثالث حدثت بيعة العقبة الثانية التي عرفت باسم بيعممة الحممرب حيممن بممايعه‬
‫ثلثة وسبعون رجلة وامرأتان من الوس والخزرج )النصار( ‪.‬‬

‫وحين أدركت قريش نبأة الحلف الجديد المعقود بيممن محمممد ‪ ‬وأنص ار المدينممة ‪ ،‬خشمميت ازديمماد‬
‫نفوذه واستشراء خط الدعوة السلمية ‪ ،‬إذ غدا ذا منعة من قبيلممتي الوس والخممزرج ‪ ،‬لممذا شممرعوا‬
‫يضيقون الخناق على مسمملمي مكممة ‪ ،‬ومكممروا تممآمراة لحكممام خطممة يغتممالون بهمما الرسممول و بالتممالي‬
‫القضاء على السلم قبل أن يفلت من أيديهم زمام المبادرة ‪.‬‬

‫طلئع الهجرة السلمية‬


‫ومع اشتداد الحملة القرشية المسممعورة أذن الرسممول ‪ ‬لتب اعه بممالهجرة إلممى يثمموب علممى شممكل‬
‫جماعات صممغيرة وبسممرية متناهيممة ‪ ،‬وحيممن لحممظ القرشمميون حركممة الهجممرة السممرية عمممدوا إلممى‬
‫إيقافها ‪ ،‬ولكن أشد ما كان يقض مضاجعهم ويتوجسون منه الشر المستطير هو إفلت الرسممول مممن‬
‫قبضتم ‪ ،‬لن معنى ذلك الخطر الداهم على الزعامة القرشية خاصة ‪ ،‬إذا ممما فكممر عليممه الصمملة و‬
‫السلم بتشكيل جيش هدفه الكر على مكة و انتزاعها من أيديهم ‪...‬‬
‫‪47‬‬

‫ويحلل الباحث النكليزي غلوب باشا الوضع العام الناشيء عن الهجرة السلمية مممن مكممة إلممى‬
‫يثرب لتلك الفئة التي غالبيتها من الفقراء والمسممحوقين والممتي اضممطرت أن تقطممع ‪ 250‬ميلة ميل‬
‫على القدام في ظروف قاسية جداة ‪ ،‬ومن ثم يخلص إلى القول ‪:‬‬
‫)) ولم تنقض سبعة أسابيع أو ثمانية حتى كان جميع المسمملمين قممد همماجروا مممن مكممة باسممتثناء‬
‫النبي نفسه وابن عمه علي بمن أبممى طممالب وولمده بمالتبني زيممد بمن حارثمة ورفيقمه الميمن أبمو بكمر‬
‫الصديق ‪ .‬وارتد عن السلم نفر خوفا ة من أهلهم بينما حال هؤلء دون هجرة نفر آخممر ‪،‬وجممدير بنمما‬
‫أن نعترف هنا بأن محمداة أبدى جرأة منقطعة النظير ببقائه في مكة حيث لم يعد يحظى بحمايمة عم ه‬
‫أبو طالب كبير بني هاشم ‪.‬‬

‫وأدركت قريش خطورة ما وقع من تطور وهممالهم أن المسمملمين أخممذوا يقيمممون الن فممي يممثرب‬
‫مجتمعا ة متلحم الوشائج خارجا ة على نفموذهم وبعيممداة عمن متنماول أيممديهم ‪ ،‬وأنهمم شممرعوا يكسممبون‬
‫أنصاراة إلى جانبهم من أبناء القبائل الخرى الذين قممد يتحولممون إلممى معمماداة قريممش ‪ .‬واجتمممع كبممار‬
‫القوم في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد ورأى بعضهم أن محمداة هو سبب كل ما يواجهونه من‬
‫متاعب ‪ ،‬وان من الخير لهم لممو تخلصمموا منممه فممي أسممرع وقممت ممكممن قبممل أن يتمكممن مممن اللحمماق‬
‫بأصحابه في يثرب (( ‪.90‬‬

‫خطة قريش لهدر دم الرسول‬


‫وإزاء ذلك ‪ ،‬اتخذ زعماء قريممش قممراراة خطيممراة إثممر اجتممماعهم فممي دار النممدوة ‪ ،‬ويقممض بقتممل‬
‫الرسول ‪ ‬بشكل جماعي على أن تشرك بذلك البطون العشرة المنتمية إلى قبيلة قريش ‪ ،‬وهدر دمممه‬
‫بين هذه القبائل نزولة عنمد رأي أبمي جهمل ‪ ،‬يتحمدث المستشمرق الفرنسممي آتييمن دينيمه ع ن إقمرار‬
‫زعماء فريش تلك الخط ةة الغادرة بقوله ‪:‬‬
‫)) أقرت الجماعة الغادرة هذا الرأي ‪ ،‬واعتقد المشركون ‪ -‬منذ إقممراره ‪ -‬أنهممم قممد تخلصمموا مممن‬
‫عدوهم ‪ ،‬غير أن المشيئة اللهية أخلفت ظنهم ‪ ،‬فقد أرسل ا جبريممل إلممى رسمموله يعرفممه بمممؤامرة‬
‫دار الندوة ‪ ،‬ويأمره بالهجرة ويطلب إليه أن ل يبيت على فراشه الذي كان يبيت عليه‪.‬‬

‫كان بمنزل الرسول أمانات وضعها عنده المشركون لثقتهم في طهارته ‪ ،‬فأبت نفسه الهجرة قبممل‬
‫رد المانات إلى أهلها ‪ ،‬لذلك أتى بعلمي المخلمص الموفي ‪ ،‬وكلفمه بردهما ‪ ،‬بعمد أن أخممبره بنبممأ دار‬
‫الندوة ‪ ،‬وقال له ‪ » :‬نم على فراشي‪ ،‬و تسممج بممبردى هممذا الخضممرمي الخضممر‪ ،‬فنممم فيممه فممإنه لممن‬
‫يخلص إليك شيء تكرهه منهم «((‪. 91‬‬

‫وبحث المستشرق الفرنسي سيديو في كتممابه ‪ " :‬خلصممة تاريممخ العممرب " مسممألة خلص النممبي‬
‫محاطا ة بالعناية اللهية ‪ ،‬من مكيدة القرشيين ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫أن يجعمل‬ ‫)) فدفع ا شرهم ‪ ،‬وه و أولمى أن يحفمظ نمبيه القمائم بالمدعوة ل ه ‪ ،‬وأحمق‬

‫‪ 90‬جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.81-80‬‬


‫‪ 91‬آتيين دينه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪48‬‬

‫الدهر (( ‪. 92‬‬ ‫كيدهم في نحورهم وما زال آخذاة بيمينه ‪ ،‬حتى غني له الزمن ‪ ،‬وصفق له‬

‫وكممانت الهجممرة السمملمية إيممذانا ة بعهممد جديممد ‪ ،‬ومرحلممة عتيممدة فممي مسمميرة الممدعوة السمملمية‬
‫وجاءت تأكيداة على الهوية الشمولية لدعوة التي لم تكن قاصرة على قريش وإنما جاءت لتغيممر واقممع‬
‫المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية ‪ ،‬و صهرها في بوتقة السلم ‪ ،‬ومن ثم لتؤكد أنها رسممالة‬
‫عالمية للناس كافة ‪.‬‬

‫سإيديو ‪ :‬خلصة تاريخ العرب ص ‪.54‬‬ ‫‪92‬‬


‫‪49‬‬

‫باب الثالث‬
‫من الهجرة إلى وأفاتاه ‪‬‬

‫الفصل الوأل‬
‫الهجرة وأ إقامة الدوألة السلمية الوألى‬
‫الهجرة إلى المدينة‬
‫‪50‬‬

‫مممع العممام الثممالث عشممر للبعثممة السمملمية ‪ ،‬حممدثت الهجممرة النبويممة الممتي كممانت مبممدءاة للتاريممخ‬
‫السلمي ‪ ،‬مممن مكممة ‪ -‬عاصمممة الشممرك ‪ -‬إلممى المدينممة ‪ -‬قاعممدة السمملم الولممى ‪ -‬يقممول توممماس‬
‫كارليل ‪:‬‬

‫)) وممممن همممذه الهجمممرة يبتمممدىء التاريمممخ فمممى المشمممرق ‪ ،‬والسمممنة الولمممى ممممن الهجمممرة‬
‫توافمممق ‪ 622‬ميلديمممة ‪ ،‬وهمممى السمممنة الخامسمممة والخمسمممون ممممن عممممر محممممد ‪ ،‬فمممترون أنمممه‬
‫كممان قممد أصممبح شمميخا ة كممبيراة ‪ ،‬وكممان أصممحابه يموتممون واحممداة بعممد واحممد ويخلممون أمممامه مسمملكا ة‬
‫وعراة ‪ ،‬وسبيلة قفراة وخطة نكممراة موحشممة ‪ ،‬فممإذا هممو لممم يجممد مممن ذات نفسممه مشممجعا ة ولمحركمما ة ‪،‬‬
‫ويفجممر بعزمممه ينبمموع أمممل بيممن جنممبيه ‪ ،‬فهيممات أن يجممد بارقممات المممل فيممما يحممدق بممه مممن‬
‫عوابس الخطوب ويحيط به من كالحمات المحمن والملمممات ‪ ،‬وهكممذا شممأن كمل انسممان فمي مثمل همذه‬
‫الحوال (( ‪. 93‬‬

‫الدلئل الووأحية للهجوة‬


‫ولقد حملت الهجرة معان عمدة ‪ ،‬فهمى هجمرة الشمرك وخلص المسملمين المهمددين بفتنتهمم ع ن‬
‫دينهم ‪ ،‬بسبب الحصار القرشي العنيف ‪ ،‬واضطهاد ضعفاء المسلمين ‪ ،‬كممما حفلممت بممدلئل ايمانيممة‬
‫عميقة ‪ ،‬قاربت المعجزات حين اختبا ة الرسول عممن أعيممن مطممارديه هممو وأبممو بكممر فممي الغممار الممذي‬
‫نسجت العنبوت على فمه نسجها وباض الحمام على مدخله ‪....‬‬

‫وتحدث المستشرقين المريكي ممماكس و) ‪ ( 1686- 1795‬فممي كتممابه ‪ » :‬عظممماء الشممرق «‬


‫عئ هجرة الرسول ‪ ‬ودلئل النبوة والقوة التي ظهرت في تلك المرحلة التي مثلممت منعطفمما ة تاريخيمما ة‬
‫عظيما ة في سيرة رسول ا وتطوراة نوعيا ة في مسار الدعوة السلمية ‪ ،‬يقول ماكس ‪:‬‬

‫)) لقد نفذت روحا السلم من محمد رسول ا إلى المسلمين ‪ ،‬إلى الهداة والصالحين ‪ ،‬وإن هذه‬
‫الروحا القوية حدت بالنبي إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ‪ ،‬بينها كان أعداؤه من المشركين يجدون‬
‫في البحث عنه ليؤذوه بل ليذيقوه ريب المنون ‪ ،‬ومن الغريب أن أعداء النبي لم يقنعوا أنفسهم بتركه‬
‫مكة بل تعقبوه في هجرته ‪ ،‬وهناك ضربوا على منزله سياجا ة من الحيطة لجل القبض عليه ‪ ،‬ولكن‬
‫روحا السلم الدفينة في أعماق الهمة ‪ ،‬ألهمته أن يتناول قبضة من تممراب فتناولهمما وربممى بهمما عليممم‬
‫فأخذتهم سنة من النوم تمكن خللها النبي من النجاة منهم إلى الصحراء حيث اختفى في غار هناك ‪،‬‬
‫ل تقل إن اختفاءه في الغار يجول دون هلكه وحتف ه ‪ ،‬ولكمن السملم ومما فمي ثنايماه ممن روحانيمة‬
‫وقوة ‪ ،‬جعل الحمام يبيض على باب الغار ‪ ،‬ولما أفاق أعداؤه من غشيانهم تتبعوا أثممره إلممى الغممار ‪،‬‬
‫وأخذتهم هواجس الظن ‪ ،‬لعلمهم بأن النبي ل يمكن بأي حال أن يكون في الغار‪ ،‬فمن يممرد أن يممؤمن‬
‫بوحدانية ا ‪ ،‬فعليه أن يشاهد بسهولة يد ال المحركة للكائنات من غير أن تبصرها العيممن المجممردة‬
‫وخاصة عندما أحيطت حياة النبى من يد العدوان برعاية الطير الممذي انممدفع إلممى حمايممة محمممد بيممد‬
‫الله الخافية عن البصار(( ‪. 94‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫‪93‬‬

‫ماكس ‪ :‬عظماء من الشرق ‪ ،‬ص ‪.93‬‬ ‫‪94‬‬


‫‪51‬‬

‫الدلئل اليمانية للهجرة‬


‫ل مرية فى أن الهجرة السلمية من مكة إلى يثرب تمثل مرحلممة مممن مراحممل الصممراع الممدينى‬
‫السياسي الدائر في الجزيرة العربية ‪ ،‬كما تتضمن دلئل إيمانية بخروج المسلمين من عهممد الجاهليممة‬
‫و تشكيل بداية التاريمخ السملمي ‪ ،‬يق ول المستشمرق الفرنمس مارسميل بموازار فمي كتمابه »انسماية‬
‫السلم « ‪:‬‬

‫)) وما ان شعر محمد بالخطر حتى أوعز لفئة قليلة ممن آمنوا بدعوته ‪ ،‬وكممانوا مهممددين بشممكل‬
‫خاص ‪ ،‬على الهجرة إلى الحبشة ‪ .‬ثم ما لبث أن نظم هجرة أتباعه بالتدريج إلى ثممرب الممتي عرفممت‬
‫فيما بعد باسم ) المدينمة ( ‪ .‬وائتمممر المكيمون لقتمل النمبي ‪ ،‬وعلمم بمالمر ‪ ،‬وتمكمن م ن النجماة بشممبه‬
‫معجزة بمساعاة شجاعة من ابن عمه علي ‪ ،‬كممما تقممول كتممب السمميرة ‪ .‬وفممي المدينممة اسممتقبل محمممد‬
‫بالتهليل في شهر تموز عام ‪622‬م ‪ ،‬وكانت » الهجرة « التي يحممدد بهمما المسمملمون مطلممع سممنتهم ‪،‬‬
‫والتي تعتبر بداية التاريخ السلمي ‪ .‬وتعني اللفظة حرفيا ة ترك البلد الى أخرى ‪ ،‬والمنفى ‪ ،‬والنجاة‬
‫بالنفس ‪ .‬أما الدين فقد أضفى عليها معنى خاصا ة هو الخلص من الجهل ‪ ،‬ورفض الشممر ‪ ،‬واطممراحا‬
‫الكفر ‪ ،‬وبكلمة تكون الهجرة فعل ايمان ‪ .‬ومن المفيد التذكير بممأن الهجمرة )ابتعماد طمموعى وإن يكممن‬
‫محدداة بأسباب ل إرادية( يتجدد بل انقطاع اذا حدث اذلل أو اضطهاد ‪ .‬وعلممى المسمملم أن ) يهمماجر‬
‫اذا اقتضى المر ليجاهد في سبيل الله حتى يزول كل ظلم ((‪. 95‬‬

‫معالم الدوألة السلمية الوألى‬


‫ومع وصول الرسول إلى المدينة عام ‪ 622‬بدأت مرحلممة جديممدة فممي تاريممخ الحركممة السمملمية‬
‫الفتية ‪ ،‬همي مرحلممة كممانت مما بيمن عهمدي الجاهليمة والسملم ‪ .‬وأخممذت تتبلممور فيهمما معمالم الدولمة‬
‫السلمية الولى ‪ ،‬المبنيممة علممى قاعممدة الخمماء السمملمى ممما بيممن النصممار ) الوس والخممزرج (‬
‫والمهاجرين المكيين وأسس الدستور السلمي الجديممد الممذي نظممم العلقممات ممما بيممن قمموى المدينممة ‪،‬‬
‫المسلمين والقبائل التي ل تدين بالسلم واليهود ‪ ،‬فكان التعايش بين مختلف الطوائف هو مممدى هممذا‬
‫الدستور ‪ ،‬والخاء لحمته ‪ . . .‬دستور المدينة ‪ ،‬الذي نضمن تنظيم العلقممات ممما بيممن المسمملمين مممن‬
‫جهة ‪ ،‬وأصحاب اذاهب الخرى من جهة أخرى ‪ ،‬في إطار من الحرية الدينيممة ‪ ،‬يقممول المستشممرق‬
‫الروماني جيورجيو ‪:‬‬

‫)) وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداة ‪ ،‬كلها من رأي رسول ا ‪ .‬خمسة وعشرون منها‬
‫خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلقة بين المسلمين وأصحاب الديممان الخممرى‬
‫‪ ،‬ولسيما اليهود وعبدة الوثان ‪ .‬وقمد دون همذا الدسمتور بشمكل يسممح لصمحاب الديمان الخمرى‬
‫بالعيش مع المسلمين بحرية ‪ ،‬ولهم أن يقيموا شعاثرهم حسب رغبتهم ‪ ،‬ومن غير أن يتضممايق أحممد‬
‫الفرقاء ‪ .‬وضع هذا الدستور في السنة الؤلى للهجمرة ‪ ،‬أى عمام ‪623‬م ‪ .‬ولكممن فمي حمال مهاجمممة‬
‫المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده ((‪. 96‬‬

‫مارسإيل باوازار ‪ :‬انسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.45-44‬‬ ‫‪95‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫‪96‬‬


‫‪52‬‬

‫وحقق المجتمع الديني في ظل الدستور الجديد نقلة نوعية ‪ ،‬وثممورة اجتماعيممة ‪ ،‬اذ غممدت المممة‬
‫السلمية هممي البممديل العملممي للعصممبية القبليممة ‪ ،‬والخمماء والمسمماواة عوضمما ة عممن طبيعممة العلقممات‬
‫الجتماعية الجائرة ‪ ...‬وأخذ بالسطوع نجم الرسول ‪ ‬الذى أصبح عملي ا ة الحمماكم السياسممي للمدينممة ‪،‬‬
‫فكان الداعية والنبى والحاكا والقاثد العسكرى وأصبحت سيرة حياته تاريخا ة للحركة السلمية ‪.‬‬

‫عوامل انتشار الدعوة السلمية‬


‫كانت المدينة قبل الهجرة تعانى اضطرابات داخلية ‪ ،‬ومشمماكل اقصمادية وتممور داخلهمما تيممارات‬
‫سياسية وفكرية شتى ‪ ،‬ناهيك بما كانت تعيش من صراعات قبلية ‪ ،‬هذا ويتحدث البمماحث النكليممزي‬
‫غلوب باشا عن واقعها السكانى وأحوالها في تلك المرحلة بقوله ‪:‬‬

‫)) كانت المدينة مأهولة عندما هاجر اليها النبي بقبائممل عممدة ‪ ،‬منهمما العربيممة ومنهمما اليهوديممة‪.‬‬
‫) أرى من السهل التمييز بينها على هذا النحو ‪ ،‬و ان كان من يدعون بمماليود قممد ل يخرجممون عممن‬
‫كونهم عربأ تحولوا الى اليوديممة ( ‪ .‬وكممان اليهممود ينقسمممون الممى ثلث قبائممل تعمممل اثتممان منهمما فممي‬
‫الزراعة و تعيش على زراعة النخيل والحبوب ‪ ،‬أما الثالثة فتضم فنيين يعملون فممي صممياغة الممذهب‬
‫والفضة وصناعة السلحة ‪.‬أما العرب فكانوا قبيلتين ‪ :‬الوس والخزرج ‪ ،‬ولم تكن قد انقضممت أربممع‬
‫سنوات على توقف الحرب بينهما ليحل محلها السلم ‪ ،‬وليصبح للقبيلتين ريئس واحممد هممو عبممد امم‬
‫بن أبي يتولى قيادتهم وزعامتهم معا ة (( ‪. 97‬‬

‫التفوق الروأحي وأ الزمني للرسول‬


‫كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على انتشار السلم في يثرب ‪ ،‬ومكنت الرسول حيممن بلوغهمما‬
‫إلى تحويلها قاعدة انطلق لنشممر الممدعوة السمملمية ‪ ،‬ومركممزاة للدولممة السمملمية الول مممما أكسممب‬
‫الرسول التفوق الروحي والزمني ‪ ،‬ومنح السلم عزة ومنعة ‪ .‬يقول المستشرق الهولندي فلوتن يان‬
‫) ‪ ( 1879 -1807‬صاحب الدراسات العديدة والجادة في كتابه ‪ " :‬الفصول "‪:‬‬

‫)) إن محمممداة لممم يلبممث أن أصممبح لممه تفمموق روحممي وزمنممي بعممد سممنين قلئممل مممن الجهمماد‬
‫والضطهاد ‪ ،‬كما يدل على ذلك غير آية من القرآن ‪ ،‬وذلك بتحول أهل المدينة إلممى السمملم بفضممل‬
‫ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به الرسول ‪ .‬وغدا السلم دينا قويا ما لبث أن انتشممر بيممن الشممعوب عممن‬
‫طريق الوعد والوعيد (( ‪. 98‬‬

‫أعداء السلم في المدينة‬


‫وكان أن واجهت الرسممالة السمملمية صممعوبات ممع قيمام الدولمة السمملمية الولمى ‪ ...‬ممممن لمم‬
‫يعجبهم الواقع الديني الجتماعي السياسي الجديد ‪ ،‬فشكلت القوى التي عملت بالسممر أو بممالعلن علممى‬
‫‪97‬‬
‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.84-83‬‬
‫‪98‬‬
‫فلوتن يان ‪ :‬الفصول ‪ ،‬ص ‪.103‬‬
‫‪53‬‬

‫تخريب السلم من الداخل واليقاع بين المسلمين ‪ ،‬وقد تشكلت من ركائز ثلث ‪:‬‬

‫أولة ‪ :‬القبائل العربية التى ما زالت محافظممة علممى وثنيتهمما ‪ ،‬و تلتقممي مممع قريممش فممي اتجاهاتهمما‬
‫الدينية ومصالحها القتصادية ‪.‬‬

‫ثانيا ة ‪ :‬اليهود بقبائلهم وتجمعاتهم السكنية الثلثة ) قينقاع وقريظة والنضير ( وذلك حيممن شممعروا‬
‫بخطر الدعوة السلمية التي عملت على تقويض نفمموذهم الممديني ومكممانتهم القتصممادية ‪ ،‬فكممانوا أن‬
‫عمدوا الى إثارة الفتن بين المسلمين وحبك الدسائس ضدهم‪ ،‬وهذا ما قمماد الرسممول فممي مرحلممة تاليممة‬
‫إلى تقويض وجودهم في المدينة ‪ ،‬اذ أجلى القبيلتين الوليين ) قينقاع والنضير ( وأنفذ حكممم السمميف‬
‫في القوة الثالثة ) قريظة ( حين تأكد من تآمرهمما و تواطئهمما مممع قريممش ‪ ،‬والحلممف العممادى للرسممول‬
‫) في معركة الخندق (‪.‬‬

‫ثالثا ة ‪ :‬المنافقون ‪ ،‬وهم الحركة السياسية التي تزعمها عبممد المم بممن أبممي ‪ ،‬الممتي أعلممن أفرادهمما‬
‫اسلمهم ظاهراة ‪ ،‬لكنهم ظلوا يكيدون للسلم وللمسلمين ويحاولون اليقاع بيممن النصممار ) مسمملمي‬
‫المدينة ‪ ،‬وهو السم الممذي أطلقممه الرسممول علممى قبيلممتي الوس والخممزرج اللممتين نصممرتا السمملم (‬
‫والمهاجرين ) مسلمي مكة ( الذين هاجروا الى المدينة ‪.‬‬

‫بدء الصراع مع قرشيي مكة‬


‫ال أن أعداء الداخل لم يكونوا هم الخطر الوحيد الذي يهدد السلم ودولته ‪ . . .‬لقممد كممان العممدو‬
‫الخارجي ‪ -‬أي مشركو قريش‪ -‬هممم الخصممم الساسممي ‪ ،‬الممذين عملموا علممى كسممب أعممداء الممداخل ‪،‬‬
‫واستخدموا مختلف الساليب في الضغط السياسي والقتصادي والتهديد العسكري ‪ ،‬كما لجممؤوا إلممى‬
‫أسلوب الفتنة التى كان هدفها الوقيعة بين المسلمين ويهود المدينممة ‪ ،‬غيممر أن جميممع وسممائل الضممغط‬
‫والترهيب لم تجد فتيل« لسيما وأن مكانة الرسول والتفاف القوى السلمية حوله أدخلت الذعر في‬
‫قلوب أعداء الداخل ‪...‬‬

‫الصراع القتصادي‬
‫وكان السهم الخطير الذي لعبته مكة ‪ ،‬هو الحصار القتصادي الذي ضربته على المدينة ‪ ،‬وكان‬
‫له أثره في تعجيل الصراع ما بين قوتي الشرك والسلم ‪ ،‬رغم أن الرسول الكريم كان يهدف الى‬
‫نشر الدعوة بالوسائل السلمية ‪ ،‬إل أن موقف العدو الذى يسيء إلى القضاء على الدعوة في مهدها ‪،‬‬
‫بخنقها اقتصاديا ة فرضت على المسلمين المواجهة ‪ ،‬يقول توماس كارليل ‪:‬‬

‫)) وكانت نية محمد حتى الن أن يشهر دينممه بالحكمممة والموعظممة الحسممنة فقممط ‪ ،‬فلممما وجممد أن‬
‫القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الصغاء إلى صوت ضممميره وصمميحة لبممه ‪،‬‬
‫حتى أرادوا أن يسمكتوه فل ينطمق بالرسمالة ‪ -‬عمزم ابمن الصممحراء علمى أن يمدافع عمن نفسمه دفماع‬
‫رجل ‪ ،‬ثم دفاع عربي ‪ ،‬ولسان حمماله يقممول ) أممما وقممد أبممت قريممش ال الحممرب فلينظممروا أى فتيممان‬
‫‪54‬‬

‫هيجاء نحن (‪ -‬وحقا رأى أن أولئك القوم صموا آذانهم عن كلمة الحممق وشممريعة الصمدق ‪ ،‬وأبموا إل‬
‫التمادي في ضللهم يستبيعون الحريم ويهتكممون الحرمممات ويسمملبون وينهبمون ويقتلممون النفممس الممتى‬
‫حرم ا ‪ ،‬ويأتون كل اثم ومنكر ‪ ،‬وقد جمماءهم محمممد مممن طريممق الرفممق والنمماة فممأبوا لممم ل عتممواة‬
‫وطغيانا ة ‪ ،‬فليجعل المر اذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم ‪ ،‬الى كل مسرودة حصداء وسممابحة‬
‫جرداء ‪ ،‬وكذلك قضى محمد بقية عمممره وهمي عشمر سمنين اخممرى فمي حمرب و جهمماد لممم يسممترحا‬
‫غمضة عين و ل مدر فواق و كانت النتيجة ما تعلمون (( ‪.99‬‬

‫ومن هذا المنطلق الفكرى يتحدث المستشرق الفرنسي جممان بممروا فممي كتممابه ‪ » :‬محمممد نممابليون‬
‫السماء « بقولة ‪:‬‬

‫)) إن إبلغ الرسالة الى العالم هو الهدف الول والخير للنبي محمد ‪ ،‬ولم تكن مشمماغل السممرة‬
‫والحياة لتحول بينه وبين أدائها أبداة ‪ ،‬وإنك إذا نظرت الى عنممف قريممش ومؤامراتهمما الدمويممة وربممط‬
‫جأثسها على اغتياله مراراة ‪ ،‬بل اذا نظرت الى كل القبائل العرية حينذاك ‪ ،‬ألفيت الفزو جممل عملهمما‬
‫‪ ،‬ولم يكن النبي إلى ذلك الوقت ‪ -‬وإن كثر حوله الرجال ‪ -‬قد ‪ -‬اذن له في النضممال ودفممع العممدوان‬
‫بالعدوان ‪ ،‬ولكن بعد كل تلك العتداءات جاء الموحي اللهممى يبيمح لمه حمرب المعتمدين ‪ ‬أذن لل ذين‬
‫يقاتلون بأنهم ظلموا وان ا على نصرهم لقمدير ‪ ،‬الممذين أخرجمموا ممن ديممارهم بغيمر حممق لممم ل أن‬
‫يقولوا ربنا ال )‪ (22 /39‬‬
‫) الحج ( وجاء أيضا ة ‪ ‬وقاتلوا في سبيل ا الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ا ل يجب المعتدين ‪‬‬
‫) ‪.100 (( (2 / 190‬‬

‫الحصار القتصاى المضاد‬


‫وكان طبيعيا ة أن يواجه المسلمون المشمركين بصممراع اقصمادى مضماد ‪ ،‬فكمان أن أنفمذ الرسمول‬
‫عدداة من السرايا العسكرية ‪ ،‬التى شكلت خطراة على القوافل التجارية القرشية ‪ . . .‬كممما عقممد عممدداة‬
‫من المعاهدات مع القبائل العربية ‪ ،‬التى شكلت رديفا ة في صراعه مع قادة مكة ‪.‬‬

‫وهذا ‪ ،‬ما دفع المستشرقين لن ينظروا الى الرسول كنبي ورجل دولة وقائد عسكرى حين قممرن‬
‫الدين بالسيف والدعوة بالقوة ‪ ،‬يقول المستشرق اة‪ .‬أفريمان في كتابه ‪ " :‬تاريخ العرب "‪:‬‬

‫)) وجد النبي – الذي ل كرامة له في عشيرته‪ -‬الولء والجلل في مدينة الهجرة‪ .‬وأخذ النممبى‬
‫يظهر تدريجيا ة في صورة جديدة ‪ .‬فالنبي المضطهد يتحول الن المى محمارب ظمافر ‪ .‬واذا فشملت ‪:‬‬
‫نذر النبي وبشائره في اقناع قريش فإن سلطان الفاتح سيرغمهم على القتناحا (( ‪.101‬‬

‫الذان بالقتال وأ بدء العمليات العسكرية‬


‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.76 – 75‬‬ ‫‪99‬‬

‫جان باروا ‪ :‬محمد ناباليون السماء )ترجمة محمد بانداق( ‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪100‬‬

‫ا‪ .‬فريمان ‪ :‬تاريخ العرب )نقل عن كتاب الفتوحات العرباية الكبرى ص ‪.(79‬‬ ‫‪101‬‬
‫‪55‬‬

‫وما إن زلت الية القرآية التي تأذن للمسلمين بقتال أهل الشرك حتى أدرك المسمملمون أن عليهممم‬
‫واجبا ة مقدما ة ‪ .‬هو نشر الرسالة سلما ة وحربا ة ‪ ،‬ومجابهة أعداء السلم عسكريا ة ‪ ،‬لن هؤلء يهممدفون‬
‫أساسا ة إلى القضاء على الدولة السلمية الولى ‪. . .‬‬

‫فكان أن تحول المسلمون إلى جيئ الثممورة السمملمية وغممدت المدينممة قاعممدة النطلق للعمليممات‬
‫العسكرية الموجهة ضد مكة ‪ ،‬وكانت فاتحة لتاريخ السلم العسكري ‪ ،‬وقادت إلى أول مواجهممة ممما‬
‫بين الطرفين فى موقعة بدر ‪. . .‬‬
‫‪56‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫حروأب الدعوة السلمية‬
‫المدينة قاعدة الثورة السلمية‬
‫كانت الهجرة إلى المدينة حدثا ة تاريخيما ة عظيمما ة فمي تاريمخ الجزيمرة العربيمة ‪ ،‬ممع قيمام الث ورة‬
‫السلمية ‪ ،‬المحاطة بأعداء الداخل والخارج ‪ ،‬ناهيك برسوخ الدعوة السلمية التي اشممتد سمماعدها‬
‫في قاعدتها الجديدة بعد أن كانت مطاردة في مكة ‪ ،‬ولممذا ترتممب عليهمما أن تحسممب حسممابها لمواجهممة‬
‫أعداء السلم ‪ ،‬لنهم يخشون وجودها خشية تدفعهم للسعي للنقضاض عليها عند أول بارقممة تسممنح‬
‫لهم ‪ ،‬ثم لن الرسالة لم تكن مقصورة على مكة والمدينة ‪ ،‬وإنما لتنشر في جميع أرجاء بلد العممرب‬
‫‪ . ..‬وهذا ما يحدوها لن تعد العدة لمواجهة طويلة مع أعداء حركة التوحيد ‪ ،‬وخاصة بعد أن أنمزل‬
‫ال آية الذن بالقتال ‪‬أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان ا على نصرهم لقدير‪) ‬الحممج آيممة ‪. (39‬‬
‫وهكذا كانت حروب الدعوة السلمية في عهممد الرسممول ‪ ،‬تزيممل الحممواجز القبليممة وتسممقط الوثنيممة ‪،‬‬
‫فوحد العرب و تعلي راية وحدانية إل في ربوعهم ‪.‬‬

‫العمليات العسكرية السابقة على معركة بدر‬


‫إذا كانت معركة بدر أول مواجهة فعلية من المسمملمين ومشممركي قريممش ‪ ،‬فقممد جممرت مممع ذلممك‬
‫سلسلة من العمليات العسكرية التمهيدية قادهمما الرسممول بنفسمه أو أنفممذها بقيممادة رجممال مممن صممحابته‬
‫وكانت حسب تعبير الباحث العسكري العماد مصطفى طلس‪:‬‬

‫))أشبه بدوريات الستطلع القتالية التي تجري عادة قبل المعركة لتعرف جهاز الخصم الدفاعي‬
‫وسبر نقاط القوة ونقاط الضعف فيه((‪. 102‬‬

‫وكممانت هممذه الحركممات ضممرورة فممي بممدء تاريممخ الثممورة السمملمية لدراسممة طبيعممة المنطقممة ‪،‬‬
‫ولظهار قوة المسلمين ويقظتهم ضد تحركات العداء ‪.‬‬

‫ويتحدث الباحث العسكري جان باغوت غلوب عن طيبعة الخطط السوقية ) الستراتيجية ( التي‬
‫اتبعها الرسول في صراعه مع قاعدة الشرك العربي ‪ :‬مكة في عهده ‪ ،‬قائلة ‪:‬‬

‫))وكانت الخطط السوقية التي اتبعها النبي بين عامي ‪ 623‬و ‪ 630‬هي عيممن الخطممط السمموقية‬
‫التي اتبعها فيصل ولورنس في الحملة بين عامي ‪ 1916‬و ‪ . 1918‬فلقد احتفظ التراك في الحرب‬

‫مصطفى طلس ‪ :‬الرسول العربي و فن الحرب ‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪102‬‬


‫‪57‬‬

‫الكونية الولى محاميات ضخمة في مكة والمدينة وكانت هذه الحاميات تعتمد في بقائها على قوافممل‬
‫البل بل على الخط الحديدي بين المدينة ودمشق ‪ ،‬وقد عزز المير فيصل ولورنس مواقعهممما إلممى‬
‫الشمال من المدينة حيث كانا في وضع يمكنهما من قطع شريان حياتها مع سوريه ‪.‬‬

‫وكان الغزو بالنسبة إلى العرب وسيلة طبيعية للخلص من العوز ‪ .‬ولقد تولت القيام بالغزوات‬
‫الصغيرة الولى جماعات صغيرة من المهاجرين ‪ .‬ولم يشترك أهل المدينة في هذه المشاريع ‪ ،‬لكن‬
‫أهل مكة والمدينة على السواء لم يكونوا قد ألفوا العمليات الحربية ‪ ،‬وهى العمليات التي يقضي فيهمما‬
‫البدو الرحل أوقات فراغهم ‪ ،‬ول تعرفها الجماعات التي تعمل في التجارة أو الزراعة ‪ .‬لكن أيا ة من‬
‫الغزوات الولى لم تحقق نجاحا ة مذكورا ‪ ،‬فلقد كانت أنباء الحملة تصمل إلمى قريمش قبمل وقوعهما ‪،‬‬
‫بينما كانت النباء التي تصل إلى المسلمين إما متأخرة أو مفتقرة إلى الدقة ‪.‬‬

‫وفي خريف عام ‪ 623‬ميلدية مرت قافلة كبير ة تضم نحواة مممن ألممف بعيممر محملممة بالبضممائع‬
‫التي تملكها قريش ويتولى قيادتها أبو سفيان أحد كبار أعداء النبي في مكة قاصدة الشمال إلى غزة ‪.‬‬
‫وقد حاول المسلمون قطع الطريق عليها في ذهابها ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك ‪.‬‬

‫ولكن بينممما كممان رجممال مكممة والمدينممة يعيشممون فممي همماتين المممديتين كممانت الصممحراء الفسمميحة‬
‫المكشوفة مأهولة بقبائل متفرقة من البدو وتعيش على الرعي ‪ ،‬وبداة النبي يمدرك أن مسمماعدة همؤلء‬
‫البدو ضرورية لنجاحا حملته الصممحراوية ولممذا فقممد شممرع وبصممورة تدريجيممة يقيممم علقممات معهممم‬
‫ولسيما مع قبيلة جهينة التي كانت تقيم آنذاك كما تقيم اليوم بين المدينة والبحر (( ‪. 103‬‬

‫موقعة بدر‬
‫تعتبر موقعة بدر من أهم المواقع السرية في التاريخ العسكري السلمي لنهمما المعركممة الولممى‬
‫التي خاضتها قوات الثورة السلمية ضد قوى الشرك التي تزيممدها ثلثممة أضممعاف ‪ ،‬وكممانت ترمممي‬
‫إلى تصفية الحركة السلمية الفتية في المدينة ‪ ،‬حين لقاها الرسول بقمواته الممتي قممدر عمددها ‪313‬‬
‫رجل ) ثلثة وسبعون منهم من المهاجرين الذين تطالب مكة برؤوسممهم والبقي ة ممن النصمار ( عمد‬
‫قرية بدر الصغيرة القريبة من المدينة والواقعمة علمى طريممق القوافممل بيمن مكممة والشممام ‪ ،‬وذلمك فممي‬
‫السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة ‪.‬‬

‫وحين تقابل المعسكران السلمي والمكمي ‪ ،‬لمم يكمن الطرفمان فمي حالمة نفسمية واحمدة ‪ ،‬كمان‬
‫المسلمون كتلة متراصة مضبطة تحفزها حمية دينية طاغيممة وروحا عسممكرية منظمممة لنهمما تحممارب‬
‫دفاعا ة عن العقيدة والنفس والوجود ‪. . .‬‬

‫بينما كان معسكر الشرك موزعا ة في نوازعه فبعضهم أرادها حربا ة ضروسأ تقضممي علممى شممعلة‬
‫السمملم لنهمما شممكل خطممراة يهممدد المجتمممع الرسممتقراطي القرشممي ‪ ،‬كممما أرادهمما آخممرون تطمينمما ة‬
‫لمصالحهم التجارية المهددة ‪ ،‬على حين كان ثمة فريق ل يريد الحرب أصلة مممع أبمماء العمومممة مممن‬
‫المهاجرين ‪ ،‬يقول غلوب باشا في كتابه ‪ " :‬الفتوحات العربية الكبرى " ‪:‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ص‪.90-88 :‬‬ ‫‪103‬‬


‫‪58‬‬

‫)) وهكذا تقدمت قريش إلى المعركمة وهممى موزعمة بيمن القبمال والحجممام كمما أن بنمى زهمرة‬
‫أخوال النبي رفضوا القتال وعادوا إلى مكة ‪ .‬أما نفسية المسلمين فكانت على النقيض من ذلك تماممما ة‬
‫‪ ،‬فلقد كان في المهاجرون يائسممين تخلمموا عممن كممل ممما يملكممونه فممي مكممة ول يحملممون إل سمميوفهم ‪،‬‬
‫يضاف إلى هذا أن المسلمين تخلوا عن العصبيات القبلية والعائلية التي تربطهم بعد أن أكد لهم النبي‬
‫أن المسلمين هم إخوانهم فقط ‪ .‬فالخوف من سفك دماء القرباء ‪ ،‬وهممي النزعممة الممتي كبحممت جممماحا‬
‫قريش ‪ ،‬وحدت من إقبالهم على المعركة والتي ل تزال مسيطرة على عقلية البدو مممن العممرب حممتى‬
‫اليوم لم تكن معروفة عند المسلمين الوائل ‪ ،‬الذين قيل إن بعضهم قتلواة آباءهم أو إخوانهم إذا كانوا‬
‫من المشركين ‪ .‬يضاف إلى هذا أن تعودهم الوقوف في صفوف منتظمة خمس مرات في اليوم لداء‬
‫فريضة الصلة مؤتمين بقائدهم قد أوحى إلى عقولهم الباطنة بشي ‪ ،‬مممن النضممباط ‪ ،‬ومممن الممروحا‬
‫العسكرية المنظمة‪ .‬يضاف إلى هذا أن المهاجرين والنصار كانوا تحممت تممأثير حميممة دينيممة عارمممة‬
‫وهم يشهدون قائدهم محمداة بين ظهرانيهم يشترك معهم في القتال (( ‪.104‬‬

‫عبقرية الرسول العسكرية في ‪ ،‬بدر‬


‫هذا ‪ ،‬وقد اعممترف بعممض المستشممرقين وخاصممة البمماحثين العسممكريين الغربييممن بعبقريممة محمممد‬
‫الرسول العسكرية ‪ ،‬تقويما ة منهم لخطته العسكرية حيممن أصممدر أمممره للمسمملمين بممأن يحمماربوا حربمما ة‬
‫جماعية والبتعاد عن المبارزات الفردية ‪ ،‬فالمعركة هنمما ليسممت لظهممار بطولمة الفممراد ومهمماراتهم‬
‫القتالية ‪ ،‬وإنما في سبيل أن تكون كلمة ا هممي العليمما ‪ . . .‬يتحممدث المستشممرق والبمماحث العسممكري‬
‫الروماني جيورجيو عن خطة الرسول البارعة ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))وبعمممد ذلمممك شمممرحا النمممبي ‪ ‬خطت ه الحربيمممة للمسممملمين ‪ ،‬وهمممي خطمممة ابتمممدعها فليمممب‬
‫أبممو السممكندر المكممدوني قبممل ألممف سممنة تقريبمما وتممدعى باليونانيممة )فممالنثر ‪ (ferlange ،‬وهممي‬
‫عبارة عن اصطفاف الجنود إلى جانب بعضهم بعضا ة وتلتصق نهاية الصممف الول فممي أول الصممف‬
‫الثمماني ‪ ،‬وهكممذا حممتى يتكممون مممن المجممموع شممكل هندسممي كممالمثلث أو المربممع أو الممداري ‪ .‬ويقممف‬
‫الجميممع بهممذه الشممكال بمواجهممة العممدو‪ ،‬فممي هيممن تكممون ظهممورهم نحممو الممداخل ‪ .‬وبهممذا الشممكل‬
‫ل يقمممدر العمممدو علمممى مهممماجمتهم ممممن الخلمممف ‪ ،‬لنمممه حيثمممما اتجمممه قمممابله الجنمممود مسمممتعدين ‪.‬‬
‫هممذا )التكتيممك العسممكري( هممو الممذي يممدعى باليونانيممة ) فممالنثر( لهممذا سممميت وحممداتهم العسممكرية‬
‫اليونانية قديما ة بهذا السم ‪ .‬وقد اتبع محمد ‪ ‬هذه الخطة لول مرة في تاريخ الجزيرة العربية ‪ .‬وفي‬
‫معركة بدر بالذات ‪ .‬هممذه الخطممة ‪ ،‬إضممافة إلممى شممجاعة المسملمين ‪ .‬كممانت سممبب نصمرهم فمي هممذه‬
‫المعركة ‪.‬‬

‫وقد رتبت ) فلنثرات ( المسلمين في ذلك اليوم بشكل مثلث ‪ .‬ارتفممع فيممه ثلث رايممات إسمملمية‬
‫في رؤوس المثلث وقد ابرز محمد ‪ ‬عبقريته العسكرية في تنظيمه هذا المثلث واستحكام كل جندي‬
‫في مكانه واستقباله العدو ‪ ،‬من غير استدباره (( ‪. 105‬‬

‫وأسفرت المعركة عن فوز ساحق للمسلمين في معركة لم تدم أكثر من سمماعة ‪ ،‬وهزيمممة منكممرة‬
‫المصدر الساباق ص ‪.95‬‬ ‫‪104‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.220-219‬‬ ‫‪105‬‬


‫‪59‬‬

‫للجيش المكي الذي فقد فيها قادة قريش وصناديدها فكانت ضربة قاصمة لمعسكر الشرك ‪. .‬‬

‫سلسلة العمليات العسكرية ما بين بدر وأ احد‬


‫كان النتصار الكبير الذي حققته القوى السلمية علمى مشمركي مكمة فمي بمدر ‪ ،‬فاتحمة مرحلمة‬
‫جديدة أساسية في التاريمخ السملمي عمومما ة ‪ ،‬والتاريمخ العسمكري خصوصما ة ‪ ،‬ممع ارتفماع المروحا‬
‫المعنوية لدى المسلمين ‪ ،‬التي عمل الرسول على إبقائها متقدة لدراكه ألة مناص من مواجهممة مقبلممة‬
‫مع القرشيين الذين سيعيدون الكرة لمهاجمة المسلمين في المدينممة ‪ ،‬ويحلممل المفكممر ممونتجمري وات‬
‫هذه المسألة بقوله ‪:‬‬

‫)) أدرك محمد ‪ ،‬بعد انتصاره فممي بممدر أنممه كتممب عليممه )القتممال الشممامل( ضممد المكييممن ‪ ،‬إذ أن‬
‫ازدهارهم متعلق بمكانتهم ‪ ،‬وكان عليهم أن يستعيدوا ما فقدوه في بدر ‪ ،‬حتى يحافظوا على وضعهم‬
‫والقضاء على سيطرة محمد على طريق الشمال ‪ .‬فلم يكن محمد ينتظر إذاة من المكيين سوى ازديمماد‬
‫حدة النضال حتى أنه كرس كل قواه لتقوية نفسممه وإضممعاف أعممدائه ‪ .‬وكممانت أخبممار بممدر ومشمماهدة‬
‫الغيمة قد أدتا إلى ازدياد قوة محمد ‪ ،‬وأصبح أهل المدينة أكثر رغبة في الشتراك بغزواته((‪. 106‬‬

‫إجلء يهود بني قينقاع عن المدينة‬


‫لعل أبرز العمليات التي قام بها الرسول في هذه المرحلة إجلء يهود قيقاع عن المدينة في السنة‬
‫الثانية للهجرة ‪ ،‬حيممن أخممذوا يلعبممون دور "الثممورة المضممادة" خلممف صممفوف المسمملمين والطممابور‬
‫الخامس للعدو ‪ ،‬ويتحدث المستشرق إسرائيل ولغنسون في كتممابه )تاريممخ العممرب واليهممود فممي بلد‬
‫العرب( عن انعدام الثقة بين الطرفين بقوله ‪:‬‬

‫)) وقد نجم عن هذا النزاع أزمة سياسية جعلت تشتد يوما ة بعد يوم ‪ ،‬تأكد عندها لمحمد استحالة‬
‫تحقيق الفكرة التي كان يرمي إليها من التأليف بين قلوب اليهود والعرب وإيجاد أمة مؤلفة من جميع‬
‫عناصر يثرب ‪ .‬وكان لبد من عمل حاسم إزاء بني قينقاع ‪ ،‬وهم يسممكنون داخممل المدينممة فممي حممي‬
‫واحد من أحياء العرب فتطهر المدينة وأحياء النصار من غير المسلمين (( ‪. 107‬‬

‫وكان لهذه العملية آثارها البعيدة ‪ ،‬لتأكيد الوحدة السياسية للمدينة ‪ ،‬وانتزع السيادة المطلقة عليها‬
‫‪ ،‬وجعلها حصراة في أيادي المسلمين ‪.‬‬

‫العمليــات التأديبيــة ضــل القبائــل العربيــة المناوأئــة‬


‫للسلم‬
‫وفضلة عن عملية إجلء يود بنى قينقاع عن المدينة ‪ ،‬نفذ الرسول سلسلة من العمليممات التأديبيممة‬
‫‪ 106‬مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ 107‬اسإرائيل ولغنسون ‪ :‬تاريخ العرب و اليهود في بالد العرب )نقل عن كتاب محمود الدرة معارك‬
‫العرب الكبرى ص ‪.(97‬‬
‫‪60‬‬

‫التي قادها بنفسه ضد القبائل العربية المتحالفة مع قريش والتي هدفت إلى غزو المدينة ‪ ،‬انطلقا ة من‬
‫موقف تحالفها ممع قريممش قموى الشمرك ودرجمماة ممع شممرعة الغمزو السممائدة لمدى القبائمل ‪ ...‬المفكممر‬
‫العسكري غلوب باشا باحثا ة قضية العلقة بين مدينتي مكة و المدينة مع القبائل العربية بقوله ‪:‬‬

‫))على الرغم من أن العداء كان في هذه الفمترة قائممما ة بيمن ممدينتي مكمة و المدينممة إل أن القبائمل‬
‫البدويممة الممتي تعيممش فممي الصممحاري المجمماورة لعبممت دوراة هاممما ة فممي المشمماحنات الممتي قممامت بيممن‬
‫المديتين ‪ .‬وكان هؤلء البدو بتجوالهم المستمر بيممن المممدينتين يممؤدون دوراة بممارزاة فممي نقممل الخبممار‬
‫والمخابرات وهي ضرورة عسكرية كان المسلمون مفتقرين إليها أشد الفتقممار فممي البدايممة ‪ .‬يضمماف‬
‫إلى هذا أن هذه القبائل كانت تحتل الصحراء المكشوفة وكانت قادرة عممن هممذا الطريممق علممى حمايممة‬
‫القوافل أو نهبها ‪ ،‬وكانت قريش واثقة من أنها لو استطاعت ضمممان ولء هممؤلء البممداة فممإن قوافلهمما‬
‫تستطيع أن تنجو من الغزاة المسلمين ‪ ،‬أما إذا أفلح النبي في كسب ولء هممذه القبائممل فممإن أهممل مكممة‬
‫جوعا ‪ .‬كان المسلمون قد فازوا بصداقة‬ ‫ة‬ ‫سيصبحون محصورين داخل مدينتهم ويتعرضون للتضوع‬
‫قبيلة جهينة التي تقيم في السهل الساحلي ‪ ،‬لكن قبيلتي غطفان وبممي سممليم المقيمممتين فممي الشممرق ممن‬
‫المدينة ظلتا حليفتين لقريش ‪ .‬ودفعت هذه الوضاع المسلمين إلى القيام بغزوات صغيرة عديدة ضممد‬
‫هاتين القبيلتين لرهابهما وإقناعهما بأن صداقة محمد خير لهما من التحالف مع أهل مكة (( ‪.108‬‬

‫معركة احد‬
‫كان للهزيمة القاسية التي حلت بالجيش المكي ‪ ،‬دورها فممي ضممياع هيبتمه ‪ ،‬مضمافا ة إليهما عمليممة‬
‫الحصار القتصادي السلمي لمكة عن طريق تحركات السرايا السلمية التي هيمنممت عمليمما ة علممى‬
‫طريق القوافل الواصلة بين مكة والشام ‪ . .‬مما جعل القيادة القرشية تعيش أحلممك ظروفهمما ‪ ،‬خاصممة‬
‫وان قوام حياة مكة يرتكز على التجارة أساسا ة ‪ .‬وكان لهذين العاملين الهممامين أن عجل فممي تسممريع‬
‫المواجهة ثانية بين قريش والمسلمين ‪ ،‬ليمحو المشركون عنهم عار الهزيمممة أولة ‪ ،‬ولفتممح الطريممق‬
‫أمام تجارة قريش ثانيا ة ‪.‬‬

‫ومن هنا شكل المكيون جيشا ة قوامه ثلثة آلف محمارب بمإمرة أبمي سمفيان المذي تحمرك بق واته‬
‫باتجاه المدينة ‪ ،‬وعسكر في شمالها قرب جبل أحد حيممث التقمى هنمماك بممالقوة السملمية المؤلفمة ممن‬
‫ستمئة وخمسين رجلة بقيادة الرسول ‪. . .‬‬

‫وكان أن وضع الرسول خطته حطته الحربية لمجابهممة جيممش العممداء الممذي يفمموقه عممدة وعممدداة‬
‫اعتممماداة علممى مبممدأ القتممال الجممماعي و مجابهممة العممداء بكتلممة بشممرية متراصممة ‪ .‬ويتحممدث البمماحث‬
‫العسكري المستشرق جيورجيو عن‪ ..‬خطة الرسول الحربية والسلوب الذي اتبعه صايغا ة ذلممك علممى‬
‫لسان النبي محمد ‪ ‬بقوله ‪:‬‬

‫تشممكلوا‬ ‫)) إن خطتنا الحربيمة اليمموم همي خطتنما فممي يموم بمدر تمامما ة ‪ ،‬فعليكمم أن‬
‫الصفوف المتكاملة المتراصة ‪ ،‬حتى ل يجد الخصم فرصة لشممق الصممفوف ومحمماربتكم مممن الخلممف‬
‫علينا اليوم أن نقدر قوة خصمنا ‪ ،‬ففيه الن جيش من الفرسان ‪ ،‬مئتا فارس بقيادة خالد بممن الوليممد ‪،‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪104‬‬ ‫‪108‬‬


‫‪61‬‬

‫وبإمكان هؤلء الفرسان أن يبددوا صفوفنا ‪ .‬عندما تتشكل صفوفنا المتراصممة بكممل مربممع أو دائممرة‬
‫تثبت تجاه أية حملة من المشاة ‪ ،‬أما إذا كانت الحملة من الفرسان فإن صفوفنا تقممع فممي خطممر ‪ .‬وقممد‬
‫نستطيع أن نصد صف الفرسان الول ‪ ،‬و لكننا أيقنا أننا سنفاجأ بسيل من الخيل والفرسان يلحقونمما‬
‫من الصف الول ‪ ،‬وسيشتت شملنا حتما ة ‪ .‬ومن الواضح أن سرعة حركة الخيل لن تسمح لنا بإعممادة‬
‫تنظيم صفوفنا كما كانت ‪.‬‬

‫وبعد ذلك أثار محمد ‪ ‬بإصبعه نحو الجنوب و تابع ‪:‬‬

‫لم إذا أراد خالد بن الوليممد مهاجمتنمما فسمميأتينا مممن هممذه الناحيممة ‪ ،‬لن هممذا السممهل يسممهل حركممة‬
‫جياده ‪.‬‬

‫أن الموقع الذي أشار إليه محمد كان شعبا ة فممي جبممل أحممد ‪ ،‬تكممثر فيممه الحقممول ‪ .‬وان عممبر هممذه‬
‫الحقول أحد نحو الجنوب فقد وصل إلى الدينة ‪ .‬وفي ذلك الشعب تلة قليلة الرتفاع ‪ ،‬تدعي )عينيممن(‬
‫فقسم محمد ‪ ‬الرماة من المشاة إلى قسمين برئاسة )عبد الله بممن جممبير( حيممث أمممره أن يتخممذ مكممانه‬
‫على تلك التلة ‪ ،‬وعدد هاتين الفرقتين خمسون نفممراة علممى رأي بعممض المممؤرخين ‪ ،‬ومئممة نفممر علممى‬
‫رأى آخرين ‪ ،‬وأعتقد أن عددهم مئة ‪ ،‬كل فرقة خمسون (( ‪. 109‬‬

‫لقمممد أدرك الرسمممول الهميمممة السمممتراتيجية لهضمممبة عينيمممن ‪ ،‬وأنهممما تشمممكل خطمممراة سممماحقا ة‬
‫علممى المسمملمين إن اسممتطاع المشممركون مبمماغتتهم ممن الخلممف ‪ . . .‬وعمليمما ة كممانت مسمميرة المعركممة‬
‫تجممري فممي صممالح المسمملمين ‪ ،‬فممما إن التحممم الطرفممان حممتى ظهممر النصممر جليمما ة لصمماحا المسمملمين‬
‫الذين أخذت تتحرك قواهم بصفوف متراصة منتظمة يستحيل اختراقها ساحقة قوى الخصممم ‪ ،‬دافعممة‬
‫العدو إلممى الخلممف ‪ ،‬وممما عتممم أن دب الرعممب والممذعر فممي صممفوفه ‪ ،‬فممتراجع منهزممما ة فانكشممفت‬
‫صفوفه ‪. . .‬‬

‫ولقد دللت مسيرة المعركة على عبقرية الرسول العسكرية في تحقيق النصر في المرحلة الولممى‬
‫وإدراكه موقع الخطر الذي وقع فيه المقاتلون المسلمون بارتكابهم الخطأ الفادحا حين خالفوا الرسممول‬
‫عمن‬ ‫فسارعوا إلى جمع الغنمائم ممن معسممكر العمدو المنهممزم ‪ ،‬ونممزل الرممماة بمدورهم متخليمن‬
‫مممموقعهم السمممتراتيجي فكمممانوا أن فتحممموا الثغمممرة القاتلمممة المممتي تبينهممما الرسمممول ووضمممع لجلهممما‬
‫الرممماة خشممية قيممام خيالممة العممدو ‪ ،‬بقيممادة خالممد بممن الوليممد بحركممة التفمماف مباغتممة مممن الخلممف ‪،‬‬
‫وكان لتخلي الرماة عن مواقعهم علممى الجنمماحا اليسممر ممما عممدا قلممة قليلممة بقيممت مممع قائممدها عبممد امم‬
‫بممن جممبير ‪ ،‬أن تبممدل سممير المعركممة وقلبممت موازينهمما ‪ ،‬وتحممولت هزيمممة الجيممش المكممي الكيممدة‬
‫إلى نصر ‪ ،‬فكاد أن يفنى الجيممش السمملمي لممول ثبممات قلممة التفممت حممول رسممول امم ‪ ‬واستبسمملت‬
‫استبسممالة ملحميمما ة بعزيمممة ل تقهممر ‪ ،‬وهممي تممذود عممن صمماحب الرسممالة ‪ ،‬حممتى تمكنممت أن تفتممح‬
‫طريقمما ة حممتى مضمميق عينيممن الممذي تكسممرت عنممده هجمممة المشممركين ‪ . . .‬مممما اضممطر قممادتهم‬
‫إلى النسحاب من المعركة بعد أن تواعد الفريقان على اللقاء في بدر العام المقبل ‪ ،‬واعتبر المكيممون‬
‫أنفسهم منتصرين وثممأروا للهزيممة فمي بممدر ‪ ،‬إذ أوقعمموا الكممثير مممن القتلممى فممي صممفوف المسملمين‬
‫الذين مثل بجثثهم ‪ . . .‬ول يخفى أن غالبية المؤرخين السلميين عممدوا موقعممة أحممد نصممراة لقريممش‬
‫وهزيمة للمسلمين ‪.‬‬
‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.254‬‬ ‫‪109‬‬
‫‪62‬‬

‫على إن للستشرق المنصف كلمته إذ لم ير في معركة أحد هزيمة للمسلمين ‪ ،‬ولممم تكممن بالتممالي‬
‫نصرا للمشركين ‪ ،‬وهمذا مما استعرضمه المستشمرق جيورجيمو مناقشما ة أراء الم ؤرخين السملميين‬
‫كباحث عسكري‪ ،‬انطلقا ة من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))يذكر المؤرخون السلميون أن المسلمين خسروا في معركمة أحمد ‪ .‬وهمذا المرأي يحتماج إلمى‬
‫مناقشة ‪ .‬ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة ‪ ،‬وسألناه ‪ :‬ممما هممي علمممة‬
‫الخسارة الحربية ؟ ‪ ،‬لجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلد ‪ ،‬وأزال جيش العدو ‪ ،‬عممد‬
‫عندئذ منتصراة ‪ ،‬أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فل تعتمبر الدول ة خاسمرة ‪ .‬فألمانيما‬
‫في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها ‪ ،‬ووصلت جيوشها حتى شممواطيء نهممر الفولغمما ‪ ،‬ولنهمما لممم‬
‫تستطع دحر جيش روسيا دحراة كاملة فإن ألمانيمما لممم تعتممبر منتصممرة تماممما ة ‪ .‬فالدولممة تعتممبر ظممافرة‬
‫بشرطين ‪ :‬أولهما احتلل الدولة المغلوبة ‪ ،‬وثانيهما إخماد حركة الجيش ‪.‬‬

‫والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلل المدينة ‪ ،‬كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد ‪‬‬
‫‪ .‬فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين ‪ ،‬فإن فلوله عادت فتجمعت في اليمموم الثمماني ‪ ،‬فعنممدما عمماد محمممد‬
‫إلى مدينه )كما سنذكر ( كمان تحمت سميادته جيمش منظمم ‪ .‬فعمن وجه ة نظمر محمارب متخصمص ‪-‬‬
‫برأيي‪ -‬لم يخسر المسلمون في معركة أحد ‪ ،‬إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب ‪ ،‬لن جيممش مكممة‬
‫لم يفن جيش المسلمين ‪ ،‬كما لم يحتل المدينة ((‪. 110‬‬

‫ومما عزز معنويات المسلمين ‪ ،‬ودلل على قوة الجيش السلمي وتماسكه ‪ ،‬أن الرسول قام في‬
‫اليوم التالي لمعركة أحد ‪ ،‬بحركة عسممكرية بارعممة طممارد فيمما جيممش مكممة إلممى منطقممة تعممرف باسممم‬
‫) حمراء السد ( إل أن الجيش المكي آثر عدم الشتباك مع الجيش السلمي والعودة الى مكة ‪. . .‬‬

‫الحركات العسكرية في أعقاب أحد وأقبل الخندق‬


‫و كان لغزوة أحد أثارها النفسية على الدعوة السلمية ‪ ،‬فبعد الفوز العسكري الباهر فممي بممدر‬
‫كانت نكسة أحد مريرة ‪ ،‬ولكنها لم تعزز وضع المكيين في صممراعهم مممع الرسممول ‪ ،‬يقممول غلمموب‬
‫باشا ‪:‬‬

‫» أصابت هزيمة أحد الدعوة السلمية بما يشبه الجزر بعد المد المذي حققمه نصممر بمدر ‪ ،‬ولممما‬
‫كان النصر في بدر قد عزي إلى نصره ا وعونه للمؤمنين فقد صعب على هؤلء أن يفهممموا لممماذا‬
‫ضنت العناية اللهية عليهم بالنصرة فممي أحممد‪ .‬و تمموالت اليممات منممزلت علممى النممبي ‪ ،‬لتعينممه فممي‬
‫الحفاظ على الروحا المعنوية القويممة عنممد المسمملمين ‪ .‬وسممورة آل عمممران فممي القممرآن طافحممة بمماللوم‬
‫والتثريب على عبد الله بن أبي وأتباعه لتخاذلهم وبالوعد للمسلمين بالنصر النهائي والتأكيد لهممم بممأن‬
‫ال أراد لهم النكسار ليبتليهم ويمتحنهم (( ‪. 111‬‬

‫أجلء يهود بني النضير‬


‫‪110‬‬
‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.267‬‬
‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪111‬‬
‫‪63‬‬

‫كانت العلاقة بين المسلمين واليهود متوترة انعدمت فيها الثقة وخاصة بعد إجلء يهود بني قينقاع‬
‫‪ ،‬واستهانة يهود بنى النضير بالمسلمين بعد معركة أحد ‪ ،‬واهتزاز هيبممة الرسممول ‪ ‬وعزمه م عل ى‬
‫اغتياله وهو في عقر دارهم ‪ ،‬فكان أن اتخممذ الرسممول قممراره الحاسممم لتصممفية أعممداء السمملم داخممل‬
‫المدينة ‪. . .‬‬

‫وذهب المستشرقون في تأويل أسمباب إجلء الرسممول ي ود بنمى النضمير شممي الممذاهب ‪ ،‬ومنهما‬
‫التشكيك بصحة رواية مؤامرتهم لغتيال الرسول ‪. ‬‬
‫» ويرى الدكتور إسرائيل ولغنسون مؤلف كتاب ‪ » :‬تاريخ اليهود فممي بلد العممرب « أن إنممذار‬
‫بنى النضير بوجوب الجلء عن المدينة كان بمثابة انتقام منهم على عدم اشتراكهم في معركة أحممد ‪،‬‬
‫إذ أنها غزوة موجهة إلى مدينة يثرب ‪ ،‬فكان على بنى النضير أن يخرجوا للقاء العدو ‪ ،‬كما تقضى‬
‫به شروط المعاهدة المعقودة بين المسلمين واليهود (( ‪. 112‬‬

‫العمليات العسكرية ضد القبائل المعادية للسلم‬


‫وإلى جمانب عملي ة إجلء يمود بنمي النضمير ع ن المدينمة ‪ ،‬قمام الرسمول بسلسملة ممن العمليمات‬
‫العسكرية قاد بعضها بنفسه أو أنفذ سرايا يقودها صحابته كعمليات تأديبية ضد القبائل الممتي تحشممدت‬
‫لغزو المدينة ‪ .‬وكان أن بلغ في إحدى غزواته الطرف الشمال الغربي من الجزيرة العربية لضممرب‬
‫التحشدات المعادية في دومة الجندل ‪ ،‬لمنع انضمام قبائل الشمال إلى التحالف المعادي للسلم ‪.‬‬

‫وكان لهذه التحركات العسكرية أن وطدت دعممائم الحكممم السمملمي فممي المدينممة ‪ ،‬وقمموت سمماعد‬
‫المسلمين ‪ ،‬وشلت حركة قريش التي تميزت في تلك المرحلة بالسلبية ‪ ،‬يقول غلوب باشا ‪:‬‬

‫)) ولعل المفارقة العظيمة بين الجانبين في هذه السنوات من سنوات المعارك تبدو واضحة جلية‬
‫فيما تميز به المسلمون من نشاط ل حممدود لممه ‪ ،‬وممما تميممزت بممه قريممش مممن سمملبية وجمممود ‪ .‬وظممل‬
‫المسلمون يقومون بغزوات وسرايا من هممذا النمموع ‪ ،‬مممن قاعممدتهم فممي المدينممة ضممد القبائممل البدويممة‬
‫الحليفة لقريش مستعينين فيها بحلفائهم من البدو ‪ .‬أما الفراد الذين يظهرون عداء شديداة للمسلمين أو‬
‫للنبي فكان مصيرهم القتل(( ‪. 113‬‬

‫كان الرسول ‪ ‬يدرك أن معركة ما بين المسلمين والمشركين واقعممة ول منمماص ‪ ،‬ولممذلك كممانت‬
‫أعماله تهدف إلى لممم إعطمماء الثممورة السمملمية زخممما ة وقمموة اسممتعداداة للمسممتقبل ‪ ،‬وأضممعاف لجبهممة‬
‫العداء ‪ ،‬يقول مونتجمرى وات ‪:‬‬

‫)) وهكذا استطاع محمد في الفترة الواقعة بين موقعة أحد وحصار المدينة ‪ -‬وإن عجز عن منع‬
‫المكيين من تكوين حلف ضده ‪ -‬أن يمنع كثيرا من القبائل من النضمام إليهم ‪ ،‬وزادت القمموى الممتي‬
‫نقل عن كتاب محمود الدرة ‪ :‬معارك العرب الكبرى ‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪112‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫‪113‬‬


‫‪64‬‬

‫كانت في حوزته ‪ .‬ولم يكن يستطيع أن ينظر إلى الهجوم المهدد له بدون قلممق ولكنممه لممم يفقممد المممل‬
‫((‪. 114‬‬

‫موقعة الخندق أوأ الحزاب‬


‫كممانت الرسممالة السمملمية ظممافرة دائممما ة ‪ ،‬رغممم ممما يعممترض مسمميرتها مممن صممعوبات ونكسممات‬
‫ومؤامرات ومخاطر ‪ . .‬وكان أشدها وطأة يمموم تممآمر أطممراف الحممزاب للقضمماء علممى السمملم فممي‬
‫معركة الخندق ‪ ،‬وقوامها قريش ويهممود النضممير )ممممن أجلمموا عممن المدينممة ( وخيممبر وقبائممل البممدو‬
‫الغطفانية ‪ ،‬ناهيك بيهود الداخل بني قريظة ‪ ،‬المذين اتفقموا ممع الحمزاب علمى ضمرب السملم ممن‬
‫الخلف ‪...‬‬

‫وتشير التقديرات الولية إلى أن عدد الحلف الجديد يتراوحا ما بين عشرة آلف وأربعة وعشرين‬
‫ألفا ‪ ،‬زجت كلها في المعركة الجديدة بهدف القضاء على الرسالة السلمية ‪...‬‬

‫وأمام هذا الخطر المحدق من الحشد الهائل ‪ ،‬اتخذ الرسول ‪ ‬قراره باتخاذ الجممراءات الدفاعيممة‬
‫الكفيلة بحماية المدينة ‪ ،‬واستقر الرأي على حفر خندق لحماية القسممم المكشمموف مممن المدينممة ‪ ،‬عملة‬
‫باقتراحا سلمان الفارسي ‪ ،‬فبداء بتنفيذه فوراة ‪ ،‬واشترك سائر المسلمين بحفره يتقدمهم النبي ‪ ‬وقد تم‬
‫فعلة إنجازه في فترة ستة أيام قبل وصول الحزاب إلى المدينة ‪.‬‬

‫ويقيم ك ‪ .‬جيورجيممو عاليمما ة خطممة الرسممول فممي موقعممة الخنممدق الممتي حممازت إعجمماب المفكريممن‬
‫والباحثين العسكريين ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))ولم تكن خطة محمد ‪ ‬الحربية هذه سبب إعجاب الناس العاديين وحسب ‪ ،‬بممل مبعممث إكبممار‬
‫من وجهة نظر رجال الحرب المتخصصين ‪ .‬إذ كيف استطاع محمد ‪ ‬استنباط هذه الخطة وإنجازها‬
‫‪ ،‬لن النبوغ ليس في استنباط الخطة وحسب ‪ ،‬بل فممي تنفيممذها أيضمما ة ‪ .‬فالممذين يقيمممون فممي منممازلهم‬
‫ويقرأون على صفحات الجرائممد الخطممط الحربيممة والعمليممات العسممكرية الممتي يقمموم بهمما رجممال ضممد‬
‫خصومهم ل يقدرون مدى العناء الذي يعانيه القائد في تنفيذ مثل هممذه الخطممط فممي سمماحة المعركممة ‪.‬‬
‫وقد كان حفر الخندق في الجزيرة لمنع هجوم جيش معاد جديداة ‪ ،‬يشبه » الفالانج « الذي خططه في‬
‫معاركه السابقة من حيث الجدة والبراعة (( ‪. 115‬‬

‫وعمليا ة ‪ ،‬فإن الخندق الجديد حال دون اقتحام جيش العدو المدينمة فمي هجموم كاسمح ‪ ،‬واضمطره‬
‫إلى في ضرب الحصار عليها شهراة كاملة دون ‪ .‬أن يتمكن من اختراق الخطوط الدفاعية السمملمية‬
‫‪ ،‬يقول غلوب باشا محللة ‪:‬‬

‫)) ولم يكن حلفاء قريش من قبائل البادية يستسيغون طعم الحرب الثانية ‪ ،‬وسممرعان ممما أخممذت‬

‫منتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪114‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.289‬‬ ‫‪115‬‬


‫‪65‬‬

‫المؤن تنضب والحتكاك ينشب بين الحزاب ‪ .‬وقد أثار الكثير منه رسل محمد الذين أخذوا يبممذرون‬
‫الخلفات سراة في صفوف المشركين ‪ ،‬و راحت إبل قريش وجيادها تنفممق لنقممص المرعممى ‪ .‬ورغممم‬
‫أن أبا سفيان كان القائد العام للحملة اسميا ة إل أن الحزاب اتبعت نظاما ة غريبا ة للقيممادة ‪ ،‬وهممو إسممناد‬
‫أمرها في كل يوم إلى واحد ممن رؤسمائهم وعلممى الرغممم ممن أن همذا النظممام كمان ضممروريا ة لتهدئمة‬
‫حوافز الغيرة والحسد بين مختلف القادة إل أن مثل هممذا الممترتيب جعممل أيمة عمليمة منظمممة للحصممار‬
‫أمراة مستحيلة (( ‪. 116‬‬

‫ويحلل الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتابه ‪ » :‬محمد في المدينة « أهمية النصر الممذي‬
‫حققه الرسول بل بدبلوماسيته على أعدائه ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) ولن نألو جهدةا في تقدير أهمية هذا النتصار الدبلوماسي لن هجوم قريظة من الجنوب على‬
‫مؤخرة المسلمين كان بمكانه القضاء على رسالة محمد ‪ .‬لقد دل تفسممخ المحالفممة علممى فشممل المكييممن‬
‫فشلة ذريعا ة في عملهم ضد محمد ‪ .‬وأصبح المستقبل مكفهممراة بالنسممبة إليهممم ‪ .‬لقممد اسممتخدموا أقصممى‬
‫جهودهم لزاحته عن المدينة ‪ ،‬فبقي فيها أكثر نفوذاة مما مضى ‪ ،‬وذلك بسبب فشممل المحالفممة ‪ .‬كممما‬
‫ماتت تجارتهم مع سورية ‪ ،‬وفقدوا الكثير من مكانتهم ‪ .‬ولم يعودوا يأملون ‪ ،‬حممتى لممو انقطممع محمممد‬
‫عن مجابهتهم ‪ ،‬في الحتفاظ بثرواتهم ومكانتهم ‪ .‬وهو يستطيع أن يسممتخدم القمموة المسمملحة ضممدهم ‪،‬‬
‫ويحاول أبادتهم كما حاولوا أبادته ‪ .‬ومن الغريب أن بعض المكيين ‪ ،‬وهم الشعب الواقعي لم يأخممذوا‬
‫بالتساؤل عما إذا لم يكن من الفضل قبول محمد وديانته ((‪. 117‬‬

‫ومع الهزيممة العسممكرية المممرة المتي أحماقت بقموى الحمزاب ظهمر المسملمون قمموة عسمكرية ل‬
‫يستهان بها ‪ ،‬وطفقت القبائممل الوثنيممة تخشممى جممانبه ‪ . .‬وعمليمما ة ‪ ،‬انتقممل زمممام المبممادرة بعممد معركممة‬
‫الخندق ليدي المسمملمين ‪ ،‬إذ أصممبحوا منممذ ذلممك اليموم فممي موقممع الهجمموم ‪ ،‬تأكيممداة لرؤيمة الرسممول‬
‫لمسيرة الصرع المستقبلية مع قريش ‪ ،‬حين قال صلوات ا عليه ‪:‬‬

‫» لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ‪ ،‬ولكنكم تغزونهم « ‪.‬‬

‫تاصفية آخر معاقل اليهود في المدينة‬


‫كان لنقممض يهممود بنممي قريظممة العهممد مممع رسممول امم ‪ ‬فممي أخطممر مرحلممة مممرت بهمما الممدعوة‬
‫السلمية حين ضرب الحزاب الحصار على المدينة ‪ ،‬وفتحهممم ثغممرة كممبيرة فممي دفمماع المسمملمين ‪،‬‬
‫بتحالفهم مع العداء الخارجيين ) الحزاب ( أن وضع المسلمين فممي موقممف حممرج ‪ ،‬كمماد أن يممودي‬
‫بحركة التوحيد السلمية ‪ ،‬إذ وجدت نفسها بين طرفي كماشة ‪ ،‬فالحزاب من أمام وبنو قريظة مممن‬
‫الخلف ‪...‬‬

‫و لكن ما إن فشل حصار الحزاب وتفرق شملهم حممتى أحممس بنممو قريظممة بفداحممة الخطممأ الممذي‬
‫ارتكبوه نتيجة نقضهم العهد مع الرسول ‪ ...‬يقول جيورجيو ‪:‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪116‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.59-58‬‬ ‫‪117‬‬


‫‪66‬‬

‫)) بني قريظة نقضوا عهد المدينة ‪ ،‬فاتحدوا مع أعدائها‪ ،‬في حين أن الواجب كمان يحمدوهم إلمى‬
‫الدفاع عن بلدتهم ضد المهاجمين ‪ .‬والرسول ‪ ‬ف ي معرك ة أح د ق إلى له م إن ه ذه الح رب دينيممة ‪،‬‬
‫ولستم مضطرين إلى الخممروج مممع المسمملمين ‪ ،‬والحممرب فممي صممفهم ‪ ،‬ولسمميما أن المعركممة جممرت‬
‫خارج المدينة ‪ ،‬أما الن فهم داخل الخندق ‪.‬‬

‫حين رأى بنمو قريظمة أن المشمركين رحلموا ‪ ،‬وتفمرغ لهمم المسملمون ‪ ،‬أحسموا بمالخط يمداهمهم‬
‫لخيانتهم ‪ ،‬فتحصنوا في قلعهم ومنازلهم (( ‪. 118‬‬

‫وسارع المسلمون بضرب الحصار على منازلهم الشممبيه بممالقلع الحجريمة بقيمادة علمى بمن أبمي‬
‫طالب مدة خمسة وعشرين يوما ة ‪ ،‬فقرروا في نهايتها الستسلم والنممزول علممى حكممم النممبي محمممد ‪،‬‬
‫وقبلوا بتحكيم حليفهم من الوس سعد بن معاذ ‪ ،‬الذي أصدر حكم وفق الشريعة الوسمموية "بممأن تقتممل‬
‫المقاتلة ‪ ،‬وتقسم الموإلى وتسبى الذرية والنساء « ‪...‬‬

‫ويتابع جيورجيو متحدثا ة عن الحكم الذي صدر بحق اليهود ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) خالفت قريظة العهد ‪ ،‬وأهملت العقد ‪ ،‬وسعت إلى التفاق مع الخصوم لضرب المسملمين ممن‬
‫الخلف ‪ ،‬لذا توجب عليهم العدام ‪ .‬لم يصدر المسلمون هذه الفتوى ‪ ،‬بل أعلنها رجل اعتمبره اليهمود‬
‫صديقا ة لهم ‪ ،‬وهم الذين اختاروه لهذه المهمة ‪ .‬وبعد صممدور هممذا الحكممم بممرأ علممي النسمماء والطفممال‬
‫الذين لم يبلغوا سن الرشد ‪ ،‬والشيوخ المسنين ‪ .‬أما الباقون فمممن دخممل فممي السمملم برئممت سمماحته ‪،‬‬
‫وأما الباقون فقد ثبتوا في القلع والمنازل ‪ ،‬وحاربوا ببسالة حتى قتلوا عن بكرة أبيهم (( ‪. 119‬‬

‫هذا ‪ ،‬وقد ناقش الباحث السلمي مولنا محمد علي الحكممم الممذي صممدر بحممق بنممى قريطممة ورد‬
‫علممى اتهامممات المستشمرقين المتعماطفين ممع اليهممود حيمن اعتمبروه جممائراة ‪ ،‬بممأنه تمم وفمق الشممريعة‬
‫الموسوية ‪،‬وإن الذي أصدره هو قاض من اختيارهم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫وعممددهم‬ ‫)) وهكذا حكم سعد ‪ ،‬وفقا ة للشريعة الموسوية ‪ ،‬بقتل ذكممور بنممي قريظممة ‪،‬‬
‫ثلثمئة ‪ ،‬وبسبي نسائهم وأطفالهم ‪ ،‬وبمصادرة ممتلكاتهم ‪ .‬ومهما بدت هذه العقوبة قاسية فقممد كممانت‬
‫على وجه الضبط العقوبة التي كان اليهود ينزلونها ‪ ،‬تبعا ة لتشممريع كتممابهم المقممدس ‪ ،‬بممالمغلوبين مممن‬
‫أعدائهم ‪ ،‬وإلى هذا فإن جريمة الغدر الشائنة التي اتهممم بهمما بنممو قريظممة خليممق بهممم ‪ ،‬فممي مثممل تلممك‬
‫الظروف ‪ ،‬أن ل تجازى بأيما عقوبة أخف ‪ ،‬حتى في عصر المدنية هذا ‪ .‬كان القاضي من اختيارهم‬
‫‪ ،‬وكان الحكم منطبقا ة أشد انطباق مع شريعتهم المقدسة نفسها ‪ .‬وفوق ذلممك ‪ ،‬فقممد أدينمموا بخيانممة مممن‬
‫نوع خطير ‪ .‬فهل من المنطق في شيء أن ينتقد الرسول لهذا السبب ؟ إن كل اعممتراض علممى قسمموة‬
‫هذه العقوبة هو اعتراض على الشريعة الموسوية‪ .‬إنه في الواقع انتقاد ل شعوري لتلك الشممريعة ‪ ،‬و‬
‫تسليم بأن شريعة أكثر إنسممانية يجممب أن تحممل محلهمما ‪ ،‬وأيممما مقارنممة بالشممريعة السمملمية فممي هممذا‬
‫الصدد خليق بها أن تكشف ‪ ،‬في وضوحا بالغ ‪ ،‬أي قانون رفيق عطوف ‪ ،‬رحيممم قممدمه السمملم إلممى‬

‫كل جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة الرسإول ‪ ،‬ص ‪.300‬‬ ‫‪118‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.303‬‬ ‫‪119‬‬


‫‪67‬‬

‫الناس (( ‪.120‬‬

‫وكان من نتائج تصفية بني قريظة ‪ ،‬القضاء التام على السمملطة اليهوديممة فممي المدينممة ‪ ،‬و توطيممد‬
‫السلطة السلمية فيها دينيما ة وسياسمميا ة واقتصماديا ة ‪ ،‬كمما أخمذ دورهما يكمبر علمى القبائمل الوثنيمة فمي‬
‫جزيرة العرب ‪ ،‬التي أخذت تحسب للمسلمين ألف حساب ‪...‬‬

‫صلح الحديبية‬
‫ونتيجة للعمليات العسكرية التي حققت فيما الدعوة السلمية النصر تلو النصممر ‪ ،‬ظهممرت كقمموة‬
‫بارزة مركزها المدينة ‪ ،‬إنما تمتد ذراعها إلى أبعد نقطة في الجزيرة العربية ‪ ،‬وتوجت عمليا ة بصمملح‬
‫الحديبية بين المسلمين وقرشيي مكة ‪ ...‬وذلك حين أتتخذ الرسول عليه السلم قراره الخطير بذهابه‬
‫إلى مكة مسلما ة معتمراة ‪...‬‬

‫لقد كممانت هممذه الحركممة مفاجممأة ليممس للمشممركين فحسممب ‪ ،‬بممل للمسمملمين كممذلك ‪ ،‬يقممول البمماحث‬
‫العسكري الروماني جيورجيو ‪:‬‬

‫)) كان المسلمون يظنون أن النبي ‪ ‬سيهاجم خيبر أو مكة ليفك الحصار ‪ ،‬لكنه ارتأى حلة آخر‬
‫لم يتوقعه المسلمون ‪ ،‬ذلكم هو ذهاب المسلمين جميعا ة معه لداء العمرة ‪ ،‬في حين أن مكة تحمل فمي‬
‫طياتها الضغينة والحقد لمحمد ‪ . ‬فهممي المتي جيشممت الجيموش لحربمه ‪ .‬وممع ذلممك فقممد صممم علمى‬
‫الذهاب إليها ‪ .‬وقد ظنوا بادىء ذي بدء أنه يريد فتحها‪ .‬لكنه أجابهم بأنه يريد زيارتها ل حربها ‪.‬‬

‫وهكذا سار‪ ،‬و معه ألفا رجل ‪ ،‬وعدة ممات ممن الجمممال إلمى مكممة فمي الشمهر الثماني م ن فصمل‬
‫الشتاء سنة ‪ 628‬المطابقة للسنة السادسة(( ‪.121‬‬

‫وبعد تردد ‪ ،‬اتتخذ ت قريش قرارها بمنع الرسممول والمسمملمين مممن دخممول مكممة ولممو سمملما ة كممما‬
‫أحجزت لديها رهينة رسول رسول ام إليهمما عثمممان ابمن عفممان ‪ ،‬وتممأهبت للحمرب ‪ ،‬يقمول البمماحث‬
‫العسكري غلوب باشا في معالجة هذا الموضوع ‪:‬‬

‫)) لكن قريشا ة لم تقتنع بنوايما الرسمول السمليمة ‪ .‬فسمارعت تسملح نفسمها وتتخمذ مواقعهما علمى‬
‫طريق المدينة للدفاع عن مكة ‪ .‬ولم يكن المعمرون من المسلمين يحملون إل السمميوف ‪ ،‬ولممم يكونمموا‬
‫في وضع يمكنهم من خوض القتال ويبدو أن محمدا بحركته هممذه مممع جممماعته نصممف المسمملحين قممد‬
‫ارتضى المغامرة ‪،‬وكانت مغامرة من طراز نادر ‪ .‬وعنمدما وجمد المسملمون طريمق مكمة مغلقما ة فمي‬
‫وجوههم انحرفوا ناحية اليمين ومروا إلى الغرب من مواقممع العممدو واقممتربوا مممن مكممة مممن الطريممق‬
‫المؤدي إليها من ساحل البحر ثم توقفوا عند الحديبية ‪ ،‬وهي على مسيرة يوم إلى الغرب مممن مكممة ‪.‬‬
‫وعندما سمع أهل مكة بأن محمداة قد التف حول جناحا مواقعهم الدفاعية تراجعوا مسممرعين إلممى مكممة‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.175‬‬ ‫‪120‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.304‬‬ ‫‪121‬‬


‫‪68‬‬

‫وراحو يوفدون إلى لمفاوضته (( ‪.122‬‬

‫وأصر الرسول على دخول مكة سلما ة ‪ ،‬مؤكداة العتراف بقدسية الكعبة ‪ ،‬لكممن قممراره السياسممي‬
‫الخطر هذا قد يدفعه للجوء إلى الحل العسكري ‪ ،‬رغم عدم تكافؤ القوى السلمية والمكية ‪ ،‬إذ خرج‬
‫المسلمون عزلة إل من أسلحتهم الفردية وكان عددهم دون عدد القرشيين بكممثير ‪ ،‬ومممع ذلممك تخمموف‬
‫القرشيون من مجابهة المسلمين حين علموا بمبايعتهم الرسول على القتال حتى آخر رجل ‪ ،‬بالمبايعة‬
‫التي عرفت " بيعة الرضوان" دفاعا عن العقيدة ‪ ،‬ولذا سارعوا جديا ة بفتح صممفحة المفاوضممات مممع‬
‫المسلمين ‪ ،‬يقول جيورجيو ‪:‬‬

‫)) ولقد تخوف المشركون ‪،‬ولسيما قريش ‪ ،‬من بيعة الرضوان ‪ ،‬التي بموجبها يتعهدون بتنفيممذ‬
‫ما يأمرهم رسول ا ‪ ، ‬وإن كان مخالفا ة لمعتقداتهم ‪ .‬فلقا تصوروا أن الرسول ‪ ‬أخذ هممذه البيعممة ‪،‬‬
‫لنه سيهاجمهم ‪ ،‬وسيقتل من يقاوم ‪ ،‬ويأسر من يستسمملم ‪ .‬لقممد كممانت قريممش علممى يقيممن مممن براعممة‬
‫محمد ‪ ‬العسكرية ‪ ،‬بعد أن لمسوا منه ذلك في المعارك السابقة ‪ ،‬كما أيقنمموا بممأن المسمملمين يتحلممون‬
‫بيقظة تامة ‪ .‬ووثقوا بأن محمداة ‪ ‬إن صمم على احتلل مكة فعل ‪.‬‬

‫ولهذا أطقوا مراحا عثمان فوراة ‪ ،‬وأعادوه إلى الحديبية ‪ ،‬وحملمموه رسممالة إلممى النممبي ‪ ، ‬مفاده ا‬
‫أنهم مستعدون للمباحثة معه ‪ ،‬وسيرسلون وفداة لذلك (( ‪.123‬‬

‫وأخيرةا توصل الطرفان إلى عقد صلح الحديبية الذي يقر السلم بين الطرفيممن ممدة عشمر سمنوات‬
‫‪ ،‬وكان النص النهائي للوثيقة ‪:‬‬

‫» باسمك اللهم ‪ :‬هذا ما صاحا عليه محمد بن عبد ال سهيل ابن عمرو على وضممع الحممرب عممن‬
‫الناس عشر سنين ‪ ،‬يأمن فيها الناس ‪ ،‬ويكف بعضهم عن بعض ‪ ،‬على أن من أتى محمداة من قريش‬
‫بغير إذن وليه رده عليهم ‪ ،‬ومن جاء قريشا ة ممن مع محمد لم يردوه عليه ‪ ،‬وأنه بيننا بيعة مكفوفة ‪،‬‬
‫وأنه ل اسلال ول إغلل ‪ ،‬وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخممل فيممه ‪ ،‬ومممن أحممب أن‬
‫يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ‪ .‬وأنك ترجع عنا عامك هذا فل تدخل علينمما مكممة ‪ ،‬وأنممه إذا‬
‫كان عام قابل خرجنا عنك فادخلها بأصحابك فأقمت بهمما ثلثمما ة ومعممك سمملحا راكممب و السمميوف فممي‬
‫القرب ‪ ،‬ل يدخلونها بغيرها ‪.‬‬

‫خاتم‬ ‫خاتم‬
‫محمد رسول‬ ‫سهيل بن‬
‫ا‬ ‫عمرو‬

‫شهود عقد الصلح ‪ :‬أبو بكر ‪ ،‬عمر بن الخطاب ‪ ،‬على بن أبي طالب ‪.‬‬

‫وكتب ‪ :‬وكان هو كاتب الصحيفة ‪ ،‬عبد الرحمن بن عوف ‪ ،‬عبد اللممه بممن سممهيل بممن عمممرو ‪،‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.133-132‬‬ ‫‪122‬‬

‫ك‪.‬جيورجو ‪ :‬ص ‪.313-312‬‬ ‫‪123‬‬


‫‪69‬‬

‫محمود بن مسلمة ‪ ،‬مكرز بن حفص (( ‪.124‬‬

‫فتح خيبر‬
‫يدخل فتح خيبر في إطمار علقمات الرسمول بمماليهود الممذين مثلموا الثمورة المضممادة للسمملم فمي‬
‫جزيرة العرب ‪ ،‬وكان ليهود خيبر مع بنمي النضمير دور بمالغ الخطمورة فمي إقاممة الحلمف المعمادي‬
‫للقوة السلمية الذي عرف باس الحزاب وحاول القضاء عليهمما فمي موقعمة الخنممق ‪ .‬يقمول البمماحث‬
‫السلمي مولنا محمد علي ‪:‬‬

‫ولكنمما ل‬ ‫))أما موقعة خيبر فقد حدثت بعد صلح الحديبية ‪ ،‬في السنة السممابعة للهجممرة‬
‫نحسممب ‪ ،‬بقممدر ممما يتعلممق المممر بأثرهمما فممي العلقممات السمملمية اليهوديممة ‪ ،‬أن مممن الخممروج عممن‬
‫الموضوع أن نتحدث عنها في هذا الفصل ‪ .‬فحين نفي بنو النضير من المدينة نزلت كثرتهم الكممبرى‬
‫وبخاصة زعماؤهم وأعيانهم ‪ ،‬في خيممبر ‪ ،‬معقممل اليهممود فممي بلد العممرب ‪ ،‬علممى مبعممدة مئممتي ميممل‬
‫تقريبا ة ‪ ،‬من المدينة‪ .‬وكان اليهود ينعمون ثمة بسلطان مستقل ‪ ،‬وكانوا قد حصممنوا الموقممع تحصممينا ة‬
‫قويا ة ‪ .‬حتى إذا وفد عليم بنو النضير غرست بذرة العداوة للسلم في قلوبهم‪ .‬وما إن نشممبت معركممة‬
‫الحزاب حتى راحوا يحرضون المكيين ‪ ،‬وقبيلة غطفان ‪ ،‬والقبائل البدوية ‪ ،‬على المسمملمين بممل لقممد‬
‫وفقوا إلى اكتساب تعاون بني قريظة أيضا ة ‪ .‬ورسخت جذور القوة السلمية في المدينممة بعممد إخفمماق‬
‫حملة الحزاب ‪ .‬ولكن الحقد اليهودي لم يزدد إل ضراوة ‪ ،‬لقد أجروا مفاوضات سرية مع عبممد اللممه‬
‫ابن أبي ‪ ،‬زعيم المنافقين الذي حكم لهم توكيداة جازما ة أنه ل يزال في إمكانهم محمق القموة السمملمية‬
‫(( ‪.125‬‬

‫وكممان لصمملح الحديبيممة الممذي‪ ،‬عقممد بيممن الرسممول ومشممركي قريممش أن سممرع فممي تطممور‬
‫الحداث ‪ ،‬إسقاط آخر قلع اليهودية فمي جزيممرة العممرب ‪ ...‬لقممد اعتقمد يهمود خيمبر أن همذا الصمملح‬
‫الممذي عقممد بشممروط مجحفممة بحممق المسمملمين ‪ ،‬يشممكل دليلة علممى ضممعفهم ‪ ...‬فراودتهممم المممال‬
‫بالقضاء على الدولة السلمية فممي المدينممة قضمماء تاممما ة ‪ .‬وذلممك بتحممالفهم مممع قبيلممة غطفممان ‪ ،‬يقممول‬
‫جيورجيو ‪:‬‬

‫)) حين علم سكان خيبر أن المسلمين عقدوا هدنة مع أهل مكممة صمممموا علممى حربهممم وحممدهم ‪،‬‬
‫وذلك بأن يهاجموا المدينة بصورة خاطفة ‪ .‬ولكن محمداة ‪ ‬أعد ألفا ة وخمسمئة محارب لحرب خيممبر‪،‬‬
‫في حين أن اليهود يستطيعون تجهيز عشرين ألف مقاتل (( ‪.126‬‬

‫وحاصر جيش المسلمين بقيادة على بن إلى طالب معاقل اليهود في خيبر ‪ ،‬وسممرعان ممما أخممذت‬
‫قلعهم تتساقط الواحدة تلو الخرى‪ ،‬ودان اليهود بسلطان المسلمين ‪....‬‬

‫سإيرة ابان هشاما ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪.366‬‬ ‫‪124‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ص ‪.176-175‬‬ ‫‪125‬‬

‫ك‪.‬جيورجيو ‪ :‬ص ‪.329‬‬ ‫‪126‬‬


‫‪70‬‬

‫))وأحسن محمد ‪ ‬معاملة اليهود ‪ .‬إذ سمح لمن يريد منهممم بالرحيممل ‪ ،‬وحمممل ممما يريممدون ‪،‬عممدا‬
‫التمر والغنم والغلال ‪ .‬وبرواية أخرى عدا أثاث المنازل ‪ .‬أما من لم يرد الرحيل فليبق ‪ ،‬وله الحريممة‬
‫في العمل الذي يريد ‪.‬كما انممه منممع المسمملمين مممن الممزواج بالنسمماء اليهوديممات علممى طريقممة الممزواج‬
‫بالمتعة و"المتعة " زواج مؤقت بنساء المة المغلوبة ‪ .‬وللمسلم كامل الحرية في اقتنمماء النسمماء علممى‬
‫أساس هذا الزواج _ ‪ .‬أما إذا كانت النساء قلة فيوزعن عليهم بالتساوي ‪.‬‬

‫كما أن عليا ة منع الجنود المسلمين من دخول بساتين اليهود ‪ ،‬والعبث بحقول الخيممل ‪ ،‬كيل يممؤذوا‬
‫فواكههم أو أشجارهم ‪ .‬وكي يوطد محمد ‪ ‬العلقممة بيممن المسملمين واليهمود عقمد قرانمه علمى صممفية‬
‫إحدى نسائهم ‪.‬‬

‫وكان يسكن في وادي القرى ‪ -‬قرب تلك الديار ‪ -‬قبيلتان يهوديتان ‪،‬وقبيلتان أخريان سكنتا فممدك‬
‫وتيماء ‪ .‬فبعد أن رأوا انتصار المسلمين في خيبر عقدوا معهم صلحا ‪ ،‬يدفعون فيه الجزية المسممتحقة‬
‫(( ‪.127‬‬

‫غزوأه مؤتاة‬
‫هذا ‪ ،‬ولقد جرى بين فتح خيمبر وفت ح مكمة عمدد ممن السممرايا العسمكرية والغمزوات المتي قادهما‬
‫الرسممول ‪ ‬بنفس ه أو أنف ذها بقي ادة ص حابته ‪ .‬كممان بعضممها بمثابممة حملت تأديبيممة أو دوريممات‬
‫استطلع ‪ ،‬لكن أهم حملة حدثت في تلك الفترة هي غزوة مؤتة لنها جرت داخل الراضمي الواقعمة‬
‫تحت النفوذ البيزنطي ‪ ،‬يقول غلوب باشا ‪:‬‬

‫)) ومممع كممل هممذه العوامممل فقممد أعممد النممبي فممي شممهر سممبتمبر ‪ /‬أيلممول ‪ /‬عممام ‪ 629‬حملممة‬
‫عسممكرية كممبيرة الهميممة وكممثيرة التنظيممم ‪ ،‬وكممان القصممد منهمما غممزو بعممض الراضممي الخاضممعة‬
‫للسمميطرة البيزنطيممة ‪ ،‬وتقممول الروايممات العربيممة إن القصممد مممن الحملممة كممان الثممأر لبعممض الرسممل‬
‫المسلمين الذين أوفدهم النبي إلى المنطقة ‪ .‬كان الثممأر دفاعمما ة أقمموى فممي الحممروب العربيممة مممن الفتممح‬
‫والحتلل ‪.‬‬

‫وأقام النبي معسكراة على بعد بضعة أميال إلى الشمال من المدينة وأمر المتطوعين من المسلمين‬
‫بالتجمع فيه وولى زيد بن حارثة ولده بالتبني ‪ -‬قيادة الحملة التي ضمت نحوا من ثلثة آلف رجل ‪.‬‬
‫وكانت هذه هي الحملة السلمية الولى على هذا النطاق الضخم التي خرجت إلممى هممدف بعيممد عممن‬
‫المدينة ‪ ،‬وتطلب أعداد مثل هذه الحملة وقتا طويل ‪ .‬ولذا فممان أنباءهمما بلغمت ممما يسمممى الن بشممرق‬
‫الردن قبل تحركها (( ‪.128‬‬

‫وكان أن التقى الجيشان السلمي والبيزنطي في مؤتة ‪ ،‬وكانت النسبة بين الجيشممين هممي واحممد‬
‫إلى سبعة لصاحا الروم وحلفائهم من القبائل العربية الموالية لهم ‪ ،‬ورغم عدم تكافؤ القوى فممي العممدد‬
‫والعدة ‪ ،‬لم يتردد المسلمون الذين عمر اليمان قلوبهم ثم فممي خمموض المعركممة ‪ .‬وكممانت النتيجممة أن‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪. 334-333‬‬ ‫‪127‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية السإلمية ‪ ،‬ص ‪.146‬‬ ‫‪128‬‬


‫‪71‬‬

‫سقط قائد القوات ‪ ،‬السلمية زيد بن حارثة والقائدان جعفر بن أبي طالب وعبممد امم بممن رواحممة ‪...‬‬
‫وهنا ظهرت عبقرية خالد بن الوليد الذي اعتنق السلم ‪ ،‬وكان ذا خبرة عالية في القيممادة العسممكرية‬
‫فاستطاع أن ينقذ الجيش السلمي من الفناء بانسحابه المنظم والعودة به إلممى المدينممة ‪ ،‬فنممال بفضممل‬
‫ذلك اللقب الذي أطلقه عليه الرسول ‪ :‬سيف ا ‪.‬‬

‫غزوأه ذات السلسل‬


‫واتخذ الرسول قراره بتجريد حملمة يقودهمما عممرو بمن العمماص إلمى شممالي الجزيممرة العربيمة ‪،‬‬
‫لعادة الثقة بالجيش السلمي ‪ ،‬لضرب القبائممل العربيممة المواليممة للممبيزنطيين ‪ ،‬حيممن بلغممه تحشممدها‬
‫لمهاجمة المدينة ‪ ،‬وتمكن عمرو بن العاص ‪ -‬بعد طلب المدد الذي أنفذه إليه الرسممول ووصممول تلممك‬
‫المساعدات العسكرية _ من إلحاق هزيمة نكراء بالقبائل العربية وتشتيت جموعهما ‪..‬وبالتممالي إعمادة‬
‫الهيبة للجيش السلمي ‪.‬‬

‫فتح مكة‬
‫كان صلح الحديبية الذي عقد ما بين الرسول والمشركين مجحفا ة بظاهره بحق المسلمين سممرعان‬
‫ما انقلب لصالحهم ‪ ،‬وبلغ المر أن طلبت قريش بالذات إلغمماء البنممود الممتي اعتبرهمما البعممض مذلممة ‪،‬‬
‫وخاصة ما يتعلق بأولئك الذين يلجؤون إلى محمد هربا ة من قريش بأن يعيدهم إلى مكة ‪ ...‬والذين لممم‬
‫يلبثوا أن انقلبوا عصبة مسلحة تهدد قريشا ة تهديداة جديا ة ‪.‬‬

‫وعمليا ة ‪ ،‬فقد نشأت تلك العصبة بقيادة أبي بصير مممن مسمملمي مكممة الممذين لممم يسممتطيعوا اللحمماق‬
‫بالمدينة ‪ ،‬تنفيذاة لتفاق صلح الحديبية ‪ ،‬فنزلوا العيص على ساحل البحر وطفقوا يغيرون على قوافل‬
‫قريش يستلبون أموالها ويفتكون بقواتها‪ ،‬ويتحدث جيورجيو عن تلك العصبة المجاهدة بقوله ‪:‬‬

‫)) ولممم يمممض حيممن حممتى ازداد عممددهم ‪ ،‬واسممتطاعوا أن يؤلفمموا جيشمما ة فأخممذوا يغيممرون‬
‫على قوافل مكممة ‪ .‬فتضممايقت جماعممة قريممش كممثيراة منهممم ‪ ،‬فاضممطرت إلممى مراسمملة النممبي ‪ ‬تس أله‬
‫بأرحامها أل آواهم فل حاجة لهم بهم ‪ .‬فطالبهم رسول الله ‪ ‬بكتاب خطممي كممي سممنداة لممه وعهممداة ‪.‬‬
‫وبهذا نقض هذا الشرط من كتاب العهد ‪ .‬وما فممتئت الشممروط الممتي لممم تكممن لصماحا المسملمين يممزول‬
‫مفعولهمما شمميئا ة فشمميئا ة ‪ ،‬وممما هممي إل مممدة وجيممزة حممتى غممدا صمملح الحديبيممة كلممه فممي صمماحا‬
‫المسلمين (( ‪.129‬‬

‫ولم ينقمض طويممل وقممت حممتى أخممذت قريممش تتملمممل مممن هممذه التفاقيممة ‪ ،‬الممتي تحممولت لصمماحا‬
‫المسلمين إذ مكنتهم من نشر الدعوة السلمية مما دفع المشركين إلى التذمر ومحاول ة نقمض صملح‬
‫الحديبية ‪ ،‬وإلغائه من جانب واحد ‪ ،‬لكن سرعان ما شعرت بالخطممأ ‪ ،‬وحمماولت أن تتممدارك المممر ‪،‬‬
‫لكن بعد فوات الوان ‪ ،‬إذ أتتخذ الرسول قراره بفتح مكة ‪.‬‬

‫يقول غلوب باشا ‪:‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬ص ‪.342‬‬ ‫‪129‬‬


‫‪72‬‬

‫)) وكان الرأي العام في مكة قد تحول فممي هممذه الونممة تحممولة واضممحا ة إلممى جممانب المسمملمين ‪.‬‬
‫وأدرك النبي أن الوقت قد حان لتوجيه ضربته النهاية الى قريش‪.‬‬

‫وسرعان ما أمنت له القبائل البدويمة الذريعمة أو المممبرر‪ .‬وكمانت هنمماك قبيلتممان إحمداهما تسمممى‬
‫خزاعة والخرى بنو بكر تعيشان متجاورتين خارج مكة‪ ،‬وبينهما ثممارات قديمممة منمذ عهممد الجاهليمة‬
‫‪.‬وكانت خزاعة حليفة النبي بينما كان بنو بكر حلفاء لقريش ‪ .‬وحدث في هذه الونممة أن أرادت بكممر‬
‫الثأر بن خزاعة فخرج نفر منها لمباغتة أعدائهم على ماء خمارج مكمة ‪ ،‬وأوقعموا بمالخزاعيين عماداة‬
‫من الصابات القاتلة ‪ .‬وخرج بديل بممن ورقمماء أحممد شمميوخ خزاعممة والممذي قممام بممدور الوسمماطة فممي‬
‫الحديبية على رأس وفد من قومه إلى المدينة ‪ ،‬فأخبروه بنقض قريش لعهدها ‪ ،‬وأن غممدر بنممي بكممر‬
‫حلفاء قريش يعتبر خرقا لمعاهدة الحايبية ‪ .‬ويبدو أن النبي قرر أن الفرصة جممد مؤاتيممة للقيممام بعمممل‬
‫حاسم إزاء قريش وراحا في يناير ‪ /‬كانون الثمماني ‪ /‬عممام ‪ 630‬يممأمر المسمملمين بالتممأهب للحممرب ‪،‬‬
‫وسيطر الرعب على زعماء قريش الذين كانوا يدركون ول شك ما بلغه نفوذ محمممد وسمملطانه وراحا‬
‫أبو سفيان قائدها في معركة أحد وأحد كبار أعداء النمبي ومعارضميه يسمرع إلمى المدينمة ولكمن همذا‬
‫القائد المتغطرس وزعيم قريش لم يسمتطع مقابلممة النمبي أن رفمض السمماحا لمه بمقمابلته واضممطر أن‬
‫يرجو أبا بكر وعمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب الوساطة والشفاعة عند محمد فضنوا بها عليممه‬
‫وعاد إلى مكة مخذول مهانا ة (( ‪.130‬‬

‫وسار الرسول على رأس جيش قوامه عشرة آلف مقاتل قاصدين مكة لفتحها ‪ ..‬ويربط البمماحث‬
‫السلمي مولنا محمد علي فتح مكة بالنبوءة الموسوية بقوله ‪:‬‬

‫))وأخيرا سار الرسول ‪ ،‬على رأس عشرة آلف من أتبمماعه الممبررة ‪،‬إلممى مكممة فممي العاشممر ممن‬
‫رمضان ‪ ،‬من السنة الثامنة للهجرة ‪ ،‬وهكذا حققت النبوءة المتي انطلقمت ‪ ،‬قبممل ألفممي عمام ‪،‬ممن بيممن‬
‫شفتي موسى " وأتى مع عشرة آلف من القديسين " ) سفر التثنية ‪. (2 :33‬‬

‫وليس في التاريخ بعد الموسوي أيما حادثة أخرى تتحقق بها هذه الكلمممات النبوئيممة ‪ .‬يمما لهمما مممن‬
‫ظاهرة أعجوبية ‪ ،‬لقد كان عدد المسلمين عشرة ألف مقاتل ‪ ،‬وكانوا في الوقت نفسه كلهممم )بممررة (‬
‫كما جاء في النبوءة ‪.‬‬

‫إن هدفهم في الحياة لم يكن بأية حال خوض غمار الحرب وسفك الدماء ولكن إقامة قواعممد الممبر‬
‫ولو كلفهم ذلك حياتهم (( ‪.131‬‬

‫وحين أدرك القرشيون أل قبل لهممم بمواجهمة المسمملمين قبلموا السممتلم دونممما قتممال ‪ ،‬ولقممد أورد‬
‫العلمة الفرنسي لوزوذ في كتابه ‪ " :‬ا في السممماء" دخممول الرسممول الكعبممة وقضمماءه علممى رممموز‬
‫الوثنية ‪ ،‬وذلك بتحطيم الصنام المنتشرة حولها ‪:‬‬

‫)) ولما فتح محمد مكة جاء بيت ال الكعبة في احتفال وفيها – ‪ - 360‬صنما ة فكان محمممد يقفممر‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.150 – 149‬‬ ‫‪130‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد ورسإالته ‪ ،‬ص ‪.202‬‬ ‫‪131‬‬


‫‪73‬‬

‫أمام كل صنم ثم يضربه بعصاه ويقول ‪ ‬جاء الحق وزهق الباطل أن الباطممل كممان زهوقمما ة ‪ ‬فيهمموي‬
‫على الرض تحت أقدامه (( ‪.132‬‬

‫ولقد قوم الباحث السلمي مولنا محمد علي هذه الحادثة التاريخية الفريدة بقوله ‪:‬‬

‫)) إن تاريخ العالم ليعجز عن تزويدنا بنظير لهذا الصفح الكريم الذي أغدقه الرسول على أمثممال‬
‫أولئك المجرمين الكبار ‪ .‬أن الضممرب علممى وتممر المممواعظ الداعيمة إلممى الصممفح والغفممران ل يكلممف‬
‫المرء شيئا ة كثيراة ‪ ،‬ولكن عفو المرء عن معذبيه ليحتاج إلممى قممدر مممن الشممهامة عظيممم ‪ ،‬و بخاصممة‬
‫حين يكون أولئك المعذبون تحت رحمته ‪ .‬وهذا النفساحا في مدى العطف النسمماني والعفممو الكريممم‬
‫ل نقع عليه في حياة يسوع ‪ .‬فالحق أن يسوع لم تتح له الفرصة لممارسة فضيلة العفو ‪ ،‬ذلك بأنه لممم‬
‫يكسب في أيما يوم السلطة التي تمكنه من الرد على مضطهديه (( ‪.133‬‬

‫أما الباحث العسكرى غلوب باشمما ‪ ،‬فقممد اعتممبر نصممر الرسممول عظيممما ة لنممه حققممه دونممما إراقممة‬
‫دماء ‪ ،‬وتمكن من كسب قلوب الجميع ‪ ،‬فكان أن برزت مزاياه كرجل دولة وسياسة ‪...‬‬

‫)) وهكذا تم فتح مكة دون إراقة دماء إلى حد كبير ‪ .‬وعلى الرغم من أن النبي كممان قممد عممانى‬
‫الضطهاد في المدينة ‪ ،‬وعلى الرغم من أن عدداة من ألد أعداءه كانوا ل يزالون يعيشممرن فيهمما ‪ ،‬إل‬
‫أنه اكتسب قلوب الجميع بما أظهره من رحمة وعفو في يوم انتصاره ‪.‬ول ريب في أن هذا التسممامح‬
‫أو هذه الفطنة السياسية التي اتصف بها النبي كرجل دولة ‪ ،‬كانت غريبممة علممى العممرب الممذين كممانت‬
‫وقد حقق النصر الكبير بسياسته ودبلوماسيته اكثر منممه‬ ‫صفة النتقام من خصالهم ومزاياهم ‪.‬‬
‫بعمله العسكري ‪ .‬ول ريب في أن عظمته تقوم في أنه أدرك في عصر يسوده العنممف وسممفك الممدماء‬
‫أن الفكار أقوى من القوة والعنف ((‪. 134‬‬

‫وكان لموقف الرسول ‪ ‬من القرشيين ‪ ،‬أن دخلوا في دين ا أفواجا ة أفواجا ة ‪ ،‬فقد أسلم في اليممام‬
‫العشرة الولى ألفا قرشي ‪ .....‬وكانت مدة مكوثه في مكة خمسة عشر يوما ة أسلم فيا غالبية السممكان‬
‫‪ ،‬ولقد رأى منصفو المستشرقين بفتح مكة سملما ة المرد القماطع ‪ ،‬والمدليل السماطع ‪ ،‬علمى أن السملم‬
‫ليس دين السيف وحسب ‪ ،‬بل هو دين السلم كذلك ‪ ،‬ومن هذه القموال اعمتراف السممير وليممم مموير ‪،‬‬
‫حين علق على هذه الحادثة التاريخية ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) على الرغم من أن البلدة رحبت بسلطانه ترحيبا ة بهيجمما ة ‪ ،‬فلممم يكممن جميممع سممكانها قممد اعتنقمموا‬
‫الدين الجديد ‪ ،‬ولم يكونوا قد اعترفوا رسميا ة بصحة دعواه النبوئية ‪ .‬ولعله عقد العزم على أن يسمملك‬
‫ههنا ذلك النهج الذي سلكه في المدنية ‪ ،‬ويدع الناس يدخلون في السلم ‪ ،‬شيئا ة بعد شيء‪ ،‬من غيممر‬
‫إكراه (( ‪.135‬‬

‫غزوأه حنن وأحصار الطائف‬


‫لوزون ‪ :‬ا في السماء‪.‬‬ ‫‪132‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.207‬‬ ‫‪133‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.157-156‬‬ ‫‪134‬‬

‫وليم موير ‪ :‬حياة محمد )نقل عن كتاب مولنا محمد علي ‪ ،‬ص ‪.(208‬‬ ‫‪135‬‬
‫‪74‬‬

‫كان للنصر العظيم الذي حققه الرسول بفتح مكة مسلما ة ودخول قريش السلم أن أقض مضاجع‬
‫القبائل المشركة القاطنة قرب مكة ‪ ،‬ولسيما هوازن في شمال شرقيها ‪ ،‬ثقيف فمي جنموب شممرقيها ‪.‬‬
‫فكان أن تحالفتا واتفقتا على تولية مالك بن عوف النصممري قيممادة الحملممة الموجهممة ضممد المسمملمين ‪.‬‬
‫للنقضاض على مكة وأخذها بغتة ‪....‬‬

‫ولحن سرعان ما تناهى إلممى مسممامع الرسممول ‪ ‬م ن أرص اده م ا يتممم مممن حشممود ضممد القمموى‬
‫السلمية فخرج هو للقائها بحيش بلغ أثني عشر ألف رجل ‪ ،‬إذ انضمم إليمه ألفمان ممن مسمملمي مكممة‬
‫الجدد ‪ ..‬وتحركت القوات السلمية صوب الطممائف ‪ ،‬وعمبرت طلئعممه وادي حنيممن دون أن تنتبممه‬
‫إلى كمائن العداء ‪ ...‬يقول غلوب باشا ‪:‬‬

‫)) وكانت كثرة المسلمين العددية وثقتهم من النصر سببين كما يدو فممي إظهممار ممما أظهممروه فممي‬
‫هذه المعركة من افتقار إلى الستعداد والحيطة ‪ .‬فلم يكد المسلمون يتحركون عنممد الفجممر عممبر وادي‬
‫حنين الضيق حتى باغتهم العممدو مممن جميممع الجهممات بعممد أن كمممن لهممم فممي شممعاب المموادي ‪ .‬كممانت‬
‫المباغتة كاملة تمام الكمال ‪ ،‬ولم يتح لهم الوقت للثبات وتنظيم صفوفهم ‪ .‬وتراجعت طلئعهممم فزعممة‬
‫ل تلوي على شيء وسرعان ما دب الرعب في الجيش كله وراحا ينهزم محاولة الفرار مممن المموادي‬
‫الضيق وقد سادته الفوضى(( ‪.136‬‬

‫و تعقب الرسول ‪ ‬بنفسه قوات ثقيف إلى مدينتهم الحصينة ‪ :‬الطائف ‪ ،‬نضرب حولهمما الحصممار‬
‫والرجوع بقواته إلى مكة ‪ ..‬يقول غلوب باشا ‪:‬‬

‫» وكان انتصار المسلمين في حنين كاملة حتى أنهم كسبوا غنائم كثيرة بين أعداد‬
‫وفيرة من البل والغنم ‪ ،‬كما أسروا عدداة ضخما ة من السرى معظمهم من نساء هوازن‬
‫وأطفالها ‪ ،‬وعندما عاد النبي عن الطائف دون أن تمكن من فتحها شرع يقسم الغنائم والسلب بين‬
‫رجاله ‪ .‬ووصل إليه وفد من هوازن المهزومة المغلوبة على أمرها يرجوه إطلق سراحا النسوة‬
‫والطفال من السرى ‪ ،‬وسرعان ما لبى النبي الطلب بما عرف عنه من دماثة و تسامح ‪ ،‬فلقد كان‬
‫ينشد من جديد في ذروة انتصاره أن يكسب الناس أكثر من نشدانه عقابهم وقصاصهم (( ‪.137‬‬

‫ودفع هذا الوقف المتسامح من أعداء الرسول ‪ ‬إلى أن يعلنوا إسلمهم ‪ ،‬فأسلمت هوازن في‬
‫البدء لتتبعها بعد ذلك ثقيف ‪ ،‬وهذا ما جعل القبائل العربية تترى مسارعة إلى إعلن إسلمها ‪،‬‬
‫فأسلمت قبيلة طييء ‪ ...‬وأصبح إلى الرسول صاحب أعظم قوة سياسية وعسكرية على الجزيرة‬
‫العرب‪.‬‬

‫غزوأة تابوك‬
‫إن انضواء جزيرة العرب تحت لواء السلم ‪ ،‬وبروز الرسول كموحد للعرب وظهمموره كحمماكم‬
‫ديني وسياسي وعسكري ‪ ،‬وانتشار السلم كعقيممدة سممماوية انتشمماراة واسممعا ة ‪ ..‬كممل ذلممك أخممذ يقلممق‬
‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى‪ ،‬ص ‪.158 -157‬‬ ‫‪136‬‬

‫‪137‬‬
‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪75‬‬

‫المبراطورية البيزنطية ‪ -‬رغم أن الرسول كان يتعاطف مع الدولة الرومانية في قتالها ضد فار س ‪-‬‬
‫فتحركت كوامن الغيممرة الدينيممة والحسممد لتممك النتصممارات البمماهرة ‪ ...‬لممذلك رأت بيزنطممة أن تهممب‬
‫مسارعة إلى القضاء على هذا الخطر الجديممد قبممل اسممتفحاله ‪ ،‬وأخممذ قيصممر الممروم يعممد العممدة للقيممام‬
‫بحملة عسكرية على الجزيرة العربية عن طريق سورية بهدف القضاء على المسلمين ‪....‬‬

‫ووصلت الرسول أخبار عن تلك الحملة ‪ ،‬وأن عدداة مممن القبائممل المسمميحية انضمممت إلممى الممروم‬
‫لقتال العرب المسلمين ‪ ،‬ولذا سارع إلى إعداد جيش لملقاة العدو عند الحدود الفاصلة بيممن الجزيممرة‬
‫العربية وسورية ‪ ،‬تم تجهيزه على جناحا السرعة وقوامه ‪ 30‬ألف مقاتل بينهم عشممرة آلف فمارس ‪،‬‬
‫وخرج على رأس ذلك الجيش في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ‪ .‬كما انضم إليممه الكممثير مممن‬
‫القبائل العربية أثناء مسيرته ‪ ،‬مما دفع المروم إلمى العممدول عمن حممرب المسمملمين ‪ ،‬كمما فممر رؤسماء‬
‫القبائل المسميحية حيمن يئسمموا ممن وصمول الحملممة البيزنطيممة ‪ ،‬وبعممدها صممالحوا الرسممول ‪ ،‬وأبمدوا‬
‫استعدادهم لدفع الجزية وعقد معاهدة معه ‪ ،‬إذ أدركوا أن قمموة السمملم جعلممت دولممة الممروم العظمممى‬
‫تخش مواجهتها ‪.‬‬

‫))ونظم عدداة من نقاط الرتكاز على الحدود الشمالية للجزيرة العربية التي تربطها بلد الشممام ‪،‬‬
‫وذلك بعقد التحالفات مع سكان تلك المنطقة ‪ ،‬وانضمام بعضهم إلى الثورة السلمية ((‪. 138‬‬

‫ورأى الباحث العسكري غلوب باشا أن ما هدفت إليه غزوة تبوك ‪ ،‬هو بسط السيطرة السلمية‬
‫حتى الحدود البيزنطية يقول ‪:‬‬

‫)) ول ريب في أن الهدف من هذه الحملة كان رفع الرايممة السمملمية علممى حممدود الممروم ‪ ،‬ولممم‬
‫يكن النبي قد نسي معركة مؤتة ‪ ،‬ولذا فقد عزم على الثأر لها (( ‪.139‬‬

‫مصطفى طلس ‪ :‬الرسإول و فن الحرب ‪ ،‬ص ‪.251‬‬ ‫‪138‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات السإلمية‪.‬‬ ‫‪139‬‬


‫‪76‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫سياسة الرسول التوحيدية‬
‫الرسول وأ رسالة التوحيد‬
‫إن المسيرة الكفاحية للدعوة السلمية ‪ ،‬ونضال الرسول الملحمي لنشر رسالة السلم ‪ ،‬ومن ثم‬
‫الحروب التي خاضتها الدعوة ضد النظمة القبلية الوثنية ‪ ،‬جميع هذه المور التي استعرضناها في‬
‫الصفحات السابقة ‪ ،‬كان هدفها نشر راية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية ‪....‬‬

‫وإذا كمانت المدعوة السملمية توحيديمة علمى صمعيد الفكمر المديني فهمي بمدورها توحيديمة علمى‬
‫الصعيدين السياسي والجتممماعي ‪ ،‬إذ اسممتطاعت عممبر نضممال الرسممول الملحمممي أن تتمموج بتوحممدي‬
‫جزيرة العرب وصهر القبائل المتنافرة في بوتقة السلم كتلة واحدة متراصة‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وقد ظهرت سياسة الرسول التوحيدية مع استقراره في المدينة التي فتحهمما بممالقرآن الكريممم‬
‫وحده في أعقاب الهجرة ‪ ،‬وإرساء قاعدة الدولممة السمملمية الولممى ‪ ،‬ووضممع أول دسممتور للمدينممة ‪،‬‬
‫وهكذا أخذت تبلور مفاهيم المة السلمية ‪. . .‬‬

‫الأمة السلمية‬
‫كانت الحياة العربية قبل السلم تقوم أساسا ة على نمطية خاصة ‪ ،‬فالقبيلة هي التنظيم الجتماعي‬
‫السياسي الذي يظم حياة الفرد في القبيلة ‪ ،‬فكان انتماء العربي الجاهلي انتماء قبليا ة ‪ ،‬وليس هناك أيممة‬
‫رابطة عملية توحد القبائل وتجمعها ‪ ،‬بل على العكس كانت القبائل متناحرة متحار بة ‪ ،‬وإذا ما قامت‬
‫أحلف قبلية ‪ ،‬فلمناصرة قبيلة على أخمرى ‪ ،‬وبالتحديمد كمانت القبيلمة العربيمة تشمكل وحمدة سياسمية‬
‫مستقلة ‪ . .‬ومن هنا كان النقلب الذي أحدثه الرسول ‪ ‬عميقا ة في حياة الجزيرة العربية إذ اسممتطاع‬
‫بسياسته الكفاحية التي تمليها روحا السلم أن يحول هذه الوحدات القبلية المستقلة ويرتقممى بهمما علممى‬
‫سيد التطور الجتماعي لتظهر في إطار المة السملمية ‪ . . .‬ويبحمث المستشمرق ممونتجمري وات‬
‫الفرق بين مفهومي القبيلة والمة ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) الفرق البديهي بين المة والقبيلة هو أن المة تقوم على الدين ‪ ،‬بينما تقوم القبيلة على القرابممة‬
‫‪ ،‬ول نجد هذه الفكرة في أية نظرية ‪ ،‬ولكنها فكرة ضمنية كامنة ((‪. 140‬‬

‫وكان التطور السياسي للممة السملمية المتي وضمع أسسمها فمي المدينمة ‪ ،‬ثمم تطمورت بمإجلء‬
‫اليهود عنها ‪ ،‬وانتشار السلم في جزيرة العرب ‪ ،‬يعني فيما تعنيه الجماعة في زمن خلفاء الرسمول‬
‫فغدا يشمل الجماعات والجناس والشمعوب المتي تعيشمها فمي ظمل » دار السملم « تمييمزاة لهما ع ن‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.364‬‬ ‫‪140‬‬


‫‪77‬‬

‫» دار الحرب « ‪. . .‬‬

‫هذا ‪ ،‬ويناقش المستشرق الفرنسمي مارسميل بموازار فمي كتمابه ‪ » :‬إنسممانية السملم « فكمرة »‬
‫المة السلمية « ومغايرتها المفهوم الغربي ‪ ،‬وعلقة الفرد بهذه البلعة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))ليس لفكرة " المة " السلمية مقابل في فكر الغرب ول في تجربتممه التاريخيممة ‪ .‬فالجماعممة‬
‫السلمية ‪ ،‬وهى تجمع من المؤمنين يؤلف ينهم ربمماط سياسممي ودينممي فممي آن واحممد ‪ ،‬ويتمحمورون‬
‫حول كلم ا القدسي و توحدهم العزة بالنتساب إلممى التنزيممل الخيممر والحقيقممي ل تطممابق فكممرة »‬
‫الشعب « التي كانت سائدة عند مسيحي القرون الوسطى ‪ ،‬ول فكرة " المة " الغربيممة الممتي راجممت‬
‫في القرن الثامن عشر ‪ .‬وصعوبة التوافق منبثقة عن فكرة الكائن البشري ‪ .‬فالنسان يسهم ‪ ،‬بالنسممبة‬
‫إلى الفكر الغربي ‪ ،‬في الحياة الجتماعية المقسمة إلى طبقات ومراتب بنشمماطه الخمارجي والفعلمي ‪،‬‬
‫وعلى العكس من ذلك فإن الفرد يندمج في السلم بالجماعة المؤمنة بالتساوي عن طريق شممهادته ‪،‬‬
‫الفردية واستبطان إرادتممه وصممفاته الخاصممة كمممؤمن ‪ ،‬فالنيممة المعلنممة والجهممر بممالكلم شممرطان مممن‬
‫شروط النتماء إلى المجتمع ‪ .‬وبصورة تلزمية يحدد المتثال لمشيئة ال البنية الجتماعية ‪ .‬وهكممذا‬
‫تكون النظم التأسيسية للجماعة مشروطة بالعبادة الواجبة عليها نحو ال (( ‪.141‬‬

‫كسب القبائل العربية بالمعاهدات السياسية‬


‫إلممى جممانب النضممال العسممكري كممان الرسممول ‪ ‬يعم ل عل ى كس ب القبائ ل العربي ة ول م قام ة‬
‫المعاهدات والمواثيق ينهما ‪ ،‬وأوضح دليل على ذلك دستور المدينة ‪ ،‬المذي وحمد المسملمين واليهمود‬
‫في المدينة والقبائمل العربيمة المجماورة ‪ ،‬وجعمل ممن النمبي الحماكم السياسمي والداري للمدينمة ‪ ،‬إن‬
‫خولته الوثيقة أن يكون المرجع الوحيد لحل الخلفات التي قد تنشممب بيممن أطممراف التحممالف ‪ ،‬وكممان‬
‫العتراف السياسي بقيادته اعترافا ة ضمنيا ة بنوته ‪.‬‬

‫وكان دستور المدينة نصيا ة سياسيا ة للرسول ولرسالته التوحيدية ‪ ،‬فقد سممرت فيممه القبائممل العربيممة‬
‫القاطنة في المدينة حتى رغبت عدة قبائممل أن تممدخل فممي ظممل وثيقممة المدينممة ‪ ،‬لتتمتممع بحمايممة السمملم‬
‫السلمي ‪ ،‬الذي شكل قاعدة المة السلمية المقبلممة القائمممة علممى أسممس دينيممة ‪ ،‬يقممول مممونتجمري‬
‫وات ‪:‬‬

‫)) وكانت المشكلة الولى هي استتباب السلم بين مختلف قبائل المدينة ‪ .‬وكانت مشكلة ليست في‬
‫المدينة فقط بل في كل شبه الجزيرة العربية ‪ .‬ولما نجح محمد في إقامة » السلم السمملمي « فممي‬
‫المدينة مع القبائل المجاورة ‪ ،‬أرادت قبائل أخرى أن تستفيد من النظام الجديد ‪ .‬ولم يعمارض محممد‬
‫من جهة امتداد نظام السلمة الذي أقامه إذا كانت الترتيبان التفصيلية مرضممية ‪ ،‬فممإن امتممداده يممؤدي‬
‫إلى قدر كبير من السلمة ‪ .‬تخيل محمد نفسه يتوسع بالمممة السمملمية ‪ -‬أي جماعممة الممذين يعتنقممون‬
‫السلم أو يؤمنون بالله_‪ ،‬دون اعتناق السلم ‪ ،‬وقد احتموا به أو برسوله (( ‪.142‬‬

‫ويرى كثير من الباحثين في الشرق والغرب ‪ ،‬وكذلك لفيف من المستشرقين أن اهتمممام الرسممول‬
‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلمية ‪ ،‬ص ‪.183-182‬‬ ‫‪141‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪142‬‬


‫‪78‬‬

‫بقبائل الشمال ‪ ،‬كان من أهدافه السمملمية تمموجيه العممرب نحممو بلد الشممام إدراكمما ة منممه لهميممة هممذه‬
‫المنطقة استراتيجيا ة لمستقبل الدعوة السمملمية ‪ ،‬لتكممون مجممالة للفتوحممات المقبلممة ‪ . .‬وتأمينمما "للسمملم‬
‫السلمي" الذي يقوم حق التقويم القضايا الجتماعية والدينية والسياسممية والقتصممادية معمما ة انطلقمما ة‬
‫من )) اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسممي اجتممماعي واقتصممادي علممى أسممس دينيممة ((‬
‫‪.143‬‬

‫ويبحث المفكر مونتجمري وات في مكان آخر الهمية القتصادية للتجارة مع بلد الشام بالنسبة‬
‫لجزيرة العرب ولمستقبل الفتوحات السلمية ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))وكانت مسألة أخرى تشغل حكم محمد ‪ .‬وهي أنه كان يحرم القتال والنهب بين المسلمين وبهذا‬
‫إذا دخل عدد كبير من القبائل أو قبلممت زعامممة محمممد لهمما‪ ،‬فكممان عليممه أن يبحممث عممن متنفممس آخممر‬
‫لطاقاتها ‪ ،‬وقد نظر محمد إلى المستقبل ووجمد أن ه يجمب تموجيه غرائمز الغمزو لمدى العمرب نحمو‬
‫الخارج ‪ ،‬نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربية ‪ ،‬كممما أدرك إلممى حممد ممما أن نمممو طريممق‬
‫سورية هو إعداد للتوسع(( ‪.144‬‬

‫هذا ‪ ،‬وناقش الباحث العسكري محمممود الممدرة ‪ ،‬ممما ذهممب إليممه البمماحثون العسممكريون الغربيممون‬
‫والمستشرقون ورد عليهم بما يؤكد عالمية الرسالة وطموحا الرسول ‪ ‬إلى أن يعم السلم المعمممورة‬
‫وخاصة البلدان المجاورة لجزيرة العرب يقول ‪:‬‬

‫)) والحقيقة هي أن محمداة قد رسم لمته خطوط السياسة السوقية )الستراتيجية ( ساعة حصممار‬
‫المدينة ‪ ،‬فضل عن الحركات العسكرية التمهيدية الممتي أمممر بهمما باتجمماه الممديار الشممامية ‪ ،‬وبأحمماديثه‬
‫المعروفة بهذا الخصوص ‪ .‬كما أن رسالته كما جاء في القرآن الكريم تؤكد على أنها للعالمين جميعا ة‬
‫(( ‪.145‬‬

‫ومن الثابت أن الرسول في أحاديثه ورؤاه المستقبلية كان مدركا ة بإيمان النبي المرسل أن رسممالة‬
‫السلم ستعم الرض ‪ ،‬وقناعته هذه لم تتزحزحا البتة حممتى فممي أحلممك الظممروف السياسممية وأشممدها‬
‫خطورة على مستقبل السلم إبان موقعة الخندق أو الحزاب حيث تجلت شخصية الرسول العظيمممة‬
‫ورؤاه العملقة مما حفر في وجدان المسلمين عميقا ة ‪ ،‬وغدت نبوءة الفتوحات واقعمما ة ‪ ،‬حيممن انطلقممت‬
‫رايات الفتح خارج الجزيرة تأكيداة على عالمية الرسالة ‪ ،‬ولندع منا للباحث السمملمي مولنمما محمممد‬
‫على تحليل هذه القضية النبوءة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))أن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني ‪ -‬أيضمما ة‬
‫على أمة من المم ‪ .‬ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادى ‪ ،‬جنبا ة إلى جنممب مممع أتسمماعها فممي سمماعة‬
‫الحرج الوطني العظيم ‪.‬‬

‫إنه لمن سمات شخصية الرسول المميزة أنه كان يضفي رواء على أيما شيء يشارك في صممنعه‬

‫المصدر الساباق ص ‪.217‬‬ ‫‪143‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪144‬‬

‫محمود الدرة ‪ :‬معارك العرب الكبرى ‪ ،‬ص ‪.172‬‬ ‫‪145‬‬


‫‪79‬‬

‫‪ .‬فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة ‪ .‬ولئن كان ‪ ،‬من ناحيممة ‪ ،‬حكممم الملمموك رجولممة ‪ ،‬لقممد‬
‫كان _في الوقت نفسه _ أكثر الرجال جللة ملكيةا‪ .‬وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر صلد ‪ .‬وبذلوا‬
‫كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه ‪ .‬وهكذا اقترحا على الرسول ‪ ،‬الذي كان قد رسم حدود الخندق بيممديه‬
‫الثنتين ‪ ،‬أن يجيز لهم النحراف بعض الشيء ‪ ،‬عن الخطمة الصمملية ‪ ،‬فلمم يكممن منمه إل أن تنمماول‬
‫معولة وانهمك فممي أداء المهمممة الممتي أعجممزت رجمماله ل لقممد هبممط إلممى جمموف الخنممدق وراحا يقممرع‬
‫الصخرة بعنف ‪ ،‬فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكممد الرسممول يلمحهمما حممتى صمماحا ‪،‬‬
‫يتبعه أصحابه ‪ » ،‬ا اكبر« وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام قد آلت إليممه‬
‫‪ .‬وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت ‪ ،‬مطلقة شرارة النار نفسها ‪ .‬وكرة ثانيمة ارتفممع التكممبير ‪» :‬‬
‫ا أكبر« ولحظ الرسول أنه وهب مفاتيح المملكة الفارسية ‪ .‬وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة‬
‫قطعا وأعلن الرسول أنه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه ثم أوضح قائلة إنه ‪ ،‬في المرة الولممى ‪،‬‬
‫اهلع على قصر قيصر ‪ ،‬وفي المرة الثانية على قصر أكاسرة فارس ‪ ،‬وفي المرة الثالثة علمى قصممر‬
‫صنعاء ‪،‬وإنه أنبىء ‪ ،‬أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلد كلها ‪ .‬أنهمما لظمماهرة رائعممة ‪ .‬ولقممد كممانت‬
‫قوة جبارة ‪ ،‬تتألف من أربعة وعشرين ألف رجل ‪ ،‬تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم الستعداد‬
‫لسحق السلم ‪ .‬وكانت بلد العرب كلهما متعطشممة لمدماء المسملمين ‪ .‬وفمي غممرة م ن سممحب همذا‬
‫الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعا ة قصيا ة يؤذن بالقوة التي ستتم للسلم في المستقبل ‪ .‬أليممس‬
‫ذلك شيئا ة يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلي الحكمممة والكلممي العلممم يسممتطيع‬
‫أن يكشف للرسول أسرار المستقبل هذه في لحظة كان السلم مهدداة فيها بالفناء المطلق ؟ (( ‪.146‬‬

‫رسل محمد ‪ ‬إلى الملوك وأ عالمية السلم‬


‫بعد صلح الحديبية الذي عقده الرسول محمد ‪ ‬مع قريممش ‪ ،‬وظهممور السمملم كقمموة فممي جزيممرة‬
‫العرب ‪ ،‬ونضوج الدعوة السلمية ‪ ،‬كان قرار الرسول ‪ ‬أن يؤكد على عالمية السلم ‪ ،‬وأنه ديممن‬
‫ا للناس كافة ‪ ،‬وذلك بإيفاده الرسل إلى ملوك الدول المجاورة ‪ ،‬يدعوهم فيها إلممى السمملم ‪ ،‬وذلممك‬
‫في السممنة السممابعة للهجمرة ‪ ،‬فحملمموا لمه الرسممائل إلممى كمل مممن هرقممل المروم ‪ ،‬و كسممرى الفمرس ‪،‬‬
‫ومقوقس مصر ‪ ،‬ونجاشي الحبشة ‪ ،‬وعامل كسرى في اليمممن ‪ ،‬وعاممل المروم شمرحبيل ب ن عممرو‬
‫على بصرى على الحدود الشمالية لجزيرة العرب عند تخوم بلد الشام ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وإن دلت هذه الرسائل على أمر فتلك الغاية التي كانت وراء قصممد الرسممول ‪ ،‬وهممي نشممر‬
‫العقيدة السلمية خارج جزيرة العرب ‪ ،‬لن السلم دين عالمي ‪ ،‬وأنه رسول ال إلى الناس كافة ‪.‬‬
‫أن اشتملت هذه الرسائل جميعها على المدعوة إلمى الوحدانيمة ‪ ،‬وكمانت متوجمة باليمة الكريممة المتي‬
‫تدعو أهل الكتاب إلى تحقيق ما هو‪ ،‬مشترك بين جميع الديان السماوية ‪ ،‬أي عبمادة اللمه وحمده وأن‬
‫ل يكون له شريك من آلهة أخرى ‪ ،‬أو بشر ‪ ،‬تقول الية الكريمة ‪:‬‬

‫‪ ‬قل يا أهل الكتاب تعالواة إلى كلمه سواء بيننا وبينكممم أل نعبممد إل امم ول نشممرك بممه شمميئا ة ول‬
‫يتخذ بعضنا بعضا ة أربابا ة من دون ا ‪ ،‬فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ‪) ‬س‪ ، 3‬الية ‪.(64‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.166-165‬‬ ‫‪146‬‬


‫‪80‬‬

‫يقول الباحث السلمي مولنا محمد علي ‪:‬‬

‫)) والواقع أن الية تلفت النتباه إلى مبدأ لو اصطنع اليموم إذن لوضممع حممداة لجميممع المنازعممات‬
‫الدينية ‪ ،‬صاهراة مختلف النظمة في دين كوني واحد ‪ ،‬وصاهراة البشرية كلها في أخوة كلية واحدة ‪.‬‬
‫إنه يقرر ‪ ،‬ابتغاء إزالة الفروق جميعا ة ‪ ،‬أن كممل ممما هممو مشممترك بيممن جميممع الديممان يجممب أن يقبلممه‬
‫الجميع ‪ ،‬كأساسي يبدأ به ‪ ،‬ثم تشاد فوق السماس بيمع التفاصميل الدينيمة المتناغممة ممع همذه الحقيقمة‬
‫الساسية ‪ .‬وهكذا تستطيع أديان العالم كلها أن تتلقى على أرض مشتركة و تسوي خلفاتها بطريقة‬
‫حبية ‪ .‬والواقع أن فكرة الدين النتقائي التي انبثقت مؤخراة تنسجم مع الحقيقة نفسممها الممتي دعمما إليهمما‬
‫السلم منذ ثلثة عشر قرنا ة (( ‪.147‬‬

‫لقد كانت مواقف الحكام والملوك مختلفة في ردود أفعالها حين تلقت رسائل رسول اللممه ‪ ‬يق ول‬
‫آتيين دينيه في كتابه ‪" :‬حمد رسول ا" ‪:‬‬

‫)) فتلقي المنذر ‪ ،‬ملك البحرين الرسالة فأسلم ‪ ،‬وكذلك فعل نائب ملممك اليمممن ‪ .‬وبعممث المقمموقس‬
‫ملك مصر بالهدايا الثمينة إلى محمد ‪ ،‬وكان من بين تلك الهدايا جارية شابة بارعة الجمال يقال لها ‪:‬‬
‫مارية القبطية ‪ ،‬تزوجها محمد ‪ .‬وكان من بينها أيضا ة حمار يقال له يعفور وبغلممة تممدعى دلممدل ‪ .‬أممما‬
‫هرقل لم إمبراطور الرومان والنجاشي ملك الحبشممة ‪ ،‬فقممد رد كممل منهممما الممدعوة برسممالة غايممة فممي‬
‫التلطف والحترام ‪ .‬غير أن كسرى ملك الفرس أقسم ليعمماقبن النممبي علممى جرأتممه ‪ ،‬فنممزل عليمه فممي‬
‫الحال غضب ا ‪ ،‬أن اغتاله ابنه شيرويه ‪ ،‬وتبوأ عرشه ‪ .‬ومزق الحارث بن أبي شمر رسالة النبي‬
‫‪ ،‬فرأى ملكه يتمزق ‪ ،‬جزاء له من ال على تمزيق رسالة محمد ‪ ،‬وكان الحارث بن عميممر الرسممول‬
‫الوحيد الذي استقبل استقبالة مشينا ة ‪ ،‬ثم اغتيل عند الكرك بالبلقاء بمأمر ممن شمرحبيل الغسممانى حماكم‬
‫تلك البلد التي كانت تخضع للرومان (( ‪.148‬‬

‫هذا و تتفاوت مواقف المستشرقين والباحثين الغربيين من مسألة حقيقة الوفممود ‪ ،‬بيممن التصممديق‬
‫والنكار والدهشة والعجاب ‪ ،‬والتشكيك في صحة المر ‪ . . .‬رغم ثبوتها وخاصة بعد العثور على‬
‫الرسالة التي وجهها الرسول ‪ ‬إلى المقوقس حاكم مصر ‪ ،‬يقول الباحث العسكري غلوب باشا ‪:‬‬

‫)) حكم بعض المؤرخين المعاصرين أثاروا بعض الشكوك فممي موضمموع الرسممائل فليممس هنمماك‬
‫في ما حفظ عن حياة النممبي ممما يشممير أن النممبي قممد تصممور أو توقممع احتلل سممورية وفممارس ‪ .‬ولقممد‬
‫أدهشت النتصارات العظيمة التي حققها العرب بعد وفاة النبي المسلمين أنفسهم ‪ ،‬وهممي انتصممارات‬
‫ما كانت لتتحقق لول أن النممبي قممد تنبممأ بوقوعهمما ‪ .‬لكممن ماريممة القبطيممة كممانت مممن الناحيممة الخممرى‬
‫شخصية تاريخية ((‪. 149‬‬

‫هذا وقد ناقش الباحث السلمي مولنا محمد علمى ‪ ،‬الظمروف المتي أحماطت بتموجيه الرسمائل‬
‫إلى الملوك وإيمانه العميق بالنتصار النهائي للسلم ‪ ،‬وأن ضياءه سمميعم المعمممورة ‪ ،‬وأن السمملم‬
‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و سإيرته ‪ ،‬ص ‪.196 – 195‬‬ ‫‪147‬‬

‫آتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.266‬‬ ‫‪148‬‬

‫جان بااغوت غلوب ‪ :‬الفتوحات العرباية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪149‬‬


‫‪81‬‬

‫يمتلك القوى الذاتية للصمود ‪ ،‬رغم كل القوى المضادة وأنها تشممير إلممى نقطممة هامممة أخممرى هممي أن‬
‫محمداة كان رسول من الله ‪ ،‬وهيهات أن يكون دجال أو صاحب عقلية منحرفة ‪ ،‬كما ذهب إلى ذلممك‬
‫بعض المستشرقين المعادين لرسالة السلم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إن الظروف التي أحاطت بتوجيه هذه الرسائل إلى الملوك والمراء لتستحق شيئاة من التأمممل‬
‫والعتبار ‪ .‬فلو أن الرسول وجهها بعد إخضاع بلد العرب برمتهمما إذاة لكممان فممي أمكممان البمماحث أن‬
‫يعتبرها إجراء أوحى به الطموحا ‪ .‬ولكن ما الظروف التي كانت سائدة فعل في تلك الونة ؟‬

‫كانت المدينة قد حوصرت قبل ذلك باثني عشر شهراة ليس غير ‪ ،‬وكان ثمة أمل ضئيل في نجمماة‬
‫نفس مسلمة واحدة ‪ .‬لقد كان المسلمون ‪ ،‬حتى في ذلك الحين أضعف من أن يشقوا طريقهم إلى مكممة‬
‫لداء فريضة دينية هامممة كالحممج ‪ .‬وكممان المشممركون ل يزالممون هممم أصممحاب السمملطان ‪ ،‬حممتى لقممد‬
‫فرضوا شروط الصلح ‪ ،‬منذ فترة يسيرة ‪ ،‬علممى المسمملمين ‪ .‬وفممي كممل ناحيممة مممن بلد العممرب كممان‬
‫السلم محاطا ة بالعداء ‪ .‬وكان تناثر المسلمين هنا وهناك ل يغير من الموقف إل قليلة ‪ . .‬ومع ذلك‬
‫فإن إيمان الرسول بانتصمار السملم النهمائي لمم يمتزعزع لحظمة واحمدة ‪ ،‬فمي وجمه تلمك الظمروف‬
‫الموئسة كلها ‪ ،‬كان الرسول واثقما ة كممل الثقمة ممن أن السمملم سمموف يسمود آخممر المممر ‪ ،‬وكمان فممي‬
‫ميسوره أن يرى بعين بصيرته النافذة ذلك اليوم الذي سينير ضياؤه فيه كل زاوية من زوايا العممالم ‪.‬‬
‫إلى هذا الحد كان إيممانه بقموة السملم عميمق الجممذور ‪ ،‬وإن فمي همذا لمدرسة نافعما ة لبعمض مسملمي‬
‫العصر الحاضر الضعيفي الثقة بإمكان انتشار السلم فممي ديممار الغمرب ‪ ،‬ذلممك بممأنهم يعتقمدون بمأنه‬
‫ليس ثمة إمبراطورية جبارة تسنده و تدعمه ‪ " .‬أن الحق ل يعتمد ‪ ،‬في بقائه وانتصاره ‪ ،‬على القمموة‬
‫‪ .‬إن له من القوة الذاتية ما يمكنه من الصمود " ‪ .‬وهذه النقطممة جممديرة أيضمما ة باعتبممار الناقممد العممادي‬
‫للسلم ‪ .‬أمن الممكن لدجال من الدجالين أن ينعم بمثل هذا اليمان الراسخ بنجاحه النهائي ؟‬

‫مردها إلى عقلية منحرفة أن يتأملوا قليلة في النجاحا العظم الذي حظي بممه السمملم بعممد سممنوات‬
‫معدودات انقضت على توجيهها ‪ .‬وإذا كانت هذه الوقائع تشير إلممى أن محمممداة لممم يكممن ل دجممالة ول‬
‫معتوها ة فلم يبق إذاة غير استنتاج واحدا يفرض نفسه على الناقد النزيمه ‪ -‬أعنمى أن ه كمان رسمولة م ن‬
‫رسل الله ‪ -‬إن هذه الرسائل لتثبت أيضا ة الحقيقة القائلة بأن الرسول اعتبر السمملم منممذ البممدء ‪ ،‬دينمما ة‬
‫عالميا ة ‪ .‬لم النصرانية لممم تممدع العالميممة ‪ .‬ويسمموع نفسممه لممم يممدع مثممل هممذا الوضممع لقممد قممال ‪ ،‬فممي‬
‫وضوحا ‪ ،‬انه جاء لهداية خراف إسرائيل الضالة ‪ .‬بل رفض أن يصلى على امرأة غيممر إسممرائيلية ‪.‬‬
‫أما محمد ‪ ،‬صلوات الله عليه ‪ ، -‬فقد أعلن علمى العكمس منممذ فجممر بعثتمه بالمذات ‪ ،‬أنمه مرسممل إلمى‬
‫البشر كافة ‪ .‬ولم تكن هذه دعوى فارغة ‪ .‬والحق أنه لم يدخر وسممعا ة لتحقيمق همذا المثمل العلمى فمي‬
‫حياته هو ‪ ،‬فدعا مختلف الملوك إلى قبول الحق الذي جاء به السلم (( ‪.150‬‬

‫عام الوفود وأ انتشار السلم في جزيرة‬


‫كان العام التاسع للهجرة حافلة بأحداث ترسيخ الرسالة السلمية في شبه الجزيممرة العربيممة ‪ ،‬أن‬
‫أخذت القبائل العربية البعيدة تدين بالسلم ‪ ،‬وتظهر للرسول ‪ ‬الطاعة والذعان ‪ . .‬وفي هذا العام‬
‫تدفقت على المدينة الوفود التي تمثل مختلف القبائل ‪ ،‬مظهرة رغبتا في النضواء تحت راية الهدايممة‬
‫اللهية باعتناقها طوعا ة السلم دينا ة ‪.‬‬
‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته‪ ،‬ص ‪.199-197‬‬ ‫‪150‬‬
‫‪82‬‬

‫ويتحدث المستشرق الروماني جيورجيو عن هذه المرحلة في حياة الرسول فيقول ‪:‬‬

‫)) ونصل هنا إلى نقطة هامة في حياة النبي ‪ ‬متص لة بع ام الوفممود ‪ ،‬فالمسمملمون يسمممون هممذه‬
‫السنة التاسعة " عمام الوفممود " أي "سممنة السممفراء والبعثممات " فعحمممد ‪ ‬قب ل تس ع س نوات م ن ه ذا‬
‫التاريخ خرج من مكة كيل يقتله المشركون ‪ ،‬وهاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر ‪ .‬وكانت الهجرة كما‬
‫رأينا ذات قيمة معنوية كبيرة للمسلمين ‪ .‬ولم ننس أن قريشا ة منحت جائزة قدرها مئة ناقممة لمممن يمنممع‬
‫محمداة عن هذه الهجرة حيا ة أو ميتا ة ‪ .‬في ذلك الوقت ‪ ،‬وقد مضى تسع سنوات علممى الهجممرة ‪ ،‬وفممق‬
‫النبي ‪ ‬إلى فتح مكة ‪ ،‬كما وفق إلى دخول خصومه الذين كمانوا يرغبمون فمي قتل ه ‪ ،‬فمي السملم ‪،‬‬
‫حتى عكرمة بن أبى جهل أسلم ‪ ،‬وسقط في ميدان الجهاد شهيداة ‪ ،‬كما أسلم أبو سفيان الذي كان قائممد‬
‫جيش مكة في أحد والخندق ‪ ،‬وعينه النبي ‪ ‬حاكما ة على نجران ‪ ،‬وغدا خالممد بممن الوليممد أحممد القممواد‬
‫البارزين من المشركين ‪ ،‬من أبرز قواد السلم ‪ ،‬و ملقب بسيف ال ‪ .‬ولم يفتح محمد في هذه السممنة‬
‫) التاسعة ( مكة وحدها ‪ ،‬بل فتح الجزيرة كلها ‪ ،‬وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين ‪ .‬وقممد‬
‫انتشر السلم من السنة الولى للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها ‪ /822‬ألف كم ‪ 2‬تقريبمما ة ((‬
‫‪.151‬‬

‫وفود القبائممل العربيممة ‪ ،‬بكممل‬ ‫وينتقل المستشرق جيورجيو للحديث عن كيفية استقبال الرسول ‪‬‬
‫بساطة و تواضع جم ‪ ،‬وهو الحاكم الفعلي لكل جزيرة العرب يقول ‪:‬‬

‫)) وقد استقبل النبي في ذلك العممام السممفراء والممثليممن عمن القبائممل فممي المدينممة ل‪ .‬ولكممثرة هممذه‬
‫الستقبالت سمي هذا العام »بعام الوفود« ‪ .‬ولن محمد في ذلك الوقت رئيس الجزيرة العربية كلها‬
‫دينيا ة وسياسيا ة وعسكريا ة ‪ .‬ومع هذا فإن الوفود ‪ ،‬عندما كممانت تفممد عليممه ‪ ،‬تممراه جالسمما ة علممى حصممير‬
‫مضفور من ورق شجر النخيل ‪ ،‬وهذا هو أثاث المنزل كلمه ‪ .‬وعنممدما كممان يفممد الوفممد يسممتقبله بلال‬
‫المؤذن الحبشي‪ ،‬ويدخله غرفة النبي ‪ . ‬وحين تحط الوفود في المدينة كانت تنزل فممي بيممت "رملممة‬
‫بنت الحارث" الواقع في محلمة )النجاريممة( ‪ ،‬ضمميوفا ة علممى الحكوممة ‪ .‬وكممثيراة ممما لن يفيمض عممدد‬
‫الوفود ‪ ،‬فيضيق المنزل بهم ‪ ،‬مما حدا بالنبي ‪ ‬إلى أن يأمر بأن تنصب الخيام في المسممجد ‪ ،‬لينممزل‬
‫فيها من ل يجد مكانا ة في المنزل (( ‪.152‬‬

‫ويقول الباحث مونتجمري وات ‪:‬‬

‫)) تقول الرواية التقليدية للسنتين الخيرتين من حياة محمد إن معظممم القبائممل فممي شممبه الجزيممرة‬
‫العربية دخلت السلم و تسمي السنة التاسعة للهجرة ) نيسان ‪631-630‬م ( » عممام الوفممود « فقممد‬
‫أرسلت كل قبيلة وفدها إلى محمد لعتناق مبادىء الدين الجديد (( ‪.153‬‬
‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في سإيرة رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.370-369‬‬ ‫‪151‬‬

‫المصدر الساباق ‪ :‬ص ‪.371-370‬‬ ‫‪152‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫‪153‬‬


‫‪83‬‬

‫المفكر السلمي مولنا محمد على ‪ ،‬في عام الوفد خير رد على أولئك المتعصبين مممن أعممداء‬
‫السلم الذين لم يروا أنه انتشر إل بحد السيف وحده ‪ . . .‬وأن السلم كان من أقمموى بممواعث نشممره‬
‫في سائر أرجماء الجزيممرة العربيمة ‪ . . .‬وأن الرسمول المذي كمان يعمرض نفسمه علمى أفمراد القبائمل‬
‫ووجوهها فل يرى سوى العراض عنه والسخرية به ‪ ،‬بله الهانة والتعذيب قممد أخممذت هممي تسممعى‬
‫إليه ‪ ،‬وكيف كان يستقبلها ‪ ،‬وأنه ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لم يرفممع الحسممام إل دفاعمما عممن حممق ‪ ،‬فممذوداة عممن‬
‫وجود ‪ ،‬وإعلء لكلمة ال في ربوع الجزيرة العربية ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وكان السلم قد اكتسب الن شعبية عامة ‪ ،‬في طول بلد العرب وعرضها ‪ .‬لقد انتشممر نبمما ة‬
‫النتصار النهائي إلى أقمص زوايما الجزيمرة ‪ .‬ولمم يكممن النماس غمافلين عمما جمرى ‪،‬طموال سمنوات‬
‫وسنوات ‪ ،‬بين الرسول وقريش ‪ ،‬في لهفة وشوق ‪ ،‬مراحل الصرع كلها ‪ .‬لقد عرفمموا كيممف عممذبته‬
‫قريش وعذبت أصحابه لتبشيرهم بالفضيلة وبوحدانية ا ‪ ،‬وكيف قامت ‪ -‬بعد هجرتهم – بمحاولت‬
‫متعددة استمرت ثماني سنوات ‪ ،‬لسحق المسلمين ‪ .‬والواقع أن الممذين شممهدوا مواسممم الحممج السممنوية‬
‫حملوا هذه النباء إلى زوايا البلد القصوى ‪ .‬وكان الناس على علم أيضا ة بنبوءة الرسول القائلممة بممأن‬
‫كل مقاومة للسلم سوف تتلشى آخر المر ‪ .‬وهكذا أخذت الوفود تتدفق على المدينة من كل حدب‬
‫وصوب ‪ .‬فكان الرسول يستقبلها في حفاوة بالغممة ‪ ،‬ويعلمهمما مبمماديء السمملم فممي لطممف ليممس بعممده‬
‫لطف ‪ .‬وكان يبعث مع الذين يعتنقون السلم بمعلم يفقههم في الدين ‪ .‬وهكممذا تقمماطرت إلممى المدينممة‬
‫في النصف الول مممن هممذه السممنة بالممذات وفممود مقبلممة مممن مممواطن قصممية ‪ ،‬كمماليمن وحضممرموت‬
‫والبحرين وعمان ل والتخوم الشامية والفارسية ‪ .‬يالتحريف الحقممائق ! إن الجهممل والهمموى يعممزوان‬
‫انتشار السلم إلى اصطناع السيف ‪ .‬على حين أن الواقممع يقممول إن انتشممار السمملم ظممل راكممداة ممما‬
‫بقيت حالة الحرب بين المسلمين والمشركين ‪ .‬فما إن أقر السلم حتى انتشر السمملم فممي كممل ناحيممة‬
‫بخطى واسعة ل لقد بدا وكان قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين ا أفواجا ة بعد‬
‫أفواج ‪ .‬ولم يبعث في أيما يوم بحملة عسكرية إلى أيما بلد من تلمك البلد المتي أقبلمت الوفمود منهما ‪.‬‬
‫تلك هي الحقيقة التي شاءت سخرية القممدر أن تحممرف إلممى اليمموم تحريفمما ة متعمممداة ‪ .‬فلطالممما سمماعدت‬
‫الحرية والسلم ‪ ،‬ولسوف يظلن يساعدان إلى البد ‪ ،‬على انتشار السلم (( ‪.154‬‬

‫الرسول وأ سياسة التسامح الديني‬


‫هذا ‪ ،‬وقد تجلت سياسة التسامح الديني في عهد الرسول عام الوفود حين استقبل وفوداة مسمميحية‬
‫وبعث برسالة إلى أسقف نحران ‪ . .‬ويتحدث الباحث الروماني ك‪ .‬جيورجيو عممن أوضمماع أصممحاب‬
‫الديانات السماوية في ظل الحكم السلمي فيقول ‪:‬‬

‫ول‬ ‫)) مع أن السملم عمم الجزيمرة كلهما فمي السمنة التاسمعة فمان محممداة لمم يكمره اليهمود‬
‫النصرى على قبول دينه ‪ ،‬لنهم أهل الكتاب ‪ .‬و قد جاء في رسالة محمممد إلممى أبممي الحممارث أسممقف‬
‫نجران أن وضع المسيحيين في الجزيرة بعد السلم تحسن كثيراة ‪ ،‬يقول في الرسالة ‪:‬‬

‫بسم ا الرحمن الرحيم ‪ ،‬من رسول ا ‪ ‬إل ى أب ي الح ارث أس قف نج ران الكممبر وقساوسممته‬
‫مولنا محمد علي ‪ :‬ص ‪.221‬‬ ‫‪154‬‬
‫‪84‬‬

‫وأساقفه ل أما بعد ‪ ،‬فليعلم السقف الكبر وقساوسممته وأسمماقفته أن كنائسممكم ومعابممدكم وصممومعاتكم‬
‫ستبقى كما هي ‪ ،‬وأنكم أحرار في عباداتكم ‪ .‬ولن يزاحا أحد منكمم عمن منصمبه ومقمامه ‪ ،‬ولمن يبممدل‬
‫شيء ‪ .‬كما لم يبدل في مراسم دينكم ‪ ،‬ما دام الساقفة صادقين ‪ ،‬ويعملون حسب تعاليم الممدين ‪ .‬فمممن‬
‫أدى ذلك فإن له ذمة ا وذمة رسول ‪ ، ‬ومن منعه فإنه عدو الله ولرسوله ‪.‬‬

‫تشير هذه الرسالة إلى أن المسيحيين ) وكذلك اليهود ( في الجزيرة أحممرار فممي أداء شممعائرهم ‪،‬‬
‫ولن يزاحمهم من المسلمين مزاحم ‪ .‬وقد قدم في السنة التاسعة وفد من مسمميحي نجممران يرأسممهم أبممو‬
‫الحارث السقف الكبر ‪ ،‬وعبد المسيح السقف ‪ ،‬واليهم رئيس القافلة ‪ ،‬وحين أرادوا الدخول علممى‬
‫النبي ‪ ‬ارتادوا ألبستهم الدينية الرسمية الكاملة ‪ ،‬فأخذ سممكان المدينممة بهممذه الثيمماب ‪ .‬وبعممد أن زاروا‬
‫النبي ‪ ‬سألوه أن يسمح لهم بممأداء شممعائرهم فطلممب منهمم أن يممؤدوا صمملواتهم فممي مسمجد المدينممة ‪،‬‬
‫فدخلوا واتجهمموا نحمو بيممت المقممدس « و تعبممدوا هنمماك ‪ . .‬ل شممك أن النممبي كممان يحممترم المسمميحين‬
‫احتراما ة خاصا ة ‪ ،‬لن القرآن ذكرهم وأكرمهم ‪ .‬وقد أشار ا تعالى إلى هذه النقطة في محكممم كتممابه‬
‫في سورة المائدة )الخامسة( في الية ) ‪  : ( 82‬لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين‬
‫أشركوا ‪ ،‬ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا ‪ :‬إنا نصارى ذلك بأن منهممم قسيسممين ورهبانمما‬
‫وأنهم ل يستكبرون ‪ ‬و يقول في الية التي بعدها ‪  :‬وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعنهممم‬
‫تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ‪ :‬ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ‪ ، ‬ويقول بعدها كممذلك‬
‫‪ ‬وما لنا ل نؤمن بال وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ‪ ‬ويقول بعدها‬
‫‪ ‬فأثابهم ا بما قالوا جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ‪ ،‬وذلك جزاء المحسنين ‪. 155(( ‬‬

‫هذا ويجدر القممول إن سياسممة التسممامح الممديني الممتي اتبعهمما الرسممول ‪ ‬تجمماه أصممحاب الممديانات‬
‫الخممرى اسممتلهاما ة لممروحا السمملم ‪ ،‬غممدت – فيممما بعممد_ قاعممدة لخلفمماء الرسممول ‪ ،‬فممي ظممل الدولممة‬
‫ألسلمية العظمى التي ضمت و أمما مختلفة وأصحاب ديانمات ظلموا يمارسمون شممعائرهم فمي ظمل‬
‫الحماية السلمية ‪ ،‬وكان لسياسة هذه التسامح أن حظيممت بمماحترام وتقممدير المفكريممن والمستشممرقين‬
‫المنصفين فعقدوا المقارنة بن تسممامح السمملم وتعصممب الصممليبيين ‪ ،‬يقممول المستشممرق ميشممون فممي‬
‫كتابه ‪ » :‬تاريخ الحروب الصليبية « ‪:‬‬

‫))إن السلم الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الديان الخرى ‪ ،‬وهو الذي أعفممى البطاركممة‬
‫والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان _على الخصوص _ لعكوفهم على العبادات ولم‬
‫يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس ‪..‬‬

‫و قد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها ((‪. 156‬‬

‫ويزيمد البماحث نفسممه فمي كتمابه ‪" ،‬سممياحة دينيممة فمي الشمرق" ‪ ،،‬متحممدثا ة عمن تاريممخ العلقممات‬
‫السلمية المسيحية ‪ ،‬وكيف أن المسيحيين تعلموا الكثير من المسلمين في التسامح وحسن المعاملة ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬ص ‪.372-371‬‬ ‫‪155‬‬

‫ميشون ‪ :‬تاريخ الحروب الصليبية ) نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ‪ ،‬ص ‪.(383‬‬ ‫‪156‬‬
‫‪85‬‬

‫))وإنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روحا التعامل وفضممائل حسممن المعاملممة ‪،‬‬
‫وهممما أقممدس قواعممد الرحمممة والحسممان عنممد الشممعوب والمممم ‪ ،‬كممل ذلممك بفضممل تعمماليم نممبيهم‬
‫محمد ((‪. 157‬‬

‫وكان لهذا التسامح أثره في أن يصبح الدين السلمي دينا ة عالميا ة ‪ ،‬بدءاة من مراحله الولممى أيممام‬
‫الرسول في جزيرة العرب إلى أن عم أصقاعا ة شاسعة ‪ ،‬يقول المستشرق جولد تسهير ‪:‬‬

‫)) سار السلم لكي يصبح قوة عالميممة علممى سياسممة بارعممة ‪ ،‬ففممي العصممور الولممى لممم يكممن‬
‫اعتناقه أمراة محتوما ة فإن المممؤمنين بمممذاهب التوحيممد أو الممذين يسممتمدون شممرائعهم مممن كتممب منزلممة‬
‫كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعمموا ضممريبة الممرأس ) الجزيممة ( أن يمتعمموا‬
‫بحرية الشعائر وحماية الدولة السلمية ‪ ،‬ولم يكن واجب السلم أن ينفذ إلى أعممماق أرواحهممم أنممما‬
‫كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية ‪ .‬بل لقد ذهب السلم في هذه السياسة إلى حدود بعيدة ‪ ،‬ففي الهند‬
‫مثلة كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل و المعابد في ظل الحكم السلمي (( ‪.158‬‬

‫حجة الوداع‬
‫كان السلم يتوطد بقوة وثبات ‪ ،‬و تطهرت البلد من الوثنية إلى البد ‪ ،‬وأدرك الرسول أنه قممد‬
‫أدى الرسالة ‪ ،‬وأتم المانة بنشر دعوة التوحد حين دانت له جزيممرة العممرب وانضمموت تحممت الرايممة‬
‫السلمية الظافرة ‪.‬‬

‫وفممي حجممة المموداع ‪ ،‬الممتي اجتمممع فيهمما مئممة وأربعممة وعشممرون ألممف مسمملم قصممدوا الممبيت‬
‫الحرام فممي مكممة مممن سممائر أرجمماء الجزيممرة العربيممة ‪ ،‬خطممب فيهممم الرسممول خطبتممه الخيممرة الممتي‬
‫عرفت باسم خطبة حجة الوداع ‪ ،‬والتي أعلن فيا بعد أن نزل عليه الوحي اللهي ‪ ‬اليوم أكملت لكممم‬
‫دينكم ‪ ،‬وأتممت عليكم نعمتي ‪ ،‬ورضيت لكم السلم دينمما ة ‪ ، ‬أعل ن أن الش يطان ق ل يئممس أن يعبممد‬
‫بأرضكم هذه أبداة ‪ ،‬ولكنه رضي أن يطاع فيها سوى ذلك مما تحقممرون مممن أعمممالكم فاحممذروه علممى‬
‫دينكم ‪. . .‬‬

‫وقممال فممي خطبتممه ‪ :‬أيهمما النمماس اسمممعوا قممولي واعقلمموه ‪ :‬تعلمممن أن كممل مسمملم أخممو المسمملم ‪،‬‬
‫وأن المسلمين أخوة ‪ ،‬فل يحل لمرىء من أخيه ‪ ،‬إل ما أعطمماه عممن طيممب نفممس منممه ‪ ،‬فل تظلمممن‬
‫أنفسكم ‪.‬‬

‫وقال ‪ :‬اللهم هل بلغت ؟ فأجاب المسلمون ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال رسول ا ‪ » ‬اللهم فاشهد « ‪.‬‬

‫أجل ‪ ،‬لقد بلغ الرسول رسالت ربه ‪ ،‬وبلغ السلم مرحلة الكمال فممي جزيممرة العممرب ‪ ،‬فكممانت‬

‫ميشون ‪ :‬سإياحة دينية في الشرق ‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪157‬‬

‫جولد تسهير ) نقل عن كتاب النظاما السياسإي في السإلما ‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪158‬‬
‫‪86‬‬

‫هذه الخطبة بمثابة ‪ ،‬إعلن ذلك النبأ العظيم ‪ ،‬نبأ استكمال الدين على خير وجه ‪ . . .‬وكان أن تحقق‬
‫ذلك النقلب التاريخي الكبير الذي غير مسار بلد العممرب ‪ ،‬فحولهمما مممن مجموعممة قبائممل متنمماحرة‬
‫تدين بالوثنية إلى أن تتوحد في كتلة متراصة تحت رايممة السمملم الظممافرة لتبممدأ بعممد وفمماة الرسممول‬
‫وانتقاله إلى الرفيق العلى في العام الحادي عشر للهجرة ) ‪ 632‬م ( بنشر راية السلم خارج بلد‬
‫العرب ‪ ،‬ليعم المناطق الشاسعة من العالم تأكيدا على أنه دين سماوي للناس كافة ‪. . .‬‬

‫يقول المستشرق النجليزي سبربت و ‪ .‬أرنولد ‪:‬‬


‫ة‬
‫)) وقبيل وفاة محمد نرى جميع أنحماء الجزيمرة العربيمة تقريبمما تمدين لمه بالطاعممة ‪ ،‬وإذا ببلد‬
‫العرب التي لم تخضع إطلقا ة لمير من قبل تظهر في وحدة سياسممية وتخضممع لرادة حمماكم مطلممق ‪.‬‬
‫ومن تلك القبائل المتنوعة ‪ ،‬صغيرها وكبيرها ‪ ،‬ذات العناصر المختلفة التي قد تبلغ المائه والممتي لممم‬
‫تنقطع عن التنازع والتناحر ‪ ،‬خلقت رسالة محمد أمة واحدة ‪ ،‬وقد جمعت فكرة الدين المشترك تحت‬
‫زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد ‪ ،‬ذلك النظام الذي سرت مزايماه فممي سمرعة تبعمث‬
‫على الدهش والعجاب ‪ .‬وأن فكرة واحدة كبرى هي التي حققت هذه النتيجة ‪ ،‬تلك هممي مبممدأ الحيمماة‬
‫القومية في جزيرة العرب الوثنية ‪ ،‬وهكذا كان النظام القبلي لول مممرة ‪ ،‬وإن لممم يقممض عليممه نهائيمما ة‬
‫)إذ كان ذلك مستحيل( ‪ ،‬شيئا ة ثانويا ة بالنسبة للشعور بالوحدة الدينية‪.‬‬

‫)) و تكللت المهمممة الضممخمة بالنجمماحا ‪ ،‬فعنممدما انتقممل محمممد إلممى جمموار ربممه كممانت السممكينة و‬
‫ترفرف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية ‪ ،‬بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبممل‬
‫‪ ،‬مع شدة تعلقها بالتدمير وأخذ الثأر‪ .‬وكان الدين السلمي هو الذي مهممد السممبيل إلممى هممذا الئتلف‬
‫((‪. 159‬‬

‫ويقول الباحث السلمي مولنا محمد علي ‪:‬‬


‫)) وبكلمة موجزة ‪ ،‬فقد انقضت فترة الحرب ودخل الناس في دين ا أفواجمما ة ‪ ،‬فلممم تكممد تنقممض‬
‫سنتان حتى لم يبق في طول جزيرة العرب المترامية الطراف غير ديممن واحممد ‪-‬السمملم ‪ -‬وبعممض‬
‫الجاليات اليهودية والنصرانية الضئيلة المتناثرة هنا وهناك ل لقد ترددت صيحة ‪ ».‬ا اكممبر « فممي‬
‫كل رجا من أرجائها ‪ .‬يالها من ظاهرة أعجوبية ‪ .‬لقمد أتمى علمى الرسمول عهمد طماف فيمه بمختلمف‬
‫القبائل ‪ -‬وكان ذلك في أشهر الحج ‪ -‬يمدعوها إلمى السملم ‪ ،‬ولكمن أحمداة منهمم لمم يصمغ إليمه ‪ .‬أممما‬
‫الن ‪ ،‬فهاهي ذي القبائل نفسها تبعث إليه بوفودها وتعتبر انضواءها تحت راية الممدين الجديممد شممرفا ة‬
‫لها عظيما ة ‪ .‬فخلل سنتين اثنتين ليس غير انقضتا على انتهاء حالة الحرب وفق الرسول ل إلى ضم‬
‫بلد العرب كلها إلى الحظيرة السلمية فحسب ‪ ،‬بل وفق في الوقت نفسه إلى إحداث تحممول جبممار‬
‫في حياة المة العربية أزال جميع مفاسدها ورفعها إلى أسمى مراتب الروحانية (( ‪.160‬‬

‫سإبرت و‪ .‬أرنولد ‪ :‬الدعوى إلى السإلما ‪ ،‬ص ‪.38-37‬‬ ‫‪159‬‬

‫مولنا محمد على ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪160‬‬


‫‪87‬‬

‫القسم الثاني‬

‫عبقرية الرسول وأ مناقبه‬


‫‪88‬‬

‫الفصل الوأل‬
‫عظمة الرسول وأ عبقريته المتكاملة‬
‫الستشراف بين النصاف وأالجحود ‪:‬‬

‫إذا كان الرسول ‪ ‬في عرف المسلمين سيد الرسل وإممام البشمر فمآراء المستشممرقين والمفكريمن‬
‫الغربيين تتفاوت في تقويمه ‪ ،‬وطبيعي أن تتباين وجهات نظرهم فيه عليه أفضممل الصمملة والسمملم ‪،‬‬
‫تباينا ة قد يبلغ حد التناقض ‪.‬‬

‫وطبيعي ‪ ،‬أن ترد أسباب الختلف في المواقف الاستشراقية إلممى حممالت الستشممراق ومنمماهجه‬
‫الفكرية المتأرجحة بين الجحود والنصاف ‪ ،‬الكره والمحبة ‪ ،‬السخرية والحترام ‪ ،‬وذلك لما أدركممه‬
‫المستشرقون من العلقة العضوية التي ل تنفصم بين الرسالة والرسممول ‪ ،‬وارتكمماز السمملم كعقيممدة‬
‫وشريعة على القرآن ) كتاب ا ( والسنة ‪ -‬أحاديث الرسول وأقواله وأفعاله وتقريره ‪. . .‬‬

‫فبعد أن فرض السلم نفسه عالميا ة ‪ ،‬كان طبيعيا ة أن تستأثر سيرة النبى ‪ ‬وشخصمميته ومنمماقبه‬
‫باهتمام المستشرقين والمفكرين الغربيين ‪ . . .‬يقول المفكر الفرنسي المعاصممر مارسمميل بمموازار فممي‬
‫كتابه » إنسانية السلم « ‪ ،‬متحدثا ة عن طبيعة المواقف واتجاهات المستشرقين في الغرب ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) لقد سبق أن كتب كل شيء عن نبي السلم ‪ .‬فأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها‬
‫في أدق تفاصيلها ‪ .‬والصورة التي خلفها محمد عن نفسممه تبممدو ‪ ،‬حممتى وإن عمممد إلممى تشممويهها ‪» ،‬‬
‫علمية « في الحدود المتي كشمف فيهما ‪ ،‬وهمي تندممج فمي ظماهرة السملم ع ن مظهمر ممن مظماهر‬
‫المفهوم الديني ‪ ،‬و تتيح إدراك عظمته الحقيقية ‪ .‬ول رب أن تقدم نبي السلم يتلمون تلوينممات دقيقممة‬
‫تبعا ة لمواقف ثلثة ‪ :‬الرغبة النابعة مممن المود والحممترام ‪ ،‬أو مممن السممخرية ‪ ،‬فممي إثبممات أن السمملم‬
‫هو ‪ ،‬على الخص ‪ ،‬من صممنع رجممل ‪ ،‬والسممعي إلممى أتحمماذ تطممور البيئممة الجتماعيممة دليلة لتفسممير‬
‫ظهوره ‪ ،‬والعتقاد بأنه كلم ا ‪ ،‬ومحمد الذي يوليه المسلمون ول ريب نوعمما ة مممن الجلل الممورع‬
‫قد يكون من الخطر إساءة تأويله ‪ ،‬هو على وجه الحصممر المبشممر بممالكلم السممرمدي ول يتمتممع فممي‬
‫نظر المؤمنين بالهمية التي يتمتع بها يسوع المسيح مثل في نظر المسيحيين ‪.‬‬

‫ومع ذلك يبدو الطلع على حياته ضرورياة ‪ ،‬نظراة للعلقة الوثقى بين الرسالة والرسول ‪ ،‬فمممع‬
‫أن القرآن يلح على طبيعة النبي البشممرية البحتممة ‪ ،‬إل أنممه يجعممل منممه » أسمميرة حسممنة ‪ ،‬يقتممدي بهمما‬
‫المؤمنون (( ‪. 161‬‬

‫أوأل المئة الوأائل في التاريخ‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.41-40‬‬ ‫‪161‬‬


‫‪89‬‬

‫وفي عداد أولك الذين أنصفوا الرسول ‪ ‬وأعطوه بعض حقه ‪ ،‬وتمثلوا روحا السلم ‪ ،‬وأدركمموا‬
‫موضوعيا ة أهمية الرسول التاريخية ‪ ،‬بعيداة عن المواقف المتزمتة أو المتعصبة معه أو ضممده ‪ ،‬يقممف‬
‫في الطليعة الدكتور مايكل هارت صاحب كتاب ‪» :‬المائة الوائل « ‪ ،‬الذي يشدنا إلى أن نقممف معممه‬
‫عند نظرته العلمية ‪ ،‬التي وضعها لتصنيف عظممماء التاريممخ ‪ ،‬ضمممن سمملم ترتيممبي ‪ ،‬اختمماره حسممب‬
‫مقاييس منطقية يمليهما أولة وأخيمراة ‪ ،‬أثمر همذه الشخصمية فمي التاريمخ فمي مرحلتهما ‪ ،‬وفمي تكموين‬
‫اتجاهات المراحل التالية وديمومة هذا الثر ‪ .‬وكان منطلقه الذي وضممعه لنفسممه يرتكممز علممى النقمماط‬
‫الثلث التالية ‪:‬‬

‫‪ .1‬الهمية الولى للشخاص الذين أثمروا فمي التاريمخ تمأثيراة دائمما سمواء فمي ذلمك الشخصمية‬
‫المشهورة أو المغمورة أو الشريرة ‪ ،‬المتواضعة أو المغرورة ‪.‬‬

‫‪ .2‬العتماد في تصنيفه السابق على الشخصيات التي أثرت على الصعيد العالمي وعدم الخذ‬
‫بالشخصيات التي أثرت على الصعيد المحلي ‪. . .‬‬

‫‪ .3‬وفي تقرير مكانة الشخص ‪ ،‬أخذ الباحث بعين العتبار أهمية الحركة التاريخية التي أسهم‬
‫‪162‬‬
‫بها ‪ ،‬رغم إدراكه أن ضرورة حركة التطور التاريخية ليست ناجمة عن عمل أفراد ‪. .‬‬

‫وتبعا ة لهذه المعايير العلمية التي وضعها هممذا البمماحث لولئممك المئممة الممذين اعتممبر كل منهممم مممن‬
‫الشخصيات الرائدة حقا ة في التاريخ ‪ ،‬كان الرسول ‪ ‬على رأس السلم ‪ ،‬وهكذا ليس بدعا ة بالنسبة لنمما‬
‫نحن العرب المسلمين ‪ ،‬أن نرى في صنيعه بادرة إنصاف عظيمة ونظرة علمية متجردة ‪ ،‬من مفكر‬
‫غربي ‪ ،‬اضطر معهمما إلممى تقممديم التممبرير والممدفاع عممن اختيمماره لنممه يقممدم كتممابه لبنمماء جلممدته ممن‬
‫الغربيين ‪ . .‬فهو يقول في دراسته شخصية الرسول وأثره في التاريخ ‪:‬‬

‫)) إن اختياري محمداة ليكون الول في قائمة أهم رجال التاريخ ربما أدهش كثيراة من القراء إلى‬
‫حد قد يثير بعض التساؤلت ‪ ،‬ولكن في اعتقادي أن محمداة ‪ ‬كان الرجل الوحيد فممي التاريممخ الممذي‬
‫نجح بشكل أسمى وأبرز في كل المستويين الديني والدنيوي ‪.‬‬

‫لقممد أسممس محمممد ‪ ‬ونش ر أح د أعظي م الدي ان ف ي الع الم ‪ ،‬وأصممبح أحممد الزعممماء العممالميين‬
‫السياسيين العظام ‪ .‬ففي هذه اليام وبعد مرور ثلثة عشر قرنا ة تقريبمما ة علممى وفمماته ‪ ،‬ل يممزال تممأثيره‬
‫قويا ة عارما ة (( ‪.163‬‬

‫وحين أجرى المؤلف مقارنة بين محمد والمسيح وجدهما متساويين فمي العظمممة ‪ ،‬غيممر أنمه قممدم‬
‫محمداة لكزنه هو الذي قام بإرساء قواعد الدين السلمي و نشره بنفسممه بينممما نجممد أن المسمميح عليممه‬
‫السلم قدم رسالة روحية وأفكارا أخلقية سامية ‪ ،‬إلة إن علم اللهوت ألمسيحي مدين للقديس بممولس‬
‫‪ ،‬وأضاف إليها قسما ة كبيراة مما يؤلف العهد الجديد في الكتاب المقدس ‪...‬‬

‫مايكل هارت ‪ :‬المائة الوائل ‪ ،‬ص ‪.10-9‬‬ ‫‪162‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪163‬‬


‫‪90‬‬

‫ويتحدث هارت في مقدمة كتابه عن مبررات تصممنيف الرسممول ‪ ‬ف ي مرتبممة أعلممى مممن يسمموع‬
‫المسيح ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) ولن في اعتقادي أن محمداة له تأثير شخصي على صياغة الدين السلمي أكممثر مممما كممان‬
‫ليسوع من تأثير على الدين المسيحي (( ‪. 164‬‬

‫أعظيم العظماء وأفوق كل عبقرية‬


‫هذا ويلتقي الدكتور مايكل هارت مع العديد من الباحثين في الشرق والغرب فممي تقممويمه عظمممة‬
‫الرسول ‪ ،‬ويتحدث المفكر السوري الستاذ فارس الخوري ‪ ،‬عن عظمة الرسول و عظمة الرسالة ‪،‬‬
‫في خطبة ألقاها بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي ‪:‬‬

‫)) إذ محمداة أعظيم عظماء العالم ‪ ،‬ولم يجد الدهر بعد بمثله والدين الذي جاء بممه أوفممى الديممان‬
‫وأتمها و أكملها(( ‪. 165‬‬

‫لقد اشتملت شخصية الرسول على شمائل عظيمة وصفات نبيلة ومزايمما حميممدة ‪ ،‬دفعممت شمماعراة‬
‫لبنانيا ة هو الستاذ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي إلى نظممم القصممائد فممي مممدحا الرسممول‬
‫الذي أشرقت شمس الهداية على يديه ‪ ،‬فكان ذلمك الفاتمح الفمذ المذي حمول القفمار القاحل ة إلمى مدنيمة‬
‫مشربة بأنوار رسالة السلم التي لم تكن للعرب وحمدهم بمل للنسمانية جمعماء ‪ ،‬يق ول القمروي فمي‬
‫محاضرة له عن رسول ‪: ‬‬

‫)) فل وليم شكسبير‪ ،‬ول فكتور هوغو‪ ،‬ول لون تولسممتوى‪ ،‬ول غيرهممم مممن أمثممالهم يطولممون‬
‫مهما اشرأبت أعناقهم إلى الدرجة السفلى من تلك المنصة العالية التي يقف عليها محمد بن عبد ال ‪،‬‬
‫لنه الرجل الذي تلتقي أكمل الصفات في قلبه الكبير‪ ،‬وعقله الفريد ورقته المتناهية وروحه المتدفقممة‬
‫بشرف الحساس وروحا العاطفة (( ‪. 166‬‬

‫ويتحدث البحاثة اللبناني لبيب الرياشي في كتممابه ‪ :‬نفسممية الرسممول العربممي ‪ ،‬عممن أثممر الرسممول‬
‫عليه حين اطلع على سمميرة حيمماته ودرس رسممالته ‪ ،‬فكممان أن شممعر بالنممدم لنممه جهممل سممابقا ة عظمممة‬
‫الرسول ونفسيته » وهو المام العظم « وحسب المرء أن يستنير بهديه ويعمممل بسممنته حممتى يغممدو‬
‫إنسانا ة آخر ‪ ،‬ولو أن العرب اليوم أدركوا الجوهر الحقيقي لسمميرة سمميد الرسممل ‪ ،‬لغيممروا ممما بأنفسممهم‬
‫أول وغيروا العالم ثانيا ة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫‪ 164‬المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫‪ 165‬فارس الخوري ‪) :‬نقل عن السإلما و العلم الحديث ص ‪.(62‬‬
‫‪ 166‬رشيد سإليم الخوري ‪) :‬نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب باقلم الشيخ خليل ياسإين ص ‪-129‬‬
‫‪.(130‬‬
‫‪91‬‬

‫)) أما لو أدرك المسلمون سيرة الرسول بجوهرهمما ‪ ،‬وشممرع الرسممول بسممنائه ‪ ،‬وحكممم الرسممول‬
‫بجللها ‪ ،‬وإبداع الضمائر الجديدة التي ابتدعها الرسول بحدتها الوضاءة ‪ ،‬وعملوا بما أدركمموا لكممان‬
‫المسلمون غير هؤلء المسلمين ‪ ،‬ولكان العالم غيممر هممذا العممالم ‪ -‬ثممم قممال ‪ -‬أممما لممو درس عشمماق‬
‫الرسول وعشمماق العظممماء والحكممماء والمبممدعين غيممر العممرب ‪ ،‬بطهممارة وجممدان وبممراءة سممريرة ‪،‬‬
‫وتحليل عبقري ‪ ،‬حياة الرسول العربي ‪ ،‬وسمو الرسول العربي وبراءة سريرته وأعممماله وشممرعه ‪،‬‬
‫لستكشفوا أعظيم شخصية وأقدس رسالة للتاريخ النساني ‪ ،‬ولقممد طممالعت مئممات المجلممدات وقممرأت‬
‫حياة ألوف العظماء والرسل ‪ ،‬ولكن مئات المجلدات وحياة ألوف العظماء والرسل ممما فعلممت بنفسممي‬
‫وأثرت في دماغي وهذبت وثقفت وأدهشت ‪ ،‬مثلما فعلت حياة الرسول العربي العممالمي ‪ ،‬محمممد بممن‬
‫عبد ا (( ‪. 167‬‬

‫مكامن عظمته علبه السلم متعددة الجوانب‬


‫ويشير مولنا محمد على في مقدمة كتابه حياة محمد ورسالته إلممى أن لكممل أمممة وشممعب إنسممانها‬
‫الكامل المثل ‪ ،‬وأن صفات الكمال والعظمة ل تكمن في الرسول محمد لنه لم يكن رسول أمته فقط‬
‫‪ ،‬بل كان للنسانية كافة ‪ .‬ولقد جمع في هذا الصدد أقوال عدد من المستشرقين عممن مكممامن عظمتممه‬
‫المتعددة الجوانب ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))أنا أومن ‪ ،‬شأن كل مسلم ‪ .‬بأنه كان لكل أمة إنسانها المثل )سوبرمان (‪ ،‬أو الكوكب السمماطع‬
‫الذي أعطاها النور‪ ،‬والمصلح الذي ألمها فكرات نبيلممة ‪ ،‬والرسممول الممذي رفممع مممن شممأنها أخلقيمما ة ‪.‬‬
‫ولكن محمداة ‪ ‬هو الرسول العظم ‪ Par excellence‬لنه ليس رسول أمة واحدة بل رسول أمم‬
‫العالم كافة ‪ ،‬ولنه هو ‪ -‬دون غيره من النبياء ‪ -‬أعلن اليمان بجميممع رسممل العممالم جممزءاة أساسمميا ة‬
‫من العقيدة التي بشر بها‪ ،‬وبذلك وضع الساس لسلم سرمدي بين مختلف المم‪ .‬ولنه »همو أعظيممم‬
‫الصمملحين جميعمما ة« )بمموزوورث سممميث ‪(Bosworth Smith‬مم باعتبممار أنممه أحممدث تحممولة نحممو‬
‫الفضل لم يحدث نظيره ل قبله ول بعده ‪ ،‬ولنممه ‪ -‬أخيممراة ‪» -‬أوفمر النبيماء والشخصميات الدينيمة‬
‫حظا ة من النجاحا « »الموسوعة البريطانية « تحت مادة ‪» :‬قرآن« ‪.‬‬

‫إن أحكامنا على الرجال يجب أن تبنى على ما حققوه من أعمال ‪ ،‬ولقد أنجز محمد الرسول في‬
‫مدى عشرين سنة مما عجمزت ع ن إنجمازه قمرون ممن جهمود المصملحين اليهمود والنصمارى برغمم‬
‫السلطة الزمنية التي كانت تساندهم ‪ .‬لقد استأصل من بلد كامل تراث أجيال من الوثنيممة » والخرافممة‬
‫« وسممرعة التصممديق ‪ ،‬والجهممل » والبغمماء« والقمممار ‪ ،‬ومعمماقرة الخمممر ‪ ،‬واضممطهاد الضممعيف ‪،‬‬
‫والحرب الضروس ‪ ،‬ومئات من الشرور الخرى ‪ .‬وليمس فمي اسمتطاعة التاريمخ أن يمدلنا علمى أي‬
‫مصلح آخر وفق إلى إحداث تحول في مثل هذه الروعممة والتمممام ‪ ،‬وعلممى مثممل هممذا النطمماق الواسممع‬
‫خلل فترة في مثل هذا القصر ‪ » .‬فلم يكن الصلحا في أي يوم م ن اليمام ميؤوسمما ة منمه أكمثر ممما‬
‫كان ‪ ،‬عند ظهور الرسول ‪ -‬كما لحظ ميووير ‪ - Muir‬ولم يكن أكثر كمالة منممه عنممدها التحممق‬
‫بالرفيق العلى ‪ .‬وبكلمة أخرى ‪ » ،‬كان ذلممك ولدة ممن الظلمممة إلممى النممور « كممما يقمول كارليممل ‪.‬‬
‫وحياة في مثل هذه العظمة ل يمكن أن تكون خلواة من كمونيات ‪ Potentialities‬عظيم ة ‪ ،‬بنسممبة‬

‫لبيب الرياشي ‪ :‬نفسية الرسإول العرباي‪.‬‬ ‫‪167‬‬


‫‪92‬‬

‫مماثلة للمستقبل ‪ .‬إنها ل يمكن أن توحي إلى أيما قلب من القلوب بأنبل الفكرات الدائرة حممول خدمممة‬
‫النسانية ‪ .‬وإذا كان في سمات خلقه سمة اكبر تميزاة من غيرها فتلممك السمممة هممي حممدبه علممى اليممتيم‬
‫والرملة ‪ ،‬ونصرته للضعيف والمسكين ‪ ،‬وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف ‪ .‬إنها حيماة‬
‫رجل عاش لله ومات في سبيل ا ‪» .‬إن يكن قد قدر لنسان على سطح هذه الرض أن يجد ا في‬
‫يوم من اليام ‪ ،‬وإن يكن قد قدر لنسان أن يقف حياته لخدمة ا بدافع خير وعظيم فليس مممن ريممب‬
‫في أن نبي بلد العرب هو ذلك الرجل « لييونارد ‪.168 ()« Leonard‬‬

‫عظمة الرسول وأ مواهبه المختلفة‬


‫هذا ‪ ،‬و قد درس الباحث النكليزي المستشرق مونتجمري وات ‪ ،‬عظمة الرسول في كتممابه ‪» :‬‬
‫محمممد فممي المدينممة « ‪ ،‬انطلقمما ة مممن النجمماحا الممذي حققممه علممى مسممرحا التاريممخ الممذي ظهممر عليممه ‪،‬‬
‫والظروف الزمانية والمكانية التي سماعدته ‪ ،‬وهيممأت المنماخ الطمبيعي لنتشممار السمملم فمي جزيمرة‬
‫العرب والتطور اللحق الذي جعل منه دينا ة عالميا ة ‪. . .‬‬

‫ولكن ‪ ،‬رغم تركيزه على العوامل الزمانية والمكانية في مرحلتها التاريخية ‪ ،‬والتي كانت مقدمة‬
‫التحولت الكبيرة التي هي ابنة واقعها ومرحلتها « لم يغفممل مممونتجمري وات ‪ ،‬الممدور الكممبير الممذي‬
‫الذي هو في شخصيته وعظمته مزيج من السجايا الرائعة والمواهب العالية ‪،‬‬ ‫اضطلع به الرسول ‪‬‬
‫يقول ‪:‬‬

‫)) ولول هذا المزج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد لكان من غيممر الممكممن أن‬
‫يتم هذا التوسع ‪ ،‬ولستنفذت تلك القوى الجبارة فممي غممارات علممى سمورية والعممراق دون أن تممؤدي‬
‫لنتائج دائمة ‪ .‬ونستطيع أن نميز ثلث هبات مهمة أوتيها محمد ‪ ،‬وكانت كل واحممدة منهمما ضممرورية‬
‫لتمام عمل محمد بأكمله ‪.‬‬

‫لقد أوتي أول موهبة خاصة على رؤية المستقبل ‪ .‬وكان ثانيما ة رجمل دولمة حكيممما ة ‪ ..‬وكمان ثالثما ة‬
‫رجل إدارة بارعا ة ‪.169 (( ....‬‬

‫ويخلص مونتجمري وات إلى القول ‪:‬‬

‫)) كلما فكرنا في تاريخ محممد وتاريمخ أوائمل السملم ‪ ،‬تملكنما المذهول أممام عظممة مثمل همذا‬
‫العمل ‪ .‬ول شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصا ة للنجاحا لم تتحها لسوى القليل من‬
‫الرجال ‪ ،‬غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماما ة ‪ .‬فلو لم يكن نبيا ة ورجل دولة وإدارة ولممو‬
‫لم يضع ثقته بالله ‪ ،‬ويقتنع بشكل ثابت بأن ا أرسله ‪ ،‬لما كتب فصمملة مهممما ة فممي تاريممخ النسممانية ‪.‬‬
‫ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد يمكنها أن تساعد على إثارة الهتمممام ‪ ،‬مممن جديممد ‪ ،‬برجممل‬
‫هو أعظيم رجال "أبناء آدم " (( ‪. 170‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ :‬ص ‪.7-5‬‬ ‫‪168‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.511 – 510‬‬ ‫‪169‬‬

‫المصدر الساباق ‪ :‬ص ‪.512‬‬ ‫‪170‬‬


‫‪93‬‬

‫الشخصية الثورية النقلبية‬


‫هذا ‪ ،‬وقد جذبت شخصية الرسممول الكممثير مممن البمماحثين إلممى دائرتهمما فممأعجبوا بهمما عممن اقتنمماع‬
‫بعظمتها وجاذبيتها ‪ ،‬وإيمان بتلك العبقرية الخالدة ‪ . .‬من ذلممك ممما رآه المممؤرخ البريطمماني تشممارلس‬
‫أرمان ) ‪ (1940 - 1886‬في دراسة له عن السلم ‪ ،‬أن شخصية الرسول ثوريمة انقلبي ة لمم‬
‫تؤثر على المستوى المحلى فحسب بل على المستوى العالمي كذلك ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إن شخصية محمد ثورية وانقلبية ‪ ،‬تفوق مقدرة الشخص الموهموب العمادي ‪ ،‬فلمم تنتمج بلد‬
‫العرب قبله ول بعده فرداة أثر في مجموع تاريخ العالم ‪ ،‬ويكون من المضحك حقا ة الدعاء أنه نتيجممة‬
‫محتمة لحالة بلد العرب الفكرية والقتصادية في القرن السابع بعد المسيح ‪ ،‬بل أن مبدأه الممذي جمماء‬
‫به هو مبدأ اعتنقته أمم سرعان ما تحققت فكرته في بلد العرب لنها نافعة ولم يكن فيها ما يحممارب‬
‫لجله غيرها من الديانات السابقة ((‪. 171‬‬

‫أجل ‪ ،‬إن شخصية الرسول ثورية وانقلبية ‪ ،‬فهي ثورة في فعلها وانية مجيئها كحممدث تمماريخي‬
‫كوني في مرحلتها كضرورة حتمية لعالم يعج بالمتناقضات ويتهيأ للتبديل بهدم قيم قديمة باليممة وبنمماء‬
‫عالم جديد ومجتمع متقدم ‪...‬‬

‫لقد جمع الرسول في برديه كفاءات متعددة كنبي ملهم وقائد سياسي فذ ‪ ،‬ومشرع بارز ‪ ،‬ورجممل‬
‫عسكري من الطراز الول ‪ ،‬كتب الستاذ فريد وجدي في الموسوعة الفرنسية لروس ‪:‬‬

‫)) ومن أعجب العجيب أن الذي أتى بكل هذه العمال يعني ) محمد ‪ (‬كان قائممداة ‪ ،‬مشممرعا ة ‪،‬‬
‫قاضيا ة ‪ ،‬إماما ة ‪ ،‬واعظا ة ‪ ،‬خطيبا ة ورب أسرة ‪ ،‬فكانت قيادته أحسن القيادات وكممان يخمموض الغمممرات‬
‫فيكشفها عن أصحابه ‪ .‬وشرعه أعمدل الشمرايع للن ‪ .‬وقضماؤه أقموم القضمية ‪ .‬وكمان وعظمه أنفمذ‬
‫وعظ إلى النفوس وخطبته تأسر اللباب ‪ ،‬وكممان فممي أسممرته مممن العممدل والرأفممة بحيممث كممان يجلممب‬
‫شاته ‪ ،‬ويعين على عملهن ‪ .‬فإن ضن ضان على )محمد بن عبد ا ( بالرسالة فليسمح لممي أن أقممول‬
‫إنه أرق من الرسول (( ‪. 172‬‬

‫المناضل الفذ‬
‫ولقد أوضحت لنا سيرة الرسمول ‪ ،‬أي مناضمل فمذ همو ‪ ،‬والقمدر المذي يتحلمى بمه ممن الشمجاعة‬
‫والقوة مع دماثة الخلق والرقة ‪ ،‬وأية إنجازات استطاع أن يحققهما فمي مرحلمة وجيمزة ‪ ،‬وقمد تحمدث‬
‫أستاذ السامية ومحرر مجلة العالم الشرقي ‪ ،‬المستشممرق السمموجي سينرسممتن ) ‪ ( 1866‬وصمماحب‬
‫كتابي ‪ » :‬القرآن و النجيل المحمدي و تاريخ حياة محمد « فقال في مؤلفه الخير ‪:‬‬

‫)) إنا لم ننصف محمداة إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيممم الصممفات وحميممد المزايمما ‪ ،‬فلقممد خمماض‬

‫تشارلس ارمان )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(159‬‬ ‫‪171‬‬

‫محمد فريد وجدي ‪ :‬موسإوعة لروس الفرنسية‪.‬‬ ‫‪172‬‬


‫‪94‬‬

‫محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهممل والهمجيممة ‪ ،‬مصممراة علممى مبممدئه ‪ ،‬وممما زال يحممارب‬
‫الطغاة حتى انتهى بمه المطماف إلمى النصممر الممبين ‪ ،‬فأصمبحت شممريعته أكممل الشممرائع وهمو فمموق‬
‫عظماء التاريخ (( ‪. 173‬‬

‫العبقرية المتكاملة‬
‫أن عبقرية الرسول ‪ ،‬في عرف الدارسين عبقرية متفردة متكاملممة ‪ ،‬فهممي تقممدم صممورة للنسممان‬
‫الكامل والنممبي والداعيمة ورجممل الفكممر والسياسممة والقائممد العسممكري ‪ ،‬والمصمملح الجتممماعي الكممبير‬
‫والرجل المخلص الصادق المين ‪ ،‬الذي امتل رجولة وحيوية ‪. . .‬‬

‫نابليون السماء‬
‫ويتحدث المستشرق الفرنسي جان بروا في كتابه » محمد نابليون السماء « عممن تلممك العبقريممة‬
‫المتكاملة ‪ ،‬التي ثقفت في مدرسة الحياة بقوله ‪:‬‬

‫)) وكان محمد نبيا ة ومشرعا ة وسياسيا ة وملكا ة عظيما ة وخطيبمما ة مفوهما ة وقائمداة خطيمراة محنكمما ة ‪ ،‬وإن‬
‫كان لم يدخل جامعة من جامعات الرومان ‪ ،‬ول مدرسة من مدارس فارس ‪ ،‬إن محمداة قد كبر اسمه‬
‫واعتز بربه حتى عرف باسمممه وحممده دون ذكممر أسممرته كممما عممرف نممابليون ‪ ،‬وإن محمممداة لنممابليون‬
‫السماء (( ‪. 174‬‬

‫النبي الملهم وأالنسان‬


‫وكانت هذه العبقرية المتكاملة والعظمة السامية ؟ قمد اجتمعمت إلمى خصمال حميمدة ‪ ،‬لنسمان لمم‬
‫يداخله الغرور البته ‪ ،‬بل ظل ينظر إلى ذاتممه علممى انمه واحممد ممن أفممراد تلمك الممة ‪ .‬يقمول السمتاذ‬
‫كرادي فو ‪:‬‬

‫)) أن محمداة كان هو النبي والملهم والمؤسس ‪ ،‬لم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا ‪ ...‬ومممع‬
‫ذلك فلم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر‪ ،‬أو من طبقة أخرى غير طبقات بقيمة المسملمين ‪ .‬إن‬
‫شعور المساواة والخاء الذي أسسه بين أعضاء الجمعية السلمية ‪ ،‬كان يطبممق تطبيقمما ة عمليمما ة حممتى‬
‫على النبي نفسه (( ‪. 175‬‬

‫المعرفة الواسعة وأالمقدرة الفذة‬

‫سإينرسإتن ‪ :‬تاريخ حياة محمد ‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪173‬‬

‫جان باروا ‪ :‬محمد ناباليون السماء ) ترجمة محمد صالح البنداق ( ص ‪.52‬‬ ‫‪174‬‬

‫نقل عن هذا هو السإلما ‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫‪175‬‬


‫‪95‬‬

‫وكان لتلك العبقرية المتكاملة التي جمعت التفكير العميق بالعمل الدؤوب وحسن الدارة والنجاحا‬
‫كداعية يجتذب القلوب أن حقق للممدعوة السمملمية النجمماحا ‪ ،‬يقمول المستشممرق النكليممزي صممموئيل‬
‫زويمر )‪ ( 1904 ~1843‬في كتابه " يسوع في إحياء الغزالي " ‪:‬‬

‫))أن عبقرية محمد هي السبب في نجاحه واستطارة شأنه ‪ ،‬يضاف إلى هذا كله معرفته العظيمة‬
‫بالديانات في عهده ‪ ،‬وقوته في اجتذاب القلمموب إليممه ‪ ،‬ومقممدرته فممي الدارة والحممرب ‪ ،‬ولبمماقته فممي‬
‫السياسة الفائقة (( ‪. 176‬‬
‫نبوغ وأ ذكاء وأ حسن سياسة‬
‫هذا ‪ ،‬و قد اتسمت عبقرية الرسول بالنبوغ و الذكاء اللذين ‪ ،‬امتلكهما ‪ ،‬مقرونين بحسن السياسممة‬
‫‪ ،‬فاستطاع في فترة وجيزة أن ينشر الدعوة السلمية الخيرة ‪.‬‬

‫يقول المستشرق برتلمي سانت هيليا في كتابه » مع الشرق « ‪:‬‬

‫(( كان محمد أزكى العرب في عهده وأكثرهم تقوى ودينا ة ‪ ،‬وأرحبهم صدراة ‪ ،‬وأرفقهم بأعممدائه‬
‫وخصوم دينه ‪ ،‬وما استقامت إمبراطورته الخارقة إل بسبب تفوقه على رجممال عصممر ‪ ،‬وأممما الممدين‬
‫الذي راحا يدعو إليه فقد كان خيرا عظيما ة على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به (( ‪. 177‬‬

‫رجل المثالية وأالخيال‬


‫أما المستشرق والمؤرخ الهولندي راينهارت دوزى )‪- 2018‬مم ‪ ،(1884‬فقد سممطر فممي مممؤلفه‬
‫»مسلمو الندلس « قائلة ‪:‬‬

‫)) لعل الرسول محمدةا كما كان يلقب نفسه ‪ -‬لم يكن أسمى من مواطنيه ‪ -‬ولكن المؤكد أنه لم‬
‫يكن يشبهم ‪ ،‬كان صاحب خيال ‪ ،‬في حين أن العرب مجردون عن الخيممال ‪ ،‬وكممان ذا طبيعممة دينيممة‬
‫ولم يكن العرب كذلك ‪ ،‬وكان محمد يقبح ما كان عليه قومه من عادات جاهلية كانوا يعكفون عليهمما‪،‬‬
‫وكان على جانب مثالي من التواضع للناس واليمان بربه ‪ .‬وهذه من عوامل تقدم رسالته (( ‪. 178‬‬

‫نبي العالم وأالنسان الكامل‬


‫ومن دلئل عظمة الرسول ‪ ،‬كماله فممي عبقريتممه و صممفاته و بكمممال الرسممالة إلممى حملهمما للعممالم‬
‫أجمممع يقممول المستشممرق اللممماني الكممبير ‪ ،‬تيممودور نولممدكه ) ‪ ( 1920-1836‬فممي كتممابه ‪":‬تاريممخ‬
‫القرآن"ة ‪:‬‬

‫)) نزل القرآن على محمد نبي المسلمين بل نبي العالم ‪ ،‬جاء بدين إلى العممالم عظيممم‪ ،‬وبشممريعة‬
‫كلها آداب وتعاليم ‪ ،‬وحري بنا أن ننصف محمداة في الحديث عنه لننا لم نقممراة عنمه إل كممل صممفات‬

‫صموئيل زويمر ‪ :‬يسوع في أحياء الغزالي ‪.‬‬ ‫‪176‬‬

‫بارتلمي سإانت هليليار ‪ :‬مع الشرق‪.‬‬ ‫‪177‬‬

‫راينهارت دوزي ‪ :‬مسلمو الندلس‪.‬‬ ‫‪178‬‬


‫‪96‬‬

‫الكمال فكان جديراة بالتكريم (( ‪. 179‬‬

‫محمد القدوأة وأالرمز‬


‫أن حياة الرسول في مواقفه الحاسمة وسلوكه العام ‪ ،‬قد جعلت منه القدوة والرمممز ‪ . .‬فهممو رمممز‬
‫للحكم العادل والسياسة الدينية الصحيحة ‪ ،‬وصاحب المنهج الجتماعي السديد ‪ ،‬يقول عنه الفيلسوف‬
‫النكليزي هربرت سبنسر ) ‪ (0193 - 0182‬في كتابه ‪" :‬أصول الجتماع " ‪:‬‬

‫)) فدونكم محمداة ‪ ،‬انه رمز للسياسة الدينية الصحيحة ‪ ،‬واصدق من نهج منهاجها المقمدس فممي‬
‫البشرية كافة ‪ ،‬ولم يكن محمد إل مثالة للمانة المجسمة والصدق البريء وما زال يدأب لحيمماة أمتممه‬
‫ليله نهاره (( ‪. 180‬‬

‫رسول النسانية الجديدة‬


‫أن يكمممون النسمممان القمممدوة والرممممز ‪ ،‬معنممماه أن يبلمممغ مرحلمممة الكممممال ‪ ،‬عميمممق الثمممر فمممي‬
‫وجممدان الفممراد والجماعممات ‪ ،‬يؤلممف بيممن القلمموب ‪ ،‬ويوحممد الرادات ‪ ،‬وأن يحممترمه الغريممب قبممل‬
‫القريب ‪ ،‬والمسيحي قبل المسلم ‪ . .‬يقول الكاتب اللبناني لممبيب رياشممي فممي مممؤلفه " نفسممية الرسممول‬
‫العربي " ‪:‬‬

‫)) حقا ة يا محمد إنك الشاعر العظم « حقا ة إنك السوبرمان الول العالمي ‪ ،‬رسول الثقافة والعلمم‬
‫‪ ،‬رسول الهداية والتضحية ‪ ،‬رسول الفلسفة الجديدة ‪ ،‬رسول النسانية الجديدة ((‪. 181‬‬

‫ويظل محمد القدوة والرمز ‪ ،‬ليس في عهده فحسب ‪ ،‬بل حتى عهدنا هممذا وإلممى يمموم يبعثممون ‪. .‬‬
‫فحري بنا كعرب ومسلمين أن نحتذي حذوه ‪ ،‬يقول المفكر السوري الستاذ ميشيل عفلق في كتابه‬
‫‪ » :‬في سبيل البعث « ‪:‬‬

‫» حتى الن كان ينظر إلى حياة الرسول محمد من الخارج ‪ ،‬كصورة رائعة وجدت لنعجب بهمما‬
‫ونقدمها ‪ ،‬فعلينا أن نبدأ بالنظر إليها من الداخل ‪ ،‬لنحياها ‪ ،‬كل عربي فممي المموقت الحاضممر يسممتطيع‬
‫أن يحيا حياة الرسول العربي ‪ ،‬ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر ‪ ،‬طممبيعي أن يعجممز‬
‫أي رجل مهما بلفت عظمته أن يعمل ما عمل محمد ‪ ،‬ولكن من الطبيعي أن يستطيع أي رجممل مهممما‬
‫ضاقت قدرته أن يكون مصغراة ضئيلة لمحمممد ‪ ،‬ممما دام ينتسممب إلممى المممة الممتي حشممدت كممل قواهمما‬
‫فأنجبت محمداة ‪ ،‬أو بالحرى ما دام هممذا الرجمل فمرداة مممن أفممراد الممة الممتي حشممد محمممد كمل قممواه‬
‫فأنجبها ‪ ،‬في وقت مضى تلخصت في رجل واحد كل حياة هذه المممة فممي نهضممتما الجديممدة تفصمميلة‬

‫تيودور نولدكه ‪ :‬تاريخ القران ‪ ،‬ص ‪.83‬‬ ‫‪179‬‬

‫هربارت سإبنسر ‪ :‬أصول الجتماع ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪180‬‬

‫لبيب رياشي ‪ :‬نفسية الرسإول العرباي‪.‬‬ ‫‪181‬‬


‫‪97‬‬

‫لحياة رجلها العظيم ‪ ،‬كان محمد كل العرب ‪ ،‬فليكن كل‪ .‬العرب اليوم محمداة ((‪. 182‬‬

‫مؤسس سياسة غيرت مجرى التاريخ‬


‫لقد نظر منصفو المستشرقين إلى الرسول ليس كنبي عمل في إطممار الجزيممرة العربيممة فحسممب ‪،‬‬
‫بممل كواضممع أسممس سياسممة عالميممة أثممرت علممى المسمميرة التاريخيممة كممذلك ‪ ،‬يقمول الكمماتب الفرنسممي‬
‫المعاصر ‪ ،‬المستشرق مارسيل بوازار في مؤلفه ‪ " :‬إنسانية السلم " ‪:‬‬

‫)) ولم يكن محمد على الصعيد التاريخي مبشراة بدين وحسممب ‪ ،‬بممل كممان كممذلك مؤسممس سياسممة‬
‫غيرت مجرى التاريخ ‪ ،‬وأثرت في تطور انتشار السلم فيما بعد على أوسع نطاق (( ‪. 183‬‬

‫عظيم في دينه عظيم في مناقبه‬


‫أما المستشرق الفرنسي ساديو لوي ) ‪ ( 1875-1807‬فيتحممدث عممن عظمممة الرسممول ل لكممونه‬
‫صاحب رسالة عالمية فقط ‪ ،‬ورجلة عسكريا ة فاتحا ة للعرب والعالم وحسب بل عممن عظمتممه فممي دينممه‬
‫ومناقبه وحاجة النسانية لرجل مثله ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) لم يكن محمد نبي العرب بالرجل الفاتح للعرب فحسب بل للعالم لممو أنصممفه النمماس‪ ،‬لنممه لممم‬
‫يأت بدين خاص بالعرب ‪ ،‬وان تعاليمه الجديرة بالتقدير والعجاب تدل علممى أنممه عظيممم فممي دينممه ‪،‬‬
‫عظيم في صفاته ‪ ،‬وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين ((‪. 184‬‬

‫أما المفكر النكليزي المستشرق بوسورث اسمث ) ‪ (1892-1815‬فقد خاطب العقل الوروبي‬
‫‪ ،‬ورأى أن من النصاف أن ينظر إلى رسول السلم بمحبة واحترام ‪ ،‬لنه من جهممة بشممر برسممالة‬
‫عظيمة تحمل الخير للبشرية جمعاء ‪ ،‬ولكونه من جهة ثانيممة عظيممما ة فممي كفمماءاته العاليممة ‪ ،‬وسممجاياه‬
‫الكريمة ‪ ،‬وان الغرب المسيحي ل بد أن يقدره مستقبلة حق التقدير ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إذا قدرنا تاريخ السلم فنظرنا إليه من نافذة النصاف فإنما نقدر صاحبه الذي أسسه ووضع‬
‫حجره الساسي ‪ ،‬وهو ‪ -‬محمممد ‪ -‬الممذي ل نسممتطيع أن نقممول فممي حقممه إل أنممه رجممل عظيممم بعقلممه‬
‫وعمله وأخلقه وبلغته و تدينه ‪ ،‬وسمميحمل لمه المنصممفون ممن النصممارى وغيرهمم الخلص ممتى‬
‫عرفوه في المستقبل (( ‪. 185‬‬

‫وأخيرا ‪ ،‬فإن معيار عظمة النبياء والقادة والمصلحين يظهر في مدى النجممازات الممتي حققوهمما‬
‫على الصعيدين المحلي والعالمي ‪ ،‬وتظل إنجازاتهم مستمرة راسخة باسقة ‪ ،‬يقول غوستاف لوبون ‪:‬‬

‫ميشيل عفلق ‪ :‬في سإبيل البعث ‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪182‬‬

‫سإاديو لوي ‪ :‬تاريخ العرب ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪183‬‬

‫سإاديو لوي ‪ :‬تاريخ العرب ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪184‬‬

‫باوسإورث اسإمث ‪ :‬محمد و السإلما ‪.346 ،‬‬ ‫‪185‬‬


‫‪98‬‬

‫)) إذا كانت قيمة الرجال تقدر بعظمة أعمالهم فعن المستطاع القول ‪ :‬إن محمداة كممان مممن أعظممم‬
‫الشخصيات التي عرفها التاريخ (( ‪. 186‬‬

‫أما الباحث الفرنسي المستشرق ديزريه بلنشيه فقد وجد في شممخص النممبي ‪ ‬مزيجمما ة نمادرا ممن‬
‫الكفمماءات إذ حقممق إنجممازات عظيمممة ممما زالممت راسممخة ثابتممة تقمموم دليلة قاطعمما ة علممى عظمتممه ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬
‫)) إن النبي محمداة يعد من أبرز واشهر رجال التاريخ ‪ ،‬فقمد قمام بثلثمة أعممال عظيممة دفع ة‬
‫واحدة ‪ ،‬وهى أنه أحيا شعبا ة ‪ ،‬وأنشأ إمبراطورية ‪ ،‬وأسس دينا (( ‪. 187‬‬

‫غوسإتاف لوباون )نقل عن كتاب آتيين دينيه محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.(325‬‬ ‫‪186‬‬

‫ديزريه بالنشيه ‪ :‬دراسإات في التاريخ الديني )نقل عن كتاب هذا هو السإلما ص ‪.(88‬‬ ‫‪187‬‬
‫‪99‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫محمد وأ القيادة الدينية‬
‫لقد كانت الهجرة إلى المدينة ‪ ،‬مرحلة تاريخية هامة في حياة المسلمين وفي حياة رسول السلم‬
‫‪ ،‬فمع قيام الدولة السلمية الولى في المدينة نجمت أمام الرسول قضايا هامممة فممأبرزته قائممداة دينيمما ة‬
‫وسياسيا ة وعسكريا ة ‪ . .‬وهنا سنعالج موضوع القيادة الدينية ‪ ،‬كصاحب دعوة ورسالة ‪. . .‬‬

‫الرسول ‪ ‬وأميوله الفطرية لديانة التوحيد‬


‫لقد عرفنا من دراستنا سيرة الرسول ‪ ‬أنه كان ل يدين بدين قبيلته ‪ ،‬وينممأى بجممانبه عممن عبممادة‬
‫الوثان ‪ ،‬ولقد قمماده تفكيممره إلمى اعتنمماق مبمداة الحنيفيمة ‪ -‬ديممن إبراهيمم عليمه السملم ‪ -‬تبعما ة لميلمه‬
‫الفطري للدين ‪ ،‬واقترابه من معرفة الحقيقة الزلية بوحدانية ال ‪.‬‬

‫الرسول وأالروأح الكفاحية في نشر السلم‬


‫حين صدع الرسول ‪ ‬بالرسالة ‪ ،‬كان ذلك المناضل العنيد في سممبيل نشممر المدعوة السملمية ‪،‬‬
‫تحفزه تلك الروحا الكفاحية العالية ‪ ،‬في جممو معمماد كممل العممداء ‪ ،‬لكممن إيمممانه بصممدق نبمموته وصمملبة‬
‫إرادته ‪ ،‬وقوة شخصيته مكنته جميعا ة من أن يكسممب القلمموب ويؤلممف بينهمما فظهممرت تلممك المجموعممة‬
‫السلمية المناضلة ‪ ،‬التي اقتفممت نهجممه حممتى النهايممة ‪ ،‬فهمماجرت مممن مكممة إلممى المدينممة ‪ ،‬ومممن ثممم‬
‫توحدت مع النصممار فممي جبممة نضممالية ‪ ،‬مكنممت الرسممول ‪ ‬أخيممراة مممن أن يبسممط شممرعة السمملم‬
‫التوحيدية ‪ ،‬ويلغي عبادة الصنام الوثنية ‪ ..‬يقول المفكر واشنطن ارفنج في محاضممرة لمه ألقاهمما فممي‬
‫ميلد الرسول عام ‪: 1936‬‬

‫)) لم يكن محمد محبا ة للدنيا قط ‪ ،‬وقد لقي من الستهزاء مممن قممومه والهانممات ‪ ،‬حممتى اضممطر‬
‫إلى الهرب ‪ ،‬وكانت له آراء عالية ‪ ،‬واعتقاد حسن بربه ‪ ،‬ويقين بشريعته فوق كل يقين ‪ ،‬أي رسول‬
‫من الرسل هو ؟ ويدلنا على ذلك قوله ‪ " :‬لو وضعوا الشمس في يميني والقمر فممي يسمماري علممى أن‬
‫أترك هذا المر ما تركته" (( ‪. 188‬‬

‫لقد كانت الروحا النضالية ‪ ،‬التي كافح الرسول بها بصلبة إرادة ‪ ،‬وعزم ل يليممن مثممار إعجمماب‬
‫الباحثين من الشرق والغرب ‪ ،‬لدرجة لم يقدر معها المفكر الفرنسممي الكممبير فرانسمموا فولممتير ‪ ،‬رغممم‬
‫علمانيته ‪ ،‬أن يكتم إعجابه بتلمك الشخصمية الفمذة للمناضمل والداعي ة المديني فمي شمخص الرسمول ‪،‬‬
‫فيقول ‪:‬‬

‫و اشنطن ارفنج ‪ :‬نقل عن مجلة الرفيق المجلد الثاك العدد الراباع‪.‬‬ ‫‪188‬‬
‫‪100‬‬

‫)) أن في نفس محمد لشيئا ة عجيبا ة طريفا ة رائعا ة يحمل النسان على العجاب والتقدير ‪ ،‬ولعمممري‬
‫إن الرجل وقف وحده يدعو إلى ا ‪ ،‬ويتحمل الذى في سبيل هذه الممدعوة سممنوات عديممدة ‪ ،‬وأمممامه‬
‫الجموع المشركة ‪ ،‬تعمل جهدها لمعاكسته وقتل فكرته ‪ ،‬إنه إذاة يستحق كل تقدير وتمجيد (( ‪. 189‬‬

‫الطبيعة الدينية للرسول‬


‫لقد كان الرسول ‪ ‬احد أبرز رجالت التاريخ من حيث الثبات علممى المبممداة ‪ ،‬والخلص فممي‬
‫تطبيق العقيممدة ‪ ،‬وكممل ذلممك نممابع مممن طممبيعته الدينيممة وصمملبة شخصمميته ‪ ،‬يقممول البمماحث الفرنسممي‬
‫المستشرق ادوار مونتيه في مؤلفه ‪ " :‬محمد والقرآن " ‪:‬‬

‫)) أن طبيعة محمممد الدينيممة تممدهش كممل بمماحث مممدقق نزيممه المقصممد‪ ،‬بممما يتجلممى فيهمما مممن شممدة‬
‫الخلص ‪ ،‬فقد كان محمد مصلحا ة دينيا ة ذا عقيدة راسخة ‪ ،‬ولم يقم إل بعد أن تأمل كثيراة وبلغ سممن‬
‫الكمال بهاتيك الدعوة العظيمة ‪ ،‬التي جعلته من أسطح أنمموار النسممانية فممي الممدين ‪ ،‬وهممو فممي قتمماله‬
‫الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند أبناء زمنه ‪ ،‬كان في بلد العرب أشبه بنبي مممن أنبيمماء بنممي‬
‫إسرائيل الذين نراهم كبارا جداة في تاريخ قومهم ‪ ،‬ولقد جهل كثيراة من النماس محممداة بخسموه حقمه ‪،‬‬
‫ذلك لنه من المصلحين النادرين ‪ ،‬الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها(( ‪. 190‬‬

‫يؤكد هذا الباحث فكرته تلك ‪ ،‬بوصف رسول ا ‪ ‬بممأنه نممبي مممن النبيمماء يسممائل فممي جزيممرة‬
‫العرب أنبياء التوراة لدى العبرانيين القدماء‪ ،‬كما يتطرق إلى نضاله لخراج أمته من ضلل الوثنية‬
‫والخلق المنحطة إلى معارج الوحدانية والصلحا ‪ ،‬بتلك الحمية الدينية العظيمة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))كان محمد نبيا ة بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء ‪ ،‬ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة‬
‫ل صلة لها بالوثنية ‪ ،‬وأخذ يسعى لنتشال قومه من ديانممة جافممة ل اعتبممار لهمما بممالرة ليخرجهممم مممن‬
‫حالة الخلق المنحطة كل النحطماط ‪ ،‬ول يمكمن أن يشمك ل فمي إخلصممه ول فمي الحميمة الدينيمة‬
‫التي كان قلبه مفعما ة بها(( ‪. 191‬‬

‫الهدم وأ البناء‬
‫كانت رسالة السلم ‪ ،‬المتي دعما إليهما النمبي ‪ ‬رس الة بنماء ‪ ،‬لكنمه لمم يشمد بنماءه علمى أسمس‬
‫المجتمع القديم ‪ ،‬و إنما على أسس جديدة ‪ ،‬ول سبيل إلى تحقيق غاياته السامية هذه إل بهمدم أسممس‬
‫المجتمع القديم المبني على الوثنية ‪ ،‬ليشيد صرحا السلم ‪ .‬فل بناء دون هممدم ‪ ،‬ول فكممر جديممد دون‬
‫معارضة القديم ‪.‬‬

‫ف‪ .‬فولتير ‪ :‬محمد‪.‬‬ ‫‪189‬‬

‫ادوار مونتيه ‪ :‬محمد و القرآن ‪.‬‬ ‫‪190‬‬

‫ادوارد مونتيه ‪ :‬المصدر الساباق )نقل عن كتاب عقيدة المؤمن ‪ ،‬ص ‪.(24‬‬ ‫‪191‬‬
‫‪101‬‬

‫السلم جاء متمما ا للرسالت السابقة‬


‫لقد جاءت رسالة السلم التي حملها الرسول وبشر بها في جزرة العرب ‪ ،‬لتتم ل لتنقص ‪ ،‬فقممد‬
‫صرحا الرسول مراراة بأن الرسممالة السمملمية همي متمممة لممما سممبقها مممن رسمالت سمماوية وكمذلك‬
‫خاتمتها ‪ ،‬كما أنه خاتم المرسلين ‪ .‬يقول الممدكتور وغسممطون كريسممتا اليطممالي فممي كتممابه ‪ :‬الكياسممة‬
‫الجتماعية « ‪:‬‬

‫)) كان محمد يعلن أنه رسول ا تعإلى ‪ ،‬لصمملحا ديممن إبراهيممم المطهممر الممذي أفسممده أبنمماؤه ‪،‬‬
‫وأقام العبادة القويمة التي أنشأها ذلك النبي ‪ ،‬فسدت على مر الزمن ‪ ،‬وليؤيد وهو ‪ -‬خاتمممة الرسممل‬
‫‪ -‬ما كان ا أنزله على من سلفه من النبياء ‪ :‬موسى وداود وأشعيا وعيسى ‪.‬‬

‫إذ هذه الجدران العالية ‪ ،‬لدليل على قوة عظيمة لمحمد ‪ ،‬مثال القيادة ورمز السياسة (( ‪. 192‬‬

‫الصلح الديني من الوثنية إلى الوحدانية‬


‫غير أن النقطة الهامة التي يقممف عنممدها معظممم البمماحثين هممي دور الرسممول ‪ ‬ف ي تحقي ق نقل ة‬
‫نوعية من تاريخ العرب والشعوب التي دخلت فيما بعد الحظيرة السلمية ‪ ،‬هي في نقلها من الوثنية‬
‫إلى الوحدانية ‪...‬‬

‫إ ذا كان الرسول يحمل في نضاله ورسالته برنامجا ة ثوريا ة إصلحيا ة للمجتمع ‪ ،‬أبرزه كمصمملح ‪،‬‬
‫فإن إصلحه هذا قد امتد حتى كل جوانب الحياة جميعا ة ‪ :‬دينيا ة وسياسيا ة واجتماعيمما ة واقتصمماديا ‪ ،‬فقممام‬
‫بتنظيم المجتمممع علمى قاعمدة المسماواة والعمدل وفممي ظممل الحريمة الفكريممة والدينيممة والسممماحة بيممن‬
‫الشعوب ‪ ،‬كل ذلك في إطار أخوة إسلمية عريقة بإنسانيتها كريمة بمثلها ‪.‬‬

‫الصلح الديني انطلقا ا من أن السلم دين وأدوألة‬


‫وهنا ل بد أن نقف عند حدود جانب الصلحا الديني ‪ ،‬بممما يحملممه السمملم كممدين وعقيممدة ‪ ،‬مممن‬
‫فعالية للتغيير إلى الفضل والسمى ‪ . .‬فعمليا ة كانت تلك النقلة الثورية العظيمة في مضامينها بانتقال‬
‫مجتمع الجزيرة العربيممة مممن الشممرك إلممى اليمممان ‪ ،‬فممي مجتمممع الخمموة السمملمية ‪ ،‬يقممول الكمماتب‬
‫الروسي ليون تولستوي في كتابه ‪ » :‬النسان والحياة « ‪:‬‬

‫)) إن محمداة نبي السلم الذي آمن به الن أكثر من مئتي مليممون نفممس ‪ ،‬قممد قممام بعمممل جليممل ‪،‬‬
‫فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الهلية وسفك الدماء وتقممديم الضممحايا البشممرية إلممى‬
‫معرفة الله الواحد ‪ ،‬وأنار أبصممارهم بنممور اليمممان ‪ ،‬وأعلممن أن جميممع النمماس متسمماوون أمممام اللممه‬
‫د‪ .‬وغسطون كريستا ‪ :‬الكياسإة الجتماعية )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(114‬‬ ‫‪192‬‬
‫‪102‬‬

‫سبحانه ‪ ،‬والحق الذي ل مراء فيه ‪ ،‬أن محمداة قام بعمل عظيم وانقلب كبير في العالم (( ‪. 193‬‬

‫الوحدانية جوهر السلم‬

‫بينما يرى المفكر ميسمر أن الدور العظيم الذي اضطلع به الرسول ‪ ، ‬ه و إس قاط الض للت‬
‫التي كان العرب يؤمنون بها إلى اقتراب من الحقائق الزلية فكان أن انتصر جوهر الدين السمملمي‬
‫الذي هو الوحدانية ‪ ،‬يقول ميسمر ‪:‬‬

‫)) وعند الفلسفة المحققين أن الرجال أولي العظمة الذين تبقى أعمالهم علممى مممدى الممدهر ‪ ،‬هممم‬
‫من أهل النباهة الكبرى الذين يجيئون لصلحا العالم ‪ ،‬وشفاء عصرهم من مرضه ‪ ،‬وما فعله محمد‬
‫هو أنه لما رأى ضلل الناس في معرفة الخليقة ‪ ،‬عزم على إرشادها ‪ ،‬وتطبيق قوانين الطبيعة على‬
‫أمور العالم ‪ ،‬بقدر ما كان معروفا ة في ذلك الوقت ‪ ،‬لذلك أعلن الوحدة اللهيممة ‪ ،‬بممدلة مممن الخرافممات‬
‫التي مقتضاها تثليث إله ‪ ،‬وجعله مركبا ة من الب والبن وروحا القدس ‪ ،‬فالوحدانية هممي أسمماس ديمن‬
‫السلم وسبب نصرة محمد (( ‪.194‬‬

‫من الوثنية الصماء إلى الوحدانية المتنورة‬


‫أما المفكر اليرلندي الكبير برنارد شو ‪ ،‬فقد أكبر عظمة الرسول الدينية ‪ ،‬في تلك النقلة الجبارة‬
‫التي حققها طفرة من الوثنية الصماء إلى الوحدانية المتنورة ‪ ،‬فكتب يقول ‪:‬‬

‫)) قطع محمد بعد المسيح بستمائة عممام خطمموة إلممى المممام ضممخمة هائلممة مممن الوثنيممة الصممماء‬
‫الموات إلى وحدانية متنورة ‪ ،‬بيد أنه وإن مات فاتحا ة ‪ ،‬وتخلممص بممذلك مممن أن يكممون رئيسمما ة لغرفممة‬
‫تعذيب عربية ‪ ،‬وجد من المستحيل أن يشد قومه العرب إلى عقيدته اللهية دون ترغيبهممم وترهيبهممم‬
‫بوعود في النعيم للمؤمنين ‪ ،‬ووعيد في العذاب الليم للشقياء الجاحدين ‪ ،‬بعد انفصال أرواحهم عممن‬
‫أبممدانهم ‪ ،‬كممما أنممه رضممي أيضمما ة ‪ ،‬ولكممن بعممد عديممد الحتجاجممات الصممادقة المخلصممة ‪ ،‬بالصممفات‬
‫الخارقة ‪ ،‬التي الصقتها به عقلية أتباعه الخرافية الصبيانية ‪ ،‬وهكذا فإنه يحتاج اليوم أيضا ة إلى إعادة‬
‫استكشافه من جديد ‪ ،‬والتعرف إلى طبيعته الحقيقة قبل أن يعود السلم كإيمان حي (( ‪. 195‬‬

‫الرسول الشخصية الدينية الوأفر نجاحا ا‬


‫وإذا كان التاريخ النساني يؤكد على أن المجتمعات البشرية ‪ ،‬قد عرفت منذ نشوئها الكممثير مممن‬
‫المصلحين الدينيين والنبياء المرسلين ‪ ،‬فإن النجاز العظيم الذي حققه الرسممول محمممد ‪ ‬لممم يبلغممه‬
‫أي من أولئك السابقين من النبياء أو اللحقين ‪ -‬من المصلحين ‪ ، -‬وهذا ممما أثممار دهشممة الحركممة‬

‫ليون تولستوي ‪ :‬النسان و الحياة )المصدر الساباق ص ‪.(123‬‬ ‫‪193‬‬

‫ميسمر ‪ :‬السإلما في الشرق )المصدر الساباق ص ‪.(137‬‬ ‫‪194‬‬

‫بارنادشو ‪ :‬الزنجية تبحث عن ا ص ‪.213‬‬ ‫‪195‬‬


‫‪103‬‬

‫الستشراقية ‪ ،‬بمختلف اتجاهاتها ‪ ،‬وقد جاء في الموسوعة البريطانيممة الطبعممة الحاديممة عشممر‪ ،‬تحممت‬
‫مادة "القران " ما يؤكد هذه الحقيقة ‪ ،‬ويقممدم الممدليل علممى النجمماحا المممذهل الممذي حققممه فممي مجتمعممه‪،‬‬
‫بقولها ‪:‬‬

‫))كان محمد بين شخصيات العالم الدينية جميعا ة ‪ ،‬أوفرهم حظا ة من النجاحا (( ‪. 196‬‬

‫لقد صهر الرسول ‪ ‬أمته المشرذمة إلى قبائل متناحرة في أمة إسلمية ‪ ،‬بقيت ثابتة على مممدار‬
‫التاريخ » مقاومة أسباب الفنمماء « ويتحممدث الكمماتب الفرنسممي الكممبير غوسممتاف لوبممون عممن النجمماحا‬
‫العظيم الذي حققه الرسول ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) فمما ل ريب فيه أن محمداة أصاب في بلد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات الممتي‬
‫ظهرت قبل السلم ومنها اليهودية والنصرانية ولذلك ل ترى حداة لفضل محمد على العرب(( ‪. 197‬‬

‫الصلح السلمي وأخير الدنيا وأالخرة‬


‫ويتحدث الدكتور نجيب أرمنازي ) ‪ ( 1887 - 1819‬في كتابه ‪" :‬الشرع الدولي في السلم"‬
‫عن ذلك الحدث الديني العظيم بقوله ‪:‬‬
‫)) كان العرب لما بعث محمد فيم على الفطرة البيضاء النقية ‪،‬لم يكدرها مكدر ‪ ،‬و لممم يبعممث‬
‫برونقها عابث ‪ ،‬تتطلع إلى أمر عظيم ‪ ،‬و خطب جسيم ‪ ،‬قد استكنت من المواهب الشممريفة و القمموى‬
‫الكامنة ‪ ،‬والعزائم الشديدة ما يسمو كالنار إلى إشاعة ذكره ‪ ،‬وتعرف خبره ‪ ،‬واستفاضت فيممما روحا‬
‫الحياة ‪ ،‬وشاع في الناس نبا ة حادث ديني كبير‪ ،‬يكون عنوان تاريخ جليل ‪ ، -‬فقد ظهر السمملم فممي‬
‫عنفوان تلك البعثة ‪ ،‬وأصاب بدعوته شاكلة القلوب ‪ ،‬ودانت له العرب ‪ ،‬فأصلح بينهم وجمع كلمتم ‪،‬‬
‫وجينئممذ نفممروا مممن الباديممة ‪ ،‬وانتشممروا فممي أقطممار الرض ‪ ،‬تنقمماد لهممم أعنممة المممم انقيمماداة يشممابه‬
‫المعجزات ‪ ،‬ولما أظهر محمد دعوته قال لعشيرته القربين ‪» :‬ما أعلممم أن إنسممانا ة فممي العممرب جمماء‬
‫قومه بأفضل كما جئتكم به ‪ ،‬فقد جئتكم بخير الدنيا والخرة «(( ‪. 198‬‬

‫الصلح الديني وأالمبدأ الراسخ‬


‫أمما المستشمرق البريطماني ج ون ديفولب وت ) ‪ ( 1902 ~ 1832‬فيتحمدث عمن الصملحات‬
‫الدينية والجتماعية الخالدة في جزيرة العرب ‪ ،‬والمبدأ الراسخ الذي ما زالممت النسممانية تعمممل بممه ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬

‫)) هل بالمكان إنكار فضل محمد نبي العرب الذي قام بإصلحات غريبة وعظيمة فكانت خالدة‬

‫‪ 196‬الموسإوعة البريطانية ‪ ،‬مادة القران )نقل عن كتاب حياة محمد و رسإالته لمولنا محمد علي ‪،‬‬
‫ص ‪.(279-278‬‬
‫‪ 197‬غوسإتاف لوباون )نقل عن روح الدين السإلمي ص ‪.(440‬‬
‫‪ 198‬نجيب أرمنازي ‪ :‬الشرع الدولي في السإلما ص ‪.56‬‬
‫‪104‬‬

‫لبلده ‪ ،‬فقد جعل أهلها يعبدون ا ويهجرون عبادة الصنام )وهو الذي منع واد البنات وحرم شرب‬
‫الخمر ولعب الميسر( ‪ ،‬وترك لمته مبدءاة ل يزال ‪ ،‬وعليه يعمل المليين من الناس(( ‪. 199‬‬

‫ويتحدث الكاتب السلمي مولانا محمد على في بحثمه ع ن صمفات الرسمول المميمزة كمصملح ‪،‬‬
‫وعن عظيم ما قام به ‪ ‬في تحويل المجتمع الغارق في الجهالة وضروب الفساد الديني والخلقممي‬
‫والجتماعي ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) والواقع أن أيما مصلح لم يجد قط شعبه غارقا ة في الممدرك السممفل مممن الجهالمة بقمدر مما كمان‬
‫العرب غارقين عند ظهور الرسممول ‪ .‬كممانوا يجهلممون المبمماديء الحقممة فممي الممدين والسياسممة والحيمماة‬
‫الجتماعية على حد سواء ‪ .‬ولم يكن لديهم فن عظيم أو علم وافر يتباهون بهما ‪ ،‬ل ولم يكن لهممم أي‬
‫اتصال بسائر أجزاء العالم ‪ .‬وكممان التماسممك القممومي شمميئا مجهممولة لممديهم ‪ ،‬إذ كممانت كممل قبيلممة مممن‬
‫قبائلهم تشكل وحدة مستقلة بينها وبين زميلتها ما صنع الحداد ‪ .‬وكانت اليهودية قممد بممذلت قصممارى‬
‫جهدها لصلحهم ‪ ،‬ولكن على غير طائل ‪ .‬وكانت النصرانية أيضا ة قد أخفقت في محاولت مسائلة‪.‬‬
‫كذلك فشلت حركة الحناف ‪ ،‬التي نشأت على نحو واهن ‪ ،‬كفشل الحركتين السابقتين ‪ ،‬وتلشت من‬
‫غير أن تخلف أيما أثر في المجتمع العربي ‪ .‬وإنما بعث الرسول الكرم لنتشال شممعب كهممذا الشممعب‬
‫الضائع من وهدة الجهالة ‪ .‬فما هي غير سنوات معدودات حممتى محمما جميممع ضممروب الفسمماد الممديني‬
‫والخلقي والجتماعي الراسخة الصول في بلد العرب ‪ ،‬و حتى خلق تربة تلك الديار ‪ -‬إذا جمماز‬
‫التعبير ‪ -‬خلقا ة آخر ‪ .‬لقد حل أصفى شمكل ممن أشمكال الوحدانيمة محمل صمنوف الخرافمات واشمكال‬
‫الوثنية المنحطة ‪ .‬فإذا بأبناء الصحراء نصف الممبرابرة أنفسممهم يفعممون بحميممة جديمدة لقضممية الحممق‬
‫إفعاما ة حملهم إلى أقاصي العالم ليؤدوا رسالة ا ‪ .‬وفي ما يتصل بعبادة الخالق ‪ ،‬بزوا أعظيم الزهاد‬
‫والنساك ‪ ،‬من غير أن يرفضوا العالم أو يتخلوا عنه ‪ .‬فما إن يطرق الذان مسامعهم فممي غمممرة مممن‬
‫حياتهم اليومية الناشطة ‪ ،‬حتى يطرحوا همومهم الدنيوية ويسجدوا خاشعين للممرب ‪ .‬وكممانوا ينفقممون‬
‫معظم لياليهم في عبادة ال ‪ .‬وهكذا فقد كانوا ‪ ،‬برغم وجممودهم فممي هممذا العممالم ‪ ،‬منفصمملين عممن هممذا‬
‫العالم ‪ .‬وبالتالي فإن صلواتهم كان يلزمها دائما ة إيمان حي لم يعرفه أيما ناسك معتزل في صممومعته‬
‫البتة (( ‪. 200‬‬

‫صلحية السلم لكل المم‬


‫وانطلقا ة مما حققه السلم من إصلحا في المجتمممع العربممي فممي تلممك النقلممة التاريخيممة الرائعممة‪،‬‬
‫يرى المستشرق اليطالي ميخائيل إيمارى في كتابه » تاريخ المسمملمين « أن السمملم بفضممل كممماله‬
‫صالح لكل المم ‪:‬‬

‫)) لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكممون دينمما ة لكممل المممم لنممه‬
‫دين كمال ورقي ‪ ،‬دين دعة و ثقافة ‪ ،‬دين رعايمة وعنايمة ‪ ،‬ول يسممعنا أن ننقصمه ‪ ،‬وحسمب محممد‬
‫ثناء عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته (( ‪. 201‬‬
‫جون ديفولبوت ‪ :‬العجائب )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(185‬‬ ‫‪199‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.279‬‬ ‫‪200‬‬

‫ميخائيل ايماري ‪ :‬تاريخ المسلمين‪.‬‬ ‫‪201‬‬


‫‪105‬‬

‫عالمية الرسالة السلمية‬


‫أن الرسالة التي حملها النبي محمد ‪ ،‬لم تكن مطلقا ة لشعب بذاته دون غيره ‪ ،‬أو لجنس دون سواه‬
‫‪ ،‬بل كانت رسالة عالمية ‪ . . .‬والرسول الكريم الذي بعثه ا كمصلح ‪ ،‬ما انفك يناضل في الجزيرة‬
‫العربية ‪ ،‬حتى عم فضل الرسالة الممتي حملهمما فشمممل النسممانية جمعمماء ‪ ،‬وهممذا ممما ميممزه عممن سممائر‬
‫أصحاب الرسالت السابقة ‪ ،‬يقول مولنا محمد على ‪:‬‬

‫)) والنقطة الثانية التي تميز محمداة من سائر المصلحين الروحيين العظممام وأنبيمماء العممالم تتصممل‬
‫بعالمية رسالته ‪ .‬فقد حمل كل نبي رسالة كل من أولئممك النبيمماء مقصممورة علممى شممعب بعنممه ‪ .‬فقممد‬
‫حمل كل نبي رسالة النور والهداية إلى أمه مخصوصة أو بلد مخصوص ‪ .‬وليمس ممن ريمب فمي أن‬
‫تطهير النفس البشرية كانت هي رسالة كممل منهممم ‪ ،‬ولكممن هممذه الرسممالة كممانت محممدودة دائممما ة ‪ .‬آممما‬
‫رسالة محمد فكانت كونيه ‪ ،‬ونوره كان عالميا ة ‪ ،‬ونطاق مشاركته الوجدانيممة كممان يسممتغرق البشممرية‬
‫كلهمما ‪ .‬مممال تعممالى ‪ :‬و ممما أرسمملناك إل رحمممه للعممالمين )‪  (21/107‬وقممال ‪  :‬وم ا أرسمملناك‬
‫إل كافة للناس بشيراة و نذيراة ولكن أكثر الناس ل يعلمون )‪  ( 34/28‬وقال ‪  :‬تبارك الممذي نممزل‬
‫الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراة ) ‪  ( 52/ 1‬وقال ‪  :‬قل يا أيها الناس إني رسول إليكممم‬
‫جميعا ة )‪ ،  ( 7/158‬والواقع أن هذه اليات ل تعدو أن تكون قلة من كثر نص فيها القممرآن الكممرم‬
‫على أن الرسول قد بعث للنهوض بالجنس البشرى كله ‪ .‬وفوق هذا ‪ ،‬فإن القرآن الكريم يتحدث عن‬
‫نفسه فيقول ‪  :‬وما تسألهم عليه من أجر ‪ ،‬إن هو إل ذكر للعالمين ) ‪.  ( 12/104‬‬

‫لقد أتى على النسانية حين من الدهر كمانت مجمزأة فيمه إلمى ع دة » مقصمورات « كتيممة ‪ ،‬إذا‬
‫جاز التعبير ‪ .‬كانت كل أمة منكمشة على نفسها ضمن تخوم وطنها ‪ ،‬منعزلة كل النعزال عن سائر‬
‫المم ‪ .‬كانت وسائل المواصلت محدودة ‪ .‬وطبيعي أن ل يتوقع المرء في مثل هذه الحوال اتسمماعا ة‬
‫في العقلية كبيراة ‪ .‬فقد كان استشراف كل أمة مقصممورا علممى بيئتهمما المباشممرة ‪ ،‬فهممي تحسممب نفسممها‬
‫الكل في الكل ‪ .‬وهكذا لم يكن في مسمتطاع الحكممة اللهيمة إل أن تبعمث إلمى كمل أم ة بنمبي مسمتقل‬
‫كيفممت رسممالته وفممق حاجاتهمما وأحوالهمما الخاصممة ‪ .‬ولقممد أدى هممؤلء النبيمماء المختلفممون مهمت هممم‬
‫الخصوصية ‪ :‬أعني إحياء أمة بعينها ‪ .‬ولكن طاقتهم الروحية كانت ‪ ،‬مثل حقل رسممالتهم ‪ ،‬محممدودة‬
‫النطاق ‪ .‬فكانت الشعلة تتوهج فترة من الزمان ثم تخبو شيئاة بعممد شمميء ‪ ،‬حممتى انطفممأت آخممر المممر‬
‫انطفاء كاملة ‪ .‬وعندئذ كانت الحاجة تنشا ة إلى مصلح روحي ينير العصر المظلم ‪ .‬ومن ثم إلممى بعثممة‬
‫نبوية إثر بعثة نبوية‪ .‬ولكن بينا حققت العناية اللهية مصلحة النسممان الروحيممة ‪ ،‬باختيارهمما الرسممل‬
‫حينا ة بعد حين من بين مختلف المم ‪ ،‬أدى ذلك إلى نشوء انطباعية شممديدة الذى ‪ ،‬فقممد شممرعت كممل‬
‫أمة ‪ ،‬لجهلها بما أغدق ا على المم الخرى من أفضال مماثلة ‪ ،‬تعتقد أنها هي شعب ا المختار ‪.‬‬
‫وهذا ما غذى الفكرة الضارة القائلة بالمحاباة اللهية ‪ ،‬وما رافق ذلممك مممن شممرور ملزمممة ‪ .‬ولتقمموم‬
‫هذا الشعور بالتمييز العنصري ‪ ،‬وإزالة الحقاد التي خلقتها التخوم الجغرافيممة والجتماعيممة وبعممض‬
‫الحواجز المصطنعة ‪ ،‬ولصهر النسانية في كل واحد مممتراص ‪ ،‬شمماءت الحكمممة اللهيممة أن تبعممث‬
‫نبيا ة عالميا ة ذا رسالة إلى الجنس البشري كله ‪ ،‬نبيا ة ل تتخطى قمموته الروحيممة كممل تخممم فحسممب ‪ ،‬بممل‬
‫تحتفظ فوق ذلك بفعاليتها إلى آخر الدهر أيضا ة ‪ .‬وهكذا ها إن تمممت سلسمملة النبيمماء الملييممن بظهممور‬
‫حلقتها الخيرة ‪ ،‬يسوع ‪ ،‬الذي أرسل ‪ -‬ونحن نستعمل هنا كلماته نفسها ‪ » -‬إلى خراف السرائيليين‬
‫الضالة « حتى آن الوان لن تشممرق شمممس الروحانيممة علممى الفممق الممديني لتضمميء ‪ ،‬العممالم كلممه ‪.‬‬
‫‪106‬‬

‫وهكذا ظهر الرسول الذي كان » رحمة للعالمين « » وحرر النسانية من أصممفاد الجهممل والخرافممة‬
‫والفساد ‪ .‬وإنما كان النبياء السابقون أشبه بمصابيح إلهية كثيرة ذات ضممياء يكفممي هممذه الحجممرة أو‬
‫تلك ‪ ،‬ومن هنا مست الحاجة إلى مصابيح مختلفة تطابق مختلف المناطق الجغرافية والقوميممة ‪ .‬لقممد‬
‫سفحت نورها حولها ‪ ،‬فإذا بكل ما هممو واقممع ضمممن نطاقهمما مشممرق‪ ،‬متممألق ‪ .‬ولكممن ممما إن بزغممت‬
‫الشمس من رمال بلد العرب حتى أمست البشرية في غير حاجة إلى تلك المصممابيح ‪ .‬ولكممن ضممياء‬
‫الشمس ل يمكن أن يحل محله أيما ضياء آخر ‪ ،‬وهو كاف لنارة العالم إلى يوم يبعثون (( ‪. 202‬‬

‫إنسان فوق البشر وأ نبي من أنبياء الله‬


‫إن الروحا الكفاحية للرسول ‪ ‬نضاله الدؤوب في نشممر الممدعوة السمملمية جعلتممه رغممم بسمماطته‬
‫المتناهية في سيرته وسلوكه وأخلقه ومناقبه ‪ ،‬إنسانا ة خارق المقدرة فوق مستوى البشر‪ ..،‬لقد تناول‬
‫المستشممرق الفرنسممي مارسمميل بمموازار هممذه القضممية ‪ ،‬حيممن بحممث إقامممة الدولممة السمملمية الولممى‬
‫بمجتمعها الجنين في المدينة ‪ ،‬وكيف تمكن ممن انممتزع اعممتراف خصمومه بالجماعمة السمملمية عمن‬
‫طريق المعاهدات ‪ ،‬وكيف حقق النصر كنبي ملهم ورجل عسكري فذ ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫)) وإذا تذكرنا أخيراة على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يمتع به زعيم من زعماء‬
‫العرب ‪ ،‬والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها ‪ ،‬اسمتطعنا أن نسممتخلص أنمه ل بمد‬
‫أن يكون محمد الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير بمه إنسممانا ة فموق مسمتوى البشممر حقما ة ‪،‬‬
‫وأنه لبد أن يكون نبيا ة حقيقيا ة من أنبياء ا ((‪. 203‬‬

‫الرسول وأالحرية الدينية‬


‫لقد خاض الرسول حروبا ة عسكرية عديدة ‪ ،‬ولكن كان في جميعها مدافعا ة ‪ ،‬ولم يلجا ة إلممى السمميف‬
‫إلة حين فرض عليه ‪ . .‬ومن ثم دخل المسلمون في دين المم أفواجمما ة دونممما فممرض أو إكممراه ‪ ،‬وعممن‬
‫هذه النقطة يتحدث المستشرق الهولندي راينهارت دوزى ) ‪-1820‬مم ‪ ، ( 1884‬في مقدمممة كتممابه ‪:‬‬
‫"ملحق و تكملة القواميس العربية " ‪:‬‬

‫)) أن ظاهرة دين محمد تبدو لول وهلة لغزاة غربيا ة لسيما متى علمنا أن هذا الممدين الجديممد لممم‬
‫يفرض فرضا ة على أحد (( ‪. 204‬‬

‫الحرية الدينية وأ الخاء‬


‫لقد أثارت مباديء الحرية الدينية في السلم فيما أثارته احترام المستشرقين المنصممفين وكممذلك‬
‫الباحثين العرب المسيحيين الذين قدروا الخموة المسميحية السملمية حمق قمدرها ‪ ،‬وتطمرق السمتاذ‬
‫مولنا محمد علي ‪.282-280 ،‬‬ ‫‪202‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬انسنية السإلما ‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪203‬‬

‫راينهارت دوزي ‪ :‬في مقدمة ملحق و تكملة القواميس العرباية‪.‬‬ ‫‪204‬‬


‫‪107‬‬

‫يوسف نعيي عرافمة فممي خطبمة لمه فممي عيممد المولممد النبموي عمام ‪1346‬هممم ‪ 1927‬م إلممى معاهممدة‬
‫الرسول مع أصحاب الديانات الخرى ‪ ،‬لسيما المسيحيين منهم ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫)) إن محمداة هو باني أساس المحبة والخاء بيننا ‪ ،‬فقد كان يحب المسيحيين ويحميهم ‪ ،‬من ذلك‬
‫ما قام به في السنة السادسة بعد الهجرة ‪ ،‬حيث عاهد الرهبان خاصممة والمسمميحيين عامممة ‪ ،‬علممى أن‬
‫يدفع عنهم الذى ‪ ،‬ويحمي كنائسهم وعلى أن ل يتعدى على أحد من أسمماقفتهم ول يجممبر أحممداة علممى‬
‫ترك دينه ‪ ،‬وان يمدوا بالمساعدة لصلحا دينهم وأديرتهم ‪ ،‬كما أن القممرآن نطممق بمحبممة المسمميحيين‬
‫للمسلمين وبودتهم لهم ‪ ،‬وإن الية الشممريفة ‪  :‬و لتجممدن أقربهممم مممودة للممذين آمنمموا الممذين قممالوا إنمما‬
‫نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ة وأنهم ل يستكبرون ‪ ، ‬لتبعث على شد أواصر الصداقة بيمن‬
‫الطرفين ‪ ،‬بل حتى مع الشعب السرائيلي في أكثر الوقات ‪ ،‬إننا لنعلم أن ما أتى بمه الرسمل موسممى‬
‫وعيسى ومحمد ما هو إل لصلحا العالم ل لفساده وخرابمه ‪ ،‬ومما الكتمب الثلثممة المنزلمة إل نمور‬
‫صادر من بؤرة واحدة ينعكس نورها في ثلثة أشعة ‪ ،‬كل منها للبشر(( ‪. 205‬‬

‫عظمة الرسول وأ جلل نبوتاه‬


‫إن من معالم عظمة الرسول الدينية ‪ ،‬أن الرسالة التي دعا إليها وناضل في سمبيل وضمع أسسمها‬
‫في مجتمع وثني متناحر ‪ ،‬غدا وحدة إيمانية صلبة ‪ ،‬ولم تبق رسالة السلم للعرب وحممدهم بممل هممي‬
‫عالمية بظهور العالم السلمي وأمة السلم ‪ ،‬فكان ‪ ‬حسب قول الباحث بوسورث اسمث في كتابه‬
‫‪ " :‬حياة محمد " ‪:‬‬

‫))مؤسس أمة ومملكممة وهدايممة ‪ ،‬وهممذا أمممر ل مثيممل لممه ‪ ،‬وهممو المممي الممذي ل يعممرف القممراءة‬
‫والكتابة (( ‪. 206‬‬

‫أما القس الفرنسي لوازون ‪ ،‬فيتحدث عن جلل الرسول وعظمته الدينيممة بممروحا مممن النصمماف‬
‫والتجرد‪:‬‬

‫)) محمد ‪ -‬بل التباس ول نكران ‪ -‬من النبيين والصديقين وهو رسول ا ‪ ،‬بل إنه نممبي عظيممم‬
‫جليل القدر والشأن أمكنه بإرادة ا تكوين الملة السلمية وإخراجهمما إلممى الوجممود بممما صممار أهلهمما‬
‫ينيفون على الثلثمائة مليون من النفوس ‪ ،‬وداسوا بخيولهم سلطنة الرومان ‪ ،‬وبرمماحهم قطعموا دابمر‬
‫أهل الضلل إلى أن صارت ترتعد من ذكرهم فرائص الشرق والغرب(( ‪. 207‬‬

‫عبقرية النبي وأ استمرارية الرسالة‬


‫ويبقى في أساس معايير عظمة رجالت التاريممخ اسممتمرارية الرسممالت الممتي حملوهمما للنسممانية‬
‫جمعاء ‪ ،‬لن الستمرار والبقاء دللة صلحيتها لكل زمان ومكان ‪ ،‬فكيف إذا اتصل المر برسالت‬

‫يوسإف نعيم عرافة ) نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪( 110‬‬ ‫‪205‬‬

‫باوسإورث اسإمث ‪ :‬حياة محمد ص ‪.346‬‬ ‫‪206‬‬

‫لوازون ‪) :‬الشرق ‪.(62-61‬‬ ‫‪207‬‬


‫‪108‬‬

‫السماء وحملتها من النبياء البررة ‪:‬‬

‫يقول المؤرخ البريطاني فتلي ) ‪ (1890_ 1815‬في مقدمة كتابه ‪:‬‬

‫)) قد ينحرف المؤرخ عن موضوعه ليتأمل حياة رجل نممال سمملطة خارقممة علممى عقممول أتبمماعه‬
‫وعماله ووضعت عبقريته نظاما ة أساسيا ة دينيا ساميا ة سياسيا ة ‪ ،‬وما زال يحكم المليين من البشممر مممن‬
‫أجناس مختلفة وصفات متباينة ‪ ،‬وان نجاحا محمد كمشرع بين أقممدم المممم السمميوية ‪ ،‬وثبممات نظمممه‬
‫على مدى أجيال طويلة ‪ ،‬في كل نواحي الهيكل الجتماعي ‪ ،‬دليل علممى أن ذلممك الرجممل الحمماذق قممد‬
‫كونه مزيج نادر من الكفاءات (( ‪. 208‬‬

‫خادم الله وأالنسانية‬


‫إن مسيرة الرسول ‪ ،‬الكفاحية ونضاله المرير لنشر رسالة السلم قد أدت إلممى نتيجممتين هممامتين‬
‫أولها ‪ :‬خدمة وحدانية ال بإسقاط الوثنية ‪ ،‬ومن ثم خدمة النسانية كنتيجة منطقيممة بانتشممار رسممالة‬
‫السلم بين الشعوب العربية والسلمية من جهة ‪ ،‬ولكونها رسالة عالمية من جهممة أخممرى ) راجممع‬
‫بحث ‪ :‬عالمية الرسالة السلمية ( فكان أن عم خيرها البشممرية جمعمماء ‪ ،‬وقممدمت الحلممول المنطقيممة‬
‫لخلص المممم ممن مشمماكلها الجتماعيمة والقتصمادية والروحيممة ‪ . . .‬ويؤكممد القمس دافيممد بنجمامين‬
‫كلدانى ) الذي عرف باسم عبد الحد داود بعمد اعتنماقه السملم ( فمي م ؤلفه ‪ " :‬محممد فمي الكتماب‬
‫المقدس " هذه الحقيقة بأن الرسول خادم ا والنسانية بقوله ‪:‬‬
‫)) أن الخدمة الجليلة العظيمة المدهشة التي قدمها محمد ‪ ‬ل ‪ ،‬ولصالح البشر ‪ ،‬لم يقدمها أي‬
‫مخلوق من عباد ا ملكا ة كان أو نبيا ة ‪ ،‬خدمته لله فإنه اقلع جذور الوثنية من جزء كممبير مممن الرض‬
‫‪ ،‬وأما خدمته للنسان فقد قدم له أكمل دين وأفضل شريعة لرشاده وأمنه ((‪.‬‬

‫ويتابع عبد الحد داود القول ‪:‬‬


‫)) أقام دين السلم الذي وحد في أخوة حقيقية ‪ ،‬جميع المم والشعوب التي ل تشرك بالله شيئا ة‬
‫‪ .‬إن جميع الشعوب السلمية تطيع رسول ا وتحبه تحترمه ؟ لنه مؤسس دعائم دينها ‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تعبده أبداة ول ترفعه إلى مقام التقديس والتأليه (( ‪. 209‬‬

‫أن عالمية الرسالة السلمية وإنسمانيتها قمل جعلمت م ن النمبي محممد ‪ ،‬رسمول البشممرية جمعماء‬
‫وزعيم مريدي الخير للنسانية ‪ ،‬وذلك كما يرى المستشرق السويسري ممماكس فممان برشممم ) ‪1863‬‬
‫_مم ‪ ( 1921‬بمعرض حديثه عن دوره التاريخي العظيم في حياة العرب والشعوب الممتي دخلممت فممي‬
‫السلم ‪ ،‬فارتقت من وهاد الضللة إلى معارج النور والحضارة ‪ ،‬يقول فممي كتممابه ‪ » :‬العممرب فممي‬
‫آسية « ‪:‬‬
‫)) إن محمداة نبي العرب من أكبر مريدي الخير للنسانية ‪ ،‬وإن ظهور محمد للعممالم أجمممع إنممما‬
‫هو أثر عقل عال ‪ ،‬وإن افتخرت آسية بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم ‪ ،‬إن من الظلممم‬
‫الفادحا ‪ ،‬أن نغمط حق محمد المذي جماء ممن بلد العمرب وإليهمم ‪ ،‬وهمم علمى مما علمنماه ممن الحقمد‬
‫البغيض قبل بعثه ‪ ،‬ثممم كيممف تبممدلت أحمموالهم الخلقيممة والجتماعيممة والدينيممة بعممد إعلنممه النبمموة ‪،‬‬
‫فتلي ‪ :‬الحياة‪.‬‬ ‫‪208‬‬

‫دايفد بانجامين كلداني )عبد الحد داوود ( ‪ :‬محمد في الكتاب المقدس ‪.82 ،‬‬ ‫‪209‬‬
‫‪109‬‬

‫وبالجملة مهما ازداد المرء إطلعا ة على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مسممتوى النسممان ‪ ،‬إنممه‬
‫ل يجوز أن ينسب إلى محمد ما ينقصه ‪ ،‬ويدرك أسباب إعجماب الملييمن بهمذا الرجمل ويعلمم سممبب‬
‫محبتهم إياه و تعظيمهم له (( ‪.210‬‬
‫و تلخص الموسوعة البريطانية السيرة الكفاحية لحياة الرسول محمد ‪ ‬واجتهماده فمي رفمع رايمة‬
‫التوحيد وعظمته عريا ة وإسلميا وعالميا ة فقول ‪:‬‬
‫))إن محمداة اجتهد في الله وفي نجاة أمته ‪ ،‬وبالصح اجتهد في سبيل النسانية جمعاء (( ‪.‬‬
‫‪211‬‬

‫ماكس فانبرشم ‪ :‬العرب في آسإية ‪.‬‬ ‫‪210‬‬

‫الموسإوعة البريطانية‪.‬‬ ‫‪211‬‬


‫‪110‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫محمد وأ القيادة السياسية‬
‫كان الرسول عليه السلم إلى جانب ميزاته المتعددة الجوانب قائداة سياسيا ة عظيما ة ورجل دولة فذاة ‪،‬‬
‫في أمة تأخذ طريقها في البناء ‪ ،‬بعد حركة هدم ‪ ،‬والتوحد بعمد تجزئمه و تفرقممة ‪ . .‬إنهما مرحلمة‬
‫انعطاف تاريخي كبير ‪ ،‬ليممس فممي إطممار شممبه جزيممرة العممرب فحسممب ‪ ،‬بممل انعطمماف فممي حيمماة‬
‫الشعوب والمم ‪ ،‬فمرحلة عظيمة كهذه تحتاج إلى قيادة سياسية عظيمة هممي بحجممم هممذا التحممول‬
‫الكبير ‪. . .‬‬

‫القائد وأالمشرع‬
‫لقد تجلت قيادته السياسية مع بدء مرحلة التاريخ السلمي أي مع الهجرة إلى المدينة ‪ ،‬وقيام الدولممة‬
‫العربية السلمية الولى ‪ ،‬فكان عليه السلم القائد والحاكم والشرع يضع خطط البناء الداخلي ‪،‬‬
‫والمجابهة مع العدو الخارجي ‪ ،‬بتزامن غاية في الدقة والتنظيم ‪:‬‬

‫يقول هارون ماركوس ) ‪: ( 1887-1812‬‬

‫)) كان محمد زعيما ة سياسيا ة بأسمى معاني الزعامة السياسية منى معني وسيادة ‪ ،‬هممذه كممانت تتجلممى‬
‫في أروع المظاهر التي عرفها بنممى النسممان ‪ ،‬وخليممق بممي وأنمما فممي صممدر الكلم مممن الزعامممة‬
‫السياسية أن أدحض فرية وأرد بهتانا ة ‪ ،‬ل يزالن عالقين في أذهان قاصري العقول ‪ ،‬الممذين ل‬
‫يملكون ذرة من حصافة الرأي ‪ ،‬و تلك الفرية وذلك البهتان هما ما يردده أولئك الغبياء ‪ ،‬الذين‬
‫يزعمون أن ل علقة بين الدين والسياسة ‪ ،‬وأن لة رابطة تربط أحممدها بممالخر ‪ .‬إن مممن الخطممأ‬
‫أن يظن ظان هذا (( ‪. 212‬‬

‫حكمة وأبعد نظر‬


‫لقد تجلت عبقرية محمد ‪ ‬السياسية في بعد نظره وحكمته في حل المسائل العالقة والشممائكة ‪ ،‬وكممان‬
‫يخفي سرها حتى على أقرب المقربين إليه ‪ ،‬حيث يذهب بعضهم إلممى معارضممته ومحاولممة ثنيممه‬
‫عما عزم عليه ‪ ...‬من ثم يدكون بعد حين سداد رأيه وبعد نظره وليس أدل على ذلك من الميثاق‬
‫الذي عقده مع قريش وعرف فيما بعد باسم » عهد الحديبية « ‪ ،‬الممذي ظهممر فممي بممادىء المممر‬
‫وكأنه يجري لصاحا قريش‪ ،‬ومجحف بحمق المسملمين ‪ ،‬لكمن مما لبثمت أن ظهمرت خطمورة همذا‬
‫العهد على مشركي قريش أنفسهم فتوسلوا إلى الرسول بصلة الرحم أن يتجاوز ذلممك البنممد الممذي‬
‫كان في الظاهر يجري لصالحهم ‪ :‬إعادة من لجأ إليه هربا ة من براثنهم ‪ ،‬ولم يجبهم إلممى ذلممك إل‬
‫بعد أن خطيةا(‪.‬‬

‫هارون ماركوس ‪ :‬حياة محمد نبي المسلمين )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(109‬‬ ‫‪212‬‬
‫‪111‬‬

‫سداد السياسي العاقل وأ نورانية النبي الصادق‬

‫إن دارس سيرة الرسول ‪ ‬في مختلف أدوار حيمماته منممذ أن صممدع بالرسممالة ‪ ،‬ودوره العظيممم فممي‬
‫تبممديل واقممع الجزيممرة العربيممة المجممزأة وتوحيممد القبائممل العربيممة ‪ ،‬وإعلء اسممم امم فممي معقممل‬
‫الوثنية ‪ ،‬قد دللت على بعد النظر لديه وسممداد الممرأي ‪ ،‬يقممول المستشممرق السمموجي كازانوفمما )‬
‫‪ ( 1903 - 1937‬في مؤلفه ‪" :‬حضارة الشرق " ‪:‬‬

‫)) إن التعقل ونضوج الفكر اللذين دل عليهما ‪ ،‬إذ أظهر اليات الولى الموحاة إليه ‪ ،‬وحممن سياسممته‬
‫في توحيد القبائل العربيمة رغمم الخرافمات المتأصمملة ‪ ،‬وفمي تمييمز ممما ينبغمي البقماء عليمه ممن‬
‫تقاليدها القديمة ‪ ،‬كلها أدلة على أنه كان له في المور نظممر سممديد ‪ ،‬كممان يممرى الغايممة ويسممعى‬
‫إليها بغريزة السياسي العاقل ‪ ،‬ونورانية النبي الصادق على السواء ((‪. 213‬‬

‫رجل فكر وأحكم وأسلم وأحرب‬


‫إن دراسة الجوانب السياسية في حياة الرسول ونمط تفكيره ‪ ،‬تقودنا إلى أنه كان إنسانا ة عميق التفكير‬
‫‪ ،‬قبل مبعثه وفي مرحلة نشر الدعوة السلمية فممي مكممة ‪ ،‬ومممن ثممم فممي مرحلممة تأسمميس الدولممة‬
‫السلمية الولى ‪ ،‬وكان دائما ة يجنح للسلم إن هيئممت لممه أسممباب إقامممة السمملم فممي ربمموع أرض‬
‫العرب ‪.‬‬

‫يقول المفكر البلجيكي هنري ماسيه ) ‪ ( 1886 - 1820‬في كتابه ‪:‬‬

‫)) إذا بحثنا عن محمد إجماليا ة نجده ذا مزاج عصبي و فكر دائم التفكير ونفس باطنها حممزن ‪ ،‬وأممما‬
‫مداركه فهي تمثل شخصا ة يعتقد بإله واحد ‪ ،‬وبوجود حياة أخرى ‪ ،‬ويتصف بالرحمة الخالصممة ‪،‬‬
‫والحزم في الرأي والعتقاد ‪ ،‬ويضاف إليه أنه رجل حكومممة ‪ ،‬وأحيانمما ة رجممل سياسممة وحممرب ‪،‬‬
‫ولكنه لم يكن ثائراة بل كان مسالما ة (( ‪. 214‬‬

‫الكفاءة العظيمة وأالقيادة الفذة‬

‫وكان الرسول ‪ ‬الحاكم ‪ ،‬متميزاة حسممب اعممتراف المستشممرقين بالكفمماءة العظيممة والقيممادة السياسمية‬
‫الفذة ‪ . . .‬وكانت صفته القيادية بارزة طاغية على سجاياه الخرى ‪ ،‬يقول المستشرق اليطممالي‬
‫البنس كايتان في كتابه ‪ » :‬أديان العرب « ‪:‬‬

‫)) أن مزية محمد هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي مموحى إليمه ‪ ،‬وليمس فمي وسمع‬
‫أحد فهم محمداة أن يحط من كرامته ‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه وظلم محمداة ((‪. 215‬‬
‫كازانوفا ‪ :‬حضارة الشرق ‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪213‬‬

‫هنري ماسإيه ‪ :‬حول السلما ‪ ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪214‬‬

‫البرنس كايتان ‪ :‬اديان العرب ‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪215‬‬


‫‪112‬‬

‫محمد الحاكم العادل وأالداري البارع‬


‫وتجلت عبقرية الرسول فيما تجلت به بأنه رجل حكم وإدارة من الطراز الرفيع يحسن تممدبير شممؤون‬
‫الرعية ‪ ،‬بعيداة عن الهواء ‪ ،‬تحركه دائما ة سجيتان في ذاته هما العممدل والرحمممة ‪ ،‬يقودهمما عقممل‬
‫راجح يضع المور في نصابها ‪. . .‬‬

‫فالنسان ‪ ،‬النبي والمام والحاكم‪ ،‬كان يرعى شؤون العامة ويصممر علممى حسمن تطممبيق العممدل علمى‬
‫الجميع ‪ ،‬يقول المستشرق اللماني برتلمي سانت هيليار في كتابه ‪ » :‬الشرقيون وعقائدهم « ‪:‬‬

‫))كان محممد رئيسمما ة للدولمة وسمماهراة علممى حيمماة الشمعب وحريتممه ‪ ،‬وكممان يعماقب الشمخاص المذين‬
‫يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كممان يعيممش النممبي‬
‫بين ظهرانيها ‪ ،‬فكان النبي داعيا ة إلى ديانة الله الواحد ‪ ،‬وكمان فمي دع وته همذه لطيفما ة ورحيمما ة‬
‫حتى مع أعدائه وإن في شخصيته صفتين همما ممن أجمل الصمفات المتي تحملهما النفمس البشمرية‬
‫وهما العدالة والرحمة (( ‪.216‬‬

‫ولقد تحدث المفكر عبد الرحمن عزام في كتممابه ‪ » :‬بطممل البطممال « عممن الرسممول الحمماكم وحسممن‬
‫سياسته وحكمته في تصريف المور فقال ‪:‬‬
‫‪‬‬
‫)) صفة عظمى من صفات الرسول وهي مثل لرجال الدولة والسياسة والقممادة فممي جميممع ميممادين‬
‫الصلحا ‪ .‬لعلهم كذلك واجدون فيما ما يمكنهم من النجاحا ‪ ،‬فإن محمداة بما أوتي مممن الخلق ‪،‬‬
‫وما وهب من حسن السياسة ‪ ،‬و تصريف المور ‪ ،‬ووضعها في نصابها ‪ ،‬قد أوتي النجاحا الذي‬
‫لم يؤته أحد قبله ول بعده ‪.‬‬

‫هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلة عاليا ة لرجل الدولة ‪ ،‬وسترون بهمما ميممزة علممى مممن سممبقه‬
‫من النبياء والرسل والبطال ‪ ،‬ولقد كانت أكثر وضوحا ة في المدينممة حيممث اسممتلزمت الحمموال‬
‫أن يكون نبي المة وزعيمها وقائدها ‪ ،‬وحيث أخممذ التشممريع السمملمي يتنمماول الحيمماة السياسممية‬
‫والجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة ‪ ،‬حين كممانت الممدعوة ل تممزال فممي بممدايتها ‪،‬‬
‫متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بال ‪ ،‬وإنذارهم حسابه وعقابه ‪ ،‬ذلك الفرق بيممن مظهممري‬
‫الدعوة في بيئتين مختلفتين ‪ ،‬جعل بعض كتاب الملل الخرى يحاولون أن يصمموروا محمممداة فممي‬
‫شخصيتين مكي ومدني يقولون هذا نبي ‪ ،‬وهذا رجل دولة وصاحب سلطان ((‪. 217‬‬

‫ويتحدث الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتابه » محمممد فممي المدينممة « عممن عظمممة الرسممول‬
‫ومواهبه التي امتاز بها ‪ ،‬وكانت وراء نجاحه وإنجازاته الكبيرة ‪ ،‬فهو إلى جانب موهبته لرؤية‬
‫المستقبل وإدراكه الواقع الجتماعي ‪ ،‬ذو ميزتين اثنتين هما ‪ :‬كونه رجممل دولممة حكيممما ة وإداريمما ة‬
‫بارعا ة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫بارتلمي سإانت هيليار ‪ :‬الشرقيون و عقائدهم ص ‪.39‬‬ ‫‪216‬‬

‫عبد الرحمن عزاما ‪ :‬باطل الباطال ‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪217‬‬


‫‪113‬‬

‫‪‬‬
‫)) وكان محمد رجل دولة حكيما ة ‪ .‬ولم يكن هدف البناء الساسي الممذي نجممده فممي القممرآن الكريممم‬
‫سوى دعم التدابير السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية ‪ .‬ولقد ألححنا خلل هذا الكتاب غالبا ة‬
‫على استراتيجية محمد السياسية البعيدة النظر وعلى إصلحاته الجتماعية ‪ .‬ولقممد دل علممى بعممد‬
‫نظره في هذه المسائل النتشار السريع الذي جعل مممن دولتممه الصممغيرة إمبراطوريممة ‪ ،‬وتطممبيق‬
‫المؤسسات الجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلل أكثر من ثلثة عشر قرنا ة ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫وكان محمد رجل إدارة بارعا ة ‪ .‬فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجممال الممذين ينممدبهم للمسممائل‬
‫الدارية ‪ ،‬إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئا ة مممتردداة ‪.‬‬
‫وكانت الدولة التي أسسها محمد ‪ ،‬أصبحت عند وفاته ‪ ،‬مؤسسة مزدهممرة تسممتطيع الصمممود فممي‬
‫وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها ‪ ،‬ثم إذا بها بعد فترة تتلءم مع الوضمع الجديمد وتتسممع‬
‫بسرعة خارقة اتساعا ة رائعا ة (( ‪. 218‬‬

‫القيادة وأالتشريع بين مكة وأالمدينة‬


‫هذا ‪ ،‬وكان للختلف بطبيعة واقع الحال بين مكة قبل الهجرة وفي المدينة بعدها ‪ ،‬أن ذهممب بعممض‬
‫‪‬‬
‫المستشرقين إلى القول بأن محمداة كان نبيا ة في مكة وقائداة سياسيا ة ومشممرعا ة ورجممل دولممة فممي‬
‫المدينة ‪ ،‬وهذا ما دفع المستشرق الفرنسي بوازار إلى عرض هذه الفكرة ومناقشتها ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) وكثيرا ما يذاع أن محمداة بين في المرحلة الولى من دعوته أفكار السلم العقيديه الساسية ‪ ،‬ثم‬
‫بسط في زمن لحق طرق العبادة و إقامة الشعائر ‪ ،‬والتشممريع الجتممماعي والجزائممي ‪ ،‬وجممماع‬
‫الشريعة القرآنية التي قام عليا السلم فممي أوائممل عهممده ‪ .‬وبعممد أن كممانت دعمموته عربيممة بشممكل‬
‫أساسي في مكة ‪ ،‬غدت عالمية الطابع في المدينة ‪ .‬وقد أكد النقد التاريخي هذا التكهممن بصممورة‬
‫جزئية على صعيد تسلسل الحداث بمفهومه الدقيق غير أن المسلم يعلل الوقممائع بشممكل مغمماير ‪.‬‬
‫فليس للتنزيل بالفعل في نظره مظهران ‪ ،‬مظهر ديني وآخر اجتممماعي سياسممي ‪ .‬بممل هممو يتمثلممه‬
‫على العكس من ذلك كل مقدما ة بشكله الجمالي‪ .‬واعتمد السلم في أول أمره النمماة والقنمماع ‪،‬‬
‫وما كان للمرحلة التشريعية أن تتحقق إل حين تكون جنين مجتمع تضامني ‪ ،‬وعليممه يكممون هممذا‬
‫المجتمع قد ظهر منطقيا ة في مرحلة تالية على مرحلة التبشممير بالحيمماة الخممرى ‪ .‬وفممي مكممة بممداة‬
‫السلم بإعداد الفراد ‪ -‬المسلمين الوائل ‪ -‬الذين كانوا بحاجة ‪ ،‬وهممم بعممد أقليممة مضممطهدة ‪،‬‬
‫إلى خلق ل إلى تشريع اجتماعي ما كانوا ليستطيعوا أن يطبقوه ‪ .‬وفيما بعد أقام السلم بالمدينممة‬
‫من الفراد الذين سبق إعدادهم عن طريق الدين مجتمعا ة قائممما ة علممى المسمماواة والتعمماون و بممادل‬
‫المنافع ومزوداة نظم أوحى بهمما مممن المم أو مسممتلهمة مممن نممور هممدايته ‪ .‬ول يقلممل هممذا التسلسممل‬
‫الزمني للحداث الذي يرسم مسار ولدة المجتمع السلمي من طابع الممدين الشمممولي ‪ ،‬بممل هممو‬
‫على العكس يعظم من شأنه (( ‪. 219‬‬

‫وقد ناقش الباحث العربي السملمي عبممد الرحممن عمزام بعممض آراء المستشمرقين ‪ ،‬ممممن رأوا فممي‬
‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.511‬‬ ‫‪218‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.46-45‬‬ ‫‪219‬‬


‫‪114‬‬

‫الرسول نبيا ة في مكة ‪ ،‬ورجل دولة في المدينة بقوله ‪:‬‬

‫)) لو أن الذين يظنون هذا الظمن كمانوا بعيمدي النظمر لمرأوا محممداة ال واعظ فمي مكمة ‪ ،‬همو محممداة‬
‫الناسك في المدينة ‪ ،‬الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي ا ‪ ،‬والذي يممموت وهممو رأس‬
‫الدولة ‪ ،‬ودرعه مرهونة عند يهودي ‪.‬‬

‫بل لرأوا محمداة الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة في الطممائف بالسممخرية والحجممارة ويقيمممونه إذا‬
‫جلس من العياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداة الذي يناول مفتاحا الكعبممة لعثمممان بممن طلحممة‬
‫يوم الفتح ويقول ‪ :‬اليوم يوم بر ووفاء ‪.‬‬

‫لو أن هؤلء الذين جعلوه نبيا ة في مكة ‪ ،‬ورجل دولة في المدينة لحظموا كيمف وضمعت نمواة الدولمة‬
‫في أيام المحنة ‪ ،‬لما حسبوها من غرس يثرب بل علموا أنها نتيجة محتومممة للصممراع العنيممف ‪،‬‬
‫الذي دام ثلث عشرة سنة ‪ ،‬ونتاج للدعوة من وقت أن قال ا عز وجل ‪  :‬فاص دع بم ا تممؤمر‬
‫وأعرض عن المشركين ‪. ‬‬

‫فذات الرسول التي وقف ت فمي وج ه المشمركين ثلثممة عشمر عامما ة بمكممة ل تعجمز ‪ ،‬ول تهمن ‪ ،‬ول‬
‫تيأس ‪ ،‬هي ذاته التي فاضت فممي المدينممة علممى شممؤون الممدنيا فممدلت علممى ممما فيهمما مممن الحيويممة‬
‫والقوى التي جعلتها أهلة للتغلب على كل معضلة فمي وقتهما ومناسممبتها ‪ .‬تلمك القموى والصمفات‬
‫التي لم تجتمع لحد قبله ول بعده ‪ ،‬جعلته من أية ناحية نظرت إليه كامل وأسوة حسنة ‪ ،‬بل مممن‬
‫مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول ا سممواء كممان فممي أيممام الممدعوة المجممردة عممن‬
‫السلطة ‪ ،‬أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية ‪ ،‬ذاتا ة موفقة ناجحة ‪ ،‬انصرفت إلممى امم‬
‫بكليتها فجعلته أمامها ‪ ،‬ووضعت ما عداه وراءها ‪ ،‬هو في كلتا القريتين الناسك العابممد ‪ ،‬البمماكي‬
‫بين يدي خالقه ‪ ،‬وهو فيهما الزاهد ‪ ،‬يعرض عليمه أصمحابه أن يوطئموا ل ه فراشما ة ‪ ،‬فيقمول ‪» :‬‬
‫مالي وللدنيا ‪ ،‬مما أنما والمدنيا إل كراكمب اسمتظل تحمت شمجرة ثمم راحا و تركهما ‪ «. .‬لمم يغمره‬
‫السلطان بشيء من المظاهر ‪ ،‬ول خرج به عن التواضع والتياسر ‪.‬‬

‫فأي تنافر يجد النقاد فمي حيماة الرسمول ‪ ،‬ليجعلموا ممن شخصمه شخصمين وه و يكافمح فمي مكمة ول‬
‫سلطان له ‪ ،‬ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي خلقها؟ لقد كان همه فيهما جمعيا ة إلممى‬
‫اللحظة الخيرة ‪ ،‬نشر دينه ‪ ،‬وغايته بسط سيادة السلم على الشرك ‪.‬‬

‫وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة ‪ ،‬وحياته في المدينة ‪ ،‬وهو في الولى يتوسل بالصبر على‬
‫الذى والسخرية ‪ ،‬ويتقى بعرف الجاهلية الموت مع أنه ل يقر ذلممك العممرف ‪ ،‬ويسممعى لهممدمه ‪،‬‬
‫ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة ‪ ،‬ويجممادل علممى دينممه ‪ ،‬ويممدعو إليممه ‪ ،‬ويخممرج مممن كممل‬
‫كارثة برأي صائب ‪ ،‬ويعد لكل حالة تدبيرا محكما ة ‪ .‬وفي الثانية يتخممذ مممن نصممرة أهلهمما تكممأة ‪،‬‬
‫فيعاهد اليهود والمشركين ‪ ،‬ويتقي الممموت بممدرع الدولممة الممتي نظمهمما وينجممو مممن ) الحممزاب (‬
‫بحسن الرأي ‪ ،‬ويغلب المصائب بموفق التدبير؟‬

‫ثلث عشرة سنة قضاها في فم السد ‪ ،‬دون أن يستطيع السد أن يطبق عليه أنيابه ‪ ،‬وعشر سنين في‬
‫المدينة يحاول فيها السد أن يمسك بالفريسة ‪ ،‬وفي هذه وتلك يبدي رسول ا من حسن الرأي ‪،‬‬
‫‪115‬‬

‫وبارع السياسة والصبر ‪ ،‬وسعة الصدر والتدبير ما يوقمع السممد فممي شممبكت الفريسممة ‪ ،‬فممإذا مما‬
‫انتهى إلى النصر الحاسم المعجز ‪ ،‬وبهت الذين كفروا » قالوا ‪ :‬لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشا ة‬
‫‪ ،‬لكان النبي الخالص من الشوائب ‪ . .‬لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصممر علممى حيمماة‬
‫الوعظ ‪ ،‬وظنوا أن أكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل ‪ ،‬ففكمروا فمي مصمير المدعوة‬
‫نفسها ‪ ،‬لشاركونا في العجاب به مرشداة وواعظا ة ‪ ،‬ومنظما ة وفاتحا ة ((‪. 220‬‬

‫الرسول وأمجتمع الحرية وأالعدالة وأالمساوأاة‬


‫لقد أقام الرسول كقائد سياسي‪ ،‬مجتمع الحرية والمساواة ‪ ،‬بما ينسجم وروحا الرسالة السلمية‪. . .‬‬

‫الرسول وأ مباديء الحرمة الفكرية‬


‫طبيعي أن تكون مباديء الحرية في المجتمع السلمي ل تنفصم عراها عن مباديء الحريممة الدينيممة‬
‫التي وقفنا عندها في بحث "محمد والقيادة الدينية " ‪ ،‬فالحرية الفكرية هنا هممي حريممة العتقمماد‬
‫أولة ‪ ،‬ومن ثم اليمان بحرية النسان ومحاربة العبودية ‪. . .‬‬

‫ولقد رأى الباحث السممباني العلمممة سممان اليممار فممي مممؤلفه ‪ » :‬تعمماليم اللغمة العربيممة « أن مبمماديء‬
‫تجاوزت أفكار الكثير من المفكرين والمصمملحين‬ ‫الحرية الفكرية التي دعا إليها الرسول محمد ‪‬‬
‫‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) إن أوضح مباديء الحرية الفكرية قد كشفت أمثال ‪ -‬لمموثير وكممالفين ‪ -‬وعمماد الفضممل فيهمما إلممى‬
‫رجل عربي من رجال القرن السابع ‪ ،‬ذلك هو صاحب شريعة السلم (( ‪.221‬‬

‫الحرية النسانية‬
‫وكان السلم دعوة لحرية النسان ‪ ،‬والقضاء على العبودية ‪ ،‬فأنزل الحرية النسانية أعلى عليين ‪،‬‬
‫ولذا رأيناه عليه السلم يول عناية خاصة لتحرير الرقاء ‪ ،‬عن طريق إلغاء مصممادر الممرق أولة‬
‫‪ ،‬و تشجيع المؤمنين على تحرر عبيدهم ‪ ،‬انطلقا ة من قاعدة أن من أعتق عبداة أعتق الله له بكل‬
‫عضو عضواة من أعضائه من عذاب النار ‪.‬‬

‫وكان الرسول في مجتمعه السلمي إماما ة في إقرار مبدأ تحرير العبيد ‪ ،‬حتى أن أسممرى الحممرب لممم‬
‫يعتبرهم عبيدا ‪ ،‬وسمح لهم بدفع الفدية أو تعليم أبناء المسلمين لفك إسارهم‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬وستكون لنا وقفة خاصة لدراسة الحرية في الرسالة السلمية ‪.‬‬

‫عبد الرحمن عزاما ‪ :‬باطل الباطال ‪ ،‬ص ‪.74-72‬‬ ‫‪220‬‬

‫سإان اليار ‪ :‬تعاليم اللغة العرباية‪.‬‬ ‫‪221‬‬


‫‪116‬‬

‫الرسول وأإقامة العدالة وأالمساوأاة‬

‫كان الرسول كقائد سياسي ورجل حكم وإدارة بالغ الحرص على تطبيق المسمماواة علممى الجميممع ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫خاصة وقد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين ‪ ،‬يقول مولنا محمد علي ‪:‬‬

‫)) وفممي إقامممة العدالممة كممان الرسممول منصممفا ة حممتى التوسمموس ‪ .‬كممان المسمملمون وغيممر المسمملمين ‪،‬‬
‫والصدقاء والعداء ‪ ،‬كلهم سمواء فمي نظمره ‪ .‬وحمتى قبمل أن يبعمث إلمى النماس كمانت أممانته‬
‫وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام ‪ ،‬وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم‬
‫فيما ‪ .‬وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكما ة في منازعاتهم كلها ‪ .‬وعلى الرغم مممن حقممد‬
‫اليهود العميق الجذور على السلم فإن الرسول حكم ‪ -‬عندما عرض عليه ذات مرة نممزاع بيممن‬
‫يهودي ومسلم ‪ -‬لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر ‪ ،‬بذلك ‪ ،‬من السمملم بممل ربممما‬
‫بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفممر بممذلك مممن السمملم ‪ .‬ول حاجممة بنمما إلممى تبيممان أهميممة‬
‫خسارة كهذه بالنسبة إلى السلم في أيام ضعفه ومحنته تلك ‪ ،‬فالمر أوضح من أن يحتمماج إلممى‬
‫بيان ‪ .‬و باختصار ‪ ،‬فقد كان تجسيداة للية القرآنيممة الممتي تقممول ‪  :‬ي ا أيهمما الممذين آمنمموا كونمموا‬
‫قوامين لله شهداء بالقسط ‪ ،‬ول يجرمنكم شنآن قوم على أل تعدلوا ‪ ،‬اعدلوا هو أقممرب للتقمموى ‪،‬‬
‫واتقوا ا ‪ ،‬إن ا خبير بما تعملون ‪ . ‬ولقد نبه ابنته ‪ ،‬فاطمة ‪ ،‬إلى أن أعمالها وحدها سمموف‬
‫تشفع لها يوم القيامة ‪ .‬وقال أيضا ة ‪ » :‬لو أن فاطمة بنت محممد سممرقت لقطعممت يممدها « ‪ .‬وفيمما‬
‫كان على فراش الحتضار ‪ ،‬قبيل وفمماته بقليممل ‪ ،‬سممأل كممل مممن لممه عليممه ديممن أن يتقاضمما ه ذلممك‬
‫الدين ‪ ،‬ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه ‪.‬‬

‫و في معاملته مع الخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة ‪ .‬كممان يضممع نفسممه‬
‫على قدم المساواة مع سائر الناس ‪ .‬وذات يوم ‪ ،‬وكان قد احتل في » المدينة « مقاما ة أشبه بمقام‬
‫الملك ‪ ،‬وفد عليه يهودي يقتضيه دينا ة ما ‪ ،‬وخاطبه في جلفممة وخشممنونه قممائلة إن بنممي هاشممم ل‬
‫يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر ‪ .‬فثارت ثاثرة عمر لوقاحة اليهودي ‪ ،‬ولكن الرسممول‬
‫عنفه ذاهبا ة إلى أن الممواجب كممان يقتضممي عمممر أن ينصممح كلة مممن المممدين والممدائن ‪ :‬أن ينصممح‬
‫المدين ‪ -‬الرسول ‪ -‬برد الدين مع الشكر ‪ ،‬وأن ينصح الدائن بالمطالبممة بممه بطريقممة أليممق ‪ .‬ثممم‬
‫دفع إلى اليهودي حقه وزيادة ‪ ،‬فتممأثر هممذا الخيممر تممأثراة عظيممما ة بممروحا العممدل والنصمماف عنممد‬
‫الرسول ‪ ،‬ودخل في السلم ‪ .‬وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الجام ‪ ،‬حممان‬
‫وقت إعداد الطعام ‪ ،‬فمهد إلى كل امرىء في القيام بجانب من العمل ‪ ،‬وانصرف هو نفسممه إلممى‬
‫جمع الوقود ‪ .‬لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي ‪.‬‬
‫وكان يراعي ‪ ،‬في معاملته خدمه ‪ ،‬مبدأ المسمماواة نفسممه ‪ ،‬وقممال أنمس ‪ " :‬خممدمت رسممول ام ‪‬‬
‫عشر سنين فما قال لي أف قط ‪ ،‬وما قال لشيء صنعته لم صنعته ‪ ،‬ول لشيء تركته لم تركته‬
‫‪ » .‬ولم يبق أيما عبد على عبموديته ‪ .‬فممما إن يممؤل إليمه عبممد رقيممق حممتى يسممارع إلممى إعتمماقه ‪.‬‬
‫وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادما ة أو امرأة «(( ‪.222‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪.‬‬ ‫‪222‬‬


‫‪117‬‬

‫القائد السياسي وأالحاكم النسان‬


‫‪‬‬
‫وفي ختام بحثنا هذا ‪ ،‬نقف عند نقطة أثيرت في أكثرة من مبحث وهي أن الرسول الذي كان نبي ا ة‬
‫ومشرعا ة وإداريما ة وقائممداة عسممكريا ة ‪ ،‬ظممل إنسمانا ة بسمميطا ة فمي حيمماته تتسمم بسمائر جوانبهمما بطمابع‬
‫البساطة والنبل ‪ ،‬يقول الباحث جيمس متشنر عارفا ة جوانب من شخصية الرسول القائد السياسممي‬
‫والحاكم النسان ‪:‬‬

‫)) أن محمداة هذا الرجل الملهم ‪ ،‬الذي أقام السلم ‪ ،‬ولد حوالي ‪ 570‬ميلدية في قبيلة عربية تعبممد‬
‫الصنام ‪ ،‬ولد يتيما ة محبا ة للفقراء والمحتاجين والرامل واليتامى والرقمماء والمستضممعفين ‪ .‬وقممد‬
‫أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفى الشرق كله ‪ .‬فقد حطم‬
‫الصنام بيديه ‪ ،‬وأقام دينا ة يدعو إلى ا وحممده ‪ ،‬ورفمع عمن المممرأة قيمد العبوديمة الممتي فرضممتها‬
‫تقاليد الصحراء ‪ ،‬و نادى بالعدالة الجتماعية وقد عرض عليه فممي آخممر أيممامه أن يكممون حاكممما ة‬
‫بأمره ‪ ،‬أو قديسا ة ‪ ،‬ولكنه أصر على أنممه ليممس إل عبممداة مممن عبمماد المم أرسممله إلممى العممالم منممذراة‬
‫وبشيراة (( ‪. 223‬‬

‫جيمس متشنر )نقل عن كتاب قالو في السلم بقلم حسن الشيخ خضر الظالمي ص ‪.(50‬‬ ‫‪223‬‬
‫‪118‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫محمد الداعية وأ القيادة الفكرية‬
‫أن الصفة القيادية للرسول بتعدد أشكالها تتجلى بتكامل تلك الشخصية فهو إلى جانب دوره الكممبير‬
‫الذي لعبه في إطار سيرته الحياتية كنبي وقائد سياسي وعسكري ومصلح اجتماعي كان يممبرز دائممما ة‬
‫كرجل فكر وداعية ‪ ،‬إلى جانب ما وهب من الخيال والنبوغ والبحمث ‪ ،‬يق ول المستشمرق النكليمزي‬
‫المؤرخ داز )‪ ( 1907-1812‬في كتابه » مع الشرق والغرب « ‪:‬‬

‫))أن محمداة كان مجموعة من الخيال والنبوغ والبحث ‪ :‬كان محمد زراعيا ة وطبيبا ة وقانونيا ة وقائممداة‬
‫‪ ،‬اقرأ ما جاء في أحاديثه تعرف صدق ما أقول (( ‪. 224‬‬

‫أجل ‪ ،‬أن عودة إلى دراسة السممنة النبويممة وكتممب الحمماديث والطلع علممى مممواقفه المتعممددة فممي‬
‫السيرة الرشيدة لتوضح لنا أي رجل فكر كان ‪ . .‬وحسبنا علما ة أن السنة هي المصدر الثاني للتشممريع‬
‫السلمي بعد القرآن الكريم ‪.‬‬

‫الرسول ‪ ‬مفكرا ا‬

‫هذا‪ ،‬ولقد وقفنا في دراستنا السيرة الحياتية للرسول في أكثر من محطة ‪ ،‬لنشير إلى ميزة التفكيممر‬
‫في حياته ‪ ،‬فقد عرفناه قبل البعثة ذلك النسان الممذي يبحممث عممن الحقيقممة ويتفكممر فممي أسممرار الحيمماة‬
‫والكون ‪ ،‬فكان أن تكشفت له الحقائق معرية زيف الوثنية قبل أن ينممزل عليممه المموحي ‪ ،‬بممل اسممتطاع‬
‫بعميق تفكيره أن يقترب من الحقائق الزلية ‪ ،‬وأصبح مهيممأ لن يكمون نبيما ة بعمد نضمجه الفكمري ‪. .‬‬
‫فطبيعي أن من سيكون قائداة لمة بعد إعادة خلقها من جديد ‪ ،‬أن يكون عبقريا ة فممي فكممره ونابغممة فممي‬
‫منهجه ‪. . .‬‬

‫وكانت الجوانب الفكرية للرسول تعتبر الركيزة الولى لعبقريته وعظمته ‪ ،‬بل وضعها المستشرق‬
‫مونتجمري وات في مقامة معالم تلك العبقرية الخالدة ‪ ،‬وتميزت بكونهمما تجمممع الحممدس إلممى التفكيممر‬
‫العميق الذي يحلل الواقع ويستشرف آفاق المستقبل ‪ ،‬يقول ‪ .‬وات فممي كتممابه ‪ » :‬محمممد فممي المدينممة‬
‫«‪:‬‬

‫)) لقد أوتي الرسول موهبة خاصة على رؤية المسممتقبل فكممان للعممالم العربممي بفضممله ‪ ،‬أو بفضممل‬
‫الوحي الذي نزل عليه حسممب رأي المسمملمين ‪ ،‬أسمماس فكممري ) إيممديولوجي ( حلممت بممه الصممعوبات‬
‫الجتماعية ‪ ،‬وكان تكوين هذا الساس الفكري يتطلممب فممي المموقت نفسممه حدسمما ة ينظممر فممي السممباب‬
‫الساسية للضطراب الجتماعي في ذلك العصر ‪ ،‬والعبقرية الضرورية للتعبير عن هذا الحدس في‬

‫داز ‪ :‬مع الشرق و الغرب )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(184‬‬ ‫‪224‬‬
‫‪119‬‬

‫صورة تستطيع إثارة العرب حتى أعمق كيانهم (( ‪. 225‬‬

‫وإذا كانت جوانب دراسة القيادة الفكرية عند الرسول أكثر من أن نستطيع حصممرها فسممنقف عنممد‬
‫نقطة هامة في شخصيته كرجل فكر داعية ‪ ،‬أل وهى فصاحته عليه السلم وبلغته ‪...‬‬

‫رجل فكر وأ عمل‬


‫وإذا كان الرسول رجل فكر كان في الوقت نفسه رجل عمل ‪ ..‬فلم يقف البتممة عنممد حممدود التفكيممر‬
‫فقط ‪ ،‬بل انتقل إلى ميدان النضال في سبيل دعم النظرية بالتطبيق ‪ ،‬والتأكيد على وحدة فكممرة الفكممر‬
‫والعمل ‪...‬‬

‫فالرسالة السلمية هي دعوة يحتاج الجاهر بها إلممى النضممال فممي سممبيل نشممر التعمماليم ‪ ،‬إلممى قمموة‬
‫القناع الفكري وصلبة النضال العملي توسلة لبلوغ الغايات المرجوة ‪ . . .‬يقول البمماحث السمموجي‬
‫المستشرق السير ماكس سايكس )‪: (1927-1876‬‬

‫))إن محمداة قد استطاع بعبقريته الفذة والتعليمات الواسعة المعنى أن يجمممع التفكيممر إلممى العمممل ‪،‬‬
‫فكانت مملكته من هذا العالم كان نبيا ة ثاقب الفكر وكان مشرعا ة ‪ ،‬وكان حاكما ة بين الناس (( ‪.226‬‬

‫الداعية وأاكتساب النصار‬


‫لقد نشأت رسالة السلم ‪ ،‬في جو معمماد‪ ،‬و تطلبممت روحمما ة كفاحيمة عاليمة ‪ ،‬ولهجمة داعيمة حممارة‬
‫"‬ ‫تكسب القلوب في المرحلة الولى لنشر الدعوة السلمية ‪ ،‬تحدث إتيين دينيه في كتممابه ‪:‬‬
‫محمد رسول ا " ‪ ،‬عن الرسول الداعية الذي يكسب النصار بصدق لهجته وعمق نظرته ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))وكانت لهجة الداعي إليه ‪ ،‬تلك اللهجة التي تسمو فمموق حممدود النسممانية ‪ ،‬وكممانت نظرتممه الممتي‬
‫يشع منها الضياء‪ ،‬تخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬فيسرعون إلى اعتناق السلم بين يديه (( ‪. 227‬‬

‫فصاحة الرسول وأبلغته‬


‫إذا كان حامل الرسالة يحتاج فيما يحتاجه ليؤديها بنجاحا إلى الشعوب والمم ‪ ،‬وليؤلف بها القلوب‬
‫‪ ،‬إلى الفصاحة في اللسان ‪ ،‬والبلغة في القلوب ‪ ،‬والقوة في البيان ‪ ،‬فقد عرف عمن النمبي محممد ‪‬‬
‫أنه صاحب أسلوب رفيع ‪ ،‬ولسان فصيح ‪ ،‬فهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء ‪ ،‬بأسلوبه السهل الممتنممع‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.511 – 510‬‬ ‫‪225‬‬

‫نقل عن مجلة الهلل مجلد ‪ ، 5‬عدد ‪.3‬‬ ‫‪226‬‬

‫إتيين دينه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.117‬‬ ‫‪227‬‬


‫‪120‬‬

‫المعجز ‪ ،‬وبجوامع كلمه الخالدة ‪ ،‬ومنطقه السليم ‪ ،‬وعباراته المشرقة ‪.‬‬

‫‪ ،‬بقوله ‪:‬‬ ‫ويتحدث دينيه عن قوة المعاني وسحر بيان الرسول ‪‬‬
‫)) وكانت المعاني تتدفق غزيرة من ألفاظه الموجزة ‪ ،‬الممتي تعممبر عمن ممراده خيممر التعمبير ‪ .‬أممما‬
‫سحر بيانه فكان شيئا الهيا ة‪ ،‬يغزو القلوب ويأسر اللب ول يقوى أحد على مقاومته (( ‪. 228‬‬

‫أفصح من نطق بالضاد‬


‫ومن جانبهم ‪ ،‬أدرك المستشرقون المهتمون بقضايا اللغة ‪ ،‬ما تمتلكه العربية من ميزات تنفرد بها‬
‫دون سائر اللغات ‪ ،‬وعن فصاحة الرسول وإعجازه ‪ ...‬يقمول المستشمرق الفرنسممي بوسممتل غليمموم )‬
‫‪ ( 1654-1581‬الذي اهتم بالعربية وأبجديتها ‪:‬‬

‫)) اللغة العربية أفصح اللغات آدابا ة ‪ .‬وهى لغة أمة على رأسها محمد النبي العربممي‪ ،‬وهممو أفصممح‬
‫من نطق بالضاد ‪ ،‬ولقد جاء بأفصح ما يمكن في خلل كلماته المأثورة عنه ‪،‬‬
‫لذلك نحترمه و نحترم لغته ((‪. 229‬‬

‫ويتابع المستشرق الفرنسي برتلمي هربلو ) ‪ (1695-1625‬فممي مممؤلفه "المكتبممة الثريممة " فكممرة‬
‫مواطنه ‪ ،‬عن البلغة العربية وفصاحة الرسول ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))إن اللغة العربية لهى أعظيم اللغات آدابا ة ‪ ،‬وأكثرها بلغة وفصاحة ‪ ،‬وهممي لغممة الضمماد ‪ ،‬ولقممد‬
‫تغنى محمد نبي السلم بما يدل علممى شممرف هممذه اللغممة بقمموله ‪ " :‬أنمما أفصممح مممن نطممق بالضمماد "‬
‫وصحيح عنه ذلك لن كلماته المأثورة تدل عليه (( ‪.230‬‬

‫خلود العربية وأ عظمة الرسول‬


‫وكممان الرسمول ‪ ‬ق د أتق ن العربي ة ف ي بن ى س عد وقومه ا بلغمة قريمش وأحماط بلهجمات القبائممل‬
‫العربية ‪ ،‬إذ بقى أثره عميقا ة في لغتنا هذه ‪ ،‬التي بلغت معارج الخلود ‪ ،‬يقول الستاذ الباحث اللبنمماني‬
‫حنا خير ا ‪ ،‬في احتفال بذكرى المولد النبوي ‪:‬‬

‫)) يكفى النبي العربي عظمة أنه خلد اللغة العربية وقدمها ‪ ،‬وأوجب على جميع أتباع دينه تعلمها‬
‫إلى أن قال ‪:‬‬
‫إننا نعظم ذكر من خلد لمتنا أعظيم مجد وأشرف تاريخ وأسمى منزلة ‪ ،‬وحفظ لغتنمما مقدمممة إلممى‬
‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.326‬‬ ‫‪228‬‬

‫باوسإتيل غليوما )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(114‬‬ ‫‪229‬‬

‫بارتلمي هربالو ‪ :‬المكتبة الشرقية )المكتبة الشرقية ‪ :‬معجم يشتمل على فلسفة و اداب الشرق(‪.‬‬ ‫‪230‬‬
‫‪121‬‬

‫أبد الدهر ‪ ،‬لنبرهن على أننا نكرم محمداة ‪ -‬النمبي العربمي ‪ ،‬ونحتفممل ‪.‬بمذكرى مولمده المبمارك ‪ ،‬إننما‬
‫نقدر محمداة وأعمال محمد وعظمة محمد وغاية محمد (( ‪. 231‬‬

‫وكان لفصاحة الرسول وبلغته أن جعلت منه ‪ -‬إلى جانب ما تحلى به من مزايا أخرى ‪ -‬أعظم‬
‫القادة والمصلحين الدينيين ‪ ،‬يقول صموئيل زويمر ‪:‬‬
‫)) إن نبي السلم كان ول شك من أعظم القمواد الممدينيين ويصممدق عليممه القمول أيضمما ة إنمه كممان‬
‫مصلحا ة قديراة وبليغا ة فصيحا ة وجنديا ة مغواراة (( ‪.232‬‬

‫ويقول الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت )‪ ( 1650 - 1597‬في كتممابه مقالممة "فممي المنهمماج"‬
‫معربا ة عن إعجابه ببلغة العربية وفصاحة الرسول وإعجاز القران ‪:‬‬
‫)) نحن والمسلمون في هذه الحياة ‪ ،‬ولكنهم يعملون بالرسممالتين العيسمموية والمحمديممة‪ ،‬ونحممن ل‬
‫نعمل بالثانية ‪ ،‬ولو أنصفنا لكنا معهم جنبا ة إلى جنب ‪ ،‬لن رسالتهم فيهمما ممما يتلءم مممع كممل زمممان ‪،‬‬
‫وصاحب شريعتهم محمد ‪ ،‬الذي عجز العرب عممن مبمماراة قرآنممه وفصمماحته ‪ ،‬بممل لممم يممأت التاريممخ‬
‫برجل هو أفصح منه لسانا ة ‪ ،‬وأبلغ منطقما ة ‪ ،‬وأعظمم من ه خلقمةا‪ ،‬وذلمك دليمل علمى مما يتمتمع ب ه نمبي‬
‫المسلمين من الصفات الحميدة التي أهلته لن يكون نبيا ة في آخر حلقممات النبيمماء ‪ ،‬ولن يعتنممق دينممه‬
‫مئات المليين من البشر « ‪.233‬‬

‫بلغة المنطق وأ سداد الرأي‬


‫ويتحدث المستشرق الفرنسي سيلفستير ساسممي ) ‪- 1758‬م ‪ ( 1838‬فممي كتممابه "الحيمماة" عممن‬
‫محمد الرسول المفكر ‪ ،‬وصاحب الراء السديدة النيرة ‪ ،‬و المبادىء الخيرة ‪ ،‬الذي عرف عنه ‪:‬‬
‫))أنه بليغ في منطقه ‪ ،‬رشيد في رأيه ‪ ،‬نشيط في دعوته ((‪. 234‬‬

‫نقل عن مجلة الفرقان ‪ ،‬مجلد ‪ ، 27‬ج ‪.3‬‬ ‫‪231‬‬

‫صموئيل زويمر ‪ :‬اليسوع في احياء الغزالي‪.‬‬ ‫‪232‬‬

‫رينيه ديكارت ‪ :‬مقالة الطريق )ترجمة جميل صليبا(‪.‬‬ ‫‪233‬‬

‫انطوان سإيلفستر دي سإاسإي ‪ :‬الحياة ‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪234‬‬


‫‪122‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫محمد وأ القيادة العسكرية‬
‫العبقرية وأ الفداء‬
‫من خلل الدراسة التي استعرضنا فيها سميرة رسمول ام ‪ ،‬ع بر المواقمف الستشمراقية ‪ ،‬ركزنما‬
‫على نقاط هامة ‪ ،‬في حياة الرسول ‪ ،‬الشجاعة والصممبر والثبممات علممى العقيممدة ‪ ،‬سممواء تعلممق المممر‬
‫بمواجهة مشركي قريش في مكممة ‪ ،‬عنممد بممدء الممدعوة واضممطهاد المسمملمين الوائممل ‪ ،‬أو فممي العمممل‬
‫العظيم الذي اضطلع به وهو انتقاله من مكة إلى يثرب التي غدت المدينة ‪ ،‬فيما عرف بالهجرة الممتي‬
‫عدها المستشرق الروماني ك ‪ .‬جيورجيو أعظم عمل فدائي قام به محمد ‪ ‬ف ي سمبيل السملم حيممن‬
‫انفصم عن قبيلته فداء " لعقيدته " أو في القيادة العسكرية السياسية التي خاضها طوال مدة إقامته في‬
‫المدينة ‪ ،‬فكان أن صارع قوى المشركين طمموال عشمرة أعموام صمراعا ة تموج بانتشمار السملم فممي‬
‫ربوع جزيرة العرب ‪. .‬‬

‫القائد العسكري اللمع وأالمشرع العظيم‬


‫وجدير بالذكر أن الرسول ‪ ،‬قبل أن يصدع بالرسالة لم يكن بالرجل المحمارب بمل شمهر بالوداعمة‬
‫والهدوء‪ ،‬لكنه غدا القائد العسكري اللمع والمشرع العظيم حين عمل علممى نشممر الممدين السمملمي ‪،‬‬
‫يقول المستشرق القس دافيد بنجامين كلداني ‪ ،‬الذي اعتنق السلم وتسمى بم عبد الحد داود_ يقممول‬
‫في كتابه ‪ » :‬محمد في الكتاب المقدس « ‪:‬‬

‫)) وقبل أن يرسل الله محمداة بالدعوة إلى السلم وإزالمة الوثنيمة ‪ ،‬الممر المذي حققمه بنجمماحا ‪،‬‬
‫كان أهدأة وأصدق رجل في مكة ‪ .‬ولم يكن بالمحارب أو المشرع ‪ ،‬ولكن بعد أن تحمل رسالة النبمموة‬
‫‪،‬أصبح أفصح المتكلمين وأشجع العمرب ‪ ،‬وكمان يحمارب الكفمار وسميفه فمي يمده ‪ ،‬ليمس لمصملحته‬
‫الشخصية ‪ ،‬ولكن من أجل مجد ا ‪ ،‬وقضية دينه ‪ ،‬وهو السلم وقد عرض ا عليه مفاتيح كنمموز‬
‫الرض ‪ ،‬ولكنه رفضها ‪ ،‬وعندما توفي كان فقيرا (( ‪. 235‬‬

‫العبقرية العسكرية في وضع الخطط‬


‫لقد ظهرت عبقرية الرسول العسكرية في أخطر المعارك وأشدها هولا ة ‪ ،‬أولة معركة بدر ‪ ،‬حيث‬
‫رتب قوى المسلمين بشكل مثلث ‪ ،‬وكان بوضع مكنه من جعل كممل جنممدي مسمملم أن يسممتقبل بمفممرده‬

‫عبد الحد داوود ‪ :‬محمد في الكتاب المقدس ص ‪.83‬‬ ‫‪235‬‬


‫‪123‬‬

‫العدو من غير استدبار حسب رأي جيورجيو) ‪ ، (236‬فحاز بفضل تلك العبقرية مممع إيمممان المسمملمين‬
‫العميق راية النصر ‪ ،‬وكانت بالتالي هزيمة جيش يفوق عدده ثلثة أضعاف الجيش السلمي ‪.‬‬

‫كما برزت عبقرية الرسول العسكرية في موقعة أحد‪ ،‬حين درس طبيعة الموقع العسكري ‪ ،‬وتنبممه‬
‫لمكمن الخطر‪ ،‬فكان أن وضع خطة مدروسة فممي تشممكيل الصممفوف المتكاملممة المتراصممة ‪ ،‬حممتى ل‬
‫يمكن للخصم أن يشق الصفوف ‪ ،‬مما مكن جيممش المسمملمين مممن مواجهممة جيممش العممدو الممذي يفمموقه‬
‫عدديا ة بأربعة أضمعاف ‪ ،‬وكمانت بشمائر النصمر مواكبمة للمسملمين ل ول الخطممأ المذي ارتكبمه النبالمة‬
‫مخالفو أوامر الرسول طمعا ة في الغنام ‪..‬‬

‫النبوغ الفكري في استنباط الخطط وأ تانفيذها‬


‫كذلك برزت عبقرية الرسممول العسممكرية حيممن تبنممى مشممورة سمملمان الفارسممي بحفممر الخنممدق فممي‬
‫معركة الحزاب ‪ ،‬هذه الخطة التي أثارت إعجاب الباحثين العسكريين في الشرق والغرب ‪ ،‬فالنبوغ‬
‫العسكري _برأي جيورجيو_ ليس في استنباط الخطط وحسب ‪ ،‬بل في تنفيذها أيضا ة ) ‪. . . (237‬‬

‫ول يغرب عن البال كيف برزت شخصية القائد العسكري للرسول فممي أحلممك الظممروف وخاصممة‬
‫في معركة حنين ‪ ،‬حين تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر ‪ ،‬ولقممد حلممل البمماحث العسممكري محمممود‬
‫الدرة ‪ ،‬هذه الواقعة بقوله ‪:‬‬

‫)) ليس في حياة قادة الجيوش مواقف عصيبة وخطرة كموقفهم من هزيمممة جيوشممهم فممي ميممدان‬
‫المعركة‪ ،‬وقلئل في التاريخ هم الذين استطاعوا بفضل شخصممياتهم وعزائمهممم وقممف تيممار الهزيمممة‬
‫في جنودهم والحيلولة دون وقوع الكارثة والخسران ‪ .‬والنادر فيهم من حممول الهزيمممة إلممى نصممر ‪.‬‬
‫أما محمد القائد وقد تحدثنا عن موقفه في معركة أحد وتحويله تيار المعركة مممن هزيمممة منكممرة إلممى‬
‫انسحاب ناجح نراه في هذا الموقف في أوج عظمته ومجده العسكري الخالد ‪ ،‬ول نغالي إذا قلنا إنممه‬
‫بز من كان قبله في هذا المضمار ولم يشاركه في مجده هذا أحد قبله ‪ ،‬حيث لم يستسلم للمر الواقممع‬
‫ولم تخذله نفسه كما خذلت قبله ‪ ،‬حيث لم يستسلم للمممر الواقممع و لممم تخممذله نفسممه كممما خممذلت اثنممي‬
‫عشر ألفا ة من جنده نفوسهم (( ‪. 238‬‬

‫شخصية الرسول وأ تاحويل الهزيمة إلى نصر‬


‫ويتفق جيورجيو مع محمود الدرة بالرأي حول الدور الذي لعبته شخصممية الرسممول ‪ ،‬فممي تحويممل‬
‫الهزيمة إلى نصر‪ ،‬والفرار إلى ثبات ‪ ،‬فتجمع فانتصار‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))وقد كانت صلبة محمد ‪ ‬وجلدته سببا ة في توق ف المحمماربين عممن هربهممم ‪ ..‬فكممان أن انتهممت‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في حياة الرسإول ‪. -  ‬‬ ‫‪236‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.289‬‬ ‫‪237‬‬

‫محمود الدرة ‪ :‬معارك العرب الكبرى ‪.197 ،‬‬ ‫‪238‬‬


‫‪124‬‬

‫معركة حنين بنصر المسلمين (( ‪. 239‬‬

‫أعظم القادة الدينيين‬


‫ويتحدث المستشرق الكندي الدكتور زويمر ) ‪ ( 1900 - 18 13‬في كتابه ‪" :‬الشرق وعاداته"‬
‫عن جماع صفات الرسول ‪ ،‬التي من أرزها القيادة والجرأة إلى جانب كونه رجممل فكممر وإصمملحا ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬

‫)) أن محمداة كان ول شك من أعظم القواد المسلمين الدينين ‪ ،‬ويصدق عليه القول أيضا ة انه كممان‬
‫مصلحا ة قديراة وبليغا ة فصيحا ة وجريئا ة مغواراة ‪ ،‬ومفكراة عظيممما ة ‪ ،‬ول يجمموز أن ننسممب إليممه ممما ينممافي‬
‫هذه الصفات ‪ ،‬وهذا قرآنه الذي عمر صدره ‪ ،‬تاريخه يشهدان بصحة هذا الدعاء (( ‪. 240‬‬

‫الدروأس العسكرية المستقاة من حروأب الرسول‬


‫هذا ‪ ،‬ولقد استخلص الباحث العسكري محمود الدرة ‪ ،‬في كتابه معارك العرب الكبرى ‪ ،‬الدروس‬
‫العسكرية في حروب الرسول ‪ ‬التي نضعها بنقاط محددة ‪:‬‬

‫‪ .1‬في تأليف وتنظيم الجيوش ‪ ،‬فكان الرسول ‪ ‬أول من عبأ معبا ة كاملة في هذه الحرب الدفاعية‬
‫لحماية الدعوة السلمية ‪. .‬‬

‫‪ .2‬في أسلوب القتال ‪ :‬وضع الخطط العسكرية المناسبة واستخدامه طبيعة أرض المعركة ‪.‬‬

‫‪ .3‬وضمع مبماديء جديمدة للحمرب ‪ ،‬منهما أولة المباغتمة ‪ ،‬إذ يتحمرك بكتممان وسمرية وحمذر ‪،‬‬
‫ويستخدم أسمملوب التوريممة ‪ . .‬وثانيمما ة السممتطلع وترصممد حركممة الخصمموم ‪ . .‬وثالثمما المقممدرة علممى‬
‫الحركة ‪ ،‬فقد أثبت جيش المسلمين قدرته على السير مسافات بعيممدة بسممرعة فائقممة مممع الصممبر علممى‬
‫شظف العيش ‪ ،‬واحتمال قسوة الطبيعة والمناخ ‪. . .‬‬

‫‪ .4‬التوفيق بين السياسة والحرب ‪ ،‬وذلك بعقده العهود والمحالفات مع القبائممل العربيممة والهتمممام‬
‫بالجبهة الداخلية ‪ ،‬لئل يؤخذ المسلمون على حين غرة ‪ ،‬ولم يكن الرسول يكتفممي بالنصممر العسممكري‬
‫بل يسعى دائما ة إلى تحقيق نصر سياسي في كسب الخصوم والعداء ‪. . .‬‬

‫‪ .5‬استخدام سلحا الدعاية ‪ ،‬وخلق ممما يسمممى بالرتممل أو الطممابور الخممامس فممي قلممب العممداء ‪،‬‬
‫ولنذكر كلمة الرسول ‪ ‬في وصف هذا السلحا حين قال ‪" :‬نصمرت بممالرعب مسميرة شممهر " ‪ ،‬كممما‬
‫يؤكد خطورة أسلوب الدعاية تمهيداة لتحقيق النصر العسكري في ميادين القتال ‪ ،‬وإلى جانب الحرب‬

‫جيورجيو ‪ :‬نظرة جديدة في حياة الرسإول ‪ ،‬ص ‪.364‬‬ ‫‪239‬‬

‫زويمر ‪ :‬الشرق و عاداته ‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪240‬‬


‫‪125‬‬

‫الدعائية استخدام الرسول أيضا ة ‪ ،‬الخدعة والتمويه ‪ ،‬وهممو القائممل "الحممرب خدعممة" ‪ ،‬وكممذلك حممرب‬
‫العصاب لبلبلة صفوف العداء وإدخال الوهن في عزائم المحاربين (( ‪. 241‬‬

‫هذا ‪ ،‬وإن المعارك العديدة الممتي خاضممها الرسممول بنفسممه خلل عشممرة أعمموام والممتي بلغممت تسممع‬
‫عشرة غزوة ‪ ،‬وكذلك السرايا التي أنفذها ‪ ،‬قد أثبتت مكانته العسممكرية ومزايمماه القياديممة حممتى تمكممن‬
‫من تحقيق النصر العظيم ‪ ،‬ففي السنة التاسعة للهجرة كان محمد ‪ ‬حس ب تقري ر جيورجي و ‪ » :‬ق د‬
‫فتح الجزيرة العربية كلها ‪ ،‬وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسمملمين ‪ ،‬وقممد انتشممر السمملم مممن‬
‫السنة الول للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها ‪ 822‬ألف كم‪ 2‬تقريبا ة (( ‪. 242‬‬

‫أن النجاز العظيم الذي حققه الرسول كقائد عسكري ومشرع ومناضل لمحو الوثنيممة مممن جزيممرة‬
‫العرب ‪ ،‬بله النصر العظيم الذي حققه في نشر السلم بسائر أرجاء الجزيرة العربية لم يكممن سمموى‬
‫جانب واحد من جوانب عبقريته العسكرية ‪ ،‬إذ وضع كذلك أساس مجابهة الدولة البيزنطيممة ‪ ،‬حيممن‬
‫قام بحملته العسكرية الخيرة التي عرفت باسم غزوة تبوك ‪ ،‬وكان من نتائج ثمارهما أن عقمد الكمثير‬
‫من المراء العرب المسيحيين المتحالفين مع الدولة البيزنطية ‪ ،‬معاهدات معه " على عدم المهاجمممة‬
‫والحرب والوقوف على الحياد " ‪ 243. . .‬وليس هذا فقط بل صمم عمليمما ة علممى غممزو سممورية وعقممد‬
‫لواء القيادة لسامة بن زيد تنفيذاة لهذا الهدف قبل أن يلقى ربه بقليل ‪.‬‬

‫يقول الباحث العسكري محمود الدرة ‪:‬‬


‫)) وهذا جيش أسامة بن زيد الذي أمر محمد ‪ ‬بتكوينه كان آخر عمل يقوم به ف ي ه ذا الس بيل‬
‫_تقرير حرية الدعوة للعقيدة وتحرر العالم من عبودية الطغاة المستبدين _ ولم تنسممه حممتى سممكرات‬
‫الموت المر بإنفاذه والدعاء لقائممده بالنصمر لتحريمر العممرب ممن حكممم المتعبممدين ليخطمموا بعممد ذلممك‬
‫خطواتهم الحاسمة لتحطيم قوى الشر والعبودية التي كانت تخيم على العالم المعروف (( ‪. 244‬‬

‫محمود الدرة ‪ :‬معارك العرب الكبرى ‪ ،‬ص ‪.243-235‬‬ ‫‪241‬‬

‫ك‪ .‬جيورجيو ‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪242‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.381‬‬ ‫‪243‬‬

‫محمود الدرة ‪ :‬ص ‪.226‬‬ ‫‪244‬‬


‫‪126‬‬

‫الفصل السادس‬
‫محمد الرسول وأ المعجزات‬
‫لقد ذكرت الدراسممات التاريخيممة السمملمية ‪ ،‬وخاصممة كتممب السمميرة والحممديث علمممات النبمموة‬
‫وبشائر الرسالة ‪ ،‬نقلة عن الرواة الوائل الذين أكثروا من ذكرها ‪ ،‬تعظيممما ة لمكانممة الرسممول وإعلء‬
‫لقدر الرسالة ‪ . . .‬ولقد وقف عدد مممن البمماحثين والمفكريممن العممرب والمستشممرقين الغربييممن موقفمما ة‬
‫نقدنيا من مسألة علمات النبوة هذه ‪. . .‬‬

‫يقول صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية محمد" عن بشائر الرسالة ‪:‬‬
‫)) والمؤرخممون يجهممدون أقلمهممم غايممة الجهممد فممي استقصمماء بشممائر الرسممالة المحمديممة ‪. .‬‬
‫يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه ‪ ،‬وممما أيممدته الحمموادث‬
‫أو ناقضته ‪ ،‬وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته ‪ ،‬ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير اليمان‬
‫وتفسير العيان ‪ ،‬وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة ‪ ،‬فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة فمي آثمار‬
‫تلك البشائر التي سبقت الميلد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر السلم ؟ ل موضع هنا لختلف‬
‫‪ . .‬فما من بشائرة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة ‪،‬‬
‫أو كان ثبوت السلم متوقفا عليها ‪.‬‬
‫لن الذين شهدوا العلمات المزعومة يوم الميلد ‪ ،‬لممم يعرفمموا يومئممذ مغزاهمما ومؤداهمما ‪ ،‬ول‬
‫عرفوا أنها علمة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سممنة ‪ .‬ولن الممذين سمممعوا بالممدعوة‬
‫وأصاخوا للرسالة بعد البشائر بأربعين سنة ‪ ،‬لم يشهدوا بشائرة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها‬
‫ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه ‪.‬‬

‫وقد ولد مع النبي عليه السمملم ‪ ،‬أطفممال كممثيرون فممي مشممارق الرض ومغاربهمما ‪ ،‬فممإذا جمماز‬
‫للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيممره ‪ .‬ولممم تفصممل الحمموادث بممالحق‬
‫بين المصدقين والمكابرين إل بعد عشرات السنين ‪ ...‬يوم تأتي الدعوة باليات والبراهين غنيممة عممن‬
‫شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين ‪.‬‬

‫أما العلمة التي ل التباس فيا ول سبيل إلى إنكارها فهي علمة الكون وعلمة التاريخ ‪.‬‬
‫قالت حوادث الكون ‪ :‬لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ‪.‬‬
‫وقالت حقائق التاريخ ‪ :‬لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ‪...‬‬
‫و ل كلمة لقائل بعد علمة الكون و علمة التاريخ (( ‪.245‬‬

‫معجزات الرسول في المنجزات الحقيقية‬

‫عباس محمود العقاد ‪ :‬عبقرية محمد ‪ ،‬ص ‪.27 -26‬‬ ‫‪245‬‬


‫‪127‬‬

‫إل أن المعجزة الحية الباقية حتى يومنا هذا هي إنجازات الرسول التي كانت عمليا ة ضممربا ة مممن‬
‫ضروب الخوارق النسانية حين أخرج العرب من ظلمات الجاهلية إلى حضمارة السملم المتي تشمع‬
‫بأنوار المدينة التي هيهات أن تنطفيء ‪ ،‬يقول الشاعر اللبنمماني الكممبير بشممائرة الخمموري )‪_ 1885‬‬
‫‪ ( 1968‬الكممبير بالخطممل الصممغير فممي صممحيفة الممبرق متحممدثا ة عممن الصمملحا الممديني الجتممماعي‬
‫للرسول ‪:‬‬

‫)) أن للرسول محمد في عنفوان شبابه من المعجزات ما يقف دونه الفكر صاغراة ‪ ،‬ولكن لمه‬
‫وهو في أيام الدعوة ما تصغر عنده عظمة العظيم ‪ ،‬ويبطل عنده سحر الساحر ‪ ،‬إنه وقد أخرج أمة‬
‫بأسرها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء المدنية ‪ ،‬إنه وقد أبدل معائب الجاهلية بمحاسن السلم ‪ ،‬و‬
‫إنه وقد أبطل وأد البنات ‪ ،‬وحممرم الزنممى ‪ ،‬ونقممى القلمموب مممن العممداوات ‪ ،‬إنممه وقممد أذل لسمميفه كممل‬
‫سيف ‪ ،‬ولعرشه كل عرش ‪ ،‬إنه وهو كذلك ليس في عيني أعظم منه ‪ ،‬وهو البن الناشمميء فقيممراة ‪،‬‬
‫الدارج يتيماة ‪ ،‬الحامل السعد في وجهه ‪ ،‬والطمر في قلبه ‪ ،‬والمل في عينيه ‪ ،‬والحكمة في شفتيه ((‬
‫‪. 246‬‬

‫القرآن معجزة الرسول الخالدة‬


‫هذا ‪ ،‬ولقد اتفق العلماء والعرب والستشممرقون الغربيممرن علممى أن القممرآن هممو المعجممزة الحقممة‬
‫للرسول ‪ :‬يقول المستشرق النكليزي بوسورث اسمث )‪ (1892-1815‬في مقدمة كتابه ‪ » :‬الدب‬
‫في آسيا « ‪:‬‬

‫))أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القممرآن والحقيقممة إنهمما لكممذلك ‪ ،‬وإذا قممدرنا ظممروف‬
‫العمر الذي عاش فيه ‪ ،‬واحترام أتباعه إيمماه احتراممما ة ل حممد لممه ‪ ،‬ووازنمماه بآبمماء الكنيسممة أو بقممديس‬
‫القرون الوسطي ‪ ،‬تبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد نبي المسمملمين أنممه لممم يممدع القممدرة علممى‬
‫التيان بالمعجزات وما قال شيئا ة إل فعله وشاهده منه في الحممال أتبمماعه ‪ ،‬ولممم ينسممب إليممه الصممحابة‬
‫معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ‪ ،‬فأي برهان أقطع من ذلك ‪ ،‬ولقد كان محمممد يممذهب‬
‫من آخر حياته كما ذهب من مبدأ أمره إلى أنه رسممول امم حقمما ة ‪ ،‬وإنممي أعتقممد أن الفلسممفة المسمميحية‬
‫المالية ستعترف له بذلك يوما ة من اليام ((‪. 247‬‬

‫بداهة الرسالة‬
‫_مم ‪ ( 1929‬عن حيمماة الرسممول ‪‬‬ ‫ويتحدث المستشرق الفرنسي الفونس آتيين دينيه ) ‪1861‬‬
‫الحافلممة بالعظممام ‪ ،‬بممأنه _عليممه السمملم _ لممم يعتمممد فممي نشممر الرسممالة السمملمية علممى الخمموارق و‬
‫المعجزات المادية و تلك مأثرة عظيمة له ‪ ،‬يقول في كتابه ‪" :‬محمد رسول ا" ‪:‬‬

‫الخطل الصغير ‪ :‬نقل عن مجلة العرفان مجلد ‪.27‬‬ ‫‪246‬‬

‫باورسإورث اسإمث ‪ :‬الدب في آسإيا‪.‬‬ ‫‪247‬‬


‫‪128‬‬

‫)) والحق أنا نرى من بين جميع النبيمماء الممذين أسسمموا ديانممات ‪ ،‬أن محمممداة هممو الوحيممد الممذي‬
‫اسممتطاع أن يسممتغني عممن مممدد الخمموارق والمعجممزات الماديممة ‪ ،‬معتمممداة فقممط علممى بداهممة رسممالته‬
‫ووضوحها ‪ ،‬وعلى بلغة القرآن اللهية ‪ ،‬وإن في اسممتغناء محمممد عممن مممدد الخمموارق والمعجممزات‬
‫لكبر معجزة على الطلق (( ‪. 248‬‬

‫حقيقة مآثر الرسول‬

‫ويتابع الكبير الفرنسي في دراسة شخصية الرسول ‪ ‬مبرزاة عظمته وكمالته العليا ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إن في مرأى المؤمنين وفي أعمالهم لصممورة تلمحهمما منعكسممة مممن مممآثر محمممد ‪ ،‬وإذا ممما‬
‫كانت بالطبع باهتة قياسا ة إلى كمالته العليا ‪ ،‬فإنها ل جدال في صحتها ‪ ،‬هذا على حين نجد قياصممرة‬
‫روما مع دقة تماثيلهم ل يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صممورة مممن الخيلء‬
‫‪ ،‬أن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شميئا ة ممن الحيماة ‪ ،‬وإنمه لب وحي همذه الحقيقمة‬
‫المقررة أن قامت برؤوسنا فكرة نشر لوحات في تاريخ محممد همذا ‪ ،‬تمثممل المممآثر الدينيممة لتبماعه ‪،‬‬
‫وبعض صور من حياة محمد ‪ ،‬وبعض مدن الحجاز الذي هو وطنه (( ‪. 249‬‬

‫المعجزات بين الحقيقة التاريخية وأ المآثر الشعبية‬


‫ويتناول المستشرق جوستاف جرونيباوم مؤلف كتاب ‪ » :‬حضارة السلم « ‪ ،‬القصص الممتي‬
‫نسجتها المخيلة الشعبية والدوافع الممتي كممانت وراء تلممك القصممص الممتي هممي مسممتلهمة مممن العمممال‬
‫العظيمة والخارقة والحقيقية في حياته ‪ . .‬يقول جرونيباوم ‪:‬‬

‫)) إن انطواء حياة الرجل العظيم على قدر من الشممرارة اللهيممة أقمموى بأسمما ة مممما لممدى إخمموانه‬
‫الضعفاء لية حافلة بالمعاني للعالم كافة !‬

‫ذلك أن رسالته تؤذن ببدء مرحلة جديدة في قصة هذا العالم ‪.‬‬

‫ول شك أن القوى التي يفك أسارها ستكون رهن إشارته ‪ ،‬وستكون أهم أدوار مقممامه فممي هممذه‬
‫الرض موضع الترحاب أو المحاكاة من العالم الذي كان مجرد ظهوره فيه ذا أثر في خطه ومجراه‬
‫!‬

‫وإن القلوب الساذجة العقل لتروحا تنسج الخوارق وشيا ة تحيط به حياة الرجل العظيم‪ ،‬غافلة عن‬
‫أن هذه الخوارق تغض من شأن النصر النساني الذي يحرزه بطلها ((‪. 250‬‬

‫ألفونس اتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪248‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪249‬‬

‫جوسإتاف جرونيباوما )نقل عن مقدمة كتاب قالو في السإلما حسن الشيخ خضر الظالمي(‪.‬‬ ‫‪250‬‬
‫‪129‬‬

‫ويذكر جرونيباوم أن الرسول كان حريصا ة على التأكيممد بممأنه بشممر صممدع بممأمر مممن امم لنشممر‬
‫رسالة السلم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫)) حرص محمد مدة رسالته على أن يؤكد للناس أنه بشر ‪ ،‬ذو طبيعة إنسانية وأنه بفضل من‬
‫ا اختير رسولة و‪ ‬تعالى ‪. .‬‬

‫وفيها عدا هذه الخصوصية _خصوصية اختياره للرسالة _ ليممس ثمممة شمميء يفممرق بينممه وبيممن‬
‫إخوانه من البشر ‪.‬‬
‫وإن علمه بالغيب لمحدود بما يريد ا أن يعلمه إياه ‪.‬‬
‫فكل ما لم يرشده إليه الوحي فأمر قد يضل فيه السبيل ‪.‬‬
‫و كلما لج أعدائه في تحديهم إياه بأن يثبت أقواله بإحدى المعجزات أبى ذلممك ‪ .‬غيممر عممابيء‬
‫بسخرية الساخرين ‪ ،‬و خيبة أمل المتشكيين ‪ ..‬ذلك أن رسالته هي آيته ‪ ،‬إمارته!‪.‬‬
‫‪ ‬وقالوا لول أنزل عليه آيات من ربه ؟ قل إنما اليات عند الله ‪ ،‬وإنما أنما نممذير ممبين ‪ ،‬أولممم‬
‫يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكممرى لقمموم يؤمنممون – ‪ (29/50‬‬
‫)‪.251 51‬‬

‫ويحلل جرونيباوم السباب التي دفعت كتاب سيرة الرسول ‪ ‬فممي سممياق تعظيممم الرسممول إلممى‬
‫إضفاء المعجزات والخوارق عليه تأكيداة لصورة القداسة والحترام الماثلممة فممي نفمموس المسمملمين ‪...‬‬
‫يقول ‪:‬‬
‫)) ولم يكد ينقض على وفاته طويل زمن حتى ثار الخيال الشعبي متغلبا ة على نصوص الوحي‬
‫نفسها‪ ،‬ومغطيا ة الحتجاجات الفاترة التي أبممداها ذوو الضمممير الحممي مممن الفقهمماء _وراحا يقممص مممن‬
‫جديد سيرة النبي واضعا ة إياه في صورة الساحر القوي_!!‪.‬‬

‫ولقد رانت عليهم تلك الرغبة الساذجة في تعظيم البطل برفعه فوق درجة النسممانية إلممى أقممص‬
‫حد مستطاع ‪ ،‬وظاهرها على ذلك التقليد العريق الذي يؤكد من الكبير الشخصممية الفممذة ‪ ،‬بممما ينسممب‬
‫إليها من تعاون العالم الروحي كله وإياها (( ‪. . . . 252‬‬

‫دين الفطرة وأ نفي الخوارق‬


‫ويخلص المفكر ديزيريه بلنشمميه مؤلممف كتمماب ‪ " :‬دراسممات فممي التاريممخ الممديني" إلممى الممرأي‬
‫القائل إن حياة الرسول ‪ ‬قد خلت من الخوارق والمدهشات وإن السلم دين الفطرة ‪ ،‬لم يقبل بمبممدأ‬
‫الخوارق ‪ ،‬وإن معجزة الرسول الحقيقية قد استندت إلى الواقع الحي ‪ ،‬و الرض الصمملبة ‪ ،‬وانممه لممم‬
‫يكن له إل نبوءته ورؤاه للمستقبل ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫المصدر الساباق‪.‬‬ ‫‪251‬‬

‫المصدر الساباق‪.‬‬ ‫‪252‬‬


‫‪130‬‬

‫))ومممن جممانب آخممر ينبغممي أن نممذكر أن الممدين السمملمي نحممالف كممل المخالفممة لهممذه البممراج‬
‫المتشامخة التي تسقط من ضربة واحدة ‪ ،‬لن له قوة كامنة وصلبة ومتانة ‪. .‬‬

‫وفي الواقع ‪ ،‬فبماذا يمكن أن يهاجمه النقممد ‪ ،‬فممي تاريممخ محمممد أنممه تقريبمما ة خممال مممن الخمموارق‬
‫والمدهشات ‪ ،‬وليس فيه تقريبا ة من المسلمات إل ما في الديانة الكاثوليكية من معتقدات طاهرة نقيممة ‪.‬‬
‫فهل توجد هممذه الخمموارق فممي الشممعائر والطقموس ‪ ،‬إنممك لممو رجعممت بالممدين السمملمي إلممى قواعممده‬
‫الساسية لما وجدته قد زاد على الدين الفطري إل نبوءة محمد‪ ،‬وإدراكا ة حقيقيا ة وفهما ة صحيحا ة لمعنى‬
‫القضاء والقدر الذي يعد صفة عامة لكل الممذين يممدركون بقمموة عقممولهم ‪ ،‬ودقممة شممعورهم ‪ :‬أنهممم فممي‬
‫احتياج شديد إلى أن يسيروا في هذه الحياة بنظام دقيق ‪ ،‬وخطة محكممة ‪ ،‬أكمثر مممما يعممد عقيمدة ممن‬
‫العقائد ‪ ،‬أو أصلة من أصول الأيمان الخ (( ‪. 253‬‬

‫المعجزات اللهية‬
‫أما المفكر النكليزي صاحب كتاب ‪" :‬البطال " ‪ ،‬توماس كارليل فيرى أن الرسول في سيرته‬
‫الحياتية لم يعتمد مطلقا ة على المعجزات ‪ ،‬وإنما يذكر من يدعوهم إلى السلم بالمعجزة اللهية الممتي‬
‫تكمن في سر الوجود المبثوث في الكون ‪ ،‬إنها المعجزة المتي تؤكمد حقيقمة الخمالق وعظمتمه ‪ ،‬يقمول‬
‫كارليل ‪:‬‬

‫)) وكان محمممد إذا سممئل أن يممأتي بمعجممزة قممال ‪ :‬حسممبكم بممالكون معجممزة ‪ ،‬انظممروا إلممى هممذه‬
‫الرض ‪ ،‬أليست من عجائب صنع ا وآية على وجوده وعظمته ؟ هذه الرض التي خلقها امم لكممم‬
‫سبل تسعون في مناكبها وتممأكلون مممن رزقممه ‪ ،‬وهممذا السممحاب المسممير فممي الفمماق ل‬ ‫ة‬ ‫ونهج لكم فيها‬
‫يدرى من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود ‪ ،‬ثم يسممح بمممائه ويهضممب ليحيممي‬
‫أرضا ة مواتا ة ‪ ،‬ويخرج منها نباتا ة وغيلة واعانبا ة ‪ ،‬أليس ذلك آية ‪ ،‬والنعام خلقها لكممم تحممول الكلأ لبنمما ة‬
‫وهي فخر لكم ‪ ،‬والسفن _وكثيراة ما يذكر السفن _ كالجبال العظمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز‬
‫في سوا‪ ،‬اليم لها حاد من الريح ‪ ،‬وبينا تسير إذا هي قد وقفت بغتة ‪ ،‬وقد قبض ال الريح ‪ .‬معجزات‬
‫و ا كل هذه ‪ ،‬وأي معجزات بعدها تريدون ‪ ،‬ألستم أنتم معجزات ؟ لقد كنتم صغاراة وقبل ذلممك لممم‬
‫تكونوا البتة ثم لكم جمال وقوة وعقممل ‪ ،‬ثممم وهبكممم الرحمممة أشممرف الصممفات ‪ ،‬وتهرمممون ويممأتيكم‬
‫المشيب وتضعفون وتهن عظمامكم وتموتمون فتصمبحون غيممر موجمودين "ثمم وهبكممم الرحممة" لقمد‬
‫أدهشتني جداة هذه الجملة ‪ ،‬فإن ال ربما كان خلق الناس بل رحمة ‪ ،‬فماذا كان يكون أمرهممم ! هممذه‬
‫من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة ‪ ،‬وكذلك أرى في محمد دلثممل شممعرية كممبيرة ‪ ،‬وآيممات علممى‬
‫أشرف المحامد وأكرم الخصال ‪ ،‬وأتبين فيه عقلا ة راجحا ة وعينا ة بصمميرة وفممؤاداة صممادق ورجلة قويمما ة‬
‫عبقريا ة ‪ ،‬لو شاء لكان شاعراة فحلة أو فارسا ة بطلة أو ملكا ة جليلة ‪ ،‬أو أي صنف مممن أصممناف البطممل‬
‫(( ‪. 254‬‬

‫عالمية المعجزة المحمدية‬


‫ديزريه بالنشيه ‪ :‬دراسإات في التاريخ الديني ‪) .‬نقل عن كتاب هذا هو السإلما ‪ ،‬ص ‪.(88‬‬ ‫‪253‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ص ‪.82-81‬‬ ‫‪254‬‬


‫‪131‬‬

‫ولكن ‪ ،‬إن أجمعت غالبية الدراسات الستشراقية على نفي صفة الخوارق والمعجزات عن إلى‬
‫سول ‪ ‬ورأت في نضاله الملحمي معجزته النس انية الكممبرى‪ ،‬فممإن العلمممة البريطمماني المستشممرق‬
‫هيليار بلرن يرى في مؤلفه ‪ » :‬فكرة الحياة « معجزة رسالة السلم فممي النجممازات الممتي حققتهمما‬
‫حين وحدت بلد العرب ‪ ،‬وأكدت كونيتها بخروجها من النطاق العربي إلى الصعيد العالمي ‪ ،‬فكانت‬
‫حقيقة ثابتة وحضارة مشرقة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) بينما كانت مممدن المبراطوريممة البيزنطيممة ‪ ،‬تحتفممل بانتصممارات المممبراطور هرقممل علممى‬
‫الفرس ‪ ،‬وبينما كان الناس في سرور وجذل عظيمين ‪ ،‬حدثت العجزة المحمدية ‪ ،‬حدث من لممم يكممن‬
‫أحد ينتظره ول يفطن له ‪ ،‬حدث أمر كان أقرب إلى الهزة الرضممية أو الفيضممان العممام فممي سممرعته‬
‫وشدته ‪ ،‬ووقوعه دونما سابق إنذار ول إشارة ‪.‬‬

‫لم يكن هنماك أعمراض سمبقت همذا الحمدث العظيمم الضمخم ‪ ،‬ول إممارات تمدعو إلمى انتظماره‬
‫والتهيؤ له ‪ ،‬ولم يكن مضى على انتصارات ‪ ،‬هرقممل الكممبير سممنوات قلئممل ‪ ،‬لممما مشممى إلممى أرض‬
‫المبراطورية فرسان من الصحراء ‪ ،‬ما سمممع عنهممم أحممد شمميئا ة إل ممما كممان يقممال مممن أنهممم جماعممة‬
‫يضربون أرض الصحراء على خيولهم وإبلهم طلبا ة للكل والماء ‪ ،‬وأنهم قوم من البدو (( ‪.‬‬

‫ويمض هيليار بلرن فيقول ‪:‬‬


‫)) إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها ‪ ،‬وبعد أثرها ‪،‬وعظيم نتائجها ‪ ،‬كانت مسمموقة‬
‫بقوة ل يستطاع تفسرها ‪ ،‬وإن كان ما لدينا من المصادر والوثائق يساعدنا على تفهممم السممباب الممتي‬
‫واقعا منظوراة((‪. 255‬‬
‫ة‬ ‫جعلتها أمراة‬

‫هليار بالن ‪ :‬فكرة الحياة ‪ ،‬ص ‪.64-63‬‬ ‫‪255‬‬


‫‪132‬‬

‫الفصل السابع‬
‫أخلق الرسول وأ مناقبه‬
‫لقممد عنيممت كتممب الحممديث والسمميرة النبويممة وكممذلك الدراسممات التاريخيممة السمملمية ‪ ،‬بشمممائل‬
‫الرسول ومناقبه ‪ ،‬ودرست بالتفصيل عاداته بل عمله اليومي ‪ ،‬ومنها ما أفردت لها فصولة وأقساما ة‬
‫للتحدث عن مناقبه ‪ ،‬أو وضعت كتب مستقلة تناولت فيها عرف باسم الشمائل المحمدينممة ‪ . .‬وكممانت‬
‫بممدورها مجممالة للبمماحثين الغربييممن والمستشممرقين فممي دراسمماتهم ذلممك الجممانب الخلقممي والخلقممي‬
‫للرسول ‪. . . .‬‬

‫ويتحدث المستشرق ديسون عن اهتمام الباحثين السلميين في سيرة الرسول ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) ولقد راحا الكتاب المسلمون يصفون نبيهم فما تركوا ناحية من صفاته وأخلقه إل عرفوا بها‬
‫وأشاروا إليها (( ‪.256‬‬

‫كان خلقه القران‬


‫كانت سيرة الرسول وأخلقه الكريمة ‪ ،‬تعكس واقع الممتزامه العقيممدي ‪ ،‬فكممان " خلقممه القممرآن "‬
‫حسب قول أم المؤمنين السيدة عائشة وهذا ما يؤكد مدى التطابق ما بين سيرته الحياتية وسلوكه مممع‬
‫مفاهيم الشريعة السلمية السصحة التي حملها للبشرية ‪ ،‬ولقد بحث المفكر السملمي مولنما محممد‬
‫علي هذه القضية فقال ‪:‬‬

‫))كانت حياته اليومية صورة صادقة للتعاليم القرآنية ‪ ،‬لقد كان هو تجسمميداة‪ ،‬إذا جمماز التعممبير ‪،‬‬
‫لكل ما أوصى القرآن الكريم به ‪ .‬وكما أن كتمماب امم دسممتور أخلق سممامية لنممماء ملكممات النسممان‬
‫المتعددة ‪ ،‬كذلك فإن حياة الرسول معرض عملي لتلك الخلق كلها ‪ .‬وهكذا فإن لممدى المسمملم هاديمماة‬
‫من مزدوجا ة ‪ :‬القرآن الكريم من الناحية النظرية ‪ ،‬وحياة الرسول كمثل كامل (( ‪. 257‬‬

‫الرسول هو القدوأة الحسنة وأالمثل العلى‬


‫كان عليه الصلة والسلم في سائر مراحممل حيمماته القممدوة النسممانية والمثممل العلممى والنممموذج‬
‫المثل للكمال ‪ ،‬لكل مسلم ‪ ،‬بل منبع الهداية للبشرية جمعاء ‪ ،‬فسيد المرسلين خلقه العظيم إمام البشر‬

‫ديسون ‪ :‬نقل عن كتاب السإلما دين و عقيدة ‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪256‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.264‬‬ ‫‪257‬‬


‫‪133‬‬

‫والمعلم الول والقدوة الحسنة ‪ ،‬وقد جاء في القرآن الكريم ‪  :‬لقد كان لكم في رسول ا أسوة حسنة‬
‫‪ ) ‬الحزاب ‪ (21/‬وعند هذه النقطة يقول الكاتب الفرنسي الكسندر دوما ‪:‬‬

‫)) كان محمد معجزة الشرق لما في دينه من معالم ‪ ،‬وفي أخلقه من سممو ‪ ،‬وفمي صمفاته ممن‬
‫محامد (( ‪.‬‬

‫فالرسول هو القدوة الخلقية الحسممنة ‪ ،‬وهممو القائممل عممن صممدق ‪ " :‬إنممما بعثممت لتهممم مكممارم‬
‫الخلق " وكممان طبيعيمما ة أن تكممون سمميرته _عليممه السمملم _ كاملممة ناصممعة نقيممة ‪ ،‬معصممومة عممن‬
‫الثام ‪ . . .‬هذا ‪ . .‬ولقد رأى المفكر النكليزية جون أروكس بعصمة الرسول معياراة لعظمته ‪ ،‬يقول‬
‫‪:‬‬

‫)) لم نعلم ان محمداة تسربل بأية رذيلة مدة حياته لذلك نراه عظيمةا(( ‪.258‬‬

‫الجدية وأالبعد عن العبث وأاللهو‬


‫لقد كانت السمة الساسية في أخلق الرسول الجدية والبتعمماد عممن اللهممو والعبممث ‪ ،‬فممي سممائر‬
‫مراحل حياته ‪ . . .،‬إذ ل يمكن أن يتم نشر رسالة السلم إلة فممي إطممار سمميرة عمليممة جممادة ‪ ،‬يقممول‬
‫توماس كارليل ‪:‬‬

‫)) وما كان محمد بعابث قط ‪ ،‬ول شاب شيئا ة من قوله شائبة لعب ولهو ‪ .‬بمل كمان الممر عنمده‬
‫أمر خسران وفلحا ‪ ،‬ومسألة فناء وبقاء ‪ .‬ولم يك منه إزاءها إل الخلص الشديد والجد المر ‪ .‬فأممما‬
‫التلعب بالقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فممما كممان مممن شممأنه قممط ‪ .‬وذلممك عنممدي أفظممع‬
‫الجرائم إذ ليس هو إل رقدة القلب ‪ ،‬ووسن العيممن عممن الحممق ‪ ،‬وعيشممة المممرء فممي مظمماهر كاذبممة ‪،‬‬
‫وليس كل ما يستنكر من مثل هذا النسان هو أن جميع أقممواله وأعممماله أكمماذيب ‪ ،‬بممل إنممه هممو نفسممه‬
‫أكذوبة ‪ .‬ورأى خصلة المروءة والشرف _شعاع الله_ متضائلة في مثل ذلك الرجل ‪ ،‬مضطربا ة بين‬
‫عوامل الحياة والموت ‪ ،‬فهو رجممل كمماذب‪ .‬ل أنكممر أنممه مصممقول اللسممان ‪ ،‬مهممذب حواشممي الكلم ‪،‬‬
‫محترم في بعض الزمان والمكنة ‪ ،‬ل تؤذيك بادرته ‪ ،‬لين المس رقيق الملمس ‪ ،‬كحمض الكربممون‬
‫تراه على لطفه سما نقيعا ة ‪ ،‬وموتا ة ذريعا ة (( ‪. 259‬‬

‫براءة طبعه‬
‫لقد اتسمت بساطة الخلق المحمدي ‪ ،‬في سممائر مراحممل حيمماته بابتعمماده عممن الريمماء والتصممنع ‪،‬‬
‫يعرف تماما ة حق قدره ‪ ،‬فكممان عظيممما ة فممي وقفتممه الشممجاعة ‪ ،‬وإرادتممه الصمملبة ‪ ،‬وعزمممه الممذي ل‬
‫يلين ‪ ،‬ماضيا ة أبداة إلى ما أرسل إليه ‪ . . .‬يقول توماس كارليل ‪:‬‬

‫)) وإني لحب محمداة لبراءة طبعه من الرياء والتصنع ‪ .‬ولقد كان ابن القفار هذا رجلة مسممتقل‬
‫جون أروكس ‪ :‬عظماء التاريخ ‪ ،‬ص ‪.83‬‬ ‫‪258‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.86-85‬‬ ‫‪259‬‬


‫‪134‬‬

‫الرأي ‪ ،‬ل يعممول إل علممى نفسممه ‪ ،‬ل يممدعي ممما ليممس فيممه ‪ .‬ولممم يممك متكممبراة ‪ ،‬ولكنممه لممم يكممن ذليلة‬
‫ضرعا ة ‪ .‬فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده ال وكممما أراد ‪ .‬يخمماطب بقمموله الحممر المممبين قياصممرة‬
‫الروم وأكاسرة العجم ‪ ،‬يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الخرة ‪ .‬وكان يعممرف لنفسممه‬
‫قدرها (( ‪. 260‬‬

‫كرم الخلق وأ حسن العشرة وأ صحة الحكم‬


‫إن سجايا الرسول وأخلقه التي كمانت محمط اهتممام البماحثين السملميين ‪ ،‬اسمتأثرت بمدورها‬
‫باهتمممام المستشممرقين ‪ .‬يقممول أسممتاذ اللغممات الشممرقية فممي جامعممة جنيممف المستشممرق إدوار مونممتيه‬
‫) ‪ ( 1927_ 1856‬في كتابه ‪ ":‬حاضر السلم ومستقبله " ‪ ،‬بأحثا ة جماع خصاله وجميل سممجاياه‬
‫ونزاهممة مقاصممده وصممحة أحكممامه وطممبيعته الدينيممة كمصمملح عظيممم يممدهش الفكممر ‪ ،‬ويممثير مكممامن‬
‫العجاب ‪ ،‬يقول مونتيه ‪:‬‬

‫))أما محمد فكان كريم الخلق حسن العشرة ‪ ،‬عذب الحديث ‪ ،‬صحيح الحكم ‪ ،‬صادق اللفظ ‪،‬‬
‫وقد كانت الصفة الغالبة عليه هي صحة الحكم ‪ ،‬وصراحة اللفظ ‪ ،‬والقتناع التام بما يقبلممه ويقمموله ‪،‬‬
‫إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ‪ ،‬بما يتجلى فيها من شدة الخلص ‪ ،‬فقد‬
‫كان محمد مصلحا ة دينيا ة ‪ ،‬ذا عقيدة راسخة ولم ينهض ‪ -‬إل بعد أن تأمل كثيرا ‪ ،‬وبلغ سممن الكمممال _‬
‫بهاتيك الدعوة العظيمة ‪ ،‬التي جعلته من أسطع أنمموار النسممانية ‪ ،‬وهممو فممي قتمماله الشممرك والعممادات‬
‫القبيحة التي كانت عند أباء زمنه ‪ ،‬كان في بلد العرب أشبه بنبي من أنبياء بي إسرائيل الذين كممانوا‬
‫كبارا جدا فممي تاريممخ قممومهم ‪ ،‬ولقممد جهممل كممثير مممن النمماس محمممداة بخسمموه حقممه ‪ ،‬وذلممك لنممه مممن‬
‫المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها (( ‪. 261‬‬

‫البساطة في حياة الرسول‬


‫هذا ‪ ،‬وقد درس مولنا محمد على أخلق الرسول وعمماداته ‪ ،‬فممألف البسمماطة والخلص قمموام‬
‫الخلق المحمدي ‪ ،‬إذ أحب عليه السلم الفضيلة لممذاتها ‪ ،‬وكممانت لممديه أخلق سممامية فطريممة صممميمة‬
‫غير مكتسبة ‪ ،‬وليس أدل على رفيع خصاله ممن نهجممه الحيماتي فممي تنفيممذ أعمماله بيممده ‪ ،‬بعيمداة عمن‬
‫التكلف والرياء ‪ ،‬يتسم كل ما قام به م ن أعممال وحركمات ‪ ،‬وكمذلك طريقمة حيماته ولباسممه وعماداته‬
‫بالبساطة ‪. . .‬‬

‫وكانت تلممك البسمماطة منسممجمة مممع طبعممه الهممادي المفكممر ‪ ،‬وهممذا ممما اسممتدعى انتبمماه المممؤرخ‬
‫والمستشرق المريكي أورينج فقال في كتابه ‪" :‬الحياة و السلم " ‪:‬‬

‫))كان النبي الخير بسيطا ة خلوقا ة ومفكراة عظيما ة ذا آراء عاليممة ‪ ،‬وإن أحمماديثه القصمميرة جميلممة‬
‫ذات معان كبيرة ‪ ،‬فهو إذاة مقدس كريم (( ‪.262‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪260‬‬

‫مونتيه ‪) ،‬حاضر السإلما و مستقبله(‪.‬‬ ‫‪261‬‬

‫أورينج ‪ :‬الحياة و السإلما‪.‬‬ ‫‪262‬‬


‫‪135‬‬

‫القناعة وأ الرضى وأ مسألة الشهرة‬


‫إذ حقيقة حياة الرسول ‪ ،‬وبساطة طبعه وسلوكه ‪ ،‬إذ دلت على شيء ‪ ،‬فعممل تلممك القاعممة الممتي‬
‫هي أقرب للزهد والتقشف ‪ ،‬ابتعاداة عن أجواء الشهرة والجاه والسمملطان الممتي غالبمما ة ممما تكمموك وراء‬
‫طموحا عظماء التاريخ ‪ . .‬غير أن الرسول محمممداة ممما كممان البتممة بطمامع بجمماه ول سمملطان ‪ ،‬وإنممما‬
‫هدفه الول والخير نشر الدعوة السلمية وإعلء كلمة ا ‪ ،‬فكان أن ترك الحياة الوادعة ‪ ،‬وعمماش‬
‫حياة كفاحية مريرة قاسية عرف فيها شظف العيش وقسوة الحاجمة ‪ ،‬ولقمد رد المستشمرق النكليمزي‬
‫صاحب كتاب ‪" :‬البطال " على أولك الذين جهممدوا فممي اتهممام الرسممول _عليممه السمملم _ بالمطممامع‬
‫الدنيوية التي كانت وراء دعوته ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫))ويزعم المتعصبون والملحدون أن محمداة لم يكن يريد بقيممامه إل الشمهرة الشخصمية ومفمماخر‬
‫الجاه والسلطان ‪ .‬كل و أيم ا ‪ ،‬لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابممن القفممار والفلمموات ‪ ،‬المتوقممد‬
‫المقلتين ‪ ،‬العظيم النفس ‪ ،‬المملوء رحمة وخيراة وحنانا ة وبممراة وحكمممة وحجممى وإربممه ونهممى ‪ ،‬أفكممار‬
‫غير الطمع الدنيوي ‪ ،‬ونوايا خلف طلب السمملطة والجمماه ‪ ...‬ولحيممف و تلممك نفممس صممامتة كممبيرة ‪،‬‬
‫ورجل من الذين ل يمكنهم إل أن يكونوا مخلصين جادين ‪ .‬فينما ترى آخرين يرضون بالصلحات‬
‫الكاذبة ويسيرون طبق العتبممارات الباطلمة‪ ،‬إذ تمرى محمممداة لممم يممرض أن يتلفممع بممألوف الكماذيب‬
‫ويتوشح بمتبع الباطيل ‪ ،‬لقد كان منفرداة بنفسه العظيمة بحقائق المور والكائنات ‪. 263 (( ،‬‬

‫الزهد وأ التقشف وأ البتعاد عن الشهوات‬


‫فالخلق المحمدي الذي هو خلق القرآن ‪ .‬يحيد عن العقيممدة السمملمية ‪ ..‬ولقممد رد كارليممل علممى‬
‫أولمك المتعصمبين الحاقمدين م ن المستشمرقين المذين اتهمموا السملم ورسمول السملم بالشمهوانية ‪،‬‬
‫فالسلم برأيه دين ينأى عمن الشمهوانية ‪ ،‬أمما سميرة حيماة الرسمول المتي اتسممت بالبسماطة والزهمد‬
‫والتقشف ‪ ،‬فأبعد من أن تخفى على باحث ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلممما ة وعممدوانا ة ‪ ،‬وشممد ممما نجممور ونخطيممء إذا‬
‫حسبناه رجلة شهويا ة ‪ ،‬ل هم له إل قضاء مآربه من الملذ‪ ،‬كل فما أبعد ما كان بينه وبين الملذ أيا ة‬
‫كانت ‪ ،‬لقد كان زاهداة متقشفا ة في مسممكنه ومممأكله ومشممربه وملبسممه وسممائر أمموره وأحمواله ‪ ،‬وكممان‬
‫طعامه عادة الخبز والماء ‪ ،‬وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نممار ‪ ،‬وإنهممم ليممذكرون _ونعممم ممما‬
‫يذكرون _ أنه كان يصلح ثوبه ويرفوه بيده ‪ ،‬فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة ؟ فحبذا محمد مممن رجممل‬
‫خشن اللباس خشن الطعام ‪ ،‬مجتهد في ا ‪ ،‬قائم النهار ساهر الليل ‪ ،‬دائب في نشر دين اللممه ‪ ،‬غيممر‬
‫طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجممال مممن رتبممة أو دولممة أو سمملطان ‪ ،‬غيممر متطلممع إلممى ذكممر أو‬
‫شهرة كيفما كممانت ‪ ،‬رجممل عظيممم وربكممم ‪ ،‬وإل فممما كممان ملقيمما ة مممن أولئممك العممرب الغلظ تموقيراة‬
‫واحتراما ة ‪ ،‬وإكباراة وإعظاما ة ‪ ،‬وما كان ممكنمما أن يقمودهم ويعاشمرهم معظمم أوقماته ثلثمما ة وعشمرين‬
‫حجة ‪ ،‬وهم ملتفون به ‪ ،‬يقاتلون بين يممديه ‪ ،‬ويجاهممدون حمموله ‪ ،‬لقممد كممان فممي هممؤلء العممرب جفمماء‬
‫وغلظة وبادرة وعجرفة ‪ ،‬وكانوا حماة النوف ‪ ،‬أباة للضيم ‪ ،‬وعري المقادة صعاب الشكيمة ‪ ،‬فمممن‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.69-68‬‬ ‫‪263‬‬


‫‪136‬‬

‫قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا ‪ ،‬فذلك وأيم الله بطممل كممبير ولممول ممما‬
‫أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضممعوا لمه ول أذعنموا ‪ ،‬وكيممف وقممد كممانوا أطمموع لمه ممن‬
‫بنانه ‪ ،‬وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لممما كممان مصمميبا ة‬
‫من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده ‪ ،‬فكذلك تكون العظمة ‪ ،‬وهكممذا يكممون البطممال‬
‫(( ‪. 264‬‬

‫الرسول وأ المرأة‬
‫هذا ‪ ،‬و قد حاولت القلم الستشراقية المغرضة أن تنفث سمممومها فممي رسممول السمملم حيممن‬
‫ألصقت فيه تهمة الشهوانية وتهالكه على النساء ‪ . .‬يقممول مممونتجمري وات فممي كتمماب ‪" :‬محمممد فممي‬
‫المدينة" ‪:‬‬

‫)) وهناك اتهام أوروبي مسيحي لمحمد بأنه شهواني أو أنه ‪ ،‬بلغة القرن السابع عشممر ‪ ،‬الفظممة‬
‫» فحاش مسن « غير أن هذه التهمة تسقط إذا فحصناها على ضوء الفكار السائدة في عصر محمد‬
‫‪ .‬كان الفكر السلمي في أول ظهور السلم يميل إلى تضخيم شخصية النبي ورفعها فوق مسممتوى‬
‫البشر ‪ ،‬ويوجد حديث يقول ) إن محمداة قد أعطي من قوة الرجولة ما يجعله يسممتطيع أن يقسممم ليلتممه‬
‫بين جميع نسائه ( ‪.‬‬

‫ول شك أننا هنا بصدد حديث موضوع لن الحديث العادي يقول بأن محمداة كان يخصص ليلممة‬
‫لكل واحدة من نسائه ‪ ،‬ونستطيع على كممل حمال أن نحكمم ممن وراء ذلمك علممى موقمف بعممض أتبماع‬
‫محمد منه ‪ .‬كان المسلمون الول سيئي الظن بالعزوبية ‪ ،‬وكانوا يعارضممونها فممي كممل مناسممبة حممتى‬
‫الزهاد في السلم كانوا عادة متزوجين (( ‪. 265‬‬

‫هذا ‪ ،‬ويرد إميل درمنغهم على هجمموم المستشممرقين الممذين يتنمماولون حيمماة الرسممول الخاصممة ‪،‬‬
‫وعابوا عليه تعدد زوجاته وشبقه الجنسي ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))وإن بعضهم يعيب محمداة في كثرة ميله إلى النساء ‪ ،‬فإنه مما ل مشمماحة فيممه ‪ ،‬أن محمممداة لممم‬
‫يكن شرها ة ول فخوراة ولمتعصبا ة ولمنقاداة للمطامع ‪ ،‬بل كان حليما ة رقيق القلب عظيممم النسممانية ((‬
‫‪. 266‬‬

‫ويناقش الباحث الفرنسي‪ -‬المستشرق إتيين دينيه في كتممابه ‪ " :‬محمممد رسممول امم " مممن يعيممب‬
‫على الرسول حبه النساء ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) كان محمد يحب النساء ‪ ،‬وقد عاب عليه الكثير من العممداء ذلممك ‪ .‬وحقمما ة كممان محمممد رجلة‬
‫بكل ما في الكلمة من معان خلقية ومادية ‪ ،‬ورجولته امتازت بالعفة التي ل تتعارض مع أسباب اللذة‬
‫البريئة المجردة من الدنس ‪ ،‬وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالعفة والحياء‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.84-83‬‬ ‫‪264‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.502-501‬‬ ‫‪265‬‬

‫اميل درمنغهم ‪ :‬حياة محمد ‪ ،‬ص ‪.183‬‬ ‫‪266‬‬


‫‪137‬‬

‫الخاليتين من كل تكلف ورياء ‪ ،‬ل كحياء المغالين في الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة ‪.‬‬

‫وإذا كان محمد قد عقد على ثلث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إل باثنتي عشممرة منهممن ‪ .‬أممما‬
‫الخريات فتزوجهن لسباب سياسية محضة ‪ ،‬إذ كانت كل القبائل ترغب في شرف مصاهرته ‪ .‬وقد‬
‫كثرت عليه الطلبات في شأن ذلك ويروى أن عزة أخت دحية الكلبي ماتت من شممدة الفرحممة عنممدما‬
‫نبئت أن الرسول قبل الزواج بها وقد كان الرسول يعطف على النساء جميعا ة وحاول في كممل مناسممبة‬
‫أنصافهن ‪ .‬فحرم أول ما حرم وأد البنات ‪ ،‬تلك العادة القبيحة القاسية التي تحدثنا عنها فيها سبق ‪ .‬ثم‬
‫وضع حداة لتعدد الزوجات ‪ ،‬فجعل العدد القصى منهن أربعا ة ‪ ،‬وزاد على ذلممك أن نصممح المممؤمنين‬
‫بالتفكير في الية ‪ . . .  :‬فانكحوا ما طاب لكم من النساء ‪ ،‬مثنمى و ثلث وربماع ‪ ،‬فمإن خفتمم ألة‬
‫تعدلوا فواحدة ‪.  . .‬‬

‫ومممن أحمماديثه ‪ » :‬أبغممض الحلل إلممى امم الطلق « ‪ . . .‬وأتبممع ذلممك بممأن منممح المممرأة حممق‬
‫المطالبة بالطلق إن لم يوف الرجل بوجباته الزوجية (( ‪. 267‬‬

‫)) وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البممالغ تستشممار قبممل زواجهمما ‪ ،‬وأصممبح المهممر ل‬
‫يعطى للب بل للعروس نفسها ‪ ،‬وقد وصف أعداء السلم تلك السنة الحكيمة بأنها ‪ " :‬شراء للمرأة‬
‫" ‪ .‬وهم لم يسمعوا ‪ ،‬فيها أظن ‪ ،‬ذلك الجواب المفعم الذي يمكممن أن يممرد بممه المسمملمون عليهممم حينمما‬
‫يقولون لهم ‪ :‬إن المهر في بعض القطار الغربية يدفعه والد البنت إلممى رجلهمما ! ‪ . . .‬وفمموق ذلممك ‪،‬‬
‫فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أي حق في التصرف في مال امرأته ‪.‬‬

‫ومنح الرسول المرأة كذلك حق في الميممراث‪ . -‬وحقهمما بممه ‪ :‬نصممف حممق الممذكر ‪ ،‬وذلممك لن‬
‫المرأة ل تدفع مهراة كالرجل وليس مكلفا ة بحاجات البيت (( ‪. 268‬‬

‫ومن جهتممه نمماقش العقمماد فممي كتممابه » عبقريممة محمممد « آراء المستشممرقين فيهمما خممص علقممة‬
‫الرسول بالمرأة ‪ ،‬وفند مزاعمهم عن انسياقه وراء رغباته الجنسية ونزواته ‪ . .‬فالرسممول برأيممه هممو‬
‫أول يقيم علقات طبيعية مع المرأة وثانيا ة هو طبيعي بحبه المرأة يقول ‪:‬‬

‫)) ونحن قبل كل شيء ل نرى ضيراة على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها ‪ ،‬هذا‬
‫سواء في الفطرة _ ل عيب فيه ‪ ،‬وهذه النفس السوية يمكننا أن نفهمها بجلء حين نرى أن المرأة لم‬
‫تشممغله عممما تشممغل المممرأة الرجممل المفممرط فممي معرفممة النسمماء عممن مهممام المممور والقيممام بالعبمماء‬
‫الجسام ‪ . .‬فمهما قال هؤلء فلن يستطيعوا أن ينكروا أن محمداة قد حقق ما لم يحققممه بشممر قبلممه ول‬
‫بعده ‪ ،‬لم يشغله عن هذا شيء ‪ ،‬ل امرأة ول غير امرأة ‪ ،‬فإن كانت عظمة الرجل قممد أتمماحت لممه أن‬
‫يعطي الدعوة حقها ‪ ،‬ويعطي المرأة حقها ‪ ،‬فالعظمة رجحان وليست بنقص ‪ ،‬وهذا السممتيفاء السممليم‬
‫كمال وليس بعيب (( ‪. 269‬‬

‫ودلت الدراسات المنصفة عممن حيمماة الرسممول أن زواجممه مممن نسممائه كممان بعيممداة عممن السممتلم‬

‫اتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪.329-328 ،‬‬ ‫‪267‬‬

‫اتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.329-328‬‬ ‫‪268‬‬

‫عباس محمود العقاد ‪ :‬عبقرية محمد ‪ ،‬ص ‪.158-156‬‬ ‫‪269‬‬


‫‪138‬‬

‫للنزوات الجنسية والنغماس باللذة ‪ ،‬على عكس ما ذهب إليه المستشرقون المغرضون يقول العقاد ‪:‬‬

‫))قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لممدليل علممى فممرط الميممول الجنسممية ‪ ،‬قلنمما إنممك ل‬
‫تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لنه لم يتزوج قط ‪ .‬فل ينبغي أن تصف محمممداة بممأنه مفممرط‬
‫الجنسية لنه جمع بين تسع نساء ‪. 270 ((0 ،‬‬

‫وإلى جانب الناحية الجتماعية الخلقية ‪ ،‬كانت ‪ ،‬سياسية في زواجه يقول مولنا محمد على ‪:‬‬
‫))ثم إن بعض السباب السياسية أفضت أيضا ة إلى زواج الرسول من بعض نسممائه ‪ .‬فزواجممه‬
‫من جويرية مثلة كان نعمة عظمى على قومها ‪ .‬إنمه لممم يضممع حممداة لعممداوة بنممي المصممطلق المريممرة‬
‫فحسب ‪ ،‬ولكنه شدهم إلى المسلمين برباط من الصداقة قوي أيضا ة ‪ ،‬وفوق هذا ‪ ،‬فقد كان من النتائممج‬
‫المباشرة لذلك الزواج إطلق سراحا مئات السرى من أبناء تلك القبيلة ‪ .‬فهل كان غرضممه مممن هممذا‬
‫الزواج شيئا ة آخر غير الغرض الديني ؟ وكذلك كان اليهود ألد أعداء السلم فممي بلد العممرب ‪ .‬وقممد‬
‫حاول الرسول أن يتألف قلوبهم أيضا من طريق البناء بامرأة من نبيلتهم ‪ .‬ولكمن حقمد اليهممود أثبمت‬
‫هذه المرة أنه أقوى من أن يتأثر بإجراءات الرسول السترضائية ‪ ،‬لقد أصروا على عممداوتهم ‪ ،‬ولممم‬
‫يكنوا في أيما يوم عن إنزال الذى بالسلم ‪ .‬ومع ذلممك فقممد بممذل الرسممول قصممارى جهممد ه لتممألفهم ‪.‬‬
‫وكانت ميمونة أرملة أيضا ة ‪ ،‬وكانت تنتسب إلى قبيلة معاديممة ‪ ،‬برغممم أن الظممروف الممتي قممادت إلممى‬
‫زواجها من الرسول كانت مختلفة بعض الشيء ‪ . ،‬كانت أختها قد تزوجت العباس ‪ ،‬عممم الرسممول ‪،‬‬
‫ومن هنا لم تكد تعرض على الرسول الزواج منها حممتى وجممد نفسممه غيممر قممادر علممى الرفممض ‪(( ،‬‬
‫‪. 271‬‬

‫بل إن زواج الرسول من رملة بنت أبى سفيان _حسب رأي العقاد_ كان إنسانيا ة سياسمميا ة ‪ ،‬فقممد‬
‫تم بدافع النجدة النسانية ‪ ..‬والمل في أن يكسب أبمما سممفيان إلممى صممفه " عسممى أن يهممديه ذلممك إلممى‬
‫الدين" ‪ .‬و بما يعطف في قلبه و يرضي من كبريائه(( ‪.272‬‬

‫وكتب المفكر المصري واصف باشا بطرس غالي ‪ ،‬في مؤلفه ‪ " :‬فروسية العممرب المتوارثممة"‬
‫رداة على افتراءات بيرون ضد الرسول و تعصبه الفاضح ‪:‬‬

‫)) كان محمد يحب النساء ويفهمهن ‪ ،‬وقل عمل جهممد طمماقته ‪ .‬لتحريرهممن ‪ ،‬وربممما كممان ذلمك‬
‫بالقدوة الحسنة التي استنها إضافة للقواعد والتعاليم التي وضعها ‪ ،‬وهو يعممد بحممق مممن أكممبر أنصممار‬
‫المرأة ‪ ،‬إن لم يكن عظيم الحترام والتكريم لهن ‪ ،‬لم يكن ذلك خاصا ة منممه بزوجمماته ‪ ،‬بممل كممان ذلممك‬
‫شأنه مع جميع النساء على السواء (( ‪. 273‬‬

‫ويخلص مولنا محمد علي إلى توضيح أن تعدد الزوجات في السلم استثناء للقاعممدة ‪ ،‬وليممس‬
‫قاعدة ثابتة ‪ ،‬هدفها إصلحا المجتمع ‪ ،‬وصون الخلق ‪ ،‬وأن زواج الرسول بأكثر مممن واحممدة جمماء‬
‫انسجاما ة مع رسالة حياته الخلقية والدينية ‪:‬‬
‫عن المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.156‬‬ ‫‪270‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ ..‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.260‬‬ ‫‪271‬‬

‫عباس محمود العقاد ‪ :‬عبقرية محمد ص ‪.66‬‬ ‫‪272‬‬

‫واصف بااشا باطرس غالي ‪ :‬فروسإية العرب المتوارثة‪.‬‬ ‫‪273‬‬


‫‪139‬‬

‫)) ومن هنا نرى أن زيجات الرسول كلها كانت تستهدف غرضا ة أخلقيا ة باطنا ة ‪ .‬فقد نشأت فممي‬
‫حياته ظروف لم يكن في ميسوره تجاهلها‪ ،‬انسمجاما ة منمه ممع رسمالة حيماته الخلقيمة والدينيمة ‪ ،‬أن‬
‫يقصر نفسه على زوجة واحدة ‪ ،‬لقد كان خير البشرية مرهونا ة بسلوك هذه السممبيل ‪ ،‬فلممم يحجممم عممن‬
‫سلوكها ‪ .‬وإنما قض زهرة حياته ‪ ،‬بل القسم العظم من كهولته ‪ ،‬فممي كنمف اممرأة مفممردة ‪ ،‬مظهممراة‬
‫بذلك أن الزواج من واحدة هو القاعدة فممي الحمموال السمموية ‪ .‬حممتى إذا تهممدد الخطممر طهممارة النسمماء‬
‫وعفافهن ‪ ،‬ومس المر وضعهن الجتماعي‪ ،‬لممم يتقمماعس عممن الخممذ بالبممديل الوحممد _أعنممي تعممدد‬
‫الزوجات _ ولكن علينا أن ل ننسى أن ذلك كان مجرد استثناء للقاعدة قصد به مواجهة حالت شاذة‬
‫‪ ،‬وليس القاعدة نفسها (( ‪.274‬‬

‫ومن هنا ‪ ،‬نجد أن التهم الستشراقية الممتي تلصممق بالرسممول الشممهوانية ‪ ،‬تتهمماوى أمممام النقممد ‪،‬‬
‫وتتسمماقط أمممام الحقممائق التاريخيممة ‪ . .‬بممل إن رسممالة السمملم كممانت خيممراة للمممرأة إذ جعلتهمما صممنواة‬
‫للرجل ‪ ،‬وعماداة للسرة ‪ ،‬وأعطتا الحقوق القانونيممة والقتصممادية وعممززت مكانتهمما الجتماعيممة ‪. .‬‬
‫فرسالة السلم العالميممة الممتي حملممت الخيممر ‪ ،‬وحققممت العدالممة والمسمماواة لبنمماء المجتمممع الواحممد ‪،‬‬
‫والخاء بيممن الشممعوب المختلفممة حممري بهمما أن تكممون حاملممة الخيممر والعممدل للمممرأة ‪ ،‬وعملممت علممى‬
‫المحافظة على عفتها ‪ ،‬يقول الباحث والروائي اللماني ويلكي كولنز ‪ ،‬في كتممابه ‪ » :‬جمموهرة القمممر‬
‫«‪:‬‬

‫)) لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفاف ‪ ،‬وحذر من السير على خلفهما ‪ ،‬مشميراة‬
‫إلى ما في هذين من النقص والخسة ‪ ،‬وكم لمثل هذا من نظير في شريعته السامية (( ‪. 275‬‬

‫نكران ذاتاه‬
‫وكان الرسول في سيرته الحياتية معروفا ة بنكران الذات ‪ ،‬وتضحيته بثروته في سبيل العقيممدة ‪،‬‬
‫يقول المؤرخ المريكي واشنطون إرفنج ‪:‬‬

‫))كان الرسول في كل تصرفاته ناكراة ذاتممه ‪ ،‬رحيممما ة بعيممداة عممن الكممبير فممي الممثراء والمصممالح‬
‫المادية ‪ ،‬فقد ضحى بالماديات في سبيل الروحانيات (( ‪.276‬‬

‫وأما أرسلناك إل ا رحمة للعالمين‬


‫إن الخلق المحمدي الذي هو خلق القرآن ‪ ،‬قد طبع بالرحمممة والطيبممة ‪ ،‬ل سمميما وأن اللممه بعثممه‬
‫لينقذ البشرية من ضللها ‪ ،‬ويكون هاديها إلى خيممر سممبيل ‪ ،‬حمماملة لهمما الرحمممة والخيممر ‪ . . .‬يقممول‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و رسإالته ‪ ،‬ص ‪.263‬‬ ‫‪274‬‬

‫ويلكي كولنز ‪ :‬جوهرة القمر‪.‬‬ ‫‪275‬‬

‫واشنطون ارفنج ‪ :‬نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ‪ ،‬ص ‪.438‬‬ ‫‪276‬‬
‫‪140‬‬

‫المستشرق السباني جان ليك ) ‪ (1897-1822‬في كتابه ‪ " :‬العرب " مؤكداة هذه الحقيقة ‪:‬‬

‫((وحياة محمد التاريخية ل يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها ا نفسه بألفاظ قليلة ‪ ،‬بين بها‬
‫سبب بعث النبي )محمد( ‪‬وما أرسلناك إل رحمة للعالمين ‪. ‬‬

‫وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ‪ ،‬ولكل محتاج إلى المساعدة ‪ ،‬كممان‬
‫محمد رحمة حقيقة لليتممامى والفقممراء وابممن السممبيل والمنكمموبين والضممعفاء والعمممال وأصممحاب الكممد‬
‫والعناء ‪ ،‬وإني بلهفة وشوق لن أصلى عليه وعلى أتباعه (( ‪. 277‬‬

‫رقته وأ سماحة طبعه‬


‫وإلى جانب بساطته وزهده وبعده عممن الشممهوات كممان _عليممه الصمملة والسمملم _ء رقيممق مممع‬
‫الخرين يعامل أصدقاءه بمماحترام وتقممدير ‪ ،‬مممع ليممن عريكممة وسممهولة جممانب ‪ ،‬ولطممف ودماثممة هممي‬
‫ملزمة لبطولته وشجاعته وكريم أخلقمه المتي ل تعمرف التصمنع ول التكلمف ‪ ،‬تلمك الصمفات المتي‬
‫اعترف بها العداء قبل الصدقاء ‪ .‬يقول المستشرق البريطاني لين بول ) ‪ ( 19 17_ 1652‬في‬
‫مؤلفه ‪" :‬رسالة في تاريخ العرب " متحدثا ة عن سجايا الخلق المحمدي ‪:‬‬

‫))إن محمداة كان يتصف بكثير مممن الصممفات كمماللطف والشممجاعة ‪ ،‬وكممرم الخلق ‪ ،‬حممتى إن‬
‫النسان ل يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات فممي نفسممه ‪ ،‬ودون أن يكممون‬
‫هذا الحكم صادراة عن غير ميل أو هوى ‪ ،‬كيف ل وقد احتمممل محمممد عممداء أهلممه وعشممرته سممنوات‬
‫بصبر وجلد عظيمين ‪ ،‬ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يممده مممن يممد مصممافحه حممتى لممو‬
‫ل كانوا أم أطفال دون أن يسمملم عليهممم ‪،‬‬‫كان يصافح طفلة ‪ ،‬وأنه لم يمر بجماعة يوما ة من اليام رجا ة‬
‫وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ‪ ،‬وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها ‪ ،‬و تجذب القلوب إلى‬
‫صاحبها جذبا ة ‪ ،‬وقد كان محمد غيوراة ومتحمسا ة ‪ ،‬وما كانت حماسته إل لغرض نبيل ‪ ،‬ومعنممى سممام‬
‫‪ ،‬فهو لم يتحمس إل عندما كان ذلك واجبا ة مفروضا ة ل مفر منه ‪ ،‬فقممد كممان رسممول مممن امم ‪ ،‬وكممان‬
‫يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه ‪ ،‬كما أنه لم ينس يوما ة من اليام كيانه أو الغرض الممذي بعممث‬
‫من أجله ‪ ،‬دائما ة كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البليا ‪ ،‬حتى انتهى إلمى إتممام مما يريمد‬
‫((‪. 278‬‬

‫وأما الكاتب النكليزي السير وليم موير فيتنمماول فممي مممؤلفه ‪ " :‬حيمماه محمممد " سممجايا الرسممول‬
‫وشمائله ولين عريكته وتعامله مع الطفال ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫)) ومن صفات محمد الجليلة الجديرة بالذكر ‪ ،‬والحريممة بممالتنويه ‪ ،‬الرقممة و الحممترام ‪ ،‬اللممذان‬
‫كان يعامل بهما أصحابه ‪ ،‬حتى أقلهم شأنا ة ‪ ،‬فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت فممي نفسممه ‪،‬‬
‫ورسخت محبته عند كل من حوله ‪ ،‬وكان يكره أن يقول ل ‪ ،‬فإن لممم يمكنممه أن يجيممب الطممالب علممى‬
‫سؤاله ‪ ،‬فضل السكوت على الجواب ‪ ،‬ولقد كان أشد حياء من العذراء فممي خممدرها ‪ ،‬وقممالت عائشممة‬
‫رض ا عنها ‪ ،‬وكان إذا ساءه شيء تبينا ذلك في أسممارير وجهممه ‪ ،‬ولممم يمممس أحممداة بسمموء ال فممي‬
‫جان ليك ‪ :‬العرب ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪277‬‬

‫لين باول ‪ :‬رسإالة في تاريخ العرب ؟)نقل عن كتاب روح الدين السإلمي ‪ ،‬ص ‪.(438‬‬ ‫‪278‬‬
‫‪141‬‬

‫سبل ا ‪ ،‬ويؤثر عنه أنه كان ل يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيراة ‪ ،‬ول يرفض هدية‬
‫مهداة إليه مهما كانت صغيره ‪ ،‬وإذا جلس مع أحد أيما ة كمان لمم يرفمع نحموه ركبتمه تشمامخا ة وكمبراة ‪،‬‬
‫وكان سهلة لين العريكة مع الطفال ‪ ،‬ل يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السمملم ‪ ،‬وكممان‬
‫يشرك غيره في طعامه (( ‪. 279‬‬

‫رجاحة عقله‬
‫ويتناول الباحث و المؤرخ – الفرنسي كاردفو ) ‪ ( 1933-1872‬جانب بساطة الرسول ولين‬
‫عريكته وسهولة خلقه مقرونا ة برجاحة العقل واتزان التفكير فيقول في كتابه ‪ ":‬العرب " ‪:‬‬

‫))ومن المعروف عن _محمد_ أنه مع أميتمه كمان أرجمح النماس عقلة ‪ ،‬وأفضملهم رأيما ة ‪ ،‬دائمم‬
‫البشر ‪ ،‬مطيل الصمت ‪ ،‬لين الجانب ‪ ،‬سهل الخلق ‪ ،‬يكثر الذكر ويقل اللغو ‪ ،‬يستوي عنده في الحق‬
‫القريب والبعيد ‪ ،‬والقوي والضعيف ‪ ،‬يحب المساكين ‪ ،‬ل يحقر فقيراة لفقره ‪ ،‬ول يهاب ملكا ة لملكه ‪،‬‬
‫يؤلف أصحابه ول ينفرهممم « ويسمماير مممن جالسممه أو قمماومه ‪ ،‬ول يحيممد عممن صممافحه حممتى يكممون‬
‫الرجل هو المنصرف ‪ ،‬يجلس على الرض ‪ ،‬ويخصف النعل ‪ ،‬ويرقع الثوب (( ‪. 280‬‬

‫رقه قلب وأأخو النسانية العظيم‬

‫إذ رقة قلب رسول ا و‪ ، ‬مشهودة له في س يرته الحياتي ة ‪ ،‬وك ان ف ؤاده يتفط ر حزن ا ة عل ى‬
‫إخوانه في النسانية للفساد الواقعين به ‪" ،‬والقرآن الكريم يشهد على ذلك حين يقممول ‪ ‬ولعلممك بمماخع‬
‫نفسك إل يكونوا مؤمنين )‪  (26/3‬ولقد عني عناية بالغة بمصلحة أتباعه وخيرهم " ‪.‬‬

‫ويتناول المفكر النكليزي توماس كارليل فمي كتمابه ‪ " :‬البطمال " جموانب ممن حيماة الرسمول‬
‫تظهر رقة قلبه ومحبته لصدقائه و رحمته ‪ ،‬وأنه كان أخا ة للنسانية جمعاء ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وكانت آ خر كلماته تسبيحا ة وصلة ‪ ،‬صوت فؤاد يهم بين الرجمماء والخمموف أن يصممعد إلممى‬
‫ربه ‪ .‬ول تحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله ‪ ،‬كلة بل زادته فضلة ‪ ،‬وقد يروى عنه مكرمات عالية‬
‫‪ ،‬منها قوله حين رزىء بغلمه ‪ » :‬العين تدمع ‪ ،‬والقلب يوجع ‪ ،‬ول نقول ما يسخط الرب « ‪ .‬ولما‬
‫استشهد موله زيد ) بن حارثمة ( فممي غممزوة " مؤتمة " قممال محمممد ‪ " :‬لقممد جاهممد زيممد فممي ام حممق‬
‫جهاده ‪ ،‬ولقد لقي ال اليوم فل بأس عليه " ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلممك يبكممي علممى جثممة أبيهمما ‪،‬‬
‫وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعا ة ! فقالت ‪ " :‬ممماذا أرى ؟ " ‪ ،‬قممال ‪:‬‬
‫" صديق يبكي صديقه " ‪ .‬مثل هذه القوال وهمذه الفعممال ترينمما فمي محمممد أخمما النسممانية الرحيمم ‪،‬‬
‫أخانا جميعا ة الرؤوف الشفيق ‪ ،‬وابن أمنا الولى وأبينا الول ((‪. 281‬‬

‫و كممانت رقممة قلممب الرسممول و رحمتممه و خصمماله الخممرى المتسمممة بالنسممانية تنطبممق علممى‬
‫‪ 279‬وليم موير ‪ :‬حياة محمد )نقل عن كتاب "باطل الباطال" ‪ ،‬عبد الرحمن عزاما ‪ ،‬ص ‪.(45-44‬‬
‫‪ 280‬كادفور ‪ :‬العرب ‪.‬‬
‫‪ 281‬توماس كارليلي ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.85-84‬‬
‫‪142‬‬

‫مصداقية قوله ‪ » :‬الخلق كلهم عيال ال « ؟ يقول جان ليك في كتابه ‪ " :‬العرب " ‪:‬‬

‫))ما أجمل ما قال المعلم العظيممم ) محمممد ‪ ) (‬الخلمق كلهمم عيمال المم وأحمب الخلممق إلممى المم‬
‫أنفعهم لعياله (( ‪. 282‬‬

‫محبة أصدقاءه‬
‫أما الباحث السلمي مولنا محمد علي فيتحدث عن جوانب الرحمة في حياة الرسممول ومحبتممه‬
‫أصدقاءه ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وكان الرسول يحب أصحابه حبا ة جما ة ‪ .‬وكان إذا ما صافح أحداة منهم لم يسحب يممده إل بعممد‬
‫أن يسحبها صاحبه ‪ .‬وكان ل يلقى الناس إل بوجه باسم ‪ .‬وفي رواية عن جرير بن عبممد امم أنممه لممم‬
‫يمر النبي إل وعلى وجهه ابتسامة ‪ .‬وكان في بعممض الحيممان يمممازحا أصممحابه ويممداعبهم مممداعبات‬
‫بريئة ‪ .‬وكان يتحدث إليهم تاركا ة نفسه على سجيتا غير مصطنع أيما تحفظ قد يوقع فممي نفوسممهم أنممه‬
‫أسمى منهم مقاما ة ‪ ، . .‬ولم يكن ليمتدحا أو يثني على نفسه البتة ‪ .‬وكان يحمل أولد أصحابه بين يديه‬
‫ويحتضنهم ‪ .‬وكانوا يوسخون ملبسه في بعض الحيان ‪ ،‬وكممان أيممما مسممحة مممن السممتياء لممم تكممن‬
‫لتطيف بوجهه ‪ .‬وكان يكره الغتياب ويحظممر علممى زائريممه أن يممذموا أحممداة مممن أصممحابه ‪ ،‬إذ كممان‬
‫_كما قال _ حسن الظن بهم جميعا ة ‪ .‬وكممان يبممدأ أصممحابه إذا لقيممم ‪ ،‬بالسمملم ‪ ،‬ويبممدأهم بالمصممافحة‬
‫أيضا ة ‪ .‬وكان يناديهم أحيانا بأسماء التحبب تعبيراة عن مممودته لهممم ‪ .‬وكممان ل يصممادقه أحممد منهممم إل‬
‫رعى صداقته وقدرها حق قدرها ‪ .‬وكان أبو بكر خليله وصممفيه حممتى اللحظممة الخيممرة ‪ .‬وكممان مممن‬
‫دأب الرسول أن يتذكر _في تأثر غض _ وفاة خديجة وإخلصها ‪ ،‬حتى بعد انقضاء سنوات طويلممة‬
‫على وفاتها ‪ .‬وكان زيد ‪ ،‬عبده المعتق ‪ ،‬شديد التعلق به إلممى حممد جعلممه يممؤثر البقمماء فممي كنفممه علممى‬
‫الذهاب مع أبيه إلى مسقط رأسه ‪ .‬وكممان يتغاضممى عمن منمماحي الضمعف عنمد النمماس وليلممح إليهمما‬
‫مجرد إلماحا ‪ .‬وحتى إذا وقف في المسلمين خطيبا ة تحدث عن الوسيلة إلى التخلص مممن عيممب معيممن‬
‫من غير أن يدع أيما امرىء يشعر أن الرسول يشير إليه ‪. 283 (( ،‬‬

‫رحمته بالعداء‬
‫والحديث عن سماحة الرسول ومحبته أصدقاءه ‪ ،‬ل بد أن يقود إلى موقف الرسول من العداء‬
‫‪ . .‬فالرحمة والسماحة هما سمتان طبيعيتان في جبلته تبرزان فممي تعممامله مممع أصممدقائه أو أعممدائه ‪.‬‬
‫يقول مولنا محمد على ‪:‬‬
‫)) وسماحة الرسول نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم ‪ .‬فقد كان عبد ال بممن أبممي عممدواة‬
‫للسلم ‪ ،‬وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط ليقاع الذى بالممدين الجديممد ‪ ،‬محرضمما ة المكييممن‬
‫واليهود تحريضا ة موصولة على سحق المسلمين ‪ .‬ومع ذلك فيوم توفي عبد ا دعا الرسممول ربممه أن‬

‫جان ليك ‪ :‬العرب ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪282‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬حياة محمد و سإيرته ‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪283‬‬


‫‪143‬‬

‫يغفر له ‪ ،‬بل لقد قدم رداءه إلى أهله كي يكفنوه به ‪ .‬والمكيون الذين أخضعوه وأصحابه ‪ ،‬دائما ة وأبداة‬
‫‪ ،‬لشد التعذيب بربرية منحهم عفواة عاما ة ‪ .‬وفي إمكان المرء أن يخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح‬
‫دنيوي النزعة أن يعاملهم بها ‪ .‬ولكن صفح الرسول كان ل يعرف حدوداة ‪ .‬فقد غفر لهم ثلثممة عشممر‬
‫عاما ة من الضطهاد والتآمر ‪ .‬وكثيراة ما أطلق سراحا السرى في سماحة بالغة ‪ ،‬رغم أن عددهم بلغ‬
‫في بعض الحيان ستة آلف أسير ‪ .‬وفي رواية عن عائشة أنه لم ينتقم في أيممما يمموم مممن اليممام مممن‬
‫امرىء أساء إليه ‪ .‬صحيح أنه أنزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نممادرة جممداة ‪ ،‬وفممي فممترات جممد‬
‫متباعدة ‪ .‬ولكن تلك الحالت كانت تطوى كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجممدي‬
‫في تقويمهم وإصلحهم ‪ .‬والحق أن ترك أمثال هؤلء المجرمين سممالمين غممانمين كممان خليقمما ة بممه أن‬
‫يني استحسان الذى والتشجيع عليه ‪ .‬والرسول لم يلجا ة إلى العقوبة قط حيثما كان ثمة مجممال لنجمماحا‬
‫سياسة الصفح كرادع إن لم نقل كإجراء إصلحي ‪ .‬ولقد أسبغ عفوه على أتباع الديان جميعا ة _يهود‬
‫‪ ،‬ونصارى ‪ ،‬وؤثنيين ‪ ،‬وغيرهم _ إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب (( ‪. 284‬‬

‫الرحمة وأ العنف‬
‫غير أن موقف الرسول من العداء ل بد أن يقود عمليمما ة ‪ ،‬إلممى مناقشممة المواقممف الممتي تفممرض‬
‫على القائد فرضا ة فتدفعه إلى الشدة الممتي يراهمما البعممض قسمموة وعنفمما ة ‪ . . ،‬فالرسممالة السمملمية هممذه‬
‫النبتة التي نشأت في مناخ عدائي ل يمكن أن تظهر كدوحة جبارة دون أن تكون على مواقممف جديممة‬
‫في مواجهة العنف المضاد ‪ ،‬في إطار المجابهة بين قوتين أو أحيانا ة القيام بأعمال رادعة تمنممع تممآمر‬
‫العداء و تزيل أخطارهم المستقبلية ‪ ،‬يقول توماس كارليل ‪:‬‬

‫)) ولم تخل الشعوب الشديدة التي وقعت له مع العممراب مممن مشمماهد قسمموة ‪ ،‬ولكنهمما لممم تخممل‬
‫كذلك من دلئل رحمة وكرم وغفران ‪ .‬وكان محمد ل يعتذر من الولى ول يفتخر بالثانيممة ‪ .‬إذ كممان‬
‫يراها من وحى وجدانه وأوامر شعوره ‪ ،‬ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ول شعوره بالظنين ((‪. 285‬‬
‫ومن العجب أن بعض المستشرقين الحاقدين ألصقوا بالرسول تهمة القسوة والجبن ‪ ..‬فكمان أن‬
‫انبرى من صفوف رجالتهم من عرفوا حقيقة الخلق المحمدي ‪ ،‬وطبيعة الرسالة السمملمية السمممحة‬
‫ليدافعوا عن الرسول ‪ ،‬وينافحوا عن الرسالة ‪ ،‬مظهرين بطلن ما نفثتممه أقلم الحاقممدين ‪ ،‬ومممن بيممن‬
‫أولئك المنصفين الذين قدروا الرسول حمق قمدره الممؤرخ المستشممرق الفرنسممي سميديو المذي أعطممى‬
‫الحضارة السلمية حقها‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))من التجني على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكتاب إلى محمد القسوة والجبن‪ .‬فقد‬
‫نسي هؤلء أن محمداة لم يأل جهداة في إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التي كانت ذات حظوة لدى‬
‫العرب ‪ ،‬كحظوة المبارزات بأوروبة فيها مضى ‪ .‬وكأن أولئك الكتاب لممم يقممرأوا آيممات القممرآن الممتي‬
‫قضى محمد فيها على عادة الوأد الفظيعة ‪ .‬وكأنهم لم يفكروا في العفو الكريم الذي أنعم بممه علممى أل‬
‫أعدائه بعد فتح مكة ‪ ،‬ول في الرحمة التي حبا بها ‪ ،‬كثيراة من القبائممل عنممد ممارسممة قواعممد الحممرب‬
‫الشاقة ‪ ،‬ول إلى ما أبداه من أسف على بعض المم الشديدة ‪ ،‬وكأنهم لم يبصروا أن المة أم القبائممل‬
‫العربية كانت تعد النتقام أمراة واجبا ة وأنها ترى من حق كممل مخلممص أن يقتممل مممن غيممر عقمماب مممن‬

‫مولنا محمد علي ‪ ،‬ص ‪.270-269‬‬ ‫‪284‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬ص ‪.85‬‬ ‫‪285‬‬


‫‪144‬‬

‫يكون خطراة عليها ذات يوم ‪ . . .‬وكأنهم لم يعلممموا أن محمممداة لممم يسممئ ‪ ،‬اسممتعمال ممما اتفممق لممه مممن‬
‫السلطان العظيم ‪ ،‬قضاء لشهوة القسوة الدنيئة ‪ ،‬وأنه لم يأل جهداة _في الغالب _ في تقويم من يجور‬
‫من أصحابه ‪ ،‬والكل يعلم أنه رفض _بعد غزوة بدر_ رأي عمممر بممن الخطمماب فممي قتممل السممرى ‪،‬‬
‫وأنه عندما حل وقت مجازاة بني قريظة ترك الحكم في مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ ‪ ،‬وأنه‬
‫صفح عن قاتل عمه حمزة ‪ ،‬وأنه لم يرفض _قط _ ما طلب إليه من اللطف والسماحا (( ‪. 286‬‬

‫ليس الرهاب من الخلق المحمدي‬


‫ولقد رد العقاد في كتابه ‪ " :‬عبقرية محمد " على أولئك المستشرقين الذين ادعوا أن السلم لم‬
‫ينجح بغير الوعيد والوعود أو غير الرهاب بالسيف والغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر ‪ ،‬والحممور‬
‫العين ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) أي إرهاب وأي سيف ؟‬

‫)) إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات واللوف ‪ . .‬وقد كممان المئممات واللمموف‬
‫الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضممون لسمميوف المشممركين ول يعرضممون أحممداة لسمميوفهم ‪ ،‬وكممانوا‬
‫يلقون عنتا ة ول يصيبون أحداة بعنت ‪ ،‬وكانوا يخرج ون ممن ديمارهم ليماذاة بأنفسمهم وأبنمائهم ممن كيمد‬
‫الكائدين ونقمة الناقمين ‪ ،‬ول يخرجون أحداة من داره ‪.‬‬

‫فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا ة من النبي العزل المفرد بيممن قممومه الغاضممبين عليممه ‪ ،‬بممل‬
‫أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد القوياء المتحكمين ‪ ،‬ولما تكاثروا وتناصروا حملوا‬
‫السيف ليدفعوا الذى ‪ ،‬ويبطلوا الرهاب والوعيمد ‪ ،‬ولمم يحملموه ليبمدأوا أحمداة بعمدوان أو يسمتطيلوا‬
‫على الناس بالسلطان ‪.‬‬

‫فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم ولم تكن كلها إل حروب دفاع وامتناع ‪.‬‬

‫أما الغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين ‪ ،‬فلو كان هو باعثا ة لليمان ‪ ،‬لكان أحرى‬
‫الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية هم فسقة المشممركين وفجرتهممم ‪ ،‬وأصممحاب الممترف والممثروة‬
‫فيهم ‪ ،‬ولكن طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعممة ‪ .‬فمإن حيماة النعيممم بعممد‬
‫الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين ‪ ،‬بل لعلهمما أشممهي إلممى الأوليممن وأدنممى ‪ ،‬ولعلهممم‬
‫أحرص عليها وأحن ‪ ،‬لن الحرمان بعد التذوق والسممتمرار أصممعب مممن حرمممان مممن لممم يممذق ولممم‬
‫يتغير عليه حال ‪.‬‬

‫لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر ‪ . . .‬ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من‬

‫سإيديو ‪) :‬نقل عن كتاب السإلما باين النصاف و الجحود ‪ ،‬ص ‪.(134‬‬ ‫‪286‬‬
‫‪145‬‬

‫المتخلفين عنه (( ‪. 287‬‬

‫و بعد أن وقفنا عند منافحة المفكر العربي عباس محمود العقاد عن الرسول ونفممي ممما جمماء بممه‬
‫المستشممرقون مممن اتهامممات مغرضممة ‪ ،‬ونظممرات مجحفممة ‪ ،‬وأقاويممل باطلممة نقممف عنممد رد البمماحث‬
‫النكليزي توماس كارليل على تلك الفرية المتي تمذهب إلممى أن السمملم لمم ينتشممر إل بحمد السميف ‪،‬‬
‫يقول هذا الكاتب المنصف ‪:‬‬

‫)) ولقد قيل كثيراة في شأن نشر محمد دينه بالسيف ‪ ،‬فإذا جعممل النمماس ذلممك دليلة علممى كممذبه ‪،‬‬
‫فشد ما أخطأوا وجاروا ‪ ،‬فهم يقولون ما كان الدين لينتشر ل ول السميف ‪ ،‬ولكمن مما ه و المذي أوجمد‬
‫السيف ؟ هو قوة ذلك الدين ‪ ،‬وأنه حق ‪ .‬والرأي الجديد أول ما ينشممأ يكممون فممي رأس رجممل واحممد ‪،‬‬
‫فالذي يعتقده هو فرد _فرد ضد العالم أجمع _‪ ،‬فإذا تناول هذا الفرد سيفا ة وقام في وجممه الممدنيا فقلممما‬
‫والله يضيع ‪ .‬وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال ‪ ،‬أو لم تممروا‬
‫أن النصرانية كانت ل تأنف أن تستخدم السيف أحيانا ة ‪ ،‬وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسممون ‪،‬‬
‫وأنا ل أحفل كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أو بأية آلة أخرى ‪ ،‬فلنممدع الحقممائق تنشممر سمملطانها‬
‫بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ‪ ،‬لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرهما فإنهما لمن تمزم إل‬
‫ما كان يستحق أن يهزم ‪ ،‬وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خيممر منهمما ‪ ،‬بممل ممما هممو أحممط‬
‫وأدنى ‪ .‬فإنها حرب ل حكم فيها إل الطبيعة ذاتها ‪ ،‬ونعم الحكم ما أعدل وما أقسط ‪ ،‬وما كان أعمممق‬
‫جذراة في وأذهب أعراقا ة في الطبيعة ‪ ،‬فذلك هو الذي ترونه بعد الهرج و المرج والضوضاء والجلبة‬
‫ناميا ة زاكيا ة وحده ‪.‬‬

‫أقول الطبيعة أعدل حكم‪ ،‬بلى ما أعدل وما أعقل وما أرحم وما أحلم ‪ ،‬إنك تأخذ حبمموب القمممح‬
‫لتجعلها في بطن الرض ‪ ،‬وربما كانت هذه الحبوب مخلوطة بقشور و تبن وقمامة وتراب ‪ ،‬وسممائر‬
‫أصناف القذاء ‪ ،‬ولكن ل بأس عليك من ذلك ‪ ،‬وألممق الحبمموب بجميممع ممما يخالطهمما مممن القممذى فممي‬
‫جوف الرض العادلة البارة فإنها ل تعطيك إل قمحا ة خالصا ة نقيا ة ‪ ،‬فأما القذى فإنها تبلعه في سممكون‬
‫و تدفنه ‪ ،‬و لنذكر عنه كلمة ‪ ،‬وما هي إل برهة حتى نرى القمح زاكيا ة يهتز كأنه سممبائك البريممز ‪،‬‬
‫والرض الكريمة قد طوت كشحا ة على القذاء وأغضت ‪ ،‬بل إنها حولتها كمذلك إلمى أشمياء نافعمة ‪،‬‬
‫ولم تشك منها شممجواة ول نصمبا ة ‪ .‬وهكمذا الطبيعمة فممي جميممع شممؤونها ‪ ،‬فهممي حممق ل باطمل ‪ ،‬وهمي‬
‫عظيمة وعادلة ورحيمة حنون ‪ ،‬وهي ل تشترط في الشيء ‪ ،‬إل أن يكون صادق اللباب حر الصميم‬
‫‪ ،‬فإذا كان كذلك حمته وحرسته ‪ ،‬أو كان غير ذلك لم تحمه ولمم تحرسممه ‪ ،‬فمترى لكمل شميء تحميمه‬
‫الطبيعة روحا ة من الحق ‪ ،‬أليس شأن حبوب القمح هممذه والطبيعممة هممو ‪ ،‬وا أسممفاه ‪ ،‬شممأن كممل حقيقممة‬
‫كبرى جاءت إلى هذه الدنيا أو تجيء ‪ ،‬فيها بعد ؟ أعني أن الحقيقة مزيج مممن حممق وباطممل نممور فممي‬
‫ظلم ‪ ،‬وتجيئنا الحقائق في أثواب من القضايا المنطقية و نظريات علمية من الكائنات ‪ ،‬ل يمكممن أن‬
‫تكون تامة صحيحة صائبة ‪ ،‬ثم ل بد من أن يجيء يوم يظهر فيه نقصها وخطأها وجوهرها فتممموت‬
‫وتذهب ‪ ،‬نعم يموت ويذهب جسم كل حقيقة ‪ ،‬ولكن الممروحا تبقممى أبممداة ‪ ،‬ويتخممذ ثوبمما ة أطهممر ‪ ،‬وبممدنا ة‬
‫أشرف ‪ ،‬وما يزال يتنقل من الثواب والبدان ‪ ،‬من حسن إلى أحسن وجيد إلى أجود ‪ ،‬سنة الطبيعممة‬
‫التي ل تتبدل ‪ .‬نعم إن جوهر الحقيقة الكريم حي ل يموت ‪ ،‬وإنما النقطة الهامة والمر الوحيد الممذي‬
‫يعرض في محكمة الطبيعة ومجلس قضائها هو هل هذا الروحا حق وصمموت مممن أعممماق الطبيعممة ؟‬
‫وليس بهام عند الطبيعة ما نسميه نقاء الشيء ‪ ،‬أو عممدم نقممائه ‪ ،‬وليممس هممو بالسممؤال النهممائي ‪ ،‬ليممس‬
‫عباس محمود العقاد ‪ :‬عبقرية محمد ص ‪.36-35‬‬ ‫‪287‬‬
‫‪146‬‬

‫المر الهام عند الطبيعة حينا تقدم اليها أنت لتصدر حكمها فيك ‪ ،‬هو أفيك أقذار وأكدار أم ل؟ وإنممما‬
‫هو أفيك جوهر وروحا صدق أم ل؟ أو بعبارة تشبيية ليس السؤال الهام عند الطبيعة هو أفيممك قشممور‬
‫أم ل؟ بل أفيك قمح ؟ أيقول بعض الناس إنه نقي ‪ ،‬إنى أقول له ‪ " :‬نعم نقي " نقى جداة ولكنك قشر ‪،‬‬
‫ولكنك باطل وأكذوبة وزور وثوب بل روحا ‪ ،‬ومجرد اصطلحا وعادة ‪ ،‬وممما امتممد بينممك وبيممن سممر‬
‫الكمون وقلممب الوجممود سممبب ول صمملة ‪ ،‬والواقممع أنممك ل نقممي ول غيممر نقممي ‪ ،‬وإنممما أنممت ل شمميء‬
‫والطبيعة ل تعرفك وإنها منك براء (( ‪. 288‬‬

‫غير أننا فيها يتعلق بفممي الرهمماب ‪ . .‬عممن الخلممق المحمممدي ‪ ،‬أن النضممال البطممولي النسمماني‬
‫للرسول إن دل على شيء فعلى عظمة النبي وقوة شخصيته وصبره العظيم ‪ .‬فما أبعده عن الضمعف‬
‫والجبن والقسوة والرهاب ‪ . .‬لقد كان قوي الكبير فممي جميممع مممواقفه ‪ ،‬جمممع الرحمممة إلممى الحممزم ‪،‬‬
‫واللين إلى الثبات ‪ ،‬حتى تمكن أن ينشر رسالة ربه التي صدع بها ‪ ،‬يقول الكاتب ميخائيل طعمة في‬
‫مقالة له نشرتها جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا قبل الحتلل الصهيوفي ‪:‬‬

‫)) لو لم يكئ خلق محمد عظيما لنقلب عليه محيطه ‪ ،‬ولو لم يكن خلق محمد عظيما ة لضعف‬
‫أمام ما اعترضه من العقبات ‪ ،‬ولرأى نفسه مضطراة إلى مجاراة محيطه ‪ ،‬ولما قوي على إحداث ما‬
‫أوجده من النقلب العظيم ‪ ،‬فبدل الضلل بالهدى ‪ ،‬والجهل بالعلم ‪ ،‬والهمجية بالمدنية (( ‪. 289‬‬

‫العفو عد المقدرة‬
‫ويقودنإ مبعث رحمة الرسول بالاعداء ‪ ،‬و نفي سمة الرهاب عن الخلق المحمدي ‪ ،‬إلى تنمماول‬
‫جانب عملي في أخلق الرسول ‪ ،‬وهو عفوه عن أعدائه عند المقدرة ‪.‬‬

‫يقول المستشرق البريطاني لين بول في مؤلفه ‪ " :‬درسالة في تاريخ العرب "‪:‬‬

‫)) إن ما تصف به ) محمد ( من الصبر واحتمال المكاره ‪ ،‬والعمو عنمد المقمدرة ‪ ،‬لبرهمان لنما‬
‫واضح على أنه كان صادقآ إذ يقمول ‪  :‬ل اكمراه فممي الممدين )‪  ( 2/256‬فمحم د ذو يقي ن راسمخ‬
‫وقوة عزم هاثله (( ‪. 290‬‬

‫ويتناول الكاتب السلمي مولنا محمد علي مسألة العفو فممي أخلق الرسممول ‪ ،‬ممما تشممكله مممن‬
‫جانب هام في شخصيته ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الشعاع فممي شخصممية الرسممول ‪ .‬لقممد وجممدت فيمه تجسممدها‬
‫الكامل ‪ .‬ولقد أوصاه القرأن الكريم بم) أن يأخذ بالعفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين (‪.‬‬

‫ولقد جاءه تفسممير ذلممك مممن لممدنه تعممالى ‪ .‬علممى هممذا النحممو ‪ ) :‬صممل مممن قطعممك ‪ ،‬وأعممط مممن‬
‫حرمك ‪ ،‬واغفر لمن أساء إليك (‪ .‬والحق أن هذه الوصية ) تبق عند الرسول حرفمما ة ميتمما ة أو موعظممة‬
‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.77-76‬‬ ‫‪288‬‬

‫ميخائيل طعمة ‪ :‬جريدة الكرمل‪.‬‬ ‫‪289‬‬

‫لين باول ‪ :‬رسإالة في تاريخ العرب‪.‬‬ ‫‪290‬‬


‫‪147‬‬

‫رخيصة ‪ .‬لقد عاش وفقها حتى في أحرج المواقف ‪ .‬وفي معركممة أحممد ‪ ،‬عنممدما جممرحا وسممقط علممى‬
‫الرض ‪ ،‬سأله أحد الصحابة أن يستنزل اللعنة على العدو ‪ ،‬فأجاب ‪ ) :‬أنا لم أبعمث لعانما ة للعمالمين ‪،‬‬
‫ولكن بعثت هاديا ورحمة ‪ . .‬اللهم اهممد قممومي فممإنهم ل يعلمممون (‪ .‬وذات مممرة جممذبه بممدوي طارحمما ة‬
‫دثاره حول عنقه ‪ ،‬وحين سئل الرسول لم لم يعامله بالمثل أجاب قائلة ‪ :‬إنه ل يرد على الشممر بالشممر‬
‫أبداة ‪ .‬وليس من ريب في أن ما أظهره عند فتح مكة من عفو كريم شيء يعز نظييه في تاريخ العممالم‬
‫كله ‪ .‬كان المشركون قد بذلوا كل جهد يمكن تصوره للقضاء على السلم واغتيال الرسول ‪ .‬ولكنممه‬
‫لم يوجه إليهم أي كلمة تعنيف على هذه الجرائم الرهيبممة كلهمما ‪ .‬لقممد أسممبغ عفمموه الجزيممل حممق علممى‬
‫أعداء من مثل إبي سفيان الذي لم يدخر وسعا ة في العمل على إيذاء السلم ‪ ،‬وعلى زوجته هند الممتي‬
‫لم تتورع عن مضغ كبد حمزة على نحو بربري شنيع ((‪. 291‬‬

‫أما الباحث النكليزي ولير موير فقد تحدث عن معاملة رسول ا ‪ ،‬أعداءه تلمك المعاملمة المتي‬
‫اتسمت بالرحمة والعفو‪ ،‬حين فتحه مكة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) وعامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حممتى مممع أهممل مكممة ‪ ،‬وهممم الممذين ناصممبوه العممداء‬
‫سممنين طمموالة ‪ ،‬وامتنعمموا مممن الممدخول فممي طمماعته ‪ ،‬كممما ظهممر حلمممه وصممفحه فممي حممالتي الظفممر‬
‫والنتصار ‪ ،‬وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له (( ‪. 292‬‬

‫يقول مارسيل بوازار في كتابه ‪ " :‬إنسانية السلم " موضمحا ة نضمال الرسمول ومنمافحته ع ن‬
‫المجتمع السلمي الجنيني ‪ ،‬ورحمته وعفوه عند المقدرة ‪:‬‬

‫)) وبالرغم من قتاليته ومنافحته ‪ ،‬فقد كان يعفو عنا المقدرة ‪ ،‬لكنه لم يكن ليلين أو يتسمماحا مممع‬
‫أعداء الدين ‪ .‬ويبدو أن مزايا النبي الثلث ‪ ،‬الورع والقتالية والعفو عند المقدرة ‪ ،‬قد طبعت المجتمع‬
‫السلمي في إبان قيامه ‪ ،‬وجسدت المناخ الروحي للسلم التباعي ‪ ،‬ول تنفك الحمماديث الشممريفة‬
‫والسيرة النبوية تصور في الذهان كرم الرسول و تواضممعه ‪ ،‬كممما تصممور اسممتقامته ونقمماءه ولطفممه‬
‫وحلمه ‪ .‬وكما يظهره التاريخ قائداة عظيما ة ملء ‪ ،‬قلبمه الرأفمة ‪ ،‬يصموره كمذلك رجمل دول ة صمريحا ة‬
‫قوي الشكيمة )ديمقراطيةا( ((‪. 293‬‬

‫مضاء عزيمه ‪ ‬وأثباتاه على المبدأ‬


‫والحديث عمن أخلق الرسمول ل بممد أن يسممتدعى وقفمة عنممد مضمماء عزيمتممه ‪ ،‬ووقموفه بثبمات‬
‫ورسوخ دفاعا ة عن العقيدة ‪ ،‬يقول توماس كارليل ‪:‬‬

‫»‬ ‫))ولن رجلة ماضي العزم ل يؤخر عمل اليمموم إلممى غممد ‪ .‬وطالممما كممان يممذكر يمموم‬
‫توك « إذ أبى رجاله السير إلى مموطن القتمال ‪ ،‬واحتجموا بمأنه أوان الحصميد وبمالحر ‪ ،‬فقمال لهمم ‪:‬‬
‫الحصيد؟ إنه ل يلبث إل يوما ة ‪ .‬فماذا تتزودون للخرة ؟ وامحر؟ نعم إنه حر ‪ ،‬ولكن جهنم أشد حممراة‬

‫مولنا محمد علي ‪.274-273 :‬‬ ‫‪291‬‬

‫وليم موير ‪ :‬حياة محمد‪.‬‬ ‫‪292‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬انسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪293‬‬


‫‪148‬‬

‫‪ .‬وربما خرج بعض كلمه تهكما ة وسخرية ‪ .‬إذ يقول للكفار ‪ : ،‬سمتجزون يموم القياممة ع ن أعممالكم‬
‫ويوزن لكم الجزاء ‪ ،‬ثم ل تبخسون مثقال ذرة (( ‪. 294‬‬

‫ويقول مولنا محمد على ‪:‬‬


‫)) ان تراجم الرسول ‪ ،‬التي كتبهما أصمدقاء لمه وأعمداء علمى حمد سمواء ‪ ،‬لتجممع كلهما علمى‬
‫العجاب بعزمه الراسخ وثباته الذي ل يمتزعزع ‪ ،‬فمي أشمد المحمن قسمموة ‪ .‬كممان اليممأس والقنمموط ل‬
‫يعرفان إلى قلبه سبيلة ‪ ،‬فعلى إلرغممم مممن أن المسممتقبل المظلممم والمقاومممة العنيممدة كانمما يكتنفممانه مممن‬
‫أقطاره جميعا ة فإن إيممانه بالنصمر النهممائي لمم يهممن لحظمة واحمدة ‪ .‬لقمد عجمزت أعمتى عاصممفة ممن‬
‫عواصف الشدائد عن أن تزحزحه عن موقفه قيد شعرة ‪ .‬كان من دأبه أن يتخذ للمر كل عدة ممكنة‬
‫‪ ،‬وأن يصطنع للنجاحا كل وسيلة متيسرة ‪ ،‬ثم يتوكل على ا ‪ .‬ولم تكممن صممروف الزمممان و تقلبممات‬
‫اليام لتقوى على إخماد عزيمته ‪ .‬فلم تكد تنقضي علمى كارثمة أحمد الرهيبمة أربمع وعشمرون سمماعة‬
‫ليس غير حق انطلق مطارداة العمدو ‪ .‬وبكلممة ‪ ،‬فقمد كمان قلبمه ‪ ،‬مهمما قسممت المح ن ‪ ،‬متوهجما ة أبمداة‬
‫بإيمان راسخ بأن الحق ل بد أن ينتصر في آخر الشوط (( ‪. 295‬‬

‫خلــوص فــي النيــة وأ انصــاف بــالحكم وأحفــاظ علــى‬


‫الذمام‬
‫هذا ‪ ،‬وإن محمداة المناضل الصامد والنبي الملهممم ‪ ،‬والقائممد السياسممي والمشممرع العظيممم عممرف‬
‫عنه دائما ة خلوص انية وانزاهة في الحكم والنصاف ‪ ،‬وحفظه الذمام ‪ ،‬يقول المستشرق والفيلسمموف‬
‫الفرنسي إدوار مونتيه ‪ ،‬في كتابه ‪ » :‬العرب « ‪:‬‬

‫)) عرف محممد بخلموص النيمة و الملطف ة و انصمافه فمي الحكمم ونزاهمة التعمبير عمن الفكمر‬
‫والتحقق ‪ ،‬وبالجملة كان محمد أزكى و أدين وأرحم عرب عصره ‪ ،‬وأشدهم حفاظا على الممذمام فقممد‬
‫وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل ‪ ،‬وأسس لهم دولة زمنية ودينية ل تزال إلى اليوم(( ‪.296‬‬

‫الصدق وأالمانه‬
‫وعرف الرسول منممذ نعومممة أظفمماره أنممه الصممادق الميممن ‪ ،‬فكممانت سمميرته مفعمممة بالسممتقامة‬
‫مشحونة بالخلص ‪. . .‬‬

‫يقول المؤرخ الفرنسي لتيس )‪ (1909-1847‬فممي مقالممة لمه نشممرتها مجلممة الهلل المصممرية‬
‫عن أمانة الرسول وصدقه في نضاله في سبيل نشر الرسالة ‪ ،‬ما جعله يحقق معجزة إشادة أول دولة‬
‫إسلمية ‪:‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪294‬‬

‫مولنا محمد علي ‪ :‬ص ‪.177-276‬‬ ‫‪295‬‬

‫ادوراد مونتيه ‪ :‬العرب‪.‬‬ ‫‪296‬‬


‫‪149‬‬

‫)) إن محمدا كان مشهورا بالصدق منذ صباه ‪ ،‬حتى كان يلقب بالمين ‪ ،‬وما زال يسهر لحياة‬
‫دينه والعرب حتى مات ‪ ،‬وما مات حتى أسس دينا ة وأقام دولة ((‪. 297‬‬

‫أما المستشرق الفرنسي إميل برينغهام )‪ (1924-1857‬فقد حمماول أن يرسممم صمورة للرسمول‬
‫بالقلم ‪ ،‬إذ تقصى سائر مراحل حياته ليس في الكتب وحسب بل من روحا الحضارة التي غرسها فممي‬
‫نفوس أتباعه ‪ ،‬فكتب يقول في كتابه ‪ » :‬الشرق والسلم « ‪:‬‬

‫)) إنني أردت أن أصور محمداة صورة مطابقة للواقع على قدر المكان كما فهمتها كما قرأتهمما‬
‫عنه في الكتب ‪ ،‬وكما رأيتها في أرواحا أتباعه الحية ‪ ،‬إلى أن قال ‪ :‬فنشا ة معتمداة على نفسه ‪ ،‬يرجممح‬
‫اليها في الكبيرة والصغيرة ‪ ،‬ويجهد ويعمل لحسب حياته من عرق جبينه ‪ ،‬إذ لم يكن ذا ثممروة تكفيممه‬
‫مؤنة السعي ‪ ،‬فكانت ثروته عند نشأته ‪ ،‬صدقه وأمانته ونزاهته وإخلصه ‪ ،‬وتلك لعمر اللممه الكممبير‬
‫الثروات وأغلها ‪ ،‬تلك كانت صفأته محمد في وسط منحل ل يعرف أخلقا ة ولنبلا ة ((‪. 298‬‬

‫ويتحدث الكاتب النكليزي توماس كارليل عن طبع الرسول المفكر وسداد أخلقه ويقدم صورة‬
‫قلمية عنه ‪ ،‬مظهراة مزاياه الخلقية والخلقية « التي ينبع منها النبل والشهامة والصدق ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شابا ة مفكراة « وقممد سممماه رفقمماؤه الميممن ‪ ،‬أي رجممل الصممدق‬
‫والوفاء ‪ ،‬الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره « وقد لحظوا أن ما من كلمة تخرج مممن فيممه إل وفيهمما‬
‫حكمة بليغة ‪ ،‬وإني لعرف عنه أنه كان كثير الصمت ‪ ،‬يسكت حيممث ل ممموجب للكلم ‪ ،‬فممإذا نطممق‬
‫فما شئت من لب وفضل وإخلص وحكمة ‪ ،‬ل يتناول غرضا ة فيتركه إل وقد أنممار شممبهته ‪ ،‬وكشممف‬
‫ظلمته ‪ ،‬وأبان حجته ‪ ،‬واستثار دفينته ‪ ،‬وهكذا يكون الكلم وإل فل ‪.‬‬

‫وقد رأيناه طول حياته رجلة راسخ المبدأ ‪ ،‬صارم العزم ‪ ،‬بعيد الهممم ‪ ،‬كريممما ة بممراة رؤوفمما ة نقيمما ة‬
‫فاضلة حمراة ‪ ،‬رجلة شمديد الجممد مخلصما ة ‪ ،‬وهمو ممع ذلممك سممهل الجممانب ليمن العريكممة ‪ ،‬جممم البشممر‬
‫والطلقة ‪ ،‬حميد المعشر حلو اليناس ‪ ،‬بل ربما مازحا وداعب ‪ .‬وكان علممى العممموم تضمميء وجهممه‬
‫ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق ‪ ،‬لن من الناس من تكون ابتسامته كاذبممة ككممذب أعممماله وأحممواله ‪،‬‬
‫هؤلء ل يستطيعون أن يبتسوا ‪ .‬وكان محمد جميل الوجه ‪ ،‬وضيء الطلعة ‪ ،‬حسممن القامممة ‪ ،‬زاهممي‬
‫اللون ‪ ،‬له عينان سوداوان تللن ‪ ،‬وإنى لحب في جبينه ذلك العممرق الممذي كممان ينتفممخ ويسممود فممي‬
‫حال غضبه )كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمممراء لوالترسممكوت ( ‪ ،‬وكممان هممذا العممرق‬
‫خصيصة في نبي هاشم ‪ ،‬ولكنه كان أبين في محمد وأظهر ‪ .‬نعم ‪ ،‬لقد كمان همذا الرجمل حماد الطبمع‬
‫ناري المزاج ‪ ،‬ولكنه كان عادلة صادق النية ‪ ،‬كان ذكى اللب شهم الفؤاد ‪ ،‬لوذعيا ة كأنممما بيممن جنممبيه‬
‫مصابيح كل ليل بهيم ممتلئا ناراة ونوراة ‪ ،‬رجل عظيما بفطرته ‪ ،‬لممم تثقفممه مدرسممة ول هممذبه معلممم ‪،‬‬
‫وهو غني عن ذلك كالشوكة استغنت عن التنقيح ‪ ،‬فأدى عمله في الحياة وحده في أعممماق الصممحراء‬
‫((‪. 299‬‬

‫ولكن رغم ما اتصف به النبي من صفات الكمال الخلقي ‪ ،‬كان هناك عدد من المتشرقين بممدافع‬

‫لتيس )نقل عن مجلة الهلل ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬جزء ‪.(8‬‬ ‫‪297‬‬

‫اميل بارينغهاما ‪ :‬الشرق و السإلما ‪.‬‬ ‫‪298‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ :‬ص ‪.68-67‬‬ ‫‪299‬‬


‫‪150‬‬

‫التعصب العمى والحقد الطائفي الممدفين الممذي همو وليممد الحممروب الصممليبية ‪ ،‬دأبهممم تشممويه صممورة‬
‫الرسول و تروى الحقائق التاريخية ‪ . .‬فنهد لهم المستشرق الفرنسي ميسمر للرد عليهممم مسممفها تلممك‬
‫القاويل ‪ ،‬داحضا ة تلك التخرصات في كتابه ‪ » :‬العرب في عهد محمد « ‪ ،‬وذهممب إلممى الممرأي بممأن‬
‫كل من ينكر صدق محمد هو كاذب سفيه ل يتحدث بمموحى مممن ضمممره ونعممما ذلممك المنصممف الممذي‬
‫يقول ‪:‬‬
‫)) ان من تسافه و انكر صدق محمد فقد بت بهممذه المسممألة دون ان يحلهمما ‪ ،‬و حمممل ضممميره‬
‫مسؤولية المكابرة ‪ ،‬و رمى بنفسه الى نهاية سيئة ‪ ،‬إذ ليس من وحي الضمير الحر ما يقمارفه أولئممك‬
‫المغرضون على محمد الذي اتصف بكل صفات الكمال (( ‪. 300‬‬

‫عظيم في أخلفه وأسيد النبياء في شريعته‬


‫كان الرسول عظيما ة في اخلقه إنسانا ة وقائداة ونبيا ة ‪ ،‬ل ينطممق عممن الهمموى ‪ . .‬ويممرى المنممدوب‬
‫الفزنسي على سورية ولبنان مكسيم ويغان ‪ ،‬أنه القدوة الحق بممأخلقه وشممريعته ‪ ،‬هممذا وقممد قممال فممي‬
‫خطبة له القاها في بيروت عام ‪ 1925‬بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوى ‪:‬‬

‫))مهما احتفل المسلمون بعيد ميلد محمد فهو قليل ‪ ،‬لنه جاءهم بدين هو فوق الديممان ‪ ،‬وهممو‬
‫في نفسه كبير‪ ،‬وفي أخلقه عظيم ‪ ،‬وفي شريعته سيد النبياء‪ ،‬فعلى المنصفين أن يحتفلمموا بالممذكرى‬
‫عظماء التاريخ‪ ،‬وفي طليعتهم محمد الرسول العربي القائد العلى لتحقيق شريعة ا على الرض ‪،‬‬
‫و تركيزها في صدور الناس (( ‪. 301‬‬

‫وأإنك لعلى خلق عظيم‬


‫ليس بوسعنا هنا أن نستعرض سائر شمائل النبي محمد من جمموده الممذي ل حممدود لممه ‪ ،‬وتهممذيه‬
‫الرفيع ‪ ،‬وشجاعته النادرة ‪ ،‬وحيممائه الجممم الممذي يقممرب مممن خفممر العممذارى ‪ . .‬وفممي أسمملوب تعممامله‬
‫ممع الخريممن ‪ . . .‬إلة أنما نمدرك ممن الخطمموط العريضممة لمنمماقبه أنممه اجتمعممت فيممه سمائر الصممفات‬
‫الحميدة ‪ ،‬ومكارم الخلق ‪ ،‬كما ينطبق عليه وصف !لقرآن الكرم إيمماه بقمموله تعممال ‪  :‬وإن ك لعل ى‬
‫خلق عظيم ‪. ‬‬

‫محمد المثل الكامل‬


‫ويتحدث اللورد هيدلي عن اخلق الرسول راداة تهم الفممتراء والممتزوير الممتي حمماولت المسمماس‬
‫بمصداقية أخلقه وعظمته ‪.‬‬
‫))ليس في وسع النسان ‪ ،‬في الحقيقة ‪ ،‬إل أن يعتقد أن مدبحبي وناسجي هممذه الفممتراءات لمم‬
‫يتعلموا حتى ول أول مبادىء دينهم ‪ ،‬وإل لما استطاعوا أن ينشروا فممي جميممع أنحمماء العممالم ‪ ،‬تقمماير‬
‫ميسمر ‪ :‬العرب في عهد محمد ‪ :‬ترجمة فؤاد باطرس – ‪.1922‬‬ ‫‪300‬‬

‫ويغان مكسيم ‪ :‬نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(144‬‬ ‫‪301‬‬
‫‪151‬‬

‫معروفا ة لديهم أنها محض كذب وافتراء ‪.‬‬

‫إن تعالير القممرآن قممد نفممذت ومورسممت خلل حيمماة محمممد الممذي _سممواء فممي أيممام تحملممه اللممم‬
‫وا‪.‬ضطهاد ‪ ،‬أو في زمن انتصاره ونجاحه _ أظهر أشرف الصفات الخلقية التي ل يتسممنى لمخلمموق‬
‫آخر إظهارها ‪.‬‬

‫فكل صفات الصبر والثبات في عصره كانت و ترى أثناء الثلث عشرة سممنة الممتي تألمهمما فممي‬
‫مجاهداته الولى بمكة ‪ .‬ولم يشعر في كل زمان هذا الجهاد بأى تزعممزع فممي الثقممة بممال ‪ ،‬وأتممم كممل‬
‫واجباته بشمم و حمية‪.‬‬

‫كان ‪ ‬مثابراة ‪ ،‬ل يخشى اعداءه لنه كان يعلم بانه مكلمف بهمذه الممأمورة م ن قبمل ام ‪ .‬وممن‬
‫كلفه بهذا العمل لن يتخل عنه ‪..‬‬

‫وقد أثارت تلك الشجاعة التي ل تعرف الجفول _تلك الشجاعة التي كانت حقا ة إحممدى ميزاتممه‬
‫وأوصافه العظيمة _ إعجاب واحترام الكافرين ‪ ،‬وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله ‪ . . .‬ومع ذلك فقد‬
‫تنبهت مشاعرنا ‪ ،‬وازداد إعجابنا به بعد ذلمك فمي حيماته الخيمرة ‪ ،‬أيمام انتصماره بالمديي ة ‪ ،‬عنمدما‬
‫كانت له القوة والقدرة على النتقام ‪ ،‬واستطاعته الخذ بالثأر ولم يفعل ‪ ،‬بل عفا عن كل أعدائه ‪.‬‬

‫العفو والحسان والشجاعة ‪ ،‬ومثل هاتيك الصفات ‪ ،‬كانت ترى منه في كمل تلمك الممدة ‪ ،‬حمتى‬
‫إن عدداة عظيما ة من الكافرين اهتدوا إلى الاسلم عند رؤية ذلك ‪.‬‬

‫عفا بل قيد ول شرط عن كل هؤلء الذين اضطهدوه وعممذبوه ‪ ،‬آوى إليممه كممل الممذين كممانوا قممد‬
‫نفوه من مكة ‪ ،‬وأغنى فقراءهم وعفا عن ألممد أعممدائه ‪ ،‬عنممدما كممانت حيمماتهم فممي قبضممة يممده وتحممت‬
‫رحمته ‪! ...‬‬

‫تلك الخلق الربانية التي أظهرها النبي الكريمم ‪ ،‬اقنعت العرب بأن حائزها يجب أن ل يكون‬
‫إل من لدن ا ‪ ،‬وأن يكون رجلة على الصراط المستقم حقمما ة ‪ ،‬وكراهيتهممم المتأصمملة فممي نفوسممهم ‪،‬‬
‫حولتها تلك الخلق الشريفة إلى محبة وصداقة متينة ‪.‬‬

‫محمد المثل الكامل ‪. . . .‬‬

‫ونحممن نعتممبر أن نممبي بلد العممرب الكريممم ‪ ،‬ذو أخلق متينممة ‪ ،‬وشخصممية حقيقيممة ‪ ،‬وزنممت‬
‫واختبرت في كل خطوة من خطا حياته ولم ير فيها أقل نقص قط ‪.‬‬

‫وبما أننا في احتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطمموات الحيمماة ‪ ،‬فحيمماة النممبي المقممدس‬
‫تسد تلك الحاجة ‪ .‬حياة محمد كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل الراقي ‪ ،‬والسخاء والكرم ‪ ،‬والشجاعة‬
‫والقدام ‪ ،‬والصبر والحلم ‪ ،‬والوداعة والعفو ‪ ،‬وباقي الخلق الجوهرية التي تكون النسانية ‪.‬‬

‫نرى ذلك فيها بألوان وضاءة ‪ . .‬خذ أي وجه من وجوه الداب تتأكممد بأنمك تجمده موضمحا ة فممي‬
‫إحدى حوادث حياته ‪.‬‬
‫‪152‬‬

‫ومحمد وصل إلى أعظم قوة ‪ ،‬وأتى إليه مقاوموه ووجدوا منه شفقة ل تجارى‪ ،‬وكان ذلك سببا ة‬
‫في هدايتهم (( ‪!... 302‬‬

‫فضائل مجسمة ل نظير لها‬


‫وفي الختام نرى أن ما ذهب إليه المستشرق النكليزي السممير وليممم ممموير فممي كتممابه ‪ » :‬حيمماة‬
‫محمد « هو خير ما يمكن أن نختم به النظممرة الستشممراقية المنصممفة لخلق الرسممول وشمممائله ‪ ،‬إذ‬
‫يقول ‪:‬‬

‫))وباختصار فإنه مهما ندرس حياة النبي محمد ‪ ‬نجدها على ال دوام عب ارة عممن كتلممة فضممائل‬
‫مجسمة مع نقاء سريرته وخلق عظيم‪ ،‬وستبقى تلك الفضائل عديمة النظير على الطلق فممي جميممع‬
‫الزمان ‪ :‬في الماضي وفي الحاضر والمستقبل (( ‪. 303‬‬

‫اللورد هيدلي ‪ ) :‬نقل عن اتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.(27-25‬‬ ‫‪302‬‬

‫وليم موير ‪ :‬حياة محمد ‪.‬‬ ‫‪303‬‬


‫‪153‬‬

‫القسم الثالث‬

‫الرسول وأ رسالة السلم‬

‫الباب الوأل‬
‫صدق الرسول وأ صحة الرسالة‬
‫قيــام الدوألــة الســلمية وأ بــدء الصــراع الــديني بيــن‬
‫المسيحية وأ السلم‬

‫فمنذ أن صدع الرسول الكريم برسالة السلم ‪ ،‬وشممرع ينشممر الممدعوة ‪،‬وقعممت المجابهممة ممما بيممن‬
‫الدولة السلمية والدولة المسيحية البيزنطية ‪ . . . .‬وتممرك منمماخ الصممراع هممذا أثممره علممى المرحلممة‬
‫اللحقة في وقوع المجابهة المباشرة في أرض السلم إبان الحروب الصليبية ‪ ،‬وامتدت مممع ظهممور‬
‫أوروبة البرجوازية ‪ ،‬وانتشار حركة الستشممراق الممتي كممانت بممادىء ذي بممدء جممزءاة مممن المشممروع‬
‫الستعماري الغربي ‪ . . .‬ومن ثم وقوع الشرق في براثن الغرب ‪ ،‬كما خلق مناخ عدم الثقة ممما بيممن‬
‫الشرق المسلم والغرب المسيحي ‪ ،‬وما زالت آثاره ملموسة حتى اليوم ‪.‬‬
‫‪154‬‬

‫الستشراق الداة الفكرية للمبريالية ما بيــن الشــرق‬


‫وأ الغرب‬
‫وإن كنا لسنا في معرض دراسة تاريخية لحركة الستشراق‪ ،‬فل مندوحة لنا من القول ‪ ،‬إن مناخ‬
‫المجابهة ما بين الشرق والغرب غالبا ة ما جعل الستشراق أداة في هذا الصرع ‪ ،‬فتكشممفت المواقممف‬
‫المعاديممة للرسممول محمممد ولرسممالة السمملم فممي محاولممة التشممكيك بصممدق الرسممول لتطعممن مممن ثممم‬
‫بمصداقية الرسالة ‪.‬‬

‫الكنيسة المسيحية معقل الهجوم على السلم‬


‫لقد كانت الكنيسة المسميحية فمي القمرون الوسمطى المعقمل الساسمي للهجموم علمى النمبي العربمي‬
‫_عليه السلم _ وعلممى رسممالة السمملم ‪ ،‬فكممان دورهمما الول تغذيممة روحا العممداء ‪ ،‬وإثممارة الحقمماد‬
‫الدينية ‪ ،‬وإثارة روحا التعصب العمى بذريعة أن الرسول ‪ ‬عدو المسيح ‪ ،‬وأن السلم ينقض إلممى‬
‫مسيحية ‪ ،‬ضاربة عرض الحائط بالحقائق الثابتة التي نادى بهمما السمملم ‪ ،‬و هممي أنممه جمماء ليتمممم ل‬
‫لينقض ‪ ،‬ناهيك باعترافه بسائر أنبياء التمموراة ‪ ،‬وأنممه أحممل المسمميح _عليممه السمملم _ منزلممة رفيعممة‬
‫وكذلك والدته مريم البتول ‪.‬‬

‫ورغممم مواقممف السمملم اليجازيممة مممن الشممعوب والمعتقممدات المسمميحية ‪ ،‬فممإن السمملم ورسممول‬
‫السلم ظلة موضع الهجوم الشرس والعنيف ‪ .‬ويبسط المستشرق النكليزي مونتجمري وات فكرته‬
‫بدراسة الحقاد المسيحية الموجهة ضد السلم بقوله ‪:‬‬

‫))ليس بين كبار رجال العالم رجل كثر شانئوه كمحمد ‪ .‬ومن الصعب فهم السبب الممذي دعمما إلممى‬
‫ذلك ‪ .‬فلقد كان السلم خلل قرون عدة العدو الكبير للمسيحية ‪ ،‬ولم تكن المسميحية ‪ ،‬فمي الحقيقمة ‪،‬‬
‫على اتصال مباشر بأية دولة أخرى منظمة توازي السلم في القمموة ‪ .‬فلقممد همموجمت المبراطوريممة‬
‫البيزنطية بعد أن فقدت مقاطعاتها فممي سممورية ومصممر فممي آسممية الصممغرى وافريقيممة ‪ ،‬بينممما كممانت‬
‫أوروبة الغربية مهددة في أسبانية وصقلية ‪.‬‬

‫وأخذت الدعاية الكممبرى فممي العصممور الوسممطى ‪ ،‬حممتى قبممل أن توحممد الحممرب الصممليبية اهتمممام‬
‫المسيحيين حول طرد العمرب ممن الرض المقدسممة ‪ ،‬تعمممل علمى إقممرار فكممرة )العمدو الكممبر( فممي‬
‫الذهان ‪ ،‬ولو كانت تلك الدعاية خالية من كل موضوعية ‪.‬‬

‫وأصبح محمد "ماهومد " ) أميو الظلمات ( حتى إذا ما حل القممرن الحممادي عشممر كممان للفكممار‬
‫الخرافية المتعلقة بالسلم والمسملمين والقائمممة فممي أذهماك الصمليبيين تمأثير يؤسمف لمه ‪ :‬فلقمد أنمذر‬
‫الصليبيون بمأن ينتظممروا أسممواة الممور مممن العممداء ‪ ،‬ولمما وجممدوا بيممن همؤلء العممداد كممثيراة مممن‬
‫المحاربين الفرسان شعروا بالريبة من السلطات الدينية المسيحية ‪ .‬ولهذا حمماول بطممرس الراهممب أن‬
‫يعالج هذا الوضع بإذاعة معلومات أصدق عن محمد والديانة التي يممدعو لهمما ‪ .‬وقممد حممدث فيممما بعممد‬
‫‪155‬‬

‫تطور كبير في هذا السبيل و لسيما منذ قرنين من الزمن ‪ ،‬وإن ظممل كممثير مممن الوهممام عالقمما ة فممي‬
‫الذهان (( ‪.304‬‬

‫النقد الستشراقي لموقف الكنيسة المتعنتة‬


‫ومع تكون المموعي لممدى العسممكرين الغربييممن ‪ ،‬بعممد تحررهممم مممن سمميطرة الكنيسممة ومممن أسمماليبا‬
‫الدعائية المضللة ‪ ،‬اتجه الستشراق إلى دراسة المواقف العدائيممة للكنيسممة ‪ ،‬ووضممعها تحممت مجهممر‬
‫النقد بأقلم غربية منصفة ‪ .‬فقد نمماقش الكمماتب اليرلنممدي برنممارد شممو بحياديممة المفكممر وموضمموعية‬
‫العالم مواقف الكنيسة المسيحية من السلم في القممرون الوسممطى ‪ ،‬وأظهممر أنهمما لممم تصممدر إل عممن‬
‫التعصب الذميم ‪ ،‬ورد على فرية أن محمداة عدو المسيح ‪ ،‬وجل ما عملمه أنممه أسممقط الوثنيممة ونممادى‬
‫بوحدانية ا سبحانه وتعالى ‪ ،‬فكان بذلك المنقذ والمحرر ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين السلم بطابع أسممود حالممك ‪ ،‬إممما جهلة وإممما‬
‫تعصبا ة ‪ ،‬إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمممد ودينممه ‪ ،‬فعنممدهم أن محمممداة كممان عممدواة‬
‫للمسيح ‪ .‬ولقد درست سيرة محمممد الرجممل العجيممب ‪ ،‬وفممي رأي أنممه بعيممد جممداة مممن أن يكممون عممدواة‬
‫للمسيح ‪ .‬إنما ينبغي أن يدعى منقذ البشرية ((‪. 305‬‬

‫وأما هو الكبير بشر يوحى اليه ‪ ،‬وأنفــي تاهمــة اللــوهيه‬


‫عن محمد‬
‫ويممذهب البمماحث النكليممزي الكولونيممل بممودلي فممي كتممابه ‪ " :‬حيمماة محمممد " إلممى أن كممثيراة مممن‬
‫المستشرقين والكتاب الغربيين قد وقعوا في شرك التعصممب ‪ ،‬الممذميم بسممبب انجرافهممم بتيممار ترويممج‬
‫الباطيممل والسممخافات عممن السمملم منممذ الحممروب الصممليبية جممراء )أنهممم لممم يفهممموا محمممداة‬
‫وشريعته ( ‪ ،‬التي هي الدعوة إلى السلم والتسليم لرادة ا ووحدانيته ‪ .‬كما كتب بودلي فممي دفمماعه‬
‫عن الرسول والرسالة مجاهراة بقوله ‪:‬‬

‫))إن من أعظم الكبائر في نظر السلم ألشرك بالله ‪ ، . .‬وإن محمداة لم يدع لنفسه صممفة إلهيممة ‪،‬‬
‫وكثيراة ما صممرحا بممأنه بشممر يمموحى إليممه ‪ ،‬وأن السممبب فممي سممرعة انتشممار السمملم عممن غيممره مممن‬
‫الديان ‪ ،‬وهو عدم ادعاء النبي صفة إلهية ‪ ،‬وعدم دعوته إلى عبادة شخصه ‪ ،‬وكذلك تسممليم القممرآن‬
‫بصحة الديانات المنزلة من قبل (( ‪. 306‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪494_493‬‬ ‫‪304‬‬

‫بارنادشو ) نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ‪ ،‬ص ‪.(107‬‬ ‫‪305‬‬

‫باودلي ‪) :‬نقل عن مجلة الزهر الصادرة في ايار عاما ‪.1952‬‬ ‫‪306‬‬


‫‪156‬‬

‫وبممدوره يفنممد المستشممرق هنممري دي كاسممتري فممي كتممابه ‪ " :‬السمملم خممواطر وسممواخ " تهمممة‬
‫اللوهية عن محمد ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫))وذهبوا إلى أن محمداة وضع دينه بادعائه اللوهية ‪ .‬ومن المستغرب قممولهم ‪ :‬إن محمممداة الممذي‬
‫هو عدو الصنام ومبيد الوثان ‪ ،‬كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب ‪ .‬بل لقد أغممرق‬
‫خيالهم في الضلل ‪ .‬فذهبوا إلى أبعد من ذلك ‪.‬‬

‫وذهبوا إلى صورة "ماهومت" كانت تصنع من أنفس الحجار والمعادن بأحكم صنع وأدق إتقتان‬
‫(( ‪. 307‬‬

‫ومن ثم يخلص إلى القول ‪:‬‬

‫)) ولقد أطلنا القول في تلك الضاليل لن تاريخ إسكندر‪ ‬المذكور لم يزلها ‪ ،‬ولنها تركممت أثممراة‬
‫في الذهان وصل إلى أهل هذه الأيام ‪ ،‬وتشبعت به أفكارهم في النبي وكتابه (( ‪.‬‬

‫محمد وأ الحقيقة التاريخية‬


‫وكان فيمن تصدى للقلم المغرضة المستشرقة اليطالية لورا فكشيا فالييري ) ‪1897_ 1839‬‬
‫( التي طفقت تدافع _في القرن التاسع عشر عن الرسول العربي ‪ ،‬وتفند الكاذيب التي كانت تشمماع‬
‫عنه في القرون الوسطى ‪ ،‬والتي لم تعد تمتلممك القموة لتضممليل العقممول فممي عصممر العلممم والمعرفممة ‪،‬‬
‫والدراسات التاريخية والجتاعية والدينية والفلسفية المقارنممة ‪ ،‬وسمملم العديممد مممن المصممدقين بصممحة‬
‫الرسالة السلمية وعظمتهمما ‪ ،‬وظهورهمما كممانقلب غيممر وجمه العممالم ‪ ،‬وأثممر علممى سمميرورة الحيمماة‬
‫ألنسانية ‪ ،‬ولممم يممتردد الكممثير مممن المستشممرقين أن رفعمموا عقيرتهممم إيمانمما ة بالسمملم ‪ ،‬والجهممر بممأن‬
‫الرسول محمداة ‪ ‬خ اتم النبي اء ‪ ،‬و ل يس عنا فممي هممذا الصممدد إل أن نقممل ممما كتبتممه تلممك اليطاليممة‬
‫الدارجة في أرض البابوية بكتابها ‪ " :‬الديان "‪:‬‬

‫)) انه مما ل شك فيه أن وصف )محمد( بتلك الكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسممطى‬
‫عنه وعن ديانته ‪ ،‬قد خفت كثيراة في هذا العصر ‪ ،‬وصاروا ينشدون الحقيقة التاريخيممة عممن محمممد ‪،‬‬
‫وعن السلم الذي قلب وجه العالم ‪ ،‬وإن جماعة من المستشرقين يؤيمدون رسمالة محممد ‪ ،‬ويقول ون‬
‫إنه خاتم الرسل (( ‪.308‬‬

‫هذا ‪ ،‬ووقف المستشرق السويري حنا دا قنبرت ) ‪_ 1826‬مم ‪ ( 1912‬مواقف جميلة في دفمماعه‬

‫‪ 307‬هنري دي كاسإتري ‪ :‬السإلما خواطر و سإوانح‪.‬‬


‫‪ ‬الف القسيس ‪) :‬اسكندر دوأيون( كتابا عام ‪1258‬م عن محمد ‪ ،‬وأ كان الناس‬
‫يعدوأنه تااريخا ا صحيحا ا للرسول مع انه ليس كذلك‪.‬‬
‫‪ 308‬لورا فكشيا فالييري ‪ :‬الديان ص ‪) ، 96‬نقل عن ترجمته الفرنسية(‪.‬‬
‫‪157‬‬

‫عن الرسول بعد دراسته الوثائق التاريخية لستنباط الحقائق الثابتة فيها يتعلق بمناق به‪ ،‬فأكد في كتابه‬
‫‪" :‬محمد والسلم "‪ ،‬عظمة الرسول ‪:‬‬

‫)) إن ه كلمما ازداد البماحث تنقيبما ة فمي الحقمائق التاريخيمة الوثيقمة المصمادر فيهما يخمص الشممائل‬
‫المحمدية ‪ ،‬ازداد احتقاراة لعدائه الذين أشرعوا أسنة الطعن في محمد قبل أن يعرفره ‪ ،‬ونسبوا إليممه‬
‫ما ل يجوز أن ينسب إلى رجل حقير فضلة عن رجل كمحمممد الممذي يحممدثنا التاريممخ عنممه أنممه رجممل‬
‫عظم (( ‪. 309‬‬

‫شهرة الرسول في أوأروأبه عهد القروأن الوسطى‬


‫ومهما يكن أثر الكنيسة البالغ في تشكيل اتجاهات الرأي العام الوروبي المعادي أساسا ة للسلم ‪،‬‬
‫لن اسم الرسممول معروفمما ة جيممداة فممي أوروبممة _القممرون الوسممطى_ ‪ ،‬وبممأنه نممبي مرسممل جمماء ليتمممم‬
‫الرسالت السابقة ‪ ،‬وقد ورد في الموسوعة الفرنسية الكبرى ما يؤكد هذه الحقيقة بما ترجمته ‪:‬‬

‫))لن اسم محمد معروفا ة في أوروبة في القرون الوسطى بأنه نبي ‪ ،‬وأنه خاتم النبيين ‪ ،‬وقمد جماء‬
‫ليتم التعاليم السابقة (( ‪. 310‬‬

‫صحه الرسالة وأصدق الرسول‬


‫لقد كان كتمماب البطممال الممذي ألفمه توممماس كارليممل أثممره البممالغ علممى حركمة الستشممراق ‪ ،‬فكممان‬
‫لقتناعه بصحة رسالة السلم وصدق الرسول ‪ ،‬ما حمل الكثير من العسكرين على إعادة حسماباتهم‬
‫‪ ،‬وتخلي آخرين عن غلوائهم وتعصمبم المديني ‪ . . .‬لقمد قممدر كارليمل الرسمول حمق قمدره ‪ ،‬وعمرف‬
‫مكامن عظمته ‪ ،‬ونواحي عبقريته ‪ ،‬فكان أن خلص إلى ما مؤداه ‪ :‬آن الوان لبعض مفكري الغرب‬
‫أن يدركوا صحة رسالة السلم ‪ ،‬التي لو ل اعتمادها على الصدق ‪ ،‬واشتمالها على الخير والعظمة‬
‫والقوة « لما استمرت تاريخيا ة ‪ ،‬ولما اسممتطاعت أن تنشممي ‪ ،‬أمممة و تبنممي حضممارة ‪ ،‬فكممانت سممراجا ة‬
‫وهاجا ة أضاء العالم الغارق في ظلماته ‪ ،‬وأنار السبيل أمام البشرية لخراجها من ديمماجير الظلمممة إل‬
‫ساطع النوار ‪. . .‬‬

‫يقول الباحث النكليزي مونتجمري وات في كتممابه ‪" :‬محمممد فممي مكممة" ‪ ،‬دارسمما ة صممورة المموعي‬
‫النبوى عند محمد ‪ ،‬متطرق لثر كارليل على وعممي الغممرب وإدراكممه الحقيقممة المحمديممة ‪ ،‬ومواقممف‬
‫الكتاب الغربيين السابقة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) منذ أن قام كارليل بدراسته عن محمد فمي كتممابه ) البطممال وعبمادة البطممل ( أدرك الغممرب أن‬
‫هناك أسبابا ة وجيهة للقتناع بصدق محمد ‪ .‬إذ أن عزيمته فمي تحممل الضمطهاد ممن أجمل عقيمدته ‪،‬‬
‫والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به ‪ ،‬وكان لهم بمثابة القائد ‪ ،‬وأخيممراة عظمممة عملممه فممي منجزاتممه‬
‫الخيرة ‪ ،‬كمل ذلمك يشمهد علمى اسمتقامته المتي ل تمتزعزع ‪ .‬فاتهمام محممد بمأنه )دجمال ( يمثير م ن‬

‫حنا دا قنبرت ‪ :‬محمد و السإلما‪.‬‬ ‫‪309‬‬

‫الموسإوعة الفرنسية الكبرى ‪ ،‬ص ‪.1174‬‬ ‫‪310‬‬


‫‪158‬‬

‫المشاكل أكثر مما يحل ‪ .‬ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حط من قدرها فمي الغمرب‬
‫كمحمد ‪ .‬فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسواة المور عن محمد ‪ ،‬وكلما ظهممر أي تفسممير‬
‫نقدي لواقعة من الوقائع ممكنا ة قبلوه (( ‪. 311‬‬

‫ويتحدث مونتجمري وات في مكان آخر مفندةا التهامات التي وجهت إلى الرسول وجلها اتهامات‬
‫تمس ضمير أخلقه ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))من الضروري في العالم الحديث حيث تتزايد التصالت الوثيقة بين المسيحين والمسلمين ‪ ،‬أن‬
‫يحاول كل منهما الوصول إلى نظرة موضوعية عن خلق محمد ‪ .‬فلقد كان التشهير الذي لقيه الكتاب‬
‫الوروبيين يتبعه غالبا ة تعظيم رومانطيقي لشخصيته ‪ ،‬وهمو تعظيمم قممام بمه غيرهمم ممن الوروبييمن‬
‫والمسلمين ‪ ،‬وهدف الدراسة التي تقوم بها أن تعمل على تكوين موقف واقعي من النتقادات المتعلقة‬
‫بالخلق ‪ ،‬وكان موضوعها محمداة وقد خلفتها لنا القرون الوسممطى ‪ .‬ة تممدور هممذه النتقممادات حممول‬
‫ثلث مسائل رئيسية ‪ :‬الخداع ‪ ،‬الشهوانية ‪ ،‬عدم الوفاء ‪.‬‬

‫لقد نفي كارليل منذ أكثر من مئة سنة تهمة الخداع ‪ ،‬ومن ثم جعل العلماء يرفضونها أكثر فأكثر‬
‫‪ ،‬ومع ذلك ل تزال ‪ ،‬في بعض الحيان ‪ ،‬يتهم بها محمد ‪.‬‬

‫وأقصى ما يصل إليه هذا إلرأي القول بأن محمداة لم يكمن يممؤمن بممما يموحى إليمه ‪ ،‬وأنمه لممم يتلمق‬
‫الوحى من مصدر خارجى عنه بل أنه ألف اليات عن قصد ثم أعلنها للناس بصورة خدع بها الناس‬
‫وجعلهم يتبعونه فضمن لنفسه بذلك من السلطة ما يرضي طموحه و حبه للمتعة‪.‬‬

‫ومثل هذه النظرة للمممور غيممر معقولممة ‪ .‬وذلممك لنهمما ل تفسممر لنمما بصممورة مرضممية لممماذا كممان‬
‫محمد ‪ ،‬في الفترة المكية ‪ ،‬مستعداة لتحمل جميع صنوف الحرمان ولماذا فاز باحترام رجممال شممديدي‬
‫الذكاء ذوى اخلق مستقيمة ‪.‬‬

‫كما أن ذلك ل يجعلنا نفهم كيف نجح فممي تأسمميس ديانممة عالميمة أنجبممت رجممالة قداسممتهم واضممحة‬
‫للعيان ‪ ،‬ل يفسر كل ذلك بصورة مرضية إل إذا افترضنا صدق محمد أي أن نعتقد بأنه كان مقتنعمما ة‬
‫حقا ة بأن القرآن ليس ثمرة خياله بل أن كل ما نزل عليه كان من ا فهو بذلك حق (( ‪. 312‬‬

‫يتابع مونتجمري وات قوله دارساة آراء الرسول ومواقفه و تفريقه بين ما هو وحي إلهي ‪ ،‬وما هو‬
‫آراؤه الخاصة ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) ومهما كانت طريقته ‪ ،‬على كل حال ‪ ،‬فقد كانت لديه وسيلة ممما ‪ ،‬بممدون شممك ‪ ،‬لمعرفممة ممما إذا‬
‫كان الوحي الذي ينزل عليه هو من عند ا حقا ة ‪ .‬ويعني القول بأنه كان صادق ‪ ،‬إنه إذا كممان ينظممر‬
‫للكلم الذي يسمعه على أنه نازل من عد ا ‪ ،‬فذلك لنه كان يعتقد ذلك حقا ة ‪ ،‬و ل يخلط بينه وبيممن‬
‫أفكاره الشخصية ‪.‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في مكة ‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪311‬‬

‫المصدر الساباق‪.‬‬ ‫‪312‬‬


‫‪159‬‬

‫ليست هناك أسباب كامنة لعتبار محمد دجالة بل هناك على العكس أسممباب قويممة تؤكممد صممدقه ‪.‬‬
‫ونستطيع في مثل هذه الحالة الخاصة أن نبلغ درجة عالية من اليقين (( ‪. 313‬‬

‫سقوط أدلة اتاهام رسول الله‬


‫ومممن جممانبه أكممد المستشممرق السويسممري جممون وانتبممورت فممي كتممابه ‪ » :‬محمممد والقممرآن « أن‬
‫الدراسات التاريخية تسقط كل الكاذيب الممتي أشمماعها أعممداء السمملم ممن جهممة ‪ ،‬و تؤكممد ممن جهممة‬
‫أخرى عظمة الرسول محمد ‪ ‬ومكانته التاريخية ‪ ،‬من عظمة الرسالة التي حملها للبشرية‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) بقدر ما نرى صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصممحيحة ‪،‬‬
‫بقدر ما نرى من ضعف البرهان وسقوط الدلة لتأييد أقمموال الهجممو الشممديد « والطعممن القبيممح الممذي‬
‫اندفن على رأسه ‪ ،‬وانهار عليه من أفواه المغرضمين ‪ ،‬والمذين جهلموا حقيق ة محممد ومكمانته ‪ ،‬ذلمك‬
‫الرجل العظيم عند كل من درس صفاته العظيمة ‪ ،‬كيف ل وقد جاء بشرع ل يسعنا أن نتهمه فيممه ((‬
‫‪. 314‬‬

‫ما كان محمد مشعوذا ا وأل ساحرا ا‬


‫أما العلمة والمستشرق اللماني كارل هينرش بيكممر ) ‪ ( 1937_ 1876‬مؤسممس مجلمة العممالم‬
‫السلمي ‪ ،‬الذي شهر عنه محبته عالمي العروبة والسلم ‪ ،‬فقد وقف موقفا ة نزيهمما ة فممي الممدفاع عممن‬
‫النبي محمد ‪ ‬مسخفا ة من اتهمه بالسحر والدجل ‪ ،‬ورأى بالرسول رجلة عظيما ة ‪ ،‬جممديراة بكممل محبممة‬
‫وتجلمة و تعظيمم للمبمادىء السمامية المتي نشمرها ‪ ،‬والمتي همي قمينمة بمأن تتبمع ‪ ،‬يق ول فمي كتمابه ‪:‬‬
‫"الشرقيون " ‪:‬‬

‫)) لقد أخطا ة من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر لنه لم يفهم مبدأه السممامي ‪ ،‬إن محمممداة جممدير‬
‫بالتقدير ‪ ،‬ومبدؤه حري بالتباع ‪ ،‬وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم ‪ ،‬وإن محمداة خير رجممل جمماء إلممى‬
‫العالم بدين الهدى والكمال ‪ ،‬كما أننا ل نرى أن الديانة السلمية بعيدة عن الديانة المسيحية (( ‪. 315‬‬
‫ويتحممدث المسشممرق والممؤرخ الروسممي العلممة جممان ميكممائيليس ) ‪ ( 1791-1717‬فممي كتممابه‬
‫"العرب في آسية " باللهجة نفسها التي تكلمم بهما كمارل هينمرش بيكمر‪ ،‬فمي دحمض مزاعمم الشمعوذة‬
‫والسحر التي ألصقها بالرسممول الستشممرقون المتعصممبون ‪ ،‬وشممدد علممى اهميممة الرسممالة الممتي حملهمما‬
‫للناس فكانت لصلحا النسانية ومتمشية وروحا المجتمعات في كل العصور ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))لم يكن محمد نبي العرب المشعوذ ول الساحر ‪ ،‬كما اتهمه السفهاء في عهده‪ ،‬وإنممما كممان رجل‬

‫المصدر الساباق‪.‬‬ ‫‪313‬‬

‫جوان واتنبرت ‪ :‬محمد و القران‪.‬‬ ‫‪314‬‬

‫كارل هينرش بايكر ‪ :‬الشرقيون‪.‬‬ ‫‪315‬‬


‫‪160‬‬

‫ذا حنكة وإدارة وبطولة وقيادة وأخلق وعقيدة ‪ ،‬فلقد دعا لدينه بكمل صمفات الكممال ‪ ،‬وأتمى للعمرب‬
‫بما رفع فيه شأنهم ‪ ،‬ولم نعرف عن دينه إل ما يتلءم مع العصور مهما تطورت ‪ ،‬ومن يتهم محمداة‬
‫ودينه بخلف هذا فإنه ضال عن الطريقة المثلى‪ ، .‬وحري بكل الشعوب أن تأخذ بتعاليمه (( ‪. 316‬‬

‫دفع تاهمه الصرع وأالهستريا عن الرسول‬


‫هذا‪ ،‬وقد ذهب بعض الحاقدين على الدين السلمي في معرض هجومهم علممى الرسممول محمممد ‪،‬‬
‫إلى اتهامه بالصرع والجنون للتشكيك بالدين السلمي ككل ‪ ،‬وأن ما جمماء بممه ليممس وحممي امم أو ل‬
‫يعدو حالة من حالت صممرع تنتممابه ‪ ،....‬ووقممف المفكممر ر‪.‬ف ‪ .‬بمودلي موقفمما ة مفنممداة هممذه الترهممات‬
‫والراجيف دافعا ة هذه الدعاءات المغرضممة بممالنظرة العلميمة الدقيقممة والواعيمة ‪ ،‬يقمول فممي كتممابه ‪:‬‬
‫»الرسول ‪ ،‬حياة محمد« ‪:‬‬

‫يذكر الطباء أن المصمماب بالصممرع ‪ ،‬ل يفيممق منممه إل وقممد ذخممر عقلممه بأفكممار لمعممة ‪ ،‬وأنممه ل‬
‫يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي يتمتع بها محمد حتى قبل مماته بأسبوع واحممد ‪ ،‬وممما‬
‫كان الصرع يجعل من أحد نبيا أو مشممرعةا‪ ،‬وممما رفممع الصممرع أحممداة إلممى مركممز التقممدير والسمملطان‬
‫يوما ة ‪ ،‬وكان من تنتابه مثل هذه الحالت في الزمنة الغابرة يعتبر مجنونا ة أو به مس من الجن ‪ ،‬ولو‬
‫كان هناك من يوصف بالعقل و رجاحته فهو محمد ((‪. 317‬‬

‫أما المستشرق اسبرنغر ‪ ،‬فقد ذهب في كتابه ‪ " :‬حياة محمد وعمله " إلى أن عوامل البعثة كممانت‬
‫نوبات هستيريا اشترت باسم شوتلين ‪ ،‬ولكن سوك هر غرنجه ‪ ،‬يرى ضممحالة هممذه الراد وأسسممها‬
‫الواهية ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫)) يجب ان نقر بأن قيمة محمد انما هي ما يميزه عن سائر الهستيريين ((‪. 318‬‬

‫ولقد رد كل من ول ديورانت ‪ ،‬وموتجمري وات ‪ ،‬وهنري دي كاستري وسواهم إصابة الرسول‬


‫بنوبات الصرع والستيريا ‪ ،‬يقول ول ديورانت في كتابه ‪ » :‬قصة الحضارة « ‪:‬‬

‫)) ولكننا ل نسمع أنه عض في خللها لسانه أو حدث ارتخاء في عضلته كممما يحممدث عممادة فممي‬
‫نوبات الصرع ‪ .‬وليس في تاريخ محمد ما يدل على انحطمماط قمموة العقممل الممتي يممؤدي إليهمما الصممرع‬
‫عادة ‪ ،‬بل نراه على الكفار يزداد ذهنه صفاء ‪ ،‬ويزداد قدرة على التفكير ‪ ،‬وثقة بالنفس ‪ ،‬وق وة فمي‬
‫الجسم والروحا والزعامة ‪ ،‬كلما تقدمت به السن حتى بلغ الستين من العمر ‪ .‬وقصممارى القممول إنمما ل‬
‫نجد دليلة قاطعأ على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع ‪ .‬ومهما يكن ذلممك الممدليل فممإنه ل‬
‫ينقع أي مسلم متمسك بدينه (( ‪.319‬‬

‫جان ميكائيليس ‪ :‬العرب في اسإيا‪.‬‬ ‫‪316‬‬

‫ر‪.‬ف‪ .‬باودلي ‪ :‬الرسإول ‪ ،‬حياة محمد‪.‬‬ ‫‪317‬‬

‫سإنوك هرغرنجه ‪) :‬نقل عن العرب في الشرق(‪.‬‬ ‫‪318‬‬

‫ول ديورانت ‪ :‬قصة الحضارة ‪ ،‬ج ‪ ، 13‬ص ‪.26‬‬ ‫‪319‬‬


‫‪161‬‬

‫أما مونتجمري وات فإنه يقول في كتابه ‪ " :‬محمد في مكة " ‪:‬‬

‫))وليست طبيعة التجارب التي من هذا النوع _يجب اللحمماحا علممى ذلممك _ مهمممة بالنسممبة للفقيممه‬
‫المسلم والمسيحي‪ ،‬والتأكيد بأن رؤى محمد كانت أوهاما ‪ ،‬كما قال البعض ‪ ،‬هو إصدار حكممم فقهممي‬
‫دون الطلع الكافي على ممما حممدث ‪ ،‬وبالتممالي التممدليل علممى جهممل مممؤلم بممالعلم ‪ ،‬والممرأي السمملي ‪،‬‬
‫لمؤلفين كم برلين )‪ (Ponlain‬و لعلم الفقه الصوفي الذي يمثلونه ‪.‬‬

‫إن معرفة ما إذا كانت الرؤى خارجة أو خيالية أو عقلية ل يكون معياراة للحكممم علممى حقيقتهمما أو‬
‫صحتها ‪.‬‬

‫ول شك أن التجارب )الخارجية ( أكثر تأثيراة فيمن يهتم بهمما ولكممن التجممارب العقليممة أسمممى‪ ،‬لن‬
‫العقل اسمى من الحس ‪.‬‬

‫وللمشكلة أهمية أساسية بالنسبة للشخاص الذين يدرسون علم النفممس الممديني ‪ ،‬ومممن المفيممد‪ ،‬و ل‬
‫شك ‪ ،‬مقارنة تجارب محمد بتجارب القديسين والمتصوفين المسيحين ‪.‬‬

‫أما بالنسبة للفقيه والمؤرخ فإن الشيء الرئيسي هو أن محمداة قد ميز ما يوحى إليممه وبيممن أفكمماره‬
‫الخاصة ‪ .‬وكذلك فليس للمظاهر الجسدية لتلقي الوحي أية أهمية بالنسبة للفقه ‪ ،‬وان كانت مهمة مممن‬
‫الناحية التاريخية ‪ .‬ولقد أكد أعداء السلم غالبا ة أن محمداة كان مصابا ة بالصرع ‪ ،‬وأن تجار به الدينية‬
‫لهذا ل قيمة لها ‪ .‬ولكن العراض الموصوفة ل تشبه أعراض الصمرع لن همذا النقمص يمؤدي إلمى‬
‫تخناذل جسدي وعقلي ‪ ،‬بينما ظل محمد حتى آخر حياته مالكا ة لقواه العقلية ‪ ،‬حتى ولمو أمكمن إدعماء‬
‫ذلك فإن الحجة تظل مناقضة لكل رأي سليم إذ لم تقم إل على الجهل والوهم ‪ ،‬لن المظاهر الجسدية‬
‫الملزمة ل تثبت ول تنفي قط بنفسها التجربة الدينية ((‪. 320‬‬

‫ويرد الكونت هنري دي كاستري فمي كتمابه ‪ » :‬خمواطر وسموانح « علمى أولئمك المذين أعمماهم‬
‫التعصب عن رؤية الحقيقة ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) ومن ذلك الحين _أي البعثة _ أخذت شفتاه تنطلقان بألفاظ بعضها أشد قمموة وأبعممد مرمممي مممن‬
‫بعض ‪ ،‬والفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى أن يقممف لسممانه ول يطيعممه الصمموت ‪ ،‬ول يجممد مممن‬
‫اللفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفممع عمن ممدارك النسممان ‪ ،‬وسمما عمن أن يمترجمه قلممم أو لسممان ‪.‬‬
‫وكانت تلك النفعالت تظهر على وجهه بادية ‪ ،‬فظن بعضهم أن بمه جن ة ‪ ،‬وهمو رأي باطمل ‪ ،‬لنمه‬
‫بداأ رسالته بعد الربعين ‪ ،‬ولم يشاهد عليه قبل ذلممك أى اختلل فممي الجسممم أو اضممطراب فممي القمموة‬
‫المادية ‪ ،‬وليس من الناس من عرف الناس جميعا ة أحواله فممي حيمماته كلهمما مثممل النممبي ‪ ‬فلقممد وصممل‬
‫المحدثون عنه أنهم كانوا يعدون الشعر البيض في لحيته ‪ ،‬ولو أنه كان مريضا ة لما أخفممي مرضممه ‪،‬‬
‫لن المرض في مثل تلك الحوال يعتبر أمراة سماويا ة عند الشممرقيين ‪ .‬وليسممت حالممة محمممد سممر فممي‬
‫انفعالته وتأثراته بحالة ذي جنة ‪ ،‬بل كانت مثل التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها ‪ :‬لقد شممعرت‬
‫بأن قلبي انكسر بين أضلعي ‪ .‬وارتعشت مني العظام‪.‬‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في مكة ‪ ،‬ص ‪.101-100‬‬ ‫‪320‬‬


‫‪162‬‬

‫فصرت كالنشوان ‪ ،‬لما قام بي من الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة (( ‪.321‬‬

‫ليس للكذب قوة الصدق‬


‫أما الشاعر الفرنسي الكبير ‪ ،‬الفونس دي ل مممارتين ) ‪_ 1790‬مم ‪ ( 1869‬الممذي زار الشممرق ‪،‬‬
‫ترك كتابا ة عن رحلته عنوانه ‪ » :‬السفر إلى الشرق « تحدث فيه عن البلد السلمية ‪ ،‬و بحممث فممي‬
‫القيم التي نادى بها السلم ‪ ،‬ودرس بقلب الشاعر وعقل المفكر صدق دع وته ‪ ،‬فكمان أن نافمح عن ه‬
‫ضد من يرسل الترهات عن الخداع والنفاق ‪ . .‬فالكذب لن يستطيع الصمود طويلة ‪ ،‬وما كان بمقدور‬
‫أي إنسممان أن يحقممق ممما حققمه رسممول المم إل بالصمدق والصممدق وحممده ‪ .‬ترفممده قمدرة فكمر ثمماقب ‪،‬‬
‫وصلبة في الموقف ‪ ،‬مكنه مممن أن ينقمل أمتممه مممن الجاهليممة الوثنيمة إلممى نمور السمملم القممائم علممى‬
‫وحدانية ا كعقيدة ‪ ،‬وحضارة رائعممة فممي مجتمممع إسمملمي متسممم بالتسممماحا والعدالممة و الخمماء بيممن‬
‫المسلمين ‪ ،‬يقول لمارتين في سياق دفاعه عن صدق دعوة رسول ا‪.‬‬

‫)) أترون أن محمداة كان أخا خدع وتدليس ‪ ،‬وصاحب باطل ومين ‪ ،‬كل بعممدما وعينمما تمماريخه ‪،‬‬
‫ودرسنا حياته ‪ ،‬فان الخداع والمين والباطل والتدليس كممل أولئممك مممن نفمماق العقيممدة ‪ ،‬كممما انممه ليممس‬
‫للكذب قوة الصدق إلى أن قال ‪:‬‬

‫إن حياة محمد وقوة تامله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته ‪ ،‬وجاهلية شممعبه ‪ ،‬وشممهامته‬
‫وجرأته وبأسه في لقاء ما لقيه من عبدة الوثان ‪ ،‬وثباته وتقبله سخرية الساخرين ‪ ،‬وحميته في نشممر‬
‫رسالته وحروبه التي كان جيشه فيها أقل نفراة من عدوه ‪ ،‬ووثوقه بالنجاحا وإيمانه بالظفر ‪ ،‬وتطلعممه‬
‫إلى إعلء الكلمة وتأسيس العقيدة ‪ ،‬ونجواه التي ل تنقطع مع ال ‪ ،‬كل هذا لعظم دليل علممى أنممه لممم‬
‫يكن يضمر خداعا ‪ ،‬أو يعيش على باطل أو مين ‪ ،‬بل كان وراءهمما عقيممدة صممادقة ‪ ،‬ويقيممن مضمميء‬
‫في قلبه ‪ ،‬وهذا اليقين الذي مل روحه هممو الممذي وهبممه القمموة ‪ ،‬علممى أن يممرد الحيمماة فكممرة عظمممة ‪،‬‬
‫وحجة قائمة ومبدأ مزدوجا ة ‪ ،‬وهو وحدانية ال سبحانه ((‪. 322‬‬

‫وأمام إنكار بعض المستشرقين نبوة الرسول محمد ‪ ، ‬يقف المستشممرق الفرنسممي القممس لمموازون‬
‫في كتابه ‪ » :‬الشرق « ‪ ،‬مؤكداة أن محمداة نبى مرسل من ا ‪ ،‬حمممل رسممالة السمملم رسممالة الحيمماة‬
‫‪...‬‬

‫)) إن محمداة بل التباس ول نكران كان من النبيين والصديقين ‪ ،‬وهو رسول الله القادر على كل‬
‫شيء ‪ ،‬بل انه نبي جليل القدر ‪ ،‬ومهما تحدثنا عنه فليس بالكثير في حقه ‪ ،‬لنه جاء إلى العالم بدين‬
‫جمع فيه كل ما يصلح للحياة (( ‪. 323‬‬

‫إن دراسة سيرة رسمول ام ‪ ‬تؤك د أن ه نمبي صمادق فمي دع وته ليمس بمدجال ول ممزور ‪ ،‬وأن‬

‫هنري دي كاسإتري ‪ :‬خواطر و سإوانح )نقل عن كتاب اتيين دينه ‪ ،‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.(17‬‬ ‫‪321‬‬

‫لمارتين ‪ :‬رحلة الى الشرق ‪ ،‬ص ‪.84‬‬ ‫‪322‬‬

‫لوزوان ‪ :‬الشرق ‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪323‬‬


‫‪163‬‬

‫الشريعة السلمية صالحة لكمل زممان ومكمان ‪ ،‬يقمول المستشمرق اللمماني ديسمون ) ‪_ 1817‬م‬
‫( في كتابه ‪" :‬الحياة والشرائع "‪:‬‬

‫)) وليس يزعم أحد اليوم أن محمداة راحا يزور دينا ة ‪ ،‬وأنه كاذب في دعواه ‪ ،‬أفاك فممي دعمموته إذا‬
‫عرف محمدا ودرس سيرته ‪ ،‬وأشرف على ما يتمتع به دينه من تشريعات تصلح أن تظل مع الزمن‬
‫مهما طممال ‪ ،‬وكممل ممن يكتممب عمن محمممد ودينممه ممما ل يجمموز ‪ ،‬فإنممما هممو ممن قلممة التممدبر وضممعف‬
‫الطلع ((‪. 324‬‬

‫وتحممدث المستشممرق اللممماني دي تريسممي فردرمممك ) ‪ ( 1903-1821‬فممي أحممد مؤلفمماته ‪» :‬‬


‫مقولت أرسطاطاليس « عن عظمة السلم الدين السماوي ‪ ،‬مؤكداة صدق الرسول ‪ ،‬وأن من يقممول‬
‫غير ذلك مكابر يقلب الحقائق ‪ ،‬ومتهم بالبلدة الذهنية ‪ ،‬بل الحق الصراحا يتهم نفسممه بنفسممه ‪ ،‬يقممول‬
‫هذا النسان المنصف ‪:‬‬
‫)) إنا لو أنصفنا السلم لتبعا ما عنده من تعاليم وأحكام ‪ ،‬لن الكثير منها ليس في غيممره ‪ ،‬وقممد‬
‫زاده محمد نمواة وعظمة بحسن عنايته وعظيم إرادته ‪ ،‬ويظهر مممن محمممد أن دعموته لهممذا الممدين لممم‬
‫تكن ال عن سبب سماوي ‪ ،‬انا نقول هذا لو أنصفناه فيما دعا إليه ونادى بممه ‪ ،‬وإن مممن أتهممم محمممداة‬
‫بالكذب فليتيهم نفسه بالوهن والبلدة وعدم الوقوف على ما صدع به من حقائق (( ‪. 325‬‬

‫ويرى الباحث الستاذ ولز ‪ ،‬أن أسطع دليل على صدق الرسول يتمثل بإيمان أقرب المقربين إليممه‬
‫برسالة السلم حيث بشرهم بها ة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) قد أجمعوا على أن أنصع الدلة على صدقه كون أهلمه )أي النمبي ‪ (‬وأقمرب النمماس إليمه أول‬
‫من آمن به ‪ ،‬فقد كانوا مطلعين على جميع أسراره ‪ ،‬ولو أرتابوا في صدقه لما آمنوا به (( ‪. 326‬‬

‫يقول المفكر اللبناني شبلي شميل ) ‪ ( 1917-1860‬فممي إحممدى مقممالته الممتي نشممرها فممي مجلممة‬
‫المقتطف ‪:‬‬
‫)) لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يص غي لما يظن من أن‬
‫دين السلم كذب ‪ ،‬وأن محمداة خداع مزور ‪ ،‬وآن لنمما أن نحممارب ممما يشمماع مممن مثممل هممذه القمموال‬
‫السخيفة المخجلة ‪ ،‬فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير ((‪. 327‬‬

‫أما المستشرق السوجي كازانوفا )‪ ( 1903_ 1837‬فقد كتب في مؤلفه ‪ :‬حضممارة الشممرق ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬
‫)) يهمني أن أجهر أولة بأني ل أسلم أصلة بكممل نظريممة يفهممم منهمما الريممب بصممدق محمممد ‪ ،‬وان‬
‫سيرة النبي العربي من بدايتها إلى نهايتا تدل على أنه ثبت رصين أمين ‪ ،‬ل مناص من القمرار بمأن‬

‫ديسون ‪ :‬الحياة و الشرائع‪.‬‬ ‫‪324‬‬

‫ديترسإي فردريك ‪ :‬مقولت أرسإطاطاليس ‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪325‬‬

‫ولز )نقل عن كتاب النبي الحق(‪.‬‬ ‫‪326‬‬

‫شبلي شميل ‪ ،‬مجلة المقتطف مجلد ‪ ، 7‬عدد ‪.6‬‬ ‫‪327‬‬


‫‪164‬‬

‫محمداة كان على ذكاء عظيم (( ‪. 328‬‬

‫حقيقه الوحي‬
‫وذهب المستشرق السوجي رودلف دوتوراك ) ‪_ 1852‬مم ‪ ( 1920‬أستاذ اللغات الشرقية فممي‬
‫جامعة براغ ‪ ،‬الذي ترجم حياة أبي فراس الحمدانى ودرس شعره ‪ ،‬في مؤلفه هذا ‪ ،‬إلى تأكيد صدق‬
‫النبوة ‪ ،‬ونزول الوحي على النبي محمد ‪ ‬من السماء ‪ ،‬بالشريعة السلمية التي هي خلصة الكمال‬
‫الفكري ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) ومما ل ريب فيه ‪ ،‬أن محمداة نبي العرب كان يتحدث إلى الناس عن وحى مممن السممماء ‪ ،‬لنممه‬
‫أتى إلى العالم بدعوة من ورائها المعجزات واليات ‪ ،‬وهي أعظم شاهد على مدعاه ‪ ،‬ول يجمموز لنمما‬
‫أن نفند أراءه ‪ ،‬بعد أن كانت أيات الصدق باديممة عليهمما ‪ ،‬فهممو نممبي حممق ‪ ،‬وأولممى بممه أن يتبممع ‪ ،‬ول‬
‫يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بالسوء ‪ ،‬لنها مجموعمة كممالت إلمى النماس عاممة ((‬
‫‪. 329‬‬

‫ويؤكد المستشرق الفرنسي الكونت هنرى دى كاستري ) ‪ ( 1915-1853‬في كتابه ‪ » :‬السلم‬


‫« أن صدق الرسول نابع من صحة رسالته وعمق اقتناعه بها ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) ولسنا نحتاج في إثبات صدق ) محمممد ( إلممى أكممثرمن إثبممات أنممه كممان مقتنعمما ة بصممحة رسممالته‬
‫وحقيقة نبوته ‪ .‬أما الغرض من تلك الرسالة بالصل ‪ ،‬فهو إقامة إله واحد مقممام عبممادة الؤثممان الممتي‬
‫كانت عليها قبيلته مدة ظهوره (( ‪. 330‬‬

‫ويتابع الكونت هنري دي كاستري تأكيد صدق الرسول وصحة الرسالة ‪ ،‬بممأنه كممان أميمما ة ل يقممراة‬
‫ول يكتب ‪ ،‬وبأنه كان يتلقى الوحي من السماء ‪ ،‬ويرد على المتقولين على الرسممول بممأنه أخممذ فكممرة‬
‫التوحيد من مطالعته التوراة والنجيل ‪ ،‬كما يؤكد حقيقممة أن اليممات القرآنيممة ل يمكممن أن تكممون مممن‬
‫صنع البشر ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) ما كان يقراة ول يكتب ‪ ،‬بل كممان كممما وصممف نفسمه مممرارا _ نبيمما ة أميمما ة _ وهمو وصممف لممم‬
‫يعارضه فيه أحد من معاصريه ‪ .‬ول شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيممث ل‬
‫يعلمه الناس ‪ ،‬لن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان ‪ ،‬على أن القممراءة والكتابممة كممانت معدومممة فممي‬
‫ذلك الحين من تلك القطار ‪ .‬ولم يكن بمكة قارىء أو كاتب سمموى رجممل واحممد ذكممره جارسممين دي‬
‫تاسي في كتابه الذي طبعه سنة ‪ ، 1874‬كذلك من الخطا ة _مع معرفة أخلق الشرقيين _ أن يستدل‬
‫على معرفة النبي للقراة والكتابة باختيار السمميدة خديجممة ) رضممي اللممه عنهمما ( ‪ ،‬ايمماه لمتاجرهمما فممي‬
‫الشام ‪ ،‬ولم تكن لتعهد إليه بأعمالها إن كان جاهلة غير متعلم ‪ ،‬فإنا نشاهد بيممن تجممار كممل قمموم غيممر‬
‫العرب وكلء ل يقرأون و ل يكتبون ‪ ،‬و هم في الغالب اكثرهم امانة و صدقةا‪.‬‬

‫كازانوفا ‪ :‬حضارة الشرق ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪.23‬‬ ‫‪328‬‬

‫رودولف دوتوراك في مقدمة ترجمته حياة اباي فراس‪.‬‬ ‫‪329‬‬

‫هنري دي كاسإتري ‪ :‬السإلما ‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫‪330‬‬


‫‪165‬‬

‫أما فكممرة التوحيممد ‪ :‬فيسممتحيل أن يكممون هممذا العتقمماد وصممل إلممى النممبي ‪ ‬م ن مط العته الت وراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬إذ لو قرأ تلك الكتممب لردهمما ‪ ،‬لحتوائهمما علممى مممذهب التثليممث‪ ،‬وهمو منمماقض لفطرتممه ‪،‬‬
‫مخالف لوجدانه منذ خلقه ‪ ،‬فظهور هذا العتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهممر فممي حيمماته ‪،‬‬
‫وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته في نبوته ‪.‬‬

‫أما صدق الرسول وسمو رسالته ‪ ،‬فقممد أخممذ ‪ ،‬كممثير مممن رجممال الكنيسممة ومممن رجممال السممتعمار‬
‫يشككون فيها ‪ ،‬ورغم الوضوحا الصارخ فممي صممدق الرسممول وفممي سمممو الرسممالة السمملمية ‪ ،‬فممإن‬
‫رجال الدين من المسيحين ورجال الستعمار ل يزالون يبدئون ويعيممدون فممي تممرداد التشممكيك ‪ ،‬إلممى‬
‫هؤلء وأولئك يقول الكونت ‪:‬‬

‫والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك اليات عن رجل أمي ‪ ،‬وقد اعممترف الشممرق قاطبممة بأنهمما‬
‫آيات يعجز فكر بني النسان عن التيان بمثلها لفظا ة ومعنى ((‪. 331‬‬

‫آخر الرسل‬
‫أما المفكر لرثروب سودارد ‪ ،‬مقد رأى بثاقب بصيرته أن محمداة آخر الرسل وأنه جاء مقفيا ة على‬
‫آثارهم ‪ ،‬وان القرآن جاء مصدق للتوراة والنجيل معا ة ‪:‬‬

‫))فالعتقاد كل العتقاد بأنه ل إله إل ا ‪ .‬وبأن محمداة رسوله من لدنه ‪ ،‬كما أنزل في القرآن أن‬
‫محمداة قد جاء بالقرآن مصدق للتوراة والنجيل ‪ .‬وأنه خاتم النيين ‪ .‬بعث من قبله موسى وعيسممى ((‬
‫‪. 332‬‬

‫أممما المستشممرق الفرنسممي دي سمملن ممماك غمموين ) ‪_1810‬مم ‪ ، ( 1879‬الممذي وضممع فهممرس‬
‫المخطوطات الشرقية ‪ ،‬وترجمة لمقدمة ابن خلدون ‪ ،‬تناول فيها الرسول العربي في إطاره التاريخي‬
‫‪ ،‬والشريعة السلمية السمحاء ‪ ،‬فوجده متقدما ة على أقرانه من الرسممل ‪ ،‬ووجممد السمملم يتميممز عممن‬
‫باقي الشرائع ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إن العرب أمة تمتاز بكثير من الصفات ‪ ،‬ولهمما ديممن جممامع شممامل ‪ ،‬ل يعيبممه إل مممن يجهلممه ‪،‬‬
‫وصاحب دينهم محمد الفقير ‪ ،‬وقبل أن نعرف الدين يجب أن نعرف من أتممى بمه ‪ ،‬وحقمما ة أقممول ليمس‬
‫كمحمد في سلسلة النبياء‪ ،‬و ل كشريعته في سلسلة الشمرائع ‪ ،‬ل نبمالغ إذا قلنما إن محممداة خيمر ممن‬
‫أتى بشريعة ‪ ،‬ولقد وقف في وجه الطغاة من قريش‪ ،‬حتى أتم ما أراد ‪ ،‬وبلمغ منتهمى الطريمق المذي‬
‫سلكه وعمل له ‪ ،‬وإذا به وبشريعته يتمتعان بذكر عاطر وحديث حسن ‪ ،‬وليممس باسممتطاعتنا أن نممثير‬
‫عليمها غبار الأنتقاص ((‪. 333‬‬

‫ورأى المستشممرق اللممماني الممدكتور وايممل ) ‪ ( 1889-1818‬أسممتاذ اللغممات الشممرقية ومممدرس‬


‫العربية والسريانية في جامعة بمماريس ‪ ،‬ومممترجم أطبمماق الممذهب إلممى الفرنسممية ‪ ،‬رأى فممي الرسممول‬
‫هنري دي كاسإتري ‪ :‬السإلما ص ‪) 152‬نقل عن مقدمة محمد رسإول ا لتيين دينيه ‪ ،‬ص ‪.(16‬‬ ‫‪331‬‬

‫لوثروب سإتودارد ‪) :‬نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ‪ ،‬ص ‪.(44‬‬ ‫‪332‬‬

‫دي سإلن ماك غوين )في مقدمة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابان خلدون(‪.‬‬ ‫‪333‬‬
‫‪166‬‬

‫العربي مصلحا ة كبييا ة ‪ ،‬عظيما ة في شخصه ‪ ،‬كبيراة في دعوته ‪ ،‬قمينمما ة بممالحترام والتقممدير‪ ،‬وكممل مممن‬
‫تحامل عليه جاهل قدره ‪ ،‬يقول في كتابه ‪ » :‬تاريخ الخلفاء « ‪:‬‬

‫)) إن محمداة يستحق كل إعجابنا و تقديرنا كمصلح عظيم ‪ ،‬بل ويستحق أن يطلق عليه لقب النبي‬
‫‪ ،‬وأل يصفي إلى أقوال المغرضين وأراء المتعصبين ‪ ،‬فإن محمداة عظيم في دينممه وفممي شخصمميته ‪،‬‬
‫وكل من تحامل على محمد فقد جهله وغمطه حقه (( ‪. 334‬‬

‫بينممما وجممد غوسممتاف الثممالث السمموجي ) ‪_1746‬مم ‪ ( 1792‬أن السمملم ديممن حممري أن يتبممع‬
‫لبساطته كدين ‪ ،‬وسماحته كشريعة ‪ ،‬يقول في كتابه ‪ » :‬السلم في الحجاز « ‪:‬‬

‫)) إن الساس للدين السلمي بسيط جداة وهو _ل إله إل ا _ وأن محمممداة هممو الممذي أتممى بهممذه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬ول يوجد في هذه الحقيقة ما يصادم ويخالف علوم العصر الحممالي ‪ ،‬فحمري بهمذا المدين أن‬
‫يتبع (( ‪. 335‬‬

‫وقد درس بعض المستشرقين السلم فوجدوا ألة تعممارض بيممن وبيممن المسمميحية ‪ ،‬يقممول الممدكتور‬
‫ويلسن اليوغسلفي ) ‪ ( 1887_ 18 15‬في إحدى محاضراته ‪:‬‬

‫))ة إننا إذا لم نعتبر محمداة نبيا ة ‪ ،‬فلن نستطيع أن ننكر أنممه مرسممل مممن امم ‪ ،‬ذلممك أنممه ليممس هنمماك‬
‫غيره قد راحا يفسر المسيحية الولى تفسيراة رائعا ة صادق ‪ ،‬وأن دينه الذي جاء به ل يعارض الديانممة‬
‫المسيحية ‪ ،‬وكل ما جاء به حسن (( ‪. 336‬‬

‫ويتحدث المستشرق الكندي جيبممون )‪ ( 1827_ 1773‬فممي كتممابه ‪ " :‬محمممد فممي الشممرق" عممن‬
‫النبي محمد ورسالة السلم ‪ ،‬فيدفع كل الشكوك والظنون و القاويل التي تدور حول صدق الرسول‬
‫والرسالة ‪ ،‬ويعتبر أن أي اتهام يوجه إلى هذا الدين هو من قبيل الجهل أو التعصب يقول ‪:‬‬

‫)) إن دين محمد خال من الشكوك والظنون ‪ ،‬والقرآن أكبر دليل على وحدانيممة امم ‪ ،‬بعممد أن مممر‬
‫محمد عن عبادة الصنام والكواكب ‪ .‬وبالجملة فدين محمد أكبر من أن تدرك عقولنا الحالية أسممراره‬
‫‪ ،‬ومن يتهم محمداة أو دينه فإنما ذلك من سوء التدبير أو بدافع العصبية ‪ ،‬وخير ممما فممي النسممان أن‬
‫يكون معتدلة في آرائه ‪ ،‬ومستقيما ة في تصرفاته (( ‪. 337‬‬

‫بينما دعا المستشرق السباني إريك بنتام ) ‪ ( 1887_ 18 15‬في كتابه ‪ " :‬الحياة " إلى وقوف‬
‫المسيحيين والمسلمين على صعيد واحممد ‪ ،‬وفممي خنممدق واحممد ‪ ،‬ونبممذ العصممبية العميمماء والطممماع ‪،‬‬
‫وذلك لتأكيده أن المسلمين عميقو اليمان ‪ ،‬وأن السلم دين الخلق السامية الرشيدة ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))إن السلم وتعاليم الرسول الكريم _محممد_ قممد تأصملت فمي نفموس المسملمين ‪ ،‬وخلقمت فيهمم‬

‫د‪ .‬وايل ‪ :‬تاريخ الخلفاء‪.‬‬ ‫‪334‬‬

‫غوسإتاف الثالث ‪ :‬السإلما في الحجاز‪.‬‬ ‫‪335‬‬

‫ويلسن )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(97‬‬ ‫‪336‬‬

‫جيبون ‪ :‬محمد في الشرق ‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪337‬‬


‫‪167‬‬

‫مناعة ضد قبول المذاهب الدينية المسيحية ‪ ،‬وإن الخلف الجوهري بينها وبين السلم يعود إلى أنه‬
‫ل يرضى أن يشرك مع ربه أحد ‪ ،‬وأن دين السلم هو ديممن الوداعممة والوفمماء والصممدق والمانممة ‪،‬‬
‫وكل ما جاء به ل ينكره الذواق السليمة ‪ ،‬والعقول الناضجة لممذلك فإننمما لممو أنصممفنا أنفسممنا لوحممدنا‬
‫صفوفنا مع المسلمين ولنبذنا ما بنا من عصبية عمياء خلقها لنا ذوو الطماع ‪ ،‬وسنها لنا مممن دفعممت‬
‫به شهواته ‪ ،‬وفي النفس ما فيها من التأثر البالغ من تلكم الفوارق التي أثبتها الدين (( ‪. 338‬‬

‫وفي هذا المنطلق يقول العلمة وأستاذ علوم الكيمياء والفلك الفرنسي لمموزون ) ‪183_ 1786‬‬
‫‪ ( 7‬في كتابه ‪ » :‬ا في السماء ‪ « « ،‬مقارنا ة ما بين المديانتين السمماويتين الموسمموية والمحمديمة و‬
‫السلم ( وفرق مابينهما من النضواء العرقي ‪ ،‬والسماحة العالمية ‪:‬‬

‫)) وليس محمد نبي العرب وحدهم ‪ ،‬بل هو أفضل نبي قال بوحدانية امم ‪ ،‬وإن ديممن موسممى وإن‬
‫كان من الديان التي أساسها الوحدانية إل أنه كان قوميا ة محضا ة وخاصا ة ببني إسرائيل ‪ ،‬وأممما محمممد‬
‫فقد نشر دينه بقاعمدتيه الساسمميتين وهممما الوحدانيمة والبعممث ‪ ،‬وقممد أعلنمه العمموم البشمر فمي أنحمماء‬
‫المسكونة ‪ ،‬وإنه لعمل عظيم يتعلق بالنسانية جملة وتفصيلة عند من يدرك معنى رسالة محمد الممذي‬
‫اعتنق مبدأه ‪ ،‬وعمل على رسالته أربعمئة مليون مممن النمماس ‪ .‬فرسممول كهممذا الرسممول يجممدر باتبمماع‬
‫رسالته ‪ ،‬والمبادرة إلى اعتناق دعوته ‪ ،‬إذ أنها دعوة شريفة ‪ ،‬قوامها معرفة الخممالق ‪ ،‬والحممث علممى‬
‫الخير ‪ ،‬والردع عن المنكر ‪ ،‬بل كان ما جاء به يرمي إلى الصلحا والصمملحا ‪ ،‬والصمملحا أنشممودة‬
‫المؤمن ‪ ،‬هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى (( ‪. 339‬‬

‫أما الشاعر الفرنسي الكبير الفونس دي ل ممارتين فقممد أكممد فممي مممؤلفه ‪ » :‬رحلممة إلمى الشمرق «‬
‫صدق الرسول وصحة الرسالة ‪ ،‬وكشف عن جوانب من عظمة النبي محمد ودين السلم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))إن محمداة فوق البشر ودون الله ‪ ،‬فهو رسول بحكم العقل ‪ ،‬ودللت المعجزات تعضد ذلممك ‪،‬‬
‫وإن اللغز الذي حله محمد في دعوته فكشف فيها ع ن القيمم الروحيمة ‪ ،‬ثمم قمدمها لممة العمرب دينما ة‬
‫سماويا ة ‪ ،‬وسرعان ما اعتنقوه ‪ ،‬هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر (( ‪. 340‬‬

‫هذا ‪ ،‬وفي ختام مبحثنا عن الرسول في الدراسات الستشراقية المنصفة ‪ ،‬نرى أن أقوال البمماحث‬
‫النكليزي توماس كارليل عن صدق الرسول والرسالة ‪ ،‬بما حوته من دفاع حار ‪ ،‬وعقلنيممة واعيممة‬
‫‪ ،‬وشمماعرية جميلممة ‪ ،‬تشممكل خيممر رد علممى مختلممف أراجيممف وادعمماءات البمماحثين والمستشممرقين‬
‫المغرضين ‪ ،‬وأنارت السبيل أمام كل ناشد معرفة ‪:‬‬

‫» لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر ‪ ،‬أن يصغي إلممى ممما يظممن‬
‫من أن دين السلم كذب ‪ ،‬وأن محمداة خممداع مممزور ‪ ،‬وآن لنمما أن نحممارب ممما يشمماع مممن مثممل هممذه‬
‫القوال السخيفة المخجلة ‪ ،‬فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ممما زالممت السممراج المنيممر مممدة اثنممي‬
‫عشر قرنا ة لنحو مئتي مليون من الناس أمثالنمما خلقهممم امم الممذي خلقنمما ‪ ،‬أفكممان أحممدكم يظممن أن هممذه‬
‫الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه المليين الفائتة الحصر والحصار أكذوبة وخدعة ؟ أما أنمما‬

‫اريك بانتاما ‪ :‬الحياة‪.‬‬ ‫‪338‬‬

‫لوزون ‪ :‬ا في السماء‪.‬‬ ‫‪339‬‬

‫لمارتين ‪ :‬رحلة الى الشرق ‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪340‬‬


‫‪168‬‬

‫فل أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداة ‪ ،‬ولو أن الكممذب والغممش يروجممان عنممد خلممق امم هممذا الممرواج ‪،‬‬
‫ويصادفان منهم مثل ذلك التصمديق والقبمول ‪ ،‬فمما النماس إل بلمه ومجمانين ‪ ،‬ومما الحيمماة إل سممخف‬
‫وعبث ‪ ،‬وأضلولة كان أول بها أن ل تخلق ‪.‬‬

‫فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم ‪ ،‬وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة ‪ .‬وبعد ‪ ،‬فعلى من‬
‫أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات ‪ ،‬أن ل يصدق شيئا ة البتة من أقمموال أولئممك السممفهاء ‪ ،‬فإنهمما‬
‫ننتائج جيل كفر ‪ ،‬وعصر جحود وإلحاد ‪ ،‬وهي دليل على خبث القلوب ‪ ،‬وفسمماد الضمممائر ‪ ،‬وممموت‬
‫الرواحا في حياة البدان ‪ ،‬ولعل العالم لم ير قط رأيا ة أكفممر ممن هممذا وألم ‪ ،‬وهممل رأيتممم قممط معشممر‬
‫الخوان أن رجلة كاذبا ة يستطيع أن يوجد دينا ة وينشره‪.‬‬

‫عجبا ة والله ! إن الرجل الكاذب ل يقدر أن يبني بيتا ة من الطوب ‪ ،‬فهو إذا لم يكن عليما بخصائص‬
‫الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فممما ذلمك الممذي يبنيممه بمبيت ‪ ،‬وإنمما همو تمل ممن النقمماض ‪،‬‬
‫وكثيب من أخلط المواد ‪ .‬نعم ‪ ،‬وليس جديراة أن يبقمى علممى دعمائمه اثنمي عشمر قرنما ة يسممكنه مائتمما‬
‫مليون من النفس ‪ ،‬ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم كأنه لم يكن ‪ .‬وإني لعلم أنه على المرء أن‬
‫يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة ‪ ،‬وإل أبت أن تجيب طلبه وتعطيه بغيته ‪.‬‬

‫كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار ‪ ،‬وإن زخرفوه حتى خيلوه حقا ة ‪ ،‬وزور وباطل وإن زينوه حتى‬
‫أوهموه صدق ‪ ،‬ومحنة والله ومصاب أن ينخاع الناس شعوبا ة وأمما ة بهذه الضاليل ‪ ،‬وتسممود الكذبممة‬
‫و تقود بهاتيك الباطيل ‪ .‬وإنما كما ذكرت لكم من قبيل الوراق المالية المزورة ‪ ،‬يحتال لها الكممذاب‬
‫حممتى يخرجهمما مممن كفممه الثيمممة ‪ ،‬ويحيممق مصممابها بممالغير ل بممه ‪ ،‬وأي مصمماب وأبيكممم ؟ مصمماب‬
‫كمصاب الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن تصيح بملء أفواهها ‪ " :‬هذه الوراق كاذبممة "‬
‫أما الرجل الكبير خاصة ‪ ،‬فإني أقول عنه يقينا ة إنه من المحممال أن يكممون كاذبمما ة ‪ ،‬فممإني أرى الصممدق‬
‫أساسه وأساس كل ما به من فضل ومحمدة ‪ ،‬وعندي أنه ما من رجممل كممبير ‪ ،‬ميرابممو أو نممابليون أو‬
‫بارنز ‪ ،‬أو كرمويل ‪ ،‬كفء للقيام بعمل ما ‪ ،‬إل وكان الصدق والخلص وحب الخيممر أول باعثمماته‬
‫على محاولة ما يحاول ‪ ،‬أعني أنه رجل صادق النية ‪ ،‬جاد مخلص قبل كممل شمميء ‪ ،‬بممل أقممول ‪ :‬إن‬
‫الخلص _الخلص الحر العميق الكبير_ هو أول خممواص الرجممل العضمميم كيفممما كممان ‪ .‬ل أريممد‬
‫إخلص ذلك الرجل الذي ليبرحا يفتخر للناس بإخلصه ‪ ،‬كل فإن هذا حقير جممداة وأيممم واللممه ‪ ،‬هممذا‬
‫إخلص سطحي وقح ‪ ،‬وهمو علممى الغمالب غمرور وفتنمة ‪ ،‬إنمما إخلص الرجمل الكممبير همو مممما ل‬
‫يسممتطيع أن يتحممدث بممه صمماحبه ‪ ،‬كل‪ ،‬ول يشممعر بمه بممل لحسممب أنمه ربممما شممعر مممن نفسممه بعممدم‬
‫اخلص‪ ،‬إذ أين ذاك الذي يستطيع أن يلزم منهج الحق يوما ة واحدأ؟‪.‬‬

‫نعم إن الرجل الكبير ل يفخر بإخلصه قط ‪ ،‬بل هو ل يسأل نفسه أهي مخلصة أو بعبارة أخممرى‬
‫أقول إن إخلصه غير متوقف على إرادته ‪ ،‬فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لممم يممرد‬
‫‪ ،‬فهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله ‪ ،‬حقيقة ل يستطيع أن يهرب من جللها الباهر مهما‬
‫حاول ‪ .‬هكذا خلق ال ذهنه ‪ ،‬وخلقة ذهنه على هذه الصورة هي أولى أسممباب عظمتممه ‪ ،‬وهممو يممرى‬
‫الكون مدهشا ة ومخيفا ة وحقا ة كالموت وحقا ة كالحياة ‪ ،‬وهمذه الحقيقمة ل تفمارقه أبمداة وإن فمارقت معظمم‬
‫الناس فساروا على غير هدى وخطوا في غياهب الضلل والعماية ‪ ،‬بل تظل هذه الحقيقة كل لحظممة‬
‫بين جنبيه ونصب عينيه ‪ ،‬كأنها مكتوبة بحروف مممن اللهممب ل شممك فيهمما ول ريممب ‪ .‬همما هممي ‪ ،‬همما‬
‫هي ‪ ،‬فاعرفوا هداكم ا أن هذه أولى صفات العظيم ‪ ،‬وهذا وحده الجوهري و تعريفممه ‪ ،‬وقممد توجممد‬
‫هذه في الرجل الصغير فهي جديرة أن توجد في نفس كل إنسان خلقه ال ‪ ،‬ولكنها من لموازم الرجمل‬
‫‪169‬‬

‫العظيم ‪ ،‬ول يكون الرجل عظيما ة إل بها ‪.‬‬

‫مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجل أصليا ة صافي الجوهر ‪ ،‬كريم العنصر فهو رسممول مبعمموث‬
‫من البدية المجهولة برسالة إلينا ‪ .‬فقد نسميه شاعراة أو نبيا ة أو إلها ة ‪ ،‬وسواء هذا أو ذاك أو ذلممك فقممد‬
‫نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره ‪ ،‬ولكنه صادر من لباب حقائق الشممياء ‪ .‬نعممم ‪ ،‬هممو يممرى‬
‫باطن كل شيء ل يحجب عنه ذلك باطل الصطلحات ‪ ،‬وكاذب العتبارات والعممادات والمعتقممدات‬
‫وسخيف الوهام والراء ‪ ،‬وكيف ‪. .‬؟ وإن الحقيقة تسمطع لعينمه حمتى يكماد يعشمي لنورهما ‪ ،‬ثمم إذا‬
‫نظرت إلى كلمات العظيم شاعراة كمان أو فيلسمموفا ة أو نبيما ة أو فارسمما ة أو ملكما ة ‪ ،‬أل تراهمما ضمربا ة مممن‬
‫الوحى ؟ والرجل العظيم في نظرى لمخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون ‪ ،‬فهو جممزء مممن الحقممائق‬
‫الجوهرية للشياء ‪ ،‬وقد دل ال على وجوده بعدة آيات ‪ ،‬أرى أن أحدثها وأجدها هممو الرجممل العظيممم‬
‫الذي علمه ال العلم والحكمة ‪ ،‬فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء ‪. . .‬‬

‫وعلى ذلك فلسنا نعد محمداة هذا قط رجلة كاذبمما ة متمنعمما ة يتممذرع بالحيممل والوسممائل إلممى بغيممة ‪ ،‬أو‬
‫يطمح إلى درجة ملك أو سطان ‪ ،‬أو غير ذلك من الحقائق والصممفائر ‪ .‬وممما الرسممالة الممتي أداهمما إل‬
‫حق صراحا ‪ ،‬وما كلمته إل صوت صادق صادر من العالم المجهول ‪ .‬كل ‪ ،‬ممما محممد بالكمماذب ول‬
‫الملفق ‪ ،‬وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة ‪ ،‬فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع‬
‫‪ .‬ذلك أمر ا ‪ ،‬وذلك فضل ا يؤتيه من يشاء ‪ ،‬واللمه ذو الفضمل العظيمم ‪ ،‬وهمذه حقيقمة تمدمغ كمل‬
‫باطل وتدحض حجة القوم الكانوين (( ‪.341‬‬

‫توماس كارليل ‪ :‬الباطال ‪ ،‬ص ‪.61-58‬‬ ‫‪341‬‬


‫‪170‬‬

‫الباب الثاني‬
‫الرسول وأ رسالة الصلح‬
‫في مبحث الرسول والقيادة الدينية ‪ ،‬تناولنا الصلحا الديني الذي قام به ‪ ‬بنقل جزيرة العرب من‬
‫الوثنية إلى الوحدانية ‪ . . .‬وفي مبحثنا هذا سنتناول جوانب أخرى من الصمملحا وخاصممة ممما يتعلممق‬
‫منها بجانبها الجتماعي ‪.‬‬

‫السلم وأالنقلب الجتماعي‬


‫لقد كانت الدعوة السلمية التي حملها النبي الكبير ‪ ‬انقلبا ة اجتماعيا ة دك أسس المجتمممع القممديم ‪،‬‬
‫المحكوم حسب العراف القبلية ‪ ،‬فكانت معجزة الحركة الصلحية الكبرى ماثلة فممي توحيممد شممتات‬
‫القبائل وصهرها بتلك الكتلة النسانية المتراصة في وحدة اجتماعية جديممدة‪ ،‬وكممانت مممن العمممق فممي‬
‫أبعادها النسانية إعجازاة حقا ة وصفه السير وليم موير في كتابه ‪" :‬حياة محمد" بقوله ‪:‬‬

‫))لم يكن الصلحا أعسر ول أبعد منالة منه وقت ظهمور محممد ‪ ،‬ول نعلمم نجاحما ة وإصملحا ة تمم‬
‫كالذي و تركه عند وفاته (( ‪. 342‬‬

‫عظمة الصلح في صلح المجتمع‬


‫إن عظمة الصلحا السلمي في تحقيق الخيممر كممل الخيممر للمجتمممع العربممي‪ ،‬فممي شممبه الجزيممرة‬
‫أولة ‪ ،‬والشعوب السلمية ثانيا ة ‪ ،‬تمثل منارة خير وهدى للنسانية جمعاء ‪...‬‬

‫وقد بحث المستشممرق الفرنسممي العلمممة كمماردي فممو ) ‪ (1925 - 1969‬فممي مممؤلفه ‪" :‬مفكممرو‬
‫السلم " في طبيعة ذلك الصلحا والنجاز الذي حققه حين نقل العرب من الجاهليممة إلممى مشممارق‬
‫أنوار رسالة السلم فكانت رسالة الرقي والحضارة والتمدين ‪ ،‬يقول كاردي فو ‪:‬‬

‫)) لقد كان العرب في جاهليتهم يرتكبون الجرائم ‪ ،‬ويفعلون المنكرات ‪ ،‬ويتخبطون في ضللتهم‬
‫‪ ،‬حتى جاء رجل منهم اسمه _محمد_ فحاربهم لستئصال هذه العادات الموبوءة ‪ ،‬و دعاهم إلى دين‬
‫جديد ومبادئ قويمة ‪ ،‬فوحد صفوفهم وأصلح أمورهم وإذا بالعرب أمة لها شأنها ولها كيانها حضارة‬
‫وثقافة ‪ ،‬وتم لمحمد ما كان يريده منهم من اسمتاع أقواله واتخاذ آرائه ‪ ،‬وإذا ديممن محمممد فممي طليعممة‬
‫الديان السماوية رقيا ة وعظمة وحضارة ((‪. 343‬‬
‫وليم موير ‪ :‬حياة محمد )نقل عن كتاب عبد الرحمن عزاما ‪ ،‬باطل الباطال ‪ ،‬ص ‪.(11‬‬ ‫‪342‬‬

‫كاردي فو ‪ :‬مفكرو السإلما‪.‬‬ ‫‪343‬‬


‫‪171‬‬

‫دين الحق وأ الخير‬


‫أما الباحث النكليزي المستشرق روبرت اسميث ) ‪ ( 1901 _ 1856‬فتحدث بدوره عن الواقع‬
‫الجتماعي لعرب الجاهلية المذين اتسممموا بفظاظمة الطبمع ‪ ،‬وخشمونة الخلمق ‪ ،‬يعيشممون حيماة القبليمة‬
‫المتناحرة ‪ ،‬ديدنهم الغزو والنهب والقتل ‪ ،‬فكان السلم رسالة خير جاءت لصمملحا مجتمممع فاسممد ‪،‬‬
‫قال هذا الباحث ‪:‬‬

‫)) لقد كان العرب قبل السلم على جانب من الغلظة والخشونة ‪ ،‬ويعيشون عن طريممق الغممزو ‪،‬‬
‫و قد نزعت الرحمة من صدورهم ‪ ،‬وكانوا يعبدون الصنام ‪ ،‬ولكل قبيلممة صممنم حممتى جمعمموا فممي‬
‫كعبتهم ثلثمئة وستين صنما ة ‪ ،‬وجمماء _محمممد_ فممي أواخممر القممرن السممادس فممدعاهم إلممى السمملم ‪،‬‬
‫وأعلن أنه ل يجوز أن تتخذوا أصنامكم أربابا ة من دون ا ‪ ،‬وكان محمد علممى خلممق عظيممم فمماتبعوه‬
‫بعد أن لقى منهم الذى ‪ ،‬حيث دعاهم إلى دينه القويم وعرفوا أنه دين ل يصممادم الخيممر والنسممانية‬
‫وأنه جاء لصلحا المجتمع (( ‪. 344‬‬

‫ويبحث المستشرق إدوار لين بدوره ‪ ،‬واقع الحياة الجاهلية وما حوته من عادات مخالفممة للشممرائع‬
‫السماوية ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إنا ل ننكر أن العرب وإن كانت المية هي الغالبة فيهم ‪ ،‬إل أنهم على جانب من المذكاء ‪ ،‬وأن‬
‫أحدهم يحيد نظم الشعر ونثر الكلم ‪ ،‬وهممو أمممي عمماش فممي الباديممة ‪ ،‬وأن لهممم عممادات قبممل السمملم‬
‫يعكفون عليها ‪ ،‬من عبادة الصنام ‪ ،‬ووأد البنات ‪ ،‬والغزو وغير ذلك ‪ ،‬ولكن جاء السلم بواسمطة‬
‫محمد النبي العربي فمنعهم من ذلك ‪ ،‬وما زال يدعوهم إلممى دينممه وهممو عبممادة امم حممتى أحمماطوا بممه‬
‫وصدقوه ‪ ،‬وتركوا ما كان لديهم من عادات تأباها الشرائع السماوية (( ‪. 345‬‬

‫الرسول أعظم المحسنين‬


‫وأما الباحث الفرنسي إدوار مونتيه فعممد رسمول السمملم أعظممم المحسممنين للبشممرية ‪ ،‬حيمن أنهممي‬
‫مسألة الضاحي البشرية ‪ ،‬ووأد البنات وسواها من العادات الذميمة « يقول ‪:‬‬

‫)) لقد منع محمد الذبائح البشرية ووأد البنات والخممر والميسممر ‪ ،‬وكمان لهمذه الصملحات تمأثير‬
‫غير متناه في الخلق ‪ ،‬بحيث يجب أن يعد محمممد فممي صمف أعماظم المحسممنين للبشممرية وأن النقيمماد‬
‫لرادة ا تتجلى في محمد والقرآن بقوة ل تعرفها النصرانية ((‪. 346‬‬

‫هذا ‪ ،‬ولقد حقق السلم للمرأة قفزة نوعية في شأنها الجتماعي الحقمموقي ‪ ،‬متقدمممة علممى واقممع‬

‫روبارت اسإمث ‪ :‬احوال العرب قبل السإلما و باعده ‪ ،‬ص ‪.18-17‬‬ ‫‪344‬‬

‫ادوارد لين ‪ :‬اخلق و عادات المصرين المعاصرين ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪345‬‬

‫ادوارد مونتيه ‪ :‬حاضر السإلما و مستقبله‪.‬‬ ‫‪346‬‬


‫‪172‬‬

‫المرأة في النظمة الفرية ‪ ،‬يقول غوستاف لوبون ‪:‬‬

‫)) والسلم قد رفع حال المرأة الجتماعيممة وشممأنها رفعمما ة عظيممما ة ‪ ،‬بممدلة مممن خفضممهما ‪ ،‬خلفمما ة‬
‫للمزاعم المكررة على غير هدى ‪ ،‬والقرآن قد منح المرأة حقوق ارثيه أحسن مممما فممي أكممثر قوانيننمما‬
‫الوروبية (( ‪. 347‬‬

‫المعلم الكبر وأالمصلح العظم‬


‫كان الرسول المعلم الكبير والمصلح العظم لبناء العروبة ‪ ،‬علمهم الحياة ‪ ،‬فأصلح شؤونهم بعممد‬
‫فساد ‪ ،‬ووحد كلمتهم بعد تفرقة ‪ ،‬يقول المستشرق الهولندي وث ) ‪ (1899 _ 1814‬في كتابه ‪» :‬‬
‫محمد والقرآن « ‪:‬‬

‫)) لقد جاء قرآن العرب على لسان نبيهم محمد العظيم ‪ ،‬وعلمهم كيف يعيشون فممي هممذه الحيمماة ‪،‬‬
‫وقد وحد صفوفهم وجمع كلمتهم وأدبهم حتى ل ترى أمة من المم أحسن منهمم ‪ ،‬وبالنهايمة اعتمممدوه‬
‫في كل أمورهم ‪ ،‬وكان يتلقى الوحي من ربه الذي يوحي إليه ‪ ،‬ثم ينقله إلى الناس ‪ ،‬بعد أن يكتبه لممه‬
‫الكتاب الذين انتدبهم لذلك (( ‪. 348‬‬

‫جوانب الصلح المتعددة‬


‫إن الحركة الصلحية التي قام بها الرسول متعددة الجمموانب ‪ ،‬اجتماعيمما ة وسياسمميا ة ودينيمما ة وثقافيمما ة‬
‫وحضاريا ة ‪ ،‬لقد كان العهد السلمي الذي بداة مع إقامة أول دولة إسلمية بقيادته في المدينة ‪ ،‬فاتحممة‬
‫عهد جديد ‪ :‬عهد علم ونور وخروج من الجهل والظلمات ‪ ،‬يقول الدكتور ماركس ‪:‬‬

‫)) هذا النبي الذي افتتح برسالته عصر العلم والنور والمعرفة ل بد أن تدون أقواله وأفعمماله علممى‬
‫طريقة علمية خاصة ‪ ،‬وبما أن هذه التعاليم التي قال بها ) يعنى النبي محمد ( هي وحي امم المنممزل‬
‫ورسالته ‪ ،‬فقد كان عليه أن يمحو ما تراكم على الرسالت السابقة من التبديل والتحوير ‪ ،‬وما أدخلممه‬
‫عليها الجهل من سخافات ل يعول عليها عاقل (( ‪. 349‬‬

‫عظمة الصلح السلمي‬


‫إن عظمة الصلحا الذي حققه الرسول ‪ ،‬أنه تم في مدة وجيزة ‪ ،‬يبتدئ مع السنة الولممى للهجممرة‬
‫حتى وفاته في السنة العاشرة منها ‪ ،‬فكان إنجممازه إعجازيمما ة خلل هممذا العقممد الممذي أمضمماه مناضمملة‬
‫حتى لقائه الرفيق العلى ‪ ،‬يتحدث بندلي عن سعة هذا الصلحا وعمقه يقول ‪:‬‬

‫غوسإتاف لوباون ‪) :‬نقل عن السإلما باين النصاف و الجحود(‪.‬‬ ‫‪347‬‬

‫وث ‪ :‬محمد والقران ‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫‪348‬‬

‫دكتور ماركس ‪) :‬نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ‪ ،‬ص ‪.(40‬‬ ‫‪349‬‬
‫‪173‬‬

‫)) إنا لو بحثنا عما تم على يد النبي المي محمد من الصلحا ‪ ،‬لما اسممتطعنا أن ننكممر أنممه أنجممز‬
‫أكثر وعوده ‪ ،‬وحقق قسما ة كبيراة من أمانيه ‪ ،‬ولو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش ‪ ،‬لكممان الإصمملحا‬
‫الذي أدخله على حياة المة العربية أتم وأوسع ‪ ،‬وممع ذلممك فممإن عملمه المذي عملمه فمي هممذه السممنين‬
‫القلئل التي قضاها فممي المدينممة بيممن الحممروب والمنافسممات الشخصممية والدسممائس والحممرب والمكممر‬
‫والنفاق لهو شيء عظيم ل ينكره إل مكابر عنيد أو متعصب أعمى(( ‪.350‬‬

‫المسألة الجتماعية في السلم‬


‫لقد تناول السلم مختلف شؤون الحياة الجتماعية ‪ ،‬آخذاة بعين العتبار سمملحا النسممان ورقيممه ‪،‬‬
‫فكان أن نظر إلى مرفوع المساواة والخاء ‪ ،‬ونظمه في إطار حقوق وواجبات ‪ ،‬يقول ليورودتن ‪:‬‬

‫)) وتد وجدت في السلم حد المسألتين الجتماعيتين اللتين تشغلن العالم طممراة‪ ،‬الول فممي قممول‬
‫القرآن ‪  :‬إنما المؤمنون إخوة ‪ ، ‬والثانية ‪ ،‬فرض الزكاة ‪ ،‬وتخويممل الفقممراء حممق أخممذها إذا امتنممع‬
‫الغنياء من دفعها طوعا (( ‪.351‬‬

‫إن اهتمممام الرسممالة السمملمية بالقضممايا الجتماعيممة وإيجمماد الحلممول الناجحممة للمشمماكل القائمممة‪،‬‬
‫وتحقيق إصلحا المجتمع وصلحه ترتبط بالسلم ليس مجرد دين وحسب ‪ ،‬بل لكونه دينمما ة ودولممة ‪،‬‬
‫فمن جهة ‪ ،‬نظم علقة النسان بخالقه عن طريق العبادات التي أكممدت علممى مبممدأ الوحدانيممة ‪ ،‬ومممن‬
‫جهة ثانية نظم الحياة الاجتماعية النسانية في إطار نظام سياسي أقامه ‪ ،‬وتنظيممم اجتممماعي أوجممده ‪،‬‬
‫ناهضين على أركان الشورى السلمية والعدالة والمساواة والحرية ‪ ،‬يقول الدكتور شاخت ‪:‬‬

‫)) إن السلم يعني أكثر من دين ‪ ،‬إنه يمثل نظريات قانونية ‪ ،‬وسياسية ل وجملة القول إنه نظام‬
‫كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معا ة (( ‪. 352‬‬

‫والعلقة بين الدين والنظام السمملميين علقممة عضمموية ‪ ،‬مؤسسممة علىوحممدة متماسممكة ل تنفصممم‬
‫عراها « وقد غدت مرتكزاة للتفكير السلمي ‪ ،‬يقول الدكتور فتز جيرالد ‪:‬‬

‫))ليس السلم دينا ة فحسب ‪ ،‬ولكنه نظام سياسي أيضا ة ‪ ،‬ورغم أنه ظهر في العهممد الخيممر بعممض‬
‫أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين ‪ ،‬فإن صرحا‬
‫التفكير السلمي كله قد بني على أساس أن الجانبين‬
‫‪353‬‬
‫‪.‬‬ ‫متلزمان ل يمكن فصل أحدهما عن الخر ((‬

‫باندلي جوزي ‪ :‬الجاهلية والسإلما ‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫‪350‬‬

‫ليورودتن ‪) :‬نقل عن كتاب قالوا في السإلما(‪.‬‬ ‫‪351‬‬

‫شاخت ‪) :‬نقلة عن كتاب النظام السياسي في السلم ‪ ،‬ص ‪.(14‬‬ ‫‪352‬‬

‫المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪353‬‬


‫‪174‬‬

‫فالسمملم كممدين ودولممة حقممق صمملحا المجتمممع النسمماني ‪ ،‬يقممول البمماحث النكليممزي المستشممرق‬
‫مونتجمري وات ‪:‬‬

‫)) ويمكن اعتبار رسالة محمد على أنها بناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي علممى أسممس دينيمة‬
‫(( ‪. 354‬‬

‫الرسول وأإحياء الخلق الحميدة وأالفضائل الحسنة‬


‫ويتحدث الكبير النكليزي المستشرق السير وليم ممموير‪ ،‬عممن النجممازالعظيم الممذي حققممه النممبي ‪‬‬
‫يقول ‪:‬‬ ‫فاستطاع تبديل القيم القديمة المهترئة بقيم جديدة فاضلة في تلك المرحلة الوجيزة‬

‫)) امتاز محمد بوضوحا كلمه ‪ ،‬ويسر دينه ‪ ،‬وأنه أتم من العمال ما أدهممش اللبمماب ‪ ،‬لممم يشممهد‬
‫التاريخ مصلحا ة أيقظ النفوس وأحيا الخلق الحسنة ‪ ،‬ورفع شأن الفضيلة في زمن قصممير كممما فعممل‬
‫محمد (( ‪. 355‬‬

‫كما حلل رئيس وزراء الهنمد السممبق جمواهر لل نهممرو ‪ ،‬كيمف أن محمممداة خلمق أممة ‪ ،‬بحركتممه‬
‫الصلحية ‪ ،‬وأقام برسالته مدينة زاهرة وحضارة راقية ‪ ،‬ليخلص إلى القول ‪:‬‬

‫)) كان محمد واثقا ة بنفسه ورسالته ‪ .‬وقد هيا ة بهذه الثقة وهذا اليمان لمته أسباب القمموة والعممزة و‬
‫المنعة (( ‪.356‬‬

‫بداية عصر النور وأالعلم وأالمعرفة‬


‫لقد افتتح الرسول حسب رأي العديد من المستشرقين عهداة جديداة ‪،‬وعصراة للنور والعلم والمعرفة‬
‫‪ ،‬فكان نضاله حين صدع بالوحي ‪ ،‬لنشر رسالت ربه ‪ ،‬لزالة مما تراكمم فمي ذلمك المجتممع القبلمي‬
‫الوثني مممن معتقممدات باليممة ‪ ،‬وأنممماط اجتماعيممة متخلفممة ‪ ،‬بممل وأن يزيممل ممما تراكممم علممى الرسممالت‬
‫السماوية السابقة ‪ ،‬ممما لحمق بهما ممن تبمديل وتحموير ‪ ،‬ومما أدخلممه الجهلء ممن خرافمات وسممخافات‬
‫يدحضها العقل ‪ ،‬ول تثبت أمام الحقائق ‪ . .‬وهذا ما دفع بالمفكر الفرنسي الكبير أحد عمالقة فلسممفة‬
‫الجتممماع العلمممة غوسممتاف لوبممون )‪ (1931-1841‬إلممى أن يممدعو أبنمماء عصممره إلممى القتممداء‬
‫بالرسول الكريم ‪ ،‬واعتناق دعوته لن فيها صلحا المجتمعات النسانية ‪ ،‬يقول في كتابه "الحضممارة‬
‫السلمية" ‪:‬‬

‫)) أنني ل أدعو إلى بدعة محدثة ‪ ،‬ول إلى ضللة مستهجنة ‪ ،‬بل إلى دين عربي قدم أوحمماه امم‬
‫إلى نبيه محمد فكان أمينا ة على بث دعوته بين قبائل رحل تلهت بعبادة الحجار والصممنام ‪ ،‬وتلممذذت‬
‫بترهات الجاهلية ‪ ،‬فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة ‪ ،‬ووحد كلمتم بعد أن كانت متفرقممة ‪ ،‬ووجممه‬

‫مونتجمري وات ‪ :‬محمد في المدينة ‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪354‬‬

‫وليم موير ‪ :‬حياة محمد ‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪355‬‬

‫نقل عن كتاب التكامل في السلم ‪ ،‬ج ‪ ،3‬مر ‪35‬‬ ‫‪356‬‬


‫‪175‬‬

‫أنظارهم لعبادة الخالق ‪ ،‬فكان خير البرية على الطلق حبا ة ونسبا ة وزعامة ونبمموة ‪ ،‬هممذا هممو محمممد‬
‫الذي اعتق شريعته أربعمئة مليون مسلم ‪ ،‬منتشرين في أنحاء المعمورة ‪ ،‬يرتلون قرآنا ة عربيمما ة مبينمما ة‬
‫_إلى أن قال _‪:‬‬

‫فرسول كهذا جدير باتباع رسالته ‪ ،‬والمبادرة إلى اعتناق دعوته ‪ ،‬إذ أنها دعمموة شممريفة ‪ ،‬قوامهمما‬
‫معرفة الخالق ‪ ،‬والحض على الخير والردع عن المنكر ‪ ،‬بل كل ما جاء فيها ما يرمي إلى الصمملحا‬
‫والصلحا ‪ ،‬والصلحا أنشودة المؤمن ‪ ،‬وهو الذي أدعو إليه جميع النصارى (( ‪. 357‬‬

‫الروأح الصلحي السلمي وأالمجتمعات المعاصرة‬


‫ومن هذا المنطلق ‪ ،‬دعا رئيس الجامعة المريكية في بيروت الممدكتور بيممردج عممام ‪ . 1923‬فممي‬
‫ذكرى المولممد النبمموي ‪ ،‬إلممى اسممتيعاب مبممادئ الرسممالة السمملمية ‪ ،‬لصمملحا المجتمعممات المتخلفمة‬
‫بقوله ‪:‬‬

‫))إنك تجتمعون اليوم محتفلين بمولد مصلح عظيم ‪ ،‬أل وهو النبي محمد ‪ ،‬فهممل لكممم أن تتشممربوا‬
‫من روحا الصلحا الذي يحمله محمممد ‪ ،‬فتخرجمموا لصمملحا مجتمممع ملممؤه الجهممل و الضممطراب ((‬
‫‪. 358‬‬

‫رؤية شعرية للصلح السلمي‬


‫أما الشاعر اللماني الكبير غوته فقد كتب في مقدمته كتاب المحمديات "لديسون" عممن الصمملحا‬
‫الذي قام به الرسول بلغة الشاعر ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) أنظر إلى ينبوع الجبل يضطرب مليئا ة صافيا ة ‪ ،‬كأنما هو شعاع دري فوق السممحب ‪ ،‬أرضممعت‬
‫ملئكة الخير طفولته في مهداة يوم كان بين أفلق الصخور المعشوشبة ‪ ،‬إنه ينحدر من السحابة فتيا ة‬
‫نقيا ة ‪ ،‬ثم يتنزى منها جذلن فرحا ة ‪ ،‬إنه يسير في الخاديد الوعرة ‪ ،‬جارفا ة أمامه من ألمموان الحصممباء‬
‫ما ل يحصى ‪ ،‬ساحبا ة في إثره أخوات من العيمون المثرارة ‪ ،‬كأنممما همو مرشممدها الميممن ‪ ،‬وأمما فمي‬
‫الوادي فالريماحين تنبثمق عنمد قمدميه ‪ ،‬والممروج تحيما م ن أنفاسمه ‪ ،‬ل يثنيمه ال وادي الظليمل ‪ ،‬و ل‬
‫الرياحين التي تطوق ساقيه ‪ ،‬وتحاول أن تسبيه وتستهويه بلحاظها الفواتن ‪. .‬‬

‫وها هو العباب طاميا ة زاخراة ‪ ،‬ترفده الروافد فيخلع في مجراه على المصممار أسممماءها ‪ ،‬وتنشمما ة‬
‫عند أقدامه المدن ‪ ،‬بيد أنه ل ينمي ‪ ،‬فل يمبرحا هممادراة فينممدفع ‪ ،‬ل يثنيمه ثمان ‪ ،‬غلفما ة وراءه المنمائر ‪،‬‬
‫والصروحا نتاج خصبه وإنتاجه ‪ ،‬ذلك هو محمد بن عبد ا (( ‪. 359‬‬

‫غوسإتاف لوباون ‪ :‬الحضارة السإلمية ‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪357‬‬

‫نقل عن مجلة العرفان ‪ ،‬مجلد ‪ ، 33‬عدد ‪.7‬‬ ‫‪358‬‬

‫ديسون ‪ :‬المحمديات‪.‬‬ ‫‪359‬‬


‫‪176‬‬

‫فضل الرسول على العرب‬


‫لقد أثار موضموع فضمل الرسمول علمى العمرب ‪ ،‬اهتممام المصمدقين ‪ ،‬فهمو المذي وحمد الجزيمرة‬
‫العربية أول مرة في التاريخ في ظل حكممم عربممي إسمملمي ‪ ،‬متنممور نقممل العممرب مممن الجاهليممة إلممى‬
‫الحضارة والمدنية ‪ ،‬يقول الباحث الروسي آرلونمموف فممي مجلممة الثقافممة الروسممية ‪ ،‬فممي مقالممة النممبي‬
‫محمد جاء فيها ‪:‬‬

‫)) في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسممطين ظهممرت ديانممة أساسممها العممتراف بوحدانيممة امم «‬
‫وهذه الديانة تعرف بالمحمدية أو كممما يسمميها أتباعهمما السمملم ‪ ،‬وقممد انتشممرت همذه الديانممة انتشماراة‬
‫سريعا ة ‪ ،‬و مؤسس هذه الديانة هو العربي محمد ‪ ،‬وقد قض على عادات قومه الوثنية ‪ ،‬ووحد قبائل‬
‫العممرب ‪ ،‬وأثممار أفكممارهم وأبصممارهم بمعرفممة اللممه الواحممد ‪ ،‬وهممذب أخلقهممم وليممن طبمماعهم‬
‫وقلوبهم وجعلها مستعدة ‪ ،‬للرقي والتقدم ‪ ،‬ومنعهممم مممن سممفك الممدماء ووأد البنممات ‪ ،‬وهممذه العمممال‬
‫العظيمة التي قام بها محمد تدل على أنه من المصلحين العظام ‪ ،‬وعلى أن في نفسممه قمموة فمموق قمموة‬
‫البشر ‪ ،‬فكان ذا فكر نير ‪ ،‬وبصيرة وقممادة ‪ ،‬واشممتهر بدماثممة الخلق ‪ ،‬وليممن العريكممة ‪ ،‬والتواضممع‬
‫وحسن المعاملة مع الناس ‪ ،‬قض محمد أربعين سنة مع الناس بسلم وطمأنينة ‪ ،‬وكان جميممع أقمماربه‬
‫يحبممونه حبمما ة جممما ة ‪ ،‬وأهممل مممدينته يحممترمونه احتراممما ة عظيممما ة ‪ ،‬لممما عليممه مممن المبممادئ القويمممة ‪،‬‬
‫والخلق الكريمة ‪ ،‬وشرف النفس ‪ ،‬والنزاهة ((‪. 360‬‬

‫وهكذا فإن فضل الرسول محمد ‪ ‬على العرب ل حممد لممه ‪ ،‬إذ أخرجهممم مممن الجاهليممة إلممى أنمموار‬
‫السلم ‪ ،‬يقول المستشرق اليرلندي المستر هربرت وايل في كتابه ‪" :‬المعلم الكبير" ‪:‬‬

‫)) بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهممر محمممد فممأزال كممل الوهممام ‪ ،‬وحممرم عبممادة الوهممام ‪،‬‬
‫وكان يلقبه الناس بالمين ‪ ،‬لما كان عليه من الصدق والمانة وهممو الممذي أرشممد أهممل الضمملل إلممى‬
‫السراط المستقيم (( ‪. 361‬‬

‫ويتحدث الباحث المريكي جورج دي تولممدز ) ‪ (1897-1815‬فممي كتممابه ‪ » :‬الحيمماة « ‪ ،‬عمن‬


‫فضل الرسول على العرب حين نقلهم من الهمجية إلى المدينة ‪ ،‬وعن دور الرسالة في تبممديل أخلق‬
‫عرب الجاهلية ‪ ،‬حين عمر ضياء الحق واليمان قلوبهم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) إن من الظلم الفادحا أن نغمط حق محمد‪ ،‬و العرب على ماعلمناهم من التوحش قبل بعثته ‪ ،‬ثممم‬
‫كيف تبدلت الحالة بعد إعلن نبوته ‪ ،‬وما أورته الديانة السلمية من النور فممي قلمموب الملييممن مممن‬
‫الذين اعتنقوها بكل شوق وإعجاب من الفضائل ‪ ،‬لذا فمإن الشممك فممي بعثممة محممد إنممما همو شمك فمي‬
‫القدرة اللهية التي تشمل الكائنات جمعاء (( ‪.362‬‬

‫تقول الشاعرة النكليزية الليدي إيفلين كوبرلد في كتابها ‪ " :‬الخلق " ‪:‬‬
‫الثقافة الروسإية ‪ ،‬ج ‪ ، 7‬عدد ‪.9‬‬ ‫‪360‬‬

‫هربارت وايل ‪ :‬المعلم الكبر ‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪361‬‬

‫جورج دي تولدز ‪ :‬الحياة‪.‬‬ ‫‪362‬‬


‫‪177‬‬

‫)) لعمري لقد استطاع محمد القيام بالمعجزات والعجائب ‪ ،‬لما تمكن من حمل هذه المة العربيممة‬
‫الشديدة العنيدة على نبذ الصنام ‪ ،‬وقبول الوحدانية اللهية ‪ ،‬ولقد كممان محمممد شمماكراة حامممداة إذ وفممق‬
‫إلى خلق العرب خلقا ة جديداة ‪ ،‬ونقلهم من الظلمممات إلممى النممور ‪ ،‬ومممع ذلممك كممان محمممد سمميد جزيممرة‬
‫العرب ‪ ،‬وزعيم قبائلهم ‪ ،‬فإنه لم يفكر في هذه ‪ ،‬ول راحا يعمل لسممتثمارها ‪ ،‬بممل ظممل علممى حمماله ‪،‬‬
‫مكتفيا ة بأنه رسول ا ‪ ،‬وأنه خادم المسلمين ‪ ،‬ينظف بيته بنفسه ‪ ،‬ويصلح حمذاءه بيمده ‪ ،‬كريمما ة بماراة‬
‫كأنه الريح السارية ‪ ،‬ل يقصده فقير أو بائس إل تفضل عليه بما لديه ‪ ،‬وكممان يعمممل فممي سممبيل امم‬
‫والنسانية (( ‪. 363‬‬

‫المؤسس الوأل لرابطة العروأبة‬


‫كان فضل الرسول على العرب من العمق وبعد الثر ل يحصره زمان أو يحممده مكممان ‪ ،‬عاشممته‬
‫أمة السلم وما زالت وسيظل باقيمما ة خالممداة ‪ . .‬يقممول البمماحث السمموري قسممطاكي حمصممي )‪-1858‬‬
‫‪ (1941‬في مقالة له نشرتها مجلة الفتح القاهرية عام ‪: 1930‬‬

‫)) إذا كان سيد قريش نبي المسلمين ومؤسس دينهم ‪ ،‬فهو أيضا نبي العمرب ومؤسمس جمامعتهم‬
‫القومية ‪ ،‬وكما أنه من الحمق والمكابرة أن ننكر أن ما لسيد قريش من بعيد الثر في توحيد اللهجات‬
‫العربية ‪ ،‬وقتل العصبيات الفرعية في نفوس القبائل ‪ ،‬بعد أن انهكها القتممال فممي قتممال الصممحراء ‪ ،‬و‬
‫تناحر ملوكها في الشام والعراق تناحراة طال أمد الحماية الرومانيممة والفارسممية فممي البلممدين الشممقيقين‬
‫حتى الفتح السلمي ‪ .‬فممن الخطمل أن ننكمر مما للرسمول العربمي الكريمم وخلفمائه ممن يمد علمى أن‬
‫الشرق ‪ ،‬في إثارة تلك الحماسة والبطولة النادرة االمتدفقة في صدور أولئك الصيد الميممامين ‪ ،‬الممذين‬
‫كانوا قابعين في حزون الجزيرة وبطاحهمما ‪ ،‬فممي سممبيل الفتممح ‪ ،‬والمنافحممة لتحريممر الشممرق مممن رق‬
‫الرومان وأسر الفرس ‪.‬‬

‫إن سيد قريش هو المنقذ الأكبر للعرب من فوضى الجاهلية ‪ ،‬وواضممع حجممر الزاويممة فممي صممرحا‬
‫نهضتهم الجبارة المتأصلة في تربة الخلود (( ‪.364‬‬

‫وأاضع أسس الدوألة السلمية العظمى‬


‫أما المفكر والفيلسوف الفرنسي الكبير غوسممتاف لوبممون ) ‪( 1931-1841‬م فيقمول فممي كتممابه ‪:‬‬
‫"الراء والمعتقدات " ‪:‬‬

‫)) لقد اعتنقت قبائل البدو في جزيرة العرب دنيا أتى به أمي ‪ ،‬فأقامت بفضل هذا الممدين فممي أقممل‬
‫من خمسين سنة دولة عظيمة كدولة السكندر وزينت جيدها بقلدة من المباني الفخمة الممتي هممي آيممة‬
‫في العجاز ‪. . .‬‬
‫ايفلين كوبارلد ‪ :‬الخلق ص ‪.66‬‬ ‫‪363‬‬

‫مجلة الفتح القاهرية ‪ ،‬عاما ‪.1930‬‬ ‫‪364‬‬


‫‪178‬‬

‫ينشا ة من المعتقد القومي يقين ل يزعزعه شيء ‪ ،‬ومن مثل هذا اليقين تشتق أكثر حوادث التاريخ‬
‫أهمية ‪ ،‬فقد أيقن محمد أن ا أمر‪ ،‬بالممدعوة إلمى ديمن جديممد أوحمي بمه إليمه لتجديمد العممالم فاسمتطاع‬
‫بفضل يقينه أن يقلب الدنيا (( ‪.365‬‬

‫جاذبية الرسول‬
‫ولممم يكممن توحيممد الجزيممرة العربيممة بممالقوة والسمميف والبطممش كممما ذهممب عممدد مممن المستشممرقين‬
‫المغرضين ‪ ،‬بل وضع الرسول القوة حيث هي ضرورة ‪ ،‬بين استخدم الحب واللين والتسامح عنممدما‬
‫يقتض المر ‪ ،‬فكان لجميل سجاياه الثر العميق في جممذب القبائممل العربيممة إلممى دائممرة السمملم ‪. . .‬‬
‫يقول المستشرق والمفكر اليرلندي لويس توماس ) ‪ ( 1887-1807‬في مممؤلفه ‪ » :‬الحضممارة فممي‬
‫الشرق « ‪:‬‬

‫)) ل توجد أسرة في الجزيرة العربية ل تسمى أحد أبناءها محمداة باسم محمد النبي ‪ ،‬وفممي العممالم‬
‫ينتشر اسم محمد أكثر من انتشار بطرس ويوحنا ‪ ،‬لقد كان محمد أول من وحممد بيممن قبائممل الجزيممرة‬
‫وشعوبها ‪ ،‬وجمع كلمتها تحت راية واحدة ‪ ،‬وقد كان ظهموره حيممن الحاجممة إليمه ‪ ،‬ولقمد جمممع كلمممة‬
‫العرب ل بالقوة والشدة بل بكلم جذاب ‪ ،‬أخذ منهم كل مأخذ ‪ ،‬وتبعوه وصدقوه ‪ ،‬وقد فاق فممتى مكممة‬
‫غيره من الرسل ‪ ،‬بصفات لم تكن معروفة لمديهم ‪ ،‬وكمان يجممع بيمن القل وب المتفرقمة فتشمعر كلهما‬
‫بشعور قلب واحد (( ‪. 366‬‬

‫ومن هذا المطلق يتحدث المستشممرق المريكممي انممدرا وليممامس فممي كتممابه ‪ " :‬أمريكممي فممي البلد‬
‫العربية " ‪:‬‬

‫)) قد يكون اسم محمد أكثر السماء شيوعا ة في العالم ‪ ،‬وأشهر من حمل هذا السم علممى الطلق‬
‫عربي أبصر النور في قريممة نائيممة مممن أرض الجزيممرة العربيممة هممي مكممة عممام ‪ 571‬للميلد ‪ ،‬إليممه‬
‫أوحى ال كلمته فأجراها في كتاب ‪ ،‬و نشرها بين الناس ‪ ،‬ودعا أصحابه لليمان بالله الواحد ربمما ة‬
‫‪ ،‬وبمحمد بن عبد ا رسولة ‪ ،‬وبالعمل الصممالح‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر قبلممة ومصمملى ‪ ،‬آذنممت حيمماته‬
‫جديممداة ‪ ،‬وكتابمما ة‬ ‫بمغيب في الثالثة والثلثين بعد السممتمئة مممن الميلد ‪ ،‬تاركمما ة لقممومه دنيمما‬
‫منزلة ‪ ،‬ورسالة ضخمة لنشر الدين ‪ ،‬وإقامة الحضارة ‪ ،‬ولقد دعا محمد في عهده إلى أخوية جديممدة‬
‫‪ ،‬أخوية المسلم لخيه المسلم ‪ ،‬ل فرق بين أول وآخر ‪ ،‬سواء كان أميراة أم عبداة إل بالعمل الصممالح‬
‫والخير والحسان ‪ ،‬ثم أرسل قومه بعد هذا لغزو العممالم ‪ ،‬وتوحيممد الرض فممي صممعيد واحممد ‪ ،‬فممإذا‬
‫انقضت سنوات بعد وفاته ‪ ،‬وجدنا السلم ينتقل من نصر إلى نصر ‪ ،‬ومن فتح إلى فتح ‪ ،‬وإذا هممو‬
‫يضم العالم المعروف في عهده إلى سلطانه ‪ ،‬وإذا به يجمع بين الشرق والغرب (( ‪. 367‬‬

‫غوسإتاف لوباون ‪ :‬الراء و المعتقدات ‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪365‬‬

‫لويس توماس ‪ :‬الحضارة في الشرق‪.‬‬ ‫‪366‬‬

‫اندرا وليامس ‪ :‬أمريكي في البلد العرباية )تعريب عمر أباو النصر(‪.‬‬ ‫‪367‬‬
‫‪179‬‬

‫الباب الثالث‬

‫عالمية الرسالة السلمية‬


‫‪180‬‬

‫الفصل الوأل‬
‫الرسالة السلمية‬
‫نوعيتها وأ سر انتشارها‬
‫هوية الرسالة العالمية‬
‫لقد كان أثر الرسالة السلمية عميقا ة في جزيرة العرب التي تحققت وحدتها العملية في المرحلممة‬
‫الخيرة من حياة الرسول ‪ ،‬و مع أكتمال الدين السلمي ‪ . . .‬هذا ‪ ،‬وإن الثورة الكبيرة الممتي حممدثت‬
‫فيها لم تقف عند تلك الحدود ‪ ،‬بل سرعان مما خرجمت ألويمة المدعوة السملمية ‪ ،‬لتشممل سمائر بلد‬
‫العرب ثم العالم السلمي ‪ ،‬لتؤكد هويتهمما العالميممة ورسممالتها النسممانية فالسمملم ليممس ديممن العممرب‬
‫وحسب ‪ ،‬بل هو لسائر الشعوب والمم ‪ . . .‬يحدث الباحث الفرنسي المستشرق إتي ين دينيه عن وثبة‬
‫السلم ‪ ،‬بقوله ‪:‬‬

‫)) عندما رفع ا إليه مؤسس السلم العبقري ‪ ،‬كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائيا ة ‪ ،‬وبكممل‬
‫دقة ‪ ،‬حتى في أقل تفاصيله شأنا ة ‪.‬‬

‫وكانت جنود الله قد أخضعت بلد العرب كلها ‪ ،‬وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القيادة الضممخمة‬
‫بالشام ‪ .‬وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت ‪ ،‬عقب موت القائد الملهم ‪ ،‬بعممض الفتممن العارضممة ‪ ،‬إل أن‬
‫السلم كان قد بلغ من تماسك بنائه ‪ ،‬و من حرارة إيمان أهله ‪ ،‬ما جعله يبهر العالم بمموثبته الهائلممة‬
‫التي ل نظن ان لها في سجلت التاريخ مثيل ‪.‬‬

‫ففي اقل من عمام ‪ ،‬ورغمم قلمة عمددهم ‪ ،‬اسمتطاع العمرب المجماد _وقمد انمدفعوا لول ممرة فمي‬
‫تاريخهم ‪ ،‬خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم _ أن يستولوا على أغلممب بقمماع العممالم‬
‫المتحضر القديم ‪ :‬من الهند إلى الندلس (( ‪. 368‬‬

‫الفتح السلمي وأ نشر روأح الحضارة‬


‫أما إلى رخ الفرنسي المستشرق سيديو فإنه رأى في انتشممار رسممالة السمملم ليممس مجممرد توسممع‬
‫إقليمي ‪ ،‬بل نشر روحا الحضارة والمدنية يقول ‪:‬‬

‫)) وبعد ظهور محمد ‪ ‬الذي جعل قبائل العرب أمة واحدة ‪ ،‬تقصد مقصداة واحداة ظهرت للعيممان‬
‫أمة كبيرة مدت جناحا ملكها من نهر تاج في أسبانية إلى نهر الغانج فممي الهنممد ‪ ،‬ورفعممت علممى منممار‬
‫الشادة أعلم التمممدين فممي أقطممار الرض أيممام كممانت أوروبممة مظلمممة بحهممالت أهلهمما فممي القممرون‬
‫المتوسطة (( ‪. 369‬‬

‫إتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.335‬‬ ‫‪368‬‬

‫سإيدو ‪ :‬خلصة تاريخ العرب ص ‪.54‬‬ ‫‪369‬‬


‫‪181‬‬

‫سر جاذبية السلم‬


‫هذا ‪ ،‬ولقد أثارت مسألة ولدة السلم ومن ثم انتشاره بتلك الوثبة العملقممة اهتممام المستشمرقين‬
‫الغربيين ‪ ،‬فكان أن طرحت التساؤلت عن سر جاذبيممة السمملم وهمويته وقمموته وانطلقتممه العظيممة‬
‫تلك ‪ . .‬يقول روجيه غارودي في كتابه " ما يعد به السلم " ‪:‬‬

‫)) إن ولدة السلم وانتشاره يطرحان قضية نوعية خاصة إذ ل يجوز الكتفاء بالشارة إلممى أن‬
‫الجزيرة العربية بحاضرتيها مكة والمدينة ‪ ،‬كانت نقطة التقمماء المعجممزة التجاريممة الكممبرى والقوافممل‬
‫المتوجهة من الشرق إلى الغرب ‪ ،‬ومن أوروبة والشممرق الدنممى إلممى الهنممد والصممين ‪ ،‬ومممن البحممر‬
‫المتوسط إلى المحيط الهندي ‪ ،‬لن الكتفاء بهممذه الشممارة قممد يفهممم منممه أنممه بفضممل وقمموع الجزيممرة‬
‫العربية على مفمترق طمرق الحضمارات قمد تمم تممازج الديمان والثقافمات المتي لمم يكمن السملم إل‬
‫محصلة لها ومبشراة بها ‪ ،‬بل إنه خلفا ة لهممذا فقممد انطلممق مممن مكممة والمدينممة وشممبه الجزيممرة العربيممة‬
‫بصحاريها وواحاتها ‪ ،‬وراحا يشع على مدى قرون ‪ ،‬عقيدة واحدة وروحا ة جماعية مشتركة سينسممجم‬
‫عنها ثقافة نوعية أغنت الثقافات الخرى وجددتها وذلك عبر ثلث قممارات مممن الهنممد إلممى أسممبانية ‪،‬‬
‫ومن آسية الوسطى إلى قلب إفريقية ‪ .‬وظاهرة النتشار هذه ل تشبهها أيممة ظمماهرة أخممرى سممابقة أو‬
‫لحقة ‪ ،‬نعني هجرة الموجات البدوية العديدة من أقاسي آسية ‪ ،‬والغممزوات الوروبيممة الكممبرى علممى‬
‫أمريكة و إفريقية ‪ ،‬هذه الغزوات التي تتمتع بتفوق عسكري مطلق ‪ ،‬قمموامه المممدفع والبندقيممة أول و‬
‫الرشاش ثانيا ة ‪.‬‬

‫ولم تكن الجزيرة العربية غزيرة السكان ‪ ،‬ولم يكن العرب يملكون ما يملك الفممرس والممبيزنطيون‬
‫مممن أسمملحة وفنممون حربيممة ‪ .‬و هكممذا فالمبراطوريممة العربيممة لممم تقممم إذاة علممى أسمماس مممن علقممات‬
‫) القوة ( التي تؤمن لها تفوق ساحقا ة ‪.‬‬

‫زد على ذلك أنه ليس بالمكان تطبيق هذه الطروحممة أو تلممك مممن مقممولت ) ماركسممية ( مطلقممة‬
‫مختزلة على الظمماهرة السمملمية ‪ ،‬هممذه الطروحممة الممتي تفسممر حركممة التاريممخ وثموراته وتحممولته‬
‫بالمستوى التقني والعلقات القتصادية وصراع الطبقات الناجم عنها ((‪. 370‬‬

‫لقد شغلت قضية انتشار السلم وقوة وثبته أفكار العظماء ‪ ،‬ومنهم نمابليون المذي سممحر _كرجمل‬
‫عسكري_ بالفتوحات العربية السلمية ‪ ،‬وكان يممرى وراءهمما قمموة سممرية كامنممة فممي نشممأة السمملم‬
‫وقوته الذاتية ‪ ،‬وانتهى إلى النتيجة القائلة ‪:‬‬

‫))إنه ‪ ،‬إذا طرحنما جانبما ة الظمروف العرضمية المتي تمأتي بالعجمائب ‪ ،‬فل بمد أن يكمون فمي نشمأة‬
‫السلم سر ل نعلمه ‪ ،‬وأن هناك علممة أولممى مجهولممة جعلممت السمملم ينتصممر بشممكل عجيممب علممى‬
‫المسيحية وربما كانت هذه العلة الولى المجهولة ‪ :‬أن هؤلء القوم ‪ ،‬الذي وثبموا فجمأة ممن أعمماق‬
‫الصحارى أمة قوية ‪ ،‬ومواهب عبقرية ‪ ،‬وحماس ل يقهر ‪ ،‬أو ربما كانت هذه العلممة شمميئا ة آخممر مممن‬
‫هذا القبيل ((‪. 371‬‬

‫روجيه غارودي ما يعد باه السإلما ‪ ،‬ص ‪.43-42‬‬ ‫‪370‬‬

‫مذكرات سإانت هلين ج ‪ ، 3‬ص ‪ ) 183‬نقل عن كتاب اتيين دينيه محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.(336-335‬‬ ‫‪371‬‬
‫‪182‬‬

‫رسالة السلم النوعية‬


‫إلة أن روجيه غارودي ‪ ،‬حاول أن يضع يده على السر ‪ ،‬الممذي وجممده كامنمما ة فممي رسممالة السمملم‬
‫النوعية ‪ ،‬وأن تفسيره ل يمكممن أن يتممم خممارج إطممار السمملم نفسممه ‪ ،‬أو بمعممزل عممن تفهممم العقيممدة‬
‫والروحا الجماعية في السلم ‪ >.‬ويخلص إلى القول ‪:‬‬

‫)) ولكن إذا لم تكن مسلما ة ولم تنظر إلى القرآن على أنممه كتمماب منممزل مممن امم علممى محمممد فمممن‬
‫المتعذر عليك كمؤرخ أن تنظر إلى تفجر ذلك الينبمموع الحيمماتي الممذي راحا يزعممزع العممالم علممى أنممه‬
‫حقيقة دامغة ‪ ،‬وذلك دون الخوض في تبسيطات الفلسفة الوضعية وأحكامها السابقة ‪.‬‬

‫إذ التسليم بهذه الحقيقة الساسية ل يلزما الستغناء عن اللجوء إلى التفسممير ‪ ،‬وإنممما يممدعونا سمملفا ة‬
‫بكل بساطة إلى أن ل نستثني هذا البعد الحياتي أو ذاك ‪ ،‬م ن حرك ة المولدة و النممو المتي تمارسمها‬
‫النسانية في مسيرتها التاريخية ‪.‬‬

‫وفممي كممل تاريممخ مفعممم بالنسممانية تلعممب )الغايممات ( والهممداف دورا فمماعلة ل يقممل عممن دور‬
‫)السباب ( ((‪. 372‬‬

‫ومن هنا نجد أن انتشار السلم حدث بفعل قوته الذاتية ‪ ،‬و لممم ينجممم عممن أسممباب خارجيممة ‪ ،‬أو‬
‫حصراة بالنشاط العسكري للمسلمين ‪ ،‬يقول غارودي ‪:‬‬

‫)) إذاة ل يمكن تفسير ظاهرة انتشار السلم بعوامل خارجية كالضعف البممالغ أو الغلل الممذي‬
‫انتاب المبراطوريات المهزومة ) المبراطورية الرومانية الشرقية وإمبراطورية الفممرس الساسممانية‬
‫وإمبراطورية الفيزيغوت في أسبانية ( كما ل يمكن تفسرها بعوامل عسكرية صرفة ‪.‬‬

‫ولكممن السممباب العميقممة لممذلك النتشممار العاصممف أسممباب ) داخليممة ( تتصممل بجمموهر السمملم‬
‫وروحه ‪ ،‬فعشية موت النبي وعلممى مممدى اثنممتي عشممرة سممنة ) مممن ‪_633‬مم ‪645‬م ( تمممت سمميطرة‬
‫العرب على فلسطين وسممورية وممما بيمن النمريممن ومصممر ‪ .‬ولمم تقمف فممي وجمه الموجممة الولممى إل‬
‫الحواجز الطبيعية كسلسلة جبال طوروس في آسية الوسطى‪ ،‬وجبال شرقي إيران ‪ ،‬وصحارى ليبيممة‬
‫والنوبة في الغرب (( ‪. 373‬‬

‫رسالة تاحرير ل استعباد‬


‫كان نضال المسلمين الملحمي في سبيل إعلء كلمة ا ونشر رسالة الخير والنسانية لسائر أبنمماء‬
‫البشر ‪ ،‬هذه الرسالة التي لم تقتصر على الجممانب الممديني ‪ ،‬وإقامممة العبممادات والشممعائر فقممط ‪ ،‬وإنممما‬

‫روجيه غارودي ‪ :‬ص ‪.44-43‬‬ ‫‪372‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.60-59‬‬ ‫‪373‬‬


‫‪183‬‬

‫عملت اجتماعيا ة علممى تحقيممق المسمماواة والخمموة ‪ ،‬وناضمملت بممروحا مممن التسممامح ل تعممرف الحقمماد‬
‫الطائفية الدينية ‪ . .‬فكانت رسممالة تحريممر للشممعوب ل اسممتعباد ‪ ،‬وكممانت الشممعوب تسممتقبل المسمملمين‬
‫استقبال المحرر من ‪ ،‬ويتابع غارودي بحث قضية سر انتشار السلم وقوة جاذبيته « بقوله ‪:‬‬

‫)) وهكذا وفي كل ممرة تتممم فيهمما هزيممة الطبقممة المسميطرة المكروهمة ممن شممعبها كممان العمرب‬
‫يستقبلون على أنهم محررون من قبل ضحايا الرهاب الجتماعي أو السياسي أو الضطهاد الديني‪.‬‬
‫كان انتصار العرب تحريراة وتخليصا ة ‪ ،‬فلقد حممرروا المسمميحيين القممائلين بطبيعممة واحممدة للمسمميح‬
‫المهتمين بالهرطقة من قبل المبراطورية البيزنطية ‪ ،‬كما حرروا النساطرة في بلد الفرس ‪ ،‬وقبائل‬
‫البربر المتي كمانت قممد تبنمت مممذهب السمقف )دونممات( والمتي اسممتعدى عليهما القممديس أوغسممطين ‪،‬‬
‫إمبراطور رومة ليبطش بها ‪ ،‬لنهمما مارقممة فممي نظممره ‪ ،‬كممما كممان انتصممار العممرب تحريممراة لليهممود‬
‫والنصارى الريوسيين وأتباع بريسيليان في أسبانية من اضمطهاد ) الكليمروس ( المتعصمب ‪ ،‬كمما‬
‫كان تحريراة للفلحين القباط في مصر الذين كانوا يعانون مممن ابممتزاز كبممار ملكممي الراضممي فممي‬
‫بيزنطة (( ‪. 374‬‬

‫الفتح السلمي وأ الحريات الدينية‬


‫ومن جانبه ‪ ،‬اكد فلسكو إيفانيز في كتابه ‪ " :‬في ظل الكاتدرائية " أن ظاهرة انتشار السلم لممم‬
‫تأخذ طابع الستعمار ول سمة الغزو ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))إن أسبانية المعجزة من قبل ملوك لهوتيين ‪ ،‬وأساقفة شرسين ‪ ،‬قد فتحت ذراعيهمما للفمماتحين ‪..‬‬
‫وفي مدى عامين استولى العرب على بلد استغرق استرجاعها سبعة قرون ‪ .‬ولم تكن القضية قضية‬
‫غممزو أو اجتيمماحا بحممد السمميف وإنممما هممي مسممألة مجتمممع جديممد تترسممخ جممذوره القويممة فممي جميممع‬
‫التجاهات ‪ .‬أما مبدأ حرية ممارسة الشعائر _وهو حجممر الزاويممة لعظمممة كممل أمممة _ فكممان العممرب‬
‫حريصين على تطبيقه ‪ ،‬ففي كل المدن التي حكموها كانت كنيسة المسيحيين تقوم إلممى جممانب معبممد‬
‫اليهود (( ‪. 375‬‬

‫الديناميكية الداخلية لرسالة السلم‬


‫وحدة السلم الداخلية وتماسكه واندماج الفرد في حياة الجماعممة وخلممق الخمموة السمملمية ‪ ،‬قممد‬
‫مدت الرسالة بتلك القدرة العجيبة على اقتراحا المعجزات ‪ ،‬رسوخا ة فممي البقمماء كنظممام متماسممك رغممم‬
‫كل أسباب التمزق ‪ ،‬ورغم انقسام العالم السلمي ‪ .‬يقول مارسيل بوازار‪:‬‬

‫))لقد كان الدين حافزاة فعالة على تأليف كيان متميممز لممم تصممدعه صممروف الممدهر‪ ،‬ول الحتكمماك‬
‫بمختلف الحضارات على مر العصور‪ ..‬ولقممد تمكممن المجتمممع السمملمي الممذي قممام علممى الممدين مممن‬
‫الصمود في وجه التفكيك السياسي‪ ،‬ولم تتأثر الروابط الدينية على الحدود والتخموم بيممن المدول كمبير‬

‫المصدر الساباق ‪.61‬‬ ‫‪374‬‬

‫فلسإكو إيفانيز ‪ :‬في ظل الكاتدرائية )السباق ‪ ،‬ص ‪.(64‬‬ ‫‪375‬‬


‫‪184‬‬

‫التأثير(( ‪.376‬‬

‫تاقدمية الرسالة القرآنية‬


‫وكان لتقدمية التعاليم السمملمية إلممى جممانب العوامممل الخممرى سممر جاذبيممة السمملم وخصيصممة‬
‫انتشاره السريع ‪ ،‬يقول بوازار ‪:‬‬

‫)) لقد أظهرت الرسالة القرآنية وتعاليم النبي أنها تقدمية بشكل جوهري ‪ .‬وتفسر هذه الخصائص‬
‫انتشار السلم السريع بصوره خارقة خلل القرون الولى من تاريخه (( ‪.377‬‬

‫كما اعتبر المستشرق الفرنسي هليار بلوك انتشار رسالة السلم معجزة حملممت للنسممانية الخيممر‬
‫والعطاء ‪ ،‬ونادت بالمثل العليا ‪ ،‬يقول في كتابه ‪ » :‬محمد والقرآن « ‪:‬‬

‫)) إني أقول إن معجزة كهذه من حيث خطرها وبعد أثرها ‪ ،‬وعظيم نتائجها ‪ ،‬كانت مسوقة بقمموة‬
‫ل يستطاع تفسيرها ‪ ،‬وإن كان ما لممدينا مممن المصممادر والوثممائق يسمماعدنا علممى تفهممم السممباب الممتي‬
‫جعلتها أمراة واقعا ة منظوراة ‪.‬‬

‫كانت الحركة دينية ‪ ،‬ما في ذلك شك ‪ ،‬فلم يخرج العممرب مممن جزيرتهممم للنهممب والسمملب ‪ ،‬وإنممما‬
‫خرجوا لنشر المدين الجديمد المذي جماء بمه محمممد ‪ ،‬والتبشممير بالمثمل العليما المتي نمادى بهما محممد ‪،‬‬
‫والصفات الجليلة التي دعا إليها محمد (( ‪. 378‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.74-73‬‬ ‫‪376‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.74‬‬ ‫‪377‬‬

‫هليار بالوك ‪ :‬محمد و القران‪.‬‬ ‫‪378‬‬


‫‪185‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫الخوة السلمية بين الجناس وأ الشعوب‬
‫ل تافرقة عرقية أوأ جنسية في السلم‬
‫لقد سبق أن نوهنا في مبحث المساواة في السلم بالقول إن الرسالة حرصممت علممى إقامممة قواعممد‬
‫المساواة والخاء فممي الدولممة السمملمية دونممما أي خطممر للعممرق أو الجنممس أو الشممعوب والقوميممات‬
‫المختلفة ‪ ،‬ودونما تفريق بين أصحاب الديانات المتباينة أو اختلف بين مسلم وذمي ‪. . .‬‬

‫الخوة السلمية وأ سر انتشار الرسالة‬


‫و بدهي أن يبحث المستشرقون قضية الخوة السمملمية والنزعممة النسممانية فممي السمملم ‪ ،‬وأنهمما‬
‫كانت وراء جاذبية انتشاره ‪ ،‬ولقد تناول المؤرخ اليطالي كايتاني في كتابه ‪ » :‬حوليممات السمملم «‬
‫كيف أن معاقل المسيحية في الشرق قد تهاوت أمام المممد السمملمي ‪ ،‬بسممبب تلممك الجاذبيممة وسممطوع‬
‫مبادئه ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫)) لما أهلت آخر المر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء ‪ ،‬لم تعد المسيحية ‪ ،‬التي اختلطممت‬
‫بالغش والزيف ‪ ،‬وتمزقت بسبب النقسممامات الداخليممة ‪ ،‬وتزعزعممت عقائممدها الساسممية ‪ ،‬واسممتولى‬
‫على رجالها اليأس و القنوط من هذه الشكوك‪ ،‬نقول إن ه لمم تعمد تلمك المسميحية قمادرة علمى مقاوممة‬
‫إغراء هذا الدين الجديد الذي بدد بضربة من ضرباته كل الشممكوك التافهممة ‪ ،‬وقممدم مزايمما جليلممة إلممى‬
‫جانب مبادئه الواضحة التي ل تقبل الجممدل ‪ ،‬وحينئممذ تممرك الشممرق المسمميح ‪ ،‬وارتمممى فممي أحضممان‬
‫العرب ‪ .‬ول عجب فقد منح السلم العبد رجاء ‪ ،‬والنسانية إخمماءة ‪ ،‬ووهممب النمماس إدراكمما ة للحقممائق‬
‫الساسية التي تقوم عليها الطبيعة البشرية (( ‪. 379‬‬

‫أثر الخوة السلمية على الشعوب‬


‫وكان لهذه الخوة السلمية أثرها على باقي الشعوب ‪ ،‬وحفرت عميقا ة في وجممدانها هممذه النزعممة‬
‫النسانية الخيرة التي ترفض التقسيم العرقي أو الطبقي ‪ .. .‬ويتحدث جواهر لل نهممرو زعيممم الهنممد‬
‫الراحل ‪ ،‬وباني نهضتها الحديثة ‪ ،‬عن هذا الجانب بقوله ‪:‬‬

‫)) إن نظرية الخوة السلمية ‪ ،‬والمساواة التي كممان المسملمون يؤمنممون بهمما ‪ ،‬ويعيشممون فيهما ‪،‬‬
‫أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقا ة ‪ .‬وكان أكثر خضوعا ة لهذا التأثير البؤساء الممذين حممرم عليهممم‬
‫المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق النسانية ((‪. 380‬‬

‫كايتاني ‪ :‬حوليات السإلما نقل عن كتاب السإلما و الحياة ‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪379‬‬

‫جواهر لل نهرو ‪ :‬نقل عن كتاب النظاما السياسإي في السإلما ‪ ،‬ص ‪.220‬‬ ‫‪380‬‬
‫‪186‬‬

‫الخاء وأ المساوأاة‬
‫أن الخوة السلمية وقفت دائما ة بالمرصاد ضد النزعة العرقية ‪ ،‬فل فرق بين عربي وأعجمممي ‪،‬‬
‫أو أبيض وأسود ‪ ،‬فالجميع سواسية كأسنان المشط ‪ ،‬ويعاملون على قدم المساواة ‪ ،‬يقول المستشممرق‬
‫والمؤرخ بودلي ‪:‬‬

‫))و ليس هناك أي عائق لوني للمسلم فل يهم أكممان المممؤمن أبيممض أو أسممود أو أصممفر‪ ،‬فممالجميع‬
‫يعاملون على قدم المساواة (( ‪.381‬‬

‫الخاء وأفلسفته الجتماعية في السلم‬


‫انطلق من فلسفة السلم الجتماعية التي تعلي كل ممما هممو فممي صممالح المجممموع و تقممدمه علممى‬
‫مصلحة الفرد ‪ ،‬والصالح العام للنسانية فوق المصلحة العرقية ‪ ،‬تأكيداة على مبدأ الخاء النسمماني ‪،‬‬
‫يقول المفكر برج ‪:‬‬
‫‪382‬‬
‫‪.‬‬ ‫)) إن مبدأ الخاء النساني هو أساس فلسفة الخلق الجتماعية في السلم ((‬

‫و تأسيسا ة على مبدأ الخموة النسمانية بيمن الجنماس والشمعوب ‪ ،‬حقمق السملم واقعيما ة ل نظريما ة‬
‫عملية توحيد مختلف الجناس في ظل المساواة والعدل السلميين ‪ ،‬يقول برج مؤكداة ‪:‬‬

‫))إنه ليس هناك من مجتمممع آخممر سممجل لممه التاريممخ مممن النجمماحا كممما سممجل للسمملم فممي توحيممد‬
‫الجناس النسانية المختلفة ‪ ،‬مع التسوية بينها في المكانة والعمممل وتهيئممة الفممرص للنجمماحا فممي هممذه‬
‫الحياة (( ‪. 383‬‬

‫ويتحدث المفكر النكليزي موير عن الرسالة السلمية وفق عقيدتها ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫))ومن عقيدة السلم أن النسان أخو النسان (( ‪.384‬‬

‫وألدة المبدأ الديمقراطي الجديد‬


‫أن تلممك الخمموة السمملمية كممانت جممزءاة مممن الرسممالة الخيممرة وقاعممدة لممولدة مبممدأ جديممد ‪ ،‬مبممدأ‬
‫الديمقراطية ‪ . .‬ويتحدث جواهر لل نهرو عن نضال الرسول محمد ‪ ‬في نشر رسالته التي حممولت‬

‫باودلي ‪ :‬حياة محمد )نقل عن كتاب قالو في السإلما ص ‪.(137‬‬ ‫‪381‬‬

‫برج ‪ :‬نقل عن التكامل في السلم ‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪. 101‬‬ ‫‪382‬‬

‫برج ‪ :‬نقل عن التكامل في السلم ‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪. 101‬‬ ‫‪383‬‬

‫وليم موير ‪ :‬نقل عن مجلة الهلل المجلد ‪ ، 4‬الجزء ‪.7‬‬ ‫‪384‬‬


‫‪187‬‬

‫القبائل العربية المتناحرة إلى أمة عظيمة ضمت شممعوبا ة شممتى وأجناسمما ة مختلفممة ‪ ،‬وأعراقمما ة متباينممة ‪،‬‬
‫كان الجميع فيها يعاملون على قدم المساواة تضمهم رايمة الخمموة ‪ ،‬ويوحمدهم مبممدأ الديمقراطيممة فممي‬
‫ظل تلك الحضارة السلمية النسانية الزاهرة ‪ ،‬يقول في كتابه ‪ » :‬لمحات من تاريخ العالم « ‪:‬‬

‫)) كان محمد واثق بنفسه ورسالته ‪ ،‬وقد هيا ة بهذه الثقة وهذا اليمممان لمتممه أسممباب القموة والعممزة‬
‫والمنعة ‪ ،‬وحولها من مكان صحراء إلى سادة يفتحون نصف العممالم المعممروف فممي زمممانهم ‪ ،‬كممانت‬
‫ثقة العرب وإيمانهم عظيمين ‪ ،‬وقد أضاف السلم إليها رسالة الخوة والمساواة والعدل ‪ ،‬بين جميع‬
‫المسلمين ‪ ،‬و هكذا ولد في العالم مبدأ ديمقراطي جديد ‪ ،‬فوثب الشعب العربممي بنشمماط فممائق أدهممش‬
‫العالم ‪ ،‬وقلبه رأسا ة على عقب ‪ .‬وإن قصة انتشار العرب في آسممية وإفريقيممة وأوروبممة ‪ ،‬والحضممارة‬
‫الراقية ‪ ،‬والمدينة الزاهرة التي قدموها للعالم هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ (( ‪. 385‬‬

‫النـــزوأع الـــديمقراطي وأإزالـــة الفـــوارق الجنســـية‬


‫وأالعرقية‬
‫لقد نجح السلم بفضل هذه الخوة والروحا الديمقراطية في إزالة الفمموارق فممي الجنممس واللممون ‪،‬‬
‫ولم تعد الشعوب المغلوبة التي دخلت حظيرة السلم ‪ ،‬تشعر أنها شعوب مقهورة ‪ ،‬بل تشعر بحريتا‬
‫وكرامتها فممي ظممل الخمموة السمملمية ‪ ،‬يقممول البمماحث المريكممي ‪ ،‬وأحممد كبممار رجممالت الخارجيممة‬
‫المريكية السابقين فيليب إيرلند ‪:‬‬

‫)) يبدو من النظرة الول أنه توجممد ظممروف ملئمممة جممداة للديمقراطيممة فممي داخممل السمملم ‪ .‬فممإن‬
‫السلم كان أعظم الديانات توفيقا ة في إزالة فوارق الجنس واللون والقومية (( ‪. 386‬‬

‫أصالة النظام السلمي‬


‫ويعود موقف السلم المتسامح من الشعوب والجناس إلى نظرته للنسممان بشممكل عممام ‪ ،‬فجميممع‬
‫البشر عيال امم فممي إطممار مممن المسمماواة والنسممانية ‪ ،‬إلممى جهممة بالعنايممة اللهيممة ‪ .‬فالسمملم عقيممدة‬
‫وشريعة ‪ ،‬دينا ة ودولة ل ينفصم فيه الروحي عن الزمني ‪ ،‬لذا أكتسب طابع العمومية ‪ ،‬وغدا شممموليا ة‬
‫عالميما ة إنسمانيا ة ‪ ،‬للنسمان مكمانته الرفيعمة فمي المنظمور السملمي ‪ . . .‬و همذا‪ ،‬وإن كمان للجماع ة‬
‫السلمية قوانينها وحقوقها ‪ ،‬فقد سوى بينها السلم بتسامحه ونظرتممه العميقممة للشممعوب الخممرى ‪،‬‬
‫فكان للنسان إنسانيته ‪ ،‬ولذا حفظ مكانتها في المجتمع السلمي ‪ ،‬في إطار من النظم والدسمماتير ‪..،‬‬
‫يقول الباحث الفرنسي مارسيل بوازار ‪:‬‬

‫)) وينبغي أن يحتفظ لغير إلمؤمنين بوضع خاص في مجتمع قائم بشكل أساسي على الدين ‪ .‬ومع‬
‫ذلك فليس شأن الجنممبي كشممأن » العممدو « فممي المدينممة القديمممة ‪ .‬وتتمثممل أصممالة النظممام السمملمي‬
‫بالنظر إلى ما كان سائداة في العصور الغريقية والرومانية فممي شمممولية المموحي و إرشممادية الممدين ‪.‬‬

‫جواهر لل نهرو ‪ :‬لمحات من تاريخ العالم ‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪385‬‬

‫نقل عن السإلما باين النصاف و الجحود ‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪386‬‬


‫‪188‬‬

‫ويمثل تفوقه في هذا المضمار على اليهودية والمسيحية في تقبلممه الممديانات التوحديممة السممابقة ‪ ،‬الممتي‬
‫يصدقها السلم ‪ .‬ولكنه يجاوزها في الوقت نفسه إلى جانب توكيده على الوحممدة الجوهريممة للديممان‬
‫السماوية ‪.‬‬

‫فالنسبية إذن قاعدة مقبولة في حقل التشريع ل حين يتعدى المر التوكيد الجوهري لعامة القانون‬
‫اللهي ‪ .‬وإليك إحدى أهم مساهمات السلم في تأليف مفهوم عالمي حممديث ‪ :‬التسممماحا وهممو واجممب‬
‫ديني وأمر شرعي ‪ .‬والقرآن واضح في الإشارة إليه ‪ :‬وأنزلنا إليك الكتاب بممالحق مصممدق لممما بيممن‬
‫يديه من الكتاب ومهيمنا ة عليه ‪ .‬فالحكم بينهم بما أنزل ا ‪ ،‬ول تتبع أهواءهم عما جاءك من الحممق ‪.‬‬
‫لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجمما ة ‪ ،‬ولممو شمماء امم لجعلكممم أمممة واحممدة ولكممن ليبلمموكم فممي ممما آتمماكم ‪،‬‬
‫فاستبقوا الخيرات ‪. ‬‬

‫وترتسم في هذا الطار العام ثلث فئات من غير المسلمين ‪ .‬فهناك أولة المشرك المدعو للممدخول‬
‫في الدين الجديد دون أن يتخذ بحقه تدبير طرد ‪ ،‬وليس أمامه نظريمما ة إذا ناصممب السمملم والمسمملمين‬
‫العداء إل أن يختار بين اعتناق الدين والقتال حتى الموت ‪ .‬وهناك ثانيا ة اعتنق لدين توحيممدي القمماطن‬
‫خمارج العمالم السملمي )الحربممي ( ‪ .‬ولكممن فمي وسممعه أن يقيممم مؤقتما ة فيممه تبعما ة لجمراء فمي غايمة‬
‫البساطة ‪ .‬ويبدو هذا النموذج الثاني أقرب إلى فكرة »الجنممبي« حسممب المممذهب الحممديث ‪ .‬و تضممم‬
‫الفئة الثالثة أخيممرا الموحممدين الممذين " تحميهممم " الجماعممة السمملمية ‪ .‬و كممثير ممما لجممأت الكتابممات‬
‫الغربية إلىعملية تعميم مفرطممة فممي التبسمميط فمماعتبرت هممؤلء »المحمييممن « بمثابممة »مممواطنين مممن‬
‫الدرجة الثانية « ‪ .‬والواقع أن هؤلء القوم كانوا أجانب خاضعين لقوانينهم الخاصة ‪ .‬و»محميين «‬
‫بالمعنى الفعلي للفظة ‪ ،‬لنهم مقيمون جغرافيا ة في المجال الخاضع سياسمميا ة وثقافيمما ة للسمملم ‪ .‬وكممانوا‬
‫يؤلفون أقليات دينية متناسقة تكفل أوضاعها نظم قانونية ملزمة إزاما ة شممديداة للغلبيممة المسمملمة لنهمما‬
‫جزء من التنزيل (( ‪. 387‬‬

‫التعايش الخوي‬
‫إن السلم قدم نفسه كعقيدة دينية وشريعة ظهممرت فممي إطممار تنظيممم اجتممماعي تبلممور فممي الدولمة‬
‫السلمية عبر سائر المراحمل التاريخي ة السمابقة واللحق ة ‪ ،‬سمابقا ة إلمى تحقيمق فكمرة التعمايش بيمن‬
‫الشعوب والجناس والديان ‪ ،‬وإن نظرة واحدة لول دستور مكتوب في تاريخ البشرية ‪ ،‬وأقصد به‬
‫دستور المدينة يقدم لنا القوانين السائدة في أول دولة إسلمية قامت بعد الهجرة وحققت التعممايش بيممن‬
‫المسلمين واليهود والقبائل العربية التي لم تكن تعتنق السلم ‪ ،‬ومن ثم تطورت جوانب هذا التعايش‬
‫مع قيام الدولة السلمية التي ضمت شعوبا ة وأمما ة مختلفة ‪ ،‬حققت بينها النسجام والعدل والمساواة ‪،‬‬
‫بعيداة عن العصبية العرقية أو الستعلء الديني ‪ .‬يقول مارسيل بوازار ‪:‬‬

‫(( وقممد فتممح السمملم البمماب للتعممايش علممى الصممعيد الجتممماعي والعرقممي حيممن اعممترف بصممدق‬
‫الرسالت اللهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ‪ ،‬وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشممترك‬
‫هم اليهود والنصارى عممبر إبراهيممم ‪ .‬لكنممه بممدا أنممه يرفممض الحمموار فممي المموقت ذاتممه علممى الصممعيد‬
‫اللهوتي حين ربط التنزيل القرآني بما جاء في الكتاب المقاس وأزال من العقيدة كل ما اعتممبر زيفمما ة‬
‫مخالفا ة للتوحيد بالمعنى الدقيق للكلمة‪ .‬وأتاحا منطق تعاليمه القوي وبساطة عقيدته ‪ ،‬وما يرافقهمما مممن‬
‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.184-183‬‬ ‫‪387‬‬
‫‪189‬‬

‫تسامح أتاحا كل همذا للشمعوب المتي فتمح بلدهما حريمة دينيمة تفموق بكمثير تلمك المتي أتاحتهما المدول‬
‫المسيحية نفسها ‪ ،‬ول سيما في حوض المتوسط الشرقي ‪ ،‬حيث كانت تحارب بقسوة الهرطقات التي‬
‫غالبا ة ما كممانت تتخممذ شممكل المطالبممة القوميممة ‪ .‬وبهممذا ل تغطممي "الجماعممة السمملمية" رقعممة » دار‬
‫السلم ‪ « ،‬فالفكرة الولى تتخذ طابع الموافقة الدينية ‪ ،‬و تضمممن الثانيممة بنيممة سياسممية ودينيممة معمما ة‬
‫تضم غير المسلمين تبعا ة لجراء محدد ‪.‬‬

‫ويتيح التوحيد لكل إنسان شرف الندماج في الجنس البشري دون حصر ول مراعمماة خاصممة ‪ .‬و‬
‫تستتبع وحدة الرسالت احترام معتنقي التنزيلت السابقة ‪ ،‬في حين أن اعتناق السمملم يحقممق للفممرد‬
‫في موازاة ذلك ‪ ،‬مكان بلوغ الدرجة القصوى من الكمال بالنخراط في مجتمع المؤمنين ‪ .‬وبالفعممل‬
‫فإن شهادة أن "ل إله إل ا وأن محمداة رسول ا " التي ينخرط بها الفرد ‪ ،‬ويشارك مشمماركة تامممة‬
‫في المة السلمية تتضمن اعترافا ة مزدوجا ة ‪ :‬العتراف بوحدانية ا ‪ ،‬والعتراف بأن النبي محمداة‬
‫رسول من ا‪ .‬و تبقى القيمة الجوهرية هي هي لجميع الناس بوصفهم أناسا ة ‪ .‬ومع هممذا فممإن شممعور‬
‫المسلم بالدعوة الربانية أهي موضوعيا ة من شعور أي إنسان آخر لنه يتبع أمر ا ‪:‬‬

‫‪ ‬ويا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنى وجعلناكم شعوبا ة وقبائل لتعمارفوا إن أكرمكممم عنمد امم‬
‫اتقاكم أن ا عليم خبير ‪. 388 ‬‬

‫المجتمع النساني المنفتح‬


‫إن أصالة السلم وعالميته ‪ ،‬تجاوزتا إلى الموقف العملية للعقائممد والممديانات السممابقة ‪ ،‬حيممن قممدم‬
‫نموذجا ة عمليا ة في إطار نظامه ‪ ،‬فلم تبق الرسالة مجرد تعاليم راقية بل ظهرت كحقيقة تاريخية ثابتممة‬
‫متطورة ‪ ،‬وكمجتمع إنساني منفتح على الجميع ‪ ،‬دون مساس بالصالح العام ‪ ،‬فكممان أن ظهممرت فيممه‬
‫أقليات عرقية ودينية ‪ ،‬أوجد لها السلم الحلول قديما ة ‪ ،‬بينما كانت المجتمعات الوروبية غارقة فممي‬
‫ظلم القرون الوسطى ‪ . . .‬يقول مارسيل بوازار ‪:‬‬

‫)) وبالرغم من كون هذا المجتمع مفتوحا ة للجميع ‪ ،‬فممإنه ليممس فممي مكنممة الجماعممة أن تقبممل الممذين‬
‫رفضوا مقدماتها الساسية ‪ .‬أي السلم ‪ ،‬بصورة أعضاء كاملين ‪ .‬إل أنممه ليممس ممما يمنممع المممؤمنين‬
‫من إقامة علقات صداقة مع غير المسلمين ‪ .‬ما دامت هذه الروابط ل تشكل خطراة علممى الجماعممة ‪.‬‬
‫وفي وسع الموحدين غير المسمين القاطنين في قلب وسلطة زعيمهم الديني المسؤول تجاه السمملطات‬
‫السمملمية ‪ .‬وقممد تممألفت "أمممم" مممن نمموع معيممن ‪ ،‬واتحممدت ‪ ،‬وخضممعت لنظامهمما الممديني الخمماص ‪.‬‬
‫وانخرطت في البنية الجتماعية الفوقية للمجتمع السلم ي الذي يحميها‪.‬‬

‫وتعني كلمة )الذمة ( في أصل وضعها حسب المعجممات العربيمة ‪ ،‬الإيمممان والعهممد ‪ ،‬والميثماق ‪،‬‬
‫فالقضية إذاة قضية عقد تسمح الجماعة السلمية بموجبه للقوام الموحممدة الخاضممعة لهمما أن تحتفممظ‬
‫بدينها بكفالة السلم ‪ ،‬لقاء دفع ضريبة تعويضية واحترام بعممض موجبممات حممددتها الشممريعة بدقممة ‪.‬‬

‫المصدر الساباق ‪.185-184 ،‬‬ ‫‪388‬‬


‫‪190‬‬

‫ويستمد مبدأ الجزية أساسه من القرآن ‪ ،‬أما طرق تطبيقها فقممد وضممعت فيممما بعمد ‪ ،‬و ل سميما خلل‬
‫حقبة الفتوحات ‪.‬‬

‫وليممس طممابع معاهممدة الحمايممة ) الذمممة ( التشممريعي قممابلة للمقارنممة أو المماثلممة بأفكممار المممذهب‬
‫التشريعي الغربممي الرائجمة ‪ .‬أضممف إلممى ذلممك أن المؤسسممة تطممورت بتطممور تاريممخ المبراطوريممة‬
‫السلمية ‪ ،‬بتأثير النقول الخارجية وما نتممج عنهمما ممن تطممور بنممى العممالم السمملمي نحمو نموع مممن‬
‫العلمانية ‪ .‬وإنه ليكتفممي أن نسممتخرج خطمموط النظممام العامممة الكممبرى ممن ركممام كممثير التشممويش مممن‬
‫الحداث التاريخية ‪ ،‬والراء التشريعية ‪ ،‬والعلقات بين الحداث «‪ ،‬لنبين كيف حاول السمملم منممذ‬
‫القرن السابع للميلد أن يقدم حلة لمشكلة القليات فريداة فممي نمموعه ‪ .‬والمقممابلت القانونيممة التاريخيممة‬
‫خطممرة ‪ ،‬لن المؤسسممات القديمممة نتمماج مفمماهيم بعيممدة جممداة فممي الغلممب عممن تطلعاتنمما أو إنجازاتنمما‬
‫الحديثة ‪.‬‬

‫وتستحق جماعة غير المسلمين على أرض السلم أن تتنمماول بالتحليممل ‪ ،‬لنممه ثبممت أنهمما نهممج ل‬
‫مثيل له ‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه الغرب على أهبة الخروج من العصور الوسطى وإدراك ضرورة‬
‫وضع النظمة المحددة للعلقات مع الغرباء (( ‪.389‬‬

‫السلم وأصياغة القوانين الدوألية‬


‫هذا ‪ ،‬وفد رأى ماسينيون أن نظرة المجتمع السلمي إلى القليات العرقيممة القاطنممة فممي كنفممه قممد‬
‫كنفممه دوراة بالغمما ة فممي صممياغة القمموانين الدوليممة ‪ ،‬إن شممكلت هممذه التنظيمممات القانونيممة الخاصممة‬
‫واللزامية ‪ ،‬حسب رأى المفكر الفرنسي " إلى تكوين جنين قانوني دولي عام لممدى فقهمماء المسمملمين‬
‫قبل أن يفكر بذلك غروتيوس في العالم المسيحي بزمن ((‪. 390‬‬

‫ل إكراه في الدين‬
‫ويتابع البمماحث الفرنسممي بمموازار عرفممه مظمماهر التسممامح السمملمي‪ ،‬إن كفلممت الشممريعة لحمايممة‬
‫القوام المفتوحة بلدهم ‪ ،‬دون أن تمس حقوقهم وأوضاعهم ‪ ،‬رغم ظهور بعض التجاوزات الطفيفمة‬
‫بين ويخلص إلى القول ‪:‬‬

‫))ويظهر أن السلم يتراءى أكثر تسامحا ة كلما قوي واشتد على الصعيدين الداخلي والخارجي ‪.‬‬
‫وينم نص الآية القرآنية التي تمنع الكراه على اعتناق الدين عن تأكيد ل يتزعزع ‪ .‬وقوة المة تمموفر‬
‫للمؤمن أل يخش اليهودي و ل المسيحي ‪ ،‬وأن يحترم بالتالي شخصهما ودينهما ومؤسسمماتهما ‪ .‬وقممد‬
‫استوحت الجماعة السملمية أثنماء الموجمة الول لنتشمارها فمي الرض اسمتيحاء كمبيراة الترتيبمات‬
‫التحررية التي أغدقها النبي وخلفاؤه ‪ .‬وقد أهمل معظم القيود التي جدت بالتدريج ‪ .‬ولممم يرجممع إليهمما‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.187-186‬‬ ‫‪389‬‬

‫ماسإينيون ‪ :‬احتراما الشخصية النسانية في السإلما ‪ ،‬ص ‪.450‬‬ ‫‪390‬‬


‫‪191‬‬

‫بشكل منظم إل تبعا ة لظروف خاصة جداة (( ‪. 391‬‬

‫ومنذ البدء أكد السلم أنه دين عالمي حضاري صالح لكممل الجنمماس ولمختلممف الشممعوب‪ ،‬يقممول‬
‫المؤرخ والمستشرق السباني ريتين في كتابه ‪" :‬التاريخ الخاص لسورية ولبنان " ‪:‬‬

‫)) دين محمد قد أكد منذ الساعة الول لظهوره وفي حياة النبي ‪ ‬أنه دين عام‪ .‬فإذا كان ص الحا ة‬
‫لكل جنس كان صالحا بالضرورة لكل عقل ‪ ،‬ولكل درجة من درجات الحضارة ((‪. 392‬‬

‫تاجربة السلم التاريخية وأمستقبل النسانية‬


‫ويتوسع المستشرق البريطاني جب في تناول جانب كالمسمماواة المتي أقامهما السمملم بيممن مختلمف‬
‫الشعوب في تلك التجربة النسانية الفذة ‪ ،‬الممتي جمعممت فممي بوتقممة السمملم شممعوبا ة مختلفممة وأجناسمما ة‬
‫متباينة ‪ ،‬وأن هذه التجربة التاريخية الكبرى يمكن أن تخدم النسانية مستقبلا ة في تحقيممق الخمماء بيممن‬
‫الشعوب ‪ ،‬وكسر الجليد بين الشرق والغرب ‪ ،‬وينتهي إلى القناعة بضرورة تشكيل موقف موحمد مما‬
‫بين السلم والغرب لخدمة النسانية ‪ ،‬يقول في كتابه ‪ " :‬اتجاه السلم " ‪:‬‬

‫)) وكذلك كم قام السلم بخدمات أخرى أسداها للنسانية ولممه ممماض بممديع مممن تعمماون الشممعوب‬
‫وتفاهمها ‪ ،‬وليس هنالك مجتمع آخر له ما للسلم من ممماض كلممه نجمماحا فممي جمممع كلمتممه مثممل هممذه‬
‫الشممعوب المعجممزة المتباينممة علممى بسمماط واحممد ‪ ،‬فممي ا لحقمموق والواجبممات ‪ ،‬وقممد برهنممت الطوائممف‬
‫السلمية في إفريقية والهند والهند الشرقية والجماعات الصغيرة منهم في الصين واليابان ‪ ،‬على أن‬
‫السلم يستطيع أن يوفق بين العناصر التي ل سبيل إلى التوفيق بينها ‪ ،‬وإذا ما أريد إحلل التعمماون‬
‫محمل الخلف بين المجتمعات في أن الشرق والغرب فإن وساطة السلم ضرورية ل غنى عنهمما ‪،‬‬
‫فهو وحده الكفيل بحل المشكلة التي تواجه أوروبا ة في علقاتها مع الشممرق ‪ ،‬فممإذا اتحمدا عظمم الممل‬
‫في أن تكون النتيجة سلما ة ‪ ،‬وأما إذا رفضت أوروبممة معاونممة السمملم وألقممت بنفسممها فممي أحضممان‬
‫خصومه فلن تكون العاقبة إل نكبة لهما معا ة (( ‪.393‬‬

‫و بكلمة فإن السلم وحده القادر على تحقيمق الخماء النسماني والمسمماواة بيممن سمائر الشممعوب ‪،‬‬
‫يقول ‪:‬‬

‫)) ما زال في مستطاع السلم أن يقدم للنسانية خدمة جليلة ‪ ،‬فليس هناك أية هيئممة سممواه يمكممن‬
‫أن تنجح مثله نجاحا ة باهراة في تأليف هذه الجناس البشرية المتنافرة في جبة واحدة أساسها المساواة‬
‫(( ‪. 394‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.202‬‬ ‫‪391‬‬

‫ريتين ‪) :‬نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪392‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪393‬‬

‫نقل عن مجلة الذكرى ‪ ،‬عدد ‪ ، 2‬دورة ‪ ، 1‬ص ‪.42‬‬ ‫‪394‬‬


‫‪192‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫رسالة السلم وأ مستقبل النسانية‬
‫الدوأر العالمي لرسالة السلم‬
‫إن الخوة السلمية بين الشعوب والجناس المختلفممة ‪ ،‬وعالميممة الديانممة السمملمية الناجمممة عممن‬
‫كونها ديانة تبشر بالسلم والصداقة بين الشعوب حققت للسلم إمكانية النتشمار الواسممع ‪ ،‬ومتمكنممة‬
‫من أن يكون له دوره العالمي في صنع مستقبل النسانية ‪ ،‬لقد جاء في مجلممة العممالم السمملمي الممتي‬
‫يرأس تحريرها مؤسسها القس البريطاني صممموئيل زويمممر ‪ ،‬فمي الكلمممة لمتي ألقاهما جمورج بمروك‬
‫عضو البرلمان البريطاني في جمعية المسلمين في مدينته بردفورد بإنجلترة‪ ،‬قوله ‪:‬‬

‫))إنه يستطيع أن يرد الهتمام بالدين السلمي إلى أنه دين عالمي بطبيعته ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬أن السلم‬
‫دين السلم والمحبة بين البشر‪ ،‬وإن ه يلعمب دوراة خطيمراة الن فمي ش ؤون العمالم ‪ ،‬و أنمي أعتقمد أن‬
‫خطره وتأثيره في مستقبل العالم سيزداد جيلة بعد جيل (( ‪.395‬‬

‫السلم دين النسانية‬


‫ولقد بحث المستشرق ديون سر عالمية السلم فتوصممل إلممى أن مفتمماحا ذلممك يمكممن فممي انممه ديممن‬
‫النسانية جمعاء ‪ ،‬وليس مقصوراة على شعب دون آخر ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫))ذلك أن السلم لم يكن دينا ة للعرب فحسب ‪ ،‬وإنما همو ديمن النسمانية ممن أقصمى الرض إلمى‬
‫أقصاها (( ‪. 396‬‬

‫أما الباحث جورج رو فينظر إلى عالمية السلم في ابتعادها عن الشكلية وأداء الشعائر‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫))ليس السلم مجرد شكل ‪ ،‬و ل هو مجرد شمعائر دينيمة تتفماوت درجمات أصمحابها فمي العممل‬
‫بها ‪ .‬ولكن الوصف المميز للسلم هو أنه دين عالمي معمول به أكثر من أي دين غيره (( ‪.397‬‬

‫نحو نظام عالمي جديد‬


‫ومع إفلس الحضارة الغربية التي أثارت حربين عالميتين ‪ ،‬وظهور العمالم الثمالث كقموة ممما بيمن‬
‫المعسكرين الشمرقي والغربمي ‪ ،‬شممرع بمالتفكير جمديا بخلمق نظمام عمالمي جديمد ‪ ،‬ووجمد كمثير م ن‬
‫المفكرين والمستشرقين في الغرب أن النظام السلمي هو خشبة خلص البشرية ‪ ،‬وأنه يقدم السبيل‬
‫‪ 395‬مجلة العالم السإلمي العدد ‪ ، 7‬السنة الخامسة ‪ ،‬نقل عن مجلة الزهر العدد الراباع عاما ‪، 1952‬‬
‫ص ‪.105‬‬
‫‪ 396‬ديسون ‪ ،‬نقل عن كتاب السإلما مبدأ و عقيدة ‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪ 397‬جورج رو ‪ :‬نقل عن مجلة الذكرى ‪ ،‬عدد ‪ 2‬دورة ‪ ، 1‬ص ‪.42‬‬
‫‪193‬‬

‫الصحيح كمنظومة اجتماعية سياسية ‪ ،‬واقتصادية روحية ‪ ،‬يقول المفكر اليرلندي برناردشو ‪:‬‬

‫)) إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد ‪ ‬هذا النبي الذي وضع دينه دائما ة موضع‬
‫الحترام والجلل ‪ ،‬فإنه أقوى دين على هضم جميع المدينات ‪ ،‬خالد خلود البد ‪ ،‬وإني أرى كممثيراة‬
‫من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة ‪ ،‬وسيجد هذا الدين مجماله الفسميح فممي القممارة الوروبيممة‬
‫بعد هذه الحرب ‪ ،‬وإذا أراد العالم النجاة من شممروره فعليممه بهممذا الممدين ‪ ،‬إنممه ديممن التعمماون والسمملم‬
‫والعدالة في ظل شريعة محكمة لم تدع أمراة مممن أممور الممدنيا إل رسمممته ووزنتممه بميممزان ل يخطممئ‬
‫أبدةا(( ‪. 398‬‬

‫السلم وأ المشروأع الحضاري النساني المتكامل‬


‫إن السلم في القرن العشرين ‪ ،‬أخذ يظهر كقوة عالمية يستمد قوته ‪ ،‬ليس مممن القممدرة العسممكرية‬
‫القتصادية ‪ ،‬التي تحمممل مخمماطر إشممعال الحرائممق والحممروب تنافسمما ة علممى الممثروة ‪ ،‬وفرضمما ة لمبممدأ‬
‫الهيمنة ‪ ،‬بل كمقدم لمشروع حضاري إنساني متكامممل ‪ ،‬حممامل الخلص للعممالم ‪ ،‬والنجمماة للنسممانية‬
‫المهددة بالنهيار الروحي والتشويه النساني ‪ ،‬وانحطاط القيم الثقافية والحضارية ‪. . .‬‬

‫يقول الكبير الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه ‪" :‬إنسانية السلم " ‪:‬‬

‫))و تسمح ديمومة القناعة الدينية بالتشديد على صلحا السلم للزمممن الراهممن عممن طريممق أمثلممة‬
‫مستقاة من الحقبة المعاصرة ومن الماضي ‪ .‬وقد احتفظنا من القانون السلمي بما اعتبرنمماه ثابتمما ل‬
‫يتحول ‪ ،‬ل بوصفه قواعممد ابتممدعها أو اسممتنتجها الفقهمماء ‪ ،‬أنممما بوصممفه تعممبيراة عممن إجممراء روحممي‬
‫مرتبط بحضارة خاصة ‪ .‬وجوهر القانون وهبته الرادة اللهية ‪ ،‬فهو مممن هممذه الناحيممة ‪ ،‬وبصممورة‬
‫عامة جداة ‪ ،‬مثالي وثابت ‪ .‬و هكذا اهتم التفكير القانوني السلمي بالمحافظة على النظام المجتمعي‬
‫أكثر من اهتمامه ببناء مجتمع ‪ .‬وراحا يتطور مع نمو المجتمع ‪ ،‬وأكسبه مظهره الذممي مرانا ة كممبيراة‬
‫‪ .‬ولم يعمل المظهر القانوني على عكس صورة عن الواقع بالتطابق مع الحداث ‪ ،‬بل كان مفروضا ة‬
‫فيه على العكس أن يوجهها بوصفه علما ة نظريا ة مرتبطا ة بجوهر القانون _الوحي_ وخاضعا ة له ‪ ،‬كما‬
‫أن الغصان جزء من الشجرة ‪ .‬وقد كان من الممكن أن تتلفى الواقعية العملية الممارسة في حممدود‬
‫الطر التي فرضها نظام أسمي اقتصار القانون على قتل أعلى مجرد أو علممى نمممط سمملوك ل يمكممن‬
‫بلوغه ‪ ،‬وباختصار ‪ ،‬بدا لنا أن روحا القانون السلمي أصلح لبحثنا من طريقة تطبيقه (( ‪. 399‬‬

‫ويتابع الباحث فكرته ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬


‫ة‬
‫)) ويبرز السلم بمجمله مجمددا ممن خلل مظهمره التقليمدي فمي النقماش المدائر حمول مختلمف‬
‫مفاهيم النسانية في المستقبل ‪ .‬وتعتمد حركيته على استقامة المسلمين طوال القرون وعلممى محاولممة‬
‫لرد العتبار تاريخيا ة إلى المجتمع السلمي ((‪. 400‬‬

‫بارنادشو ‪ :‬نقل عن مجلة الذكرى عدد ‪ ، 7‬دورة ‪ 1‬ص ‪.22‬‬ ‫‪398‬‬

‫مارسإيل باوزار ‪ :‬إنسانية السإلما ‪.422 ،‬‬ ‫‪399‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.423‬‬ ‫‪400‬‬


‫‪194‬‬

‫صلحية السلم في تاقديم الحلول الناجحــة لمشــاكل‬


‫النسانية‬
‫هذا ‪ ،‬وإن صلحية السلم وعالميته تستمد قدرتها من أنه يقدم الحل الناجع للنسانية ‪ ،‬من القلق‬
‫والضياع والخمموف علممى المصممير ‪ ،‬ل يعطممي نموذجمما ة للحيمماة الجتماعيممة الفضممل ‪ ،‬تقممول الباحثممة‬
‫اليطالية لورافيتشافا لبرى ‪:‬‬

‫)) أن الناس ليتلهفون على دين يتفممق وحاجمماتهم ومصممالحهم الدنيويممة ‪ ،‬ول يكممون قاصممراة علممى‬
‫إرضاء مشاعرهم وإحساساتهم ‪ ،‬ويريدون أن يكون هذا الدين وسمميلة لمنهممم وطمممأنينتهم وسممعادتهم‬
‫في الدنيا والخرة ‪ ،‬وليس هناك من دين تتوفر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى السمملم ‪ ،‬إي‬
‫أنه ليس مجرد دين فحسب ‪ ،‬بل إن فيه حيمماة للنمماس‪ ،‬لنممه يعلمهممم كيممف يحسممنون التفكيممر والكلم ‪،‬‬
‫ويحضهم على فعل الخير وصالح العمال ‪ ،‬ولممذلك سممرعان ممما شممق طريقممه إلممى القلمموب والفهممام‬
‫((‪. 401‬‬

‫صلحية السلم لكل زمان وأ مكان‬


‫فالسلم هو دين عام حسب قول المستشرق الفرنسي إتيين دينيه "صالح لكل زمان ومكان ‪ ،‬فهممو‬
‫دين النسانية ودين المستقبل" ‪. 402‬‬

‫ولقد أكدت التجارب التاريخية القديمة مدى ثباته وصلحيته ‪ ،‬يقول الدكتور ف ‪ .‬ف ‪ .‬بارتولد ‪:‬‬

‫)) لقد أثبت السلم خلل مئات السنين والعوام مقدرته على البقاء ‪ ،‬وضرب المثل العلممى فممي‬
‫الخاء والمساواة ((‪. 403‬‬

‫ومن هذا المدلول يذهب المستشرق النجليزي صوئيل ممارغوليوث )‪_1868‬م ‪_ ( 1940‬المذي‬
‫تحدث عن رسالة السلم في يوم مولد الرسول _ إلى أنهمما رسممالة حضممارة تحمممل فممي ذاتهمما طممابع‬
‫صلحية البقاء والستمرار‪:‬‬

‫)) أن يوم ميلد محمد ليوم عزيز على العالم ل على العرب فقط لنه لم يولد إل للمر عظيم أل‬
‫و هو رسالته التي بلغها للعام فاعتنقها قوم وتركها آخرون ‪ ،‬وهي طافحة بالحضممارة والتعمماليم الممتي‬
‫تخدم البشرية وتوليها زمام الحياة ‪ ،‬ولكنها رسالة أخذت بها أمة جهلت ما فيها ‪ ،‬وخير ما فيها طممابع‬
‫صلحية البقاء مع الزمن مهما طال وامتد (( ‪. 404‬‬

‫لورا فيتشا فاليبري ‪ :‬مجلة الذكرى عدد ‪ ، 7‬دورة ‪ ، 1‬ص ‪.23‬‬ ‫‪401‬‬

‫إتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪.345 ،‬‬ ‫‪402‬‬

‫ف ‪ .‬ف ‪ .‬باارتولد ‪ :‬نقل عن مجلة الذكرى ‪ ،‬العدد ‪ ، 3‬الدورة ‪ ، 1‬ص ‪.64‬‬ ‫‪403‬‬

‫صموئيل مارغوليوث ‪ :‬تاريخ سإوريا و لبنان )نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص ‪.(128‬‬ ‫‪404‬‬
‫‪195‬‬

‫ل جمود في رسالة السلم‬


‫ورسالة السلم التي ل تعرف الجمود وتمدفع المجتممع السملمي إلممى التقممدم كفيلمة فممي عصممرنا‬
‫الراهن بإصدار أحكام تتفق وروحا العصممر ‪ ،‬وبممما يكفممل للممدول المتخلفممة أن النهمموض ‪ ،‬وللنسممانية‬
‫التقدم ‪ ،‬يقول الباحث المريكي وأستاذ الفلسفة في جامعة هارفرد الدكتور هوكنج ‪:‬‬

‫)) وأحيانا ة يتساءل البعض عما إذا كان نظام السلم يستطيع توليد أفكار جديدة ‪ ،‬وإصدار أحكممام‬
‫مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية ‪:‬‬

‫فالجواب عن هذه المسألة ‪ ،‬هو أن في نظام السلم كل استعداد داخلي للنمو ‪ ،‬بل هممو مممن حيممث‬
‫قابليته للتطور يفضل كثيراة النظم المماثلممة ‪ . . .‬وإنممي أشممعر بكمموني علممى حممق ‪ ،‬أقممدر أن الشممريعة‬
‫السلمية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللزمة للنهوض (( ‪. 405‬‬

‫قابلية السلم للتطور وأاستيعاب احتياجات العصر‬


‫ويلتقي الدكتور ازيكو بالتوخين مع الممدكتور هوكنممج حممول قابليممة السمملم للتطممور والتمشممي مممع‬
‫مقتضيات العصر الراهن والحاجات المستجدة بما يمتلكه من قوة مرونممة كممانت سممر تفمموقه كشممريعة‬
‫على الشرائع الوروبية ‪ ،‬يقول بالتوخين ‪:‬‬

‫)) إن السلم يتمشى مع مقتضيات الحاجات الظاهرة فهممو يسممتطيع أن يتطممور دون أن يتضمماءل‬
‫خلل القرون ‪ ،‬ويبقى محتفظا ة بكل ما لديه من قوة الحياة والمرونة ‪ .‬فهو الذي أعطممى العممالم أرسممخ‬
‫الشرائع ثباتا ة ‪ ،‬وشريعة تفوق كثيراة الشرائع الوروبية ‪. 406 (( ،‬‬

‫ويتحدث المستشرق الفرنسي مارسمميل بمموازار فممي كتممابه ‪ » :‬إنسممانية السمملم « ‪ ،‬عممن القممانون‬
‫السلمي وعالميته وأنه قابل » للتطبيق « ‪:‬‬

‫)) ويبقى القانون السلمي في أيامنا أحد النظمة القانونية الكبرى ل إن أنه ينظم العلقممات بيممن‬
‫حوالي سبعمائة مليون نسمة ‪ .‬ويستلهم لنشماء القواعمد الدسمتورية فمي ع دة بلمدان ‪ .‬وتكبمح القناع ة‬
‫الدينية جماحا الوسط الجتماعي برمتممه ‪ .‬والتصممور الممذي يفرضممه التنزيممل ماثممل بشممكل خمماص فممي‬
‫الجماهير الشعبية التي تزداد أهميتها السياسية في ممموازاة تطممور بعممض الصمميغ الديمقراطيممة ‪ .‬فكممل‬
‫حركة من الحركات يشتد تلونها بالدين بازدياد نفاذها إلى الجماهير ‪ .‬فهذه الجماهير تقدم النفعممالت‬
‫بالنظام الجتماعي والتعبير عنممه ‪ ،‬كممما تقممدم فممي كممثير مممن الحيممان مممادته بالممذات ‪ .‬ويشممكل الممدين‬
‫عنصراة حيويا ة مؤثراة في العلقات بين الفراد و الزمر والمم ‪ ،‬تزداد فعاليته تدريجا ة على ما يبممدو ‪،‬‬
‫و تؤكممد الظمماهرة ‪ ،‬وتممدعم قابليممة القممانون السمملمي للتطممبيق ‪ ،‬و تسممهم فممي المموقت نفسممه مرونتممه‬

‫هوكنج )نقل عن كتاب الشيوعية و الدين السإلمي ‪ ،‬ص ‪.(57‬‬ ‫‪405‬‬

‫ازيكو بالتوخين ‪ ) :‬نقلة عن كتاب قالوا في السلم ص ‪. ( 127‬‬ ‫‪406‬‬


‫‪196‬‬

‫ومطاوعته ((‪. 407‬‬

‫أصــالة النظــام الســلمي وأ مروأنتــه فــي اســتيعاب‬


‫التحولت الجتماعية‬
‫لقد ربط السلم الروحي بالدنيوي ‪ ،‬وعمل على توجيه السلوك الفردي لصالح الجماعممة‪ ،‬وإقامممة‬
‫المؤسسات العامة التي تسعى لصالح خير المجتمع ‪ ،‬وكان للقانون السلمي الذي يستمد أصوله م ن‬
‫الدين السلمي المندمج بممه فممي وحممدة عضمموية أثممره علممى إقامممة صممرحا الحضممارة ‪ ،‬ذات السمممات‬
‫العالمية ‪ ،‬وكان التشريع السمملمي البعيممد عممن الجمممود رغممم تخرصممات الكممثير مممن المستشممرقين ‪،‬‬
‫والذي تحمل ذاتيته قوة التطور والتحول لما يمتلكه من مرونة في اسممتيعاب التحممولت الجتماعيممة ‪،‬‬
‫قد ثبتت مكانته العالية ورفعة شأنه ‪ ،‬ومن هنا ظهر السلم في مرحلتنا المعاصرة لشممريعة عالميممة‬
‫إنسانية ‪ ،‬كحل أمثل من الحلول المشممتركة الممتي تطرحهمما فكمرة مسمتقبل النسمان والمجتمممع ‪ ،‬يقمول‬
‫بوازار ‪:‬‬

‫)) ويعود السلم بصورة إجمالية إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلت‬
‫التي يطرحها مصير النسان والمجتمع ‪ ،‬ويخلق التطور السياسي الداخلي للممدول حلممولة و تغييممرات‬
‫خاصة ‪ .‬ولقد تأكد أن جميع النتفاضات التي ساورت البلدان السلمية في عشرات السنين الخيممرة‬
‫كانت إسلمية بصورة حقيقية ‪ ،‬مهما تكن صبغة الزياء التي ألبستها و ل تزال هذه الحركممات جممادة‬
‫في استلهام الماضي المجتمعي ‪.‬‬

‫و أصالة النظام السمملمي الولممى فممي مفهمومه للنسممان الجتممماعي الممذي يعممارض فممي آن معمما ة‬
‫الشيوعية التي تلشي الفرد في الجماعة ‪ ،‬والليبرالية التي تعممادي ممما بيمن الفممرد والمجتمممع ‪ .‬ويكفممل‬
‫التضامن بين أفراد المجتمع احترام حقوق النسممان داخممل الزمممرة وفممي الخممارج ‪ ،‬لنممه معتممبر أحممد‬
‫رعايا القانون المدولي ‪ .‬ويضمع السملم ثمم روحيتمه فمي مقابمل الماديمة الوضمعية المتي تسملخ ع ن‬
‫النسان إنسانيته ‪ ،‬حائلا ة بذلك دون أن تصبح الدولة يوما ة » الله اللة « الذي عرفه الغرب ‪ ،‬والذي‬
‫تجهد الدول المزعوم أنها » اشممتراكية « فممي فرضممه ‪ .‬ويحممول المعنممى الجممازم للمسممؤولية الفرديممة‬
‫_وهي أحد عوامل التحمرر الهاممة _ دون أن يخلمى النسمان عمن شخصمه للزممرة الفائق ة القمدرة ‪:‬‬
‫ويوجه الخلص أول ما يوجه لمثل الدين العليا ل للمؤسسات الحكومية ‪ .‬و ترسيخ غايممات النسممان‬
‫المترفعة عن الدنيا ينزع إلى إخضاع الدولة للقانون بدلة من إخضاع الفرد للجهمماز السياسممي ‪ .‬وفممي‬
‫نظام فكري مماثل ينممادي السمملم علممى المسممتوى الممدولي بالتعمماون بيممن الشممعوب أكممثر مممما ينممادي‬
‫بالكتفمماء الممذاتي للهممم ‪ ،‬وينممادي مممذهبه القممانوني باختصممار ‪ :‬بالسممتقامة ‪ ،‬والعالميممة السمملمية ‪،‬‬
‫والواقعية ‪ ،‬والعتدال ‪ ،‬وكلها فضائل متوافقة مع طبيعة النسان الروحية (( ‪. 408‬‬

‫ومممن هنمما تظهممر أفضمملية الرسممالة السمملمية علممى سممواها مممن الرسممالت السممابقة علممى لسممان‬
‫المستشرقين والمفكرين الوروبيين المنصفين ‪ ،‬ومن هذا التجاه يدلي المستشممرق الفرنسممي شممانليه‬

‫ماربيل بوازار ‪ :‬إنسانية السلم ‪ ،‬ص ‪. 426‬‬ ‫‪407‬‬

‫باوزار ‪ ،‬ص ‪.432-431‬‬ ‫‪408‬‬


‫‪197‬‬

‫في حديث عن رسالة السلم بقوله ‪:‬‬

‫)) إن رسالة محمد هي أفضل الرسالت التي جاء بها النبياء قله ‪ ،‬لنها جاءت إلى الشعوب نقية‬
‫من كل عيب ‪ ،‬وخالية من كل نقص ‪ ،‬بل إنه يوجد فيها من التعاليم القيمة مال يوجد في غيرهمما مممن‬
‫الديانات (( ‪. 409‬‬

‫بينما تحدث الفكر بارتلمي سانت هيلر بإعجمماب عمن الرسممول محمممد ‪ ‬وعممن الرسممالة السمملمية‬
‫بقوله ‪:‬‬
‫)) وقد كان دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده ‪ ،‬جزيل النعم على جميع الشعوب الممتي اعتنقتممه ((‬
‫‪. 410‬‬

‫انتصار السلم لصالح النسانية وأ خير العالم‬


‫وتحدث الفيلسوف اليرلندي برنارتشو بنظره الثاقب ‪ ،‬عن مستقبل السلم وانتصاره انطلق من‬
‫صلحيته للحياة ‪ ،‬وملءمته للحضارة الصحيحة ‪ ،‬وأن بالسلم _مستقبلا ة_ صلحا النسممانية وخيممر‬
‫العالم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫»إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيممدة الممتي تكممون حممائزة لجميممع الشممرايط اللزمممة‬
‫وتكون موافقة لشتى مراحل الحياة (( ‪. 411‬‬

‫ويقول في مكان آخر ‪:‬‬


‫)) ل تمض مائة عام ‪ ،‬حتى تكممون أوروبممة _ول سمميما إنجلممترة _ قممد أيقنممت بملئمممة السمملم‬
‫للحضارة الصحيحة ((‪. 412‬‬

‫ويحدث بمكان آخر وبالمعنى ذاته ‪:‬‬


‫)) لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولة لدى أوروبة عداة ((‪. 413‬‬

‫ويخلص إلى القول ‪:‬‬


‫)) لن يتعش العالم من كبوته ‪ ،‬إل إذا أخذ بتعاليم الديانة السلمية ‪ ،‬ول بممد أنمه منتممه إلممى همذه‬
‫النتيجة ‪ ،‬في نحو قرنين من الزمان (( ‪. 414‬‬
‫أما المفكر أرثر هاملتون ‪ ،‬فيرى بدوره ‪:‬‬

‫شانليه ‪ :‬المقتطف المجلد ‪ ، 3‬عدد ‪.7‬‬ ‫‪409‬‬

‫باارتلمي ‪) :‬نقل عن كتاب محمد عند علماء الغرب(‪.‬‬ ‫‪410‬‬

‫بارناتشو ‪ :‬نقلة عن كتاب السلم في ضوء التشيع ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪.197‬‬ ‫‪411‬‬

‫بارناتشو ‪ :‬نقلة عن كتاب السلم في ضوء التشيع ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪.197‬‬ ‫‪412‬‬

‫بارناتشو ‪ :‬نقلة عن كتاب التكامل ‪ ،‬ج ‪ ، 2‬ص ‪.170‬‬ ‫‪413‬‬

‫بارناتشو ‪ :‬نقلة عن كتاب قالو في السلم ‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪414‬‬


‫‪198‬‬

‫» لو توخى الناس الحق لعلموا أن الدين السلمي هو الحل الوحيد لمشاكل النسانية (( ‪. 415‬‬

‫الخيار السلمي‬
‫قد تناول المستشرق النمساوي ليبولد فايس الذي اعتنممق السمملم وعممرف باسممم محمممد أسممد ‪ ،‬فممي‬
‫كتابه ‪ :‬السلم على مفترق الطرق ‪ ،‬موضوع روحا السلم الذي جاء لخير البشممر جميعمما ة ولصممالح‬
‫النسانية قاطبة ‪ ،‬فنبي السلم قد بعثه ا ‪ ،‬وصحة للعالمين ‪ ،‬والسلم اليوم يقدم لنا حلة للمعضمملة‬
‫النسانية ولقضايا البشر ‪ ،‬إنه خيممار يممبرز علممى المسممتوى العممالمي إلممى جممانب الخيممارات الخممرى‬
‫كعقيدة دينية ونظام اجتماعي سياسي ‪ ،‬وحيممن تعقممد المقارنممة ممما بيممن الخيممار السمملمي والخيممارات‬
‫الخرى تظهر أرجحية السلم على ما سواه ‪ ،‬كرسالة عالمية تحمل الحلول العملية لقضايا النسممان‬
‫‪ ،‬يقول محمد أسد ‪:‬‬
‫)) نحن نعد السلم أسمى من سائر النظم المدينة ‪ ،‬لنه يشمل الحياة بأسرها ‪ :‬انه يهتم اهتماممما ة‬
‫واحداة بالدنيا والخرة ‪ ،‬وبممالنفس والجسممد ‪ ،‬وبمالفرد والمجتمممع ‪ ،‬انمه ل يهتممم فقممط لممما فممي الطبيعممة‬
‫النسانية من وجود المكان إلى السوء ‪ ،‬بل يتم أيضا ة لما فيها من قيود طبيعية ‪ .‬إنممه ل يحملنمما علممى‬
‫طلب المحال ‪ ،‬ولكنه يهدينا إلى أن نستفيد أحسن الستفادة مما فينا من استعداد ‪ ،‬وإلى أن نصل إلممى‬
‫مستوى أسمى من الحقيقة _حيث ل ثقات و ل عداء بين المرأي وبيمن العممل ‪ .‬إن ه ليمس سمبيلة بيمن‬
‫السبل ‪ ،‬ولكنه السبيل ‪ ،‬وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاويا ة مممن الهممواة « ولكنممه الهممادي ‪.‬‬
‫فأتباعه في كل ما فعل وما أمر أتباع للسلم عينه « وأما اطراحا سنته فهو اطممراحا لحقيقممة السمملم‬
‫((‪. 416‬‬

‫مهمة السلم التاريخية‬


‫ويممرد محمممد أسممد علممى ادعمماءات المفكريممن الغربييممن مممن المستشممرقين وعلممى البمماحثين العممرب‬
‫المتنصلين من الدين ‪ ،‬الذين يرون أن الدين السلمي فقد صلحية استمراره ‪ ،‬وأنه ل فائممدة ترجممى‬
‫منه ‪ ،‬لنه استنفذ مهمته التاريخية ‪ ،‬وقدم للعالم وللنسانية كل ما ينتظر منه أن يقممدمه ‪ ،‬لسمميما وأن‬
‫الممدول السمملمية اليمموم تعيممش حالممة التخلممف والتبعيممة ‪ ،‬يقممول مناقشمماة روحا الحضممارات ‪ ،‬وتقممدم‬
‫الثقافات ‪ ،‬وحوار المدنيات ‪:‬‬
‫))يخبرنا التاريخ أن جميع الثقافات النسممانية وجميمع الممدنيات أجسمام عضموية تشمبه الكائنمات‬
‫الحية ‪ ،‬إنها تمر في جميع أدوار الحياة العضوية التي يجب أن تمر بها ‪ :‬إنها تولد ثم تشممب وتنضممج‬
‫ثم يدركها البلى في آخر المر ‪ .‬فالثقافات ‪ ،‬كالنبات الذي يذوي ثم يستحيل ترابا ة ‪ ،‬تموت في أواخر‬
‫أيامها وتفسح المجال لثقافات آخر ولدت حديثاة ((‪. 417‬‬

‫الثقافة السلمية بين النهوض وأ التخلف‬

‫أرثر هاملتون ‪ :‬المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.148‬‬ ‫‪415‬‬

‫ليوباولد فايس )محمد أسإد( ‪ :‬السإلما على مفترق الطرق ‪ ،‬ص ‪.103-102‬‬ ‫‪416‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪) 104‬ترجمة عمر فروخ(‪.‬‬ ‫‪417‬‬


‫‪199‬‬

‫ويتابع المستشرق النمساوي المسلم عرض فكرته هذه ليرى مدى صلحيتها فإذا ما بحث السلم‬
‫‪ ،‬كثقافة إسلمية لعبت دوراة حضاريا ة عظيما ة ‪ ،‬ليرى إلى أين تسير ‪ ،‬هل تمض إلى أمممام أم تممتراجع‬
‫إلى الخلف ‪ .. .‬يقول ‪:‬‬

‫)) هذه إذاة حال السلم ‪ ،‬ربما ظهرت كذلك عند إلقماء أول نظممرة سممطحية ‪ .‬كممما ل شممك فممه أن‬
‫الثقافة السلمية شهدت نهضة مجيدة وعهداة من الزدهممار ‪ ،‬وكممان لهمما مممن القمموة ممما يلهممم الرجممال‬
‫جلئل العمال وأنواع التضحية ‪ ،‬ولقد غيرت معالم الشعوب وخلقت دولا ة جديدة ثم سممكنت وركممدت‬
‫وأصبحت كلمة جوفاء ‪ ،‬وها نحن أولء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحللها ‪ ،‬ولكن هل هذا كل ممما‬
‫في المر؟‬

‫إذا كنمما نعتقممد أن السمملم ليممس مدنيممة بيممن المممدنيات الخممر ‪ ،‬وليممس نتاجمما ة بسمميطا ة لراء البشممر‬
‫وجهودهم ‪ ،‬بل هو شرع سنه الله لتعمممل بمه الشممعوب فممي كمل مكممان وزممان ‪ ،‬فمإن الموقمف يتبممدل‬
‫تماما ة ‪ .‬ولكمن إذا كمانت الثقافمة السملمية فمي اعتقادنما نتيجمة لتباعنما شمرعا ة منمزلة فإننما حينئمذ ل‬
‫نستطيع أبداة أن نقول بأنها كسائر الثقافات خاضعة لمرور الزمن ومقيدة بقوانين الحياة العضمموية ثممم‬
‫إن ما يظهر انحللة في السمملم ليممس فممي الحقيقمة إل موتمما ة وخلء يحلن فممي قلوبنمما الممتي بلممغ مممن‬
‫نحولها وكسلها أنها ل تستمع إلى الصوت الزلي ‪ .‬ثم ليس ثمة علمة ظاهرة تدل على أن النسانية‬
‫_مع نموها الحاضر_ قد استطاعت أن تشب عن السلم ‪ ،‬بل إنها لم تستطع أن تخلق نظاممما ة خلقيمما ة‬
‫أحسن من ذلك الذي جاء به السلم ‪ .‬إنها لممم تسممتطع أن تبنممي فكممرة الخمماء النسمماني علممى أسمماس‬
‫عملي ما كما استطاع السلم أن يفعل حينما أتى بفكرة القومية العليا ‪ " :‬المممة" إنهمما لممم تسممتطع أن‬
‫تشيد صممرحا ة اجتماعيمما ة يتضمماءل التصممادم والحتكممار بيممن أهلممه فعلة علممى مثممال ممما تممم فممي النظممام‬
‫الجتماعي في السلم ‪ .‬إنها لم تستطع أن ترفع قدر النسان ول أن تزيد في شعوره بالمن ول فممي‬
‫رجائه الروحي ول سعادته (( ‪. 418‬‬

‫أفضلية المنهاج السلمي‬


‫وتعود أفضلية السلم كنظام اجتماعي متكامل ‪ ،‬لن السلم كعقيدة وشريعة قد جاء كاملة ‪ ،‬فهو‬
‫كامل بذاته ل يحتاج إلى إصلحا من داخله ‪ ،‬بل أن يكون الصمملحا فممي طريقممة تطممبيقه ‪ ،‬والتمسممك‬
‫بروحه ‪ ،‬وذلك بأن ينظر إلى السلم علمى أن ه المقيماس المذي يحكمم ب ه علمى العمالم وعلمى العقائمد‬
‫الحديثة والنظم المدنية ‪ ،‬ل أن يخضع السلم للمقاييس الفعلية الجنبية الغربيممة ‪ . .‬وأن أيممة مقارنممة‬
‫ما بين المنهاج السلمي والمناهج الغربية الخرى تظهر جليا ة مدى أهمية الهدى السمملمي ‪ ،‬يقممول‬
‫محمد أسد ‪:‬‬
‫)) ففي جميع هذه المور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه مقصراة كثيراة عممما تضمممنه‬
‫المنهاج السلمي ‪ .‬فأين ما يمبرر القمول إذاة بممأن السملم قممد ذهبممت أيمامه ؟ أذلممك لن أسسمه دينيممة‬
‫خالصة ‪ ،‬والتجاه الديني زي غير شائع اليوم ‪ ،‬ولكن إذا رأينا أن نظاما ة بني على الدين قد استطاع‬
‫أن يقدم منهاجا ة عمليا ة للحياة أتم وأمتن وأصلح للمزاج النفساني في النسان من كل شيء آخممر يمكممن‬
‫للعقل البشري أن يأتي به من طريق الصلحا والقتراحا ‪ ،‬أفل يكون هذا نفسه حجة بالغة في ميزان‬
‫الستشراق الديني؟‬
‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫‪418‬‬
‫‪200‬‬

‫لقد تأيد السلم _ولمدينا جميممع الدلمة علمى ذلمك _ بممما وصمل إليمه النسممان ممن أنمواع النتماج‬
‫النساني ‪ ،‬لن السلم كشف عنها وأشار إليها على أنها مستحبة قبممل أن يصممل إليهمما النمماس بزمممن‬
‫طويل ‪.‬‬

‫ولقد تأيد أيضا ة على السواء بما وقع أثناء التطور النساني من قصور وأخطاء وعثرات لنه كممان‬
‫قد رفع الصوت عاليا ة بالتحذير منها قبل أن تتحقق البشرية أن هذه أخطاء ‪ .‬وإذا صممرفنا النظممر عممن‬
‫العتقاد الديني ‪ ،‬نجد ممن وجهممة نظممر عقليممة محممض ‪ ،‬كممل تشممويق إلممى أن نتبممع الهممدى السمملمي‬
‫بصورة عملية وبثقة تامة (( ‪. 419‬‬

‫إسلم المستقبل وأ دوأر المسلمين في العلقات الدوألية‬


‫إن طبيعة السلم العالمية وصلحيته لكل زمان ومكان ‪ ،‬ومقدرته علممى الصمممود أمممام صممروف‬
‫الدهر ‪ ،‬وامتلكه بذرة التطور والتقدم والمرونة والنسجام ‪ ،‬إن جميع هذه المور التي هي السمممات‬
‫الساسية للسلم والقوة الكامنة وراء انتشاره ‪ ،‬وإنشائه حضارة إنسانية كبرى ‪ ،‬كل همذه الممور ل‬
‫تنفي مطلق الدور النساني الذي يمكن للمسلمين أن يلعبوه ‪ . . . .‬فالسلم الممذي هممو خشممبة خلص‬
‫المسمملمين مممن تخلفهممم ‪ ،‬وخلص النسممانية مممن قيودهمما لتحررهمما مممن العبثيممة والقلممق والفرديممة‬
‫والنهزامية ‪ ،‬يطرحا أمام المسلمين مهمة كبرى لتحدد موقممع السمملم فممي العلقممات الدوليممة ‪ ،‬يقممول‬
‫بوزار ‪:‬‬

‫)) والحاصل أن إسلم المستقبل ودوره في العلقات الدوليممة رهممن بممما يصممنعه بهممما المسمملمون‬
‫أنفسهم ‪ .‬ويقدم التنزيل في هذا السياق ثقة مطمئنة وحافزاة قويا ة في وقت معا ة (( ‪. 420‬‬

‫و يستشهد المستشرق الفرنسي بأقوال محمد عبده لتأكيد مقولته ‪ ،‬فيتابع فكرته ‪:‬‬

‫)) وبالفعل فإن السمملم _حسممب قمول محممد عبمده _ لمم يغفمل الحمديث عمن فضمميلة واحمدة ممن‬
‫الفضائل الرئيسية ‪ .‬ول أهمل إنعاش مصدر واحد من مصادر عمل الخير ‪ .‬ول تغاضى عممن تحديممد‬
‫قانون واحد من قوانين النظام ‪ ،‬فقد هيا ة للنسان الذي بلغ سن الرشد أن يتحرر فكممره ويسممتقل عقلممه‬
‫في أبحاثه ‪ ،‬فينشا ة عن هذا الستقلل وذاك التحرر تفتح ملكاته الطبيعية ‪ ،‬و تيقظ إرادته ‪ ،‬وانطلقممه‬
‫على طريق الجهد ‪ .‬ومن يقراة القرآن كمما يجمب أن يقمراة يجممد فيممه ممن هممذه الناحيمة كنموزاة ل تفنمى‬
‫وغناءة ل حد له (( ‪. 421‬‬

‫المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪419‬‬

‫باوزار ‪ :‬انسانية السإلما ‪ ،‬ص ‪.389‬‬ ‫‪420‬‬

‫محمد عبده ‪ :‬الرسإالت ‪ ،‬ص ‪ ، 122‬نقل عن المصدر الساباق ‪ ،‬ص ‪.(389‬‬ ‫‪421‬‬
‫‪201‬‬

‫ميزات السلم وأرسالته العالمية‬


‫وأخيراة نختتم دراستنا عن الرسول ورسالة السلم في الدراسات الستشراقية المنصممفة بممما جمماء‬
‫به إتيين دينيه في كتابه ‪ " :‬محمد رسول امم " إذ يتحممدث عممن ميممزات الرسممالة وعالميتهمما ودورهمما‬
‫الممكن في المستقبل يقول ‪:‬‬

‫)) وهناك شيء مهم ‪ ،‬وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه ‪ ،‬وهذا هو الذي وجده العقممول العمليممة‬
‫في السلم ‪ ،‬لخلوه من السرار وعبادة القديسين ‪ ،‬ول حاجة به إلممى الهياكممل والمعابممد لن الرض‬
‫كلها مسجد ل ‪ ،‬وفوق ذلممك قممد يجممد بعممض أهممل مممذهب العتقمماد بممال دون غيممره مممن العصممريين‬
‫المتحيزين في التعبير عما عاج نفوسهم من التطلع ‪ ،‬قد يجدون في السلم المممذهب النقممي للعتقمماد‬
‫بال ‪ ،‬فيجدون فيه أبدع وأسمي أعمال العبادة ‪ ،‬وما يمكن أن يتخيله مممن معنممى ألفمماظ الممدعاء ‪ .‬ثممم‬
‫نزيدك شاهداة آخر ‪ ،‬وهو قول شرفيس ‪ " :‬السلم محقق أبلغ معنى لفضيلة اليثار على النفس بأقممل‬
‫بحث فيها من الوجهة النظرية " ‪ .‬وقد حصل في فرنسا وفي بلد أخرى من أوروبة وإفريقية وآسية‬
‫دخول أشخاص في السلم فرادى ‪ ،‬وربما كان ذلك مصداقا ة لهذا الحديث النبمموي الممذي معنمماه " قممد‬
‫يؤيد ال هذا الدين بالغرباء منه " ‪.‬‬

‫ومن مميزات السلم الصيلة ملءمته لجميع الجنمماس البشممرية ‪ ،‬فلممم يكممن العممرب وحممدهم هممم‬
‫الذين اتبعوا السلم ‪ ،‬بل كممان مممن ضمممنهم مممن همو مممن فممارس كسمملمان الفارسممي ‪ ،‬وبعضممهم مممن‬
‫النصارى كورقة ‪ ،‬وبعضهم من اليهود كمخيرق وعبد ا بن سلم ‪ ،‬وبعضهم مممن الحبمماش كبلل‬
‫وغيرهم ‪ ،‬وجاء في القرآن الكريم ‪:‬‬
‫‪‬و وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيراة )‪.  ( 24/27‬‬

‫فدين الرسول محمد عليه السلم ‪ ،‬قد أكد ‪ ،‬من الساعة الولمى لظهموره ‪ ،‬وفمى حيمماة النمبي عليمه‬
‫السلم ‪ ،‬أنه دين عام صالح لكمل زممان ومكمان ‪ .‬ولمم إذا كمان صمالحا ة بالضمرورة لكمل جنمس كمان‬
‫صالحا ة بالضرورة لكل عقل ‪ ،‬إن هو دين الفطرة ‪ ،‬والفطرة ل تختلف فكان إنسان عن آ خممر ‪ .‬وهممو‬
‫لكل هذا صالح لكل درجة من درجات الحضممارة‪ ،‬وهممو علممى ممما فيممه مممن تسممامح وبسمماطة ‪ ،‬سممواء‬
‫بالنظر لمذهب الصوفية يؤدي للعالم هداية و توفيقا ة ‪ ،‬سواء في ذلك الوروبي المتحضممر و الزنجممي‬
‫السود ‪ ،‬من غير أن يعوق حرية الفكر عن أحدهما ‪ ،‬ثم زيد على ذلك بالنسممبة لزنجممي انتشمماله مممن‬
‫عبادة الوثان ‪.‬‬

‫ثم هو ل يعوق الرجل العملي الذي يرى حياته في العمممل ‪ ،‬ويعتممبر المموقت مممن ذهممب ‪ ،‬كالرجممل‬
‫النجليزي وكذلك ل يعوق الرجل الصوفي والشرقي التأمل فممي بممدائع الصممنع ‪ ،‬ويأخممذ بيممد الغربممي‬
‫المأخوذ بسحر الفن والخيال ل وليس هذا فحسب ‪ ،‬بل هو يستولي على لب الطبيب العصممري أيضمما ة‬
‫‪ ،‬بل فيه من الطهارة المتكررة في اليوم والليلة ‪ ،‬وتناسق حركات المصلي فممي الركمموع والسممجود ‪،‬‬
‫وما فيها من نماء للجسم ‪ ،‬وإفادة للصحة الجسمية والنفسية ‪.‬‬

‫وعلى هذا فليس من الجرأة إذةا ‪ ،‬أن نظن أنه إذا هدأت الزوبعة المروعممة القائمممة ضممد السمملم ‪،‬‬
‫وضمن هو الحترام لكل الشعوب والديانات ‪ ،‬أنه سوى مستقبلة حافلة بأعظم المال وأعلها شمأنا ة ‪.‬‬
‫‪202‬‬

‫فإذا ما دخل في الحضارة الوروبية بفضل اشتراكه العظيم في الحوادث ‪ ،‬فسيتضح سناه الحقيقممي ‪،‬‬
‫وستعرف المم المختلفة حقيقته التي حجبت عنهم زمنا ة ‪ ،‬وسيمد الكممل يممده لمحممالفته ‪ ،‬متنافسممين فممي‬
‫ذلك ‪ ،‬لن قيمته قد خبروها ‪ ،‬وعرفوا ما يستكن فيه من وسائل القوة التي ل حممد لهمما و ل نفمماد ‪. . .‬‬
‫ولو نهض أتباع محمد عليه السلم وأفاقوا من سباتهم العميق لرجع لهم عزهممم السممالف ‪ ،‬وتمماريخهم‬
‫المجيد ‪ ،‬وصاروا أمة ل تعرف الجممور فممي معاملتهمما لكممل رعاياهمما ‪ ،‬ل فممرق بيممن مسمملم ومسمميحي‬
‫ويهودي ‪ ،‬و تبؤوا مكانهم الذي يليق بمجدهم (( ‪. 422‬‬

‫‪422‬‬
‫إتيين دينيه ‪ :‬محمد رسإول ا ‪ ،‬ص ‪.363-362‬‬
203

You might also like