You are on page 1of 422

0

1
‫هذا الكتاب‬
‫يتن اول ه ذا الكت اب أك ثر المس ائل الواقعي ة المرتبط ة ب الطالق والفس خ‪،‬‬
‫ويحاول أن يعالجها برؤية مقاص دية على ض وء م ا ورد في النص وص المقدس ة‪،‬‬
‫واجتهادات المدارس الفقهية المختلفة‪ ،‬ويحوي أربعة أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬ويبحث في حق كال الزوجين في إيقاع الطالق‪ ،‬والضوابط الشرعية‬
‫التي تحفظ هذا الحق وتحميه من استعماله في غير ما قصده الشرع من مقاصد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ويبحث في التفريق الذي جعله الشارع لولي األمر‪ ،‬حماي ة للزوج ة‬
‫من تعسف الزوج‪ ،‬أو تعضيدا لما جعل لها من حق في حل عصمة الزوجية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ويبحث في الصيغ التي يتم بها التطليق من اللفظ والكتاب ة واإلش ارة‬
‫وغيرها‪ ،‬باإلضافة إلى الصيغ المشابهة للطالق مع أنه ال يقع بها‪ ،‬بل له ا أحكامه ا‬
‫الخاصة‪ ،‬كالظهار واإليالء‪.‬‬
‫الراب ع‪ :‬ويبحث في اآلث ار الناتج ة عن الفرق ة الزوجي ة‪ ،‬وفي ه ح ديث عن‬
‫أحك ام الع دة‪ ،‬وعن الض وابط الش رعية للرجع ة‪ ،‬م ع بي ان الحل ول ال تي وض عها‬
‫الش ارع إلع ادة الحي اة الزوجي ة إلى مس ارها األص لي‪ ،‬ثم المتع ة‪ ،‬باعتباره ا من‬
‫الحقوق المالية التي تنتج عن الطالق‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فقه األسرة برؤية مقاصدية‬

‫(‪)4‬‬

‫أحكام الطالق والفسخ وآثارهما‬

‫برؤية مقاصدية‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪/http://www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪2015 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫‪4‬‬ ‫فهرس المحتويات‬
‫‪15‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪17‬‬ ‫القسم األول‬
‫‪17‬‬ ‫حق الزوجين في حل عصمة الزوجية‬
‫‪17‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪17‬‬ ‫مدخل إلى أحكام الفرقة الزوجية‬
‫‪17‬‬ ‫أوال ـ أنواع الفرقة الزوجية ومقاصدها‬
‫‪17‬‬ ‫النوع األول ـ الطالق‬
‫‪24‬‬ ‫الحكمة من الطالق‬
‫‪27‬‬ ‫النوع الثاني ـ الفسخ‬
‫‪27‬‬ ‫تعريف الفسخ‪:‬‬
‫‪28‬‬ ‫أسباب الفسخ‪:‬‬
‫‪28‬‬ ‫مذهب الحنفية‪:‬‬
‫‪30‬‬ ‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫‪30‬‬ ‫مذهب المالكية‪:‬‬
‫‪32‬‬ ‫مذهب الحنابلة‪:‬‬
‫‪33‬‬ ‫مذهب الظاهرية‪:‬‬
‫‪34‬‬ ‫مذهب الزيدية‪:‬‬
‫‪38‬‬ ‫ثانيا ـ المقاصد الشرعية من أحكام الفرقة الزوجية‬
‫‪38‬‬ ‫‪ 1‬ـ حق الرجل في التفريق‬
‫‪41‬‬ ‫‪ 2‬ـ حق المرأة في التفريق‬
‫‪41‬‬ ‫تشريع الخلع‪:‬‬
‫‪42‬‬ ‫تشريع التفريق القضائي‪:‬‬
‫‪43‬‬ ‫ثالثا ـ أسس الترجيح في مسائل الطالق‬
‫‪49‬‬ ‫األساس األول ـ اعتبار كل االجتهادات الفقهية‬
‫‪57‬‬ ‫األساس الثاني ـ أن الفقه ليس محصورا في المذاهب األربعة‬
‫‪60‬‬ ‫األساس الثالث ـ أن الورع هو حفظ كيان األسرة المسلمة‬
‫‪62‬‬ ‫الشبه العقلية‪:‬‬
‫‪64‬‬ ‫الشبه النقلية‪:‬‬
‫‪68‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪68‬‬ ‫حق الزوج في حل عصمة الزوجية‬
‫‪68‬‬ ‫أوال ـ أهلية المطلق إليقاع الطالق وضوابطها الشرعية‬
‫‪68‬‬ ‫‪ 1‬ـ الذكورة‬

‫‪4‬‬
‫‪69‬‬ ‫‪ 2‬ـ العقل‬
‫‪72‬‬ ‫‪ 3‬ـ البلوغ‬
‫‪74‬‬ ‫إجازة البالغ طالقه في فترة الصبى‪:‬‬
‫‪75‬‬ ‫ثانيا ـ أحوال المطلق وأحكامها‬
‫‪75‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإلكراه‬
‫‪75‬‬ ‫حكم طالق المكره‪:‬‬
‫‪84‬‬ ‫‪ 2‬ـ الجهل‬
‫‪88‬‬ ‫‪ 3‬ـ ملحقات الجهل‬
‫‪89‬‬ ‫النسيان‬
‫‪93‬‬ ‫الشك‬
‫‪99‬‬ ‫الخطأ‪:‬‬
‫‪104‬‬ ‫‪ 4‬ـ السكر‬
‫‪113‬‬ ‫‪ 5‬ـ الغضب‬
‫‪113‬‬ ‫السبب المتفق على وقوع الطالق فيه‪:‬‬
‫‪114‬‬ ‫األسباب المختلف فيها‪:‬‬
‫‪126‬‬ ‫‪ 6‬ـ الهزل‬
‫‪130‬‬ ‫ثالثا ـ التطليق بالوكالة‬
‫‪130‬‬ ‫توكيل الزوجة‬
‫‪143‬‬ ‫نوع الطالق الذي تملكه الزوجة بتخيير الزوج‪:‬‬
‫‪146‬‬ ‫وقوع الطالق بالتخيير حال رد الزوجة‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫صيغة قبول التخيير‪:‬‬
‫‪148‬‬ ‫تكرار التخيير‪:‬‬
‫‪149‬‬ ‫توكيل غير الزوجة‬
‫‪155‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪155‬‬ ‫من يقع عليها الطالق‬
‫‪155‬‬ ‫أوال ـ ثبوت الزوجية‬
‫‪155‬‬ ‫‪ 1‬ـ حكم طالق غير الزوجة‬
‫‪164‬‬ ‫‪ 2‬ـ طالق الزوجة من زواج فاسد‬
‫‪166‬‬ ‫‪ 3‬ـ إضافة الطالق إلى بعض أجزاء المرأة‬
‫‪170‬‬ ‫ثانيا ـ تعيين المطلقة‬
‫‪171‬‬ ‫‪ 1‬ـ طرق تعيين المطلقة‬
‫‪171‬‬ ‫توافق طرق التعيين‪:‬‬
‫‪171‬‬ ‫تعارض طرق التعيين‪:‬‬
‫‪174‬‬ ‫تعيين المطلقة بالنية‪:‬‬
‫‪177‬‬ ‫الجمع بين زوجته وأجنبية‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫‪178‬‬ ‫‪ 2‬ـ حكم التشريك في الطالق‬
‫‪179‬‬ ‫مذهب المالكية‪:‬‬
‫‪179‬‬ ‫مذهب الحنفية‪:‬‬
‫‪180‬‬ ‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫مذهب الحنابلة‪:‬‬
‫‪183‬‬ ‫‪ 3‬ـ نسيان المطلقة المعينة‬
‫‪188‬‬ ‫طالق المبهمات عند موت إحداهن‪:‬‬
‫‪188‬‬ ‫موت المطلق قبل تعيين مطلقته‪:‬‬
‫‪189‬‬ ‫ثالثا ـ الصفة البدعية للطالق وأحكامها‬
‫‪190‬‬ ‫‪ 1‬ـ تقسيم الطالق إلى سني وبدعي‬
‫‪191‬‬ ‫طرق تصنيف الطالق السني والبدعي‪:‬‬
‫‪192‬‬ ‫طريقة الحنفية‪:‬‬
‫‪193‬‬ ‫طريقة الجمهور‪:‬‬
‫‪195‬‬ ‫‪ 2‬ـ أثر الطالق في الحيض‬
‫‪204‬‬ ‫‪ 3‬ـ حكم الطالق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها‬
‫‪206‬‬ ‫الطهر الذي يقع فيه الطالق السني‪:‬‬
‫‪207‬‬ ‫‪ 4‬ـ أحكام الطالق في الطهر الذي مسها فيه‬
‫‪208‬‬ ‫حكم الرجعة من الطالق في الطهر الذي مسها فيه‪:‬‬
‫‪210‬‬ ‫حكم العدة في الطهر الذي مسها فيه‪:‬‬
‫‪211‬‬ ‫‪ 5‬ـ حكم طالق الحامل‬
‫‪215‬‬ ‫الفصل الرابع‬
‫‪215‬‬ ‫حق المرأة في حل عصمة الزوجية‬
‫‪215‬‬ ‫أوال ـ أحكام الخلع وآثاره‬
‫‪215‬‬ ‫‪ 1‬ـ حقيقة الخلع‪:‬‬
‫‪217‬‬ ‫‪ 2‬ـ أحكام الخلع‬
‫‪231‬‬ ‫وقت الخلع‬
‫‪232‬‬ ‫نوع الفرقة في الخلع‬
‫‪235‬‬ ‫طالق المختلعة‬
‫‪238‬‬ ‫رجعة المختلعة‬
‫‪239‬‬ ‫حكم التراجع عن الخلع‬
‫‪240‬‬ ‫من يتولى التفريق‬
‫‪242‬‬ ‫ثانيا ـ أركان الخلع وضوابطها‬
‫‪242‬‬ ‫الركن األول‪ :‬موجب الخلع‬
‫‪244‬‬ ‫الركن الثاني‪ :‬ملتزم العوض في الخلع‬
‫‪245‬‬ ‫‪ 1‬ـ القدرة على التصرف في مالها‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫‪247‬‬ ‫‪ 2‬ـ أن تكون صحيحة‪:‬‬
‫‪250‬‬ ‫‪ 3‬ـ أن تكون زوجة‪:‬‬
‫‪251‬‬ ‫‪ 4‬ـ أن ال يكون ملتزم العوض أجنبيا‬
‫‪258‬‬ ‫الركن الثالث‪ :‬صيغة الخلع‬
‫‪263‬‬ ‫الركن الرابع‪ :‬العوض في الخلع‬
‫‪263‬‬ ‫مقداره‪:‬‬
‫‪271‬‬ ‫حكم الخلع من غير بدل‬
‫‪272‬‬ ‫الخلع على الحقوق الزوجية‬
‫‪278‬‬ ‫القسم الثاني‬
‫‪278‬‬ ‫حل عصمة الزوجية بيد القضاء‬
‫‪279‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪279‬‬ ‫التفريق بسبب الضرر الجبلي‬
‫‪279‬‬ ‫أوال ـ العيوب التي تثبت الخيار للزوجين‬
‫‪279‬‬ ‫‪ 1‬ـ العيوب المعتبرة في الفسخ‪:‬‬
‫‪291‬‬ ‫‪ 2‬ـ العيوب غير المعتبرة‬
‫‪292‬‬ ‫‪ 3‬ـ شروط التفريق بالعيب‬
‫‪297‬‬ ‫‪ 4‬ـ اآلثار المالية للفسخ بالعيب‬
‫‪300‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪300‬‬ ‫التفريق بسبب التفريط في حقوق الزوجية‬
‫‪300‬‬ ‫أوال ـ التفريق بسبب التفريط في الحقوق المادية‬
‫‪303‬‬ ‫وقت الفسخ‪:‬‬
‫‪304‬‬ ‫نوع التفريق في اإلجراء القضائي‪:‬‬
‫‪305‬‬ ‫التفريق بسبب عدم قدرة الغائب على اإلنفاق‪:‬‬
‫‪306‬‬ ‫ثانيا ـ التفريق بسبب غياب الزوج‬
‫‪307‬‬ ‫نوع التفريق للغيبة‪:‬‬
‫‪307‬‬ ‫حكم التفريق لألسر‪:‬‬
‫‪308‬‬ ‫حكم التفريق للسجن‪:‬‬
‫‪309‬‬ ‫شروط التفريق للغيبة‪:‬‬
‫‪312‬‬ ‫ثالثا ـ التفريق بسبب فقد الزوج‬
‫‪312‬‬ ‫‪ 1‬ـ أحوال المفقود وأحكامها‪:‬‬
‫‪316‬‬ ‫‪ 2‬ـ حكم زواج امرأة المفقود قبل انتهاء مدة التربص‪:‬‬
‫‪317‬‬ ‫‪ 3‬ـ حكم المفقود في الحرب والفتن‪:‬‬
‫‪318‬‬ ‫‪ 4‬ـ حكم زوجة المفقود عند رجوع زوجها األول‪:‬‬
‫‪322‬‬ ‫‪ 5‬ـ التفريق للضرر‬
‫‪325‬‬ ‫الفصل الثالث‬

‫‪7‬‬
‫‪325‬‬ ‫التفريق بأسباب أخالقية‬
‫‪325‬‬ ‫أوال ـ قذف الزوجة وأحكامه‬
‫‪325‬‬ ‫الوجوب‪:‬‬
‫‪326‬‬ ‫اإلباحة‪:‬‬
‫‪327‬‬ ‫الحرمة‪:‬‬
‫‪328‬‬ ‫ثانيا ـ مفهوم اللعان وأحكامه‬
‫‪330‬‬ ‫حكم اللعان‬
‫‪332‬‬ ‫حكم اللعان عند وجود البينة‬
‫‪333‬‬ ‫محل وجوب اللعان‪:‬‬
‫‪334‬‬ ‫حكم االمتناع عن المالعنة بعد وجوبها‬
‫‪341‬‬ ‫حكم قتل من وجد رجال في بيته‬
‫‪347‬‬ ‫ثالثا ـ شروط صحة اللعان‬
‫‪348‬‬ ‫‪ 1‬ـ توفر القرائن الكافية الدالة على ثبوت الزنى‬
‫‪350‬‬ ‫‪ 2‬ـ الشك في الولد‬
‫‪352‬‬ ‫رابعا ـ آثار اللعان‬
‫‪352‬‬ ‫‪ 1‬ـ ارتفاع العقوبة الشرعية للقذف والزنا‬
‫‪357‬‬ ‫‪ 2‬ـ التفريق بين المتالعنين‬
‫‪363‬‬ ‫ع نسب الولد من جهة األب‬ ‫‪ 3‬ـ انقطا ُ‬
‫‪378‬‬ ‫القسم الثاني‬
‫‪378‬‬ ‫صيغ حل عصمة الزوجية وأحكامها‬
‫‪380‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪380‬‬ ‫صيغ حل عصمة الزوجية‬
‫‪380‬‬ ‫أوال ـ أنواع التعبير عن الطالق وشروطها‬
‫‪390‬‬ ‫ثانيا ـ حكم اإلشهاد على الصيغة‬
‫‪398‬‬ ‫ثالثا ـ ألفاظ الكناية ومواقف الفقهاء منها‬
‫‪399‬‬ ‫‪ 1‬ـ حكم طالق الكناية‬
‫‪403‬‬ ‫‪ 2‬ـ ألفاظ الكناية في الطالق أحكامها‬
‫‪412‬‬ ‫رابعا ـ الصيغة المقيدة للطالق وأحكامها‬
‫‪412‬‬ ‫النوع األول ـ الطالق المقيد بإضافة‬
‫‪421‬‬ ‫النوع الثاني ـ الطالق المعلق على شرط‬
‫‪427‬‬ ‫النوع الثالث‪ :‬الطالق المقيد بالعدد‬
‫‪437‬‬ ‫النوع الرابع‪ :‬الطالق المقيد باالستثناء‬
‫‪443‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪443‬‬ ‫حل عصمة الزوجية المعلق على الكفارة‬
‫‪443‬‬ ‫أوال ـ الظهار‬

‫‪8‬‬
‫‪449‬‬ ‫‪ 1‬ـ حكم الظهار‬
‫‪452‬‬ ‫‪ 2‬ـ أركان الظهار وشروطها‬
‫‪462‬‬ ‫‪ 3‬ـ موجبات كفارة الظهار‬
‫‪469‬‬ ‫‪ 4‬ـ أنواع كفارة الظهار‬
‫‪471‬‬ ‫ثانيا ـ اإليالء‬
‫‪471‬‬ ‫‪ 1‬ـ حقيقة اإليالء‪:‬‬
‫‪473‬‬ ‫‪ 2‬ـ أحكام اإليالء‬
‫‪480‬‬ ‫‪ 3‬ـ آثار اإليالء‬
‫‪486‬‬ ‫القسم الرابع‬
‫‪486‬‬ ‫آثار حل عصمة الزوجية‬
‫‪487‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪487‬‬ ‫أحكام العدة‬
‫‪487‬‬ ‫أوال ـ أحكام العدة وأسبابها‬
‫‪487‬‬ ‫‪ 1‬ـ تعريف العدة وحكمها‪:‬‬
‫‪489‬‬ ‫‪ 2‬ـ أسباب العدة‬
‫‪498‬‬ ‫ثانيا ـ أنواع العدة‬
‫‪499‬‬ ‫النوع األول‪ :‬عدة القروء‬
‫‪502‬‬ ‫النوع الثاني ـ العدة باألشهر‬
‫‪507‬‬ ‫النوع الثالث‪ :‬العدة بوضع الحمل‬
‫‪513‬‬ ‫ثالثا ـ تحول العدة أو انتقالها‬
‫‪513‬‬ ‫‪ 1‬ـ انتقال العدة أو تحولها من األشهر إلى األقراء‪:‬‬
‫‪514‬‬ ‫‪ 2‬ـ انتقال العدة من األقراء إلى األشهر‪:‬‬
‫‪515‬‬ ‫تحول المعتدة من عدة الطالق إلى عدة الوفاة‪:‬‬
‫‪516‬‬ ‫‪ 4‬ـ تحول العدة من القروء أو األشهر إلى وضع الحمل‪:‬‬
‫‪520‬‬ ‫رابعا ـ آثار العدة‬
‫‪520‬‬ ‫األثر األول‪ :‬لزوم المعتدة بيتها‬
‫‪526‬‬ ‫األثر الثاني‪:‬عالقة الزوج بالمعتدة‬
‫‪530‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪530‬‬ ‫الضوابط الشرعية للرجعة‬
‫‪530‬‬ ‫أوال ـ أحكام الرجعة‬
‫‪530‬‬ ‫‪ 1‬ـ مفهوم الرجعة ومشروعيتها‬
‫‪532‬‬ ‫‪ 2‬ـ حكم الرجعة‬
‫‪542‬‬ ‫‪ 3‬ـ شروط إرجاع المطلقة الرجعية‬
‫‪557‬‬ ‫‪4‬ـ شروط رجعة المطلقة ثالثا‬
‫‪560‬‬ ‫ثانيا ـ التحايل على الرجعة وأحكامه‬

‫‪9‬‬
‫‪561‬‬ ‫‪ 1‬ـ أنواع الحيل وأحكامها‬
‫‪571‬‬ ‫‪ 2‬ـ أنواع الحيل المرتبطة بالطالق وأحكامها‬
‫‪582‬‬ ‫‪ 3‬ـ الرجعة بواسطة المحلل وحكمها‬
‫‪594‬‬ ‫‪ 4‬ـ المخارج الشرعية للرجعة‬
‫‪613‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪613‬‬ ‫حق المطلقة في المتعة‬
‫‪613‬‬ ‫تعريف المتعة‪:‬‬
‫‪614‬‬ ‫حكم المتعة‪:‬‬
‫‪622‬‬ ‫من تجب عليه المتعة‪:‬‬
‫‪622‬‬ ‫مقدار المتعة‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫المقدمة‬
‫إن الشرع الحكيم‪ ،‬مع حرصه على اس تقرار الحي اة الزوجي ة وتوف ير ك ل الس بل‬
‫الكفيلة بتحقيق ذلك‪ ،‬كما رأينا في األجزاء السابقة‪ ،‬إال أن ه ـ م ع ذل ك‪ ،‬ومراع اة للواق ع‪،‬‬
‫ودرءا للمفاسد التي قد تنتج عن استمرار هذه الحياة الزوجية ـ ش رع األحك ام ال تي تنهي‬
‫العالقة الزوجية‪ ،‬وضبطها بضوابط دقيقة حتى يقلل من آثار التفريق وأسبابه ما أمكن‪.‬‬
‫والبحث المقاص دي في ه ذه الناحي ة يط رد م ع مقاص د الش رع في الن احيتين‬
‫السابقتين‪ ،‬وهو الحرص على اس تمرار الحي اة الزوجي ة واس تقرارها‪ ،‬فل ذلك ك ان أك ثر‬
‫عملن ا في ه ذا الج زء ه و البحث عن القي ود ال تي تح د من عملي ة التفري ق‪ ،‬وتجعله ا‬
‫محصورة في الرغب ة األكي دة من ال زوج أو من الزوج ة في التفري ق م ع إتاح ة ف رص‬
‫الرجعة بعد ذلك ما أمكن‪.‬‬
‫وقد لجأنا لهذا ـ مثلما فعلنا سابقا ـ لتراثنا اإلسالمي بمذاهب ه المختلف ة‪ ،‬زي ادة على‬
‫اللجوء لمصادر الدين األصلية من الكتاب والسنة‪ ،‬وكانت أكثر آرؤانا الترجيحية في ه ذا‬
‫الباب تميل إلى تضييق أبواب التفريق إال في الح دود ال تي نراه ا ت دل دالل ة كافي ة على‬
‫توفر حقيقة قصد التفريق من الزوجين‪.‬‬
‫وقد قسمنا الحديث في هذا الجزء إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫األول‪ :‬ويبحث في ح ق كال ال زوجين في إيق اع الطالق‪ ،‬تناولن ا في ه بالتفص يل‬
‫الض وابط الش رعية ال تي تحف ظ ه ذا الح ق لكال ال زوجين‪ ،‬وفي نفس ال وقت تحمي من‬
‫استعماله في غير ما قصده الشرع من مقاصد‪ ،‬وقد قدمنا ل ه بفص ل تمهي دي مهم جعلن اه‬
‫مقدمة لسائر األقسام‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وقد خصصناه للتفريق الذي جعله الشارع لولي األمر‪ ،‬حماية للزوج ة من‬
‫تعسف الزوج‪ ،‬أو تعضيدا لما جعل لها من حق في حل عصمة الزوجية‪ ،‬وقد خصص ناه‬
‫بقسم خاص بناء على اختالف أحكامه عن سائر انواع التفريق‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وقد خصصناه للصيغ التي يتم بها التطليق‪ ،‬وهي الركن الثالث من أرك ان‬
‫الطالق‪ ،‬بل اعتبره ا بعض هم ال ركن الوحي د في الطالق ألهميته ا‪ ،‬وق د تح دثنا في ه عن‬
‫التع ابير ال تي يمكن اس تعمالها للتطلي ق من اللف ظ والكتاب ة واإلش ارة وغيره ا‪ ،‬ثم ص يغ‬
‫التعابير اللفظية‪ ،‬باعتبارها هي األص ل في االس تعماالت العادي ة للطالق‪ ،‬ثم تح دثنا عن‬
‫تقييد صيغ الطالق بمختلف التقييدات من الشرط واالستثناء والعدد ونحوها‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلك تحدثنا عن الصيغ المشابهة للطالق مع أنه ال يقع بها‪ ،‬ب ل له ا‬
‫أحكامها الخاصة‪ ،‬كالظهار واإليالء‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬وقد خصصناه لآلثار الناتجة عن الفرقة الزوجية‪ ،‬فتناولنا في الحديث عن‬
‫أحكام العدة‪ ،‬وعن الضوابط الشرعية للرجع ة‪ ،‬م ع بي ان الحل ول ال تي وض عها الش ارع‬
‫إلعادة الحياة الزوجية إلى مسارها األصلي‪ ،‬وذلك إما بالرجعة في العدة‪ ،‬أو الرجعة بع د‬
‫انتهائها‪ ،‬ثم تحدثنا عن المتعة‪ ،‬باعتبارها من الحقوق المالية التي تنتج عن الطالق‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫وب ذلك ش ملت ه ذه األقس ام األربع ة الح ديث عن ك ل أن واع الفرق ة الزوجي ة‬
‫وضوابطها مع محاولة طرحها باألسلوب الدقيق المبسط‪ ،‬والحمد هلل أوال وآخرا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫القسم األول‬
‫حق الزوجين في حل عصمة الزوجية‬
‫الفصل األول‬
‫مدخل إلى أحكام الفرقة الزوجية‬
‫سنتناول في هذا الفص ل التمهي دي الح ديث عن موض وعين كالهم ا ل ه دور‬
‫كبير في التأسيس لما سنذكره في الفصول التالية‪:‬‬
‫أما األول‪ ،‬فهو الحديث عن أنواع الفرقة الزوجية‪ ،‬وأحكامها وآثاره ا بص فة‬
‫عامة‪ ،‬باعتبار هذا الج زء وم ا يليل ه من أج زاء مخصص ة له ذه األن واع‪ ،‬ويحت اج‬
‫التفصيل فيها إلى النظرة اإلجمالية ال تي ق دمناها في ه ذا المبحث‪ ،‬وب ه ن رى وج ه‬
‫الترتيب الذي راعيناه في هذا الجزء‪.‬‬
‫أما الثاني‪ ،‬فهو عن األسس التي اعتمدناها عند ذكر ما ن راه من الترجيح ات‬
‫في هذا الباب‪ ،‬وذلك لالستغناء بها عن االستدالل لكل ترجيح‪.‬‬
‫وبذلك يكون المبحث األول مبحثا تمهيديا للمسائل والف روع الفقهي ة‪ ،‬ويك ون‬
‫المبحث الثاني خاصا بالرؤى الترجيحية‪.‬‬
‫أوال ـ أنواع الفرقة الزوجية ومقاصدها‬
‫قس م الفقه اء التفري ق الحاص ل في الحي اة إلى ن وعين‪ :‬فس خ وطالق‪ ،‬ولك ل‬
‫منهما آثاره الخاصة‪ ،‬وسنتحدث عن كال النوعين فيما يلي‪:‬‬
‫النوع األول ـ الطالق‬
‫وهو النوع األول من أنواع التفريق‪ ،‬ويقصد به عند اإلطالق‪ ،‬وسنتحدث هنا‬
‫عن تعريف ه وحكم ه األص لي وأحكام ه العارض ة‪ ،‬أم ا أركان ه وش روطه وآثاره ا‬
‫فمحلها الفصول القادمة من هذا الجزء وما يليه من أجزاء‪.‬‬
‫تعريف الطالق‪:‬‬
‫من التعاريف التي ع رف به ا الطالق‪ ،‬وال تي ت دخلت في بعض ها الخالف ات‬
‫الفقهية للمذاهب المختلفة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ رفع الحل الذي به صارت المرأة محال للنكاح إذا تم العدد ثالثا‪ ،‬ويوجب‬
‫زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند‬
‫عدم الدخول واالعتياض عند الخلع(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ هو صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجت ه موجب ا تكرره ا م رتين‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/2 :‬‬

‫‪13‬‬
‫للحر ومرة لذي رق حرمتها عليه قبل زوج(‪.)1‬‬
‫‪ 3‬ـ هو قول مخص وص أو م ا في معن اه من ش خص مخص وص يرتف ع ب ه‬
‫النكاح أو ينثلم‪ ،‬فقول‪ :‬يخرج ب ه ارتف اع النك اح ب الموت والرض اع‪ ،‬ومخص وص‪:‬‬
‫ليخرج به ارتفاعه باللعان ونحوه من الردة واإلسالم وس ائر الفس وخ القولية‪ ،‬أو م ا‬
‫في معن اه‪ :‬لي دخل ب ه الطالق بالكتاب ة واإلش ارة من األخ رس‪ ،‬ومن ش خص‬
‫مخصوص‪ :‬هو الزوج أو وكيله‪)2( .‬‬
‫وعالق ة المع نى اللغ وي ب المعنى االص طالحي هي كم ا يق ول ابن منظ ور‪:‬‬
‫ق النس اء لـمعنـيـين‪ :‬أَح دهما ح ّل ُع ْق دة النك اح‪ ،‬واآلخ ر بمع نى التخلي ة‬ ‫(طَالَ ُ‬
‫ق الناق ة من ِعقَاله ا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق أي صار ح ّراً‪ ،‬وأطلَ َ‬ ‫َ‬ ‫ق طَلِـي ٌ‬ ‫إلنسان إِذا ُعتِ َ‬
‫وا ِإلرْ سال‪ .‬ويقال ل ِ‬
‫عقال علـيها) (‪)3‬‬ ‫ْ‬
‫وطَلَّقَها فَطَلَقَت‪ :‬هي بالفتـح‪ ،‬وناقة طَلق وطُلُق‪ :‬ال ِ‬
‫حكم الطالق‪:‬‬
‫الحكم األصلي للطالق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في الحكم األصلي للطالق على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن إيقاع الطالق مباح وإن كان مبغضا في األص ل‪ ،‬وه و ق ول‬
‫جمهور العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ض وا‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬اَل ُجنَا َح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء َم ا لَ ْم تَ َم ُّس وه َُّن أَوْ تَ ْف ِر ُ‬
‫ُوف َحقّ اً‬
‫ضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُمو ِس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ َمتَا ًع ا بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫لَه َُّن فَ ِري َ‬
‫َعلَى ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾(البقرة‪ ،)236:‬وقوله تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن‬
‫لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪ )1:‬وغيرها من آيات الطالق‪ ،‬وكلها تقتضي إباحة إيقاع الطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قول الن بي ‪(:‬أبغض الحالل إلى هللا الطالق) (‪ ،)4‬وفي لف ظ‪(:‬م ا أح ل‬
‫هللا شيئا أبغض إليه من الطالق)‪ ،‬وإنما يكون مبغضا من غير حاجة إليه‪ ،‬وقد سماه‬
‫النبي ‪ ‬حالال‪ ،‬فإن قيل بأن كون الطالق مبغوضا من اف لكون ه حالال‪ ،‬ألن كون ه‬
‫مبغوضا يقتضي رجحان تركه على فعله‪ ،‬وكونه حالال يقتضي مساواة تركه لفعله‪،‬‬
‫وقد أجيب على ذلك بأن الم راد ب الحالل م ا ليس ترك ه بالزم‪ ،‬وه و يش مل المب اح‬
‫والواجب والمندوب والمكروه‪ ،‬وقد يقال الطالق حالل لذاته واألبغضية لم ا ي ترتب‬
‫عليه من انجراره إلى المعصية(‪.)5‬‬
‫‪ 3‬ـ أن رسول هللا ‪ ‬طلق حفصة‪ ،‬حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها‬

‫‪ )(1‬شرح حدود ابن عرفة‪.184 :‬‬


‫‪ )(2‬التاج المذهب‪.2/118 :‬‬
‫‪ )(3‬لسان العرب‪ ،10/227 :‬وانظر‪ :‬طلبة الطلبة‪.52 :‬‬
‫‪ )(4‬قال ابن حج ر‪ :‬رواه أب و داود وابن ماج ة والح اكم من ح ديث مح ارب بن دث ار عن بن عم ر بلف ظ «‬
‫الحالل » بدل المب اح ورواه أب و داود وال بيهقي مرس ال‪ ،‬تلخيص الحب ير‪ ،3/205 :‬وانظ ر‪ :‬ال بيهقي‪ ،7/322 :‬أب و‬
‫داود‪ ،2/255 :‬ابن ماجة‪.1/650 :‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬عون المعبود‪.6/161 :‬‬

‫‪14‬‬
‫(‪ ،)1‬ولم يكن هناك كبر سن وال ريبة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه كما أن فيه معنى كفران النعمة من وجه‪ ،‬فإن في ه مع نى إزال ة ال رق‬
‫من وجه آخر‪ ،‬ألن النكاح ن وع من ال رق كم ا روي أن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬النك اح رق‬
‫فلينظر أحدكم أين يضع كريمته)(‪ .)2‬وألجله صان الشرع القراب ة القريب ة عن ه ذا‬
‫الرق حيث حرم نكاح األمهات والبنات واألخوات(‪.)3‬‬
‫‪ 5‬ـ أن هذا إزالة الملك بطريق اإلسقاط فيكون مباحا في األص ل كاإلعت اق‪..‬‬
‫ومن هذا الباب كونه مزيال للنك اح المش تمل على المص الح المن دوب إليها‪ ،‬فيك ون‬
‫مكروها فقط ال حراما‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن إيقاع الطالق مح رم ال يب اح إال عن د الض رورة‪ ،‬وقد ذك ر‬
‫هذا الق ول السرخسي(‪ )4‬من غ ير إش ارة إلى قائل ه‪ ،‬بينم ا ذكر ابن قدام ة اإلجم اع‬
‫على الجواز‪ ،‬قال في المغني‪(:‬أجمع الن اس على ج واز الطالق‪ ،‬والع برة دال ة على‬
‫جوازه‪ ،‬فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين‪ ،‬فيصير بق اء النك اح مفس دة محض ة‪،‬‬
‫وضررا مجردا بإلزام ال زوج النفق ة والس كنى‪ ،‬وحبس الم رأة‪ ،‬م ع س وء العش رة‪،‬‬
‫والخصومة الدائم ة من غ ير فائ دة‪ ،‬فاقتض ى ذل ك ش رع م ا يزي ل النك اح‪ ،‬ل تزول‬
‫المفسدة الحاصلة منه) (‪)5‬‬
‫وال يختل ف م ا ذك ره ابن قدام ة من اإلجم اع على م ا ذك ره السرخس ي ألن‬
‫الحكم األصلي الذي يقصده السرخسي‪ ،‬هو الطالق من غير حاج ة إلي ه‪ ،‬وق د ذك ر‬
‫ابن قدامة في حكم هذا النوع من ال زواج عن أحم د رواي تين‪ :‬إح داهما أن ه مح رم‪،‬‬
‫والثانية‪ ،‬أنه مباح‪.‬‬
‫وقد ذكر العراقي أن هذا هو الحكم األصلي للطالق عن د الحنفي ة‪ ،‬فق ال عن د‬
‫بيان كون العدة بالحيض ال بالطهر‪( :‬وليس في ذلك تطويل عند الحنفية الذين يرون‬
‫العدة بالحيض ف إنهم يعت برون ثالث حيض كامل ة‪ ،‬ف المعنى عن دهم أن األص ل في‬
‫الطالق الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت ب ه المص الح الديني ة والدنيوي ة‪،‬‬
‫وإنما يباح للحاجة‪ ،‬والمعتبر دليلها‪ ،‬وهو اإلقدام على الطالق في زمن الرغبة) (‪)6‬‬

‫‪ )(1‬الحاكم‪ ،4/16 :‬المعجم الكبير‪ ،23/188 :‬مجمع الزوائد‪.9/244 :‬‬


‫‪ )(2‬قال العراقي في تخريجه ألحاديث إحياء عل وم ال دين للغ زالي‪ :‬ح ديث‪ :‬النك اح رق فلينظ ر أح دكم أين‬
‫يضع كريمته ـ رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة األهلين موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بك ر‪ ،‬ق ال ال بيهقي‪:‬‬
‫وروي ذلك مرفوعاً‪ ،‬والموقوف‪.‬‬
‫‪ )(3‬المبسوط‪.6/2:‬‬
‫‪ )(4‬المبسوط‪ ،6/2:‬وانظر‪ :‬تبيين الحقائق‪.3/253 :‬‬
‫‪ )(5‬المغني‪.7/277 :‬‬
‫‪ )(6‬طرح التثريب‪.7/84 :‬‬

‫‪15‬‬
‫بل ذك ر أن ه ذا ه و الحكم األص لي عن د المالكي ة‪ ،‬ففي العناي ة‪(:‬ق ال مال ك‪:‬‬
‫األص ل في الطالق ه و الحظ ر واإلباح ة لحاج ة الخالص)(‪ )1‬ومن األدل ة ال تي‬
‫ذكروها لذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ه ض رر بنفس ه وزوجته‪ ،‬وإع دام للمص لحة الحاص لة لهم ا من غ ير‬
‫حاجة إليه‪ ،‬فكان حراما‪ ،‬كإتالف المال‪ ،‬وقد قال ‪(:‬ال ضرر وال ضرار) (‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ أن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من هللا تعالى على عباده‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ق لَ ُك ْم ِم ْن أَنفُ ِس ُك ْم أَ ْز َواجًا لِت َْس ُكنُوا إِلَ ْيهَ ا َو َج َع َل بَ ْينَ ُك ْم َم َو َّدةً‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آيَاتِ ِه أَ ْن َخلَ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾(الروم‪ ،)21:‬وكفران النعمة حرام‪.‬‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬‫َو َرحْ َمةً إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫‪ 3‬ـ أنه رفع للنكاح المسنون فال يحل إال عند الضرورة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو النظر إلى معنى قول الفقهاء (الحكم األصلي‬
‫للطالق)‪ ،‬فإن أريد به الحكم العام للطالق‪ ،‬والذي يتناول أك ثر الن اس‪ ،‬ف إن األرجح‬
‫في هذا هو القول باإلباحة‪ ،‬ألن الناس عادة ال يطلق ون إال لس بب ق د يعق ل‪ ،‬وق د ال‬
‫يعقل‪ ،‬أما التطليق لغير سبب‪ ،‬فقلما يحدث‪ ،‬وه و ب ذلك يع ود إلى ن وع من األحك ام‬
‫العارضة التي سنذكرها‪.‬‬
‫أم ا إن أري د ب ه االقتص ار على ذك ره عن د بي ان حكم الطالق‪ ،‬ك أن يس أل‬
‫شخص عن حكم الطالق فيجاب بأن ه حالل أو أن ه أبغض الحالل‪ ،‬ف إن األرجح في‬
‫هذا هو خطأ هذه اإلجابة‪ ،‬بل قد يك ون الق ول ب التحريم أرجح في ه ذه الحال ة‪ ،‬ألن‬
‫القول باإلباحة مطلقا قد يكون نوع ا من التش جيع على الطالق‪ ،‬فله ذا إم ا أن ي ذكر‬
‫الحكم مفصال بأنواعه المختلفة أو أن يس أل عن الس بب ال داعي للطالق فيف تى على‬
‫أساسه‪ ،‬ألن الكثير من العامة تغريه اإلباحة‪ ،‬وقد يقع بواسطتها في المحظور‪.‬‬
‫وهذا ال يقتصر على الطالق فقط‪ ،‬بل يتعداه لكثير من األحكام الشرعية‪ ،‬فإن‬
‫األرجح فيها جميعا هو ذكر األحكام العارضة باعتبارها األصل‪ ،‬فاألحوال مختلفة‪،‬‬
‫وتعميم الحكم قد يوقع في اللبس والخطأ‪.‬‬
‫األحكام العارضة للطالق‪:‬‬
‫نص أك ثر الفقه اء على األحك ام العارض ة للطالق‪ ،‬وق د اختلفت الم ذاهب‬
‫الفقهية في التعبير عنها‪ ،‬وسنذكر هن ا بعض م ا ق الوا في ذل ك‪ ،‬ون رجئ التفاص يل‬
‫المتعلقة بالفروع إلى محلها من هذا الفصل أو غيره‪:‬‬
‫فق د نص الش افعية على أن الطالق أربع ة أقس ام‪ :‬ح رام ومك روه وواجب‬
‫ومندوب وال يكون مباحا مستوى الطرفين(‪:)3‬‬
‫الطالق الواجب‪ :‬ويتحقق في صورتين وهما‪:‬‬
‫‪ )(1‬العناية‪.3/468 :‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه مالك (‪ ،2/745‬رقم ‪ ،)1429‬والشافعى (‪ )1/224‬والدارقطنى (‪ ،)3/77‬والح اكم (‪ ،2/66‬رقم‬
‫‪ )2345‬وقال‪ :‬صحيح اإلسناد على شرط مسلم‪ .‬والبيهقى (‪ ،6/69‬رقم ‪ )11166‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(3‬شرح النووي على مسلم‪.10/62:‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ 1‬ـ في الحكمين إذا بعثهما القاضي عند الشقاق بين الزوجين ورأيا المصلحة‬
‫في الطالق وجب عليهما الطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وفي المولى إذا مضت عليه أربعة أشهر وطالبت المرأة بحقها فامتنع من‬
‫الفيئة والطالق‪ ،‬فاألصح عند الشافعية أنه يجب على القاضي أن يطل ق علي ه طلق ة‬
‫رجعيه‪.‬‬
‫الطالق المكروه‪ :‬وذلك إذا كان الحال بينهما مستقيما‪ ،‬فيطلق بال سبب وعليه‬
‫يحمل حديث (أبغض الحالل إلى هللا الطالق) (‪)1‬‬
‫الطالق الحرام‪ :‬وه و في ثالث ص ور هي‪ :‬في الحيض بال ع وض منه ا وال‬
‫س ؤالها‪ ،‬والث اني في طه ر جامعه ا في ه قب ل بي ان الحم ل‪ ،‬والث الث إذا ك ان عن ده‬
‫زوجات يقسم لهن وطلق واحدة قبل أن يوفيها قسمها‪.‬‬
‫الطالق المندوب‪ :‬وهو عندما ال تكون المرأة عفيفة أو يخافا أو أح دهما أن ال‬
‫يقيما حدود هللا أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ونص الحنابلة على أن الطالق على خمسة أقسام(‪:)2‬‬
‫الطالق ال واجب‪ :‬وه و طالق الم ولي بع د ال تربص إذا أبى الفيئ ة‪ ،‬وطالق‬
‫الحكمين في الشقاق‪ ،‬إذا رأيا ذلك‪.‬‬
‫الطالق المك روه‪ :‬وه و الطالق من غ ير حاج ة إلي ه‪ ،‬وق ال القاض ي‪ :‬في ه‬
‫روايت ان؛ إح داهما‪ :‬أن ه مح رم؛ ألن ه ض رر بنفس ه وزوجت ه‪ ،‬وإع دام للمص لحة‬
‫الحاصلة لهما من غير حاجة إليه‪ ،‬فكان حراما‪ ،‬كإتالف المال‪ ،‬والثانية‪ ،‬أنه مباح‪.‬‬
‫الطالق المباح‪ :‬وهو عند الحاجة إلي ه لس وء خل ق الم رأة‪ ،‬وس وء عش رتها‪،‬‬
‫والتضرر بها من غير حصول الغرض بها‪.‬‬
‫الطالق المندوب‪ :‬وقد ذكروا له موضعين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عند تفريط المرأة في حقوق هللا الواجبة عليها‪ ،‬مثل الصالة ونحوها‪ ،‬وال‬
‫يمكن ه إجباره ا عليه ا‪ ،‬أو تك ون ل ه ام رأة غ ير عفيف ة‪ ،‬ق ال أحم د‪ :‬ال ينبغي ل ه‬
‫إمساكها؛ وذلك ألن فيه نقصا لدين ه‪ ،‬وال ي أمن إفس ادها لفراش ه‪ ،‬وإلحاقه ا ب ه ول دا‬
‫ليس هو منه‪ ،‬وال بأس بعضلها في هذه الحال‪ ،‬والتض ييق عليها؛ لتفت دي من ه‪ ،‬ق ال‬
‫ابن قدامة‪ :‬ويحتمل أن الطالق في هذين الموضعين واجب(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ الطالق في ح ال الش قاق‪ ،‬وفي الح ال ال تي تح وج الم رأة إلى المخالع ة‬
‫لتزيل عنها الضرر‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرج ه أب و داود ( ‪ ،2/255‬رقم ‪ ،)2178‬وابن ماج ه (‪ ،1/650‬رقم ‪ ،)2018‬والح اكم (‪ ،2/214‬رقم‬


‫‪ )2794‬وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪ .‬ووافقه الذهبى وقال‪ :‬على شرط مس لم‪ .‬وابن ع دى (‪ ،6/461‬ترجم ة ‪ 1941‬مع رف‬
‫بن واصل)‪ ،‬والبيهقى (‪ ،7/322‬رقم ‪)14671‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪ ،7/277 :‬وانظر‪ :‬كشاف القناع‪.5/232 :‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.7/277 :‬‬

‫‪17‬‬
‫الطالق المحرم‪ :‬وهو الطالق في الحيض‪ ،‬أو في طهر جامعها في ه‪ ،‬ق ال ابن‬
‫قدامة‪( :‬أجمع العلم اء في جمي ع األمص ار وك ل األعص ار على تحريم ه‪ ،‬ويس مى‬
‫طالق البدعة؛ ألن المطلق خالف السنة‪ ،‬وترك أمر هللا تعالى ورسوله) (‪)4‬‬
‫ونكتفي بهذين المذهبين‪ ،‬فسائر األقوال ال تكاد تخرج على ما ذكرا‪.‬‬
‫الحكمة من الطالق‬
‫يتصور الكثير من محدودي النظر‪ ،‬ال ذين يعش ون بأجس ادهم في مس تنقعات‬
‫من الدناءة‪ ،‬وبعقولهم في عوالم من المثل‪ ،‬بأن تش ريع الطالق جريم ة من الج رائم‬
‫وإثم من أكبر اآلثام‪.‬‬
‫وهذه النظرة ـ كالنظرة للتعدد أو الحجاب أو غيرها من أحكام الدين ـ نظ رة‬
‫ال عالقة لها بالواقع‪ ،‬ألن الدراسة المتمعنة للواقع وللفطرة البش رية ال ب د أن ته دي‬
‫إلى ضرورة إباحة الطالق وتشريع القوانين التي تحفظه من التعسف‪ ،‬وتحفظ آثاره‬
‫من الضياع‪.‬‬
‫أم ا اإلس الم فإن ه (يش رع ألن اس يعيش ون على األرض‪ ،‬لهم خصائص هم‪،‬‬
‫وطباعهم البش رية‪ ،‬ل ذا ش رع لهم كيفي ة الخالص من ه ذا العق د‪ ،‬إذا تع ثر العيش‪،‬‬
‫وض اقت الس بل‪ ،‬وفش لت الوس ائل لإلص الح‪ ،‬وه و في ه ذا واقعي ك ل الواقعي ة‪،‬‬
‫ومنصف كل اإلنصاف لكل من الرجل والمرأة‪.‬‬
‫فكث يراً م ا يح دث بين ال زوجين من األس باب وال دواعي‪ ،‬م ا يجع ل الطالق‬
‫ضرورة الزمة‪ ،‬ووسيلة متعين ة لتحقي ق الخ ير‪ ،‬واالس تقرار الع ائلي واالجتم اعي‬
‫لك ل منهم ا‪ ،‬فق د ي تزوج الرج ل والم رأة‪ ،‬ثم يت بين أن بينهم ا تباين ا ً في األخالق‪،‬‬
‫وتنافراً في الطباع‪ ،‬فيرى كل من الزوجين نفسه غريبا ً عن اآلخر‪ ،‬نافراً من ه‪ ،‬وق د‬
‫يطّل ع أح دهما من ص احبه بع د ال زواج على م ا ال يحب‪ ،‬وال يرض ى من س لوك‬
‫شخصي‪ ،‬أو عيب خفي‪ ،‬وقد يظهر أن الم رأة عقيم ال يتحق ق معه ا أس مى مقاص د‬
‫ال زواج‪ ،‬وه و ال ي رغب التع دد‪ ،‬أوال يس تطيعه‪ ،‬إلى غ ير ذل ك من األس باب‬
‫والدواعي‪ ،‬التي ال تتوفر معها المحبة بين الزوجين وال يتحق ق معه ا التع اون على‬
‫شؤون الحياة‪ ،‬والقيام بحقوق الزوجية كما أمر هللا‪ ،‬فيكون الطالق ل ذلك أم راً ال ب د‬
‫منه للخالص من رابطة الزواج التي أص بحت ال تحق ق المقص ود منه ا‪ ،‬وال تي ل و‬
‫ألزم الزوجان بالبق اء عليه ا‪ ،‬ألكلت الض غينة قلبيهم ا‪ ،‬ولك اد ك ل منهم ا لص احبه‪،‬‬
‫وسعى للخالص منه بما يتهيأ له من وسائل‪ ،‬وقد يكون ذل ك س ببا ً في انح راف ك ل‬
‫منهما‪ ،‬ومنفذاً لكثير من الشرور واآلثام‪.‬‬
‫له ذا ُش رع الطالق وس يلة للقض اء على تل ك المفاس د‪ ،‬وللتخلص من تل ك‬
‫الشرور‪ ،‬وليستبدل كل منهما بزوجه زوجا ً آخر‪ ،‬قد يجد مع ه م ا افتق ده م ع األول‪،‬‬
‫فيتحقق قول هللا تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن يَتَفَ َّرقَ ا يُ ْغ ِن هَّللا ُ كُاّل ً ِم ْن َس َعتِ ِه َو َك انَ هَّللا ُ َو ِ‬
‫اس عا ً َح ِكيم اً﴾‬
‫(النساء‪)130:‬‬

‫‪ )(4‬المغني‪.7/277 :‬‬

‫‪18‬‬
‫وه ذا ه و الح ل لتل ك المش كالت المس تحكمة المتف ق م ع منط ق العق ل‬
‫والضرورة‪ ،‬وطبائع البشر وظروف الحياة)‬
‫وقد كان الغرب ـ وهو الذي يتصور إيمان ه بالمس يحية وخض وعه للكنيس ة ـ‬
‫حياته متزمتا ملتزم ا بالزوج ة الواح دة ط ول العم ر‪ ،‬رافع ا ش عار المثالي ة‪ ،‬ولكن‬
‫الفطرة سرعان ما أغارت عليه‪ ،‬ليعترف بالطالق‪ ،‬ويقنن ل ه‪ ،‬ب ل إن نس بة ارتف اع‬
‫الطالق فيه تفوق التصور‪.‬‬
‫ونحن نورد هنا لمن يتصورون أن لهم الحق في مناقشة اإلسالم في تش ريعه‬
‫الطالق ما قاله (بيتام) رجل القانون اإلنجليزي‪ ،‬قال‪(:‬لو وضع مشروع قانونا ً يحرم‬
‫فض الشركات‪ ،‬ويمنع رف ع والي ة األوص ياء‪ ،‬وع زل ال وكالء‪ ،‬ومفارق ة الرفق اء‪،‬‬
‫لصاح الناس أجمعون‪ :‬أنه غاية الظلم‪ ،‬واعتقدوا صدوره من معتوه أو مجن ون‪ ،‬في ا‬
‫عجبا ً أن هذا األمر ال ذي يخ الف الفط رة‪ ،‬ويج افي الحكم ة‪ ،‬وتأب اه المص لحة‪ ،‬وال‬
‫يستقيم مع أصول التشريع‪ ،‬تق رره الق وانين بمج رد التعاق د بين ال زوجين في أك ثر‬
‫البالد المتمدنة‪ ،‬وكأنها تحاول إبعاد الناس عن الزواج‪ ،‬ف إن النهي عن الخ روج من‬
‫الشيء نهي عن الدخول فيه‪ ،‬وإذا كان وقوع النفرة واستحكام الشقاق والع داء‪ ،‬ليس‬
‫بعيد الوقوع‪ ،‬فأيهما خير؟‪ ..‬رب ط ال زوجين بحب ل م تين‪ ،‬لتأك ل الض غينة قلوبهم ا‪،‬‬
‫ويكيد كل منهما لآلخر؟ أم حل ما بينهما من رباط‪ ،‬وتمكين كل منهما من بن اء بيت‬
‫جدي د على دع ائم قوي ة؟‪ ،‬أو ليس اس تبدال زوج ب آخر‪ ،‬خ يراً من ض م خليل ة إلى‬
‫زوجة مهملة أو عشيق إلى زوج بغيض) (‪)1‬‬
‫زيادة على ه ذا‪ ،‬ف إن تش ريعات اإلس الم في ه ذا الج انب تحف ظ الطالق من‬
‫استعماله في غير ما وضع له‪ ،‬وتحفظ ك ل م ا ق د ينج ر عن ه من آث ار س لبية‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ه نفّ ر من الطالق وبغض ه إلى النف وس فق ال ‪(:‬يم ا ام رأة س ألت‬
‫زوجها الطالق في غير بأس‪ ،‬فحرام عليها رائحة الجنة)‪ ،‬وحذر من التهاون بش أنه‬
‫فقال ‪(:‬ما بال أحدكم يلعب بحدود هللا‪ ،‬يقول‪ :‬قد طلقت‪ ،‬قد راجعت)‬
‫‪ 2‬ـ أنه اعتبر الطالق آخر العالج‪ ،‬بحيث ال يصار إليه إال عند تف اقم األم ر‪،‬‬
‫واشتداد الداء‪ ،‬وحين ال يج دي عالج س واه‪ ،‬وأرش د إلى اتخ اذ الكث ير من الوس ائل‬
‫قبل أن يصار إليه‪ ،‬فرغب ال زوج في الص بر والتحم ل على الزوج ات‪ ،‬وإن ك انوا‬
‫َاش رُوه َُّن‬ ‫يكره ون منهن بعض األم ور‪ ،‬إبق اء للحي اة الزوجي ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬وع ِ‬
‫ُوف فَإِ ْن َك ِر ْهتُ ُم وه َُّن فَ َع َس ى أَ ْن تَ ْك َرهُ وا َش يْئا ً َويَجْ َع َل هَّللا ُ فِي ِه خَ ْي راً كثِ يرا ﴾‬
‫َ‬ ‫بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫(النساء‪)19:‬‬
‫ً‬
‫‪ 3‬ـ أن ه أرش د ال زوج إذا الح ظ من زوجت ه نش وزا إلى م ا يعالجه ا ب ه من‬
‫التأديب المتدرج‪ :‬الوعظ ثم الهجر‪ ،‬ثم الضرب غير الم برح‪ ،‬ق ال تع الى‪َ )﴿:‬والاَّل تِي‬
‫اض ِربُوه َُّن فَ إِ ْن أَطَ ْعنَ ُك ْم فَال‬‫اج ِع َو ْ‬
‫ض ِ‬ ‫تَخَافُونَ نُ ُشو َزه َُّن فَ ِعظُوه َُّن َوا ْه ُجرُوه َُّن فِي ْال َم َ‬

‫‪ )(1‬منقول من موقع ‪.islamunveiled‬‬

‫‪19‬‬
‫تَ ْب ُغوا َعلَ ْي ِه َّن َسبِيالً إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلِيّا ً َكبِيراً﴾(النساء‪)34:‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه ش رع التحكيم بينهم ا‪ ،‬إذا عج زا عن إص الح م ا بينهم ا‪ ،‬بوس ائلهما‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 5‬ـ أنه أرشد الزوجة إذا ما أحست فتورا في العالقة الزوجية‪ ،‬وميل زوجه ا‬
‫إليها إلى ما تحفظ به هذه العالق ة‪ ،‬ويك ون ل ه األث ر الحس ن في ع ودة النف وس إلى‬
‫صفائها‪ ،‬بأن تتنازل عن بعض حقوقها الزوجية‪ ،‬أو المالية‪ ،‬ترغيبا ً له بها وإصالحا ً‬
‫لما بينهما‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الطالق كما يكون لصالح الزوج‪ ،‬فإنه أيضا ً يكون لصالح الزوج ة في‬
‫كثير من األمور‪ ،‬فقد تكون هي الطالبة للطالق‪ ،‬الراغبة في ه‪ ،‬فال يق ف اإلس الم في‬
‫وج ه رغبته ا وفي ه ذا رف ع لش أنها‪ ،‬وتق دير له ا‪ ،‬ال اس تهانة بق درها‪ ،‬كم ا ي ّدعي‬
‫الم ّدعون‪ ،‬وإنما االستهانة بقدرها‪ ،‬بإغفال رغبتها‪ ،‬وإجباره ا على االرتب اط برب اط‬
‫تكرهه وتتأذى منه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن ه أثبت لألم حض انة أوالده ا الص غار‪ ،‬ولقريباته ا من بع دها‪ ،‬ح تى‬
‫يكبروا‪ ،‬وأوجب على األب نفقة أوالده‪ ،‬وأجور حضانتهم ورض اعتهم‪ ،‬ول و ك انت‬
‫األم هي التي تقوم بذلك‪.‬‬
‫النوع الثاني ـ الفسخ‬
‫تعريف الفسخ‪:‬‬
‫من التعاريف التي عرف بها الفسخ‪ ،‬مع التنبيه إلى أن ه ذه التع اريف ليس ت‬
‫مختصة بفسخ التفريق بين الزوجين‪ ،‬بل تشمله كما تشمل غيره‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ال يترتب على العقد أثر في المستقبل ال بطالن أثره أصال(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ الفسخ رفع األصل والوصف(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ االنفساخ انقالب كل واحد من العوضين إلى دافعه‪ ،‬والفسخ ه و قلب ك ل‬
‫واحد من العوضين إلى صاحبه(‪.)3‬‬
‫وقد فرق الفقهاء بين فرق ة الفس خ وفرق ة الطالق م ع أن كالهم ا فس خ‪ ،‬ب أن‬
‫(الفسخ الحقيقي هو الرافع للعقد كالفسخ بعيب المبيع أو الثمن المعين أو تل ف واح د‬
‫منهما قبل القبض‪ ،‬أو بعيب أحد الزوجين‪ .‬والمج از أن ال يك ون رافع ا‪ ،‬ب ل قاطع ا‬
‫كالطالق ليس رفعا لعقد النكاح بل قطعا للعصمة) (‪)4‬‬
‫أسباب الفسخ‪:‬‬
‫اختلفت المذاهب الفقهية في األسباب التي تكون بها الفرق ة فس خا بم ا يعس ر‬
‫ضبطه‪ ،‬ولذلك سنذكر هنا أقوال المذاهب الفقهي ة م ع إرج اء أدلته ا وتفاص يلها في‬
‫‪ )(1‬رد المحتار‪.5/705 :‬‬
‫‪ )(2‬بدائع الصنائع‪.5/176 :‬‬
‫‪ )( 3‬قال الزركشي بعد إيراده لهذا التعريف‪ «:‬وبذلك رددنا على أبي حنيفة أن الخل ع فس خ‪ ،‬ألن ه ال يش ترط‬
‫فيه رد الصداق فما انقلب كل واحد من العوضين لصاحبه فذهبت حقيقة الفسخ »‪ ،‬المنثور في القواعد الفقهية‪.3/42:‬‬
‫‪ )(4‬المنثور في القواعد الفقهية‪.3/48 :‬‬

‫‪20‬‬
‫محالها الخاصة بها‪:‬‬
‫مذهب الحنفية‪:‬‬
‫ً‬
‫نصوا على أن الفرقة الزوجية تكون فسخا في مواضع‪ ،‬منها(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ تباين الدار حقيقة وحكماً‪ ،‬ومعنى ذلك أن يترك أح د ال زوجين الحرب يين‬
‫دار الحرب إلى دار اإلسالم مس لما ً أو ذمي اً‪ ،‬ف إذا فع ل ذل ك ب انت من ه امرأت ه أم ا‬
‫المستأمن‪ ،‬وهو الذي يدخل دار اإلسالم بأمان لتجارة ونحوها بنية العودة إلى بالده‪،‬‬
‫فإن امرأته ال تبين منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ فساد العقد بسبب من األسباب كم ا إذا تزوجه ا بغ ير ش هود‪ ،‬أو إلى م دة‬
‫معينة‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬مما تقدم تفصيله في محاله المختلفة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يفعل ما يوجب حرمة المص اهرة بأص ول الم رأة االن اث وفروعه ا‪،‬‬
‫كأن يقبل بنت زوجته بش هوة‪ .‬أو أمه ا‪ .‬أو نح و ذل ك‪ ،‬مم ا ه و مفص ل في الفص ل‬
‫الخاصة بالموانع المؤبدة للزواج‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إذا فعلت الزوج ة م ا ي وجب حرم ة المص اهرة م ع أص وله‪ ،‬أو فروع ه‬
‫الذكور‪ ،‬كتقبيل ابن زوجها البالغ بشهوة‪ ،‬ونحوه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إسالم أحد الزوجين الكافرين في دار الحرب‪ ،‬فإذا أس لمت الزوج ة وهي‬
‫في دار الحرب تبين من زوجها الكافر بعد ثالث حيض كما ذكر في فصل الكفاءة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ترضع الزوج ة ض رتها الص غيرة‪ ،‬فإنه ا تص بح أمه ا في الرض اع‪،‬‬
‫فتبين من ه هي ومن أرض عتها وه ذه البينون ة فس خ ال طالق ألنهم ا يحرم ان علي ه‬
‫مؤبداً‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن يرتد أحد الزوجين‪ ،‬فإنه إذا وقع ذلك بانت منه امرأته فسخا ً ال طالقاً‪.‬‬
‫أم ا فرق ة الطالق‪ ،‬فتك ون فيم ا ع دا ه ذه المواض ع‪ ،‬ومنه ا ص ريح الطالق‬
‫وكنايته‪ ،‬والعيوب المفرقة بين الزوجين كالجب‪ .‬والعنة‪ ،‬والفرقة ب اإليالء‪ ،‬والفرق ة‬
‫باللعان‪.‬‬
‫وضابط ذلك عندهم أن كل فرقة جاءت من قب ل الم رأة ال بس بب من ال زوج‬
‫فهي فسخ‪ ،‬كخيار العت ق والبل وغ‪ ،‬وك ل فرق ة ج اءت من قب ل ال زوج فهي طالق‪،‬‬
‫كاإليالء والجب والعن ة‪ ،‬وإنم ا ك انت ردت ه فس خا م ع أنه ا من قبل ه ألن به ا ينتفي‬
‫الملك فينتفي الح ل‪ ،‬والفرق ة إنم ا ج اءت بالتن افي ال لوج ود المباش رة من ال زوج‪،‬‬
‫وإنما شرط القض اء في الفرق ة ب الجب‪ ،‬وم ا عط ف علي ه‪ ،‬ألن في أص لها ض عفا‪،‬‬
‫فتوقف عليه كالرجوع في الهبة‪ ،‬وفيه إيم اء إلى أن ال زوج ل و ك ان غائب ا لم يف رق‬
‫بينهما للزوم القضاء على الغائب‪.‬‬
‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫وقد نصوا على أن الفسخ ينقسم إلى قسمين(‪:)2‬‬

‫‪ )(1‬غمز عيون البصائر‪.2/104:‬‬


‫‪ )(2‬المنثور في القواعد الفقهية‪.3/24:‬‬

‫‪21‬‬
‫فس خ اختي اري‪ :‬ويش مل العي وب الخمس ة والغ رور وع دم الكف اءة ابت داء‬
‫ودوام ا‪ ،‬لي دخل الفس خ ب الخلف والعت ق تحت عب د‪ ،‬والعج ز عن الع وض؛ لي دخل‬
‫الفسخ باإلعسار بالنفقة وبالمهر قبل الدخول‪.‬‬
‫فسخ قهري‪ :‬وهو ما ينفسخ في ه بنفس ه‪ ،‬وال يتوق ف في ه على تفري ق الح اكم‬
‫وال أحد الزوجين‪ ،‬ومن أصنافه التي ذكروها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اختالف دين الزوجين بالردة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إسالم المشرك على أكثر من أربع ينفسخ في الزائد ق ال ابن الرفع ة‪ :‬من‬
‫اندفع نكاحها‪ ،‬فهو بطريق البينونة بال شك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اللعان‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الرضاع‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إسالم أحد الزوجين وتخلف اآلخر حتى انقضت العدة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ فرقة الردة‪.‬‬
‫أما التفري ق ب الطالق‪ ،‬فه و فيم ا ع دا الح االت الس ابقة‪ ،‬وهي ألف اظ الطالق‬
‫صريحة‪ ،‬وكناية والخلع‪ ،‬وفرقة اإليالء‪ ،‬وفرقة الحكمين‪ ،‬فإذا وك ل ال زوج حكمين‬
‫في تطليق امرأته أو وكلتهم ا الزوج ة في طالقه ا بع وض م الي ففعال‪ ،‬فإن ه يك ون‬
‫طالقا ً ال فسخاً‪.‬‬
‫مذهب المالكية‪:‬‬
‫اختل ف المالكي ة في تمي يز م ا يفس خ بطالق مم ا يفس خ بغ ير طالق ق ولين‪،‬‬
‫هما(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬أن كل نكاح كان للزوج أو للزوج ة أو لل ولي إمض اؤه وفس خه‬
‫ففسخه بطلق ة بائن ة‪ ،‬وم ا ك انوا مغل وبين على فس خه ففس خه بغ ير طالق‪ ،‬واألول‬
‫كنكاح األجن بي ي رده ال ولي‪ ،‬فالخي ار في ه لل ولي وإذا ك ان بالزوج ة عيب فالخي ار‬
‫للزوج‪ ،‬أو به عيب فالخي ار للزوج ة‪ ،‬ثم مث ل للث اني وه و م ا ك انوا مغل وبين على‬
‫فس خه بوالي ة الم رأة والعب د ونك اح الش غار والم ريض والمح رم بحج أو عم رة‪،‬‬
‫وكالصداق الفاسد قبل البناء‪ ،‬وكالمجمع على فسخه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن ما اختلف في إجازته وفسخه ففس خه بطالق كوالي ة الم رأة‬
‫والعبد ونكاح الشغار ونكاح المريض والمحرم وكالص داق الفاس د قب ل البن اء‪ ،‬وم ا‬
‫اتفق على فسخه ففسخه بغ ير طالق كالخامس ة وأخت الم رأة أو عمته ا أو خالته ا‪،‬‬
‫وقد روي عن مالك ورجع إليه ابن القاسم‪.‬‬
‫انطالقا من هذا فقد ذكروا المواضع التي تكون فيه ا الفرق ة فس خا وهي كم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫ً‬
‫الفسخ‪ :‬تكون الفرقة فسخا فيما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ في العقد الفاسد المجمع على فساده‪ ،‬ومنه نكاح المتعة على المعتمد‪.‬‬

‫‪ )(1‬شرح ميارة‪ ،1/248:‬وانظر‪ :‬شرح حدود ابن عرفة‪.177:‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ 2‬ـ الفرقة بالرضاع‪ ،‬فإنها فسخ بال طالق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الفرقة باللعان‪ ،‬فإنها توجب تأبيد التحريم‪ ،‬فال يحل له أن يتزوجها بحال‪،‬‬
‫فال يعتبر ذلك طالقاً‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الفرقة بسبب السبي‪ ،‬فإنها تقطع عالقة الزوجية بين الزوجين‪ ،‬فإذا سبيت‬
‫المرأة الحربية وهي كافرة وزوجها غير كافر‪ ،‬فإنه ا تص ير غ ير زوج ة ل ه فتح ل‬
‫لغيره بمجرد أن تحيض مرة واحدة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين‪ ،‬فإن الفرقة بينهما فسخ بغير طالق‪.‬‬
‫وما عدا هذه الحاالت‪ ،‬فهو طالق‪ ،‬وهو كما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كل عقد فاسد مختلف فساده كنكاح الشغار‪،‬ونك اح الس ر‪ ،‬والنك اح ب دون‬
‫ولي ونحو ذلك مما تقدم في محله‪ ،‬فكل عقد فاسد عند المالكية صحيح عن د غ يرهم‬
‫فإنه يفسخ بطالق يحس ب من ع دد الطلق ات‪ ،‬أم ا إذا ك ان مجمع ا ً على فس اده فإن ه‬
‫يفسخ بغير طالق‪ ،‬ومن ذلك العقد على امرأة في عدة الغير‪ ،‬أو العق د على محرم ة‬
‫من المحارم‪ ،‬أو العقد على خامسة وتحت ه أربع ة‪ ،‬أو نح و ذل ك من العق ود المجم ع‬
‫على فسادها فإنها تفسخ بغير طالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ فسخ الح اكم ب الغيب طالق ب ائن‪ ،‬س واء طل ق ه و أو أمره ا ب أن تطل ق‬
‫نفسها إال إذا كان موليا ً وطلق عليه‪ ،‬فإن طالق الحاكم في هذه الحالة يكون رجعي اً‪،‬‬
‫ومثله ما إذا طل ق علي ه الح اكم بس بب اإلعس ار عن دف ع النفق ة ف إن طالق ه يك ون‬
‫رجعياً‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الردة طالق بائن على المشهور‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الخلع‪ ،‬وهو طالق صريح عندهم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الطالق الصريح‪ ،‬والكناية‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ الفرقة بسبب اإليالء طالق‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الفرق ة بس بب العيب طالق‪ ،‬في أمره القاض ي ب الطالق أو يطل ق علي ه‬
‫القاضي أو جماعة المسلمين‪ .‬أو يأمرها به فتطلق نفسها‪ ،‬ويحكم القاضي به أو يثبته‬
‫طالقا ً على الخالف في الطالق ب العيب‪ ،‬إال أن ه ب ائن في العيب ورجعي في اإليالء‬
‫إال إذا طلق هو رجعياً‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ الفرقة بسبب اإلعسار عن دفع الصداق أو دفع النفقة‪ ،‬ف إن الح اكم يطل ق‬
‫عليه طلقة واحدة رجعية إن أبى عن تطليقها‪ ،‬أو يأمره ا ب أن تطل ق نفس ها ثم يحكم‬
‫به كما تقدم‪.‬‬
‫مذهب الحنابلة‪:‬‬
‫وقد نصوا على أن الفسخ يكون في أمور هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الخلع إذا كان بغير لفظ الطالق أو نيته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ردة أحد الزوجين‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الفرقة لعيب من العيوب ال تي س نذكرها في ه ذا الفص ل‪ ،‬وال يفس خه إال‬
‫حاكم‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الفرقة بسبب إعساره عن دفع الصداق والنفقة ونحوها‪ ،‬وال يفس خه إال ح اكم‬
‫أيضاً‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إسالم أحد الزوجين‪ ،‬وينفسخ نكاحهما إذا انقضت عدتها‪ ،‬أم ا إذا أس لمت‬
‫المرأة ثم أسلم زوجها وهي في العدة فإن نكاحهما يبقى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ فرقة اإليالء‪ ،‬وهي منوطة بالحاكم كما سنرى في محله‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ الفرقة بسبب اللعان فإن اللعان يوجب التحريم بينهما على التأبيد‪ ،‬ول و لم‬
‫يحكم به القاضي بحيث ال تحل له بعد ذلك‪.‬‬
‫أما الطالق‪ ،‬فهو فيما عدا هذه األحوال المذكورة‪.‬‬
‫مذهب الظاهرية‪:‬‬
‫ذكر ابن حزم أن ما يقع به فسخ النكاح بعد صحته ثمانية أوجه فقط‪ ،‬هي(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تصير حريمة برضاع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يطأها أبوه‪ ،‬أو جده بجهالة؛ أو بقصد إلى الزنا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يتم التعانه والتعانها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن تكون أمة فتعتق‪ ،‬فلها الخيار في فسخ نكاحها من زوجها أو إبقائه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ اختالف الدينين إال في جهة واح دة‪ ،‬وهي أن يس لم ال زوج وهي كتابي ة‪،‬‬
‫فإنهما يبقيان على نكاحهما‪ ،‬وينقسم اختالف دينهما في غير ذلك إلى خمس ة أقس ام‪:‬‬
‫أن يسلم هو وهي كافرة غ ير كتابي ة‪ ،‬أو أن تس لم هي‪ ،‬وه و ك افر كت ابي‪ ،‬أو غ ير‬
‫كتابي‪ ،‬أو أن يرتد هو دونها‪ ،‬أو أن ترتد هي دونه‪ ،‬أو أن يرت دا مع ا‪ .‬ففي ك ل ه ذه‬
‫الوجوه ينفسخ نكاحهما سواء أسلم إثر إس المها‪ ،‬أو أس لمت إث ر إس المه‪ ،‬أو راج ع‬
‫اإلس الم‪ ،‬أو راجعت اإلس الم‪ ،‬أو راجع اه مع ا‪ ،‬ال ترج ع إلي ه في ك ل ذل ك إال‬
‫برضاهما وبصداق‪ ،‬وبولي‪ ،‬وإشهاد‪ .‬وال يجب أن يراعى في ذل ك ش يء من ع دة‪،‬‬
‫وال عرض إسالم‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن يملكها‪ ،‬أو بعضها‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن تملكه أو بعضه‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ موته أو موتها‪ ،‬وال خالف في ذلك‪.‬‬
‫مذهب الزيدية‪:‬‬
‫وقد نصوا على أن الفسخ يكون بأحد أمور أربعة (‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكون ملتهما واحدة حال الزوجية‪ ،‬ثم يطرأ عليها اختالف فإن ه يرتف ع‬
‫النكاح بينهما بتجدد اختالف الملتين بينهما سواء ارتدا عن اإلسالم أم كان ا يه وديين‬
‫فتنصروا أم العكس في وقتين ال في وقت والتبس فهم ا على نكاحهم ا‪ ،‬ومث ال ذل ك‬
‫أن يكون ا مس لمين فيرت د أح دهما أو ك افرين فيس لم أح دهما أو يه وديين فيتنص ر‬
‫أحدهما أو العكس فقد اختلفت ملتهما في جميع هذه الصور وهي كلها توجب ارتفاع‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/329 :‬‬
‫‪ )(2‬التاج المذهب‪.2/180 :‬‬

‫‪24‬‬
‫النكاح بينهما‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تجدد ال رق عليهم ا‪ ،‬ومث ال ذل ك أن يكون ا ك افرين في دار الح رب ول و‬
‫ممل وكين لح ربي فيس بيهما المس لمون أو غ يرهم‪ ،‬أو كان ا رقين مس لمين لمس لم‬
‫فسباهما أهل الحرب فإنهما يملكا في الصورتين وينفسخ النكاح بتجدد الرق عليهم ا‬
‫أو على أحدهما نحو أن يسبى الزوج وحده أو الزوجة وحدها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ملك أحدهما اآلخر أو بعضه‪ ،‬وذلك نحو أن تك ون هي ح رة وه و عب د‪،‬‬
‫فتشتريه أو ترثه أو يوهب لها أو نحو ذلك‪ ،‬أو هو الحر فيملكه ا ب أي ه ذه الوج وه‪،‬‬
‫فإن النكاح يرتفع بينهما‪ ،‬وال ينفسخ النكاح بأن يملك أحدهما اآلخر أو بعضه إال إذا‬
‫كان ملك الرقبة ال المنفعة نافذا كالبيع بغير خيار واإلرث مع عدم االستغراق ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬فأما إذا لم يكن قد نفذ لم ينفسخ النكاح حتى ينفذ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ رضاع طرأ بعد الزوجية صيرها محرما نحو أن ترضع زوجها الصغير‬
‫أو ترضعه أختها أو ترضع زوجة له أخرى صغيرة أو نحو ذل ك وهك ذا ل و ك انت‬
‫هي الصغيرة فأرضعتها أم الزوج أو زوجته أو نحو ذلك‪.‬‬
‫مذهب اإلمامية‪:‬‬
‫من الموارد التي ذكروا فيها حق الزوجين في الفسخ ما يس مى خي ار العيب‪،‬‬
‫فإذا علم الزوج بعد العقد بوج ود أح د العي وب الس تة اآلتي ة في الزوج ة حين العق د‬
‫فيكون له الفسخ من دون طالق‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجنون ولو كان أدوارياً‪ ،‬وليس منه اإلغماء والصرع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الجذام‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ البرص‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ العمى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ العرج ولو لم يبلغ ح ّد اإلقعاد‪.‬‬
‫وال يثبت الخيار للزوج في العيوب المتقدمة إذا حدثت بعد العقد وإن كان قبل‬
‫الوطء‪.‬‬
‫ونصوا على أنه يثبت خيار العيب للزوجة إذا كان الزوج ممجبوبا ً أو مصابا ً‬
‫بالعنن سواء كان الجب أو العنن سابقا ً على العق د أم ك ان حادث ا ً بع ده أو بع د العق د‬
‫والوطء معاً‪..‬‬
‫واختلفوا في ثبوت خيار العيب لها في جن ون ال زوج س واء ك ان س ابقا ً على‬
‫العقد أم حادثا ً بعده أو بعد العقد والوطء أم ال؟ وكذا فيما لو كان خصيا ً حين العقد أو‬
‫وجيّا ً أو مجذوما ً أو أبرص‪ ،‬فإن اختارت الفسخ فال ي ترك االحتي اط في جمي ع ذل ك‬
‫بعدم ترتيب أثر الزوجية أو الفرقة إالّ بعد تجديد العقد أو الطالق‪.‬‬
‫ونصوا على أنه يجوز للرجل الفسخ بعيب الم رأة من دون إذن الح اكم وك ذا‬
‫ترض الم رأة بالص بر مع ه ال يح ق‬ ‫َ‬ ‫المرأة بعيب الرجل‪ ،‬نعم مع ثبوت العنن إذا لم‬
‫له ا الفس خ إالّ بع د رف ع أمره ا إلى الح اكم الش رعي‪ ..‬وإذا علم بش هادة الط بيب‬
‫األخصائي الموثوق به أن الزوج سوف ال يقدر على الوطء أبداً جاز لها الفس خ من‬

‫‪25‬‬
‫دون االنتظار إلى تمام السنة‪.‬‬
‫ونصوا على أن ه إذا فس خ الرج ل بأح د عي وب الم رأة ف إن ك ان الفس خ بع د‬
‫الدخول استحقّت المرأة تمام المهر وعليها العدة كما في الطالق وإن كان الفسخ قبله‬
‫ق شيئا ً وال ع ّدة عليها‪ .‬هذا إذا لم يكن تدليس‪ ،‬وأم ا م ع الت دليس ( المتحق ق‬
‫لم تستح ّ‬
‫بتوص يف الم رأة للرج ل عن د إرادة ال زواج بالس المة من العيب م ع العلم ب ه أو‬
‫بالسكوت عن بيان العيب ممن عليه البيان مع إقدام ال زوج بارتك از الس المة من ه )‬
‫فإن كان المدلِّس نفس المرأة لم تس تحق المه ر إذا اخت ار الرج ل الفس خ وإن اخت ار‬
‫البقاء فعليه تمام المهر لها‪ ،‬وإن كان المدلّس غ ير الزوج ة ف المهر المس مى يس تق ّر‬
‫ق له بعد دفعه إليها أن يرجع به على المدلِّس‪.‬‬
‫على الزوج بالدخول ولكن يح ّ‬
‫وإذا فسخت المرأة بعيب الرجل استحقت تمام المهر إن كان بعد الدخول وإن‬
‫كان قبله لم تستحق شيئا ً إالّ في العنن فإنها تستحق عليه في ه نص ف المه ر المس مى‬
‫(‪.)1‬‬

‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في تصنيف أنواع الفرقة الزوجية هو أنه يمكن تقسيمها إلى‬
‫أربعة أنواع‪ ،‬وليس ذلك من باب التصنيف العلمي فق ط‪ ،‬وإنم ا لكث ير من المقاص د‬
‫التي ترتبط بهذا التصنيف‪ ،‬وهذه األصناف هي‪:‬‬
‫الطالق‪ :‬ويختص بحالة واح دة‪ ،‬وهي التفري ق الحاص ل من ال زوج لزوجت ه‬
‫قصدا من غير إكراه‪ ،‬فلذلك لو أكرهه القاضي على تطليقها ال يعت بر طالق ا‪ ،‬وإنم ا‬
‫يدخل في التفريق القضائي‪ ،‬ألن الزوج لم يفعل غ ير م ا أم ره القاض ي دون قص د‬
‫من ه ل ذلك‪ ،‬والمص لحة ال تي نري دها من ه ذا الحص ر‪ ،‬ه و تض ييق ع دد الطالق‪،‬‬
‫والحفاظ على ف رص الرجع ة‪ ،‬ألن اعتب ار التفري ق القض ائي مثال طالق ا يقل ل من‬
‫الفرص التي جعلها للشرع للزوج للرجع ة‪ ،‬ومث ل ذل ك اعتب ار الخل ع أو اإليالء أو‬
‫غيرها من أنواع التفريق‪.‬‬
‫والدليل الشرعي على ذلك سنفصله في محله‪ ،‬ولكن من باب االختص ار ف إن‬
‫النص وص الش رعية لم ت ذكر الطالق إال مرتبط ا بالرج ل‪ ،‬ثم قي دت ه ذا االرتب اط‬
‫بالقصد‪ ،‬فدل مجموع هذين على أن الطالق هو ما كانت هذه صفته ال غير‪.‬‬
‫حل العصمة الزوجية بي د الم رأة‪ :‬ول ه موض ع واح د ه و الخل ع‪ ،‬ويمكن أن‬
‫يضاف إليه التفريق للضرر من غير قضاء القاضي كم ا نص المالكي ة‪ ،‬أو التفري ق‬
‫بالتمليك والتخيير كما نص أكثر الفقهاء‪ ،‬وسنناقش اعتبار ذلك في محله‪ ،‬وك ل ه ذه‬
‫األن واع يمكن تس ميتها فس خا‪ ،‬باعتباره ا ال ت ؤثر في ع دد الطالق‪ ،‬وال تنتج عنه ا‬
‫آثار الطالق‪.‬‬
‫حل العصمة الزوجية بيد القضاء‪ :‬وه و التفري ق المرتب ط بقض اء القاض ي‪،‬‬
‫الحتياجه إلى التح ري والتوثي ق والتأك د‪ ،‬وأك ثر م ا يك ون ه ذا الن وع من التفري ق‬
‫‪ )(1‬انظر المسائل المنتخبة للسيد علي السيستاني‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫مرتبطا بمطالبة الزوجة أو الزوج‪ ،‬وه ذا التفري ق ال ي ؤثر ك ذلك في ع دد الطالق‪،‬‬
‫وال يحرم الزوج من الفرص التي جعلها الشرع له‪.‬‬
‫ح ل العص مة الزوجي ة المعل ق بالكف ارة‪ :‬وه و نوع ان‪ :‬الظه ار واإليالء‬
‫فأحكامهم ا أق رب إلى مس ائل األيم ان منه ا بمس ائل الطالق‪ ،‬وم ا دعان ا إلى ع دم‬
‫إدراج هذا النوع في أنواع التفريق األخرى‪ ،‬هو الحرص على بيان عدم تشابه ه ذا‬
‫النوع مع سائر األنواع‪ ،‬في حقيقته أو أحكامه‪ ،‬ألن بعض الفقهاء خلطوا أحكام ه ذا‬
‫النوع بسائر األحكام مما نشر االعتقاد من أن هذا النوع طالق كسائر الطالق‪.‬‬
‫أما سائر األنواع األخرى التي ذكره ا الفقه اء‪ ،‬وأدرجوه ا في الفس خ بس بب‬
‫فساد الزواج أو بطالنه‪ ،‬فليست من ه ذا الب اب ألن ال زواج الباط ل‪ ،‬وه و المجم ع‬
‫على بطالنه بحسب تعريف الجمهور ليس زواجا‪ ،‬فلذلك ال يسمى التفريق في ه ب أي‬
‫اسم من األسماء‪ ،‬ألن األسماء الشرعية توضع للحقائق الشرعية ال لغيرها‪.‬‬
‫أم ا ال زواج الفاس د‪ ،‬وه و المختل ف في ه‪ ،‬وال ذي اعت بر في ه الفقه اء آراءهم‬
‫ومذاهبهم ك إجراء العق د ب دون ش هود‪ ،‬ف إن المالكي ة ق الوا‪ :‬بص حة العق د من غ ير‬
‫شهود‪ ،‬خالفا للجمهور‪ ،‬والزواج من أم المزني به ا‪ ،‬والمنظ ور إليه ا بش هوة‪ ،‬ف إن‬
‫العقد عليها صحيح عند بعض الفقهاء فاسد عند بعضهم‪ ،‬فإن هذا الن وع من ال زواج‬
‫ال يص ح تس ميته زواج ا فاس دا‪ ،‬ألن من العلم اء المجته دين من يص ححه‪ ،‬فل ذلك‬
‫األرجح في تسميته هو أن ه (زواج مختل ف في ه)‪ ،‬وه ذا ال زواج ال يص ح فس خه أو‬
‫التفريق فيه بين الزوجين إال إذا رأى ولي األمر ذلك‪ ،‬فيكون من باب الوالية ال من‬
‫ب اب الفت وى‪ ،‬ألن المف تي ال يح ق ل ه أن يف رض قناعت ه على غ يره في المس ائل‬
‫المختلف فيها‪.‬‬
‫ثانيا ـ المقاصد الشرعية من أحكام الفرقة الزوجية‬
‫من حكم الش رع الجليل ة أن ه لم يقص ر التفري ق في ال زواج على جنس دون‬
‫جنس‪ ،‬بل وضع لكل من الرجل والمرأة النوع الذي يخصه من التفري ق‪ ،‬وفي ذل ك‬
‫حكم جليلة ومقاصد الشريفة‪ ،‬سنذكر بعضها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حق الرجل في التفريق‬
‫لقد خص الشرع الرج ل دون الم رأة ب التطليق‪ ،‬وق د تح دث الفقه اء هن ا عن‬
‫الحكم ة من اش تراط ال ذكورة في المطل ق‪ ،‬ويمكن جم ع الحكم الم ذكورة في ثالث ة‬
‫حكم ترجع لثالثة معان هي‪ :‬طبيعة الرجل وطبيع ة الم رأة والتك اليف المعلق ة على‬
‫الرجل‪ ،‬فكل واحد من هذه الثالث ة يقتض ي أن يجع ل الطالق بي د الرج ل‪ ،‬ألن ه من‬
‫المفسدة العظيمة جعله بيد كليهما‪:‬‬
‫طبيعة الرجل‪:‬‬
‫فالرجل في مثل هذه األمور أقوى وأك ثر ص برا من الم رأة‪ ،‬وأك ثر احتم اال‬
‫لألذى‪ ،‬وقد ذكرنا بعض مبررات ذلك في محله من هذه السلسلة‪.‬‬
‫التكاليف المالية التي أنيطت بالرجل‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫وهي ح ق للم رأة‪ ،‬وه ذه التك اليف ق د تق ف ح اجزا بين الرج ل وبين إيق اع‬
‫الطالق ألي نزوة‪ ،،‬فالشريعة قد كلفت الرج ل باإلنف اق على الم رأة وأوالده ا من ه‬
‫حال قيام الزوجية وبعدها‪ ،‬وكلفته بأن يبذل لها صداقا ً ق د يك ون بعض ه م ؤجالً إلى‬
‫الطالق‪ ،‬وأن ي دفع له ا أج رة حض انة ورض اع إن ك ان ل ه منه ا أوالد في س ن‬
‫الحضانة والرضاع‪ ،‬وهذا كله يستلزم نفقات يجب أن يحس ب حس ابها بع د الف راق‪،‬‬
‫فمن العدل أن يكون الطالق بيد الرجل ال بيد المرأة‪ ،‬ألنه هو الذي يغرم المال‪.‬‬
‫طبيعة المرأة‪:‬‬
‫فالمرأة مهما أوتيت من حكم ة فإنه ا س ريعة الت أثر بطبيعته ا‪ ،‬فليس له ا من‬
‫الجلد والصبر مثل ما للرجل‪ ،‬فلو كان الطالق بيدها فإنه ا تس تعمله أس وأ اس تعمال‬
‫ألنه ا ال تس تطيع ض بط نفس ها كم ا يس تطيع الرج ل‪ ،‬فمن الع دل والمحافظ ة على‬
‫استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطالق بيد الرجل ال بيد المرأة‪ ،‬زيادة على ذلك‬
‫أنه ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينه ا وبين إيق اع الطالق‪ ،‬ب ل ربم ا زين له ا‬
‫غضبها إيقاع الطالق إلرغام زوجها على دفع حقوقها لترهقه بذلك انتقاما ً منه‪.‬‬
‫ثم إن من كرامة المرأة أن ال يك ون الطالق بي دها‪ ،‬ألن ه ل و ك ان بي دها‪ ،‬ولم‬
‫تف ارق زوجه ا بع د أي خالف يحص ل ق د يش عرها ذل ك بأنه ا تف رض نفس ها على‬
‫زوجها فرضا‪ ،‬فلذلك من كرامتها أن تجعل كون األم ر بي د زوجه ا ذريع ة للحف اظ‬
‫على تواجدها في بيت الزوجية‪.‬‬
‫وم ع ذل ك ف إن هن اك بعض المفاس د ال تي ق د تنتج عن الطالق نتيج ة س وء‬
‫اس تخدامه من الرج ل‪ ،‬ولكن تل ك المفاس د ال يص ح اعتباره ا أص ال يلغى الطالق‬
‫بسببها ألن المفاسد الناتجة عن إلغائه أخط ر وأك ثر من المفاس د المتعلق ة بوج وده‪،‬‬
‫وقد ذكر ابن القيم تعارض المصالح والمفاس د في الطالق‪ ،‬وبين رجح ان المص الح‬
‫فيها عند ذكره للحيلة السريجية‪ ،‬والتي يتوهم محتالوها أن ه به ا يمكن إلغ اء الطالق‬
‫كلي ة‪ ،‬فال يمكن للرج ل تطلي ق زوجت ه‪ ،‬وتص وروا ذل ك مص لحة محض ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(الش رائع العام ة لم تبن على الص ور الن ادرة‪ ،‬ول و ك ان لعم وم المطلقين في ه ذا‬
‫مص لحة لك انت حكم ة أحكم الح اكمين تمن ع الرج ال من الطالق بالكلي ة‪ ،‬وتجع ل‬
‫الزوج في ذلك بمنزلة المرأة ال تتمكن من فراق زوجه ا‪ ،‬ولكن حكمت ه تع الى أولى‬
‫وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئي ة ال تي في مراعاته ا تعطي ل مص لحة أك بر‬
‫منه ا وأهم‪ ،‬وقاع دة الش رع والق در تحص يل أعلى المص لحتين وإن ف ات أدناهم ا‪،‬‬
‫ودفع أعلى المفسدتين وإن وق ع أدناهم ا‪ ،‬وهك ذا م ا نحن في ه س واء؛ ف إن مص لحة‬
‫تمليك الرجال الطالق أعلى وأكبر من مصلحة سده عليهم‪ ،‬ومفسدة سده عليهم أكبر‬
‫من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم‪ .‬وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح‬
‫وعدل ورحمة‪ ،‬وإنما العبث والجور والشدة في خالفها) (‪)1‬‬
‫ثم إن الواقع بعد هذا يدل على هذا فقد حرمت المسيحية الطالق تحريم ا ً بات ا ً‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.3/217:‬‬

‫‪28‬‬
‫عند الكاثوليك‪ ،‬وباس تثناء عل ة الزن ا عن د األورث وذكس‪ ،‬فك انت النتيج ة أن خ رج‬
‫الكثير من المسيحيين على هذا التحريم‪ ،‬مما اضطر معظم الدول المسيحية إلى س ن‬
‫ق وانين وض عية‪ ،‬ت بيح لهم الطالق بغ ير القي ود ال تي ش رعها اإلس الم‪ ،‬فص اروا‬
‫يطلقون ألتفه األسباب‪ ،‬وأصبحت حياتهم الزوجي ة عرض ة لالنحالل في ك ل حين‪،‬‬
‫بل صاروا يغيرون الزوجات كما يغيرون تسريحات الشعر وأنواع الثياب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حق المرأة في التفريق‬
‫وقد جعل الشرع للمرأة من األسباب التي تحفظ حقها في التفري ق بينه ا وبين‬
‫زوجها ما يمنع من تسلط الزوج عليها‪ ،‬ويحفظ حقوقها‪ ،‬فال تستشعر أي قيد يفرضه‬
‫زوجها عليه غير القيود التي تحتمها العشرة الزوجية‪ ،‬وسنذكر هنا باختصار بعض‬
‫هذه األنواع‪ ،‬والتي سنفصل الحديث عنها في محلها من هذا الجزء‪:‬‬
‫تشريع الخلع‪:‬‬
‫وهو طالق المرأة لزوجها ببذلها ما أعط اه له ا من مه ر‪ ،‬وال يس تغرب ه ذا‬
‫التعريف للخلع‪ ،‬ألن التفاصيل ال تي ذكره ا الفقه اء ل ه‪ ،‬وال تي س نراها في الفص ل‬
‫الخاص به تصب في ذلك‪.‬‬
‫وأسبابه ال تعدو من نفور المرأة من زوجها‪ ،‬وقد يكون نفورا ذوقي ا ال م برر‬
‫له في الرجل‪ ،‬وقد وردت التعابير الكث يرة عن الس لف م ا ي دل على ذل ك‪ ،‬فق د ق ال‬
‫الحسن البصري‪( :‬إذا قالت المرأة ال أطيع ل ك أم را وال أغتس ل ل ك من جناب ة وال‬
‫أبر لك قسما حل الخلع(‪ ،‬وقال عطاء بن أبى رب اح‪ (:‬يح ل الخل ع واألخ ذ أن تق ول‬
‫المرأة لزوجها‪ :‬إنى أكره ك وال أحب ك(‪ ،‬وق ال مال ك‪(:‬لم أزل اس مع ذل ك من أه ل‬
‫العلم‪ ،‬وهو األمر المجتم ع علي ه عن دنا‪ ،‬وه و أن الرج ل إذا لم يض ر ب المرأة‪ ،‬ولم‬
‫يسئ إليها‪ ،‬ولم ت ؤت من قبل ه‪ ،‬وأحبت فراق ه‪ ،‬فإن ه يح ل ل ه أن يأخ ذ منه ا ك ل م ا‬
‫افتدت به‪ ،‬وإن كان النشوز من قبله بأن يض يق عليه ا ويض رها رد عليه ا م ا أخ ذ‬
‫منها) (‪)1‬‬
‫بل قد ورد في السنة ما يدل على ذل ك‪ ،‬ففي الح ديث ال ذي تس تند إلي ه معظم‬
‫التفاصيل الفقهية المتعلقة به نرى هذا االعتبار‪ ،‬فقد جاءت ام رأة ث ابت بن قيس إلى‬
‫النبي ‪ ‬فقالت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬م ا أنقم على ث ابت في دين وال خل ق‪ ،‬إال أني أخ اف‬
‫الكفر‪ .‬فقال رسول هللا ‪ :‬أتردين عليه حديقت ه؟ ق الت‪ :‬نعم‪ .‬فردته ا علي ه‪ ،‬وأم ره‬
‫ففارقها‪ .‬وفي رواية‪ ،‬فقال له‪( :‬اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) (‪)2‬‬
‫فقد كان سبب مخالعتها هو أنها كانت تبغضه أشد البغض‪ ،‬مع أنه كان يحبه ا‬
‫أشد الحب ففرق رسول هللا ‪ ‬بينهما بطريق الخلع‪ ،‬كما روي عن ابن عباس ق ال‪:‬‬
‫أول من خالع في اإلسالم أخت عبد هللا بن أبى‪ ،‬أتت النبى ‪ ‬فقالت‪ :‬ي ا رس ول هللا‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.3/139:‬‬
‫‪ )(2‬البخ اري‪ ،5/2022:‬مجم ع الزوائ د‪ ،5/4 :‬ال بيهقي‪ ،7/313 :‬ال دارقطني‪ ،3/254 :‬النس ائي‪،3/369 :‬‬
‫المجتبى‪ ،6/169 :‬ابن ماجة‪ ،1/663 :‬سنن سعيد بن منصور‪ ،379 :‬مصنف عبد الرزاق‪ ،6/482 :‬أحمد‪،2/296 :‬‬
‫‪.4/3‬‬

‫‪29‬‬
‫ال يجتمع رأسي ورأسه أبدا‪ ،‬إنى رفعت جانب الخباء‪ ،‬فرأيته أقب ل في ع دة‪ ،‬إذ ه و‬
‫أشدهم سوادا‪ ،‬وأقصرهم قامة‪ ،‬وأقبحهم وجه ا‪ ،‬فق ال‪ :‬أت ردين علي ه حديقت ه ق الت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬وإن شاء زدته‪ ،‬ففرق بينهما‪.‬‬
‫وألجل كون العلة منها والنفور بسببها‪ ،‬فإن الحكمة تقتضي أن ت رد علي ه م ا‬
‫بذل لها عساه أن يتزوج غيرها‪ ،‬وإال تضرر ضررا محضا‪ ،‬بل يص بح ذل ك مله اة‬
‫فتتزوج المرأة م تى تش اء‪ ،‬وتطل ق م تى أحبت دون أن تتض رر أدنى ض رر بينم ا‬
‫يعاني الرجل األمرين مرارة فراق زوجته‪ ،‬ومرارة خسارة ماله‪.‬‬
‫تشريع التفريق القضائي‪:‬‬
‫وقد شرع كبديل للخلع حتى ال تفقد الم رأة حقه ا في ماله ا‪ ،‬وح تى ال يتس لط‬
‫الزوج عليها‪ ،‬ألن ولي أمر المسلمين في تلك الحالة له الحق في فسخ ال زواج بينه ا‬
‫وبينه‪.‬‬
‫ومعظم دواعي التفريق القضائي تعود لمصلحة المرأة‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬فمن ذلك‬
‫مثال التفريق لتضييق الرجل على زوجته في النفقة أو تفريطه فيه ا باعتب اره قوام ا‬
‫عليها‪ ،‬فقد نص الفقهاء على أن المرأة في هذه الحالة مخيرة بين الصبر عليه‪ ،‬وبين‬
‫فراقه‪ ،‬وأن للقاضي أن يفرق بينهما له ذا العج ز واإلعس ار كمال ه أن يف رق بينهم ا‬
‫المتناعه عن اإلنفاق مع قدرته عليه واستدلوا على ذلك بق ول هللا تع الى‪ ﴿ :‬فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ك‬
‫ان﴾(البقرة‪ ،)229:‬وليس اإلمساك مع ترك اإلنفاق إمساكا‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫بِ َم ْعر ٍ‬
‫بمع روف‪ ،‬فيتعين التس ريح‪ ،‬وبقول ه ‪ (:‬تق ول الم رأة إم ا أن تطعم ني وإم ا أن‬
‫تطلقني‪ ،‬ويقول العبد أطعمني واس تعملني‪ ،‬ويق ول الول د إلى من ت دعني)(‪ ،)1‬وعن‬
‫ابن أبي الزن اد‪ ،‬ق ال‪ :‬س ألت س عيد بن المس يب عن الرج ل ال يج د م ا ينف ق على‬
‫امرأته‪ ،‬أيفرق بينهما؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬سنة؟ قال‪ :‬س نة‪ ،‬وه ذا التعب ير ينص رف إلى‬
‫سنة رسول هللا ‪.‬‬
‫ومن ذلك التفريق لثبوت الضرر من الزوج‪ ،‬فقد نص الفقهاء على هذا الح ق‬
‫في مواضع مختلف ة‪ ،‬ب ل ورد عن مال ك أن للم رأة أن تطل ق نفس ها من ه‪ ،‬من غ ير‬
‫ع وض‪ ،‬ففي العتبي ة من رواي ة عب د المل ك بن الحس ن عن ابن وهب فيمن تش كت‬
‫امرأته ضرره‪ ،‬فأشهد لها إن عاد فهي مصدقة في ذلك‪ ،‬وأمرها بيدها تطل ق نفس ها‬
‫ألبت ة‪ ،‬فأش هدت بع د أي ام وزوجه ا غ ائب أن زوجه ا ع اد إلى أذاه ا‪ ،‬وأنه ا طلقت‬
‫نفسها‪ ،‬وأنكر الزوج أن يكون أذاها ثم قدمت المرأة وزعمت أنها كذبت فيم ا ش كت‬
‫من األذى وال يعرف ذلك إال بقولها قال‪ :‬قد بانت منه ولزمه ما قضت؛ ألن ه جعله ا‬
‫مصدقة وقال مثله أشهب(‪.)2‬‬
‫وغيرها من أنواع التفريق كالتفريق للعيوب والفقد والغيبة واللعان وغيره ا‪،‬‬
‫وكلها تصب في مصالح الزوجة‪ ،‬كما سنرى تفاصيلها في محلها‪.‬‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخارى ( ‪ ،5/2048‬رقم ‪ ،)5040‬وابن حبان ( ‪ 8/149‬رقم ‪ .)3363‬وأخرجه أيضا‪ :‬البيهقى (‬
‫‪ ،7/470‬رقم ‪)15488‬‬
‫‪ )(2‬المنتقى‪.4/65:‬‬

‫‪30‬‬
‫ثالثا ـ أسس الترجيح في مسائل الطالق‬
‫اختلفت مواقف الفقهاء من أحكام الطالق اختالف ا ش ديدا متباين ا‪ ،‬بحيث ك ان فيه ا‬
‫المتشدد الذي يسرع بالتطليق ألتفه األسباب‪ ،‬وألبس ط الص يغ‪ ،‬ب ل يوقع ه بائن ا بينون ة ال‬
‫ينفك عنها إال بتزوجها زوجا آخر‪ ،‬ب ل أزواج ا آخ رين كم ا في ه ذه المس ألة ال تي نص‬
‫عليها المالكية بقولهم‪(:‬إن شك أطلق زوجته طلقة واحدة أو اثنتين أو ثالثا؟ لم تحل إال بعد‬
‫زوج الحتمال كونه ثالثا‪ ،‬ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فال تحل إال بعد‬
‫زوج‪ ،‬الحتمال أن يكون المشكوك فيه اثنتين وهذه ثالث ة‪ ،‬ثم إن تزوجه ا وطلقه ا ال تح ل‬
‫إال بعد زوج‪ ،‬الحتمال أن يكون المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان‪ ،‬ثم إن طلقه ا‬
‫ثالثة بعد زوج لم تحل إال بعد زوج‪ ،‬الحتمال أن يك ون المش كوك في ه ثالث ا‪ ،‬وق د تحق ق‬
‫بعدها ثالث وهكذا لغير نهاية‪ ،‬إال أن يبت طالقه ا ك أن يق ول أنت ط الق ثالث ا‪ ،‬أو إن لم‬
‫يكن طالقي عليك ثالثا فقد أوقعت عليك تكملة الثالث‪ ،‬فينقطع الدور وتحل ل ه بع د زوج‬
‫هذه المسألة الدوالبية‪ ،‬لدوران الشك فيها) (‪)1‬‬
‫وكما نص الحنفي ة في طالق المخطئ أن من أراد أن يق ول المرأت ه اس قيني‬
‫م اء فق ال له ا‪ :‬أنت ط الق‪ ،‬وق ع‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك ب أن الف ائت بالخط أ ليس إال‬
‫القصد‪ ،‬وهو ليس شرطا لوقوع الطالق كالهازل والالعب بالطالق(‪.)2‬‬
‫ومنهم في مقاب ل ذل ك من ح اول أن يلغي الطالق إلغ اء كلي ا بوض ع الص يغ‬
‫التي تحبس صاحبها عن التعليق‪ ،‬وتجعل كل ما وضع الشارع من أس اليب للتفري ق‬
‫بين الزوجين لغوا وهدارا‪ ،‬كهذه الصيغة المنسوبة البن سريج‪ ،‬فقد نص وا على أن ه‬
‫لو قال‪ :‬كلما طلقتك فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬ال يقع منه الطالق بعد ذلك؛ ألنه ل و وق ع‬
‫لزم وقوع م ا عل ق ب ه وه و الثالث‪ ،‬وإذا وقعت الثالث امتن ع وق وع ه ذا المنج ز‪،‬‬
‫فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه‪ ،‬وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد(‪.)3‬‬

‫‪ )(1‬حاشية الصاوي‪ ،2/590 :‬وانظر‪ :‬التاج واإلكليل‪ ،4/88:‬الشرح الكبير‪.2/403 :‬‬


‫‪ )(2‬بدائع الصنائع‪ ،3/101:‬ومما يروى من التس اهل في الطالق واللعب ب ه أن رجال من الع رب طل ق في‬
‫يوم خمس نسوة‪.‬وذلك أنه دخل عليهن يوما فوجدهن متالحيات متنازعات وكان شنظيرا‪ .‬فقال‪ :‬إلى متى هذا التن ازع‬
‫ما إخال هذا األمر إال من قبلك يقول ذلك المرأة منهن اذهبي فأنت طالق‪ .‬فقالت ل ه ص احبتها‪ :‬عجلت عليه ا الطالق‬
‫ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا‪ .‬فقال لها‪ :‬وأنت أيضا طالق‪ .‬فقالت الثالثة‪ :‬قبح ك هللا فوهللا لق د كانت ا إلي ك محس نتين‬
‫وعليك مفضلتين‪ .‬فقال‪ :‬وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا‪ .‬فقالت له الرابع ة وك انت هاللي ة وفيه ا أن اة ش ديدة‪:‬‬
‫ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إال بالطالق‪ .‬فقال لها‪ :‬وأنت طالق أيضا‪ .‬وك ان ذل ك بمس مع ج ارة ل ه فأش رفت‬
‫عليه وقد سمعت كالمه فقالت‪ :‬وهللا ما شهدت الع رب علي ك وعلى قوم ك بالض عف إال لم ا بل وه منكم ووج دوه فيكم‬
‫أبيت إال طالق نسائك في ساعة واحدة‪ .‬قال‪ :‬وأنت أيض ا أيته ا المؤنب ة المتكلف ة ط الق إن أج از زوج ك‪ .‬فأجاب ه من‬
‫داخل بيته‪ :‬هيه قد أجزت قد أجزت‪.‬‬
‫ومن ذلك أن المغيرة بن شعبة دخل على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخل ل حين انفتلت من ص الة الغ داة فق ال‬
‫لها‪ :‬إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة وإن كنت تتخللين من طع ام البارح ة إن ك لبش عة كنت فبنت‪ .‬فق الت‪:‬‬
‫وهللا ما اغتبطنا إذا كنا وال أسفنا إذ بنا وما هو لشيء مما ذكرت ولكني استكت فتخللت للسواك‪ .‬فخرج المغيرة نادم ا‬
‫على ما كان منه‪.‬‬
‫‪ )(3‬المنثور في القواعد الفقهية‪.2/157 :‬‬

‫‪31‬‬
‫وذكر ابن دقيق العيد وجها آخر معاكسا له ذه الحيل ة‪ ،‬فق ال‪( :‬الحيل ة في ح ل‬
‫الدور‪ :‬أن يعكس‪ ،‬فيقول‪ :‬كلم ا لم يق ع علي ك طالقي‪ ،‬ف أنت ط الق قبل ه ثالث ا‪ ،‬ف إذا‬
‫طلقه ا وجب أن يق ع الثالث؛ ألن الطالق القبلي ‪ -‬والحال ة ه ذه ‪ -‬معل ق على‬
‫النقيضين‪ ،‬وهو الوقوع وعدمه وكل ما كان الزما للنقيض ين‪ ،‬فه و واق ع ض رورة‪،‬‬
‫ويشبهه قولهم في الوكالة‪ :‬كلما عزلتك‪ ،‬ف أنت وكيلي‪ ،‬نف اذ الع زل‪ :‬أن يق ول‪ :‬كلم ا‬
‫عدت وكيلي‪ ،‬فأنت معزول‪ ،‬ثم يعزله) (‪)1‬‬
‫وقد أضاف السيوطي إلى هذا نظائر أخرى‪ ،‬فقال‪(:‬ذكر نظائر ه ذه المس ألة‪،‬‬
‫قال‪ :‬إن آليت من ك‪ ،‬أو ظ اهرت من ك‪ ،‬أو فس خت بعيب ك؛ أو العنت ك‪ ،‬أو راجعت ك‬
‫فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬ثم وجد المعلق ب ه لم يق ع الطالق وفي ص حته األوج ه) (‪،)2‬‬
‫وبهذا شملت هذه الحيلة معظم ما وضعه الشرع من وسائل التفري ق بين ال زوجين‪،‬‬
‫فينتفي ما وضعه الشارع من المصالح التي قد تدعو إليها الحاجة للتفريق‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن تيمية الس بب ال داعي لوض ع ه ذه الص يغة واالحتي ال به ا على‬
‫عدم وقوع الطالق‪ ،‬فقال‪(:‬وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المس ألة لالحتي ال‬
‫على دفع الطالق أم قاله ط ردا لقي اس اعتق د ص حته‪ ،‬واحت ال به ا من بع ده‪ ،‬لك ني‬
‫رأيت مص نفا لبعض المت أخرين بع د المائ ة الخامس ة ص نفه في ه ذه المس ألة‪،‬‬
‫ومقصوده بها االحتي ال على ع دم وق وع الطالق‪ ،‬وله ذا ص اغوها بقول ه‪ :‬إذا وق ع‬
‫عليك طالقي فأنت طالق قبله ثالثا؛ ألنه لو قالوا إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثالث ا لم‬
‫تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كالهما في الدور سواء) (‪)3‬‬
‫وبين هذين الموقفين المتناقضين وقف بعض العلم اء مواق ف نراه ا وس طية‬
‫مقاصدية ال هي بالمتشددة‪ ،‬فتقطع العصمة بسبب وبغ ير س بب‪ ،‬وال هي متراخي ة‪،‬‬
‫فتزيل الطالق بالكلية‪ ،‬وهذا الموقف يمثله علماء كثيرون ومن مذاهب مختلفة‪.‬‬
‫ومنهم ابن تيمية‪ ،‬وتبعه ابن القيم في كثير مما ذكره‪ ،‬بل زاد عليه في مس ائل‬
‫كثيرة‪ ،‬وقد كان موقفه من طالق الغضبان داعية للرصافي لوض ع قص يدة تمدح ه‪،‬‬
‫وترد في نفس الوقت على الفقهاء الذي يبالغون في إيقاع الطالق‪ ،‬سنذكر منه ا هن ا‬
‫ما يتعلق بهذا الباب‪ ،‬قال الرصافي‪:‬‬
‫بم ا في الش رع ليس ل ه‬ ‫أال ق ل في الطالق لموقعي ه‬
‫وب‬ ‫وج‬
‫يض يق ببعض ه الش رع‬ ‫غل وتم في دي انتكم غل وا‬
‫رحيب‬ ‫ال‬
‫من التعس ير عن دكم‬ ‫يرا وأنتم‬ ‫أراد هللا تيس‬
‫روب‬ ‫ض‬
‫لكم فيهن ال لهم ال ذنوب‬ ‫وق د حلت ب أمتكم ك روب‬

‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬األشباه والنظائر‪.381 :‬‬


‫‪ )(2‬األشباه والنظائر‪.381 :‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.4/142:‬‬

‫‪32‬‬
‫يك اد إذا نفخت ل ه ي ذوب‬ ‫وهي حبل الزواج ورق ح تى‬
‫به في الجو ه اجرة حل وب‬ ‫كخيط من لعاب الشمس أدلت‬
‫ويقطعه من النس م الهب وب‬ ‫واه نفث‬ ‫ه من األف‬ ‫يمزق‬
‫وبعد أن ذكر مواقف الفقهاء المتشددة أتبعها بالثناء على ابن القيم وشيخه ابن‬
‫تيمية‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫دع اهم للص واب فلم‬ ‫فدى ابن القيم الفقهاء كم قد‬
‫وا‬ ‫يجيب‬
‫ومزدج ر لمن ه و‬ ‫ففي إعالم ه للن اس رش د‬
‫تريب‬ ‫مس‬
‫نحاه ا ش يخه الح بر‬ ‫نح ا فيم ا أت اه طري ق علم‬
‫األديب‬
‫من الغ الين لم تع ه‬ ‫وبين حكم دين هللا لكن‬
‫وب‬ ‫القل‬
‫ا فيخيب منهم من‬ ‫لن‬ ‫لع ل هللا يح دث بع د أم را‬
‫يخيب‬
‫هذا عند علماء المدرسة السنية‪ ،‬أما اإلمامي ة فهم أوس ع الم ذاهب الفقهي ة في‬
‫باب الطالق‪ ،‬وأقرب إلى مقاصد الشريعة في هذا الباب‪.‬‬
‫يقول عـالء آل جـعـفـر في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) مبين ا وجه ة نظ ر‬
‫اإلمامية في مسائل الطالق‪(:‬وع رفت أن من ش أن ذل ك الرب ط [ أي عق د ال زواج]‬
‫وطبيعته ـ م ع إرس ال العق د وإطالق ه ـ أن يبقى وي دوم إلى الم وت‪ ،‬ب ل وم ا بع د‬
‫الم وت‪ ،‬إال أن يحص ل ل ه راف ع يرفع ه‪ ،‬وعام ل يزيل ه‪ ،‬ولم ا ك انت الحاج ة‬
‫والضرورة‪ ،‬والظروف واألحوال قد تستوجب ح ل ذل ك الرب ط‪ ،‬وف ك تل ك العق دة‪،‬‬
‫ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك‪ ،‬لذلك جعل الشارع الحكيم أسبابا ً رافعة‪،‬‬
‫وعوامل قاطعة‪ ،‬تقطع ذلك الحبل‪ ،‬وتفصل ذلك الوصل‪.‬‬
‫فإن كانت النفرة والكراهة من الزوج‪ ،‬فالطالق بيده‪ ،‬وإن كانت من الزوج ة‬
‫فالخلع بيدها‪ ،‬وإن كان منهما فالمباراة بي دهما‪ ،‬ولك ل واح د منه ا أحك ام وش روط‪،‬‬
‫ومواقع خاصة ال تتعداها‪ ،‬وال يقوم سواها مقامها‪.‬‬
‫ولكن لما كان دين االسالم دين ا ً اجتماعي اً‪ ،‬وأساس ه التوحي د والوح دة‪ ،‬وأهم‬
‫مقاصده االتفاق واإللفة‪ ،‬وأبغض األشياء اليه التقاطع والفرق ة‪ ،‬ل ذلك ورد في كث ير‬
‫من األحاديث ما يدل على كراهة الطالق والردع عنه‪ ،‬فكانت الحاجة والس عة على‬
‫العباد‪ ،‬وجعلهم في فسحة من األمر تقتضي بتشريعه‪ ،‬والرحم ة والحكم ة‪ ،‬وإرش اد‬
‫العباد إلى مواضع جهلهم بالعاقب ة‪ ﴿:‬فَ َع َس ى أَ ْن تَ ْك َرهُ وا َش يْئا ً َويَجْ َع َل هَّللا ُ فِي ِه خَ ْي راً‬
‫َكثِيراً)(النساء‪ )19:‬كل ذلك يقتضي التح ذير من ه‪ ،‬وال ردع عن ه‪ ،‬واألم ر ب التروي‬
‫والتبصر فيه) (‪)1‬‬

‫‪ )(1‬أصل الشيعة وأصولها‪.278 :‬‬

‫‪33‬‬
‫وانطالقا من ه ذه النظ رة المقاص دية ح دد وجه ة نظ ر اإلمامي ة في مس ائل‬
‫الطالق‪ ،‬فقال‪(:‬ونظراً لهذه الغاية‪ ،‬جعل الشارع الحكيم للطالق قيوداً كثيرة‪ ،‬وشرط‬
‫في ه ش روطا ً عدي دة‪ ،‬حرص ا ً على تقليل ه وندرت ه‪ ،‬والش يء إذا ك ثرت قي وده‪ ،‬ع ز‬
‫وجوده‪ ،‬فكان من أهم شرائطه ـ عند اإلمامية ـ‪ :‬حضور شاهدين ع دلين‪َ ﴿:‬وأَ ْش ِهدُوا‬
‫َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُكم)(الطالق‪ ،)2:‬فلو وقع الطالق ب دون حض ورهما ك ان ب اطالً‪ ،‬وفي‬
‫ه ذا أب دع ذريع ة‪ ،‬وأنف ع وس يلة‪ ،‬إلى تحص يل الوئ ام‪ ،‬وقط ع م واد الخص ام بين‬
‫الزوجين‪ ،‬فإن للعدول وأهل الصالح مكانة وتاثيراً في النفوس‪ ،‬كم ا أن من واجبهم‬
‫اإلصالح والموعظة‪ ،‬وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصمين إلى مجاريه ا‪ ،‬ف اذا‬
‫لم تنج ع نص ائحهم ومس اعيهم في ك ل حادث ة‪ ،‬فال أق ل من التخفي ف والتلطي ف‪،‬‬
‫والتأثير في عدد كثير) (‪)1‬‬
‫ثم ينتقد ما علي ه الح ال عن د أه ل الس نة‪ ،‬فيق ول‪(:‬وق د ض اعت ه ذه الفلس فة‬
‫الشرعية على إخوانن ا من علم اء الس نة‪ ،‬فلم يش ترطوا حض ور الع دلين‪ ،‬فاتس عت‬
‫دائرة الطالق عندهم‪ ،‬وعظمت المصيبة فيه‪ ،‬وق د غف ل الكث ير من ا ومنهم عن تل ك‬
‫الحكم العالي ة‪ ،‬والمقاص د الس امية‪ ،‬في أحك ام الش ريعة اإلس إلمية‪ ،‬واألس رار‬
‫بالس عادة من جمي ع أطرافه ا‪ ،‬ولم ا‬ ‫اإلجتماعية‪ ،‬التي لو عمل المسلمون بها ألخذوا ّ‬
‫وقعوا في هذا الشقاء التعيس‪ ،‬والعيش الخس يس‪ ،‬واختالل النظ ام الع ائلي في أك ثر‬
‫البيوت)‬
‫ثم ذك ر بعض الن واحي ال تي ذهب إليه ا اإلمامي ة وال تي تؤي د النظ رة‬
‫المقاصدية التي التزموها‪ ،‬فقال‪(:‬ومن أهم شرائط الطالق أيضاً‪ :‬أن ال يكون ال زوج‬
‫مكره ا ً ومتهيج اً‪ ،‬أو في ح ال غض ب وانزع اج‪ ،‬وأن تك ون الزوج ة ط اهرة من‬
‫الحيض‪ ،‬وفي طهر لم يواقعها فيه‪ .‬وقد اتفقت اإلمامي ة أيض ا ً على أن طالق الثالث‬
‫واحدة‪ ،‬فلو طلقها ثالثا ً لم تحرم عليه‪ ،‬ويجوز ل ه مراجعته ا‪ ،‬والتحت اج إلى محل ل‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لو راجعها ثم طلقها وهكذا ثالثا ً حرمت عليه في الطالق الث الث‪ ،‬وال تح ل ل ه‬
‫حتى تنكح زوجا ً غيره‪ ،‬ولو طلقها ثم راجعها تسع مرات مع تخل ل المحل ل ح رمت‬
‫عليه في التاسعة حرمة مؤبدة) (‪)2‬‬
‫***‬
‫انطالقا من هذا سنذكر هنا األسس التي يق وم عليه ا م ا ن راه من ترجيح ات‬
‫في هذا الباب‪ ،‬وهي بالتالي نوع من االستدالل على كل ما سنذكره‪:‬‬
‫األساس األول ـ اعتبار كل االجتهادات الفقهية‬
‫وقد عبر القدماء عن هذه القاعدة بأن ك ل مجته د مص يب‪ ،‬ونقص د بالمجته د‬
‫هن ا من اس تكمل أدوات االجته اد‪ ،‬ونقص د باالجته ادات م ا ك ان من أهله ا‪ ،‬ول و‬
‫اعتبرها البعض ش ذوذا أو أق واال ض عيفة ال س ند له ا‪ ،‬أو ق وال مرجوح ا‪ ،‬أو ق وال‬

‫‪ )(1‬أصل الشيعة وأصولها‪.278 :‬‬


‫‪ )(2‬أصل الشيعة وأصولها‪.280 :‬‬

‫‪34‬‬
‫مهجورا‪ ،‬ألن هذه األق وال جميع ا ق د يك ون فيه ا وج ه من الح ق يس تدعي ت رجيح‬
‫العمل بها في حاجة من الحاجات أو لمصلحة من المصالح‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا األساس ابن القيم‪ ،‬بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة اعتب ار‬
‫أن كل مجتهد مصيب ـ وذلك عن د بيان ه لمخ ارج الطالق‪ ،‬فق د عق د فص وال مهم ة‬
‫للمخارج من الوق وع في التحلي ل‪ ،‬ق ال في مق دمتها‪(:‬أي ق ول من أق وال المس لمين‬
‫خ رج ب ه من لعن ة رس ول هللا ‪ ‬ك ان أع ذر عن د هللا ورس وله ومالئكت ه وعب اده‬
‫المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه‪ ،‬ومباءته باللعنة) (‪)1‬‬
‫ثم ذك ر مص دره ال ذي اعتم ده الس تنباط ه ذه المخ ارج‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إن ه ذه‬
‫المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكت اب والس نة أو أح دهما أو أف تى ب ه‬
‫الصحابة‪ ،‬بحيث ال يعرف عنهم فيه خالف‪ ،‬أو أفتى به بعضهم‪ ،‬أو ه و خ ارج عن‬
‫أقوالهم‪ ،‬أو هو قول جمهور األمة أو بعضهم أو إمام من األئمة األربعة‪ ،‬أو أتب اعهم‬
‫أو غيرهم من علماء اإلس الم‪ ،‬وال تخ رج ه ذه القاع دة ال تي ن ذكرها عن ذل ك‪ ،‬فال‬
‫يكاد يوصل إلى التحليل بعد مج اوزة جميعه ا إال في أن در الن ادر‪ ،‬وال ريب أن من‬
‫نصح هلل ورسوله وكتابه ودينه‪ ،‬ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منه ا ارتكب فه و‬
‫أولى من التحليل) (‪)2‬‬
‫وه ذه القاع دة تس تدعي إحس ان الظن بالعلم اء‪ ،‬واللج وء إليهم على اختالف‬
‫مذاهبهم لعالج المشكالت الواقعي ة‪ ،‬وإص الح م ا يفس ده المتعص بون ال ذين يفت ون‬
‫ب آرائهم‪ ،‬أو بم ا يفهمون ه من األدل ة‪ ،‬بغض النظ ر عن الواق ع وحاج ات الن اس‬
‫ومصالحهم‪.‬‬
‫وقد نص ابن القيم على أنه إذا حلف بالطالق أال يكلم فالنا أو ال ي دخل داره‪،‬‬
‫فأفت اه مفت بع دم وق وع الطالق في ه ذه اليمين‪ ،‬اعتق ادا لق ول علي بن أبي ط الب‬
‫وطاوس وشريح‪ ،‬أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة االلتزام دون ص يغة‬
‫الش رط‪ ،‬أو اعتق ادا لق ول أش هب أن ه إذا عل ق الطالق بفع ل الزوج ة أن ه لم يحنث‬
‫بفعلها‪ ،‬أو اعتقادا لقول أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطالق‬
‫المعلق ال يصح كما ال يصح النكاح والبيع والوقف المعلق‪ ،‬وهو مذهب جماع ة من‬
‫أهل الظاهر‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬لم يحنث في ذلك كله‪ ،‬ولم يقع الطالق‪ ،‬ول و ف رض فس اد ه ذه‬
‫األقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه مت أوال مقل دا ظان ا أن ه ال يحنث ب ه‪ ،‬فه و‬
‫أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي‪ ،‬وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم‬
‫يستقص‪ ،‬ولم يسأل غير من أفتاه‪ ،‬وهذا بعين ه يق ال في الجاه ل إن ه مف رط حيث لم‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/47 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/47 :‬‬

‫‪35‬‬
‫يبحث‪ ،‬ولم يسأل عن المحلوف عليه‪ ،‬فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاه ل ألبت ة‪،‬‬
‫فكيف والمتأول مطيع هلل مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟)(‪)1‬‬
‫ثم ساق األمثلة الكثيرة على عدم مؤاخذة المقل د أو المت أول‪ ،‬ومنه ا أن الن بي‬
‫‪ ‬لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل بني جذيمة بع د إس المهم‪ ،‬ولم يؤاخ ذ أس امة‬
‫حين قتل من قال ال إله إال هللا ألجل التأوي ل‪ ،‬ولم يؤاخ ذ من أك ل نه ارا في الص وم‬
‫عمدا ألجل التأويل‪ ،‬ولم يؤاخذ أصحابه حين قتل وا من س لم عليهم‪ ،‬وأخ ذوا غنيمت ه‬
‫ألجل التأويل‪ ،‬ولم يؤاخذ المستحاضة بتركه ا الص وم والص الة ألج ل التأوي ل‪ ،‬ولم‬
‫يؤاخذ عمر حين ترك الص الة لم ا أجنب في الس فر‪ ،‬ولم يج د م اء‪ ،‬ولم يؤاخ ذ من‬
‫تمعك في التراب كتمعك الداب ة وص لى ألج ل التأوي ل‪ ،‬ولم يؤاخ ذ الن بي ‪ ‬عم ر‬
‫حين رمى حاطب بن أبي بلتعة الم ؤمن الب دري بالنف اق ألج ل التأوي ل‪ ،‬ولم يؤاخ ذ‬
‫أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج‪(:‬إن ك من افق تج ادل عن المن افقين) ألج ل‬
‫التأويل‪ ،‬ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم‪(:‬ذلك المنافق ن رى وجه ه وحديث ه‬
‫إلى المنافقين) ألجل التأويل‪.‬‬
‫قال ابن القيم بعد عرضه له ذه األدل ة وغيره ا على ع دم المؤاخ ذة بالتأوي ل‬
‫والتقليد‪(:‬فال يحل ألحد أن يفرق بين رجل وامرأته ألمر يخالف مذهبه وقول ه ال ذي‬
‫قلد فيه بغير حجة؛ فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فال يحل له أن‬
‫يحكم عليه بأنه حانث في حكم هللا ورسوله‪ ،‬ولم يتعمد الحنث‪ ،‬بل هذه فرية على هللا‬
‫ورسوله وعلى الحالف‪ ،‬وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك‪ ،‬ول ه‬
‫مقام‪ ،‬وأي مقام بين يدي هللا يوم ال ينفعه شيخه وال مذهبه ومن قلده) (‪)2‬‬
‫واعتب ار أن ك ل مجته د مص يب‪ ،‬ل ه قيم ة عظيم ة فيم ا يس مى باالجته اد‬
‫االنتقائي الذي يختار المفتي فيه أص لح م ا ي راه للن اس‪ ،‬ويعت بر الم ذاهب المختلف ة‬
‫كلها وجوها من الشريعة يضع كل واحد منها في موضعه الخاص‪.‬‬
‫ولع ل أحس ن من اس تدل له ذه القاع دة‪ ،‬وانتص ر له ا في واق ع ك ان يم وج‬
‫بالتعصب للمذاهب المختلفة هو اإلمام أبو حام د الغ زالي‪ ،‬وس نذكر هن ا أدلت ه على‬
‫هذه القاعدة‪ ،‬وإجابته عن الشبه التي أثارها المخالفون‪ ،‬وهي عين الشبه التي ينطلق‬
‫منها من يف تي جمي ع الن اس بق ول واح د‪ ،‬وي داوي أمراض هم جميع ا بعالج واح د‪،‬‬
‫فيشفي قوما‪ ،‬ويقتل أقواما‪.‬‬
‫قال الغزالي بعد ذكره للخالف في المسألة‪(:‬والمختار عندنا وهو ال ذي نقط ع‬
‫به ونخطئ المخالف في ه أن ك ل مجته د في الظني ات مص يب وأنه ا ليس فيه ا حكم‬
‫معين هلل تعالى)(‪ ،)3‬ثم ساق األدلة على اعتبار هذه القاعدة‪ ،‬فقسم األدلة التي يستدل‬
‫بها الفقهاء إلى نوعين من األدلة‪:‬‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/89 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/90 :‬‬
‫‪ )(3‬المستصفى‪.1/352 :‬‬

‫‪36‬‬
‫النوع األول‪ :‬أدلة نصية قاطعة ال مجال فيها للنظر‪ ،‬وال يصح الخطأ فيها إال‬
‫مع عدم بلوغه ا‪ ،‬وه و م ا إذا ك ان في المس ألة نص للش ارع أخط أه المجته د‪ ،‬ق ال‬
‫الغزالي‪(:‬ينظر‪ ،‬فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه‬
‫فقصر ولم يطلب فهو مخطئ وآثم بسبب تقصيره؛ ألنه كل ف الطلب المق دور علي ه‬
‫فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم هللا تعالى عليه) (‪)1‬‬
‫فالخطأ فيه هذه الحالة معتبر‪ ،‬وال يصح القول معها بأن كل مجته د مص يب‪،‬‬
‫ألن هن اك مرجع ا ينبغي أن يرج ع إلي ه المجته د‪ ،‬ولكن ه لم يفع ل‪ ،‬أم ا إذا لم يبلغ ه‬
‫النص ال لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المس افة وت أخير المبل غ والنص‬
‫قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فهذا يختلف حكمه‪ ،‬قال الغزالي‪(:‬قد يس مى مخطئ ا‬
‫مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه‪ ،‬ولكنه قبل البل وغ‬
‫ليس حكم ا في حق ه فليس مخطئ ا حقيق ة؛ وذل ك أن ه ل و ص لى الن بي ‪ ‬إلى بيت‬
‫المقدس بعد أن أمر هللا تعالى جبريل أن ينزل على محمد ‪ ‬ويخبره بتحويل القبل ة‬
‫فال يكون النبي مخطئا؛ ألن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فال يكون مخطئا في‬
‫صالته‪ ،‬فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخ رج بع د‬
‫إليهم النبي ‪ ‬وال مناد من جهته فليسوا مخطئين‪ ،‬إذ ذلك ليس حكم ا في حقهم قب ل‬
‫بلوغه؛ فلو بلغ ذلك أبا بكر وعم ر واس تمر س كان مك ة على اس تقبال بيت المق دس‬
‫قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين؛ ألنهم ليسوا مقصرين) (‪)2‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬المسائل غ ير النص ية‪ ،‬وهي ال تي ال نص فيه ا‪ ،‬وهي موض ع‬
‫الكالم في ه ذه القاع دة‪ ،‬وإليه ا ترج ع أك ثر االختالف ات الفقهي ة‪ ،‬وق د ب دأ الغ زالي‬
‫استدالله على هذا النوع بهذا التس اؤل الوجي ه‪(:‬كي ف يتص ور الخط أ فيه ا؟)(‪ )3‬أو‬
‫بعب ارة أك ثر وض وحا‪ :‬م ا ه و المرج ع ال ذي نف رق ب ه بين االجته اد المص يب‬
‫واالجتهاد المخطئ مع عدم الدليل النصي‪.‬‬
‫وقد وضع الغزالي االحتماالت الممكنة في ذل ك‪ ،‬وأج اب عنه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إن‬
‫قيل‪ :‬فرض تم المس ألة حيث ال دلي ل على الحكم المنص وص ونحن نخطئ ه إذا ك ان‬
‫عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه‪ ،‬قلنا‪ :‬عليه دليل قاطع أو دليل ظني؟ فإن‬
‫كان عليه دليل قاطع فلم يعثر علي ه وه و ق ادر علي ه فه و آثم ع اص ويجب تأثيم ه‬
‫وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كالمية‪ ،‬وإنما‬
‫كالمنا في مس ائل ليس عليه ا دلي ل ق اطع‪ ،‬ول و ك ان لنب ه علي ه من ع ثر علي ه من‬
‫الصحابة غيره ولشدد اإلنكار عليهم‪ ،‬فإن الدليل الق اطع في مث ل ه ذه المس ألة نص‬
‫صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به وال يتطرق الش ك إلي ه والتنبي ه‬
‫على ذلك سهل‪ ،‬أفيقولون‪ :‬لم يعثر عليه جميع الصحابة م فأخطأ أهل اإلجماع الحق‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/352 :‬‬
‫‪ )(2‬المستصفى‪.1/352 :‬‬
‫‪ )(3‬المستصفى‪.1/353 :‬‬

‫‪37‬‬
‫أو عرف ه بعض هم وكتم ه أو أظه ره فلم يفهم ه اآلخ رون أو فهم وه فعان دوا الح ق‬
‫وخ الفوا النص الص ريح وم ا يج ري مج راه؟ وجمي ع ه ذه االحتم االت مقط وع‬
‫ببطالنها) (‪)1‬‬
‫ثم ذك ر انطالق ا من أن معظم المس ائل الفقهي ة مس ائل ظني ة‪ ،‬بس ببها وق ع‬
‫الخالف‪ ،‬وليس هناك مرجع يرجع إليه في إثبات المصيب‪ ،‬فإن القول بتخطئة واحد‬
‫منهم تخطئة مطلقة ال يصح‪ ،‬قال الغ زالي‪(:‬ومن نظ ر في المس ائل الفقهي ة ال تي ال‬
‫نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها‪ ،‬وإذا انتفى الدليل فتكليف اإلصابة من‬
‫غير دليل قاطع تكليف محال‪ ،‬فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ) (‪)2‬‬
‫وقد يحتج هنا من يبالغ في القول بقطعية الظني بناء على قناعت ه الشخص ية‪،‬‬
‫وهو ما يحصل اآلن في أكثر مواطن الخالف‪ ،‬قال الغ زالي ردا على ه ذه الش بهة‪:‬‬
‫(األمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها‪ ،‬بل يختلف ذلك باإلضافات‪ ،‬ف رب دلي ل يفي د‬
‫الظن لزيد وهو بعينه ال يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به‪ ،‬وربما يفي د الظن لش خص‬
‫واحد في حال دون حال‪ ،‬بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة‬
‫واحدة دليالن متعارضان كان كل واحد لو انفرد ألف اد الظن وال يتص ور في األدل ة‬
‫القطعية تعارض) (‪)3‬‬
‫ثم ذكر مثاال على ذلك ال يختلف فيه‪ ،‬وهو من مواقف الص حابة وه و أن أب ا‬
‫بكر رأى التسوية في العطاء‪ ،‬إذ قال‪(:‬الدنيا بالغ‪ ،‬كي ف وإنم ا عمل وا هلل ع ز وج ل‬
‫وأج ورهم على هللا)‪ ،‬أم ا عم ر فنظ ر إلى المس ألة من زاوي ة مختلف ة فق ال‪(:‬كي ف‬
‫تساوي بين الفاضل والمفض ول؟)‪ ،‬فق د رأى التف اوت لك ون ذل ك ترغيب ا في طلب‬
‫الفضائل‪ ،‬وألن أصل اإلسالم وإن كان هلل في وجب االس تحقاق‪ ،‬ق ال الغ زالي تعليق ا‬
‫على هذين الموقفين المتناقضين‪( :‬والمعنى الذي ذكره أب و بك ر فهم ه عم ر م ا ولم‬
‫يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن وال مال قلبه إليه)‬
‫ثم بين أن العل ة في ذل ك اختالف الطب ائع والمش ارب‪ ،‬ويص عب م ع ه ذا‬
‫االختالف حم ل الن اس كلهم على رأي واح د وفهم واح د‪ ،‬فق ال‪(:‬وذل ك الختالف‬
‫أحوالهما‪ ،‬فمن خلق خلقة أبي بكر في غلب ة التأل ه وتجري د النظ ر في اآلخ رة غلب‬
‫على ظنه ال محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إال ذلك‪ ،‬ومن خلق ه هللا خلق ة‬
‫عم ر وعلى حالت ه وس جيته في االلتف ات إلى السياس ة ورعاي ة مص الح الخل ق‬
‫وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فال بد أن تميل نفس ه إلى م ا م ال إلي ه عم ر م ع‬
‫إحاط ة ك ل واح د منهم ا ب دليل ص احبه‪ ،‬ولكن اختالف األخالق واألح وال‬
‫والممارسات يوجب اختالف الظنون) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/353 :‬‬
‫‪ )(2‬المستصفى‪.1/353 :‬‬
‫‪ )(3‬المستصفى‪.1/353 :‬‬
‫‪ )(4‬المستصفى‪.1/354 :‬‬

‫‪38‬‬
‫ثم ذكر أن هذا االختالف الذي يرجع للطبائع والمشارب ه و ال ذي يتحكم في‬
‫أكثر االختالفات‪ ،‬قال‪(:‬فمن مارس علم الكالم ناسب طبعه أنواع من األدلة يتح رك‬
‫بها ظنه ال يناسب ذلك طبع من مارس الفقه‪ ،‬ولذلك من مارس الوع ظ ص ار م ائال‬
‫إلى جنس ذلك الكالم بل يختلف باختالف األخالق‪ ،‬فمن غلب علي ه الغض ب م الت‬
‫نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام‪ ،‬ومن الن طبع ه ورق قلب ه نف ر عن ذل ك وم ال‬
‫إلى ما فيه الرفق والمساهلة‪ ،‬فاألمارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما‬
‫يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس)(‪)1‬‬
‫وانطالق ا من ه ذه المق دمات ي ذكر الغ زالي الس بب ال ذي جع ل الفقه اء‬
‫يتصورون أدلتهم الخالفية أدلة قطعية‪ ،‬يضيقون بها على غيرهم‪ ،‬ويتعصب لها من‬
‫يتعصب زاعما الخطأ في غيرها‪ ،‬وأنه ال دليل سواها‪ ،‬فيقول (أصل الخطأ في ه ذه‬
‫المسألة إقامة الفقهاء لألدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها ال باإلضافة‪،‬‬
‫وهو خطأ محض يدل على بطالنه البراهين القاطعة) (‪)2‬‬
‫ومن الشبه التي قد تعترض بعد هذا‪ ،‬وهي من الشبه التي نج د بعض الفقه اء‬
‫على أساسها يتنابزون باأللقاب‪ ،‬وينكر كل واحد على اآلخر الخط أ في فهم المس ألة‬
‫مع وضوحها‪ ،‬وهو أن األدلة مع قطعيتها قد تكون غامضة‪ ،‬فيدركها قوم دون قوم‪،‬‬
‫فمن أدركها كان الصواب معه‪ ،‬ومن أخطأها كان مخطئا يلزم تنبيهه‪.‬‬
‫وقد أجاب الغزالي على هذه الش بهة بقول ه‪(:‬الش يء ينقس م إلى معج وز عن ه‬
‫ممتنع وإلى مقدور علي ه على يس ر وإلى مق دور علي ه على عس ر؛ ف إن ك ان درك‬
‫الحق المعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف ب ه مح ال‪ ،‬وإن ك ان مق دورا على يس ر‬
‫فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا ألنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به‪ ،‬وإن ك ان مق دورا‬
‫على عسر فال يخلو إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وح ط التكلي ف كإتم ام‬
‫الصالة في السفر أو بقي التكليف مع العسر‪ ،‬فإن بقي التكليف مع العسر فترك ه م ع‬
‫القدرة إثم كالصبر على قتال الكف ار م ع تض اعف ع ددهم فإن ه ش ديد ج دا وعس ير‬
‫ولكن يعصي إذا ترك ه‪ ..‬وك ذلك الح ق في المس ائل الفقهي ة م ع العس ر إن أم ر ب ه‬
‫فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق‪ ،‬بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف‬
‫وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه‪ ،‬بل ه و بص دد أن يك ون‬
‫حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع) (‪)3‬‬
‫ثم لخص هذا التوجيه للمسألة وبيان أثره ا بقول ه‪( :‬وه ذا تقس يم ق اطع يرف ع‬
‫الخالف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة‪ ،‬وهو أن ما ليس حكم ا في حق ه ق د‬
‫أخطأه‪ ،‬وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المص لي إلى بيت المق دس قب ل بل وغ‬
‫الخبر‪ ،‬ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من الس ماء ونط ق ب ه الرس ول‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/354 :‬‬
‫‪ )(2‬المستصفى‪.1/354 :‬‬
‫‪ )(3‬المستصفى‪.1/354 :‬‬

‫‪39‬‬
‫كم ا في تحوي ل القبل ة ومس ألة المخ ابرة‪ ،‬أم ا س ائر المجته دات ال تي يلح ق في ه‬
‫المسكوت بالمنطوق قياسا واجته ادا فليس فيه ا حكم معين أص ال‪ ،‬إذ الحكم خط اب‬
‫مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فال حكم فيها أصال إال‬
‫ما غلب على ظن المجتهد) (‪)1‬‬
‫هذا ما ذكره الغزالي من أدلة‪ ،‬ون رى أن ه من الناحي ة العملي ة‪،‬ول و م ع ع دم‬
‫القول بهذا‪ ،‬فقد نص كثير من العلماء على أنه ال اإلنكار في المسائل المختلف فيها‪،‬‬
‫فال يص ح اإلنك ار على من أخ ذ بق ول من األق وال ألي قناع ة من القناع ات‪ ،‬ق ال‬
‫السيوطي‪(:‬اإلنكار من المنكر إنما يك ون فيم ا اجتم ع علي ه‪ ،‬فأم ا المختل ف في ه فال‬
‫إنكار فيه؛ ألن كل مجتهد مصيب‪ ،‬أو المصيب واح د وال نعلم ه‪ ،‬ولم ي زل الخالف‬
‫بين السلف في الفروع وال ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه‪ ،‬وإنما ينكرون ما خالف‬
‫نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا) (‪)2‬‬
‫ونختم هذا األساس بمقولة لها قيمة كبيرة في التعامل مع النصوص بها يمكن‬
‫التوفيق بين األقوال المختلفة‪ ،‬نوجهها خاص ة لمن ي زعم االنف راد بفهم النص وص‪،‬‬
‫وكأن الكتاب والسنة حكر عليه‪ ،‬وهي إلمام من أئمة الزيدية‪ ،‬هو أحم د بن يحي بن‬
‫المرتضى قال‪( :‬وال يمتنع أن يخاطبنا هللا بخطاب يختلف مفهومه‪ ،‬ويريد من كل ما‬
‫فهمه لجواز تعلق المصلحة به) (‪)3‬‬
‫فكالم هللا تعالى وكالم رسوله ‪ ‬أعظم من أن يحيط به فهم‪ ،‬أو يح ده ق ول‪،‬‬
‫أو يحصيه مذهب‪.‬‬
‫األساس الثاني ـ أن الفقه ليس محصورا في المذاهب األربعة‬
‫وهذا األساس هو الذي دعانا للبحث في أقوال الس لف‪ ،‬ول و لم يق ل به ا إم ام‬
‫من أئم ة الم ذاهب األربع ة‪ ،‬ألن البعض يتعام ل م ع ه ذه الم ذاهب‪ ،‬وك أن اتفاقه ا‬
‫إجماع يحرم خرقه‪ ،‬ويعتبر شاذا من ال يقول به‪ ،‬ثم ينتقون من أقوال ه ذه الم ذاهب‬
‫ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل‪ ،‬ويعتبرون ما عداه ض عيفا أو مهج ورا‬
‫مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره‪ ،‬أو يضعف مع شخص ليقوى مع غيره‪.‬‬
‫وألج ل ه ذا األس اس لم نعت بر رجح ان ق ول من األق وال الم ذكورة في ه ذا‬
‫الباب إال وله سنده من أقوال السلف‪ ،‬وخاصة ابن عباس وتالمي ذه‪ ،‬وال تي ال يص ح‬
‫القول بأن ابن عباس تراجع عنها‪ ،‬فاألسانيد تثبت صحة ما ذكره وتنفي تراجعه‪.‬‬
‫وقد أش ار كث ير من العلم اء له ذا االعتب ار م ع وض وحه وع دم الحاج ة إلى‬
‫البرهنة عليه‪ ،‬وقد عق د ل ه ابن القيم فص ال في اإلعالم ق ال في ه‪(:‬فص ل‪ :‬الق ول في‬
‫جواز الفتوى باآلثار السلفية والفت اوي الص حابية‪ ،‬وأنه ا أولى باألخ ذ به ا من آراء‬
‫المتأخرين وفتاويهم‪ ،‬وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/354 :‬‬
‫‪ )(2‬المنثور في القواعد الفقهية‪.2/140 :‬‬
‫‪ )(3‬البحر الزخار‪.1/195 :‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ ،‬وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فت اوى الت ابعين‪ ،‬وفت اوى الت ابعين‬
‫أولى من فتاوى تابعي التابعين‪ ،‬وهلم جرا وكلم ا ك ان العه د بالرس ول أق رب ك ان‬
‫الصواب أغلب‪ ،‬وهذا حكم بحسب الجنس ال بحسب كل فرد فرد من المس ائل‪ ،‬كم ا‬
‫أن عصر التابعين‪ ،‬وإن كان أفضل من عص ر ت ابعيهم فإنم ا ه و بحس ب الجنس ال‬
‫بحسب كل شخص شخص‪ ،‬ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفض لين‬
‫في العصر المتأخر‪ ،‬وهكذا الص واب في أق والهم أك ثر من الص واب في أق وال من‬
‫بع دهم؛ ف إن التف اوت بين عل وم المتق دمين والمت أخرين كالتف اوت ال ذي بينهم في‬
‫الفضل والدين) (‪)1‬‬
‫ثم بين خط أ االقتص ار في الفت وى على م ذاهب المت أخرين وهج ر أق وال‬
‫المتقدمين مع كونها أقرب لزمن الوحي‪ ،‬فقال‪(:‬ولعل ه ال يس ع المف تي والح اكم عن د‬
‫هللا أن يفتي ويحكم بقول فالن وفالن من المتأخرين من مقلدي األئم ة ويأخ ذ برأي ه‬
‫وترجيح ه وي ترك الفت وى والحكم بق ول البخ اري‪ ،‬وإس حاق بن راهوي ه وعلي بن‬
‫الم ديني ومحم د بن نص ر الم روزي‪ ،‬وأمث الهم‪ ،‬ب ل ي ترك ق ول ابن المب ارك‬
‫واألوزاعي وس فيان الث وري وس فيان بن عيين ة وحم اد بن زي د وحم اد بن س لمة‪،‬‬
‫وأمثالهم‪ ،‬بل ال يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزه ري والليث بن س عد‪ ،‬وأمث الهم‪،‬‬
‫بل ال يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وج ابر بن‬
‫زيد وشريح‪ ،‬وأبي وائل وجعفر بن محمد‪ ،‬وأضرابهم مما يسوغ األخذ به‪ ،‬بل يرى‬
‫تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثم ان‬
‫وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب‪ ،‬وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد هللا بن عب اس‬
‫وعبد هللا بن عمر وعبد هللا بن الزبير وعبادة بن الصامت‪ ،‬وأبي موسى األش عري‪،‬‬
‫وأضرابهم‪ ،‬فال يدري ما عذره غ دا عن د هللا إذا س وى بين أق وال أولئ ك وفت اويهم‪،‬‬
‫وأقوال هؤالء وفتاويهم‪ ،‬فكيف إذا رجحها عليها؟ فكي ف إذا عين األخ ذ به ا حكم ا‪،‬‬
‫وإفتاء‪ ،‬ومنع األخ ذ بق ول الص حابة‪ ،‬واس تجاز عقوب ة من خ الف المت أخرين له ا‪،‬‬
‫وشهد عليه بالبدعة والضاللة ومخالفة أهل العلم) (‪)2‬‬
‫وما ذكره ابن القيم يصدق على كثير من اآلراء التي سنراها‪ ،‬التي زعم فيه ا‬
‫اإلجماع‪ ،‬واعتبر الخالف فيها شذوذا مع أنه يتص در الق ائلين به ا جب ال من رج ال‬
‫السلف‪ ،‬وكأن تلك الجبال سراب لم يلتفت إليه عند الحكم بدعوى اإلجماع‪.‬‬
‫بل إن ابن القيم يذهب إلى أكثر من ذل ك‪ ،‬حيث أن ه ي رى ج واز األخ ذ بق ول‬
‫الشيعة اإلمامية في مسائل الخالف‪ ،‬وأنه ال فرق في ذلك بينهم وبين سائر الم ذاهب‬
‫اإلسالمية‪ ،‬يقول في كتابه [الص واعق المرس لة في ال رد على الجهمي ة والمعطل ة]‬
‫عند بيانه لبعض مخارج الطالق‪( :‬الوج ه التاس ع‪ :‬إن فقه اء اإلمامي ة من أولهم إلى‬
‫آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه ال يقع الطالق المحل وف ب ه وه ذا مت واتر عن دهم‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/118 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/118 :‬‬

‫‪41‬‬
‫عن جعفر بن محمد وغيره من أه ل ال بيت‪ ،‬وهب أن مك ابرا ك ذبهم كلهم وق ال ق د‬
‫تواطئ وا على الك ذب عن أه ل ال بيت ففي الق وم فقه اء وأص حاب علم ونظ ر في‬
‫اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الص حابة فال ي وجب ذل ك الحكم عليهم‬
‫كلهم بالكذب والجهل‪ ،‬وقد روى أصحاب الصحيح عن جماع ة من الش يعة وحمل وا‬
‫حديثهم واحتج به المسلمون ولم يزل الفقهاء ينقل ون خالفهم ويبحث ون معهم والق وم‬
‫وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ ح تى‬
‫يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن األمة فكيف وقد وافق وا في ق ولهم من ق د حكين ا‬
‫قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله) (‪)1‬‬
‫ولست أدري ما يجيب ب ه من يزعم ون أنهم أتب اع البن القيم عن قول ه ه ذا‪،‬‬
‫وهم يعتبرون الشيعة أص حاب دين آخ ر‪ ،‬ال عالق ه ل ه باإلس الم‪ ،‬وال بال دين ال ذي‬
‫يدينون به‪ ..‬وهذا ي دل على م زاجيتهم واتب اعهم أله وائهم‪ ،‬وأن ه ال عالق ة لهم بمن‬
‫يزعمون أنهم يتبعونهم‪.‬‬
‫األساس الثالث ـ أن الورع هو حفظ كيان األسرة المسلمة‬
‫وسبب اعتبار هذا أساسا من األسس التي يعتمد عليها في الترجيح أو اإلفت اء‬
‫في ه ذا الب اب ه و ذل ك ال ورع الب ارد ال ذي يحم ل البعض على اإلس راع باإلفت اء‬
‫بالتطليق خشية أن تصبح معاشرة المستفتي مع زوجته معاشرة س فاح‪ ،‬وأن يص بح‬
‫أوالدهما أوالد زنى‪ ،‬فيفتي ب الطالق كم ا يف تي ببطالن الص الة‪ ،‬متص ورا أن كلت ا‬
‫النتيجتين واحدة‪ ،‬بل إنه في الصالة قد يبرز تضلعه الفقهي ليبين للعامي كيف يرق ع‬
‫ص الته‪ ،‬ويب ذل من الجه د في ذل ك م ا ل و ب ذل عش ره لحمى بي وت المس لمين من‬
‫التصدع‪.‬‬
‫والورع في هذا الباب كما نراه ليس في التفريق بين المرء وزوجه وإنم ا في‬
‫البحث المضني وببذل أقصى الطاقة إلرجاعه لزوجته إرجاعا شرعيا‪ ،‬ولو بغير ما‬
‫يقتنع به من أقوال الفقهاء‪ ،‬فقناعته ال ينبغي أن تتحكم في مصالح المسلمين‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام أحمد‪ ،‬مبينا موض ع ال ورع الحقيقي في ه ذا الب اب‪( :‬ال ذي ال‬
‫يأمر بالطالق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطالق قد أتى خص لتين‪ :‬حرمه ا‬
‫عليه‪ ،‬وأحلها لغيره‪ ،‬فهذا خير من هذا‪ ،‬وأنا اتقي جميعها) (‪)2‬‬
‫وبين ابن القيم أن هذا هو سنة رسول هللا ‪ ‬في هذا الب اب‪ ،‬فلل ورع ميادين ه‬
‫الخاصة التي ال يصح تجاوزها‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬فعند رسول هللا ‪ ‬الس عة والرحم ة‬
‫وعند غيره الشدة والنقمة‪ ،‬فما جاءه مكروب إال وجد عنده تف ريج كربت ه وال لهف ان‬
‫إال وجد عنده إغاثة لهفته‪ ،‬فم ا ف رق بين زوجين إال عن وط ر واختي ار‪ ،‬وال ش تت‬
‫شمل محبين إال عن إرادة منهما وإيثار‪ ،‬ولم يخرب ديار المح بين بغل ظ اللس ان ولم‬
‫يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد اإلنسان‪ ،‬بل رفع المؤاخذة بالكالم الذي لم‬

‫‪ )(1‬الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (‪)616 /2‬‬


‫‪ )(2‬طالق الغضبان‪.45:‬‬

‫‪42‬‬
‫يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنس يان أو اإلك راه والس بق على طري ق‬
‫االتفاق) (‪)1‬‬
‫ون ذكر هن ا لالس تدالل على ه ذا األس اس م ا أورده الغ زالي من ردود على‬
‫الشبه التي يستند إليها أهل هذا النوع من الورع‪ ،‬وعلى أساسها ق د يلزم ون أنفس هم‬
‫وغيرهم قوال واحدا يأبون ما عداه‪ ،‬وسنسوق ما ذكره من شبه ثم رده عليها‪:‬‬
‫وقد قسم الشبه التي أوردها المخالفون من المتش ددين في ال تزام األق وال إلى‬
‫قسمين نذكرهما فيما يلي‪:‬‬
‫الشبه العقلية‪:‬‬
‫وق د أورد أرب ع ش به‪ ،‬نقتص ر منه ا على الش بهتين الت اليتين‪ ،‬لعالقته ا‬
‫بالموضوع‪:‬‬
‫الشبهة األولى‪:‬‬
‫أن هذا المذهب في نفسه محال ألنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين‪ ،‬وه و أن‬
‫يكون قليل النبيذ مثال حالال حرام ا‪ ،‬والنك اح بال ولي ص حيحا ب اطال‪ ،‬والمس لم إذا‬
‫قتل كافرا مه درا ومق ادا إذ ليس في المس ألة حكم معين وك ل واح د من المجته دين‬
‫مصيب‪ ،‬فإذا الشيء ونقيض ه ح ق وص واب‪ ،‬وق د ق ال بعض هم‪ :‬ه ذا م ذهب أول ه‬
‫سفسطة وآخره زندقة؛ ألنه في االبتداء يجعل الش يء ونقيض ه حق ا وب اآلخر يرف ع‬
‫الحجر ويخير بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المس تفتي لتقلي د من‬
‫شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده(‪.)2‬‬
‫وق د أج اب الغ زالي على ه ذه الش بهة بالتنبي ه إلى ن وع الخط اب ب الحكم‬
‫الشرعي‪ ،‬فهو ليس كما يظن من أورد هذه الشبهة‪ ،‬بل م ا يعتق ده الكث ير من الن اس‬
‫من أنه يتعلق باألعيان‪ ،‬بل إن الش رع علق ه بأفع ال المكلفين‪ ،‬فل ذلك ال يتن اقض أن‬
‫يحل لزيد ما يحرم على عمرو‪ ،‬فالمرأة تحل للزوج وتح رم على األجن بي‪ ،‬والميت ة‬
‫تحل للمضطر دون المختار‪ ،‬والصالة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض‪.‬‬
‫والتناقض الحقيقي ليس في هذا‪ ،‬وإنم ا ه و أن يجتم ع التحلي ل والتح ريم في‬
‫حال ة واح دة لش خص واح د في فع ل واح د من وج ه واح د‪ ،‬ف إذا تط رق التع دد‬
‫واالنفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض‪ ،‬فالص الة في ال دار المغص وبة‬
‫ح رام وقرب ة في حال ة واح دة لش خص واح د لكن من وج ه دون وج ه‪ ،‬ف اختالف‬
‫األحوال ينفي التناقض‪.‬‬
‫وهذا عام في األحوال المختلف ة واألس باب المختلف ة‪ ،‬وال ف رق بين أن يك ون‬
‫اختالف األح وال ب الحيض والطه ر والس فر والحض ر أو ب العلم والجه ل أو غلب ة‬
‫الظن‪ ،‬فالصالة حرام على المحدث إذا علم أنه مح دث واجب ة علي ه إذا جه ل كون ه‬
‫محدثا‪.‬‬

‫‪ )(1‬طالق الغضبان‪.25:‬‬
‫‪ )(2‬المستصفى‪.1/355 :‬‬

‫‪43‬‬
‫وبن اء على ه ذا نص الغ زالي على وج ه ال ورع في ال تزام األق وال‪ ،‬فليس‬
‫الورع فيها بمراعاة أعيانها‪ ،‬وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها‪ ،‬والتي تختلف‬
‫باختالف األحوال‪ ،‬يقول الغزالي‪( :‬ولو قال الشارع‪ :‬يح ل رك وب البح ر لمن غلب‬
‫على ظن ه الس المة ويح رم على من غلب على ظن ه الهالك فغلب على ظن الجب ان‬
‫الهالك وعلى ظن الجس ور الس المة ح رم على الجب ان وح ل للجس ور الختالف‬
‫حالهما وكذلك لو صرح الشارع وق ال‪ :‬من غلب على ظن ه أن النبي ذ ب الخمر أش به‬
‫فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فق د حللت ه ل ه لم يتن اقض)‬
‫(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتب ار األح وال المختلف ة ال تي ال‬
‫يجدي معها التعصب لقول بعينه‪.‬‬
‫ثم إن الغزالي بأسلوبه الجدلي على طريق ة المتكلمين س لم ألص حاب الش بهة‬
‫ما أوردوه من اعتبار الحل والحرمة وصفا لألعيان‪ ،‬ورد بأن القول ب ذلك أيض ا ال‬
‫يتناقض م ع م ا ذك ره‪ ،‬ألن ه يك ون من األوص اف اإلض افية‪ ،‬فال يتن اقض عقال أن‬
‫يكون الشخص الواحد أبا ابن ا لكن لشخص ين وأن يك ون الش يء مجه وال ومعلوم ا‬
‫لكن الثنين وتك ون الم رأة حالال حرام ا ل رجلين كالمنكوح ة ح رام لألجن بي حالل‬
‫للزوج والميتة حرام للمختار حالل للمضطر‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‪:‬‬
‫وهي الشبهة التي يتمسك بها المغ الون في التعص ب للم ذاهب الفقهي ة بحيث‬
‫يعتبرون الخروج عن االلتزام بها بدعة‪ ،‬وقد عبر الغزالي عن هذه الشبهة في واق ع‬
‫كان يموج بالتعصب المذهبي‪ ،‬وهو في ذلك ال يبتعد عن واقع كثير من المجتمع ات‬
‫اإلس المية المحافظ ة الي وم‪ ،‬فق ال‪(:‬ل و ص ح م ا ذكرتم وه لج از لك ل واح د من‬
‫المجتهدين في القبلة واإلناءين إذا اختلف اجتهادهم ا أن يقت دي ب اآلخر؛ ألن ص الة‬
‫كل واحد صحيحة‪ ،‬فلم ال يقتدي بمن صحت صالته؟ وكذلك ينبغي أن يصح اقت داء‬
‫الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتح ة‪ ،‬وص الة الحنفي أيض ا ص حيحة؛ ألن ه بناه ا على‬
‫االجتهاد‪ ،‬فلما اتفقت األمة على فساد هذا االقتداء دل على أن الحق واحد) (‪)2‬‬
‫وقد رد الغ زالي على ه ذه الش بة ب أن االتف اق في ه ذا غ ير مس لم‪ ،‬ألن ك ل‬
‫مصل يصلي لنفسه وال يجب االقت داء إال بمن ه و في ص الة‪ ،‬وص الة اإلم ام غ ير‬
‫مقطوع ببطالنها فكيف يمتنع االقتداء؟‬
‫ومثل هذا يج اب عن ه في كث ير من مس ائل الطالق كم ا س نرى‪ ،‬ألن ال زعم‬
‫باعتبار بقائه مع زوجته سفاحا قول من أقوال مذهب ه ال ذي ي أتم ب ه‪ ،‬ويص ح ل ه أن‬
‫يأتم بغيره ويتفادى وقوع الطالق‪ ،‬ويكون مع ذلك ورعا‪ ،‬ألن ه لم يخ رج من أحك ام‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/355 :‬‬
‫‪ )(2‬المستصفى‪.1/357 :‬‬

‫‪44‬‬
‫الشبه النقلية‪:‬‬
‫وقد ذكر الغزالي خمس شبه نوردها جميعا فيما يلي(‪:)1‬‬
‫ْ‬
‫الشبهة األولى‪ :‬وهي االستدالل بقول ه تع الى‪َ ﴿:‬ودَا ُوو َد َو ُس لَ ْي َمانَ إِذ يَحْ ُك َم ِ‬
‫ان‬
‫ت فِي ِه َغنَ ُم ْالقَوْ ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِدينَ (‪ )78‬فَفَهَّ ْمنَاهَا ُسلَ ْي َمانَ َو ُكاًّل‬ ‫ث إِ ْذ نَفَ َش ْ‬
‫فِي ْال َحرْ ِ‬
‫ال يُ َسبِّحْ نَ َوالطَّ ْي َر َو ُكنَّا فَ ا ِعلِينَ ﴾(األنبي اء‪:‬‬ ‫آتَ ْينَا ُح ْك ًما َو ِع ْل ًما َو َس َّخرْ نَا َم َع دَا ُوو َد ْال ِجبَ َ‬
‫‪ ،)78،79‬ووجه ال دليل أن فيه ا اختص اص س ليمان ‪ ‬بم درك الح ق وأن الح ق‬
‫واحد‪.‬‬
‫وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجوه التالية‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أنه من أين صح أنهما باالجته اد حكم ا‪ ،‬ومن العلم اء من من ع‬
‫اجتهاد األنبي اء عقال ومنهم من منع ه س معا ومن أج از أح ال الخط أ عليهم‪ ،‬فكي ف‬
‫ينسب الخطأ إلى داود ‪ ‬ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد؟‬
‫اًّل‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬أن اآلي ة أدل على نقيض م ذهبهم إذ ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و ُك آتَ ْينَ ا‬
‫ُح ْك ًم ا َو ِع ْل ًم ا﴾ والباط ل والخط أ يك ون ظلم ا وجهال ال حكم ا وعلم ا‪ ،‬ومن قض ى‬
‫بخالف حكم هللا تع الى ال يوص ف بأن ه حكم هللا وأن ه الحكم والعلم ال ذي آت اه هللا ال‬
‫سيما في معرض المدح والثناء‪.‬‬
‫الوج ه الث الث‪ :‬وه و أن ه يحتم ل أنهم ا كان ا م أذونين في الحكم باجتهادهم ا‬
‫فحكما وهما محقان‪ ،‬ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان ‪ ‬فص ار ذل ك حق ا‬
‫متعينا بنزول الوحي‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬وهي االستدالل بقوله تعالى‪ ﴿:‬لَ َعلِ َم هُ الَّ ِذينَ يَ ْس تَ ْنبِطُونَهُ ِم ْنهُ ْم﴾‬
‫َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم ﴾(آل‬ ‫(النس اء‪ )83:‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬و َم ا يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَ هُ إِاَّل هَّللا ُ َوالر ِ‬
‫عمران‪ )7:‬ووجه الدليل أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط‪.‬‬
‫وقد رد الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين‪:‬‬
‫الوج ه األول‪ :‬أن ه ربم ا أراد ب ه الح ق فيم ا الح ق في ه واح د من العقلي ات‬
‫والسمعيات والقطعيات‪ ،‬إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء‪ ،‬فكل ما أفضى إليه نظ ر‬
‫عالم فهو استنباطه وتأويله وهو ح ق مس تنبط وتأوي ل أذن للعلم اء في ه دون الع وام‬
‫وجعل الحق في حق العوام الحق الذي اس تنبطه العلم اء بنظ رهم وت أويلهم فه ذا ال‬
‫يدل على تخطئة البعض‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬وهي من أقوى الشبه‪ ،‬وهي االس تدالل بقول ه ‪(:‬إذا اجته د‬
‫الحاكم فأصاب فله أج ران وإن أخط أ فل ه أج ر) ووج ه ال دليل أن ه ذك ر في ه خط أ‬
‫وصوابا‪.‬‬
‫وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المستصفى‪.1/359 :‬‬

‫‪45‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن هذا هو الق اطع على أن ك ل واح د مص يب إذ ل ه أج ر وإال‬
‫فالمخطئ الحاكم بغير حكم هللا تعالى‪ ،‬كيف يستحق األجر؟‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬هو أن ا ال ننك ر إطالق اس م الخط إ على س بيل اإلض افة إلى‬
‫مطلوبه ال إلى ما وجب عليه‪ ،‬فإن الحاكم يطلب رد الم ال إلى مس تحقه وق د يخطئ‬
‫ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم هللا تعالى عليه وهو اتباع ما غلب‬
‫على ظنه من صدق الشهود‪ ،‬وكذلك كل من اجتهد في القبلة‪.‬‬
‫هَّللا‬
‫َص ُموا بِ َح ْب ِل ِ َج ِمي ًع ا‬ ‫الشبهة الرابعة‪ :‬وهي االستدالل بقوله تع الى‪َ ﴿:‬وا ْعت ِ‬
‫َواَل تَفَ َّرقُوا َو ْاذ ُكرُوا نِ ْع َمةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُك ْنتُ ْم أَ ْعدَا ًء فَأَلَّفَ بَ ْينَ قُلُوبِ ُك ْم فَأصْ بَحْ تُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه‬
‫َ‬
‫ار فَأ َ ْنقَ َذ ُك ْم ِم ْنهَ ا َك َذلِكَ يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫إِ ْخ َوانً ا َو ُك ْنتُ ْم َعلَى َش فَا ُح ْف َر ٍة ِم ْن النَّ ِ‬
‫َب ِري ُح ُك ْم ﴾(آل‬ ‫ْ‬
‫تَ ْهتَدُون﴾(آل عمران‪ )103:‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬واَل تَنَازَ عُوا فَتَ ْف َشلُوا َوتَ ذه َ‬
‫عمران‪ )46:‬وغيرها من اآلي ات الحاث ة على الت آلف‪ ،‬واإلجم اع منعق د على الحث‬
‫على األلف ة والموافق ة والنهي عن الفرق ة‪ ،‬وق د أج اب الغ زالي على ذل ك ب الوجوه‬
‫التالية‪:‬‬
‫الوج ه األول‪ :‬أن اختالف الحكم باختالف األح وال في العلم والجه ل والظن‬
‫كاختالفه باختالف السفر واإلقامة والحيض والطهر والحري ة وال رق واالض طرار‬
‫واالختيار‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن األمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في االجتهاد أن‬
‫يحكم كل واحد بموجب اجتهاده وهو مخ الف لغ يره‪ ،‬واألم ر باتب اع المختل ف أم ر‬
‫باالختالف‪.‬‬
‫الشبهة الخامسة‪ :‬وهذه الشبهة هي أساس ال ورع ال ذي ذكرن ا‪ ،‬وتنطل ق من‬
‫اآلثار الكثيرة الدال ة على ح ذر الص حابة من الخط أ في االجته اد‪ ،‬ومنه ا ق ول أبي‬
‫بكر‪(:‬أقول في الكاللة برأيي فإن كان صوابا فمن هللا وإن كان خطأ فمن الشيطان)‪،‬‬
‫وقول علي لعمر ما‪( :‬إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجته دوا فق د أخطئ وا‪ ،‬أم ا اإلثم‬
‫فأرجو أن يكون عنك زائال وأما الدية فعليك) ولما كتب أبو موس ى كتاب ا عن عم ر‬
‫كتب فيه‪(:‬هذا ما أرى هللا عمر) فقال‪ :‬امحه واكتب هذا ما رأى عمر ف إن ي ك خط أ‬
‫فمن عمر‪ ،‬وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن المبالغ ة في المه ر‬
‫حيث ذكرت القنطار في الكتاب‪( :‬أصابت امرأة وأخطأ عمر)‬
‫وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة ب أن الخط أ في االجته اد ال ذي ال يج وز‬
‫اعتباره‪ ،‬ويتورع عن القول به‪ ،‬يكون في أربعة مواضع‪ ،‬هي‪(:‬أن يص در االجته اد‬
‫من غير أهله‪ ،‬أو ال يستتم المجتهد نظره‪ ،‬أو يضعه في غ ير محل ه ب ل في موض ع‬
‫في ه دلي ل ق اطع‪ ،‬أو يخ الف في اجته اده دليال قاطع ا‪ ،‬فينتفي الخط أ م تى ص در‬
‫االجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل ق اطع‪ ،‬ثم م ع‬

‫‪46‬‬
‫ذلك كله يثبت اسم الخطإ باإلضافة إلى طلب ال إلى ما وجب كما في القبل ة وتحقي ق‬
‫مناط األحكام) (‪)1‬‬
‫أما ما ورد عن الصحابة من ذلك فقد يكون خوفا من دليل قاطع غفل عنه‪ ،‬أو‬
‫لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وس عه‪ ،‬أو يخ اف أن ال يك ون أهال للنظ ر في تل ك‬
‫المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من هللا تعالى‪.‬‬
‫بعد هذا العرض لألدلة‪ ،‬نرى أنه من الورع البحث في أق وال المجته دين من‬
‫السلف ومن بعدهم لحف ظ بي وت المس لمين من التص دع وحف ظ أوالد المس لمين من‬
‫التشرد‪ ،‬وأن ال يلزم أح د بقناعت ه غ ير نفس ه‪ ،‬فالش ريعة ال يمثله ا ق ول أو رأي أو‬
‫مذهب أو اتجاه‪ ،‬بل تمثلها جميع األقوال واآلراء والمذاهب واالتجاهات‪.‬‬

‫‪ )(1‬المستصفى‪.1/361 :‬‬

‫‪47‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫حق الزوج في حل عصمة الزوجية‬
‫نتن اول في ه ذا الفص ل ال ركن األول من أرك ان الطالق‪ ،‬وه و من يوق ع‬
‫الطالق‪ ،‬ومن يص ح من ه‪ ،‬وه و من أهم أرك ان ه ذا الن وع من التفري ق‪ ،‬باعتب ار‬
‫الطالق هو الح ق ال ذي جعل ه هللا للرج ل لح ل العص مة الزوجي ة‪ ،‬فل ذلك ك ان من‬
‫الالزم وضع ضوابط لهذا الذي أنيط بلسانه وتصرفاته استمرار الحي اة الزوجي ة أو‬
‫انقطاعها‪.‬‬
‫وهذه الضوابط تستدعي معرف ة الش روط ال تي يتأه ل به ا المطل ق ألن يق وم‬
‫بالتطليق‪ ،‬والنظر في األحوال التي يمر به ا المطل ق وتأثيره ا في إيق اع الطالق أو‬
‫عدم تأثيرها‪ ،‬وأخيرا فيما لو جعل المطلق األمر لغيره‪.‬‬
‫وقد خصصنا لكل واحد من هذه الثالثة مبحثا خاص ا‪ ،‬وال ذي دعان ا إلى ه ذا‬
‫هو ضرورة الضبط الذي تستدعيه القسمة العقلية‪ ،‬ألن المطلق إم ا أن يطل ق بنفس ه‬
‫أو يوكل غيره للتطليق‪ ،‬ثم هو في حال تطليقه بنفسه إم ا أن يك ون أهال للتطلي ق أو‬
‫غير أهل‪ ،‬ف إن ك ان أهال‪ ،‬فإم ا أن يك ون بحال ة معتدل ة أو بحال ة ق د تش وش علي ه‬
‫أهليته‪ ،‬وبذلك تنضبط هذه القسمة مع ما ذكرنا‪.‬‬
‫أوال ـ أهلية المطلق إليقاع الطالق وضوابطها الشرعية‬
‫أما عن أهلية المطلق فتتحقق بتوفر الش روط التالي ة م ع اختالف بين الفقه اء‬
‫في اعتبارها أو في اعتبار تفاصيل بعضها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الذكورة‬
‫اتفق الفقهاء على أن من شروط المطلق أن يكون ذكرا‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‬
‫أن كل النصوص الشرعية أسندته إلى الرجل‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ ﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّبِ ُّي‬
‫إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾ (الطالق‪ ،)1 :‬وقوله تع الى‪ ﴿:‬ال ُجنَ َ‬
‫اح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن‬
‫يضةً﴾ (البقرة‪ ،)236 :‬وقوله تع الى‪:‬‬ ‫طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء َما لَ ْم تَ َمسُّوه َُّن أَوْ تَ ْف ِرضُوا لَه َُّن فَ ِر َ‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن﴾ (األح زاب‪ ،)49 :‬وقول ه‬ ‫﴿ يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ج َوآتَ ْيتُ ْم إِحْ دَاه َُّن قِنطَارًا﴾ (النساء‪)20 :‬‬
‫ج َم َكانَ زَ وْ ٍ‬ ‫َال َزوْ ٍ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن أَ َر ْدتُ ْم ا ْستِ ْبد َ‬
‫ومن السنة األح اديث الكث يرة‪ ،‬كقول ه ‪ ‬لعب د هللا بن عم ر‪ :‬طل ق زوجت ك‪،‬‬
‫وقوله مرة أخرى‪ :‬مره فليراجعها‪ ،‬ثم يطلقها(‪.)1‬‬
‫وقد دلت هذه النصوص بهذا على قص ر الطالق بي د الرج ل‪ ،‬وق د ذكرن ا أن‬
‫للمرأة حقها في التفريق إذا أرادت ذلك‪ ،‬أو توفرت األسباب الداعية لذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه الترمذى (‪ ،3/479‬رقم ‪ )1176‬وقال‪ - :‬حس ن ص حيح ‪ .-‬وأخرج ه أيض ا‪ :‬أحم د (‪ ،2/26‬رقم‬
‫‪ ،)4789‬ومسلم (‪ ،2/1095‬رقم ‪ ،)1471‬وأبو نعيم فى الحلية (‪ ،)7/95‬والبيهقى (‪ ،7/325‬رقم ‪)14690‬‬

‫‪48‬‬
‫‪ 2‬ـ العقل‬
‫ألن الطالق من األفع ال ال تي تحت اج إلى التمي يز والنظ ر‪ ،‬ويخالفه ا ك ل م ا‬
‫يتناقض مع ذلك‪ ،‬ولذلك وقع اإلجماع على عدم صحة طالق غير العاقل‪ ،‬ولكن م ع‬
‫ذلك قد يختلف الناس في تفسير العقل والجنون‪ ،‬فلذلك فصل الفقهاء في أحكام زوال‬
‫العقل وأنواعه حتى ينضبط بالضوابط الش رعية‪ ،‬وفيم ا يلي تفص يل ألحك ام طالق‬
‫المجنون وأنواعه‪.‬‬
‫أ ـ تعريف الجنون وأنواعه‪:‬‬
‫تعريف الجنون‪:‬‬
‫عرفه الفقهاء واألصوليون بعبارات مختلفة منها(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ هو اختالل العقل بحيث يمنع جريان األفعال واألقوال على نهجه إال نادرا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ هو اختالل القوة المميزة بين األش ياء الحس نة والقبيح ة المدرك ة للع واقب‬
‫بأن ال تظهر آثارها‪ ،‬وأن تتعطل أفعالها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ هو اختالل القوة التي بها إدراك الكليات‪.‬‬
‫أنواع الجنون‪:‬‬
‫قسم الفقهاء الجنون باعتبارين مختلفين‪:‬‬
‫باعتبار األصالة والعروض‪ :‬فالجنون إما أن يكون أصليا‪ ،‬إم ا لنقص ان جب ل‬
‫عليه دماغه في أصل الخلقة‪ ،‬وإما لخروج مزاج ال دماغ عن االعت دال بس بب خل ط‬
‫أو آفة‪ ،‬وإما الستيالء الش يطان علي ه‪ ،‬وإلق اء الخي االت الفاس دة إلي ه بحيث يف رح‪،‬‬
‫ويفزع من غير ما يصلح سببا(‪ ،)2‬وهذا النوع مما ال يرجى زواله‪.‬‬
‫وإما أن يكون عارضا‪ ،‬وهو ما إذا زال االعتدال الحاص ل لل دماغ خلق ة إلى‬
‫رطوبة مفرطة‪ ،‬أو يبوسة متناهية‪ ،‬وهذا النوع مما يرجى زواله ب العالج بم ا خل ق‬
‫هللا تعالى من األدوية‪.‬‬
‫باعتبار االستمرار والطروء‪ :‬والجنون به ذا التقس يم إم ا أن يك ون مطبق ا أو‬
‫غير مطبق‪ ،‬فالمطبق هو المالزم الممتد‪ ،‬واالمتداد ليس له ض ابط ع ام ب ل يختل ف‬
‫باختالف األحوال(‪ ،)3‬وغير المطبق‪ ،‬وهو الطارئ الذي ال يستقر‪ ،‬وهذا الن وع من‬
‫الجنون ال يمنع أصل التكليف‪.‬‬
‫ب ـ حكم طالق المجنون‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على عدم صحة طالق المجنون والمعتوه لفقدان أهلي ة األداء في‬

‫‪ )(1‬شرح التلويح‪.3/334 :‬‬


‫‪ )(2‬شرح التلويح‪.3/334 :‬‬
‫‪ )(3‬اختلف الحنفية في حد الجنون المطبق على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هو ما يستوعب الشهر‪ ،‬وهو قول أبو يوسف‪ ،‬ألن ه ذا الق در أدنى م ا يس قط ب ه عب ادة الص وم‪،‬‬
‫فكان التقدير به أولى‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هو ما يستوعب الحول‪ ،‬وهو قول محمد‪ ،‬ألن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كله ا فك ان‬
‫التقدير به أولى‪ ،‬شرح التلويح‪..3/334 :‬‬

‫‪49‬‬
‫األول‪ ،‬ونقصانها في الثاني‪ ،‬فألحقوهما بالصغير غير البالغ‪ ،‬فلم يقع طالقهم ا‪ ،‬وق د‬
‫نقل اإلجماع على ذلك‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪(:‬رفع القلم عن ثالثة عن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي ح تى‬
‫يحتلم‪ ،‬وعن المجنون حتى يفيق) (‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪(:‬كل الطالق جائز‪ ،‬إال طالق المعتوه المغلوب على عقل ه) (‪،)2‬‬
‫قال الترمذي‪ :‬والعمل على هذا عن د أه ل العلم من أص حاب الن بي ‪ ‬وغ يرهم أن‬
‫طالق المعت وه المغل وب على عقل ه ال يج وز إال أن يك ون معتوه ا يفي ق األحي ان‬
‫فيطلق في حال إفاقته‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه قول يزيل الملك‪ ،‬فاعتبر له العقل‪ ،‬كالبيع‪.‬‬
‫وهذا في الجنون الدائم المطبق‪ ،‬أما الجنون المتقطع‪ ،‬ف إن حكم طالق المبتلى‬
‫به منوط بحاله عند الطالق‪ ،‬فإن طلق وهو مجنون لم يقع‪ ،‬وإن طلق في إفاقته وق ع‬
‫لكمال أهليته‪ ،‬قال الشافعي‪(:‬وال يجوز طالق الصبي حتى يستكمل خمس عش رة أو‬
‫يحتلم قبلها‪ ،‬وال طالق المعتوه‪ ،‬وال طالق المجن ون ال ذي يجن ويفي ق إذا طل ق في‬
‫حال جنونه وإن طلق في حال صحته جاز)(‪)3‬‬
‫ج ـ ما يلحق بالمجنون‪:‬‬
‫ألحق الفقهاء بالمجنون النائم‪ ،‬والمغمى عليه‪ ،‬والمبرسم‪ ،‬والم دهوش‪ ،‬وذل ك‬
‫النعدام أهلية األداء لديهم‪ ،‬قال الزيلعي‪(:‬لو أن الصبي والمجنون طلق امرأته لم يقع‬
‫طالقه‪ ،‬وك ذا المغمى علي ه والمبرس م والم دهوش والن ائم والمعتق ل وال ذي ش رب‬
‫ال دواء مث ل البنج ونح وه فتغ ير عقل ه إذا طل ق واح د من ه ؤالء زوجت ه لم يق ع‬
‫طالقه(‪.)4‬‬
‫‪ 3‬ـ البلوغ‬
‫حكم طالق الصغير‪:‬‬
‫تنقسم مراحل الصغر في عرف الفقهاء إلى مرحلتين‪:‬‬
‫مرحلة عدم التمييز‪ :‬وتبدأ هذه المرحل ة من ذ ال والدة إلى التمي يز‪ ،‬وق د اتف ق‬
‫الفقهاء على أن الصبي في هذه المرحلة ال يقع طالقه(‪ )5‬ألنه ال يعقل‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرج ه أحم د ( ‪ ،6/144‬رقم ‪ ،)25157‬وأب و داود (‪ ،4/139‬رقم ‪ ،)4398‬والنس ائى (‪ ،6/156‬رقم‬


‫‪ ،)3432‬وابن ماجه (‪ ،1/658‬رقم ‪ ،)2041‬والحاكم (‪ ،2/67‬رقم ‪ )2350‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ .‬وأخرجه‬
‫أيضا‪ :‬إسحاق ابن راهويه (‪ ،3/988‬رقم ‪ ،)1713‬والدارمى (‪ ،2/225‬رقم ‪)2296‬‬
‫‪ )(2‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث ال نعرفه مرفوعا إال من حديث عطاء بن عجالن وعط اء بن عجالن ض عيف‬
‫ذاهب الحديث‪ ،‬الترمذي‪،3/496:‬مصنف ابن أبي شيبة‪.4/73 :‬‬
‫‪ )(3‬األم‪.5/235:‬‬
‫‪ )(4‬تبيين الحقائق‪.2/195:‬‬
‫‪ )(5‬نص الفقهاء على أن هذا بالنسبة لزوجت ه‪ ،‬أم ا إذا طل ق الص بي أو الك افر زوج ة غ يره فتص ح إج ازة‬
‫الزوج ; ألن المطلق حقيقة الزوج‪ ،‬ولذلك تعتد المطلق ة من ي وم إجازت ه ال من ي وم الطالق‪ ،‬انظ ر‪:‬حاش ية الع دوي‪:‬‬
‫‪.2/98‬‬

‫‪50‬‬
‫مرحل ة التمي يز‪ :‬وتب دأ ه ذه المرحل ة من ذ ق درة الص غير على التمي يز بين‬
‫األشياء‪ ،‬أي أن يك ون ل ه إدراك يف رق ب ه بين النف ع والض رر‪ ،‬وليس للتمي يز س نا‬
‫معينة يعرف بها‪ ،‬ولكن تدل على التمييز أمارات التفتح والنضوج‪ ،‬فقد يصل الطفل‬
‫إلى مرحل ة التمي يز في س ن مبك رة‪ ،‬وق د يت أخر إلى م ا قب ل البل وغ‪ ،‬وتنتهي ه ذه‬
‫المرحلة بالبلوغ‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم الصغير في هذه المرحلة إذا عقل الصبي المم يز‬
‫الطالق‪ ،‬وعلم أن زوجته تبين به‪ ،‬وتحرم عليه‪ ،‬هل يقع طالقه أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن طالق المميز(‪ )1‬يقع‪ ،‬وقد روي ذلك عن سعيد بن المس يب‪،‬‬
‫وعطاء‪ ،‬والحسن‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وهو رواي ة عن أحم د‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪(:‬الطالق لمن أخ ذ بالس اق) (‪ ،)2‬والح ديث في األص ل ورد في‬
‫طالق العبد كما روى ابن عباس قال‪ :‬أتي النبي ‪ ‬رجل فقال‪ :‬يا رسول هللا س يدي‬
‫زوجني أمته‪ ،‬وهو يريد أن يف رق بي ني وبينه ا‪ ،‬ق ال فص عد رس ول هللا ‪ ‬المن بر‬
‫فقال‪ :‬يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عب ده أمت ه‪ ،‬ثم يري د أن يف رق بينهم ا‪ ،‬إنم ا‬
‫الطالق لمن أخذ بالساق)‪ ،‬وهو ي دل بإطالق ه على أن الطالق بي د ال زوج أي ك ان‪،‬‬
‫فيدخل فيه الصبي المميز‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪(:‬كل طالق جائز إال طالق المعتوه المغلوب على عقله) (‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه طالق من عاقل صادف محل الطالق‪ ،‬فوقع كطالق البالغ‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن طالق ه ال يق ع ح تى يحتلم‪ ،‬وه و ق ول النخعي‪ ،‬والزه ري‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬وحماد‪ ،‬والثوري‪ ،‬وأبي عبيد‪ ،‬والشافعي‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬وإِ َذا بَلَ َغ اأْل َ ْ‬
‫طفَا ُل ِم ْن ُك ْم ْال ُحلُ َم فَ ْليَ ْستَأ ِذنُوا َك َما ا ْستَأ َذنَ الَّ ِذينَ ِم ْن‬

‫‪ )(1‬اختلف الفقهاء القائلون بإيقاع طالق الصبي المميز في السن الذي يكون به مم يزا على األق وال التالي ة‪،‬‬
‫والتي حكاها ابن قدامة‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تحديد من يقع طالقه من الص بيان بكون ه يعق ل‪ ،‬وه و أك ثر الرواي ات عن أحم د‪ ،‬وه و اختي ار‬
‫القاضي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تحديده بما بين عشر إلى اثنتي عشرة إذا عقل الطالق‪ ،‬وهو رواية عن أحمد‪ ،‬وهو يدل على أنه‬
‫ال يقع ل دون العش ر‪ .‬وه و اختي ار أبي بك ر‪ ،‬ووج ه ذل ك ب أن العش ر ح د للض رب على الص الة والص يام‪ ،‬وص حة‬
‫الوصية‪ ،‬فكذلك هذا‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬إذا أحصى الصالة‪ ،‬وصام رمضان‪ ،‬جاز طالقه‪ ،‬وهو قول سعيد بن المسيب‪ ،‬والحسن‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬إذا بلغ أن يصيب النساء‪ ،‬وهو قول عطاء‪.‬‬
‫القول الخامس‪ :‬إذا جاوز اثنتي عشرة‪ ،‬وهو قول إسحاق‪ ،‬انظر‪ :‬المغني‪.7/290:‬‬
‫‪ )(2‬مجمع الزوائد‪ ،4/334 :‬البيهقي‪ ،7/370 :‬الدارقطني‪ ،4/37 :‬ابن ماجة‪ ،1/672 :‬قال ابن حج ر‪ :‬وفي‬
‫إسناده بن لهيعة وهو ضعيف‪ ،‬ول ه طري ق أخ رى عن د الط براني في الكب ير‪ ،‬وفي ه يح يى الحم اني ورواه بن ع دي‬
‫والدارقطني من حديث عصمة بن مالك وإسناده ضعيف‪ ،‬تلخيص الحبير‪ ،3/219:‬وانظ ر‪ :‬الدراي ة‪ ،2/199 :‬كش ف‬
‫الخفاء‪.2/52:‬‬
‫‪ )(3‬أخرج ه الترم ذى (‪ ،3/496‬رقم ‪ ،)1191‬وق ال‪ :‬ال نعرف ه مرفوع ا إال من ح ديث عط اء بن عجالن‪،‬‬
‫وعطاء بن عجالن ضعيف‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ك يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾(النور‪،)59:‬ويقول هللا تعالى‪َ ﴿:‬وا ْبتَلُوا‬ ‫قَ ْبلِ ِه ْم َك َذلِ َ‬
‫ْاليَتَا َمى َحتَّى إِ َذا بَلَ ُغوا النِّ َكا َح فَإِ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْنهُ ْم ُرشدًا فَ ا ْدفَعُوا إِلَ ْي ِه ْم أ ْم َوالَهُ ْم ﴾(النس اء‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪ )6‬وقد استدل الشافعي بهاتين اآليتين على اشتراط البلوغ(‪ ،)1‬وهم ا واض حتان في‬
‫الداللة على ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن رسول هللا ‪ ‬أجاز ابن عمر في القت ال وه و ابن خمس عش رة ورده‬
‫ابن أربع عشرة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قول النبي ‪(:‬رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) (‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه غير مكلف‪ ،‬فلم يقع طالقه كالمجنون‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ذكرنا في الفصول الماضية استحباب تأخير الزواج إلى م ا بع د البل وغ‪ ،‬ب ل‬
‫إلى الفترة التي ينض ج فيه ا العق ل ويس تقر‪ ،‬لكن إن تم ال زواج‪ ،‬ف إن إيق اع الطالق‬
‫يبقى متوقفا على تمام العقل بالبلوغ‪.‬‬
‫إجازة البالغ طالقه في فترة الصبى‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه لو كان للصبي ام رأة فطلقه ا في ح ال ص باه أو طلقه ا‬
‫وكيل عنه(‪ ،)3‬فإنه ال عبرة بهذا التطليق‪ ،‬ولو أجازه الص بي بع د م ا ك بر؛ ألن ه ال‬
‫مجيز لهذا التصرف عن د وقوع ه‪ ،‬وألن ثب وت الوالي ة علي ه لتوف ير المنفع ة ل ه ال‬
‫لإلضرار به‪.‬‬
‫أما إذا قال حين كبر قد أوقعت عليها الطالق الذي أوقع عليها فالن‪ ،‬فإنه يق ع‬
‫الطالق بذلك؛ ألن هذا اللفظ إيقاع مس تقبل‪ ،‬وألن ه يمل ك اإليق اع ابت داء به ذا اللف ظ‬
‫فيك ون إض افته إلى غ يره أوق ع‪ ،‬وه ذا بخالف اإلج ازة من ه‪،‬ألن اإلج ازة تقي د‬
‫للتصرف الذي باشره فالن(‪.)4‬‬

‫ثانيا ـ أحوال المطلق وأحكامها‬


‫‪ 1‬ـ اإلكراه‬

‫‪ )(1‬األم‪.5/270:‬‬
‫‪ )(2‬أخرج ه أحم د (‪ ،1/154‬رقم ‪ ،)1327‬وأب و داود (‪ ،4/140‬رقم ‪ ،)4402‬والح اكم (‪ ،4/430‬رقم‬
‫‪)8169‬‬
‫‪ )( 3‬نص المالكية على أن للولي أن يطلق زوجة الصغير إن رأى المصلحة في ذلك‪ ،‬انظر‪ :‬حاشية العدوي‪:‬‬
‫‪.2/98‬‬
‫‪ )(4‬المبسوط‪.25/24:‬‬

‫‪52‬‬
‫وهو حمل الغ ير على أن يفع ل م ا ال يرض اه‪ ،‬وال يخت ار مباش رته ل و خلي‬
‫ونفسه‪ ،‬فيكون معدما للرضى ال لالختي ار(‪ ،)1‬فالفع ل يص در عن المك ره باختي اره‬
‫لكنه يصدر مستندا إلى اختيار آخر(‪.)2‬‬
‫وق د قس م اإلك راه تقس يمات مختلف ة وباعتب ارات مختلف ة‪ ،‬ومم ا نحت اج إلى‬
‫معرفته هنا تقسيمه بحسب موجبه‪ ،‬فقد قسم إلى قسمين‪:‬‬
‫اإلكراه بحق‪ :‬وهو اإلكراه المشروع الذي ال ظلم فيه وال إثم‪ ،‬وهو م ا ت وافر‬
‫فيه أمران‪:‬‬
‫أن يحق للمكره التهديد بما هدد به‪ ،‬باعتباره وليا ألمر كل ف ب ه ش رعا‪ ،‬مث ل‬
‫القاضي أو من ينوب عنه‪.‬‬
‫أن يكون المكره عليه مما يحق للمكره اإللزام به‪.‬‬
‫اإلكراه بغير حق‪ :‬وهو اإلكراه ظلما‪ ،‬أو اإلكراه المحرم‪ ،‬لتحريم وس يلته‪ ،‬أو‬
‫لتحريم المطلوب به‪.‬‬
‫حكم طالق المكره‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء(‪ )3‬على أن النوع األول من اإلكراه‪ ،‬وهو اإلكراه بحق ال يقع به‬
‫الطالق‪ ،‬ألنه إكراه بح ق‪ ،‬ولمص لحة الزوج ة‪ ،‬ومن ولي األم ر‪ ،‬وس نرى أحكام ه‬
‫وأنواعه في الفصل الخاص بحل العصمة الزوجية بيد القضاء‪.‬‬
‫أما اإلكراه بغير حق كمن أكره على الطالق ظلم ا‪ ،‬فق د اختل ف الفقه اء ه ل‬
‫يقع طالقه أم ال؟ على قولين(‪:)4‬‬
‫القول األول‪ :‬أن طالق المكره ال يقع‪ ،‬وقد روي ذلك عن مالك‪ ،‬واألوزاعي‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وإسحاق وأبو ثور‪ ،‬وأبو عبي د وأحم د‪ ،‬وه و ق ول الظاهري ة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي(‪:)5‬‬
‫‪ 1‬ـ داللة القرآن الك ريم على ع دم اعتب ار اإلك راه في كث ير من األم ور هي‬
‫أعظم من الطالق‪ ،‬فلم يعتبر اإلكراه في الكف ر‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿:‬م ْن َكفَ َر بِاهَّلل ِ ِم ْن‬
‫ان َولَ ِك ْن َم ْن َش َر َح بِ ْال ُك ْف ِر َ‬
‫ص ْدرًا فَ َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫بَ ْع ِد إِي َمانِ ِه إِاَّل َم ْن أُ ْك ِرهَ َوقَ ْلبُهُ ُم ْ‬
‫ط َمئِ ٌّن بِاإْل ِ ي َم ِ‬

‫‪ )(1‬عرف التفتازاني االختيار بأنه القصد إلى مقدور م تردد بين الوج ود والع دم ب ترجيح أح د جانبي ه على‬
‫اآلخر‪ ،‬شرح التلويح على التوضيح‪.2/390:‬‬
‫‪ )(2‬شرح التلويح على التوضيح‪ ،2/390:‬البحر المحيط‪.2/75:‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الف روع‪ ،5/285 :‬من ار الس بيل‪ ،2/211 :‬كش اف القن اع‪ ،5/235 :‬كتب ورس ائل ابن تيمي ة في‬
‫الفقه‪ ،33/38 :‬المغني‪ ،7/291 :‬المهذب‪ ،2/78 :‬إعانة الطالبين‪ ،4/6 :‬الوس يط‪ ،5/387 :‬حاش ية البج يرمي‪،4/4 :‬‬
‫الهداية شرح البداية‪ ،1/229 :‬البحر الرائق‪ ،3/266 :‬حاشية ابن عاب دين‪ ،3/235 :‬الت اج واإلكلي ل‪ ،4/45 :‬الش رح‬
‫الكبير‪.4/48 :‬‬
‫‪ )(4‬وقد ذكر ابن حزم قوال ثالثا هو أن طالق المكره إن أكرهه اللص وص لم يلزم ه‪ ،‬وإن أكره ه الس لطان‬
‫لزمه‪ ،‬نسبه إلى الش عبي‪ ،‬ووروى ق وال رابع ا نس به إلى إب راهيم وأح د ق ولي س فيان‪ ،‬وه و أن من أك ره ظلم ا على‬
‫الطالق فورك إلى شيء آخر لم يلزمه‪ ،‬فإن لم يورك لزمه‪ ،‬وال ينتفع الظالم بالتوريك‪.‬المحلى‪ ،9/464 :‬وما ذكره من‬
‫هذه األقوال يؤول إلى ما ذكرنا‪.‬‬
‫‪ )(5‬القرطبي‪ ،10/184:‬نيل األوطار‪ ،7/22:‬فتح الباري‪ ،9/390 :‬المغني‪.7/291:‬‬

‫‪53‬‬
‫َضبٌ ِم ْن هَّللا ِ َولَهُ ْم َع َذابٌ َع ِظيم﴾(النحل‪ ،)106:‬ولذلك احتج عط اء باآلي ة‪ ،‬وق ال‪:‬‬ ‫غ َ‬
‫الشرك أعظم من الطالق(‪)1‬‬
‫ْ‬
‫‪ 2‬ـ ولم يعتبر تعالى اإلكراه على اإليمان‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬اَل إِك َراهَ فِي الد ِ‬
‫ِّين‬
‫قَ ْد تَبَيَّنَ الرُّ ْش ُد ِم ْن ال َغ ِّي ﴾(البقرة‪ ،)256:‬ولم يعتبر اإلك راه على الزن ا‪،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫ض ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َو َم ْن‬
‫﴿ َواَل تُ ْك ِرهُوا فَتَيَاتِ ُك ْم َعلَى ْالبِغَا ِء إِ ْن أَ َر ْدنَ تَ َحصُّ نًا لِتَ ْبتَ ُغوا ع ََر َ‬
‫يُ ْك ِرهُّ َّن فَإِ َّن هَّللا َ ِم ْن بَ ْع ِد إِ ْك َرا ِه ِه َّن َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾(النور‪ )33:‬فكيف يعتبر اإلكراه على‬
‫الطالق‪ ،‬وهو أدنى منها جميعا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ داللة السنة العامة على عدم اعتب ار تص رفات المك ره‪ ،‬فق د ق ال ‪(:‬إن‬
‫هللا وضع عن أمتي الخطأ‪ ،‬والنسيان‪ ،‬وما استكرهوا عليه) (‪ ،)2‬قال ابن حجر‪( :‬إنه‬
‫سوى بين الثالثة في التجاوز فمن حمل التجاوز على رفع اإلثم خاصة دون الوقوع‬
‫في اإلكراه لزم أن يقول مثل ذلك في النسيان)(‪)3‬‬
‫‪ 4‬ـ الداللة الخاصة من الس نة على ع دم وق وع طالق ه‪ ،‬فعن عائش ة‪ ،‬ق الت‪:‬‬
‫سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول (ال طالق في إغالق) (‪ ،)4‬وهذا الحديث هو حديث ه ذا‬
‫الباب‪ ،‬فلذلك سنرى الوجوه الكثيرة لالستدالل به‪ ،‬فقد فسره علماء الغريب ب اإلكراه‬
‫وهو ق ول ابن قتيب ة والخط ابي وابن الس يد وغ يرهم‪ ،‬وفس روه ب الجنون واس تبعده‬
‫المطرزي وفس روه بالغض ب‪ ،‬وق ال أب و عبي د اإلغالق التض يق‪ ،‬وق ال أب و بك ر‪:‬‬
‫سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين‪ ،‬فقاال‪ :‬يريد اإلكراه؛ ألنه إذا أكره انغل ق علي ه‬
‫رأيه(‪.)5‬‬
‫‪ 5‬ـ اآلث ار الكث يرة ال واردة عن الس لف والدال ة على ع دم وق وع طالق‬
‫المكره(‪ ،)6‬ومنها ما روي عن خيثمة بن عب د ال رحمن ق ال‪ :‬ق الت ام رأة لزوجه ا‪:‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه سعيد بن منصور عنه بإسناد صحيح‪ ،‬نيل األوطار‪.7/22 :‬‬


‫‪ )(2‬قال الح اكم‪ :‬ه ذا ح ديث ص حيح على ش رط الش يخين ولم يخرج اه‪ ،‬الح اكم‪ ،2/216 :‬وانظ ر‪ :‬مجم ع‬
‫الزوائد‪ ،6/250 :‬البيهقي‪ ،6/84 :‬ابن ماجة‪ ،1/959 :‬وقد اختلف في الحكم على الحديث على ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬قال ابن رجب‪ :‬حديث حسن رواه ابن ماجه وال بيهقي وغيرهم ا من طري ق األوزاعي عن عط اء عن ابن‬
‫عباس عن النبي ‪ ‬وخرج ه ابن حب ان في ص حيحه وال دارقطني وعن دهما عن األوزاعي عن عط اء عن عبي د بن‬
‫عمير عن ابن عباس عن النبي ‪ ‬وهذا إسناد صحيح في رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين‪.‬‬
‫‪ .2‬وقد أنكره اإلمام أحمد جدا وقال ليس يروى فيه إال عن الحسن عن الن بي ‪ ‬مرس ال‪،‬وق ال أب و ح اتم ه ذه‬
‫أحاديث منكرةكأنها موضوعة‪ ،‬وقال لم يسمع األوزاعي هذا الحديث عن عطاء وإنما سمعه من رجل لم يس مه ت وهم‬
‫أنه عبدهللا بن عامر أو إسماعيل بن مسلم قال‪ :‬وال يصح هذا الحديث وال يثبت إسناده‪ ،‬انظر‪ :‬كشف الخفاء‪،1/522 :‬‬
‫جامع العلوم والحكم‪.1/373 :‬‬
‫‪ )(3‬فتح الباري‪.9/390 :‬‬
‫‪ )( 4‬قال ابن حجر‪ :‬رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي من طريق صفية بنت شيبة‬
‫عنها‪ ،‬وصححه الحاكم‪،‬وفي إسناده محم د بن عب د بن أبي ص الح وق د ض عفه أب و ح اتم ال رازي ورواه ال بيهقي من‬
‫طريق ليس هو فيها لكن لم يذكر عائشة‪ ،‬وزاد أبو داود وغيره وال إعتاق‪ ،‬تلخيص الحبير‪ ،3/210 :‬وانظر‪ :‬الحاكم‪:‬‬
‫‪ ،2/216‬البيهقي‪ ،7/357 :‬الدارقطني‪ ،4/36 :‬ابن ماجة‪ ،1/660 :‬ابن أبي شيبة‪ ،4/83 :‬أحمد‪.6/276 :‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬تلخيص الحبير‪ ،3/210 :‬نيل األوطار‪.7/22:‬‬
‫‪ )(6‬انظر اآلثار الواردة عن الصحابة في ذلك في‪ :‬المحلى‪ ،9/463:‬المصنف البن أبي شيبة‪.4/39:‬‬

‫‪54‬‬
‫سمني؟ فسماها الظبية‪ ،‬قالت‪ :‬ما قلت شيئا؟ قال‪ :‬فهات ما أسميك ب ه؟ ق الت‪ :‬س مني‬
‫خلية طالق‪ ،‬قال‪ :‬فأنت خلي ة ط الق‪ ،‬ف أتت عم ر‪ ،‬فق الت‪ :‬إن زوجي طلق ني؟ فج اء‬
‫زوجها فقص عليه القصة؟ فأوجع عمر رأس ها‪ ،‬وق ال لزوجه ا‪ :‬خ ذ بي دها وأوج ع‬
‫رأس ها‪ ..‬وروي أن علي بن أبي ط الب ك ان ال يج يز طالق المك ره‪ ،‬وعن ث ابت‬
‫األعرج‪ ،‬قال‪ :‬س ألت ابن عم ر‪ ،‬وابن الزب ير عن طالق المك ره فق اال جميع ا‪ :‬ليس‬
‫بشيء‪ ،‬وعن ابن عب اس ق ال‪ :‬ليس لمك ره وال لمض طر طالق‪ ،‬ق ال ابن ح زم بع د‬
‫إيراده اآلثار الواردة عن الصحابة في ذل ك‪ (:‬فه و ق ول من ذك ر من الص حابة وال‬
‫مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا)(‪)1‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن طالق المك ره يق ع‪ ،‬وه و ق ول أبي قالب ة‪ ،‬والش عبي‪،‬‬
‫والنخعي‪ ،‬والزهري والثوري‪ ،‬وأبي حنيف ة وص احبيه(‪ ،)2‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي(‪:)3‬‬
‫‪ 1‬ـ من الس نة‪ ،‬ذك ر ابن الج وزي أن أص حاب ه ذا الق ول اس تدلوا بثالث ة‬
‫أحاديث هي(‪ :)4‬قوله ‪( ‬ثالث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطالق والرجع ة)‬
‫(‪ ،)5‬وقوله ‪(:‬كل الطالق جائز إال طالق المعتوه والمغلوب عليه)(‪ ،)6‬وما رووه‬
‫عن رج ل من أص حاب الن بي ‪ ‬أن رجال ك ان نائم ا م ع امرأت ه فق امت فأخ ذت‬
‫س كينا‪ ،‬وجلس ت على ص دره ووض عت الس كين على حلق ه وق الت ل ه طلق ني أو‬
‫ألذبحنك‪ ،‬فناشدها هللا فأبت‪ ،‬فطلقها ثالثا فذكر ذلك لرسول هللا ‪ ،‬فقال (ال قيلول ة‬
‫في الطالق)(‪)7‬‬
‫‪ 2‬ـ واستدل له الطحاوي بح ديث ع ام‪ ،‬وه و م ا روي عن حذيف ة بن اليم ان‬
‫قال‪ :‬ما منعني أن أشهد ب درا إال أني خ رجت أن ا وأبي فأخ ذنا كف ار ق ريش‪ ،‬فق الوا‬
‫إنكم تريدون محمدا فقلنا‪ :‬ما نريد إال المدينة فأخذوا منا عه د هللا وميثاق ه لننص رفن‬
‫إلى المدين ة وال نقات ل مع ه فأتين ا رس ول هللا ‪ ‬فأخبرن اه فق ال‪ :‬انص رفا نفي لهم‬
‫بعهدهم ونستعين هللا تعالى عليهم)(‪ ،)8‬قال‪ :‬فكان في هذا الحديث ما ق د دل على أن‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.9/463:‬‬
‫‪ )(2‬نص الحنفية على أن طالق المكره واقع سواء كان المك ره س لطانا‪ ،‬أو غ يره أكره ه بوعي د متل ف‪ ،‬أو‬
‫غير متلف‪ ،‬المبسوط‪.24/40:‬‬
‫‪ )(3‬شرح معاني اآلثار‪.3/95:‬‬
‫‪ )(4‬التحقيق في أحاديث الخالف‪ ،2/294:‬وانظر‪ :‬نصب الراية‪.3/222 :‬‬
‫‪ )(5‬الحاكم‪ ،2/216 :‬الترمذي‪ ،3/490 :‬البيهقي‪ ،7/340 :‬أب و داود‪ ،2/259 :‬ابن ماج ة‪ ،1/658 :‬المنتقى‬
‫البن الجارود‪ ،1/178 :‬وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه قال النسائي منك ر الح ديث‬
‫ووثقه غيره فهو على هذا حسن‪ ،‬تلخيص الحبير‪.3/210:‬‬
‫‪ )(6‬أخرج ه الترم ذى (‪ ،3/496‬رقم ‪ ،)1191‬وق ال‪ :‬ال نعرف ه مرفوع ا إال من ح ديث عط اء بن عجالن‪،‬‬
‫وعطاء بن عجالن ضعيف‪.‬‬
‫‪ )( 7‬قال ابن حجر‪ :‬ذكره بن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة وأنه واه جدا‪ ،‬تلخيص الحبير‪ ،3/217 :‬وقال‬
‫البخاري‪ :‬حديث منكر‪ ،‬نصب الراية‪.3/222 :‬‬
‫‪ )(8‬مسلم‪ ،3/1414 :‬البيهقي‪.9/145 :‬‬

‫‪55‬‬
‫اليمين على اإلكراه تلزم كما تلزم على الطواعية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الح ديث ال ذي اس تدل ب ه المخ الفون وه و (ال طالق وال عت اق في‬
‫إغالق) ال يدل على اإلكراه‪ ،‬وقد أوله الطحاوي بقوله‪(:‬ثم تأملنا هذا الح ديث لنق ف‬
‫على المراد به ما هو؟ فكان أحس ن م ا حض رنا في ه – وهللا أعلم – أن اإلغالق ه و‬
‫اإلطباق على الشيء فاحتمل بذلك عندنا أن يكون في هذا الحديث أري د ب ه اإلجب ار‬
‫الذي يغلق على المعتق‪ ،‬وعلى المطلق حتى يك ون من ه العت اق والطالق على غ ير‬
‫اختيار منه لهما وال يكون في العتاق مثابا كم ا يث اب س ائر المعتقين ال ذين يري دون‬
‫بعت اقهم هللا على عت اقهم‪ ،‬وك المطلقين ال ذين تلحقهم ال ذنوب في طالقهم ال ذين‬
‫يضعونه في غير موضعه‪ ،‬والذين يوقعون من عدده أك ثر مم ا أبيح لهم أن يوقع وه‬
‫منه وموضعه الذي أمروا أن يضعوه فيه هو الطهر قبل المسيس والعدد الذي أمروا‬
‫به هو الواحدة ال ما فوقها) (‪)1‬‬
‫‪ 4‬ـ أن حديث رفع الحرج عن المكره ال يدخل فيه الطالق‪ ،‬وإنما المراد من ه‬
‫اإلكراه على الكفر (ألن القوم كانوا حديثي العهد باإلسالم‪ ،‬وكان اإلكراه على الكفر‬
‫ظاهرا يومئذ وكان يجري على ألسنتهم كلمات الكفر خط أ وس هوا‪ ،‬فعف ا هللا تع الى‬
‫عن ذلك عن هذه األمة على لسان رسول هللا ‪)2()‬‬
‫‪ 5‬ـ اآلثار الواردة عن السلف في ذلك‪ ،‬ومنها م ا رووا أن ام رأة س لت س يفا‬
‫فوضعته على بطن زوجها وق الت‪:‬وهللا ألنف ذنك‪ ،‬أو لتطلق ني‪ ،‬فطلقه ا ثالث ا‪ ،‬فرف ع‬
‫ذلك إلى عمر فأمضى طالقها‪ ،‬وعن ابن عمر أنه س أله رج ل فق ال ل ه‪ :‬أن ه وطىء‬
‫فالن على رجلي حتى أطلق امرأتي‪ ،‬فطلقتها فكره ل ه الرج وع إليها(‪ ،)3‬وعن علي‬
‫بن أبي طالب أنه قال‪(:‬كل الطالق ج ائز إال طالق المعت وه)‪ ،‬وروي عن ابن عم ر‬
‫أنه أجاز طالق المك ره‪ ،‬وعن الش عبي والنخعي والزه ري وقت ادة وأبي قالب ة أنهم‬
‫أجازوه‪ ،‬وعن سعيد بن جبير أنه بلغه قول الحسن ليس طالق المك ره بش يء فق ال‪:‬‬
‫يرحمه هللا إنما كان أهل الشرك يكرهون الرج ل على الكف ر والطالق‪ ،‬ف ذلك ال ذي‬
‫ليس بشيء‪ ،‬وأما ما صنع أهل اإلسالم بينهم فهو جائز(‪.)4‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ه طالق من مكل ف‪ ،‬في مح ل يملك ه‪ ،‬فينف ذ‪ ،‬كطالق غ ير المك ره‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أن الفائت باإلكراه ليس إال الرضا‪ ،‬وهو ليس بش رط لوق وع الطالق‪،‬‬
‫فإن طالق الهازل واق ع وليس ب راض ب ه طبع ا‪ ،‬وك ذلك الرج ل ق د يطل ق امرأت ه‬
‫الفائقة حسنا وجماال الرائق ة تغنج ا ودالال لخل ل في دينه ا‪ ،‬وإن ك ان ال يرض ى ب ه‬
‫طبعا ويقع الطالق عليها‪.‬‬

‫‪ )(1‬مشكل اآلثار‪.1/127:‬‬
‫‪ )(2‬شرح معاني اآلثار‪.3/95 :‬‬
‫‪ )(3‬يحتمل أن ذلك ألنه لم ير ذلك إكراها‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظ ر اآلث ار ال واردة عن الص حابة في ذل ك في‪ :‬المحلى‪ ،9/463:‬المص نف‪ ،4/39:‬نص ب الراي ة‪:‬‬
‫‪.3/223‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ 7‬ـ أن اإلكراه ال يعمل على األقوال كما يعمل على االعتقادات؛ ألن أح دا ال‬
‫يقدر على استعمال لسان غيره بالكالم على تغي ير م ا يعتق ده بقلب ه ج برا فك ان ك ل‬
‫متكلم مختارا فيما يتكلم به فال يكون مستكرها عليه حقيقة‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أنه قاصد دفع الهالك عن نفسه‪ ،‬وال يندفع عنه إال بالقصد إلى م ا وض ع‬
‫له‪ ،‬فكان قاصدا إليه ضرورة(‪.)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و الق ول بع دم وق وع طالق المك ره‪ ،‬وه و م ا‬
‫دلت علي ه األدل ة‪ ،‬وم ا تقتض يه المص لحة الش رعية‪ ،‬ب ل إن في ذل ك س دا لذريع ة‬
‫اإلكراه نفسها‪ ،‬وحماي ة للمس لمين أن تس لب زوج اتهم ب أي طري ق‪ ،‬ألن من اعتق د‬
‫جدوى إكراه رجل ما على التلفظ بألفاظ الطالق يغريه ذلك بإكراه ه بخالف م ا ل و‬
‫سد عليه الباب‪ ،‬فإنه ال يفكر فيه مطلقا‪.‬‬
‫فل ذلك ك ان في إيق اع طالق المك ره من المض ار والمفاس د م ا ال يحص ى‪،‬‬
‫وأخطرها هو اإلغ راء ب اإلكراه نفس ه‪ ،‬ألن الرج ل من المس لمين ق د يك ون ظالم ا‬
‫مفسدا‪ ،‬ولكنه في هذا الميدان يخاف أن يتزوج زوجة رجل لم تخرج من ذمته‪ ،‬ف إذا‬
‫قيل لهذا إن تهديدك لفالن وجبرك على تطليق زوجته يجعلها طالقا ويبيحه ا ل ك لن‬
‫يحجزه عن اإلكراه حاجز‪.‬‬
‫ثم كيف ترد النصوص الكثيرة التي ذكرناها واألدلة العامة التي تتناول جميع‬
‫األحك ام الش رعية وتنض بط معه ا ألح اديث ض عيفة ال تص ح وأقيس ة ال تنهض‬
‫لالحتجاج بها على ما هو دون هذا فمن الغ ريب أن يس تدل الحنفي ة بق ولهم‪ (:‬طالق‬
‫المكره يل زم ألن ه لم يع دم في ه أك ثر من الرض ا‪ ،‬وليس وج وده بش رط في الطالق‬
‫كالهازل)‪ ،‬فكيف يعتبر عدم الرضا ال غيا‪ ،‬ولماذا يق اس ع ل اله ازل(‪ )2‬وال يق اس‬
‫على غيره مما هو أشبه به؟‬
‫شروط اإلكراه المؤثر‬
‫ذكر الفقهاء الكثير من الشروط المعتبرة في اإلكراه المؤثر‪ ،‬وسنقتصر منه ا‬
‫هنا على ما يتعلق منها باإلكراه في الطالق فقط‪ ،‬وهذه الشروط هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قدرة المكره وخوف المكره‪:‬‬
‫وهو قدرة المكره (بالكس ر) على إيق اع م ا ه دد ب ه‪ ،‬لكون ه متغلب ا ذا س طوة‬
‫وبطش وإن لم يكن سلطانا وال أميرا‪ ،‬ألن تهديد غير الق ادر ال اعتب ار ل ه‪ ،‬وخ وف‬
‫المكره (بفتح ال راء) من إيق اع م ا ه دد به(‪ ،)3‬وق د اتف ق الفقه اء على اعتب ار ه ذا‬
‫الشرط في تحقق اإلكراه إذا كان المخوف عاجال‪ ،‬أما إن كان آجال‪ ،‬فقد اختلفوا في ه‬
‫على قولين‪:‬‬
‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.7/182:‬‬
‫‪ )(2‬انظر ما يتعلق بطالق الهازل في هذا المبحث‪.‬‬
‫‪ )( 3‬والمقصود بخوف اإليقاع اليقين أو غلبة الظن‪ ،‬ألن غلبة الظن معتبرة عند عدم األدلة‪ ،‬وتعذر التوص ل‬
‫إلى الحقيقة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫الق ول األول‪ :‬تحق ق اإلك راه م ع التأجي ل‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة والحنابل ة‬
‫واألذرعي من الشافعية‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن اإلك راه ال يتحق ق م ع التأجي ل‪ ،‬ول و إلى الغ د‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الشافعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و اعتب ار اإلك راه ول و م ع تأجي ل المك ره‬
‫عقوبته‪ ،‬ألن الدافع للطالق ليس قصد الطالق والرغبة فيه‪ ،‬وإنما التأثير الخارجي‪،‬‬
‫فللتأثير الخارجي أثره بغض النظر عن كونه عاجال أم آجال‪ ،‬ف العبرة ليس ت بهم ا‪،‬‬
‫وإنما بنوع اإلكراه‪ ،‬فقد يكون إكراها بسيطا ع اجال‪ ،‬فال يعت بر‪ ،‬وق د يك ون إكراه ا‬
‫خطيرا آجال‪ ،‬فيؤثر ويقع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ شدة الضرر المتوقع من المكره‪:‬‬
‫مثل كون ما هدد به قتال أو إتالف عضو‪ ،‬ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب‬
‫البصر‪ ،‬أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها‪ ،‬أو غيرهما مم ا ي وجب‬
‫غما يعدم الرضا‪ ،‬أما التهديد بما يمكن تحمله كالجوع‪ ،‬في تراوح بين ه ذا وذاك‪ ،‬فال‬
‫يصير ملجئا إال إذا بلغ الجوع بالمكره (بالفتح) حد خوف الهالك‪.‬‬
‫ثم الذي ي وجب غم ا يع دم الرض ا يختل ف ب اختالف األش خاص واألح وال‪،‬‬
‫فليس العامة من الناس كالخاصة‪ ،‬وال الضعاف كاألقوياء‪ ،‬وال تفويت المال اليس ير‬
‫كتفويت المال الكثير‪ ،‬والنظر في ذلك مفوض إلى الحاكم‪ ،‬يقدر لكل واقعة قدرها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ عدم الرضا بما أكره عليه‪:‬‬
‫وهو أن يكون المكره ممتنعا عن الفعل المكره عليه ل وال اإلك راه‪ ،‬فال يعت بر‬
‫إكراه من تكون له رغبة مسبقة في التطليق‪ ،‬فيطلق لرغبته ال لكونه مكرها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تعين الفعل المكره عليه‪:‬‬
‫وهو أن يكون محل الفعل المكره عليه متعينا‪ ،‬ومث ال ع دم التع يين من أك ره‬
‫على طالق إحدى زوجتيه‪ ،‬فطلقهما جميعا‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء في ه ذا بن اء على‬
‫اعتبار هذا الشرط أو عدم اعتباره على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬اعتبار هذا الش رط على اإلطالق‪ ،‬وه و ق ول الش افعية وبعض‬
‫الحنابلة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم اعتبار هذا الش رط‪ ،‬فيتحق ق اإلك راه ب رغم ه ذا التخي ير‪،‬‬
‫وهو قول الحنفية والمالكية‪ ،‬وبعض الشافعية والحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو النظر إلى قصده من طالق من لم يكره على‬
‫طالقها‪ ،‬فإن كان قاصدا لطالقها طلقت من ه‪ ،‬وإن لم يكن قاص دا ب ل أغل ق الخ وف‬
‫عليه عقله‪ ،‬فلم يدر ما يقول لم تطلق منه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ سلب الخيار من المكره‪:‬‬
‫وذلك بأال يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه‪ ،‬فإن كانت له مندوحة‬

‫‪58‬‬
‫عنه‪ ،‬ثم فعله ال يكون مكرها عليه‪ ،‬وعلى هذا لو خير المكره بين أمرين ف إن الحكم‬
‫يختلف تبعا لتساوي هذين األمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحل‪.‬‬
‫فإن تفاوت األمران المخير بينهما‪ ،‬وكان أحدهما محرما ال ي رخص في ه وال‬
‫يباح بحال كالزنى والقتل‪ ،‬فإنه ال يكون مندوحة‪ ،‬ويكون اإلكراه واقعا على المقاب ل‬
‫له‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقه اء فيم ا ل و وق ع التخي ير بين طالق امرأت ه وبي ع ش يء من‬
‫ماله‪ ،‬هل يعتبر ذلك إكراها أم ال على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ي ترتب حكم اإلك راه على فع ل أي واح د من األم رين المخ ير‬
‫بينهما‪ ،‬ألن اإلكراه ليس إال على األحد الدائر دون تف اوت‪ ،‬وه ذا ال تع دد في ه‪ ،‬وال‬
‫يتحقق إال في معين‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال ي ترتب حكم اإلك راه في ه ذه الص ور‪ ،‬وه و ق ول الش افعية‬
‫وبعض الحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني‪ ،‬ألن المال محترم ش رعا‪ ،‬ول و‬
‫سلم ماله للمكره ربما ال يستطيع استرجاعه‪ ،‬بخالف ه طالق ه لزوجت ه‪ ،‬ف إن طالقه ا‬
‫أمر معنوي بالنسبة له‪ ،‬وال عبرة له لوقوعه تحت تأثير اإلكراه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الجهل‬
‫اختلف العلماء في تعري ف الجه ل لتع دد أنواع ه واقتص ار بعض التع اريف‬
‫على نوع من ه‪ ،‬وألهمي ة التع رف على حقيق ة الجه ل لعالقته ا به ذا المطلب ن ذكر‬
‫بعض التعاريف وما نوقشت به(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه عدم العلم عما من شأنه أن يعلم‪ ،‬ويسمى بسيطا‪ ،‬وقد قيل ب أن ه ذا ال‬
‫يسمى جهال‪ ،‬واختاره ابن السمعاني‪ ،‬ومم ا تعقب ب ه ه ذا التعري ف أن ه غ ير م انع‬
‫لدخول الظن عند من ال يراه علما‪ ،‬والشك والغفلة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عدم كل علم أو ظن أو شك أو وق ف عم ا من ش أنه أن يك ون معلوم ا أو‬
‫مظنونا أو مشكوكا أو موقوفا فيه ممن شأنه أن يوصف بذلك‪،‬وقد ورد هذا التعريف‬
‫لتصحيح التعريف السابق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ه االعتق اد الباط ل‪ ،‬وه ذا التعري ف خ اص بالجه ل الم ركب‪ ،‬وق ال‬
‫اآلم دي‪(:‬اعتق اد المعتق د على خالف م ا ه و علي ه في نفس األم ر‪ ،‬ونقض ب النظر‬
‫المطابق عكسا‪ ،‬فإن الناظر ما لم يكن عالما أو ظانا فه و جاه ل؛ لكون ه ض دا لهم ا‬
‫عنده فيكون الناظر إذن جاهال مع أن اعتقاده مطابق)‬
‫‪ 4‬ـ أنه اعتقاد الشيء على خالف م ا ه و ب ه‪ ،‬واع ترض علي ه بأن ه يس تلزم‬
‫ك ون المع دوم ش يئا‪ ،‬إذ الجه ل يتحق ق بالمع دوم كم ا يتحق ق ب الموجود‪ ،‬أو ك ون‬
‫المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكالهما فاسد‪.‬‬

‫‪ )(1‬البحر المحيط‪ ،1/101:‬كشف األسرار‪ ،4/330:‬شرح التلويح‪.2/359:‬‬

‫‪59‬‬
‫‪ 5‬ـ هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره‪ ،‬واحترز به عن األشياء التي‬
‫ال علم لها فإنها ال توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها‪.‬‬
‫وأساس االختالف في هذه التعاريف هو أن الجهل نوعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجهل البسيط‪ ،‬وهو عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالما‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الجهل المركب‪ ،‬وهو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع‪.‬‬
‫فيجتمع كالهما في اعتقاد الش يء على خالف م ا ه و علي ه‪ ،‬وه و في الن وع‬
‫األول عدمي يقاب ل العلم تقاب ل الع دم والملك ة‪ .‬وبالث اني وج ودي يقاب ل العلم تقاب ل‬
‫الضدين‪ ،‬والثاني يقال فيه‪ :‬أخطأ وغلط‪ ،‬ومخاطبته مخاطب ة عن اد ومخاطب ة األول‬
‫مخاطبة تعليم‪.‬‬
‫ويمكن تقسيم طالق الجاهل بحسب الحكم المترتب عن جهله إلى قسمين‪:‬‬
‫الجهل الباطل‪:‬‬
‫وهو الجهل الذي ال يصلح عذرا‪ ،‬وه ذا القس م ال يص لح أن يك ون ع ذرا في‬
‫اآلخ رة‪ ،‬وإن ك ان ق د يص لح ع ذرا في أحك ام ال دنيا‪ ،‬ومن أمثل ة ه ذا الجه ل في‬
‫الطالق‪:‬‬
‫المثال األول‪ :‬أن يأخذ المطلق بقول من خ الف في اجته اده الكت اب أو الس نة‬
‫المشهورة أو اإلجماع‪ ،‬أو عمل ب الغريب على خالف الكت اب أو الس نة المش هورة‪،‬‬
‫كالقول مثال بأن الطالق ال يقع إال بحكم القاضي‪ ،‬فال عبرة بهذا االجتهاد‪ ،‬وصاحبه‬
‫ليس معذورا فيه‪.‬‬
‫المث ال الث اني‪ :‬الجه ل الناش ئ عن ع دم س ؤال العلم اء خش ية من األحك ام‬
‫الشرعية‪ ،‬كمن تلفظ بالطالق‪ ،‬وخاف إن استفتى العلماء أن يفتوه بوقوع ه‪ ،‬فيس كت‬
‫عن السؤال ويتعلل بالجهل‪ ،‬فهذا الجهل غير معتبر‪ ،‬وقد قال الشافعي في مثل ه ذا‪:‬‬
‫لو عذر الجاه ل ألج ل جهل ه لك ان الجه ل خ يرا من العلم‪ ،‬إذ ك ان يح ط عن العب د‬
‫أعباء التكليف‪ ،‬ويريح قلبه من ضروب التع نيف‪ ،‬فال حج ة للعب د في جهل ه ب الحكم‬
‫بعد التبليغ والتمكين؛ ﴿ أِل َاَّل يَ ُكونَ لِلنَّ ِ‬
‫اس َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد الرُّ ُس ِل ﴾ (النس اء‪)165:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫المثال الثالث‪ :‬أن جهل الحكم بالتحريم‪ ،‬وهو مسقط لإلثم والحكم في الظ اهر‬
‫لمن يخفى عليه لقرب عه ده باإلس الم ونح وه‪ ،‬ف إن علم ه وجه ل الم رتب علي ه لم‬
‫يعذر‪،‬ومثال هذا في الطالق من جهل أحك ام الطالق‪ ،‬فطل ق زوجت ه‪ ،‬وجه ل األث ر‬
‫الذي يترتب عليه من ذلك‪ ،‬فإنه معذور في حال الجهل بالطالق نفسه‪ ،‬غير مع ذور‬
‫في حال جهله باألثر فقط‪ ،‬كم ا ل و جه ل تح ريم الكالم في الص الة ع ذر‪ ،‬ول و علم‬
‫التحريم وجهل اإلبطال بطلت‪.‬‬
‫الجهل المعتبر‪:‬‬

‫‪ )(1‬المنثور في القواعد الفقهية‪.2/16:‬‬

‫‪60‬‬
‫وهو الجهل الذي يصلح عذرا‪ ،‬وهو الجهل الذي يك ون في موض ع االجته اد‬
‫الصحيح‪ ،‬بأن ال يك ون مخالف ا للكت اب أو الس نة أو اإلجم اع‪ ،‬ومن أمثلت ه المتعلق ة‬
‫بالطالق‪:‬‬
‫المثال األول‪ :‬الجهل بأحكام الطالق وص يغه للمس لمين في البالد البعي دة عن‬
‫بالد المسلمين‪ ،‬ولم يتمكن أص حابها من االتص ال بالعلم اء أو لم ينتبه وا إلى ذل ك‪،‬‬
‫ألن الفقه اء نص وا على أن من مكث في دار الح رب‪ ،‬ولم يعلم أن علي ه الص الة‬
‫والزكاة وغيرهما ولم يؤدها ال يلزمه قضاؤها لخفاء الدليل في حقه‪ ،‬وه و الخط اب‬
‫لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع وتقديرا بالشهرة‪ ،‬فيصير جهله بالخطاب عذرا‪.‬‬
‫بخالف من أسلم في دار اإلس الم لش يوع األحك ام والتمكن من الس ؤال‪ ،‬ق ال‬
‫السيوطي‪( :‬كل من جهل تح ريم ش يء مم ا يش ترك في ه غ الب الن اس لم يقب ل من ه‬
‫دعوى الجهل إال أن يكون قريب عهد باإلسالم‪ ،‬أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيه ا مث ل‬
‫ذلك‪ ،‬كتحريم الزنى‪ ،‬والقت ل‪ ،‬والس رقة‪ ،‬والخم ر‪ ،‬والكالم في الص الة‪ ،‬واألك ل في‬
‫الصوم) (‪.)1‬‬
‫المثال الثاني‪ :‬طالق من جهل معنى الطالق‪ ،‬فقد نص الفقهاء على أنه ال يقع‬
‫طالق من يجهل معنى اللفظ الدال على الطالق‪ ،‬ق ال في المغ ني‪ :‬إن ق ال األعجمي‬
‫المرأته أنت طالق وال يفهم معناه لم تطلق؛ ألنه ليس بمختار للطالق فلم يقع طالق ه‬
‫كالمكره‪ ،‬وذلك‪ ،‬ألنه لم يلتزم بمقتضاه‪ ،‬ولم يقصد إليه‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء فيما لو قال األعجمي‪ :‬أردت به م ا ي راد عن د أهل ه‪ ،‬على‬
‫قولين أصحهما أنه لم يرده‪ ،‬ألن اإلرادة ال تتوجه إال إلى معلوم أو مظنون؛ ألنه إذا‬
‫لم يعرف معنى اللفظ لم يصح قصده‪.‬‬
‫وق ال الزركش ي‪ (:‬إذا نط ق األعجمي بكلم ة كف ر‪ ،‬أو إيم ان‪ ،‬أو طالق‪ ،‬أو‬
‫إعتاق‪ ،‬أو بيع‪ ،‬أو شراء‪ ،‬أو نحوه‪ ،‬وال يعرف معناه‪ ،‬ال يؤاخذ بش يء من ه‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يلتزم مقتضاه‪ ،‬وكذلك إذا نطق الع ربي بم ا ي دل على ه ذه العب ارة بلف ظ أعجمي ال‬
‫يعرف معناه(‪)2‬‬
‫ومثل هذا الجهل بالحساب كم ا ل و ق ال طلق ة في طلق تين‪ ،‬وجه ل الحس اب‪،‬‬
‫ولكن قصد معناه فقد اختلف الفقهاء في ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬تقع طلقة وقيل طلقتان‪.‬‬
‫المثال الث الث‪ :‬إذا نطق الع ربي بكلم ات عربي ة لكن ه ال يع رف معانيه ا في‬
‫الشرع‪ ،‬مثل قوله لزوجته‪ :‬أنت طالق للسنة أو للبدعة‪ ،‬وهو جاهل بمعنى اللف ظ‪ ،‬أو‬
‫نطق بلفظ الخلع أو النكاح‪ ،‬قال عز الدين بن عبد السالم‪(:‬أنه ال يؤاخذ بش يء‪ ،‬إذ ال‬
‫شعور له بمدلوله حتى يقصده باللف ظ‪ .‬ق ال‪ :‬وكث يرا م ا يخ الع الجه ال من ال ذين ال‬
‫يعرفون مدلول لفظ الخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬األشباه والنظائر‪.200:‬‬
‫‪ )(2‬المنثور في القواعد الفقهية‪.2/13:‬‬
‫‪ )(3‬قواعد األحكام‪.2/121:‬‬

‫‪61‬‬
‫وقول العز لو التزم في الفت وى لض يق كث يرا أب واب الطالق خاص ة بين م ا‬
‫يجري من العامة من ألفاظ الطالق كناية دون إدراك لمدلولوتها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ملحقات الجهل‬
‫نقصد بملحقات الجهل في هذا العن وان م ا يك ون س ببا من أس باب الجهل ة أو‬
‫مظهرا من مظاهره أو درجة من درجاته‪ ،‬وقد اقتصرنا على أربع ملحقات هي أهم‬
‫ما في هذا الباب وسائر ما ذك ر في ع وارض األهلي ة مم ا يتعل ق ب الطالق ين درج‬
‫تحتها‪ ،‬وهذه األربعة هي‪ :‬النسيان والشك والخطأ‪ ،‬والتقليد‪.‬‬
‫فدرجات العلم مثال من الظن والشك والوهم يقتصر الفقهاء منها على الش ك‪،‬‬
‫ويعبرون به عن الكل‪ ،‬وهكذا في النسيان يعبرون به عن الس هو والغفل ة وال ذهول‪،‬‬
‫كما قال اآلمدي‪ :‬إن الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة‪ ،‬لكن يق رب أن تك ون‬
‫معانيها متحدة‪ ،‬وكلها مضادة للعلم‪ ،‬بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه‪.‬‬
‫النسيان‬
‫من التعاريف التي عرف بها النسيان وما في معناه(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ هو عدم االستحضار للشيء في وقت الحاجة الستحضاره‪ ،‬وقد شمل هذا‬
‫التعريف النسيان والسهو‪ ،‬فقد فرقوا بينهما فاعتبروا السهو ه و زوال الص ورة عن‬
‫المدركة مع بقائها في الحافظ ة‪ ،‬بخالف النس يان‪ ،‬فه و زواله ا عنهم ا مع ا فيحت اج‬
‫حينئذ في حصولها إلى سبب جديد(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ هو عدم ما في الصورة الحاصلة عند العقل عما من ش أنه المالحظ ة في‬
‫الجملة‪ ،‬وهو أعم من أن يك ون بحيث يتمكن من مالحظته ا أي وقت ش اء‪ ،‬ويس مى‬
‫ه ذا ذه وال‪ ،‬وس هوا أو يك ون بحيث ال يتمكن من مالحظته ا إال بع د تجش م كس ب‬
‫جديد(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ النسيان ترك اإلنسان ضبط م ا اس تودع على حفظ ه‪ ،‬إم ا لض عف قلب ه‪،‬‬
‫وإما عن غفلة وإما عن قصد‪ ،‬حتى ينحذف عن قلبه ذكره(‪.)4‬‬
‫‪ 4‬ـ الس هو غفل ة القلب عن الش يء المعل وم فيتنب ه ل ه ب أدنى تنبي ه‪ ،‬بخالف‬
‫النسيان فإنه زوال المعلوم‪ ،‬فيستأنف تحصيله‪ ،‬قال في مجمع األنه ر‪ (:‬لكن الفقه اء‬
‫ال يفرقون بينهما وكذا ال يفرقون بينه وبين الشك)(‪)5‬‬
‫وقد اختلفت نظرات الفقهاء في مس ائل طالق الناس ي بحس ب ن وع النس يان‪،‬‬
‫وموضوعه وتعلقه‪ ،‬فل ذلك ال نس تطيع أن نحص ر فيه ا أق واال بعينه ا‪ ،‬فلك ل مس ألة‬

‫‪ )(1‬ذكر بعضهم عدم الحاجة لتعري ف النس يان معلال ذل ك بأن ه من الوج دانيات ال تي ال تفتق ر إلى تعري ف‬
‫بحسب المعنى فإن كل عاقل يعلم النسيان كما يعلم الجوع والعطش‪ ،‬انظر‪ :‬التقرير والتحبير‪ ،2/177:‬ولكن م ع ذل ك‬
‫يحتاج لهذا التعريف ولغيره مهما كان معروفا لضرورة الضبط‪.‬‬
‫‪ )(2‬التقرير والتحبير‪.2/177 :‬‬
‫‪ )(3‬شرح التلويح‪.2/335:‬‬
‫‪ )(4‬غمز عيون البصائر‪.1/83:‬‬
‫‪ )(5‬مجمع األنهر‪.1/148:‬‬

‫‪62‬‬
‫قولها الخاص‪ ،‬وقد سئل ابن حجر الهيثمي في فت اواه مس ألة تتعل ق بطالق الناس ي‪،‬‬
‫فأجاب عليه ا‪ ،‬ثم عل ق على ذل ك بقول ه‪ (:‬ولك ثرة اختالف الن اس في ه ذه المس ألة‬
‫بأطرافها سكت كثيرون عن الترجيح فيها‪ ،‬وامتنع الماوردي وغ يره من اإلفت اء في‬
‫ذلك‪ ،‬قال‪ :‬واستعمال التوقي أولى من زالت األق دام‪ ،‬ومن يحت اط في دين ه ال يف تي‬
‫في ذلك في زماننا لك ثرة الك ذب في دع وى النس يان والجه ل من العام ة وال س يما‬
‫النساء) (‪)1‬‬
‫ولعل أشد المذاهب في اعتبار وتأثير طالق الناسي قول الحنفية‪ ،‬فقد ج اء في‬
‫المبسوط‪(:‬وإذا قال الرجل‪ :‬فالنة بنت فالن طالق‪ ،‬وس مى امرأت ه ونس يها‪ ،‬ثم ق ال‪:‬‬
‫عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك االس م‪ ،‬والنس ب لم يص دق‪ ،‬والطالق واق ع على‬
‫امرأت ه في القض اء؛ ألن كالم العق ل محم ول على الص حة م ا أمكن‪ ،‬ول ه والي ة‬
‫اإليق اع على امرأت ه دون األجنبي ة فال يص دق فيم ا ي دعي من إلغ اء كالم ه في‬
‫القضاء‪ ،‬ولكن يدين فيما بينه وبين هللا تعالى؛ ألن ما قاله محتمل‪ ،‬ويجوز أن يك ون‬
‫مراده أن فالنة طالق من زوجها على سبيل الحكاي ة‪ ،‬أو على س بيل اإليق اع فيك ون‬
‫موقوف ا على إج ازة ال زوج‪ ،‬وال يس ع امرأت ه أن تقيم مع ه؛ ألنه ا م أمورة باتب اع‬
‫الظاهر كالقاضي) (‪)2‬‬
‫وفي درر الحك ام للحنفي ة‪ ( :‬أو ناس يا ب أن أراد أن يق ول س بحان هللا مثال‪،‬‬
‫فجرى على لسانه أنت طالق تطلق؛ ألنه صريح ال يحتاج إلى النية)(‪)3‬‬
‫ومثل ه م ا روي عن الحس ن البص ري‪ ،‬ق ال الص نعاني‪ (:‬اختلف وا في طالق‬
‫الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إال إذا اش ترط‪ .‬أخرج ه ابن أبي ش يبة عن ه‬
‫وعن عطاء‪ ،‬وهو قول الجمهور أنه ال يكون طالقا للحديث)(‪)4‬‬
‫وأيسر المذاهب في طالق الناسي قول اإلمامية‪ ،‬فق د اعت بروا القص د ش رطا‬
‫من شروط صحة الطالق‪ ،‬مع اشتراط النطق بالصريح‪ ،‬فل و لم ين و الطالق لم يق ع‬
‫كالساهي والنائم والغالط ولو نسي أن له زوجة‪ ،‬فق ال‪ :‬نس ائي طوال ق‪ ،‬أو زوج تي‬
‫طالق ثم ذكر لم يقع به فرقة‪ ،‬ول و أوق ع وق ال‪ :‬لم أقص د الطالق قب ل من ه ظ اهرا‪،‬‬
‫ودين بنيته باطنا‪ ،‬وإن تأخر تفسيره‪ ،‬ما لم تخرج عن العدة؛ ألنه إخبار عن نيته(‪.)5‬‬
‫أما الجمهور‪ ،‬فقد وقفوا موقفا بين الف ريقين‪ ،‬ف اختلفوا في حكم طالق الناس ي‬
‫بحسب المسائل المختلفة‪ ،‬وس نذكر في الفص ل الق ادم م ا يتعل ق بنس ان المطلق ة في‬
‫حالة ما لو طلق امرأة من نسائه ثم نسي عنها‪ ،‬وهي أهم مسائل طالق الناسي‪.‬‬
‫ومعظم أقوال الجمهور في أقوال الناس ي تجنح إلى ع دم اعتب اره‪ ،‬وق د س ئل‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الفقهية الكبرى‪.4/178:‬‬


‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/145:‬‬
‫‪ )(3‬درر الحكام‪.1/360:‬‬
‫‪ )(4‬سبل السالم‪.2/259:‬‬
‫‪ )(5‬شرائع اإلسالم‪.3/4:‬‬

‫‪63‬‬
‫الرملي عمن حلف بالطالق أن ال يأك ل لفالن طعام ا فأك ل طعام ه ناس يا حلف ه‪ ،‬ثم‬
‫سأل شخصا يعتق ده عن ذل ك فأفت اه بوق وع الطالق‪ ،‬ثم أك ل طع ام المحل وف علي ه‬
‫عامدا ظانا صحة فتواه‪ ،‬فهل يقع عليه الطالق باألكل بعد الفتيا سواء أكان من أفت اه‬
‫أهال للفتوى أم ال؟‬
‫فأجاب بأنه لم يقع عليه طالق بأكله الواقع بعد الفت وى‪ ،‬وإن لم يكن من أفت اه‬
‫أهال لها لظنه أنه غير معلق عليه الطالق(‪.)1‬‬
‫وقال ابن حجر الهيثمي‪ (:‬متى حل ف بطالق أو غ يره على فع ل نفس ه ففعل ه‬
‫ناس يا للتعلي ق أو ذاك را ل ه مكره ا على الفع ل أو مخت ارا ج اهال ب المعلق علي ه ال‬
‫بالحكم خالفا لمن وهم في ه لم يحنث للخ بر الس ابق (إن هللا تع الى وض ع عن أم تي‬
‫الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)‪ ،‬أي ال يؤاخذهم بش يء من ه ذه الثالث ة م ا لم‬
‫يدل دليل على خالفه(‪.)2‬‬
‫ولكنه علق على ذلك بما يسد الذريعة على اتخاذ النس يان وس يلة للته رب من‬
‫األحك ام‪ ،‬فق ال‪(:‬أم ا إذا لم يقص د منع ه وال حث ه أو ك ان ممن ال يب الى بتعليق ه‬
‫كالسلطان والحجيج‪ ،‬أو لم يعلم به ففعله فإنه يحنث به ولو مع النسيان وقس يمه؛ ألن‬
‫الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير قصد منع‪ ،‬أو حث نعم يستثنى من ذلك‬
‫ما إذا قصد مع الحث‪ ،‬أو المنع فيمن يبالي به أعالمه به‪ ،‬ولم يعلم به فال تطلق على‬
‫المعتمد الذي اقتضاه كالم الش يخين وغيرهم ا ونقل ه الزركش ي عن الجمه ور ول و‬
‫علق بفعله ناسيا أو جاهال أو مكرها ففعل ه ك ذلك حنث؛ ألن ه ض يق على نفس ه‪ ،‬أو‬
‫بدخول نحو بهيمة‪ ،‬أو طفل فدخل غير مك ره حنث‪ ،‬أو مكره ا فال‪ .‬وف ارق م ا م ر‬
‫من الوقوع في بعض الصور مع اإلكراه)(‪)3‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإنا نرى من حيث النظر إلى النص وص العام ة‪ ،‬والمقاص د‬
‫الشرعية عدم اعتبار طالق الناسي مهما كان نوع نسيانه ديانة وقضاء حتى لو كان‬
‫متناسيا ال ناسيا‪ ،‬ألن دور المفتي أو القاضي ليس التنقيب عن صدقه أو كذبه‪ ،‬وإنما‬
‫الحكم له بظاهر الحال‪ ،‬وظاهر الحال يستدعي حسن الظن بالمسلم‪.‬‬
‫ؤَاخ ْذنَا إِنْ‬‫ُ‬ ‫اَل‬
‫ولن يعجزنا أن نجد الدليل على ذلك‪ ،‬فحسبنا قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬ت ِ‬
‫نَ ِسينَا ﴾ (البقرة‪ ،)286:‬فهذا الدعاء محقق اإلجابة‪ ،‬فكيف يؤاخذ المس لم على نس يانه‬
‫بعد هذا في أمر ال يتعلق به حق الغير‪ ،‬بل يتعلق ب ه الض رر ب الغير‪ ،‬وق د ق ال ابن‬
‫العربي في اآلية‪( :‬ذكر أن النسيان ال يقتضي المؤاخ ذة؛ وه ذا ي دل على م ا ق دمناه‬
‫من أنه ال يدخل تحت التكليف‪ ،‬وال يتعلق به حكم في طالق وال غيره)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬فتاوى الرملي‪.3/294:‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الفقهية الكبرى‪.4/178:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الفقهية الكبرى‪.4/178:‬‬
‫‪ )(4‬أحكام القرآن البن العربي‪.3/241:‬‬

‫‪64‬‬
‫وقد استدل البخاري بقوله ‪ (:‬إنما األعمال بالني ات‪ ،‬وإنم ا لك ل ام رئ م ا‬
‫ن وى فمن ك انت هجرت ه إلى هللا وإلى رس وله فهجرت ه إلى هللا وإلى رس وله ومن‬
‫كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إلي ه)(‪)1‬على‬
‫أنه ال يؤاخذ الناسي‪ ،‬والمخطئ في الطالق‪ ،‬والعت اق ونحوهم ا؛ ألن ه ال ني ة لن اس‬
‫وال مخطئ‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬
‫وكل األدلة الشرعية بعد ذلك تدل على هذا‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬ومن تدبر مصادر‬
‫الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى األلفاظ التي لم يقصد المتكلم به ا معانيه ا‪،‬‬
‫ب ل ج رت على غ ير قص د من ه كالن ائم والناس ي والس كران والجاه ل والمك ره‬
‫والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم)(‪)2‬‬
‫ونفس الحكم يق ال فيمن ذه ل‪ ،‬فطل ق أو ذه ل ففع ل م ا عل ق علي ه الطالق‪،‬‬
‫فالذهول حالة عادية ال يمكن لإلنسان أن يتصرف فيها‪ ،‬وهو وإن كان صاحبه أكثر‬
‫تكليفا من الناسي إال أن حاله من حيث التكليف كحال الناسي‪.‬‬
‫الشك‬
‫التعريف المشهور للشك‪ ،‬والذي يتداول في كل العل وم الش رعية من التوحي د‬
‫واألصول وغيره ا ه و اس تواء الط رفين المتق ابلين لوج ود أم ارتين متك افئتين في‬
‫الطرفين أو لعدم األمارة فيهما(‪.)3‬‬
‫لكن استعمال الفقه اء الغ الب له ذا المص طلح يختل ف عن ه ذا‪ ،‬فهم يطلق ون‬
‫الشك في حالتي االستواء والرجحان على النحو الذي استعملت فيه ه ذه الكلم ة لغ ة‬
‫فقالوا‪ :‬من شك في الطالق‪ ،‬أي من لم يستيقن‪ ،‬بقطع النظر عن اس تواء الج انبين أو‬
‫رجحان أحدهما‪.‬‬
‫ق ال الن ووي‪( :‬اعلم أن م راد الفقه اء بالش ك في الم اء والح دث والنجاس ة‬
‫والصالة والصوم والطالق والعتق وغيرها هو ال تردد بين وج ود الش يء وعدم ه‪،‬‬
‫سواء كان الطرف ان في ال تردد س واء أو أح دهما راجح ا‪ ،‬فه ذا معن اه في اس تعمال‬
‫الفقه اء في كتب الفق ه‪ .‬وأم ا أص حاب األص ول ففرق وا بينهم ا فق الوا‪ :‬ال تردد بين‬
‫الطرفين إن كان على السواء فهو الشك‪ ،‬وإال فالراجح ظن والمرجوح وهم)‬
‫وقد تعقبه الزركشي فقال‪(:‬زعم النووي أنه كاللغة في سائر األبواب‪ ،‬ال فرق‬
‫بين المساوي والراجح وهذا إنما ق الوه في األح داث وق د فرق وا في مواض ع كث يرة‬
‫بينهما)‬
‫ومن الفروق التي ذكرها مما يتعل ق ب الطالق‪ ،‬ق ال‪( :‬ومنه ا ق الوا في كت اب‬
‫الطالق إنه ال يقع بالشك‪ ،‬فأرادوا به الطرف المرجوح‪ ،‬ولهذا قال الرافعي‪ :‬ق ولهم‪،‬‬
‫ال يقع الطالق بالشك مسلم لكنه يقع بالظن الغالب‪ ،‬ويشهد له‪ :‬لو قال إن كنت حامال‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ ،1/3 :‬ابن حبان‪ ،2/113 :‬البيهقي‪ ،1/215 :‬أبو داود‪ ،2/262 :‬ابن ماجة‪.2/1413 :‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.3/79:‬‬
‫‪ )(3‬انظر التعاريف الكثيرة للشك في‪:‬البحر المحيط‪.1/107:‬‬

‫‪65‬‬
‫فأنت طالق‪ ،‬فإذا مضت ثالثة قروء من وقت التعليق وقع الطالق م ع أن األق رؤ ال‬
‫تفيد إال الظن)(‪)1‬‬
‫وللش ك في الطالق مس ائل كث يرة ال يمكن حص رها‪ ،‬فمنه ا مثال أن يظن أن‬
‫امرأته طلقت بيمين معينة فيفعل المحلوف علي ه بن اء على أن ه ال ي ؤثر في الحنث‪،‬‬
‫كما لو قال‪ :‬إن كلمت فالنا فأنت طالق ثالث ا‪ ،‬ثم عق د بع دها يمين ا أخ رى فق ال‪ :‬إن‬
‫فعلت كذا فامرأتي طالق ثالثا‪ ،‬فقيل ل ه‪ :‬إن امرأت ك ق د كلمت فالن ا‪ ،‬فاعتق د ص دق‬
‫القائل‪ ،‬وأنه ا ق د طلقت من ه‪ ،‬ففع ل م ا حل ف علي ه ثاني ا بن اء على أن العص مة ق د‬
‫انقطعت‪ ،‬ثم تبين له بعد ذلك أن المخبر كاذب‪.‬‬
‫ومثله ما لو قيل له‪ :‬قد كلمت فالنا‪ ،‬فقال‪ :‬طلقت مني ثالثا‪ ،‬ثم بان ل ه أنه ا لم‬
‫تكلمه‪.‬‬
‫ومثله ـ وهو أكثر األمثلة وقوعا ـ ما لو أخبر عن زوجته بما يسوؤه‪ ،‬كما ل و‬
‫قيل له‪ :‬إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فالن‪ ،‬فقال‪ :‬هي طالق ثالثا‪ ،‬ثم تبين‬
‫بعد ذلك كذب المخبر‪ ،‬وأن ذلك مجرد إشاعة‪.‬‬
‫ويقاس على هذه األمثل ة غيره ا من أن واع التطلي ق بس بب الظن ال ذي ينفي ه‬
‫الواقع‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختالفا يعسر ضبطه‪ ،‬فلذلك سنقتصر على ذك ر‬
‫هذه األحوال األربعة التي تضم أكثر مسائل الشك ليستدل بها على غيرها‪:‬‬
‫الشك في وقوع أصل التطليق‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إذا ش ك ال زوج في أص ل التطلي ق ب أن ش ك ه ل طل ق‬
‫زوجت ه أم ال فإن ه ال يق ع الطالق في ه ذه الحال ة‪ ،‬وق د نق ل اإلجم اع على ذل ك‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النكاح ثابت بيقين فال يزول بالش ك لقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬واَل تَ ْق فُ َم ا لَي َ‬
‫ْس‬
‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم ﴾(اإلسراء‪)36:‬‬
‫لَ َ‬
‫‪ 2‬ـ عن عبد هللا بن زيد عن النبي ‪ ‬أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أن ه يج د‬
‫الشيء في الصالة فقال‪( :‬ال ينصرف حتى يسمع ص وتا أو يج د ريح ا) (‪ ،)2‬ف أمره‬
‫بالبناء على اليقين واطراح الشك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه كما لو ش ك المتطه ر في الح دث‬
‫أو المحدث في الطهارة‪.‬‬
‫الشك في عدد الطالق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيمن شك هل طلق زوجته واحدة أو اثن تين أو ثالث ا م ع تيقن ه‬
‫من إيقاع الطالق على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬المنثور في القواعد‪.2/255:‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،1/64 :‬مسلم‪ ،1/276 :‬ابن خزيم ة‪ ،1/16 :‬ابن حب ان‪ ،6/389 :‬مس ند أبي عوان ة‪،1/201 :‬‬
‫الترمذي‪ ،1/109 :‬الدارمي‪.1/198 :‬‬

‫‪66‬‬
‫القول األول‪ :‬اعتبار الع دد األك بر‪ ،‬فال تح ل ل ه إال بع د زوج آخ ر الحتم ال‬
‫كونه ثالثا‪ ،‬وهو قول المالكية‪ ،‬وبعض الحنابلة والش افعية‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪( :‬دع ما يريبك إلى ما ال يريبك) (‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه تيقن التحريم؛ ألنه تيقن وجوده بالطالق‪ ،‬وشك في رفعه بالرجعة فال‬
‫يرتفع بالش ك كم ا ل و أص اب ثوب ه نجاس ة وش ك في موض عها فإن ه ال ي زول حكم‬
‫النجاسة بغسل موضع من الثوب وال يزول إال بغسل جميعه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اعتبار العدد األقل‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد‪ ،‬فإذا‬
‫راجعها حلت له على رأي هؤالء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن م ا زاد على الق در ال ذي‬
‫تيقنه طالق مشكوك فيه فلم يلزمه كما لو شك في أصل الطالق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة هن ا م ا س نذكره في ص يغة الطالق من ع دم‬
‫اعتبار الطالق الثالث في مجلس واحد‪ ،‬ولكنا سنناقش هنا س بب ه ذا التش ديد ال ذي‬
‫جع ل أص حاب الق ول األول يميل ون إلى جعل ه ثالث ا‪ ،‬والتفري ق الت ام بين الرج ل‬
‫وزوجه‪ ،‬وهو ما ذكروه من استحباب الورع في التزام الطالق‪ ،‬بل وجوبه‪.‬‬
‫بل قد روي عن شريك أنه إذا شك في طالقه طلقها واحدة ثم راجعها؛ لتكون‬
‫الرجعة عن طلق ة فتك ون ص حيحة في الحكم‪ ،‬وق د رد علي ه ابن قدام ة ب أن التلف ظ‬
‫بالرجعة ممكن مع الشك في الطالق وال يفتقر إلى ما تفتقر إليه العب ادات من الني ة‪،‬‬
‫وألن ه ل و ش ك في طلق تين فطل ق واح دة لص ار ش اكا في تحريمه ا علي ه فال تفي ده‬
‫الرجعة‪.‬‬
‫وقال العز بن عبد السالم‪(:‬وإن شك أطلق قبل الدخول أو بعده‪ ،‬فإن ك ان قب ل‬
‫انقضاء العدة‪ ،‬فليجدد رجعة ونكاحا‪ ،‬وإن ك ان بع د انقض ائها‪ ،‬فليج دد النك اح‪ ،‬وإن‬
‫شك أطلق واحدة أو اثنتين‪ ،‬فإن أراد بق اء النك اح م ع ال ورع‪ ،‬فليطل ق طلق ة معلق ة‬
‫على نفي الطلق ة الثاني ة‪ ،‬ب أن يق ول إن لم أكن طلقته ا فهي ط الق كي ال يق ع علي ه‬
‫طلقتان‪ ،‬وإن شك في الطلقة أرجعية هي أم خلع فليرتجع‪ ،‬وليجدد النك اح؛ ألنه ا إن‬
‫تكن رجعية‪ ،‬فقد تالفاها بالرجعة‪ ،‬وإن كانت خلعا‪ ،‬فقد تالفاها) (‪)2‬‬
‫ون رى أن األورع في ه ذا ه و ع دم اعتب ار الش ك مطلق ا‪ ،‬ألن ال ورع في‬
‫األصل هو ما يكون بين العبد ربه وم ا يتعل ق بحق وق الن اس‪ ،‬أم ا م ا ت ترتب عن ه‬
‫مفاسد للخلق‪ ،‬فإن الشرع جاء لدرء المفاسد‪.‬‬
‫الشك في صفة الطالق‪:‬‬
‫ومثال ه أن ي تردد في كونه ا طلق ة بائن ة أو رجعي ة‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء في‬
‫اعتبار أحد هذين النوعين في صيغ الطالق على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ ،2/724 :‬ابن خزيمة‪ ،4/59 :‬ابن حبان‪ ،2/498 :‬الحاكم‪.1/116 :‬‬
‫‪ )(2‬قواعد األحكام‪.2/18:‬‬

‫‪67‬‬
‫القول األول‪ :‬يحكم بالرجعية ألنها أضعف الطالقين فكان متيقنا بها‪ ،‬فلو ق ال‬
‫الرجل لزوجته‪ :‬أنت طالق أقبح طالق فهو رجعي عن د أبي يوس ف ألن قول ه‪ :‬أقبح‬
‫طالق يحتمل القبح الشرعي وهو الكراهية الشرعية‪ ،‬ويحتم ل القبح الط بيعي وه و‬
‫الكراهية الطبيعية‪ ،‬والمراد بها أن يطلقها في وقت يكره الطالق فيه طبعا‪ ،‬فال تثبت‬
‫البينونة فيه بالشك‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬يحكم بالبينون ة‪ ،‬وه و ق ول محم د بن الحس ن الش يباني‪،‬ألن‬
‫المطلق قد وص ف الطالق ب القبح‪ ،‬والطالق الق بيح ه و الطالق المنهي عن ه‪ ،‬وه و‬
‫البائن‪ ،‬ولذلك يقع بائنا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة إن ك ان الش ك دائ را بين ك ون الطلق ة بائن ة أو‬
‫رجعية اعتبارها رجعية‪ ،‬فهو أقل ضررا‪ ،‬وال يمكن القول بعدم اعتبارها مطلقا ألن‬
‫الطالق متيقن‪ ،‬ولكن الشك في البينونة وعدمها‪.‬‬
‫الشك في الطالق المعلق‪:‬‬
‫ويضرب الفقهاء مثاال هنا لعدم اعتبار الشك‪ ،‬ولو كان متحقق ا في موض ع ال‬
‫بعينه وهو م ا إذا رأى رجالن ط ائرا فحل ف أح دهما ب الطالق أن ه غ راب وحل ف‬
‫اآلخر ب الطالق أن ه حم ام فط ار‪ ،‬ولم يعلم ا لم يحكم بحنث واح د منهم ا؛ ألن يقين‬
‫النكاح ثابت ووقوع الطالق مشكوك فيه‪ ،‬فإن ادعت امرأة أحدهما حنثه فيها ف القول‬
‫قوله؛ ألن األصل معه واليقين في جانبه‪.‬‬
‫ومثله ما لو كان الحالف واحدا فقال‪ :‬إن كان غرابا ف زينب ط الق‪ ،‬وإن ك ان‬
‫حماما فهند طالق ولم يعلم ما هو لم يحكم بحنثه في شيء؛ ألن ه م تيقن للنك اح ش اك‬
‫في الحنث فال يزول عن يقين النكاح والملك بالشك‪.‬‬
‫أما لو قال أحد الرجلين‪ :‬إن كان غرابا فامرأته طالق ثالثا‪ ،‬وق ال اآلخ ر‪ :‬إن‬
‫لم يكن غرابا فامرأت ه ط الق ثالث ا فط ار‪،‬ولم يعلم ا فق د حنث أح دهما ال بعين ه وال‬
‫يحكم به في حق واحد منهما بعينه بل تبقى في حقه أحكام النكاح من النفقة والكسوة‬
‫والسكنى؛ ألن كل واحد منهم ا يقين نكاح ه ب اق ووق وع طالق ه مش كوك في ه‪ ،‬وق د‬
‫اختلفوا هنا في إباحة معاشرة كليهما لزوجته على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يحرم عليهما؛ وهو قول الحنابلة‪ ،‬ألن أحدهما ح انث بيقين‪،‬‬
‫وامرأته محرمة عليه وقد أشكل فحرم عليهما جميعا كما لو حنث في إحدى امرأتي ه‬
‫ال بعينها‪ ،‬ومن األدلة على ذلك أنه إنما تحقق حنثه في واح دة غ ير معين ة وب النظر‬
‫إلى كل واحدة مفردة فيقين نكاحه ا ب اق وطالقه ا مش كوك في ه‪ ،‬لكن لم ا تحققن ا أن‬
‫إحداهما حرام ولم يمكن تمييزها حرمتا عليه جميعا‪ ،‬وكذلك هاهنا قد علمنا أن أح د‬
‫هذين الرجلين قد طلقت امرأته وحرمت عليه وتعذر التمييز فيحرم ال وطء عليهم ا‪،‬‬
‫ويصير كما لو تنجس أحد اإلناءين ال بعينه‪ ،‬فإنه يح رم اس تعمال ك ل واح د منهم ا‬
‫سواء كانا لرجلين أو لرجل واحد‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يحرم على واحد منهما معاش رة امرأت ه‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‬
‫والشافعية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه محكوم ببقاء نكاحه ولم يحكم بوقوع الطالق عليه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه ال يص ح قياس ه على الح انث في إح دى امرأتي ه؛ ألن ه معل وم زوال‬
‫نكاحه عن إحدى زوجتيه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ع دم وق وع الطالق في ه ذا‪ ،‬وس نبين أدلت ه‬
‫التفصيلية في محلها‪.‬‬
‫الخطأ‪:‬‬
‫وهو أن يفعل فعال من غ ير أن يقص ده قص دا تام ا‪ ،‬كمن أراد أن يتكلم بغ ير‬
‫الطالق فسبق لسانه بالطالق‪ ،‬لكن لم يقصد به الطالق فوجد قصد غير تام‪.‬‬
‫وذلك ألن تمام قصد الفعل بقصد محله‪ ،‬وفي الخط أ يوج د قص د الفع ل دون‬
‫قصد المحل‪ ،‬وهو مراد من قال‪ :‬إن ه فع ل يص در بال قص د إلي ه عن د مباش رة أم ر‬
‫مقصود سواء (‪.)1‬‬
‫والخطأ نوعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ينعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب‪ ،‬كأن يقصد الرمي إلى ص يد‬
‫أو هدف أو كافر فيصيب مسلما‪ ،‬ومثله في الطالق ما ذكرناه من سبق اللس ان بلف ظ‬
‫الطالق دون قصد منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون باعتب ار م ا في قص ده‪ ،‬وإن ك ان ه و قاص دا إلى المح ل ال ذي‬
‫أراد‪ ،‬كأن يرمي شخصا يظنه حربيا‪ ،‬فإذا هو مسلم‪ ،‬أو يظنه صيدا ف إذا ه و مس لم‪،‬‬
‫مثاله في الطالق أن يطلق زوجة من زوجاته‪ ،‬وهو يظنها أخرى‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم طالق المخطئ على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يقع طالق الخاطئ‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬وقد روي عن أبي حنيفة‬
‫أن من أراد أن يقول المرأته اسقيني ماء فقال لها‪ :‬أنت طالق‪ ،‬وق ع‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بأن الفائت بالخطأ ليس إال القص د‪ ،‬وه و ليس ش رطا لوق وع الطالق كاله ازل‬
‫والالعب بالطالق(‪.)2‬‬
‫القول الثاني(‪ :)3‬ال يق ع طالق المخطئ‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬ومن األمثل ة‬
‫على ذل ك أن ه إذا تلف ظ بكلم ة الطالق أو ص يغها الص ريحة ثم ق ال‪ :‬أردت بق ولي‪:‬‬
‫فارقتك‪ ،‬أي بجسمي‪ ،‬أو بقلبي أو بم ذهبي‪ ،‬أو س رحتك من ي دي‪ ،‬أو ش غلي‪ ،‬أو من‬
‫حبسي‪ ،‬أو أي سرحت شعرك‪ ،‬قبل قوله‪.‬‬
‫ومثله ما لو قال‪ :‬أردت بقولي‪ :‬أنت طالق أي‪ :‬من وث اقي‪ ،‬أو ق ال‪ :‬أردت أن‬

‫‪ )(1‬شرح التلويح‪ ،2/390:‬المبسوط‪ ،26/67:‬البحر المحيط‪.1/111:‬‬


‫‪ )(2‬بدائع الصنائع‪.3/101:‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪ ،7/294 :‬المحلى‪.9/459:‬‬

‫‪69‬‬
‫أق ول‪ :‬طلبت ك‪ .‬فس بق لس اني‪ ،‬فقلت‪ :‬طلقت ك‪ .‬ونح و ذل ك‪ ،‬دين فيم ا بين ه وبين هللا‬
‫تعالى‪ ،‬فمتى علم من نفسه ذلك‪ ،‬لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه‪.‬‬
‫ونقل عن أحمد أنه سئل عن رجل حلف‪ ،‬فجرى على لسانه غير ما في قلب ه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أرجو أن يكون األمر فيه واسعا‪.‬‬
‫ونقل عن مالك أنه إذا قال‪ :‬أنت طالق ألبتة ‪ -‬وهو يريد أن يحلف على ش يء‬
‫‪ -‬ثم بدا له فترك اليمين؟ فليست طالقا‪ ،‬ألنه لم يرد أن يطلقها(‪.)1‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬م ا غلب الم رء على لس انه بغ ير اختي ار من ه ل ذلك فه و كال‬
‫قول‪ ،‬ال يلزمه به طالق وال غيره‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول(‪ )2‬في قبول دعواه في الحكم على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬ال يقبل إن كان في حال الغضب‪ ،‬أو سؤالها الطالق‪ ،‬ألن لفظ ه‬
‫ظ اهر في الطالق‪ ،‬وقرين ة حال ه ت دل علي ه‪ ،‬فك انت دع واه مخالف ة للظ اهر من‬
‫وجهين‪ ،‬فال تقبل‪ ،‬أما إن لم تكن هذه الحال فإنه يقبل قوله‪ ،‬وهو قول جابر بن زي د‪،‬‬
‫والشعبي‪ ،‬والحكم‪ ،‬وأحمد‪ ،‬ألنه فسر كالمه بما يحتمله احتماال غير بعيد‪ ،‬فقيل‪ :‬كما‬
‫لو قال؛ أنت طالق‪ ،‬أنت طالق‪ .‬وقال‪ :‬أردت بالثانية إفهامها‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬ال يقبل قول ه‪ ،‬وه و م ذهب الش افعي؛ ألن ه خالف م ا يقتض يه‬
‫الظ اهر في الع رف‪ ،‬فلم يقب ل في الحكم‪ ،‬كم ا ل و أق ر بعش رة‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬زيوف ا‪ ،‬أو‬
‫صغارا‪ ،‬أو إلى شهر‪.‬‬
‫ومما استدل به أصحاب هذا القول‪:‬‬
‫َت‬ ‫ْ‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ا ٌح فِي َم ا أَ ْخطَ أتُ ْم بِ ِه َولَ ِك ْن َم ا تَ َع َّمد ْ‬
‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬ولَي َ‬
‫قُلُوبُ ُك ْم َو َكانَ هَّللا ُ َغفُورًا َر ِحي ًما﴾(األحزاب‪)5:‬‬
‫‪ 2‬ـ قول رسول هللا ‪(:‬إنما األعمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما ن وى) (‪)3‬‬
‫فصح أن ال عمل إال بنية وال نية إال بعمل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ من أقوال الصحابة‪ ،‬حديث خيثمة بن عبد الرحمن السابق ذكره‪ ،‬وهو أنه‬
‫قالت امرأة لزوجها‪ :‬سمني؟ فس ماها الظبي ة‪ ،‬ق الت‪ :‬م ا قلت ش يئا؟ ق ال‪ :‬فه ات م ا‬
‫أسميك به؟ قالت‪ :‬سمني خلية طالق‪ ،‬قال‪ :‬فأنت خلية ط الق‪ ،‬ف أتت عم ر فق الت‪ :‬إن‬
‫زوجي طلقني؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة؟ فأوجع عمر رأسها‪ ،‬وقال لزوجها‪:‬‬
‫خذ بيدها وأوجع رأسها‪.‬‬

‫‪ )(1‬نقال عن المحلى‪ ،9/459:‬وه ذا بخالف من حل ف بطالق على ش يء فوج ده خالف ا أو أن ال يكلم فالن ا‬
‫فكلمه ناسيا‪ ،‬ففي المدونة‪ :‬سئل ابن شهاب عن رجل قال‪ :‬هذا فالن‪ ،‬فقال رجل‪ :‬ليس به‪ ،‬قال‪ :‬امرأته ط الق ثالث ا إن‬
‫لم يكن فالنا‪ ،‬أو قال‪ :‬إن كلم فالنا فامرأته طالق ثالثا‪ ،‬فكلمه ناسيا قال‪ :‬نرى أن يقع علي ه الطالق‪ ،‬وفيه ا عن ي ونس‬
‫أنه سأل ربيعة عن رجل ابتاع سلعة فقال له رجل‪ :‬بكم أخذتها فأخبره‪ ،‬فقال‪ :‬لم تصدقني فطلق امرأت ه إن لم يخ بره‪،‬‬
‫فقال‪ :‬بكم ؟ فقال‪ :‬بدينار ودرهمين ثم إنه ذكر فقال‪ :‬أخذتها بدينار وثالثة دراهم ق ال ربيع ة أرى إن خط أه بم ا نقص‬
‫أو زاد سواء قد طلق امرأته ألبتة‪ .‬انظر‪ :‬المدونة‪.2/80 :‬‬
‫‪ )( 2‬واتفقوا على أن من صرح بذلك في اللفظ‪ ،‬فقال‪ :‬طلقتك من وثاقي‪ ،‬أو فارقتك بجسمي‪ ،‬أو سرحتك من‬
‫يدي‪ .‬فال شك في أن الطالق ال يقع ; ألن ما يتصل بالكالم يصرفه عن مقتضاه‪ ،‬كاالستثناء والشرط‪.‬‬
‫‪ )(3‬والبخارى (‪ ،6/2551‬رقم ‪ ،)6553‬ومسلم (‪ ،3/1515‬رقم ‪)1907‬‬

‫‪70‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و ع دم وق وع الطالق مطلق ا ديان ة وقض اء‪،‬‬
‫فذلك ما تدل عليه األدلة الش رعية الكث يرة‪ ،‬وه و أوف ق بمقاص د الش ريعة من حيث‬
‫تضييق باب الطالق‪ ،‬وقد اعت بر ابن القيم ه ذا وم ا س بق ذك ره من المخ ارج ال تي‬
‫يض يق به ا ب اب الطالق‪ ،‬يق ول في إعالم الم وقعين‪(:‬المخ رج الخ امس‪ :‬أن يفع ل‬
‫المحل وف علي ه ذاهال‪ ،‬أو ناس يا‪ ،‬أو مخطئ ا‪ ،‬أو ج اهال‪ ،‬أو مكره ا‪ ،‬أو مت أوال‪ ،‬أو‬
‫معتقدا أنه ال يحنث به تقليدا لمن أفتاه ب ذلك‪ ،‬أو مغلوب ا على عقل ه‪ ،‬أو ظن ا من ه أن‬
‫امرأت ه طلقت فيفع ل المحل وف علي ه بن اء على أن الم رأة أجنبي ة فال ي ؤثر فع ل‬
‫المحلوف عليه في طالقها شيئا) (‪.)1‬‬
‫وما قاله ابن القيم ليس استحسانا‪ ،‬وإنما هو ما ترش د إلي ه األدل ة الكلي ة‪ ،‬ألن‬
‫األدلة الخاصة به ذا المس ائل ليس ت من القطعي ة بحيث ترف ع الخالف‪ ،‬فل ذلك ك ان‬
‫الرجوع لألدلة الكلية أولى‪ ،‬وقد قال ابن القيم عن هذه األدلة الكلية‪(:‬ع دم الحنث في‬
‫ذل ك ه و الص واب بال ريب‪ ،‬وعلي ه ت دل األدل ة الش رعية؛ ألفاظه ا وأقيس تها‬
‫واعتبارها‪ ،‬وهو مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة‬
‫والمعصية في األمر والنهي‪ ،‬وإن فعل المكلف ذل ك في أم ر الش ارع ونهي ه لم يكن‬
‫عاصيا‪ ،‬فأولى في باب اليمين أن ال يكون حانثا)(‪)2‬‬
‫وال بأس أن نسرد هنا بعض ما ذكره ابن القيم كأمثلة على هذه األدلة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه‪ ،‬والنسيان والجهل والخطأ واإلكراه‬
‫غير داخل تحت قدرته‪ ،‬فما فعله في تلك األحوال لم يتناول ه يمين ه‪ ،‬ولم يقص د من ع‬
‫نفسه منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هللا تعالى قد رف ع المؤاخ ذة عن المخطئ والناس ي والمك ره‪ ،‬فإلزام ه‬
‫بالحنث أعظم مؤاخذة لما تجاوز هللا عن المؤاخذة به‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه تعالى لما تجاوز لألمة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخ ذة في‬
‫األحكام‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل الن ائم في ع دم التكلي ف ب ه‪ ،‬وله ذا‬
‫هو عفو ال يكون به مطيعا وال عاصيا‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن هللا تعالى إنما رتب األحك ام على األلف اظ؛ ل دالتها على قص د المتكلم‬
‫بها‪ ،‬وإرادته‪ ،‬فإذا تيقنا أنه قصد كالمها‪ ،‬ولم يقصد معانيه ا‪ ،‬ولم يقص د مخالف ة م ا‬
‫التزمه وال الحنث فإن الشارع ال يلزمه بما لم يقصده‪ ،‬بل قد رفع المؤاخذة عن ه بم ا‬
‫لم يقصده من ذلك‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن اللفظ دليل على القصد‪ ،‬فاعتبر؛ لداللته عليه‪ ،‬ف إذا علمن ا يقين ا خالف‬
‫المدلول لم يجز أن نجعله دليال على ما تيقنا خالفه‪ .‬وقد رف ع هللا المؤاخ ذة عن قت ل‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/63 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/65:‬‬

‫‪71‬‬
‫المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتل ه ب ل قتل ه خط أ‪ ،‬ولم يلزم ه ش يئا من‬
‫ديته‪ ،‬بل حملها غيره‪ ،‬فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب األيمان‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ رف ع الن بي ‪ ‬المؤاخ ذة عمن أك ل وش رب في نه ار رمض ان ناس يا‬
‫لصومه‪ ،‬مع أن أكله وشربه فع ل ال يمكن تدارك ه‪ ،‬فكي ف يؤاخ ذه بفع ل المحل وف‬
‫عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أوالده‪ ،‬وأهله وق د‬
‫عفا له عن األكل والشرب في نهار الصوم ناسيا‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن النبي ‪ ‬عفا عمن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لم ا‬
‫تأول الخيط األبيض والخيط األسود بالحبلين المعروفين‪ ،‬فجعل يأكل ح تى تبين ا ل ه‬
‫وقد طلع النهار‪ ،‬وعفا له عن ذل ك‪ ،‬ولم ي أمره بالقض اء‪ ،‬لتأويل ه‪ ،‬فم ا ب ال الح الف‬
‫المتأول ال يعفى له عن الحنث ب ل يخ رب بيت ه‪ ،‬ويف رق بين ه وبين حبيبت ه ويش تت‬
‫شمله كل مشتت؟‬
‫‪ 9‬ـ أن الشارع قد عفا عن المتكلم في صالته عم دا‪ ،‬ولم ي أمره باإلع ادة لم ا‬
‫ك ان ج اهال ب التحريم لم يتعم د مخالف ة حكم ه‪ ،‬ف ألغى كالم ه‪ ،‬ولم يجعل ه مبطال‬
‫للصالة‪ ،‬فكيف ال يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب األيمان وال يحنثه كما‬
‫لم يؤثمه الشارع؟‬
‫‪ 10‬ـ أن الشارع إذا كان قد عفا عمن قدم ش يئا أو أخ ره من أعم ال المناس ك‬
‫من الحلق والرمي والنحر نسيانا أو جهال فلم يؤاخ ذه ب ترك ترتيبه ا نس يانا‪ ،‬فكي ف‬
‫يحنث أن قدم ما حلف على تأخيره أو أخر ما حلف على تقديمه ناسيا أو جاهال؟‬
‫‪ 11‬ـ أن الشارع إذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصالة ناس يا أو ج اهال‬
‫به‪ ،‬فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به؟‬
‫ق ال ابن القيم بع د ذك ره لتل ك األمثل ة وغيره ا‪(:‬وبالجمل ة فقواع د الش ريعة‬
‫وأصولها تقتضي أال يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا وال يطرد على القياس ويسلم‬
‫من التناقض إال هذا القول‪ ،‬وأم ا تحنيث ه في جمي ع ذل ك ف إن ص احبه وإن س لم من‬
‫التن اقض لكن قول ه مخ الف ألص ول الش ريعة وقواع دها‪ ،‬وأدلته ا‪ ،‬ومن حنث في‬
‫بعض ذلك دون بعض تناقض‪ ،‬ولم يطرد له قول‪ ،‬ولم يسلم له دليل عن المعارضة)‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ 4‬ـ السكر‬
‫عرف ه ابن الع ربي بأن ه عب ارة عن حبس العق ل عن التص رف على الق انون‬
‫ال ذي خل ق علي ه في األص ل من النظ ام واالس تقامة‪ ،‬فك ل م ا حبس العق ل عن‬
‫التصرف فهو س كر‪ ،‬وق د يك ون من الخم ر‪ ،‬وق د يك ون من الن وم‪ ،‬وق د يك ون من‬
‫الفرح والجزع‪.‬‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/66:‬‬

‫‪72‬‬
‫ولكن هذا التعريف غير مانع لما ذكره ابن الع ربي من أن اإلطالق الش رعي‬
‫للسكر يراد منه سكر الخمر‪ ،‬قال‪ (:‬وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الم راد‬
‫بهذا السكر سكر الخمر(‪)1‬‬
‫وعرف ه في كش ف األس رار بأن ه (س رور يغلب على العق ل بمباش رة بعض‬
‫األسباب الموجبة له‪ ،‬فيمن ع اإلنس ان عن العم ل بم وجب عقل ه من غ ير أن يزيل ه)‬
‫(‪،)2‬وعلى هذا القول ال يكون م ا حص ل من ش رب ال دواء مث ل األفي ون من أقس ام‬
‫السكر؛ ألنه ليس بسرور‪.‬‬
‫وع رف بأن ه غفل ة تلح ق اإلنس ان م ع فت ور في األعض اء بمباش رة بعض‬
‫األسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة‪.‬‬
‫وعرف بأنه معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض األسباب المزيلة‪ ،‬وعلى‬
‫هذا القول بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل يكون أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر علي ه‬
‫لمباشرته المحرم‪ ،‬ال أن يكون العقل باقيا حقيقة؛ ألنه يعرف بأثره ولم يبق للسكران‬
‫من آثار العقل شيء فال يحكم ببقائه‪.‬‬
‫وعرف بأنه حالة تعرض لإلنسان من امتالء دماغه من األبخ رة المتص اعدة‬
‫إليه‪ ،‬فيتعطل معه عقله المميز بين األمور الحسنة‪ ،‬والقبيحة(‪.)3‬‬
‫وقد نص أكثر الفقهاء على أن ضابط السكر هو من اختلط كالمه وكان غالبه‬
‫هذيانا‪ ،‬وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والش افعية والحنابل ة وص احبي أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬وهو قول الظاهري ة‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪( :‬ح د الس كر‪ :‬ه و أن يخل ط في كالم ه‬
‫فيأتي بما ال يعقل‪ ،‬وبما ال يأتي به إذا لم يكن س كران‪ ،‬وإن أتى بم ا يعق ل في خالل‬
‫ذلك‪ ،‬ألن المجنون قد يأتي بما يعق ل‪ ،‬ويتحف ظ من الس لطان ومن س ائر المخ اوف‪.‬‬
‫وأما من ثقل لسانه وتخبل مخرج كالمه وتخبلت مشيته وعربد فق ط إال أن ه لم يتكلم‬
‫بما ال يعقل ‪ -‬فليس هو سكران) (‪)4‬‬
‫ارى‬‫صاَل ةَ َوأَ ْنتُ ْم ُس َك َ‬
‫واستدل لذلك بقوله تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تَ ْق َربُوا ال َّ‬
‫َحتَّى تَ ْعلَ ُموا َما تَقُولُونَ ﴾(النساء‪ ،)43:‬ووجهها بقوله‪(:‬فبين هللا تعالى أن السكران ال‬
‫يعلم ما يقول‪ ،‬فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران‪ ،‬ومن علم م ا يق ول فليس بس كران‪.‬‬
‫ومن خلط فأتى بما يعقل وما ال يعقل فهو سكران‪ ،‬ألنه ال يعلم ما يقول)‬
‫وقي ل ب أن الس كران ه و ال ذي ال يع رف األرض من الس ماء‪ ،‬والرج ل من‬
‫المرأة‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة والمزني من الشافعية(‪ ،)5‬وهو قريب من األول‪.‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في وقوع طالق السكران على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬أحكام القرآن البن العربي‪.1/552 :‬‬


‫‪ )(2‬كشف األسرار‪.4/352:‬‬
‫‪ )(3‬شرح التلويح على التوضيح‪.2/369:‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.9/472 :‬‬
‫‪ )(5‬معالم القربة في معالم الحسية‪.35:‬‬

‫‪73‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه يق ع طالق ه‪ ،‬وه و م روي عن النخعي‪ ،‬وابن س يرين‪،‬‬
‫والحسن‪ ،‬وميمون بن مهران‪ ،‬وحميد بن عبد الرحمن‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والزه ري‪،‬‬
‫وه و ق ول س فيان الث وري‪ ،‬والحس ن بن حي‪ ،‬والش افعي ‪ -‬في أح د قوليه(‪،)1‬‬
‫ومالك(‪ ،)2‬وأبي حنيفة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ دليل الوصف في قوله تعالى‪ ﴿::‬يَاأَيُّهَا ال ِذينَ آ َمنُوا اَل تَق َربُوا َّ‬
‫الص اَل ةَ َوأ ْنتُ ْم‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ارى َحتَّى تَ ْعلَ ُموا َما تَقُولُونَ ﴾(النساء‪ ،)43:‬ألنه إن كان خطابا له في حال سكره‬ ‫ُس َك َ‬
‫فهو نص على أنه مكلف‪ ،‬وإن كان خطابا له قبل سكره فهو دليل على أن ه مخ اطب‬
‫في حال سكره؛ ألنه ال يقال‪ :‬إذا جننت فال تفعل كذا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث (ال قيلولة في الطالق)(‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ حديث‪ (:‬كل طالق جائز إال طالق المعتوه) (‪)4‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الصحابة أوقعوا عليه الطالق‪ ،‬فقد روي أن رجال من أهل عمان تمأل‬
‫من الشراب فطلق امرأته ثالثا فشهد عليه نسوة فكتب إلى عمر بذلك‪ ،‬فأجاز ش هادة‬
‫النسوة‪ ،‬وأثبت عليه الطالق‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كالمه فإنهم قالوا‪ :‬إذا شرب س كر‪،‬‬
‫وإذا سكر هذى‪ ،‬وإذا هذى افترى‪ ،‬وحد المفتري ثمانون(‪.)5‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الخطاب إنما يتوجه باعتدال الح ال‪ ،‬ولكن ه أم ر ب اطن ال يوق ف على‬
‫حقيقت ه فيق ام الس بب الظ اهر ال دال علي ه‪ ،‬وه و البل وغ عن عق ل مقام ه؛ تيس يرا‪،‬‬
‫وبالسكر ال ينعدم هذا المعنى‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ إذا ثبت أنه قيلولة مخاطب فإن غفلته عن نفسه لما كانت بسبب معص ية‪،‬‬

‫‪ )( 1‬للشافعي في ذلك قوالن‪ :‬أحدهما‪ :‬يلزمه الطالق وعليه أكثر أصحابه‪ .‬والثاني ال يلزمه وبه قال المزني‪.‬‬
‫‪ )( 2‬اختلف قول المالكية في تصرفات السكران فقال مالك‪ :‬طالق السكران ونكاحه وجميع أفعال ه ج ائزة إال‬
‫الردة فقط‪ ،‬فال يحكم له في شيء من أموره بحكم المرتد‪ ،‬وروى عنه ابن وهب يجوز طالقه وال يجوز نكاحه‪ ،‬وق ال‬
‫مطرف بن عبد هللا‪ :‬ال يلزم السكران شيء وال يؤاخذ بشيء‪ ،‬إال بأربعة أشياء ال خامس لها ‪ -‬هكذا ق ال‪ ،‬ثم س ماها ‪-‬‬
‫فقال‪ :‬الطالق‪ ،‬والعتق‪ ،‬والقتل‪ ،‬والقذف‪.‬‬
‫وقال أبو عبدهللا الم ازري‪ :‬وق د رويت عن دنا رواي ة ش اذة أن ه ال يل زم طالق الس كران‪ ،‬وق ال محم د بن‬
‫عبدالحكم ال يلزمه طالق وال عتاق‪ ،‬وقد نزل ابن رشد الخالف على المخلط الذي معه بقية من عقله إال أن ه ال يمل ك‬
‫اإلختالط من نفسه فيخطئ ويصيب قال فأما السكران الذي ال يع رف األرض من الس ماء وال الرج ل من الم رأة فال‬
‫إختالف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس وفيما بينه وبين هللا تعالى‪ ،‬انظ ر‪ :‬القرط بي‪:‬‬
‫‪ ،5/204‬المدونة‪ ،6/24:‬مواهب الجليل‪ ،3/452:‬التاج واإلكليل‪.4/43:‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه العقيلي كـما في نصب الراية ( ‪ ،) 222 / 3‬وابن حزم في المحلى ( ‪ ) 203 / 10‬متصال وفي‬
‫سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن‪ ،‬وروي مرسال وليس فيه بقي ة‪ ،‬وفي المتص ل والمرس ل الغ ازي بن جبل ة‬
‫قال البخاري‪ :‬حديثه منكر في طالق المكره‪ ،‬وكـذا قال أبو ح اتم‪ :‬انظ ر لس ان الم يزان ( ‪ ،) 479 / 4‬الكام ل البن‬
‫عدي ( ‪ ،) 9 / 6‬نصب الراية ( ‪) 222 / 3‬‬
‫‪ )(4‬أخرج ه الترم ذى (‪ ،3/496‬رقم ‪ ،)1191‬وق ال‪ :‬ال نعرف ه مرفوع ا إال من ح ديث عط اء بن عجالن‪،‬‬
‫وعطاء بن عجالن ضعيف‪.‬‬
‫‪ )( 5‬قال ابن حزم‪ :‬هذا خبر مكذوب قد نزه هللا تعالى عليا وعبد الرحمن عنه‪ ،‬ألنه ال يصح إس ناده‪ ،‬وق د رد‬
‫عليه من باب المعنى بقوله‪ »:‬ثم عظيم ما فيه من المناقضة‪ ،‬ألن فيه إيجاب الحد على من ال ح د علي ه‪ ،‬وهال قلتم إذا‬
‫هذى كفر وإذا كفر قتل« المحلى‪ ،10/211 :‬وانظر‪ :‬زاد المعاد‪.5/213:‬‬

‫‪74‬‬
‫وال يستحق به التخفيف‪ ،‬لم يكن ذلك ع ذرا في المن ع من نف وذ ش يء من تص رفاته‬
‫بعد ما تقرر سببه‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أنه بالسكر ال يزول عقله إنما يعجز عن استعماله؛ لغلب ة الس رور علي ه‪،‬‬
‫بخالف البنج‪ ،‬فإن غفلته ليست بسبب هو معص ية‪ ،‬وم ا يعتري ه ن وع م رض ال أن‬
‫يكون سكرا حقيقة‪ ،‬فيكون بمنزلة اإلغماء‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن السكران يخالف النائم؛ ألن النوم يمنعه من العم ل‪ ،‬والس كر ال يمنع ه‬
‫من العمل مع أن الغفلة بسبب النوم لم تكن عن معصية‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أن إيقاع الطالق عقوبة له‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن ترتب الطالق على التطليق من باب ربط األحكام بأسبابها فال ي ؤثر‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ عدم صحة قياس السكران المغلوب على عقله بالمجنون المغل وب على‬
‫عقله‪ ،‬وذلك من وجهين(‪:)1‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عن ه القلم إذا‬
‫ذهب عقله‪ ،‬والسكران آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يق اس‬
‫من عليه العقاب بمن له الثواب‪.‬‬
‫الوجه الث اني‪ :‬أن الص الة والف رائض من حج أو ص يام أو غيره ا مرفوع ة‬
‫عمن غلب على عقله وال ترفع عن السكران‪.‬‬
‫أن ك ل من لزم ه القط ع بالس رقة والقص اص في القت ل لزم ه الطالق‪ ،‬وال‬
‫خالف في إلزامه القطع بالسرقة‪ ،‬ومثله القصاص في القتل فال خالف فيه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ع دم وق وع طالق ه‪ ،‬وه و م ذهب يح يى بن س عيد األنص اري‬
‫وحميد بن عبدالرحمن وربيعة والليث بن سعد بن الحسن وإسحاق بن راهوي ه وأبي‬
‫ثور والشافعي في أحد قوليه واختاره وغيره من الشافعية وم ذهب أحم د في إح دى‬
‫الروايات عنه وهي التي استقر عليها وصرح برجوعه إليها(‪ ،)2‬وه ذا م ذهب أه ل‬
‫الظاهر كلهم واختاره من الحنفي ة أب و الطح اوي وأب و الحس ن الك رخي‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َّ‬
‫ارى َحتى‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَل‬
‫الص ة َوأنت ْم ُس ك َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اَل‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿::‬يَاأيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمن وا تق َربُ وا َّ‬
‫تَ ْعلَ ُموا َما تَقُولُونَ ﴾(النساء‪ ،)43:‬فجعل سبحانه ق ول الس كران غ ير معت بر ألن ه ال‬
‫يعلم ما يقول‪ ،‬قال الشوكاني‪(:‬وقد تمسك بهذا من قال إن طالق السكران ال يقع ألنه‬
‫إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد) (‪ ،)3‬وقال ابن حرم‪ (:‬ومن أخ بر هللا تع الى أن ه ال‬
‫يدري ما يقول‪ ،‬فال يحل أن يلزم ش يئا من األحك ام ال طالق ا وال غ يره مخ اطب إذ‬

‫‪ )(1‬األم‪.5/270:‬‬
‫‪ )(2‬منار السبيل‪.2/210 :‬‬
‫‪ )(3‬فتح القدير‪.1/468:‬‬

‫‪75‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ليس من ذوي األلباب)‬
‫‪ 2‬ـ حديث ماعز بن مال ك‪ ،‬فإن ه لم ا ج اء الى الن بى ‪ ‬وأق ر أن ه زنى أم ر‬
‫النبى ‪ ‬أن يستنكهوه ليعلموا هل هو سكران أم ال(‪ ،)2‬ف إن ك ان س كران لم يص ح‬
‫إقراره‪ ،‬وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ما رووا في قصة حمزة(‪ )3‬لما عقر بع يري علي فج اء الن بي ‪ ‬فوق ف‬
‫عليه يلومه فيه النظر وصوبه وه و س كران‪ ،‬وق ال‪ :‬ه ل أنتم إال عبي د ألبي فنكص‬
‫النبي ‪ ‬على عقبي ه وه ذا الق ول ل و قال ه غ ير لك ان ردة وكف را ولم يؤاخ ذ ب ذلك‬
‫حمزة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ما صح عن عثمان بن عفان أن ه ق ال‪ :‬ليس لمجن ون وال س كران طالق‪،‬‬
‫وقال‪ :‬عط اء طالق الس كران ال يج وز‪ ،‬وص ح عن عم ر بن عب د العزي ز أن ه أتي‬
‫بسكران طلق فاستحلفه باهلل الذي ال إله إال هو طلقها وهو ال يعق ل فحل ف ف رد إلي ه‬
‫امرأته وضربه الحد‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه ال يقع الطالق إال ممن يعلم ما يقول كما أنه ال تصح ص الته في ه ذه‬
‫الحالة ومن ال تصح صالته ال يقع طالقه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه ليس للسكران قصد صحيح‪ ،‬واإليقاع يعتمد القصد الصحيح؛ ولهذا ال‬
‫يصح من الصبي‪ ،‬والمجنون‪ ،‬وألن غفلت ه عن نفس ه ف وق غفل ة الن ائم‪ ،‬ف إن الن ائم‬
‫ينتبه إذا نبه والسكران ال ينتبه‪ ،‬ثم طالق النائم ال يقع‪ ،‬فطالق السكران‪ ،‬أولى‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنه ال يصح أن يقال بأن غفلته هنا بسبب المعصية‪ ،‬وذل ك س بب للتش ديد‬
‫عليه ال للتخفيف‪ ،‬ألن السكران لو ارتد تص ح ردت ه باالتف اق‪ ،‬وال تق ع الفرق ة بين ه‬
‫وبين امرأته‪ ،‬ولو اعتبر هذا المعنى؛ لحكم بصحة ردته‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن خطابه يحمل على ال ذي يعق ل الخط اب أو على الص احي‪ ،‬وأن ه نهي‬
‫عن السكر من أجل الصالة وأما من ال يعقل فال يؤمر وال ينهى‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن إلزامه بجناياته محل نزاع ال محل وفاق‪ ،‬فعن أحمد أنه كالمجنون في‬
‫كل فعل له العقل‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ ما أجمع العلماء علي ه ب أن طالق المعت وه ال يج وز‪ ،‬والس كران معت وه‬
‫كالموسوس‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن اإلجماع منعق د على أن ش رط التكلي ف العق ل‪ ،‬وأن من ال يعق ل م ا‬
‫يقول فليس بمكلف‪ ،‬ولو كان مكلفا لوجب أن يقع طالقه إذا كان مكرها على ش ربها‬
‫أو غير عالم خمر وهم ال يقولون به‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ إن الحد عقوبة‪ ،‬وقد حص ل رض ي هللا س بحانه من ه ذه العقوب ة بالح د‬
‫وال عهد لنا في الشريعة بالطالق والتفريق بين الزوجين‪.‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/209:‬‬
‫‪ )( 2‬ونرى انها من المكذوبات الموضوعات التي وضعها بنو امية وأتباعهم لتشويه أقارب رسول هللا ‪.‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/209:‬‬

‫‪76‬‬
‫‪ 13‬ـ أن حديث (ال قيلولة في الطالق) خبر ال يصح‪ ،‬ولو صح ل وجب حمل ه‬
‫على طالق مكلف يعقل دون من ال يعقل‪ ،‬ولهذا لم يدخل فيه طالق المجنون‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ أن خبر (ك ل طالق ج ائز إال طالق المعت وه) (‪ )1‬ال يص ح‪ ،‬ول و ص ح‬
‫لكان في المكلف‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو التفري ق بين أح وال الس كران‪ ،‬ف إن ك ان ل ه‬
‫بعض العقل الذي يعي به م ا يق ول‪ ،‬وقص د الطالق من غ ير غض ب ونح وه‪ ،‬ف إن‬
‫طالقه يقع‪ ،‬ألن له القدرة العقلية الكافية للتصرف‪ ،‬ولو صح حمل القول األول على‬
‫هذا النتفى الخالف‪ ،‬التفاق أصحاب القول الثاني على أن من بقي معه من عقل ه م ا‬
‫يدرك به ويصح معه القصد صح طالقه‪.‬‬
‫وقد فهم الباجي في محاولته للجمع بين روايات المالكي ة في المس ألة ه ذا من‬
‫اختالف الروايات فقال‪( :‬والذي عندي في هذا أن السكران المذكور ال ي ذهب عقل ه‬
‫جملة‪ ،‬وإنما يتعين مع ص حة قص ده إلى م ا يقص ده ول ذلك يقتص من ه في القت ل ال‬
‫خالف فيه‪ ،‬وأما لو بلغ إلى حد أن يغمى عليه وال يبقى له عقل جملة فه ذا ال يص ح‬
‫منه تطليق إذا بلغ هذه الحال ة وال يتهي أ من ه ض رب وال قص د إلى قت ل وال غ يره‪،‬‬
‫وإنم ا تكلم الفقه اء على المعت اد من س كر الخم ر؛ ألن س كر الخم ر ليس بمنزل ة‬
‫الجنون الذي يذهب العقل جملة‪ ،‬وإنما يتغير العقل تغييرا يج ترئ ب ه على مع ان ال‬
‫يجترئ عليها صاحيا كالسفيه‪ ،‬ولو علم أنه بلغ حد اإلغماء لما اقتص منه وال لزم ه‬
‫طالق وال غيره كسائر من أغمي عليه)‬
‫والقول بعدم وقوع طالق الس كران يتواف ق م ع م ا ذكرن ا من ل زوم تض ييق‬
‫دائ رة الطالق م ا أمكن‪ ،‬أم ا م ا يستش عره البعض من بغض للس كر‪ ،‬ول زوم‬
‫عقوبته‪،‬فإن ه ذا البغض ال ينبغي أن يتع دى ح ده ليف رق بين ال زوجين بس ببه‪ ،‬فق د‬
‫يتوب السكران ويصلح حاله‪ ،‬ثم لماذا نلزمه الطالق عقوبة وقد جعل الشرع للس كر‬
‫عقوبته الخاصة به؟ ثم من نحن حتى نعاقبه؟‬
‫وقد ذكر ابن حزم أن اعتبار العقوبة ه و أعظم م ا دع ا للق ول بوق وع طالق‬
‫السكران‪ ،‬فقال‪( :‬فنظرنا فيما يحتج به من خالف قولنا‪ ،‬فوجدناهم يقولون ه و أدخ ل‬
‫على نفسه ذهاب عقله بمعصيته هلل تعالى فقلنا‪ :‬فكان م اذا ومن أين وجب إذا أدخ ل‬
‫ذلك على نفسه أن يؤاخذ بما يجنى في ذهاب عقله؟ وهذا م ا ال يوج د في ق رآن وال‬
‫سنة) (‪)2‬‬
‫ثم ذكر من مث اال متفق ا علي ه ي دل على أن المعص ية ال تع ني التض ييق على‬
‫العاصي فيما أحل ل ه‪ ،‬فق ال‪ (:‬وال خالف بينكم فيمن ت ردى ليقت ل نفس ه عاص يا هلل‬
‫تع الى فس لمت نفس ه إال أن ه س قط على رأس ه‪ ،‬ففس د عقل ه‪ ،‬وفيمن ح ارب وأفس د‬
‫‪ )(1‬أخرج ه الترم ذى (‪ ،3/496‬رقم ‪ ،)1191‬وق ال‪ :‬ال نعرف ه مرفوع ا إال من ح ديث عط اء بن عجالن‪،‬‬
‫وعطاء بن عجالن ضعيف‪.‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.10/210:‬‬

‫‪77‬‬
‫الطريق فضرب في رأسه ففسد عقله أنه ال يلزمه شيء مم ا يل زم األص حاء‪ ،‬وه و‬
‫الذي أدخل على نفس ه الجن ون ب أعظم المعاص ي‪ ،‬ثم ال يختلف ون فيمن أمس كه ق وم‬
‫عيارون فضبطت يداه ورجاله وفتح فمه بكلوب وصب في ه الخم ر ح تى س كر أن ه‬
‫مؤاخذ بطالقه وهو لم يدخل على نفسه شيئا وال عصى فظهر فساد اعتراضهم)(‪)1‬‬
‫‪ 5‬ـ الغضب‬
‫وقد عرف بأنه (تغير يحصل عند ث وران دم القلب ذروت ه االنتق ام)(‪ ،)2‬وق د‬
‫ذكر العلماء للغضب بحسب شدته وضعفه ثالث درجات لها عالقة بما س نذكره من‬
‫حكم طالق الغضبان‪ ،‬هذه الدرجات هي‪:‬‬
‫الغضب البسيط‪ :‬وهو الذي ال يتغير عليه عقله وال ذهنه‪ ،‬ويعلم ما يقول وم ا‬
‫يقصده‪.‬‬
‫الغضب الشديد‪ :‬وهو ما يغلق عليه باب العلم واإلرادة بحيث ال يعلم ما يق ول‬
‫وال يريده‪.‬‬
‫الغضب المتوسط‪ :‬وهو ما كان وسطا بين الغضب البسيط والغضب الشديد‪.‬‬
‫أما الغضب البسيط فال خالف بين العلماء في وقوع طالق ه وص حة عق وده‪،‬‬
‫وال سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره‪.‬‬
‫وال خالف كذلك في ع دم وق وع طالق ص احب الغض ب الش ديد‪،‬ألن أق وال‬
‫المكلف ال تعتبر إال بعلمه بصدورها منه وبفهمه لمعناها‪ ،‬وإرادته للتكلم به ا‪،‬فل ذلك‬
‫ال يؤاخذ النائم والمجنون والسكران‪ ،‬ومن يتكلم باللفظ وهو ال يعلم معناه‪.‬‬
‫أما الغضب المتوسط‪ ،‬فيختلف حكمه باختالف أس بابه‪ ،‬وأس بابه ثالث ة واح د‬
‫متفق على وقوع الطالق فيه واثنان مختلف فيهما‪:‬‬
‫السبب المتفق على وقوع الطالق فيه‪:‬‬
‫وه و الطالق م ع العلم والقص د‪ ،‬ال مج رد إطف اء الغض ب‪ ،‬ك أن يك ون ق د‬
‫غضب عليها لما علم وقوع ش يء منه ا‪ ،‬فتكلم بكلم ة الطالق قاص دا للطالق عالم ا‬
‫بما يقول‪ ،‬قاصدا من ذلك عقوبتها على ذلك‪ ،‬فهذا يق ع طالق ه بالض رورة‪ ،‬إذ ل و لم‬
‫يقع هذا الطالق لم يقع أكثر الطالق فانه غالبا ال يقع مع الرضا‪.‬‬
‫ومثاله ما لو زنت امرأته فغضب‪ ،‬فطلقها‪ ،‬ألنه ال يرى المقام م ع زاني ة‪ ،‬فلم‬
‫يقصد بالطالق إطفاء ن ار الغض ب‪ ،‬ب ل التخلص من المق ام م ع زاني ة‪ ،‬بخالف من‬
‫خاصمته زوجته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق‪،‬‬
‫ولكن حملة الغضب على أن يش في نفس ه ب التكلم ب الطالق كس را له ا وإطف اء لن ار‬
‫غضبه‪.‬‬
‫األسباب المختلف فيها‪:‬‬
‫الطالق لمجرد الظن الذي ينفيه التحقيق‪:‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/210:‬‬
‫‪ )(2‬التعاريف‪ ،539:‬التعريفات‪.209:‬‬

‫‪78‬‬
‫وهو أن يبلغه عن زوجته مثال ما يشتد غضبه ألجله‪ ،‬ويظن أنه حق فيطلقه ا‬
‫ألجل ه‪ ،‬ثم يت بين أنه ا بريئ ة من ه‪ ،‬وأك ثر الفقه اء على وق وع طالق ه‪ ،‬لألدل ة ال تي‬
‫سنذكرها‪ ،‬ورجح ابن القيم عدم وقوع طالقه‪ ،‬ألنه إنما أوقع الطالق لعلة فإذا انتفت‬
‫العلة تبين أنه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها‪ ،‬سواء ص رح بالعل ة أو لم يص رح به ا‪،‬‬
‫ألن العلة بمنزلة الشرط‪ ،‬كما لو قال‪ :‬أنت طالق‪ ،‬وقال‪ :‬أردت إن فعلت كذا وكذا‪.‬‬
‫طالق الغاضب من غير قصد‪:‬‬
‫وه و أن ال يقص د أم را بعين ه‪ ،‬ولكن الغض ب حمل ه على ذل ك وغ ير عقل ه‬
‫ومنعه كمال التصور والقصد‪ ،‬فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون‪،‬فليس‬
‫هو غائب العقل بحيث ال يفهم ما يقول بالكلية‪ ،‬وال ه و حاض ر العق ل بحيث يك ون‬
‫قصده معتبرا‪ ،‬وقد اختل ف الفقه اء في وق وع طالق من غض ب ه ذا الغض ب على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬وقوع طالقه‪ ،‬وهو ق ول جمه ور العلم اء(‪ ،)1‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الغض بان أتى بالس بب اختي ارا وأراد في ح ال الغض ب ت رتب أث ره‬
‫عليه‪ ،‬وال يضر عدم إرادته له في حال رضاه إذ االعتبار باإلرادة إنم ا ه و التلف ظ‪،‬‬
‫بخالف المك ره فإن ه محم ول على التكلم بالس بب غ ير مري د ل ترتب أث ره علي ه‬
‫وبخالف السكران المغلوب عقله‪ ،‬فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فال وجه‬
‫إللغاء كالمه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ال يصح قياس الغض بان على المك ره‪ ،‬ألن المك ره إذا تكلم بم ا اك ره‬
‫عليه دفع عنه الضرر والغضبان ال يدفع عنه بهذا القول ضررا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه يلزم من عدم وقوع طالقه أنه لو حلف في هذه الحال ال تنعقد يمينه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم وقوع طالقه‪ ،‬وهو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي‬
‫وإمام الحرمين وابن تيمية وأحد قولي الشافعي‪ ،‬وقول اإلمامية(‪ ،)2‬وق د اس تدل ابن‬
‫القيم لذلك باألدلة الكثيرة‪ ،‬وسنذكر الكثير منها هنا ألهمية المسألة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ النصوص الدالة على عدم المؤاخذة إال بالكسب‪ ،‬ومنه ا قول ه تع الى‪ ﴿:‬اَل‬
‫ت قُلُ وبُ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ و ٌر َحلِيم﴾‬ ‫ُؤَاخ ُذ ُك ْم هَّللا ُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَ ْي َمانِ ُك ْم َولَ ِك ْن يُؤ ِ‬
‫َاخ ُذ ُك ْم بِ َم ا َك َس بَ ْ‬ ‫ي ِ‬
‫(البقرة‪ )225:‬ووجه االستدالل باآلية هو ما روي في تفسيرها من اعتب ار الغض ب‬
‫من لغ و اليمين‪ ،‬فعن ابن عب اس ق ال‪ :‬لغ و اليمين أن تحل ف وأنت غض بان‪ ،‬وعن‬
‫طاووس قال‪ :‬كل يمين حلف عليها رجل وهو غض بان فال كف ارة علي ه فيه ا لقول ه‬

‫‪ )(1‬انظ ر‪ :‬ال روض المري ع‪ ،3/145 :‬زاد المس تقنع‪ ،181 :‬كش اف القن اع‪ ،5/235 :‬حواش ي الش رواني‪:‬‬
‫‪ ،8/32‬حاشية ابن عابدين‪ ،3/244 :‬حاشية الدسوقي‪.2/366 :‬‬
‫‪ )(2‬نق ل ابن القيم عن جعف ر الص ادق قول ه‪ « :‬ال طالق اال على بين ة‪ ،‬وال طالق اال على طه ر من غ ير‬
‫جم اع‪ ،‬وك ل طالق في غض ب او يمين او عت ق فليس بطالق اال لمن اراد الطالق »‪ ،‬فهم يش ترطون في وق وع‬
‫الطالق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه الشارع فهو عندهم الغ غير نافذ‪ ،‬ق ال ابن تيمي ة‪ «:‬وق ولهم اص ح في ال دليل‬
‫من قول من يوقع الطالق الذي لم يأذن فيه هللا وسوله ويراه صحيحا الزما»‪ ،‬انظر‪ :‬طالق الغضبان البن القيم‪.64:‬‬

‫‪79‬‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم ﴾(البقرة‪:‬‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬اَل يُؤَا ِخ ُذ ُك ْم هَّللا ُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَ ْي َمانِ ُك ْم َولَ ِك ْن يُؤَا ِخ ُذ ُك ْم بِ َما َك َسبَ ْ‬
‫‪)1( )225‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هللا تعالى قد جعل لغو اليمين مقابال لكسب القلب‪ ،‬كما ق ال تع الى ﴿ اَل‬
‫ت قُلُ وبُ ُك ْم ﴾(البق رة‪ )225:‬م ع‬ ‫ُؤَاخ ُذ ُك ْم هَّللا ُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَ ْي َمانِ ُك ْم َولَ ِك ْن يُؤ ِ‬
‫َاخ ُذ ُك ْم بِ َما َك َسبَ ْ‬ ‫ي ِ‬
‫العلم أن الغضبان والحالف على الشيء يظن ه كم ا حل ف علي ه لم يكس ب قلب ه عق د‬
‫اليمين وال قصدها‪ ،‬وهللا تعالى قد رفع المؤاخ ذة بلف ظ ج رى على اللس ان لم يكس به‬
‫القلب وال يقصده فال تجوز المؤاخذة بم ا رف ع هللا المؤاخ ذة ب ه‪ ،‬ومن ه ذا الب اب لم‬
‫يؤاخذ هللا تعالى الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد اإلياس منها فلما وج دها أخط أ‬
‫من شدة الفرح وقال‪(:‬اللهم أنت عبدي وأنا ربك)‪ ،‬فجرى ه ذا اللف ظ على لس انه من‬
‫غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القرآن على لسان القارئ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن دعاء الغضبان على أهل ه في ح ال غض به ال يص ح وال ي ؤثر‪ ،‬وه و‬
‫ض َي إِلَ ْي ِه ْم‬ ‫ْجالَهُ ْم بِ ْالخَ ي ِْر لَقُ ِ‬
‫اس تِع َ‬ ‫الش َّر ْ‬‫اس َّ‬ ‫المقصود بقوله تعالى‪َ ﴿:‬ولَ وْ يُ َعجِّ ُل هَّللا ُ لِلنَّ ِ‬
‫أَ َجلُهُ ْم فَنَ َذ ُر الَّ ِذينَ اَل يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا فِي طُ ْغيَانِ ِه ْم يَ ْع َمهُون﴾(يونس‪ ،)11:‬وقوله تع الى‪:‬‬
‫نس انُ َع ُج واًل ﴾(اإلس راء‪ ،)11:‬ووج ه‬ ‫ع اإْل ِ ن َسانُ بِال َّشرِّ ُدعَا َءهُ بِ ْال َخي ِْر َو َكانَ اإْل ِ َ‬ ‫﴿ َويَ ْد ُ‬
‫االستدالل باآليتين هو ق ول مجاه د في تفس يرها ب أن ذل ك ه و ق ول اإلنس ان لول ده‬
‫وماله إذا غضب عليهم‪ :‬اللهم ال تبارك فيه والعنه‪ ،‬فلو يعجل لهم االستجابة في ذلك‬
‫كما يستجاب في الخير ألهلكهم‪ ،‬فصار الغضب بهذا مانعا من انعق اد س بب ال دعاء‬
‫م ع دالل ة النص وص على أن ت أثيره في اإلجاب ة أس رع من ت أثير األس باب في‬
‫أحكامها‪ ،‬فاهلل تعالى يجيب دعاء الص بي والس فيه والمجن ون ومن ال يص ح طالق ه‬
‫وال عقوده رحمة من هللا تعالى به‪ ،‬فعدم إيقاع طالقه ينبغي أن تكون من هذا الباب‪.‬‬
‫ال بِ ْئ َس َما‬ ‫َض بَانَ أَ ِس فًا قَ َ‬ ‫وس ى إِلَى قَوْ ِم ِه غ ْ‬ ‫‪ 4‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ولَ َّما َر َج َع ُم َ‬
‫س أَ ِخي ِه يَ ُج رُّ هُ إِلَ ْي ِه‬ ‫ْ‬
‫اح َوأَخَ َذ بِ َرأ ِ‬ ‫خَ لَ ْفتُ ُمونِي ِم ْن بَ ْع ِدي أَ َع ِج ْلتُ ْم أَ ْم َر َربِّ ُك ْم َوأَ ْلقَى اأْل َ ْل َو َ‬
‫ت بِي اأْل َ ْعدَا َء َواَل تَجْ َع ْلنِي‬ ‫قَا َل ا ْبنَ أُ َّم إِ َّن ْالقَوْ َم ا ْستَضْ َعفُونِي َو َكادُوا يَ ْقتُلُونَنِي فَاَل تُ ْش ِم ْ‬
‫َم َع ْالقَوْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾(األعراف‪ ،)150:‬ووجه االستدالل باآلية‪ :‬أن موسى ‪‬لم يكن‬
‫ليلقي ألواحا فيها كالم هللا تعالى فيكسرها اختيارا من ه ل ذلك‪ ،‬وال ك ان في ه مص لحة‬
‫لبني إسرائيل‪ ،‬وإنما حمله على ذلك الغض ب فع ذره هللا تع الى ب ه‪ ،‬ولم يعتب علي ه‬
‫بما فعل‪،‬ألن مصدره الغضب الخارج عن قدرة العب د واختي اره فالمتول د عن ه غ ير‬
‫منسوب إلى اختياره ورضاه به‪.‬‬
‫َض بُ ﴾‬ ‫ْ‬
‫وس ى الغ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقد ذكر ابن القيم إشارة في قوله تع الى‪َ ﴿:‬ول َّما َس كَتَ عَن ُم َ‬
‫(األعراف‪ ،)154:‬وهي أن هللا تعالى عدل عن قوله سكن إلى قوله (س كت) ت نزيال‬
‫للغض ب منزل ة الس لطان اآلم ر الن اهي ال ذي يق ول لص احبه‪ :‬افع ل ال تفع ل فه و‬
‫مستجيب ل داعي الغض ب الن اطق في ه المتكلم على لس انه فه و أولى ب ان يع ذر من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري‪.2/409:‬‬

‫‪80‬‬
‫المك ره ال ذي لم يتس لط علي ه غض ب ي أمره وينه اه‪ ،‬وله ذا يق اس الغض بان على‬
‫المكره(‪.)1‬‬
‫‪ 5‬ـ النص وص الدال ة على أن الغض ب من الش يطان كقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َّما‬
‫اس ت َِع ْذ بِاهَّلل ِ إِنَّهُ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾(األع راف‪ )200:‬ألن م ا‬ ‫الش ْيطَا ِن نَ ْز ٌ‬
‫غ فَ ْ‬ ‫ك ِم ْن َّ‬
‫يَن َز َغنَّ َ‬
‫يتكلم به الغضبان في حال شدة غض به من طالق وأو ش تم ونح وه ه و من نزغ ات‬
‫الشيطان فإنه يلجئه إلى أن يقول م ا لم يكن مخت ارا‪ ،‬وال دليل على ذل ك م ا ورد في‬
‫الحديث أن رجلين استبا عند النبي ‪ ‬حتى احم ر وج ه أح دهما وانتفخت أوداج ه‪،‬‬
‫فق ال ‪(:‬إني ألعلم كلم ة ل و قاله ا ل ذهب عن ه م ا يج د‪ ،‬أع وذ باهلل من الش يطان‬
‫الرجيم) (‪ ،)2‬وقال ‪( :‬إن الغض ب من الش يطان‪ ،‬وإن الش يطان من الن ار‪ ،‬وانم ا‬
‫تطفأ النار بالماء‪،‬فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) (‪ ،)3‬وإذا كان ه ذا الس بب وأث ره من‬
‫إلجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فال يترتب عليه حكمه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قوله ‪(:‬ال طالق وال عت اق في اغالق)(‪ ،)4‬وق د ك ان الخالف في ه ذا‬
‫الحديث هو سبب الخالف في كثير من مسائل أحوال المطلق‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم أنه‬
‫اختلف في تفسير اإلغالق على ثالثة تفسيرات(‪ ،)5‬هي‪:‬‬
‫التفسير األول‪ :‬أنه اإلكراه‪ ،‬وهو قول أهل الحجاز‪ ،‬ألن الذي اكره على أم ر‬
‫قد أغلق عليه باب القصد واإلرادة لما أكره عليه‪ ،‬ف اإلغالق في حق ه بمع نى إغالق‬
‫أبواب القصد واإلرادة له‪ ،‬ومن هذا قوله ‪(:‬ال يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت‪،‬‬
‫اللهم ارحمني إن شئت‪ ،‬ولكن ليعزم المسألة فإن هللا ال مكره له) (‪)6‬‬
‫التفسير الثاني‪ :‬هو الغضب الشديد‪ ،‬وه و ق ول أه ل الع راق‪ ،‬ألن الغض بان‬
‫هو الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يق ول وقص ده فه و من أعظم اإلغالق‪ ،‬وه و‬
‫في هذا الحال بمنزلة المجنون‪،‬وهذا ال يتوجه فيه نزاع انه ال يق ع طالق ه والح ديث‬
‫يتناول هذا القسم قطعا‪.‬‬
‫التفسير الثالث‪ :‬أن اإلغالق يشمل هذا النوع من الغضب زي ادة على ش موله‬
‫معنى اإلكراه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ قوله ‪( :‬ال نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) (‪ ،)7‬ووجه االستدالل‬
‫بالحديث أنه إذا كان الن ذر وه و طاع ة محض ة ق د أث ر الغض ب في انعق اده لك ون‬

‫‪ )(1‬طالق الغضبان‪.34:‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،5/2267 :‬ابن حبان‪ ،12/505 :‬النسائي‪.6/104 :‬‬
‫‪ )(3‬أحمد‪ ،4/226 :‬مسند الطيالسي‪ ،25.:‬المعجم الكبير‪.17/167 :‬‬
‫‪ )(4‬أخرج ه أحم د ( ‪ ،6/276‬رقم ‪ ،)26403‬وأب و داود (‪ ،2/258‬رقم ‪ ،)2193‬وابن ماج ه (‪ ،1/660‬رقم‬
‫‪ ،)2046‬والحاكم (‪ ،2/216‬رقم ‪ )2802‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ .‬والبيهقى (‪ ،7/357‬رقم ‪)14874‬‬
‫‪ )(5‬طالق الغضبان‪.37 :‬‬
‫‪ )(6‬البخ اري‪ ،6/2718 :‬مس لم‪ ،4/2063 :‬ابن حب ان‪ ،3/257 :‬النس ائي‪ ،6/150 :‬الموط أ‪ ،213 :‬أحم د‪:‬‬
‫‪.2/243‬‬
‫‪ )(7‬البيهقي‪ ،10/70 :‬المجتبى‪ ،7/28 :‬المعجم األوسط‪ ،2/297 :‬أحمد‪ ،4/440 :‬المعجم الكبير‪.18/164:‬‬

‫‪81‬‬
‫الغضبان لم يقصده‪ ،‬وإنما حمل ه على بيان ه الغض ب ف الطالق بطري ق األولى‪ ،‬أم ا‬
‫ت رتب الكف ارة على الن ذر‪ ،‬فألن الكف ارة ال تس تلزم التكلي ف‪ ،‬وله ذا تجب في م ال‬
‫الصبي والمجنون إذا قتال صيدا أو غيره وتجب على قاتل الصيد ناس يا أو مخطئ ا‪،‬‬
‫وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند كثير من العلماء‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ قول ه ‪(:‬ال يقض ي القاض ي بين اث نين وه و غض بان) (‪ ،)1‬ووج ه‬
‫االستدالل بالحديث‪ ،‬أنه لوال أن الغضب يؤثر في قص ده وعلم ه لم ينه ه عن الحكم‬
‫حال الغضب‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ عن ابن عباس ق ال‪(:‬الطالق عن وط ر‪ ،‬والعت ق م ا ينبغي ب ه وج ه هللا)‬
‫(‪ ،)2‬فحصر الطالق فيما كان عن وطر وه و الغ رض المقص ود‪ ،‬والغض بان به ذه‬
‫الصورة ال وطر له‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أن الطالق حكم شرعي يستدعي دليال شرعيا‪ ،‬وهو إما نص أو معق ول‬
‫نص‪ ،‬وكالهما منتف‪ ،‬وبما أن الالزم منتف فالملزوم مثله‪ ..‬وكذلك فإن النكاح ثابت‬
‫بإجماع فال يزول إال بإجماع مثله‪ ،‬أو أن نكاح ه قب ل ص دور ه ذا اللف ظ من ه ث ابت‬
‫باإلجماع واألصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ قياس الغضبان عل المكره‪ :‬وذلك من وج وه‪ ،‬منه ا أن كالهم ا يش ترك‬
‫في إرادة التنفيس عن األلم‪ ،‬ألن األمر ال ذي حم ل المك ره على التكلم ب الطالق ه و‬
‫قصد االستراحة من توقع ما أكره به أو من ألم ما أكره به‪ ،‬وهو يستوي في هذا م ع‬
‫الغضبان ألنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله‪ ،‬فيقول ما يقول ويفعل م ا يفع ل لي دفع‬
‫عن نفسه حرارة الغضب‪ ،‬فيستريح ب ذلك‪ ،‬ومثل ه من يلطم وجه ه ويص يح ص ياحا‬
‫قويا ويلقي ما في يده دفعا أللم الغضب‪.‬‬
‫ومنها أن العاقل ال يستدعي الغضب وال يريده‪ ،‬بل هو اكره شئ إلي ه‪ ،‬فل ذلك‬
‫لم يكن ذلك مضافا إلى اختياره وإرادته‪ ،‬فكما أن إرادة السبب إرادة للمسبب‪ ،‬فكذلك‬
‫كراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب‪.‬‬
‫ومنها أن الخ وف في قلب المك ره كالغض ب في قلب الغض بان‪ ،‬لكن المك ره‬
‫مقهور بغيره من خارج‪ ،‬والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه‪ ،‬وقهر اإلكراه يبط ل‬
‫حكم األق وال ال تي أك ره عليه ا ويجعله ا بمنزل ة كالم الن ائم والمجن ون دون حكم‬
‫األفعال ألنه يقتل إذا قتل ويضمن إذا تلف‪ ،‬فك ذلك قه ر الغض ب يبط ل حكم أق وال‬
‫الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتلف شيئا ضمنه‪.‬‬
‫ومنه ا أن المك ره أحس ن ح اال من الغض بان من ع دة وج وه‪ ،‬فل ذلك ال يق ع‬
‫طالقه من باب فحوى الخطاب‪.‬‬
‫ومن األمور التي يفضل فيها المكره على الغض بان أن للمك ره قص دا وإرادة‬
‫حقيقة لكنه محمول عليه‪ ،‬أما الغضبان فليس له قصد في الحقيق ة ف إذا لم يق ع طالق‬
‫‪ )(1‬البخ اري‪ ،6/2616 :‬ابن حب ان‪ ،11/449 :‬الترم ذي‪ ،3/620:‬ال بيهقي‪ ،10/105 :‬أب و داود‪،3/302 :‬‬
‫ابن ماجة‪.2/776:‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪.5/2019 :‬‬

‫‪82‬‬
‫المكره‪ ،‬فطالق هذا أولى بعدم الوقوع‪.‬‬
‫ومنها أن الغضبان قد يفعل امورا من شق الثياب وإتالف الم ال م ا ل و أك ره‬
‫بها لم يفعلها‪ ،‬وهذا يدل على أن المقتضي لفعلها فيه اولى من اقتضاء االكراه لفعلها‬
‫والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ قي اس الغض بان على الناس ي‪ :‬ألن الن اس ال يؤاخ ذ بنس يانه‪ ،‬وله ذا لم‬
‫يؤاخذ فتى موسى ‪ ‬لما قال‪َ ﴿:‬و َما أَ ْن َسانِي إِاَّل ال َّش ْيطَانُ أَ ْن أَ ْذ ُك َرهُ ﴾(الكه ف‪،)63:‬‬
‫والعلة في عدم المؤاخذة به هي أنه من أث ر فع ل الش يطان في القلب‪ ،‬وه و يش ترك‬
‫في ذل ك م ع الغض ب فق د أخ بر الن بي ‪ ‬أن الغض ب من الش يطان‪ ،‬فيك ون أث ره‬
‫مضافا إليه‪ ،‬فال يؤاخذ به العبد كأثر النسيان‪.‬‬
‫فلو حلف ـ مثال ـ أن اليتكلم بكذا‪ ،‬فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وارادته‬
‫لمخالفة ما عقد يمينه عليه‪ ،‬وهذه نفس حال الغضبان‪ ،‬ألنه لم يقص د حقيق ة م ا تكلم‬
‫به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كالم الناسي على لسانه‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ قياس الغضبان على المريض‪ :‬فالغضب مرض من األمراض وداء من‬
‫األدواء‪ ،‬يقول ابن القيم‪(:‬هو في أمراض القلوب نظير الحمى والوس واس والص رع‬
‫في أم راض األب دان‪،‬فالغض بان المغل وب في غض به ك المريض والمحم وم‬
‫والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه) (‪)1‬‬
‫ثم بين وجه القي اس على الغض ب المتوس ط بقول ه‪(:‬وه ذا قي اس ص حيح في‬
‫الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى ال يعلم ما يقول‪ ،‬وأما إذا كان يعلم م ا يق ول‬
‫ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا ال قصدا للوقوع فهو يشبه المبرس م واله اجر من‬
‫الحمى من وج ه‪ ،‬ويش به المك ره القاص د للتكلم من وج ه‪ ،‬ويش به المخت ار القاص د‬
‫للطالق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وه ذا‪ ،‬ولكن جه ة االختي ار والقص د في ه‬
‫ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيت ه وف راق‬
‫حبيبه وكونه يراه في يد غيره فإن كان عاقال اليختار هذا اال ليدفع به م ا ه و أك ره‬
‫إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه ف إذا انتفى ه ذا أو ه ذا لم يكن مخت ارا ل ذلك‬
‫وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فص ار ت ردده بين الم ريض المغل وب والمك ره‬
‫المحمول على الطالق وأيهما كان فانه ال ينفذ طالقه)‬
‫ويذكر أن من الناس من إذا لم ينف ذ غض به قتل ه أو م رض مرض ا ش ديدا أو‬
‫أغشى عليه‪ ،‬فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يع ذر ب ذلك‪ ،‬أم ا إذا نف ذ‬
‫بق ول فان ه يمكن إه دار قول ه وان ال ي ترتب أث ره علي ه‪ ،‬وخاص ة إذا ك ان التلف ظ‬
‫بالطالق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفس ه بها(‪،)2‬‬
‫يقول ابن القيم‪(:‬فمن كمال هذه الش ريعة ومحاس نها وم ا اش تملت علي ه من الرحم ة‬

‫‪ )(1‬طالق الغضبان‪.38:‬‬
‫‪ )( 2‬ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه ال يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجل د ب ه اذا اتى ب ه‬
‫اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم ال يعذر بجرحه لخصمه وطعن ه في ه ح ال الخص ومة‬
‫بقوله‪ :‬هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫والحكمة والمصلحة أن ال يؤاخذ بها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه)‬
‫‪ 14‬ـ أن العبرة في العقود بالمقاصد‪ :‬فالغضبان ليس له قص د معت بر في ح ل‬
‫عقدة النكاح‪ ،‬بخالف الهازل ألنه قص د التكلم باللف ظ وإراده رض ا واختي ار من ه لم‬
‫يحمل على التلفظ به‪ ،‬فالسبب الذي إليه قد أتي ب ه اختي ارا وقص دا م ع علم ه ب ه لم‬
‫يحمل عليه‪ ،‬والسبب إلى المشرع ليس إليه فال يصح قي اس أح دهما ب اآلخر وكي ف‬
‫يقاس الغضبان على المتخذ آيات هللا هزؤا؟‬
‫ثم إن الشريعة اعتبرت العوارض النفسية‪ ،‬وجعلت لها تأثير في القول إهدارا‬
‫واعتبارا وإعماال وإلغاء‪ ،‬كما ذكرنا سابقا‪ ،‬وعارض الغضب ال يق ل عنه ا‪ ،‬ب ل ق د‬
‫يكون أقوى من كثير من س ائر الع وارض‪ ،‬ف إذا ك ان الواح د من ه ؤالء ال ي ترتب‬
‫على كالم ه مقتض اه لع دم القص د فالغض بان ال ذي لم يقص د ذل ك أن لم يكن أولى‬
‫بالعذر منهم لم يكن دونهم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة واألوف ق بمقاص د الش ريعة من تض ييق ب اب‬
‫الطالق هو القول الثاني‪ ،‬بأدلته الكث يرة‪ ،‬وال تي ب ذل ابن القيم جه ده فيه ا‪ ،‬ق ال ابن‬
‫القيم‪(:‬هذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر‪ ،‬ونحن من وراء القب ول‬
‫والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المص ير إليه ا‪ ،‬ومن وراء ال رد على من رد ذل ك‬
‫بالهوى والعناد) (‪)2‬‬
‫وقد يرى البعض أن معظم هذه األدلة عامة‪ ،‬وأكثرها فهوم ال عالقة لها به ذا‬
‫الباب‪ ،‬وهذا خطأ في التعامل مع األدلة الش رعية‪ ،‬ألن ه ل و قلن ا ذل ك لعطلن ا األدل ة‬
‫العامة‪ ،‬وانغمسنا فيما نتصوره نحن من خصوصيات قد ال تصح‪ ،‬فالفق ه اإلس المي‬
‫هو شرع هللا تعالى‪ ،‬وهذا الش رع يتناس ق تناس قا تام ا في جمي ع ميادين ه‪ ،‬فل ذلك ال‬
‫غرابة أن يستدل ابن القيم لهذه المسألة بعدم إجابة دعاء الغض بان على ول ده‪ ،‬وهي‬
‫مسألة أقرب للغيب منها للعمل‪ ،‬ومع ذل ك ف إن وج ه االس تدالل ص حيح‪ ،‬ألن ال ذي‬
‫يستجيب الدعاء هو هللا تعالى‪ ،‬فإذا لم يستجب لعبده في حال الغض ب‪ ،‬وك ان دع اء‬
‫العبد في ذلك الحال لغو‪ ،‬فاألولى أن يلغى كالمه م ع عب د مثل ه لثب وت الض رر في‬
‫كليهما‪.‬‬
‫فالقياس على هذا أصح من القياس على المعاوضات ونحوها لتعلقه ا بحق وق‬
‫العب اد‪ ،‬وألن الرحم ة بأح د المتعاق دين ق د تض ر اآلخ ر‪ ،‬أم ا في الطالق فالض رر‬
‫يصيب العاقد والمعقود عليه‪ ،‬فلذلك كانت الرحمة بأحدهما رحمة باآلخر‪.‬‬
‫ثم إن هذه المسألة مما تعم به البلوى‪ ،‬والفتوى بوقوع طالق الغضبان إم ا أن‬
‫ينتج خراب بيوت الورعين‪ ،‬أو أن يظل الشخص مع زوجته‪ ،‬وهو يعتقد في ق رارة‬
‫نفسه على ما أفتي له أنه في حالة عش رة ح رام دائم ة معه ا‪ ،‬وفي ذل ك م ا في ه من‬

‫‪ )(1‬طالق الغضبان‪.55:‬‬
‫‪ )(2‬طالق الغضبان‪.71:‬‬

‫‪84‬‬
‫المفاسد واألضرار‪.‬‬
‫وق د اس تقبلت رس الة ابن القيم في ع دم وق وع طالق الغض بان ب الرفض من‬
‫كث ير من الفقه اء ح تى الحنابل ة أنفس هم‪ ،‬ق ال ابن عاب دين نقال عن بعض الحنابل ة‪:‬‬
‫( وللحافظ ابن القيم الحنبلي رسالة في طالق الغضبان قال فيها إنه على ثالثة أقسام‬
‫أحدها أن يحصل له مبادي الغض ب بحيث ال يتغ ير عقل ه ويعلم م ا يق ول ويقص ده‬
‫وهذا ال إشكال فيه‪ ،‬الثاني أن يبلغ النهاية فال يعلم م ا يق ول وال يري ده فه ذا ال ريب‬
‫أن ه ال ينف ذ ش يء من أقوال ه‪ ،‬الث الث من توس ط بين المرتب تين بحيث لم يص ر‬
‫كالمجنون‪ ،‬فهذا محل النظر واألدلة تدل على عدم نفوذ أقواله(‪ ،‬فبعد أن حكى ق ول‬
‫ابن القيم في المسألة قال‪ (:‬لكن أشار في الغاية [وهو من كتب الحنابلة] إلى مخالفته‬
‫في الث الث حيث ق ال‪ :‬ويق ع طالق من غض ب خالف ا البن القيم)‪ ،‬ويعقب علي ه في‬
‫الحاشية بقوله‪ (:‬وهذا الموافق عندنا)(‪)1‬‬
‫ونقل ابن حج ر عن بعض هم قول ه في ال رد على ابن القيم‪ ،‬فق ال‪ (:‬وق ال ابن‬
‫المرابط‪ :‬اإلغالق حرج النفس‪ ،‬وليس كل من وقع ل ه ف ارق عقل ه‪ ،‬ول و ج از ع دم‬
‫وقوع طالق الغضبان لك ان لك ل أح د أن يق ول فيم ا جن اه كنت غض بانا)‪،‬ق ال ابن‬
‫حجر تعقيبا علي ه‪ (:‬وأراد ب ذلك ال رد على من ذهب إلى أن الطالق في الغض ب ال‬
‫يقع‪ ،‬وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة‪ ،‬ولم يوج د عن أح د من متق دميهم اال‬
‫ما أشار إليه أبو داود)(‪)2‬‬
‫وفي مقابل ذلك كتب الرصافي قصيدته التي أشرنا إليها سابقا يثني فيه ا على‬
‫ابن القيم‪ ،‬ويذكر في ذلك قصة امرأة طلقها زوجها في حال غض ب‪ ،‬ثم ي ذكر لهم ا‬
‫ما حصل بعد ذلك من ندم وحسرة‪ ،‬ولهذا التصوير قيمت ه في ال ترجيح‪ ،‬فالفقي ه ه و‬
‫الذي يتصور ما ينجر عن المسألة من المخاطر قبل الرمي بفتواه‪ ،‬فإن رأى ما لدي ه‬
‫من قناع ة من حيث األدل ة أو من حيث الم ذهب ال ذي يقل ده‪ ،‬يتن افى م ع المص لحة‬
‫الشرعية‪ ،‬فاألولى أن يسكت ويتوقف حتى ال يض ر غ يره لقناع ة اقتنعه ا الي وم ق د‬
‫يقتنع بغيرها غدا‪ ،‬أو إلمام اتبعه اليوم قد يتبع غيره غدا‪ ،‬يقول الرصافي‪:‬‬
‫فت اة راع نض رتها‬ ‫ب دت كالش مس يحض نها‬
‫حوب‬ ‫الش‬ ‫روب‬ ‫الغ‬
‫من الخف رات آنس ة‬ ‫منزه ة عن الفحش اء خ ود‬
‫روب‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫وتبلى دون عفته‬ ‫ن ور تس تجد به ا المع الي‬
‫وب‬ ‫العي‬
‫وبعد أن وصفها بما شاء أن يص فها ب ه من حس ن وجم ال ذك ر تغ ير حاله ا‬
‫فجأة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫فع اد وص فوه ك در‬ ‫ولكن الش وائب أدركت ه‬
‫وب‬ ‫مش‬
‫‪ )(1‬حاشية ابن عابدين‪.3/244:‬‬
‫‪ )(2‬فتح الباري‪.9/389 :‬‬

‫‪85‬‬
‫وك اد يج ف ناعم ه‬ ‫ذوي منه ا الجم ال الغض‬
‫رطيب‬ ‫ال‬ ‫دا‬ ‫وج‬
‫ولم ي درك ذؤابته ا‬ ‫أصابت من ش يبتها اللي الي‬
‫يب‬ ‫المش‬
‫ثم يذكر سبب هذا التغير المفاجئ الذي حصل له ا‪ ،‬وه و تطلي ق زوجه ا له ا‬
‫في حالة غضب ليس معها‪ ،‬فقد كان حبل الم ودة بينهم ا متص ال‪ ،‬وإنم ا م ع رفقائ ه‬
‫وخلطائه‪:‬‬
‫ولم ير ق ط منه ا م ا ي ريب‬ ‫رعى ورعت فلم ت ر ق ط‬
‫منه‬
‫ولم ينكث توثق ه المغيب‬ ‫توثق حبل ودهما حضورا‬
‫ب امر للخالف ب ه نش وب‬ ‫فغاض ب زوجه ا الخلط اء‬
‫ا‬ ‫يوم‬
‫وتل ك الني ة خط ا وح وب‬ ‫فاقس م ب الطالق لهم يمين ا‬
‫ك ذلك يجه ل الرج ل‬ ‫وطلقه ا على جه ل ثالث ا‬
‫وب‬ ‫الغض‬
‫وبع دما حص ل ه ذا الطالق الثالث في تل ك الحال ة ذهب ألص حاب الفت وى‬
‫الذين سارعوا للتفريق بينه وبين زوجته‪:‬‬
‫ذوو فتي ا تعص بهم‬ ‫وأف تى ب الطالق طالق‬
‫يب‬ ‫عص‬ ‫بت‬
‫ولم يعل ق به ا ال ذام‬ ‫فبانت عنه لم تأت الدنايا‬
‫المعيب‬
‫ثم يصور تصويرا جميال ما حصل لهما بعد الطالق من حزن وأس ف تجع ل‬
‫المفتي الذي يتصور هذه الحالة يتوقف دهرا قبل أن ينبس بكلمة‪:‬‬
‫بص وت من ه ترتج ف‬ ‫فظلت وهي باكي ة تن ادي‬
‫وب‬ ‫القل‬
‫وه ل أذنبت عن دك ي ا‬ ‫لم اذا ي ا نجيب ص رمت‬
‫نجيب‬ ‫حبلي‬
‫ف إني عن ه بعدئ ذ أت وب‬ ‫ابن ذنبي إلي فدتك نفس ي‬
‫يف رق بينن ا إال ش عوب‬ ‫أم ا عاه دتني باهلل أن ال‬
‫فقل بي ال يفارق ه ال وجيب‬ ‫لئن ف ارقتني وص ددت‬
‫ني‬ ‫ع‬
‫حتى تخطفه بأزمتي ه ذيب‬ ‫فم ا لفتت إلي ه الجي د‬
‫ب داء ماله ا في ه ط بيب‬ ‫ف راحت من تحرقه ا عليه‬
‫و‬ ‫ام ه‬ ‫وتنجب والبغ‬ ‫تش م األرض تطلب من ه‬
‫النحيب‬ ‫ا‬ ‫ريح‬

‫‪86‬‬
‫وآون ة لمص رعه ت ؤوب‬ ‫وتم زع في الفالة لغ ير‬
‫ه‬ ‫وج‬
‫ويذكر إجابته لها وحسرته عليها‪ ،‬والتي ال تقل عن حسرتها عليه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫وقال ودم ع عيني ه س كوب‬ ‫ف أطرق رأس ه خجال‬
‫ى‬ ‫وأغض‬
‫دم اللهيب‬ ‫من لظي الن‬ ‫نجيب ة اقص ري ع ني ف اني‬
‫اني‬ ‫كف‬
‫ولكن هكذا جرت الخطوب‬ ‫وما وهللا هجرك باختياري‬
‫ك لي‬ ‫وليس العيش دون‬ ‫زول حب ك من‬ ‫فليس ي‬
‫يطيب‬ ‫ؤادي‬ ‫ف‬
‫‪ 6‬ـ الهزل‬
‫عرفه السرخسي بأنه اسم لكالم يكون على نهج كالم الصبيان‪ ،‬ال يراد به م ا‬
‫وض ع له(‪ ،)1‬وعرف ه ابن القيم بأن ه ال ذي يتكلم ب الكالم من غ ير قص د لموجب ه‬
‫وحقيقته‪ ،‬بل على وجه اللعب(‪ ،)2‬وعرف بأن يراد بالشيء م ا لم يوض ع ل ه‪ ،‬وه و‬
‫ضد الجد‪ ،‬وهو أن يراد بالشيء ما وضع له(‪.)3‬‬
‫وليس الم راد من الوض ع هاهن ا وض ع أه ل اللغ ة ال غ ير‪ ،‬كاألس د للهيك ل‬
‫المعلوم واإلنسان للحي وان الن اطق‪ ،‬ب ل الم راد وض ع العق ل أو الش رع‪،‬ألن الكالم‬
‫موضوع عقال إلفادة معن اه حقيق ة ك ان أو مج ازا‪ ،‬والتص رف الش رعي موض وع‬
‫إلفادة حكمه‪ ،‬فإذا أريد بالكالم غير موضوعه العقلي‪ ،‬وهو عدم إفادة معن اه أص ال‪،‬‬
‫وأريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي‪ ،‬وهو عدم إفادته الحكم أصال فهو الهزل‪.‬‬
‫وبه ذا يتبن الف رق بين المج از واله زل‪ ،‬ألن الموض وع العقلي للكالم وه و‬
‫إفادة المعنى في المجاز مرادا‪ ،‬وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا‪ ،‬وفي الهزل‬
‫كالهما ليس بمراد‪ ،‬ولهذا فسر اله زل ب اللعب‪ ،‬ألن اللعب م ا ال يفي د فائ دة أص ال‪،‬‬
‫وعبر عن ه بعض هم بأن ه م ا ال ي راد ب ه مع نى‪ ،‬ولتف ادي ه ذا االش تباه ك ان أنس ب‬
‫التع اريف أن يق ال ب أن اله زل ه و كالم ال يقص د ب ه م ا ص لح ل ه الكالم بطري ق‬
‫الحقيقة‪ ،‬وال ما صلح له بطريق المجاز(‪.)4‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في حكم طالق الهازل على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم وقوع طالقه‪ ،‬وهو قول اإلمامي ة بن اء على األص ول ال تي‬
‫اعتمدوها في هذا الباب‪ ،‬والتي سبق ذكرها‪ ،‬فهم ينصون على أن ه الب د في المطل ق‬
‫من خمسة شروط‪ :‬أن يكون زوجاً‪ ،‬بالغ اً‪ ،‬ع اقالً‪ ،‬مخت اراً‪ ،‬قاص داً‪ ،‬فال يق ع طالق‬
‫الس كران‪ ،‬وال من زال عقل ه بإغم اه أو تن اول الن وم‪ .‬وال أث ر لطالق المك ره‪ .‬ول و‬
‫‪ )(1‬المبسوط‪.7/61 :‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.3/100:‬‬
‫‪ )(3‬كشف األسرار‪.4/357:‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬كشف األسرار‪ ،4/357:‬شرح التلويح على التوضيح‪ ،2/373:‬التقري ر والتحب ير‪ ،2/195:‬تحف ة‬
‫المحتاج‪.8/29:‬‬

‫‪87‬‬
‫باإلنذار والتهدي د م ع غلب ة الظن ب ان المتوع د على فع ل م ا توع د ب ه‪ .‬وال لطالق‬
‫الهازل والمخطئ أخذاً بقول الصادق‪( :‬ال يجوز الطالق في اس تكراه‪ .‬وال طالق إال‬
‫لمن أراد الطالق)‪ ،‬وألن االيقاعات والعقود بكاملها عندهم تابعة للقصود‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وقوع طالق ه‪ ،‬وه و ق ول جمه ور الفقه اء‪ ،‬ب ل حكي اإلجم اع‬
‫على ذلك‪ ،‬قال المناوي‪(:‬يقع طالق الهازل وحكي عليه اإلجماع)(‪ ،)1‬واستدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪ ( :‬ثالث جدهن جد وهزلهن ج د‪ :‬النك اح‪ ،‬والطالق‪ ،‬والرجع ة)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ ورود اآلثار عن السلف في ذلك‪ ،‬ومنها(‪ :)3‬قال عمر‪ :‬أرب ع ج ائزات إذا‬
‫تكلم بهن الطالق‪ ،‬والعتاق‪ ،‬والنكاح‪ ،‬والنذر‪ ،‬وق ال أب و ال درداء‪ :‬ثالث اللعب فيهن‬
‫كالجد‪ :‬الطالق‪ ،‬والعتاق‪ ،‬والنكاح‪ ،‬وقال ابن مسعود‪ :‬النكاح جده ولعبه سواء‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الهازل أتى بالقول غير ملزم لحكمه‪ ،‬وترتيب األحك ام على األس باب‬
‫للشارع ال للعاقد‪ ،‬فإذا أتى بالسبب لزمه حكم ه ش اء أم أبى؛ ألن ذل ك ال يق ف على‬
‫اختياره‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علم ه بمعن اه وموجب ه‪ ،‬وقص د اللف ظ‬
‫المتضمن للمعنى قصد لذلك للمعنى لتالزمهما‪ ،‬إال أن يعارضه قصد آخ ر ك المكره‬
‫والمخادع المحتال؛ فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الهازل يختلف عن المكره‪ ،‬ألن قص د المك ره دف ع الع ذاب عن نفس ه‬
‫ولم يقصد السبب ابتداء‪ ،‬أما الهازل فقصد الس بب ولم يقص د حكم ه‪ ،‬وال م ا ين افي‬
‫حكمه فترتب عليه أثره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن هذا ال ينتقض بلغو اليمين‪ ،‬ألن الالغي لم يقصد الس ب‪ ،‬وإنم ا ج رى‬
‫على لسانه من غير قصده؛ فهو بمنزلة كالم النائم والمغلوب على عقله‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن الهزل أم ر ب اطن ال يع رف إال من جه ة اله ازل‪ ،‬فال يقب ل قول ه في‬
‫إبطال حق العاقد اآلخر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة من حيث تحقي ق المقاص د الش رعية من حف ظ‬
‫األسرة هو القول األول‪ ،‬وهو الذي تدل عليه األدلة الكثيرة‪ ..‬لكن مع ذلك فإن للقول‬
‫الثاني الكثير من المصالح المعتبرة في هذا الباب‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫الناحية األولى‪ :‬تعظيم ما أمر هللا بتعظيمه‪ ،‬ف الزواج والطالق أم ور معظم ة‬
‫شرعا‪ ،‬بل هي تشبه العبادات في نفسها‪ ،‬ولهذا يس تحب عق د ال زواج في المس اجد‪،‬‬

‫‪ )(1‬فيض القدير‪.3/300:‬‬
‫‪ )( 2‬قال الحاكم‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو بن أردك من ثق ات الم دنيين ولم‬
‫يخرجاه‪ ،‬الحاكم‪ ،2/216:‬قال الترمذي‪:‬حديث حسن غريب والعمل على هذا عن د أه ل العلم من أص حاب الن بي ‪‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬الترمذي‪ ،3/490 :‬البيهقي‪ ،7/340 :‬أبو داود‪ ،2/259 :‬ابن ماجة‪.1/658 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر هذه اآلثار في‪ :‬ابن أبي شيبة‪ ،4/115:‬مصنف عبد الرزاق‪.6/133 :‬‬

‫‪88‬‬
‫مع النهي عن البيع فيه ا‪ ،‬فل ذلك يجب التعام ل معه ا بالج د ال ذي تس تحقه‪ ،‬ف إذا م ا‬
‫أصبحت ميدانا للنكتة والهزل كان في ذلك المفاسد الكبرى سواء على العقيدة أو في‬
‫السلوك‪ ،‬وقد روي عن أبي الدرداء قال كان الرج ل في الجاهلي ة يطل ق‪ ،‬ثم يراج ع‬
‫ويقول‪ :‬كنت العب ا‪ ،‬ويعت ق ثم يراج ع ويق ول‪ :‬كنت العب ا‪ ،‬ف أنزل هللا تع الى‪َ ﴿:‬واَل‬
‫ت هَّللا ِ هُ ُز ًوا ﴾(البقرة‪ )231:‬فقال النبي ‪ (:‬من طل ق أو ح رم أو نكح أو‬ ‫تَتَّ ِخ ُذوا آيَا ِ‬
‫أنكح فقال إني كنت العبا فهو جاد)(‪)1‬‬
‫قال ابن العربي في تفس يرها‪ (:‬ق ال علماؤن ا‪ :‬معن اه ال تأخ ذوا أحك ام هللا في‬
‫طريق الهزء‪ ،‬فإنها جد كله ا‪ ،‬فمن ه زأ به ا لزمت ه‪..‬ومن اتخ اذ آي ات هللا ه زوا م ا‬
‫روي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال المرأته‪ :‬أنت طالق مائة‪ ،‬فق ال‪ :‬يكفي ك‬
‫منها ثالث‪ ،‬والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات هللا هزوا (فمن اتخاذه ا ه زوا على‬
‫هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها‪ ،‬وعلى هذا يتركب طالق الهازل) (‪)2‬‬
‫وليس في هذا تحريم للعب والم زاح‪ ،‬ولكن الم زاح واللعب ل ه ح دوده‪ ،‬وق د‬
‫كان ‪ ‬يمزح مع الصحابة ويباسطهم‪ ،‬أما مع ربه تعالى فيجد كل الجد‪ ،‬ولهذا ق ال‬
‫لألعرابي يمازحه‪ :‬من يش تري م ني العب د؟ فق ال‪ :‬تج دني رخيص ا ي ا رس ول هللا؟‬
‫فقال‪ :‬بل أنت عند هللا غال‪ ،‬وقد قص د ‪ ‬أن ه عب د هللا‪ ،‬والص يغة ص يغة اس تفهام‪،‬‬
‫وهو ‪ ‬كان يمزح وال يقول إال حقا‪.‬‬
‫أما إذا تعلق األمر بحدود هللا وأحكامه فيجد كل الج د‪ ،‬ب ل إن النكت ة في مث ل‬
‫هذا ثقيلة يرفضها الذوق السليم‪ ،‬قال ابن القيم‪ (:‬ولو أن رجال ق ال‪ :‬من ي تزوج أمي‬
‫أو أختي‪ ،‬لكان من أقبح الكالم‪ ،‬وقد كان عمر يضرب من يدعو امرأت ه أخت ه‪ ،‬وق د‬
‫جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود أن رجال قال المرأته‪ :‬يا أخته‪ ،‬فقال النبي‬
‫‪ :‬أختك هي؟ إنما جعل إبراهيم ذل ك حاج ة ال مزاحا(‪ ،)3‬وق د ق ال ‪ (:‬م ا ب ال‬
‫أقوام يلعبون بحدود هللا ويستهزئون بآياته)(‪)4‬‬
‫الناحية الثانية‪ :‬أن في ذلك مصلحة للزوجة ح تى ال يؤذيه ا زوجه ا في ك ل‬
‫الحين بمثل هذا المزاح الثقيل البارد‪ ،‬الذي كان يمارس ه أه ل الجاهلي ة األولى‪ ،‬ب ل‬
‫تمارس ه الجاهلي ة المعاص رة عن دما تتخ ذ من قض ايا األس رة الحساس ة مي دانا‬
‫للمسرحيات الهازلة واألفالم الهابطة‪ ،‬والروايات البذيئ ة‪ ،‬فتجع ل من ال زواج لعب ة‬
‫تسلية ال كلمة هللا الثقيلة وميثاقه الغليظ‪.‬‬
‫ولنتصور رجال يدخل على زوجته كل حين ليرمي لها بصيغ الطالق ما تنهد‬
‫له الجبال‪ ،‬ثم بعد أن يرى تغير حالها‪ ،‬واحتيارها من هذا التحول المفاجئ‪ ،‬يض حك‬
‫ضحكة القلوب الفارغة‪ ،‬ويقول لها‪ :‬إنما كنت أمزح‪.‬‬

‫‪ )(1‬مجمع الزوائد‪.4/387:‬‬
‫‪ )(2‬أحكام القرآن البن العربي‪.1/271:‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.3/100:‬‬
‫‪ . )(4‬ابن ماجة‪ ،1/650 :‬البيهقي‪7/322 :‬‬

‫‪89‬‬
‫كيف نتصور كرامة هذه المرأة التي أصبحت ميدانا للنكت ة والم زاح‪ ،‬وكي ف‬
‫نتصور بعد ذلك قيمة هذا الرجل أمامها‪ ،‬وهو يتالعب معها بأسس العش رة بينهم ا؟‬
‫ثم كيف يقبل قوله بعد ذلك إن طلقها جادا؟‬
‫ثالثا ـ التطليق بالوكالة‬
‫ينقسم التوكيل في الطالق بحسب من يوكل إليه إلى قسمين‪ ،‬هما‪:‬‬
‫توكيل الزوجة‬
‫وقد نص أكثر الفقهاء على أن توكيل الزوجة نوعان‪ :‬تملي ك وتخي ير‪ ،‬وفيم ا‬
‫يلي تفصيل ما يتعلق بهما من مسائل‪:‬‬
‫التمليك‪:‬‬
‫تعريفه‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في تعريفه بحسب مواقفهم منهن فقد عرفه المالكية بأن ه جع ل‬
‫إنشائه حقا لغيره راجحا في الثالث‪ ،‬ومن صيغه‪ :‬جعلت أمرك أو طالقك بيدك‪.‬‬
‫وقد فرق فقهاء المالكية بين التمليك والتوكيل والتخي ير‪ ،‬فق الوا‪ :‬التوكي ل ه و‬
‫جعل إنشاء الطالق لغيره‪ ،‬باقيا منع الزوج منه‪ ،‬أي ألن للموكل له عزل وكيله متى‬
‫شاء ألن الوكيل يفعل ما وكل فيه نيابة عن موكله‪.‬‬
‫أما الفرق بين التخي ير والتملي ك ف أمر ع رفي ال دخ ل للغ ة في ه‪ ،‬فق ولهم في‬
‫المش هور اآلتي‪ :‬أن لل زوج البق اء على العص مة وال ذهاب لمن اكرة المملك ة دون‬
‫المخ يرة‪ ،‬إنم ا نش أ من الع رف وعلى ه ذا ينعكس الحكم بانعك اس الع رف‪ ،‬وق ال‬
‫القرافي‪ (:‬إن مالكا رحمه هللا بنى ذلك على عادة كانت في زمانه أوجبت نق ل اللف ظ‬
‫عن مسماه اللغوي إلى هذا المفهوم‪ ،‬فص ار ص ريحا في ه أي في الطالق‪ ،‬أي وليس‬
‫من الكنايات كما قاله األئمة‪ ،‬قال‪ :‬وهذا هو الذي يتجه وهو س ر الف رق بين التخي ير‬
‫والتمليك‪ ،‬غير أنه يلزم عليه بطالن هذا الحكم اليوم ووجوب الرجوع إلى اللغة(‪.)1‬‬
‫وقد ذكر القرطبي أن من المالكي ة من ذهب إلى ع دم التفري ق بينهم ا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫( ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التملي ك والتخي ير س واء‪ ،‬والقض اء م ا‬
‫قضت فيهما‪ ،‬وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة‪ ،‬وقال ابن شعبان‪:‬وقد اختاره كثير‬
‫من أصحابنا وهو قول جماعة من أهل المدينة‪،‬قال أبو عمر وعلى ه ذا الق ول أك ثر‬
‫الفقهاء‪ ،‬والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما‪ ،‬وذل ك أن التملي ك عن د مال ك ه و‬
‫قول الرجل المرأته‪ :‬ق د ملكت ك أي ق د ملكت ك ماجع ل هللا لي من الطالق واح دة أو‬
‫اثنتين أو ثالثا‪ ،‬فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض‪ ،‬وادعى ذل ك ك ان الق ول‬
‫قوله مع يمينه إذا ناكرها‪ ،‬وقالت طائفة من أهل المدينة له المناكرة في التمليك وفي‬
‫التخيير سواء في المدخول بها(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاشية الصاوي‪ ،2/593:‬الخرشي‪.4/69:‬‬


‫‪ )(2‬القرطبي‪.14/172:‬‬

‫‪90‬‬
‫وعرفه ابن قدامة بقوله‪(:‬هو أن يقول الزوج لزوجته‪ :‬ملكتك أمرك أو أم رك‬
‫بيدك)(‪)1‬‬
‫حكمه‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم تمليك الزوج زوجته حق طالق نفسها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم صحة التمليك سواء ك ان للزوج ة أو لغيره ا‪ ،‬وع دم نف وذ‬
‫ذل ك‪ ،‬وي روى عن ابن مس عود‪،‬وه و ق ول الظاهري ة‪ ،‬يق ول ابن ح زم‪( :‬ومن خ ير‬
‫امرأته فاختارت نفسها‪ ،‬أو اختارت الطالق‪ ،‬أو اختارت زوجها‪ ،‬أو لم تخ تر ش يئا‪،‬‬
‫فكل ذلك ال شيء‪ ،‬وكل ذلك سواء‪ ،‬وال تطلق بذلك‪ ،‬وال تحرم عليه‪ ،‬وال لش يء من‬
‫ذلك حكم‪ ،‬ولو ك رر التخي ير وك ررت هي اختي ار نفس ها‪ ،‬أو اختي ار الطالق أل ف‬
‫مرة‪ .‬وكذلك إن ملكها أمر نفس ها‪ ،‬أو جع ل أمره ا بي دها وال ف رق) (‪ ،)2‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن القوامة بي د الرج ل‪ ،‬وبه ا اس تحق ك ون العص مة الزوجي ة بي ده‪ ،‬فال‬
‫يصح جعلها بيد المرأة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ روي أن رجال قال المرأة له‪ :‬إن أدخلت هذا العدل البيت فأمر ص احبتك‬
‫بيدك‪ ،‬فأدخلته‪ ،‬ثم قالت‪ :‬هي طالق‪ ،‬فرفع ذلك إلى عمر فأبانها منه‪ ،‬فمروا بعب د هللا‬
‫بن مسعود فأخبروه؟ فذهب بهم إلى عمر فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين إن هللا تعالى جع ل‬
‫الرجال قوامين على النساء‪ ،‬ولم يجعل النساء قوامات على الرجال؟ فقال عمر‪ :‬فما‬
‫ترى؟ قال‪ :‬أراها امرأته‪ ،‬قال عمر‪ :‬وأنا أرى ذلك‪ ،‬فجعلها واحدة) (‪)3‬‬
‫الق ول الث اني‪:‬ص حة التملي ك ونف وذه‪ ،‬وأن القض اء م ا قض ت‪ ،‬وه و ق ول‬
‫جمهور العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تخيير النبي ‪ ‬نساءه‪ ،‬فاخترنه‪ ،‬وقصة ذلك كما روى أبو سلمة بن عب د‬
‫الرحمن أن عائشة‪ ،‬زوج النبي ‪ ‬أخبرته أن رسول هللا ‪ ‬جاءها حين أمر هللا أن‬
‫يخير أزواجه قالت‪ :‬فبدأ بي رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬إني ذاكر ل ك أم را‪ ،‬فال علي ك أن‬
‫ال تستعجلي حتى تستأمري أبويك‪،‬وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫اج كَ إِ ْن ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَ ا‬
‫ثم قال‪ :‬إن هللا قال‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي قُلْ أِل َ ْز َو ِ‬
‫فَتَ َعالَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َسرِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪ )28:‬إلى تمام اآليتين‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫( ففي أي هذا أستأمر أبواي‪ ،‬فإني أريد هللا ورسوله والدار اآلخرة)(‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الطالق تصرف شرعي قولي‪ ،‬وه و ح ق الرج ل كم ا تق دم‪ ،‬فيملك ه‬
‫ويملك اإلنابة فيه كسائر التصرفات القولية األخرى التي يملكها‪ ،‬كالبيع واإلجارة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫‪ )(1‬المغني‪.7/308:‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.9/291:‬‬
‫‪ )(3‬ذكره ابن حزم‪:‬المحلى‪.10/119:‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،4/1796 :‬مس لم‪ ،2/1103 :‬ابن حب ان‪ ،10/89 :‬الترم ذي‪ 5/350 :‬مجم ع الزوائ د‪،5/10 :‬‬
‫البيهقي‪ ،7/36 :‬النسائي‪ ،3/260 :‬ابن ماجة‪ ،1/662 :‬المعجم األوسط‪ ،8/326 :‬أحمد‪.6/163 :‬‬

‫‪91‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن لل زوج الح ق في تملي ك زوجت ه ح ق‬
‫طالقه ا م ع استحس ان أن ال يتم ذل ك الطالق إال بتلفظ ه ب ه‪ ،‬م تى احت اجت إلى‬
‫إيقاعه(‪ ،)1‬والقصد من هذا الحكم مراعاة أمرين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حق الزوج في توكيل وتفويض الزوجة أمر نفسها‪ ،‬وهو ح ق ش رعي ال‬
‫يمكن إلغاؤه‪ ،‬ألن من ملك الشيء كان له الحق في تمليكه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ال يك ون ذل ك إال بتلف ظ ال زوج مراع اة الش تراط ك ون التطلي ق بي د‬
‫الرج ل كم ا س بق من قول ه ‪ (:‬الطالق لمن أخ ذ بالس اق)‪ ،‬وألن توكي ل األم ر‬
‫وتفويضها تفويضا مطلقا سيؤول ال محالة إلى الفراق بأي سبب من األسباب‪ ،‬ل ذلك‬
‫كان األوفق بسد باب توسيع أسباب الطالق هو إبقاء الطالق بيد الرجل‪.‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فإن الرجل قد يكون سبب تمليكه لزوجته هذا سبيال للتخلص‬
‫منها ثم االدعاء بأن الفراق كان منها‪ ،‬فلذلك كان في هذا تشريكا ل ه في المس ؤولية‪،‬‬
‫فهو يملك أن يعطي هذا الحق‪ ،‬ولكن إجازته تبقى رهينة رأيه النهائي‪.‬‬
‫أم ا االس تدالل على ه ذا بم ا وق ع من تخي ير الن بي ‪ ‬لنس ائه‪ ،‬فال يص ح‬
‫االستدالل به‪ ،‬بل إن آية التخي ير حملت أش ياء كث يرة في ه ذا الب اب ال تحتملها(‪،)2‬‬
‫فلذلك ال بأس أن نذكر هنا أساس االستدالل بها‪ ،‬وم ا ن راه من ال ترجيح في فهمه ا‪،‬‬
‫ألن معظم استدالالت الباب ترتبط بها‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء أن في موضوع التخيير في اآلية خالفا على قولين‪ ،‬هما‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن التخيير كان بين البقاء على الزوجية أو الطالق‪ ،‬وقد قال بذلك عائشة‬
‫ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن التخيير كان بين الدنيا‪ ،‬فيفارقهن وبين اآلخرة‪ ،‬فيمس كهن لتك ون لهن‬
‫المنزلة العليا كما ك انت ل زوجهن‪ ،‬ولم يخ يرهن في الطالق‪ ،‬ذك ره الحس ن وقت ادة‬
‫ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أن ه ق ال‪ :‬لم يخ ير رس ول هللا ‪‬‬
‫نساءه إال بين الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وقد رجح أكثر العلم اء الق ول األول‪ ،‬كم ا ق ال القرط بي‪ (:‬قلت الق ول األول‬
‫أصح لقول عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأت ه فق الت‪ :‬ق د خيرن ا رس ول هللا‬
‫‪ ‬أفكان طالقا‪ ،‬وفي رواية فاخترناه فلم يعده طالق ا‪ ،‬ولم يثبت عن رس ول هللا ‪‬‬
‫إال التخيير المأمور بين البقاء والطالق لذلك قال‪ (:‬يا عائشة إني ذاكر ل ك أم را فال‬
‫عليك أال تعجلي فيه تستأمري أبوي ك)‪ ،‬الح ديث ومعل وم أن ه لم ي رد اإلس تئمار في‬

‫‪ )(1‬نص بعض مراجع اإلمامية على أنه اذا أرادت الزوجة أن تطلق نفسها بنفس ها في ح ال توكي ل ال زوج‬
‫لها تقول‪ :‬زوجة مو ّکلي أنا طالق أو تق ول‪ :‬زوج ة م و ّکلي فالن ة ط الق‪ ،‬ت ذکر اس مها و اذا و ّکلت غيره ا في إيق اع‬
‫الطالق يقول الوکيل‪ :‬زوجة مو ّکل مو ّکلتي طالق‪..‬‬
‫‪ )(2‬ومن ذلك قول القرطبي‪ »:‬إن ش رط وجواب ه ‪ ‬فتع الين﴾ فعل ق التخي ير على ش رط‪،‬وه ذا ي دل على أن‬
‫التخيير والطالق المعلقين على شرط صحيحان‪ ،‬فينفذان ويمضيان خالفا للجهال المبتدعة الذين يزعم ون أن الرج ل‬
‫إذا قال لزوجته أنت طالق إن دخلت ال دار أن ه اليق ع الطالق إن دخلت ال دار‪ ،‬ألن الطالق الش رعي ه و المنج ز في‬
‫الحال« القرطبي‪ ،.14/170:‬وما ذكره من فهمه وفهم الفقهاء لذلك ال دليل عليه في اآلية وال غيرها كم ا س نرى في‬
‫الطالق المعلق‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫اختي ار ال دنيا وزينته ا على اآلخ رة‪،‬فثبت أن اإلس تئمار إنم ا وق ع في الفرق ة أو‬
‫النكاح(‪.)1‬‬
‫وبن وا على ه ذا ال ترجيح األحك ام الكث يرة ال تي س نراها س واء فيم ا يتعل ق‬
‫بالتمليك أو بالتخيير‪ ،‬ونرى أن الخالف في المسألة غ ير ص حيح‪ ،‬وأن كال الق ولين‬
‫يذكر ناحية من نواحي التخيير‪ ،‬فالنبي ‪ ‬خير نساءه بين أمرين‪ :‬بين الحي اة ال دنيا‬
‫وزينتها مما أباح هللا تعالى‪ ،‬وبين ما تقتضيه مس ؤولية رس ول هللا ‪ ‬الرس الية من‬
‫زهد وتضحية‪ ،‬وعقب عن ك ل اختي ار من ذين ك الخي ارين نتيج ة تخص ه‪ ،‬فنتيج ة‬
‫الخيار األول الذي هو ابتغاء الحي اة ال دنيا هي أن يس رحهن رس ول هللا ‪ ‬س راحا‬
‫جميال‪ ،‬والسراح الجميل هو الطالق الذي ال يحمل أي ضرر‪ ،‬ونتيجة الخيار الثاني‬
‫هي إمساكهن مع األجر العظيم المعد لهن‪.‬‬
‫فهذا ما يفهم من ظاهر اآلي ة‪ ،‬ف التخيير به ذا ومثل ه التملي ك‪ ،‬ليس طالق ا وال‬
‫صيغة من صيغ الطالق كما اختار أكثر الفقهاء‪ ،‬وإنم ا ه و من ب اب حس ن العش رة‬
‫الزوجية‪ ،‬فالزوج إن كان كريم األصل‪ ،‬ورأى نفور زوجته منه جعل لها الح ق في‬
‫اختيار نفسها سواء بصيغة التمليك أو صيغة التخيير من غير أن يلزم ه ذل ك ش يئا‪،‬‬
‫ألن الشرع جعل له الحق في حال نفور زوجه منه من غير سبب يرجع إلي ه في أن‬
‫تفتدي بمالها وتعوض عليه بعض الضرر الذي أصابه من فراقها له‪.‬‬
‫فإذا تنازل بحسن وخلق ه وخيره ا يبقى أم ر الطالق بي ده في ح ال اختياره ا‬
‫مفارقته‪ ،‬وهو م ا ص رحت ب ه اآلي ة في قول ه تع الى‪ ﴿:‬فَتَ َع الَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َس رِّحْ ُك َّن‬
‫َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪ ،)28:‬فلم ي رتب هللا تع الى الف راق بمج رد اختي ارهن ب ل‬
‫ربطه بفعل رسول هللا ‪ ‬وهو ما جعل للرجال من حق الطالق‪.‬‬
‫وقد رجح هذا ابن حزم هذا المعنى لآلية عند رده على الفه وم ال تي اس تندت‬
‫لها وجعلتها باب ا من أب واب الطالق‪ ،‬فق ال‪ (:‬وأم ا غ يرهم فنق ول‪ :‬لهم اآلي ة نفس ها‬
‫تبط ل دع واكم‪ ،‬ألن نص ها ﴿ إِ ْن ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَ ا فَتَ َع الَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن‬
‫َوأُ َسرِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪ ،)28:‬فإنم ا نص هللا تع الى أن ه إن أردن ال دنيا‬
‫ولم يردن اآلخرة طلقهن حينئذ من قبل نفسه مخت ارا للطالق‪ ،‬ال أنهن طوال ق بنفس‬
‫اختيارهن الدنيا‪ ،‬ومن قال هذا فقد ح رف كالم هللا تع الى وأقحم في حكم اآلي ة ك ذبا‬
‫محضا ليس فيها منه نص وال دليل) (‪)2‬‬
‫مدته‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في المدة التي يستمر فيها توكيل الزوج لزوجته على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه متى جعل أمر امرأته بي دها‪ ،‬فه و بي دها أب دا‪ ،‬ال يتقي د ذل ك‬
‫بالمجلس‪ ،‬وقد روي ذلك عن علي‪ ،‬وبه قال الحكم‪ ،‬وأب و ث ور‪ ،‬وابن المن ذر‪ ،‬وه و‬
‫قول اإلمامية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.14/171:‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.10/123:‬‬

‫‪93‬‬
‫‪ 1‬ـ قول علي في رجل جع ل أم ر امرأت ه بي دها‪ ،‬ق ال‪ :‬ه و له ا ح تى تنك ل‪،‬‬
‫وليس له مخالف من الصحابة مخالفا‪ ،‬فيكون إجماعا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه نوع توكيل في الطالق‪ ،‬فكان على التراخي‪ ،‬كما لو جعله ألجنبي‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن ذل ك مقص ور على المجلس‪ ،‬وال طالق له ا بع د مفارقت ه‪،‬‬
‫وهو قول مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأصحاب الرأي‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بأن ه تخي ير له ا‪،‬‬
‫فكان مقصورا على المجلس‪ ،‬كقوله‪ :‬اختاري‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن ذلك بحس ب ص يغة التوكي ل ومالبس اته‪،‬‬
‫فإن أفادت الصيغة الديمومة كانت دائمة‪ ،‬وإن اقتص رت على ف ترة معين ة قص رت‬
‫عليها‪ ،‬وفي حال عدم داللة الصيغة أو المناسبة أو العرف‪ ،‬ف إن ال زوج مص دق في‬
‫مراده من تمليكه‪ ،‬فهو أحق بهذا األمر الذي وكله الشرع إليه من غيره‪.‬‬
‫نكول الزوج عن تمليك الزوجة أمرها‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو رجع الزوج فيما جعل لزوجته من تلميكها أمر نفس ها‪،‬‬
‫أو قال‪ :‬فسخت ما جعلت إليك‪ ،‬هل يقبل منه أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يقبل منه‪ ،‬ويبطل ما جعل لها‪ ،‬وإن وطئها الزوج كان رجوع ا‪،‬‬
‫وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل‪ ،‬كم ا تبط ل الوكال ة بفس خ الوكي ل‪ ،‬وه و ق ول‬
‫عطاء‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬والشعبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وإسحاق وأحمد‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه توكيل‪ ،‬فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع‪ ،‬وكما لو خاطب بذلك‬
‫أجنبيا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الطالق ال يصح تمليكه‪ ،‬وال ينتقل عن الزوج‪ ،‬وإنما ينوب في ه غ يره‬
‫عنه‪ ،‬فإذا استناب غيره فيه كان توكيال ال غير‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إن سلم أنه تمليك‪ ،‬فالتمليك يص ح الرج وع في ه قب ل اتص ال القب ول ب ه‪،‬‬
‫كالبيع‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ليس ل ه الرج وع في قول ه‪ ،‬وه و ق ول الزه ري‪ ،‬والث وري‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬والحنفية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن ه ملكه ا ذل ك‪ ،‬فلم يمل ك الرج وع‪ ،‬كم ا ل و‬
‫طلقت‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن للزوج حق الرجوع فيم ا ملك ه لزوجت ه‪،‬‬
‫ألنه حقه كما ذكرنا سابقا‪ ،‬فقد يرى الزوج مفسدة في ترك األمر بيد زوجته‪ ،‬فل ذلك‬
‫كان له حق التراجع‪ ،‬أما الزوجة إن أرادت فراق زوجها‪ ،‬فإن الشرع قد وض ع له ا‬
‫ذلك في إطاره المحدد‪.‬‬
‫وقوع الطالق بالتمليك حال رد الزوجة‪:‬‬
‫اختلف الفقه اء في وق وع الطالق بمج رد تملي ك الم رأة في ح ال رده ا‪ ،‬لم ا‬
‫جعل لها على قولين‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يقع الطالق بمجرد هذا القول‪ ،‬ما لم ينو به إيق اع طالقه ا في‬
‫الحال‪ ،‬أو تطلق نفسها‪ ،‬فإذا ردت األمر الذي جعل إليها بطل‪ ،‬ولم يقع شيء‪ ،‬أما إن‬
‫نوى بهذا تطليقها في الحال‪ ،‬طلقت في الح ال‪ ،‬ولم يحتج إلى قبوله ا‪ ،‬كم ا ل و ق ال‪:‬‬
‫حبلك على غاربك‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء‪ ،‬ألنه توكيل‪ ،‬أو تملي ك لم يقبل ه الممل ك‪،‬‬
‫فلم يقع به شيء‪ ،‬كسائر التوكيل والتمليك‪.‬‬
‫القول الثاني ‪ :‬يقع الطالق بمجرد هذا القول‪ ،‬فلذلك إن ردت ما جعل لها‪ ،‬تقع‬
‫واحدة رجعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار نيته في التلفظ بهذا اللفظ‪ ،‬فإن أراد به‬
‫الطالق فهو طلقة واحدة حتى ولو نوى ثالثا ـ كم ا س نرى في ص يغة الطالق ـ وال‬
‫ينبغي أن يحمل كالمه على غير ما أراده‪ ،‬فهو مصدق على كل حال‪.‬‬
‫افتقار التمليك لنية الزوج‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في افتقار تملي ك ال زوج أو توكيل ه زوجت ه إلى ني ة أم ال على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن تمليك الزوج زوجته أمرها كناية في حق الزوج‪ ،‬يفتق ر إلى‬
‫نية أو داللة حال‪ ،‬كم ا في س ائر الكناي ات‪ ،‬ف إن ع دم لم يق ع ب ه طالق‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنفية والشافعية والحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه ليس بصريح‪ ،‬وإنما هو كناي ة‪،‬‬
‫فيفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الكنايات‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪:‬أن ه ال يفتق ر إلى ني ة‪ ،‬وه و ق ول مال ك‪ ،‬ألن ه من الكناي ات‬
‫الظاهرة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو عدم اعتباره صيغة من صيغ الطالق‪ ،‬فلذلك‬
‫ال يحتاج إلى البحث عن نيته والتشويش علي ه ب ذلك‪ ،‬فق د يحمل ه ال ورع أو الت ورع‬
‫على تطليقها من غير إرادته‪ ،‬فالوسوس ة في الطالق وص يغه أخط ر من الوسوس ة‬
‫في أبواب الطهارة‪ ،‬وكم من البيوت خربت بس بب ه ذا الن وع من ال ورع‪ ،‬والس بب‬
‫فيه في أكثر األحيان من يتجرأ على الفتوى‪ ،‬فيظل يوسوس له بأنه زان إن بقي م ع‬
‫زوجته بعد تلفظه بتلك الصيغة أو غيرها‪.‬‬
‫فلذلك نرى في مث ل ه ذا أن ي ترك لحال ه‪ ،‬ول و ش اء أن يطل ق لطل ق باللف ظ‬
‫الفصيح الصريح الذي ال يحمل أي ش بهة‪ ،‬فمن الخط أ أن ن درأ الح دود بالش بهات‪،‬‬
‫وال نحفظ البيوت بالشبهات‪.‬‬
‫افتقار التمليك لنية الزوجة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء القائلون بالتمليك فيما لو قبلت المرأة التمليك بلفظ الكناية‪ ،‬ه ل‬
‫يفتقر إلى نيتها أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يفتقر وقوع الطالق إلى نيتها‪ ،‬وأنه يق ع الثالث إذا ن وت‪ ،‬وه و‬
‫قول الشافعية والحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها موقعة للطالق بلفظ الكناية‪ ،‬فافتقر إلى نيتها‪ ،‬كالزوج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن اللفظ يحتمل الثالث؛ ألنها تختار نفسها بالواحدة‪ ،‬وبالثالث‪ ،‬فإذا نوياه‬
‫وقع‪ ،‬كقوله‪ :‬أنت بائن‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يفتقر وقوع الطالق إلى نيته ا‪ ،‬ال يق ع إال واح دة بائن ة‪ ،‬وإن‬
‫نوت ثالثا‪،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الزوج علق الطالق بفعل من جهتها‪ ،‬فلم يفتقر إلى نيتها‪ ،‬كما لو ق ال‪:‬‬
‫إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ذلك تخيير‪ ،‬والتخيير ال يدخله عدد‪ ،‬كخيار المعتقة‪ ،‬إذا نوى الزوج‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ع دم الق ول بكال الق ولين كم ا ذكرن ا س ابقا‪،‬‬
‫ولكن أيسرهما هو القول الثاني‪ ،‬من باب تقليل عدد الطلقات‪.‬‬
‫اختالف الزوجين في عدد الطلقات المملكة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو طلقت نفسها ثالثا‪ ،‬وادعى الزوج أنه لم يجعل إليها إال‬
‫واحدة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يلتفت إلى قوله‪ ،‬والقضاء ما قضت‪ ،‬وقد روي هذا القول عن‬
‫عثمان‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وروي ذلك عن علي‪ ،‬وفضالة بن عبيد‪ .‬وب ه ق ال‬
‫سعيد بن المسيب‪ ،‬وعطاء‪ ،‬والزهري‪ ،‬وهو قول أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها؛ ألنه اسم جنس مضاف‪ ،‬فيتناول‬
‫الطلقات الثالث‪ ،‬كما لو قال‪ :‬طلقي نفسك ما شئت‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه من الكنايات الظاهرة‪ ،‬والكنايات الظاهرة تقتضي ثالثا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها تطليقة واحدة‪،‬وقد روي عن عمر‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وب ه ق ال‬
‫عطاء ومجاهد‪ ،‬والقاسم‪ ،‬وربيعة‪ ،‬ومالك واألوزاعي‪ ،‬والشافعي(‪ ،)1‬واستدلوا على‬
‫ذلك بأنه نوع تخيير‪ ،‬فيرجع إلى نيته فيه‪ ،‬كقوله‪ :‬اختاري‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما ذكرنا س ابقا أن ل ه الح ق في طلق ة واح دة‬
‫يملكها هو ويتلفظ بها هو تلفظا صريحا‪ ،‬وال ينبغي أن نتصور هنا أننا نخالف ب ذلك‬
‫ما روي عمن ذكر من الصحابة ألن أكثر ما يذكره الفقه اء من ه ذه النس ب تحت اج‬
‫إلى تمحيص س ندي ال يق ل عن التمحيص ال ذي لقيت ه أح اديث رس ول هللا ‪،‬‬
‫فخطورة هذه النق ول في ح ال ض عفها أو وض عها ال تق ل عن األح اديث الش ريفة‪،‬‬
‫خاصة وأن دعوى االنتساب للسلف ترتبط بها‪.‬‬
‫وس نعرض ألمث ال ه ذه النق ول عن د الح ديث عن حكم الطالق الثالث في‬
‫صيغة الطالق‪.‬‬
‫تخيير الزوجة‬
‫‪ )( 1‬وقال الشافعي‪ :‬إن نوى ثالثا‪ ،‬فلها أن تطلق ثالثا‪ ،‬وإن نوى غير ذلك‪ ،‬لم تطلق ثالث ة‪ ،‬والق ول قول ه في‬
‫نيته‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫التخيير هو أن يخير الزوج زوجته بين البقاء معه أو الطالق‪ ،‬وأك ثر الفقه اء‬
‫على جواز ذلك‪ ،‬كم ا ذكرن ا في حكم التوكي ل‪ ،‬ويرتب ط التخي ير بالتملي ك في ن واح‬
‫سبق ذكرها‪ ،‬وينفصل عنه في بعضها‪ ،‬وس نذكر هن ا بعض المس ائل ال تي ق د يب دو‬
‫تشابهها مع ما سبقها من مسائل‪ ،‬ولكنها تختلف عنها في بعض التفاصيل‪:‬‬
‫مدة التخيير‪:‬‬
‫تختلف أحكام مدة التخيير وآثارها بحسب تقييد الزوج لم دة التخي ير وع دمها‬
‫كما سنرى في الحالتين التاليتين‪:‬‬
‫تقييد المدة‪:‬‬
‫وهو أن يحدد لها مدة للتخي ير ك أن يق ول له ا م ا قال ه ‪ ‬لعائش ة‪ :‬ال تعجلي‬
‫حتى تستأمري أبويك‪ ،‬أو أن يقول لها‪ :‬اختاري نفسك اليوم‪ ،‬وغدا‪.‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أنه يصح هذا التخيير وتعت بر مدت ه‪ ،‬واختلف وا فيم ا ل و‬
‫ردته في اليوم األول‪ ،‬هل يبطل بذلك في الثاني أم ال؟ ومثل ه م ا ل و خيره ا ش هرا‪،‬‬
‫فاختارت نفسها‪ ،‬ثم تزوجه ا‪ ،‬فه ل علي ه الخي ار في ذل ك‪ ،‬وق د اختل ف العلم اء في‬
‫هاتين المسألتين على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يبطل في األولى وأن له ا الخي ار في الث اني‪ ،‬وه و ق ول أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬ألنهما خياران في زمنين‪ ،‬فلم يبطل أحدهما برد اآلخر‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬يبط ل في األولى‪ ،‬وليس له ا الخي ار في الثاني ة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خيار واحد‪ ،‬في مدة واحدة‪ ،‬فإذا بطل أوله بطل ما بعده‪ ،‬كما ل و ك ان‬
‫الخيار في يوم واحد‪ ،‬وكخيار الشرط وخيار المعتقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنهم ا ليس ا خي ارين‪ ،‬وإنم ا ه و خي ار واح د في ي ومين بخالف قول ه‪:‬‬
‫اختاري نفسك اليوم‪ ،‬واختاري نفسك غدا‪ .‬فإنهما خياران؛ ألن كل واحد ثبت بسبب‬
‫مفرد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنها استوفت ما جعل لها في هذا العقد‪ ،‬فلم يكن لها في عقد ثان‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و ق ول الجمه ور درءا لمفس دة الطالق من‬
‫جهة‪ ،‬وألن موقفها األول كاف في بيان رأيها‪ ،‬فإذا ما تراجعت عنه لم يكن ذلك لها‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬إطالق المدة‪:‬‬
‫وهو أن يطلق التخيير دون تحديد المدة‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء في ه ذه الحال ة‬
‫هل هو على الفور أم على التراخي على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن التخيير على التراخي‪ ،‬ولها االختيار في المجلس وبعده‪ ،‬م ا‬
‫لم يفسخ أو يطأ‪ ،‬وهو قول الزهري‪ ،‬وقت ادة‪ ،‬وأب و عبي د‪ ،‬وابن المن ذر‪ ،‬ومال ك في‬
‫إحدى الروايتين عنه‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول رسول هللا ‪ ‬لعائشة لما خيرها‪ :‬إني ذاكر لك أمرا‪ ،‬فال عليك أن ال‬
‫تعجلي حتى تستأمري أبويك‪ ،‬وهذا يمنع قصره على المجلس‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه جعل أمرها إليها‪ ،‬فأشبه أمرك بيدك‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن التخيير على الف ور‪ ،‬إن اخت ارت في وقته ا‪ ،‬وإال فال خي ار‬
‫لها بع ده‪ ،‬وه و ق ول أك ثر العلم اء‪ ،‬وق د روي عن عم ر‪ ،‬وعثم ان‪ ،‬وابن مس عود‪،‬‬
‫وجابر‪ ،‬وب ه ق ال عط اء‪ ،‬وج ابر بن زي د‪ ،‬ومجاه د‪ ،‬والش عبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬ومال ك‪،‬‬
‫والثوري‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والشافعية وأبي حنيفة‪ ،‬وأحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن سعيد بن المسيب‪ ،‬أنه قال‪ :‬قض ى عم ر وعثم ان‪ ،‬في الرج ل يخ ير‬
‫امرأته‪ ،‬أن لها الخيار ما لم يتفرقا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عن عبد هللا بن عمر‪ ،‬قال‪ :‬ما دامت في مجلسها‪ ،‬ونحوه عن ابن مسعود‪،‬‬
‫وجابر‪ ،‬وليس لهم مخالف في الصحابة‪ ،‬فكان إجماعا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه خيار تمليك‪ ،‬فكان على الفور‪ ،‬كخيار القبول‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن النبي ‪ ‬جعل لها الخيار على ال تراخي ليس دليال على ه ذا‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يقع به التطليق‪.‬‬
‫وقد اتفق أصحاب ه ذا الق ول على أنهم ا ل و تفرق ا عن ذل ك الكالم إلى كالم‬
‫غيره‪ ،‬فإنه يبطل خيارها‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة‪ ،‬وق ول للش افعي‪ ،‬وظ اهر م ذهب‬
‫أحمد(‪ ،)1‬ألنه تمليك مطلق‪ ،‬تأخر قبوله عن أول حال اإلمك ان‪ ،‬فلم يص ح‪ ،‬كم ا ل و‬
‫قامت من مجلسها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني ألن ع دم التحدي د ينص رف إلى‬
‫وقت الحديث‪ ،‬فإذا لم تجب في ذلك الحين لم يكن لها الحق في التخي ير‪ ،‬إال إذا دلت‬
‫القرائن على إرادته التراخي‪ ،‬وحكم ذلك ما ذكرنا في الحالة األولى‪.‬‬
‫نوع الطالق الذي تملكه الزوجة بتخيير الزوج‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في نوع الطالق الذي تملك ه الزوج ة بتوكي ل ال زوج ه ل ه و‬
‫طالق رجعي أم بائن على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن لفظة التخيير ال تقتضي بمطلقها أكثر من تطليقة رجعية(‪،)2‬‬
‫وه و ق ول ابن عم ر‪ ،‬وابن مس عود‪ ،‬وزي د بن ث ابت‪ ،‬وعم ر‪ ،‬وعائش ة‪،‬وه و ق ول‬
‫الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه كناي ة خفي ة ال يل زم ب ه ش يء إال بالني ة‪ ،‬ألن لف ظ‬

‫‪ )( 1‬قال أحمد‪ :‬الخيار على مخاطبة الكالم أن تجاوبه ويجاوبها‪ ،‬إنما هو جواب كالم‪ ،‬إن أجابته من س اعته‪،‬‬
‫وإال فال شيء‪.‬‬
‫‪ )( 2‬بخالف تقييدها‪ ،‬كما لو جعل إليها أكثر من ذلك‪ ،‬فلها ما جعل إليها‪ ،‬سواء جعل ه بلفظ ه‪ ،‬مث ل أن يق ول‪:‬‬
‫اختاري ما شئت‪ .‬أو اختاري الطلقات الثالث إن شئت‪ .‬فلها أن تختار ذلك‪.‬‬
‫أما إن قال‪ :‬اختاري من الثالث ما شئت‪ .‬فلها أن تختار واحدة أو اثنتين‪ ،‬وليس لها اختيار الثالث بكمالها ; ألن‬
‫من للتبعيض‪ ،‬فقد جعل لها اختيار بعض الثالث‪ ،‬فال يكون لها اختيار الجميع‪.‬‬
‫أو حدد بنيته‪ ،‬وهو أن ينوي بقوله‪ :‬اختاري عددا‪ ،‬فإن ه يرج ع إلى م ا ن واه ; ألن قول ه‪ :‬اخت اري كناي ة خفي ة‪،‬‬
‫فيرجع في قدر ما يقع بها إلى نيته‪ ،‬كسائر الكنايات الخفية‪ ،‬فإن نوى ثالثا‪ ،‬أو اثنتين‪ ،‬أو واح دة‪ ،‬فه و على م ا ن وى‪،‬‬
‫وإن أطلق النية‪ ،‬فهي واحدة‪ ،‬وإن نوى ثالثا‪ ،‬فطلقت أقل منها‪ ،‬وقع ما طلقت ه ; ألن ه يعت بر قولهم ا جميع ا‪ ،‬فيق ع م ا‬
‫اجتمعا عليه‪ ،‬كالوكيلين إذا طلق واحد منهما واحدة واآلخر ثالثا‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫التخي ير يحتم ل التخي ير في الطالق وغ يره‪ ،‬ف إن أراد الطالق فيحتم ل الوح دة‬
‫والكثرة‪ ،‬واألصل بقاء العصمة حتى ينوي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هي واحدة بائن‪ ،‬وقد روي ذلك عن جابر‪ ،‬وعب د هللا بن عم ر‪،‬‬
‫وهو قول أبي حنيفة‪ ،‬ورواه ابن خويز منداد عن مالك‪،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ك إِ ْن ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي قُ لْ أِل َ ْز َو ِ‬
‫اج َ‬
‫َو ِزينَتَهَا فَتَ َعالَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َسرِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪ )28:‬ق الوا ه ذه اآلي ة‬
‫تدل على البينونة بالثالث(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أن إح دى نس ائه ‪‬اخت ارت نفس ها فك انت ألبت ة فك ان ذل ك أص ال في‬
‫الخيار(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ أن المفهوم من هذا اللفظ عادة إنما هو التخيير في الك ون في العص مة أو‬
‫مفارقتها هذا هو السابق للفهم من قول القائل لزوجته خيرتك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن قوله‪ :‬اختاري تفويض مطلق‪ ،‬فيتناول أقل ما يقع علي ه االس م‪ ،‬وذل ك‬
‫طلقة واحدة‪ ،‬وال يجوز أن تكون بائنا؛ ألنها طلقة بغير عوض‪ ،‬لم يكم ل به ا الع دد‬
‫بعد الدخول‪ ،‬فأشبه ما لو طلقها واحدة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن التخيير يخالف التوكيل‪ ،‬بقوله‪ :‬أم رك بي دك‪ ،‬فإن ه للعم وم‪ ،‬فإن ه اس م‬
‫جنس‪ ،‬فيتناول جميع أمرها‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنها إذا اختارت نفسها أنها ثالث‪ ،‬وقد روي عن زيد بن ثابت‪،‬‬
‫وهو قول الحسن البصري‪ ،‬وبه قال مالك والليث‪ ،‬ألن الملك إنما يكون بذلك‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬أنها إذا اخت ارت نفس ها فليس بش يء‪ ،‬وق د روي عن علي(‪،)3‬‬
‫وسبق ذكر من قال بذلك من العلماء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ذكرنا سابقا أن التخيير والتملي ك ال ينوب ان عن الطالق‪ ،‬ب ل إن الطالق يبقى‬
‫دائما بيد الزوج‪ ،‬وأن تخيير الزوج من حسن العشرة ال من صيغ الطالق‪ ،‬وقد سبق‬
‫ذكر بعض أدلة ذلك‪ ،‬ومما يدل على ذلك أيض ا أن عائش ة لم يثبت ذل ك عنه ا ق ط‪،‬‬
‫إنم ا الم روي عنه ا أن مس روقا س ألها عن الرج ل يخ ير زوجت ه فتخت اره‪ ،‬أيك ون‬
‫طالقا؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه‪ .‬فقالت عائشة‪ :‬خير رسول هللا ‪ ‬نساءه فاخترنه‪،‬‬
‫أكان ذلك طالقا؟ وروي‪ ،‬فلم يكن شيئا‪.‬‬

‫‪ )(1‬وقد تعقب هذا الدليل بأربعة أوجه‪،‬هي‪:‬‬


‫الوجه األول‪ :‬أنه ‪ ‬كان المطلق ال النساء لقوله ‪:‬وأسرحكن سراحا جميال ﴾‬
‫الوجه الثاني‪:‬لو سلمنا أن األزواج كن الالتي طلقن لكن السراح ال يوجب إال واحدة كما لو قال سرحتك‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬لو سلمنا أنه الثالث لكنه مختص به ‪ ;‬ألن تح ريم الطالق الثالث معل ل بالن دم وه و ‪‬أمل ك‬
‫لنفسه منا‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪:‬أن التخيير إنما كان بين الحياة الدنيا والدار اآلخرة‪.‬انظر‪ :‬أنوار البروق‪.3/211:‬‬
‫‪ )(2‬وهذا غير ص حيح‪ ،‬ففي الص حيحين‪ :‬أن عائش ة ق الت إني أري د هللا ورس وله وال دار اآلخ رة‪ ،‬ثم فع ل‬
‫أزواجه مثل ذلك‪ ،‬انظر ما ذكرنا سابقا من تخريج الحديث‪.‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪.14/171:‬‬

‫‪99‬‬
‫أما قولها‪ :‬لما أمر رسول هللا ‪ ‬بتخيير نس ائه ب دأ بي‪ ،‬فق ال‪ :‬إني ذاك ر ل ك‬
‫أم را‪ ،‬إن هللا تع الى ق ال‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي قُ لْ أِل َ ْز َوا ِج كَ إِ ْن ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا‬
‫َو ِزينَتَهَا فَتَ َع الَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َس رِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪ ،)28:‬وليس في ه ذا‬
‫تخيير بطالق‪،‬وإنما يرجع إلى أحد وجهين‪ :‬التخيير بين الدنيا‪ ،‬فيوق ع الطالق؛ وبين‬
‫اآلخرة فيكون اإلمساك‪.‬‬
‫وليس في الحديث ما يدل على التطليق‪ ،‬فقد قال رسول هللا ‪ ‬لعائشة‪ :‬ابعثي‬
‫إلى أبويك فقالت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬لم؟ فق ال‪ :‬إن هللا أم رني أن أخ يركن‪ .‬فق الت‪ :‬إني‬
‫أختار هللا ورسوله‪ ،‬فسر رسول هللا ‪ ‬ذلك‪ .‬فقالت له عائشة‪ :‬يا رس ول هللا؛ إن لي‬
‫إلي ك حاج ة؛ ال تخ ير من نس ائك من تحب أن تف ارقني‪ ،‬فخ يرهن رس ول هللا ‪‬‬
‫جميعا‪ ،‬فكلهن اخترنه‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬خيرنا فاخترناه‪ ،‬فلم يكن طالقا‪.‬‬
‫قال القرافي بعد ذكر اتفاق أبي حنيفة والشافعي وأحمد على أن التخيير كناية‬
‫ال يلزم به شيء إال بنيت ه الحتمال ه التخي ير في الطالق‪(:‬والص حيح ال ذي ظه ر أن‬
‫قول األئمة الثالثة هو مقتضى اللفظ لغة ال مرية في ذلك‪ ،‬وأن مالك ا أف تى ب الثالث‬
‫على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللف ظ عن مس ماه اللغ وي إلى ه ذا المفه وم‪،‬‬
‫فصار صريحا فيه‪ ،‬وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين التخيير والتمليك)‬
‫ثم عقب على ذلك بقوله‪(:‬غير أنه يلزم عليه بطالن هذا الحكم اليوم ووج وب‬
‫الرجوع إلى اللغة‪ ،‬ويكون كناي ة محض ة كم ا قال ه األئم ة الثالث ة لتغ ير الع رف)‪،‬‬
‫وأعطى قاعدة ذلك‪ ،‬وهي‪(:‬أن اللفظ متى كان الحكم فيه مبنيا على نق ل ع ادي بط ل‬
‫ذلك الحكم عند بطالن تلك العادة‪ ،‬وتغير إلى حكم آخر إن شهدت ل ه ع ادة أخ رى‪،‬‬
‫هذا هو الفقه) (‪)1‬‬
‫وقوع الطالق بالتخيير حال رد الزوجة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في وقوع الطالق بمجرد تخيير الزوجة وعدم افتق ار ذل ك إلى‬
‫قبولها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن خيرها‪ ،‬فاختارت زوجها‪ ،‬أو ردت الخيار‪ ،‬أو األمر‪ ،‬لم يقع‬
‫شيء‪ ،‬وقد روي ذلك عن عمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وزي د‪ ،‬وابن مس عود‪ ،‬وابن عب اس‪ ،‬وعم ر‬
‫بن عبد العزيز‪ ،‬وهو قول ابن ش برمة‪ ،‬وابن أبي ليلى‪ ،‬والث وري‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وابن‬
‫المنذر وأحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول عائشة‪ :‬قد خيرن ا رس ول هللا ‪ ،‬أفك ان طالق ا‪ ،‬وق الت‪( :‬لم ا أم ر‬
‫النبي ‪ ‬بتخيير أزواجه‪ ،‬بدأ بي‪ ،‬فقال‪ :‬إني لمخبرك خبرا‪ ،‬فال علي ك أن ال تعجلي‬
‫حتى تس تأمري أبوي ك‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬إن هللا تع الى ق ال‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي قُ لْ أِل َ ْز َوا ِج كَ إِ ْن‬
‫ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَ ا فَتَ َع الَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َس رِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾‬
‫ت ِم ْن ُك َّن أَجْ رًا َع ِظي ًم ا﴾(األح زاب‪:‬‬ ‫(األحزاب‪ ،)28:‬حتى بلغ‪ ﴿ :‬فَإِ َّن هَّللا َ أَ َع َّد لِ ْل ُمحْ ِسنَا ِ‬
‫‪ ،)29‬فقلت‪ :‬في أي هذا استأمر أبوي‪ ،‬فإني أريد هللا ورسوله والدار اآلخرة‪ ،‬ق الت‪:‬‬

‫‪ )(1‬أنوار البروق‪.3/211:‬‬

‫‪100‬‬
‫ثم فعل أزواج النبي ‪ ‬مثل ما فعلت‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها مخيرة اختارت النكاح‪ ،‬فلم يقع بها الطالق‪ ،‬كالمعتقة تحت عبد‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تق ع واح دة رجعي ة‪ ،‬وق د روي ذل ك عن علي والحس ن‪ ،‬وه و‬
‫رواية عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بان قوله اختاري كناية عن إيق اع الطالق ف إذا‬
‫أضافه إليها وقعت طلقة كقوله أنت بائن‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة عدم وقوع الطالق بالضرورة‪ ،‬ول و اعت بر ذل ك‬
‫طالقا لكان نساء النبي ‪ ‬كلهن مطلقات‪ ،‬وهو ما ال يقبل عقال وال شرعا‪.‬‬
‫ثم كيف يستجاز اعتبار التخيير كناية عن الطالق‪ ،‬والتخيير في أص ل داللت ه‬
‫كناية عن تمس ك ال زوج بزوجت ه ال بإرادت ه فراقه ا‪ ،‬فل و أراد فراقه ا لطلقه ا دون‬
‫الحاجة لرأيها‪.‬‬
‫صيغة قبول التخيير‪:‬‬
‫شدد الفقهاء في األلفاظ التي تدل على قبولها بالتوكي ل أو التخي ير‪ ،‬ح تى أنهم‬
‫قالوا‪ :‬ل و ق الت‪ :‬اخ ترت‪ ،‬ولم تق ل‪ :‬نفس ي لم تطل ق‪ ،‬وإن ن وت‪ ،‬ول و ق ال ال زوج‪:‬‬
‫اختاري ولم يقل‪ :‬نفسك‪ .‬ولم ينوه‪ ،‬لم تطلق‪ ،‬ما لم ت ذكر نفس ها‪ ،‬م ا لم يكن في كالم‬
‫الزوج أو جوابها ما يصرف الكالم إليه؛ ألن ذلك في حكم التفسير‪ ،‬ف إذا ع ري عن‬
‫ذلك لم يصح‪ ،‬بخالف قوله ا‪ :‬اخ ترت أهلي‪ .‬أو أب وي‪ ،‬فإن ه يق ع الطالق بش رط أن‬
‫تنويه؛ ألن هذا يصلح كناية من الزوج‪ ،‬فيما إذا قال‪ :‬الحقي بأهلك‪ .‬فكذلك منها‪.‬‬
‫ومن األلفاظ التي رفض الفقهاء قبولها احتياطا‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ لو قالت‪ :‬اخترت نفسي‪ ،‬فإن هذه الصيغة تفتقر إلى نيتها‪ ،‬ألنه لفظ كناي ة‬
‫منها‪ ،‬فإن نوى أحدهما دون اآلخر‪ ،‬لم يقع؛ ألن ال زوج إذا لم ين و فم ا ف وض إليه ا‬
‫الطالق‪ ،‬فال يصح أن يوقعه‪ ،‬وإن نوى ولم تنو هي‪ ،‬فق د ف وض إليه ا الطالق‪ ،‬فم ا‬
‫أوقعته‪ ،‬فلم يقع شيء‪ ،‬كما لو وكل وكيال في الطالق‪ ،‬فلم يطل ق‪ ،‬وإن نوي ا جميع ا‪،‬‬
‫وقع ما نوياه من العدد إن اتفقا فيه‪ ،‬وإن ن وى أح دهما أق ل من اآلخ ر‪ ،‬وق ع األق ل؛‬
‫ألن ما زاد انفرد به أحدهما‪ ،‬فلم يقع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لو قالت‪:‬قبلت‪ .‬لم يقع شيء؛ الحتمال انصرافه إلى قبول الوكالة‪ ،‬فلم يق ع‬
‫شيء‪ ،‬كما لو قال ألجنبي‪ :‬أمر امرأتي بيدك‪ .‬فقال‪ :‬قبلت‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ لو قالت‪ :‬أخذت أمري‪ ،‬ليس بشيء حتى تبين‪.‬‬
‫تكرار التخيير‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو كرر ال زوج لفظ ة الخي ار‪ ،‬فق ال‪ :‬اخت اري‪ ،‬اخت اري‪،‬‬
‫اختاري‪ ،‬وقبلت‪ ،‬هل تقع ثالثا أم واحدة على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إذا قبلت‪ ،‬وقع ثالثا؛ وهو ق ول الش عبي‪ ،‬والنخعي وأبي حنيف ة‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن اللفظة الواحدة تقتضي طلقة‪ ،‬ف إذا تك ررت اقتض ت‬
‫ثالثا‪ ،‬كلفظة الطالق‪ ،‬ألنه كرر ما يقع به الطالق‪ ،‬فتكرر‪ ،‬كما لو كرر الطالق‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه واحدة رجعي ة‪ ،‬وه و ق ول عط اء‪ ،‬وأبي ث ور ورواي ة عن‬
‫أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكرير التخيير ال يزيد به الخيار‪ ،‬كشرط الخيار في البيع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه يحتمل التأكيد‪ ،‬فإذا قصده قبل منه‪ ،‬كما لو قال‪ :‬أنت طالق الطالق‪.‬‬
‫توكيل غير الزوجة‬
‫اختلف الفقه اء في ج واز توكي ل ال زوج من ين وب عن ه في التطليق(‪ )1‬على‬
‫قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ع دم اعتب ار التوكي ل مطلق ا ص حة ونف وذا‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الظاهرية(‪ ،)2‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط‪ ،‬وحل عقد ثابت‪ ،‬ونقل ملك بلفظ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ال يج وز أن يتكلم أح د عن أح د إال حيث أوجب ذل ك نص‪ ،‬وال نص‬
‫على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن األصل أن ال يجوز قول أحد على غيره‪ ،‬وال حكم ه على غ يره لق ول‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى ﴾(األنع ام‪:‬‬ ‫هللا تعالى‪َ ﴿ :‬واَل تَ ْك ِسبُ ُك لُّ نَ ْف ٍ‬
‫س إِاَّل َعلَ ْيهَ ا َواَل تَ ِز ُر َو ِ‬
‫‪)164‬‬
‫القول الثاني‪ :‬جواز ذلك ونفوذه‪ ،‬وهو قول جمهور العلماء‪ ،‬وق د اختلف وا في‬
‫ذلك مثلما اختلفوا في توكي ل الزوج ة‪ ،‬ه ل ه و على ال دوام أم يبقى خاص ا بمجلس‬
‫التوكيل على ما ذكر س ابقا‪ ،‬إال أن الش افعي واف ق على ه ذا في ح ق غيره ا؛ ألن ه‬
‫توكيل‪ ،‬وقال الحنفية‪ :‬ذلك مقص ور على المجلس؛ ألن ه ن وع تخي ير‪ ،‬فأش به م ا ل و‬
‫قال‪ :‬اختاري‪ ،‬وقد سبق ذكر أدلة الفريقين‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول إغالق ا ألب واب الطالق وس دا‬
‫لمناف ذه وحرص ا على الحي اة الزوجي ة‪ ،‬وك ل ذل ك ت دل علي ه المقاص د الش رعية‪،‬‬
‫وتصرح به النصوص القطعية‪ ،‬فليس في النصوص ما ي دل على جع ل أم ر الحي اة‬
‫الزوجية بيد الغير‪.‬‬
‫فالطالق كالصالة ال تصح الوكالة فيها مطلقا‪ ،‬ألن التوكيل في الصالة ي ؤدي‬
‫إلى قطع الصلة بين العب د ورب ه‪ ،‬فك ذلك الطالق‪ ،‬ق د ي ؤدي التوكي ل في ه إلى قط ع‬
‫الصلة بين المرأة وزوجها‪ ،‬وقد يستغرب هذا القياس‪ ،‬ولكن األغرب منه ه و قي اس‬
‫الحي اة الزوجي ة على ال بيع والش راء والمعاوض ات المالي ة‪ ،‬ف أي ص لة بين الحي اة‬
‫الزوجية والحياة االقتصادية؟ وهل الزوجان سلعة وثمن؟ فلذلك كما يبع د م ا ذكرن ا‬
‫من قياس يبعد ما ذكروا منه‪.‬‬
‫ثم لماذا يلجأ الزوج للتوكيل‪ ،‬إن كان أخرس فتكفيه اإلش ارة‪ ،‬وإن ك ان بعي دا‬

‫‪ )( 1‬مثل قوله للموكل‪ :‬أمر امرأتي بيدك‪ ،‬أو جعلت لك الخيار في طالق امرأتي‪ ،‬طلق امرأتي‪.‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.7/91:‬‬

‫‪102‬‬
‫تكفيه الرسالة‪ ،‬فليس ل ه ع ذر يمنع ه من إيق اع الطالق بنفس ه‪ ،‬ب ل إن التكلف ة ال تي‬
‫يتكلفها للتكليف قد يغنيه ما هو أقل منها على أن يلي األمر بنفسه‪ ،‬فإنه س يبحث عن‬
‫الوكيل بشروطه الشرعية‪ ،‬ثم يوكله بصيغة شرعية‪ ،‬وفي كل ذلك تكليف ومشقة‪.‬‬
‫زيادة على ذلك أن التوكيل قد يصبح بابا من أبواب المساومة‪ ،‬فقد يقع الرجل‬
‫في ضائقة من الضوائق‪ ،‬فيلتف به من يعجب بزوجته أو يحسده على نعمته‪ ،‬فيجعل‬
‫إعانته موقوفة على توكيله أمر أسرته‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك كيف تستقر األسرة‪ ،‬وفي كل لحظة قد يأتي الوكيل ليخبر بأنه ق د‬
‫قرر قطع العالقة الزوجية‪.‬‬
‫إن تصور مثل هذا وغيره يكفي للق ول بع دم اعتب ار الوكال ة في ه ذا الب اب‪،‬‬
‫فإن رحمة الشريعة وعدلها وحفاظها على الحقوق تأبى كل ذلك‪ ،‬بل ما هو أدنى من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وفيما سنعرضه من أقوال الفقهاء دليل على أن الوكالة في الطالق ذريعة من‬
‫ذرائع الفساد تقتضي المصالح المعتبرة سدها‪.‬‬
‫صفات الوكيل‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أنه يصح توكيل كل من يصح طالقه لنفسه‪ ،‬فيص ح توكي ل‬
‫الكافر‪ ،‬ألنه ممن يصح طالقه لنفسه‪ ،‬فصح توكيله فيه‪ ،‬ويصح توكيله المرأة‪ ،‬ألن ه‬
‫يصح توكيلها في العتق‪ ،‬فصح في الطالق‪ ،‬وإن جعل ه في ي د ص بي يعق ل الطالق‪،‬‬
‫انبنى ذلك على صحة طالقه لزوجته‪ ،‬على ما مضى سابقا من الخالف بين العلم اء‬
‫في شأنه‪.‬‬
‫واختل ف الفقه اء ـ هن ا ـ في ج واز توكي ل من ليس ت ل ه أهلي ة التص رف‬
‫كالمجنون والصبي غير المميز على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يصح أن يجعل األمر بأيديهم‪ ،‬فإن فعل‪ ،‬فطلق واحد منهم‪ ،‬لم‬
‫يقع طالقه‪ ،‬وهو قول الجمهور‪،‬ألنهما ليسا من أهل التصرف‪ ،‬فلم يص ح تص رفهم‪،‬‬
‫كما لو وكلهم في العتق‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يصح أن يجعل األمر بأيديهم‪ ،‬وهو قول الحنفية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫إن ما ذكره الفقهاء في هذا دليل على ما ذكرنا سابقا من عدم اعتبار الوكال ة‪،‬‬
‫فكيف تستقر الحياة الزوجي ة بع د توكي ل الص بي والمجن ون والك افر‪ ،‬وكي ف يهن أ‬
‫عيش الزوجة‪ ،‬وهي تنتظر كل لحظة نوبة من نوبات المجنون تعي دها إلى أهله ا أو‬
‫ترمي بها في الشارع‪ ،‬أو نزوة من نزوات الصبي تدمر البيت على أهله‪.‬‬
‫إن وجود االختالف في مثل هذه المسائل نفسها ينافي المقاصد الشرعية‪ ،‬ألن‬
‫الحياة الزوجية مبينة على كلمة هللا وميثاقه الغليظ‪ ،‬فكيف توضع في أيد ال تعقل وال‬
‫تميز وال تقدر حق الميثاق الغليظ‪.‬‬
‫ولكن األساس في كل هذا هو القياس المب ني على ال وهم أك ثر من بنائ ه ع ل‬
‫الواقع‪ ،‬والمبني على الفروع أكثر من بنائه على األص ول‪ ،‬والمغلب للحرفي ة أك ثر‬

‫‪103‬‬
‫من تغليبه للمقاصدية‪.‬‬
‫توكيل اثنين‪:‬‬
‫نص الفقهاء على ج واز توكي ل اث نين في الطالق‪ ،‬وليس ألح دهما أن يطل ق‬
‫على انفراد‪ ،‬إال أن يجعل إليه ذلك؛ ألن ه إنم ا رض ي بتص رفهما جميع ا‪ ،‬واختلف وا‬
‫فيما لو طلق أحدهما واحدة‪ ،‬واآلخر ثالثا‪ ،‬فقيل بوقوعها واحدة ألنهم ا طلق ا جميع ا‬
‫واحدة‪ ،‬مأذونا فيها‪ ،‬فصح لو جعل إليهما واحدة‪ ،‬وقيل‪ :‬ال يقع شيء‪ ،‬وه و م ا ن راه‬
‫راجحا لما ذكرنا سابقا‪.‬‬
‫ما يخرج به الوكيل عن الوكالة‬
‫إكماال لما ذكرن ا من حكم الوكال ة وص فات الوكي ل ن ذكر هن ا م ا يخ رج ب ه‬
‫الوكي ل عن الوكال ة‪ ،‬وه و من األحك ام المهم ة‪ ،‬وهي وإن ك انت عام ة إال أن له ا‬
‫أهميتها الخاصة هنا‪ ،‬على األقل في تضييق الطالق عند من يق ول باعتب ار الوكال ة‬
‫في الطالق‪.‬‬
‫وقد نص الحنفية على أن الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء‪ ،‬منها(‪:)1‬‬
‫عزل الموكل إياه ونهيه‪:‬‬
‫باعتبار الوكالة عقدا غير الزم(‪ ،)2‬فهو عقد محتم ل للفس خ ب العزل والنهي‪،‬‬
‫ويشترط في العزل علم الوكيل به‪ ،‬ألن العزل فس خ للعق د‪ ،‬فال يل زم حكم ه إال بع د‬
‫العلم به‪ ،‬كالفسخ‪.‬‬
‫ويتحقق العزل بكل ما يدل عليه‪ ،‬فإذا عزل ه وه و حاض ر انع زل‪ ،‬ول و ك ان‬
‫غائبا فكتب إليه كتاب العزل‪ ،‬فبلغه الكتاب‪ ،‬وعلم بما في ه‪ ،‬انع زل؛ ألن الكت اب من‬
‫الغائب كالخطاب من الحاضر‪ ،‬ومثل ه ل و أرس ل إلي ه رس وال‪ ،‬فبل غ الرس الة‪ ،‬فإن ه‬
‫ينعزل كائنا ما كان الرسول عدال كان أو غير عدل‪ ،‬حرا كان أو عبدا‪ ،‬صغيرا كان‬
‫أو كبيرا‪ ،‬ألن الرسول قائم مقام المرسل معبر وس فير عن ه فتص ح س فارته بع د أن‬
‫صحت عبارته على أي صفة كان‪.‬‬
‫وإن أخبره بالعزل رجالن عدالن كانا أو غ ير ع دلين أو رج ل واح د ع دل‪،‬‬
‫ينعزل سواء صدقه الوكيل أو لم يص دقه إذا ظه ر ص دق الخ بر؛ ألن خ بر الواح د‬
‫مقبول في المعامالت‪ ،‬فإن لم يكن عدال فخبر الع دلين أو الع دل أولى‪ ،‬وق د اختلف وا‬
‫فيما لو أخبره واحد غير عدل على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن صدقه ينعزل‪ ،‬وإن كذبه ال ينعزل‪،‬ولو ظه ر ص دق الخ بر‪،‬‬
‫وهو قول أبي حنيفة‪ ،‬ألن اإلخبار عن العزل له ش به الش هادة؛ ألن في ه ال تزام حكم‬
‫المخ بر ب ه وه و الع زل‪ ،‬وه و ل زوم االمتن اع من التص رف‪ ،‬ول زوم العه دة فيم ا‬
‫يتصرف فيه بعد العزل‪ ،‬فأشبه الشهادة؛ فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدال ة أو‬
‫العدد‪.‬‬
‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪ ،6/37:‬المبسوط‪ ،19/131:‬المغني‪.5/72 ،5/53:‬‬
‫‪ )(2‬ومثله أن يتصرف الموكل بنفسه فيما وكل به قبل تصرف الوكيل‪ ،‬ألن تصرف الموك ل نفس ه يتض من‬
‫عزل الوكيل ; ألنه أعجزه عن التصرف فيما وكله به والوكيل بعد ما انعزل ال يعود وكيال‪ ،‬إال بتجديد التوكيل‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه‪ ،‬وهو قول صاحبي أبي‬
‫حنيف ة‪ ،‬ألن اإلخب ار عن الع زل من ب اب المع امالت‪ ،‬فال يش ترط في ه الع دد‪ ،‬وال‬
‫العدالة كما في اإلخبار في سائر المعامالت‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الق ول الث اني‪ ،‬لع دم الض رر من ت بين ك ذب‬
‫المخبر‪ ،‬بخالف المفسدة التي تترتب على صدقه إن كان صادقا‪.‬‬
‫لحاقه بدار الحرب مرتدا‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء(‪ )1‬في هذا على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يخرج به الوكيل عن الوكالة‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة‪ ،‬بن اء على‬
‫أن تصرفات المرتد موقوفة عنده‪ ،‬فك انت وكال ة الوكي ل موقوف ة أيض ا‪ ،‬ف إن أس لم‬
‫الموكل نفذت‪ .‬وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب‪ ،‬بطلت‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يخرج به الوكيل عن الوكالة‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن العدالة غير مشترطة فيه‪ ،‬ومثلها الدين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه يصح تصرفه لنفسه‪ ،‬فلم تبطل وكالته‪ ،‬كما لو لم يلحق بدار الحرب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الردة ال تمنع ابتداء وكالته فلم تمنع استدامتها‪ ،‬كسائر الكفر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬ألن ارت داده عن دين ه وف راره‬
‫لدار الحرب يجعله عدوا للمسلمين وتحرم مواالته‪ ،‬فكيف يوثق في مثله‪ ،‬ليوكل في‬
‫مثل هذا‪ ،‬بل ال يصح توكيله مطلق ا‪ ،‬ألن التوكي ل دلي ل الثق ة والم ودة‪ ،‬وق د ف رض‬
‫بغضه في هللا‪ ،‬وحرم توليه‪ ،‬أو إلقاء المودة إليه‪.‬‬

‫‪ )( 1‬وقد اتفقوا على أنه إن كان الموك ل ام رأة فارت دت‪ ،‬فالوكي ل على وكالت ه ح تى تم وت أو تلح ق ب دار‬
‫الحرب‪ ،‬ألن ردة المرأة ال تمنع نفاذ تصرفها ; ألنها ال تؤثر فيما رتب عليه النفاذ وهو الملك‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫من يقع عليها الطالق‬
‫نتناول في هذا الفصل الركن الثاني من أركان الطالق‪ ،‬وهو المحل الذي يقع‬
‫عليه الطالق‪ ،‬وهو أيضا يحت اج إلى ض بط وحص ر ح تى يتقي د الطالق في أض يق‬
‫األطر‪ ،‬وقد رأين ا أن ه ذه التقيي د يس تلزم ثالث ة ش روط خصص نا ك ل ش رط منه ا‬
‫بمبحث خاص‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تك ون المطلق ة زوج ة ثابت ة الزوجي ة‪ ،‬وق د يس تغرب أن يعت بر ه ذا‬
‫ش رطا‪ ،‬ولكن م ا س نذكره يزي ل الغراب ة‪ ،‬فمن الفقه اء من يوق ع الطالق ول و على‬
‫األجنبية‪ ،‬فتبين من زوجها يوم يدخل بها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تكون معينة بأي نوع من أنواع التعيين ال تي ت دل على أنه ا مقص ودة‬
‫بالذات‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يتم طالقها بالصفة السنية‪ ،‬ال البدعية‪.‬‬
‫وهذه الضوابط الثالثة التي سنتناولها في هذا الفص ل تحمي مراعاته ا من أن‬
‫يقع الطالق على من لم تقصد‪ ،‬ويضيق أبوابا من الطالق فتحها الناس على أنفسهم‪،‬‬
‫وأعانهم عليها بعض الفقهاء‪.‬‬
‫أوال ـ ثبوت الزوجية‬
‫ونقصد به أن المرأة التي يص ح إيق اع الطالق عليه ا ينبغي أن تك ون زوج ة‬
‫له‪ ،‬وقد عقد عليها بالفعل عقدا شرعيا معتبرا‪ ،‬وقد اختل ف الفقه اء في ه ذا اختالف ا‬
‫شديدا سنخصه بالتفصيل في هذا المبحث‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حكم طالق غير الزوجة‬
‫اتفق الفقهاء على أنه ال يقع الطالق على المرأة األجنبية إن كان تنجيزا‪ ،‬وق د‬
‫نقل اإلجماع على ذلك(‪ ،)1‬وهو ظ اهر‪ ،‬أم ا إن ك ان تعليق ا بالنك اح ك أن يق ول‪ :‬إن‬
‫نكحت فالنة‪ ،‬فهي طالق ففيه ثالث أقوال(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم وقوع الطالق مطلقا‪ ،‬وق د روي ه ذا عن ابن عب اس‪ ،‬وب ه‬
‫ق ال س عيد ابن المس يب‪ ،‬وعط اء‪ ،‬والحس ن‪ ،‬وع روة‪ ،‬وج ابر بن زي د‪ ،‬وس وار‬
‫والقاض ي‪ ،‬والش افعي وأب و ث ور‪ ،‬وابن المن ذر‪ ،‬ورواي ة عن أحمد(‪ ،)3‬وه و ق ول‬
‫اإلمامي ة والظاهري ة‪ ،‬ورواه الترم ذي عن علي‪ ،‬وج ابر بن عب د هللا‪ ،‬وس عيد بن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سبل السالم‪.3/179:‬‬


‫‪ )(2‬المدونة‪ ،2/71:‬األم‪ ،5/268 :‬المصنف البن أبي شيبة‪ 4/20:‬مشكل اآلثار‪ ،1/131 :‬المحلى ‪،9/199‬‬
‫المغني‪ ،9/415 :‬أنوار البروق‪ ،1/101 :‬الت اج واإلكلي ل‪ ،5/339 :‬ب دائع الص نائع‪ ،3/138 :‬ش رائع اإلس الم‪،3/5:‬‬
‫تبيين الحقائق‪.2/232 :‬‬

‫‪106‬‬
‫جبير‪ ،‬وعلي بن الحسين‪ ،‬وشريح‪ ،‬وغير واحد من فقهاء الت ابعين‪ ،‬ورواه البخ اري‬
‫عن اث نين وعش رين ص حابيا(‪ ،)1‬ق ال الترم ذي‪ :‬وه و ق ول أك ثر أه ل العلم‪ ،‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ت ث َّم طَلقتُ ُم وه َُّن ِم ْن‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قال هللا تعالى‪ ﴿:‬يَاأيُّهَا ال ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس رِّ حُوه َُّن َس َراحًا‬
‫َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪ ،)2( )49:‬وهي آية المسألة‪ ،‬وقد استدل بها الخلف والس لف‪ ،‬ق ال‬
‫ابن جريج‪ :‬بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول‪ :‬إن طلق ما لم ينكح فهو جائز؟ فقال‬
‫ابن عباس‪( :‬أخطأ في هذا إن هللا تعالى يقول‪ ﴿ :‬إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ﴾‬
‫ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات‪ ،‬ثم نكحتموهن)(‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ وقد ذكر ابن كثير من استدل من الس لف باآلي ة‪ ،‬فق ال‪ (:‬وق د اس تدل ابن‬
‫عب اس م ا وس عيد بن المس يب والحس ن البص ري وعلي بن الحس ين زين العاب دين‬
‫وجماعة من السلف به ذه اآلي ة على أن الطالق ال يق ع إال إذا تقدم ه نك اح‪ ،‬ألن هللا‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ﴾ فعقب النك اح ب الطالق‪ ،‬ف دل على‬ ‫تعالى قال‪ ﴿:‬إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫أن ه ال يص ح وال يق ع قبله(‪)4‬وذك ر ابن الج وزي اس تمرار الخل ف في االس تدالل‬
‫باآلية‪ ،‬فقال‪ (:‬واس تدل أص حابنا به ذه اآلي ة ألن ه جع ل الطالق بع د النك اح‪ ،‬وق ال‬
‫سماك بن الفضل النكاح عقدة والطالق يحلها فكيف يحل عقدة لم تعق د‪ ،‬فجع ل به ذه‬
‫الكلمة قاضيا على صنعاء)(‪)5‬‬
‫‪ 3‬ـ قال هللا تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن ﴾(الطالق‪:‬‬
‫‪ )1‬قال الشافعي بعد سرده لهذه اآليات‪( :‬لم أعلم مخالف ا في أن أحك ام هللا تع الى في‬
‫الطالق والظهار واإليالء ال تقع إال على زوجة ثابتة النكاح يح ل لل زوج جماعه ا)‬
‫(‪)6‬‬
‫‪ 4‬ـ ورود األحاديث التي يقوي بعض ها بعض ا‪ ،‬وال تي ت دل بمجموعه ا على‬

‫‪ )(3‬إذا قال‪ :‬إن اشتريت هذا الغالم فهو حر‪ .‬فاش تراه عت ق‪ ،‬وإن ق ال‪ :‬إن ت زوجت فالن ة فهي ط الق‪ .‬فه ذا‬
‫غير الطالق‪ ،‬ه ذا ح ق هلل تع الى‪ ،‬والطالق يمين‪ ،‬ليس ه و هلل تع الى‪ ،‬وال في ه قرب ة إلى هللا تع الى‪ ،‬انظ ر‪ :‬المب دع‪:‬‬
‫‪.7/324‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬فتح الباري‪.9/381:‬‬
‫‪ )( 2‬اختلف الفقهاء في االستدالل بهذه اآلية‪ ،‬فكل حملها على مراده‪ ،‬قال الجص اص‪ «:‬تن ازع أه ل العلم في‬
‫داللة هذه اآلية في صحة إيقاع طالق المرأة بشرط التزويج‪ ،‬وهو أن يقول‪ » :‬إن تزوجت امرأة فهي ط الق «‪ ،‬فق ال‬
‫قائلون‪ :‬قد اقتضت اآلية إلغاء هذا القول وإسقاط حكم ه ; إذ ك انت موجب ة لص حة الطالق بع د النك اح‪ ،‬وه ذا القائ ل‬
‫مطلق قبل النكاح‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬داللتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النك اح ; ألنه ا‬
‫حكمت بصحة وقوع الطالق بعد النكاح‪ ،‬ومن قال ألجنبية‪ :‬إذا تزوجتك فأنت طالق‪ ،‬فهو مطلق بعد النك اح ; ف وجب‬
‫بظاهر اآلية إيقاع طالقه وإثبات حكم لفظه‪ .‬انظر‪ :‬أحكام القرآن للجصاص‪.5/232:‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المحلى‪.10/207:‬‬
‫‪ )(4‬ابن كثير‪.3/499 :‬‬
‫‪ )(5‬زاد المسير‪.6/402:‬‬
‫‪ )(6‬األم‪.5/268:‬‬

‫‪107‬‬
‫عدم صحة الطالق قبل الزواج‪ ،‬قال ابن الجوزي‪ (:‬لنا ستة أح اديث (‪ ،)1‬ومن ه ذه‬
‫األحاديث وأقواها قوله ‪( ‬ال نذر البن آدم فيما ال يمل ك‪ ،‬وال عت ق فيم ا ال يمل ك‪،‬‬
‫وال طالق البن آدم فيما ال يملك) (‪ ،)2‬قال البيهقي‪ :‬أصح حديث في ه ح ديث عم رو‬
‫بن شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬قال الترمذي‪ :‬ه و أحس ن ش يء روي في ه ذا الب اب‪،‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬قال البخاري‪ :‬أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه‬
‫عن جده(‪.)3‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪ (:‬ال طالق وال عت اق فيم ا ال يمل ك ابن آدم وإن‬
‫عينها)(‪)4‬‬
‫ومنها ما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال ق ال لي عم لي‪ :‬اعم ل عمال ح تى‬
‫أزوجك ابنتي‪ ،‬فقلت‪ :‬إن تزوجتها فهي ط الق ثالث ا‪ ،‬ثم ب دا لي أن أتزوجه ا‪ ،‬ف أتيت‬
‫النبي ‪ ،‬فقال لي‪ :‬تزوجها فإنه ال طالق إال بعد نكاح‪ ،‬فتزوجتها فولدت لي أس عدا‬
‫وسعيدا‪ ،‬ومثله ما روي أن رجال أتى النبي ‪ ‬فقال‪ :‬يا رسول هللا إن أمي عرضت‬
‫على قرابة لي أتزوجها فقلت‪ :‬هي طالق ثالثا إن تزوجتها فقال الن بي ‪:‬ه ل ك ان‬
‫قبل ذلك من ملك قال‪ :‬ال قال‪ :‬ال بأس فتزوجها(‪.)5‬‬
‫ومنها ما روي عن ابن عمر قال عن رسول هللا ‪ ‬أنه سئل عن رج ل ق ال‪:‬‬
‫يوم أتزوج فالنة فهي طالق‪،‬قال‪ (:‬طلق ما ال يملك(‪)6‬‬
‫ومنها ما روي عن جابر قال‪ :‬قال رسول هللا ‪ (:‬ال طالق إال بعد نكاح وال‬
‫عتق إال بعد ملك) (‪ ،)7‬وقال ‪ (:‬ليس على رجل طالق فيما ال يملك (‪)8‬‬
‫‪ 5‬ـ ورود اآلث ار الكث يرة من الس لف على الق ول ب ذلك‪ ،‬وي دل على أن ه ذا‬
‫القول هو المفتى به في عهد الس لف م ا روي عن المن ذر ابن علي بن أبي الحكم أن‬
‫بن أخي ه خطب بنت عم ه‪ ،‬فتش اجروا في بعض األم ر فق ال الف تى‪ :‬هي ط الق إن‬
‫نكحتها حتى آكل الغضيض‪ [ ،‬قال‪ :‬والغضيض طلع النخ ل ال ذكر]‪ ،‬ثم ن دموا على‬
‫ما ك ان من األم ر‪ ،‬فق ال المن ذر‪ :‬أن ا آتيكم بالبي ان من ذل ك‪ ،‬ف انطلق إلى س عيد بن‬

‫‪ )(1‬التحقيق في أحاديث الخالف‪.2/289:‬‬


‫‪ )(2‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪ ،‬الترمذي‪ ،3/486 :‬الحاكم‪ ،2/222 :‬أحمد‪.2/190 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فتح الباري‪.9/381:‬‬
‫‪ )(4‬الدارقطني‪ ،4/17 :‬وقال‪ :‬يزيد بن عياض ضعيف‪ ،‬انظر‪ :‬الحقيق في أحاديث الخالف‪.12/290 :‬‬
‫‪ )(5‬الدارقطني‪ ،4/19:‬وانظر‪ :‬التحقيق في أحاديث الخالف‪.2/290:‬‬
‫‪ )(6‬الدارقطني‪.4/16 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه أبو يعلى وصححه الحاكم وهو معلول‪ ،‬وأخ رج ابن ماج ه عن المس ور بن مخرم ة مثل ه وإس ناده‬
‫حسن لكنه معلول أيضا‪ ،‬قال الحاكم‪ :‬أنا متعجب من الش يخين كي ف أهماله‪ ،‬لق د ص ح على ش رطهما من ح ديث ابن‬
‫عمر وعائشة وعبد هللا بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر‪ ،‬وهو معلول بما قاله ال دارقطني‪ :‬الص حيح مرس ل ليس في ه‬
‫جابر‪ ،‬قال يحيى بن معين‪ :‬ال يصح عن النبي ‪» ‬ال طالق قبل نكاح «‪ ،‬وقال ابن عبد ال بر‪ »:‬روي من وج وه إال‬
‫إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة «‪ ،‬سبل السالم‪.3/179:‬‬
‫‪ )(8‬أحمد‪.2/189 :‬‬

‫‪108‬‬
‫المسيب فذكر له‪ ،‬فقال ابن المسيب‪ :‬ليس عليه شيء‪ ،‬طلق م ا لم يمل ك ق ال‪ :‬ثم إني‬
‫سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك‪ ،‬ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فق ال مث ل‬
‫ذلك‪ ،‬ثم سألت أب ا بك ر بن عب د ال رحمن بن الح ارث بن هش ام فق ال مث ل ذل ك‪ ،‬ثم‬
‫سألت عبيد هللا بن عبد هللا بن عتب ة بن مس عود فق ال مث ل ذل ك‪ ،‬ثم س ألت عم ر بن‬
‫عب دا لعزي ز فق ال‪ :‬ه ل س ألت أح دا قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فس ماهم ق ال‪ :‬ثم رجعت إلى الق وم‬
‫فأخبرتهم(‪.)1‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ما روي من السلف من ثبوت الطالق محمول عل الكراهة‪ ،‬كما س ئل‬
‫القاسم وسالم عن رجل قال‪ :‬يوم أتزوج فالنة فهي ط الق ق اال‪ :‬هي كم ا ق ال‪ ،‬وعن‬
‫أبي أسامة عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأب ا‬
‫بكر بن محم د بن عم رو بن ح زم وعب د هللا بن عب د ال رحمن عن رج ل ق ال‪ :‬ي وم‬
‫أتزوج فالنة فهي طالق البتة فقالوا كلهم‪ :‬ال يتزوجها‪ ،‬قال ابن حجر‪ (:‬وهو محمول‬
‫على الكراه ة دون التح ريم‪ ،‬لم ا أخرج ه إس ماعيل القاض ي في أحك ام الق رآن أن‬
‫القاسم سئل عن ذلك فكرهه‪ ،‬فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك) (‪)2‬‬
‫‪ 7‬ـ أن القائل إن تزوجت فالنة فهي طالق مطل ق ألجنبي ة‪ ،‬وه و مح ال حين‬
‫الطالق‪ ،‬والمتجدد ه و نكاحه ا والنك اح ال يك ون طالق ا‪ ،‬فعلم أن ه ل و طلقت‪ ،‬فإنم ا‬
‫يكون ذلك استنادا إلى الطالق المتق دم معلق ا‪ ،‬وهي إذ ذاك أجنبي ة الص فة ال يجعل ه‬
‫متكلما بالطالق عن د وجوده ا‪ ،‬فإن ه عن د وجوده ا مخت ار للنك اح غ ير للطالق فال‬
‫يصح كما لو قال ألجنبية إن دخلت ال دار ف أنت ط الق ف دخلت وهي زوجت ه تطل ق‬
‫بغير خالف‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ عدم صحة القياس على نذر العتق‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن العتق له قوة وسراية وال يعتمد نفوذ الملك ألنه ينفذ في ملك‬
‫ويصح أن يكون الملك سببا لزواله بالعتق عقال وشرعا‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن العتق ومثله الن ذر قرب ة محبوب ة هلل تع الى‪ ،‬والتوس ل إلي ه‬
‫بكل وس يلة مفض ية إلى محبوب ه‪ ،‬بخالف الطالق فإن ه مبغض إلى هللا وه و أبغض‬
‫الحالل إليه ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببا إلزالته‪.‬‬
‫الوج ه الث الث‪ :‬أن تعلي ق العت ق بالمل ك من ب اب ن ذر الق رب والطاع ات‬
‫والتبرر‪ ،‬كقوله‪ :‬إن آتاني هللا من فضله ألتصدقن بكذا وكذا‪ ،‬فإذا وجد الشرط لزم ه‬
‫ما علقه به من المقصودة بخالف تعليق الطالق على الزواج‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬وق وع الطالق مطلق ا‪ ،‬وه و ق ول النخعي والش عبي ومجاه د‬
‫وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬وقول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد‪ ،‬فلم يفرق وا بين‬
‫من عم أو خص‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ 1‬ـ قال هللا تع الى‪﴿:‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمن وا إِذا نَكَحْ ت ْم ال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ت ث َّم طلقت ُم وه َُّن ِم ْن‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪ )(1‬فتح الباري‪.9/384:‬‬
‫‪ )(2‬فتح الباري‪.9/384:‬‬

‫‪109‬‬
‫قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس رِّ حُوه َُّن َس َراحًا‬
‫َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪ ،)49:‬وقد استدلوا باآلية من وجهين‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬نفي صحة االستدالل باآلية على ص حة الق ول األول‪ ،‬ق ال ابن‬
‫التين‪(:‬احتجاج البخاري بهذه اآلية على عدم الوقوع ال داللة في ه(وق ال ابن المن ير‪:‬‬
‫( ليس فيها دليل‪ ،‬ألنها إخبار عن صورة وق ع في ه الطالق بع د النك اح‪ ،‬وال حص ر‬
‫هناك‪ ،‬وليس في السياق ما يقتضيه) (‪)1‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬االستدالل باآلية على وقوع الطالق‪ ،‬قال الجص اص في بي ان‬
‫وجه االستدالل‪ (:‬داللتها ظاهرة في صحة ه ذا الق ول من قائل ه ول زوم حكم ه عن د‬
‫وجود النكاح‪ ،‬ألنها حكمت بصحة وقوع الطالق بعد النكاح‪ ،‬ومن ق ال ألجنبي ة‪ :‬إذا‬
‫تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح‪ ،‬فوجب بظاهر اآلية إيقاع طالقه وإثبات‬
‫حكم لفظه‪ ،‬وهذا القول هو الصحيح)(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَوْ فُ وا بِ ْال ُعقُو ِد ﴾(المائ دة‪،)1:‬فق د اقتض ى‬
‫ظاهر اآلية إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه‪ ،‬فلما ك ان ه ذا القائ ل عاق دا على‬
‫نفسه إيقاع طالق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه‪ ،‬ويدل عليه قوله ‪(:‬المسلمون‬
‫عند شروطهم)(‪ ،)3‬فقد أوجب ذلك أن كل من ش رط على نفس ه ش رطا أل زم حكم ه‬
‫عند وجود شرطه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن النصوص الواردة في الباب محمول ة على نفي التخي ير‪ ،‬ال على ع دم‬
‫وقوع الطالق‪ ،‬وهذا الحمل مأثور عن الس لف كالش عبي والزه ري وغيرهم ا‪ ،‬فعن‬
‫هشام بن سعد أنه قال البن شهاب‪ ،‬وهو ي ذاكره ه ذا النح و من الطالق‪ (:‬ألم يبلغ ك‬
‫أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬ال طالق قبل نكاح وال عت ق قب ل مل ك)‪ ،‬فق ال ابن ش هاب‪:‬‬
‫بلى قد قاله رسول هللا ‪ ،‬ولكن أنزلتم وه على خالف م ا أراد رس ول هللا ‪،‬إنم ا‬
‫هو أن يذكر الرجل للرجل المرأة‪ ،‬فيقال له تزوجه ا‪ ،‬فيق ول‪ :‬هي ط الق ألبت ة فه ذا‬
‫ليس بش يء‪ ،‬فأم ا من ق ال‪ :‬إن ت زوجت فالن ة فهي ط الق ألبت ة‪ ،‬فإنم ا طلقه ا حين‬
‫تزوجها‪ ،‬أو قال هي حرة إن اشتريتها‪ ،‬فإنما أعتقها حين اشتراها‪.‬‬
‫وروي عن الزه ري ك ذلك في ق ول عائش ة‪(:،‬ال طالق إال بع د نك اح) ق ال‬
‫الزهري‪ :‬وإنما تعني بذلك الرجل يقال له نزوجك فالنة‪ ،‬فيقول هي ط الق‪ ،‬فأم ا إذا‬
‫قال إن تزوجت فالنة فهي طالق لزم ه الطالق‪ ،‬ق ال في الدراي ة‪ (:‬وأخ رج ابن أبي‬
‫شيبة عن الشعبي والنخعي والزهري وسالم والقاسم وعمر بن عبد العزيز ومكحول‬
‫واألسود وأبي بكر بن حزم وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبد هللا بن عبد الرحمن في‬

‫‪ )(1‬فتح الباري‪.9/384:‬‬
‫‪ )(2‬أحكام القرآن للجصاص‪.5/232 :‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه الط برانى (‪ ،4/275‬رقم ‪ .)4404‬ق ال الهيثمى (‪ :)4/205‬في ه حكيم بن جب ير‪ ،‬وه و م تروك‪،‬‬
‫وقال أبو زرعة‪ :‬محله الصدق إن شاء هللا‪ .‬وأخرجه أيضا‪ :‬اإلسماعيلى (‪ ،)3/749‬وابن عدى (‪ 6/42‬ترجمة ‪1586‬‬
‫قيس بن الربيع)‬

‫‪110‬‬
‫قال)(‪)1‬‬
‫رجل قال إن تزوجت فالنة فهي طالق هو كما‬
‫‪ 4‬ـ رواية ذلك عن السلف‪ ،‬فقد رووا أن عمر قال في رج ل ق ال‪ :‬ك ل ام رأة‬
‫أتزوجها فهي طالق قال‪ :‬هو كما قال‪ ،‬ورووا أن رجال خطب ام رأة فق ال هي علي‬
‫كظه ر أمي إن تزوجته ا ف أمره عمر أن يتزوجه ا وال يقربه ا ح تى يكف ر كف ارة‬
‫الظهار‪ ،‬ورووا عن األسود أن ه ق ال إن ت زوجت فالن ة فهي ط الق فتزوجه ا ناس يا‬
‫فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطالق(‪.)2‬‬
‫‪ 5‬ـ اتفاق العلماء على أن النذر ال يصح إال في ملك‪ ،‬واعتبار أن من قال‪(:‬إن‬
‫رزقني هللا ألف درهم فلله علي أن أتصدق بمائة منها) أن ه ن اذر في ملك ه من حيث‬
‫أضافه إليه وإن لم يكن مالك ا في الح ال‪ ،‬فك ذلك الطالق إذا أض افه إلى المل ك ك ان‬
‫مطلقا‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ اتفاق العلماء على أن من قال لجاريته‪( :‬إن ولدت ولدا فه و ح ر) فحملت‬
‫بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في ح ال الق ول؛ ألن الول د مض اف إلى‬
‫األم التي هو مالكها‪ ،‬كذلك إذا أضاف الطالق إلى التزوج‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنه ال يخلو العاقد لهذا الق ول من أن يك ون مطلق ا في ح ال العق د‪ ،‬أو في‬
‫حال اإلضافة ووجود الشرط‪ ،‬فلما اتف ق الجمي ع على أن من ق ال المرأت ه‪ :‬إذا بنت‬
‫مني وصرت أجنبية فأنت ط الق أن ه موق ع للطالق في ح ال اإلض افة‪ ،‬ال في ح ال‬
‫القول‪ ،‬وأنه بمنزلة من أبان امرأته‪ ،‬ثم قال له ا‪ :‬أنت ط الق‪ ،‬فس قط حكم لفظ ه‪ ،‬ولم‬
‫يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها‪ ،‬صح أن االعتبار بح ال اإلض افة دون ح ال‬
‫العقد‪ ،‬فإن القائل لألجنبية‪ :‬إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطالق بعد الملك‪.‬‬
‫القول الث الث‪ :‬التفري ق بين التخص يص والتعميم‪ ،‬فيق ع الطالق بالتخص يص‬
‫وال يقع بالتعميم‪ ،‬فمن حلف بطالق من يتزوج إن لم يسم قبيلة أو يعين ام رأة أن ه ال‬
‫شيء عليه‪ ،‬إال إذا سد على نفس ه ب اب االس تمتاع فال يلزم ه ش يء‪ ،‬أم ا إذا لم يس د‬
‫على نفسه باب االستمتاع فإنه يلزمه ذلك(‪ ،)3‬وه و م ذهب مال ك‪ ،‬وب ه ق ال النخعي‬
‫والش عبي واألوزاعي‪ ،‬وق د اس تدلوا على ذل ك زي ادة على م ا س بق ذك ره من أدل ة‬
‫القول الثاني مارواه مالك أنه بلغه أن عبد هللا بن مس عود ك ان يق ول فيمن ق ال‪ :‬ك ل‬
‫امرأة أنكحها فهي ط الق أن ه إذا لم يس م قبيل ة أو ام رأة بعينه ا فال ش يء علي ه ق ال‬
‫مالك‪ :‬وهذا أحسن ما سمعت‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و م ا ذهب إلي ه أص حاب الق ول األول‪ ،‬فه و‬
‫الذي تدل علي ه النص وص‪ ،‬وتقتض يه المقاص د الش رعية من تض ييق ب اب الطالق‬

‫‪ )(1‬الدراية‪.2/72:‬‬
‫‪ )(2‬انظر هذه اآلثار بأسانيدها وتخريجها في أحكام القرآن للجصاص‪.5/235:‬‬
‫‪ )(3‬وهو أن يقول مثال‪ :‬إن تزوجت امرأة من قبيلة كذا‪ ،‬أو يضيف ذلك إلى بلد فيق ول‪ ::‬إن ت زوجت ام رأة‬
‫من مصر أو تزوجت امرأة بالشام‪ ،‬أو يضيف ذلك إلى زمن ال يستوعب عم ره أو أك ثر مث ل أن يق ول‪ :‬إن ت زوجت‬
‫هذا العام أو هذه العشرة األعوام فمثل هذا يلزمه ; ألنه لم يسد على نفسه باب االستمتاع‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ومنع التالعب به‪ ،‬وفيما ذكرنا من أدلة القول ما يكفي للداللة على هذا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ طالق الزوجة من زواج فاسد‬
‫اتفق الفقهاء على أنه ال يقع الطالق في نك اح باط ل إجماع ا‪ ،‬كنك اح خامس ة‬
‫وأخت على أختها(‪ ،)1‬واختلفوا في النكاح الفاسد المختلف فيه على قولين‪:‬‬
‫القول األول(‪ : )2‬أن التفريق في النكاح الفاسد إما أن يكون بتفريق القاضي أو‬
‫بمتاركة الزوج‪ ،‬وهو قول الحنفية والشافعية‪ ،‬وأن هذا التفريق ليس بطالق‪.‬‬
‫وقد نص الحنفية على أنه ال يتحقق الطالق في النكاح الفاسد‪ ،‬بل هو متارك ة‬
‫فيه وال تحقق للمتاركة إال بالقول إن كانت مدخوال بها‪ ،‬كقول ه‪ :‬تاركت ك أو تاركته ا‬
‫أو خليت سبيلك أو خليت سبيلها أو خليتها‪.‬‬
‫أما غير المدخول بها فتتحق ق المتارك ة ب القول وب الترك عن د بعض هم وه و‬
‫تركها على قصد أن ال يعود إليها‪ ،‬وعند البعض ال تكون المتاركة إال ب القول فيهم ا‬
‫حتى لو تركها ومضى على عدتها سنون لم يكن لها أن تتزوج بآخر‪ ،‬وإنكار الزوج‬
‫النكاح إن كان بحضرتها فهو متاركة وإال فال كإنكار الوكيل الوكالة‪.‬‬
‫أما علم غير المتارك ة بالمتارك ة‪ ،‬فق د اختل ف في ه‪ ،‬فقي ل إن ه ش رط لص حة‬
‫المتاركة حتى لو لم يعلمها ال تنقضي عدتها‪ ،‬وقيل‪ :‬إن علم المرأة في المتاركة ليس‬
‫واختلفوا في ثبوت المتاركة من المرأة فقيل‪:‬إن المتارك ة ال تك ون من الم رأة‬
‫أصال كما قيده الزيلعي بالزوج‪ ،‬وقي ل‪ :‬إن لك ل واح د منهم ا أن يس تبد بفس خه قب ل‬
‫الدخول وبعده‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن وقوع الطالق يختص بنكاح صحيح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ليس بطالق حقيقة إنما هو فسخ‪.‬‬
‫وقد ك ان ه ذا الق ول من الط رق ال تي تحل ل به ا الم رأة إلى زوجه ا‪ ،‬وذل ك‬
‫ب البحث في مفس د من مفس دات ال زواج على م ذهب من الم ذاهب‪ ،‬ثم الحكم بع دم‬
‫وقوع الطالق لذلك‪ ،‬وكمثال على الفتاوى في ذلك ما سئل شهاب الدين الرملي عم ا‬
‫لو طلقها ثالثا‪ ،‬ثم اتفقا على عدم شرط من شروط النك اح ولم يقب ل إقرارهم ا‪ ،‬ف إذا‬
‫قبلها الحاكم وحكم بفساد العقد هل تح ل لل زوج بال محل ل أو ال؟ فأج اب بأن ه يح ل‬
‫لمطلقها نكاحها بال محلل لوجود الحكم بفس اد النك اح في ترتب علي ه جمي ع مقتض اه‬
‫(‪.)3‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬وق وع الطالق في النك اح الفاس د المختل ف في ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية والحنابلة‪ ،‬فقد سئل ابن القاسم‪:‬طلق قبل أن يفسخ نكاحه‪ ،‬أيقع طالقه عليها‪،‬‬
‫وهو إنما هو نكاح ال يقر على حال؟ فقال‪ :‬لم أسمع من مالك فيه ش يئا وأرى أن ه ال‬
‫يقع طالقه ألن الفسخ فيه يكون طالقا ق ال‪ :‬وذل ك إن ك ان ذل ك النك اح حرام ا ليس‬

‫‪ )(1‬كشاف القناع‪.5/237:‬‬
‫‪ )(2‬تيببن الحقائق‪ ،2/153:‬الفتاوى الهندية‪ ،1/330:‬الجوهرة النيرة‪.2/78:‬‬
‫‪ )(3‬فتاوى الرملي‪.3/176:‬‬

‫‪112‬‬
‫مما اختلف الناس فيه‪ ،‬فأما ما اختلف الناس فيه حتى يأخذ به قوم ويكرهه ق وم ف إن‬
‫المطلق يلزم ه م ا طل ق في ه وق د فس رت ه ذا قب ل ذل ك ويك ون الفس خ في ه عن دي‬
‫تطليقة(‪)1‬‬
‫وقد بين الشيخ عليش وجه استدالل من قال بوقوع الطالق‪ ،‬فق ال إجاب ة على‬
‫سؤال نصه‪ (:‬أن الرج ل إذا طل ق زوجت ه طالق ا مختلف ا في ه في الم ذهب أو غ يره‬
‫بالبينونة‪ ،‬والرجعة‪ ،‬ثم بعد ذلك أوقع الثالث فهل يلحق به نظرا للمخالف كمن طلق‬
‫في نكاح مختلف فيه‪ ،‬ويكون محل قولهم البائن ال يرتدف عليه غيره إذا ك ان متفق ا‬
‫عليه أو ال؟)‬
‫فأجاب‪(:‬نعم يلحق به نظرا للمخالف واستحس انا‪ ،‬واحتياط ا للف روج إذا ك ان‬
‫اإلرداف في العدة)(‪)2‬‬
‫وقد نص الحنابلة على أنه ال يك ون الطالق في نك اح مختل ف في ه ب دعيا في‬
‫حيض‪ ،‬فيجوز فيه وال يسمى طالق بدعة؛ ألن الفاس د ال تج وز اس تدامته كابتدائ ه‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول بن اء على م ا س بق ذك ره من‬
‫تض ييق دائ رة الطالق م ا أمكن‪ ،‬وألن الزوج ة من زواج فاس دة ال تعت بر زوج ة‬
‫حقيقية‪ ،‬ألن الزوجة الحقيقية هي التي تستقر معاش رتها م ع زوجه ا‪ ،‬وال تطل ق إال‬
‫برغبت ه أو بأس باب التفري ق المش روعة‪ ،‬وليس في ال زواج الفاس د ك ل ذل ك‪ ،‬فه و‬
‫تفريق بغير رغبته وال رغبة زوجت ه‪ ،‬فل ذلك ك ان األص لح لهم ا ع دم اعتب ار ذل ك‬
‫التفريق طالقا حتى إذا ما صححا العقد وتزوجا زواجا صحيحا خلت ذمتهما من أي‬
‫طلقة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إضافة الطالق إلى بعض أجزاء المرأة‬
‫تكلم الفقهاء في تبعيض الطالق وتجزئته من ناحيتين‪:‬‬
‫الناحية األولى‪ :‬إذا طلق جزءا من طلقة‪ ،‬وس نعرض له ا في محله ا الخ اص‬
‫من صيغة الطالق‪.‬‬
‫الناحية الثانية‪ :‬إذا طلق جزءا منها‪ ،‬وه و ال ذي س نتحدث عن ه هن ا لعالقت ه‬
‫بالزوجة‪،‬ألن السؤال الذي يرد بعد معرفة ثبوت الزوجي ة ه و ه ل الزوجي ة تتعل ق‬
‫بجميع المرأة أم أنه يصح تعليقها على بعض أجزائها‪.‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء هنا على أنه إن أض اف الطالق إلى الري ق وال دمع والع رق‬
‫والحمل لم تطلق‪ ،‬قال ابن قدامة‪ (:‬ال نعلم فيه خالفا)؛ ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذه ليست من جسمها وإنما الريق والدمع والعرق فضالت تخرج من‬

‫‪ )(1‬المدونة‪.2/121:‬‬
‫‪ )(2‬فتح العلي المالك‪.2/9:‬‬
‫‪ )(3‬مطالب أولي النهى‪.5/327:‬‬

‫‪113‬‬
‫جسمها فهو كلبنها‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ أن الحمل مودع فيها‪ ،‬وليس جزءا منها‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬وهُ َو ال ِذي‬
‫ص ْلنَا اآْل يَ ا ِ‬
‫ت لِقَ وْ ٍم يَ ْفقَهُ ون﴾(األنع ام‪:‬‬ ‫ع قَ ْد فَ َّ‬ ‫أَن َشأ َ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫س َوا ِح َد ٍة فَ ُم ْستَقَ ٌّر َو ُم ْستَوْ َد ٌ‬
‫‪ )98‬قيل‪ :‬مستودع في بطن األم‪.‬‬
‫وقد اختلفوا فيما لو طلق ال زوج من الم رأة ج زءا من أجزائه ا الثابت ة‪ ،‬على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يقع بذلك الطالق‪ ،‬سواء كان ما طلق ه ج زءا ش ائعا كنص فها أو‬
‫سدسها أو جزءا من ألف جزء منها أو جزءا معينا كيدها أو رأسها أو أصبعها‪،‬وهو‬
‫قول الحسن ومذهب الشافعي وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك(‪.)1‬‬
‫ففي المدونة أرأيت الرج ل إن ق ال‪ :‬المرأت ه ي دك ط الق أو رجل ك ط الق أو‬
‫إصبعك طالق؟ قال‪ :‬لم أسمع من مالك فيه شيئا‪ ،‬وأرى أنه إذا طل ق ي دا أو رجال أو‬
‫ما أشبه ذلك فهي طالق كلها وكذلك الحرية(‪)2‬‬
‫وفي األم‪ ،‬قال الشافعي‪ :‬وإذا قال الرجل المرأته بدنك أو رأسك أو فرجك أو‬
‫رجلك أو يدك أو سمى عضوا من جسدها أو إصبعها أو طرفا م ا ك ان منه ا ط الق‬
‫فهي طالق‪ ،‬ولو قال لها بعضك طالق أو جزء منك ط الق أو س مى ج زءا من أل ف‬
‫جزء طالقا كانت طالقا والطالق ال يتبعض وإذا قال لها أنت طالق نصف أو ثلث أو‬
‫ربع تطليقة أو جزءا من ألف جزء كانت طالقا والطالق ال يتبعض(‪.)3‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ذل ك على س يل االحتي اط‪ ،‬ق ال الع ز بن عب د الس الم‪ (:‬إذا طل ق من‬
‫امرأت ه ج زءا معين ا أو ش ائعا س رى الطالق إلى بقيته ا احتياط ا لألبض اع بخالف‬
‫األوقاف والصدقات‪ ،‬فإن التصرف فيها مقصور على محله) (‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه أض اف الطالق إلى ج زء ث ابت اس تباحه بعق د النك اح فأش به الج زء‬
‫الشائع واألعضاء الخمسة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه أضاف الطالق إلى جزء مستمتع به منها بعق د النك اح‪ ،‬فيق ع الطالق‬

‫‪ )(1‬اختلف المالكية في الشعر‪ ،‬والكالم على قولين‪:‬‬


‫القول األول‪ :‬تعليق الطالق أو العتق بالشعر غير الزم وكذلك الكالم‪ ،،‬وكذلك من قال سعالك علي حرام‪ ،‬وهو‬
‫قول سحنون ورواه ابن المواز عن ابن عبد الحكم‪ ،‬ألنه مما ال تحله الحياة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه الزم‪ ،‬وقد روي عن أشهب‪ ،‬ألنه مما يقع ب ه االلت ذاذ على وج ه االس تمتاع‪ ،‬فأش به الوج ه‪،‬‬
‫واليدين‪ ،‬انظر‪ :‬المنتقى‪ ،4/6:‬قال ابن العربي‪ »:‬فأما إذا قال له ا‪ :‬كالم ك ط الق ; فال إش كال في ه‪ ،‬ف إن الكالم ح رام‬
‫سماعه‪ ،‬فهو من محلالت النكاح فيلحقه الطالق« أحكام القرآن البن العربي‪.1/651:‬‬
‫واختلف وا في إض افة الطالق إلى ال روح‪ ،‬وه و نفس الخالف عن د الش افعية‪ ،‬ق ال ابن الع ربي‪ »:‬وأم ا ال روح‬
‫والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق‪ ،‬فوجه وقوع الطالق بتعليقه عليهما خفي‪ ،‬وهو أن بدنها الذي فيه المتاع ال ق وام ل ه‬
‫إال بالروح والحياة‪ .‬وهو باطن فيها ; فكأنه قال لها‪ :‬باطنك طالق‪ ،‬فيسري الطالق إلى ظاهرها فإنه إذا تعل ق الطالق‬
‫بشيء منها سرى إلى الباقي» أحكام القرآن‪.1/651:‬‬
‫‪ )(2‬المدونة‪.2/69:‬‬
‫‪ )(3‬األم‪.5/200:‬‬
‫‪ )(4‬قواعد األحكام‪.2/90:‬‬

‫‪114‬‬
‫كالوجه والرأس‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن مبنى الطالق على الغلبة والسراية فإذا أوقعه على جزء منها‪ ،‬يس ري‬
‫إلى جميعها كالجزء الشائع‪ ،‬وبه فارق النكاح فإنه غير مبني على الس راية وله ذا ال‬
‫تصح إضافته إلى جزء شائع‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الحل والحرمة إذا اجتمعا في المحل يترجح جانب الحرمة في االبتداء‬
‫واالنتهاء‪ ،‬والدليل علي ه أن ه ل و ق ال له ا‪ :‬أنت ط الق ش هرا‪ ،‬يق ع مؤب دا ول و ق ال‪:‬‬
‫تزوجتك شهرا‪ ،‬لم يصح النكاح فيجعل ذكر جزء منه ا ك ذكر ج زء من الزم ان في‬
‫الفصلين‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنها جملة ال تتبعض في الح ل والحرم ة وج د فيه ا م ا يقتض ي التح ريم‬
‫واإلباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل صيد‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن قياس هم ال يص ح‪ ،‬ألن ه الش عر والظف ر ليس بث ابت فإنهم ا ي زوالن‬
‫ويخرج غيرهما وال ينقض مسهما الطهارة‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن ه إن أض افه إلى ج زء ش ائع أو واح د من أعض اء خمس ة؛‬
‫الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج(‪ )1‬طلقت‪ ،‬وإن أضافه إلى جزء معين غ ير‬
‫هذه الخمسة لم تطلق‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬وقد قيدوا ذلك بما لو قص د ب الجزء الك ل‪،‬‬
‫ق ال السرخس ي‪ (:‬ل و ق ال له ا‪ :‬رأس ك ط الق‪ ،‬ك انت طالق ا ال بإض افة الطالق إلى‬
‫الرأس بعينه‪ ،‬فإنه لو قال‪ :‬الرأس منك طالق أو وض ع ي ده على رأس ها وق ال‪ :‬ه ذا‬
‫العضو منك طالق‪ ،‬ال يقع شيء ولكن باعتبار أن الرأس يع بر ب ه عن جمي ع الب دن‬
‫يقال هؤالء رءوس القوم‪ ،‬ومع اإلضافة إلى الشخص أيضا يعبر به عن جميع البدن‬
‫يقول الرجل‪ :‬أمري حسن ما دام رأسك أي ما دمت باقيا(‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء فَطَلِّقُ وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪:‬‬
‫‪ ،)1‬أمر هللا تعالى بتطليق النساء‪ ،‬والنساء جمع المرأة والمرأة اسم لجميع أجزائه ا‪،‬‬
‫واألمر بتطليق الجملة يكون نهيا عن تطليق جزء منها ال يعبر به عن جميع الب دن؛‬
‫ألن ه ت رك لتطلي ق جمل ة الب دن‪ ،‬واألم ر بالفع ل نهي عن ترك ه والمنهي ال يك ون‬
‫مشروعا فال يصح شرعا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الوجه يعبر به عن جميع البدن يقول الرج ل لغ يره‪ :‬ي ا وج ه الع رب‪،‬‬
‫وكذلك الجس د والب دن والرقب ة والعن ق يع بر به ا عن جمي ع الب دن ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫خَاض ِعين﴾‬
‫ِ‬ ‫ت أَ ْعنَ اقُهُ ْم لَهَ ا‬ ‫﴿ فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ﴾(النس اء‪ )92:‬وق ال هللا تع الى‪ ﴿:‬فَظَلَّ ْ‬
‫(الشعراء‪ ،)4:‬وكذلك الروح يعبر بها عن جميع البدن فصار هو بهذا اللف ظ مض يفا‬
‫الطالق إلى جميعها فكأنه قال‪ :‬أنت طالق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن سائر األعضاء ليست بمحل إلضافة النكاح إليها‪ ،‬فكذلك الطالق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ه ذه األعض اء تب ع في حكم النك اح والطالق‪ ،‬وله ذا ص ح النك اح‬
‫‪ )(1‬ل و أض اف الطالق إلى دبره ا ال يق ع ; ألن ال دبر ال يع بر ب ه عن جمي ع الب دن بخالف الف رج‪ ،‬ب دائع‬
‫الصنائع‪.3/144:‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/89:‬‬

‫‪115‬‬
‫والطالق وإن لم يكن لها أصبع‪ ،‬ويبقى بعد فوات األصبع‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن ذكر التبع‪ ،‬ال يصير األص ل م ذكورا وإذا ك ان تبع ا‪ ،‬ال يك ون مح ل‬
‫اإلضافة التصرف إليه‪ ،‬والسراية إنما تتحقق بعد صحة اإلضافة‪ ،‬ولذلك فإن وق وع‬
‫الطالق بذكر الوجه والرأس ليس بطري ق الس راية‪ ،‬ب ل باعتب ار داللته ا عن جمي ع‬
‫البدن‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه ال يمكن تصحيح الكالم هنا بطريق اإلض مار‪ ،‬وه و أن يق دم اإليق اع‬
‫على البدن لتصحيح كالمه؛ ألنه لو كان هذا كالما مستقيما‪ ،‬لصح إضافة النكاح إلى‬
‫اليد بهذا الطريق‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن المقتضى تبع للمقتضي‪ ،‬وجعل األصل تبع ا لألص بع متع ذر فله ذا ال‬
‫يصح بطريق االقتضاء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن الطالق منص رف إلى الزوج ة‪ ،‬وأج زاء‬
‫الزوجة ال تعبر عنها بالضرورة‪.‬‬
‫ثانيا ـ تعيين المطلقة‬
‫‪ 1‬ـ طرق تعيين المطلقة‬
‫اتفق الفقهاء على اشتراط تعيين المطلق ة‪ ،‬وق د اتفق وا على أن ط رق التع يين‬
‫كلها يقع بها الطالق‪ ،‬وقد خصوا بالتفصيل ثالث ة ط رق هي‪ :‬اإلش ارة‪ ،‬والوص ف‪،‬‬
‫والنية‪ ،‬فأيها قدم جاز‪ ،‬ولعالقة هذه الطرق ببعضها حالتان‪:‬‬
‫توافق طرق التعيين‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه لو عين المطلق ة باإلش ارة والص فة والني ة وق ع الطالق‬
‫على المعينة‪ ،‬كأن قال لزوجته التي اس مها ليلى مش يرا إليه ا‪ :‬ي ا ليلى‪ ،‬أنت ط الق‪،‬‬
‫قاصدا طالقها‪ ،‬فإنها تطلق باالتفاق‪ ،‬لتمام التعيين بذلك‪.‬‬
‫ف إن أش ار إلى واح دة من نس ائه دون أن يص فها بوص ف‪ ،‬ولم ين و غيره ا‪،‬‬
‫وقال لها‪ :‬أنت طالق‪ ،‬وقع الطالق عليها‪ ،‬ألن اإلشارة كافية للتعيين‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما لو وصفها بوصفها دون إشارة ودون قصد غيرها‪ ،‬فإنها تطل ق‬
‫أيضا‪ ،‬كما إذا قال‪ :‬ليلى طالق‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما لو نوى واح دة من نس ائه‪ ،‬ولم يش ر إليه ا ولم يص فها‪ ،‬كم ا إذا‬
‫قال‪ :‬إحدى نسائي طالق‪ ،‬ونوى واحدة منهن‪ ،‬فإنه ا تطل ق دون غيره ا‪ ،‬وك ذلك ل و‬
‫قال‪ :‬امرأتي طالق‪ ،‬وليس له غير زوجة واحدة‪ ،‬فإنها تطلق‪.‬‬
‫تعارض طرق التعيين‪:‬‬
‫ولها صور كثيرة‪ ،‬مثل أن ينوي خالف ما يتلفظ‪ ،‬أو يشير خالف ما يص ف‪،‬‬
‫ك أن يش ير إلى واح دة من نس ائه‪ ،‬ويس مي غيره ا‪ ،‬ومث ال ذل ك أن يق ول إلح دى‬
‫زوجاته واسمها سلمى‪ :‬أنت يا ليلى ط الق‪ ،‬وك انت األخ رى اس مها ليلى‪ ،‬وس نذكر‬
‫هن ا آراء الم ذاهب الفقهي ة في المس ألة لك ثرة التفاص يل بين الم ذاهب المختلف ة‪ ،‬ثم‬

‫‪116‬‬
‫نعقبها ببيان األقوال العامة في المسألة‪:‬‬
‫مذهب الحنفية‪:‬‬
‫نص الحنفية(‪ )1‬على أنه لو قال‪ :‬يا زينب‪ ،‬فأجابت ه عم رة؛ فق ال‪ :‬أنت ط الق‬
‫ثالثا طلقت التي أجابته‪ ،‬ألن ه أتب ع اإليق اع الج واب فيص ير مخاطب ا للمجيب ة‪ ،‬وإن‬
‫قال‪ :‬أردت زينب قلنا تطلق زينب بقص ده‪ ،‬ولكن ه ال يص دق في ص رف الكالم عن‬
‫ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما ل و ق ال‪ :‬زينب ط الق‪ ،‬ول ه ام رأة معروف ة‬
‫بهذا االسم تطلق‪ ،‬فإن قال‪ :‬لي امرأة أخرى بهذا االسم تزوجتها سرا‪ ،‬وإياها ع نيت‬
‫قلنا تطلق تلك بنيته‪ ،‬والمعروفة بالظاهر‪.‬‬
‫ولو قال‪ :‬يا زينب أنت ط الق ولم يجب ه أح د طلقت زينب؛ ألن ه أتب ع اإليق اع‬
‫النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب‪.‬‬
‫وإن قال المرأته يشير إليها‪ :‬يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة‪،‬‬
‫إن كانت امرأته‪ ،‬وإن لم تكن امرأته‪ ،‬لم تطل ق زينب؛ ألن التعري ف باإلش ارة أبل غ‬
‫من التعريف باالسم‪ ،‬فإن التعريف باإلشارة يقطع الشركة من كل وجه‪ ،‬وباالسم ال‪،‬‬
‫فكان هذا أقوى‪ ،‬وال يظهر الضعيف في مقابل ة الق وي؛ فك ان ه و مخاطب ا باإليق اع‬
‫لمن أشار إليها خاصة‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬يا زينب أنت طالق‪ ،‬ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها‬
‫زينب‪ ،‬وهي غيرها طلقت زينب في القضاء؛ ألنه بنى اإليقاع على التعريف باالسم‬
‫هن ا فإنم ا يق ع على المس ماة‪ ،‬وال معت بر بظن ه؛ ألن التعري ف ال يحص ل ب ه في‬
‫الظاهر‪ ،‬والقاضي مأمور باتباع الظاهر‪ ،‬فأما فيما بينه وبين هللا تعالى ال تطلق هي‬
‫وال األخرى؛ ألنه عناها بقلب ه‪ ،‬وهللا تع الى مطل ع على م ا في ض ميره فيمن ع ذل ك‬
‫اإليقاع على زينب التي لم يعنه ا بقلب ه‪ ،‬وعلى ال تي عناه ا بقلب ه؛ ألن ه لم يخاطبه ا‬
‫بلسانه حين أتبع الخطاب النداء‪.‬‬
‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫نص الشافعية على طالق المجيب ة في األص ح‪ ،‬أم ا المن اداة فلم تطل ق‪ ،‬وفي‬
‫قول آخر لم تطلقا‪ ،‬ولو قال الرجل لزوجته وأجنبية معه ا‪ :‬إح داكما ط الق‪ ،‬ثم ق ال‪:‬‬
‫قصدت األجنبية‪ ،‬قبل قوله في األصح لدى الش افعية‪ ،‬الحتم ال كالم ه ذل ك ولك ون‬
‫األجنبي ة من حيث الجمل ة قابل ة ‪ -‬أي للطالق ‪ -‬فتق دم الني ة‪ ،‬وفي ق ول آخ ر تطل ق‬
‫زوجت ه‪ ،‬ألنه ا مح ل الطالق دون الثاني ة‪ ،‬فال يص رف قول ه إلى قص ده‪ ،‬للقاع دة‬
‫الفقهية الكلي ة‪ :‬إعم ال الكالم أولى من إهمال ه‪ ،‬ف إن لم يكن ل ه قص د أص ال‪ ،‬طلقت‬
‫زوجته قوال واحدا للقاعدة السابقة‪ ،‬فلو قال لزوجته ورجل‪ :‬أح دكما ط الق‪ ،‬وقص د‬
‫الرجل‪ ،‬بطل قصده‪ ،‬وطلقت زوجته‪ ،‬ألن الرجل ليس محل الطالق أصال‪ .‬ولو ق ال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المبسوط‪.6/121 :‬‬

‫‪117‬‬
‫إلحدى زوجتي ه‪ :‬إح داكما ط الق إن فعلت ك ذا‪ ،‬ثم فع ل المحل وف علي ه بع د م وت‬
‫إحداهما‪ ،‬تعينت الثانية الحية للطالق‪ ،‬طلقت(‪.)1‬‬
‫مذهب المالكية‪:‬‬
‫نص المالكية على لو كان له زوجتان‪ :‬س لمى وعم رة‪ ،‬ف دعا س لمى فأجابت ه‬
‫عمرة‪ ،‬فظنها سلمى فطلقها‪ ،‬طلقت سلمى ديان ة وقض اء عن د المالكي ة للقص د‪ ،‬أم ا‬
‫عمرة فتطلق قضاء ال ديانة لعدم القصد‪ ،‬ففي المدونة‪ ،‬سئل ابن القاس م‪ (:‬أرأيت ل و‬
‫أن رجال قال‪ :‬حكمة طالق‪ ،‬وامرأته تسمى حكمة وله جارية يقال له ا حكم ة؟ ق ال‪:‬‬
‫لم أرد امرأتي وإنما أردت جاريتي حكمة‪ ،‬فقال‪ :‬س معت مالك ا وس ألناه عن الرج ل‬
‫يحلف للسلطان بطالق امرأته طائعا فيقول ام رأتي ط الق إن ك ان ك ذا وك ذا ألم ر‬
‫يكذب فيه‪ ،‬ثم يأتي مستفتيا ويزعم أنه إنما أراد بذلك امرأة كانت ل ه قب ل ذل ك وأن ه‬
‫إنما ألغ ز على الس لطان في ذل ك‪ ،‬ق ال مال ك‪ :‬ال أرى أن ذل ك ينفع ه وأرى امرأت ه‬
‫طالقا وإن جاء مستفتيا فأما مسألتك إن كان على قوله بين ة لم ينفع ه قول ه إنم ا أراد‬
‫جاريته‪ ،‬وإن لم تكن عليه بينة‪ ،‬وإنما جاء مستفتيا لم أرها مث ل مس ألة مال ك ولم أر‬
‫عليه في امرأته طالقا؛ ألن هذا سمى حكمة‪ ،‬وإنما أراد جاريت ه وليس ت علي ه بين ة‬
‫ولم يقل امرأتي(‪)2‬‬
‫تعيين المطلقة بالنية‪:‬‬
‫اختلف الفقه اء في أث ر الني ة في تع يين المطلق ة‪ ،‬وذل ك عن د احتم ال وج ود‬
‫غيرها‪ ،‬وعند احتمال خطئه دون تعمده‪ ،‬ومن األمثلة التي ضربها الفقهاء لذلك(‪:)3‬‬
‫المثال األول‪:‬‬
‫ما لو كانت لرجل امرأت ان‪ ،‬ف دعا إح داهما فأجابت ه‪ ،‬فق ال‪ :‬أنت ط الق‪ ،‬وق د‬
‫اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تطلق المجيبة وحدها؛ ألنها مخاطبة بالطالق‪ ،‬فطلقت‪ ،‬كم ا ل و‬
‫لم ينو غيرها‪ ،‬وال تطلق المنوية؛ ألنه لم يخاطبه ا ب الطالق‪ ،‬ولم تع ترف بطالقه ا‪،‬‬
‫وهو قول الشافعية والحنفية‪.‬‬
‫وقد نص الحنفية على أن هذا يعتبر في القضاء‪ ،‬أما فيما بينه وبين هللا تع الى‬
‫فإنما يقع على التي نوى‪ ،‬وقد نص وا على أن ه ل و ق ال لزوجت ه‪ :‬أنت فالن ة فق الت‪:‬‬
‫األخرى‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬إذن أنت طالق ال تطلق‪ ،‬أما لو أجابها بقول ه‪ :‬علي ك الطالق أو‬
‫لك اعتبرت النية‪ ،‬ولو كان ل ه امرأت ان اس مهما واح د ونك اح إح داهما فاس د فق ال‪:‬‬
‫فالنة طالق وقال‪ :‬عنيت التي نكاحها فاسد ال يصدق في القضاء(‪.)4‬‬

‫‪ )(1‬مغني المحتاج‪.3/304:‬‬
‫‪ )(2‬المدونة‪.2/291:‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.7/304:‬‬
‫‪ )(4‬فتح القدير‪.4/3:‬‬

‫‪118‬‬
‫القول الث اني‪ :‬ينظ ر إلى نيت ه في ه ذه الحال ة‪ ،‬ف إن لم تكن ل ه ني ة‪ ،‬أو ن وى‬
‫المجيبة وحدها‪ ،‬طلقت وحدها؛ ألنها المطلقة دون غيرها‪ ،‬أما إن ق ال‪ :‬م ا خ اطبت‬
‫بقولي‪ :‬أنت طالق‪ ،‬إال الزوجة األخرى‪ ،‬وكانت حاضرة‪ ،‬فإنها تطلق وح دها إال إذا‬
‫ق ال‪ :‬علمت أن المجيب ة هي الزوج ة األولى‪ ،‬فخاطبته ا ب الطالق‪ ،‬وأردت طالق‬
‫ثانية‪ ،‬فإنهما تطلقان معا‪ ،‬باتفاق الفقهاء‪.‬‬
‫أما إن قال‪ :‬ظننت المجيب ة الزوج ة األولى فطلقته ا‪ ،‬فق د اختل ف الفقه اء في‬
‫المطلقة منهما على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تطلق األولى والثانية‪ ،‬وهو ق ول النخعي‪ ،‬وقت ادة‪ ،‬واألوزاعي‪،‬‬
‫وأصحاب الرأي‪ ،‬ورواية عن أحمد‪،‬ألنه خاطبها بالطالق‪ ،‬وهي مح ل ل ه‪ ،‬فطلقت‪،‬‬
‫كما لو قصدها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال تطل ق إال ال تي ن وى‪ ،‬وه و ق ول الحس ن‪ ،‬والزه ري‪ ،‬وأبي‬
‫عبيد‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذل ك بأن ه لم يقص دها ب الطالق‪ ،‬فلم تطل ق‪،‬‬
‫كما لو أراد أن يقول‪ :‬أنت طاهر‪ .‬فسبق لسانه‪ ،‬فقال‪ :‬أنت طالق‪.‬‬
‫المثال الثاني‪:‬‬
‫لو لقي أجنبية‪ ،‬ظنها زوجته‪ ،‬فقال‪ :‬يا فالنة أنت ط الق‪ ،‬يقص د زوجت ه‪ ،‬ف إذا‬
‫هي أجنبية‪،‬وقد اختلف الفقهاء في حصول الطالق لزوجته بهذا القول على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬طلقت زوجت ه‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬ألن ه قص د زوجت ه بلف ظ‬
‫الطالق‪ ،‬فطلقت‪ ،‬كما لو قال‪ :‬علمت أنها أجنبية‪ ،‬وأردت طالق زوجتي‪.‬‬
‫أما إن قال لها‪ :‬أنت طالق‪ ،‬ولم يذكر اسم زوجته‪ ،‬فإن ذلك يحتم ل أن ه قص د‬
‫امرأت ه بلف ظ الطالق‪ ،‬واحتم ل أن ال تطل ق؛ ألن ه لم يخاطبه ا ب الطالق‪ ،‬وال ذك ر‬
‫اس مها مع ه‪ ،‬وإن علمه ا أجنبي ة‪ ،‬وأراد ب الطالق زوجت ه‪ ،‬طلقت‪ .‬وإن لم يرده ا‬
‫بالطالق‪ ،‬لم تطلق‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال تطلق؛ ألنه خ اطب ب الطالق غيره ا‪ ،‬فلم يق ع‪ ،‬كم ا ل و علم‬
‫أنها أجنبية‪ ،‬فقال‪ :‬أنت طالق‪ ،‬وهو قول الشافعية‪.‬‬
‫المثال الثالث‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أنه إن أشار إلى زوجته األولى‪ ،‬فقال‪ :‬يا فالنة‪ ،‬أنت طالق‪،‬‬
‫ونيته طالق الثانية‪ ،‬فسبق لسانه إلى نداء األولى‪ ،‬طلقت األولى وحدها؛ ألنه لم يرد‬
‫بلفظه إال طالقها‪ ،‬وإنما سبق لسانه إلى غير ما أراده‪ ،‬فأش به م ا ل و أراد أن يق ول‪:‬‬
‫أنت طاهر‪ ،‬فسبق لسانه إلى أنت طالق‪.‬‬
‫أما إن أتى باللفظ مع علم ه أن المش ار إليه ا الزوج ة الثاني ة‪ ،‬فإنهم ا تطلق ان‬
‫معا‪ ،‬الثانية باإلشارة إليها‪ ،‬وإضافة الطالق إليها‪ ،‬واألولى بنيت ه‪ ،‬وبلفظ ه به ا‪ ،‬وإن‬
‫ظن أن المشار إليها الثانية‪ ،‬طلقت‪ ،‬واختلف في تطليق الثانية كما سبق بيانه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار النية واللفظ جميعا‪ ،‬وأن تط ابق الني ة‬
‫اللفظ‪ ،‬كما سنشرح ذلك بتفصيل عند الحديث عن صيغ الطالق‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ونرى أن ه ال يص ح التفري ق في ه ذا بين وق وع الطالق قض اء دون وقوع ه‬
‫ديان ة‪ ،‬ألن الغ رض من الحكم القض ائي ه و تقري ر وتط بيق الناحي ة التعبدي ة ال‬
‫التعارض بينه وبينها‪ ،‬واألص ل في القض اء في مث ل ه ذه األح وال ال تي ق د تنه ار‬
‫بسببها البيوت الحرص على استمرار العالقة ال البحث عن أي سبيل لقطعها‪.‬‬
‫فكيف يقبل أن تطلق امرأتان في لحظ ة واح دة ألن إح داهما قص دت بالني ة‪،‬‬
‫واألخرى لم تفعل شيئا إال أنها سارعت إلجاب ة زوجه ا م ع أن ه دع ا ض رتها‪ ،‬م ع‬
‫التعليل بأن ذلك أتبع إليق اع الج واب‪ ،‬فيص ير مخاطب ا للمجيب ة‪ ،‬ومن أدران ا بح ال‬
‫الزوج حينذاك‪ ،‬وهل سمع حقيقة الجواب أم أن ما هو فيه جعله غافال حتى على من‬
‫أجابته؟‬
‫ومثل ذلك ما قالوا بأنه لو قال المرأته يش ير إليه ا‪ :‬ي ا زينب أنت ط الق ف إذا‬
‫هي عمرة طلقت عمرة‪ ،‬ف أي ذنب تطل ق ب ه عم رة؟ وهي لم تقص د في القلب‪ ،‬ولم‬
‫يتلفظ باسمها باللسان‪ ،‬ولعل زوجها أعماه حاله عن تثبيت النظر إليها‪ ،‬وهك ذا يق ال‬
‫في كل المسائل األخرى‪ ،‬وأن العبرة من كل ذلك هو نيت ه ب دون تفري ق بين الديان ة‬
‫والقضاء‪ ،‬وأن المرجع في ذلك كله قول الزوج‪ ،‬فهو أعلم بمراد نفسه‪ ،‬وق د ق ال هللا‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَا ٌح فِي َما أَ ْخطَأْتُ ْم بِ ِه َولَ ِك ْن َما تَ َع َّمد ْ‬
‫َت قُلُوبُ ُك ْم َو َكانَ هَّللا ُ َغفُ ورًا‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬ولَي َ‬
‫َر ِحي ًما﴾(األحزاب‪ ،)5:‬وقال ‪(:‬إنما األعمال بالنيات‪ ،‬وإنما لك ل ام رئ م ا ن وى)‬
‫فالعبرة بالنية قبل أن تكون بالوصف أو باإلشارة‪ ،‬وقد س بق ذك ر ح ديث خيثم ة بن‬
‫عبد الرحمن قال‪ :‬قالت امرأة لزوجها‪ :‬سمني؟ فسماها الظبية‪ ،‬قالت‪ :‬م ا قلت ش يئا؟‬
‫قال‪ :‬فهات ما أسميك به؟ قالت‪ :‬سمني خلي ة ط الق‪ ،‬ق ال‪ :‬ف أنت خلي ة ط الق‪ ،‬ف أتت‬
‫عم ر فق الت‪ :‬إن زوجي طلق ني؟ فج اء زوجه ا فقص علي ه القص ة؟ ف أوجع عم ر‬
‫رأسها‪ ،‬وقال لزوجها‪ :‬خذ بيدها وأوجع رأسها‪.‬‬
‫فإنه ال فرق بين الحالتين‪ ،‬ألن عمرة التي ذكره ا الفقه اء ق د تري د أن تطل ق‬
‫من زوجها فتحتال على ذلك بإجابة زوجها بدل ضرتها‪.‬‬
‫الجمع بين زوجته وأجنبية‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه لو قال لزوجته وأجنبية‪ :‬إحداكما طالق‪ .‬أو قال لحمات ه‪:‬‬
‫ابنتك طالق‪ ،‬ولها بنت سوى امرأته‪ ،‬أو كان اسم زوجته زينب‪ ،‬فقال‪ :‬زينب ط الق‪،‬‬
‫طلقت زوجته؛ ألنه ال يملك طالق غيرها‪.‬‬
‫أما إن قال‪ :‬أردت األجنبية‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ذلك على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬لم يصدق‪ ،‬وهو ق ول أحم د‪ ،‬فق د نص في رج ل ت زوج ام رأة‪،‬‬
‫فقال لحماته‪ :‬ابنتك طالق‪ .‬وقال‪ :‬أردت ابنتك األخرى‪ ،‬التي ليست بزوج تي‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫يحنث‪ ،‬وال يقبل منه‪.‬‬
‫وهذا في الحكم‪ ،‬فأما فيما بينه وبين هللا تعالى‪ ،‬فيدين فيه‪ ،‬فمتى علم من نفس ه‬
‫أنه أراد األجنبية‪ ،‬لم تطلق زوجته؛ ألن اللفظ محتمل له‪ ،‬وإن كان غ ير مقي د‪ ،‬ول و‬
‫كانت ثم قرينة دالة على إرادته األجنبية‪ ،‬مثل أن يدفع بيمينه ظلم ا‪ ،‬أو يتخلص به ا‬
‫من مكروه‪ ،‬قب ل قول ه في الحكم؛ لوج ود ال دليل الص ارف إليه ا‪ ،‬ومن األدل ة على‬

‫‪120‬‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ال يحتمل غير امرأته على وجه صحيح‪ ،‬فلم يقبل تفسيره بها‪ ،‬كما ل و‬
‫فسر كالمه بما ال يحتمله‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ما ذكروه من الفرق ال يصح‪ ،‬فإن (إحداكما) ليس بصريح في واح دة‬
‫منهم ا‪ ،‬إنم ا يتن اول واح دة ال بعينه ا‪ ،‬وزينب يتن اول واح دة ال بعينه ا‪ ،‬ثم تعينت‬
‫الزوجة لكونها محل الطالق‪ ،‬وخطاب غيرها به عبث‪ ،‬كما إذا قال‪ :‬إحداكما طالق‪،‬‬
‫ثم لو تناولها بصريحه لكنه صرفه عنها دليل‪ ،‬فصار ظاهرا في غيرها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لم ا ق ال الن بي ‪ ‬للمتالع نين‪ (:‬أح دكما ك اذب) لم ينص رف إال إلى‬
‫الكاذب منهما وحده‪ ،‬ولما قال حسان للنبي ‪ ‬وأبا سفيان‪ :‬فشركما لخيركم ا الف داء‬
‫لم ينصرف شرهما إال إلى أبي سفيان وحده‪ ،‬وخيرهما النبي ‪ ‬وحده‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يقبل هاهنا‪ ،‬وال يقبل فيم ا إذا ق ال‪ :‬زينب ط الق‪ ،‬وق ال‪ :‬أردت‬
‫أجنبية اسمها زينب‪ ،‬وهو قول الشافعي‪ ،‬ألن زينب ال يتناول األجنبية بصريحه‪ ،‬بل‬
‫من جهة الدليل‪ ،‬وقد عارضه دليل آخر وهو أنه ال يطلق غير زوجته أظهر‪ ،‬فصار‬
‫اللفظ في زوجته أظهر‪ ،‬فلم يقبل خالفه‪ ،‬أما إذا قال‪ :‬إحداهما‪ .‬فإن ه يتن اول األجنبي ة‬
‫بصريحه‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يقبل في الجميع‪ ،‬وهو قول الحنفية وأبي ثور‪ ،‬ألنه فسر كالم ه‬
‫بما يحتمله‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا أن العبرة بالنية واللفظ جميعا‪،‬‬
‫وأن اللفظ البد أن يكون متوافقا مع النية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حكم التشريك في الطالق‬
‫اتفق الفقهاء على وقوع طالق من جمع بين زوجات ه في ص يغة الطالق دون‬
‫تحديد واحدة معينة‪ ،‬واختلفوا في اعتبار عدد الطلقات‪ ،‬وفي كيفية التعامل مع أنواع‬
‫صيغ التشريك في الطالق‪ ،‬وسنذكر هنا آراء المذاهب الفقهية في ذل ك م ع بي ان أن‬
‫للمس ألة عالق ة بص يغ الطالق من جه ة‪ ،‬وبحكم الطالق الثالث من جه ة أخ رى‪،‬‬
‫وسنعرض لهما في الفصل الخاص بالصيغة‪:‬‬
‫مذهب المالكية‪:‬‬
‫اختلف المالكية في بعض صيغ التشريك على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬إذا قال لزوجاته األربع شركت بينكن في طلقة‪ ،‬فإن كل واح دة‬
‫تطل ق علي ه طلق ة‪ ،‬وإن ق ال ش ركت بينكن في تطليق تين طلقت ك ل واح دة منهن‬
‫طلق تين‪ ،‬وإن ق ال ش ركت بينكن في ثالث تطليق ات طلقت ك ل واح دة منهن ثالث‬
‫تطليقات‪ ،‬وهو قول سحنون(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬قد جعل بعضهم كالم سحنون خالفا لألول وبعضهم موافقا وكأنه ق ال‪ :‬وطلق ة في أرب ع ق ال لهن بينكن‬
‫ما لم يشرك فإن شرك طلقن ثالثا ثالثا وعلى أنه خالف يكون المعول عليه األول ومسألة التشريك اآلتي ة ت دل على‬
‫أنه مقابل وكالم المؤلف في التوضيح يستشعر منه أنه مرتضيه ألنه قال ونسبها ابن الحاجب لسحنون الحتمال أنه ال‬

‫‪121‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أنه إذا ق ال لزوجات ه األرب ع بينكن طلق ة واح دة أو طلقت ان أو‬
‫ثالث تطليقات وقع على كل واحدة طلقة واحدة‪ ،‬ألنه قد ناب ك ل واح دة رب ع طلق ة‬
‫أو نصف طلقة أو ثالث ة أرب اع طلق ة فكملت عليه ا‪ ،‬ألن الكس ر في الطالق حكم ه‬
‫التكميل‪ ،‬وإذا قال لهن‪ :‬بينكن خمس تطليقات أو ست تطليق ات أو س بع تطليق ات أو‬
‫ثم ان تطليق ات فإن ه يق ع على ك ل واح دة منهن طلقت ان وإن ق ال لهن‪ :‬بينكن تس ع‬
‫تطليقات إلى أكثر فإنه يقع على كل واحدة منهن ثالث تطليقات‪،‬وه و ق ول جمه ور‬
‫المالكية(‪.)1‬‬
‫مذهب الحنفية‪:‬‬
‫نص الحنفية على أنه لو قال ألربع نسوة‪ :‬بينكن طلقة طلقت كل واح دة منهن‬
‫واحدة‪ ،‬وكذا لو قال بينكن طلقتان‪ ،‬أو ثالث‪ ،‬أو أربع إال إذا نوى أن كل طلقة بينهن‬
‫جميع ا فتق ع على ك ل واح دة منهن ثالث إال في التطليق تين‪ ،‬فتق ع على ك ل واح دة‬
‫منهن ثنت ان‪ ،‬ول و ق ال بينكن خمس تطليق ات وال ني ة ل ه طلقت ك ل واح دة منهن‬
‫طلقتين‪ ،‬وك ذا م ا زاد إلى ثم ان تطليق ات‪ ،‬ف إن زاد على الثم ان فك ل واح دة منهن‬
‫طالق ثالثا‪.‬‬
‫ولو ق ال‪ :‬فالن ة ط الق ثالث ا وفالن ة معه ا‪ ،‬أو ق ال أش ركت فالن ة معه ا في‬
‫الطالق طلقت ا ثالث ا ثالث ا‪ ،‬ول و ق ال‪ :‬ألرب ع أنتن طوال ق ثالث طلقت ك ل واح دة‬
‫ثالثا(‪.)2‬‬
‫مذهب الشافعية‪:‬‬
‫نص الشافعية على أنه لو قال ألربع‪ :‬أوقعت عليكن أو بينكن طلقة أو طلقتين‬
‫أو ثالثا أو أربعا وقع على كل منهن طلقة‪ ،‬ألن كال يصيبها عن د التوزي ع واح دة أو‬
‫بعضها فتكمل‪ ،‬فإن قصد توزيع كل طلقة عليهن وقع على كل منهن في ثنتين ثنت ان‬
‫وفي ثالث وأربع ثالث عمال بقصده‪ ،‬بخالف ما لو أطلق لبعده عن الفهم‪ ،‬ول و ق ال‬
‫خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا فطلقتان ما لم يرد التوزيع أو تسعا فثالث مطلقا‪.‬‬
‫ف إن ق ال‪ :‬أردت بينكن أو عليكن لم يقب ل ظ اهرا في األص ح‪ ،‬ألن ه خالف‬
‫ظاهر اللفظ من اقتضاء الشركة‪ ،‬أما باطنا في دين والث اني يقب ل الحتم ال بينكن لم ا‬
‫أراده بخالف عليكن فال يقبل إرادة بعضهن به جزما‪.‬‬
‫ولو أوقع بينهن ثالث ا ثم ق ال أردت اثن تين على ه ذه وقس مت األخ رى على‬
‫الباقي ات قب ل‪ ،‬وعلي ه ل و أوق ع بين أرب ع أربع ا‪ ،‬ثم ق ال أردت على ثن تين طلق تين‬
‫طلقتين دون األخريين لحق األوليين طلقتان طلقتان عمال بإقراره‪ ،‬ولحق األخ ريين‬
‫طلقة طلقة لئال يتعطل الطالق في بعضهن‪.‬‬

‫يوافق عليه ابن القاس‪ ،‬الخرشي‪.4/52:‬‬


‫‪ )(1‬الخرشي‪.4/52:‬‬
‫‪ )(2‬مجمع األنهر‪.1/389:‬‬

‫‪122‬‬
‫ولو ق ال أوقعت بينكن س دس طلق ة ورب ع طلق ة وثلث طلق ة طلقن ثالث ا ألن‬
‫تغاير األجزاء وعطفها مشعر بقسمة كل جزء بينهن(‪)3‬‬
‫ولو طلقها ثم قال لألخرى أشركتك معها‪ ،‬أو جعلتك شريكتها‪ ،‬أو أنت مثله ا‪،‬‬
‫أو كهي‪ ،‬فإن ن وى ب ذلك طالقه ا المنج ز طلقت وإال فال تطل ق الحتم ال قص ده أن‬
‫األولى ال تطلق حتى تدخل األخرى ولم يقبل منه؛ ألن ه رج وع عن التعلي ق األول‪،‬‬
‫وإن قال‪ :‬أردت إذا دخلت األولى طلقت الثانية قبل وطلقتا بدخولها‪ ،‬أو أردت تعليق‬
‫طالق الثانية ب دخولها نفس ها كم ا في األولى قب ل وتعل ق طالق ك ل منهم ا ب دخول‬
‫نفسها‪ ،‬وإن أطلق فالظاهر حمله على هذا األخير‪.‬‬
‫ولو طلق رجل زوجته‪ ،‬وقال رجل آخر ذل ك المرأت ه‪ ،‬كقول ه‪ :‬أش ركتك م ع‬
‫مطلقة هذا الرجل أو جعلتك شريكتها‪ ،‬فإن نوى طالقه ا طلقت وإال فال؛ ألن ه كناي ة‬
‫وإن أشركها مع ثالث طلقهن هو أو غيره ونوى وأراد أنها شريكة ك ل منهن طلقت‬
‫ثالثا‪ ،‬أو أنها مثل إحداهن طلقت واحدة‪ ،‬وكذا إن أطلق ني ة الطالق ولم ين و واح دة‬
‫وال عددا ألن جعلها كإحداهن أسبق إلى الفهم وأظه ر من تق دير توزي ع ك ل طلق ة‪،‬‬
‫وإن أشركها م ع ام رأة طلقه ا ه و أو غ يره ثالث ا ون وى الش ركة في ع دد الطالق‬
‫طلقت طلقتين؛ ألنه أشركها معها في ثالث فيخص ها طلق ة ونص ف وتكم ل‪ ،‬وقي ل‬
‫واحدة؛ ألنها المتيقنة‪ ،‬وقيل ثالث ألنه أشركها معها في كل طلقة‪ .‬أما إذا لم ينو ذلك‬
‫فيقع واحدة كما جزم به صاحب األنوار‪ ،‬ولو أوقع بين ثالث طلقة ثم أشرك الرابعة‬
‫معهن وقع على الثالث طلقة طلقة‪ ،‬وعلى الرابعة طلقتان‪ ،‬إذ يخصها بالشركة طلقة‬
‫ونصف‪.‬‬
‫ولو طلق إحدى نس ائه الثالث ثالث ا ثم ق ال للثاني ة‪ :‬أش ركتك معه ا ثم للثالث ة‬
‫أشركتك مع الثاني ة طلقت الثاني ة طلق تين؛ ألن حص تها من األولى طلق ة ونص ف‪،‬‬
‫والثالثة طلقة؛ ألن حصتها من الثانية طلقة‪.‬‬
‫وهذا كله فيما إذا علم طالق التي ش وركت‪ ،‬ف إن لم يعلم كم ا ل و ق ال‪ :‬طلقت‬
‫امرأتي مث ل م ا طل ق زي د‪ ،‬وه و ال ي دري كم طل ق زي د ون وى ع دد طالق زي د‪،‬‬
‫فمقتضى كالم الرافعي أنه ال يقع قاله الزركشي‪ ،‬ومراده العدد ال أصل الطالق(‪.)2‬‬
‫مذهب الحنابلة‪:‬‬
‫اختلف الحنابلة فيما لو قال لزوجاته األربع‪ :‬أوقعت عليكن طلق ة‪ ،‬أو اثن تين‪،‬‬
‫أو ثالثا‪ ،‬أو أربعا هل تقع لكل واحدة طلقة أم يبن جميعا على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬وقع بكل واحدة طلقة‪ ،‬هذا المذهب‪ ،‬وعليه أكثر الحنابلة‪.‬‬
‫ال رأي الث اني‪ :‬إذا ق ال‪ :‬أوقعت بينكن ثالث ا بن من ه‪ ،‬واخت اره أب و بك ر‪،‬‬
‫والقاضي‪ ،‬قال في الرعاية الصغرى‪ :‬وعنه‪ :‬إن أوق ع ثن تين وق ع ثنت ان‪ ،‬وإن أوق ع‬

‫‪ )(3‬نهاية المحتاج‪..6/464:‬‬
‫‪ )(2‬مغني المحتاج‪.4/485:‬‬

‫‪123‬‬
‫ثالثا أو أربع ا فثالث‪ ،‬ق ال ابن عب دوس في تذكرت ه‪ :‬واألق وى يق ع ثالث ة في غ ير‬
‫األولى‪.‬‬
‫وبناء على هذا االختالف وق ع اختالفهم في س ائر الص يغ‪ ،‬فل و ق ال‪ :‬أوقعت‬
‫بينكن خمسا‪ ،‬فعلى األول‪ :‬يق ع بك ل واح دة طلقت ان ك ذا ل و أوق ع س تا أو س بعا‪ ،‬أو‬
‫ثمانيا‪ ،‬وعلى الثانية‪ :‬يقع ثالث‪ ،‬وإن أوقع تسعا فأزيد فثالث على كال الروايتين‪.‬‬
‫أما لو قال‪ :‬أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة‪ ،‬فثالث على كال الروايتين على‬
‫الصحيح من المذهب‪ ،‬وقيل‪ :‬واحدة على الرواية األولى(‪.)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتب ار قص د ال زوج في طالق ه‪ ،‬ف إن قص د‬
‫طالق الجميع طلق الجميع‪ ،‬ولكن بشرط تحقق جمي ع الض وابط ال تي رجحناه ا في‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬فإن كانت إحداهن حائضا مثال‪ ،‬فإنه ال يشملها الطالق‪ ،‬أو طلق واح دة‬
‫مثال برضى‪ ،‬وطلق األخريات بعدها وهو في حالة غضب‪ ،‬لم يقع طالقهن‪.‬‬
‫وال يستعصي علينا تصور ذلك‪ ،‬فإنه قد يطل ق واح دة منهن مثال لرغبت ه في‬
‫طالقها‪ ،‬فيلمنه على ذلك ويعاتبنه فيه‪ ،‬أو يعاتبه أجن بي‪ ،‬فيغض ب‪ ،‬وي رمي الطالق‬
‫على سائر أزواجه‪ ،‬فإن الطالق في هذه الصورة ال يقع ألن الدافع له غضب الزوج‬
‫ال الرغبة في الطالق‪ ،‬وهكذا في سائر الضوابط‪.‬‬
‫أم ا التفاص يل ال تي ذكره ا الفقه اء هن ا‪ ،‬فال حاج ة له ا إذا قلن ا ب أن الطالق‬
‫الثالث في مجلس واحد ال يقع إال طلقة واحدة‪ ،‬وهو األرجح الذي ت دل علي ه األدل ة‬
‫الكثيرة كما سنرى في ص يغة الطالق‪ ،‬وه و األوف ق ك ذلك بالمقاص د الش رعية من‬
‫تشريع العدة والرجعة والعدد في الطالق‪ ،‬وسنرى تفاصيل ذلك في محالها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نسيان المطلقة المعينة‬
‫فقد يطلق رجل ما امرأة من زوجاته‪ ،‬ثم ينس ى من وق ع عليه ا الطالق‪ ،‬وق د‬
‫اختلف الفقهاء في التعامل مع هذه الحالة على األقوال التالية(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يعين في المبهمة‪ ،‬ويقف في حق المنسية عن الجميع‪ ،‬فينف ق‬
‫عليهن ويكس وهن‪ ،‬ويع تزلهن إلى أن يف رق بينهم ا الم وت أو يت ذكر‪ ،‬وال يق رع‬
‫بينهن‪ ،‬وإذا كان الطالق لواحدة ال بعينها وال نواها‪ ،‬فإنه يختار ص رف الطالق إلى‬
‫أيتهن شاء‪ ،‬وإن كان الطالق لواحدة بعينها ونسيها‪ ،‬فإنه يتوقف فيهما ح تى يت ذكر‪،‬‬
‫وهو قول أبي حنيفة(‪ )3‬والشافعي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن التحريم قد حصل في واحدة ال بعينها‪ ،‬فكان له تعيينها باختي اره‪ ،‬كم ا‬
‫لو أسلم الحربي وتحته خمس نسوة‪ ،‬أو أختان‪ :‬اختار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المنس ية والمش تبهة يج وز أن ت ذكر‪ ،‬وتعلم عينه ا ب زوال‪ ،‬االش تباه؛‬
‫‪ )(1‬اإلنصاف‪.9/17:‬‬
‫‪ )(2‬الطرق الحكمية‪.252:‬‬
‫‪ )(3‬وللحنفية قول آخر هو أنه إذا طلق ام رأة من نس ائه ال بعينه ا‪ ،‬فإن ه ال يح ال بين ه وبينهن‪ ،‬ول ه أن يط أ‬
‫أيتهن شاء‪ ،‬فإذا وطئ انصرف الطالق إلى األخرى‪ ،‬واختاره ابن أبي هريرة من الشافعية‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫فلهذا لم يملك صرف الطالق فيها إلى من أراد‪ ،‬بخالف المبهمة فإنه ال ي رجى ذل ك‬
‫فيها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التحريم هاهنا حكم تعلق بفرد ال بعينه من جملة‪ ،‬فكان المرجع في تعيينه‬
‫إلى المكلف‪ ،‬كما لو باع قفيزا من صبرة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ لما كان له تعيين المطلقة في االبتداء‪ ،‬كان له تعيينها في ثاني الحال‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يق ع الطالق على الجمي ع‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الحكم إنما عم احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا االحتياط كل دليل‬
‫دل على وجوب توقي الشبهات(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أن مفهوم أح د األم ور ق در مش ترك بينه ا لص دقه على ك ل واح د منه ا‬
‫والصادق على عدد وأفراد مشترك فيه بين تلك األفراد(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الطالق تح ريم ألن ه راف ع لم وجب النك اح والنك اح لإلباح ة وراف ع‬
‫اإلباحة محرم‪ ،‬فالطالق محرم‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن تح ريم المش ترك يل زم من ه تح ريم جمي ع الجزئي ات‪ ،‬فيح رمن كلهن‬
‫بالطالق‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه ال يصح قياس هذه المس ألة على خص ال الكف ارة‪ ،‬ألن إيج اب إح دى‬
‫الخص ال إيج اب للمش ترك ووج وب المش ترك يخ رج المكل ف عن عهدت ه بف رد‬
‫إجماعا‪ ،‬وأما الطالق في هذه الصورة فهو تحريم لمش ترك فيعم أف راده وأف راده هم‬
‫النسوة فيعمهن الطالق(‪.)3‬‬
‫‪ 6‬ـ أن عمر بن عبد العزيز قضى ب ه في رج ل من أه ل البادي ة ك ان يس قي‬
‫على مائه‪ ،‬فأقبلت ناقة له فنظر إليها من بعيد فقال‪ :‬إحدى امرأتيه ط الق ألبت ة إن لم‬
‫تكن فالنة الناقة له‪ ،‬فأقبلت ناقة غير تلك الناق ة فق دم األع رابي المدين ة ف دخل على‬
‫أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل لعمر بن عبد العزي ز على المدين ة‬
‫وعمر يومئذ الخليفة فقص عليه قضيته فأشكل علي ه القض اء فيه ا‪ ،‬فكتب إلى عم ر‬
‫في ذلك‪ ،‬فكتب إليه عمر إن كان ن وى واح دة منهم ا حين حل ف فه و م ا ن وى وإال‬

‫‪ )( 1‬هذا هو الدليل األصلي للمسألة عند المالكية‪ ،‬ولكن القرافي ذكر لها األدلة التالية‪ ،‬وقال بعد ذكرها منبها‬
‫على عدم إيراد من سبقه على دليل ذلك‪«:‬فإذا قيل لهم‪ :‬ما الدليل على مش روعية ه ذا االحتي اط في الش رع لم يج دوه‬
‫وأما مع ذكر هذه القواعد فتصير ه ذه المس ألة ض رورية بحيث يتعين الح ق فيه ا تعين ا ض روريا»‪ ،‬وق د تعقب ه ابن‬
‫الشاط بالرد على ما ذكره من قواعد‪ ،‬وقالبعدها‪ «:‬والج واب الص حيح م ا أج اب ب ه األك ابر وه و أن الحكم إنم ا عم‬
‫احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا االحتياط كل دليل دل على وجوب توقي الشبهات‪».‬أنوار البروق‪.1/157:‬‬
‫‪ )(2‬هذه هي القاعدة األساسية التي اعتمد عليه ا الق رافي‪ ،‬وق د تعقبه ا ابن الش اط بقول ه‪ «:‬ليس األم ور ه و‬
‫القدر المشترك بل أحد األمور واحد غير معين منها‪ ،‬ولذلك صدق على كل واح د منه ا‪ ،‬وقول ه والص ادق على ع دد‬
‫وأفراد مشترك فيه بين تلك األفراد إن أراد بذلك الحقيقة الكلية فليس أحد األمور هو الحقيق ة الكلي ة وإن أراد أن لف ظ‬
‫أحد األمور يختص به معين من تلك األمور فذلك صحيح وال يحصل ذلك مقصوده‪ ».‬أنوار البروق‪.1/157:‬‬
‫‪ )(3‬أنوار البروق‪.1/157:‬‬

‫‪125‬‬
‫نطلقهما عليه جميعا(‪.)1‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنه ال يقع الطالق بواحدة منهن وهو قول اإلمامية كم ا س نرى‬
‫ذلك في محله؛ لكن ابن القيم قال‪(:‬وال يعرف له قائل) (‪ ،)2‬واس تدل ل ه ب أن النك اح‬
‫ث ابت بيقين‪ ،‬وك ل واح دة منهن مش كوك فيه ا‪ :‬ه ل هي المطلق ة أم ال؟ فال تطل ق‬
‫بالشك‪ ،‬وال يمكن إيقاع الطالق بواح دة غ ير معين ة‪ ،‬وليس البعض أولى ب أن يوق ع‬
‫عليها الطالق من البعض‪.‬‬
‫الق ول الرابع‪ :‬اس تعمال القرع ة لتع يين المطلق ة المنس ية‪ ،‬أو اختي ار إح دى‬
‫النساء للتطليق(‪ ،)3‬وهو قول أحمد واختي ار ابن تيمي ة وابن القيم(‪ ،)4‬فق د روي عن‬
‫أحمد في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن‪ ،‬ولم تكن له نية في واحدة بعينه ا‪ :‬يق رع‬
‫بينهن فأيتهن أصابتها القرع ة فهي المطلق ة‪ ،‬وك ذلك إن قص د إلى واح دة بعينه ا ثم‬
‫نسيها‪ ،‬قال‪ :‬والقرعة س نة رس ول هللا ‪ ،‬وق د ج اء به ا الق رآن‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث عمران بن حصين في عتق األعبد الستة‪ ،‬فإن تصرفه في الجمي ع‬
‫لما كان ب اطال‪ ،‬جع ل كأن ه أعت ق ثلث ا منهم غ ير معين‪ ،‬فعين ه الن بي ‪ ‬بالقرع ة‪،‬‬
‫والطالق كالعت اق في ه ذا‪ ،‬ألن ك ل واح د منهم ا إزال ة مل ك مب ني على التغليب‬
‫والسراية‪ ،‬فإذا اش تبه الممل وك في ك ل منهم ا بغ يره‪ :‬لم يجع ل التع يين إلى اختي ار‬
‫المالك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الحقوق إذا تساوت على وجه ال يمكن التمييز بينه ا إال بالقرع ة ص ح‬
‫استعمالها فيها‪ ،‬مثلما لو أراد أن يس افر بإح دى نس ائه‪ ،‬أو إذا تس اوى الم دعيان في‬
‫الحضور عند الحاكم‪ ،‬وكذلك األولياء في النكاح إذا تساووا في الدرجة وتشاحوا في‬
‫العقد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هللا تعالى القرعة طريقا إلى الحكم الشرعي في كتابه‪ ،‬وفعله ا رس ول‬
‫هللا ‪ ‬وأمر بها‪ ،‬وحكم بها علي بن أبي طالب في المسألة بعينها‪.‬‬

‫‪ )(1‬المدونة‪.2/70 :‬‬
‫‪ )(2‬الطرق الحكمية‪.253:‬‬
‫‪ )(3‬اتفق الفقهاء القائلون بالقرع ة على أن المطلق ة بالقرع ة إذا ت زوجت ال يقب ل قول ه ب أن المطلق ة ك انت‬
‫غيرها‪ ،‬لما فيه من إبطال حق الزوج‪ ،‬حتى لو أقام بينة على أن المطلقة غيرها‪ ،‬ألن القرعة تصيب طريقا إلى وقوع‬
‫الطالق فيمن أصابتها‪ ،‬ولو كانت غير المطلقة في نفس األمر‪ ،‬فالقرعة فرقت بينهما‪ ،‬وتأكدت الفرقة بتزويجها‪.‬‬
‫واتفقوا كذلك فيما إذا كانت القرعة بحكم الحاكم‪ ،‬فإن حكمه يجري مج رى التفري ق بينهم ا فال يقب ل قول ه ب أن‬
‫المطلقة غيرها‪ ،‬واختلفوا فيما لو لم تتزوج على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تعود إلي ه من حين وقعت عليه ا القرع ة‪ ،‬ويق ع الطالق بالم ذكورة‪ ،‬وق د نص علي ه أحم د‪ ،‬ألن‬
‫القرعة إنما كانت ألجل االشتباه‪ ،‬وقد زال بالتذكر‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها ال ترد إليه بعد انقضاء عدتها وملكها نفسها‪ ،‬إال أن تصدقه‪ ،‬ولهذا لو قال بعد انقضاء عدتها‪:‬‬
‫كنت راجعتك قبل انقضاء العدة‪ ،‬لم تقبل منه إال ببينة أو تصديقها‪ ،‬ول و ق ال ذل ك والع دة باقي ة‪ ،‬قب ل من ه ألن ه يمل ك‬
‫إنشاء الرجعة‪ ،‬وهو اختيار ابن القيم‪ ،‬انظر‪ :‬الطرق الحكمية‪.264:‬‬
‫‪ )( 4‬قال ابن القيم‪:‬وبالجملة‪ :‬فالقرعة طريق شرعي‪ ،‬شرعه هللا ورسوله للتمييز عند االش تباه‪ ،‬فس لوكه أولى‬
‫من غيره من الطرق‪ ،‬الطرق الحكمية‪.261:‬‬

‫‪126‬‬
‫‪ 4‬ـ قال وكيع‪ :‬سمعت عبد هللا قال‪ :‬سألت أبا جعفر عن رجل له أرب ع نس وة‪،‬‬
‫فطلق إحداهن‪ ،‬ال يدري أيتهن طلق‪ ،‬فقال‪ :‬علي يقرع بينهن‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن تعيين المكلف تابع الختي اره وإرادت ه‪ ،‬وتعين القرع ة إلى هللا تع الى‪،‬‬
‫والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعينه له القضاء والقدر‪ ،‬شاء أم أبى‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إلي ه بالش رع ف وض إلى القض اء والق در‪،‬‬
‫وصار الحكم به شرعيا قدريا‪ :‬ش رعيا في فع ل القرع ة‪ ،‬وق دريا‪ :‬فيم ا تخ رج ب ه‪،‬‬
‫وذلك إلى هللا‪ ،‬ال إلى المكلف‪.‬قال ابن القيم‪(:‬فال أحسن من هذا وال أبل غ في موافقت ه‬
‫شرع هللا وقدره)‬
‫‪ 7‬ـ أنه قد وقع الشك في سبب الحل‪ ،‬فال يرفع التح ريم األص لي إال بالنك اح‪،‬‬
‫ثم وق ع في عين غ ير معين ة‪ ،‬ومعن ا أص ل الح ل المستص حب‪ ،‬فال يمكن تعميم‬
‫التحريم‪ ،‬وال إلغاؤه بالكلية‪ ،‬ولم يب ق طري ق إلى تع يين محل ه إال بالقرع ة‪ ،‬فتعينت‬
‫طريقا‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن الطالق ق د وق ع على واح دة منهن معين ة؛ المتن اع وقوع ه في غ ير‬
‫معين‪ ،‬فلم يملك المطلق صرفه إلى أيتهن شاء‪ ،‬لكن التع يين غ ير معل وم لن ا‪ ،‬وه و‬
‫معلوم عند هللا‪ ،‬وليس لنا طريق إلى معرفته‪ ،‬فتعينت القرعة‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن التعيين بالقرعة تعيين بسبب قد نصبه هللا ورس وله س ببا للتع يين عن د‬
‫ع دم غ يره‪ ،‬والتع يين باالختي ار تع يين بال س بب‪ ،‬حيث انتفت أس باب التع يين‬
‫وعالماته‪ .‬وال يخفى أن التعيين بالسبب الذي نصبه الشرع له أولى من التعين ال ذي‬
‫ال سبب له‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة القول بع دم وق وع الطالق للجمي ع‪ ،‬وه و الق ول‬
‫الثالث‪ ،‬بناء على ما ذكرناه من قاعدة التضييق في الطالق‪.‬‬
‫طالق المبهمات عند موت إحداهن‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو طلق إحدى زوجتيه ال بعينها‪ ،‬ثم ماتت إح داهما‪ ،‬على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬لم يتعين الطالق في الباقية وأقرع بين الميتة والحية‪ ،‬وهو ق ول‬
‫الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه ال يملك التعيين باختياره‪ ،‬وإنما يملك اإلق راع‪ ،‬ولم‬
‫يفت محله‪ ،‬فإنه يخرج المطلقة‪ ،‬فيتبين وقوع الطالق من حين التطلي ق‪ ،‬ال من حين‬
‫اإلقراع‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يتعين الطالق في الباقية‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬واستدلوا على ذلك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه مخير في التعيين‪ ،‬ولم يبق من يص ح إيق اع الطالق عليه ا إال الحي ة‪،‬‬
‫ومن خير بين أمرين ففاته أحدهما‪ :‬تعين اآلخر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه ال يص ح أن يبت دئ في الميت ة الطالق‪ ،‬فال يص ح أن يعين ه فيه ا‬
‫بالقرعة‪ ،‬كاألجنبية‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫القول الثالث‪ :‬ال يتعين فيها‪ ،‬وله تعيينه في الميتة‪ ،‬وهو قول الشافعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثالث‪ ،‬فهو أوف ق األق وال م ع مقص د‬
‫الشريعة من تضييق دائرة الطالق‪.‬‬
‫موت المطلق قبل تعيين مطلقته‪:‬‬
‫وهي مسألة تتعلق بالميراث ال بالحياة الزوجية‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء فيها على‬
‫قولين(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬يقسم الم يراث بين الجمي ع‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذل ك بأنهم ا ق د تس اويا في س بب االس تحقاق‪ ،‬ألن حج ة ك ل واح دة منهم ا كحج ة‬
‫األخ رى‪ ،‬ف وجب أن يتس اويا في اإلرث‪ ،‬كم ا ل و أق امت ك ل واح دة منهم ا البين ة‬
‫بالزوجية‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬يوق ف م يراث الزوج ات ح تى يص طلحن علي ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الشافعية‪ ،‬وهو مذهب الشافعية في معظم المسائل التي ال يستبين فيها وجه الحق‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬إذا طلق إحدى نسائه‪ ،‬ومات قبل البيان‪ ،‬ف إن الورث ة يقرع ون‬
‫بينهن‪ ،‬فمن وقعت عليها القرعة لم ترث‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن القرعة تخلص من المفاسد التي تلزم من الق ولين الس ابقين‪ ،‬ف إن الزم‬
‫القول األول توريث من يعلم أنها أجنبية‪ ،‬ألنها مطلقة في حال الصحة ثالث ا‪ ،‬والزم‬
‫القول الثاني وقف المال‪ ،‬وتعريضه للفس اد والهالك‪ ،‬وع دم االنتف اع ب ه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫حيوانا فربما كانت مئونته تزيد على أضعاف قيمته‪ ،‬وه ذا ال مص لحة في ه‪ ،‬ثم إنهن‬
‫إذا علمن أن المال يهلك إن لم يصطلحن عليه كان ذلك إلج اء لهن إلى إعط اء غ ير‬
‫المستحقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه بما أن المس تحقة للم يراث إح داهما دون األخ رى‪ ،‬ف وجب أن يق رع‬
‫بينهما كما يقرع بين العبي د إذا أعتقهم في الم رض‪ ،‬وبين الزوج ات إذا أراد الس فر‬
‫بإحداهن‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الحاكم إنما نصب لفصل األحكام‪ ،‬ال لوقفه ا وجعله ا معلق ة‪ ،‬فت وريث‬
‫الجميع على ما فيه أق رب للمص لحة من حبس الم ال وتعريض ه للتل ف‪ ،‬م ع حاج ة‬
‫مستحقيه إليه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن األص ل الع ام في الش ريعة ع دم وق ف القض ايا على اص طالح‬
‫المتخاصمين‪ ،‬بل يشير عليهما بالصلح‪ ،‬ف إن لم يص طلحا فص ل الخص ومة‪ ،‬وبه ذا‬
‫تقوم مصلحة الناس‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الق ول األول ألن تع يين المطلق ة إنم ا يك ون‬

‫‪ )(1‬الطرق الحكمية‪.262:‬‬

‫‪128‬‬
‫بيد الزوج‪ ،‬والزوج قد مات‪ ،‬فكيف تحرم حقها الثابت باألدلة القطعية بمج رد ت وهم‬
‫أن الزوج طلقها من غير بينة تثبت ذلك‪.‬‬
‫ثالثا ـ الصفة البدعية للطالق وأحكامها‬
‫معظم أحكام الطالق السني والبدعي مرتبطة بمن يق ع عليه ا الطالق‪ ،‬فل ذلك‬
‫سنتكلم عنها في هذا المبحث‪ ،‬وبعضها اآلخ ر متعلق ة بالص يغة‪ ،‬وس نتكلم عنه ا في‬
‫محلها من الجزء الخاص بالصيغة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ تقسيم الطالق إلى سني وبدعي‬
‫اتفق الفقهاء على تقسيم الطالق من حيث وصفه الشرعي إلى س ني وب دعي‪،‬‬
‫والسني والبدعي ال يراد بهما هنا ما يراد بهما في سائر اإلطالق ات الش رعية‪ ،‬ف إن‬
‫السني هنا هو ما وافق السنة في طريقة إيقاعه‪ ،‬ال أنه سنة‪ ،‬لما تق دم من النص وص‬
‫المنفرة من الطالق‪ ،‬وأنه أبغض الحالل إلى هللا تعالى‪ ،‬أما الب دعي‪ ،‬فه و م ا خ الف‬
‫السنة في ذلك(‪.)1‬‬
‫وقد استند العلماء في تحديد صفات الطالق السني والبدعي إلى األدلة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء فَطَلِّقُ وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪:‬‬
‫‪ ،)1‬وقد فسر ابن مسعود ذل ك ب أن يطلقه ا في طه ر ال جم اع في ه‪ ،‬ومثل ه عن ابن‬
‫عباس‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ما رواه ابن عمر أنه طلق امرأته وهي ح ائض‪ ،‬فس أل عم ر رس ول هللا‬
‫‪ ‬عن ذلك‪ ،‬فقال له رس ول هللا ‪ :‬م ره فليراجعه ا‪ ،‬ثم ليتركه ا ح تى تطه ر‪ ،‬ثم‬
‫تحيض‪ ،‬ثم تطهر‪ ،‬ثم إن شاء أمسك بعد‪ ،‬وإن ش اء طل ق قب ل أن يمس‪ ،‬فتل ك الع دة‬
‫التي أمر هللا أن يطلق لها النساء (‪ ،)2‬وقد جاء في بعض الروايات بلفظ الس نة‪ ،‬فق د‬
‫وردت بلفظ (يا ابن عمر ما هكذا أمر هللا‪ ،‬أخطأت السنة‪ ،‬والسنة أن تستقبل الطه ر‬
‫فتطلق لكل قرء) (‪)3‬‬
‫قال ابن عبد البر‪ (:‬هذا حديث مجتمع على صحته من جهة النقل‪ ،‬ولم يختلف‬
‫أيضا في ألفاظه عن نافع‪ ،‬وقد رواه عنه جماعة أصحابه كما رواه مالك سواء (‪،)4‬‬
‫وقد ك ان الختالف رواي ة الح ديث أثره ا في الخالف الفقهي في ه ذه المس ائل كم ا‬
‫سنرى‪ ،‬قال ابن القيم‪ (:‬ففى تعدد الحيض والطهر ثالثة ألفاظ محفوظ ة متف ق عليه ا‬
‫من رواية ابنه سالم ومواله نافع وعبد هللا بن دينار وغيرهم والذين زادوا قد حفظوا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪.3/132:‬‬
‫‪ )( 2‬للحديث روايات مختلفة سنعرض لما تمس إليه الحاجة منها في أثناء هذا المبحث‪ ،‬انظر ه ذه الرواي ات‬
‫في‪ :‬البخاري‪ ،5/2011 :‬مسلم‪ ،2/1095 :‬المنتقى‪ ،1/183 :‬مسند أبي عوانة‪ ،3/144 :‬الدارمي‪ ،2/213 :‬ال بيهقي‪:‬‬
‫‪ ،7/323‬الدارقطني‪ ،4/6:‬مسند الش افعي‪ ،101 :‬أب و داود‪ ،2/25 :‬النس ائي‪ ،3/339 :‬ابن ماج ة‪ ،1/651 :‬الموط أ‪:‬‬
‫‪ ،2/576‬أحمد‪ ،2/61 :‬مسند ابن الجعد‪..409 :‬‬
‫‪ )(3‬مجمع الزوائد‪.4/136:‬‬
‫‪ )(4‬التمهيد‪.15/51:‬‬

‫‪129‬‬
‫ما لم يحفظه هؤالء‪ ،‬ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص‬
‫به فرواياتهم أولى ألن نافعا مواله أعلم الناس بحديثه وسالم ابنه ك ذلك وعب د هللا بن‬
‫دينار من أثبت الناس فيه وأرواهم عنه فكيف يقدم اختص ار أبي الزب ير وي ونس بن‬
‫جبير على هؤالء(‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ وما ورد عن عبد هللا بن مسعود أنه قال‪ :‬طالق السنة تطليقة وهي طاهر‬
‫في غير جماع‪ ،‬فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى‪ ،‬ف إذا حاض ت وطه رت طلقه ا‬
‫أخرى‪ ،‬ثم تعتد بعد ذلك بحيضة(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ عن عكرمة أنه سمع بن عباس يقول‪(:‬الطالق على أربعة وجوه‪ :‬وجه ان‬
‫حالل ووجهان حرام‪ ،‬فأما الحالل فإن يطلقها طاهرا جماع أو يطلقها حامال مستبينا‬
‫حملها‪ ،‬وأما الحرام فإن يطلقه ا حائض ا‪ ،‬أو يطلقه ا حين يجامعه ا ال ي دري اش تمل‬
‫الرحم على ولد أم ال)(‪)3‬‬
‫‪ 5‬ـ عن علي قال‪ (:‬ما طلق رجل طالق السنة فيندم أبدا)(‪)4‬‬
‫طرق تصنيف الطالق السني والبدعي‪:‬‬
‫قبل أن نعرض لألحكام المتعلق ة بمن يق ع عليه ا الطالق‪ ،‬ال ب أس أن ننظ رة‬
‫نظرة مجملة للطرق الفقهية في أقسام الطالق السني والبدعي‪ ،‬ومواقفه ا العام ة من‬
‫هذين النوعين من أنواع الطالق‪ ،‬لعالقتها بما سنتكلم عنه من األحكام(‪:)5‬‬
‫طريقة الحنفية‪:‬‬
‫قس م الحنفي ة الطالق إلى س ني وب دعي‪ ،‬وقس موا الس ني إلى قس مين‪ :‬حس ن‬
‫وأحسن‪ ،‬وذلك يختلف عندهم بحسب كون الزوجة مدخوال بها‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫أما بالنسبة للمدخول أو المختلى بها‪ ،‬فاألحسن عندهم‪ :‬أن يوقع المطل ق على‬
‫زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه‪ ،‬وال في حيض أو نفاس قبله‪ ،‬ولم‬
‫يطأه ا غ يره في ه بش بهة أيض ا‪ ،‬ف إن زنت في حيض ها ثم طه رت‪ ،‬فطلقه ا لم يكن‬
‫بدعيا‪.‬‬
‫وأما الحسن‪ :‬فأن يطلقها واحدة رجعية في طهر لم يطأه ا في ه وال في حيض‬
‫أو نف اس قبل ه‪ ،‬ثم يطلقه ا طلق تين أخ ريين في طه رين آخ رين دون وطء‪ ،‬ه ذا إن‬
‫كانت من أهل الحيض‪ ،‬وإال طلقها ثالث طلقات في ثالثة أش هر‪ ،‬كمن بلغت بالس ن‬
‫ولم تر الحيض‪.‬‬
‫أما غير المدخول أو المختلى بها‪ ،‬فالحسن‪ :‬أن يطلقها واحدة فقط‪ ،‬وال ح رج‬
‫أن يكون ذلك في حيض أو غيره‪ ،‬وال يضر أن طالقها يكون بائنا؛ ألنه ال يكون إال‬
‫‪ )(1‬حاشية ابن القيم‪.6/174:‬‬
‫‪ )(2‬كتاب اآلثار ألبي يوسف‪.129:‬‬
‫‪ )(3‬البيهقي‪.7/325 :‬‬
‫‪ )(4‬البيهقي‪.7/325 :‬‬
‫‪ )(5‬انظ ر‪ :‬المغ ني‪ ،7/278 :‬ب دائع الص نائع‪ ،3/88 :‬الفت اوى الك برى‪ ،3/225 :‬الف روع‪ ،5/274 :‬فتح‬
‫القدير‪ ،3/483 :‬التاج واإلكليل‪ ،5/302 :‬أسنى المطالب‪.3/263 :‬‬

‫‪130‬‬
‫كذلك‪.‬‬
‫وما سوى هذه األنواع فبدعي عندهم‪ ،‬كأن يطلقه ا م رتين أو ثالث ا في طه ر‬
‫واحد معا أو متفرقات‪ ،‬أو يطلقها في الحيض أو النفاس‪ ،‬أو يطلقه ا في طه ر مس ها‬
‫فيه‪ ،‬أو في طهر مسها في الحيض قبله‪ .‬فإن طلقها في الحيض‪ ،‬ثم طلقها في الطه ر‬
‫الذي بعده‪ ،‬كان الث اني ب دعيا أيض ا؛ ألنهم ا بمثاب ة طه ر واح د‪ ،‬وعلي ه أن ينتظ ر‬
‫حيضها الثاني‪ ،‬فإذا طهرت منه طلقها إن شاء‪ ،‬ويكون س نيا عن د ذل ك‪ ،‬ول و طلقه ا‬
‫في الحيض‪ ،‬ثم ارتجعت‪ ،‬ثم طلقه ا في الطه ر ال ذي بع ده ك ان ب دعيا في األرجح‪،‬‬
‫وهو ظاهر المذهب‪ ،‬وقال القدوري‪ :‬يكون سنيا‪.‬‬
‫وهذا كله ما لم تكن حامال‪ ،‬أو صغيرة دون سن الحيض‪ ،‬أو آيسة‪ ،‬فإن ك انت‬
‫كذلك كان طالقها سنيا‪ ،‬سواء مسها أم لم يمس ها؛ ألنه ا في طه ر مس تمر‪ ،‬ولكن ال‬
‫يزيد على واحدة‪ ،‬فإن زاد كان بدعيا‪.‬‬
‫واس تثنى الحنفي ة من الب دعي عام ة‪ :‬الخل ع‪ ،‬والطالق على م ال‪ ،‬والتفري ق‬
‫للعلة‪ ،‬فإن ه ال يك ون ب دعيا ول و ك ان في الحيض‪ ،‬لم ا في ه من الض رورة‪ ،‬وك ذلك‬
‫تخييره ا في الحيض س واء اخت ارت نفس ها في الحيض أم بع ده وك ذلك اختياره ا‬
‫نفسها في الحيض‪ ،‬سواء أخيرها في الحيض أم قبله‪ ،‬فإنه ال يكون ب دعيا ألن ه ليس‬
‫من فعله المحض‪.‬‬
‫طريقة الجمهور‪:‬‬
‫قسم جمهور الفقهاء الطالق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وب دعي‪ ،‬ولم‬
‫يذكروا للسني تقسيما‪ ،‬فهو عندهم قسم واحد‪ ،‬إال أن بعض الش افعية قس موا الطالق‬
‫إلى سني وبدعي‪ ،‬وما ليس سنيا وال بدعيا‪ ،‬وهو ما استثناه الحنفية من الب دعي كم ا‬
‫تقدم‪.‬‬
‫والس ني عن د الجمه ور ه و م ا يش مل الحس ن واألحس ن عن د الحنفي ة مع ا‪،‬‬
‫والبدعي هو ما يقابل البدعي عند الحنفية‪ ،‬إال أنهم خالفوهم في أمور منها‪:‬‬
‫‪ ‬أن الطالق الثالث في ثالث حيض ات س ني عن د الحنفي ة‪ ،‬وه و ب دعي عن د‬
‫الجمهور‪.‬‬
‫‪ ‬أن الطالق ثالثا في طهر واحد لم يصبها في ه‪ ،‬فإن ه س ني عن د الش افعية أيض ا‪،‬‬
‫وه و رواي ة عن د الحنابل ة‪ ،‬اختاره ا الخ رقي‪ .‬وذهب المالكي ة إلى أن ه مح رم كم ا عن د‬
‫الحنفية‪ ،‬وهو رواية ثانية عند الحنابلة‪.‬‬
‫أما م ذهب الظاهري ة‪ ،‬فق د نص ابن ح زم على ق ول الم ذهب في قول ه‪ (:‬من‬
‫أراد طالق ام رأة ل ه ق د وطئه ا لم يح ل ل ه أن يطلقه ا في حيض تها‪ ،‬وال في طه ر‬
‫وطئها فيه‪ .‬فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه‪ ،‬أو في حيض تها‪ :‬لم ينف ذ‬
‫ذلك الطالق وهي امرأته كم ا ك انت‪ ،‬إال أن يطلقه ا ك ذلك ثالث ة أو ثالث ة مجموع ة‬
‫فيلزم‪ ،‬فإن طلقها في طهر لم يطأه ا في ه فه و طالق س نة الزم ‪ -‬كيفم ا أوقع ه ‪ -‬إن‬
‫شاء طلقة واحدة‪ ،‬وإن شاء طلقتين مجموعتين‪ ،‬وإن شاء ثالثا مجموعة‪ .‬ف إن ك انت‬
‫حامال منه أو من غيره‪ :‬فله أن يطلقها حامال وهو الزم‪ ،‬ول و إث ر وطئ ه إياه ا ف إن‬

‫‪131‬‬
‫كان لم يطأها ق ط فل ه أن يطلقه ا في ح ال طهره ا وفي ح ال حيض تها ‪ -‬إن ش اء ‪-‬‬
‫واحدة‪ ،‬وإن شاء اثنتين وإن شاء ثالثا‪ .‬فإن كانت لم تحض قط‪ ،‬أو قد انقطع حيضها‬
‫طلقها أيضا كما قلنا في الحامل متى شاء (‪)1‬‬
‫طريقة اإلمامية‪:‬‬
‫قسموا الطالق إلى نوعين‪ :‬بدعي وسنّي‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطالق الب دعي‪ :‬وه و الباط ل‪ ،‬في دخل في ه المطلق ة ثالث ا باعتب ار بطالن‬
‫الثالث‪ ،‬ويشمل ما كان ص حيحا عن د الجمه ور كطالق الح ائض وش بهه وإن ك ان‬
‫حراما عندهم‪ ،‬وما كان صحيحا ً غير حرام كطالق الكناية‪ ،‬وم ا ك ان غ ير ص حيح‬
‫وحرام كفاقد الشرط عندهم(‪.)2‬‬
‫الطالق السني‪ :‬و يُطلّق الطالق الس ني المنس وب إلى الس نة على ك ل طالق‬
‫جائز شرعا‪ ،‬والمراد به الج ائز ب المعنى األعم‪ ،‬وه و م ا قاب ل الح رام‪ ،‬ويق ال ل ه‪:‬‬
‫طالق السنة بالمعنى األعم‪ ،‬ويقابله البدعي(‪ ،)3‬ويقسمونه إلى قسمين‪:‬‬
‫الطالق البائن‪ :‬وهو كل طالق ال يكون للزوج المراجع ة في ه إال بعق د جدي د‬
‫ومهر مستأنف‪ ،‬أو بعد أن تَ ْن ِك َح َزوْ جا ً َغ ْي َرهُ‪ ،‬والب ائن على ض روب أربع ة‪ :‬طالق‬
‫غ ير الم دخول به ا‪ ،‬وطالق الع دة‪ ،‬والخل ع‪ ،‬والمب ارأة (والتطليق ة الثالث ة بع د ك ل‬
‫تطليقتين من أي طالق كان)(‪)4‬‬
‫وقد ذكر صاحب الج واهر أن الطالق الب ائن س تة اقس ام وهي‪ :‬طالق الغ ير‬
‫مدخول بها‪ ،‬وطالق اليائسة‪ ،‬وطالق الصغيرة‪ ،‬وطالق المختلعة‪ ،‬وطالق المبارأة‪،‬‬
‫وطالق المطلّقة ثالثا بينهما رجعتان(‪.)5‬‬
‫الطالق الرجعي‪ :‬كل طالق يكون له المراجعة بغير تجدي د عق د‪ ،‬وق د عرّف ه‬
‫صاحب المسالك بقوله‪( :‬ما كان قابال للرجوع فيه شرعا و إن لم يحص ل الرج وع‪،‬‬
‫وذلك ما عدا األقسام الس تّة‪ ،‬ومن ه طالق المختلع ة بع د رجوعه ا في الب ذل فيك ون‬
‫طالقها تارة من أقس ام الب ائن‪ ،،‬وت ارة من أقس ام ال رجعي)(‪ ..)6‬والطالق ال رجعي‬
‫ينقسم الى قسمين‪:‬‬
‫ّ‬
‫الطالق الع دي‪ :‬م ا يرج ع في ه‪ ،‬ويواق ع‪ ،‬ث ّم يطل ق فه ذه تح رم في التاس عة‬
‫تحريما مؤبّدا وما عداه تحرم في ك ّل ثالثة حتّى تنكح غيره(‪.)7‬‬
‫الطالق غير العدي‪ :‬وهو أن يترك العدة تنتهي فيعق د على الزوج ة من جدي د‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/365:‬‬
‫‪ )(2‬كاشف الغطاء‪ ،‬أنوار الفقاهة ‪ -‬كتاب الطالق‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ )(3‬الشهيد الثاني‪ ،‬الروضة البهية‪ ،‬ج‪ 6‬ص‪..33‬‬
‫‪ )(4‬ابن زهرة‪ ،‬غنية النزوع‪ ،‬ص‪..373‬‬
‫‪ )(5‬النجفي‪ ،‬جواهر الكالم‪ ،‬ج‪32‬ص‪..121- 120‬‬
‫‪ )(6‬النجفي‪ ،‬جواهر الكالم‪ ،‬ج‪ ،32‬ص‪.121- 120‬‬
‫‪ )(7‬الخوانساري‪ ،‬جامع المدارك‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.518‬‬

‫‪132‬‬
‫باختيارها‪ ،‬وهو طالق السنّة‪ ،‬أو الطالق السنّي(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أثر الطالق في الحيض‬
‫اتفق الفقهاء على أن إيقاع الطالق في فترة الحيض حرام(‪ ،)2‬وهو أحد أقسام‬
‫الطالق الب دعي لنهي الش ارع عن ه‪ ،‬لم ا م ر من ح ديث ابن عم ر ولمخالفت ه قول ه‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪ ،)1:‬أي في ال وقت‬
‫ال ذي يش رعن في ه في الع دة‪ ،‬وزمن الحيض ال يحس ب من الع دة‪ ،‬وألن في إيق اع‬
‫الطالق في زمن الحيض ضررا بالمرأة لتطويل الع دة عليه ا حيث إن بقي ة الحيض‬
‫ال تحسب منها‪ ،‬وقد نقل العلماء اإلجماع على ذل ك ق ال ابن تيمي ة‪ (:‬إن الطالق في‬
‫الحيض مح رم بالكت اب والس نة واإلجم اع؛ فإن ه ال يعلم في تحريم ه ن زاع‪ ،‬وه و‬
‫طالق بدعة)(‪ ،)3‬واختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬وقوع الطالق‪ ،‬وهو ما عليه جماهير العلماء(‪ ،)4‬ح تى ق ال ابن‬
‫عبد البر‪( :‬وعلى هذا جماعة فقهاء األمص ار وجمه ور علم اء المس لمين وإن ك ان‬
‫الطالق عند جميعهم في الحيض بدعة غير سنة‪ ،‬فهو الزم عند جميعهم وال مخالف‬
‫في ذلك إال أهل البدع والضالل والجهل‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬إن الطالق لغير السنة غ ير‬
‫واقع وال الزم‪ ،‬وروي مثل ذلك عن بعض التابعين‪ ،‬وهو شذوذ لم يعرج علي ه أه ل‬
‫العلم من أه ل الفق ه واألث ر في ش يء من أمص ار المس لمين لم ا ذكرن ا) (‪ ،)5‬ومن‬
‫أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿:‬و َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َس هُ ﴾(الطالق‪ ،)1:‬فس رها‬
‫ابن عبد البر بقوله‪(:‬يريد أنه عصى ربه‪ ،‬وفارق امرأته) (‪)6‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض‪ ،‬فأمره الن بي ‪ ‬أن يراجعه ا‪ ،‬ثم‬
‫يمسكها حتى تحيض وتطهر‪ ،‬ثم تحيض وتطهر‪ ،‬ثم إن شاء أمسك وإن ش اء طل ق‪،‬‬
‫فتلك العدة التي أمر هللا تعالى بها أن يطلق لها النساء‪ ،‬وقد اس تدل به ذا الح ديث من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أمر رسول هللا ‪ ‬ابن عمر بمراجعة امرأته إذ طلقها حائض ا‪،‬‬
‫والمراجعة ال تكون إال بعد لزوم الطالق‪ ،‬ولو لم يكن الطالق في الحيض واقعا وال‬
‫الزما ما قال له راجعها‪ ،‬ألنه محال أن يق ال لرج ل امرأت ه في عص مته لم يفارقه ا‬

‫‪ )(1‬الصدر‪ ،‬ما وراء الفقه‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪..310‬‬


‫‪ )(2‬وهو نفس حكمهم في النفاس‪ ،‬واالختالف نفسه جار فيه‪ ،‬فلذلك لم نذكر النفاس كل م رة بجنب الحيض‪،‬‬
‫قال ابن عبد البر‪ » :‬الحائض والنفساء ال يجوز طالق واحدة منهما حتى تطهر‪ ،‬فإن طلقها زوجه ا في دم حيض أو‬
‫دم نفاس طلقة أو طلقتين لزمه ذلك«التمهيد‪.15/68:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.3/247:‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬القرطبي‪ ،18/152 :‬الجصاص‪ ،3/99 :‬المبدع‪ ،7/250:‬اإلنصاف للم رداوي‪ ،8/448:‬روض ة‬
‫الطالبين‪ ،8/7 :‬المجموع‪ ،2/386 :‬شرح فتح القدير‪ ،6/460 :‬الفواكه الدواني‪ 2/33 :‬وغيرها‪.‬‬
‫‪ )(5‬التمهيد‪.15/58:‬‬
‫‪ )(6‬التمهيد‪.15/59:‬‬

‫‪133‬‬
‫ك إِ ْن‬ ‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ َ‬ ‫راجعها‪ ،‬بدليل قول هللا تع الى في المطلق ات‪َ ﴿:‬وبُ ُع ولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫ص اَل حًا ﴾ (البق رة‪ )228:‬ولم يق ل ه ذا في الزوج ات الالتي لم يلحقهن‬ ‫أَ َرادُوا إِ ْ‬
‫الطالق(‪.)1‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن ابن عمر الذي عرضت له القض ية احتس ب ب ذلك الطالق‪،‬‬
‫وأفتى بذلك وهو ممن ال ي دفع علم ه بقص ة نفس ه‪ ،‬ق ال ن افع بع د روايت ه للح ديث‪:‬‬
‫(وكان عبد هللا ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال ألحدهم‪ :‬إذا أنت طلقت امرأت ك وهي‬
‫حائض مرة أو م رتين‪ ،‬ف إن رس ول هللا ‪ ‬أم ر به ذا‪ ،‬وإن كنت طلقته ا ثالث ا فق د‬
‫ح رمت علي ك ح تى تنكح زوج ا غ يرك‪ ،‬وعص يت هللا فيم ا أم رك ب ه من طالق‬
‫امرأتك(‪ ،)2‬وعن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى ن افع يس ألونه ه ل حس بت تطليق ة ابن‬
‫عمر على عهد رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬نعم(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ما رواه الشعبي عن ابن عمر من عدم االعتداد بها‪ ،‬فه و م ؤول‪ ،‬وأن‬
‫معناه‪ :‬ال يعتد بتلك الحيضة في العدة‪ ،‬ولم يرد ال يعتد بتلك التطليقة‪ ،‬وقد روي عنه‬
‫ذلك منصوصا كما رواه ش ريك عن ج ابر عن ع امر في رج ل طل ق امرأت ه وهي‬
‫حائض‪ ،‬فقال‪ :‬يقع عليه الطالق وال يعتد بتلك الحيضة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ لو جاز أن تك ون الطلق ة الواح دة في الحيض ال يعت د به ا لك انت الثالث‬
‫أيضا ال يعتد بها‪ ،‬وهذا ما ال إشكال فيه عند كل ذي فهم‪ ،‬ألن كليهما طالق بدعي‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الطالق ليس من األعم ال ال تي يتق رب به ا إلى هللا تع الى فال تق ع إال‬
‫على حسب سنتها‪ ،‬وإنما هو زوال عصمة فيها حق آلدمي فكيفما أوقع ه وق ع‪ ،‬ف إن‬
‫أوقعه لسنة هدي ولم يأثم‪ ،‬وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزمه ذلك‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه محال أن يلزم المطيع وال يلزم العاصي‪ ،‬ولو لزم المطي ع الموق ع ل ه‬
‫إال على سنته ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حاال من المطيع‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم وقوع الطالق‪ ،‬وه و ق ول اإلمامي ة‪ ،‬وق د نس به ابن تيمي ة‬
‫لطاوس‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وخالس‪ ،‬وعمر‪ ،‬ومحمد بن إسحاق‪ ،‬وحجاج بن أرط اة‪ .‬وأه ل‬
‫الظاهر‪ :‬كداود‪ ،‬وأصحابه وطائفة من أصحاب أبي حنيف ة ومال ك وأحم د‪ ،‬وي روى‬
‫عن أبي جعفر الباقر‪ ،‬وجعفر بن محم د الص ادق‪ ،‬وغيرهم ا من أه ل ال بيت‪ ،‬وه و‬
‫قول ابن حزم كما مر ذكر تفاصيل مذهب ه في ذل ك‪ ،‬وق د انتص ر ل ه ابن القيم وابن‬
‫تيمية في محال مختلفة من كتبهما‪ ،‬وسنسوق هنا ما ذكره هؤالء الفقه اء الثالث ة من‬
‫أدلة(‪:)4‬‬
‫ت ث َّمُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى في غير الموطوءة‪ ﴿ :‬يَاأيُّهَا ال ِذينَ آ َمنوا إِذا نَكَحْ ت ْم ال ُمؤ ِمنَا ِ‬
‫طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وهُنَّ‬
‫‪ )(1‬التمهيد‪.15/58:‬‬
‫‪ )(2‬التمهيد‪.15/64 :‬‬
‫‪ )(3‬مسند الشافعي‪ ،193 :‬اختالف الحديث‪.261 :‬‬
‫‪ )(4‬حاشية ابن القيم على سن أبي داود‪ 6/166 :‬فما بع دها‪ ،‬المحلى‪ ،9/365:‬وانظ ر‪ :‬زاد المع اد‪،5/218 :‬‬
‫‪ ،5/634‬شرح العمدة‪ ،1/514 :‬مجموع الفتاوى‪.29/378 ،3/31 ،33/82 :‬‬

‫‪134‬‬
‫َو َسرِّ حُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪)49:‬‬
‫ض وا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬اَل ُجنَا َح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلقتُ ْم النِّ َسا َء َما لَ ْم تَ َم ُّس وه َُّن أوْ تَف ِر ُ‬
‫ُوف َحقّ اً‬ ‫ضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُمو ِس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ َمتَا ًع ا بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫لَه َُّن فَ ِري َ‬
‫َعلَى ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾(البقرة‪ ،)236:‬قال ابن حزم‪ (:‬فأباح ع ز وج ل طالق ال تي لم تمس‬
‫بالوطء‪ ،‬ولم يحد في طالقها وقت ا‪ ،‬وال ع ددا‪ ،‬ف وجب من ذل ك أن ه ذا حكمه ا وإن‬
‫دخل بها‪ ،‬وطال مكثها معه‪ ،‬ألنه لم يمسها)‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 3‬ـ قول ه تع الى في الموط وءة‪ ﴿ :‬يَاأيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلقتُ ْم النِّ َس ا َء فَطَلقُ وه َُّن‬
‫لِ ِع َّدتِ ِه َّن َوأَحْ صُوا ْال ِع َّدةَ َواتَّقُوا هَّللا َ َربَّ ُك ْم اَل تُ ْخ ِرجُوه َُّن ِم ْن بُيُوتِ ِه َّن َواَل يَ ْخ رُجْ نَ إِاَّل أَ ْن‬
‫يَأْتِينَ بِفَا ِح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة َوتِ ْل َ‬
‫ك ُحدُو ُد هَّللا ِ َو َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َس هُ اَل تَ ْد ِري لَ َع َّل‬
‫ك أَ ْمرًا﴾(الطالق‪ )1:‬قال ابن حزم‪ (:‬والعدة ال تك ون من الطالق إال‬ ‫ث بَ ْع َد َذلِ َ‬ ‫هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫في موطوءة فعلمن ا هللا ع ز وج ل كي ف يك ون طالق الموط وءة‪ ،‬وأخبرن ا أن تل ك‬
‫حدود هللا‪ ،‬وأن من تع داها ظ الم لنفس ه‪ .‬فص ح أن من ظلم وتع دى ح دود هللا ‪ -‬ع ز‬
‫وجل ‪ -‬ففعله باطل مردود‪ ،‬لقول الن بي ‪ (:‬من عم ل عمال ليس علي ه أمرن ا فه و‬
‫رد)(‪ ،)1‬فصح أن الطالق المذكور ال يكون إال للعدة كما أمر هللا عز وجل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن النبي ‪ ‬قال‪( :‬كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)‪،‬وفي لفظ من عم ل‬
‫عمال ليس عليه أمرنا فهو رد‪ ،‬والرد فعل بمع نى المفع ول أي فه و م ردود‪ ،‬وع بر‬
‫عن المفعول بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس الرد‪ ،‬وهو تصريح بإبط ال ك ل عم ل‬
‫على خالف أمره ورده وعدم اعتباره في حكم ه المقب ول‪ ،‬ف المطلق في الحيض ق د‬
‫طلق طالقا ليس عليه أمر الشارع فيكون مردودا فلو ص ح ول زم لك ان مقب وال من ه‬
‫وهو خالف النص‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن دع وى اإلجم اع في المس ألة ال تص ح‪ ،‬ق ال ابن ح زم راد على على‬
‫دعوى اإلجماع‪( :‬ثم اختلف الناس في الطالق في الحيض إن طلق الرجل كذلك‪ ،‬أو‬
‫في طه ر وطئه ا في ه‪ ،‬ه ل يل زم ذل ك الطالق أم ال؟ ادعى بعض الق ائلين به ذا أن ه‬
‫إجماع؟ وقد كذب مدعي ذلك‪ ،‬ألن الخالف في ذلك موجود‪ ،‬وحتى لو لم يبلغنا لكان‬
‫القاطع ‪ -‬على جميع أه ل اإلس الم ‪ -‬بم ا ال يقين عن ده ب ه‪ ،‬وال بلغ ه عن جميعهم ‪:-‬‬
‫كاذب ا على جميعهم)‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪ (:‬والعجب من ج رأة من ادعى اإلجم اع على‬
‫خالف هذا ‪ -‬وهو ال يج د فيم ا يواف ق قول ه في إمض اء الطالق في الحيض‪ ،‬أو في‬
‫طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة غير رواية عن ابن عمر ق د عارض ها‬
‫ما هو أحسن منها عن ابن عمر‪ ،‬وروايتين ساقطتين عن عثمان‪ ،‬وزيد بن ثابت)‬
‫‪ 6‬ـ رواية ذلك عن السلف‪ ،‬وممن نقل عنهم ابن حزم القول بذلك ابن عباس‪،‬‬
‫وقد مر معنا قوله سابقا‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬ومن المح ال أن يخ بر ابن عب اس عم ا ه و‬
‫ج ائز بأن ه ح رام)‪ ،‬وروى عن ابن عم ر أن ه ق ال في الرج ل يطل ق امرأت ه وهي‬
‫ح ائض‪ ،‬ق ال ابن عم ر‪ :‬ال يعت د ل ذلك‪ ،‬وروى عن خالس بن عم رو أن ه ق ال في‬

‫‪ )(1‬أخرجه أبو داود (‪ ،4/200‬رقم ‪)4606‬‬

‫‪135‬‬
‫الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ قال‪ :‬ال يعتد بها‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن وص ف العق د المح رم بالص حة إم ا أن يعلم بنص من الش ارع أو من‬
‫قياسه أو من توارد عرفه في محال حكمه بالص حة أو من إجم اع األم ة‪ ،‬وليس في‬
‫هذه المسألة شيء من ذلك‪ ،‬بل نصوص الشرع تقتضي رده وبطالنه وك ذلك قي اس‬
‫الش ريعة‪،‬واس تقراء م وارد ع رف الش رع في مج ال الحكم بالص حة إنم ا يقتض ي‬
‫البطالن في العقد المحرم ال الصحة‪ ،‬وكذلك اإلجماع ف إن األم ة لم تجم ع ق ط على‬
‫صحة شيء حرمه هللا ورسوله ال في هذه المس ئلة وال في غيره ا ف الحكم بالص حة‬
‫فيها ال يستند إلى دليل‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن للشارع في الطالق المباح حكمان‪ :‬أحدهما إباحته واإلذن فيه‪ ،‬والثاني‬
‫جعله سببا للتخلص من الزوجة‪ ،‬ف إذا لم يكن الطالق مأذون ا في ه انتفى الحكم األول‬
‫وهو اإلباحة‪ ،‬فما الموجب لبقاء الحكم الث اني‪ ،‬وق د ارتف ع س ببه؟ م ع العلم أن بق اء‬
‫الحكم بدون سببه ممتنع‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن دعوى أن الطالق المحرم سبب لذلك‪ ،‬فليس في لف ظ الش ارع م ا ي دل‬
‫عليه‪ ،‬وليس هناك ما يستدل به على الصحة والفساد إال موافقة األمر واإلذن وع دم‬
‫موافقتهما‪ ،‬فإن حكم بالصحة م ع مخالف ة أم ر الش ارع وإباحت ه لم يب ق طري ق إلى‬
‫معرفة الصحيح من الفاسد‪ ،‬إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وه ذا فاس د‬
‫غير اإلباحة والتحريم‪ ،‬فإذا جوز ثبوت الصحة مع التحريم فبأي شيء ب ه بع د ذل ك‬
‫على فساد العقد وبطالنه‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ مخالفته للقي اس‪ ،‬ألن الطالق لم ا ك ان منقس ما إلى حالل وح رام‪ ،‬ف إن‬
‫قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به كالنكاح وسائر العقود التي تنقس م‬
‫إلى حالل وحرام‪ ،‬وال ينقض ذلك الظهار ألنه ال يك ون ق ط إال حرام ا‪ ،‬فه و منك ر‬
‫من القول وزور‪ ،‬وال شبه له بالطالق‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن قواعد الشريعة تنص على أن النهي يقتضي التحريم فك ذلك يقتض ي‬
‫الفساد وليس هن اك م ا يس تدل ب ه على فس اد العق د إال النهي عن ه‪ ،‬ألن ه إذا ص حح‬
‫استوى هو والحالل في الحكم الشرعي وهو الصحة‪ ،‬وإنما يفترقان في موجب ذلك‬
‫من اإلثم والذم ومعلوم أن الحالل المأذون فيه ال يساوي المحرم الممنوع من ه أب دا‪،‬‬
‫فالمحرم إنما حرم لئال ينفذ وال يصح فإذا نفذ وصح وترتب عليه حكم الصحيح كان‬
‫ذلك عائدا على مقتضى النهي باالبطال‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ أن هذا الطالق منع منه الشارع وحجر على العبد في اتباع ه فكم ا أف اد‬
‫منعه وحجره عدم جواز اإليقاع أفاد عدم نفوذه‪ ،‬وإال لم يكن للحجر فائدة‪ ،‬ألن فائدة‬
‫الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه‪ ،‬وقد ضرب البن القيم مث اال ل ذلك بم ا‬
‫لو أن الزوج أذن لرجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طالقا معينا فطلق غ ير م ا‬
‫أذن له فيه‪ ،‬فإنم ذلك ال ينفذ لعدم إذنه‪ ،‬فاهلل تعالى إنما أذن للعبد في الطالق المب اح‪،‬‬
‫ولم يأذن له في المحرم‪ ،‬فكيف يصحح ما لم يأذن به ويقع ويجعل من صحيح أحكام‬
‫الشرع‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫‪ 13‬ـ أن الشارع جعل للمكلف مباشرة األسباب‪ ،‬أما أحكامها المترتب ة عليه ا‬
‫فليست له وإنم ا هي إلى الش ارع‪ ،‬ف إذا ك ان الس بب محرم ا ك ان ممنوع ا من ه ولم‬
‫ينصبه الشارع مقتضيا آلثار السبب المأذون فيه‪ ،‬والحكم ليس للمكل ف ح تى يك ون‬
‫إيقاعه إليه غير مأذون فيه‪ ،‬وال نصبه الشارع لترتب اآلثار عليه فترتيبها عليه إنما‬
‫هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه‪ ،‬وهو قياس في غاية الفساد إذ هو قي اس‬
‫أحد النقيضين على اآلخر في التسوية بينهما في الحكم وال يخفى فساده‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة القول الثاني‪ ،‬والذي ال يوق ع الطالق‪ ،‬بن اء على‬
‫مراع اة مص لحة الحف اظ على األس رة‪ ،‬وبن اء على الس ماحة والرحم ة لل زوجين‬
‫جميعا‪ ،‬فال يقع طالقه لزوجته‪ ،‬وهو م ا يض يق دائ رة الطالق‪ ،‬ويض عها في إط ار‬
‫محدود‪ ،‬فلذلك كان هذا القول أولى وأنسب وأرفق بالناس وأقرب للسنة‪ ،‬فإن ه ‪ ‬لم‬
‫يخير بين أمرين إال اختار أيسرهما ما لم يكن إثما‪.‬‬
‫وال بأس من أن نذكر هنا بعض النواحي المقاص دية ال تي أراده ا ونظ ر من‬
‫خاللها أصحاب القول الثاني لهذه المسألة‪ ،‬فمن المقاصد التي ذكرها ابن القيم‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه لو كان الطالق نافذا في الحيض لكان األمر بالمراجعة والتطليق بعده‬
‫تكث يرا من الطالق البغيض إلى هللا وتقليال لم ا بقي من ع دده ال ذي يتمكن من‬
‫المراجعة معه‪ ،‬ومعلوم أنه ال مصلحة في ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن مفس دة الطالق الواق ع في الحيض ل و ك ان واقع ا ال يرتف ع بالرجع ة‬
‫والطالق بعدها‪ ،‬ب ل إنم ا يرتف ع بالرجع ة المس تمرة ال تي تلم ش عث النك اح وترق ع‬
‫خرقه‪ ،‬فأما رجعة يعقبها طالق‪ ،‬فال تزيل مفسدة الطالق األول لو كان واقعا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الشارع إنما حرمه ونهى عنه ألجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه ألن‬
‫ما نهى عنه الشرع وحرمه ال يكون قط إال مش تمال عن مفس دة خالص ة أو راجح ة‬
‫فنهى عنه قصدا إلعدام تلك المفسدة‪ ،‬فلو حكم بص حته ونف وذه لك ان ذل ك تحص يال‬
‫للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها وإثباتا لها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ما حرمه هللا تعالى من العقود فهو مطلوب اإلعدام بك ل طري ق ح تى‬
‫يجعل وجوده كعدمه في حكم الشرع‪ ،‬وله ذا ك ان ممنوع ا من فعل ه ب اطال في حكم‬
‫الشرع والباطل شرعا كالمعدوم‪ ،‬ومعلوم أن ه ذا ه و مقص ود الش ارع مم ا حرم ه‬
‫ونهى عنه‪ ،‬فالحكم ببطالن م ا حرم ه ومن ع من ه أدنى إلى تحص يل ه ذا المطل وب‬
‫وأقرب بخالف ما إذا صحح فإنه يثبت له حكم الوجود‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن صحة العقد هي عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكل ف علي ه‪ ،‬وه ذا‬
‫الترتب نعمة من الشارع أنعم بها على العبد وجعل له طريقا إلى حصولها بمباش رة‬
‫األس باب ال تي أذن ل ه فيه ا‪ ،‬ف إذا ك ان الس بب محرم ا منهي ا عن ه ك انت مباش رته‬
‫معصية‪ ،‬فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها؟‬
‫حكم إجبار من طلق امرأته في الحيض والنفاس على مراجعتها‪:‬‬
‫اختل ف الفقه اء فيمن طل ق زوجت ه وهي ح ائض أو نفس اء‪ ،‬ه ل يج بر على‬

‫‪137‬‬
‫رجعتها أم ال على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يؤمر برجعتها إذا طلقها حائضا‪ ،‬وال يجبر على ذلك‪ ،‬ه و ق ول‬
‫الش افعي وأبي حنيف ة وأص حابهما والث وري واألوزاعي وابن أبي ليلى وأحم د بن‬
‫حنبل وأبي ثور والطبري‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬كل من طل ق امرأت ه حائض ا أج بر على رجعته ا‪ ،‬وإن طلقه ا‬
‫نفساء لم يجبر على رجعتها‪ ،‬وهو مذهب داود بن علي‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يجبر على مراجعتها إذا طلقها في الحيض أو في النفاس‪ ،‬وهو‬
‫قول المالكية‪ ،‬واستدلوا بما يقتضيه األمر من وجوب االئتمار واستعمال المأمور ما‬
‫أمر به حتى يخرجه عن جبر الوجوب‪ ،‬ولم يستدلوا بغ ير ه ذا‪ ،‬ق ال ابن عب د ال بر‪:‬‬
‫(وال دليل ههنا على ذلك وهللا أعلم‪ ،)1( ).‬وقد اختلف قول المالكية في ال وقت ال ذي‬
‫تتم فيه الرجعة على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬يجبر على الرجعة أبدا ما لم تخرج من عدتها سواء أدرك ذل ك‬
‫في تلك الحيضة التي طلق فيها أو الطه ر ال ذي بع ده أو الحيض ة الثاني ة أو الطه ر‬
‫بعدها ما لم تنقض العدة‪ ،‬وهو قول مالك وأكثر أصحابه‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬يجبر على الرجع ة م ا لم تطه ر وح تى تحيض ثم تطه ر ف إذا‬
‫صارت في الحال التي أباح له النبي ‪ ‬طالقها لم يج بر على رجعته ا‪ ،‬وه و ق ول‬
‫أشهب بن عبدالعزيز‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة في هذه الحالة باإلض افة إلى م ا س بق ذك ره في‬
‫الترجيح السابق أن األولى هو القول األول لما يفضي عليه الق ول الث اني من تكث ير‬
‫عدد الطلقات‪ ،‬وبالتالي قد يؤدي إلى البينون ة الك برى‪ ،‬وه و م ا لم يقص ده الش ارع‬
‫بتعديد فرص الطالق‪ ،‬ولهذا كان األولى إما الق ول بع دم وق وع الطالق كم ا ذكرن ا‬
‫ذلك سابقا‪ ،‬أو القول بعدم إجباره على الرجعة‪ ،‬أما القول بوقوع الطالق مع وج وب‬
‫الرجعة ففيه تناقض واضح ومفسدة عظيمة‪ ،‬وقد قال ابن رشد مع مالكيته‪ (:‬من قال‬
‫بوقوع الطالق وجبره على الرجعة فقد تناقض‪ ،‬فتدبر ذلك)(‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ حكم الطالق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها‬
‫اختلف الفقهاء(‪ )3‬في جواز طالقها في الطهر التالي للحيضة التي طل ق فيه ا‬
‫على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬يج وز طالقه ا في الطه ر الت الي لتل ك الحيض ة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية األخرى‪ ،‬ومن أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيح‪ (:‬ثم ليطلقه ا ط اهرا أو‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪.15/67 :‬‬
‫‪ )(2‬بداية المجتهد‪.2/49:‬‬
‫‪ )(3‬حاشية ابن القيم‪.6/174 :‬‬

‫‪138‬‬
‫حامال(وفي لفظ‪(:‬ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع قبل عدتها(وفي لفظ)فإذا طه رت‬
‫فليطلقها لطهرها(قال فراجعها ثم طلقها لطهره ا‪ ،‬وفي ح ديث أبي الزب ير ق ال‪(:‬إذا‬
‫طهرت فليطلق أو ليمسك)وكل هذه األلفاظ في الصحيح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن التحريم إنم ا ك ان ألج ل الحيض‪ ،‬ف إذا طه رت زال م وجب التح ريم‬
‫فجاز طالقها في هذا الطه ر كم ا يج وز في الطه ر ال ذي بع ده وكم ا يج وز أيض ا‬
‫طالقها فيه لو لم يتقدم طالق في الحيض‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك الحيضة‪ ،‬ثم تطهر كما‬
‫أمر به النبي ‪ ،‬وهو مذهب بعض المالكية ورواية عن أحمد‪ ،‬ومن أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أمره ‪ ‬البن عمر بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الرجعة ال تكاد تعلم صحتها إال ب الوطء ألن ه المبتغى من النك اح‪ ،‬وال‬
‫يحصل الوطء إال في الطهر‪ ،‬فإذا وطئها حرم طالقه ا في ه ح تى تحيض‪ ،‬ثم تطه ر‬
‫فاعتبرنا مظنه الوطء ومحله ولم يجعله محال للطالق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة واألوف ق بالمقاص د الش رعية من حيث تض ييق‬
‫دائرة الطالق هو القول الثاني الذي دل عليه الحديث‪ ،‬أما رعاية هذا القول للمقاصد‬
‫الشرعية‪ ،‬فمن وجوه متعددة ذكرها وانتصر لها ابن القيم‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه لو طلقه ا عقب تل ك الحيض ة ك ان ق د راجعه ا ليطلقه ا‪ ،‬وه ذا عكس‬
‫مقصود الرجعة فإن هللا تعالى إنما شرع الرجعة إلمساك المرأة وإيوائه ا ولم ش عث‬
‫النكاح وقطع سبب الفرقة‪ ،‬ولهذا س ماه إمس اكا ف أمره الش ارع أن يمس كها في ذل ك‬
‫الطه ر‪ ،‬وأن ال يطل ق في ه ح تى تحيض حيض ة أخ رى ثم تطه ر لتك ون الرجع ة‬
‫لالمساك ال للطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن من مقاصد تح ريم الطالق في الحيض ع دم إطال ة الع دة عليه ا‪ ،‬فل و‬
‫طلقها عقب الرجعة من غير معاشرة لم تكن ق د اس تفادت بالرجع ة فائ دة‪ ،‬ألن تل ك‬
‫الحيضة ال تي طلقت فيه ا لم تكن تحتس ب عليه ا من الع دة وإنم ا تس تقبل الع دة من‬
‫الطهر الذي يليها أو من الحيض ة األخ رى على االختالف في األق راء‪ ،‬ف إذا طلقه ا‬
‫عقب تلك الحيضة كانت في مع نى ممن طلقت ثم راجعه ا ولم يمس ها ح تى طلقه ا‪،‬‬
‫فإنها تب نى على ع دتها في أح د الق ولين ألنه ا لم تنقط ع ب وطء‪ ،‬ف المعنى المقص ود‬
‫إعدامه من تطويل العدة موج ود بعين ه هن ا لم ي زل بطالقه ا عقب الحيض ة‪ ،‬ف أراد‬
‫الشارع قطع حكم الطالق جملة بالوطء‪ ،‬فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء ف إذا‬
‫وطىء حرم طالقها حتى تحيض ثم تطهر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنها ربما ك انت ح امال وه و ال يش عر‪ ،‬ألن الحام ل ق د ت رى ال دم أثن اء‬
‫حملها‪ ،‬فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام‪ ،‬ثم بحيض تام فحينئ ذ‬
‫تعلم هل هي حامل أو حائل‪ ،‬فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه‪ ،‬وربم ا تك ف‬
‫هي عن الرغب ة في الطالق إذا علمت أنه ا حام ل‪،‬وربم ا ي زول الش ر الم وجب‬
‫للطالق بظهور الحمل‪ ،‬فأراد الشارع تحيق علمه ا ب ذلك نظ را لل زوجين ومراع اة‬

‫‪139‬‬
‫لمصلحتهما‪ ،‬وحسما لباب الندم وهذا من أحسن محاسن الشريعة‪.‬‬
‫الطهر الذي يقع فيه الطالق السني‪:‬‬
‫اختلف العلماء في الطهر الذي يقع فيه الطالق السني على األقوال التالية(‪:)1‬‬
‫الق ول األول‪ :‬انقط اع ال دم‪ ،‬وه و ق ول الش افعي‪ ،‬ورواي ة عن أحم د‪ ،‬ألن‬
‫الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه ويصح منها م ا‬
‫يصح منه ومعلوم أن المرأة الجنب ال يحرم طالقها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬التطهر بالغسل أو ما يق وم مقام ه من ال تيمم‪ ،‬وه و رواي ة عن‬
‫أحمد‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما رواه نافع عن عبد هللا بن عمر أنه طلق امرأته وهي ح ائض تطليق ة‪،‬‬
‫ف انطلق عم ر ف أخبر الن بي ‪ ‬ب ذلك فق ال الن بي ‪:‬م ر عب د هللا فليراجعه ا ف إذا‬
‫اغتس لت من حيض تها األخ رى‪ ،‬فال يمس ها ح تي يطلقه ا ف إن ش اء أن يمس كها‬
‫فليمسكها‪ ،‬فإنها العدة التي أمر هللا أن تطلق لها النساء) وهذا على شرط الصحيحين‬
‫وهو مفسر لقوله‪ :‬فإذا طهرت‪ ،‬فيجب حمله عليه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها‪.‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬إن طه رت ألك ثر الحيض ح ل طالقه ا بانقط اع ال دم‪ ،‬وإن‬
‫طهرت لدون أكثره لم يحل طالقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثالثة أشياء‬
‫إما أن تغتسل‪ ،‬وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي‪ ،‬وإما أن يخ رج عنه ا وقت ص الة‬
‫ألنه متى وجد أحد هذه األشياء حكمنا بانقطاع حيضها‪ ،‬وهو مذهب الحنفية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة لالعتب ارات الس ابقة األخ ذ ب القول الث اني‪ ،‬ألن‬
‫اغتسالها وتطهرها قد يصرف الزوج عن طالقها‪ ،‬فقد تدعوه رغبته فيها إلمساكها‪،‬‬
‫خاصة بعد اغتسالها‪ ،‬فإذا ما عاشرها حرم عليه طالقها شهرا كامال بع د ذل ك‪ ،‬وق د‬
‫يغير هللا في ذلك الشهر من حال إلى حال‪.‬‬
‫ففي هذا الق ول مص لحة كب يرة من حيث تض ييق وقت الطالق‪ ،‬وه و م ا ق د‬
‫يضيق الطالق نفسه‪.‬‬
‫ثم إن المرأة بعد طهرها وقبل تطهرها قد ال تتغير حالتها النفسية مع زوجه ا‬
‫لوجود أثر الحيضة فيه ا‪ ،‬ف إذا م ا تطه رت واغتس لت ك ان ذل ك طه را لنفس ها ق د‬
‫يدعوها إلى ما يصرف عن زوجها التفكير في طالقها‪.‬‬
‫وزيادة على ذلك كل ه تص ريح الح ديث ب ذلك في بعض روايات ه‪،‬ه و تفس ير‬
‫لقوله (فإذا طهرت)(‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ أحكام الطالق في الطهر الذي مسها فيه‬
‫أثر الطالق في طهر مسها فيه‪:‬‬

‫‪ )(1‬حاشية ابن القيم‪.6/177 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬نيل األوطار‪.6/255:‬‬

‫‪140‬‬
‫والخالف في المسألة مثلما ذكرنا سابقا في طالق الحائض‪ ،‬وتكاد تتف ق على‬
‫نفس األدلة‪ ،‬وسنذكر هنا بعض النقول عن أصحاب األقوال للداللة على ذلك‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬وقوع الطالق في هذه الحالة‪ ،‬وهو ق ول الجمه ور‪ ،‬وق د ذكرن ا‬
‫أن هناك من ادعى اإلجماع في المس ألة‪ ،‬أم ا أق وال األئم ة في ذل ك‪ ،‬ففي المدون ة)‬
‫قلت‪ :‬هل كان مالك يكره أن يطل ق الرج ل امرأت ه في طه ر ق د جامعه ا في ه أم ال؟‬
‫قال‪ :‬نعم كان يكرهه ويقول‪ :‬إن طلقها فيه فقد لزمه(‪ ،)1‬وقال الشافعي‪ (:‬ول و طلقه ا‬
‫طاهرا بعد جماع أحببت أن يرتجعها ثم يمهل ليطلق كم ا أم ر وإن ك انت في طه ر‬
‫بعد جماع فإنها تعتد به (‪)2‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم وقوع الطالق في هذه الحالة‪ ،‬وه و ق ول من ذكرن ا س ابقا‬
‫يتزعمهم ابن حزم وابن تيمية ابن القيم‪ ،‬قال ابن حزم‪ (:‬فإن طلقه ا طلق ة أو طلق تين‬
‫في طهر وطئها فيه‪ ،‬أو في حيضتها‪ :‬لم ينفذ ذل ك الطالق وهي امرأت ه كم ا ك انت‪،‬‬
‫إال أن يطلقها كذلك ثالث ة أو ثالث ة مجموع ة فيل زم)‪ ،‬وق ال ابن تيمي ة‪ (:‬الطالق في‬
‫زمن الحيض محرم القتضاء النهي الفساد‪ ،‬وألنه خالف م ا أم ر هللا ب ه وإن طلقه ا‬
‫في طهر أصابها فيه حرم وال يقع)(‪)3‬‬
‫حكم الرجعة من الطالق في الطهر الذي مسها فيه‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء(‪ )4‬على أن من طلق زوجته في الطهر الذي مسها فيه قد ارتكب‬
‫بذلك حراما‪ ،‬وهو طالق بدعة‪ ،‬واختلفوا هل يجب عليه مراجعتها أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يجب عليه مراجعتها‪ ،‬وق د نق ل اإلجم اع على ذل ك ابن عب د‬
‫ال بر وابن قدام ة‪ ،‬ق ال ابن عب دالبر‪(:‬أجمع وا على أن الرجع ة ال تجب في ه ذه‬
‫الصورة)‪ ،‬ولكن هذا اإلجماع ليس ثابتا‪ ،‬ومن األدلة على هذا القول‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ع دم ص حة القي اس على األم ر بالرجع ة في الطالق من الحيض‪ ،‬ألن‬
‫زمن الطه ر وقت لل وطء والطالق وزمن الحيض ليس وقت ا لواح د منهم ا‪ ،‬فظه ر‬
‫الفرق بينهما فال يلزم من األمر بالرجعة في غير زمن الطالق األمر بها في زمنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المعنى الذي وجبت ألجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في ص ورة‬
‫الطالق في الطهر الذي مسها فيه‪ ،‬فإنه إنما ح رم طالقه ا في زمن الحيض لتطوي ل‬
‫العدة عليها فإنها ال تحتسب ببقية الحيضة ق رءا اتفاق ا‪ ،‬فتحت اج إلى اس تئناف ثالث ة‬
‫قروء كوامل‪ ،‬أما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو كان لحظة‪ ،‬فال حاج ة به ا‬
‫إلى أن يراجعها‪ ،‬فإن من قال األقراء األطهار كانت أول عدتها عنده عقب طالقه ا‪،‬‬
‫ومن قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر وهو لو راجعها‪ ،‬ثم أراد أن يطلقه ا لم‬
‫يطلقها إال في طهر فال فائدة في الرجعة‪ ،‬وهذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين‪.‬‬

‫‪ )(1‬المدونة‪.2/3:‬‬
‫‪ )(2‬األم‪.8/295:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.5/490:‬‬
‫‪ )(4‬حاشية بان القيم‪.177 /6 :‬‬

‫‪141‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب الرجعة في هذا الطالق‪ ،‬وهو أحد ال وجهين في م ذهب‬
‫أحمد كما ذكر ابن القيم‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النبي ‪ ‬أمره أن يطلقها إذا ش اء قب ل أن يمس ها‪،‬وق ال‪( :‬فتل ك الع دة‬
‫التي أمر بها هللا أن تطلق النساء)‪ ،‬وهذا ظاهر في التحريم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه طالق مح رم فتجب الرجع ة في ه كم ا تجب في الطالق في زمن‬
‫الحيض‪ ،‬وألن زمن الطهر متى اتصل به المسيس صار ك زمن الحيض في تح ريم‬
‫الطالق‪ ،‬وال فرق بينهما‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا هو ع دم الق ول بالرجع ة ـ إن‬
‫قلنا بوقوع الطالق ـ حتى ال تكثر عدد الطلقات‪ ،‬ألن الش رع قص د أم رين‪ :‬تض ييق‬
‫الطالق‪ ،‬وتقليل عدد الطلقات في حال عدم وجود مسلك ل ه‪ ،‬ح تى ال تنقط ع عالق ة‬
‫الزوجية بالكلية‪.‬‬
‫حكم العدة في الطهر الذي مسها فيه‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء الق ائلون بإيق اع الطالق الب دعي في بداي ة ع دة من طلقه ا في‬
‫طهر مسها فيه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬لو بقي من الطهر لحظة حسبت له ا ق رءا‪ ،‬وإن ك ان ق د ج امع‬
‫في ه‪ ،‬باعتب ار األق راء األطه ار‪ ،‬وه و م ذهب اإلم ام أحم د والش افعي ومال ك‬
‫وأصحابهم‪ ،‬ومن أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه إنما حرم الطالق في زمن الحيض دفعا لضرر تطوي ل الع دة عليه ا‪،‬‬
‫فلو لم تحتسب ببقي ة الطه ر ق رءا ك ان الطالق في زمن الطه ر أض ر به ا وأط ول‬
‫عليها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لم يحرم الطالق في الطهر ألج ل التطوي ل الموج ود في الحيض‪ ،‬ولكن ه‬
‫حرم لكونها مرتابة فلعلها قد حملت من ذل ك ال وطء‪ ،‬فيش تد ندم ه إذا تحق ق الحم ل‬
‫ويكثر الضرر‪ ،‬فإذا أراد أن يطلقها طلقها ط اهرا من غ ير جم اع‪ ،‬ألنهم ا ق د تيقن ا‬
‫عدم الريبة‪ ،‬وأما إذا ظهر الحمل فقد دخل على بصيرة وأقدم على فراقها حامال‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن العدة إنم ا يك ون اس تقبالها من طه ر لم يمس ها في ه‪ ،‬إن دل‬
‫على أنها باالطهار‪ ،‬وهو قول أبي عبيد‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النبي ‪ ‬سوى بينهم ا في المن ع من الطالق فيهم ا‪ ،‬وأخ بر أن الع دة‬
‫التي أمر بها هللا أن يطلق لها النساء هي من وقت الطه ر ال ذي لم يمس ها في ه‪ ،‬فمن‬
‫أين لنا أن الطهر الذي مسها فيه هو أول العدة التي أمر هللا أن تطلق لها النساء‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه كما ال تكون عدتها متصلة بالحيضة التي طلق فيها ينبغي أن ال تكون‬
‫متصلة بالطهر الذي مسها فيه‪ ،‬وكما ال تحتسب ببقية الحيضة ال تحتسب ببقي ة ه ذا‬
‫الطهر الممسوسة فيه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة واألوفق بمقاص د الش ريعة من ت رك م دة كافي ة‬

‫‪142‬‬
‫للعدة لتكون فرصة للمراجع ة‪ ،‬ه و األخ ذ ب القول الث اني‪ ،‬وال ح رج في ط ول م دة‬
‫الع دة للزوج ة بس بب ذل ك‪ ،‬ألن ذل ك ق د يك ون في مص لحة بيت الزوجي ة‪ ،‬أو في‬
‫مصلحة الزوجة نفسها‪ ،‬ثم ما هو ضررها من طول العدة وزوجها مكلف برعايته ا‬
‫من كل النواحي‪.‬‬
‫وقد أشار ابن القيم إلى بعض النواحي المقاصدية في هذا‪ ،‬فذكر ب أن الش ارع‬
‫إنما جعل استقبال عدة المطلقة من طهر لم يمسها في ه ليك ون المطل ق على بص يرة‬
‫من أمره والمطلقة على بصيرة من عدتها أنها باإلقراء‪ ،‬فأما إذا مسها في الطه ر ثم‬
‫طلقه ا‪ ،‬فإن ه ال ي دري أح امال هي أم ح ائال‪ ،‬ولم ت در الم رأة أع دتها بالحم ل أم‬
‫باألقراء؟فكان الض رر عليهم ا في ه ذا الطالق أش د من الض رر في طلالقه ا وهي‬
‫حائض‪،‬فال تحتسب ببقية ذلك الطهر قرءا كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع‬
‫الطالق فيه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ حكم طالق الحامل‬
‫اتف ق الفقه اء على وق وع طالق الحام ل ح تى من ق ال بع دم وق وع الطالق‬
‫البدعي لع دم بدعي ة ه ذا الطالق‪ ،‬ق ال ابن تيمي ة‪ (:‬أم ا طالق الس نة أن يطلقه ا في‬
‫طهر ال يمسها فيه‪ ،‬أو يطلقها حامال ق د اس تبان حمله ا؛ ف إن طلقه ا في الحيض؛ أو‬
‫بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له‪ :‬فهو طالق بدعة) (‪)1‬‬
‫وقد اختلف العلماء في حكم طالق الحامل هل هو سني أم بدعي على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن طالقها سني‪ ،‬وهو قول جمه ور العلم اء‪ ،‬ق ال ابن عب دالبر‪:‬‬
‫(ال خالف بين العلماء أن الحامل طالقها للسنة) (‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما ورد في الرواية األخرى عن ابن عمر‪ :‬أنه طلق امرأته وهي حائض‪،‬‬
‫فقال رسول هللا ‪(:‬مره فليراجعها‪ ،‬ثم ليطلقها طاهرا‪ ،‬أو حامال)‬
‫‪ 2‬ـ أنه إذا لم يكن طالقها سنيا كان بدعيا بالض رورة‪ ،‬ألن القس مة منحص رة‬
‫بينهما‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن المرأة لها حالت ان أح دهما أن تك ون ح ائال فال تطل ق إال في طه ر لم‬
‫يمسها في ه‪ ،‬أو أن تك ون ح امال فيج وز طالقه ا‪ ،‬والف رق بين الحام ل وغيره ا في‬
‫الطالق إنما هو بسبب الحمل وعدمه‪ ،‬ال بسبب حيض وال طهر‪ ،‬ولهذا يجوز طالق‬
‫الحامل بعد المسيس دون الحائل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن حيض الحامل ـ في حال اعتبار حيض ها ـ ليس ل ه ت أثير في الع دة ال‬
‫في تطويلها وال تخفيفها إذا عدتها بوضع الحمل‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن طالق الحامل ليس بسني وال بدعي(‪ ،)3‬وهو قول الشافعية‪،‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬ولو لم يدخل بها أو دخل بها وكانت حامال أو ال تحيض من ص غر أو‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.3/247:‬‬
‫‪ )(2‬التمهيد‪.15/80:‬‬
‫‪ )(3‬ذكره ابن القيم في‪ :‬حاشيةابن القيم على سن أبي داود ‪ ،6/17‬وابن تيمية في الفتاوى الكبرى‪.3/277 :‬‬

‫‪143‬‬
‫كبر‪ ،‬فقال‪ :‬أنت طالق ثالثا للسنة أو البدعة طلقت مكانها؛ ألنه ا ال س نة في طالقه ا‬
‫وال بدعة(وإنما يثبت لها ذلك من جهة العدد المن جهة الوقت‪ ،‬وال ذي اقتض ى ه ذا‬
‫القول هو الجمع بين دليلين يحتمالن كال النوعين‪:‬‬
‫الدليل األول‪ :‬أن النبي ‪ ‬إنما أباح طالقها في طهر لم يمسها فيه‪ ،‬فإذا مسها‬
‫في الطه ر وحملت واس تمر حمله ا اس تمر المن ع من الطالق‪ ،‬فكي ف يبيح ه تج دد‬
‫ظهور الحمل‪،‬فهذا الدليبل يقتضي بدعية طالق الحامل‪.‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬أن المعنى الذي ألجله حرم الطالق بع د المس يس مع دوم عن د‬
‫ظهور الحمل‪ ،‬ألن المطل ق عن د ظه ور الحم ل ق د دخ ل على بص يرة‪ ،‬فال يخ اف‬
‫ظهور أمر يتجدد به الندم‪ ،‬وليست المرأة مرتابة لعدم اش تباه األم ر عليه ا‪ ،‬بخالف‬
‫طالقها مع الشك في حملها‪ ،‬وهذا الدليل يقتضي سنية طالق الحامل‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة بن اء على م ا ورد من نص وص‪ ،‬وم ا انتفى من‬
‫محاذير س نية طالق الحام ل ونف وذه‪ ،‬لط ول ف ترة الحم ل‪ ،‬وهي كافي ة للرجع ة إن‬
‫أراداها‪.‬‬
‫ومن جهة ثانية‪ ،‬يكون طالق الزوج بعد ثبوت حم ل زوجت ه دليال على ع دم‬
‫رغبته في االستمرار ب الزواج به ا‪ ،‬وق د أش ار إلى ه ذه الناحي ة السرخس ي بقول ه‪:‬‬
‫( وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه ال بأس ب أن‬
‫يطلقها عقيب الجماع‪ ،‬ألن كراهة اإليقاع عقيب الجم اع الش تباه أم ر الع دة عليه ا‪،‬‬
‫وخوف الندم إذا ظهر بها حبل‪ ،‬وذلك غير موجود هنا‪ ،‬وألن الحبل يزيد في رغبته‬
‫فيها فيكون إيقاع الطالق بعد ظهوره دليل عدم موافقة األخالق)(‪)1‬‬
‫وق د بين في الف روق س ر الف رق بين التطلي ق بع د جم اع الحام ل واآليس‬
‫والصغيرة دون غيرهما بقوله‪ (:‬يجوز أن يطلق الحام ل واآليس ة والص غيرة عقيب‬
‫جماعه‪ ،‬وال يج وز أن يطل ق ذوات الحيض في طه ر ق د جامعه ا في ه‪ ،‬والف رق أن‬
‫ال وطء في اآليس ة‪ ،‬والص غيرة والحام ل ال يفي د حبال‪ ،‬ف أمن الن دم عقيب ال وطء‪،‬‬
‫لحدوث الحبل‪ ،‬فجاز له أن يطلقها كما لو مضت حيضة في ذوات األقراء‪ ،‬وأما في‬
‫ذوات األقراء فلم يوجد ما يؤمن معه وجود الحب ل من ال وطء‪ ،‬فلم ي ؤمن الن دم‪ ،‬فال‬
‫ث بَ ْع َد َذلِكَ أَ ْمرًا ﴾(الطالق‪:‬‬
‫ينبغي له أن يطلقها‪ ،‬لقوله تعالى‪ ﴿ :‬اَل تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫‪)2( ))1‬‬
‫ولكن مع ذلك فإن دائرة الطالق‪ ،‬وإن توسعت من جهة الوقت‪ ،‬فإنه ا تض يق‬
‫من جهة العدد‪ ،‬ألنه ال يصح تطليقها إال مرة واحدة طول فترة الحمل‪ ،‬وقد سئل ابن‬
‫القاسم‪( :‬أرأيت الحامل إذا أراد زوجها أن يطلقها ثالثا كيف يطلقها؟ قال‪ :‬قال مالك‪:‬‬
‫ال يطلقه ا ثالث ا ولكن يطلقه ا واح دة م تى ش اء ويمهله ا ح تى تض ع جمي ع م ا في‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/10:‬‬
‫‪ )(2‬الفروق‪.1/160:‬‬

‫‪144‬‬
‫بطنها‪..‬وقد قال مالك في طالق الحامل للسنة أن يطلقها واحدة ثم يدعها ح تى تض ع‬
‫حمال قال ذلك عبد هللا بن مس عود وج ابر بن عب د هللا وغيرهم ا وقال ه ابن المس يب‬
‫وربيعة والزهري) (‪)1‬‬
‫أما لو أراد أن يض يق على نفس ه فيجم ع الطلق ات جميع ا‪ ،‬ف إن ل ذلك حكم ه‬
‫الشرعي الذي سنراه في صيغة الطالق‪.‬‬

‫‪ )(1‬المدونة‪..2/4:‬‬

‫‪145‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫حق المرأة في حل عصمة الزوجية‬
‫أوال ـ أحكام الخلع وآثاره‬
‫‪ 1‬ـ حقيقة الخلع‪:‬‬
‫اختلفت عبارات الفقهاء في التعبير عنه بناء على آرائهم الفقهية‪ ،‬وفيم ا يلي بعض‬
‫التعاريف على المذاهب القهية المشتهرة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عرفه الحنفية بق ولهم‪:‬ه و عب ارة عن عق د بين ال زوجين‪ ،‬الم ال في ه من‬
‫المرأة تبذله فيخلعها أو يطلقها(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ عرفه المالكية بقولهم‪ :‬هو إزالة العصمة بعوض من الزوج ة أو غيره ا‪،‬‬
‫وعرفه خليل بأنه الطالق بعوض وبال حاكم(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ عرفه الشافعية بقولهم‪ :‬هو فرقة بعوض بلفظ طالق أو خلع (‪)3‬‬
‫‪ 4‬ـ عرفه ابن حزم بقوله‪ :‬هو‪ :‬االفتداء إذا كرهت المرأة زوجه ا‪ ،‬فخ افت أن‬
‫ال توفيه حقه‪ ،‬أو خافت أن يبغضها فال يوفيها حقها(‪)4‬‬
‫‪ 5‬ـ وعرفه اإلباضية بقولهم‪ :‬فرقة بين الزوجين بردها إليه ص داقها‪ ،‬وقبول ه‬
‫إياه (‪)5‬‬
‫َ‬
‫والعالقة بين المع نى اللغ وي والمع نى االص طالحي كم ا ق ال العلم اء هي أن هللا‬
‫لهن؛ فق ال تع الى‪﴿ :‬ه َُّن ِل َب اسٌ َل ُك ْم َو َأ ْنتُ ْم‬
‫ال لباس اً َّ‬
‫تعالـى جعل النساء لباساً للرج ال‪ ،‬والرج َ‬
‫الـمرأة بمال تعطيه لزوجها لـيُ ِبـينَها منه فأَجابها ِإلـى‬ ‫َ‬ ‫ِل َباسٌ َله َُّن﴾(البقرة‪)187:‬؛ فإِذا افتدت‬
‫ذلك‪ ،‬فقد بانت منه وخـ َلع كل واحد منهما َ‬
‫لباس صاحبه‪.‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء في التعب ير عن الخل ع‪ ،‬وعن المختلع ة‪ ،‬وس نذكر هن ا ه ذه‬
‫المصطحات تيسيرا لفهم النصوص التي قد نوردها من أق وال الفقه اء وال تي تختل ف في‬
‫التعبير عنه‪:‬‬
‫الصلح‪ :‬وهو في اللغة اسم من المصالحة وهي التوفيق والمسالمة بع د المنازع ة‪،‬‬
‫ومعناه في الشرع عقد يرفع النزاع‪ ،‬والصلح من األلف اظ ال تي ي ؤول إليه ا مع نى الخل ع‬
‫الذي هو بذل المرأة العوض على طالقها‪ ،‬والخلع يطلق غالبا على حالة بذلها له جميع ما‬
‫أعطاها‪ ،‬والصلح على حالة بذلها بعضه‪.‬‬

‫‪ )(1‬الجوهرة النيرة‪.2/59:‬‬
‫‪ )(2‬الفواكه الدواني‪.2/34:‬‬
‫‪ )(3‬مغني المحتاج‪.4/430:‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.9/511:‬‬
‫‪ )(5‬شرح النيل‪.7/252:‬‬

‫‪146‬‬
‫الفدية‪ :‬وهي في اللغة اسم للمال الذي يدفع الستنقاذ األسير‪ ،‬وف دت الم رأة نفس ها‬
‫من زوجها تفدي‪ ،‬وافتدت أعطته ماال حتى تخلصت منه بالطالق‪ ،‬والفقه اء ال يخرج ون‬
‫في تعريفهم للفدية عما ورد في اللغة‪ ،‬والفدي ة والخل ع معناهم ا واح د‪ ،‬وه و ب ذل الم رأة‬
‫العوض على طالقها‪ ،‬ولفظ المفاداة من األلفاظ الصريحة في الخل ع عن د الش افعية وعن د‬
‫الحنابلة لوروده في القرآن كما سنرى‪.‬‬
‫المبارأة‪ :‬وهي في اللغة ص يغة مفاعل ة تقتض ي المش اركة في ال براءة‪ ،‬وهي في‬
‫االصطالح اسم من أسماء الخلع والمعنى واح د وه و ب ذل الم رأة الع وض على طالقه ا‬
‫لكنها تختص بإسقاط المرأة عن الزوج حقا لها عليه‪ .‬وهي عند أبي حنيفة كالخلع كالهم ا‬
‫يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على اآلخر مم ا يتعل ق بالنك اح ك المهر والنفق ة‬
‫الماضية دون المستقبلة‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في التعبير عن هذ المصطلحات‪ ،‬وخاصة المالكية واإلباض ية‪،‬‬
‫وسنذكر هنا بعض أقوالهم فيها‪:‬‬
‫فعند المالكية‪ ،‬وفي المدونة‪ ،‬قال مالك‪ (:‬المبارئة التي تبارئ زوجه ا قب ل أن‬
‫يدخل بها‪ ،‬فتقول‪ :‬خذ الذي لك فتاركني‪ ..‬والمختلعة التي تختل ع من ك ل ال ذي له ا‪،‬‬
‫والمفتدية التي تعطيه بعض الذي لها وتمسك بعضه‪ ،‬قال مالك‪ :‬وهذا كله سواء)(‪)1‬‬
‫أما اإلباضية‪ ،‬فقد اختلفوا في تحديد هذه المصطلحات اختالفا عريض ا‪ ،‬ومن‬
‫أقوالهم فيها‪ ( :‬إن الخلع‪ ،‬والف داء‪ ،‬والفدي ة‪ ،‬والص لح‪ ،‬والمب اراة‪ ،‬وال برءان س واء‪،‬‬
‫تقع بالبعض والكل وأكثر منه‪ ،‬وقيل‪ :‬إنهن بمع نى‪ :‬وه و ب ذل الم رأة الع وض على‬
‫طالقها‪ ،‬إال إن اسم الخلع يختص ببذلها جميع ما أعطاها‪ ،‬والصلح ببعضه‪ ،‬والفدي ة‬
‫والفداء بأكثر‪ ،‬والمباراة والبرءان إسقاطها عنه حقا لها عليه‪ ،‬وقيل‪ :‬االفتداء ببعض‬
‫الصداق‪ ،‬والخلع بكله‪ ،‬أو بترك النفقة عليها وهي حامل‪ ،‬أو وت رك نفق ة ول دها‪ ،‬أو‬
‫نحو ذلك مما لها)(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ أحكام الخلع‬
‫الحكم األصلي للخلع‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم الخلع على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه جائز في الحال الذي ل و ك رهت الم رأة زوجه ا‪ ،‬لخلق ه‪ ،‬أو‬
‫خلقه‪ ،‬أو دينه‪ ،‬أو كبره‪ ،‬أو ضعفه‪ ،‬وخشيت أن ال تؤدي حق هللا تع الى في طاعت ه‪،‬‬
‫وهو قول جماهير الفقهاء‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء أن لهذا الخ وف من ت رك إقام ة ح دود هللا وجهين‪ ،‬إذا وق ع‬
‫أحدهما وأشفقا من ترك إقامة حدود هللا التي حدها لهما حل الخلع‪ ،‬وهذان الوجه ان‬
‫هما(‪:)3‬‬

‫‪ )(1‬المدونة‪ ،2/249:‬وانظر‪ :‬القرطبي‪.3/146:‬‬


‫‪ )(2‬شرح النيل‪.7/252:‬‬
‫‪ )(3‬أحكام القرآن للجصاص‪.1/533:‬‬

‫‪147‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن يكون أحدهما سيئ الخلق أو كالهما‪ ،‬فيفضي بهما ذلك إلى ت رك‬
‫إقامة حدود هللا فيما ألزم كل واحد منهما من حق وق النك اح في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َله َُّن ِم ْث لُ‬
‫عْرُوف ﴾(البقرة‪)228:‬‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذي َع َل ْي ِه َّن ِب ْال َم‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن يكون أحدهما مبغضا لآلخر فيص عب علي ه حس ن العش رة‬
‫والمجامل ة‪ ،‬فيؤدي ه ذل ك إلى مخالف ة أم ر هللا في تقص يره في الحق وق ال تي‬
‫تلزمه‪،‬وفيما ألزم الزوج من إظهار المي ل إلى غيره ا في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَاَل تَ ِميلُ وا‬
‫ُك َّل ْال َمي ِْل فَتَ َذرُوهَا َك ْال ُم َعلَّقَ ِة ﴾(النساء‪)129:‬‬
‫وقد وردت التعابير الكثيرة عن السلف في وصف هذه الحالة‪ ،‬ومن عباراتهم‬
‫في ذلك قول الحسن البصري‪(:‬إذا قالت المرأة ال أطيع لك أمرا وال أغتس ل ل ك من‬
‫جنابة وال أبر لك قسما حل الخلع)‪ ،‬وقال الشعبى‪ (:‬أال يقيما ح دود هللا أال يطيع ا هللا‬
‫وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة)‪ ،‬وقال عطاء بن أبى رباح‪ (:‬يحل الخلع‬
‫واألخذ أن تقول المرأة لزوجها إنى أكرهك وال أحب ك(‪ ،‬وق ال مال ك‪(:‬لم أزل اس مع‬
‫ذلك من أهل العلم‪ ،‬وهو األم ر المجتم ع علي ه عن دنا‪ ،‬وه و أن الرج ل إذا لم يض ر‬
‫بالمرأة‪ ،‬ولم يسئ إليها‪ ،‬ولم تؤت من قبله‪ ،‬وأحبت فراقه‪ ،‬فإنه يحل له أن يأخذ منها‬
‫كل ما افتدت به‪ ،‬وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها ويض رها رد عليه ا م ا‬
‫أخذ منها)(‪)1‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َت‬ ‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن ِخ ْفتُ ْم أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ فَاَل ُجن َ‬
‫َاح َعلَ ْي ِه َما فِي َما ا ْفتَد ْ‬
‫بِ ِه ﴾(البق رة‪ ،)229:‬ق ال القرط بي‪ (:‬واآلي ة خط اب لألزواج‪ ،‬نه وا أن يأخ ذوا من‬
‫أزواجهم شيئا على وج ه المض ارة‪ ،‬وه ذا ه و الخل ع ال ذي ال يص ح إال ب أن ينف رد‬
‫الرجل بالضرر‪ ،‬وخص بالذكر ما أتى األزواج نساءهم‪ ،‬ألن العرف بين الن اس أن‬
‫يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده له ا ص داقا وجه ازا فل ذلك خص‬
‫بالذكر(‪)2‬‬
‫ج َوآتَ ْيتُ ْم إِحْ دَاهُنَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ج َمك انَ زوْ ٍ‬ ‫َال زوْ ٍ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪ 2‬ـ أن قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِن أ َردت ْم اس تِبد َ‬
‫قِنطَارًا فَاَل تَأْ ُخ ُذوا ِم ْنهُ َش ْيئًا أَتَأْ ُخ ُذونَهُ بُ ْهتَانًا َوإِ ْث ًما ُمبِينا﴾(النساء‪ ،)20:‬وليس في ه م ا‬
‫ً‬
‫َت‬ ‫يوجب نسخ قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن ِخ ْفتُ ْم أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ فَاَل ُجن َ‬
‫َاح َعلَ ْي ِه َما فِي َم ا ا ْفتَ د ْ‬
‫بِ ِه ﴾(البقرة‪ )229:‬كما زعم المخافون‪ ،‬للوجهين التاليين‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن كل واحدة منهما مقص ورة الحكم على ح ال م ذكورة فيه ا‪،‬‬
‫ألن حظر الخلع إنم ا ه و في النش وز إذا ك ان من قبل ه‪ ،‬وأراد اس تبدال زوج مك ان‬
‫زوج غيرها‪ ،‬وأباحه إذا خافا أن ال يقيما ح دود هللا‪ ،‬فليس في إح داهما م ا يع ترض‬
‫به على األخرى‪ ،‬وال يوجب نسخها وال تخصيصها أيضا‪ ،‬قال ابن عبد ال بر‪ (:‬ومن‬
‫قال بأن قوله ﴿ فإن خفتم أال يقيما حدود هللا﴾ منسوخ باآليتين‪ ،‬فإن قوله م دفوع بأن ه‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.3/139:‬‬
‫‪ )(2‬القرطبي‪.3/137 :‬‬

‫‪148‬‬
‫إنما يكون النسخ بالخالف‪ ،‬وال خالف في اآليتين لآلية األخرى‪ ،‬ألنهما إذا خاف ا أال‬
‫يقيما حدود هللا‪ ،‬فقد صار األمر منهما جميعا‪ ،‬والعمل في اآلية األخرى منسوب إلى‬
‫الزوج خاصة‪ ،‬وذلك إرادته الستبدال زوج مكان زوج‪ ،‬وألن الزوجة إذا خ افت أال‬
‫تقيم حدود هللا فاختلعت منه فقد طابت نفسها بما أعطت(‪)1‬‬
‫وذلك ألن النسخ يستدعي تعارض األحكام في محل واحد وحالة واحدة‪ ،‬ق ال‬
‫الطبري‪ (:‬إنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناس خ إذا اتفقت مع اني المحك وم‬
‫فيه‪ ،‬ثم خولف بين األحكام فيه باختالف األوقات واألزمن ة‪ ،‬وأم ا اختالف األحك ام‬
‫باختالف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد‪ ،‬فذلك هو الحكم ة البالغ ة‬
‫والمفهوم في العقل والفطرة‪ ،‬وهو من محمود والمنسوخ بمعزل عنه(‪)2‬‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬إجم اع الجمي ع من الص حابة والت ابعين ومن بع دهم من‬
‫المسلمين على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجه ا‪ ،‬وفي ذل ك م ا‬
‫يكفي للداللة على عدم نسخ اآلية(‪.)3‬‬
‫ْض لُوه َُّن لِتَ ْذهَبُوا بِبَع ِ‬
‫ْض َم ا‬ ‫‪ 4‬ـ أن االس تدالل بق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬واَل تَع ُ‬
‫اح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة﴾(النس اء‪ )19:‬على ع دم ص حة الخل ع مطلق ا‪،‬‬ ‫آتَ ْيتُ ُموه َُّن إِاَّل أَ ْن يَأْتِينَ بِفَ ِ‬
‫وهو قول ابن سيرين وأبي قالبة كما سنرى‪ ،‬ال يصح‪ ،‬قال ابن عبد البر‪ (:‬ق ول ابن‬
‫سيرين وأبي قالبة عندي ليس بشئ‪ ،‬ألن الفاحشة قد تكون البذاء واألذى‪ ،‬ومنه قي ل‬
‫للبذيئ فاحش ومتفحش‪ ،‬وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحش ة ك ان ل ه لعانه ا‪ ،‬وإن‬
‫شاء طلقها‪ ،‬وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بما له ا فليس ل ه ذل ك‪ ،‬وال أعلم أح دا‬
‫قال له أن يض ارها‪ ،‬ويس ئ إليه ا ح تى تختل ع منه(‪ ،)4‬وق د فس ر ابن مس عود وإبن‬
‫عباس والضحاك وقتادة الفاحشة المبينة في هذه اآلية بالبغض والنش وز ق الوا‪ :‬ف إذا‬
‫نشزت حل له أن يأخ ذ ماله ا‪ ،‬وق ال عط اء الخراس اني‪ (:‬ك ان الرج ل إذا أص ابت‬
‫امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود(‪)5‬‬
‫‪ 5‬ـ جاءت امرأة ث ابت بن قيس إلى الن بي ‪ ‬فق الت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬م ا أنقم‬
‫على ثابت في دين وال خلق‪ ،‬إال أني أخاف الكفر‪ .‬فقال رسول هللا ‪ :‬أتردين علي ه‬
‫حديقته؟ قالت‪ :‬نعم‪ .‬فردتها عليه‪ ،‬وأمره ففارقها‪ .‬وفي رواية‪ ،‬فقال له‪( :‬اقبل الحديقة‬
‫وطلقها تطليقة)(‪ ،)6‬ويقال إنها كانت تبغضه أش د البغض‪ ،‬وك ان يحبه ا أش د الحب‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪.23/370:‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري‪.2/473:‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الطبري‪.2/473:‬‬
‫‪ )(4‬القرطبي‪.5/96 :‬‬
‫‪ )(5‬القرطبي‪.5/95 :‬‬
‫‪ )(6‬هذا الحديث ورد بروايات مختلفة كثيرة‪ ،‬سنرى ما تمس إليه الحاج ة عن د االس تدالل في ه ذا المبحث‪،‬‬
‫وس نذكر هن ا المص ادر ال تي ورد فيه ا بم ا يغ ني عن ذكره ا ك ل حين‪ :‬البخ اري‪ ،5/2022:‬مجم ع الزوائ د‪،5/4 :‬‬
‫ال بيهقي‪ ،7/313 :‬ال دارقطني‪ ،3/254 :‬النس ائي‪ ،3/369 :‬المجت بى‪ ،6/169 :‬ابن ماج ة‪ ،1/663 :‬س نن س عيد بن‬
‫منصور‪ ،379 :‬مصنف عبد الرزاق‪ ،6/482 :‬أحمد‪ ،4/3 ،2/296 :‬المعجم الكبير‪،11/349 ،11/310 ،6/103 :‬‬

‫‪149‬‬
‫ففرق رسول هللا ‪ ‬بينهما بطري ق الخل ع‪ ،‬فك ان أول خل ع في اإلس الم‪ ،‬كم ا روي‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬أول من خالع في اإلسالم أخت عب د هللا بن أبى‪ ،‬أتت الن بى ‪‬‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول هللا ال يجتمع رأسي ورأسه أبدا‪ ،‬إنى رفعت ج انب الخب اء‪ ،‬فرأيت ه‬
‫أقبل في عدة‪ ،‬إذ هو أشدهم سوادا‪ ،‬وأقصرهم قام ة‪ ،‬وأقبحهم وجه ا‪ ،‬فق ال‪ :‬أت ردين‬
‫عليه حديقته قالت‪ :‬نعم‪ ،‬وإن شاء زدته‪ ،‬ففرق بينهما‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ اآلثار الواردة عن السلف‪ ،‬قال ابن قدامة‪(:‬وهو قول عمر وعثمان وعلي‬
‫وغ يرهم من الص حابة‪ ،‬لم نع رف لهم في عص رهم مخالف ا‪ ،‬فيك ون إجماع ا) (‪،)1‬‬
‫ومن اآلثار الواردة عن الصحابة في ذلك م ا روي عن علي‪ ،‬أن ه ق ال‪ (:‬كلم ات إذا‬
‫قالتهن المرأة حل له أن يأخذ الفدية‪ :‬إذا قالت له ال أطيع لك أمرا وال أب ر ل ك قس ما‬
‫وال أغتسل لك من جنابة)‪،‬وعن ابن عباس قال‪( :‬تركه ا إقام ة ح دود هللا اس تخفاف‬
‫بحق الزوج وسوء خلقه ا‪ ،‬فتق ول‪ :‬وهللا ال أب ر ل ك قس ما وال أط أ ل ك مض جعا وال‬
‫أطيع لك أمرا‪ ،‬فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية وال يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا‬
‫ويخلي سبيلها وإن كانت اإلساءة من قبلها)‬
‫القول الثاني‪ :‬حرمة الخلع‪ ،‬وهو قول بعض العلماء من المتقدمين‪ ،‬وقد اختلفوا في‬
‫نوع الحرمة‪ ،‬هل هي مطلقة أم مقيدة على اآلراء التالية‪:‬‬
‫ال رأي األول‪ :‬هو مح رم مطلق ا‪ ،‬وه و ق ول بك ر بن عب د هللا الم زني وق ول‬
‫عطاء‪ ،‬قال ابن عبد البر‪(:‬وال نعلم أحدا خالفه‪ ،‬إال بكر بن عب د هللا الم زني؛ فإن ه لم‬
‫اس تِ ْبد َ‬
‫َال‬ ‫يجزه)‪ ،‬واستدل على ذلك بأن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أَ َر ْدتُ ْم ْ‬
‫ج ﴾(النساء‪)20:‬‬ ‫ج َم َكانَ زَ وْ ٍ‬
‫َزوْ ٍ‬
‫فعن عقبة بن أبي الصهباء قال‪ :‬سألت بك ر بن عب د هللا عن رج ل تري د من ه‬
‫امرأته الخلع‪ ،‬قال‪ :‬ال يحل له أن يأخذ منها شيئا‪ ،‬قلت له‪ :‬يقول هللا في كتابه‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن‬
‫َت بِ ِه ﴾(البق رة‪ )229:‬ق ال‪ :‬ه ذه‬ ‫ِخ ْفتُ ْم أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َما فِي َم ا ا ْفتَ د ْ‬
‫ج َوآتَ ْيتُ ْم إِحْ دَاه َُّن قِنطَ ارًا﴾‬
‫ج َم َك انَ زَ وْ ٍ‬ ‫َال زَ وْ ٍ‬
‫اس تِ ْبد َ‬ ‫نس خت بقول ه‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أَ َر ْدتُ ْم ْ‬
‫(النساء‪ ،)20 :‬وروى أبو عاصم عن ابن جريج قال‪ :‬قلت لعط اء‪ :‬أرأيت إذا ك انت‬
‫له ظالمة مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬إما أن يرضى فيمس ك وإم ا أن‬
‫يسرح(‪.)2‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أن الخلع محرم إال في حالة واح دة هي ارتك اب الزوج ة للفاحش ة‪،‬‬
‫وقد روي عن ابن سيرين وأبي قالبة‪ ،‬واستدال على ذلك بقول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬واَل َتعْضُ لُوه َُّن‬
‫عْض َما آ َت ْيتُ ُموه َُّن ِإاَّل َأ ْن َي ْأ ِتينَ ِب َف ِ‬
‫اح َش ٍة ُم َب ِّي َن ٍة﴾(النساء‪)19:‬‬ ‫ِلت َْذ َهبُوا ِب َب ِ‬
‫الرأي الثالث‪ :‬أن الخلع ال يحل إال من الناشز‪ ،‬وهو قول عطاء والزهري وعمرو‬
‫بن شعيب‪ ،‬فقد روي عن الزهري أنه قال‪ (:‬ال يحل للرجل أن يأخ ذ من امرأت ه ش يئا من‬
‫الفدية حتى يكون النش وز من قبله ا‪ :‬قي ل ل ه‪ :‬وكي ف يك ون النش وز؟ ق ال‪ :‬أن تظه ر ل ه‬
‫‪.24/223 ،24/211‬‬
‫‪ )(1‬المغني‪.7/248:‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري‪.2/472:‬‬

‫‪150‬‬
‫البغضاء‪ ،‬وتسيء عشرته‪ ،‬وتظهر له الكراهية‪ ،‬وتعصي أمره‪ ،‬فإذا فعلت ذلك‪ ،‬فق د ح ل‬
‫له أن يقبل منها ما أعطاها‪ ،‬ال يحل له أكثر مما أعطاها(‪)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و م ا ذهب إلي ه جمه ور العلم اء‪ ،‬ب ل يك اد يك ون‬
‫إجماعا‪ ،‬وهو أن الخلع من الوسائل المباحة التي شرعها الشارع للتفري ق بين ال زوجين‪،‬‬
‫وهو قول ينسجم مع الكثيرمن المصالح المعتبرة‪ ،‬فاهلل تعالى كما جعل الطالق بيد الرج ل‬
‫في حال عدم قدرته على استمرار العشرة مع زوجته‪ ،‬مع التنازل عن حقوقه المادية التي‬
‫بذلها لزوجته من نفقة ومهر وغيرها‪ ،‬جع ل للم رأة ح ق التفري ق بينه ا وبين زوجه ا في‬
‫ح ال ك ون النف ور منه ا‪ ،‬وض ريبة ذل ك ه و إعطاؤه ا م ا ق د يغطي عن ال زوج بعض‬
‫األضرار التي تصيبه من فراقها‪ ،‬وبما قد يتمكن معه من الزواج بامرأة أخرى بدلها‪.‬‬
‫وبهذا نرى أن حقيقة العصمة وإن كانت بيد الرجل إال أن للمرأة حقا في ح ل‬
‫هذه العصمة بشرط التعويض عن األضرار التي تصيب الزوج بسبب نفورها من ه‪،‬‬
‫ب ل رأى بعض الفقه اء اس تحباب ذل ك خاص ة إذا خش يت على دينه ا‪ ،‬مثلم ا فعلت‬
‫زوج ة ث ابت بن قيس‪ ،‬ج اء في اإلنص اف للم رداوي‪( :‬إذا ك انت الم رأة مبغض ة‬
‫للرجل‪ ،‬وتخشى أن ال تقيم حدود هللا في حقه فال بأس أن تفت دي نفس ها من ه‪ ،‬فيب اح‬
‫للزوج ة ذل ك والحال ة ه ذه‪ .‬على الص حيح من الم ذهب‪ ،‬وعلي ه أك ثر األص حاب‪،‬‬
‫وجزم الحلواني باالستحباب‪ ،‬وأما ال زوج‪ ،‬فالص حيح من الم ذهب أن ه يس تحب ل ه‬
‫اإلجابة إليه‪ ،‬وعليه األصحاب‪ ،‬واختلف كالم الشيخ تقي الدين رحمه هللا في وجوب‬
‫اإلجابة إليه‪ .‬وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضالء) (‪)2‬‬
‫أما رأي بكر بن عبد هللا المزني‪ ،‬فقد قال النحاس‪ (:‬هذا قول ش اذ خ ارج عن‬
‫اإلجم اع لش ذوذه‪ ،‬وليس ت إح دى اآلي تين دافع ة لألخ رى‪ ،‬فيق ع النس خ‪ ،‬ألن قول ه‬
‫تعالى‪ ﴿:‬ف إن خفتم﴾ اآلي ة ليس ت بمزال ة بتل ك اآلي ة‪ ،‬ألنهم ا إذا خاف ا ه ذا لم ي دخل‬
‫ج ﴾(النس اء‪ )20:‬ألن ه ذا للرج ال‬ ‫ج َم َك انَ َزوْ ٍ‬ ‫ال زوج في ﴿ َوإِ ْن أَ َر ْدتُ ْم ْ‬
‫اس تِ ْبدَا َل زَ وْ ٍ‬
‫خاصة)(‪)3‬‬
‫دوافع الخلع وأحكامها‬
‫ال تخلو دوافع الخلع من ثالثة أحوال على ما تقتضيه القسمة العقلية وهي إما أن ال‬
‫يكون هناك دافع للخلع من كليهما‪ ،‬أو أن يكون الدافع له أح دهما(‪ ،)4‬وه و إم ا أن يك ون‬
‫الزوج أو الزوجة‪ ،‬وبيان ذلك فيما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الخلع من غير سبب‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم مخالعة الزوجة لزوجها من غير سبب على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪ ،23/368:‬وانظر‪ :‬سبل السالم‪.2/244 :‬‬


‫‪ )(2‬اإلنصاف‪.8/382:‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪.3/140 :‬‬
‫‪ )( 4‬ولم نتحدث عن كون الدافع من كليهما ألنه يضم لكون الدافع من الزوج كما سنرى‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يكره لها ذلك‪ ،‬فإن فعلت صح الخلع‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء منهم‬
‫أبو حنيفة والثوري ومالك واألوزاعي والشافعي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ص ُدقَاتِ ِه َّن نِحْ لَةً فَإِ ْن ِط ْبنَ لَ ُك ْم ع َْن َش ْي ٍء ِم ْن هُ‬ ‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿:‬وآتُوا النِّ َسا َء َ‬
‫نَ ْفسًا فَ ُكلُوهُ هَنِيئًا َم ِريئًا﴾(النساء‪)4:‬‬
‫‪ 2‬ـ أن اآلية التي احتج بها المخ الفون ال حج ة فيه ا‪ ،‬ألن هللا تع الىلم ي ذكرها‬
‫على جهة الشرط‪ ،‬وإنما ذكرها ألن ه الغ الب من أح وال الخل ع‪ ،‬فخ رج الق ول على‬
‫الغالب‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬حرمة الخلع من غير سبب‪ ،‬وهو ق ول ابن المن ذر وداود‪ ،‬ق ال‬
‫ابن المنذر‪ :‬وروي معنى ذلك عن ابن عباس وكثير من أهل العلم‪.‬‬
‫وذهب ابن حزم إلى الحرمة وعدم الصحة إال في حالتين‪ :‬إذا ك رهت الم رأة‬
‫زوجها‪ ،‬فخافت أن ال توفيه حق ه‪ ،‬أو خ افت أن يبغض ها فال يوفيه ا حقه ا‪ ،‬فله ا أن‬
‫تفت دي في ه ذه الحال ة من ه ويطلقه ا‪ ،‬بش رط تراض يهما‪ .‬ق ال ابن ح زم‪(:‬وال يح ل‬
‫االفتداء إال بأحد الوجهين المذكورين‪ ،‬أو باجتماعهما‪ ،‬فإن وقع بغيرهما فهو باطل‪،‬‬
‫ويرد عليها ما أخذ منها‪ ،‬وهي امرأته كما ك انت‪ ،‬ويبط ل طالق ه ويمن ع من ظلمه ا‬
‫فقط) (‪ ،)1‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واَل يَ ِحلُّ لَ ُك ْم أَ ْن تَأ ُخ ُذوا ِم َّما آتَ ْيتُ ُموه َُّن َش ْيئًا إِاَّل أَ ْن يَخَافَ ا أَاَّل‬
‫يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ ﴾(البقرة‪ ،)229:‬وهو صريح في التحريم إذا لم يخافا إال يقيما ح دود‬
‫َت بِ ِه ﴾‬ ‫هللا‪ ،‬ثم قال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن ِخ ْفتُ ْم أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َم ا فِي َم ا ا ْفتَ د ْ‬
‫(البقرة‪ ،)229:‬فدل بمفهومه على أن الجناح الحق بهما إذا افتدت من غ ير خ وف‪،‬‬
‫ك هُ ْم‬ ‫ك ُح دُو ُد هَّللا ِ فَاَل تَ ْعتَ دُوهَا َو َم ْن يَتَ َع َّد ُح دُو َد هَّللا ِ فَأُوْ لَئِ َ‬ ‫ثم غلظ بالوعيد فقال‪ ﴿ :‬تِ ْل َ‬
‫الظَّالِ ُمون﴾(البقرة‪)229:‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪ (:‬أيم ا ام رأة س ألت زوجه ا الطالق‪ ،‬من غ ير م ا ب أس فح رام‬
‫عليها رائحة الجنة(‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله ‪( :‬المختلعات والمنتزعات هن المنافقات) (‪)3‬‬
‫‪ 4‬ـ عن عائشة بنت سهل أنها كانت عند ث ابت بن قيس بن ش ماس‪ ،‬فض ربها‬
‫فكسر نغضها‪ ،‬فأتت رسول هللا ‪ ‬بعد الصبح‪ ،‬فاش تكت إلي ه ف دعا الن بى ‪ ‬ثابت ا‬
‫فقال‪ :‬خذ بعض ما لها وفارقها‪ ،‬قال‪ :‬ويصلح ذلك يا رسول هللا قال‪ :‬نعم ق ال‪ :‬ف إنى‬
‫أص دقتها ح ديقتين‪ ،‬وهم ا بي دها‪ ،‬فق ال الن بى ‪ (:‬خ ذها وفارقه ا)‪ ،‬فأخ ذهما‬
‫وفارقها(‪ ،)4‬وهو يدل على سبب الخلع‪.‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/511:‬‬
‫‪ )(2‬قال الحاكم‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الش يخين ولم يخرج اه‪ ،‬الح اكم‪ ،2/218 :‬ال دارمي‪،2/216 :‬‬
‫البيهقي‪ ،7/316 :‬ابن ماجة‪ ،1/662 :‬مصنف ابن أبي شيبة‪ ،4/112 :‬أحمد‪ ،1/323 :‬شعب اإليمان‪.4/390 :‬‬
‫‪ )( 3‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي‪ ،‬الترمذي‪ ،3/492:‬مجم ع الزوائ د‪:‬‬
‫‪ ،5/5‬البيهقي‪ ،7/316 :‬أحمد‪ ،2/414 :‬مسند أبي يعلى‪.11/110 :‬‬
‫‪ )(4‬أخرجه عبد الرزاق (‪ ،6/483‬رقم ‪)11759‬‬

‫‪152‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه إضرار بها وبزوجها‪ ،‬وإزالة لمصالح النكاح من غ ير حاج ة‪ ،‬فح رم‬
‫لقوله ‪(:‬ال ضرر وال ضرار) (‪)1‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه ال يلزم من جواز إعط اء الم رأة من مهره ا لزوجه ا في غ ير عق د‪،‬‬
‫الجواز في المعاوضة؛ بدليل الربا‪ ،‬فقد حرمه هللا في العقد وأباحه في الهبة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و التش ديد على الم رأة في كراه ة اختالعه ا من‬
‫زوجها إلى درجة التحريم في حال كون ذلك عن ه وى مج رد‪ ،‬ال عن س بب دعاه ا إلى‬
‫ذل ك‪ ،‬وعلى ذل ك ت دل النص وص ال تي س اقها أص حاب الق ول الث اني‪ ،‬ق ال ابن قدام ة‪:‬‬
‫(والحج ة م ع من حرم ه‪ ،‬وخص وص اآلي ة في التح ريم‪ ،‬يجب تقديم ه على عم وم آي ة‬
‫الجواز‪ ،‬مع ما عضدها من األخبار) (‪)2‬‬
‫لكن هناك من األسباب ما ال يمكن التصريح به‪ ،‬فلذلك تصبح الحرمة من المسائل‬
‫التعبدية المحضة‪ ،‬فال يصح إحراج المرأة أو إحراج الرجل معها للتع رف على أس بابها‪،‬‬
‫كما ال يسأل الرجل عن سبب تطليقه لزوجته‪ ،‬كما ورد ذلك في الحديث‪.‬‬
‫ولكن ما يمكن فعله هو وعظ المرأة وتنبيهها إلى حرم ة مفارقته ا ل بيت الزوجي ة‬
‫من غير سبب معقول‪ ،‬وت رك الخي ار بع د ذل ك ل دينها وورعه ا ح تى ال تفض ح أس رار‬
‫البيوت‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الخلع عند ثبوت الضرر من الزوج‪:‬‬
‫اختلف الفقه اء في حكم الخل ع عن د ثب وت الض رر من ال زوج‪،‬كم ا ل و عض لها‪،‬‬
‫وضارها بالضرب والتضييق عليها‪ ،‬أو منعها حقوقه ا؛ من النفق ة‪ ،‬والقس م ونح و ذل ك‪،‬‬
‫لتفتدي نفسها منه‪ ،‬ففعلت على قولين(‪:)3‬‬
‫القول األول‪ :‬الخلع باطل‪ ،‬والعوض م ردود‪ ،‬إال أن يك ون ذل ك بس بب نش وزها‪،‬‬
‫ومنعها حقه(‪ ،)4‬وهو قول جماهير العلماء‪ ،‬قال القرطبي‪ (:‬أجمعوا على تحظير أخ ذ م ا‬
‫لها إال أن يكون النشوز وفس اد العش رة من قبلها(‪ ،)5‬وق د روي عن ابن عب اس وعط اء‬
‫ومجاهد والشعبي والنخعي والقاسم بن محمد وعروة وعمرو بن ش عيب وحمي د بن عب د‬
‫الرحمن والزهري وبه قال مالك والثوري وقتادة والشافعي وإسحاق وغ يرهم‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬واَل يَ ِحلُّ لَ ُك ْم أَ ْن تَأْ ُخ ُذوا ِم َّما آتَ ْيتُ ُموه َُّن َش ْيئًا إِاَّل أَ ْن يَخَاف اَ‬

‫‪ )(1‬أخرجه مالك (‪ ،2/745‬رقم ‪ ،)1429‬والشافعى (‪ )1/224‬والدارقطنى (‪ ،)3/77‬والح اكم (‪ ،2/66‬رقم‬


‫‪ )2345‬وقال‪ :‬صحيح اإلسناد على شرط مسلم‪ .‬والبيهقى (‪ ،6/69‬رقم ‪ )11166‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.7/248:‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.7/248:‬‬
‫‪ )(4‬وقد نص في المغني على أن مثله ما لو آذاها وال يريد ب ذلك أن تفت دي نفس ها‪ ،‬ألن ه لم يعض لها لي ذهب‬
‫ببعض ما آتاها‪ ،‬ومع ذلك فإن عليه إثم الظلم‪ ،‬ولكن هذا يتناقض مع هذا القول ألن أي مؤذ لزوجته لن يبرر إضراره‬
‫لزوجته بإرادة الخلع وإال عومل بخالف مقصوده‪.‬‬
‫‪ )(5‬القرطبي‪.3/137 :‬‬

‫‪153‬‬
‫أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ ﴾(البقرة‪ ،)229:‬فقد حرم هللا تعالى في ه ذه اآلي ة أن يؤخ ذ منه ا‬
‫شيء إال بعد الخوف بأال يقيما ح دود هللا‪ ،‬وأك د التح ريم بالوعي د لمن تع دى الح د‪،‬‬
‫والخطاب في اآلية للزوجين‪ ،‬وق د اختل ف المفس رون في مع نى الخ وف في اآلي ة‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬هذا الخوف هو بمع نى العلم أي أن يعلم ا أال يقيم ا ح دود هللا‪ ،‬وقي ل‪ :‬ه و من‬
‫الخوف الحقيقي‪ ،‬وهو اإلشفاق من وقوع المكروه وهو قريب من معنى الظن(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ قال هللا تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل يَ ِحلُّ لَ ُك ْم أَ ْن ت َِرثُوا النِّ َس ا َء كَرْ هً ا َواَل‬
‫ْض َم ا آتَ ْيتُ ُم وه َُّن ﴾(النس اء‪ ،)19:‬وق د ق رن النهي عن‬ ‫ْض لُوه َُّن لِتَ ْذهَبُوا بِبَع ِ‬ ‫تَع ُ‬
‫العضل(‪ )2‬بما كانوا عليه في الجاهلية من إرث المرأة لبينان شناعة هذا الفعل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه عوض أكرهن على بذل ه بغ ير ح ق‪ ،‬فلم يس تحق‪ ،‬ك الثمن في ال بيع‪،‬‬
‫واألجر في اإلجارة‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬العق د ص حيح‪ ،‬والع وض الزم‪ ،‬وه و آثم ع اص‪ ،‬وه و ق ول أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬قال أبو الحس ن بن بط ال وروى ابن القاس م عن مال ك مثله(‪ ،)3‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك ما ورد في حديث حبيبة‪ ،‬أنها ك انت تحت ث ابت بن قيس‪ ،‬فض ربها فكس ر ض لعها‪،‬‬
‫فأتت النبي ‪ ‬فدعا النبي ‪ ‬ثابتا‪ ،‬فقال‪ :‬خذ بعض مالها‪ ،‬وفارقها ففعل‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الق ول األول‪ ،‬وه و ال ذي ت دل علي ه النص وص‪،‬‬
‫ويتوافق مع المصالح الشرعية‪ ،‬ألن الخلع لو تم بعد حص ول اإلذي ة من الرج ل ك ان في‬
‫ذلك ذريعة لكل من يريد أن يطلق زوجته‪ ،‬ويسترد مهره‪ ،‬ويتخلص من الحقوق الواجب ة‬
‫عليه‪ ،‬بل مثل هذا تطل ق زوجت ه إلض راره به ا م ع تكليف ه ب الحقوق الواجب ة علي ه كم ا‬
‫سنرى في الفصل التالي‪.‬‬
‫وقد نص الفقهاء في هذا على أنها إذا خالعته‪ ،‬ثم ادعت أنها إنما خالعته لظلم ه له ا‬
‫في بدنها‪ ،‬أو لضرره بها كما لو ك ان يمنعه ا من زي ارة وال ديها على أن الظلم والض رر‬
‫كما كالمترادفين فإن أثبتت ذلك‪ ،‬فله ا اس ترجاع ماله ا وينف ذ الطالق بائن ا ألن هللا تع الى‬
‫شرط في حلية ما تدفعه أن يك ون عن طيب نفس فق ال ع ز من قائ ل ﴿ َف إِ ْن ِط ْبنَ َل ُك ْم ع َْن‬
‫َش ْي ٍء ِم ْنهُ َن ْفسًا َف ُكلُوهُ َه ِني ًئا َم ِري ًئا﴾(النساء‪)4:‬‬
‫وقد شدد ابن المنذر النكير على أصحاب القول الثاني قائال‪ (:‬وهذا من قوله خالف‬
‫ظاهر كتاب هللا‪ ،‬وخالف الخبر الثابت عن النبى ‪ ،‬وخالف ما أجمع علي ه عام ة أه ل‬
‫العلم من ذلك‪ ،‬وال أحسب أن لو قيل ألحد أجهد نفسك في طلب الخطإ ما وجد أمرا أعظم‬
‫من أن ينطق الكتاب بتحريم شئ لم يقابله مقابل بالخالف نصبا‪ ،‬فيقول بل يجوز ذل ك وال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪.3/137:‬‬
‫‪ )(2‬أص ل العض ل التض ييق والحبس‪ ،‬ومن ه عض لت الم رأة بول دها عس ر عليه ا كأعض لت فهي معض ل‬
‫ومعضل‪ ،‬ويقال عضل المرأة يعضلها منعها الزوج ظلما وعضلت األرض بأهلها غصت‪ ،‬روح المعاني‪.4/241 :‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪ ،3/137 :‬وقال ابن القاسم‪ :‬وليس من اإلض رار البغض له ا وإنم ا األذى بض رب‪ ،‬أو إيص ال‬
‫شتم في غير حق‪ ،‬أو أخذ مال أو المشاورة‪ ،‬شرح ميارة‪.1/194:‬‬

‫‪154‬‬
‫على رد ما أخذ)(‪)1‬‬ ‫يجبر‬
‫‪ 3‬ـ الخع عند ثبوت الضرر من الزوجة‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو ثبت الضرر من الزوج ة‪ ،‬ب أن أتت بفاحش ة مثال‪ ،‬فعض لها‬
‫زوجها لتفتدي نفسها منه‪ ،‬ففعلت‪ ،‬هل يصح الخلع أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يصح الخلع‪ ،‬وهو قول جمهور الفقه اء‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك ب آيتين‬
‫من القرآن الكريم فيهما الغنى‪ ،‬هما‪:‬‬
‫عْض َم ا آ َت ْيتُ ُم وه َُّن ِإاَّل أ ْنَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫اآلية األولى‪ :‬ق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬واَل ت ُ‬
‫َعْض لوه َُّن ِل َت ذ َهبُوا ِب َب ِ‬
‫اح َش ٍة ُم َب ِّي َن ٍة﴾(النس اء‪ ،)19:‬واالس تثناء من النهي إباح ة‪ ،‬وه ذه اآلي ة من أص ول‬ ‫َي ْأ ِتينَ ِب َف ِ‬
‫اآليات التي تحفظ بها حقوق المرأة في اإلسالم‪ ،‬وهي في تركيبها المعجز تحمل المع اني‬
‫الكثيرة‪ ،‬والتي يذكرها البعض كخالف تفسيري أو فقهي‪ ،‬ون ذكرها هن ا كمع ان تحتمله ا‬
‫اآلية كما تحتمل غيرها‪ ،‬وسنقتصر منها على موضع الداللة‪ ،‬فالنهي عن العض ل موج ه‬
‫إما لألزواج أو لألولياء أو للورثة‪ ،‬ومما يتعلق باالستشهاد هنا هو كونه خطاب ا لألزواج‪،‬‬
‫ومن معاني العضل الذي نهى عنه ثالثة أقوال(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الرج ل ك ان يك ره ص حبة امرأت ه‪ ،‬وله ا علي ه مه ر فيحبس ها ويض ربها‬
‫لتفتدي‪ ،‬قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة فلعلها ال توافقه فيفارقها على أن ال تتزوج‬
‫إال بإذنه ويشهد على ذلك فاذا خطبت فأرضته أذن لها وإال عضلها قاله ابن زيد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنهم كانوا بعد الطالق يعضلون كما كانت الجاهلية تفعل فنهوا عن ذل ك روي‬
‫عن ابن زيد أيضا‪.‬‬
‫وقيل في الفاحشة قوالن‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها النشوز على الزوج‪ ،‬قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة في جماعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه الزنى قاله الحسن وعطاء وعكرمة في جماعة‪ ،‬وقد روى معم ر عن‬
‫عطاء الخراساني ق ال ك انت الم رأة إذا أص ابت فاحش ة أخ ذ زوجه ا ماس اق إليه ا‬
‫وأخرجها‪ ،‬فنسخ ذلك بالحد‪.‬‬
‫َ‬
‫اح َعل ْي ِه َم ا ِفي َم ا‬ ‫َ‬ ‫اَل‬‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫اَّل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اآلية الثانية‪ :‬قول هللا تع الى‪ ﴿ :‬ف إِن ِخفت ْم أ يُ ِقي َم ا حُ دُو َد ِ ف جُ ن َ‬
‫َت ِبه﴾ (البقرة‪ ،)229:‬وهي متى زنت‪ ،‬لم يأمن أن تلح ق ب ه ول دا من غ يره‪ ،‬وتفس د‬ ‫ا ْف َتد ْ‬
‫فراشه‪ ،‬فال تقيم حدود هللا في حقه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يصح الخلع‪ ،‬وهو أحد قولي الشافعي‪ ،‬ألنه عوض أكرهت عليه‪،‬‬
‫فأشبه ما لو لم تزن‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول ففي اآلي تين الم ذكورتين الغ نى‬
‫في الداللة‪ ،‬فالض رر هن ا من الزوج ة‪ ،‬فل ذلك ك ان لل زوج الح ق في اس ترجاع م ا‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.3/137 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬زاد المسير‪.2/40 :‬‬

‫‪155‬‬
‫أعطاها مقابل تسريحها‪ ،‬ولكن هذا متوقف على أن تكون قد أتت حقا بالفاحشة ال تي‬
‫تبيح له أخذ مالها‪ ،‬وقد قال الطبري في تأويلها‪ (:‬وأولى م ا قي ل في تأوي ل قول ه إال‬
‫أن يأتين بفاحشة مبينة أنه معني به كل فاحشة من بذاءة باللس ان على زوجه ا وأذى‬
‫له وزن ا بفرجه ا‪ ،‬وذل ك أن هللا ج ل ثن اؤه عم بقول ه ﴿ إِاَّل أَ ْن يَ أْتِينَ بِفَا ِح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة﴾‬
‫(النساء‪ )19:‬كل فاحشة مبينة ظاهرة‪ ،‬فك ل زوج ام رأة أتت بفاحش ة من الف واحش‬
‫التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين هللا في كتاب ه والتض ييق عليه ا ح تى‬
‫تفتدي منه بأي معاني فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبينة)(‪)1‬‬
‫ويدل عليه من السنة قول ه ‪(:‬اتق وا هللا في النس اء ف انكم أخ ذتموهن بأمان ة‬
‫هللا‪ ،‬واس تحللتم ف روجهن بكلم ة هللا‪ ،‬وإن لكم عليهن أن ال ي وطئن فرش كم أح دا‬
‫تكرهون ه‪ ،‬ف إن فعلن ذل ك فاض ربوهن ض ربا غ ير م برح‪ ،‬ولهن عليكم رزقهن‬
‫وكسوتهن بالمعروف) (‪)2‬‬
‫ق ال الط بري تعليق ا على ه ذا الح ديث‪( :‬ف بين أن ل زوج الم رأة إذا أوط أت‬
‫امرأته نفس ها غ يره وأمكنت من جماعه ا س واه أن ل ه منعه ا من الكس وة وال رزق‬
‫بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف‪ ،‬وإذا ك ان ذل ك‬
‫له فمعلوم أنه غير مانع لها بمنعه إياها ماله منعه ا حق ا له ا واجب ا علي ه‪ ،‬وإذا ك ان‬
‫ذلك كذلك فبين أنه ا إذا افت دت نفس ها عن د ذل ك من زوجه ا فأخ ذ منه ا زوجه ا م ا‬
‫أعطته أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه‪ ،‬بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له‬
‫مباح‪ ،‬وإذ كان ذلك كذلك ك ان بين ا أن ه داخ ل في اس تثناء هللا تب ارك وتع الى ال ذي‬
‫ْض َم ا آتَ ْيتُ ُم وه َُّن إِاَّل أَ ْن‬
‫ْض لُوه َُّن لِتَ ْذهَبُوا بِبَع ِ‬
‫اس تثناه من العاض لين بقول ه‪َ ﴿ :‬واَل تَع ُ‬
‫يَأْتِينَ بِفَا ِح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة﴾(النس اء‪ ،)19:‬وإذ ص ح ذل ك ت بين فس اد ق ول من ق ال ﴿ إِاَّل أَ ْن‬
‫يَ أْتِينَ بِفَا ِح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة ﴾ منس وخ بالح دود‪ ،‬ألن الح د ح ق هللا تع الى على من أتى‬
‫بالفاحشة التي هي زنا‪ ،‬وأما العضل لتفتدي المرأة من ال زوج بم ا آتاه ا أو ببعض ه‬
‫فحق لزوجها‪،‬كما عضله إياها وتضييقه عليها‪ ،‬إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه ح ق‬
‫له وليس حكم أحدهما يبطل حكم اآلخر) (‪)3‬‬
‫وقت الخلع‬
‫اتف ق الفقه اء على أن وقت الخل ع ال يع رض ل ه م ا يع رض للطالق من الس نية‬
‫والبدعي ة‪ ،‬فل ذلك نص الفقه اء على أن ه ال ب أس ب الخلع في الحيض(‪ )4‬والطه ر ال ذي‬
‫أصابها فيه؛ ألن المنع من الطالق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة‪،‬‬
‫والخلع إلزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام م ع من تكره ه وتبغض ه‪ ،‬وه و‬

‫‪ )(1‬الطبري‪.4/311 :‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه أحمد (‪ ،5/72‬رقم ‪ )20714‬قال الهيثمى (‪ :)3/266‬رواه أحمد وأب و ح رة الرقاش ى وثق ه أب و‬
‫داود وضعفه ابن معين‪ ،‬وفيه على بن زيد وفيه كالم‪..‬‬
‫‪ )(3‬الطبري‪.4/312 :‬‬
‫‪ )(4‬خالف في ذلك بعض المالكية‪ ،‬ففي الت اج‪ »:‬ق ال ابن ش اس‪ :‬الخل ع في الحيض ال يج وز وق د قي ل‪ :‬إن ه‬
‫يجوز برضاها وعلى هذا يجوز برضاها دون خلع‪ .‬ابن عرفة‪ :‬ال أعرف من نقل الجواز« التاج واإلكليل‪.5/304 :‬‬

‫‪156‬‬
‫أعظم من ضرر ط ول الع دة‪ ،‬فج از دف ع أعالهم ا بأدناهم ا‪ ،‬ول ذلك لم يس أل الن بي ‪‬‬
‫المختلعة عن حالها‪ ،‬وألن ضرر تطويل العدة عليها‪ ،‬والخلع يحصل بسؤالها‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫رضاء منها به‪ ،‬ودليال على رجحان مصلحتها فيه(‪.)1‬‬
‫وقد تعقب بعضهم االستدالل بعدم استفسار الن بي ‪ ‬المختلع ة عن حاله ا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(أما استدالله ففيه نظر‪ ،‬ألن في رواية الشافعي وغيره أن ه ‪ ‬خ رج إلى الص بح فوج د‬
‫حبيبة بنت سهل عن د باب ه في الغلس‪ ،‬وباب ه ال ذي يخ رج من ه إلى المس جد من الزم من‬
‫يجيء إليه أن يدخل المسجد‪ ،‬ففي دخولها المسجد دليل على كونها طاهرا غير حائض)‬
‫قال ابن حجر معقبا على هذا‪ (:‬هكذا بحث المخرج تبعا لغيره‪ ،‬وفيه نظ ر ال يخفى‬
‫على ذي فهم‪ ،‬بل ال يلزم من إطالق اإلذن بالنس بة إلى زمن الس نة والبدع ة‪ ،‬عموم ه في‬
‫الحالتين‪ ،‬وأيضا فإطالق اإلذن في االختالع يعارضه إطالق المن ع من طالق الح ائض‪،‬‬
‫فبينهما عموم وخصوص وجهي فتعارضا)(‪)2‬‬
‫نوع الفرقة في الخلع‬
‫اختلف الفقهاء في نوع الفراق الحاصل بالخلع على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن الخلع بعوض فس خ ب أي لف ظ ك ان‪ ،‬ول و وق ع بص ريح الطالق‪،‬‬
‫وليس من الطالق الثالث‪ ،‬وهو قول ابن عب اس وط اوس وعكرم ة وإس حاق وأبي ث ور‬
‫ورواية عن أحمد‪ ،‬قال ابن تيمية‪ (:‬وه ذا ه و المنق ول عن عب د هللا بن عب اس وأص حابه‬
‫وعن اإلمام أحمد وقدماء أصحابه لم يفرق أحد من السلف وال أحم د بن حنب ل وال ق دماء‬
‫أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ ال لفظ الطالق وال غيره‪ ،‬بل ألف اظهم كله ا ص ريحة في‬
‫أنه فسخ بأي لفظ كان‪ ،‬ق ال عب د هللا‪ :‬رأيت أبي ي ذهب إلى ق ول ابن عب اس وابن عب اس‬
‫صح عنه أنه كل ما أج ازه الم ال فليس بطالق‪ ،‬وال ذي يقتض يه القي اس أنهم ا إذا طلقه ا‬
‫لنكاح ثبت صداق المثل فهكذا الخلع وأولى)(‪ ،)3‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ُوف أَوْ ت َْس ِري ٌح‬
‫ك بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ان فَإ ْم َس ا ٌ‬ ‫‪ 1‬ـ أن هللا تع الى لم ا ق ال‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ق َم َّرتَ ِ‬
‫ْ‬
‫بِإِحْ َسا ٍن﴾ (البقرة‪ ،)229 :‬ثم عقب ذلك بقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬واَل يَ ِح لُّ لَ ُك ْم أَ ْن تَأ ُخ ُذوا ِم َّما‬
‫آتَ ْيتُ ُموه َُّن َش ْيئًا﴾ إلى أن قال في نسق التالوة ﴿ فَ إِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى‬
‫تَن ِك َح َزوْ جًا َغ ْي َرهُ ﴾(البقرة‪ ،)230:‬فأثبت الثالثة بع د الخل ع‪ ،‬دل ذل ك على أن الخل ع‬
‫ليس بطالق؛ إذ لو كان طالقا لكانت هذه رابعة؛ ألنه ذك ر الخل ع بع د التطليق تين ثم‬
‫ذكر الثالثة بعد الخلع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها فرقة خلت عن صريح الطالق ونيته‪ ،‬فكانت فسخا كسائر الفسوخ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ال يصح ما نقل خالف ذلك عن الصحابة‪ ،‬قال ابن تيمي ة‪ (:‬ونق ل عن‬
‫طائفة من الصحابة؛ لكن لم يثبت عن واحد منهم‪ ،‬ب ل ض عف أحم د بن حنب ل وابن‬

‫‪ )(1‬المغ ني‪ ،7/247 :‬الفت اوى الك برى‪ ،3/287:‬البح ر الزخ ار‪ ،4/152 :‬البح ر الرائ ق‪ ،3/257 :‬تحف ة‬
‫المحتاج‪ ،7/497 :‬شرائع اإلسالم‪ ،3/40 :‬مطاب أولى النهي‪.5/339 :‬‬
‫‪ )(2‬تلخيص الحبير‪.3/419:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.5/485:‬‬

‫‪157‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة)‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن ه طلق ة بائن ة‪ ،‬وق د روي ذل ك عن س عيد بن المس يب والحس ن‬
‫وعط اء وقبيص ة‪ ،‬وش ريح ومجاه د وأبي س لمة بن عب د ال رحمن والنخعي والش عبي‬
‫والزهري ومكحول وابن أبي نجيح‪ ،‬ومالك واألوزاعي والحنفية‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬قال‬
‫الجصاص‪ (:‬وهو قول فقهاء األمصار ال خالف بينهم فيه) (‪ ،)2‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن م ا اس تدلوا ب ه من الق رآن الك ريم ال يص ح‪ ،‬وذل ك ألن قول ه تع الى‪:‬‬
‫ق َم َّرتَا ِن﴾ (البقرة‪)229 :‬أفاد حكم االثنين إذا أوقعهما على غير وجه الخل ع‪،‬‬ ‫﴿ الطَّال ُ‬
‫وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى‪ ﴿ :‬فإمساك بمعروف ﴾‪ ،‬ثم ذكر حكمهم ا إذا كانت ا‬
‫على وجه الخلع‪ ،‬وأبان عن موضع الحظر واإلباحة فيهما‪ ،‬والحال التي يجوز فيه ا‬
‫أخذ المال أو ال يجوز‪ ،‬ثم عطف على ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن طَلَّقَهَا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن‬
‫بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح َزوْ جًا َغ ْي َرهُ ﴾(البق رة‪ )230:‬فع اد ذل ك إلى االثن تين المق دم ذكرهم ا‬
‫على وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى‪ ،‬فليس في اآليات دالل ة على أن‬
‫الخلع بعد االثنتين‪ ،‬ثم الرابعة بعد الخلع‪.‬‬
‫وقد بالغ ابن العربي في اإلنك ار على الوج ه ال ذي فس ر ب ه أص حاب الق ول‬
‫األول اآلية‪ ،‬فقال‪(:‬وال يفهم ه ذا إال غ بي أو متغ اب؛ ألن هللا تع الى ق ال‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ق‬
‫ان﴾ (البقرة‪ ،)229 :‬فإن وقع شيء من هذا‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫َم َّرتَا ِن فَإ ْم َسا ٌ‬
‫ك بِ َم ْعر ٍ‬
‫الطالق بع وض ك ان ذل ك راجع ا إلى األولى والثاني ة دون الثالث ة ال تي هي ﴿ أَوْ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َسا ٍن ﴾ حسبما تقدم؛ فال جناح عليه فيه‪ ،‬فإن طلقه ا ثالث ة فال تح ل ل ه من‬ ‫تَس ِ‬
‫بعد حتى تنكح زوجا غيره كان بفدية أو بغير فدية)(‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ عن سعيد بن المسيب قال‪ :‬جعل رسول هللا ‪ ‬الخلع تطليقة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله ‪ ‬لثابت بن قيس حين نشزت عليه امرأته‪ :‬خل سبيلها‪ ،‬وفي بعض‬
‫األلفاظ‪ :‬فارقها‪ ،‬بعدما قال للمرأة‪ :‬ردي عليه حديقته‪ ،‬قال‪ :‬قد فعلت‪ .‬ومعلوم أن من‬
‫قال المرأته‪ :‬قد فارقتك‪ ،‬أو قد خليت سبيلك‪ ،‬ونيت ه الفرق ة‪ ،‬أن ه يك ون طالق ا‪ ،‬ف دل‬
‫ذلك على أن خلعه إياها بأمر الشارع كان طالقا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أما ما روي عن ابن عباس فإن اليصح‪ ،‬فعن عبد الملك بن ميس رة ق ال‪:‬‬
‫سأل رجل طاوس ا عن الخل ع‪ ،‬فق ال‪ :‬ليس بش يء؛ فقلت‪ :‬ال ت زال تح دثنا بش يء ال‬
‫نعرفه فقال‪ :‬وهللا لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بع د تطليق تين وخل ع‪ ،‬ق ال‬
‫الجصاص‪ (:‬ويقال‪ :‬هذا مما أخطأ فيه طاوس‪ ،‬وكان كثير الخطإ مع جاللته وفضله‬
‫وصالحه يروي أشياء منكرة‪ ،‬منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال‪ :‬من طلق ثالث ا‬
‫كانت واحدة‪ ،‬قالوا‪ :‬وكان أيوب يتعجب من كثرة خطإ طاوس‪ ،‬وذكر ابن أبي نجيح‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.3/271:‬‬
‫‪ )(2‬الجصاص‪.1/539 :‬‬
‫‪ )(3‬أحكام القرآن البن العربي‪..1/264:‬‬

‫‪158‬‬
‫عن طاوس أنه قال‪ :‬الخلع ليس بطالق‪ ،‬ق ال‪ :‬ف أنكره علي ه أه ل مك ة‪ ،‬فجم ع ناس ا‬
‫منهم واعتذر إليهم وقال‪ :‬إنما سمعت ابن عباس يقول ذلك(‪.)1‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه ال خالف أنه لو قال لها‪ :‬قد طلقتك على مال‪ ،‬أو قد جعلت أمرك إليك‬
‫بمال كان طالقا‪ ،‬وكذلك لو قال لها‪ :‬قد خلعتك بغير مال‪ ،‬يريد به الفرقة كان طالقا‪،‬‬
‫كذلك إذا خلعها بمال‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه ال يصح قياس الخلع على اإلقال ة في ال بيع‪ ،‬ألن ه ال خالف في ج واز‬
‫الخلع بغير مال وعلى أقل من المهر‪ ،‬واإلقالة ال تجوز بالثمن الذي ك ان في العق د‪،‬‬
‫ولو كان الخلع فسخا كاإلقالة لما جاز إال بالمهر الذي تزوجها عليه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن في اتفاق الجميع على جوازه بغير مال وبأقل من المهر داللة على أنه‬
‫طالق بمال‪ ،‬وأنه ليس بفسخ‪ ،‬وأنه ال فرق بينه وبين قوله قد طلقتك على هذا المال‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أنها بذلت العوض للفرقة‪ ،‬والفرقة التي يملك ال زوج إيقاعه ا هي الطالق‬
‫دون الفسخ‪ ،‬فوجب أن يكون طالقا‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أنه أتى بكناية الطالق‪ ،‬قاصدا فراقها‪ ،‬فكان طالقا‪ ،‬كغير الخلع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة من باب رعاية المقاصد الش رعية من تض ييق مناف ذ‬
‫الطالق وإتاحة الفرص للرجع ة ه و اعتب اره فس خا ال طالق ا‪ ،‬ألن ا إذا اعتبرناه ا طلق ة‪،‬‬
‫فخالعها مرة‪ ،‬حسبت طلقة‪ ،‬فنقص بها ع دد طالقه ا‪ ،‬وإن خالعه ا ثالث ا طلقت ثالث ا‪ ،‬فال‬
‫تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‪ .‬وإن قلنا‪ :‬ه و فس خ‪ ،‬لم تح رم علي ه‪ ،‬وإن خالعه ا‬
‫مائة مرة‪.‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فإن القول باعتباره فسخا ينسجم م ع م ا ذكرن ا من أن الخل ع ه و‬
‫الطالق الخ اص ب المرأة‪ ،‬فل ذلك ال يص ح أن ينقص من ف رص تطلي ق الرج ل‪ ،‬كم ا ال‬
‫ينقص تفريق الحاكم ذلك‪.‬‬
‫طالق المختلعة‬
‫اختلف الفقه اء في أث ر تطلي ق المختلع ة في ف ترة ع دتها على الق ول ب أن الفرق ة‬
‫طالق‪ ،‬كما ذكرنا الخالف في المسألة السابقة‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يلحقها الطالق الصريح المعين‪ ،‬دون الكناية والطالق المرسل‪ ،‬وهو‬
‫أن يق ول‪ :‬ك ل ام رأة لي ط الق‪ ،‬وق د روي نح و ذل ك عن س عيد بن المس يب‪ ،‬وش ريح‪،‬‬
‫وطاوس‪ ،‬والنخعي والزهري والحكم وحماد‪ ،‬والثوري‪ ،‬وهو ق ول الحنفي ة‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هللا تعالى شرع صريح الطالق بعد المفاداة ب الطالق‪ ،‬فق د ق ال تع الى‬
‫اج َعا إِ ْن ظَنَّا أَ ْن يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ‬
‫في نسق التالوة‪ ﴿ :‬فَإِ ْن طَلَّقَهَا فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َما أَ ْن يَت ََر َ‬
‫َوتِ ْلكَ ُحدُو ُد هَّللا ِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمون﴾(البقرة‪ )230:‬عطفا على م ا تق دم ذك ره‪ ،‬وقول ه‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬واَل يَ ِحلُّ لَ ُك ْم أَ ْن تَأْ ُخ ُذوا ِم َّما آتَ ْيتُ ُموه َُّن َش ْيئًا إِاَّل أَ ْن يَخَافَا أَاَّل يُقِي َما ُحدُو َد هَّللا ِ ﴾‬

‫‪ )(1‬الجصاص‪.1/539:‬‬

‫‪159‬‬
‫(البقرة‪ )229:‬فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالث ة بش ريطة زوال م ا كان ا علي ه‬
‫من الخوف لترك إقامة حدود هللا(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ رووا حديثا في ذلك هو‪ (:‬المختلع ة يلحقه ا الطالق‪ ،‬م ا دامت في الع دة)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يع ود إلى األلف ة‪،‬‬
‫فدل ذلك على أن هذه الثالثة مذكورة بعد الخلع‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يق ع بالمعت دة من الخل ع طالق‪ ،‬ول و واجهه ا ب ه‪ ،‬وه و ق ول ابن‬
‫عباس وابن الزبير وعكرم ة‪ ،‬وج ابر بن زي د‪ ،‬والحس ن‪ ،‬والش عبي ومال ك‪ ،‬والش افعي‪،‬‬
‫وإسحاق وأبي ثور‪،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ال يصح استدالل المخ الفين باآلي ة ألن معناه ا ف إن طلقه ا ولم تعت د‪،‬‬
‫ألنه شرع قبل االبتداء بطالقين فيكون االبتداء ثالثة‪ ،‬وال طالق بعدها ليك ون مرتب ا‬
‫عليها‪ ،‬ويكون معقبا به‪ ،‬فالصريح المذكور على سبيل المعاقبة معناه إن لم يكن فداء‬
‫ولكن كان صريحا‪ ،‬وذلك ألن هللا تعالى شرع طلق تين ص ريحتين‪ ،‬ثم ذك ر بع دهما‬
‫إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان‪ ،‬إما بالترك لتبين‪ ،‬وإما بالطلقة الثالث ة‪ ،‬فيك ون‬
‫تمليكا للثالثة؛ فإن افتدت فال جناح عليها فيه‪ ،‬وإن لم تفت د وطلقه ا ك ان ك ذلك‪ ،‬كم ا‬
‫أخبر به‪ ،‬فيكون بيانا لكيفية التصرف فيما بقي من ملك الثالثة(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الحديث الذي استدل به المخالفون ال أصل له‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه قول ابن عباس وابن الزبير‪ ،‬وال نعرف لهما مخالفا في عصرهما‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنها ال تحل له إال بنكاح جديد‪ ،‬فلم يلحقها طالقه‪ ،‬كالمطلقة قبل ال دخول‪،‬‬
‫أو المنقضية عدتها‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه ا ليس ت زوجت ه‪ ،‬فلم يلحقه ا طالق ه‪ ،‬كاألجنبي ة‪ ،‬ق ال الش افعي مبين ا‬
‫القاعدة في ه ذا ومثل ه‪ (:‬إذا خالعه ا ثم طلقه ا في الع دة لم يق ع عليه ا الطالق ألنه ا‬
‫ليست بزوجة وال في معاني األزواج بحال بأن يكون له عليها رجعة وال تحل له إال‬
‫بنكاح جديد كما كانت قبل أن ينكحها‪ ،‬وكذلك لو آلى منها أو تظاهر أو قذفها لم يق ع‬
‫عليه إيالء وال ظهار وال لعان إن لم يكن ولد ولو م اتت أو م ات لم يتوارث ا‪ ،‬وإنم ا‬
‫قلت هذا بدالل ة كت اب هللا ع ز وج ل ألن هللا تع الى حكم به ذه األحك ام الخمس ة من‬
‫اإليالء والظهار واللعان والطالق والميراث بين الزوجين‪ ،‬فلما عقلنا عن هللا تع الى‬
‫أن هذين غير زوجين لم يجز أن يقع عليها طالقه(‪)4‬‬
‫‪ 6‬ـ أنها ال يقع بها الطالق المرسل‪ ،‬وال تطلق بالكناي ة‪ ،‬فال يلحقه ا الص ريح‬
‫المعين‪ ،‬كما قبل ال دخول‪ .‬وال ف رق بين أن يواجهه ا ب ه‪ ،‬فيق ول‪ :‬أنت ط الق‪ .‬أو ال‬

‫‪ )(1‬الجصاص‪.1/539:‬‬
‫‪ )( 2‬قال ابن الجوزي‪ :‬هذا حديث موضوع ال أ صل له‪ ،‬التحقيق في أحاديث الخالف‪.2/295 :‬‬
‫‪ )(3‬أحكام القرآن البن العربي‪.1/264:‬‬
‫‪ )(4‬األم‪.5/213 :‬‬

‫‪160‬‬
‫يواجهها به‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬فالنة طالق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة بناء على ما سبق من تض ييق ب اب الطالق ه و ع دم‬
‫صحة طالق المختلعة في فترة عدتها لسببين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه لغو محض‪ ،‬فالمرأة ت بين من زوجه ا ب الخلع وال حاج ة بع ده إليق اع‬
‫الطالق‪ ،‬فيصير بذلك الطالق كاتخاذ آيات هللا هزوا‪ ،‬الستعماله لغير ما شرع له‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ضرر محض‪ ،‬فهو ينقص من الفرص التي أتاحها الش ارع لل زوجين‬
‫للرجعة من غير سبب معقول‪.‬‬
‫رجعة المختلعة‬
‫اختلف الفقهاء في ثبوت الرجعة للزوج بعد اختالع زوجته على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يثبت في الخلع رجعة‪ ،‬وقد اتفق على القول بهذا من اعت بر الخل ع‬
‫فسخا أو طالقا‪ ،‬وهو قول جمهور العماء‪ ،‬قال ابن قدامة‪ (:‬هو قول أكثر أه ل العلم؛ منهم‬
‫الحس ن وعط اء وط اوس والنخعي والث وري واألوزاعي ومال ك والش افعي وإس حاق)‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َت بِ ِه ﴾(البقرة‪)229:‬وإنما يكون فداء إذا خرجت به‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪﴿ :‬فِي َما ا ْفتَد ْ‬
‫عن قبضته وسلطانه‪ ،‬وإذا كانت له الرجعة‪ ،‬فهي تحت حكمه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن القصد إزالة الضرر عن المرأة‪ ،‬فلو جاز ارتجاعها‪ ،‬لعاد الضرر‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬الزوج بالخي ار بين إمس اك الع وض وال رجع ة ل ه‪ ،‬وبين رده ول ه‬
‫الرجعة‪ ،‬وقد روي عن الزهري وسعيد بن المسيب‪ ،‬وه و ق ول ابن ح زم‪ ،‬ق ال في بي ان‬
‫علة قوله‪ (:‬قد بين هللا تع الى حكم الطالق‪ ،‬وأن ﴿ َبُ ُع و َلتُه َُّن َأ َح ُّق ِب َر ِّد ِه َّن ﴾(البق رة‪،)228:‬‬
‫رُوف َو َأ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل‬
‫ٍ‬ ‫رُوف َأوْ َف ِ‬
‫ارقُوه َُّن ِب َمعْ‬ ‫ٍ‬ ‫ق ال‪َ ﴿ :‬ف إِ َذا َب َل ْغنَ َأ َج َله َُّن َفأَ ْم ِس ُكوه َُّن ِب َمعْ‬
‫ِم ْن ُك ْم ﴾(الطالق‪ )2 :‬فال يجوز خالف ذلك‪ ،‬وما وجدنا قط في دين اإلس الم عن هللا تع الى‪،‬‬
‫وال عن رسوله ‪ ‬طالقا بائنا ال رجعة في ه‪ ،‬إال الثالث مجموع ة أو مفرق ة‪ ،‬أو ال تي لم‬
‫يطأها‪ ،‬وال مزيد‪ ،‬وأما عدا ذلك فآراء ال حجة فيها‪ ،‬وأما رده ما أخذ منها فإنم ا أخ ذه لئال‬
‫تكون في عصمته‪ ،‬فإذا لم يتم لها مرادها فمالها الذي لم تعطه إال لذلك‪ ،‬مردود عليه ا‪ ،‬إال‬
‫أن يبين عليها أنها طلقة له الرجعة فيها‪ ،‬فترضى‪ ،‬فال يرد عليها شيئا)(‪)1‬‬
‫القول الثالث‪ :‬إن كان الخلع بلف ظ الطالق فل ه الرجع ة‪ ،‬وه و ق ول أبي ث ور‪ ،‬ألن‬
‫الرجعة؛ من حقوق الطالق‪ ،‬فال تسقط بالعوض‪ ،‬كالوالء مع العتق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة والذي تدل عليه النصوص‪ ،‬ويتفق م ع المقاص د‬
‫الشرعية هو القول األول‪ ،‬ألن القولين اآلخرين يلغي ان الخل ع‪ ،‬ب ل يجعالن ه وس يلة‬
‫من وسائل التلصص على مال الزوجة‪ ،‬فالزوج على اعتبار القولين الثاني والث الث‬
‫يقبالن الخلع ويقبضان المال‪ ،‬ثم ينكثانه بالرجعة‪.‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/519 :‬‬

‫‪161‬‬
‫ومثل هذا الحكم ليس خاصا بالخلع فقط‪ ،‬بل ه و ج ار في ك ل األحك ام الش رعية‪،‬‬
‫قال العز ابن عبد السالم ضاربا بعض األمثل ة على ذل ك‪(:‬اإلس قاط ب األعواض كإس قاط‬
‫حق الزوج من البضع بالخلع أو بالطالق على مال‪ ،‬وكالصلح عن الدين فإنه يس قطه عن‬
‫المدين وال ينقله إليه‪ ،‬وكذلك العتق على مال‪ ،‬وبيع العبد من نفسه فإن ه يس قط المل ك‪ ،‬وال‬
‫ينقل ه إلى الرقي ق‪ ،‬وك ذلك الص لح عن القص اص في النف وس واألط راف فإن ه يس قط‬
‫القص اص عن الج اني وال ينقل ه إلي ه‪ ،‬فيق ع به ذه التص رفات النق ل في أح د الج انبين‬
‫واإلسقاط من اآلخر‪ .‬وأما مقابلة اإلسقاط عند تساوي الديون في باب التقاص فال نقل في ه‬
‫من الجانبين وال من أحدهما‪ ،‬وإنما هو سقوط في مقابل ة س قوط إذا لم يش ترط الرض ا أو‬
‫إسقاط في مقابلة إسقاط م ا له ا علي ه في ذمت ه‪ ،‬وال يقاب ل إس قاط ح د الق ذف بش يء من‬
‫األعواض على األصح)(‪)1‬‬
‫حكم التراجع عن الخلع‬
‫اتف ق الفقه اء على أن ه الخل ع إن تم وف ق الض وابط الش رعية‪ ،‬فليس ألح دهما أن‬
‫يتراجع عن إمضائه(‪ ،)2‬ولكن إن شرط في الخلع أن له الرجعة‪ ،‬فق د اختل ف الفقه اء في‬
‫صحة هذا الشرط واعتباره على قولين(‪:)3‬‬
‫القول األول‪ :‬يبطل الشرط‪ ،‬ويصح الخلع‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وإحدى الرواي تين‬
‫عن مالك‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الخلع ال يفسد بكون عوضه فاسدا‪ ،‬فال يفسد بالشرط الفاسد‪ ،‬كالنكاح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه لفظ يقتضي البينونة‪ ،‬فإذا شرط الرجعة معه‪ ،‬بطل الش رط‪ ،‬ك الطالق‬
‫الثالث‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يبطل الخلع وتثبت الرجع ة‪ ،‬وه و ق ول الش افعي‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن شرط العوض والرجعة متنافيان‪ ،‬فإذا ش رطاهما س قطا‪ ،‬وبقي مج رد‬
‫الطالق فتثبت الرجعة باألصل ال بالشرط‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه ش رط في العق د م ا ين افي مقتض اه‪ ،‬فأبطل ه‪ ،‬كم ا ل و ش رط أن ال‬
‫يتصرف في المبيع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة عدم اعتبار ذلك الشرط لمنافاته للخل ع‪ ،‬فل ذلك يص ح‬
‫الخلع‪ ،‬ويفسد الشرط‪ ،‬مع ضرورة تبيين هذا الحكم للمختلع نفي ا للض رر عن ه‪ ،‬فق د يقب ل‬
‫بفدية قليلة مع اشتراط هذا الشرط‪ ،‬ثم يفاجأ بعدها بإلغ اء ش رطه‪ ،‬وفي ه ذه الحال ة ـ أي‬
‫عن د حص ول الغ رر ـ ن رى أن يؤخ ذ ب القول الث اني‪ ،‬ألن ه كم ا أن للزوج ة الح ق في‬

‫‪ )(1‬قواعد األحكام‪.2/83:‬‬
‫‪ )(2‬لكن نص اإلمامية على أنه إذا صح الخلع‪ ،‬فال رجعة له‪ ،‬ولها الرج وع في الفدي ة‪ ،‬م ا دامت في الع دة‪،‬‬
‫ومع رجوعها يرجع إن شاء‪ ،‬شرائع اإلس الم‪ ،3/42:‬وه و ق ول حس ن ألن الم رأة هي المختلع ة فتص ح رجعته ا إذا‬
‫رضي الزوج‪ ،‬بخالف رجعته هو‪.‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.7/252:‬‬

‫‪162‬‬
‫االختالع‪ ،‬فإن للزوج الحق في التبين ونفي الغرر‪.‬‬
‫من يتولى التفريق‬
‫اختلف الفقهاء في من يتولى التفريق في الخلع على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الحاكم هو الذي يتولى التفريق‪ ،‬وهو قول سعيد بن جبير والحسن‬
‫وابن سيرين‪ ،‬قال شعبة قلت لقتادة‪ :‬عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان‪ ،‬ق ال‪ :‬عن زي اد‬
‫وكان واليا لعمر وعلي‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ق راءة حم زة إال أن يخاف ا بض م الي اء على م ا لم يس م فاعل ه والفاع ل‬
‫محذوف وهو الوالة والحكام واختاره أبو عبيد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬فَإِ ْن ِخ ْفتُ ْم ﴾(البقرة‪،)229:‬فجعل الخوف لغير الزوجين‪ ،‬ولو‬
‫أراد الزوجين لقال‪ ﴿:‬فإن خافا﴾‬
‫القول الثاني‪ :‬أن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به وال يج بره‬
‫السلطان على ذلك‪ ،‬وهو قول الجمهور من العلماء‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ما استدلوا به ال يوجبه اإلعراب وال اللفظ‪ ،‬وال المعنى‪ ،‬أما اإلع راب‬
‫فإن عبد هللا بن مسعود قرأ إال أن يخاف ا تخ افوا‪ ،‬فه ذا في العربي ة إذا رد إلى م ا لم‬
‫يسم فاعله قيل‪ :‬إال أن يخاف‪ ،‬وأما اللف ظ ف إن ك ان على لف ظ يخاف ا وجب أن يق ال‪:‬‬
‫فإن خيف‪ ،‬وإن كان على لفظ)فإن خفتم (وجب أن يقال)إال أن تخ افوا(وأم ا المع نى‬
‫فإن ه يبع د أن يق ال‪ (:‬ال يح ل لكم أن تأخ ذوا مم ا آتيتم وهن ش يئا إال أن يخ اف‬
‫غيركم(ولم يقل تعالى‪ (:‬فال جناح عليكم أن تأخذوا ل ه منه ا فدي ة فيك ون الخل ع إلى‬
‫السلطان(‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه كما جاز الطالق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن ل ولي األم ر الح ق في تلبي ة طلب الم رأة‬
‫االختالع من زوجها إن تيقن أن ذلك في مص لحتها‪ ،‬ألن ال زوج ق د ي رفض أي ع رض‬
‫تقدمه زوجته الختالعها‪ ،‬ويؤذيها بذلك‪ ،‬فيسد عليها الباب الذي فتح ه الش رع له ا‪ ،‬وي دل‬
‫على هذا حديث ثابت بن قيس ألن رسول هللا ‪ ‬فرق بينها وبين زوجه ا بطلبه ا‪ ،‬وك ان‬
‫‪ ‬في ذلك يتولى والية أمر المسلمين‪.‬‬
‫زيادة على أن في تدخل ولي األمر سدا لذريعة المساومات التي ق د يغ الي ال زوج‬
‫فيها لتلبية طلب الزوجة بالخلع‪.‬‬
‫ثانيا ـ أركان الخلع وضوابطها‬
‫اختلف الفقهاء في تصنيف أركان الخلع على طريقتين‪:‬‬
‫الطريقة األولى‪ :‬طريقة الجمهور غير الحنفية‪ ،‬وهي اعتبار خمسة أركان للخل ع‪،‬‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.3/138:‬‬

‫‪163‬‬
‫وهي‪ :‬الموجب‪ ،‬والقابل‪ ،‬والمعوض‪ ،‬والعوض‪ ،‬والصيغة‪ ،‬فالموجب هو الزوج أو وليه‪،‬‬
‫والقابل هو الملتزم للعوض‪ ،‬والمعوض هو االس تمتاع بالزوج ة‪ ،‬والع وض ه و الش يء‬
‫المخالع به‪ ،‬والصيغة هي اإليجاب والقبول واأللفاظ التي يقع بها الخلع‪.‬‬
‫الطريقة الثانية‪ :‬طريقة الحنفية‪ ،‬وق د ذك روا ل ه رك نين إن ك ان بع وض‪ ،‬وهم ا‪:‬‬
‫اإليجاب والقبول‪ ،‬ألن ه عق د على الطالق بع وض‪ ،‬فال تق ع الفرق ة وال يس تحق الع وض‬
‫بدون القبول‪ ،‬بخالف الخلع بغير عوض فإنه إذا قال خالعتك ولم ي ذكر الع وض‪ ،‬ون وى‬
‫الطالق فإنه يقع الطالق عليها‪ ،‬سواء قبلت أو لم تقبل؛ ألن ذل ك طالق بغ ير ع وض فال‬
‫يفتقر إلى القبول‪.‬‬
‫الركن األول‪ :‬موجب الخلع‬
‫وهو الزوج‪ ،‬وقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط فيه نفس شروط من يملك التطلي ق‪،‬‬
‫وقد تحدثنا عن تلك الشروط وم ا يتعل ق به ا في الفص ل الخ اص بمن يق ع من ه الطالق‪،‬‬
‫وسنذكر هنا بعض النقول عن الم ذاهب الفقهي ة المش تهرة في ش روط الم وجب‪ ،‬وس بب‬
‫قياسه على المطلق‪:‬‬
‫فقد نصت المذاهب األربعة على ذلك‪ :‬قال ابن قدامة‪(:‬كل زوج صح طالق ه‪،‬‬
‫صح خلعه؛ ألنه إذا ملك الطالق‪ ،‬وهو مجرد إسقاط من غير تحص يل ش يء‪ ،‬فألن‬
‫يملك ه محص ال للع وض أولى(‪ ،)1‬وفي المدون ة‪ (:‬قلت‪ :‬أرأيت طالق المك ره‬
‫ومخالعته قال‪ :‬مالك‪ :‬ال يجوز طالق المك ره فمخالعت ه مث ل ذل ك عن دي(‪ ،)2‬وق ال‬
‫الش افعي‪ (:‬وال يج وز خل ع زوج ح تى يج وز طالق ه‪ ،‬وذل ك أن يك ون بالغ ا غ ير‬
‫مغلوب على عقله‪ ،‬فإذا كان غير مغلوب على عقله فخلعه جائز محجورا عليه ك ان‬
‫أو رشيدا أو ذميا أو مملوك ا من قب ل أن طالق ه ج ائز‪ ،‬ف إذا ج از طالق ه بال ش يء‬
‫يأخذه كان أخذه ما أخ ذ علي ه فض ال أولى أن يج وز من طالق ه بال ش يء وه و في‬
‫الخلع كالبالغ الرشيد)(‪)3‬‬
‫ونص اإلمامية على أنه يعتبر في الخالع شروط أربع ة هي‪ :‬البل وغ‪ ،‬وكم ال‬
‫العقل‪ ،‬واالختيار‪ ،‬والقصد‪ .‬فال يقع مع الصغر‪ ،‬وال م ع الجن ون‪ ،‬وال م ع اإلك راه‪،‬‬
‫وال مع السكر‪ ،‬وال مع الغضب الرافع للقصد‪ .‬ولو خالع ولي الطف ل بع وض ص ح‪،‬‬
‫إن لم يكن طالقا‪ ،‬وبطل مع القول بكونه طالقا(‪.)4‬‬
‫ونص الزيدية على أن من صح طالقه صح خلعه‪ ،‬ومن ال فال(‪.)5‬‬
‫ونص اإلباض ية على أن ه يج وز (الف داء والخل ع من مريض ين ومعتلين‪،‬‬
‫والشيخ الفاني والعجوز وق ائم علي ه البح ر في س فينة‪ ،‬ومحي ط ب ه حري ق أو م اء‪،‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/269:‬‬
‫‪ )(2‬المدونة‪.2/79:‬‬
‫‪ )(3‬األم‪.5/314:‬‬
‫‪ )(4‬شرائع اإلسالم‪.3/40:‬‬
‫‪ )(5‬البحر الزخار‪.4/181:‬‬

‫‪164‬‬
‫ومشرف على موت بجوع أو عطش أو حر أو برد أو بغير ذلك‪ ،‬وحامل ومصلوب‬
‫ومجروح‪ ،‬وكل من ترجع أفعاله للثلث بخوف الموت عليه ما عقل‪ ،‬ومحرم بحج أو‬
‫عمرة أو بهما‪ ،‬أو معتكف كالطالق‪ ،‬ولزمت السكران من طالق وفداء وغيرهما ما‬
‫عقل‪ ،‬إال إن زال عقله‪ ،‬وقيل‪ :‬لزمه الطالق ولو زال) (‪)1‬‬
‫واتفق الفقهاء على أن خلع الزوج المريض مرض الموت جائز ونافذ‪ ،‬سواء أكان‬
‫بمهر المثل أم أقل منه؛ ألنه لو طلق بغير عوض لصح‪ ،‬فألن يصح بع وض أولى؛ وألن‬
‫الورثة ال يفوتهم بخلعه شيء‪.‬‬
‫وقد اتفقوا على أنه ال توارث بينهما س واء أم ات في الع دة أم بع دها وخ الف‬
‫ذل ك المالكية(‪ )2‬فنص وا على أن زوجت ه المطلق ة في الم رض ترث ه إن م ات من‬
‫مرضه المخ وف ال ذي خالعه ا في ه‪ ،‬ول و خ رجت من الع دة وت زوجت غ يره ول و‬
‫أزواجا‪ ،‬أما هو فال يرثها إن ماتت في مرضه المخوف الذي طلقها فيه‪ ،‬ول و ك انت‬
‫هي مريضة أيضا؛ ألن ه ال ذي أس قط م ا ك ان بي ده‪ ،‬ففي المدون ة‪ (:‬قلت‪ :‬أرأيت إن‬
‫اختلعت منه في مرضه فمات من مرضه ذلك أترثه في قول مال ك أم ال؟ ق ال‪ :‬ق ال‬
‫مالك‪ :‬نعم‪ ،‬ترثه‪ .‬قلت‪ :‬وكذلك إن جعل أمرها بي دها أو خيره ا فطلقت نفس ها وه و‬
‫مريض أترثه في قول مالك؟ قال‪ :‬قال مالك‪ :‬نعم ترثه‪ .‬قلت‪ :‬ولم وه و لم يف ر منه ا‬
‫إنم ا جع ل ذل ك إليه ا فف رت بنفس ها؟ ق ال‪ :‬ق ال مال ك‪ :‬ك ل طالق وق ع في م رض‬
‫فالمبارأة للمرأة إذا مات من ذلك المرض وبسببه كان ذلك لها)(‪)3‬‬
‫ونص الحنفية على أنه لو خلعها أجنبي من الزوج بمال ضمنه للزوج‪ ،‬وك ان‬
‫ذلك في مرض موت األجنبي جاز‪ ،‬ويعتبر الب دل من ثلث م ال األجن بي‪ ،‬فل و ك ان‬
‫الزوج مريضا حين تبرع األجنبي بخلعها‪ ،‬فلها اإلرث لو م ات ال زوج من مرض ه‬
‫ذلك‪ ،‬وهي في العدة ألنها لم ترض بهذا الطالق فيعتبر الزوج فارا(‪.)4‬‬
‫ولو أوصى ال زوج له ا بمث ل ميراثه ا أو أق ل ص ح؛ ألن ه ال تهم ة في أن ه أبانه ا‬
‫ليعطيها ذلك فإنه لو لم يبنها ألخذته بميراثها‪ ،‬وإن أوصى لها بزيادة عليه فللورث ة منعه ا‬
‫ذلك؛ ألنه اتهم في أنه قصد إيصال ذلك إليها؛ ألنه لم يكن له سبيل إلى إيصاله إليه ا وهي‬
‫في عصمته‪ ،‬فطلقها ليوصل ذلك إليها فمنع منه كما لو أوصى لوارث‪.‬‬
‫الركن الثاني‪ :‬ملتزم العوض في الخلع‬
‫يشترط في المرأة التي تبذل الخل ع الش روط التالي ة‪ ،‬على اختالف بين الفقه اء في‬
‫اعتبار بعضها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القدرة على التصرف في مالها‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في اشتراط كون قاب ل الخل ع مطل ق التص رف في الم ال أم ال‬
‫‪ )(1‬شرح النيل‪.7/281:‬‬
‫‪ )( 2‬هذا على المشهور‪ ،‬ومقابله ما روي عن مالك من عدم إرثها النتفاء التهمة لكونها طالب ة للف راق‪ ،‬بلغ ة‬
‫السالك‪.2/527:‬‬
‫‪ )(3‬المدونة‪.2/254:‬‬
‫‪ )(4‬البحر الرائق‪.4/80:‬‬

‫‪165‬‬
‫على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬اعتب ار ه ذا الش رط‪ ،‬وه و م ذهب الجمه ور‪ ،‬فل ذلك إذا بلغت‬
‫رشيدة وحجر عليها لم يصح خلعها‪ ،‬ولو خالعها بلفظ الخل ع ف إن ك ان بع د ال دخول‬
‫طلقت رجعيا‪ ،‬وإن كان قبله طلقت بائنا وال مال له‪ ،‬ولغ ا ذك ر الم ال؛ ألنه ا ليس ت‬
‫من أهل التزامه وإن أذن لها الولي‪ ،‬وإن لم يحجر عليها يصح‪.‬‬
‫وقد لخص الشافعي مذهبه في ذلك بقوله‪( :‬جماع معرفة م ا يج وز خلع ه من‬
‫النساء أن ينظر إلى كل من جاز أمره في ماله‪ ،‬فنجيز خلعه‪ ،‬ومن لم يجز أم ره في‬
‫ماله فنرد خلعه‪ ،‬فإن كانت المرأة صبية لم تبلغ‪ ،‬أو بالغا ليست برشيدة‪ ،‬أو محجورا‬
‫عليها‪ ،‬أو مغلوبة على عقلها‪ ،‬فاختلعت من زوجها بشيء قل أو ك ثر‪ ،‬فك ل م ا أخ ذ‬
‫منها مردود عليها‪ ،‬وما طلقها على ما أخذ منها واقع عليها‪ ،‬وهذا يملك الرجعة ف إذا‬
‫بطل ما أخذ ملك الرجعة في الطالق الذي وقع به إال أن يكون طلقها ثالثا أو تطليقة‬
‫لم يكن بقي له عليها غيرها)(‪)1‬‬
‫ونص المالكية على أنه إذا كانت مالكة أمر نفسها‪ ،‬فإن كانت محجورا عليه ا‬
‫بأب‪ ،‬أو وصي‪ ،‬أو سيد يحجر على أمته‪ ،‬فإنه ال يصح خلعها‪ ،‬فإن وقع الطالق نف ذ‬
‫الخل ع وارتج ع ال ولي م ا أعطت ه من الم ال وط الب بم ا وهبت ه من ص داق‪ ،‬أو‬
‫غيره(‪)2‬؛ هذا إذا لم تكن بلغت‪ ،‬فإن كانت بالغا فق د ق ال س حنون‪ :‬يج وز أن تفت دي‬
‫من زوجها قبل البناء وله ما أخذ وال رجوع لها فيه وقال أصبغ‪ :‬ال يجوز ما ب ادلت‬
‫به الصغيرة وال السفيهة البالغ وكذلك بعد موت األب ويرد الزوج ما أخ ذ وبمض ي‬
‫الفراق‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يصح خلعها‪ ،‬ويقع الفراق‪ ،‬وال يلزمها ب ذل الع وض‪ ،‬ف إن ك ان‬
‫الزوج طلقها تطليقة على ذلك المال‪ ،‬فهو يملك رجعتها‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك(‪:)3‬‬
‫‪ 1‬ـ أن وقوع الطالق في الخلع يعتمد وجوب القبول ال وجوب المقب ول‪ ،‬وق د‬
‫تحقق القبول منها‪ ،‬وكأن الزوج علق طالقها بقبولها الجعل‪ ،‬ف إذا قبلت وق ع الطالق‬
‫لوجود الشرط‪ ،‬ولم يلزمها المال‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن وقوع الطالق باللفظ الصريح ال يوجب البينونة إال عند وجوب البدل‪،‬‬
‫ولم يجب البدل هنا بخالف ما إذا كان بلفظ الخلع‪ ،‬فإن مقتضى لفظ الخلع البينونة‪.‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬يص ح خل ع المحج ور عليه ا لفلس‪ ،‬بخالف المحج ور عليه ا‬
‫‪ )(1‬األم‪.5/214:‬‬
‫‪ )( 2‬هذا هو المشهور في المذهب المالكي‪ ،‬وفي العتبية من رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في ال تي لم‬
‫تبلغ المحيض‪ ،‬وقد بنى بها الزوج فصالحته على ما أعطته أن ذلك نافذ وله م ا أخ ذ إن ك ان مم ا يص الح ب ه مثله ا‪،‬‬
‫ووجه ذلك أنها مالكة أمرها في االستمتاع ولها أن تسقط حقها إذا شاءت فكان لها المعاوض ة عن ه باستخالص ه على‬
‫عوض تدفعه إذا لم يكن في ذلك غبن عليها كما يجوز لها أن تشتري خبزا لقوتها لم ا ك انت تمل ك أكل ه أو ترك ه ولم‬
‫يكن للولي نظر في ذلك وقال أبو بك ر بن اللب اد إن المع روف من ق ول أص حابنا أن الم ال م ردود‪ ،‬والخل ع م اض‪،‬‬
‫انظر‪ :‬المنتقى‪.4/66:‬‬
‫‪ )(3‬المبسوط‪ ،24/174:‬الفروق‪.2/269:‬‬

‫‪166‬‬
‫لس فه‪ ،‬أو ص غر أو جن ون‪ ،‬وأن ب ذلها للع وض ص حيح؛ وه و م ذهب الحنابل ة‪،،‬‬
‫ويرجع عليها بالعوض إذا أيسرت وفك الحج ر عنه ا‪ ،‬وليس ل ه مطالبته ا في ح ال‬
‫حجرها‪ ،‬كما لو استدانت منه‪ ،‬أو باعها شيئا في ذمتها‪ ،‬أم ا المحج ور عليه ا لس فه‪،‬‬
‫أو صغر‪ ،‬أو جنون‪ ،‬فال يصح بذل العوض منها في الخلع؛ ألنه تصرف في الم ال‪،‬‬
‫وليس هي من أهل ه‪ ،‬وس واء أذن في ه ال ولي أو لم ي أذن؛ ألن ه ليس ل ه اإلذن في‬
‫التبرعات‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪ ،‬أن المحجور عليها لفلس لها ذم ة يص ح تص رفها‬
‫فيها‪.‬‬
‫وليس لولي هؤالء المخالعة بشيء من مالهن؛ ألنه إنم ا يمل ك التص رف بم ا‬
‫لها فيه الحظ‪ ،‬وهذا ال حظ فيه‪ ،‬بل فيه إسقاط نفقتها ومسكنها وب ذل ماله ا‪ ،‬ويحتم ل‬
‫أن يملك ذلك‪ ،‬إذا رأى الح ظ في ه‪ ،‬ويمكن أن يك ون الح ظ له ا في ه بتخليص ها ممن‬
‫يتلف مالها‪ ،‬وتخ اف من ه على نفس ها وعقله ا‪ ،‬ول ذلك لم يع د ب ذل الم ال في الخل ع‬
‫تبذيرا وال سفها‪ ،‬فيجوز له بذل ماله ا لتحص يل حظه ا‪ ،‬وحف ظ نفس ها وماله ا‪ ،‬كم ا‬
‫يجوز بذله في مداواتها‪ ،‬وفكها من األسر(‪.)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو النظر في سبب طلب مخالعة المرأة لزوجها‪ ،‬فإن‬
‫كان س ببا معت برا ثابت ا‪ ،‬وأن عالج ه يس تحيل بغ ير الخل ع ج ازت المخالع ة ول و ك انت‬
‫محج ورا عليه ا‪ ،‬ألن الحج ر مرتب ط بإض اعة الم ال فيم ا ال مص لحة في ه‪ ،‬وه ذا في ه‬
‫المصلحة العظيم ة للم رأة‪ ،‬فك ان بالنس بة له ا كال دواء ال ذي تض طر إلى اس تعماله‪ ،‬وال‬
‫خالف بين الفقهاء في أن المحجور عليه يملك شراء مثل هذا الدواء‪.‬‬
‫والدليل األكبر على هذا هو أن الرجل المحجور عليه يملك أن يطلق زوجته‪ ،‬وأنه‬
‫اليقف في سبيله أحد إذا أراد ذلك مع أنه قد بذل ماال لزوجته من النفقة والمهر‪ ،‬وسيحتاج‬
‫إلى مال آخر إذا أراد الزواج‪ ،‬فكيف نجيز له التصرف في مال ه لمث ل ه ذه الحاج ة‪ ،‬وال‬
‫نجيز لها التصرف فيها‪ ،‬مع أن كال من الخلع والطالق يشتركان في كونهم ا من التفري ق‬
‫الش رعي‪ ،‬ب ل في كونهم ا تفريق ا بع وض ألن ال زوج ق د ب ذل عوض ه ب المهر س ابقا‪،‬‬
‫والزوجة تبذله بالخلع الحقا‪ ،‬فالشبه بينهما كبير‪ ،‬فالطالق ه و خل ع الرج ل‪ ،‬والخل ع ه و‬
‫طالق المرأة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تكون صحيحة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه يجوز للزوجة المريضة مرضا مخوفا أن تخ الع زوجه ا في‬
‫مرضها ألنه معاوضة كالبيع‪ ،‬قال ابن قدامة‪ (:‬المخالعة في المرض صحيحة‪ ،‬سواء كان‬
‫المريض الزوج أو الزوجة‪ ،‬أو هما جميعا؛ ألنه معاوض ة‪ ،‬فص ح في الم رض‪ ،‬ك البيع‪.‬‬
‫وال نعلم في هذا خالفا)(‪)2‬واختلفوا في المقدار الذي يأخذه ال زوج في مقاب ل ذل ك مخاف ة‬
‫أن تكون الزوجة راغبة في محاباته على حساب الورثة على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪ ،7/267:‬اإلنصاف‪.8/391:‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.7/270 :‬‬

‫‪167‬‬
‫القول األول‪ :‬أن اختلعت المريضة بمهرها الذي ك ان له ا على زوجه ا‪ ،‬ثم م اتت‬
‫في العدة‪ ،‬فله األقل من ميراثه‪ ،‬ومن المه ر إن ك ان يخ رج من ثلث ماله ا مه ر‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن لها مال سوى ذلك‪ ،‬فله األقل من ميراث ه منه ا‪ ،‬ومن الثلث‪ ،‬وإن م اتت بع د انقض اء‬
‫العدة‪ ،‬فله المهر من ثلث مالها‪ ،‬وهو قول الحنفية خالفا لزفر الذي اعتبار البدل من جميع‬
‫المال‪ ،‬ال من ثلثه‪ ،‬واعتبر الخلع بالنكاح‪ ،‬ف إن الم ريض ل و ت زوج ام رأة بص داق مثله ا‬
‫اعتبر من جميع ماله؛ ألن ذلك من حوائجه‪ ،‬وك ذلك المريض ة إذا اختلعت؛ ألن ذل ك من‬
‫حوائجها لتتخلص به من أذى الزوج(‪.)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن الخلع إن كان بمهر المثل نفذ دون اعتبار الثلث‪ ،‬وإن ك ان ب أكثر‬
‫فالزيادة كالوصية للزوج‪ ،‬وهو قول الشافعية وتعتبر الزي ادة الثلث‪ ،‬وال تك ون كالوص ية‬
‫للوارث لخروجه بالخلع عن اإلرث‪ ،‬ول و اختلعت بجم ل قيمت ه مائ ة درهم ومه ر مثله ا‬
‫خمسون درهما فقد حابت بنصف الجمل‪ ،‬فينظر إن خرجت المحاب اة من الثلث‪ ،‬فالجم ل‬
‫كله للزوج عوضا ووصية(‪.)2‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن للزوج ما خالعته عليه إن ك ان ق در ميراث ه منه ا فم ا دون‪ ،‬وإن‬
‫كان بزيادة فله األقل من المسمى في الخلع أو ميراثه منها؛ وهو قول الحنابلة‪ ،‬ومن األدلة‬
‫على ذلك‪ ،‬أن ذلك ال تهمة فيه بخالف األكثر منها‪ ،‬فإن الخلع إن وقع بأكثر من الم يراث‬
‫تطرقت إليه التهمة من قصد إيصالها إليه شيئا من ماله ا بغ ير ع وض على وج ه لم تكن‬
‫قادرة عليه أشبه ما لو أوصت أو أقرت له‪ ،‬وإن وقع بأقل من الميراث فالباقي ه و أس قط‬
‫حقه منه فلم يس تحقه‪ ،‬فتعين اس تحقاقه األق ل منهم ا‪ ،‬وإن ش فيت من مرض ها ذاك ال ذي‬
‫خالعته فيه فل ه جمي ع م ا خالعه ا ب ه كم ا ل و خالعه ا في الص حة؛ ألن ه ليس من م رض‬
‫موتها(‪.)3‬‬
‫القول الرابع‪ :‬أنه يجوز خلع الزوجة المريضة مرضا مخوف ا إن ك ان ب دل الخل ع‬
‫بقدر إرثه أو أقل لو ماتت‪ ،‬وال يتوارثان‪ ،‬وهو قول المالكية(‪ ،)4‬أما إن زاد بأن كان إرثه‬
‫منها عشرة وخالعته بخمسة عشر وأولى لو خالعته بجميع مالها فيحرم عليه إلعانت ه له ا‬
‫على الحرام‪ ،‬وينفذ الطالق وال ت وارث بينهم ا إن ك ان ال زوج ص حيحا‪ ،‬ول و م اتت في‬
‫عدتها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الق ول الراب ع‪ ،‬وق ريب من ه الق ول الث الث‪ ،‬فهم ا‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪ ،6/192 :‬بدائع الصنائع‪.3/149:‬‬


‫‪ )(2‬األم‪.5/214:‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.6/115:‬‬
‫‪ )(4‬عن مالك في ذلك روايتان‪:‬‬
‫ـ ال يجوز الخلع‪ ،‬وهو مروي في كتاب ابن المواز عن مالك‪ ،‬ألنه عاوضها بالطالق على أم ر ال تملك ه‪ ،‬ألن‬
‫الزوجة ال تملك تصيير ما لها إليه حال مرضها‪.‬‬
‫ـ جواز ذلك‪ ،‬رواه ابن عبد الحكم عنه; ألن مرض أحد الزوجين ال يمنع وقوع الطالق فلم يمنع المقص ود ب ه‬
‫من إزالة الملك انظر‪ :‬المنتقى‪..4/66:‬‬

‫‪168‬‬
‫أحوط األقوال‪ ،‬وأكثرها سدا للذريعة‪ ،‬وأجلبها لمصلحة الزوجة وورثته ا‪ ،‬ألن الخل ع في‬
‫مرض الموت أو المرض المخوف ال مبرر له‪ ،‬وربما كان المبرر الوحيد ال ذي يس وغه‬
‫أن يتحيل الزوج بطلب الخلع إسقاط حق الورثة في الم يراث‪ ،‬ويس تغل في ذل ك م رض‬
‫الزوجة المخوف ليملي لها بهذه الحيلة‪.‬‬
‫وفي تيسير مثل هذه الحيلة بالقول بإيقاعها ضرر للمرأة ولورثتها‪ ،‬أما الم رأة فق د‬
‫يضارها زوجها في تلك الحالة لتطلب منه فداء نفسها‪ ،‬والمضارة هن ا كم ا ق د يفهم‪ ،‬ليس‬
‫المراد منها المضارة التي يفرق بسببها القاضي‪ ،‬ألن المضارة ال تي يلحظه ا القاض ي ال‬
‫تتعدى المضار المادية بخالف األضرار النفسية والمعنوية‪ ،‬والتي تتفاقم في حال مثل هذا‬
‫المرض الخطير‪ ،‬فلذلك عدم اعتبار المخالعة في تلك الحالة يسد عليه باب الشر في نفسه‬
‫وباب الشر عن زوجه‪.‬‬
‫أما الورثة‪ ،‬فإن الشرع أعطاهم حقوقهم بسبب قربهم وحاجتهم كما أعطى ال زوج‬
‫حقه من الميراث‪ ،‬فال يتعدى أحدهما حق اآلخر‪ ،‬فتعدي أي طرف لذلك يعام ل بنقيض ه‪،‬‬
‫ولنتصور لتقريب المسألة امرأة يكون لها أب ضعيف أو أم محتاج ة‪ ،‬في أتي ه ذا ال زوج‬
‫الجشع ليأخذ كل مالها‪ ،‬ويحرمها ويحرم من أعطاهم الشرع من الم يراث ألن ه لم يخس ر‬
‫شيئا‪ ،‬فالزوجة على أبواب الموت‪.‬‬
‫ثم إن األدب الشرعي الذي يلزم الشرع بتطبيقه تشريعا وتوجيها يقتضي الوق وف‬
‫مع المرأة في هذه الحالة‪ ،‬وإلزام الزوج بمساندتها ولو بتطليقها بغير ع وض‪ ،‬ال أن يزي د‬
‫طينتها بلة‪ ،‬ويأخذ منها مالها بغير حق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن تكون زوجة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الخلع ال يصح إال مع الزوجة التي في عصمة زوجها حقيقة‪،‬‬
‫وهي التي لم تفارق زوجها بطالق بائن ونحوه‪ ،‬كاللعان مثال‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو كانت زوجته حكما‪ ،‬وهي التي طلقها زوجه ا طالق ا رجعي ا‪ ،‬ولم‬
‫تنقض عدتها‪ ،‬هل تصح مخالعتها أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬مخالعة الزوج للرجعية في أثن اء الع دة ص حيحة‪ ،‬وال تس ترد الم ال‬
‫الذي دفعته للزوج ولزم الزوج أن يوق ع عليه ا طلق ة أخ رى بائن ة‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة‪،‬‬
‫وعند الشافعية في أظهر األقوال‪ ،‬وهو مذهب الحنابل ة س وى الخ رقي‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك أنه ا حينئ ذ زوج ة والنك اح بينه ا وبين زوجه ا ق ائم‪ ،‬وتس ري عليه ا كاف ة األحك ام‬
‫الخاصة بالزوجات‪ ،‬ولو مات زوجها قبل انقضاء عدتها فإنها ترث منه‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬ع دم ص حة مخالعته ا‪ ،‬وه و ق ول للش افعية(‪ ،)1‬لع دم الحاج ة إلى‬
‫االفتداء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني‪ ،‬ألن الغ رض من الخل ع ه و تحقي ق‬
‫رغبة المرأة في انفصالها عن زوجها في حال عدم رض ى ال زوج بطالق زوجت ه‪ ،‬ف إذا‬

‫‪ )( 1‬وللشافعية قول آخر هو أن الرجعية يصح خلعها بالطلقة الثالثة دون الثانية لتحصل البينونة الكبرى‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫تحققت الرغبة من الرج ل في طالقه ا انتفى ال داعي للخل ع‪ ،‬وك ان في ه مض رة محض ة‬
‫للمرأة‪ ،‬وطمع خالص من الرجل‪ ،‬وهو من أكل المال بالباطل‪ ،‬فه و طلقه ا ثم اس ترد م ا‬
‫أعطاه الشرع له ا من غ ير وج ه ح ق‪ ،‬وذل ك يتن افى م ع التفري ق الحس ن ال ذي أوجب ه‬
‫الشرع‪ ،‬فهذا بدل ان يعطيها متعتها سلبها مهرها‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك إن أراد الزوج مخالعة شرعية‪ ،‬فيمكنه أن يرجعها ويحسن إليها وال‬
‫يضارها لتفتدي منه‪ ،‬فإن طلبت الفرقة بعد ذلك كان ذلك سببا وجيها للفرقة‪ ،‬وأبيح ب ه م ا‬
‫حرم عليه من أخذ مالها‪ ،‬وت وفر ك ل ذل ك يقتض ي تحري ا من القض اء‪ ،‬ألن في التطلي ق‬
‫السابق ثم اإلرج اع وطلب المخالع ة يحم ل ش بهة المض ارة‪ ،‬فيحت اج ذل ك إلى ن وع من‬
‫التحري حتى ال يؤكل مال المرأة بالباطل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ال يكون ملتزم العوض أجنبيا‬
‫وهو إما أن يكون ولي المرأة‪ ،‬أو فضوليا متطوعا‪ ،‬وسنتكلم عن كليهما فيما يلي‪:‬‬
‫خلع الفضولي‪:‬‬
‫وقد اختل ف الفقه اء هن ا في ص حة خل ع الفض ولي أو األجن بي أو المتط وع على‬
‫اختالف عباراتهم فيه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬جوازه وص حته‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬ق ال ابن قدام ة‪ (:‬وه ذا‬
‫قول أكثر أهل العلم)(‪ ،)1‬ولهم في ذلك بعض التفاصيل نذكرها فيما يلي‪:‬‬
‫فقد شرط الحنفية(‪ )2‬أن يضيف البدل إلى نفسه على وجه يفي د ض مانه ل ه أو‬
‫ملكه إياه‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬اخلعه ا ب ألف علي أو على أني ض امن أو على ألفي ه ذه‪،‬‬
‫فإن أرسل الخلع بأن قال‪ :‬على ألف أو على هذا الجمل‪ ،‬فإن قبلت لزمها تسليمه‪ ،‬أو‬
‫قيمته إن عجزت‪ ،‬وإن أضافه إلى غيره كجمل فالن اعتبر قبول فالن‪.‬‬
‫وهو جائز عند المالكية(‪ )3‬مطلقا سواء قصد الفضولي بذلك جلب مصلحة أو‬
‫درء مفس دة أو إس قاط نفقته ا عن ال زوج‪ ،‬إال أن ابن عب د الس الم من المالكي ة قي د‬
‫صحته بعدم قصد الفضولي إسقاط نفقة العدة عن الزوج(‪.)4‬‬
‫ونص الشافعية(‪ )5‬على جوازه بناء على أن الخل ع طالق‪ ،‬س واء أك ان بلف ظ‬
‫طالق أم خلع‪ ،‬قال الشافعي‪ (:‬ال يجوز خلع المحج ور عليه ا بح ال إال ب أن يتط وع‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/269:‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تبيين الحقائق‪ ،3/245 :‬العناية‪ ،10/264 :‬فتح القدير‪.4/240 :‬‬
‫‪ )(3‬مواهب الجليل‪ ،4/19 :‬فتح العلي المالك‪.2/65 :‬‬
‫‪ )(4‬فإن قصد إسقاطها عنه فقد حكي فيه ثالثة أقوال‪:‬‬
‫‪.1‬يرد العوض ويقع الطالق بائنا وتسقط نفقة العدة وهو ظاهر المدونة واقتصر عليه البرزلي‪.‬‬
‫‪.2‬يرد العوض ويقع الطالق رجعيا وال تسقط نفقتها واختاره ابن عبد السالم وابن عرفة‪.‬‬
‫‪.3‬يقع الطالق بائنا وال تسقط النفق ة ويج ري مث ل ه ذا فيمن قص د دف ع الع وض ليتزوجه ا‪ ،‬انظ ر‪ :‬فتح العلي‬
‫المالك‪.2/65:‬‬
‫‪ )(5‬أسنى المطالب‪ ،3/245 :‬فتاوى الرملي‪.3/211 :‬‬

‫‪170‬‬
‫عنه ا أح د يج وز أم ره في مال ه فيعطي ال زوج ش يئا على أن يفارقه ا فيج وز‬
‫للزوج(‪)1‬فخلع الفضولي عندهم بناء على هذا القول كاختالع الزوجة لفظ ا وحكم ا‪،‬‬
‫فإذا قال الزوج للفضولي طلقت امرأتي على ألف في ذمتك فقبل‪ ،‬أو ق ال الفض ولي‬
‫لل زوج‪ :‬طل ق امرأت ك على أل ف في ذم تي فأج اب‪ ،‬وق ع الطالق بائن ا بالمس مى‪،‬‬
‫وللزوج أن يرجع قبل قبول الفضولي نظ را لش وب التعلي ق‪ ،‬وللفض ولي أن يرج ع‬
‫قبل إجابة الزوج نظرا لشوب الجعالة‬
‫ونص أكثر الحنابلة على أن خلع الفضولي ج ائز‪ ،‬وال تتوق ف ص حته على قب ول‬
‫المرأة فيكون التزامه للمال فداء لها‪ ،‬كالتزام المال لعتق السيد عبده‪ ،‬وقد يكون له في ذلك‬
‫غرض صحيح‪ ،‬كتخليصها ممن يسيء عشرتها ويمنعها حقوقها‪.‬‬
‫ونص اإلمامية على أنه يصح بذل الف داء منه ا‪ ،‬ومن وكيله ا‪ ،‬وممن يض منه‬
‫بإذنها‪ ،‬واختلفوا في الفضولي‪ ،‬وذكروا أن األش به المن ع‪ ،‬أم ا ل و ق ال‪ :‬طلقه ا على‬
‫ألف من مالها وعلي ضمانها‪ ،‬أو على عبدها هذا وعلي ضمانه صح‪ .‬فإن لم ت رض‬
‫بدفع البذل صح الخلع‪ ،‬وضمن المتبرع‪ ،‬وفيه تردد(‪.)2‬‬
‫ونص الزيدية على أنه ال يشترط كون عوض الخلع من الزوج ة‪ ،‬ب ل يص ح‬
‫من غيرها كثمن المبيع‪ ،‬ويصح مخالعة األب واألجنبي عنها‪ ،‬كم ا يص ح مخالعته ا‬
‫بنفسها‪ ،‬إذ الطالق إلى الزوج فال يحتاج إلى قبوله ا إال الل تزام الع وض فق ط‪ ،‬ف إن‬
‫التزمه غيرها وقع الطالق لكمال شرطه وصحة االلتزام(‪.)3‬‬
‫ومن األدلة على ذلك(‪:)4‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه بذل مال في مقابلة إسقاط حق عن غ يره فص ح‪ ،‬كم ا ل و ق ال‪ :‬أعت ق‬
‫عبدك‪ ،‬وعلي ثمنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه لو قال‪ :‬ألق متاعك في البحر وعلي ثمنه صح‪ ،‬ولزمه ذلك‪ ،‬مع أنه ال‬
‫يسقط حقا عن أحد‪ ،‬فهاهنا أولى‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه حق على المرأة‪ ،‬يجوز أن يسقط عنها بعوض‪ ،‬فجاز لغيرها‪ ،‬كالدين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه يحتلف عن ال بيع‪ ،‬ألن ه تملي ك‪ ،‬فال يج وز بغ ير رض اء من يثبت ل ه‬
‫الملك‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ع دم ص حة خل ع الفض ولي‪ ،‬وه و ق ول أبي ث ور‪ ،‬ومن ق ال من‬
‫الشافعية والحنابلة إن الخل ع فس خ‪ ،‬وه و الق ول األرجح عن د اإلمامي ة‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الفضولي يبذل عوضا في مقابلة ما ال منفعة له فيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الفسخ بال سبب ال ينفرد به الزوج فال يصح طلبه منه‪.‬‬

‫‪ )(1‬األم‪.5/214:‬‬
‫‪ )(2‬شرائع اإلسالم‪.3/38:‬‬
‫‪ )(3‬البحر الزخار‪.4/189:‬‬
‫‪ )(4‬المغني‪.7/269:‬‬

‫‪171‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الخلع من عقود المعاوضات‪ ،‬فال يجوز لزوم الع وض لغ ير ص احب‬
‫المعوض كالبيع‪.‬‬
‫اح َعلَ ْي ِه َم ا فِي َم ا‬
‫‪ 4‬ـ أنه تع الى أض اف الفدي ة إليه ا في قول ه تع الى‪﴿ :‬فَاَل ُجنَ َ‬
‫َت بِ ِه ﴾ (البقرة‪)229:‬وبذل الوكيل والضامن بإذنها كب ذلها‪ ،‬فيبقى المت برع على‬ ‫ا ْفتَد ْ‬
‫أصل المنع‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أصالة بقاء النكاح إلى أن يثبت المزيل‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ مفهوم الخطاب‪،‬فال يملك ال زوج الب ذل‪ ،‬وال يق ع الطالق إن لم يتب ع ب ه‪،‬‬
‫فإن أتبع به كان رجعيا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن ص حة خل ع الفض ولي تتوق ف على ثالث ة‬
‫اعتبارات دلت عليها األدل ة الخاص ة والعام ة‪ ،‬وتحققت فيه ا المقاص د الش رعية‪ ،‬وه ذه‬
‫االعتبارات هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ النظر إلى موقف المرأة من هذا الخل ع‪ ،‬ف إن ك ان ذل ك موافق ا لرغبته ا‪،‬‬
‫ومنسجما مع حبها للتخلص من عشرة زوجها‪ ،‬فإن خلع الفضولي هنا يصح‪ ،‬ودليل‬
‫ذلك أن الخلع هو حل العصمة بيد المرأة‪ ،‬فإذا ما تدخل أجنبي على غير ما ترض ى‬
‫المرأة ال يعتبر في الشرع خلعا‪ ،‬وهو بذلك تغيير للمعنى الشرعي لحقيقة الخلع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ النظر للحياة الزوجية‪ ،‬فإذا ما كانت هذه الحياة يس ودها الش قاق‪ ،‬ويتحكم‬
‫فيها سوء العشرة‪ ،‬وال تستقر فيها السكينة‪ ،‬ولم يجد الوعظ لل زوجين ش يئا‪ ،‬وال ك ل‬
‫الطرق التي س بق ذكره ا من الحل ول الش رعية للمخالف ات الزوجي ة‪ ،‬ورأى بعض‬
‫المحسنين أن يغري الزوج ببعض المال لتطليقها كان له ذلك بش رط موافق ة الم رأة‬
‫كما ذكرنا سابقا‪ ،‬أو ثبوت الضرر الشديد في حال عدم موافقتها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ النظر في سبب تدخل الفضولي‪ ،‬وهو أهم م ا ينبغي أن ي راعى‪ ،‬فال نق ر‬
‫ما ذكر أصحاب القولين من أنه بذل للمال في غير غرض‪ ،‬وتش بيه ذل ك بمن ق ال‪:‬‬
‫ألق متاعك في البحر وعلي ثمنه‪ ،‬ألن أغراض الفضولي هاهنا تتنوع بتن وع الخ ير‬
‫والشر في الناس‪ ،‬فقد يكون غرض ه ن بيال يري د أن ينق ذ الم رأة من زوج ال تتحم ل‬
‫العشرة معه‪ ،‬يقدم ذلك خالصا لوجه هللا‪ ،‬وقد يكون غرض حاسد رأى حاجة الزوج‬
‫إلى المال‪ ،‬وحسده على زوجته‪ ،‬فاستغل فرص ة الحاج ة ليف رق بين ه وبين زوج ه‪،‬‬
‫وقد يكون غرض حاقد استغل غناه وحاجة الزوج أو طمعه لينفذ انتقامه في الزوجة‬
‫أو وليها أو أوالدها‪ ،‬وقد يكون غرض شهواني لم تمأل عينه كل نساء الدنيا‪ ،‬وطمح‬
‫ببصره المرأة متزوجة‪ ،‬فبذل ماله ليفرق بينها وبين زوجها‪.‬‬
‫وال يمكن أن نحصر وجوه المقاصد خيرها وش رها هن ا‪ ،‬ولكنه ا كله ا ليس ت من‬
‫النوع الذي ذكر الفقه اء‪ ،‬وإال لع د الفض ولي س فيها يحج ر علي ه إلنفاق ه الم ال في غ ير‬
‫غرض‪.‬‬
‫بناء على هذه االعتبارات الثالثة‪ ،‬فإن خلع الفضولي ال يق ر ش رعا إال بمراعاته ا‬
‫جميعا سدا للذريعة حتى ال تحطم األسر المبنية على كلمة هللا وميثاقه الغليظ باألموال‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫خلع الولي‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في صحة خلع الولي ونفوذها على قولين(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم جواز مخالعة الولي‪ ،‬فليس لألب أن يخ الع على ش يء من م ال‬
‫ابنته‪ ،‬سواء كانت محجورا عليه ا‪ ،‬أو لم تكن‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة والش افعي وأحم د‪،‬‬
‫وابن حزم‪ ،‬ومن األدلة على ذلك(‪:)2‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر أ ْخ َرى ﴾‬ ‫س إِاَّل َعلَ ْيهَا َواَل ت َِز ُر َو ِ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬واَل تَ ْك ِسبُ ُكلُّ نَف ٍ‬
‫(األنعام‪ )164:‬فمخالعة األب أو الوص ي أو الس لطان عن ص غيرة أو كب يرة كس ب‬
‫على غيره‪ ،‬وهو ال يجوز‪.‬‬
‫َ‬
‫اط ِل إِاَّل أ ْن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 2‬ـ قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَاأيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا اَل تَ أ ُكلُوا أ ْم َوالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم بِالبَ ِ‬
‫اض ِم ْن ُك ْم ﴾(النس اء‪ ،)29:‬واس تحالل ال زوج ماله ا بغ ير رض ا‬ ‫ارةً ع َْن تَ َر ٍ‬ ‫تَ ُكونَ تِ َج َ‬
‫منها أكل مال بالباطل‪ ،‬وهو حرام‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ليس له والية إلزام المال إياها به ذا الس بب إذ ال منفع ة له ا في ه‪ ،‬وال‬
‫يدخل في ملكها بمقابلة شيء‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ذلك تبرع بمالها فال يملكه‪ ،‬كما ال يملك إسقاط سائر ديونها‪.‬‬
‫وقد نص الحنفية هنا على أنه إذا خل ع الرج ل ابنت ه الص غيرة أو الكب يرة من‬
‫زوجها على صداقها ولم يدخل بها وضمنه األب وقع الطالق‪ ،‬وإن لم يض منه األب‬
‫لم يقع‪ ،‬وقد فرقوا بينهما بأن الزوج أزال ملكه عن بعضها بشرط أن يسلم البدل له‪،‬‬
‫ف إذا ض من فق د س لم ل ه الب دل‪ ،‬فحص ل مقص وده بالعق د فوق ع وليس ك ذلك إذا لم‬
‫يضمن‪ ،‬ألنه لم يحصل مقصوده بالعقد‪ ،‬وهو إنم ا رض ي ب زوال ملك ه عن البض ع‬
‫بشرط أن يسلم البدل له‪ ،‬ولم يسلم فلم يقع الطالق(‪.)3‬‬
‫ونص الزيدي ة على أن (لألب مخالع ة زوج ابنت ه الص غيرة حيث الع وض‬
‫منه‪ ،‬إذ ال يشترط النشوز إال حيث العوض منها‪ ،‬لقوله تعالى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن ِخ ْفتُ ْم أَاَّل يُقِي َم ا‬
‫َت بِ ِه ﴾(البقرة‪)4( ))229:‬‬ ‫ُحدُو َد هَّللا ِ فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َما فِي َما ا ْفتَد ْ‬
‫القول الثاني‪ :‬يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيب ا‪ ،‬وه و‬
‫قول مالك‪ ،‬وروى عنه أن له أن يخالع عن ابنته البك ر مطلق ا؛ لكون ه يجبره ا على‬
‫النكاح‪ .‬وروي عنه أنه يخالع عن ابنته مطلقا‪ ،‬كما يجوز له أن يزوجها ب دون مه ر‬
‫المثل للمصلحة‪ ،‬وفي المدونة‪ (:‬أرأيت إن خالعها األب وهي صبية صغيرة على أن‬
‫يترك لزوجها مهرها كله أيكون ذلك جائزا على الصبية في ق ول مال ك؟ ق ال‪ :‬نعم)‬
‫(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬انظ ر‪ :‬المغ ني‪ ،7/270 :‬تب يين الحق ائق‪ ،2/283 :‬العناي ة‪ ،4/236 :‬القواع د البن رجب‪،329 :‬‬
‫اإلنصاف‪ ،8/386 :‬التاج واإلكليل‪ ،5/273 :‬أسنى المطالب‪.3/261 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪ ،10/3:‬المبسوط‪.6/179:‬‬
‫‪ )(3‬الفروق‪.1/180:‬‬
‫‪ )(4‬البحر الزخار‪.4/182:‬‬
‫‪ )(5‬المدونة‪.2/253:‬‬

‫‪173‬‬
‫أما الثيب فق د روى ابن القاس م عن مال ك‪ (:‬إذا زوج الرج ل ابنت ه وهي ثيب‬
‫من رجل فخلعها األب من زوجها على أن ضمن الصداق للزوج‪ ،‬وذل ك بع د البن اء‬
‫فلم ترض الثيب أن تتبع األب‪ ،‬فإن لها أن تتبع ال زوج وتأخ ذ ص داقها من ال زوج‪،‬‬
‫ويكون ذلك للزوج على األب دينا يأخذه من األب‪ ..‬وكذلك األخ في هذا ه و بمنزل ة‬
‫األب)(‪)1‬‬
‫وقد نص بعض الشافعية على أنه يجوز في حق البك ر الص غيرة أن يخالعه ا‬
‫باإلبراء من نصف مهرها في حالة اعتبار من بيده عقدة النكاح هو ال ولي(‪ ،)2‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن لألب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما ال يضر بالولد‪ ،‬حتى لو زوجها‬
‫واشترط لنفسه بعض الصداق جاز له ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يب ق إال طلب ه‬
‫لفرقتها‪ ،‬وذلك يملكه بإجماع المسلمين‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و النظ ر إلى االعتب ارات ال تي ذكرناه ا في خل ع‬
‫الفضولي‪ ،‬فإن األب وإن كان الظاهر عليه الشفقة على ابنته إال أن ذل ك ليس عام ا‪ ،‬وفي‬
‫حال عمومه ليست كل شفقة تكون في مصلحة المشفق علي ه‪ ،‬فل ذلك وجب الرج وع إلى‬
‫التعرف على رغبة المرأة الصادقة الخالية عن كل تأثير أجنبي حتى لو كان تأثير والدها‪.‬‬
‫ألن الش رع وإن أعطى للوال دين مكان ة س امية‪ ،‬وط الب بحقهم ا‪ ،‬إال أن حقهم ا‬
‫محدود بالضوابط الشرعية‪ ،‬فليس من حقهما تطليق الزوج من زوجت ه‪ ،‬وال الزوج ة من‬
‫زوجها‪ ،‬وإال أصبح األبناء في سجن اآلباء وارتفع عنهم التكليف‪.‬‬
‫والنظر الذي ينبغي أن يركز عليه هنا ليس العوض الذي ستدفعه الم رأة أو ين وب‬
‫عنها وليها في دفعه‪ ،‬وإنما في العلة التي تدفع إلى كل ذل ك‪ ،‬فق د تأخ ذ األب أنف ة لموق ف‬
‫من مواقف صهره‪ ،‬فيبذل ماله‪ ،‬بل مال ابنته ليفرقها عنه‪ ،‬فيحطم أسرة من أج ل غض بة‬
‫غضبها‪ ،‬نفخ فيها الشيطان‪ ،‬فالخلع حق المرأة وحدها كح ق الرج ل في الطالق‪ ،‬وت دخل‬
‫األجانب في هذه الحق وق من غ ير س بب مث ار للتهم ة‪ ،‬فل ذلك يك ون أولى األق وال فيه ا‬
‫وأصلحها سد الذريعة أمام كل ثغرة قد يدخل منها الشيطان للتفريق بين المرء وزوجه‪.‬‬
‫فال يمكن انطالقا من هذا التزام قول بعينه واالفتاء ب ه في ك ل األح وال‪ ،‬ب ل لك ل‬
‫قول مناسبته‪ ،‬ولكل حال حكم ه‪ ،‬وألن يخطئ المف تي فيجم ع ش مل أس رة على ق ول من‬
‫األقوال حتى يصلح هللا بينها‪ ،‬خير من أن يصيب في التفريق بينهما‪.‬‬

‫الركن الثالث‪ :‬صيغة الخلع‬


‫صيغة الخلع هي اإليجاب والقبول‪ ،‬وقد ذكرنا أنهم ا ركن ا الخل ع عن د الحنفي ة إن‬
‫‪ )(1‬المدونة‪.2/253:‬‬
‫‪ )(2‬وخطأه بعضهم ; ألنه إنما يملك اإلبراء بعد الطالق ; ألنه إذا ملك إسقاط حقه ا بع د الطالق لغ ير فائ دة‬
‫فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولى ; ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫كان بعوض‪ ،‬ويتعلق بهذا الركن الممسائل التالية‪:‬‬
‫شروط صيغة الخلع‪:‬‬
‫ذكر الفقهاء لص يغة الخل ع ش روطا تؤك د إرادة الخل ع‪ ،‬وهي نفس الش روط ال تي‬
‫سبق ذكره ا في ص يغة الطالق‪ ،‬وله ذا نص وا على أن ش رطه ش رط الطالق(‪ ،)1‬وهي‬
‫الشروط المعهودة في الفقه في مسألة الصيغة كعدم التعليق‪ ،‬وعدم التأقيت‪ ،‬وأن ال يتخل ل‬
‫اإليج اب والقب ول كالم أجن بي وال س كوت طوي ل‪ ،‬وأن يتوافق ا مع نى‪ ،‬وغيرها(‪،)2‬‬
‫وسنذكر هنا بعضها على اختالف بين الفقهاء في اعتبار بعض تفاصيلها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إن بدأ الزوج بصيغة معاوضة‪ ،‬كقوله خالعتك على كذا القبول لفظ ا ممن‬
‫يتأتى منه النطق‪ ،‬وباإلشارة المفهمة من األخرس وبالكتابة منهما‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ال يتخل ل بين اإليج اب والقب ول كالم أجن بي كث ير ممن يطلب من ه‬
‫الج واب إلش عاره ب اإلعراض بخالف اليس ير مطلق ا‪ ،‬والكث ير ممن لم يطلب من ه‬
‫الجواب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يكون القبول على وفق اإليجاب‪ ،‬فلو اختلف اإليجاب والقبول كطلقتك‬
‫بألف فقبلت بألفين‪ ،‬وعكسه كطلقتك بألفين فقبلت بألف‪ ،‬أو طلقتك ثالثا ب ألف فقبلت‬
‫واحدة بثلث ألف‪ ،‬فلغو في المسائل الثالث للمخالفة كما في البيع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه إذا ابتدأ الزوج بصيغة تعلي ق في اإلثب ات‪ ،‬كم تى أو م تى م ا‪ ،‬أو أي‬
‫حين‪ ،‬أو زمان‪ ،‬أو وقت أعطيتني كذا فأنت طالق فال يشترط فيه القب ول لفظ ا؛ ألن‬
‫الص يغة ال تقتض يه‪ ،‬وال يش ترط اإلعط اء ف ورا في المجلس أي مجلس الت واجب‪.‬‬
‫بخالف ما لو ابتدأ بصيغة تعليق في النفي‪ ،‬كقوله متى لم تعط ني ك ذا ف أنت ط الق‪،‬‬
‫فإنه يكون على الفور ومثل ذلك ما لو قالت ل ه‪ :‬م تى طلقت ني فل ك علي أل ف‪ ،‬ف إن‬
‫الجواب يختص بمجلس التواجب‪.‬‬
‫ونرى أن هذه الشروط وغيرها مما يؤكد إرادة الخلع قد تختلف بحسب األح وال‪،‬‬
‫فلذلك كانت العبرة برضا الطرفين بالخلع‪ ،‬ال بالصيغة الشكلية لمجلس الخل ع‪ ،‬فل و تخل ل‬
‫مثال بين اإليجاب والقبول كالم أجنبي كث ير ممن يطلب من ه الج واب‪ ،‬ثم أج اب‪ ،‬وأق ره‬
‫القابل‪ ،‬وعلم هذا اإلقرار ولو من غ ير تص ريح ك ان كافي ا لص حة الخل ع‪ ،‬ألن اإلش عار‬
‫باإلعراض وتأثيره في حال عدم الرضا ال في كل حال‪ ،‬وهكذا يقال في كل الشروط‪ ،‬بل‬
‫قد تضاف لها شروط أخرى بحسب األع راف المختلف ة‪ ،‬والع برة في الخ يرة ترج ع إلى‬
‫الرضا ال بشكل الكالم‪.‬‬
‫ألفاظ الخلع‬
‫اختلف الفقهاء في األلفاظ التي يعبر بها عن الخلع اختالفا ال يمكن ض بطه‪ ،‬فل ذلك‬
‫نكتفي بذكر أقوال فقهاء بعض المذاهب المشتهرة‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تبيين الحقائق‪ ،2/267:‬البحر الرائق‪.7/78:‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حاشية الجمل‪.4/302:‬‬

‫‪175‬‬
‫عن د الحنفي ة‪ :‬ألف اظ الخل ع س بعة وهي(‪ :)1‬خالعت ك ‪ -‬باينت ك ‪ -‬بارأت ك ‪-‬‬
‫فارقتك ‪ -‬طلقي نفسك على ألف ‪ -‬والبيع كبعت نفسك ‪ -‬والشراء كاشتري نفسك‪.‬‬
‫عند المالكية‪ :‬أربعة ألفاظ وهي(‪ :)2‬الخلع والفدية‪ ،‬والصلح‪ ،‬والمبارأة وكلها‬
‫تؤول إلى معنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طالقها‪.‬‬
‫وعن ابن القاسم فيمن قال‪ :‬أنت طالق واحدة بائنة فهي البتة في التي بنى به ا‪ ،‬وإن‬
‫قال‪ :‬هي طالق طالق الخلع فهي واحدة بائنة وكذلك إن قال‪ :‬خالعت امرأتي أو باريتها أو‬
‫افتدت مني لزمته طلقة بائنة‪ ،‬وقال أصبغ‪ :‬إن قال لها‪ :‬أنت صلح أو طالق طالق الص لح‬
‫أو قد صالحتك أو يقول اشهدوا أني قد صالحت امرأتي وهي غائب ة أو حاض رة راض ية‬
‫أو كارهة أخذ منها عوض أو لم يؤخذ فهي طلقة بائنة‪ ،‬وكذلك قوله أنت مبارية أو طلقتك‬
‫طالق المبارأة أو قد بارأتك رضيت أو لم ترض‪.‬‬
‫عند الشافعية والحنابلة‪ :‬تنقسم ألفاظ الخل ع عن دهما(‪ )3‬إلى ص ريح وكناي ة‪:‬‬
‫فالصريح المتفق عليه عندهم لفظان‪ :‬لفظ خلع وما يشتق من ه ألن ه ثبت ل ه الع رف‪.‬‬
‫ولفظ المفاداة وما يشتق منه لوروده في القرآن‪ ،‬وزاد الحنابلة لفظ فس خ ألن ه حقيق ة‬
‫فيه‪ ،‬وه و من كناي ات الخل ع عن د الش افعية ومن كنايات ه عن دهم أيض ا بي ع‪ ،‬ولف ظ‬
‫بارأتك‪ ،‬وأبرأتك‪ ،‬وأبنتك‪.‬‬
‫وص ريح الخل ع وكنايت ه‪ ،‬كص ريح طالق وكنايت ه عن د الش افعية والحنابل ة‪ ،‬ف إذا‬
‫طلبت الخلع وبذلت العوض فأجابها بصريح الخلع وكنايته‪ ،‬صح من غير نية؛ ألن دالل ة‬
‫الحال من سؤال الخلع‪ ،‬وبذل العوض صارفة إليه فأغنى عن النية فيه‪ ،‬وإن لم يكن دالل ة‬
‫حال فأتى بصريح الخلع وقع من غير نية‪ ،‬سواء قلنا هو فسخ أو طالق‪ ،‬وال يقع بالكناي ة‬
‫إال بنية ممن تلفظ به منهما‪ ،‬ككنايات الطالق مع صريحه‪.‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬وجماع هذا أن ينظر إلى كل كالم يقع به الطالق بال خلع فنوقعه ب ه‬
‫في الخلع‪ ،‬وكل ما ال يقع به طالق بحال على االبتداء يوق ع ب ه خل ع‪ ،‬فال نوق ع ب ه خلع ا‬
‫حتى ينوي به الطالق‪ ،‬وإذا لم يقع به طالق فما أخذ الزوج من المرأة مردود عليه ا‪ ،‬ف إن‬
‫ن وى ب الخلع اثن تين أو ثالث ا فه و م ا ن وى‪ ،‬وك ذلك إن س مى ع ددا من الطالق فه و م ا‬
‫سمى(‪.)4‬‬
‫عند الزيدية‪ :‬وصريحه عندهم هو الخلع وم ا يتص رف من ه كخالعت ك وأنت‬
‫مخالعة وكذا المبارأة‪ ،‬أما كنايته فهو ذكر العوض مع لفظه فإنه إذا ق ال خالعت ك أو‬
‫بارأتك على كذا فهو كناية طالق إن أراد به الطالق‪ ،‬ولزم كس ائر الكناي ات وإال لم‬
‫يقع‪ ،‬والقول قوله في ذلك‪ ،‬ألن ه ال يع رف إال من جهت ه بخالف قول ه طلقت ك وأنت‬

‫‪ )(1‬رد المحتار‪.3/444 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المدونة‪ ،2/249 :‬مواهب الجليل‪.4/24:‬‬
‫‪ )(3‬حاشية الجمل‪ ،4/302 :‬األشباه والنظائر‪ ،301 :‬اإلنصاف‪.8/393 :‬‬
‫‪ )(4‬األم‪.5/212:‬‬

‫‪176‬‬
‫طالق على كذا فإنه صريح طالق(‪.)1‬‬
‫عند اإلمامية‪ :‬صيغة الخلع عندهم(‪ )2‬أن يقول ال زوج‪ :‬خلعت ك على ك ذا‪ ،‬أو‬
‫أنت مختلعة على كذا‪ ،‬أو خلعت فالن ة أو هي مختلع ة على ك ذا‪ ،‬ثم يتبع ه ب الطالق‬
‫على الفور فيقول بعد ذلك‪ :‬فأنت طالق في القول األقوى عندهم‪ ،‬وقيل‪ :‬يقع بمج رده‬
‫من غير إتباعه به‪ ،‬فإن اعتبر إتباعه بالطالق فال شبهة في عده طالقا‪ ،‬وعلى القول‬
‫اآلخر هل يكون فسخا‪ ،‬أو طالقا قوالن أصحهما الثاني‪.‬‬
‫وعلى القولين ال بد من قبول المرأة عقيبه‪ ،‬بال فصل معتد ب ه‪ ،‬أو تق دم س ؤالها ل ه‬
‫قبله كذلك‪ ،‬ولو أتى بالطالق مع العوض‪ ،‬فقال‪ :‬أنت طالق على كذا مع سبق س ؤالها ل ه‪،‬‬
‫أو مع قبولها بعده كذلك أغنى عن لفظ الخل ع وأف اد فائدت ه‪ ،‬ولم يفتق ر إلى م ا يفتق ر إلي ه‬
‫الخلع من كراهتها له خاصة ألنه طالق بعوض ال خلع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في هذا هو أن ما ذك ره الفقه اء من ألف اظ الخل ع ربم ا يع بر عن‬
‫بيئات معينة وفي وقت معين‪ ،‬وال يعبر عن موق ف الش ريعة الع ام‪ ،‬ألن الش ريعة ليس ت‬
‫مختصة بجنس دون جنس وال لسان دون لسان وال عصر دون عصر‪ ،‬فلذلك ن رى ب دل‬
‫تحديد ألفاظ تعبر عن معان أرادها الشرع ورتب عليها آثارها‪ ،‬وعبر عنها بالص يغ ال تي‬
‫يفهمها الناس زمن الوحي‪ ،‬أن نضع القيود حول المعاني المقصودة حتى تنضبط بض ابط‬
‫الشرع‪ ،‬فإذا ماضبط ترك للناس بحسب بيئاتهم وأعرافهم وألسنتهم حري ة التعب ير عنه ا‪،‬‬
‫فقد يعبر عنها بعضهم بكلمة وبعضهم بجملة وبعضهم بنص طويل‪.‬‬
‫وإنما قلنا هذا الترجيح لسببين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ سبب متعلق ب الخلع‪ ،‬وه و أن الكالم في أم ور ال تس تعمل وال توج د في‬
‫الواقع بعد عن الفقه‪ ،‬ألن الغرض منه حل مشكالت الواقع ال التحليق خارج إطاره‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سبب متعلق بتعليم الفق ه خاص ة‪ ،‬وه و أن ط الب ه ذا العلم يره ق نفس ه‬
‫بحف ظ ص يغ الطالق والخل ع والنك اح وال بيع وغيره ا لينغمس ب ذلك في الحرفي ة‪،‬‬
‫فيعامل الناس بألفاظهم ال بمقاصدهم‪ ،‬وهو خالف طلب الشرع‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن القيم أن القاعدة في ه ذا ومثل ه ه و أن العب ارة وض عت لخدم ة‬
‫المقصد‪ ،‬وال يصح أن تنقلب الحالة‪ ،‬قال في بيان القاعدة الش رعية في ذل ك‪ ،‬وال تي‬
‫تدل عليه النصوص الكثيرة‪( :‬وقاع دة الش ريعة ال تي ال يج وز ه دمها أن المقاص د‬
‫واالعتق ادات معت برة في التص رفات والعب ارات كم ا هي معت برة في التقرب ات‬
‫والعبادات؛ فالقصد والني ة واالعتق اد يجع ل الش يء حالال أو حرام ا‪ ،‬وص حيحا أو‬
‫فاسدا‪ ،‬وطاعة أو معصية‪ ،‬كما أن القص د في العب ادة يجعله ا واجب ة أو مس تحبة أو‬
‫محرمة أو صحيحة أو فاسدة)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬التاج المذهب‪.2/193:‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الروضة البهية‪./6:‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.3/79:‬‬

‫‪177‬‬
‫اشتراط الخيار في الخلع‪:‬‬
‫نص الحنفية(‪ )1‬على أنه يصح للزوجة شرط الخيار في الخلع ال للزوج‪ ،‬ألن‬
‫إيجاب الزوج يمين ولهذا ال يملك الرجوع عنه‪ ،‬أما من جانبها فهو معاوض ة لك ون‬
‫الموج ود من جهته ا م اال‪ ،‬وله ذا يص ح رجوعه ا قب ل القب ول‪ ،‬وال تص ح إض افته‬
‫وتعليقه بالشرط‪ ،‬وال يتوقف على ما وراء المجلس فصار كالبيع‪.‬‬
‫قال في الجوهرة النيرة في حقيق ة الخل ع بين ال زوج والزوج ة‪ (:‬وحكم ه من‬
‫جهتها حكم المعاوضة حتى يجوز لها الرجوع عنه‪ ،‬ويبطل بإعراضها ويج وز له ا‬
‫فيه شرط الخيار على الصحيح وال يصح تعليقه باألخطار وحكم ه من جه ة ال زوج‬
‫حكم التعليق أي طالق معلق بشرط حتى ال يص ح رجوع ه عن ه وال يج وز ل ه في ه‬
‫شرط الخيار وال يبطل بإعراضه عنه ويصح تعليقه بالخطر) (‪)2‬‬
‫وه و ق ول ق وي يتواف ق م ع المص الح الش رعية‪ ،‬ألن الخل ع ه و طالق الم رأة‬
‫بعوض‪ ،‬فيجوز لها التراجع عن ذلك إن شرطته ما دامت في عدتها‪ ،‬فه و في ذل ك يش به‬
‫طالق الرجل من أن له أن يتراجع عن طالقه بالرجعة ما دامت المرأة في عدتها‪.‬‬
‫الركن الرابع‪ :‬العوض في الخلع‬
‫ويتعلق به المسائل التالية‪:‬‬
‫مقداره‪:‬‬
‫أجمع العلماء(‪ )3‬على إجازة الخلع بالصداق الذي أصدقها إذا لم يكن مض را به ا‪،‬‬
‫وخافا أال يقيما حدود هللا‪ ،‬واختلفوا في الخلع على أكثر مما أعطاها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬جواز الخلع بقليل المال وكثيره وبأكثر من الص داق وبماله ا كل ه إذا‬
‫كان ذلك من قبلها‪ ،‬قال ابن قدامة‪ (:‬وهذا قول أكثر أهل العلم‪ ،‬روي ذلك عن عثمان وابن‬
‫عم ر وابن عب اس وعكرم ة ومجاه د وقبيص ة بن ذؤيب والنخعي ومال ك والش افعي‬
‫وأصحاب الرأي‪ .‬وي روى عن ابن عب اس وابن عم ر أنهم ا ق اال‪ :‬ل و اختلعت ام رأة من‬
‫زوجها بميراثها‪ ،‬وعقاص رأسها كان ذلك جائزا)(‪ ،)4‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َت بِ ِه ﴾(البق رة‪ ،)229:‬ق ال‬‫َاح َعلَ ْي ِه َم ا فِي َم ا ا ْفتَ د ْ‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَاَل ُجن َ‬
‫إسماعيل‪ (:‬فإن قال قائل‪ :‬إنما هو معطوف على م ا أعطاه ا من ص داق أو بعض ه‪،‬‬
‫َت بِ ِه ﴾(البق رة‪ )229:‬من ه أو‬‫َاح َعلَ ْي ِه َما فِي َما ا ْفتَد ْ‬
‫قيل له‪ :‬لو كان كذلك لكان ﴿ فَاَل ُجن َ‬
‫من ذلك‪ ،‬وهو بمنزلة من ق ال‪ :‬ال تض ربن فالن ا إال أن تخ اف من ه‪ ،‬ف إن خفت ه فال‬
‫جناح عليك فيما صنعت به‪ ،‬فهذا إن خافه كان األمر إليه فيما يفعل به‪ ،‬ألنه ل و أراد‬
‫الضرب خاصة لقال من الضرب أو فيما صنعت به منه)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬خالفا ألبي يوسف ومحمد‪.‬‬


‫‪ )(2‬الجوهرة النيرة‪.2/59 :‬‬
‫‪ )(3‬انظ ر‪ :‬األم‪ ،5/214 :‬المص نف‪ ،4/193 :‬ش رائع اإلس الم‪ ،3/38 :‬العناي ة‪ ،4/215 :‬البح ر الزخ ار‪:‬‬
‫‪ ،4/183‬التاج‪ ،5/276 :‬أسنى المطالب‪.3/27 :‬‬
‫‪ )(4‬المغني‪.7/247:‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬التمهيد‪.23/369 :‬‬

‫‪178‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النبي ‪ ‬فعل ذلك بامرأة ثابت بن قيس بن شماس حين جاءت فقالت‪:‬‬
‫ال أنا وال ثابت لزوجها‪ ،‬وقالت‪ :‬ي ا رس ول هللا ك ل م ا أعط اني عن دي واف ر‪ ،‬فق ال‬
‫الن بي ‪ (:‬خ ذ منه ا) فأخ ذ منه ا وت رك‪ ،‬وفي ح ديث آخ ر ذك ره ابن نبه ان حين‬
‫تحاكما إلى رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬أتردين إليه حديقته؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬وأزيده فأعاد ذل ك‬
‫ثالث مرات‪ ،‬فقال عند الرابعة‪ :‬ردي عليه حديقته وزيديه(‪.)1‬‬
‫‪ 3‬ـ عن ابن سيرين قال‪ :‬جاءت امرأة إلى عمر تش تكي زوجه ا فحبس ت في‬
‫بيت فيه زبل فباتت فلما أصبحت بعث إليه ا فق ال‪ :‬كي ف بت الليل ة؟ فق الت‪ :‬م ا بت‬
‫ليلة أكون فيها أقر عينا من الليلة‪ ،‬فسألها عن زوجها فأثنت عليه خ يرا وق الت‪ :‬إن ه‬
‫وإنه ولكن ال أملك غير هذا‪ ،‬فأذن لها عمر في الفداء‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ رواية ذلك عن السلف‪ ،‬قال مالك‪ (:‬ولم أر أح دا ممن يقت دى ب ه يك ره أن‬
‫تفتدي المرأة بأكثر من صداقها‪ ،‬وقد قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َم ا فِي َم ا ا ْفتَ د ْ‬
‫َت‬
‫بِ ِه ﴾ (البقرة‪ ،)229:‬وإن موالة لصفية اختلعت من زوجها بك ل ش يء له ا فلم ينك ر‬
‫ذلك عبد هللا بن عمر‪ ،‬وقال ربيعة وأبو الزناد‪ :‬ال جناح عليه أن يأخذ منها أكثر مما‬
‫أعطاها(‪)2‬ق الت الربي ع بنت مع وذ‪ :‬اختلعت من زوجي بم ا دون عق اص رأس ي‪،‬‬
‫فأجاز ذلك عثمان بن عفان‪ ،‬قال ابن قدام ة‪ (:‬ومث ل ه ذا يش تهر‪ ،‬فلم ينك ر‪ ،‬فيك ون‬
‫إجماعا ولم يصح عن علي خالفه(‪)3‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه إذا حل له أن يأكل ما طابت به نفس ا ل ه من غ ير ف راق‪ ،‬ج از ل ه أن‬
‫يأكل ما طابت له به نفسا وتأخذه بالفراق إذا كان ذلك برضاها ولم يضرها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها‪ ،‬وروي عن علي وهو قول‬
‫طاوس وعطاء سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير واألوزاعي‪ ،‬وبه قال‬
‫أحمد وإسحاق قال األوزاعي‪ (:‬كان القضاة ال يجيزون أن يأخذ إال م ا س اق إليه ا)‪ ،‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ث ابت بن قيس بن ش ماس ك انت عن ده زينب بنت عب د هللا بن أبى ابن‬
‫سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته فقال النبى ‪ (:‬أم ا الزي ادة فال‪ ،‬ولكن حديقت ه‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬نعم فأخذها له وخلى سبيلها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ روى عن عطاء مرس ال أن الن بى ‪ ‬ق ال‪ (:‬ال يأخ ذ من المختلع ة أك ثر‬
‫مما أعطاها)‬
‫‪ 3‬ـ أنه بدل في مقابلة فسخ‪ ،‬فلم يزد على قدره في ابتداء العقد‪ ،‬ك العوض في‬
‫اإلقالة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و توقفه ا على حكم القاض ي ال ذي ينظ ر في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المدونة‪.2/246 :‬‬


‫‪ )(2‬المدونة‪.2/246 :‬‬
‫‪ )(3‬المغني‪.7/247:‬‬

‫‪179‬‬
‫مالبسات المسألة‪ ،‬فيحكم لكل حالة بحكمها‪ ،‬فإن ما قاله جمه ور الفقه اء ق د يص دق على‬
‫زوجة ال يزيد ما تملكه على ما أعطاها زوجها إال شيئا قليال قد ال تعت بر زيادت ه‪ ،‬وق د ال‬
‫تتضرر بنقصانه‪ ،‬لكن إن كان للزوجة مال كثير‪ ،‬ثم احتال عليها زوجها بأنواع المضارة‬
‫التي قد ال يفطن لها‪ ،‬أو ال تعتبر في القضاء‪ ،‬لتفتدي منه‪ ،‬ف إذا م ا أق دمت على ذل ك أخ ذ‬
‫يساومها على نفسها ليأخذ أضعاف ما أعطاها‪.‬‬
‫فمثل هذا الجشع الحريص ال ينبغي أن يفتح له الباب‪ ،‬ويؤذن له في أخذ كل ش يء‬
‫من مالها ما أعطاها وما لم يعطها‪ ،‬بل إن القواعد الشرعية الكثيرة تأبى أن ي زاد على م ا‬
‫أعطاها إال إذا كان ضرره بفقدها شديدا‪ ،‬فتعوض عليه بحسبه‪ ،‬وفق م ا ي راه ولي األم ر‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫وليس في اآلية التي استشهد بها دليل نص ي على أن ل ه أن يقب ل منه ا ك ل ماله ا‪،‬‬
‫ألن نص اآلي ة في األص ل على إباح ة الخل ع ال على تحدي د الع وض‪ ،‬وفهم الفقي ه له ذه‬
‫الداللة ال يحولها نصا فيها‪ ،‬ومثلها الحديث المروي في ذلك‪ ،‬فق د روي برواي ات مختلف ة‬
‫ال يصح تغليب بعضها على بعض‪ ،‬ولو صح أنها أعطته أك ثر مم ا أعطاه ا‪ ،‬فق د يك ون‬
‫ذلك مما يستهان بمثله‪ ،‬ومثل ذلك الروايات عن السلف‪ ،‬فقد رويت روايات مختلفة تجعل‬
‫من كالمهم فيها تعبيرا على أحوال مختلفة‪ ،‬والتعميم في مثل هذا ال يص ح‪ ،‬فلمثل ه يس يل‬
‫لعاب المحتالين‪.‬‬
‫شروط العوض‬
‫‪ 1‬ـ عدم الغرر‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار نفي الغرر على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬جواز الغرر في بدل الخلع‪ ،‬وهو قول المالكية(‪ ،)1‬فيجوز على ثمرة‬
‫لم يبد صالحها‪،‬وعلى جمل شارد‪ ،‬أو جنين في بطن أمه‪ ،‬أو نحو ذلك من وجوه الغ رر‪،‬‬
‫على خالف البيوع والنكاح‪ ،‬وله المطالبة بذلك كله‪ ،‬فإن سلم كان له‪ ،‬وإن لم يسلم فال شئ‬
‫له‪ ،‬والطالق نافذ على حكمه‪ ،‬فإن خالعها على جميع م ا تمل ك‪ ،‬ولم يوج د له ا ش يء‪ ،‬أو‬
‫وجد فيه ما ال ينتفع به كالحجر‪ ،‬فقد اختلف فيه قول المالكية على اآلراء التالية(‪:)2‬‬
‫الرأي األول‪ :‬ال يلزمه طالق‪ ،‬وإن وج د في ه م ا ينتف ع ب ه كال درهم ونح وه لزم ه‬
‫الخلع‪ ،‬وهو قول أشهب‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها غرته فلم يلزمه الخلع كما لو قالت له‪ :‬أخالعك بعبدي هذا‪ ،‬وهو حر‪،‬‬

‫‪ )(1‬وقد نصوا على أنها ل و اختلعت من ه برض اع ابنه ا من ه ح ولين ج از‪ ،‬وإن ش رطه ال زوج فه و باط ل‬
‫موضوع عن الزوجة‪،‬وفي الخلع بنفقتها على االبن بعد الحولين مدة معلومة قوالن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬يجوز‪ ،‬وهو قول المخزومى واختاره سحنون‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬ال يجوز‪ ،‬رواه ابن القاسم عن مالك‪ ،‬ولم يمن ع مال ك الخل ع بنفق ة م ا زاد على الح ولين ألج ل الغ رر‪،‬‬
‫وإنما منعه ألنه حق يختص باألب على كل حال‪ ،‬فليس له أن ينقله إلى غيره‪ ،‬والفرق بين هذا وبين نفق ة الح ولين أن‬
‫تلك النفقة وهى الرضاع قد تجب على األم حال الزوجية وبعد الطالق إذا أعسر األب‪ ،‬فجاز أن تنقل ه ذه النفق ة إلى‬
‫األم‪ ،‬ألنها محل لها وقد احتج مالك على هذا بقوله تعالى ‪‬والوال دات يرض عن أوالدهن ح ولين ك املين لمن أراد أن‬
‫يتم الرضاعة﴾‪ ،‬انظر‪ :‬القرطبي‪.3/145:‬‬
‫‪ )(2‬المنتقى‪.4/64 :‬‬

‫‪180‬‬
‫فإنه ال يلزمه خلع‪ ،‬أو أخالعك بهذه الدار ولم تكن لها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه إنما أوقع الطالق بشرط أن يحصل له شيء ينتفع به‪ ،‬فلما وجده على‬
‫غير ذلك بطل الطالق جملة كما لو غرته من حر فخالعته به على أنه عبد‪.‬‬
‫الرأي الث اني‪ :‬يلزم ه الخل ع؛ ألن ه رض ي بم ا غرت ه ب ه‪ ،‬وه و ق ول عب د المل ك‬
‫واختاره ابن المواز وسحنون‪.‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬قال مطرف‪ :‬لو أخذت لوزة‪ ،‬أو حصاة وخالعته بها‪ ،‬فإن كان شيء‬
‫مما ينتفع به‪ ،‬وإن قل فرضي به وعرف ما هو فهو خل ع‪ ،‬وأم ا حص اة وم ا ال ينتف ع ب ه‬
‫فليس بخلع‪ ،‬وهو طالق رجعي‪ ،‬ووجه قوله أن الطالق قد وقع فلما لم يكن ل ه ع وض لم‬
‫يكن بائنا وكان رجعيا‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َاح َعلَ ْي ِه َما فِي َما ا ْفتَد ْ‬
‫َت بِ ِه ﴾(البقرة‪)229:‬‬ ‫‪ 1‬ـ عموم قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَاَل ُجن َ‬
‫‪ 2‬ـ أنه مما يملك بالهبة والوصية‪ ،‬فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الخلع طالق‪ ،‬والطالق يصح بغير عوض أصال‪ ،‬فإذا صح شئ‪ ،‬فألن‬
‫يصح بفاسد العوض أولى‪ ،‬ألن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمس كوت عن ه‪ ،‬ولم ا‬
‫كان النكاح الذي هو عقد تحليل ال يفسده فاسد العوض‪ ،‬فألن ال يفس د الطالق ال ذي‬
‫هو إتالف وحل عقد أولى‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬الخلع جائز‪ ،‬مع لزوم التعويض‪ ،‬وقد نسبه ابن قدامة إلى الجمه ور‪،‬‬
‫قال‪ (:‬وجملة ذلك أن الرجل إذا خالع امرأته على عوض يظنه ماال‪ ،‬فبان غير مال‪ ،‬مث ل‬
‫أن يخالعها على عبد تعينه فيبين حرا‪ ،‬أو مغصوبا‪ ،‬أو على خل فيبين خم را‪ ،‬ف إن الخل ع‬
‫صحيح في قول أكثر أه ل العلم(‪ ،)1‬وق د حك اه ابن خ ويز من داد عن مال ك‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك)(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن عق ود المعاوض ات إذا تض منت ب دال فاس دا‪ ،‬وف اتت رج ع فيه ا إلى‬
‫الواجب في أمثالها من البدل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها غرته بتسمية المتاع‪ ،‬ألنه اسم لما يكون متقوما منتفعا‪ ،‬فإذا لم يوج د‬
‫في البيت شيء كان مغرورا من جهتها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن للمغرور دفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الخلع معاوض ة بالبض ع‪ ،‬فال يفس د بفس اد الع وض‪ ،‬كالنك اح‪ ،‬ولكن ه‬
‫يرجع عليها بطلب العوض‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول في نوع العوض الذي يلزمه على ثالثة آراء‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أن تعطيه قيمته سليما‪ ،‬وهو قول الحنفية والصاحبين وأبي ثور‪ ،‬فإن‬
‫خالعها على هذا ال دن الخ ل‪ ،‬فب ان خم را‪ ،‬رج ع عليه ا بمثل ه خال؛ ألن الخ ل من ذوات‬
‫األمثال‪ ،‬وقد دخل على أن هذا المعين خل‪ ،‬فك ان ل ه مثل ه‪ ،‬كم ا ل و ك ان خال فتل ف قب ل‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/260 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المبسوط‪.6/186 :‬‬

‫‪181‬‬
‫قبضه‪ ،‬وقد قيل‪ :‬يرجع بقيم ة مثل ه خال؛ ألن الخم ر ليس من ذوات األمث ال‪ .‬والص حيح‬
‫األول؛ ألنه إنما وجب عليها مثله لو كان خال‪ ،‬كما توجب قيمة الحر بتق دير كون ه عب دا‪،‬‬
‫فإن الحر ال قيمة له‪ ،‬ومن األدلة على ذل ك أنه ا عين يجب تس ليمها م ع س المتها‪ ،‬وبق اء‬
‫سبب االستحقاق‪ ،‬ف وجب ب دلها مق درا بقيمته ا أو مثله ا‪ ،‬كالمغص وب والمس تعار‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إن خالعها على ثوب وصفه فإنه يصح‪ ،‬وعليها أن تعطيه إياه سليما؛ ألن‬
‫إطالق ذلك يقتض ي الس المة‪ ،‬كم ا في ال بيع والص داق‪ .‬ف إن دفعت ه إلي ه معيب ا‪ ،‬أو‬
‫ناقصا عن الصفات المذكورة‪ ،‬فله الخيار بين إمساكه‪ ،‬أو رده والمطالبة بثوب سليم‬
‫على تلك الصفة؛ ألنه إنما وجب في الذمة سليما تام الصفات‪ ،‬فيرجع بما وجب ل ه‪،‬‬
‫ألنها ما أعطته الذي وجب له عليها(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ إن خالعها على ثوب‪ ،‬على أن ه قطن‪ ،‬فب ان كتان ا‪ ،‬ل زم رده‪ ،‬ولم يكن ل ه‬
‫إمس اكه؛ ألن ه جنس آخ ر‪ ،‬واختالف األجن اس ك اختالف األعي ان‪ ،‬بخالف م ا ل و‬
‫خالعها على وصف فخرج على وصف آخر‪ ،‬فإن الجنس واحد‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬يرجع بالمسمى‪ ،‬وهو قول أبي حنيف ة‪ ،‬ألن خ روج البض ع ال قيم ة‬
‫له‪ ،‬فإذا غر به‪ ،‬رجع عليها بما أخذت‪ ،‬ألنه ال يمكن إثبات الرجوع بقيم ة المت اع؛ لكون ه‬
‫مجهول الجنس‪ ،‬والقدر‪ ،‬وال بقيمة البضع؛ ألنه عند الخروج من ملك الزوج غير متقوم‪،‬‬
‫فإنه ال يملكها شيئا‪ ،‬إنما يسقط حقه عنها‪ ،‬فكان‪ ،‬أولى األشياء ما ساق إليه ا من الص داق‪،‬‬
‫فإن الغرر يندفع عنه بالرجوع بذلك‪ ،‬ومن األمثلة التي ضربوها لذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إن اختلعت منه بما تكتسب الع ام من م ال‪ ،‬أو بم ا ترث ه‪ ،‬أو بم ا ت تزوج‬
‫عليه‪ ،‬أو بما تحمل غنمها فيما يستقبل كان له المه ر ال ذي أعطاه ا في جمي ع ذل ك؛‬
‫ألن المسمى ال يصلح عوضا في ش يء من النق ود‪ ،‬ألن ه ال ي دري أيك ون أم ال‪ ،‬أو‬
‫ألنه مجهول الجنس والصفة‪ ،‬والق در‪ ،‬فال يص ح التزام ه في الخل ع‪ ،‬ولكنه ا غرت ه‬
‫بتسمية المال‪ ،‬فيلزمها رد ما ساق إليها بسبب الغرور(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ ما لو اختلعت على أن تزوجه امرأة وتمهر عنه‪ ،‬فالخلع ج ائز‪ ،‬والش رط‬
‫باطل؛ للجهالة المستتمة في المسمى‪ ،‬ولكن الغ رور يتمكن لتس مية اإلمه ار‪ ،‬فعليه ا‬
‫رد العوض‪ ،‬وإن اختلعت منه على موصوف من المكيل‪ ،‬أو الم وزون‪ ،‬أو النب ات‪،‬‬
‫فهو جائز كما في الصداق‪ ،‬وإن اختلعت منه على ثوب أو على دار‪ ،‬فالتسمية فاسدة‬
‫للجهالة المستتمة كما في الصداق‪ ،‬وله المهر الذي أعطاها بس بب الغ رور‪ ،‬وك ذلك‬
‫إن اختلعت منه بدابة للجهالة المستتمة‪ ،‬فإن اسم الداب ة يتن اول أجناس ا مختلف ة‪ ،‬فل ه‬
‫المهر الذي أعطاها‪.‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬يرجع بمهر المثل ألنه عقد على البضع بعوض فاسد‪ ،‬فأشبه النك اح‬
‫بخمر‪ ،‬وتطبيقاته تشبه تطبيقات الرأي الثاني إال أنه بدل المسى يعطي مهر المثل‪.‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/258:‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/189 :‬‬

‫‪182‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن الخيار في هذا للمختل ع‪ ،‬وحال ه في تقب ل ذل ك‬
‫وعدمه ال تعدو الحالتين التاليتين‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬أن يرض ى ب الغرر ال ذي حص ل ل ه‪ ،‬ويتقبل ه‪ ،‬فتخل ع الم رأة ع ل‬
‫أساس رضاه‪ ،‬وذلك ال حرج فيه‪ ،‬وكم ا اس تدل الفقه اء على ع دم تحدي د ع وض الخل ع‬
‫اح َع َل ْي ِه َم ا ِفي َم ا ا ْف َت د ْ‬
‫َت ِب ِه ﴾(البق رة‪ ،)229 :‬فينبغي أن يس تدلوا‬ ‫كثرة بقوله تعالى‪َ ﴿:‬فاَل جُ َن َ‬
‫باآلية هنا على ذلك‪ ،‬ألن العبرة بالتراضي‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬أن ال يرضى بما حصل له من غرر‪ ،‬وه و في ه ذه الحال ة مخ ير‬
‫بين أمرين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يطلب قيمة ما اتفقا عليه إن اتفقا على ش يء معين‪ ،‬ف إن لم يتفق ا‪ ،‬ب أن‬
‫خالعته مثال على ما عندها‪ ،‬فظهر أنه ليس لها شيء‪ ،‬فإن الخلع ال يصح هن ا إال إذا‬
‫رضي الزوج بذلك‪ ،‬ألن الخلع حق المرأة والع وض ح ق ال زوج‪ ،‬وال ينبغي تغليب‬
‫حق على حق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يرجعها لعصمته‪ ،‬لعدم اكتمال ش رائط الخل ع‪ ،‬فخلع ه له ا ك ان معلق ا‬
‫على العوض‪ ،‬فلما زال العوض زال معه الخلع‪.‬‬
‫أما ما نص عليه الحنفية والشافعية من تسليم المهر المسمى أو المثل‪ ،‬ف إن ذل ك ال‬
‫يتفق مع القواعد الشرعية المصرحة باشتراط الرضا في كل العقود‪ ،‬فق د يك ون المس مى‬
‫بالنسبه لما اختلعا عليه ض خما فتتض رر الزوج ة‪ ،‬أو ض ئيال‪ ،‬فيتض رر ال زوج‪ ،‬في درؤ‬
‫الغرر القديم بالغرر الجديد‪ ،‬ويزال الغرر ال ذي فرض ه اله وى ب الغرر ال ذي نص علي ه‬
‫الفقه‪.‬‬
‫حكم الخلع من غير بدل‬
‫اختلف الفقهاء في صحة إيقاع الخلع دون عوض على األقوال التالية(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬هو خلع‪ ،‬وهو ق ول مال ك‪ ،‬ألن ع دم حص ول الع وض في الخل ع ال‬
‫يخرجه عن مقتضاه‪ ،‬وأصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يكون طالقا رجعيا‪ ،‬وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد‪ ،‬وأشهب‪،‬‬
‫وقيل بأنه الرواية الصحيحة عن مالك‪ ،‬ألنه طالق عرا عن عوض واس تيفاء ع دد فك ان‬
‫رجعيا كما لو كان بلفظ الطالق‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه قطع للنكاح‪ ،‬فصح من غير عوض‪ ،‬كالطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن األصل في مشروعية الخلع أن توج د من الم رأة رغب ة عن زوجه ا‪،‬‬
‫وحاجة إلى فراقه‪ ،‬فتسأله فراقها‪ ،‬فإذا أجابها‪ ،‬حص ل المقص ود من الخل ع‪ ،‬فص ح‪،‬‬
‫كما لو كان بعوض‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬ال يصح الخلع إال بعوض‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة والشافعي‪ ،‬فإذا ق ال‬
‫لها‪ :‬اخلعي نفسك‪ .‬فقالت‪ :‬خلعت نفس ي‪ ،‬لم يكن خلع ا إال على ش يء‪ ،‬إال أن يك ون ن وى‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪ ،3/145 :‬المغني‪.7/257 :‬‬

‫‪183‬‬
‫الطالق‪ ،‬فيكون ما نوى‪ ،‬وإن لم ينو به الطالق‪ ،‬لم يكن شيئا‪ ،‬ومثل ه م ا ل و ق ال‪ :‬فس خت‬
‫النك اح‪ ،‬ولم ين و ب ه الطالق‪ ،‬لم يق ع ش يء‪ ،‬بخالف م ا إذا دخل ه الع وض‪ ،‬فإن ه يص ير‬
‫معاوضة‪ ،‬فال يجتمع له العوض والمعوض‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار رضا الزوج بذلك‪ ،‬فإن رضي ب الخلع من‬
‫غير بدل كان خلع ا‪ ،‬وه ذا يتف ق م ع المص لحة الش رعية في إتاح ة الف رص للمراجع ة‪،‬‬
‫بخالف اعتباره طالق ا‪ ،‬ألن الخل ع ال يعت بر من ع دد الطالق‪ ،‬فيحص ل الفس خ م ع بق اء‬
‫فرص التطليق‪.‬‬
‫وقد يقال بأن هذا يتناقض مع اعتبار العوض ركنا في الخلع‪ ،‬والج واب على ذل ك‬
‫بأن هذا الركن يتوقف على رضا الزوج‪ ،‬كما أن المهر شرط في الزواج ومع ذل ك يمكن‬
‫أن يكون شيئا رمزيا ال قيمة مادية له‪ ،‬فالعبرة في الجهتين برضا الطرفين‪.‬‬
‫بل نرى أن في تنازل الزوج عن حقه في العوض من كرم الخلق والم روءة ال تي‬
‫توجبها العشرة الزوجية‪.‬‬
‫الخلع على الحقوق الزوجية‬
‫اختلف الفقهاء في كون العوض هو تبرئة المرأة زوجه ا من حقوقه ا‪ ،‬ك أن تبرئ ه‬
‫من نفقة حملها أو من رضاع ولدها‪ ،‬أو تقول له‪ :‬طلقني وأنا أبرأتك من حق وقي‪ ،‬أو وأن ا‬
‫آخذ الولد بكفالته وأبرأتك من نفقته‪ ،‬ونحو ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم صحة الخلع على ذلك‪ ،‬وهو ق ول ابن ح زم‪ ،‬ق ال ابن ح زم في‬
‫بيان وجه استدالله‪ (:‬ال يجوز الخلع على أن تبريه من نفقة حمله ا أو من رض اع ول دها‪،‬‬
‫وكل ذلك باطل‪ ،‬ألنه غير معلوم القدر‪ ،‬وقد يزيد الس عر وق د ينقص‪ ،‬وألن ه لم يجب له ا‬
‫بعد‪ ،‬فمخالعتها بما ال تملكه باطل وظلم)(‪)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إن ه يص ح الخل ع على ذل ك‪ ،‬وه و ق ول جم اهير العلم اء(‪ ،)2‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ض ْعنَ لَك ْمُ‬ ‫رْ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ أن الرضاع مما يصح االستئجار عليه قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬فإِن أ َ‬
‫ُوره َُّن﴾(الطالق‪ )6:‬فيصح أن يجعل جعال في الخلع‪.‬‬ ‫فَآتُوه َُّن أُج َ‬
‫‪ 2‬ـ أنه يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن نفقة حملها ورضاع ولدها‪ ،‬ونفقته قد انعقد سبب وجوده وجوازه‪.‬‬
‫وألص حاب ه ذا الق ول بعض التفاص يل المرتبط ة به ذا الج انب‪ ،‬وال تي يعس ر‬
‫ض بطها‪ ،‬وق د ذكرن ا منه ا هن ا م ا تمس الحاج ة إلي ه على الم ذاهب الفقهي ة المش تهرة‪،‬‬
‫ويستدل بما ذكر على ما لم يذكر‪:‬‬
‫مذهب الحنفية‪ :‬نص الحنفية على أنه إن خلع امرأته على رض اع ابن ه منه ا‬
‫سنتين جاز الخلع وعليها أن ترضعه سنتين‪ ،‬فإن م ات ابنه ا قب ل أن ترض عه ش يئا‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/3:‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى‪.3/336:‬‬

‫‪184‬‬
‫يرجع عليها بقيمة الرضاع للمدة‪ ،‬وإن م ات في بعض الم دة رج ع عليه ا بقيم ة م ا‬
‫بقي‪ ،‬وهالك الولد قب ل الرض اع كهالك ع وض اختلعت علي ه فهل ك في ي دها قب ل‬
‫التسليم فيرجع إلى قيمته‪ ،‬ولو شرط عليه ا نفق ة الول د بع د الح ولين وض رب ل ذلك‬
‫أجال أربع سنين أو ثالث سنين فذلك باطل‪ ،‬وإن هل ك الول د قب ل تم ام الرض اع فال‬
‫شيء عليها؛ ألن النفقة ليس لها مق دار معل وم فك انت الجهال ة متفاحش ة فال يلزمه ا‬
‫شيء ولكن الطالق(‪.)1‬‬
‫م ذهب المالكي ة‪ :‬نص المالكي ة على أن ه ل و خالعه ا على نفق ة ول دها م دة‬
‫الحولين ورضاعه فيهما جاز ذلك‪ ،‬وقد اختلفوا فيما لو ش رط عليه ا نفق ة االبن بع د‬
‫الحولين أربع سنين أو ثالثا على رأيين(‪:)2‬‬
‫ال رأي األول‪ :‬أن م ا زاد على نفق ة االبن وإرض اعه في الح ولين فه و باط ل‬
‫موضوع عن الزوجة‪ ،‬وإن شرط الزوج وليس له بما بطل من شرطه شيئا‪ ،‬وهو رواي ة‬
‫ابن القاسم عن مالك‪ ،‬وقد علل ذلك بأن المتخالعين أدخال الغرر فيم ا أوقع ا ب ه الخل ع من‬
‫النفقة‪ ،‬وما عدا ذلك من الغرر كالعبد اآلبق‪ ،‬والجمل الشارد فالغرر دخل فيه بغير فعله ا‪،‬‬
‫وعلل بأنه حق مختص باألب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره‪ ،‬والفرق بين ه ذا‬
‫وبين نفقة الحولين أن تل ك النفق ة وهي الرض اع ق د تجب على األم ح ال الزوجي ة وبع د‬
‫الطالق إذا أعسر األب فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى األم‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أن ما زاد على الحولين من مدة أربع ة أع وام‪ ،‬أو إلى انقض اء أم د‬
‫الحضانة جائز‪ ،‬وهو رواي ة المخ زومي عن مال ك‪ ،‬واخت اره س حنون‪ ،‬ألن ه إزال ة مل ك‬
‫تجوز إزالته بالغرر فجاز إزالته بنفقة أربعة أعوام أصل ذلك العتق‪.‬‬
‫مذهب الحنابلة‪ :‬نص الحنابلة على إن خالعها على رض اع ول ده ع امين‪ ،‬أو‬
‫سكنى دار صح‪،‬فإن مات الولد‪ ،‬أو خربت الدار رج ع ب أجرة ب اقي الم دة من أج رة‬
‫الرضاع والدار(‪)3‬‬
‫ونصوا على انه إن خالعها على كفالة ولده عشر س نين‪ ،‬ص ح‪ ،‬وإن لم ي ذكر م دة‬
‫الرضاع منها‪ ،‬وال قدر الطعام واألدم‪ ،‬ويرجع عند اإلطالق إلى نفقة مثله‪ ،‬واستدلوا على‬
‫ذلك بقوله ‪ (:‬رحم هللا أخي موسى‪ ،‬آجر نفس ه بطع ام بطن ه وعف ة فرج ه (وألن نفق ة‬
‫الزوجة مستحقة بطريق المعاوضة‪ ،‬وهي غير مقدرة‪.‬‬
‫وللوالد أن يأخذ منها ما يستحقه من مؤنة الصبي‪ ،‬وما يحتاج إلي ه؛ ألن ه ب دل ثبت‬
‫له في ذمتها‪ ،‬فله أن يستوفيه بنفسه وبغيره‪ ،‬فإن أحب أنفقه بعينه‪ ،‬وإن أحب أخ ذه لنفس ه‪،‬‬
‫وأنفق عليه غيره‪ .‬وإن أذن لها في إنفاقه على الصبي‪ ،‬جاز فإن مات الصبي بعد انقض اء‬
‫مدة الرضاع‪ ،‬فألبيه أن يأخذ ما بقي من المؤنة(‪.)4‬‬

‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.3/150 :‬‬


‫‪ )(2‬المنتقى‪ ،4/62 :‬المدونة‪.2/248:‬‬
‫‪ )(3‬اإلنصاف‪.8/400:‬‬
‫‪ )(4‬المغني‪.7/256:‬‬

‫‪185‬‬
‫مذهب الش افعية‪ :‬نص الشافعية على أن ه ل و خالعه ا على أن عليه ا رض اع‬
‫ابنها وقتا معلوما كان جائزا‪ ،‬ألن اإلجارة تص ح على الرض اع ب وقت معل وم‪ ،‬فل و‬
‫مات المولود وقد مضى نصف الوقت رجع عليها بنصف مهر مثلها‪ ،‬ولو لم ترضع‬
‫المولود حتى مات أو انقطع لبنها أو هربت منه ح تى مض ى الرض اع رج ع عليه ا‬
‫بمهر مثلها‪ ،‬قال الشافعي‪ (:‬وإنما قلت‪ :‬إذا مات المولود رجع عليها بمه ر مثله ا ولم‬
‫أقل يأتيها بمولود مثله ترضعه كما يتكارى منها المنزل فيسكنه غيره والدابة فتحمل‬
‫عليها ورثته غيره إذا مات‪ ،‬ويفعل ذلك ه و وه و حي ألن إبدال ه مثله ا ممن يس كن‬
‫سكنه ويركب ركوبه سواء ال يفرق السكن وال الدابة بينهم ا‪ ،‬وأن الم رأة ت در على‬
‫المولود وال تدر على غيره‪ ،‬ويقبل المولود ث ديها وال يقبل ه غ يره‪ ،‬ويس تمريه منه ا‬
‫وال يستمريه من غيرها‪ ،‬وال ت رى أم ه وال تطيب نفس ها ل ه وليس ه ذا في دار وال‬
‫دابة يركبها راكب وال يسكنها ساكن(‪)1‬‬
‫وقد نصوا على انه إن خالعها على كفالة ولده عشر سنين ال يصح حتى يذكر م دة‬
‫الرضاع‪ ،‬وقدر الطعام وجنس ه‪ ،‬وق در اإلدام وجنس ه‪ ،‬ويك ون المبل غ معلوم ا مض بوطا‬
‫بالصفة كالمسلم فيه‪ ،‬وما يحل منه كل يوم‪.‬‬
‫مذهب اإلمامية‪ :‬نص اإلمامية على أن ه ل و ك ان الف داء رض اع ول ده ص ح‪،‬‬
‫مشروطا بتعيين المدة‪ ،‬وكذا لو طلقها على نفقته‪ ،‬بش رط تع يين الق در ال ذي يحت اج‬
‫إليه‪ ،‬من المأكل والكسوة والمدة‪ ،‬ولو مات قبل المدة‪ ،‬كان للمطلق اس تيفاء م ا بقي‪،‬‬
‫فإن كان رضاعا رجع بأجرة مثله‪ ،‬وإن كان إنفاقا رجع بمثل ما كان يحتاج إلي ه في‬
‫تلك المدة‪ ،‬مثال أو قيمة‪ ،‬وال يجب عليها دفعه دفعة‪ ،‬بل أدوارا في الم دة‪ ،‬كم ا ك ان‬
‫يستحق عليها لو بقي(‪.)2‬‬
‫مذهب اإلباضية‪ :‬نص اإلباضية على أنه إن افت دت من ه على أن تم ون ول ده‬
‫منها مدة معلومة من درهم إلى عشرة آالف‪ ،‬وعلى رد صداقها إليه صح ولم ي درك‬
‫أن تمون ولده ألنه زيادة‪ ،‬وإن خالعها أو فاداه ا على أن تمون ه فله ا أن ترج ع ول و‬
‫عينت المدة كعشر سنين‪ ،‬وقالت‪ :‬من درهم إلى كذا لجهلهم ا كم يس تغرق الول د من‬
‫ذلك‪ ،‬وإن فاداها بأن ترضع ول ده إلى معل وم ج از‪ ،‬وقي ل‪ :‬ال‪ ،‬وإن ول دت من بطن‬
‫ولو ثالثا لزمها إرضاعهم إن لم يعين‪ ،‬وأجازوا أن يأخ ذ الزي ادة إن لم يس ئ إليه ا‪،‬‬
‫وإن قالت‪ :‬خذ مائة درهم أو أق ل أو أك ثر‪ ،‬واترك ني الليل ة فل ه أخ ذها فيتركه ا وال‬
‫فداء وال إيالء‪ ،‬وإن قالت‪ :‬تركت ل ك ص داقي‪ ،‬أو ك ذا وك ذا من ه‪ ،‬على أن تترك ني‬
‫الليلة‪ ،‬فتركها فله ذلك‪ ،‬وفي وقوع الفداء قوالن‪ ،‬وقيل‪ :‬إن تركها أربعة أشهر ب انت‬
‫بإيالء وله ما أعطته(‪.)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬

‫‪ )(1‬األم‪.5/215:‬‬
‫‪ )(2‬شرائع اإلسالم‪.3/38:‬‬
‫‪ )(3‬شرح النيل‪.7/289 :‬‬

‫‪186‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن الخلع على هذا يص ح‪ ،‬ألن الش رع اعت بر في‬
‫مثل هذا تراضي الطرفين‪ ،‬وقد ذكرنا أن الخلع ال يختلف عن الطالق‪ ،‬فالمطلق قد افتدى‬
‫من زوجته بالمهر‪ ،‬والزوجة تفتدي من زوجها بعوض الخلع‪ ،‬وبم ا أن المه ر يص ح أن‬
‫يكون منفعة بنص القرآن الكريم في قصة موسى ‪ ‬م ع الش يخ الص الح‪ ،‬ف إن ع وض‬
‫الخلع‪ ،‬وهو نظير المهر يصح أن يكون كذلك‪.‬‬
‫ولكن القول بالصحة مطلقا قد يكون ب اب من أب واب الفس اد‪ ،‬وه و م ا لحظ ه ابن‬
‫حزم فسد الباب مطلقا‪ ،‬ولكن األصح هو سد المفسدة ال سد الباب‪ ،‬والمفسدة التي نراها قد‬
‫تنتج عن اإلطالق في هذا ومثله نوعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الضرر الحاصل للزوجة‪ ،‬وذلك فيما لوك ان ع وض الخل ع مرهق ا‪ ،‬كم ا‬
‫ذكر بعض الفقهاء من جواز إنفاقها علي ه عش ر س نين‪ ،‬ف إن في ه ذا عنت ا ال يص ح‬
‫شرعا قبوله‪ ،‬بل يل زم ال زوج هن ا ب القبول ب الخلع على م ا ال ي ؤدي إلى ض ررها‪،‬‬
‫واألفضل أن يقيد في حده األعلى بالمهر ونحوه على حسب أحوال الزوجة والزوج‬
‫في ذلك‪ ،‬كما ذكرنا في مقدار العوض‪ ،‬وهذا ما لحظه اإلم ام مال ك من ع دم ص حة‬
‫الخلع على م ا زاد على نفق ة االبن وإرض اعه في الح ولين وعل ل ذل ك بأن ه باط ل‬
‫موضوع عن الزوجة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ النزاع بين الزوجين بعد تمام الخلع‪ ،‬وذلك عند عدم التحدي د أو التوثي ق‪،‬‬
‫والشرع ألزم في مثل ه ذا س دا لب اب ال نزاع تحدي د العق ود وتوثيقه ا‪ ،‬فل ذلك ن رى‬
‫األرجح في هذا هو ما ذهب إليه الفقهاء الذين اشترطوا التحديد في الطع ام وغ يره‪،‬‬
‫ألن اإلطالق سيثير النزاع الذي نهى عنه الشرع‪.‬‬
‫انطالقا من هذا نرى صحة الخلع على أمثال هذه المنافع بالشروط التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تراضي الطرفين على ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ال تكون في تل ك المن افع مبالغ ة مؤذي ة للم رأة‪ ،‬ويح دد تل ك المبالغ ة‬
‫وضع المرأة ووضع زوجها‪ ،‬ويتكفل بمعرفة ذلك الخبراء المختصون‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تفادي النزاع المس تقبلي بتحدي د ك ل م ا يل زم تحدي ده من م دد‪ ،‬وأجن اس‬
‫وأنواع وتفاصيل‪ ،‬بحيث ال تترك لذلك مجاال للنزاع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ توثيق العقود في ذلك تفاديا للخالف‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫القسم الثاني‬
‫حل عصمة الزوجية بيد القضاء‬
‫نتناول في هذا القسم نوع التفريق الذي جعله الشارع لولي األمر بناء على رعايته‬
‫لمصالح المسلمين‪ ،‬وهذا النوع من التفريق يرتبط جميعه بالضرر‪ ،‬ويحتاج إلى التح ري‬
‫والوسائل التي ال يطيق تكاليفها غير القاضي أو من ينوب عن ه‪ ،‬وق د حاولن ا أن نحص ر‬
‫أنواع التفريق التي جعلت بيد القضاء في ثالثة أنواع‪:‬‬
‫الن وع األول‪ :‬التفري ق بس بب الض رر الجبلي‪ ،‬وه و م ا يع بر عن ه الفقه اء‬
‫بالعيوب الموجبة للخيار‪ ،‬وهي أضرار جبلي ة ال عالق ة للتكلي ف به ا‪ ،‬وق د يحص ل‬
‫فيه ا من أن واع التغري ر م ا يس تدعي ت دخل القض اء‪ ،‬فل ذلك جع ل الفس خ فيه ا بي د‬
‫القضاء‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬التفريق بس بب التفري ط في حق وق الزوجي ة من النفق ة‪ ،‬وغيب ة‬
‫الزوج وفقده‪ ،‬أو الض رر ال ذي يس ببه ال زوج لزوجت ه‪ ،‬وه ذا الن وع كس بي‪ ،‬وه و‬
‫يستدعي تدخل القضاء كذلك إما للتحري أو لإللزام واإلعذار أو للتفريق إذا اقتضى‬
‫األمر ذلك‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬التفريق بسبب اته ام ال زوج لزوجت ه‪ ،‬وق د نس بناه إلى التفري ق‬
‫بأسباب أخالقية‪ ،‬ألنه إما أن يكون الزوج كاذبا أو أن تكون المرأة زاني ة‪ ،‬وكالهم ا‬
‫يتنافى مع األخالق اإلس المية‪ ،‬وه ذا الن وع يس تدعي ت دخل القض اء للتح ري‪ ،‬ب ل‬
‫يستدعي كذلك تدخل األطباء للتحقق من صدق األمر‪ ،‬ونسبة األوالد‪.‬‬
‫وقد خصصنا لكل نوع من األنواع فصال خاصا‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل األول‬
‫التفريق بسبب الضرر الجبلي‬
‫أوال ـ العيوب التي تثبت الخيار للزوجين‬
‫اختلفت تع ابير الفقه اء في تعري ف العيب بحس ب مواض ع العيب‪ ،‬ف العيب‬
‫المؤثر في البيع الذي يثبت بس ببه الخي ار ه و م ا نقص ت ب ه الملكي ة أو الرغب ة أو‬
‫الغبن‪ ،‬والعيب في الكفارة ما أضر بالعمل ضررا بينا‪ ،‬والعيب في األضحية هو م ا‬
‫نقص به اللحم‪ ،‬والعيب في النكاح ما ينفر عن الوطء ويكسر ث ورة الت واق‪ ،‬والعيب‬
‫في اإلجارة ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت األجرة(‪.)1‬‬
‫‪ 1‬ـ العيوب المعتبرة في الفسخ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في العيوب التي تثبت الخيار للزوجين على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه ليس في النك اح عي وب ت وجب الح ق في طلب الفس خ‪ ،‬ال‬
‫بشرط وال بغير شرط مطلقا ً إال في ثالثة أمور هي‪ :‬كون الرجل عنينا ً أو مجنونا ً أو‬
‫خصيا ً أما ما عدا ذلك فال يترتب عليه فسخ النكاح‪ ،‬ولو اش تد‪ ،‬أم ا الم رأة‪ ،‬فخلوه ا‬
‫عن العيب ليس بشرط للزوم النكاح‪ ،‬فال يفسخ النكاح بشيء من العي وب الموج ودة‬
‫فيها‪ ،‬وهو قول النخعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬والحنفية(‪ ،)2‬وقد روي عن علي‪(:‬ال ت رد الح رة‬
‫بعيب)‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن عالقة الزوجية لها قدسية ال تقل عن قدسية القرابة‪ ،‬فإذا ارتب ط اثن ان‬
‫برابطة الزوجية‪ ،‬وجب على كل منهما أن يحتمل ما ي نزل بص احبه من بل واء‪ ،‬فال‬
‫يصح أن ينفصل منه لمصيبة حلت به‪ ،‬بل يجب عليه مواساته بقدر ما يستطع فكم ا‬
‫أن اإلنسان ال يمكنه أن يقطع لحمة القرابة عندما يصاب أخوه أو قريبه بداء‪ ،‬فكذلك‬
‫ال يصح له أن يقطع عالقة الزوجية لذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الجب والعنة والخصاء تتنافى معها الزوجي ة‪ ،‬ألن المجب وب‪ ،‬والعين‬
‫والخصي كالمرأة ‪ -‬والمرأة ال تتزوج المرأة ‪ -‬ل وال ذل ك لم ا ج از طلب فس خ عق د‬
‫الزواج بحال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن النكاح ال يفسخ بسائر العيوب‪ ،‬فال يفسخ بهذه العيوب أيضا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن العيب ال يفوت ما هو حكم هذا العقد من جانب المرأة‪ ،‬وهو االزدواج‬
‫الحكمي‪ ،‬ومل ك االس تمتاع‪ ،‬وإنم ا يختل‪ ،‬ويف وت ب ه بعض ثم رات العقد‪ ،‬وف وات‬
‫جميع ثمرات هذا العقد ال يوجب ح ق الفس خ ب أن م ات أح د ال زوجين عقيب العق د‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المجموع‪ ،11/301 :‬المبسوط‪ ،18/133 :‬فتح القدير‪.6/355:‬‬


‫‪ )( 2‬وقال محمد‪ :‬خلوه من كل عيب ال يمكنها المقام معه إال بضرر كالجنون والجذام وال برص‪ ،‬ش رط ل زوم‬
‫النكاح حتى يفسخ به النكاح‪ ،‬وخلوه عما سوى ذلك ليس بشرط‪ ،‬انظر‪ :‬بدائع الصنائع‪..2/327:‬‬

‫‪189‬‬
‫حتى يجب عليه كمال المهر‪ ،‬ففوات بعضها أولى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الحكم األصلي للنكاح هو االزدواج الحكمي‪ ،‬ومل ك االس تمتاع ش رع‬
‫مؤكدا له‪ ،‬والمهر يقابل إح داث ه ذا الملك‪ ،‬وبالفس خ ال يظه ر أن إح داث المل ك لم‬
‫يكن‪ ،‬فال يرتفع ما يقابل‪ ،‬وهو المهر‪ ،‬فال يجوز الفسخ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن هذه العيوب ال تمنع من االستمتاع أم ا الجن ون‪ ،‬والج ذام‪ ،‬وال برص‪،‬‬
‫فال يشكل‪ ،‬وكذلك الرتق والقرن؛ ألن اللحم يقطع والقرن يكسر‪ ،‬فيمكن االستمتاع‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن الحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني نقول بموجبه فإن ه يجب‬
‫االجتناب عنه‪ ،‬والفرار يمكن بالطالق ال بالفسخ‪ ،‬وليس فيه تعيين طريق االجتن اب‬
‫والفرار‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وهو اعتبار غيرها من العيوب‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬وقد روي‬
‫ذلك عن عمر‪ ،‬وابن ه‪ ،‬وابن عب اس‪ .‬وب ه ق ال ج ابر بن زي د‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وإس حاق‬
‫وأحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪( :‬فر من المجذوم فرارك من األسد)(‪ ،)1‬والفسخ طريق الفرار‪،‬‬
‫ولو لزم النكاح لما أمر بالفرار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن مصالح النكاح ال تقوم مع هذه العيوب أو تختل بها ؛ ألن بعضها مما ينف ر‬
‫عنه ا الطب اع الس ليمة‪ ،‬وه و الج ذام والجن ون وال برص‪ ،‬فال تحص ل الموافق ة فال تق وم‬
‫المصالح أو تختل وبعضها مم ا يمن ع من ال وطء وه و الرت ق والق رن‪ ،‬وعام ة مص الح‬
‫النكاح يق ف حص ولها على ال وطء‪ ،‬ف إن العف ة عن الزن ا والس كن والول د ال يحص ل إال‬
‫بالوطء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو عدم اعتب ار التحدي د ال ذي ذك ره الحنفي ة أو‬
‫الذي ذكره الجمهور من اقتصارهم على عيوب معينة‪ ،‬وإغفال ما هو أخط ر منه ا‪،‬‬
‫ك األمراض المعدي ة مثال‪ ،‬ألن من ت زوجت بم ريض به ذا الم رض ونح وه ت ؤدي‬
‫بنفسها إلى حصول العدوى ال محال ة‪ ،‬أم ا األم راض غ ير المعدي ة وال تي تقتص ر‬
‫خطورتها علىع دم حص ول الرض ى الجنس ي بين ال زوجين‪ ،‬فه و يرج ع إلى م دى‬
‫تقبلها لذلك‪ ،‬كما ذكرنا سابقا‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪( :‬وأما اإلقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثماني ة دون م ا‬
‫هو أولى منها‪ ،‬أو مساو فال وجه له‪ ،‬فالعمى والخ رس والط رش وكونه ا مقطوع ة‬
‫اليدين أو الرجلين أو إح داهما ك ون الرج ل ك ذلك من أعظم المنف رات‪ ،‬والس كوت‬
‫عن ه من أقبح الت دليس والغش‪ ،‬واإلطالق ينص رف إلى الس المة‪ ،‬فه و كالمش روط‬
‫عرفا‪ ،‬وق د ق ال أم ير المؤم نين عم ر هللا عن ه لمن ت زوج ام رأة وه و ال يول د ل ه‪:‬‬
‫أخبرها أنك عقيم‪،‬وخيرها) (‪)2‬‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ ،5/2158 :‬البيهقي‪ ،7/135 :‬ابن أبي شيبة‪ ،5/142 :‬أحمد‪.2/443 :‬‬
‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/184:‬‬

‫‪190‬‬
‫ثم أعطى قاعدة ذلك بقوله‪( :‬والقياس أن ك ل عيب ينف ر ال زوج اآلخ ر من ه‪،‬‬
‫وال يحصل به مقصود النكاح‪ ،‬يوجب الخيار‪ ،‬وهو أولى من البيع‪ ،‬كما أن الش روط‬
‫المشترطة في النكاح أولى من شروط البيع‪ ،‬وما ألزم هللا ورسوله مغ رورا ق ط وال‬
‫مغبونا بما غر به وغبن‪ ،‬ومن ت دبر مقاص د الش رع في مص ادره وم وارده وعدل ه‬
‫وحكمته وما اشتمل عليه من الرحمة لم يخف علي ه رجح ان ه ذا الق ول وقرب ه من‬
‫قواعد الشريعة)‬
‫وبهذا كان يقضي السلف‪ ،‬فعن ابن سيرين‪ ،‬أنه خاصم رجل إلى شريح فقال‪:‬‬
‫إن هؤالء قالوا لي إنا نزوجك بأحسن النساء‪ ،‬فجاءوني بامرأة عمشاء‪ ،‬فقال شريح‪:‬‬
‫(إن كان دلس لك بعيب لم يج ز)‪ ،‬ق ال ابن القيم معلق ا على ه ذا الق ول‪(:‬فتأم ل ه ذا‬
‫القضاء إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي أن كل عيب دلس ت ب ه الم رأة فلل زوج‬
‫الرد به‪ ،‬وما قال يرد النكاح من كل داء عضال)‬
‫وليس هذا القضاء خاصا بشريح‪ ،‬ب ل (ومن تأم ل فت اوي الص حابة والس لف‬
‫علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب)‬
‫أما العيوب غير المنف رة أو المعدي ة‪ ،‬وال تي ال يحص ل به ا ض رر للزوج ة‪،‬‬
‫فإنها غير معتبرة في الكف اءة إال إذا تم االتف اق على اش تراط الس المة منه ا‪ ،‬أو دل‬
‫العرف على اشتراطها‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬إذا اشترط الس المة أو ش رط الجم ال فب انت‬
‫شوهاء أو شرطها حديثة السن فب انت عج وزا ش مطاء أو بيض اء فب انت س وداء أو‬
‫بكرا فبانت ثيبا فله الفسخ في ذلك كله‪ ،‬فإن كان قبل الدخول فال مهر له ا‪ ،‬وإن ك ان‬
‫بعده فلها المهر‪ ،‬وهو غرم على وليها إن غره‪ ،‬وإن كانت هي الغ ارة س قط مهره ا‬
‫أو رجع عليها به إن كانت قبضته) (‪)1‬‬
‫هذا بالنسبة للزوج‪ ،‬أما الزوجة‪ ،‬فهي أولى ألنه إذا جاز له الفس خ م ع تمكن ه‬
‫من الفراق فألن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى‪ ،‬وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر‬
‫للزوج صناعة دنيئة ال تشينه وال في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به‪،‬‬
‫فإنها إذا شرطته شابا جميال صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى أطرش أخرس أسود‪،‬‬
‫فكيف تلزم به وتمنع الفسخ‪( ،‬هذا في غاي ة االمتن اع والتن اقض والبع د عن القي اس‬
‫وقواعد الشرع‪ ،‬وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص‪ ،‬وال‬
‫يمكن منه بالجرب المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك ال برص اليس ير‪ ،‬وك ذلك غ يره‬
‫من أنواع الداء‪ ،‬وإذا كان النبي ‪ ‬حرم على البائع كتمان عيب سلعته‪ ،‬وحرم على‬
‫من علمه أن يكتمه فكيف بالعيوب في النكاح‪ ،‬وقد ق ال الن بي ‪ ‬لفاطم ة بنت قيس‬
‫حين استشارته في معاوية أو أبي الجهم‪(:‬أما معاوية فصعلوك ال م ال ل ه وأم ا أب و‬
‫جهم فال يض ع عص اه عن عاتق ه) فعلم أن بي ان في النك اح أولى وأوجب‪ ،‬فكي ف‬
‫يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/185:‬‬
‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/185:‬‬

‫‪191‬‬
‫وقد قسم الجمهور العيوب التي تجوز للزوجين الخيار إلى ثالثة أقسام هي‪:‬‬
‫أ ـ العيوب المشتركة بين الزوجين‬
‫أي(‪ )1‬أنها قد توجب في الرجل‪ ،‬وقد توجد في المرأة‪ ،‬وقد توجد فيهم ا مع ا‪،‬‬
‫فمتى أصاب أحدهما باآلخر عيبا‪ ،‬وبه عيب من غير جنسه‪ ،‬كاألبرص يج د الم رأة‬
‫مجنونة أو مجذومة كان لآلخر أن يطلب مفارقته بفسخ النكاح‪ ،‬ولو كان معيبا ً مثله‪،‬‬
‫ألن اإلنسان يكره من غيره ما ال يكره من نفسه‪.‬‬
‫أما إذا وجد المجبوب المرأة رتقاء‪ ،‬فال يثبت لهما خيار ؛ ألن عيب ه ليس ه و‬
‫المانع لصاحبه من االستمتاع‪ ،‬وإنما امتنع لعيب نفسه‪ ،‬أما إن وجد أحدهما بصاحبه‬
‫عيبا به مثله‪ ،‬ففيه قوالن كالهما وجهان عند الحنابلة(‪:)2‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال خي ار لهم ا ؛ ألنهم ا متس اويان‪ ،‬وال مزي ة ألح دهما على‬
‫صاحبه‪ ،‬فأشبها الصحيحين‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬له الخيار ؛ لوجود سببه‪ ،‬فأشبه ما لو غر عبد بأمة‪.‬‬
‫الترجيح‪ :‬نرى أن األرجح في المسألة هو ثبوت الخيار لهم ا‪ ،‬لوج ود الغ رر‬
‫من كليهما‪ ،‬فلذلك لكل منهما الحق في فسخ هذا الزواج المبني على التدليس‪.‬‬
‫وقد ذكر الجمهور هذه العيوب‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الجنون‪:‬‬
‫وه و يثبت الخي ار في ق ول الجمه ور‪ ،‬س واء ك ان مطبق ا أو ك ان يجن في‬
‫األحيان ؛ ألن النفس ال تسكن إلى من هذه حاله‪ ،‬إال أن يك ون مريض ا يغمى علي ه‪،‬‬
‫ثم يزول‪ ،‬فذلك مرض ال يثبت به خيار‪ .‬فإن زال الم رض‪ ،‬ودام ب ه اإلغم اء‪ ،‬فه و‬
‫كالجنون‪ ،‬وقد ذكر المالكية للجنون حالتين هما‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬أن يحدث قبل العقد‪ ،‬وحكمه في هذه الصورة أنه إن لم يعلم ب ه‬
‫الزوج أو العكس‪ ،‬فلكل من الزوجين أن يرد به اآلخر قب ل ال دخول وبع ده‪ ،‬بش رط‬
‫أن يق ع من ص احبه ض رر كض رب أو إفس اد م ال‪ ،‬أم ا إذا ك ان يتخب ط ويفي ق‪،‬‬
‫كالمصروع‪ ،‬فإنه ال يرد به‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬أن يحدث بع د العق د وقب ل ال دخول‪ ،‬وللمالكي ة في ه ذه الحال ة‬
‫أربعة آراء هي‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬ال يثبت الخيار لل زوج‪ ،‬س واء ك ان ذل ك قب ل ال دخول أو بع ده‪،‬‬
‫وهذا هو المعتمد‪ ،‬ألن المرأة مستضعفة بطبيعها‪ ،‬وهي رهين ة الم نزل‪ ،‬يمكن اتق اء‬
‫الض رر ال ذي ي ترتب على جنونه ا‪ ،‬ويمكن االس تمتاع به ا وهي على ه ذه الحال ة‬
‫بخالف الزوج‪ ،‬كما أن الزوج بيده عقد النكاح فيمكنه أن يطلق عند ع دم تمكن ه من‬
‫دفع ضررها‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أنه ال فرق في ذل ك بين ال زوج والزوج ة‪ ،‬ف الجنون الع ارض‬
‫‪ )(1‬دليل الطالب‪ ،235 :‬من ار الس بيل‪ ،2/164 :‬إعان ة الط البين‪ ،3/334 :‬الفواك ه ال دواني‪ ،2/37 :‬الش رح‬
‫الكبير‪ ،2/77 :‬القوانين الفقهية‪ ،142 :‬حاشية العدوي‪ ،2/101 :‬جواهر العقود‪.2/32 :‬‬
‫‪ )(2‬كشاف القناع‪.5/111 :‬‬

‫‪192‬‬
‫بعد العقد يجعل الخيار لكل من الزوجين قبل الدخول وبعده‪.‬‬
‫قال الباجي‪ (:‬فإذا قلنا‪ :‬يفرق بينهما في الجن ون ض رب ل ه أج ل س نة يتع الج‬
‫فيها‪ ،‬وقد قال مالك‪ :‬يحبس في حديد أو غيره إن خي ف عليه ا من ه‪ ،‬وه ذا في ال ذي‬
‫يخاف عليها منه وهي م ع ذل ك ال تس توحش من مجالس ته ويخ اف عليه ا من ذل ك‬
‫أذى‪ ،‬فإن عندي أنه يفرق بينهما‪ ،‬فإن برئ المجنون في السنة قال مالك‪ ،‬ف إن ب رئ‬
‫وإال فهي بالخيار) (‪)1‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬إن حدث قبل الدخول كان للمرأة الرد دون الرجل‪ ،‬وإن حص ل‬
‫بع د ال دخول ليس له ا ال رد كالرج ل‪ ،‬وأش ار ابن ح بيب إلى التفرق ة بين الجن ون‬
‫الموجود حين العقد‪ ،‬والحادث بعده فقال فيمن زوج ابنه صغيرا فلم ا بل غ ظه ر أن ه‬
‫أحمق مطبق ف أرادت هي أو ولي الص غيرة الفس خ وق الت‪ :‬ك ان الجن ون ب ه ق ديما‬
‫وبالبلوغ ظهر فهذا ال يعرف‪ ،‬وهو على أنه حادث‬
‫الرأي الرابع‪ :‬ال يرد بالجنون الحاصل بعد العقد مطلقا ً س واء ع رض للرج ل‬
‫أو للمرأة‪ ،‬وقد روى عب د المل ك بن الحس ن عن ابن وهب في المجن ون س واء ك ان‬
‫جنون إفاقة أو مطبق إن كان يؤذيها ويخاف عليها منه حيل بينهما وأجل س نة ينف ق‬
‫عليها من ماله‪ ،‬فإن ب رئ وإال فهي بالخي ار‪ ،‬وإن ك ان يعفيه ا من نفس ه وال تخ اف‬
‫منه في خلوته بها فال حجة لها وقال نح وه أش هب ووج ه ذل ك أن ه ذا ليس بمع نى‬
‫مؤثر في االستمتاع‪ ،‬فإذا أعفاها من نفسه ولم يخف منه عليها فال خيار لها‪.‬‬
‫الجذام‪:‬‬
‫وييثبت به(‪ )2‬الخيار للزوجة‪ ،‬سواء وجد في الرجل قبل العقد أو بعده‪ ،‬س واء‬
‫كان قليالً أو كثيراً بشرط أن يكون محققاً‪ ،‬أما إذا كان مشكوكا ً في أن ه ج ذام‪ ،‬أو ال‪،‬‬
‫فإنه ال يرد به اتفاقا ً أما الرجل فله حق الفسخ إن كان موجوداً في الم رأة قب ل العق د‬
‫أو عند العقد‪ ،‬سواء كان قليالً أو كثيراً‪ ،‬وال حق له في الفس خ بالج ذام الح ادث بع د‬
‫العقد مطلقاً‪ ،‬كما ال حق ألحدهما في الفسخ بالجذام القائم بأص ولهما ك األب‪ ،‬والج د‬
‫واألم خوفا ً من وصول الداء بطريق الوراثة ألن ذلك غير مستيقن‪ ،‬فال عبرة به‪.‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء في مق دار الج ذام ال ذي ي وجب له ا الخي ار على ق ولين‬
‫كالهما للمالكية(‪:)3‬‬
‫القول األول‪ :‬ليس له حد إال أن يكون بشعا حسا ال يحتمل النظ ر إلي ه وتغض‬
‫األبصار دونه فلها الخيار‪ ،‬وهو ق ول أش هب‪ ،‬ألن ه ال يمن ع نفس االس تمتاع‪ ،‬وإنم ا‬
‫يلزمه‪ ،‬فإذا لم يكن فيه أذى وال مضرة من قبحه فال خيار لها‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أنه إذا ك ان بالرج ل ج ذام ال ش ك في ه‪ ،‬وإن لم يكن مؤذي ا وال‬
‫فاحشا فليفرق بينهن إن طلبت ذلك ؛ ألنه ال ت ؤمن زيادت ه‪ .‬وأم ا الخفي ال ذي يش ك‬
‫‪ )(1‬المنتقى‪.4/122:‬‬
‫‪ )(2‬وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر‪ ،‬ويحدث ذلك في كل عضو لكنه في الوج ه أغلب‪،‬‬
‫اإلقناع للشربيني‪.4/320:‬‬
‫‪ )(3‬المنتقى‪.4/121:‬‬

‫‪193‬‬
‫فيه وال يعرف أنه جذام فال يفرق بينهما‪ ،‬وهو قول ابن وهب ؛ ألن النفوس مجبولة‬
‫على كراهته‪ ،‬والنفار ممن هو به‪ ،‬وذلك يمنع النشاط إلى االستمتاع‪ ،‬واالنبساط إليه‬
‫فاقتضى ذلك منع االستمتاع كما لو كان الجذام بالمرأة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار األذى وعدم إمكان الشفاء واألمن من‬
‫العدوى في الجذام وغيره‪ ،‬فإذا تحققت هذه االعتبارات الثالثة‪ ،‬ب أن ك ان غ ير م ؤذ‬
‫لقلت ه أو لخفائ ه‪ ،‬وك ان في نفس ال وقت محتم ل الش فاء‪ ،‬أو على األق ل أمن ع دم‬
‫االنتش ار‪ ،‬وأمن أن تحص ل ب ه الع دوى لم يس تحق أح د ال زوجين الفس خ‪ ،‬بخالف‬
‫غياب أحد هذه االعتبارات‪.‬‬
‫طلب التفريق بعد الرضى‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو اختارت المقام معه‪ ،‬ثم قامت بعد سنين بطلب التفري ق‬
‫بينها وبينه بسبب جذامه على قولـين(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يصح طلبها التفريق‪ ،‬وهو ق ول أش هب‪ ،‬ألن ه ذا أم ر يش تد‬
‫ضرره ويتزايد أمره وال يكاد يثبت على حالة واحدة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن اإلمام إذا خير زوجة األج ذم فاخت ارت المق ام ثم ق امت بع د‬
‫سنين ال حجة لها إذا كان رضاها عن د الس لطان أو غ يره إذا أش هدت إال أن يتزاي د‬
‫أمره‪ ،‬وهو قول ابن القاسم‪ ،‬ألنها إذا رضيت المقام مع ه عن د الس لطان لزمه ا‪ ،‬ألن‬
‫السلطان قد حكم بإسقاط خيارها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن ه ليس له ا الفس خ بع د الرض ى الت ام كم ا‬
‫نص علي ه أص حاب الق ول الث اني إال إذا تزاي د ال داء‪ ،‬أو خ افت من الع دوى‪ ،‬فله ا‬
‫الخيار في ذلك‪ ،‬ول و ك ان بع د الرض ى‪ ،‬ألن في رض اها ثم نفوره ا بع د م دة أذى‬
‫للزوج‪ ،‬وقد يسبب ذلك ضررا له‪ ،‬فلذلك لم يكن لها الحق في التفري ق بالفس خ‪ ،‬وإن‬
‫أرادت مفارقة زوجها كان لها الحق في الخلع ال ذي يع وض بعض أض رار ال زوج‬
‫من فراقها‪.‬‬
‫البرص‪:‬‬
‫ولحكمه حالتان(‪:)2‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬إن يكون قبل العقد‪:‬ويفرق في هذه الحال ة بين ك ون ال برص(‪)3‬‬
‫كثيراً‪ ،‬فيجعل لكل من الزوجين الخيار في الفسخ‪ ،‬أما إذا كان يسيراً فترد به الم رأة‬
‫باتفاق‪ ،‬وفي رد الرجل باليسير من البرص رأيان‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬وهو ال رد من قليل ه وكث يره‪ ،‬ففي العتبي ة من س ماع ابن القاس م‬
‫‪ )(1‬المنتقى‪.4/121:‬‬
‫‪ )(2‬الوسيط‪ ،5/159 :‬حواش ي الش رواني‪ ،7/278 :‬روض ة الط البين‪ ،7/176 :‬ش رح فتح الق دير‪،4/304 :‬‬
‫التاج واإلكليل‪ ،3/484 :‬الكافي‪.259 :‬‬
‫‪ )(3‬وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته‪ ،‬اإلقناع للشربيني‪.4/320:‬‬

‫‪194‬‬
‫عن مالك‪ :‬أترد المرأة من قليل البرص؟‪ ،‬فقال‪ :‬ما س معت إال م ا في الح ديث‪ ،‬وم ا‬
‫فرق بين قليل وال كثير‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬ترد من قليله ولو أحيط علما فيما خف من ه أن ه ال يزي د لم ت رد‬
‫منه‪ ،‬ولكن ال يعلم ذلك فترد من قليله‪ ،‬وهو قول ابن القاسم ودليله أن يسيره ال يؤثر‬
‫في االستمتاع‪ ،‬ولكنه ال يكاد يتوقف قبل المعتاد منه التزايد فكان ذلك لتيقن ه بمنزل ة‬
‫الموجود منه‪)1( .‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الرد من قليله وكثيره قب ل العق د ح تى ال يتم‬
‫البن اء إال على تواف ق ت ام بين ال زوجين‪ ،‬ومثل ه في ك ل م رض يمكن تط وره‪،‬‬
‫فاألفضل قبل البناء التروي حتى ال يحصل التفريق بعد البناء‪ ،‬تطبيقا لقواع د إزال ة‬
‫الضرر‪.‬‬
‫الحال ة الثانية‪ :‬أن يح دث بع د العقد‪ :‬ويف رق في ه ذه الحال ة ك ذلك بين كون ه‬
‫يسيراً‪ ،‬فال رد به ألحدهما‪ ،‬س واء وج د في ال زوج أو الزوج ة‪ ،‬أم ا إن ك ان كث يراً‬
‫وكان في الرجل كان للمرأة الحق في الفسخ‪ ،‬وإن كان في المرأة فليس للرج ل ح ق‬
‫الفسخ‪ ،‬وذلك ألن الرجل بيده الطالق‪ ،‬فإن تض رر منه ا فارقه ا ب الطالق‪ ،‬والف رق‬
‫بين حدوثه بعد العقد وقبله ظاهر‪ ،‬ألن المفروض قبل العقد أن تك ون الم رأة س ليمة‬
‫من العيوب المنفرة‪ ،‬أما بعد العقد فالبرص مصيبة من المصائب التي تعرض ألح د‬
‫الزوجين‪ ،‬ولما كانت الزوجة ال تملك الفراق جعل لها الخي ار بخالف الرج ل ال ذي‬
‫يملكه‪.‬‬
‫العذيطة‪:‬‬
‫وهي(‪ )2‬عيب يرد به الزوجان إذا كان قديما ً موجوداً في أحدهما قب ل العق د‪،‬‬
‫أم ا إذا ح دث بع د العق د أو ش ك في حدث ه بع د العق د‪ ،‬فإن ه ال يثبت ألح دهما ب ه‬
‫الخيار‪،‬وبعضهم يقول‪ ،‬إن العذيطة إذا حدثت على الرجل بعد العقد كان للمرأة ح ق‬
‫الفسخ بها‪ ،‬بخالف ما إذا حدثت على المرأة فإنها ال تجعل للرجل الح ق في الفس خ‪،‬‬
‫كالجذام‪ ،‬ألن الرجل بيده الطالق دونها‪.‬‬
‫أما الب ول على الف راش أو عن د الجم اع أو ب الريح‪ ،‬فه ذه ال فس خ فيه ا عن د‬
‫الجمهور‪ ،‬وق ال أب و بك ر وأب و حفص‪ :‬إذا ك ان أح دهما ال يستمس ك بول ه فلآلخ ر‬
‫الخيار‪ ،‬قال أبو الخطاب‪ :‬ويتخرج على ذلك من به الباسور‪ ،‬والناص ور‪ ،‬والق روح‬
‫السيالة في الفرج‪ ،‬ألنها تثير نفرة‪ ،‬وتتعدى نجاس تها‪ ،‬وتس مى من ال تحبس نجوه ا‬
‫الشريم‪ ،‬ومن ال تحبس بولها المشولة‪ ،‬ومثلها من الرجال األفين‪)3( .‬‬
‫كون أحد الزوجين خنثى‪:‬‬

‫‪ )(1‬المنتقى‪.3/279:‬‬
‫‪ )(2‬وهي بفتح العين وسكون الذال خروج الغائط عند المعاشرة الجنسية‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الشرح الكبير‪ ،2/279 :‬مواهب الجليل‪.3/484 :‬‬

‫‪195‬‬
‫وقد ذكر الحنابلة فيه وجهان ؛ أحدهما‪ ،‬يثبت الخي ار ؛ ألن في ه نف رة ونقص ا‬
‫وعارا‪ ،‬وهو األرجح لما سبق بيانه‪.‬‬
‫ب ـ العيوب الخاصة بالرجل‬
‫وهي أربع ة عي وب هي‪ :‬الجب‪ ،‬والعن ة‪ ،‬والخص اء‪ ،‬واالع تراض‪ ،‬وه ذا‬
‫تعريفها عندهم‪:‬‬
‫المجبوب‪ :‬وهو أن يكون جميع ذكره مقطوعا‪ ،‬أو لم يب ق من ه إال م ا ال يمكن‬
‫الجماع به‪ ،‬فإن بقي منه ما يمكن الجماع به‪ ،‬ويغيب منه في الفرج قدر الحشفة‪ ،‬فال‬
‫خي ار له ا ؛ ألن ال وطء يمكن‪ ،‬وإن اختلف ا في ذل ك‪ ،‬ف القول ق ول الم رأة(‪ )1‬؛ ألن ه‬
‫يضعف بالقطع‪ ،‬واألصل عدم الوطء‪.‬‬
‫العنين‪ :‬هو من له ذكر صغير ال يتأتى به الجماع‪ ،‬ومثله الذي له آل ة ض خمة‬
‫ال يتأتى بها الجماع‪ ،‬فكالهما عيب يجعل للمرأة حق فس خ‪ ،‬وق د س بق الح ديث عن‬
‫أحكام العنين‪.‬‬
‫الخصي‪ :‬هو مقطوع األنثيين دون الذكر‪ ،‬ولو انتصب ذك ره‪ ،‬ولكن ه ال يم ني‬
‫كان معيباً‪ ،‬أما إذا أمنى فال رد بالخصاء‪ ،‬والرد به هو مذهب المالكي ة وأح د ق ولي‬
‫الشافعي وقول عند الحنابلة ألن في ه نقص ا وع ارا‪ ،‬ويمن ع ال وطء أو يض عفه‪ .‬وق د‬
‫روى أب و عبي د‪ ،‬بإس ناده عن س ليمان بن يس ار‪ ،‬أن ابن س ندر ت زوج ام رأة وه و‬
‫خصي‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬أعلمتها ؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬أعلمها‪ ،‬ثم خيرها‪.‬‬
‫المعترض‪ :‬وهو الذي ال يتنصب ذكره لمرض ونحوه‪.‬‬
‫ج ـ العيوب الخاصة بالمرأة‬
‫وق د اختل ف الفقه اء(‪ )2‬في تع دادها وأوص افها بن اء على ن درتها من جه ة‪،‬‬
‫وعلى اختالفهم في تفسيرها من جهة أخرى(‪ ،)3‬وقد ذكر المالكية(‪ )4‬خمسة عي وب‬
‫للمرأة عرفوها كما يلي‪:‬‬
‫الرتق‪ :‬وهو انسداد مدخل الذكر من الفرج فال يمكن من الجماع‪ ،‬س واء ك ان‬
‫االنسداد غدة لحم أو بعظم‪.‬‬
‫القرن‪ :‬وهو شيء يبرز في الفرج كقرن الشاة‪.‬‬

‫‪ )(1‬قال قي المغني‪:‬ويحتمل أن القول قوله‪ ،‬كما لو ادعى ال وطء في العن ة‪ ،‬وألن ل ه م ا يمكن الجم اع بمثل ه‪،‬‬
‫فأشبه من له ذكر قصير‪ ،‬المغني‪.7/438 :‬‬
‫‪ )(2‬اإلقن اع للش ربيني‪ ،2/420 :‬مغ ني المحت اج‪ ،3/224 :‬البح ر الرائ ق‪ ،3/163 :‬حاش ية ابن عاب دين‪:‬‬
‫‪ ،3/114‬شرح فتح القدير‪ ،4/205 :‬التاج واإلكليل‪ ،3/85 :‬المطلع‪ ،323 :‬أنيس الفقهاء‪.151 :‬‬
‫‪ )( 3‬معظم الفقهاء اكتفوا بذكر عيوب المرأة التناسلية‪ ،‬ما عدا فقهاء اإلمامية‪ ،‬فقد ذكروا س بعة عي وب للم رأة‬
‫هي‪ :‬الجنون‪ ،‬والجذام‪ ،‬والبرص‪ ،‬والقرن‪ ،‬واإلفض اء‪ ،‬والع رج والعمى‪ ،‬ونص وا على أن الع رج في ه ت ردد‪ ،‬أظه ره‬
‫دخوله في أسباب الفسخ‪ ،‬إذا بلغ اإلقعاد‪ ،‬قالوا‪ :‬وال ترد بعيب غير هذه السبعة‪ ،‬انظر‪:‬شرائع اإلسالم‪.2/263:‬‬
‫‪ )(4‬اختلف المالكية كذلك في تعدادها‪،‬فقال ابن حبيب وتفسيره ما ك ان في الف رج مم ا يقط ع ل ذة ال وطء مث ل‬
‫العفل والقرن والرتق‪ ،‬وقال القاضي أبو محمد داء الفرج هو القرن والرتق وما في معناهم ا وزاد الش يخ أب و القاس م‬
‫في تفريعه البخر واإلفضاء‪ ،‬واألرجح في ذلك ما روى ابن المواز عن مالك أن كل ما يك ون عن د أه ل المعرف ة من‬
‫داء الفرج‪ ،‬فإن للزوج الرد به وإن لم يمنع الوطء مثل العفل القليل والقرن وحرق النار‪ ،‬المنتقى‪.3/279:‬‬

‫‪196‬‬
‫العفل‪ :‬وهو لحم يبرز في القبل‪ ،‬وال يخلو عن رشح يشبه األدرة للرجل‪.‬‬
‫اإلفضاء‪ :‬وهو أن يختلط مسلك الذكر بمس لك الب ول أو الغائ ط ويق ال للم رأة‬
‫حينئذ‪ :‬مشروم‪ ،‬أو شريم‪.‬‬
‫البخر‪ :‬وهو نتن الفرج بخالف نتن البدن فال رد به‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و أن العي وب التناس لية ال يمكن حص رها في‬
‫هذه الخمس‪ ،‬ولم يقصد الفقهاء المتقدمون ذلك‪ ،‬وإنما قصدوا التمثيل لها‪ ،‬وق د روى‬
‫ابن المواز عن مالك‪ :‬أن كل ما يكون عند أهل المعرف ة من داء الف رج ف إن لل زوج‬
‫الرد به وإن لم يمنع الوطء(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ العيوب غير المعتبرة‬
‫اتفق الفقهاء على أن سائر العيوب غير م ا ذك ر س ابقا ك القرع(‪ ،)2‬والعمى‪،‬‬
‫والع رج‪ ،‬وقط ع الي دين وال رجلين أو أن تك ون الم رأة س وداء(‪،)3‬ال عالق ة له ا‬
‫بالكفاءة‪ ،‬وال يثبت بها الخيار(‪ ،)4‬إال أن يش ترط الص حة ك العمى والع ور والع رج‬
‫ونحو ذلك من العاهات فإن اشترط الصحة فله الرد وإال لم ترد‪ ،‬واستدلوا على ذلك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها ال تمنع من االستمتاع المعقود عليه‪ ،‬وال يخشى تعديه‪ ،‬فلم يفس خ ب ه‬
‫النكاح‪ ،‬كالعمى والعرج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الفسخ إنما يثبت بنص أو إجماع أو قياس‪ ،‬وال نص في غ ير ه ذه وال‬
‫إجماع‪ ،‬وال يصح قياسها على هذه العيوب ؛ لما بينهما من الفرق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن يض اف له ذه العي وب في عص رنا األم راض الخط يرة المعدي ة‬
‫كالسيدا‪ ،‬ونحوها مما تؤثر بالعدوى للمرأة أو للرجل أو لنسلهما‪ ،‬وقد سبق ذكر ذلك‬
‫في محله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ شروط التفريق بالعيب‬
‫من الش روط ال تي ذكره ا الفقه اء للتفري ق ب العيب م ع اختالف بينهم في‬
‫تفاصيلها‪:‬‬

‫‪ )(1‬المنتقى‪.3/279 :‬‬
‫‪ )(2‬أما القرع الف احش ف إن ابن ح بيب من المالكي ة ق ال‪ :‬ل ه ال رد ب ه ألن ه من مع نى الج ذام وال برص‪ ،‬ق ال‬
‫الباجي‪:‬ولم أر ذلك لغيره من أصحابنا‪ ،‬واألظهر من المذهب أن ه ال ي رد ب ه ألن ه مم ا ي رجى ب رؤه في األغلب‪ ،‬وال‬
‫يمنع المقصود من االستمتاع وال يؤثر فيه كالجرب ونحوه‪ ،‬المنتقى‪.3/279 :‬‬
‫‪ )(3‬قال ابن حبيب في الس وداء أن ل ه ال رد‪ ،‬وإن لم يش ترطه إذا لم يكن في أهله ا س واد‪،‬ألن ذل ك كالش رط‪،‬‬
‫ويجب على هذا أن يعلم الزوج بذلك‪ ،‬المنتقى‪.3/279 :‬‬
‫‪ )(4‬قال ابن قدام ة‪:‬وال نعلم في ه ذا بين أه ل العلم خالف ا‪ ،‬إال أن الحس ن ق ال‪ :‬إذا وج د اآلخ ر عقيم ا يخ ير‪.‬‬
‫وأحب أحمد أن يتبين أمره‪ ،‬وقال‪ :‬عسى امرأته تريد الولد وهذا في ابتداء النكاح‪ ،‬فأما الفس خ فال يثبت ب ه‪ ،‬ول و ثبت‬
‫بذلك لثبت في اآليسة‪ ،‬وألن ذلك ال يعلم‪ ،‬فإن رجاال ال يولد ألحدهم وهو شاب‪ ،‬ثم يولد له وهو شيخ‪ ،‬وال يتحقق ذلك‬
‫منهما‪ .‬وأما سائر العيوب فال يثبت بها فسخ عندهم‪ .‬انظر‪ :‬المغني‪.7/141:‬‬

‫‪197‬‬
‫عدم العلم به وقت العقد‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء(‪ )1‬على أن من ش رط ثب وت الخي ار به ذه العي وب‪ ،‬أن ال يك ون‬
‫عالما بها وقت العقد‪ ،‬وال رضى بها بعده‪ ،‬قال ابن قدامة‪(:‬ال نعلم فيه خالفا) (‪)2‬‬
‫وقد روي أن عمر رفع إليه خصي تزوج امرأة ولم يعلمه ا فف رق بينهما(‪،)3‬‬
‫وفي المدون ة‪ (:‬أرأيت المجب وب والخص ي ه ل يحص نان الم رأة ؟ ق ال‪ :‬نعم في‬
‫رأيي ؛ ألن المرأة إذا رضيت بأن ت تزوج مجبوب ا أو خص يا ق ائم ال ذكر فه و وطء‬
‫يجب فيه الصداق‪ ،‬ويجب بوطء المجبوب والخصي الحد‪ ،‬ف إذا ك ان هك ذا فجماع ه‬
‫في النكاح إحصان وه و نك اح ص حيح إال أن له ا أن تخت ار إن لم تعلم‪ ،‬وإن علمت‬
‫فرضيت فوطئها بعد علمها فهو نكاح) (‪)4‬‬
‫ونصوا على أن مثل ذلك م ا ل و ظن العيب يس يرا فب ان كث يرا‪ ،‬كمن ظن أن‬
‫البرص في قليل من جسده‪ ،‬فبان في كثير منه‪ ،‬ومثله ما لو رضي بعيب‪ ،‬ف زاد بع د‬
‫العقد‪ ،‬مثل أن يكون به قليل من البرص‪ ،‬فينبسط في جلده‪ ،‬فال خيار له في كل ذل ك‬
‫بخالف مالو رض ي بعيب‪ ،‬فب ان ب ه غ يره‪ ،‬ف إن ل ه الخي ار‪ ،‬ومن األدل ة على ه ذه‬
‫التفاصيل المختلفة القياس على الرضى في عيوب البيع‪ ،‬فإن ه إذا رض ي ب ه‪ ،‬أش به‬
‫مشتري المعيب مع العلم به‪ ،‬فإنه ليس الخيار في كل الحاالت المذكورة م ا ع دا ل و‬
‫وجد عيبا لم يعلم به‪.‬‬
‫ونرى أن األرجح في هذا أن يوصف العيب وصفا دقيقا قبل العقد‪ ،‬فإذا ت بين‬
‫أن ه أك ثر مم ا وص ف ج از الخي ار وح ل الفس خ‪ ،‬ألن العيب يعظم بوص فه وق دره‬
‫ونوع ه‪ ،‬ف األمراض ال تي يتم على أساس ها الفس خ متنوع ة متع ددة متفاوت ة‪ ،‬فق د‬
‫ترضىالمرأة بمرض دون مرض‪ ،‬فإطالق القول في ذل ك ال يص ح‪ ،‬وله ذا ن رى أن‬
‫يقبل قول كل واحد من الزوجين إذا ادعى عدم العلم الدقيق بتفاصيل المرض‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في الفصول الماضية ع دم ص حة قي اس أي أم ر في ال زواج على‬
‫البيع ونحوه لعدم المناسبة بينهما‪ ،‬ولو فرضنا صحة القياس‪ ،‬فإن العيب في البيع إذا‬
‫لم يوصف وصفا دقيقا كان غررا استحق به المشتري الخي ار‪ ،‬وأم ر ال زواج أولى‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫الفورية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين(‪:)5‬‬
‫القول األول‪ :‬أن خيار العيب ثابت على التراخي‪ ،‬ال يسقط‪ ،‬ما لم يوجد منه ما‬
‫يدل على الرضى به‪ ،‬من الق ول‪ ،‬أو االس تمتاع من ال زوج‪ ،‬أو التمكين من الم رأة‪،‬‬

‫‪ )(1‬األم‪ ،5/43 :‬المنتقى‪ ،3/278 :‬بدائع الصنائع‪ ،2/326 :‬الفتاوى الكبرى‪.4/105:‬‬


‫‪ )(2‬المغني‪.7/142 :‬‬
‫‪ )(3‬ابن أبي شيبة‪.3/458:‬‬
‫‪ )(4‬المدونة‪.2/204:‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬المغني‪.7/143:‬‬

‫‪198‬‬
‫وهو قول للحنابلة‪ ،‬وقول الحنفية‪ ،‬فقد نص وا على أن م ا يبط ل ب ه الخي ار نوع ان‪:‬‬
‫نص‪ ،‬وداللة‪:‬‬
‫النص‪ :‬هو التصريح بإسقاط الخيار‪ ،‬وما يجري مجراه نحو أن تقول أسقطت‬
‫الخيار أو رضيت بالنكاح أو اخترت الزوج ونحو ذلك س واء ك ان ذل ك بع د تخي ير‬
‫القاضي أو قبله‪.‬‬
‫الداللة‪ :‬هي أن تفع ل م ا ي دل على الرض ا بالمق ام م ع ال زوج ب أن خيره ا‬
‫القاضي‪ .‬فأقامت مع الزوج مطاوعة له في المض جع‪ ،‬وغ ير ذل ك ؛ ألن ذل ك دلي ل‬
‫الرضا بالنكاح‪ ،‬والمقام مع ال زوج‪ ،‬ول و فعلت ذل ك بع د مض ي األج ل قب ل تخي ير‬
‫القاضي لم يكن ذلك رضا ؛ ألن إقامتها معه بعد المدة قد تكون الختياره‪ ،‬وقد تكون‬
‫لالختيار بحاله‪ ،‬فال تكون دليل الرضا مع االحتمال‪ .‬وهل يبطل خياره ا بالقي ام عن‬
‫المجلس(‪.)1‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خيار لدفع ضرر متحقق‪ ،‬فكان على التراخي‪ ،‬كخي ار القص اص‪ ،‬وخي ار‬
‫العيب في المبيع يمنعه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عدم صحة القياس على الخيار في البيع‪ ،‬ألن ضرره في المبيع غير متحق ق ؛‬
‫ألنه قد يكون المقصود ماليته أو خدمت ه‪ ،‬ويحص ل ذل ك م ع عيب ه بخالف المقص ود من‬
‫الزواج الذي هو االستمتاع‪ ،‬فإنه يفوت ذلك بعيبه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن خي ار العيب ث ابت على الف ور‪ ،‬فم تى أخ ر الفس خ م ع العلم‬
‫واإلمكان‪ ،‬بطل خياره‪ ،‬ولزم العقد‪ ،‬وهو ق ول الش افعي وق ول للحنابل ة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫اإلمامية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه خيار ال رد ب العيب‪ ،‬فك ان على الف ور‪ ،‬كال ذي في‬
‫البيع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن الخي ار يختل ف ب اختالف العي وب ش دة‬
‫ونوعا‪ ،‬وباختالف المخير زوجا أو امرأة‪ ،‬وباختالف الظ روف الداعي ة إلى تأجي ل‬
‫التص ريح بطلب التفري ق‪ ،‬ومن الخط أ التنص يص على ق ول واح د م ع اختالف‬
‫االعتبارات‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك فإن لما شرطه أصحاب الق ول األول من ظه ور م ا ي دل على‬
‫الموافقة سواء بالتنصيص أو بداللة الحال اعتبارا وقوة‪ ،‬ألن الظروف ال تي ترتب ط‬
‫بالبناء قد تحول بين الزوجين وإبداء رأيهم ا بص راحة‪ ،‬فل ذلك ك ان األرجح ه و أن‬
‫ت ترك لهم ا فرص ة التثبت والتحق ق إلى أن يق ررا الق رار النه ائي في المس ألة من‬
‫القبول أو الرفض‪.‬‬
‫أن يتم ذلك على يد القاضي‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على اعتبار هذا الشرط‪ ،‬فيحتاج الفس خ إلى حكم القاض ي‪ ،‬ومن‬

‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.2/327:‬‬

‫‪199‬‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذه الفرقة فرقة بطالن‪ ،‬والمرأة ال تملك الطالق‪ ،‬وإنما يملكه ال زوج‬
‫إال أن القاضي يقوم مقام الزوج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هذه الفرقة يختص بسببها القاض ي‪ ،‬لم ا ق د يك ون فيه ا من التأجي ل ؛‬
‫ألنه ال يكون إال من القاضي‪ ،‬فكذا الفرقة المتعلقة به كفرقة اللعان‪.‬‬
‫وذكر الكاساني أنه تقع الفرقة بنفس االختيار في ظ اهر الرواي ة‪ ،‬وال يحت اج‬
‫إلى القض اء كخي ار المعتق ة‪ ،‬ووج ه الكاس اني ه ذه الرواي ة ب أن تخي ير الم رأة من‬
‫القاضي تفويض الطالق إليها‪ ،‬فكان اختياره ا الفرق ة تفريق ا من القاض ي من حيث‬
‫المعنى ال منها‪ ،‬والقاضي يملك ذلك لقيامه مقام الزوج(‪.)1‬‬
‫حصول العيب قبل العقد‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط‪ ،‬وفي حكم ما ل و ح دث العيب بأح دهما‬
‫بعد العقد على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يثبت لهما الخيار‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪ ،‬وقول للش افعية‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه عيب لنكاح يثبت الخيار مقارن ا‪ ،‬فأثبت ه طارئ ا‪ ،‬كاإلعس ار وك الرق‪،‬‬
‫فإنه يثبت الخيار إذا قارن‪ ،‬مثل أن تغر األمة من عب د‪ ،‬ويثبت ه إذا ط رأت الحري ة‪،‬‬
‫مثل إن عتقت األمة تحت العبد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه عقد على منفعة‪ ،‬فحدوث العيب بها يثبت الخيار‪ ،‬كاإلجارة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنهما تساويا فيما إذا كان العيب سابقا‪ ،‬فتساويا فيه الحقا‪ ،‬كالمتبايعين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن م ا ذهب إلي ه أص حاب الق ول الث اني ينتقض ب العيب الح ادث في‬
‫اإلجارة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يثبت الخيار‪ ،‬وهو ق ول مال ك‪،‬وأبي بك ر وابن حام د‪ ،‬وه و‬
‫قول اإلمامية‪ ،‬فقد نصوا على أن (العيوب الحادثة للم رأة قب ل العق د مبيح ة للفس خ‪،‬‬
‫وما يتجدد بعد العقد وال وطء ال يفس خ ب ه‪ ،‬وفي المتج دد بع د العق د وقب ل ال دخول‪،‬‬
‫تردد‪ ،‬أظهره أنه ال يبيح الفسخ) (‪ ،)2‬وهو قول الظاهرية‪ ،‬قال ابن ح زم‪ (:‬ال يفس خ‬
‫النكاح بعد صحته بجذام حادث‪ ،‬وال ببرص كذلك‪ ،‬وال بجنون ك ذلك‪ ،‬وال ب أن يج د‬
‫بها شيئا من هذه العيوب‪ ،‬وال بأن تجده هي ك ذلك‪ .‬وال بعنان ة‪ ،‬وال ب داء ف رج‪ ،‬وال‬
‫بشيء من العيوب) (‪)3‬‬
‫ومن األدلة على ذلك أنه عيب حدث ب المعقود علي ه بع د ل زوم العق د‪ ،‬فأش به‬
‫الحادث بالمبيع‪.‬‬
‫القول الث الث‪ :‬إن ح دث ب الزوج‪ ،‬أثبت الخي ار‪ ،‬وإن ح دث ب المرأة ال يثبت ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.2/326 :‬‬


‫‪ )(2‬شرائع اإلسالم‪.2/264:‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.9/279 :‬‬

‫‪200‬‬
‫وهو قول للشافعية‪ ،‬وقول للمالكية‪ ،‬ألن الرجل يمكنه طالقها‪ ،‬بخالف المرأة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث الث‪ ،‬ألن الرج ل يمكن ه التفري ق‬
‫بالطالق بخالف المرأة‪ ،‬قال الباجي‪ (:‬فذهب القاض ي أب و محم د إلى إثب ات الخي ار‬
‫لها بهذه العيوب كلها كانت موجودة حين العقد أو ثبتت بعده‪ ،‬والفرق بين ما يح دث‬
‫من ذلك بالزوجة وبين ما يحدث بالزوج أن الزوج يقدر على رف ع العق د ب الطالق‪،‬‬
‫والزوجة ال تقدر على ذلك فلو لم يثبت له ا الخي ار ألدى إلى اس تدامة الض رر وم ا‬
‫قاله القاضي أبو محمد يقتضي أن حق المرأة في ثبوت الخيار لها بما حدث ب الزوج‬
‫من ذلك آكد من حق الزوج مما يثبت بالمرأة‪ ،‬وهو ظاهر)(‪)1‬‬
‫والمسألة مع ذلك تختلف عن العيوب الحادثة قب ل العق د‪ ،‬ألن ه في ال ذي ك ان‬
‫موجودا به قبل العقد وس كت عن ذك ره دل على قص ده للخديع ة‪ ،‬واإلض رار به ا‪،‬‬
‫والذي حدث به بعد العق د غ ير قاص د إلي ه‪ ،‬فل ذلك ت رغب الزوج ة في الص بر م ع‬
‫زوجها إال إذا أحال عيبه العيش معه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ اآلثار المالية للفسخ بالعيب‬
‫ويختلف ذلك باختالف الحالتين التاليتين‪:‬‬
‫الفسخ قبل الدخول‪:‬‬
‫وهو إما أن يكون طالقا أو فسخا‪:‬‬
‫الطالق‪ :‬اتف ق الفقه اء على أن ه إذا طلقه ا قب ل ال دخول‪ ،‬ثم علم أن ه ك ان به ا‬
‫عيب‪ ،‬فعليه نصف الصداق‪ ،‬وال يرجع به ؛ ألنه رضي بالتزام نصف الصداق‪ ،‬فلم‬
‫يرجع على أحد‪ ،‬ومثله ما لو ماتت أو مات قبل العلم بالعيب‪ ،‬فله ا الص داق ك امال‪،‬‬
‫وال يرجع على أحد ؛ ألن سبب الرجوع الفسخ‪ ،‬ولم يوجد‪.‬‬
‫الفسخ‪ :‬اتفق الفقهاء على أنه إذا حصل الفسخ قبل الدخول‪ ،‬فإن ه ال مه ر له ا‬
‫عليه‪ ،‬سواء كان العيب من الزوج أو المرأة‪ ،‬وذلك لألدلة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الفسخ إن كان منها‪ ،‬فالفرقة من جهتها‪ ،‬فسقط مهرها‪ ،‬كما ل و فس خته‬
‫برضاع زوجة له أخرى‪ ،‬وإن كان منه‪ ،‬فإنما فسخ لعيب بها دلسته باإلخفاء‪ ،‬فصار‬
‫الفسخ كأنه منها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن العوض من الزوج في مقابلة منافعه ا‪ ،‬ف إذا اخت ارت فس خ العق د م ع‬
‫سالمة ما عقدت عليه‪ ،‬رجع العوض إلى العاقد معها‪ ،‬وليس من جهته ا ع وض في‬
‫مقابلة منافع الزوج‪ ،‬وإنما ثبت لها الخيار ألجل ضرر يلحقها‪ ،‬ال لتعذر ما استحقت‬
‫عليه في مقابلته عوضا‪ ،‬فافترقا‪.‬‬
‫حصول الفسخ بعد الدخول‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إذا حصل الفسخ بعد الدخول فإن لها المهر ؛ ألن المهر‬
‫يجب بالعقد‪ ،‬ويستقر بالدخول‪ ،‬فال يسقط بحادث بعده‪ ،‬ولذلك ال يس قط بردته ا‪ ،‬وال‬

‫‪ )(1‬المنتقى‪.4/122:‬‬

‫‪201‬‬
‫بفسخ من جهتها‪ ،‬واختلفوا في نوع المهر الواجب على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يجب المهر المسمى‪ ،‬وهو رواي ة عن د الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ا فرق ة بع د ال دخول في نك اح ص حيح في ه مس مى ص حيح‪ ،‬ف وجب‬
‫المسمى‪ ،‬كغير المعيبة‪ ،‬وكالمعتقة تحت عبد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النكاح صحيح‪ ،‬ألنه وجد بشروطه وأركانه‪ ،‬فكان صحيحا‪ ،‬كما لو لم‬
‫يفسخه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لو لم يفسخه لكان صحيحا‪ ،‬فكذلك إذا فس خه‪ ،‬كنك اح األم ة إذا عتقت‬
‫تحت عبد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ه ت ترتب علي ه أحك ام الص حة من ثب وت اإلحص ان واإلباح ة لل زوج‬
‫األول‪ ،‬وسائر أحكام الصحيح‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنه لو كان فاسدا لما جاز إبقاؤه وتعين فسخه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الفسخ يثبت حكمه من حينه‪ ،‬غ ير س ابق علي ه‪ ،‬وم ا وق ع على ص فة‬
‫يستحيل أن يكون واقعا على غيرها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجب مهر المث ل‪ ،‬وه و ق ول الش افعية‪ ،‬ورواي ة عن د الحنابل ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأن الفسخ استند إلى العقد‪ ،‬فصار كالعقد الفاسد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن له ا المه ر المس مى‪ ،‬ألن ه المه ر ال ذي‬
‫تراضيا عليه‪ ،‬أما مهر المثل فق د يك ون أك ثر من المس مى‪ ،‬فيتض رر ال زوج‪ ،‬وق د‬
‫يكون أقل منه فتتضرر الزوجة‪ ،‬وه ذا المه ر يثبت للزوج ة من ال زوج ح ال ك ون‬
‫العيب منه‪ ،‬أما إن كان العيب منها وغرر به‪ ،‬فقد ذكرنا في الفصل المتعلق بالكفاءة‬
‫أن الرجل ال ذي دخ ل على الم رأة مغ ررا ب ه ال يجب علي ه من المه ر إال أدنى م ا‬
‫يطلق عليه‪ ،‬بما استحل منها‪ ،‬أما المهر الكامل الذي هو مهر مثلها‪ ،‬أو ما س مي له ا‬
‫فتستحقه من الذي غرر بها إن كانت جاهلة بوقوع هذا التغرير‪ ،‬أما إن كانت عالمة‬
‫فال تستحق من المهر إال ما أعطاها زوجها‪ ،‬وهو أدنى م ا يطل ق علي ه المه ر على‬
‫خالف العلماء في ذلك‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫التفريق بسبب التفريط في حقوق الزوجية‬
‫نتناول في ه ذا الفص ل الص الحيات المعط اة للقاض ي من ط رف الش ريعة‪،‬‬
‫ألجل مراعاة مص لحة الزوج ة في ح ال تفري ط زوجه ا في حقوقه ا‪ ،‬ق د رأين ا من‬
‫خالل استقراء ما ورد في الفقه اإلسالمي عنها أنه يمكن حصرها في ثالثة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ التفريق بسبب التفريط يف احلقوق املادية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التفريق بسبب غياب الزوج‬
‫‪ 3‬ـ التفريق بسبب فقد الزوج‬
‫أوال ـ التفريق بسبب التفريط في الحقوق المادية‬
‫اختلف الفقهاء في حال إعس ار ال زوج ه ل للزوج ة الح ق في طلب التفري ق‬
‫بينها وبين زوجها لعجزه عن اإلنفاق أم ال على قولين(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها ال تملك فراقه بذلك‪ ،‬ول و طلبت ه ال يجيبه ا القاض ي إلى م ا‬
‫طلبته‪ ،‬ولكن يرفع يده عنها لتكتسب ؛ ألنه حق لها علي ه‪ ،‬فال يفس خ النك اح لعج زه‬
‫عنه‪ ،‬وهو قول عطاء‪ ،‬والزهري‪ ،‬وابن شبرمة‪ ،‬وأبي حنيفة وص احبيه‪ ،‬وق ول ابن‬
‫حزم‪ ،‬وقد قال الحسن البصري في الرجل يعجز عن نفقة امرأته‪( :‬تواس يه تتقي هللا‬
‫تعالى وتص بر وينف ق عليه ا م ا اس تطاع)‪ ،‬وعن س فيان الث وري في الم رأة يعس ر‬
‫زوجها بنفقتها ؟ قال‪ :‬هي ام رأة ابتليت فلتص بر‪ ،‬وال تأخ ذ بق ول من ف رق بينهم ا)‬
‫(‪ ،)2‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هللا تعالى أوجب إنظار المعسر بالدين في قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وإِ ْن َك انَ ُذو‬
‫ُع ْس َر ٍة فَنَ ِظ َرةٌ إِلَى َم ْي َس َر ٍة ﴾ (البق رة‪ )280:‬فهاهن ا أولى ألن بق اء الزوجي ة مطل وب‬
‫لصاحب الشرع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿:‬لِيُنفِ ْق ُذو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِه َو َم ْن قُ ِد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقُهُ فَ ْليُنفِ ْق ِم َّما‬
‫ْر يُ ْسرًا﴾(الطالق‪ ،)7:‬وق ال‬ ‫آتَاهُ هَّللا ُ اَل يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسًا إِاَّل َما آتَاهَا َسيَجْ َع ُل هَّللا ُ بَ ْع َد ُعس ٍ‬
‫تعالى‪ ﴿:‬اَل يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسًا إِاَّل ُو ْس َعهَا ﴾ (البقرة‪)286:‬‬
‫‪ 3‬ـ أن النفقة كما ال يطلق بها في الزمان الماضي إجماعا كذلك ال يطل ق به ا‬
‫بها في الحال‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ استصحاب الحال وذلك أن العصمة ثبتت باإلجماع فال تنحل إال بإجم اع‬
‫‪ )(1‬هناك قول ثالث ذكره ابن قدامة للعنبري هو أن يحبس إلى أن ينفق‪ ،‬المغني‪.8/163:‬‬
‫‪ )(2‬انظر النصوص عن السلف في ذلك‪ :‬المحلى‪.9/255:‬‬

‫‪203‬‬
‫أو بدليل من كتاب أو سنة ال بالقياس‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن العجز عن النفقة أمر عارض يمكن زواله‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الضرر الحاصل للزوجة من إعسار الزوج يمكن تدارك ه ب اإلذن له ا‬
‫باالستدانة عليه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن التفريق في ه ض رر يلح ق ال زوج وال يمكن تدارك ه أو عالج ه‪،‬بينم ا‬
‫ضرر الزوجة يمكن تداركه والقاعدة المقررة في حال تعارض ضررين أن يرتكب‬
‫أخفهما‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن العجز عن النفقة في الحال كما أنه ال يوجب بيع أم الولد وال خروجها‬
‫عن ملكه كذلك ال يوجب تطليق الزوجة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن المرأة مخيرة بين الصبر عليه‪ ،‬وبين فراقه‪ ،‬وأن للقاضي أن‬
‫يفرق بينهما لهذا العجز واإلعسار كماله أن يفرق بينهم ا المتناع ه عن اإلنف اق م ع‬
‫قدرته عليه‪ ،‬وروي هذا القول عن عم ر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وأبي هري رة‪ ،‬وب ه ق ال س عيد بن‬
‫المسيب‪ ،‬والحسن‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬وربيعة‪ ،‬وحماد‪ ،‬ومالك‪ ،‬ويحيى القطان‪،‬‬
‫وعبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وأبو ث ور واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ُوف أَوْ ت َْس ِري ٌح بِإِحْ َس ا ٍن﴾(البق رة‪،)229:‬‬ ‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ك بِ َم ْع ر ٍ‬
‫وليس اإلمساك مع ترك اإلنفاق إمساكا بمعروف‪ ،‬فيتعين التسريح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪ (:‬تقول الم رأة إم ا أن تطعم ني وإم ا أن تطلق ني‪ ،‬ويق ول العب د‬
‫أطعمني واستعملني‪ ،‬ويقول الولد إلى من تدعني) (‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ عن ابن أبي الزناد‪ ،‬قال‪ :‬سألت سعيد بن المس يب عن الرج ل ال يج د م ا‬
‫ينفق على امرأته‪ ،‬أيفرق بينهما ؟ ق ال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬س نة ؟ ق ال‪ :‬س نة‪ ،‬وه ذا التعب ير‬
‫ينصرف إلى سنة رسول هللا ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطء‪ ،‬والضرر فيه‪ ،‬أق ل‪ ،‬ألن ه إنم ا ه و‬
‫فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه‪ ،‬فألن يثبت بالعجز عن النفقة التي ال يقوم البدن إال‬
‫بها أولى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنا إنما أمرناه برفع ضرر عليه وهو إطالقها لمن ينفق عليها‪ ،‬ولم تلزمه‬
‫النفقة مع العسرة حتى يرد أن هللا أوجب إنظار المعسر‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن النفقة في مقابلة االستمتاع بدليل أن الناشز ال نفق ة له ا عن د الجمه ور‬
‫فإذا لم يجد النفقة سقط االستمتاع فوجب الخيار‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن المقص د إذا اتح دت وس يلته أم ر ب ه عين ا‪ ،‬وإذا تع ددت ب أن ك ان ل ه‬
‫وسيلتان فأكثر خير بينهم ا وال يتعين أح دهما عين ا‪ ،‬ولمتع دد الوس يلة في الش ريعة‬
‫فروع كثيرة‪،‬منها مثال أن السفر إلى الحج يتيسر فيه البر والبح ر ال يتعين أح دهما‪،‬‬
‫ولمتحد الوسيلة في الشريعة أيضا فروع منه ا زوال الض رر عن الزوج ات الواق ع‬
‫‪ )(1‬أخرجه البخارى ( ‪ ،5/2048‬رقم ‪ ،)5040‬وابن حبان ( ‪ 8/149‬رقم ‪ .)3363‬وأخرجه أيضا‪ :‬البيهقى (‬
‫‪ ،7/470‬رقم ‪)15488‬‬

‫‪204‬‬
‫من ذلك اتحدت وسيلته أي سبب الخروج عن ضرر الجوع والع ري وه و التطلي ق‬
‫فأمر به عينا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو عدم التعجي ل ب التفريق‪ ،‬ب ل تعطى الفرص ة‬
‫الكافية للزوج للتخلص من إعساره‪ ،‬فإن لم يتخلص استحقت الزوج ة ح ق التفري ق‬
‫بينها وبين زوجها‪ ،‬بشرط أن يكون إعساره عن الحاجيات الض رورية لإلنس ان من‬
‫المطعم والملبس والعالج والس كن‪ ،‬أم ا اإلعس ار عن الكمالي ات كالخ ادم وأن واع‬
‫الرفاهية‪ ،‬فالزوج غير مطالب بها شرعا‪ ،‬فلذلك ال تستحق الزوجة التفريق بس ببها‪،‬‬
‫ولها الحق في حل العصمة بدل ذلك بالخلع‪.‬‬
‫وقت الفسخ‪:‬‬
‫اختل ف الق ائلون بح ق الم رأة في طلب التفري ق في وقت الفس خ‪ ،‬ه ل يفس خ‬
‫بمجرد ثبوت اإلعسار على اإلطالق‪ ،‬أم يؤجل مدة لذلك على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أنه ال تأجي ل في ذل ك فم تى ثبت اإلعس ار بالنفق ة ج از للم رأة‬
‫المطالبة بالفسخ من غير إنظار‪ ،‬وهو قول الحنابلة وأحد ق ولي الش افعي‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه معنى يثبت الفسخ‪ ،‬ولم ي رد الش رع باإلنظ ار في ه‪ ،‬ف وجب‪ ،‬أن يثبت‬
‫الفسخ في الحال‪ ،‬كالفسخ بالعيب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن سبب الفسخ اإلعسار‪ ،‬وقد وجد‪ ،‬فال يلزم التأخير‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يؤجل في ذلك مدة‪ ،‬وقد اختلف في تحديدها‪ ،‬فق ال حم اد بن‬
‫أبي سليمان‪ :‬يؤجل سنة قياسا على العنين‪ ،‬وقال عمر بن عبد العزي ز‪ :‬اض ربوا ل ه‬
‫شهرا أو شهرين‪ ،‬وقال مالك‪ :‬الشهر ونحوه‪ .‬وقال الشافعي في القول اآلخر‪ :‬يؤج ل‬
‫ثالثا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ـ كما ذكرن ا س ابقا ـ ه و أن يؤج ل م دة كافي ة‪،‬‬
‫وهي تختلف بحسب العم ل ال ذي يري د أن يتخلص ب ه من إعس اره‪ ،‬وبحس ب ن وع‬
‫اإلعسار الذي يريد أن يتخلص منه‪ ،‬فقد تطول مدة هذا العمل‪ ،‬وقد تقصر‪ ،‬فالمعسر‬
‫بالسكن ليس كالمعسر بنفقة المطعم والكسوة‪.‬‬
‫فلذلك نرى أنه بدل تحديد المدة بمق دار زم ني ق د يش غله تربص ه عن العم ل‬
‫للتخلص من إعساره أن يبين للقاضي أو لمن يكلفه القاضي بذلك ن وع العم ل ال ذي‬
‫يريد االشتغال به‪ ،‬والخطوات التي يريد سيرها‪ ،‬ومن خالل ذل ك يمكن للقاض ي أن‬
‫يرى جديته وعدم جديته‪ ،‬فهما الفيصل في التفرقة وعدمها‪.‬‬
‫نوع التفريق في اإلجراء القضائي‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن كل موضع ثبت للزوجة فيه الفسخ ألجل النفق ة‪ ،‬فإن ه ال‬
‫يتم إال بحكم الح اكم باعتب اره فس خا مختلف ا في ه‪ ،‬وال يج وز للح اكم التفري ق إال أن‬
‫تطلب المرأة ذلك ؛ ألنه حقها‪ ،‬فلم يجز من غير طلبها‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في ن وع‬

‫‪205‬‬
‫تفريق القاضي على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إنه فسخ ال رجعة له فيه‪ ،‬وهو قول الش افعي وابن المن ذر‪ ،‬فأم ا‬
‫إن أجبره الحاكم على الطالق‪ ،‬فطلق أقل من ثالث‪ ،‬فله الرجعة عليه ا م ا دامت في‬
‫العدة‪ ،‬فإن راجعها‪ ،‬وهو معس ر‪ ،‬أو امتن ع من اإلنق اق عليه ا‪ ،‬ولم يمكن األخ ذ من‬
‫ماله‪ ،‬فطلبت المرأة الفسخ‪ ،‬فللح اكم الفس خ ؛ ألن المقتض ي ل ه ب اق‪ ،‬أش به م ا قب ل‬
‫الطالق‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنها فرقة لعجزه عن الواجب له ا علي ه فأش بهت فرق ة‬
‫العنة‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ه و تطليق ة‪ ،‬وه و أح ق به ا إن أيس ر في ع دتها‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما بأنه تفريق المتناعه من ال واجب علي ه له ا‪ ،‬فأش به‬
‫تفريقه بين المولى وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطالق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن أي تفري ق من غ ير رض ا ال زوج ليس‬
‫طالقا‪ ،‬حتى ال تستنفذ عدد الطلقات‪ ،‬ألن من مقاصد الشرع في هذا هو الحفاظ على‬
‫فرص الرجعة بين الزوجين‪ ،‬واعتبار تفريق القاضي تطليقة يقلل من هذه الفرص‪.‬‬
‫التفريق بسبب عدم قدرة الغائب على اإلنفاق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو غاب الزوج‪ ،‬ولم تجد الزوجة ما تنفق ب ه على نفس ها‪،‬‬
‫ولم يقدر القاضي على أخذ النفقة من مال الغائب بأي وسيلة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن لها الخي ار في الفس خ‪ ،‬وه و رواي ة عن د الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن اإلنفاق عليها من ماله متعذر‪ ،‬فكان لها الخي ار‪ ،‬كح ال اإلعس ار‪ ،‬ب ل‬
‫هذا أولى بالفسخ‪ ،‬فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور‪ ،‬فعلى غيره أولى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن في الصبر ضررا أمكن إزالته بالفسخ‪ ،‬فوجبت إزالته‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ن وع تع ذر يج وز الفس خ‪ ،‬فلم يف ترق الح ال بين الموس ر والمعس ر‪،‬‬
‫كأداء ثمن الم بيع‪ ،‬فإن ه ال ف رق في ج واز الفس خ بين أن يك ون المش تري معس را‪،‬‬
‫وبين أن يهرب قبل أداء الثمن‪ ،‬وعيب اإلعسار إنما جوز الفسخ لتعذر اإلنفاق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أما قولهم‪ :‬إنه يحتمل أن ينفق فيما بع د ه ذا‪،‬ف إن المعس ر ك ذلك يمكن أن‬
‫يغنيه هللا‪ ،‬أوأن يقترض‪ ،‬أو يعطى ما ينفقه‪ ،‬فاستويا في ذلك‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها ال تملك الفسخ‪ ،‬وهو ظاهر مذهب الش افعي واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الفسخ في المعسر لعيب اإلعسار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الموسر في مظنة إمكان األخذ من ماله‪ ،‬وإذا امتنع في ي وم‪ ،‬فربم ا ال‬
‫يمتنع في الغد‪ ،‬بخالف المعسر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن حكمها يختلف بحس ب م دة الغيب ة ون وع‬
‫تضرر الزوجة‪ ،‬وع دم إمك ان التالفي باالس تدانة ونحوه ا‪ ،‬ف إذا ط الت م دة الغيب ة‬

‫‪206‬‬
‫وتح رجت الزوج ة حرج ا ش ديدا‪ ،‬ولم تتمكن من إيج اد أي وس يلة تنف ق به ا على‬
‫نفسها‪ ،‬فإن لها الحق في طلب التفريق بينها وبين زوجها على أن يعذر للزوج بذلك‬
‫حتى يتبين أمره كما سنرى في المطلب التالي‪.‬‬
‫ثانيا ـ التفريق بسبب غياب الزوج‬
‫وهو مفارقة الزوج بيت الزوجية مفارقة غير منقطعة‪ ،‬بحيث يع رف خ بره‪،‬‬
‫ويأتي كتابه‪ ،‬وتعلم حياته(‪.)1‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم الفرقة بين الزوجين بسبب ه ذا الن وع من الغيب ة‬
‫بناء على اختالفهم في حكم اس تدامة ال وطء‪ ،‬ه ل هي ح ق للزوج ة ك الزوج‪ ،‬أم ال‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن حق المرأة في الوطء قضاء ينتهي بالوطء م رة واح دة‪ ،‬ف إذا‬
‫غاب الزوج عنها بع د ذل ك وت رك له ا م ا تنفق ه على نفس ها لم يكن له ا ح ق طلب‬
‫الفرقة‪ ،‬وهو قول الحنفية والشافعية وقول القاضي من الحنابلة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن هذا الحق ثابت للزوجة مطلقا‪ ،‬على ذلك فله ا طلب التفري ق‬
‫منه بسبب الغيبة‪ ،‬وهو قول المالكية والحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و أن ه ذا الح ق ث ابت للزوج ة مطلق ا‪ ،‬فل ذلك‬
‫تستحق التفريق بينها وبين زوجها بسببه‪ ،‬فهو من الحاجيات األساسية ال تي تتطلبه ا‬
‫الحياة الزوجية كالنفق ة وغيره ا إال إذا رض يت الزوج ة بالتن ازل عنه ا‪ ،‬فال ح رج‬
‫عليها في ذلك‪.‬‬
‫ثم إن أضرار الغيب ة ال ترتب ط فق ط به اتين الن احيتين‪ :‬ناحي ة النفق ة وناحي ة‬
‫المعاش رة الجنس ية‪ ،‬ب ل تتع داهما إلى أض رار أخ رى ق د تص لى بناره ا الزوج ة‪،‬‬
‫خاصة إن كانت غيبة طويلة‪ ،‬فلذلك ال تكل ف ال زوج عنت ا في تحم ل غيب ة زوجه ا‬
‫حتى لو كانت غيبة شرعية‪ ،‬ألن ذلك قد يؤدي بها إلى أن تصبح كالمعلقة‪ ،‬وهو مما‬
‫رفض قبوله الشرع‪.‬‬
‫نوع التفريق للغيبة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء القائلون بالتفريق للغيبة على أنه ال بد فيه ا من قض اء القاض ي‪،‬‬
‫ألنها فصل مجتهد فيه‪ ،‬فال تنف ذ بغ ير قض اء‪ ،‬واختلف وا في كونه ا فس خا أو طالق ا‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الفرقة للغيبة فسخ‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها طالق‪ ،‬وهو قول المالكية‪ ،‬ومرادهم بالطالق في مث ل ه ذه‬
‫األح وال الطالق الب ائن‪ ،‬كم ا ق ال ابن أبي زي د الق يرواني‪ (:‬إن ك ل طالق يوقع ه‬
‫الحاكم طالق بائن إال طالق المولي وطالق المعسر بالنفقة)‪ ،‬ثم إنه طالق للض رر‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الموسوعة الفقهية‪ ،29/62:‬وانظر‪ :‬شرح النيل‪.7/37:‬‬

‫‪207‬‬
‫وهو بائن عندهم كما سنرى‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما ذكرنا في نظيراتها أن األرجح اعتبار ه ذا‬
‫التفريق فسخا للحفاظ على فرص التطليق التي أتاحها الشرع للزوج‪ ،‬زيادة على أن‬
‫هذا التفريق لم يقصده الزوج‪ ،‬فال يعتبر طالقا منه‪ ،‬فهو طالق من القاض ي كم ا أن‬
‫الخلع طالق من المرأة‪.‬‬
‫حكم التفريق لألسر‪:‬‬
‫فاألسر مما يلحق بالغائب إذا علمت حياته‪ ،‬وقد أجمع الفقهاء على أن زوج ة‬
‫األسير ال تنكح حتى تعلم يقين وفاته‪ ،‬قال ابن المنذر‪(:‬وأجمعوا أن زوجة األس ير ال‬
‫تنكح حتى يعلم بيقين وفاته ما دام على اإلسالم) (‪)1‬‬
‫ولكن هذا اإلجماع ـ فيما نرى ـ مقيد بعدم حصول الضرر بالمرأة التي يؤسر‬
‫زوجها لمدة طويلة حتى ل و ك انت ت تيقن حيات ه‪ ،‬والض رر ليس متعلق ا هن ا بالنفق ة‬
‫وحدها‪ ،‬بل قد يكون لمجرد حاجة المرأة إلى زوج‪ ،‬وق د أش ار إلى ه ذه الناحي ة في‬
‫حاشية العدوي بقوله‪(:‬مثلها زوج ة األس ير‪ ،‬فإنهم ا يبقي ان كم ا هم ا النقض اء م دة‬
‫التعمير(‪ ،)2‬لتعذر الكشف عن زوجيهما إن دامت نفقتهم ا‪ ،‬وإال فلهم ا التطلي ق كم ا‬
‫إذا خشيا على نفسيهما الزنا) (‪ ،)3‬وهذا التعبير مع ما يحمله من صراحة يش ير إلى‬
‫الحاجة التي تستدعي تزوج المرأة‪ ،‬ولو لم تخش الزنا‪.‬‬
‫وال ن رى أن في مص لحة الم رأة ال تي ت زوجت ح ديثا‪ ،‬ثم أس ر زوجه ا أن‬
‫تنتظره إلى انقضاء م دة التعم ير‪ ،‬فق د تم وت‪ ،‬وهي تنتظ ره‪ ،‬ثم كي ف ال يب اح له ا‬
‫الزواج‪ ،‬وهي في ريعان شبابها ثم يفتح لها المجال‪ ،‬وهي تستعد لدخول قبرها؟‬
‫حكم التفريق للسجن‪:‬‬
‫اختل ف الفقه اء في ح ق زوج ة الس جين في طلب التفري ق من زوجه ا على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم جواز التفريق على السجين مطلقا‪ ،‬مهما طالت مدة حبس ه‪،‬‬
‫وسواء أكان سبب حبسه أو مكانه مع روفين أم ال‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬وق د عل ل‬
‫الحنفي ة والش افعية ذل ك بأن ه غ ائب معل وم الحي اة‪ ،‬وهم ال يقول ون ب التفريق علي ه‬
‫لغيابه‪ ،‬وعلله الحنابلة بأن غيابه لعذر‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬ج واز التفري ق على المحب وس إذا طلبت زوجت ه ذل ك وادعت‬
‫الضرر‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة‪ ،‬وذل ك بع د س نة من حبس ه‪ ،‬ألن الحبس غي اب‪ ،‬وهم‬
‫يقولون بالتفريق للغيبة مع عدم العذر‪ ،‬كما يقولون بها مع العذر على سواء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫‪ )(1‬مراتب اإلجماع‪..77 :‬‬
‫‪ )(2‬والتعمير عند المالكية مدته سبعون سنة من يوم ولد‪ ،‬واختار الشيخان أبو محمد عبدهللا بن أبي زي د وأب و‬
‫الحسن علي القابسي ثمانين‪،‬وحكم بخمس وسبعين سنة‪ ،‬والراجح األول‪ ،‬انظر‪ :‬الشرح الكبير‪.2/482:‬‬
‫‪ )(3‬حاشية العدوي‪.2/221 :‬‬

‫‪208‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني إن ط الت م دة الحبس‬
‫وتضررت الزوجة بذلك لما ذكرناه سابقا من المقاصد الشرعية‪.‬‬
‫شروط التفريق للغيبة‪:‬‬
‫قيد الفقهاء القائلون بثبوت حق التفريق للزوجة في حال غياب زوجه ا الحكم‬
‫بالتفريق بالشروط التالية على اختالف بينهم في بعض تفاصيلها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكون غيبة طويلة‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في مدتها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الزوج إذا غاب عن زوجته م دة س تة أش هر ف أكثر ك ان له ا‬
‫طلب التفريق عليه إذا تحققت الشروط األخرى‪ ،‬وهو قول الحنابلة(‪.)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إنها سنة فأكثر‪ ،‬وهو قول المالكية في المعتمد عندهم‪ ،‬وفي قول‬
‫للغرياني وابن عرفة أن السنتين والثالث ليست بطول‪ ،‬بل ال بد من الزي ادة عليه ا‪،‬‬
‫وهذا مبني منهم على االجتهاد والنظر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن حكمه ا يختل ف بحس ب الم دة ال تي ق رر‬
‫الزوج غيابها‪ ،‬فإن كانت م دة طويل ة‪ ،‬ولكنه ا مح دودة ب زمن معين ال تع دوه‪ ،‬ف إن‬
‫األرجح فيها هو صبر الزوجة تلك المدة ما لم تطل طوال شديدا‪ ،‬وقد يرجح في هذه‬
‫الحالة القول الثاني‪ ،‬أو ما يراه ولي األمر مناسبا من التحديد‪.‬‬
‫أما إن كانت مدة طويلة غير محدودة أو ك انت مس تديمة‪ ،‬ك أن ترتب ط حيات ه‬
‫بهذا الغي اب الطوي ل‪ ،‬ف إن للزوج ة الح ق في طلب التفري ق مطلق ا‪ ،‬لتض ررها من‬
‫كثرة غيابه عنها‪ ،‬ولكن قبل التفريق يعذر للزوج بأن ينقل زوجته معه لمح ل عمل ه‬
‫أو أن يخلي سبيلها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ خشية الضرر‪:‬‬
‫وهو أن تخشى الزوجة على نفسها الضرر بسبب هذه الغيب ة‪ ،‬والض رر هن ا‬
‫هو خشية الوقوع في ال زنى كم ا نص علي ه المالكي ة‪ ،‬وليس اش تهاء الجم اع فق ط‪،‬‬
‫والحنابلة وإن أطلقوا الضرر هنا إال أنهم يريدون به خشية ال زنى كالمالكي ة‪ ،‬إال أن‬
‫هذا الضرر يثبت بقول الزوجة وحدها‪ ،‬ألنه ال يعرف إال منها‪ ،‬إال أن يكذبها ظاهر‬
‫الحال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن تكون الغيبة لغير عذر‪:‬‬
‫ف إن ك انت لع ذر ك الحج والتج ارة وطلب العلم‪ ،‬فق د اختلف وا في ح ق طلب‬
‫الزوجة التفريق على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يجوز لها طلب التفريق س واء أك ان س فره لع ذر أم لغ ير ع ذر‪،‬‬
‫وهو قول المالكية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا غاب الزوج عن زوجته بغير عذر ك ان له ا طلب التفري ق‪،‬‬

‫‪ )(1‬الفروع‪.5/322:‬‬

‫‪209‬‬
‫وه و رأي الحنابل ة‪ ،‬ألن اس تدامة ال وطء ح ق للزوج ة م ا لم يكن في ال زوج ع ذر‬
‫مانع‪ ،‬كالمرض ونحوه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار تضرر الزوج ة قب ل اعتب ار ش رعية‬
‫الغيب ة‪ ،‬ألن من مقاص د الش رع نفي الض رر‪ ،‬وال يج دي الزوج ة نفع ا أن يغيب‬
‫زوجها غيابا شرعيا أو غير شرعي إذا طالت الغيبة وتضررت بطولها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ إعذار الغائب‪:‬‬
‫واإلع ذار ه و المبالغ ة في الع ذر‪ ،‬ومن ه ق د أع ذر من أن ذر أي ق د ب الغ في‬
‫اإلعذار من تقدم إليك فأنذرك‪ ،‬ومن ه إع ذار القاض ي إلى من ثبت علي ه ح ق يؤخ ذ‬
‫منه فيعذر إليه فيمن شهد علي ه ب ذلك‪ ،‬واألص ل في ه قول ه تع الى في قص ة الهده د‪:‬‬
‫ين﴾(النمل‪ )21:‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫﴿ أَل ُ َع ِّذبَنَّهُ َع َذابًا َش ِديدًا أَوْ أَل َ ْذبَ َحنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِس ُْلطَا ٍن ُمبِ ٍ‬
‫ث َر ُسواًل ﴾(اإلسراء‪)15:‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَوْ أَنَّا أَ ْهلَ ْكنَ اهُ ْم‬ ‫﴿ َو َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫ك ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن نَ ِذ َّل‬ ‫ب ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَقَالُوا َربَّنَ ا لَ وْ اَل أَرْ َس ْلتَ إِلَ ْينَ ا َر ُس واًل فَنَتَّبِ َع آيَاتِ َ‬ ‫بِ َع َذا ٍ‬
‫َون َْخ َزى﴾(طه‪ ،)134:‬وغيرها من اآليات الكريمة‪.‬‬
‫فمن أحكام القاضي في اإلسالم أن ال يعجل بالحكم قبل إعذار المحكوم عليه‪،‬‬
‫قال ابن فرحون‪ (:‬وينبغي للقاضي أن ال يحكم على أح د ح تى يع ذر إلي ه برج ل أو‬
‫رجلين‪ ،‬وإذا أعذر بواحد أجزأه‪ ،‬ق ال ابن الح اجب ويحكم بع د أن يس أله أبقيت ل ك‬
‫حجة ؟ فيق ول ال‪ ،‬ف إن ق ال نعم أنظ ره م ا لم يت بين ل دده‪ ،‬والمحك وم علي ه أعم من‬
‫المدعي والمدعى عليه‪ ،‬والمتبادر للذهن ه و الم دعى علي ه ؛ ألن ه ق د تق وى حج ة‬
‫المدعى عليه فيتوجه الحكم على المدعي باإلبراء أو بغيره من وجوه الحكم)(‪)1‬‬
‫فل ذلك نص الفقه اء على أن يكتب القاض ي إلى ال زوج يخ يره بين الرج وع‬
‫إليها أو نقلها إليه أو تطليقها ويضرب له ل ذلك م دة مناس بة‪ ،‬ألن تحدي د اآلج ال من‬
‫األمور األساسية في األحكام القضائية‪ ،‬وهو سنة شرعية‪ ،‬ويرجع معظمها الجته اد‬
‫القاضي إال ما ورد بتحديده شرعا كما سبق ذكره في مناسبات مختلفة‪.‬‬
‫فإن عاد إليها‪ ،‬أو نقلها إليه أو طلقها فبها‪ ،‬وإن اعتذر لغياب ه بع ذر مقب ول لم‬
‫يفرق عليه عند الحنابلة كم ا ذكرن ا دون المالكي ة‪ ،‬وإن أبى ذل ك‪ ،‬أو لم ي رد بش يء‬
‫وقد انقض ت الم دة المض روبة‪ ،‬أو لم يكن ل ه عن وان مع روف‪ ،‬أو ك ان عنوان ه ال‬
‫تصل الرسائل إليه طلق القاضي عليه بطلبها‪.‬‬

‫‪ )(1‬تبصرة الحكام‪.1/194:‬‬

‫‪210‬‬
‫ثالثا ـ التفريق بسبب فقد الزوج‬
‫وقد عرف السرخسي المفقود بقوله‪ (:‬المفقود اس م لموج ود ه و حي باعتب ار‬
‫أول حاله‪ ،‬ولكنه خفي األثر كالميت باعتبار مآله‪ ،‬وأهله في طلب ه يج دون‪ ،‬ولخف اء‬
‫أثر مس تقره ال يج دون‪ ،‬ق د انقط ع عليهم خ بره واس تتر عليهم أث ره‪ ،‬وبالج د ربم ا‬
‫يصلون إلى المراد‪ ،‬وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد)(‪)1‬‬
‫ويتعلق به المسائل التالية(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أحوال المفقود وأحكامها‪:‬‬
‫ال يخلو المفقود من حالتين‪ ،‬فهو إما أن يكون محتمال رجوعه بسبب ع دم م ا‬
‫يدعو إلى الخوف عليه‪ ،‬أو أن يكون مستبعد الرجوع‪ ،‬وتفصيل كالم الفقهاء في كلتا‬
‫الحالتين كما يلي‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬احتمال رجوعه‪:‬‬
‫وهو حال كون ظاهر غيبته السالمة‪ ،‬كسفر التجارة في غ ير مهلك ة‪ ،‬وطلب‬
‫العلم والسياحة‪ ،‬وكونه مع ذلك ع اقال س ليما عارف ا لكيفي ة التص رف‪ ،‬وق د اختل ف‬
‫الفقهاء في ثبوت امتالكه لعصمة زوجته على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال ت زول الزوجي ة م ا لم يثبت موت ه‪ ،‬وق د روي ذل ك عن علي‬
‫وأبي قالبة‪ ،‬والنخعي‪ ،‬وأبي عبيد‪ ،‬وهو قول ابن شبرمة‪ ،‬وابن أبي ليلى‪ ،‬والثوري‪،‬‬
‫وأبي حنيفة‪ ،‬والشافعي في الجديد‪ ،‬وهو قول ابن حزم مطلقا في ه ذا وغ يره‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫( ومن فقد فعرف أين موضعه أو لم يعرف في حرب فقد أو حرب وله زوج ة أو أم‬
‫ولد وأمة ومال لم يفسخ بذلك نكاح امرأت ه أب دا‪ ،‬وهي امرأت ه ح تى يص ح موت ه أو‬
‫تموت هي‪..‬فإن لم يكن له مال بيعت األمة وقيل للزوجة وألم الولد انظ را ألنفس كما‬
‫فإن لم يكن لهما مال مكتسب أنفق عليهما من سهم الفقراء والمساكين من الص دقات‬
‫كسائر الفقراء وال فرق)(‪)3‬‬
‫القول الثاني‪ :‬زوال الزواج بالفسخ بعد م دة من فق ده‪ ،‬وق د اختل ف في تحدي د‬
‫المدة على المذاهب التالية‪:‬‬
‫المذهب األول‪ :‬تتربص أربع سنين‪ ،‬وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعش را‪ ،‬وتح ل‬
‫لألزواج‪ ،‬وقد ثبت ذلك عن عثمان وابن مسعود في رواي ة‪،‬وعن جم ع من الت ابعين‬
‫كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي وهو قول مالك والشافعي في الق ديم‪،‬‬
‫وقد اتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم‪ ،‬وعلى أنها تعت د ع دة‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪ ،11/34:‬وانظر‪ :‬الفروع البن مفلح‪.5/35:‬‬


‫‪ )(2‬المحلى‪ ،9/316:‬المغ ني‪ ،8/109:‬المبس وط‪ ،11/38:‬ب دائع الص نائع‪،6/196:‬تب يين الحق ائق‪،3/311:‬‬
‫تبص رة الحك ام‪ ،1/176:‬كش اف القن اع‪ ،5/422:‬إعان ة الط البين‪ ،3/293:‬حاش ية البج يرمي‪ ،3/363:‬المبس وط‪:‬‬
‫‪ ،11/37‬التاج واإلكليل‪.4/155 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/133:‬‬

‫‪211‬‬
‫الوفاة بعد مضي األربع سنين(‪ ،)1‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه إذا جاز الفس خ لتع ذر ال وطء بالعن ة‪ ،‬وتع ذر النفق ة باإلعس ار‪ ،‬فألن‬
‫يجوز هاهنا لتعذر الجميع أولى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث عمر في المفقود‪ ،‬مع موافقة الص حابة ل ه‪ ،‬وت ركهم إنك اره ونص‬
‫حديث عمر في المفقود بطوله كما أورده ابن عبد البر‪(:‬أن رجال خ رج يص لي م ع‬
‫قومه صالة العشاء ففقد‪ ،‬ف انطلقت امرأت ه إلى عم ر فحدثت ه ب ذلك‪ ،‬فس أل عن ذل ك‬
‫قومها فصدقوها‪ ،‬فأمرها أن تتربص أربع س نين‪ ،‬فتربص ت ثم أتت عم ر فأخبرت ه‬
‫بذلك‪ ،‬فس أل عن ذل ك قومه ا فص دقوها‪ ،‬فأمروه ا أن ت تزوج‪ ،‬ثم إن زوجه ا األول‬
‫قدم‪ ،‬فارتفعوا إلى عمر فقال‪ :‬عمر يغيب أحدكم الزمان الطويل ال يعلم أهله حيات ه‪،‬‬
‫قال‪ :‬إن لي عذرا قال‪ :‬فما ع ذرك ق ال‪ :‬خ رجت أص لي م ع ق ومي ص الة العش اء‪،‬‬
‫فس بتني الجن‪ ،‬فكنت فيهم زمان ا فغ زاهم جن مؤمن ون فق اتلوهم‪ ،‬فظه روا عليهم‬
‫وأصابوا لهم سبايا‪ ،‬فكنت فيمن أصابوا فقالوا‪ :‬ما دينك قلت‪ :‬مس لم ق الوا‪ :‬أنت على‬
‫ديننا ال يحل لنا سبيك‪ ،‬فخيروني بين المقام وبين القف ول‪ ،‬ف اخترت القف ول‪ ،‬ف اقبلوا‬
‫معي باللي ل يس ير يح دو بي وبالنه ار إعص ار ريح أتبعه ا‪ ،‬ق ال‪ :‬فخ يره عم ر بين‬
‫المرأة والصداق) (‪)2‬‬
‫المذهب الث اني‪ :‬إذا مض ى علي ه تس عون س نة‪ ،‬قس م مال ه‪ ،‬وه ذا يقتض ي أن‬
‫زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج‪ ،‬وتعتبر تسعين سنة من يوم والدته ؛ ألن الظ اهر‬
‫أنه ال يعيش أكثر من هذا العمر‪ ،‬فإذا اقترن به انقط اع خ بره‪ ،‬وجب الحكم بموت ه‪،‬‬
‫كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهالك‪ ،‬وهو رواي ة عن أحم د‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذه غيبة ظاهرها السالمة‪ ،‬فلم يحكم بموته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن خبر عمر ورد في من ظاهر غيبته الهالك‪ ،‬فال يقاس عليه غيره‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني م ع جع ل تحدي د الم دة ل ولي‬
‫األمر‪ ،‬ألن فعل عمر من أمرها ب التربص أرب ع س نين يرج ع للظ روف ال تي ك ان‬
‫يخضع لها الناس في ذلك الوقت من صعوبة التحري‪ ،‬وعدم تيسر التنقل‪ ،‬والحاج ة‬
‫إلى الزمن في كل ذلك‪ ،‬أما في عصرنا‪ ،‬فنرى إمكانية تقليص المدة بحسب ما ي راه‬
‫الخ براء في ذل ك‪ ،‬فليس في المس ألة نص نب وي يح رم تج اوزه‪ ،‬وال إجم اع يح رم‬
‫خرقه‪ ،‬وفعل عمر يرجع لواليته‪ ،‬ولو كان في المسألة حديث لذكره‪ ،‬وعدم اختالف‬
‫الصحابة معه في ذلك ال لكون المسألة توقيفية‪ ،‬بل لوجوب طاعة ولي األمر‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذا ألن تحديد الم دة ب أربع س نين‪ ،‬ثم الب دء بع د ه ذه األرب ع بع د‬

‫‪ )(1‬فتح الباري‪.9/431:‬‬
‫‪ )( 2‬قال ابن عبد البر‪ :‬هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين مشهور‪ ،‬وق د روى معن اه الم دنيون في‬
‫المفقود إال أنهم لم يذكروا مع نى اختط اف الجن للرج ل‪ ،‬وال ذك روا تخي ير المفق ود بين الم رأة والص داق‪ ،‬التمهي د‪:‬‬
‫‪.12/184‬‬

‫‪212‬‬
‫اتصالها بالحاكم‪ ،‬قد يحمل مضرة كبيرة للمرأة لم يكلفها الشرع بتحملها‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬استبعاد رجوعه‪:‬‬
‫وذل ك فيم ا ل و ك ان ظ اهر غيبت ه الهالك‪ ،‬كال ذي يفق د من بين أهل ه ليال أو‬
‫نهارا‪ ،‬أو يخرج إلى الصالة فال يرجع‪ ،‬أو يمضي إلى مكان ق ريب ليقض ي حاجت ه‬
‫ويرجع‪ ،‬فال يظهر له خبر‪ ،‬أو يفقد بين الصفين‪ ،‬أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض‬
‫رفقته‪ ،‬أو يفقد في مهلكة‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال تتزوج امرأة المفقود حتى يت بين موت ه أو فراق ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫أبي قالبة‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬وابن أبي ليلى‪ ،‬وابن ش برمة‪ ،‬والحنفي ة‪ ،‬والش افعي‬
‫في الجديد‪ ،‬وهو قول ابن حزم‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪( :‬امرأة المفقود امرأته‪ ،‬حتى يأتيها الخبر) (‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ش ك في زوال الزوجي ة‪ ،‬فلم تثبت ب ه الفرق ة‪ ،‬كم ا ل و ك ان ظ اهر غيبت ه‬
‫السالمة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن زوجت ه ت تربص أرب ع س نين‪ ،‬ثم تعت د للوف اة أربع ة أش هر‬
‫وعشرا‪ ،‬وتحل لألزواج‪ ،‬وهو قول عمر وعثم ان وعلي وابن عب اس وابن الزب ير‪،‬‬
‫وبه قال عطاء‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬والحسن‪ ،‬والزهري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والليث‪ ،‬وعلي‬
‫بن المديني‪ ،‬وعبد العزيز بن أبي سلمة‪ .‬وبه يقول مالك‪ ،‬والش افعي في الق ديم وه و‬
‫ظاهر مذهب أحمد‪.‬‬
‫إال أن مالكا قال في المفق ود في القت ال‪( :‬ليس في انتظ ار من يفق د في القت ال‬
‫وقت)‪ ،‬وسنتكلم عن رأيه في ذلك في مسألة خاصة في هذا المبحث‪ ،‬وقال س عيد بن‬
‫المسيب فيه‪ :‬ت تربص س نة‪ ،‬ألن غلب ة هالك ه هاهن ا أك ثر من غلب ة غ يره‪ ،‬لوج ود‬
‫سببه‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هناك قضايا كثيرة انتشرت في الصحابة فلم تنكر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الح ديث ال ذي اس تند إلي ه المخ الفون لم يثبت‪ ،‬ولم ي ذكره أص حاب‬
‫السنن‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن قول المخالفين بنه شك في زوال الزوجية منتف ألن الشك ما تس اوى‬
‫فيه األمران‪ ،‬والظاهر في هذه الحالة هالكه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ـ مثلما ذكرنا سابقا ـ رجوع تحديد مدة ال تربص‬
‫لولي األمر‪ ،‬الذي يبت في ك ل قض ية بحس ب مالبس اتها‪ ،‬وال ن رى ال تربص أرب ع‬
‫سنوات كاملة‪ ،‬فقد تكون محرجة للمرأة غاي ة الح رج‪ ،‬وق د يص رف عنه ا األزواج‬
‫بعد ذلك‪ ،‬فلذلك األولى رعاي ة ه ذا الج انب‪ ،‬وع دم تض ييع ه ذا الح ق بس بب أم ر‬

‫‪ )(1‬رواه الدارقطني من حديث المغيرة بن شعبة‪ ،‬وقد سئل أبو حاتم عنه فق ال‪ :‬منك ر وفي إس ناده س وار ابن‬
‫مصعب عن محمد بن شرحبيل وهما متروكان‪ ،‬انظر‪ :‬الدراية‪ ،2/143 :‬ق ال ابن حج ر‪ :‬وإس ناده ض عيف‪ ،‬وض عفه‬
‫أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم‪ ،‬تلخيص الحبير‪ ،3/232:‬وانظر‪:‬ال بيهقي‪ ،7/444 :‬ال دارقطني‪:‬‬
‫‪ ،3/312‬مسند الشافعي‪ ،303 :‬مصنف ابن أبي شيبة‪.3/521 :‬‬

‫‪213‬‬
‫مشكوك فيه‪.‬‬
‫أما القول األول فال حاجة للرد عليه‪ ،‬فهو يتن افى م ع المقاص د الش رعية من‬
‫الترغيب في الزواج‪ ،‬ويعتمد في ذلك على حديث رأينا مدى ضعفه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حكم زواج امرأة المفقود قبل انتهاء مدة التربص‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن زواجها في وقت ليس لها أن تتزوج فيه زواج فاسد‪ ،‬أما‬
‫إذا تبين أن زوجها قد مات‪ ،‬وانقضت ع دتها من ه‪ ،‬أو فارقه ا وانقض ت ع دتها فق د‬
‫اختلف في ذلك على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه زواج ص حيح‪ ،‬ألنه ا ليس ت في نك اح وال ع دة‪ ،‬فص ح‬
‫تزويجها‪ ،‬كما لو علمت ذلك‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة والشافعية‬
‫القول الثاني‪:‬أنه ال يصح ألنها معتقدة تحريم نكاحها وبطالنه‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بأنها تزوجت في مدة منعها الشرع من النكاح فيها‪ ،‬فلم يصح‪ ،‬كما لو ت زوجت‬
‫المعتدة في عدتها‪ ،‬أو المرتابة قبل زوال ريبتها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول النتفاء الموانع التي تحول بينه ا‬
‫وبين الزواج‪ ،‬وقد أرج ع ابن قدام ة الخالف في المس ألة لمس ألة أخ رى هي أن من‬
‫باع عينا في يده يعتقدها لموروثه‪ ،‬فب ان موروث ه ميت ا والعين مملوك ة ل ه ب اإلرث‪،‬‬
‫فإن البيع يصح على القول األول‪ ،‬وعلى القول المخالف ال يصح(‪.)1‬‬
‫وال ن رى حرج ا في الحكم بص حة مث ل ه ذا ال بيع‪ ،‬ألن النتيج ة في كليهم ا‬
‫واحدة‪ ،‬فإنه لو حكمنا بفساد البيع‪ ،‬ثم رجعت السلعة إليه‪ ،‬فإنه سيبيعها من جديد كما‬
‫باعها أوال‪ ،‬فلذلك نرى اقتصار األمر على التحريم التكليفي ال ع دم الص حة‪ ،‬في أثم‬
‫من فعل ذلك إن كان متعمدا وقاصدا بينما تصح معاملته النتفاء الموانع‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ حكم المفقود في الحرب والفتن‪:‬‬
‫وقد نص على هذه المسألة المالكية‪ ،‬واختلفوا في حكم المفقود فيها الختالفات‬
‫الروايات في ذلك عن مالك‪ ،‬كما يلي(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬أن زوجته تتربص سنة‪ ،‬وهو رواية أشهب عن مالك‪ ،‬فق د روى‬
‫أشهب عن مالك في العتبية فيمن فقد بين الص فين في أرض الع دو وأرض اإلس الم‬
‫فلتتربص امرأته سنة من يوم ينظر في أمره السلطان ويضرب له األجل ثم تعتد‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬التفريق بين قتال غير المسلمين‪،‬و قتال المسلمين‪ ،‬وهو قول ابن‬
‫القاسم‪ ،‬وذلك كما يلي‪:‬‬
‫من فقد في قتال غير المسلمين‪ :‬أن زوجته ال تتزوج أبدا‪ ،‬توق ف هي ومال ه‬
‫حتى يأتي عليه من العمر ما ال يحيا إلى مثله‪ ،‬وهو رواية ابن القاسم عن مالك قال‪:‬‬
‫( إنما يض رب األج ل للمفق ود في أرض اإلس الم ال ببل د الكف ر‪ ،‬ول و علم بموض ع‬

‫‪ )(1‬المغني‪.8/111 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المنتقى‪.4/92:‬‬

‫‪214‬‬
‫األسير ببلد الكفر ثم انقطع خبره‪ ،‬لم يقض فيه بفراق وال أجل)‬
‫وفي هذه الحالة روى أشهب‪ :‬يعمر س بعين س نة‪ ،‬وروى ابن كنان ة أن مالك ا‬
‫قال في إن مات األوالد وأوصى أن ينفق عليهن حياتهن بتعمير بمائتي س نة‪ ،‬وق ال‬
‫ابن المواز‪ :‬التعمير في المفقود وغيره من السبعين إلى المائة‪ ،‬فإن غاب ابن سبعين‬
‫فقد روى أشهب عن مالك يعمر ثم انين‪ ،‬ف إن غ اب ابن ثم انين عم ر تس عين‪ ،‬ف إن‬
‫غاب ابن تسعين عمر مائة ويعمل في كل سن بقدر ما يرى باالجتهاد‪.‬‬
‫من فق د في فتن المس لمين‪ :‬روي عن ابن القاس م أن ه ال يض رب ل ه أج ل‪،‬‬
‫ويتلوم اإلمام لزوجته بقدر انصراف من انصرف وانهزم‪ ،‬ثم تعتد زوجته وت تزوج‬
‫إال أن يكون قطرا بعيدا عن بلده كإفريقي ة‪ ،‬أو نحوه ا‪ ،‬فإنه ا تنتظ ر س نة ونحوه ا‪،‬‬
‫وقال سحنون‪ :‬إن ثبت حض وره في المع ترك بالع دول‪ ،‬وإن لم يش هد بموت ه وتعت د‬
‫زوجته من يوم المعترك‪ ،‬فإن كان إنما رأوه خارج ا من العس كر ليس في المع ترك‬
‫فهو كالمفقود يضرب له أجل المفقود وقال ابن حبيب‪ :‬إن فقد في مع ترك المس لمين‬
‫في بعد فلتتربص امرأته سنة ثم تعتد ويؤخر ميراثه إلى التعمير‪.‬‬
‫واستدلوا عل ذلك بأنه إذا كان في موضعه‪ ،‬فالظاهر أنه إذا فقد في المع ترك‬
‫أنه مقتول‪ ،‬ألنه لو سلم لعاد إلى موضعه‪ ،‬وإن ك ان بموض ع بعي د ض رب ل ه أج ل‬
‫سنة ؛ ألن الظاهر أنه لو س لم لس مع خ بره في الس نة‪ ،‬وف رق بين ح رب المس لمين‬
‫وحرب العدو على رواية عيسى أن العدو ذو أسر فينقطع خ بره م ع حيات ه‪ ،‬ول ذلك‬
‫من فق د في بالد الح رب لم يض رب ل ه أج ل المفق ود‪ ،‬ومن فق د في بالد المس لمين‬
‫ض رب ل ه أج ل المفق ود ؛ ألن الظ اهر أن ك ل من ك ان في بالد المس لمين مطل ق‬
‫الدواعي متمكن من المكاتبة‪ ،‬والمراسلة وتتصل أخباره من بلد مقام ه إلى بل د أهل ه‬
‫بخالف من كان في بالد الحرب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ حكم زوجة المفقود عند رجوع زوجها األول‪:‬‬
‫يختل ف حكم زوج ة المفق ود بع د رج وع زوجه ا األول بحس ب الح التين‬
‫التاليتين‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬رجوعه قبل أن تتزوج‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هي امرأته‪ ،‬وهو مذهب جمهور العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أننا إنما أبحنا لها التزويج ألن الظاهر موته‪ ،‬ف إذا ب ان حي ا‪ ،‬انخ رم ذل ك‬
‫الظاهر‪ ،‬وكان النكاح بحاله‪ ،‬كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه أحد المالكين‪ ،‬فأشبه ملك المال‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا ضربت لها الم دة‪ ،‬فانقض ت‪ ،‬بط ل نك اح األول‪ ،‬وه و ق ول‬
‫بعض أصحاب الشافعي‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في هذه الحالة تخيير المرأة في البقاء مع زوجه ا أو فراق ه‪،‬‬

‫‪215‬‬
‫لتضررها بفقده طيلة تلك المدة‪ ،‬وسدا لذريعة غيبته من جديد‪ ،‬فقد يص بح ه ذا لعب ة‬
‫بأيدي األزواج يغيب عن زوجته مايش اء‪ ،‬ثم إذا خش ي خروجه ا من عص مته ع اد‬
‫ليجدد العصمة ثم يغيب من جديد‪ ،‬فتصبح الزوجة كالمعلقة‪ ،‬فلذلك كان األصلح له ا‬
‫في ه ذه الحال ة تخييره ا بين البق اء مع ه بتل ك الص ورة أو فراق ه‪ ،‬ف التخيير يحم ل‬
‫محاسن كال القولين‪ ،‬وينفي المفاسد التي قد تنجر عن القول بأحدهما‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪:‬رجوعه بعد أن تتزوج‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في هذه الحالة ـ كذلك ـ على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن كان رجوعه قبل دخ ول الث اني به ا فهي زوج ة األول‪ ،‬ت رد‬
‫إليه‪ ،‬وال شيء‪ ،‬ويخير بعد الدخول‪ ،‬وهو قول الحسن‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وخالس بن عمرو‪،‬‬
‫والنخعي‪ ،‬وقتادة‪ ،‬ومالك(‪ )1‬وإسحاق‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النكاح إنما صح في الظاهر دون الباطن‪ ،‬فإذا قدم تبينا أن النكاح ك ان‬
‫باطال‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه صادف امرأة ذات زوج‪ ،‬فك ان ب اطال‪ ،‬كم ا ل و ش هدت بين ة بموت ه‪،‬‬
‫وليس عليه صداق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه نكاح فاسد لم يتصل به دخول‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يخير بين الصداق وامرأت ه مطلق ا‪ ،‬وه و رواي ة عن أحم د‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك ما رواه عبيد بن عمير قال‪ :‬فق دت ام رأة زوجه ا ف أتت عم ر‬
‫فأمره ا أن ت تربص أربع ة أع وام‪ ،‬ففعلت ثم جاءت ه فأمره ا أن تعت د أربع ة أش هر‬
‫وعشرا‪ ،‬ثم أتته فدعا ولي المفقود فأمره أن يطلقه ا فطلقه ا‪ ،‬فأمره ا أن تعت د ثالث ة‬
‫قروء‪ ،‬ففعلت ثم أتته فأباح لها الزواج‪ ،‬فتزوجت فجاء زوجها المفقود‪ ،‬فخيره عم ر‬
‫بين امرأته تلك وبين الصداق فاختار الصداق‪ ،‬فأمر له عمر بالصداق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو النظر إلى مدة التربص‪ ،‬فإن مض ت‪ ،‬وك ان‬
‫العقد صحيحا خيرت المرأة بين زوجها األول الذي تضررت بغياب ه‪ ،‬وبين زوجه ا‬
‫الثاني‪ ،‬إن كان ذلك قبل الدخول‪.‬‬
‫أم ا بع د ال دخول‪ ،‬ف األولى بقاؤه ا عن د ال زوج الث اني إال إذا اخت ار كالهم ا‬
‫الرجوع لصاحبه‪ ،‬فإذا لم يختارا ذلك‪ ،‬أو لم يختر الزوج األول ذل ك‪ ،‬فل ه الح ق في‬
‫أخذ صداقه‪ ،‬تشبيها للمسألة بالخلع‪ ،‬وتعويضا للضرر الحاصل له‪.‬‬
‫وال نرى عزل المرأة عن االختي ار‪ ،‬وهي أك بر المتض ررين كم ا ذهب إلي ه‬
‫أصحاب كال القولين‪.‬‬
‫أما أقوال الصحابة في ذل ك‪ ،‬فلرج وع المس ألة‪،‬كم ا ذكرن ا س ابقا‪ ،‬لحكم ولي‬
‫األمر‪ ،‬وهو يتغ ير بحس ب الظ روف واألح وال‪،‬وليس لنص ش رعي ص ريح‪ ،‬وق د‬
‫رأينا ضعف الحديث المعتمد عليه في هذا المجال‪.‬‬
‫‪ )( 1‬وعن مالك رواية أخرى وهي أنها ال ترجع إليه مطلقا‪ ،‬ولكن الراجح عندهم هي الرواية الم ذكورة‪ ،‬وق د‬
‫أخذ بها ابن القاسم‪ ،‬وقيل‪:‬إنما رجع مالك إلى هذا قبل موته بعام‪.‬انظر‪:‬التاج واإلكليل‪.5/501:‬‬

‫‪216‬‬
‫أما الزوج الث اني‪ ،‬فإن ه ل ه حق ا أيض ا ال ينبغي أن يتجاه ل‪ ،‬فه و إن ش اءت‬
‫المرأة أن تفارقه للعودة لزوجها األول فلها الحق الشرعي في أن تفتدي نفسها من ه‪،‬‬
‫كما تفتدي في حال بغض ها ل ه أو نفوره ا من ه‪ ،‬فيك ون فراقه ا ل ه به ذا الس بب‪ ،‬ال‬
‫بعودة زوجها األول‪.‬‬
‫حكم الصداق في حال اختيار األول تركها‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن الزوج األول إذا اختار تركه ا‪ ،‬فإن ه يرج ع على الث اني‬
‫بصداقها‪ ،‬لألدلة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قضاء الصحابة بذلك‪ ،‬فقد روي أن عمر وعثمان قضيا في المرأة التي ال‬
‫تدري ما مهلك زوجها‪ ،‬أن تتربص أربع سنين‪ ،‬ثم تعتد عدة المت وفى عنه ا زوجه ا‬
‫أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬ثم تزوج إن بدا لها‪ ،‬فإن جاء زوجه ا خ ير إم ا امرأت ه‪ ،‬وإم ا‬
‫الص داق‪ ،‬ف إن اخت ار الص داق‪ ،‬فالص داق على زوجه ا اآلخ ر‪ ،‬وتثبت عن ده‪ ،‬وإن‬
‫اختار امرأته‪ ،‬عزلت عن زوجها اآلخر حتى تنقضي عدتها‪ ،‬وإن ق دم زوجه ا وق د‬
‫توفي زوجها اآلخر‪ ،‬ورثت واعتدت عدة المتوفى عنها‪ ،‬وترجع إلى األول‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المرأة ال تغرير منها‪ ،‬فلم يرجع عليها بشيء‪ ،‬كغيرها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه حال بينه وبينها بعقده عليها‪ ،‬ودخوله بها‪.‬‬
‫ماهية الصداق الذي يرجع به الزوج األول‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في الصداق الذي يرجع به على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يرجع بالص داق ال ذي أص دقها ه و‪ ،‬وعلى ه ذا‪ ،‬إن ك ان لم‬
‫يدفع إليها الصداق‪ ،‬لم يرجع بشيء‪ ،‬وإن كان قد دفع بعضه‪ ،‬رج ع بم ا دف ع‪ ،‬وه و‬
‫قول الحسن‪ ،‬والزهري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وعلي بن المديني ورواية عن أحم د‪ ،‬واخت اره ابن‬
‫تيمية‪ ،‬قال‪ (:‬والصواب انه انما يرج ع بمه ره ه و فان ه ال ذى اس تحقه‪ ،‬وأم ا المه ر‬
‫الذى أصدقها الثانى فال حق له فيه)(‪ )1‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قضاء علي وعثمان أنه يخير بينها وبين الصداق الذي ساق هو‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه أتل ف علي ه المع وض‪ ،‬فرج ع علي ه ب العوض‪ ،‬كش هود الطالق إذا‬
‫رجعوا عن الشهادة‪.‬‬
‫القول الثاني‪:‬أنه يرجع علي ه ب المهر ال ذي أص دقها الث اني‪ ،‬وه و رواي ة عن‬
‫أحم د‪ ،‬واس تدل على ذل ك ب أن إتالف البض ع من جهت ه‪ ،‬والرج وع علي ه بقيمت ه‪،‬‬
‫والبضع ال يتقوم إال على زوج أو من جرى مجراه‪ ،‬فيجب الرجوع علي ه بالمس مى‬
‫الثاني دون األول‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أنها تحتمل كال النظرين‪ ،‬فلذلك ينظر ولي األمر‬
‫إلى الصداق الذي يراه مناسبا لذلك‪ ،‬ولعل المناسب في الحال الذي يكون قد سلم فيه‬
‫المهر كامال هو أن يسلم من الص داق م ا يكفي لتزوج ه من جدي د‪ ،‬ألن قيم ة الم ال‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى‪.20/581:‬‬

‫‪217‬‬
‫تختلف بحسب األوقات واألحوال‪ ،‬ومثلها قيمة الصداق‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ التفريق للضرر‬
‫ق د ذكرن ا في الج زء الخ اص ب العالج الش رعي للخالف ات الزوجي ة كيفي ة‬
‫معالجة هذه المشكلة وتحدثنا عن إرسال الحكمين‪ ،‬وأن لهما التفريق إذا لزم األم ر‪،‬‬
‫وذلك يدخل في هذا الباب من التفريق بيد القضاء‪ ،‬ألن الحكمين نائبين عن القاضي‪.‬‬
‫وربما يك ون أبل غ من ب الغ في ح ق الم رأة في ه ذه الناحي ة المالكية(‪ ،)1‬فق د‬
‫نصوا على هذا الحق في مواض ع مختلف ة‪ ،‬ب ل ورد عن مال ك أن للم رأة أن تطل ق‬
‫نفسها منه‪ ،‬من غير عوض‪ ،‬ففي العتبي ة من رواي ة عب د المل ك بن الحس ن عن ابن‬
‫وهب فيمن تشكت امرأته ضرره‪ ،‬فأشهد لها إن عاد فهي مصدقة في ذل ك‪ ،‬وأمره ا‬
‫بيدها تطلق نفسها ألبتة‪ ،‬فأشهدت بعد أيام وزوجها غائب أن زوجها عاد إلى أذاه ا‪،‬‬
‫وأنه ا طلقت نفس ها‪ ،‬وأنك ر ال زوج أن يك ون أذاه ا ثم ق دمت الم رأة وزعمت أنه ا‬
‫كذبت فيما شكت من األذى وال يعرف ذلك إال بقولها قال‪ :‬ق د ب انت من ه ولزم ه م ا‬
‫قضت ؛ ألنه جعلها مصدقة وقال مثله أشهب(‪.)2‬‬
‫وق د ذك ر ابن فرح ون كيفي ة تعام ل القض اء الش رعي م ع ش كوى الم رأة‬
‫بإضرار زوجها لها حتى ال يفتح المجال على إطالقه‪ ،‬فتدعي كل زوجة تريد فراق‬
‫زوجه ا من غ ير ع وض الض رر‪ ،‬بقول ه‪ (:‬وإذا تك ررت ش كوى الم رأة وذك رت‬
‫إضرار زوجها بها‪ ،‬ورفعت ذلك إلى الح اكم وعج زت عن إثب ات م ا تدعي ه‪ ،‬ف إن‬
‫الح اكم ي أمر زوجه ا بإس كانها بين ق وم ص الحين‪ ،‬ويكلفهم تفق د خبره ا واس تعالم‬
‫ضررها‪ ،‬فإن كانت ساكنة مع ه في مث ل ه ؤالء الق وم لم يلزم ه نقله ا إلى غ يرهم‪،‬‬
‫يعني وكلفهم تفقد حالها‪ ،‬فإن ظهر لهم أنه الظ الم‪ ،‬رفع وا ذل ك إلي ه فزج ره الح اكم‬
‫وأدبه وسجنه وعاقبه بما يراه‪ ،‬ف إن عمي على الح اكم خبرهم ا وط ال تكرره ا ولم‬
‫يعلم الظالم منهما‪ ،‬لم يسعه أن ينظر في أمرهما بغير الحكمين (‪)3‬‬
‫ويراد بالضرر هنا ما يلحقه الزوج بزوجته من أن واع األذى ال تي ال تس تقيم‬
‫معها العشرة الزوجية كضربها وشتمها وإكراهها على فعل م ا ح رم هللا‪ ،‬وهجره ا‬
‫لغير التأديب مع إقامته في بلد واحد معها أو أخذ مالها وما شاكل ذل ك‪ ،‬ومم ا ذك ره‬
‫المالكية من ذلك) قطع كالمه عنها وتحوي ل وجه ه في الف راش عنه ا وإيث ار ام رأة‬
‫عليها وضربها ضربا مؤلما‪ ،‬وليس من الضرر منعها من الحمام والنزاهة وتأديبه ا‬
‫على ترك الصالة وال فعل التسري(‬
‫ومن فت اوى الش يخ عليش في ه ذا المج ال أن ه س ئل عن رج ل تش اجر م ع‬
‫زوجته فذهبت لبيت أخيها فطلبها‪ ،‬فأبى‪ ،‬فقال‪( :‬إن ثبتت إساءة الزوج لزوجته بشتم‬

‫‪ )( 1‬وقد كانت هذه المبالغة داعية ألصحاب الموسوعة الفقهية الكويتية إلى القول‪ :‬وهل تطلق بنفسها هنا بأمر‬
‫القاضي أو يطل ق القاض ي عنه ا ؟ ق والن للمالكي ة ولم أر من الفقه اء اآلخ رين من نص علي ه بوض وح‪ ،‬وك أنهم ال‬
‫يقولون به ما لم يصل الضرر إلى حد إثارة الشقاق‪ ،‬انظر‪ :‬الموسوعة الفقهية‪.29/57:‬‬
‫‪ )(2‬المنتقى‪.4/65:‬‬
‫‪ )(3‬تبصرة الحكام‪.2/196:‬‬

‫‪218‬‬
‫أو ضرب بال موجب شرعي‪ ،‬وطلبت الزوجة الطالق قضي على الزوج بطالقه ا‪،‬‬
‫ف إن امتن ع طلقه ا الح اكم أو أمره ا ب ه‪ ،‬وحكم ب ه‪ ،‬وإال تثبت اإلس اءة أو لم تطلب‬
‫الزوجة الطالق فال يقضى على الزوج به‪ ،‬ويقض ى على الزوج ة ب الرجوع لبيت ه)‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬فتح العلي المالك‪.2/50:‬‬

‫‪219‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫التفريق بأسباب أخالقية‬
‫ونريد باألسباب األخالقية هنا إما أن يكون ظلم الرجل لزوجته واتهام ه له ا‪،‬‬
‫أو حصول الفاحشة من المرأة‪ ،‬وفي كلتا الحالتين تستحيل العش رة الزوجي ة‪ ،‬وله ذا‬
‫يت دخل القض اء الش رعي لح ل ه ذه المش كلة ب دل أن تح ل باالنفع االت النفس ية‬
‫واألعراف الفاسدة‪.‬‬
‫أوال ـ قذف الزوجة وأحكامه‬
‫عرف القذف بأنه (آدمي مكلف غيره حرا عفيفا مسلما بالغا أو صغيرة تطيق‬
‫الوطء لزنا أو قطع نسب مسلم)(‪.)1‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء أنه يعرض لقذف الزوجة األحكام التكليفية التالية‪ ،‬والمتعلق ة‬
‫بالقاذف الذي هو الزوج‪:‬‬
‫الوجوب‪:‬‬
‫وقد نص الفقهاء انه يتحقق في حالة واحدة‪ ،‬وهي أن ي رى امرأت ه ت زني في‬
‫طهر لم يمسها فيه‪ ،‬فإنه يلزمه في ه ذه الحال ة اعتزاله ا ح تى تنقض ي ع دتها‪ ،‬ف إذا‬
‫أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا‪ ،‬وأمكنه نفي ه عن ه‪ ،‬لزم ه ق ذفها‪ ،‬ونفي ول دها ؛‬
‫ألن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني‪.‬‬
‫والحكمة الشرعية من إيجاب ذلك‪ ،‬كما يقول العز بن عب د الس الم عن د بيان ه‬
‫لتعارض المصالح م ع المفاس د‪(:‬ال رمي بالزن ا مفس دة لم ا في ه من‪ ،‬اإليالم بتحم ل‬
‫العار‪ ،‬لكنه يباح في بعض الصور‪ ،‬ويجب في بعضها‪ ،‬لم ا يتض منه من المص الح)‬
‫(‪ ،)2‬ومن األمثلة ال تي ذكره ا ل ذلك‪(:‬وج وب ق ذفها إذا أتت بول د يلحق ه في ظ اهر‬
‫الحكم وهو يعلم أنه ليس منه‪ ،‬فيلزمه أن يقذفها لنفيه‪ ،‬ألنه لو ترك نفيه لخال ط بنات ه‬
‫وأخواته وجميع محارمه‪ ،‬وورثه ولزمته نفقته ولتولى أنكحة بناته إلى غير ذلك من‬
‫األحكام المتعلقة بالنسب‪ ،‬فيلزمه نفي ه درءا له ذه المفاس د وتحص يال ألض دادها من‬
‫المصالح‪ ،‬ولو أتت به خفية بحيث ال يلح ق ب ه في الحكم لم يجب نفي ه‪ ،‬واألولى ب ه‬
‫الستر والكف عن القذف)(‪)3‬‬
‫ومثله ما لو تيقن زناها‪ ،‬ولكنه شك في كون الول د من ه‪ ،‬أو من ال زاني‪ ،‬مث ل‬
‫زناها في طهر أصابها فيه‪ ،‬أو زنت فلم يعتزلها‪ ،‬ولكنه كان يعزل عنها‪ ،‬أو ك ان ال‬
‫يطؤها إال دون الفرج‪ ،‬ثم ج اء الول د ش بيها ب الزاني دون ه‪ ،‬فإن ه يلزم ه نفي ه‪ ،‬ومن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬شرح حدود ابن عرفة‪.497:‬‬
‫‪ )(2‬قواعد األحكام‪.1/115 :‬‬
‫‪ )(3‬قواعد األحكام‪.1/115 :‬‬

‫‪220‬‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النبي ‪ ‬حكم بول د ام رأة هالل لش ريك بن س حماء‪ ،‬بش بهه ل ه‪ ،‬م ع‬
‫لعان هالل لها‪ ،‬وقذفه إياها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تلك القرائن مع الزنا توجب نسبته إلى الزاني‪.‬‬
‫ونرى أن ما ذكره الفقهاء من هذا يقبل في حكمه التشريعي الذي له ما يس نده‬
‫من األدل ة‪ ،‬أم ا التفاص يل التطبيقي ة له ذا الحكم الش رعي‪ ،‬فتتوق ف على التح ري‬
‫القضائي والطبي ونحوه‪ ،‬فما ذكروه مثال من الوالدة لستة أش هر ليس عام ا‪ ،‬ومثل ه‬
‫ما ذكروه من القيافة‪ ،‬وتتوفر اآلن من الوسائل العلمية ما يمكن به وضع األمور في‬
‫نصابها‪ ،‬وال مانع من استعمالها‪.‬‬
‫اإلباحة‪:‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء قيدين إلباحة القذف‪ ،‬هما‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ال يلحقه من زناها نسب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يثبت عنده زناها‪ ،‬وقد ذكر الفقهاء لذلك طرقا مختلف ة منه ا أن يراه ا‬
‫تزني‪ ،‬أو يثبت عنده زناها‪ ،‬أو يخبره بزناها ثق ة يص دقه‪ ،‬أو يش يع في الن اس ذل ك‬
‫منها م ع مش اهدة المق ذوف عن دها‪ ،‬أو داخال إليه ا أو خارج ا من عن دها‪ ،‬أو يغلب‬
‫على ظنه فجورها(‪ ،)1‬وفي بعض ما ذكروه خالف س نتطرق ل ه في محل ه من ه ذا‬
‫المبحث‪.‬‬
‫ففي كل هذه الحاالت وما شابهها له قذفها وله السكوت عن ذلك‪ ،‬بل اس تحب‬
‫الفقهاء له السكوت‪ ،‬يق ول ابن قدام ة‪(:‬وإن س كت ج از‪ ،‬وه و أحس ن ؛ ألن ه يمكن ه‬
‫فراقها بطالقها‪ ،‬ويكون فيه سترها وستر نفسه‪ ،‬وليس ثم ولد يحت اج إلى نفي ه) (‪،)2‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ م ا روي أن رجال أتى الن بي ‪ ‬فق ال‪ :‬أرأيت رجال وج د م ع امرأت ه‬
‫رجال‪ ،‬فتكلم جلدتموه‪ ،‬أو قتل قتلتموه‪ ،‬أو سكت سكت على غيظ‪ ،‬ووج ه االس تدالل‬
‫الحديث اقرار النبي ‪ ‬على قوله‪ :‬أو سكت سكت على غيظ(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النبي ‪ ‬لم ينكر على هالل والعجالني قذفهما حين رأيا‪.‬‬
‫الحرمة‪:‬‬
‫وهو ما عدا الحالتين السابقتين‪ ،‬وهي قذف الزوجة أو غيرها من غ ير بين ة‪،‬‬
‫وقد أجمع العلماء على أن القذف مطلقا سواء كان من الزوج لزوجته أو لغيره ا من‬
‫الكبائر(‪ ،)4‬قال ابن حزم بعد ذكره للنصوص الدال ة على تح ريم الق ذف‪(:‬فص ح أن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المغني‪ ،8/59 :‬مغني المحتاج‪.3/373 :‬‬


‫‪ )(2‬المغني‪.8/59:‬‬
‫‪ )(3‬أحمد ‪ ،)4001( 1/421‬ومسلم ‪)3748( 4/208‬‬
‫‪ )(4‬وهو ليس كفرا بإجماع العلماء خالفا لمن ذهب إلى ذلك‪ ،‬قال الجصاص‪:‬وفيما حكم هللا تع الى ب ه من آي ة‬
‫اللعان داللة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما ; ألنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد ال زوجين مرت دا ;‬
‫ألنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا‪ ،‬وإن كان ص ادقا ف واجب أن تك ون الم رأة ك افرة بزناه ا‪،‬‬

‫‪221‬‬
‫قذف المؤمنات المحصنات البريئات من الكبائر الموجبة للعن ة في ال دنيا واآلخ رة‪،‬‬
‫والعذاب العظيم في اآلخرة‪ ،‬ودخل فيها قذف األمة والحرة دخ وال مس تويا‪ ،‬ألن هللا‬
‫تع الى لم يخص مؤمن ة من مؤمن ة‪ ،‬وبقي ق ذف الك افرة فوج دنا هللا تع الى ق ال‪:‬‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَ أْتُوا بِأَرْ بَ َع ِة ُش هَدَا َء فَاجْ لِ دُوهُ ْم ثَ َم انِينَ َج ْل َدةً ﴾‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ ْال ُمحْ َ‬
‫ص نَا ِ‬
‫(النور‪ )4:‬فهذا عموم تدخل في ه الك افرة والمؤمن ة‪ ،‬ف وجب أن قاذفه ا فاس ق إال أن‬
‫يتوب)(‪)1‬وقد وردت النصوص الكثيرة على تحريم القذف مطلق ا ال حاج ة ل ذكرها‬
‫هنا‪ ،‬وهي تنطبق على الزوجة كما تنطبق على غيره ا‪ ،‬ب ل انطباقه ا على الزوج ة‬
‫من باب أولى‪.‬‬
‫ثانيا ـ مفهوم اللعان وأحكامه‬
‫ع رف اللع ان بأن ه‪ :‬شهادات مؤك دات باأليم ان‪ ،‬مقرون ة ب اللعن من جه ة‪،‬‬
‫وبالغضب من األخرى‪ ،‬قائمة مقام حد القذف في حقه‪ ،‬ومقام حد الزنا في حقها(‪.)2‬‬
‫وقد سمى لعانا لقول الزوج (على لعن ة هللا ان كنت من الك اذبين)‪ ،‬وق د ذك ر‬
‫العلماء سبب االصطالح على هذا اللفظ دون لف ظ الغض ب وإن كان ا موج ودين في‬
‫اآلي ة الكريم ة وفي ص ورة اللع ان‪ ،‬ألن لف ظ اللعن ة متق دم في اآلي ة الكريم ة وفي‬
‫صورة اللعان‪ ،‬وألن ج انب الرج ل في ه أق وى من جانبه ا ألن ة ق ادر على االبت داء‬
‫باللعان دونها‪ ،‬وألنه قد ينف ك لعان ه عن لعانه ا وال ينعكس‪ ،‬وألن اللعن ه و الط رد‬
‫واالبعاد ألن كال منهما يبعد عن صاحبه ويح رم النك اح بينهم ا على التأبي د بخالف‬
‫المطلق وغيره(‪.)3‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء في اللع ان ه ل ه و ش هادة أم يمين‪ ،‬وبن اء على ه ذا‬
‫االختالف اختلفوا في بعض الف روع الفقهي ة المتعلق ة باللع ان كم ا س نرى‪ ،‬والنص‬
‫الوارد في اللعان يحتمل كال المعنيين‪ ،‬فلذلك نرى أن األرجح في الخالف في حقيقة‬
‫اللعان هو أنه يجم ع الوص فين جميع ا‪ ،‬فه و يمين مؤك د لش هادة‪ ،‬أو ش هادة مؤك دة‬
‫بأيمان‪ ،‬وق د انتص ر ابن القيم له ذا‪ ،‬وذك ر أدلت ه‪ ،‬وسنس وق قول ه م ع أدلت ه‪ ،‬لش دة‬
‫الحاجة إليها في بعض تفاصيل مسائل اللعان‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪( :‬والصحيح أن لعانهم يجم ع الوص فين‪ ،‬اليمين والش هادة‪ ،‬فه و‬
‫شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار‪ ،‬ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار القتضاء الح ال‬
‫تأكيد األمر‪ ،‬ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عش رة أن واع) (‪ ،)4‬وه ذه األن واع العش رة‬

‫وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان‪ ،‬فلما حكم هللا تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونته ا من ه قب ل اللع ان ثبت‬
‫أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطالن مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر‪ .‬انظر‪ :‬أحكام القرآن للجص اص‪:‬‬
‫‪.3/447‬‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.12/224:‬‬
‫‪ )(2‬أسنى المطالب‪.3/370:‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النووي على مسلم‪ ،10/119 :‬نيل األوطار‪.7/62:‬‬
‫‪ )(4‬زاد المعاد‪.5/362 :‬‬

‫‪222‬‬
‫من التأكيد هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ذكر لفظ الشهادة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ذكر القسم بأحد أسماء الربّ سبحانه وأجمعه ا لمع اني أس مائه الحس نى‪،‬‬
‫وهو اسم هللا َجل ِذكرُه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تأكي ُد الجواب بما يُؤكد ب ه المقس م علي ه‪ ،‬من (إن‪ ،‬والالم)‪ ،‬وإتيان ه باس م‬
‫الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذي هو صدق وكذب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تكرا ُر ذلك أربع مرات‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة هللا إن كان من الكاذبـين‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إخبارُه عند الخامسة أنها المو ِجبةُ لعذاب هللا‪ ،‬وأن عذاب الدنيا أه ونُ ِمن‬
‫عذاب اآلخرة‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ جعل لعانه مقتض ى لحص ول الع ذاب عليه ا‪ ،‬وه و إم ا الح ُّد أو الحبسُ ‪،‬‬
‫وجعل لعانها دارئا ً للعذاب عنها‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما في الدنيا‪ ،‬وإما في اآلخرة‪.‬‬
‫ق بـين المتالعنين‪ ،‬وخرابُ بـيتها‪ ،‬وكسرها بالفراق‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ التفري ُ‬
‫‪ 10‬ـ تأبـيد تلك الفرقة ودوام التحريم بـينهما‪.‬‬
‫اللعان ه ذا الش أن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قال ابن القيم بعد سوقه لهذه المؤكدات‪(:‬فلما كان شأنُ هذا‬
‫ج ُِع َل يمينا ً مقرونا ً بالش هادة‪ ،‬وش هادة مقرون ة ب اليمين‪ ،‬وجع ل الملتعن لقب ول قول ه‬
‫كالشاهد) (‪)1‬‬
‫حكم اللعان‬
‫اللعان رخصة شرعية لدرء الحد عمن قذف زوجته بغير بينة‪ ،‬ألنه إذا ق ذف‬
‫زوجته المحصنة وجب عليه الحد‪ ،‬وحكم بفسقه‪ ،‬ورد شهادته‪ ،‬إال أن ي أتي ببين ة أو‬
‫يالعن‪.‬‬
‫وهذه الرخصة واجبة في حال القذف مع عدم البين ة‪ ،‬ق ال القرط بي‪ (:‬ويجب‬
‫اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء‪ ،‬وهذا قول الجمهور وعامة الفقه اء‪ ،‬وجماع ة أه ل‬
‫الحديث)(‪،)2‬ومن األدلة على ثبوت هذه الرخصة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫اجهُ ْم َول ْم يَكن لهُ ْم ش هَدَا ُء إِال أنف ُس هُ ْم‬ ‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ أَ ْز َو َ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن الصَّا ِدقِينَ َو ْالخَا ِم َس ةُ أَ َّن لَ ْعنَ ةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ِه إِ ْن‬
‫فَ َشهَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َشهَادَا ٍ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن ْال َك ا ِذبِينَ‬ ‫َكانَ ِم ْن ْال َكا ِذبِينَ َويَ ْد َرأُ َع ْنهَا ْال َع َذ َ‬
‫اب أَ ْن ت َْش هَ َد أَرْ بَ َع َش هَادَا ٍ‬
‫ب هَّللا ِ َعلَ ْيهَا إِ ْن َكانَ ِم ْن الصَّا ِدقِينَ ﴾(النور‪)9-6 :‬‬ ‫ض َ‬ ‫َو ْالخَا ِم َسةَ أَ َّن َغ َ‬
‫‪ 2‬ـ روي أن عويمرا العجالني أتى رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أرأيت‬
‫رجال وجد مع امرأته رجال فيقتله فتقتلونه‪ ،‬أم كيف يفعل ؟ فقال رس ول هللا ‪ :‬ق د‬
‫أنزل هللا فيك وفي صاحبتك‪ ،‬فاذهب فائت بها‪ ،‬قال الراوي‪ :‬فتالعنا‪ ،‬وأنا مع الن اس‬
‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/363 :‬‬
‫‪ )(2‬القرطبي‪.12/185:‬‬

‫‪223‬‬
‫عند رسول هللا ‪ ‬فلما فرغا‪ ،‬قال عويمر‪ :‬كذبت عليها ي ا رس ول هللا إن أمس كتها‪،‬‬
‫فطلقها ثالثا بحضرة رسول هللا ‪.)1(‬‬
‫‪ 3‬ـ حديث هالل بن أمية الطويل‪ ،‬فعن ابن عب اس ق ال‪ :‬ج اء هالل بن أمي ة‪،‬‬
‫وهو أحد الثالثة الذين تاب هللا عليهم‪ ،‬فجاء من أرضه عشاء‪ ،‬فوجد عند أهله رجال‬
‫فرأى بعيني ه‪ ،‬وس مع بأذني ه‪ ،‬فلم يهج ه ح تى أص بح‪ ،‬ثم غ دا على رس ول هللا ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إني جئت أهلي‪ ،‬فوجدت عندهم رجال‪ ،‬فرأيت بعيني‪ ،‬وس معت‬
‫ب أذني‪ .‬فك ره رس ول هللا ‪ ،‬م ا ج اء ب ه‪ ،‬واش تد علي ه‪ ،‬ف نزلت ﴿ َوالَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ‬
‫أَ ْز َوا َجهُ ْم َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ْم ُشهَدَا ُء إِال أَنفُ ُس هُ ْم فَ َش هَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َش هَادَا ٍ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن‬
‫الصَّا ِدقِينَ ﴾(النور‪ )9-6 :‬اآليتين كلتيهما‪ ،‬فسري عن رسول هللا ‪ ‬فق ال‪ :‬أبش ر ي ا‬
‫هالل‪ ،‬فقد جعل هللا لك فرجا ومخرجا قال هالل‪:‬قد كنت أرجو ذلك من ربي تب ارك‬
‫وتعالى‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ :‬أرسلوا إليها‪ .‬فأرسلوا إليها‪ ،‬فتالها عليهم ا رس ول هللا‬
‫‪ ‬وذكرهما‪ ،‬وأخبرهما أن عذاب اآلخرة أش د من ع ذاب ال دنيا‪ ،‬فق ال هالل‪ :‬وهللا‬
‫لقد صدقت عليها‪ .‬فقالت‪ :‬ك ذب‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ :‬العن وا بينهم ا‪ ،‬فقي ل لهالل‪:‬‬
‫اشهد‪ ،‬فشهد أربع شهادات باهلل إنه لمن الصادقين‪ ،‬فلما كانت الخامسة قيل‪ :‬ي ا هالل‬
‫اتق هللا‪ ،‬فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخ رة‪ ،‬وإن ه ذه الموجب ة ال تي ت وجب‬
‫عليك العذاب‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا ال يعذبني هللا عليها‪ ،‬كما لم يجلدني عليها‪ ،‬فشهد الخامس ة‬
‫أن لعنة هللا عليه إن كان من الكاذبين‪ ،‬ثم قيل له ا‪ :‬اش هدي‪ .‬فش هدت أرب ع ش هادات‬
‫باهلل إنه لمن الكاذبين‪ ،‬فلما كانت الخامسة قيل لها‪ :‬اتقي هللا‪ ،‬فإن عذاب ال دنيا أه ون‬
‫من عذاب اآلخرة‪ ،‬وإن هذه الموجبة التي توجب علي ك الع ذاب‪ ،‬فتلك أت س اعة‪ ،‬ثم‬
‫ق الت‪ :‬وهللا ال أفض ح ق ومي‪ ،‬فش هدت الخامس ة‪ ،‬أن غض ب هللا عليه ا إن ك ان من‬
‫الصادقين‪ .‬ففرق رسول هللا ‪ ‬بينهما‪ ،‬وقضى أن ال بيت لها علي ه‪ ،‬وال ق وت‪ ،‬من‬
‫أجل أنهما يتفرقان من غير طالق‪ ،‬وال متوفى عنها(‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الزوج يبتلى بقذف امرأته لينفي العار والنسب الفاسد‪ ،‬وتتعذر عليه البين ة‪،‬‬
‫فجعل اللعان بينة له‪ ،‬ولهذا لما نزلت آية اللعان‪ ،‬قال النبي ‪(:‬أبشر ي ا هالل‪ ،‬فق د جع ل‬
‫هللا لك فرجا ومخرجا)‬
‫حكم اللعان عند وجود البينة‬
‫نص الفقهاء على أنه إن كانت له بين ة تش هد بزناه ا‪ ،‬فه و مخ ير بين لعانه ا‬
‫وبين إقامة البينة أو الجمع بينهما‪ ،‬ألنهما بينت ان‪ ،‬فك ان ل ه الخي ار في إقام ة أيتهم ا‬
‫شاء‪ ،‬وألن كل واحدة منهما يحصل بها ما ال يحصل باألخرى‪ ،‬فإنه يحصل باللعان‬
‫‪ )(1‬البخ اري‪ ،5/2014 :‬مس لم‪ ،2/1129 :‬ابن حب ان‪ ،10/117 :‬ال دارمي‪ ،2/201 :‬ال بيهقي‪،7/328 :‬‬
‫الدارقطني‪ ،3/277 :‬أبو داود‪ ،2/273 :‬النسائي‪ ،3/349 :‬الموطأ‪ ،2/566 :‬أحمد‪.5/336 :‬‬
‫‪ )(2‬وتتمة الحديث تثبت صدق هالل‪ ،‬فقد قال ‪ :‬إن جاءت به أص يهب أريص ح أثيبج حمش الس اقين‪ ،‬فه و‬
‫لهالل‪ ،‬وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ األليتين‪ ،‬فهو للذي رميت به‪ .‬فج اءت ب ه أورق‪ ،‬جع دا‪،‬‬
‫جماليا‪ ،‬خدلج الساقين‪ ،‬سابغ األليتين‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ :‬لوال األيمان‪ ،‬لكان لي ولها شأن‪ .‬ق ال عكرم ة‪ :‬فك ان بع د‬
‫ذل ك أم يرا على مص ر‪ ،‬وم ا ي دعى ألب‪ ،‬انظ ر‪ :‬البخ اري‪ ،5/2382 :‬مس لم‪ ،2/1134 :‬الح اكم‪ ،2/78 :‬ال بيهقي‪:‬‬
‫‪ ،10/104‬أبو داود‪ ،2/277 :‬النسائي‪.2/80 :‬‬

‫‪224‬‬
‫نفي النسب الباطل‪ ،‬وال يحصل ذلك بالبينة‪ ،‬ويحص ل بالبين ة ثب وت زناه ا‪ ،‬وإقام ة‬
‫الحد عليها‪ ،‬وذلك ال يحصل باللعان‪.‬‬
‫ولذلك لو العنها من أج ل نفى ول دها من ه‪ ،‬ثم أراد إقام ة البين ة إلقام ة الح د‬
‫عليها‪ ،‬ثبت موجب اللعان وموجب البينة‪.‬‬
‫أما إن أقام البينة أوال‪ ،‬فإنه يثبت بها الزنا وموجبه‪ ،‬ولم ينتف عنه الولد‪،‬ألن ه‬
‫ال يلزم من الزنا كون الولد منه‪ ،‬فإن أراد لعانه ا بع د ذل ك‪ ،‬وليس بينهم ا ول د يري د‬
‫نفيه‪ ،‬فليس له ذلك ؛ ألن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة‪ ،‬فال حاجة إليه‪ ،‬أما إن ك ان‬
‫بينهما ولد يريد نفيه‪ ،‬فله أن يالعن لنفيه‪.‬‬
‫محل وجوب اللعان‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه ال يتعرض لل زوج بإقام ة الح د علي ه‪ ،‬وال طلب اللع ان‬
‫منه إال بعد مطالب ة زوجت ه ب ذلك‪ ،‬ألن ذل ك ح ق له ا‪ ،‬فال يق ام من غ ير طلبها(‪،)1‬‬
‫كسائر حقوقها‪ ،‬فلذلك ال يحق لوليها المطالب ة عنه ا ولوك انت مجنون ة أو محج ورا‬
‫عليه ا‪ ،‬وليس ل ولي الص غيرة من ب اب أولى المطالب ة ب التعزير من أجلهم ا‪ ،‬ألن‬
‫القصد من هذا الحق رد االعتبار‪ ،‬فال يقوم الغير فيه مقام المستحق‪ ،‬مثل القصاص‪.‬‬
‫أما إن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة الزوجة به‪ ،‬فيختلف حكم ه بحس ب‬
‫الحالتين التاليتين‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬ليس هناك نسب يريد نفيه‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ليس له أن يالعن‪ ،‬وهو ق ول أك ثر العلم اء‪ ،‬قياس ا ل ه على ك ل‬
‫موضع سقط فيه الحد عنه مثل إقامته البينة بزناها‪ ،‬أو أبرأته من ق ذفها‪ ،‬أو ح د له ا‬
‫ثم أراد لعانها‪ ،‬وال نسب هناك ينفى‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن له أن يالعن‪ ،‬وهو قول بعض أصحاب الشافعي وهو خالف‬
‫الصحيح عندهم‪ ،‬إلزالة الفراش‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬نرى أن األرجح في المسألة هو عدم اللعان‪ ،‬لعدم ج دواه‪ ،‬أم ا إزال ة‬
‫نسبة الفراش عنه فيمكنه التوصل إليها بالطالق‪ ،‬أما التحريم المؤب د فليس بمقص ود‬
‫شرع اللعان من أجله‪ ،‬وإنما حصل ذلك ضمنا‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬إذا كان هناك ولد يريد نفيه‪:‬‬
‫ولم تطالب الزوجة بالبينة وال اللعان‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في هذه الحال ة على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن له أن يالعن لنفيه‪ ،‬وهو قول الجمه ور‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك‬
‫بما يلي‪:‬‬

‫‪ )( 1‬وقد خالف في ذلك ابن حزم‪ ،‬فذهب إلى أنه من قذف امرأته بالزنا هكذا مطلقا‪ ،‬أو بإنسان س ماه‪ ،‬ف واجب‬
‫على الحاكم أن يجمعهما في مجلسه ؟ طلبت هي ذلك أو لم تطلبه‪ ،‬طلب هو ذلك أولم يطلبه‪ ،‬ال رأي لهما في ذلك‪ ،‬ثم‬
‫يسأله البينة على ما رماها به ؟ فإن أتى ببينة عدول بذلك على م ا ذكرن ا في الش هادة بالزن ا أقيم عليه ا الح د‪ .‬ف إن لم‬
‫يأت بالبينة قيل له‪ :‬التعن ؟‪،‬انظر‪ :‬المحلى‪.9/331 :‬‬

‫‪225‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هالل بن أمية لما قذف امرأته‪ ،‬وأتى النبي ‪ ‬ف أخبره‪ ،‬أرس ل إليه ا‪،‬‬
‫فالعن بينهما‪ ،‬ولم تكن طالبته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه محتاج إلى نفيه‪ ،‬فشرع له اللعان طريقا إليه‪ ،‬كما لو طالبته‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن نفي النسب الباط ل ح ق ل ه‪ ،‬فال يس قط برض اها ب ه‪ ،‬كم ا ل و ط البت‬
‫باللعان ورضيت بالولد‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أنه ليس ل ه أن يالعن‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‪ ،‬ألن ه أح د موج بي‬
‫القذف فال يشرع مع عدم المطالبة كالحد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن له الحق في طلب اللعان لنفي الول د ال ذي‬
‫يشك في نسبته إليه كما أن لها الحق في طلبه إن قذفها‪ ،‬ف الحق ث ابت لكال ال زوجين‬
‫اجتمعا على طلبه أو انفرد أحدهما بالطلب‪.‬‬
‫حكم االمتناع عن المالعنة بعد وجوبها‬
‫ويختلف حكم ذلك بحسب المالعن كما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ امتناع الزوج عن المالعنة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو قذف الرجل زوجت ه ب دون بين ة‪ ،‬ثم امتن ع من اللع ان‪،‬‬
‫هل يلزمه ما سبق من الحد ورد الشهادة والحكم بالفسق أم ال؟ على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬يلزم ه الح د ورد الش هادة والحكم بالفس ق‪ ،‬وه و ق ول مال ك‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ْ‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَ أتُوا بِأَرْ بَ َع ِة ُش هَدَا َء‬
‫ص نَا ِ‬ ‫‪ 1‬ـ قول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ ْال ُمحْ َ‬
‫اس قُونَ ﴾(الن ور‪)4:‬‬ ‫ك هُ ْم ْالفَ ِ‬ ‫ُ‬
‫فَاجْ لِدُوهُ ْم ثَ َمانِينَ َج ْل َدةً َواَل تَ ْقبَلُ وا لَهُ ْم َش هَا َدةً أَبَ دًا َوأوْ لَئِ َ‬
‫وهذه اآلية عامة في الزوج وغيره‪ ،‬وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الش هادة‪،‬‬
‫في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قول النبي ‪( :‬البينة وإال حد في ظهرك) (‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله ‪ ‬للمالعن‪(:‬عذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخرة) (‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ أن قذفه جناية منه على عرض ها‪ ،‬فك ان موجبه ا الح ُّد كق ذف األجنبـي‪،‬‬
‫ولما كان فيها شائبةُ الدعوى عليها بإتالفها لحقه وخيانتها فيه‪ ،‬ملك إسقاطَ ما يُوجبه‬
‫القذفُ ِمن الحد بلعان ه‪ ،‬ف إذا لم يُال ِعن م ع قدرت ه على اللع ان‪ ،‬وتمكن ه من ه‪ ،‬عم ل‬
‫القذف عملَه‪ ،‬واستقل بإيجاب الحد‪ ،‬إذ ال معارض له‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مقتضى‬
‫‪ 5‬ـ أن ه ق اذف يلزم ه الح د ل و ك ذب نفس ه‪ ،‬فلزم ه الح د إذا لم ي أت بالبين ة‬
‫المشروعة كاألجنبي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجب اللعان دون الحد‪ ،‬ف إن أبى حبس ح تى يالعن‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنفية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه أحمد ‪ )12477( 3/142‬وعبد بن حميد ‪ 1218‬ومسلم ‪ 3750‬والنسائي ‪.،6/171‬‬


‫‪ )(2‬البخاري ‪ )2671( 3/233‬و‪ )4747( 6/126‬و‪.)5307( 7/69‬‬

‫‪226‬‬
‫اجهُ ْم َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ْم ُش هَدَا ُء إِال أَنفُ ُس هُ ْم‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ أَ ْز َو َ‬
‫الص ا ِدقِينَ ‪(﴾..‬الن ور‪ ،﴾)9-6 :‬فلم ي وجب‬ ‫فَ َشهَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َش هَادَا ٍ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن َّ‬
‫بقذف األزواج إال اللعان‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن قذفه لها دعوى تُوجب أحد أمرين‪ ،‬إم ا لعان ه‪ ،‬وإم ا إقراره ا‪ ،‬ف إذا لم‬
‫س حتى يالعن‪ ،‬إال أن تُقِر فيزول موجبُ ال دعوى‪ ،‬وه ذا بخالف ق ذف‬ ‫يُالعن‪ ،‬حبِ َ‬
‫ق له عند المقذوفة‪ ،‬فكانَ قاذفا ً محضا‪ً.‬‬ ‫األجنبـي‪ ،‬فإنه ال ح ّ‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬ألنه ال فرق بين قاذف زوجت ه‬
‫وقاذف غيرها إال في موضع واحد هو االكتفاء بشهادته‪ ،‬مع تشريع اللعان ب دال عن‬
‫استكمال الشهود‪ ،‬ف إذا لم ي أت باللع ان ص ار ك األجنبي‪ ،‬ووجب علي ه ح د الق ذف‪،‬‬
‫فليس في النصوص ما يرفعه عنه‪ ،‬بل فيها كما ذكرنا ما يؤكده‪ ،‬وفي ذلك ردع عن‬
‫القذف في غير محله‪ ،‬وهو من المقاصد الشرعية في تشريع هذه العقوبة‪.‬‬
‫وق د ذك ر ابن القيم س بب الخالف في المس ألة بين الحنفي ة والجمه ور‪ ،‬وه و‬
‫ذف ال زوج المرأت ه هَ ل ه و الح د‪ ،‬كق ذف األجنبـي‪ ،‬ول ه‬ ‫اختالفهم في م وجب ق ِ‬
‫إسقاطه باللعان‪ ،‬أو موجبه اللعان نفسه؟ فاألول‪ :‬قول الجمهور‪ .‬والث اني‪ :‬ق ول أبـي‬
‫حنيفة(‪.)1‬‬
‫وقد رد ابن القيم على هذا التفسير من الحنفي ة للع ان بقول ه‪(:‬إن أردتُم أن من‬
‫موجبه إس قاطُ الح د عن نفس ه فح ق‪ ،‬وإن أردتُم أن س قوطَ الح د عن ه يس قط جمي ع‬
‫موجبه‪ ،‬وال موجب له سواه‪ ،‬فباطل قطعاً‪ ،‬ف إن وق وع الفرق ة‪ ،‬أو وج وب التفري ق‬
‫والتح ريم المؤب د‪ ،‬أو الم ؤقت‪ ،‬ونفي الول د المص رح بنفي ه‪ ،‬أو المكتفى في نفي ه‬
‫باللعان‪ ،‬ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد‪ ،‬أو ع ذاب الحبس‪ُ ،‬ك لُّ ذل ك‬
‫من موجب اللعان‪ ،‬فال يصح أن يقال‪ :‬إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ امتناع الزوجة عن المالعنة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو العنها‪ ،‬وامتنعت هي من المالعنة‪ ،‬هل عليه ا الح د أم‬
‫ال على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال ح د عليها(‪ ،)3‬وه و ق ول الحس ن‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأص حاب‬
‫الرأي والحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫اب الح د عليه ا‪ ،‬وله ذا ق ال‬ ‫موجب لِعانه إسقاط الحد عن نفسه ال إيج َ‬ ‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ أن‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/374 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/370 :‬‬
‫‪ )( 3‬وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما يصنع بها على رأيين كالهما روي عن أحمد‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬يخلى سبيلها‪ ،‬ألنه لم يجب عليها الحد‪ ،‬فيجب تخلية سبيلها‪ ،‬كما ل و لم تكم ل البين ة‪ ،‬انظ ر‪:‬‬
‫المحرر في الفقه‪ ،2/99 :‬الكافي في فقه ابن حنبل‪.3/291 :‬‬

‫‪227‬‬
‫قذف ال زوج‪ ،‬كم وجب‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫هركَ )(‪ ،)1‬وذلك ألن مو ِج َ‬ ‫النبـي ‪(‬البـينَةُ وإال َح ٌّد في ظَ ِ‬
‫قذف األجنبـي وهو الح ُّد‪ ،‬فجع ل هللا س بحانه ل ه طريق ا ً إلى التخلص من ه باللع ان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أح َد أمرين‪ :‬إما أربع ة ش هود‪ ،‬أو اع تراف‪ ،‬أو‬
‫الحبَ ُل عند من يَ ُح ُّد به ِمن الص حابة‪ ،‬كعم ر ومن وافق ه‪ ،‬وق د ق ال عم ر على من بر‬ ‫َ‬
‫رس ول هللا ‪(:‬وال رج ُم وا ِجبٌ على ُك ل من زَ نَى ِمن الرج ال والنس اء إذا ك ان‬
‫علي‪ ،‬فجعال‬‫محصنا ً إذا قا َمت بـينةٌ‪ ،‬أو كان ال َحبَلُ‪ ،‬أو االعترافُ ) (‪ ،)2‬وكذلك ق ال ٌّ‬ ‫َ‬
‫طريق الحد ثالثة لم يجعال فيها اللعان‪.‬‬
‫َ‬
‫اب أن تَش َهدَ﴾‪ ،‬فالعذاب ها هنا يجوز أن يُراد ب ه‬‫يدرؤ عَن َها ال َع َذ َ‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫إن ال دال على‬ ‫الح ُّد‪ ،‬وأن يُرا َد ب ه الحبسُ والعقوب ةُ المطلوب ة‪ ،‬فال يتعين إرادة الح د ب ه‪ ،‬ف ّ‬
‫ت ذل ك االحتم ال‪ ،‬فال ُ‬
‫يثبت‬ ‫المطلق ال يدلُّ على المقيد إال بدليل من خ ارج‪ ،‬وأدنى درج ا ِ‬
‫الح ُّد مع قيامه‪ ،‬وقد يُرجحُ هذا بما تقدم ِمن قول عمر وعلي ما‪ :‬إن الحد إنما يكون بالبـينة‬
‫أو االعتراف أو الحبل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله ‪( :‬ال َبـي َنةُ عَلى ال ُمدعي)‪ ،‬وال ريب أن الزوج ها هنا مدع‪ ،‬فلذلك وجب‬
‫عليه إقامة البينة إلقامة الحد عليها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ شدة الشرع في المطالبة ببينة الزنا‪ ،‬فقد اعت بر في بينت ه من الع دد ض عف م ا‬
‫اعتبر في سائر الحدود‪ ،‬واعتبر في حقهم أن يصفوا صورة الفعل‪ ،‬وأن يصرحوا بلفظه‪،‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬مبالغة في نفي الشبهات عنه‪ ،‬وتوسال إلى إسقاطه‪ ،‬فلذلك ال يجوز أن يقض ى‬
‫فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة‪ ،‬ال يقضى به في شيء من الح دود وال العقوب ات م ا‬
‫عدا األموال‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الح د ال يثبت ب النكول‪ ،‬فإن ه ي درأ بالش بهات‪ ،‬فال يثبت به ا‪ ،‬ألن النك ول‬
‫يحتمل أن يكون لشدة محافظتها‪ ،‬أو لعقلة على لسانها‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن تحقق زناها ال يخلو إما أن يكون بلعان الزوج‪ ،‬أو بنكولها‪ ،‬أو بهما جميعا‪،‬‬
‫وال يجوز أن يكون بلعان الزوج وح ده ؛ ألن ه ل و ثبت زناه ا ب ه‪ ،‬لم ا س مع لعانه ا‪ ،‬وال‬
‫وجب الحد على قاذفها‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنها لو أقرت بلس انها‪ ،‬ثم رجعت‪ ،‬لم يجب عليه ا الح د‪ ،‬فألن ال يجب بمج رد‬
‫امتناعها من اليمين على براءتها أولى‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن اللعان إما يمين‪ ،‬وإما شهادة‪ ،‬وكالهما ال يثبت له الحق على غيره‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أنه لم يتحقق من زناها‪ ،‬فال يجب عليها الحد‪ ،‬كما لو لم يالعن‪.‬‬
‫ان‪،‬‬ ‫َ‬
‫وجبُ الح د عليه ا‪ ،‬لم تمل ك إس قاطه باللع ِ‬ ‫‪ 10‬ـ ل و ك ان ِلع انُ الرج ل بـين ًة تُ ِ‬
‫وتكذيب البـينة‪ ،‬كما لو شهد عليها أربعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫غيره‪ ،‬لم تحد بهذه الشهادة‪ ،‬فألن ال تحد بش هادته‬ ‫‪ 11‬ـ أنه لو شهد عليها مع ثالثة ِ‬
‫وحده أولى وأحرى‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه أحمد ‪ )12477( 3/142‬وعبد بن حميد ‪ 1218‬ومسلم ‪ 3750‬والنسائي ‪.،6/171‬‬


‫‪ )(2‬ذكره في‪ :‬القرطبي‪ ،10/185 :‬المغني‪.9/60 :‬‬

‫‪228‬‬
‫‪ 12‬ـ أنه أح ُد المتالعنين‪ ،‬فال يُوجبُ حد اآلخر‪ ،‬كما لم يُوجب ِلعانُها حده‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن عليه ا الح د‪ ،‬وه و ق ول مكح ول‪ ،‬والش عبي‪ ،‬ومال ك‪،‬‬
‫والش افعي‪ ،‬وأبي عبي د‪ ،‬وأبي ث ور‪ ،‬وأبي إس حاق الجوزج اني‪ ،‬وابن المن ذر‪ ،‬وق د‬
‫رجحه ابن القيم‪ ،‬وانتصر له‪ ،‬قال بعد سوقه ألدلة ترجيح ه‪( :‬وإذا تبـين ه ذا‪ ،‬فه ذا‬
‫هو القو ُل الصحيح الذي ال نعتقِ ُد سواه‪ ،‬وال نرتضي إال إياه) (‪ ،)1‬وه ذا ملخص م ا‬
‫ذكره من أدلة‪ ،‬ومن أجوبة على المخالفين من أصحاب القول األول(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هللا تعالى جعل التع انَ ال زوج ب دالً عن الش هود‪ ،‬وقائم ا ً مق امهم‪ ،‬ب ل‬
‫وصرح بأن لِع انهم ش هادةٌ‪ ،‬وأوض ح ذل ك‬ ‫َ‬ ‫جعل األزواج الملتعنِينَ شهدا َء كما تقدم‪،‬‬
‫ت باهللِ ﴾(الن ور‪ ،)6:‬وه ذا‬ ‫اب أَن تَشهَ َد أربَ َع َش هَادَا ٍ‬
‫َ‬ ‫يدر ُؤ عَنهَا ال َع َذ َ‬
‫بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫سبب العذاب الدنيوي قد ُو ِجدَ‪ ،‬وأنه ال يدفعه عنها إال لعانُه ا‪ ،‬والع ذاب‬ ‫َ‬ ‫يدلُّ على أن‬
‫الم دفوع عنه ا بلعانه ا ه و ال َم ذ ُكور في قول ه تع الى ﴿وليَش هَد َع َذابَهُما طَائِفَ ةٌ ِمنَ‬
‫ال ُمؤ ِمنينَ ﴾‪ ،‬وهذا عذابُ الحد قطعاً‪ ،‬فذكره مضافاً‪ ،‬ومعرفا ً بالم العهد‪ ،‬فال يجو ُز أن‬
‫من حبس أو غ يره‪،‬‬ ‫ينصرفَ إلى عُقوب ٍة لم تُذكر في اللفظ‪ ،‬وال دل عليه ا بوج ٍه م ا ِ‬ ‫ِ‬
‫فكيف يخلى سبـيلُها‪ ،‬ويدرأ عنها العذابُ بِغ ير لِع ان‪ ،‬وه ل ه ذا إال مخالف ةٌ لِظ اهر‬
‫القرآن؟‬
‫‪ 2‬ـ جعل هللا تعالى لِ َعانَ الزوج دارئا ً لحد القذف عن ه‪ ،‬وجع ل لِع انَ الزوج ة‬
‫دارئا ً لعذاب حد الزنى عنها‪ ،‬فكما أن ال زوج إذا لم يُالعن يُح ُّد َح د الق ذف‪ ،‬فك ذلك‬
‫الزوجةُ إذا لم تُالعن يجب عليها الحد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن استدالل المخالفين بأن لعانَ الزوج لو كان بـينة تُوجب الح د عليه ا لم‬
‫تملك هي إسقاطه باللعان‪ ،‬كش هادة األجنبـي‪ ،‬ف الجواب علي ه ب أن حكم اللع ان حُك ٌم‬
‫مستق ٌّل بنفسه غي ُر مردود إلى أحكام الدعاوى والبـينات‪ ،‬ب ل ه و أص ل ق ائم بنفس ه‬
‫الحالل والح رام‪ ،‬ولم ا‬ ‫َ‬ ‫األحكام‪ ،‬وفص له ال ذي فص ل‬ ‫ِ‬ ‫َشرعَه الذي شرع نظي َره ِمن‬
‫كان لِعانُ الزوج بدالً عن الشهود ال َج َر َم نزل عن مرتب ة البـينة‪ ،‬فلم يس تقِل وح دَه‬
‫بحكم البـينة‪ ،‬وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره‪ ،‬وحينئ ذ فال يظه ر ت رجي ُح أح د‬
‫اللعانين على اآلخر لنا‪ ،‬وهللا يعلم أن أح دهما ك اذب‪ ،‬فال وج ه لح د الم رأة بمج ر ِد‬
‫لِع ان ال زوج‪ ،‬ف إذا ُمكنت من معارض ته وإتيانه ا بم ا يُ برىء س احتها‪ ،‬فلم تفع ل‪،‬‬
‫ونكلت عن ذلك‪َ ،‬ع ِم َل المقتض ى ع َمل ه‪ ،‬وانض اف إلي ه قرين ة قوت ه وأكدت ه‪ ،‬وهي‬
‫نكو ُل المرأة وإعراضُها عما يُخلصها من العذاب‪َ ،‬ويَد َرؤُه عنها‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ 4‬ـ أن استشهاد المخالفين بأنه ل و ش هد عليه ا م ع ثالث ة غ يره لم ت َح د به ذه‬
‫الشهادة‪ ،‬فكيف تُح ُّد بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها لم تُحد بشهادة مجردة‪ ،‬وإنم ا ُح دت‬
‫خمس م رات‪ ،‬ونكولِه ا عن معارض ته م ع ق درتها علي ه‪ ،‬فق ا َم من‬ ‫َ‬ ‫بمجم وع لِعان ه‬
‫والظن المس تفاد من ه‬ ‫ُّ‬ ‫مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والق وة على ص حة قول ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/373 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬زاد المعاد‪.5/369 :‬‬

‫‪229‬‬
‫أقوى بكثير من الظن المستفاد من شهادة الشهود‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن استشهاد المخالفين بأن الزوج أح د اللع انين‪ ،‬فال يُ وجب ح د اآلخ ر‪،‬‬
‫كما لم يُوجب لِعانُها حده‪ ،‬فجوابه أن لِعانها إنما شرع لل دفع‪ ،‬ال لإليج اب‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫مقتض إليج اب‬ ‫ٍ‬ ‫اب أَن تَش هَدَ﴾ ف دل النصُّ على أن لعان ه‬‫تعالى‪َ ﴿ :‬ويَد َر ُؤ عَنهَ ا ال َع َذ َ‬
‫اللعانين على اآلخر جمع بـين ما‬ ‫ِ‬ ‫الحد‪ ،‬ولعانها دافع ودارىء ال موجب‪ ،‬فقياسُ أحد‬
‫فرق هللا سبحانه بـينهما وهو باطل‪.‬‬
‫دعي) على ع دم الح د ال‬ ‫‪ 6‬ـ أن استدالل المخالفين بقوله ‪( ‬البـينةُ عَلى ال ُم ِ‬
‫ُ‬
‫ذكور المك رر بـينة‪ ،‬وق د انض م إليه ا نكوله ا الج اري‬ ‫ِ‬ ‫زوج الم‬
‫ِ‬ ‫يصح‪ ،‬ألن لِعان ال‬
‫مجرى إقراره ا عن د ق وم‪ ،‬ومج رى بـينة الم دعين عن د آخ رين‪ ،‬وه ذا ِمن أق وى‬
‫البـينات‪ ،‬ويدل عليه أن النبـي ‪‬قال له‪( :‬البـينةُ وإال َح ٌّد في ظهرك)‪ ،‬ولم يُبطل هللاُ‬
‫سبحانه هذا‪ ،‬وإنما نقله عن د عج زه عن بـينة منفص لة تُس قط الح د عن ه يعج ز عن‬
‫إقامتها‪ ،‬إلى بـينة يتمكن ِمن إقامتها‪ ،‬ولم ا ك انت دونه ا في الرتب ة‪ ،‬اعت بر له ا ُمق ٍو‬
‫منفصل‪ ،‬وهو نكو ُل المرأة عن دفعها‪ ،‬ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن اس تدالل المخ الفين بع دم تحق ق زناه ا ال يص ح‪ ،‬ألن التحقي ق اليقينَ‬
‫المقطو َع به كالمحرمات‪ ،‬ال يُشترط في إقامة الحد‪ ،‬ول و ك ان ه ذا ش رطاً‪ ،‬لم ا أقي َم‬
‫الح ُّد بشهاد ِة أربعة‪ ،‬إذ شهادتُهم ال تجع ُل الزنى محققا ً بهذا االعتبار‪ ،‬وإن أريد بع دم‬
‫ك فيه على السواء‪ ،‬بحيث ال يترجح ثبوتُه‪ ،‬فباطل قطع اً‪ ،‬وإال لم ا‬ ‫التحقق أنه مشكو ٌ‬
‫ق المس تفا َد ِمن لعان ه المؤك د‬ ‫ريب أن التحقُّ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وجب عليها العذابُ المد َرأ بلعانه ا‪ ،‬وال‬
‫المكرر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود‪ ،‬ولعل‬
‫لهم غرضا ً في قذفها وهت ِكها وإفسادها على زوجها‪ ،‬والزو ُج ال غرض ل ه في ذل ك‬
‫منها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و ال تربص به ا للنظ ر في عل ة امتناعه ا عن‬
‫اللع ان‪ ،‬وفي تل ك الف ترة يمكن وعظه ا وت ذكيرها‪ ،‬وتب يين عظم العقوب ة ال تي ق د‬
‫تتعرض لها في حال نكولها‪ ،‬وبعد ذل ك إن اس تمر نكوله ا أو اع ترفت وجب عليه ا‬
‫الحد الشرعي إال إذا قامت الشبه على درء الحد عنه ا ك أن تك ون ق د أك رهت على‬
‫الزنا وغير ذلك‪.‬‬
‫والعلة المانعة من تعجيل العقوبة بمجرد نكوله ا أن بعض الن اس يت ورع من‬
‫الحلف ول و ك ان ص ادقا مخاف ة اإلثم‪ ،‬أو لعله ا ال تع رف الم راد من الزن ا حقيق ة‪،‬‬
‫فيختلط عندها مع المباشرة ونحوها‪ ،‬فلذلك ك ان في ال تربص مزي د تيقن قب ل إقام ة‬
‫الحد‪.‬‬
‫والفرق بين تعجيل العقوبة للزوج الممتنع والتريث بها للزوجة الممتنع ة‪ ،‬أن‬
‫الزوج مدع‪ ،‬وعقوبته أهون‪ ،‬بينما هي مدعى عليه ا‪ ،‬ومتهم ة في عرض ها‪ ،‬وذل ك‬
‫مما يشدد المصيبة عليها‪ ،‬فال تعرف الطريقة السليمة للتصرف‪ ،‬فتحتاج إلى التريث‬
‫والمراجعة والتذكير‪ ،‬زيادة على ذلك عظم العقوبة المتعلقة بنكوله ا مقارن ة بعقوب ة‬

‫‪230‬‬
‫الرجل‪.‬‬
‫أما ما ذهب إليه أصحاب الق ول األول‪ ،‬ف إن األدل ة الص ريحة تخالف ه زي ادة‬
‫على أن اللعان يصبح بذلك أمرا شكليا ال مص لحة واقعي ة ل ه‪ ،‬ف أي ام رأة تحت أي‬
‫زوج يمكن أن تفعل ما تشاء ال تخاف أن يبصرها زوجها‪ ،‬ألن الح د مرف وع عنه ا‬
‫سواء التعنت أو لم تلتعن‪.‬‬
‫حكم قتل من وجد رجال في بيته‬
‫اختلف الفقهاء في وج وب القص اص على من قت ل رجال وج ده في بيت ه م ع‬
‫أهله على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه يُقتل به‪ ،‬وقد روي عن عمر كما سنذكر قصته في ذلك‪ ،‬وبه‬
‫قال بعض أصحاب المذاهب مع اختالف بينهم في بعض التفاصيل التي تق ربهم من‬
‫القول الثاني‪ ،‬فقال الشافعي وأبو ثور‪ ،‬يسعهُ قتلُه فيما بـينه وبـين هللا تع الى إذا ك ان‬
‫الزاني محصناً‪ ،‬فجعاله من باب الحدود‪ ،‬وقال أحم د وإس حاق‪ ،‬يُه َد ُر د ُم ه إذا ج اء‬
‫بشاهدين ولم يُفصال بـين المحص ن وغ يره‪ ،‬واختلَ فَ ق و ُل مال ك في ه ذه المس ألة‪،‬‬
‫فقال ابنُ حبـيب‪ :‬إن كان المقتو ُل محصناً‪ ،‬وأقام الزو ُج البـينة‪ ،‬فال شيء علي ه‪ ،‬وإال‬
‫المحص ِن س واء‪ ،‬ويه دُر‬‫َ‬ ‫فالمحصنُ وغي ُر‬
‫َ‬ ‫قُتل به‪ ،‬وقال ابنُ القاسم‪ :‬إذا قامت البـينةُ‬
‫دمه‪ ،‬واستحب ابنُ القاسم الديةَ في غير المحصنَ ‪.‬‬
‫وقد اختاره ابن تيمية‪ ،‬ومما نقله عنه ابن القيم من قوله في ذلك‪(:‬ليس هذا ِمن‬
‫دفع الصائل‪ ،‬بل ِمن باب عقوب ِة المعتدي الم ؤذي‪ ،‬وعلى ه ذا فيج و ُز ل ه فيم ا‬ ‫ب ِ‬ ‫با ِ‬
‫محص نا ً أو غ ي َر‬
‫َ‬ ‫بـينَه وبـين هللاِ تع الى قت ُل من اعت دى على حري ِم ه‪ ،‬س واء ك ان‬
‫محصن‪ ،‬معروفا ً ب ذلك أو غ ي َر مع روف‪ ،‬كم ا دل علي ه كالم األص حاب‪ ،‬وفت اوى‬
‫الصحابة) (‪ ،)1‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن عمر بـينا هو يوما ً يتغدى‪ ،‬إذ جاءه رج ٌل يع دو وفي ي ده س يف ملطخ‬
‫جلس مع عمر‪ ،‬فجاء اآلخرون‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أمي َر‬ ‫َ‬ ‫بدم‪ ،‬ووراءه قوم يعدون‪ ،‬فجاء حتى‬
‫ير المؤم نين‬ ‫المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬ما تق ول؟ فق ال ل ه‪ :‬ي ا أم َ‬
‫إني ضربت بـين فخذي امرأتي‪ ،‬ف إن ك ان بـينَهما أح د فق د قتلتُ ه‪ ،‬فق ال عم ر‪ :‬م ا‬
‫بالسيف‪ ،‬فوقع في وسط الرجل وفخذي‬ ‫ِ‬ ‫ضرب‬
‫َ‬ ‫تقولون؟ فقالوا‪ :‬يا أمير المؤمنين إنه‬
‫المرأة‪ ،‬فأخذ عُمر سيفَه فه ّزه‪ ،‬ثم دفعه إليه‪ ،‬وقال‪ :‬إن عادوا‪ ،‬فعد(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ عن الشعبي قال‪ :‬كان رجالن أخوان من األنصار يقال ألح دهما أش عث فغ زا‬
‫في جيش من جيوش المسلمين‪ ،‬قال‪ :‬فقالت‪ :‬امرأة أخيه ألخيه ه ل ل ك في ام رأة أخي ك‪،‬‬
‫معها رجل يحدثها‪ ،‬فصعد فأشرف علي ه وه و معه ا على فراش ها‪ ..‬ف وثب إلي ه الرج ل‬
‫فضربه بالسيف حتى قتل ه‪ ،‬ثم ألق اه‪ ،‬فأص بح ق تيال بالمدين ة‪ ،‬فق ال عم ر‪(:‬أنش د هللا‬
‫رجال كان عنده من هو أعلم إال قام ب ه)‪ ،‬فق ام رج ل ف أخبره بالقص ة‪ ،‬فق ال‪ :‬س حقا‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/406 :‬‬


‫‪ )(2‬المغني‪.8/216 :‬‬

‫‪231‬‬
‫وبعدا(‪.)1‬‬

‫‪ 3‬ـ عن أنس أن رجالً أطلع ِمن جح ر في بعض حُج ر النبـي ‪ ،‬فق ام إلي ه‬
‫بمش اقِص‪ ،‬وجع ل يَختِلُ ه ليطعنَه(‪ ،)2‬ق ال ابن القيم تعليق ا على ه ذا‬ ‫ص أو َ‬ ‫ب ِمش قَ ٍ‬
‫ُ‬
‫الحديث‪(:‬فأين الدف ُع باألسهل وهو ‪ ‬يختِله‪ ،‬أو يختبىء له‪ ،‬ويختفي لِيَطعنَه)‬
‫‪ 4‬ـ عن سهل بن سعد أن رجالً اطلع في جُح ٍر في ب اب النبـ ّي ‪ ،‬وفي ي د‬
‫نت ب ه في‬ ‫ُك بِ ِه َرأ َسهُ‪ ،‬فلما رآهُ قال‪( :‬لَو أَعلَ ُم أَنكَ تَنظُ رني لَطَ َع ُ‬ ‫ى يَح ُّ‬ ‫النبـي ‪ِ ‬مدر ً‬
‫ص ِر) (‪.)3‬‬ ‫َ‬
‫عَينِك‪ ،‬إنما ُج ِع َل اإلذنُ ِمن أج ِل البَ َ‬
‫ً‬
‫‪ 5‬ـ ما ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬لَو أن امرأ اطلَ َع َعلَي َ‬
‫ك بِ َغ ِ‬
‫ير‬
‫ك ُجنَاحٌ) (‪ ،)4‬وفي رواي ة‪َ ( :‬من اطلَ َع‬ ‫صا ٍة‪ ،‬فَفَقَأتَ عَينَهُ لَم يَ ُكن َعلَي َ‬‫إذ ٍن‪ ،‬فَ َخ َذفتَهُ بِ َح َ‬
‫اص) (‪.)5‬‬
‫ص َ‬ ‫َير إذنِ ِهم‪ ،‬فَفَقؤوا عَينَهُ فَالَ ِديَةَ لَهُ َوالَ قِ َ‬ ‫ت قَ ٍ‬
‫وم بِغ ِ‬ ‫في بَـي ِ‬
‫‪ 6‬ـ أن م ا اس تدل ب ه المخ الفون من ح ديث س عد بن عب ادة ص حيح نق ول‬
‫وآخ ُر الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به‪ ،‬ألنه قال‪ :‬بلى والذي أكر َم كَ‬ ‫بموجبه‪ِ ،‬‬
‫بالحق‪ ،‬ولو وجب عليه القصاصُ بقتله‪ ،‬لما أقره على ه ذا الحل ف‪ ،‬ولم ا أث نى على‬
‫غَي َرته‪ ،‬ولقال‪ :‬لو قتلتَه قُتِلتَ به‪ ،‬والحديث صري ٌح في هذا‪ ،‬فإن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫َيرة َسع ٍد فَ َوهللاِ ألَنَا أَغيَ ُر ِمنهُ وهللاُ أَغيَ ُر ِم ني) (‪ ،)6‬ولم ينك ر علي ه‪،‬‬ ‫َعجبُونَ ِمن غ َ‬ ‫(أَت َ‬
‫وال نهاه عن قتله‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه ال يُقتل به‪ ،‬وهو قول علي على حسب ما نقل عنه‪ ،‬فقد ُسئِ َل‬
‫ت بأربع ِة ُشهداء‪ ،‬فليُع طَ بِرُمتِ ِه‪ ،‬ق ال ابن‬ ‫عمن َو َج َد مع امرأته رجالً فقتله‪ :‬إن لم يأ ِ‬
‫عبد البر‪( :‬وال خالف علمته بين العلماء(‪ )7‬فيمن قتل رجال‪ ،‬ثم ادعى أن ه إنم ا قتل ه‬
‫ألنه وجده مع امرأته بين فخذيها ونحو ذل ك من وج وه زن اه به ا‪ ،‬ولم يعلم م ا ذك ر‬
‫عنه إال بدعواه‪ ،‬أنه ال يقبل منه ما ادعاه‪ ،‬وأنه يقت ل ب ه إال أن ي أتي بأربع ة ش هداء‬
‫يشهدون أنهم رأوا وطئه لها وإيالجه فيها‪ ،‬ويكون مع ذلك محصنا مس لما بالغ ا‪ ،‬أو‬
‫من يحل دمه بذلك‪ ،‬فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا وإال قتل)‬
‫ثم قال مبين ا وج ه االس تدالل على ه ذا‪( :‬وه ذا أم ر واض ح ل و لم يجيء ب ه‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪.21/258 :‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،6/2530 :‬مسلم‪ ،3/1699 :‬البيهقي‪ ،8/338 :‬أبو داود‪ ،4/343 :‬أحمد‪.3/242 :‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪ ،6/2530 :‬مسلم‪ ،3/1698 :‬ابن حبان‪ ،13/126 :‬النسائي‪.4/247 :‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،6/2525 :‬مسلم‪ ،3/1699 :‬ابن حبان‪ ،13/350 :‬البيهقي‪ ،8/338 :‬أحمد‪.2/243 :‬‬
‫‪ )(5‬البيهقي‪ ،8/338 :‬الدارقطني‪ ،4/144 :‬النسائي‪ ،4/247 :‬الموطأ‪.2/873 :‬‬
‫‪ )(6‬أخرج ه أحم د ( ‪ ،4/248‬رقم ‪ ،)18193‬والبخ ارى (‪ ،6/2698‬رقم ‪ ،)6980‬ومس لم (‪ ،2/1136‬رقم‬
‫‪)1499‬‬
‫‪ )(7‬لكنه عاد فنقل عن ابن القاسم في هذه المسألة أنه لو ك ان المقت ول بك را ح ده الجل د‪ ،‬فقتل ه ثم أتى بأربع ة‬
‫شهداء أنهم رأوا ذلك كالمرود في المكحلة‪ ،‬ق ال ابن القاس م‪ «:‬يس تحب في ه ذا أن تك ون الدي ة على القات ل في مال ه‬
‫يؤديها إلى أولياء المقتول»‪ ،‬قال‪ :‬وغيره يرى عليه في ذلك القود ألنه قتل من لم يجب عليه القتل‪ ،‬التمهيد‪.8/259 :‬‬

‫‪232‬‬
‫الخبر ألوجبه النظر‪ ،‬ألن هللا حرم دماء المسلمين تحريما مطلقا‪ ،‬فمن ثبت عليه أن ه‬
‫قتل مسلما ف ادعى أن المس لم ق د ك ان يجب قتل ه لم يقب ل من ه رفع ه القص اص عن‬
‫نفسه‪ ،‬حتى يتبين ما ذكر‪ ،‬وهكذا كل من لزمه حق آلدمي لم يقبل قوله في المخ رج‬
‫منه إال ببينة تشهد له بذلك)‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫الرجل يَ ِج ُد‬
‫َ‬ ‫رسول هللا‪ :‬أرأيتَ‬‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ عن أبـي هريرة‪ ،‬أن سعد بن عبادة قال‪ :‬يا‬
‫ك‬ ‫م ع امرأت ه رجالً أيقتُلُ ه؟ فق ال رس ول هللا ‪( :‬ال)‪ ،‬فق ال َس ع ٌد‪ :‬بَلَى وال ِذي بَ َعثَ َ‬
‫بالحق‪ ،‬فقال رسو ِل هللا ‪( :‬اس َمعُوا إلى َما يَقُو ُل َس ي ُد ُكم)‪ ،‬وفي اللف ظ اآلخ ر‪( :‬إن‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دت َم َع امرأتِي َر ُجالً أم ِهل هُ َح تى آتي بِأربَ َع ِة ُش هَدَاء؟ ق ال‪( :‬نعم) ق ال‪ :‬وال ذي‬ ‫َو َج ُ‬
‫بل ذلِكَ ‪ ،‬ق ال رس و ُل هللا ‪( :‬اس َمعُوا إلى‬ ‫بالسيف قَ َ‬
‫ِ‬ ‫نت ألعَا ِجلُهُ‬‫ُ‬ ‫بالحق‪ ،‬إن ُك ُ‬‫بَ َعثَكَ َ‬
‫ر ِمني؟)(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َما يَقُو ُل َسي ُد ُكم إنهُ لَ َغيُو ٌر وأنَا أغيَ ُر ِمنهُ‪ ،‬وهللاُ أغيَ ُ‬
‫ال يقتُلُه فتقتُلُونه به)‪ ،‬وهو دلي ل على‬ ‫ال َو َج َد مع امرأ ِت ِه رج ً‬
‫أن رج ً‬ ‫‪ 2‬ـ قوله ‪َ (:‬لو ّ‬
‫حريم ه‪ ،‬قت ل في ه‪ ،‬وال يُقب ل‬ ‫ِ‬ ‫ال في داره‪ ،‬وادعى أنه وج ده م ع امرأ ِت ه أو‬ ‫أن من قتل رج ً‬
‫قوله‪.‬‬
‫داره‪،‬‬ ‫ت ال دما ُء‪ ،‬وك ان ك ل من أراد قت َل رج ل أدخل ه َ‬ ‫ُ‬
‫‪ 3‬ـ أنه لو قُ ِب َل قولُه‪ ،‬أله ِد َر ِ‬
‫وادعى أنه وجده مع امرأته‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ما روي في هذه المسألة عن عمر أنه أهدر دمه لم يصح‪ ،‬وإنما يصح‬
‫عن عمر أنه أه در دم ال ذي أراد اغتص اب الجاري ة الهذلي ة نفس ها‪ ،‬فرمت ه بحج ر‬
‫ففضت كبده فمات‪ ،‬فارتفعوا إلى عمر فقال‪ :‬ذلك قتي ل هللا‪ ،‬وهللا ال ي ودى أب دا‪ .‬ق ال‬
‫ابن عبد البر‪ :‬ففي هذا جاء عن عمر أنه أهدر دم ه‪ ،‬ألنه ا دفعت ه عن نفس ها‪ ،‬ف أتى‬
‫دفعها على روحه ال في الذي وجد مع امرأته رجال)(‪)2‬‬
‫‪ 5‬ـ أن ما روي عن هانئ بن حرام أن رجال وجد م ع امرأت ه رجال فقتلهم ا‪،‬‬
‫فكتب عمر بكتاب في العالنية أن أقيدوه‪ ،‬وكتابا في السر أن أعطوه الدية‪ ،‬ال يصح‪،‬‬
‫ق ال ابن عب د ال بر‪( :‬وه ذا ال يص ح مثل ه عن عم ر وهللا أعلم‪ ،‬ولم تكن في أخالق ه‬
‫المداهنة في دين هللا) (‪)3‬‬
‫‪ 6‬ـ أن م ا رواه الش عبي عن عم ر ال يص ح‪ ،‬ق ال ابن عب د ال بر‪(:‬ه ذا خ بر‬
‫منقطع وليس فيه شهادة قاطعة على معاينة القت ل وال إق رار القات ل‪ ،‬فال حج ة في ه)‬
‫(‪ ،)4‬وذكر عن مجاهد أنه كان ينكر أن يكون عم ر أه در دم ه إال بالبين ة‪ ،‬ق ال ابن‬
‫جريج وقال عطاء ال إال بالبينة‪ ،‬وق د ج اء عن عم ر في رج ل وج د رجال في داره‬
‫ملفوفا في حصير بعد العتمة أنه ضربه مائة جلدة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪ ،2/1135 :‬مسند أبي عوانة‪.3/214 :‬‬


‫‪ )(2‬التمهيد‪.21/256 :‬‬
‫‪ )(3‬التمهيد‪.21/258 :‬‬
‫‪ )(4‬التمهيد‪.21/258:‬‬

‫‪233‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و التفري ق في ه ذا بين أم رين‪ ،‬يمكن من‬
‫خاللهم ا الجم ع بين النص وص‪ ،‬وم ا روي عن الص حابة‪ ،‬وه و أن حكم المس ألة‬
‫يختلف بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي‪.‬‬
‫أما الحكم التكليفي‪ ،‬فإن ما ذكرنا من أدلة نصية يدل على إباحة القتل ونحوه‪،‬‬
‫حرصا على حرمة البيوت‪ ،‬وتلبية لدافع الغ يرة ال تي جب ل عليه ا اإلنس ان الس وي‪،‬‬
‫ولكن مع ذلك نرى أن ال يعمد في هذه الحالة إلى القتل المباشر‪ ،‬بل يمكن أن يدفع ه‬
‫بط رق مختلف ه‪ ،‬وال نري د ب ذلك م ا ذك ره بعض الفقه اء من أن ه يدفع ه باألس هل‬
‫فاألس هل‪ ،‬فيب دأ بقول ه‪ :‬انص رف واذهب‪ ،‬وإال نفع ل ب ك ك ذا‪ ،‬ف إن م ا ج اء في‬
‫النصوص السابقة يدل على خالفه‪ ،‬بل نري د أن يص يبه ب أذى ال يقتل ه ب ه‪ ،‬ال خوف ا‬
‫على حياة من اقتحم بيته‪ ،‬وإنم ا حرص ا على مص لحة من ي دافع على عرض ه كم ا‬
‫سنذكره في الحكم الوضعي‪.‬‬
‫أما الحكم الوضعي‪ ،‬فإن هذا القات ل ال يس لم من القص اص المش روع بس بب‬
‫القت ل العم د إال ببين ة تثبت ص دق م ا ي دعي‪ ،‬وه ذا ح تى ال يعم د أي قات ل لجلب‬
‫المقتول إلى بيته‪ ،‬ثم رميه بعرضه‪ ،‬ولهذا رجحنا عدم العمد إلى القت ل المباش ر لم ا‬
‫قد ي ؤدي إلى ع دم الحص ول على بين ة تثبت دع واه‪ ،‬ق ال ابن القيم مبين ا عل ل ه ذا‬
‫الحكم الوضعي تعقيبا على حديث سعد بن عبادة‪( :‬ألن قولَه ‪ ‬حُكم مل زم‪ ،‬وك ذلكَ‬
‫فتواه حكم عام لألمة‪ ،‬فلو أذن له في قتله‪ ،‬لك ان ذل ك حكم ا ً من ه ب أن دم ه ه د ٌر في‬
‫صاص‪ ،‬وتهالك الناس في‬ ‫ِ‬ ‫ظاهر الشرع وباطنه‪ ،‬ووقعت المفسدةُ التي درأها هللاُ بالقِ‬
‫قتل من يريدون قتل ه في دورهم‪ ،‬وي دعونَ أنهم ك انُوا يَ َرونَهُم على ح ريمهم‪ ،‬فس د‬
‫الذري َعةَ‪ ،‬وح َمى المفسدَة‪ ،‬وصان الدماء‪ ،‬وفي ذلك دليل على أنه ال يُقبل قو ُل القات ل‬ ‫ِ‬
‫وي ُقاد به في ظاهر الشرع) (‪)1‬‬
‫وبهذا نفرق بين الحكم األخروي الذي هو ارتفاع اإلثم عن فاعل ذلك حرصا‬
‫على عرضه‪ ،‬وبين الحقوق الدنيوية التي تقتضيها المصالح الشرعية‪ ،‬ولو تأملنا م ا‬
‫ورد عن الصحابة مما سقناه لكال القولين وجدناه يدل على هذا‪ ،‬وله ذا نفى ابن القيم‬
‫ق بـينهما‪.‬‬ ‫وجود الخالف بين الص حابة فق ال‪( :‬ولكن ه ا هن ا مس ألتان يجب التفري ُ‬
‫إحداهما‪ :‬هل يسعه فيما بـينه وبـين هللا تعالى أن يقتُلَه‪ .‬أم ال؟ والثانية‪ :‬هل يُقبل قوله‬
‫في ظاهر الحكم أم ال؟ وبهذا التفريق ي زو ُل اإلش كا ُل فيم ا نُق َل عن الص حابة م في‬
‫ذلك) (‪)2‬‬
‫ثم بين وجه الجم ع بين الرواي ات ال واردة في ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬وأنتَ إذا ت أملتَ‬
‫حُكميهما‪ ،‬لم تَ ِجد بـينهما اختالفاً‪ ،‬فإن عمر إنما أسقط عنه القو َد لم ا اع ترف ال ُّ‬
‫ولي‬
‫الولي‬
‫ُّ‬ ‫بأنه كان مع امرأته‪ ،‬وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب (المغني)‪ :‬فإن اعترفَ‬
‫صاص وال ِدية‪ ،‬لما رُوي عن عمر‪ ،‬ثم ساق القِصة‪ ،‬وكالم ه يُعطي أن ه‬ ‫َ‬ ‫بذلك‪ ،‬فال قِ‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/408 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/403 :‬‬

‫‪234‬‬
‫ير محص ن‪ ،‬وك ذلك حك ُم عم ر في ه ذا القتي ل‪،‬‬ ‫ال فرق بـين أن يك ون محص نا ً وغ َ‬
‫المحص ن وغ يره‪ ،‬وه ذا ه و الص وابُ )‬
‫َ‬ ‫وقولُه أيضاً‪ :‬فإن عادوا فعد ولم يفرق بـين‬
‫(‪)1‬‬
‫أما البينة التي ترفع القصاص عن القاتل‪ ،‬فاألرجح أنها كسائر البينات خالف ا‬
‫لمن اش ترط أربع ة ش هود‪ ،‬ألن البين ة هن ا ليس ت على ال زنى‪ ،‬ق ال ابن القيم‪:‬‬
‫ولي‪ ،‬س قط القص اص محص نا ً‬ ‫(والصحيح أن البـينة متى قامت بذلك‪ ،‬أو أق ر ب ه ال ُّ‬
‫كان أو غيره‪ ،‬وعليه يدل كالم علي‪ ،‬فإنه قال فيمن وجد مع امرأت ه رجالً فقتل ه‪ :‬إن‬
‫لم يأت بأربعة شهداء فليُعطَ بِرُمتِ ِه وهذا ألن ه ذا القت ل ليس بح د ال زنى‪ ،‬ول و ك ان‬
‫حداً لما كان بالسيف والعتُبِ َر له شروطُ إقامة الح د وكيفيت ه‪ ،‬وإنم ا ه و عقوب ةٌ لمن‬
‫تعدى عليه‪ ،‬وهتك حري َمه‪ ،‬وأفسد أهلَه) (‪)2‬‬

‫ثالثا ـ شروط صحة اللعان‬


‫يشترط لصحة اللعان الشروط التالية مع اختالف بين الفقهاء في تفاصيلها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ توفر القرائن الكافية الدالة على ثبوت الزنى‬
‫اختل ف الفقه اء في الق رائن ال تي ت دررؤ ح د الق ذف عن ال زوج‪ ،‬وتص ح‬
‫بموجبها المالعنة على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬إن المالعن ة التجب إال بقريني تين هم ا ادع اء الرؤي ة‪ ،‬أو نفي‬
‫الحمل مع دعوى االستبراء‪ ،‬وق د روي عن مال ك‪ ،‬فق د ك ان يق ول‪ :‬اليالعن إال أن‬
‫يقول رأيتك تزني أو ينفي حمال أو ولدا منها‪ ،‬وهو قول أبي الزناد ويحيى بن س عيد‬
‫والبتي‪ ،‬وهو المشهور عند مالك وقاله ابن القاسم‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن ابن عب اس في ح ديث هالل بن أمي ة‪ ،‬ق ال‪ :‬يارس ول هللا إني جئت‬
‫أهلي عشاء فوجدت عندهم رجال‪ ،‬ف رأيت بعي ني‪ ،‬وس معت ب أذني‪ ،‬وذك ر الح ديث‬
‫وهو نص على أن المالعنة التي قضى فيها رس ول هللا ‪ ‬إنم ا ك انت في الرؤي ة‪،‬‬
‫فال يجب أن يتعدى ذلك‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ أن من ق ذف امرأت ه ولم ي ذكر رؤي ة ح د لعم وم قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وال ِذينَ‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَأْتُوا بِأَرْ بَ َع ِة ُشهَدَا َء فَاجْ لِ دُوهُ ْم ثَ َم انِينَ َج ْل َدةً َواَل تَ ْقبَلُ وا لَهُ ْم‬ ‫يَرْ ُمونَ ْال ُمحْ َ‬
‫صنَا ِ‬
‫اسقُونَ ﴾(النور‪)4:‬‬ ‫َشهَا َدةً أَبَدًا َوأُوْ لَئِكَ هُ ْم ْالفَ ِ‬
‫القول الثاني‪ :‬إن المالعنة تص ح م ع الق ذف بغض النظ ر عن القرين ة‪ ،‬وه و‬
‫قول الجمهور‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عم وم قول ه تع الى‪َ ﴿ ﴿:‬والَّ ِذينَ يَرْ ُم ونَ أَ ْز َو َ‬
‫اجهُ ْم َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ْم ُش هَدَا ُء إِال‬
‫أَنفُ ُسهُ ْم ﴾ (النور‪ ،)6 :‬قال ابن العربي‪ :‬وظاهر القرآن يكفي إليج اب اللع ان بمج رد‬
‫القذف دون رؤية فلتعولوا عليه‪.‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/403 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/405 :‬‬

‫‪235‬‬
‫‪ 2‬ـ ما ورد في الحديث من قول الرجل‪ :‬أرأيت رجال وج د م ع امرأت ه رجال‬
‫فقال النبي ‪ ‬فاذهب فأت بها‪ ،‬ولم يكلفه ذكر الرؤية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن العلماء أجمعوا أن األعمى يالعن إذا قذف امرأت ه ول و ك انت الرؤي ة‬
‫من شرط اللعان ما العن األعمى‪.‬‬
‫ومن القرائن التي ذكرها الفقهاء‪ ،‬واعتبروها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إخبار الثقة‪ :‬اتفق الفقهاء على أنه ال يجوز قذفها بخبر من ال يوثق بخبره‬
‫؛ ألنه غير مأمون على الكذب عليها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مشاهدة رجل خارج من عندها مع استفاضة زناها ؛ أم ا إذا لم يس تفض‪،‬‬
‫فال يصح قذفها‪ ،‬فقد يكون دخل سارقا‪ ،‬أو هارب ا‪ ،‬أو لحاج ة‪ ،‬أو لغ رض فاس د‪ ،‬فلم‬
‫يمكنه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ق ذف الن اس له ا واستفاض ة ذل ك م ع القرين ة ال تي ت دل على ص دقهم ؛‬
‫بخالف عدم توفر القرينة‪ ،‬الحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو عدم ص حة اللع ان إال بم ا ي دل دالل ة أكي دة‬
‫على وقوعها في الفاحشة‪ ،‬وما ذكره أصحاب القول الثاني من الق رائن ق د ال يك ون‬
‫كافيا في كل حالة‪ ،‬فكون الشخص ثق ة مثال ال يكفي التهامه ا بالفاحش ة‪ ،‬فق د يك ون‬
‫متهما‪ ،‬زيادة على أن العدالة أمر اعتباري‪ ،‬فقد يكون عدال وثقة في موضع ومتهم ا‬
‫ومجروحا في موضع آخر‪.‬‬
‫واستفاض ة زناه ا أيض ا غ ير كافي ة‪ ،‬فم ا أس هل أن تنتش ر اإلش اعات في‬
‫مجتمعاتنا كما تنتشر النار في الهشيم‪ ،‬وما أسهل على من يريد أن يفرق بينه ا وبين‬
‫زوجها‪ ،‬ويتهمها في عرضها أن يدخل إلى بيتها بأي طريق من الط رق‪ ،‬ثم يخ رج‬
‫منه‪ ،‬بعد أن ينشر اإلشاعات المغرضة حولها‪.‬‬
‫قال ابن العربي في بيان علة تشدد مالك في المس ألة‪(:‬ووج ه الق ول باش تراط‬
‫الرؤي ة الزج ر عن دعواه ا ح تى إذا رهب ذكره ا وخ اف من تحقي ق م ا لم ي تيقن‬
‫عيانه كف عن اللع ان ؛ ف وقعت الس ترة‪ ،‬وتخلص منه ا ب الطالق إن ش اء ؛ ول ذلك‬
‫شرطنا على إحدى الروايتين كيفي ة الرؤي ة‪ ،‬كم ا ي ذكرها الش هود تغليظ ا‪ ،‬وظ اهر‬
‫القرآن يكفي إليجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية) (‪)1‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن الطري ق إلثب ات الفاحش ة ه و م ا ش رعه هللا تع الى في‬
‫إثبات الزنا من غير الزوجة‪ ،‬ألن الفرق بين زنا الزوج ة وغيره ا ه و في االكتف اء‬
‫من الزوج ة بش اهد واح د ه و ال زوج‪ ،‬للض رورة الداعي ة ل ذلك‪ ،‬بخالف غيره ا‪،‬‬
‫فيحتاج إلى أربعة شهود‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الشك في الولد‬
‫اتفق الفقهاء على أنه ال يح ل لل زوج ق ذف زوجت ه وال لعانه ا إذا أتت بول د‪،‬‬

‫‪ )(1‬أحكام القرآن البن العربي‪.3/352 :‬‬

‫‪236‬‬
‫فشك فيه من غير معرفت ه لزناه ا‪ ،‬وك ذلك إن ع رف زناه ا‪ ،‬ولم يعلم أن الول د من‬
‫الزاني‪ ،‬وال يوجد دليل عليه‪ ،‬فليس له نفيه ؛ ألن الولد للفراش وللعاهر الحجر‪.‬‬
‫ومن الصور التي ذكره ا الفقه اء للش ك‪ ،‬م ع اختالفهم في اعتب ار الش ك في‬
‫بعضها أو عدم اعتباره‪:‬‬
‫مخالفة الولد لون والديه أو شبههما‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في صحة القذف في حال نفي الزوج لولده بذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم صحة القذف في ه ذه الحال ة‪ ،‬فال يج وز ل ه ق ذفها وال نفي‬
‫ولده‪ ،‬وهو قول جمهور العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن أبي هريرة قال‪ :‬ج اء رج ل من ب ني ف زارة إلى الن بي ‪ ‬فق ال‪ :‬إن‬
‫امرأتي جاءت بولد أسود‪ ،‬وهو يعرض بنفيه‪ ،‬فقال له الن بي ‪ :‬ه ل ل ك من إب ل؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فم ا ألوانه ا؟‪ .‬ق ال‪ :‬حم ر‪ .‬ق ال‪ :‬ه ل فيه ا من أورق؟‪ .‬ق ال‪ :‬إن فيه ا‬
‫أورق‪ .‬قال‪ :‬فأنى أتاها ذلك؟ قال‪ :‬عسى أن يكون نزعه عرق‪ .‬ق ال‪ :‬فه ذا عس ى أن‬
‫يكون نزعه عرق(‪ ،)1‬ولم يرخص له في االنتفاء منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه لما تنازع سعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعبد بن زمعة‪ ،‬في ابن ولي دة زمع ة‪،‬‬
‫ورأى النبي ‪ ‬فيه شبها بينا بعتبة‪ ،‬ألحق الولد بالفراش‪ ،‬وترك الشبه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الناس كلهم من آدم وحواء‪ ،‬وألوانهم وخلقهم مختلف ة‪ ،‬فل وال مخ الفتهم‬
‫شبه والديهم‪ ،‬لكانوا على خلقة واحدة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن داللة الشبه ضعيفة‪ ،‬وداللة والدته على الفراش قوية‪ ،‬فال يجوز ت رك‬
‫القوي لمعارضة الضعيف‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬جواز قذف زوجته ونفي ولده‪ ،‬وهو ظاهر كالم أحم د‪ ،‬والوج ه‬
‫الث اني ألص حاب الش افعي‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك يقول ه ‪ ‬في ح ديث اللع ان‪( :‬إن‬
‫جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ األليتين‪ ،‬فهو للذي رميت به) (‪،)2‬‬
‫فأتت به على النعت المكروه‪ ،‬فقال النبي ‪ (:‬لوال األيم ان‪ ،‬لك ان لي وله ا ش أن)‪،‬‬
‫فجعل الشبه دليال على نفيه عنه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول في الحالة العادية‪ ،‬أما إن ارتبط‬
‫بهذا الشك القرائن الدالة على ثبوت زناها‪ ،‬فإن للقول الثاني قيمته الش رعية‪ ،‬فيمكن‬
‫عرض هذا على مختصين للتعرف على حقيق ة نس بته لوال ده‪ ،‬أو نس بته للمتهم ب ه‪،‬‬
‫والعلم قد توصل في هذا المجال إلى م راتب اليقين بحيث يص ح االعتم اد علي ه في‬
‫ذلك‪ ،‬والحديث الذي أورده أصحاب القول الثاني يدل على هذا‪.‬‬
‫أما إن لم يتوصل العلم إلى الجزم بذلك‪ ،‬فإن نسبته تظ ل ثابت ة للف راش ال ذي‬
‫ولد فيه‪ ،‬وال يصح نفيه بالقافة وغيرها لعدم يقينية أحكامها‪.‬‬

‫‪ )(1‬عبد الرزاق (‪ ،7/99‬رقم ‪.)12371‬‬


‫‪ )(2‬البخاري ‪ )2671( 3/233‬و‪ )4747( 6/126‬و‪.)5307( 7/69‬‬

‫‪237‬‬
‫والدة المرأة التي يستعمل زوجها وسائل منع الحمل‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن الزوج إن كان يعزل عن امرأته‪ ،‬أو يستعمل أي وس يلة‬
‫من وسائل منع الحمل فأتت بولد‪ ،‬لم يبح له نفيه‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن أبي س عيد أن ه ق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬إن ا نص يب من النس اء‪ ،‬ونحب‬
‫األثمان‪ ،‬أفنعزل عنهن؟ قال‪( :‬إن هللا إذا قضى خلق نسمة خلقها)‬
‫‪ 2‬ـ أنه قد يسبق من الماء ما ال يحس به فتعل ق‪ ،‬وق د أثبت العلم الح ديث ه ذا‪ ،‬فال‬
‫توجد وسيلة من وسائل منع الحمل يوثق بها وثوقا تاما‪.‬‬
‫رابعا ـ آثار اللعان‬
‫من اآلثار التي ذكرها الفقهاء للعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ارتفاع العقوبة الشرعية للقذف والزنا‬
‫اتفق الفقهاء على أن من آثار اللع ان ومقاص ده ال تي ش رع من أجله ا س قوط‬
‫الحد عن القاذف‪ ،‬فإذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه‪ ،‬فقد قذفهما‪ ،‬وإذا العنها س قط‬
‫الحد عنه لهما‪ ،‬سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره‪ ،‬وتتعلق بهذا األث ر المس ائل‬
‫التالية‪:‬‬
‫تكرر القذف‪:‬‬
‫نص الفقهاء(‪ )1‬على أنه إن قذف زوجت ه أوغيره ا م رات‪ ،‬فعلي ه ح د واح د‬
‫سواء قذفها بزنا آخر‪ ،‬أو كرر الق ذف ب األول‪ ،‬ول و ق ذفها فح د له ا‪ ،‬ثم ق ذفها م رة‬
‫أخرى بذلك الزنا‪ ،‬فقد اختلف الفقه اء في ذل ك‪ ،‬ه ل يجب علي ه ح د واح د أم ح دان‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال حد عليه‪ ،‬ولكنه يعزر تعزير السب والشتم‪ ،‬وه و رواي ة عن د‬
‫الحنابلة وقول عند الشافعية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ لما جلد عمر أبا بكرة حين شهد على المغ يرة بن ش عبة‪ ،‬أع اد قذف ه‪ ،‬فهم‬
‫عمر بإعادة الحد عليه‪ ،‬فقال له علي‪ :‬إن جلدته فارجم صاحبه‪ ،‬فتركه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنهما حدان ترادف سببهما‪ ،‬فتداخال‪ ،‬كالزنا مرارا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه قد تحقق كذبه فيه بالحد‪ ،‬فال حاجة إلى إظهار كذبه فيه ثانيا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن عليه الحد ثانيا‪ ،‬وهو مث ل الق ول األول ق ول عن د الش افعية‪،‬‬
‫ورواية عن الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه‪ ،‬فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه قذف لمحصن لم يحد فيه‪ ،‬فوجب أن يتعقبه الحد كاألول‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن سبب الحد وجد بعد إقامته‪ ،‬فأعيد عليه‪ ،‬كالزنا والسرقة‪.‬‬
‫ومث ل ه ذه المس ألة م ا ل و ق ذف أجنبي ة‪ ،‬ثم تزوجه ا‪ ،‬ثم ق ذفها‪ ،‬فق د اختل ف‬

‫‪ )(1‬ذكر الفقهاء صورا كثيرة لتكرر القذف اكتفينا منها به ذه المس ائل لعالقته ا به ذا المبحث‪ ،‬انظ ر‪ :‬كش اف‬
‫القن اع‪ ،5/402 :‬المغ ني‪ ،8/72 :‬المه ذب‪ ،2/275 :‬الوس يط‪ ،6/97 :‬روض ة الط البين‪ 8/347 :‬مغ ني المحت اج‪:‬‬
‫‪.3/369‬‬

‫‪238‬‬
‫الفقهاء في كيفية إقامة الحد عليه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن عليه الحد للق ذف األول‪ ،‬وال ش يء علي ه للث اني‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الزهري‪ ،‬والثوري‪ ،‬والحنفية‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بأن ه ل و ق ذف أجنبي ة ق ذفين‪ ،‬لم‬
‫يجب عليه أكثر من حد واحد‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن عليه ح دان لك ل ق ذف‪ ،‬ف إن ط البت الم رأة بم وجب الق ذف‬
‫األول‪ ،‬فأقام به بينة‪ ،‬سقط عنه حده‪ ،‬ولم يجب في الثاني حد ؛ ألنها غ ير محص نة‪،‬‬
‫وإن لم يقم بينة‪ ،‬حد لها‪ ،‬وم تى طالبت ه بم وجب الث اني‪ ،‬فأق ام ب ه بين ة‪ ،‬أو العنه ا‪،‬‬
‫سقط‪ ،‬وإال وجب عليه الحد أيضا‪ ،‬فإن بدأت بالمطالبة بموجب الثاني‪ ،‬فأقام بينة به‪،‬‬
‫أو العن‪ ،‬سقط حده‪ ،‬ولها المطالبة بم وجب األول‪ ،‬ف إن أق ام ب ه بين ة‪ ،‬وإال حد(‪،)1‬‬
‫وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألتين هو أن الشرع شرع الحد للقذف مطلق ا‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن ذلك القذف هل حد عليه من قبل أم ال‪ ،‬حتى ال يكون الحد األول تحص ينا‬
‫له من سائر الحدود‪ ،‬بل إقامة الحد على القاذف ال يلغي حق المقذوف في عقوبة من‬
‫قذفه‪.‬‬
‫تعدد المقذوف‪:‬‬
‫ومثاله م ا ل و ق ال لزوجت ه‪ :‬ي ا زاني ة بنت الزاني ة‪ .‬فق د ق ذفها‪ ،‬وق ذف أمه ا‬
‫بكلمتين‪ ،‬فإن لكليهما الحق في المطالبة بحد القذف‪ ،‬وله الحق في اللعان مع زوجت ه‬
‫والبينة مع أمها‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في أيتهما يقدم‪ ،‬فقيل‪ :‬نقدم األم ؛ ألن حقها آك د‪،‬‬
‫ولكون ه ال يس قط إال بالبين ة‪ ،‬وقي ل‪ :‬تق دم البنت ؛ ألن ه ب دأ بق ذفها‪ ،‬وه ل يق دم ح د‬
‫المقذوف أوال فيه وجهان أحدهما نعم كما لو قتل شخصين‪ ،‬والثاني ال كما ل و أتل ف‬
‫مال شخصين‪.‬‬
‫فإن لم يالعن ولم يأت بالبينة حد حدان حد لألم‪ ،‬ثم ينتظر حتى يبرأ جلده من‬
‫حد األولى‪ ،‬ثم يحد للثانية‪.‬‬
‫قذف األجنبي للمالعنة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه لو قذف الم رأة المالعن ة أجن بي‪ ،‬بم ا العنت علي ه‪ ،‬أو‬
‫بزنا غيره‪ ،‬فعليه الحد(‪ ،)2‬واستثنى من ذلك الحنفية أنه إن لم ينف بلعانها ولدا‪ ،‬ح د‬
‫قاذفها‪ ،‬وإن نفاه‪ ،‬فال حد على قاذفها ؛ ألنه منتف عن زوجها بالش رع‪ ،‬ولكن األدل ة‬
‫الصريحة تخالفه‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪( :‬من رماها‪ ،‬أو ولدها‪ ،‬فعليه الحد)(‪)3‬‬

‫‪ )( 1‬وللشافعية قول آخر هو أنه إن أقام بالثاني بينة‪ ،‬سقط موجب األول‪ ،‬وقد رد عليه بأن سقوط إحصانها في‬
‫الثاني‪ ،‬ال يوجب سقوطه فيما قبل ذلك‪ ،‬كما لو استوفى حده قبل إقامة البينة‪.‬‬
‫‪ )( 2‬أما إن أقام بينة‪ ،‬فقذفها قاذف بذلك الزنا‪ ،‬أو بغيره‪ ،‬فال حد عليه ; ألنه قد زال إحصانها‪ ،‬ألن ه ذا الق ذف‬
‫لم يدخل المعرة عليها‪ ،‬وإنما دخلت المعرة بقيام البينة‪ ،‬ومع ذلك يعزر تعزير السب واألذى‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه لم يثبت زناها‪ ،‬وال زال إحصانها‪ ،‬فيلزم قاذفها الحد بقوله تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ‬
‫ت ثُ َّم َل ْم َي ْأتُوا ِبأَرْ َب َع ِة ُش َهدَا َء َفاجْ ِلدُوه ُْم َث َما ِنينَ َج ْل َد ًة َواَل َت ْق َبلُ وا َله ُْم َش َها َد ًة َأ َب دًا‬ ‫َيرْ ُمونَ ْال ُم َ‬
‫حْصنَا ِ‬
‫اسقُونَ ﴾(النور‪)4 :‬‬ ‫َوأُوْ َل ِئكَ ه ُْم ْال َف ِ‬
‫ولوقذف زوجته والعنها‪ ،‬ثم قذفها بزنا آخ ر‪ ،‬فعلي ه الح د ؛ ألنه ا ب انت من ه‬
‫باللعان‪ ،‬وصارت أجنبية‪ ،‬إال أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية‪ ،‬فعند ذل ك إن ك ان‬
‫ثم نسب يريد نفيه‪ ،‬فله المالعنة لنفيه‪ ،‬وإال لزمه الحد‪ ،‬وال لعان بينهما‪.‬‬
‫قذف المالعن ألجنبي‪:‬‬
‫ك‬
‫نص الفقهاء على أنه لو ق ذف أجنبـية ب الزنى برج ل س ماه‪ ،‬فق ال‪ :‬زنى ب ِ‬
‫موجب‬
‫َ‬ ‫ت بما يُسقط‬ ‫فالن‪ ،‬فإنه يجب عليه حدان‪ ،‬ألنه قاذف لكل واحد منهما‪ ،‬ولم يأ ِ‬
‫قذفه‪ ،‬فوجب عليه حكمه‪ ،‬إذ ليس هنا بـينة بالنسبة إلى أحدهما‪ ،‬وال ما يقو ُم مقا َمه ا‪،‬‬
‫واختلفوا في المالعن إذا سمى من يتهمه بالفجور مع زوجت ه‪ ،‬ه ل يح د بقذف ه كم ا‬
‫يحد من ذكرنا أم ال على قولين كالهما وجهان عند الحنابلة‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يحد بقذفه‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ‪ ‬لم يحد الزوج بشريك بن سحماء‪ ،‬وقد سماه صريحاً‪ ،‬أما قول من‬
‫قال بأنه يهودي كما ذهب إليه أصحاب القول الثاني‪ ،‬فباط ل‪ ،‬فإن ه ش ريك بن عب دة‬
‫وأمه سحماء‪ ،‬وهو حليفُ األنصار‪ ،‬وهو أخ و ال براء بن مال ك ألم ه‪ .‬ق ال ابن القيم‬
‫نقال عن بعض العلماء‪ :‬اختلفَ أه ُل العلم في شريك بن سحماء المقذوف‪ ،‬فقي ل‪ :‬إن ه‬
‫كان يهوديا ً وهو باطل‪ ،‬والصحيح‪ :‬أنه شريك بن عبدة حلي ف األنص ار‪ ،‬وه و أخ و‬
‫البراء بن مالك ألمه(‪ ،)1‬أما عدم مطالبته بالحد‪ ،‬فإنه لما استقر عنده أن ه ال ح ق ل ه‬
‫في هذا القذف‪ ،‬لم يطالِب به‪ ،‬ولم يتعرض له‪ ،‬وإال كيف يسكت عن براءة عرض ه‪،‬‬
‫وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه‪ ،‬والقوم كانُوا أشد حميةً وأنَفَةً ِمن ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النبي ‪ ‬قال للزوج‪( :‬البَـينَةُ َوإِال ح ٌّد في ظَه ِركَ ) (‪ ،)2‬ولم يق ل‪ :‬وإال‬
‫دان‪.‬‬
‫َح ِ‬
‫ً‬
‫‪ 3‬ـ أن اللعان أقي َم مقام البـينة للحاجة‪ ،‬وجعل بدال ِمن الشهود األربعة‪ ،‬وله ذا ك ان‬
‫ُوجبُ الحد عليها إذا نكلت‪ ،‬فإذا كان بمنزلة الشهادة في أح د الط رفين ك ان‬ ‫الصحيح أنه ي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بمنزلتها في الطرف اآلخر‪ ،‬و ِمن المحال أن تحد المرأة باللعان إذا نكلت‪ ،‬ثم يُح د الق اذف‬
‫حد القذف وقد أقام البـينة على صدق قوله‪ ،‬ومثل ذلك ما لو اعتبر يمين اً فإنه ا كم ا درأت‬
‫عنه الحد ِمن طرف الزوجة‪ ،‬درأت عنه ِمن طرف المقذوف‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ب ه حاج ة إلى ق ذف من أفس د علي ه ِمن فراش ه‪ ،‬وربم ا يحت اجُ إلى ِذك ره‬
‫ص دق هالل بش به‬ ‫النبـي ‪ ‬على ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ليستدل بشبه الولد له على ص دق قاذف ه‪ ،‬كم ا اس تدل‬
‫الولد بشريك بن سحماء‪ ،‬فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يحد بقذفه‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/383 :‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه أحمد ‪ )12477( 3/142‬وعبد بن حميد ‪ 1218‬ومسلم ‪ 3750‬والنسائي ‪.،6/171‬‬

‫‪240‬‬
‫‪ 1‬ـ أن المقذوفَ كان يهودياً‪ ،‬وال يجب الح ُّد بقذف الكافر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه لم يُطالب به‪ ،‬وح ُّد القذف إنما يُقام بعد المطالبة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬ال من باب الجواز والرخص ة‪،‬‬
‫بل من باب الوجوب من جهتين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ذلك قد يساعد القاض ي على التح ري في المس ألة‪ ،‬والتأك د من حقيق ة‬
‫األمر قبل إجراء المالعنة‪ ،‬فقد يعترف المقذوف(‪ ،)1‬وقد يبين حقيقة ما حص ل مم ا‬
‫ينفي التهمة عن المرأة‪ ،‬وينفي الشبهة عن الزوج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه في ح ال ص دقه يك ون ق د رمى فاس قا وح ذر من ه‪ ،‬وال ش ك في وج وب‬
‫التحذير من الفساق خاصة ممن يقتحمون بيوت الناس‪ ،‬وقد يلبسون لذلك من المس وح م ا‬
‫ينفي عنهم التهمة‪ ،‬فكان في ذكره خدمة للمجتمع كما كان في ذكره للقاضي خدم ة للبحث‬
‫عن الحقيقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التفريق بين المتالعنين‬
‫ويتعلق بهذا األثر المسائل التالية‪:‬‬
‫حكم التفريق بين المتالعنين‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الفرقة تحص ل بين المتالع نين‪ ،‬واختلف وا في وقت ذل ك‬
‫على األقوال التالية‪:‬‬
‫ذف‪ ،‬وه و ق و ُل أبـي عبـيد‪ ،‬وق د‬ ‫القول األول‪ :‬أن الفرقةَ تحص ُل بمج رد الق ِ‬
‫انفرد به‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يقع باللعان الفرقة مطلقا‪ ،‬وهو قول ج ابر بن زي د‪ ،‬وعثم ان‬
‫البَتي‪ ،‬ومحمد بن أبـي صُفرة‪ ،‬وطائفة من فُقهاء البصرة‪.‬‬
‫ق بعد اللعان‪ ،‬ب ل ه و‬ ‫ومن األدلة على ذلك أن النبـي ‪ ‬لم يُن ِكر عليه الطال َ‬
‫ك من قد اعترف بأنها زنت‪ ،‬أو أن يقو َم علي ه دلي ل‬ ‫أنشأ طالقَها‪ ،‬ونزه نفسه أن يُم ِس َ‬
‫النبـي ‪ ‬فِعلَه سنة‪.‬‬‫ُّ‬ ‫كذب بإمساكها‪ ،‬فجعل‬
‫يُو ِجبُ الفرقة الدائمة بين المتالعنين‪ ،‬وهو قول جم اهير‬ ‫اللعانُ‬ ‫القول الثالث‪:‬‬
‫العلماء‪ ،‬وقد اختلفوا في بعض الفروع‪ ،‬منها‪ :‬ه ل تق ع الفرق ة بمج رد لع ان ال زوج‬
‫تحص ل إال بلعانهم ا جميع اً‪ ،‬ف إذا تَم‬‫ُ‬ ‫وح دَه‪ ،‬وإن لم تلت ِعن الم رأة‪ ،‬أو أنه ا أنه ا ال‬
‫َ‬
‫ق الح اكم‪ ،‬أو أن الفرق ة ال تحص ُل إال بتم ام‬ ‫لِعانهما‪ ،‬وقعت الفرقةُ‪ ،‬وال يُعتبر تفري ُ‬
‫لعانهما‪ ،‬وتفري ق الح اكم‪ ،‬وس نتعرض له ذه الخالف ات في ه ذا المبحث في محاله ا‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث الث‪ ،‬لم ا س نراه من أدل ة نص ية‪،‬‬
‫زيادة على أن المصلحة الشرعية لكال الزوجين ترتبط بذلك‪ ،‬فإنه تستحيل المعاشرة‬
‫‪ )(1‬ونرى أن اعترافه وحده غير كاف لعقوبة الزوجة إذا ما ال عنت‪ ،‬ألنه ق د يك ون غ ير محص ن‪ ،‬فتقتص ر‬
‫عقوبته على الجلد‪ ،‬بينماتعاقب هي بالرجم‪ ،‬وفي ذلك تهمة له‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫بينهم ا بع د حص ول اللع ان‪ ،‬كم ا سنفص له عن د بي ان الحكم ة من التفري ق بين‬
‫المتالعنين‪.‬‬
‫حكم الزواج بالمالعنة بعد تكذيب المالعن نفسه‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء القائلون بالتفريق باللعان على أن الحرمة بين المتالع نين حرم ة‬
‫مؤبدة إال إذا عاد وكذب نفسه‪ ،‬قال ابن قدامة‪(:‬ال خالف بين أهل العلم في أن ه إذا لم‬
‫يكذب نفسه ال تحل له‪ ،‬إال أن يكون قوال شاذا) (‪ ،)1‬وقد اختلف الفقه اء بع د تكذيب ه‬
‫لنفسه‪ ،‬هل تحل له أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها تحل له إذا عاد وكذب نفسه‪ ،‬فإذا كذب نفس ه أقيم علي ه ح د‬
‫القذف‪ ،‬وحلَّت له بعد ذلك فيجوز له أن يعقد عليها عق داً جدي داً‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‬
‫ورواية شاذة عن أحمد(‪ ،)2‬وعن سعيد بن المس يب أن ه ق ال‪ :‬إن أك ذب نفس ه‪ ،‬فه و‬
‫خاطب من الخطاب‪ ،‬وقال سعيد بن جبير‪ :‬إن أكذب نفس ه‪ ،‬ردت إلي ه م ا دامت في‬
‫العدة‪.‬‬
‫ومن أدلتهم على ذل ك انتف اء العل ة ال تي من أجله ا حص ل التفري ق‪ ،‬ألن ه إذا‬
‫كذب نفسه فقد بطل حكم اللعان‪ ،‬فكما يلح ق ب ه الول د ك ذلك ت رد الم رأة علي ه‪ ،‬ألن‬
‫السبب الموجب للتحريم هو الجه ل بتع يين ص دق أح دهما م ع القط ع ب أن أح دهما‬
‫كاذب فإذا انكشف ارتفع التحريم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن حرمتها مؤب دة م ع ذل ك فال تح ل ل ه أب دا ك ذب نفس ه أو لم‬
‫يكذب‪ ،‬وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة‪ ،‬ومن أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن سهل بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬مضت السنة في المتالعنين أن يف رق بينهم ا‪ ،‬ثم‬
‫ال يجتمعان أبدا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه تح ريم ال يرتف ع قب ل الح د والتك ذيب‪ ،‬فلم يرتف ع بهم ا‪ ،‬كتح ريم‬
‫الرضاع‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول النتفاء عل ة التح ريم‪ ،‬ب ل ن رى‬
‫أن هذا من عالمة صدق توبته فيما رماها به‪ ،‬وذلك للمصالح الشرعية التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نفي التهمة عن المرأة التي لوعنت‪ ،‬ألن العامة ع ادة ال يص دقون تكذيب ه‬
‫لنفسه كالما بقدر ما يصدقونه إن عاد وتزوجها‪ ،‬ولعل في الطريقة التي حرمت به ا‬
‫الشريعة التبني‪ ،‬من عدم االقتصار على التحريم النصي‪ ،‬بل تأييده بفعل رس ول هللا‬
‫‪ ‬داللة على هذا‪ ،‬ألن ما يستقر في نفوس العام ة يص عب قلع ه بغ ير اإلج راءات‬

‫‪ )(1‬المغني‪..8/54 :‬‬
‫‪ )(2‬قال ابن القيم‪ « :‬وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬ال نعلَ ُم أحداً رواها غيره»‪ ،‬وقد حمله ا‬
‫تفريق الحاكم بـينهما‪ ،‬فال وجهَ لبق اء النك اح بحال ه‪ ،‬وق د رد علي ه ابن‬
‫ِ‬ ‫ابن قدامة على ما إذا لم يُفرّ ق بـينهما‪ .‬فأما مع‬
‫ق الح اكم في دوام التح ريم‪ ،‬ف إن الفُرق ة الواقع ة بنفس اللع ان أق وى من‬ ‫القيم بقوله‪ «:‬الروايةُ مطلق ة‪ ،‬وال أث ر لتفري ِ‬
‫الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم‪ ،‬فإذا كان إكذابُ نفسه مؤثراً في تلك الفُرقة القوية‪ ،‬رافعا ً للتحريم الناشىء منه ا‪ ،‬فألن‬
‫ُؤثر في الفُرقة التي هي دونها‪ ،‬ويرف َع تحريمها أولى»‪ ،‬انظر‪ :‬زاد المعاد‪ ،5/392 :‬المغني‪..8/54 :‬‬ ‫ي َ‬

‫‪242‬‬
‫العملية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المرأة المتهم ة في عرض ها ال ي رغب ع ادة في ال زواج به ا‪ ،‬فب ذلك‬
‫تبقى هذه المرأة رهين ة بيته ا محروم ة من ال زواج بس بب ه ذا ال زوج ال ذي ك ذب‬
‫عليها‪ ،‬ثم كذب نفسه‪ ،‬ليتركها تعاني جريرة صنعه‪ ،‬فلذلك كان زواج ه منه ا تكف يرا‬
‫عن بعض سيئاته التي جناها عليها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هذا الرجل قد تكون له رغبة شديدة في هذه الزوجة‪ ،‬بحيث لم يس تطع‬
‫فراقها‪ ،‬فإذا عاد إليها بالطريق الشرعي‪ ،‬ال يصح أن يحرم من الزواج منه ا م ع أن‬
‫النصوص تجعل المحرمات حرمة مؤبدة محصورات في عدد محدود‪ ،‬وما ع داهن‬
‫داخل في عموم قوله تعالى‪َ ﴿:‬وأُ ِح َّل لَ ُك ْم َما َو َرا َء َذلِ ُك ْم﴾(النساء‪)24:‬‬
‫نوع التفريق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار الفرقة فسخا أو طالقا على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن فرقة اللعان فسخ‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا‪ ،‬فكانت فسخا‪ ،‬كفرقة الرضاع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن اللعان ليس بصريح في الطالق‪ ،‬وال نوى ب ه الطالق‪ ،‬فلم يكن طالق ا‬
‫كسائر ما ينفسخ به النكاح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لو كان اللعان صريحا ً في الطالق‪ ،‬أو كناية في ه‪ ،‬لوق ع بمج رد لع ان‬
‫الزوج‪ ،‬ولم يتوقف على لِعان المرأة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه لو ك ان طالق اً‪ ،‬فه و طالق من م دخول به ا بغ ير ع وض لم ين و ب ه‬
‫الثالث‪ ،‬فكان يكون رجعياً‪.‬‬
‫ك‪ ،‬وه ذا الفس ُخ‬‫ق بـيد ال زوج‪ ،‬إن ش اء طل قَ‪ ،‬وإن ش اء أمس َ‬ ‫‪ 5‬ـ أن الطال َ‬
‫حاصل بالشرع وبغير اختياره‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫‪ 6‬ـ أنه إذا ثبت بالسنة وأقوال الصحابة‪ ،‬ودالل ِة القرآن‪ ،‬أن فرقة الخلع ليست‬
‫ق‪ ،‬بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما‪ ،‬فكيف تكونُ فرقةُ اللعان طالقاً؟‬ ‫بطال ٍ‬
‫القول الثاني‪ :‬هي طالق‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬فقد نصوا على أن الفرقة تطليق ة‬
‫بائنة عند أبي حنيفة ومحمد(‪ )1‬؛ ألنه ا بتفري ق القاض ي‪ ،‬وله ا النفق ة والس كنى في‬
‫عدتها‪ ،‬ويثبت نسب ولدها إلى سنتين إن ك ان معت دة‪ ،‬وإن لم تكن معت دة ف إلى س تة‬
‫أشهر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و اعتباره ا فس خا الحتم ال أن يك ذب نفس ه‪،‬‬
‫فتع ود إلي ه من غ ير أن يك ون ق د حص ل بينهم ا طالق‪ ،‬زي ادة على أن الطالق لم‬
‫يحصل من الزوج‪ ،‬كما ذكرنا ذلك في كل المسائل المشابهة التي اختلف الفقه اء في‬
‫كونها فسخا أم طالقا‪.‬‬

‫‪ )( 1‬وذهب أبو يوسف إلى أنها تحرم عليه تحريما مؤبدا ولو كذب نفسه‪ ،‬الجوهرة النيرة‪.2/71 :‬‬

‫‪243‬‬
‫من يتولى التفريق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيمن يتولى التفريق بين المتالعنين على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال تحصل الفرقة بين المتالعنين حتى يفرق الحاكم بينهما‪ ،‬وه و‬
‫قول الحنفية ورواية عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول ابن عباس في حديثه‪( :‬ففرق رس ول هللا ‪ ‬بينهم ا)‪ ،‬وه و يقتض ي‬
‫أن الفرقة لم تحصل قبله‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث عويمر‪ ،‬قال‪ :‬كذبت عليها ي ا رس ول هللا ‪ ‬إن أمس كتها‪ ،‬فطلقه ا‬
‫ثالثا قبل أن يأمره رسول هللا ‪ ،‬وهو يقتضي إمكان إمس اكها‪ ،‬وأن ه وق ع طالق ه‪،‬‬
‫ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك‪ ،‬لما وقع طالقه‪ ،‬وال أمكنه إمساكها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم‪ ،‬فالفرقة المتعلقة به لم تقع إال بحكم‬
‫الحاكم‪ ،‬كفرقة العنة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تحصل الفرقة بمجرد لعانهما‪ ،‬وهو ق ول مالك(‪ ،)1‬وأبي عبي د‪،‬‬
‫وأبي ثور‪ ،‬وداود‪ ،‬وزفر‪ ،‬وابن المنذر‪،‬ورواية عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما‬
‫يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قول النبي ‪ (:‬ال سبيل لك عليه ا) ي دل على ذل ك‪ ،‬أم ا تفريق ه بينهم ا‪ ،‬فه و‬
‫بمعنى إعالمه لهما بحصول الفرقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ما روي عن عمر أنه قال‪ :‬المتالعنان يفرق بينهما‪ ،‬وال يجتمعان أبدا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه معنى يقتضي التحريم المؤبد‪ ،‬فلم يقف على حكم الحاكم‪ ،‬كالرضاع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الفرقة ل و لم تحص ل إال بتفري ق الح اكم‪ ،‬لس اغ ت رك التفري ق إذا كره اه‪،‬‬
‫كالتفريق للعيب واإلعسار‪ ،‬ولوجب‪ ،‬أن يبقى النكاح مستمرا إذا لم يفرق الحاكم بينهما‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إن الفرقة بنفس اللعان أقوى ِمن الفرق ِة بتفرق الحاكم‪ ،‬ألن فُرق ة اللع ان تس ت ِندُ‬
‫ان التفري َق أو َأ َب وهُ‪ ،‬فهي فُرق ة من‬
‫والمتالعن ِ‬
‫ِ‬ ‫إلى حكم هللا ورسوله‪ ،‬سوا ٌء رضي الح اك ُم‬
‫ُ‬
‫بخالف فرقة الحاكم‪ ،‬فإنه إنما يفرق باختياره‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الشارع بغير رضى أح ٍد منهم وال اختياره‪،‬‬
‫‪ 6‬ـ أن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه علي ه‪ ،‬بخالف م ا إذا‬
‫ٌ‬
‫لطان‬ ‫توقف على تفريق الحاكم‪ ،‬فإن ه لم يق و بنفس ه على اقتض اء الفرق ة‪ ،‬وال ك ان ل ه س‬
‫عليها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و أن الفرق ة بين المتالع نين تحص ل بمج رد‬
‫لعانهما دون احتياج لتفريق الحاكم‪ ،‬وإن كان شرطا في مجلس اللعان‪ ،‬ألن الص يغة‬

‫‪ )( 1‬اختلف المالكية في ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬تقع الفرقة بينهما بتمام التحالف دون حكم ح اكم‪ ،‬قال ه مال ك وابن القاس م‪،‬‬
‫وقال ابن حبيب ال تقع حتى يفرق اإلمام بينهما‪ ،‬وقال ابن نافع يستحب له أن يطلقها ثالثا عند فراغه من اللع ان‪ ،‬ف إن‬
‫لم يفعل أجريا على سنة المتالعنين أنهما ال يتناكحان أبدا‪ ،‬وق ال ابن لباب ة إن لم يفع ل طلقه ا اإلم ام علي ه ثالث ا‪ ،‬ولم‬
‫يمنعه من مراجعتها بعد زوج‪ ،‬وقيل‪ :‬فرقة المتالعنين ثالث‪ ،‬ويتزوجها بعد زوج آخر وفي الجالب فرقة المتالعنين‬
‫فسخ بغير طالق والمشهور ما قدمنا عن مالك وابن القاسم‪ ،‬انظر‪ :‬تبصرة الحكام‪.1/398 :‬‬

‫‪244‬‬
‫التي جعلها الشارع للعان كافية للتفريق بينهما بدون حاجة لتطليق الحاكم أو تكلي ف‬
‫الزوج بتطليقها‪.‬‬
‫الحكمة من التفريق بين المتالعنين‪:‬‬
‫ذكر العلماء الحكم الشرعية من التفريق بين المتالعنين‪ ،‬ومن أهم الحكم التي‬
‫ذكروها ـ والتي لها اعتبارها الشرعي‪ ،‬وأمثلتها كثيرة في سائر األحكام الش رعية ـ‬
‫هو أن سبب الفرقة هي النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه‪ ،‬ف إن‬
‫الرجل إن كان صادقا‪ ،‬فقد أشاع فاحش تها‪ ،‬وفض حها على رؤوس األش هاد‪ ،‬وحق ق‬
‫عليها اللعنة والغضب‪ ،‬وقط ع نس ب ول دها‪ ،‬وإن ك ان كاذب ا‪ ،‬فق د أض اف إلى ذل ك‬
‫بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة‪.‬‬
‫أما المرأة فإنها إن كانت صادقة‪ ،‬فقد أكذبت ه على رؤوس األش هاد‪ ،‬وأوجبت‬
‫عليه لعنة هللا‪ ،‬وإن ك انت كاذب ة‪ ،‬فق د أفس دت فراش ه‪ ،‬وخانت ه في نفس ها‪ ،‬وألزمت ه‬
‫العار والفضيحة‪ ،‬وأحوجته إلى هذا المقام المخزي‪.‬‬
‫ونتيجة لما حصل من إساءة كالهما لآلخر إساءة ال يكاد يلتئم لهما معها حال‬
‫اقتضت حكمة الشارع لزوم الفرقة بينهما‪ ،‬وإزالة الصحبة المتمحضة مفس دة‪ ،‬ألن ه‬
‫إن كان كاذبا عليها‪ ،‬فال ينبغي أن يسلط على إمساكها‪ ،‬مع ما صنع من القبيح إليه ا‪،‬‬
‫وإن كان صادقا‪ ،‬فال ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها‪.‬‬
‫وقد ذكرت حكم أخرى نرى أنها تدخل في األحكام الغيبي ة أك ثر من دخوله ا‬
‫في األحك ام الش رعية‪ ،‬ومن ذل ك أن الفرق ة إنم ا حص لت باللع ان ؛ ألن لعن ة هللا‬
‫وغض به ق د وق ع بأح دهما لتالعنهم ا‪ ،‬ألن الن بي ‪ ‬ق ال عن د الخامس ة‪ (:‬إنه ا‬
‫الموجبة)‪ ،‬أي إنه ا ت وجب لعن ة هللا وغض به‪ ،‬وال نعلم من ه و منهم ا يقين ا‪ ،‬فف رق‬
‫الشرع بينهما خشية أن يكون هو الملعون‪ ،‬فيكون شريكا المرأة غير ملعون ة‪ ،‬وه و‬
‫ال يجوز كما ال يجوز أن يكون شريك المسلمة كافر‪ ،‬أو أن الم وجب للفرق ة وق وع‬
‫اللعنة والغضب بأحدهما من غير تعيين‪ ،‬فيفضي إلى زواج ملعون لغير ملعونة‪ ،‬أو‬
‫إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها‪.‬‬
‫وال يمكن الجزم بهذا التعليل لوج وه كث يرة أهمه ا أن ه ل و ص ح ه ذا التعلي ل‬
‫لحرم الشرع على المتالعنين ال زواج مطلق ا‪ ،‬ألن ه ال تخل و اللعن ة من ثبوته ا على‬
‫أحدهما‪ ،‬فيكون شريكا لغيره(‪ ،)1‬ثم إن اللعنة مع ذلك ليست حكما مستقرا ثابت ا كم ا‬
‫لعن الشيطان الرجيم‪ ،‬بل قد ترتفع عن صاحبها بالتوبة‪ ،‬فالتوبة النص وح ترف ع ك ل‬
‫أثر من آثار المعصية سواء كان عقوبة أو لعنة أو غيرها‪.‬‬
‫ع نسب الولد من جهة األب‬ ‫‪ 3‬ـ انقطا ُ‬

‫‪ )( 1‬وقد أجاب ابن القيم على هذا االعتراض بقوله‪ « :‬ألنا لم نتحقق أنه هو الملعون‪ ،‬وإنما تحققن ا أن أح دهما‬
‫كذلك‪ ،‬وشككنا في عينه‪ ،‬فإذا اجتمعا‪ ،‬لزمه أح ُد األمرين وال بد‪ ،‬إما هذا وإما إمسا ُكه ملعونةً مغضوبا ً عليها قد وجب‬
‫عليها غضبُ هللا‪ ،‬وباءت به‪ ،‬فأما إذا تزوجت بغيره‪ ،‬أو تزوج بغيرها‪ ،‬لم تتحقق هذه المفسدة فيهم ا» ون رى أن ه ذا‬
‫حكم أخروي ال يصح إعماله هنا‪ ،‬وإال قيل بكراهة الزواج من أحد المتالع نين لك ون أح دهما ح اقت ب ه اللعن ة‪ ،‬زاد‬
‫المعاد‪.5/393 :‬‬

‫‪245‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الزوجة إذا ول دت ول دا يمكن كون ه من ه‪ ،‬فه و ول ده في‬
‫الحكم لق ول الن بي ‪( :‬الول د للف راش)‪ .‬وال ينتفي عن ه إال أن ينفي ه باللع ان الت ام‪،‬‬
‫الذي اجتمعت شروطه وال تي سنفص لها في الفص ول القادم ة‪ ،‬ويض اف إليه ا فيم ا‬
‫يتعلق بنفي الولد الشروط التالية‪:‬‬
‫أن يذكر نفي نسب الولد إليه حال المالعنة‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬اعتبار هذا الشرط‪ ،‬ف إذا لم ي ذكر‪ ،‬لم ينت ف‪ ،‬إال أن يعي د اللع ان‬
‫ويذكر نفيه‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬ال بد من ذكر الولد في كل لفظة‪ ،‬ومع اللعن في الخامس ة ؛‬
‫ألنها من لفظات اللعان‪ ،‬وهو قول الشافعية ورواية عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن من سقط حقه باللعان‪ ،‬كان ذكره شرطا‪ ،‬كالمرأة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها‪ ،‬وذلك ال يوجب نفي الولد‪ ،‬كم ا ل و‬
‫أقرت به‪ ،‬أو قامت به بينة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن حديث سهل بن سعد‪ ،‬ورد فيه‪(:‬وكانت حامال‪ ،‬فأنكر حملها) (‪)1‬‬
‫‪ 4‬ـ عن ابن عم ر أن رجال العن امرأت ه في زمن رس ول هللا ‪ ‬وانتفى من‬
‫ول دها‪ ،‬فف رق رس ول هللا ‪ ‬بينهم ا‪ ،‬وألح ق الول د ب المرأة(‪ ،)2‬والزي ادة من الثق ة‬
‫مقبولة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم اعتبار هذا الشرط‪ ،‬وال يحتاج إلى ذك ر الول د ونفي ه‪ ،‬ألن ه‬
‫ينتفي بزوال الفراش‪ ،‬وهو رواية عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان‪ ،‬لم يذكر فيه الولد‪ ،‬وق ال‬
‫فيه‪ :‬ففرق رسول هللا ‪ ‬بينهما‪ ،‬وقضى أن ال يدعى ولدها ألب‪ ،‬وال يرمى ولدها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن رجال العن امرأته على عهد رس ول هللا ‪ ‬فف رق الن بي ‪ ‬بينهم ا‪،‬‬
‫وألحق الولد بأمه(‪.)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول بن اء على األدل ة الص حيحة‬
‫الواردة فيه‪ ،‬أما األحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني‪ ،‬فهي مطلقة فتحمل‬
‫على التقييد ال وارد في أح اديث أص حاب الق ول األول‪ ،‬وق د أج اب ابن حج ر على‬
‫الحديث الثاني من أدلة القول الثاني على اعتب ارهم الف اء س ببية أي المالعن ة س بب‬
‫االنتف اء بقول ه‪(:‬ف إن أراد أن المالعن ة س بب ثب وت االنتف اء فجي د‪ ،‬وإن أراد أن‬
‫المالعن ة س بب وج ود االنتف اء فليس ك ذلك‪ ،‬فإن ه أن لم يتع رض لنفي الول د في‬

‫‪ :)(1‬البخاري‪ ،4/1772 :‬ابن حبان‪ ،10/114 :‬أبو داود‪ ،2/275 :‬النسائي‪.3/266 :‬‬
‫‪ )(2‬البخ اري‪ ،5/2036 :‬ابن حب ان‪ ،10/122 :‬ال بيهقي‪ ،7/402 :‬أب و داود‪ ،2/278 :‬ابن ماج ة‪،1/669 :‬‬
‫أحمد‪.2/7 :‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪ ،2/1132 :‬البيهقي‪ ،7/409 :‬النسائي‪ ،3/376 :‬أحمد‪.2/64 :‬‬

‫‪246‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫المالعنة لم ينتف‪ ،‬والحديث في الموطأ بلفظ وانتفى بالواو ال بالفاء)‬
‫زيادة على أن رمي الزوجة بالزنى ال يدل على انتفاء ولده منها‪ ،‬ألن ه خالف‬
‫األصل‪ ،‬فاألصل أن الولد للفراش‪ ،‬فلذلك ال يص ح الخ روج عن األص ل إال ب دليل‪،‬‬
‫وهو التصريح بنفي ولده‪.‬‬
‫بل نرى مع ذلك ـ وهللا أعلم ـ أن هذا التصريح يفي د في ح ال الش ك في ك ون‬
‫ابن اللعان من الزوج أو من الزاني‪ ،‬أما في حال توفر الوسائل الكفيلة بإزالة الشك‪،‬‬
‫فإنه ال يصح اللع ان بنفي الول د‪ ،‬إن ثبت نس به من أبي ه‪ ،‬ويبقى اللع ان ل درء الح د‪،‬‬
‫فالحد يدرأ باللعان‪ ،‬سواء حد القذف أم حد الرجم‪ ،‬أما النسب‪ ،‬فيمكن إثباته بالوسائل‬
‫الكفيلة بذلك‪.‬‬
‫ونرى أن في قوله ‪(:‬لوال األيمان) دليل على ذلك‪ ،‬فرسول هللا ‪ ‬في ه ذا‬
‫الحديث لم يعمل الشبه في نسبة ابن اللعان ألبيه لسببين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الشبه وحده ليس دليال كافيا‪ ،‬بل هو محتمل‪ ،‬فلذلك لم يلحقه بن اء على‬
‫هذا االحتمال الذي قد يتخلف‪ ،‬وإن صدق مع رسول هللا ‪ ،‬وهو رسول هللا‪ ،‬ق د ال‬
‫يصدق مع غيره‪ ،‬والرسول ‪ ‬مشرع ألمته‪ ،‬فل ذلك لم يبن ه ذا الحكم على علم ه‪،‬‬
‫خشية االقتداء به في ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن هذا بعد حصول اللعان‪ ،‬فلذلك لو أن التح ري‬
‫الدقيق بالوسائل الحديثة أدت إلى التعرف على نسبة االبن قب ل اللع ان‪ ،‬ص ح ذل ك‪،‬‬
‫وكان فيه إثبات نسب قبل اللعان‪.‬‬
‫زيادة على أن نفي األب البنه قد يكون لغلبة شكه‪ ،‬فلذلك إن أزي ل ه ذا الش ك‬
‫بما ينفيه نفيا جازما لم يستطع أن يتبرأ من ه‪ ،‬ب ل ق د يك ون ذل ك س ببا ل ترك اللع ان‬
‫مطلقا‪ ،‬وعودة الزوج لزوجته‪ ،‬أو االكتفاء بتطليقها‪ ،‬وهو من المقاصد الش رعية في‬
‫اللعان كما سنرى في محله‪.‬‬
‫وقد تعرض ابن القيم لهذا التجاذب بين اللعان الذي يقتضي نفي النسب‪ ،‬وبين‬
‫فالنبـي ‪ ‬قد حكم بع َد اللعان‪ ،‬ونفى الولد‬‫ُّ‬ ‫الشبه الذي يقتضي إثباته‪ ،‬فقال‪(:‬فإن قيل‪:‬‬
‫صاحب الفراش فهو ل ه‪ ،‬وإن ج اء يُش به ال ذي رميت ب ه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بأنه إن جاء يُشبِهُ الزو َج‬
‫فهو له‪ ،‬فما قولُكم في مثل هَذه الواقع ة إذا العن امرأت ه وانتفى من ول دها‪ ،‬ثم ج اء‬
‫الول ُد يُشبهه‪ ،‬هل تُل ِحقُونه ب ه بالش به عمالً بالقاف ة‪ ،‬أو تحكم ون بانقط اع نس به من ه‬
‫عمالً بموجب لعانه؟)(‪)2‬‬
‫وأجاب بما يبين حقيقة هذا التعارض‪ ،‬وأن كل االعتبارات في ه ممكن ة‪ ،‬فق ال‬
‫ك‪ ،‬وموضع ضيق تج اذب أ ِعنتَ ه اللع انُ‬ ‫ضن ٌ‬
‫جوابا عن اإلشكال السابق‪(:‬هذا مجال َ‬
‫المقتضي النقطاع النسب‪ ،‬وانتفاء الول د وأن ه يُ دعى ألم ه وال ي دعى ألب‪ ،‬والش به‬
‫الدال على ثبوت نسبه من الزوج‪ ،‬وأنه ابنُه‪ ،‬مع شهادة النبـي ‪ ‬بأنها إن جاءت به‬

‫‪ )(1‬فتح الباري‪.9/460 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/381 :‬‬

‫‪247‬‬
‫على شبهه‪ ،‬فالول ُد له‪ ،‬وأنه كذب عليها‪ ،‬فهذا مض يق ال يتخَ لصُ من ه إال المستبص ُر‬
‫البصير بأدلة الشرع وأسراره‪ ،‬والخبـي ُر بجمعه وفرق ِه ال ذي س افرت ب ه ِهمتُ ه إلى‬
‫ل والحرام) (‪)1‬‬ ‫مطلع األحكام‪ ،‬والمشكاة التي منها ظهر الحال ُ‬
‫ومرادنا من هذا أن المسألة محتملة لكال الوجهين فل ذلك ال ح رج من اعتب ار‬
‫ما ذكرناه‪ ،‬فهو من الوج وه المحتمل ة‪ ،‬ول و أن ابن القيم رجح وجه ا آخ ر ع بر عن‬
‫بقوله‪(:‬وال ذي يظه ر في ه ذا‪ ،‬وهللا المس تعان وعلي ه التكالن‪ ،‬أن حكم اللع ان قط ع‬
‫حكم الشبه‪ ،‬وصار معه بمنزلة أق وى ال دليلين م ع أض عفِهما‪ ،‬فال ع برة للش به بع د‬
‫والنبـي ‪ ‬لم يُخبِ ر عن ش أن الول د وش بهه‬ ‫ُّ‬ ‫مضي حكم اللعان في تغيـير أحكام ه‪،‬‬
‫ق منهما من الكاذب الذي ق د‬ ‫ليغير بذلك حكم اللعان‪ ،‬وإنما أخبر عنه‪ ،‬ليتبـين الصاد ُ‬
‫ق ِمن‬ ‫استوجب اللعنة والغضب‪ ،‬فهو إخبار عن أمر قدري ك وني يتبـين ب ه الص اد ُ‬ ‫َ‬
‫الكاذب بعد تقرر الحكم الديني‪ ،‬وأن هللا س بحانه س يجعل في الول د دليالً على ذل ك‪،‬‬
‫ويدل عليه أنه ‪ ‬قال ذلك بعد انتفائ ِه من الولد‪ ،‬وقال‪( :‬إِن َجا َءت بِ ِه كذا وك ذا‪ ،‬فَاَل‬
‫ب َعلَيها)‪ ،‬فجاءت ب ه‬ ‫ق َعلَيها‪َ ،‬وإِن َجا َءت بِ ِه َك َذا َو َك َذا‪ ،‬فَاَل أُ َراهُ إِال َك َذ َ‬ ‫أُ َراهُ إِال َ‬
‫ص َد َ‬
‫عرض لها‪ ،‬ولم يفسخ حكم اللع ان‪،‬‬ ‫ق عليها‪ ،‬ولم يَ ِ‬ ‫ص َد َ‬‫على النعت المكروه‪ ،‬فعلم أنه َ‬
‫فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها) (‪)2‬‬
‫وما ذكره ابن القيم من عدم انتفاء اللعان صحيح ألن من مقاص د اللع ان درء‬
‫الحد‪ ،‬فلذلك ال يفسخ اللعان‪ ،‬وال يقام على الرجل أو المرأة الحد حتى لو ثبت صدق‬
‫أحدهما‪ ،‬وإنما الذي ذكرن اه ه و أم ر ل ه عالق ة بالنس ب حرص ا على إثبات ه ألهل ه‬
‫لتشوف الشرع إلثبات األنساب‪ ،‬وهو أمر تبعي للعان وأث ر من آث اره‪ ،‬فل ذلك يمكن‬
‫تخلفه‪ ،‬بل يتحرى القاضي إلزالته‪ ،‬فهو أخطر آثار اللعان‪.‬‬
‫ولو أن ابن القيم اطلع على دقة الوسائل الحديثة في إثبات األنس اب لق ال بم ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬فإن النصوص الشرعية جعلته محتمال الحتمال الوسائل التي كانت موج ودة‬
‫حينذاك‪ ،‬فإذا زال الوهم عن الوسيلة وتحقق به ا المقص ود تحقق ا يقيني ا‪ ،‬ع اد الحكم‬
‫إلى أصله‪ ،‬واألصل في هذا الباب عودة األنساب إلى أصحابها‪.‬‬
‫أن ال يكذب الزوج نفسه بعد اللعان‪:‬‬
‫اتفق الفقه اء على أن ال زوج المالعن إن ك ذب نفس ه بع د اللع ان‪ ،‬وت بين ل ه‬
‫خطؤه‪ ،‬فإن ولده يلحق به‪ ،‬وقد اختل ف في حق ه في اس تلحاق الول د بع د موت ه على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يلحقه نسب الولد مطلق ا‪ ،‬حي ا ك ان الول د أو ميت ا‪ ،‬غني ا ك ان أو‬
‫فقيرا‪ ،‬وهو قول الشافعي‪ ،‬وأبي ثور والحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذا ولد نفاه باللعان‪ ،‬فكان له استلحاقه‪ ،‬كما ل و ك ان حي ا‪ ،‬أو ك ان ل ه‬
‫ولد‪.‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/381 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/381 :‬‬

‫‪248‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النسب ال تمنع التهمة لحوقه‪ ،‬ب دليل أن ه ل و ك ان ل ه أخ يعادي ه‪ ،‬ف أقر‬
‫ب ابن‪ ،‬لزم ه‪ ،‬وس قط م يراث أخي ه‪ ،‬ول و ك ان االبن حي ا وه و غ ني‪ ،‬واألب فق ير‪،‬‬
‫فاستلحقه‪ ،‬فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه‪ ،‬ومع ذلك يقبل قوله‪ ،‬فكذلك هاهنا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يلحقه نسب الولد بقيود معينة‪ ،‬فقيده الثوري بقوله‪(:‬إذا اس تلحق‬
‫الولد الميت نظرنا ؛ فإن كان ذا مال‪ ،‬لم يلحقه ؛ ألنه إنما يدعي ماال‪ ،‬وإن لم يكن ذا‬
‫مال‪ ،‬لحقه)‬
‫وقيده الحنفية بأنه إن كان الولد الميت ت رك ول دا‪ ،‬ثبت نس به من المس تلحق‪،‬‬
‫وتبعه نسب ابن ه‪ ،‬وإن لم يكن ت رك ول دا‪ ،‬لم يص ح اس تلحاقه‪ ،‬ولم يثبت نس به‪ ،‬وال‬
‫يرث منه المدعي شيئا؛ ألن نسبه منقطع بالموت‪ ،‬فلم يصح استلحاقه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ثبوت النسب باالستلحاق بشروط نعرفه ا في‬
‫محلها من هذا الفصل‪.‬‬
‫أن ال تكون الزوجة مكرهة على الزنا‪:‬‬
‫ولو في طهر لم يمسها فيه‪ ،‬وقد اختلف الفقه اء في اعتب ار ه ذا الش رط على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه‪ ،‬فأتت بول د‬
‫يمكن أن يكون من الواطئ‪ ،‬فهو منه‪ ،‬وليس للزوج قذفها بالزنا‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‬
‫ورواية عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذا ليس بزنا منها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن نفي الولد ال يكون إال باللعان‪ ،‬ومن شرط اللعان القذف‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن اللعان ال يتم إال بلعان المرأة‪ ،‬وال يصح اللعان من المرأة هن ا ؛ ألنه ا‬
‫ال تكذب الزوج في إكراهها على ذلك‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن له نفيه باللع ان‪ ،‬وه و ق ول الش افعي ورواي ة عن د الحنابل ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه محتاج إلى نفيه‪ ،‬فشرع له اللعان طريقا إليه‪ ،‬كما لو طالبته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن نفي النسب الباط ل ح ق ل ه‪ ،‬فال يس قط برض اها ب ه‪ ،‬كم ا ل و ط البت‬
‫باللعان ورضيت بالولد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو التحري بالوسائل الدقيقة في حال الشك‪ ،‬كما‬
‫ذكرنا سابقا‪ ،‬حتى ال ينسب االبن لغير أبيه‪ ،‬وح تى ي زول ألم الش ك عن األب ب برد‬
‫اليقين‪ ،‬ألن األب الذي يشك في نسبة ابنه إليه ال يمكنه أن يتعامل معه معاملة أبوي ة‬
‫محضة‪ ،‬فلذلك يحتاج إلزالة هذا الشك إما بإثباته له أو بإثباته ألبيه من الزنا‪.‬‬
‫أن تضع الحمل‪:‬‬
‫فال يصح نفي الحمل قبل الوضع‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ه ذا الش رط‬
‫على األقوال التالية‪:‬‬

‫‪249‬‬
‫القول األول‪ :‬ال ينتفي الحمل بنفيه قبل الوض ع‪ ،‬وال ينتفي ح تى يالعنه ا بع د‬
‫الوضع‪ ،‬فإن العنها وهي حامل‪ ،‬ثم أتت بالولد لزمه‪ ،‬ولم يتمكن من نفيه‪ ،‬وهو قول‬
‫أبي حنيفة وقول عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الحم ل غ ير مس تيقن‪ ،‬فيمكن أن يك ون حمال وهمي ا‪ ،‬فيص ير نفي ه‬
‫مشروطا بوجوده‪ ،‬وال يجوز تعليق اللعان بشرط‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ثبوت الولد له إن العنه ا ح ال الحم ل بس بب أن اللع ان ال يك ون إال بين‬
‫الزوجين‪ ،‬وهي قد بانت منه بلعانها في حال حملها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يصح نفي الحم ل‪ ،‬وينتفي عن ه‪ ،‬وه و ق ول مال ك‪ ،‬والش افعي‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما ورد في حديث هالل من أن ه نفى حمله ا فنف اه عن ه الن بي ‪ ‬وألحق ه‬
‫باألول‪ .‬وال خفاء بأنه كان حمال‪ ،‬ولهذا قال النبي ‪( :‬انظروها‪ ،‬فإن جاءت به كذا‬
‫وكذا) (‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ اآلثار الكثيرة الدالة على ذلك من السلف‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن عدم القول بذلك فيه إلزام الزوج ولدا ليس منه‪ ،‬وسد باب االنتفاء من أوالد‬
‫الزنا‪ ،‬مع أن هللا تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا‪ ،‬فال يجوز سده‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه‪ ،‬وله ذا ثبتت للحام ل أحك ام تخ الف به ا‬
‫الحائل‪ :‬من النفقة‪ ،‬والفطر في الصيام‪ ،‬وترك إقامة الحد عليها‪ ،‬وت أخير القص اص عنه ا‬
‫وصحة استلحاق الحمل‪ ،‬فكان كالولد بعد وضعه‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬إن كانت المرأة المالعنة ح امال فبتم ام االلتع ان منهم ا جميع ا‬
‫ينتفي عنه الحمل ذكره أو لم يذكره‪ ،‬إال أن يقر به فيلحقه وال حد علي ه في قذف ه له ا‬
‫مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن‪ ،‬فلو صدقته هي فيم ا ق ذفها ب ه‪ ،‬وفي أن الحم ل‬
‫ليس منه حدث‪ ،‬وال ينتفي عنه ما ول دت‪ ،‬ب ل ه و الح ق ب ه‪ ،‬ف إن لم يالعنه ا ح تى‬
‫وضعت حملها فله أن يالعنها لدرء الحد عن نفس ه‪ ،‬وأم ا م ا ول دت فال ينتفي عن ه‬
‫بعد أصال‪ ،‬وهو قول ابن حزم‪ ،‬وهو الموضع الوحيد لنفي الولد عنده(‪.)2‬‬
‫وقد استدل لذلك بقوله ‪(:‬الولد للفراش)‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪(:‬فص ح أن ك ل من‬
‫ولد على فراش ه ول د فه و ول ده إال حيث نف اه هللا تع الى على لس ان رس وله ‪ ،‬أو‬
‫حيث يوقن بال ش ك أن ه ليس ه و ول ده‪ ،‬ولم ينف ه ‪ ‬إال وهي حام ل باللع ان فق ط‪،‬‬
‫فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب)‬
‫وله ذا االعتب ار ق ال ب أن الزوج ة إن ص دقته في أن الحم ل ليس من ه‪ ،‬ف إن‬
‫تصديقها ل ه ال يلتفت إلي ه‪ ،‬بن اء على تغليب اعتب ار النس ب‪ ،‬فه و ح ق متع د‪ ،‬ليس‬
‫قاصرا على األبوين‪ ،‬فلذلك ال حق لهما في نفي ه‪ ،‬واس تدل ل ذلك بقول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى ﴾(األنع ام‪ ،)164:‬ق ال‪:‬‬ ‫تَ ْك ِس بُ ُك لُّ نَ ْف ٍ‬
‫س إِاَّل َعلَ ْيهَ ا َواَل تَ ِز ُر َو ِ‬

‫‪ )(1‬أخرجه أحمد ‪ )12477( 3/142‬ومسلم ‪.3750‬‬


‫‪ )(2‬المحلى‪.9/332 :‬‬

‫‪250‬‬
‫(فوجب أن إق رار األب وين ال يص دق على نفي الول د‪ ،‬فيك ون كس با على غيرهم ا‪،‬‬
‫وإنم ا نفى هللا تع الى الول د إن كذبت ه األم والتعنت هي وال زوج فق ط‪ ،‬فال ينتفي في‬
‫غير هذا الموضع) (‪)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ثبوت حق الزوج في اللعان لنفي الول د ال ذي‬
‫شك فيه سواء كانت زوجته حامال أو غير حامل بالشروط ال تي ذكرناه ا س ابقا من‬
‫تقديم التحري‪ ،‬واللعان في هذه الحالة‪ ،‬ال يكون لنفي الولد ب ل ل درء الح د‪ ،‬إال إذا لم‬
‫تفلح الوس ائل في التع رف على ص حة النفي‪ ،‬أو لم توج د‪ ،‬فحين ذاك يمكن االلتع ان‬
‫لنفي الولد‪.‬‬
‫فلذلك فإن القول الثاني هو األرجح لتصريح األدلة به‪ ،‬قال ابن قدامة‪( :‬وه ذا‬
‫القول هو الصحيح ؛ لموافقته ظواهر األحاديث وما خالف الحديث ال يعب أ ب ه كائن ا‬
‫ما كان) (‪)2‬‬
‫وقد فصل ابن القيم موضع االلتعان في هذه الحالة بقوله‪(:‬هذا موض ُع تفصيل‬
‫ال بُد منه‪ ،‬وهو أن الحم َل إن ك ان س ابقا ً على م ا رماه ا ب ه‪ ،‬وعلم أنه ا زنت وهي‬
‫حامل منه‪ ،‬فالول د ل ه قطع اً‪ ،‬وال ينتفي عن ه بلعان ه‪ ،‬وال يَ ِح لُّ ل ه أن ينفيَ ه عن ه في‬
‫اللعان‪ ،‬فإنها لما علقت به‪ ،‬كانت فراشا ً له‪ ،‬وكان الحم ُل الحق ا ً ب ه‪ ،‬فزناه ا ال يُزي ل‬
‫حال زناها الذي قد قذفها به‪ ،‬فهذا ينظر فيه‪ ،‬ف إن‬ ‫حكم لحوقه به‪ ،‬وإن لم يعلم حملَها َ‬
‫جاءت به ألقل ِمن ستة أشهر من الزنى الذي رماها ب ه‪ ،‬فالول ُد ل ه‪ ،‬وال ينتفي عن ه‬
‫بلعانه‪ ،‬وإن ولدته ألكثر من ستة أش هر من ال زنى ال ذي رماه ا ب ه‪ ،‬نظ ر‪ ،‬فإم ا أن‬
‫يكون اس تبرأها قب ل زناه ا‪ ،‬أو لم يس تبرئها‪ ،‬ف إن ك ان اس تبرأها‪ ،‬انتفى الول د عن ه‬
‫بمجرد اللعان‪ ،‬سواء نفاه‪ ،‬أو لم ينفه‪ ،‬وال بُد من ِذكره عند من يشترط ِذكره‪ ،‬وإن لم‬
‫يس تبرئها‪ ،‬فهاهن ا أمكن أن يك ون الول ُد من ه‪ ،‬وأن يك ون من ال زاني‪ ،‬ف إن نف اه في‬
‫اللعان‪ ،‬انتفى‪ ،‬وإال لحق به‪ ،‬ألنه أمكن كونُه منه ولم ينفه) (‪)3‬‬
‫وما ذكره ابن القيم من التفصيل ي دل على تش ديد الش رع في اللع ان المتعل ق‬
‫بنفي الولد‪ ،‬بخالف اللعان لدرء الحد‪ ،‬الختالف المقصد في كليهما‪ ،‬وهو يؤيد ب ذلك‬
‫ما ذكرناه سابقا من تقديم التحري على اللعان‪.‬‬
‫التصريح بنفيه عند الوضع‪:‬‬
‫وهو أن يصرح بنفي ه ح ال اللع ان وبع د الوض ع‪ ،‬ف إن س كت عن نفي ه‪ ،‬م ع‬
‫إمكانه‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ذلك على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬له تأخير نفيه مدة‪ ،‬وقد اختلفوا في تقدير هذه الم دة‪ ،‬فق درها أب و‬
‫حنيفة باليوم واليومين‪ ،‬ألن النفي عقيب الوالدة يشق‪ ،‬فقدر باليومين لقلت ه‪ ،‬وق درها‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/332 :‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.8/61 :‬‬
‫‪ )(3‬زاد المعاد‪.5/380 :‬‬

‫‪251‬‬
‫أبو يوسف ومحمد بمدة النفاس ؛ ألنها جارية مجرى ال والدة في الحكم‪ ،‬وحكي عن‬
‫عطاء‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه‪ ،‬كحالة الوالدة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إن سكت عن نفيه‪ ،‬مع إمكانه التص ريح بنفي ه لزم ه نس به‪ ،‬ولم‬
‫يكن له نفيه بعد ذلك‪ ،‬وهو قول الشافعية والحنابلة‪ ،‬وال يتقدر ذلك عندهم بزمن‪ ،‬ب ل‬
‫هو على ما جرت ب ه الع ادة‪ ،‬إن ك ان ليال فح تى يص بح وينتش ر الن اس‪ ،‬وإن ك ان‬
‫جائع ا أو ظم آن فح تى يأك ل أو يش رب‪ ،‬أو ين ام إن ك ان ناعس ا‪ ،‬وأش باه ذل ك من‬
‫أشغاله‪ ،‬فإن أخره بعد هذا كله‪ ،‬لم يكن له نفيه‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خيار لدفع ضرر متحقق‪ ،‬فكان على الفور‪ ،‬كخيار الشفعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن قول النبي ‪( :‬الولد للفراش) (‪ )1‬عام خرج منه ما وردت ب ه الس نة‬
‫الثابتة‪ ،‬وبقي ما عداه على عموم الحديث‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ما ذكره المخالفون من آجال تحكم ال دليل عليه‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنه ليس له نفيه بعد الوضع‪ ،‬وهو قول ابن حزم‪ ،‬وقد سبق ذكر‬
‫أدلته في المسألة السابقة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن التأخر عن نفيه بعد الوض ع‪ ،‬وبع د ت وفر‬
‫األسباب الكافية للعانه تهمة تقتضي المزيد من التح ري‪ ،‬زي ادة على التح ري ال ذي‬
‫ذكرناه سابقا‪.‬‬
‫أعذار التأخر عن التصريح بالنفي وأحكامها‪:‬‬
‫نص الفقه اء(‪ )2‬الق ائلون باش تراط الفوري ة في اعتب ار تعلل ه بالجه ل‪ ،‬على‬
‫الحاالت التي يمكن اعتبارها وعدم اعتبارها‪ ،‬وهذه خالصة ما ذكروا من ذلك(‪:)3‬‬
‫تعلل ه بالجه ل ب الوالدة‪ :‬فيتعل ل بأن ه لم يعلم ب الوالدة‪ ،‬فيص دق إن ك ان في‬
‫موضع يخفى عليه ذلك‪ ،‬مثل أن يكون في بلدة أخرى‪ ،‬فالقول قوله م ع يمين ه ؛ ألن‬
‫األصل عدم العلم‪ ،‬أما إن كان معها في الدار فال يقبل منه ذل ك‪ ،‬ألن ه ال يك اد يخفى‬
‫عليه‪.‬‬
‫تعلله بالجهل بحقه في نفيه‪ :‬ب أن يق ول‪ :‬علمت والدت ه‪ ،‬ولم أعلم أن لي نفي ه‪،‬‬
‫أو علمت ذل ك‪ ،‬ولم أعلم أن ه على الف ور‪ ،‬فينظ ر إلى علم ه وفقه ه‪ ،‬ف إن ك ان ممن‬
‫يخفى عليه ذلك‪ ،‬كعامة الناس‪ ،‬قبل‪ ،‬أما إن ك ان فقيه ا‪ ،‬فال يقب ل ذل ك من ه ؛ إال إذا‬
‫خفيت عليه مثل هذه األحكام‪.‬‬
‫تعلل ه بالع ذر ال ذي يمنع ه من الحض ور لنفيه‪:‬ك المرض أو العم ل‪ ،‬وفي ه ذه‬
‫الحالة ينظر إلى مدة تأخره‪ ،‬فإن كانت قصيرة لم يبط ل نفي ه‪ ،‬أم ا إن ك انت طويل ة‬
‫وأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي‪ ،‬فلم يفعل‪ ،‬سقط‬
‫‪ )(1‬الترمذى (‪ ،4/434‬رقم ‪ )2121‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.8/61:‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المبدع‪ ،8/96 :‬اإلنصاف للمرداوي‪ ،9/256 :‬كش اف القن اع‪ ،5/404 :‬المغ ني‪ ،8/62 :‬المه ذب‪:‬‬
‫‪ ،2/122‬إعانة الطالبين‪.3/390 :‬‬

‫‪252‬‬
‫نفيه إال إذا أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته‪ ،‬فإن لم يشهد‪ ،‬بطل خياره‪.‬‬
‫تعلله بعدم تصديق المخبر ل ه ب والدة زوجته‪:‬وينظر في ه ذه الحال ة إلى م دى‬
‫استفاضة الخبر وانتشاره‪ ،‬فإن كان مستفيضا منتشرا‪ ،‬لم يقب ل قول ه‪ ،‬أم ا إن لم يكن‬
‫مستفيضا‪ ،‬وكان المخبر غير عدل فإنه يقبل منه هذا العذر‪.‬‬
‫تعلله بالستر على نفسه وعلى زوجته‪ :‬إن ادعى تأخير نفيه رجاء م وت الول د‬
‫ليستر عليه وعلي نفسه لم يقبل عذره‪ ،‬ألنه أخر نفيه مع اإلمكان لغير عذر‪.‬‬
‫التصريح بالقذف مع نفي النسب‪:‬‬
‫فإذا وجد نفي النسب وحده دون القذف‪ ،‬فإن له في ذلك أحكاما خاص ة ترج ع‬
‫إلى تعبيره في نفي ولده‪ ،‬ومن األمثلة التي ذكرها الفقه اء لع دم التص ريح قول ه عن‬
‫ولده‪:‬ليس هذا الولد مني‪ ،‬فال حد عليه في هذه الحالة الحتمال أنه يريد أن ه من زوج‬
‫آخر‪ ،‬أو من وطء بشبهة‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬ولهذا يسأل عن مراده‪ ،‬ويصدق في إخب اره‬
‫عن نفسه‪ ،‬وال يحد أو يطالب باللعان إال في حالة واح دة‪ ،‬وهي أن يص رح بزناه ا‪،‬‬
‫فإن قالت الزوجة‪ :‬بل أردت قذفي‪ ،‬فالقول قوله ؛ ألنه أعلم بمراده‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء هنا في المسائل التالية‪:‬‬
‫ادعاء حصول اإلكراه للزوجة على الزنا‪:‬‬
‫لو ادعى أنها أكرهت على الزنا(‪ ،)1‬فه ل يالعن ألج ل نفي ول ده منه ا‪،‬أم ال‬
‫يالعن‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال يط الب باللع ان ألن ه لم يق ذفها‪ ،‬ومن ش رط اللع ان الق ذف‪،‬‬
‫ويلحقه نسب الولد‪ ،‬وهو قول الحنفية وق ول عن د الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف‪ ،‬في قوله تعالى‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ يَرْ ُمونَ‬
‫أَ ْز َوا َجهُ ْم َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ْم ُشهَدَا ُء إِاَّل أَنفُ ُس هُ ْم فَ َش هَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َش هَادَا ٍ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن‬
‫الصَّا ِدقِينَ ﴾(النور‪)6:‬‬
‫‪ 2‬ـ لما العن النبي ‪ ‬بين هالل وامرأت ه ك ان بع د قذف ه إياه ا‪ ،‬وك ذلك لم ا‬
‫العن بين عويمر العجالني وامرأته كان بعد قذفه إياها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن نفي اللعان إنم ا ينتفي ب ه الول د بتمام ه منهم ا‪ ،‬وال يتحق ق اللع ان من‬
‫المرأة هاهنا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن له اللعان‪ ،‬وهو قول الشافعي وقول عند الحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو عدم اللعان‪ ،‬مع التحري في نسب الولد‪ ،‬ألن‬
‫مقص د اللع ان درء الح د‪ ،‬وفي ه ذه الحال ة ي درأ الح د عنه ا إن نكلت عن اللع ان‬
‫باعتبارها مكرهة‪ ،‬أما التحقق من نسب الولد‪ ،‬فلنفي الشك كما ذكرنا سابقا‪.‬‬
‫ادعاء حصول الوطء بشبهة‪:‬‬

‫‪ )(1‬مع اتفاقهم على أنه ال حد عليه في ذلك ألنه ليس قذفا‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫لو صرح بأنها موطوءة بشبهة مع ادعائه علمها بذلك‪ ،‬وقد اتفق الفقه اء على‬
‫أنه قد قذفها بذلك‪ ،‬ولكنهم اختلفوا في حقه في لعانها لنفي نسب ولدها على قولين‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬ليس له نفيه باللعان‪ ،‬وهو قول الشافعية وقول عند الحنابلة‪ ،‬ألنه‬
‫يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن له اللعان لنفي نسب الولد منها‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫اجهُ ْم‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫‪ 1‬ـ أنه رام لزوجته‪ ،‬فيدخل في عموم قوله تع الى‪َ ﴿:‬وال ِذينَ يَرْ ُم ونَ أ ْز َو َ‬
‫الص ا ِدقِينَ ﴾‬ ‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن َّ‬‫َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ْم ُشهَدَا ُء إِاَّل أَنفُ ُسهُ ْم فَ َشهَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َش هَادَا ٍ‬
‫(النور‪)6:‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه قد تتعذر القاف ة‪ ،‬وق د ال يع ترف الرج ل بم ا نس ب إلي ه‪ ،‬أو يغيب أو‬
‫يموت‪ ،‬فال ينتفي الولد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أنه ليس له نفي الولد باللعان‪ ،‬بل ل ه أن يس تعمل‬
‫في ذلك وسائل التتحقق الشرعية‪ ،‬وهي متيسرة ويقينية في عصرنا‪.‬‬
‫ادعاء عدم والدة الزوجة‪:‬‬
‫لو قال لزوجته‪ :‬ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته‪ ،‬وخالفته الم رأة في ذل ك‪،‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في أيهما يصدق‪ ،‬واختلفوا بناء على ذلك في حقه في لعانها لنفي‬
‫النسب على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬القول ق ول الرج ل‪ ،‬وال يقب ل ق ول الم رأة إال ببين ة وهي ام رأة‬
‫مرضية‪ ،‬تشهد بوالدتها له‪ ،‬فإذا ثبتت والدتها له‪ ،‬لحقه نسبه ؛ ألنه ولد على فراشه‪،‬‬
‫والولد للفراش‪،‬وهو قول الشافعي وأبي ثور والحنفية وقول عند الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بأن الوالدة يمكن إقامة البينة عليها‪ ،‬واألصل عدمها‪ ،‬فلم تقبل دعواه ا من‬
‫غير بينة‪ ،‬كالدين‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن القول قول الم رأة‪ ،‬وه و ق ول عن د الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ق ُ فِي أرْ َح ا ِم ِهن ﴾‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫خَ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اَل‬
‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿:‬و يَ ِح لُّ لهُن أن يَكت ْمنَ َم ا ل َ‬
‫(البقرة‪ ،)228:‬وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه خارج من المرأة‪ ،‬تنقضي به عدتها‪ ،‬فقبل قولها فيه‪ ،‬كالحيض‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وعلى هذا القول فإن النسب الحق به إال أن ينفيه باللعان‪ ،‬فقد اختلف في ه‬
‫على وجهين‪:‬‬
‫‪ 4‬ـ ليس له نفيه ؛ ألن إنكاره لوالدتها إي اه‪ ،‬إق رار بأنه ا لم تل ده من زن ا‪ ،‬فال‬
‫يقبل إنكاره لذلك‪ ،‬ألنه تكذيب لنفسه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن ل ه نفي ه ؛ ألن ه رام لزوجت ه‪ ،‬ون اف لول دها‪ ،‬فك ان ل ه نفي ه باللع ان‪،‬‬
‫كغيره‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬

‫‪254‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن القول في هذه الحالة هو قول البينة‪ ،‬وهي‬
‫التأكد من ص حة نس بة الول د ألبي ه‪ ،‬وال يص ح اللع ان في ه ذا‪ ،‬ألن اللع ان مرتب ط‬
‫بالقذف‪ ،‬والزوج لم يقذفها‪ ،‬وإنما اتهمها‪ ،‬فإن تعذرت البين ة أو لم تكن جازم ة‪ ،‬ف إن‬
‫الولد للفراش‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫القسم الثاني‬
‫صيغ حل عصمة الزوجية وأحكامها‬
‫نتناول في ه ذا القس م ركن ا مهم ا من أرك ان الطالق‪ ،‬وه و الص يغة‪ ،‬وال تي‬
‫اعتبرها بعضهم ـ ألهميتها ـ الركن الوحيد في الطالق‪ ،‬فهي الكيفية التي يتم بها هذا‬
‫النوع من التفريق‪.‬‬
‫وق د ب الغ الكث ير من الفقه اء في التش ديد في ص يغة الطالق‪ ،‬مم ا ق د يفتح‬
‫مجاالت من الطالق قد تتن اقض م ع مقص د الش رع من تض ييق ه ذا الب اب‪ ،‬وله ذا‬
‫احتاج الكالم في هذا الموضوع إلى تفص يل كب ير وأدل ة مختل ف األق وال‪ ،‬والبحث‬
‫عن الضوابط التي تقيد هذا الركن وتحصره في الحدود التي أراده ا الش ارع لتع بر‬
‫عن حقيقة إرادة المطلق‪.‬‬
‫وقد قسمنا هذا الجزء إلى فصلين‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬وهو مخص ص للص يغ ال تي تكلم عنه ا الفقه اء باعتباره ا من‬
‫ص يغ الطالق‪ ،‬س واء ق الوا به ا أو لم يقول وا‪ ،‬وق د اس تدعى الكالم في ه ذا الب اب‬
‫الحديث عن ثالثة مواضيع هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ التع ابير ال تي يمكن اس تعمالها للتطلي ق من اللف ظ والكتاب ة واإلش ارة‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ صيغ التع ابير اللفظي ة‪ ،‬باعتباره ا هي األص ل في االس تعماالت العادي ة‬
‫للطالق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تقيي د ص يغ الطالق بمختل ف التقيي دات من الش رط واالس تثناء والع دد‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫وهذه المواضيع الثالث ة هي جمل ة م ا يبحث في ه الفقه اء في ه ذا الب اب‪ ،‬وال‬
‫يخفى وجه الحصر فيها‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬وقد خصصناه للصيغ التي علق الشرع عليه ا الكف ارة‪ ،‬وهم ا‬
‫صيغتان نص على كليهما القرآن الكريم هما‪ :‬الظهار‪ ،‬واإليالء‪.‬‬
‫وقد اعتبرناهما في القسم األول من (حل عصمة الزوجية المعل ق بالكف ارة)‪،‬‬
‫وذلك جريا على إلصاق كثير من الفقهاء مسائلهما بمسائل التفريق‪ ،‬وق د حاولن ا في‬
‫هذا القسم أن نبين الفرق الكبير بينهما وبين سائر أنواع التفريق‪ ،‬بل حاولنا أن ن بين‬
‫أنهما ألصق بأحكام العبادات منهما بأحكام التفريق‪.‬‬
‫ونحن ننتهج في ه ذا القس م م ا انتهجن اه في س ائر األقس ام‪ ،‬وه و البحث في‬
‫أقوال الفقهاء وفي المصادر الش رعية عم ا يحق ق مقص د الش رع من حف ظ األس رة‬
‫المسلمة‪ ،‬مع مراعاة األدلة‪ ،‬وعدم بناء ذلك على األهواء أو المصالح المتوهمة‪.‬‬

‫‪256‬‬
257
‫الفصل األول‬
‫صيغ حل عصمة الزوجية‬
‫أوال ـ أنواع التعبير عن الطالق وشروطها‬
‫ال يخلو التعبير عن الطالق من أنواع أربع ة تقتض يها القس مة العقلي ة‪ ،‬وهي‬
‫تتدرج قوة واعتبارا كما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يعبر عن الطالق بالكالم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يعبر عن الطالق بالكتابة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يعبر عن الطالق باإلشارة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يعبر في نفسه عن إرادة الطالق من غير استعمال أي وسيلة‪.‬‬
‫وق د ي ذكر البعض اآلن بعض وس ائل االتص ال الحديث ة‪ ،‬وهي كم ا ن رى ال‬
‫تخرج عن هذه الوسائل األربعة‪ ،‬ف التلفون والتلفزي ون واإلذاع ة ت دخل في التعب ير‬
‫الكالمي‪ ،‬واالنترنت والفاكس يدخل في التعب ير الكت ابي‪ ،‬أو الكالمي‪ ،‬وأحك ام ه ذه‬
‫الوسائل هي نفس ما نص عليه الفقهاء بشرط كونها مأمونة‪.‬‬
‫وسنتناول هنا األنواع الثالثة األخيرة بأحكامه ا وش روطها ون رجئ الح ديث‬
‫عن النوع األول الذي هو أهم األنواع إلى سائر الفصول‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الكتابة‪:‬‬
‫وهو من أنواع التعبير عن المقاصد‪ ،‬ولكنه مع ذلك أدنى من المشافهة‪ ،‬ومم ا‬
‫يدخل في مسمى الكتابة في عصرنا اإلنترنت والف اكس وغيره ا من الوس ائل ال تي‬
‫توص ل المعلوم ة عن طري ق الكتاب ة‪ ،‬فيمكن لل زوج مثال في عص رنا أن يرس ل‬
‫بطالق زوجته عن طريق الفاكس‪ ،‬أو البري د االلك تروني باإلض افة للرس الة‪ ،‬ومن‬
‫المسائل المتعلق بهذا النوع المسائل التالية‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم الطالق بالكتابة لمن قدر على النطق على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ع دم ص حة الطالق كتاب ة لمن ق در على الكالم‪ ،‬وه و ق ول‬
‫عط اء‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬ومن كتب الطالق ولم يلف ظ بش يء فليس بطالق)‪ ،‬وه و ق ول‬
‫للشافعية‪ ،‬وهو م ذهب ابن ح زم‪ ،‬ق ال في المحلى‪( :‬ومن كتب إلى امرأت ه ب الطالق‬
‫ان ﴾ (البق رة‪،)229 :‬‬ ‫ق َم َّرتَ ِ‬‫فليس شيئا)(‪)1‬وقد استدل على ذلك بقوله تعالى‪ ﴿:‬الطَّال ُ‬
‫وقوله تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء فَطَلِّقُ وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪ ،)1:‬ووج ه‬
‫االستدالل باآليتين كما قال ابن حزم هو أن ذل ك (ال يق ع في اللغ ة ال تي خاطبن ا هللا‬
‫تعالى بها ورسوله ‪ ‬اسم تطليق على أن يكتب إنما يق ع ذل ك اللف ظ ب ه‪ ،‬فص ح أن‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/454:‬‬

‫‪258‬‬
‫نص)(‪)1‬‬ ‫الكتاب ليس طالقا حتى يلفظ به إذ لم يوجب ذلك‬
‫القول الثاني‪ :‬صحة الطالق كتابة بالشروط التي سنذكرها‪ ،‬وهو قول جمهور‬
‫الفقهاء‪ ،‬قال الباجي‪ ( :‬وأم ا من ن وى الطالق ولم يلف ظ بش يء جمل ة‪ ،‬فال يخل و أن‬
‫يقترن به كتابة أو إشارة أو ال يقترن به شيء‪ ،‬فإن اقترنت به كتابة‪ ،‬وذلك أن ينوي‬
‫إيقاع الطالق بكتابة‪ ،‬فإنها طالق بذلك (‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك(‪:)3‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الكالم هو المعنى القائم ب النفس‪ ،‬وإظه اره بالكتاب ة كإظه اره ب النطق‬
‫كلفظه بالتوحيد يكتبه من ال يقدر على الكالم‪ ،‬فإنه يقضى له به‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان ؛ ألن المكتوب ح روف منظوم ة‬
‫تدل على معنى مفهوم كالكالم‪ ،‬ألن النبي ‪ ‬كان مأمورا بتبليغ الرس الة‪ ،‬وق د بل غ‬
‫تارة بالكتاب وتارة باللسان‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و ص حة وق وع الطالق كتاب ة لتعبيره ا عن‬
‫مقصد صاحبها‪ ،‬أما الزوجة‪ ،‬فال تطلق بالرسالة ونحوها إال بعد ثب وت ذل ك بص فة‬
‫قطعية الحتمال تزوير الرسالة‪ ،‬وتزوير توقي ع ال زوج‪ ،‬فل ذلك يمكن الق ول بص حة‬
‫الطالق‪ ،‬وتوقفه على ثبوته من الزوج‪ ،‬وهو ما يدعو إلى التثبت في إمضائه‪.‬‬
‫أما مجرد كتابة رسالة للزوجة يخبرها فيه بطالقها من غير عزم‪ ،‬ومن غ ير‬
‫إرسال وال إشهاد فإن ذلك يشبه حديث النفس‪ ،‬قال الب اجي‪( :‬وإذا كتب الطالق على‬
‫غير عزم فله تركه ما لم يخرجه عن يده أو ش هد علي ه‪ ،‬ف إن أخرج ه عن ي ده على‬
‫وجه اإلرسال به إلى الزوجة فهو إنفاذ له كاإلشهاد ب ه وس واء كتب أنت ط الق‪ ،‬أو‬
‫إذا جاءك كتابي فأنت طالق قاله مالك) (‪)4‬‬
‫وه و كالم ص حيح‪ ،‬لكن ه عقب علي ه بقول ه‪ ( :‬ف إذا كتب ولم يش هد ب ه‪ ،‬ولم‬
‫يخرجه عن يده‪ ،‬فإن له رده ويحلف أنه ما أراد إنفاذ الطالق‪ ،‬ووجه ذلك أن ه يكتب ه‬
‫على وجه االرتياب فيه أو على وجه التهديد فيحلف لما احتمل أنه لم يكتب ه إال على‬
‫وج ه الطالق(‪)5‬فلس نا ن دري الض رورة الداعي ة لتحليف ه‪ ،‬ولس نا ن دري قب ل ذل ك‬
‫الطريقة التي توصل بها من يريد تحليفه للكتاب‪ ،‬بعد أن أخف اه ص احبه‪ ،‬فمث ل ه ذه‬
‫األمور الخاصة ال ينبغي التجسس عليها والتضييق على الناس بسببها‪ ،‬بل من ظف ر‬
‫بكت اب مث ل ه ذا ض اع من ص احبه‪ ،‬ف األولى ل ه أن يحرق ه‪ ،‬فلعل ه يح رق ب ذلك‬
‫النزغات الشيطانية التي أملت ذلك الكتاب‪ ،‬ويحفظ بيتا من بيوت المسلمين‪.‬‬
‫أنواع صيغة الطالق كتابة وأحكامها‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/454:‬‬
‫‪ )(2‬المنتقى‪.4/15:‬‬
‫‪ )(3‬المبسوط‪.6/143:‬‬
‫‪ )(4‬المنتقى‪.4/15:‬‬
‫‪ )(5‬المنتقى‪.4/15:‬‬

‫‪259‬‬
‫شروط الطالق بالكتابة‬
‫اشترط الفقهاء لوقوع الطالق بالكتابة شرطين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نية الطالق في الكتابة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اشتراط النية في الكتابة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إذا كتب الطالق‪ ،‬فإن نواه طلقت زوجته‪ ،‬وإن لم ين و لم تطل ق‪،‬‬
‫وبه ذا ق ال الش عبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والزه ري‪ ،‬والحكم‪ ،‬وأب و حنيف ة‪ ،‬ومال ك وه و‬
‫المنصوص عن الشافعي‪ ،‬واستدلوا على ذلك ب أن الكتاب ة محتمل ة‪ ،‬فإن ه يقص د به ا‬
‫تجربة القلم‪ ،‬وتجويد الخط‪ ،‬من غير ني ة‪ ،‬ككناي ات الطالق ف إن ن وى ب ذلك تجوي د‬
‫خطه‪ ،‬أو تجربة قلمه‪ ،‬لم يقع ؛ ألنه لو ن وى باللف ظ غ ير اإليق اع‪ ،‬لم يق ع‪ ،‬فالكتاب ة‬
‫أولى‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬يق ع الطالق‪ ،‬ول و لم ين و‪ ،‬وه و ق ول الش عبي‪ ،‬والنخعي‪،‬‬
‫والزه ري‪ ،‬والحكم؛ ورواي ة عن أحم د‪ ،‬بن اء على اعتب اره من ص يغ الطالق‬
‫الصريحة‪ ،‬وهي ال تفتقر إلى نية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول‪ ،‬ألن ج زاء األعم ال مرتب ط‬
‫بالنية ال بصورة العمل‪ ،‬ولكن مع ذل ك ن رى حرم ة التعام ل غ ير الج دي م ع ه ذه‬
‫المسائل‪ ،‬كأن يكتب شخص ما مثل هذا فيطلع عليه أهله أو غ يرهم فيك ون في ذل ك‬
‫ضررا عليه وعليهم‪ ،‬بل نرى مثل هذا من االس تهزاء المح رم بآي ات هللا‪ ،‬ثم إن في‬
‫هذا بعد ذلك اقترابا من هذه الحمى‪ ،‬ومن رعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تكون مستبينة مرسومة‪:‬‬
‫والمقصود أن تكون مكتوبة بشكل ظاهر يبقى له أثر يثبت ب ه‪ ،‬كالكتاب ة على‬
‫الورق‪ ،‬أو األرض‪ ،‬بخالف الكتابة في الهواء أو الماء‪ ،‬فإنها غير مس تبينة وال يق ع‬
‫بها الطالق‪ ،‬وهذا ل دى الجمه ور‪ ،‬وفي رواي ة ألحم د يق ع به ا الطالق ول و لم تكن‬
‫متبينة‪.‬‬
‫وقد نص الحنفي ة على أن الكتاب ة إذا ك انت مس تبينة ومرس ومة يق ع الطالق‬
‫بها‪ ،‬نوى أو لم ينو‪ ،‬وإذا كانت غير مستبينة ال يق ع مطلق ا وإن ن وى‪ .‬أم ا إذا ك انت‬
‫مس تبينة غ ير مرس ومة‪ ،‬ف إن ن وى يق ع‪ ،‬وإال ال يق ع وقي ل‪ :‬يق ع مطلق ا‪ ،‬والكتاب ة‬
‫المرسومة عندهم هي ما ك ان معت ادا ويك ون مص درا ومعنون ا‪ ،‬مث ل م ا يكتب إلى‬
‫الغائب‪ ،‬والكتابة المستبينة هي ما يكتب على الصحيفة والحائط واألرض على وجه‬
‫يمكن فهمه وقراءته(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ اإلشارة‬
‫ال يختل ف معناه ا االص طالحي عن د الفقه اء عن معناه ا اللغ وي‪ ،‬بخالف‬
‫معناه ا عن د األص وليين‪ ،‬فهم يس تعملونها في مبحث ال دالالت‪ ،‬ويعرف ون دالل ة‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/143:‬‬

‫‪260‬‬
‫اإلشارة بأنها‪ :‬داللة اللفظ على ما لم يقصد به‪ ،‬ولكنه الزم له‪.‬‬
‫وق د اتف ق الفقه اء(‪ )1‬على أن إش ارة األخ رس في الطالق يص ح اعتباره ا‪،‬‬
‫بخالف إشارة من له القدرة على الكالم‪ ،‬قال ابن قدامة‪( :‬وال يقع الطالق بغ ير لف ظ‬
‫الطالق‪ ،‬إال في موض عين ؛ أح دهما‪ ،‬من ال يق در على الكالم‪ ،‬ك األخرس إذا طل ق‬
‫باإلشارة‪ ،‬طلقت زوجته‪ .‬وبه ذا ق ال مال ك‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وأص حاب ال رأي‪ .‬وال نعلم‬
‫عن غيرهم خالفهم)(‪)2‬‬
‫ِّ‬
‫واستدل لذلك ابن حزم بقوله‪( :‬وأما األخرس‪ ،‬فإن هللا تعالى يق ول‪ ﴿:‬اَل يُ َكلفُ‬
‫هَّللا ُ نَ ْفسًا إِاَّل ُو ْس َعهَا ﴾(البقرة‪ ،)286:‬وليس في وسعه الكالم فال يجوز أن يكلف إي اه‪،‬‬
‫وقال رسول هللا ‪ ( :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)‪ ،‬فصح أن ه يل زم ك ل‬
‫أحد مما أمر هللا تعالى به ما استطاع‪ ،‬واألخرس يستطيع اإلفهام باإلش ارة فعلي ه أن‬
‫يأتي بها(‪)3‬‬
‫إال أن المالكية قد نصوا على م ا يش ير إلى وق وع طالق الق ادر على الكالم‪،‬‬
‫ق ال الب اجي‪ ( :‬إن ن وى الطالق وأش ار ب ه لزم ه الطالق‪ ،‬وال ف رق بين إظه اره‬
‫بالكتابة أو إظهاره بالنطق سواء أشار بيده أو رأسه(‪ )4‬واستدل لذلك بما يلي‪:‬‬
‫اس ثَاَل ثَ ةَ أَي ٍَّام إِاَّل َر ْم ًزا ﴾ِ(آل عم ران‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬قَا َل آيَتُ كَ أَاَّل تُ َكلِّ َم النَّ َ‬
‫‪)41‬‬
‫‪ 2‬ـ أن طالق األخرس إنما يكون باإلشارة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن اإلشارة عبارة عما نواه منه كالنطق‪.‬‬
‫وق د نص الفقه اء الق ائلون باعتب ار الطالق الثالث في مجلس واح د على أن‬
‫األخ رس إن أش ار بأص ابعه الثالث إلى الطالق‪ ،‬طلقت ثالث ا ؛ ألن إش ارته ج رت‬
‫مجرى نطق غيره‪ ،‬أما القادر على الكالم‪ ،‬فإنه لو قال‪ :‬أنت طالق‪ ،‬وأشار بأص ابعه‬
‫الثالث لم يقع إال واحدة‪.‬‬
‫أما إن قال‪ :‬أنت طالق هكذا‪ ،‬وأشار بأصابعه الثالث‪ ،‬فإنها تطلق ثالث ا‪ ،‬وق د‬
‫استدلوا على ذلك بأن قوله هكذا تصريح بالتش بيه باألص ابع في الع دد‪ ،‬وه و ب ذلك‬
‫يص لح أن يك ون دليال على م راده‪ ،‬كم ا ثبتت اإلش ارة عن الن بي ‪ ‬في أح اديث‬
‫كثيرة منها قوله ‪ ( :‬الشهر هكذا وهكذا وهك ذا‪،‬وأش ار بيدي ه م رة ثالثين‪ ،‬وم رة‬
‫تسعا وعشرين‪.‬‬
‫ولكن م ع اتف اق الفقه اء على ص حة إش ارة األخ رس‪ ،‬ف إن األم ر ليس على‬
‫إطالقه‪ ،‬بل قيد أكثر الفقهاء ذلك بما يضيق األمر في إطار محدود حتى ال يتخذ من‬

‫‪ )(1‬انظ ر‪ :‬المب دع‪ ،7/274 :‬من ار الس بيل‪ ،2/216 :‬كش اف القن اع‪ ،5/249 :‬المغ ني‪ ،7/373 :‬المه ذب‪:‬‬
‫‪ ،2/83‬إعانة الطالبين‪ ،4/16 :‬اإلقناع للشربيني‪ ،2/449 :‬البحر الرائق‪ ،3/267 :‬حاشية ابن عاب دين‪ ،3/21 :‬الت اج‬
‫واإلكليل‪ ،4/58 :‬المدونة‪ ،6/24:‬القوانين الفقهية‪ ،153 :‬المحلى‪ ،10/147:‬مختصر اختالف العلماء‪.2/451 :‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.7/374:‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/147:‬‬
‫‪ )(4‬المنتقى‪.4/15:‬‬

‫‪261‬‬
‫إشارة األخرس مهما كانت وس يلة للتفري ق بين ه وبين زوج ه‪ ،‬وه ذا م ا ذك روا من‬
‫شروط‪:‬‬
‫أن يكون األخرس عاجزا عن الكتابة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اشتراط عجز األخرس عن الكتابة لوقوع طالقه باإلش ارة‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم اعتبار هذا الشرط‪ ،‬مع أولوية الكتاب ة على اإلش ارة للق ادر‬
‫عليها‪ ،‬وهو قول جمه ور الفقه اء‪ ،‬ففي المدون ة مثال‪ :‬أرأيت األخ رس‪ ،‬ه ل يج وز‬
‫طالقه ونكاحه وشراؤه وبيعه وتحده إذا قذف وتحد قاذفه وتقتص له في الجراح ات‬
‫وتقتص منه؟ قال‪ :‬نعم هذا جائز فيم ا س معت من مال ك‪ ،‬وبلغ ني عن ه إذا ك ان ه ذا‬
‫يعرف من األخرس باإلشارة وبالكت اب يس تيقن ذل ك من ه ف إن ذل ك الزم لألخ رس‬
‫قلت‪ :‬وكذلك إن كتب بيده الطالق والحرية؟ قال‪ :‬ق د أخبرت ك أن مالك ا ق ال‪ :‬يلزم ه‬
‫ذلك في اإلشارة فكيف ال يلزمه في الكتاب؟(‪)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اعتبار هذا الش رط‪ ،‬وع دم ص حة إش ارة الخ رس الق ادر على‬
‫الكتابة‪ ،‬وهو قول للحنفية في ظاهر الرواية‪ ،‬وقول للش افعية‪ ،‬ق ال الغ زالي‪ ( :‬وأم ا‬
‫كتابة األخرس فهو طالق ألنها أظه ر من اإلش ارة‪ ،‬وم ع ذل ك فال نكل ف األخ رس‬
‫القادر على الكتابة بأن يكتب الطالق‪ ،‬بل نقنع باإلشارة‪ ،‬وأما القادر فإشارته فيها ال‬
‫نجعلها صريحا ألن عدوله إليها مع القدرة موهم)(‪)2‬‬
‫وقد نص ابن عابدين على أن هذا هو ظاهر الرواية‪ ،‬قال‪ ( :‬ففي كافي الحاكم‬
‫الشهيد م ا نص ه‪ :‬ف إن ك ان األخ رس ال يكتب‪ ،‬وك ان ل ه إش ارة تع رف في طالق ه‬
‫ونكاحه وشرائه وبيع ه فه و ج ائز‪ ،‬وإن ك ان لم يع رف ذل ك من ه أو ش ك في ه فه و‬
‫باطل)‪ ،‬ق ال تعليق ا على ه ذه الرواي ة‪ ( :‬فق د رتب ج واز اإلش ارة على عج زه عن‬
‫الكتابة فيفيد أنه إن كان يحسن الكتابة ال تجوز إشارته)(‪)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار هذا الش رط‪ ،‬ألن اإلش ارة مهم ا ك ان‬
‫ظهوره ا لن تع بر عن ص ريح الطالق‪ ،‬فل ذلك ك انت الكتاب ة هي المؤدي ة له ذا‬
‫الغرض‪ ،‬لكن إن كان عاجزا‪ ،‬فإنه ال ينبغي االستعجال بالحكم عليه بتطليق زوجت ه‬
‫إال بعد التريث لمعرفة حقيقة قراره‪.‬‬
‫هذا بالنسبة لألخرس العاجز عن السمع‪ ،‬أما الق ادر على الس مع‪ ،‬فإن ه يس هل‬
‫التعرف على رأيه‪ ،‬ولو بدون الحاجة إلى الكتابة‪.‬‬
‫أن تكون اإلشارة مفهمة‪:‬‬

‫‪ )(1‬المدونة‪.2/79:‬‬
‫‪ )(2‬الوسيط‪.5/378:‬‬
‫‪ )(3‬حاشية ابن عابدين‪.3/241 :‬‬

‫‪262‬‬
‫فقد نص الفقهاء على أنه يق ع الطالق بإش ارة الق ادر على الكالم‪ ،‬ك األخرس‬
‫إن ك انت إش ارته مفهمة(‪ ،)1‬أم ا إن لم تكن مفهم ة فال يق ع به ا الطالق عن د أك ثر‬
‫الفقهاء‪ ،‬وفي قول لبعض المالكية يقع بها الطالق بالنية‪ ،‬ولسنا ندري كي ف يتع رف‬
‫على النية مادم هذا األخرس عاجزا عن الكالم وعن التفهيم باإلشارة‪.‬‬
‫أن يكون الخرس دائما‪:‬‬
‫وقد نص الحنفية على أن األخرس هو الذي ول د وه و أخ رس أو ط رأ علي ه‬
‫ذلك ودام حتى صارت إشارته مفهومة وإال لم تعتبر(‪ ،)2‬قال الطح اوي‪ ( :‬الخ رس‬
‫مخالف للصمت العارض كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يوما‬
‫ونحوه مخالف العجز الميؤوس معه الجماع نحو المجبوب (‪)3‬‬
‫وبناء على ذلك نصوا على أن الم ريض‪ ،‬وإن اعتق ل لس انه ال ينف ذ تص رفه‬
‫بإشارته ؛ ألنه لم يق ع الي أس عن نطق ه‪ ،‬وإقام ة اإلش ارة مق ام العب ارة عن د وق وع‬
‫اليأس عن النطق ؛ ألجل الضرورة‪ ،‬وإن لم تكن له إشارة معروفة يعرف ذلك منه‪،‬‬
‫أو يشك فيه فهو باطل ؛ ألنه ال يوق ف على م راده بمث ل ه ذه اإلش ارة ؛ فال يج وز‬
‫الحكم بها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ القصد المجرد عن اللفظ‬
‫قسم ابن القيم المراتب التي اعتبرها الشارع من حيث عالقة النية بالتلفظ إلى‬
‫أربع ة أقس ام هي‪ :‬أن يقص د الحكم وال يتلف ظ ب ه‪ ،‬والثاني ة أن ال يقص د اللف ظ وال‬
‫حكمه‪ ،‬والثالثة أن يقصد اللفظ دون حكمه‪ ،‬والرابعة أن يقصد اللفظ والحكم(‪.)4‬‬
‫أم ا الم راتب الثالث ة األخ يرة فأحكامه ا واض حة وسنفص ل الكالم عنه ا في‬
‫المباحث التالية‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في المرتب ة األولى ـ أي قص د الطالق المج رد‬
‫عن التلفظ ـ على قولين(‪:)5‬‬
‫الق ول األول‪ :‬وق وع الطالق إذا ج زم علي ه‪ ،‬وه و رواي ة أش هب عن مال ك‬
‫وروي عن الزهري‪ ،‬قال الباجي‪ ( :‬إن لم يقترن به كتابة وال إشارة‪ ،‬ففي كت اب ابن‬
‫المواز عن مالك من طلق ثالثا على ذلك فال ش يء علي ه‪ ،‬وروى أش هب عن مال ك‬
‫في العتبية يلزمه ذلك‪ ،‬قال ابن عبد الحكم وليس بشيء) (‪)6‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن تُ ْبدُوا َما فِي أَنفُ ِس ُك ْم أَوْ تُ ْخفُوهُ يُ َح ِ‬
‫اس ْب ُك ْم بِ ِه هَّللا ُ فَيَ ْغفِ ُر لِ َمنْ‬
‫يَ َشا ُء َويُ َع ِّذبُ َم ْن يَ َشا ُء َوهَّللا ُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾(البقرة‪)284:‬‬

‫‪ )(1‬وقد ذكر الحنفية قيد االقتران بالتصويت‪ ،‬فنصوا على أنه يقع بإش ارته المعه ودة أي المقرون ة بتص ويت‬
‫منه‪ ،‬ألن العادة منه ذلك فكانت اإلشارة بيانا لما أجمله األخرس‪ ،‬حاشية ابن عابدين‪.3/241:‬‬
‫‪ )(2‬حاشية ابن عابدين‪.3/241:‬‬
‫‪ )(3‬مختصر اختالف العلماء‪.2/451:‬‬
‫‪ )(4‬زاد المعاد‪.5/205:‬‬
‫‪ )(5‬هناك قول ثالث‪ ،‬هوالتوقف فيها‪ ،‬فقد سئل ابن سيرين عمن طلق في نفس ه فق ال ق د علم هللا م ا في نفس ك‬
‫قال بلى قال فال أقول فيها شيئا‪.‬‬
‫‪ )(6‬المنتقى‪.4/15:‬‬

‫‪263‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪(:‬إنما األعمال بالنيات) وه ذا ق د ن وى الطالق ف وجب أن يك ون‬
‫له‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ألفاظ الطالق إذا لم يرد به ا طالق ا ال يك ون طالق ا‪ ،‬إنم ا يوق ع علي ه‬
‫الطالق ؛ ألنا ال نعلم صدقه في أنه لم يرد الطالق فنحمله على مقتض ى لفظ ه‪ .‬وق د‬
‫أجمعن ا على أن ه إذا أراد به ا الطالق وق ع به ا الطالق ف دل ذل ك على أن االعتب ار‬
‫بالنية دون اللفظ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن المصر على المعصية مؤاخذ وإن لم يفعلها‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح يث اب على الحب‬
‫والبغض والمواالة والمعاداة في هللا وعلى التوك ل والرض ى على الطاع ة ويع اقب‬
‫على الكبر والحسد والعجب والشك والرياء وظن السوء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اشتراط التلفظ بالطالق‪ ،‬وأن ما لم ينطق ب ه اللس ان من طالق‬
‫ونحوه غير الزم بمجرد النية والقصد‪ ،‬وهو قول جمهور العلم اء‪ ،‬ومن أدلتهم على‬
‫ذلك(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪(:‬إن هللا تجاوز ألمتي عما حدثت به أنفس ها م ا لم تكلم أو تعم ل‬
‫به) (‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ أن حديث إنما األعمال بالنيات حجة عليهم ألنه أخبر في ه أن العم ل م ع الني ة‬
‫هو المعتبر ال وحدها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو ك افر ل زوال اإليم ان ال ذي ه و عق د م ع‬
‫اإلقرار‪ ،‬فإذا زال العقد الجازم ك ان نفس زوال ه كف را‪ ،‬ألن اإليم ان أم ر وج ودي محل ه‬
‫القلب‪ ،‬فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر‪ ،‬وهو في ذلك كالعلم والجهل إذا فقد العلم‬
‫حصل الجهل‪ ،‬ككل نقيضين إذا زال أحدهما خلفه اآلخر‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن اآلية التي استدلوا بها ليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه‬
‫بالشرع وإنما محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب ف أين ه ذا من وق وع‬
‫الطالق‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ فهذا إنم ا ه و فيمن عم ل المعص ية ثم‬
‫أصر عليها ألنه عمل اتصل به العزم على معاودته‪ ،‬فهذا هو المصر‪ ،‬أما من عزم عليها‬
‫ولم يعملها فهو بين أمرين‪ :‬إما أن ال تكتب عليه‪ ،‬وإما أن تكتب له حسنة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن وقوع الطالق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب‪ ،‬ألن م ا‬
‫يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاص قلبية يستحق العقوب ة عليه ا كم ا يس تحقه على‬
‫المعاصي البدنية ألنها منافي ة لعبودي ة القلب‪ ،‬ك الكبر والري اء وظن الس وء‪ ،‬وهي أم ور‬
‫اختيارية يمكن اجتنابها‪ ،‬بخالف الطالق فإنه قائم باللسان أو ما ناب عنه من إشارة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/206:‬‬
‫‪ )(2‬البخ اري‪ ،6/2454 :‬مس لم‪ ،1/116 :‬ابن خزيم ة‪ ،2/52 :‬ابن حب ان‪ ،10/178 :‬الترم ذي‪،3/489 :‬‬
‫البيهقي‪ ،7/209 :‬أبو داود‪ ،2/264 :‬النسائي‪ ،3/360 :‬ابن ماجة‪ ،1/658 :‬أحمد‪.2/393 :‬‬

‫‪264‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني‪ ،‬وه و م ا اتف ق علي ه أك ثر‬
‫الفقهاء‪ ،‬وما تدل عليه النصوص الصحيحة الصريحة‪ ،‬والطالق في ه ذا ال يختل ف‬
‫عن سائر العق ود ف الزواج وال بيع والش راء واإلج ارة وغيره ا ال يص ح أح د منه ا‬
‫بالتصميم الجازم إن لم يبرز هذا التصميم بما يدل عليه من لف ظ وغ يره من وس ائل‬
‫الداللة‪.‬‬
‫ثانيا ـ حكم اإلشهاد على الصيغة‬
‫وهي من المسائل المهمة ال تي تض يق المج ال أم ام الطالق غ ير المقص ود‪،‬‬
‫ومع ذلك نرى بعض التفريط في البحث فيها في كتب فقه أه ل الس نة‪ ،‬فال نج د له ا‬
‫ُوف أَوْ‬
‫أثرا إال في كتب التفسير عند قوله تعالى‪ ﴿:‬فَإِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬
‫ُوف َوأَ ْش ِهدُوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َوأَقِي ُموا ال َّشهَا َدةَ هَّلِل ِ ﴾(الطالق‪)2:‬‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬‫فَ ِ‬
‫وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم اعتبار اإلشهاد على الطالق شرطا لص حة إيق اع الطالق‪،‬‬
‫وهو قول جماهير العلماء‪ ،‬بل ق د حكي في ه اإلجم اع‪ ،‬ق ال الش وكاني‪(:‬ومن األدل ة‬
‫على عدم الوجوب أنه قد وقع اإلجم اع على ع دم وج وب اإلش هاد في الطالق كم ا‬
‫حكاه الموزعي في تيسير البي ان والرجع ة قرينت ه فال يجب فيه ا كم ا ال يجب في ه)‬
‫(‪ ،)1‬ومن األدلة كذلك عدم الوجوب بالقياس على األمور التي ينشئها اإلنسان لنفسه‬
‫فإنه ال يجب فيها اإلشهاد‪.‬‬
‫لكن هذا اإلجماع قد يكون منتقضا ببعض ما روي عن السلف من ذل ك‪ ،‬فعن‬
‫عمران بن حصين أن ه س ئل عن الرج ل يطل ق الم رأة ثم يق ع به ا‪ ،‬ولم يش هد على‬
‫طالقها وال على رجعتها فقال‪ :‬طلقت لغير سنة‪ ،‬وراجعت لغ ير س نة‪ ،‬وأش هد على‬
‫طالقها وعلى رجعتها وال تعد‪.‬‬
‫َ‬
‫وق ال ابن ج ريج‪( :‬ك ان عط اء يق ول في قول ه تع الى‪ ﴿:‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أ َجلَه َُّن‬
‫ُوف َوأَ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾(الطالق‪)2:‬‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫قال‪ :‬ال يجوز في نكاح وال طالق وال رجاع إال شاهدا عدل) (‪)2‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اشتراط اإلشهاد على الطالق‪ ،‬وهو قول اإلمامي ة‪ ،‬وق د نص وا‬
‫على أنه ال بد من حضور شاهدين‪ ،‬يسمعان اإلنشاء‪ ،‬س واء ق ال لهم ا‪ :‬اش هدا أو لم‬
‫يقل‪ ،‬وأن سماعهما التلفظ‪ ،‬شرط في صحة الطالق‪ ،‬حتى ل و تج رد عن الش هادة لم‬
‫يقع‪ ،‬ولو كملت شروطه األخ رى‪ ،‬وك ذا ال يق ع بش اهد واح د ول و ك ان ع دال‪ ،‬وال‬
‫بشهادة فاسقين بل ال بد من حضور ش اهدين ظاهرهم ا العدال ة‪ ،‬ول و ش هد أح دهما‬
‫باإلنشاء‪ ،‬ثم شهد اآلخر به بانفراد‪ ،‬لم يقع الطالق‪ ،‬أما لو شهدا باإلقرار‪ ،‬لم يشترط‬

‫‪ )(1‬نيل األوطار‪ ،6/300 :‬وانظر‪ :‬القرطبي‪.3/120 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ابن كثير‪.4/380 :‬‬

‫‪265‬‬
‫االجتماع‪ .‬ولو شهد أحدهما باإلنشاء‪ ،‬واآلخر باإلقرار‪ ،‬لم يقبل(‪.)1‬‬
‫قال في مقتنيات الدرر‪ :‬ق ال أص حابنا‪ :‬اإلش هاد على الطالق‪ ،‬وه و الم روي‬
‫عن أئمتنا‪ ،‬وهو أليق بظاهر اآلية‪ ،‬وعليه العمل عندنا‪ ،‬ألن العطف على قول ه‪ ﴿:‬إِ َذا‬
‫طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء ﴾ في الكافي عن الكاظم ق ال ألبي يوس ف‪ :‬إن هللا تب ارك وتع الى أم ر‬
‫في كتابه في الطالق بشاهدين‪ ،‬ولم يرض لهما إال عدلين وأم ر في كتاب ه ب التزويج‬
‫فأهمله بال شهود‪ ،‬وأنتم أثبتم ش اهدين وأوجبتم فيم ا أهم ل‪ ،‬وأبطلتم الش اهدين فيم ا‬
‫أكد)(‪)2‬‬
‫ومن أدلتهم على ذلك(‪:)3‬‬
‫ص وا‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا طَل ْقتُ ُم النِّ َس ا َء فَطَلِّقُ وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن َوأحْ ُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫اح َش ٍة‬‫ْال ِع َّدةَ َواتَّقُ وا هَّللا َ َربَّ ُك ْم ال تُ ْخ ِر ُج وه َُّن ِم ْن بُيُ وتِ ِه َّن َوال يَ ْخ رُجْ نَ إِاَّل أَ ْن يَ أْتِينَ بِفَ ِ‬
‫ث بَ ْع َد‬‫ُمبَيِّنَ ٍة َوتِ ْلكَ ُحدُو ُد هَّللا ِ َو َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َسهُ ال تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫ُوف َوأَ ْش ِهدُوا‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬ ‫ك أَ ْم راً فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫َذلِ َ‬
‫َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َوأَقِي ُموا ال َّشهَا َدةَ هَّلِل ِ َذلِ ُك ْم يُو َعظُ بِ ِه َم ْن َكانَ يُ ْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر‬
‫ق هَّللا َ يَجْ َعلْ لَهُ َم ْخ َرجاً) (الطالق‪)2:‬‬ ‫َو َم ْن يَتَّ ِ‬
‫فقد نصوا على ان هاتين اآليتين يحمل س ياقها الدالل ة على اش تراط اإلش هاد‬
‫وال بأس من إيراد تفاصيل ما ذكروه هنا‪:‬‬
‫فالمراد من بلوغهن أجلهن‪ :‬اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه‪.‬‬
‫والمراد بإمساكهن‪ :‬الرجوع على سبيل االستعارة‪ ،‬كما أن المراد بمفارقتهن‪:‬‬
‫تركهن ليخرجن من العدة ويبن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ال شك أن قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأَ ْش ِهدُوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾ ظ اهر في الوج وب‬
‫كسائر األوامر الواردة في الشرع وال يعدل عنه إلى غيره إال بدليل‪ ،‬إنم ا الكالم في‬
‫متعلقه‪ .‬فهناك احتماالت ثالثة‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون قيداً لقوله تعالى‪ ﴿:‬فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن ﴾(الطالق‪)1:‬‬
‫ُوف﴾(الطالق‪)2:‬‬ ‫‪ -2‬أن يكون قيداً لقوله تعالى‪ ﴿:‬فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعرُوف﴾(الطالق‪)2:‬‬ ‫‪ -3‬أن يكون قيداً لقوله تعالى‪ ﴿:‬أَوْ فَ ِ‬
‫لم يقل أحد برجوع القيد إلى األخير ف األمر ي دور بين رجوع ه إلى األول أو‬
‫الثاني‪ ،‬فالظاهر رجوعه إلى األول وذل ك ألن الس ورة بص دد بي ان أحك ام الطالق‪،‬‬
‫فذكرت للطالق عدة أحكام‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون الطالق لعدتهن‪.‬‬
‫‪ -2‬إحصاء العدة‪.‬‬
‫‪ -3‬عدم خروجهن من بيوتهن‪.‬‬
‫‪ )(1‬شرائع اإلسالم‪ ،3/12 /‬وق د نص وا على أن الش هادة ليس ت ش رطا في ش يء من العق ود إال في الطالق‪،‬‬
‫ويستحب في النكاح‪ ،‬والرجعة‪ ،‬وكذا في البيع‪.‬‬
‫‪ )(2‬مقتنيات الدرر‪ ،11/171 :‬وانظر اآلثار في ذلك في‪ :‬البرهان‪.5/347 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬العالمة جعفر السبحاني‪ :‬اإلشهاد على الطالق‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫‪ -4‬خيار الزوج بين اإلمساك والمفارقة عند اقتراب عدتهن من االنتهاء‪.‬‬
‫‪ -5‬إشهاد ذوي عدل منكم‪.‬‬
‫‪ -6‬عدة المسترابة‪.‬‬
‫‪ -7‬عدة من ال تحيض وهي في سن من تحيض‪.‬‬
‫‪ -8‬عدة أوالت األحمال‪.‬‬
‫وإذا الحظنا مجموع آيات السورة من أولها إلى اآلية السابعة تجد أنها بص دد‬
‫بيان أحكام الطالق ألنه المقصود األص لي‪ ،‬ال الرج وع المس تفاد من قول ه تع الى‪﴿:‬‬
‫فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن ﴾(الطالق‪ )2:‬وقد ذكر تبعاً‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه المروى عن أئمة آل البيت‪ ،‬روى محمد بن مسلم قال‪ :‬ق دم رج ل إلى‬
‫أمير المؤمنين بالكوفة فقال‪ :‬إني طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قب ل أن‬
‫أُجامعه ا‪ ،‬فق ال أم ير المؤم نين‪(:‬أش هدت رجلين ذوي ع دل كم ا أم رك هللا؟ فق ال‪:‬‬
‫اذهب فإن طالقك ليس بشيء)(‪)1‬‬
‫وروى بكير بن أعين عن الصادقين أنهما قاال‪(:‬وإن طلقها في استقبال ع دتها‬
‫ط اهراً من غ ير جم اع‪ ،‬ولم يش هد على ذل ك رجلين ع دلين‪ ،‬فليس طالق ه إياه ا‬
‫بطالق) (‪)2‬‬
‫وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن أنه قال ألبي يوسف‪(:‬إن الدين ليس‬
‫بقياس كقياسك وقياس أصحابك‪ ،‬إن هللا أمر في كتاب ه ب الطالق وأك د في ه بش اهدين‬
‫ولم ي رض بهم ا إال ع دلين‪ ،‬وأم ر في كتاب ه ال تزويج وأهمل ه بال ش هود‪ ،‬ف أتيتم‬
‫بشاهدين فيم ا أبط ل هللا‪ ،‬وأبطلتم ش اهدين فيم ا أك د هللا ع ز وج ل‪ ،‬وأج زتم طالق‬
‫المجنون والسكران)‪ ،‬ثم ذكر حكم تظليل المحرم(‪.)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني بن اء على النص الق رآني‬
‫الواضح في الداللة عليها‪ ،‬باإلضافة إلى أنه قول اإلمامي ة‪ ،‬وه و م ذهب معت بر من‬
‫مذاهب المسلمين ال يصح اعتبار اإلجماع عند مخالفته‪.‬‬
‫ونرى أن ما توهم من اإلجماع هو الذي صرف الكثير من المحققين الق دامى‬
‫عن البت فيها بقول‪ ،‬وإال فإنها من أك بر المس ائل ال تي تس د ك ل م ا ذك ر من مناف ذ‬
‫الطالق‪ ،‬بل تعطي فرصة للمطلق القاصد لمراجعة نفسه‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذل ك ف إن ال دليل النص ي وح ده ك اف‪ ،‬وال حاج ة مع ه لتأيي ده‬
‫باإلجماع‪ ،‬فهو كما ذهب اإلمامية واضح الداللة على األمر باإلش هاد على الطالق‪،‬‬
‫خالفا لما ق ال القرط بي‪( :‬قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأَ ْش ِهدُوا ﴾(الطالق‪)2:‬أم ر باإلش هاد على‬

‫‪ )(1‬الوسائل‪ :‬ج ‪ 15‬الباب ‪ 10‬من أبواب مقدمات الطالق الحديث ‪ 7/3/12‬والحظ بقية أحاديث الباب‪.‬‬
‫‪ )(2‬الوسائل‪ :‬ج ‪ 15‬الباب ‪ 10‬من أبواب مقدمات الطالق الحديث ‪.7/3/12‬‬
‫‪ )(3‬الوسائل‪ :‬ج ‪ 15‬الباب ‪ 10‬من أبواب مقدمات الطالق الحديث ‪.7/3/12‬‬

‫‪267‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫الطالق‪ ،‬وقيل على الرجعة والظاهر رجوعه إلى الرجعة ال إلى الطالق)‬
‫وق د ذهب من المح دثين س يد س ابق ـ رحم ه هللا ـ إلى ت رجيح ه ذا الق ول‬
‫واعتبار اإلجماع عليه دعوى غير صحيحة‪ ،‬قال‪( :‬إذا تبين لك أن وج وب اإلش هاد‬
‫على الطالق ه و م ذهب ه ؤالء الص حابة والت ابعين الم ذكورين تعلم أن دع وى‬
‫اإلجم اع على ندب ه الم أثورة في بعض كتب الفق ه م راد به ا اإلجم اع الم ذهبي ال‬
‫اإلجماع األصولي الذي حده كما في المستصفى اتف اق أم ة محم د ‪ ‬خاص ة على‬
‫أم ر من األم ور الديني ة النتقاض ه بخالف من ذك ر من الص حابة والت ابعين ومن‬
‫بعدهم من المجتهدين‪ ،‬وت بين مم ا نقلن اه قب ل عن الس يوطي وابن كث ير أن وج وب‬
‫اإلشهاد لم ينفرد به علماء آل البيت كما نقله السيد مرتضى في كتاب االنتصار‪ ،‬ب ل‬
‫هو مذهب عطاء وابن سيرين وابن جريج) (‪)2‬‬
‫وم ّمن ذهب إلى هذا أو كاد ي ذهب إلي ه عالم ان جليالن‪ ،‬وهم ا‪ :‬أحم د محم د‬
‫شاكر القاضي المصري‪ ،‬والشيخ أبو زهرة‪.‬‬
‫قال األوّل ـ بعد ما نقل اآليتين من أوّل سورة الطالق ـ‪( :‬والظاهر من س ياق‬
‫أن قول ه تع الى‪ ﴿:‬وأش هدوا﴾ راج ع إلى الطالق وإلى الرجع ة مع اً‪ ،‬واألم ر‬ ‫اآليتين ّ‬
‫للوج وب‪ ،‬ألنّ ه مدلول ه الحقيقي‪ ،‬وال ينص رف إلى غ ير الوج وب ـ كالن دب ـ‬
‫إالّبقرينة‪ ،‬وال قرين ة هن ا تص رفه عن الوج وب‪ ،‬ب ل الق رائن هن ا تؤيّ د حمل ه على‬
‫الوج وب) إلى أن ق ال‪( :‬فمن أش هد على طالق ه‪ ،‬فق د أتى ب الطالق على الوج ه‬
‫المأمور به‪ ،‬ومن أشهد على الرجعة فكذلك‪ ،‬ومن لم يفعل فقد تع ّدى ح دود هّللا ال ذي‬
‫ح ّده له فوقع عمله باطالً‪ ،‬ال يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره) (‪.)3‬‬
‫وقال أبو زهرة‪ :‬قال فقهاء الشيعة اإلمامي ة االثن ا عش رية واإلس ماعيلية‪ّ :‬‬
‫إن‬
‫الطالق ال يقع من غير إشهاد عدلين‪ ،‬لقوله تع الى ـ في أحك ام الطالق وإنش ائه في‬
‫سورة الطالق‪َ ﴿ :‬وأَ ْش ِهدُوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َوأَقِي ُم وا َّ‬
‫الش هَا َدةَ هَّلِل ِ َذلِ ُك ْم يُو َع ظُ بِ ِه َم ْن‬
‫ق هَّللا َ يَجْ َعلْ لَهُ َم ْخ َرجاً﴾ (الطالق‪ )2 :‬فهذا األمر‬ ‫َكانَ ي ُْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َم ْن يَتَّ ِ‬
‫بالش هادة ج اء بع د ذك ر إنش اء الطالق وج واز الرجع ة‪ ،‬فك ان المناس ب أن يك ون‬
‫وإن تعلي ل اإلش هاد بأنّ ه يوع ظ ب ه من ك ان ي ؤمن باهّلل والي وم اآلخ ر‬ ‫راجعا ً إليه‪ّ ،‬‬
‫ألن حضور الشهود العدول ال يخلو من موعظة حسنة يزجونها‬ ‫ير ّشح ذلك ويقوّيه‪ّ ،‬‬
‫إلى ال زوجين‪ ،‬فيك ون لهم ا مخ رج من الطالق ال ذي ه و أبغض الحالل إلى هّللا‬
‫سبحانه وتعالى) (‪)4‬‬
‫ويضيف‪( :‬وأنه ل و ك ان لن ا أن نخت ار للمعم ول ب ه في مص ر الخترن ا ه ذا‬ ‫ّ‬
‫الرأي‪ ،‬فيشترط لوقوع الطالق حضور شاهدين عدلين)‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.18/157 :‬‬
‫‪ )(2‬فقه السنة‪.2/292 :‬‬
‫‪ )(3‬نظام الطالق في اإلسالم‪.118 :‬‬
‫‪ )(4‬األحوال الشخصية‪.365 :‬‬

‫‪268‬‬
‫وهذه المسألة من المسائل ال تي ت بين فهم فقه اء اإلمامي ة وتط بيقهم للمقاص د‬
‫الشرعية من تشريع الطالق‪ ،‬ولهذا‪ ،‬فإنهم يفتون باإلش هاد على الطالق‪ ،‬وال يفت ون‬
‫باإلشهاد عند الرجعة‪ ،‬وقد كان هذا محل اس تغراب من الش يخ أحم د محم د ش اكر‪،‬‬
‫القاضي الشرعي بمصر الذي كتب كتابا ً حول (نظ ام الطالق في اإلس الم) وأه دى‬
‫نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العالم ة الش يخ محم د حس ين كاش ف الغط اء وكتب‬
‫إليه‪(:‬إنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطالق‪ ،‬وإنه إذا حصل الطالق‬
‫في غير حضرة الشاهدين لم يكن طالقا ً ولم يعتد ب ه‪ ،‬وه ذا الق ول وإن ك ان مخالف ا ً‬
‫للمذاهب األربع ة المعروف ة إال أن ه يؤي ده ال دليل ويواف ق م ذهب أئم ة أه ل ال بيت‬
‫والشيعة اإلمامية‪ ،‬وذهبت أيضا ً إلى اشتراط ش اهدين حين المراجع ة‪ ،‬وه و يواف ق‬
‫أحد ق ولين لإلم ام الش افعي ويخ الف م ذهب أه ل ال بيت والش يعة‪ ،‬واس تغربت من‬
‫قولهم أن يفرقوا بينهم ا وال دليل ل ه‪َ ﴿:‬وأَ ْش ِهدُوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم﴾(الطالق‪ )2:‬واح د‬
‫فيها)‬
‫فأجاب العالمة كاشف الغطاء في رس الة إلي ه ي بين وج ه التفري ق بينهم ا‪ ،‬ال‬
‫بأس من نقل بعضها هنا ألهميتها‪(:‬وكأنك ـ أن ار هللا برهان ك ‪ -‬لم تمعن النظ ر هن ا‬
‫في اآليات الكريمة كما في عادت ك من اإلمع ان في غ ير ه ذا المق ام‪ ،‬وإال لم ا ك ان‬
‫يخفي عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطالق وأحكام ه ح تى أنه ا‬
‫قد سميت بسورة الطالق‪ ،‬وابتدأ الكالم في صدرها بقول ه تع الى‪ ﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا‬
‫طَلَّ ْقتُ ُم النِّ َسا َء ﴾(الطالق‪)1:‬‬
‫ثم ذكر لزوم وقوع الطالق في صدر العدة أي ال يك ون في طه ر المواقع ة‪،‬‬
‫وال في الحيض‪ ،‬ولزوم إحصاء العدة‪ ،‬وعدم إخراجهن من البيوت‪ ،‬ثم اس تطرد إلى‬
‫ذكر الرجعة في خالل بي ان أحك ام الطالق حيث ق ال ع ز ش أنه‪ ﴿:‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن‬
‫ُوف﴾(الطالق‪ ))2:‬أي إذا أش رفن على الخ روج من الع دة‪ ،‬فلكم‬ ‫فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬
‫إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة‪ ،‬ثم عاد على تتم ة أحك ام الطالق فق ال‪:‬‬
‫﴿ َوأَ ْش ِهدُوا َذ َويْ َع ْد ٍل ِم ْن ُكم﴾(الطالق‪ )2:‬أي في الطالق الذي سيق الكالم كل ه لبي ان‬
‫أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم ت ذكر إال تبع ا ً وس تطراداً‪ ،‬أال ت رى ل و‬
‫قال القائل‪ :‬إذا جاءك العالم وجب عليك احترام ه وإكرام ه وأن تس تقبله س واء ج اء‬
‫وحده أو مع خادمه أو رفيقه‪ ،‬ويجب المش ايعة وحس ن الموادع ة‪ ،‬فإن ك ال تفهم من‬
‫هذا الكالم إال وجوب المشايعة والموادعة للعالم ال له ولخادمه ورفيق ه‪ ،‬وإن ت أخرا‬
‫عنه‪ ،‬وهذا عمري حسب القواعد العربية والذوق الس ليم جلي واض ح لم يكن ليخفى‬
‫عليك وأنت خريج العربية ل وال الغفل ة (والغفالت تع رض لالريب)‪ ،‬ه ذا من حيث‬
‫لفظ الدليل وسياق اآلية الكريمة) (‪)1‬‬
‫وبعد هذا البي ان التفس يري لآلي ة ذك ر الوج ه المقاص دي له ذا الحكم‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(وهنالك ما هو أدق وأحق باالعتبار من حيث الشرعية والفلسفة اإلسالمية وش موخ‬

‫‪ )(1‬الشيخ جعفر السبحاني‪ ،‬سلسلة المسائل الفقهية‪ ،‬ص‪ 17‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫مقامها وبعد نظرها في أحكامها‪ .‬وه و أن من المعل وم أن ه م ا من حالل أبغض إلى‬
‫هللا سبحانه من الطالق‪ ،‬ودين اإلسالم كم ا تعلم ون ـ جمعي اجتم اعي ‪ -‬ال ي رغب‬
‫في أي نوع من أنواع الفرقة ال سيما في العائلة واألسرة‪ ،‬وعلى األخص في الزيجة‬
‫بعد ما أفضى كل منهما إلى اآلخر بما أفضى‪.‬‬
‫فالش ارع بحكمت ه العالي ة يري د تقلي ل وق وع الطالق والفرق ة‪ ،‬فك ثر قي وده‬
‫وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده‪ ،‬عز أو قل وج وده‪،‬‬
‫فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوالً وللتأخير واألناة ثانياً‪ ،‬وعس ى إلى أن يحض ر‬
‫الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحص ل الن دم ويع ودان إلى األلف ة‬
‫ث بَ ْع َد َذلِكَ أَ ْمراً ﴾(الطالق‪)1:‬‬
‫كما أشير إليه بقوله تعالى‪ ﴿:‬ال تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين‪ ،‬ال شك أنها ملحوظة للش ارع الحكيم‬
‫مضافا ً إلى الفوائد األُخر‪ ،‬وهذا كله بعكس قضية الرجوع فإن الشارع يريد التعجيل‬
‫به ولعل للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط)‬
‫ثالثا ـ ألفاظ الكناية ومواقف الفقهاء منها‬
‫تنقس م ألف اظ الطالق بحس ب داللته ا الص ريحة وع دمها على الطالق إلى‬
‫قسمين‪ :‬صريحة وكناية‪ ،‬وسنتحدث عن األحكام المرتبطة بكال القسمين هنا‪:‬‬
‫أما الكناية‪ :‬فهي اللفظ المستعمل في غ ير موض وعه لغة(‪ ،)1‬وع رفت بأنه ا‬
‫ترك التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك(‪.)2‬‬
‫ونستطيع من خالل ه ذين التع ريفين وغيرهم ا أن نجم ل خص ائص الكناي ة‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكون خفي ة في الدالل ة على معناه ا‪ ،‬ألن أص لها م ا في ه خف اء ومن ه‬
‫كنيته أبا عبد هللا كأنك أخفيت االسم بالكنية تعظيما له‪ ،‬ومن ه الكن إلخفائ ه األجس ام‬
‫وما يوضع فيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها ليست مناقض ة للص ريح‪ ،‬ألن خالف الش يء ق د يك ون نقيض ه وق د‬
‫يكون ضده ؛ فإن كان المراد من الخالف ههنا نقيضه‪ ،‬فهو م ا لم يظه ر الم راد ب ه‬
‫ظهورا بينا‪ ،‬وهو ليس بكناية‪،‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الكناي ة ال تن افي إرادة الحقيق ة بلفظه ا وأن مبناه ا على االنتق ال من‬
‫الالزم إلى الملزوم‪.‬‬
‫وأم ا الص ريح‪ :‬فق د عرف ه ابن عرف ة بقول ه‪ :‬ه و م ا ال ينص رف عن ه بني ة‬
‫صرفه‪ ،‬وقد فسر بأن معناه ما ال تنفع النية في رفعه(‪.)3‬‬
‫‪ 1‬ـ حكم طالق الكناية‬

‫‪ )(1‬أنوار البروق‪.3/152 :‬‬


‫‪ )(2‬كشف األسرار‪.1/66:‬‬
‫‪ )(3‬شرح حدود ابن عرفة‪.193 :‬‬

‫‪270‬‬
‫اختلف الفقهاء في وقوع الطالق بألفاظ الكناية على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم وق وع الطالق به ا‪ ،‬وه و ق ول الظاهري ة واإلمامي ة‪ ،‬كم ا‬
‫سبق ذكره في المواقف العامة للمذاهب الفقهية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أن األلف اظ ال تي وردت في الق رآن الك ريم اقتص رت على م ا ذك ره من‬
‫ألف اظ‪ ،‬كقول ه تع الى ﴿ ثم طلقتم وهن ﴾ وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬فطلق وهن ﴾‪ ﴿ ،‬وللمطلق ات‬
‫متاع﴾وقوله تعالى‪ ﴿ :‬وسرحوهن سراحا جميال ﴾‪ ،‬وقوله تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن‬
‫ُوف َوأَ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾(الطالق‪،)2:‬‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫قال ابن حزم بعد إيراده لهذه اآليات‪(:‬لم يذكر هللا تعالى حل الزوج للزوجة إال به ذه‬
‫األلفاظ‪ ،‬فال يجوز حل عقدة عق دت بكلم ة هللا ع ز وج ل وس نة رس وله ‪ ‬إال بم ا‬
‫نص هللا تعالى عليه‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َسهُ ﴾(الطالق‪ ،)1:‬وق د اس تدل‬
‫على اشتراط النية مع التلفظ بقوله ‪(:‬إنما األعمال بالنيات ولكل ام رئ م ا ن وى)‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ الدليل على التفريق بين ألف اظ الطالق‪ ،‬من حيث ع دم اعتب ار نيت ه قض اء في‬
‫لفظ الطالق وحده دون سائر األلفاظ أن لفظة الطالق وما تصرف منه ا ال يق ع في اللغ ة‬
‫إال على عقد الزواج فقط‪ ،‬فال يجوز أن يص دق في دع واه في حكم ق د ثبت بالبين ة علي ه‬
‫وفي إسقاط حقوق وجبت يقينا للمرأة بالطالق قبله‪ ،‬أما في الفتيا‪ ،‬فإنه قد يري د لفظ ا آخ ر‬
‫فيسبقه لسانه إلى ما لم يرده‪ ،‬فإذا لم يعرف ذلك إال بقوله‪ ،‬فقوله كله مقبول ال يج وز أخ ذ‬
‫بعضه وإسقاط بعضه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن لفظي السراح‪ ،‬والفراق يدالن في اللغة على حل عقد النك اح‪ ،‬وعلى مع ان‬
‫أخر وقوعا مستويا ليس معنى من تلك المعاني أحق بتلك اللفظة من س ائر تل ك المع اني‪،‬‬
‫فيك ون‪ :‬أنت مس رحة‪ ،‬أي‪ :‬أنت مس رحة للخ روج إذا ش ئت‪ ،‬وبقول ه ق د فارقت ك‪ ،‬وأنت‬
‫مفارقة‪ ،‬في شيء مما بينهما ما لم توافقه فيه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ما ذهب إليه العلماء من صيغ الكناية‪ ،‬وهي ألفاظ جاءت فيها آث ار مختلف ة‬
‫الفتيا عن نفر من الصحابة ولم يأت فيها عن رس ول هللا ‪ ‬ش يء أص ال‪ ،‬وال حج ة في‬
‫كالم غيره ‪ ‬ال سيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬وق وع الطالق بألف اظ الكناي ة‪ ،‬وه و ق ول جمه ور العلم اء‪،‬‬
‫واستدلوا لذلك بما سنذكره من أدلة ألفاظ الكناية‪.‬‬
‫ومنها ما روي عن مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر من العراق أن رجال قال‬
‫المرأته‪ :‬حبلك على غاربك فكتب عمر إلى عامله أن مره يوافيني بمكة في الموس م‬
‫فبينما عمر يطوف بالبيت إذ لقي ه الرج ل فس لم علي ه فق ال عم ر‪ :‬من أنت فق ال أن ا‬
‫الذي أمرت أن أجلب عليك‪ ،‬فقال له عمر أسألك برب ه ذه البني ة‪ ،‬م ا أردت بقول ك‬
‫حبلك على غاربك‪ ،‬فقال له الرجل‪ :‬لو استحلفتني في غير هذا المك ان م ا ص دقتك‪،‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/437:‬‬
‫‪ )(2‬والبخارى (‪ ،6/2551‬رقم ‪ ،)6553‬ومسلم (‪ ،3/1515‬رقم ‪)1907‬‬

‫‪271‬‬
‫أردت بذلك الفراق‪ ،‬فقال عمر‪ :‬هو ما أردت(‪.)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة بن اء على م ا ذكرن ا من أن الع برة في الطالق‬
‫بمقصد المطلق‪ ،‬ال باللفظ المعبر عنه‪ ،‬فإن صيغة الطالق بالتالي ال يص ح تقس يمها‬
‫إلى ه ذين القس مين من الص ريح والكناي ة‪ ،‬ألن ك ل لف ظ من األلف اظ الم ذكورة في‬
‫الصريح أو الكناية يحتمل معاني متعددة في اللغة العربية بحس ب الوض ع وبحس ب‬
‫االصطالح فكيف بتغاير األعراف واللهجات‪ ،‬ولذلك فإن المرج ع في تحدي د مع نى‬
‫اللفظ هو المتلفظ بذلك اللفظ‪ ،‬ال ما حدده الفقهاء‪ ،‬ق ال ابن القيم‪( :‬وهللا س بحانه ذك ر‬
‫اس إلى م ا يتعارفون ه طالق اً‪ ،‬ف أيُّ لف ظ‬ ‫ق ولم يُعين له لفظ اً‪ ،‬فعلم أن ه رد الن َ‬ ‫الطال َ‬
‫ق مع النية) (‪)2‬‬ ‫جرى عرفهم به‪ ،‬وقع به الطال ُ‬
‫وعلل ذلك بأن األلفاظ ال تُراد لعينه ا‪ ،‬ب ل للدالل ة على مقاص د الفظه ا‪ ،‬ف إذ‬
‫تكلم بلفظ دال على معنى‪ ،‬وقصد ب ه ذل ك المع نى‪ ،‬ت رتب علي ه حكم ه‪ ،‬وله ذا يق ع‬
‫ريح الطالق‬ ‫ق ِمن العجمي والتركي والهندي بألسنتهم‪ ،‬بل لو طلق أحدهم بص ِ‬ ‫الطال ُ‬
‫بالعربـية ولم يفهم معن اه‪ ،‬لم يق ع ب ه ش يء قطع اً‪ ،‬فإن ه تكلّم بم ا ال يفهم معن اه وال‬
‫قصده‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن الجهد الذي بذله الفقهاء في ضبط ص يغ الطالق وأن واع داللته ا‪،‬‬
‫وجهد الطلبة على مدى األجيال في حفظ ك ل ذل ك يك اد يك ون كل ه ه درا‪ ،‬فه و في‬
‫أحسن حاالته ينطب ق على بيئ ة معين ة وواق ع مح دود وزم ان ض يق ال يك اد يع دو‬
‫الفترة القريبة من أزمنة السلف األول‪ ،‬في البيئة العربية وحدها أو ما قاربها‪.‬‬
‫وقد أشار ابن القيم إلى هذا الجهد الذاهب هدرا في قوله‪( :‬وتقسي ُم األلفاظ إلى‬
‫صريح وكناية‪ ،‬وإن كان تقسيما ً صحيحا ً في أص ل الوض ع‪ ،‬لكن يختلِ فُ ب اختالف‬
‫األشخاص واألزمنة واألمكنة‪ ،‬فليس حكما ً ثابتا ً للفظ لذاته‪ ،‬ف رُب لف ٍظ ص ريح‪،‬عن د‬
‫قوم كناية عند آخ رين‪ ،‬أو ص ريح في زم ان أو مك ان كناي ةٌ في غ ير ذل ك الزم ان‬
‫والمكان‪ ،‬والواق ُع شاهد بذلك)‬
‫راح ال يك ا ُد أح دٌ‬ ‫ويض رب مث اال ل ذلك بلف ظ الس راح فق ال‪( :‬فه ذا لف ظ الس ِ‬
‫غ أن يقال‪ :‬إن من تكلم به‪ ،‬لزم ه‬ ‫يستعمله في الطالق ال صريحا ً وال كناية‪ ،‬فال يسو ُ‬
‫ق امرأته نواه أو لم ينوه‪ ،‬ويدعي أنه ثبت ل ه ُع رف الش رع واالس تعمال‪ ،‬ف إن‬ ‫طال ُ‬
‫هذه دعوة باطلة شرعا ً واستعماالً‪ .‬أما االستعمال‪ ،‬فال يكاد أح ٌد يطلق به ألبتة‪ ،‬وأم ا‬
‫الشرعُ‪ ،‬فقد استعمله في غير الطالق‪ ،‬كقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس رِّ حُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪ ،)49:‬فه ذا الس راح غ ير الطالق‬
‫ع في غير الطالق‪ ،‬كقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي‬ ‫ك الفراق استعمله الشر ُ‬ ‫قطعاً‪ ،‬وكذل َ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المنتقى‪.4/7 :‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/320 :‬‬

‫‪272‬‬
‫إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء فَطَلِّقُ وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪ )1:‬إلى قول ه‪ ﴿:‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن‬
‫ُوف﴾(الطالق‪ )2:‬فاإلمس اك هن ا‪ :‬الرجع ة‪،‬‬ ‫ارقُوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫ك الرجعة ال إنشاء طلقة ثانية‪ ،‬هذا مما ال خالف فيه ألبتة‪ ،‬فالَ يج وز‬ ‫والمفارقةُ‪ :‬تر ُ‬
‫أن يُقال‪ :‬إن من تكلم به طلقت زوجت ه‪ ،‬فهم معن اه أو لم يفهم‪ ،‬وكالهم ا في البطالن‬
‫سواء) (‪)1‬‬
‫وقد رد ابن حزم على ما ذهب إليه الفقهاء من ه ذا التقس يم ردا علمي ا‪ ،‬حيث‬
‫جمع األلفاظ ال تي ذكره ا الفقه اء واعتبروه ا من ص يغ الكناي ة وقس مها إلى ثالث ة‬
‫أقسام وناقشها جميعا‪ ،‬وهذه األقسام هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ األلفاظ التي وردت بها النصوص‪ ،‬والتي تش كل الدعام ة األساس ية ال تي‬
‫تقوم عليها صيغ الكناية في الطالق‪ ،‬ووجه األحاديث الواردة فيه ا كم ا س نراه عن د‬
‫ذكر ألفاظ التعبير عن الطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ األلفاظ التي لم يأت في شيء منها أثر عن النبي ‪ ‬ال صحيح وال سقيم‪،‬‬
‫وال عن أحد من الصحابة‪ ،‬ولكن جاءت فيه ا فت اوى مختلف ة عن نف ر من الت ابعين‪،‬‬
‫وهذه ال تشكل دليال يمكن االعتماد عليه في هذا المجال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ األلفاظ التي لم يأت فيها أث ر ال عن الن بي ‪ ‬وال عن أح د من الص حابة‬
‫وال عن أحد من التابعين‪ ،‬وإنما جاءت فيها فتاوى عن فقهاء األمصار بآرائهم‪ ،‬ق ال‬
‫ابن حزم‪(:‬فال معنى لالشتغال بها‪ ،‬ألنه ال يستحل تفريق نك اح مس لم‪ ،‬وإباح ة ف رج‬
‫مسلمة لغير من أباحه هللا تعالى له إال مقلد ضال بتقليده‪ ،‬مستهلك هالك)‬
‫‪ 2‬ـ ألفاظ الكناية في الطالق أحكامها‬
‫س نذكر في ه ذا المطلب بعض الص يغ ال تي ذكره ا الفقه اء‪ ،‬واختلف وا فيه ا‬
‫فاعتبرها بعضهم كناية‪ ،‬وبعضهم صريحة‪ ،‬وحملها بعضهم على الرجعي‪ ،‬وحمله ا‬
‫آخ رون على الب ائن‪ ،‬وال يمكن حص ر ك ل م ا ذك روا‪ ،‬وإنم ا س نركز على الص يغ‬
‫المشهورة‪ ،‬أما ما عداها‪ ،‬فقد ذكرت أقوال الفقهاء فيها في محلها‪.‬‬
‫لفظة اإلطالق‪:‬‬
‫اختل ف الفقه اء في اعتب ار لفظ ة اإلطالق من ص يغ الطالق الص ريحة على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها ليست صريحة في الطالق‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور؛ ألنه ا لم‬
‫يثبت لها عرف الشرع‪ ،‬وال االستعمال‪ ،‬فأشبهت سائر كناياته‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬احتمال كونها صريحة‪ ،‬وق د ذك ره القاض ي فيه ا‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك عدم تفريقه بين فعلت وأفعلت‪ ،‬نحو عظمته وأعظمته‪ ،‬وكرمته وأكرمته‪.‬‬
‫وقد رد ابن قدامة على هذا بأنه ليس هذا الذي ذكره بمطرد ؛ ف إنهم يقول ون‪:‬‬
‫حييته من التحية‪ ،‬وأحييت ه من الحي اة‪ ،‬وأص دقت الم رأة ص داقا‪ ،‬وص دقت ح ديثها‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/320 :‬‬

‫‪273‬‬
‫تصديقا(‪.)1‬‬
‫أنت الطالق‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه لف ظ كناي ة‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة‪ ،‬ومال ك‪ ،‬وأحم د وق ول‬
‫للشافعية‪ ،‬ألنه مصدر‪ ،‬واألعيان ال توصف بالمصادر إال مجازا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه لفظ صريح‪ ،‬فلم يفتقر إلى نية‪ ،‬كالمتصرف منه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫للشافعية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه مستعمل في عرفهم‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫وأفنيت عمري عاما فعاما‬ ‫نوهت باسمي في العالمين‬
‫فأنت الطالق وأنت الطالق وأنت الطالق ثالثا تماما‬
‫الفراق والتسريح‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء فيها هل هي من األلفاظ الصريحة أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن صريح الطالق ثالثة ألف اظ ؛ الطالق‪ ،‬والف راق‪ ،‬والس راح‪،‬‬
‫وما تصرف منهن‪ ،‬وهو قول الشافعي وأحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك ب أن ه ذه األلف اظ‬
‫ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين‪ ،‬فكانا صريحين فيه‪ ،‬كلفظ الطالق‪ ،‬قال‬
‫ان﴾(البقرة‪ ،)229:‬وقال‪﴿:‬فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫ك بِ َم ْعر ٍ‬ ‫هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَإ ْم َسا ٌ‬
‫ُوف ﴾ (الطالق‪ ،)2:‬وق ال‪ ﴿:‬وإن يتفرق ا يغن هللا كال من‬ ‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫بِ َم ْعر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سعته ﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬فَتَ َعالَ ْينَ أ َمتِّ ْع ُك َّن َوأ َسرِّحْ ُك َّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪)28:‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن صريح الطالق لفظ الطالق وحده‪ ،‬وما تصرف منه ال غير‪،‬‬
‫وهو قول أبي حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وعلى هذا لو قال‪ :‬أردت بقولي‪ :‬فارقتك أي بجس مي‪،‬‬
‫أو بقلبي أو بمذهبي‪ ،‬أو سرحتك من يدي‪ ،‬أو شغلي‪ ،‬أو من حبس ي‪ ،‬أو أي س رحت‬
‫شعرك‪ .‬قبل قوله‪ .‬وإن قال‪ :‬أردت بقولي‪ :‬أنت طالق أي‪ :‬من وثاقي‪ .‬أو ق ال‪ :‬أردت‬
‫أن أقول‪ :‬طلبتك‪ .‬فسبق لس اني‪ ،‬فقلت‪ :‬طلقت ك‪ .‬ونح و ذل ك‪ ،‬دين فيم ا بين ه وبين هللا‬
‫تعالى‪ ،‬فمتى علم من نفسه ذلك‪ ،‬لم يقع عليه فيما بين ه وبين رب ه‪.‬إال أن مالك ا يوق ع‬
‫الطالق بلف ظ الطالق بغ ير ني ة ؛ ألن الكناي ات الظ اهرة ال تفتق ر عن ده إلى الني ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫الحقي بأهلك‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها من ألفاظ الطالق إذا نوى بها الطالق‪ ،‬وهو قول الجمهور‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن إسماعيل بن إبراهيم ‪ ‬طلق به امرأت ه لم ا ق ال له ا إب راهيم ‪:‬‬
‫مري ه فليغ ير عتب ة باب ه‪ ،‬فق ال له ا‪ :‬أنت العتب ة‪ ،‬وق د أم رني أن أفارق ك‪ ،‬الحقي‬
‫بأهلك(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المغني‪.7/295:‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ )2368( 3/147 :‬و‪.)3364( 4/172‬‬

‫‪274‬‬
‫‪ 2‬ـ عن عائشة أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول هللا ‪ ‬ودنا منها قالت‪:‬‬
‫أعوذ باهلل منك؟ قال لها‪ :‬لقد عذت بعظيم‪ ،‬الحقي بأهلك(‪ ،)1‬وهو كالص ريح في أن ه‬
‫كان عقد عليها‪ ،‬فإنها قالت‪ :‬لما أدخلت‪ ،‬فه ذا دخ ول ال زوج بأهل ه‪ ،‬ويؤك ده قوله ا‪:‬‬
‫ودنا منها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن حديث أبي أسيد غاية ما فيه قوله‪ :‬هبي لي نفسك‪ ،‬وهذا ال ي دل على أن ه لم‬
‫يتقدم لها‪ ،‬وجاز أن يكون هذا استدعاء منه للدخول ال للعقد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه لم يزل هذا اللفظ من األلفاظ يطلق به ا في الجاهلي ة واإلس الم‪ ،‬ولم يغ يره‬
‫النبي ‪ ‬بل أقرهم عليه‪ ،‬وقد أوقع رس ول هللا ‪ ‬والس لف الطالق وهم الق دوة بـ (أنت‬
‫حرام‪ ،‬وأمرك بيدك واختاري‪ ،‬ووهبتك ألهلك‪ ،‬خلي ة وق د خل وت م ني وأنت بري ة وق د‬
‫أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك)‬
‫القول الثاني‪ :‬ليس هذا بطالق‪ ،‬وال يقع به الطالق نواه أو لم ينوه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الظاهرية واإلمامية‪ ،‬وقد رد ابن حزم على هذا بقول ه‪( :‬وليس في ه ذا الخ بر حج ة‬
‫لمن ادعى أن [الحقي بأهلك ] لفظ يقع به الطالق‪.‬‬
‫ثم ساق من النصوص ما يدل على أن ه ذا اللف ظ ك ان ال يقص د ب ه في عه د‬
‫الرسول ‪ ‬إيقاع الطالق‪ ،‬ومنها حديث كعب بن مالك في حديث تخلفه عن تب وك‪،‬‬
‫فذكر فيه أن رسول هللا ‪ ‬أرسل إليه يأمره أن يعتزل امرأته؟ ق ال‪ :‬فقلت لرس وله‪:‬‬
‫أطلقها أم م اذا أفع ل؟ ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ب ل اعتزله ا فال تقربه ا؟ ق ال كعب فقلت الم رأتي‪:‬‬
‫الحقي بأهلك فكوني فيهم حتى يقضي هللا في هذا األمر‪ ،‬قال ابن حزم‪ :‬فهذا كعب لم‬
‫ير [ الحقي بأهلك ] من ألفاظ الطالق‪ ،‬وال يعرف له مخالف في ذلك من الصحابة‪.‬‬
‫قوله‪ :‬أنت علي حرام‪:‬‬
‫وهي من الص ور الواقعي ة المهم ة‪ ،‬وال تي اش تد فيه ا الخالف بين الس لف‬
‫والخلف‪ ،‬وق د ذك ر العلم اء له ذا التعب ير ص ورا مختلف ة حص رها ابن الع ربي في‬
‫عش رة ص ور‪ ،‬هي‪ :‬قول ه‪ :‬ح رام‪ .‬الثاني ة‪ :‬قول ه‪ :‬علي ح رام الثالث ة‪ :‬أنت ح رام‪.‬‬
‫الرابع ة‪ :‬أنت علي ح رام‪ .‬الخامس ة‪ :‬الحالل علي ح رام‪ .‬السادس ة‪ :‬م ا أنقلب إلي ه‬
‫حرام‪ .‬السابعة‪ :‬ما أعيش فيه حرام‪ .‬الثامنة‪ :‬م ا أملك ه ح رام علي‪ .‬التاس عة‪ :‬الحالل‬
‫حرام‪ .‬العاشرة‪ :‬أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها‪.‬‬
‫أما حكم هذه األلفاظ والتي ال يزال بعضها وما يش ببها مس تعمال فق د اختل ف‬
‫الفقهاء فيه اختالفا شديدا يعسر حصره أو ضبطه‪ ،‬وقد عد ابن الع ربي من األق وال‬
‫في المسألة خمسة عشر قوال‪ ،‬منها(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها يمين تكفر ؛ قاله أبو بكر‪ ،‬وعائشة‪ ،‬واألوزاعي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تجب فيه ا كف ارة‪ ،‬وليس ت بيمين‪ ،‬وب ه ق ال ابن مس عود وابن عب اس في‬
‫إحدى روايتيه‪ ،‬والشافعي في أحد قوليه‪.‬‬
‫‪ )(1‬البخاري‪ ،5/2012 :‬ابن حبان‪ ،10/83 :‬الح اكم‪ ،4/38 :‬ال بيهقي‪ ،7/39 :‬النس ائي‪ ،3/355 :‬ابن ماج ة‪:‬‬
‫‪.1/661‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬أحكام القرآن البن العربي‪.4/256 :‬‬

‫‪275‬‬
‫‪ 3‬ـ أنها طلقة رجعي ة ؛ قال ه عم ر‪ ،‬والزه ري‪ ،‬وعب د العزي ز بن أبي س لمة‬
‫الماجشون‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنها ظهار ؛ قاله عثمان‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أنها طلقة بائنة ؛ قاله حماد بن سلمة‪ ،‬ورواه ابن خويز منداد عن مالك‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ إن نوى الطالق أو الظهار كان ما ن وى‪ ،‬وإال ك انت يمين ا وك ان الرج ل‬
‫موليا من امرأته‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنه ال تنفعه نية الظهار‪ ،‬وإنما يكون طالقا ؛ قاله ابن القاسم‪.‬‬
‫وقد أضاف ابن القيم إلى هذه األقوال غيرها نقال عن ابن حزم وغيره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫( وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس )‪ ،‬وقد حاولنا أن نحصر أهم األقوال مم ا‬
‫ذك ره ابن الع ربي وابن القيم وابن ح زم وغ يرهم في األق وال األربع ة التالي ة م ع‬
‫أدلتها‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن التحريم لغ و ال ش يء في ه ال في الزوج ة‪ ،‬وال في غيره ا ال‬
‫طالق وال إيالء يمين وال ظه ار‪ ،‬وق د روي عن بعض الس لف‪ ،‬فق د روي عن‬
‫مسروق أنه قال‪ ( :‬ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثري د)‪ ،‬وعن الش عبي أن ه‬
‫قال في تحريم المرأة‪ ( :‬لهي أهون علي من نعلي )‪ ،‬وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن‬
‫أنه قال‪ ( :‬ما أبالي حرمتها يعني امرأته أو حرمت النه ر)‪ ،‬وق ال قت ادة س أل رج ل‬
‫حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك فقال قال هللا تعالى‪ ﴿:‬ف إذا ف رغت فانص ب‬
‫وإلى ربك فارغب﴾ وأنت رجل تلعب ف اذهب‪ ،‬ف العب‪ ،‬وه و ق ول الظاهري ة‪ ،‬ومن‬
‫األدلة على ذلك(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هللا تعالى لم يجع ل للعب د تحريم ا وال تحليال‪ ،‬وإنم ا جع ل ل ه تع اطي‬
‫األسباب التي بها تحل العين وتح رم ك الطالق والنك اح وال بيع والعت ق‪ ،‬أم ا مج رد‬
‫َص فُ‬ ‫قوله حرمت ك ذا وه و ح رام‪ ،‬فليس إلي ه كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿:‬واَل تَقُولُ وا لِ َم ا ت ِ‬
‫ب إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْفتَ رُونَ َعلَى‬ ‫ب هَ َذا َحاَل ٌل َوهَ َذا َح َرا ٌم لِتَ ْفتَرُوا َعلَى هَّللا ِ ْال َك ِذ َ‬
‫أَ ْل ِسنَتُ ُك ْم ْال َك ِذ َ‬
‫ب اَل يُ ْفلِحُونَ ﴾(النحل‪ ،)116:‬وقال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي لِ َم تُ َح ِّر ُم َم ا أَ َح َّل هَّللا ُ‬ ‫هَّللا ِ ْال َك ِذ َ‬
‫ك ﴾(التحريم‪)1:‬‬ ‫لَ َ‬
‫‪ 2‬ـ إذا كان تعالىلم يجعل لرسوله أن يحرم ما أحل هللا له فكيف يجع ل لغ يره‬
‫التحريم؟‬
‫‪ 3‬ـ أنه ال فرق بين تحريم الحالل وتحليل الحرام‪ ،‬وكما أن هذا الثاني لغ و ال‬
‫له فكذلك األول‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ أنه ال فرق بين قول ه المرأت ه‪ :‬أنت علي ح رام‪ ،‬وبين قول ه لطعام ه ه و‬
‫علي حرام‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن قوله‪ :‬أنت علي ح رام‪ ،‬إم ا أن يري د ب ه إنش اء تحريمه ا‪ ،‬أو اإلخب ار‬
‫عنها بأنها حرام‪ ،‬وإنشاء تحريم محال‪ ،‬فإنه ليس إليه إنم ا ه و إلى من أح ل الحالل‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.10/127 :‬‬

‫‪276‬‬
‫وحرم الحرام وشرع الشرائع‪ ،‬وإن أراد اإلخبار فهو كذب‪ ،‬فهو إم ا خ بر ك اذب أو‬
‫إنشاء باطل‪ ،‬وكالهما لغو‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ما سوى هذا القول أق وال مض طربة متعارض ة ي رد بعض ها بعض ا‪،‬‬
‫فيحرم الزوجة بشيء منها بغير برهان من هللا ورسوله‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أنه بتحريمها نكون قد ارتكبنا أمرين تحريمها على األول وإحاللها لغيره‬
‫واألصل استمرار النك اح ح تى تجم ع األم ة أو ي أتي بره ان من هللا ورس وله على‬
‫زواله‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اعتباره من صيغ الطالق‪ ،‬وقد اختلف أصحاب هذا القول على‬
‫اآلراء التالية‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أن التحريم في الزوجة طالق ثالث‪ ،‬وقد ذكر ابن حزم أنه ق ول‬
‫زيد بن ثابت وابن عمر(‪ )1‬وهو قول الحس ن ومحم د بن عب د ال رحمن بن أبي ليلى‬
‫وروي عن ابن عتيبة‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أن ه ثالث في ح ق الم دخول به ا ال يقب ل من ه غ ير ذل ك‪ ،‬وإن‬
‫كانت غيرها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثالث‪ ،‬فإن أطلق فواح دة‪ ،‬وإن ق ال لم‬
‫أرد‪ ،‬فإن كان قد تقدم كالم يجوز صرفه إليه قبل منه‪ ،‬وإن كان ابتداء لم يقب ل‪ ،‬وإن‬
‫حرم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء‪ ،‬وهو ق ول مال ك‪ ،‬ومن األدل ة على ذل ك‬
‫أن الم دخول به ا ال يحرمه ا إال الثالث‪ ،‬وغ ير الم دخول به ا تحرمه ا الواح دة‪،‬‬
‫فالزائدة عليها ليست من التحريم‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬اعتبار النية‪ ،‬وق د اختلف وا في الم رجح من الني ة عن د اإلطالق‬
‫على اآلراء التالية‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أنه إن ن وى الطالق ك ان طالق ا‪ ،‬ف إن ن وى ب ه الثالث فثالث‪،‬‬
‫وإن نوى واحدة فواحدة بائنة(‪ ،)2‬وإن نوى يمينا فهو يمين فيه ا كف ارة‪ ،‬وإن لم ين و‬
‫شيئا فهو إيالء له حكم اإليالء‪ ،‬فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ولم يكن شيئا‪ ،‬وه و‬
‫قول أبي حنيفة‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أنه إن ن وى ب ه الطالق ك ان طالق ا‪ ،‬ويق ع م ا ن واه ف إن أطل ق‬
‫وقعت واحدة‪ ،‬وإن نوى الظهار كان ظهارا‪ ،‬وإن ن وى اليمين ك ان يمين ا وإن ن وى‬
‫تحريم عينها من غير ظهار فعليه كفارة يمين‪ ،‬وإن لم ينو شيئا ففيه قوالن أح دهما‪:‬‬
‫‪ )(1‬قال ابن القيم‪ »:‬الثابت عن زي د بن ث ابت وابن عم ر م ا رواه ه و من طري ق الليث بن عن يزي د بن أبي‬
‫حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن المرأته أنت علي ح رام فق اال جميع ا‪ :‬كف ارة‬
‫يمين‪ ،‬ولم يصح عنهما خالف ذلك»‪ ،‬زاد المعاد‪.5/303 :‬‬
‫‪ )(2‬واختلفوا فيما لو نوى اثنتين على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هي واحدة بائنة‪ ،‬وهو قول جمهور الحنفية‪ ،‬ألن نية الثنتين فيه عدد‪ ،‬وه ذا اللف ظ ال يحتم ل‬
‫العدد‪ ،‬ألنها كلمة واح دة وليس فيه ا احتم ال التع دد‪ ،‬والني ة إذا لم تكن من محتمالت اللف ظ ال تعم ل‪ ،‬أم ا ص حة ني ة‬
‫الثالث ليس باعتبار العدد‪ ،‬بل باعتب ار أن ه ن وى حرم ة وهي الحرم ة الغليظ ة‪ ،‬فإنه ا ال تثبت بم ا دون الثالث فأم ا‬
‫الثنتان فال يتعلق بهما في حق الحرة حرمة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هي بحسب نيته‪ ،‬وهو قول زفر‪ ،‬لقوله ‪ «:‬وإنما لكل امرئ ما نوى» وألن الثن تين بعض‬
‫الثالث فإذا كانت نية الثالث تسع في هذا اللفظ فنية الثنتين أولى‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫ال يلزمه شيء‪ ،‬وقيل‪ :‬يلزمه كفارة يمين‪ ،‬وهو قول الشافعي‪.‬‬
‫ال رأي الث الث‪ :‬أنه ظه ار بإطالق ه ن واه أو لم ين وه إال أن يص رفه بالني ة إلى‬
‫الطالق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه‪ ،‬وهو ظاهر مذهب أحمد‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا وبين‬
‫أن يخرجه مخرج اليمين‪ ،‬فاألول ظهار بكل حال‪ ،‬ولو نوى به الطالق ول و وص له‬
‫بقوله أعني الطالق‪ ،‬والثاني يمين يلزمه به كفارة يمين‪ ،‬فإذا ق ال‪ :‬أنت علي ح رام‪،‬‬
‫أو قال‪ :‬إذا دخلت فأنت علي حرام‪ ،‬فظه ار‪ ،‬وإذا ق ال‪ :‬إن س افرت أو إن أكلت ه ذا‬
‫الطعام أو كلمت فالنا فأنت علي حرام فيمين مكفرة وهذا اختيار ابن تيمية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و أن حكم ه ذا اللف ظ ت ابع لني ة ص احبه‪ ،‬ف إن‬
‫أراد به الطالق كان طالقا بالشروط التي ذكرناها‪ ،‬وال يكون إال طلق ة واح دة لع دم‬
‫صحة طالق الثالث بكلمة واحدة أو في مجلس واحد‪.‬‬
‫وإن نوى به تحريم معاشرتها كان إيالء‪ ،‬في تربص أربع ة أش هر‪ ،‬وال تطل ق‬
‫منه إال بعد الرفع للقاضي كما سنراه في محله‪.‬‬
‫وإن نوى به الظهار لم يصح اعتباره ظهارا الفتقاره للمشبه ب ه‪ ،‬فالمش به ب ه‬
‫من األم وغيرها من المحارم ركن من أركان الظهار‪ ،‬وهي س بب جعل ه منك را من‬
‫القول وزورا‪.‬‬
‫وإن لم ينو شيئا لم يجب عليه شيء‪ ،‬ال كفارة يمين وال غيرها‪ ،‬ألن هذا اللفظ‬
‫ليس من صيغ اليمين إال إذا نواه‪ ،‬وكثيرا ما يس تعمل عن دنا به ذه الص ورة‪ ،‬فيتلف ظ‬
‫الرجل بهذه الكلمة من غير أن يعلم لها معنى أو يريد بها شيئا‪.‬‬
‫البات‪ ،‬وألبتة‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في هذه الصيغة على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬اعتباره ا من ص يغ الكناي ة ال تي يق ع به ا الطالق‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪ ،‬وقد اختلفوا في العدد المراد منها‪ ،‬فروي عن عمر أن ه ق ال‪ :‬هي واح دة‪،‬‬
‫وبه قال أبان بن عثمان وقال علي بن أبي طالب‪:‬هي ثالث‪ ،‬وروي أيضا عن عمر‪،‬‬
‫وبه قال الزهري وعمر بن عب د العزي ز‪ ،‬وه و ق ول المالكية(‪ ،)1‬ومن األدل ة ال تي‬
‫استدلوا بها على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن عائشة قالت‪ :‬جاءت امرأة رفاع ة الق رظي إلى الن بي ‪ ‬فق الت‪ :‬ي ا‬
‫رسول هللا إني كنت تحت رفاعة القرظي فطلقني ألبتة فتزوجت بع ده عب د ال رحمن‬
‫بن الزبير وإن م ا مع ه إال مث ل الهدب ة وأخ ذت هدب ة من جلبابه ا فق ال تري دين أن‬
‫‪ )( 1‬وهذا في المدخول بها فأما غير المدخول بها‪ ،‬فإن نوى الثالث أو لم ينو شيئا فال خالف في الم ذهب أنه ا‬
‫ثالث‪ ،‬إن نوى واحدة فهل ينوي أو ال فيه روايتان إح داهما ال ين وي وتلزم ه الثالث وب ه ق ال س حنون وابن ح بيب‪،‬‬
‫والرواية الثانية أنه ينوي وبها قال مالك فالرواية األولى مبنية على أن ألبتة ال تتبعض وال يصح االستثناء منها‪ ،‬وهو‬
‫معنى قول أص بغ في العتبي ة ونص علي ه س حنون في المجموع ة‪ .‬والرواي ة الثاني ة مبني ة على أنه ا تتبعض ويص ح‬
‫االستثناء منها‪ ،‬وقد روي عنه في العتبية ورواه سحنون عن العتبي‪ ،‬وعلى هذا االختالف يجب أن يج ري الق ول في‬
‫الخلع وكل طالق ال تتعقبه رجعة يوقعه الزوج باختياره‪ ،‬انظر‪ :‬المنتقى‪.4/7 :‬‬

‫‪278‬‬
‫ترجعي إلى رفاعة ال حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك(‪ ،)1‬ووجه الدليل من ه ذا‬
‫الحديث أنها قالت‪ :‬كنت تحت رفاعة القرظي فطلقني ألبتة‪ ،‬ثم أجابها أنه ا ال ترج ع‬
‫إليه حتى يمسها غيره‪ ،‬وهذا يقتضي أن هذا حكم طالق البتة‪ ،‬ولو اختلف حكم البت ة‬
‫لما منعها حتى سألها عن أنواع البتة كان طالقه إياها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن معنى البتة القطع‪ ،‬وهذا يقتض ي قط ع العص مة بينهم‪ ،‬والمبالغ ة في ذل ك‪،‬‬
‫ولذلك يقال ما بقي بينهما شيء ألبتة يريدون المبالغة في قطع ما كان بينهما‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال عمر بن عبد العزيز‪( :‬لو كان الطالق ألف ا م ا أبقت البت ة من ه ش يئا‪،‬‬
‫ومن قال ألبتة فقد رمى الغاي ة القص وى) ق ال الب اجي‪(:‬يري د أن ه من ق ال ألبت ة في‬
‫طالقه‪ ،‬فقد بلغ أقصى الغاي ات في الطالق ومن ع ال تراجع ال ذي ال توص ف الفرق ة‬
‫التي ال تمنعه بالبتة‪ ،‬وهذا المعنى من المبالغة في ذلك ال يكون إال بالثالث) (‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ أن م روان بن الحكم ك ان يقض ي في البت ة ب الثالث(‪ ،)3‬وه ذا يقتض ي‬
‫تكرار هذا القضاء منه‪ ،‬قال الباجي‪(:‬وإنما اس تظهر مال ك ب ذلك ؛ ألن م روان ك ان‬
‫أميرا بالمدينة في زمان جماع ة من الص حابة وأجل ة الت ابعين وعلم ائهم‪ ،‬وك ان ال‬
‫يقضي إال عن مشورتهم‪ ،‬وبما اتفق علي ه جميعهم أو أك ثرهم وأعلمهم‪ ،‬ف إذا تك رر‬
‫قضاؤه في البتة أنها ثالث دل ذلك على أنه كان الظاهر من أق والهم‪ ،‬والمعم ول ب ه‬
‫من مذاهبهم أو أنه الذي اتفق عليه جميعهم) (‪)4‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يقع بها الطالق‪ ،‬وهو قول ابن حزم‪ ،‬وق د س اق ابن ح زم م ا‬
‫روي من ذلك عن بعض الصحابة ثم قال‪:‬ال حجة في قول أح د دون رس ول هللا ‪‬‬
‫ال سيما في أقوال مختلفة ال برهان على ص حة ش يء منه ا‪ ،‬فلم يب ق إال اآلث ار عن‬
‫النبي ‪.‬‬
‫اعتدي‪:‬‬
‫وقد استدل القائلون باعتباره من صيغ الطالق كناي ة ب أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‬
‫لسودة أم المؤمنين‪ :‬اعتدي‪ ،‬فكان طالقا ثم راجعها‪.‬‬
‫وقد رد ابن حزم على هذا الحديث بأنه كذب موضوع ما صح قط أن رس ول‬
‫هللا ‪ ‬طلق امرأة من نسائه إال حفصة فقط ثم راجعها‪ ،‬وأما س ودة فلم يطلقه ا إنم ا‬
‫جاء فيها‪ :‬أنها وهبت يومها وليلتها ‪ -‬لما أسنت ‪ -‬لعائشة وجاء أن ه ‪ ‬أراد فراقه ا‪،‬‬
‫فلما رغبت إليه ‪ ‬في إمساكها وتجعل يومها وليلتها لعائشة لم يفارقها‪.‬‬
‫رابعا ـ الصيغة المقيدة للطالق وأحكامها‬
‫ينقسم الطالق من حيث تقييد صيغته إلى األنواع التالية‪:‬‬
‫‪ )(1‬ابن حب ان‪ ،10/97 :‬الحاكم ك ‪ ،2/218‬الترم ذي‪ ،3/480 :‬ال دارمي‪ ،2/216 :‬ال بيهقي‪،7/329 :‬‬
‫الدارقطني‪ ،4/33 :‬أبو داود‪ ،2/259 :‬ابن ماجة‪ ،1/661 :‬أحمد‪ ،1/265 :‬مسند أبي يعلى‪.4/379 :‬‬
‫‪ )(2‬المنتقى‪.4/6 :‬‬
‫‪ )( 3‬وهذا من الغرائب‪ ،‬فكيف يستدل بمروان على أحكام الشريعة‪ ،‬وجرائمه وجرائم أبنائه ال تخفى على أحد‪.‬‬
‫‪ )(4‬المنتقى‪.4/6 :‬‬

‫‪279‬‬
‫النوع األول ـ الطالق المقيد بإضافة‬
‫إضافة الطالق نوعان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اإلضافة إلى الوقت‪:‬‬
‫ومعناها تأخير اآلثار المترتب ة على الطالق إلى حل ول ال وقت ال ذي أض يف‬
‫إليه‪ ،‬وقد نص أكثر الفقهاء على أن الطالق من التصرفات التي تصح إض افتها(‪،)1‬‬
‫واختلفوا في بعض األزمنة التي تعتبر فيها اإلضافة على األحوال التالية‪:‬‬
‫إضافة الطالق إلى زمان ماض‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في وقوع هذا الطالق على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه إن أضاف الطالق إلى الماضي وق ع في الح ال‪ ،‬وه و ق ول‬
‫جمهور الفقهاء‪ ،‬ق ال الش افعي‪ ( :‬ول و ق ال له ا‪ :‬أنت ط الق الش هر الماض ي طلقت‬
‫مكانها وإيقاعه الطالق اآلن في وقت مضى محال‪ ،‬ولو قال‪ :‬عنيت أنه ا مطلق ة من‬
‫غيري لم يقبل منه إال أن يعلم أنه ا ك انت في ذل ك ال وقت مطلق ة من غ يره ف القول‬
‫قوله مع يمينه)(‪)2‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يلغو‪ ،‬وهو قول للشافعية‪ ،‬وقول ابن حزم‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬وقوع الطالق إن نواه‪ ،‬وإال فهو لغو‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول بع دم وق وع الطالق‪ ،‬ألن الق ول‬
‫بوقوع ه يس تلزم أح د احتم الين‪ :‬إم ا أن ال زوج ق د راج ع زوجت ه إن ك ان الطالق‬
‫رجعي ا‪ ،‬أو أن ه بع د الف ترة ال تي أض اف إليه ا طالق ه ك ان معاش را لزوجت ه بغ ير‬
‫الطريق الشرعي إن كان طالقا بائنا‪.‬‬
‫ولم يقل بأحد هذين االحتمالين أحد من الفقهاء‪ ،‬فكيف يستقيم أن تطلق زوجته‬
‫بم ا اس تحال ش رعا‪ ،‬وأي ف رق بين االس تحالة الش رعية واالس تحالة العقلي ة‪ ،‬وهم‬
‫يقولون بعدم وقوع الطالق إن أضيف إلى مستحيل عقلي‪.‬‬
‫إضافة الطالق إلى زمان مستقبل‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم هذه الحالة على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الطالق المضاف إلى المستقبل ينعقد سببا للفرق ة في الح ال‪،‬‬
‫ولكن ال يقع به الطالق إال عن د حل ول أجل ه المض اف إلي ه بع د اس تيفائه لش روطه‬
‫األخرى‪ ،‬فإذا قال لها‪ :‬أنت طالق آخر هذا الش هر‪ ،‬لم تطل ق ح تى ينقض ي الش هر‪،‬‬
‫ولو قال‪ :‬في أوله طلقت أوله‪ ،‬ولو ق ال‪ :‬في ش هر ك ذا‪ ،‬طلقت في أول ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪.‬‬

‫‪ )(1‬اإلض افة تتب ع طبيع ة التص رفات‪ ،‬ومن التص رفات م ا يض اف إلى ال وقت‪ ،‬ومنه ا م ا ال يض اف إلي ه‪.‬‬
‫فالتصرفات التي تصح إضافتها إلى الوقت عند أكثر الفقه اء هي‪ :‬الطالق‪ ،‬وتفويض ه‪ ،‬والخل ع‪ ،‬واإليالء‪ ،‬والظه ار‪،‬‬
‫واليمين‪ ،‬والنذر‪ ،‬والعتق‪ ،‬واإلجارة‪ ،‬والمعاملة‪ ،‬واإليص اء‪ ،‬والوص ية‪ ،‬والقض اء‪ ،‬والمض اربة‪ ،‬والكفال ة‪ ،‬والوق ف‪،‬‬
‫والمزارعة‪ ،‬والوكالة وهناك تصرفات ال تصح إضافتها إلى الوقت كالنكاح‪ ،‬والبيع‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(2‬األم‪.2/297:‬‬

‫‪280‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء القائلون بهذا الص ور الكث يرة من اإلض افات‪ ،‬بحيث ال تك اد‬
‫تنحصر‪ ،‬واختلفوا في كل واحدة منها اختالفا يعسر ضبطه‪ ،‬وق د ذك ر الق رافي عن‬
‫بيت واحد من الشعر من ألغاز هذا الباب‪ ،‬بأنه اشتمل على سبعمائة مسألة وعشرين‬
‫مسألة من المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الباب‪ ،‬فقال‪ ( :‬أنشد بعض الفضالء‪:‬‬
‫وال زال عنده إحسان‬ ‫ما يقول الفقيه أيده هللا‬
‫في فتى علق الطالق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان‬
‫ولصعوبة ضبط هذه الصور نكتفي هنا باإلشارة المختصرة لبعضها كنم اذج‬
‫عن أقوال الفقهاء في هذه المسائل‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ لو قال الرجل المرأته‪ :‬أنت طالق قبل قدوم فالن‪ ،‬فقد نص بعض هم على‬
‫َاب آ ِمنُوا‬ ‫وقوع الطالق‪ ،‬واستدل الجصاص لذلك بقوله تعالى‪﴿:‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِكت َ‬
‫ارهَ ا أَوْ ن َْل َعنَهُ ْم‬
‫س ُوجُوهًا فَنَ ُر َّدهَا َعلَى أَ ْدبَ ِ‬ ‫ص ِّدقًا لِ َما َم َع ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن ن ْ‬
‫َط ِم َ‬ ‫بِ َما نَ َّز ْلنَا ُم َ‬
‫ت َو َكانَ أَ ْم ُر هَّللا ِ َم ْف ُعواًل ﴾(النساء‪ )47:‬قال الجصاص في بي ان‬ ‫اب ال َّس ْب ِ‬‫َك َما لَ َعنَّا أَصْ َح َ‬
‫وجه االستدالل باآلية‪( :‬فكان األمر باإليمان صحيحا قب ل طمس الوج وه ولم يوج د‬
‫الطمس أصال‪ ،‬وكان ذل ك إيمان ا قب ل طمس الوج وه وم ا وج د ؛ وه و نظ ير قول ه‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَتَ َماسَّا ﴾(المجادل ة‪ )3:‬فك ان األم ر ب العتق للرقب ة‬
‫أمرا ص حيحا وإن لم يوج د المس يس(‪ ،)1‬وفي مقاب ل ذل ك نص آخ رون على ع دم‬
‫وقوع الطالق إلى أن يجيء من علق عليه الطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ لو قال لزوجته‪( :‬أنت طالق ليلة القدر(‪ ،) )2‬فقال أب و حنيف ة‪:‬إن ق ال له ا‬
‫ذلك قبل شهر رمضان‪ ،‬لم يقع الطالق حتى يمضي شهر رمض ان‪ ،‬لم ا ق د اختل ف‬
‫في موضع ليلة القدر من ليالي شهر رمضان‪ ،‬ومما روي أنها في الشهر كله‪ ،‬ومما‬
‫ق د روي أنه ا في خ اص من ه ق ال أب و حنيف ة‪ ( :‬فال أحكم بوق وع الطالق‪ ،‬إال بع د‬
‫مضي الشهر‪ ،‬ألني أعلم ب ذلك أن ه ق د مض ى ال وقت ال ذي أوق ع الطالق في ه‪ ،‬وأن‬
‫الطالق قد وقع (‪)3‬‬
‫أما إن قال لها ذلك في شهر رمضان‪ ،‬في أوله‪ ،‬أو في آخ ره‪ ،‬أو في وس طه‪،‬‬
‫فال يقع الطالق عنده‪ ،‬ح تى يمض ي م ا بقي من ذل ك الش هر‪ ،‬وح تى يمض ي ش هر‬
‫رمضان أيضا كله‪ ،‬من السنة القابلة‪ ،‬واس تدل على ذل ك بأن ه يج وز أن تك ون فيم ا‬
‫مضى من هذا الشهر الذي هو فيه‪ ،‬ويجوز أن تكون فيما بقي من ذلك الش هر ال ذي‬
‫هو فيه‪ ،‬قال‪ ( :‬فلما أشكل ذلك‪ ،‬لم أحكم بوقوع الطالق إال بع د علمي بوقوع ه‪ ،‬وال‬
‫أعلم ذلك‪ ،‬إال بعد مض ي ش هر رمض ان‪ ،‬ال ذي ه و في ه‪ ،‬وش هر رمض ان الج ائي‬
‫بعده(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬أحكام القرآن للجصاص‪.2/291:‬‬


‫‪ )(2‬انظر الخالف في المسألة في‪ :‬أحكام القرآن البن العربي‪.4/376:‬‬
‫‪ )(3‬شرح معاني اآلثار‪.3/94:‬‬
‫‪ )(4‬شرح معاني اآلثار‪.3/94:‬‬

‫‪281‬‬
‫وفي مقاب ل ذل ك ق ال أب و يوسف‪ ( :‬إذا ق ال له ا ذل ك الق ول في بعض ش هر‬
‫رمضان‪ ،‬لم يحكم بوقوع الطالق حتى يمضي مثل ذلك ال وقت من ش هر رمض ان‪،‬‬
‫من السنة الجائية )‪ ،‬واستدل على ذلك) ألن ذلك إذا كان‪ ،‬فقد كم ل ح ول‪ ،‬من ذ ق ال‬
‫ذلك القول وهي في كل حول فعلمنا بذلك وقوع الطالق)‬
‫‪ 3‬ـ لو قال المرأتيه‪ ( :‬أطولكما حياة طالق الساعة)‪ ،‬فقال أكثر الحنفية‪:‬لم يقع‬
‫الطالق حتى تموت إحداهما ؛ ألن المراد طول الحي اة في المس تقبل ال في الماض ي‬
‫حتى إذا كانت إحداهما بنت عشر سنين‪ ،‬واألخرى بنت ستين سنة لم تطلق العج وز‬
‫فعرفنا أن طول الحياة في المستقبل مراد وذلك غير معلوم ؛ لج واز أن يموت ا مع ا‪،‬‬
‫فإن ماتت إحداهما طلقت األخرى في الح ال‪ ،‬وذهب زف ر إلى أنه ا تطل ق من حين‬
‫تكلم الزوج ؛ ألنه تبين أنها كانت أطولهم ا حي اة‪ ،‬وأن ال زوج عل ق الطالق بش رط‬
‫موجود(‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ ل و ق ال‪ :‬أنت ط الق في ش هر عين ه‪ ،‬كش هر رمض ان مثال‪ ،‬فقي ل‪ :‬يق ع‬
‫الطالق في أول جزء من الليلة األولى منه‪ ،‬وذلك حين تغرب الشمس من آخ ر ي وم‬
‫من الشهر الذي قبله‪ ،‬وهو شهر شعبان‪ .‬وبهذا ق ال أب و حنيف ة والحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بأنه جعل الشهر ظرفا للطالق‪ ،‬فإذا وجد ما يكون ظرفا له طلقت‪ ،‬كما ل و‬
‫قال‪ :‬إذا دخلت الدار ف أنت ط الق‪ ،‬وقي ل يق ع الطالق في آخ ر رمض ان ؛ ألن ذل ك‬
‫يحتمل وقوعه في أوله وآخره‪ ،‬فال يقع إال بعد زوال االحتمال‪ ،‬وهو قول أبي ثور‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ لو ق ال‪ :‬أنت ط الق إذا رأيت هالل رمض ان طلقت برؤي ة الن اس ل ه في‬
‫أول الشهر‪ ،‬وه و ق ول الش افعي والحنابل ة‪ ،،‬ألن الرؤي ة للهالل في ع رف الش رع‬
‫العلم به في أول الشهر‪ ،‬والمراد به رؤي ة البعض‪ ،‬وحص ول العلم‪ ،‬فانص رف لف ظ‬
‫الحالف إلى عرف الشرع‪،‬وفي مقابل ذلك قال الحنفية‪ :‬ال تطل ق إال أن ي راه ؛ ألن ه‬
‫علق الطالق برؤية نفسه‪ ،‬فأشبه ما لو علقه على رؤية زيد(‪.)2‬‬
‫وقد استدلوا على وقوع هذا الطالق بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَوْ فُوا بِ ْال ُعقو ِد ﴾(المائدة‪)1:‬‬
‫ُ‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪ ( :‬المسلمون عند شروطهم) (‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ابن عباس كان يقول‪ :‬من قال المرأته‪ :‬أنت ط الق إلى رأس الس نة ‪:-‬‬
‫أنه يطؤها ما بين ه وبين رأس الس نة‪ ،‬وعن عط اء من ق ال المرأت ه‪ :‬أنت ط الق إذا‬
‫ولدت؟ فله أن يصيبها ما لم تلد‪ ،‬وال يطلق حتى ي أتي األج ل‪ .‬وك ذلك من ق ال‪ :‬أنت‬
‫طالق إلى سنة‪ ،‬وعن سفيان الثوري قال‪ :‬من قال المرأته‪ :‬إذا حضت ف أنت ط الق؟‬
‫فإنها إذا دخلت في الدم طلقت عليه‪.‬‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/120:‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.7/326:‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه الط برانى (‪ ،4/275‬رقم ‪ .)4404‬ق ال الهيثمى (‪ :)4/205‬في ه حكيم بن جب ير‪ ،‬وه و م تروك‪،‬‬
‫وقال أبو زرعة‪ :‬محله الصدق إن شاء هللا‪ .‬وأخرجه أيضا‪ :‬اإلسماعيلى (‪ ،)3/749‬وابن عدى (‪ 6/42‬ترجمة ‪1586‬‬
‫قيس بن الربيع)‬

‫‪282‬‬
‫‪ 4‬ـ أن اإلضافة صحت إلى محلها‪ ،‬والطالق بعد الوقوع ال يحتمل الرف ع فال‬
‫ينعدم بذكر التوقيت فيما وراء الم دة‪ ،‬بخالف النك اح فإن ه يحتم ل الرف ع فب التوقيت‬
‫ينعدم فيما وراء الوقت وال يمكن تصحيحه موقتا(‪.)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا أضيف إلى وقت محقق الوقوع وق ع في الح ال‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬ففي المدونة‪ ( :‬قلت‪ :‬أرأيت إن قال لها أنت ط الق بع د ق دوم فالن بش هر؟‬
‫قال مالك‪ :‬إذا قدم فالن وقع الطالق عليها مكان ه وال ينتظ ر به ا األج ل ال ذي ق ال)‬
‫(‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن إضافة الطالق إلى الزمن المس تقبل أو المحق ق مجيئ ه تجع ل النك اح‬
‫مؤقتا‪ ،‬فحينئذ يشبه نكاح المتعة‪ ،‬وهو حرام‪ ،‬فينجز الطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عن س عيد بن المس يب فيمن طل ق امرأت ه إلى أجل؟ ق ال‪ :‬يق ع الطالق‬
‫ساعتئذ وال يقربها‪ ،‬وعن الحسن‪ :‬أنه كان ال يؤج ل في الطالق‪ ،‬وعن الزه ري من‬
‫طلق إلى سنة؟ فهي طالق حينئذ‪ ،‬وعن يحيى بن سعيد األنصاري أنه كان ال يؤج ل‬
‫في الطالق أجال‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬عدم وقوع الطالق مطلقا‪،‬وهو مذهب الظاهرية‪ ،‬قال ابن ح زم‪:‬‬
‫(من قال‪ :‬إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق‪ ،‬أو ذكر وقتا ما؟ فال تك ون طالق ا ب ذلك‪،‬‬
‫ال اآلن‪ ،‬وال إذا جاء رأس الشهر) (‪)3‬واستدل لذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه لم ي أت ق رآن وال س نة بوق وع الطالق ب ذلك‪ ،‬وق د علمن ا هللا الطالق‬
‫على المدخول بها‪ ،‬وفي غير المدخول به ا‪ ،‬وليس ه ذا منه ا ﴿ َو َم ْن يَتَ َع َّد ُح دُو َد هَّللا ِ‬
‫فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َس هُ ﴾(الطالق‪ ،)1:‬ق ال ابن ح زم‪:‬ولم نج د لمن ف رق بين األج ل اآلتي‬
‫واآلبد‪ ،‬وبين األجل الذي ال يأتي حج ة أص ال‪ ،‬غ ير دع واه؟ ال س يما وهم يفس دون‬
‫النكاح إذا أجل الصداق إلى أجل قد يكون وق د ال يك ون‪ ،‬بعكس ق ولهم في الطالق؟‬
‫وكال األمرين أجل وال فرق‪ .‬وأيضا ‪ -‬فقد يأتي األجل ال ذي ق الوا في ه‪ :‬إن ه يجيء ‪-‬‬
‫وهو ميت أو وهي ميتة‪ ،‬أو كالهما‪ ،‬أو قد طلقها ثالثا فظهر فساد هذا القول جملة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ إن كان ك ل طالق ال يق ع حين إيقاع ه فمن المح ال أن يق ع بع د ذل ك في‬
‫حين لم يوقعه فيه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن في القول بالطالق تحريما للزوجة على زوجها بالظن على من أباح ه‬
‫هللا تعالى له باليقين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن االس تدالل ب أن ه ذا طالق إلى أج ل‪ ،‬باط ل كالنك اح إلى أج ل ـ كم ا‬
‫استدل به المالكية ـ مردود بعدم قولهم ب اطراد ه ذا القي اس‪ ،‬وق د رد ابن ح زم على‬
‫ذلك بقوله‪(:‬لم قلتم‪ :‬إنه إن قال‪ :‬إن دخلت الدار فأنت طالق ؟ أنها ال تطلق إال بدخول‬
‫الدار‪ ،‬فإنه طالق إلى أجل‪ ،‬فأوقعتموه حين لفظ به‪ ،‬وبهذا نعارض هم في ق ولهم‪ :‬إن‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/90:‬‬
‫‪ )(2‬المدونة‪.2/62:‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.9/479:‬‬

‫‪283‬‬
‫ظاهر أمره أنه ندم إذ قال‪ :‬أنت طالق‪ ،‬فأتبع ذل ك باألجل؟ فيل زمهم ذل ك فيمن ق ال‪:‬‬
‫أنت طالق إن دخلت الدار)‬
‫‪ 5‬ـ االستدالل بأنه إذا قال‪ :‬أنت طالق‪ ،‬ف الطالق مب اح‪ ،‬ف إن أتبع ه أجال فه و‬
‫شرط ليس في كتاب هللا تعالى فهو باطل ـ كم ا اس تدل ب ه أص حاب الق ول الث اني ـ‬
‫مردود بأنه ال يجوز إلزامه بعض ما التزم دون سائره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا أَوْ فُ وا بِ ال ُعقُو ِد ﴾(المائ دة‪ ،)1:‬وقول ه‬
‫ْ‬
‫‪ ( :‬المسلمون عند شروطهم (خاص بكل عقد أمر هللا تعالى بالوفاء ب ه‪ ،‬أو ن دب‬
‫إليه ‪ -‬ال في كل عقد جمل ة‪ ،‬وال في معص ية‪ ،‬ومن المعاص ي أن يطل ق بخالف م ا‬
‫أمر هللا تعالى به‪ ،‬فال يحل الوفاء به‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬كل شرط ليس في كت اب هللا تع الى فه و باط ل)‪.‬‬
‫والطالق إلى أجل مشترط بشرط ليس في كتاب هللا تعالى فهو باطل‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثالث‪ ،‬فهو أقوى األقوال أدلة وأوفقها‬
‫بالمقاصد الشرعية‪:‬‬
‫أما من حيث األدلة‪ ،‬فإن الطالق في الوضع الشرعي تعبير يراد منه التفريق‬
‫في الحال بناء على مقصد تعلق به‪ ،‬أو الستحالة االستمرار في الحياة الزوجية‪ ،‬أم ا‬
‫القول باإلضافة فيناقض ذل ك‪ ،‬فه و على أحس ن أحوال ه وع د ب الطالق‪ ،‬وال يص ح‬
‫تسمية الوعد بغير مسماه‪ ،‬فالوعد قد يقع وقد ال يقع‪ ،‬بل إن ه هن ا ألي ق بالوعي د من ه‬
‫بالوعد‪ ،‬فلذلك ال نرى صحة ما استدلوا به من النص وص الموجب ة للوف اء بالوع د‪،‬‬
‫ألن الوعد ال يجب الوفاء ب ه في ك ل حين‪ ،‬ب ل حكم ه يتب ع موض وعه وم ا ي ترتب‬
‫عنه‪.‬‬
‫ونعجب من الفقهاء القائلين بهذا مع أنهم في الشروط المقيدة للعقد‪ ،‬وال تي ق د‬
‫تتعلق بها مصالح الحياة الزوجية ال يستدلون به ذا ويعت برون ه ذه الش روط مج رد‬
‫وعود أخالقية ال شروطا إلزامية‪.‬‬
‫أما من حيث المصلحة‪ ،‬فكيف تس تقيم الحي اة الزوجي ة‪ ،‬والزوج ة تنتظ ر في‬
‫كل حين مطلع الشمس أو مغربها‪ ،‬أو ترقب الهالل أو تعد األش هر‪ ،‬أو تض ع ي ديها‬
‫على قلبها وهي تنتظر مجيء زيد أو سفر عمرو‪ ،‬بل تنتظ ر م وت ض رتها لتطل ق‬
‫بموتها‪ ،‬وعندما يتطلع الناس لليلة القدر يلتمسون بركاتها تتطلع إليها تشاؤما ورهبة‬
‫ألن مصير حياتها الزوجية معلق بليلة القدر‪.‬‬
‫أما الزوج‪ ،‬فقد ال يقل عن زوجه أسفا على ذلك التوقيت الذي حدد ب ه حيات ه‬
‫مع زوجته‪ ،‬فهو يعد األيام والليالي والدقائق والث واني ويحت ار أيأخ ذ بق ول زف ر أم‬
‫أبي يوسف‪.‬‬
‫فلذلك كان قول مالك في هذا أق رب مقاص دية من الق ول الث اني‪ ،‬ألن انتظ ار‬
‫المؤلم ألم‪ ،‬وهو كمن يذبح الشاة دون أن يحد الشفرة ليقتلها قتال بطيئا‪.‬‬
‫انطالقا من ه ذا ن رى أن ه ذا اللف ظ مج رد وعي د ال أث ر ل ه‪ ،‬وأن ه ن وع من‬

‫‪284‬‬
‫األلفاظ المحرم ة ال تي ال يج وز ذكره ا والتالعب به ا‪ ،‬فللطالق ص يغته الش رعية‬
‫المحدودة بشروطها‪ ،‬كشروط الصالة وفرائضها سواء بسواء‪.‬‬
‫ونرى كذلك أن الورع في هذا الوعيد ليس تنفيذه كما ينص كثير من الفقه اء‪،‬‬
‫بل الورع والسنة عدم الوفاء به كم ا ق ال ‪( :‬من ن ذر أن يطي ع هللا فليطع ه‪ ،‬ومن‬
‫نذر أن يعصيه فال يعصه)(‪)1‬‬
‫ص لِحُوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضةً أِل ْي َمانِ ُك ْم أ ْن تَبَ رُّ وا َوتَتَّقُ وا َوتُ ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬
‫وقد قال تعالى‪َ ﴿:‬وال تَجْ َعلوا َ عُرْ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫اس َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾ (البق رة‪ ،)224:‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬وال يَأتَ ِل أول و الفَ ْ‬
‫ُ‬
‫ض ِل‬ ‫بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫اج ِرينَ فِي َس بِي ِل ِ َوليَ ْعفُ وا‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِم ْن ُك ْم َوال َّس َع ِة أ ْن ي ُْؤتُوا أولِي القُ رْ بَى َوال َم َس ا ِكينَ َوال ُمهَ ِ‬
‫َو ْليَصْ فَحُوا أَال تُ ِحبُّونَ أَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم) (الن ور‪ ،)22:‬وق د ورد في‬
‫سبب نزولها أن أبا بكر ـ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفق ره ـ ق ال‬
‫بعد حديثه في اإلفك‪(:‬وهّللا ال أنفق عليه شيئا ً أبداً بع د ال ذي ق ال لعائش ة‪ ،‬ف أنزل هّللا‬
‫تعالى اآلية السابقة‪ ،‬فقال أبو بكر‪(:‬بلى وهّللا إني ألحب أن يغف ر هّللا لي)‪ ،‬فرجَّع إلى‬
‫مسطح النفقة التي كان ينفق عليه‪ ،‬وقال‪(:‬وهّللا ال أنزعها منه أبداً)‬
‫‪ 2‬ـ اإلضافة إلى الشخص‪:‬‬
‫وق د تح دثنا عن أحكامه ا الخاص ة به ا في الفص ل الث اني عن د الح ديث عن‬
‫التوكيل في الطالق‪ ،‬ويتعلق به ا أيض ا التعلي ق بالمش يئة‪ ،‬وس نتحدث عن ه في ه ذا‬
‫الفصل عند الحديث عن تقييد الطالق باالستثناء‪.‬‬
‫النوع الثاني ـ الطالق المعلق على شرط‬
‫المراد بالتعليق ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جمل ة أخ رى‬
‫سواء أكان ذلك المضمون من قبل المطلق أو المطلقة أو غيرها‪ ،‬أو لم يكن من فعل‬
‫أحد‪.‬‬
‫فإن كان من فعل المطلق أو المطلق ة أو غيرهم ا س مي يمين ا ل دى الجمه ور‬
‫مجازا‪ ،‬وذلك لما فيه من معنى القسم‪ ،‬وهو‪ :‬تقوية عزم الحالف أو ع زم غ يره على‬
‫فعل شيء أو تركه‪ ،‬كم ا إذا ق ال لزوجت ه‪ :‬أنت ط الق إن دخلت دار فالن‪ ،‬أو‪ :‬أنت‬
‫طالق إن ذهبت أنا إلى فالن‪ ،‬أو‪ :‬أنت طالق إن زارك فالن‪.‬‬
‫والفرق بين اإلض افة والتعلي ق من وجهين‪ :‬أح دهما‪ :‬أن التعلي ق يمين‪ ،‬وهي‬
‫للبر إعدام موجب المعلق‪ ،‬وال يفضي إلى الحكم‪ .‬أما اإلض افة فلثب وت حكم الس بب‬
‫في وقته‪ ،‬ال لمنعه‪ ،‬فيتحقق السبب بال مانع‪ ،‬إذ الزمان من لوازم الوج ود وثانيهم ا‪:‬‬
‫أن الشرط على خطر‪ ،‬وال خطر في اإلضافة(‪.)2‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في أثر الطالق المعلق‪ ،‬هل يقع أم ال على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يقع الطالق إذا حصل ما علق عليه الطالق‪ ،‬وهو ق ول جمه ور‬
‫الفقهاء‪ ،‬قال ابن تيمية‪ ( :‬وه ذا ه و المش هور عن د أك ثر الفقه اء المت أخرين‪ ،‬ح تى‬
‫‪ )(1‬البخاري‪ ،6/2463 :‬ابن خزيمة‪ ،3/352 :‬ابن حب ان‪ ،10/233 :‬ال دارمي‪ ،2/241 :‬الترم ذي‪،4/104 :‬‬
‫البيهقي‪.9/231:‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تبيين الحقائق‪.2/205:‬‬

‫‪285‬‬
‫اعتقد طائفة منهم أن ذلك إجماع ؛ ولهذا لم يذكر عامتهم عليه حجة) (‪ ،)1‬وق د ذك ر‬
‫ابن تيمية أن دليلهم على هذا هو أنه التزم أمرا عند وجود شرط فلزمه ما التزمه‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬إن الطالق المعل ق يمين يج ري فيه ا م ا يج ري في أيم ان‬
‫المسلمين من الكفارة عند الحنث ؛ إال أن يختار الحالف إيقاع الطالق فل ه أن يوقع ه‬
‫وال كفارة‪ ،‬وقد نسبه ابن تيمية لطائفة من السلف والخلف‪ ،‬كطاوس‪ ،‬وغيره‪ ،‬قال‪( :‬‬
‫وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول هللا ‪ ‬في هذا الباب‪ ،‬وبه يفتي كثير من‬
‫المالكية وغيرهم‪ ،‬حتى يقال‪ :‬إن في كثير من بالد المغرب من يف تي ب ذلك من أئم ة‬
‫المالكية‪ ،‬وهو مقتضى نصوص أحمد بن حنبل‪ ،‬وأصوله في غير موضع)(‪)2‬‬
‫ومن أدلة التي استدلوا بها على هذا‪:‬‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫ض هَّللا ُ لَ ُك ْم ت َِحلةَ أ ْي َم انِ ُك ْم َو ُ َم وْ اَل ُك ْم َوهُ َو ال َعلِي ُم‬
‫َّ‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬قَ ْد فَ َر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْال َح ِكيم﴾(التحريم‪ ،)2:‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ذلِكَ َكفَّ َ‬
‫ارةُ أ ْي َمانِ ُك ْم إِ َذا َحلَ ْفتُ ْم َواحْ فَظُوا أ ْي َم انَ ُك ْم ﴾‬
‫(المائدة‪ ،)89:‬وقد قال ‪ ( :‬من حلف على يمين فرأى غيره ا خ يرا منه ا‪ ،‬فلي أت‬
‫ال ذي ه و خ ير‪ ،‬وليكف ر عن يمين ه )‪ ،‬وه و يتن اول أيم ان جمي ع المس لمين لفظ ا‬
‫ومعنى ؛ ولم يخصه نص وال إجماع وال قياس ؛ بل األدلة الشرعية تحقق عمومه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المعروف عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومن بع دهم أن ه‬
‫ال فرق بين أن يحلف بالطالق‪ ،‬أو العتاق‪ ،‬أو النذر‪ ،‬إم ا أن تجزئ ه الكف ارة في ك ل‬
‫يمين‪ ،‬وإما أن ال شيء عليه‪ ،‬وإما أن يلزم ه كم ا حل ف ب ه ؛ ب ل إذا ك ان قول ه‪ :‬إن‬
‫فعلت كذا فعلي أن أعتق رقبة وقصد به اليمين ال يلزم ه العت ق ؛ ب ل يجزئ ه كف ارة‬
‫يمين‪ ،‬ولو قاله على وجه النذر لزمه باالتفاق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ثبوت الحقوق في الذمم أوسع نفوذا ؛ فإن الصبي والمجنون والعبد ق د‬
‫تثبت الحقوق في ذممهم مع أنه ال يصح تصرفهم‪ ،‬فإذا كان قص د اليمين م ع ثب وت‬
‫العتق المعلق في الذمة ممن وع‪ ،‬فألن يمن ع وقوع ه أولى وأح رى‪ ،‬وإذا ك ان العت ق‬
‫الذي يلزمه بالنذر ال يلزمه إذا قصد به اليمين فالطالق الذي ال يلزم بالن ذر أولى أن‬
‫ال يلزم إذا قصد به اليمين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن التعليق إنما يل زم في ه الج زاء إذا قص د وج وب الج زاء عن د وج وب‬
‫الشرط‪ ،‬كقول ه‪ :‬إن أبرأت ني من ص داقك ف أنت ط الق‪ ،‬وإن ش فا هللا مريض ي فثلث‬
‫مالي صدقة‪ ،‬أما إذا كان يكره وقوع الجزاء وإن وجد الشرط‪ ،‬وإنما التزم ه ليحض‬
‫نفسه أو يمنعها‪ ،‬أو يحض غيره أو يمنعه‪ ،‬فهذا مخ الف لقول ه‪ :‬إن فعلت ك ذا فم الي‬
‫صدقة وعبيدي أحرار‪ ،‬ونسائي طوالق‪ ،‬وعلي عشر حجج‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬ال يقع به طالق‪ ،‬وال يلزمه كفارة‪ ،‬وه و م ذهب اإلمامي ة‪ ،‬ق ال‬
‫ابن تيمية‪ ( :‬ويذكر ما يدل عليه عن طائفة من الس لف ؛ ب ل ه و م أثور عن طائف ة‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.3/241:‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى‪.3/241:‬‬

‫‪286‬‬
‫صريحا كأبي جعفر الباقر رواية جعفر بن محمد)(‪ ،)1‬وذكر أنه يفتي ب ه في اليمين‬
‫التي يحلف بها بالتزام الطالق بعض الحنفية والشافعية‪ ،‬وهو مذهب الظاهرية‪ ،‬ق ال‬
‫ابن ح زم‪(:‬واليمين ب الطالق ال يل زم ‪ -‬س واء ب ر أو حنث ‪ -‬ال يق ع ب ه طالق‪ ،‬وال‬
‫طالق إال كما أمر هللا تعالى‪ ،‬وال يمين إال كما أمر هللا تعالى على لسان رسوله ‪)‬‬
‫(‪ ، )2‬وقال‪( :‬والطالق بالصفة عندنا كما هو الطالق باليمين‪ ،‬كل ذلك ال يلزم‪ ،‬وباهلل‬
‫تعالى التوفيق‪ ،‬وال يكون طالقا إال كما أمر هللا تع الى ب ه وعلم ه‪ ،‬وه و القص د إلى‬
‫الطالق وأما ما عدا ذلك فباطل‪ ،‬وتعد لحدود هللا تعالى)‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ارةُ أَ ْي َمانِ ُك ْم إِ َذا َحلَ ْفتُ ْم َواحْ فَظُوا أَ ْي َمانَ ُك ْم ﴾ (المائدة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِكَ َكفَّ َ‬
‫‪ ،)89‬وجميع المخالفين هاهنا ال يختلف ون في أن اليمين ب الطالق والعت اق والمش ي‬
‫إلى مك ة وص دقة الم ال بأن ه ال كف ارة عن دهم في حنث ه في ش يء من ه إال بالوف اء‬
‫بالفعل‪ ،‬أو الوفاء باليمين‪ ،‬فصح بذلك أنه ليس شيء من ذلك يمينا‪ ،‬إذ ال يمين إال ما‬
‫سماه هللا تعالى يمينا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قول رسول هللا ‪( :‬من كان حالفا فال يحل ف إال باهلل)‪ ،‬وذل ك ي دل على‬
‫أن كل حلف بغير هللا عز وجل معصية وليس يمينا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ما روي عن الحسن البصري أن رجال ت زوج ام رأة وأراد س فرا فأخ ذه‬
‫أهل امرأته‪ ،‬فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر‪ ،‬فجاء األجل ولم يبعث إليه ا‬
‫بشيء فلما قدم خاصموه إلى علي فقال علي‪ :‬اضطهدتموه حتى جعلها طالقا‪ ،‬فردها‬
‫عليه‪ ،‬قال ابن ح زم‪( :‬ال متعل ق لهم بم ا روي من ق ول علي اض طهدتموه‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يكن هنالك إكراه‪ ،‬إنما طالبوه بحق نفقتها فقط‪ ،‬فإنما أنكر على اليمين بالطالق فق ط‬
‫ولم يرد الطالق يقع بذلك)‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ما روي عن شريح أنه خوصم إليه في رجل طل ق امرأت ه إن أح دث في‬
‫اإلسالم حدثا فاكترى بغال إلى حمام أعين فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى ب ه‬
‫خمرا؟ فقال شريح‪ :‬إن شئتم شهدتم علي ه أن ه طلقها؟ فجعل وا ي رددون علي ه القص ة‬
‫ويردد عليهم‪ ،‬فلم يطلقها مع هذا الحدث العظيم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ القياس على عدم إجازة الجمهور لنكاح التعليق أو الرجع ة على التعلي ق‪،‬‬
‫ق ال ابن ح زم‪ ( :‬ثم نق ول لهم‪ :‬من أين أج زتم الطالق بص فة ولم تج يزوا النك اح‬
‫بصفة؟ والرجعة بصفة؟ كمن قال‪ :‬إذا دخلت ال دار فق د راجعت زوج تي المطلق ة ‪-‬‬
‫أو قال‪ :‬فقد تزوجتك؟ وقالت هي مثل ذلك‪ ،‬وق ال ال ولي مث ل ذل ك ‪ -‬وال س بيل إلى‬
‫فرق)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و أن الطالق يتوق ف على قص د المطل ق حين‬
‫إيقاعه الطالق‪ ،‬ال على ما ارتبط به من قيود ق د ال تك ون مقص ودة للمطل ق‪ ،‬وه ذا‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.3/241:‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.7/476:‬‬

‫‪287‬‬
‫القول يتوافق مع كال القولين الثاني والثالث‪ ،‬فالفرق بينهما ليس بعيدا‪.‬‬
‫أما لزوم التكفير في حال النطق بمث ل ه ذه التعليق ات‪ ،‬فق د يق ال ب ه من ب اب‬
‫التورع واالحتياط‪ ،‬ولكن األلزم من التكف ير ه و االس تغفار والتوب ة‪ ،‬ألن مث ل ه ذه‬
‫األلفاظ إذا استعملت في غير مقصودها الشرعي ك انت نوع ا من االس تهزاء بآي ات‬
‫هللا‪ ،‬وهي ال تق ل عن االس تهزاء باأللف اظ الش رعية المحترم ة كالص الة وال ذكر‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫ولهذا الترجيح زيادة على ما سبق ذكره من أدلة القولين الثاني والث الث دلي ل‬
‫نعتبره من أهم األدلة‪ ،‬وهو ما ينجر عن القول األول من المفاس د‪ ،‬وال نقص د ب ذلك‬
‫ما ذكرنا سابقا من تضييق باب الطالق‪ ،‬وإنما نقصد مفاسد هي أهم وأخطر امتألت‬
‫به ا كتب الفقه اء‪ ،‬وتشوش ت به ا أذه ان طلب ة العلم وهم يحفظونه ا ويتب ارون في‬
‫اإللغاز بها كما يتبارى الالعبون في سائر أنواع اللهو‪.‬‬
‫وه ذه المفس دة هي تل ك الفت اوى الكث يرة المتعلق ة بالص يغ المختلف ة ألن واع‬
‫التعليق‪ ،‬والكثير منها يحم ل أنواع ا من التش ويش ال ذهني والتس لط ال زوجي ال ذي‬
‫يحمل الزوج على أن يقول لزوجته‪ ،‬وهي واقفة على سلم‪ :‬إن صعدت فيه أو ن زلت‬
‫من ه أو قمت علي ه أو رميت نفس ك‪ ،‬أو حط ك إنس ان ف أنت ط الق‪ ،‬فتبقى الزوج ة‬
‫محتارة ما تصنع‪ ،‬ويسرع زوجها لرج ال الفت وى ال ذي يعمل ون عق ولهم ال ل يئنبوه‬
‫على ه ذا الظلم المجح ف‪ ،‬وإنم ا ليطلب وا من ه ش راء س لم أو ك راءه‪ ،‬لتنتق ل إلي ه‬
‫زوجته‪ ،‬فتسلم من الطالق‪.‬‬
‫وقد فتح بهذا القول باب من التالعب على األحك ام الش رعية‪ ،‬فأص بح العق ل‬
‫المسلم الذي هذب ه الق رآن وت رفعت ب ه الس نة منغمس ا في البحث عن حي ل ألن واع‬
‫غريبة من الصيغ يحتال بها على ربه‪ ،‬فأفتوا فيمن قال لزوجته‪ :‬ال وطئتك إال وأنت‬
‫البسة عارية راجلة راكبة‪ ،‬وطئها بليل عريانة في سفينة‪ ،‬ولس نا ن دري س بب ع دم‬
‫اعتبار العاري في الليل عاريا‪ ،‬إن كان قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَا اللَّي َْل لِبَ ً‬
‫اس ا﴾(النب أ‪)10:‬‬
‫فإنه ليس في اآلية داللة على ع دم اعتب ار الع ري في اللي ل‪ ،‬وإال لج وز ع دم س تر‬
‫العورة في الليل‪ ،‬ولسنا ندري كذلك عدم اعتبار راكب السفينة راكبا‪.‬‬
‫وأفتوا فيمن حلف ال يأكل بيضا‪ ،‬وليأكلن مما في كم ه ف إذا ه و بيض‪ ،‬عم ل‬
‫منه ناطف يستهلك‪ ،‬ومثله أفتوا فيمن حلف ليطبخن قدرا برطل ملح‪ ،‬ويأك ل من ه ال‬
‫يجد طعم الملح‪ ،‬سلقت بيضا‪ ،‬بل وصلت الجرأة إلى المسائل العقدية نفس ها‪ ،‬ف أفتوا‬
‫فيمن ق ال‪ :‬إن لم تخ رج الفس اق من الن ار ف أنت ط الق ثالث ا‪ ،‬ال تطل ق لتع ارض‬
‫األدلة(‪.)1‬‬
‫بل وصل اإلغراب إلى القول بأنه إذا قال‪ ( :‬إن كنت تحبين أن يعذبك هللا في‬
‫نار جهنم فأنت طالق)‪ ،‬فقالت‪ :‬أحب‪ ،‬تطلق إن كانت صادقة لشدة بغضها إي اه‪ ،‬فق د‬
‫تحب التخلص منه بالعذاب‪ ،‬أما إن تيقن كذبها‪ ،‬بأن ك انت تحب ه وتحب المق ام مع ه‬

‫‪ )(1‬البحر الرائق‪.4/24:‬‬

‫‪288‬‬
‫فإنه ال يقع الطالق عليها(‪.)1‬‬
‫بل أفتوا بفعل المح رم ألج ل تف ادي الطالق في بعض األح وال‪ ،‬فق الوا فيمن‬
‫حلف في شعبان بثالث ليطأنها في نهار شهرين متتابعين‪ ،‬س افر في رمض ان‪ ،‬ف إن‬
‫حاضت وطئ وكفر لحيض(‪.)2‬‬
‫بل كانت هذه الفتاوى شعرت أو لم تشعر‪ ،‬تشرع لط رق ظلم الزوج ة‪ ،‬وتعلم‬
‫طلبة العلم ماذا يقال للزوج ات‪ ،‬ق ال في الفت اوى الهندي ة‪ ( :‬س ئل وال دي عمن ق ال‬
‫المرأته في حالة الغض ب‪ :‬إن لم أكس ر عظام ك وأش ج لحوم ك ف أنت ط الق ثالث ا‬
‫فقال‪ :‬لو ض ربها ح تى ال تك اد ت برح عن مكانه ا ال يحنث ويك ون ه ذا مج ازا عن‬
‫الضرب الشديد)(‪)3‬‬
‫وفيها‪ :‬ولو قال المرأته‪ :‬إن لم أضربك حتى أتركك ال حية وال ميتة‪ ،‬قال أب و‬
‫يوسف‪ :‬هذا على أن يضربها ض ربا موجع ا ش ديدا‪ ،‬ف إذا فع ل ذل ك ب ر في يمين ه‪،‬‬
‫وقوله حتى تبولي أو تشتكي أو حتى تستغيثي ما لم يوجد حقيقة هذه األشياء لم يبر‪.‬‬
‫وفيها لو قال رجل المرأته‪ :‬إن لم أض رب الي وم ول دك ح تى ينش ق نص فين‬
‫طلقت ثالثا‪ ،‬ثم ضربه على األرض‪ ،‬فلم ينشق طلقت ثالثا‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من األمثلة الكثيرة ال تي ال نك اد نفق دها في أي ب اب من أب واب‬
‫الفقه‪ ،‬بل انتقلت للتفسير والحديث وكل العلوم الشرعية‪ ،‬وأص بحت مي دانا للتع رف‬
‫على أعلم العلماء وحيد دهره وعالمة زمانه‪ ،‬فإذا ما جلس مص لح أو داعي ة ليرش د‬
‫الناس ويعلمهم نهض إليه متفيهق ليسأله عن مثل هذه المسألة‪ ،‬والويل له منهم إن لم‬
‫يجب‪ ،‬والويل للشريعة إن أجاب‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬الطالق المقيد بالعدد‬
‫والمراد منه ذكر المطلق عددا لطلقاته‪ ،‬كطلقة أو طلق تين أو أك ثر‪ ،‬والعلم اء‬
‫تكلموا في هذا النوع عن مسألة تشعبت فيها األق وال وتن ازعت فيه ا األدل ة‪ ،‬وك ان‬
‫أثرها االجتماعي على األسرة المس لمة خط يرا ج دا‪ ،‬بحيث ألغي الطالق الش رعي‬
‫الع ادي ليح ل ه ذا الن وع من التقيي د بدل ه‪ ،‬وهي الطالق الثالث في مجلس واح د‪،‬‬
‫فأصبح الرجل ال يرضيه وال يشفي غليله إال أن يعدد الطلقات‪ ،‬فيرمي به ا بالمئ ات‬
‫بل باآلالف‪ ،‬فإذا ما عاد إلي ه عقل ه التمس الحي ل ليع ود لزوجت ه‪ ،‬ولم ت دخل الحي ل‬

‫‪ )(1‬البحر الرائق‪.4/28 :‬‬


‫‪ )(2‬الفروع‪ ،،6/366:‬فلو وطئ مع الحيض وعصى فه ل يتخلص من الحنث؟ في ه وجه ان في م ذهب مال ك‬
‫وأحمد هما‪:‬‬
‫األول‪ :‬يتخلص‪ ،‬وإن أثم بالوطء كما لو حلف ب الطالق ليش ربن ه ذه الخم ر فش ربها فإن ه ال تطل ق علي ه‬
‫زوجته‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬ال يبر ; ألنه إنما حلف على فعل وطء مباح‪ ،‬فال تتناول يمينه المحرم‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ «:‬إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعا لم تتناول يمين ه المح رم فال يحنث بترك ه بعين‬
‫ما ذكرتم من الدليل‪ ،‬وهذا ظاهر‪ ،‬وح رف المس ألة أن يمين ه لم تتن اول المعج وز عن ه ال ش رعا وال ق درا فال يحنث‬
‫بتركه» إعالم الموقعين‪.4/93:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الهندية‪.1/445:‬‬

‫‪289‬‬
‫التي يطلق عليها ش رعية في ب اب كم ا دخلت ه ذا الب اب‪ ،‬وه ذا م ا يس تدعي ذك ر‬
‫المسألة بما يجلي صورتها‪ ،‬ويبين منازع األقوال فيها دون غلو في التفصيل‪.‬‬
‫وصورة هذا النوع من الطالق أن يطلقها ثالثا في طه ر واح د بكلم ة واح دة‬
‫أو كلمات ؛ مثل أن يقول‪ :‬أنت ط الق ثالث ا‪ .‬أو أنت ط الق وط الق وط الق‪ ،‬أو أنت‬
‫طالق‪ ،‬ثم طالق‪ ،‬ثم طالق‪ .‬أو أنت طالق‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنت طالق‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنت ط الق‪،‬‬
‫أو يقول‪ :‬أنت طالق ثالثا‪ ،‬أو عشر طلقات‪ ،‬أو مائة طلقة‪ ،‬أو ألف طلق ة ونح و ذل ك‬
‫من العبارات‪.‬‬
‫حكمه‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه الصيغة من الطالق على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪:‬أن ه طالق مب اح الزم‪ ،‬وه و م ذهب الش افعي وأبي ث ور‪،‬‬
‫والظاهري ة‪ ،‬ورواي ة عن أحم د‪ ،‬وروي عن الحس ن بن علي‪ ،‬وعب د ال رحمن بن‬
‫عوف‪ ،‬والشعبي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن اآليات التي استدل بها المخالفون نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط‪.‬‬
‫ق َم َّرتَ ا ِن ﴾(البق رة‪ )229 :‬كقول ه تع الى‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ أن مع نى قول ه تع الى‪ ﴿:‬الطَّال ُ‬
‫صالِحًا نُ ْؤتِهَا أَجْ َرهَا َم َّرتَي ِْن َوأَ ْعتَ ْدنَا لَهَ ا ِر ْزقً ا‬
‫ت ِم ْن ُك َّن هَّلِل ِ َو َرسُولِ ِه َوتَ ْع َملْ َ‬‫﴿ َو َم ْن يَ ْقنُ ْ‬
‫َك ِري ًما﴾ (األحزاب‪ )31:‬أي مضاعفا معا‪ ،‬قال ابن حزم‪( :‬وهذه اآلية أيضا تعليم لم ا‬
‫دون الثالث من الطالق‪ ،‬وهو حجة لنا عليهم‪ ،‬ألنهم ال يختلفون في أن طالق الس نة‬
‫هو أن يطلقها واحدة‪ ،‬ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم‪ ،‬وفي ق ول‬
‫آخرين منهم أن يطلقها في كل طهر طلقة‪ ،‬وليس شيء من هذا في ه ذه اآلي ة‪ ،‬وهم‬
‫ال يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كالم متصل‪ :‬طالق سنة‪ ،‬فبطل تعلقهم بقوله‬
‫ن ﴾(البقرة‪)1(()229 :‬‬ ‫ق َم َّرتَا ِ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫‪ 3‬ـ أن عويمر العجالني لما العن امرأته‪ ،‬قال‪ :‬كذبت عليها يا رس ول هللا إن‬
‫أمسكتها‪ .‬فطلقها ثالثا قبل أن يأمره رسول هللا ‪ ،‬ولم ينقل إنكار النبي ‪.)2( ‬‬
‫‪ 4‬ـ ما روي عن عائشة‪ ،‬قالت جاءت امرأة رفاعة إلى النبي ‪ ‬فقالت‪ :‬كنت‬
‫عند رفاعة‪ ،‬فطلقني‪ ،‬فبت طالقي‪ ،‬فتزوجت عبد الرحمن ابن الزب ير‪ ،‬وإن م ا مع ه‬
‫مثل هدبة الثوب(‪ ،)3‬فتبسم رسول هللا ‪ ‬فقال‪( :‬أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة‪ ،‬ال‬
‫حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك(‪)4‬‬
‫‪ 5‬ـ في حديث فاطمة بنت قيس‪ ،‬أن زوجها أرسل إليها بثالث تطليقات‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنه طالق جاز تفريقه‪ ،‬فجاز جمعه‪ ،‬كطالق النساء‪.‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/385:‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،5/2014 :‬مس لم‪ ،2/1129 :‬ال دارمي‪ ،2/201 :‬المنتقى البن الج ارود‪ ،189:‬ال بيهقي‪7/398:‬‬
‫الدارقطني‪ ،3/277 :‬النسائي‪.3/371 :‬‬
‫‪ )(3‬هو طرف الثوب الذي لم ينسج‪ ،‬مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن‪ ،‬وأرادت أن ذك ره يش به الهدب ة‬
‫في االسترخاء وعدم االنتشار‪ ،‬فتح الباري‪.9/465:‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،5/2014 :‬البيهقي‪.7/374 :‬‬

‫‪290‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أنه طالق ب دعي مح رم‪ ،‬وه و ق ول جم اهير العلم اء ع دا من‬
‫ذكروا في القول األول‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلق وه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪)1:‬‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ق هَّللا َ‬
‫إلى قوله ﴿ ال تدري لعل هللا يحدث بعد ذلك أمرا ﴾ ثم ق ال بع د ذل ك‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَتَّ ِ‬
‫يَجْ َعلْ لَهُ َم ْخ َرجًا﴾(الطالق‪ ،)2:‬وقال تعالى‪﴿:‬ومن يتق هللا يجعل له من أمره يسرا ﴾‪،‬‬
‫ومن جم ع الثالث لم يب ق ل ه أم ر يح دث‪ ،‬وال يجع ل هللا ل ه مخرج ا وال من أم ره‬
‫يسرا‪.‬‬
‫َ‬
‫ُوف أوْ ت َْس ِري ٌح بِإِحْ َس ا ٍن﴾‬‫ك بِ َم ْع ر ٍ‬‫ان فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ق َم َّرتَ ِ‬ ‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطال ُ‬
‫(البق رة‪ )229 :‬وال يخل و ه ذا أن يك ون أم را بص فة الطالق‪ ،‬واألم ر يقتض ي‬
‫الوجوب‪ ،‬أو يكون إخبارا عن ص فة الطالق الش رعي‪ ،‬ثم إن األل ف‪ ،‬والالم تك ون‬
‫للحصر‪ ،‬وهذا يقتضي أن ال يك ون الطالق الش رعي على غ ير ه ذا الوج ه‪ ،‬وي دل‬
‫ان﴾(البق رة‪ ،)229:‬ثم‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫ك بِ َم ْعر ٍ‬ ‫على ذلك أنه قال بعد ذلك ﴿ فَإ ْم َسا ٌ‬
‫أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكمها حكم الطلقتين فقال تع الى‪ ﴿:‬فَ إِ ْن‬
‫طَلَّقَهَا فَاَل ت َِحلُّ لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح َزوْ جًا َغي َْرهُ ﴾(البقرة‪)230:‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الزعم بأن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تك رار الفع ل‬
‫كما يدل على ذلك قوله تع الى‪ :‬نُ ْؤتِهَ ا أَجْ َرهَ ا َم َّرتَي ِْن ﴾(األح زاب‪)31:‬ال يص ح ألن‬
‫المعنى‪ :‬مرة بعد مرة في الجنة وعلى هذا لم يخ رج اللف ظ عن باب ه األع دل ب ه عن‬
‫حقيقته‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول هللا ‪ ‬عن رجل طلق امرأت ه ثالث‬
‫تطليقات جميعا‪ ،‬فغضب‪ ،‬ثم قال‪ :‬أيلعب بكتاب هللا وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أال أقتله(‪.)1‬‬
‫‪ 5‬ـ أن ه ق ول كث ير من الص حابة‪ ،‬ب ل لم يص ح في عص رهم خالف ق ولهم‪،‬‬
‫فيكون ذلك إجماعا‪ ،‬ومن اآلثار عن الصحابة‪ :‬قال علي‪ :‬ال يطلق أحد للس نة فين دم‪،‬‬
‫وفي رواية ق ال‪ :‬يطلقه ا واح دة‪ ،‬ثم ي دعها م ا بينه ا وبين أن تحيض ثالث حيض‪،‬‬
‫فمتى شاء راجعها‪ ،‬وعن مالك بن الحارث قال‪ :‬جاء رجل إلى ابن عب اس فق ال‪ :‬إن‬
‫عمي طلق امرأته ثالثا‪ ،‬فقال‪ :‬إن عمك عصى هللا وأطاع الشيطان‪ ،‬فلم يجعل هللا له‬
‫مخرجا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة بن اء على م ا س بق من أدل ة‪ ،‬وبن اء على م ا‬
‫تقتضيه المقاصد الشرعية اعتبار الطالق الثالث بدعيا من الجهات التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه استهزاء بآيات هللا تعالى‪ ،‬ألن هللا جعل الطالق ثالثا من باب الفس حة‬
‫والتيسير‪ ،‬فجاء هذا المطلق ليرد هذا التيسير ب أقبح رد وأوقح ه‪ ،‬وكأن ه يق ول لرب ه‬

‫‪ )( 1‬قال ابن حجر‪ :‬أخرجه النسائي ورجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد في عهد الن بي ‪ ‬ولم يثبت ل ه من ه‬
‫سماع وأن ذكره بعضهم في الصحابة فألجل الرؤية‪ ،‬وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدة أح اديث ليس فيه ا‬
‫شيء صرح فيه بالسماع‪ ،‬فتح الباري‪.9/362 :‬‬

‫‪291‬‬
‫تعالى إن كنت شرعت هذا التشريع‪ ،‬فأنا أناقضه بجمعها جميعا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن فيه ضررا بالغا لل زوجين‪ ،‬والش رع ج اء لتح ريم الض رر‪ ،‬فق د ين دم‬
‫الزوج‪ ،‬وقد يزول الخالف‪ ،‬فيحب مراجعتها‪ ،‬ثم ال يجد السبيل لذلك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ما أنشأ مثل ه ذا الن وع من الطالق في المجتمع ات اإلس المية من ش رخ‬
‫وانحرافات حيث أصبح الرجل ال يكتفي بطالق واح د‪ ،‬وذل ك م ا ي دعو إلى التش دد‬
‫في بيان تحريمه واإلثم المعلق عليه‪.‬‬
‫وغير ذلك من األدلة والتي سنذكرها عند بيان أثر هذا النوع من الطالق‪.‬‬
‫أثره‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في أثر جمع الطالق الثالث في مجلس واح د أو بكلم ة واح دة‬
‫على أربعة أقوال‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬لزومه بناء على عدم بدعيته‪ ،‬وهو مذهب الش افعي وأبي ث ور‪،‬‬
‫والظاهري ة‪ ،‬ورواي ة عن أحم د‪ ،‬وروي عن الحس ن بن علي‪ ،‬وعب د ال رحمن بن‬
‫عوف‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وقد استدلوا على ذلك بعدم بدعيته‪ ،‬وهو ما ذكرنا أدلته سابقا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه طالق محرم الزم وهو قول مالك‪ ،‬وأبي حنيف ة‪ ،‬وأحم د في‬
‫الرواية المتأخرة عنه‪ ،‬وهو منقول عن كثير من الس لف‪ ،‬من الص حابة‪ ،‬والت ابعين‪،‬‬
‫وقد روي ذلك عن عمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وه و ق ول‬
‫مال ك‪ ،‬وأبي حنيف ة‪ ،‬وق د اس تدلوا على ذلك بأدل ة كث يرة‪ ،‬وك ان الخالف بينهم وبين‬
‫أص حاب الق ول الث الث ش ديدا‪ ،‬فل ذلك اقتص رت أك ثر أدلتهم على ال رد على‬
‫أصحابه(‪:)1‬‬
‫ُوف أَوْ ت َْس ِري ٌح بِإِحْ َس ا ٍن﴾‬ ‫ان فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ك بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ق َم َّرتَ ِ‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫(البقرة‪ )229 :‬اآلية‪ ،‬يدل على وقوع الثالث معا مع كونه منهيا عنه ا‪،‬ق د أب ان عن‬
‫حكمه إذا أوقع اثنتين بأن يقول) أنت طالق أنت ط الق (في طه ر واح د ؛ ف إذا ك ان‬
‫في مضمون اآلية الحكم بجواز وقوع االثنتين على هذا الوجه‪ ،‬دل ذلك على ص حة‬
‫وقوعهما لو أوقعهما معا ؛ لعدم وجود من يفرق بينهما‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع د َحتى تَن ِك َح زوْ ًج ا غ ْي َرهُ ﴾‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫(البقرة‪ )230:‬فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد االثنتين‪ ،‬ولم يفرق بين إيقاعهم ا في‬
‫طه ر واح د أو في أطه ار‪ ،‬ف وجب الحكم بإيق اع الجمي ع على أي وج ه أوقع ه من‬
‫مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ال تن اقض بين اعتب ار الطالق الثالث طالق ا ب دعيا م ع ع دم اعتب ار‬
‫أث ره‪ ،‬ق ال الجص اص‪( :‬ق د دلت اآلي ة على ه ذه المع اني كله ا من إيق اع االثن تين‬
‫والثالث لغير السنة‪ ،‬وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في األطهار‪ ،‬وليس يمتن ع‬
‫أن يكون مراد اآلية جميع ذلك ؛ أال ترى أنه ل و ق ال طلق وا ثالث ا في األطه ار وإن‬
‫طلقتم جميعا معا وقعن‪ ،‬كان جائزا؟ فإذا لم يتناف المعني ان واحتملتهم ا اآلي ة وجب‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪ ،3/130 :‬فتح الباري‪ ،9/362 :‬التمهيد‪ ،13/227 :‬سبل السالم‪ ،3/172 :‬ني ل األوط ار‪:‬‬
‫‪ ،7/11‬شرح معاني اآلثار‪.3/55:‬‬

‫‪292‬‬
‫حملها عليهما)‪ ،‬فالمندوب إليه المأمور به هو الطالق للع دة‪ ،‬وإن طل ق لغ ير الع دة‬
‫ق َم َّرتَ ِ‬
‫ان‬ ‫وجمع الثالث وقعن لما اقتضته اآلية األخرى‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ان﴾ (البقرة‪ )229 :‬وقوله تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل‬ ‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬ ‫ك بِ َم ْعر ٍ‬ ‫فَإ ْم َسا ٌ‬
‫تَ ِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح زَ وْ ًج ا َغ ْي َرهُ ﴾(البق رة‪ ،)230:‬إذ ليس في قول ه‬
‫﴿ فطلقوهن ﴾ نفي لما اقتضته هذه اآلية األخرى‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ 4‬ـ أن في فحوى اآلية التي فيها ذكر الطالق للعدة‪ ،‬وهي قوله تعالى‪ ﴿:‬يَاأيُّهَا‬
‫النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن﴾(الطالق‪ )1:‬دالل ة على وقوعه ا‪ ،‬إذا طل ق‬
‫لغير العدة‪ ،‬لقوله تع الى بع دها‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَتَ َع َّد ُح دُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َس هُ ﴾(الطالق‪)1:‬‬
‫فلوال أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه وال ك ان ظالم ا لنفس ه‬
‫بطالقه‪ ،‬وفي هذه اآلية داللة على وقوعها إذا طلق لغير العدة‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنه ال يل زم من ه إال طلق ة واح دة‪ ،‬وه و منق ول عن طائف ة من‬
‫السلف والخلف كالزبير بن العوام‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬ويروى عن علي وابن‬
‫مسعود وابن عباس؛ وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم ؛ مثل ط اوس وخالس‬
‫بن عمرو ؛ ومحمد بن إسحاق؛ ويروى عن أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد‪ ،‬ولهذا‬
‫ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة‪ ،‬وهو قول عن د اإلباض ية(‪ ،)1‬وه و ق ول بعض‬
‫أتباع المذاهب األربعة‪.‬‬
‫وقد كان هذا القول مغمورا‪ ،‬والقائل به شاذا حتى قال ابن القيم‪( :‬لق د ط وفت‬
‫في اآلفاق‪ ،‬ولقيت من علماء اإلسالم وأرباب المذاهب كل صادق فم ا س معت له ذه‬
‫المقالة بخبر وال أحسست لها بأثر إال الشيعة الذين ي رون نك اح المتع ة ج ائزا‪ ،‬وال‬
‫يرون الطالق واقعا)(‪)2‬‬
‫بل كان ه ذا الق ول في كتب الفقه اء ينس ب للمبتدع ة‪ ،‬ق ال الب اجي‪( :‬إذا ثبت‬
‫ذلك‪ ،‬فمن أوقع الطالق الثالث بلفظ ة واح دة لزم ه م ا أوقع ه من الثالث‪ ،‬وب ه ق ال‬
‫جماعة الفقه اء‪ ،‬وحكى القاض ي أب و محم د في إش رافه عن بعض المبتدع ة يلزم ه‬
‫طلقة واحدة‪ ،‬وعن بعض أهل الظاهر ال يلزمه شيء) (‪)3‬‬
‫ومن األدل ة على ذل ك م ا س بق ذك ره من االس تدالل على بدعي ة الطالق‬
‫الثالث‪ ،‬وزيادة على ذلك ما يدل على اقتصار البدعية على اإلثم دون أن يك ون له ا‬
‫أثر عملي‪ ،‬ومن هذه األدلة‪:‬‬
‫ق َم َّرتَ ا ِن ﴾(البق رة‪)229 :‬وه و ي دل على تفري ق‬ ‫َّ‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿:‬الطال ُ‬
‫َ‬
‫الطالق‪ ،‬وتدل عليه النصوص الكث يرة واألحك ام الش رعية‪ ،‬كقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَاأيُّهَ ا‬
‫ت﴾‬ ‫ث َم رَّا ٍ‬ ‫ت أَ ْي َمانُ ُك ْم َوالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْبلُ ُغوا ْال ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَاَل َ‬‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِيَ ْستَأْ ِذ ْن ُك ْم الَّ ِذينَ َملَ َك ْ‬
‫(النور‪ ،)58:‬فلو قال الرجل ثالث مرات هكذا كانت مرة واحدة ح تى يس تأذن م رة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬شرح النيل‪.6/438:‬‬


‫‪ )(2‬حاشية ابن القيم‪.6/201:‬‬
‫‪ )(3‬المنتقى‪.4/3:‬‬

‫‪293‬‬
‫بعد مرة‪ ،‬ولو قال المالعن‪( :‬أشهد باهلل أربع شهادات إني لمن الصادقين (ك ان م رة‬
‫واحدة‪ ،‬ولو حلف في القسامة وقال‪( :‬أقسم باهلل خمسين يمينا أن هذا قاتله (كان ذل ك‬
‫يمين ا واح دة‪ ،‬ول و ق ال المق ر بالزنا‪( :‬أن ا أق ر أرب ع م رات أني زنيت (ك ان م رة‬
‫واحدة ؛ فمن يعتبر األربع ال يجعل ذلك إال إقرارا واحدا‪.‬‬
‫ومثله ما ورد من األحاديث كقوله ‪( :‬من قال في يومه سبحان هللا وبحم ده‬
‫مائة مرة حطت عنه خطاياه ول و ك انت مث ل زب د البح ر (‪)1‬فل و ق ال‪( :‬س بحان هللا‬
‫وبحمده مائة مرة (لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة‪ ،‬وكذلك كل ما‬
‫ورد من هذا الباب‪ ،‬قال ابن القيم‪( :‬فه ذا المعق ول من اللغ ة والع رف في األح اديث‬
‫الم ذكورة‪ ،‬وه ذه النص وص الم ذكورة وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ق َم َّرتَ ِ‬
‫ان﴾(البق رة‪:‬‬
‫‪)229‬كلها من باب واح د ومش كاة واح دة‪ ،‬واألح اديث الم ذكورة تفس ر الم راد من‬
‫ق َم َّرتَا ِن﴾(البقرة‪)229 :‬كما أن حديث اللعان تفسير لقوله لقوله تعالى‪:‬‬ ‫قوله‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫﴿ فَ َشهَا َدةُ أَ َح ِد ِه ْم أَرْ بَ ُع َش هَادَا ٍ‬
‫ت بِاهَّلل ِ إِنَّهُ لَ ِم ْن َّ‬
‫الص ا ِدقِينَ ﴾(الن ور‪ )6:‬فه ذا كت اب هللا‪،‬‬
‫وهذه سنة رسول هللا ‪ ،‬وهذه لغة العرب‪ ،‬وهذا عرف التخاطب(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ ضعف ما استدل به المخالفون من نصوص‪ ،‬قال ابن تيمية‪( :‬ك ل ح ديث‬
‫فيه أن النبي ‪ ‬ألزم الثالث بيمين أوقعها جملة‪ ،‬أو أن أحدا في زمنه أوقعه ا جمل ة‬
‫فألزمه بذلك‪ ،‬مثل حديث يروى عن علي‪ ،‬وآخر عن عبادة بن الصامت‪ ،‬وآخ ر عن‬
‫الحسن عن ابن عمر‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالح ديث‪،‬‬
‫بل هي موضوعة‪ ،‬ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة(‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الم روي عن ابن عب اس في ح ديث ركان ة من وجهين‪ ،‬وه و رواي ة‬
‫عكرمة عن ابن عب اس من وجهين عن عكرم ة‪ ،‬وه و أثبت من رواي ة عب د هللا بن‬
‫علي بن يزيد بن ركانة ون افع بن عجين أن ه طلقه ا ألبت ة‪ ،‬وإن الن بي ‪ ‬اس تحلفه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما أردت إال واحدة؟ فإن ه ؤالء مجاهي ل ال تع رف أح والهم‪ ،‬وليس وا فقه اء‪،‬‬
‫وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنب ل وأب و عبي د‪ ،‬وابن ح زم‪ ،‬وغ يرهم‪ ،‬ق ال األث رم‪:‬‬
‫قلت ألحمد‪ :‬حديث ركانة في البتة‪ ،‬فضعفه(‪.)4‬‬
‫‪ 4‬ـ اإلجماع الق ديم على ه ذا الق ول‪ ،‬ولم ي أت بع ده إجم اع يبطل ه‪ ،‬فعن أبي‬
‫الصهباء قال البن عباس‪ :‬أتعلم أن الثالث كانت تجعل واح دة على عه د رس ول هللا‬
‫‪ ‬وأبي بكر وثالثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس‪ :‬نعم‪ ،‬قال ابن القيم‪( :‬هذا خليفة‬
‫رسول هللا ‪ ‬والصحابة كلهم معه في عصره وثالث س نين من عص ر عم ر على‬
‫هذا المذهب ؛ فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوج د أنهم ك انوا ي رون الثالث‬
‫واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها‪ ،‬ول و ف رض فيهم من لم يكن ي رى ذل ك فإن ه لم‬

‫‪ )(1‬مسلم‪ ،4/2071 :‬أحمد‪ ،2/302 :‬شعب اإليمان‪.1/422 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.3/33:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.3/253:‬‬
‫‪ )(4‬إعالم الموقعين‪.3/33:‬‬

‫‪294‬‬
‫يكن منكرا للفتوى به‪ ،‬بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتي ا وس اكت غ ير منك ر‪ .‬وه ذا‬
‫حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثالث س نين من خالف ة عم ر‪ ،‬وهم يزي دون‬
‫على األلف قطعا)‬
‫‪ 5‬ـ استمرار الخالف في المسألة‪ ،‬فلم يجمع أبدا على خالف هذا الق ول‪ ،‬وق د‬
‫ذكر ابن القيم العصور المختلفة للفقه اإلسالمي‪ ،‬ومن كان يفتي بهذا الق ول وس نده‪،‬‬
‫وهذا ملخص ما ذكر هنا‪ ،‬قال ابن القيم‪( :‬ولم تجم ع األم ة وهلل الحم د على خالف ه‪،‬‬
‫بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد ق رن‪ ،‬وإلى يومن ا ه ذا‪ ،‬ف أفتى ب ه ح بر األم ة‬
‫وترجمان القرآن عبد هللا بن عباس‪ ،‬وأفتى أيضا بالثالث‪ ،‬أف تى به ذا وه ذا‪ ،‬وأف تى‬
‫بأنها واحدة الزبير بن الع وام وعب د ال رحمن بن ع وف‪ ،‬وعن علي ك رم هللا وجه ه‬
‫وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس‪ ،‬وأما التابعون فأفتى به عكرمة‪ ،‬وأفتى به‬
‫طاوس‪ ،‬وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن إس حاق وأف تى ب ه خالس بن عم رو‬
‫والحارث العكلي‪ ،‬وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أص حابه‪،‬‬
‫وأفتى به بعض أصحاب مالك‪ ،‬وأفتى به بعض الحنفي ة‪ ،‬وأف تى ب ه بعض أص حاب‬
‫أحمد‪ ،‬حكاه شيخ اإلسالم ابن تيمية عنه‪ ،‬قال‪ :‬وكان الجد يفتي به أحيانا)(‪)1‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ك ل طالق ش رعه هللا في الق رآن في الم دخول به ا إنم ا ه و الطالق‬
‫ال رجعي؛ لم يش رع هللا ألح د أن يطل ق الثالث جميع ا‪ ،‬ولم يش رع ل ه أن يطل ق‬
‫المدخول بها طالقا بائنا‪ ،‬ولكن إذا طلقها قبل ال دخول به ا ب انت من ه‪ ،‬ف إذا انقض ت‬
‫عدتها بانت منه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن الشرع وضع للطالق ضوابط ال يجوز تجاوزها‪ ،‬فأج از الطالق على‬
‫وصف ولم يجزه على غيره‪ ،‬فال يجوز تعدي ما وضع الشرع من ذل ك‪ ،‬ومثال ه م ا‬
‫لو أمر رجل رجال أن يطلق امرأته في وقت على صفة‪ ،‬فطلقها في غيره‪ ،‬أو أم ره‬
‫أن يطلقها على شريطة‪ ،‬فطلقها على غير تلك الشريطة‪ ،‬أن ذلك ال يقع‪ ،‬إذ ك ان ق د‬
‫خالف ما أمر به‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬هو محرم‪ ،‬وال يلزمه شيء‪ ،‬وه و ق ول اإلمامي ة‪ ،‬ق ال المحق ق‬
‫الحلي‪( :‬أقسام الطالق ولفظه يقع على البدعة والسنة‪ ،‬فالبدعة‪ :‬طالق الحائض بع د‬
‫الدخول‪ ،‬مع حضور الزوج معها ومع غيبته‪ ،‬دون المدة المشترطة‪ .‬وك ذا النفس اء‪،‬‬
‫أو في طهر قربها فيه‪ ،‬وطالق الثالث من غير رجع ة بينه ا والك ل عن دنا باط ل ال‬
‫يقع معه طالق(‪)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الروايات الثابتة عن اإلمام علي وغيره من أئمة أهل البيت في عدم إيقاع‬
‫الطالق الثالث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الزوج مأمور شرعا بإيقاع الطالق للسنة‪ ،‬والمأمور من جه ة ال زوج‬
‫بإيقاع الطالق للسنة وهو الوكيل إذا أوقع لغير السنة ال يقع‪ ،‬فكذلك الم أمور ش رعا‬
‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.3/33:‬‬
‫‪ )(2‬شرائع اإلسالم‪.3/13:‬‬

‫‪295‬‬
‫بل أولى ألن أمر الشرع ألزم وألن نفوذ تصرفه ب اإلذن ش رعا والمنهي عن ه غ ير‬
‫مأذون فيه فال يكون نافذا كطالق الصبي والمعتوه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة‪ ،‬واألوفق بمقاصد الش ريعة‪ ،‬ه و الق ول الث الث‪،‬‬
‫وهو قول اإلمامية‪ ،‬وربما يتح رج البعض من أن يك ون الق ول بع دم وق وع الطالق‬
‫الثالث لم يرو إال عن اإلمامية‪ ،‬فلذلك نقول بأنه الزم قول الظاهري ة‪ ،‬ألنهم يقول ون‬
‫بعدم اعتبار الطالق البدعي‪ ،‬ولم يمنعهم من الق ول بع دم وق وع ه ذا الطالق إال م ا‬
‫رأوه من عدم بدعيته‪ ،‬بل هو الزم قول ابن تيمي ة وابن القيم وغيرهم ا في موقفهم ا‬
‫من الطالق البدعي‪ ،‬كما رأينا ذلك في حكم طالق الحائض‪.‬‬
‫ولن يشق علينا هنا ذكر األدلة لذلك ألن نفس أدلة عدم وقوع الطالق الب دعي‬
‫التي ذكرناها سابقا تنطبق على هذا‪.‬‬
‫النوع الرابع‪ :‬الطالق المقيد باالستثناء‬
‫وهو(‪ )1‬اإلخراج ب إال أو بإح دى أخواته ا‪ ،‬بعض ا مم ا يوجب ه عم وم س ابق‪،‬‬
‫تحقيقا أو تقديرا‪ ،‬واألول هو المتصل‪ ،‬والثاني هو المنقطع‪ ،‬واألول ه و الم راد هن ا‬
‫دون الثاني لدى الفقهاء‪ ،‬ويضاف إلى األول االستثناء الشرعي‪ ،‬وه و التعلي ق على‬
‫مشيئة هللا تعالى‪ ،‬أخذا من قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْذ أَ ْق َس ُموا لَيَ ْ‬
‫ص ِر ُمنَّهَا ُم ْ‬
‫ص بِ ِحينَ (‪َ )17‬واَل‬
‫يَ ْست َْثنُونَ ﴾(القلم‪)17،18 :‬وقد سبق الكالم عنه‪.‬‬
‫ومن صور االستثناء التي ذكرها الفقهاء‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ استثناء عدد‪:‬‬
‫اتفق جمهور الفقهاء القائلين بوق وع الطالق الثالث في كلم ة واح دة على أن‬
‫االستثناء اللغوي ب إال وأخواته ا م ؤثر ومل غ للطالق بحس به إذا اس توفى ش روطه‪،‬‬
‫وعلى ذلك لو قال لزوجته‪ :‬أنت طالق ثالثا إال واحدة‪ ،‬طلقت اثنتين فقط‪ ،‬ول و ق ال‪:‬‬
‫أنت طالق ثالثا إال اثنتين طلقت واحدة فقط(‪.)2‬‬
‫واختلفوا فيما لو قال‪ :‬أنت طالق ثالثا إال طلقة وطلقة وطلقة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يلغو االستثناء‪ ،‬ويق ع ثالث ؛ وه و وج ه عن د الش افعية‪ ،‬وق ول‬
‫أبي حنيفة‪ ،‬ووجه للحنابلة‪ ،‬ألن العطف ي وجب اش تراك المعط وف م ع المعط وف‬
‫عليه‪ ،‬فيصير مستثنيا لثالث من ثالث‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يصح االستثناء في طلقة ؛ وه و وج ه للحنابل ة‪ ،‬ألن االس تثناء‬
‫األقل جائز‪ ،‬وإنما ال يصح استثناء الثانية والثالثة‪ ،‬فيلغو وحده‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يصح استثناء اثنتين‪ ،‬ويلغو في الثالث ة‪ ،‬وه و ق ول أبي يوس ف‬
‫ومحمد وهو وهو وجه عند الشافعية ؛ بناء على أن استثناء األكثر جائز‪.‬‬

‫‪ )(1‬المدون ة‪ ،2/80 :‬األم‪ ،5/201 :‬الجص اص‪ ،3/315 :‬المنتقى‪ ،4/2 :‬المبس وط‪ ،9/26 ،6/91 :‬المغ ني‪:‬‬
‫‪.7/321‬‬
‫‪ )(2‬وقد اختلف وا في اس تثناء األك ثر‪ ،‬فنص أحم د على أن ه ل و ق ال‪ :‬أنت ط الق ثالث ا إال اثن تين‪ .‬وق ع ثالث‪،‬‬
‫واألكثرون على أن ذلك جائز‪ ،‬وفي اللغة العربية يجوز في القليل من الكثير‪ ،‬انظر‪ :‬المغني‪.7/322 :‬‬

‫‪296‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و م ا ذكرن ا س ابقا من ع دم اعتب ار الطالق‬
‫الثالث في مجلس واحد أو كلمة واح دة‪ ،‬وذل ك ال ترجيح يس تدعي ط رح مث ل ه ذه‬
‫المس ألة‪ ،‬ألن ك ل م ا تلف ظ ب ه من طالق ي ؤول إلى طلق ة واح دة‪ ،‬ولكن عن د ع دم‬
‫اعتب ار الطالق الثالث‪ ،‬ف إن األرجح في الخالف في ه ذه المس ائل ه و اعتب ار ني ة‬
‫صاحبها دون التفريعات النحوية الكثيرة ال تي ذكره ا الفقه اء للمس ألة‪ ،‬ألن أكثره ا‬
‫مما يجهله العامة‪.‬‬
‫فلذلك لو نوى ثالثا ثم استدرك في حينه وألغى اثنتين صح ذلك من ه‪ ،‬ب ل ه و‬
‫األفض ل واألولى‪ ،‬ألن ه ت رك الطالق الب دعي إلى الطالق الس ني‪ ،‬كم ا ل و أراد أن‬
‫يحلف بغير هللا‪ ،‬ثم استدرك وحل ف باهلل‪ ،‬وهك ذا يق ال في ك ل المس ائل ال تي ي ؤول‬
‫الطالق فيها إلى واحدة‪.‬‬
‫أما التلفظ باالس تثناء الملغي للطالق‪ ،‬ك أن يق ول‪ :‬أنت ط الق ثالث ا إال ثالث ا‪،‬‬
‫فإنه نوع من االستهزاء أو الهزل أو اس تعمال لف ظ الطالق في غ ير م راده‪ ،‬فل ذلك‬
‫نرى أن يعتبر التلفظ بهذا طلقة واحدة بدل اعتباره طالقا ثالثا‪ ،‬ألنه قصد االس تثناء‬
‫فأخطأه‪ ،‬فيعامل بأدنى عدد للطالق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ استثناء مشيئة هللا‪:‬‬
‫وه و أن يس تثني في ص يغة الطالق مش يئة هللا تع الى س واء ك ان على جه ة‬
‫الشرط مثل أن يقول أنت ط الق إن ش اء هللا‪ ،‬أو على جه ة االس تثناء مث ل أن يق ول‬
‫أنت ط الق إال أن يش اء هللا(‪ ،)1‬وق د اختل ف الفقه اء في وق وع الطالق ب ذلك على‬
‫قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال ي ؤثر ه ذا في الطالق ش يئا وه و واق ع وال ب د‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ عن أبي سعيد الخدري وابن عمر ق ال‪ :‬كن ا معاش ر أص حاب رس ول هللا‬
‫‪ ‬ن رى االس تثناء ج ائزا في ك ل ش يء إال في الطالق والعت اق‪ ،‬وروي عن ابن‬
‫عباس قال‪ :‬إذا قال الرجل المرأته‪ :‬أنت طالق إن شاء هللا فهي طالق‪ ،‬وك ذلك روي‬
‫عن أبي بردة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه استثناء يرفع جملة الطالق فلم يصح‪ ،‬كقوله أنت طالق ثالثا إال ثالثا‪،‬‬
‫وألنه إنشاء حكم في محل‪ ،‬فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة هللا تعالى كما ل و ق ال‪ :‬أبرأت ك‬
‫إن شاء هللا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه تعليق على ما ال سبيل إلى العلم به‪ ،‬فلم يمن ع وق وع الطالق‪ ،‬كم ا ل و‬
‫قال‪ :‬أنت طالق إن شاءت السموات واألرض‪.‬‬

‫‪ )(1‬والختالف الصيغة تبحث المسألة في الطالق المعلق‪ ،‬وتبحث في االستثناء في الطالق‪.‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/62 :‬‬

‫‪297‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬إذا اس تثنى المطل ق مش يئة هللا لم يق ع الطالق‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن قوله‪ :‬إن شاء هللا ال يريد به إن شاء هللا طالقها ماضيا قطع ا‪ ،‬ب ل إم ا‬
‫أن يريد به هذا الطالق الذي تلفظ به أو طالقا مستقبال غيره‪ ،‬فال يص ح أن ي راد ب ه‬
‫هذا الملفوظ ؛ فإن ه ال يص ح تعليق ه بالش رط ؛ إذ الش رط إنم ا ي ؤثر في االس تقبال‪،‬‬
‫فحقيقة هذا التعليق أنت طالق إن شاء هللا طالقك في المس تقبل‪ ،‬ول و ص رح به ذا لم‬
‫تطلق حتى ينشأ لها طالقا آخر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه علقه بمشيئة من له مش يئة ص حيحة معت برة‪ ،‬فه و أولى بالص حة من‬
‫تعليقه بمشيئة آحاد الناس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لو علقه بمشيئة رسول هللا ‪ ‬في حياته لم يقع في الحال‪ ،‬ومعل وم أن‬
‫ما شاءه هللا فقد شاءه رسوله ‪ ‬؛ فل و ك ان التعلي ق بمش يئة هللا موجب ا للوق وع في‬
‫الحال لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن مشيئة اللفظ ال تك ون مش يئة للحكم ح تى يك ون اللف ظ ص الحا للحكم‪،‬‬
‫ولهذا لو تلفظ المكره أو زائ ل العق ل أو الص بي أو المجن ون ب الطالق فق د ش اء هللا‬
‫منهم وق وع ه ذا اللف ظ‪ ،‬ولم يش أ وق وع الحكم‪ ،‬فإن ه لم ي رتب على ألف اظ ه ؤالء‬
‫أحكامها ؛ لعدم إرادتهم ألحكامها‪ ،‬فهكذا المعل ق طالق ه بمش يئة هللا يري د أن ال يق ع‬
‫طالقه‪ ،‬وإن كان هللا قد شاء له التلفظ بالطالق‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و توقفه ا على مقص د قائله ا كم ا ذكرن ا في‬
‫المسائل السابقة‪ ،‬هل هو التحقيق أم التعليق‪ ،‬ألن العبرة بمقصد المطلق ورغبت ه في‬
‫التطليق وعدمها‪ ،‬قال ابن القيم بعد إفاض ته في ذك ر مس ائل الف ريقين (التحقي ق في‬
‫المسألة أن المستثني إما أن يقصد بقوله‪ :‬إن شاء هللا التحقيق أو التعليق ؛ ف إن قص د‬
‫به التحقيق والتأكيد وقع الطالق‪ ،‬وإن قصد ب ه التعلي ق وع دم الوق وع في الح ال لم‬
‫تطلق‪ ،‬هذا هو الصواب في المسألة‪ ،‬وهو اختيار شيخنا وغيره من األصحاب) (‪)1‬‬
‫وبناء على أن العادة الجاري ة في اس تعمال ه ذه اللفظ ة ليس التحقي ق‪ ،‬وإنم ا‬
‫تجري على سبيل الوعد والوعيد دون الج زم‪ ،‬ف إن األرجح ه و م ا ذك ره أص حاب‬
‫القول الثاني‪ ،‬وقد استدل ابن حزم لعدم وقوع الطالق من القرآن استدالال جيدا‪ ،‬فق د‬
‫استدل بقول هللا تعالى‪َ ﴿:‬واَل تَقُولَ َّن لِ َش ْي ٍء إِنِّي فَا ِع ٌل َذلِ كَ َغ دًا(‪)23‬إِاَّل أَ ْن يَ َش ا َء هَّللا ُ ﴾‬
‫تعالى‪﴿:‬و َما ت ََش اءُونَ إِاَّل أَ ْن يَ َش ا َء هَّللا ُ ﴾(التك وير‪ )30:‬ق ال‬ ‫َ‬ ‫(الكهف‪ ،)23،24:‬وقوله‬
‫ابن ح زم‪( :‬ونحن نعلم أن هللا تع الى ل و أراد إمض اء ه ذا الطالق ليس ره إلخراج ه‬
‫بغير استثناء‪ ،‬فصح أنه تعالىلم يرد وقوعه إذ يسره لتعليقه بمشيئته تعالى) (‪)2‬‬
‫وبذلك يمكن اعتبار االستثناء بالمش يئة مخرج ا من المخ ارج ال تي يلغي به ا‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/77 :‬‬


‫‪ )(2‬المحلى‪.9/485:‬‬

‫‪298‬‬
‫من تلفظ بالتطليق آثار م ا تلف ظ ب ه‪ ،‬وخاص ة على م ا نص علي ه الحنفي ة من ع دم‬
‫اشتراط النية‪ ،‬فلو قال لها‪ :‬أنت طالق إن شاء هللا وال يدري أي شيء شاء هللا ال يقع‬
‫الطالق ؛ ألن الطالق مع االستثناء ليس بإيقاع‪ ،‬فعلمه وجهله يكون سواء‪ ،‬ولو ق ال‬
‫لها‪ :‬أنت طالق فج رى على لس انه من غ ير قص د إن ش اء هللا‪ ،‬وك ان قص ده إيق اع‬
‫الطالق ال يقع الطالق ؛ ألن االستثناء قد وجد حقيقة‪ ،‬والكالم مع االستثناء ال يكون‬
‫إيقاعا‪.‬‬
‫وهو مخرج من المخارج ق د يف تى ب ه للحاج ة‪ ،‬ول و أن األص ل ه و اعتب ار‬
‫القصد والنية‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ استثناء مطلقة‬
‫وقد مر ذكر المسألة بصورها والخالف الواقع فيها في الفص ل الخ اص بمن‬
‫يقع عليها الطالق‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫حل عصمة الزوجية المعلق على الكفارة‬
‫نتناول في هذا الفصل النوع الذي ربطه الشرع بناحية تعبدية‪ ،‬هي الكف ارة‪،‬‬
‫فهو يختلف عن الطالق الذي جعله هللا تعالى بيد الرجل من غير مشاركة غيره فيه‪،‬‬
‫ويختلف عن الخلع الذي جعل للمرأة‪ ،‬ويختلف كذلك عن أنواع التفريق التي أنيطت‬
‫بولي األمر‪ ،‬فهو أقرب إلى المسائل التعبدية منه إلى مسائل التفريق بين الزوجين‪.‬‬
‫وإنما دعانا لتخصيص فصل خ اص به ذا وع دم إدراج ه في أن واع التفري ق‬
‫األخرى‪ ،‬حرصنا على بيان عدم تشابه هذا الن وع م ع س ائر األن واع في حقيقت ه أو‬
‫أحكامه‪ ،‬ألن بعض الفقهاء خلطوا أحكام هذا النوع بسائر األحكام مما نشر االعتقاد‬
‫من أن هذا النوع طالق كسائر الطالق‪.‬‬
‫وس نتناول في ه ذا الفص ل بن اء على ه ذا مبح ثين‪ :‬مبحث ا خاص ا بالظه ار‪،‬‬
‫ومبحثا خاصا باإليالء‪.‬‬
‫أوال ـ الظهار‬
‫ع رف الفقه اء الظه ار تع اريف مختلف ة ت دخلت في عمومه ا اآلراء الفقهي ة‬
‫المختلفة‪ ،‬ومن هذه التعاريف‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هو وصف المظ اهر من يح ل ل ه وطؤه ا من زوج ة أو أم ة بأنه ا علي ه‬
‫كظهر أمه(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ تشبيه المنكوحة بالمحرمة على س بيل التأبي د اتفاق ا بنس ب أو رض اع أو‬
‫مصاهرة(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ هو أن يشبه امرأته أو عضوا من أعضائها يعبر به عن جميعها أو جزءا‬
‫شائعا منها بمن تحرم عليه على التأبيد(‪.)3‬‬
‫‪ 4‬ـ هو تشبيه زوج زوجه أو ذي أمة حل وطؤه إياه ا بمح رم من ه أو بظه ر‬
‫أجنبية في تمتعه بهما والجزء كالكل والمعلق كالحاصل(‪.)4‬‬
‫ومن أهم م ا ينبغي أن يعلم في الظه ار قب ل البحث في مس ائله‪ ،‬التحق ق من‬
‫المراد الشرعي من ه‪ ،‬وال يمكن معرف ة ذل ك في الح دود والتع اريف ال تي وض عها‬
‫الفقهاء‪ ،‬والتي ذكرنا بعض نماذجها‪ ،‬لتغلب الف روع المذهبي ة عليه ا‪ ،‬فل ذلك نحت اج‬
‫إلى الرج وع لمص در ه ذه المعرف ة وأساس ها وه و الق رآن الك ريم والس نة النبوي ة‬
‫‪ )(1‬المنتقى‪.4/38:‬‬
‫‪ )(2‬العناية‪.4/246:‬‬
‫‪ )(3‬الجوهرة النيرة‪.2/62:‬‬
‫‪ )(4‬شرح حدود ابن عرفة‪.205:‬‬

‫‪300‬‬
‫المطهرة‪ ،‬فالمعاني الشرعية ال تعرف إال منهما‪.‬‬
‫وأساس البحث في حقيقة الظهار هو عالقته بالطالق‪ ،‬فه ل الظه ار ن وع من‬
‫الطالق؟ أم أنه حقيقة مستقلة عنه استقالال تاما حتى لو ع بر عن ه بألف اظ يع بر به ا‬
‫عن الطالق‪.‬‬
‫وق د ذهبت كث ير من اآلراء الفقهي ة المختلف ة إلى التفري ق بين الظه ار وبين‬
‫الطالق من الزاوية النظرية‪ ،‬ولكن ه من الناحي ة العملي ة نج دهم في مواض ع كث يرة‬
‫يحكمون في الظهار بأحكام الطالق‪ ،‬فالسرخسي مثال يقول‪( :‬اعلم بأن الظه ار ك ان‬
‫طالقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونق ل حكم ه إلى تح ريم م ؤقت بالكف ارة من‬
‫غير أن يكون مزيال للملك(‪)1‬‬
‫لكنهم عند ذكر تعليق الظهار بالشروط مثال‪ ،‬وه و ق ول المظ اهر‪ :‬إن دخلت‬
‫ال دار‪ ،‬ف أنت علي كظه ر أمي‪ ،‬ف إنهم ينص ون على أن ه م تى دخلت ال دار‪ ،‬ص ار‬
‫مظاهرا‪ ،‬وإال فال‪ ،‬استدالال بأن أصل الظهار أنه كان طالقا‪ ،‬والطالق يصح تعليق ه‬
‫بالشرط‪ ،‬فكذلك الظهار‪.‬‬
‫ومثل ذلك الكث ير من الف روع ال تي س نراها في خالل ه ذا المبحث‪ ،‬ق ال ابن‬
‫تيمية يذكر هذا الخلط بين الطالق والظهار‪(:‬ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك‬
‫ببعض فيجع ل م ا ه و ظه ار طالق ا‪ ،‬فيك ثر ب ذلك وق وع الطالق ال ذى يبغض ه هللا‬
‫ورس وله ويحت اجون إم ا الى دوام المك روه وإم ا إلى زوال ه بم ا ه و أك ره الى هللا‬
‫ورسوله منه وهو نكاح التحليل(‪)2‬‬
‫ونرى كما ذكرنا سابقا أن للظهار حقيقة مستقلة‪ ،‬وأن عالقته بالطالق عالق ة‬
‫مفارقة تامة‪ ،‬وأنه أقرب إلى األحكام التعبدية منه إلى أحكام األس رة‪ ،‬فل ذلك س نرى‬
‫في الترجيحات خالف ما ذكرنا في الطالق من الميل إلى األق وال المش ددة مراع اة‬
‫لالحتياط‪ ،‬ودرءا الستعمال هذا اللفظ الذي جاء القرآن الكريم لتحريمه‪ ،‬ووض ع ل ه‬
‫كعالج مرحلي عقوبة الكفارة‪ ،‬فمن عاد وظاهر بأي لفظ من األلفاظ التي لها اش تباه‬
‫بالظهار وجبت عليه العقوبة لتخليصه من لوث الجاهلية‪.‬‬
‫فأحكام الظهار بهذا تتفق مع أحكام العبادات في كون الغرض منه تغلب عليه‬
‫التربي ة والتق ويم الس لوكي أك ثر مم ا تغلب علي ه أحك ام الطالق ال تي يقص د منه ا‬
‫التفري ق‪ ،‬فه و تق ويم ش رعي لس لوك ج اهلي منح رف‪ ،‬ومن الخط أ تغليب المع نى‬
‫الجاهلي للظهار على المعنى الشرعي‪ ،‬قال الشافعي‪( :‬س معت من أرض ى من أه ل‬
‫العلم بالقرآن يذكر أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثالثة‪ :‬الظهار واإليالء والطالق‪،‬‬
‫فأقر هللا تعالى الطالق طالقا‪ ،‬وحكم في اإليالء بأن أمهل الم والي أربع ة أش هر‪ ،‬ثم‬
‫جعل عليه أن يفيء أو يطل ق‪ ،‬وحكم في الظه ار بالكف ارة‪ ،‬ف إذا تظ اهر الرج ل من‬
‫امرأت ه يري د طالقه ا‪ ،‬أو يري د تحريمه ا بال طالق فال يق ع ب ه طالق بح ال‪ ،‬وه و‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/223 :‬‬
‫‪ )(2‬كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه‪.33/156 :‬‬

‫‪301‬‬
‫متظاهر‪ ،‬وكذلك إن تكلم بالظهار وال ينوي شيئا فهو متظاهر‪ ،‬ألنه متكلم بالظه ار)‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال سيد قطب وهو يرسم الصورة التي جاء الق رآن الك ريم لتع ديلها‪( :‬ك ان‬
‫الرجل في الجاهلية يقول المرأته‪:‬أنت علي كظهر أمي‪ .‬أي حرام محرمة كما تحرم‬
‫علي أمي‪ .‬ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلق ة‪ ،‬ال هي مطلق ة فت تزوج‬
‫غيره‪ ،‬وال هي زوجة فتحل له‪ .‬وكان في هذا من القس وة م ا في ه ؛ وك ان طرف ا من‬
‫سوء معاملة المرأة في الجاهلية واالستبداد بها‪ ،‬وسومها كل مشقة وعنت) (‪)2‬‬
‫فلما جاء اإلسالم رفع عن المرأة هذا الخسف الج اهلي ؛ (وك ان مم ا ش رعه‬
‫هذه القاعدة‪ :‬وما جعل أزواجكم الالئي تظاهرون منهن أمهاتكم‪ ،‬ف إن قول ة باللس ان‬
‫ال تغ ير الحقيق ة الواقع ة‪ ،‬وهي أن األم أم والزوج ة زوج ة ؛ وال تتح ول طبيع ة‬
‫العالق ة بكلم ة ! ومن ثم لم يع د الظه ار تحريم ا أب ديا كتح ريم األم كم ا ك ان في‬
‫الجاهلية‪ ،‬فجعل الظهار تحريما مؤقتا لل وطء ‪ -‬ال مؤب دا وال طالق ا ‪ -‬كفارت ه عت ق‬
‫رقبة‪ ،‬أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا‪ .‬وب ذلك تح ل الزوج ة م رة‬
‫أخرى‪ ،‬وتعود الحياة الزوجية لس ابق عه دها‪ .‬ويس تقر الحكم الث ابت المس تقيم على‬
‫الحقيقة الواقعة‪ :‬وما جعل أزواجكم الالئي تظاهرون منهن أمهاتكم‪ ..‬وتس لم األس رة‬
‫من التصدع بس بب تل ك الع ادة الجاهلي ة‪ ،‬ال تي ك انت تمث ل طرف ا من س وم الم رأة‬
‫الخسف والعنت‪ ،‬ومن اضطراب عالقات األسرة وتعقيدها وفوضاها‪ ،‬تحت نزوات‬
‫الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي)(‪)3‬‬
‫ولعل السبب الذي جعل بعض الفقهاء يجنحون في مسائل الظه ار إلى أحك ام‬
‫الطالق بجعلها أصال يق اس علي ه‪ ،‬ه و اعتب ارهم الظه ار نوع ا من أن واع اإلنش اء‬
‫كالطالق‪ ،‬فلذلك يحكمون له بأحك ام الطالق‪ ،‬ق ال الق رافي‪( :‬مم ا يت وهم أن ه إنش اء‬
‫وليس كذلك‪ ،‬وهو الظهار في قول القائل المرأته أنت علي كظهر أمي يعتقد الفقهاء‬
‫أنه إنشاء للظه ار كقول ه أنت ط الق إنش اء للطالق ف إن الب ابين في اإلنش اء س واء‪،‬‬
‫وليس كذلك(‪)4‬‬
‫وقد بحث القرافي الشبه ال تي ينطل ق منه ا من يس وي بين الظه ار والطالق‪،‬‬
‫وناقش ها مناقش ة طويل ة مهم ة‪ ،‬وس نلخص هن ا م ا ذك ره من ش به‪ ،‬وم ا أورده من‬
‫رودد‪ ،‬فمن الشبه التي ينطلق منها من يشبه الظهار بالطالق‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن كتب المح دثين والفقه اء متظ افرة على أن الظه ار ك ان طالق ا في‬
‫الجاهلية فجعله هللا تعالى في اإلسالم تحريما تحله الكفارة كما تح ل الرجع ة تح ريم‬
‫الطالق‪.‬‬

‫‪ )(1‬األم‪.5/294:‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.5/2824:‬‬
‫‪ )(3‬في ظالل القرآن‪.5/2824:‬‬
‫‪ )(4‬الفروق للقرافي‪.1/31:‬‬

‫‪302‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه مندرج في حد اإلنشاء فيكون إنشاء ؛ ألنه لفظ ي ترتب علي ه التح ريم‬
‫فيكون سببا له واإلنشاء من خصائصه أنه سبب لمدلوله وثب وت خصيص ية الش يء‬
‫يقتضي ثبوته فيكون إنشاء كالطالق‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لفظ يستتبع أحكاما تترتب عليه من التحريم والكفارة وغيرهما فوجب‬
‫أن يكون إنشاء كالطالق والعتاق وغير ذلك من صيغ اإلنشاء فإن خروج هذا اللف ظ‬
‫عن باب اإلنش اء بعي د ج دا ال س يما وق د نص الفقه اء على أن ل ه ص ريحا وكناي ة‬
‫كالطالق وغيره‪.‬‬
‫أما ما يرد به على هذه الشبه‪ ،‬ويجلي في نفس الوقت حقيقة الظهار‪ ،‬فهو كما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن كونه طالق ا في الجاهلي ة ال يقتض ي أنهم ك انوا ينش ئون الطالق‪ ،‬ب ل‬
‫يقتضي ذلك أن العصمة في الجاهلية تزول عند النط ق ب ه‪ ،‬وج رت ع ادتهم أن من‬
‫أخبر بهذا الخبر الكذب ال تبقى امرأته في عصمته متى التزم بج اهليتهم‪ ،‬وليس في‬
‫حال الجاهلية ما يأبى ذلك‪ ،‬بل لعبهم في أحوالهم أكثر من ذلك فقد التزموا أن الناق ة‬
‫إذا جاءت بعشرة من الولد تص ير س ائبة‪ ،‬فمج از أن يل تزموا ذه اب العص مة عن د‬
‫كذب خاص‪ ،‬ويقوي هذا االحتمال القرآن الك ريم بقول ه تع الى‪َ ﴿:‬م ا ه َُّن أُ َّمهَ اتِ ِه ْم إِ ْن‬
‫أُ َّمهَاتُهُ ْم إِاَّل الاَّل ئِي َولَ ْدنَهُ ْم ﴾(المجادلة‪ )2:‬اآلية كما تقدم ف إن التك ذيب من خص ائص‬
‫الخبر فيكون ظهارهم خبرا كذبا ال تزموا عقيب ه ذه اب العص مة كس ائر ملتزم اتهم‬
‫الباطلة‪ ،‬وقد عدها العلماء نحو عشرين نوعا من التحريم ات التزموه ا بغ ير س بب‬
‫يقتضيها من جهة الشرائع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ داللة القرآن الكريم في آية الظهار على أنه خ بر وليس إنش اء ك الطالق‪،‬‬
‫وتتجلى هذه الداللة في الوجوه التالية‪:‬‬
‫ُ‬
‫الوجه األول‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿:‬ما ه َُّن أ َّمهَاتِ ِه ْم ﴾ فنفى تع الى م ا أثبت وه‪ ،‬ومن ق ال‬
‫المرأته أنت طالق ال يحسن أن يقال له ما هي مطلق ة‪ ،‬وإنم ا يحس ن ذل ك إذا أخ بر‬
‫عن تقدم طالقها ولم يتقدم فيها طالق فدل ذلك على أن قول المظاهر خبر ال إنشاء‪.‬‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وإِنَّهُ ْم لَيَقُولُ ونَ ُم ْن َك رًا ِم ْن ْالقَ وْ ِل ﴾ واإلنش اء‬
‫للتحريم ال يكون منكرا بدليل الطالق‪ ،‬وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئ ذ‬
‫كذب والكذب منكر‪.‬‬
‫ُ‬
‫الوجه الثالث‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿:‬وزورًا ﴾ والزور هو الخبر الك ذب فيك ون ق ولهم‬
‫كذبا وهو المطلوب‪ ،‬وإذا كذبهم هللا في هذه المواطن دل ذلك على أن قولهم خ بر ال‬
‫إنشاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الوجه الرابع‪ :‬قول هللا تعالى بعد ذكر الكفارة ﴿ ذلِك ْم تو َعظ ونَ بِ ِه ﴾ والوع ظ‬
‫إنما يكون عن المحرم ات ف إذا جعلت الكف ارة وعظ ا دل ذل ك على أنه ا زاج رة ال‬
‫ساترة‪ ،‬وأنه حصل هنالك ما يقتض ي الوع ظ وم ا ذل ك إال الظه ار المح رم فيك ون‬
‫محرما لكونه كذبا فيكون خبرا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫الوجه الخامس‪ :‬قوله تعالى في اآلية ﴿ َوإِ َّن َ ل َعف ٌّو َغفو ٌر ﴾والعف و والمغف رة‬
‫إنما يكونان في المعاصي‪ ،‬فدل ذلك على أنه معصية وال مدرك للمعص ية إال كون ه‬

‫‪303‬‬
‫كذبا‪ ،‬والكذب ال يكون إال في الخبر فيكون خبرا وهو المطلوب‪.‬‬
‫قال القرافي بعد إيراده للوج وه ال تي ت دل على ك ون الظه ار خ برا ال إنش اء‬
‫بعكس الطالق‪( :‬فظه ر الف رق بين ت رتب التح ريم على الطالق وبين ترتب ه على‬
‫الظهار فتأمل ذلك‪ ،‬فإن الجهات مختلف ة ج دا‪ ،‬ونحن نق ول التح ريم والكف ارة الك ل‬
‫عقوبة على الكذب في الظهار) (‪)1‬‬
‫‪ 1‬ـ حكم الظهار‬
‫مظاهرة الرجل لزوجته‬
‫أجمع العلماء على تحريم مظاهرة الرجل لزوجته‪ ،‬ب ل ه و من الكب ائر‪ ،‬كم ا‬
‫قال ابن عباس‪ ،‬بل كما نص الحديث‪ ،‬فهو من قول الزور(‪،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬ما َج َع َل هَّللا ُ لِ َر ُج ٍل ِم ْن قَ ْلبَي ِْن فِي َجوْ فِ ِه َو َم ا َج َع َل أَ ْز َوا َج ُك ْم‬
‫الاَّل ئِي تُظَا ِهرُونَ ِم ْنه َُّن أُ َّمهَاتِ ُك ْم َو َما َج َع َل أَ ْد ِعيَا َء ُك ْم أَ ْبنَا َء ُك ْم َذلِ ُك ْم قَوْ لُ ُك ْم بِأ َ ْف َوا ِه ُك ْم َوهَّللا ُ‬
‫يل ﴾(األحزاب‪)4:‬‬ ‫ق َوه َُو يَ ْه ِدي ال َّسبِ َ‬ ‫يَقُو ُل ْال َح َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬الَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن ُك ْم ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم َما ه َُّن أ َّمهَاتِ ِه ْم إِ ْن أ َّمهَ اتُهُ ْم‬
‫إِاَّل الاَّل ئِي َولَ ْدنَهُ ْم َوإِنَّهُ ْم لَيَقُولُ ونَ ُم ْن َك رًا ِم ْن ْالقَ وْ ِل َو ُزورًا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َعفُ ٌّو َغفُ ور﴾‬
‫ٌ(المجادل ة‪ ،)2:‬وق د عل ل ابن القيم كون ه منك را من الق ول وزورا بقول ه‪( :‬الظه ار‬
‫حرام ال يجو ُز اإلقدا ُم عليه ألنه كما أخبر هللا عنه منكر من الق ول وزور‪ ،‬وكالهم ا‬
‫ق بـين جهة كونه منكراً وجه ِة كون ه زوراً أن قول ه‪ :‬أنت علي كظه ر‬ ‫حرام‪ ،‬والفر ُ‬
‫أمي يتضمنُ إخباره عنها بذلك‪ ،‬وإنشاءه تحريمها‪ ،‬فهو يتضمن إخباراً وإنشا ًء‪ ،‬فهو‬
‫خبر ُزو ٌر وإنشا ٌء منكر‪ ،‬فإن الزور هو الباطل خالف الحق الثابت‪ ،‬والمنكر خالف‬
‫﴿وإِن هللاَ لَ َعفُ ٌّو َغفُور﴾‪ .‬وفيه إشعار بقي ام‬ ‫المعروف‪ ،‬وختم سبحانه اآلية بقوله تعالى‪َ :‬‬
‫سبب اإلثم الذي لوال عفو هللا ومغفرتُه آلخذ به(‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ثُ َّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَ الُوا فَتَحْ ِري ُر‬
‫َرقَبَ ٍة ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَتَ َماسَّا َذلِ ُك ْم تُو َعظُونَ بِ ِه َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِير﴾ٌ(المجادلة‪)3:‬‬
‫‪ 4‬ـ عن خويل ة بنت مال ك بن ثعلب ة‪ ،‬ق الت‪ :‬ظ اهر م ني أوس بن الص امت‪،‬‬
‫فجئت رسول هللا ‪ ‬أشكو‪ ،‬ورسول هللا ‪ ‬يجادلني فيه‪ ،‬ويقول‪ :‬اتق هللا ؛ فإنه ابن‬
‫ك فِي زَ وْ ِجهَ ا‬ ‫عمك‪ .‬فما برحت ح تى ن زل الق رآن‪ ﴿ :‬قَ ْد َس ِم َع هَّللا ُ قَ وْ َل الَّتِي تُ َجا ِدلُ َ‬
‫صيرٌ﴾(المجادلة‪ ،)1:‬فقال‪ :‬يعتق‬ ‫َوتَ ْشتَ ِكي إِلَى هَّللا ِ َوهَّللا ُ يَ ْس َم ُع تَ َحا ُو َر ُك َما إِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع بَ ِ‬
‫رقبة‪ .‬فقلت‪ :‬ال يجد‪ ،‬فقال‪:‬فيصوم شهرين متتابعين‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنه ش يخ‬
‫كبير‪ ،‬ما ب ه من ص يام‪ ،‬فق ال ‪ :‬فليطعم س تين مس كينا‪ .‬قلت‪ :‬م ا عن ده من ش يء‬
‫يتصدق به‪ .‬قال‪ :‬فإني سأعينه بعرق من تمر‪ .‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فإني أعينه بعرق‬

‫‪ )(1‬الفروق للقرافي‪.1/33:‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الزواجر‪.2/84:‬‬
‫‪ )(3‬زاد المعاد‪.5/326 :‬‬

‫‪304‬‬
‫آخ ر‪ ،‬ق ال‪ :‬ق د أحس نت‪ ،‬اذه بي ف أطعمي عن ه س تين مس كينا‪ ،‬وارجعي إلى ابن‬
‫عمك(‪.)1‬‬
‫مظاهرة المرأة لزوجها‬
‫وهو أن تقول المرأة لزوجها‪ :‬أنت علي كظه ر أبي‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء في‬
‫اعتبارها مظاهرة بذلك على قولين(‪:)2‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ه و ظه ار‪ ،‬وروي ذل ك عن الحس ن‪ ،‬والنخعي‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الزهري‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وروي عن األوزاعي أنها إذا ق الت‪( :‬إن تزوجت ه فه و علي‬
‫كظهر أبي (‪)3‬كانت مظاهرة‪ ،‬ول و ق الت وهي تحت زوج ك ان عليه ا كف ارة يمين‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأنها أحد الزوجين ظاهر من اآلخر‪ ،‬فكان مظاهرا كالرجل‪.‬‬
‫القول الثاني‪:‬أنها ليست مظاهرة بذلك‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء‪،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَ ا ِهرُونَ ِم ْن نِ َس ائِ ِه ْم ﴾(المجادل ة‪ ،)3:‬فخص هم‬
‫بذلك‪ ،‬وفي المدونة‪( :‬أرأيت إن ظاهرت امرأة من زوجها‪ ،‬أتكون مظاهرة في ق ول‬
‫مالك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬إنما قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ﴾(المجادل ة‪)3:‬ولم‬
‫يقل والالئي يظاهرن منكن من أزواجهن(‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ق ول ي وجب تحريم ا في الزوج ة‪ ،‬يمل ك ال زوج رفع ه‪ ،‬ف اختص ب ه‬
‫الرجل‪ ،‬كالطالق(‪.)5‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الحل في المرأة حق للرجل‪ ،‬فلم تملك المرأة إزالته‪ ،‬كسائر حقوقه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن خبر عائشة مخصوص بكونها لم تكن زوجته‪ ،‬قال إبراهيم‪ :‬لو كانت عنده‬
‫يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة‪ ،‬ولكنها ك انت تمل ك نفس ها حين‬
‫قالت ما قالت‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أنها ترتبط بجانبين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجانب التكليفي‪ ،‬وهو الحرمة‪ ،‬وهي ال تختلف في ذلك عن الرج ل‪ ،‬ألن‬
‫كليهما بالتصريح بهذا القول قد ق ال منك را من الق ول وزورا‪ ،‬والح رام من الناحي ة‬
‫التكليفية ال يختلف فيه الرجل والمرأة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الجانب الوضعي‪ ،‬أو أثر قولها‪ ،‬وهو عدم ارتباط التكفير بالمعاشرة‪ ،‬ألن‬
‫الظهار من ه ذه الناحي ة خ اص بالرج ل‪ ،‬فه و حقيق ة ش رعية يل زم العم ل به ا في‬

‫‪ )( 1‬قال ابن حجر‪ :‬أصله في البخاري من هذا الوجه إال أنه لم يسمها ورواه أبو داود والحاكم‪ ،‬انظر‪ :‬تلخيص‬
‫الحبير‪ ،3/220:‬الحاكم‪ ،2/523 :‬البيهقي‪ ،7/382 :‬أبو داود‪ ،2/266 :‬المعجم الكبير‪.11/265:‬‬
‫‪ )(2‬ب دائع الص نائع‪ ،3/231 :‬المغ ني‪ ،8/34 :‬الف روع‪ ،5/489 :‬فتح الق دير‪ ،4/250 :‬م واهب الجلي ل‪:‬‬
‫‪ ،4/112‬المنتقى‪.4/48 :‬‬
‫‪ )(3‬الجصاص‪.3/634:‬‬
‫‪ )(4‬المدونة‪.2/309:‬‬
‫‪ )(5‬األم‪.5/295:‬‬

‫‪305‬‬
‫محلها‪ ،‬وال يصح قياس ما لم يذكره الشرع فيها على ما ذكره‪.‬‬
‫وإنما ذكرنا هذا التفريق لتصور الكثير بأن عدم الكفارة ال يدل على الحرمة‪،‬‬
‫أو أنه يخفف منه ا‪ ،‬وه ذا غ ير ص حيح‪ ،‬ف اليمين الغم وس أعظم خط را من اليمين‬
‫المعقدة‪ ،‬ومع ذلك أمر الشرع بالكفارة في المعقدة‪ ،‬ولم يأمر بها في الغموس‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أركان الظهار وشروطها‬
‫وقد نص الكثير من الفقهاء على أنها أربعة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الركن األول‪ :‬المظاهر‬
‫اتف ق الفقه اء على أن ه يش ترط في المظ اهر أن يك ون ع اقال إم ا حقيق ة أو‬
‫تقديرا‪ ،‬فال يصح ظهار المجنون والصبي الذي ال يعقل ؛ ألن حكم الحرمة وخطاب‬
‫التحريم ال يتناول من ال يعقل‪ ،‬ويدخل في ذلك ما ذكرن اه فيمن يق ع من ه الطالق أن‬
‫ال يكون معتوها وال مدهوشا وال مبرسما وال مغمى عليه وال نائما‪ ،‬فال يصح ظهار‬
‫هؤالء كما ال يصح طالقهم‪.‬‬
‫الركن الثاني‪ :‬المظاهر منها‬
‫اتفقت معظم أق وال الفقه اء على اش تراط الزوجي ة في المظ اهر منه ا‪ ،‬ق ال‬
‫الش افعي‪( :‬لم أعلم مخالف ا في أن أحك ام هللا تع الى في الطالق والظه ار واإليالء ال‬
‫تقع إال على زوجة ثابتة النكاح يحل للزوج جماعها)(‪ ،)1‬وخالف بعض هم في ذل ك‪،‬‬
‫ومن مسائل الخالف في المسألة‪:‬‬
‫الظهار من أجنبية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار الظهار من األجنبية هل يصح أم ال على قولين(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يثبت حكم الظهار قبل التزويج‪ ،‬ويروى عن ابن عباس‪ ،‬وهو‬
‫قول الثوري‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ﴾(المجادلة‪ ،)3:‬واألجنبي ة‬
‫ليست من نسائه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الظهار يمين ورد الشرع بحكمه ا مقي دا بنس ائه‪ ،‬فلم يثبت حكمه ا في‬
‫األجنبية‪ ،‬كاإليالء‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الظهار يختص بوقت النطق ب ه ال بع د ذلك‪ ،‬ومن الباط ل أن ال يل زم‬
‫الحكم للقول حين يقال ثم يلزم حين ال يقال(‪.)3‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يعتبر ظهارا‪ ،‬وبه قال سعيد بن المسيب‪ ،‬وع روة‪ ،‬وعط اء‪،‬‬
‫والحسن‪ ،‬ومالك‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وأحمد‪ ،‬ويستوي في ذلك ما ل و ق ال الم رأة بعينه ا‪ ،‬أو‬
‫قال‪ :‬كل النساء علي كظهر أمي‪ ،‬وسواء أوقعه مطلقا‪ ،‬أو علقه على التزويج‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫كل امرأة أتزوجها‪ ،‬فهي علي كظهر أمي‪ ،‬فمتى تزوج التي ظاهر منه ا‪ ،‬لم يقربه ا‬
‫‪ )(1‬األم‪.5/268:‬‬
‫‪ )(2‬األم‪ ،5/295 :‬الجصاص‪ ،3/631 :‬المحلى‪ ،9/200 :‬المنتقى‪ ،4/41 :‬بدائع الص نائع‪ ،3/138 :‬المغ ني‪:‬‬
‫‪ ،8/11‬شرائع اإلسالم‪.3/148 :‬‬
‫‪ )( 3‬وقد استدل بهذا ابن حزم بناء على مذهبه في حكم التعليق‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬انظر‪ :‬المحلى‪.9/200:‬‬

‫‪306‬‬
‫حتى يكفر‪ ،‬ويروى هذا القول عن عمر‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها يمين مكفرة‪ ،‬فصح انعقادها قبل النكاح‪ ،‬كاليمين باهلل تعالى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن التخصيص الوارد في اآلية بالنساء خرج مخرج الغالب ؛ فإن الغ الب‬
‫أن اإلنس ان إنم ا يظ اهر من نس ائه‪ ،‬فال ي وجب تخص يص الحكم بهن‪ ،‬كم ا أن‬
‫تخصيص الربيبة التي في حجره بالذكر‪ ،‬لم يوجب اختصاصها بالتحريم‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن التخص يص ال وارد في اإليالء‪ ،‬إنم ا اختص حكم ه بنس ائه ؛ لكون ه‬
‫يقصد اإلضرار بهن دون غيرهن والكفارة وجبت هاهنا لقول المنك ر وال زور‪ ،‬وال‬
‫يختص ذلك بنسائه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة أن قائ ل ه ذا الكالم إن قص د ب ه الظه ار‪ ،‬فق د‬
‫ارتكب كبيرة عظيمة ال تقل عن الكبيرة التي وقع فيها من ظاهر من زوجته‪ ،‬وه ذا‬
‫الحكم التكليفي يقتضي التوبة النصوح‪ ،‬وقد تستدعي التوبة النصوح األخذ ب األورع‬
‫في هذه المسألة باعتبارها مسألة تعبدية محضة‪ ،‬بل ق د يتع دى خيره ا إن أعت ق أو‬
‫أطعم‪ ،‬فلذلك فإن األولى األخذ بالقول الثاني من باب االحتياط‪ ،‬وس دا للذريع ة‪ ،‬ألن‬
‫من الناس من ال ترهبه الزواجر‪ ،‬بقدر ما تخيفه الكفارات والعقوبات‪.‬‬
‫وقد يقال هنا‪ :‬فلماذا ال يقال نفس الشيء في الطالق‪ ،‬وقد رأينا في الطالق أن‬
‫األرجح خالف ه ذا الق ول‪ ،‬والج واب على ذل ك أن أث ر الطالق مفس دة محض ة‪،‬‬
‫بخالف أث ر الكف ارة‪ ،‬فه و مص لحة عظمى س واء بين العب د ورب ه بالص وم أو بين‬
‫الخلق فيما بينهم بالعتق واإلطعام‪ ،‬زيادة على أن مسألة الظهار أق رب إلى المس ائل‬
‫التعبدية منها ألحكام المعامالت كما وضحنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫تعميم الظهار‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء القائلون بصحة وقوع الظه ار على األجنبي ة فيم ا ل و عمم في‬
‫ظه اره فق ال‪ :‬ك ل ام رأة أتزوجه ا‪ ،‬فهي علي كظه ر أمي‪ ،‬ثم ت زوج نس اء وأراد‬
‫العود‪ ،‬فقد اختلف في تعدد الكفارة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن عليه كفارة واحدة‪ ،‬سواء تزوجهن في عقد واحد أو في عقود‬
‫متفرقة‪ ،‬وهو قول عروة‪ ،‬وإسحاق وأحمد‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بأنه ا يمين واح دة‪،‬‬
‫فكفارتها واحدة‪ ،‬كما لو ظاهر من أربع نساء بكلمة واحدة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن لكل عقد كفارة‪ ،‬فلو تزوج اثنتين في عقد‪ ،‬وأراد العود فعليه‬
‫كفارة واح دة‪ ،‬ثم إذا ت زوج أخ رى‪ ،‬وأراد الع ود‪ ،‬فعلي ه كف ارة أخ رى‪ ،‬وه و ق ول‬
‫إسحاق ورواية عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك ب أن الم رأة الثالث ة وج د العق د عليه ا‬
‫الذي يثبت به الظهار‪ ،‬وأراد العود إليها بعد التكفير عن األول يين‪ ،‬فك انت علي ه له ا‬
‫كفارة‪ ،‬كما لو ظاهر منها ابتداء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و االكتف اء بكف ارة واح دة‪ ،‬ألن األص ل في‬
‫الظهار أن يختص بالزوجة‪ ،‬وتعميمه على غيره ا من ب اب الت أديب‪ ،‬وال يص ح أن‬

‫‪307‬‬
‫يتجاوز بالتأديب محله‪.‬‬
‫الظهار من المطلقة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه يلحق المطلقة الرجعية ما دامت في عدتها الظهار‪ ،‬ق ال‬
‫ابن ح زم‪( :‬المطلق ة طالق ا رجعي ا فهي زوج ة لل ذي طلقه ا م ا لم تنقض ع دتها‪،‬‬
‫يتوارث ان‪ ،‬ويلحقه ا طالق ه‪ ،‬وإيالؤه‪ ،‬وظه اره‪ ،‬ولعان ه إن ق ذفها‪ ،‬وعلي ه نفقته ا‪،‬‬
‫وكسوتها‪ ،‬وإسكانها(‪،)1‬وق ال السرخس ي‪( :‬إذا طلقه ا تطليق ة رجعي ة‪ ،‬فطالق ه يق ع‬
‫عليها ما دامت في الع دة‪ ،‬وك ذلك الظه ار واإليالء‪ ،‬وإن ق ذفها‪ ،‬العنه ا‪ ،‬وإن م ات‬
‫أحدهما توارثا ؛ لبقاء ملك النكاح بعد الطالق الرجعي(‪)2‬‬
‫وقد اختلفوا في وجوب الكف ارة على من طل ق من ظ اهر منه ا‪ ،‬ثم تزوجه ا‪،‬‬
‫هل يجوز له معاشرتها قبل التكفير أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬ال تحل له معاشرتها حتى يكفر‪ ،‬سواء كان الطالق ثالثا‪ ،‬أو أقل‬
‫من ه‪ ،‬س واء رجعت إلي ه بع د زوج آخ ر‪ ،‬أو قبل ه‪ ،‬وه و ق ول عط اء‪ ،‬والحس ن‪،‬‬
‫والزهري‪ ،‬والنخعي‪ ،‬ومالك وأحمد وأبي عبي د والش افعي في ق ول‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عموم قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ثُ َّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَ الُوا‬
‫فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َماسَّا ﴾(المجادلة‪ ،)3:‬وهذا قد ظاهر من امرأته‪ ،‬فال يح ل‬
‫أن يتماسا حتى يكفر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ظاهر من امرأته‪ ،‬فال يحل له مسها قبل التكفير‪ ،‬كالتي لم يطلقها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يمين الظهار يمين مكفرة‪ ،‬فلم يبطل حكمها بالطالق‪ ،‬كاإليالء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا بانت سقط الظهار‪ ،‬فإذا عاد فنكحها‪ ،‬فال كف ارة علي ه‪ ،‬وه و‬
‫قول قتادة‪ ،‬والحنفية‪ ،‬والشافعي في قول(‪ ،)3‬قال السرخسي‪( :‬إن طلقها طالقا بائن ا‪،‬‬
‫فإنه ال يقع عليها ظهار وال إيالء ؛ ألن الظهار منكر من القول وزور ؛ لما في ه من‬
‫تشبيه المحللة بالمحرمة‪ ،‬وهذا تشبيه المحرمة بالمحللة (‪)4‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من التورع في أحكام الظه ار‬
‫ردعا لمن يتساهل فيه‪ ،‬ألن المنك ر من الق ول وال زور يتحق ق مطلق ا‪ ،‬م ع الزوج ة‬
‫التي يملك عصمتها والتي ال يملك عصمتها س واء بس واء‪ ،‬م ع ع دم أي ض رر في‬
‫هذه العقوبة الشرعية ألي طرف من األطراف‪ ،‬بل هي مصلحة محضة كما ذكرنا‪،‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/15:‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/93:‬‬
‫‪ )(3‬وقوله الثالث هو‪ :‬إن كانت البينونة بالثالث‪ ،‬لم يع د الظه ار‪ ،‬وإال ع اد‪ ،‬ق ال الش افعي‪ :‬إذا طل ق امرأتي ه‬
‫فكان يملك رجعة إح داهما وال يمل ك رجع ة األخ رى فتظ اهر منهم ا في كلم ة واح دة لزم ه الظه ار من ال تي يمل ك‬
‫رجعتها ويسقط عنه من التي ال يملك رجعته ا‪ ،‬األم‪ ،5/294:‬وبن اه على األقاوي ل في ع ود ص فة الطالق في النك اح‬
‫الثاني‪.‬‬
‫‪ )(4‬المبسوط‪.6/93:‬‬

‫‪308‬‬
‫ودورها التطهيري التربوي ال يخفى‪ ،‬خاصة وأن مثل هذا السلوك الج اهلي يحت اج‬
‫في تقويمه إلى التأديب‪ ،‬ولو بالمبالغة في التشديد في ه من ب اب المص لحة كم ا يب الغ‬
‫الشيخ مع طالبه فيشدد عليهم رعاية لمصالحهم‪.‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬صيغة الظهار‬
‫ويتعلق بهذا الركن المسائل التالية(‪:)1‬‬
‫التعابير الدالة على الظهار‬
‫األلفاظ الصريحة‪:‬‬
‫وهي ما ال يفتقر إلى نية‪ ،‬كقوله‪:‬أنت عن دي‪ ،‬أو م ني‪ ،‬أو معي‪ ،‬كظه ر أمي‪،‬‬
‫أو جملتك‪ ،‬أو بدنك‪ ،‬أو جسمك‪ ،‬أو ذاتك‪ ،‬أو كلك علي كظهر أمي‪ ،‬أما إن قال‪ :‬أنت‬
‫كظهر أمي‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ظهار‪ ،‬وهو قول الجمه ور‪ ،‬ألن ه أتى بم ا يقتض ي تحريمه ا‬
‫عليه فانصرف الحكم إليه‪ ،‬كما لو قال‪ :‬أنت طالق‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه ليس بظهار‪ ،‬وهو قول بعض الشافعية‪ ،‬ألنه فيه ما يدل على‬
‫أن ذلك في حقه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و اعتب ار الني ة مطلق ا في األلف اظ الص ريحة‬
‫وألفاظ الكناية‪ ،‬بل ال نعتقد في صحة هذا التقسيم أصال لسببين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن أكثر هذه األلفاظ ال تستعمل اآلن بصورتها الفصيحة بين كل الشعوب‬
‫العربية‪ ،‬فكيف بغيرها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الظه ار يختل ف اختالف ا ج ذريا عن الطالق‪ ،‬فال يص ح التعام ل مع ه‬
‫بنفس أسلوب التعامل مع الطالق‪.‬‬
‫فلذلك كان األرجح هنا ه و اعتب ار الني ة مطلق ا كاعتباره ا في األيم ان‪ ،‬ألن‬
‫الظهار مسألة تعبدية أكثر منها مسألة من باب النكاح‪ ،‬وال يمكن أن نحصر األلف اظ‬
‫الدالة على ذلك‪ ،‬بل العبرة بالضابط القرآني الذي هو التزوير في الحق ائق بالتعام ل‬
‫مع الزوجة كالتعامل مع األم أو غيرها من المحارم‪.‬‬
‫ألفاظ الكناية‪:‬‬
‫وهي ما تفتقر إلى نية‪ ،‬ومن ألفاظ الكناية التي ذكرها العلماء‪:‬‬
‫قوله‪ :‬أنت مثل أمي‪ :‬أو‪ :‬علي كأمي‪ ،‬فإنه إن ن وى ب ه الظه ار‪ ،‬فه و ظه ار‪،‬‬
‫باتفاق العلماء‪ ،‬أما إن نوى به الكرامة والتوقير‪ ،‬أو أنها مثلها في الكبر‪ ،‬أو الص فة‪،‬‬
‫فليس بظهار‪ .‬والقول قوله في نيته‪ ،‬ولهذا كره العلماء أن يسمي الرج ل امرأت ه بمن‬
‫تحرم عليه‪ ،‬كأمه‪ ،‬أو أخته‪ ،‬أو بنته مع اتف اقهم على ع دم اعتب ار ذل ك ظه ارا ومن‬
‫األدلة ذلك أن رجال قال المرأت ه‪ :‬ي ا أخي ة‪ .‬فق ال رس ول هللا ‪ :‬أخت ك هي‪ ،‬فك ره‬

‫‪ )( 1‬انظر تفاصيل هذه األلفاظ على المذاهب المختلفة في المطلب الثالث من هذا المبحث‪ ،‬وقد ذكرنا المراجع‬
‫الموثقة لذلك هناك‪ ،‬فال نطيل بإعادتها هنا‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫ذلك‪ ،‬ونهى عنه)(‪ ،)1‬ولم يقل له ‪ :‬حرمت عليك‪ ،‬فدل على الكراهة‪.‬‬
‫الركن الرابع ـ المشبه به‬
‫ال يخلو المشبه به من خمسة أنواع بحسب القسمة العقلي ة‪ ،‬وذل ك أن ه إم ا أن‬
‫يك ون من محارم ه أم ال‪ ،‬ف إن ك ان من محارم ه‪ ،‬فال يخل و أن يك ون من المح ارم‬
‫الدائمة أو المؤقتة‪ ،‬وإن كان من غير محارمه فقد يكون امرأة أو غير امرأة‪ ،‬ثم إن ه‬
‫في كل هؤالء قد يكون تشبيها كامال أو جزئيا‪ ،‬وتفصيل ذلك كما يلي‪:‬‬
‫المحرمات على التأبيد‬
‫ولهذا التشبيه حالتان‪:‬‬
‫تشبه الزوجة باألم من النسب‪ :‬أجمع العلماء على أن من ق ال لزوجت ه‪(:‬أنت‬
‫علي كظهر أمي)‪ ،‬فهو ظه ار‪ ،‬ق ال ابن المن ذر‪(:‬أجم ع أه ل العلم على أن تص ريح‬
‫الظه ار أن يق ول‪ :‬أنت علي كظه ر أمي) (‪ ،)2‬واس تدلوا على ذل ك بح ديث خويل ة‬
‫امرأة أوس بن الصامت‪ ،‬فقد قال لها‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ ،‬ف ذكر ذل ك لرس ول هللا‬
‫‪ ‬فأمره بالكفارة‪.‬‬
‫تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه سوى األم‪ :‬كجدته وعمته وخالت ه وأخت ه‪ ،‬أو‬
‫أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى األقارب‪ ،‬كاألمهات المرضعات‪،‬‬
‫واألخوات من الرضاعة‪ ،‬وحالئل اآلباء واألبناء‪ ،‬وأمهات النساء‪ ،‬والربائب الالئي‬
‫دخل بأمهن‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا التش بيه‪ ،‬ه ل يعت بر ظه ارا أم ال على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ظهار‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء ذكر منهم ابن قدام ة‪ :‬الحس ن‪،‬‬
‫وعطاء‪ ،‬وجابر بن زي د‪ ،‬والش عبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والزه ري‪ ،‬والث وري‪ ،‬واألوزاعي‪،‬‬
‫ومال ك‪ ،‬وإس حاق وأب و عبي د‪ ،‬وأب و ث ور‪ ،‬وأص حاب ال رأي‪ .‬وه و جدي د ق ولي‬
‫الشافعي(‪.)3‬‬
‫الق ول الث اني‪:‬ال يك ون الظه ار إال ب أم أو ج دة ؛ ألنه ا أم أيض ا‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الشافعي القديم‪ ،‬وق ول اإلمامية(‪ ،)4‬وق ول ابن ح زم‪ ،‬واس تدل على ذل ك ب أن اللف ظ‬
‫الذي ورد به القرآن مختص باألم‪ ،‬فإذا عدل عنه‪ ،‬لم يتعلق ب ه م ا أوجب ه هللا تع الى‬
‫فيه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫‪ )(1‬البيهقي‪ ،7/366 :‬أبو داود‪.2/264 :‬‬
‫‪ )(2‬منار السبيل‪.2/236 :‬‬
‫‪ )(3‬وقد نص عليه في األم بقوله‪» :‬إذا قال المرأته أنت علي كظهر أختي أو كظه ر ام رأة محرم ة علي ه من‬
‫نسب أو رضاع قامت في ذلك مقام األم‪ .‬أما الرحم فإن ما يحرم عليه من أمه يح رم علي ه منه ا‪ ،‬وأم ا الرض اع ف إن‬
‫النبي ‪ ‬قال » يحرم من الرضاع ما يح رم من النس ب « فأق ام الن بي ‪ ‬الرض اع مق ام النس ب فلم يج ز أن يف رق‬
‫بينهما‪ ،‬األم‪.5/295:‬‬
‫‪ )(4‬فقد نصو على أنه لو شبهها بمحرمة بالمصاهرة‪ ،‬تحريم ا مؤب دا‪ ،‬ك أم الزوج ة‪ ،‬وبنت زوجت ه الم دخول‬
‫بها‪ ،‬وزوجة األب واالبن لم يقع [ به ] الظهار‪ .‬وكذا لو شبهها بأخت الزوجة أو عمتها أو خالتها ولو قال‪ :‬كظهر أبي‬
‫أو أخي أو عمي لم تكن شيئا وكذا لو قالت هي‪ :‬أنت علي كظهر أبي وأمي‪ ،‬شرائع اإلسالم‪.3/45:‬‬

‫‪310‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬ألن العلة في ذكر األم مت وفرة‬
‫في غيرها من المحارم‪ ،‬وال يصح أن نطلب من النص القرآني ـ كما ذك ر أص حاب‬
‫القول الثاني ـ بعد جميع المحرمات‪ ،‬فاألم تنوب عنهن جميعا‪ ،‬فالقياس هنا في محله‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫المحرمات حرمة مؤقتة‪:‬‬
‫وذلك مثل تشبيهها بأخت امرأته‪ ،‬وعمتها‪ ،‬أو األجنبي ة‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء‬
‫في ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ظهار‪ ،‬وهو ق ول المالكي ة ورواي ة عن د الحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه شبهها بمحرمة‪ ،‬فأشبه ما لو شبهها باألم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن مجرد قوله‪ :‬أنت علي حرام(‪ ،)1‬ظهار إذا نوى ب ه الظه ار‪ ،‬والتش بيه‬
‫بالمحرمة تحريم‪ ،‬فكان ظهارا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الحائض يباح االستمتاع بها في غير الفرج‪ ،‬والمحرمة يحل له النظ ر‬
‫إليها‪ ،‬ولمسها من غير شهوة‪ ،‬وليس في وطء واحدة منهما حد بخالف هذه الحالة‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن ه ليس بظه ار‪ ،‬وه و ق ول الش افعي ورواي ة عن د الحنابل ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأنها غ ير محرم ة على التأبي د‪ ،‬فال يك ون التش بيه به ا ظه ارا‪،‬‬
‫كالحائض‪ ،‬والمحرمة من نسائه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما سبق بيانه هو ترجيح الحكم بكونه ظه ارا‪،‬‬
‫ألن العل ة الموج ودة في الظه ار ب األم توج د في غيره ا ممن ذك ر‪ ،‬والمقص د من‬
‫تحريم الظهار هو كونه قول زور‪ ،‬وهو يصدق هنا كما يصدق على الظه ار ب األم‪،‬‬
‫زيادة على المقاصد الشرعية التي تتحقق بترجيح ه ذا الق ول من س د ال ذرائع ال تي‬
‫تفتح هذا الباب‪ ،‬وجلب المصالح المترتبة عن الكفارة‪.‬‬
‫تشبيه الزوجة بأجنبية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو كان المشبه به أجنبية على قولين(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬هو مظاهر كان لها زوج أو لم يكن لها زوج‪ ،‬وه و ق ول مال ك‪،‬‬
‫ألنه شبه امرأته بظهر محرمة عليه فلزمه حكم الظهار أصله إذا قال‪ :‬كظهر أمه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يكون طالقا‪ ،‬وهو قول عب د المل ك بن الماجش ون‪ ،‬ألن الظه ار‬
‫إنما يتعلق بتحريم مؤبد وال يكون ذلك إال برف ع عق د االس تباحة‪ ،‬وذل ك إنم ا يك ون‬
‫بالطالق‪.‬‬
‫القول الث الث‪ :‬ال يكون طالق ا وال ظه ارا‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة والش افعي‪،‬‬
‫ألنها ليست محرمة على التأبيد‪.‬‬

‫‪ )(1‬ذكرنا الخالف في المسألة في محلها من صيغة الطالق‪.‬‬


‫‪ )(2‬المنتقى‪ ،4/40:‬المغني‪.8/5:‬‬

‫‪311‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو كونه ظهارا ألن األجنبية ال تختلف عن أم ه‬
‫وغيرها من محارمه في التحريم‪ ،‬وما يصدق عليها من الزور يصدق على غيرها‪.‬‬
‫تشبيه الزوجة بغير النساء‪:‬‬
‫كتشبيهها بظهر أبيه‪ ،‬أو بظهر غيره من الرج ال‪ ،‬أو قول ه‪ :‬أنت علي كظه ر‬
‫البهيمة‪ ،‬أو أنت علي كالميتة والدم‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ظهار‪ ،‬وهو رواية عن أحمد وقول ابن القاسم صاحب مالك‪،‬‬
‫فيما إذا قال‪ :‬أنت علي كظهر أبي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه ليس بظهار‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأنه‬
‫تشبيه بما ليس بمحل لالستمتاع‪ ،‬فأشبه ما لو قال‪ :‬أنت علي كمال زيد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو النظر في مقصده من هذا التشبيه إن كان من‬
‫باب تحريمها كحرمة أبيه أو الميتة أو الدم فهو ظهار‪ ،‬ألنه من الزور المحرم‪ ،‬وإن‬
‫كان من باب الضجر منها واستقذارها مثال من غير قصد التحريم‪ ،‬فهو حرام تعل ق‬
‫به حق الغير‪ ،‬فيتوب ويستحل‪.‬‬
‫تشبيه أعضاء الزوجة بأعضاء غيرها‪:‬‬
‫وه و تش بيه عض و من امرأت ه بظه ر أم ه أو عض و من أعض ائها‪ ،‬كقول ه‪:‬‬
‫ظهرك‪ ،‬أو رأسك‪ ،‬أو جلدك علي كظه ر أمي‪ ،‬أو ب دنها‪ ،‬أو رأس ها‪ ،‬أو ي دها‪ ،‬وق د‬
‫اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ه و مظ اهر‪ ،‬وه و ق ول مال ك والش افعي ورواي ة عن أحم د‪،‬‬
‫واس تدلوا على ذل ك بأن ه ش بهها بعض و من أم ه‪ ،‬فك ان مظ اهرا‪ ،‬كم ا ل و ش بهها‬
‫بظهرها‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن ه ليس بمظ اهر ح تى يش به جمل ة امرأت ه‪ ،‬وه و رواي ة عن‬
‫أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ه ل و حل ف باهلل ال يمس عض وا منه ا‪ ،‬لم يس ر إلى غ يره‪ ،‬فك ذلك‬
‫المظاهرة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هذا ليس بمنصوص عليه‪ ،‬وال هو في معنى المنصوص ؛ ألن تش بيه‬
‫جملتها تشبيه لمحل االستمتاع بما يتأكد تحريمه‪ ،‬وفيه تحريم لجملتها‪ ،‬فيكون آكد‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬التفصيل‪ ،‬وهو قول الحنفي ة‪ ،‬وكيفيت ه أن ه إن ش بهها بم ا يح رم‬
‫النظر إليه من األم‪ ،‬كالفرج‪ ،‬والفخذ‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬فه و مظ اهر‪ ،‬وإن لم يح رم النظ ر‬
‫إليه‪ ،‬كالرأس‪ ،‬والوجه‪ ،‬لم يكن مظاهرا‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بأن ه ش بهها بعض و ال‬
‫يحرم النظر إليه‪ ،‬فلم يكن مظاهرا‪ ،‬كما لو شبهها بعضو زوجة له أخرى‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و اعتب ار نيت ه‪ ،‬وال تي يمكن حص رها في‬
‫المقصدين التاليين‪:‬‬

‫‪312‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يقص د المظ اهر التش بيه الوص في‪ ،‬فوص ف بعض أعض اء زوجت ه‬
‫بنظيره ا من محارم ه‪ ،‬وحكم ه كس ائر التش بيهات ال يعت بر ظه ارا‪ ،‬ألن م راده‬
‫الوصف ال التحريم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يقص د تحريمه ا ب ذكر البعض وإرادة الك ل‪ ،‬أو أن يك ون التش بيه في‬
‫األعضاء التي ال يحل النظر إليها كما ذكر الحنفي ة‪ ،‬ب ل إن ذك ر م ا ال يح ل النظ ر‬
‫إليه من أمه وتشبيه الزوجة به فيه من الوقاحة وسوء األدب ما يستدعي ما هو أبل غ‬
‫من الكفارة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ موجبات كفارة الظهار‬
‫وتتعلق بها المسائل التالية‪:‬‬
‫الحنث في اليمين‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الموجب على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬علي ه الكف ارة بمج رد الظه ار‪ ،‬وه و ق ول ط اوس‪ ،‬ومجاه د‪،‬‬
‫والشعبي‪ ،‬والزهري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه سبب للكفارة وقد وجد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور‪ ،‬وهو يحصل بمجرد الظهار‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬متى أمسكها بعد ظهاره زمن ا يمكن ه طالقه ا في ه‪ ،‬فلم يطلقه ا‪،‬‬
‫يتس ُع لقول ه‪ :‬أنت‬ ‫فعليه الكفارة‪ ،‬وهو قول الش افعي‪ ،‬ويتحق ق ذل ك بإمس اكها زمن ا ً ِ‬
‫ص ل الطالق بالظه ار‪ ،‬لزمت ه الكف ارة‪ ،‬ق ال الش افعي‪( :‬إذا حبس‬ ‫ط الق‪ ،‬فم تى لم يَ ِ‬
‫المتظاهر امرأته بعد الظهار قدر ما يمكنه أن يطلقها ولم يطلقها فكف ارة الظه ار ل ه‬
‫الزمة‪ ،‬ولو طلقها بعد ذلك أو العنها فحرمت عليه على األبد لزمته كفارة الظه ار‪،‬‬
‫وكذلك لو ماتت أو ارتدت فقتلت على الردة) (‪)1‬‬
‫وهو قريب من القول السابق‪ ،‬قال ابن القيم‪( :‬قال منازعوه‪ :‬وه و في المع نى‬
‫وجب‬
‫َ‬ ‫س الواح َد ال يُخ ِر ُج الظه ا َر عن كون ه م‬ ‫قول مجاهد‪ ،‬والثوري‪ ،‬فإن هذا النفَ َ‬
‫الكفارة‪ ،‬ففي الحقيقة لم ي ُوجب الكفارة إال لفظُ الظهار(‪)2‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬أن الكف ارة ال تجب بمج رد الظه ار‪ ،‬فل و م ات أح دهما(‪ )3‬أو‬
‫فارقها قبل العود فال كفارة عليه‪ ،‬وهو قول عطاء‪ ،‬والنخعي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والحس ن‬
‫والثوري‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأبي عبيد‪ ،‬وأصحاب الرأي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَ ا ِهرُونَ ِم ْن نِ َس ائِ ِه ْم ثُ َّم يَ ُع و ُدونَ لِ َم ا ق الوا‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اس ا ﴾(المجادل ة‪ ،)3:‬ف أوجب الكف ارة ب أمرين‪ ،‬ظه ار‬ ‫فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َم َّ‬
‫وعود‪ ،‬فال تثبت بأحدهما‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الكفارة في الظهار كفارة يمين بغير الحنث‪ ،‬كس ائر األيم ان‪ ،‬والحنث‬
‫‪ )(1‬األم‪.5/296:‬‬
‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.5/333:‬‬
‫‪ )( 3‬سواء كان ذلك متراخيا عن يمينه‪ ،‬أو عقيبه وأيهما مات ورثه صاحبه في قول الجمهور‪ ،‬ألن من ورثه ا‬
‫إذا كفر ورثها وإن لم يكفر‪ ،‬خالفا لقتادة الذي قال‪ :‬إن ماتت‪ ،‬لم يرثها حتى يكفر‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫فيها هو العود‪ ،‬وذلك فعل م ا حل ف على ترك ه وه و الجم اع‪ ،‬وت رك طالقه ا ليس‬
‫بحنث فيها‪ ،‬وال فعل ال حلف على تركه‪ ،‬فال تجب به الكفارة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لو كان اإلمساك ع ودا‪ ،‬ل وجبت الكف ارة على المظ اهر الم وقت وإن‬
‫بر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة من حيث رعاية المقاصد الشرعية القول األول‪،‬‬
‫وذلك لالعتبارين التاليين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن القول بوج وب الكف ارة مطلق ا ينس جم م ع م ا ذكرن ا من أن العل ة في‬
‫الكفارة هي كونه قال منكرا من القول وزورا‪ ،‬وه و يتحق ق بغض النظ ر عن بقائ ه‬
‫معها أو عدم بقائه‪ ،‬وفي ذلك ردع عن هذا القول العظيم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ربط الكف ارة بع دم تطليق ه له ا ـ كم ا ذهب إلى ذل ك أص حاب الق ول‬
‫الثاني والثالث ـ قد يكون ذريعة لتطليقها‪ ،‬فكانت المصلحة ل بيت الزوجي ة س د ه ذه‬
‫الذريعة‪ ،‬فيقال للزوج‪ :‬كفر مطلقا طلقت زوجتك أو لم تطلقها‪.‬‬
‫ففي هذين االعتبارين تتحقق المص لحة للف رد بته ذيب لس انه عن ك ل أل واث‬
‫الجاهلية‪ ،‬وفي نفس الوقت تتحقق مصلحة بيت الزوجة بالحيلولة دون تعرض ه لم ا‬
‫يهزه‪ ،‬وكالهما من المقاصد الشرعية‪.‬‬
‫ونرى من حيث األدل ة أن آي ات الظه ار تحتم ل ه ذا المع نى‪ ،‬أم ا م ا أورده‬
‫أص حاب الق ول الث الث من توجيه ات‪ ،‬فيمكن حمله ا على أن اآلي ة ذك رت الحال ة‬
‫العامة للظهار‪ ،‬وهي أن الزوج يريد العودة لزوجته‪ ،‬فبينت له طري ق ذل ك‪ ،‬ولكنه ا‬
‫لم تتعرض للحاالت األخرى كطالق المظاهر منها أو موتها‪ ،‬فلذلك ال يصح تحميل‬
‫اآلية ما ال يحتمله ظاهر لفظها‪ ،‬زيادة على االختالف الكبير بين الفقهاء والمفسرين‬
‫في معنى العود كما سنرى‪ ،‬وقد قال ابن حزم في معرض دفاعه عن تصوره لمعنى‬
‫القول لم يَقُل به أح د من الص حابة‪ ،‬فق ال‪(:‬فأرون ا‬
‫َ‬ ‫العود ردا على المخالفين بأن هذا‬
‫اإلمساك‪ ،‬أو هو الع ود إلى‬ ‫ِمن الصحابة من قال‪ :‬إن العود هو الوطء‪ ،‬أو العزم‪ ،‬أو ِ‬
‫الظهار في الجاهلية ولو عن رجل واح ٍد من الصحابة‪ ،‬فال تكونون أس ع َد بأص حاب‬
‫رسول هللا ‪ ‬منا أبداً) (‪)1‬‬
‫بل إن في تعليل آيات الظهار التحريم والكفارة بكونه منكرا من القول وزروا‬
‫يدل داللة كافية على وجوب الكفارة مطلقا عاد أو لم يعد‪.‬‬
‫وال يص ح قياس ه أيض ا على األيم ان‪ ،‬ألن األيم ان مباح ة‪ ،‬ومش روعة‪ ،‬فال‬
‫يصح قياس غير المشروع على المش روع‪ ،‬ب ل إن في ألف اظ األيم ان ن واح تعبدي ة‬
‫بخالف يمين الظهار‪ ،‬إن صح اعتبارها يمينا‪.‬‬
‫حكم معاشرة الزوجة قبل التكفير‪:‬‬
‫وهي ال تخل و من أن تك ون معاش رة كامل ة بالجم اع‪ ،‬أو ناقص ة بالمباش رة‪،‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/194 :‬‬

‫‪314‬‬
‫وحكمهما كما يلي‪:‬‬
‫الجماع‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن المظاهر يحرم عليه معاشرة امرأته جنسيا قبل أن يكف ر‬
‫إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َماسَّا ﴾‬
‫ص يَا ُم َش ه َْري ِْن ُمتَتَ ابِ َعي ِْن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن‬
‫(المجادل ة‪ ،)3:‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِ‬
‫يَتَ َماسَّا ﴾(المجادلة‪)4:‬‬
‫أما التكفير باإلطعام‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في جواز المعاشرة قبل التكف ير على‬
‫قولين(‪:)1‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه تح رم علي ه معاش رتها قب ل التكف ير(‪ ،)2‬وه و ق ول أك ثر‬
‫العلماء‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن رجال أتى النبي ‪ ‬فق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬إني تظ اهرت من ام رأتي‪،‬‬
‫ف وقعت عليه ا قب ل أن أكف ر‪ .‬فق ال‪ :‬م ا حمل ك على ذل ك‪ ،‬يرحم ك هللا؟ ق ال‪ :‬رأيت‬
‫خلخالها في ضوء القمر‪ .‬قال‪ :‬فال تقربها حتى تفعل ما أمرك هللا(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه مظ اهر لم يكف ر‪ ،‬فح رم علي ه جماعه ا‪ ،‬كم ا ل و ك انت كفارت ه العت ق أو‬
‫الصيام‪ ،‬وترك النص عليها ال يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن معاشرتها تحل له قبل التكفير‪ ،‬وه و ق ول أبي ث ور ورواي ة‬
‫عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن هللا تع الى لم يمن ع المس يس قبل ه‪ ،‬كم ا في العت ق‬
‫والصيام‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أن حكمه يختلف بحسب حال ه من الفق ر والغ نى‬
‫في الوقت الذي وجبت عليه الكفارة‪ ،‬فإن ك ان ميس ورا وجبت علي ه قب ل المس يس‪،‬‬
‫وإن كان فق يرا بقيت واجب ة في ذمت ه‪ ،‬وح ل ل ه معاش رة زوجت ه‪ ،‬والح ديث ال ذي‬
‫أورده أصحاب القول األول ال يدل على المبالغة الشديدة في التحريم‪ ،‬ولذلك اختلف‬
‫الحكم بحسب اختالف الحال‪.‬‬
‫المباشرة‪:‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬حرمة ذلك‪ ،‬وهو قول الزهري‪ ،‬ومالك‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأبي عبيد‬
‫وأصحاب الرأي‪،‬وأحد قولي الشافعي‪ ،‬ألن ما حرم الوطء من القول ح رم دواعي ه‪،‬‬
‫كالطالق واإلحرام‪.‬‬

‫‪ )( 1‬وذكر ابن قدامة قوال آخر لم يذكر قائله‪،‬قال‪:‬حكي عن بعض الناس أن الكفارة تس قط ; ألن ه ف ات وقته ا ;‬
‫لكونها وجبت قبل المسيس‪ ،‬المغني‪.8/4:‬‬
‫‪ )( 2‬فإذا عاشرها كان عاصيا وليس عليه كفارة إال ما حكي عن عمرو بن العاص‪ ،‬أن علي ه كف ارتين‪ .‬وروي‬
‫ذلك عن قبيصة‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬والزهري‪ ،‬وقتادة ; ألن الوطء يوجب كفارة‪ ،‬والظهار موجب لألخرى‪.‬‬
‫‪ )(3‬ذكره في المغني‪ ،8/4:‬والذي في أحمد عن سلمة بن صخر الزرقي قال‪ :‬تظ اهرت من ام رأتي ثم وقعت‬
‫بها قبل أن أكفر فسألت النبي ‪ ‬فأفتاني بالكفارة‪ ،‬أحمد‪.4/37:‬‬

‫‪315‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إباحة ذلك‪ ،‬وهو ق ول الث وري‪ ،‬وإس حاق‪ ،‬وأبي حنيف ة‪ ،‬وحكي‬
‫عن مالك‪ ،‬وهو القول الثاني للشافعي وقول ألحمد‪ ،‬ألنه وطء يتعلق بتحريم ه م ال‪،‬‬
‫فلم يتجاوزه التحريم‪ ،‬كوطء الحائض‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن المسيس يطل ق في‬
‫االصطالح الق رآني ع ادة على المعاش رة الكامل ة‪ ،‬وفي النهي عن المباش رة تش ديد‬
‫بالغ‪ ،‬يحتاج إلى ما يدل عليه‪ ،‬ألنه ال يصح أن نعاقب بما لم يعاقب به الشرع‪.‬‬
‫العزم على معاشرة المظاهر منها‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار العزم على معاش رة الزوج ة من موجب ات الكف ارة‬
‫بناء على تفسير العود الوارد في اآلية على أقوال كثيرة منها‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن العود هو الوطء‪ ،‬فمتى وطئ لزمت ه الكف ارة‪ ،‬وال تجب قب ل‬
‫ذلك‪ ،‬إال أنها شرط لحل الوطء‪ ،‬فيؤمر بها من أراده ليس تحله به ا‪ ،‬كم ا ي ؤمر بعق د‬
‫النكاح من أراد حل المرأة‪ ،‬وقد حكي هذا الق ول عن الحس ن‪ ،‬والزه ري‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫اس ا ﴾‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿:‬ثُ َّم يَ ُع و ُدونَ لِ َم ا قَ الُوا فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َم َّ‬
‫(المجادلة‪)3:‬فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس‪ ،‬وما حرم قبل الكفارة‪ ،‬ال يج وز‬
‫كونه متقدما عليها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن العود فعل ض د قول ه‪ ،‬ومن ه العائ د في هبت ه‪ ،‬ه و الراج ع في الموه وب‪،‬‬
‫والعائد في عدته‪ ،‬التارك للوفاء بما وعد‪ ،‬والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي عنه‪ ،‬قال هللا‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬ثُم َي ُع و ُدونَ ِل َم ا نُهُ وا عَن هُ﴾(المجادل ة‪ ،)8:‬فالمظ اهر مح رم لل وطء على نفس ه‪،‬‬
‫ومانع لها منه‪ ،‬فالعود فعله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن مع نى‪ :‬ثم يع ودون أي يري دون الع ود‪ ،‬كق ول هللا تع الى‪ِ ﴿ :‬إ َذا قُ ْمتُ ْم ِإ َلى‬
‫اس ت َِع ْذ ِباهَّلل ِ ِم ْن‬‫الصَّ اَل ِة﴾ (المائدة‪ )6:‬أي أردتم ذلك‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪َ ﴿ :‬فإِ َذا َق َر ْأتَ ْالقُ رْ آنَ َف ْ‬
‫الرَّج ِيم﴾(النحل‪ )98:‬أن الظهار يمين مكفرة‪ ،‬فال تجب الكف ارة إال ب الحنث فيه ا‪،‬‬ ‫ان ِ‬ ‫ال َّش ْي َ‬
‫ط ِ‬
‫وهو فعل ما حلف على تركه كسائر األيمان‪ ،‬وتجب الكفارة بذلك كسائر األيمان‪ ،‬وألنه ا‬
‫يمين تقتضي ترك الوطء‪ ،‬فال تجب كفارتها إال به‪ ،‬كاإليالء‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه قصد بالظهار تحريمها‪ ،‬فالعزم على وطئها عود فيما قصده‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الظهار تحريم‪ ،‬فإذا أراد استباحتها‪ ،‬فقد رجع في ذلك التحريم‪ ،‬فكان عائدا‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن الع ود ه و الع زم على ال وطء‪ ،‬وه و ق ول مالك(‪ )1‬وأبي‬
‫عبيد(‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظا ِهرُونَ ِمن نِ َسائِ ِه ْم ث َّم يَ ُع و ُدونَ لِ َم ا ق الوا فتَحْ ِري ُر‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫‪ )( 1‬لمالك في المسألة ثالثة أقوال قال الشيخ أبو القاسم‪ :‬إحدى الروايتين العزم على إمس اكها‪ ،‬والث اني الع زم‬
‫على وطئه ا‪ ،‬ق ال الب اجي‪ »:‬وهم ا عن دي راجع ان إلى مع نى اإلمس اك ; ألن من ع زم على ال وطء فق د ع زم على‬
‫إمساكها إلى أن يطأ‪ ،‬وليس من شرط العزم على اإلمساك أن ينوي إمساكها أبدا بل لو عزم على إمس اكها س نة لك ان‬
‫عازما على اإلمساك « والرواية الثالثة هي أن العزم هو نفس الوطء‪ ،‬انظر‪ :‬المنتقى‪..4/50:‬‬

‫‪316‬‬
‫َرقَبَ ٍة ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَتَ َماسَّا ﴾(المجادلة‪ )3:‬وثم تقتضي المهلة‪ ،‬فدل ذل ك على أن الع ودة‬
‫تكون بعد إيقاع الظهار بمهلة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن قوله تع الى‪ ﴿:‬ثُ َّم يَ ُع و ُدونَ لِ َم ا قَ الوا ﴾(المجادل ة‪ )3:‬يقتض ي أن تك ون‬
‫ُ‬
‫العودة من فعل المظاهر إما عزم وإما غيره وإم ا أن تك ون بمض ي الزم ان وت رك‬
‫طالق فهو عدول عن الظاهر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هذه كفارة يمين فجاز أن يتأخر وجوبها عن اليمين‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ما ذكرنا س ابقا من أن كف ارة الظه ر ترتب ط‬
‫بتلفظه بالكلمة اآلثمة التي ذكرها القرآن وما يشابهها بغض النظ ر عن عزم ة على‬
‫العود أو عدم عزمه‪ ،‬بناء على أن العود المذكور في اآلي ة ق د يك ون وص فا للحال ة‬
‫الغالبة للظهار ال تقييدا لها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنواع كفارة الظهار‬
‫النوع األول‪ :‬عتق رقبة‪:‬‬
‫اتف ق الفقه اء على أن كف ارة المظ اهر الق ادر على اإلعت اق‪ ،‬عت ق رقب ة‪ ،‬ال‬
‫يجزئه غير ذلك لقول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ثُ َّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَالُوا‬
‫فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َماسَّا ﴾(المجادلة‪ ،)3:‬وقول النبي ‪ ‬ألوس بن الصامت‪،‬‬
‫حين ظاهر من امرأته‪ :‬يعتق رقبة‪ .‬قلت‪ :‬ال يجد‪ .‬قال‪ :‬فيصوم)‬
‫واتفق الفقهاء على أنه إن لم يجد رقبة يعتقه ا كم ا ه و حاص ل في عص رنا‪،‬‬
‫فإن له االنتقال إلى الصيام‪ ،‬ومثله من وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن المثل تجحف‬
‫بماله‪ ،‬فإنه ال يلزمه شراؤها؛ ألن فيه ضررا عليه بذلك‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬صيام شهرين متتابعين‪:‬‬
‫اتفق الفقه اء على أن المظ اهر إذا لم يج د رقب ة ف إن فرض ه ص يام ش هرين‬
‫ص يَا ُم َش ه َْر ْي ِن ُمتَتَ ابِ َعي ِْن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن‬
‫متت ابعين‪ ،‬لق ول هللا تع الى‪ ﴿ :‬فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِ‬
‫يَتَ َماسَّا ﴾(المجادلة‪ ،)4:‬ولحديث أوس بن الصامت‪ ،‬وسلمة بن صخر السابقين‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء فيما لو أصابها في ليالي الصوم(‪ ،)1‬هل يفس د م ا مض ى من‬
‫صيامه أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يفسد ما مضى من ص يامه‪ ،‬وبه ذا ق ال مال ك‪ ،‬والث وري‪ ،‬وأب و‬
‫عبيد‪ ،‬وأصحاب الرأي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫اس ا ﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص يَا ُم َش ه َْري ِْن ُمتَتَ ابِ َعي ِْن ِمن ق ْب ِل أن يَتَ َم َّ‬ ‫‪ 1‬ـ أن هللا تع الى ق ال‪ ﴿ :‬فَ ِ‬

‫‪ )( 2‬وقد اختلفوا في وجوب الكفارة على العازم على الوطء‪ ،‬إذا مات أحدهما أو طل ق قب ل ال وطء‪،‬فق ال بع دم‬
‫وجوبها القاضي وأصحابه‪ ،‬وقال بوجوبها مالك‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وقول مالك به ذا يقرب ه من ق ول من ي رى ب أن الظه ار‬
‫نفسه موجب للكفارة كما سبق ذكره‪ ،‬وقد قال أحمد‪ :‬وقال مالك‪ :‬إذا أجمع‪ ،‬لزمته الكفارة‪ ،‬فكيف يكون ه ذا ل و طلقه ا‬
‫ار‪ ،‬لزم ه مث ُل الطالق؟ انظ ر‪ :‬زاد‬
‫بعد ما يُجمع‪ ،‬أكان عليه كفارة إال أن يكون يذهبُ إلى قول طاوس إذا تكلم بالظه ِ‬
‫المعاد‪.5/335:‬‬
‫‪ )(1‬أجمع العلماء على أنه إن وطئها‪ ،‬أو وطئ غيرها‪ ،‬في نهار الشهرين عامدا‪ ،‬أفطر‪ ،‬وانقطع التتابع‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫(المجادلة‪ ،)4:‬فأمر بهما خاليين عن وطء‪ ،‬ولم يأت بهما على م ا أم ر‪ ،‬فلم يجزئ ه‪،‬‬
‫كما لو وطئ نهارا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه تح ريم لل وطء ال يختص النه ار‪ ،‬فاس توى في ه اللي ل والنه ار‬
‫كاالعتكاف‪.‬‬
‫القول الثاني‪:‬أن التتابع ال ينقطع بهذا‪ ،‬وهو مذهب الشافعي‪ ،‬وأبي ث ور‪ ،‬وابن‬
‫المنذر‪ ،‬ورواية عن أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه وطء ال يبطل الصوم‪ ،‬فال يوجب االستئناف‪ ،‬كوطء غيرها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن التتابع في الص يام عب ارة عن إتب اع ص وم ي وم لل ذي قبل ه‪ ،‬من غ ير‬
‫فارق‪ ،‬وهو متحقق‪ ،‬وإن وطئ ليال‪ ،‬ألن ارتكاب النهي في الوطء قبل إتمام ه إذا لم‬
‫يخل بالتتابع المشترط‪ ،‬ال يمنع ص حته وإج زاءه‪ ،‬كم ا ل و وطئ قب ل الش هرين‪ ،‬أو‬
‫وطئ ليلة أول الشهرين وأصبح صائما‪ ،‬واإلتيان بالصيام قبل التماس في ح ق ه ذا‬
‫ال سبيل إليه‪ ،‬سواء بنى أو استأنف‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني لع دم العالق ة بين فع ل المح رم‬
‫وأداء الكفارة‪ ،‬فهو عاص في األول‪ ،‬ومطيع في الثاني‪ ،‬والمعصية ال تنسخ الطاع ة‬
‫إال بدليل خاص‪ ،‬وال دليل هنا على ذلك‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬إطعام ستين مسكينا‪:‬‬
‫أجمع العلم اء على أن المظ اهر إذا لم يج د الرقب ة‪ ،‬ولم يس تطع الص يام‪ ،‬أن‬
‫فرضه إطعام ستين مسكينا سواء عجز عن الصيام لكبر‪ ،‬أو مرض يخاف بالص وم‬
‫تباطؤه أو الزيادة فيه‪ ،‬أو الشبق فال يصبر فيه عن الجم اع‪،‬فعن أوس بن الص امت‪،‬‬
‫لما أمره رسول هللا ‪ ‬بالصيام‪ ،‬قالت امرأته‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنه شيخ كب ير‪ ،‬م ا ب ه‬
‫من صيام‪ .‬قال‪ :‬فليطعم ستين مسكينا) (‪.)1‬‬
‫ولما أمر س لمة بن ص خر بالص يام ق ال‪ :‬وه ل أص بت ال ذي أص بت إال من‬
‫الصيام‪ ،‬قال‪ :‬ف أطعم)‪ ،‬فنقل ه إلى اإلطع ام لم ا أخ بر أن ب ه من الش بق والش هوة م ا‬
‫يمنعه من الصيام‪.‬‬
‫ويجوز أن ينتقل إلى اإلطعام إذا عجز عن الصيام للمرض‪ ،‬وإن كان مرج و‬
‫الزوال‪ ،‬بخالف السفر‪ ،‬فإنه ال يجوز‪،‬ألن السفر ال يعج زه عن الص يام‪ ،‬ول ه نهاي ة‬
‫ينتهي إليه ا وه و من أفعال ه االختياري ة‪ ،‬وذل ك كل ه لقولهتع الى‪ ﴿ :‬فَ َم ْن لَ ْم يَ ْس تَ ِط ْع‬
‫فَإِ ْ‬
‫ط َعا ُم ِستِّينَ ِم ْس ِكينًا ﴾ (المجادلة‪)4:‬‬
‫ثانيا ـ اإليالء‬
‫اختلفت تعاريف اإليالء بحسب اآلراء الفقهية المختلفة‪ ،‬ومن تعاريفه‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هو عبارة عن اليمين على ترك الوطء في الزوجة مدة مخصوصة بحيث‬

‫‪ )(1‬أحمد ‪ 6/410‬وغيره‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫ال يمكنه الوطء إال بحنث يلزمه بسبب اليمين(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ هو حلف زوج يمكنه الوطء باهلل تعالى أو ص فته ك الرحمن ال رحيم على‬
‫ترك وطء زوجته في قبلها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر(‪.)2‬‬
‫‪ 1‬ـ حقيقة اإليالء‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء اختالفا ش ديدا من ل دن الس لف في حقيق ة اإليالء‪ ،‬ف روي عن‬
‫علي وابن عباس أنه إذا حلف أن ال يقربها ألجل الرضاع لم يكن موليا‪ ،‬وإنما يكون‬
‫موليا إذا حلف أن ال يجامعها على وجه الضرار والغض ب‪ ،‬وروي عن ابن عب اس‬
‫أن كل يمين حالت دون الجماع إيالء؛ ولم يفرق بين الرض ا والغض ب‪ ،‬وه و ق ول‬
‫إبراهيم وابن سيرين والشعبي‪ ،‬وروي عن سعيد بن المسيب‪ :‬أنه في الجماع وغيره‬
‫من الصفات‪ ،‬نحو أن يحلف أن ال يكلمها فيكون موليا‪ ،‬وروي عن ابن عمر أن ه إن‬
‫هجرها فهو إيالء‪ ،‬ولم يذكر الحلف‪.‬‬
‫وانطالق ا من ه ذه التع اريف وغيره ا يمكن الق ول ب أن اإليالء يتك ون من‬
‫حقيقتين متغ ايرتين على أساس هما تب نى المقاص د الش رعية في ه ذا الب اب‪ ،‬إح دى‬
‫الحقيقتين تعبدية محضة‪ ،‬وهي كون اإليالء يمينا كسائر األيم ان‪ ،‬واألخ رى تتعل ق‬
‫بالزوجة‪ ،‬ويتعدى أثرها إليها‪ ،‬وهي المقصودة من اإليالء باألصالة‪ ،‬وهي االمتن اع‬
‫عن معاشرة الزوجة فترة معينة‪.‬‬
‫ولعل هذا ه و الس ر في ت رتيب النظم الق رآني بين اإليالء والقس م من جه ة‪،‬‬
‫واإليالء والطالق من جهة أخ رى‪ ،‬ب ل في ه ذا ال ترتيب من الن واحي ال تي نس تفيد‬
‫منها في استنباط المقاصد القرآنية من تشريع أحكام اإليالء ما فيه‪.‬‬
‫ص لِحُوا‬ ‫ضةً أِل َ ْي َم انِ ُك ْم أَ ْن تَبَ رُّ وا َوتَتَّقُ وا َوتُ ْ‬
‫فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬واَل تَجْ َعلُوا هَّللا َ عُرْ َ‬
‫اس َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم ﴾(البقرة‪ ،)224:‬وكأن ه ذه اآلي ة وهي عام ة في داللته ا‬ ‫بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫تتح دث عن اإليالء خصوص ا‪ ،‬لتش ير إلى ع دم اتخ اذ األيم ان ح ائال بين العب د‬
‫والرجوع لزوجت ه‪ ،‬ف إن اس م هللا عظيم‪ ،‬وم ع ذل ك ال ينبغي أن يتخ ذ اس مه تع الى‬
‫ذريعة للتقاطع والفساد‪.‬‬
‫ثم جاء بعدها رفع المؤاخذة عن اللغو في األيمان ال تي ليس فيه ا أي ض رر‪،‬‬
‫ت قُلُ وبُ ُك ْم َوهَّللا ُ‬ ‫ُؤَاخ ُذ ُك ْم هَّللا ُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَ ْي َمانِ ُك ْم َولَ ِك ْن يُؤ ِ‬
‫َاخ ُذ ُك ْم بِ َما َك َس بَ ْ‬ ‫فقال تعالى‪﴿:‬اَل ي ِ‬
‫َغفُو ٌر َحلِي ٌم﴾ (البقرة‪)225 :‬‬
‫وبعدها جاءت آية اإليالء‪ ،‬وجمع فيها بين كلتا الحقيقتين‪ ،‬أم ا الحقيق ة األولى‬
‫فعبر عنها بقوله تعالى‪﴿:‬لِلَّ ِذينَ ي ُْؤلُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ت ََربُّصُ أَرْ بَ َع ِة أَ ْشه ٍُر فَإِ ْن فَ ا ُءوا فَ إِ َّن‬
‫هَّللا َ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾(البق رة‪ ،)226:‬فختمت ب المغفرة‪ ،‬وق دمت لبي ان كونه ا األولى‪،‬‬
‫وعبر عن الحقيق ة الثاني ة بقول ه تع الى‪َ ﴿:‬وإِ ْن َعزَ ُم وا الطَّاَل َ‬
‫ق فَ إِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾‬
‫(البقرة‪)227:‬‬

‫‪ )(1‬تحفة الفقهاء‪.2/203:‬‬
‫‪ )(2‬الروض المربع‪.3/190:‬‬

‫‪319‬‬
‫وبع دها ج اءت أحك ام الطالق في س ورة البق رة‪ ،‬مبت دأة بقول ه تع الى‪:‬‬
‫ات يَت ََربَّصْ نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن ثَاَل ثَةَ قُرُو ٍء‪َ ..‬وهَّللا ُ ع ِ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾(البقرة‪)228:‬‬ ‫﴿ َو ْال ُمطَلَّقَ ُ‬
‫‪ 2‬ـ أحكام اإليالء‬
‫اتف ق الفقه اء على حرم ة اإليالء‪ ،‬ب ل ع ده بعض هم من الكب ائر‪ ،‬كم ا ع د‬
‫الظهار‪ ،‬قال ابن حجر‪( :‬عدي لهذا كبيرة غير بعيد‪ ،‬وإن لم أر من ذكره كالذي قبله‬
‫؛ ألن فيه مضارة عظيمة للزوجة؛ ألن صبرها عن الرجل يفنى بعد األربعة أش هر‬
‫كما قالته حفصة أم المؤمنين ألبيها عمر‪ ،‬ف أمر أن ال يغيب أح د عن زوجت ه ذل ك‪،‬‬
‫ولعظيم هذه المضرة أباح الشارع للقاضي إذا لم يطأ الزوج بع د األربع ة أش هر أن‬
‫يطلق عليه طلقة(‪)1‬‬
‫وسنفصل هنا الكالم عن أحكام اإليالء بحسب ما ذكرن اه في حقيقت ه‪ ،‬فحقيق ة‬
‫اإليالء تتكون من هذه األسس الخمسة التي ترجع إلى المعنيين اللذين ذكرناهم ا في‬
‫حقيقته‪:‬‬
‫وجود القسم في اإليالء‬
‫ألن معنى اإليالء لغة وشرعا هو القسم‪ ،‬ولذلك لو ترك الوطء بغير يمين‪ ،‬لم‬
‫يكن موليا‪ ،‬ولكن إن ترك ذل ك لع ذر من م رض‪ ،‬أو غيب ة‪ ،‬ونح وه‪ ،‬لم تض رب ل ه‬
‫مدة‪ ،‬أما إن تركه مضرا بها‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ضرب مدة له على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تضرب له مدة أربعة أش هر‪ ،‬ف إن وطئه ا‪ ،‬وإال دعي بع دها إلى‬
‫الوطء‪ ،‬فإن امتنع منه‪ ،‬أمر ب الطالق‪ ،‬مثلم ا يفع ل في اإليالء‪ ،‬وه و ق ول الحنابل ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه أضر بها بترك الوطء في مدة اإليالء‪ ،‬فيل زم حكم ه‪ ،‬كم ا ل و حل ف‪،‬‬
‫وألن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه‪ ،‬وجب أداؤه إذا لم يحل ف‪ ،‬كالنفق ة وس ائر‬
‫الواجبات‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن اليمين ال تجعل غير الواجب واجبا إذا أقسم على تركه‪ ،‬فوجوبه معها‬
‫يدل على‪ ،‬وجوبه قبلها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن وجوبه في اإليالء إنما كان لدفع حاجة المرأة‪ ،‬وإزالة الض رر عنه ا‪،‬‬
‫وضررها ال يختلف باإليالء وعدمه‪ ،‬فال يختلف الوجوب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن اإليالء إنم ا خص ذك ره في الش رع بتل ك التفاص يل‪ ،‬ألن ه ي دل على‬
‫قصد اإلضرار‪ ،‬فيتعلق الحكم به‪ ،‬فإذا لم يظهر منه قصد اإلضرار‪ ،‬اكتفي بداللت ه‪،‬‬
‫وإذا لم توج د اليمين‪ ،‬احتجن ا إلى دلي ل س واه ي دل على المض ارة‪ ،‬فيعت بر اإليالء‬
‫لداللته على المقتضى ال لعينه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال تضرب له مدة‪ ،‬وهو مذهب أبي حنيفة‪ ،‬والشافعي‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ليس بمول‪ ،‬فلم تضرب له مدة‪ ،‬كما لو لم يقصد اإلضرار‪.‬‬

‫‪ )(1‬الزواجر‪.2/84:‬‬

‫‪320‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تعليق الحكم باإليالء يدل على انتفائه عند عدمه‪ ،‬إذ لو ثبت هذا الحكم‬
‫بدونه‪ ،‬لم يكن له أثر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن من آلى بغ ير قس م ال يعت بر مولي ا‪ ،‬من‬
‫الناحية التعبدية في اإليالء‪ ،‬ولكن حكمه في حال مطالبة الزوجة ال يختلف عن حكم‬
‫المولي‪ ،‬ألن الغرض من األث ر ال ذي رتب ه الش رع على اإليالء ه و الض رر ال ذي‬
‫يصيب المرأة‪ ،‬وهذا الضرر يتحقق بالقس م وعدم ه‪ ،‬ب ل إن أث ر القس م أم ر خ اص‬
‫بالمولي ألن وجوب الكفارة ال عالقة له بالزوجة من ق ريب وال من بعي د‪ ،‬إنم ا ه و‬
‫أمر تعبدي شرع لقصد تربوي‪.‬‬
‫وه ذا التفري ق أم ر أساس ي ألن معظم أحك ام اإليالء المرتبط ة باأليم ان‪ ،‬ال‬
‫تخرج من حيث مقاصدها وأدلتها عن س ائر األيم ان‪ ،‬وإنم ا يخص ه ذا الب اب هن ا‬
‫الضرر المتعدي للمرأة بسبب ذلك اليمين‪.‬‬
‫القسم باهلل تعالى أو بصفة من صفاته‬
‫اتفق الفقهاء على أن الحلف بذلك إيالء‪ ،‬واختلفوا فيم ا ل و حل ف بغ ير ذل ك‪،‬‬
‫مثل أن يحلف بطالق‪ ،‬أو عتاق‪ ،‬أو صدقة المال‪ ،‬أو الحج‪ ،‬أو الظهار على األق وال‬
‫التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ال يكون موليا بذلك‪ ،‬وهو قول الش افعي الق ديم‪ ،‬ورواي ة عن‬
‫أحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن فَ ا ُءوا فَ إِ َّن هَّللا َ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾(البق رة‪ ،)226:‬وإنم ا‬
‫يدخل الغفران في اليمين باهلل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ النصوص الناهية عن الحلف بغير هللا كق ول الن بي ‪(:‬من حل ف بغ ير‬
‫هللا فقد أشرك)(‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ أن اإليالء المطلق إنما هو القسم‪ ،‬ولهذا ق رأ أبي وابن عب اس (يقس مون)‬
‫مكان‪ :‬يؤلون‪ ،‬وروي عن ابن عباس في تفسير يؤلون قال‪ :‬يحلفون باهلل‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن التعليق بشرط ليس بقسم ولهذا ال يؤتى فيه بح رف القس م‪ ،‬وال يج اب‬
‫بجوابه‪ ،‬وال يذكره أهل العربية في باب القس م‪ ،‬فال يك ون إيالء‪ ،‬وإنم ا يس مى حلف ا‬
‫تجوزا‪ ،‬لمشاركته القسم في المعنى المش هور في القس م‪ ،‬وه و الحث على الفع ل أو‬
‫المنع منه‪ ،‬أو توكيد الخبر‪ ،‬والكالم عند إطالقه لحقيقته‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬كل يمين من حرام أو غيرها‪ ،‬يجب به ا كف ارة‪ ،‬يك ون الح الف‬
‫بها موليا‪ ،‬وأما الطالق والعت اق‪ ،‬فليس الحل ف ب ه إيالء‪ ،‬وه و ق ول عن د الحنابل ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأنه يتعل ق ب ه ح ق آدمي‪ ،‬وم ا أوجب كف ارة تعل ق به ا ح ق هللا‬
‫تعالى‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أنه م ول ب ذلك‪ ،‬وق د روي عن ابن عب اس‪ ،‬وب ه ق ال الش عبي‪،‬‬

‫‪ )(1‬ابن حبان‪ ،10/200 :‬الحاكم‪ ،1/117 :‬الترمذي‪ ،4/110:‬البيهقي‪ ،10/29 :‬أبو داود‪.3/223 :‬‬

‫‪321‬‬
‫والنخعي‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأهل الحجاز والثوري‪ ،‬وأب و حنيف ة‪ ،‬وأه ل الع راق والش افعي‪،‬‬
‫وأبو ثور‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها يمين منعت جماعها فكانت إيالء‪ ،‬كالحلف باهلل تعالى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تعلي ق الطالق والعت اق على وطئه ا حل ف‪ ،‬ب دليل أن ه ل و ق ال‪ :‬م تى‬
‫حلفت بطالقك‪ ،‬فأنت طالق‪ .‬ثم قال‪ :‬إن وطئتك‪ ،‬فأنت طالق‪ .‬طلقت في الحال‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار هذا النوع من القس م إيالء م ع الق ول‬
‫بأنه أشد حرمة من اإليالء الذي يقسم فيه باسم هللا تعالى‪ ،‬ألن ه ذا جم ع بين اإليالء‬
‫المح رم‪ ،‬والقس م المح رم‪ ،‬ولكن القس م المح رم م ع ذل ك ال يغني ه عن الكف ارة من‬
‫الناحية الشرعية النصية أو من الناحية المقاصدية‪.‬‬
‫أما الناحية الشرعية النصية‪ ،‬فال يمكن ذكر األدلة عليه ا هن ا فمحله ا أب واب‬
‫األيمان من الفقه‪ ،‬ولكن النظرة المقاصدية المبنية على مالحظة الواقع قد تش ير إلى‬
‫اس تحباب الق ول بوج وب التكف ير عن اليمين مطلق ا‪ ،‬ف الكثيرمن الن اس إذا علم أن‬
‫الحلف باهلل يوجب الكفارة انتقل عنه للحلف بغ يره‪ ،‬فيك ون في الق ول بع دم الكف ارة‬
‫داعية للحلف بغير هللا‪.‬‬
‫هذا بالنسبة لأليم ان مطلق ا‪ ،‬أم ا بالنس بة لإليالء خصوص ا‪ ،‬ف إن ه ذا النص‬
‫القرآني يكاد يصرح به‪ ،‬فاهلل تعالى ذكر اإليالء الذي هو الحلف مطلقا‪ ،‬والحلف هو‬
‫نوع من العزم المؤكد‪ ،‬وهذا الع زم المؤك د يت وفر في ك ل قس م‪ ،‬وقول ه ‪ ‬الس ابق‬
‫دليل على تسمية الحلف بغير هللا حلفا‪ ،‬ولكن اإلنكار تعلق بكونه بغير هللا‪.‬‬
‫ثم إن فتح القول بعدم اعتبار الحلف بغير هللا إيالء يجعل من هذه الثغرة حيلة‬
‫لإليالء الذي يرضي الهوى ويحيي الجاهلية بدون تعب والتكلف‪.‬‬
‫قصد اإلضرار‬
‫وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم اعتبار ه ذا الش رط‪ ،‬وق د روي ذل ك عن ابن مس عود‪ ،‬وب ه‬
‫قال الثوري‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأهل العراق وابن المنذر‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عموم آية اإليالء‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه منع نفسه عن جماعها بيمينه فكان موليا‪ ،‬كحال الغضب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن حكم اإليالء يثبت لحق الزوجة‪ ،‬فيجب أن يثبت سواء قصد اإلض رار‬
‫أو لم يقصد‪ ،‬كاستيفاء ديونها‪ ،‬وإتالف مالها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الطالق والظهار وسائر األيمان سواء في الغض ب والرض ى‪ ،‬فك ذلك‬
‫اإليالء‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغض ب والرض ى‪ ،‬فك ذلك‬
‫في اإليالء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اعتبار هذا الشرط‪ ،‬فمن حلف مثال أن ال يطأ زوجته حتى تفطم‬
‫ولده‪ ،‬ال يك ون إيالء‪ ،‬إذا أراد اإلص الح لول ده‪ ،‬وق د وروي عن علي وابن عب اس‪،‬‬

‫‪322‬‬
‫والحسن‪ ،‬والنخعي‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وبه قال مالك‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأبو عبي د‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ عن علي قال‪ :‬ليس في إصالح إيالء‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عن ابن عباس قال‪ :‬إنما اإليالء في الغضب‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و اعتب ار القص د‪ ،‬ألن أن واع المقاص د في‬
‫األيمان كثيرة‪ ،‬فيها الطيب والخبيث والصالح والفاسد‪ ،‬فقد يحلف اإلنسان لضرورة‬
‫من الضرورات أو مصلحة من المص الح على ع دم معاش رة زوجت ه ف ترة معين ة‪،‬‬
‫ويجعل من ذلك الحل ف وس يلته لتحقي ق مقص ده‪ ،‬ألن ه ل و ت رك لنفس ه الستعص ت‬
‫علي ه‪ ،‬فيجع ل من اليمين أو الن ذر ونحوهم ا رادع ا يردع ه عن اإلتي ان بم ا ي رى‬
‫المصلحة في خالله‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪ ‬في الحديث‪( :‬إني وهللا ال أحلف على يمين فأرى غيره ا خ يرا‬
‫منها‪ ،‬إال أتيت الذي هو خير‪ ،‬وتحللتها) (‪)2‬‬
‫اإليالء حال الغضب‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار اإليالء إن وقع في حال الغضب على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال يص ح اإليالء إال على وج ه مغاض بة ومناك دة أال يجامعه ا‬
‫إضرار بها سواء كان في ضمن ذلك إصالح ولد أم لم يكن‪ ،‬فإن لم يكن عن غضب‬
‫فليس ب إيالء‪ ،‬وه و ق ول ابن عب اس‪ ،‬وروى عن علي بن أبى ط الب في المش هور‬
‫عنه‪ ،‬وقاله الليث والشعبى والحسن وعطاء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها إيالء س واء ك انت اليمين في غض ب أم ال‪ ،‬وه و ق ول ابن‬
‫مسعود والثورى ومالك وأهل العراق والشافعى وأصحابه وأحم د إال أن مالك ا ق ال‬
‫ما لم يرد إصالح ولد‪ ،‬قال ابن المن ذر‪( :‬وه ذا أص ح ألنهم لم ا أجمع وا أن الظه ار‬
‫والطالق وسائر األيم ان س واء في ح ال الغض ب والرض ا ك ان اإليالء) (‪ ،)3‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عموم القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل وال يؤخذ من وجه يلزم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار القص د مطلق ا س واء حص ل من ه في‬
‫حال الغضب أم في حال الرضا‪ ،‬مثلما ذكرنا في الطالق‪ ،‬ولكن الكفارة تترتب عليه‬
‫في حال فيئه في كلتا الحالتين لعالقتها باليمين‪.‬‬
‫وقد يكون الخالف في المسألة مع ذلك خالفا لفظيا‪ ،‬ألن العبرة بفيئه في المدة‬
‫‪ )(1‬القرطبي‪ ،3/106 :‬الطبري‪.2/419 :‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،3/1140 :‬مسلم‪ ،3/1270 :‬الح اكم‪ ،4/334 :‬ال بيهقي‪ ،10/31 :‬أب و داود‪ ،3/229 :‬النس ائي‪:‬‬
‫‪ ،3/126‬ابن ماجة‪.1/681 :‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪.3/106 :‬‬

‫‪323‬‬
‫المعينة وعدم فيئه‪ ،‬فإن فاء فبها‪ ،‬وإن لم يفئ وطالبت زوجته بفيئ ه‪ ،‬ف إن له ا الح ق‬
‫في ذلك كما رأينا سابقا‪ ،‬ولو بدون قسم‪.‬‬
‫مدة اإليالء‬
‫ربم ا يك ون أهم األس س ال تي يق وم عليه ا اإليالء ه و تحدي د الم دة‪ ،‬ب ل إن‬
‫تحديدها ه و المف رق بين أن واع اإليالء المختلف ة‪ ،‬المب اح منه ا والمح رم‪ ،‬ف إذا آلى‬
‫المؤمن مثال من أهله لمصلحة من المصالح مدة معينة ال تتضرر به ا الم رأة وك ان‬
‫في ذلك مصلحة معينة‪ ،‬فال حرج عليه في ذلك‪ ،‬بل ق د روي أن ه ‪ ‬آلى من نس ائه‬
‫شهرا‪.‬‬
‫وقد بين سيد سر التشريع القرآني لتحدي د الم دة في اإليالء بقول ه‪( :‬إن هن اك‬
‫حاالت نفسية واقعة‪ ،‬تلم بنفوس بعض األزواج‪ ،‬بسبب من األسباب في أثناء الحي اة‬
‫الزوجية ومالبساتها الواقعية الكثيرة‪ ،‬ت دفعهم إلى اإليالء بع دم المباش رة‪ ،‬وفي ه ذا‬
‫الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوج ة ؛ ومن إض رار به ا نفس يا وعص بيا ؛ ومن‬
‫إهدار لكرامتها ك أنثى ؛ ومن تعطي ل للحي اة الزوجي ة ؛ ومن جف وة تم زق أوص ال‬
‫العشرة‪ ،‬وتحطم بنيان األس رة حين تط ول عن أم د معق ول‪ ،‬ولم يعم د اإلس الم إلى‬
‫تحريم هذا اإليالء منذ البداية‪ ،‬ألنه قد يكون عالجا نافعا في بعض الحاالت للزوج ة‬
‫الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرج ل وإذالل ه أو اعنات ه‪.‬‬
‫كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم‪ ،‬أو ثورة غض ب‪ ،‬تع ود بع ده الحي اة‬
‫أنشط وأقوى(‪)1‬‬
‫فهذه هي الناحية األولى المالحظة في تش ريع اإليالء وع دم اعتب اره طالق ا‪،‬‬
‫فهو تعبير عن حالة من األح وال النفس ية ال تي تع تري الحي اة الزوجي ة‪ ،‬ولكن ه ذه‬
‫الحالة لو تركت على إطالقها تكون فيها المفس دة العظيم ة‪ ،‬ق ال س يد موض حا ه ذا‬
‫المعنى‪(:‬ولكنه لم يترك الرجل مطلق اإلرادة كذلك‪ ،‬ألن ه ق د يك ون باغي ا في بعض‬
‫الحاالت يريد إعنات المرأة وإذاللها ؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة‪ ،‬ال تستمتع بحي اة‬
‫زوجي ة مع ه‪ ،‬وال تنطل ق من عقاله ا ه ذا لتج د حي اة زوجي ة أخ رى‪ ،‬فتوفيق ا بين‬
‫االحتماالت المتع ددة‪ ،‬ومواجه ة للمالبس ات الواقعي ة في الحي اة‪ .‬جع ل هنال ك ح دا‬
‫أقص ى لإليالء ال يتج اوز أربع ة أش هر‪ ،‬وه ذا التحدي د ق د يك ون منظ ورا في ه إلى‬
‫أقص ى م دى االحتم ال‪ ،‬كي ال تفس د نفس الم رأة‪ ،‬فتتطل ع تحت ض غط حاجته ا‬
‫الفطرية إلى غير رجلها الهاجر)(‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ آثار اإليالء‬
‫نص الفقهاء على أنه ينتج عن اإليالء اآلث ار التالي ة م ع اختالف بين الفقه اء‬
‫في تفاصيلها‪:‬‬
‫األثر األول‪ :‬التفريق بين الزوجة والمولي عند عدم الفيئ‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.1/244:‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.1/244:‬‬

‫‪324‬‬
‫اختل ف الفقه اء في كيفي ة التفري ق بين الم ولي والزوج ة‪ ،‬ه ل تطل ق بنفس‬
‫مضي المدة أم ال‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال تطل ق بنفس مض ي الم دة‪ ،‬ب ل يض اف إلى ذل ك أن ترافع ه‬
‫امرأته إلى الحاكم‪ ،‬الذي يوقفه‪ ،‬ويأمره بالفيئة‪ ،‬فإن أبى أم ره ب الطالق‪ ،‬وه و ق ول‬
‫ابن عمر‪ ،‬وعائشة وأبي الدرداء‪ ،‬وبهذا قال س عيد بن المس يب‪ ،‬وع روة‪ ،‬ومجاه د‪،‬‬
‫وط اوس‪ ،‬ومال ك‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وإس حاق‪ ،‬وأب و عبي د‪ ،‬وأب و ث ور‪ ،‬وابن المن ذر‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬لِل ِذينَ ي ُْؤلونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ت ََربُّصُ أرْ بَ َع ِة أ ْشه ٍُر فَ إِ ْن فَ ا ُءوا‬
‫فَإِ َّن هَّللا َ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾(البق رة‪ ،)226:‬وظ اهر اآلي ة ي دل على أن الفيئ ة بع د أربع ة‬
‫أشهر ؛ لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب‪.‬‬
‫ق فَ إِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾(البق رة‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ قول ه تع الى بع دها‪َ ﴿:‬وإِ ْن َعزَ ُم وا الطَّاَل َ‬
‫‪،)227‬ولو وقع بمضي المدة‪ ،‬لم يحتج إلى عزم عليه‪ ،‬وقوله ﴿ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم ﴾ يقتضي‬
‫أن الطالق مسموع‪ ،‬وال يكون المسموع إال كالما‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه قول أكثر الصحابة‪ ،‬قال سليمان بن يسار‪ :‬كان تسعة عش ر رجال من‬
‫أصحاب محمد ‪ ‬يوقفون في اإليالء‪ ،‬وقال سهيل بن أبي صالح‪ :‬سألت اثني عشر‬
‫من أصحاب النبي ‪ ‬فكلهم يق ول‪ :‬ليس علي ه ش يء‪ ،‬ح تى يمض ي أربع ة أش هر‪،‬‬
‫فيوقف‪ ،‬فإن فاء‪ ،‬وإال طلق(‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ أنها مدة ضربت له تأجيال‪ ،‬فلم يستحق المطالبة فيها‪ ،‬كسائر اآلجال‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع‪ ،‬فال يتقدمها وقوع‪ ،‬كم دة العن ة‪ ،‬ألن الطالق‬
‫ال يقع إال بمضيها‪ ،‬ألن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها‪ ،‬ويعرف عجزه عن الوطء‬
‫بتركه في مدتها‪ ،‬وهذه ض ربت ت أخيرا ل ه وت أجيال‪ ،‬وال يس تحق المطالب ة إال بع د‬
‫مضي األجل‪ ،‬كالدين‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا مضت أربعة أشهر‪ ،‬طلقت من ه من غ ير رف ع للح اكم‪ ،‬ألن‬
‫اإليالء عندهم طالق معلق‪ ،‬قال الكاساني‪( :‬أما الذي يرج ع إلى ال وقت فه و مض ي‬
‫م دة اإليالء‪ ،‬وه و ش رط وق وع الطالق ب اإليالء ح تى ال يق ع الطالق قب ل مض ي‬
‫المدة ؛ ألن اإليالء في ح ق أح د الحكمين ‪ -‬وه و ال بر ‪ -‬طالق معل ق بش رط ت رك‬
‫الفيء في مدة اإليالء لقوله تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن َعزَ ُموا الطَّاَل َ‬
‫ق فَإِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾(البق رة‪:‬‬
‫‪ ،)227‬وروي عن ابن عباس‪ ،‬وعدة من الصحابة أنه إن ع زم الطالق ت رك الفيء‬
‫إليها أربعة أشهر فقد جعل ترك الفيء أربعة أشهر شرط وقوع الطالق في اإليالء)‬
‫(‪)2‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول ألن ذل ك ح ق للم رأة كس ائر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سنن سعيد بن منصور‪.2/56 :‬‬


‫‪ )(2‬بدائع الصنائع‪.3/161:‬‬

‫‪325‬‬
‫حقوقها‪ ،‬تستطيع أن تطالب بالتفريق على أساسه ولها أن ال تطالب‪ ،‬والقول بوق وع‬
‫الطالق بع د مض ي الم دة ب دون طلب يح ول اإليالء إلى ن وع من أن واع الطالق‪،‬‬
‫وتنتفي بذلك الخصوصية التي جعلها الشرع ل ه‪ ،‬وأعظم مض رة ل ذلك هي اإلكث ار‬
‫من الطالق الذي حصره الشرع في أضيق األبواب‪.‬‬
‫تفريق القاضي عند عدم الفيئ‪:‬‬
‫نص الفقه اء على أن ه إذا امتن ع الم ولي من الفيئ ة بع د ال تربص‪ ،‬أو امتن ع‬
‫المعذور من الفيئة بلسانه‪ ،‬أو امتنع من الوطء بعد زوال عذره‪ ،‬أم ر ب الطالق‪ ،‬ف إن‬
‫طلق‪ ،‬وقع طالقه الذي أوقعه‪ ،‬واحدة كانت أو أكثر‪ ،‬وليس للحاكم إجباره على أكثر‬
‫من طلقة ؛ ألنه يحصل الوفاء بحقها به ا؛ فإنه ا تفض ي إلى البينون ة‪ ،‬والتخلص من‬
‫ضرره‪ ،‬وقد اختلفوا في حال امتناعه من الطالق‪ ،‬هل يطلق لحاكم عليه أم ال‪ ،‬على‬
‫قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يطلق الحاكم عليه‪ ،‬وليس للحاكم أن يأمر بالطالق وال يطل ق إال‬
‫أن تطلب المرأة ذلك ؛ ألنه حق لها‪ ،‬وإنما الحاكم يستوفي لها الحق‪ ،‬وهو قول مالك‬
‫ورواية عن أحمد‪ ،‬وقول للشافعية‪ ،‬ألن ما دخلته النيابة‪ ،‬وتعين مستحقه‪ ،‬وامتنع من‬
‫هو عليه‪ ،‬قام الحاكم مقامه فيه‪ ،‬كقضاء الدين‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ليس للح اكم الطالق علي ه‪ ،‬ب ل يحبس ه‪ ،‬ويض يق علي ه‪ ،‬ح تى‬
‫يفيء‪ ،‬أو يطلق‪ ،‬وهو رواية عن أحمد‪ ،‬وقول للشافعية‪ ،‬وهو قول الظاهرية‪ ،‬ألن ما‬
‫خير الزوج فيه بين أمرين‪ ،‬لم يقم الحاكم مقامه فيه كاالختي ار لبعض الزوج ات في‬
‫حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أنه إن اقتصرت المدة على أربعة اشهر فقط ه و‬
‫األخذ بالقول الثاني‪ ،‬أما إن طالت المدة‪ ،‬واستعملت كل الوسائل‪ ،‬ولم يرج ع ال زوج‬
‫لزوجته‪ ،‬ب ل بقي مص را على إض راره به ا‪ ،‬ف إن له ا الح ق في طلب التفري ق من‬
‫زوجها‪ ،‬وللقاضي أن يطلقها منه دفعا للضرر‪.‬‬
‫نوع التفريق‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في نوع الطالق الواجب على المولي‪ ،‬هل هو رجعي أو ب ائن‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هي تطليقة بائنة‪ ،‬وروي ذل ك عن عثم ان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وزي د‪ ،‬وابن‬
‫عمر‪ ،‬وابن مس عود‪ ،‬وابن عب اس‪ ،‬وعكرم ة‪ ،‬وج ابر بن زي د‪ ،‬وعط اء‪ ،‬والحس ن‪،‬‬
‫ومس روق‪ ،‬وقبيص ة‪ ،‬والنخعي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وابن أبي ليلى‪ ،‬وأص حاب ال رأي‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ابن مسعود وعمر كان ا يق والن‪(:‬إذا مض ت أربع ة أش هر فهي ط الق‬
‫بائنة وهي أحق بنفسها) (‪)1‬‬

‫‪ )(1‬الطبري‪.2/431 :‬‬

‫‪326‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هذه مدة ضربت الستدعاء الفعل منه‪ ،‬فكان ذلك في المدة كمدة العنة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هو طالق رجعي‪ ،‬س واء أوقع ه بنفس ه‪ ،‬أو طل ق الح اكم علي ه‪،‬‬
‫وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن‪ ،‬ومكحول‪ ،‬والزهري‪ ،‬وهو ق ول الش افعي‪،‬‬
‫وروي عن أحمد أن فرقة الحاكم تكون بائنة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه طالق صادف مدخوال بها من غير ع وض‪ ،‬وال اس تيفاء ع دد‪ ،‬فك ان‬
‫رجعيا‪ ،‬كالطالق في غير اإليالء‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ال يصح قياسه على فراق العنة‪ ،‬ألنها فسخ لعيب‪ ،‬وهذه طلقة‪ ،‬وألن ه‬
‫لو أبيح له ارتجاعها‪ ،‬لم يندفع عنها الض رر‪ ،‬وه ذه ين دفع عنه ا الض رر ؛ فإن ه إذا‬
‫ارتجعه ا‪ ،‬ض ربت ل ه م دة أخ رى‪ ،‬وألن الع نين ق د يئس من وطئ ه‪ ،‬فال فائ دة في‬
‫رجعته‪ ،‬وهذا غير عاجز‪ ،‬ورجعته دلي ل على رغبت ه وإقالع ه عن اإلض رار به ا‪،‬‬
‫فافترقا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة التفريق بين طالقه هو وتطليق الحاكم عليه‪ ،‬أم ا‬
‫طالقه هو‪ ،‬فهو كسائر الطالق‪ ،‬طالق رجعي يمكن رجعتها في العدة‪ ،‬وال يحتس ب‬
‫عليه إال طلقة واحدة‪ ،‬كما ذكرنا أدلة ذلك في صيغة الطالق‪.‬‬
‫أم ا تطلي ق الح اكم‪ ،‬فه و فس خ‪ ،‬ألن الطالق ال يك ون إال من ال زوج‪ ،‬وك ل‬
‫تطليق للحاكم فسخ كما رأينا في الفصل الخاص بحل العصمة الزوجية بيد القضاء‪،‬‬
‫وفي ذلك من المصلحة عدم تكث ير الطالق رعاي ة لمقص د الش ارع من إتاح ة أك ثر‬
‫الفرص للرجعة‪.‬‬
‫األثر الثاني ـ لزوم الكفارة عند الرجوع للزوجة‬
‫اتفق الفقهاء على أن الفيئة(‪ )1‬للزوجة هي الجم اع‪ ،‬ق ال ابن المن ذر‪( :‬أجم ع‬
‫كل من نحف ظ عن ه من أه ل العلم‪ ،‬على أن الفيء الجم اع) (‪ ،)2‬أم ا ل و وطئ دون‬
‫الفرج‪ ،‬فال يكون ذلك فيئة‪ ،‬ألنه ليس بمحلوف على تركه‪ ،‬وال يزول الضرر بفعله‪،‬‬
‫واختلفوا في لزوم الكفارة له إذا فاء على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬تلزمه الكفارة‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء‪ ،‬وقد روي ذل ك عن زي د‪،‬‬
‫وابن عباس‪ ،‬وبه قال ابن سيرين‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأب و عبي د‪،‬‬
‫وأصحاب الرأي‪ ،‬وابن المنذر‪ .‬وهو ظاهر مذهب الشافعي‪ ،‬واستدلوا على ذلك بم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫َش َر ِة‬ ‫ْ‬
‫ارت هُ إِط َع ا ُم ع َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿:‬ول ِكن يُؤَا ِخذك ْم بِ َما َعقدت ْم ا ْي َمانَ فكف َ‬
‫ارةُ أَ ْي َم انِ ُك ْم إِذاَ‬ ‫َّ‬
‫ك َكف َ‬ ‫َم َسا ِكينَ ِم ْن أَوْ َس ِط َما تُ ْ‬
‫ط ِع ُمونَ أَ ْهلِي ُك ْم أَوْ ِكس َْوتُهُ ْم﴾إلى قوله‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫ض هَّللا ُ لَ ُك ْم تَ ِحلَّةَ أَ ْي َم انِ ُك ْم﴾‬ ‫َحلَ ْفتُ ْم َواحْ فَظُوا أَ ْي َمانَ ُك ْم ﴾(المائدة‪،)89:‬وقال تعالى‪ ﴿:‬قَ ْد فَ َر َ‬
‫(التحريم‪)2:‬‬
‫‪ )(1‬وأصل الفيء الرجوع‪ ،‬ولذلك يسمى الظل بعد الزوال فيئا ; ألنه رجع من المغ رب إلى المش رق‪ ،‬فس مي‬
‫الجماع من المولي فيئة ; ألنه رجع إلى فعل ما تركه‪.‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪ ،7/432 :‬وانظر‪ :‬األم‪ ،5/274 :‬الطبري‪ ،2/423 :‬الجصاص‪.2/45 :‬‬

‫‪327‬‬
‫‪ 2‬ـ قال النبي ‪(:‬إذا حلفت على يمين‪ ،‬فرأيت غيرها خيرا منها‪ ،‬فأت ال ذي‬
‫هو خير‪ ،‬وكفر عن يمينك) (‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ه ح الف ح انث في يمين ه‪ ،‬فلزمت ه الكف ارة كم ا ل و حل ف على ت رك‬
‫فريضة ثم فعلها‪ ،‬والمغفرة ال تنافي الكفارة‪ ،‬ألن هللا تعالى ق د غف ر لرس وله ‪ ‬م ا‬
‫تق دم من ذنب ه وم ا ت أخر‪ ،‬وم ع ذل ك ك ان ‪ ‬يق ول‪(:‬إني وهللا ال أحل ف على يمين‬
‫فأرى غيرها خيرا منها‪ ،‬إال أتيت الذي هو خير‪ ،‬وتحللتها)‬
‫القول الثاني‪ :‬ال كفارة عليه‪ ،‬وهو قول الحسن وقول للشافعية‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما قال النخعي‪ :‬كانوا يقول ون ذل ك ؛ ألن هللا تع الى ق ال‪ ﴿:‬فَ إِ ْن فَ ا ُءوا فَ إِ َّن هَّللا َ‬
‫َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾(البقرة‪)226:‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول ألن اإليالء يمين كس ائر‬
‫االيمان‪ ،‬فلذلك تكفر بما تكفر به‪ ،‬والمغفرة والرحمة التي استدل بها أصحاب الق ول‬
‫الثاني ال تتنافى مع الكفارة‪ ،‬بل هي دليل مستأنس به على وجوبها زيادة على األدلة‬
‫النصية‪.‬‬

‫‪ )(3‬النس ائى (‪ ،7/10‬رقم ‪ ،3782‬والط برانى فى األوس ط (‪ ،1/242‬رقم ‪ ،)793‬وأب و عوان ة (‪ ،4/28‬رقم‬
‫‪ ،)5914‬والبيهقى (‪ ،10/53‬رقم ‪ ،)19744‬والقضاعى (‪ ،1/310‬رقم ‪.)520‬‬

‫‪328‬‬
‫القسم الرابع‬
‫آثار حل عصمة الزوجية‬
‫نتناول في هذا القسم ما وضعه الشرع من حلول‪ ،‬سواء لرأب صدع األسرة‪،‬‬
‫وإعادتها إلى حال االنسجام والتوافق الذي هومقصد الشرع وهدفه األمثل‪ ،‬أو لحفظ‬
‫حقوق الزوجة وآثارها مما يخفف من آثار التفريق ويسد منافذ الفساد فيه‪.‬‬
‫وق د تناولن ا ل ذلك ثالث ة مواض يع‪ ،‬ك ل موض وع منه ا يق ف على ثغ رة من‬
‫الثغور‪ ،‬إذا ما نظر فيه إلى مقاصد الشارع‪ ،‬وهذ المواضيع هي‪:‬‬
‫العدة‪ :‬وهي التي تقف على ثغرة حماية النسل من االختالط‪ ،‬كم ا تح اول في‬
‫كثير من مواضعها إعادة الحياة الزوجية إلى طبيعتها وانسجامها‪.‬‬
‫وقد تناولنا في الفصل الخاص بها أس باب الع دة وأنواعه ا وآثاره ا مح اولين‬
‫خدمة المقصدين السابقين‪.‬‬
‫الرجعة‪ :‬وهي الحل الذي وضعه الشارع إلعادة الحياة الزوجي ة إلى مس ارها‬
‫األص لي‪ ،‬وق د تناولن ا في الفص ل الخ اص به ا أحك ام الرجع ة بأنواعه ا المختلف ة‪،‬‬
‫وأركانه ا وش روطها‪ ،‬وتح دثنا عن التحاي ل على الرجع ة‪ ،‬ومواق ف العلم اء من‬
‫التحايل‪ ،‬وبعض النماذج عن الحيل‪ ،‬ومواقف الفقهاء منها‪ ،‬وأخيرا ذكرن ا المخ ارج‬
‫ال تي جعله ا الش رع لتض ييق ب اب الطالق‪ ،‬كب ديل وعالج لظ اهرة التحاي ل على‬
‫الرجعة‪.‬‬
‫المتعة‪ :‬وهي الحق الذي جعله الشرع تعويض ا للمطلق ة عن األض رار ال تي‬
‫حصلت لها بسبب طالقها‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫الفصل األول‬
‫أحكام العدة‬
‫بع د أن عرفن ا األن واع المختلف ة لح ل العص مة الزوجي ة‪ ،‬س نتناول في ه ذا‬
‫الفص ل األحك ام الخاص ة بالع دة‪ ،‬وينحص ر الح ديث عنه ا في ذك ر أس باب الع دة‬
‫وأنواعها وآثارها‪ ،‬وغير ذلك‪:‬‬
‫أوال ـ أحكام العدة وأسبابها‬
‫‪ 1‬ـ تعريف العدة وحكمها‪:‬‬
‫من التعاريف التي قيلت في العدة‪ ،‬وهي متقاربة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هي مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها‪ ،‬أو للتعب د‪ ،‬أو لتفجعه ا‬
‫على زوج(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ هي تربص من فارقت زوجها بوفاة أو حياة(‪.)2‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على وجوب العدة على المرأة عن د وج ود س ببها‪ ،‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َّص نَ بِأنفُ ِس ِه َّن ثَاَل ثَ ةَ قُ رُو ٍء ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿:‬وال ُمطَلقَ ُ‬
‫ات يَت ََرب ْ‬
‫يض ِم ْن نِ َسائِ ُك ْم إِ ْن ارْ تَ ْبتُ ْم فَ ِع َّدتُه َُّن ثَاَل ثَةُ‬ ‫ْ‬
‫‪ )228‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬والاَّل ئِي يَئِ ْسنَ ِم ْن ال َم ِح ِ‬
‫ق هَّللا َ‬
‫ض ْعنَ َح ْملَه َُّن َو َم ْن يَتَّ ِ‬ ‫ال أَ َجلُه َُّن أ ْن يَ َ‬
‫َ‬ ‫ت اأْل َحْ َم ِ‬ ‫ض نَ َوأُوْ اَل ُ‬‫أَ ْش ه ٍُر َوالاَّل ئِي لَ ْم يَ ِح ْ‬
‫يَجْ َعلْ لَهُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ي ُْس رًا﴾(الطالق‪ )4:‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ يُت ََوفَّوْ نَ ِم ْن ُك ْم َويَ َذرُونَ‬
‫َاح َعلَ ْي ُك ْم فِي َما‬‫أَ ْز َواجًا يَتَ َربَّصْ نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن أَرْ بَ َعةَ أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرًا فَإِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَاَل ُجن َ‬
‫ُوف َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِيرٌ﴾(البقرة‪)234:‬‬ ‫فَ َع ْلنَ فِي أَنفُ ِس ِه َّن بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫‪ 2‬ـ عن أم عطية أن رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬ال تح د ام رأة على ميت ف وق ثالث‬
‫إال على زوج أربعة أشهر وعشرا) (‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ‪ ‬قال لفاطمة بنت قيس‪(:‬اعتدي في بيت ابن أم مكتوم) (‪ ،)4‬وروي‬
‫عن عائشة قالت‪ :‬أمرت بريرة أن تعتد بثالث حيض‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن األمة أجمعت على مشروعية العدة ووجوبها من عص ر الرس ول ‪‬‬
‫لى يومنا هذا دون نكير من أحد‪.‬‬
‫ومن الحكم التي ذكرها الفقهاء للعدة‪:‬‬

‫‪ )(1‬شرح البهجة‪.4/343:‬‬
‫‪ )(2‬دليل الطالب‪.275:‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪ ،5/2042 :‬مس لم‪ ،2/1124 :‬ابن حب ان‪ ،10/140 :‬الترم ذي‪ ،3/501 :‬ال بيهقي‪ ،7/439 :‬أب و‬
‫داود‪ ،2/290 :‬النسائي‪ ،3/384:‬المجتبى‪ ،6/198 :‬ابن ماجة‪ ،1/674 :‬الموطأ‪ ،2/597 :‬أحمد‪.6/37 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم رقم (‪ )1480‬والموطأ ‪ 580 / 2‬و ‪.581‬‬

‫‪330‬‬
‫‪ 1‬ـ العلم ب براءة ال رحم‪ ،‬وأن ال يجتم ع م اء األزواج على زوج ة واح دة‪،‬‬
‫فتختلط األنساب وتفسد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تعظيم خطر الزواج ورفع قدره وإظهار ش رفه‪ ،‬بحيث ال تنتق ل الزوج ة‬
‫من زوج إلى زوج إال بعد إمضاء فترة العدة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تطويل زمان الرجعة للمطلق لعله يندم ويفيء فيصادف زمن ا يتمكن في ه‬
‫من الرجعة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قض اء ح ق ال زوج وإظه ار ت أثير فق ده في المن ع من ال تزين والتجم ل‪،‬‬
‫ولذلك شرع اإلحداد عليه أكثر من اإلحداد على الوالد والولد‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ االحتياط لحق الزوج‪ ،‬ومصلحة الزوج ة‪ ،‬وح ق الول د‪ ،‬والقي ام بح ق هللا‬
‫الذي أوجبه‪.‬‬
‫انطالقا من هذه المقاصد فإن األرجح في أكثر مس ائل الخالف في الع دة ه و‬
‫األخذ بأقصى اآلجال رعاية للمصالح التي ذكرت في مقاصد العلة‪ ،‬فقد يفيئ الزوج‬
‫المطل ق إن ط الت م دة الع دة‪ ،‬ويس تبرأ ال رحم‪ ،‬وليس في الق ول ب ذلك أي مض رة‬
‫للمرأة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أسباب العدة‬
‫نص الفقهاء على أسباب العدة التالية مع اختالف بينهم في تفاصيلها‪:‬‬
‫الطالق‪:‬‬
‫أجم ع العلم اء على أن المطلق ة قب ل المس يس ال ع دة عليها(‪ )1‬؛ لق ول هللا‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫فَ َما لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس ِّرحُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪:‬‬
‫‪ )49‬وألن العدة تجب لبراءة الرحم‪ ،‬وقد تيقنا هنا تحقق هذه البراءة‪ ،‬ومث ل الطالق‬
‫الفرق ة الحاص لة في الحي اة‪ ،‬كالفس خ لرض اع‪ ،‬أو عيب‪ ،‬أو عت ق‪ ،‬أو لع ان‪ ،‬أو‬
‫اختالف دين قبل الدخول‪.‬‬
‫وأجمع وا على وج وب الع دة من الطالق بع د ال دخول من ال زواج الص حيح‬
‫لألدلة الكثيرة في ذلك‪ ،‬والتي سنستعرضها في محالها من هذا الفصل‪.‬‬
‫الفسخ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في العدة من الفرقة الحاصلة بسبب الفسخ على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن كل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطالق‪ ،‬سواء ك انت بخل ع‬
‫أو لع ان أو رض اع‪ ،‬أو فس خ بعيب‪ ،‬أو إعس ار‪ ،‬أو إعت اق‪ ،‬أو اختالف دين‪ ،‬أو‬
‫غيره‪ ،‬وهو قول أكثر العلماء كما ذكر ابن قدامة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال عدة في الفسخ إال في المعتقة التي تختار فراق زوجها‪ ،‬وه و‬
‫قول الظاهرية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك(‪:)2‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.8/78:‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.9/358:‬‬

‫‪331‬‬
‫ت‬
‫ات ُمهَ ا ِج َرا ٍ‬ ‫‪ 1‬ـ ق ال هللا تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا َج ا َء ُك ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ُ‬
‫فَ ا ْمت َِحنُوه َُّن هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِإِي َم انِ ِه َّن هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِإِي َم انِ ِه َّن فَ إِ ْن َعلِ ْمتُ ُم وه َُّن ُم ْؤ ِمنَ ا ٍ‬
‫ت فَاَل‬
‫ار اَل ه َُّن ِح ٌّل لَهُ ْم َواَل هُ ْم يَ ِحلُّونَ لَه َُّن َوآتُوهُ ْم َما أَنفَقُ وا َواَل ُجنَ َ‬
‫اح‬ ‫تَرْ ِجعُوه َُّن إِلَى ْال ُكفَّ ِ‬
‫اس أَلُوا َم ا‬
‫ص ِم ْال َك َوافِ ِر َو ْ‬ ‫ُوره َُّن َواَل تُ ْم ِس ُكوا بِ ِع َ‬‫َعلَ ْي ُك ْم أَ ْن تَن ِكحُوه َُّن إِ َذا آتَ ْيتُ ُموه َُّن أُج َ‬
‫أَنفَ ْقتُ ْم َو ْليَسْأَلُوا َم ا أَنفَقُ وا َذلِ ُك ْم ُح ْك ُم هَّللا ِ يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾(الممتحن ة‪،)10:‬‬
‫فلم يوجب تعالى عليهن عدة في انفساخ نكاحهن من أزواجهن الكفار بإسالمهن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عن ابن عباس قال‪ :‬ك انوا إذا ه اجرت ام رأة من دار الح رب لم تخطب‬
‫ح تى تحيض وتطه ر‪ ،‬ف إذا طه رت ح ل له ا النك اح‪ ،‬وه و ي دل على أن ه ذا فع ل‬
‫الصحابة جملة فال يجوز خالفه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أمر رسول هللا ‪ ‬له ا بالع دة‪ ،‬ولم ي أمر غيره ا بع دة وال يج وز أمره ا‬
‫بذلك ؛ ألنه شرع لم يأذن به هللا تعالى‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ال يجوز قياس الفسخ على الطالق‪ ،‬ألنهما مختلفان‪ ،‬ألن الطالق ال يكون‬
‫إال بلفظ المطلق واختياره‪ ،‬والفسخ يقع بغير لفظ الزوج أحب أم كره‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني بشرط معرفة براءة الرحم ب أي‬
‫وسيلة تدل على ذلك داللة جازمة‪ ،‬ألن المقص د من الع دة في أك ثر مواض عها‪ ،‬هي‬
‫ترك فرصة للتراجع عن الطالق‪ ،‬واستمرار الحياة الزوجية‪ ،‬باإلضافة إلى استبراء‬
‫الرحم‪.‬‬
‫والمقصد األول يدعو إلى ترجيح طول الم دة ح تى ل و علمت ب راءة ال رحم‪،‬‬
‫بخالف المقصد الثاني‪ ،‬وفي هذه الحالة ينتفي المقصد األول لفساد الزواج‪ ،‬فلم يب ق‬
‫إال المقصد الثاني‪ ،‬وال معنى لتطويل العدة بعد معرفة ب راءة ال رحم من غ ير س بب‬
‫داع‪ ،‬بل في ذلك إيذاء شديد للمرأة وحبس لها عن الزواج من غير فائدة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا الترجيح المقاصدي ليس هناك دليل نصي في المسألة على‬
‫وجوب العدة في الفسخ كما وجبت في الطالق‪ ،‬وال يصح قياس الفس خ على الطالق‬
‫النتفاء الجامع بينهما‪ ،‬فالمطلقة يصح لزوجها إرجاعها بخالف المفسوخ زواجها‪.‬‬
‫الخلع‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في المختلعة ه ل عليه ا ع دة ثالث ة ق روء أو تس تبرأ بحيض ة‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن عدة المختلعة هي نفس عدة المطلقة‪ ،‬وقد روي عن س عيد بن‬
‫المسيب‪ ،‬وسالم بن عبد هللا‪ ،‬وع روة‪ ،‬وس ليمان بن يس ار‪ ،‬وعم ر بن عب د العزي ز‪،‬‬
‫والحس ن‪ ،‬والش عبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والزه ري‪ ،‬وقت ادة وخالس بن عم رو‪ ،‬وأب و‬
‫عياض‪،‬وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الم ذهب‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال ُمطلقات يَت ََربَّصْ نَ بِأنف ِس ِه َّن ثاَل ثة قرُو ٍء ﴾(البقرة‪)228:‬‬ ‫ْ‬
‫‪ 2‬ـ أن الخلع فرقة بين الزوجين في الحياة بع د ال دخول‪ ،‬فك انت الع دة ثالث ة‬

‫‪332‬‬
‫قروء كعدة المطلقة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تستبرئ بحيضة‪ ،‬وهو قول عثم ان وابن عب اس وابن عم ر في‬
‫آخ ر روايتي ه‪ ،‬وه و ق ول إس حق وابن المن ذر وغيرهم ا وه و رواي ة عن أحم د‪،‬‬
‫واستدلوا علىذلك بما يلي(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ه ل و ك ان الخل ع طالق ا لم ا ج از في الحيض ألن هللا ح رم طالق‬
‫الحائض‪ ،‬وقد سلم المخالفون أو أكثرهم أنه يجوز في الحيض‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الحاجة داعية إليه في الحيض‪ ،‬وهللا تعالى إنما حرم المرأة بعد الطلقة‬
‫الثالثة عقوبة للرجل لئال يطل ق لغ ير حاج ة ألن األص ل في الطالق الح ذر‪ ،‬وإنم ا‬
‫أبيح من ه ق در الحاج ة والحاج ة تن دفع بثالث م رات‪ ،‬وله ذا أبيحت الهج رة ثالث ا‬
‫واإلحداد لغير م وت ال زوج ثالث ا‪ ،‬ومق ام المه اجر بمك ة بع د قض اء نس كه ثالث ا‪،‬‬
‫واألصل في الهجرة ومقام المهاجر بمكة التحريم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ـ بن اء على م ا س بق ـ أن الخل ع م ا دام فس خا‬
‫لألدلة ال تي ذكرناه ا في محله ا من الفص ل الخ اص ب ه‪ ،‬فإن ه يكتفى في ه باس تبراء‬
‫الرحم‪ ،‬ألنه ال معنى لتطويل عدة من ال تحب الرجوع لزوجه ا بع د أن افت دت من ه‬
‫بمالها‪ ،‬ونرى أن هذا االستبراء يمكن أن يتم بأي وسيلة بشرط داللتها على الجزم‪.‬‬
‫اللعان‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في عدة المالعنة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها كعدة المطلقة‪ ،‬ألنها مفارقة في الحياة‪ ،‬فأشبهت المطلقة عند‬
‫جمهور الفقهاء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن عدتها تسعة أشهر‪ ،‬وهو قول ابن عباس‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أنه ما دام اللعان فسخا‪ ،‬فإن األرجح فيه االكتفاء‬
‫باستبراء الرحم‪ ،‬ويدل عليه قول ابن عباس ألن تحديد تسعة أشهر يقصد منه التأك د‬
‫التام ببراءة الرحم‪ ،‬ويمكن معرفة ذلك دون الحاجة لهذا التحديد بأي وس يلة جازم ة‬
‫كما ذكرنا‪.‬‬
‫الزنى‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في عدة الزانية على األقوال التالية(‪:)2‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن الزاني ة ال ع دة عليه ا‪ ،‬ح امال ك انت أو غ ير حام ل‪ ،‬وه و‬
‫الم روي عن أبي بك ر وعم ر وعلي‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة والش افعية(‪ )3‬والث وري‪،‬‬

‫‪ )(1‬مجموع فتاوى ابن تيمية‪.32/293 :‬‬


‫‪ )(2‬اإلنصاف للمرداوي‪ ،9/295 :‬المغني‪ ،7/108 :‬األم‪ ،5/216 :‬إعالم الموقعين‪.2/90 :‬‬
‫‪ )(3‬إذا تزوج الرجل امرأة وهي حامل من الزنا جاز نكاحه عن د أبي حنيف ة ومحم د‪ ،‬ولكن ال يج وز وطؤه ا‬
‫حتى تضع‪ ،‬لئال يصير ساقيا ماءه زرع غيره‪ ،‬لقول الرسول ‪ « :‬ال يحل المرئ يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يسقي‬
‫ماءه زرع غيره »وقوله ‪ « :‬ال توطأ حامل حتى تضع »فهذا دليل على امتناع وطئه ا ح تى تض ع حمله ا‪ .‬خالف ا‬

‫‪333‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قول الرسول ‪(:‬الولد للفراش وللعاهر الحجر)‬


‫(‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أن العدة شرعت لحفظ النسب‪ ،‬والزنا ال يتعلق ب ه ثب وت النس ب‪ ،‬وال ي وجب‬
‫العدة‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أن الم زني به ا تعت د ع دة المطلق ة‪ ،‬وق د روي عن الحس ن‬
‫والنخعي‪ ،‬وهو الق ول المعتم د ل دى المالكية(‪ )2‬والحنابل ة‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه وطء يقتضي شغل الرحم‪ ،‬فوجبت العدة منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة قياسا على الموطوءة بشبهة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن المزني بها إذا تزوجت قبل االعتداد اشتبه ولد الزوج بالولد من الزنا‪،‬‬
‫فال يحصل حفظ النسب‪.‬‬
‫القول الث الث‪ :‬أن الزاني ة تس تبرأ بحيض ة واح دة‪ ،‬وه و ق ول للمالكي ة وق ول‬
‫للحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بقوله ‪( :‬ال توطأ حام ل ح تى تض ع‪ ،‬وال غ ير ذات‬
‫حمل حتى تحيض حيضة) (‪)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول باس تبرائها ب أي وس يلة من وس ائل‬
‫االستبراء‪ ،‬ألنه ال حاجة لتطويل مدة الع دة من غ ير س بب داع إلى ذل ك‪ ،‬وليس في‬
‫األدلة ما ينص على أن عدة الزانية كعدة المطلقة‪.‬‬
‫الزواج الفاسد‪:‬‬
‫نص أكثر الفقهاء على وجوب العدة بالدخول في النكاح الفاس د المختل ف في ه‬
‫بين المذاهب‪ ،‬وذلك بسبب الفرقة الكائنة بتفريق القاضي‪.‬‬
‫واتفق وا على وج وب الع دة في النك اح المجم ع على فس اده ب الوطء‪ ،‬أي‬
‫بالدخول‪ ،‬كنكاح المعتدة وزوجة الغير‪ ،‬والمحارم إذا كانت هناك شبهة تسقط الح د‪،‬‬
‫بأن كان ال يعلم بالحرمة‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو كان يعلم بالحرمة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬وجوب عدة االستبراء ؛ ألنها وجبت للتعرف على براءة الرحم‪،‬‬
‫ال لقضاء حق النكاح‪ ،‬إذ ال حق للنك اح الفاس د أي ا ك ان نوع ه‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة‬
‫للشافعية الذين يقولون بجواز النكاح والوطء للحامل من زنا على األص ح‪ ،‬إذ ال حرم ة ل ه‪ ،‬وق د س بق ذك ر المس ألة‬
‫بتفاصيلها في محلها‪.‬‬
‫‪ )(1‬الترمذى (‪ ،4/434‬رقم ‪ )2121‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وغيره‪.‬‬
‫‪ )(2‬وقد نصوا على أن االستبراء يكون بثالث حيض‪ ،‬قال ابن عرفة‪ :‬ب راءة الح رة من وطء زن ا أو غل ط أو‬
‫غيبة ; غصب أو سبي أو مالك ارتفع باستحقاق ثالث حيض استبراء ال عدة‪ ،‬انظر‪ :‬التاج واإلكليل‪.5/478 :‬‬
‫‪ )(3‬أحم د (‪ ،3/62‬رقم ‪ ،)11614‬وال دارمى (‪ ،2/224‬رقم ‪ ،)2295‬وأب و داود (‪ ،2/248‬رقم ‪،)2157‬‬
‫وال دارقطنى (‪ ،)4/112‬والح اكم (‪ ،2/212‬رقم ‪ )2790‬وق ال‪ :‬ص حيح على ش رط مس لم‪ .‬وال بيهقى ( ‪ ،5/329‬رقم‬
‫‪)10572‬‬

‫‪334‬‬
‫والحنابلة وبعض الحنفية‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ع دم وج وب الع دة عن د العلم بالحرم ة‪ ،‬وه و ق ول الش افعية‬
‫وبعض الحنفية‪ ،‬لعدم وجود الشبهة المسقطة للحد‪ ،‬ولعدم ثبوت النسب‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة االكتفاء باس تبراء ال رحم لع دم إمك ان الرجع ة‪،‬‬
‫وال معنى لتطويل العدة من غير حاجة إلى ذل ك‪ ،‬وليس في األدل ة م ا ي وجب الع دة‬
‫على المرأة في النكاح الفاسد أو الباطل‪.‬‬
‫الوطء بشبهة‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن عدة الموطوءة بشبهة وهي التي زفت إلى غير زوجها‪،‬‬
‫والموج ودة ليال على فراش ه إذا ادعى االش تباه كع دة المطلق ة‪ ،‬واتفق وا على أن ه ال‬
‫يجب عليها عدة وفاة‪ ،‬قال السرخسي‪( :‬ذا أدخل على الرجل غير امرأته ف دخل به ا‬
‫فعلى الزوج مهر التي دخل بها ؛ ألن ه دخ ل به ا بش بهة النك اح بخ بر المخ بر أنه ا‬
‫امرأته‪ ،‬وخبر الواحد في المعامالت حجة فيصير ش بهة في إس قاط الح د ف إذا س قط‬
‫الحد وجب المهر‪ ،‬وعليها العدة ويثبت نسب ولدها منه‪ ،‬وال تتقي في عدتها ما تتقي‬
‫المعتدة‪ ،‬وبنحوه قضى علي في الوطء بالشبهة) (‪)1‬‬
‫وقد ذكر العز عند بيانه لشبه الدارئة للحدود عل ة ذل ك بقول ه‪(:‬الثاني ة‪ :‬ش بهة‬
‫في الموطوءة كوطء الشركاء الجاري ة المش تركة‪ ..‬ف درأت عن ال واطئ الح د ألن ه‬
‫غير آثم‪ ،‬والنسب الحق ب ه‪ ،‬والع دة واجب ة على الموط وءة‪ ،‬والمه ر واجب علي ه)‬
‫(‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ التعرف على براءة الرحم لشغله ولحقوق النسب فيه‪ ،‬كالوطء في النك اح‬
‫الصحيح‪ ،‬فكان مثله فيما تحصل البراءة منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الشبهة تقام مقام الحقيقة في موضع االحتياط‪ ،‬وإيجاب الع دة من ب اب‬
‫االحتياط‪.‬‬
‫ارتداد الزوج‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على وج وب ع دة زوج ة المرت د بع د ال دخول أو م ا في حكم ه‬
‫بسبب التفريق بينهم ا‪ ،‬ف إن جمعه ا اإلس الم في الع دة دام النك اح‪ ،‬وإال فالفرق ة من‬
‫الردة وعدتها تكون باألشهر‪ ،‬أو بالقروء‪ ،‬أو بالوض ع كع دة المطلق ة‪ ،‬أم ا ل و م ات‬
‫المرتد أو قتل حدا وامرأته في العدة‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ال يجب عليها إال عدة الطالق‪ ،‬وهو قول المالكي ة والش افعية‬
‫وأبي يوسف من الحنفية ؛ ألن الزوجي ة ق د بطلت ب الردة‪ ،‬وع دة الوف اة ال تجب إال‬
‫على الزوجات‪ ،‬قال الكاساني موجها قول أبي يوس ف‪(:‬أن الش رع إنم ا أوجب ع دة‬
‫الوف اة على الزوج ات وق د بطلت الزوجي ة ب الطالق الب ائن إال أن ا بقيناه ا في ح ق‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.5/22 :‬‬
‫‪ )(2‬قواعد األحكام‪.2/160 :‬‬

‫‪335‬‬
‫اإلرث خاصة لتهم ة الف رار ممن ادعى بقاءه ا في ح ق وج وب ع دة الوف اة فعلي ه‬
‫الدليل) (‪)1‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن المرتد إذا م ات أو قت ل وهي في الع دة وورثت ه قياس ا على‬
‫طالق الفار‪ ،‬فإنه يجب عليها ع دة الوف اة‪ :‬أربع ة أش هر وعش ر فيه ا ثالث حيض‪،‬‬
‫حتى إنها لو لم تر في مدة األربع ة أش هر والعش ر ثالث حيض تس تكمل بع د ذل ك‪،‬‬
‫وهو قول أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن كل معتدة ورثت تجب عليها عدة الوفاة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النكاح لما بقي في حق اإلرث فألن يبقى في حق وجوب العدة أولى ؛‬
‫ألن العدة يحتاط في إيجابها فكان قيام النكاح من وجه كافي ا لوج وب الع دة احتياط ا‬
‫فيجب عليها االعتداد أربعة أشهر وعشرا فيها ثالث حيض‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة القول بأمرين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه ال يجب عليها أن تعتد عدة الوفاة‪ ،‬ألن زوجتيها معه انقطعت بردت ه‪،‬‬
‫أما وجوب العدة قبل موته‪ ،‬فإلمكان إسالمه ورجعته لها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها تستحق الميراث‪ ،‬ألن ه ت وفي أو ح د‪ ،‬وهي في ع دتها من ه‪ ،‬وللم رأة‬
‫الحق في الميراث ما دامت في عدتها‪.‬‬
‫وفاة الزوج‪:‬‬
‫وسبب وجوبها الوفاة بعد زواج صحيح س واء أك انت الوف اة قب ل ال دخول أم‬
‫بعده‪ ،‬وسواء أكانت ممن تحيض أم ال‪ ،‬بشرط أال تكون حامال ومدتها أربع ة أش هر‬
‫وعشر لعموم قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُت ََوفَّوْ نَ ِم ْن ُك ْم َويَ َذرُونَ أَ ْز َواجًا يَت ََربَّصْ نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن‬
‫أَرْ بَ َعةَ أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرًا ﴾(البقرة‪ )234:‬وقول الرسول ‪( :‬ال يح ل الم رأة ت ؤمن باهلل‬
‫والي وم اآلخ ر أن تح د على ميت ف وق ثالث لي ال‪ ،‬إال على زوج أربع ة أش هر‬
‫وعشرا) (‪)2‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء حكمة عدة الوفاة بهذه الم دة ؛ وهي أن الول د يك ون في بطن‬
‫أمه أربعين يوما نطفة‪ ،‬ثم أربعين يوما علق ة‪ ،‬ثم أربعين يوم ا مض غة‪ ،‬ثم ينفخ في ه‬
‫الروح في العشر‪ ،‬فأمرت بتربص هذه المدة ليستبين الحمل إن كان بها حمل‪ ،‬وه ذا‬
‫التعليل ال يتفق مع ما صرحت به األحاديث من أن كل ه ذه المراح ل تس تمر اث نين‬
‫وأربعين يوما‪ ،‬وهو ما كشف عنه العلم حديثا(‪ ،)3‬ولو كان هذا التعليل ص حيحا لعم‬
‫كل مفارقة لزوجها بطالق وغيره‪ ،‬ولما كان القصد من عدة الوفاة اإلحداد‪.‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على عدم وجوب عدة الوفاة في النكاح المجم ع على فس اده‪،‬‬

‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.3/200 :‬‬


‫‪ )(2‬مال ك (‪ ،2/596‬رقم ‪ ،)1246 ،1245‬وعب د ال رزاق (‪ ،7/48‬رقم ‪ ،)12130‬وأحم د (‪ ،6/326‬رقم‬
‫‪ ،)26809‬والبخارى (‪ ،5/2042‬رقم ‪ ،)5024‬ومسلم (‪ ،2/1123‬رقم ‪)1486‬‬
‫‪ )(3‬سنتحدث عن هذه المس ألة عن د الح ديث عن اإلجه اض في الج زء الخ اص ب الحقوق النفس ية والص حية‬
‫لألوالد‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫واختلفوا في وجوب عدة الوفاة في النكاح الفاسد المختلف فيه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدم وجوب عدة الوفاة في النكاح الفاسد المختلف في ه ك المجمع‬
‫عليه‪ ،‬وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬أن عدة الوفاة تجب في النكاح الص حيح ؛ ألن هللا تع الى أوجبه ا على األزواج‪،‬‬
‫لقوله تعالى ﴿ َوالَّ ِذينَ يُت ََوفَّوْ نَ ِم ْن ُك ْم َو َي َذرُونَ َأ ْز َواجًا ﴾ (البقرة‪ )234 :‬وال يصير زوجا حقيقة‬
‫إال بالنكاح الصحيح‪.‬‬
‫‪ ‬أن عدة الوفاة تجب إظهارا للح زن والتأس ف لف وات نعم ة النك اح‪ ،‬والنعم ة في‬
‫النكاح الصحيح دون الفاسد‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب عدة الوفاة في النك اح الفاس د المختل ف في ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬وهو قول للحنابل ة‪ ،‬ألن ه نك اح يلح ق ب ه النس ب‪ ،‬ف وجبت ب ه ع دة الوف اة‬
‫كالنكاح الصحيح‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة القول بع دم وج وب ع دة الوف اة من نك اح فاس د‬
‫لعدم قيام الزوجية الصحيحة‪ ،‬وال معنى إلحداد امرأة على شخص لم يصح زواجها‬
‫منه‪ ،‬بل في ذلك مضرة محضة لتطويل العدة من غير سبب‪.‬‬
‫قال الشافعي مبينا هذه العلة‪( :‬إذا نكح الرجل المرأة نكاحا فاسدا فمات عنه ا‪،‬‬
‫ثم علم فساد النكاح بعد موته أو قبله‪ ،‬فلم يفرق بينهما حتى مات‪ ،‬فعليها أن تعتد هذه‬
‫عدة مطلقة‪ ،‬وال تعت د ع دة مت وفى عنه ا وال تح د في ش يء من عدت ه‪ ،‬وال م يراث‬
‫بينهما ألنها لم تكن زوجة وإنما تستبرأ بعدة مطلقة‪ ،‬ألن ذلك أق ل م ا تعت د ب ه ح رة‬
‫فتعتد إال أن تكون حامال فتضع حملها فتحل لألزواج بوضع الحمل) (‪)1‬‬

‫ثانيا ـ أنواع العدة‬


‫فصلت النصوص الشرعية أنواع العدة بحسب أسبابها‪ ،‬ومن تجب عليهن من‬
‫النساء‪ ،‬وسنفصل أقوال الفقهاء في ذلك في هذا المبحث‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬عدة القروء‬
‫اختلف الفقهاء في معنى القرء اصطالحا على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن المراد ب القرء الطه ر‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة والش افعية‪ ،‬ومن‬
‫أدلتهم على ذلك‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬ثالثة قرُو ٍء﴾(البقرة‪ ،)228:‬ف ذكره وأثبت اله اء في الع دد‪،‬‬
‫فدل على أنه أراد الطهر المذكر‪ ،‬ول و أراد الحيض ة المؤنث ة ألس قط اله اء‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫ثالث قروء ؛ فإن الهاء تثبت في عدد المذكر من الثالثة إلى العشرة وتسقط في عدد‬
‫المؤنث(‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬األم‪.5/237 :‬‬
‫‪ )(2‬لكن ابن عبد البر أنكر االحتج اج به ذا‪ ،‬فق ال‪ « :‬وق د احتج أص حابنا به ذا وه ذا عن دي ليس بش يء ألن‬
‫التذكير في العدد إنما جاء على لفظ القرء وهي مذكرة» التمهيد‪.15/98 :‬‬

‫‪337‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬ي َاأ ُّي َها النَّ ِب ُّي ِإ َذا َ‬
‫طلَّ ْقتُ ْم ال ِّن َس ا َء َف َ‬
‫ط ِّلقُ وه َُّن ِل ِع َّد ِت ِه َّن﴾(الطالق‪ )1 :‬أي في‬
‫عدتهن أو في الزمان الذي يصلح لعدتهن‪ ،‬فالالم بمعنى في‪ ،‬ووجه الدالل ة‪ :‬أن هللا تع الى‬
‫أم ر ب الطالق في الطه ر‪ ،‬ال في الحيض لحرمت ه باإلجم اع‪ ،‬فيص رف اإلذن إلى زمن‬
‫الطهر‪ ،‬ففيه دليل على أن القرء هو الطهر الذي يسمى عدة‪ ،‬وتطلق فيه النساء‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قول النبي ‪( :‬م ره فليراجعه ا‪ ،‬ثم ليتركه ا ح تى تطه ر‪ ،‬ثم تحيض ثم‬
‫تطهر‪ ،‬ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس‪ ،‬فتل ك الع دة ال تي أم ر هللا‬
‫عز وجل أن يطلق لها النساء)‪ ،‬فالرسول ‪ ‬أشار إلى الطهر وأخبر أنه العدة ال تي‬
‫أمر هللا تعالى أن تطلق لها النساء‪ ،‬فصح أن القرء هو الطهر‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن احتج اج المخ الفين بقول ه ‪ ‬للمستحاض ة‪(:‬اقع دي أي ام أقرائ ك‬
‫وانظري إذا أت اك ق رؤك فال تص لي) ونح و ه ذا فليس في ه حج ة‪ ،‬ألن الحيض ق د‬
‫يسمى قرءا‪ ،‬قال ابن عبد البر‪( :‬ولسنا نن ازعهم في ذل ك‪ ،‬ولكن ا نن ازعهم أن يك ون‬
‫هللا عز وجل أراده بقوله‪ ﴿:‬يَت ََربَّصْ نَ بِأ َ ْنفُ ِس ِه َّن ثَالثَةَ قُرُو ٍء﴾(البقرة‪ )228:‬على أن هذا‬
‫الحديث قد ضعفه أهل العلم‪ ،‬ألنه يروى عن عائشة‪ ،‬وعائشة لم يختلف عنها في أن‬
‫األقراء األطهار‪ ،‬فيبعد عن عائش ة أن ت روي عن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال للمستحاض ة‪:‬‬
‫(دعي الصالة أيام أقرائك) وتق ول‪ :‬األق راء األطه ار‪ ،‬ف إن ص ح عن عائش ة‪ ،‬فه و‬
‫حجة عليهم ألن عائشة تكون حينئذ أخبرت بأن الق رء ال ذي يمن ع من الص الة ليس‬
‫هو القرء الذي تعتد به من الطالق‪ ،‬وكفى بتفرقة عائشة بين هذين حجة)‬
‫القول الثاني‪ :‬المراد بالقرء الحيض‪ ،‬وه و م ا ذهب إلي ه جماع ة من الس لف‬
‫كالخلفاء األربعة وابن مسعود وطائفة كثيرة من الصحابة والتابعين وب ه ق ال أئم ة‬
‫الحديث والحنفية وأحمد في رواية أخرى حيث نقل عن ه أن ه ق ال‪ :‬كنت أق ول‪ :‬إنه ا‬
‫األطهار‪ ،‬وأن ا الي وم أذهب إلى أنه ا الحيض‪ .‬وق ال ابن القيم‪( :‬إن ه رج ع إلى ه ذا‪،‬‬
‫واستقر مذهبه عليه فليس له مذهب سواه) (‪ ،)1‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َّص نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن ثَالثَ ةَ قُ رُو ٍء﴾(‪( )2‬البق رة‪:‬‬ ‫ات يَتَ َرب ْ‬ ‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ْال ُمطَلَّقَ ُ‬
‫‪ )228‬فقد أمر هللا تعالى باالعتداد بثالثة قروء‪ ،‬ولو حم ل الق رء على الطه ر لك ان‬
‫االعتداد بطهرين وبعض الثالث ؛ ألن بقي ة الطه ر ال ذي ص ادفه الطالق محس وب‬
‫من األقراء عند القول األول‪ ،‬والثالثة اسم لعدد مخصوص‪ ،‬واالسم الموضوع لعدد‬
‫ال يقع على ما دون ه‪ ،‬فيك ون ت رك العم ل بالكت اب‪ ،‬ول و حم ل على الحيض يك ون‬
‫االعت داد بثالث حيض كوام ل ؛ ألن م ا بقي من الطه ر غ ير محس وب من الع دة‬
‫عندهم فيك ون عمال بالكت اب‪ ،‬فك ان الحم ل على ذل ك أولى لموافقت ه لظ اهر النص‬
‫وهو أولى من مخالفته‪.‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.5/601 :‬‬


‫‪ )(2‬قال ابن الع ربي‪:‬ه ذه اآلي ة من أش كل آي ة في كت اب هللا تع الى من األحك ام‪ ،‬ت ردد فيه ا علم اء اإلس الم‪،‬‬
‫واختلف فيها الصحابة قديما وحديثا‪ ،‬ولو شاء ربك لبين طريقها وأوضح تحقيقها‪ ،‬ولكنه وكل درك البيان إلى اجته اد‬
‫العلماء ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرفع فيها ; وقد أطال الخلق فيها النفس‪ ،‬فم ا استض اءوا بقبس‪،‬‬
‫وال حلوا عقدة الجلس‪ ،‬أحكام القرآن‪.1/250:‬‬

‫‪338‬‬
‫‪ 2‬ـ م ا روي عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬طالق األم ة اثنت ان‪ ،‬وع دتها‬
‫حيض تان) (‪ ،)1‬ومعل وم أن ه ال تف اوت بين الح رة واألم ة في الع دة فيم ا يق ع ب ه‬
‫االنقضاء‪ ،‬إذ الرق أث ره في تنقيص الع دة ال تي تك ون في ح ق الح رة ال في تغي ير‬
‫أصل العدة‪ ،‬فدل على أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن المعهود في لسان الشرع اس تعمال الق رء بمع نى الحيض‪ ،‬ق ال الن بي‬
‫‪( :‬تدع الصالة أيام أقرائها‪ ،‬وقال لفاطمة بنت أبي حبيش‪(:‬انظري إذا أتى قرؤك‬
‫فال تصلي‪ ،‬فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء)فهذا دلي ل على‬
‫أنه لم يعهد في لسان الشرع استعماله بمع نى الطه ر في موض ع‪ ،‬ف وجب أن يحم ل‬
‫كالمه على المعهود في لسانه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قول النبي ‪ ‬في الصحيح المش هور‪( :‬ال توط أ حام ل ح تى تض ع‪ ،‬وال‬
‫حائل حتى تحيض) (‪ ،)2‬فنص الشارع ‪ ‬على أن ب راءة رحم األم ة ه و الحيض‪،‬‬
‫وبه يقع االستبراء بالواحد في األمة‪ ،‬فكذلك فليكن بالثالثة في الحرة‪ ،‬ألن المطل وب‬
‫من الحرة في استبراء الرحم هو المطلوب من األمة بعينه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫هذه المسألة من المسائل التي اشتد فيها الخالف من لدن السلف‪ ،‬واألدلة فيه ا‬
‫تك اد تتكاف أ‪ ،‬وس بب ذل ك أن الق رء في اللغ ة العربي ة يش ترك إطالق ه في الحيض‬
‫والطهر‪ ،‬مع داللته في نفس الوقت على الوقت‪ ،‬ولعل المراد في النص القرآني ه و‬
‫ال وقت بغض النظ ر عن كون ه وقت حيض أم وقت طه ر‪ ،‬للدالل ة على أن المعت دة‬
‫تعتد ثالث دورات إما باعتبار طهرها‪ ،‬أو باعتب ار حيض ها‪ ،‬وق د ق ال ابن الع ربي‪:‬‬
‫(وبه تشاغل الناس قديما وحديثا من فقهاء ولغويين في تق ديم أح دهما على اآلخ ر ؛‬
‫وأوصيكم أال تشتغلوا اآلن بذلك لوجوه؛ أقربها أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء‬
‫الوقت‪ ،‬يكفيك هذا فيصال بين المتشعبين وحسما لداء المختلفين)(‪)3‬‬
‫ولكن الناحية المقاص دية ق د ت رجح الق ول باعتب اره حيض ا‪ ،‬ففي ذل ك تأكي د‬
‫لبراءة الرحم‪ ،‬وتطويل للفترة التي يمكن للزوجين فيه ا أن يتراجع ا‪ ،‬وكال األم رين‬
‫من مقاصد الشريعة في العدة كما ذكرنا‪.‬‬
‫وذل ك ألن الق ائلين ب أن الق رء ه و الطه ر‪ ،‬تق ل عن دهم الف ترة الموض وعة‬
‫للرجعة‪ ،‬وليس ذلك في مصلحة ال زوجين في ح ال ال تراجع عن الطالق بالرجع ة‪،‬‬
‫قال النووي‪(:‬من قال باالطهار يجعلها ق رئين وبعض الث الث‪ ،‬وظ اهر الق رآن أنه ا‬
‫ثالث ة‪ ،‬والقائ ل ب الحيض يش ترط ثالث حيض ات كوام ل‪ ،‬فه و أق رب الى موافق ة‬

‫‪ )(1‬ابن ماجة‪ ،1/627 :‬البيهقي‪ ،7/369 :‬قال ابن حجر‪ :‬وفي إسناده عم ر بن ش بيب وعطي ة الع وفي وهم ا‬
‫ضعيفان‪ ،‬تلخيص الحبير‪.3/213:‬‬
‫‪ )(2‬أحم د (‪ ،3/62‬رقم ‪ ،)11614‬وال دارمى (‪ ،2/224‬رقم ‪ ،)2295‬وأب و داود (‪ ،2/248‬رقم ‪،)2157‬‬
‫وال دارقطنى (‪ ،)4/112‬والح اكم (‪ ،2/212‬رقم ‪ )2790‬وق ال‪ :‬ص حيح على ش رط مس لم‪ .‬وال بيهقى ( ‪ ،5/329‬رقم‬
‫‪)10572‬‬
‫‪ )(3‬أحكام القرآن‪.1/250:‬‬

‫‪339‬‬
‫القرآن‪ ،‬ولهذا االعتراض صار ابن ش هاب الزه رى الى أن االق راء هي االطه ار‪،‬‬
‫قال‪ :‬ولكن ال تنقضي الع دة اال بثالث ة أطه ار كامل ة‪ ،‬وال تنقض ي بطه رين وبعض‬
‫الثالث‪ ،‬وهذا مذهب انفرد به‪ ،‬بل اتفق القائلون باالطهار على أنها تنقض ي بق رءين‬
‫وبعض الثالث‪ ،‬حتى لو طلقها وقد بقى من الطه ر لحظ ة يس يرة حس ب ذل ك ق رءا‬
‫ويكفيها طهران بعده) (‪)1‬‬
‫النوع الثاني ـ العدة باألشهر‬
‫اتفق الفقهاء على أن العدة باألشهر تجب لسببين‪:‬‬
‫السبب األول‪ :‬بدل الحيض‪:‬‬
‫وهي ما تجب بدال عن الحيض في المرأة المطلقة أو ما في معناها التي لم تر‬
‫دم ا لي أس أو ص غر‪ ،‬أو بلغت س ن الحيض‪ ،‬أو جاوزت ه ولم تحض‪ ،‬فع دتها ثالث ة‬
‫أشهر بنص القرآن الكريم‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ﴿:‬والاَّل ئِي يَئِ ْسنَ ِم ْن ْال َم ِح ِ‬
‫يض ِم ْن نِ َس ائِ ُك ْم إِ ْن‬
‫ارْ تَ ْبتُ ْم فَ ِع َّدتُه َُّن ثَاَل ثَةُ أَ ْشه ٍُر َوالاَّل ئِي لَ ْم يَ ِحضْ نَ ﴾(الطالق‪ )4:‬أي فعدتهن ك ذلك‪ ،‬وألن‬
‫األشهر هنا بدل عن األقراء‪ ،‬واألصل مقدر بثالثة فك ذلك الب دل‪ ،‬وس نتكلم عن ك ل‬
‫حالة فيما يلي‪:‬‬
‫الحالة األولى‪ :‬الصغيرة التي لم تحض‪:‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أن عدتها ثالثة أشهر‪ ،‬قال ابن العربي في قوله تع الى‪:‬‬
‫َوالاَّل ئِي لَ ْم يَ ِحضْ نَ ﴾(الطالق‪(:)4:‬يعني الصغيرة‪ ،‬وع دتها أيض ا باألش هر ؛ لتع ذر‬
‫األقراء فيها عادة ؛ واألحكام إنما أجراها هللا على العادات‪ ،‬فهي تعتد باألشهر‪ ،‬ف إذا‬
‫رأت الدم في زمن احتماله عند النس اء انتقلت إلى ال دم‪ ،‬لوج ود األص ل‪ .‬ف إذا وج د‬
‫األصل لم يب ق للب دل حكم‪ ،‬كم ا أن المس نة إذا اعت دت بال دم‪ ،‬ثم انقط ع ع ادت إلى‬
‫األشهر)(‪)2‬‬
‫وقد نص أكثر الفقهاء على أن أقل س ن تحيض في ه الم رأة تس ع س نين ؛ ألن‬
‫المرج ع في ه إلى الوج ود ال واقعي‪ ،‬وق د وج د من تحيض لتس ع‪ ،‬وق د روي عن‬
‫الشافعي أنه قال‪( :‬رأيت جدة لها إحدى وعش رون س نة) (‪ ،)3‬فه ذه إذا أس قطت من‬
‫عمرها مدة الحملين في الغالب عاما ونصفا‪ ،‬وقسمت الباقي بينها وبين ابنتها‪ ،‬كانت‬
‫كل واحدة منهما قد حلمت لدون عشر سنين‪.‬‬
‫فإن رأت دما قبل ذلك‪ ،‬فليس بحيض ؛ ألنه لم يوجد مثلها متكررا‪ ،‬والمعت بر‬
‫من ذلك ما تكرر ثالث مرات في حال الصحة‪ ،‬ولم يوجد ذلك‪ ،‬فال يعتد به‪.‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء فيم ا ل و بلغت س نا تحيض في ه النس اء في الغ الب‪ ،‬فلم‬
‫تحض‪ ،‬كخمس عشرة سنة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬عدتها ثالثة أش هر‪ ،‬وه و م ذهب أبي حنيف ة ومال ك والش افعي‪،‬‬
‫‪ )(1‬شرح النووي على مسلم‪.10/63:‬‬
‫‪ )(2‬أحكام القرآن البن العربي‪.4/245 :‬‬
‫‪ )(3‬لم أج ده في كتب ه‪ ،‬لكن نص علي ه في كتب كث يرة منه ا‪ :‬من ار الس بيل‪ ،1/62 :‬كش اف القن اع‪،1/202 :‬‬
‫المغني‪.8/87 :‬‬

‫‪340‬‬
‫وهو ظاهر مذهب أحمد‪ ،‬وضعف أبو بكر الرواية المخالف ة له ذا‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫يض ِم ْن نِ َس ائِ ُك ْم إِ ْن ارْ تَ ْبتُ ْم‬ ‫ْ‬ ‫اَّل‬
‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬وال ئِي يَئِ ْس نَ ِم ْن ال َم ِح ِ‬
‫فَ ِع َّدتُه َُّن ثَاَل ثَةُ أَ ْشه ٍُر َوالاَّل ئِي لَ ْم يَ ِحضْ نَ ﴾(الطالق‪ )4:‬وهذه من الالئي لم يحضن‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن االعتبار بحال المعتدة‪ ،‬ال بحال غيرها‪ ،‬ولهذا ل و حاض ت قب ل بل وغ‬
‫س ن يحيض لمثل ه النس اء في الغ الب‪ ،‬مث ل أن تحيض وله ا عش ر س نين‪ ،‬اعت دت‬
‫بالحيض‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ا تخ الف من ارتف ع حيض ها وال ت دري م ا رفع ه ؛ فإنه ا من ذوات‬
‫القروء‪ ،‬وهذه لم تكن منهن‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها تعتد سنة‪ ،‬وقد رواه أبو طالب عن أحم د‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك أنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض‪ ،‬صارت مرتاب ة‪ ،‬يج وز أن يك ون‬
‫بها حمل منع حيضها‪ ،‬فيجب أن تعتد بسنة‪ ،‬كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول بش رط اس تبراء رحمه ا ب أي‬
‫وسيلة من وسائل االستبراء‪ ،‬فإن لم تستبرئ أو لم يوثق في وس يلة االس تبراء بقيت‬
‫إلى آخر مدة الحمل من باب االحتياط الحتمال حمله ا‪ ،‬ألن الع ادة أن تحم ل من في‬
‫مثل هذه السن‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬اآليسة من المحيض‬
‫اإلي اس دور من حي اة الم رأة‪ ،‬ينقط ع في ه الحيض والحم ل‪ ،‬بس بب تغ يرات‬
‫تطرأ على جسمها‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء في تحديد س ن اإلي اس اختالف ا ش ديدا يعس ر‬
‫ضبطه نحاول حصره في األقوال التالية(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يحد اإلياس بمدة‪ ،‬ب ل إياس ها أن تبل غ من الس ن م ا ال يحيض‬
‫مثلها فيه‪ ،‬فإذا بلغته‪ ،‬وانقطع دمه ا‪ ،‬حكم بإياس ها‪ ،‬فم ا رأت ه بع د االنقط اع حيض‪،‬‬
‫فيبطل به االعتداد باألشهر‪ ،‬ويفسد نكاحها إن كانت اعت دت باألش هر وت زوجت‪ ،‬ثم‬
‫رأت الدم‪ ،‬وهو قول بعض الحنفية‪ ،‬واستدل ل ه السرخس ي بقول ه‪( :‬ألن ه مع نى في‬
‫باطنها ال يوقف على حقيقته‪ ،‬فال بد من اعتب ار الس بب الظ اهر في ه‪ ،‬وإذا بلغت من‬
‫السن ما ال يحيض فيه مثلها وهي ال ترى الدم فالظاهر أنها آيسة) (‪)2‬‬
‫القول الثاني‪ :‬تحديده بسن معينة‪ ،‬وقد اختلف في تحديد هذه الس ن على اآلراء‬
‫التالية‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬يحد بخمس وخمسين سنة‪ ،‬وهو رواي ة الحس ن عن أبي حنيف ة‪،‬‬
‫قيل فيه إن عليه االعتماد‪ ،‬وإن عليه أكثر المش ايخ‪ ،‬فم ا رأت ه من ال دم بع دها فليس‬
‫بحيض في ظاهر المذهب‪ ،‬إال إذا كان دما خالصا فحيض‪ ،‬حتى يبط ل ب ه االعت داد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المب دع‪ ،1/268 :‬الك افي في فق ه ابن حنب ل‪ ،3/306 :‬كش اف القن اع‪ ،1/202 :‬المبس وط‪،6/27 :‬‬
‫التاج واإلكليل‪ ،1/367 :‬مواهب الجليل‪.3/404 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/27 :‬‬

‫‪341‬‬
‫باألشهر‪ ،‬إن جاءها قبل تمام األشهر ال بعدها‪ ،‬حتى ال تفس د األنكح ة‪ ،‬ق الوا‪ :‬وه و‬
‫المختار للفتوى‪ ،‬وعليه فالنكاح إن وقع بعد انقضاء األشهر ثم رأت الدم جائز‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬يحد بخمسين سنة‪ ،‬وهو قول للحنفية ورواي ة عن أحم د‪ ،‬وق ول‬
‫للش افعية واس تدلوا على ذل ك بق ول عائش ة ا‪ :‬لن ت رى الم رأة في بطنه ا ول دا بع د‬
‫الخمسين‪.‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬أن اإلياس له حدان‪ :‬أعلى وأدنى‪ .‬فأقله خمسون سنة‪ ،‬وهو قول‬
‫المالكية وقول للحنابلة‪ ،‬وقد اختلفوا في أعاله كما يلي‪:‬‬
‫م ذهب المالكية‪ :‬أنمن بلغت س بعين ف دمها غ ير حيض قطع ا‪ ،‬ومن لم تبل غ‬
‫خمسين فدمها حيض قطعا‪ .‬وال يس أل النس اء ‪ -‬أي ذوات الخ برة ‪ -‬فيهم ا‪ .‬وم ا بين‬
‫ذلك يرجع فيه للنساء ؛ ألنه مشكوك فيه‪.‬‬
‫مذهب الحنابلة‪ :‬أعاله عند أحمد على هذه الرواي ة س تون س نة‪ ،‬تي أس بع دها‬
‫يقينا‪ ،‬وما بين الخمسين والستين من الدم مشكوك فيه‪ ،‬ال تترك له الصوم والص الة‪،‬‬
‫وتقضي الصوم المفروض احتياطا‪ ،‬قال ابن قدام ة‪(:‬الص حيح إن ش اء هللا أن ه م تى‬
‫بلغت المرأة خمسين فانقطع حيضها عن عادتها عدة مرات لغير سبب فق د ص ارت‬
‫آيسة ؛ ألن وجود الحيض في حق هذه نادر‪ ،‬بدليل قلة وجوده) (‪)1‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن سن اليأس يختلف باختالف البيئة‪ ،‬وقد اختلف أص حاب ه ذا‬
‫القول على اآلراء التالية‪:‬‬
‫ال رأي األول‪ :‬س ن الي أس بالنس بة إلى ك ل ام رأة بي أس نس اء عش يرتها من‬
‫األبوين ؛ لتقاربهن في الطبع‪ .‬فإذا بلغت السن ال ذي ينقط ع في ه حيض هن فق د بلغت‬
‫سن اليأس‪ ،‬وهو أحد قولي الشافعي(‪.)2‬‬
‫ال رأي الث اني‪ :‬التفري ق بين بعض األجن اس وبعض‪ ،‬فه و للعربي ات س تون‬
‫عاما‪ ،‬وللعجميات خمسون‪ ،‬وهو رواية عن أحم د‪ ،‬وعل ل ذل ك ب أن العربي ة أق وى‬
‫طبيع ة‪ ،‬وه و رواي ة ك ذلك عن د الحنفي ة‪ ،‬ق ال السرخس ي‪(:‬وفص ل في رواي ة بين‬
‫الروميات والخراسانيات‪ ،‬ففي الروميات التق دير بخمس ين س نة‪ ،‬ألن اله رم يس رع‬
‫إليهن‪ ،‬وفي الخراسانيات التقدير بستين سنة)(‪)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول مع الرج وع في ح ال الش ك في‬
‫حصول اإلياس أو عدمه إلى رأي المختصين احتياطا للحمل‪ ،‬وذلك إما بتحديد س ن‬
‫اإلياس أو باستبراء الرحم بأي وسيلة من وسائل االستبراء‪.‬‬
‫وما ذكره أص حاب الق ول الث الث معت بر من الناحي ة الواقعي ة ال من الناحي ة‬
‫الشرعية‪ ،‬فلذلك ال يمكن االحتكام إليه مطلقا الحتمال تخلفه‪.‬‬
‫‪ )(1‬المغني‪.8/87 :‬‬
‫‪ )(2‬والقول الجديد للشافعي‪ :‬المعتبر سن اليأس لجميع النساء بحسب م ا يبل غ الخ بر عنهن‪ .‬وأقص اه فيم ا علم‬
‫اثنتان وستون سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬ستون‪ ،‬وقيل خمسون‪.‬‬
‫‪ )(3‬المبسوط‪.6/27 :‬‬

‫‪342‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬العدة بوضع الحمل‬
‫اتفق الفقهاء على أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحم ل‪ ،‬س واء أك انت عن‬
‫طالق أم وطء ش بهة لقول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأُوْ اَل ُ‬
‫ت اأْل َحْ َم ا ِل أَ َجلُه َُّن أَ ْن يَ َ‬
‫ض ْعنَ َح ْملَه َُّن ﴾‬
‫(الطالق‪ ،)4:‬وألن القصد من العدة براءة الرحم‪ ،‬وهي تحصل بوضع الحم ل‪ ،‬وق د‬
‫نص الفقهاء على شروط الحمل الذي تنقضي العدة بوضعه‪ ،‬وهي على اختالف بين‬
‫العلماء في اعتبارها أو اعتبار بعض تفاصيلها‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬تبين خلقة الجنين‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الحمل الذي تنقضي العدة بوضعه هو ما يتبين في ه ش يء من‬
‫خلق اإلنسان ولو ك ان ميت ا أو مض غة تص ورت‪ ،‬ول و ص ورة خفي ة تثبت بش هادة‬
‫الثق ات من القوابل(‪ ،)1‬وه و ق ول الحنفي ة والش افعية والحنابل ة‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن م ا لم يظه ر في ه ش يء من خل ق اإلنس ان‪ ،‬فليس بحم ل وأن الع دة ال‬
‫تنقضي به ؛ إذ ليس هو بولد‪ ،‬كما أن العلقة والنطفة لما لم تكونا ولدا لم تنقض بهم ا‬
‫العدة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث عب د هللا بن مس عود‪(:‬إن خل ق أح دكم يجم ع في بطن أم ه أربعين‬
‫يوما نطفة ثم يك ون علق ة مث ل ذل ك ثم يك ون مض غة مث ل ذل ك ثم يبعث إلي ه مل ك‬
‫فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله ثم يكتب ش قي أو س عيد ثم ينفخ في ه‬
‫الروح) (‪ )3‬فأخبر ‪ ‬أن ه يك ون أربعين يوم ا نطف ة وأربعين يوم ا علق ة وأربعين‬
‫يوما مضغة‪ ،‬ومعلوم أنها لو ألقته علق ة لم يعت د ب ه ولم تنقض ب ه الع دة وإن ك انت‬
‫العلقة مستحيلة من النطفة ؛ إذ لم تكن ل ه ص ورة اإلنس انية‪ ،‬وك ذلك المض غة إذا لم‬
‫تكن لها صورة اإلنسانية فال اعتبار بها وهي بمنزلة العلقة والنطفة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن المعنى الذي به يتبين اإلنسان من الحمار وسائر الحيوان وجوده على‬
‫هذا الضرب من البنية والش كل والتص وير‪ ،‬فم تى لم يكن للس قط ش يء من ص ورة‬
‫اإلنسان فليس ذلك بولد وهو بمنزلة العلقة والنطفة سواء فال تنقضي ب ه الع دة لع دم‬
‫كونه ولدا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه يجوز أن يكون ما أسقطته مما ال تتبين له صورة اإلنسان دما مجتمعا‬

‫‪ )(1‬وقد نص الشافعي على أنه إذا ألقت شيئا مجتمعا شك فيه أهل العدل من النساء أخلق هو أم ال لم تح ل ب ه‬
‫وال تخلو إال بما ال يشككن فيه‪ .‬وإن اختلفت هي وزوجها فقالت‪ :‬قد وضعت ولدا أو سقطا قد بان خلقه‪ ،‬وقال زوجها‪:‬‬
‫لم تضعي فالقول قولها مع يمينها‪ ،‬وإن لم تحلف ردت اليمين على زوجها‪ .‬فإن حلف على البت ما وضعت ك انت ل ه‬
‫الرجعة وإن لم يحلف لم يكن له الرجعة قال ولو ق الت وض عت ش يئا أش ك في ه أو ش يئا ال أعقل ه وق د حض ره نس اء‬
‫فاستشهدت بهن وأقل من يقبل في ذلك أربع نسوة حرائر عدول مسلمات ال يقب ل أق ل منهن وال يقب ل فيهن وال دة وال‬
‫ولد وتقبل أخواتها وغيرهن من ذوي قرابتها واألجنبيات ومن أرضعها من النساء‪ ،‬انظر‪ :‬األم‪..5/236 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الجصاص‪.3/335 :‬‬
‫‪ )(3‬أحمد ( ‪ ،1/382‬رقم ‪ ،)3624‬والبخارى (‪ ،3/1174‬رقم ‪ ،)3036‬ومسلم (‪ ،4/2036‬رقم ‪ ،)2643‬وأبو‬
‫داود (‪ ،4/228‬رقم ‪ )4708‬والترمذى (‪ ،4/446‬رقم ‪ )2137‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وابن ماجه (‪ ،1/29‬رقم ‪)76‬‬

‫‪343‬‬
‫أو داء أو مدة‪ ،‬فغير جائز أن نجعله ولدا تنقض ي ب ه الع دة‪ ،‬وأك ثر أحوال ه احتمال ه‬
‫ألن يك ون مم ا ك ان يج وز أن يك ون ول دا ويج وز أن ال يك ون ول دا‪ .‬فال نجعله ا‬
‫منقضية العدة به بالشك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن العلقة قد يجوز أن يكون منها ول د وك ذلك النطف ة وق د تش تمل ال رحم‬
‫عليهما وتض مهما‪ ،‬وق د أخ بر الن بي ‪ ‬ب أن‪(:‬النطف ة تمكث أربعين يوم ا نطف ة ثم‬
‫أربعين يوما علقة) ومع ذلك لم يعتبر أحد العلقة في انقضاء العدة‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما لو ك انت مض غة لم تتص ور لكن ش هدت‬
‫الثقات من القوابل أنها مبدأ خلقة آدمي لو بقيت لتصورت على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬تنقضي بها العدة‪ ،‬وهو رأي الشافعية في الم ذهب ورواي ة عن د‬
‫الحنابلة لحصول براءة الرحم به‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬عدم انقضاء العدة في هذه الحالة بالوضع ألن الحمل اسم لنطفة‬
‫متغيرة‪ ،‬فإذا كان مضغة أو علقة لم تتغير ولم تتصور فال يعرف كونه ا متغ يرة إال‬
‫باستبانة بعض الخلق‪ ،‬وهو قول الحنفية وقول للشافعية ورواية للحنابلة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن ه إن ك ان الحم ل دم ا اجتم ع تنقض ي ب ه الع دة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكي ة‪ ،‬ففي المدون ة‪( :‬قلت‪ :‬أرأيت إن أس قطت س قطا لم يت بين بش يء من خلق ه‪،‬‬
‫أسقطته علقة أو مضغة أو عظما أو دما أتنقضي به العدة أم ال في قول مال ك؟ ق ال‪:‬‬
‫قال مالك‪ :‬ما أتت به النساء من مضغة أو علقة أو شيء يستيقن أنه ولد فإنه تنقضي‬
‫به العدة وتكون به األمة أم ولد) (‪)1‬‬
‫وهو قول الظاهرية‪ ،‬قال ابن حزم‪( :‬إن أسقطت الحامل المطلقة‪ ،‬أو المت وفى‬
‫عنها زوجها ؛ أو المعتقة المتخيرة فراق زوجه ا حلت‪ ،‬وح د ذل ك أن تس قطه علق ة‬
‫فصاعدا‪ ،‬وأما إن أسقطت نطفة دون العلقة فليس بشيء‪ ،‬ال تنقضي بذلك عدة) (‪)2‬‬
‫وه و ق ول اإلمامي ة‪ ،‬فق د نص وا على أن (الحام ل وهي تعت د في الطالق‬
‫بوضعه‪ ،‬ولو بعد الطالق بال فصل‪ ،‬سواء كان تاما أو غير تام‪ ،‬ولو كان علقة‪ ،‬بع د‬
‫أن يتحقق أنه حمل‪ ،‬وال عبرة بما يشك فيه) (‪)3‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حديث عبد هللا بن مسعود الس ابق‪( :‬إن أح دكم يجم ع خلق ه في بطن أم ه‬
‫أربعين يوما ثم يكون علقة)‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪(:‬إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث هللا إليها ملكا فصورها‬
‫وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال‪ :‬يا رب أذكر أم أنثى؟) قال‬
‫ابن حزم مبينا وجه استدالله من الحديث‪( :‬معناه خلق الجمل ة ال تي تنقس م بع د ذل ك‬
‫سمعا وبصرا وجل دا ولحم ا وعظام ا ‪ -‬فص ح أن أول خل ق المول ود كون ه علق ة ال‬

‫‪ )(1‬المدونة‪.2/237 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.10/47 :‬‬
‫‪ )(3‬شرائع اإلسالم‪.3/26 :‬‬

‫‪344‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫كونه نطفة‪ ،‬وهي الماء)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ما ذهب إلي ه أص حاب الق ول الث اني بش رط‬
‫اليقين بأن السقط علقة‪ ،‬أما إن كان مجرد دم‪ ،‬فقد يكون دم علة‪،‬وليس س قطا‪ ،‬ولع ل‬
‫هذا االشتباه بدم العلة هو م ا دف ع أص حاب الق ول األول لم ا ذهب وا إلي ه‪ ،‬فل ذلك إن‬
‫اشتبه األمر عرض على أهل االختصاص‪ ،‬ف إن لم يوج دوا ب ني على اليقين‪ ،‬وه و‬
‫في هذه الحالة استمرار الحمل‪ ،‬ولو بمضي مدة الحمل‪ ،‬خش ية اختالط األنس اب إن‬
‫تزوجت‪ ،‬أو الشك في النسب إن لم تتزوج‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬إمكان نسبة الحمل لصاحب العدة‬
‫ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية‪:‬‬
‫عدة زوجة الصغير أو من في حكمه‪:‬‬
‫اتفق الفقه اء على أن ع دة زوج ة الص غير المت وفى عنه ا هي أربع ة أش هر‬
‫وعشر‪ ،‬كعدة زوجة الكبير سواء بسواء إذا لم تكن ح امال‪ ،‬واختلف وا فيم ا ل و م ات‬
‫عن امرأته وهي حامل على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أنه ا ال تنتهي بوض ع الحم ل‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة والش افعية‬
‫والحنابلة في قول وأبي يوسف‪ ،‬ومن األدلة على ذلك(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن اعتبار وضع الحمل في العدة لحرمة الماء وص يانته وال حرم ة لم اء‬
‫الزاني‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنا نتيقن بفراغ رحمها من ماء ال زوج عن د موت ه فعليه ا الع دة بالش هور‬
‫حقا لنكاحه كما لو لم يكن بها حبل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هذا الحمل ليس منه بيقين‪ ،‬بدليل أنه ال يثبت نسبه إليه‪ ،‬فال تنقضي به‬
‫العدة‪ ،‬كالحمل من الزنا أو الحادث بعد موته‪ ،‬والحمل ال ذي تنقض ي الع دة بوض عه‬
‫هو الذي ينسب إلى صاحب العدة ولو احتماال‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن عدة زوجة الص غير ال ذي م ات وهي حام ل تك ون بوض ع‬
‫الحمل‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬وأحمد في رواية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ال أَ َجلُه َُّن أَ ْن يَ َ‬
‫ض ْعنَ َح ْملَه َُّن ﴾‬ ‫‪ 1‬ـ عم وم قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأُوْ اَل ُ‬
‫ت اأْل َحْ َم ِ‬
‫(الطالق‪ ،)4:‬وق د اعت بر الحنفي ة ه ذا النص مق دما على القي اس‪ ،‬ال ذي أخ ذ ب ه‬
‫أصحاب القول األول‪ ،‬فقد ذكر محمد بن الحسن أن القي اس أن تك ون ع دتها أربع ة‬
‫أشهر وعشرا‪ ،‬ألن الحمل من غير الزوج‪ ،‬إال أنه ترك القياس‪ ،‬واستحسن أن يجعل‬
‫عدتها وضع الحمل لآلية‪ ،‬قال أبو بكر‪(:‬فسمى ترك القياس للعموم استحسانا) (‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ أن وجوب العدة للعلم بحصول فراغ الرحم‪ ،‬والوالدة دليل فراغ ال رحم بيقين‪،‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/47 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/53 :‬‬
‫‪ )(3‬الفصول في األصول‪.4/244 :‬‬

‫‪345‬‬
‫والش هر ال ي دل على الف راغ بيقين‪ ،‬فك ان إيج اب م ا دل على الف راغ بيقين أولى‪ ،‬إال إذا‬
‫ظهر الحمل بعد موته لم تعتد به‪ ،‬بل تعتد بأربعة أشهر وعشر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الحم ل إذا لم يكن موج ودا وقت الم وت وجبت الع دة باألش هر‪ ،‬فال تتغ ير‬
‫بالحم ل الح ادث‪ ،‬وإذا ك ان موج ودا وقت الم وت وجبت ع دة الحب ل‪ ،‬فك ان انقض اؤها‬
‫بوضع الحمل‪ ،‬وال يثبت نسب الولد في الوجهين جميع ا ؛ ألن الول د ال يحص ل ع ادة إال‬
‫من الماء‪ ،‬والصبي ال ماء له حقيقة‪ ،‬ويستحيل وجوده عادة فيستحيل تقديره‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على عموم األدلة‪ ،‬ولحاج ة‬
‫الحام ل لرعاي ة ول دها‪ ،‬وذل ك ق د يس تدعي التعجي ل بزواجه ا قب ل انقض اء الم دة‬
‫المحددة للعدة‪ ،‬وقد سبق بيان العلة في ذلك‪.‬‬
‫عدة زوجة المجبوب والخصي والممسوح‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في عدة زوج ة المجب وب والخص ي والممس وح على األق وال‬
‫التالية(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬أن زوجة المجبوب كزوجة الص بي‪ ،‬ال ع دة عليه ا من طالق ه‪،‬‬
‫كالمطلقة قب ل ال دخول‪ ،‬ول و طلقت زوجت ه أو م ات عنه ا وهي حام ل فال تنقض ي‬
‫عدتها بوضع الحمل‪ ،‬ال من موت وال طالق‪ ،‬بل ال بد من ثالث ة أق راء في الطالق‪،‬‬
‫ويعد نفاسها حيضة‪ ،‬وعليها في الوفاة أقصى األجلين‪ ،‬وهو المتأخر من الوض ع أو‬
‫تمام األربعة أشهر وعشر‪ ،‬وهو قول للمالكية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنها تعتد‪ ،‬وهو قول الش افعية والحنفي ة والحنابل ة‪ ،‬وق د اختلف وا‬
‫على اآلراء التالية‪:‬‬
‫الرأي األول‪:‬أن المجبوب أو الخصي كالعنين في وج وب الع دة على الزوج ة‬
‫عند الفرقة بناء على طلبها‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬ونصوا على أن الخص ي كالص حيح‬
‫في وجوب العدة على زوجته عند الفرقة‪ ،‬وكذلك المجبوب بشرط اإلنزال‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬تعتد المرأة من وطء خصي ال مقطوع الذكر ولو دون األنث يين‬
‫لعدم الدخول‪ ،‬لكن إن بانت حامال لحقه الولد‪ ،‬إلمكانه إن لم يكن ممسوحا‪ ،‬واعت دت‬
‫بوض عه وإن نف اه‪ ،‬بخالف الممس وح‪ ،‬ألن الول د ال يلحق ه على الم ذهب‪ ،‬وال تجب‬
‫العدة من طالقه‪ ،‬وهو قول الشافعية(‪.)2‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬أنه إذا طلق الخصي المجبوب امرأته أو مات عنه ا ف أتت بول د‬
‫لم يلحقه نس به(‪ ،)3‬ولم تنقض ع دتها بوض عه وتس تأنف بع د الوض ع ع دة الطالق‪:‬‬

‫‪ )(1‬الكافي في فقه ابن حنبل‪ ،3/318 :‬المغني‪ ،8/100 :‬روضةالطالبين‪ ،8/365 :‬حاشية الدسوقي‪،2/468 :‬‬
‫التاج واإلكليل‪.3/485 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬شرح البهجة‪.4/344 :‬‬
‫‪ )(3‬وذكر القاضي‪ :‬أن ظاهر كالم أحمد أن الولد يلحق به ; ألنه ق د يتص ور من ه اإلن زال ب أن يح ك موض ع‬
‫ذكره بفرجها فينزل‪ ،‬فعلى هذا القول يلحق به الولد وتنقضي به العدة‪ ،‬والصحيح أن هذا ال يلحق به ولد‪ ،‬ألنه لم تجر‬
‫به عادة‪ ،‬فال يلحق به ولدها‪ ،‬كالصبي الذي لم يبلغ عشر سنين‪.‬المغني‪.8/100 :‬‬

‫‪346‬‬
‫ثالثة قروء‪ ،‬أو عدة الوفاة‪ :‬أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬وهو قول الحنابلة(‪.)4‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ق ول الجمه ور بن اء على أن العل ة في الع دة‬
‫ليست استبراء الرحم فقط‪ ،‬ولو كانت العلة هي استبراء ال رحم وح دها الكتفي فيه ا‬
‫باالستبراء بحيضة‪ ،‬ولكنها تشمل أيضا ما ذكرنا من إعطاء فرصة طويلة للرجع ة‪،‬‬
‫وهو من مقاصد الشريعة في لم األسرة ولو في آخر اللحظات‪.‬‬
‫ثالثا ـ تحول العدة أو انتقالها‬
‫وهو أن تنتقل العدة من نوع إلى نوع آخر‪ ،‬وال يخلو ذلك من الحاالت التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ انتقال العدة أو تحولها من األشهر إلى األقراء‪:‬‬
‫وذلك مثل الصغيرة التي لم تحض‪ ،‬واآليسة من المحيض‪ ،‬وق د اتف ق الفقه اء‬
‫على أن الصغيرة أو البالغة التي لم تحض إذا اعتدت باألشهر فحاضت قبل انقضاء‬
‫عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة‪ ،‬فتنتقل عدتها من األش هر إلى األق راء‪ ،‬ألن‬
‫األشهر بدل عن األقراء فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء‪.‬‬
‫أم ا إن انقض ت ع دتها باألش هر ثم حاض ت بع دها ول و بلحظ ة لم يلزمه ا‬
‫استئناف العدة ألنه معنى ح دث بع د انقض اء الع دة‪ ،‬ك التي حاض ت بع د انقض ائها‬
‫بزمن طوي ل‪ ،‬وال يمكن من ع ه ذا األص ل ؛ ألن ه ل و ص ح منع ه لم يحص ل لمن لم‬
‫تحض االعتداد باألشهر بحال‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في اآليسة إذا اعتدت ببعض األش هر‪ ،‬ثم رأت ال دم‪ ،‬على‬
‫قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬تتح ول ع دتها إلى األق راء‪ ،‬وه و ق ول للش افعية والحنفي ة في‬
‫ظاهر الرواية‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك بأنه ا لم ا رأت ال دم دل على أنه ا لم تكن آيس ة‬
‫وأنها أخطأت في الظن فال يعتد باألشهر في حقه ا ألنه ا ب دل فال يعت بر م ع وج ود‬
‫األصل‪.‬‬
‫وهو قريب من قول المالكية القائلين بأن اآليس ة إذا رأت ال دم بع د الخمس ين‬
‫وقبل السبعين‪ ،‬والحنابلة القائلين بعد الخمسين وقبل الستين‪ ،‬فإنه يكون دما مش كوكا‬
‫فيه يرجع فيه إلى النساء لمعرفة هل هو حيض أم ال؟ إال أن الحنابل ة ص رحوا ب أن‬
‫المرأة إذا رأت الدم بعد الخمسين على العادة ال تي ك انت ت راه فيه ا فه و حيض في‬
‫الصحيح ؛ ألن دليل الحيض الوجود في زمن اإلمك ان‪ ،‬وه ذا يمكن وج ود الحيض‬
‫فيه وإن كان نادرا‪ ،‬وإن رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض‪ ،‬فعند ذلك ال تعتد‬
‫به‪ ،‬وتعتد باألشهر‪ ،‬كالتي ال ترى دما‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬أنه إذا بلغت س ن اإلي اس ثم رأت بع ده ال دم لم يكن ذل ك ال دم‬
‫حيض ا كال دم ال ذي ت راه الص غيرة ال تي ال يحيض مثله ا‪ ،‬إال إذا ك ان دم ا خالص ا‬

‫‪ )(4‬المغني‪.8/100 :‬‬

‫‪347‬‬
‫فحيض حتى يبطل به االعتداد باألشهر‪ ،‬وهو قول الحنفية على الرواية ال تي وقت وا‬
‫لإلياس فيها وقتا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و النظ ر إلى م ا يقول ه أه ل االختص اص من‬
‫األطباء في ذلك الحتمال أن يكون بسبب مرض ونح وه‪ ،‬وه و الظ اهر خاص ة م ع‬
‫الكبر في السن على ما ذكرناه في تحديد سن اإلياس‪ ،‬فإن السن ال ذي ذك ره الفقه اء‬
‫يحيل في العادة حصول الحيض‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ انتقال العدة من األقراء إلى األشهر‪:‬‬
‫ذهب جمهور الفقهاء إلى أن العدة تنتقل من األقراء إلى األش هر في ح ق من‬
‫حاض ت حيض ة أو حيض تين ثم يئس ت من المحيض فتس تقبل الع دة باألش هر‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿:‬والاَّل ئِي يَئِ ْس نَ ِم ْن ْال َم ِح ِ‬
‫يض ِم ْن نِ َس ائِ ُك ْم إِ ْن ارْ تَ ْبتُ ْم فَ ِع َّدتُه َُّن‬
‫ثَاَل ثَةُ أَ ْشه ٍُر َوالاَّل ئِي لَ ْم يَ ِحضْ نَ ﴾(الطالق‪)4:‬‬
‫‪ 2‬ـ أن األش هر ب دل عن الحيض‪ ،‬فل و لم تس تقبل وثبتت على األول لص ار‬
‫الشيء الواحد أصال وبدال وهذا ال يجوز‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن العدة ال تلفق من جنسين وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجبت باألشهر‪.‬‬
‫تحول المعتدة من عدة الطالق إلى عدة الوفاة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إذا طلق الرجل زوجته طالقا رجعيا‪ ،‬ثم توفي وهي في‬
‫العدة‪ ،‬سقطت عنه ا ع دة الطالق‪ ،‬واس تأنفت ع دة الوف اة أربع ة أش هر وعش را من‬
‫وقت الوفاة‪ ،‬قال ابن المنذر‪( :‬أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك)(‪)1‬‬
‫واستدلوا على ذلك ب أن المطلق ة الرجعي ة زوج ة م ا دامت في الع دة يلحقه ا‬
‫طالقه وينالها ميراثه‪ ،‬فاعتدت للوفاة كغ ير المطلق ة‪ ،‬لقول ه تع الى ﴿ َوالَّ ِذينَ يُتَ َوفَّوْ نَ‬
‫ِم ْن ُك ْم َويَ َذرُونَ أَ ْز َواجًا يَتَ َربَّصْ نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن أَرْ بَ َعةَ أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرًا ﴾(البقرة‪)234:‬‬
‫واتفقوا على أنه إذا طلق الرجل زوجته طالقا بائنا في ح ال ص حته‪ ،‬أو بن اء‬
‫على طلبها‪ ،‬ثم ت وفي وهي في الع دة‪ ،‬فإنه ا تكم ل ع دة الطالق وال تنتق ل إلى ع دة‬
‫الوفاة‪ ،‬النقطاع الزوجية بينهم ا من وقت الطالق باإلبان ة‪ ،‬فال ت وارث بينهم ا لع دم‬
‫وجود سببه‪ ،‬فتعذر إيجاب عدة الوفاة فبقيت عدة الطالق على حالها‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو طلق زوجته طالقا بائنا في مرض موته دون طلب منها‪ ،‬ثم‬
‫توفي وهي في العدة‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أنه ا تعت د بأبع د األجلين ‪ -‬من ع دة الطالق وع دة الوف اة ‪-‬‬
‫احتياطا‪ ،‬لشبهة قيام الزوجي ة ألنه ا ترث ه‪ ،‬فل و فرض نا بأنه ا حاض ت قب ل الم وت‬
‫حيضتين‪ ،‬ولم تحض الثالثة بعد الم وت ح تى انتهت ع دة الوف اة‪ ،‬فإنه ا تكم ل ع دة‬
‫الطالق‪ ،‬بخالف ما لو حاضت الثالثة بعد الوفاة وقبل انتهاء عدة الوف اة فإنه ا تكم ل‬

‫‪ )(1‬المغني‪.8/94 :‬‬

‫‪348‬‬
‫هذه العدة‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وأحمد والثوري ومحمد بن الحسن‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بأن النكاح لم ا بقي في ح ق اإلرث خاص ة لتهم ة الف رار‬
‫فألن يبقى في حق وجوب العدة أولى‪ ،‬ألن العدة يحتاط في إيجابها فكان قيام النك اح‬
‫من وجه كافيا لوجوب العدة احتياطا فيجب عليها االعتداد أربعة أشهر وعشرا فيه ا‬
‫ثالث حيض‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن المعت دة تب ني على ع دة الطالق النقط اع الزوجي ة من ك ل‬
‫وجه‪ ،‬وهو قول مال ك والش افعي وأبي عبي د وأبي ث ور وأبي يوس ف وابن المن ذر‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنها بائن من النكاح فال تكون منكوحة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن اإلرث الذي ثبت معاملة بنقيض القصد ال يقتضي بقاء زوجية موجبة‬
‫لألسف والحزن والحداد على المتوفى‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و وج وب ع دة الوف اة عليه ا‪ ،‬ألن إرثه ا من ه‬
‫بسبب ثبوت زوجيتها له‪ ،‬مع كونه أبانها‪ ،‬ولكن الش رع لم يق ر تل ك اإلبان ة بالنس بة‬
‫لحقها في إرثه‪ ،‬وهو دليل على اعتبارها زوجة له‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تحول العدة من القروء أو األشهر إلى وضع الحمل‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه لو ظهر في أثناء العدة بالقروء أو األش هر أو بع دها أن‬
‫المرأة حامل من الزوج‪ ،‬فإن العدة تتحول إلى وضع الحمل‪ ،‬ويسقط حكم م ا مض ى‬
‫من القروء أو األش هر‪ ،‬وت بين أن م ا رأت ه من ال دم لم يكن حيض ا‪ ،‬ألن الحام ل ال‬
‫تحيض‪ ،‬وألن وضع الحمل أقوى دالل ة على ب راءة ال رحم من آث ار الزوجي ة ال تي‬
‫ض ْعنَ َح ْملَه َُّن ﴾(الطالق‪)4:‬‬ ‫ال أَ َجلُه َُّن أَ ْن يَ َ‬ ‫انقضت‪ ،‬ولقوله تعالى‪َ ﴿:‬وأُوْ اَل ُ‬
‫ت اأْل َحْ َم ِ‬
‫وقد اختلفوا في عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حامال على قولين(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬أن عدتها تنقضي بوضع الحمل‪ ،‬قلت المدة أو كثرت‪ ،‬حتى ول و‬
‫وضعت بعد ساعة من وفاة زوجها‪ ،‬وهو قول جمهور الفقه اء‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ض ْعنَ َح ْملهُن ﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ال أ َجلهُن أن يَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬ ‫ُ‬
‫‪ 1‬ـ عم وم قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأوْ ت ا حْ َم ِ‬
‫(الطالق‪،)4:‬فقد جاءت عامة في المطلقات ومن في حكمهن والمتوفى عنها زوجه ا‬
‫وكانت حامال‪ ،‬واآلية مخصصة لعموم قوله تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُت ََوفَّوْ نَ ِم ْن ُك ْم َويَ َذرُونَ‬
‫أَ ْز َواجًا يَتَ َربَّصْ نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن أَرْ بَ َعةَ أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرًا ﴾(البقرة‪)234:‬‬
‫‪ 2‬ـ م ا روي عن المس ور بن مخرم ة أن س بيعة األس لمية نفس ت بع د وف اة‬
‫زوجها بليال‪ ،‬فجاءت إلى النبي ‪ ‬فاستأذنته أن تنكح ف أذن له ا فنكحت(‪ ،)2‬وقي ل‪:‬‬
‫إنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪ ،3/175 :‬التمهيد‪.20/34 :‬‬
‫‪ )(2‬البخ اري‪ ،5/2038 :‬مس لم‪ ،2/1122 :‬ابن حب ان‪ ،10/135 ،10/132 :‬ال دارمي‪ ،2/220 :‬ال بيهقي‪:‬‬
‫‪ ،7/429‬ابن ماجة‪ ،1/653 :‬أحمد‪.4/305 ،1/447 :‬‬

‫‪349‬‬
‫‪ 3‬ـ ما روي عن عمر وعبد هللا بن مسعود وزيد بن ثابت وعب د هللا بن عم ر‬
‫وأبي هريرة أنهم قالوا في المتوفى عنه ا زوجه ا‪ :‬إذا ول دت وزوجه ا على س ريره‬
‫جاز لها أن تتزوج (‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ أن المقص ود من الع دة من ذوات األق راء العلم ب براءة ال رحم‪ ،‬ووض ع‬
‫الحمل في الداللة على البراءة فوق مض ي الم دة‪ ،‬فك ان انقض اء الع دة ب ه أولى من‬
‫االنقضاء بالمدة‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬أن الحام ل المت وفى عنه ا زوجه ا تعت د بأبع د األجلين‪ ،‬وض ع‬
‫الحمل أو مضي أربعة أشهر وعشر‪ ،‬أيهما كان أخيرا تنقضي به الع دة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫علي وابن عباس ‪ -‬في إحدى الروايتين عنه ‪ -‬وابن أبي ليلى وس حنون‪ ،‬وه و ق ول‬
‫اإلمامية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َ‬
‫َّص نَ بِأنفُ ِس ِه َّن‬ ‫َ‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يُت ََوفَّوْ نَ ِم ْن ُك ْم َويَ َذرُونَ أ ْز َوا ًج ا يَت ََرب ْ‬
‫أَرْ بَ َعةَ أَ ْشه ٍُر َو َع ْشرًا ﴾ (البقرة‪ )234:‬فاآلية الكريمة فيها عموم وخصوص من وج ه‬
‫؛ ألنها عامة تشمل المتوفى عنها زوجها ح امال ك انت أو ح ائال وخاص ة في الم دة‬
‫َش رًا ﴾ (البق رة‪)234:‬وقول ه تع الى ﴿ َوأُوْ اَل ُ‬
‫ت اأْل َحْ َم ا ِل أَ َجلُه َُّن أَ ْن‬ ‫﴿ أَرْ بَ َعةَ أَ ْش ه ٍُر َوع ْ‬
‫ض ْعنَ َح ْملَه َُّن ﴾ (الطالق‪ )4:‬فيها عم وم وخص وص أيض ا‪ ،‬ألنه ا تش مل المت وفى‬ ‫يَ َ‬
‫عنها وغيرها وخاصة في وضع الحمل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الجمع بين اآليتين والعمل بهما أولى من الترجيح باتفاق أهل األصول‬
‫؛ ألنها إذا اعتدت بأقصى األجلين فقد عملت بمقتضى اآليتين‪ ،‬وإن اعت دت بوض ع‬
‫الحم ل فق د ت ركت العم ل بآي ة ع دة الوف اة‪ ،‬فإعم ال النص ين مع ا خ ير من إهم ال‬
‫أحدهما‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني‪ ،‬للجمع بين اآليات القرآنية‪ ،‬أم ا‬
‫الحديث‪ ،‬فقد تكلم فيه‪ ،‬وهو الذي منع أصحاب القول األول من األخذ بالقول الثاني‪،‬‬
‫قال ابن عبد البر‪( :‬فمن لم يبلغه حديث سبيعة لزمه األخذ ب اليقين في ع دة المت وفى‬
‫عنه ا الحام ل‪ ،‬وال يقين في ذل ك لمن جه ل الس نة في س بيعة إال االعت داد ب آخر‬
‫األجلين) (‪)2‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك ف إن ع دة الوف اة ح ق لل زوج‪ ،‬ودلي ل على وف اء الم رأة‬
‫لزوجها‪ ،‬ولذلك فإن أحكامها تختلف عن العدة العادية كما سنرى‪.‬‬
‫وهذا ما راعاه اإلمامية‪ ،‬فقد ذكروا أن ابتداء عدة المتوفى عنها زوجه ا (علم‬
‫الزوجة بوفاة زوجها فلو تأخرعلمها بذلك مهما تأخر فال تتزوج حتى تمضي عليه ا‬
‫‪ -‬بعد علمها بالوفاة ‪ -‬أربع ة أش هر وعش ر‪ ،‬وحينئ ذ تح ل لألزواج عمالً ب التربص‬
‫الذي هو صريح اآلية‪ ،‬وأخذاً بالحداد الواجب على المرأة يموت زوجها)‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪.3/175 :‬‬


‫‪ )(2‬التمهيد‪.20/33 :‬‬

‫‪350‬‬
‫رابعا ـ آثار العدة‬
‫نص الفقه اء على أن ه يل زم عن الع دة اآلث ار التالي ة‪ ،‬م ع اختالف بينهم في‬
‫تفاصيلها‪:‬‬
‫األثر األول‪ :‬لزوم المعتدة بيتها‬
‫ويتعلق بهذا األثر المسائل التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ مكان العدة‬
‫اتف ق الفقه اء على أن مك ان الع دة من طالق رجعي ه و بيت الزوجي ة ال تي‬
‫كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها‪ ،‬فإذا كانت في زيارة أهلها‪ ،‬فطلقها‪ ،‬ك ان عليه ا أن‬
‫تعود إلى منزلها الذي كانت تسكن فيه لالعت داد وإن ك انت في غ يره‪ ،‬فالس كنى في‬
‫بيت الزوجية وجبت بطريق التعبد‪ ،‬فال تسقط وال تتغير إال باألعذار‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بقوله تعالى‪ ﴿ :‬اَل تُ ْخ ِر ُج وه َُّن ِم ْن بُيُ وتِ ِه َّن َواَل يَ ْخ رُجْ نَ إِاَّل‬
‫أَ ْن يَأْتِينَ بِفَا ِح َش ٍة ُمبَيِّنَ ٍة ﴾(الطالق‪ ،)1:‬ووجه الداللة‪ :‬أن هللا س بحانه وتع الى أض اف‬
‫البيت إليها‪ ،‬والبيت المضاف إليها هو الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها‪.‬‬
‫واختلفوا في اشتراط إقامة المتوفى عنها زوجها في بيت الزوج على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يجوز لها أن تعتد حيث شاءت‪ ،‬وق د روي ذل ك عن علي‪ ،‬وابن‬
‫عباس‪ ،‬وجابر‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وهو ق ول ج ابر بن زي د‪ ،‬والحس ن‪ ،‬وعط اء‪ ،‬وه و ق ول‬
‫اإلمامية والظاهرية‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬وتعتد المت وفى عنه ا‪ ،‬والمطلق ة ثالث ا‪ ،‬أو آخ ر‬
‫ثالث والمعتقة تخت ار ف راق زوجه ا حيث أحببن وال س كنى لهن‪ ،‬ال على المطل ق‪،‬‬
‫وال على ورث ة الميت‪ ،‬وال على ال ذي اخت ارت فراق ه‪ ،‬وال نفق ة‪ ،‬ولهن أن يحججن‬
‫في عدتهن‪ ،‬وأن يرحلن حيث شئن) (‪)1‬‬
‫اح َعلَ ْي ُك ْم فِي َم ا فَ َعلنَْ‬ ‫َ‬ ‫اَل‬
‫خَرجْ نَ ف ُجن َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫واستدلوا على ذلك بقول هللا تعالى‪(:‬فإِن َ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾(البقرة‪ )240:‬قال ابن عباس‪ :‬نسخت هذه‬ ‫فِي أَنفُ ِس ِه َّن ِم ْن َم ْعر ٍ‬
‫ُوف َوهَّللا ُ ع ِ‬
‫اآلية عدتها عند أهله‪ ،‬وسكنت في وصيتها‪ ،‬وإن شاءت خ رجت(‪ )2‬؛‪ ،‬ق ال عط اء‪:‬‬
‫ثم جاء الميراث‪ ،‬فنسخ السكنى‪ ،‬تعتد حيث شاءت‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجب على المتوفى عنها زوجها االعتداد في منزلها‪ ،‬وقد روي‬
‫عن عم ر‪ ،‬وعثم ان‪ ،‬وابن عم ر‪ ،‬وابن مس عود‪ ،‬وأم س لمة‪ ،‬وب ه يق ول مال ك‪،‬‬
‫والثوري‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وإس حاق‪ ،‬ق ال ابن عب د ال بر‪ :‬وب ه‬
‫يقول جماعة فقه اء األمص ار‪ ،‬بالحج از‪ ،‬والش ام‪ ،‬والع راق‪ ،‬ومصر(‪ ،)3‬واس تدلوا‬
‫على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما روت فريعة بنت مالك بن سنان‪ ،‬أخت أبي سعيد الخدري‪ ،‬أنها جاءت‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.10/73 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬البخاري‪ ،4/1646 :‬البيهقي‪ ،7/435 :‬أبو داود‪ ،2/291 :‬الطبري‪.2/582 :‬‬
‫‪ )(3‬التمهيد‪.21/31 :‬‬

‫‪351‬‬
‫إلى رسول هللا ‪ r‬فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له‪ ،‬فقتلوه بط رف الق دوم‪،‬‬
‫فسألت رسول هللا ‪ r‬أن أرج ع إلى أهلي‪ ،‬ف إن زوجي لم يترك ني في مس كن يملك ه‪،‬‬
‫وال نفقة‪ ،‬قالت‪ :‬فقال رسول هللا ‪ :r‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو‬
‫في المسجد‪ ،‬دعاني‪ ،‬أو أمر بي ف دعيت ل ه‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ :r‬كي ف قلت ف رددت‬
‫عليه القصة‪ ،‬فقال‪ :‬امكثي في بيت ك ح تى يبل غ الكت اب أجل ه‪ ،‬فاعت ددت في ه أربع ة‬
‫أشهر وعشرا‪ ،‬فلم ا ك ان عثم ان بن عف ان أرس ل إلي‪ ،‬فس ألني عن ذل ك‪ ،‬فأخبرت ه‬
‫فاتبعه‪ ،‬وقضى به(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬بناء على أن علة هذه العدة هي‬
‫الحداد على الزوج‪ ،‬وهو يتحقق في أي مكان‪ ،‬باإلض افة إلى أنه ا أيض ا تحت اج إلى‬
‫رعاية خاصة‪ ،‬ولذلك ال يصح التضييق عليها‪.‬‬
‫ونحسب أن الح ديث ـ إن ص ح ـ خ اص بالواقع ة‪ ،‬ب دليل أن رس ول هللا ‪‬‬
‫أفتاها أوال بأن تعتد حيث شاءت‪ ،‬ثم طلب منها أن ترج ع‪ ،‬وطلب منه ا أن تعت د في‬
‫بيت زوجه ا‪ ،‬وعص مة رس ول هللا ‪ ‬المطلق ة تقتض ي ص دقه في كال الحكمين‪،‬‬
‫ويكون ب ذلك الحكم األول عام ا‪ ،‬والحكم الث اني خاص ا أو تطبيق ا لبعض مص اديق‬
‫الحكم األول‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن السكنى وردت في حق المطلقات فق ط‪ ،‬ق ال ابن عب د ال بر‪:‬‬
‫(وكان داود وأصحابه يذهبون إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليه ا أن تعت د في‬
‫بيتها وتعتد حيث شاءت‪ ،‬ألن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات‪ ،‬ومن حجت ه‬
‫أن المس ألة مس ألة اختالف ق الوا‪ :‬ه ذا الح ديث إنم ا تروي ه معروف ة بحم ل العلم‬
‫وإيج اب الس كنى إيج اب حكم واألحك ام ال تجب إال بنص كت اب أو س نة ثابت ة أو‬
‫إجماع)(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ أحكام خروج المعتدة‬
‫ويتعلق به المسائل التالية‪:‬‬
‫خروج المطلقة الرجعية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم خروج المطلقة الرجعية من بيتها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن المطلقة الرجعي ة ال يج وز له ا الخ روج من مس كن الع دة ال‬
‫ليال وال نهارا إال بإذن زوجها‪ ،‬وهو قول الحنفية والشافعية‪ ،‬والظاهرية واإلمامي ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اَّل‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬اَل تخ ِرجُوه َُّن ِمن بُيُوتِ ِه َّن َو يَخ رُجْ نَ إِ أن يَ أتِينَ بِفا ِح َش ٍة‬
‫ُمبَيِّنَ ٍة ﴾ (الطالق‪،)1:‬فق د نهى هللا تع الى األزواج عن اإلخ راج والمعت دات عن‬
‫‪ )(1‬ابن حب ان‪ ،10/128 :‬الح اكم‪ ،2/226 :‬الترم ذي‪ ،3/508 :‬ال دارمي‪ ،2/221 :‬ال بيهقي‪ ،7/435 :‬أب و‬
‫داود‪ ،2/291 :‬النسائي‪ ،6/303 :‬ابن ماجة‪ 1/654 :‬الموطأ‪ ،2/591 :‬أحمد‪.6/370 :‬‬
‫‪ )(2‬التمهيد‪.21/31 :‬‬

‫‪352‬‬
‫الخروج‪ ،‬إال إذا ارتكبن فاحشة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬أَ ْس ِكنُوه َُّن ِم ْن َحيْث َس َكنتُ ْم ِم ْن ُوجْ ِد ُك ْم ﴾(الطالق‪ )6:‬واألمر‬
‫ُ‬
‫باإلسكان نهي عن اإلخراج والخروج‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنها زوجته بعد الطالق الرجعي لقيام ملك النكاح من كل وج ه‪ ،‬فال يب اح‬
‫لها الخروج كما قبل الطالق‪ ،‬إال أن بعد الطالق ال يب اح له ا الخ روج وإن أذن له ا‬
‫به‪ ،‬بخالف ما قبل الطالق ؛ ألن حرمة الخروج بعد الطالق لمكان العدة وفيها ح ق‬
‫هللا تعالى فال يملك إبطاله‪ ،‬بخالف م ا قب ل الطالق‪ ،‬ألن الحرم ة ثم ة لح ق ال زوج‬
‫خاصة فيملك إبطال حق نفسه باإلذن بالخروج‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬جواز خروج المطلقة الرجعية نه ارا لقض اء حوائجه ا‪ ،‬وتل زم‬
‫منزلها بالليل ألنه مظنة الفساد‪ ،‬وهو قول المالكية(‪ )1‬والحنابلة‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما روي عن جابر بن عب د هللا ق ال‪ :‬طلقت خ التي ثالث ا‪،‬‬
‫فخرجت تجد نخال لها‪ ،‬فلقيها رجل فنهاها‪ ،‬فأتت النبي ‪ ‬فقالت ذلك له‪ ،‬فقال له ا‪:‬‬
‫(اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا) (‪ ،)2‬قال ابن الج وزي‪:‬‬
‫(وجه الحجة أن النخل خارج المدينة والجداد بالنهار) (‪)3‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول بن اء على مراعات ه لمقص د‬
‫الرجعة‪ ،‬وهو عودتها إلى بيت الزوجي ة‪ ،‬أم ا الح ديث فربم ا تك ون داللت ه خاص ة‬
‫بالمرأة‪ ،‬أو تكون المرأة قد استأذنت زوجها‪.‬‬
‫خروج المطلقة البائن والمتوفى عنها زوجها‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في جواز خروج المعتدة من طالق بائن على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬جواز خروجها نهارا لقضاء حوائجها‪ ،‬أو طرفي النهار لش راء‬
‫ما يلزمها من ملبس ومأكل ودواء أو بيع غزل‪ ،‬أو ك انت تتكس ب من ش يء خ ارج‬
‫عن محلها كالقابلة والماشطة أو ألداء عملها سواء أكان الطالق بائنا بينونة صغرى‬
‫أم كبرى‪ ،‬وهو قول المالكية والشافعية(‪ )4‬والحنابلة والثوري واألوزاعي والليث بن‬
‫سعد‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بحديث جابر السابق‪(:‬طلقت خالتي ثالثا)‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ال يج وز خ روج المعت دة من الطالق الثالث أو الب ائن ليال أو‬

‫‪ )(1‬نص المالكي ة على أن خ روج المعت دة لقض اء حوائجه ا يج وز له ا في األوق ات المأمون ة وذل ك يختل ف‬
‫باختالف البالد واألزمنة‪ ،‬ففي األمصار وسط النهار‪ ،‬وفي غيرها في طرفي النه ار‪ ،‬ولكن ال ت بيت إال في مس كنها‪،‬‬
‫انظر‪ :‬الفواكه الدواني‪.2/64 :‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود‪ ،2/289 :‬النسائي‪ ،3/399 :‬مجمع الزوائد‪ ،5/4 :‬قال ابن حج ر‪ :‬أب و داود وابن حب ان والح اكم‬
‫وأصله في صحيح مسلم‪ ،‬التلخيص الحبير‪.3/240:‬‬
‫‪ )(3‬التحقيق في أحاديث الخالف‪.2/304:‬‬
‫‪ )( 4‬والضابط عند الشافعية هو أن كل معتدة ال تجب نفقتها ولم يكن لها من يقضيها حاجتها لها الخ روج‪ ،‬أم ا‬
‫من وجبت نفقتها فال تخرج إال بإذن أو ضرورة كالزوجة‪ ،‬ألنهن مكفيات بنفقة أزواجهن‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫نهارا‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬لعموم النهي ومسيس الحاجة إلى تحصين الماء‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬ج واز الخ روج ليال إن لم يمكنه ا نه ارا‪ ،‬وه و ق ول الش افعية‪،‬‬
‫وأجازا خروجها إلى دار جارة لها لغزل وحديث ونحوهما للتأنس‪ ،‬بش رط أن ت أمن‬
‫الخروج‪ ،‬ولم يكن عندها من يؤنس ها‪ ،‬وأن ترج ع وت بيت في بيته ا‪ ،‬واس تدلوا على‬
‫ذلك بما روي عن مجاهد قال‪ :‬استشهد رجال يوم أحد فآم نس اؤهم وكن متج اورات‬
‫في دار فجئن النبي ‪ ‬فقلن‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنا نس توحش باللي ل فن بيت عن د إح دانا‬
‫فإذا أصبحنا تبدرنا إلى بيوتنا فقال النبي ‪( :‬تحدثن عند إحداكن م ا ب دا لكن‪ ،‬ف إذا‬
‫أردتن النوم فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها) (‪)1‬‬
‫الق ول الرابع‪ :‬ج واز الخ روج مطلق ا‪ ،‬ب ل والس فر‪ ،‬وه و ق ول اإلمامي ة‬
‫والظاهري ة‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪(:‬تعت د المت وفى عنه ا‪ ،‬والمطلق ة ثالث ا‪ ،‬أو آخ ر ثالث‬
‫والمعتق ة تخت ار ف راق زوجه ا حيث أحببن‪ ..‬ولهن أن يحججن في ع دتهن‪ ،‬وأن‬
‫يرحلن حيث شئن) (‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ص وا‬ ‫‪ 1‬ـ قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي إِ َذا طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء فَطَلِّقُوه َُّن لِ ِع َّدتِ ِه َّن َوأَحْ ُ‬
‫اح َش ٍة‬ ‫ْال ِع َّدةَ َواتَّقُ وا هَّللا َ َربَّ ُك ْم اَل تُ ْخ ِر ُج وه َُّن ِم ْن بُيُ وتِ ِه َّن َواَل يَ ْخ رُجْ نَ إِاَّل أَ ْن يَ أْتِينَ بِفَ ِ‬
‫ث بَ ْع َد‬ ‫ُمبَيِّنَ ٍة َوتِ ْلكَ ُحدُو ُد هَّللا ِ َو َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد هَّللا ِ فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َسهُ اَل تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫ُوف﴾(الطالق‪:‬‬ ‫ارقُوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬ ‫ك أَ ْم رًا فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫َذلِ َ‬
‫‪،)1‬قال ابن حزم‪(:‬فهذه صفة الطالق الرجعي ال صفة الطالق البات) (‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ حديث جابر السابق‪(:‬طلقت خالتي ثالثا)‪ ،‬قال ابن ح زم‪(:‬أم ا خ بر ج ابر‬
‫ففي غاية الصحة‪ ،‬وقد سمعه منه أبو الزبير‪ ،‬ولم يخص له ا أن ال ت بيت هنال ك من‬
‫وحى﴾(النجم‪َ ﴿ ،)4:‬و َم ا َك انَ‬ ‫ي يُ َ‬ ‫ق ع َْن ْالهَ َوى(‪)3‬إِ ْن هُ َو إِاَّل َوحْ ٌ‬ ‫أن تبيت‪َ ﴿ :‬و َما يَ ْن ِط ُ‬
‫ك ن َِس يًّا﴾(م ريم‪ ،)64:‬وال يس ع أح دا الخ روج عن ه ذين األث رين لبيانهم ا‬ ‫َربُّ َ‬
‫وصحتهما) (‪)4‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ج واز خروجه ا مطلق ا لدالل ة الح ديث على‬
‫ذلك زيادة على أنه ال ترجى رجعتها لزوجها‪ ،‬فال حاجة لحبسها في بيته‪.‬‬
‫وما ذكره ابن الج وزي من االس تدالل بالح ديث على ج واز خروجه ا نه ارا‬
‫فقط ال دليل عليه‪ ،‬فالحديث مطل ق إال أن تقي ده المص الح والمفاس د ال تي تنج ر عن‬
‫الخروج ليال‪ ،‬وذلك يصدق أيضا في حال خروجها نهارا مع عدم األمن‪.‬‬
‫خروج المعتدة من وطء شبهة أو نكاح فاسد‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم خروج المعتدة من شبهة أو نكاح فاسد على قولين‪:‬‬

‫‪ )(1‬البيهقي‪ ،7/436 :‬مصنف عبد الرزاق‪.7/36 :‬‬


‫‪ )(2‬المحلى‪.10/74 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/74 :‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.10/74 :‬‬

‫‪354‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أنه ا في الخ روج من مس كنها كالمعت دة من وف اة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنفية والشافعية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬المعتدة من النك اح الفاس د له ا أن تخ رج‪ ،‬إال إذا منعه ا ال زوج‬
‫لتحصين مائه‪ ،‬والصغيرة لها أن تخرج من منزلها إذا كانت الفرق ة ال رجع ة فيه ا‪،‬‬
‫سواء أذن الزوج لها أو لم يأذن‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬واستدلوا على ذلك ب أن وج وب‬
‫السكنى في البيت على المعتدة لحق هللا تعالى وحق ال زوج‪ ،‬وح ق هللا ع ز وج ل ال‬
‫يجب على الصبي‪ ،‬وحق الزوج في حفظ الولد وال ولد منها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و أن حكمه ا ه و نفس حكم المطلق ة ثالث ا أو‬
‫المتوفى عنها زوجها لع دم إمك ان رجعته ا لزوجه ا‪ ،‬واألص ل في حبس الم رأة في‬
‫بيت الزوجي ة ه و الح رص على إرجاعه ا لزوجه ا‪ ،‬ف إن اس تحالت الرجع ة ح ل‬
‫الخروج مطلقا كما ذكرنا‪.‬‬
‫األثر الثاني‪:‬عالقة الزوج بالمعتدة‬
‫ويتعلق بهذا األثر المسائل التالية‪:‬‬
‫حكم معاشرة المعتدة ومساكنتها‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن المعتدة من طالق بائن حكمها حكم األجنبي ة‪ ،‬فال يج وز‬
‫للمطلق معاشرتها ومساكنتها أو الخلوة بها أو النظر إليها‪ ،‬النقط اع آث ار الزوجي ة‪،‬‬
‫فال تحل له إال بعقد ومهر جديدين في البينونة الصغرى‪ ،‬أو أن تنكح زوجا غيره ثم‬
‫يفارقها في البينونة الكبرى‪.‬‬
‫واختلف وا في معاش رة المعت دة من طالق رجعي أو مس اكنتها واالس تمتاع أو‬
‫الخلوة بها على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ال يجوز للمطلق لزوجته طالقا رجعيا معاشرتها ومس اكنتها‬
‫في الدار التي تعتد فيه ا‪ ،‬ب ل يجب علي ه الخ روج من المس كن‪ ،‬إال إذا ك انت ال دار‬
‫واسعة ومعها محرم مميز يستحى منه ويكون بصيرا‪ ،‬وهو قول المالكية والش افعية‬
‫وفي رواية للحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه يؤدي إلى الخلوة بها وهي محرمة عليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫ض يِّقوا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ض ارُّ وهُن لِت َ‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬
‫‪ 2‬ـ أن في ذل ك إض رارا به ا وق د ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و ت َ‬
‫َعلَ ْي ِه َّن ﴾ (الطالق‪)6:‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الطالق رفع لحل النكاح ومقدماته‪ ،‬فال يجوز الدخول عليه ا أو األك ل‬
‫معها أو لمسها أو النظر إليها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يجوز االستمتاع بالرجعية والخلوة بها ولمسها والنظر إليها‬
‫بنية المراجعة‪ ،‬أو بدونها مع الكراهة التنزيهية‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة وظ اهر م ذهب‬
‫الحنابل ة‪ ،‬ألنه ا في الع دة كالزوج ة يمل ك مراجعته ا بغ ير رض اها‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الظاهرية‪ ،‬فقد نص ابن حزم على أبعد مما ذكروا فقال مبينا رأي ة ووج ه اس تدالله‪:‬‬
‫(إن المطلقة طالقا رجعيا فهي زوج ة لل ذي طلقه ا م ا لم تنقض ع دتها‪ ،‬يتوارث ان‪،‬‬

‫‪355‬‬
‫ويلحقه ا طالق ه‪ ،‬وإيالؤه‪ ،‬وظه اره‪ ،‬ولعان ه إن ق ذفها‪ ،‬وعلي ه نفقته ا‪ ،‬وكس وتها‪،‬‬
‫وإسكانها‪ ،‬فإذ هي زوجته فحالل له أن ينظر منها إلى ما كان ينظ ر إلي ه منه ا قب ل‬
‫أن يطلقها‪ ،‬وأن يطأها‪ ،‬إذ لم يأت نص بمنعه من شيء من ذلك‪ ،‬وقد سماه هللا تعالى‬
‫ص الحًا﴾‬ ‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ كَ إِ ْن أَ َرادُوا إِ ْ‬ ‫بعال له ا‪ ،‬إذ يق ول تع الى‪َ ﴿ :‬وبُ ُع ولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫(البقرة‪)1( ))228 :‬‬
‫ثم قال مؤكدا على رأية الذي قد يفهم منه قص د الرجع ة‪(:‬ف إن وطئه ا لم يكن‬
‫بذلك مراجعا لها حتى يلفظ بالرجعة ويش هد‪ ،‬ويعلمه ا ب ذلك قب ل تم ام ع دتها‪ ،‬ف إن‬
‫راج ع ولم يش هد فليس مراجع ا لق ول هللا تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن‬
‫ُوف َوأَ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾ (الطالق‪ )2:‬ف رق ع ز‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫بِ َم ْعر ٍ‬
‫وجل بين المراجعة‪ ،‬والطالق واإلشهاد‪ ،‬فال يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و ج واز مس اكنة ال زوج لمطلقت ه الرجعي ة‪،‬‬
‫وحرمة مباشرتها أو معاشرتها الجنسية‪ ،‬للمص الح المترتب ة عن ذل ك‪ ،‬في ترتب عن‬
‫جواز المساكنة‪ ،‬احتمال رجعته لها‪ ،‬وهو مقصد من مقاصد الشريعة‪ ،‬وي ترتب عن‬
‫حرمة معاشرتها جنسية أمران‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اس تبراء رحمه ا‪ ،‬ألن ه مقص د من مقاص د الع دة ومعاش رتها ت ؤدي إلى‬
‫اإلخالل بهذا المقصد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن معاشرتها جنسيا‪ ،‬مع كونه مطلقا له ا‪ ،‬ق د يزي ل رغبت ه في رجعته ا‪،‬‬
‫بخالف ما لو حرم عليه ذلك ومنع منه مع كون ه مس اكنا له ا‪ ،‬وهي ت تزين ل ه‪ ،‬فق د‬
‫يدعوه ذلك إلى رجعتها‪ ،‬فيتحقق مقصود الشرع‪ ،‬أو يستمر في عدم رجعته ا‪ ،‬في دل‬
‫ذلك على النفرة الشديدة منها وأنه طلقها طالق رغبة ووطر ال طالق حال‪.‬‬
‫وقد أشار إلى بعض ما ذكرن ا السرخس ي بقول ه‪(:‬والمعت دة من طالق رجعي‬
‫تتش وف وت تزين ل ه ألن الزوجي ة باقي ة بينهم ا‪ ،‬وه و من دوب على أن يراجعه ا‬
‫وتشوفها له يرغبه في ذلك)(‪)2‬‬
‫أما إن كان ال يرجو مراجعتها‪ ،‬فإن األولى هو األخذ ب القول األول‪ ،‬ح تى ال‬
‫يرجعها شهوة‪ ،‬ثم يعود لتطليقها فيكثر ذل ك من ع دد الطلق ات‪ ،‬وق د أش ار إلى ه ذا‬
‫أيضا السرخسي بقوله‪(:‬فإن كان من ش أنه أن ال يراجعه ا‪ ،‬فأحس ن ذل ك أن يعلمه ا‬
‫بدخوله عليها بالتنحنح وخفق النعل كي تتأهب لدخوله‪ ،‬ال ألن ال دخول عليه ا بغ ير‬
‫االستئذان حرام‪ ،‬ولكن المرأة في بيتها في ثياب مهنتها فربما يقع بصره على ش يء‬
‫منها وتقترن به الشهوة فيصير مراجعا له ا بغ ير ش هود وذل ك مك روه‪ ،‬وإذا ص ار‬
‫مراجع ا وليس من قص ده إمس اكها احت اج إلى أن يطلقه ا وتس تأنف الع دة فيك ون‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/16 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.6/25 :‬‬

‫‪356‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫إضرارا بها من حيث تطويل العدة)‬
‫ثبوت النسب في العدة‬
‫اختلف الفقهاء في ثبوت النسب في العدة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ثبوت نسب الولد في العدة‪ ،‬ما دام قد ولد في نطاق الحد األقصى‬
‫لم دة الحم ل من وقت الطالق أو الم وت‪ ،‬فيثبت نس به وال ينتفي عن ه إال باللع ان ‪-‬‬
‫س واء أق رت المعت دة بانقض اء ع دتها أو لم تق ر‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة والش افعية‬
‫والحنابلة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬التفريق في ثبوت النسب بين المعتدة التي أقرت بانقضاء عدتها‬
‫أو لم تقر‪ ،‬وبين البائن والرجعي ة والمت وفى عنه ا‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‪ ،‬ف إذا أق رت‬
‫بانقضاء العدة‪ ،‬ثم ج اءت بول د ألق ل من س تة أش هر ثبت نس به اتفاق ا ؛ ألن ه ظه ر‬
‫عكسه بيقين‪ ،‬فصارت كأنها لم تقر به بخالف ما لو جاءت به لستة أشهر فأكثر فإنه‬
‫ال يثبت نسبه‪،‬ألنه لم يظهر عكسه‪ ،‬فيكون من حمل حادث بعده وألنه ا أتت ب ه بع د‬
‫الحكم بقضاء عدتها وحل النكاح لها بمدة الحمل‪ ،‬فلم يلحق ب ه كم ا ل و أتت ب ه بع د‬
‫انقضاء عدتها بوضع حملها لمدة الحمل‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ما ذكرناه في الجزء الخاص بحق وق األوالد‬
‫النفس ية والص حية من أن النس ب في األص ل ث ابت لألب وين إال إذا نف اه اإلمك ان‬
‫ال واقعي‪ ،‬والمرج ع في ذل ك ليس م ا نص علي ه الفقه اء من التحدي دات ال تي يع ود‬
‫معظمه ا للمع ارف الموج ودة في عه دهم أو لألخب ار ال تي ت ردهم‪ ،‬فيفت ون على‬
‫أساسها‪ ،‬وإنما ألهل االختصاص من العلماء واألطباء بشرط العدالة والجزم‪.‬‬

‫‪ )(3‬المبسوط‪.6/25 :‬‬

‫‪357‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الضوابط الشرعية للرجعة‬
‫نتناول في هذا الفصل الحل الذي وضعه الشارع إلعادة الحي اة الزوجي ة إلى‬
‫مسارها األصلي‪ ،‬وهو ما يطلق عليه الفقهاء بالرجعة‪ ،‬وهي نوع ان إم ا رجع ة في‬
‫العدة‪ ،‬أو رجعة بعد انتهائها‪ ،‬ثم هي في هذه الحالة إما أن ال تفتقر إلى زواج الم رأة‬
‫بزوج آخر لكون الطالق بائنا بينونة صغرى أو أن تفتق ر إلى ذل ك إذا ك ان الطالق‬
‫بائنا بينونة كبرى‪.‬‬
‫وقد حصل في ه ذا الن وع األخ ير من البينون ة أخط اء كب يرة ال ت زال بعض‬
‫آثاره ا موج ودة في المجتمع ات اإلس المية‪ ،‬وه و التحاي ل على الرجع ة بالوس ائل‬
‫المختلفة بعضها شرعي‪ ،‬وبعضها ال عالقة له باألحكام الشرعية‪.‬‬
‫بناء على هذا فقد قسمنا هذا الفصل إلى ثالثة مباحث‪:‬‬
‫األول‪ :‬حول أحكام الرجعة بأنواعها المختلفة‪ ،‬وأركانها وشروطها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬حول التحايل على الرجعة‪ ،‬وق د ذكرن ا مواق ف العلم اء من التحاي ل‪،‬‬
‫وبعض النماذج عن الحيل‪،‬ومواقف الفقهاء منها‪.‬‬
‫الث الث‪ :‬ح ول المخ ارج ال تي جعله ا الش رع لتض ييق ب اب الطالق‪ ،‬كب ديل‬
‫وعالج لظاهرة التحايل على الرجعة‪.‬‬
‫أوال ـ أحكام الرجعة‬
‫‪ 1‬ـ مفهوم الرجعة ومشروعيتها‬
‫للفقهاء تعريفات مختلفة للرجعة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ رد الزوج أو من قام مقام ه من وكي ل وولي امرأت ه إلى م وجب النك اح‪،‬‬
‫وهو الحل في العدة من بائن بشروط(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ هي إعادة زوجته المطلقة إلى ما كانت عليه دون عقد(‪.)3‬‬
‫ومن األدلة على مشروعية الرجعة بين الزوجين‪:‬‬
‫َّص نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن ثَاَل ثَ ةَ قُ رُو ٍء ﴾(البق رة‪:‬‬
‫ات يَت ََرب ْ‬ ‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬و ْال ُمطَلَّقَ ُ‬
‫ص الحًا﴾(البق رة‪:‬‬ ‫ك إِ ْن أَ َرادُوا إِ ْ‬ ‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ َ‬‫‪ )228‬إلى قول ه‪َ ﴿ :‬وبُ ُع ولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫‪ ،)228‬والمراد به الرجعة عند عامة العلماء وأهل التفسير(‪.)4‬‬
‫‪ )(1‬حاشية الدسوقي‪.2/415 :‬‬
‫‪ )(2‬نهاية الزين‪.326 :‬‬
‫‪ )(3‬دليل الطالب‪.265 :‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬القرطبي‪.3/120 :‬‬

‫‪358‬‬
‫ُوف ﴾(الطالق‪ )2:‬أي‬ ‫‪ 2‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬
‫بالرجعة ومعناه إذا قاربن بلوغ أجلهن أي انقضاء عدتهن‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ عن عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬كان الناس والرجل يطلق امرأت ه م ا ش اء أن يطلقه ا‪،‬‬
‫وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في الع دة وإن طلقه ا مائ ة م رة أو أك ثر‪ ،‬ح تى ق ال‬
‫رجل المرأته‪ :‬وهللا ال أطلقك فتبيني م ني وال آوي ك أب دا‪ ،‬ق الت‪ :‬وكي ف ذاك؟ ق ال‪:‬‬
‫أطلق ك فكلم ا همت ع دتك أن تنقض ي راجعت ك‪ ،‬ف ذهبت الم رأة ح تى دخلت على‬
‫عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي ‪ ‬فأخبرته فس كت الن بي ‪ ‬ح تى‬
‫ان﴾ (البقرة‪،)229 :‬‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫ك بِ َم ْعر ٍ‬ ‫نزل القرآن‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ق َم َّرتَا ِن فَإ ْم َسا ٌ‬
‫قالت عائشة‪ :‬فاستأنف الناس الطالق مستقبال‪ ،‬من كان طلق ومن لم يكن طلق(‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ عن عمر أن النبي ‪ ‬طلق حفص ة ثم راجعها(‪ ،)2‬وهي الم رأة الوحي دة‬
‫التي طلقها ‪ ‬خالفا لمن يذكر أنه طلق س ودة‪ ،‬ق ال ابن ح زم تعليق ا على من زعم‬
‫ذلك‪(:‬هذا كذب موضوع م ا ص ح ق ط أن رس ول هللا ‪ ‬طل ق ام رأة من نس ائه إال‬
‫حفصة فقط‪ ،‬ثم راجعها‪ ،‬وأما سودة فال‪ ،‬إنما جاء فيها أنها وهبت يومها وليلته ا لم ا‬
‫أسنت لعائشة ا‪ ،‬وجاء أنه ‪ ‬أراد فراقها فلما رغبت إلي ه ‪ ‬في إمس اكها وتجع ل‬
‫يومها وليلتها لعائشة لم يفارقها) (‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ حكم الرجعة‬
‫أجمع العلماء على أن الح ر إذا طل ق الح رة بع د دخول ه به ا أق ل من ثالث‪،‬‬
‫بغير عوض‪ ،‬وال أمر يقتضي بينونتها‪ ،‬فإنه يب اح ل ه الرجع ة م ا دامت في ع دتها‪،‬‬
‫﴿وبُعُولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫ق‬ ‫وأجمعوا على أنه ال رجعة له عليها بعد قضاء عدتها‪ ،‬لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ك إِ ْن أَ َرادُوا إِصْ الحًا﴾(البقرة‪ ،)228 :‬وتعتري الرجعة زيادة على هذا‬ ‫بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ َ‬
‫الحكم األصلي األحكام العارضة التالية‪:‬‬
‫الوجوب‪:‬‬
‫وقد قيل بوجوب الرجعة في الح التين الت اليتين على اختالف بين الفقه اء في‬
‫ذلك‪:‬‬
‫إجبار من طلق امرأته في الحيض والنفاس على الرجعة‪:‬‬
‫اختل ف الفقه اء فيمن طل ق زوجت ه وهي ح ائض أو نفس اء‪ ،‬ه ل يج بر على‬
‫رجعتها أم ال على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يؤمر برجعتها إذا طلقها حائضا‪ ،‬وال يجبر على ذل ك‪ ،‬ه و ق ول‬
‫الش افعي وأبي حنيف ة وأص حابهما والث وري واألوزاعي وابن أبي ليلى وأحم د بن‬
‫حنبل وأبي ثور والطبري‪.‬‬
‫القول الث اني‪ :‬كل من طل ق امرأت ه حائض ا أج بر على رجعته ا‪ ،‬وإن طلقه ا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الطبري‪ ،2/457 :‬الحاكم‪ ،2/307 :‬الترمذي‪ ،3/497 :‬البيهقي‪ ،7/324 :‬الدارقطني‪.4/7 :‬‬
‫‪ )(2‬قال الحاكم‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪ ،‬الح اكم‪ ،2/215 :‬ابن حب ان‪،10/100 :‬‬
‫الدارمي‪ ،2/214 :‬البيهقي‪ ،7/321 :‬أبو داود‪ ،2/285 :‬النسائي‪ ،3/403 :‬ابن ماجة‪ ،1/650 :‬الموطأ‪.2/580 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/192 :‬‬

‫‪359‬‬
‫نفساء لم يجبر على رجعتها‪ ،‬وهو مذهب داود بن علي‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يجبر على مراجعتها إذا طلقها في الحيض أو في النفاس‪ ،‬وه و‬
‫قول المالكية‪ ،‬واستدلوا بما يقتضيه األمر من وجوب االئتمار واستعمال المأمور ما‬
‫أمر به حتى يخرجه عن جبر الوجوب‪ ،‬ولم يستدلوا بغ ير ه ذا‪ ،‬ق ال ابن عب د ال بر‪:‬‬
‫(وال دليل ههنا على ذلك وهللا أعلم) (‪ ،)1‬وقد اختلف قول المالكي ة في ال وقت ال ذي‬
‫تتم فيه الرجعة على رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬يجبر على الرجعة أبدا ما لم تخرج من عدتها س واء أدرك ذل ك‬
‫في تلك الحيضة التي طلق فيها أو الطه ر ال ذي بع ده أو الحيض ة الثاني ة أو الطه ر‬
‫بعدها ما لم تنقض العدة‪ ،‬وهو قول مالك وأكثر أصحابه‪.‬‬
‫الرأي الث اني‪ :‬يجبر على الرجع ة م ا لم تطه ر وح تى تحيض ثم تطه ر ف إذا‬
‫صارت في الحال التي أباح له النبي ‪ ‬طالقها لم يج بر على رجعته ا‪ ،‬وه و ق ول‬
‫أشهب بن عبدالعزيز‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة في ه ذه الحال ة أن األولى ه و الق ول األول لم ا‬
‫يفضي إليه القول الث اني من تكث ير ع دد الطلق ات‪ ،‬وبالت الي ق د ي ؤدي إلى البينون ة‬
‫الكبرى‪ ،‬وهو ما لم يقص ده الش ارع بتعدي د ف رص الطالق‪ ،‬وله ذا ك ان األولى إم ا‬
‫القول بعدم وقوع الطالق كما ذكرنا ذلك سابقا‪ ،‬أو القول بعدم إجباره على الرجع ة‪،‬‬
‫أما القول بوقوع الطالق مع وجوب الرجعة ففيه تن اقض واض ح ومفس دة عظيم ة‪،‬‬
‫وق د ق ال ابن رش د م ع مالكيت ه‪(:‬من ق ال بوق وع الطالق وج بره على الرجع ة فق د‬
‫تناقض‪ ،‬فتدبر ذلك)(‪)2‬‬
‫الرجعة من الطالق في الطهر الذي مسها فيه‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن من طلق زوجته في الطه ر ال ذي مس ها في ه ق د ارتكب‬
‫ذلك حراما‪ ،‬وهو طالق بدعة‪ ،‬واختلفوا هل يجب عليه مراجعتها أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يجب عليه مراجعته ا‪ ،‬وق د نق ل اإلجم اع على ذل ك ابن عب د‬
‫ال بر وابن قدام ة‪ ،‬ق ال ابن عب دالبر‪(:‬أجمع وا على أن الرجع ة ال تجب في ه ذه‬
‫الصورة) (‪ ،)3‬ولكن هذا اإلجماع ليس ثابتا‪ ،‬ومن األدلة على هذا القول‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ع دم ص حة القي اس على األم ر بالرجع ة في الطالق من الحيض‪ ،‬ألن‬
‫زمن الطه ر وقت لل وطء والطالق وزمن الحيض ليس وقت ا لواح د منهم ا‪ ،‬فظه ر‬
‫الفرق بينهما فال يلزم من األمر بالرجعة في غير زمن الطالق األمر بها في زمنه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المعنى الذي وجبت ألجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في ص ورة‬
‫الطالق في الطهر الذي مسها فيه‪ ،‬فإنه إنما ح رم طالقه ا في زمن الحيض لتطوي ل‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪.15/67 :‬‬
‫‪ )(2‬بداية المجتهد‪.2/49:‬‬
‫‪ )(3‬نقال عن‪ :‬حاشية ابن القيم‪.177 /6 :‬‬

‫‪360‬‬
‫العدة عليها فإنها ال تحتسب ببقية الحيضة ق رءا اتفاق ا‪ ،‬فتحت اج إلى اس تئناف ثالث ة‬
‫قروء كوامل‪ ،‬أما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو كان لحظة‪ ،‬فال حاج ة به ا‬
‫إلى أن يراجعها‪ ،‬فإن من قال األقراء األطهار كانت أول عدتها عنده عقب طالقه ا‪،‬‬
‫ومن قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر وهو لو راجعها‪ ،‬ثم أراد أن يطلقه ا لم‬
‫يطلقها إال في طهر فال فائدة في الرجعة‪ ،‬وهذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب الرجعة في هذا الطالق‪ ،‬وهو أح د ال وجهين في م ذهب‬
‫أحمد كما ذكر ابن القيم‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن النبي ‪ ‬أمره أن يطلقها إذا شاء قبل أن يمسها‪،‬وقال‪ :‬فتلك العدة التي‬
‫أمر بها هللا أن تطلق النساء‪ ،‬وهذا ظاهر في التحريم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ه طالق مح رم فتجب الرجع ة في ه كم ا تجب في الطالق في زمن‬
‫الحيض‪ ،‬وألن زمن الطهر متى اتصل به المسيس صار ك زمن الحيض في تح ريم‬
‫الطالق‪ ،‬وال فرق بينهما‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا هو ع دم الق ول بالرجع ة ـ إن‬
‫قلنا بوقوع الطالق ـ حتى ال تكثر عدد الطلقات‪ ،‬ألن الش رع قص د أم رين‪ :‬تض ييق‬
‫الطالق‪ ،‬وتقليل عدد الطلقات في حال عدم وجود مسلك ل ه‪ ،‬ح تى ال تنقط ع عالق ة‬
‫الزوجية بالكلية‪.‬‬
‫الندب‪:‬‬
‫وذلك في حالة ندم الزوجين بعد وق وع الطالق‪ ،‬خاص ة إذا ك ان هن اك أوالد‬
‫تقتضي المصلحة نشأتهم في ظل األبوين ليدبرا ش ؤونهم‪ ،‬تحص يال للمص لحة ال تي‬
‫ندب إليها الشارع الحكيم‪ ،‬فقد حض في كثير من اآليات على الص لح والتوفي ق بين‬
‫الص ْل ُح خَ ْي ٌر ﴾‬
‫ص ْلحًا َو ُّ‬ ‫الزوجين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَاَل ُجنَا َح َعلَ ْي ِه َم ا أَ ْن ي ْ‬
‫ُص لِ َحا بَ ْينَهُ َم ا ُ‬
‫(النساء‪ )128:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬واَل تَن َسوْ ا ْالفَضْ َل بَ ْينَ ُك ْم ﴾ (البقرة‪)237:‬‬
‫الحرمة‪:‬‬
‫ومن مواض عها أن يرجعه ا بقص د المض ارة له ا‪ ،‬فيك ون إمس اكا من غ ير‬
‫المعروف‪ ،‬أو أن يرجعها بعد انتهاء فترة ع دتها من غ ير تجدي د العق د ومتطلبات ه‪،‬‬
‫وسنتعرض لهاتين المسألتين وما يرتبط بهما فيما يلي‪:‬‬
‫الرجعة مع قصد اإلضرار‪:‬‬
‫وذل ك فيم ا ل و قص د ال زوج اإلض رار ب المرأة فيراجعه ا ليلح ق به ا األذى‬
‫ض َرارًا‬ ‫والضرر‪ ،‬وقد نهى القرآن الك ريم عن ذل ك بقول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل تُ ْم ِس ُكوه َُّن ِ‬
‫ك فَقَ ْد ظَلَ َم نَ ْف َسهُ ﴾(البقرة‪ ،)231:‬ففي هذه اآلي ة ينهي هللا تع الى‬ ‫لِتَ ْعتَدُوا َو َم ْن يَ ْف َعلْ َذلِ َ‬
‫األزواج أن يمس كوا زوج اتهم بقص د إض رارهن وأذاهن‪ ،‬والنهي يفي د التح ريم‪،‬‬
‫فتكون الرجعة محرمة في هذه الحالة‪ ،‬قال القرطبي‪(:‬الرجل مندوب إلى المراجعة‪،‬‬
‫ولكن إذا قصد اإلصالح بإصالح حاله معها وإزالة الوحش ة بينهم ا‪ ،‬فأم ا إذا قص د‬
‫اإلضرار وتطويل الع دة والقط ع به ا عن الخالص من ربق ة النك اح فمح رم لقول ه‬

‫‪361‬‬
‫تعالى‪﴿:‬وال تمسكوهن ض رارا لتعت دوا﴾‪ ،‬ثم من فع ل ذل ك فالرجع ة ص حيحة‪ ،‬وإن‬
‫ارتكب النهى وظلم نفسه) (‪)1‬‬
‫ومن السنة حديث عائشة‪ ،‬السابق‪ ،‬قال الشوكاني‪(:‬وح ديث عائش ة في ه دلي ل‬
‫على تح ريم الض رار في الرجع ة‪ ،‬ألن ه منهي عن ه بعم وم قول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل‬
‫ضارُّ وه َُّن ﴾(الطالق‪ ﴾)6:‬والمنهي عنه فاسد فسادا يرادف البطالن‪ ،‬ويدل على ذلك‬ ‫تُ َ‬
‫ص اَل حًا ﴾ (البق رة‪ )228:‬فك ل رجع ة ال ي راد به ا‬ ‫َ‬
‫أيض ا قول ه تع الى‪ ﴿:‬إِ ْن أ َرادُوا إِ ْ‬
‫اإلصالح ليست برجعة شرعية) (‪)2‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء فيم ا ل و علم أن مقص د ال زوج ه و اإلض رار ال الرجع ة‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬الرجعة صحيحة وإن كان ص احبها آثم ا‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪،‬‬
‫فقد نصوا على أنه ال يش ترط في الرجع ة إرادة اإلص الح‪ ،‬واآلي ة للتح ريض على‬
‫اإلصالح والمنع من قصد اإلضرار(‪.)3‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه لو علم ذلك المقصد منه فإن زوجته تطلق علي ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫ص اَل حًا ﴾ (البق رة‪:)228:‬‬ ‫المالكي ة‪ ،‬ق ال ابن الع ربي في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْن أَ َرادُوا إِ ْ‬
‫(المعنى إن قصد بالرجعة إصالح حاله معها‪ ،‬وإزالة الوحشة بينهم ا‪ ،‬ال على وج ه‬
‫اإلضرار والقطع بها عن الخالص من ربقة النكاح‪ ،‬فذلك له حالل‪ ،‬وإال لم تحل له‪،‬‬
‫ولما كان هذا أمرا باطنا جع ل هللا تع الى الثالث علم ا علي ه‪ ،‬ول و تحققن ا نحن ذل ك‬
‫المقصد منه لطلقنا عليه) (‪)4‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو صحة ما ذهب إلي ه المالكي ة في المس ألة من‬
‫جهتين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ص راحة ال دليل ال وارد في ذل ك س واء من الق رآن الك ريم أو من الس نة‬
‫المطه رة‪ ،‬فاآلي ة قي دت الرجع ة ب إرادة اإلص الح‪ ،‬وال يص ح حمله ا على مج رد‬
‫الن دب‪ ،‬وح ديث عائش ة‪ ،‬ك ذلك في ه دالل ة قوي ة على ه ذا‪ ،‬فق د أخ برت عن فع ل‬
‫الجاهلية‪ ،‬وال يصح إجازة أفعال الجاهلية في اإلسالم‪ ،‬وال بأس أن نقتبس من األدلة‬
‫على هذا ما ذكره ابن حزم في غير هذا الموضع لتناسبه مع هذا‪ ،‬فق د اس تدل بقول ه‬
‫تعالى‪ ﴿:‬يُخَا ِد ُعونَ هَّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما يَ ْخ َد ُعونَ إِاَّل أَنفُ َس هُ ْم َو َم ا يَ ْش ُعرُونَ ﴾(البق رة‪:‬‬
‫ض يِّقُوا َعلَ ْي ِه َّن ﴾(الطالق‪)6:‬وه ذا عين‬ ‫ض ارُّ وه َُّن لِتُ َ‬ ‫‪ ،)9‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل تُ َ‬
‫المضارة‪ ،‬وقوله ‪(:‬من عمل عمال ليس عليه أمرنا فهو رد)‪ ،‬فمض ارته م ردودة‬
‫باطل‪ ،‬زيادة على أن هللا تعالى سمى الرجعة إمساكا بمعروف‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.3/123 :‬‬
‫‪ )(2‬نيل األوطار‪.6/299 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مطالب أولي النهى‪.5/477 :‬‬
‫‪ )(4‬أحكام القرآن البن العربي‪.1/256 :‬‬

‫‪362‬‬
‫ُوف ﴾(الطالق‪ )2:‬فالرجع ة هي‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫اإلمساك‪ ،‬وال تكون ـ بنص كالم هللا تعالى ـ إال بمعروف والمعروف‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن المقاصد الشرعية تستلزم القول بهذا‪ ،‬ألن في رجعة المضار‪ ،‬مض رة‬
‫كبيرة للمرأة وتفويتا لمصالحها الشرعية‪ ،‬والشرع ورد بإزال ة الض رر‪ ،‬خاص ة إن‬
‫كان في الجانب المستضعف‪ ،‬فأي مصلحة الم رأة في رج ل لم يراجعه ا رغب ة في‬
‫رتق ما فتق‪ ،‬وإنما لفتق ما رتق الشرع‪ ،‬ولعل مقصده من ذلك أن تخلت ع من ه‪ ،‬وق د‬
‫ذكرنا في الخلع أنه ال يجوز مع المضارة‪.‬‬
‫وقد يقال بصعوبة التعرف على مقصده‪ ،‬وال نرى في ذل ك أي ص عوبة‪ ،‬فم ا‬
‫ذكره ابن قدامة مثال وحكم له بالص حة‪ ،‬فق ال‪(:‬من ق ال‪ :‬راجعت ك للمحب ة‪ ،‬أو ق ال‪:‬‬
‫لإلهانة‪ ،‬وقال‪ :‬أردت أنني راجعتك لمحبتي إياك‪ ،‬أو إهان ة ل ك‪ ،‬ص حت الرجع ة ؛‬
‫ألنه أتى بالرجعة‪ ،‬وبين سببها) (‪ )1‬بيان لعلة الرجعة‪ ،‬فمث ل ه ذا يمكن الحكم علي ه‬
‫بحسب لفظه وحاله‪ ،‬وللمرأة دور كبير في التعرف على ذلك‪.‬‬
‫الرجعة بعد انقضاء فترة الرجعة‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن انقضاء فترة الرجعة يزيل ملك االستمتاع‪ ،‬فال يح ل ل ه‬
‫منها شيء إال إذا أعادها بعق د جدي د‪ ،‬ومن هن ا ال يزي ل ح ل الم رأة حيث لم يوج د‬
‫سبب يحرمها عليه‪ ،‬فيجوز ل ه العق د عليه ا في أي وقت في الع دة أو بع دها‪ ،‬وه ذا‬
‫معنى قول الفقهاء‪ :‬إن الطالق البائن بينونة صغرى يزيل الملك ال الحل‪.‬‬
‫وبانقضاء العدة يمنع التوارث إذا مات أحدهما في أثن اء الع دة النته اء س بب‬
‫اإلرث وهو الزوجية إال إذا كان الطالق في مرض موت ال زوج بقص د الف رار من‬
‫ميراثها فإنها ترثه إذا مات قبل انقضائها‪.‬‬
‫فإن تزوجت بعد طالقها الرجعي من غير زوجها األول‪ ،‬فقد اختل ف الفقه اء‬
‫في هدم طالقه له ا م ا ك ان طلقه ا األول‪ ،‬بع د اتف اقهم على أن ال زوج الث اني يه دم‬
‫طالق الزوج األول إذا كان ثالثا على قولين(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬أن ه ال يه دم‪ ،‬وه و م ذهب مال ك والش افعي وأحم د ومحم د بن‬
‫الحسن‪،‬وهو مذهب الظاهرية‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬ومن الرجعة من طلق امرأت ه تطليق ة‬
‫أو تطليقتين فاعتدت ثم تزوجت زوجا وطئها في فرجها ثم م ات عنه ا أو طلقه ا ثم‬
‫راجعها الذي كان طلقها ثم طلقها لم تحل له إال حتى تنكح زوج ا آخ ر ‪ -‬يطؤه ا في‬
‫فرجها ‪ -‬إن كان طلقها قبل ذلك طلقتين فإن كان إنما طلقها طلقة واحدة فإنه تبقى له‬
‫فيها طلقة هي الثالثة) (‪)3‬‬
‫وق د رواه عن بعض الس لف(‪ ،)4‬فعن س عيد بن المس يب‪ :‬أن أب ا هري رة ق ال‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/404 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪ ،10/13 :‬بدائع الصنائع‪ ،3/127:‬المبسوط‪.6/95 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/13 :‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.10/14 :‬‬

‫‪363‬‬
‫فيمن طل ق امرأت ه طلق ة فاعت دت‪ ،‬ثم ت زوجت‪ ،‬ثم طلقه ا الث اني‪ ،‬فتزوجه ا األول‬
‫فطلقها طلقتين‪ :‬أنها قد حرمت عليه‪ ،‬ووافقه على ذلك علي‪ ،‬وأبي بن كعب‪.‬‬
‫وعن الزهري قال‪ :‬سمعت سعيد بن المسيب‪ ،‬وحميد بن عبد الرحمن‪ ،‬وعبيد‬
‫هللا بن عبد هللا بن عتب ة‪ ،‬وس ليمان بن يس ار‪ ،‬كلهم ق ال‪ :‬س معت أب ا هري رة يق ول‪:‬‬
‫سمعت عمر يقول‪ :‬أيما امرأة طلقها زوجها طلقة أو طلقتين ثم تزوجت غيره فم ات‬
‫أو طلقها ثم تزوجها األول فإنها عنده على ما بقي من طالقه لها‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َ‬
‫ُوف أوْ ت َْس ِري ٌح بِإِحْ َس ا ٍن﴾‬
‫ك بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫ان فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ق َم َّرتَ ِ‬ ‫َّ‬
‫‪ 1‬ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطال ُ‬
‫(البقرة‪)229 :‬إلى قوله ﴿ فَإِ ْن طَلَّقَهَا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح زَ وْ ًج ا َغ ْي َرهُ ﴾‬
‫(البقرة‪ )230:‬حرم المطلقة الثالث مطلقا من غ ير فص ل بين م ا إذا تخللت إص ابة‬
‫الزوج الثاني الثالث وبين ما إذا لم يتخللها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هذه مطلق ة الثالث حقيق ة ؛ ألن ه ذه طلق ة ق د س بقها طلقت ان حقيق ة‪،‬‬
‫والطلقة الثالثة هي الطلقة التي سبقها طلقتان فدخلت تحت النص‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الزوج الثاني جعل في الشرع منهيا للحرمة لقوله تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن طَلَّقَهَ ا‬
‫فَاَل تَ ِحلُّ لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح زَ وْ جًا َغي َْرهُ ﴾(البقرة‪ )230:‬وحتى كلمة غاية‪ ،‬وغاي ة‬
‫الحرمة ال تتصور قب ل وج ود الحرم ة‪ ،‬والحرم ة لم تثبت قب ل الطلق ات الثالث فلم‬
‫يكن الزوج الثاني منهيا للحرمة فيلحق بالعدم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يهدم ما دون الثالث‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬وقد‬
‫روي عن ابن عباس قال‪ :‬نكاح جديد‪ ،‬وطالق جدي د‪ ،‬وروي عن ابن عم ر في أح د‬
‫قوليه‪ ،‬وروي عن ابن مسعود‪ ،‬وهو قول عطاء وش ريح‪ ،‬وإب راهيم‪ ،‬وأص حاب ابن‬
‫مسعود‪ ،‬وعبيدة السلماني‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ العمومات ال واردة في ب اب النك اح من نح و قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ ان ِكحُوا َم ا‬
‫اب لَ ُك ْم ِمنَ النِّ َسا ِء ﴾(النس اء‪ )3:‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬وأَن ِك ُح وا اأْل َيَ ا َمى ِم ْن ُك ْم ﴾ (الن ور‪:‬‬ ‫طَ َ‬
‫‪ ،)32‬وقول النبي ‪(:‬تزوجوا وال تطلقوا فإن الطالق يه تز ل ه ع رش ال رحمن)‪،‬‬
‫فهذه النصوص وأمثالها تقتضي جواز النك اح من غ ير فص ل بين أن تك ون الم رأة‬
‫مطلق ة أو ال وبين أن تك ون مطلق ة ثالث ا تخلله ا إص ابة ال زوج الث اني أو ال إال أن‬
‫المطلقة الثالث التي لم يتخللها إصابة الزوج الثاني خصت عن النص وص فبقي م ا‬
‫وراءها تحتها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الحل بع د إص ابة ال زوج الث اني وطالق ه إياه ا وانقض اء ع دتها ح ل‬
‫جديد‪ ،‬والحل الجديد ال يزول إال بثالث طلقات كما في ابتداء النكاح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الحل األول قد زال حقيقة ؛ ألنه عرض ال يتص ور بق اؤه‪ ،‬إال أن ه إذا‬
‫لم يتخلل بين الحلين حرمة يجع ل كال دائم بتج دد أمثال ه فيك ون كش يء واح د فك ان‬
‫زائال حقيقة وتقديرا فكان الثاني حال جديدا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن قول ه تع الى‪ ﴿:‬ف إن طلقه ا ﴾ تتن اول طلق ة ثالث ة مس بوقة بطلق تين بال‬
‫فصل‪ ،‬ألن الفاء للتعقيب بال فصل وإصابة الزوج الثاني ههنا حاصلة فال يتناوله ا‪،‬‬

‫‪364‬‬
‫أو تحمل اآلية على ما إذا لم يدخل به ا ال زوج الث اني ح تى طلقه ا وتزوجه ا األول‬
‫وطلقها واحدة توفيقا بين الدالئل‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن كون اإلصابة غاية للحرمة يقتضي انتهاء الحرمة عن د ع دم اإلص ابة‬
‫وقد بينا أنه يثبت حل جديد بعد اإلصابة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة بناء على ما ذكرنا من أن مقصد الشرع تض ييق‬
‫أبواب الطالق وإعطاء فرص للرجعة األخذ بالقول الث اني‪ ،‬ب ل إن األدل ة الش رعية‬
‫تدل على ذلك‪ ،‬وأدناها أنه لم يرد نص بعدم الهدم زيادة على أنه قد روي عن بعض‬
‫الصحابة القول بذلك‪ ،‬ثم كيف يهدم ال زوج الث اني الطالق الثالث‪ ،‬وال يه دم الطلق ة‬
‫والطلقتين؟‬
‫وقد رد ابن حزم على ه ذا ال دليل م ع قوت ه ووض وحه‪ ،‬فق ال‪(:‬فنظرن ا فيم ا‬
‫احتج به أهل هذه المقال ة؟ فلم نج د لهم أك ثر من أن ق الوا‪ :‬إنن ا لم نختل ف أن نك اح‬
‫زوج آخر يهدم الثالث‪ ،‬وال شك في أنه إذا هدمها فإنه قد ه دم الواح دة من جملته ا‪،‬‬
‫واالثنين من جملتها ‪ -‬ومن المحال أن يهدمها متفرقة) (‪ ،)1‬وقد رد على هذا بقول ه‪:‬‬
‫(لم يهدم قط طالقا‪ ،‬إنما هدم التحريم الواقع بتم ام الثالث مفرق ة أو مجموع ة فق ط‪،‬‬
‫وال تحرم بالطلقتين وال بالواحدة بهدمه)‬
‫ونرى أن هذا رد ال يقوم أمام ما ذكروا من الحج ة‪ ،‬ول و ص ح م ا ق ال لل زم‬
‫عنه أن الزوج األول إذا أرجع زوجته أرجعها‪ ،‬وفي ذمته منها ثالث تطليقات‪ ،‬ف إن‬
‫عاد لتطليقها صرن أربعا‪ ،‬وهو غير صحيح ألنه يلزم عنه المحال الش رعي‪ ،‬وه و‬
‫إباحة الرجعة لمن طلق كل هذه التطليقات‪.‬‬
‫وال نريد أن نناقش هنا األدلة‪ ،‬ولكن نريد أن نبين بعض المص الح ال تي تنتج‬
‫عن الق ول بت أثير ال زواج الث اني في ه دم طلق ات األول‪ ،‬ونقتبس ل ذلك م ا قال ه‬
‫الكاساني في بيان الحكمة الشرعية من هذا الحكم‪ ،‬فقد قال‪( :‬أن النكاح من دوب إلي ه‬
‫ومسنون وعقد ومصلحة لتضمنه مصالح ال دين وال دنيا‪ ،‬فال يج وز أن يمن ع عن ه ؛‬
‫ألنه يؤدي إلى التناقض ؛ ألن قطع المصلحة مفسدة‪ ،‬والشريعة منزهة عن التناقض‬
‫إال أنه قد خرج من أن يكون مصلحة بمخالفة األخالق ومباينة الطباع أو غ ير ذل ك‬
‫من المع اني ويق ع الي أس عن اس تيفاء المص الح من ه ذه الم رأة فش رع الطالق‬
‫الستيفاء المصالح المطلوبة من النكاح من زوجة أخ رى‪ ،‬إال أن خ روج النك اح من‬
‫أن يكون مصلحة ال يعرف إال بالتأمل والتجرب ة‪ ،‬وله ذا ف وض الطالق إلى ال زوج‬
‫الختصاصه بكمال الرأي والعقل ليتأمل فإذا طلقها ثالثا على ظن المخالف ة‪ ،‬ثم م ال‬
‫قلبه إليها حتى تزوجها بعد إصابة الزوج الثاني الذي هو في غاي ة النف ار في طب اع‬
‫الفح ل ونهاي ة المن ع دل أن طري ق الموافق ة بينهم ا ق ائم‪ ،‬وأن ه أخط أ في التجرب ة‬
‫وقص ر في التأم ل ؛ فبقي النك اح مص لحة لقي ام الموافق ة بينهم ا‪ ،‬فال يج وز الق ول‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.10/14 :‬‬

‫‪365‬‬
‫بحرمته كما في ابتداء النك اح‪ ،‬ب ل أولى ألن ثم ة لم يوج د إال دلي ل أص ل الموافق ة‬
‫وههنا وجد دليل كمال الموافقة وهو الميل إليها مع وجود ما هو النهاية في النفرة ثم‬
‫لما حل نكاحها في االبتداء لتحقيق المقاصد فبعد إص ابة ال زوج الث اني أولى‪ ،‬وه ذا‬
‫المع نى ال ي وجب التفرق ة بين إص ابة ال زوج الث اني بع د الطلق ات الثالث وبين م ا‬
‫قبلها‪ ،‬فورود الشرع بجواز النكاح ثمة يكون ورودا ههنا داللة) (‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ شروط إرجاع المطلقة الرجعية‬
‫بن اء على م ا س بق من تفاص يل الم ذاهب الفقهي ة ح ول أرك ان الرجع ة‬
‫وشروطها‪ ،‬سنذكر هنا أهم الخالفات الفقهية مقرونة بأدلتها‪ ،‬وه ذا بن اء على تقس يم‬
‫الجمهور لألركان‪:‬‬
‫شروط المرتجع‪:‬‬
‫الرجع ة ح ق أثبت ه الش ارع لل زوج وح ده في ف ترة الع دة إن ش اء اس تعمله‬
‫رضيت الزوجة أو لم ترض وإن شاء تركه‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِكَ إِ ْن أَ َرادُوا إِصْ الحًا﴾(البقرة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وبُعُولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫‪ )228‬بع د أم ر النس اء ب التربص م دة الع دة‪ ،‬فق د جع ل أزواج المطلق ات أح ق‬
‫ب رجعتهن في م دة الع دة إذا رأوا في الرجع ة مص لحة‪ ،‬ف إذا لم يج د ال زوج فيه ا‬
‫مصلحة تركها بال مراجعة حتى تنتهي عدتها فتبين منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪ ‬لعمر في قصة طالق ابنه عب د هللا لزوجت ه وهي ح ائض‪(:‬م ره‬
‫فليراجعها)‬
‫وإذا ثبت هذا الحق للزوج ال يملك إسقاطه بالقول أو التنازل عنه‪ ،‬كأن يق ول‬
‫بعد طالقها‪ :‬أسقطت حقي في الرجعة أو ال رجعة لي عليك‪ ،‬فإن فعل ذلك ال يس قط‬
‫حقه‪ ،‬وله مراجعتها بعد ذل ك‪ ،‬ألن الش ارع جع ل الرجع ة حكم ا ً من أحك ام الطالق‬
‫ان فَإ ْم َس ا ٌ‬
‫ك‬ ‫ق َم َّرتَ ِ‬‫ال رجعي وأث راً من آث اره بترتيبه ا علي ه في قول ه تع الى‪ ﴿:‬الطَّال ُ‬
‫ان﴾ (البق رة‪ )229 :‬فل و أس قطه المطل ق ك ان مغ يراً لم ا‬ ‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َس ٍ‬ ‫بِ َم ْعر ٍ‬
‫شرعه هللا‪ ،‬وال يملك أحد ذلك التغيير‪.‬‬
‫وقد نص الفقه اء على أن ش روط المرتج ع هي نفس ش روط المطلق(‪ ،)2‬م ا‬
‫عدا بعض التفاصيل التي مر ذكرها عند ذكر المذاهب الفقهية في المرتجع‪.‬‬
‫شروط المحل‪:‬‬
‫ويشترط فيه الشروط التالية مع اختالف بين الفقهاء في تفاصيلها‪:‬‬
‫أن تكون المطلقة رجعية‪:‬‬
‫‪ )(1‬بدائع الصنائع‪.3/127:‬‬
‫‪ )( 2‬وقد ذكر بعض الشافعية القائلين بالتحليل وسيلة لرجعة المرأة لزوجها من غ ير أن تعت د من ب اب التلفي ق‬
‫بين المذاهب‪ ،‬جمعا بين مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية‪ ،‬وهي أن الصبي المميز الذي لم يبل غ س نه عش ر س نين إذا‬
‫كان ينتصب ذكره ويفهم معنى الوقاع فإنه إذا تزوج امرأة مطلقة ثالثا ً وأولج فيها ذك ره ثم طلقه ا ف إن طالق ه يص ح‬
‫بدون الولي‪ ،‬وتحل مطلقته لزوجها األول بدون أن تعتد من الص بي‪ ،‬ألن س نه لم يبل غ عش ر س نين‪ ،‬والع دة ش رعت‬
‫لرفع احتمال شغل الرحم‪ ،‬فمن كان أقل من عشر أو كانت موطوءته أقل من تسع فإنه ال يتصور منهما حمل ووالدة‪،‬‬
‫فال عدة عليها إذا وطئها غالم أقل من عشر سنين‪ ،‬انظر‪ :‬حاشية البجيرمي‪.4/41 :‬‬

‫‪366‬‬
‫اتفق الفقهاء على اشتراط كون الرجعة من طالق رجعي‪ ،‬أما إذا كانت معتدة‬
‫من تطليقة بائنة أو فرقة بخلع أو إيالء أو لعان أو ما أشبه ذلك‪ ،‬فال رجعة له عليها‪،‬‬
‫قال ابن قدامة‪( :‬وال خالف بينهم في أن المطلقة ثالثا بعد ال دخول ال تح ل ل ه ح تى‬
‫تنكح زوجا غيره) (‪)1‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح َزوْ ًج ا َغ ْي َرهُ ﴾‬
‫(البقرة‪)230:‬‬
‫‪ 2‬ـ عن عائشة‪ ،‬أن رفاعة القرظي طلق امرأت ه فبت طالقه ا ف تزوجت بع ده‬
‫عبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول هللا ‪ ‬فقالت‪ :‬إنها كانت عند رفاع ة فطلقه ا‬
‫آخر ثالث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنه وهللا ما معه إال مث ل‬
‫هذه الهدبة‪ ،‬وأخذت بهدبة من جلبابه ا ق الت‪ :‬فتبس م رس ول هللا ‪ ‬ض احكا وق ال‪:‬‬
‫لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ال حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ أن حكم الرجع ة ع رف ب النص بخالف القي اس‪ ،‬والنص ورد بمطل ق‬
‫الطالق فبقي الطالق المقيد بصفة البينونة على أصل القياس‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن كونها مطلقة حكم مطلق الطالق‪ ،‬وهذا ال ينافي ملك النك اح كم ا بع د‬
‫الرجع ة وكونه ا مبان ة أو مالك ة أم ر نفس ها ين افي مل ك النك اح‪ ،‬والمتنافي ان ال‬
‫يجتمع ان‪ ،‬ف إذا ثبتت البينون ة انتفى النك اح وال رجع ة ل ه عليه ا‪ ،‬وفي الخل ع إنم ا‬
‫التزمت العوض لتتخلص من الزوج وذلك ال يحصل مع قيام الملك وحق الرجعة‪.‬‬
‫كونها بعد الدخول بالزوجة المطلقة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إن طلقها قب ل ال دخول وأراد مراجعته ا فليس ل ه الح ق‬
‫في ذلك‪ ،‬وقد أجمع العلماء على ذلك‪ ،‬قال ابن قدامة‪ :‬أجمع أه ل العلم على أن غ ير‬
‫المدخول بها تبين بطلقة واحدة وال يستحق مطلقها رجعتها ؛ وذلك ألن الرجعة إنما‬
‫تكون في العدة وال عدة قبل الدخول) ؛ وقد نص على ذل ك في قول ه تع الى‪ ﴿:‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس ِّرحُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾ (األح زاب‪،)49:‬ف بين هللا‬
‫سبحانه أنه ال عدة عليها فتبين بمجرد طالقها وتص ير كالم دخول به ا بع د انقض اء‬
‫عدتها ال رجعة عليها وال نفقة لها‪ ،‬وإن رغب مطلقها فيها فهو خاطب من الخط اب‬
‫يتزوجها برضاها بنكاح جديد وترجع إليه بطلقتين‪.‬‬
‫واختلفوا في اعتبار الخلوة دخوال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬الخلوة الصحيحة في حكم الدخول من حيث صحة الرجعة‪ ،‬وهو‬
‫قول الحنابلة‪ ،‬ألن الخلوة ترتب أحكاما مثل أحكام الدخول‪.‬‬
‫‪ )(1‬المغني‪.7/397 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪ ،6/25 :‬المغني‪.7/397 :‬‬
‫‪ )(3‬ابن حب ان‪ ،10/97 :‬الحاكم ك ‪ ،2/218‬الترم ذي‪ ،3/480 :‬ال دارمي‪ ،2/216 :‬ال بيهقي‪،7/329 :‬‬
‫الدارقطني‪ ،4/33 :‬أبو داود‪ ،2/259 :‬ابن ماجة‪ ،1/661 :‬أحمد‪ ،1/265 :‬مسند أبي يعلى‪.4/379 :‬‬

‫‪367‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اشتراط الدخول لص حة الرجع ة‪ ،‬وال تكفي الخل وة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنفية والمالكية والشافعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو اعتبار المعاشرة الكاملة دون مجرد الخل وة‪،‬‬
‫لعدم حاجة من لم تعاشر إلى العدة‪ ،‬والرجعة مرتبطة بالعدة‪ ،‬وهذا خالفا لما ذكرناه‬
‫من حقها في المهر‪ ،‬الختالف المسألتين‪.‬‬
‫كون المطلقة في العدة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على اعتبار هذا الش رط‪ ،‬ف إن انقض ت الع دة ال تص ح الرجع ة‪،‬‬
‫واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫َ‬
‫ات يَت ََربَّصْ نَ بِأنفُ ِس ِه َّن ثَاَل ثَ ةَ قُ رُو ٍء ﴾(البق رة‪)228:‬‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال ُمطَلقَ ُ‬
‫ص الحًا﴾(البق رة‪)228 :‬‬ ‫َ‬
‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ كَ إِ ْن أ َرادُوا إِ ْ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ ﴿ :‬وبُعُولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫أي في القروء الثالثة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن في ارتجاع المطلقة في فترة الع دة اس تدامة واس تمرارا لعق د النك اح‪،‬‬
‫فإذا انقضت العدة انقطعت هذه االستدامة فال تصح الرجعة بعد انقضاء العدة‪.‬‬
‫شروط الصيغة‬
‫يشترط لصحة الرجعة الشروط التالية مع اختالف بين الفقهاء في تفاصيلها‪:‬‬
‫الداللة القولية أو الفعلية على الرجعة‪:‬‬
‫اتفق أكثر الفقهاء على كيفيتين للرجعة هما‪:‬‬
‫الرجعة بالقول‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الرجعة تصح بالقول الدال على ذلك‪ ،‬كأن يقول لمطلقته‬
‫وهي في العدة‪ :‬راجعتك‪ ،‬أو ارتجعتك‪ ،‬أو رددتك لعص متي وهك ذا ك ل لف ظ ي ؤدي‬
‫هذا المعنى‪.‬‬
‫وقد قسم الفقهاء األلفاظ التي تصح بها الرجعة إلى قسمين‪:‬‬
‫األلفاظ الصريحة‪ :‬وهذا القسم تصح به الرجعة وال يحت اج إلى ني ة‪ ،‬وألفاظ ه‪:‬‬
‫راجعتك‪ ،‬وارتجعتك‪ ،‬والرجعة وردت بها السنة بقول النبي ‪(:‬م ره فليراجعه ا)‪،‬‬
‫وق د اش تهر ه ذا االس م فيه ا بين أه ل الع رف‪ ،‬كاش تهار اس م الطالق في ه‪ ،‬ف إنهم‬
‫يسمونها رجع ة‪ ،‬والم رأة رجعي ة‪ ،‬ق ال ابن قدام ة‪( :‬ويتخ رج أن يك ون لفظه ا ه و‬
‫الص ريح وح ده‪ ،‬الش تهاره دون غ يره‪ ،‬كقولن ا في ص ريح الطالق‪ ،‬واالحتي اط أن‬
‫يق ول‪ :‬راجعت ام رأتي إلى نك احي أو زوج تي‪ ،‬أو راجعته ا لم ا وق ع عليه ا من‬
‫طالقي) (‪)1‬‬
‫ألفاظ الكناية‪ :‬وهي األلفاظ التي تحتمل معنى الرجع ة ومع نى آخ ر غيره ا‪،‬‬
‫كأن يقول‪ :‬أنت عندي كما كنت‪ ،‬أو أنت امرأتي ون وى ب ه الرجع ة‪ ،‬فألف اظ الكناي ة‬
‫تحتمل الرجعة وغيرها مثل أنت عن دي كم ا كنت‪ ،‬فإنه ا تحتم ل كم ا كنت زوج ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/404 :‬‬

‫‪368‬‬
‫وكما كنت مكروهة‪ ،‬ولذلك اشترط الفقهاء لمث ل ه ذه األلف اظ الني ة‪ ،‬وأن يس أل عن‬
‫مراده من هذه الصيغ‪.‬‬
‫وقد اختلفوا فيما لو قال‪ :‬نكحتها‪ .‬أو‪ :‬تزوجتها‪ ،‬فقيل‪ :‬ال تحصل ب ه الرجع ة ؛‬
‫ألن هذا كناي ة‪ ،‬والرجع ة اس تباحة بض ع مقص ود‪ ،‬وال تحص ل بالكناي ة‪ ،‬كالنك اح‪،‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬تحصل به الرجع ة؛ ألن ه تب اح ب ه األجنبي ة‪ ،‬فالرجعي ة أولى‪ ،‬وعلى‬
‫هذا‪ ،‬يحتاج أن ينوي به الرجعة ؛ ألن ما كان كناية تعتبر له النية‪ ،‬ككنايات الطالق‪.‬‬
‫واختلفوا أيضا في بعض أللفاظ مثل رددتك وأمس كتك ه ل هي من الص ريح‬
‫أو الكناية‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها من ألفاظ الكناية وتحتاج إلى النية‪ ،‬وهو قول بعض المالكي ة‬
‫والشافعية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بأن قول ه‪ :‬رددت ك يحتم ل ال رد إلى الزوجي ة أو إلى‬
‫بيت أبيها‪ ،‬وأمسكتك يحتمل اإلمساك بالزوجي ة أو اإلمس اك عن الخ روج من بيته ا‬
‫في عدتها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن هذين اللفظين من صريح الرجعة فال يحتاجان إلى نية‪ ،‬وهو‬
‫قول الحنفية والحنابل ة‪ ،‬وبعض المالكي ة والش افعية‪ ،‬واس تدلوا على ذل ك ب أن آي ات‬
‫القرآن الكريم التي وردت فيها أحكام الرجعة دلت عليها بلفظي الرد واإلمساك‪ ،‬كما‬
‫ص الحًا﴾(البق رة‪،)228 :‬‬ ‫ق بِ َر ِّد ِه َّن فِي َذلِ كَ إِ ْن أَ َرادُوا إِ ْ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وبُ ُع ولَتُه َُّن أَ َح ُّ‬
‫ُوف﴾(الطالق‪)1:‬‬ ‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿:‬فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أن الرجعة تحصل بكل لفظ ي دل عليه ا‪ ،‬بش رط‬
‫أن يقصد به الزوج اإلرجاع‪ ،‬وتفهم المرأة منه ذلك‪ ،‬أما الص ريح والكناي ة من ه ذه‬
‫األلفاظ‪ ،‬فيتبع األع راف المختلف ة‪ ،‬وال ن رى أن يت دخل الفقي ه في تحدي د مث ل ه ذه‬
‫األلفاظ لعدم جدوى ذلك من الناحية الواقعية‪.‬‬
‫الرجعة بالفعل‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في صحة الرجعة بالفعل وهو المعاشرة للرجعي ة أو مق دماتها‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال تصح بالفعل مطلق ا‪ ،‬س واء ك ان ب وطء أو مقدمات ه‪ ،‬وس واء‬
‫كان الفعل مصحوبا بنية الزوج في الرجعة أو ال‪ ،‬وهو قول الشافعية‪ ،‬قال الش افعي‬
‫مبينا وجه استدالله‪( :‬ولم ا لم يكن نك اح وال طالق إال بكالم‪ ،‬فال تك ون الرجع ة إال‬
‫بكالم والكالم بها أن يقول‪ :‬ق د راجعته ا أو ارتجعته ا أو رددته ا إلي‪ ،‬ف إن جامعه ا‬
‫ينوي الرجعة أو ال ينويها فهو جماع شبهة‪ ،‬ويعزران إن كانا ع المين وله ا ص داق‬
‫مثلها وعليها العدة‪ ،‬ولو كانت اعتدت بحيضتين ثم أصابها‪ ،‬ثم تكلم بالرجعة قب ل أن‬
‫تحيض الثالثة فهي رجعة وإن ك انت بع دها فليس ت برجع ة‪ ،‬وق د انقض ت من ي وم‬
‫طلقها العدة وال تحل لغيره حتى تنقضي عدتها من يوم مسها) (‪)1‬‬

‫‪ )(1‬األم‪.8/301 :‬‬

‫‪369‬‬
‫وقد ذهب إلى هذا ابن حزم مع اختالف بينه وبين الشافعي في حكم المعاشرة‬
‫في ف ترة الع دة‪ ،‬فق ال‪(:‬إن المطلق ة طالق ا رجعي ا زوج ة لل ذي طلقه ا م ا لم تنقض‬
‫عدتها‪ ..‬فإذ هي زوجته فحالل له أن ينظر منها إلى ما كان ينظر إلي ه منه ا قب ل أن‬
‫يطلقها‪ ،‬وأن يطأها‪..‬فإن وطئها لم يكن بذلك مراجعا لها حتى يلفظ بالرجعة ويش هد‪،‬‬
‫ويعلمها بذلك قبل تمام عدتها) (‪)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ص حة الرجع ة بالفع ل‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬وق د اختلف وا في‬
‫بعض تفاصيل ذلك على ثالثة آراء‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أن الجماع ومقدمات ه تص ح بهم ا الرجع ة ول و ب دون ني ة‪ ،‬وق د‬
‫روي هذا القول عن كثير من التابعين‪ ،‬وهم سعيد بن المس يب‪ ،‬والحس ن البص ري‪،‬‬
‫ومحمد بن سيرين‪ ،‬وط اوس‪ ،‬وعط اء بن أبي رب اح‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والث وري‪ ،‬وابن‬
‫أبي ليلى‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وسليمان التيمي‪ ،‬وهو قول الحنفي ة‪ ،‬وق د نص وا بأن ه ال يك ون‬
‫النظر إلى شيء من جسد الزوجة س وى الف رج رجعة(‪ ،)2‬واس تدلوا على ذل ك بم ا‬
‫يلي(‪:)3‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الرجع ة تعت بر اس تدامة للنك اح واس تمرارا لجمي ع آث اره‪ ،‬ومن آث ار‬
‫النكاح حل الجماع ومقدماته‪ ،‬لذلك صحت الرجعة بالجماع ومقدماته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النكاح ما زال موجودا إلى أن تنقضي العدة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن األفعال ص ريحها وداللته ا ت دل على ني ة الفاع ل‪ ،‬ف إذا وطئ ال زوج‬
‫مطلقته الرجعية وهي في العدة‪ ،‬أو قبلها بشهوة‪ ،‬أو المسها بشهوة‪ ،‬اعتبر هذا الفعل‬
‫رجعة بالداللة‪ ،‬فكأنه بوطئها قد رضي أن تعود إلى عصمته‪.‬‬
‫وقد اختلف الحنفية فيما إذا حدثت هذه األشياء من المرأة ك أن قبلت زوجه ا‪،‬‬
‫أو نظرت إليه‪ ،‬أو لمسته بشهوة على رأيين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تصح الرجعة‪ ،‬وهو رأي أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬ألن حل المعاشرة الزوجي ة‬
‫قد ثبت لهما معا‪ ،‬فتصح الرجعة منها إذا نظرت إليه بشهوة‪ ،‬كم ا يص ح ذل ك من ه‪،‬‬
‫ومن جهة أخرى فإن حرمة المصاهرة تثبت من جهتها‪ ،‬ك أن عاش رت ابن زوجه ا‬
‫أو أباه‪ ،‬كما تثبت حرمة المصاهرة من جهة الزوج أيضا‪ ،‬لذلك صحت الرجع ة من‬
‫جهتها إذا لمسته أو قبلته بشهوة‪ ،‬أو رأت فرجه بشهوة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ال تصح الرجعة من جهتها إذا لمسته أو قبلته بشهوة أو نظرت إلى فرجه‬
‫بشهوة‪ ،‬وهو قول أبي يوسف وحجته في ذلك أن الرجع ة ح ق لل زوج على زوجت ه‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.10/16 :‬‬
‫‪ )(2‬قيد الحنفية القبلة والنظر إلى الف رج واللمس بالش هوة‪ .‬أم ا إذا حص ل لمس أو نظ ر إلى الف رج‪ ،‬أو تقبي ل‬
‫بغير شهوة‪ ،‬فال تتحقق الرجعة‪ ،‬والسبب في ذلك أن األشياء المذكورة‪ ،‬إذا كانت بغير شهوة فإنها تحص ل من ال زوج‬
‫وغيره كالمساكنين لها‪ ،‬أو المتحدثين معها‪ ،‬أو الطبيب والقابلة (المولدة) أما وجود الش هوة م ع ه ذه األفع ال فإنه ا ال‬
‫تحصل إال من الزوج فقط‪ .‬فإذا صحت الرجعة مع هذه األفعال بغير شهوة احتاج الزوج إلى طالقه ا‪ ،‬فتط ول عليه ا‬
‫العدة وتقع المرأة في حرج شديد‪ ،‬انظر‪ :‬حاشية ابن عابدين‪.3/398 :‬‬
‫‪ )(3‬انظ ر‪ :‬الهداي ة ش رح البداي ة‪ ،2/6 :‬حاش ية ابن عاب دين‪ ،3/398 :‬المبس وط‪ ،21 /6 :‬ب دائع الص نائع‪:‬‬
‫‪.3/173‬‬

‫‪370‬‬
‫ح تى إن ه يراجعه ا بغ ير رض اها‪ ،‬وليس له ا ح ق مراجع ة زوجه ا ال ب القول وال‬
‫بالفعل‪ ،‬فسواء نظرت إليه بشهوة أو بغيرها ال تثبت لها الرجعة‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أن الجماع ومقدماته تصح بهما الرجعة بشرط النية‪ ،‬وهو ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬فقد نصوا على صحة الرجع ة بالفع ل ك الوطء ومقدمات ه بش رط أن ين وي‬
‫الزوج بهذه األفعال الرجعة‪ ،‬فإذا قبلها أو لمسها بشهوة‪ ،‬أو نظر إلى موضع الجماع‬
‫بشهوة‪ ،‬أو وطئها ولم ينو الرجعة فال تصح الرجعة بفعل هذه األشياء‪.‬‬
‫ال رأي الث الث‪ :‬التفريق في ص حة الرجع ة بين ال وطء ومقدمات ه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنابل ة‪ ،‬ف إن الرجع ة عن دهم تص ح ب الوطء وال تص ح بمقدمات ه وفيم ا يلي بي ان‬
‫ذلك(‪:)1‬‬
‫الرجع ة ب الوطء‪ :‬تص ح الرجع ة عن دهم ب الوطء مطلق ا س واء ن وى ال زوج‬
‫الرجعة أو لم ينوها وإن لم يشهد على ذلك‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن فترة العدة تؤدي إلى بينونة المطلق ة من حيث إن انقض اء الع دة يمن ع‬
‫صحة الرجعة‪ ،‬فإذا لم تنقض العدة ووطئها في ه ذه الم دة فق د ع ادت إلي ه‪ ،‬ويك ون‬
‫هذا مثل حكم اإليالء‪ ،‬فإذا آلى الزوج من زوجته ثم وطئها فق د ارتف ع حكم اإليالء‪،‬‬
‫فكذا الحال في الرجعة إذا وطئها في العدة فقد عادت إليه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الطالق سبب لزوال الملك ومعه خيار‪ ،‬فتصرف المالك بالوطء يمن ع‬
‫عمله كما ينقطع به التوكيل في طالقها‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن الع برة في ذل ك كل ه تع ود لني ة المرتج ع‬
‫وقصده‪ ،‬فلذلك تصح الرجع ة إن قص دها وفهمت من ه بك ل م ا ي دل عليه ا‪ ،‬كهدي ة‬
‫يقدمها‪ ،‬أو إش ارة يش ير به ا‪ ،‬أو أي ش يء دل علي ه الع رف‪ ،‬أو تع ارف الزوج ان‬
‫عليه‪ ،‬قال ابن تيمية في ت رجيح ق ول مال ك‪(:‬ومال ك يجعل ه رجع ة م ع الني ة‪ ،‬وه و‬
‫رواية أيضا عن أحمد‪ ،‬فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة وهذا أعدل األق وال‬
‫وأشبهها باألصول) (‪)2‬‬
‫أما حكم المعاشرة للمعتدة إن لم يقصد بها الرجعة‪ ،‬فقد ذكرناها في محلها من‬
‫الفصل الخاص بأحكام العدة‪.‬‬
‫اإلشهاد على الرجعة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم اإلشهاد على الرجعة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن اإلشهاد على الرجعة مستحب‪ ،‬وهو مروي عن ابن مسعود‪،‬‬
‫وعمار بن ياسر ما‪ ،‬وهو قول الحنفية(‪ )3‬والمالكية(‪ ،)4‬والجديد من مذهب الشافعي‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اإلنصاف للمرداوي‪.9/154 :‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى‪.5/503 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المبسوط‪.6/19 :‬‬
‫‪ )( 4‬نص المالكية على أن الزوجة لو منعت زوجها من وطئها حتى يشهد على الرجعة ك ان فعله ا ه ذا حس نا‬
‫وتؤجر عليه‪ ،‬وال تكون عاصية لزوجها‪ ،‬ولعل هذا ما دعا السرخسي إلى نسبةاشتراط اإلشهاد إلى المالكية‪ ،‬فق ال‪«:‬‬

‫‪371‬‬
‫وإحدى الروايتين عن أحمد‪ ،‬وهو قول اإلمامية‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿:‬وأَ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾(الطالق‪ )2:‬قال الجصاص‪(:‬لم ا‬
‫جعل له اإلمساك أو الفراق‪ ،‬ثم عقبه بذكر اإلش هاد ك ان معلوم ا وق وع الرجع ة إذا‬
‫رجع وج واز اإلش هاد بع دها إذ لم يجع ل اإلش هاد ش رطا في الرجع ة‪ ،‬ولم يختل ف‬
‫الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في اآلية إنما هو تركها حتى تنقض ي ع دتها‪،‬‬
‫وأن الفرقة تصح وإن لم يقع اإلشهاد عليها ويشهد بعد ذلك‪ ،‬وقد ذكر اإلشهاد عقيب‬
‫الفرقة ثم لم يكن شرطا في صحتها‪ ،‬كذلك الرجعة) (‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ أن األمر في هذه اآلية محمول على الندب ال على الوجوب‪ ،‬مثل قوله تع الى‪:‬‬
‫﴿ َو َأ ْش ِهدُوا ِإ َذا َت َب ا َيعْ تُ ْم ﴾(البق رة‪ ،)282 :‬وق د اتف ق جمه ور الفقه اء على ص حة ال بيع بال‬
‫إشهاد‪ ،‬فكذا استحب اإلشهاد على الرجعة لألمن من الجح ود‪ ،‬وقط ع ال نزاع‪ ،‬وس د ب اب‬
‫الخالف بين الزوجين‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه لما كانت الفرقة حقا له وج ازت بغ ير إش هاد إذ ال يحت اج فيه ا إلى رض ا‬
‫غيره وكانت الرجعة أيضا حقا له‪ ،‬وجب أن تجوز بغير إشهاد‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه لما أم ر هللا باإلش هاد على اإلمس اك أو الفرق ة احتياط ا لهم ا ونفي ا للتهم ة‬
‫عنهم ا إذا علم الطالق ولم يعلم الرجع ة أو لم يعلم الطالق والف راق‪ ،‬فال ي ؤمن التجاح د‬
‫بينهما‪ ،‬ولم يكن معنى االحتياط فيهما مقصورا على اإلش هاد في ح ال الرجع ة أو الفرق ة‬
‫بل يكون االحتي اط باقي ا‪ ،‬وإن أش هد بع دهما وجب أن ال يختل ف حكمهم ا إذا أش هد بع د‬
‫الرجعة بساعة أو ساعتين‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن ما ي روى عن عط اء‪ ،‬ف إن س فيان روى عن ابن ج ريج عن عط اء ق ال‪:‬‬
‫(الطالق والنكاح والرجعة بالبينة) محمول على أن ه م أمور باإلش هاد على ذل ك احتياط ا‬
‫من التجاحد ال على أن الرجعة ال تصح بغير شهود‪ ،‬ألنه ذكر الطالق معها وال يشك أحد‬
‫في وقوع الطالق بغير بينة؟ زيادة على أنه قد روى شعبة عن مط ر ال وراق عن عط اء‬
‫والحكم قاال‪(:‬إذا غشيها في العدة فغشيانه رجعة)‬
‫‪ 6‬ـ أن الرجع ة مث ل النك اح من حيث كونه ا امت دادا ل ه‪ ،‬ومن المتف ق علي ه أن‬
‫استدامة النكاح ال تلزمها شهادة‪ ،‬فكذا الرجعة ال تجب فيها الشهادة‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن الرجعة حق من حقوق الزوج وهي ال تحتاج لقبول المرأة‪ ،‬لذلك ال تشترط‬
‫الشهادة لصحتها‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن تأكي د الح ق في ال بيع في حاج ة إلى إش هاد أك ثر من الرجع ة ؛ ألن ال بيع‬
‫إنشاء لتصرف شرعي‪ ،‬أما الرجعة فهي استدامة الحياة الزوجي ة أو إعادته ا‪ ،‬فلم ا ص ح‬
‫البيع بال إشهاد صحت الرجعة بال إشهاد من باب أولى‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن اإلشهاد على الرجعة واجب‪ ،‬وهو ق ول الش افعي في الق ديم‬
‫من المذهب وأحمد في الرواية الثانية‪ ،‬وهو قول الظاهرية‪ ،‬وق د اش تد ابن ح زم في‬
‫هو قول مالك رحمه هللا تعالى وهذا عجيب من مذهبه فإنه ال يجعل اإلشهاد على النكاح شرطا ويجع ل اإلش هاد على‬
‫الرجعة شرطا» المبسوط‪ ،6/19 :‬وانظر‪ :‬أحكام القرآن البن العربي‪.4/243:‬‬
‫‪ )(1‬الجصاص‪.3/682 :‬‬

‫‪372‬‬
‫وجوب اإلشهاد حتى قال‪(:‬من أيقنت امرأته أنه طلقه ا ثالث ا‪ ،‬أو آخ ر ثالث أو دون‬
‫ثالث‪ ،‬ولم يشهد على مراجعته إياه ا ح تى تمت ع دتها ثم أمس كها معت ديا‪ :‬فف رض‬
‫عليه ا أن ته رب عن ه ‪ -‬إن لم تكن له ا بين ة ‪ -‬ف إن أكرهه ا فله ا قتل ه دفاع ا عن‬
‫نفسها(‪ ،)1‬وإال فهو زنى منها إن أمكنت ه من نفس ها ‪ -‬وه و أجن بي ‪ -‬كع ابر الس بيل‬
‫فحكمه في كل شيء حكم األجنبي) (‪ ،)2‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫ُوف‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬فَإِ َذا بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْعر ٍ‬
‫َوأَ ْش ِهدُوا َذ َوى َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم ﴾(الطالق‪ ،)2:‬ق ال ابن ح زم‪(:‬فق د ف رق تع الى بين‬
‫المراجع ة‪ ،‬والطالق واإلش هاد‪ ،‬فال يج وز إف راد بعض ذل ك عن بعض‪ ،‬وك ان من‬
‫طلق ولم يشهد ذوي عدل‪ ،‬أو راجع ولم يشهد ذوي عدل‪ ،‬متعديا لح دود هللا تع الى)‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ عن عمران بن حصين أنه سأله رجل عمن طلق امرأته طالق ا رجعي ا ثم‬
‫وقع بها ولم يشهد‪ ،‬فقال‪ :‬طلقت لغير سنة وراجعت لغير س نة‪ ،‬أش هد على ذل ك وال‬
‫تعد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الرجعة استباحة بضع محرم فيلزمه اإلشهاد‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول بناء على أن طلب اإلشهاد على‬
‫الرجعة قد يجعل منها أمرا عسيرا عن دهم‪ ،‬فل ذلك يك ون األفض ل في حقهم الفت وى‬
‫بعدم وجوب اإلشهاد‪ ،‬وهذه هي العلة ال تي اعتم دها اإلمامي ة في الق ول به ذا‪ ،‬وق د‬
‫ذكرنا من قبل جواب العالمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء للش يخ أحم د محم د‬
‫شاكر عن سر التفريق بين اإلشهاد على الطالق وعدم اإلش هاد على الرجع ة‪ ،‬ومن‬
‫جوابه على ذلك‪(:‬فالشارع بحكمته العالية يريد تقلي ل وق وع الطالق والفرق ة‪ ،‬فك ثر‬
‫قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الش يء إذا ك ثرت قي وده‪ ،‬ع ز أو ق ل‬
‫وجوده‪ ،‬فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوالً وللتأخير واألناة ثانياً‪ ،‬وعس ى إلى أن‬
‫يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويع ودان إلى‬
‫ك أَ ْم راً ﴾(الطالق‪:‬‬ ‫األلفة كما أشير إليه بقوله تعالى‪ ﴿:‬ال تَ ْد ِري لَ َع َّل هَّللا َ يُحْ ِد ُ‬
‫ث بَ ْع َد َذلِ َ‬
‫‪ )1‬وهذه حكمة عميقة في اعتب ار الش اهدين‪ ،‬ال ش ك أنه ا ملحوظ ة للش ارع الحكيم‬
‫مضافا ً إلى الفوائد األُخر‪ ،‬وهذا كله بعكس قضية الرجوع فإن الشارع يريد التعجيل‬

‫‪ )(1‬وليس القول بذلك شذوذا من ابن حزم‪ ،‬فقد نص الفقهاء في المطلق ة ثالث ا على بعض م ا ذك ر ابن ح زم‪،‬‬
‫فقد قال أحمد‪ :‬إن طلقها ثالثا ثم جحد تفدي نفسها منه بما تقدر علي ه ف إن أج برت على ذل ك فال ت تزين ل ه وال تقرب ه‬
‫وتهرب إن قدرت‪ ،‬وقال‪ :‬تهرب وال تتزوج حتى يظهر طالقها ويعلم ذلك فإن لم يقر بطالقها ومات ال ت رث ; ألنه ا‬
‫تأخذ ما ليس لها وتفر منه وال تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها قيل ل ه ق ال بعض الن اس تقتل ه بمنزل ة من ي دفع‬
‫عن نفسه فلم يعجبه ذلك فإن قال استحللت وتزوجتها قال تقب ل من ه ق ال القاض ي‪ :‬ال تقتل ه معن اه ال تقص د قتل ه وإن‬
‫قصدت دفعه فأدى ذلك إلى قتله فال ضمان‪ ،‬قال ابن تيمية‪ :‬كالم أحمد يدل على أنه ال يجوز دفعه بالقتل وهو الذي لم‬
‫يعجبه‪ ،‬ألن هذا ليس متعديا في الظاهر والدفع بالقتل إنما يجوز لمن ظهر اعتداؤه‪ ،‬انظر‪ :‬الفتاوى الكبرى‪.5/503 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.9/486 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.9/486 :‬‬

‫‪373‬‬
‫به ولعل للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط)‬
‫إعالم الزوجة بالرجعة‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الرجعة ال تفتقر إلى إعالم الزوج ة بالرجع ة‪ ،‬ب ل حكي‬
‫اإلجم اع على ذل ك‪ ،‬ق ال ابن قدام ة‪(:‬الرجع ة ال تفتق ر إلى ولي‪ ،‬وال ص داق‪ ،‬وال‬
‫رضى المرأة‪ ،‬وال علمها‪ .‬بإجماع أهل العلم) (‪ )1‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الرجعية في أحكام الزوجات‪ ،‬والرجعة إمساك لها‪ ،‬واستبقاء لنكاحها‪،‬‬
‫ولهذا سمى هللا تعالى الرجعة إمس اكا‪ ،‬وتركه ا فراق ا وس راحا‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿:‬فَ إِ َذا‬
‫ُوف ﴾ (الطالق‪ ،)2:‬وفي آي ة‬ ‫ُوف أَوْ فَ ِ‬
‫ارقُوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬ ‫بَلَ ْغنَ أَ َجلَه َُّن فَأ َ ْم ِس ُكوه َُّن بِ َم ْع ر ٍ‬
‫ْري ٌح بِإِحْ َسا ٍن﴾ (البقرة‪)229:‬‬‫ُوف أَوْ تَس ِ‬
‫ك بِ َم ْعر ٍ‬ ‫أخرى‪ ﴿ :‬فَإ ْم َسا ٌ‬
‫‪ 2‬ـ أنه إنما تشعث النك اح بالطلق ة وانعق د به ا س بب زوال ه‪ ،‬فالرجع ة تزي ل‬
‫شعثه‪ ،‬وتقطع مضيه إلى البينونة‪ ،‬فلم يحتج لذلك إلى ما يحتاج إليه ابتداء النكاح‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ومع ذلك فقد اتفق الفقهاء على استحباب إعالم الزوجة بالرجعة ؛ لما فيه‬
‫من قطع المنازعة التي قد تنشأ بين الرجل والمرأة‪.‬‬
‫أما إن ت زوجت بع د ع دتها‪ ،‬وادعى رجعته ا فإن ه ال يقب ل من ه‪ ،‬ق ال مال ك‪:‬‬
‫وبلغني أن عمر قال في الم رأة يطلقه ا زوجه ا‪ ،‬وه و غ ائب عنه ا ثم يراجعه ا فال‬
‫تبلغها رجعته‪ ،‬وقد بلغها طالقه إياها فتزوجت أنها إن دخل به ا زوجه ا اآلخ ر‪ ،‬أو‬
‫لم يدخل بها فال سبيل لزوجها األول الذي كان طلقها إليها‪ ،‬قال مالك‪ :‬وهذا أحب ما‬
‫سمعت إلي في هنا وفي المفقود(‪.)2‬‬
‫ون رى أن دع وى اإلجم اع في ه ذا غ ير ص حيحة‪ ،‬فق د ذهب ابن ح زم إلى‬
‫وجوب إعالمها‪ ،‬فقال‪(:‬إنما يكون البعل أحق بردها إن أراد إصالحا ‪ -‬بنص القرآن‬
‫ومن كتمها الرد‪ ،‬أو رد بحيث ال يبلغها‪ ،‬فلم يرد إصالحا بال شك‪ ،‬ب ل أراد الفس اد‪،‬‬
‫فليس ردا وال رجعة أصال) (‪)3‬‬
‫ونرى أن األرجح في المسألة هو ما ذهب إليه ابن ح زم‪ ،‬ب ل من روى عنهم‬
‫من الصحابة‪ ،‬وذلك لكون المرأة طرفا في الرجعة‪ ،‬فال يصح تجاهله ا‪ ،‬وألن ال ذي‬
‫أرج ع زوجت ه دون أن يعلمه ا‪ ،‬يك ون غ ير مب ال بالرجع ة وال ع ارف قيمته ا‬
‫الشرعية‪ ،‬وبالتالي قد يرجعها ليطلقها‪ ،‬وينقص من فرص التطليق التي وض عها ل ه‬
‫الشرع‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن المرأة إن انقضت عدتها‪ ،‬دون علمها بإرجاع زوجها لها‬
‫تكون قد بانت منه‪ ،‬فإن رغب في رجعتها كان له ذلك بعد موافقتها بعقد جديد ومهر‬
‫جديد‪ ،‬أما أن يأتي بعد العدة‪ ،‬ويخبرها بأنه قد أرجعها قبل انتهائها‪ ،‬فال عبرة بقوله‪،‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/404 :‬‬
‫‪ )(2‬الموطأ‪ ،2/575 :‬قال الزرقاني‪ :‬وه ذا مذهب ه في الموط أ‪ ،‬ومذهب ه في المدون ة أنه ا إنم ا تف وت ب دخول‬
‫الثاني فيهما ال بعقده وهو المشهور في المذهب‪ ،‬ورأى اللخمي أنها ال تفوت بدخول وفرق بينه ا وبين ام رأة المفق ود‬
‫بأنه لم يكن في هذه أمر وال قضية من حاكم بخالف امرأة المفقود‪ ،‬انظر‪ :‬شرح الزرقاني‪.3/258 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.10/21 :‬‬

‫‪374‬‬
‫بل عالمة صدقه في قوله أن يبذل لها ما أعطاها الشرع‪.‬‬
‫وكل م ا ذكرن ا يس تثنى من ه م ا ل و ك ان غائب ا‪ ،‬ودلت البين ة واإلش هاد على‬
‫إرجاعه لها في فترة العدة مع عدم تمكنه من إبالغها‪ ،‬فمثل هذا يصدق في قول ه إال‬
‫إذا تزوجت‪ ،‬فقد ذكرنا ما رواه مالك عن عمر‪.‬‬
‫االختالف في ثبوت الرجعة‪:‬‬
‫وهي مسألة مرتبط ة بانقض اء الع دة‪ ،‬ألن الم رأة م ا دامت في ع دتها يص ح‬
‫لزوجها مراجعتها‪ ،‬وقد نص الفقه اء على أن الم رأة إذا ادعت انقض اء ع دتها‪ ،‬في‬
‫مدة يمكن انقضاؤها فيها‪ ،‬قبل قولها ؛ ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫َ‬
‫ق ُ فِي أرْ َح ا ِم ِه َّن ﴾‬ ‫هَّللا‬ ‫‪ 1‬ـ ق ول هللا تع الى‪َ ﴿:‬واَل يَ ِح لُّ لَه َُّن أَ ْن يَ ْكتُ ْمنَ َم ا خَ لَ َ‬
‫(البقرة‪ ،)228:‬وهو الحيض والحمل‪ ،‬فلوال أن قولهن مقبول‪ ،‬لم يحرجن بكتمانه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه أمر تختص بمعرفته‪ ،‬فكان القول قولها فيه‪ ،‬كالني ة من اإلنس ان فيم ا‬
‫تعتبر فيه الني ة‪ ،‬أو أم ر ال يع رف إال من جهته ا‪ ،‬فقب ل قوله ا في ه‪ ،‬كم ا يجب على‬
‫التابعي قبول خبر الصحابي عن رسول هللا ‪.‬‬
‫ف إن ادعت انقض اء ع دتها في أق ل من ش هر‪ ،‬لم يقب ل قوله ا إال ببين ة ؛ ألن‬
‫شريحا قال‪( :‬إذا ادعت أنها حاضت ثالث حيض في شهر‪ ،‬وجاءت ببينة من النساء‬
‫الع دول من بطان ة أهله ا‪ ،‬ممن يرض ى ص دقه وعدل ه‪ ،‬أنه ا رأت م ا يح رم عليه ا‬
‫الصالة من الطمث‪ ،‬وتغتسل عند كل ق رء وتص لي‪ ،‬فق د انقض ت ع دتها‪ ،‬وإال فهي‬
‫كاذبة) فقال له علي بن أبي طالب‪ :‬قالون‪ .‬ومعناه بالرومية‪ :‬أصبت أو أحسنت)(‪)1‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في هذا اختالفا شديدا بن اء على الخالف في أق ل الحيض‪،‬‬
‫وأقل الطهر‪ ،‬وفي القروء ما هي‪ ،‬وق د س بق ذك ر بعض ذل ك في محل ه‪ ،‬ون رى أن‬
‫المرجع في هذا أهل االختص اص‪ ،‬وأن الع دة في الع ادة ال تنقص كث يرا عن ثالث ة‬
‫أشهر بدليل كون البدل عنها ثالثة أشهر‪.‬‬
‫واختلفوا كذلك في إخباره عن إرجاعه لها قب ل ع دتها‪ ،‬وهي مس ألة مرتبط ة‬
‫بإعالمه لها‪ ،‬وقد ذكرنا اعتبار ذلك الشرط‪ ،‬وال حاجة معه للخالف في المسألة‪.‬‬
‫‪4‬ـ شروط رجعة المطلقة ثالثا‬
‫الحكم األصلي للطلقات الثالث هو زوال ملك االستمتاع وزوال ح ل المحلي ة‬
‫أيضا‪ ،‬فال يجوز له نكاحها قبل التزوج بزوج آخ ر‪ ،‬لقول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل‬
‫تَ ِحلُّ لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح زَ وْ جًا َغي َْرهُ ﴾ (البق رة‪ )230:‬بع د قول ه تع الى‪ ﴿ :‬الطَّال ُ‬
‫ق‬
‫َم َّرتَا ِن ﴾(البقرة‪ ،)229 :‬وتنتهي الحرمة وتحل للزوج األول بالشروط التالية‪:‬‬
‫صحة زواجها من الثاني‪:‬‬
‫وهو أن يكون زواجه ا من ال زوج الث اني ص حيحا‪ ،‬وق د اختل ف الفقه اء في‬
‫اعتبار هذا الشرط على قولين(‪:)2‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصنف ابن أبي شيبة‪ ،4/200 :‬الدارمي‪.233 /1:‬‬
‫‪ )( 2‬سنذكر المسألة بتفاصيلها وأدلتها في مبحث خاص من هذا الفصل‪ ،‬وإنما ذكرناه ا هن ا باعتباره ا ش رطا‬
‫من الشروط‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫القول األول‪ :‬اشتراط صحة النكاح‪ ،‬فإن كان فاسدا لم يحلها الوطء في ه‪ ،‬وه و‬
‫ق ول الحس ن والش عبي وحم اد ومال ك والث وري واألوزاعي وإس حاق وأبي عبي د‬
‫وأصحاب الرأي والشافعي في الجديد‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن طَلَّقَهَ ا فَاَل ت َِح لُّ لَ هُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى تَن ِك َح َزوْ ًج ا َغ ْي َرهُ ﴾‬
‫(البقرة‪ )230:‬فقد نفت اآلية حل المرأة لمطلقها ثالثا وجعل للنفي غاية هي ال تزوج‬
‫بزوج آخر‪ ،‬والحكم المحدود إلى غاية ال ينتهي قبل وجود الغاية‪ ،‬فال تنتهي الحرمة‬
‫قبل التزوج‪ ،‬فال تحل للزوج األول قبله ضرورة‪ ،‬وله ذا ال تح ل لزوجه ا األول إذا‬
‫ما إذا وطئها إنسان بالزنى أو بشبهة لعدم النكاح‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة‪ ،‬ومطلق النك اح ينص رف إلى م ا ه و‬
‫نكاح حقيقة‪ ،‬ولو كان النكاح الثاني مختلفا في فساده‪ ،‬ودخل بها‪ ،‬ال تحل لألول عن د‬
‫من يقول بفساده‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم اشتراط صحة النكاح‪ ،‬وهو قول الشافعي في القديم ورواية‬
‫عند الحنابلة‪ ،‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه زوج فيدخل في عموم النص‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النبي ‪ ‬لعن المحلل والمحلل له فسماه محلال مع فساد نكاحه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬حتَّى تَن ِك َح زَ وْ جًا َغي َْرهُ ﴾(البقرة‪ ،)230:‬وإطالق النك اح‬
‫يقتضي الصحيح‪ ،‬ولذلك لو حلف ال يتزوج‪ ،‬فتزوج تزويجا فاسدا لم يحنث‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن أكثر أحكام الزوج غ ير ثابت ة في ه من اإلحص ان واللع ان‪ ،‬والظه ار‪،‬‬
‫واإليالء والنفقة وأشباه ذلك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن تسميته محلال بسبب قصده التحليل فيما ال يح ل ول و أح ل حقيق ة لم ا‬
‫لعن وال لعن المحل ل ل ه وإنم ا ه ذا كق ول الن بي ‪( :‬م ا آمن ب القرآن من اس تحل‬
‫محارمه) (‪ )1‬وقال هللا تعالى‪ ﴿ :‬يحلونه عاما ويحرمونه عاما ﴾‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و النظ ر إلى ن وع الفس اد ال ذي اعت بر بس ببه‬
‫زواجا فاسدا‪ ،‬فإن كان أمرا مختلفا فيه بين العلماء‪ ،‬فإن ه ال يعت بر ه ذا الش رط‪ ،‬فال‬
‫يصح أن يفسد عالم ما صححه غيره‪.‬‬
‫أما إن كان المراد هو الزواج الباطل المجمع على فساده‪ ،‬فإن األرجح هو م ا‬
‫ذهب إلي ه أص حاب الق ول األول‪ ،‬ألن ه ذا الن وع ليس زواج ا‪ ،‬فل ذلك ال يص ح‬
‫اعتباره‪.‬‬
‫معاشرة الزوج الثاني للمطلقة البائنة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اشتراط معاشرة الزوج الثاني للمطلقة البائنة على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬إذا تزوجه ا زواج ا ص حيحا ال يري د ب ه إحالال فال ب أس أن‬
‫يتزوجها األول‪ ،‬وهو قول سعيد بن المسيب‪ ،‬لحمله النكاح في اآلية على العق د دون‬

‫‪ )(1‬الترمذي‪ ،5/180 :‬البزار‪ ،6/9 :‬ابن أبي شيبة‪ ،6/146 :‬المعجم الكبير‪.8/31 :‬‬

‫‪376‬‬
‫الجماع‪ ،‬فعن سعيد بن المسيب في المطلقة ثالث ا ثم ت تزوج؟ ق ال س عيد‪ :‬أم ا الن اس‬
‫فيقولون‪ :‬يجامعها‪ ،‬وأما أنا فإني أق ول‪ :‬إذا تزوجه ا ب تزويج ص حيح ال يري د ب ذلك‬
‫إحالال‪ ،‬فال بأس أن يتزوجها األول(‪.)1‬‬
‫قال ابن المنذر‪( :‬ال نعلم أحدا من أهل العلم قال بق ول س عيد بن المس يب ه ذا‬
‫إال الخوارج أخ ذوا بظ اهر قول ه تع الى‪َ ﴿:‬حتَّى تَن ِك َح َزوْ ًج ا َغ ْي َرهُ ﴾ (البق رة‪)230:‬‬
‫ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن) (‪ ،)2‬قال ابن حجر‪(:‬سياق كالم ه يش عر‬
‫بذلك‪ ،‬وفيه داللة على ضعف الخبر الوارد في ذلك) (‪)3‬‬
‫وقد نسب هذا القول كذلك إلى سعيد بن جب ير‪ ،‬ق ال ابن حج ر‪(:‬وأعجب من ه‬
‫أن أبا حبان جزم به عن السعيدين سعيد بن المسيب وسعيد بن جب ير وال يع رف ل ه‬
‫سند عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات وكفى قول بن المنذر حجة في ذل ك‬
‫وحكى بن الجوزي عن داود أنه وافق سعيد بن المسيب على ذلك) (‪)4‬‬
‫القول الثاني‪ :‬اشتراط معاشرة الزوج الثاني‪ ،‬وال يحصل ه ذا إال ب الوطء في‬
‫الفرج‪ ،‬وأدنى الوطء تغييب الحشفة في الفرج‪ ،‬ألن أحكام ال وطء تتعل ق ب ه‪ ،‬وذل ك‬
‫بشرط االنتشار ألن الحكم يتعلق ب ذوق العس يلة‪ ،‬وال تعق ل من غ ير انتش ار‪ ،‬وه و‬
‫مذهب الجمهور‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تفسير النكاح في اآلية بالوطء‪ ،‬قال الجصاص‪(:‬ألن النكاح هو الوطء في‬
‫الحقيقة‪ ،‬وذكر الزوج يفيد العقد‪ ،‬وه ذا من اإليج از واقتص ار على الكناي ة المفهم ة‬
‫المغنية عن التصريح)(‪)5‬‬
‫‪ 2‬ـ أن النبي ‪ ‬عل ق الح ل على ذوق العس يلة منهم ا‪ .‬فق ال الم رأة رفاع ة‬
‫القرظي‪(:‬أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ال‪ ،‬حتى تذوقي عسيلته وي ذوق عس يلتك)‬
‫(‪)6‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول في بعض الفروع س نتعرض له ا في المس ائل‬
‫التالية لهذه المسألة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ما ذهب إلي ه أص حاب الق ول الث اني ل ورود‬
‫الحديث الصحيح في ذلك‪ ،‬وهو من الثبوت والداللة ما ينفي ك ل ش بهة‪ ،‬زي ادة على‬
‫أن المقصد الشرعي من التنفير من الطالق يدل عليه‪ ،‬وذلك ألن المطلق لو علم بأن‬
‫مجرد عقد الثاني على زوجته إن أبانها بينونته كبرى يرجعه ا إلي ه يجعل ه يتس اهل‬
‫‪ )(1‬المحلى‪.9/416:‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.7/398 :‬‬
‫‪ )(3‬فتح الباري‪.9/466 :‬‬
‫‪ )(4‬فتح الباري‪.9/466 :‬‬
‫‪ )(5‬الجصاص‪..1/532 :‬‬
‫‪ )(6‬ابن حب ان‪ ،10/97 :‬الحاكم ك ‪ ،2/218‬الترم ذي‪ ،3/480 :‬ال دارمي‪ ،2/216 :‬ال بيهقي‪،7/329 :‬‬
‫الدارقطني‪ ،4/33 :‬أبو داود‪ ،2/259 :‬ابن ماجة‪ ،1/661 :‬أحمد‪ ،1/265 :‬مسند أبي يعلى‪.4/379 :‬‬

‫‪377‬‬
‫في الطالق‪ ،‬فيرمي به كيف شاء‪ ،‬فإذا ن دم س هل علي ه أن ي أتي بمن يعق د عليه ا ثم‬
‫يطلقها قبل البناء‪ ،‬وليس في ذل ك أي نف ور‪ ،‬ألن العق د وح دة ال أث ر ل ه في التنف ير‬
‫بخالف اشتراط المسيس‪.‬‬
‫ثانيا ـ التحايل على الرجعة وأحكامه‬
‫من التعاريف التي عرفت بها الحيل الفقهية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هي أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما‪ ،‬مخادع ة وتوس ال إلى فع ل م ا‬
‫حرم هللا‪ ،‬واستباحة محظوراته‪ ،‬أو إسقاط واجب‪ ،‬أو دفع حق‪ ،‬ونحو ذلك(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال‬
‫إلى حال‪ ،‬ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الط رق الخفي ة ال تي يتوص ل‬
‫بها الرجل إلى حصول غرضه‪ ،‬بحيث ال يتفطن له إال بنوع من الذكاء والفطنة(‪.)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أنواع الحيل وأحكامها‬
‫قصدنا بالحديث عن ه ذه األن واع مبالغ ة البعض في اإلنك ار على من يق ول‬
‫بالحيل‪ ،‬وبعضهم من كبار الفقهاء‪ ،‬ويتصور أن قولهم في ذلك عام‪ ،‬فيرد عليهم بما‬
‫لم يقولوا به‪ ،‬فلذلك يحتاج النظر العلمي إلى تحرير موضع النزاع‪ ،‬ونحن نذكر هذه‬
‫التقسيمات انطالقا من كالم من بالغ في الرد على الحيل كابن القيم وابن تيمية‪.‬‬
‫النوع األول‪ :‬الحيل المحرمة باتفاق الفقهاء‪:‬‬
‫وهي أنواع تتحد في حرمة الغاية أو حرمة الوسيلة المؤدية إليها‪ ،‬ومن أقسام‬
‫هذا النوع من الحيل‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يكون المقصود بها محرما ‪ :‬وهي الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما‬
‫هو محرم في نفسه بحيث ال تحل بمثل ذل ك الس بب أب دا‪ ،‬فالمقص ود به ا ح رام في‬
‫نفسه‪ ،‬وهي حرام باتفاق المسلمين‪ ،‬وصاحبها يس مى داهي ة ومك ارا‪ ،‬ومن أمثلته ا‪:‬‬
‫الحي ل على هالك النف وس وأخ ذ األم وال وفس اد ذات ال بين وحي ل الش يطان على‬
‫إغواء ب ني آدم وحي ل المخ ادعين بالباط ل على إدح اض ح ق‪ ،‬وإظه ار باط ل في‬
‫األمور الدينية والخصومات الدنيوي ة‪ ،‬وك ل م ا ه و مح رم في نفس ه فالتوس ل إلي ه‬
‫بالطرق الظاهرة محرم فكيف ب الطرق الخفي ة ال تي ال تعلم وه ذا مجم ع علي ه بين‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون مقصدها خفيا‪ :‬وهذه الحيل ال يظهر ص احبها أن مقص وده به ا‬
‫شر‪ ،‬وقد ال يمكن االطالع على ذلك غالبا‪ ،‬ومث ال ه ذا إق رار الم ريض ل وارث ال‬
‫شيء له عنده‪ ،‬فيجعله حيلة إلى الوسيلة له‪ ،‬وهذا محرم باتف اق المس لمين‪ ،‬وتعليم ه‬
‫هذا اإلقرار حرام والشهادة علي ه م ع العلم بكذب ه ح رام‪ ،‬والحكم بص حته م ع العلم‬
‫ببطالن ه ح رام ف إن ه ذا ك اذب غرض ه تخص يص بعض الورث ة ب أكثر من حق ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.4/56 :‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.3/188:‬‬

‫‪378‬‬
‫فالحيلة نفسها محرمة والمقصود بها محرم‪.‬‬
‫لكن باعتبار احتمال كونه صادقا اختلف العلماء في ه ذا التص رف‪ ،‬ه ل ه و‬
‫باطل سدا للذريعة وردا إلقرار الذي صادف حق المورث فيم ا ه و متهم في ه‪ ،‬ألن ه‬
‫شاهد على نفسه فيما يتعلق به حقهم فترد التهمة كالشاهد على غيره‪ ،‬أو ه و مقب ول‬
‫إحسانا للظن بالمقر عند الخاتمة‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذا‪ ،‬ولها عالقة بفقه األسرة احتيال المرأة على فسخ نكاح ال زوج‬
‫مع إمساكه بالمعروف بإنكارها لإلذن للولي‪ ،‬أو بإساءة عش رته بمن ع بعض حقوق ه‬
‫أو فعل ما يؤذيه‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬واحتيال المرأة على مطالب ة الرج ل بم ال بإنكاره ا‬
‫اإلنفاق أو إعطاء الصداق إلى غير ذلك من الصور‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اتحاد المقصد والوسيلة في الحرمة‪ :‬وهو أن يقص د بالحيل ة أخ ذ ح ق‪ ،‬أو‬
‫دفع باطل لكن يك ون الطري ق في نفس ه محرم ا مث ل أن يك ون ل ه على رج ل ح ق‬
‫مجحود فيقيم شاهدين ال يعلمانه فيشهدان به‪ ،‬فهو مح رم باتف اق الفقه اء‪ ،‬ألن ذين ك‬
‫الرجلين شهدا بالزور حيث ش هدا بم ا ال يعلمان ه وه و حملهم ا على ذل ك‪ ،‬ق ال ابن‬
‫تيمية‪( :‬قد يدخل فيه بعض من يفتي بالحيلة لكن الفقهاء منهم ال يحلونه) (‪)1‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الحيل المختلف فيها‪:‬‬
‫وضابطها قصد إباحة م ا حرم ه الش رع بتوف ير أس باب ذل ك‪ ،‬أو إس قاط م ا‬
‫أوجبه وقد أسقطه على سبيل الضمن والتبع إذا وجد بعض األسباب فيري د المحت ال‬
‫أن يتعاطى ذلك السبب قاصدا به ذلك الحيلة والسقوط‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء فيه‪ ،‬فمنهم من جعله حراما محضا‪ ،‬وألحقه بالنوع األول‪،‬‬
‫قال ابن تيمية‪(:‬وهذا حرام من وجهين كالقسم األول من جهة أن مقصوده حل م ا لم‬
‫يأذن ب ه الش ارع بقص د اس تحالله‪ ،‬أو س قوط م ا لم ي أذن الش ارع بقص د إس قاطه‪،‬‬
‫والثاني أن ذلك السبب الذي يقصد به االستحالل لم يقصد به مقصودا يجامع حقيقته‬
‫بل قصد به مقص ودا ين افي حقيقت ه ومقص وده األص لي‪ ،‬أو لم يقص د ب ه مقص وده‬
‫األصلي بل قصد به غيره‪ .‬فال يحل بحال‪ .‬وال يصح إن كان ممن يمكن إبطاله) (‪)2‬‬
‫ومنهم من أباحها واستنبط صنوف الحيل على أساسها‪ ،‬قال ابن تيمي ة‪(:‬وه ذا‬
‫القسم هو الذي كثر فيه تصرف المحت الين ممن ينتس ب إلى الفت وى‪ ،‬وه و أك ثر م ا‬
‫قصدنا الكالم فيه فإنه قد اشتبه أمره على المحتالين فقالوا‪ :‬الرجل إذا قص د التحلي ل‬
‫مثال لم يقصد محرما فإن عودة المرأة إلى زوجه ا بع د زواج حالل‪ ،‬والنك اح ال ذي‬
‫يتوصل به إلى ذلك حالل) (‪)3‬‬
‫وسنذكر هنا أقوال الفريقين وأدلتهم الرتباط الكالم في ه ذا بمس ائل االحتي ال‬
‫على الرجعة كما سنذكرها بعد هذا‪:‬‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.6/108 :‬‬


‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى‪.3/194 :‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.3/194 :‬‬

‫‪379‬‬
‫القول األول‪ :‬جواز استعمال هذا النوع من الحيل‪ ،‬وهو قول كثير من الفقه اء‬
‫حتى الذين ينكرون الحيل أنفسهم‪ ،‬ولكن أشهر القائلين بالجواز سواء في ه ذا الب اب‬
‫أو غيره هم الحنفية‪ ،‬حتى أنهم صنفوا المصنفات في ذلك‪ ،‬قال السرخس ي‪(:‬اختل ف‬
‫الن اس في كت اب الحي ل أن ه من تص نيف محم د رحم ه هللا أم ال‪ ،‬ك ان أب و س لمان‬
‫الجوزجاني ينكر ذلك ويقول‪ :‬من قال أن محمدا رحمه هللا صنف كتابا س ماه الحي ل‬
‫فال تصدقه وم ا في أي دي الن اس فإنم ا كم وراق و بغ داد وق ال‪ :‬إن الجه ال ينس بون‬
‫علماءنا رحمهم هللا إلى ذل ك على س بيل التعي ير فكي ف يظن بمحم د رحم ه هللا أن ه‬
‫سمى شيئا من تصانيفه بهذا االسم ليكون ذلك عون ا للجه ال على م ا يتقول ون وأم ا‬
‫أبو حفص رحمه هللا كان يقول هو من تصنيف محمد رحم ه هللا وك ان ي روي عن ه‬
‫ذلك وه و األص ح ف إن الحي ل في األحك ام المخرج ة عن اإلم ام ج ائزة ثم جمه ور‬
‫العلماء وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة) (‪)1‬‬
‫ولكنهم كما ذكرنا لم يج يزوا ك ل الحي ل على اإلطالق‪ ،‬يق ول محم د األمين‪:‬‬
‫(أقول وإياك أن تغتر بما ذكره الزاهدي في آخر الحاوي في أول كتاب الحيل‪ ،‬فإن ه‬
‫عقد فيه فصال في حيلة تحلي ل المطلق ة ثالث ا‪ ،‬وذك ر في ه ه ذه قابل ة للتأوي ل اآلتي‪،‬‬
‫وذكر حيال كثيرة كلها باطلة مبنية على ما يأتي رده من االكتفاء بالعقد ب دون وطء)‬
‫(‪ ،)2‬ومن األدلة التي ذكروها لجواز الحيل بالصفة التي ذكرنا(‪:)3‬‬
‫ال َوالنِّ َسا ِء َو ْال ِو ْلدَا ِن اَل يَ ْستَ ِطيعُونَ‬
‫الرِّج ِ‬
‫َ‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬إِاَّل ْال ُم ْستَضْ َعفِينَ ِم ْن‬
‫ِحيلَةً َواَل يَ ْهتَ ُدونَ َسبِياًل ﴾(النساء‪ ،)98:‬أراد بالحيلة التحيل على التخلص من الكف ار‪،‬‬
‫وهذه حيلة محمودة يثاب عليها من عملها‪.‬‬
‫َث ﴾(ص‪)44:‬‬ ‫اض ِربْ بِ ِه َواَل تَحْ ن ْ‬ ‫ض ْغثًا فَ ْ‬‫‪ 2‬ـ أن قوله تع الى‪َ ﴿ :‬و ُخ ْذ بِيَ ِدكَ ِ‬
‫وهي حيلة للخروج من الحنث‪ ،‬وقد عمل به النبي ‪ ‬في حق الضعيف ال ذي زنى‪،‬‬
‫فعن أبي أمامة بن سهل حيث إنه أخبره بعض أصحاب رسول هللا ‪ ‬من األنص ار‬
‫أن ه اش تكى رج ل منهم ح تى أض نى‪ ،‬فع اد جل دة على عظم‪ ،‬ف دخلت علي ه جاري ة‬
‫لبعضهم‪ ،‬فهش لها فوقع عليها‪ ،‬فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخ برهم ب ذلك‪،‬‬
‫وقال‪ :‬اس تفتوا لي رس ول هللا ‪ ‬ف إني ق د وقعت على جاري ة دخلت علي‪ ،‬ف ذكروا‬
‫ذلك لرسول هللا ‪ ‬وقالوا‪ :‬ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو ب ه‪ ،‬ل و‬
‫حملناه إليك لتفس خت عظام ه‪ ،‬م ا ه و إال جل د على عظم‪ ،‬ف أمر رس ول هللا ‪ ‬أن‬
‫يأخذوا له مائة شمراخ‪ ،‬فيضربوه بها ضربة واحدة(‪.)4‬‬

‫الس قَايَةَ فِي َرحْ ِل أَ ِخي ِه ثُ َّم أَ َّذنَ‬ ‫‪ 3‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬فَلَ َّما َجهَّزَ هُ ْم بِ َجهَ ِ‬
‫از ِه ْم َج َع َل ِّ‬
‫ارقُونَ ﴾(يوسف‪ )70:‬إلى قوله‪ ﴿:‬فَبَ دَأَ بِ أَوْ ِعيَتِ ِه ْم قَ ْب َل ِو َع ا ِء‬ ‫ُم َؤ ِّذ ٌن أَيَّتُهَا ْال ِعي ُر إِنَّ ُك ْم لَ َس ِ‬
‫‪ )(1‬المبسوط‪.30/209 :‬‬
‫‪ )(2‬حاشية ابن عابدين‪.3/410:‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المبسوط‪.30/209 :‬‬
‫‪ )(4‬البيهقي‪ ،8/230 :‬الدارقطني‪ ،3/100 :‬أبو داود‪ ،4/161 :‬النسائي‪.4/312 :‬‬

‫‪380‬‬
‫ُوس فَ َم ا َك انَ لِيَأْ ُخ َذ أَ َخ اهُ فِي ِدي ِن‬ ‫أَ ِخي ِه ثُ َّم ا ْست َْخ َر َجهَا ِم ْن ِوعَا ِء أَ ِخي ِه َك َذلِكَ ِك ْدنَا لِي ُ‬
‫ق ُك لِّ ِذي ِع ْل ٍم َعلِي ٌم﴾(يوس ف‪)76:‬‬ ‫ت َم ْن نَ َشا ُء َوفَوْ َ‬ ‫ك إِاَّل أَ ْن يَ َشا َء هَّللا ُ نَرْ فَ ُع د ََر َجا ٍ‬
‫ْال َملِ ِ‬
‫وذل ك من ه حيل ة‪ ،‬وك ان ه ذا حيل ة المس اك أخي ه عن ده حينئ ذ ليوق ف إخوت ه على‬
‫مقصوده‪.‬‬
‫هَّللا‬
‫‪ 4‬ـ قوله تعالى حكاية عن موسى ‪ ﴿:‬قَا َل َست َِج ُدنِي إِ ْن َشا َء ُ َ‬
‫ص ابِرًا َواَل‬
‫صي لَكَ أَ ْمرًا﴾(الكهف‪ )69:‬ولم يقل على ذلك‪ ،‬ألنه قي د س المته باالس تثناء وه و‬ ‫أَ ْع ِ‬
‫اع ٌل َذلِكَ َغدًا(‪)23‬إِاَّل أَ ْن يَ َش ا َء‬ ‫مخرج صحيح‪ ،‬قال هللا ‪َ ﴿ :‬واَل تَقُولَ َّن لِ َش ْي ٍء إِنِّي فَ ِ‬
‫هَّللا ُ ﴾(الكهف‪)23،24:‬‬
‫طبَ ِة النِّ َس ا ِء ﴾‬ ‫َّض تُ ْم بِ ِه ِم ْن ِخ ْ‬
‫اح َعلَ ْي ُك ْم فِي َم ا َعر ْ‬ ‫‪ 5‬ـ قول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل ُجنَ َ‬
‫(البقرة‪ ،)235:‬اآلية فقد أج از هللا تع الى المع اريض ونهى عن التص ريح بالخطب ة‬
‫بقوله تعالى‪َ ﴿:‬ولَ ِك ْن اَل تُ َوا ِعدُوه َُّن ِس ًّرا إِاَّل أَ ْن تَقُولُوا قَوْ اًل َم ْعرُوفًا ﴾ (البقرة‪)235:‬‬
‫‪ 6‬ـ أن الرسول ‪ ‬اس تعمل رجال على خي بر‪ ،‬فج اءه بتم ر ج نيب فق ال ل ه‬
‫رسول هللا ‪ :‬أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال‪ :‬ال وهللا يا رسول هللا إنا لنأخذ الصاع من‬
‫هذا بالصاعين‪ ،‬والصاعين بالثالثة فقال رسول هللا ‪(:‬ال تفعل بع الجمع بالدراهم‪،‬‬
‫ثم ابتع بال دراهم جنيب ا) (‪ )1‬وفي أم ره ‪ ‬ب أن يش تري بال دراهم تم را‪ ،‬ونهي ه أن‬
‫يشتريه بمثله خروج مما ال يح ل لم ا في ه من الرب ا إلى م ا يح ل وه و ال بيع‪ ،‬وه و‬
‫خروج من اإلثم‪ ،‬قال السرخسي‪(:‬وإن المفتي إذا تبين جواب ما س ئل عن ه فال ب أس‬
‫أن يبين للسائل الطريق الذي يحصل به مقصوده مع التحرز عن الح رام وال يك ون‬
‫هذا مما هو مذموم من تعليم الحيل ب ل ه و اقت داء برس ول هللا ‪ ‬حيث ق ال لعام ل‬
‫خيبر) (‪)2‬‬
‫‪ 7‬ـ ما روى أن رسول هللا ‪ ‬قال يوم األحزاب لع روة بن مس عود في ش أن‬
‫بني قريظة فلعلنا أمرناهم بذلك فلما قال له عمر في ذل ك ق ال ‪(:‬الح رب خدع ة)‬
‫(‪ ،)3‬وكان ذلك منه اكتساب حيلة ومخرج من اإلثم بتقييد الكالم بلعل‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن مباشرة األس باب المش روعة حيل ة على حص ول مس بباتها‪ ،‬كاألك ل‪،‬‬
‫والش رب‪ ،‬واللبس والس فر ال واجب‪ ،‬وك ذلك العق ود الش رعية واجبه ا ومس تحبها‬
‫ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه‪ ،‬فإذا كانت الحيلة سببا مش روعا وم ا‬
‫تفضي إليه مشروع فال معنى لمنعها‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ إن العاجز الذي ال حيلة عن ده لجهل ه بط رق تحص يل مص الحه م ذموم‪،‬‬
‫ألنه ال خبرة له بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها‪ ،‬فيحسن التوصل إلى مقاص ده‬
‫المحم ودة ال تي يحبه ا هللا ورس وله ب أنواع الحي ل‪ ،‬ويع رف ط رق الش ر الظ اهرة‬
‫والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر ب ه فيح ترز منه ا‪ .‬وق د ك ان حذيف ة بن‬
‫‪ )(1‬مسلم‪ ،3/1215 :‬البخاري‪ ،2/767 :‬ابن حبان‪ ،11/395 :‬البيهقي‪ ،5/291 :‬النسائي‪.4/24 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.14/4 :‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪ ،3/1102 :‬مسلم‪ ،3/1361 :‬الترمذي‪ ،4/193 :‬ال دارمي‪ ،2/289 :‬ال بيهقي‪ ،7/40 :‬أب و داود‪:‬‬
‫‪ ،3/43‬النسائي‪ ،5/160 :‬ابن ماجة‪.2/945 :‬‬

‫‪381‬‬
‫اليمان أعلم الن اس بالش ر والفتن‪ ،‬وك ان الن اس يس ألون رس ول هللا ‪ ‬عن الخ ير‪،‬‬
‫وكان هو يسأله عن الشر مخافة أن يدركه‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ إن المع نى ال ذي من أجل ه ح رمت الحي ل ه و أنه ا ته دم األص ول‬
‫الشرعية‪ ،‬وتناقض المصالح الشرعية‪ ،‬فإذا انتفى هذا المعنى وك انت الحي ل مم ا ال‬
‫يناقض األصول الشرعية فال معنى لمنعها بل كانت من المشروع‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن الشريعة أجازت للمك ره على الكف ر أن يتلف ظ بكلم ة الكف ر إح رازا‬
‫لدمه‪ ،‬وفي هذا تحيل على إحراز الدم‪ ،‬والتحيل هنا كالتحيل بكلم ة اإلس الم إح رازا‬
‫للدم‪ ،‬كذلك كما في قوله‪(: :‬فإذا قالوا ال إله إال هللا عصموا مني دم اءهم وأم والهم‬
‫إال بحقها) (‪ )1‬فك ل من الح التين نط ق بكلم ة من غ ير اعتق اد معناه ا توص ال إلى‬
‫غرض دنيوي‪ ،‬وهو إحراز الدم‪ ،‬فأجريت عليهما أحكام اإلسالم في الظاهر‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ أن الخ روج من الح رام إلى الحالل والتخلص من الم آثم أم ر واجب‬
‫شرعا‪ ،‬والتحيل له باتخاذ الوسائل واألسباب المؤدية إليه أمر مطلوب شرعا كذلك‪،‬‬
‫وال تخرج الحيل المباحة عن هذا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم جواز استعمال الحيل لذلك‪ ،‬قال ابن قدام ة‪(:‬والحي ل كله ا‬
‫محرمة‪ ،‬غير جائزة في ش يء من ال دين)(‪ )2‬وق د نس ب ابن تيمي ة الق ول بالحرم ة‬
‫لكثيرمن السلف‪ ،‬فقال‪(:‬القول بإبطال مثل هذه الحيل في الجمل ة م أثور‪ ،‬عن عم ر‪،‬‬
‫وعثمان بن عفان‪ ،‬وعلي بن أبي طالب‪ ،‬وعب د هللا بن مس عود‪ ،‬وعب د هللا بن س الم‪،‬‬
‫وأبي بن كعب‪ ،‬وعبد هللا بن عمر‪ ،‬وعبد هللا بن عباس‪ ،‬وعائشة أم المؤمنين‪ ،‬وأنس‬
‫بن مالك‪ .‬ومن التابعين‪ ،‬عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محم د وس الم بن عب د هللا‬
‫بن عمر وعبد هللا بن عبد هللا بن عتبة وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وخارجة‬
‫بن زي د‪ ،‬وعط اء بن أبي رب اح‪ ،‬وغ يره من فقه اء المك يين‪ ،‬وج ابر بن زي د أبي‬
‫الش عثاء‪ ،‬والحس ن البص ري ومحم د بن س يرين وبك ر بن عب د هللا الم زني وقت ادة‬
‫وأصحاب عبد هللا بن مسعود‪ ،‬وإبراهيم النخعي‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وحماد بن أبي س ليمان‪،‬‬
‫وه و ق ول أي وب الس ختياني وعم رو بن دين ار‪ ،‬ومال ك‪ ،‬وأص حابه‪ ،‬واألوزاعي‬
‫والليث بن سعد‪ ،‬والقاسم بن معن وسفيان الثوري وش ريك بن عب د هللا‪ ،‬وس فيان بن‬
‫عيين ة وعب د هللا بن المب ارك والفض ل بن عي اض‪ ،‬وحفص بن غي اث‪ ،‬ويزي د بن‬
‫ه ارون‪ ،‬وأحم د بن حنب ل وأص حابه‪ ،‬وأبي عبي د القاس م بن س الم‪ ،‬وإس حاق بن‬
‫راهوي ه‪ ،‬ومن ال يحص ى من العلم اء‪ ،‬وكالمهم في ذل ك يط ول) (‪ ،)3‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك(‪:)4‬‬
‫‪ 1‬ـ قوله ‪(:‬إنما األعم ال بالني ات‪ ،‬وإنم ا لك ل ام رئ م ا ن وى فمن ك انت‬
‫‪ )(1‬البخ اري‪ ،6/2682 :‬مس لم‪ ،1/53 :‬ابن حب ان‪ ،1/401 :‬الح اكم‪ ،2/568 :‬الترم ذي‪ ،5/439 :‬ال بيهقي‪:‬‬
‫‪ ،8/196‬الدارقطني‪.1/232 :‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.4/56 :‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.6/17 :‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الفتاوى الكبرى‪ ،6/20 :‬المغني‪ ،4/56 :‬وانظر كتاب‪ :‬إبطال الحيل البن بطة العكبري‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫هجرت ه إلى هللا ورس وله فهجرت ه إلى هللا ورس وله ومن ك انت هجرت ه إلى دني ا‬
‫يصيبها‪ ،‬أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (‪ ،)1‬وهذا الح ديث أص ل في‬
‫إبطال الحيل‪ ،‬احتج البخاري على ذلك‪ ،‬وكذلك المحل ل إنم ا ن وى أن يطل ق الم رأة‬
‫لتحل لألول ولم ينو أن يتخذها زوجة فال تكون له زوجة‪ ،‬فال تح ل ل ه‪ ،‬وإذا لم تكن‬
‫له زوجة فالتحريم باق‪ ،‬فال تحل لألول‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوله ‪(:‬من أدخ ل فرس ا بين فرس ين‪ ،‬وق د أمن أن يس بق‪ ،‬فه و قم ار‪،‬‬
‫ومن أدخ ل فرس ا بين فرس ين‪ ،‬وه و ال ي أمن أن يس بق‪ ،‬فليس بقم ار) (‪ ،)2‬فجعل ه‬
‫قمارا مع إدخاله الفرس الثالث ؛ لكونه ال يمنع معنى القم ار‪ ،‬وه و ك ون ك ل واح د‬
‫من المتسابقين ال ينفك عن كونه آخذا‪ ،‬أو م أخوذا من ه‪ ،‬وإنم ا دخ ل ص ورة‪ ،‬تحيال‬
‫على إباحة المحرم‪ ،‬وسائر الحيل مثل ذلك‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هللا تعالى إنما حرم هذه المحرمات لمفسدتها‪ ،‬والضرر الحاصل منها‪.‬‬
‫وال تزول مفسدتها مع إبقاء معناها‪ ،‬بإظهارهما صورة غير صورتها‪ ،‬فوجب أن ال‬
‫يزول التحريم‪ ،‬كما لو سمى الخمر بغير اسمها‪ ،‬لم يبح ذل ك ش ربها‪ ،‬وق د ج اء عن‬
‫النبي ‪ ‬أنه قال‪(:‬ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) (‪)3‬‬
‫‪ 4‬ـ أن المحتال يقصد سقوط الواجب‪ ،‬أو حل الحرام‪ ،‬بفعل لم يقصد ب ه م ا جع ل‬
‫ذلك الفعل له‪ ،‬أو ما شرع‪ ،‬فهو يري د تغي ير األحك ام الش رعية بأس باب لم يقص د به ا م ا‬
‫جعلت تلك األسباب له‪ ،‬وهو يفعل تلك األسباب ألجل ما ه و ت ابع له ا‪ ،‬ال ألج ل م ا ه و‬
‫المتبوع المقصود بها‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن هللا تع الى ع ذب أم ة بحيل ة احتالوه ا‪ ،‬فمس خهم ق ردة‪ ،‬وس ماهم معت دين‪،‬‬
‫وجعل ذلك نكاال وموعظة للمتقين ؛ ليتعظوا بهم‪ ،‬ويمتنعوا من مثل أفعالهم‪ ،‬كم ا قي ل في‬
‫قول ه تع الى‪ ﴿:‬وموعظ ة للمتقين ﴾‪ ،‬أي ألم ة محم د ‪ ،‬فق د روي أنهم ك انوا ينص بون‬
‫شباكهم للحيتان ي وم الجمع ة‪ ،‬ويتركونه ا إلى ي وم األح د‪ ،‬ومنهم من ك ان يحف ر حف ائر‪،‬‬
‫ويجعل إليها مجاري‪ ،‬فيفتحها يوم الجمعة‪ ،‬فإذا جاء السمك يوم السبت‪ ،‬ج رى م ع الم اء‬
‫في المجاري‪ ،‬فيقع في الحفائر‪ ،‬فيدعها إلى يوم األحد‪ ،‬ثم يأخ ذها‪ ،‬ويق ول‪ :‬م ا اص طدت‬
‫يوم السبت‪ ،‬وال اعتديت فيه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن المقاصد واالعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات‪ ،‬كما هي معتبرة في‬
‫التقربات والعبادات‪ ،‬فيجعل الشيء حالال‪ ،‬أو حراما‪ ،‬أو ص حيحا‪ ،‬أو فاس دا أو ص حيحا‬
‫من وج ه‪ ،‬فاس دا من وج ه‪ ،‬كم ا أن القص د في العب ادة يجعله ا واجب ة‪ ،‬أو مس تحبة أو‬
‫محرم ة‪ ،‬أو ص حيحة‪ ،‬أو فاس دة‪ .‬ودالئ ل ه ذه القاع دة كث يرة ج دا‪ ،‬منه ا قول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوبُعُو َلتُه َُّن َأ َح ُّق ِب َر ِّد ِه َّن ِفي َذ ِل كَ ِإ ْن َأ َرادُوا ِإ ْ‬
‫ص الحًا﴾(البق رة‪ ،)228 :‬وقول ه تع الى‪َ ﴿:‬واَل‬
‫ض َرارًا ِلتَعْ َتدُوا ﴾(البق رة‪ ،)231:‬ف إن ذل ك نص في أن الرجع ة إنم ا ثبتت لمن‬ ‫تُ ْم ِس ُكوه َُّن ِ‬

‫‪ )(1‬والبخارى (‪ ،6/2551‬رقم ‪ ،)6553‬ومسلم (‪ ،3/1515‬رقم ‪)1907‬‬


‫‪ )(2‬الحاكم‪ ،2/125 :‬البيهقي‪ ،10/20 :‬الدارقطني‪ ،4/305 :‬أبو داود‪ ،3/30 :‬ابن ماجة‪.2/960 :‬‬
‫‪ )(3‬مسند الربيع‪ ،246 :‬مصنف ابن أبي شيبة‪ ،5/68 :‬البزار‪ ،7/138 :‬أحمد‪.5/318 :‬‬

‫‪383‬‬
‫قصد الصالح دون الضرار‪ ،.‬ومنها قوله تعالى‪ ﴿:‬وال يحل لكم أن تأخ ذوا مم ا آتيتم وهن‬
‫شيئا ﴾ إلى قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ف إِ ْن ِخ ْفتُ ْم َأاَّل يُ ِقي َم ا حُ دُو َد هَّللا ِ َفاَل جُ َن َ‬
‫اح َع َل ْي ِه َم ا ِفي َم ا ا ْف َت د ْ‬
‫َت ِب ِه ﴾‬
‫(البقرة‪ ،)229:‬وهو دليل على أن الخلع المأذون فيه إذا خيف أن ال يقيم الزوج ان ح دود‬
‫هللا‪ .‬وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود هللا‪.‬‬
‫هَّللا‬
‫ت ِ هُ ُز ًوا ﴾‬ ‫ُ‬
‫‪ 7‬ـ أن في الحي ل اس تهزاء ب دين هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬واَل َتتَّ ِخ ذوا آ َي ا ِ‬
‫(البقرة‪ )231:‬بعد أن ذكر الطالق والرجعة والخلع والنكاح المحلل والنك اح بع ده وغ ير‬
‫ذلك من المواضع‪ ،‬وهو دليل على أن االستهزاء ب دين هللا من الكب ائر ‪ -‬واالس تهزاء ه و‬
‫السخرية وهو حمل األقوال واألفعال على الهزل واللعب ال على الج د والحقيق ة ‪ -‬فال ذي‬
‫يسخر بالناس هو الذي يذم صفاتهم وأفعالهم ذما يخرجها عن درجة االعتبار كما سخروا‬
‫بالمطوعين من المؤمنين في الصدقات‪ ،‬فمن تكلم باألقوال التي جعل الش ارع له ا حق ائق‬
‫ومقاصد مثل كلمة اإليمان‪ ،‬وكلمة هللا التي تستحل بها الفروج‪ ،‬والعهود‪ ،‬والمواثي ق ال تي‬
‫بين المتعاقدين‪ .‬وه و ال يري د به ا حقائقه ا المقوم ة له ا‪ ،‬وال مقاص دها ال تي جعلت ه ذه‬
‫األلفاظ محصلة لها‪ ،‬بل يري د أن يرتج ع الم رأة ليض رها‪ ،‬وال حاج ة ل ه في نكاحه ا‪ ،‬أو‬
‫ينكحها ليحللها‪ ،‬أو يخلعها ليلبس ها‪ ،‬فه و مس تهزئ بآي ات هللا ف إن العه ود والمواثي ق من‬
‫آيات هللا‪.‬‬
‫فإذا كان االستهزاء بها حراما وجب إبطاله‪ ،‬وإبطال التص رفات ع دم ت رتب‬
‫أثرها عليها‪ ،‬فإن كان المس تهزئ به ا غرض ه إنم ا يتم لص حتها وجب إبط ال ه ذه‬
‫الص حة والحكم ببطالن تل ك التص رفات‪ ،‬وإن ك ان المس تهزئ غرض ه اللعب به ا‬
‫دون لزوم حكمها وجب إبطال لعبه بإلزامه أحكامه‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن في الحي ل مخادع ة هلل تع الى‪ ،‬وق د ق ال تع الى في ص فة أه ل النف اق من‬
‫مظهري اإلسالم‪ ﴿:‬يُخَا ِد ُعونَ هَّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما َي ْخ َد ُعونَ ِإاَّل َأنفُ َسه ُْم َو َما َي ْشعُرُونَ ﴾(البقرة‪:‬‬
‫‪ ،)9‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن ْال ُمنَا ِف ِقينَ يُخَا ِد ُعونَ هَّللا َ َوه َُو خَا ِد ُعه ُْم ﴾(النساء‪ )142:‬وق ال في ص فة‬
‫المنافقين من أهل العه د‪َ ﴿:‬و ِإ ْن ي ُِري دُوا َأ ْن َي ْخ َد ُعوكَ َف إِ َّن َح ْس َبكَ هَّللا ُ هُ َو الَّ ِذي َأيَّدَكَ ِبن ْ‬
‫َص ِر ِه‬
‫َو ِب ْال ُم ْؤ ِم ِنينَ ﴾(األنفال‪ ،)62:‬فأخبر تعالى أن هؤالء المخادعين مخدوعون وهم ال يشعرون‬
‫بذلك‪ ،‬وأن هللا خادع من يخادعه وأن المخدوع يكفيه هللا شر من خدع ه‪ ،‬والمخادع ة هي‬
‫االحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطال خالفه لتحصيل المقصود‪.‬‬
‫ومثل هذا قول القائل‪ :‬أنكحت‪ ،‬ونكحت إنشاء للعقد‪ ،‬أو إخبارا به‪ .‬فإذا لم يكن‬
‫مقصوده ثبوت النكاح الذي جعلت له ه ذه الكلم ة‪ ،‬ك ان مخادع ا‪ ،‬وه و ض رب من‬
‫النفاق في آي ات هللا وح دوده‪ ،‬كم ا أن األول نف اق في أص ل ال دين‪ ،‬ويؤي د ذل ك من‬
‫األثر ما روي عن ابن عب اس‪ ،‬أن ه ج اءه رج ل فق ال‪ :‬إن عمي طل ق امرأت ه ثالث ا‬
‫أيحلها له رجل؟ فقال‪ :‬من يخادع هللا يخدع ه‪ ،‬وعن عثم ان‪ ،‬وابن عم ر‪ ،‬وغيرهم ا‬
‫أنهم ق الوا‪( :‬ال نك اح إال نك اح رغب ة ال نك اح دلس ة) (‪ )1‬ق ال العلم اء‪ :‬المدالس ة‬
‫المخادعة‪ .‬وقال أي وب الس ختياني‪ ،‬وناهي ك ب ه في ه ؤالء المحت الين يخ ادعون هللا‬

‫‪ )(1‬البيهقي‪.7/208 :‬‬

‫‪384‬‬
‫كأنما يخادعون الصبيان‪ ،‬فلو أتوا األمر عيانا كان أهون علي‪ .‬وقال شريك بن عب د‬
‫هللا القاضي في كتاب الحيل‪ :‬هو كتاب المخادعة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنواع الحيل المرتبطة بالطالق وأحكامها‬
‫سنذكر في هذا المطلب بعض النماذج عن الحيل التي أوردها الفقهاء وما قيل‬
‫فيها من نفي وإثبات وتصحيح وإفساد‪:‬‬
‫الحيلة السريجية لعدم وقوع الطالق أصال‪:‬‬
‫وهي أهم الحي ل‪ ،‬واش هرها‪ ،‬وأخطره ا فهي تمن ع الرج ل من الق درة على‬
‫الطالق‪ ،‬بل تسد علي ه ب اب الطالق بك ل وج ه‪ ،‬فال يبقى ل ه س بيل إلي ه‪ ،‬وال يمكن ه‬
‫مخالعته ا عن د من يجع ل الخل ع طالق ا‪ ،‬وهي نظ ير س د اإلنس ان على نفس ه ب اب‬
‫النكاح‪.‬‬
‫وصورة هذه الحيلة أن يقول‪ :‬كلما طلقتك ‪ -‬أو كلما وقع عليك طالقي ‪ -‬فأنت‬
‫طالق قبله ثالثا‪ ،‬وقد زعم أصحاب هذه الحلية أنه ال يتصور وقوع الطالق بعد ذلك‬
‫؛ ألنه لو وقع لزم وقوع م ا عل ق ب ه وه و الثالث‪ ،‬وإذا وقعت الثالث امتن ع وق وع‬
‫هذا المنجز‪ ،‬فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه‪ ،‬وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم‬
‫يوجد(‪.)1‬‬
‫وأول من استنبط هذه الحيلة ـ كما يذكر ابن تيمية ـ هو أبو العباس بن سريج‪،‬‬
‫يقول ابن تيمية‪(:‬وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المس ألة لالحتي ال على دف ع‬
‫الطالق أم قاله طردا لقياس اعتقد صحته‪ ،‬واحتال بها من بعده‪ ،‬لك ني رأيت مص نفا‬
‫لبعض المت أخرين بع د المائ ة الخامس ة ص نفه في ه ذه المس ألة‪ ،‬ومقص وده به ا‬
‫االحتيال على عدم وقوع الطالق‪ ،‬ولهذا صاغوها بقوله إذا وقع عليك طالقي ف أنت‬
‫طالق قبله ثالثا ؛ ألنه لو قالوا إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثالثا لم تنفعه هذه الص يغة‬
‫في الحيلة وإن كان كالهما في الدور سواء) (‪)2‬‬
‫وقد أنكر هذا القول أكثر الفقهاء‪ ،‬بل رأوه من الزالت التي يعلم باالض طرار‬
‫كونها ليست من اإلسالم فالطالق أمر مشروع في كل نك اح‪ ،‬وأن ه م ا من نك اح إال‬
‫ويمكن فيه الطالق‪.‬‬
‫وسنذكر هنا القولين في المسألة وأدلة كل قول‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬صحة العم ل به ذه الحيل ة‪ ،‬وه و ق ول بعض الش افعية(‪ ،)3‬ق ال‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.3/197:‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى‪.4/142:‬‬
‫‪ )(3‬وذهب آخرون كما يذكر السبكي إلى عدم صحة العم ل به ا‪ ،‬ق ال الس بكي‪ «:‬ذا ق ال لزوجت ه‪ :‬إن طلقت ك‬
‫فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬ثم قال لها أنت طالق وقع عليها الطلقة المنجزة وطلقتان قبلها من المعل ق‪ ،‬وه ذا اختي ار بعض‬
‫األصحاب وهو المشهور عن الحنفية والحنابلة ; ألن التعليق ص ادر من أهل ه في محل ه ف وجب إعمال ه إال في الق در‬
‫المستحيل وهو وقوع ثالث قبل طلقة أخرى فيبطل منه ما اقتضى المحال لعدم إمك ان تص حيحه ش رعا ويص ح فيم ا‬
‫عداه عمال بالمقتضى للصحة السالم عن المعارض»‬
‫وذكر وجها آخر في المسألة وهو أنه يقع في المنجز فق ط‪ ،‬ه و ال ذي رجح ه ال رافعي وجماع ة ول ه مأخ ذان‪:‬‬
‫إحداهما إبطال التعليق جملة; ألنه ال ضرورة إليه واألص ل حم ل الكالم على الص حة م ا لم يعارض ه مع ارض وال‬

‫‪385‬‬
‫السبكي‪(:‬وهو قول الجمه ور من أص حابنا وح ذاق المحققين منهم ابن الح داد) (‪،)1‬‬
‫وقال الزركشي‪(:‬لو قال إن طلقتك غدا طلقة‪ ،‬ف أنت ط الق الي وم ثالث ا‪ ،‬ثم طل ق من‬
‫الغد واحدة طلقت واحدة ولم تقع الثالث‪ ،‬ألن ا ل و أوقعن ا الثالث بطلت الواح دة وإذا‬
‫بطلت الواحدة بطلت الثالث‪ ،‬ففي إثبات الثالث إبطالها‪ ،‬ووافق على ذلك ابن سريج‬
‫وقال غيره‪ :‬تق ع الواح دة وثنت ان من الثالث كقول ه‪ :‬إن طلقت ك واح دة ف أنت ط الق‬
‫عشرا وقعت واحدة وثنتان من العشرة) (‪)2‬‬
‫وذكر ابن دقيق العيد وجها آخر لهذه الحيلة‪ ،‬فقال‪( :‬الحيلة في حل ال دور‪ :‬أن‬
‫يعكس‪ ،‬فيقول‪ :‬كلما لم يقع عليك طالقي‪ ،‬فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬فإذا طلقها وجب أن‬
‫يقع الثالث؛ ألن الطالق القبلي ‪ -‬والحالة هذه ‪ -‬معلق على النقيضين‪ ،‬وه و الوق وع‬
‫وعدمه وكل ما كان الزما للنقيضين‪ ،‬فهو واقع ضرورة‪ ،‬ويشبهه قولهم في الوكالة‪:‬‬
‫كلما عزلتك‪ ،‬فأنت وكيلي‪ ،‬نفاذ العزل‪ :‬أن يقول‪ :‬كلما عدت وكيلي‪ ،‬ف أنت مع زول‪،‬‬
‫ثم يعزله) (‪)3‬‬
‫وقد أضاف السيوطي إلى هذا نظائر أخرى‪ ،‬فقال‪(:‬ذكر نظائر ه ذه المس ألة‪،‬‬
‫قال‪ :‬إن آليت منك‪ ،‬أو ظ اهرت من ك‪ ،‬أو فس خت بعيب ك ؛ أو العنت ك‪ ،‬أو راجعت ك‬
‫فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬ثم وجد المعلق ب ه لم يق ع الطالق وفي ص حته األوج ه) (‪،)4‬‬
‫وبهذا شملت هذه الحيلة معظم ما وضعه الشرع من وسائل التفريق بين الزوجين‪.‬‬
‫وقد رجح متأخرو الشافعية القول بعدم االحتيال بهذه الحيلة‪ ،‬فقد سئل الرملي‬
‫[ ت‪957 :‬هـ]عن ال راجح في المس ألة الس ريجية؟ فأج اب ب أن ال راجح فيه ا كم ا‬
‫رجحه الشيخان وغيرهما وقوع المنجز دون المعلق‪ ،‬والقول بعدم وقوع ك ل منهم ا‬
‫لل دور ض عيف ال يع ول علي ه‪ ،‬ب ل نس ب قائل ه إلى مخالف ة اإلجم اع وأج ابوا عن‬
‫شبهته(‪.)5‬‬
‫ومم ا اس تند إلي ه أص حاب ه ذه الحيل ة م ا ذك ره الش افعي(‪ )6‬م ا نص علي ه‬
‫معارض يقتضي اإلبطال في الجميع‪ .‬الثاني قطع الدور من وسطه فيصح المنجز ويبطل المعلق الذي هو في المرتبة‬
‫الثانية‪.‬‬
‫وذكر وجها آخر وهو أن ه يق ع المنج ز وطلقت ان من المعل ق مع ه أو بع ده على الخالف في أن المش روط م ع‬
‫الشرط أو بعده ويلغو قوله قبله‪ ،‬إلى غير ذلك من الوجوه‪ ،‬انظر‪ :‬فتاوى السبكي‪.2/298:‬‬
‫‪ )(1‬فتاوى السبكي‪.2/298:‬‬
‫‪ )(2‬المنثور في القواعد الفقهية‪.2/157 :‬‬
‫‪ )(3‬نقال عن‪ :‬األشباه والنظائر‪.381 :‬‬
‫‪ )(4‬األشباه والنظائر‪.381 :‬‬
‫‪ )(5‬فتاوى الرملي‪.3/270 :‬‬
‫‪ )( 6‬قال ابن القيم‪ «:‬وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة‪ ،‬وليس فيه ما يدل على صحة ه ذه المس ألة وال‬
‫هو نظيرها‪ .‬وليس فيه سبق الطالق لشرطه‪ ،‬وال هو متضمن للمحال ; إذ حقيقته إذا بقي من حياتي شهر فأنت طالق‪.‬‬
‫وه ذا الكالم معق ول غ ير متن اقض ليس في ه تق ديم الطالق على زمن التطلي ق وال على ش رط وقوع ه‪ ،‬وإنم ا نظ ير‬
‫المسألة المتنازع فيها أن يقول‪ " :‬إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر " وهذا المحال بعين ه‪ ،‬وه و نظ ير قول ه‪ " :‬إذا‬
‫وقع عليك طالقي فأنت طالق قبل ه ثالث ا " أو يق ول‪ " :‬أنت ط الق ع ام األول " فمس ألة الش افعي ش يء ومس ألة ابن‬
‫سريج شيء»‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫الشافعي من أنه إذا قال‪ " :‬أنت طالق قبل موتي بشهر " ثم مات ألكثر من شهر بعد‬
‫هذا التعليق ؛ وقع الطالق قبل موته بشهر‪ ،‬وهو إيقاع طالق في زمن م اض س ابق‬
‫لوجود الشرط وهو موته‪ ،‬فإذا وجد الشرط ت بين وق وع الطالق قبل ه‪ ،‬وق د اس تدلوا‬
‫على صحة هذه الحيلة بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن التعليق صحيح لصدوره من أهله في محل ه‪ ،‬والوق وع يس تلزم ال دور‬
‫المحال فال يقع وجوابه يمنع صحة التعليق جميعه‪ ،‬سند هذا المنع أن ص حة جميع ه‬
‫تقتضي لزوم ثالث طلقات لطلقة بعدها وأن ه مح ال‪ ،‬أم ا اقتض اؤه ل زوم ذل ك فه و‬
‫مدلول الشرطية ؛ ألنها تقتضي لزوم تاليها لمقدمها‪ ،‬والشرطيات وإن ك ان بعض ها‬
‫اتفاقيا فهاهنا ليس ك ذلك ؛ ألن التعلي ق الص حيح ش رعا ه و ال ذي يقتض ي ش رطه‬
‫جزاءه ولجعل الجزاء فيه مستحقا بالشرط وهذا معنى صحة التعليق‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن االستحالة ثابتة لعدم ملك الزوج أربع طلقات ؛ وألن ه ال يمكن أن تق ع‬
‫طلقة ويقع قبلها ثالث بوجه من الوجوه‪ ،‬فإن الطلقة المعلق عليها إن وجدت في هذا‬
‫النكاح لم توجد الثالث قبلها وإال كن أربعا‪ ،‬وإن وجد في نكاح آخر بأن فسخ نكاحها‬
‫ثم تزوجها وطلقها لم يمكن القول بوقوع الثالث في النكاح األول ؛ ألنه حينئذ تبين‪،‬‬
‫ويتبين بطالن الفسخ‪ ،‬ويلزم من بطالن الفسخ بطالن النكاح الث اني وبطالن الطالق‬
‫في ه فيبط ل وق وع الثالث في األول إلى نفي ه‪ ،‬وكلم ا أدى إثبات ه إلى نفي ه بط ل من‬
‫أصله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا‪ ،‬وقد تعق د القض ية الش رطية في‬
‫ذلك للوقوع‪ ،‬وقد تعقد لإلبطال ؛ فال يوجد فيها الشرط وال الجزاء‪ ،‬بل تعليق ممتن ع‬
‫بممتنع‪ ،‬فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزأيها‪ ،‬كما تقول‪ :‬لو ك ان م ع هللا إل ه‬
‫آخر لفسد العالم وكم ا في قول ه‪( :‬إن كنت قلت ه فق د علمت ه)ومعل وم أن ه لم يقل ه ولم‬
‫يعلمه هللا‪ ،‬وهكذا قوله‪ :‬إن وقع عليك طالقي فأنت طالق قبله ثالثا‪ ،‬فقض ية عق دت‬
‫المتناع وقوع طرفيها‪ ،‬وهما المنجز والمعلق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ القياس على ما لو أعتق أمته في مرض موت ه وزوجه ا عب ده ولم ي دخل‬
‫بها وقيمتها مائة ومهره ا مائ ة وب اقي الترك ة مائ ة فإن ه ال يثبت له ا الخي ار ؛ ألن‬
‫إثبات الخيار يقتض ي س قوط المه ر‪ ،‬وس قوط المه ر يقتض ي نفي الخي ار‪ ،‬والجم ع‬
‫بينهما ال يمكن‪ ،‬وليس أحدهما أولى من اآلخر‪ ،‬ألن طريق ثبوتهم ا الش رع‪ ،‬فأبقين ا‬
‫النكاح ورفضنا الخي ار ولم يس قط المه ر‪ ،‬وهك ذا ك ل م ا أفض ى وقوع ه إلى ع دم‬
‫وقوعه فهذه سبيله‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الحكم ال يجوز تقدمه على علته‪ ،‬ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز‬
‫تقدمه على أحد سببيه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن اإليقاع موجب للوقوع ؛ فال يجوز أن يسبقه أث ره وموجب ه‪ ،‬والش رط‬
‫عالمة على المشروط ؛ فيجوز أن يكون قبله وبع ده‪ ،‬ف وزان الش رط وزان ال دليل‪،‬‬
‫ووزان اإليقاع وزان العلة‪ ،‬فافترقا‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫‪ 8‬ـ أنه قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح‪ ،‬بأن يكون محب ا‬
‫لزوجته ويخشى وقوع الطالق بالحلف أو غيره فيسرحها‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أنا لو أوقعنا الطالق المباشر لزمنا أن نوقع قبل ه ثالث ا‪ ،‬ول و أوقعن ا قبل ه‬
‫ثالثا المتنع وقوعه في نفسه ؛ فقد أدى الحكم بوقوع ه إلى الحكم بع دم وقوع ه‪ ،‬فال‬
‫يقع‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أنهما طالقان متعارضان سبق أحدهما اآلخر ؛ ف وجب أن ينفي الس ابق‬
‫منهما المتأخر‪ ،‬مثل أن يقول المرأته‪ :‬إن قدم زيد فأنت طالق ثالثا‪ ،‬وإن قدم عم رو‬
‫فأنت طالق طلقة‪ ،‬فقدم زيد بكرة‪ ،‬وعمرو عشية‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أنه ليس في هذا تغيير للشرع‪ ،‬وإنما هو إتي ان بالس بب ال ذي ض يق ب ه‬
‫على نفسه ما وسعه هللا عليه‪ ،‬وهو هذه اليمين‪ ،‬وليس في ذلك تغييرا للشرع‪،‬ألن هللا‬
‫تعالى وسع عليه أمر الطالق فجعله واحدة بع د واح دة ثالث م رات لئال ين دم‪ ،‬ف إذا‬
‫ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها م ا ك ان حالال‬
‫لها‪ ،‬وربما لم يبق له سبيل إلى عودها إليه‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ أن هللا تع الى جع ل الطالق إلى الرج ال‪ ،‬ولم يجع ل للنس اء في ه حظ ا‪،‬‬
‫ومع ذلك فإن الزوج قد يجعل طالق امرأته بيدها‪ ،‬بأن يملكها ذل ك أو يحل ف عليه ا‬
‫أن ال تفعل ك ذا‪ ،‬فتخت ار طالق ه م تى ش اءت‪ ،‬ويبقى الطالق بي دها‪ ،‬وليس في ه ذا‬
‫تغيير للشرع ؛ ألنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه‪.‬‬
‫‪13‬ـ أن له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح‪ ،‬بأن يكون محبا لزوجت ه‬
‫شديد اإللف به ا‪ ،‬وه و مش فق من أن ي نزغ الش يطان بينهم ا فيق ع من ه طالقه ا من‬
‫غضبة أو موجدة‪ ،‬أو يحلف يمينا بالطالق أو يبلى بمن يس تحلفه ب الطالق ويض طر‬
‫إلى الحنث‪ ،‬أو يبلى بظ الم يكره ه على الطالق ويرفع ه إلى ح اكم ينف ذه‪ ،‬أو يبلى‬
‫بش اهدي زور يش هدان علي ه ب الطالق‪ ،‬وفي ذل ك ض رر عظيم ب ه‪ ،‬فمن محاس ن‬
‫الشريعة أن يجعل له طريقا إلى األمن من ذلك كله‪ ،‬وال طريق أحسن من هذه‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ أن ه م ع أن في ه ذه اليمين ن وع ض رر علي ه‪ ،‬لكن رأي احتمال ه ل دفع‬
‫ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء‪ ،‬وما ينكر في الشريعة من دف ع أعلى‬
‫الضررين باحتمال أدناهما؟‬
‫القول الثاني‪ :‬ع دم ص حة ه ذه الحيل ة‪ ،‬وع دم اعتباره ا‪ ،‬وه و ق ول جمه ور‬
‫الفقهاء‪ ،‬خالفا لمن ذكرنا في القول األول‪ ،‬وممن أكثروا من الكالم في هذه المس ألة‬
‫والرد عليها ابن القيم وابن تيمية‪ ،‬وذلك الشتهارها وخطورتها‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬إنم ا‬
‫أطلنا الكالم في ه ذه المس ألة ألنه ا من أمه ات الحي ل وقواع دها‪ ،‬والمقص ود بي ان‬
‫بطالن الحيل ؛ فإنها ال تتمشى على قواعد الشريعة وال أصول األئمة‪ ،‬وكث ير منه ا‬
‫‪ -‬بل أكثرها ‪ -‬من توليدات المنتسبين إلى األئمة وتفريعهم‪ ،‬األئمة ب راء منه ا) (‪،)1‬‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.3/279 :‬‬

‫‪388‬‬
‫ومما ذكروه من أدلة على بطالنها(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هذه الحيلة مناقضة للشرع‪ ،‬ألن هللا تعالى ش رع لألزواج ‪ -‬إذا أرادوا‬
‫اس تبدال زوج مك ان زوج والتخلص من الم رأة ‪ -‬الطالق‪ ،‬وجعل ه بحكمت ه ثالث ا‬
‫توسعة على الزوج ؛ إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها‪ ،‬وهذا من تمام حكمت ه ورأفت ه‬
‫ورحمته بهذه األمة‪ ،‬ولم يجعل أنكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غال في عنق‬
‫الرج ل إلى الم وت‪ ،‬وال يخفى م ا بين الش ريعتين من التف اوت‪ ،‬وأن ه ذه المس ألة‬
‫منافية إلحداهما منافاة ظاهرة‪ ،‬ومشتقة من األخرى اشتقاقا ظاهرا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنها مناقضة للغة ألنها تضمنت كالم ا ينقض بعض ه بعض ا‪ ،‬ومض مونه‬
‫إذا وجد الشيء لم يوجد‪ ،‬وإذا وجد الشيء اليوم فه و موج ود قب ل الي وم‪ ،‬وإذا فعلت‬
‫الشيء اليوم فقد وقع مني قبل اليوم‪ ،‬ونحو هذا من الكالم المتناقض في نفس ه ال ذي‬
‫هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه ا مناقض ة للعق ل‪ ،‬ألن الش رط يس تحيل أن يت أخر وج وده عن وج ود‬
‫المشروط‪ ،‬ويتقدم المشروط عليه في الوجود‪ ،‬ألن رتبة الش رط التق دم أو المقارن ة‪،‬‬
‫والفقهاء وسائر العقالء معهم مجمعون على ذلك ؛ فلو صح تعليق المشروط بش رط‬
‫متأخر بعده لكان ذلك إخراجا له عن كونه شرطا أو ج زء ش رط أو عل ة أو س ببا ؛‬
‫ألن الحكم ال يس بق ش رطه وال س ببه وال علت ه ؛ إذ في ذل ك إخ راج الش روط‬
‫واألسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أنه لو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطالق على إيقاعه‬
‫؛ ألن اإليقاع سبب‪ ،‬واألسباب تتقدم مسبباتها‪ ،‬كما أن الشروط رتبته ا التق دم ؛ ف إذا‬
‫ج از إخ راج ه ذا عن رتبت ه ج از إخ راج اآلخ ر عن رتبت ه‪ ،‬فج وزوا حينئ ذ تق دم‬
‫الطالق على التطليق والعتق على اإلعتاق والملك على البيع‪ ،‬وح ل المنكوح ة على‬
‫عقد النكاح‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن الفقه اء مجمع ون على أن الش رائط الش رعية ال يج وز تأخره ا عن‬
‫المشروط‪ ،‬ولو تأخرت لم تكن شروطا‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن هذا التعليق لغو وباطل من القول ؛ ألنه يتضمن المحال‪ ،‬وه و وق وع‬
‫طلقة مسبوقة بثالث‪ ،‬وهو مح ال‪ ،‬فم ا تض منه فه و باط ل من الق ول‪ ،‬فه و بمنزل ة‬
‫قوله‪ :‬إذا وقع عليك طالقي لم يقع‪ ،‬وإذا طلقتك لم يقع عليك طالقي‪ ،‬ونح و ه ذا من‬
‫الكالم الباطل(‪.)2‬‬
‫‪ 7‬ـ أنه محال من القول حيث جاء من تعليق الثالث على المنجز‪ ،‬ومح ال أن‬
‫يقع المنجز ويقع جميع ما علق به ؛ فالصواب أن يقع المنجز ويقع جميع ما علق به‬
‫أو تمام الثالث من المعلق(‪.)3‬‬
‫‪ 8‬ـ أنه محال‪ ،‬وال يقع المعلق ؛ إذ حقيقته أنت طالق في ال زمن الس ابق على‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الفتاوى الكبرى‪ ،4/141 :‬إعالم الموقعين‪.3/251 :‬‬
‫‪ )( 2‬اإلبطال بهذا الدليل هو اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد وأبي العباس بن القاص من‬
‫أصحاب الشافعي‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫تطليقك تنجيزا أو تعليقا فيعود إلى س بق الطالق للتطلي ق‪ ،‬وس بق الوق وع لإليق اع‪،‬‬
‫وهو حكم بتقديم المعلول على علته‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن قوله‪(:‬إذا وقع عليك طالقي فأنت طالق قبله) إم ا أن يري د ط الق قبل ه‬
‫بهذا اإليقاع أو بإيقاع متقدم‪ ،‬والثاني ممتن ع ؛ ألن ه لم يس بق ه ذا الكالم من ه ش يء‪.‬‬
‫والثاني كذلك ألنه ال يتضمن‪ :‬أنت طالق قبل أن أطلقك‪ ،‬وهو عين المحال‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أن هذا السبب الذي أتى به غير مقدور وال مشروع ؛ ف إن هللا تع الى لم‬
‫يملكه طالقا ينجزه تس بقه ثالث قبل ه‪ ،‬وال ذل ك مق دور ل ه ؛ فالس بب ال مق دور وال‬
‫مأمور‪ ،‬بل هو كالم متناقض فاسد ؛ فال يترتب عليه تغيير أحكام الشرع‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن الش رائع العام ة لم تبن على الص ور الن ادرة‪ ،‬ول و ك ان لعم وم‬
‫المطلقين في ه ذا مص لحة لك انت حكم ة أحكم الح اكمين تمن ع الرج ال من الطالق‬
‫بالكلي ة‪ ،‬وتجع ل ال زوج في ذل ك بمنزل ة الم رأة ال تتمكن من ف راق زوجه ا‪ .‬ولكن‬
‫حكمت ه تع الى أولى وألي ق من مراع اة ه ذه المص لحة الجزئي ة ال تي في مراعاته ا‬
‫تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم‪ ،‬وقاعدة الش رع والق در تحص يل أعلى المص لحتين‬
‫وإن فات أدناهما‪ ،‬ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ أن مصلحة تمليك الرجال الطالق أعلى وأكبر من مصلحة س ده عليهم‪،‬‬
‫ومفسدة سده عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ أن مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده‪ ،‬وأنه ال يوج د بدون ه‪،‬‬
‫وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه‪ ،‬وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ أنا ال ننكر أن من الش روط م ا يتق دم مش روطه‪ ،‬ولكن دع وى أن ذل ك‬
‫حقيقة الشرط وأن ه إن لم يتق دم خ رج عن أن يك ون ش رطا دع وى ال دلي ل عليه ا‪،‬‬
‫وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في األحك ام الش رعية ؛ ألن الش روط‬
‫في كالمهم تتعلق باألفعال كقوله‪ :‬إن زرتني أكرمتك‪ ،‬فيقتضي الش رط ارتباط ا بين‬
‫األول والث اني‪ :‬فال يتق دم المت أخر وال يت أخر المتق دم‪ ،‬وأم ا األحك ام فتقب ل التق دم‬
‫والتأخر واالنتقال‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو بطالن هذه الحيلة كما ذكره جماهير الفقهاء‪،‬‬
‫النتفائها مع كثير من الصيغ التي سبق ذكر عدم اعتبارها‪ ،‬وم ع ذل ك يمكن اإلفت اء‬
‫بها للموس وس ب التطليق‪ ،‬كعالج م ؤقت لحالت ه‪ ،‬ألن هن اك من يس تنكحه الش ك في‬
‫التطليق كما يستنكح البعض في الطهارة‪ ،‬فيتصور في كل لفظة ينطقها أنه ق د طل ق‬
‫زوجته‪.‬‬
‫وليس هذا اعتبارا لهذا الحيلة‪ ،‬وإنما هو نوع من إزالة الوهم لمن ه ذا حال ه‪،‬‬
‫ولو أن هذا الشخص أراد الطالق حقيقة ما حصلت له تلك الوسوسة‪.‬‬
‫وقد ساهم في تأسيس تلك الوسوسة بعض الفقهاء بتشددهم في اعتب ار الش ك‪،‬‬
‫‪ )(3‬اإلبطال بهذا الدليل هو اختي ار القاض ي وأبي بك ر وبعض الش افعية‪ ،‬وم ذهب أبي حنيف ة وال ذين منع وا‬
‫وقوع الطالق جملة‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫كهذه المسألة التي ذكرها المالكية‪ ،‬قال الصاوي‪(:‬إن شك أطلق زوجته طلقة واح دة‬
‫أو اثنتين أو ثالث ا؟ لم تح ل إال بع د زوج الحتم ال كون ه ثالث ا‪ ،‬ثم إن تزوجه ا بع د‬
‫زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فال تحل إال بعد زوج‪ ،‬الحتمال أن يكون المشكوك في ه‬
‫اثنتين وهذه ثالثة‪ ،‬ثم إن تزوجها وطلقه ا ال تح ل إال بع د زوج‪ ،‬الحتم ال أن يك ون‬
‫المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان‪ ،‬ثم إن طلقها ثالثة بع د زوج لم تح ل إال‬
‫بعد زوج‪ ،‬الحتمال أن يكون المشكوك فيه ثالثا‪ ،‬وقد تحقق بعدها ثالث وهكذا لغير‬
‫نهاية‪ ،‬إال أن يبت طالقه ا ك أن يق ول أنت ط الق ثالث ا‪ ،‬أو إن لم يكن طالقي علي ك‬
‫ثالثا فقد أوقعت عليك تكملة الثالث‪ ،‬فينقطع الدور وتحل له بع د زوج ه ذه المس ألة‬
‫الدوالبية‪ ،‬لدوران الشك فيها) (‪)1‬‬
‫ون رى أن ه ل و خيرن ا بين المس ألتين ال خترن ا الس ريجية على الدوالبي ة‪،‬‬
‫فالسريجية تحفظ البيوت والدوالبي ة ته دمها‪ ،‬ول و أن كالهم ا باط ل‪ ،‬وبعض الش ر‬
‫أهون من بعض‪.‬‬
‫االحتيال على رجعة البائن بغير علمها‪:‬‬
‫من الحيل التي ذكرها الفقه اء للرجع ة التحي ل على رد امرأت ه بع د أن ب انت‬
‫منه‪ ،‬وهي ال تشعر بذلك‪ ،‬وقد ذكر أرباب الحيل وجوها ذكرها ابن القيم‪ ،‬بن اء على‬
‫المفتى به في عصره‪ ،‬وهي بالترتيب التالي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يق ول ال زوج لمن طلقه ا وب انت من ه بانته اء ع دتها‪ :‬حلفت يمين ا‪،‬‬
‫واستفتيت فقيل لي‪ :‬ج دد نكاح ك ؛ ف إن ك ان الطالق ق د وق ع وإال لم يض رك‪ ،‬ف إذا‬
‫أجابته قال‪ :‬اجعلي األمر إلي في تزويجك‪ ،‬ثم يحض ر ال ولي والش هود ويتزوجه ا‪،‬‬
‫فتصير امرأته بعد البينونة وهي ال تشعر‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يظهر أنه يريد سفرا ويق ول‪ :‬ال آمن الم وت‪ ،‬وأن ا أري د أن أكتب ل ك‬
‫هذه الدار‪ ،‬وأجعل لك هذا المتاع صداقا بحيث ال يمكن إبطاله وأري د أن أش هد على‬
‫ذلك‪ ،‬فاجعلي أمرك إلي حتى أجعله صداقا ؛ ف إذا فعلت عق د نكاحه ا على ذل ك وتم‬
‫األمر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يحلف بطالقها‪ ،‬أو يقول‪ :‬قد حلفت بطالقك أني أتزوج علي ك في ه ذا‬
‫اليوم أو هذا األسبوع‪ ،‬أو أسافر بك‪ ،‬وأنا أريد أن أتمسك بك وال أدخل علي ك ض رة‬
‫وال تسافرين‪ ،‬فاجعلي أمرك إلي حتى أخالعك وأردك بعد انقضاء الي وم وتتخلص ي‬
‫من الضرة والسفر‪ ،‬فإذا فعلت أحضر الشهود والولي ثم يردها‪.‬‬
‫وال نحسب أن من يفتي بهذا إال العامة ممن ال ينتسبون للفق ه‪ ،‬أو يتص ورون‬
‫الفقه لعبة شطرنج يتحركون فيه ا كم ا يش اءون‪ ،‬وهي من البطالن بحيث ال تحت اج‬
‫إلى الرد عليهان ومع ذلك نذكر خالصة موجزة ل رد ابن القيم على ذل ك‪ ،‬فه و أبل غ‬
‫من رد على الحيل(‪:)2‬‬

‫‪ )(1‬حاشية الصاوي‪ ،2/590 :‬وانظر‪ :‬التاج واإلكليل‪ ،4/88:‬الشرح الكبير‪.2/403 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.3/315 :‬‬

‫‪391‬‬
‫‪ 1‬ـ أن الم رأة إذا ب انت ص ارت أجنبي ة من ه ؛ فال يج وز نكاحه ا إال بإذنه ا‬
‫ورضاها‪ ،‬وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني‪ ،‬وال رضيت ب ه‪ ،‬ول و علمت أنه ا ق د‬
‫ملكت نفسها وبانت منه فلعلها ال ترغب في نكاحه‪ ،‬فليس له أن يخدعها على نفس ها‬
‫ويجعلها له زوجة بغير رضاها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ال يصح زواج هذا قياسا على الهازل‪ ،‬ألن الهازل لم يظهر أمرا يريد‬
‫خالفه‪ ،‬بل تكلم باللفظ قاصدا أنه ال يلزمه موجبه‪ ،‬وذلك ليس إليه‪ ،‬بل إلى الش ارع‪،‬‬
‫وأما هذا فماكر مخادع للمرأة على نفسها‪ ،‬مظهر أنها زوجت ه وأن الزوجي ة بينهم ا‬
‫باقية وهي أجنبية محضة ؛ فهو يمكر بها ويخادعه ا بإظه ار أنه ا زوجت ه وهي في‬
‫الباطن أجنبية ؛ فهو كمن يمكر برجل يخادعه على أخذ ماله بإظهار أنه يحفظ ه ل ه‬
‫ويصونه ممن يذهب به‪ ،‬بل هذا أفحش ؛ ألن حرمة البضع أعظم من حرمة الم ال‪،‬‬
‫والمخادعة عليه أعظم من المخادعة على المال‪.‬‬
‫التحايل على عدم وقوع الطالق بكون النكاح فاسدا‪:‬‬
‫وقد ذكرنا هذه الحيلة من قبل‪ ،‬وخالصتها أنهم يحكمون بع دم وق وع الطالق‬
‫لكونه النكاح فاسدا‪ ،‬ويتحيلون لبيان فساده من وجوه كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اشتراط العدالة في الولى‪ ،‬فإذا كان في الولي ما يقدح في عدالت ه فالنك اح‬
‫باطل فال يقع فيه الطالق والقوادح كثيرة فال تك اد تفتش فيمن ش ئت إال وج دت في ه‬
‫قادحا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اش تراط عدال ة الش هود‪ ،‬والش اهد يفس ق بجلوس ه على مقع د حري ر أو‬
‫استناده إلى مس ند حري ر أو جلوس ه تحت حرك اة حري ر أو تجم ره بمجم رة فض ة‬
‫ونحو ذلك مما ال يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك‪.‬‬
‫وغير ذل ك مم ا س بق ذك ره‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬في ا للعجب يك ون ال وطء حالال‬
‫والنسب الحقا والنكاح صحيحا حتى يقع الطالق فحينئذ يطلب وجوه إفساده) (‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ الرجعة بواسطة المحلل وحكمها‬
‫عرف ابن عرفة نكاح المحلل بأنه‪ :‬ما عقده الثاني بنية تحليلها(‪.)2‬‬
‫وفسر ب أن معن اه نك اح عق ده ال زوج الث اني قاص دا تحلي ل المطلق ة المثلث ة‪،‬‬
‫وأخرج بقصد التحليل إذا لم يقص د ذل ك‪ ،‬وك ذلك أخ رج قص د الم رأة‪ ،‬وك ذلك ني ة‬
‫الزوج األول خرجت أيضا(‪ ،)3‬والنص كذلك في سماع القرينين‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكمه بحسب اعتبارين‪:‬‬
‫الزواج بشرط التحليل‪:‬‬
‫وهو أن يصرح في العقد على أن قصده من زواجه أن يحلها لزوجه ا األول‪،‬‬
‫وقد اتفق العلم اء على حرم ة ه ذا ال زواج‪ ،‬ولكنهم اختلف وا في ص حته وت أثيره في‬
‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.3/193:‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التاج واإلكليل‪.3/469 :‬‬
‫‪ )(3‬ما ذكر هنا هو المشهور عند المالكية‪ ،‬وقد قي ل في الم ذهب إن هم أح د الثالث ة بالتحلي ل ي وجب الفس اد‪،‬‬
‫انظر‪ :‬شرح حدود ابن عرفة‪.167 :‬‬

‫‪392‬‬
‫إحالل المرأة لزوجها األول على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ه ذا النك اح فاس د وال ي ترتب علي ه أي أث ر‪ ،‬وه و م ذهب‬
‫المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية‪ ،‬وه و ق ول الحس ن والنخعي‪،‬‬
‫وقتادة‪ ،‬والليث‪ ،‬والثوري‪ ،‬وقد روي عن عمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعبد هللا بن عمر‪ ،‬وروي‬
‫ذلك عن علي‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وابن عباس وهو ق ول الفقه اء من الت ابعين‪ ،‬واس تدلوا‬
‫لذلك بما يلي(‪:)1‬‬
‫‪ 1‬ـ عن عبدهللا بن مسعود قال لعن رسول هللا ‪ ‬المحلل والمحلل له(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ لعنه ‪ ‬الواشمة والمؤتشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل ل ه‬
‫وآكل الربا وموكله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ عن عقب ة بن ع امر ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪:‬أال أخ بركم ب التيس‬
‫المس تعار(‪)3‬؟ق الوا‪ :‬بلى ي ا رس ول هللا ق ال‪ :‬ه و المحل ل لعن هللا المحل ل والمحل ل‬
‫له(‪.)4‬‬
‫‪ 4‬ـ ما ورد من اآلثار عن الس لف في ذل ك ومنها(‪ )5‬م ا روي عن عم ر أن ه‬
‫قال‪ :‬ال أوتي بمحلل وال محلل له إال رجمتهم ا‪ ،‬وس ئل ابن عم ر عن تحلي ل الم رأة‬
‫لزوجها فقال‪ :‬ذاك السفاح‪ ،‬وس ئل ابن عم ر عن رج ل طل ق ابن ة عم ل ه‪ ،‬ثم رغب‬
‫فيها وندم‪ ،‬فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال ابن عمر‪:‬كالهم ا زان‪ ،‬وإن مكث‬
‫عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان هللا يعلم أنه يريد أن يحلها له)‬
‫وسأل رجل عن ابن عباس‪ ،‬فقال‪(:‬إن عمي طلق امرأته ثالثا‪،‬فقال‪ :‬إن عم ك‬
‫عصى هللا فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا‪ ،‬ق ال‪ :‬كي ف ت رى في رج ل‬
‫يحللها‪،‬ق ال‪ :‬من يخ ادع هللا يخدع ه‪ ،‬وعن س ليمان بن يس ار ق ال‪ :‬رف ع إلى عثم ان‬
‫رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها‪ ،‬ففرق بينهما‪ ،‬وقال‪(:‬ال ترجع إليه إال بنكاح رغبة‬
‫غير دلسة) وعن أبي مرزوق التجيبي أن رجال أتى عثم ان فق ال‪(:‬إن ج اري طل ق‬
‫امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجه ا ثم أب ني به ا‬
‫ثم أطلقها فترجع إلى زوجها) فقال له عثمان‪(:‬ال تنكحها إال نكاح رغبة)‬
‫ومن الت ابعين روي عن الحس ن أن ه س ئل عن ذل ك؟ فق ال‪ :‬ات ق هللا وال تكن‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪ ،6/9:‬المغني‪ ،7/176:‬حاشية ابن القيم‪ ،9/245 :‬التمهيد‪.13/234 :‬‬


‫‪ )( 2‬قال ابن حجر‪ :‬رواه الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود وصححه ابن القطان وابن دقيق العي د على‬
‫شرط البخاري‪ ،‬انظر‪ :‬تلخيص الحب ير‪ ،3/170 :‬وانظ ر‪ :‬ال درامي‪ ،2/211 :‬ال بيهقي‪ ،7/207 :‬أب و داود‪،2/227 :‬‬
‫النسائي‪.3/325 :‬‬
‫‪ )(3‬التيس هو الذكر من الظباء والمعز والوعول‪ ،‬وقد يس تعار لمن ألقى جلب اب الحي اء من وجه ه فيتع رض‬
‫للنساء ألن الشهوة في التيس كثيرة‪ ،‬انظر‪ :‬شرح سنن ابن ماجة‪.139 :‬‬
‫‪ )(4‬الحاكم‪ ،2/217 :‬البيهقي‪ ،7/208 :‬الدارقطني‪ ،3/251 :‬ابن ماجة‪ ،1/623 :‬قال الزيلعي‪ :‬قال عبد الحق‬
‫في أحكامه إسناده حسن‪،‬وقال الترمذي في علله الكبري الليث بن سعد سمع من مشرح بن هاعان‪ ،‬وقال بن أبي حاتم‬
‫في علله‪ :‬سألت أبا زرعة عن حديث رواه الليث بن سعد عن مشرح بن هاع ان عن عقب ة بن ع امر ف ذكره فق ال‪ :‬لم‬
‫يسمع الليث من مشرح شيئا وال روى عنه‪ ،‬نصب الراية‪.3/239 :‬‬
‫‪ )(5‬المصنف البن أبي شيبة‪ ،3/386:‬و‪ ،3/147‬و‪ ،8/387‬المحلى‪.9/424:‬‬

‫‪393‬‬
‫مسمار نار في حدود هللا‪ ،‬وأنه قال‪ :‬كان المس لمون يقول ون‪ :‬ه و ال تيس المس تعار؟‬
‫وعن س عيد بن جب ير‪ :‬المحل ل ملع ون‪ .‬وروي مث ل ذل ك عن س عيد بن المس يب‪،‬‬
‫وطاوس‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن النكاح الشرعي هو الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا وه و ال ذي ش رع‬
‫إعالنه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه وجعل لإليواء والسكن وجعله هللا مودة‬
‫ورحمة وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل‪ ،‬ألن المحل ل لم ي دخل‬
‫على نفقه وال كسوة وال سكنى وال إعطاء مهر‪ ،‬وال يحصل به نسب وال ص هر وال‬
‫قصد المقام مع الزوجة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن هللا فطر قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح‪ ،‬وال المحلل بزوج‪ ،‬وأن‬
‫هذا منكر قبيح وتع ير ب ه الم رأة وال زوج والمحل ل وال ولي‪ ،‬فكي ف ي دخل ه ذا في‬
‫النكاح الذي شرعه هللا ورسوله وأحبه وأخبر أنه سنته ومن رغب عنه فليس منه‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن هللا تعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة ولالستمتاع‪ ،‬وهذا النكاح جعل ه‬
‫أصحابه س ببا النقطاع ه ولوق وع الطالق في ه‪ ،‬فإن ه م تى وطىء ك ان وط ؤه س ببا‬
‫النقطاع النكاح‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن النك اح بش رط اإلحالل في مع نى نك اح المتع ة‪ ،‬وش رط الت أقيت في‬
‫النكاح يفسده‪ ،‬وما دام النكاح فاسدا فال يقع به التحليل‪ ،‬ويؤيد هذا قول عمر‪ :‬وهللا ال‬
‫أوتى بمحلل ومحلل له إال رجمتهما‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ القياس على تحريم نكاح المتعة بل يعتبرون نكاح المتعة أه ون من نك اح‬
‫التحليل‪،‬قال الشافعي‪(:‬نكاح المحل ل ال ذي ي روى أن رس وله ‪ ‬لعن ه عن دنا ‪ -‬وهللا‬
‫تعالى أعلم ‪ -‬ضرب من نك اح المتع ة ألن ه غ ير مطل ق إذا ش رط أن ينكحه ا ح تى‬
‫تكون اإلصابة فقد يستأخر ذلك أو يتقدم‪ ،‬وأصل ذلك أن ه عق د عليه ا النك اح إلى أن‬
‫يصيبها فإذا أصابها فال نكاح له عليها‪ ،‬مثل أنكحك عشرا ففي عقد أنكحك عشرا أن‬
‫ال نكاح بيني وبينك بعد عشر كما في عقد أنكحك ألحلل ك أني إذا أص بتك فال نك اح‬
‫بيني وبينك بعد أن أصبتك) (‪)1‬‬
‫‪ 10‬ـ أن هللا تع الى نص ب ه ذه األس باب ك البيع واإلج ارة والهب ة والنك اح‬
‫مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتض يات فجع ل النك اح س ببا لمل ك البض ع‬
‫وحل الوطء والمحلل مناقض معاكس لشرع هللا تعالى ودينه ألنه جعل نكاح ه س ببا‬
‫لتمليك المطلق البضع وإحالله له‪ ،‬ولم يقصد بالنكاح ما شرعه هللا ل ه من ملك ه ه و‬
‫للبضع وحله له‪ ،‬وال له غرض في ذلك وال دخل عليه وإنما قص د ب ه أم را آخ ر لم‬
‫يشرع له ذلك السبب ولم يجعل طريقا له‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أن المحلل من جنس المنافق فإن المن افق يظه ر أن ه مس لم مل تزم لعق د‬
‫اإلسالم ظاهرا وباطنا وهو في الب اطن غ ير مل تزم ل ه‪ ،‬وك ذلك المحل ل يظه ر أن ه‬
‫زوج وأنه يريد النكاح ويسمى المهر ويشهد على رضى المرأة‪ ،‬أما باطن ه فبخالف‬

‫‪ )(1‬األم‪..5/86:‬‬

‫‪394‬‬
‫ذلك قد أظه ر خالف م ا أبطن‪ ،‬وأن ه مري د ل ذلك‪ ،‬وهللا يعلم والحاض رون والم رأة‬
‫وهو والمطلق أن األم ر ك ذلك‪ ،‬وأن ه غ ير زوج على الحقيق ة وال هي امرأت ه على‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ أن نكاح المحلل ال يشبه نكاح أهل الجاهلية وال نكاح أهل اإلسالم فكان‬
‫أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة ولم يكونوا يرضون نك اح التحلي ل‬
‫وال يفعلونه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن النكاح ص حيح‪ ،‬وتح ل لألول بع د أن يطلقه ا الث اني وتنتهي‬
‫عدتها‪ ،‬ويكره للثاني واألول‪ ،‬وهو م ذهب أبي حنيف ة وزف ر‪ ،‬وق ال محم د‪ :‬النك اح‬
‫الث اني ص حيح‪ ،‬وال تح ل لألول‪ ،‬ألن النك اح عق د مؤب د‪ ،‬فك ان ش رط اإلحالل‬
‫استعجال ما أخره هللا تعالى لغ رض الح ل‪ ،‬فيبط ل الش رط ويبقى النك اح ص حيحا‪،‬‬
‫لكن ال يحصل به الغرض‪ ،‬واستدل أصحاب هذا القول على ذلك بما يلي(‪:)1‬‬

‫‪ 1‬ـ أن النكاح سنة مرغوب فيها‪ ،‬وإنما قصد المحلل بذلك ارتف اع الحرم ة بينهم ا‬
‫ليمنعهما بذلك على ارتكاب المحرم ويوصلهما إلى مرادهما بطريق حالل فتك ون إعان ة‬
‫على البر والتقوى‪ ،‬وهو مندوب إليه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن ك ل واح د من ال زوجين ن ادم على م ا ك ان من ه من س وء الخل ق‬
‫خصوصا إذا كان بينهما ولد‪ ،‬فلو امتنع الث اني من أن يتزوجه ا ليحله ا لألول ربم ا‬
‫يحملها الندم أو فرط ميل ك ل واح د منهم ا إلى ص احبه على أن يتزوجه ا من غ ير‬
‫محلل فهو يسعى إلى إتمام مرادهما على وجه يندبان إليه في الشرع فيكون مأجورا‬
‫فيه واستدلوا لذلك بقوله ‪(:‬من أقال نادما أقاله هللا عثراته يوم القيامة) (‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ أن النهي الوارد في األحاديث لمعنى في غير النكاح‪ ،‬فال يمنع صحة النكاح‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن الدخول بالنكاح الصحيح يحلها لل زوج األول‪ ،‬بص رف النظ ر عن قص ده‬
‫ونيته‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن عموم ات النك اح تقتض ي الج واز من غ ير فص ل بين م ا إذا ش رط في ه‬
‫اإلحالل أو ال‪ ،‬فكان النكاح بهذا الشرط نكاحا صحيحا‪ ،‬فيدخل تحت قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬حتَّى‬
‫تَن ِك َح زَوْجًا َغي َْرهُ ﴾(البق رة‪ )230:‬فتنتهي الحرم ة عن د وج وده‪ ،‬إال أن ه ك ره النك اح له ذا‬
‫الشرط لغيره‪ ،‬وهو أنه شرط ينافي المقصود من النكاح وه و الس كن والتوال د والتعف ف‪،‬‬
‫ألن ذلك يقف على البقاء والدوام على النكاح‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أن ما ذكره المخالفون ال يصح من الوجوه التالبة(‪:)3‬‬
‫الوجه األول‪ :‬من باب العبارة‪ ،‬ألن الرس ول ‪ ‬س ماه محلال والمحل ل حقيق ة‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪ ،6/9:‬و‪ ،30/228‬بدائع الصنائع‪.3/187:‬‬


‫‪ )(2‬وفي رواية أخرى‪ :‬من أقال أخاه المسلم صفقة كرهها أقاله هللا عثرته ي وم القيام ة‪ ،‬وق د رواه ا أب و داود‬
‫وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث األعمش عن أبي صالح عن أبي‪،‬قال أبو الفتح القشيري ه و على‬
‫شرطهما وصححه بن حزم‪ ،‬انظر كال الروايتين في‪:‬تلخيص الحبير‪ ،3/24 :‬نصب الراية‪..4/30 :‬‬
‫‪ )(3‬كشف األسرار‪.1/88:‬‬

‫‪395‬‬
‫من يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة والمبيض من يثبت البياض فيثبت له ه ذه‬
‫الصفة بعبارة النص‪.‬‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬من ب اب اإلش ارة‪ ،‬ألن الكالم لم يس ق ل ه ب ل إلثب ات اللعن‪،‬‬
‫وإلحاق اللعن به ال يمنع االس تدالل‪ ،‬ألن ذل ك ليس للتحلي ل ب ل لش رط فاس د ألحق ه‬
‫بالنك اح‪ ،‬وه و ذك ر الش رط الفاس د إن تزوجه ا بش رط التحلي ل أو لقص ده تغي ير‬
‫المشروع إن لم يشرط‪ ،‬ألنه مشروع للتناسل والبقاء‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن الغرض من اللعن إظهار خساسة المحلل بمباشرة مث ل ه ذا‬
‫النكاح والمحلل له بمباشرة ما ينفر عنه الطباع من عودها إليه بعد مض اجعة غ يره‬
‫إياها واستمتاعه بها ال حقيقة اللعن‪ ،‬إذ هو األليق بكالم الرس ول ‪ ‬في ح ق أمت ه‪،‬‬
‫ألنه ‪ ‬ما بعث لعانا‪ ،‬ويدل عليه قوله ‪(:‬أال أنبئكم بالتيس المستعار)‪ ،‬وعلى هذا‬
‫قوله ‪( :‬لعن هللا السارق يسرق البيضة فيقطع يده)‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن الكتاب أثبت كون الزوج الثاني غاية‪ ،‬ولم ين ف كون ه مثبت ا‬
‫للحل وليس ذلك من ضرورات كونه غاية أيضا‪ ،‬إذ ال مناف اة بين كون ه غاي ة وبين‬
‫كونه مثبتا للحل ألن انتهاء الشيء كما يكون بنفسه يكون بثبوت ضده كم ا في قول ه‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬واَل ُجنُبً ا إِاَّل َع ابِ ِري َس بِي ٍل َحتَّى تَ ْغت َِس لُوا ﴾(النس اء‪ ،)43:‬فاالغتس ال مثبت‬
‫للطهارة ومنه للجنابة ألنه لما ثبتت الطهارة لم تبق الجنابة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو حرمة هذا النوع من الزواج‪ ،‬واإلفت اء بع دم‬
‫تأثيره‪ ،‬ولكنه قد يتساهل في القول بصحة رجوعها لزوجه ا األول في ح ال وقوع ه‬
‫بناء على اختالف الفقهاء في المسألة‪ ،‬ولكن األولى هو س د الذريع ة كلي ة على ه ذا‬
‫الباب خاصة مع ما ورد فيه من الوعيد‪.‬‬
‫الزواج بقصد التحليل‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في اعتبار القصد المجرد عن التعبير أثناء العقد هل يص ح ب ه‬
‫التحليل أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هو نكاح صحيح‪ ،‬وهو مذهب الحنفية(‪ )1‬والشافعية والظاهرية‪،‬‬
‫إال أن الشافعية حكموا عليه بالكراهة‪ ،‬قال الشافعي‪(:‬ال تفس د الني ة من النك اح ش يئا‬
‫ألن النية حديث نفس وقد وضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم وقد ينوي الشيء وال‬
‫يفعله وينويه ويفعله فيكون الفعل حادثا غير النية‪ ،‬وكذلك لو نكحها ونيت ه ونيته ا أو‬
‫نية أحدهما دون اآلخر أن ال يمسكها إال قدر ما يصيبها فيحللها لزوجها ثبت النكاح‬
‫وسواء نوى ذلك الولي معهما أو نوى غيره أو لم ينوه وال غيره والوالي والولي في‬
‫هذا ال معنى له أن يفسد شيئا ما لم يقع النكاح بشرط يفسده) (‪)2‬‬
‫وقال ابن حزم‪(:‬أن كل نكاح انعقد سالما مما يفسده‪ ،‬ولم يش ترط في ه التحلي ل‬

‫‪ )(1‬المبسوط‪.6/9:‬‬
‫‪ )(2‬األم‪.5/86:‬‬

‫‪396‬‬
‫والطالق فهو نكاح صحيح تام ال يفسخ ‪ -‬وسواء اشترط ذل ك علي ه قب ل العق د أو لم‬
‫يشترط ‪ -‬ألن كل ناكح لمطلقة ثالثا فهو محلل وال بد‪ ،‬فالتحليل المحرم هنا‪ :‬ه و م ا‬
‫انعقد عقدا غير صحيح) (‪ ،)1‬واستدلوا على ذلك بما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عن مجاهد قال طلق رجل من قريش امرأة له فبتها‪ ،‬فم ر بش يخ وابن ل ه‬
‫من األعراب في السوق قدما بتجارة لهما فقال للف تى ه ل في ك من خ ير؟ ثم مض ى‬
‫عنه ثم كر عليه فكمثلها ثم مضى عنه‪ ،‬ثم ك ر علي ه فكمثله ا‪ .‬ق ال نعم‪ :‬ق ال ف أرني‬
‫يدك فانطلق به فأخبره الخبر وأمره بنكاحها فنكحها‪ ،‬فبات معها‪ ،‬فلما أصبح استأذن‬
‫فأذن له فإذا هو قد والها ال دبر‪ ،‬فق الت‪ :‬وهللا لئن طلق ني ال أنكح ك أب دا ف ذكر ذل ك‬
‫لعم ر ف دعاه فق ال‪ :‬ل و نكحته ا لفعلت ب ك ك ذا وك ذا وتوع ده ودع ا زوجه ا فق ال‪:‬‬
‫الزمها(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ عن ابن جريج قال‪ :‬أخبرت عن ابن سيرين أن امرأة طلقها زوجها ثالثا‪،‬‬
‫وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد‪،‬فجاءته امرأة‪ ،‬فقالت له‪ :‬هل ل ك في ام رأة‬
‫تنكحها فتبيت معها الليلة فتصبح فتفارقها؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬وكان ذل ك فق الت ل ه امرأت ه‪:‬‬
‫إنك إذا أصبحت فإنهم سيقولون لك فارقها فال تفعل فإني مقيمة لك ما ترى‪ ،‬واذهب‬
‫إلى عمر فلما أصبحت أتوه وأتوها‪ ،‬فقالت‪:‬كلموه فأنتم جئتم به فكلموه فأبى وانطل ق‬
‫إلى عمر فقال‪ :‬الزم امرأتك فإن رابوك بريب فائتني وأرسل إلى المرأة التي مش ت‬
‫بذلك فنكل بها‪ ،‬ثم كان يغدو إلى عمر ويروح في حلة فيقول‪ :‬الحمد هلل ال ذي كس اك‬
‫يا ذا الرقعتين حلة تغدو فيها وتروح‪ ،‬قال الشافعي‪ :‬وقد سمعت ه ذا الح ديث مس ندا‬
‫متصال عن ابن سيرين يوصله عن عمر بمثل هذا المعنى (‪.)3‬‬
‫القول الث اني(‪ :)4‬أن ال زواج بقص د التحلي ل ‪ -‬ول و ب دون ش رط في العق د ‪-‬‬
‫باطل‪ ،‬وهو مذهب المالكية والحنابل ة وق ول الحس ن‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والش عبي‪ ،‬وقت ادة‪،‬‬
‫وبكر المزني‪ ،‬والليث‪ ،‬والثوري‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وقالوا ب أن االعتب ار في نك اح التحلي ل‬
‫بنية الزوج ال الزوجة‪ ،‬قال مالك‪ :‬إذا لم ين و ال زوج الث اني التحلي ل فه و ج ائز وإن‬
‫علمت المرأة التحليل وسألته لما دخل بها الطالق أو خالعته بمال فذلك جائز‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫(ال يضر الزوج ما نوت الزوجة ألن الطالق بيده دونها) (‪)5‬‬
‫واس تدلوا بقاع دة س د ال ذرائع‪ ،‬وباألدل ة الس ابقة‪ ،‬وزي ادة على ذل ك ذك روا‬
‫ضعف ما استدل به أصحاب القول األول من حديث ذي الرقع تين فق د ق ال في ه ذا‬
‫الحديث اإلمام أحمد‪ :‬ليس له إسناد‪ ،‬يعني أن ابن سيرين لم ي ذكر إس ناده إلى عم ر‪،‬‬
‫وقال أبو عبيد‪ :‬ه و مرس ل‪ .‬ف أين ه و من ال ذي س معوه يخطب ب ه على المن بر‪ :‬ال‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.12/195:‬‬
‫‪ )(2‬األم‪.5/87:‬‬
‫‪ )(3‬األم‪ ،5/87:‬المغني‪.7/138:‬‬
‫‪ )(4‬المغني‪ ،7/138 :‬الفتاوى الكبرى‪.3/95:‬‬
‫‪ )(5‬المنتقى‪.3/299:‬‬

‫‪397‬‬
‫أوتى بمحلل وال محلل له إال رجمتهما‪ ،‬وبأنه ليس فيه أن ذا الرقعتين قصد التحليل‪،‬‬
‫وال نواه‪ ،‬وإذا كان كذلك‪ ،‬لم يتناول محل النزاع) (‪)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة انطالقا من اآلثار السلبية التي جلبه ا ه ذا الن وع‬
‫من الزواج على المجتمع اإلسالمي واألسرة المسلمة حرمته مطلق ا‪ ،‬س دا للذريع ة‪،‬‬
‫وقد ذكر ابن القيم اآلثار السلبية التي جلبها هذا الزواج على المسلمين بلهف ة وأس ف‬
‫قائال عند ذكره لمكايد الشيطان‪(:‬من مكايده التي بلغ فيها مراده مكيدة التحلي ل ال ذي‬
‫لعن رسول هللا ‪ ‬فاعل ه‪ ،‬وش بهه ب التيس المس تعار‪ ،‬وعظم بس ببه الع ار والش نار‬
‫وعير المسلمين به الكفار‪ ،‬وحصل بسببه من الفس اد م ا ال يحص يه إال رب العب اد‪،‬‬
‫واستكريت له التيوس المستعارات‪ ،‬وضاقت بها ذرعا النفوس األبيات‪،‬ونفرت من ه‬
‫أشد من نفارها من السفاح) (‪)2‬‬
‫وقد ذكر الصورة التي كان يتم بها هذا الزواج في عهده بقوله‪( :‬فل و ش اهدت‬
‫الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متب ذالت تنظ ر الم رأة إلى ال تيس نظ ر‬
‫الشاة إلى شفرة الجازر وتقول‪ :‬ي ا ليت ني قب ل ه ذا كنت من أه ل المق ابر‪ ،‬ح تى إذا‬
‫تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت‪ ،‬نهض واستتبعها خلفه لل وقت‪ ،‬بال زف اف وال‬
‫إعالن‪ ،‬بل بالتخفي والكتمان‪ ،‬فال جهاز ينقل وال فراش إلى بيت الزوج يح ول‪ ،‬وال‬
‫صواحب يهدينا إليه‪ ،‬وال مصلحات يجلينها عليه‪ ،‬وال مهر مقب وض وال م ؤخر وال‬
‫نفقة وال كسوة تقدر وال وليمة وال نثار وال دف وال إعالن وال شغار‪ ،‬والزوج يبذل‬
‫المهر‪ ،‬وهذا التيس يطأ باألجر‪ ،‬حتى إذا خال بها وأرخى الحجاب والمطلق وال ولي‬
‫واقفان على الباب دن ا ليطهره ا بمائ ة النجس الح رام‪ ،‬ويطيبه ا بلعن ة هللا ورس وله‬
‫عليه الص الة والس الم‪ ،‬ح تى إذا قض يا ع رس التحلي ل …ف إن ك ان ق د قبض أج رة‬
‫ضرابه سلفا وتعجيال وإال حبسها حتى تعطيه أجره طويال) (‪)3‬‬
‫ويذكر ابن القيم ومثله ابن تيمية أنهم للتحايل على وج وب المعاش رة للمحل ل‬
‫يتح ايلون بأص ناف الحي ل‪ ،‬مم ا أوج د اس تعدادا اجتماعي ا للتحاي ل على األحك ام‬
‫الشرعية‪ ،‬أما العام ة فك انوا يحت الون على ذل ك بوج وه من الحي ل منه ا أن ي أمروا‬
‫المحلل بأن يطأها برجله فيطؤها وهي قاعدة أو مضطجعة برجل ه ثم يخ رج ورأوا‬
‫أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة‪.‬‬
‫أو أن يصب المحلل عليه ا دهن ا يش ربه جس دها وال يطؤه ا‪ ،‬وك أنهم قاس وا‬
‫تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه‪ ،‬ق ال ابن تيمي ة‪:‬‬
‫(ومما آل به استخفاف شأن التحليل أن األمر أفض ى إلى أن ص ار كث ير من الن اس‬
‫يحسب أن مجرد وطء الذكر مبيح حتى اعتقدوا أنها إذا ول دت ذك را حلت‪ ،‬واعتق د‬

‫‪ )(1‬المغني‪.7/138:‬‬
‫‪ )(2‬إغاثة اللهفان‪.1/168 :‬‬
‫‪ )(3‬إغاثة اللهفان‪.1/168 :‬‬

‫‪398‬‬
‫بعضهم أنه إذا وطئها بقدمه حلت‪ ،‬واعتقد بعض هم أن ه إذا ص ب دهن ا ف وق رأس ها‬
‫حلت كأنهم شبهوه بصب المني‪ ،‬حدثني بهذه األشياء من له خ برة به ذه األش ياء من‬
‫النساء اللواتي تفضي النساء إليهن أسرارهن) (‪)1‬‬
‫واألمر األفضع من ذلك كله كما يذكر ابن القيم هو أنه بعد دخوله عليها (قال‬
‫لها اع ترفي بم ا ج رى بينن ا ليق ع علي ك الطالق فيحص ل بع د ذل ك بينكم ا االلتئ ام‬
‫واإلتفاق‪ ،‬فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيس ألونها‪ :‬ه ل ك ان ذاك فال يمكنه ا‬
‫الجحود فيأخذون منها أو من المطلق أجرا وقد أرهقوهما من أمرهما عسرا)‪،‬وكثير‬
‫من هؤالء المستأجرين ـ كما يقول ابن القيم ـ يحل ل األم وابنته ا في عق دين ويجم ع‬
‫ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين(‪)2‬‬
‫ولم ينحص ر ه ذا الت أثير على المجتم ع اإلس المي وح ده‪ ،‬ب ل أص بح ش بهة‬
‫تصرف غ ير المس لمين عن اإلس الم‪ ،‬ق ال ابن تيمي ة‪(:‬نك اح المحل ل مم ا يع ير ب ه‬
‫النصارى المسلمين‪ ،‬حتى يقولوا‪ :‬إن المسلمين قال لهم نبيهم‪ :‬إذا طلق أحدكم امرأته‬
‫لم تح ل ل ه ح تى ت زني‪ ،‬ونبين ا ‪ ‬ب ريء من ذل ك ه و وأص حابه والت ابعون لهم‬
‫بإحسان وجمهور أئمة المسلمين) (‪)3‬‬
‫لكن الموقف الشرعي للفقيه ال يكتفي بوصف الظاهرة أو نق دها‪ ،‬أو التح ذير‬
‫منها‪ ،‬والترهيب من آثاره ا‪ ،‬ب ل يتع داه لوض ع الحل ول العملي ة ل ذلك حرص ا على‬
‫مصالح الناس‪ ،‬ومن هذه الحلول‪ ،‬وهو أهمها‪ ،‬تضييق منافذ الطالق البائن‪ ،‬ألن من‬
‫أهم أس باب ظ اهرة اللج وء إلى التحلي ل توس يع أب واب الطالق الب ائن بحيث يحكم‬
‫بالظالق ألوهى األسباب‪ ،‬ول ذلك ذك ر ابن القيم الط رق الش رعية ال تي يض يق به ا‬
‫الطالق ليسد باب التحليل‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬واعلم أن من اتقى هللا في طالقه فطلق كما‬
‫أمره هللا ورسوله وشرعه له أغناه عن ذلك كله ولهذا ق ال تع الى بع د أن ذك ر حكم‬
‫ق هَّللا َ يَجْ َعلْ لَهُ َم ْخ َر ًج ا﴾ (الطالق‪ )2:‬فل و اتقى هللا عام ة‬
‫﴿و َم ْن يَتَّ ِ‬
‫الطالق المشروع‪َ :‬‬
‫المطلقين الستغنوا بتقواه عن اآلصار واألغالل والمكر واالحتيال) (‪)4‬‬
‫وقد كان من أعظم الوسائل التي استخدمها ابن القيم للح د من ه ذه الظ اهرة‪،‬‬
‫هو تضييق منافذ الطالق‪ ،‬وقد خصصنا المبحث األخير من هذا الفصل لهذه الغاية‪،‬‬
‫فذكرنا ما يمكن أن يسد باب الطالق إال للقاصد له قصدا صحيحا‪.‬‬
‫والح ل الث اني‪ ،‬وه و ق د يب دو قريب ا من زواج التحلي ل‪ ،‬ولكن الب ون بينهم ا‬
‫شاسع‪ ،‬وهو أن يتزوج المسلم المطلقة ثالثا‪ ،‬إذا رأى في الزوجين رغب ة ش ديدة في‬
‫االرجعة‪ ،‬ثم يطلقها‪ ،‬من غير شرط‪ ،‬زواجا صحيحا‪ ،‬وقد ورد في اآلثار ما يبح هذه‬
‫النية‪ ،‬قال الشعبي‪ :‬ال ب أس بالتحلي ل إذا لم ي أمر ب ه ال زوج‪ ،‬وق ال أب و ث ور‪ :‬وه و‬

‫‪ )(1‬الفتاوى الكبرى‪.6/265:‬‬
‫‪ )(2‬إغاثة اللهفان‪،1/169 :‬إعالم الموقعين‪.3/39:‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى‪.3/96:‬‬
‫‪ )(4‬إغاثة اللهفان‪.1/283:‬‬

‫‪399‬‬
‫مأجور)‬ ‫(‪)1‬‬
‫ومع إنكار ابن القيم للحيل إال أنه ذكر مجموع ة حي ل لع ودة الم رأة لزوجه ا‬
‫األول في حال الضرورة‪ ،‬ومن باب سد ذريعة التحليل‪ ،‬ومنه ا أن تخ رج من ماله ا‬
‫ثمن مملوك فتهبه لبعض من تثق ب ه فيش تري ب ه مملوك ا ثم يخطبه ا على مملوك ه‬
‫فيزوجها منه‪ ،‬فيدخل بها المملوك ثم يهبها إياه فينفس خ النك اح ب دون تحلي ل ألن ه ال‬
‫أثر لنية الزوجة‪ ،‬وال الولي‪ ،‬وإنما التأثير لنية الزوج الثاني(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ المخارج الشرعية للرجعة‬
‫ونعني بها عموما أن ال يكتفي المطلق باستفتاء مفت واحد في مس ألة تطليق ه‬
‫لزوجته‪ ،‬بل يعاود البحث واالستفتاء لعل مسألته تجد حلها الشرعي‪ ،‬ويعود لزوجته‬
‫ب الطريق المش روع‪ ،‬وق د عق د ابن القيم فص وال مهم ة للمخ ارج من الوق وع في‬
‫التحليل‪ ،‬قال في مقدمتها‪(:‬أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعن ة رس ول هللا‬
‫‪ ‬كان أع ذر عن د هللا ورس وله ومالئكت ه وعب اده المؤم نين من ارتكاب ه لم ا يلعن‬
‫عليه‪ ،‬ومباءته باللعنة) (‪)3‬‬
‫ثم ذك ر مص دره ال ذي اعتم ده الس تنباط ه ذه المخ ارج‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إن ه ذه‬
‫المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكت اب والس نة أو أح دهما أو أف تى ب ه‬
‫الصحابة‪ ،‬بحيث ال يعرف عنهم فيه خالف‪ ،‬أو أفتى به بعضهم‪ ،‬أو ه و خ ارج عن‬
‫أقوالهم‪ ،‬أو هو قول جمهور األمة أو بعضهم أو إمام من األئمة األربعة‪ ،‬أو أتب اعهم‬
‫أو غيرهم من علماء اإلس الم‪ ،‬وال تخ رج ه ذه القاع دة ال تي ن ذكرها عن ذل ك‪ ،‬فال‬
‫يكاد يوصل إلى التحليل بعد مج اوزة جميعه ا إال في أن در الن ادر‪ ،‬وال ريب أن من‬
‫نصح هلل ورسوله وكتابه ودينه‪ ،‬ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منه ا ارتكب فه و‬
‫أولى من التحليل) (‪)4‬‬
‫وس نلخص م ا ذك ره ابن القيم من ه ذه المخ ارج‪ ،‬منبهين إلى أن الكث ير من‬
‫تفاصيلها قد مرت في محالها من أجزاء هذه المجموعة‪.‬‬
‫النوع األول‪ :‬المخارج المتعلقة بالمطلق‬
‫من المخارج المتعلقة بالمطلق‪ ،‬والتي مر أكثر تفاص يلها في محله ا الخ اص‬
‫من الفصل المتعلق بمن يقع عليه الطالق‪:‬‬
‫الطالق حال زوال العقل‪:‬‬
‫وذلك بأي ش يء يزي ل العق ل من جن ون أو إغم اء أو ش رب دواء أو ش رب‬
‫مسكر يعذر به أو ال يعذر أو وسوسة‪ ،‬فكل من ك ان ك ذلك ال يق ع طالق ه‪ ،‬ق ال ابن‬
‫القيم‪(:‬وهذا المخلص مجمع عليه بين األم ة إال في ش رب مس كر ال يع ذر ب ه‪ ،‬ف إن‬
‫‪ )(1‬نيل األوطار‪.6/166:‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪ ،4/36:‬وقد ذك ر ه ذه الحيل ة كث ير من الفه اء منهم بدرال دين الزركش ي في المنث ور في‬
‫القواعد الفقهية‪ ،2/104:‬وانظر‪:‬اإلنصاف‪.8/163:‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.4/47 :‬‬
‫‪ )(4‬إعالم الموقعين‪.4/47 :‬‬

‫‪400‬‬
‫المتأخرين من الفقهاء اختلفوا في ه‪ ،‬والث ابت عن الص حابة ال ذي ال يعلم في ه خالف‬
‫بينهم أنه ال يقع طالقه) (‪ ،)1‬وقد ذكرنا أدلة ذل ك في الفص ل الخ اص بمن يق ع من ه‬
‫الطالق‪.‬‬
‫الطالق حال الغضب‪:‬‬
‫وهو أن يطلق في حال غضب شديد يحول بينه وبين كمال قصده وتصوره ؛‬
‫فهذا ال يقع طالقه‪ ،‬وال عتقه‪ ،‬وال وقفه‪ ،‬ولو بدرت منه كلمة الكفر في هذا الح ال لم‬
‫يكفر‪ ،‬وهو نوع اإلغالق الذي منع رسول هللا ‪ ‬وق وع الطالق والعت اق في ه‪ ،‬كم ا‬
‫قال ‪(:‬ال طالق‪ ،‬وال عتاق في إغالق) (‪ )2‬يعني الغضب‪.‬‬
‫وقد ذكرنا سابقا أن الغضب ينقسم إلى ثالثة أقسام‪ :‬قسم يزيل العقل كالس كر‪،‬‬
‫فهذا ال يقع معه طالق بال ريب‪ ،‬وقسم يكون في مبادئ ه بحيث ال يمنع ه من تص ور‬
‫ما يقول وقصده‪ ،‬فهذا يقع مع ه الطالق باتف اق‪ ،‬وقس م يش تد بص احبه‪ ،‬وال يبل غ ب ه‬
‫زوال عقله‪ ،‬بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرج ه عن ح ال اعتدال ه‪ ،‬وق د ذكرن ا‬
‫األدلة على ع دم وق وع الطالق في ه ذه الحال ة‪ ،‬وق د نص مال ك واإلم ام أحم د في‬
‫إحدى الروايتين عنه فيمن قال المرأته‪ :‬أنت طالق ثالثا‪ ،‬ثم قال‪ :‬أردت أن أق ول إن‬
‫كلمت فالن ا‪ ،‬أو خ رجت من بي تي بغ ير إذني‪ ،‬ثم ب دا لي ف تركت اليمين‪ ،‬ولم أرد‬
‫التنجيز في الحال‪ ،‬إنه ال تطلق عليه‪ ،‬قال ابن القيم تعليقا على قوله‪(:‬وهذا ه و الفق ه‬
‫بعينه ؛ ألنه لم يرد التنجيز‪ ،‬ولم يتم اليمين)(‪)3‬‬
‫الطالق حال اإلكراه‪:‬‬
‫وهو أن يكون مكرها على الطالق أو الحلف به‪ ،‬وهو قول جمهور األم ة من‬
‫الصحابة والت ابعين ومن بع دهم‪ ،‬على اختالف بينهم في حقيق ة اإلك راه وش روطه‪،‬‬
‫فقد روي أن ثابتا بن األحنف عصروا رجله حتى طلق‪ ،‬فأتى ابن عمر وابن الزب ير‬
‫فلم يريا ذلك شيئا‪.‬‬
‫وعن ابن عب اس ق ال‪ :‬ليس على المك روه‪ ،‬وال المض طهد طالق‪ ،‬وق د أن‬
‫رجال تدلى يشتار عسال في زمن عمر‪ ،‬فجاءته امرأت ه ف وقفت على الحب ل‪ ،‬فحلفت‬
‫لتقطعنه أو لتطلقني ثالثا‪ ،‬فذكرها هللا واإلسالم‪ ،‬ف أبت إال ذل ك‪ ،‬فطلقه ا ثالث ا‪ .‬فلم ا‬
‫ظهر أتى عمر فذكر له ما كان منها إلي ه ومن ه إليه ا‪ ،‬فق ال‪ :‬ارج ع إلى أهل ك فليس‬
‫هذا بطالق‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬واختلف في ما لو أمكنه التورية فلم يور‪ ،‬والصحيح أنه ال يق ع‬
‫به الطالق‪ ،‬وإن تركها ؛ فإن هللا تعالى لم يوجب التوري ة على من أك ره على كلم ة‬
‫الكف ر‪ ،‬وقلب ه مطمئن باإليم ان‪ ،‬م ع أن التوري ة هن اك أولى‪ ،‬ولكن المك ره إنم ا لم‬
‫يعتبر لفظه ؛ ألنه غير قاصد لمعناه‪ ،‬وال مريد لموجبه‪ ،‬وإنما تكلم به فداء لنفسه من‬
‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/47 :‬‬
‫‪ )(2‬أخرج ه أحم د (‪ ،6/276‬رقم ‪ ،)26403‬وأب و داود (‪ ،2/258‬رقم ‪ ،)2193‬وابن ماج ه (‪ ،1/660‬رقم‬
‫‪ ،)2046‬والحاكم (‪ ،2/216‬رقم ‪ )2802‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ .‬والبيهقى (‪ ،7/357‬رقم ‪)14874‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.4/51 :‬‬

‫‪401‬‬
‫ضرر اإلكراه‪ ،‬فصار تكلمه باللفظ لغوا بمنزلة كالم المجنون والن ائم ومن ال قص د‬
‫ل ه‪ ،‬س واء ورى أو لم ي ور‪ ،‬وأيض ا فاش تراط التوري ة إبط ال لرخص ة التكلم م ع‬
‫اإلكراه‪ ،‬ورجوع إلى القول بنفوذ طالق المكره ؛ فإنه ل و ورى بغ ير إك راه لم يق ع‬
‫طالقه‪ ،‬والتأثير إذا إنما هو للتورية ال لإلك راه‪ ،‬وه ذا باط ل‪ ،‬وأيض ا ف إن الم وري‬
‫إنما لم يقع طالقه مع قصده للتكلم باللفظ ؛ ألنه لم يقصد مدلوله‪ ،‬وهذا المعنى بعين ه‬
‫ثابت في اإلكراه‪ ،‬فالمعنى الذي منع من النفوذ في التورية هو ال ذي من ع النف وذ في‬
‫اإلكراه)(‪)1‬‬
‫الطالق حال عدم القصد‪:‬‬
‫ك أن يك ون المطل ق ذاهال‪ ،‬أو ناس يا‪ ،‬أو مخطئ ا‪ ،‬أو ج اهال‪ ،‬أو مكره ا‪ ،‬أو‬
‫متأوال‪ ،‬أو معتقدا أنه ال يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك‪ ،‬أو مغلوبا على عقله‪ ،‬أو ظنا‬
‫منه أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية فال يؤثر فع ل‬
‫المحلوف عليه في طالقها شيئا‪ ،‬وقد سبق ذكر هذه األنواع جميعا بأدلتها‪.‬‬
‫طالق المقلد‪:‬‬
‫فإذا حل ف ب الطالق أال يكلم فالن ا أو ال ي دخل داره‪ ،‬فأفت اه مفت بع دم وق وع‬
‫الطالق في هذه اليمين‪ ،‬اعتق ادا لق ول علي بن أبي ط الب ك رم هللا وجه ه وط اوس‬
‫وشريح‪ ،‬أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة االلتزام دون ص يغة الش رط‪،‬‬
‫أو اعتقادا لقول أشهب أن ه إذا عل ق الطالق بفع ل الزوج ة أن ه لم يحنث بفعله ا‪ ،‬أو‬
‫اعتقادا لقول أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطالق المعل ق ال‬
‫يصح كما ال يص ح النك اح وال بيع والوق ف المعل ق‪ ،‬وه و م ذهب جماع ة من أه ل‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫ثم ساق األمثلة الكثيرة على عدم مؤاخذة المقل د أو المت أول‪ ،‬ومنه ا أن الن بي‬
‫‪‬لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل ب ني جذيم ة بع د إس المهم‪ ،‬ولم يؤاخ ذ أس امة‬
‫حين قتل من قال ال إله إال هللا ألجل التأوي ل‪ ،‬ولم يؤاخ ذ من أك ل نه ارا في الص وم‬
‫عمدا ألجل التأويل‪ ،‬ولم يؤاخذ أصحابه حين قتل وا من س لم عليهم‪ ،‬وأخ ذوا غنيمت ه‬
‫ألجل التأويل‪ ،‬ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصالة ألجل التأويل‪.‬‬
‫قال ابن القيم بعد عرضه لألدلة الكثيرة على عدم المؤاخذة بالتأوي ل والتقلي د‪:‬‬
‫(فال يحل ألحد أن يفرق بين رجل وامرأته ألمر يخالف مذهبه وقوله ال ذي قل د في ه‬
‫بغير حجة ؛ فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فال يحل ل ه أن يحكم‬
‫علي ه بأن ه ح انث في حكم هللا ورس وله‪ ،‬ولم يتعم د الحنث‪ ،‬ب ل ه ذه فري ة على هللا‬
‫ورسوله وعلى الحالف‪ ،‬وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك‪ ،‬ول ه‬
‫مقام‪ ،‬وأي مقام بين يدي هللا يوم ال ينفعه شيخه وال مذهبه ومن قلده) (‪)2‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬المخارج المتعلقة بصيغة الطالق‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/53 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/90 :‬‬

‫‪402‬‬
‫من المخارج المتعلقة بصيغة الطالق‪ ،‬والتي س بق ذك ر تفاص يلها في محله ا‬
‫الخاص من الجزء المتعلق بصيغة الطالق‪:‬‬
‫االستثناء في الطالق‪:‬‬
‫وق د اختل ف في ه الفقه اء ؛ فق ال الش افعي وأب و حنيف ة‪ :‬يص ح االس تثناء في‬
‫اإليقاع والحلف‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أنت طالق إن شاء هللا‪ ،‬أو إن كلمت فالنا ف أنت ط الق إن‬
‫شاء هللا‪ ،‬أو الطالق يلزم ني ألفعلن ك ذا إن ش اء هللا‪ ،‬أو أنت علي ح رام أو الح رام‬
‫يلزمني إن شاء هللا نفعه االستثناء‪ ،‬ولم يقع به طالق في ذلك كله‪.‬‬
‫وقد ذكرنا اختالف الفقهاء في الموضع الذي يعتبر فيه االستثناء‪ ،‬فقد اش ترط‬
‫بعضهم اتصاله بالكالم فقط‪ ،‬سواء نواه من أوله أو قبل الف راغ من كالم ه أو بع ده‪،‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن عقد اليمين ثم عن له االستثناء لم يصح‪ ،‬وما ذكروه تضييق لب اب‬
‫االستثناء‪ ،‬والصحيح إعمال االستثناء مطلقا‪ ،‬وهو الذي دلت عليه السنة الصحيحة‪،‬‬
‫وقد ذكرنا أدلة ذلك في محلها‪.‬‬
‫التطليق لعلة لم تتحقق‪:‬‬
‫وذلك فيما لو قال الرجل المرأت ه مثال‪(:‬أنت ط الق ثالث ا ألج ل كالم ك لزي د‬
‫وخروجك من بيتي) فبان أنها لم تكلمه‪ ،‬ولم تخرج من بيته لم تطلق‪ ،‬ألن معنى ذلك‬
‫إن كنت دخلت ال دار ف أنت ط الق‪ ،‬والمقص ود أن ه إذا عل ل الطالق بعل ة ثم ت بين‬
‫انتفاؤها فاألرجح أنه ال يقع بها الطالق‪ ،‬بل ذهب ابن تيمية إلى أنه ال يش ترط ذك ر‬
‫التعليل بلفظه‪ ،‬وال فرق عنده بين أن يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة‪،‬‬
‫فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطالق‪.‬‬
‫ق ال ابن القيم‪(:‬وه ذا ه و ال ذي ال يلي ق بالم ذهب غ يره‪ ،‬وال تقتض ي قواع د‬
‫األئمة غيره‪ ،‬فإذا قيل له‪ :‬امرأتك قد شربت مع فالن أو ب اتت عن ده‪ ،‬فق ال‪ :‬اش هدوا‬
‫علي أنها طالق ثالثا‪ ،‬ثم علم أنها كانت تل ك الليل ة في بيته ا قائم ة تص لي ف إن ه ذا‬
‫الطالق ال يقع به قطعا‪ ،‬وليس بين هذا وبين قوله‪(:‬إن كان األم ر ك ذلك فهي ط الق‬
‫ثالثا) فرق ألبتة‪ ،‬ال عند الحالف وال في العرف وال في الشرع‪ ،‬فإيقاع الطالق به ذا‬
‫وهم محض ؛ إذ يقط ع بأن ه لم ي رد طالق من ليس ت ك ذلك‪ ،‬وإنم ا أراد طالق من‬
‫فعلت ذلك) (‪)1‬‬
‫وقد ذكر أن الفقهاء من أصحاب اإلمام أحمد والشافعي منهم الغزالي والقف ال‬
‫وغيرهما أفتوا في الرجل يمر على المكاس برقيق ل ه فيطالب ه بمكس هم فيق ول‪(:‬هم‬
‫أحرار) ليتخلص من ظلمه‪ ،‬وال غرض له في عتقهم‪ ،‬أنهم ال يعتقون‪.‬‬
‫فعل المعلق عليه في الطالق نسيانا وعجزا‪:‬‬
‫وه و من مخ ارج الطالق قياس ا على اليمين‪ ،‬فق د نص الفقه اء على أن من‬
‫حلف على شيء ليفعلن ه فحي ل بين ه وبين فعل ه‪ ،‬ف إن أج ل أجال ف امتنع الفع ل لع دم‬
‫المحل وذهابه فال حنث عليه‪ ،‬ومثله ما لو امتنع الفعل لسبب منع الشرع كمن حل ف‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/91 :‬‬

‫‪403‬‬
‫ليط أن زوجت ه فوج دها حائض ا فقي ل‪ :‬ال ش يء علي ه‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬وه ذا ه و‬
‫الصواب‪ ،‬ألنه إنما حلف على وطء يملكه‪ ،‬ولم يقصد الوطء الذي لم يملك ه الش ارع‬
‫إياه‪ ،‬فإن قصده حنث) (‪)1‬‬
‫ونفس الحكم نص وا علي ه في المك ره والناس ي والمخطئ‪ ،‬والتفري ق تن اقض‬
‫ظاهر‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬وال ريب أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد بهذا القول ؛ ف إن‬
‫األم ر والنهي من الش ارع نظ ير الحض والمن ع في اليمين‪ ،‬وكم ا أن أم ره ونهي ه‬
‫منوط بالقدرة فال واجب مع عجز وال حرام مع ض رورة فك ذلك الحض والمن ع في‬
‫اليمين إنما هو مقيد بالقدرة‪ ،‬يوضحه أن الحالف يعلم أن سر نفسه أنه لم يل تزم فع ل‬
‫المحل وف علي ه م ع العج ز عن ه‪ ،‬وإنم ا التزم ه م ع قدرت ه علي ه‪ ،‬وله ذا لم يحنث‬
‫المغلوب على الفعل بنسيان أو إكراه‪ ،‬وال من ال قصد له إليه كالمغمى علي ه وزائ ل‬
‫العقل)(‪)2‬‬
‫التزام الطالق‪:‬‬
‫استنادا لمن يق ول ب أن ال تزام الطالق ال يل زم‪ ،‬وال يق ع ب ه طالق وال حنث‪،‬‬
‫وهذا إذا أخرج ه بص يغة االل تزام‪ ،‬كقول ه‪( :‬الطالق يلزم ني‪ ،‬أو الزم لي‪ ،‬أو ث ابت‬
‫علي‪ ،‬أو حق علي‪ ،‬أو واجب علي‪ ،‬أو متعين علي إن فعلت‪ ،‬أو إن لم أفعله)‪ ،‬وه و‬
‫مذهب أبي حنيفة‪ ،‬وبه أفتى جماعة من مش ايخ مذهب ه‪ ،‬وب ه أف تى القف ال في قول ه‪:‬‬
‫(الطالق يلزمني)‬
‫قال ابن القيم‪(:‬وسر المسألة أن ذلك التزام ألن يطل ق أو ال تزام لطالق واق ع؛‬
‫فإن كان التزاما ألن يطلق لم تطل ق‪ ،‬وإن ك ان التزام ا لطالق واق ع فكأن ه ق ال‪(:‬إن‬
‫فعلت كذا فأنت ط الق طالق ا يلزم ني) طلقت إذا وج د الش رط‪ ،‬ولمن رجح ه ذا أن‬
‫يحيل فيه على العرف ؛ فإن الح الف ال يقص د إال ه ذا‪ ،‬وال يقص د ال تزام التطلي ق‪،‬‬
‫وعلى هذا فيظهر أن يقال‪ :‬إن نوى بذلك التزام التطلي ق لم تطل ق‪ ،‬وإن ن وى وق وع‬
‫الطالق طلقت) (‪)3‬‬
‫تعليق الطالق بقصد الحض أو المنع‪:‬‬
‫وهو م أخوذ من ق ول أش هب من أص حاب مال ك‪ ،‬بأن ه ق ال‪ :‬إذا ق ال الرج ل‬
‫المرأته‪(:‬إن كلمت زيدا‪ ،‬أو خرجت من بيتي بغير إذني ونح و ذل ك مم ا يك ون من‬
‫فعلها فأنت طالق)‪ ،‬فإن كلمت زيدا أو خرجت من بيته تقصد أن يق ع عليه ا الطالق‬
‫لم تطلق‪ .‬قال ابن القيم تعليقا على قوله‪( :‬وال ريب أن هذا الذي ق ال أش هب(‪ )4‬أفق ه‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/93 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/94 :‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.4/96 :‬‬
‫‪ )( 4‬يعتبر ابن القيم أشهب أفقه فقهاء المالكية‪ ،‬وال يخفي إعجابه به في كل المواضع ال تي يتح دث فيه ا عن ه‪،‬‬
‫وقد نقل عن ابن عبد البر في كتاب االنتقاء عن محمد بن عبد هللا بن عبد الحي قال‪ :‬أشهب أفقه منكم ومن ابن القاس م‬
‫مائة مرة‪ ،‬وأنكر ابن كنانة ذلك‪ ،‬قال‪ :‬ليس عندنا كما قال محمد‪ ،‬وإنما قاله ألن أشهب شيخه ومعلمه‪ ،‬ق ال أب و عم ر‪:‬‬
‫أشهب شيخه ومعلمه‪ ،‬وابن القاسم شيخه‪ ،‬وهو أعلم بهما لكثرة مجالسته لهما‪ ،‬وأخذه عنهما‪ ،‬انظر‪ :‬إعالم الم وقعين‪:‬‬

‫‪404‬‬
‫من القول بوقوع الطالق ؛ فإن الزوج إنما قصد حضها ومنعها‪ ،‬ولم يقصد تف ويض‬
‫الطالق إليها‪ ،‬وال خطر ذلك بقلبه‪ ،‬وال قص د وق وع الطالق عن د المخالف ة‪ ،‬ومك ان‬
‫أشهب من العلم واإلمامة غير مجهول) (‪)1‬‬
‫ويستدل لهذا بما يدل على مقابلة العبد بنقيض قصده كحرم ان القات ل ميراث ه‬
‫من المقتول‪ ،‬وحرمان الموصى له وصية من قتله بعد الوصية‪ ،‬وتوريث ام رأة من‬
‫طلقه ا في م رض موت ه ف رارا من ميراثه ا‪ ،‬وكم ا يقول ه مال ك وأحم د في إح دى‬
‫الروايتين عنهما‪ ،‬وقبلهما عمر فيمن تزوج في الع دة‪ ،‬وه و يعلم يف رق بينهم ا‪ ،‬وال‬
‫تحل له أب دا‪ ،‬ونظ ائر ذل ك كث يرة ؛ فمعاقب ة الم رأة هاهن ا بنقيض قص دها من ه ذا‬
‫الباب‪.‬‬
‫عدم لزوم الحلف بالطالق‪:‬‬
‫ومصدره قول من يقول إن الحلف بالطالق ال يلزم‪ ،‬وال يقع على الح انث ب ه‬
‫طالق‪ ،‬وال يلزمه كفارة وال غيره ا‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬وه ذا م ذهب خل ق من الس لف‬
‫والخلف‪ ،‬صح ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي ط الب ك رم هللا وجه ه‪ ..‬وص ح‬
‫ذلك عن طاوس أجل أصحاب ابن عباس‪ ،‬وأفقههم على اإلطالق‪ ..‬وق د وافق ه أك ثر‬
‫من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نص وص الكت اب والس نة دون القي اس‪ ،‬ومن‬
‫آخرهم أبو محمد بن حزم) (‪)2‬‬
‫ويقصد ابن القيم بهذا ما ذكرناه في محله من قول ابن حزم‪(:‬واليمين بالطالق‬
‫ال يلزم ‪ -‬سواء بر أو حنث ‪ -‬ال يقع به طالق‪ ،‬وال طالق إال كما أمر هللا عز وج ل‪،‬‬
‫وال يمين إال كما أمر هللا تعالى على لسان رسوله ‪)3()‬‬
‫وساق اختالف الناس في ذلك‪ ،‬ثم قال‪( :‬فه ؤالء علي بن أبي ط الب ك رم هللا‬
‫وجهه‪ ،‬وشريح وطاوس ال يقضون ب الطالق على من حل ف ب ه فحنث‪ ،‬وال يع رف‬
‫في ذلك لعلي كرم هللا وجهه مخالف من الصحابة ) (‪)4‬‬
‫فقد روي عن الحسن أن رجال تزوج امرأة وأراد س فرا فأخ ذه أه ل امرأت ه‪،‬‬
‫فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر‪ ،‬فجاء األج ل ولم يبعث إليه ا بش يء فلم ا‬
‫قدم خاص موه إلى علي فق ال علي‪ :‬اض طهدتموه ح تى جعله ا طالق ا‪ ،‬فرده ا علي ه‪،‬‬
‫وروي عن شريح‪ :‬أنه خوصم إليه في رجل طلق امرأته إن أحدث في اإلسالم حدثا‬
‫فاكترى بغال إلى حمام أعين فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى به خم را؟ فق ال‬
‫شريح‪ :‬إن شئتم شهدتم عليه أنه طلقها؟ فجعلوا يرددون عليه القصة وي ردد عليهم ‪-‬‬
‫فلم يره حدثا؟ وعن طاووس أنه كان يق ول‪ :‬الحل ف ب الطالق ليس ش يئا‪ ،‬قلت‪ :‬ك ان‬
‫يراه يمينا؟ قال‪ :‬ال أدري‪.‬‬
‫‪.4/98‬‬
‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/198 :‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/198 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.9/476 :‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.9/476 :‬‬

‫‪405‬‬
‫ق ال ابن ح زم‪(:‬ال متعل ق لهم بم ا روي من ق ول علي اض طهدتموه‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يكن هنالك إكراه‪ ،‬إنما طالبوه بحق نفقتها فقط‪ ،‬فإنما أنكر على اليمين بالطالق فقط‪،‬‬
‫ولم يرد الطالق يقع بذلك) (‪)1‬‬
‫وممن روى عنه عدم وقوع الطالق على الحالف إذا حنث عكرمة م ولى ابن‬
‫عباس‪ ،‬كما ذكره س نيد بن داود في تفس يره في أول س ورة الن ور عن ه بإس ناده أن ه‬
‫سئل عن رجل حلف بالطالق أنه ال يكلم أخاه‪ ،‬فكلم ه‪ ،‬فلم ي ر ذل ك طالق ا‪ ،‬ثم ق رأ‪:‬‬
‫ين﴾(البقرة‪)168:‬‬‫ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َعد ٌُّو ُمبِ ٌ‬ ‫﴿ َواَل تَتَّبِعُوا ُخطُ َوا ِ‬
‫ت ال َّش ْيطَ ِ‬
‫قال ابن القيم‪(:‬ومن تأم ل المنق ول عن الس لف في ذل ك وج ده أربع ة أن واع‪:‬‬
‫صريح في عدم الوقوع‪ ،‬وصريح في الوقوع‪ ،‬وظاهر في عدم الوقوع‪ ،‬وتوقف عن‬
‫الطرفين‪ ،‬فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريح في ع دم الوق وع‪ ،‬وعن علي علي ه‬
‫السالم‪ ،‬وشريح ظاهر في ذلك‪ ،‬وعن ابن عيينة صريح في التوقف‪ ،‬وأما التص ريح‬
‫بالوقوع فال يؤثر عن صحابي واحد إال فيما هو محتمل إلرادة الوقوع عند الش رط‪،‬‬
‫كالمنقول عن أبي ذر‪ ،‬بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في ص ورة العت ق ال ذي‬
‫ه و أولى ب النفوذ من الطالق‪ ،‬وله ذا ذهب إلي ه أب و ث ور وق ال‪ :‬القي اس أن الطالق‬
‫مثله‪ ،‬إال أن تجمع األمة عليه‪ ،‬فتوقف في الطالق لتوهم اإلجماع) (‪)2‬‬
‫وق د ذك ر ابن القيم أن العل ة في ق ول الفقه اء ب ه ه و اعتق ادهم اإلجم اع في‬
‫المس ألة‪ ،‬فق ال‪(:‬وه ذا ع ذر أك ثر الم وقعين للطالق‪ ،‬وه و ظنهم أن اإلجم اع على‬
‫الوقوع‪ ،‬م ع اع ترافهم أن ه ليس في الكت اب والس نة والقي اس الص حيح م ا يقتض ي‬
‫الوق وع‪ ،‬وإذا ت بين أن ه ليس في المس ألة إجم اع ت بين أن ال دلي ل أص ال ي دل على‬
‫الوقوع‪ ،‬واألدلة الدالة على عدم الوقوع في غاية القوة والكثرة‪ ،‬وكثير منها ال سبيل‬
‫إلى دفعه‪ ،‬فكيف يجوز معارضتها بدعوى إجماع قد علم بطالنه قطعا؟ فليس بأيدي‬
‫الم وقعين آي ة من كت اب أو س نة وال أث ر عن رس ول هللا ‪ ‬وال عن أص حابه وال‬
‫قي اس ص حيح‪ ،‬والق ائلون بع دم الوق وع ل و لم يكن معهم إال االستص حاب ال ذي ال‬
‫يجوز االنتقال عنه إال لم ا ه و أق وى من ه لك ان كافي ا‪ ،‬فكي ف ومعهم األقيس ة ال تي‬
‫أكثرها من باب قياس األولى؟ والباقي من القياس المساوي‪ ،‬وهو قياس النظير على‬
‫نظيره‪ ،‬واآلثار والعمومات والمعاني الصحيحة والحكم والمناس بات ال تي ش هد له ا‬
‫الشرع باالعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنهم بحجة أصال) (‪)3‬‬
‫تعليق الطالق على شرط‪:‬‬
‫ومرجعه القول بأن الطالق المعلق بالشرط ال يقع‪ ،‬فال يصح تعلي ق الطالق‪،‬‬
‫كما ال يصح تعليق النكاح‪ ،‬وهو اختي ار أبي عب د ال رحمن أحم د بن يح يى بن عب د‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.9/476 :‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/101 :‬‬
‫‪ )(3‬المحلى‪.9/476 :‬‬

‫‪406‬‬
‫العزيز الشافعي(‪ ،)1‬وهو مذهب ابن ح زم‪ ،‬فق د ق ال في المحلى‪(:‬والطالق بالص فة‬
‫عندنا كما هو الطالق باليمين‪ ،‬كل ذلك ال يلزم) (‪)2‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬وهذا القول‪ ،‬وإن لم يكن قويا في النظر ف إن الم وقعين للطالق‬
‫ال يمكنهم إبطاله ألبتة لتناقضهم) (‪)3‬‬
‫ثم بين وجوه تناقضهم فالقائلون بإيقاع الطالق المعلق مذهبهم هونفس مذهب‬
‫الظاهري ة في تعلي ق اإلب راء أو الهب ة والوق ف وال بيع والنك اح س واء‪ ،‬وال يص ح‬
‫التفري ق بين م ا ص ح تعليق ه من عق ود التبرع ات والمعاوض ات واإلس قاطات‬
‫بالشروط وما ال يصح تعليقه‪ ،‬فإن احتجوا بأن ه ذه من عق ود المعاوض ات ال تقب ل‬
‫التعليق بخالف غيره ا انتقض عليهم ط ردا بالجعال ة وعكس ا بالهب ة والوق ف‪ ،‬وإن‬
‫فرقوا بين ما يحتمل الغرر وما ال يحتمله‪ ،‬فما يحتمل الغرر واألخطار يصح تعليقه‬
‫بالشرط كالطالق والعتق والوصية‪ ،‬وما ال يحتمل ه ال يص ح تعليق ه ك البيع والنك اح‬
‫واإلجارة‪ ،‬انتقض عليهم بالوكالة فإنها ال تقبل التعليق عندهم وتحتمل الخطر‪.‬‬
‫قال ابن القيم بعد انتصاره البن ح زم على الجمه ور‪(:‬وبالجمل ة فليس بطالن‬
‫هذا القول أظهر في الشريعة من بطالن التحليل‪ ،‬بل العلم بفساد نكاح التحليل أظهر‬
‫من العلم بفساد هذا القول‪ ،‬فإذا جاز التقرير على التحليل وت رك إنك اره م ع م ا في ه‬
‫من النصوص واآلثار التي اتفق عليها أصحاب رسول هللا ‪ ‬على المنع من ه ولعن‬
‫فاعله وذمه فالتقرير على هذا القول أج ود‪ ،‬وأج وز‪ ،‬ه ذا م ا ال يس تريب في ه ع الم‬
‫منص ف‪ ،‬وإن ك ان الص واب في خالف الق ولين جميع ا‪ ،‬ولكن أح دهما أق ل خط أ‪،‬‬
‫وأقرب إلى الصواب‪ ،‬وهللا أعلم) (‪)4‬‬
‫زوال سبب اليمين‪:‬‬
‫وقد ذكر ابن القيم هذا المخرج‪ ،‬واستنبطه من القواعد الشرعية الكث يرة ال تي‬
‫تدل عليه‪ ،‬ومنها أن الشارع إذا علق حكما بسبب أو عل ة زال ذل ك الحكم بزوالهم ا‬
‫ك الخمر عل ق به ا حكم التنجيس ووج وب الح د لوص ف اإلس كار‪ ،‬ف إذا زال عنه ا‬
‫وصارت خال زال الحكم‪ ،‬وكذلك وصف الفسق علق عليه المن ع من قب ول الش هادة‬
‫والرواية‪ ،‬فإذا زال الوص ف زال الحكم ال ذي عل ق علي ه‪ ،‬وك ذلك الس فه والص غر‬
‫والجنون واإلغماء تزول األحكام المعلقة عليها بزوالها‪.‬‬
‫ومثل هؤالء‪ ،‬ويقاس عليهم الحالف إذا حلف على أم ر ال يفعل ه لس بب ف زال‬
‫‪ )(1‬وقد أثنى عليه ابن القيم كثيرا كثنائه على أش هب من أص حاب مال ك‪ ،‬فق ال في وص فه‪ « :‬أح د أص حاب‬
‫الشافعي األجلة أو أجلهم‪ ،‬وكان الشافعي يجله ويكرم ه ويكني ه ويعظم ه‪ ،‬وأب و ث ور‪ ،‬وكان ا يكرمان ه‪ ،‬وك ان بص ره‬
‫ضعيفا‪ ،‬فكان الشافعي يقول‪ :‬ال ت دفعوا إلى أبي عب د ال رحمن الكت اب يع ارض ب ه فإن ه يخطئ‪ ،‬وذك ره أب و إس حاق‬
‫الشيرازي في طبقات أصحاب الشافعي‪ ،‬ومحل الرجل من العلم والتضلع منه ال يدفع‪ ،‬وهو في العلم بمنزلة أبي ث ور‬
‫وتلك الطبقة‪ ،‬وكان رفيق أبي ثور‪ ،‬وهو أجل من جميع أصحاب الوجوه من المنتسبين إلى الشافعي‪ ،‬فإذا نزل بطبقته‬
‫إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجها‪ ،‬وهو أقل درجاته» إعالم الموقعين‪.4/101 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.9/487 :‬‬
‫‪ )(3‬إعالم الموقعين‪.4/102 :‬‬
‫‪ )(4‬شرح النووي على مسلم‪ ،11/117 :‬وانظر‪ :‬فتح الباري‪.11/572 :‬‬

‫‪407‬‬
‫السبب لم يحنث بفعله ؛ ألن يمينه تعلقت به لذلك الوص ف‪ ،‬ف إذا زال الوص ف زال‬
‫تعلق اليمين فإذا دعي إلى شراب مس كر ليش ربه فحل ف أن ال يش ربه‪ ،‬ف انقلب خال‬
‫فش ربه لم يحنث‪ ،‬ف إن من ع نفس ه من ه نظ ير من ع الش ارع‪ ،‬ف إذا زال من ع الش ارع‬
‫بانقالبه خال وجب أن يزول منع نفسه بذلك‪ ،‬والتفريق بين األم رين تحكم محض ال‬
‫وجه له‪.‬‬
‫ويتس اءل ابن القيم بع د إي راده له ذه األمثل ة وغيره ا‪ ،‬أن ه إذا ك ان التح ريم‬
‫والتنجيس ووجوب اإلراقة ووجوب الحد وثب وت الفس ق ق د زال ب زوال س ببه فم ا‬
‫الموجب لبقاء المنع في ص ورة اليمين وق د زال س ببه؟ فل و حل ف على رج ل أن ال‬
‫يقبل له قوال وال شهادة لم ا يعلم من فس قه‪ ،‬ثم ت اب وص ار من خي ار الن اس ؛ فإن ه‬
‫يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المن ع من ذل ك بالش رع‪ ،‬ألن المن ع بيمين ه‬
‫كالمنع بمنع الشارع‪ ،‬ومنع الشارع يزول بزوال األسباب التي ترتب عليه ا المن ع ؛‬
‫فكذلك منع الحالف‪ ،‬وكذلك لو حلف المريض ال يأكل لحما أو طعام ا وس بب يمين ه‬
‫كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعا له لم يحنث بأكله‪.‬‬
‫وهذا محل اتفاق من العلماء‪ ،‬ق ال الن ووي‪(:‬اليمين على ني ة الح الف في ك ل‬
‫األحوال إال إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى ت وجهت علي ه فتك ون على ني ة‬
‫المستحلف) (‪)1‬‬
‫وقد نص الحنفية في تقييد األيمان المطلقة بالداللة‪ ،‬على أنه إذا أرادت المرأة‬
‫الخروج من الدار فقال الزوج‪(:‬إن خرجت من الدار فأنت طالق) فجلس ت س اعة ثم‬
‫خرجت ال تطلق‪.‬‬
‫ق ال ابن القيم‪(:‬والمقص ود أن الني ة ت ؤثر في اليمين تخصيص ا وتعميم ا‪،‬‬
‫وإطالقا وتقييدا‪ ،‬والسبب يقوم مقامها عند ع دمها‪ ،‬وي دل عليه ا‪ ،‬في ؤثر م ا ي ؤثره‪،‬‬
‫وه ذا ه و ال ذي يتعين اإلفت اء ب ه‪ ،‬وال يحم ل الن اس على م ا يقط ع أنهم لم يري دوه‬
‫بأيمانهم‪ ،‬فكيف إذا علم قطعا أنهم أرادوا خالفه؟ وهللا أعلم) (‪)2‬‬
‫والتعلي ل يج ري مج رى الش رط‪ ،‬ف إذا ق ال‪(:‬أنت ط الق ألج ل خروج ك من‬
‫الدار) فبان أنها لم تخرج لم تطلق قطعا‪.‬‬
‫خلع اليمين‪:‬‬
‫وهو التخلص من الحنث بالخلع‪ ،‬ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة‪ ،‬ثم‬
‫يعود الى النكاح‪ ،‬وهو مخ رج من المخ ارج ال تي ذكره ا ابن القيم‪ ،‬وق د نص علي ه‬
‫الشافعية‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬وه ذا وإن ك ان غ ير ج ائز على ق ول أه ل المدين ة وق ول‬
‫اإلمام أحمد‪ ،‬وأص حابه كلهم ف إذا دعت الحاج ة إلي ه أو إلى التحلي ل ك ان أولى من‬

‫‪.)(1‬‬
‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/109 :‬‬

‫‪408‬‬
‫التحليل من وجوه عديدة) (‪ ،)1‬ومن هذه الوجوه(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن هللا تعالى ش رع الخل ع رفع ا لمفس دة المش اقة الواقع ة بين ال زوجين‪،‬‬
‫وتخلص ك ل منهم ا من ص احبه ؛ ف إذا ش رع الخل ع رفع ا له ذه المفس دة ال تي هي‬
‫بالنسبة إلى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع مفسدة التحليل أولى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الحيل المحرمة إنما منع منه ا لم ا تتض منه من الفس اد ال ذي اش تملت‬
‫عليه تلك المحرمات التي يتحيل عليها بهذه الحيل‪ ،‬وأما حيل ة ترف ع مفس دة هي من‬
‫أعظم المفاسد فإن الشارع ال يحرمها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء النكاح المطلوب للشارع بقاؤه‪ ،‬ودف ع‬
‫مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغ ة في دفع ه والمن ع من ه ولعن أص حابه‪،‬‬
‫فحيلة تحصل المصلحة المطلوب إيجادها وتدفع المفسدة المطلوب إعدامها ال يكون‬
‫ممنوعا منها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن ما حرمه الشارع فإنم ا حرم ه لم ا يتض منه من المفس دة الخالص ة أو‬
‫الراجح ة‪ ،‬ف إذا ك انت مص لحة خاص ة أو راجح ة لم يحرم ه ألبت ة‪ ،‬وه ذا الخل ع‬
‫مصلحته أرجح من مفسدته‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ أن غاية ما في هذا الخلع اتفاق ال زوجين ورض اهما بفس خ النك اح بغ ير‬
‫شقاق واقع بينهما‪ ،‬وإذا وقع الخلع من غير شقاق صح‪ ،‬وكان غايته الكراهي ة ؛ لم ا‬
‫فيه من مفسدة المفارقة‪ ،‬وه ذا الخل ع أري د ل ه لم ش عث النك اح بحص ول عق د بع ده‬
‫يتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف‪ ،‬وبدون ه ال يتمكن ان من ذل ك‪ ،‬ب ل إم ا‬
‫خراب البيت وفراق األهل‪ ،‬وإما التعرض للعنة من ال يق وم للعنت ه ش يء‪ ،‬ف إذا دار‬
‫األمر بين مفسدة ال تزام المحل وف علي ه أو مفس دة الطالق وخ راب ال بيت وش تات‬
‫الشمل أو مفسدة التزام لعنة هللا بارتكاب التحلي ل وبين ارتك اب الخل ع المخلص من‬
‫ذلك جميعه لم يخف على العاقل أي ذلك أولى‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أنهما لو اتفقا على أن يطلقها من غير شقاق بينهما‪ ،‬بل ليأخ ذ غيره ا‪ ،‬لم‬
‫يمن ع من ذل ك‪ ،‬ف إذا اتفق ا على الخل ع ليك ون س ببا إلى دوام اتص الهما ك ان أولى‪،‬‬
‫وأحرى‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ أن الخلع إن قيل‪ :‬إنه طالق‪ ،‬فقد اتفقا على الطالق بعوض لمصلحة لهم ا‬
‫في ذل ك‪ ،‬فم ا ال ذي يحرم ه؟ وإن قي ل‪ :‬إن ه فس خ‪ ،‬فال ريب أن النك اح من العق ود‬
‫الالزمة‪ ،‬والعقد الالزم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يمنع ا من ذل ك‪ ،‬إال‬
‫أن يكون العقد حقا هلل‪ ،‬والنكاح محض حقهما‪ ،‬فال يمنعان من االتفاق على فسخه‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أن اآلية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان أال يقيما حدود هللا‪ ،‬فك ان‬
‫الخل ع طريق ا إلى تمكنهم ا من إقام ة ح دود هللا‪ ،‬وهي حقوق ه الواجب ة عليهم ا في‬
‫النكاح‪ ،‬فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقا إلى تمكنهما من إقام ة ح دوده ال تي‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/110 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬إعالم الموقعين‪ 4/110 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫تعطل وال بد بدون الخلع تعين الخلع حينئذ طريقا إلى إقامتها‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ أن غاية ما منع المانعون من صحة هذا الخلع أنه حيلة‪ ،‬والحي ل باطل ة ؛‬
‫وهذا ليس صحيحا‪ ،‬ألن الحيلة المحرمة الباطلة هي التي تتضمن تحلي ل م ا حرم ه‬
‫هللا أو تح ريم م ا أحل ه هللا أو إس قاط م ا أوجب ه؟ وأم ا حيل ة تتض من الخالص من‬
‫اآلصار واألغالل والتخلص من لعنة الكبير المتع ال ف أهال به ا من حيل ة وبأمثاله ا‬
‫ح ﴾(البق رة‪ )220:‬والمقص ود تنفي ذ أم ر هللا ورس وله‬ ‫﴿ َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم ْال ُم ْف ِس َد ِم ْن ْال ُم ْ‬
‫ص لِ ِ‬
‫بحسب اإلمكان‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ أن ه ليس الق ول ببطالن خل ع اليمين أولى من الق ول بل زوم الطالق‬
‫للحالف به غير القاصد له‪.‬‬
‫والغريب أن ابن القيم مع نصرته هن ا له ذه الحيل ة‪ ،‬ك ان ق د أنك ر عليه ا في‬
‫نفس الكتاب‪ ،‬فعقد فصال لذلك قال فيه‪(:‬فصل إبطال الحيل ة ب الخلع لفع ل المحل وف‬
‫عليه)‪ ،‬ثم قال‪( :‬وه ذه الحيل ة باطل ة ش رعا وباطل ه على اص ول ائم ة االمص ار)‪،‬‬
‫وسنذكر هنا وجوه بطالنها كما ذكرنا وجوه اعتبارها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن ه ذا خل ع لم يش رعه هللا وال رس وله وه و تع الى لم يمكن ال زوج من‬
‫فسخ النكاح متى شاء فإنه الزم وإنما مكنه من الطالق‪ ،‬ولم يجعل له فسخه اال عن د‬
‫التشاجر والتباغض إذا خافا ان ال يقيما ح دود هللا‪ ،‬فش رع لهم ا التخلص باالفت داء‪،‬‬
‫وبذلك جاءت السنة‪ ،‬ولم يقع في زمن رس ول هللا ‪ ‬وال زمن أص حابه خل ع حيل ة‬
‫وال في زمن الت ابعين وال ت ابعيهم‪ ،‬وال نص علي ه اح د من االئم ة االربع ة وجعل ه‬
‫طريق ا للتخلص من الحنث‪ ،‬وه ذا من كم ال فقههم ف إن الخل ع انم ا جعل ه الش ارع‬
‫مقتضيا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من االفت داء من زوجه ا‪ ،‬وانم ا يك ون ذل ك‬
‫مقصودها اذا قصدت ان تفارقه على وجه ال يكون له عليها سبيل‪ ،‬ف اذا حص ل ه ذا‬
‫ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست زوجته‪،‬‬
‫‪ 2‬ـ أنه ال يحنث‪ ،‬ألن هذا إنم ا حص ل تبع ا للبينون ة التابع ة لقص دهما‪ ،‬ف إذا‬
‫خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينون ة‪ ،‬ب ل ح ل اليمين وح ل اليمين‬
‫إنما يحصل تبعا للبينونة ال أنه المقصود بالخلع الذي شرعه هللا ورس وله وأم ا خل ع‬
‫الحيلة فجاءت البينونة في ألجل ح ل اليمين وح ل اليمين ج اء ألج ل البينون ة فليس‬
‫عقد الخلع بمقصود في نفسه للرجل وال للمرأة‪.‬‬
‫وقد ال حظ البعض ه ذا‪ ،‬واعت بره تناقضا(‪ ،)1‬وال ن راه ك ذلك‪ ،‬ألن ابن القيم‬
‫عند ذكره للمخارج لم يذكر آراءه واختياراته‪ ،‬بل ذكر أن كل ق ول ش رعي ق ال ب ه‬
‫عالم من العلماء المعتبرين يصح استعماله‪ ،‬كبديل عن زواج المحلل‪ ،‬وقوله صحيح‬
‫ألن المفاسد المنج رة عن زواج المحل ل أخط ر بكث ير من ك ل المفاس د الناتج ة عن‬
‫الوسائل األخرى حتى الحيلة السريجية نفسها التي ذكرناها في المبحث السابق‪.‬‬
‫وقد سبق أن ذكرنا قوله‪(:‬فال يح ل ألح د أن يف رق بين رج ل وامرأت ه ألم ر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬ضوابط المصلحة في الشريعة اإلسالمية لمحمد سعيد رمضان البوطي‪.281 :‬‬

‫‪410‬‬
‫يخالف مذهبه وقوله الذي قلد فيه بغير حجة ؛ فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه‬
‫بعدم الحنث فال يحل له أن يحكم عليه بأن ه ح انث في حكم هللا ورس وله‪ ،‬ولم يتعم د‬
‫الحنث‪ ،‬بل هذه فرية على هللا ورسوله وعلى الح الف‪ ،‬وإذا وص ل اله وى إلى ه ذا‬
‫الحد فصاحبه تحت الدرك‪ ،‬وله مقام‪ ،‬وأي مقام بين يدي هللا يوم ال ينفعه ش يخه وال‬
‫مذهبه ومن قلده) (‪)1‬‬
‫ومع ذلك فيبقى موقفه في الحالة العادية هو األصل‪ ،‬أما ه ذه المخ ارج‪ ،‬فهي‬
‫حلول وعالجات ألوضاع معينة‪.‬‬
‫أن يمين الطالق من األيمان المكفرة‪:‬‬
‫ومرجعه قول من يقول‪(:‬الحلف ب الطالق من األيم ان الش رعية ال تي ت دخلها‬
‫الكفارة‪ ،‬وهو أحد األق وال في المس ألة‪ ،‬كم ا حك اه ابن ح زم في م راتب اإلجم اع‪،‬‬
‫فقال‪(:‬واختلفوا فيمن حلف بشيء غير أسماء هللا أو بنحر ولده أو هديه أو أجن بي أو‬
‫بالمصحف أو بالقرآن أو بنذر أخرجه مخرج اليمين أو بأنه مخالف ل دين المس لمين‬
‫أو بطالق أو بظهار أو تحريم شيء من ماله‪ ..‬فاختلفوا في جميع هذه األمور‪ ،‬أفيه ا‬
‫كفارة أم ال؟)(‪)2‬‬
‫ثم ق ال‪( :‬واختلف وا في اليمين ب الطالق‪ ،‬أه و طالق فيل زم‪ ،‬أم ه و يمين فال‬
‫يلزم؟) فحكى في كونه طالقا فيلزم أو يمينا ال يلزم قولين‪ ،‬وحكى قبل ذلك ه ل في ه‬
‫كفارة أم ال؟ على قولين‪ ،‬واختار هو أال يلزم‪ ،‬وال كفارة فيه(‪.)3‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬والصحابة والتابعون ومن بع دهم أفت وا ب ذلك‪ ،‬ومن ل ه اطالع‬
‫وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم أنه لم ي زل في اإلس الم من عص ر الص حابة من‬
‫يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم‪ ،‬وإلى اآلن‪ .‬فأما الص حابة فق د ذكرن ا فت اواهم في‬
‫الح الف ب العتق بع دم الل زوم‪ ،‬وأن الطالق أولى من ه‪ ،‬وذكرن ا فت وى علي بن أبي‬
‫طالب كرم هللا وجهه بعدم لزوم اليمين بالطالق‪ ،‬وأن ه ال مخ الف ل ه من الص حابة‪.‬‬
‫وأما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح إسناد عنه‪ ،‬وهو من أجل التابعين‪ ،‬وأف تى‬
‫عكرمة‪ ،‬وهو من أغزر أصحاب ابن عباس علما على ما أفتى به طاوس سواء قال‬
‫ان َو َم ْن يَتَّبِ ْع ُخطُ َوا ِ‬
‫ت‬ ‫ت َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬ ‫في قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تَتَّبِعُوا ُخطُ َوا ِ‬
‫ال َّش ْيطَا ِن فَإِنَّهُ يَأْ ُم ُر بِ ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر ﴾(النور‪ )21:‬قال‪ :‬النذور في المعاص ي‪ ،‬وعن‬
‫عكرمة في رجل قال لغالمه‪(:‬إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته ط الق) ق ال‪ :‬ال يجل د‬
‫غالمه وال تطلق امرأته‪ ،‬هذا من خطوات الشيطان‪ .‬وأما من بعد التابعين فق د حكى‬
‫المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثالثة أقوال في ذلك للعلم اء‪،،‬‬
‫وأهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطالق للحالف به‪ ،‬ولم ي زل منهم‬
‫األئمة والفقهاء والمصنفون والمقلدون لهم‪ ،‬وعندنا بأس انيد ص حيحة ال مطعن فيه ا‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/90 :‬‬


‫‪ )(2‬مراتب اإلجماع‪.158 :‬‬
‫‪ )(3‬مراتب اإلجماع‪.159 :‬‬

‫‪411‬‬
‫عن جماعة من أه ل العلم ال ذين هم أهل ه في عص رنا وقبل ه أنهم ك انوا يفت ون به ا‬
‫أحيانا) (‪)1‬‬
‫وقد ذكر أن هذا هو اختيار ابن تيمية‪ ،‬قال مبينا وجاهتها‪(:‬وال يختلف عالمان‬
‫متحليان باإلنصاف أن اختيارات شيخ اإلسالم ال تتقاص ر عن اختي ارات ابن عقي ل‬
‫وأبي الخطاب بل وشيخهما أبي يعلى‪ ،‬فإذا كانت اختيارات هؤالء‪ ،‬وأمثالهم وجوها‬
‫يفتى بها في اإلسالم ويحكم به ا الح اكم فالختي ارات ش يخ اإلس الم أس وة به ا إن لم‬
‫ترجح عليها) (‪)2‬‬
‫اإلشهاد على الطالق‪:‬‬
‫وهو من المخارج التي لم يذكرها ابن القيم‪ ،‬وقد ذكرناها سابقا‪.‬‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين‪.4/117 :‬‬


‫‪ )(2‬إعالم الموقعين‪.4/117 :‬‬

‫‪412‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫حق المطلقة في المتعة‬

‫نتناول في هذا الفص ل حق ا من حق وق المطلق ة ورد االهتم ام ب ه في الق رآن‬


‫الكريم بحيث ذكر في ثالث آي ات من الق رآن الك ريم‪ ،‬وه و ع دد كثيرمقارن ة بع دد‬
‫اآليات المخصصة ألحكام األسرة‪ ،‬وهذه اآليات هي قوله تعالى‪ ﴿:‬اَل ُجنَا َح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ‬ ‫يض ةً َو َمتِّ ُع وه َُّن َعلَى ْال ُم ِ‬ ‫طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء َما لَ ْم تَ َمسُّوه َُّن أَوْ تَ ْف ِرضُوا لَه َُّن فَ ِر َ‬
‫ُوف َحقًّ ا َعلَى ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ (البق رة‪ ،)236:‬وقول ه‬ ‫َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ َمتَا ًع ا بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫فَ َما لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس ِّرحُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪:‬‬
‫ُوف َحقًّا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪)241:‬‬ ‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت َمتَا ٌ‬‫‪ )49‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ولِ ْل ُمطَلَّقَا ِ‬
‫فل ذلك ن رى أن ه ذا الب اب من أهم األب واب ال تي يمكن ال دخول منه ا لحف ظ‬
‫حقوق المطلقة‪ ،‬ولسد التالعب بالطالق‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا سيكون بحثنا في هذا الفصل القصير‪.‬‬
‫تعريف المتعة‪:‬‬
‫من التعاريف التي عرفت بها متعة الطالق‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هي ما يعطي ه ال زوج‪ ،‬ول و عب دا لزوجت ه المطلق ة زي ادة على الص داق‬
‫لجبر خاطرها(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ هي مال يجب على الزوج دفعه المرأته لمفارقته إياها بشروط(‪.)2‬‬
‫حكم المتعة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حق المطلقة في المتعة على قولين(‪:)3‬‬
‫القول األول‪ :‬أنها ليست واجبة لها‪ ،‬وقد روي عن فقه اء المدين ة الس بعة(‪،)4‬‬
‫وهو قول ابن أبي ليلى‪ ،‬وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون‪ ،‬ومالك‪.‬‬
‫وقد نص مالك كما في المدونة على رأيه في المتعة‪ ،‬ودليله عليه ا‪ ،‬فق د ج اء‬
‫فيها‪( :‬قلت‪ :‬أرأيت المتعة في قول مالك أهي لكل مطلق ة؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬إال ال تي س مى‬
‫لها صداقا فطلقها قبل أن يدخل بها فال متعة له ا‪ ،‬وك ذلك ق ال لي مال ك وه ذه ال تي‬
‫استثنيت في القرآن كم ا ذك رت ل ك‪ .‬قلت‪ :‬أرأيت ه ذه ال تي طلقه ا زوجه ا قب ل أن‬

‫‪ )(1‬حاشية الدسوقي‪.2/425 :‬‬


‫‪ )(2‬حاشية الجمل‪.4/264 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬من ار الس بيل‪ ،2/182 :‬الك افي في فق ه ابن حنب ل‪ ،3/107 :‬المغ ني‪ ،7/184 :‬ش رح فتح الق دير‪:‬‬
‫‪ ،3/336‬الفواكه الدواني‪ ،2/36 :‬وغيرها‪.‬‬
‫‪ )( 4‬وقد ضعف الرواية عنهم ابن حزم‪ ،‬قال‪ «:‬عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف »‪ ،‬المحلى‪.10/3:‬‬

‫‪413‬‬
‫يدخل بها ولم يفرض لها صداقا لم ال يجبره مالك على المتع ة؟ وق د ق ال هللا تب ارك‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى‬ ‫وتعالى في هذه بعينها وجعل لها المتعة فقال‪َ ﴿ :‬و َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُم ِ‬
‫ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ ﴾(البقرة‪ )236:‬قال‪ :‬قال مالك‪ :‬إنم ا خف ف عن دي في المتع ة ولم يج بر‬
‫عليه ا المطل ق في القض اء في رأيي ألني أس مع هللا يق ول ﴿ َحقًّ ا َعلَى ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾‬
‫(البقرة‪ )236:‬و﴿ َحقًّا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ )241:‬فلذلك خففت ولم يقض به ا‪ ،‬وق ال‬
‫غيره‪ :‬ألن الزوج إذا كان غير متق فليس علي ه ش يء‪ ،‬وال محس ن‪ ،‬فلم ا قي ل على‬
‫المتقي وعلى المحس ن متاع ا ب المعروف حق ا ب المعروف ولم يكن عام ا على غ ير‬
‫المحسن وال غير المتقي علم أنه مخفف)‬
‫وقد حكي في المدونة عن ابن أبي سلمة‪ :‬المتاع أم ر رغب هللا في ه وأم ر ب ه‬
‫ولم ينزل بمنزلة الفرض من النفقة والكس وة‪ ،‬وليس تع دى علي ه األئم ة كم ا تع دى‬
‫على الحقوق وهي ﴿ َعلَى ْال ُمو ِس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ ﴾(البقرة‪)236:‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب المتعة للمطلقة‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬على اختالف بينهم‬
‫في محل الوجوب كما سنرى‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ض وا‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪ ﴿:‬اَل ُجنَا َح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء َم ا لَ ْم تَ َم ُّس وه َُّن أَوْ تَ ْف ِر ُ‬
‫ُوف َحقّ اً‬‫ضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُمو ِس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ َمتَا ًع ا بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫لَه َُّن فَ ِري َ‬
‫َعلَى ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾(البق رة‪ ،)236:‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا نَكَحْ تُ ْم‬
‫ت ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم وه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن فَ َم ا لَ ُك ْم َعلَ ْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّدونَهَا‬‫ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ت َمتَ ا ٌ‬
‫ع‬ ‫فَ َمتِّعُوه َُّن َو َس ِّرحُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األحزاب‪ )49:‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ولِ ْل ُمطَلَّقَا ِ‬
‫ُوف َحقًّا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ ،)241:‬وقد اس تدل باآلي ة على وج وب المتع ة‬ ‫بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫من الوجوه التالية‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬قوله تع الى‪ ﴿:‬فَ َمتِّ ُع وه َُّن ﴾(األح زاب‪ ﴾ )49:‬ألن ه أم ر‪ ،‬واألم ر‬
‫يقتضي الوجوب حتى تقوم الداللة على الندب‪.‬‬
‫ُوف َحقّ ا َعلَى ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿:‬متَا ًع ا بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫‪ )236‬وليس في ألفاظ اإليجاب آكد من قوله (حقا عليه)‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬قوله تعالى‪ ﴿:‬حقا على المحسنين ﴾ تأكيد إليجابه ؛ إذ جعلها من‬
‫شرط اإلحسان‪ ،‬وعلى كل أحد أن يكون من المحس نين‪ ،‬وك ذلك قول ه تع الى‪َ ﴿:‬حقًّ ا‬
‫َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾ ق د دل قول ه (حق ا علي ه) على الوج وب‪ ،‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬حق ا على‬
‫المتقين ﴾ تأكيد إليجابها‪.‬‬
‫اًل‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الوجه الرابع‪ :‬قوله تعالى‪ ﴿:‬ف َمتعُوهُن َو َسرِّ حُوهُن َس َراحًا َج ِمي ﴾ (األح زاب‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫ع‬‫ت َمتَ ا ٌ‬ ‫‪ )49‬ق د دل على الوج وب من حيث ه و أم ر‪ .‬وقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ولِ ْل ُمطَلَّقَ ا ِ‬
‫ُوف َحقًّا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ )241:‬يقتضي الوجوب أيضا ؛ ألنه جعلها لهم‪،‬‬ ‫بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫وما كان لإلنسان فهو ملكه له المطالبة به‪ ،‬كقولك (هذه الدار لزيد)‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن استدالل المخالفين بأنه لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب‬
‫المتعة عليهم‪ ،‬دل على أنها غير واجبة وأنه ا ن دب ؛ ألن الواجب ات ال يختل ف فيه ا‬
‫المتقون والمحسنون وغيرهم‪ ،‬غير صحيح‪ ،‬وقد ردوا عليه من الوجوه التالية‪:‬‬

‫‪414‬‬
‫الوج ه األول‪ :‬أن ه إنم ا ذك ر المتقين والمحس نين تأكي دا لوجوبه ا‪ ،‬وليس‬
‫تخصيصهم بالذكر نفيا إليجابها على غيرهم كما قال تعالى ﴿ هُدًى لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ (البقرة‪:‬‬
‫نز َل فِي ِه ْالقُرْ آنُ هُ دًى‬ ‫ُ‬
‫ضانَ الَّ ِذي أ ِ‬ ‫‪ )2‬وهو هدى للناس كافة‪ ،‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ش ْه ُر َر َم َ‬
‫اس ﴾(البقرة‪ )185:‬فلم يكن قوله تعالى‪ ﴿:‬هُدًى لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ )2:‬موجبا ؛ ألن ال‬ ‫لِلنَّ ِ‬
‫يكون هدى لغيرهم ؛ كذلك قوله تعالى‪ ﴿:‬حقا على المتقين ﴾ و﴿حقا على المحس نين ﴾‬
‫غير ناف أن يكون حقا على غيرهم‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬إنا نوجبها على المتقين والمحسنين باآلية ونوجبها على غيرهم‬
‫بقوله تعالى‪ ﴿:‬فَ َمتِّ ُع وه َُّن َو َس رِّ حُوه َُّن َس َراحًا َج ِمياًل ﴾(األح زاب‪ )49:‬وذل ك ع ام في‬
‫الجميع باالتفاق ؛ ألن كل من أوجبها من فقه اء األمص ار على المحس نين والمتقين‬
‫أوجبها على غيرهم‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أنه يلزم على قول المخالفين أن ال يجعلها ن دبا أيض ا ؛ ألن م ا‬
‫كان ندبا ال يختلف فيه المتقون وغ يرهم‪ ،‬ف إذا ج از تخص يص المتقين والمحس نين‬
‫بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم فيه سواء‪ ،‬فكذلك ج ائز تخص يص‬
‫المحسنين والمتقين بالذكر في اإليجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن كل مسلم في العالم فهو محسن متق‪ ،‬من المحس نين المتقين‪،‬‬
‫ولو لم يقع اسم محس ن‪ ،‬ومت ق إال على من يحس ن ويتقي في ك ل أفعال ه لم يكن في‬
‫األرض محس ن‪ ،‬وال مت ق بع د رس ول هللا ‪ ‬إذ ال ب د لك ل من دون ه من تقص ير‪،‬‬
‫وإساءة لم يكن فيها من المحسنين‪ ،‬وال من المتقين‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أن ه ل و حملت اآلي ة على م ا ذك ر المخ الفين يك ون كالم هللا‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬حقا على المحسنين ﴾ ﴿ حقا على المتقين ﴾ فارغ ا ولغ وا وب اطال‪ ،‬وه ذا ال‬
‫يحل ألحد أن يعتقده‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن م ا ذك ره المخ الفون من أن ه ذه اآلي ة‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وإِ ْن‬
‫يضةً﴾(البقرة‪ )237:‬نسخت التي‬ ‫طَلَّ ْقتُ ُموه َُّن ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َمسُّوه َُّن َوقَ ْد فَ َرضْ تُ ْم لَه َُّن فَ ِر َ‬
‫ُوف ﴾(البقرة‪ ،)241:‬فإنه ال يصح‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬ال‬ ‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت َمتَا ٌ‬ ‫﴿ولِ ْل ُمطَلَّقَا ِ‬
‫بعدها َ‬
‫يصدق أح د على إبط ال حكم آي ة منزل ة إال بخ بر ث ابت عن رس ول هللا ‪ ‬فكي ف‬
‫وليس في اآلية التي ذكر شيء يخالف التي زعم أنها نسختها؟ فكلتاهما حق)‬
‫‪ 4‬ـ أن اس تدالل المخ الفين بع دم تخص يص المتقين والمحس نين في س ائر‬
‫الديون من الصداق وسائر عقود المداينات عن د إيجابه ا عليهم وخص هم ب ذلك عن د‬
‫ذكر المتعة‪ ،‬وأن ذلك يدل على أنها ليست بواجبة غير صحيح من وجهين‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أنه إذا كان لف ظ اإليج اب موج ودا في الجمي ع‪ ،‬ف الواجب علين ا‬
‫الحكم بمقتض ى اللف ظ ثم تخصيص ه بعض من أوجب علي ه الح ق ب ذكر التق وى‪،‬‬
‫واإلحسان إنما هو على وجه التأكيد‪ ،‬ووجوه التأكي د مختلف ة‪ ،‬فمنه ا م ا يك ون ذك ر‬
‫بتقييد التقوى واإلحسان‪ ،‬ومنها ما يك ون بتخص يص لف ظ األداء نح و قول ه تع الى‪:‬‬
‫اؤتُ ِمنَ أَ َمانَتَ هُ‬
‫ص ُدقَاتِ ِه َّن نِحْ لَةً ﴾(النساء‪ )4:‬وقوله تع الى‪ ﴿:‬فَ ْليُ ؤَ ِّد الَّ ِذي ْ‬ ‫﴿ َوآتُوا النِّ َسا َء َ‬
‫ق هَّللا َ َربَّهُ ﴾(البقرة‪ ،)283:‬ومنها ما يكون باألمر باإلشهاد علي ه‪ ،‬وال رهن ب ه ؛‬ ‫َو ْليَتَّ ِ‬

‫‪415‬‬
‫فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي اإليجاب؟‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬أن عق د النك اح ال يخل و من إيج اب الب دل إن ك ان مس مى‪،‬‬
‫فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل‪ ،‬ثم ك انت حال ه إذا ك ان في ه تس مية أن‬
‫البضع ال يخلو من استحقاق البدل له مع ورود الطالق قبل الدخول‪ ،‬وف ارق النك اح‬
‫بهذا المعنى سائر العقود ؛ ألن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب س قوط الثمن كل ه‪،‬‬
‫وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطالق قبل الدخول ال يخرجه من استحقاق بدل ما‬
‫وهو نصف المسمى‪ ،‬فوجب أن يك ون ذل ك حكم ه إذا لم تكن في ه تس مية‪ ،‬والمع نى‬
‫الجامع بينهما ورود الطالق قبل الدخول‪.‬‬
‫وقد اختلف أصحاب هذا القول على اآلراء التالية‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬وجوب المتعة لكل المطلق ات مطلق ا‪ ،‬وق د روي ذل ك عن علي‬
‫بن أبي ط الب‪ ،‬والحس ن‪ ،‬وس عيد بن جب ير‪ ،‬وأبي قالب ة‪ ،‬والزه ري‪ ،‬وقت ادة‪،‬‬
‫والض حاك‪ ،‬وأبي ث ور‪ ،‬وه و رواي ة عن أحمد(‪ ،)1‬وأبل غ من ب الغ في ذل ك م ذهب‬
‫الظاهرية‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬المتعة فرض على كل مطلق واح دة أو اثن تين أو ثالث ا أو‬
‫آخر ثالث وطئها أو لم يطأها فرض لها صداقها أو لم يفرض له ا ش يئا أن يمتعه ا‪،‬‬
‫وكذلك المفتدية أيضا ويجبره الحاكم على ذلك أحب أم كره)‪ ،‬وال يسقط التمتع عنده‬
‫عن المطلق مراجعته إياها في العدة وال موته وال موته ا‪ ،‬والمتع ة له ا أو لورثته ا‪،‬‬
‫ولم يستثن إال من انفسخ نكاحه منها بغير طالق‪.‬‬
‫وقد حكى ابن حزم هذا المذهب عن جملة من السلف ال بأس من ذكر أقوالهم‬
‫هنا مبتورة عن أسانيدها‪ ،‬فعن إياس بن عامر‪ :‬أن ه س مع علي بن أبي ط الب يق ول‪:‬‬
‫لك ل مطلق ة متع ة‪ ،‬وعن الزه ري ق ال‪ :‬لك ل مطلق ة متع ة‪ ،‬وس ئل ابن ش هاب عن‬
‫المملك ة والمخ يرة؟ فق ال ابن ش هاب‪ :‬ك ل مطلق ة في األرض له ا مت اع‪ ،‬وعن‬
‫الزهري‪ ،‬قال‪ :‬للمختلعة المتعة‪ ،‬التي جمعت‪ ،‬والتي لم تجمع س واء‪ ،‬وعن س عيد بن‬
‫ُوف َحقًّ ا َعلَى‬
‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت َمتَا ٌ‬‫تعالى‪﴿:‬ولِ ْل ُمطَلَّقَا ِ‬
‫َ‬ ‫جبير قال‪ :‬لكل مطلقة متعة وتال قوله‬
‫ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ )241:‬وعن أبي قالبة‪ ،‬قال‪ :‬لكل مطلقة متعة‪ ،‬وعن عطاء قال‪ :‬لكل‬
‫امرأة افتلتت نفسها من زوجها فلها المتعة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ُوف َحق ا َعلى‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫ت َمت اع بِ ال َم ْعر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ومن األدلة على ذلك قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬ولِل ُمطلقا ِ‬
‫ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البقرة‪ ،)241:‬قال ابن حزم‪(:‬فعم عز وجل ك ل مطلق ة ولم يخص وأوجب ه‬
‫لها على كل متق يخاف هللا تعالى) (‪)2‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬أنها فرض على المتقين‪ ،‬والمحسنين دون غ يرهم‪ ،‬فعن محم د‬
‫بن سيرين قال‪ :‬شهدت شريحا وأتوه من متاع‪ ،‬فقال‪ :‬ال ت أب أن تك ون من المتقين؟‬
‫قال‪ :‬إني محتاج ق ال‪ :‬ال ت أب أن تك ون من المحس نين؟ ق ال أي وب‪ :‬قلت لس عيد بن‬
‫جبير‪ :‬لكل مطلقة متاع؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬إن كان من المتقين‪ ،‬إن كان من المحس نين‪ ،‬ق ال‬

‫‪ )(1‬وهو خالف الظاهر‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬


‫‪ )(2‬المحلى‪.10/3:‬‬

‫‪416‬‬
‫أيوب‪ :‬وسأل عكرمة رجل فقال‪ :‬إني طلقت امرأتي فه ل علي متع ة؟ ق ال‪ :‬إن كنت‬
‫من المتقين‪ ،‬فنعم‪.‬‬
‫واستدلوا علىهذا كما يذكر ابن حزم بظاهر كالم هللا تعالى‪.‬‬
‫الرأي الثالث‪ :‬ال تجب المتعة إال للتي طلقت قبل أن توطأ‪ ،‬سمي لها الص داق‬
‫أو لم يسمى‪ ،‬فهذه تجب لها المتعة فرضا‪ ،‬وقد روي عن ابن عباس ق ال‪ :‬إذا ف وض‬
‫إلى الرج ل فطل ق قب ل أن يمس؟ فليس له ا إال المت اع‪ ،‬وه و ق ول س فيان الث وري‪،‬‬
‫والحس ن بن حي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأبي حنيف ة‪ ،‬وأص حابه‪ .‬إال أن األوزاعي ق ال‪ :‬ال‬
‫متعة على عبد‪ .‬إال أن أبا حنيفة قال‪ :‬من تزوج ولم يذكر مه را ثم ف رض له ا مه را‬
‫برضاه وبرضاها ‪ -‬وقد فرض لها القاضي مهر المثل ‪ -‬ثم طلقها قبل أن يدخل بها‪،‬‬
‫فإن ذلك المهر يبطل‪ ،‬وال يجب لها إال المتعة(‪.)1‬‬
‫اح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء َم ا لَ ْم‬ ‫ومن األدلة على ذلك قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬اَل ُجنَ َ‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ‬ ‫ضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُم ِ‬‫تَ َمسُّوه َُّن أَوْ تَ ْف ِرضُوا لَه َُّن فَ ِري َ‬
‫ُوف َحقًّا َعلَى ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾(البقرة‪)236:‬‬ ‫َمتَاعًا بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ال رأي الرابع‪ :‬لك ل مطلق ة متع ة‪ ،‬إال ال تي طلقت قب ل أن تمس‪ ،‬من غ ير‬
‫تسمية‪ ،‬وقد روي عن أحمد‪ ،‬فظاهر المذهب أن المتعة ال تجب إال للمفوضة التي لم‬
‫يدخل بها إذا طلقت‪ .‬قال أب و بك ر‪ :‬ك ل من روى عن أبي عب د هللا فيم ا أعلم‪ ،‬روى‬
‫عنه أنه ال يحكم بالمتعة إال لمن لم يسم لها مهر‪ ،‬إال حنبال‪ ،‬فإنه روى عن أحم د أن‬
‫لكل مطلقة متاع ا‪ .‬ق ال أب و بك ر‪ :‬والعم ل علي ه عن دي ل وال ت واتر الرواي ات عن ه‬
‫بخالفها‪.‬‬
‫اح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َس ا َء َم ا لَ ْم‬ ‫واس تدلوا على ذل ك بقول ه تع الى‪ ﴿:‬اَل ُجنَ َ‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ‬ ‫ضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى ْال ُم ِ‬‫تَ َمسُّوه َُّن أَوْ تَ ْف ِرضُوا لَه َُّن فَ ِري َ‬
‫ُوف َحقًّا َعلَى ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾(البقرة‪ ،)236:‬ثم قال تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن طَلَّ ْقتُ ُموه َُّن‬ ‫َمتَاعًا بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫يض ةً﴾(البق رة‪ )237:‬فق د خص األولى‬ ‫ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن تَ َم ُّس وه َُّن َوقَ ْد فَ َر ْ‬
‫ض تُ ْم لَه َُّن فَ ِر َ‬
‫بالمتعة‪ ،‬والثانية بنصف المفروض‪ ،‬م ع تقس يمه النس اء قس مين‪ ،‬وإثبات ه لك ل قس م‬
‫حكما‪ ،‬فيدل ذلك على اختصاص كل قسم بحكمه‪ ،‬وهذا يخص ما ذكروه‪.‬‬
‫ق ال ابن قدام ة‪(:‬ويحتم ل أن يحم ل األم ر بالمت اع في غ ير المفوض ة على‬
‫االس تحباب ؛ لدالل ة اآلي تين الل تين ذكرناهم ا على نفي وجوبه ا‪ ،‬جمع ا بين دالل ة‬
‫اآليات والمعنى‪ ،‬فإن ه ع وض واجب في عق د‪ ،‬ف إذا س مي في ه ع وض ص حيح‪ ،‬لم‬
‫يجب غيره‪ ،‬كسائر عقود المعاوضة‪ ،‬وألنها ال تجب لها المتعة قبل الفرق ة‪ ،‬وال م ا‬
‫يقوم مقامها‪ ،‬فلم تجب لها عند الفرقة‪ ،‬كالمتوفى عنها زوجها)‬
‫فإن فرض لها بعد العقد‪ ،‬ثم طلقها قبل ال دخول‪ ،‬فله ا نص ف م ا ف رض له ا‪،‬‬
‫وال متعة‪ ،‬قال ابن قدامة‪( :‬وهذا وعن أحمد أن لها المتعة‪ ،‬يسقط المه ر‪ .‬وه و ق ول‬
‫أبي حنيفة ؛ ألنه نكاح عري عن تسميته‪ ،‬فوجبت به المتعة‪ ،‬كما لو لم يفرض لها)‬
‫‪ )( 1‬ألن مذهبهم أن المتعة خلف عن مهر المثل في المفوضة‪ ،‬وهي التي زوجت بال مهر مس مى‪ ،‬انظ ر‪ :‬فتح‬
‫القدير‪.3/337:‬‬

‫‪417‬‬
‫ال رأي الخ امس‪ :‬لك ل مطلق ة متع ة إال ال تي ف رض له ا‪ ،‬ولم تمس فحس بها‬
‫نصف الصداق‪ ،‬وهو قول ابن عمر‪ ،‬وعطاء‪ ،‬والشعبي‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأبي‬
‫عبيد‪.‬‬
‫قال الشافعي في بيان وجه ال دليل على ه ذا الق ول‪(:‬وه ذا يواف ق الق رآن في ه‬
‫وقوله فيمن سواها من المطلقات أن لها متعة يوافق القرآن لق ول هللا ج ل ثن اؤه ﴿ اَل‬
‫يضةً َو َمتِّعُوه َُّن َعلَى‬ ‫َاح َعلَ ْي ُك ْم إِ ْن طَلَّ ْقتُ ْم النِّ َسا َء َما لَ ْم تَ َمسُّوه َُّن أَوْ تَ ْف ِرضُوا لَه َُّن فَ ِر َ‬
‫ُجن َ‬
‫ْ‬
‫ُوف َحقا َعلَى ال ُمحْ ِسنِينَ ﴾(البقرة‪)236:‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ال ُمقتِ ِر قَ َد ُرهُ َمتَاعًا بِال َم ْعر ِ‬ ‫ْال ُم ِ‬
‫ُوف َحقًّ ا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾(البق رة‪)241:‬‬ ‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت َمتَ ا ٌ‬‫﴿ولِ ْل ُمطَلَّقَ ا ِ‬
‫وقال هللا جل ذك ره َ‬
‫قلت‪ :‬فإنما ذهبنا إلى أن هذا إنما هو لمن ابت دأ ال زوج طالق ه فيه ا أرأيت المختلع ة‬
‫والمملكة فإن هاتين طلقتا أنفسهما قال‪ :‬أليس الزوج ملكها ذلك وملكه التي حل ف أن‬
‫ال تخرج فخ رجت وملك ه رجال يطل ق امرأت ه ثم ف رقت بينهن وبين المطلق ات في‬
‫المتعة ثم فرقت بين أنفسهن وكلهن طلقها غير الزوج إال أن ابتداء الطالق الذي ب ه‬
‫كان من ال زوج؟ ف إن قلت‪ :‬ألن هللا إنم ا ذك ر المطلق ات والمطلق ات الم رأة يطلقه ا‬
‫زوجها فإن اختلعت عندك فليس ال زوج ه و المطل ق‪،‬ألن ه أدخ ل قب ل الطالق ش يئا‬
‫َّص نَ بِأَنفُ ِس ِه َّن‬ ‫لزمك أن تخالف معنى القرآن ألن هللا تعالى يقول‪َ ﴿ :‬و ْال ُمطَلَّقَ ُ‬
‫ات يَت ََرب ْ‬
‫ثَاَل ثَةَ قُرُو ٍء ﴾(البقرة‪ )228:‬فإن زعمت أن المملكة والمختلعة ومن سمينا من النس اء‬
‫يتربصن بأنفسهن ثالثة ق روء مطلق ات ألن الطالق ج اء من ال زوج إذا قب ل الخل ع‬
‫وجع ل إليهن الطالق وإلى غ يرهن فطلقهن فه و المطل ق وعلي ه يح رمن فك ذلك‬
‫المختلعات ومن سمينا منهن مطلقات لهن المتعة في كتاب هللا ثم قول ابن عمر)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول بوجوب المتعة للمطلقات مطلقا‪ ،‬وه و‬
‫ُوف َحقًّ ا َعلَى ْال ُمتَّقِينَ ﴾‬
‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ما يدل علي ه ظ اهر قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ولِ ْل ُمطَلَّقَ ا ِ‬
‫ت َمتَ ا ٌ‬
‫(البقرة‪ ،)241:‬وحسبنا في إلزام من قالوا بعدم الوجوب اس تدالال بفاص لة اآلي ة م ا‬
‫قاله ابن حزم في الرد عليهم‪(:‬ومن عجائب الدنيا احتج اج من قل ده لق ولهم ه ذا ب أن‬
‫هللا تع الى إنم ا أوجبه ا على المتقين والمحس نين ال على غ يرهم؟ فقلن ا لهم‪ :‬فهبكم‬
‫ص ادقين في ذل ك‪ ،‬أتوجبونه ا أنتم على من أوجبه ا هللا تع الى علي ه من المتقين‬
‫والمحسنين أو ال؟ فإن قالوا‪ :‬ال‪ ،‬أقروا بخالفهم لقول هللا تعالى‪ ،‬وأبطل وا احتج اجهم‬
‫المذكور‪ ،‬وإن قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬تركوا مذهبهم)‬
‫أما متى تجب؟ فنرى رجح ان م ا ذهب إلي ه ابن ح زم من وجوبه ا على ك ل‬
‫مطلق‪ ،‬وفي كل نوع من أنواع الطالق ألن اآليات الواردة في ذلك لم تس تثن ش يئا‪،‬‬
‫وفي هذا من المص الح الش رعية ـ زي ادة على م ا ذك ره الفقه اء من دف ع بعض م ا‬
‫يصيب الزوجة من ضرر بسبب الطالق ـ ال ردع عن الطالق خاص ة لمن يتالعب‬
‫به فيطلق كما يهوى العتق اده بس هولة الرجع ة‪ ،‬ف إذا علم في ح ال تطليق ه لزوجت ه‬
‫بلزوم تمتيعها ال يطلق إال طالق راغب ال طالق متالعب أو مهدد‪.‬‬
‫من تجب عليه المتعة‪:‬‬

‫‪418‬‬
‫اتفق الفقهاء القائلون بوجوب المتعة على أنه ا واجب ة على ك ل زوج يس توي‬
‫في ذلك الحر والعبد‪ ،‬والمسلم والذمي‪ ،‬والح رة واألم ة‪ ،‬والمس لمة والذمي ة‪ ،‬وحكي‬
‫عن أبي حنيفة‪ :‬ال متعة للذمية‪ ،‬وقال األوزاعي‪ :‬إن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا‪،‬‬
‫فال متعة‪.‬‬
‫واألرجح أنها واجبة على كل من صدق عليه اسم الزوج لعم وم النص وص‪،‬‬
‫وألن ما يجب من العوض يستوي فيه المسلم والكافر‪ ،‬والحر والعبد‪ ،‬كالمهر‪.‬‬
‫مقدار المتعة‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في مقدار المتعة على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن المتعة معتبرة بحال ال زوج‪ ،‬في يس اره وإعس اره‪ ،‬فأعاله ا‬
‫خادم‪ ،‬وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها‪ ،‬إال أن يشاء هو أن يزي دها‪ ،‬أو تش اء‬
‫هي أن تنقصه وقد نص عليه أحمد‪ ،‬وهو وجه للشافعية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫وس ِع قَ َد ُرهُ َو َعلَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ ﴾(البق رة‪)236:‬‬
‫‪ 1‬ـ قول هللا تع الى‪َ ﴿:‬علَى ْال ُم ِ‬
‫وهذا نص في أنها معتبرة بحال الزوج وأنها تختلف‪ ،‬ولو أجزأ ما يق ع علي ه االس م‬
‫سقط االختالف‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ولو اعتبر بحال المرأة لما كان على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن الكسوة الواجبة بمطلق الشرع تتقدر بذلك‪ ،‬كالكس وة في الكف ارة‪ ،‬والس ترة‬
‫في الص الة‪ ،‬وروي أن عب د ال رحمن بن ع وف طل ق امرأت ه تماض ر الكلبي ة‪ ،‬فحممه ا‬
‫بجارية سوداء‪ .‬يعني متعها‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في كيفية تقدير ذلك على الرأيين التاليين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬أن أعالها خادم إذا كان موسرا‪ ،‬وإن كان فقيرا متعه ا كس وتها‬
‫درعا وخمارا وثوبا تصلي فيه‪ ،‬وهو قول ابن عباس‪ ،‬والزهري‪ ،‬والحس ن ق ال ابن‬
‫عباس‪ :‬أعلى المتعة الخادم ثم دون ذلك النفقة‪ ،‬ثم دون ذلك الكسوة‪ .‬ونحو ما ذكرن ا‬
‫في أدناها قال الثوري‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وعطاء‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وأصحاب ال رأي‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬درع وخمار وملحفة‪.‬‬
‫فإن سمح لها بزي ادة على الخ ادم‪ ،‬أو رض يت بأق ل من الكس وة‪ ،‬ج از ؛ ألن‬
‫الحق لهما‪ ،‬ال يخرج عنهما‪ ،‬وهو مما يجوز بذله‪ ،‬فجاز م ا اتفق ا علي ه‪ ،‬كالص داق‪.‬‬
‫وقد روي عن الحسن بن علي ما‪ ،‬أنه متع ام رأة بعش رة آالف درهم‪ ،‬فق الت‪ :‬مت اع‬
‫قليل من حبيب مفارق‪.‬‬
‫الرأي الث اني‪ :‬أنه يرج ع في تق ديرها إلى الح اكم‪ ،‬وه و أح د ق ولي الش افعي‬
‫ورواية عن أحمد؛ ألنه أمر لم يرد الشرع بتقديره‪ ،‬وه و مم ا يحت اج إلى االجته اد‪،‬‬
‫فيجب الرجوع فيه إلى الحاكم‪ ،‬كسائر المجتهدات‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هو معتبر بحال الزوجة‪ ،‬وهو وجه للشافعية‪ ،‬ألن المهر معت بر‬
‫بها‪ ،‬كذلك المتعة القائمة مقامه‪ ،‬وفي رواية عن أحمد أنها مقدرة بما يصادف نصف‬
‫مهر المثل ؛ ألنها بدل عن ه فيجب أن تتق در ب ه‪ .‬وه ذه الرواي ة تض عف ل وجهين ؛‬
‫أحدهما‪ ،‬أن نص الكتاب يقتضي تقديرها بحال الزوج‪ ،‬وتقديرها بنصف مهر المث ل‬

‫‪419‬‬
‫يوجب اعتبارها بحال الم رأة ؛ ألن مهره ا معت بر به ا ال بزوجه ا‪ .‬الث اني‪ ،‬أن ا ل و‬
‫ق درناها بنص ف المه ر لك انت نص ف المه ر‪ ،‬إذ ليس المه ر معين ا في ش يء وال‬
‫المتعة‪.‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬يج زئ في المتع ة ك ل م ا يق ع علي ه االس م‪ ،‬كم ا يج زئ في‬
‫الصداق ذلك‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن العبرة بما تراضى عليه الطرفان مطلقا‪،‬‬
‫وفي حال التنازع فإن األرجح هو الرأي الثاني ألن الحاكم هو الذي يفصل في ه ذه‬
‫األمور عند التنازع‪ ،‬والحاكم في هذا يقرر ما ال يتضرر به كال الزوجين على تقديم‬
‫أكثر الطرفين تضررا‪.‬‬

‫‪420‬‬

You might also like