You are on page 1of 93

‫فوائد رمضانية‬

‫سنة ‪ 1439‬هـ‬

‫د‪ .‬فهمي إسالم جيوانتو‬

‫‪1‬‬
‫الفائدة األوىل‪:‬‬

‫آ ن ل لروح أن تقول كلمتها ‪...‬‬

‫جاء رمضان‪ ....‬كذكل لك س نة‪ ،‬هل هو زمان اجلوع والعطش والتعب؟ أم‬
‫وقت النشاط والانتعاش؟‬
‫مفن بىن حياته عىل اللك والرشب فهو مرضوب مكسور يف هذا الشهر‪ .‬ومن‬
‫اكنت حياته قامئة عىل قوة ارادته وعلو مهته‪ ،‬مفا زاد رمضان اال نشاطا واقداما‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ان حركة االنسان ليست جمرد نتاج التفاعالت الكمييائية داخل اجلسد‪ ،‬بل‬
‫يه مثار االرادة وفعل الروح‪ ،‬بل الروح يه الصل واال مفا قمية الطني لوال أن هللا نفخ‬
‫فيه الروح؟‪...‬‬
‫س ئل االمام الشافعي ‪ -‬عليه رمحة هللا‪ -‬وقيل هل‪ :‬اي امام! هل الروح يه اليت‬
‫حتمل اجلسد أم أن اجلسد هو اذلي حيمل الروح؟‬
‫فقال‪ :‬بل ان الروح يه اليت حتمل اجلسد‪ ،‬بدليل أن الروح اذا فارقت اجلسد‬
‫وقع‪.‬‬
‫وها قد جاء رمضان حيث منع املسمل من اللك والرشب طيةل الهنار‪ ،‬هنا يتأخر‬
‫اجلسد وتتقدم الروح‪...‬‬

‫‪2‬‬
‫نقص الغذاء املادي‪ ،‬مفاذا يفعل الغذاء الرويح؟ فالآن جاءت الروح لتظهر‬
‫مدى قوهتا وحصهتا‪ ،‬مفن اكنت روحه ضامرة ضعيفة‪ ،‬فانه س يعيش فرتة مؤملة خالل هذا‬
‫الشهر‪ ،‬ومن اكنت روحه حصيحة قوية فالآن شهر النشاط والانطالق‪...‬‬
‫نسأل هللا العون والتوفيق‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 1 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪3‬‬
‫الفائدة الثانية‬

‫التزكية ال بد هلا من ال قصد‬

‫ان تزكية النفوس يه أمه مقاصد الصوم‪ .‬وقد ّبني تعاىل أن التقوى يه الهدف‬
‫املنشود من هذه العبادة‪{ .‬ي َ آأَُّيه َا أ ذ ِذل َين َءا َمنُو ۟ا ُك ِت َب عَلَ ْي ُ ُُك أ ّ ِلص َيا ُم َ َمَك ُك ِت َب عَ َىل أ ذ ِذل َين ِمن‬
‫ون} [البقرة‪]183 :‬‬ ‫قَ ْب ِل ُ ُْك لَ َعل ذ ُ ُْك تَتذ ُق َ‬
‫ان الصيام من أكرب أس باب التقوى– كام قال العالمة عبد الرمحن السعدي رمحه‬
‫هللا‪ .‬ولكن هل تزكو النفوس مبجرد الامتناع عن اللك والرشاب؟‬
‫ان قول النيب ‪-‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬م ْن لَ ْم يَدَ ْع قَ ْو َل هالز ِور َوال َع َم َل ِب ِه‪ ،‬فَلَيْ َس‬
‫َشاب َ ُه» يشري اىل أن الامتناع عن اللك والرشاب ال‬ ‫ِ ذ ِّلِل َحا َج ٌة ِيف َأ ْن يَدَ َع َط َعا َم ُه َو َ َ‬
‫يكفي لن يأيت الصيام بامثره املرجوة‪.‬‬
‫وقد حذر النيب صىل هللا عليه وسمل من الصوم اذلي ليس فيه اال الامتناع عن‬
‫اللك والرشاب‪ ،‬فال حيصل الصامئ اال عىل اجلوع والعطش‪ .‬ففي اجلامع الصحيح َع ْن ا ْب ِن‬
‫امئ لَيْ َس‬‫وسمل ‪ُ " :-‬ر ذب َص ِ ٍ‬
‫هللا عليه ذ‬ ‫هللا ‪ -‬صىل ُ‬ ‫ول ِ‬ ‫ُ َُع َر ‪ -‬ريض هللا عهنام ‪ -‬قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُس ُ‬
‫َ ُهل ِم ْن ِص َيا ِم ِه ا ذال الْ ُجو ُع َوالْ َع َط ُش‪".‬‬
‫ِ‬
‫مفن أراد أن يزيك نفسه ابلصوم ال بد أن يسعى لهذا القصد‪ .‬فالزتكية فعل مقصود‬
‫وليس حداث عارضا يصادف الصامئ "أتوماتيكيا"‪ .‬مفن أمهل نفسه واتبع هواه مل يتطهر‪ ،‬ولو‬
‫َاب َمن د ذَس ٰىه َا} [الشمس‪:‬‬ ‫أجاع بطنه ألف س نة‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬قَدْ َأفْلَ َح َمن َزكذٰىه َا ‪َ .‬وقَدْ خ َ‬
‫‪ ]10-9‬فال يفلح اال من قصد اىل التخلص من الخالق الرديئة واخلصال اذلممية‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫وقال تعاىل‪{ :‬قَدْ َأفْلَ َح َمن تَ َز ذ هّك} [العىل‪ّ ]14 :‬‬
‫فالزتيك من التف ّعل‪ ،‬فال بد من‬
‫بذل اجلهد حىت يصل االنسان اىل النتيجة املطلوبة‪.‬‬
‫وأول خطوة اىل تطهري النفس يه معرفة عيوهبا ونقائصها‪ ،‬مفن مل يعرف أو مل‬
‫يعرتف بعيوبه وأخطائه لن حيصل عىل التطهري‪ .‬وبعد معرفة العيوب والخطاء‪ ،‬ال بد من‬
‫ص عىل حاالته السيئة وأفعاهل القدمية لن يتطهر‪ .‬مث‬
‫التخلص ومهنا والتخيل عهنا‪ ،‬مفن أ ّ‬
‫تكمتل ُعلية الزتكية ابكتساب خصال جديدة محيدة‪ ،‬وحتسني أحوال االنسان االميانية‪.‬‬
‫وقد مسى أهل السلوك هذه اخلطوات ابلتخلية مث التحلية مث التجلية‪ .‬لك ذكل ال‬
‫يكون اال بتوفيق من هللا‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ولَ ْو َال فَضْ ُل أ ذ ِّلِل عَلَ ْي ُ ُْك َو َر ْ َمح ُت ُهۥ َما َز َ هّك ِم ُنُك ِّم ْن‬
‫َأ َح ٍد َأبَدًۭ ا َولَـ ِكن ذأ ذ َّلِل يُ َز ِ ّّك َمن يَشَ ا آ ُء ۗ َوأ ذ ُّلِل َ ِمسي ٌع عَ ِليم} [النور‪]21 :‬‬
‫هداان هللا واايمك للتقوى‪ ،‬اللهم أآت نفوس نا تقواها‪ ،‬وزكّها أنت خري من زاكها‪،‬‬
‫أنت ولهيا وموالها‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 2 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪5‬‬
‫الفائدة الثالثة‪:‬‬

‫السعادة الكربى للروح‬

‫روى الش يخان يف حصيحهيام أن النيب صىل هللا عليه وسمل قال‪ِ " :‬ل ذلص ِ ِ‬
‫امئ فَ ْر َحتَ ِان‪ :‬فَ ْر َح ٌة‬
‫ِع ْندَ ِف ْط ِر ِه‪َ ،‬وفَ ْر َح ٌة ِع ْندَ ِلقَا ِء َربِّه"‪.‬‬
‫يه فرحتان‪ :‬قريبة عاجةل وبعيدة أآجةل‪ ،‬واملؤجةل مهنام أعظم وأرىق من العاجلةل‪ ،‬وان اكنت‬
‫الوىل خريا وبركة‪ ،‬لكن الثانية أرىق وأمسى‪{َ .‬ولَ ْلآ ِخ َر ُة خ ْ ٌَري ذ َكل ِم َن ْ ُال َ ه‬
‫وىل} [الضحى‪]4 :‬‬
‫تألك اللكة أو ترشب فتبس مت وتبهتج‪ ،‬يه فرحة ال يعدهما الصامئ‪ .‬ليست يه فرحة اللك‬
‫والرشاب‪ ،‬بل فرحة الطاعة وفرحة االجناز وفرحة المتكن من الس يطرة عىل النفس‪ { .‬قُ ْل‬
‫ون} [يونس‪]58 :‬‬ ‫اّلِل َو ِب َر ْ َمح ِت ِه فَب َِذ ِ َكل فَلْ َي ْف َر ُحوا ه َُو خ ْ ٌَري ِّم ذما َ ْي َم ُع َ‬
‫ِبفَضْ ِل ذ ِ‬
‫والنفوس تتفاوت درجاهتا بتفاوت ِ َمهمها واهتاماماهتا‪ ،‬مفن اكن لك مهه ارضاء هللا وبلوغ‬
‫ادلرجة املعرفية العليا فهو صاحب النفس العلية‪ .‬ومن اكن أكرب فرحته يف حتصيل املتع‬
‫اجلسدية ومجع احملاصيل املادية فنفس دنيئة وقد ال تتجاوز مرتبة احليواانت‪ ،‬أعزمك هللا‪.‬‬
‫اّلِل ال ذ ِيت‬ ‫ان االسالم ال حيرم احلالل من املُتع والطيبات من الرزق‪{ ،‬قُ ْل َم ْن َح ذر َم ِزينَ َة ذ ِ‬
‫يه ِل ذ َِّلي َن أ آ َمنُوا ِيف الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا خَا ِل َص ًة ي َ ْو َم‬
‫ات ِم َن ّ ِالر ْز ِق ۚ قُ ْل ِ َ‬ ‫َأخ َْر َج ِل ِع َبا ِد ِه َوا ذلط ِ ّي َب ِ‬
‫ون} [العراف‪ ]32 :‬ولكن هللا أشار اىل ما هو‬ ‫الْ ِق َيا َم ِة ۗ كَ َذ ِ َكل ن ُ َف ّ ِص ُل ْالآ َاي ِت ِلقَ ْو ٍم ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫ات َ َْت ِري ِمن َ ْحتهتِ َا ْ َالْنْ َ ُار‬ ‫ات َجن ذ ٍ‬ ‫اّلِل الْ ُم ْؤ ِم ِن َني َوالْ ُم ْؤ ِمنَ ِ‬
‫أرىق من ذكل‪ ،‬قال تعاىل‪{َ :‬وعَدَ ذ ُ‬
‫اّلِل َأ ْك َ ُرب ۚ َذ ِ َكل ه َُو الْ َف ْو ُز‬ ‫ات عَدْ ٍن ۚ َو ِرضْ َو ٌان ِّم َن ذ ِ‬ ‫َادل َين ِفهيَا َو َم َسا ِك َن َط ِ ّي َب ًة ِيف َجن ذ ِ‬ ‫خِِ‬
‫الْ َع ِظ ُي} [التوبة‪]72 :‬‬
‫‪6‬‬
‫ن ّبه تعاىل أن رضوانه أكرب من سائر نعي اجلنة اخلادلة فضال عن متعة ادلنيا الفانية‪ .‬فأكرث‬
‫النفوس سعادة أكرثها ادرأاك لهذه املعاين‪ ،‬وأشدها طلبا لها‪ ،‬وأكرثها حتمال يف طريق‬
‫حتقيقها‪ ،‬وأحس هنا أداء يف الوفاء مبتطلباهتا‪.‬‬
‫والصامئ‪ ،‬بني فرحته احلارضة والخرى الآتية‪ ،‬يف سعادة أكيدة‪ .‬يه ساعات الصرب‬
‫املعدودة ليصل اىل الفرحة القريبة‪ ،‬وتذكر هذه الفرحة بأعظم فرحة يدها عند لقاء هللا‬
‫الكبري املتعال‪ .‬ساعات يقضهيا املؤمن لتوصل اىل ذكل املقام العظي‪ ...‬ما أق ّل اجلهد وما‬
‫أعظم اجلزاء! انه كرم من هللا وفضل‪ ،‬نسأل هللا أن ال حيرمنا منه‪.‬‬
‫اللهم اهدان فمين هديت‪ ،‬وعافنا فمين عافيت‪ ،‬وابرك لنا فامي أعطيت‪ ،‬وتولنا فمين‬
‫توليت‪....‬‬

‫مكة املكرمة‪ 3 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪7‬‬
‫الفائدة الرابعة‪:‬‬

‫الصوم يف مواجهة املادية املتطرفة‬

‫من الفوائد الاكمنة اليت يتضمهنا الصوم أنه يفتح أآفاقا واسعة من احلياة أوسع من ذكل‬
‫اجلزء املادي املنظور‪ ،‬فالصوم يعمل املسمل َتربة احلياة الروحية امجليةل الطيبة‪ ،‬فالصوم‬
‫جزء من احلرب عىل الثقافة املادية املتطرفة اليت ترصع أانسا كثريين قدميا وحديثا‪.‬‬
‫ان النظرة املادية للحياة أآفة قدمية للبرشية‪ ،‬واكن الكفار يف لك زمان يفتخرون برثوهتم‬
‫وكرثة ممتلاكهتم‪ ،‬قال تعاىل‪{َ :‬و َما َأ ْر َسلْنَا ِيف قَ ْري َ ٍة ِم ْن ن َ ِذي ٍر ا ذال قَا َل ُم ْ َرتفُوهَا اانذ ِب َما ُأ ْر ِسلْ ُ ْمت ِب ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )34‬وقَالُوا َ َْن ُن َأ ْك َ ُرث َأ ْم َو ًاال َو َأ ْو َالدًا َو َما َ َْن ُن ِب ُم َعذب َِني} [س بأ‪]35-34 :‬‬
‫ذ‬ ‫َاك ِف ُر َ‬
‫ويف سورة الكهف ذكر هللا رجال مفتوان مباهل ورجاهل‪ ،‬اذ قال‪َ { :‬أانَ َأ ْك َ ُرث ِمنْ َك َم ًاال َو َأ َع هز‬
‫ن َ َف ًرا} [الكهف‪]34 :‬‬
‫ومن الغريب أن االنسان ال يقترص تفاخره مبا يكسب من الموال‪ ،‬بل يفتخر أيضا بكرثة‬
‫ول َأهْلَ ْك ُت َم ًاال لُ َبدً ا} [البدل‪]6 :‬‬
‫اس هتالكه للامل‪ ،‬وذكر هللا هذا السلوك عن أحدمه‪{ :‬ي َ ُق ُ‬
‫أي ماال كثريا‪.‬‬
‫لقد حارب هللا هذه الثقافة املادية‪ ،‬حيث اعترب أن التفاضل ليس بكرثة الموال بل‬
‫ابلتقوى‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ا ذن َأ ْك َر َم ُ ُْك ِع ْندَ ذ ِ‬
‫اّلِل َأتْقَ ُ ْامك} [احلجرات‪]12 :‬‬
‫ِ‬

‫‪8‬‬
‫حىت لو أنفق االنسان أو حضى بيشء من الموال فان العربة ليست بقميته املادية‪ ،‬بل مبا‬
‫اّلِل لُ ُحو ُمهَا َو َال ِد َما ُؤهَا‬
‫يف نفس االنسان من تقواه هلل عز وجل‪ ،‬قال تعاىل‪ { :‬ل َ ْن يَنَا َل ذ َ‬
‫َولَ ِك ْن يَنَ ُ ُاهل التذ ْق َوى ِمنْ ُ ُْك} [احلج‪]37 :‬‬
‫نعم‪ ،‬مل يلغ االسالم اعتبار املال‪ ،‬فان نعم املال الصاحل للرجل الصاحل‪ ،‬وقد جعل هللا‬
‫اّلِل لَ ُ ُْك ِق َيا ًما} [النساء‪:‬‬
‫الس َفه ََاء َأ ْم َوالَ ُ ُُك ال ذ ِيت َج َع َل ذ ُ‬
‫املال قواما للحياة قال تعاىل‪{َ :‬و َال ت ُْؤتُوا ه‬
‫‪]5‬‬
‫ولكن التوغل والاس تغراق يف اللهث وراء املادة والتفاخر هبا والتاكثر فهيا يه املهلكة‪.‬‬
‫واعترب القرأآن أن الاقتصار عىل اجلزء املادي من احلياة قصورا ونقصا‪ ،‬فان هللا لفت اىل‬
‫أآفاق أخرى ما وراء املادة وما بعد هذه احلياة ادلنيا الزائةل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ا ْعلَ ُموا َأن ذ َما الْ َح َيا ُة‬
‫ادله نْ َيا لَ ِع ٌب َولَه ٌْو َو ِزينَ ٌة َوتَ َفاخ ٌُر ب َ ْينَ ُ ُْك َوتَ َاكث ٌُر ِيف ْ َال ْم َوالِ َو ْ َال ْو َال ِد‪ََ ،‬كَث َِل غَ ْي ٍث َأ ْ َْع َب ْال ُكفذ َار‬
‫ون ُح َطا ًما َو ِيف ْالآ ِخ َر ِة عَ َذ ٌ‬
‫اب َش ِدي ٌد َو َم ْغ ِف َر ٌة ِم َن ذ ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ن َ َباتُ ُه ُ ذمث ُّيَ ُِيج فَ َ َرتا ُه ُم ْص َف ًّرا ُ ذمث يَ ُك ُ‬
‫َو ِرضْ َو ٌان َو َما الْ َح َيا ُة ادله نْ َيا ا ذال َمتَا ُع الْغ ُُر ِور} [احلديد‪]20 :‬‬
‫ِ‬
‫لقد جاء الصوم لتخليص االنسان من َأرس املادة وحترير نفسه من التعلق هبا‪ .‬فالصوم ُجنذة‬
‫من هذه الثقافة الفاسدة اليت ترصع النفوس وتغتال العقول وحترم الناس من احلمكة ‪.‬‬
‫اللهم ارزقنا االميان والتقوى وارفعنا ابلعمل واحلمكة‪ ،‬وال َتعلنا من اجلاهلني‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 4 /‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬
‫‪9‬‬
‫الفائدة اخلامسة‬

‫معراج املؤمن ودرجات الناس يف الصالة‬

‫قال العلامء ان الصالة معراج املؤمن‪ ،‬حيث ان روحه تعرج اىل رب العاملني‬
‫هللا َص ذىل‬ ‫ختاطبه وخياطهبا‪ .‬روى مسمل عن أيب هريرة ريض هللا عنه قال‪ِ َ :‬مس ْع ُت َر ُسو َل ِ‬
‫الص َال َة بَيْ ِن َوب َ ْ َني َع ْب ِدي ِن ْص َف ْ ِني‪َ ،‬و ِل َع ْب ِدي‬
‫هللا تَ َع َاىل‪ :‬قَ َس ْم ُت ذ‬ ‫ول‪ " :‬قَا َل ُ‬ ‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل ي َ ُق ُ‬
‫ُ‬
‫هللا تَ َع َاىل‪ِ َ :‬مح ِدَين َع ْب ِدي‪َ ،‬وا َذا‬ ‫َما َسأَ َل‪ ،‬فَا َذا قَا َل الْ َع ْبدُ ‪{ :‬الْ َح ْمدُ ِ ذ ِّلِل َر ِ ّب الْ َعالَ ِم َني} قَا َل ُ‬
‫ِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫هللا تَ َعاىل‪ :‬أث َىن عَ ذيل َع ْبدي‪َ ،‬واذا قال‪َ { :‬ماكل ي َ ْو ِم ادل ِين}‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫{الر ْ َمح ِن ذالرح ِي}‪ ،‬قال ُ‬ ‫قَا َل‪ :‬ذ‬
‫ِ‬
‫قَا َل‪َ :‬م ذجدَ ِين َع ْب ِدي‪ ،‬فَا َذا قَا َل‪{ :‬ا ذايكَ ن َ ْع ُبدُ َوا ذايكَ ن َ ْس َت ِع ُني} قَا َل‪ :‬ه ََذا بَيْ ِن َوب َ ْ َني َع ْب ِدي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ذ‬
‫صاط اذل َين َأنْ َع ْم َت عَلهيْ ِ ْم غَ ْ ِري‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫الرصاط ال ُم ْس تَق َي َ‬ ‫َو ِل َع ْب ِدي َما َسأَ َل‪ ،‬فَا َذا قَا َل‪{ :‬ا ْهدانَ ّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫وب عَلَهيْ ِ ْم َو َال الضذ ا ِل ّ َني} قَا َل‪ :‬ه ََذا ِل َع ْب ِدي َو ِل َع ْب ِدي َما َسأَ َل‪".‬‬ ‫الْ َمغْضُ ِ‬
‫اي لرشف هذا العبد اذلي اس تجاب هللا نداءه‪ ،‬ومسع الكمه‪ ،‬وأجاب دعاءه‪...‬‬
‫وهذا الرشف ال حيظى به اال من اكن قلبه حارضا يف صالته‪ ،‬مقبال عىل ربه‪،‬‬
‫غري ملتفت اىل غريه‪ ،‬فان هللا ال يس تجيب دعاء من قلب غافل ال ٍه‪ ،‬كام ثبت ذكل عن‬
‫النيب صىل هللا عليه وسمل فامي رواه الرتمذي واحلامك عن أيب هريرة أن النيب صىل هللا‬
‫يب ُدعَ ًاء ِم ْن قَلْ ٍب غَا ِف ٍل َال ٍه‪".‬‬
‫اّلِل َال ي َْس َتجِ ُ‬
‫عليه وسمل قال‪" :‬ا ْعلَ ُموا َأ ذن ذ َ‬
‫ترشف هبا االنسان حيث حرض قلبه وعقهل‪ ،‬قال‬ ‫نعم‪ ،‬ان هذه الصلوات امنا ّ‬
‫النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ا ذن الْ َع ْبدَ لَ ُي َص ِ ّيل ذ‬
‫الص َال َة َما يُ ْكتَ ُب َ ُهل ِمهنْ َا ا ذال ع ْ ُ‬
‫ُرشهَا ت ُ ْس ُعهَا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ثُ ُمهنُ َا ُس ُب ُعهَا ُسدُ ُسهَا ُ ُُخ ُسهَا ُربُ ُعهَا ثلثُ َا ن ْصفهَا‪[ .‬رواه أمحد]‬
‫ُ‬

‫‪10‬‬
‫قال عامر بن ايرس مب ّيِن ًا سبب ذكل‪" :‬امنا يكتب للعبد من صالته ما عقل مهنا‪".‬‬
‫لك َص َال ٍة َال‬
‫حفضور القلب أمر رضوري يف الصالة‪ .‬روي عن احلسن أنه قال‪ ُ :‬ه‬
‫رض ِفهيَا الْقَلْ ُب فَه َِيي اىل العقوبة أرسع‪.‬‬
‫َ ْحي ُ ُ‬
‫وقد رتب ابن القي رمحه هللا درجات الناس يف صلواهتم‪ ،‬فقال‪" :‬والناس يف‬
‫الصالة عىل مراتب ُخسة‪ :‬أحدها‪ :‬مرتبة الظامل لنفسه املفرط‪ ،‬وهو اذلي انتقص من‬
‫وضوهئا ومواقيهتا وحدودها وأراكْنا‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬من حيافظ عىل مواقيهتا وحدودها وأراكْنا الظاهرة ووضوهئا‪ ،‬لكن قد ضيع‬
‫جماهدة نفسه يف الوسوسة فذهب مع الوساوس والفاكر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من حافظ عىل حدودها وأراكْنا وجاهد نفسه يف دفع الوساوس‬
‫والفاكر‪ ،‬فهو مشغول مبجاهدة عدوه لئال يرسق صالته‪ ،‬فهو يف صالة وهجاد‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬من اذا قام اىل الصالة أَكل حقوقها وأراكْنا وحدودها واس تغرق قلبه‬
‫مراعاة حدودها وحقوقها لئال يضيع شيئ ًا مهنا‪ ،‬بل مهه لكه مرصوف اىل اقامهتا كام ينبغي‬
‫واكاملها وامتاهما‪ ،‬قد اس تغرق قلب شأن الصالة وعبودية ربه تبارك وتعاىل فهيا‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬من اذا قام اىل الصالة قام الهيا كذكل‪ ،‬ولكن مع هذا قد أخذ قلبه‬
‫ووضعه بني يدي ربه عز وجل انظر ًا بقلبه اليه مراقب ًا هل ممتلئ ًا من حمبته وعظمته‪ ،‬كنه‬
‫يراه ويشاهده‪ ،‬وقد امضحلت تكل الوساوس واخلطوات وارتفعت جحهبا بينه وبني ربه‪،‬‬
‫فهذا بينه وبني غريه يف الصالة أفضل وأعظم مما بني السامء والرض‪ ،‬وهذا يف صالته‬
‫مشغول بربه عز وجل قرير العني به‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫فالقسم الول معاقب‪ ،‬والثاين حماسب‪ ،‬والثالث مكفر عنه‪ ،‬والرابع مثاب‪،‬‬
‫مقرب من ربه لن هل نصيب ًا ممن جعلت قرة عينه يف الصالة‪ ،‬مفن قرت عينه‬ ‫واخلامس ذ‬
‫بصالته يف ادلنيا قرت عينه بقربه من ربه عز وجل يف الآخرة‪"...‬‬
‫جعلنا هللا من اذلين مه يف صالهتم خاشعون‪ ،‬واذلين مه عن اللغو معرضون‪...‬‬
‫اللهم أعنا عىل ذكر وشكرك وحسن عبادتك‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 5 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪12‬‬
‫الفائدة السادسة‪:‬‬

‫قراءة القرآن بني الت ه ا ون والتكلف‬

‫أمجع العلامء أن َتويد القرأآن واجب‪ ،‬ال خيل فيه أحد يقدر عليه اال أآمث‪ .‬قال ابن‬
‫اجلزري رمحه هللا‪:‬‬
‫يود القرأآن أآمث‬
‫ومن مل ِّ‬ ‫والخذ ابلتجويد حمت الزم‬
‫والتجويد معناه التحسني‪ ،‬ويف الاصطالح‪ :‬تالوة القرأآن الكرمي حق تالوته أي‬
‫ابعطاء لك حرف من القرأآن حقّه ومس تحقّه‪ ،‬مبقتىض أصولها املعهودة‪.‬‬
‫امه ْال ِكتَ َ‬
‫اب‬ ‫وهذا من حق التالوة لهذا الكتاب العزيز‪ ،‬قال تعاىل‪ { :‬ذ ِاذل َين أآتَيْنَ ُ ُ‬
‫ون ِب ِه} [البقرة‪]121 :‬‬
‫ي َ ْتلُون َ ُه َح ذق ِت َال َو ِت ِه ُأولَ ِئ َك ي ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫مفن قرص يف َتويد القرأآن فقد أخ ّل حبق تالوته‪.‬‬
‫وقدرة الناس عىل َتويد القرأآن درجات‪ ،‬فهناك همرة قد يرس هللا ألسنهتم‪،‬‬
‫وهناك متعلمون ال ينطقون حروف القرأآن اال بصعوبة‪ ،‬ولكن هللا أعطى للك جمهتد‬
‫نصيبه من الجر‪ ،‬مفن رزق املهارة يف قراءة القرأآن أكرمه هللا بأن يكون مع املالئكة الكرام‬
‫الربرة‪ ،‬ومن ياهد نفسه ويد مشقة يف الوفاء حبق التالوة أعطى هللا هل أجره مرتني‪،‬‬
‫الجهتاده وصربه عىل التعمل‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬الْ َما ِه ُر ِابلْ ُق ْرأ آ ِن َم َع ذ‬
‫السفَ َر ِة‬
‫ْال ِك َرا ِم الْ َ َرب َر ِة‪َ ،‬و ذ ِاذلي ي َ ْق َر ُأ الْ ُق ْرأ آ َن َويَتَتَ ْعتَ ُع ِفي ِه‪َ ،‬وه َُو عَلَ ْي ِه َش ٌّاق‪ُ َ ،‬هل َأ ْج َر ِان‪[ .‬رواه مسمل]‬

‫‪13‬‬
‫وقراءة أآية واحدة بشلك حصيح أفضل من قراءة ألف أآية مع الخطاء وعدم‬
‫مراعاة أحاكم التجويد‪ .‬فال يزهد أحد يف تصحيح القراءة اذا مل يكن من املتقنني‪ ،‬فان هللا‬
‫ال يضيع أجر من أحسن ُعال‪ ،‬فاذا اكن احلرف من القرأآن حبس نة واحدة‪ ،‬فاجملهتد اذلي‬
‫حيسن قراءته يأخذ حس نتني‪.‬‬
‫ويف املقابل هناك من القراء من يبالغ يف التفاحص واظهار المتزي يف القراءة فيبالغ يف‬
‫نطقها والتغن هبا‪ ،‬فيتجاوز احلد املطلوب‪ ،‬فزييد يف املدود ويطنطن يف الغنن ويتشدق‬
‫ابلقرأآن‪ ،‬فيخرج من حد الاعتدال‪.‬‬
‫فليس التجويدُ‬ ‫هللا‪ -‬وهو امام يف عمل القراءة‪َ :‬‬ ‫قال احلافظ أبو ُعرو ادلاين َر ِ َمح ُه ُ‬
‫الصوت‪ ،‬وال بمتطيط‬ ‫ِ‬ ‫الفك‪ ،‬وال برتعيد‬ ‫بمتضيغ ال ِلّ َسان‪ ،‬وال ِ‬
‫بتقعري ال َف ِم وال بتعوجي ّ‬
‫حبرصمة ذالراءات‪ِ ،‬قراء ًة تنفر مهنا‬ ‫املشدد‪ ،‬وال بتقطيع امل َ ِّد‪ ،‬وال بتطنني ال ُغنذات‪ ،‬وال َ‬
‫القلوب والسامعُ‪ ،‬بل القراءة السه ُةل‪ ،‬العذب ُة‪ ،‬احللوة اللطيفة‪ ،‬اليت ال َمضْ َغ‬ ‫الطباعُ‪ ،‬ومت ُ هجها ُ‬ ‫ِ‬
‫تنط َع‪ ،‬وال خترج عن طباعِ‬ ‫فهيا‪ ،‬وال لَوكَ وال ت َع هس َف‪ ،‬وال تلكهف‪ ،‬وال تصنه َع‪ ،‬وال ه‬
‫اءات والداء ‪ .‬اهـ‬ ‫العرب‪ ،‬والك ِم الفصحاء بو ْج ٍه من وجوه القر ِ‬
‫واملراد بمتضيغ اللسان‪ :‬كناية عن لَوك احلروف‪ ،‬وعدم تبييهنا‪ .‬وأما التقعري‪ ،‬فهو‬
‫كناية عن التذ َلكهف‪ ،‬والتذنَ هطع‪ ،‬والتذشَ دهق‪ ،‬يف اخراج احلروف‪ ،‬وتضخي الصوت يف القراءة‪.‬‬
‫الصوت‪ :‬فهو‬ ‫عن املبالغة يف ترقيق احلروف امل ُ ْس تَ ِفةل‪ .‬وأما تَ ْرعيد ذ‬ ‫و تعوجي الفك‪ :‬كناية ِ‬
‫الشد‪ِ ّ :‬الزايدة عىل مقداره‪ .‬وتقطيع‬ ‫حيركَ صوتَه‪ ،‬اكذلي يرعد من بَ ْر ٍد أو َألَم‪ .‬ومتطيط ذ‬ ‫أن ّ ِ‬
‫من‬ ‫الصوت يف املدود‪ ،‬ابلرفع‪ ،‬واخلفض‪ ،‬واحلبس‪ ،‬واالطالق‪ ،‬فتَتَ َو ذدل َ‬ ‫املد‪ :‬هو حتريك ذ‬
‫ا َل ِلف املمدودة أ ِلفات‪ ،‬وَنو ذكل‪ .‬وتطنني الغنذات‪ ،‬ويقال‪ :‬ت َْطنني النهوانت‪ :‬هو امل ُ َبالَغة‬
‫لك حرف‬ ‫الصوت فهيا‪ ،‬أو تغنني احلُروف اليت ال غُنذة فهيا‪ ،‬كن ذه خيرج ذ‬ ‫يف ال ُغنذة‪ ،‬وحتريك ذ‬
‫رص َم ِة ذالر َاء ِات‪ :‬املقصود هبا عندما ينطق ابلراء يضغط عليه فيحبسه‬ ‫من اخليشوم‪ِ .‬و َح ْ َ‬
‫َ‬
‫‪14‬‬
‫فيخرج حرف الراء مبتور ًا لن حرف الراء بني الرخو والشديد‪ ،‬فالصوت يرى فيه‬
‫جراي ًان انقص ًا‪.‬‬
‫واملقصود أن التجويد هو الاعتدال بني التقصري يف حق التالوة وبني املبالغة فيه‪.‬‬
‫فال يهتاون القارئ يف اعطاء لك حرف حقه من النطق الصحيح ومس تحقه من الصفات‬
‫والحاكم‪ ،‬وال يبالغ يف ذكل فزييد عىل احلد املطلوب‪.‬‬
‫هداان هللا واايمك ملا حيب ويرىض‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 6 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪15‬‬
‫الفائدة السابعة‬

‫معرتك القيم‬

‫ان الصوم ساحة عراك حمتدم بني القي الرابنية اليت أراد هللا أن يغرسها يف قلوب‬
‫املؤمنني وبني القي احليوانية اليت حرص الش يطان عىل تثبيهتا يف نفوس الناس‪ .‬أراد هللا‬
‫أن يربط لك أعامل املؤمنني ابدلار الآخرة‪ ،‬وأراد الش يطان أن يلتفت االنسان دامئا اىل‬
‫الفوائد ادلنيوية حفسب‪ .‬أراد هللا أن يصرب االنسان عىل الشدة من أجل طاعة هللا‪ ،‬وأراد‬
‫الش يطان أن يعجل االنسان راحته ابتباع الشهوات‪ .‬يريد هللا أن يرفع االنسان اىل قي‬
‫السامء ويريد الش يطان اىل خيدل االنسان اىل فلسفات الرض القاصة‪.‬‬
‫اّلِل عَ ِل ٌي َح ِك ٌي‬ ‫اّلِل ِل ُي َب ِ ّ َني لَ ُ ُْك َوُّيَ ْ ِديَ ُ ُْك ُس َ َنن ذ ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ُْك َوي َ ُت َ‬
‫وب عَلَ ْي ُ ُْك َو ذ ُ‬ ‫{يُ ِريدُ ذ ُ‬
‫الشه ََو ِات َأ ْن تَ ِميلُوا َم ْي ًال َع ِظميًا}‬ ‫ون ذ‬ ‫وب عَلَ ْي ُ ُْك َويُ ِريدُ ذ ِاذل َين يَت ذ ِب ُع َ‬ ‫اّلِل يُ ِريدُ َأ ْن ي َ ُت َ‬ ‫(‪َ )26‬و ذ ُ‬
‫[النساء‪]27-26 :‬‬
‫وقد ُص ِفّدت الش ياطني يف رمضان وتبقى املعركة قامئة بني تكل الزنعات‪ .‬ففي‬
‫رمضان تفتح البواب لل ِف َطر السلمية أن تس بق وتنترص عىل شهواهتا‪ ،‬ويبقى أحصاب‬
‫النفوس الضعيفة قابعني يف شهواهتم‪ ،‬مرصين عىل عاداهتم‪ ،‬غري مكرتثني هبذه القرصة‬
‫الكرمية‪ ،‬وال خائفني من وعيد رهبم‪ ،‬عياذا ابهلل‪.‬‬
‫وأتعس من أرسى الشهوات مه أحصاب الش هبات‪ ،‬فان رمضان ال يغري من‬
‫قناعهتم شيئا‪ ،‬واليصلح يف أذهاْنم فكرا‪ .‬مفن تبىن فكرا منحرفا واقتنع بفلسفة فاسدة فقد‬
‫اسرتاح منه الش يطان‪ ،‬فانه اختار الضالةل طواعية واطمأن الهيا بل وفرح هبا‪ ،‬قال تعاىل‬

‫‪16‬‬
‫دَمه ِم َن الْ ِع ْ ِمل}‬ ‫يف هذا الصنف من الناس‪{ :‬فَلَ ذما َج َاءهتْ ُ ْم ُر ُسلُه ُْم ِابلْ َب ِيّنَ ِ‬
‫ات فَ ِر ُحوا ِب َما ِع ْن ُ ْ‬
‫[غافر‪ ]83 :‬نسأل هللا السالمة‪.‬‬
‫يه فرصة غالية‪ ،‬ونبه عليه جربيل وأ ّمنه النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ ..." :‬و َم ْن‬
‫َأد َْركَ َر َمضَ َان‪ ،‬فَ َ ْمل يُ ْغ َف ْر َ ُهل فَأَبْ َعدَ ُه ذ ُ‬
‫اّلِل‪".‬‬
‫ان هذا الشهر هيأه هللا لن ينترص املؤمن عىل الشهوات ابلصيام‪ ،‬ويقيض عىل‬
‫الش هبات ابلقرأآن‪ .‬مفن مل ُّيده هللا يف هذا الشهر‪ ،‬ففي غريه أبعد‪ ،‬وهللا املس تعان‪.‬‬
‫فهنا ناكحف من أجل أن تنترص قمية االخالص عىل الرايء‪ ،‬وقمية الزهد عىل‬
‫الطمع‪ ،‬وقمية الوفاء عىل اخليانة‪ ،‬وقمية الصدق عىل الكذب‪ ،‬وقمية الصرب عىل اجلزع‪ ،‬وقمية‬
‫احلمكة عىل اجلهل‪ .‬فليخرت االنسان الآن يف أي صف يقف؟ فان القي الرابنية يف حرب‬
‫دامئة مع القي املادية الشهوانية يف لك حني‪ ،‬لكنه يف رمضان حيمى الوطيس‪ .‬وال تغرنُك‬
‫املظاهر فان التقوى تقوى القلوب‪.‬‬
‫اللهم اهدان وال تضللنا‪ ،‬وأكرمنا وال هتنا‪ ،‬وزدان وال تنقصنا‪ ،‬وثبت أقدامنا وال‬
‫تزغ قلوبنا‪ ،‬اي أكرم الكرمني‪ ،‬واي أرمح الرامحني‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 7 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪17‬‬
‫الفائدة الثامنة‪:‬‬

‫الدين املعاملة‬

‫ان الصوم جزء من منظومة التقوى املتاكمةل‪ ،‬وقسم العبادات مهنا ال يكون بديال‬
‫عن قسم املعامالت‪ .‬بل املعامةل يه ّ‬
‫احملك احلقيقي حلسن التدين‪.‬‬
‫اّلِل‪ ،‬ا ذن فُ َالن َ َة يُ ْذ َك ُر ِم ْن َك ْ َرث ِة َص َالهتِ َا‬
‫َع ْن َأ ِيب ه َُرْي َر َة قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُج ٌل‪َ :‬اي َر ُسو َل ذ ِ‬
‫ِ‬
‫َو ِص َيا ِمهَا َو َصدَ قَهتِ َا غَ ْ َري َأْنذ َا ت ُْؤ ِذي ِج َرياْنَ َا ِب ِل َساْنِ َا‪.‬‬
‫قَا َل‪َ ِ :‬‬
‫يه ِيف النذ ِار‪.‬‬
‫اّلِل‪ ،‬فَا ذن فُ َالن َ َة يُ ْذ َك ُر ِم ْن ِق ذ ِةل ِص َيا ِمهَا َو َصدَ قَهتِ َا َو َص َالهتِ َا َواْنذ َا‬ ‫قَا َل‪َ :‬اي َر ُسو َل ذ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ََصد ُذق ِاب ْ َلثْ َو ِار ِم ْن ْ َال ِقطِ‪َ ،‬و َال ت ُْؤ ِذي ِج َرياْنَ َا ِب ِل َساْنِ َا‪.‬‬
‫يه ِيف الْ َجنذ ِة‪[ .‬رواه أمحد وابن حبان والبهيقي]‬ ‫قَا َل‪َ ِ :‬‬
‫صىل هللا عَلَ ْي ِه‬
‫هللا ذ‬
‫وأصح من ذكل ما رواه مسمل َع ْن َأ ِيب ه َُرْي َرةَ‪َ ،‬أ ذن َر ُسو َل ِ‬
‫َو َس ذ َمل قَا َل‪َ « :‬ال يَدْ ُخ ُل الْ َجنذ َة َم ْن َال يَأْ َم ُن َج ُار ُه ب َ َوائِقَ ُه»‬
‫والبوائق مجع ابئقة‪ ،‬ويه ادلاهية واليشء املهكل والمر الشديد اذلي يوايف بغتة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ليس من أخالق االسالم أن يهتد االنسان يف التعبد مث ييسء اىل الناس!‬
‫ان املؤمن هو من ينرش المان بني جريانه‪ ،‬يكون مصدر الاطمئنان يف جممتعه‪ ،‬يؤمن‬
‫َشه ويوثق يف أمانته‪.‬‬
‫ه‬

‫‪18‬‬
‫ان موازين العبادات تتأآلك وتزول مع املعامالت السيئة يف حق الناس‪ .‬لقد صور‬
‫النيب صىل هللا عليه وسمل ذكل املوقف حيث ان حس نات الصالة والصوم والصدقات‬
‫وسائر العبادات تذهب بكرثة االساءات‪ .‬ف َع ْن َأ ِيب ه َُرْي َر َة ريض هللا عنه َع ْن النذ ِ ِ ّيب َص ذىل‬
‫اّلِل عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل قَا َل‪ :‬ه َْل تَدْ ُر َ‬
‫ون َم ْن الْ ُم ْف ِل ُس؟‬ ‫ذُ‬
‫قَالُوا‪ :‬الْ ُم ْف ِل ُس ِفينَا َاي َر ُسو َل ذ ِ‬
‫اّلِل َم ْن َال ِد ْر َ َمه َ ُهل َو َال َمتَا َع‪.‬‬
‫قَا َل‪ :‬ا ذن الْ ُم ْف ِل َس ِم ْن ُأ ذم ِيت َم ْن يَأْ ِيت ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة ب ِِص َيا ٍم َو َص َال ٍة َو َز َاك ٍة‪َ ،‬ويَأْ ِيت قَدْ‬
‫ِ‬
‫لك َما َل ه ََذا‪ ،‬فَ ُي ْق َعدُ فَيَ ْقتَ هص ه ََذا ِم ْن َح َس نَا ِت ِه‪َ ،‬وهَذاَ‬ ‫َش َ َمت ِع ْر َض ه ََذا‪َ ،‬وقَ َذ َف ه ََذا‪َ ،‬و َأ َ َ‬
‫يض َما عَلَ ْي ِه ِم ْن الْخ ََط َااي‪ُ ،‬أ ِخ َذ ِم ْن خ ََط َااي ُ ْمه‬ ‫ِم ْن َح َس نَا ِت ِه‪ ،‬فَا ْن فَ ِن َي ْت َح َس نَاتُ ُه قَ ْب َل َأ ْن ي َ ْق ِ َ‬
‫ِ‬
‫فَ ُط ِر َح ْت عَلَ ْي ِه ُ ذمث ُط ِر َح ِيف النذ ِار‪[ .‬رواه أمحد وابن حبان]‬
‫ان قمية الخالق واملعامةل احلس نة كثريا ما تزيد عىل قمية العبادات يف مزيان‬
‫الص ِ ِ‬
‫امئ‬ ‫هللا‪ ،‬فقد قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ا ذن ذالر ُج َل ل َ ُيدْ ِركُ ِ ُحب ْس ِن ُخلُ ِق ِه د ََر َج َة ذ‬
‫ِ‬
‫الْقَ ِ ِ‬
‫امئ‪[ .‬رواه أبو داود وأمحد]‬
‫بل وقد صح النيب صىل هللا عليه وسمل أن مزيان الخالق أثقل يوم القيامة من‬
‫َش ٍء َأثْقَ ُل ِيف الْ ِم َزي ِان ِم ْن ُح ْس ِن‬
‫سائر اخلصال‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ :‬ما ِم ْن َ ْ‬
‫الْ ُخلُ ِق‪[ .‬رواه أبو داود والرتمذي]‬
‫و ّبني النيب صىل هللا عليه وسمل مراتب الناس يوم القيامة حيث ان أفضل الناس‬
‫مه اذلين يكونون أقرب اىل جملس النيب صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬ومه أحصاب الخالق‬
‫العالية‪ ،‬وأبعد الناس وأسوأمه مه قساة الناس أحصاب اللس نة البذيئة واملتظاهرون‬
‫ابلفصاحة الزائدة والترصفات املتكربة املتجربة‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ا ذن ِم ْن‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫َأ َحبّ ُ ُِْك ا َ ذَل َو َأ ْق َ ِبر ُ ُْك ِم ِ ّن َم ْج ِل ًسا ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة َأ َح ِاس نَ ُ ُْك أَخ َْالقًا‪َ ،‬وا ذن َأبْغَضَ ُ ُْك ا َ ذَل َو َأبْ َعدَ مك م ِ ّن‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪19‬‬
‫ون َوالْ ُمتَفَهيْ ِ ُق َ‬
‫ون‪ .‬قَالُوا‪َ :‬اي َر ُسو َل ذ ِ‬
‫اّلِل‪ ،‬قَدْ عَ ِل ْمنَا‬ ‫ون َوالْ ُمتَشَ ِّدقُ َ‬ ‫َم ْج ِل ًسا ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة ذ ْ‬
‫الرث َاث ُر َ‬
‫ون‪[ .‬رواه الرتمذي]‬ ‫ون؟ قَا َل‪ :‬الْ ُمتَ َك ِ ّ ُرب َ‬ ‫ون‪ ،‬فَ َما الْ ُمتَفَهيْ ِ ُق َ‬ ‫ون َوالْ ُمتَشَ ِّدقُ َ‬ ‫ذْ‬
‫الرث َاث ُر َ‬
‫ومعىن الرثثرة‪ :‬كرثة الالكم‪ ،‬والتشدق هو املبالغة يف اظهار الفصاحة والبالغة‪.‬‬
‫قال املناوي رمحه هللا‪( :‬الرثاثرون) أي اذلين يكرثون الالكم تلكفا وتشدقا‪ ،‬والرثثرة كرثة‬
‫الالكم وترديده‪( ،‬املتفهيقون) أي اذلين يتوسعون يف الالكم ويفتحون به أفواههم‬
‫ويتفصحون فيه‪( ،‬املتشدقون) اذلين يتلكمون بأشداقهم ويمتقعرون يف خماطبهتم‪.‬‬
‫اللهم اهدان لحسن الخالق‪ ،‬ال ُّيدي لحس هنا اال أنت‪ ،‬واصف عنا يسء‬
‫الخالق‪ ،‬ال يرصف عن سيهئا أال أنت‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 8 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪20‬‬
‫الفائدة التاسعة‪:‬‬

‫اهلداية بني حرماهنا وطلبه ا‬

‫ان هللا مل يعل احلق غامضا‪ ،‬ومل يرتك دينه خافيا عىل الناس‪ .‬قد بث هللا أآايته‬
‫يف أرجاء الكون مبا مل يدع عذرا ملتعذر‪ .‬لكنه غفةل البرش وعدم اهامتهمم به جعل من احلق‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض ي َ ُم هر َ‬
‫ون عَلَهيْ َا‬ ‫البلج غائبا عن أنظارمه‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و َ َك ِيّ ْن ِم ْن أآي َ ٍة ِيف ذ‬
‫ون} [يوسف‪]105 :‬‬ ‫َو ُ ْمه َعهنْ َا ُم ْع ِرضُ َ‬
‫رصف القلوب عن قبول احلق وحترم عن اعتناقه رمغ مثول الآايت‬ ‫وهكذا تُ َ‬
‫البينات نصب أعيهنم‪ ،‬مل تنجذب تكل القلوب اىل احلق البني‪ ،‬بل أبت اال اختيار الغي‬
‫لك أآي َ ٍة َال يُ ْؤ ِمنُوا هبِ َا‪َ ،‬وا ْن يَ َر ْوا َسبِي َل هالر ْش ِد َال يَتذ ِخ ُذو ُه َسب ًِيال‪َ ،‬وا ْن‬
‫والضالل‪َ { ،‬وا ْن يَ َر ْوا ُ ذ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يَ َر ْوا َسبِي َل الْغ ّ َِي يَتذ ِخ ُذو ُه َسب ًِيال‪َ ،‬ذ ِ َكل ِبأَْنذ ُ ْم َك ذذبُوا ِبأ آ َاي ِتنَا َو َاكنُوا َعهنْ َا غَا ِف ِل َني} [العراف‪:‬‬
‫‪]146‬‬
‫انه عدم تطهري القلوب هو اذلي جعل االنسان مل يصهل نور هللا‪ ،‬وقد صور هللا‬
‫حال هؤالء اذلين قدر هللا علهيم الغواية والوقوع يف الفتنة‪ ،‬قال هللا عهنم‪َ {:‬و َم ْن يُ ِر ِد ذ ُ‬
‫اّلِل‬
‫اّلِل َشيْئًا‪ُ ،‬أولَ ِئ َك ذ ِاذل َين لَ ْم يُ ِر ِد ذ ُ‬
‫اّلِل َأ ْن يُ َطهّ َِر قُلُوهبَ ُ ْم‪ ،‬لَه ُْم ِيف ادله نْ َيا‬ ‫كل َ ُهل ِم َن ذ ِ‬ ‫ِف ْتنَتَ ُه فَلَ ْن تَ ْم ِ َ‬
‫اب َع ِظ ٌي} [املائدة‪]41 :‬‬ ‫ِخ ْز ٌي َولَه ُْم ِيف ْالآ ِخ َر ِة عَ َذ ٌ‬
‫اْنا ملصيبة كربى أن يكون قدر االنسان هو احلرمان من معرفة احلق‪ ،‬وقد تأخذ‬
‫بأنفس نا حرسة شديدة من رؤية هذا املشهد اللي‪ ،‬اذ حرم بعض الناس من اختيار احلق‬
‫رمغ توفر أداة املعرفة دلُّيم‪ ،‬ولكن تنقلب عندمه املعايري‪ ،‬فيس تحس نون القبيح‬

‫‪21‬‬
‫ويس تقبحون احلسن‪ ،‬يرون احلق ابطال‪ ،‬والباطل حقا‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬أفَ َم ْن ُزِيّ َن َ ُهل ُسو ُء‬
‫اّلِل ي ُ ِض هل َم ْن يَشَ ا ُء َوُّيَ ْ ِدي َم ْن يَشَ ا ُء‪ ،‬فَ َال ت َْذه َْب ن َ ْف ُس َك عَلَهيْ ِ ْم‬ ‫َ َُع ِ ِهل فَ َرأ آ ُه َح َس نًا؟ فَا ذن ذ َ‬
‫ِ‬
‫ون} [فاطر‪]8 :‬‬ ‫اّلِل عَ ِل ٌ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫ع‬ ‫ن‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫رس ٍات‪ ،‬ا ذن ذ َ‬ ‫َح َ َ‬
‫ِ‬
‫اْنم أكرث الناس خسارة‪ ،‬من ضل الطريق ويظن أنه عىل صاط مس تقي! {قُ ْل‬
‫رس َين َأ ْ َُع ًاال (‪ )103‬ذ ِاذل َين ضَ ذل َس ْعهيُ ُ ْم ِيف الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا َو ُ ْمه َ ْحي َس ُب َ‬
‫ون َأْنذ ُ ْم‬ ‫ه َْل نُنَ ِب ّئُ ُ ُْك ِاب ْ َل ْخ َ ِ‬
‫ون ُص ْن ًعا} [الكهف‪]104-103 :‬‬ ‫ُ ْحي ِس ُن َ‬
‫اذا رأينا كرثة حضااي الغواية هؤالء‪ ،‬متلّكنا اخلوف من هذا املصري‪ ،‬نشفق عىل‬
‫هذه احلياة القصرية أن تضيع وتذهب بنا اىل ما ال يريض هللا‪ ،‬فهنا علينا أن نسمع النداء‬
‫من رب السامء حيث يقول‪َ { :‬اي ِع َبا ِدي ُلكه ُ ُْك ضَ ا ٌّل ا ذال َم ْن هَدَ يْ ُتهُ‪ ،‬فَ ْاس هتَ ْدُ ِوين َأ ْه ِد ُ ْمك}‬
‫ِ‬
‫[رواه مسمل]‬
‫اّلِل َ ُهل ن ًُورا‬
‫فهناك المل الوحيد‪ ،‬مل تطلب الهداية اال من هللا‪َ { ،‬و َم ْن لَ ْم َ ْي َع ِل ذ ُ‬
‫فَ َما َ ُهل ِم ْن ن ٍُور} [النو‪]40 :‬‬
‫ونتذكر قول أمري املؤمنني عيل ريض هللا عنه اذ قال‪" :‬من اعمتد عىل عقهل‬
‫اّلِل فَه َُو الْ ُمهْتَ ِد‪َ ،‬و َم ْن يُضْ ِل ْل فَلَ ْن ََتِدَ َ ُهل َو ِل ًّيا ُم ْر ِشدً ا}‬
‫ضل‪ ".‬فال هادي اال هللا‪َ { ،‬م ْن ُّيَ ْ ِد ذ ُ‬
‫[الكهف‪]17 :‬‬
‫فليس من العبث أن نقول لك مرة يف صلواتنا‪" :‬اهدان الرصاط املس تقي"‪ ،‬فاننا‬
‫حباجة شديدة اىل تكرار هذا السؤال واالحلاح فيه‪.‬‬
‫ومل يبخل هللا عىل املؤمنني من هذا التكرمي‪ ،‬فان امياْنم فاحتة الطريق وجالبة‬
‫اخلري‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ا ذن ذ ِاذل َين أ آ َمنُوا َو َ ُِعلُوا ذ‬
‫الصا ِل َح ِ‬
‫ات ُّيَ ْ ِد ُِّي ْم َرهبه ُ ْم ِابميَاْنِ ِ ْم} [يونس‪]9 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪22‬‬
‫وان تصاريف القدار وتقلب الحداث ونزول املصائب قد حيري االنسان ويضعه‬
‫اب‬ ‫يف مفرتق الطريق‪ ،‬ولكن االميان يثب ّت املؤمن وُّيديه اىل الصواب‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ما َأ َص َ‬
‫اّلِل‪َ ،‬و َم ْن يُ ْؤ ِم ْن ِاب ذ ِّلِل ُّيَ ْ ِد قَلْ َب ُه} [التغابن‪]11 :‬‬
‫ِم ْن ُم ِصي َب ٍة ا ذال ِاب ْذ ِن ذ ِ‬
‫ِ ِ‬
‫يكرر يف لك مرة وعند لك موقف‪ ،‬فاننا يف زمان‬ ‫ان سؤال الهداية يس تحق أن ّ‬
‫كرث فيه صعى الشهوات وتاكثر فيه حضااي الش هبات‪ ،‬مفن مل يسأل هللا الهداية سؤال‬
‫الغريق يطلب النجاة يوشك أن يكون مع الغرىق‪ .‬روى احلامك يف املس تدرك وحصحه عن‬
‫حذيفة بن الامين ريض هللا عهنام قال‪ :‬يَأْ ِيت عَلَ ْي ُ ُْك َز َم ٌان َال ي َ ْن ُجو ِفي ِه ا ذال َم ْن َدعَا ُدعَ َاء‬
‫ِ‬
‫الْغَ ِري ِق‪.‬‬
‫اللهم اهدان فمين هديت‪ ،‬وعافنا فمين عافيت‪ ،‬وابرك لنا فامي أعطيت‪ ،‬وتولنا فمين‬
‫توليت‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 9 ،‬رمضان ‪ 1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪23‬‬
‫الفائدة العاشرة‪:‬‬

‫سجود حاكم‬

‫خدل هللا هذا الفعل يف كتابه‬ ‫ما جسد ساجد قط كسجود داود عليه السالم‪ ،‬اذ ّ‬
‫العزيز‪ ،‬وندب عباده املؤمنني اىل السجود لكام ذكر هذا السجود يف القرأآن متابعة لسجود‬
‫داود عند قول هللا تعاىل‪َ { :‬و َظ ذن د َُاوو ُد َأن ذ َما فَتَنذا ُه فَ ْاس َت ْغ َف َر َرب ذ ُه َوخ ذَر َرا ِك ًعا َو َأانَ َب}‬
‫[ص‪]24:‬‬
‫قال ابن كثري يف تفسري هذه الآية‪{ :‬راكعا} أي ساجدا‪.‬‬
‫ما قصة هذا السجود؟ ملاذا جعل هللا هذا السجود هبذه المهية؟ وما رس هذا‬
‫الاحتفاء العظي هبذا السجود؟‬
‫لقد أورد بعض املفرسين رواايت ضعيفة منكرة يف هذه الآية مبا ال يليق مباكنة‬
‫داود عليه السالم‪ ،‬ويه من االرسائيليات اليت تعرب عن سوء موقف بن ارسائيل مع‬
‫أنبياهئم‪ .‬فنس بوا اىل النبياء أفعاال شنيعة ال تليق مبؤمن فضال من نيب عظي من النبياء‬
‫امه ا ْقتَ ِد ْه ۗ}‬ ‫الكبار اذلين أمر هللا ابالقتداء هبم‪ ،‬قال تعاىل‪ُ { :‬أولَـ ِئ َك ذ ِاذل َين هَدَ ى ذ ُ‬
‫اّلِل ۖ فَهبِ ُدَ ُ ُ‬
‫[النعام‪]90 :‬‬
‫ووفّق بعض املفرسين اىل رد تكل الش هبات حول داود عليه السالم‪ ،‬ومن‬
‫هؤالء املفرسين اذلين انربوا لتكل الش هبة بقوة‪ :‬االمام خفر ادلين الرازي يف تفسريه لهذه‬
‫الآية‪ ،‬فقد أطال النفس جدا يف تربئة نبينا داود عليه السالم مما ألصقوه من تكل القصة‬

‫‪24‬‬
‫البذيئة‪ .‬ولوال طول وكرثة جحج الرازي لوردت تكل الوجوه هنا‪ ،‬ولكن املقام مقام‬
‫اختصار‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬أن الالئق بنبينا داود عليه السالم يف هذه القصة أن داود عليه‬
‫السالم قىض لحد اخلصمني قبل أن يسمع الكم اخلصم الثاين‪ ،‬فانه ملا قال لحد‬
‫اخلصمني‪ { :‬لَقَ ِد َظلَ َم َك ب ُِس َؤالِ ن َ ْع َج ِت َك اىل ِن َع ِاج ِه } حفُك عليه بكونه ظامل ًا مبجرد دعوى‬
‫اخلصم الآخر بغري بينة‪ ،‬اكن هذا احلُك خمالف ًا للصواب‪ .‬فعند هذا اش تغل ابالس تغفار‬
‫والتوبة‪ .‬قال الرازي‪ :‬فثبت هبذه البياانت أان اذا محلنا هذه الآايت عىل هذا الوجه‪ ،‬فانه ال‬
‫يلزم اس ناد َشء من اذلنوب اىل داود عليه السالم‪ ،‬بل ذكل يوجب اس ناد أعظم‬
‫الطاعات اليه‪[ .‬التفسري الكبري‪]178/12 :‬‬
‫يعن أن داود عليه السالم بصفته ملاك وحاكام اكن يتحرى الصواب‪ ،‬وخاف من‬
‫يغره منصبه وقوته وتفوقه عىل أعدائه أن حيُك هبواه أو يعمتد عىل ظنه‪،‬‬
‫اخلطا يف احلُك‪ ،‬مل ّ‬
‫أو يكتفي بأدىن دليل ليصدر احلُك‪ .‬مع أنه ال أحد يعرتض عليه‪ ،‬وال سلطة برشية فوقه‬
‫حتاس به‪ .‬مل يرتكب كبرية ومل يفعل فاحشة‪ ،‬وامنا هو الضمري احلي احلساس اذلي جعهل‬
‫يتوب اىل هللا وينيب اليه فيسجد هلل خاشعا ذليال‪ ،‬وقد أعطاه هللا مكل املرشق‬
‫واملغرب‪.‬‬
‫مفن هنا يتجىل مك هو عظي هذا السجود! ليس جسود خشص ضعيف مسكني‪،‬‬
‫لكنه جسود مكل عادل خياف هللا وينشد العدل واحلق!‬
‫وابلتاَل يس تحق داود هذا التقدير والثناء‪{ :‬فَغَ َف ْرانَ َ ُهل َذ ِ َكل َوا ذن َ ُهل ِع ْندَ انَ لَ ُزلْ َفى‬
‫ِ‬
‫َو ُح ْس َن َمأ آ ٍب} [ص‪]25 :‬‬

‫‪25‬‬
‫عداةل احلامك وخوفه من هللا من أعظم ما يس تجلب رمحة هللا‪ ،‬واالمام العادل‬
‫أول من يس تحق الكءة هللا ورعايته وكنفه ولطفه يوم القيامة‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه‬
‫اّلِل ي َ ْو َم ال ِق َيا َم ِة ِيف ِظ ِ ّ ِهل‪ ،‬ي َ ْو َم َال ِظ ذل ا ذال ِظ ههلُ‪ :‬ا َما ٌم عَا ِد ٌل‪ "...‬احلديث‬
‫وسمل‪َ " :‬س ْب َع ٌة يُ ِظل ههُ ُم ذ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[رواه البخاري]‬
‫ويلحق هذا التكرمي لك من وَل أمر العامة من املؤمنني سواء عىل مس توى‬
‫ادلوةل أو أقل من ذكل‪ ،‬فان أداء الماانت واحلُك ابلعدل يشمل لك ما يتعلق حبقوق‬
‫اّلِل يَأْ ُم ُرُ ْمك َأن تُ َؤ هدوا ْ َال َماانَ ِت ا َ هىل َأ ْه ِلهَا َوا َذا َح َ ْمك ُمت ب َ ْ َني النذ ِاس‬
‫البرش‪ ،‬قال تعاىل‪ ۞{ :‬ا ذن ذ َ‬
‫َ َ ِمس ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلِل اك َن ي ًعا بَص ًريا} [النساء‪]58 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اّلِل نع ذما يَعظُك ِبه ۗ ا ذن ذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأن َ ْحت ُمكُوا ِابلْ َعدْ لِ ۚ ا ذن ذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ُ " :‬لكه ُ ُْك َرا ٍع‪َ ،‬و ُلكه ُ ُْك َم ْس ئُو ٌل َع ْن َر ِع ذي ِت ِه‪ ،‬اال َما ُم‬
‫ِ‬
‫َرا ٍع َو َم ْس ُئو ٌل َع ْن َر ِع ذي ِت ِه‪َ ،‬و ذالر ُج ُل َرا ٍع ِيف َأه ِ ِْهل َوه َُو َم ْس ُئو ٌل َع ْن َر ِع ذي ِت ِه‪َ ،‬وامل َ ْر َأ ُة َرا ِع َي ٌة ِيف‬
‫وةل َع ْن َر ِع ذيهتِ َا‪َ ،‬واخلَا ِد ُم َرا ٍع ِيف َمالِ َس ِ ّي ِد ِه َو َم ْس ُئو ٌل َع ْن َر ِع ذيهتِ ِ َو ذالر ُج ُل‬ ‫بَيْ ِت َز ْو ِ َهجا َو َم ْس ُئ َ ٌ‬
‫َرا ٍع ِيف َمالِ َأبِي ِه َو َم ْس ُئو ٌل َع ْن َر ِعيذ ِت ِه‪َ ،‬و ُلكه ُ ُْك َرا ٍع َو َم ْس ُئو ٌل َع ْن َر ِعيذ ِت ِه» [رواه البخاري‬
‫ومسمل]‬
‫ولكام عظمت املسؤولية اش تد الوعيد‪ ،‬ولكام بلغ التقصري مداه اس تحق من‬
‫العذاب أشده‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬أي ه َما َرا ٍع ْاس ُ ْرت ِع َي َر ِع ذي ًة فَغ ذَشهَا فَه َُو ِيف‬
‫النذ ِار‪[ ".‬رواه أمحد]‬
‫فلك واحد منا عليه أمانة‪ ،‬وأدىن أمانة يف ادلنيا يه عظمية أشفقت الساموات‬
‫والرض واجلبال أن حيملهنا‪ ،‬وقد محلناها‪ .‬مفن مل يلجأ اىل هللا ويس تعن به ويكرث حماس بة‬
‫نفسه مل يسمل من التقصري ولن ينجو من العقاب‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫اللهم ال منجى منك اال اليك‪ ،‬اليك املأآب وعليك التالكن‪ ،‬وال حول وال قوة اال‬
‫بك‪ ،‬برمحتك نس تغيث‪ ،‬أصلح لنا شأننا لكه وال تلكنا اىل أنفس نا طرفة عني‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 10 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪27‬‬
‫الفائدة احلادية عشر‪:‬‬

‫دقة مرحلية تشريع الصوم‬

‫َشع الصوم يف الس نة الثانية من الهجرة‪ .‬وهذا هل داللته الاسرتاتيجية وفائدته‬


‫املرحلية يف مسرية البناء احلضاري اذلي ابتدأها النيب صىل هللا عليه وسمل‪.‬‬
‫ماذا يعن ترشيعه يف هذه املرحةل ابلضبط؟ ليس قبلها وال بعدها‪ .‬فالس نة الثانية‬
‫من الهجرة يه مرحةل المان والاس تقرار النس يب‪ ،‬وبُعد املسلمني عن أذى املرشكني‬
‫وتعذيهبم‪ ،‬ويه مرحةل الاس تقالل يف اختاذ القرار وحتديد املصري‪.‬‬
‫َشع الصوم بعد أن اس تقر املسلمون يف بدل المان‪ ،‬ولو َشع قبهل لاكن مشقة‬
‫عظمية‪ ،‬مع ظروفهم الصعبة يف مكة ملضايقة الكفار وتعذيهبم النفيس واجلسدي للمسلمني‪.‬‬
‫ففي الس نة الثانية‪ ،‬اس تمكل املسلمون املرحةل الانتقالية حيث بُن املسجد‬
‫ُووضع "دس تور البدل" واتفق أهل املدينة عىل احلقوق والواجبات الساس ية املتعلقة‬
‫بـ"املواطنة" وادلفاع املشرتك‪ .‬قد أآىخ الرسول صىل هللا عليه وسمل بني املهاجرين‬
‫والنصار‪ ،‬و ُحفظ للك طائفة حقها وماكنهتا‪ ،‬وهكذا اس تتب المر واس تقر النظام‪،‬‬
‫حيث متكن املسلمون من ترتيب حياهتم وفق مبادهئم اخلاصة وتعالي ديهنم دومنا أي‬
‫تد هخل وتأثري هجة أخرى ال تَرقُب فهيم ا ًّال وال ذمة‪.‬‬
‫مل يرتك هللا للمسلمني فرتة طويةل من هذا الاس تقرار حىت يتلقى املسلمون هذا‬
‫الص َيا ُم َ َمَك ُكتِ َب عَ َىل ذ ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ُْك لَ َعل ذ ُ ُْك‬
‫المر االلهيي‪َ { :‬اي َأُّيه َا ذ ِاذل َين أ آ َمنُوا ُكتِ َب عَلَ ْي ُ ُُك ّ ِ‬

‫‪28‬‬
‫ون} [البقرة‪ ]183 :‬فان أماهمم حتدايت جس مية ال بد من مواهجهتا‪ ،‬وعلهيم هماما عظمية‬ ‫تَتذ ُق َ‬
‫ال بد من القيام هبا‪ ،‬جفاء الصيام هتيئة ذلكل‪.‬‬
‫مل يرد هللا للمسلمني حياة الرخاء والرتهل‪ ،‬فيخدلون اىل الراحة ويركنون اىل‬
‫الكسل والضعف‪ .‬جاء الصوم وعلهيم الاس تعداد أيضا ملعركة بدر‪ .‬هناك ّ‬
‫تشلك عنرص‬
‫صلب حيمل أعباء ادلعوة ويتحمل مشقة اجلهاد يف سبيل هللا‪.‬‬
‫ان هذه مرحةل مبكرة للتقوية الروحية جملمتع أريد هل قيادة العامل‪ .‬فالضعيف ال‬
‫ليخرج‬
‫يقود‪ ،‬والطامع ال يوثق به‪ ،‬والعاشق ملَّلات ادلنيا ال يقتدى به‪ .‬جاء الصوم ّ‬
‫الرواح الطاهرة اليت تقاوم جاذبية الرض وتسمو عن التعلق ابملادة والتشبث مبتطلبات‬
‫اجلسد‪.‬‬
‫يعوده عىل الظروف الصعبة‪ ،‬ويعلّمه كيف يقاوم عوامل‬
‫والصوم يقوي اجلسد‪ ،‬و ّ‬
‫الضعف واجلوع والعطش والتعب‪ ،‬يعلّمه االصار عىل بلوغ الهدف‪ .‬واجلسد اذلي ال‬
‫ومعرض للمراض‬‫يعرف اال الراحة واحلياة السهةل جسد ضعيف‪ ،‬وعضالت مرتهةل‪ ،‬ذ‬
‫بأدىن سبب‪ .‬واالسالم ال يريد هذا الضعف‪.‬‬
‫ان عىل املسلمني حتمل الماانت ومواهجة املغرايت‪ ،‬فاذا مل تتطهر النفوس من‬
‫اتباع الشهوات سقطت يف ش باك الفنت املدهلامت‪ .‬فاملراحل املقبةل اليت ينتظرها املسلمون‬
‫حباجة اىل صفاء النفوس وطهارة النوااي واملناعة النفس ية َتاه اغراءات ادلنيا ووساوس‬
‫الش يطان‪.‬‬
‫وهكذا جنح اجليل الول يف انهتاج تكل املساكل‪ ،‬وجنحوا يف الاس تفادة من تكل‬
‫"الربامج التأهلية" اليت أعدها هللا لتكويهنم وتلكيفهم بتكل الماانت‪ .‬مث جاء أجيال تلو‬
‫أجيال ملواصةل الطريق اىل أن جاء دوران‪ ،‬مفا َنن فاعلون؟‬

‫‪29‬‬
‫اللهم أعنا وال تعن علينا‪ ،‬واهدان واهد بنا‪ ،‬ووفقنا وال تلكنا اىل أنفس نا طرفة‬
‫عني‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 11 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪30‬‬
‫الفائدة الثانية عشر‪:‬‬

‫سعة وعظمة دالالت آايت هللا‬

‫من الزهور الزاهية والامثر ادلانية املبثوثة يف احلدائق القرأآنية‪ :‬تكل الآايت اليت‬
‫تتحدث عن املظاهر الكونية اليت تزيد االميان وتمني العقل وتبن الفكر‪ ،‬كقوهل تعاىل‪{ :‬ا ذن‬
‫ِ‬
‫كل ال ذ ِيت َ َْت ِري ِيف الْ َب ْح ِر ِب َما يَن َف ُع‬ ‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض َوا ْخ ِت َال ِف الل ذ ْي ِل َوالهنذ َ ِار َوالْ ُف ْ ِ‬
‫ِيف َخلْ ِق ذ‬
‫الس َما ِء ِمن ذما ٍء فَأَ ْح َيا ِب ِه ْ َال ْر َض ب َ ْعدَ َم ْوهتِ َا َوب َ ذث ِفهيَا ِمن ُ ِّ‬
‫لك دَاب ذ ٍة‬ ‫اّلِل ِم َن ذ‬ ‫النذ َاس َو َما َأ َنز َل ذ ُ‬
‫ون } [البقرة‪:‬‬ ‫الس َما ِء َو ْ َال ْر ِض َلآ َاي ٍت ِل ّقَ ْو ٍم ي َ ْع ِقلُ َ‬ ‫الس َح ِاب الْ ُم َس ذخ ِر ب َ ْ َني ذ‬ ‫َرص ِيف ّ ِالر َاي ِح َو ذ‬
‫َوت ْ ِ‬
‫‪]164‬‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض َوا ْخ ِت َال ِف الل ذ ْي ِل َوالهنذ َ ِار َلآ َاي ٍت‬‫وكقوهل تعاىل‪ِ { :‬ا ذن ِيف َخلْ ِق ذ‬
‫ِ ّ ُل ِوَل ْ َاللْ َب ِاب} [أل ُعران‪]190 :‬‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض َلآ َاي ٍت‬‫اّلِل ِيف ذ‬ ‫وقال‪{ :‬ا ذن ِيف ا ْخ ِت َال ِف الل ذ ْي ِل َوالهنذ َ ِار َو َما َخلَ َق ذ ُ‬
‫ِ‬
‫ون} [يونس‪]6 :‬‬ ‫ِل ّقَ ْو ٍم يَتذ ُق َ‬
‫ون(‪)َ 20‬و ِم ْن أ آ َاي ِت ِه‬
‫رش َ‬ ‫رش تَ ْنتَ ِ ُ‬‫وقال‪َ { :‬و ِم ْن أ آ َاي ِت ِه َأ ْن َخلَقَ ُ ُْك ِم ْن تُ َر ٍاب ُ ذمث ا َذا َأن ُ ْْمت ب َ َ ٌ‬
‫ِ‬
‫َأ ْن َخلَ َق لَ ُ ُْك ِم ْن َأنْ ُف ِس ُ ُْك َأ ْز َوا ًجا ِلت َ ْس ُكنُوا الَهيْ َا َو َج َع َل بَيْنَ ُ ُْك َم َو ذد ًة َو َر ْ َمح ًة ۚ ا ذن ِيف َذ ِ َكل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون(‪[ })21‬الروم‪]21-20 :‬‬ ‫َلآ َاي ٍت ِلقَ ْو ٍم يَتَ َفكذ ُر َ‬
‫وهكذا مئات الآايت عىل هذا املنوال مبثوثة بشلك كبري جدا يف حصفات هذا‬
‫الكتاب العظي‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ومثل هذه الآايت عىل كرثهتا مل يذكر هللا يف واحدة مهنا بشلك صحي عىل ماذا‬
‫تدل تكل الآايت؟ بل ترك للقارئ املتأمل أن يهتد يف التفكري والتعمق يف ادلالالت اليت‬
‫حتملها تكل الآايت‪.‬‬
‫ويف القرأآن العزيز كثري من تكل املواضع اليت مل يذكر هللا أجزاء هممة من‬
‫مكوانت امجلل املذكورة‪ .‬ويف اللغة العربية تعرف هذه الظاهرة مبصطلح "احلذف‪".‬‬
‫لقد تطرق العالمة عبد الرمحن السعدي يف كتابه اللطيف احلجم والعظي‬
‫املضمون‪" ،‬القواعد احلسان يف تفسري القرأآن" اىل مثل هذا املوضوع وقرر فيه قاعدة هممة‬
‫تقول‪" :‬حذف املتعلق املعمول فيه‪ :‬يفيد تعمي املعىن املناسب هل"‪.‬‬
‫ون} ‪،‬‬‫ون} ‪{ ،‬لَ َعل ذ ُ ُْك ت ََذكذ ُر َ‬
‫ومن أمثةل ذكل‪ :‬قول هللا يف عدة أآايت {لَ َعل ذ ُ ُْك تَ ْع ِقلُ َ‬
‫ون} [النعام‪ ]153 ،152 ،151 :‬مل يذكر هللا املفعول به يف تكل الفعال‪،‬‬ ‫{لَ َعل ذ ُ ُْك تَتذ ُق َ‬
‫تعقلون ماذا؟ وتذكرون ماذا؟ وتتقون ماذا؟ فيدل ذكل عىل أن املراد‪ :‬لعلُك تعقلون عن‬
‫هللا لك ما أرشدمك اليه ولك ما علممكوه‪ ،‬ولك ما أنزل عليُك من الكتاب واحلمكة‪ ،‬ولعلُك‬
‫تذكرون‪ ،‬فال تنسون وال تغفلون‪ ،‬فتكونون دامئ ًا متيقظني ُم ْرهفي احلواس‪ ،‬حتسون لك‬
‫ما مترون به من سنن هللا وأآايته‪ ،‬فتذكرون مجيع مصاحلُك ادلينية وادلنيوية‪ ،‬ولعلُك تتقون‬
‫مجيع ما يب اتقاؤه من الغفةل واجلهل والتقليد‪ ،‬ولك ما حياول عدومك أن يوقعُك فيه من‬
‫مجيع اذلنوب واملعايص‪ ،‬ويدخل يف ذكل ما اكن س ياق الالكم فيه وهو فرد من أفراد‬
‫هذا املعىن العام‪.‬‬
‫قال السعدي‪ :‬وذكل أن الفعل وما هو معناه مىت قُ ِيّد بيشء تَقيّد به‪ ،‬فاذا أطلقه‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬وحذف املتعلق اكن القصد من ذكل التعمي‪ ،‬ويكون احلذف هنا أحسن‬
‫وأف َيد كثري ًا من الترصحي ابملتعلقات‪ ،‬وأمجع للمعاين النافعة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫فعدم ذكر تكل املتعلقات يوسع من معاين ودالالت تكل الآايت‪ .‬فلو ذكر هللا‬
‫دالالت تكل الآايت بشلك حمدد‪ ،‬لتحدد مدلول تكل الآايت ولضاقت اشاراهتا‪ .‬فعدم‬
‫ذكرها يدل عىل البعاد غري املتناهية واملعاين غري احملدودة لتكل الآايت‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذه قاعدة مفيدة جد ًا‪ ،‬مىت اعتربها االنسان يف الآايت القرأآنية أكسبته‬
‫فوائد جليةل‪.‬‬
‫فهنا تتجىل حقيقة كربى يف مثل تكل الآايت الكرمية‪ :‬أن املدلول عليه أكرب وأكرث‬
‫من ادلليل‪ ،‬وأن ما حتويه تكل الآايت من ادلالالت واالشارات واملعاين والعلوم أكرب‬
‫وأكرث من أن حتدده اللكامت‪ ،‬أبعد من أن حتدّ ه العبارات‪ ،‬وأُعق من أن حتيط به امجلل‬
‫والتعبريات‪.‬‬
‫ان فهيا لآايت‪ ...‬عىل وجود هللا‪ ...‬عىل عظمة هللا‪ ....‬عىل حمكة هللا‪ ...‬عىل‬
‫ابداع الصانع‪ ...‬عىل احاكم اخللق‪ ...‬عىل حمكة الرشع‪ ...‬عىل لك ما يزيد االميان‪ ...‬عىل‬
‫لك ما يرشد العقل‪ ...‬عىل لك ما يسدد النظر‪ ...‬عىل لك ما يصلح النفس‪ ...‬ان فهيا‬
‫لآايت للك عقل رش يد وأآايت للك قلب سلي‪.‬‬
‫لو استنفدان أعامران وأعامر لك اخمللوقات الس تقصاء دالالت تكل الآايت لفنيت‬
‫أعامران وأعامر اخللق قبل أن َنصهيا‪ .‬وكيف تس توعب تكل الآايت ‪ -‬ويه لكها خملوقات‬
‫‪ -‬صفات هللا وكامهل وهو اخلالق‪ ،‬فأىن للفرع أن يس توعب الصل؟‬
‫ولكن حسبنا أن ندرك ن ُ َتف ًا مهنا‪ ،‬لنس تنري هبا يف حياتنا‪ ،‬ونس تيضء هبا فنبرص‬
‫طريقنا‪ ،‬ونقتبس أنوارها فنعرف أمه حقائق الكون‪ .‬وَنمد هللا عىل نعمة املعرفة ونعمة‬
‫االميان والعمل‪.‬‬
‫اللهم علّمنا ما ينفعنا‪ ،‬وانفعنا مبا علمتنا‪ ،‬وزدان علام اي رب العاملني‪...‬‬
‫‪33‬‬
‫مكة املكرمة‪ 12 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪34‬‬
‫الفائدة الثالثة عشر‪:‬‬

‫إرادة العلو يف األرض‬

‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل‪ :‬قَا َل ذ ُ‬


‫اّلِل‬ ‫اّلِل َص ذىل ُ‬ ‫ول ذ ِ‬ ‫َع ْن َأ ِيب ه َُرْي َر َة ريض هللا عنه قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُس ُ‬
‫َع ذز َو َج ذل‪ْ « :‬ال ِك ْ ِرب َاي ُء ِرد َِاِئ‪َ ،‬والْ َع َظ َم ُة ا َز ِاري‪ ،‬فَ َم ْن انَ َز َع ِن َوا ِحدً ا ِمهنْ ُ َما‪ ،‬قَ َذفْ ُت ُه ِيف النذ ِار»‬
‫ِ‬
‫[رواه أبو داود وأمحد وابن حبان]‬
‫هكذا أعلن هللا عىل اخللق أمجعني‪ ،‬أن الكربايء والعظمة هلل وحده‪ ،‬ال أحد من‬
‫حمرمة عن املتكربين حىت لو مقدار ذرة‪،‬‬
‫اخللق يسمح هل ابالتصاف هبذه الصفات‪ .‬واجلنة ّ‬
‫فان اجلنة ال يس تحقها متكرب‪.‬‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل قَا َل‪َ « :‬ال يَدْ ُخ ُل الْ َجنذ َة‬
‫هللا ْب ِن َم ْس ُعو ٍد‪َ ،‬ع ِن النذ ِ ِ ّيب َص ذىل ُ‬
‫َع ْن َع ْب ِد ِ‬
‫َم ْن َاك َن ِيف قَلْ ِب ِه ِمثْقَ ُال َذ ذر ٍة ِم ْن ِك ْ ٍرب»[رواه مسمل]‬
‫كل ادلذ ُار ْالآ ِخ َر ُة َ ْجن َعلُهَا‬
‫وقد صح هللا هبذه املعلومة يف كتابه الكرمي‪ ،‬اذ قال‪ِ { :‬ت ْ َ‬
‫ون عُلُ ًّوا ِيف ْ َال ْر ِض َو َال فَ َسادًا َوالْ َعا ِق َب ُة ِللْ ُمتذ ِق َني} [القصص‪]83 :‬‬
‫ِل ذ َِّل َين َال يُ ِريدُ َ‬
‫ان ادلار الآخرة ال ختلق اال مزنهة عن العلو والتجرب‪ ،‬فان فهيا ال يكون امل ُكل‬
‫َترب يف ادلنيا ال يرى كرامة يف الخرى‪ ،‬وال‬‫والعز والكربايء اال هلل وحده س بحانه‪ ،‬مفن ّ‬
‫يكون هل مصري غري هجمن‪ .‬والعياذ ابهلل‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫والآية الكرمية تتلكم عن صفتني حمرمتني‪ ،‬مفن اتصف هبام حرمت عليه اجلنة‪،‬‬
‫والناس يف هاتني الصفتني عىل أقسام‪ ،‬كام ّفصهل ابن تميية رمحه هللا‪ ،‬قال‪ :‬فَا ذن النذ َاس‬
‫ِ‬
‫َأ ْرب َ َع ُة َأ ْق َسا ٍم‪:‬‬
‫ون العلو عىل الناس‪ ،‬والفساد يف الرض وهو َم ْع ِص َي ُة ا ذ ِّلِل‪،‬‬ ‫الْ ِق ْس ُم ْ َال ذو ُل‪ :‬يُ ِريدُ َ‬
‫ون‪َ ،‬ك ِف ْر َع ْو َن وحزبه‪ .‬وهؤالء مه َشار الْ َخلْ ِق‪ .‬قَا َل ذ ُ‬
‫اّلِل‬ ‫َو َه ُؤ َال ِء الْ ُملُوكُ َو هالر َؤ َسا ُء الْ ُم ْف ِسدُ َ‬
‫تَ َع َاىل‪{ :‬ا ذن ِف ْر َع ْو َن عَ َال ِيف ْ َال ْر ِض َو َج َع َل َأ ْهلَهَا ِش َي ًعا ي َْس تَضْ ِع ُف َطائِ َف ًة ِمهنْ ُ ْم يُ َذب ّ ُِح َأبْنَ َاء ُ ْمه‬
‫ِ‬
‫َوي َ ْس َت ْح ِِي ِن َس َاء ُ ْمه ان ذ ُه َاك َن ِم َن الْ ُم ْف ِس ِد َين} [القصص‪]4 :‬‬
‫ِ‬
‫ون الْ َف َسادَ‪ ،‬بال علو‪ ،‬اكلرساق واجملرمني من سفةل‬ ‫َوالْ ِق ْس ُم الث ِذاين‪ :‬ذ ِاذل َين يُ ِريدُ َ‬
‫الناس‪.‬‬
‫ون َأ ْن ي َ ْعلُ َوا ِب ِه‬ ‫والقسم الثالث‪ :‬يريدون الْ ُعلُ ذو ب َِال فَ َسا ٍد‪َ ،‬اكَ ذ ِذل َين ِع ْن ُ ْ‬
‫دَمه ِد ٌين يُ ِريدُ َ‬
‫عَ َىل غَ ْ ِري ِ ْمه ِم ْن النذ ِاس‪.‬‬
‫ون عُلُ ًّوا ِيف ْ َال ْر ِض َو َال فَ َسادًا‪،‬‬ ‫وأما الْ ِق ْس ُم ذالرا ِب ُع‪ :‬فَهُ ْم َأ ْه ُل الْ َجنذ ِة‪ ،‬ذ ِاذل َين َال يُ ِريدُ َ‬
‫ُون َأعْ َىل ِم ْن غَ ْ ِري ِ ْمه‪َ َ ،‬مَك قَا َل ذ ُ‬
‫اّلِل تَ َع َاىل‪{َ :‬و َال هتَ ِ ُنوا َو َال َ ْحت َ نزُوا َو َأن ُ ُْمت ْ َال ْعلَ ْو َن‬ ‫َم َع َأْنذ ُ ْم قَدْ يَ ُكون َ‬
‫الس ْ ِمل َو َأن ُ ُْمت‬
‫ِا ْن ُك ْن ُ ْمت ُم ْؤ ِم ِن َني} [أل ُعران‪َ .]139 :‬وقَا َل تَ َع َاىل‪{ :‬فَ َال هتَ ِ ُنوا َوتَدْ ُعوا ِا َىل ذ‬
‫اّلِل َم َع ُ ُْك َولَ ْن ي َ ِ َرتُ ْمك َأ ْ َُعالَ ُ ُْك} [محمد‪ . ]35 :‬وقال‪{َ :‬و ِ ذ ِّلِل الْ ِع ذز ُة َو ِل َر ُس ِ ِ‬
‫وهل‬ ‫ْ َال ْعلَ ْو َن َو ذ ُ‬
‫َو ِللْ ُم ْؤ ِم ِن َني} [املنافقون‪ ]8 :‬اهـ خمترصا‬
‫ولُحظ أن العلو يف الرض ‪ -‬مبعن التكرب والتجرب‪ -‬حمرم حىت ولو بغري فساد‪،‬‬
‫وقد مث ّل ابن تميية مبن اكن عنده دين وطاعة والزتام ظاهر‪ ،‬ولكنه طمع أن يس تعيل عىل‬
‫الناس فهذا مذموم‪ ،‬وقد تكون هذه اخللطة عند أهل ادلين أقبح مما عند أرابب الفساد‪،‬‬
‫اذ املفرتض من أهل ادلين أن يتواضعوا هلل وخيفضوا جناهحم للخلق‪ .‬فقد أمر هللا نبيه‬

‫‪36‬‬
‫صىل هللا عليه وسمل وهو أكرم اخللق وأَشف البرش‪ ،‬أن يتواضع للناس‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫{ َوا ْخ ِف ْض َجنَا َح َك ِللْ ُم ْؤ ِم ِن َني} [احلجر‪ ]88 :‬وقال‪َ { :‬وا ْخ ِف ْض َجنَا َح َك ِل َم ِن ات ذ َب َع َك ِم َن‬
‫الْ ُم ْؤ ِم ِن َني} [الشعراء‪]215 :‬‬
‫وان صفات املؤمنني اذلين ينرصون ادلين حبق أْنم { َأ ِذ ذ ٍةل عَ َىل الْ ُم ْؤ ِم ِن َني َأ ِع ذز ٍة عَ َىل‬
‫ا ْل َاك ِف ِر َين} [املائدة‪]54 :‬‬
‫هللا َأ ْو ََح ا َ ذَل َأ ْن‬
‫ويف حصيح مسمل أن النيب صىل هللا عليه وسمل قال‪َ :‬وا ذن َ‬
‫ِ‬ ‫ذ َ ْ َ ٌ َ َ ٍ َ يِ َ ٌ َ َ ٍ ِ‬
‫ت ََواضَ ُعوا َحىت ال يَفخ ََر أ َحد عَىل أ َحد‪َ ،‬وال َ ْبغي أ َحد عَىل أ َحد‪.‬‬
‫ان الكرب واخليالء والاس تعالء عىل الناس من المور اليت تكرر ذهما يف القرأآن‬
‫يف مواضع كثرية‪َ { :‬و َال تَ ْم ِش ِيف ْ َال ْر ِض َم َر ًحا ان َذك لَ ْن َ ْخت ِر َق ْ َال ْر َض َولَ ْن تَ ْبلُ َغ الْجِ َبا َل‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُط ًوال} [االرساء‪ ]37 :‬وقال تعاىل‪َ { :‬و َال ت َُص ِ ّع ْر َخ ذدكَ للنذاس َوال تَ ْمش ِيف َال ْرض َم َر ًحا‬
‫ُور}‬ ‫لك ُمخْ َتالٍ فَخ ٍ‬ ‫اّلِل َال ُ ِحي هب ُ ذ‬
‫ُور} [لقامن‪ ]18 :‬وقال‪َ { :‬و ذ ُ‬ ‫لك ُمخْ َتالٍ فَخ ٍ‬ ‫اّلِل َال ُ ِحي هب ُ ذ‬
‫ا ذن ذ َ‬
‫ِ‬
‫ُورا} [النساء‪]36 :‬‬ ‫ً‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ً‬
‫اال‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫خ‬
‫َ َ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫اك‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ه‬ ‫ِ‬
‫حي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ال‬ ‫اّلِل‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫ذ‬ ‫ا‬ ‫{‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫]‬ ‫‪23‬‬ ‫[احلديد‪:‬‬
‫ِ‬
‫ومن أخطر ما يصيب املؤمن يف هذا الباب هو أن حب الرشف واحلرص عىل‬
‫اعتالء املناصب كثريا ما ير االنسان اىل فعل املنكرات حبيث يذهب معه لك اخلري‬
‫اذلي فيه‪ ،‬وقد يقلب املتدين فاسدا يرتكب لك املهنيات من أجل الوصول اىل الرئاسة‬
‫اّلِل عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل َأن ذ ُه‬
‫اكل َع ْن النذ ِ ِ ّيب َص ذىل ذ ُ‬ ‫والرشف الزائف‪ .‬روى الرتمذي عن َك ْع ُب ْب ُن َم ِ ٍ‬
‫قال‪« :‬ما ذئبان جائعان أرسال يف زريبة غَ َ ٍمن ِبأَفْ َسدَ لَهَا ِم ْن ِح ْر ِص الْ َم ْر ِء عَ َىل املال‬
‫حص ٌيح‪.‬‬ ‫يث َح َس ٌن َ ِ‬ ‫والرشف ِ ِدلي ِن ِه» ‪ .‬قَا َل ِ ّ ْ‬
‫الرت ِم ِذ هي َح ِد ٌ‬
‫ّبني النيب صىل هللا علهيأن خطر احلرص عىل املال والرشف أشد من خطر‬
‫اذلئاب عىل الغمن‪ ،‬فتصور وحش ية املوقف! فالطمع يف ادلنيا ويف مظاهرها الزائفة يفسد‬

‫‪37‬‬
‫دين املرء‪ ،‬وقد رأينا مك من الكبائر ارتكبت! ومك من النوايه انهتكت! ومك من أعراف‬
‫املروءات تركت! لك ذكل بسبب الكرايس واملناصب والشهرة والعلو يف الآرض! وال‬
‫حول وال قوة اال ابهلل!‬
‫اللهم ج ِنّبنا الفنت ما ظهر مهنا وما بطن‪ ،‬ربنا ال تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا‪ ،‬وهب‬
‫لنا من دلنك رمحة انك أنت الوهاب‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 13 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪38‬‬
‫الفائدة الرابعة عشر‪:‬‬

‫إذا قص رت فاستغفر وال تربرر‬

‫قدّ ر هللا للبرش أن يكون هلم أخطاء‪ ،‬ولن يس تطيع أحد أن يدعي أنه مل ولن‬
‫خيطئ أبدا‪ .‬وهذه حقيقة اثبتة ال مياري فهيا أحد‪ .‬واكن توجيه النيب صىل هللا عليه وسمل‬
‫واحضا جدا وضوح الشمس يف رابعة الهنار‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ ُ " :‬ه‬
‫لك ا ْب ِن أ آ َد َم‬
‫ون‪[ ".‬رواه الرتمذي وابن ماجه وأمحد]‬ ‫خ ذَطا ٌء‪َ ،‬وخ ْ َُري الْخ ذَطائِ َني التذ ذوابُ َ‬
‫ومن صفات املتقني‪َ { :‬و ذ ِاذل َين ا َذا فَ َعلُوا فَا ِحشَ ًة َأ ْو َظلَ ُموا َأنْ ُف َسه ُْم َذ َك ُروا ذ َ‬
‫اّلِل‬
‫ِ‬
‫ون}‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫رصوا عَىل َما ف َعلوا َو ْمه ي َ ْعل ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫اّلِل؟ َول ْم ي ُ ه‬ ‫ذ‬
‫ُوب اال ذ ُ‬ ‫فَ ْاس تَ ْغ َف ُروا ِ ُذلن ُوهبِ ِ ْم‪َ ،‬و َم ْن ي َ ْغ ِف ُر هاذلن َ‬
‫ِ‬
‫[أل ُعران‪]135 :‬‬
‫ليس التقياء مه اذلين مل يرتكبوا ذنبا أومل يقعوا يف خطا قط‪ ،‬بل مه اذلين‬
‫أخطأوا واس تغفروا واتبوا وأقلعوا‪.‬‬
‫من ذا اذلي هل احلس ىن فقط؟‬ ‫من ذا اذلي ما ساء قط؟‬
‫وان هذا ادلين هل طريق طويل وواجبات كثرية متصاعدة‪ ،‬أصولها سهةل ميرسة‪،‬‬
‫ولكن متاهما ال يصل اليه اال القليل‪ ،‬وال يقدر عليه اال من يرسه هللا هل‪ .‬ومن تتبع لك‬
‫متطلبات ادلين يد صعوبة يف اس تقصاهئا وبلوغ متاهما‪.‬‬
‫قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ذن ه ََذا ّ ِادل َين َم ِت ٌني‪ ،‬فَأَ ْو ِغلُوا ِفي ِه ِب ِرفْ ٍق‪[ ".‬رواه‬
‫ِ‬
‫وحس نه اللباين]‬
‫أمحد ّ‬

‫‪39‬‬
‫قال املناوي‪" :‬ان هذا ادلين متني" أي‪ :‬صلب شديد‪ ،‬فأوغلوا‪ :‬أي سريوا فيه‬
‫برفق‪ ،‬وال حتملوا عىل أنفسُك ما ال تطيقونه‪ ،‬فتعجزوا وترتكوا العمل‪.‬‬
‫وهكذا فليس من العيب أن يعرتف االنسان بقصور ما عنده من العامل‪ ،‬مفن‬
‫ادعى الكامل فقد كذب وخدع نفسه قبل أن خيدع غريه‪.‬‬
‫قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬يأُّيا الناس‪ ،‬انُك لن تطيقوا ولن تفعلوا لك ما‬
‫أمرتُك به‪ ،‬ولكن سددوا وأبرشوا‪[".‬رواه أمحد وأبو داود]‬
‫وقال ايضا‪" :‬ا ْس َت ِقميُوا َولَ ْن ُ ْحت ُصوا‪[ ".‬رواه ماكل يف املوطا وأمحد يف املس ند]‬
‫اّلِل ُ ِحي هب التذ ذواب َِني‬
‫فأحب العباد اىل هللا هو من يكرث التوبة واالانبة اليه‪{ ،‬ا ذن ذ َ‬
‫ِ‬
‫َو ُ ِحي هب الْ ُمتَ َطهِّ ِر َين} [البقرة‪]222 :‬‬
‫ومن عالمات اخلذالن وعدم التوفيق أن يش تغل االنسان بتربير أخطائه وَتميل‬
‫قصوره وتزيني نقصانه‪ .‬فبدل أن يصلح نفسه حياول هذا املسكني جاهدا أن يثبت ّمتزيه‬
‫ادلامئ وتفوقه املطلق بش ىت الطرق‪.‬‬
‫وهذه الظاهرة جندها كثريا عند لك خشص حيب أن يكون هل أتباع وأنصار‪،‬‬
‫يتعصبون هل‪ ،‬ويطيعونه يف لك أقواهل‪ ،‬ويعجبون به بلك أفعاهل‪ .‬وهذا املسكني يريد أن‬
‫يُك ا ذال َسبِي َل ذالر َشا ِد}‬
‫يُك ا ذال َما َأ َرى َو َما َأ ْه ِد ُ ْ‬
‫يقول للناس كام قال فرعون لقومه‪َ { :‬ما ُأ ِر ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[غافر‪]29 :‬‬
‫وقد بلغ هذا احملروم بتربير غ ّيه حىت يبحث من التارخي شواهد عىل عدم ذم‬
‫قصوره وأخطائه‪ ،‬فوجد عند خادل بن الوليد خمالفته لبعض التوجهيات النبوية‪ ،‬وعند‬
‫معاوية معارضته لمري املؤمنني عيل بن أيب طالب‪ ،‬وعند ُعر بن اخلطاب بعض صور‬

‫‪40‬‬
‫القسوة‪ ،‬وعند املغرية بن شعبة ما ال يقبهل هو لو عرض عليه‪ .‬وهكذا حاول أن يقنع‬
‫الناس أن الصحابة ‪ -‬ومه خري القرون ‪ -‬عندمه هذه الهنات‪ ،‬ومل يأخذ هذا املسكني بعزامئ‬
‫الصحابة وتقوامه وورعهم وخوفهم من هللا وَتردمه للحق‪.‬‬
‫ومثل هذا الترصف ال جنده عند من حرص عىل هداية الناس اىل اخلري وتبليغهم‬
‫دين هللا بأمانة ونزاهة‪ ،‬بل جنده عند من أراد أن يربط الناس بشخصه هو‪ ،‬ال برهبم‬
‫س بحانه‪ ،‬وأن يكون هلم تبعية مطلقة ووالء هل خاص‪ .‬وهذا عكس ما طلبه هللا من‬
‫اب َوالْ ُح ْ َُك‬ ‫اّلِل ْال ِكتَ َ‬ ‫ادلعاة واملعلمني وطلبة العمل اذ قال س بحانه‪َ { :‬ما َاك َن ِلبَ َ ٍ‬
‫رش َأ ْن يُ ْؤ ِت َي ُه ذ ُ‬
‫اّلِل‪َ .‬ولَ ِك ْن ُكونُوا َر ذاب ِن ّي َِني‪ِ ،‬ب َما ُك ْن ُ ْمت‬ ‫ُون ذ ِ‬ ‫َوالنه ُب ذو َة ُ ذمث ي َ ُقو َل ِللنذ ِاس‪ُ :‬كونُوا ِع َبادًا َِل ِم ْن د ِ‬
‫ون} [أل ُعران‪]79 :‬‬ ‫ون ْال ِكتَ َ‬
‫اب َو ِب َما ُك ْن ُ ْمت تَدْ ُر ُس َ‬ ‫تُ َع ِلّ ُم َ‬
‫ما أمجل أن خيلص االنسان هلل‪ ،‬وال يلتفت اىل مدح الناس أو ذهمم‪ ،‬وامنا يريد‬
‫ارضاء هللا‪ ،‬ذ ذمه الناس أو مدحوه‪ ،‬تبعه الناس أو تركوه‪ .‬وهذا هو مسكل النبياء‬
‫واملصلحني‪ ،‬ال مسكل املتجربين املتفرعنني‪.‬‬
‫اللهم اجعلنا هداة همتدين‪ ،‬غري ضالني وال مضلني‪ ،‬اللهم اهدان واهد بنا واجعلنا‬
‫سببا ملن اهتدى‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 14 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪41‬‬
‫الفائدة اخلامسة عشر‪:‬‬

‫وزن األذكار‬

‫أخرب النيب صىل هللا عليه وسمل ببعض اللكامت اليت لها وزن كبري‪ ،‬ال يقارن ثقلها‬
‫ابذلهب والفضة وال ابلجحار الكرمية وال ابجلبال الروايس‪ ،‬بل يه أثقل من الساموات‬
‫والرض لكها!!!‬
‫روى النساِئ وأمحد وابن حبان عن أيب سعيد اخلدري عن رسول هللا صىل هللا‬
‫عليه وسمل أن هللا تعاىل قال ملوىس عليه السالم‪" :‬لو أن الساموات الس بع وعامرهن‬
‫غريي والارضني الس بع يف كفة‪ ،‬وال اهل اال هللا يف كفة‪ ،‬مالت هبن ال اهل اال هللا‪[ ".‬رواه‬
‫النساِئ وأمحد وابن حبان]‬
‫يفيد احلديث أن لكمة ال اهل اال هللا أثقل من الساموات والرض‪ ،‬ويف حديث‬
‫هللا َوالْ َح ْمدُ ِ ذ ِّلِل تَ ْم َ َلآ ِن ‪َ -‬أ ْو تَ ْم َ ُل ‪َ -‬ما ب َ ْ َني‬
‫أآخر‪َ " :‬والْ َح ْمدُ ِ ذ ِّلِل تَ ْم َ ُل الْ ِم َزي َان‪َ ،‬و ُس ْب َح َان ِ‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض‪[ ".‬رواه مسمل]‬ ‫ذ‬
‫ويف احلديث املتفق عليه قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ِ َ " :‬لك َمتَ ِان َخ ِفي َفتَ ِان عَ َىل‬
‫هللا َو ِ َحب ْم ِد ِه‪ُ ،‬س ْب َح َان ِ‬
‫هللا‬ ‫ال ِلّ َس ِان‪ ،‬ثَ ِقيلَ َت ِان ِيف الْ ِم َزي ِان‪َ ،‬حبِيبَتَ ِان ا َىل ذالر ْ َمح ِن‪ُ :‬س ْب َح َان ِ‬
‫ِ‬
‫الْ َع ِظ ِي‪[ ".‬متفق عليه]‬
‫ات خ ْ ٌَري ِع ْن َد‬
‫الصا ِل َح ُ‬
‫ات ذ‬ ‫وقال تعاىل‪{ :‬الْ َم ُال َوالْ َب ُن َ‬
‫ون ِزينَ ُة الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا‪َ ،‬والْ َبا ِق َي ُ‬
‫َرب ّ َِك ثَ َو ًااب َوخ ْ ٌَري َأ َم ًال} [الكهف‪]46 :‬‬

‫‪42‬‬
‫والباقيات الصاحلات اليت يه خري من املال والبنني يه التكبري والهتليل‬
‫والتسبيح والتحميد كام دل عليه ما رواه أمحد وابن حبان واحلامك وحصحه عن أيب سعيد‬
‫صىل هللا عليه ّ‬
‫وسمل قال‪" :‬اس تكرثوا من الباقيات الصاحلات‪".‬‬ ‫اخلدري أن رسول هللا ّ‬
‫قيل‪":‬وما يه اي رسول هللا؟" قال‪" :‬التكبري والهتليل والتسبيح والتحميد وال حول وال‬
‫قوة اال ابهلل‪".‬‬
‫كيف تكون هذه املقارنة بني اللكامت اليت امنا يه أصوات عابرة يف نظر بعضنا‬
‫وبني الموال والبنني والساموات والرض بأرسها؟‬
‫ان تفضيل هذه اللكامت عىل الموال والوالد والساموات والرض حيتاج اىل‬
‫تأمل ُعيق حىت نعرف كهنه‪ .‬فنقول وابهلل التوفيق‪:‬‬
‫ان قمية الالكم البرشي تكتسب من ثالثة أمور‪:‬‬
‫أقلها أمهية وأدانها وزانً يه قميته الصوتية‪ .‬ان الصوت هو أظهر مكوانت‬
‫الالكم‪ ،‬لكنه ليس ذا قمية تذكر اذا مل حيمل معىن ومل يعرب عن مقصد‪ .‬الكم البرش اذا‬
‫خال عن هذين المرين – أي املعىن واملقصد‪ -‬فهو يصنذف من مضن الصوات غري‬
‫املفهومة كخرير املاء وصهيل اخليل وزقزقة العصفور وْنيق امحلار ونباح اللكب وما اىل‬
‫ذكل من الصوات اجملردة‪ .‬فاللكامت ال تكتسب أمهيهتا بشلك أساس من مظهرها‬
‫الصويت‪ ،‬ولكن الصوت رضوري من أجل اسامع الغري‪ ،‬لوال الصوت ال يكون للمعىن‬
‫وعاء وال للقصد رسول‪ .‬ومن أجل التفامه يس تخدم البرش اخراج أصوات معينة من‬
‫أفواههم عىل شلك لكامت تعارفوا عىل معانهيا ليدركوا مقاصد لك واحد مهنم‪ .‬فالقمية‬
‫الصوتية تكتسب من داللهتا عىل املعاين واملقاصد‪ .‬فهيي وس يةل‪ ،‬وقميهتا اتبعة ومبنية عىل‬
‫قمية الغاية اليت ت ِّ‬
‫ُوسل هبا الهيا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أما المر الثاين اذلي تكتسب مهنا قمية الالكم البرشي هو قمية املعىن اذلي محهل‬
‫ذكل الالكم‪ ،‬فلك لكمة يف لغات البرش تعارف الناس عىل معناها وتفامهوا بتداولها بيهنم‪.‬‬
‫فالالكم عاَل القمية اذا محل معىن هم ًّما‪ ،‬قد يعرب عن منافع عظمية أو يدل عل معارف‬
‫دقيقة أو حيوي مشاعر ُعيقة اىل ما هناكل‪ .‬فوزن الالكم بوزن املعىن اذلي حيمهل‪.‬‬
‫كسب للالكم قمية هو القصد اذلي أراد املتلكم التعبري عنه‪.‬‬
‫والمر الثالث اذلي يُ ِ‬
‫فالقصد النبيل اذلي أراده املتلكم يعل الكمه ذا وزن‪ ،‬والقصد الس ئي يعل الالكم‬
‫رديئا‪.‬‬
‫هذه عن القمية اذلاتية لللكمة اليت حتمل املعاين وتعرب عن املقاصد‪ ،‬وقمية اللكمة‬
‫أيضا تقاس مبا تفيض اليه من نتاجئ وما ترتكه من أآاثر‪ ،‬فتعظم قمية اللكمة اذا جلبت‬
‫خريات كثرية وس ببت أ آاثرا كبرية‪ ،‬وتقل اذا خلت عن ذكل لكه‪.‬‬
‫واذا اكن المر كذكل‪ ،‬فكيف تكون للكامت التسبيح والتحميد والهتليل والتكبري‬
‫تكل الوزان اليت تفوق لك ما يف الساموات والرض؟‬
‫ال ندرك مدى ثقل هذه اللكامت بدون االدراك مبعانهيا‪ ،‬فهيي حتمل أمه املعاين‬
‫اليت يب أن يعرفها االنسان‪ ،‬وتعرب عن احلقائق الكربى اليت يقوم علهيا الكون ويرتكز‬
‫علهيا ادلين‪.‬‬
‫أما معىن التسبيح فهو يف اللغة مبعىن التزنيه‪ ،‬فأصل هذه اللكمة من ذ‬
‫الس بح وهو‬
‫ال ُبعد‪ ،‬قال الزهري يف هتذيب اللغة‪" :‬ومعىن تزنيه هللا من السوء تبعيده منه‪ ،‬وكذكل‬
‫بعدت فهيا‪ ،‬ومنه قوهل ج ّل ّ‬
‫وعز‪:‬‬ ‫بحت يف الرض اذا أ َ‬ ‫تسبيحه تبعيده‪ ،‬من قوكل‪ :‬س ُ‬
‫احب ِ‬
‫ات َس ْب ًحا} [النازعات‪]3 :‬‬ ‫الس ِ َ‬
‫{ َو ذ‬

‫‪44‬‬
‫الرب س بحانه‬ ‫فالتسبيح هو ابعا ُد صفات النقص من أن ت َ‬
‫ُضاف اىل هللا‪ ،‬وتزني ُه ِ ّ‬
‫يليق به‪ ،‬كام قال الطربي‪" :‬وأص ُل التسبيح هلل عند العرب التزنيه هل‬ ‫عن السوء و ذُعا ال ُ‬
‫من اضافة ما ليس من صفاته اليه‪ ،‬والتربئة هل من ذكل‪".‬‬
‫فقول االنسان "س بحان هللا" يعن تزنيه هللا عن لك النقائص‪ ،‬وتطهري القلب‬
‫عن لك تصور واعتقاد ال يليق جبالل هللا وجامهل وكامهل‪ .‬فهو ارتقاء تصوري عقدي من‬
‫االنسان‪ ،‬وارضاء للرمحن‪ ،‬والتربئة مما يقوهل اجلاهلون يف حق هللا ظلام وجورا‪ ،‬وهذه‬
‫الرض تعج مبقوالت تنسب اىل هللا ما ال يليق مبقام هللا جل يف عاله‪ ،‬فهناك ماليني‬
‫من الناس من وصفه ابحلاجة اىل الرشاكء‪ ،‬وهناك من نسب اليه الودل والصاحبة‪ ،‬وهناك‬
‫من اهتمه ابلظمل عياذا ابهلل‪ ،‬وهناك من وصفه ابلفقر‪ ،‬تعاىل هللا عام يصفون علوا كبريا‪.‬‬
‫وأما "امحلد هلل" فهو اثبات للك الصفات امحليدة والوصاف الكرمية هلل عز‬
‫وجل‪ ،‬فهو تعبري عن العرفان ابلكامل املطلق لرب العاملني‪ ،‬وجميئه بعد التسبيح يناسب‬
‫كون االثبات بعد النفي‪ .‬أي بعد أن ننفي عن هللا لك صفات النقص‪ ،‬نثبت هلل لك‬
‫أوصاف الكامل‪.‬‬
‫فهو صعود تصوري فكري لالنسان‪ ،‬أن يصل هذا العقل اىل حقيقة يه أمه‬
‫احلقائق‪ ،‬ويه مركز مدراكت املسمل‪ .‬تقف لك مبادئه وتصوراته عىل هذا االدراك‪ ،‬به‬
‫يؤمن هبذا ادلين‪ ،‬وبه يتبع مهنجه‪.‬‬
‫ولسعة مضمونه وعظم وزنه ميتلئ به مزيان االنسان الالجه بذكره‪ ،‬يقول الصادق‬
‫املصدوق عليه الصالة والسالم‪" :‬وامحلد هلل متل املزيان"‪ .‬والتسبيح والتحميد لكمتان‬
‫يلهج هبام العابدون من املالئكة والناس وادلواب وسائر الاكئنات فَّلكل يقول املصطفى‬
‫عليه الصالة والسالم‪" :‬وس بحان هللا وامحلد هلل متلآن – أو متل‪ -‬ما بني الساموات‬

‫‪45‬‬
‫َش ٍء ا ذال‬
‫ْ‬ ‫الس ْب ُع َو ْ َال ْر ُض َو َم ْن ِف ِهي ذن َوا ْن ِم ْن َ‬
‫ذ‬ ‫الس َم َاو ُات‬
‫ذ‬ ‫الرض‪".‬قال تعاىل‪ { :‬ت ُ َس ّب ُِح َ ُهل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُون ت َ ْسبِي َحهُ ْم ان ذ ُه َاك َن َح ِلميًا غَ ُف ًورا} [االرساء‪]44 :‬‬‫ي َُس ّب ُِح ِ َحب ْم ِد ِه َولَ ِك ْن َال تَ ْفقَه َ‬
‫ِ‬
‫وأما لكمة "ال اهل اال هللا" فهيي لكمة التوحيد اليت يه خالصة هذا ادلين‪ ،‬وتعن‬
‫هذه اللكمة نفي اللوهية عن أي خملوق‪ ،‬واثباهتا هلل وحده‪ ،‬واالهل هو املعبود‪ ،‬وال أحد‬
‫يس تحق العبادة اال هللا س بحانه‪ .‬وهذه يه احلقيقة اليت من أجلها أرسل الرسل وأنزلت‬
‫الكتب وأقي ادلين وبعثت ادلعوات وفرض اجلهاد‪ ،‬ويه الفاصةل بني االميان والكفر‪ ،‬بني‬
‫التوحيد والرشك‪ ،‬بني النور والظلامت‪ .‬فهيي لكمة مركزية للرشيعة االسالمية‪ ،‬وشعار ممزي‬
‫للمسلمني‪ ،‬وراية مرفوعة لهذا ادلين اخلامت‪.‬‬
‫وأما "هللا أكرب" فهيي لكمة تعظي هلل‪ ،‬تعن أن هللا أكرب من لك َشء‪ ،‬وأن هذا‬
‫وصفات‪ ،‬فهو أكرب من لك املعبودات‪ ،‬أكرب من لك‬ ‫ٍ‬ ‫الرب اجلليل فوق لك َشء ذاات‬
‫اخمللوقات املنظورات واملسموعات واملتصورات‪ .‬ما خاف االنسان من َشء اال أن هللا‬
‫أكرب منه‪ ،‬وما رغب االنسان يف َشء اال أن هللا أكرب منه‪ ،‬وما تعلق االنسان بيشء اال‬
‫أن هللا أكرب منه‪ ،‬وما تعجب االنسان من َشء اال أن هللا أكرب منه‪.‬‬
‫مفا أعظم ما حوته هذه اللكامت من مع ٍان! وما أمه ما محلته من حقائق! اْنا‬
‫معان عظمية تُعلَن‪ ،‬ومشاعر نبيةل ذ‬
‫تعرب‪ ،‬حقائق جليةل‬ ‫ليست لكامت تقال حفسب‪ ،‬لكهنا ٍ‬
‫تصعد من الرض اىل السامء‪ ،‬وينطق هبا العبد املؤمن ويسمعها الكون ويرضاها الرب‬
‫اجلليل من فوق الس بع الساموات‪...‬‬
‫اْنا حق ًا أفضل مما طلعت عليه الشمس وغربت‪ ،‬ويه خري من الساموات‬
‫والرض وما فهيا‪...‬‬

‫‪46‬‬
‫اللهم اجعلنا من اذلاكرين هللا كثريا واذلاكرات‪ ،‬اللهم أعنا عىل ذكرك وشكرك‬
‫وحسن عبادتك‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 15 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪47‬‬
‫الفائدة السادسة عشر‪:‬‬

‫عن التحدث ابلنعمة‬

‫قال هللا تعاىل‪َ { :‬و َأ ذما ِب ِن ْع َم ِة َرب ّ َِك فَ َح ِّد ْث} [الضحى‪]11 :‬‬
‫أمر هللا تعاىل نبيه أن حي ِّدث الناس ابلنعمة اليت أنعم هللا هبا عليه‪ .‬والتحدث‬
‫ابلنعمة نوع من الشكر والتقدير للنعمة والاحتفاء هبا‪ .‬روى الطربي عن أيب نرضة قال‪:‬‬
‫اكن املسلمون يرون أن ِمن ُشكر النعم أن حيدّ ث هبا‪.‬‬
‫وأخرج أمحد عن النعامن بن بشري قال‪ :‬قال رسول هللا صىل هللا عليه وسمل عىل‬
‫املنرب‪" :‬من مل يشكر القليل‪ ،‬مل يشكر الكثري‪ ،‬ومن مل يشكر الناس مل يشكر هللا‪.‬‬
‫والتحدث بنعمة هللا شكر‪ ،‬وتركها كفر‪ .‬وامجلاعة رمحة‪ ،‬والفرقة عذاب‪ ".‬واس ناده‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫ولكن اعرتضت هنا مسأةل ويه‪ :‬كيف ّنفرق بني هذا التحدث املأمور به أو‬
‫املندوب اليه وبني التفاخر املذموم أو الرايء؟ أليست الصورة واحدة والفعل واحد؟‬
‫فنقول وابهلل التوفيق‪:‬‬
‫ان أصل اخلطاب يف الآية اكن للنيب صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬ومشوهل للمة يأيت‬
‫تبعا عىل قاعدة أن الصل مساواة المة لنبهيّ ا فامي فرض عليه ما مل يدل دليل عىل‬
‫اخلصوصية‪ .‬ووجوب التحدث ابلنعمة عىل النيب صىل هللا عليه وسمل ظاهر عىل أصل‬
‫المر ابلوجوب‪ ،‬ومل ُ َخيف منه الرايء والتفاخر‪ ،‬وأما يف حق المة فقال العالمة ابن‬

‫‪48‬‬
‫يث ِابل ِنّ ْع َم ِة ِمهنْ ُ ْم َم ْح ُفوفًا ِب ِر َاي ٍء َأ ْو تَ َفا ُخ ٍر‪.‬‬
‫ون التذ َح ِد ُ‬‫عاشور رمحه هللا‪َ " :‬أ ذما ْ ُال ذم ُة فَ َقدْ يَ ُك ُ‬
‫رس َ ُهل خَا ِط ُر َم ْن ه َُو غَ ْ ُري َو ِاج ٍد ِمثْ َل ال ِنّ ْع َم ِة الْ ُمتَ َحد ِذث هبِ َا‪َ .‬وه ََذا َم َجا ٌل ِللنذ َظ ِر ِيف‬ ‫َوقَدْ ي َ ْن َك ِ ُ‬
‫الرت ِجي ِح ِ َل َح ِد ِ َمها‪".‬‬ ‫الْ ُم َع َارضَ ِة ب َ ْ َني الْ ُم ْقتَ ِيض َوالْ َما ِنعِ‪َ ،‬و َط ِريقَ ِة الْ َج ْمع ِ ب َيْهنَ ُ َما ا ْن َأ ْم َك َن َأ ِو ذ ْ‬
‫ِ‬
‫[التحرير والتنوير‪]404/30 :‬‬
‫خلوه عن الرايء والافتخار‪،‬‬
‫وذلكل اشرتط العلامء يف مرشوعية التحدث ابلنعمة ذ‬
‫كام قرره االمام اللويس يف تفسري هذه الآية‪.‬‬
‫وهذا فقه دقيق‪ ،‬يب أن ي ُنت َبه هل‪ ،‬لن الفرق بني التحدث ابلنعمة املرشوع‬
‫وبني الافتخار املمنوع دقيق جدا‪ ،‬اذ الظاهر أن ال فرق بيهنام‪ ،‬امنا يقدر عىل المتيزي من‬
‫راقب قلبه ودان نفسه وقهر هواه‪.‬‬
‫وهذا ما سامه االمام الشاطيب حتقيق املناط اخلاص‪ ،‬وهو يف احلقيقة انىشء عن‬
‫اّلِل َ ْي َع ْل لَ ُ ُْك فُ ْرقَاانً }‬
‫نتيجة التقوى املذكورة يف قوهل تعاىل‪َ { :‬اي َأُّيه َا ذ ِاذل َين أ آ َمنُوا ا ْن تَتذ ُقوا ذ َ‬
‫ِ‬
‫[النفال‪.]29 :‬‬

‫وقال رمحه هللا عن هذا النوع من الاجهتاد اذلي سامه حتقيق املناط اخلاص‪:‬‬
‫"فتحقيق املناط اخلاص نظر يف لك ملكف ابلنس بة اىل ما وقع عليه من ادلالئل‬
‫التلكيفية‪ ،‬حبيث يتعرف منه مداخل الش يطان‪ ،‬ومداخل الهوى واحلظوظ العاجةل‪ ،‬حىت‬
‫يلقهيا هذا اجملهتد عىل ذكل امللكف مقيدة بقيود التحرز من تكل املداخل‪[ ".‬املوافقات‪:‬‬
‫‪]25-24/5‬‬
‫يقصد أن املؤمن يهتد يف التعرف عىل مداخل الش يطان ومداخل هوى النفس‬
‫يف العامل امللكف هبا حىت يعرف ما يصلح مهنا وما ال يصلح‪ ،‬فان االنسان حيدث‬
‫الناس مبا أنعم هللا عليه من النعم‪ ،‬قد يريد به املراءاة والتفاخر والتبايه‪ ،‬وقد يريد به‬

‫‪49‬‬
‫التعبري عن الشكر هلل وبث الرسور يف الناس‪ ،‬فال بد أن يتحقق املؤمن من صدق نيته‬
‫وأنه ال يريد به اال وجه اخلري اذلي أمر هللا به‪ ،‬ويسمل من حماذير الرايء والتبايه‬
‫والتفاخر املهنيي عهنا‪.‬‬
‫قال الشاطيب‪" :‬وهو النظر فامي يصلح بلك ملكّف يف نفسه‪ ،‬حبسب وقت دون‬
‫وقت‪ ،‬وحال دون حال‪ ،‬وخشص‪ ،‬دون خشص‪ .‬اذ النفوس ليست يف قبول العامل‬
‫اخلاصة عىل وزان واحد‪[ ".‬املوافقات‪]25/5 :‬‬
‫ومثة أمر أآخر يب أن ينتبه هل من أراد أن حيدث الناس ابلنعمة اليت أنعم هللا‬
‫عليه هبا دوْنم‪ ،‬وهو َش حاسد اذا حسد‪ ،‬فليس لك انسان يفرح بفرح أخيه‪ ،‬فهناك‬
‫من يتنغّص ويثور غيظه اذا رأى خريا لحد غريه‪ .‬فهنا انسب أن يعمل االنسان ابحلديث‬
‫اذلي رواه الطرباين يف معامجه الثالثة أن رسول هللا صىل هللا عليه وسمل يقول‪:‬‬
‫"اس تعينوا عىل اجناح احلواجئ ابلكامتن ‪ ،‬فان لك ذي نعمة حمسود‪[ ".‬أخرجه الطرباين يف‬
‫الكبري والوسط والصغري‪ ،‬والبهيقي يف الشعب وحصحه اللباين]‬
‫فالتحدث ابلنعمة يصلح أن يقال بني الحباب والناس الثقات اذلين ال يريدون‬
‫ابخواْنم اال خريا وال يمتنون هلم َشا‪ ،‬أما يف وسط جممتع يغلب عليه التحاسد والتباغض‪،‬‬
‫فكامتن النعمة أدعى اىل حفظها‪.‬‬
‫ويصلح أيضا أن يقال يف مقام اغاظة العدو الظهار قوة االسالم وعافيته‪ ،‬كام‬
‫اكنت هذه الآية الكرمية يف سورة الضحى ردا عىل مقاةل قريش أن محمدا عليه الصالة‬
‫والسالم قد تركه ربه‪.‬‬
‫اّلِل َع ْنهُ‪ ،‬قَا َل‪ْ « :‬احتَبَ َس‬ ‫اّلِل َر ِ َ‬
‫يض ذ ُ‬ ‫روى البخاري ومسمل َع ْن ُج ْندَ ِب ْب ِن َع ْب ِد ذ ِ‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل»‪ ،‬فَقَال َ ِت ا ْم َر َأ ٌة ِم ْن قُ َري ٍْش‪:‬‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل عَ َىل النذ ِ ِ ّيب َص ذىل ُ‬
‫ِج ْ ِربي ُل َص ذىل ُ‬
‫‪50‬‬
‫َأبْ َطأَ عَلَ ْي ِه َش ْي َطانُهُ‪ ،‬فَ َ َزنل َ ْت‪َ { :‬والضه َحى (‪َ )1‬والل ذ ْي ِل ا َذا َجسَى (‪َ )2‬ما َو ذدعَ َك َرب ه َك َو َما قَ َىل}‬
‫ِ‬
‫اىل أآخر السورة‪.‬‬
‫ففي مثل هذه املناس بات حيسن ابملسمل أن يظهر الفرح ويتحدث ابلنعمة‪ ،‬قال‬
‫ون} [يونس‪]58 :‬‬‫اّلِل َو ِب َر ْ َمحتِ ِه فَب َِذ ِ َكل فَلْ َي ْف َر ُحوا ه َُو خ ْ ٌَري ِم ذما َ ْي َم ُع َ‬
‫تعاىل‪{ :‬قُ ْل ِبفَضْ ِل ذ ِ‬
‫اللهم أمت علينا نعمتك‪ ،‬وارزقنا رمحتك‪ ،‬واهدان س بل السالم‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 16 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪51‬‬
‫الفائدة السابعة عشر‪:‬‬

‫االهتمام بقضااي املسلمني‬

‫اّلِل َص ذىل ُ‬
‫هللا‬ ‫روى الطرباين يف املعجم الوسط واحلامك يف املس تدرك أن َر ُسول ذ ِ‬
‫عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل قال‪َ « :‬م ْن لَ ْم ُّيَ ْ َ ذمت ِبأَ ْم ِر الْ ُم ْس ِل ِم َني فَلَيْ َس ِمهنْ ُ ْم‪ ".‬روي احلديث بطرق متعددة ال‬
‫ختلو من ضعف يف االس ناد‪.‬‬
‫ورمغ ضعف اس ناد هذا احلديث اال أن معناه تؤيده نصوص أخرى حصيحة‪،‬‬
‫مثل احلديث املتفق عليه‪َ " :‬ال يُ ْؤ ِم ُن َأ َحدُ ُ ْمك‪َ ،‬ح ذىت ُ ِحي ذب ِ َل ِخي ِه َما ُ ِحي هب ِلنَ ْف ِس ِه‪".‬‬
‫امحه ِْم‪َ ،‬وتَ َع ُاط ِفه ِْم َمث َ ُل الْ َج َس ِد‪ ،‬ا َذا‬ ‫وكذكل حديث‪َ " :‬مث َ ُل الْ ُم ْؤ ِم ِن َني ِيف ت ََوا ِ ّد ِ ْمه‪َ ،‬وتَ َر ُ ِ‬
‫ِ‬
‫ْاش تَ ََك ِمنْ ُه ُعضْ ٌو تَدَ ا َعى َ ُهل َسائِ ُر الْ َج َس ِد ِاب ذلسهَ ِر َوالْ ُح ذمى‪[ ".‬رواه مسمل]‬
‫ان هللا أراد من املسلمني أن يكونوا جسدا واحدا‪ ،‬يتفاعل لك عضو مبا يعانيه‬
‫اخوانه من الالم واملأآيس‪ .‬وان حاةل املسلمني اليوم تس تدعي الاهامتم البالغ من اللك بال‬
‫اس تثناء‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬الْ ُم ْس ِ ُمل َأخُو الْ ُم ْس ِ ِمل‪َ ،‬ال ي َ ْظ ِل ُم ُه َو َال ي ُْس ِل ُمهُ‪َ ،‬م ْن‬
‫هللا َع ْن ُه هبِ َا ُك ْرب َ ًة‬‫هللا ِيف َحا َج ِت ِه‪َ ،‬و َم ْن فَ ذر َج َع ْن ُم ْس ِ ٍمل ُك ْرب َ ًة‪ ،‬فَ ذر َج ُ‬ ‫َاك َن ِيف َحا َج ِة َأ ِخي ِه َاك َن ُ‬
‫هللا ي َ ْو َم الْ ِقيَا َم ِة‪[ ".‬متفق عليه]‬ ‫ِم ْن ُك َر ِب ي َ ْو ِم الْ ِق َيا َم ِة‪َ ،‬و َم ْن َس َ َرت ُم ْس ِل ًما َس َ َرت ُه ُ‬
‫ومك رأينا من املعاانة ملسلمي العامل! بدءا من اخواننا يف فلسطني مث سوراي مث‬
‫العراق مث المين‪ ،‬ومك أمهلنا قضية مسلمي تركس تان الرشقية اليت احتلهتا الصني واليت ال‬
‫يعرف عهنا اال القليل من الناس‪ ،‬ومه يؤذون يف ديهنم‪ ،‬لقد بلغ من ظمل احلكومة الصينية‬
‫أن أجربوا املسلمني عىل االفطار يف ْنار رمضان! وما مل نسمع عنه الكثري الكثري‪ .‬مك‬
‫قرصان يف مناصة اخواننا يف مسلمي أرأاكن!‬
‫فاذا اكن الصيام يعلمنا االحساس بأالم الفقراء‪ ،‬فهناك من اخواننا من يقايس ‪-‬‬
‫فوق الفقر والعوز‪ -‬أالم احلروب والاضطهاد والترشيد والتخويف!‬

‫‪52‬‬
‫"ال يؤمن أحدمك حىت حيب لخيه ما حيب لنفسه‪ ".‬هكذا قال نبينا عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬لنضع أنفس نا ماكْنم‪ ،‬لنعرف مك يه ثقيةل تكل املعادةل علينا! لو كنا ماكن هؤالء‬
‫املصابني‪ ،‬ماذا نريد من اخواننا أن يفعلوا َتاهنا؟ نعم‪ ،‬هناك تربعات‪ ،‬مناصات هنا‬
‫وهناك‪ ،‬وتأييد دبلومايس أحياان‪ ،‬ولكن هل هذا هو أقىص ما يفعهل مليار وس تة مائة‬
‫مليون مسمل؟ اننا قادرون أن نفعل أكرث وأكرث‪ .‬فاملسلمون ُُخس العامل‪ ،‬لو حترك عُرشمه‬
‫فقط مل يكن هذا هو الوضع اذلي رأينا‪.‬‬
‫فلعل تذكري بعضنا لبعض‪ ،‬والتوايص بيننا ابالهامتم‪ ،‬ومتابعة أحوال مسلمي العامل‬
‫من أقصاه اىل أقصاه س يغري من هذه احلاةل املزرية‪ .‬وال نكرر لهجة التبايك والعويل‬
‫والنياح‪ ،‬ولكن الوعي والضمري احلي والعقل اليقظ هو اذلي س يحركنا ابذن هللا‪ ،‬والمل‬
‫يف هللا كبري بأن يرفع عنا الظمل‪ ،‬ويصلح لنا احلال‪ ،‬ويردان اىل دينه ردا مجيال‪.‬‬
‫مث نتأمل هذه الثالثية اليت قالها النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ثَ َالثَ ٌة َال تُ َر هد‬
‫الص ِ ُ‬
‫امئ ِح َني يُ ْف ِط ُر‪َ ،‬و َدع َْو ُة الْ َم ْظلُو ِم يَ ْرفَ ُعهَا فَ ْو َق الْغَ َما ِم َوتُ َفتذ ُح لَهَا‬ ‫َدع َْوهتُ ُ ْم‪ْ :‬اال َما ُم الْ َعا ِد ُل‪َ ،‬و ذ‬
‫ْرص ِذك َولَ ْو ب َ ْعدَ ِحنيٍ ‪[ ".‬رواه الرتمذي‬ ‫الس ِ َما ِء َوي َ ُق ُ‬
‫ول ذالر هب َع ذز َو َج ذل‪َ :‬و ِع ذز ِيت َ َلن ُ َ ن‬ ‫َأبْ َو ُاب ذ‬
‫وابن ماجه وأمحد وابن حبان]‬
‫يه ثالث دعوات مس تجابة‪ :‬من االمام العادل مث الصامئ مث املظلوم‪ .‬كيف وضع‬
‫رفع الظمل مع الصيام واحلُك العادل يف س ياق واحد؟ فهيي منظومة مرتابطة‪ ،‬فال ينبغي أن‬
‫ينفصل صومنا عن قضاايان احلالية‪ ،‬فاننا أمة واحدة وجسد واحد‪.‬‬
‫اللهم أصلح أحوالنا والطف ابخواننا‪ ،‬وارزقنا كامل االميان وصدق االسالم‪ ،‬وارفع‬
‫عنا الظمل والضعف والهوان‪ ،‬اي كرمي اي منان‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 17 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪53‬‬
‫الفائدة الثامنة عشر‪:‬‬
‫حدث عاملي يف سياقه القرآين‬

‫من املواضع القرأآنية اليت تس تدعي وقفة التأمل يه بداية سورة الروم‪ ،‬بل سورة‬
‫الروم نفسها‪ ،‬فان هذه السورة تتفرد بذكر حدث اترخيي عىل غري عادة القرأآن‪.‬‬
‫"غُ ِل َبت هالروم!" [الروم‪ ]1 :‬هكذا نزلت الآية خبرب عاجل يتصدر السورة! يدق‬
‫مسامع املسلمني هبذا النبا الفريد اذلي مل يكن من معهود القرأآن! ان القرأآن الكرمي كتاب‬
‫ساموي يركز عىل القضااي االميانية ابدلرجة الوىل‪ .‬فتجد أغلب سور القرأآن يبدأ ابالخبار‬
‫عن هللا وصفاته ومحده وتسبيح اخللق هل‪ ،‬أو يبدأ ابالخبار عن شأن كتاب هللا العزيز‪،‬‬
‫أو ابصدار أمر من أوامر هللا للمؤمنني‪ ،‬أو يبدأ ابلقَ َسم عىل خلق من خلقه العظي‪،‬‬
‫هكذا معظم بداايت السور القرأآنية‪ .‬مفا ابل هذا اخلرب جعهل هللا يتقدم تكل املواضيع‬
‫العظمية واجلليةل يف هذه السورة؟‬
‫ان هزمية امرباطورية كبرية حبجم االمرباطورية الرومانية يف معركة من معاركها‬
‫حلدث اترخيي عظي‪ .‬لو حدث يف زمننا هذا لمجعت الصحف عىل جعهل خربا رئيس يا‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ول ُكتب خبط عريض‪ ،‬ولتناقلته القنوات االخبارية العاملية واحمللية! ولكن أن جعل هللا يف‬
‫مقدمة سورة قرأآنية يتلوها املؤمنون جيال بعد جيل‪ ،‬وندب هللا لتكراره اىل يوم القيامة‬
‫هبذا الشلك‪ ،‬فال بد أن هناك أمهية اس تثنائية وراء هذا المر!‬
‫ون (‪ِ )3‬يف‬ ‫امل (‪ )1‬غُ ِل َب ِت هالرو ُم (‪ِ )2‬يف َأد َْىن ْ َال ْر ِض َو ُ ْمه ِم ْن ب َ ْع ِد غَلَهبِ ِ ْم َس َي ْغ ِل ُب َ‬
‫رص ذ ِ‬
‫اّلِل ي َ ْن ُ ُ‬
‫رص َم ْن‬ ‫ون (‪ِ )4‬بنَ ْ ِ‬ ‫بِضْ ع ِ ِس ِن َني‪ ِ ،‬ذ ِّلِل ْ َال ْم ُر ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن ب َ ْعدُ َوي َ ْو َم ِئ ٍذ ي َ ْف َر ُح الْ ُم ْؤ ِمنُ َ‬

‫‪54‬‬
‫اّلِل َوعْدَ ُه َولَ ِك ذن َأ ْك َ َرث النذ ِاس َال ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون‬ ‫اّلِل َال ُ ْخي ِل ُف ذ ُ‬ ‫يَشَ ا ُء َوه َُو الْ َع ِز ُيز ذالر ِح ُي (‪َ )5‬و ْعدَ ذ ِ‬
‫ون (‪[ )7‬الروم‪]7-1 :‬‬ ‫ون َظا ِه ًرا ِم َن الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا َو ُ ْمه َع ِن ْالآ ِخ َر ِة ُ ْمه غَا ِفلُ َ‬
‫(‪ )6‬ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫هكذا تناول القرأآن هذا املوضوع‪ .‬ان أرسار اهامتم القرأآن هبذا املوضوع كثرية جدا‬
‫وحتتاج اىل كتاب مس تقل يضيق عنه هذا املقام‪ ،‬ولكن يكفينا هنا أن نشري اىل بعض‬
‫املعاين املفيدة من هذا اخلصوص‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أمهية احلدث‪ .‬ان بعثة الرسول عليه الصالة والسالم جاءت يف وقت اكنت‬
‫الس يطرة العاملية بيد الروم والفرس‪ ،‬فلك حدث متعلق برصاع الهمينة بيهنام اكن هل أثر‬
‫مباَش وغري مباَش يف مسرية ادلعوة‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ان الروم والفرس يتصارعان ويتنافسان عىل بسط الس يطرة يف لك أجزاء‬
‫العامل‪ ،‬مبا يف ذكل اجلزيرة العربية‪ ،‬مل يسمل أطراف اجلزيرة من العراق والشام والمين من‬
‫التنازع النامج بني هاتني القوتني‪ ،‬اال أن منطقة احلجاز حامها من ذكل الاضطراب‬
‫والتنازع‪ ،‬فبقيت مس تقةل‪ ،‬ولكهنا ضعيفة من حيث مزيان القوة املادية‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬كون الروم من أهل الكتاب من هجة‪ ،‬والفرس من الوثنيني من اجلهة‬
‫الخرى‪ ،‬جعل املرشكني ينحازون اىل الفرس‪ ،‬واملؤمنني ينحازون اىل الروم‪ ،‬وان اكن‬
‫ذكل الاَنياز ال ينبن عليه حتالف فعيل وال خطوة ُعلية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬نزلت السورة يف الفرتة املكية‪ ،‬ويف تكل الفرتة اكن املؤمنون يف ضعف‬
‫واضطهاد من قبل املرشكني‪ ،‬ويف نفس الوقت اكنت الس يطرة للفرس عىل الروم‪ ،‬وبلغ‬
‫من انتصار الفرس عىل الروم أآنذاك اىل أن يس توَل الفرس عىل بيت املقدس‪ .‬طرد مهنا‬
‫الروم وطردوا أيضا من مرص‪ .‬وذكرت كتب التارخي تعذيب الفرس للمس يحيني يف البيت‬
‫املقدس‪ .‬وذكرت أيضا مشاركة الهيود للفرس يف ذكل‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫سادسا‪ :‬مل يذكر هللا امس الفرس‪ ،‬بل ذكر امس الروم‪ ،‬رمغ أْنا يه املغلوبة حني‬
‫نزلت السورة‪ ،‬والفرس يه املنترصة‪ .‬يف اشارة اىل أن مس تقبل الروم أطول من الفرس‪.‬‬
‫ويف ذكل أحاديث عدة‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬أخرب هللا بأن الروم س تنترص‪ ،‬وهذا تنبهؤ غريب‪ ،‬ال ميكن أن يقوهل حملل‬
‫س يايس أو خبري عسكري‪ ،‬معمتدا عىل املعطيات املوجودة حينئذ‪ .‬فان هزمية الروم‬
‫حينئذ اكنت هزمية ساحقة‪ ،‬مل تكد للروم مقومة بقاء اال قوة صغرية يف القرطاجة وعامصة‬
‫حماصة يف القسطنطينية‪.‬‬
‫اثمنا‪ :‬اخبار هللا أن انتصار الروم س يأيت يف بضع س نني فقط اْعاز أآخر اضافة‬
‫اىل االْعاز السابق‪ ،‬فان ذكل أْعوبة ال يتوقعها اال العلي اخلبري س بحانه‪.‬‬
‫اتسعا‪ :‬تصديق املؤمنني لهذا اخلرب واملراهنة عليه مغامرة جريئة‪ ،‬يدفعها االميان‬
‫املطلق ابهلل تعاىل ومبا جاء به الرسول صىل هللا عليه وسمل‪.‬‬
‫عاَشا‪ :‬رمغ ضعف املؤمنني وحاجهتم اىل ادلمع‪ ،‬مل يقم رسول هللا واملؤمنون‬
‫ابالتصال ابحدى تكل القوى العاملية‪ ،‬فان مسرية دعوة االسالم مسرية مس تقةل‪ ،‬فهيي‬
‫تعمتد عىل هللا وحده‪ .‬ويتجىل ذكل الاس تقالل حني رفض الرسول صىل هللا عليه وسمل‬
‫مساندة بن شيبان‪ ،‬ملا قبلوا ادلعوة برشط عدم التعرض لس يطرة الفرس‪ .‬وليس هذا‬
‫حترميا للتحالف مطلقا‪ ،‬ولكنه درس امياين يضعه الفقيه البصري يف س ياقه املناسب‪.‬‬
‫حادي عرش‪ :‬ان لك مرحةل لها طبيعهتا وحتدايهتا ومتطلباهتا‪ٌّ ،‬‬
‫لك يف وقهتا‬
‫املناسب‪ .‬لو أحقم املسلمون عىل اخلوض يف ذكل الرصاع اذلي هو أكرب من جحمهم وأعقد‬
‫من قدرهتم عىل الترصف لضاع الهدف والَنرف الطريق‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫اثين عرش‪ :‬ان االميان ي ُب ِقي االنسان عىل معنوية عالية وأمل كبري وثقة اتمة‬
‫ابملس تقبل املرشق‪ ،‬فلك املعطيات الواقعية القامئة همام اكن ظاهرها قوة أهل الرش‪ ،‬اال أن‬
‫اخلري بيد هللا‪ ،‬وأن أهل اخلري ال ُّيملهم هللا وال خيذهلم‪ .‬بل العاقبة للمتقني دامئا‪.‬‬
‫ون َظا ِه ًرا ِم َن الْ َح َيا ِة‬
‫اثلث عرش‪ :‬خمت هللا موضوع غلبة الروم بقوهل تعاىل‪{ :‬ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون} [الروم‪ ]7 :‬ليلفت أنظار املؤمنني اىل املغزى المه من‬ ‫ادله نْ َيا َو ُ ْمه َع ِن ْالآ ِخ َر ِة ُ ْمه غَا ِفلُ َ‬
‫هذه الحداث يف ادلنيا‪ ،‬فان هذا املرسح العابر ليس ْناية املطاف وال النتيجة الخرية‬
‫ملسرية االنسانية‪ ،‬فان ادلار الآخرة لهيي احليوان لو اكنوا يعلمون‪.‬‬
‫مل تنته فوائد بداية هذه السورة عند هذه النقاط‪ ،‬ولكننا نكتفي هبذه املعاين‪،‬‬
‫والقرأآن ال تنقيض ْعائبه‪ .‬وامحلد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم علمنا ما ينفعنا‪ ،‬وانفعنا مبا علمتنا‪،‬وزدا علام اي رب العاملني‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 18 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪57‬‬
‫الفائدة التاسعة عشر‪:‬‬
‫الغرور ينايف الشكر‬

‫ما أكرث نعم هللا عىل االنسان! وما أقل من يشكره حق شكره! انه جناح ابليس‬
‫يف صف ابن أآدم عن شكر ربه‪ ،‬لقد كشف ابليس عن خطته وطريقته يف اضالل‬
‫ص َاط َك الْ ُم ْس َت ِق َي‬ ‫البرش وهدفه من ذكل فقال خماطبا ربه‪{ :‬فَ ِب َما َأ ْغ َويْت َ ِن َ َل ْق ُعدَ ذن لَهُ ْم ِ َ‬
‫(‪ ُ )16‬ذمث َلآ ِتيَهنذ ُ ْم ِم ْن ب َ ْ ِني َأيْ ِد ُِّي ْم َو ِم ْن َخلْ ِفه ِْم َو َع ْن َأيْ َماْنِ ِ ْم َو َع ْن َ َمشائِ ِله ِْم َو َال ََتِدُ َأ ْك َ َرث ُ ْمه‬
‫َشا ِك ِر َين} [العراف‪]17-16 :‬‬
‫سعى ابليس بطرق ش ىت وجاء عىل االنسان من هجات عدة حىت ال يشكر‬
‫االنسان ربه اذلي أكرمه وفضهل عىل كثري من خلقه‪ .‬مفعظم البرش ال يؤمنون ابهلل أصال‪،‬‬
‫وبعضهم أآمن مع الرشك‪ ،‬فهم ال يعبدون هللا‪ ،‬وبعض من يعبد هللا ال يشكره عىل نعمه‬
‫اّلِل عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل قَا َل‪ " :‬قَا َل ُ‬
‫هللا‬ ‫س بحانه‪ .‬أخرج البهيقي َع ْن َأ ِيب ادلذ ْردَا ِء‪َ ،‬ع ِن النذ ِ ِ ّيب َص ذىل ذ ُ‬
‫َع ذز َو َج ذل‪ :‬ا ِ ّين َو ْاالن ْ ُس َوالْجِ هن ِيف ن َ َب ٍأ َع ِظ ٍي‪ ،‬أَ ْخلُ ُق َويُ ْع َبدُ غَ ْ ِريي‪َ ،‬و َأ ْر ُز ُق َوي ُ ْش َك ُر غَ ْ ِريي‪".‬‬
‫ِ ِ‬
‫وممن ُحي َس بون من املؤمنني اذا رزقوا بيشء نس بوا الفضل لنفسه‪ ،‬وظن أن متزيه‬
‫وهمارته وخربته يه اليت جلبت تكل الرزاق‪ ،‬ونسوا الرازق الواهب‪ ،‬كام قال قارون‪:‬‬
‫{قَا َل ان ذ َما ُأو ِتي ُت ُه عَ َىل ِع ْ ٍمل ِع ْن ِدي} [القصص‪]78 :‬‬
‫ِ‬
‫رض َدعَاانَ ‪،‬‬ ‫وهذه حال كثري من البرش‪ ،‬قال هللا تعاىل عهنم‪{ :‬فَا َذا َم ذس ْاالن ْ َس َان ُ ٌّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون}‬ ‫يه ِف ْتنَ ٌة! َولَ ِك ذن َأ ْك َ َرث ُ ْمه َال ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫ُ ذمث ِا َذا خ ذَولْنَا ُه ِن ْع َم ًة ِمنذا قَا َل‪ِ :‬ان ذ َما ُأو ِتي ُت ُه عَ َىل ِع ْ ٍمل‪ .‬ب َ ْل ِ َ‬
‫[الزمر‪]49 :‬‬

‫‪58‬‬
‫هكذا النفس البرشية اذا طغت‪ ،‬ال تتحمل التكرمي‪ ،‬فبدل أن يسجد هلل شكرا‪،‬‬
‫يطري يف السامء فرحا وغرورا‪ ،‬كنه خلق نفسه كام أراد‪ ،‬وخلق عقهل كام شاء‪ ،‬واختار‬
‫حياته وموته باكمل حريته!‬
‫لقد اقتفى أثر ذكل املغرور الول‪ ،‬اذ قال‪َ { :‬أانَ خ ْ ٌَري ِم ْن ُه َخلَ ْقتَ ِن ِم ْن انَ ٍر َو َخلَ ْقتَ ُه‬
‫ِم ْن ِطنيٍ } [ص‪ ]76 :‬نيس أنه خملوق‪ ،‬حىت لو خلق من النار اليت ظهنا أفضل من‬
‫الطني‪ ،‬فهو خملوق مأمور‪.‬‬
‫رأى النعم ونيس املن ِعم‪{ .‬فَأَ ذما ْاالن ْ َس ُان ا َذا َما ابْتَ َال ُه َرب ه ُه فَأَ ْك َر َم ُه َون َ ذع َم ُه فَيَ ُق ُ‬
‫ول َر ِ ّيب‬
‫ِ ِ‬
‫عطوا شيئا ممتزيا‬ ‫َأ ْك َر َم ِن} [الفجر‪ ]15 :‬ان بعض الناس عندمه طبيعة غريبة‪ ،‬فاْنم اذا ُأ ُ‬
‫للمعطي‪.‬‬‫للمعطى ال ِ‬ ‫عن غريه‪ ،‬شعر ابلفخر والتفضيل‪ ،‬كن الفضل َ‬
‫وان بعض البرش هلم نظرة ذاتية للكون ْعيبة‪ ،‬حىت بلغ الغرور ببعضهم أن‬
‫ينسب جمرايت الكون وسريورة الحداث اىل نفسه كام قال فرعون‪َ { :‬ايقَ ْو ِم َأل َ ْي َس َِل‬
‫ون} [الزخرف‪]51 :‬‬ ‫رص‪َ ،‬و َه ِذ ِه ْ َالْنْ َ ُار َ َْت ِري ِم ْن َ ْحت ِيت َأفَ َال تُ ْب ِ ُ‬
‫رص َ‬ ‫ُم ْ ُ‬
‫كل ِم ْ َ‬
‫انه اْعاب ابلنفس‪ ،‬مرض نفيس همكل‪ ،‬واَنراف سلويك موبق‪ .‬كام روى البهيقي‬
‫وغريه أن النيب صىل هللا عليه وسمل قال‪" :‬ثالث هملاكت‪ :‬حش مطاع وهوى متبع واْعاب‬
‫املرء بنفسه‪".‬‬
‫ما أقبح تكل الصور! وما أسوأ تكل الطبائع!‬
‫وما أحوجنا اىل الاقتداء هبذا العبد الصاحل اذلي خسر هللا هل اجلن واالنس‬
‫والرحي والطري‪ ،‬فقال شاكرا هلل‪{ :‬قَا َل ه ََذا ِم ْن فَضْ ِل َر ِ ّيب ِل َي ْبلُ َو ِين َأ َأ ْش ُك ُر أَ ْم َأ ْك ُف ُر؟}‬
‫[المنل‪]40 :‬‬

‫‪59‬‬
‫وما أحوجنا اىل التذكري ادلامئ بفضل هللا‪ ،‬وعدم نس بة الفضال اىل أنفس نا‪ ،‬وما‬
‫أسعد تكل النفس اليت تتربأ دامئا من احلول والقوة اال ابهلل!‬
‫ومن تكل الامنذج امجليةل والقدوة الطيبة يف َتريد النفس عن الغرور ما حاكه ابن‬
‫القي عن ش يخه ابن تميية رمحهام هللا‪ ،‬كيف اكن يدين نفسه ويتواضع هلل‪ ،‬قال عنه رمحه‬
‫هللا‪ :‬اكن كثريا ما يقول‪" :‬ما َل َشء‪ ،‬وال من َشء‪ ،‬وال ذيف َشء‪ ".‬واكن ينشد‪:‬‬
‫أان املكدي وابن املكدي *** وهكذا اكن أيب وجدي‬
‫اللهم اهدان لحسن الخالق‪ ،‬ال ُّيدي لحس هنا اال أنت‪ ،‬واصف عنا يسء‬
‫الخالق‪ ،‬ال يرصف عن سيهئا اال أنت‪ .‬اللهم أآت نفوس نا تقواها‪ ،‬وزكها‪ ،‬أنت خري من‬
‫زاكها‪ ،‬أنت ولهيا وموالها‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 19 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪60‬‬
‫الفائدة العشرون‪:‬‬

‫من يضل ب كتاب هللا ؟‬

‫حقيقة دقيقة خميفة‪ ،‬تقشعر مهنا البدان ويرَتف مهنا كيان املؤمن لكه‪ ...‬أن هللا‬
‫قد يُضل هبذا القرأآن‪ ...‬يُضل هللا هبذا القرأآن؟؟‬
‫نعم‪ .‬ان بعض البرش حظه من هذا القرأآن ليس الهداية بل الضالةل! عياذا ابهلل‪،‬‬
‫مع أن هذا القرأآن أنزهل هللا هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان‪ .‬ولكن ً‬
‫قلواب زائغة‬
‫ونفوسا مريضة قلبت المور وحرفت املسري‪.‬‬
‫ات ه ذُن ُأ هم ْال ِكتَ ِاب‬ ‫اب ِمنْ ُه أ آ َاي ٌت ُم ْح َمكَ ٌ‬‫قال تعاىل‪{ :‬ه َُو ذ ِاذلي َأ ْن َز َل عَلَ ْي َك ْال ِكتَ َ‬
‫ون َما تَشَ اب َ َه ِمنْ ُه ابْ ِتغ ََاء الْ ِف ْتنَ ِة َوابْ ِتغ ََاء‬
‫ات فَأَ ذما ذ ِاذل َين ِيف قُلُوهبِ ِ ْم َزيْغٌ فَ َيتذ ِب ُع َ‬
‫َو ُأخ َُر ُمتَشَ اهبِ َ ٌ‬
‫يهل} [أل ُعران‪]7 :‬‬ ‫تَأْ ِو ِ ِ‬

‫أحصاب القلوب الزائغة ال يبحثون يف القرأآن عن تكل الآايت الواحضة اليت ّ‬


‫تقوم‬
‫سلوكهم وتص ّحح مسارمه وحتارب أهواءمه‪ ،‬بل يبحثون يف القرأآن عن تكل الآايت‬
‫املتشاهبة اليت حتمتل معاين عدة‪ ،‬فيحملوْنا ويفرسوْنا وفقا لهواهئم‪ .‬هكذا ضلوا ومه‬
‫يقرأون كتاب هللا‪.‬‬
‫ويف أآية أخرى ّيبني هللا سامت هؤالء‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ي ُ ِض هل ِب ِه َك ِث ًريا َوُّيَ ْ ِدي ِب ِه‬
‫َك ِث ًريا‪َ ،‬و َما يُ ِض هل ِب ِه ا ذال الْ َف ِاس ِقني}[البقرة‪ ]26 :‬لقد اهتدى املؤمنون ابلمثال القرأآنية‬
‫ِ‬
‫فنفعهم هللا هبا‪ ،‬ولكن أهل الفسق ما زادمه تكل المثةل اال ضالال‪ ،‬والعياذ ابهلل‪ .‬ويفصح‬
‫ون‬‫هللا أكرث عن هؤالء الفاسقني اذلين أضلهم هللا مبا هدى به غريمه‪ ،‬فهم‪ { :‬ذ ِاذل َين ي َ ْن ُقضُ َ‬
‫‪61‬‬
‫ون ِيف ْ َال ْر ِض}‬ ‫اّلِل ِب ِه َأ ْن يُ َ‬
‫وص َل‪َ ،‬ويُ ْف ِسدُ َ‬ ‫اّلِل ِم ْن ب َ ْع ِد ِميثَا ِق ِه‪َ ،‬وي َ ْق َط ُع َ‬
‫ون َما َأ َم َر ذ ُ‬ ‫َعهْدَ ذ ِ‬
‫[البقرة‪]27 :‬‬
‫مه اذلين ال يلزتمون بعهد هللا فال يفون مبا عاهدوا هللا عليه‪ ،‬لن الالزتام ابلعهود‬
‫واملواثيق يقيدمه عن حتصيل مصاحلهم املتبدّ ةل‪ ،‬فهم يعلنون الالزتام مل ّا اكن الالزتام‬
‫يفيدمه‪ ،‬ولكن اذا تغريت املصاحل انقلبوا عىل وجوههم‪.‬‬
‫مث مه اذلين يقطعون الرحام‪ ،‬ويشتتون حلُمة املسلمني‪ ،‬ويفسدون ذات بيهنم‪.‬‬
‫فهم يفسدون يف الرض‪ ،‬ويقولون‪ :‬امنا َنن مصلحون‪.‬‬
‫لقد اقتفوا أثر أهل الكتاب اذلين قال هللا فهيم‪{ :‬فَ ِب َما ن َ ْق ِضهِم ِّميثَاقَه ُْم لَ َعنذ ُ ْ‬
‫امه‬
‫ون الْ َ ِلك َم َعن ذم َو ِاض ِع ِه ۙ َون َ ُسوا َح ًّظا ِّم ذما ُذ ِكّ ُروا ِب ِه ۚ} [املائدة‪:‬‬
‫َو َج َعلْنَا قُلُوهبَ ُ ْم قَ ِاس َي ًة ۖ ُ َحي ّ ِرفُ َ‬
‫‪]13‬‬
‫ان نقض املواثيق والتنصل عن الالزتامات وعدم الوفاء ابلوعود يه سامت أهل‬
‫الضالل‪ ،‬وهو القامس املشرتك بني لك هؤالء اذلين أوتوا نصيبا من الكتاب وضلوا‬
‫ابلكتاب وما اهتدوا به‪.‬‬
‫لننظر كيف أن عدم الوفاء اباللزتام اذلي عاهد به االنسان ربه يورث النفاق يف‬
‫اّلِل‪ :‬لَ ِ ِْئ أآاتَ انَ ِم ْن فَضْ ِ ِهل لَنَ ذص ذدقَ ذن َولَنَ ُكونَ ذن ِم َن‬‫القلوب‪ ،‬قال هللا تعاىل‪َ { :‬و ِمهنْ ُ ْم َم ْن عَاهَدَ ذ َ‬
‫ون (‪ )76‬فَأَ ْعقَهبَ ُ ْم ِن َفاقًا ِيف‬ ‫الصا ِل ِح َني (‪ )75‬فَلَ ذما أآاتَ ُ ْمه ِم ْن فَضْ ِ ِهل َ ِخبلُوا ِب ِه َوت ََول ذ ْوا َو ُ ْمه ُم ْع ِرضُ َ‬ ‫ذ‬
‫ون} [التوبة‪]77-75 :‬‬ ‫اّلِل َما َوعَدُ و ُه َو ِب َما َاكنُوا يَ ْك ِذبُ َ‬ ‫قُلُوهبِ ِ ْم ا َىل ي َ ْو ِم يَلْقَ ْون َ ُه ِب َما َأ ْخلَ ُفوا ذ َ‬
‫ِ‬
‫ما أثقل هذا اخلرب! فان من عاهد نفسه وعاهد ربه عىل ُعل صاحل مث مل يلزتم‬
‫به‪ ،‬فان هللا س يعقبه نفاقا يف قلبه بسبب ذكل االخالف ابلوعد! ما أتعس ذكل اخمللف‪،‬‬
‫نسأل هللا السالمة والعافية!‬
‫‪62‬‬
‫ذلكل ذكر هللا املؤمنني ابمليثاق اذلي ألزموا أنفسهم به‪ ،‬ميثاق "مسعنا وأطعنا"‪،‬‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬و ْاذ ُك ُروا ِن ْع َم َة ذ ِ‬
‫اّلِل عَلَ ْي ُ ُْك َو ِميثَاقَ ُه ذ ِاذلي َواثَقَ ُ ُْك ِب ِه ا ْذ قُلْ ُ ْمت َ ِمس ْعنَا َو َأ َط ْعنَا}‬
‫ِ‬
‫[املائدة‪]7 :‬‬
‫عدم الالزتام وعدم الوفاء قل ّب صاحب العمل اىل صاحب الهوى والضالةل‪ .‬وهذا‬
‫ليس ظلام من هللا حاشاه‪ ،‬بل هو اجلزاء العدل ملا ارتكبوا من خمالفات عرفوها يف أنفسهم‬
‫امه َح ذىت يُ َب ِ ّ َني لَه ُْم َما يَتذ ُق َ‬
‫ون‪ ،‬ا ذن‬ ‫اّلِل ِل ُي ِض ذل قَ ْو ًما ب َ ْعدَ ا ْذ هَدَ ُ ْ‬
‫وأنكروها بألسنهتم‪َ { ،‬و َما َاك َن ذ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َش ٍء عَ ِل ٌي} [التوبة‪]115 :‬‬ ‫اّلِل ِب ُ ِّ‬
‫لك َ ْ‬ ‫ذَ‬
‫قد بني هللا هلم ما يب علهيم أن يلزتموا به‪ ،‬خفالفوا أمر هللا‪ ،‬فأضلهم‪ .‬اللهم‬
‫سرتك ولطفك!‬
‫وقد بُ ِليت المة بامنذج سيئة من أهل ادلين الظاهر اذلين حيملون شهادات‬
‫دينية‪ ،‬ومه بعيدون عن الالزتام به‪ .‬روى االمام أمحد وابن حبان أن رسول هللا صىل هللا‬
‫عليه وسمل قال‪" :‬ا ذن َأخ َْو َف َما َأخ َُاف عَ َىل َه ِذ ِه ْ ُال ذم ِة‪ ُ :‬ه‬
‫لك ُمنَا ِف ٍق عَ ِل ِي ال ِلّ َس ِان‪".‬‬
‫ِ‬
‫ان ألسنهتم تنطق بأآايت هللا وأحاديث رسول هللا صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬ولكن‬
‫قلوهبم خالية عن تقوى هللا فال خيافون هللا‪ ،‬وال يتورعون يف االفتاء مبا ال يريض هللا‪،‬‬
‫ما داموا يدون جحة يتكئون علهيا ويقنعون الناس هبا‪ .‬يقرأون القرأآن وال ياوز حناجرمه‪.‬‬
‫ان هذا لبالء عظي‪ ،‬من أويت العمل ومل تؤت التقوى‪ ،‬من رزق بيشء من اذلاكء‬
‫ومل يرزق شيئا من الزاكء‪ .‬من تعمل العمل الظاهر ومل يكسب العمل الباطن‪ ،‬وهو تقوى هللا‬
‫واخلوف من حسابه ادلقيق‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وقد رضب هللا هلم مثال‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬مث َ ُل ذ ِاذل َين ُ ِ ّمحلُوا التذ ْو َرا َة ُ ذمث لَ ْم َ ْحي ِملُوهَا‬
‫اّلِل َال ُّيَ ْ ِدي الْقَ ْو َم‬ ‫ََكَث َِل الْ ِح َم ِار َ ْحي ِم ُل َأ ْس َف ًارا ۚ ِبئْ َس َمث َ ُل الْقَ ْو ِم ذ ِاذل َين كَ ذذبُوا ِبأ آ َاي ِت ذ ِ‬
‫اّلِل ۚ َو ذ ُ‬
‫الظا ِل ِم َني} [امجلعة‪]5 :‬‬ ‫ذ‬
‫ان هممة أهل العمل ثقيةل‪ ،‬وخطر اخملالفة فهيا عظي‪ .‬فان الشهادة العلمية ليست‬
‫رخصة للقول مبا هتواه النفس‪ ،‬وال يه حرية الرأي‪ ،‬لكهنا مسؤولية والزتام‪ ،‬وأمانة ووفاء‪.‬‬
‫ربنا ال تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا‪ ،‬وهب لنا من دلنك رمحة‪ ،‬انك أنت الوهاب‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 20 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪64‬‬
‫الفائدة احلادية والعشرين‪:‬‬

‫اخلطأ حط أم حظ؟‬

‫قدر هللا أن يكون االنسان حمل أخطاء‪ ،‬فال يسمل أحد من البرش من ارتاكب‬
‫خطا‪ .‬واخلطأ قد حيطّ من قدر االنسان فهيوي به اىل هجمن‪ ،‬وقد يكون اخلطأ بداية حظّ‬
‫طيب‪ ،‬اذا اتب صاحبه اىل هللا واكن سببا لالجهتاد يف الطاعة‪ .‬فاخلطأ اما حطٌّ (ابلطاء‬
‫املهمةل) واما حظّ (ابلظاء املعجمة)‪.‬‬
‫ان التعيس هو من مل "يس تفد" من خطاه‪ ،‬فيرص عليه ويربره ويادل دفاعا‬
‫عنه‪ .‬قد يكون اجلهل أو نقص املعلمومات أو املعلومات اخلاطئة يه سبب االصار وعدم‬
‫التوبة‪ ،‬وقد يكون العناد واتباع الهوى هو السبب‪.‬‬
‫فاذا اكن سبب ارتاكب اخلطا هو عدم العمل‪ ،‬فتلقي العمل الصحيح هو احلل‪.‬‬
‫ولكن بعض ال ُت َعساء ال يفيدمه العمل والصحيح وال النصح الطيب‪ ،‬فاْنم يعجبون بأآراهئم‬
‫وميجدون مواقفهم أميا اْعاب‪ ،‬فأفعاهلم ابلنس بة هلم يه احلق اذلي يب ادلفاع عنه‪ .‬وال‬
‫يعدمون تربيرا لخطاهئم‪َ { .‬و َاك َن ْاال َنس ُان َأ ْك َ َرث َ ْ‬
‫َش ٍء َجدَ ًال} [الكهف‪]54 :‬‬
‫ِ‬
‫فهم أحصاب جحج وامهة واهية‪ ،‬يرصون علهيا ويروجوْنا‪ .‬ذلكل مل يتوصلوا اىل‬
‫احلق ومل يرجعوا اىل الصواب‪ ،‬لْنم جحبوا أنفسهم بتكل احلجج‪.‬‬
‫ولكن االنسان السعيد هو اذلي ال يد صعوبة يف اكتشاف خطاه والاعرتاف به‬
‫والعودة منه اىل الصواب‪ .‬فأبوان أآدم عليه السالم قد ارتكب خطأ واحدا‪ ،‬ولكن هللا اتب‬
‫عليه ملا اتب هو منه‪ ،‬فاكن أسعد من ابليس اذلي أص عىل موقفه‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫فقد اس تفاد أآدم من ذكل اخلطا ابلزنول اىل الرض‪ ،‬فيصبح خليفة فهيا هو‬
‫وذريته‪ ،‬فنالوا جزاء العمل الصاحل والتوبة النصوح‪.‬‬
‫مفقام التائبني عند هللا عظي‪ ،‬وهللا حيب التوابني وحيب املتطهرين‪ .‬فضع خطا‬
‫حتت لكمة "حيب"‪ .‬فلو ال اخلطأ ملا اتب أحد‪ ،‬وملا حظي بذكل "احلب"‪ .‬ذلكل قال‬
‫بعض العارفني‪" :‬رب ذنب أورث ذال وانكسارا خري من طاعة أعقبت ُْعبا واس تكبارا‪".‬‬
‫فلكنا مذنب ولكنا خمطئ‪ ،‬فهيي فرصة لنيل رىض هللا وعفوه ابلتوبة النصوح‬
‫واصالح ما فسد واس تدراك ما فات‪ .‬ذلكل اكن ادلعاء العظي اذلي علمه الرسول صىل‬
‫هللا لعائشة ريض هللا عهنا يف ليةل القدر هو‪" :‬اللهم انك عفو حتب العفو فاعف عن‪".‬‬
‫روى الرتمذي وغريه َع ْن عَائِشَ َة قَالَت ْقُلْ ُت‪َ :‬اي َر ُسو َل ذ ِ‬
‫اّلِل‪َ ،‬أ َر َأيْ َت ا ْن عَ ِل ْم ُت َأ هي‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫لَ ْي َ ٍةل ل َ ْي َ ُةل الْقَدْ ِر‪َ ،‬ما َأقُ ُ‬
‫ول ِفهيَا؟ قَا َل‪ :‬قُ ِوَل‪":‬اللذهُ ذم ان َذك ُع ُف ٌّو َك ِر ٌمي‪ِ ُ ،‬حت هب ال َع ْف َو‪ ،‬فَاع ُْف‬
‫ِ‬
‫َع ِ ّن‪".‬‬
‫اي عفو اي كرمي‪ ،‬اعف عنا وتب علينا‪ ،‬وأهلمنا رشدان‪ ،‬واهدان س بل السالم‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 21 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪66‬‬
‫الفائدة الثانية والعشرين‪:‬‬

‫املطلوب هو االقتداء وليس "التشبيه"‬

‫قصص النبياء والصاحلني‪ ،‬وذكل من أجل أن‬ ‫ذكر هللا تعاىل يف قرأآنه الكرمي َ‬
‫امه ا ْقتَ ِد ْه ۗ} [النعام‪]90 :‬‬ ‫يقتدي هبم الناس‪ ،‬قال تعاىل‪ُ { :‬أولَـ ِئ َك ذ ِاذل َين هَدَ ى ذ ُ‬
‫اّلِل ۖ فَهبِ ُدَ ُ ُ‬
‫والاقتداء هو أن حيايك االنسان مسرية هؤالء القدوات‪ ،‬ويعدّل سلوكه ليكون‬
‫مثل وقريبا مما فعهل هؤالء الصاحلون‪ .‬فاالقتداء هو التغيري َنو الفضل والسعي َنو‬
‫اصالح النفس‪.‬‬
‫وهناك توظيف خاطئ ِلس َري النبياء والصاحلني‪ ،‬بل كثريا ما يكون مضلال‪،‬‬
‫وذكل بأن ي َُش ّبِه االنسان نفسه بأحد هؤالء النبياء والصاحلني‪ ،‬حبيث يومه نفسه ويومه‬
‫غريه أنه مثل تكل القدوات يف أمر من المور‪ ،‬مبا حيمل االحياء أنه ما قد يصل اىل ما‬
‫يصل اليه هؤالء النبياء والصاحلون يف املاكنة والصالح وادلرجة‪ .‬س بحان هللا عام‬
‫يصفون‪.‬‬
‫فهناك فرق هائل بني هذا التشبيه املضلل وبني ذكل الاقتداء املأمور به‪ .‬فان‬
‫التشبيه هبذا الشلك ال يدفع االنسان اىل حتسني حاهل بل يكتفي بدعوى املشاهبة‬
‫واملامثةل‪ ،‬فاذا رأى أن شيئا من نفسه أو حياته يش به ما عند هؤالء الصاحلني يتومه هذا‬
‫املسكني أن هذا يلحقه برشف أولئك املكرمني‪ .‬فهذا املسكني بدل أن يهتد يف اصالح‬
‫حاهل‪ ،‬جعل حاهل دليال عىل صالحه وبطولته‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ان قصص النبياء والصاحلني حتمل صورا مشاهبة حلياة البرش ُعوما‪ ،‬فال غرابة‬
‫أن جند بعض الجزاء تش به ما عندان من المور‪ ،‬لْنم برش مثلنا‪ ،‬حفياهتم حياة البرش‪،‬‬
‫والس نة اجلارية عندمه يه س نة هللا اليت جرت عند البرش ُعوما‪ .‬ولكن الفرق اذلي‬
‫جعل حياهتم ًّ‬
‫حمال لالقتداء هو كامل حاهلم وحسن فعاهلم وقوة امياْنم وصربمه عىل البالء‬
‫وشدة تعلقهم ابهلل ومتسكهم بأوامر هللا وَتردمه عن الغرائز احليوانية اكلطمع والرشه وحب‬
‫الانتقام واجلزع وما اىل ذكل‪.‬‬
‫فاملقت ِدي يضع نفسه اتبعا لتكل املُثل‪ ،‬وليس مرجعا لها‪ .‬فهو ُخيضع نفسه لمناط‬
‫اخلري والاس تقامة اليت قدهما النبياء والصاحلون‪ ،‬ومل يعل نفسه مثاال لها‪ .‬فهو يسعى‬
‫للتش هبه هبم‪ ،‬ال لتشبيه نفسه هبم‪.‬‬
‫َتش ذبه ابلكرام ان مل تكونوا مثلهم *** ان التش هبه ابلكرام فالح‬
‫والبون شاسع جدا بني من يتش ذبه ابلكرام وبني من ي ُش ِ ّبه نفسه هبم‪ .‬فالول‬
‫يعرف قدر نفسه فيقف متعلام ومتتلمذا للولياء والصاحلني‪ ،‬والثاين يدّ عي الصالح‬
‫وينصب نفسه بطال من البطال‪ ،‬قامئا يف مصاف السابقني يطلب المتجيد والتبجيل‪،‬‬
‫فالول همتدي والثاين مفتون‪ .‬نعوذ ابهلل من فتنة الغرور‪.‬‬
‫اللهم أصلح أحوالنا اىل أحسن حال‪ ،‬وأحسن عاقبتنا اىل أفضل مأل‪ ،‬نعوذ‬
‫برمحتك من خسطك‪ ،‬ومبعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وبك منك‪ ،‬ال َنيص ثناء عليك‪ ،‬أنت كام‬
‫أثنيت عىل نفسك‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 22 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪68‬‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪69‬‬
‫الفائدة الثالثة والعشرين‪:‬‬

‫ماذا ينبغي أن يكسبه املعتكفون؟‬

‫ان حقيقة الاعتاكف يه أن يتفرغ االنسان لعبادة هللا والانقطاع عن مشاغل‬


‫ادلنيا‪ ،‬ويتوجه اىل هللا وينرصف عن اخمللوقني‪ .‬فلالعتاكف مقاصد ينبغي حتقيقها‬
‫وحتصيلها جبد‪ ،‬واال فس يكون الغيا ال معىن هل وال فائدة منه‪.‬‬
‫فأول ما يب عىل املعتكف احلرص عليه هو أن يتفرغ املعتكف للعبادة فال‬
‫ينشغل بأمور أخرى غري العبادة‪ ،‬اكحملادثة والسمر والفرجة وكرثة اللك والرشب‪ .‬وال مينع‬
‫للمعتكف أن يفعل شيئا من تكل المور اذا اكنت للحاجة‪ ،‬وما فوق قدر احلاجة فهو‬
‫لغو‪ ،‬يضاد مقصود الاعتاكف‪.‬‬
‫مث ينبغي للمعتكف أال يشغل نفسه بيشء من أمور ادلنيا‪ ،‬فعليه أن حيرص عىل‬
‫صف وقته لَّلكر والصالة وقراءة القرأآن ومطالعة العمل ومدارس ته‪ .‬فأما أن ينقل أمور‬
‫البيت وأشغال السوق اىل املسجد فليس ذكل اعتاكفا‪.‬‬
‫ومن مقاصد الاعتاكف‪ :‬اخللوة مع هللا‪ .‬فيق ِلّل الاختالط ابلناس‪ ،‬من أجل أن‬
‫دعاء هل وتسبيحا وحتميدا وتوبة واانبة‪ .‬ويفرغ قلبه من لك امللهيات‪،‬‬
‫خيلو مع هللا‪ ،‬فيناجيه ً‬
‫ويس تحرض ما بينه وبني هللا من احلقوق والواجبات‪ ،‬وبذكل حيصل املعتكف عىل مقصود‬
‫الاعتاكف‪ ،‬واال فس يكون عبادة شلكية ال معىن لها وال جدوى‪.‬‬
‫ومن المور اليت ينبغي احلرص علهيا‪ :‬هو عدم التنازع مع الناس من املعتكفني‬
‫وغريمه‪ ،‬فانه يفسد الاعتاكف ويذهب أجره‪ .‬فاملعتكف يفرتض أن يطهر نفسه من‬
‫‪70‬‬
‫اذلنوب ابلتوبة والعبادة‪ ،‬فاذا تنازع املعتكف عىل َشء يف املسجد فقد خرس تكل العبادة‬
‫وأفسدها‪.‬‬
‫ومن المور ادلقيقة اليت ينبغي مراعاهتا أيضا أال يرتك االنسان الواجبات من أجل‬
‫النوافل‪ .‬فال يوز أن يعتكف االنسان اتراك ُعهل وواجباته ليأيت اىل املسجد‪ ،‬مفن ترك‬
‫الواجب من أجل النافةل‪ ،‬اكن تفريطه يقيض عىل احسانه‪ ،‬ومرضته تغلب مصلحته‪ .‬فعىل‬
‫املرء أن يتأكد أن اعتاكفه ال يؤدي اىل ترك الواجب أو اتيان املهنيي‪ .‬فقد ْنيى رسول هللا‬
‫صىل هللا عليه وسمل أزواجه من الاعتاكف ملا اكن اعتاكفهن مش متال عىل َشء من‬
‫صور املهنيات‪.‬‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل‪،‬‬
‫اّلِل َص ذىل ُ‬ ‫ول ذ ِ‬ ‫اّلِل َعهنْ َا‪ ،‬قَالَ ْت‪َ " :‬اك َن َر ُس ُ‬ ‫يض ذ ُ‬ ‫َع ْن عَائِشَ َة َر ِ َ‬
‫لك َر َمضَ ٍان‪َ ،‬وا َذا َص ذىل الغَدَ ا َة َد َخ َل َم َاكن َ ُه ذ ِاذلي ا ْع َت َك َف ِفي ِه‪".‬‬ ‫ي َ ْع َت ِك ُف ِيف ُ ِّ‬
‫ِ‬
‫رضب َ ْت ِفي ِه قُبذ ًة [أي خمية]‪ ،‬فَ َس ِم َع ْت‬ ‫فَ ْاس َتأْ َذن َ ْت ُه عَائِشَ ُة َأ ْن تَ ْع َت ِك َف‪ ،‬فَأَ ِذ َن لَهَا‪ ،‬فَ َ َ‬
‫ول ذ ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ْرص َف َر ُس ُ‬ ‫رضب َ ْت قُبذ ًة أُخ َْرى‪ .‬فَلَ ذما ان َ َ‬ ‫رضب َ ْت قُبذ ًة‪َ ،‬و َ ِمس َع ْت َزيْن َ ُب هبِ َا‪ ،‬فَ َ َ‬ ‫هبِ َا َح ْف َص ُة‪ ،‬فَ َ َ‬
‫رص َأ ْرب َ َع ِق َب ٍاب‪ ،‬فَقَا َل‪َ « :‬ما ه ََذا؟»‬ ‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل ِم َن الغَدَ ا ِة َأبْ َ َ‬
‫َص ذىل ُ‬
‫فَأُخ ِ َْرب خ َ ََربه ذُن‪ ،‬فَقَا َل‪َ « :‬ما َ َمحلَه ذُن عَ َىل ه ََذا؟ ألْ ِ هرب؟ ا ْن ِزعُوهَا فَ َال َأ َراهَا»‪،‬‬
‫فَ ُ ِزن َع ْت‪ ،‬فَ َ ْمل ي َ ْعتَ ِك ْف ِيف ر َمضَ َان َح ذىت ا ْعتَ َك َف ِيف أ آ ِخ ِر ال َع ْ ِ‬
‫رش ِم ْن َش ذوال‪ .‬رواه‬
‫البخاري ومسمل وغريهام واللفظ للبخاري‪.‬‬
‫قال ابن جحر يف بيان تكل الكراهة من النيب صىل هللا عليه وسمل ‪" :‬وكنه صىل‬
‫هللا عليه وسمل خيش أن يكون احلامل لهن عىل ذكل املباهاة والتنافس الناشئ عن الغرية‬
‫حرصا عىل القرب منه خاصة‪ ،‬فيخرج الاعتاكف عن موضوعه‪"...‬‬

‫‪71‬‬
‫وفّقنا هللا واايمك ملا حيب ويرىض‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 23 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪72‬‬
‫الفائدة الرابعة والعشرين‪:‬‬

‫معرفة احلق قبل معرفة الرجال‬

‫من اللفتة املهمة يف سورة الفاحتة اليت ندعو هبا هللا يف لك مرة أن الآية تقول‪:‬‬
‫وب عَلَهيْ ِ ْم َو َال الضذ ا ِل ّ َني}‬ ‫الرص َاط الْ ُم ْس تَ ِق َي‪َ ِ ،‬‬
‫ص َاط ذ ِاذل َين َأنْ َع ْم َت عَلَهيْ ِ ْم غَ ْ ِري الْ َمغْضُ ِ‬ ‫{ا ْه ِدانَ ِ ّ َ‬
‫[الفاحتة‪ ]7-6 :‬ومل تقل "اهدان صاط اذلين أنعمت علهيم‪ ".‬مع أن ذكل فيه اختصار‬
‫وَتنب للتكرار‪ .‬ولكن يف ذكر الرصاط املس تقي أمهية كربى ال ميكن َتاوزها‪ .‬ويه أن‬
‫املقصود الول هو سلوك طريق الاس تقامة‪ ،‬بغض النظر ُعن يسلكها‪ .‬فسلوك طريق‬
‫الاس تقامة مطلوب وان مل يكن هناك أحد! فاالنسان مسؤول عن نفسه‪ ،‬والعهد اذلي‬
‫بينه وبني ربه ال عالقة هل بغريه‪ ،‬واحلساب يوم القيامة يكون فرداي‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و ُلكهه ُْم أ آ ِتي ِه‬
‫ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة فَ ْردًا} [مرمي‪]95 :‬‬
‫وهناك اشاكلية عويصة زلت فهيا أقدام كثري من الناس‪ ،‬اذ حيسب بعض الناس‬
‫أن معرفة الطريق مرتبطة ابلرجال اذلين سلكوها‪ .‬فهذا خطأ جس ي‪ ،‬فان البرش يتغريون‪،‬‬
‫قد يبدو للناس صالح بعض الشخاص فظنوا أن اتباعهم يف لك مواقفهم وأقواهلم هو‬
‫الضامن لصحة الطريق‪.‬‬
‫وهللا قد حرم العصمة عن غري النبياء‪ ،‬فالبرش همام اكن يصيب وخيطئ‪ ،‬فليست‬
‫العمدة يه خشصيات معينة‪ ،‬بل العمدة يه املبادئ والقي‪ .‬والصواب هو الصواب بغض‬
‫النظر ُعن يقوم به‪ ،‬واخلطأ هو اخلطأ حىت لو فعهل مرموق يشار اليه ابلبنان‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ذلكل اكنت القاعدة اذلهبية اليت علمنا اايها أمري املؤمنني عيل بن أيب طالب‬
‫ريض هللا‪ ،‬اذ قال‪" :‬ان احلق ال يعرف ابلرجال‪ ،‬اعرف احلق تعرف أههل‪".‬‬
‫ولهذه اللكمة الغالية قصة مشهورة‪ ،‬ملا وقع اخلالف بني الصحابة أايم خالفة عيل‬
‫بن أيب طالب‪ ،‬ذهب رجل اليه وسأهل ‪ :‬أ ّ‬
‫تظن أ ّن طلحة و ّالزبري اكان عىل ابطل!؟‬
‫فقال ريض هللا عنه‪ :‬انك مللبوس عليك‪ ،‬ان احلق والباطل ال يعرفان بأقدار‬
‫الرجال‪ ،‬اعرف احلق تعرف أههل‪ ،‬واعرف الباطل تعرف أههل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فان ربط اخلطا والصواب واحلق والباطل بأشخاص حمددة‪ ،‬يضيع‬
‫االنسان‪ ،‬وحيجب عقهل‪ ،‬ويذهب لبه‪ ،‬ويرصفه عن معرفة الطريق املس تقي‪ ،‬فان الطريق‬
‫ال يتبع االنسان‪ ،‬بل االنسان هو اذلي يب أن يلزتم به ويتبعه‪.‬‬
‫ذلكل قال عبد هللا بن مسعود ريض هللا عنه –كام يف املعجم الكبري للطرباين‬
‫وحلية الولياء‪َ " :‬ال يُقَ ِ ّ َدل ذن َأ َحدُ ُ ْمك ِدينَ ُه َر ُج ًال‪ ،‬فَا ْن أ آ َم َن أ آ َم َن‪َ ،‬وا ْن َك َف َر َك َف َر‪ ،‬فَا ْن ُك ْن ُ ْمت َال بُ ذد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْقتَ ِد َين فَا ْقتَدُ وا ِابلْ َميّ ِِت؛ فَا ذن الْ َح ذي َال يُ ْؤ َم ُن عَلَ ْيه ا ْتنَة‪".‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ل‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫معرض للتغريات‪ ،‬وقد يعرتيه ضعف فيخطئ ويسقط‪ ،‬وقد أخرب النيب‬ ‫فاالنسان ذ‬
‫صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬أن االنسان قد تكون بدايته عىل خري وصالح ظاهر‪ ،‬ولكن قد‬
‫يرى قدر هللا عليه أن خيمت حياته بسوء‪ ،‬والعياذ ابهلل‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪َ " :‬وا ذن‬
‫ُ ب هنَ ذ ِ ٌ فَيس علَ ِ ِ ِ‬
‫اب‪،‬‬ ‫ذالر ُج َل ل َ َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأه ِْل اجلَنذ ِة‪َ ،‬ح ذىت َما يَك ُ‬
‫ون َ ْينَ ُه َوب َ ْي َا اال ذ َراع‪ ْ َ ،‬ب ُِق َ ْيه الكتَ ُ‬
‫ِ‬
‫فَ َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل َأه ِْل النذ ِار‪ ،‬فَ َيدْ ُخ ُل النذا َر‪[ ".‬متفق عليه] نعوذ ابهلل من سوء اخلامتة‪.‬‬
‫اللهم اقتح بصائران للحق وثبت أقدامنا عليه‪ ،‬اللهم أران احلق حقا وارزقنا اتباعه‪،‬‬
‫وأران الباطل ابطال وارزقنا اجتنابه‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫مكة املكرمة‪ 24 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪75‬‬
‫الفائدة اخلامسة والعشرين‪:‬‬

‫درجات الناس يف احلساسية من األخطاء‬

‫ان الناس يتفاوتون يف قدرهتم عىل المتيزي واملعرفة‪ ،‬ومن مثة قدرهتم عىل‬
‫االحساس ابخلطا والتقصري‪ ،‬وحساسيهتم َتاه الاَنراف واعوجاج الطريق‪ .‬فأفضل الناس‬
‫من اكن عندمه رسعة الانتباه من وجود خلل أو خطا أو ملة من الش يطان‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ون} [العراف‪:‬‬ ‫الش ْي َط ِان ت ََذكذ ُروا‪ ،‬فَا َذا ُمه هم ْب ِ ُ‬
‫رص َ‬ ‫{ا ذن ذ ِاذل َين اتذقَ ْوا ا َذا َم ذسه ُْم َطائِ ٌف ِّم َن ذ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪]201‬‬
‫فأهل التقوى ُر ِزقوا البصرية احلادة لْنم اجهتدوا وحرصوا عىل تطهري قلوهبم‬
‫وتصحيح أعامهلم بشلك دامئ‪ ،‬فهم عىل اس تعداد مس متر للتصحيح‪ ،‬وعىل يقظة دامئة من‬
‫وساوس الش يطان وكيده‪ .‬ذلكل منحهم هللا فرقاان يبرص به احلق ويعرف به عور الباطل‬
‫اّلِل َ ْي َعل ل ذ ُ ُْك فُ ْرقَاانً } [النفال‪]29 :‬‬
‫وزيفه‪َ { ،‬اي َأُّيه َا ذ ِاذل َين أ آ َمنُوا ان تَتذ ُقوا ذ َ‬
‫ِ‬
‫وبلغ من حساس ية املتقني أْنم خيافون ومه حمس نون غري مس يئني‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ون} [املؤمنون‪ ]60 :‬قال ابن كثري‬ ‫{ َو ذ ِاذل َين يُ ْؤت َ‬
‫ُون َما أآتَوا ذوقُلُوهبُ ُ ْم َو ِج َ ٌةل َأْنذ ُ ْم ا َ هىل َر ِ ّ ِهب ْم َر ِاج ُع َ‬
‫ِ‬
‫يف تفسري هذه الآية‪ :‬أي‪ :‬يعطون العطاء ومه خائفون أال يتقبل مهنم‪ ،‬خلوفهم أن يكونوا‬
‫قد قرصوا يف القيام برشوط االعطاء‪ .‬وهذا من ابب االشفاق والاحتياط‪.‬‬
‫روى الرتمذي وابن ماجه وأمحد أن أم املؤمنني عائشة ريض هللا عهنا سألت‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسمل عن هذه الآية‪َ { :‬و ذ ِاذل َين يُ ْؤت َ‬
‫ُون َما أآت َْوا َوقُلُوهبُ ُ ْم َو ِج َ ٌةل }‬
‫الص ِّد ِيق‪َ ،‬ولَ ِكهنذ ُ ْم ذ ِاذل َين‬‫ون؟ قَا َل‪َ :‬ال َاي ِبنْ َت ّ ِ‬ ‫ون الْ َخ ْم َر َوي ْ ِ‬
‫َرسقُ َ‬ ‫قَالَ ْت‪َ :‬أ ُ ْمه ذ ِاذل َين ي ْ َ‬
‫َرشبُ َ‬

‫‪76‬‬
‫ون َأ ْن َال يُ ْق َب َل ِمهنْ ُ ْم‪ُ ،‬أولَ ِئ َك ذ ِاذل َين ي َُس ِارع َ‬
‫ُون ِيف‬ ‫ون‪َ ،‬و ُ ْمه َ َخيافُ َ‬ ‫ون َويُ َصل ه َ‬
‫ون َويَتَ َص ذدقُ َ‬ ‫ي َ ُصو ُم َ‬
‫الْخ ْ ََري ِات‪.‬‬
‫فهكذا عباد هللا الصاحلون اذلين عندمه حساس ية عالية من أي تقصري‬
‫واعوجاج‪.‬‬
‫ويف املقابل أانس عندمه بالدة احساس وبالهة فكر‪ ،‬فيقعون يف الكبائر وال‬
‫حيسون ابخلطر‪ ،‬ويتبعون شهواهتم وال يشعرون ابملشلكة‪ .‬روى البخاري عن ابن مسعود‬
‫ريض هللا عنه قال‪" :‬ا ذن امل ُ ْؤ ِم َن يَ َرى ُذنُوب َ ُه َ َكن ذ ُه قَا ِع ٌد َ ْحت َت َجبَ ٍل َ َخي ُاف َأ ْن يَقَ َع عَلَ ْي ِه‪َ ،‬وا ذن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َف ِاج َر يَ َرى ُذنُوب َ ُه َك ُذ َاب ٍب َم ذر عَ َىل َأنْ ِف ِه‪".‬‬
‫اذا اسو ّدت القلوب فهيي ال ترى الفرق بني احلق والباطل‪ ،‬وال ميزيون بني‬
‫املعروف واملنكر‪ ،‬واذا اش تد اسوداد القلوب أكرث فهيي تدافع عن الباطل وتكره احلق‪،‬‬
‫{ب َ ْل َج َاء ُمه ِابلْ َح ّ ِق َو َأ ْك َ ُرث ُ ْمه ِللْ َح ّ ِق َاك ِره َ‬
‫ُون} [املؤمنون‪]70 :‬‬
‫واذا فسدت القلوب أكرث فهيي تأمر ابملنكر وتهنيى عن املعروف‪ ،‬والعياذ ابهلل‪،‬‬
‫ون ِابلْ ُمن َك ِر‬ ‫ون َوالْ ُمنَا ِفقَ ُ‬
‫ات ب َ ْعضُ هُم ِّمن ب َ ْع ٍض ۚ يَأْ ُم ُر َ‬ ‫قال تعاىل عن شأن املنافقني‪ { :‬الْ ُمنَا ِف ُق َ‬
‫وف} [التوبة‪]67 :‬‬ ‫َويَهنْ َ ْو َن َع ِن الْ َم ْع ُر ِ‬
‫حتسس من نفسه دامئا وعىل خوف دامئ من التقصري‪ ،‬واخملذول‬ ‫فاملوفق هو من ّ‬
‫هو من أتبع نفسه هواها ومتىن عىل هللا الماين‪.‬‬
‫اللهم نور بصائران‪ ،‬وطهر قلوبنا‪ ،‬وسدد أعاملنا‪ ،‬وجنبنا الفنت ما ظهر مهنا وما‬
‫بطن‪...‬‬

‫‪77‬‬
‫مكة املكرمة‪ 25 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪78‬‬
‫الفائدة السادسة والعشرين‪:‬‬

‫هل كل ممنوع مرغوب؟‬

‫مقاةل تداولهتا اللسن وتناقلها الناس كْنا مسلمة ال ش ية فهيا‪ :‬أن لك ممنوع‬
‫مرغوب‪ .‬فهل يه قاعدة عامة ال غبار علهيا وال اس تثناء؟ أم يه جزء من ثقافة املساطب‬
‫اليت تلقفها الناس بال تفكري وال روية؟‬
‫واحلقيقة أن االنسان اذلي يرغب يف لك ممنوع‪ ،‬انسان غري سوي‪ ،‬حيمل يف‬
‫نفسه عقدة الكبت‪ ،‬ال يد راحته اال يف انهتاك الس تار وَتاوز احلدود‪ .‬فهذه طبيعة‬
‫خطرية عىل صاحهبا‪ ،‬ويه طبيعة سيئة ذكرها القرأآن‪ ،‬قال تعاىل عىل لسان يوسف عليه‬
‫السالم‪{ :‬ا ذن النذ ْف َس َ َل ذم َار ٌة ِاب هلسو ِء‪ ،‬ا ذال َما َر ِح َم َر ِ ّيب} [يوسف‪]53 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذكر القرأآن حقيقة نفس ية لكثري من البرش‪ ،‬يه أن النفس البرشية لها ميل شديد‬
‫اىل السوء‪ ،‬ومن مضن امليل اىل السوء يه الرغبة يف تناول املمنوعات‪ .‬ولكن هللا اس تثىن‬
‫فقال‪" :‬اال ما رمح ريب" فاملؤمن اذلي تداركته رمحة هللا ال يد راحته ورغبته يف‬
‫املمنوعات‪ ،‬بل رغبة املؤمن دامئا يف املأمورات واملندوابت اليت فهيا رىض هللا وطمئنينة‬
‫النفس‪ ،‬فهو صاحب نفس سوية مطمئنة‪ ،‬وهو يف ِسمل مع ربه وانسجام مع نفسه‪ .‬يه‬
‫النفس املطمئنة اليت َتد سعادهتا يف طاعة رهبا‪ ،‬ويلقى الفرح والرسور والهبجة مع أعامل‬
‫الرب وامتثال الوامر واجتناب النوايه‪.‬‬
‫والنفس البرشية غري املهذبة تبحث عن الَّلة والنشوة والراحة يف المور اليت‬
‫َتهلها وَتهل حقيقهتا وعواقهبا‪ ،‬اما بدافع الفضول‪ ،‬وهذا أخف‪ ،‬أو بدافع التحدي‬
‫والاعرتاض وهذا أتعس‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫وقد اكن أبوان أآدم عليه السالم أخطأ يف ارتاكب املمنوع‪ ،‬ومسع الكم ابليس‬
‫احص َني} [العراف‪ ]21 :‬ولكنه اكتشف خطر هذه‬ ‫اذلي قال هل‪{ :‬ا ِ ّين لَ ُمكَا لَ ِم َن النذ ِ ِ‬
‫ِ‬
‫املغامرة واجملازفة‪ ،‬فتاب اىل هللا توبة نصوحا‪ .‬وتلقى درسا همام هل ولبنائه‪ :‬أن ما منعه هللا‬
‫منه ليس هل أي مصلحة فيه‪ ،‬بل هو رضر عليه‪ .‬فمل مينعه هللا من خري يس تحقه قط‪،‬‬
‫فَث املرضة‪.‬‬ ‫حفيث ما ْنيى هللا َ ّ‬
‫مفن أخذ هذا ادلرس من أبناء أآدم جنا‪ ،‬ومن مل ينفعه ادلرس فهو من نصيب‬
‫ابليس‪ ،‬قال هللا البليس‪َ َ { :‬ل ْم َ َل ذن َ َهجمنذ َ ِمنْ َك َو ِم ذم ْن تَ ِب َع َك ِمهنْ ُ ْم َأ ْ َمج ِع َني} [ص‪]85 :‬‬
‫عياذا ابهلل!‬
‫هكذا أراد هللا أن ُّي ّذب االنسان طبيعته‪ ،‬ويوجه رغباته‪ ،‬ويرشد طريقه‪ ،‬مفن‬
‫اّلِل ِل ُي َب ِ ّ َني لَ ُ ُْك َوُّيَ ْ ِديَ ُ ُْك ُس َ َنن‬
‫اس تقام فقد اهتدى‪ ،‬ومن أىب فقد اختار شقاوته‪{ ،‬يُ ِريدُ ذ ُ‬
‫وب عَلَ ْي ُ ُْك َويُ ِريدُ‬ ‫اّلِل يُ ِريدُ َأ ْن ي َ ُت َ‬ ‫ذ ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ُْك َوي َ ُت َ‬
‫وب عَلَ ْي ُ ُْك َو ذ ُ‬
‫اّلِل عَ ِل ٌي َح ِك ٌي (‪َ )26‬و ذ ُ‬
‫الشه ََو ِات َأ ْن تَ ِميلُوا َم ْي ًال َع ِظميًا} [النساء‪]27-26 :‬‬ ‫ون ذ‬ ‫ذ ِاذل َين يَت ذ ِب ُع َ‬
‫اللهم أهلمنا رشدان‪ ،‬وقنا َش أنفس نا‪ ،‬واهدان س بل السالم‪ ،‬اللهم اان نسأكل‬
‫رضاك واجلنة‪ ،‬ونعوذ بك من خسطك والنار‪...‬‬
‫مكة املكرمة‪ 26 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪80‬‬
‫الفائدة السابعة والعشرين‪:‬‬

‫"فال تزكوا أنفس ك م"‬

‫قد ينظر االنسان اىل نفسه فيظن صالهحا فيعحب هبا‪ ،‬أو يظن صالح غريه‬
‫فميدحه‪ .‬وهذه من المور ادلقيقة اليت تزل هبا القدام وتضل فهيا الفهام‪.‬‬
‫ان صالح االنسان فامي بينه وبني هللا ال يعلمه أحد اال هللا‪ ،‬ومنازل الناس عند‬
‫رهبم رس من أرسار هللا‪ .‬ذلكل ْنيى هللا أن ميدح االنسان نفسه فريفعها ويزكهيا‪ ،‬قال‬
‫تعاىل‪{ :‬فَ َال تُ َزكهوا َأنْ ُف َس ُ ُْك ه َُو َأ ْع َ ُمل ِب َم ِن اتذقَى} [النجم‪]32 :‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬أي‪ :‬متدحوها وتشكروها ومتنوا بأعاملُك‪ .‬وقال القرطيب‪ :‬أي ال‬
‫متدحوها وال تثُنوا علهيا‪ ،‬فانه أبعد من الرايء وأقرب اىل اخلشوع ‪.‬‬
‫وهذه اكنت عادة الهيود وأهل الكتاب قبلنا‪ ،‬أْنم ميدحون أنفسهم‪ ،‬فيقولون‪:‬‬
‫{ َ َْن ُن َأبْنَا ُء هللا َو َأ ِحبذا ُؤ ُه}‪ .‬ويقولون‪{ :‬لن متس نا النار اال أايما معدودة}‪ .‬ويقولون‪{ :‬لَن‬
‫يَدْ ُخ َل اجلنة االذ َمن َاك َن هُود ًا َأ ْو نصارى}‬
‫ِ‬
‫اّلِل يُ َز ِ ّيك‬ ‫فأنزل هللا يف شأْنم قوهل تعاىل‪َ { :‬ألَ ْم تَ َر ا َىل ذ ِاذل َين يُ َزكه َ‬
‫ون َأنْ ُف َسه ُْم‪ ،‬ب َ ِل ذ ُ‬
‫ِ‬
‫ون فَ ِت ًيال} [النساء‪]49 :‬‬ ‫َم ْن يَشَ ا ُء‪َ ،‬و َال ي ُ ْظلَ ُم َ‬
‫وقد ْنيى النيب صىل هللا عليه وسمل عن التسمية اليت فهيا معىن تزكية النفس‪.‬‬
‫ففي حصيح مسمل عن محمد بن ُعرو بن عطاء قال ‪ّ :‬مسيت ابنيت بَ ّرةَ؛ فقالت َل زينب‬
‫بنت أيب سلمة ‪ :‬ان رسول هللا صىل هللا عليه وسمل ْنيى عن هذا الامس ‪ ،‬و ّمسيت بَ ّرة؛‬

‫‪81‬‬
‫فقال رسول هللا صىل هللا عليه وسمل ‪« :‬ال تُزكّوا أنفسُك‪ ،‬هللا أعمل بأهل ِالرب منُك»‬
‫فقالوا ‪َِ ِ :‬ب نسمهيا؟ فقال ‪ّ « :‬مسوها زينب»‬
‫فدل الكتاب والس نة عىل املنع من تزكية االنسان َ‬
‫نفسه‪.‬‬
‫وْنيى النيب صىل هللا عليه وسمل أيضا عن املدح اذلي فيه معىن الزتكية وما قد‬
‫يؤدي اىل غرور صاحبه‪ .‬ف َع ْن َع ْب ِد ذالر ْ َمح ِن ْب ِن َأ ِيب بَ ْك َرةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ِه‪ ،‬قَا َل‪َ :‬مدَ َح َر ُج ٌل‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل‪ ،‬قَا َل‪ :‬فَقَا َل‪َ « :‬و ْ َحي َك قَ َط ْع َت ُع ُن َق َصا ِحب َِك‪،‬‬ ‫َر ُج ًال‪ِ ،‬ع ْندَ النذ ِ ِ ّيب َص ذىل ُ‬
‫قَ َط ْع َت ُع ُن َق َصا ِحب َِك» ِم َر ًارا " ا َذا َاك َن َأ َحدُ ُ ْمك َما ِد ًحا َصا ِح َب ُه َال َم َح َ َاةل‪ ،‬فَلْ َي ُق ْل‪َ :‬أ ْح ِس ُب‬
‫ِ‬
‫هللا أَ َحدً ا أ َْح ِس ُبهُ‪ ،‬ا ْن َاك َن ي َ ْع َ ُمل َذاكَ ‪َ ،‬ك َذا َو َك َذا‪".‬‬ ‫فُ َالانً ‪َ ،‬و ُ‬
‫هللا َح ِسي ُبهُ‪َ ،‬و َال ُأ َز ِ ّيك عَ َىل ِ‬
‫ِ‬
‫[رواه البخاري وسمل]‬
‫ويف حصيح مسمل َع ْن َأ ِيب َم ْع َم ٍر‪ ،‬قَا َل‪ :‬قَا َم َر ُج ٌل يُث ْ ِن عَ َىل َأ ِم ٍري ِم َن ْ ُال َم َرا ِء‪،‬‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل‪َ ،‬أ ْن‬
‫هللا َص ذىل ُ‬ ‫ول ِ‬ ‫فَ َج َع َل الْ ِم ْقدَ ا ُد َ ْحي ِِث عَلَ ْي ِه ال ه َرت َاب‪َ ،‬وقَا َل‪َ « :‬أ َم َرانَ َر ُس ُ‬
‫َ َْن ِ َِث ِيف ُو ُجو ِه الْ َمدذا ِح َني ه َ‬
‫الرت َاب»‬
‫ذلكل قال ابن عباس ‪" :‬ما من أحد من هذه الآمة أزكّيه غري رسول هللا صىل‬
‫هللا عليه وسمل‪ ".‬لن هللا قد زاكه من فوق س بع ساموات‪ ،‬أما غريه من البرش فال نعمل ما‬
‫هو صائر اليه وما هو اكئن بينه وبني ربه‪.‬‬
‫قال القرطيب رمحه هللا‪ْ :‬نيى صىل هللا عليه وسمل أن يُف ِر َط يف مدح الرجل مبا‬
‫ليس فيه‪ ،‬فيدخهل يف ذكل االْعاب وال ِك ْرب ‪ ،‬ويظن أنه يف احلقيقة بتكل املزنةل فيحمهل‬
‫ذكل عىل تضييع العمل وترك الازدايد من الفضل‪.‬‬
‫ويس تثىن من ذكل ‪ -‬مدح الرجل مبا فيه من الفعل احل ََسن والمر احملمود ليكون‬
‫منه ترغيب ًا هل يف أمثاهل وحتريض ًا للناس عىل الاقتداء به يف أش باهه‪ ،‬وان اكن قد صار‬
‫‪82‬‬
‫مادح ًا مبا تلكم به من مجيل القول فيه‪ .‬وهذا راجع اىل النيات "وهللا يعمل ِ‬
‫املفسد من‬
‫املص ِلح" وقد ُم ِدح صىل هللا عليه وسمل يف الشعر واخلطب واخملاطبة ومل َ ْحي ُث يف وجوه‬
‫املدّ احني الرتاب‪ ،‬وال أمر بذكل‪ .‬وأما قوهل صىل هللا عليه وسمل يف الصحيح‪" :‬ال ت ُ‬
‫ُطروين‬
‫طرت النصارى عيىس ابن مرمي وقولوا‪" :‬عبد هللا ورسوهل‪ ".‬مفعناه ال تصفوين مبا‬ ‫كام أ ِ‬
‫ليس ّيف من الصفات تلمتسون بذكل َمدْ ِيح‪ ،‬كام وصفت النصارى عيىس مبا مل يكن فيه‪،‬‬
‫فنس بوه اىل أنه ابن هللا فكفروا بذكل وضلّوا‪ .‬وهذا يقتيض أن من رفع امرا فوق حده‬
‫وَتاوز مقداره مبا ليس فيه مف ْعتَد أآمث؛ لن ذكل لو جاز يف أحد لاكن أوىل اخللق بذكل‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسمل‪.‬‬
‫أللهم أآت نفوس نا تقواها‪ ،‬وز ِكّها أنت خري من زاكها‪ ،‬أنت ولهيا وموالها‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 27 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪83‬‬
‫الفائدة الثامنة والعشرين‪:‬‬

‫الصوم والتحوالت العاملية‬

‫ان الصوم حدث عاملي هادئ‪ ،‬أن يصوم مليار وس امتئة مليون من البرش يف هذه‬
‫الكرة الرضية يف وقت واحد وكيفية موحدة فليس منظرا عابرا ميكن َتاههل‪ .‬فان وراء‬
‫الصوم قوة قميية حترك ذكل العدد الهائل من الناس‪ .‬وهذه القوة ال تمتثل يف سلطة‬
‫حكومية وال مصلحة اقتصادية وال أوامر عسكرية‪ ،‬بل يه قوة ادلين والتدين‪ .‬يه أوامر‬
‫هللا اليت أآمن هبا ُخس ساكن الرض‪.‬‬
‫لقد شهد العامل حتوالت كبرية يف موازين القوى العاملية اليت تتصارع يف الس يطرة‬
‫عىل هذه املعمورة‪ ،‬قبل ثالثة عقود اكن العامل تتقامسه قواتن كبرياتن‪ ،‬املعسكر الغريب‬
‫واملعسكر الرشيق‪ ،‬فلام اْنار الاحتاد السوفيييت‪ ،‬تفرد املعسكر الغريب بقيادة الوالايت‬
‫املتحدة يف اليسطرة‪ ،‬فاكن أوىل حروهبم يف البوس نة والهرسك مث أفغانس تان والعراق‪.‬‬
‫وبعد عقدين من دعوامه احلرب عىل االرهاب‪ ،‬أصيبوا ابلزمة الاقتصادية‪ ،‬فتتغري‬
‫الس ياسات‪ ،‬فاس تخدموا احلرب ابلواكةل‪ .‬وختتلف الوضاع لزتعزع الاحتاد الوريب‪،‬‬
‫فانفكت بريطانيا عهنم‪ .‬مث تزعزع أكرث فاكن اخلالف بني الوالايت واملتحدة وبني حلفاهئم‬
‫الوربيني يف عالقهتم التجارية‪ .‬وبرزت الصني ومعها روس يا كقوة مس تقرة مس تعدة‬
‫للس باق والس بق‪.‬‬
‫أين الصوم من هذا املشهد؟ انه بعد أآخر من هذه التحراكت اليت تنبن لكها عىل‬
‫املصاحل واملطامع واجلشع والرشه والتاكلب عىل ادلنيا الفانية‪ .‬جاء الصوم ليحرض اىل العامل‬

‫‪84‬‬
‫معىن هم ًّما أن االنسان أرفع من هذه التجاذابت‪ .‬جاء الصوم ليحرض املسمل كعنرص نزيه‬
‫عن الرغبة القذرة يف الس يطرة عىل الآخر‪.‬‬
‫اكنت فريضة الصوم أعقهبا انتصار املسلمني يف بدر‪ .‬ملا اكن الصامئون صامئني‬
‫حبق‪ ،‬فهم أس ياد أنفسهم‪ ،‬قبل أن يكونوا سادة لغريمه‪ .‬مل يكن املسلمون اليوم عىل درجة‬
‫من الوعي اذلي اكن عليه املسلمون الوائل‪ ،‬ولكن الايم د َُول‪ .‬ان سعي ادلعاة والعلامء‬
‫يف توعية املسلمني مبعاين الصوم وحقيقته االميانية وُعقه الرويح وَتلياته الخالقية‬
‫يقرب املسلمني يوما بعد يوم وس نة بعد س نة اىل تكل املقاصد اليت أراد هللا من هذه‬‫س ّ‬
‫الشعرية‪.‬‬
‫ان الوعي املشرتك بروح الصوم وما حتمهل من معاين الصرب واالخالص‬
‫والانضباط والوحدة والرمحة والبذل وهتذيب النفوس‪ ،‬اذا ترشبه مليار من البرش‪،‬‬
‫س يغري مشهد العامل اىل مشهد أآخر غري اذلي عش ناه اليوم‪ .‬اذا تساىم ُخس ساكن العامل‬
‫عن التنازع يف مصاحل ضيقة‪ ،‬وتساحموا فامي بيهنم وتعاونوا عىل الرب والتقوى‪ ،‬فان السالم‬
‫العاملي ليس جمرد خطاب س يايس خيدع هبا البلهاء‪.‬‬
‫اذا حرض الصوم بكتةل مس تقةل منسجمة‪ ،‬لها مبادهئا وقميها الفريدة‪ ،‬لشهد العامل‬
‫حتراك كبريا َنو املعاَل‪ ،‬واذا اكن جزء خضم من العامل مل يكن خاضعا لرصاع املصاحل بل‬
‫لتحقيق املبادئ والقي‪ّ ،‬مهه الوحيد هو البذل والعطاء واالحسان‪ ،‬فهيي قوة أمسى وأقوى‬
‫وأمجل تهبر العامل جباملها وثباهتا وهيبهتا‪.‬‬
‫يه اطالةل َنو مس تقبل رائق ومسار صاعد‪ .‬ال يصدقها املتشامئون‪ ،‬وال يتوقعها‬
‫الواقعيون املستسلمون‪ .‬ولكنه وعد هللا وبرشى رسوهل صىل هللا عليه وسمل‪َ :‬ع ْن ُأ َ ِ ّيب ْب ِن‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ذ َمل‪« :‬ب َ ِ ّ ْ‬
‫رش ُأ ذم ِيت ِاب ذلس نَا ِء‬ ‫ول ذ ِ‬
‫اّلِل َص ذىل ُ‬ ‫اّلِل َع ْن ُه قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُس ُ‬ ‫َك ْع ٍب َر ِ َ‬
‫يض ذ ُ‬

‫‪85‬‬
‫َو ّ ِالرفْ َع ِة َوالتذ ْم ِكنيِ ِيف الْب َِال ِد‪َ ،‬ما لَ ْم ي َ ْطلُ ُبوا ادله نْ َيا ِب َع َم ِل ْالآ ِخ َر ِة‪ ،‬فَ َم ْن َطلَ َب ادله نْ َيا ِب َع َم ِل‬
‫يب» [أخرجه احلامك]‬ ‫ْالآ ِخ َر ِة لَ ْم يَ ُك ْن َ ُهل ِيف ْالآ ِخ َر ِة ِم ْن ن َِص ٍ‬
‫اللهم أعز االسالم واملسلمني‪ ،‬وأذل الكفر والاكفرين‪ ،‬وانرص دينك وكتابك‬
‫وس نة نبيك وعبادك الصاحلني‪ ،‬اللهم حقق امياننا وقنا َش أنفس نا واهدان س بل السالم‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 28 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪86‬‬
‫الفائدة التاسعة والعشرين‪:‬‬

‫ثنائية القشر واللب‬

‫للك َشء مظهره اخلاريج وجوهره ادلاخيل‪ .‬كام أن المثرة لها قرش يغطي اجلزء‬
‫ادلاخيل مهنا‪ ،‬ولُ ٌّب ميثل جوهرها وحيوي مادهتا الساس ية وكهنها احلقيقي‪ .‬وكذكل ادلين‬
‫هل مظاهر خارجية حمسوسة وجواهر داخلية اكمنة‪.‬‬
‫ان الشعائر ادلينية اكلصالة والزاكة والصيام وقراءة القرأآن واحلج والعمرة لكها‬
‫مظاهر وشعائر‪ ،‬واملقصود مهنا لكها اصالح ادلاخل االنساين من اس تقامة العقيدة وحسن‬
‫الخالق وطهارة الرسيرة وطيب النوااي‪.‬‬
‫والاكتفاء بشعائر ظاهرة دون الاعتناء بصالح الباطن نقص كبري يف ادلين‪،‬‬
‫وفشل يف حتقيق املقاصد‪ .‬مفا َشعت هذه الشعائر اال من أجل صالح الباطن وتقومي‬
‫الص َال َة تَهنْ َيى َع ِن الْ َف ْحشَ ا ِء َوالْ ُم ْن َك ِر}‬
‫الص َال َة ا ذن ذ‬ ‫السلوك‪ ،‬قال تعاىل عن الصالة‪َ { :‬و َأ ِق ِم ذ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫[العنكبوت‪ ]45 :‬وقال عن الزاكة‪{ :‬خ ُْذ ِم ْن َأ ْم َواله ِْم َصدَ قة تُطهّ ُِر ْمه َوتُ َزك ِهي ْم هبِ َا} [التوبة‪:‬‬
‫ِ‬
‫الص َيا ُم َ َمَك ُك ِت َب عَ َىل ذ ِاذل َين ِم ْن‬ ‫‪ ]102‬وقال يف الصوم‪َ { :‬ايأَُّيه َا ذ ِاذل َين أ آ َمنُوا ُك ِت َب عَلَ ْي ُ ُُك ّ ِ‬
‫ون} [البقرة‪]183 :‬‬ ‫قَ ْب ِل ُ ُْك لَ َعل ذ ُ ُْك تَتذ ُق َ‬
‫مفن أىت ابلعبادات الظاهرة وأمهل أحواهل الباطنة فقد جاء ابلقرش ورىم ابللب‪.‬‬
‫ولكن همام اكنت هذه الشعائر الظاهرة قصد مهنا اصالح الباطن‪ ،‬فال يصح أن‬
‫يقال اْنا قشور ميكن التخيل عهنا‪ ،‬فاْنا أراكن االسالم وثوابته اليت من مل يأت هبا ال‬
‫املكون الصيل لهذا ادلين‪ ،‬من أنكرها وأمهلها فقد هدم ادلين‪.‬‬
‫يصح اسالم املرء‪ .‬فهيي ّ‬
‫‪87‬‬
‫وهناك ثنائية القرش واللب من النوع الآخر أخطر ممن جاء ابلشعائر ونيس‬
‫اجلواهر‪ ،‬هناك تديّ ٌن والزتام خادع‪ ،‬من اكن ظاهره خبالف ابطنه‪ ،‬قال تعاىل عنه‪َ { :‬و ِم َن‬
‫النذ ِاس َم ْن يُ ْعجِ ُب َك قَ ْو ُ ُهل ِيف الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا َوي ُْشهِدُ ذ َ‬
‫اّلِل عَ َىل َما ِيف قَلْ ِب ِه َوه َُو َأ َ هدل الْ ِخ َصا ِم}‬
‫[البقرة‪]204 :‬‬
‫هناك مناذج من البرش أخذوا من ادلين غطاء ومن التدين قناعا‪ ،‬يطلبون ادلنيا‬
‫بعمل الآخرة‪ ،‬وقد ذكر هللا هذه الامنذج يف بن ارسائيل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فَ َخلَ َف ِم ْن ب َ ْع ِد ِ ْمه‬
‫ون َع َر َض ه ََذا ْ َالد َْىن‪َ ،‬وي َ ُقولُو َن‪َ :‬س ُي ْغ َف ُر لَنَا‪َ .‬وا ْن يَأْهتِ ِ ْم َع َر ٌض‬ ‫َخلْ ٌف َو ِرثُوا ْال ِكتَ َ‬
‫اب يَأْخ ُُذ َ‬
‫ِ‬
‫ِمث ُ ُْهل يَأْخ ُُذو ُه} [البقرة‪]169 :‬‬
‫ويف أمة االسالم من حيذون حذو بن ارسائيل حذو القذة ابلقذة‪ ،‬يقعون يف‬
‫املهاكل كام وقعوا‪.‬‬
‫وأخطر من ذكل أن بعضهم قد أويت من العمل ابلكتاب ما يتكئون عليه‪،‬‬
‫ويربرون ما مه عليه‪ ،‬وحيتجون ابلكتاب والس نة لتصحيح أخطاهئم وتربير اَنرافهم‪ ،‬وهذه‬
‫الامنذج من المراض اخلطرية اليت تصيب جسد المة‪ ،‬ذلكل اكن الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم حيذر أمته من هؤالء‪ ،‬ففي مس ند االمام أمحد وحصيح ابن حبان‪ :‬قال رسول‬
‫هللا صىل هللا عليه وسمل ‪ « :‬أخوف ما أخاف عليُك جدال املنافق علي اللسان »‬
‫فهؤالء امنا يأخذون من ادلين قشورا يغطون هبا مطامعهم ادلنيوية‪ ،‬ويتلون أآايت‬
‫هللا ما تدفعهم لتحصيل املال أو املنصب‪ ،‬ويتجاهلون من حمكامت النصوص اليت حترهمم‬
‫من شهواهتم وتكبح جامهحم وحتد من رغباهتم وتقوم سلوكهم‪.‬‬
‫وهؤالء منشأ الش هبات ومه مثريو الفنت والقالقل‪ ،‬ينخدع هبا أالف مؤلفة من‬
‫املسلمني‪ ،‬يتخذوْنم مرجعا دينيا‪ ،‬ومه يدلوْنم عىل طرائق منحرفة ومفاهي معوجة‪ .‬جندمه‬

‫‪88‬‬
‫يكرثون عند الطمع‪ ،‬ونفقدمه عند الفزع‪ ،‬ومه دجاجةل صغار‪ ،‬جنهتم انر وانرمه جنة‪ ،‬ويف‬
‫املس ند عن أيب ذر ريض هللا عنه أن رسول هللا صىل هللا عليه وسمل قال‪ :‬غري ادلجال‬
‫أخوف عىل أمىت من ادلجال‪ :‬المئة املضلون‪.‬‬
‫اللهم قنا َش الفنت ما ظهر مهنا وما بطن‪ ،‬اللهم اهد قلوبنا ونور بصائران‪ ،‬اللهم‬
‫أران احلق حقا‪ ،‬وارزقنا اتباعه‪ ،‬وأران الباطل ابطال وارزقنا اجتنابه‪ ،‬اللهم اان نعوذ بك من‬
‫مهزات الش ياطني ونعوذ بك أن حيرضون‪.‬‬

‫مكة املكرمة‪ 29 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪89‬‬
‫الفائدة الثالثون‪:‬‬

‫انقضت أايم رمضان ومل ت نقض نفحات الرمحن‬

‫قد يمتلكنا احلزن ابنرصام مومس اخلري وانرصاف هبجة هذا الشهر الفضيل‪،‬‬
‫وتصحبنا ادلموع بفراق أايم الطاعات‪ ،‬وساعات القيام واملناجاة‪ ،‬يه مشاعر صادقة‬
‫حيسها املؤمن‪ ،‬لكن احلياة متيض‪ ،‬والرب الكرمي ال يغيب‪ .‬اذا انقضت أايم ولياَل رمضان‬
‫فان نفحات الرمحن ال تنقيض‪.‬‬
‫من اس تأنس بقيام الليل يف رمضان‪ ،‬فان هللا يزنل لك ليةل يف الثلث الخري‬
‫يب َ ُهل َم ْن ي َْسأَلُ ِن فَأُع ِْط َيهُ‪َ ،‬م ْن ي َْس تَ ْغ ِف ُر ِين فَأَ ْغ ِف َر َ ُهل‪".‬‬
‫يقول‪َ " :‬م ْن يَدْ ع ُِوين‪ ،‬فَأ َْس تَجِ َ‬
‫[متفق عليه]‬
‫من سعد بفرحة الصيام‪ ،‬فان أمامنا صيام ست من شوال وأايم البيض واالثنني‬
‫وامخليس والبواب مفتوحة‪.‬‬
‫من ابهتج بَّلة القرأآن‪ ،‬فان أنواره ال تنطفي‪ ،‬وعطاءه ال ينقطع‪ ،‬مفن أراد أن‬
‫يغرف السعادة غرفا‪ ،‬فليغرف من هذا الكتاب يف أي وقت شاء‪.‬‬
‫من أحس بربكة املساجد واجامتع املسلمني‪ ،‬فان أبواهبا مفتوحة‪ ،‬ودعوات هللا‬
‫حلضور الصلوات مس مترة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬مل يكن شهر كشهر رمضان‪ ،‬يف أجوائه وخرياته‪ ،‬و هتزنل املالئكة والروح‬
‫فيه‪ .‬ولكن هللا رحي ودود يف لك الشهور‪ .‬واملؤمن يتنقل من سعادة اىل سعادة‪ ،‬من‬

‫‪90‬‬
‫سعادة الصوم اىل سعادة الفطر‪ ،‬ولكه يف طاعة هللا‪ .‬من فرح رمضان اىل فرح العيد ولكه‬
‫اّلِل َو ِب َر ْ َمح ِت ِه فَب َِذ ِ َكل فَلْ َي ْف َر ُحوا ه َُو خ ْ ٌَري ِم ذما‬
‫خري ُعي وفضل جس ي‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬قُ ْل ِبفَضْ ِل ذ ِ‬
‫َ ْي َم ُع َ‬
‫ون} [يونس‪]58 :‬‬
‫نعم ان املؤمن يف خري دامئ‪ ،‬ما دام يف طاعة ربه‪ ،‬وال أسعد يف هذه ادلنيا من‬
‫هذا املؤمن‪ ،‬فان جنته يف قلبه‪ ،‬ان أصابته الرساء شكر فاكن خريا هل‪ ،‬وان أصابته‬
‫الرضاء صرب فاكن خريا هل‪.‬‬
‫فيا رب كل امحلد عىل نعمة االميان‪ ،‬كل امحلد حىت ترىض‪ ،‬وكل امحلد اذا‬
‫رضيت‪ ،‬وكل امحلد بعد الرىض‪ ،‬اللهم اجعلنا كل ذاكرين‪ ،‬كل شاكرين‪ ،‬اليك منينبني‪،‬‬
‫كل امحلد ال َنيص ثناء عليك أنت كام أثنيت عىل نفسك‪...‬‬

‫مكة املكرمة‪ 29 ،‬رمضان ‪1439‬هـ‬

‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1439‬هـ‬

‫‪91‬‬
‫الفهرس‬

‫آن للروح أن تقول كلمتها‪2 ....................................................... ...‬‬


‫التزكية ال بد هلا من القصد‪4 ..........................................................‬‬
‫السعادة الكربى للروح ‪6 ..............................................................‬‬
‫الصوم يف مواجهة املادية املتطرفة‪8 ....................................................‬‬
‫معراج املؤمن ودرجات الناس يف الصالة ‪10 ...........................................‬‬
‫قراءة القرآن بني التهاون والتكلف ‪13 ................................................‬‬
‫معرتك القيم ‪16 ......................................................................‬‬
‫الدين املعاملة ‪18 ....................................................................‬‬
‫اهلداية بني حرماهنا وطلبها ‪21 ........................................................‬‬
‫سجود حاكم ‪24 .....................................................................‬‬
‫دقة مرحلية تشريع الصوم ‪28 .........................................................‬‬
‫سعة وعظمة دالالت آايت هللا ‪31 ....................................................‬‬
‫إرادة العلو يف األرض ‪35 .............................................................‬‬
‫إذا قصرت فاستغفر وال ر‬
‫تربر ‪39 ......................................................‬‬
‫وزن األذكار ‪42 ......................................................................‬‬
‫عن التحدث ابلنعمة‪48 ..............................................................‬‬
‫االهتمام بقضااي املسلمني ‪52 .........................................................‬‬
‫حدث عاملي يف سياقه القرآين ‪54 .....................................................‬‬

‫‪92‬‬
‫الغرور ينايف الشكر ‪58 ...............................................................‬‬
‫من يضل بكتاب هللا؟ ‪61 .............................................................‬‬
‫اخلطأ حط أم حظ؟ ‪65 ...............................................................‬‬
‫املطلوب هو االقتداء وليس "التشبيه" ‪67 .............................................‬‬
‫ماذا ينبغي أن يكسبه املعتكفون؟ ‪70 .................................................‬‬
‫معرفة احلق قبل معرفة الرجال ‪73 ....................................................‬‬
‫درجات الناس يف احلساسية من األخطاء ‪76 ..........................................‬‬
‫هل كل ممنوع مرغوب؟ ‪79 ...........................................................‬‬
‫"فال تزكوا أنفسهم" ‪81 ...............................................................‬‬
‫الصوم والتحوالت العاملية‪84 .........................................................‬‬
‫ثنائية القشر واللب ‪87 ...............................................................‬‬
‫انقضت أايم رمضان ومل تنقض نفحات الرمحن ‪90 .....................................‬‬

‫‪93‬‬

You might also like