Professional Documents
Culture Documents
فأان أيها احلاضرون واحلاضرات رمحكم هللا أقوم بني أيديكم أوصي نفسي وإايكم أمجعني عن شأن اإلخالص
يف العبادة
فإِ ّن أعظم األصول املهمة يف دين ا ِإلسالم حتقيق ا ِإلخالص هلل تعاىل يف مجيع العبادات ،قال بعض العلماء:
ا ِإلخالص هو أال تطلب على عملك شاه ًدا غري هللا تعاىل ،وال جما ٍز سواه.1
قال أبو عثمان سعيد النيسابوري :صدق اإلخالص نسيان رؤية اخللق لدوام النظر إىل اخلالق ،واإلخالص:
أن تريد بقلبك وعملك وفعلك رضا هللا تعاىل خوفًا من سخط هللا كأنك تراه حبقيقة عملك أبنه يراك حىت
يذهب الرايء عن قلبك ،مث تذكر منّة هللا عليك إذ وفقك لذلك العمل حىت يذهب العجب من قلبك
وتستعمل الرفق يف عملك حىت تذهب العجلة من قلبك.
يء إِالَّ زانَه وما نُِزع ِمن ش ٍ
الرفق ِيف ش ٍ
يء إالَّ َشانَهُ».2 َ ُ ََ َ َ «ما ُجعِ َل ِّ ُ َ وقال رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم َ :-
يرد عليك عملك والعجلة اتّباع اهلوى ،والرفق اتّباع السنة ،فإذا فرغت من عملك وجل قلبك خوفًا من هللا أن ّ
وُبُْم َوِجلَةٌ أَ ََّّنُْم إِ َىل َرُّبِِ ْم َر ِاجعُو َن} [املؤمنون،]60 : ِ
فال يقبله منك .قال هللا تعاىلَ { :والَّذ َ
ين يُ ْؤتُو َن َما آَتَ ْوا َوقُلُ ُ
خملصا يف عمله إن شاء هللا.3 ومن مجع هذه اخلصال األربعة كان ً
واعلموا رمحكم هللا مجيعا أن ا ِإلخالص هو حقيقة ال ِّدين ،ومفتاح دعوة الرسل عليهم السالم.
ِ ِِ ِ ِ
ين ُحنَ َفاءَ} [البينة.]5 : ني لَهُ ال ّد َ {وَما أُم ُروا إِالَّ ليَ ْعبُ ُدوا هللاَ خمُْلص َ قال تعاىلَ :
ت َواحلَيَاةَ لِيَ ْب لَُوُك ْم ِ
صا لَهُ د ِيِن} [الزمر ،]14 :وقال سبحانه{ :الَّذي َخلَ َق املَْو َ
ِ ِ
وقال تعاىل{ :قُ ِل هللاَ أ َْعبُ ُد خمُْل ً
ور} [امللك.]2 : الع ِز ُيز الغَ ُف ُ
َح َس ُن َع َمالً َو ُه َو َ
أَيُّ ُك ْم أ ْ
1نضرة النعيم في مكارم أخالق الرسول الكريم -صلى هللا عليه وسلم .)124 /2( -
2صحيح مسلم برقم (.)2594
) 3البيهقي في شعب اإليمان رقم ( )6475طبعة الشؤون اإلسالمية بدولة قطر.
1
صواًب مل يقبل،
خالصا ومل يكن ً
س ُن عَ َمالً} :أخلصه وأصوبه ،وقال :إن العمل إذا كان ً
َح َ
قال الفضيل{ :أ ْ
صواًب .واخلالص :ما كان هلل ،والصواب :ما
خالصا ً
ً خالصا مل يقبل ،حىت يكون
ً صواًب ومل يكن
وإذا كان ً
السنَّة.4
كان على ُّ
ك وما و َّ ِِ ِ ِ {شرع لَ ُكم ِمن ال ِّدي ِن ما و َّ ِ
وسى
يم َوُم َ ص ْي نَا به إِبْ َراه َ وحا َوالَّذي أ َْو َح ْي نَا إِل َْي َ َ َ َ صى بِه نُ ً َ َ وقال سبحانهَ ْ َ َ َ :
وه ْم إِلَْي ِه هللاُ ََْيتَِِب إِلَْي ِه َم ْن يَ َشاءُ َويَ ْه ِدي ِ ِِ ِ ِ ِ
ين َوالَ تَتَ َف َّرقُوا فيه َك َُُب َعلَى املُ ْش ِرك َ
ني َما تَ ْدعُ ُ يموا ال ّد َ
يسى أَ ْن أَق ُ
َوع َ
يب} [الشورى.]13 : ِِ ِ
إلَْيه َم ْن يُن ُ
قال أبو العالية« :وصاهم ًب ِإلخالص يف عبادته» ،وا ِإلخالص أعظم أعمال القلوب.
أتمل الشريعة يف مصادرها ومواردها ،علم ارتباط أعمال اجلوارح
قال ابن القيم -رمحه هللا تعاىل « :-ومن ّ
أبعمال القلوب ،وأَّنا ال تنفع بدوَّنا ،وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال اجلوارح ،وهل مييز
املؤمن عن املنافق إال مبا يف قلب كل واحد من األعمال اليت ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية
اجلوارح ،وأكثر وأدوم ،فهي واجبة يف كل وقت».5
ذم هللا سبحانه أحبار أهل الكتاب ،ولو نفع العمل بغري إخالص
ضا :لو نفع العلم بال عمل ملا ّ
وقال أي ً
ملا ذم املنافقي.6
وعلموا أيها احملرتمون األحباء األعزاء رمحكم هللا أن ا ِإلخالص شرط لقبول العمل ،فإن العمل ال يُقبل
إال بشرطي:
أوالً :أن يكون العمل مواف ًقا ملا شرعه هللا يف كتابه ،أو بيَّنه رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -؛ فعن
س ِمْنهُ فَ ُه َو َح َد َ ِ ِ
ث يف أ َْمرَان َه َذا َما لَْي َ «م ْن أ ْ
عائشة رضي هللا عنها :أن النِب -صلى هللا عليه وسلم -قالَ :
َردٌّ».7
خالصا لوجه هللا تعاىل.
ً اثنيًا :أن يكون العمل
5بدائع الفوائد ( )330 /3نقالً عن كتاب اإلخالص والشرك األصغر ص.5 :
6الفوائد ص.66 :
7صحيح البخاري برقم ( ،)2697وصحيح مسلم برقم ( )1718واللفظ له ،طبعة بيت األفكار الدولية.
2
وروى البخاري ومسلم يف صحيحيهما من حديث عمر بن اخلطاب -رضي هللا عنه :-أن النيب -صلى
ت ِه ْجَرتُهُ إِ َىل هللا َوَر ُسولِِه ِ َعم ُ ِ ِ
ال ِِبلنّيَّات َوإََِّّنَا ل ُك ِّل ْام ِر ٍئ َما نَ َوى ،فَ َم ْن َكانَ ْ ِ
هللا عليه وسلم -قال« :إََّّنَا األ ْ َ
اجَر إِلَْي ِه».8 ٍ ِ ِ فَ ِهجرتُه إِ َىل هللا ورسولِِه ،ومن َكانَ ِ
ت ه ْجَرتُهُ ل ُدنْيَا يُصيبُ َها ،أَ ِو ْامَرأَة يَتَ َزَّو ُج َها ،فَ ِه ْجَرتُهُ إِ َىل َما َه َ ََ ُ َ َ ْ ْ َْ ُ
اح ٌد فَ َم ْن َكا َن يَْر ُجوا لَِقاءَ َربِِّه
َل أَََّّنَا إِ َهل ُكم إِلَه و ِ
ُ ْ ٌَ وحى إِ ََّ ِ
ومصداق ذلك قوله تعاىل{ :قُ ْل إََِّّنَا أ ََان بَ َشٌر مثْلُ ُك ْم يُ َ
ِ ِ ِ ِِ فَلْي عمل عمالً ِ
َح ًدا} [الكهف.]110 : صاحلًا َوالَ يُ ْش ِرْك بعبَ َادة َربّه أ َ
ََْ ْ ََ َ
ِ ِِ
ينني لَهُ ال ّد َ واعلموا رمحكم هللا أن ا ِإلخالص هو األساس يف قبول الدعاء ،قال تعاىل{ :فَ ْادعُوا هللاَ خمُْلص َ
َولَ ْو َك ِرهَ ال َكافُِرو َن} [غافر.]14 :
وفقدان ا ِإلخالص سبب لرد العمل .لقد روى اإمام مسلم يف صحيحه من حديث أيب هريرة -رضي هللا
استُ ْش ِه َد ِ ِ ِ عنه :-أن النِب -صلى هللا عليه وسلم -قال« :إِ َّن أ ََّو َل الن ِ
ضى يَ ْوَم الْقيَ َامة َعلَْيهَ :ر ُج ٌل ْ َّاس يُ ْق َ
ت، الَ :ك َذبْ َ ت .قَ َ استُ ْش ِه ْد ُ يك َح َّىت ْ ْت فِ َ ال :قَاتَل ُ ْت فِ َيها؟ قَ َ ال :فَ َما َع ِمل َفَأُِِتَ بِِه فَ َع َّرفَهُ نِ َع َمهُ فَ َع َرفَ َها ،قَ َ
ب َعلَى َو ْج ِه ِه َح َّىت أُل ِْق َي ِيف النَّا ِرَ ،وَر ُج ٌل ال :ج ِريء ،فَ َق ْد قِيلُ .مثَّ أ ُِمر بِ ِه فَ ِ َولَكِن َ
سح َ ُ َ َ ْت ألَ ْن يُ َق َ َ ٌ َّك قَاتَل َ
ال :تَعلَّم ُ ِ ال :فَما َع ِمل َ ِ ِ ِ ِ
ْمت الْعل َ يها؟ قَ َ َ ْ ْت ف َ ْم َو َعلَّ َمهُ َوقَ َرأَ الْ ُق ْرآ َن ،فَأُِِتَ بِه فَ َع َّرفَهُ ن َع َمهُ فَ َع َرفَ َها ،قَ َ َ تَ َعلَّ َم الْعل َ
الُ :ه َو ات الْ ُق ْرآ َن لِيُ َق َالَ :ع ِاملٌَ ،وقَ َر َ ْم لِيُ َق َ َّك تَعلَّم َ ِ
ت الْعل َ
الَ :ك َذب َ ِ
تَ ،ولَكن َ َ ْ يك الْ ُق ْرآ َن .قَ َ ْ ات فِ َ َو َعلَّ ْمتُهُ َوقَ َر ُ
ب َعلَى َو ْج ِه ِه َح َّىت أُل ِْق َي ِيف النَّا ِرَ .وَر ُج ٌل َو َّس َع هللاُ َعلَْي ِه َوأَ ْعطَاهُ ِم ْن سح َ
ئ .فَ َق ْد قِيلُ ،مثَّ أ ُِمر بِ ِه فَ ِ
ُ َ َ قَا ِر ٌ
ب يل ُُِت ُّ ت ِم ْن َسبِ ٍ يها؟ قَالَ :ما تَ َرْك ُ ال :فَما عَ ِمل َ ِ
ْت ف َ ِ ِ اف الْم ِ ِ ِ
ال ُكلّه ،فَأُِِتَ بِه فَ َع َّرفَهُ ن َع َمهُ فَ َع َرفَ َها .قَ َ َ َ
أَصنَ ِ
ْ
يلُ ،مثَّ أ ُِم َر بِ ِه ِ
الُ :ه َو َج َوا ٌد .فَ َق ْد ق َ ْت لِيُ َق َ َّك فَ َعل َ تَ ،ولَكِن َ الَ :ك َذبْ َ
َك .قَ َ يها ل َ أَ ْن ي نْ َف َق فِيها إِالَّ أَنْ َف ْق ُ ِ
تفَ َ ُ
ِ 9
ب َعلَى َو ْج ِه ِهُ ،مثَّ أُل ِْق َي ِيف النَّار» سح َ
فَ ِ
ُ
{م ْن َكا َن يُ ِري ُد احلَيَاةَ وملا بلغ هذا احلديث معاوية بكى بكاءً شدي ًدا ،فلما أفاق قال :صدق هللا ورسولهَ :
ِ ِ ف إِلَي ِهم أَ ْعما ََلُم فِيها و ُهم فِيها الَ ي ب َخسو َن * أُولَئِ َ ِ ِ
س ََلُ ْم ِيف اآلَخ َرة إِالَّ الن ُ
َّار ين ل َْي َك الَّذ َ الدُّنْيَا َو ِزينَ تَ َها نُ َو ّ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ ُ
يها َوًَب ِط ٌل َما َكانُوا يَ ْع َملُو َن}[ 10هود.]16 - 15 : ِ
صنَ عُوا ف َ ط َما َ َو َحبِ َ
َن َر ُجالً َجاءَ إِ َىل ِ
ي -رضي هللا عنه :-أ َّ وسى األَ ْش َع ِر ِّ روى البخاري ومسلم يف صحيحيهما من حديث أَِيب ُم َ
الر ُج ُل يُ َقاتِ ُل لِل ِّذ ْك ِرَ ،و َّ
الر ُج ُل يُ َقاتِ ُل الر ُج ُل يُ َقاتِ ُل لِْل َم ْغنَِمَ ،و َّ
ول هللاَّ ، الَ :اي َر ُس ََِّب -صلى هللا عليه وسلم -فَ َق َ النِ ِّ
3
«م ْن قَاتَ َل لِتَ ُكو َن َكلِ َمةُ هللاِ ِه َي
ول هللا -صلى هللا عليه وسلم َ :-
ال رس ُ ِ ِ
ل َُُيى َم َكانُهُ ،فَ َم ْن ِيف َسبِ ِيل هللا؟ فَ َق َ َ ُ
ِ
الْعُْليَا ،فَ ْه َو ِيف َسبِ ِيل هللاِ».11
ِ َّ ِِ ِ
َِّب -صلى هللا وروى النسائي يف سننه من حديث أَيب أ َُم َامةَ الْبَاهل ِّي -رضي هللا عنه :-أَن َر ُجالً َجاءَ إ َىل النِ ِّ
ول هللاِ -صلى هللا عليه وسلم - َجَر َوال ِّذ ْكَر َما لَهُ؟ فَ َق َ
ال َر ُس ُ س األ ْ
ِ
ت َر ُجالً َغَزا يَْلتَم ُ ال :أ ََرأَيْ َ
عليه وسلم -فَ َق َ
ول هللاِ -صلى هللا عليه وسلم « :-الَ َش ْيءَ لَهُ»ُُ .ثَّ ول لَهُ َر ُس ُ ث م َّر ٍ
ات َويَ ُق ُ َع َاد َها ثَالَ َ َ « :الَ َش ْيءَ لَهُ» .فَأ َ
صا َوابْتُغِ َي بِِه َو ْج ُههُ».12 ِ ِ
ال« :إِ َّن هللاَ الَ يَ ْقبَ ُل م َن الْ َع َم ِل إِالَّ َما َكا َن لَهُ َخال ً
قَ َ
وهاكم أقوال األئمة يف شأن اإلخالص فتأملوها رمحكم هللا ...
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه هللا :ومن كان له ورد مشروع من صالة الضحى أو قيام ليل أو غري
ذلك فإنه يصليه حيث كان وال ينبغي له أن يدع ورده املشروع ألجل كونه بي الناس إذا علم هللا من قلبه
سرا هلل مع اجتهاده يف سالمته من الرايء ومفسدات اإلخالص.13
أنه يفعله ًّ
وقيل لسهل التسرتي :أي شيء أشد على النفس؟ قال :ا ِإلخالص؛ ألنه ليس َلا فيه نصيب.14
علي.
علي من نييت ،إهنا تتقلب َّ
وقال سفيان الثوري :ما عاجلت شيئًا أشد َّ
وقال سليمان ال ّداراين :إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرايء.
وقال بعض السلف :من سلم له من عمره حلظة خالصة لوجه هللا ،جنا وذلك لعزة ا ِإلخالص ،وعسر تنقية
القلب من هذه الشوائب؛ فإن اخلالص هو الذي ال ًبعث له إال طلب القرب من هللا تعاىل.15
وهاكم اخلالصة مما ذكران فاتبهوا رمحكم هللا :إن اإلخالص هلل تعاىل وإرادة وجهه رأس مال العبد ومالك
أمره ،وقوام حياته الطيبة ،وأصل سعادته وفالحه ونعيمه ،وقرة عينه ،ولذلك ُخلق وبه أُمر ،وبذلك
أُرسلت الرسل ،وأُنزلت الكتب ،وال صالح للقلب وال نعيم َّإال أبن تكون رغبته إىل هللا عز وجل وحده،
فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده ،ومن كان كذلك كفاه هللا كل ٍّ
مهم ،وتواله يف مجيع أموره ،ودفع
4
عنه ما ال يستطيع دفعه عن نفسه ،ووقاه وقاية الوليد ،وصانه من مجيع اآلفات .ومن كان هلل كان هللا له،
حيث ال يكون لنفسه.16
نفعين هللا وإايكم مجيعا ...فها هي الكلمات أستطيع ذكرها بي أيديكم فمن وجد فيها شيئا خيالف
الكتاب والسنة فعليه حق النصيحة" :وهللا يف عون العبد ما كان العبد يف عون أخيه" .واحلمد هلل رب
العاملي ،وصلى هللا وسلم على نبينا حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعي .والسالم عليكم ورمحة هللا وبركاته
5