You are on page 1of 9

‫الحمد هلل الذي نَّز ل الُفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيًرا‪ ،‬الذي له ملك السماوات واألرض‪ ،‬ولم

يتخذ ولًدا‪ ،‬ولم يكن له‬


‫شريٌك في الملك‪ ،‬وخلق كَّل شيء فقدره تقديًرا‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‪ ،‬الذي أرسَله رُّبه شاهًدا ومبِّش ًرا ونذيًرا‪،‬‬
‫‪:‬وداعًيا إلى هللا بإذنه وسراًجا منيًرا‪ ،‬أما بعد‬

‫‪:‬فإن التوبة الصادقة هي سبيل المؤمنين إلى مرضاة هللا تعالى‪،‬فأقول وباهلل تعالى التوفيق‬

‫‪:‬معنى التوبة‬

‫‪.‬التوبة‪ :‬ترك المعاصي ابتغاء مرضاة هللا تعالى‬

‫‪:‬منزلة التوبة‬

‫التوبة هي حقيقة دين اإلسالم‪ ،‬والدين ُك ُّله داخل في ُم سَّم ى التوبة‪ ،‬وبهذا استحَّق التائُب أن يكون حبيَب هللا‪ ،‬فإن هللا يحُّب‬
‫التَّوابين ويحُّب المتطهرين؛ وإنما يحُّب هللا َم ْن فعل ما أَم ر به‪ ،‬وترك ما َنهى عنه‪ ،‬فإًذ ا التوبة هي الرجوع مَّم ا يكرهه هللا‬
‫ظاهًرا وباطًنا إلى ما يحُّبه ظاهًرا وباطًنا‪ ،‬ويدُخ ل في ُم سَّم اها اإلسالُم واإليماُن واإلحساُن ‪ ،‬وتتناول جميع المقامات؛ ولهذا‬
‫كانت غايَة كِّل مؤمن وبداية األمر وخاتمته كما تقَّد م‪ ،‬وهي الغاية التي ُو ِج د ألجلها الَخ ْلق واألمر‪ ،‬والتوحيُد جزٌء منها؛ بل‬
‫هو جزؤها األعظم الذي عليه بناؤها‪ ،‬وأكثر الناس ال يعرفون قدر التوبة وال حقيقتها‪ ،‬فضاًل عن القيام بها علًم ا وعماًل‬
‫وحااًل ‪ ،‬ولم يجعل هللا تعالى محَّبته للتَّوابين إال وهم خواُّص الَخ ْلق لديه‪ ،‬ولوال أن التوبة اسٌم جاِم ٌع لشرائع اإلسالم وحقائق‬
‫اإليمان لم يكن الرُّب تعالى يفَر ح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم‪ ،‬فجميع ما يتكَّلم فيه الناس من المقامات واألحوال هو‬
‫‪.‬تفاصيل التوبة وآثارها؛ (مدارج السالكين البن القيم‪ ،‬جـ ‪ ،1‬صـ ‪)333‬‬

‫‪:‬حكم التوبة من المعاصي‬

‫إن المبادرة إلى التوبة من الذنب َفْر ٌض على الفور‪ ،‬وال يجوز تأخيُرها‪ ،‬فمتى أَّخ رها عصى بالتأخير‪ ،‬فإذا تاب من الذنب‬
‫بقي عليه توبٌة أخرى‪ ،‬وهي توبُته من تأخير التوبة‪ ،‬وقَّل أن تخُطر هذه ببال التائب؛ بل عنده‪ :‬أنه إذا تاب من الذنب لم يْبَق‬
‫عليه شيٌء آخر‪ ،‬وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة‪ ،‬وال ُيْنجي من هذا إاَّل توبٌة عاَّم ٌة مَّم ا يعَلم من ذنوبه ومَّم ا ال يعَلم‪،‬‬
‫فإَّن ما ال يعلمه العبد من ذنوبه أكثُر مَّم ا يعَلُم ه‪ ،‬وال ينفُعه في عدم المؤاخذة بها جهُله إذا كان متمِّكًنا من العلم‪ ،‬فإَّنه عاٍص‬
‫‪.‬بَتْر ك العلم والعمل؛ فالمعصية في حِّقه أشُّد ؛ (مدارج السالكين البن القيم‪ ،‬جـ ‪ ،1‬صـ ‪)297‬‬

‫‪:‬دعوة رَّبانية للتوبة الصادقة‬

‫قال هللا تعالى‪ُ ﴿ :‬قْل َيا ِعَباِدَي اَّلِذ يَن َأْس َر ُفوا َع َلى َأْنُفِس ِه ْم اَل َتْقَنُطوا ِم ْن َر ْح َم ِة ِهَّللا ِإَّن َهَّللا َيْغ ِفُر الُّذ ُنوَب َجِم يًعا ِإَّنُه ُهَو اْلَغ ُفوُر‬
‫‪.‬الَّر ِح يُم ﴾ [الزمر‪]53 :‬‬

‫قال ابن كثير رحمه هللا‪ :‬هذه اآلية الكريمة دعوٌة لجميع الُعصاة من الَكَفرة وغيرهم إلى التوبة واإلنابة‪ ،‬وإخبار بأن هللا يغفر‬
‫الذنوب جميًعا لمن تاب منها ورَج ع عنها‪ ،‬وإن كانت مهما كانت‪ ،‬وإن كُثَر ْت وكانت مثل َز َبد البحر؛ (تفسير ابن كثير جـ‬
‫‪ ،12.‬صـ ‪)139:138‬‬
‫قال عبدهللا بن عباس رضي هللا عنهما في قوله‪ُ ﴿ :‬قْل َيا ِعَباِدَي اَّلِذ يَن َأْس َر ُفوا َع َلى َأْنُفِس ِه ْم اَل َتْقَنُطوا ِم ْن َر ْح َم ِة ِهَّللا ِإَّن َهَّللا‬
‫َيْغ ِفُر الُّذ ُنوَب َجِم يًعا ﴾ [الزمر‪ :]53 :‬قد دعا هللا إلى مغفرته َم ْن َزَعم أن المسيح هو هللا‪ ،‬وَم ْن َزَعم أن المسيح هو ابن هللا‪،‬‬
‫وَم ْن َزَعم أن عزيًرا ابُن هللا‪ ،‬وَم ْن َزَعم أن هللا فقير‪ ،‬وَم ْن َزَعم أن َيَد هللا مغلولٌة‪ ،‬وَم ْن َزَعم أن َهللا ثالُث ثالثٍة؛ يقول هللا‬
‫تعالى لهؤالء‪َ ﴿ :‬أَفاَل َيُتوُبوَن ِإَلى ِهَّللا َو َيْسَتْغ ِفُروَنُه َو ُهَّللا َغ ُفوٌر َر ِح يٌم ﴾ [المائدة‪ ،]74 :‬ثم دعا إلى توبته َم ْن هو أعظم قواًل ِم ْن‬
‫‪.‬هؤالء َم ْن قال‪َ ﴿ :‬أَنا َر ُّبُك ُم اَأْلْعَلى ﴾ [النازعات‪ ،]24 :‬وقال‪َ ﴿ :‬م ا َع ِلْم ُت َلُك ْم ِم ْن ِإَلٍه َغْيِر ي ﴾ [القصص‪]38 :‬‬

‫قال عبدهللا بن عباس رضي هللا عنهما‪َ" :‬م ْن آيَس ِع باَد هللا من التوبة بعد هذا‪ ،‬فقد جَح د كتاَب هللا‪ ،‬ولكن ال يقدر العبد أن‬
‫‪.‬يتوب حتى يتوَب هللا عليه"؛ (تفسير ابن كثير جـ ‪ ،12‬صـ ‪)141‬‬

‫روى البخاري عن عبدهللا بن عباس رضي هللا عنهما أن ناًسا من أهل الِّش ْر ك كانوا قد َقَتُلوا وأكثُروا وَزَنوا وأكثروا فأَتوا‬
‫محمًدا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَس ٌن لو ُتخِبرنا أَّن لما عملنا كَّفارًة‪ ،‬فنزل‪َ ﴿ :‬و اَّلِذ يَن اَل‬
‫َيْدُع وَن َم َع ِهَّللا ِإَلًها آَخ َر َو اَل َيْقُتُلوَن الَّنْفَس اَّلِتي َح َّر َم ُهَّللا ِإاَّل ِباْلَح ِّق َو اَل َيْز ُنوَن ﴾ [الفرقان‪ ،]68 :‬ونزلت‪ُ ﴿ :‬قْل َيا ِعَباِدَي اَّلِذ يَن‬
‫‪َ.‬أْس َر ُفوا َع َلى َأْنُفِس ِهْم اَل َتْقَنُطوا ِم ْن َر ْح َم ِة ِهَّللا ﴾ [الزمر‪( ]53 :‬البخاري‪ ،‬حديث ‪)4810‬‬

‫‪:‬التوبة من صفات األنبياء وصالحي المؤمنين‬

‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و ُقْلَنا َيا آَد ُم اْس ُك ْن َأْنَت َو َز ْو ُجَك اْلَج َّنَة َو ُك اَل ِم ْنَها َر َغًدا َح ْيُث ِش ْئُتَم ا َو اَل َتْقَرَبا َهِذِه الَّش َجَر َة َفَتُك وَنا ِم َن ‪1-‬‬
‫الَّظاِلِم يَن * َفَأَز َّلُهَم ا الَّش ْيَطاُن َع ْنَها َفَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َك اَنا ِفيِه َو ُقْلَنا اْهِبُطوا َبْعُض ُك ْم ِلَبْع ٍض َع ُد ٌّو َو َلُك ْم ِفي اَأْلْر ِض ُم ْسَتَقٌّر َو َم َتاٌع‬
‫‪ِ.‬إَلى ِح يٍن * َفَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه َك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْيِه ِإَّنُه ُهَو الَّتَّواُب الَّر ِح يُم ﴾ [البقرة‪]37- 35 :‬‬

‫قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و ِإْذ َيْر َفُع ِإْبَر اِهيُم اْلَقَو اِع َد ِم َن اْلَبْيِت َو ِإْس َم اِع يُل َر َّبَنا َتَقَّبْل ِم َّنا ِإَّنَك َأْنَت الَّسِم يُع اْلَعِليُم * َر َّبَنا َو اْج َع ْلَنا ‪2-‬‬
‫ُم ْس ِلَم ْيِن َلَك َوِم ْن ُذ ِّر َّيِتَنا ُأَّم ًة ُم ْس ِلَم ًة َلَك َو َأِرَنا َم َناِس َك َنا َو ُتْب َع َلْيَنا ِإَّنَك َأْنَت الَّتَّواُب الَّر ِح يُم * َر َّبَنا َو اْبَع ْث ِفيِه ْم َر ُس واًل ِم ُهْم َي و‬
‫ُل‬ ‫ْت‬ ‫ْن‬
‫‪َ.‬ع َلْيِهْم آَياِتَك َو ُيَع ِّلُم ُهُم اْلِكَتاَب َو اْلِح ْك َم َة َو ُيَز ِّك يِهْم ِإَّنَك َأْنَت اْلَع ِزيُز اْلَحِكيُم ﴾ [البقرة‪]129 - 127 :‬‬

‫قال جَّل شأُنه‪َ ﴿ :‬و َلَّم ا َج اَء ُم وَس ى ِلِم يَقاِتَنا َو َك َّلَم ُه َر ُّبُه َقاَل َر ِّب َأِرِني َأْنُظْر ِإَلْيَك َقاَل َلْن َتَر اِني َو َلِكِن اْنُظْر ِإَلى اْلَجَبِل َفِإِن ‪3-‬‬
‫اْسَتَقَّر َم َك اَنُه َفَس ْو َف َتَر اِني َفَلَّم ا َتَج َّلى َر ُّبُه ِلْلَجَبِل َجَع َلُه َد ًّك ا َو َخَّر ُم وَس ى َصِع ًقا َفَلَّم ا َأَفاَق َقاَل ُسْبَح اَنَك ُتْبُت ِإَلْيَك َو َأَنا َأَّوُل‬
‫اْلُم ْؤ ِمِنيَن * َقاَل َيا ُم وَس ى ِإِّني اْص َطَفْيُتَك َع َلى الَّناِس ِبِر َس ااَل ِتي َو ِبَكاَل ِم ي َفُخ ْذ َم ا آَتْيُتَك َو ُك ْن ِم َن الَّش اِك ِريَن ﴾ [األعراف‪:‬‬
‫‪]144 -143.‬‬

‫قال تعالى‪ِ ﴿ :‬إَّن َهَّللا اْش َتَر ى ِم َن اْلُم ْؤ ِمِنيَن َأْنُفَس ُهْم َو َأْم َو اَلُهْم ِبَأَّن َلُهُم اْلَج َّنَة ُيَقاِتُلوَن ِفي َس ِبيِل ِهَّللا َفَيْقُتُلوَن َو ُيْقَتُلوَن َو ْع ًدا َع َلْيِه ‪4-‬‬
‫َح ًّقا ِفي الَّتْو َر اِة َو اِإْل ْنِج يِل َو اْلُقْر آِن َو َم ْن َأْو َفى ِبَع ْهِدِه ِم َن ِهَّللا َفاْسَتْبِش ُروا ِبَبْيِع ُك ُم اَّلِذ ي َباَيْع ُتْم ِبِه َو َذ ِلَك ُهَو اْلَفْو ُز اْلَعِظ يُم *‬
‫الَّتاِئُبوَن اْلَع اِبُد وَن اْلَح اِم ُد وَن الَّساِئُحوَن الَّراِكُعوَن الَّساِج ُد وَن اآْل ِم ُروَن ِباْلَم ْعُروِف َو الَّناُهوَن َع ِن اْلُم ْنَك ِر َو اْلَح اِفُظوَن ِلُحُدوِد ِهَّللا‬
‫‪َ.‬و َبِّش ِر اْلُم ْؤ ِمِنيَن ﴾ [التوبة‪]112- 111:‬‬

‫‪:‬األنبياء يحثون أقوامهم على التوبة‬


‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِإَلى َعاٍد َأَخ اُهْم ُهوًدا َقاَل َيا َقْو ِم اْع ُبُدوا َهَّللا َم ا َلُك ْم ِم ْن ِإَلٍه َغْيُر ُه ِإْن َأْنُتْم ِإاَّل ُم ْفَتُروَن * َيا َقْو ِم اَل َأْس َأُلُك ْم َع َلْيِه‬
‫َأْج ًرا ِإْن َأْج ِر َي ِإاَّل َع َلى اَّلِذ ي َفَطَرِني َأَفاَل َتْع ِقُلوَن * َو َيا َقْو ِم اْسَتْغ ِفُروا َر َّبُك ْم ُثَّم ُتوُبوا ِإَلْيِه ُيْر ِس ِل الَّس َم اَء َع َلْيُك ْم ِم ْد َر اًرا‬
‫َو َيِزْد ُك ْم ُقَّو ًة ِإَلى ُقَّو ِتُك ْم َو اَل َتَتَو َّلْو ا ُم ْج ِر ِم يَن ﴾ [هود‪ ،]52 - 50 :‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬و ِإَلى َثُم وَد َأَخ اُهْم َص اِلًحا َقاَل َيا َقْو ِم اْع ُبُدوا‬
‫‪َ.‬هَّللا َم ا َلُك ْم ِم ْن ِإَلٍه َغْيُر ُه ُهَو َأْنَش َأُك ْم ِم َن اَأْلْر ِض َو اْسَتْع َم َر ُك ْم ِفيَها َفاْسَتْغ ِفُروُه ُثَّم ُتوُبوا ِإَلْيِه ِإَّن َر ِّبي َقِريٌب ُمِج يٌب ﴾ [هود‪]61 :‬‬

‫‪:‬صالة التوبة‬

‫روى أبو داود عن أسماء بن الحكم الفزاري قال‪ :‬سِم ْع ُت علًّيا رضي هللا عنه‪ ،‬يقول‪ :‬كنُت رجاًل إذا سِم ْع ُت من رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم حديًثا نفعني ُهللا منه بما شاء أن ينفَع ني‪ ،‬وإذا حَّد ثني أحٌد من أصحابه استحلفُته‪ ،‬فإذا حَلَف لي َص َّد ْقُته‪،‬‬
‫قال‪ :‬وحَّد ثني أبو بكر ‪ -‬وصدق أبو بكر رضي هللا عنه ‪ -‬أنه قال َسِم ْع ُت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬يقول‪ :‬ما من عبٍد‬
‫ُيْذ ِنُب َذْنًبا فُيْح ِس ن الطُهور ثم يقوم فُيصِّلي ركعتين‪ ،‬ثم يستغفر هللا إاَّل غَفر هللا له‪ ،‬ثم قرأ هذه اآلية‪َ ﴿ :‬و اَّلِذ يَن ِإَذ ا َفَع ُلوا َفاِح َش ًة‬
‫َأْو َظَلُم وا َأْنُفَس ُهْم َذ َك ُروا َهَّللا َفاْسَتْغ َفُروا ِلُذ ُنوِبِه ْم َو َم ْن َيْغ ِفُر الُّذ ُنوَب ِإاَّل ُهَّللا َو َلْم ُيِص ُّر وا َع َلى َم ا َفَع ُلوا َو ُهْم َيْع َلُم ون ﴾ [آل‬
‫‪.‬عمران‪]135 :‬؛ (حديث صحيح)؛ (صحيح سنن أبي داود لأللباني‪ ،‬حديث‪)1346 :‬‬

‫‪:‬أقسام الناس في التوبة‬

‫‪:‬ينقسم الناس في التوبة إلى أربع طبقات‬

‫‪:‬الطبقة األولى‬

‫تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره‪ ،‬ويتدارك ما فَر ط من أمره‪ ،‬وال ُيحِّدث نفَس ه بالعودة إلى ذنوبه‪ ،‬إال الَّزاَّل ت التي ال‬
‫ينَفُّك عنها الَبَش ر في العادات‪ ،‬فهذه هي االستقامة في التوبة‪ ،‬وصاحبها هو السابق بالخيرات‪ ،‬وهذه هي التوبة الَّنُصوح‪،‬‬
‫وُتسَّم ى هذه النفس بالنفس المطمئنة التي ُيقال لها عند موتها‪َ ﴿ :‬يا َأَّيُتَها الَّنْفُس اْلُم ْطَم ِئَّنُة * اْر ِج ِع ي ِإَلى َر ِّبِك َر اِضَيًة َم ْر ِض َّيًة‬
‫‪َ *.‬فاْدُخ ِلي ِفي ِعَباِد ي * َو اْدُخ ِلي َج َّنِتي ﴾ [الفجر‪]30 - 27 :‬؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي صـ‪)335‬‬

‫‪:‬الطبقة الثانية‬

‫تائب قد َس َلَك طريق االستقامة في ُأَّم هات الطاعات وكبائر الفواحش‪ ،‬إاَّل أنه ال ينَفُّك عن ذنوب تعتريه‪ ،‬ال عن َعْمٍد ‪ ،‬ولكَّنه‬
‫ُيْبتَلى بها في مجاري أحواله من غير أن ُيقِّدم َع ْز ًم ا على اإلقدام عليها‪ ،‬وكلما أتى شيًئا منها الَم نفَس ه‪ ،‬ونِد م وعَز م على‬
‫االحتراز من أسبابها‪ ،‬فهذه هي النفس الَّلَّوامة؛ ألنها تُلوم صاحَبها على ما يستهدف له من األحوال الذميمة‪ ،‬فهذه رتبة عالية‬
‫أيًضا‪ ،‬وإن كانت نازلًة عن الطبقة األولى‪ ،‬وهي أغَلُب أحوال التائبين؛ ألن الَّش َّر معجون بطينة اآلدمي‪ ،‬فقَّلما ينَفُّك عنه؛‬
‫وإنما غاية َس ْعيه أن يغِلَب خيُره شَّره‪ ،‬حتى ُيثِقل ميزاَنه‪ ،‬فترجح حسناُته‪ ،‬فأَّم ا إْن تخلو ِك َّفة السيئات فبعيٌد ‪ ،‬وهؤالء لهم ُحْسن‬
‫الَو ْع د من هللا تعالى إذ قال‪ ﴿ :‬اَّلِذ يَن َيْج َتِنُبوَن َك َباِئَر اِإْل ْثِم َو اْلَفَو اِح َش ِإاَّل الَّلَمَم ِإَّن َر َّبَك َو اِس ُع اْلَم ْغ ِفَرِة ُهَو َأْعَلُم ِبُك ْم ِإْذ َأْنَش َأُك ْم ِم َن‬
‫اَأْلْر ِض َو ِإْذ َأْنُتْم َأِج َّنٌة ِفي ُبُطوِن ُأَّمَهاِتُك ْم َفاَل ُتَز ُّك وا َأْنُفَس ُك ْم ُهَو َأْعَلُم ِبَمِن اَّتَقى ﴾ [النجم‪]32 :‬؛ (مختصر منهاج القاصدين‬
‫‪.‬للمقدسي‪ ،‬صـ‪)335‬‬

‫‪:‬الطبقة الثالثة‬

‫أن يتوب العبد ويستمر على االستقامة مدة من الزمن‪ ،‬ثم تغِلُبه شهوُته في بعض الذنوب‪ ،‬فيقدم عليها‪ ،‬إاَّل أنه مع ذلك‬
‫مواظٌب على الطاعات‪ ،‬وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها؛ وإنما قهرته شهوُته‪ ،‬وهو يوُّد لو أقدره هللا‬
‫على َقْمِع ها‪ ،‬وكفاه شَّرها ولكنه ُيِع ُّد نفَس ه بالتوبة بعد ذلك من الذنوب‪ ،‬وهذه هي النفس المسؤولة‪ ،‬وصاحبها من الذين قال‬
‫هللا فيهم‪َ ﴿ :‬و آَخ ُروَن اْعَتَر ُفوا ِبُذ ُنوِبِهْم َخ َلُطوا َع َم اًل َص اِلًحا َو آَخ َر َس ِّيًئا َع َس ى ُهَّللا َأْن َيُتوَب َع َلْيِهْم ِإَّن َهَّللا َغ ُفوٌر َر ِح يٌم ﴾ [التوبة‪:‬‬
‫‪ ،]102‬وأمر هذا الِّص ْنف من التوبة مرجُّو القبول لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ع َس ى ُهَّللا َأْن َيُتوَب ﴾ [التوبة‪ ،]102 :‬ولكنه يقع في خطر‬
‫من حيث تأخيره التوبة مع التسويف‪ ،‬فربما يموت قبل التوبة‪ ،‬فإن األعمال بالخواتيم‪ ،‬فعلى هذا يكون الخوف من ُسوء‬
‫‪.‬الخاتمة؛ (مختصر منهاج القاصدين للمقدسي‪ ،‬صـ‪ :335‬صـ‪)336‬‬

‫‪:‬الطبقة الرابعة‬

‫أن يتوب ويجري مدة على االستقامة‪ ،‬ثم يعود إلى الذنوب ُم نهِم ًك ا من غير أن ُيحِّدث نفَس ه بالتوبة‪ ،‬ومن غير أن َيَتأَّسَف‬
‫على فعله‪ ،‬فهذا من المصِّرين‪ ،‬وهذه النفس هي األَّم ارة بالُّسوء‪ ،‬ويخاف على هذا ُسوء الخاتمة‪ ،‬فإن مات هذا على التوحيد‪،‬‬
‫فإنه ُيرَج ى له الخالُص من النار‪ ،‬ولو بعد حين‪ ،‬وال يستحيل أن يشمَله عموُم الَع ْفِو بسبب خفٍّي ال يَّطِلع عليه إاَّل هللا تعالى؛‬
‫‪(.‬مختصر منهاج القاصدين للمقدسي‪ ،‬صـ‪)336‬‬

‫‪:‬ثمرات التوبة الصادقة‬

‫‪:‬ذكر أهل العلم فوائد للتوبة الصادقة يمكن أن ُنوِج َزها فيما يلي‬

‫‪.‬صاحب التوبة َيْنَع م برضوان هللا عليه في الدنيا واآلخرة وكفى بذلك فائدًة ‪1-‬‬

‫إن العبد المذِنب الذي تاب إلى هللا‪ ،‬قد جَّرب طريق المعاصي‪ ،‬وعَر َف مداِخ َل الشيطان على اإلنسان؛ فيكون أْقَدر على ‪2-‬‬
‫‪.‬اجتناب المعاصي من غيره من الناس‬

‫إن العبد العاصي التائب يكون أْر َفَق بالُعصاة والمذنبين من غيره من الناس‪ ،‬فتراه ال يعَج ب بنفِس ه‪ ،‬وال يحتِقر غيَر ه من ‪3-‬‬
‫‪.‬أصحاب المعاصي‬

‫إن للتوبة الصادقة منزلًة رفيعًة عند هللا تعالى ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفَر ح هللا بتوبة عبده إذا تاب ورجع ‪4-‬‬
‫‪.‬إليه‬

‫إن العبد العاصي التائب قد غلب الخوُف عليه‪ ،‬فتراه يأتي باَب هللا تعالى ذلياًل وُم نكِس ًرا‪ ،‬يرجو رحمَته ويخشى عذاَبه‪5- ،‬‬
‫‪.‬وهذه المنزلة من أفضل الطاعات‬

‫إن الذنب قد يكون أْنَفَع للعبد إذا اقترَنْت به التوبة من كثيٍر من الطاعات‪ ،‬وهذا معنى قول بعض السلف‪ :‬قد يعمل العبد ‪6-‬‬
‫الذنب فيدُخ ل به الجنة‪ ،‬ويعمل الطاعة فيدُخ ل بها النار‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف ذلك‪ ،‬قال‪ :‬يعمل الذنب فال يزال ُنْص َب عينيه إن قام‬
‫وإن قعد وإن مشى َذ َك ر ذْنَبه فيحُدث له انكساٌر وتوبٌة واستغفاٌر وَنَد ٌم ‪ ،‬فيكون ذلك سبب نجاته‪ ،‬ويعمل الحسنة فال تزال‬
‫‪ُ.‬نْص َب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى‪ ،‬كلما ذكرها أورَثْته ُعْج ًبا وِكْبًرا وِم َّنًة‪ ،‬فتكون َسَبَب هالكه‬
‫قوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إاَّل َم ْن َتاَب َو آَم َن َو َع ِمَل َع َم اًل َص اِلًحا َفُأوَلِئَك ُيَبِّدُل ُهَّللا َس ِّيَئاِتِه ْم َحَس َناٍت َو َك اَن ُهَّللا َغ ُفوًرا َر ِح يًم ا ﴾ [الفرقان‪7- :‬‬
‫‪]70.‬‬

‫هذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيماٌن وعمٌل صالٌح‪ ،‬وهو حقيقة التوبة؛ قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬ما‬
‫رأيُت النبي فِر َح بشيٍء َقُّط فرحه بهذه اآلية لما أنزلت‪ ،‬وفرحه بنزول‪ِ ﴿ :‬إَّنا َفَتْح َنا َلَك َفْتًحا ُم ِبيًنا * ِلَيْغ ِفَر َلَك ُهَّللا َم ا َتَقَّد َم ِم ْن‬
‫‪َ.‬ذْنِبَك َو َم ا َتَأَّخ َر ﴾ [الفتح‪]2 ،1 :‬؛ (مدارك السالكين البن القيم‪ ،‬جـ‪ ،1‬صـ‪)323‬‬

‫‪:‬حقيقة التوبة الصادقة‬

‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأُّيَها اَّلِذ يَن آَم ُنوا ُتوُبوا ِإَلى ِهَّللا َتْو َبًة َنُصوًحا َع َس ى َر ُّبُك ْم َأْن ُيَك ِّفَر َع ْنُك ْم َس ِّيَئاِتُك ْم َو ُيْد ِخ َلُك ْم َج َّناٍت َتْج ِر ي ِم ْن‬
‫َتْح ِتَها اَأْلْنَهاُر َيْو َم اَل ُيْخ ِز ي ُهَّللا الَّنِبَّي َو اَّلِذ يَن آَم ُنوا َم َع ُه ُنوُر ُهْم َيْس َع ى َبْيَن َأْيِد يِهْم َو ِبَأْيَم اِنِه ْم َيُقوُلوَن َر َّبَنا َأْتِمْم َلَنا ُنوَر َنا َو اْغ ِفْر‬
‫َلَنا ِإَّنَك َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َقِد يٌر ﴾ [التحريم‪ ،]8 :‬قال ابن كثير؛ أي‪ :‬توبة صادقة جازمة‪ ،‬تمحو ما قبلها من السيئات‪ ،‬وتلُّم شعث‬
‫‪.‬التائب وتجمُعه‪ ،‬وتكُّفه عَّم ا كان يتعاطاه من الدناءات؛ (تفسير ابن كثير جـ ‪ ،14‬صـ ‪)60‬‬

‫‪:‬شروط التوبة الصادقة‬

‫قال اإلمام النووي رحمه هللا‪ ،‬قال العلماء‪ :‬التوبة واجبة من كل ذْنٍب‪ ،‬فإن كانت المعصية بين العبد وبين هللا تعالى ال تتعَّلق‬
‫‪:‬بحِّق آدمٍّي ؛ فلها ثالثة شروط‬

‫‪.‬أحدها‪ :‬أن ُيقِلع عن المعصية‬

‫‪.‬والثاني‪ :‬أن يندم على ِفْع ِلها‬

‫‪.‬والثالث‪ :‬أن يعزم أاَّل يعود إليها أبًدا‬

‫‪.‬فإن َفَقَد أحَد الثالثة لم تصُّح توبُته‬

‫وإن كانت المعصية تتعَّلق بآدمي‪ ،‬فشروطها أربعة‪ :‬هذه الثالثة‪ ،‬وأن يْبَر أ من َح ِّق صاحِبها؛ فإن كانت مااًل أو نحوه رَّد ه‬
‫إليه‪ ،‬وإن كانت حَّد َقْذ ٍف ونحوه مَّك َنه منه أو َطَلَب َع ْفَو ه‪ ،‬وإن كانت ِغ يبًة استحَّله منها‪ ،‬ويجب أن يتوب من جميع الذنوب‪،‬‬
‫فإن تاب من بعِض ها صَّح ْت توبُته عند أهل الحق من ذلك الذنب‪ ،‬وبقي عليه الباقي؛ (رياض الصالحين للنووي‪ ،‬صـ‬
‫‪)25:24.‬‬

‫‪:‬وقت قبول التوبة‬

‫قال هللا تعالى‪ِ ﴿ :‬إَّنَم ا الَّتْو َبُة َع َلى ِهَّللا ِلَّلِذ يَن َيْع َم ُلوَن الُّسوَء ِبَجَهاَلٍة ُثَّم َيُتوُبوَن ِم ْن َقِر يٍب َفُأوَلِئَك َيُتوُب ُهَّللا َع َلْيِه ْم َو َك اَن ُهَّللا َع ِليًم ا‬
‫‪َ.‬حِكيًم ا ﴾ [النساء‪]17 :‬‬

‫‪.‬قال عبدهللا بن عباس‪ :‬قوله تعالى‪ُ( :‬ثَّم َيُتوُبوَن ِم ْن َقِريٍب)؛ أي‪ :‬قبل المرض والموت‬
‫‪.‬وقال الضحاك‪ :‬كل ما كان قبل الموت فهو قريب؛ (تفسير القرطبي‪ ،‬جـ‪ ،5‬صـ‪)97‬‬

‫روى الترمذي عن عبدهللا بن عمر‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬إن هللا يقَبل توبَة العبد ما لم ُيَغْر ِغ ْر ))؛ (حديث‬
‫‪.‬حسن) (صحيح الترمذي لأللباني‪ ،‬حديث ‪)2802‬‬

‫‪:‬عالمات قبول التوبة الصادقة‬

‫‪.‬أن يكون المسلم بعد التوبة خيًرا مَّم ا كان قبلها ‪1-‬‬

‫ال يزال الخوف مصاحًبا له‪ ،‬ال يأَم ن َم ْك ر هللا طرفة عين‪ ،‬فخوُفه مستمٌّر إلى أن يسَم ع قول المالئكة لقبض ُروِح ه ﴿ ِإَّن ‪2-‬‬
‫اَّلِذ يَن َقاُلوا َر ُّبَنا ُهَّللا ُثَّم اْسَتَقاُم وا َتَتَنَّز ُل َع َلْيِهُم اْلَم اَل ِئَك ُة َأاَّل َتَخ اُفوا َو اَل َتْح َز ُنوا َو َأْبِش ُروا ِباْلَج َّنِة اَّلِتي ُكْنُتْم ُتوَع ُد وَن ﴾ [فصلت‪:‬‬
‫‪ ،]30.‬فهناك يزول الخوف‬

‫انخالع قلبه وتقُّطعه ندًم ا وخوًفا‪ ،‬وهذا على قدر ِع َظم الجناية وِص َغرها‪ ،‬وال ريب أن الخوف الشديد من العقوبة ‪3-‬‬
‫العظيمة ُيوِج ُب انصداَع القلب وانخالعه‪ ،‬وهذا هو تقُّطعه‪ ،‬وهذا حقيقة التوبة؛ ألنه يتقَّطع قلُبه حسرًة على ما فَّرط منه‪،‬‬
‫وخوًفا من سوء عاقبته‪ ،‬فمن لم يتقَّطع قلُبه في الدنيا على ما فَّرط حسرًة وخوًفا تقَّطع في اآلخرة إذا ُح َّقت الحقائق‪ ،‬وعاين‬
‫‪.‬ثواب المطيعين وعقاب العاصين‪ ،‬فال ُبَّد من تقُّطع القلب إما في الدنيا وإما في اآلخرة‬

‫‪.‬اإلكثار من االستغفار والدعاء؛ (مدارج السالكين البن القيم‪ ،‬جـ ‪ ،1‬صـ ‪4- )208:206‬‬

‫‪:‬توبة األنبياء‬

‫‪:‬توبة آدم صلى هللا عليه وسلم ‪1-‬‬

‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و ُقْلَنا َيا آَد ُم اْس ُك ْن َأْنَت َو َز ْو ُجَك اْلَج َّنَة َو ُك اَل ِم ْنَها َر َغًدا َح ْيُث ِش ْئُتَم ا َو اَل َتْقَرَبا َهِذِه الَّش َجَر َة َفَتُك وَنا ِم َن‬
‫الَّظاِلِم يَن * َفَأَز َّلُهَم ا الَّش ْيَطاُن َع ْنَها َفَأْخ َر َج ُهَم ا ِمَّم ا َك اَنا ِفيِه َو ُقْلَنا اْهِبُطوا َبْعُض ُك ْم ِلَبْع ٍض َع ُد ٌّو َو َلُك ْم ِفي اَأْلْر ِض ُم ْسَتَقٌّر َو َم َتاٌع‬
‫‪ِ.‬إَلى ِح يٍن * َفَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه َك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْيِه ِإَّنُه ُهَو الَّتَّواُب الَّر ِح يُم ﴾ [البقرة‪]37 - 35 :‬‬

‫‪:‬توبة نوح صلى هللا عليه وسلم ‪2-‬‬

‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َناَدى ُنوٌح َر َّبُه َفَقاَل َر ِّب ِإَّن اْبِني ِم ْن َأْهِلي َو ِإَّن َو ْع َدَك اْلَح ُّق َو َأْنَت َأْح َك ُم اْلَح اِكِم يَن * َقاَل َيا ُنوُح ِإَّنُه َلْيَس‬
‫ِم ْن َأْهِلَك ِإَّنُه َع َم ٌل َغْيُر َص اِلٍح َفاَل َتْس َأْلِن َم ا َلْيَس َلَك ِبِه ِع ْلٌم ِإِّني َأِع ُظَك َأْن َتُك وَن ِم َن اْلَج اِهِليَن * َقاَل َر ِّب ِإِّني َأُعوُذ ِبَك َأْن‬
‫ُأ‬
‫َأْس َأَلَك َم ا َلْيَس ِلي ِبِه ِع ْلٌم َوِإاَّل َتْغ ِفْر ِلي َو َتْر َحْمِني َأُك ْن ِم َن اْلَخ اِس ِريَن * ِقيَل َيا ُنوُح اْهِبْط ِبَس اَل ٍم ِم َّنا َو َبَر َك اٍت َع َلْيَك َو َع َلى َم ٍم‬
‫‪ِ.‬مَّم ْن َم َع َك َو ُأَم ٌم َس ُنَم ِّتُعُهْم ُثَّم َيَم ُّسُهْم ِم َّنا َع َذ اٌب َأِليٌم ﴾ [هود‪]48 - 45 :‬‬
‫‪:‬توبة إبراهيم صلى هللا عليه وسلم ‪3-‬‬

‫قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬اْلَحْم ُد ِهَّلِل اَّلِذ ي َو َهَب ِلي َع َلى اْلِكَبِر ِإْس َم اِع يَل َوِإْس َح اَق ِإَّن َر ِّبي َلَسِم يُع الُّد َعاِء * َر ِّب اْج َع ْلِني ُمِقيَم الَّص اَل ِة‬
‫‪َ.‬وِم ْن ُذ ِّر َّيِتي َر َّبَنا َو َتَقَّبْل ُدَعاِء * َر َّبَنا اْغ ِفْر ِلي َو ِلَو اِلَدَّي َو ِلْلُم ْؤ ِمِنيَن َيْو َم َيُقوُم اْلِحَس اُب ﴾ [إبراهيم‪]41- 39 :‬‬

‫وقال سبحانه عن إبراهيم‪ ﴿ :‬اَّلِذ ي َخ َلَقِني َفُهَو َيْهِد يِن * َو اَّلِذ ي ُهَو ُيْطِع ُمِني َو َيْس ِقيِن * َو ِإَذ ا َم ِر ْض ُت َفُهَو َيْش ِفيِن * َو اَّلِذ ي‬
‫ُيِم يُتِني ُثَّم ُيْح ِييِن * َو اَّلِذ ي َأْطَم ُع َأْن َيْغ ِفَر ِلي َخ ِط يَئِتي َيْو َم الِّديِن * َر ِّب َهْب ِلي ُح ْك ًم ا َو َأْلِح ْقِني ِبالَّصاِلِح يَن ﴾ [الشعراء‪- 78 :‬‬
‫‪]83.‬‬

‫‪:‬توبة يونسصلى هللا عليه وسلم ‪4-‬‬

‫قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َذ ا الُّنوِن ِإْذ َذ َهَب ُم َغاِض ًبا َفَظَّن َأْن َلْن َنْقِدَر َع َلْيِه َفَناَدى ِفي الُّظُلَم اِت َأْن اَل ِإَلَه ِإاَّل َأْنَت ُسْبَح اَنَك ِإِّني ُكْنُت ِم َن‬
‫‪.‬الَّظاِلِم يَن * َفاْسَتَج ْبَنا َلُه َو َنَّجْيَناُه ِم َن اْلَغ ِّم َو َك َذ ِلَك ُنْنِج ي اْلُم ْؤ ِمِنيَن ﴾ [األنبياء‪]88 ،87 :‬‬

‫‪:‬توبة داود صلى هللا عليه وسلم ‪5-‬‬

‫قال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َهْل َأَتاَك َنَبُأ اْلَخْص ِم ِإْذ َتَس َّوُروا اْلِم ْح َر اَب * ِإْذ َد َخ ُلوا َع َلى َداُووَد َفَفِزَع ِم ْنُهْم َقاُلوا اَل َتَخْف َخْص َم اِن َبَغى‬
‫َبْعُضَنا َع َلى َبْع ٍض َفاْح ُك ْم َبْيَنَنا ِباْلَح ِّق َو اَل ُتْش ِط ْط َو اْهِد َنا ِإَلى َس َو اِء الِّص َر اِط * ِإَّن َهَذ ا َأِخ ي َلُه ِتْسٌع َوِتْس ُعوَن َنْع َج ًة َو ِلَي َنْع َج ٌة‬
‫َو اِح َد ٌة َفَقاَل َأْك ِفْلِنيَها َو َع َّز ِني ِفي اْلِخ َطاِب * َقاَل َلَقْد َظَلَم َك ِبُسَؤ اِل َنْع َجِتَك ِإَلى ِنَع اِج ِه َوِإَّن َك ِثيًرا ِم َن اْلُخَلَطاِء َلَيْبِغ ي َبْعُضُهْم‬
‫َع َلى َبْع ٍض ِإاَّل اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َع ِم ُلوا الَّصاِلَح اِت َو َقِليٌل َم ا ُهْم َو َظَّن َداُو وُد َأَّنَم ا َفَتَّناُه َفاْسَتْغ َفَر َر َّبُه َو َخ َّر َر اِكًعا َو َأَناَب * َفَغ َفْر َنا َلُه‬
‫َذ ِلَك َو ِإَّن َلُه ِع ْنَدَنا َلُز ْلَفى َو ُحْس َن َم آٍب * َيا َداُو وُد ِإَّنا َجَع ْلَناَك َخ ِليَفًة ِفي اَأْلْر ِض َفاْح ُك ْم َبْيَن الَّناِس ِباْلَح ِّق َو اَل َتَّتِبِع اْلَهَو ى‬
‫‪َ.‬فُيِض َّلَك َع ْن َس ِبيِل ِهَّللا ِإَّن اَّلِذ يَن َيِض ُّلوَن َع ْن َس ِبيِل ِهَّللا َلُهْم َع َذ اٌب َش ِد يٌد ِبَم ا َنُسوا َيْو َم اْلِحَس اِب ﴾ [ص‪]26 - 21 :‬‬

‫‪:‬صور من التوبة الصادقة المقبولة‬

‫روى مسلم عن أبي سعيد الُخْد ري أن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬كان فيمن كان قبلكم رجٌل َقَتَل تسعًة وتسعين ‪1-‬‬
‫َنْفًسا‪ ،‬فسأل عن أعلم أهل األرض‪ ،‬فُدَّل على راهب فأتاه‪ ،‬فقال‪ :‬إنه قتل ِتْسعًة وتسعين نفًسا‪ ،‬فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬فقتله‬
‫فكمل به مائة‪ ،‬ثم سأل عن أعلم أهل األرض‪ ،‬فُدَّل على رجل عالم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه قتل مائَة نفٍس‪ ،‬فهل له من توبة؟ فقال‪َ :‬نَع م‪،‬‬
‫وَم ْن يحول بينه وبين التوبة؟! انطِلْق إلى أرض كذا وكذا‪ ،‬فإن بها أناًسا يعبدون هللا‪ ،‬فاعبد هللا معهم‪ ،‬وال ترجع إلى أرِض َك؛‬
‫فإنها أرُض ُسوٍء ‪ ،‬فانطَلَق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت‪ ،‬فاختَص َم ْت فيه مالئكُة الَّرْح مة ومالئكُة العذاب‪ ،‬فقالت مالئكُة‬
‫الَّرْح مة‪ :‬جاء تائًبا ُم ْقِباًل بقلبه إلى هللا‪ ،‬وقالت مالئكُة العذاب‪ :‬إنه لم يعَم ْل خيًرا َقُّط‪ ،‬فأتاهم َم َلٌك في صورة آدمي‪ ،‬فجعلوه‬
‫بينهم‪ ،‬فقال‪ :‬قيُسوا ما بين األرضين‪ ،‬فإلى أيتهما كان أدنى فهو له‪ ،‬فقاُسوه فوجدوه أدنى إلى األرض التي أراد‪ ،‬فقبضْته‬
‫‪.‬مالئكُة الرحمة))؛ (مسلم حديث‪)2766 :‬‬

‫روى مسلم عن بريدة‪ ،‬قال‪ :‬جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬طِّهرني‪ ،‬فقال‪2- :‬‬
‫((ويحك! ارجع فاستغفر هللا‪ ،‬وُتْب إليه))‪ ،‬قال‪ :‬فرجع غير بعيد ثم جاء‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬طِّهرني‪ ،‬فقال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪(( :‬ويَح َك ! ارجع فاستغفر هللا‪ ،‬وُتْب إليه))‪ ،‬قال فرجع غير بعيد ثم جاء‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬طِّهرني‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم مثل ذلك‪ ،‬حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول هللا‪(( :‬فيم أطِّهرك؟))‪ ،‬فقال‪ :‬من الزنى‪ ،‬فسأل‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أِبِه ُجنون))‪ ،‬فُأخِبر أنه ليس بمجنون‪ ،‬فقال‪َ(( :‬أَش ِر َب َخ ْم ًرا))‪ ،‬فقام رجل فاْسَتْنَك َهُه ‪ -‬شَّم‬
‫رائحته ‪ -‬فلم يجد منه ريَح َخ ْم ٍر ‪ ،‬قال‪ :‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أَز ِنْيَت ))‪ ،‬فقال‪َ :‬نَع م‪ ،‬فأمر به فُر ِج َم ‪ ،‬فكان‬
‫الناس فيه فرقتين‪ :‬قائل يقول‪ :‬لقد َهَلك‪ ،‬لقد أحاطت به خطيئُته‪ ،‬وقائل يقول‪ :‬ما توبة أفضل من توبة ماعز‪ ،‬أنه جاء إلى‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم فوَض َع يده في يده‪ ،‬ثم قال اقُتلني بالحجارة‪ ،‬قال‪ :‬فلبثوا بذلك يومين أو ثالثًة‪ ،‬ثم جاء رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وهم جلوس‪ ،‬فسَّلم ثم جلس‪ ،‬فقال‪(( :‬استغفروا لماعز بن مالك))‪ ،‬قال‪ :‬فقالوا‪ :‬غفر هللا لماعز بن مالك‪،‬‬
‫‪.‬قال‪ :‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬لقد تاب توبًة لو ُقِس َم ْت بين ُأَّمٍة لَو ِسَع ْتهم))؛ (مسلم حديث‪)1695 :‬‬

‫روى مسلم عن عمران بن حصين أن امرأًة من جهينة أَتْت نبَّي هللا صلى هللا عليه وسلم وهي حبلى من الزنى‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ‪3-‬‬
‫نبي هللا‪ ،‬أصْبَت حًّد ا‪ ،‬فأِقْم ه علَّي ‪ ،‬فدعا نبي هللا صلى هللا عليه وسلم ولَّيها‪ ،‬فقال‪(( :‬أحِس ْن إليها‪ ،‬فإذا وَضَع ْت فْأِتني بها))‬
‫ففعل‪ ،‬فأمر بها نبي هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فُشَّكْت عليها ثياُبها‪ ،‬ثم أمر بها فُر ِجَم ْت ‪ ،‬ثَّم صَّلى عليها‪ ،‬فقال له عمر‪ُ :‬تصِّلي‬
‫عليها يا نبي هللا‪ ،‬وقد َزَنْت ؟! فقال‪(( :‬لقد تاَبْت توبًة لو ُقِس َم ْت بين سبعين من أهل المدينة لَو ِسَع ْتهم‪ ،‬وهل وجدت توبًة أفضل‬
‫‪.‬من أن جاَد ْت بنفسها هلل تعالى؟!))؛ (مسلم حديث‪)1696 :‬‬

‫‪:‬التوبة المردودة على أصحابها‬

‫قال هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َلْيَسِت الَّتْو َبُة ِلَّلِذ يَن َيْع َم ُلوَن الَّسِّيَئاِت َح َّتى ِإَذ ا َحَضَر َأَح َد ُهُم اْلَم ْو ُت َقاَل ِإِّني ُتْبُت اآْل َن َو اَل اَّلِذ يَن َيُم وُتوَن َو ُهْم‬
‫‪ُ.‬ك َّفاٌر ُأوَلِئَك َأْعَتْد َنا َلُهْم َع َذ اًبا َأِليًم ا ﴾ [النساء‪]18 :‬‬

‫قال ابن كثير رحمه هللا‪ :‬متى وقع اإلياس من الحياة‪ ،‬وعاين الملك‪ ،‬وحشرجت الُّر وح في الَح ْلق‪ ،‬وضاق بها الصدر‪ ،‬وبلغت‬
‫الحلقوم‪ ،‬وغرغرت النفس صاعدًة في الغالصم‪ ،‬فال توبة متقَّبلة حينئٍذ ‪ ،‬والت حين مناص؛ ولهذا قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َلْيَسِت‬
‫الَّتْو َبُة ِلَّلِذ يَن َيْع َم ُلوَن الَّسِّيَئاِت َح َّتى ِإَذ ا َحَض َر َأَح َد ُهُم اْلَم ْو ُت َقاَل ِإِّني ُتْبُت اآْل َن ﴾‪ ،‬وهذا كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬فَلَّم ا َر َأْو ا َبْأَس َنا َقاُلوا‬
‫آَم َّنا ِباِهَّلل َو ْح َد ُه َو َكَفْر َنا ِبَم ا ُكَّنا ِبِه ُم ْش ِرِكيَن * َفَلْم َيُك َيْنَفُعُهْم ِإيَم اُنُهْم َلَّم ا َر َأْو ا َبْأَس َنا ﴾ [غافر‪ ،]85 ،84 :‬كما حكم تعالى بعدم‬
‫توبة أهل األرض إذا عاينوا الشمس طالعًة من مغربها كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬هْل َيْنُظُروَن ِإاَّل َأْن َتْأِتَيُهُم اْلَم اَل ِئَك ُة َأْو َيْأِتَي َر ُّبَك َأْو‬
‫َيْأِتَي َبْعُض آَياِت َر ِّبَك َيْو َم َيْأِتي َبْعُض آَياِت َر ِّبَك اَل َيْنَفُع َنْفًسا ِإيَم اُنَها َلْم َتُك ْن آَم َنْت ِم ْن َقْبُل َأْو َك َسَبْت ِفي ِإيَم اِنَها َخْيًرا ُقِل‬
‫‪.‬اْنَتِظ ُروا ِإَّنا ُم ْنَتِظ ُروَن ﴾ [األنعام‪]158 :‬؛ (تفسير ابن كثير جـ‪ ،1‬صـ‪)440‬‬

‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬فَلَّم ا َر َأْو ا َبْأَس َنا َقاُلوا آَم َّنا ِباِهَّلل َو ْح َد ُه َو َكَفْر َنا ِبَم ا ُكَّنا ِبِه ُم ْش ِر ِكيَن * َفَلْم َيُك َيْنَفُعُهْم ِإيَم اُنُهْم َلَّم ا َر َأْو ا َبْأَس َنا ُس َّنَت‬
‫‪ِ.‬هَّللا اَّلِتي َقْد َخ َلْت ِفي ِعَباِدِه َو َخ ِس َر ُهَناِلَك اْلَك اِفُروَن ﴾ [غافر‪]85 ،84 :‬‬

‫‪.‬قال ابن كثير رحمه هللا‪ :‬هذا حكم هللا في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه ال يقبل؛ (تفسير ابن كثير جـ‪ ،4‬صـ‪)91‬‬

‫‪:‬توبة فرعون كاذبة‬

‫ضرب هللا تعالى لنا مثاًل للتوبة المردودة على صاحبها‪ ،‬وذلك في قصة هالك فرعون؛ قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج اَو ْز َنا ِبَبِني ِإْس َر اِئيَل‬
‫اْلَبْح َر َفَأْتَبَع ُهْم ِفْر َعْو ُن َو ُج ُنوُد ُه َبْغ ًيا َو َع ْد ًو ا َح َّتى ِإَذ ا َأْد َر َك ُه اْلَغ َر ُق َقاَل آَم ْنُت َأَّنُه اَل ِإَلَه ِإاَّل اَّلِذ ي آَم َنْت ِبِه َبُنو ِإْس َر اِئيَل َو َأَنا ِم َن‬
‫اْلُم ْس ِلِم يَن * آآْل َن َو َقْد َع َص ْيَت َقْبُل َو ُكْنَت ِم َن اْلُم ْفِسِد يَن * َفاْلَيْو َم ُنَنِّجيَك ِبَبَد ِنَك ِلَتُك وَن ِلَم ْن َخ ْلَفَك آَيًة َو ِإَّن َك ِثيًرا ِم َن الَّناِس َع ْن‬
‫‪.‬آَياِتَنا َلَغاِفُلوَن ﴾ [يونس‪]92 - 90 :‬‬
‫أسأل هللا تعالى بأسمائه الحسنى‪ ،‬وصفاته الُعال أن يجعل هذا العمل خالًصا لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفع به طالب العلم‪ ،‬وآخر‬
‫دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى هللا وسلم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم‬
‫‪.‬الدين‬

‫‪: https://www.alukah.net/sharia/0/128252/#ixzz6FEmJ8tiH‬رابط الموضوع‬

You might also like