You are on page 1of 300

‫مجلس األمناء‬

‫الرتتيب األلفبايئ)‬ ‫(بحسب‬

‫إندونيسيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬إظهار نوري‬

‫مصر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد الجزار‬

‫تونس‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬توفيق بن عامر‬

‫لبنان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬جاد حاتم‬

‫الجزائر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬زعيم خنشالوي‬

‫المغرب‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سيدي علي ماء العينين‬

‫اليمن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الله الفالحي‬

‫األردن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عامر عدنان الحافي‬

‫ماليزيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عزم الدين إبراهيم‬

‫السودان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الصادق الفقيه‬

‫سلطنة عمان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد السجواني‬

‫بلغاريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فيلين بيليف‬

‫العراق‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد حسين آل ياسين‬

‫تركيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمود إرول قليج‬

‫باكستان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد طاهر القادري‬

‫السنغال‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد المختار بن أحمد جيي‬

‫سوريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد أحمد علي‬

‫بروناي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬مول بادي‬

‫موريتانيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد سالم الصوفي‬

‫إيران‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يد الله يزدن بناه‬


‫رئيس التحرير‬
‫محمود حيدر‬

‫المجلس العلمي االستشاري‬


‫مصطفى الن ّ‬
‫شار‬ ‫سيد علي الموسوي‬

‫مدراء التحرير‬

‫إحسان الحيدري ـ الهذيلي المنصر ـ محمدعلي ميرزائي‬


‫إدريس هاني ـ غيضان الس ّيد علي‬

‫مجلس التحكيم العلمي‬


‫تونس‬ ‫محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مصر‬ ‫صابر أبا زيد‬
‫موريتانيا‬ ‫محمد يحيى باباه‬ ‫العراق‬ ‫جعفر نجم نصر‬
‫إيران‬ ‫حبيب الله بابائي‬ ‫األردن‬ ‫أمين يوسف عودة‬
‫المغرب‬ ‫كنزة القاسمي‬ ‫لبنان‬ ‫هدى نعمة مطر‬
‫الجزائر‬ ‫ياسين بن عبيد‬ ‫سوريا‬ ‫بكري عالء الدين‬

‫التصميم واإلخراج الفني‬ ‫المدير المسؤول مدير التحرير التنفيذي‬

‫‪Red Design Company‬‬ ‫خضر إبراهيم حيدر‬ ‫قاسم الطفيلي‬

‫تواصل‬
‫‪ /‬اإليميل‪ilmolmabdaa@gmail.com :‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪www.ilmolmabdaa.com :‬‬
‫‪00989 – 355471498 / 009611 – 3867158 / 00964 – 7801877152 / 009611 – 305347‬‬ ‫هاتف‪:‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 113/5748 :‬ـ بيروت ـ لبنان‬
‫فهرس المحتويات‬
‫ز َ ّ‬
‫عدية‪7........................................................‬‬ ‫ميتاف�يقا ب‬
‫ي‬ ‫التمهيد إىل‬ ‫مفتتح‬
‫محمود حيدر‬

‫المحور‬
‫َّ‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا النورية‬
‫تأصيل أنطولوجيا الوجود ف� حكمة ش‬
‫اإل�اق لدى السهروردي‬ ‫ي‬
‫ـ يد هللا يزدان پناه ‪24.................................................................‬‬
‫ف‬
‫التفك� ي� الماوراء‬
‫ي‬
‫ز‬ ‫ف‬
‫الميتاف�يقية‬
‫ي‬ ‫اختبارات أرسطو ي� بناء المعرفة‬
‫ـ رسول محمد رسول ‪44..............................................................‬‬
‫ي ن‬
‫وأفلوط�‬ ‫الر َّ‬
‫واقية‬ ‫ب� ّ‬‫ميتاف�يقا وحدة الوجود ي ن‬‫يز‬
‫للمبا� النظرية‬‫ن‬ ‫تأصيل مقارن‬
‫ي‬
‫ف‬
‫مصط� النشار ‪58. .................................................................‬‬ ‫ـ‬
‫َّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫الميتاف� َّ‬
‫يقية للصورة‬ ‫يز‬ ‫األبعاد‬
‫ن‬ ‫ف‬
‫اليما�‬
‫ي‬ ‫ـ دراسة ي� فلسفة العارف باهلل أحمد بن علوان‬
‫الفالح ‪74.....................................................‬‬
‫ي‬ ‫عل‬‫عبد هللا محمد ي‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا الحضور والمشاهدة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫العرفانية‬ ‫الكونية‬ ‫بحث ي� أصول ومبادئ الرؤية‬
‫ـ فادي نارص‪106..........................................................................‬‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫يز‬
‫الطبيع ي� فلسفة مل صدرا‬ ‫ي‬ ‫الميتاف�يقية للجسم‬ ‫المكانة‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫دراسة مقارنة بصدد التحول المستمر للـ«الذرات»‬
‫رزم ‪128.............................‬‬ ‫ت‬
‫حج� | مهدي منفرد | حبيب هللا ي‬ ‫ي‬ ‫ـ فريد‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا وإدبارها‬ ‫إقبال‬
‫َ‬
‫محاولة لالنتقال بالفلسفة إىل طور ما بعدي‬
‫عل ‪152..............................................................‬‬
‫ـ غيضان السيد ي‬
‫فهرس المحتويات‬

‫نَّ‬ ‫يز‬
‫ميتاف�يقا المث�‬
‫ُدربة ُ‬
‫الع َرفاء إىل توحيد هللا وتوحيد العالم‬
‫ـ محمود حيدر‪170. ...............................................................‬‬
‫يز‬ ‫ف‬
‫ميتاف�يقا مارتن هايدغر‬ ‫إشكالية هللا ي�‬
‫الشخص‬
‫ي‬ ‫مفهوم الكينونة ومسألة اإلله‬
‫ـ هانس كوكلر‪206. .................................................................‬‬

‫محاورات‬

‫ـ ـ الفيلسوف النمساوي المعارص هانس كوكلر‪:‬‬


‫َّ‬
‫غ� هللا وال يتحدث إال عنه‬
‫�ء ي‬‫ِّ ف ش‬
‫هايدغر لم يفكر ي� ي‬
‫ـ حاوره ف ي� فيينا‪ :‬د‪ .‬حميد لشهب‪218................................................‬‬

‫حقول التنظير‬

‫عر�‬ ‫َّ‬
‫تصويبات منهجية لمدونات ميشال شودكيفيتش حول إبن ب ي‬
‫ق‬
‫البا� مفتاح ‪228..................................................................‬‬
‫ـ عبد ي‬
‫ُّ‬
‫التصوف‬ ‫ـ ـ سوسيولوجيا‬
‫ُّ ف‬
‫اإلسالم‬
‫ي‬ ‫وس�ورة التمثل ي� العالم‬
‫مبتدأ التشكل ي‬
‫القاسم ‪244.......................................................................‬‬ ‫ـ ـ نز‬
‫ك�ة‬
‫ي‬

‫مقارنات‬
‫فهرس المحتويات‬

‫أفنان‬

‫يز‬
‫الميتاف�يقا ـ ـ لوجيا‬ ‫ــ‬
‫ًّ‬ ‫ف‬
‫علميا‬ ‫ي� إمكان (مفهمة) الفلسفة والحكمة والعرفان‬

‫عجم‪252......................................................................‬‬
‫ي‬ ‫ـ حسن‬

‫مكنز الكتب‬

‫ميدغل‬
‫ي‬ ‫ال�يطانية ماري‬
‫ـ ـ «اإلنسان والوحش» للفيلسوفة ب‬

‫عل ‪272................................................‬‬
‫عرض وتحليل‪ :‬أ‪.‬د‪ /‬حمادة أحمد ي‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا؟‬ ‫ـ ـ كيف يمكن قيام‬
‫ّ ف‬ ‫ّ‬ ‫ين‬
‫والكانطية ي� التأسيس لعلم الوجود‬ ‫اإلغريقية‬ ‫الرؤيت�‬ ‫نقد‬

‫ـ كريم عبد الرحمن ‪278......................................................................‬‬

‫ترجمة الملخصات ‪294..................................................‬‬


‫مفتـتح‬

‫التمهيد إلى ميتافيزيقا َبعد ّية‬

‫محمود حيدر‬

‫ما كان للقول عىل استئناف امليتافيزيقا أو متديد آفاقها‪ ،‬رضبًا من رغائب‬
‫ال طائل منها‪ .‬فلو مل يكن لذلك من دا ٍع يستحثُّ عىل االستئناف ل َبطُل‬
‫ٍ‬
‫بإيقاف‬ ‫ٍ‬
‫بوقف ما أو‬ ‫ٌ‬
‫مسبوق‬ ‫ٍ‬
‫مستأنف‬ ‫كل‬‫تبي أ َّن َّ‬
‫امل َّدعى‪ .‬البداهة املنطقيَّة ِّ‬
‫ب تقوميه‪ ،‬أو‬ ‫ج َ‬ ‫الصواب َو َ‬
‫ِ‬ ‫ذي علَّة‪ :‬إ َّما لوهنٍ قد اعرتاه‪ ،‬وإ َّما لِم َيلٍ عن‬
‫تكويني أوقَفَه عن النم ِّو والدميومة‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫العتال ٍل‬
‫إل لبسط مسافة‬ ‫وما كان لنا أن نصوغ العنوان بعبارة "التمهيد إىل‪َّ "..‬‬
‫بعد" مل‬ ‫رضوريَّة مع ما يُراد استئنافُه‪ .‬فالعبور من "املاقبل املوقوف" إىل "ما ٍ‬
‫يؤمل أن يتَّخذ مكانًا مرموقًا‬‫تكتمل أركانه بعد‪ ،‬يقتيض تسويغًا معرف ًّيا ملفهوم ُ‬
‫فكري‬
‫ٍّ‬ ‫يف منفسحات التفكري‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن داللة "التمهيد إىل" تومئ إىل سف ٍر‬
‫يُفرتض مكابد ُة وعثائ ِه ليك نفلح بـ "املابعد"‪ ،‬أو أن نتق َّرب إليه عىل أدىن‬
‫تقدير‪ .‬وأل َّن امليتافيزيقا املستأنَفة التي نسعى لتسييلها‪ ،‬ترنو إىل مجاوزة‬
‫إبستمولوجي طال‬
‫ٍّ‬ ‫امليتافيزيقي‪ ،‬فهي محمول ٌة عىل ملء فراغ أنطو‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫"املاقبل"‬
‫أم ُد نسيانه يف تاريخ الفلسفة‪ .‬أ َّما املسافة التي أنشأناها كتمهيد للامبعد فقد‬
‫ين الختام وال َبد َء م ًعا‪ ،‬أي‪ :‬ختا ُم ميتافيزيقا استنفدت أغراضَ ها‪،‬‬ ‫اختزنت معا َ‬
‫نبي أكرث‪ ،‬اعتمدنا‬ ‫وبَد ُء أخرى تريد القيام مبه َّمة إحيائ َّية لعلم الوجود‪ .‬وليك ِّ‬
‫فهم الس ِمها ونع ِتها وهويَّ ِتها‪.‬‬
‫الفرض َّية التالية‪ :‬تنطوي امليتافيزيقا عىل معضلة ٍ‬
‫رس ما ميكث‬ ‫كعلم يستف ُ‬
‫ٍ‬ ‫ومل َّا نظر إليها األ َّولون ولحق بهم اآلخرون‪ ،‬قاربوها‬
‫مفتتح‬

‫خ يف واقع األمر‪ ،‬أ َّن‬


‫وراء الطبيعة ليك يتع َّرفوا عىل املبدأ واألصل‪ .‬لك َّن الذي َر َس َ‬
‫تفس‬ ‫ملحمة االستفسار واملساءلة ستدور عىل غري هدى مدار الطبيعة‪ .‬ث َّم طفقت ِّ‬
‫يئ ومقوالته‪ ،‬ث َّم لتأيت الحصيلة املنطقيَّة أ َّن‬
‫العامل وفق معياريَّات العقل الفيزيا ِّ‬
‫امليتافيزيقا بصيغتها الشائعة أخفقت يف اإلجابة عىل مبتدأ األمر‪ ،‬ومل تجاوز مسلَّامتها‬
‫كل ما اقرتفته الفلسفة األوىل سحابة تاريخها املديد‪ ،‬أنَّها‬ ‫الصلبة‪ .‬حتى لقد بدا أ َّن َّ‬
‫غفلت عن كُن ِه الوجود‪ ،‬ث َّم سكنت إىل فتنة السؤال عن ظواهره‪ ،‬ومل تنفلت من سحره‬
‫قطّ‪.‬‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬مل تكن دعوة امليتافيزيقا ال َبعديَّة إىل إعادة تسييل العلم باليشء‬
‫س لنظريَّة معرفة تنظّر إىل هذا‬
‫يؤس ُ‬
‫فلسفي ُمفارق ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫إل إلنشاء قول‬‫يف ذاته "النومني"‪ّ ،‬‬
‫يف‬
‫قابل للفهم‪ .‬الغاية من ذلك‪ ،‬هي التمهيد ألفقٍ معر ٍّ‬ ‫اليشء بوصفه ظهو ًرا واقع ًّيا ً‬
‫جديد يستجيل املخبوء يف علم الوجود‪ ،‬وينفتح عىل مسا ٍر ُمفارق يستظهر ما يختزنه‬ ‫ٍ‬
‫اليشء يف ذاته من وعود ميتافيزيق َّية‪.‬‬
‫حسب امليتافيزيقا ال َبعديَّة ين ِّبه علم النومني (النومينولوجيا) إىل وجوب تصويب‬
‫األنطولوجي للميتافيزيقا‪ .‬فإذا كانت كلمة املا بعد (ميتا) دالَّ ًة‬
‫ِّ‬ ‫تكويني يف االسم‬
‫ٍّ‬ ‫خللٍ‬
‫عىل ما هو تا ٍل للطبيعة أو ما فوقها‪ ،‬فذلك معناه أ َّن عالَم ما بعد الطبيعة هو امتداد‬
‫حقيقي‬
‫ٌّ‬ ‫كل ما بعد الطبيعة هو واق ٌع‬ ‫للطبيعة وموصول بها بعرو ٍة وثقى‪ ،‬ما يعني أ َّن َّ‬
‫كم وكيفًا‪ .‬مثل هذا الخلل يف االسم‬ ‫مبرتب ٍة وجوديَّ ٍة ُمفارقة‪ ،‬وإن تع َّددت ظهوراته ًّ‬
‫املؤسس واالستفهام‬ ‫ِّ‬ ‫األنطولوجي للميتافيزيقا سوف يؤ ّدي إىل صد ٍع يف فقه املبدأ‬ ‫ِّ‬
‫اإلغريقي‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ُّ‬ ‫بديهي سها عنه القول‬ ‫ٍّ‬ ‫عن حقيقته‪ .‬وهذا ما سيكشف عن أم ٍر‬
‫ولواحقه‪ .‬فإذا كانت مه َّمة امليتافيزيقا البحث يف الوجود مبا هو موجود‪ ،‬فإ َّن مبتدأها‬
‫ين‪ ،‬وعدم االكرتاث مبا هو‬ ‫ومنتهاها متثَّال بحرص معرفتها باملوجود يف ظهوره العيا ِّ‬
‫عليه يف خفائه وكُ ُمونه‪.‬‬
‫‪I‬‬
‫وعلم‪ ،‬أوهي‬ ‫ً‬ ‫منذ البَدء‪ ،‬وامليتافيزيقا موضع جد ٍل حول مرشوعيَّتها بني كونها ً‬
‫عقل‬
‫وهم يرتاءى يف األذهان‪ .‬مل يجهر أرسطو ببيانٍ يفيد بأنَّها معرفة ال عقالن َّية‪،‬‬
‫محض ٍ‬ ‫َ‬
‫رصح بأ َّن أح ًدا اليعرف طبيعة ما ال‬ ‫الفلسفي سيمتلئ بهذا الحكم حني َّ‬
‫َّ‬ ‫لك َّن نظامه‬
‫أي يشء كواقع هو مسألة برهان؛ ث َّم ليق ِّدم التجربة عىل االستدالل‪،‬‬‫يوجد‪ ،‬وأ َّن وجود ِّ‬

‫‪8‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫وال يرتيض من االستدالل إلَّ ما يوافق الوقائع املرئ َّية‪ .‬ومع أنَّه كان مؤم ًنا بأ َّن أعظم‬
‫ين‪ ،‬وأ َّن هذا اليشء‬ ‫قوى العقل مست َم َّدة من يشء يقع وراء التجربة واالستيعاب العقال ِّ‬
‫وساموي وخال ٌد‪ ..‬سيعود القهقرى من بعد قوله هذا إىل دعوى امتناع‬ ‫ٌّ‬ ‫وأبدي‬
‫ٌّ‬ ‫فاعل‬
‫هو ٌ‬
‫حفَدتِ ِه‪ ،‬سيحتذون مبا ذهب إليه حذو‬ ‫العقل عن إدراك ما ال دليل عليه‪ .‬اللَّ حقون من َ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التَّبعِ عن ظهر قلب‪ .‬ص َّدروا من األحكام ما يقيم امليتافيزيقا مقام معرفة سدمي َّية ال‬
‫جتهم عىل معادلة مؤ َّداها‪ :‬أ َّن الطريق الذي‬ ‫ت ُقال الستحالة إثباتها أو نفيها‪ .‬ث َّم ابتنوا ح َّ‬
‫ين‪ ،‬وأ َّن‬ ‫يقو ُد املر َء من قا َّرة املعرفة العقالنيَّة إىل جزيرة الحدس معدو ٌم وال عقال ٌّ‬
‫ين‪ ..‬ث َّم‬
‫ما يقو ُده من بلد املعرفة التجريب َّية إىل بلد املعرفة الصوريَّة موجو ٌد وعقال ٌّ‬
‫الديني بـ "املعرفة" العقالن َّية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫خلصوا إىل االعتقاد باستحالة تسمية الحدس واإلميان‬
‫املح َدثون م َّمن ينتسبون إىل ساللة اإلغريق جادلوا يف إمكان عقلنة امليتافيزيقا أو ال‬
‫وعلم‪ .‬لك َّنهم سريجعون من بعد عناء إىل األخذ مبا أخذ به األسالف‪:‬‬ ‫ً‬ ‫عقل‬
‫إمكانها ً‬
‫عقل بحدود‬ ‫عرف ً‬‫كل متح ِّيز يُ ُ‬‫إ َّن امليتافيزيقا ال تقاس لكونها غري متح َّيزة‪ .‬ومل َّا كان ُّ‬
‫كل ما ال يتح َّيز ال يُعقل وال يُعرف وال يُقال؛ وبالتايل فهو غري‬ ‫ماه َّيته وهويَّته‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫ين‪ .‬والنتيجة املنطقيَّة لدى هؤالء‪ :‬امليتافيزيقا غري عقالنيَّة‪.‬‬ ‫عقال ّ‬
‫السامت التي يجوز استخالصها من اختبارات‬ ‫ابتنا ًء عىل ما سلف‪ ،‬بدا أ َّن من أظهر ِّ‬
‫رص عن مجا َوزة دنيا املقوالت العرش وأحكامها‪ ..‬وأ َّن‬ ‫الفلسفة‪ ،‬قولُها أ َّن العقل قا ٌ‬
‫الحس‪ .‬والنتيجة املرتتِّبة‬
‫ّ‬ ‫املعرفة البرشيَّة ال يتيسَّ لها إدراك ما هو مخبوء وراء عامل‬
‫عىل هذا امل َّدعى‪ ،‬هي اإلعراض عن فقه املاوراء‪ ،‬والعزوف عن فهم كُنه الجوهر يف‬
‫األنطولوجي املنطوي فيه لغ ُز إيجا ِد املوج ِِد‬
‫ِّ‬ ‫رس‬
‫فضل عن استعصاء معرفة ال ِّ‬ ‫ً‬ ‫ذاته‪،‬‬
‫لعالَم املوجودات‪.‬‬
‫نكمل‪:‬‬
‫مل َّا أوجبت الرضورة عىل الفلسفة األولىبام هي ميتافيزيقا قبْليَّةأن تبحث عن كائن‬
‫تكث وتج ُّدد ِ‬
‫وسعة‪،‬‬ ‫يئ‪ ،‬وما يحويه من ُّ‬ ‫يعي ويعتني بالسؤال عن ماه َّية املوجود ال َبد ِّ‬
‫يصح القول أ َّن من جميل ما للفلسفة عىل‬ ‫ُّ‬ ‫مل تجد لهذه املنزلة غري اإلنسان‪ .‬بهذا‬
‫اإلنسان‪ ،‬أنَّها أومأت إليه أن يسأل بال هوادة عمَّ يجهل‪ ..‬وأ َّن من جميل اإلنسان عىل‬
‫الفلسفة تنصيبها مليكة عىل عرش العقل‪ .‬ولفرط دهشتها مبا هي عليه من االنسحار‬
‫بالسؤال‪ ،‬غَفلَت الفلسف ُة عمَّ وصفها به القدماء بأنَّها "عشق الحكمة" وحثٌّ عىل بلوغ‬
‫كامالتها‪ .‬إلَّ لبثت دون املعشوق وغايته العظمى‪ .‬حتى لقد َغلَبت عليها الظنون‬

‫‪9‬‬
‫مفتتح‬

‫طويل‪ .‬وإذ أذعن الفالسفة إىل "دابَّة الذهن"‪،‬‬‫ً‬ ‫فأخلدت إىل أرض السؤال وأقامت فيه‬
‫حال دون الوصول‬ ‫كل سائل حجابًا َ‬ ‫وأسلموا أمرهم إىل سلطانه‪ ،‬أسدلوا يف وجه ِّ‬
‫ين إىل دنياه‬
‫إىل اليقني ونعامئه‪ .‬أ َّما حاصل هذه الوضعيَّة فهي استنزال الكائن اإلنسا ِّ‬
‫الواطئة‪ ،‬وزحزحته جذريًّا من كونه مرك ًزا للكون إىل صاغر لقوانينه‪ ،‬ومصادرة قدرته‬
‫عىل تحصيل معرفة حقيق َّية بالوجود ومبدإه األول‪ .‬عىل هذا النحو صار االغرتاب‬
‫يف‪ .‬واملفارقة هنا أن أصبح‬‫الكوزمولوجي واملعر ّ‬
‫ِّ‬ ‫األنطولوجي متضاف ًرا مع االغرتاب‬
‫ُّ‬
‫الوجود غري معروف‪ ،‬أو لغ ًزا يتخطَّى متكُّن العلم منه‪ ،‬فيام أحيلت امليتافيزيقا إىل‬
‫رضب من مزاعم حول تخمينات ال رخصة فيها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫املبي أ َّن الفلسفة األوىل طفقت تفارق معضلتها التكوينيَّة وهي تتغيَّا االستفهام‬ ‫َّ‬
‫عن مبادئ الوجود وحقيقته‪ .‬لهذا راحت تستغرق يف بحر خض ٍّم تتالطم فيه أسئلة‬
‫املمكنات وأعراضها‪ .‬حتى أ َّن الفلسفة الحديثة ‪ -‬وهي يف ذروة دهشتها بذاتها ‪-‬‬
‫ط عىل "التغايُر‬ ‫مل تَربح هذه املعضلة املوروثة‪ .‬وليس هذا إلَّ أل َّن مبدأَ َها املنبس َ‬
‫اللَّ متكافئ" بني "النو ِمني" (الجوهر يف ذاته) و"الفينو ِمني" (اليشء كام يظهر يف‬
‫ظل مالز ًما لها كام هو الحال يف نشأتها األوىل‪.‬‬
‫العلن)‪َّ ،‬‬
‫‪II‬‬
‫يف حقبة الحداثة التي أرىس ديكارت عامرتها امليتافيزيق َّية بنسختها الق ْبل َّية املستأنَفة‪،‬‬
‫يئ‪.‬‬‫اإلغريقي املسكون بطبائع الكون املر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫سيظهر مسار متج ِّدد من الوالء املطلق للعقل‬
‫يك سريى أ َّن الطريقة الفضىل لفهم‬ ‫فالربنامج الديكاريتُّ القائم عىل التحليل امليكاني ِّ‬
‫اإلنسان هي النظر إليه كام لو كان آلة‪ ،‬متا ًما كام هو الحال مع فهم الكون مبجمله‪.‬‬
‫كام رأى أ َّن سلوك اإلنسان وعمل العقل ليسا سوى اثنني من األفعال املنعكسة القامئة‬
‫عىل مبدأي التحريض واالستجابة‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬فإ َّن األطروحة الرئيسة أو املق ِّدمة‬
‫ين‪،‬‬
‫البرشي ونظريه الكو ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الكربى الواسعة االنتشار التي ترى أ َّن جميع تعقيدات الوجود‬
‫تتفس‪ ،‬آخر املطاف‪ ،‬من مسلَّامت مبادئ العلوم الطبيع َّية‪ .‬واستتبا ًعا لهذا‬ ‫من شأنها أن َّ‬
‫التنظري‪ ،‬سيكون من أه ِّم الحقائق يف تاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬هي عمل َّية التحويل الكربى‬
‫بديل للميتافيزيقا‪ .‬األثر الحاسم كان مع إسحق‬ ‫يئ) ً‬ ‫(الريايض والفيزيا َّ‬
‫َّ‬ ‫التي ستجعل العلم‬
‫البرشي‪ .‬وقد أفىض نجاح العلم يف‬ ‫ِّ‬ ‫نيوتن حيث انطلق التنوير من ثقة غري مسبوقة بالعقل‬
‫الطبيعي إىل التأثري يف جهود الفلسفة عىل مستويني‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫تفسري العامل‬

‫‪10‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫ي‪.‬‬
‫أ‌‪ -‬رؤية أساس املعرفة اإلنسان َّية يف عقل اإلنسان وتشابكه مع العامل املا ّد ّ‬
‫ب‪ -‬توجيه اهتامم الفلسفة إىل نوع من تحليل العقل املؤ َّهل لتحقيق مثل هذا‬
‫يف‪.‬‬
‫النجاح املعر ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫من املبني أن نقول إ َّن ديكارت مل يكن ليهتدي إىل "الكوجيتو" لوال أن َغلَبته شَ ْق َو ُة‬
‫خيا ُر سيكون‬ ‫فَق ِْد الوجود‪ ،‬ث َّم سعى ليعرث عليه عن طريق "األنا" املكتفية بذاتها‪ .‬ال َ‬
‫الرجل يف معرث ِة الجمعِ املستحيلِ بني‬ ‫ُ‬ ‫شاقًّا‪ ،‬بل ويحتاج من املكابدات أقصاها‪َ .‬وقَ َع‬
‫نقيضني غري قابلني للتواؤم يف هندسات العقل األدىن‪ :‬اإليقان باأللوهيَّة الذي لزو ُم ُه‬
‫والسبب َّيةُ‪ ،‬والعلَّة امل ُفضي ُة‬
‫السؤال‪ّ ،‬‬‫ُ‬ ‫التّسليم واإلميان‪ ..‬والربهان بالفكر الذي مقتضاه‬
‫إىل كشف املعلول والتع ُّرف عليه‪ .‬مل يجد ديكارت ما ينف ُذ به إىل مجاوز ِة هذه امل َ ْع َثة‬
‫ين‪ ،‬إلَّ أن يلو َذ بـ "األنا"‬ ‫ين والروما ِّ‬ ‫َيي اليونا ِّ‬ ‫املمت ّد ِة جذو ُرها إىل املرياثني الفلسف َّ ْ‬
‫الشء الوحيد‬ ‫ليبي لنا أ َّن ّ‬
‫ليك ينجز مبتغاه‪ .‬وهكذا ق َّرر ال ُّرجوع إىل نقطة البداية؛ ِّ‬
‫وبسبب من سطوة ال َّنزعة‬ ‫ٍ‬ ‫يشك‪ ،‬وجوه ٌر يفكِّر‪.‬‬ ‫الذي كان واثقًا منه‪ ،‬أنَّه هو نفسه كائن ُّ‬
‫الدنيويَّة هذه عىل مجمل حداثة الغرب مل يخرج سوى "الندرة" من املفكِّرين الذين‬
‫تن َّبهوا إىل معاثر الكوجيتو وأثره الكبري عىل تشكُّالت وعي الغرب لذاته وللوجود‪.‬‬
‫ويف هذا املورد نشري إىل ثالثة معاثر كربى‪:‬‬
‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫أ َّو ًل‪ :‬إ َّن "مبدأ األنا أفكر" يؤ ّدي إىل قلب العالقة التأسيس َّية للوعي‬
‫هي هنا عىل الوجه التايل‪" :‬كيف ميكن‬ ‫بجناحيه املتناهي واللَّ متناهي‪ .‬والتساؤل البَ َد ُّ‬
‫إلهي‪ ،‬أو بتفكري ال إله فيه‪ ،‬أو بتفكري مدعوم إلهيًّا‪ ،‬مع أ َّن‬‫املرء أن يعرف الله بتفكري ال ٍّ‬
‫نفس وجود أو ال وجود اللَّه يُح َّدد فقط من خالل معادلة مختلَّة األركان قوامها‪" :‬اللَّه‬
‫موجود هو مج َّرد نتيجة لألنا موجود"‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬الـ "أنا موجود" (‪ )ergo sum‬التي تيل "األنا أف ِّكر" (‪ )co gito‬هي ‪ -‬يف منطق‬
‫وبسبب‬
‫ٍ‬ ‫ديكارت ‪ -‬تعبري عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكري والكينونة‪ ،‬مبعزل عن الله‪.‬‬
‫وتجل الله‪ .‬فاملوجود املتناهي ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫تجل نفسه‬ ‫ّ‬ ‫من كونه عاج ًزا عن فعل هذا‪ ،‬مينع‬
‫يف يف "األنا الواعي"‪ ،‬يحاول إظهار‬
‫الوجودي واملعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫اإلنسان ‪ -‬ومن خالل تأسيس يقينه‬
‫مؤس ًسا لذاته"‪.‬‬‫ذاته كموجو ٍد مطلقٍ ‪ ،‬ويجعل نفسه إل ًها ِّ‬
‫ثالثًا‪ :‬يشكِّل الكوجيتو الديكاريتُّ‪ ،‬باألساس‪ ،‬انعطاف ًة أبستمولوجيَّ ًة نحو األنا‪ ،‬األمر‬
‫الذي استلْ َز َم انعطاف ًة أنطولوج َّي ًة تليها انعطاف ٌة أبستمولوج َّية‪ .‬ويف أيَّة حال‪ ،‬ستؤ ّدي‬

‫‪11‬‬
‫مفتتح‬

‫األَنَويَّة األبستمولوج َّية واألنانة األنطولوج َّية لـ"األنا أفكِّر أنا موجود" إىل والدة أنان َّية‬
‫يئ وتقطع عىل نحو جائر مع املاوراء‪.‬‬ ‫فلسفيَّة تخلد إىل املر ِّ‬
‫‪III‬‬
‫من بعد ديكارت‪ ،‬أراد كانط أن يستظهر امليتافيزيقا عىل هيئة ال ِق َب َل لها بها يف‬
‫سريتها املمت َّدة من اليونان اىل مبتدأ الحداثة‪ .‬هو يعرتف أ َّن امليتافيزيقا هي أكرث‬
‫الحدوس اإلنسان َّية ق َّوة إلَّ أنَّها مل تكتب بعد‪ .‬شعر وهو مييض يف املخاطرة كأنَّ ا‬
‫عقل ح ًّرا‪ ،‬بعدما ظ َّن أنَّه تح َّرر متا ًما من رياضيَّات ديكارت‪ .‬راح يرنو إىل‬ ‫امتلك ً‬
‫اإلمساك بناصية امليتافيزيقا ليدفعها نحو منقلب آخر‪ .‬إلَّ أنَّه حني انرصف إىل مبتغاه‬
‫يت" َركَ َز يف قرارة نفسه ولن يفارقها أب ًدا‪.‬‬
‫مل يكن يتخ َّيل أ َّن "الكوجيتو الديكار ُّ‬
‫ٍ‬
‫تناقض‬ ‫منظومة كانط املسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره‪ ،‬سوف تُستدرج إىل‬
‫بي يف أركانها‪ .‬نتساءل‪ :‬كيف ميكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة للربهنة عىل أ َّن‬ ‫ِّ‬
‫هذا العقل ال يستطيع أن يصل إىل املعرفة الفعل َّية باألشياء كام هي واق ًعا؟ ث َّم كيف‬
‫ميكن أن يعلن أ َّن املرء ال يستطيع تحصيل املعرفة باليشء يف ذاته‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬
‫يستم ُّر يف وصف العقل كيشء يف ذاته‪ .‬واضح أ َّن حجج كانط عىل الجملة ال أساس‬
‫إل ظواهر‬ ‫لها ما مل تكن قادرة عىل وصف العقل كام هو حقيقة‪ .‬فإذا ك َّنا ال نعرف َّ‬
‫األمور‪ ،‬كيف ميكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا ك َّنا ال نعرف إلَّ الظاهر فقط‪ ،‬فهل مث َّة‬
‫يئ‪ ،‬لقولنا إنَّنا نعرف شيئًا ما؟ وأ َّما سبب هذه التناقضات هي‬ ‫معنى‪ ،‬يف التحليل النها ِّ‬
‫النظري من حقل املعرفة التي‬‫َّ‬ ‫أ َّن الفلسفة اإلنتقاديَّة الحديثة استثنت معرفة اللَّه والدين‬
‫القيايس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميكن الحصول عليها فقط عن طريق العقل‬
‫بسبب هيوم وشكوكيَّته سيهت ُّز إميان كانط برشعيَّة املعرفة امليتافيزيقيَّة‪ .‬من بعد‬
‫الفلسفي ليحكم عىل امليتافيزيقا باملوت‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫سيميل نحو منفسح آخر من التفكري‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‬
‫أسس‬ ‫رس اليشء يف ذاته"‪ ،‬إىل أن يبتني ُ‬ ‫لقد اضط َّر ملواجهة اليأس من التع ُّرف عىل " ِّ‬
‫املعرفة امليتافيزيق َّية بوساطة العلم‪ .‬ث َّم استبدل التعريفات املج َّردة باملالحظة‬
‫خيِّل للذين تابعوه وكأنَّه يغادر الفلسفة األوىل ومقوالتها ليستق َّر‬ ‫التجريبيَّة‪ ،‬حتى لقد ُ‬
‫متا ًما يف محراب الفيزياء‪ .‬وليس كالمه عن أ َّن "املنهج الصحيح للميتافيزيقا هو‬
‫املنهج نفسه الذي ق َّدمه نيوتن يف العلوم الطبيع َّية"‪ ،‬سوى شهادة ب ِّينة عىل افتتانه‬
‫كل ما هو موجود‪ ،‬هو‬ ‫بالفيزياء وجعلها ميزانًا مليتافيزيقاه النقديَّة‪ .‬ومل َّا قال كانط إ َّن َّ‬

‫‪12‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫يف مكان ما وزمان ما (‪ ،)irgendwannirgendwo und‬مل يكن يتوقَّع أن يؤ ّدي موقفه‬


‫سيخل‬
‫ّ‬ ‫رسهوأنَّه‬
‫التخل عن امليتافيزيقابوصفها تع ُّرفًا عىل ذات املوجود و ِّ‬
‫ّ‬ ‫هذا إىل‬
‫الساح للفيزياء كحقيقة واقعيَّة يدركها الفكر‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫توسل كانط مرجع َّيتَي هيوم ونيوتن لتسويغ "رغبته" يف تحويل امليتافيزيقا‬ ‫كذلك َّ‬
‫إىل علم يقدر عىل متاخمة املشكالت الحقيقيَّة للعامل الحديث‪ .‬كان يرى أ َّن إلغاء‬
‫مستحيل‪ ،‬وأ َّن أكرث ما ميكن فعله هو إزالة بعض األنواع غري‬
‫ً‬ ‫امليتافيزيقا متا ًما سيكون‬
‫الصالحة منها‪ ،‬وفتح الباب أمام ما يس ّميه بالعقيدة العلم َّية الجديدة‪ ،‬وهي العقيدة التي‬
‫الطبيعي‪ ،‬والتي تقوم عىل‬
‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي" يف العامل‬
‫ّ‬ ‫سيضعها تحت عنوان "اإلمكان‬
‫املنهجي بني عالَمني غري متكافئني‪ :‬عامل األلوهيَّة وعامل الطبيعة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫التمييز‬
‫متاخم‬
‫ً‬ ‫علم‬
‫الكانطي يف صريورة امليتافيزيقا ً‬ ‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫أ َّما مقتىض اإلمكان‬
‫للعلوم اإلنسانيَّة وسيَّالً يف ثناياها‪ ،‬هو النزوع نحو العقل األدىن ومقتضياته األنطولوجيَّة‬
‫واملعرف َّية واملنطق َّية‪ .‬لقد أكمل كانط رحلة اإلغريق من خالل سعيه إلنشائها عىل‬
‫نصاب جديد عرب تحويلها إىل موقف ينزلها من علياء التجريد إىل االنهامم بالعامل‪.‬‬
‫لك ْن‪ ،‬بدل االكتفاء بالتمييز واإلبقاء عىل خيط تتكامل فيه العمل َّية اإلدراك َّية للموجود‬
‫بذاته واملوجود بغريه‪ ،‬راح يفصل بني العالَمني ليبتدئ زم ًنا مستحدث ًا تح َّولت معه‬
‫امليتافيزيقا إىل فيزياء أرض َّية محضة‪.‬‬
‫‪IV‬‬
‫أي ميتافيزيقا تُراد‪ ،‬ونحن يف مورد الكالم عىل استئنافها؟‬
‫ُّ‬
‫القيايس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إذا كان مسعى الفلسفة األوىل العلم بالوجود مبا هو موجود بوساطة العقل‬
‫فسيتعذَّر عليها إدراك حقيقة الوجود ومبدأ تجلّيه ومكمن ظهوره‪ .‬عند هذا املفصل‬
‫ينفسح فضا ُء التاميز واملفارقة بني الفلسفة مبا هي ميتافيزيقا ق ْبل َّية مشغولة بـ "ظاهر‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫املوجد‬ ‫الوجود" وامليتافيزيقا الطامحة إىل العلم بالوجود بذاته‪ ،‬وبالتايل العلم بإيجاد‬
‫للموجود وهو ما نس ّميه بـ"علم املبدأ"‪ .‬وما من ريب‪ ،‬أ َّن فضيلة الفلسفة األوىل مبا‬
‫هي "ميتافيزيقا ق ْبل َّية" متع ّينة يف مسعاها الدؤوب بالسؤال عن الحقيقة الغائبة وإن‬
‫مم ال ينبغي لها أن تتوقَّف عند ح ّد‪ ،‬ما يعني‬ ‫تأت عليها ببيان‪ .‬هذه الفضيلة هي َّ‬ ‫مل ِ‬
‫رضوري‬
‫ٌّ‬ ‫رضوري للتع ُّرف عىل الغائب‪ ،‬لك َّنه‬‫ٌّ‬ ‫أ َّن ماهيَّة السؤال ‪ -‬مبا هو سؤال ‪ -‬أم ٌر‬
‫ح ّد الوجوب يف منهج امليتافيزيقا ال َبعديَّة ومبانيها النظريَّة ونظريَّتها املعرف َّية‪ .‬وخالفًا‬

‫‪13‬‬
‫مفتتح‬

‫ملا جرت عليه امليتافيزيقا الق ْبل َّية من ركون إىل اإلستفهام عن البادي واملحسوس‪،‬‬
‫وتطوافها اللَّ متناهي يف دنياه‪ ،‬تخطو امليتافيزيقا ال َبعديَّة باتجاه العبور إىل الضفَّة‬
‫الثانية لنهر الوجود ألجل التع ُّرف عىل املاوراء‪ ،‬واستكشاف ما يسترت وراء ظهوراته‬
‫ظ يف مرشوع َّية التنظري مبساءلة مفارقة عن‬ ‫ات أعيانه‪ .‬وهذا ما لن يكون له ح ٌّ‬ ‫وب ّد َو ِ‬
‫حقيقة الوجود‪ .‬نعني بهذا‪ ،‬السؤال الذي تقوم ماه َّيته عىل العناية بالوجود واملوجود‬
‫ميتافيزيقي" يجاوز ما ذهبت اليه ال ّدربة‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫والواجد يف آن‪ .‬لذلك نصري تلقاء استفهام "فوق‬
‫اإلغريقيَّة يف تعريف الفلسفة "بكونها عبارة عن أسئلة‪ ،‬األصل فيها دهشة اإلنسان‬
‫بالظواهر التي تحيط به"‪ .‬أ َّما استفهام امليتافيزيقا ال َبعديَّة مبا هو استجواب متعل ٌِّق‬
‫املؤسس للوجود فإنَّه خالف هذا‪ .‬هو استفهام خاص َّيته اإلحاطة والشمول‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫باملبدأ‬
‫نت بالوحدة يف‬ ‫يتبص الباقي والخالد واللَّ متناهي‪ .‬مع ٍ‬ ‫ّ‬ ‫يستفهم العارض والفاين كام‬
‫س عليه‪ .‬وألنَّه‬‫ويؤس ُ‬
‫َّ‬ ‫س‬‫مؤس ٌ‬
‫عني الكرثة‪ ،‬وبالكرثة يف عني الوحدة‪ ،‬ما يعني أنَّه سؤال ِّ‬
‫شمول‬
‫ً‬ ‫كذلك‪ ،‬فسيظهر يف مسعاه لتأسيس نظريَّة معرفة "ما بعديَّة" عىل شأن آخر أكرث‬
‫وإحاطة‪ .‬فإىل كونه سليل الدهشة الطبيع َّية يف ظاهرها واستتارها‪ ،‬لجهة استفهامه عن‬
‫عم يحتجب وراء هذه الظهورات واملبدأ الذي‬ ‫ظهورات األشياء يف الواقع‪ ،‬فإنّه يسأل َّ‬
‫كل ما يوجد‪ ،‬واملعتني به يف اآلن نفسه‪.‬‬ ‫صدرت منه‪ ،‬ناهيك بامل ُبدئ القائم عىل ِّ‬
‫‪V‬‬
‫"املابعدي" الذي تتَّخذه امليتافيزيقا درب ًة لها‪ ،‬التأسيس ملعرفة بَعديَّة‬
‫ُّ‬ ‫يفرتض املقام‬
‫متنح العقل مت ُّد ًدا يجاوز فيه قيوده املحكومة بفيزياء املفاهيم ودنيويَّة املقوالت‬
‫العرش‪ .‬والعقل املمت ُّد الذي ترنو إليه هو العقل الناشط يف ترقِّيه من أجل أن يجاوز‬
‫الحديس‬
‫ِّ‬ ‫أطواره املألوفة‪ .‬لو استقرأنا ما تذهب إليه امليتافيزيقا البَعديَّة يف حقلها‬
‫تأصيل غري مسبوق يف التمييز بني العقل املستغرق يف عامله‬ ‫ً‬ ‫ين سنجد‬‫والعرفا ِّ‬
‫يئ حيث‬ ‫الطبيعي‪ ،‬والعقل املمت ِّد إىل ما بعد ذاته بغية الوصول إىل ما بعد الكون املر ِّ‬
‫ِّ‬
‫مثل‪ ،‬ينبسط نشاط العقل عىل‬ ‫الحقيقة املتعالية‪ .‬يف ميتافيزيقا محيي الدين ابن عريب ً‬
‫صورتني‪ :‬صورة فاعلة‪ ،‬يكون فيها العقل مرادفًا للـ "فكر"‪ ،‬أي للقياس واملامرسات‬
‫االستدالل َّية والح ِّديَّة بصفة عا َّمة‪ ،‬وصورة منفعلة‪ ،‬يتَّخذ فيها العقل معنى املكان‪ ،‬أي‬
‫جه ابن‬ ‫مكان قبول املعارف اآلتية إليه إ َّما من الله‪ ،‬أو من الفكر‪ ،‬أو من القلب‪ .‬ث َّم يو ِّ‬
‫الفكري‪ ،‬ويرصد اقرتافه لثالثة عيوب أساسيَّة هي‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫عريب نقده لصورة العقل مبعناه‬
‫عيب التقليد‪ ،‬وعيب التقييد‪ ،‬وعيب الحياد واملوضوعيَّة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫‪ -‬العيب األ َّول‪ :‬عيب تقليده ما سبقه من عقول يف االستدالل‪ ،‬سواء عىل الطبيعة أم‬
‫مم هو أعىل‬ ‫إل الفتقاره مبا هو "عقل أدىن" إىل ما لدى َّ‬
‫عىل ما بعد الطبيعة‪ .‬وما ذاك َّ‬
‫منه‪ .‬لهذا الداعي رأى الشيخ األكرب "أ َّن العقل ما عنده يشء من حيث نفسه‪ ،‬وأ َّن الذي‬
‫يكتسبه من العلوم إمنا هو من كونه عنده صفة القبول"‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪ -‬العيب الثاين‪ :‬عيب الحرص والتقييد بالح ِّد والربهان‪ .‬لذا سيظهر عيب التقييد‬
‫بكيف َّية سافرة وغري مقبولة عندما يتطاول العقل عىل الذات اإلله َّية التي هي‪ ،‬بالتعريف‪،‬‬
‫غري قابلة للح ِّد والتقييد‪ ،‬ولو كان تقييد إطالق‪.‬‬
‫‪ -‬العيب الثالث‪ :‬يتمثَّل يف ا ِّدعاء العقل القدرة عىل الوصول إىل معرفة موضوع َّية‬
‫ومحايدة‪ .‬دليل هذا أ َّن املبادئ األوىل التي يستند إليها يف عمل َّياته املعرف ّية‪ ،‬كمبدأ‬
‫الذات َّية وعدم التناقض والثالث املرفوع والسبب َّية إلخ‪ ،‬لن تكون يف مأمن من الخطأ‬
‫والضالل‪.‬‬
‫‪VI‬‬
‫بعدي" املنبني عىل جامع َّية الوجود‪ ،‬تتالحم اآلفاق لتؤلّف م ًعا أفقًا‬ ‫ّ‬ ‫يف العقل "املا‬
‫كل سؤال ال يستجيب لتالحم اآلفاق وتجانسها‪ ،‬وتحت‬ ‫واح ًدا‪ .‬يف هذا األفق‪ ،‬يتب َّدد ُّ‬
‫ظلّه ينتعش اله ُّم األقىص ملعرفة األشياء‪ ،‬وبإقباله يُفتح للفاهم باب التع ُّرف عىل‬
‫الخلق‪،‬‬
‫َّ‬ ‫مراتب صاعدة من مجهوالت الوجود وحكمة اإليجاد‪ .‬فالعقل يف امتداده‬
‫جه نحو‬ ‫يتول التوحيد حفظه من رجعة القهقرى‪ ،‬يتو َّ‬ ‫َّ‬ ‫عقل محفوظ بالتوحيد‪ .‬وحني‬ ‫ٌ‬
‫كل رشاكة‪ ،‬ويعيها باإلنصات املتدبّر‪ .‬وبفضل هذا الوعي يفارق‬ ‫ح َديّة املن َّزهة من ِّ‬
‫األ َ‬
‫العقل تناهيه ومحدوديَّته ليدخل دورة االنتامء األصيل إىل املبدأ األعىل‪ .‬وملا كان‬
‫صح أن يكون اإلميان تح ّْق َق العقل يف ذروة امتداده إىل ما‬ ‫العقل مسلّمة اإلميان‪َّ ،‬‬
‫مستحيل عن تناقض بني جوهريَّة اإلميان‬ ‫ً‬ ‫فوق ذاته‪ .‬وعند هذا املقام يصري الكالم‬
‫االمتدادي‬
‫ُّ‬ ‫كل منهام يقع يف قلب نظريه‪ .‬فاالختبار‬ ‫وجوهريَّة العقل‪ .‬والصواب‪ :‬أ َّن ًّ‬
‫للعقل يقوده إىل ما ليس يف الحسبان‪ ،‬إذ ينجذب العقل يف وضع َّيته الجديدة باتجاه‬
‫كل ما يحجبه عن االستبصار‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن الوظيفة األساس للعقل‬ ‫أفق يجاوز فيه َّ‬
‫املمت ِّد‪ ،‬هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تن ُّزلِها عليه من عامل القدس‪ .‬ولعمل َّية القبول‬
‫دور بالغ األهم َّية يف املعرفة العقل َّية‪ ،‬وهو ينسجم يف األصل مع دقَّة العقل ووظيفته‬
‫الوجوديَّة‪ ،‬والتي هي التقييد والضبط من وجهة نظر العارف‪ .‬يقول ابن عريب يف هذا‬

‫‪15‬‬
‫مفتتح‬

‫الحق‬
‫ُّ‬ ‫مم هو عقل‪ ،‬ح ُّده أن يعقل ويضبط ما حصل عنده‪ ،‬فقد يَ َه ُبه‬ ‫املوضع‪" :‬إ َّن َّ‬
‫الحق تعاىل‬
‫َّ‬ ‫املعرف َة به فيعقلها‪ ،‬ألنَّه ٌ‬
‫عقل ال من طريق الفكر‪ ،‬فإ َّن املعرفة التي يهبها‬
‫يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها‪ ،‬وعليه‪ ،‬فال يقوم عليها دليل‬ ‫ُّ‬ ‫ملن يشاء من عباده ال‬
‫وال برهان ألنَّها وراء طور مدارك العقل‪.‬‬
‫‪VII‬‬
‫نظام للمعرفة يفارق حدود الكرثة‬ ‫ٍ‬ ‫تتعي مه ّمة امليتافيزيقا ال َبعديَّة إذًا‪ ،‬بتنشئة‬
‫َّ‬
‫يف‬
‫ينفك عنها انفكاك النقيض عن النقيض‪ .‬وأل َّن نظامها املعر َّ‬ ‫ومحدوديَّتها من دون أن َّ‬
‫مبني عىل بداهة التوحيد فإنَّها بحكم طبيعتها املابعديَّة‪ ،‬ال تعود ترى إىل الكون‬ ‫ٌّ‬
‫كمخلوق متناثر مآلُه التيه والعدم‪ ،‬وال كوجود تتشابه مراتبه‪ ،‬أو تتساوى عوامله إىل‬
‫يحل فيه الخالق باملخلوق‪ .‬لقد رمت إىل مجاوزة ثنائ َّية الوجود واملوجود‪،‬‬ ‫الح ِّد الذي ُّ‬
‫لتستظهر القيوميَّة اإللهيَّة عىل املخلوقات جمي ًعا‪ .‬ث َّم أقامت دربتها عىل جدليَّة‬
‫كامل وال‬ ‫ً‬ ‫وصل‬
‫ً‬ ‫الوصل والفصل بني اإلنسان والكون والله‪ .‬فلم تجد يف عملها هذا‬
‫إل فك ٌر تح َّرر من حرصيَّات امليتافيزيقا األرض َّية املبن َّية‬
‫كامل‪ ،‬وهو ما ال يطيقه َّ‬‫ً‬ ‫فصل‬
‫ً‬
‫عىل مبدأ التناقض‪ .‬لذا راحت امليتافيزيقا ال َبعديَّة تبحث عن منطقة من املفارقات‬
‫يستوي فيها النظر إىل مثلَّث اإلنسان ‪-‬الكون‪ -‬الله عىل نصاب التوحيد‪ .‬لذا ستأخذ‬
‫حل املعضلة األصليَّة لسؤال الوجود‪ .‬وهذا املبدأ هو ما‬ ‫مببدأ الزوجيَّة كسبيل إىل ِّ‬
‫سبق ونعتناه بـ"املث َّنى"‪( .‬أنظر دراستنا يف محور هذا العدد تحت عنوان "ميتافيزيقا‬
‫املث َّنى") ولنا أن نلفت إىل أ َّن امله َّمة األنطولوج َّية العظمى لهذا "املث َّنى" هي توحيد‬
‫العوامل عىل كرثتها وتن ُّوعها‪ .‬فاملث َّنى كينونة واحدة ولو تركَّب عىل التع ُّدد واالختالف‪،‬‬
‫وهذا ما يكسبه صفة جوهرانيَّة تجعله كائ ًنا منقطع النظري‪ .‬إنَّه يفارق الوحدة وهو منها‪،‬‬
‫كذلك يفارق الكرثة وهو مل َّا يزل يف محرابها‪ ،‬فال شبيه له يف الكرثة وهو كثري‪ ،‬وال‬
‫نظري له يف الواحديَّة وهو واحد‪ .‬هنالك التحام وثيق يف"كينونة املث َّنى"‪ ،‬فال يستطيع‬
‫ينفك عن نظريه انفكاكًا تا ًّما‪ ،‬بل هو يتميَّز عنه يف صورته وحسب‪،‬‬ ‫أي من عنارصه أن َّ‬ ‫ٌّ‬
‫يئ هو أحد أبرز مفاصل‬ ‫حيث أ َّن ماهيَّته واحدة ووظيفته متع ِّددة‪ .‬املث َّنى كموجود بد ٍّ‬
‫نظريَّة املعرفة يف امليتافيزيقا ال َبعديَّة‪ .‬لهذا كان لها أن تعتني بواجد الوجود مبا هو‬
‫تتأت من‬ ‫الوجود الوحيد الذي ال ض َّد له‪ ،‬بسبب تعاليه عىل الثنويَّة‪ .‬أ َّما املفارقة فهي َّ‬
‫إقبال الواجد عىل موجوداته باالعتناء والتعليم من قبل أن توجد وهي يف علمه‪ ،‬ومن‬
‫بعد أن وجدت بالكلمة األوىل (كُن)‪ .‬وهي يف اعتالئها وظهورها يف الواقع‪ .‬وعند‬

‫‪16‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫ماثل‬
‫يظل ً‬‫رس صدور الكثري عن الواحد الذي ُّ‬ ‫ُ‬
‫السؤال عن ِّ‬ ‫هذه النقطة بالذات يُطرح‬
‫ويقض هدأة العقول وتتحيَّ فيه القلوب واألبصار‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يف عامل اإلنسان‪،‬‬
‫ولتعلُّقها بالحكمة البالغة تتَّخذ امليتافيزقا ال َبعديَّة َس ْييَّة مفارقة لتأصيل العالقة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫املتبادلة بني الواجب واملمكن‪ .‬من أجل ذلك تقرتح فكرة "اإليحاء الوجودي" لتشكِّل‬
‫اإللهي‪ .‬أي إيجاد الوجود باإليحاء واإلملاح‬ ‫ّ‬ ‫نافذة تنظري وتدبُّر وتفعيل ملفهوم الجعل‬
‫لفظ أو لغو‪ .‬ومل َّا كان الكون إملاحتَه األوىل‪ ،‬كان الكون أول األعداد يف األعيان‪،‬‬ ‫بال ٍ‬
‫وال عدد قبله‪ ،‬وأول األسامء يف املوجودات وال إسم ملخلوق قبله‪.‬‬
‫يف من‬ ‫اآلخذون مبفارقات امليتافيزيقا ال َبعديَّة يبتغون الكشف عن نظامها املعر ِّ‬
‫خالل اجتامع األضداد وانسجامها يف فضاء التوحيد‪ .‬فهي تحاول استجالء سريِيَّتها‬
‫الحق وإرادته‬
‫ِّ‬ ‫الخلق بني الغيب والواقع‪ .‬أي بني ذات‬ ‫َّ‬ ‫التوحيديَّة من خالل الوصل‬
‫كتجل لفعل القول‬ ‫ٍّ‬ ‫يئ‬
‫يف إيجاد مخلوقاته‪ .‬ولذ ا يتب َّدى لنا الكون املشهود واملر ُّ‬
‫يل" بني الغيب والواقع‪ ،‬فمر ُّده إىل‬ ‫اإللهي (كُن)‪ .‬أ َّما تسويغ هذا "الديالكتيك التواص ِّ‬
‫ِّ‬
‫ما يس ّميه العرفاء بـ "حكمة الخلق"‪ ،‬وهي حكمة تقوم عىل أ َّن القدرة الكلِّ َّية املطلَقة‬
‫حكم مبا هو ممكن الوقوع‪ ،‬ال مبا هو محال الوقوع‪ .‬وأل َّن املحال ممتنع‬ ‫ً‬ ‫متعلِّقة‬
‫الوجود‪ ،‬فقد جعل الخالق نظام الخلق مبنيًّا عىل السببيَّة كقانون ال تبديل فيه وال‬
‫إلهي يعود إىل الغاية من‬ ‫ٌّ‬ ‫تغيري‪ .‬لهذا يتَّفق العقالء عىل أ َّن قانون السبب َّية هو حكم‬
‫الخلق‪ ،‬كذلك هو عائد ليس لعجز الله عن مجاوزة السبب َّية‪ ،‬بل المتناع ذلك يف قوانني‬
‫الخلقة اإلله َّية‪ .‬والله بعلمه الكلِِّّ وحكمته البالغة أوجد هذا العامل عىل هذه الصورة‬ ‫ِ‬
‫التكوينيَّة‪ .‬وكام سبق وقيل يف املأثور‪" ،‬إ َّن وضع األرض داخل البيضة محال الوقوع‬
‫ألنَّه خالف نظام األسباب واملس ِّببات"‪...‬‬
‫‪VIII‬‬
‫ين‪ .‬هذه‬ ‫كل باب من أبواب املعرفة إىل مصدرها الوحيا ّ‬ ‫تحيل امليتافيزيقا ال َبعديَّة َّ‬
‫اإلحالة تقوم عىل مسلَّمة مفادها أ َّن امليول الوحيان َّية لدى اإلنسان هي ميول فطريَّة‪،‬‬
‫وعليه‪ ،‬ال ميكن معرفة املبدأ‪ ،‬وال التع ُّرف عىل امل ُبدئ مبا يتخالف والفطرة اإلنسانيَّة‬
‫ريب أ َّن ما يس َّمى البديه َّيات ‪ -‬أي األول َّيات واملشاهدات‬ ‫ٍ‬ ‫يف يشء‪ .‬وليس من‬
‫والتجريب َّيات والحدس َّيات واملتواترات ‪ -‬كلَّها تُبنى عىل القياس‪ ،‬يف حني أ َّن الفطريَّات‬
‫قياسا‬
‫هي قضايا قياساتها معها‪ .‬ومع اإللتفات إىل أ َّن الحدس َّيات والتجريب َّيات تستبطن ً‬

‫‪17‬‬
‫مفتتح‬

‫مخف ًّيا فيها‪ ،‬فإن اليقني يف املتواترات راجع إىل ح ٍّد أوسط وقياس‪ .‬وبنا ًء عىل هذا‪،‬‬
‫أساسا ملعرفة سائر القضايا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ت ُع ُّد جميع هذه القضايا من البديهيَّات‪ ،‬وميكن اعتبارها‬
‫إل أ َّن مجموعتني منها ال تستندان إىل دليل آخر؛ عنينا بذلك األوليَّات واملشاهدات‪.‬‬ ‫َّ‬
‫خى إثبات‬ ‫بحسب ما تفرتضه امليتافيزيقا ال َبعديَّة يف سياق بلورتها لنظريَّة معرفة تتو َّ‬
‫علم‪ ،‬ميكن االستفادة من "الشهود" يف مشتغالت الفلسفة‪ ،‬ألن املشاهدات‬ ‫كونها ً‬
‫بالحس‬
‫ِّ‬ ‫أو املحسوسات داخلة يف أنواع البديه َّيات‪ ،‬وهذه بدورها تشمل املحسوس‬
‫ين‪ ،‬ك ِعلم اإلنسان‬ ‫بالحس الباطن‪ ،‬أو ما يعرف بالعلم الوجدا ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الظاهر واملحسوس‬
‫بنفسه وبأحواله الباطن َّية‪ .‬من أجل ذلك مييض علامء اإلله َّيات إىل أ َّن الشهود ال‬
‫القلبي"‪ .‬هنا‬
‫ّ‬ ‫يل" وفوقه "الشهود‬ ‫بالحيس‪ ،‬بل يشتمل عىل "الشهود العق ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ينحرص‬
‫والقلبي‪ .‬وبقبول‬
‫ّ‬ ‫يل‪،‬‬‫الحس‪ ،‬والعق ُّ‬ ‫ّ ُّ‬ ‫تجب اإلشارة إىل ثالثة أنواع من الشهود هي‪:‬‬
‫ج َّيته وقيمته‬ ‫هذه الثالث َّية ينفتح الباب أمام دخول الشهود إىل عامل الفلسفة‪ ،‬وبيان ح ِّ‬
‫ج َّية الذات َّية للشهود‪.‬‬ ‫النظري إىل ما يس ُّمونه بالح ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫املعرف َّية‪ .‬يف السياق‪ ،‬يذهب العرفان‬
‫رضا عند‬‫الحضوري يكون املعلوم حا ً‬ ‫ِّ‬ ‫الحضوري ذاته‪ ،‬ويف العلم‬
‫ُّ‬ ‫فالشهود هو العلم‬
‫الحس فال يت ُّم حضور كُنه اليشء والعلم به‪.‬‬ ‫ّ ِّ‬ ‫وكل يشء بحسبه‪ .‬أ َّما يف الشهود‬ ‫العامل‪ُّ ،‬‬
‫الحضوري هو االرتباط املبارش‪ ،‬فإلثبات وجود النفس والذات‬ ‫ِّ‬ ‫ومعيار الشهود والعلم‬
‫كل شخص حارض لنفسه ويشهد نفسه‪ .‬وعىل‬ ‫مثالً‪ ،‬ليس مث َّة حاجة إىل دليل آخر؛ فإ َّن َّ‬
‫إل‬‫الحضوري واملبارش‪ .‬وما ذاك َّ‬ ‫ِّ‬ ‫جيَّة الشهود يت ُّم عىل أساس االرتباط‬ ‫هذا‪ ،‬فبيان ح ِّ‬
‫أي‬
‫حضوري مع يشء ما ‪ -‬ويف ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫أل َّن املوجود العاقل امل ُدرِك إذا حصل له ارتباط‬
‫حضوري‪ ،‬ويعتمد إدراكه‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫ارتباط‬ ‫مجال كان ‪ -‬س ُيدرِك ذاك اليشء الذي حصل له معه‬
‫لذلك اليشء حضوريًّا عىل مقدار ق َّوة ذلك االرتباط‪ .‬فاملفهوم واالستدالل ال يعتربان‬
‫يل محكوم باالنفصال واالنفكاك‬ ‫الشهودي‪ ،‬بسبب أ َّن العلم الحصو َّ‬ ‫ِّ‬ ‫واسطة يف العلم‬
‫الحضوري فاألمر خالف ذلك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بني املعلوم بالذات واملعلوم بالعرض‪ .‬أ َّما يف العلم‬
‫الشك يف شكِّه‬ ‫ُّ‬ ‫ألحد‬ ‫ٍ‬ ‫حيث أ َّن واقع َّية املعلوم تكون حارضة لدى العالِم؛ ولذا فليس‬
‫هو نفسه‪.‬‬
‫‪IX‬‬
‫جيَّة الشهود يف امليتافيزيقا البَعديَّة من خالل العروة الوثقى الرابطة بني‬
‫تتواصل ح ّ‬
‫يل واألثر السلويكّ‪ .‬فهام م ًعا يؤلّفان وحدة بني نوعني من الشهود‪ :‬الشهود‬ ‫النظر العق ِّ‬
‫كل منهام ينتميان‬
‫القلبي‪ .‬بخصوص النظر واألثر كإمكان فلسفي فإ َّن ًّ‬ ‫ّ‬ ‫يل والشهود‬
‫العق ِّ‬

‫‪18‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫إىل ساللة العلم والعمل‪ ..‬ففي حني يشتمل منطق النظر عىل الكيف َّيات التي ينشط‬
‫الحق امل ُبدئِ للخلق‪ ..‬يكون منطق‬ ‫ِّ‬ ‫فيها العقل املتّصل بالغيب سعيًا للتع ُّرف عىل‬
‫املنطقي بني املق ِّدمات والنتائج‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األثر عىل رباط وثيق بنظريه‪ ،‬وهو أقرب إىل الرباط‬
‫دخول ب ِّي ًنا‬
‫ً‬ ‫معنى هذا أ َّن األثر املرتت ِّب عىل الكشف الواقع وراء طور العقل‪ ،‬يدخل‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫املؤسسة للميتافيزيقا ال َبعديَّة‪ .‬ما يعني أن ليس مث َّة انقطاع يف‬‫ِّ‬ ‫يف نظريَّة املعرفة‬
‫جه املخصوص ومتظ ُهراته‬ ‫لكل منهام من َه ُ‬
‫هذه املنظومة بني النظر واألثر‪ ،‬وإ ْن كان ٍّ‬
‫املنطقَني‬ ‫ِ‬ ‫املختلفة‪ .‬أ َّما العناية اإللهيَّة يف منظور امليتافيزيقا البَعديَّة فهي حارضة يف‬
‫م ًعا؛ وهي تعمل عىل نح َويْن متوازيني يوصالن إىل غاية واحدة‪:‬‬
‫خاصة‬
‫َّ‬ ‫أ‪ -‬العناية اإللهيَّة املتعالية املبارشة التي تعرب عن نفسها يف أعامل تاريخيَّة‬
‫خصهم الله بعطاءات وقدرات وأفعال‬ ‫وفريدة‪ ،‬عرب األنبياء وال ُّرسل واألولياء‪ ،‬الذين َّ‬
‫فوق طبيع َّية ال متنح لسواهم من البرش‪.‬‬
‫ب‪ -‬العناية اإلله َّية الباطن َّية أو الكامنة يف التاريخ‪ ،‬وهي التي تعمل وفق قوانني‬
‫حدة‪ ،‬وتستخدم وسائل طبيع َّية‪ ،‬وبوساطة البرش أنفسهم‪.‬‬ ‫مو ّ‬
‫يف املفرتض للميتافيزيقا البَعديَّة ببيان القواعد‬ ‫وفقًا ملا م َّر‪ ،‬ال يكتفي النظام املعر ُّ‬
‫واألسس النظريَّة للمكاشفات القلب َّية واملشاهدات الباطن َّية‪ ،‬بل هو يعتني‬ ‫ُ‬ ‫العقل َّية‬
‫بدور آخر بالغ األهم َّية‪ ،‬هو تقرير هذه املكاشفات وإخراجها من كمونها يف عامل‬
‫الباطن إىل عامل الظهور‪ ،‬ومن مكمون الغيب إىل الواقع املشهود‪ .‬من الباحثني‬
‫النظري من ع َّد العالقة بني العقل والقلب كالعالقة بني العني والنفس‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف العرفان‬
‫فكام أنَّه لوال العني لحرم اإلنسان الرؤية واإلبصار‪ ،‬كذلك لوال العقل لحرم القلب‬
‫من حكمة االستبصار‪ .‬فالعقل الذي يتمتَّع بقابل َّية االستدالل‪ ،‬يتمتَّع بقابل َّية املشاهدة‬
‫والكشف‪ .‬ولوال العقل ملا كان مبقدور القلب أن يشاهد أو أن يتحقَّق له الكشف‪.‬‬
‫وإذا ما ُع َّد العقل عني القلب‪ ،‬فال ب َّد من أن يُع َّد عمل العقل نو ًعا من املشاهدة‪ .‬فإذا‬
‫تن َّور العقل بنور القدس واتحد العقل بالقلب‪ ،‬وحصلت البصرية يف القلب‪ ،‬وصار‬
‫جر املعرفة الَّلدن َّية من الله‪ ،‬وت ُفاض املعارف‬ ‫العقل يرى بواسطة القلب‪ ،‬عندها تتف َّ‬
‫والحقائق اإللهيَّة عىل قلب السالك‪ ،‬فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله م ًعا لجهة‬
‫كل بحسب سعته ومرتبته الوجوديَّة؛ أل َّن‬ ‫االتحاد والوحدة الحاصلة بينهام‪ ،‬ولكن ٌّ‬
‫تبق محدودة إذا ما قيست بحدود‬ ‫املعرفة العقل َّية مهام ترقَّت يف مراتب الكشف‪َ ،‬‬
‫املعرفة القلب َّية وسعتها‪ ،‬واملقاماألسمى الذي ميكن أن تصل إليه‪ .‬أ َّما بلوغ املعرفة‬

‫‪19‬‬
‫مفتتح‬

‫القلب َّية مقامات الكشف‪ ،‬فإمنا هي صريورة متد ِّرجة حي ًنا ودفع َّية حي ًنا آخر‪ ،‬األمر الذي‬
‫تكشف عنه التجارب واملعايشات الروحيَّة واملعنويَّة‪ ،‬وهو ما يُعرف عند العرفاء‬
‫باإللهام‪ ،‬أي اللحظة التي يتلقَّى فيها العارف فيوضات معارفه من لدن الروح القدس‬
‫يف ما يتعلَّق بتدبري دنياه وآخرته‪.‬‬
‫عند هذه املنزلة ترتقَّى معرفيَّة امليتافيزيقا البَعديَّة‪ ،‬لتنظر إىل الفطرة كمعرفة بدئيَّة‬
‫أصيلة لتظهري الشهود كمعرفة عقالن َّية‪ .‬واملراد من هذا أ َّن الوحي كعلم المتنا ٍه ٌّ‬
‫مبني‬
‫حد‪ .‬وهنا نالحظ ثالث مم ِّيزات‬ ‫عىل الفطرة مبا هي الغرسة اإلله َّية البدئ َّية لعلم التو ُّ‬
‫لألمور الفطريَّة‪:‬‬
‫لكل نوع من أنواع املوجودات مشرتكة يف املوجودات كلِّها‪ ،‬وإن‬
‫‪-‬األمور الفطريَّة ِّ‬
‫اختلفت كيف َّية وجودها يف األفراد ضعفًا وقوة‪.‬‬
‫‪-‬ال ميكن لفطرة موجو ٍد ما أن يكون لها اقتضاء َّ‬
‫معي يف مرحلة زمن َّية‪ ،‬بينام لها‬
‫اقتضاء آخر يف زمن َّية أخرى‪.‬‬
‫‪-‬األمور الفطريَّة مبا هي فطريَّة‪ ،‬وتقتضيها خلقة املوجود‪ ،‬لذلك ال تحتاج يف‬
‫وجودها إىل التعليم والتعلّم‪ ،‬وإن احتاجت إىل الرتبية والتعليم يف تقويتها وتنميتها‪،‬‬
‫أو يف توجيهها وهدايتها‪.‬‬
‫خط واحد‬ ‫‪/‬الشهودي تستوي معرفيات امليتافيزيقا ال َبعدية عىل ٍ‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫َوفق واحديَّة العق ِّ‬
‫ٍ بني املعرفة الوحيانية يف أفقها الغيبي واملعرفة العقلية يف أفقها الطبيعاين"‪ .‬وإذا ات ّفق‬
‫أ َّن هذه األخرية‪ ،‬أي "املعرفة العقليَّة" تتعامل مع االستدالل واملفاهيم والتص ُّورات‬
‫واأللفاظ‪ ،‬تقوم املعرفة الوحيان َّية عىل الكشف والشهود وعلم الفطرة‪ .‬ومن هنا ندرك‬
‫كل واحد منهام‬ ‫جوهري بني هذين اللونني من املعرفة وإنَّ ا يقع ُّ‬ ‫ٌّ‬ ‫أنَّه ال يوجد خالف‬
‫يف مقابل اآلخر‪ .‬وعىل هذا األساس تصبح "الفلسفة"‪ -‬وهي العلم الذي يدرس‬
‫يل مرتبة أوليَّة يف معارف امليتافيزيقا البَعديَّة‪ ،‬ذلك أ َّن مه َّمة الفلسفة‬
‫باالستدالل العق ِّ‬
‫معرفة الحقائق‪ ،‬واألداة التي تستخدمها لهذا الغرض وتثبت بها مسائلها هي "العقل"‬
‫و"املفاهيم الذهن َّية"‪ .‬وعليه‪ ،‬من املحال أن نتوقَّع منها اإلقرار بالكشف والشهود‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫التمهيد إلى ميتافيزيقا بَعد ّية‬

‫استخالص‪:‬‬

‫تتغ َّيا امليتافيزيقا ال َبعديَّة متاخمة املقصد األعىل لعلم الوجود وتسييل حكمة‬
‫علم عقليًّا مفارقًا‪ .‬أ َّما غايتها مام ستميض إليه فعىل وجهني‪:‬‬ ‫ً‬ ‫اإليجاد بوصفها‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أ َّولهام‪ ،‬إلثبات نسبة املعارف والعلوم الحكم َّية إىل فضاء امليتافيزيقا‪ ،‬ثانيهام‪ ،‬لتمييز‬
‫مم هي عليه "امليتافيزيقا القبْليَّة" أي الفلسفة‬ ‫ما هي عليه الحكمة اإللهيَّة البالغة‪َّ ،‬‬
‫األولىفي نظرتها إىل حقائق الوجود‪ .‬الوجهان يحيالن إىل قض َّية تتَّصل باإلختالف‬
‫علم‪ ،‬يرقى إىل استشعار كُن ِه الوجود‪ ،‬وما به‬ ‫املنهجي بني ما به صارت الحكمة ً‬ ‫ِّ‬
‫َصت غايتها عىل فهم الوجود يف‬ ‫صارت مباحث الفلسفة األوىل ميتافيزيقا قَ ْبل َّية ق َ‬
‫الفينومينولوجي‪ ..‬ماهيَّة امليتافيزيقا البَعديَّة وهويَّتها تتعيَّنان إذًا‪ ،‬يف اختبارها‬
‫ّ‬ ‫حقله‬
‫ملنظومة معرفة توحيديَّة ترمي إىل مجاوزة ثنائ َّية الوجود واملوجود‪ ،‬لتستظهر قيوم َّية‬
‫املوِجد عىل املوجود واعتنائه به‪ .‬ولهذه الغاية أقامت ُدربتها املعرفيَّة عىل جدليَّة‬
‫خلْق؛ حيث ال فصل عىل متامه‪ ،‬وال وصل عىل متامه‪.‬‬ ‫الحق وال َ‬
‫ِّ‬ ‫الوصل والفصل بني‬
‫كل‬‫األمري‪ ،‬من َّزهٌ من حيث ذاته عن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الحق الذي أوجد املوجود األول باإليحاء‬ ‫َّ‬ ‫ذاك أ َّن‬
‫يئ‪ ،‬أو إيجاد الوجود باألمر والخلق‪ ،‬ففه ُمه‬ ‫ٍ‬
‫ووصف وتقييد‪ .‬أ َّما األمر اإليحا ُّ‬ ‫وصلٍ‬
‫يف امليتافيزيقا البَعديَّة يرسي وفق سرييَّة جوهريَّة تنتظم عن طريقها صالت الغيب‬
‫الطبيعي وقانون‬
‫ِّ‬ ‫بالواقع‪ ،‬والواقع بالغيب‪ .‬هي حركة وحيان َّية تشتمل عىل ُس َنن التط ُّور‬
‫السببيَّة‪ ،‬وكذلك عىل العناية اإللهيَّة كحقيقة سارية يف الوجود؛ ذلك بأ َّن املرسى‬
‫يل‬
‫اإلمتدادي املحفوظ بالعناية اإلله َّية ال ينشط يف امليتافيزيقا ال َبعديَّة عىل سياق آ ٍّ‬ ‫َّ‬
‫من النقطة ألف إىل النقطة ياء‪ ،‬إمنا هو فعاليَّة سارية يف مكمون الحركة التاريخيَّة‪،‬‬
‫تتأب االنقطاع والفراغ‪.‬‬‫وتحوالتها التي َّ‬
‫ٌ‬
‫اعتالل أنطولوجي بلغ ذروته يف تاريخ اإلنسان‬ ‫منتهى القول‪ ..‬أننا بإزاء مقرتح أماله‬
‫يقض عامل‬
‫ُّ‬ ‫الحديث‪ .‬وما مسعانا إىل امليتافيزيقا البَعدية إال إستجابة لنداء خافت‬
‫التفلسف باستفهامات كربى تغشَّ اها النسيان‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪21‬‬
‫المحور‬
‫َّ‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا النورية‬
‫تأصيل أنطولوجيا الوجود ف� حكمة ش‬
‫اإل�اق لدى السهروردي‬ ‫ي‬
‫يد هللا يزدان پناه‬
‫ف‬
‫التفك� ي� الماوراء‬
‫ي‬
‫يز‬ ‫ف‬
‫الميتاف�يقية‬ ‫اختبارات أرسطو ي� بناء المعرفة‬
‫رسول محمد رسول‬
‫ي ن‬
‫وأفلوط�‬ ‫الر َّ‬
‫واقية‬ ‫ب� ّ‬ ‫يز‬
‫ميتاف�يقا وحدة الوجود ي ن‬
‫ن‬
‫للمبا� النظرية‬
‫ي‬ ‫ـ ـ تأصيل مقارن‬
‫ّ‬ ‫ف‬
‫مصط� النشار‬
‫َّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫الميتاف� َّ‬
‫يقية للصورة‬ ‫يز‬ ‫األبعاد‬
‫ن‬ ‫ف‬
‫اليما�‬
‫ي‬ ‫ـ ـ دراسة ي� فلسفة العارف باهلل أحمد بن علوان‬
‫الفالح‬
‫ي‬ ‫عل‬‫عبد هللا محمد ي‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا الحضور والمشاهدة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫العرفانية‬ ‫الكونية‬ ‫بحث ي� أصول ومبادئ الرؤية‬
‫فادي نارص‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫يز‬
‫الطبيع ي� فلسفة مل صدرا‬
‫ي‬ ‫الميتاف�يقية للجسم‬ ‫المكانة‬
‫َّ‬
‫ـ«الذرات»‬ ‫ُّ‬
‫المستمر لل‬ ‫ُّ‬
‫التحول‬ ‫دراسة مقارنة بصدد‬
‫رزم‬ ‫ت‬
‫حج� | مهدي منفرد | حبيب هللا ي‬
‫ي‬ ‫ـ فريد‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا وإدبارها‬ ‫إقبال‬
‫َ‬
‫محاولة لالنتقال بالفلسفة إىل طور ما بعدي‬
‫عل‬
‫غيضان السيد ي‬
‫نَّ‬ ‫يز‬
‫ميتاف�يقا المث�‬
‫ُدربة ُ‬
‫الع َرفاء إىل توحيد هللا وتوحيد العالم‬
‫ـ محمود حيدر‬
‫يز‬ ‫ف‬
‫ميتاف�يقا مارتن هايدغر‬ ‫إشكالية هللا ي�‬
‫الشخص‬
‫ي‬ ‫مفهوم الكينونة ومسألة اإلله‬
‫ـ هانس كوكلر‬
‫امليتافيزيقا النور َّية‬
‫تأصيل أنطولوجيا الوجود يف حكمة اإلرشاق لدى السهروردي‬

‫يد هللا يزدان پناه‬


‫ّ‬
‫العلمية ـ إيران‪.‬‬ ‫ف‬
‫إسالم وأستاذ الفلسفة والعرفان النظري ي� الحوزة‬
‫ي‬ ‫فيلسوف‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ص‬ ‫ملخ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬
‫اإلله شهاب الدين السهروردي البحث‬ ‫ي‬ ‫نظرية النظام النوري عند الحكيم‬ ‫تشكل‬
‫وتتب� معرفة النفس‬ ‫َّي ن‬ ‫ا�‪،‬‬ ‫اإل� ق ُّ‬‫اقية‪ ،‬فمن خاللها َّيتضح المنهج ش‬ ‫األهم ف� حكمته ش‬
‫اإل� َّ‬ ‫َّ‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫النورية"‪ ،‬و"فقه‬ ‫َّ‬ ‫اقية‪ ،‬وبسببها أطلق عىل فلسفته عناوين مفارقة مثل "الحكمة‬ ‫اإل� َّ‬‫ش‬
‫األنوار"‪ ،‬و"علم األنوار"‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ه من اإلبداعات‬ ‫ما ال شك فيه أن نظرية النظام النوري مع تفرعاتها كافة‪ ،‬ي‬
‫َّ‬
‫اإل�اق‪ ،‬الذي كان َيعتقد أنها لم تكن لتحصل له لوال‬ ‫الخاصة بشيخ ش‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الفلسفية‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫فه ي� فرادتها‪ ،‬حيث لم يكن‬ ‫الفيوضات اإللهية‪ .‬أما السمة المفارقة لهذه النظرية‪ ،‬ي‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫المش ئ ّ‬ ‫ف ِّ‬ ‫ف‬
‫السهروردي إشارات‬ ‫ا� وال ي� سواه‪ .‬ولقد قدم‬ ‫ي‬ ‫الفلس�‬
‫ي‬ ‫لها وجود ي� النظام‬
‫ِّ‬ ‫ف‬ ‫ف ِّ‬ ‫ف‬
‫األهم "حكمة‬ ‫الفلس�‪ ،‬وبسط الكالم عليه ي� كتابه‬ ‫ي‬ ‫مخترصة ي� كتاباته عن هذا النظام‬
‫يز‬ ‫ف‬ ‫ش‬
‫يستجل أحد‬
‫ي‬ ‫الميتاف�يقا النورية‪ ،‬ما‬ ‫اإل�اق"‪ .‬ولعل ي� ما تقدمه هذه الدراسة بصدد‬
‫اإل�اق السهروردي‪.‬‬ ‫المؤسسة لعلم الوجود من وجهة نظر شيخ ش‬ ‫ِّ‬ ‫أبرز األركان النظرية‬
‫ف‬
‫موجد‬
‫ويمكن اإلشارة هنا عىل وجه الخصوص ما ذهب إليه ي� علم الواجب ومعرفة ِ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫الجسما�‪ .‬ناهيك عن مسائل شديدة ي� الفلسفة والحكمة كاعتبارية‬ ‫ي‬ ‫الموجود والمعاد‬
‫المعقوالت الثانية والقول بأصالة الماهية‪.‬‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا النورية‬ ‫نش� إىل أن الدراسة هنا تقارب عىل نحو التخصيص فكرة‬‫ي‬
‫ف‬
‫الفلس� للحكمة ش‬
‫اإل�اقية عند السهروردي‪.‬‬ ‫ف‬
‫ي‬ ‫كأطروحة مركزية ي� النظام‬
‫***‬
‫ّ‬
‫الحضوري‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الفياضية‪ ،‬العلم‬ ‫اإل�اق‪،‬‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا‪ ،‬الحكمة النورية‪ ،‬ش‬ ‫مفردات مفتاحية‪:‬‬
‫الهويةالنو َّرية‪.‬‬
‫َّ‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫النوري[[[‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫سنحاول يف هذه الدراسة اإلطاللة عىل مبحثني لشيخ اإلرشاق يف ما يتعلَّق بالنظام‬
‫نطالع يف األول املق ِّدمات الرضوريَّة للدخول إىل نظريَّة هذا النظام‪ ،‬ونعالج يف الثاين اآلثار‬
‫والتداعيات التي ترتكها امليتافيزيقا النوريَّة[[[ عىل النواحي واألبعاد األخرى من قبيل علم النفس‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫اإلرشاقي‪.‬‬
‫ّ‬
‫املبحث األ َّول‪ :‬ع َّرج فيه عىل أبرز املق ِّدمات الرضوريَّة للدخول إىل امليتافيزيقا النوريَّة‪ّ ،‬‬
‫أي‬
‫النفس التي تشكِّل معرفتها ومعرفة هويَّتها املدخل لفهم هذه امليتافيزيقا‪ ،‬باعتبار أنَّها الرابط الوحيد‬
‫بني عامل َي األنوار العالية واألجسام الغاسقة‪ .‬وقد أثبت الهويَّة النوريَّة للنفس من خالل التأسيس‬
‫الحضوري بذاتها وبغريها وألنَّها حقيقة بسيطة غري مركَّبة‪ .‬وبعد ذلك ع ّرج عىل أحكامها‬‫ِّ‬ ‫لعلمها‬
‫أي كونها بده َّية‪ ،‬ومشكّكة‪ ،‬وتشهد بعضها البعض‪ ،‬ومتتاز بحالتَي العشق والقهر تجاه بعضها‬ ‫العا َّمة ّ‬
‫اآلخر[[[‪.‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬تركَّز حول اآلثار التي ترتكها امليتافيزيقا النوريَّة عىل العلوم األخرى حيث عالج‬
‫عناوين ثالثة‪:‬‬
‫اإلرشاقي‪ ،‬فظهرت النفس عىل أنَّها صلة الوصل الحقيق َّية بني عامل َي‬
‫ِّ‬ ‫األ َّول‪ :‬عالقتها بعلم النفس‬
‫النوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النور والظلمة‪ ،‬وهي القادرة عىل نقل اإلنسان إىل عامل الشهود‬
‫الثاين‪ :‬عالقتها باألخالق‪ ،‬باعتبار أ َّن الوصول إىل السعادة يتوقَّف عىل اإلتصال بعامل األنوار‬
‫أل َّن جذور الفضائل تعود إليه‪.‬‬
‫اإلرشاقي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫عب‬ ‫الثالث‪ :‬عالقتها بالحكمة السياس َّية‪ ،‬حيث ال تخلو األرض من ح َّ‬
‫جة إله َّية كام ّ‬
‫واألولويَّة يف الرئاسة ملن أتقن وامتلك أعىل مستويات الذوق والشهود إىل جانب البحث‬
‫واإلستدالل‪.‬‬

‫النص املرتجم فصل من كتاب‪ :‬آموزش حكمت ارشاق [تعليم حكمة اإلرشاق]‪ ،‬تأليف يد الله يزدان پناه ‪ ،‬تحقيق عيل اميني نجاد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫نرش مركز دراسات الحوزة والجامعة‪ ،‬إيران‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ 1395‬هـ‪.‬ش‪2016 /‬م‪.‬‬
‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬عيل الحاج حسن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ثالث رسائل لشيخ اإلرشاق‪ ،‬تصحيح نجفقيل حبيبي‪( ،‬كلمة التص ُّوف)‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫[[[‪ -‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين(شيخ اإلرشاق)‪ ،‬مجموعة املص َّنفات‪ ،‬ج‪( ،2‬حكمة اإلرشاق)‪ ،‬ص ‪259‬؛ ج‪(1‬املطارحات)‪ ،‬ص ‪.505‬‬

‫‪25‬‬
‫المحور‬

‫ِّ‬ ‫املبحث َّ‬


‫األول‪ :‬املقدمات‪:‬‬
‫َّ‬
‫النورية‪:‬‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا‬ ‫‪ .1‬معرفة النفس‪ ،‬بداية‬
‫تبدأ فلسفة اإلرشاق‪ ،‬سواء من الناحية التعليميَّة أم التاريخيَّة من معرفة النفس‪ .‬كام أ َّن معرفة‬
‫النوري وفهم علم الوجود‬
‫ِّ‬ ‫النفس ومعرفة هويَّتها النوريَّة‪ ،‬عىل جانب كبري من األهم َّية إلدراك النظام‬
‫[[[‬
‫اإلرشاقي‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكل‬
‫السهروردي عىل تثبيت الهويَّة النوريَّة للنفس‪ ،‬كمق ِّدمة إلثبات الهويَّة النوريَّة ِّ‬
‫ُّ‬ ‫ولقد عمل‬
‫الحق تعاىل‪ .‬وهو ات َّبع يف‬
‫ِّ‬ ‫املوجودات التي هي يف مرتبة أعىل من النفس‪ ،‬ليصل بتلك املقولة إىل‬
‫حا يتك َّون من خطوات ثالث‪:‬‬ ‫ميتافيزيقاه النوريَّة طريقًا واض ً‬
‫ّ‬
‫الحضوري بذاته‪:‬‬ ‫* الخطوة األوىل‪ :‬علم النفس‬
‫السهروردي يف‬
‫ُّ‬ ‫الحضوري حيث ال وساطة يف تحقُّقه‪ .‬وقد أشار‬
‫ِّ‬ ‫كل واحد منا يعلم نفسه بالعلم‬
‫ُّ‬
‫الحضوري مستويني‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫آثاره إىل أ َّن للنفس يف علمها‬
‫بالخواص‪ ،‬والذي يحصل‬
‫ِّ‬ ‫مختص‬
‫ٌّ‬ ‫الحضوري بذاتها‪ ،‬وهو‬
‫ِّ‬ ‫أ‪ -‬املستوى األعىل من علم النفس‬
‫حني التج ُّرد من البدن‪ .‬ميتاز هذا املستوى بالوضوح والشفافيَّة ويرتت َّب عليه فوائد عديدة عىل‬
‫[[[‬
‫السهروردي هذا الحال لبعض العظامء من أمثال أفالطون‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫مستوى املعرفة الشهوديَّة‪ .‬وقد نسب‬
‫كام حىك عن حصول األمر عينه لنفسه[[[‪.‬‬
‫الحضوري بذاته‪ ،‬وهو مستوى يحصل للعموم من‬ ‫ِّ‬ ‫ب‪ -‬املستوى األدىن من علم النفس‬
‫فصل الكالم يف هذا الشأن ذاك ًرا العديد من‬
‫الخواص والعوا ِّم أثناء االرتباط بني النفس والبدن‪ .‬وقد ّ‬
‫ِّ‬
‫الحضوري لها[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يل للنفس وإثبات العلم‬
‫االستدالالت يف نفي العلم الحصو ِّ‬
‫أي وساطة؛ فذاتها تكون حارضة عند ذاتها‪ .‬وقد‬ ‫تدرك النفس ذاتها يف كال املستويني من دون ِّ‬
‫اتَّفق الفالسفة يف هذا املوضوع عىل تحقُّق نوع من اإلتحاد بني العلم والعامل واملعلوم‪ ،‬فتشكِّل‬
‫علم من جهة‪ ،‬وعامل ًا من جهة ثانية‪ ،‬ومعلو ًما من جهة ثالثة‪.‬‬
‫حقيقة واحدة‪ ،‬تكون ً‬
‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬يجدر القول أنَّ‪:‬‬

‫وحل كتبه ورموزه متوقِّف عىل معرفة النفس»‪ .‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،3‬مقدِّ مة السيد حسني نرص‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫[[[‪« -‬وبالجملة فإن معرفة كالمه ّ‬
‫[[[‪ -‬وقد حىك اإللهي أفالطون عن نفسه فقال ما معناه «إين رمبا خلوت بنفيس وخلعت بدين جان ًبا ورصت كأين مج َّرد بال بدن عري‬
‫جا عن سائر األجزاء‪ ،‬فأرى يف نفيس من الحسن والبهاء والسناء والضياء‬ ‫ً‬
‫داخل يف ذايت خار ً‬ ‫بري عن الهيوىل فأكون‬
‫عن املالبس الطبيع َّية ّ‬
‫واملحاسن العجيبة األنيقة ما أبقى متعج ًبا فأعلم أين جزء من أجزاء العامل األعىل الرشيف»‪ .‬مجموعة املص َّنفات‪ ،‬التلويحات‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫[[[‪ -‬إين تج َّردت بذايت ونظرت فيها فوجدتها أن ّية ووجودًا ‪ .‬م‪.‬ن‪ .‬ص ‪.115‬‬
‫[[[‪ -‬مجموعة املص َّنفات‪ ،‬ج‪ ،1‬املطارحات‪ ،‬ص ‪484‬؛ ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪26‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫علم حصوليًّا وال يحصل عن طريق املفهوم‪ ،‬وإلَّ ملا علمت النفس‬
‫‪ - 1‬عل ُمنا بأنفسنا ليس ً‬
‫عني ذاتها ولبقيت مجهولة لذاتها‪.‬‬
‫‪ - 2‬ال يتحقَّق عل ُمنا بذواتنا عن طريق األدوات والقوى واآلالت اإلدراك َّية‪ ،‬بل ندرك أنفسنا بعني‬
‫وإل لو كان علمنا بواسطة القوى واآلالت‪ ،‬ملا علمنا ذواتنا عىل حقيقتها‪ ،‬ولبقيت مجهولة‪.‬‬ ‫أنفسنا‪َّ ،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الحضوري‪ ،‬هو كامل حقيقتنا وال تدرك أجزاؤنا‪ .‬فأجزاؤنا وأعضاؤنا‬


‫ِّ‬ ‫كل ما تدرك النفس بالعلم‬
‫‪ُّ - 3‬‬
‫كالقلب واألعضاء‪ ...‬ال تشكِّل حقيقتنا‪ [[[،‬بل معرفتها تأيت يف مرتبة متأخِّرة عن معرفة الذات[[[‪.‬‬
‫وإل‬
‫الحضوري ليس حقيقة عارضة عىل النفس‪ ،‬بل هو عني ذات النفس‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫‪ - 4‬علم النفس‬
‫لكانت النفس يف مرحلة معيَّنة غري عاملة بذاتها[[[‪.‬‬
‫الحضوري ليس جز ًءا من حقيقتنا[[[ بحيث تتمكَّن األجزاء األخرى من تشكيل حقيقة‬
‫ُّ‬ ‫‪ - 5‬العلم‬
‫الحضوري بالذات هو كامل حقيقة النفس وعينها‪ ،‬فام ال يُدرك بالعلم‬
‫ُّ‬ ‫أنفسنا‪ [[[.‬فعلم النفس‬
‫[[[‬
‫الحضوري‪ ،‬ليس جز ًءا للنفس‪.‬‬
‫َّ‬
‫النورية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫* الخطوة الثانية‪ :‬النفس وهويتها‬
‫الحضوري بالذات‪ ،‬وهي‬
‫ِّ‬ ‫مم تق َّدم أ َّن حقيقة النفس‪ ،‬حقيقة إدراكيَّة عبارة عن علمها‬
‫يتَّضح َّ‬
‫كل لحظات وجودها‪ ،‬والنفس حقيقة بسيطة مدركة عىل الدوام‪ .‬من هنا ميكن‬ ‫دامئة ومستم َّرة يف ِّ‬
‫[[[‬
‫الحضوري لذاتها وعدم الغيبة عن ذاتها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫القول أن ليس للنفس هويَّة سوى إدراكها‬
‫السهروردي أطلق عنوان الهويَّة النوريَّة عىل هذه الحقيقة‪ ،‬كام أطلق عىل‬
‫َّ‬ ‫ومن املفيد القول أ َّن‬
‫النفس عنوان “النور املحض” للسبب عينه‪ .‬وقد ذكر برهانًا إلثبات هويَّة النفس النوريَّة عن طريق‬
‫الحضوري العالية حيث‬
‫ِّ‬ ‫خاص مبستويات العلم‬ ‫ٌّ‬ ‫والحضوري‪ ،‬وهو طريق‬‫ِّ‬ ‫الشهودي‬
‫ِّ‬ ‫علم النفس‬
‫[[[‬
‫كل من يصل إليه من إدراك الهويَّة النوريَّة للنفس‪.‬‬ ‫يتمكَّن ُّ‬

‫[[[‪ -‬تعود أصل هذه املسألة إىل إبن سينا يف ما أطلق عليه الرجل املعلق‪ .‬والتي ميكن االستفادة منها إلثبات أنَّ النفس غري األعضاء‬
‫والجوارح وأنَّ حقيقة النفس مج َّردة عن املادَّة والجسامن َّيات‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.13-12‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ .‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪11 ،7-4‬و‪.20‬‬
‫[[[‪ -‬مل يكن شيخ اإلرشاق الوحيد الذي أشار بهذا الشكل اىل علم النفس‪ ،‬فقد سبقه املشَّ اؤون يف هذا البحث‪ .‬يقول ابن سينا‪»:‬الذات‬
‫كل حال حارضة للذات ال يكون هناك ذهول عنها‪ ،‬ونفس وجودها هو نفس إدراكها لذاتها‪ ،‬فال تحتاج إىل أن تدركها إذ هي مدركة‬ ‫تكون يف ِّ‬
‫يت للنفس ال يكتسب من خارج وكأنه‬ ‫وحارضة لها وال افرتاق هناك» (ابن سينا‪ ،‬التعليقات‪ ،‬ص ‪ .)148‬ثم يقول ابن سينا‪ :‬والشعور بالذات ذا ٌّ‬
‫إذا حصل الذات حصل معها الشعور وال نشعر بها بآلة»‪(...‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.)16‬‬
‫[[[‪ -‬مجموعة املص َّنفات‪ ،‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪ 110‬و‪.114 113-‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،1‬التلويحات‪ ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪27‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫النورية للموجودات األعىل من النفس‪:‬‬ ‫َّ‬
‫* الخطوة الثالثة‪ :‬الهوية‬
‫يدخل شيخ اإلرشاق فضا ًء جدي ًدا بعد اإلنتهاء من الخطوات املتق ِّدمة‪ .‬وقد عمل عىل إثبات‬
‫الهويَّة النوريَّة للموجودات األعىل مرتبة من النفس‪ ،‬ومن جملتها الباري تعاىل من خالل االعتامد‬
‫عىل مق ِّدمة شهوديَّة وحضوريَّة‪ .‬وهو يعترب أ ّن النفس هويَّة مدركة ونوريَّة وذات حقيقة بسيطة ظاهرة‬
‫عىل الدوام‪ ،‬فمن األوىل أن تكون املوجودات األعىل منها ذات هويَّة نوريَّة وإدراك َّية‪ .‬بعبارة أخرى‪،‬‬
‫وبنا ًء عىل النظام التشكييكِّ‪ ،‬إذا كانت املرتبة األدىن نو ًرا‪ ،‬فاألعىل نور أيضً ا بطريق أوىل[[[‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬وصل شيخ اإلرشاق يف بحثه وبالتدريج إىل نتيجة مفادها أن نفس اإلنسان واسطة بني‬
‫عامل النور وظلمة عامل املا َّدة؛ فام هو فوق النفس ذو هويَّة نوريَّة‪ ،‬وما هو دونها ذو هويَّة غري‬
‫إدراكيَّة ومظلمة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وفياضيته‪:‬‬ ‫* النور‪ :‬حياته‬
‫يُعترب السؤال عن حقيقة الحياة ومعناها من جملة األسئلة الفلسفيَّة الها َّمة‪ .‬فقد اعترب البعض‬
‫الحياة عبارة عن حقيقة مركَّبة من العلم والقدرة‪ ،‬واعتربها آخرون مبدأً ومنشأ للعلم والقدرة‪ .‬وبغض‬
‫النظر عن املقولتني فاملوجود صاحب العلم والقدرة ال ب َّد من أن يكون صاحب حياة والعكس‬
‫صحيح‪ ،‬فام ال علم وال قدرة له ليس ح ًّيا‪ .‬وتجدر اإلشارة هنا إىل أ َّن الدقَّة يف معنى القدرة واختالفها‬
‫يبي أنَّها ترتت َّب عىل العلم؛ أل َّن القدرة هي القابلية لإلتيان بالفعل عن علم‪ [[[.‬من‬
‫عن مطلق الق َّوة‪ّ ،‬‬
‫هنا‪ ،‬إذا كانت الحياة منشـأ العلم والقدرة‪ ،‬ترتتَّب هذه األمور بد ًءا من الحياة ويليها العلم‪ ،‬ثم‬
‫القدرة‪ ،‬ومن ثم العمل‪.‬‬
‫مم تق َّدم‪ ،‬حاول شيخ اإلرشاق إثبات أ َّن األنوار الجوهريَّة كالنفس واملوجودات األعىل‬ ‫انطالقًا َّ‬
‫منها‪ ،‬هي أنوار ظاهرة بنفسها‪ ،‬وهي ذات علم بذاتها‪ ،‬وهو ما يشكِّل حقيقة هويَّتها‪ .‬وقد متكن‬
‫النوري مساوق للعلم‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الجوهري وحقيقة الحياة[[[؛ فالجوهر‬
‫ِّ‬ ‫بوساطة هذا األصل من إيجاد الرابط‬
‫ح ٌّي بالرضورة‪ ،‬وهذا يعني أ َّن‬‫جوهري َ‬
‫ٍّ‬ ‫كل نور‬
‫والعلم واإلدراك هام عني الحياة أو آثار لها‪ .‬ولذلك‪ُّ ،‬‬
‫[[[‬
‫النوري عن طريق العلم واإلدراك‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫شيخ اإلرشاق أثبت الحياة للجوهر‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪ 117-116‬وكذلك املقاومات‪ ،‬ص ‪ .187-186‬وقد ورد عن شيخ اإلرشاق قوله يف هذا الخصوص‪« :‬إنَّ النفس وما فوقها‬
‫إنيات رصفة ووجودات محضة»‪ .‬ويقصد من الرصف والوجود الرصف هنا «املوجود عند نفسه» و«الحارض عند نفسه»‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫«الوجود الرصف يورد يف كتبنا مبعنى املوجود عند نفسه أي املدرك لذاته»[م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،1‬املقاومات‪ ،‬ص ‪ ]190‬ومل ينس اإلجابة عىل شبهة‬
‫أنَّ هذا الكالم ال يتامىش مع القول باعتباريَّة الوجود فقال‪« :‬أما قلتم إنه نفس الوجود البحث؟ الجواب‪ :‬إمنا أردنا املوجود عند نفسه [م‪.‬ن‪،‬‬
‫ص ‪.]187‬‬
‫[[[‪ -‬العلَّمة الطباطبايئ‪ ،‬نهاية الحكمة‪ ،‬خامتة املرحلة ‪ ،9‬ص ‪.220‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪.‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪117‬؛ ج‪ ،1‬املقاومات‪ ،‬ص ‪.188-186‬‬

‫‪28‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫أما يف ما يتعلَّق بالفياضيَّة فقد استنتج فياضيَّة النور من خالل الدقَّة يف النور عينه؛ فالنور من‬
‫وجهة نظره هو “الظاهر لنفسه واملظهر لغريه”‪ ،‬باعتبار أ َّن هويَّة النور اإلرشاق‪ [[[.‬وعىل هذا األساس‪،‬‬
‫فالنور ف َّياض ومرشق بالذات‪ [[[.‬باإلضافة إىل ما تق َّدم بإمكان شيخ اإلرشاق الحديث عن صدور‬
‫[[[‬
‫األفعال الصادرة من علم عن طريق القدرة املرتبطة بالعلم والحياة‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫بنا ًء عىل هذا‪ ،‬ميكن إثبات الفياض َّية للجواهر النوريَّة من خالل إثبات هويَّتها اإلدراك َّية‪ .‬ومع‬
‫إثبات اإلدراك والقدرة والفياض َّية ميكن إثبات حياتها‪.‬‬
‫حي وميت؛ واعترب أ َّن النفس وما‬
‫كل املوجودات إىل قسمني‪ّ :‬‬ ‫قسم السهروردي َّ‬
‫يف هذا اإلطار‪َّ ،‬‬
‫فوقها موجودات ح َّية‪ ،‬واملوجودات الجسامن َّية واملا ّديَّة غري ح َّية‪ [[[.‬ومن هنا تتَّضح مسألة معرفة‬
‫الوجود اإلرشاق َّية والتي ميكن الدخول من خاللها إىل تقسيم العامل إىل النور والظلمة‪.‬‬

‫‪ - 2‬أقسام النور والظلمة‪:‬‬


‫النوري واإلدرايكَّ‬
‫َّ‬ ‫السهروردي عن املا َّدة واملا ّديَّات وعامل األبعاد‪ ،‬وأثبت الوجود‬
‫ُّ‬ ‫تح َّدث‬
‫للموجودات األعىل مرتبة من النفس‪ ،‬ثم ق ّدم تص ُّو ًرا لنظام الوجود ميكن أن يطلق عليه عنوان “نظام‬
‫النور والظلمة”‪ .‬واستنتج أ َّن العامل بأرسه يتشكَّل من اثنني‪ :‬النور والظلمة‪ ،‬أو الرشق والغرب يف‬
‫قسم النور كام هو الحال يف الوجود إىل قسمني‪“ :‬نور‬ ‫االستعاري‪ [[[.‬وبعد ذلك َّ‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاقي‬
‫ِّ‬ ‫التعبري‬
‫يف نفسه لنفسه” و “نور يف نفسه لغريه”[[[‪“ .‬النور يف نفسه لنفسه عبارة عن األنوار الجوهريَّة وهي‬
‫اإلرشاقي‬
‫ُّ‬ ‫عبارة عن نور األنوار‪ ،‬األنوار الطوليَّة والعرضيَّة‪ ،‬النفوس الفلكيَّة واإلنسانيَّة‪ .‬وتح َّدث‬
‫عن األنوار الجوهريَّة بعبارة “النور املحض”[[[‪ .‬أ َما “النور يف نفسه لغريه‪ ،‬فهي األنوار العرض َّية‬
‫التي أشار إليها شيخ اإلرشاق بعبارة “النور العارض”‪ [[[.‬واألنوار العارضة قسامن‪“ :‬النور العارض‬
‫املج َّرد” وهي عبارة عن األنوار التي ترشق عىل األنوار الجوهريَّة الدانية من األنوار الجوهريَّة‬
‫العالية‪ .‬وتعترب هذه األنوار أنوار عرضيَّة بالنسبة إىل الجواهر النوريَّة السفليَّة وهي تؤ ّدي إىل ازياد‬
‫السهروردي هذه األنوار العارضة املج َّردة بعبارة “النور السانح”[[[ والقسم اآلخر‬
‫ُّ‬ ‫الضياء‪ .‬وقد ذكر‬
‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.47‬‬
‫[[[‪ -‬والحياة هي أن يكون اليشء ظاه ًرا لنفسه‪ ،‬والحي هو اإلدراك الفعال‪ .‬فاإلدراك عرفته والفعل أيضً ا للنور ظاهر وهو ف َّياض بالذات‪،‬‬
‫فالنور املحض َح ّي وكل َح ّي فهو نور محض(م‪.‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.)117‬‬
‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ ، 47‬تعليقة صدر املتألّهني‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪117‬و‪.121‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬قصة الغربة الغرب َّية‪ ،‬ص ‪.197-274‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬وقد وافق شيخ اإلرشاق عىل وجود نوع من الظلمة يف غري نور األنوار‪ ،‬أي يف األنوار الطول َّية والعرض َّية والنفوس واعتربها من‬
‫لوازم التن ُّزل التشكييك‪ ،‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪ 147 ،133‬و‪.235‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫المحور‬

‫من األنوار العارضة عبارة عن “األنوار العرضيَّة املا ّديَّة” ومن أبرز مصاديقها نور الشمس‪ ،‬نور‬
‫املصباح‪ ،‬نور الشمع‪ ،‬فهي جميعها أنوار عارضة عىل الجواهر الجسامنيَّة املظلمة‪.‬‬
‫والظالم يف هذا اإلطار عىل شكلني أيضً ا‪ :‬الشكل األول هو الظلمة الجوهريَّة‪ ،‬وهي عبارة عن‬
‫ين غائب‬
‫اإلرشاقي‪ ،‬بالربزخ[[[‪ .‬ومبا أ َّن الجوهر الظلام َّ‬
‫ّ‬ ‫الجسم الذي جاء التعبري عنه يف املصطلح‬
‫أي شكل من أشكال النور واإلدراك والشهود‪ .‬والسبب يف ذلك أ َّن للجسم‬ ‫بالكامل‪ ،‬فهو يفتقد َّ‬
‫أبعا ًدا‪ ،‬والهويَّة ذات األبعاد تقسم إىل ثالثة أجزاء النهاية لها‪ -‬طرفان ووسط‪ -‬والوسط مانع وحاجب‬
‫كل جزء منها إىل ثالثة أجزاء أيضً ا‬‫بني الطرفني‪ ،‬ويوجب غيابهام بعضهام عن بعض‪ ،‬ثم ينقسم ُّ‬
‫حيث ال يتوقَّف هذا التقسيم‪ .‬وهذه الحالة املوجودة يف “الحقيقة البُعديَّة” أي الجسم‪ ،‬هي التي‬
‫تس ّبب له الغياب وعدم اإلدراك؛ يضاف إىل ذلك أ َّن الجسم من ناحية تغيُّ ه وحركته ميتلك بع ًدا‬
‫ومقدا ًرا غري قا ٍر يف الزمان‪ ،‬لذلك كان االحتجاب يف أجزاء الجسم عىل امتداد الزمان‪ ،‬وبذلك‬
‫ال ميكن له أن يكون مدركًا‪ .‬وعندما يصبح الجسم غائ ًبا‪ ،‬تحتجب جميع أغراضه[[[‪ .‬وبهذا النحو‬
‫[[[‬
‫يكون لعامل املا َّدة هويَّة غري إدراكيَّة إذ إنَّه غارق يف الظالم‪.‬‬

‫اإلرشاقي تع َّرض ملناقشات عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬


‫َّ‬ ‫يف‬
‫يجدر القول هنا أ َّن النظام املعر َّ‬
‫أ َّو ًل‪ :‬اعتبار عامل املا َّدة ظال ًما محضً ا يحمل يف ط َّياته مشكالت فلسف َّية وعرفان َّية ودين َّية‪ ،‬فإذا‬
‫يك وأ َّن عامل املا َّدة هو يف أضعف وأدىن املراتب‪ ،‬إلَّ أنَّه ال‬ ‫تح َّدثنا عىل أساس النظام التشكي ِّ‬

‫[[[‪ -‬أما ملاذا س ّميت األجسام بالربازخ فألنَّها تحول بني األشياء‪« :‬وملا كان الربزخ هو الحائل بني الشيئني وكانت األجسام الكثيفة حائلة‬
‫س ِّمي الجسم برزخًا» (الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ .)11‬وأما صدر املتكلّمني فقد أشار يف تعليقاته عىل حكمة اإلرشاق‬
‫(ج‪ ،2‬ص ‪ )5‬إىل أمرين يف سبب تسمية األجسام بالربزخ من جملتها أنَّ األجسام متتلك هو َّية غري إدراك َّية فقال‪« :‬وما أحسن تسمية الجسم‬
‫الطبيعي بالربزخ‪ ...‬لكون أجزائه املقداريَّة عند فرض القسمة كل منها معدوم عن اآلخر مفقود عنه‪ ،‬واآلخر أيضً ا معدوم منه فالكل غايب‬ ‫ِّ‬
‫عن الكل‪.»...‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪133‬؛ يزدان پناه‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪22-21‬؛ الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬تعليقة صدر‬
‫املتألّهني‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.5‬‬
‫[[[‪ -‬بعد اتضاح ظلامن َّية عامل املادَّة‪ ،‬يتَّضح تج ُّرد املوجودات النوريَّة‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫ميكن اعتباره خاليًا بالكامل من النور‪ .‬فلو كان عامل املا َّدة غيبًا بالكامل‪ -‬كام هي عبارة صدر‬
‫ظ من النور بسبب الوحدة اإلتصاليَّة[[[‪ .‬وقد تنبَّه شارحو حكمة اإلرشاق للمسألة‪،‬‬ ‫املتألِّهني – فله ح ٌّ‬
‫ظ ضعيف منه‪ [[[.‬ومع ذلك فالشيخ‬ ‫فبسطوا النور إىل عامل املا َّدة‪ ،‬واعتربوا أ َّن هذا العامل له ح ٌّ‬
‫رص عىل ظلامن َّية عامل املا َّدة[[[‪ .‬والعرفاء يعتقدون أ َّن العامل نور انطالقًا من مبنى الوحدة‬
‫اإلرشاقي يُ ُّ‬
‫ُّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ظل النسبيَّة‪ ،‬وأ َّما من‬


‫الشخصيَّة للوجود حتى أ َّن حديثهم عن ظلمة عامل املا َّدة ميكن تفسريه يف ِّ‬
‫وكل هذا يتعارض‬ ‫الناحية الدينيَّة فاملوجودات بأكملها تسبّح الله حتى أ َّن ذ َّرات املا َّدة تفعل ذلك‪ُّ ،‬‬
‫مع التحليالت التي ق َّدمها شيخ اإلرشاق‪.‬‬
‫ي ووضعه يف دائرة النور ال‬ ‫العريض املا ّد ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬إ َّن التحليل الذي ق َّدمه شيخ اإلرشاق للنور‬
‫الفلسفي الذي ق َّدمه للنور‪ .‬فقد تح َّدث يف قراءته الفلسف َّية للنور عن أنَّه الظهور‬
‫ِّ‬ ‫يتالءم مع التفسري‬
‫ظ له من إدراك نفسه أو إدراك غريه؛ فهو‬ ‫املادي ال ح َّ‬
‫َّ‬ ‫والحضور واإلدراك‪ ،‬مع العلم أ َّن النور‬
‫ليس سوى جزء من رشوط إرشاق وإبصار النفس يف ما يتعلَّق مبوجودات عامل املا َّدة‪ .‬لذلك‬
‫باملادي فحسب‪ .‬وهو رمز للنور‬
‫ِّ‬ ‫املادي مفيد يف إطار تشبيه املعقول باملحسوس واملج َّرد‬
‫ُّ‬ ‫فالنور‬
‫الحس‪.‬‬
‫ِّ ّ‬ ‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي الذي ال ينبغي الخلط بينه وبني النور‬
‫ِّ‬
‫إل أنَّه مل يتضح‬
‫السهروردي يُعترب من القائلني بعامل املثال‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ثالثًا‪ :‬صحيح أ َّن شيخ اإلرشاق‬
‫موقع هذا العامل واملوجودات املثال َّية يف التقسيم الذي ق َّدمه‪ .‬فهل عامل املثال ينتمي إىل أقسام‬
‫متوسطة بني النور والظالم؟‬
‫ِّ‬ ‫النور أم إىل عامل الظلمة‪ ،‬أوأنَّه حقيقة‬
‫َّ‬
‫العامة‪:‬‬ ‫* أحكام النور‬
‫كام أ َّن للوجود يف األنظمة الفلسف َّية أحكا ًما عا َّمة من ناحية كونه وجو ًدا‪ ،‬كذلك للنور أحكام‬
‫عا َّمة‪ .‬وهنا سنتط َّرق إىل خمسة أحكام له عبارة عن‪ :‬بداهة النور‪ ،‬النور املشكَّك‪ ،‬شهود األنوار‬
‫لبعضها‪ ،‬املحبَّة والقهر بني األنوار‪ ،‬واإلرشاقات والسوانح يف األنوار‪.‬‬

‫ـ بداهة النور‪:‬‬
‫تح َّدثت الفلسفتان املشَّ ائيَّة والصدرائيَّة عن الوجود واعتربته بدهيًّا‪ .‬أ َّما الحكمة اإلرشاقيَّة فقد‬
‫والبديهي‬
‫َّ‬ ‫الفطري‬
‫َّ‬ ‫تأسست عىل مفهوم النور بدلً من الوجود‪ .‬فقد اعترب شيخ اإلرشاق أ َّن املفهوم‬ ‫َّ‬
‫بديهي[[[‪ .‬وهو يعتقد أ َّن‬
‫ّ‬ ‫وكل ما هو مستغنى من التعريف‬ ‫البي املستغني عن التعريف‪ُّ ،‬‬ ‫هو املفهوم ِّ‬
‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج‪،2‬ص ‪.5‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.108-107‬‬
‫[[[‪ -‬إن كان يف الوجود ما ال يحتاج إىل تعريفه ورشحه فهو الظاهر‪ ،‬وال يشء أظهر من النور‪ ،‬فال يشء أغنى منه عن التعريف‪ .‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪،2‬‬
‫حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.106‬‬

‫‪31‬‬
‫المحور‬

‫األشياء التي جمعت رشطَي املحسوسيَّة والبساطة مستغنية عن التعريف وبديهيَّة‪ .‬فالبياض حقيقة‬
‫وبديهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫محسوسة وغري مركَّبة‪ ،‬لذلك فإ َّن مفهومه واضح‬
‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬اعتُرب النور حقيقة بديه َّية واضحة مستغنية عن التعريف‪ ،‬ال بل إ َّن النور أكرث‬
‫األشياء بداهة ألنَّه أظهرها‪ .‬وكام هو أظهر األشياء هو املظهر لها أيضً ا‪ .‬أ َّما األمر املحسوس فهو‬
‫للبديهي‬
‫ِّ‬ ‫بديهي أيضً ا حيث يتلقَّاه الشهود مبارشة ومن دون وساطة‪ .‬من هنا ميكن القول أ َّن تعريفه‬ ‫ٌّ‬
‫[[[‬
‫كل األنوار حتى الجوهريَّة واملج َّردة ال بل يتض َّمن الباري تعاىل‪.‬‬
‫يض ُّم يف داخله َّ‬
‫ّ‬
‫ـ النور المشكك‪:‬‬

‫يل يف الفلسفة اإلسالميَّة‪.‬‬


‫يُعترب شيخ اإلرشاق م َّمن أبدعوا يف إيجاد بحث التشكيك الداخ ِّ‬
‫ومتكَّن من إثبات أ َّن شيئًا واح ًدا قد ميتلك من الش َّدة والضعف ما يجعل ما به اإلمتياز عني ما به‬
‫ًّ‬
‫متكثا‪ .‬وهو يرى أ َّن النور حقيقة مشكّكة‪ ،‬وأ َّن ما بني مراتب النور عالقة‬ ‫االشرتاك‪ ،‬فيكون بذلك‬
‫تشكيك َّية‪ .‬وإذا كان واجب الوجود نور‪ ،‬والعقول الطول َّية والعرض َّية نور‪ ،‬وكذلك النفوس‪ ،‬فهي‬
‫[[[‬
‫ليست عني بعضها بل تختلف بالش َّدة والضعف‪ ،‬وأن ما متتاز به عني ما تشرتك به أي النور‪.‬‬
‫السهروردي عىل تحليل ماه َّية النور املشكَّكة من خالل عرض أسئلة وإجابات‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫يف الواقع‪ ،‬عمل‬
‫لو كان نور األنوار من سنخ النور‪ ،‬لوجب أن يشرتك مع األنوار األخرى يف املاه َّية النوريَّة‪ ،‬وأ َّما بناء‬
‫يف‪ ،‬ومن‬
‫عىل نظريَّة التشكيك يف األنوار‪ ،‬فإ َّن ما مي ّيز نور األنوار عن األنوار األخرى‪ ،‬هو كامل إضا ٌّ‬
‫الحق تعاىل إىل غريه‪ ،‬وهذا يتعارض مع غنى الخالق بالذات‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لوازم وجود هذا الكامل‪ ،‬احتياج‬
‫لذلك فالنور من ناحية كونه نو ًرا ال يقتيض هذا الكامل وإلَّ لوجب أن يكون هذا الكامل واج ًبا‬
‫لكل األنوار‪ .‬ويف الجواب أوضح نقطة دقيقة هي أ َّن تلك املاه َّية النوريَّة املشرتكة والتي ال تقتيض‬
‫ِّ‬
‫وكل وليست مفهو ًما خارج ًّيا‪ ،‬وأ َّن الذي يشكل يف الخارج حقيقة‬
‫ذهني ّ ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫خاصا‪ ،‬هي مفهوم‬
‫ًّ‬ ‫كاملً‬
‫نور األنوار‪ ،‬والذي يشتمل عىل كامل خاص كهذا‪ ،‬هو حقيقة نوريَّة واحدة متتاز عن األنوار األخرى‬
‫[[[‬
‫بواحديَّتها‪ ،‬وليست نو ًرا له كامل خارج عنه‪.‬‬
‫السهروردي التشكيك َّية تع َّرضت ملجموعة من املناقشات‪ ،‬فلو‬
‫ِّ‬ ‫وغني عن القول أ َّن نظريَّة‬
‫ٌّ‬
‫يك كام فعل الفالسفة والعرفاء اآلخرون إىل عامل املا َّدة‪ ،‬ولو اعتربها املرحلة‬ ‫بسط نظامه التشكي َّ‬

‫[[[‪ -‬من جملة أحكام النور العا َّمة كيف َّية مقابلته للظلمة‪ .‬واعتربت املشائ َّية أن تقابلهام تقابل العدم وامللكة واعترب شيخ اإلرشاق أنَّهام‬
‫متناقضان‪ .‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪108-107‬؛ يزدان پناه‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.51-48‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪ 120-119‬و ‪.127-126‬‬
‫تتخصص‬ ‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ذهن‬ ‫ة‬‫ي‬‫َّ‬ ‫كل‬ ‫هي‬ ‫جواب‪:‬‬ ‫معلول؟‬ ‫ممكن‬ ‫النور‬ ‫بنور‬ ‫صها‬ ‫فتخص‬
‫ّ‬ ‫الكامل‪،‬‬ ‫[[[‪ -‬سؤال‪ :‬املاه َّية النور َّية من حيث أنَّها ال تقتيض‬
‫نفسها بخارج وما يف العني يشء واحد ليس أصل وكامل‪ ،‬م‪.‬م‪ ،‬ص ‪128-127‬‬

‫‪32‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫األضعف يف هذا العامل‪ ،‬لتمكَّن من تقديم رؤية أوضح للعالقة بني عامل املا َّدة وعامل املفارقات‬
‫وبي املثل النوريَّة واألصنام واألفراد الجوهريَّة املا ّديَّة‪ ،‬ولتمكَّن من إيجاد التناسق بني‬ ‫النوريَّة ّ‬
‫رص عىل الظلمة املحضة لعامل املا َّدة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫إل أنَّه أ َّ‬
‫بحثه وقاعدة السنخيَّة بني العلَّة واملعلول؛ َّ‬
‫ي‬
‫العريض املا ّد ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ساهم يف إيجاد مشكالت أمام ا ّدعاء التشكيك‪ .‬كذلك األمر يف خصوص النور‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وإدراجه يف سلسلة النور التشكيكيَّة هو من جملة نقاط الضعف األخرى يف ما ق َّدم‪.‬‬

‫شهود األنوار لبعضها‪:‬‬

‫السهروردي حول مسألة الشهود‪ ،‬واعترب أ َّن الشهود واإلدراك يتحقَّقان إذا مل يكن هناك‬
‫ُّ‬ ‫تح َّدث‬
‫اإلبصاري إذا مل يكن هناك ما مينعها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫حجاب أمام الهويَّة النوريَّة؛[[[ فالبارصة يتحقَّق شهودها‬
‫يئ[[[‪ .‬وأ َّما يف‬
‫وتتحقَّق الرؤية إذا كانت الق َّوة املبرصة موجودة ومل يكن هناك مانع بني ال َّرايئ واملر ّ‬
‫عامل األنوار فإ َّن جميع الهويَّات نوريَّة ومدركة وال حجاب مينعها من ذلك‪ .‬فالحجاب واملانع‬
‫يتحقَّقان يف عامل اإلجسام ذات األبعاد‪ .‬هذا القض َّية بحد ذاتها ته ّيئ األرض َّية لألنوار يف شهود‬
‫[[[‬
‫وكل نور يشهد نور األنوار واألنوار األخرى‪.‬‬
‫بعضها البعض‪ ،‬فنور األنوار يشهد جميع األنوار‪ُّ ،‬‬
‫[[[‬
‫واألنوار التي هي علل ألخرى تشاهد معلوالتها‪ ،‬واملعلوالت النوريَّة تشاهد عللها‪.‬‬
‫كل األنوار الجوهريَّة تشاهد وتدرك املا َّدة واملاديَّات أل َّن رشطَي اإلدراك‬
‫يعتقد شيخ اإلرشاق أ َّن َّ‬
‫‪ -‬أي الهويَّة النوريَّة ‪ -‬وعدم وجود املانع‪ ،‬معتربان يف عامل الرشط وليس املعلوم‪ .‬أ َّما الجواهر‬
‫املاديَّة والظلامن َّية فهي عىل العكس من ذلك‪ ،‬فال تدرك نفسها وال املوجودات األخرى‪ .‬والسؤال‬
‫الذي قد يُطرح هنا‪ :‬ملاذا تعجز النفس اإلنسانيَّة مع ما متتلك من هويَّة نوريَّة وإدراكيَّة عن إدراك‬
‫العديد من األمور‪ ،‬ال بل قد يكون نور األنوار خف ًّيا عنها‪.‬‬
‫أجاب شيخ اإلرشاق بأ َّن النفس اإلنسان َّية ذات هويَّة إدراك َّية ونوريَّة والحقيقة املقداريَّة التي تش ِّكل‬
‫إل أ َّن ما هو يف “حكم الحجاب” موجود ما دامت النفس مل تفارق البدن؛ فام‬
‫الحجاب غري موجودة‪َّ ،‬‬
‫دامت النفس منشغلة بالبدن والجسم والجسامنيات‪ ،‬تحتجب عن إدراك حقائق العامل األخرى‪ [[[.‬هنا‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.216‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫[[[‪ -‬وهو (أي النور األقرب) يشاهد نور األنوار ويشاهد ذاته لعدم الحجاب بينه وبني نور األنوار‪ ،‬إذ الحجاب إمنا يكون يف الربازخ‬
‫والغواسق واألبعاد وال جهة وال ُب ْعد لنور األنوار وال لألنوار املج َّردة الكل َّية‪ ...‬النور السافل إذا مل يكن بينه وبني العايل حجاب يشاهد‬
‫العايل‪ .‬م‪.‬م‪ .‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.133‬‬
‫[[[م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪ :168‬النور السافل ال يحيط بالنور العايل‪ ،‬فإن النور العايل يقهره أما ليس ال يشاهده‪.‬‬
‫[[[‪ -‬وإمنا ال يرى(النور االسفهبد) أشياء قبل املفارقة ألن اليشء قد يعرض له ما يشغله من إبصار ما من أن يبرصه‪« ،‬والشاغل يف حكم‬
‫أتم مام للبرص يف حالة انسالخ شديد عن البدن م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪،‬‬ ‫الحجاب» وقد َج ّرب أصحاب العروج للنفس مشاهدة رصيحة ّ‬
‫ص ‪.213‬‬

‫‪33‬‬
‫المحور‬

‫يبدأ الحديث عن الرياضة الروحيَّة والجهاد يف الله‪ :‬ومن جاهد يف الله حق جهاده وقهر الظلامت‪.‬‬
‫رأى أنوار العامل األعىل مشاهدة أت ّم من رؤية بعضها بعضً ا واألنوار املج َّردة كلُّها بارصة[[[ ‪.‬‬
‫الحضوري‬
‫ِّ‬ ‫السهروردي أ َّن مشاهدة األنوار هذه هي من سنخ العلم‬
‫ُّ‬ ‫يف هذا املجال‪ ،‬يعترب‬
‫والشهودي‪ ،‬وهي قض َّية مل يكن لها سابقة يف الفلسفة املشائ َّية مع أنَّها ظهرت يف كتابات الفالسفة‬
‫ِّ‬
‫يئ‪.‬‬
‫والعلمة الطباطبا ّ‬
‫َّ‬ ‫اللحقني أمثال صدر املتألِّهني‬
‫َّ‬

‫المحبة والقهر ف ي� األنوار‪:‬‬


‫َّ‬

‫من جملة األحكام العا َّمة الجارية يف األنوار وجود املحبَّة والقهر‪ .‬فالنور الداين يف الفلسفة‬
‫محب وعاشق للنور العايل‪ ،‬والسبب يف هذا العشق أمران‪ :‬الكامل املوجود يف النور‬
‫ٌّ‬ ‫اإلرشاق َّية‬
‫العايل‪ ،‬والجامل الذي عليه الحقيقة النوريَّة‪ [[[.‬إذًا‪ ،‬الكامل والجامل هام اللذان يجذبان الداين‬
‫للعلوي لريفع نواقصه املوجودة‪ [[[.‬ولكن ما هو‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫للعايل‪ ،‬وهام اللذان يوجدان الشوق عند السف ِّ‬
‫السهروردي أ َّن العالقة التي تربطهام هي القهر‪ ،‬فالنور‬
‫ُّ‬ ‫حال النور العايل بالنسبة إىل السافل؟ يعتقد‬
‫السافل عاشق للعايل والعايل قاهر للسافل‪“ :‬ويف سنخ النور الناقص عشق إىل النور العايل‪ ،‬ويف‬
‫[[[‬
‫سنخ النور العايل قهر للنور السافل”‪.‬‬
‫يوضح هذا الحكم عالقة القهر التكوين َّية والسيطرة الوجوديَّة من النور العايل نحو النور الداين‪،‬‬
‫ووجود عالقة العشق من الداين نحو العايل‪ .‬فالداين ينظر إىل العايل نظرة العشق واملح َّبة ويف‬
‫ّ‬
‫بالذل واإلنكسار[[[‪ ،‬بينام عندما ينظر العايل‬ ‫عني هذه الَّلذة التي يشعر بها‪ ،‬يسيطر عليه اإلحساس‬
‫الوجودي هو الذي دفع شيخ اإلرشاق‬
‫ُّ‬ ‫إىل الداين يسيطر عليه الشعور بالع َّزة والرفعة‪ .‬هذا القهر‬
‫[[[‬
‫للحديث عن العقول املفارقة الطول َّية والعرض َّية أو املثل األفالطون َّية بعبارة “األنوار القاهرة”‪.‬‬
‫إذا كان النور العايل قاه ًرا للسافل فهل ميتلك عشقًا ومح َّبة نحوه؟‬
‫ص العالقة بينهام‬
‫ح َ‬
‫لقد نفى شيخ اإلرشاق يف مكان ما وجود عشق ومح َّبة من العايل للسافل‪ ،‬و َ‬
‫بالقهريَّة[[[‪ ،‬ومع ذلك أكَّد عىل وجود عالقة املحبَّة والعشق من العايل للسافل يف مكان آخر بعد‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.214-213‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.136‬‬
‫[[[‪ -‬وللسافل إىل العايل شوق وعشق(م‪.‬ن) العشق أعم من الشوق‪ .‬العلم بالكامل يوجد املح َّبة والعشق سواء كان الكامل موجودًا أم‬
‫مفقودًا‪ ،‬أ َّما الشوق فيتحقَّق يف العلم بالكامل املفقود(إبن سينا‪ ،‬اإلشارات‪ ،‬النمط ‪.)8‬‬
‫[[[‪-‬السهروردي‪ ،‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.136‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن ‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫‪34‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫لكل علَّة نوريَّة بالنسبة إىل املعلول محبة وقه ًرا وللمعلول بالنسبة إليها‬
‫توضيح قاعدة فلسفيَّة‪“ :‬إ َّن ِّ‬
‫محبة يلزمها ذل”‪ [[[.‬وقد عرض شارحو حكمة اإلرشاق كالشهرزوري وقطب الدين الشريازي وج ًها‬
‫فالحق‬
‫ُّ‬ ‫النص األول متعلِّق بنور األنوار وواجب الوجود‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يستحق التأ ُّمل‪ [[[.‬يعتقد هؤالء أ َّن‬
‫ُّ‬ ‫جام ًعا‬
‫محب وعاشق لذاته فقط‪ ،‬والعالقة بينه وبني اآلخرين عالقة قهريَّة فقط‪ ،‬وأما يف ما سوى نور‬
‫ٌّ‬ ‫تعاىل‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫النص الثاين‪ .‬وقدم صدر املتألِّهني‬


‫ُّ‬ ‫األنوار فالعالقة بينهم عالقة املحبَّة والقهر‪ ،‬وهذا ما أشار إليه‬
‫ريا آخر فاعترب أ َّن عشق العلَّة للمعلول ليس من باب العشق للغري بل هو عشق للذات‪.‬‬
‫الشريازي تفس ً‬
‫بهذا النحو ميكن الجمع بني‬ ‫[[[‬
‫فالعلَّة عاشقة لنفسها‪ ،‬وهذا العشق يبعث عىل العشق بآثارها‪.‬‬
‫السهروردي؛ ففي األول يجري نفي النوع املتعارف عليه من العشق الذي هو من العايل إىل‬
‫ِّ‬ ‫نص‬
‫َّ‬
‫خاصة للنور األول يختلف عن محبة املعلول للعلَّة‪ .‬لذلك‬
‫َّ‬ ‫السافل‪ ،‬ويف الثاين يت ُّم إثبات محبَّة‬
‫[[[‬
‫كانت مح َّبة العايل للسافل مرتافقة مع القهر‪ ،‬ومح َّبة السافل للعايل مرتافقة مع الذلَّة واإلنكسار‪.‬‬
‫[[[‬
‫النوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي يف النظام‬
‫ِّ‬ ‫ويتَّضح بذلك نظام العشق‬
‫يبقى سؤال آخر يخطر يف األذهان‪ :‬إذا كانت النفس من سنخ النور وجز ًءا من األنوار السفل َّية‪،‬‬
‫يجب أن يكون لها عشق ومح َّبة لألنوار العالية ونور األنوار‪ ،‬مع العلم أ َّن أكرث النفوس بعيدة عن هذا‬
‫العشق‪ .‬ويجيب شيخ اإلرشاق بأ َّن نفس اإلنسان يف عامل املا َّدة مق َّيدة باملاديَّات ومنشغلة باألمور‬
‫الجسامن َّية‪ .‬وهذا يؤ ّدي إىل ظهور عدم انجذابها لألنوار العالية‪ ،‬وهنا تربز الحاجة إىل السلوك‬
‫والرياضة‪ .‬إذا متكَّن اإلنسان من قطع تعلُّقاته الدنيويَّة من خالل الرياضات املعقولة واملرشوعة‪،‬‬
‫عند ذلك يشعر بعالقة ومح َّبة نحو ما وراء الطبيعة‪ ،‬ويشتعل يف داخله امليل نحو عامل األنوار‬
‫[[[‬
‫وامللكوت‪ ،‬ث َّم يتضاعف العشق واملح َّبة إذا استمر عىل هذا املنوال‪.‬‬
‫لعل ما يواجه بحث شيخ اإلرشاق هذا من اإلشكاالت تتعلَّق بأحكام األنوار العرض َّية[[[ وكذلك‬
‫َّ‬
‫األجسام والجواهر الغاسقة يف عامل املا َّدة؛[[[ حيث ميكن فهم األمور املتعلِّقة بنظام األنوار من‬
‫الخاصة املوجودة يف الغواسق (املاديَّات)‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الحس والحاالت‬
‫ّ ِّ‬ ‫خالل التأ ُّمل والدقَّة يف النور‬

‫[[[‪ -‬م‪ ،،.‬ص ‪.148‬‬


‫[[[‪ -‬الشهرزوري‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪374‬؛ الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.168-167‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫[[[‪ -‬ويف سنخ النور الناقص عشق إىل النور العايل ويف سنخ النور العايل قهر للنور السافل‪ ...‬فانتظم الوجود كلُّه من املحبة والقهر‪،‬‬
‫م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.137-136‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.225-223‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.148-147‬‬

‫‪35‬‬
‫المحور‬

‫[[[‬
‫ولكن‪ ،‬مبا أنّه يعترب عامل املا َّدة ظلمة محضة‪ ،‬مل يق ِّدم املباين الرضوريَّة للتامهي بينها‪.‬‬

‫اإل�اقات والسوانح ف ي� األنوار‪:‬‬


‫ش‬

‫األنوار العالية تشاهد السافلة انطالقًا من هويَّتها النوريَّة ولعدم وجود مانع من الشهود‪ ،‬وأما‬
‫األنوار السفل َّية‪ ،‬وباإلضافة إىل شهودها النور العايل‪ ،‬يصل إليها أمران من النور العايل‪ :‬األول‬
‫هو اإلرشاقات الجوهريَّة التي يتوقف عليها أصل تحقق األنوار الجوهرية السفلية [[[‪ ،‬والثاين هو‬
‫[[[‬
‫اإلرشاقات العرض َّية التي تظهر بعد تحقُّق األنور السفل َّية انطالقًا من مكاشفات أهل املعرفة‪.‬‬
‫السهروردي عن اإلرشاقات العرض َّية بالسوانخ النوريَّة[[[‪ ،‬وهي التي تق ّدم لألنوار السفل َّية‬
‫ُّ‬ ‫وقد عبَّ‬
‫الصفات والكامالت النوريَّة[[[‪.‬‬
‫املسألة املهمة التي تجب اإلشارة إليها هنا تتعلَّق بكيفيَّة اإلرشاقات الجوهريَّة والعرضيَّة‪ .‬وهنا‬
‫حا يساهم يف تعميق قض َّية العل ّية واستفاد منها بعض الفالسفة من أمثال‬
‫قدم شيخ اإلرشاق توضي ً‬
‫صدر املتألِّهني حيث يُ َع ّب عنها يف الفلسفة اإلسالميَّة بـ “اإلضافة اإلرشاقيَّة” يف مقابل “اإلضافة‬
‫والعريض من النور العايل‬
‫َّ‬ ‫الجوهري‬
‫َّ‬ ‫السهروردي إىل أ َّن اإلرشاق‬
‫ُّ‬ ‫املقول َّية”‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬يشري‬
‫ليس عىل سبيل انفصال يشء من العايل أو انتقال يشء منه‪ ،‬بل يحصل األمر من دون أن ينقص‬
‫من العايل يشء‪ ،‬وهذا يعني أنَّنا أمام فهم للعل َّية يفيد بأ َّن مرتبة النور الضعيفة تتوقَّف عىل املرتبة‬
‫األقوى‪ .‬وهذه هي العليَّة[[[‪.‬‬
‫لقد اعترب شيخ اإلرشاق أ َّن نوع العالقة بني الشمس وأش َّعتها العرضيَّة واملاديَّة من سنخ اإلضافة‬
‫اإلرشاق َّية‪ .‬فشعاع الشمس قائم بها فقط‪ .‬وبالتايل مل ينفصل يشء من الشمس‪ ،‬ومل ينتقل منها‬
‫يشء‪ ،‬ومل ينقص جرم الشمس يشء‪ ،‬فاملوجود هو الشمس وشعاعها‪ ،‬وشعاعها متوقِّف عليها‪،‬‬
‫[[[‬
‫فلو مل تكن موجودة مل يكن للشعاع نصيب من الوجود‪.‬‬
‫وهذا هو الحال يف إرشاقات عامل األنوار الجوهريَّة والعرض َّية‪ .‬فلو مل يكن النور العايل‪ ،‬لن‬

‫[[[‪ -‬يزدان پناه‪ ،‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.65‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.137-128‬‬
‫[[[‪ -‬الدليل الذي ذكره شيخ اإلرشاق يف إثبات ارشاقات عامل األنوار العرض َّية هو شهود أهل الكشف (م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،1‬املطارحات‪ ،‬ص ‪)466‬‬
‫وقد رفض صدر املتألِّهني هذا املعنى نظراً لفقدان االستعداد يف عامل العقول (الشريازي‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ )123‬ومع ذلك‬
‫السهروردي َع ّب عن السوانح بـ «التجلِّ الدامئي‬
‫َّ‬ ‫ال ميكن إنكار أصل السوانح النور َّية بنا ًء عىل مشاهدات أهل املعرفة‪ .‬يضاف إىل ذلك أنَّ‬
‫الرسمدي» (م‪.‬م‪ .‬ج ‪ ،1‬املطارحات ص )‪.466‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪ 228‬و‪.138-137‬‬
‫[[[‪ -‬السهروردي‪ ،‬م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق ‪،‬ـ ص ‪ 228-‬و‪.138-137‬‬

‫‪36‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫عريض‪ .‬وهذا ما يشري إىل حقيقة العليَّة التي ال ينقص منها يشء‬
‫ّ‬ ‫جوهري أو‬
‫ٌّ‬ ‫يكون هناك إرشاق‬
‫والينفصل عنها يشء أيضً ا‪.‬‬
‫والعريض‪ ،‬أ َّن اإلرشاق متوقِّف عىل طرف واحد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الجوهري‬
‫ِّ‬ ‫يتضح يف هذا النوع من اإلرشاق‬
‫العريض الذي يتو َّهم البعض فيه أنَّه ذو طرفان – نور عا ٍل ونور دانٍ – والحقيقة أنَّه‬
‫ِّ‬ ‫حتى يف اإلرشاق‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫متوقِّف عىل طرف واحد هو النور العايل‪.‬‬


‫“التجل”‪ ،‬واستخدمه يف‬
‫ّ‬ ‫السهروردي عن اإلرشاق واإلضافة اإلرشاق َّية بـ‬
‫ُّ‬ ‫يف الواقع‪ ،‬لقد َع ّب‬
‫الجوهري‪ [[[.‬بدوره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العريض أيضً ا‪ [[[.‬وكذلك استخدمه لإلشارة إىل اإلرشاق‬
‫ِّ‬ ‫اإلشارة إىل اإلرشاق‬
‫وخصصها بإرشاقات عامل األنوار الجوهريَّة‬ ‫َّ‬ ‫وافق صدر املتألِّهني عىل قض َّية اإلضافة اإلرشاق َّية‬
‫يل وكيف َّية ظهور عامل‬
‫العل واملعلو ِّ‬
‫والعرض َّية وإرشاقات عامل املا َّدة العرض َّية‪ ،‬وع َّممها عىل النظام ِّ ِّ‬
‫السهروردي اإلرشاق يف خصوص النور‪ .‬وتحدث حول‬
‫ُّ‬ ‫املا َّدة عن العوامل العالية‪ ،‬بينام استخدم‬
‫[[[‬
‫“الظل”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عل ّية األنوار للجواهر املادية الغاسقة بعبارة‬
‫َّ‬
‫النورية يف املجاالت األخرى‪:‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬آثار امليت�افزييقا‬
‫السهروردي‪ .‬وقد ظهرت آثار امليتافيزيقا النوريَّة‬
‫ّ‬ ‫كل أبعاد الفكر‬
‫النوري عىل ِّ‬
‫ُّ‬ ‫سيطر النظام‬
‫اإلرشاقي‪ ،‬الحكمة العمل َّية‪ ،‬األخالق‬
‫ِّ‬ ‫والتحليالت اإلرشاق َّية يف مجاالت أخرى من قبيل علم النفس‬
‫اإلرشاق َّية‪ ،‬ويف السياسة النوريَّة أيضً ا‪ .‬لذلك سنحاول يف هذا الجزء من البحث اإلشارة إىل تأثري‬
‫اإلرشاقي‪ ،‬األخالق اإلرشاق َّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاق وامليتافيزيقا النوريَّة يف مجاالت ثالثة‪ :‬علم النفس‬
‫والسياسة النوريَّة‪.‬‬
‫ش ق‬
‫ا�‪:‬‬
‫‪ .1‬علم النفس اإل� ي‬
‫كل األبحاث‬
‫اإلرشاقي حتى أ َّن َّ‬
‫ِّ‬ ‫اإلرشاقي ذو أهم َّية عالية يف منظومة الفكر‬
‫ِّ‬ ‫يبدو أ َّن علم النفس‬
‫السهروردي يف هذا العلم مبفهومني أساس ّيني من الرشيعة‬
‫ُّ‬ ‫اإلرشاق َّية عىل ارتباط به‪ .‬وقد استعان‬
‫وهام “الهبوط” و”الرجعة”‪ ،‬واستلهم يف املسألة من بعض كتابات أيب عيل سينا من قبيل “حي‬
‫بن يقظان‪ ،‬سالمان وأبسال‪ ،‬رسالة الطري‪ ،‬والقصيدة العين َّية”‪ .‬وكذلك استحرض فيها بعض الفالسفة‬
‫القدماء أمثال أفالطون‪ ،‬هرمس‪ ،‬وحكامء فارس‪ ،‬وتع َّرض لبعض املضامني التي أشار إليها العرفان‬
‫اإلسالمي من قبيل الرياضة‪ ،‬السلوك‪ ،‬األنوار‪ ،‬اللوائح‪ ،‬الفناء‪ ،‬الشهود‪ ،‬اإلتحاد‪ ،‬اإلتصال والوصول‪،‬‬
‫ُّ‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،1‬املطارحات‪ ،‬ص ‪.466‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.134‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.133‬‬

‫‪37‬‬
‫المحور‬

‫فتمكَّن من خالل هذه املفاهيم من أن يدرجها يف نظام واحد منظَّم‪ .‬وقد طرح يف كتاباته هذا النظام‬
‫الفلسفي أي معرفة النفس‪.‬‬
‫َّ‬
‫قسم الوجود إىل نور وظلمة‪ .‬وعامل الناسوت واملا َّدة ظالم كامل‪ ،‬والله‬
‫السهروردي قد َّ‬
‫ُّ‬ ‫كان‬
‫املتعايل والعقول واملفارقات الطول َّية والعرض َّية‪ ،‬وبعبارة أخرى عامل الَّالهوت والجربوت نور‬
‫اللمكان املن َّزه عن الزمان واملكان‪ ،‬تجد الصفاء والطهارة والقداسة والجامل‬ ‫وحياة‪ .‬يف ذاك َّ‬
‫وكل الكامالت‪ .‬والعوامل األقدم هي مصدر النور واإلرشاقات واإلشعاعات‬
‫والجالل والعظمة َّ‬
‫قسم النور إىل رشق ميلء بالنور‪ ،‬وإىل غرب خا ٍل من الضياء‬
‫القدس َّية‪ .‬وعىل هذا األساس‪َّ ،‬‬
‫واإلرشاق‪.‬‬
‫لقد حاول شيخ اإلرشاق البحث عن مكانة اإلنسان يف نظام كهذا‪ ،‬واعترب أ َّن حقيقة روح اإلنسان‬
‫ين‪ .‬لذلك‪ ،‬فإ َّن أساس وجذور اإلنسان تعود إىل رشق‬
‫مادي ظلام ّ‬
‫ٍّ‬ ‫من سنخ النور الساكن يف بدن‬
‫يت‪ ،‬ثم انشغل بالبدن‬
‫الوجود وقد سافر إىل غربه‪ ،‬وهبط من العوامل املق َّدسة إىل هذا العامل الناسو ِّ‬
‫السهروردي للحديث عن الرياضة والسري‬
‫ُّ‬ ‫املادي فنيس موطنه األساس‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬يعود‬
‫ِّ‬
‫املعنوي كطريق لنجاة اإلنسان من األرس و”الرجعة” إىل الوطن األصيل‪ [[[،‬ود َّون رسالة‬
‫ِّ‬ ‫والسلوك‬
‫حي بن‬
‫اإلرشاقي وذلك باإللهام من رسالتي ابن سينا‪ ،‬أي ّ‬‫ِّ‬ ‫حا علم النفس‬
‫الغربة الغرب َّية[[[ شار ً‬
‫يقظان وسالمان وأبسال‪ ،‬وقد ذكرهام يف بداية رسالته‪ .‬تحيك الغربة الغرب َّية عن اإلنسان الذي‬
‫انتقل من رشق الوجود إىل غربه فوقع أسري الغربة‪ .‬تبدأ الرسالة برسد قصة اإلنسان الذي سافر برفقة‬
‫أخيه عاصم‪ -‬حكاية عن الق َّوة النظريَّة املعصومة – ألجل الصيد عىل ساحل البحر األخرض يف‬
‫بالد ما وراء النهر‪ ،‬وقد اتجها إىل بالد املغرب‪ .‬وهذا يعني أ َّن اإلنسان قد ترك موطنه األساس أي‬
‫العوامل العليا (بالد ما وراء النهر)‪ ،‬وانتقل إىل عامل املا َّدة (بالد املغرب) بهدف الوصول (الصيد)‬
‫إىل الكامالت املمكنة يف عامل املحسوسات(البحر األخرض)‪ .‬وفجأة وجدا نفسيهام يف مدينة‬
‫القريوان (مدينة يف تونس) يف أبعد نقطة غرب العامل اإلسالمي‪ .‬عندما عرف أهل القريوان أنهام‬
‫من أبناء هادي بن خري اليامين اعتقلوهام‪ ،‬ووضعوا األغالل يف أيديهام ودفعوهام نحو برئ عميقة‪.‬‬
‫وكانت البرئ مظلمة إىل درجة يعجز السجني عن رؤية يديه ورجليه‪ .‬هنا وقعت الق َّوة النظريَّة التي هي‬
‫الساموي اليمني الساكنة رشق الوجود‪ ،‬يف أرس القوى الجسامنيَّة‬
‫ِّ‬ ‫من سنخ العقل الف َّعال والهادي‬
‫وساكني غرب العامل‪.‬‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،1‬التلويحات‪ ،‬ص ‪.112‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.274‬‬

‫‪38‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫فيبي أنَّهام كانا تارة يشاهدان يف قلب البرئ الربق اليامين‬


‫قصته الرمزيَّة ّ‬
‫سد َّ‬
‫السهروردي َ ْ‬
‫ُّ‬ ‫يتابع‬
‫سان لرائحة أراك اآلتية فيشتاقا للوطن[[[‪ .‬ولقد أراد يف‬
‫من ناحية الرشق فيخربان أحوال نجد‪ ،‬ويُ ْ ّ‬
‫هذه املسألة اإلشارة إىل أ َّن اإلنسان يف عامل الدنيا املظلمة قد تحصل له إرشاقات من عامل العقل‪،‬‬
‫فيميل ويرغب بالعودة إىل وطنه األساس‪ ،‬فيشعر بالرسور والوجد‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫القصة بقيام الهدهد بنقل رسالة لهام من ِقبل الهادي الساموي‪ ،‬والعقل‬
‫َّ‬ ‫ويكمل شيخ اإلرشاق‬
‫النظري بالسري نحو العوامل العلويَّة‪ .‬وأ َّما السفر إىل العوامل العلويَّة‬
‫ّ‬ ‫الفعال يأمر اإلنسان عقله‬
‫فيتطلَّب االبتعاد عن العوالق الدنيويَّة‪ ،‬وترك الشهوات‪ ،‬والحرص‪ ،‬واألفكار الفاسدة‪ ،‬ومحبة الدنيا‬
‫الحواس الظاهرة والباطنة ليتمكَّن اإلنسان من خلع بدنه‪ ،‬وترك العامل املظلم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والتخلُّص من قيد‬
‫والعودة إىل منبع الحياة وعامل القدس‪ .‬عندما يصالن إىل أبيهام يذكرهام باألجداد والجد األكرب‬
‫أي نور األنوار صاحب أعىل درجات البهاء والجالل والعظمة والنور‪.‬‬
‫علل نوريَّة وسلسلة من العلل ليصل‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬أراد شيخ اإلرشاق القول أ َّن للعقل الفعال ً‬
‫“كل يشء‬
‫وكل األنوار فانية فيه ُّ‬
‫الحق تعاىل الذي هو مصدر النور والرشوق‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫أي‬
‫إىل العلَّة النهائيَّة ّ‬
‫[[[‬
‫إل وجهه”‪.‬‬
‫هالك َّ‬
‫املعنوي‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاقي‪ ،‬فالرياضة والسري والسلوك‬
‫ِّ‬ ‫مم تق َّدم أهم َّية الرياضة يف علم النفس‬
‫يتَّضح َّ‬
‫السهروردي يف‬
‫ُّ‬ ‫يل والحصول عىل إرشاقات عامل األنوار‪ .‬ويؤكِّد‬
‫هام طريق العودة إىل الوطن األص ِّ‬
‫هياكل النور عىل أ َّن النفس الناطقة هي من جوهر امللكوت‪ ،‬وأ َّن الذي أقعدها عن عاملها اشتغالها‬
‫بالقوى البدنيَّة‪ ،‬وكلام امتلكت النفس الفضائل الروحانيَّة وضعفت قواها البدنيَّة عىل أثر قلَّة األكل‬
‫[[[‬
‫والنوم اقرتبت من خالصها والوصول إىل عامل القدس‪ ،‬وتع َّرفت عىل األرواح املق َّدسة‪.‬‬
‫ونراه يك ِّرر الفكرة بعبارات جذَّابة جميلة يف رسالة األبراج (أو الكلامت الذوق َّية)‪ ،‬حيث اعترب‬
‫العلوي‪ .‬ثم أشار إىل حديث‬ ‫ِّ‬ ‫يل واالتصال بالعامل‬
‫أ َّن فائدة التجريد رسعة العودة إىل الوطن األص ِّ‬
‫لرسول الله(ص) يقول‪“ :‬حب الوطن من اإلميان” وإىل اآلية الرشيفة‪َ { :‬يا َأ َّي ُت َها ال َّنف ُ‬
‫ْس الْ ُمطْ َم ِئ َّن ُة‬
‫اض َي ًة َّم ْر ِ‬
‫ض َّي ًة} ‪ .‬وهنا يوضح كيفيَّة فتح رمز وطلسم البدن‪ ،‬أي الرياضة والتخ ّ‬
‫ل‬ ‫[[[‬ ‫ك َر ِ‬
‫ا ْرجِ ِعي إِ َل َربِّ ِ‬
‫عن املا َّدة ليتمكَّن اإلنسان من الوصول إىل عامل الثبات واألنوار‪ ،‬ويقرتح اتّباع أهل العرفان إلتقان‬
‫مسائل الرياضة والسلوك واالستفادة من املفاهيم واملضامني التي يق ّدمونها كاللوائح‪ ،‬السكينة‪،‬‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.279‬‬


‫[[[‪ -‬القصص‪.88 ،‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬هياكل النور‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الفجر‪ ،‬اآليتان ‪.28-27‬‬

‫‪39‬‬
‫المحور‬

‫العشق‪ ،‬الفناء‪ ،‬الطمس‪ ،‬املحو‪ ،‬البقاء‪ ،‬االتحاد‪ ،‬اإلتصال‪ ،‬الوصول‪ ،‬الشهود‪ ،‬الكشف‪ ،‬املقام‬
‫والحال‪ ،‬وكذلك مصطلحات الرياضة‪ ،‬السلوك والسري وغريها‪ .‬ثم يرشح كلامت التص ُّوف واحدة‬
‫ويخصص رسالة»صفري سيمرغ» [صفري العنقاء] لبحث أحوال ومراتب السري والسلوك‬
‫ِّ‬ ‫[[[‬
‫واحدة‬
‫املعنوي‪.‬‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلرشاقي عىل جانب كبري من اإلتصال بالعرفان‬
‫ّ‬ ‫مم سلف أ َّن علم النفس‬
‫يتَّضح َّ‬
‫ميل نحو فلسفة اإلرشاق سيجد نفسه صاحب رغبة بالعرفان‪ ،‬وبعبارة أخرى متكنت‬‫وكل من ميتلك ً‬
‫ّ‬
‫فلسفة اإلرشاق من خالل الجمع بني العقل والقلب والفلسفة والعرفان من إضفاء حياة جديدة عىل‬
‫الثقافة اإلسالم َّية‪.‬‬
‫السهروردي يقول يف «رسالة األبراج» إ َّن من متكَّن من فتح رمز البدن وصل إىل الكنز‬
‫ُّ‬ ‫وها هو‬
‫فحصل له «الذوق»‪ ،‬ومن ث َّم «الشوق»‪ ،‬ومن ث َّم «العشق»‪ ،‬ويليه «الوصول»‪ ،‬ومن ث َّم «الفناء» ويف‬
‫[[[‬
‫النهاية «البقاء»‪.‬‬
‫اإلرشاقي للسعادة‬
‫ِّ‬ ‫اإلرشاقي حمل نتائج متع ِّددة تتعلق بالتفسري‬
‫ّ‬ ‫ونالحظ هنا أ َّن علم النفس‬
‫رس ق َّوة اإلنسان‬
‫والصالح والتقوى يف مقابل الشقاء‪ ،‬ومراتب وطبقات اإلنسان بعد املوت‪ ،‬و ّ‬
‫فلسفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ووصوله إىل املعجزة والكرامة‪ ،‬ووتبيني كيف َّية إطالع اإلنسان عىل األمور الغيب َّية بأسلوب‬
‫وكيفيَّة تلقّي الوحي والنب َّوة واإلنسان الكامل وغريها من النتائج‪.‬‬
‫اإل� َّ‬
‫اقية‪:‬‬ ‫‪ .2‬األخالق ش‬

‫اإلرشاقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مم بعد الطبيعة النوريَّة وعلم النفس‬
‫السهروردي إىل علم األخالق انطالقًا َّ‬
‫ُّ‬ ‫تط َّرق‬
‫فهو يعتقد أ َّن سعادة النور املدبِّر والنفس اإلنسانيَّة هي باإلتصال بعامل املفارقات واألنوار‪ .‬وكامل‬
‫ين‪.‬‬
‫النفس اإلنسان َّية يف عشقها ألصلها أي عامل النور‪ ،‬ويف التغلُّب عىل عامل املادة والبدن الظلام ّ‬
‫وطريق التغلُّب عىل البدن يف جزء منه يتوقَّف عىل األخالق الحسنة‪ .‬وها هو يشري يف بعض‬
‫كتاباته[[[ إىل أ َّن جذور الفضائل األخالق َّية تعود إىل عامل النور‪ .‬لذلك فالنفس الناطقة اإلنسان َّية‬
‫ذات الهويَّة النوريَّة تصل إىل الفضائل األخالقيَّة عن طريق التغلُّب عىل البدن وقواه املظلمة‪.‬‬
‫السهروردي أوضح مسألة األخالق‬
‫َّ‬ ‫إل أ َّن‬
‫يتطابق ما تق َّدم يف هذا املوضوع مع املباين اإلرشاقيَّة‪َّ ،‬‬
‫الحسنة والفضائل األخالق َّية طبق أسلوب أرسطو وأتباعه املشَّ ائني حيث تكون الفضائل األخالق َّية‬

‫[[[‪ -‬ثالث رسائل لشيخ اإلرشاق‪ ،‬كلمة التصوف‪ ،‬ص ‪.130-121‬‬


‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،3‬رسالة األبراج‪ ،‬ص ‪.465‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ .‬ج ‪ ،1‬التلويحات‪ ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪40‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫يف االعتدال والوسطيَّة بني اإلفراط والتفريط‪ .‬وكامل النفس من الناحية العمليَّة وارتباطها بالبدن‬
‫وتتجل العدالة يف قوى ثالث هي‪ :‬الشهوان َّية والغضب َّية‬
‫ّ‬ ‫هو يف األخالق الحسنة‪ ،‬أي «العدالة»‪.‬‬
‫والعلميَّة عىل شكل «العفّة» ‪« ،‬الشجاعة» و«الحكمة»‪ ،‬وكل الفضائل األخرى تندرج تحت هذه‬
‫الفضائل الثالث[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يُفهم من كالمه هذا أ َّن األخالق الحسنة سبب الغلبة والسيطرة عىل البدن والظلمة‪ ،‬ويف املقابل‬
‫[[[‬
‫فالرذائل األخالق َّية سبب سيطرة الظلمة وقوى البدن املظلمة‪.‬‬
‫َّ‬
‫السياسية‪:‬‬ ‫‪ .3‬شيخ ش‬
‫اإل�اق والحكمة‬
‫السهروردي يف مق ِّدمة «حكمة اإلرشاق» شيئًا من الفلسفة السياس َّية القامئة عىل أساس‬
‫ُّ‬ ‫أوضح‬
‫اإلرشاقي والحكمة النوريَّة‪ .‬وقد تح َّدث عن نوع من الوحدة بني عناوين «الرئاسة»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫األسلوب‬
‫«خليفة الله»‪« ،‬القطب» و«اإلمام»‪ ،‬وعرض النقطة املفتاح َّية واألساس َّية للبحث‪ .‬وهنا أظهر ميوله‬
‫النوري»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأسس ملسألة «السياسة النوريَّة» التي تؤ ّدي يف مرحلة األوج إىل إيجاد «الزمان‬
‫الشيعيَّة َّ‬
‫إىل ذلك‪ ،‬طرح شيخ اإلرشاق يف السياسة النوريَّة مسائل عدة منها‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬أ َّن األرض ال تخلو من حجة وخليفة إله َّية عىل اإلطالق‪ ،‬وإليه تعود كافة‬
‫الحق والخلق‪...« :‬بل‬
‫ِّ‬ ‫الحجج والبيّنات‪ ،‬وبه دوام الساموات واألرض‪ ،‬وهو واسطة الفيض بني‬
‫العامل ما خال قط عن الحكمة وعن شخص قائم بها عنده الحجج والب ّينات‪ ،‬وهو خليفة الله يف‬
‫أرضه‪ ،‬وهكذا يكون ما دامت الساموات واألرض»[[[‪.‬‬
‫من جهته‪ ،‬تح َّدث الشهرزوري الشارح األول لحكمة اإلرشاق حول األثر الذي تركه كالم أمري‬
‫املؤمنني‪ ‬يف هذه املسألة عىل شيخ اإلرشاق‪ ،‬فقال‪« :‬كذا ميوت العلم إذا مات حاملوه بل‬
‫ال تخلو األرض من قائم لله بحججه إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لئال تبطل حجج الله‬
‫وب ّيناته وكم وأين أولئك؟ هم األقلون عد ًدا األعظمون قد ًرا‪ ،‬أعيانهم مفقودة وأمثالهم يف القلوب‬
‫[[[‬
‫موجودة يحفظ الله لهم حججه حتى يؤ ّدوها نظرهم ويودعوها يف قلوب أشباههم»‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬أ َّن املقصود من «الرئاسة» الشؤون التكوينيَّة باإلضافة إىل الرئاسة عىل األمور‬

‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪226-225‬؛ ثالث رسائل لشيخ اإلرشاق‪ ،‬األلواح العامديَّة‪ ،‬ص ‪ 58‬و(كلمة التص ُّوف)‪ ،‬ص ‪.)121-118‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج ‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪218-217‬و‪.224‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ ، .‬ص ‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬الشهرزوري‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪ 24‬نقلً عن شيخ اإلرشاق‪ ،‬الشيخ املفيد‪ ،‬اإلرشاد‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪28‬؛ السيد الريض‪ ،‬نهج البالغة‪،‬‬
‫تحقيق عبده‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.27‬‬

‫‪41‬‬
‫المحور‬

‫الفرديَّة واالجتامعيَّة والحكوميَّة‪ ،‬خالفًا للنظريَّة السائدة عند أهل الس َّنة التي تخرج منها السيطرة‬
‫الشهرزوري‪ ،‬من هو غارق بالجهل والنقض‬
‫ِّ‬ ‫عىل الناس‪ .‬فقد يستويل عىل السلطة‪ ،‬حسب تعبري‬
‫وعدم اللياقة بسبب سيطرته عىل الناس وتسلُّطه عىل أوضاع الزمان‪ [[[.‬ما يقصده شيخ اإلرشاق‬
‫كل عص‪ ،‬سواء كان ظاه ًرا مكشوفًا أم غائ ًبا بسبب‬
‫الرئاسة الحقيق َّية التي هي لخليفة الله وإمام ِّ‬
‫أوضاع املجتمع‪ .‬وهو يقول يف هذا السياق‪« :‬ولست أعني بهذه الرئاسة التغلُّب بل قد يكون اإلمام‬
‫سمه الكافة «القطب» فله الرئاسة وإن‬
‫املتألّه مستول ًيا ظاه ًرا مكشوفًا‪ ،‬وقد يكون خف ًّيا وهو الذي َّ‬
‫كان يف غاية الخمول»[[[‪ .‬ثم يقول‪ ...« :‬وإذا كانت السياسة بيده كان الزمان نوريًّا وإذا خال الزمان‬
‫عن تدبري إلهي كانت الظلمة غالبة»[[[‪.‬‬
‫إذا مل تتوافر الظروف لوضع آمن كاملطلوب‪ ،‬انتقلت الرئاسة إىل أقرب شخص من اإلمام برشط‬
‫أن يكون له ح ٌّ‬
‫ظ من التألُّه والذوق‪ ،‬وإذا مل يكن له ذلك فهو ال يليق بالرئاسة‪ ،‬أل َّن الرئاسة عىل‬
‫الناس مرتبطة بالخالفة اإلله َّية‪ ،‬وألنَّها بحاجة إىل الفيوضات اإلله َّية‪.‬‬
‫السهروردي اإلنسان إىل أربعة أقسام‪ :‬إذا امتلك الشخص كامل الذوق والتألُّه والبحث‬
‫ُّ‬ ‫قسم‬
‫َّ‬
‫واالستدالل فهو خليفة الله وصاحب الرئاسة عىل الناس‪ ،‬وإذا مل يكن هذا الشخص موجو ًدا كانت‬
‫وإل كانت الخالفة‬
‫يل‪َّ ،‬‬
‫متوسط يف البحث واالستدالل الحصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ملن هو يف نهاية الذوق والتألُّه‪ ،‬وهو‬
‫حص يف التألُّه والذوق‪.‬‬
‫ملن امتلك الذوق والتألُّه‪ ،‬والحقيقة أ َّن األرض لن تخلو من شخص متم ِّ‬
‫النظري الفاقد للذوق والتألُّه‪ ،‬وهو شخص‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫أ َّما الرابع فهو اإلنسان الذي بلغ أوج البحث االستدال ِّ‬
‫[[[‬
‫تحق له الرئاسة أل َّن األرض ال تخلو من متوغِّل يف التألُّه والذوق‪.‬‬
‫ال ُّ‬

‫كثريا من املتغلّبني ال يستحقّون املخاطبة لنقصهم وشدَّ ة جهلهم‪ ،‬فكيف يستحقّون إسم الرئاسة الحقيق َّية‪ .‬الشهرزوري‪ ،‬رشح‬
‫[[[‪ -‬فإن ً‬
‫حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪.‬‬
‫[[[‪ -‬م‪ .‬ن‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫النورية‬
‫َّ‬ ‫الميتافيزيقا‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬ابن سينا‪ ،‬الحسني بن عبدالله‪ ،‬التعليقات‪ ،‬قم‪ ،‬انتشارات بوستان كتاب‪.‬‬
‫‪2.2‬السهروردي‪ ،‬شهاب الدين‪ ،‬مجموعة املص َّنفات‪ ،‬تحقيق هرني كوربن‪ ،‬نرش جمعيَّة ايران‬
‫للحكمة والفلسفة‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫مؤسسة‬
‫‪3.3‬الشهرزوري‪ ،‬شمس الدين محمد‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬تحقيق حسني ضيايئ‪َّ ،‬‬
‫املطالعات والدراسات الثقافيَّة‪.‬‬
‫‪4.4‬الشريازي‪ ،‬قطب الدين‪ ،‬رشح حكمة اإلرشاق‪ ،‬تحقيق السيد محمد املوسوي‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫انتشارات حكمت‪.‬‬
‫‪5.5‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬نهاية الحكمة‪ ،‬قم‪ ،‬انتشارات جامعة املد ّرسني‪.‬‬
‫‪6.6‬املفيد‪ ،‬محمد بن محمد بن النعامن‪ ،‬اإلرشاد‪ ،‬بريوت ‪ ،‬نرش دار املفيد‪.‬‬
‫‪7.7‬يزدان پناه‪ ،‬يد الله‪ ،‬حكمت ارشاق [حكمة اإلرشاق]‪ ،‬ج‪ 1‬و‪ ،2‬قم‪ ،‬مركز دراسات الحوزة‬
‫والجامعة ومنظمة سمت‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫التفكري يف املاوراء‬
‫اختبارات أرسطو يف بناء املعرفة امليتافيزيقية‬

‫رسول محمد رسول‬


‫ق‬ ‫ّ‬
‫ا� (‪ 1959‬ـ ‪)2022‬‬
‫فيلسوف ومفكر عر ي‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫تقديم وملخص‬
‫ف‬ ‫ف‬ ‫ً‬
‫قبل ارتحاله بوقت قليل تواصلنا معا‪ ،‬وتحادثنا ي� ما تآلفنا عليه من انشغاالت ي� عالم‬
‫محادث� وإياه جرت مجرى التأمل‬ ‫ت‬ ‫الميتاف�يقا بما فيه من اعتالالت ومعاثر ووعود‪ .‬لكن‬ ‫يز‬
‫ي‬
‫ق‬ ‫ز ف‬
‫اإلغري� إىل أزمنة ما بعد‬
‫ي‬ ‫الميتاف�يقا ي� مسارها الطويل‪ ،‬منذ تدوينها‬ ‫ي‬ ‫النقدي لما آلت إليه‬
‫الحداثة‪ .‬لم يكن رسول محمد رسول عىل غفلة مما حملته الفلسفة األوىل من معاثر تكوينية‬
‫ِّ ً‬ ‫ف‬ ‫ين‬
‫متنبها ألحوالها عما اكتنفها من مضاعفات خالل‬ ‫والمعر�‪ .‬كان‬
‫ي‬ ‫ج ي‬
‫األنطولو�‬ ‫المستوي�‬ ‫عىل‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫يحادث� كأنما يراجع حصاد عمركامل من مكابداته مع الفلسفة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫أزمنتها اللحقة‪ .‬ألفيته وهو‬
‫إن�اح الصدر‪ ،‬أو أن تمنحه ما‬ ‫ح� لقد ظننته يعاتبها لقصورها عن إتيانه بما يبعث عىل ش‬ ‫ت‬
‫ُ‬
‫ِّ ف‬ ‫َ ُ‬
‫يدونه ي� كتاب‪ .‬لكأن‬ ‫الكث� مما لم ُي ِتح له القدر أن‬
‫ي‬ ‫ُيطمئنه وهو يوشك عىل اإلرتحال‪ .‬قال‬
‫ح� يكون الذي‬‫ال� قد تمتنع عىل التدوين ي ن‬ ‫ت‬ ‫الذي يصدر من تلقاء اللسان هو ي ن‬
‫ع� الحقيقة ي‬
‫ً‬
‫يقال محررا من أحكام المفاهيم وقوانينها الصارمة‪.‬‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا جديدة تخرج‬ ‫توالت بيننا المهاتفات وتمحورت حول السؤال عن إمكان والدة‬
‫َ‬ ‫يز‬
‫ميتاف�يقا تتعاىل بالفكر نحو آفاق ما بعدية تستكشف فيها ما‬ ‫َّ‬
‫الصماء‪.‬‬ ‫الفلسفة من ي ز‬
‫ف�يائيتها‬
‫التجري�‬ ‫يحتجب من حقائق الوجود وأرساره‪ .‬هاتيك اللحظة كنا َّ‬
‫نتهيأ إلصدار العدد األول‬
‫بي‬
‫بم�وعنا وطلبت إليه المشاركة والمرافقة‪ ،‬وبعد أيام‬ ‫أخ�ته ش‬
‫من فصلية "علم المبدأ"‪ .‬كنت ب‬
‫ف‬ ‫زً‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫َّ ن‬
‫مم�ا ي� محور هذا العدد‪.‬‬ ‫ال� وجدنا أن تتخذ لها مطرحا ي‬
‫د� بهذه الدراسة ي‬ ‫زو ي‬
‫ف� ما سيل يم�ض الفيلسوف العر قا� الراحل رسول محمد رسول إىل ي ن‬
‫تبي� منشأ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الميتاف�يقا كمصطلح ومفهوم‪ ،‬واستظهار ما طرأ عليه من التباسات منذ اختبارات أرسطو‬ ‫ز‬ ‫ي‬
‫ً‬
‫لهياكل الفلسفة األوىل وصوال إىل فلسفات الحداثة المتعاقبة‪.‬‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا كما يقدمها رسول محمد رسول بأسلوب فريد ومفارق‪ ،‬فقد عاش‬ ‫إنها حكاية‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫السع من أجل أن يحيط بمكنونه‬
‫ي‬ ‫وسعه‬‫الفلس� وعايشه بشغف نادر‪ .‬وسىع ما ِ‬
‫ي‬ ‫النص‬
‫ ‬ ‫وص�ورته التاريخية‪.‬‬
‫ي‬ ‫ج ي‬
‫األنطولو�‬
‫***‬
‫الرودس ـ ما‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقية ـ أندرونيقوس‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬أرسطو ـ الما وراء ـ المعرفة‬
‫ي‬
‫وراء الطبيعة ـ الفلسفة األوىل ـ الذهنية النظرية‪.‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫حكامء والفالسفة يف وجود وطبائع وعلل ومبادئ لألشياء واملوجودات منترشة‬
‫كانت تأ ُّمالت ال ُ‬
‫قبل أرسطوطاليس‪ ،‬خصوصاً لدى أسالفه (‪ )Predecessors‬من الفالسفة اليونانيني‪ ،‬ليس فقط يف‬
‫العامل اإلغريقي‪ ،‬بل يف عوامل أخرى غريها متت ُّد إىل ثقافات وحضارات سحيقة يف التاريخ‪ .‬إال أ ّن‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ج ّل تلك التأ ُّمالت امليتافيزيقية كانت عامئة مشتَّتة من دون أن تُجمع يف إطار معريف واحد‪ ،‬أو قل‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫واحد كام هو املنجز املعريف األرسطوطالييس؛ مبعنى أنها كانت متاحة عفوياً وال رابط‬ ‫يف (علم)‬
‫نظريَاً يل ّمها‪ ،‬وهو ما سعى إليه أرسطوطاليس يف (محارضاته الشفاهية) التي كان يلقيها أمام أحبَّاء‬
‫الحكمة يف مدرسته الفلسفية (اللوقيون) بعد عام ‪ 335‬ق‪ .‬م‪ .‬أما هدف هذه املحارضات فكانت‬
‫ُفس الوجود والعامل‬
‫صياغة تلك األفكار امليتافيزيقية التأ ُّملية يف منظومة معرفية فكرية نظرية ت ِّ‬
‫استنادا ً إىل مبادئ مخصوصة مج َّردة من التجربة الحسية بحيث تلقي بظاللها عىل هذين الطرفني‬
‫وتؤسس للعلم الذي يقرتحه أرسطوطاليس‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬الوجود والعامل ‪ -‬مجتمعة يف بنية فلسفية متساوقة‪،‬‬
‫ككيان معريف جديد رمبا يضعه يف دروب تحفظه من النسيان والضياع‪.‬‬

‫يف تلك املدرسة‪ ،‬ظهرت أول محاولة شفاهية تنظيمية لـ (املعرفة امليتافيزيقية) (‪Metaphysical‬‬
‫‪ )Knowledge‬عىل يد أرسطوطاليس؛ تلك املحاولة التي جمع شتاتها هذا املعلِّم الكبري يف‬
‫محارضاته الفريدة التي د ّونها تالمذته عن لسانه‪ ،‬وكشف فيها عن رؤيته الفلسفية حتى تناقلتها‬
‫أجيال تلو أخرى من م ْؤثرِي الحكمة و ُمح ِّبيها لتلقى‪ ،‬تالياً‪ ،‬اهتامماً علمياً بدا تاريخياً لدى أحد‬
‫أتباعه الخلَّص وهو (أندرونيقوس الروديس)‪ ،‬الذي جمع محارضات معلِّمه وأخذ يرشع بتبويبها‬
‫وتصنيفها وعنونتها بغية نرشها تحت مسمى (‪ ،)Ta Meta Ta Phusika‬وهي العبارة العنوانية التي‬
‫ع ّربها حرفياً يحيى بن عدي يف القرن الرابع الهجري إىل (مطا طافوسيقا)‪ ،‬بل وترجمها إىل (ما‬
‫بعد الطبيعيات)؛ ولتتواصل‪ ،‬تالياً‪ ،‬تأ ُّمالت الق ّراء وطالب املعرفة الفلسفية األرسطوطاليسية فيها‪،‬‬
‫تلك التأ ُّمالت التفسريية التي سعت إىل تعريف داللة هذا العنوان باالستناد إىل منت نصوص‬
‫أرسطوطاليس نفسها‪.‬‬

‫وبذلك‪ ،‬يكون (أندرونيقوس) قد أخرج األفكار امليتافيزيقية األرسطوطاليسية من وجودها‬


‫الصويت كمحارضات مد َّونة شفاهياً محدودة التداول أو ذات تداول نخبوي أو تدرييس وما أشبه‪،‬‬
‫إىل وجودها الكتايب كنصوص منشورة للتداول العام بني الناس‪ .‬فكيف ت َّم ذلك؟ وكيف تس ّنى‬
‫حدها‬
‫ألرسطوطاليس بناء تلك التأ ُّمالت امليتافيزيقية اليونانية يف صيغة معرفة نظرية منظَّمة يو ِّ‬

‫‪45‬‬
‫المحور‬

‫(علم) (‪ )Science‬مأمول أو مقرتح؟ ومن ث َّم‪ :‬ما هي امليتافيزيقا كعلم؟ وبالتايل‪ :‬ما عصب البحث‬
‫فيها بحسب منظور أرسطوطاليس؟‬

‫(‪ )1‬والدة املصطلح‪:‬‬


‫ظهر مصطلح (ميتافيزيقا) يف (روما) خالل الحقبة اليونانية املتأخرة التي توصف بالعرص‬
‫الهلينستي (قبل امليالد)‪ ،‬وذلك عندما تبلورت لدى (أندرونيقوس الروديس)‪ ،‬أحد رؤساء‬
‫(املدرسة املشائية) يف ذلك العرص‪ ،‬الرؤية بعزم معريف نابض املسؤولية لتبويب وتصنيف ونرش‬
‫تراث أرسطوطاليس الفلسفي حتى يكون متاحاً للقراء وطالب الحكمة الفلسفية يف ذلك الوقت‪.‬‬

‫كان الهدف االسرتاتيجي من تلك التجربة تدوين وحفظ محارضات أرسطوطاليس‪ ،‬لك ّن وجهاً‬
‫آخر لتجربة أندرونيقوس بدا أكرث إرشاقاً بحيث صار ميثل فعالً معرفياً تاريخياً نتج عنه ظهور مصطلح‬
‫(‪ [[[)Ta Meta Ta Phusika‬الذي تم اختزله إىل مصطلح (‪ ، [[[)Metaphysics‬الذي استحال أمر‬
‫تعريبه إىل (ميتافيزيقا) أو ترجمته إىل العربية بـ (ما بعد الطبيعة)‪ ،‬وهي ترجمة عربية إسالمية باكرة‬
‫تعود إىل أحد عقود القرن الثاين الهجري يف أقىص تقدير‪.‬‬

‫يف يوم هادئ تس ّنى ألندرونيقوس الروديس أن يُص ِّنف محارضات أرسطوطاليس‪ ،‬فنظر‬
‫الخاصة بدراسة املنطق‬
‫َّ‬ ‫أمامه واملد َّونات األرسطوطاليسية تقبع عىل مكتبه‪ ،‬ووضع الكراسات‬
‫الخاصة بـ (األخالق‬
‫َّ‬ ‫الخاصة بدراسة (الحيوان)‪ ،‬ومن ثم الكراسات‬
‫َّ‬ ‫(املنطقيات)‪ ،‬وتالياً الكراسات‬
‫الخاصة بدراسة الطبيعة (الطبيعيات)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والسياسية)‪ ،‬وبـ (الخطابة والشعر)‪ ،‬ومن ثم وضع الكراسات‬

‫ويف غضون تلك اللحظات املعرفية النادرة العطاء‪ ،‬وجد (أندرونيقوس) مجموعة أخرى من‬
‫الكراريس يصل عددها إىل أربع عرشة‪ ،‬تلك التي ال تبحث يف املنطقيات‪ ،‬وال يف األخالقيات‪،‬‬
‫وال يف الطبيعيات‪ ،‬وال يف السياسة‪ ،‬وال يف الكون والسامء‪ ،‬وال يف بقية العلوم األخرى التي‬

‫[[[‪ -‬وجد مصطلح (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬ترجامت عربية باكرة له تعود إىل القرن الثاين الهجري؛ حيث ترجمه جابر بن حيان‬
‫(‪ 194 /193 – 117 /101‬هــ) إىل (ما بعد الطبيعة)‪ ،‬وترجمه الكندي (‪ 260 – 185‬هـ) إىل (ما بعد الطبيعة) أيضاً‪ .‬انظر‪( :‬د‪ .‬عبد األمري‬
‫األعسم‪ :‬املصطلح الفلسفي عند العرب‪ ،‬ص ‪ ،179‬منشورات مكتبة الفكر العريب‪ ،‬بغداد‪ .)1984 ،‬أما ابن رشد فالتزم بتلك الرتجمة حتى‬
‫قال‪« :‬إمنا سمي هذا العلم علم ما بعد الطبيعة من مرتبته يف التعليم»‪ .‬انظر‪( :‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪،‬‬
‫ص ‪ ،7‬طهران‪( ،‬د‪ .‬ت‪.).‬‬
‫[[[‪ -‬إنّ مصطلح (‪ ،)Metaphysics‬املستعمل حتى اآلن‪ ،‬هو مصطلح مركَّب يعود تاريخه إىل الصياغة اليونانية القدمية (‪Ta Meta Ta‬‬
‫‪ ،)Phusika‬والذي ميكن تحليله إىل مقطعني‪ ،‬هام‪ ،)Meta( :‬وتعني‪( :‬ما وراء)‪ ،‬و(ما بعد)‪ ،‬و(ما فوق)‪ ،‬و(‪ ،)physics‬وتعني (الطبيعة)‪.‬‬
‫للمزيد حول ذلك‪ ،‬انظر‪( :‬د‪ .‬رسول مح َّمد رسول‪ :‬الحضور والتمركز‪ :‬قراءة يف العقل امليتافيزيايئ الحديث‪ ،‬ص ‪ 20‬وما بعدها‪ ،‬املؤسسة‬
‫العربية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪.2000 ،‬‬

‫‪46‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫وظل يقرأها ويُعيد قراءتها مرارا ً حتى‬


‫رض فيها أرسطوطاليس‪ ،‬فاحتار (أندرونيقوس) يف أمرها‪َّ ،‬‬
‫حا َ‬
‫استقر الرأي عنده بأن يضع لها اسامً تصنيفي الطابع هو (‪ ،)Ta Meta Ta Phusika‬كونها ال تبحثُ‬
‫يف مسائل املحسوس وامللموس‪ ،‬إمنا تتجاوزهام إىل ما بعدهام أو إىل ما وراءهام من (وجود)‬
‫(‪ ،)The Being‬أي تبحث عن الوجود يف العلل األوىل‪ ،‬ويف الجواهر‪ ،‬ويف املا ّدة أو الهيوىل‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫والصورة‪ ،‬ويف الحركة‪ ،‬ويف القوة والفعل‪ ،‬ويف املح ِّرك الذي ال يتح َّرك أو (الله)‪ ،‬فضالً عن مفاهيم‬
‫مصطلحية أخرى ذات صلة جوهرية بحقل معريف ظل يبحث عن عنوان مركزي يتداوله طالب‬
‫الحكمة الفلسفية‪.‬‬

‫لقد أفضت تلك (الواقعة)؛ واقعة جمع وتبويب وتصنيف ورشح ونرش محارضات أرسطوطاليس‬
‫من جانب (أندرونيقوس)‪ ،‬إىل والدة مصطلح (‪ ،)Ta Meta Ta Phusika‬ذلك املصطلح الرتكيبي‬
‫رشاح املنت األرسطوطالييس والفالسفة من أتباعه‪ ،‬بل‬
‫الذي صال وجال يف اآلفاق الفلسفية لدى ّ‬
‫حتى من نقّاده ومخالفيه‪ ،‬إىل يومنا هذا من دون أن يشتقه أو يستخدمه أرسطوطاليس نفسه يف كل‬
‫محارضاته‪ ،‬لك ّنه بث داللته يف تلك املباحث األربعة عرش‪ .‬وهذا يؤكِّد ما ييل‪:‬‬

‫أ‪ -‬الفالسفة اليونانيون الذين ظهروا قبل (واقعة) تبويب وتصنيف ورشح ونرش محارضات‬
‫أرسطوطاليس‪ ،‬مل يستخدموا امللفوظ املركَّب (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬كدال ملعنى مضموين‬
‫تبحثه املقاالت التي تؤلِّف هذه الكراريس‪.‬‬

‫ب‪ -‬أندرونيقوس الروديس (تويف نحو ‪ 63‬ق‪ .‬م) هو أول شارح ملتون أرسطوطاليس الفلسفية‬
‫مي ُّد الصلة بني (داللة) مفاهيم ومسائل وقضايا ونظريات ك ّراسات ما بعد الطبيعيات‪ ،‬و(دال)‬
‫ملفوظي نتج عنه (مدلول) يتضمنه مصطلح (تا ‪ -‬ميتا ‪ -‬تا ‪ -‬فيزيكا) (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬من‬
‫دون اإلشارة إىل أي من العبارات الواردة يف منت الكراريس التي س َّوغت له اصطفاء هذه التسمية‪،‬‬
‫ولذلك كانت تلك (الصلة) شكلية تعليمية وليست مضمونية اجتهادية ألنها تدفَّقت من باعث‬
‫متت بعالقة مضمونية إىل مدلول مصطلح (‪Ta Meta‬‬
‫تصنيفي؛ فمضامني أبحاث أرسطوطاليس ال ّ‬
‫‪ )Ta Phusika‬إمنا عالقة شكلية تراتبية فقط‪ ،‬مبعنى أ ّن مصادفة التسمية هي التي قادت إىل إلصاق‬
‫هذا امللفوظ العنواين (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬عىل (غالف) املد َّونات التي جاءت إىل تصنيفها‬
‫بعد مباحث الطبيعيات‪ ،‬وال أدري ملاذا مل يتخري (أندرونيقوس) مصطلحات أخرى وردت يف‬
‫املنت األرسطوطالييس الك ّرايس نفسه‪ ،‬كام سرنى ذلك الحقاً‪ ،‬لتكون عنواناً خاصاً بهذه املنقوالت‬
‫الشفاهية التي تح َّولت إىل كتاب (ما بعد الطبيعة) مثل‪ :‬مصطلح (الفلسفة األوىل)‪ ،‬ومصطلح‬

‫‪47‬‬
‫المحور‬

‫(العلم األول)‪ ،‬ومصطلح (الحكمة)‪ ،‬ومصطلح (دراسة الوجود مبا هو وجود)‪ ،‬ومصطلح (العلم‬
‫اإللهي)؟‬

‫ج ‪ -‬يف تلك املحارضات املد َّونة‪ ،‬التي حملت عنوان (‪( )Ta Meta Ta Phusika‬ما بعد‬
‫الطبيعة)‪ ،‬ظهر أرسطوطاليس عىل درجة عالية من الوعي األبستمولوجي عندما استخدم فيها‬
‫مصطلح (الفلسفة األوىل) (‪ ،)prōtē philosophia) = (First philosophy‬وكذلك مصطلح‬
‫(العلم األول) (‪ ،)prōtē epistēmē) = (First science‬فضالً عن مصطلح (الحكمة) ()‪Sophia‬‬
‫‪ ،)= (Wisdom‬حتى ُع َّدت‪ ،‬تلك املصطلحات‪ ،‬حبىل مبدلوالت تتطابق إىل ح ٍّد كبري مع مدلول‬
‫مصطلح (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬الذي اشتقه (أندرونيقوس) يف لحظة معرفية نادرة الوجود ليتم‬
‫اختزاله‪ ،‬تالياً‪ ،‬إىل مصطلح (‪ )Metaphysics‬الذي نستخدمه حالياً يف دراساتنا وأبحاثنا الفلسفية‬
‫الحديثة واملعارصة‪.‬‬

‫(‪ )2‬دال وداللة‪:‬‬


‫ظل تالمذة املدرسة األرسطوطاليسية‬
‫منذ ذلك التاريخ‪ ،‬ومنذ تلك (الواقعة املعرفية) باهرة العطاء‪َّ ،‬‬
‫أو (املشائية) يبحثون عن تعريف ملصطلح (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬من خالل العودة إىل‬
‫محارضات‪ /‬مد َّونات أستاذهم أرسطوطاليس التي نرشها (أندرونيقوس) يف ذلك الوقت‪ ،‬والتي‬
‫أصبحت متداولة فيام بينهم‪ ،‬وتحديدا ً يعودون إىل منت الكتاب (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬لغرض‬
‫استكشاف ما يقصد ُه أرسطوطاليس نفسه مبباحث ما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬استم َّرت (املدرسة املشائية) وفية ألستاذها الكبري أرسطوطاليس بعد امليالد‪،‬‬
‫وكان (اإلسكندر األفرودييس)‪ ،‬وهو أحد مشايئ مدرسة اإلسكندرية األرسطوطاليسية‪ ،‬ومن الباعثني‬
‫لتلك الفلسفة بني الناس‪ ،‬كان شارحاً بارعاً لنصوص أستاذه الفلسفية‪ ،‬ومنها نص هذا الكتاب الذي‬
‫أصبح مطبوعاً ومتداوالً بني عباد الله‪ ،‬فأخذ مي ُّد الصلة بني دالالت أبحاث أستاذه تلك للظفر‬
‫مبدلول تعريفي للدال‪ /‬املصطلح (‪ ،)Ta Meta Ta Phusika‬حتى وجد إمكانية تعريفه بـ «البحث‬
‫ظل متداوالً يف أي كالم عن مدلول‬
‫يف الوجود مبا هو وجود»‪ ،‬وهو التعريف التأسييس الذي َّ‬
‫أرسطوطالييس ملصطلح (‪ )Metaphysics‬يف شكله الراهن‪ ،‬خصوصاً أ ّن أرسطوطاليس نفسه كان‬
‫يريد من مصطلح (وجود) أن يكون محورياً يف فلسفته امليتافيزيقية‪ ،‬رغم أنه ذكر مصطلحات أخرى‬
‫دالة‪ ،‬مثل مصطلح (الفلسفة األوىل)‪ ،‬ومصطلح (العلم األول)‪ ،‬ومصطلح (الحكمة)‪ ،‬ومصطلح‬
‫(العلم اإللهي) بحسب ترجامت العرب له‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫كانت محاولة (اإلسكندر األفرودييس) التعريفية محطة علمية رائعة‪ ،‬بل ونُقلة تاريخية نادرة‬
‫وضعت املعرفة امليتافيزيقية عىل دروب آمنة كونها عادت إىل منت أرسطوطاليس الفلسفي ذاته يف‬
‫أبحاث ما بعد الطبيعة‪ ،‬وخرجت بتعريف للميتافيزيقا يستند إىل معانٍ أرسطوطاليسية أصيلة ض َّمتها‬
‫(املقالة الرابعة) من مقاالت الكتاب‪ ،‬واملعنونة بـ (مقالة الجام) (‪ ،)Book Gamma‬تلك املقالة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التي أكَّد فيها أرسطوطاليس وجود علم «يبحث يف الوجود مبا هو وجود»‪ ،‬وهو وصف تعريفي‬
‫أرسطوطالييس أصيل له‪.‬‬

‫(‪ )3‬وظيفة الفيلسوف‪:‬‬


‫يف محارضاته التي ض َّمها كتابه (ما بعد الطبيعة) أو (امليتافيزيقا)‪ ،‬وجد أرسطوطاليس نفسه‬
‫بإزاء َمهمة معرفية كبرية ال ب َّد للفيلسوف من مسك زمامها؛ فالفالسفة معنيون بتوليد العلوم وبناء‬
‫أطرها ال َّنظرية من خالل عملهم الفكري وتأ ُّمالتهم ال َّنظرية يف الوجود واملوجود معاً‪ .‬ويف (املقالة‬
‫الرابعة) من مقاالت (ما بعد الطبيعة)‪ ،‬واملوسومة بـ (مقالة الجام)‪ ،‬نلقى (الفيلسوف) يضطلع بأربع‬
‫مهام جوهرية يف عمله بحسب أرسطوطاليس؛ هي‪:‬‬

‫وذلك نطاق للدور املركزي العام‬ ‫‪.‬‬


‫أوالً‪ :‬أ ْن يكون «قادرا ً عىل البحث يف جميع األشياء‬
‫[[[”‬

‫للفيلسوف‪ ،‬وهو الدور‪ /‬املهمة التي درج عليها الفالسفة اإلغريق يف منحاهم الفكري والتأ ُّميل‬
‫املوسوعي قبله أيضاً‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الهدف العام من ذلك هو أن «يبحث الفيلسوف عن الحقيقة[[[‪ ،‬حقيقة جميع األشياء كونه‬
‫اإلنسان الذي ك َّرسته الحياة ملهمة من هذا النوع بفضل قدراته الذهنية النظرية (‪ )Epistêmê‬التي‬
‫تتطلَّع إىل العلو من دون كلل‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬ومن بني تلك األشياء التي يجب عىل الفيلسوف االضطالع بالبحث فيها هي مبادئ‬
‫الجواهر وعللها‪ ،‬ولذلك قال أرسطوطاليس‪« :‬عىل الفيلسوف أن يسعى يف طلب مبادئ الجواهر‬
‫وعللها»[[[‪ ،‬بعد أن أمىض ردحاً من حياته متأ ِّم ًال يف األشياء واملوجودات املا ّدية التي يعيش بينها‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬ليس هذا فقط؛ فهناك ما هو أع ّم من الجواهر وعللها؛ هناك (الوجود مبا هو وجود)‪،‬‬

‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة الجام‪( ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،)2‬ضمن كتاب‪( :‬د‪ .‬إمام عبد الفتاح إمام‪ :‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ..‬مع ترجمة‬
‫للكتب األوىل الخمسة من ميتافيزيقا أرسطو‪ ،‬ص ‪ ،315‬نهضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ .)2005 ،‬مالحظة‪ :‬يعني حرف (م)‬
‫املقال‪ ،‬ويعني حرف (ف) فصل أينام وردا يف الـ (هوامش) اآلتية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة الجام‪ ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.318‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.315‬‬

‫‪49‬‬
‫المحور‬

‫جب عىل الفيلسوف أن يش ّد من عزميته للدخول إىل مسكنه والحلول عليه‬


‫مسكن الحقيقة الذي يتو َّ‬
‫ضيفاً ناعم الرسائر؛ فهناك «خصائص معينة للوجود مبا هو وجود هي التي ينبغي عىل الفيلسوف أن‬
‫يبحث عن الحقيقة[[[ فيها‪ ،‬كام درج عىل ذلك نفر متألق من الفالسفة اليونانيني قبل أرسطوطاليس‪.‬‬

‫هكذا ينتقل (الفيلسوف) يف ( َمهامه التأ ُّملية) من (ال َّنظر) يف جميع األشياء واملوجودات‬
‫(بحثاً) عن حقيقة الجواهر والعلل فيها‪ ،‬إىل تحقيق غاية ه ّمها الوصول إىل خصائص (الوجود‬
‫كوجود) (‪ ،)being qua being‬وتلك االهتاممات‪ /‬املهام متثل مظاهر ع َّدة لوظيفة (الفيلسوف‬
‫امليتافيزيقي) بحسب املنظور األرسطوطالييس الذي مل يجعل منوذج هذا الفيلسوف يغتني بال َّنظر‬
‫والبحث عن خصائص الوجود مبا هو وجود فحسب‪ ،‬بل أيضاً البحث املخصوص يف إمكانية بناء‬
‫املعرفة يف منوذجها امليتافيزيقي كـ (علم) قائم برأسه‪ ،‬وهو البحث الذي أقبل عليه أرسطوطاليس‬
‫نفسه يف كتاب (‪ )Ta Meta Ta Phusika‬عىل نحو جديد يف حينه‪.‬‬

‫(‪ )4‬بن�اء املعرفة امليت�افزييقية‪:‬‬


‫كان ذلك ما يطمح إليه أرسطوطاليس استنادا ً إىل معطيات فلسفية قال بها فالسفة يونانيون‬
‫سابقون عليه‪ ،‬تلك املعطيات التي كان أرسطوطاليس وفياً بإعادة تنظيمها واالشتغال املعريف عىل‬
‫مساراتها كام َّدة فلسفية حقَّق من خاللها طموحه يف بناء نظام معريف (علم) يدرس (الوجود مبا هو‬
‫وجود) بعد أن توافر عىل سؤال مركزي طرحه عىل نفسه بداية‪ :‬ما هو الوجود؟ وتالياً‪ :‬ما هو الوجود‬
‫كوجود؟‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا‪:‬‬ ‫(أ) إشكاليات‬

‫إ ّن بناء أي نظام معريف يف صيغة (علم) يتطلَّب مراجعة لجملة من املسائل واملوضوعات‬
‫واملفاهيم‪ ،‬بل واإلشكاليات املعرفية ذات الصلة بالحقل املعريف موضوع التأسيس (امليتافيزيقا)‪،‬‬
‫وذلك بالفعل ما أقبل عليه أرسطوطاليس يف (مقالة البيتا)؛ املقالة الثالثة من مقاالت كتابه (‪Ta‬‬
‫‪ ، )Meta Ta Phusika‬عندما وضع عىل مائدة النقاش نحو أربع أو خمس عرشة إشكالية نظرية‬
‫(‪ )Aporiai‬ترتبط ببنية املعرفة امليتافيزيقية املراد تنظيمها يف علم ُمرتجى ألن يأخذ طريقه بني‬
‫علوم أخرى‪ ،‬فأجاب عنها بروح الفيلسوف املقتدر بوعي معريف نابض العطاء‪ ،‬خصوصاً عندما‬
‫قال‪« :‬ال ب َّد لنا‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬أن نحيص أوالً‪ ،‬من زاوية العلم الذي ندرسه‪ ،‬املسائل أو املوضوعات‬

‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪( ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.318‬‬

‫‪50‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫التي ينبغي أن نناقشها‪ ،‬وينطوي ذلك عىل ذكر اآلراء التي قال بها البعض بصدد مسائل معينة‪،‬‬
‫وأية مسائل أخرى إىل جانبها‪ ،‬رمبا يكون قد تم إغفالها [[[‪.‬أ ّما املسائل التي عرضها أرسطوطاليس‬
‫بصيغة أسئلة‪ ،‬وراح يجيب عنها عىل نحو حجاجي‪ ،‬فهي‪ )1( :‬هل البحث عن العلل ينسب إىل‬
‫علم واحد أم إىل علوم ع َّدة؟ (‪ )2‬هل يبحث هذا العلم يف املبادئ األوىل للجوهر فحسب أم أنّه‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يبحث أيضاً يف املبادئ التي يقيم جميع الناس براهينهم عىل أساسها؟ (‪ )3‬هل هناك علم واحد‬
‫يدرس الجواهر أم أكرث؟ (‪ )4‬هل توجد جواهر محسوسة أم توجد جواهر أخرى؟ (‪ )5‬هل بحثنا‬
‫يتعلَّق بالجواهر فقط أم بخصائص الجواهر؟ (‪ )6‬هل علينا أن نناقش ما إذا كان اليشء له ضد واحد‬
‫باستمرار؟ (‪ )7‬ما إذا كانت مبادئ األشياء وعنارصها هي الفئات (األجناس) واألجزاء (األفراد)‬
‫الحارضة يف كل يشء‪ ،‬والتي ميكن أن ينقسم إليها؟ (‪ )8‬فيام إذا كانت هذه الفئات ‪ -‬األجناس ‪-‬‬
‫التي تحمل عىل اإلفراد أو عىل الفئات؟ (‪ )9‬هل هناك‪ ،‬إىل جانب املا َّدة‪ ،‬أي يشء يُسمى (السبب‬
‫يف ذاته) أم ال‪ ،‬فيام إذا كان ميكن ملثل هذا السبب أن يوجد مبعزل عن اليشء العيني؟؟ (‪ )10‬فيام‬
‫إذا كانت املبادئ محدودة من حيث العدد أو من حيث النوع‪ ،‬وكذلك من حيث الصيغ؟ (‪ )11‬فيام‬
‫إذا كانت مبادئ األشياء التي تفنى أو تفسد أو مبادئ األشياء التي ال تفنى أو التي ال تفسد متشابهة‬
‫أم مختلفة؟ (‪ )12‬هل الوحدة والوجود ليستا خاصيتني كام ذهب الفيثاغوريني وأفالطون ليشء آخر‬
‫عم إذا كانت املبادئ (كل ّيات) أم أنها أشبه باألشياء الفردية؟‬
‫سوى جوهر األشياء املوجودة؟ (‪ّ )13‬‬
‫(‪ )14‬فيام إذا كانت تلك املبادئ موجودة بالقوة أم بالفعل‪ ،‬وأكرث من ذلك؛ ما إذا كانت بالقوة أو‬
‫بالفعل مبعنى آخر غري الذي يشري إىل الحركة أل ّن هذه املسائل أيضاً متثل صعوبة كبرية؟ (‪)15‬‬
‫فيام إذا كانت األعداد واألطوال‪ ،‬و(الخطوط) واألشكال‪ ،‬والنقاط أنواعاً من الجوهر أم ال‪ ،‬وفيام‬
‫إذا كانت جواهر فهل هي تنفصل عن األشياء الحسية أم أنها موجودة فيها؟‬

‫تبدو هذه األسئلة جوهرية ألي شخص يريد بناء أفكار ما ذات خصائص نظرية يف حقل معريف‬
‫معي‪ .‬ولهذا‪ ،‬انتهى أرسطوطاليس إىل إجابات مح َّددة املعنى لكل األسئلة التي طرحها؛ لك ّنها‬
‫َّ‬
‫إجابات حجاجية جاءت عىل أعتاب أفكار فلسفية صدح بها فالسفة سابقون عليه‪ ،‬وهذا جزء من‬
‫املنهجية التاريخية التي يتميز بها هذا الفيلسوف (أرسطوطاليس) الذي أبدى وفاء لتاريخ الفلسفة‬
‫اليونانية كام فعل أستاذه أفالطون (‪ 347 - 427‬ق‪ .‬م) عندما جعل من معلِّمه سقراط (‪399 - 469‬‬
‫ق‪.‬م) شخصية محورية يف أغلب (محاوراته) الفلسفية التي وصلتنا‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬م ‪ ،3‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.295‬‬

‫‪51‬‬
‫المحور‬

‫واملهم هنا‪ ،‬أ ّن (مقالة البيتا) هذه «تبني وحدة كتاب امليتافيزيقا»‪ ،‬كام يقول الفيلسوف املرصي‬
‫يوسف كرم[[[‪ ،‬كونها فتحت للبحث امليتافيزيقي عدة آفاق ُمهمة عندما دخلت إىل صميم األفكار‬
‫واملفاهيم واملسائل والنظريات واإلشكاليات التي ميكن أن تناقشها أية محاولة منظَّمة لبناء‬
‫معرفة ميتافزيقية يف علم جديد‪ ،‬فاستحقت‪ ،‬وعن جدارة‪ ،‬أن تكون املفتاح الذهبي لبناء املعرفة‬
‫امليتافيزيقية يف علم نظري يشاء له أن يكون إىل جانب بقية العلوم األخرى التي نضَّ د أرسطوطاليس‬
‫كيانها املعريف‪.‬‬
‫َّ‬
‫(ب) العلوم النظرية‪:‬‬

‫يف املقالة األوىل من مقاالت (ما بعد الطبيعة) أو (امليتافيزيقا) أكَّد أرسطوطاليس عىل أ ّن‬
‫العلوم ال َّنظرية أعىل من العلوم العملية‪ ،‬وق َّدم يف ذلك مجموعة من التوضيحات‪ ،‬هي‪ :‬أوالً‪“ :‬إ ّن‬
‫العلم بالعلّة وبالكُيل أعىل من العلم بالواقع فقط؛ أل ّن صاحبه يعلم بقوة جميع الجزئيات املندرجة‬
‫تحت الكُيل‪ ،‬والكُيل يتفاوت فتتفاوت مراتب العلوم”‪ .‬ثانياً‪“ :‬الذي يعلِّم العلّة أقدر عىل التعليم؛‬
‫وتتفاوت هذه القدرة أيضاً بتفاوت العلم بالعلّة”‪ .‬ثالثاً‪“ :‬معنى العلم أكرث تحقُّقاً يف طلب العلم‬
‫لذاته ال ألية منفعة كانت‪ ،‬فإ ّن العجب هو الذي يدفع الناس إىل الهرب من الجهل‪ ،‬أي إىل طلب‬
‫العلم‪ ،‬وهذه الخاصية أكرث تحقُّقاً يف الجزء ال َّنظري من الفلسفة”‪ .‬رابعاً‪“ :‬أعىل العلوم ال َّنظرية‬
‫(الحكمة) لالعتبارات عينها‪ ،‬هي علم يدرس الوجود مبا هو وجود ومحموالته الجوهرية‪ ،‬بينام‬
‫سائر العلوم يقتطع كل منها جزءا ً من الوجود ويبحث يف محموالت هذا الجزء فقط»[[[‪.‬‬

‫يبدو جلياً هنا أ ّن أرسطوطاليس يريد أن ينأى بـ (العلم) الذي يريد تأسيسه وهو (الحكمة) (ما‬
‫بعد الطبيعة)؛ ينأى به عن املوجودات الطبيعية أو املوجودات الحسية لكون هذا (العلم) الوليد‬
‫يُعنى بالعلل واملبادئ األوىل‪ .‬ولهذا أخذ يف (املقالة الرابعة) من كتابه‪ ،‬واملوسومة بـ (مقالة‬
‫يفصل القول يف ذلك‪ ،‬ويقرتح وجود (فلسفة أوىل) مت ِّهد لدراسة الوجود مبا هو وجود‬
‫الجام)‪ِّ ،‬‬
‫فيقول‪« :‬هناك أجزاء متع ِّددة من الفلسفة بتع ُّدد أنواع الجوهر‪ ،‬ومن ثم فال ب َّد أن يكون بينها بالرضورة‬
‫فلسفة أوىل‪ ،‬ثم فلسفة تتبعها‪ ،‬أل ّن الوجود ينقسم يف الحال إىل أجناس‪ ،‬يقابلها أيضاً علوم تدرس‬
‫[[[‬
‫هذه األجناس‪.‬‬

‫[[[‪ -‬يوسف كرم ‪ :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص ‪ ،168‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يوسف كرم ‪ :‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪ .170‬وانظر‪ :‬أرسطوطاليس ‪:‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة األلفا الكربى‪“ ،‬م ‪ ،1‬ف ‪ ،»1‬و«م ‪ ،1‬ف ‪.2‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪( ،‬مقالة الجام)‪( ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪ .)295‬ويبدو يل هنا أنّ هذا املقتبس ال َّنيص هو الذي‬
‫أوحى ألندرونيقوس أن يضع تراتبية ما قبل الطبيعيات وما بعدها يف تصنيف مؤلَّفات أرسطوطاليس وتحضريها للطبع والنرش‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫إ ّن تع ُّدد الفلسفات بتع ُّدد الجواهر التي تدرسها قد ينرصف إىل جواهر األشياء الجزئية‪ ،‬أ ّما ما‬
‫هو ثابت من الجواهر فله خصائصه بأن يكون قبلياً وكل ّياً حتى يكسب االنضواء تحت راية الفلسفة‬
‫األوىل‪« :‬إذا كانت الجواهر ثابتة‪ ،‬فالعلم الخاص بذلك إمنا يجب أن يكون قبلياً‪ ،‬وأن يكون فلسفة‬
‫أوىل‪ ،‬وبتلك الطريقة يكون كليّاً ألنه كذلك[[[”‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أخريا ً‪ ،‬نجد أرسطوطاليس يدافع عن قيمة ومنزلة العلم الذي يدرس الحكمة‪ ،‬والتي تدرس‪ ،‬بدورها‪،‬‬
‫الوجود مبا هو وجود‪ ،‬وكذلك تدرس العلل األوىل والفلسفة األوىل‪ ،‬فهو علم يتمتع بالجدوى واملنزلة‬
‫الراقية رغم أنه من العلوم ال َّنظرية التي ال تأيت باملنفعة الشخصية ملن يشتغل بها‪.‬‬

‫(‪ )5‬داللتا امليت�افزييقا‪:‬‬


‫يتخصص باملعرفة امليتافيزيقية عامة وبدراسة‬
‫َّ‬ ‫يفرتض أرسطوطاليس وجود علم أراد له أن‬
‫الوجود مبا هو وجود عىل نحو خاص‪ ،‬ولذلك أسهب يف نصوص مستلة من مقاالت كتابه (ما‬
‫بعد الطبيعة) بتحديد معانيه ودالالته وما يدرسه‪ ،‬فقال برضورة وجود «علم واحد قادر عىل تفسري‬
‫التص ُّورات‪ [[[.‬وأضاف‪« :‬هناك علم واحد مهمته دراسة جميع األشياء أو الوجود من حيث هو وجود‬
‫‪ Being qua being‬كون العلم يف كل مكان يُعنى أساساً بدراسة ما هو أويل‪ ،‬وما تعتمد عليه األشياء‬
‫األخرى‪ ،‬وما بفضلها تكتسب أسامءها‪ ،‬ولو كان ذلك هو الجوهر‪ ،‬فإ ّن عىل الفيلسوف أن يسعى‬
‫[[[‬
‫يف طلب مبادئ الجواهر وعللها‪.‬‬

‫توصل أرسطوطاليس إىل أ ّن ما يدرسه هذا‬


‫َّ‬ ‫ويف إطار (علم الحكمة) و(الفلسفة األوىل)‪،‬‬
‫(العلم) هو البحث «يف الوجود مبا هو وجود‪ ،‬ويعرض للخصائص التي تنتمي إىل املوجود من‬
‫حيث طبيعته ذاتها‪ .‬ليس هذا العلم واحدا ً من تلك العلوم التي يُقال عنها إنها جزئية‪ ،‬فليس علامً‬
‫من العلوم الجزئية ذلك الذي يدرس الوجود مبا هو وجود بصفة عا ّمة؛ إ ّن العلوم الجزئية تقتطع‬
‫جزءا ً من الوجود وتدرس أعراض هذا الجزء؛ فهذا مثالً ما تفعله العلوم الرياضية‪ .‬وما دمنا نسعى‬
‫إىل دراسة املبادئ األوىل والعلل القصوى‪ ،‬فمن الواضح أنه ال ب َّد أن يكون هناك يشء تنتمي إليه‬

‫‪[1]- Aristotle, Metaphysics, translated by W. D. Ross, Oxford, 1966, (BOOK 6. Ch1).‬‬


‫القبيل (‪ ،)Prior‬و(الكيل) = (‪ ،)Universal‬و(الفلسفة األوىل) = (‪ .)First Philosophy‬يقول تيلر‪« :‬تعنى الفلسفة األوىل بالصفة‬
‫العا ّمة برضوب وشؤون الوجود‪ ،‬بيد أنها تعنى‪ ،‬عىل الوجه األخص‪ ،‬بهذا الرضب من الوجود الذي يخص الجواهر‪ ،‬ألنّ هذا هو الرضب‬
‫األول لكل شؤون الوجود»‪ .‬انظر‪ :‬أ‪ .‬أ‪ .‬طيلر‪ :‬املعلم األول‪ /‬أرسطو وفلسفته املنطقية والطبيعية واملا بعد طبيعية والسياسية‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد‬
‫حسن زيك‪ ،‬ص ‪ ،65‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪.1954 ،‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة األلفا الكربى)‪( ،‬م ‪ ،1‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.295‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬م ‪ ،1‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.315‬‬

‫‪53‬‬
‫المحور‬

‫هذه بطبيعتها‪ .‬وإذا كان أسالفنا األوائل الذين بحثوا عن عنارص األشياء املوجودة كانوا يبحثون عن‬
‫هذه املبادئ نفسها؛ فمن الرضوري أن تكون العنارص؛ عنارص الوجود‪ ،‬ال بال َع َرض بل أ ْن تكون هي‬
‫الوجود‪ ،‬ولذلك ينبغي علينا أن نبحث عن العلل األوىل للوجود مبا هو وجود[[[‪.‬‬

‫يف ضوء ذلك‪ ،‬ال ب َّد لـ (الفيلسوف امليتافيزيقي) من االضطالع وفق مهارة عالية باستجالء حقيقة‬
‫الوجود كوجود؛ ذلك أ ّن «وظيفة الفيلسوف هي أن يكون قادرا ً عىل البحث يف جميع األشياء‪ ،‬فمن‬
‫ينتمي إىل هذا العلم عليه أ ْن يبحث‪ ،‬ويف اآلن نفسه‪ ،‬ماهية هذه التص ُّورات وخصائصها[[[‪ ،‬بل‬
‫عليه أيضأً أن يكون حاذقاً يف البحث عن خصائص الوجود مبا هو وجود وعن خصائص الوحدة‬
‫بوصفها وحدة‪ ،‬أل ّن يف ذلك الطريق السعيد إىل الحقيقة‪ ،‬فمن «كان موضوعه الوجود مبا هو وجود‬
‫ال ب َّد أن يكون قادرا ً عىل أن يخربنا بأعظم املبادئ يقيناً عن جميع األشياء‪ ،‬وهذا هو الفيلسوف[[[‪،‬‬
‫الذي يتخذ من «علم واحد يقوم بفحص الوجود مبا هو وجود” [[[ ً‬
‫سبيال إلدراك الحقيقة املبتغاة‪.‬‬

‫إ ّن دراسة الوجود مبا هو وجود كمطلب معريف‪ ،‬ال ميثل‪ ،‬ومن منظور أرسطوطاليس‪ ،‬الغاية‬
‫الوحيدة لـ (الفيلسوف امليتافيزيقي)‪ ،‬بل هناك غاية أخرى ال ب َّد أن يضطلع بها‪ ،‬تلك هي دراسة‬
‫(العلم اإللهي)؛ ولهذا قال أرسطوطاليس‪« :‬العلم الذي يناسب الله أكرث من أي علم آخر هو العلم‬
‫اإللهي‪ ،‬وكذلك أي علم يدرس املوضوعات اإللهية‪ ،‬ولهذا العلم وحده هاتان الصفتان معاً؛ فقد‬
‫قيل إ ّن الله هو من بني األسباب جميعاً أو هو املبدأ األول‪ ،‬ومثل هذا العلم إ ّما أن يكون الله وحده‬
‫أو أ ّن الله هو فوق جميع املوضوعات األخرى‪ ،‬والواقع‪ ،‬أ ّن جميع العلوم رمبا كانت أكرث رضورة‬
‫[[[‬
‫من هذا العلم لك َّنها ليست أفضل منه‪.‬‬

‫خاصة تنرصف إىل دراسة الجوهر املفارق أو‬


‫َّ‬ ‫وهذا يعني‪ ،‬يف نهاية األمر‪ ،‬أ ّن للميتافيزيقا داللة‬
‫متخصصة بدراسة الوجود مبا هو وجود[[[‪ .‬وبحسب‬
‫ِّ‬ ‫(الله) وهو العلم اإللهي‪ ،‬وداللة أخرى عامة‬
‫ذلك‪ ،‬فإ ّن (امليتافيزيقا) لدى أرسطوطاليس هي علم (الحكمة) الذي يدرس الوجود مبا هو وجود‬
‫ومحموالته الجوهرية‪ ،‬وبذلك فهي العلم الذي ينظر يف «الوجود مبا هو وجود‪ ،‬ويف األعراض‬

‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس ‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة الجام‪ ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،1‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.315‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.317‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ، ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.320‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬املصدر السابق نفسه‪ ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.318‬‬
‫[[[‪ -‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة األلفا الكربى‪ ،‬م ‪ ،1‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪.261‬‬
‫علام‪ ،‬انظر‪( :‬د‪ .‬ماجد فخري‪ :‬أرسطوطاليس‪ ،‬ص ‪ ،95‬األهلية للنرش‬‫[[[‪ -‬عن رؤية أرسطوطاليس املزدوجة لداللة امليتافيزيقا بوصفه ً‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪ .)1986 ،3‬وانظر أيضاً كتابنا‪( :‬الحضور والتمركز‪ :‬قراءة يف العقل امليتافيزيايئ الحديث‪ ،‬ص ص ‪.27 – 26‬‬

‫‪54‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫التي تنسب إليه من حيث هو وجود‪ ،‬وال ينظر ‪ -‬هذا العلم ‪ -‬يف الجواهر فقط‪ ،‬بل يف أعراضها‬
‫أيضاً‪ ،‬كام أنه ينظ ُر يف الق ْبل‪ ،‬ويف الب ْعد‪ ،‬ويف األجناس‪ ،‬ويف األنواع‪ ،‬ويف الكل والجزء‪ ،‬ويف أمور‬
‫أخرى من هذا القبيل[[[‪.‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫كان أرسطوطاليس أول فيلسوف يضع (املعرفة امليتافيزيقية) يف إطار منظِّم‪ ،‬كام أنه أول‬
‫متخصص له‬
‫ِّ‬ ‫فيلسوف يقرتح رضورة أن تأخذ تلك املعرفة طريقها للظهور كـ (علم) (‪)Science‬‬
‫املؤسس لعلم امليتافيزيقا‬
‫ِّ‬ ‫الخاصة به‪ ،‬فخاض هذا الفيلسوف‬
‫َّ‬ ‫مفاهيمه ومسائله وقضاياه ونظرياته‬
‫غامر تلك التجربة بصرب وتؤدة بعد أن وجد أمامه تراثاً فلسفياً هائالً يف تن ّوعه‪ ،‬وهو َّ‬
‫يتوسل العقل‬
‫ال َّنظري أداة ملعاينة املبادئ والعلل األوىل‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والوجود مبا هو وجود‪ ،‬والخالق األول‬
‫واألخري لكل املوجودات‪ ،‬فقرأها عىل نحو نقدي‪ ،‬وأعاد تنظيمها يف سياق نظري بحيث ميكن أن‬
‫تصبح ما َّدة معرفية لـ (علم) قادم اشرتك كل من (أندرونيقوس الروديس) و(اإلسكندر األفرودييس)‬
‫يف صياغة اسم له هو (امليتافيزيقا)؛ هذا العلم الذي فتح آفاق ال َّنظر يف تاريخ األفكار امليتافيزيقية‬
‫قبل أرسطوطاليس وبعده حتى يومنا هذا‪.‬‬

‫يؤسس للميتافيزيقا كعلم ليس بالطبع كام‬


‫يف منظوري الخاص‪ ،‬أعتقد أ ّن أرسطوطاليس‪ ،‬وهو ِّ‬
‫نفهم مصطلح (العلم) الراهن‪ ،‬كان يريد التأكيد عىل أهمية دراسة (الوجود) بوصفه عصب املعرفة‬
‫خص ذلك بنص بدا عىل درجة عالية من األهمية‬
‫امليتافيزيقية‪ ،‬ال سيام أنه ‪ -‬أرسطوطاليس نفسه ‪َّ -‬‬
‫عندما قال‪« :‬يف الحقيقة أ ّن السؤال الذي كان قامئاً‪ ،‬وما زال كذلك‪ ،‬وسيبقى دامئاً موضوع شك‬
‫[[[‬
‫هو‪ :‬ما هو الوجود»؟‪.‬‬

‫وهنا يبدو يل أ ّن (اإلسكندر األفرودييس) عندما راح يُع ِّرف (امليتافيزيقا) بأنها «دراسة الوجود‬
‫مبا هو وجود» كان حاذقاً يف إدراك حقيقة ما كان يرمي إليه أرسطوطاليس نفسه يف فصول كتابه‬
‫(ما بعد الطبيعة)‪ ،‬ومل ّا كان مفهوم (الوجود) مركزي الطابع‪ ،‬فلم يكن هذا الفيلسوف بقادر عىل‬
‫جملة من املفاهيم الداخلة يف صميم داللة مصطلح (الوجود) نفسه‪ ،‬والتي يطلق عليها‬
‫تخطِّي ُ‬

‫[[[‪ .-‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪( ،‬مقالة الجام)‪( ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،2‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬إمام‪ :‬ص ‪( .)319‬الق ْبل) = (‪( ،)Prior‬الب ْعد) ‪،)Posterior( +‬‬
‫(األجناس = (‪( ،)Genus‬األنواع) = (‪( ،)Species‬الكل والجزء = (‪.)Whole and part‬‬
‫‪[2]- .Aristotle, Metaphysics; (BOOK 6. Ch1).‬‬
‫تجدر اإلشارة إىل أنّ (املقال السادس) يف كتاب أرسطوطاليس (ما بعد الطبيعة) هو املقال املعروف بـ (الزاي)‪ ،‬وهو مل يظهر مرتجامً يف‬
‫كتاب (الدكتور إمام عبد الفتاح إمام) آنف الذكر‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫المحور‬

‫أعراض الوجود‪ ،‬وأعراض الجوهر‪ ،‬وكذلك مفاهيم أخرى ذات كيان مج َّرد من الناحية ال َّنظرية مثل‬
‫مفهوم القبْل والب ْعد والجنس والنوع والكل والجزء وغري ذلك من املفاهيم أو «اللواحق العامة»‪،‬‬
‫كام يسيمها ابن رشد[[[‪ ،‬تلك اللواحق التي يستدعي فهم مصطلح (الوجود) أهمية وجودها ودورها‬
‫الفاعل يف وجود (الوجود) كمصطلح نظري مج َّرد عن أيّة داللة حسية أو تجريبية «الوجود مبا‬
‫هو وجود»‪ ،‬خصوصاً أ ّن أرسطوطاليس مل يفته ض ّم مفهوم (الوجود)‪ ،‬وكذلك مفهوم (الجوهر)‪،‬‬
‫ومفاهيم اللواحق األخرى‪ ،‬إىل معجمه الفلسفي الذي ض َّمته (املقالة الخامسة) من مقاالت كتابه‬
‫(ما بعد الطبيعة)‪ ،‬أل ّن غاية أرسطوطاليس تكمن يف اصطحابنا دامئاً إىل محاولة معرفة وجود‬
‫املوجود؛ وجود األشياء‪ ،‬وجود العامل‪ ،‬وجود اإلنسان‪ ،‬وجود الله‪ ،‬بل وجود (ما بعد) معرفة كل‬
‫ذلك كوجود‪ ،‬مبعنى آخر‪ ،‬إننا نجد أرسطوطاليس‪ ،‬وبقدر ما يدعونا إىل (بحث) أو (دراسة) الوجود‬
‫مبا هو موجود‪ ،‬نراه يدعونا أيضاً إىل تلبية االستجابة لنداء الوجود ْ‬
‫عب اإلصغاء إىل صوته؛ صوت‬
‫رض أي أحد من البرش‪ ،‬ودراسته والبحث فيه من خالل (علْم واحد) ال ب َّد أن‬
‫الوجود الذي ال ي ُّ‬
‫يكون ويوجد‪ ،‬إىل جانب علوم فلسفية أخرى‪ ،‬حتى ال تبقى (املعرفة امليتافيزيقية) أسرية التشتت‬
‫والضياع يف دروب معرفية غري آمنة‪ ،‬وتلك هي تجربة أرسطوطاليس يف بناء (املعرفة امليتافيزيقية)‬
‫من حيث الريادة واألصالة‪ ،‬ومن حيث املغامرة املعرفية الرصيحة‪ ،‬إال أنها تبقى تجربة تدور يف‬
‫فلك املطابقة؛ وما البحث يف فكرة الوجود من حيث هو وجود سوى تكريس لذلك التطابق‬
‫حد العامل يف مفهوم واحد مطلق‪ ،‬مفهوم (ذاته) تشبه (وجوده) فال يسمح بأي‬ ‫الباحث أبدا ً ّ‬
‫عم يو ّ‬
‫اختالف ممكن الوجود‪.‬‬

‫وهنا‪ ،‬ال ب َّد من التنويه بأ ّن الغموض والخلط يف املعرفة امليتافيزيقية استم ّدا وجودهام من‬
‫تجربة أرسطوطاليس ذاتها يف بناء هذه املعرفة؛ فكتابه (ما وراء الطبيعة) خليط من الرؤى واألفكار‬
‫واملفاهيم والنظريات التي تناولها فالسفة كبار يف العامل اإلسالمي والعريب؛ فهذا الكندي يستخدم‬
‫مصطلح (الفلسفة األوىل) تأثرا ً بتلك التجربة‪ ،‬وهو أيضاً وضع معجامً فلسفياً عىل غرار ما وضعه‬
‫عم أقبل عليه الكندي والفارايب وابن سينا وغريهم تالياً من الفالسفة‬
‫أرسطوطاليس ليس بعيدا ً ّ‬
‫العرب واملسلمني وكان أولهم‪ ،‬وقبل الكندي‪ ،‬جابر بن حيان الكويف الذي فتح أفق املعرفة‬
‫امليتافيزيقية مبعجمي ِة ألفاظها عىل نحو بسيط ومبا ال يخلو من اختالف الرؤية يف املعالجة‬
‫الفلسفية بني كل هؤالء الفالسفة وأرسطوطاليس‪ ،‬وهو األمر الذي يحتاج إىل دراسة مقارنة ينهض‬
‫بها الباحثون املتخصصون يف هذا املجال‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ ،‬ص ‪.3‬‬

‫‪56‬‬
‫التفكير في الماوراء‬

‫قائمة املراجع واملصادر‪:‬‬


‫المصادر العربية‪:‬‬

‫‪1.1‬عبد األمري األعسم‪ :‬املصطلح الفلسفي عند العرب‪ ،‬منشورات مكتبة الفكر العريب‪ ،‬بغداد‪.1984 ،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪2.2‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ ،‬ص ‪ ،7‬طهران‪( ،‬د‪ .‬ت‪.).‬‬

‫‪3.3‬رسول مح َّمد رسول‪ :‬الحضور والتمركز‪ :‬قراءة يف العقل امليتافيزيايئ الحديث‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪.2000 ،‬‬

‫‪4.4‬إمام عبد الفتاح إمام‪ :‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ..‬مع ترجمة للكتب األوىل الخمسة من ميتافيزيقا‬
‫أرسطو‪ ،‬نهضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.2005 ،‬‬

‫‪5.5‬يوسف كرم‪ :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬

‫‪6.6‬أ‪ .‬أ‪.‬طيلر‪ :‬املعلم األول‪ /‬أرسطو وفلسفته املنطقية والطبيعية واملا بعد طبيعية والسياسية‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫محمد حسن زيك‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪.1954 ،‬‬

‫‪7.7‬ماجد فخري‪ :‬أرسطوطاليس‪ ،‬األهلية للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪.1986 ،3‬‬

‫‪8.8‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ ،‬ص ‪.3‬‬

‫‪9.9‬ابن رشد‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ ،‬طهران‪ ،‬أ‪ .‬أ‪ .‬طيلر‪ :‬املعلم األول‪/‬‬
‫أرسطو وفلسفته املنطقية والطبيعية واملا بعد طبيعية والسياسية‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد حسن زيك‪ ،‬مكتبة‬
‫الخانجي‪ ،‬القاهرة‪1954 ،‬‬

‫‪1010‬أرسطوطاليس‪ :‬ما بعد الطبيعة‪ ،‬مقالة الجام‪( ،‬م ‪ ،4‬ف ‪ ،)2‬ضمن كتاب‪ :‬د‪ .‬إمام عبد الفتاح إمام‪:‬‬
‫مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ..‬مع ترجمة للكتب األوىل الخمسة من ميتافيزيقا أرسطو‪ ،‬ص ‪ ،315‬نهضة‬
‫مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪2005 ،‬‬

‫‪1111‬رسول مح َّمد رسول‪ :‬الحضور والتمركز‪ :‬قراءة يف العقل امليتافيزيايئ الحديث‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪2000 ،‬‬

‫‪1212‬كتابنا‪ :‬الحضور والتمركز‪ :‬قراءة يف العقل امليتافيزيايئ الحديث‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنرش‪ ،‬سنة الطبع ‪2000‬‬

‫المصادر األجنبية‪:‬‬
‫‪1.‬‬ ‫‪Aristotle, Metaphysics, translated by W. D. Ross, Oxford, 1966, (BOOK 6. Ch1).‬‬

‫‪57‬‬
‫الرواق َّية وأفلوطني‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بني ّ‬
‫تأصيل مقارن للمباين النظرية‬

‫ف‬
‫مصط� النشار‬
‫بروفسور الفلسفة القديمة ف� َّ‬
‫كلية اآلداب ‪ -‬جامعة القاهرة ‪ -‬مرص‪.‬‬ ‫ي‬

‫إجمال‪:‬‬‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ُّ‬ ‫ّ َّ ت‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ال� ترتد‬
‫قدمت المدرسة الرواقية نوعا من وحدة الوجود المادية ي‬
‫ين‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫أفلوط�‬ ‫ي� النهاية إىل عنرص الناركجوهر للوجود والعالم‪ ،‬بينما قدم‬
‫َّ ت‬ ‫ِّ ً‬ ‫ف‬
‫ال� تقوم‬ ‫ي� القرن الثالث الميالدي نوعا من وحدة الوجود الفيضية ي‬
‫َّ‬
‫عىل أساس أن جوهر الوجود هو المطلق الذي من فرط كماله فاض‬
‫وال� يستوي فيها المعقول والمحسوس؛‬ ‫ت‬ ‫ً‬
‫عىل الموجودات جميعا ي‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫فكل ما فيه فاض من منبع واحد ويرتد إليه‪ .‬وقد اتخذت وحدة‬
‫َّ ً‬
‫ين‬
‫الرواقي�‪،‬‬ ‫َّ‬
‫اإللهية عند‬ ‫َّ‬
‫لأللوهية أساسه العناية‬ ‫معينا‬ ‫تصو ًرا‬
‫الوجود ُّ‬
‫ين‬
‫أفلوط�‪.‬‬ ‫الصو� بالمطلق عند‬ ‫ف ِّ‬ ‫واالتحاد‬
‫ي‬
‫وما من ريب فإن ي ن‬
‫ب� ما ذهب إليه الرواقيون واإلتجاه الذي أرساه‬
‫أفلوط� حول وحدة الوجود‪ ،‬سنقع عىل �ض ب من وحدة بصدد‬ ‫ين‬
‫ف‬
‫تنظ�ه‪ .‬ولقد حاولت هذه الدراسة إجراء‬ ‫ي‬ ‫المفهوم واختالف ي�‬
‫ين‬
‫الفلسفيت�‪،‬‬ ‫ين‬
‫المدرست�‬ ‫تأصيل مقارن لمفهوم وحدة الوجود لدى‬
‫ثم يِّن‬
‫لتب� مطارح اإللتقاء واإلختالف بينهما‪.‬‬
‫***‬
‫االس�ما ‪-‬‬
‫ب‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬الوجود – وحدة الوجود –‬
‫ّ‬ ‫الفيض – المطلق – العقل ّ ّ‬
‫الكل – النفس الكل َّية – مبدأ الطبيعة‪.‬‬
‫ي‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫تغيت‬
‫ظلَّت قضيَّة تفسري حقيقة الوجود من القضايا املحوريَّة يف الفلسفة القدمية حتى بعد أن َّ‬
‫الهللينستي‬
‫ِّ‬ ‫الهلليني إىل العرص‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي تب ًعا لذلك‪ ،‬من العرص‬
‫ُّ‬ ‫األوضاع السياسيَّة وتط َّور الفكر‬
‫بضفَّتيه‪ :‬الغرب َّية التي كان مركزها آثينا وروما‪ ،‬والرشق َّية التي كان مركزها اإلسكندريَّة‪ .‬والطريف أ َّن‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التط ُّور يف فهم قضايا الوجود واأللوه َّية قد مالت كفَّته يف هذا العرص نحو التأث ُّر بالفلسفات الرتاث َّية‬
‫جل فالسفة هذا العرص بالهرمسيَّة والروح‬
‫الرشقيَّة مبا فيها من روح صوفيَّة بدت بوضوح من تأث ُّر ِّ‬
‫الدينيَّة التي هبَّت رياحها مع بروز الديانة والكتابات الهرمسيَّة من جهة‪ ،‬وظهور الرتجمة السبعينيَّة‬
‫فضل عن ظهور وبدء انتشار الديانة املسيح َّية‪.‬‬
‫ً‬ ‫للتوراة من جهة أخرى‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫الرواقية‪:‬‬ ‫َّأول‪ :‬ميت�افزييقا وحدة الوجود الماد َّية‬
‫(أ) وحدة الوجود‪:‬‬

‫مؤسسها‪ -‬وحدة الوجود املا ّديَّة كأساس لبيان رؤيتهم‬ ‫لقد أق َّر فالسفة الرواق َّية‪ -‬منذ زينون ِّ‬
‫لحقيقة الوجود‪ ،‬تلك الوحدة التي يرون فيها أ َّن الوجود واحد يف حقيقته‪ ،‬وإن ارت َّد العامل إىل‬
‫إل أنَّهم يف النهاية يؤمنون بنوع من وحدة الوجود املا ّديَّة‪،‬‬
‫العنارص وأصلها النار من وجهة نظرهم‪َّ ،‬‬
‫ي‪،‬‬
‫كل ما يؤث ِّر ويتأث َّر عندهم ما ّد ٌّ‬
‫ي ولو بدا غري ذلك؛ إذ إ َّن َّ‬
‫كل ما يف الوجود عندهم ما ّد ٌّ‬
‫حيث إ َّن َّ‬
‫والوجود يتك َّون من مبدأين‪ :‬مبدأ فاعل ‪ The Active Principle‬ومبدأ منفعل ‪ .The Passive‬أ َّما‬
‫أي صفة‪ ،‬يف حني أ َّن املبدأ الفاعل‬
‫املبدأ املنفعل فهو املا َّدة إذا أخذت عىل أنَّها ماه َّية خالية من ِّ‬
‫كل األشياء ويجعل الوجود واح ًدا متامسكًا‪.‬‬
‫اإللهي أو اإلله‪ ،‬إنَّه املبدأ الذي يتخلَّل َّ‬
‫ُّ‬ ‫هو املبدأ‬

‫رس هذا التامسك الذي يل ِّمح إليه الرواقيون‪ ،‬رغم أخذهم مببدأين للوجود‪ ،‬أحدهام‬
‫ولعل َّ‬
‫َّ‬
‫يجسدهام يشء واحد هو “ الجسم “‪ .‬فقد قالوا‬
‫فاعل واآلخر منفعل‪ ،‬يكمن يف أ َّن كال املبدأين ِّ‬
‫إل لألجسام‪ ،‬وأ َّن اليشء ال يكون حقيق ًّيا ما‬
‫من البداية إنَّه ال قدرة عىل الفعل وال قابل َّية لالنفعال َّ‬
‫وكل حقيقة هي جسامن َّية‪ ،‬وال وجود إلَّ للجسم‪ ،‬وما ال جسم له فال وجود له‪.‬‬
‫مل يكن جسامن ًّيا‪ُّ ،‬‬

‫هذا هو األصل الذي قامت عليه فلسفة الرواقيني الطبيع َّية‪ ،‬فلقد ذهب بعضهم يف تلك النظريَّة‬
‫املا ّديَّة ألصل الوجود إىل أبعد من ذلك حينام رصحوا بأ َّن النفس اإلنسان َّية جسم وأ َّن اإلله هو أيضً ا‬
‫جسم؛ فلو كان اإلله ال جسميًّا فكيف يؤث ِّر يف جميع األجسام التي يتألف منها العامل؟ لقد رأوا‬
‫رصاحة أ َّن املبدأ العاقل ال يخلو من أن يكون جسامنيًّا‪ ،‬فهو جسم لطيف يدخل املا َّدة وينساب‬

‫‪59‬‬
‫المحور‬

‫فيها كام تنساب النطفة يف أجسام الكائنات الحيَّة‪ .‬ومن أجل ذلك أطلقوا عليه اسم “لوغوس‬
‫سربماتيقوس ‪.[[[ Spermaticos Logos‬‬
‫نفسا – ‪ ،”psuhe‬وقصدوا أنَّها يشء من‬ ‫ونلفت هنا إىل أ َّن ما كان يس ّميه الفالسفة السابقون “ ً‬
‫طبيعة مختلفة عن طبيعة البدن‪ ،‬أطلق عليه الرواقيون “اسربما ‪ .”Sperma‬ويف هذا إشارة إىل أ َّن‬
‫كل ما يف الطبيعة كام قلنا‬‫يب نعم‪ ،‬لكنه من طبيعة جسم َّية حيث أ َّن َّ‬ ‫النفس عندهم هي املبدأ اإليجا ُّ‬
‫خواص األجسام وصفاتها هي أيضً ا أجسام؛ فاللون والرائحة والطعم‬ ‫ّ‬ ‫جسم حتى‬‫ً‬ ‫يف ما سبق يُع ُّد‬
‫ُ‬
‫ومصداق‬ ‫والشكل والصوت كلُّها أشياء جسامن َّية‪ ،‬بل إنَّهم ع ّدوا الصفات األخالق َّية كذلك أجسا ًما‪،‬‬
‫فعل وأل َّن له يف النفس آثا ًرا‪ ،‬وكل ما له فعل وأثر فهو‬
‫ذلك ما قاله سينكا‪“ :‬إ َّن الخري جسم أل َّن له ً‬
‫والحب‬
‫َّ‬ ‫جسم‪ .‬لكن الحكمة خري‪ ،‬فالحكمة إذن جسم”‪ .‬وما قاله أيضً ا يف موضع آخر‪“ :‬إ َّن الغضب‬
‫تتغي وجوهنا‬
‫شك يف ذلك فانظر كيف َّ‬ ‫والحزن وغريها من أهواء النفس أجسام‪ .‬وإذا كان عندك ٌّ‬
‫ي ؟”[[[‪.‬‬
‫بتأثري انفعاالتنا وأهوائنا‪ .‬أفتظ ُّن أ َّن مثل هذه اآلثار تُرسم عىل الوجوه لسبب غري ما ّد ّ‬
‫ليك تتأكد لك هذه الواحديَّة املا ّديَّة التي يؤمن بها الرواقيون‪ ،‬رغم ما بها من ثنائ َّية املبادئ‬
‫عب به ديوجني عن‬ ‫النص الذي َّ‬
‫ِّ‬ ‫الطبيعي يف ذلك‬
‫ِّ‬ ‫والعنارص‪ ،‬أنظر إىل تعريفهم للكون أو للعامل‬
‫الفردي يض ُّم مجموع‬‫ُّ‬ ‫املعاين الثالثة للعامل أو للكون لديهم‪ .‬املعنى األ َّول‪ :‬اإلله نفسه فجوهره‬
‫كل املوجودات‪ ،‬وهو أيضً ا ما يد ِّمرها‬‫املا َّدة‪ ،‬وهو ال يفنى‪ ،‬وهو غري مصنوع إذ إنَّه صانع ومنظِّم ِّ‬
‫ويعيد خلقها يف فرتات زمان َّية تتك َّرر بانتظام‪.‬‬
‫املعنى الثاين‪ :‬هم يطلقون تسمية الكون أو العامل عىل نظم وانتظام األجرام السامويَّة ذاتها‪.‬‬
‫املعنى الثالث‪ :‬يطلقونه عىل املعنيني السابقني م ًعا أي عىل اإلله واألجرام السامويَّة م ًعا‪.‬‬
‫الكل‪ ،‬أنه عىل ح ِّد‬
‫ِّ‬ ‫مبعنى آخر‪ ،‬لقد ع َّرفوا العامل بأنَّه ذلك الوجود الواحد الذي يعبِّ عن جوهر‬
‫بكل‬‫ين ِّ‬
‫إلهي‪ ،‬وما هو إنسا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫باألريض‪ ،‬وما هو‬
‫ِّ‬ ‫الساموي‬
‫ُّ‬ ‫تعبري بوسيدونيوس النظام الذي يتَّحد فيه‬
‫األشياء التي وجدت ألجلهام[[[‪.‬‬
‫كل أجزائه‪،‬‬
‫إن هذا الكون الواحد عند الرواقيني محكوم بالعقل أو بالعناية اإلله َّية املنبثَّة يف ثنايا ِّ‬
‫وهي أشبه ما تكون بوجود النفس فينا‪ .‬وهذه العناية اإلله َّية قد تظهر يف أجزاء مع َّينة من الكون أكرث‬
‫الحي ذي النفس‪ .‬إنَّه يف نظر‬‫ِّ‬ ‫مم تظهر يف أجزاء أخرى‪ ،‬إن هذا الكون يف اإلجامل أشبه بالكائن‬ ‫َّ‬
‫الكروي هو أنسب‬
‫َّ‬ ‫كروي الشكل عىل اعتبار أ َّن هذا الشكل‬ ‫ُّ‬ ‫يئ‪ ،‬وهو‬
‫معظم الرواقيني واح ٌد ال نها ٌّ‬
‫[[[‪ -‬أنظر د‪.‬عثامن أمني‪ :‬الفلسفة الرواق َّية‪ ،‬مكتبة األنجلو املرصيَّة‪ ،‬القاهرة ‪1971‬م‪ ،‬ص‪.153-152‬‬
‫[[[‪ -‬نقلً عن‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ :‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.154-153‬‬
‫‪[3]- Diogenes Laeritus, Lives of Eminent Philosophers, Eng. Trans, By D. Hicks (M. A.), London,‬‬
‫‪William Heinemann, New York, G. P Putnam’s, Without Date, VII-138, P. 241- 243.‬‬

‫‪60‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫الدائري‬
‫ِّ‬ ‫األشكال لتفسري الحركة بداخله‪ ،‬وهو مالء تام إذ ال يوجد خالء فيه‪ ،‬أما خارج هذا الكون‬
‫املتامسك فيوجد ذلك الخالء الذي ال جسم له[[[‪.‬‬
‫الحي‬
‫ِّ‬ ‫وما دام هذا الكون واح ًدا وأجزاؤه متداخلة بعضها يف البعض اآلخر‪ ،‬وهو أشبه بالكائن‬
‫ككل‬‫كل منها إىل اآلخر‪ ،‬وهو أيضً ا ٍّ‬
‫ذي النفس‪ ،‬فإنَّه كام ولد سيفنى‪ ،‬حيث إ َّن أجزاءه تفنى ويتح َّول ٌّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يفنى حيث إنه هو اآلخر قابل للتحول والتغيُّ ‪ .‬ولكن السؤال هنا‪ :‬هل سيكون هذا الفناء نهائ ًّيا؟‬
‫مبعنى أنَّه سيفنى فناء مطلقًا ويتح َّول إىل عدم غري قابل للوجود من جديد؟‬
‫َّ‬
‫الكونية‪:‬‬ ‫(ب) والدة العالم والدورات‬
‫يؤمن الرواقيون بوجه عام‪ ،‬بأ َّن هذا العامل املاثل أمامنا ليس إلَّ أحد صور العوامل التي توجد‪،‬‬
‫ككل‪ ،‬بل ينهي وجود دورة من‬
‫ّ‬ ‫الكل‪ ،‬وهذا االحرتاق ال يفنى الكون‬ ‫ّ ِّ‬ ‫ث َّم تفنى بفعل االحرتاق‬
‫دورات حياته لتبدأ بعد ذلك دورة جديدة‪ ،‬فهذا االحرتاق العام للعامل يحصل يف هوادة ويف غري‬
‫ككل‪ ،‬ومن ثم فقد اعتربه زينون وكريسبوس مبثابة تطهري‬ ‫عنف‪ ،‬وهو مالئم عندهم لنظام الكون ّ‬
‫للعامل أي إعادته إىل كامل حاله[[[‪.‬‬
‫كل مكان ويلتهم العامل كله‪ ،‬يستطيع‬ ‫فزيوس (وهو النار اإلله َّية)‪ ،‬بعد أن يجعل اللهب ينترش يف ِّ‬
‫أن يعيده من جديد ويتك َّرر ذلك عىل فرتات زمن َّية مع َّينة‪ .‬فتاريخ العامل عند الرواقيني إذن بال نهاية‪،‬‬
‫حيث كام ولد يفنى‪ ،‬وكلَّام فنى يعود من جديد[[[‪.‬‬
‫يؤمن الرواقيون بأ َّن العامل ظهر إىل الوجود حينام تح َّول جوهره من النار من خالل الهواء إىل‬
‫األخف إىل‬
‫ُّ‬ ‫ماء سائل‪ ،‬وبعد ذلك تح َّول الجزء املتج ِّمد من املاء إىل أرض‪ ،‬بينام تح َّول الجزء‬
‫كل األنحاء‪ ،‬ومن خالل عمليَّة التكاثف (تكاثف الهواء) تح َّول م َّرة أخرى إىل نار‪.‬‬
‫هواء تشتَّت يف ِّ‬
‫وكل األنواع الطبيعيَّة األخرى من‬‫ومن خالل املزج بني هذه العنارص تشكَّلت الحيوانات والنباتات ُّ‬
‫الكائنات[[[‪.‬‬
‫لقد ناقش معظم الرواقيني مسألة والدة العامل وفنائه من خالل الصورة السابقة التي تبدأ وتنتهي‬
‫الكل ‪On The‬‬
‫بالنار باعتبارها جوهر العامل التي ال تفنى؛ فقد عرض لها زينون يف مقالته‪“ :‬عن ّ‬
‫‪ ،”Whole‬وكذلك كريسبوس يف الكتاب األول من “طبيع َّياته”‪ ،‬وكذلك بوسيدونيوس يف الكتاب‬
‫كل من‬
‫األول من عمله املعنون بــ “عن الكون ‪ ،“ On The Cosmos‬وأيضً ا عرض للمسألة نفسها ٌّ‬

‫‪[1]- D. L., VII-139140-, Eng. Trans, p. 243- 245.‬‬


‫[[[‪ -‬د‪ .‬عثامن أمني‪ :‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.163‬‬
‫‪[3]- Zeller (F.): Outlines of the History of Greek Philosophy,Eng. Trans, By L. R. Palmer, Dover‬‬
‫‪Publication inc – New York, 1980, p. 216- 217.‬‬
‫‪[4]- D. L., VII-142, p. 247.‬‬

‫‪61‬‬
‫المحور‬

‫كليانتس وانتيباتر ‪ Antipater‬يف الكتاب العارش “عن الكون “‪ ،‬أما بانايتيوس فقد كان الوحيد الذي‬
‫ذكر أ َّن العامل ال يفنى[[[‪.‬‬
‫وخصوصا كريسبوس وبوسيدونيوس‪ ،‬اعتربوا أ َّن العامل أشبه بالكائن‬ ‫ً‬ ‫كام أ َّن معظم الرواقيني‪،‬‬
‫الحي الذي ميتلك جوه ًرا حيويًّا مز َّو ًدا‬
‫ِّ‬ ‫نفسا وإدراكًا‪ ،‬أشبه بالكائن‬ ‫الحي العاقل الذي ميتلك ً‬ ‫ِّ‬
‫الحي‪ ،‬وأل َّن العامل‬ ‫ِّ‬ ‫الحي يف مقام أعىل من غري‬
‫َّ‬ ‫ين واإلحساس[[[‪ .‬وقد ق َّرروا أ َّن‬
‫بالجوهر النفسا ِّ‬
‫نفسا اشتُقَّت منها النفس اإلنسان َّية التي تُعترب من النفس الكل َّية للعامل‪.‬‬‫حي فذلك يعني أ َّن له ً‬
‫كائ ٌن ٌّ‬
‫إل‬
‫الكل املتامسك الذي ال يوجد الخالء َّ‬ ‫وعىل وجه اإلجامل فقد رأوا أ َّن الكون مالء تا ٌّم باعتباره َّ‬
‫خارجه‪ .‬فهذا هو نظام الكون؛ العامل له نهاية‪ ،‬بينام الخالء املوجود خارجه ال نهاية له[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطبيع‪:‬‬ ‫ف‬
‫ي‬ ‫(ج) وجود اإلله ودوره ي� العالم‬
‫يؤمن الرواقيون‪ ،‬كام أرشنا يف ما سبق‪ ،‬بوحدة الوجود‪ ،‬لكنهم يف الوقت ذاته يدركون أ َّن اإلله‬
‫الحي الخالد‪ ،‬وهو عقل ‪ Logos‬العامل‪ ،‬وهو الكامل يف سعادته‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫هو جوهر هذا الوجود؛ فهو الكائن‬
‫بكل ما فيه‪ ،‬فهو موجود‬ ‫رش وليس من طبيعته‪ ،‬وهو الذي يرعى العامل ويعتني ِّ‬ ‫الذي ال يقبل ال َّ‬
‫الكل يشمل‬ ‫كل يشء لك َّنه ال يأخذ صورة برشيَّة‪ .‬إنه صانع العامل بجميع ما فيه‪ ،‬فهو أب ِّ‬ ‫ويتخلَّل ُّ‬
‫العامل سواء يف مجموعه أم يف جزئيَّاته املشمولة برعايته مبس َّميات عديدة تب ًعا لقواها أو وظائفها‬
‫وس ّمي زينا ‪ Zeena‬أوزيوس‬ ‫كل األشياء تت ُّم بواسطته فهو علَّتها‪ُ ،‬‬ ‫املختلفة‪ .‬لقد ُس ّمي العلَّة ‪ Dia‬أل َّن َّ‬
‫‪ Zeus‬ألنَّه السبب يف الحياة أو الذي يحافظ عليها ويرعاها‪ .‬أ َّما تسميته بأثينا ‪ Athena‬فمر ُّدها إىل‬
‫كل يشء حتى األثري ‪ ،aether‬وتسميته بهريا ‪ Hera‬تشري إىل أنَّه‬ ‫أ َّن ق َّوته املق َّدسة املهيمنة متت ُّد إىل ِّ‬
‫منترش يف الهواء‪ .‬كذلك س ّموه بهيفايستوس ‪ Hephaestus‬ألنَّه منترش يف النار الخالقة‪ ،‬وبوسيدون‬
‫كل أنحاء البحر‪ ،‬ودمييرت ‪ Demeter‬طاملا انترش ووصل إىل األرض‪.‬‬ ‫‪ Poseidon‬ألنَّه مت َّدد يف ِّ‬
‫وعىل هذا النحو أعطى البرش لإلله أسامء متع ِّددة وألقابًا أخرى تتناسب مع قواه املتع ِّددة[[[‪.‬‬
‫كل العامل بسامئه وأرضه‪ ،‬ومن ث َّم فهو‬
‫عمو ًما‪ ،‬لقد أعلن زينون أ َّن جوهر اإلله يتطابق مع ِّ‬
‫الهواء وهو النجوم الثابتة‪ ،‬وهو الطبيعة التي تجمع العامل وتعترب السبب يف وجود األشياء عىل‬
‫األرض‪ ،‬وهو الق َّوة املح ِّركة التي تنتج اإلسربما يف تطابق مع األصول أو املبادئ البذريَّة ‪Seminal‬‬
‫كل ما أنتجته وولدته خارجها يف فرتات محدودة[[[‪.‬‬
‫‪ principles‬والتي تنتج وتحافظ عىل ِّ‬

‫‪[1]- Ibid.‬‬
‫‪[2]- Ibid., 143, 247.‬‬
‫‪[3]- Ibid.‬‬
‫‪[4]- D. L., VII-147, Eng. Trans, p. 251- 253.‬‬
‫‪[5]- Ibid., 148, p. 253.‬‬

‫‪62‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫من هنا‪ ،‬فال نعجب حينام نرى أصحاب الرواق يقولون كذلك إ َّن العامل هو جوهر اإلله‪ ،‬كام‬
‫ككل يدبِّره‬
‫أ َّن اإلله هو جوهر العامل‪ .‬وذلك معناه يف نظرهم ‪ -‬كام أرشنا يف ما سبق‪ -‬أ َّن الكون ٍّ‬
‫يدلن عىل‬ ‫مبدأ عاقل‪ ،‬وهذا املبدأ العاقل ال ميكن أن يكون شيئًا آخر غري إله‪ .‬فكأن اإلله والطبيعة َّ‬
‫حقيقة واحدة شاملة[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫لكل يشء عرب‬ ‫الطبيعي باعتباره الق َّوة املدبِّرة ِّ‬


‫ِّ‬ ‫يتجل اإلله يف العامل‬
‫َّ‬ ‫بالنسبة إىل الرواقيني‪،‬‬
‫لكل يشء دوره بشكل دقيق وال ميكن مخالفته‪.‬‬ ‫كل ما يف الوجود وح َّدد ِّ‬‫ذلك القانون الذي ربط َّ‬
‫ولقد أطلقوا عىل هذا القانون اسم القضاء والقدر‪ ،‬فكل األشياء تحدث وفقًا له‪ .‬هذا األمر ذكره‬
‫كريسبوس يف ما كتبه “عن القدر ‪ ،”De fato‬كام ذكره بوسيدونيوس يف كتاب بالعنوان نفسه “ عن‬
‫كل من زينون ويؤثيوس ‪ Boethus‬يف كتابه “عن القدر”‪ ،‬حيث ع َّرفه بأنَّه تلك‬ ‫القدر “‪ ،‬وذكره أيضً ا ٌّ‬
‫السلسلة التي ال نهاية لها من العل َّية التي تحدث األشياء وفقًا لها[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الفيضية عند أفلوطني‪:‬‬ ‫ً‬
‫ثاني�ا‪ :‬ميت�افزييقا وحدة الوجود‬
‫(أ) وحدة الوجود‪:‬‬
‫تتميَّز فلسفة أفلوطني عمو ًما بأنَّها فلسفة البحث عن الوحدة خلف الكرثة الظاهرة‪ ،‬والبحث عن‬
‫كيف َّية صدور الوحدة من الكرثة‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان املؤ ّرخون لفلسفته حديثًا مي ّيزون دامئًا بني طريقني؛‬
‫يف صاعد تصعد فيه النفس من الكرثة املتمثِّلة يف ظواهر العامل املحسوس إىل الوحدة‬ ‫طريق صو ٍّ‬
‫فلسفي هابط تهبط فيه من الوحدة إىل الكرثة‪ ،‬من وحدة‬ ‫ٍّ‬ ‫املتمثِّلة يف الواحد أو املطلق‪ .‬وطريق‬
‫الكل إىل النفس الكلّيَّة ث َّم إىل كرثة ظواهر العامل املحسوس م َّرة أخرى‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫املطلق إىل العقل‬
‫ولقد كرث حديث هؤالء املؤ ّرخني عن أصول الفلسفة األفلوطين َّية؛ فقالوا إنَّه أخذ فكرة البحث‬
‫عن الوحدة من الفكرة الفلسفيَّة التي كانت شائعة عن وحدة الوجود‪ ،‬إذ كان لدى بارمنيدس فكرة‬
‫مامثلة[[[‪ .‬وهو رمبا أخذها عن الرواق َّية[[[‪ .‬ولكن الحق الذي يشهدون به هو أ َّن فكرة وحدة الوجود‬
‫كل االختالف‬ ‫عنده مختلفة عن الفكرة اإليل َّية‪ ،‬فالطابع العام لنظرة بارمنيدس إىل الكون تختلف َّ‬
‫متجانس ال تن ُّوع فيه‬
‫ٌ‬ ‫كل‬
‫عن طابع مذهب أفلوطني‪ ،‬فصورة العامل عند األول سكون َّية‪ ،‬والكون ٌّ‬
‫وال تد ُّرج‪ ،‬أما عند أفلوطني فصورة العامل حركيَّة متد ِّرجة[[[‪ .‬كام أ َّن فكرته مختلفة عن مثيلتها عند‬
‫ين يرسي يف الكائن‬ ‫تفس عىل أساس وجود مبدأ ف َّعال روحا ٍّ‬ ‫الرواق َّية حيث كانت وحدة الكائن َّ‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬د‪ .‬عثامن أمني‪ :‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.167-166‬‬
‫‪[2]- D. L., Op. Cit., 149, Eng. Trans, p. 253.‬‬
‫[[[‪ -‬د‪.‬فؤاد زكريا‪ :‬تقديم ترجمته العرب َّية للتساع َّية الرابعة ألفلوطني‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العا َّمة للتأليف والنرش بالقاهرة ‪1970‬م‪ ،‬ص‪.39‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬أمرية حلمى مطر‪ :‬الفلسفة عند اليونان‪ ،‬دار النهضة العرب َّية بالقاهرة ‪1977‬م ‪ ،‬ص‪.437‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬غسان خالد‪ :‬أفلوطني – رائد الوحدان َّية‪ ،‬منشورات عويدات ببريوت ‪1983‬م‪ ،‬ص‪.13‬‬

‫‪63‬‬
‫المحور‬

‫ويكسبه التامسك والوحدة‪ ،‬أما عند أفلوطني فأساس الوحدة هو التأ ُّمل‪ ،‬فتأ ُّمل الكائن ملا هو أعىل‬
‫منه يف الوجود والوحدة يضفي عليه وجو ًدا ووحدة‪ ،‬والقول بأ َّن الوحدة هي مصدر الوجود يعني‬
‫أ َّن الفكر والتأ ُّمل هام مصدر الوجود[[[‪.‬‬
‫من املفيد القول أ َّن وحدة الوجود عند أفلوطني متم ّيزة متا ًما عن مثيالتها عند الفالسفة‪ ،‬سواء‬
‫اللحقني عليه؛ فهي وحدة وجود ح َّية ديناميك َّية صدوريَّة فيض َّية‪ ،‬وقد أفلح‬
‫من السابقني له أم َّ‬
‫سمها [[[‪ .Dynamic pantheism‬فالعامل كام يص ِّوره أفلوطني ينبثق كنوع من الفيض‬
‫زيللر حينام َّ‬
‫التدريجي عن الحياة اإلله َّية التي تنبثق أصالً عن الوحدة من دون أن تنقص من ذاته شيئًا‪ ،‬والتد ُّرج‬
‫ِّ‬
‫الكل أو النفس الكلّ َّية باعتبارها أقانيم العامل‬
‫ّ َّ‬ ‫نقصا يشوب العقل‬
‫يف مراتب الكامل ال يعني أ َّن مث َّة ً‬
‫كل أقنوم‬
‫اللحق باعتبار أ َّن َّ‬
‫املعقول‪ ،‬بل عىل العكس‪ ،‬إ َّن كامل األقنوم السابق يصب يف األقنوم َّ‬
‫الحق يف نظر أفلوطني هو لوغوس ‪ Logos‬للسابق عليه‪ ،‬أي أنَّه صورة صدرت عنه متمثِّلة يف وجود‬
‫أدىن من وجوده‪ ،‬لكن كامل هذا الوجود الثاين مرتبط بكامل الوجود الذي صدر عنه حيث يربط‬
‫اللحق لألسبق باستمرار‪ .‬مثال ذلك أ َّن العقل ‪ Nous‬يتأ َّمل املطلق الذي صدر عنه‪،‬‬
‫بينهام تأ ُّمل َّ‬
‫والنفس الكلّ َّية تتأ َّمل العقل الذي صدرت عنه‪ .‬وهكذا ُّ‬
‫يظل التأ ُّمل جوهر الوحدة بني أقانيم العامل‬
‫املعقول لدى أفلوطني‪ ،‬كام أنَّه أساس وحدة العامل املحسوس أيضً ا رغم كرثته الظاهرة‪.‬‬
‫ين الشهري بني عاملني‪ ،‬العامل املعقول‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬قيل إ َّن أفلوطني استعار التمييز األفالطو َّ‬
‫والحق أ َّن‬
‫َّ‬ ‫إل صدى لفلسفة أفالطون‪.‬‬
‫والعامل املحسوس‪ ،‬وأ َّن فلسفته من هذه الناحية مل تكن َّ‬
‫ربرها نظ ًرا ألنَّه هو نفسه حاول إسناد رأيه ذلك إىل أفالطون‪ ،‬كام حاول بيان‬
‫وجهة النظر هذه لها ما ي ِّ‬
‫أصل نظرته التثليث َّية للعامل املعقول من فلسفته‪ ،‬فقد اعرتف بأ َّن نظرته التثليث َّية تلك للعامل املعقول‬
‫(الواحد – العقل – النفس) ليست جديدة بل هي أفكار تعود يف أصلها إىل أفالطون‪ ،‬فهو يعترب‬
‫اإللهي (الدميورج)‪ ،‬ث َّم‬
‫ُّ‬ ‫الكائنات ثالثة‪ :‬الخري األسمى وهو الحقيقة األوىل‪ ،‬العقل وهو الوسيط‬
‫النفس يف املرتبة الثالثة[[[‪.‬‬
‫أفلوطيني لفكرة أفالطونيَّة‪ .‬وقد تكون الفكرة يف أصلها‬
‫ٌّ‬ ‫ولكن‪ ،‬إن شئنا الدقَّة‪ ،‬فهذا تفسري‬
‫مثل‬
‫الرشقي حيث كرث الحديث فيه عن ثالوثات؛ فملحمة جلجامش البابل َّية ً‬
‫ِّ‬ ‫مستم َّدة من الرتاث‬
‫والتي عرث عليها يف خرائب نينوى تتح َّدث يف لوحتها األوىل عن الثالوث املقدس “آنو‪ ،‬وانليل‪،‬‬
‫املرصي الشهري “إيزيس وأوزوريس وحورس”‪ .‬والواقع أ َّن فكرة‬
‫ُّ‬ ‫اإللهي‬
‫ُّ‬ ‫وايا “ وهناك الثالوث‬

‫[[[‪ -‬نفسه‪.‬‬
‫‪[2]- Zeller E. : Op. Cit. , p.294.‬‬
‫[[[‪ -‬غسان خالد‪ :‬أفلوطني‪ ،‬ص‪.143-142‬‬

‫‪64‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫الثالوث عرفت بوضوح يف عرص أفلوطني‪ ،‬فهناك عقيدة الثالوث املسيحيَّة‪ ،‬وهناك االجتهادات‬
‫َّ‬
‫والشك‬ ‫اللهوت َّية التي ظهرت يف اإلسكندريَّة يف القرون الثالثة األوىل للميالد لتفسري هذه العقيدة‪،‬‬
‫َّ‬
‫املسيحي[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف أنَّه قد تأثر بهذه االجتهادات‪ ،‬وعىل رأسها اجتهاد زميله أوريجني الفيلسوف‬
‫املسيحي‬
‫ِّ‬ ‫األفلوطيني يختلف اختالفًا ب ّي ًنا عن الثالوث‬
‫َّ‬ ‫لكن تنبغي اإلشارة إىل أ َّن هذا الثالوث‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ين‬
‫أو الثالوثات الرشق َّية القدمية‪ .‬فقد أقام أفلوطني ثالوثه يف عامله املعقول عىل أساس عقال ٍّ‬
‫ين هنا فهو يف اعتقادنا‬
‫بحت‪ ،‬ومبقتىض فلسفته الفيض َّية الجديدة‪ .‬أما بالنسبة إىل التأثري األفالطو ِّ‬
‫ضئيل‪ ،‬ضئيل‪ ،‬ذلك بأ َّن فكرة أفلوطني عن أقاليم العامل املعقول‪ ،‬ثم صدور العامل املحسوس‬
‫عن تأ ُّمل النفس لألقنوم األعىل عن طريق ما يس ّميه مببدأ الطبيعة الذي يحوي األصول أو املبادئ‬
‫الطبيعي‪ ،‬هذه الفكرة مختلفة أش َّد االختالف‬
‫ِّ‬ ‫البذريَّة األول َّية ‪ Logoi spermatichoi‬لكائنات العامل‬
‫مستقل‬
‫ًّ‬ ‫عن العامل املعقول ألفالطون ومضمونه هو امل ُثل التي تشكِّل عنده عامل ًا متم ّي ًزا ووجو ًدا‬
‫عن العامل املحسوس من جهة‪ ،‬وعن اإلله من جهة أخرى‪ ،‬فمنها وبواسطة فاعل َّية الصانع‪ ،‬تتشكَّل‬
‫جا يحتذيه حينام يصنع كائنات‬
‫الطبيعي حيث يتَّخذ الصانع من املثال منوذ ً‬
‫ِّ‬ ‫جميع كائنات العامل‬
‫هذا العامل املحسوس‪ ،‬والتي هي يف النهاية مج َّرد ظالل باهتة ملثلها الكائنة يف العامل املعقول[[[‪.‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬نرى العامل املعقول عند أفلوطني يتمثَّل يف تلك األقانيم (املبادئ الثالثة) التي‬
‫ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا ال ينقسم‪ ،‬كام ترتبط بالعامل املحسوس ارتباطًا يشكِّل جوهر عقيدته‬
‫يف وحدة الوجود‪ ،‬وذلك عن طريق فكرته األصل َّية عن الفيض‪.‬‬
‫هنا تتوقَّف لنوضح أصول هذه الفكرة التي ميَّزت بشكل حاسم بني ميتافيزيقا أفلوطني وميتافيزيقا‬
‫أفالطون‪.‬‬
‫لقد ر َّدها أرمسرتونغ ‪ Armstrong‬إىل الرواق َّية‪ ،‬وكذلك ريفو ‪Rivaud‬؛ فقد رأى األول أ َّن‬
‫الخلفيَّة الفكريَّة التي كانت لدى أفلوطني حينام قال بتلك الفكرة هي خلفيَّة رواقيَّة وبالذات يف‬
‫إلهي أساسه النار املا ّديَّة[[[‪ .‬بينام رأى الثاين‬
‫الرواقي املتأخِّر حول انبثاق العقل عن تص ُّور ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫املبدأ‬
‫أ َّن مث َّة تشاب ًها بني طبيعيَّات الرواقيني وبني فكرة الفيض األفلوطينيَّة بالنظر إىل فكرة الرواقيني عن‬
‫كل األشياء‪ ،‬وامتداد العناية اإلله َّية لديهم يف أقل املوجودات الطبيع َّية شأنًا[[[‪.‬‬
‫نار زيوس الكائنة يف ِّ‬

‫[[[‪ -‬نفسه‪.‬‬
‫‪: Plato: Timaeus (pp. 3034-), English translation by D. LEE, Penguin Books, London, 1976, pp.‬أنظر ‪[2]-‬‬
‫‪42 -46.‬‬
‫[[[‪ -‬وكذلك كتابنا‪ :‬فكرة األلوه َّية عند أفالطون‪ ،‬دار التنوير ببريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1984‬م‪ ،‬ص‪.139-127‬‬
‫‪[4]- Armstrong A. H.: Preface of Hnglish translation to the Enncads, the loeb Edition, 1966, p. XVIII.‬‬

‫‪65‬‬
‫المحور‬

‫ولسنا بحاجة إىل بيان تهافت هذه األفكار‪ ،‬ففكرة أفلوطني عن الفيض تنأى بنا متا ًما بطبيعتها‬
‫ي للخلق عند الرواق َّية‪ .‬كام تنأى عن العناية اإلله َّية عن الفكرة الرواق َّية‬
‫عن ذلك التص ُّور املا ّد ّ‬
‫اتصال أساسه التأ ُّمل املستم ُّر الذي إن ميَّز بني‬
‫ً‬ ‫حيث أ َّن االتصال بني املطلق واألشياء عنده يكون‬
‫ريا من حيث ما فيها من‬
‫الكائنات معقولة ومحسوسة من حيث مراتب الوجود فهو ال مي ّيز بينها كث ً‬
‫ألوهيَّة مستم َّدة من كونها فيضً ا عن املطلق (الواحد)‪.‬‬
‫الرشقي الذي كان سائ ًدا يف‬
‫ِّ‬ ‫إذا أردنا البحث عن مصدر هذه الفكرة‪ ،‬فالب َّد من العودة إىل الرتاث‬
‫الغنويص الذي قال بأ َّن األشياء “ تصدر”‬
‫ُّ‬ ‫اإلسكندريَّة‪ .‬وأول ما يقفز إىل الذهن حينذاك هو املصدر‬
‫حا بني الفكرة‬
‫يل حتى نصل إىل املا َّدة[[[‪ .‬وحتى لو كان التشابه واض ً‬
‫عن الواحد يف نظام تناز ٍّ‬
‫األفلوطين َّية والفكرة الغنوص َّية‪ ،‬فإ َّن األخرية رمزيَّة غامضة‪ ،‬حيث إ َّن الغنوصيني ال يوضحون كيف َّية‬
‫ذلك الصدور‪ ،‬بل يلجأون عىل طريقتهم الرمزيَّة األسطوريَّة فيص ّورون املسألة كالوالدة متا ًما[[[‪.‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬تقوم فكرة أفلوطني‪ ،‬كام توضحها نصوصه‪ ،‬عىل أساس “ أ َّن الواحد كامل ألنَّه ال‬
‫أي يشء “[[[‪ .‬وألنَّه كامل كاملً مطلقًا يفوق‬
‫يبحث عن يشء‪ ،‬وال ميلك شيئًا‪ ،‬وليس بحاجة إىل ِّ‬
‫كل تص ُّور فهو “قدرة خارقة”[[[ وال يستطيع التقوقع داخل ذاته‪ ،‬وإبداعه يحدث بالرضورة[[[‪ ،‬وهكذا‬
‫َّ‬
‫يبدع اإلله الوجود بالفيض‪ ،‬وهو كالنبع الذي يفيض مبياهه عىل األنهار كلِّها ولك َّنه مع هذا ال‬
‫ينصب أب ًدا[[[‪ .‬إذن‪ ،‬جوهر عمل َّية الفيض هو الكامل املطلق للواحد‪ ،‬ذلك الكامل الذي من فرط ال‬
‫بأي صورة من الصور‪.‬‬
‫نهائ َّيته يصدر عنه غريه بالرضورة‪ ،‬وهذه فكرة غري مسبوقة ِّ‬
‫من جانب آخر‪ ،‬فإ َّن عملية الفيض التي تعني رضورة اإليجاد أو الخلق‪ ،‬أساسها عمليَّة أخرى‬
‫الل محدودة “ التي ما‬
‫هي التأ ُّمل حيث إ َّن أول ما يفيض عن اإلله (املطلق) الواحد هو “ الحياة َّ‬
‫إن تفيض حتى ترت ّد إليه وتتأ َّمله فتتَّخذ لها ح ًدا وصورة‪ ،‬وتصبح آنذاك كائ ًنا معي ًنا ذا كرثة يف وحدة‬
‫هي العقل[[[‪ .‬فكأ َّن التأ ُّمل هنا هو املرادف لإليجاد أو للخلق‪ ،‬حيث صدر العقل عن املطلق‬
‫نتيجة التأ ُّمل كام تصدر النفس الكلّيَّة عن العقل نتيجة تأ ُّمله للمطلق‪ ،‬وكذلك تنشأ كائنات العامل‬

‫‪[1]- Rivaud A.: Histoire de la Philosophue, T. L. Paris 1948, p. 524.‬‬


‫[[[‪ -‬عبدالرحمن بدوي‪ :‬خريف الفكر اليوناين‪ ،‬دار النهضة املرصيَّة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1975‬م‪ ،‬ص‪.119‬‬
‫[[[‪ -‬نفسه‪.‬‬
‫‪[4]- Plotinus: The Six Enneads, trans by S. Mackenna and B. S. Lage. Williom Benton Publisher,‬‬
‫‪Encyclopaedia Britannca 1952, (2) Ch. I. Eng. Trans, by Mackenna, p. 214.‬‬
‫‪[5]- Ibid., Enn, 5 (9) Ch. 16, p. 225.‬‬
‫‪[6]- Enn. 3 (8) pp. 129 f.f.‬‬
‫‪[7]- enn. 6 (7) ch. 17, p. 330.‬‬

‫‪66‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫املحسوس نتيجة تأ ُّمل الوجود األدىن للنفس أو ما يس ّميه أفلوطني مبدأ الطبيعة الذي هو “صورة‬
‫املتغي أي للام َّدة”[[[‪ .‬ولو سألنا‬
‫ّ‬ ‫ثابتة وليس مرك ًّبا من ما َّدة صوريَّة‪ ،‬كام أنَّه ليس بحاجة إىل العنرص‬
‫كل ما يحدث يف الوجود‬
‫كيف تنتج الطبيعة كائناتها ألجابت إن كان لها أن تسمع أو تجيب “إ َّن َّ‬
‫يف‬
‫هو موضوع لتأ ُّميل الصامت وهو يناسب طبيعتي التي صدرت عن التأ ُّمل‪ ،‬والعنرص الذي يتأ َّمل َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ينتج موضو ًعا للتأ ُّمل”[[[‪.‬‬


‫بأي فكرة يونان َّية‬
‫وهذه الفكرة الفريدة عن املرادفة بني فعل التأ ُّمل والخلق ليس لنا أن نش ِّبهها ِّ‬
‫سابقة‪ .‬صحيح أ َّن أفالطون وأرسطو قد أعليا من شأن التأ ُّمل‪ ،‬فجعله األول وسيلتنا لحدس عامل‬
‫املثل واالرتفاع منه إىل حدس مثال املثل (اإلله – مثال الخري)[[[‪ ،‬فيام جعله الثاين املهمة األوىل‬
‫واألساس َّية للفيلسوف‪ ،‬فبه نصل إىل معرفة اإلله‪ ،‬وبه نصل إىل حدس املبادئ األوىل‪ ،‬إنَّه الفعل‬
‫كامل‪ ،‬وهو الفعل األكرث قداسة وألوه َّية من بني أفعال البرش[[[‪.‬‬
‫ً‬ ‫األكرث‬
‫فعل من أفعال اإلنسان‪ ،‬وهو‬
‫بيد أ َّن هذا اإلعالء من شأن التأ ُّمل كان بالنسبة إىل فالسفة اليونان ً‬
‫ين وهو الذي يتش َّبه يف‬
‫مقصور عىل الفيلسوف كونه وحده الذي يحقّق أسمى مرتبة للتأ ُّمل اإلنسا ِّ‬
‫هذا باإلله‪.‬‬
‫املنفي حول‬
‫ُّ‬ ‫النص‬
‫ُّ‬ ‫ويف اعتقادنا‪ ،‬أ َّن األصل األوحد لهذه الفكرة األصل َّية عند أفلوطني هو‬
‫الطبيعي عن اإلله “بتاح” الذي كان لسان اآللهة وقلبهم حيث يقول كهنة “منف”‬
‫ِّ‬ ‫تفسري نشأة العامل‬
‫يف ذلك‪:‬‬
‫كل (رأي) يت ُّم‪ ،‬أ َّما اللسان فهو الذي يعلن ما يفكِّر فيه‬
‫“ إنَّه هو “القلب” الذي يس ِّبب ظهور ِّ‬
‫اإللهي بوساطة ما فكَّر فيه‬
‫ِّ‬ ‫القلب‪ .‬وهكذا ت َّم تشكيل جميع اآللهة‪ .‬ويف الواقع ظهر جميع النظام‬
‫القلب وما أمر به اللسان‪( ..‬وهكذا نال العدل كل من) فعل اليشء املرغوب فيه‪ ،‬و(عوقب) الذي‬
‫يفعل األمر غري املرغوب فيه‪ ،‬وأعطيت الحياة ملن يؤمن بالسلم وأعطي املوت للخاطئ‪ .‬وبهذا‬
‫كل عضو يف الجسم حسب األمر‬
‫وكل مهنة‪ ،‬وعمل األذرع‪ ،‬وحركة األرجل‪ ،‬ونشاط ِّ‬
‫كل! عمل ُّ‬
‫ت َّم ُ‬

‫[[[‪ -‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الثالثة‪ ،‬املقالة الثانية‪ ،‬نقلً عن ترجمة أمرية حلمي مطر بكتابها « دراسات يف الفلسفة اليونان َّية «‪ ،‬دار الثقافة للنرش‬
‫والتوزيع بالقاهرة ‪1980‬م‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫[[[‪ -‬نفسه‪ ،‬ت – م‪ – 4‬عن ترجمة أمرية حلمي مطر يف الكتاب نفسه‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫‪: Plato: Republic (pp. 510511-), Eng. Trans, by H. D. Lee, The Penguin Classics, London, 1962,‬أنظر ‪[3]-‬‬
‫‪pp. 275 -278.‬‬
‫وكتابنا‪ :‬األلوه َّية عند أفالطون‪ ،‬ص‪.179-175‬‬
‫؛ وأيضً ا‪ :‬كتابنا‪ :‬نظرية املعرفة عند أرسطو‪ ،‬دار املعارف‪: Ethics B. 10‬؛ وكذلك ‪: Aristotle: Metaphysics, B. I.‬أنظر ‪[4]-‬‬
‫‪.‬املرصية‪ ،‬مبرص ‪1985‬م‪ ،‬ص‪122‬‬

‫‪67‬‬
‫المحور‬

‫لكل يشء”[[[‪.‬‬
‫الذي فكَّر فيه القلب والذي جاء عن طريق اللسان‪ ،‬والذي يعطي قيمة ِّ‬
‫النص الذي يرجع تاريخه إىل ألفي عام قبل نشأة الفلسفة‬
‫ِّ‬ ‫انطالقًا من ذلك‪ ،‬نرى مدى بيان هذا‬
‫عقل تص ّور مظاهر الطبيعة ثم أبدعها عن طريق‬
‫يبي كيف أن مث َّة عقالً مسيط ًرا خالقًا‪ً ،‬‬
‫اليونان َّية‪ ،‬إذ ّ‬
‫كل املوجودات تصدر‬‫ذلك التعقُّل وهذا التأ ُّمل‪ .‬كام عرب بوضوح عن فكرة أفلوطني التي تقول “إ َّن َّ‬
‫النص أهم َّية حينام نجد أنَّه يعبِّ عن فكرة أفلوطني عن اللوغوس ‪Logos‬‬
‫ُّ‬ ‫عن التأ ُّمل”‪ .‬ويزداد هذا‬
‫فسها بعضم بأنَّها تعني املبادئ باعتبار‬
‫تحي املؤ ّرخون يف البحث عن أصلها لديه‪ ،‬حيث َّ‬ ‫التي َّ‬
‫الطبيعي تصدر – كام قلنا – عن طريق ما ُس ِّمي لديه ‪ Logoi Spermatichoi‬أي‬
‫ِّ‬ ‫أ ّن أشياء العامل‬
‫رواقي‪ ،‬حيث أ َّن الفكرة التي لدى اإلله عن األشياء‬
‫ٍّ‬ ‫املبادئ البذريَّة‪ .‬وقد ر ّدوا هذه الفكرة إىل أصل‬
‫والتي يسعى لتحقيقها بخلق هذه األشياء‪ ،‬هي أشبه ببذرة يتولَّد منها ذلك بالرضورة‪ ،‬ومن هنا أطلق‬
‫الرواقيون عىل هذه األفكار الفاعلة التي تنتج منها األشياء اسم “ املبادئ البذريَّة”[[[‪.‬‬
‫غري أ َّن هذا االصطالح عند أفلوطني كان يستخدم بالنظر إىل “مبدأ الطبيعة” الذي يحوي تلك‬
‫األصول البذريَّة‪ ،‬ليوضح أساس االتصال بني العامل املعقول والعامل املحسوس‪ ،‬باعتبار أ َّن النفس‬
‫الحس َّية‪ .‬وهو إن تأث َّر يف األخذ‬
‫ّ‬ ‫كل املبادئ التي هي أصل نشأة املوجودات‬
‫الكل َّية تنطوي عىل ِّ‬
‫بهذا املبدأ بالرواقني‪ ،‬فال يجب أن نغايل يف هذا االتجاه حيث أن فكرته عن اللوغوس مختلفة عن‬
‫ريا‬
‫جا مل يكن يرىض هو عنه‪ ،‬وقد نقدهم كث ً‬‫الرواقي متتزج فيه املا َّدة بالعقل امتزا ً‬
‫ُّ‬ ‫فكرتهم‪ ،‬فالفكر‬
‫كل املوجودات)‬ ‫حا ما يعنيه أ َّن “ قوام هذا القانون (الذي تخضع له ُّ‬
‫يف هذا الشأن‪ .‬وهو قال موض ً‬
‫كل الكائنات‪ ،‬وعلل حركات‬
‫هو املبادئ البذريَّة الصادرة عن العامل املعقول والتي هي علل ِّ‬
‫النفوس وقوانينها “[[[‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬وليست تلك‬
‫ٍّ‬ ‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن األشياء يف تص ُّور أفلوطني قد تشكَّلت من فيض‬
‫إل أفكا ًرا عقل َّية ‪ Noemate‬بحيث تكون هي الق َّوة املص َّورة للموجودات والتي‬
‫األصول البذريَّة َّ‬
‫تضفي عليها أشكالها وصورها املستم َّدة من العقل‪ .‬وهذا التفسري يق ِّرب الصلة بني فكرته وما‬
‫املنفي للخلق‪ ،‬فالعامل قد نشأ من كلمة إله َّية أساسها تفكُّره وتأ ُّمله ورغبته يف‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫ورد يف‬
‫اإليجاد‪ ،‬فكان اإليجاد‪ .‬والشبهة املا ّديَّة هنا غري موجودة كام كانت عند الرواقيَّة‪ ،‬فاملا َّدة عنده‬
‫البذري عند‬
‫ُّ‬ ‫إل يف اليشء املحسوس نفسه‪ .‬أ َّما األصل‬
‫املرصي القديم ال تبدو َّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫كام يف‬
‫[[[‪ -‬جون ويلسون‪ :‬الحضارة املرصيَّة‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬أحمد فخري‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪ ،‬ص‪118‬؛ وأيضً ا‪ :‬برستد‪ :‬فجر الضمري‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫سليم حسن‪ ،‬مكتبة مرص‪ ،‬ص‪ 53‬وما بعدها؛ وكذلك‪ :‬عبدالعزيز صالح‪ ،‬فلسفات نشأة الوجود يف مرص القدمية‪ ،‬مقال يف مجلَّة «املجلَّة»‪،‬‬
‫فرباير ‪1959‬م‪ ،‬ص‪ 33‬وما بعدها؛ وكذلك كتابه‪ :‬الرشق األدىن القديم‪ ،‬ط‪ ،3‬مكتبة األنجلو املرصيَّة‪1982 ،‬م‪ ،‬ص‪.89-88‬‬
‫[[[‪ -‬فؤاد زكريا‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫[[[‪ -‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الرابعة‪ ،‬املقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،15‬برتجمة د‪ .‬فؤاد‪ ،‬ص‪.141‬‬

‫‪68‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫الرواقيني ففيه من املا َّدة بقدر ما فيه من العقل‪ ،‬وهذا ما سبق أن أكَّدنا رفضه له‪.‬‬
‫إضافة إىل ما سبق‪ ،‬فإ َّن فكرة أفلوطني عن “الطبيعة” مختلفة عام تص َّوره فالسفة اليونان‪ ،‬فهو كام‬
‫يقول انج ‪ Inge‬قد أضاف معنى جدي ًدا للطبيعة؛ فحياة الطبيعة عنده هي ارتفاع إىل أعىل‪ ،‬وصعود‬
‫نحو أنواع أرقى من النشاط‪ ،‬بينام كانت لدى الفالسفة السابقني إ َّما مجموع الذ َّرات الكون َّية‪ ،‬كام‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫قال الذريّون‪ ،‬أو املا َّدة الح َّية بعنارصها األربعة كام قال الطبيع ّيون األوائل[[[‪.‬‬
‫ورغم طرافة هذه املقارنة من إنج‪ ،‬نؤكد أ َّن اختالف فكرة “الطبيعة” عند أفلوطني عن مثيلتها‬
‫لدى فالسفة اليونان ال يبدو من هذه الزاوية فحسب؛ حيث إنَّه مل يرس يف الطريق نفسه الذي سار‬
‫فيه هؤالء الفالسفة يف تص ُّورهم لفكرة الطبيعة‪ .‬من هنا‪ ،‬ال وجه للمقارنة بينه وبينهم‪ ،‬فالحقيقة أنَّه‬
‫مل يكن ينظر إىل الطبيعة كام كان هؤالء ينظرون إليها بوصفها مجموع املوجودات‪ ،‬بل كان يفهمها‬
‫دامئًا عىل أنَّها جوهر‪ ،‬أنَّها وجه من أوجه النفس الكلّ َّية أو ق َّوة من قواها‪ .‬وهذا ما يؤكِّد بصورة ما ق َّوة‬
‫الشبه بني فكرته عن الطبيعة والفكرة املرصيَّة القدمية عنها‪ .‬إنَّها عند املرصيني صورة إله َّية بدت‬
‫كرثتها املا ّديَّة حسب األمر الذي فكَّر فيه القلب (أي العقل) والذي جاء عن طريق اللسان‪ ،‬أما عند‬
‫أفلوطني‪ ،‬فقد بدت هذه الكرثة املا ّديَّة بفعل تأ ُّمل “الطبيعة” نفسها – بوصفها الدرجة األدىن من‬
‫النفس الكليَّة – لألقنوم األعىل‪.‬‬
‫لقد أقر أفلوطني نفسه بوجه الشبه بني ما قاله قدامى الحكامء وبني ما يقوله هو حول الطبيعة‬
‫حينام قال “إ َّن القدامى من الحكامء‪ ،‬الذين أرادوا أن يتمثَّلوا اآللهة أمامهم بتشييد معابد ومتاثيل‪،‬‬
‫قد أحسنوا تف ُّهم طبيعة الكون‪ ،‬فقد أدركوا أ َّن من اليسري دامئًا جذب النفس الكلّيَّة‪ ،‬وأ َّن من األيرس‬
‫التصويري لليشء م َّيال دامئًا إىل‬
‫ُّ‬ ‫بقاءها بتشييد يشء ميكنه تلقّي أثرها وقبول مشاركتها‪ .‬والتمثيل‬
‫تلقّي أثر منوذجه‪ ،‬فهو كمرآة تستطيع أن تتلقَّى صورته‪ .‬وأ َّن الطبيعة‪ ،‬ببديع صفاتها‪ ،‬لتفطر األشياء‬
‫عىل صورة املوجودات التي متلك صورة مطابقة ملبدأ يعلو عىل املا َّدة‪ .‬وهكذا جعلت الطبيعة‬
‫كل يشء عىل صلة مبارشة باأللوهيَّة التي تولد عىل مثالها‪ ،‬والتي تتأ َّملها النفس الكليَّة وتسري يف‬
‫َّ‬
‫يقل‬
‫خلق األشياء وفقًا لها‪ ،‬فمن املحال إذن أن يوجد يشء ال يشارك يف تلك األلوه َّية‪ ،‬ولكن ال ُّ‬
‫األريض”[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عن ذلك استحالة أن تهبط تلك األلوهيَّة إىل عاملنا‬
‫الحقيقي لفكرته األصيلة عن الطبيعة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أفلوطيني واضح باملصدر‬
‫ٌّ‬ ‫َّ‬
‫الشك فيه أ َّن هذا اعرتاف‬ ‫مم‬
‫َّ‬

‫‪[1]- Inge: Op. Cit., Vol. I. p. 153- 155.‬‬


‫[[[‪ -‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الرابعة‪ ،‬املقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،11‬ترجمة د‪ .‬فؤاد‪ ،‬ص‪.192‬‬

‫‪69‬‬
‫المحور‬

‫جا ونضارة‪ .‬ولو أنعمنا‬


‫ريا فلسفيًّا أكرث نض ً‬
‫املرصي القديم الذي استطاع أن يعبِّ عنه تعب ً‬
‫ُّ‬ ‫إنَّه الفكر‬
‫النظر يف ما سيقوله أفلوطني بعد ذلك‪ ،‬واضعني يف االعتبار ما سبق‪ ،‬من دون أن يقفز أفالطون‬
‫إىل مخيَّلتنا كالعادة‪ ،‬الزدادت دهشتنا من مرصيَّة أفلوطني‪ ،‬فهو يضيف بعد حديثه السابق “ أجل‪،‬‬
‫فالعقل األعىل هو الشمس العاقلة‪ ،‬وتليه مبارشة نفس تعتمد عليه‪ ،‬مق ُّرها يف العامل املعقول‬
‫وبتوسطها يت ُّم‬
‫ُّ‬ ‫الخاصة التي تالمئها‬
‫َّ‬ ‫كالعقل ذاته‪ ،‬غري أ َّن النفس تهب الشمس املحسوسة حدودها‬
‫االتصال بني الشمس املحسوسة والشمس املعقولة‪ ،‬وينقل إىل الشمس املعقولة أماين الشمس‬
‫املحسوسة بقدر ما تستطيع هذه أن تصل إىل الشمس املعقولة عن طريق النفس‪ .‬إذ إنَّه ال يشء‬
‫يبعد عن اآلخر”[[[‪.‬‬
‫ين‪،‬‬
‫وغني عن القول أ َّن هذا التشبيه – تشبيه الشمس – الذي ظ َّن املؤ ّرخون أنَّه التشبيه األفالطو ُّ‬
‫ٌّ‬
‫لهو تشبيه استقاه أفلوطني من أخناتون (امللك الفيلسوف) حيث نقرأ شيئًا شبي ًها بذلك يف قصيدته‬
‫التي وجهها إىل قوة الشمس (آتون)‪ ،‬باعتبارها رمز اإلله الواحد لديه‪.‬‬
‫وإذا انتقلنا إىل نظرته للعامل املحسوس مبتعدين عام سبق أن بحثناه حول صلة هذا العامل‬
‫الطبيعي والكواكب مستم َّدة من تأث ُّره‬
‫ِّ‬ ‫ريا من آرائه حول العامل‬
‫بالعامل املعقول لديه‪ ،‬فسنجد أ َّن كث ً‬
‫للسحر والتنجيم‪ .‬وال عجب‪ ،‬فقد كان هذا أم ًرا‬
‫الشديد ببيئته الرشق َّية املرصيَّة مبا فيها من احرتام ِّ‬
‫غري معيب يف عرصه ليس بالنسبة إىل العامة فحسب من الناس‪ ،‬بل أيضً ا بالنسبة إىل املثقفني‬
‫منهم‪ .‬كل الفرق أ َّن الفئة األخرية كانت تحاول أن تأيت بتربير ملا تؤمن به‪ .‬فقد حرص أفلوطني‬
‫ين الدقيق‪ ،‬فدالالت النجوم يف نظره‬
‫عىل أن يربط بني اعتقاده يف التنجيم وبني فكرة النظام الكو ِّ‬
‫رضوري يقتضيه التسلسل العا ُّم للقوى الكونيَّة‪ ،‬وليست النجوم يف نظره أم ًرا رضوريًّا يقتضيه‬
‫ٌّ‬ ‫أمر‬
‫إل وسائط طبيع َّية تنقل بها القوى العليا إىل العامل‪.‬‬
‫التسلسل العا ُّم للقوى الكون َّية‪ ،‬وليست النجوم َّ‬
‫فلم كانت الحركات املفردة‬
‫أي معنى‪َّ .‬‬
‫كل أجزاء الكون ال يكون للتنبُّؤ ُّ‬
‫ومن دون االرتباط التا ِّم بني ِّ‬
‫الكل الشامل‪ ،‬ففي وسع املرء إذا عرف ما يت ُّم يف أه ِّم أجزاء‬
‫يف داخل العامل تتوقَّف دامئًا عىل ِّ‬
‫العامل من حركات أن يعلم ما يناظرها من حركات أخرى‪ ،‬وذلك مثلام يعرف الخري يف الرقص إذا‬
‫خاصة لأليدي واألرجل[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫رأى موض ًعا مع ّي ًنا ألجسام الراقصني‪ ،‬ما يرتبط بهذا الوضع من حركات‬
‫يل الخالص‪ ،‬كام‬
‫ين بالنظر العق ِّ‬
‫اللعقال ُّ‬
‫وهكذا نالحظ هنا كيف اقرتن لدى أفلوطني االتجاه َّ‬
‫بالسحر‬
‫اختلطت لديه‪ ،‬نتيجة تأث ُّره ببيئته الفكريَّة الرشقيَّة‪ ،‬النظرة الدينيَّة السائدة مبا فيها من إميان ِّ‬

‫[[[‪ -‬نفسه‪ ،‬ص ‪.193-192‬‬


‫[[[‪ -‬فؤاد زكريا‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫‪70‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫والتنجيم‪ ،‬بالنظرة الفلسفيَّة الخالصة مبا فيها من عقالنيَّة ودقة يف التحليل‪.‬‬


‫َّ‬
‫باأللوهية‪:‬‬ ‫(ب) االتحاد‬
‫يقول أفلوطني معبِّ ًا عن حالة االتحاد باأللوه َّية‪:‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫كل ما عداي‪ ،‬أرى يف أعامق ذايت‬‫ريا ما أتيقَّظ لذايت تاركًا جسمي جان ًبا‪ ،‬وإذ أغيب عن ِّ‬
‫“كث ً‬
‫ٍ‬
‫وعندئذ أكون عىل يقني من أنَّني أنتمي إىل مجال أرفع‪ ،‬فيكون فعيل‬ ‫جامل بلغ أقىص حدود البهاء‪.‬‬
‫ً‬
‫هو أعىل درجات الحياة‪ ،‬واتَّحد باملوجود اإللهي‪ .‬وحني أصل إىل هذا الفعل‪ ،‬أثبت عليه من فوق‬
‫اإللهي‪ ،‬حني أعود من معاينة العقل‬
‫ّ‬ ‫كل املوجودات العقلية‪ .‬ولكن بعد مقامي هذا مع املوجود‬
‫يل‪ ،‬وكيف أمكن أن ترد النفس إىل األجسام‬
‫إىل الفكر الواعي‪ ،‬أتساءل‪ :‬كيف يت ُّم هذا الهبوط الحا ُّ‬
‫مادامت طبيعتها كام بدت يل‪ ،‬وإن كانت يف جسم”[[[‪.‬‬
‫يف عند أفلوطني حيث يكشف‬
‫هذه الفقرة توضح‪ ،‬من دون أدىن شك‪ ،‬مدى سم ِّو التعبري الصو ِّ‬
‫لنا فيها عن الطبيعة الحقيق َّية للنفس اإلنسان َّية التي إن غ َّيبت الجسم استطاعت أن تتَّحد بالوجود‬
‫اإللهي حارض دامئًا‪ ،‬وما علينا إلَّ أن نحاول التع ُّرف عليه بالتق ُّرب إليه والتش ُّبه به‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اإللهي‪ .‬فالوجود‬
‫ّ‬
‫لقد اعترب أ َّن انطفاء الشعور بذات َّية الفرد وماديَّته منتهى العمل َّية االحتكاك َّية التي يرقى إليها اإلنسان‬
‫اإللهي فيه‪ ،‬مؤكّ ًدا حدوث هذه الرؤية الباطن َّية عىل غرار بعض املتص ِّوفني‬
‫ِّ‬ ‫عند انبالج الحضور‬
‫املتط ِّرفني‪ .‬لكنه مل يجعل – مثل الرباهامنيني الهنود – هذا الفناء نرفان ًّيا‪ ،‬أي مل يعترب حصول‬
‫كل‬ ‫ين يف براهامن‪ ،‬بل جعله اتّحا ًدا بني را ٍء ومر ٍّ‬
‫يئ يحتفظ فيه ٌّ‬ ‫االتحاد ذوبانًا مطلقًا للشخص اإلنسا ِّ‬
‫يف إىل فقدان الشعور بذات َّية الفرد فإ َّن هذا األمر‬
‫منهام بهويَّته ألنَّه حتى إذا ما أ َّدى الجذب الصو َّ‬
‫يؤ ّدي كذلك إىل فقدانه الشعور بالذات َّية اإلله َّية ككائن فرد قائم بذاته ليتساوى االثنان‪ ،‬فال يذوب‬
‫الزمني إىل االحتكاك باألزل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الواحد عىل حساب اآلخر‪ ،‬بل يتذاوبان يف لقاء باطن يرفع اإلنسان‬
‫يل بعامل الزمان”[[[‪.‬‬
‫ويربز احتكاك الله األز ِّ‬

‫[[[‪ -‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الرابعة‪ ،‬م ‪ ،80‬ترجمة د‪ .‬فؤاد زكريا‪ ،‬ص‪.323‬‬
‫[[[‪ -‬غسان خالد‪ :‬املرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.268-267‬‬

‫‪71‬‬
‫المحور‬

‫قائمة املراجع واملصادر‪:‬‬


‫المصادر العربية‬

‫‪1.1‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الثالثة‪ ،‬املقالة الثانية‪ ،‬ترجمة أمرية حلمي مطر “دراسات يف الفلسفة‬
‫اليونانيَّة”‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع بالقاهرة ‪1980‬م‪.‬‬

‫‪ 2.2‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الرابعة‪ ،‬املقالة الثالثة‪ ،‬فقرة ‪ ،15‬ترجمة د‪ .‬فؤاد زكريا‪.‬‬

‫‪ 3.3‬أفلوطني‪ :‬التساع َّية الرابعة‪ ،‬م ‪ ،80‬ص‪ ،323‬ترجمة فؤاد زكريا‪.‬‬

‫‪4.4‬أفلوطني‪ :‬التساعيَّة الرابعة‪ ،‬م‪ – 3‬فقرة ‪ ،11‬ترجمة‪ :‬فؤاد زكريا‪.‬‬

‫‪5.5‬أمرية حلمى مطر‪ :‬الفلسفة عند اليونان‪ ،‬دار النهضة العرب َّية بالقاهرة ‪1977‬م‪.‬‬

‫‪6.6‬برستد‪ :‬فجر الضمري‪ ،‬ترجمة‪ :‬سليم حسن‪ ،‬مكتبة مرص‪.‬‬

‫‪7.7‬جون ويلسون‪ :‬الحضارة املرصيَّة‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬أحمد فخري‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪.‬‬

‫‪8.8‬الرشق األدىن القديم‪ ،‬ط‪ ،3‬مكتبة األنجلو املرصيَّة‪1982 ،‬م‪.‬‬

‫‪9.9‬عبدالرحمن بدوي‪ :‬خريف الفكر اليوناين‪ ،‬دار النهضة املرصيَّة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1975‬م‪.‬‬

‫‪1010‬عبدالعزيز صالح‪ ،‬فلسفات نشأة الوجود يف مرص القدمية‪ ،‬مقال يف مجلَّة “املجلَّة”‪ ،‬فرباير‬
‫‪1959‬م‪.‬‬

‫‪1111‬عثامن أمني‪ :‬الفلسفة الرواقيَّة‪ ،‬مكتبة األنجلو املرصيَّة‪ ،‬القاهرة ‪1971‬م‪.‬‬

‫‪1212‬غسان خالد‪ :‬أفلوطني – رائد الوحدان َّية‪ ،‬منشورات عويدات ببريوت ‪1983‬م‪.‬‬

‫‪1313‬فكرة األلوهيَّة عند أفالطون‪ ،‬دار التنوير ببريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1984‬م‪.‬‬

‫‪1414‬فؤاد زكريا‪ :‬تقديم ترجمته العربيَّة للتساعيَّة الرابعة ألفلوطني‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العا َّمة للتأليف‬
‫والنرش بالقاهرة ‪1970‬م‪.‬‬

‫‪15.‬‬ ‫‪.‬نظرية املعرفة عند أرسطو‪ ،‬دار املعارف املرصية‪ ،‬مبرص ‪1985‬م‬

‫‪72‬‬
‫ميتافيزيقا وحدة الوجود بين ال ّرواق َّية وأفلوطين‬

‫المصادر األجنبية‬

16. Diogenes Laeritus, Lives of Eminent Philosophers, Eng. Trans, By D. Hicks


(M. A.), London, William Heinemann, New York, G. P Putnam’s, Without
Date, VII-138,
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

17. Zeller (F.): Outlines of the History of Greek Philosophy,Eng. Trans, By L. R.


Palmer, Dover Publication inc – New York, 1980.

18. Plato: Timaeus, English translation by D. LEE, Penguin Books, London, 1976,

19. Armstrong A. H.: Preface of Hnglish translation to the Enncads, the loeb
Edition, 1966, p. XVIII.

20. Rivaud A.: Histoire de la Philosophue, T. L. Paris 1948,

21. Plotinus: The Six Enneads, trans by S. Mackenna and B. S. Lage. Williom
Benton Publisher, Encyclopaedia Britannca 1952, (2) Ch. I. Eng. Trans, by
Mackenna.

22. Plato: Republic, Eng. Trans, by H. D. Lee, The Penguin Classics, London,
1962.

73
‫األبعاد امليتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬
‫دراسة يف فلسفة العارف باهلل أمحد بن علوان اليامين‬

‫ي‬ ‫عبد هللا محمد عل الفالح‬


‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫اليمنية‪.‬‬ ‫اإلسالمية ‪ /‬الحديثة كل َّية اآلداب ‪ /‬جامعة إب ‪ /‬الجمهورية‬
‫َّ‬ ‫التصوف والفلسفة‬ ‫أستاذ‬

‫ّ‬
‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫التكوي�‪ ،‬ومنهج التحليل المقارن‪ ،‬يستهدف البحث‬ ‫ن ِّ‬ ‫ا� –‬ ‫وفق المنهج االستقر ئ ِّ‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ز‬
‫الميتاف�يقية والعلمية‪ ،‬ومنهج المعرفة المتصل بهما‪ ،‬ي� موضوع‬ ‫ي‬ ‫الكشف عن األبعاد‬
‫َّ ف‬ ‫هو من ِّ‬
‫ع� تاري ــخ الفلسفة عنينا‬ ‫أهم موضوعات الدراسة الفلسفية ي� مبحث الوجود ب‬
‫ِّ ف‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫اإلسالم ي� القرن السابع‬‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬عند واحد من فالسفة‬ ‫به موضوع الصورة‬
‫اليما� (‪595‬هـ‪866 -‬ـه)‪.‬‬ ‫ن‬ ‫الصو� المعروف بالشيخ أحمد بن علوان‬ ‫ف ُّ‬ ‫الهجري‪ ،‬وهو‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ج ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ف‬ ‫تكمن َّ‬
‫أنطولو�‬
‫ي‬ ‫وجودي‬ ‫أهمية الموضوع ي�كون دراسة موضوع اإلنسان – (كمفهوم‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الميتاف� َّ‬
‫يز‬
‫نظرية الوجود‪ ،‬سواء من خالل عالقته‬ ‫والطبيعية )‪ -‬يشكل قلب‬ ‫يقية‬ ‫بأبعاده‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بواجب الوجود بذاته خلقا وتكوينا واصطفاء واستخالفا‪ ،‬أو عالقته بالوجود المدرك من‬
‫ب� سائر‬ ‫تم� اإلنسان من ي ن‬‫المجرد أو المعقول من جانب آخر‪ .‬هذا إىل يّ ز‬ ‫َّ‬ ‫جانب‪ ،‬والوجود‬
‫ين‬
‫عالم�‪:‬‬ ‫ب� خصائص‬ ‫الحس َّية‪ ،‬بجمعه ي ن‬ ‫ّ‬ ‫الموجودات‬
‫َّ‬
‫الملكوتية = (عالم األمر ) بروحه‬ ‫َّ‬
‫العقلية‬ ‫األول‪ :‬عالم الجواهر النور َّ‬
‫انية أو العوالم‬
‫ِّ‬ ‫ن‬
‫الحس َّية =(عالم الخلق )‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الظلمانية‬ ‫والثا�‪ :‬عالم األعراض أو الكثائف‬
‫ي‬ ‫وعقله وقلبه‪.‬‬
‫المادي ذي الصلة بالطبيعة وعنارصها المختلفة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الجسم‬ ‫بتكوينه وهيكله‬
‫ي‬
‫* * *‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقية – عالم الجواهر‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬الصورة اإلنسانية_ األبعاد‬
‫النورانية – عالم الكثائف الظلمانية – عالم الخلق – عالم األمر‪.‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫مل َّا كانت التجربة الصوف َّية يف اإلسالم متثِّل ظاهرة تربويَّة سلوك َّية أخالق َّية‪ ،‬وظاهرة معرف َّية‬
‫أبستمولوجيَّة‪ ،‬وظاهرة وجوديَّة أنطولوجيَّة فريدة وأصيلة متميِّزة عن التجربة الفلسفيَّة اإلسالميَّة‬
‫وغري املتميّزة التقليديَّة‪ -،‬مهام قيل عن مؤث ّراتها من الحضارات القدمية قبل اإلسالم ‪ ،-‬فإن قضاياها‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫امليتافيزيقية الكربى‪(= ،‬النظريَّة العرفان َّية‪ ،‬أو العمل َّية السلوك َّية األخالق َّية والرتبويَّة‪ ،‬والقضايا‬
‫املتج ّددة املستنبطة منها‪ ،‬ما تزال موضوعات خصبة‪ ،‬قابلة للدراسة والبحث والتحليل‪ ،‬سواء‬
‫عىل مستوى التجربة الصوفيَّة العا َّمة‪ ،‬أم عىل مستوى تجربة أعالمها ورموزها‪ ،‬ممن أثروا الفكر‬
‫والفلسفي‪ ،‬بدءا ً مبمثيل النظريَّة الصوفيَّة األخالقيَّة‪ (،‬نظريَّة األحوال واملقامات وقواعد‬ ‫َّ‬ ‫يف‬
‫الصو َّ‬
‫الفلسفي الذي دخل إىل الفلسفة‪ ،‬مبنهج‬ ‫ِّ‬ ‫وأسس الرتبية السلوك َّية الصوف َّية)‪ ،‬ونهاية بت َّيار التص ُّوف‬‫ُ‬
‫مؤسساً عىل منطق اإلدراك واالستدالل‪ .‬لذا كان اختيار موضوع هذا البحث‪،‬‬ ‫ذوقي‪ّ ،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫إرشاقي‬
‫ٍّ‬ ‫ين‬
‫عرفا ٍّ‬
‫املوسوم‪ :‬األبعاد امليتافيزيق ّية للصورة اإلنسان َّية يف فلسفة أحمد بن علوان الصوف َّية‪ ،‬ضمن سياق‬
‫الفلسفي يف اليمن‪ ،‬بني‪595 (:‬هـ‪668 -‬هـ‪1272 1198- ،‬م)‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الكشف عن تجربة أحد أعالم التص ُّوف‬
‫ويف موضوع محدود من ميتافيزيقا فلسفته الصوفية‪ ،‬أال وهو اإلنسان‪ :‬بأبعاده التكوين َّية املاديَّة‬
‫والروح َّية‪ ،‬أو العقل َّية‪ ،‬منحته رشف االصطفاء واالستخالف‪ ،‬وميزته عن سائر املخلوقات ‪.‬‬
‫(وجودي أنطولوجي‪ ،‬بأبعاده‬
‫ّ‬ ‫تكمن أهم َّية البحث‪ ،‬من كون دراسة موضوع اإلنسان‪ -،‬كمفهوم‪:‬‬
‫امليتافيزيق َّية والطبيع َّية )‪ ،-‬يشكل قلب نظريَّة الوجود‪ ،‬سواء من خالل عالقته بواجب الوجود بذاته‬
‫الذي هو (الله)‪ ،‬خلقاً وتكويناً واصطفاء واستخالفاً عىل كون الله وبق َّية مخلوقاته وكائناته‪ ،‬أومن‬
‫حيث عالقته باملوجودات العينيَّة املدركة منها‪ ،‬أو املعقولة‪ ،‬وكذا متيّز اإلنسان من بني سائر‬
‫الحس ّية‪ ،‬لجمعه خصائص عاملني متاميزين‪ - :‬عامل الجواهر النوران َّية أو العوامل‬ ‫ّ‬ ‫املوجودات‬
‫العقل َّية امللكوت َّية‪( =،‬عامل األمر)‪ ،‬بروحه وعقله وقلبه‪ - .‬عامل األعراض أو الكثائف الظلامن َّية‬
‫املادي ذي الصلة بالطبيعة وعنارصها املختلفة‪ ،‬بلغة‬
‫ّ‬ ‫الحس َّية‪( =،‬عامل الخلق )‪ ،‬بهيكله الجسمي‪،‬‬
‫الصوفية وفالسفة اإلرشاق‪.‬‬
‫يستهدف البحث الكشف عن االبعاد امليتافيزيق ّية والعلم ّية أو الطبيع ّية‪ ،‬ومنهج املعرفة املتعلّقة‬
‫بهام‪ ،‬يف موضوع الصورة اإلنسانيّة بوصفها محورا ً يف نظريّة الوجود عند بن علوان‪ ،‬بعد تأصيل‬
‫مفاهيم البحث األساس ّية يف الفلسفة‪ ،‬والفلسفة الصوف ّية معاً‪ ،‬وبعد عرض موجز لحياة الشيخ وبيئته‬
‫الفكريّة‪ ،‬وخصائص ومصادر فلسفته الصوف ّية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫الذاتي�ة وفلسفته الصوفية‪:‬‬ ‫أحمد بن علوان‪ :‬سريته‬
‫هو الشيخ العارف بالله سلطان العارفني‪ ،‬أبو يزيد املعاين‪ ،‬والجنيد الثاين‪ ،‬تاج األصفياء‪ ،‬ونقطة‬
‫بيكار األولياء‪ ،‬بحر الحقائق الربانية‪ ،‬ومعدن الحقائق العرفانية‪ ،‬موالنا‪ ،‬وسيدنا‪ ،‬وبركتنا أبو العباس‬
‫أو أبو الحسن صفي الدين أحمد بن علوان بن عطاف بن يوسف بن مطاعن بن عبد الكريم بن‬
‫حسن بن إبراهيم بن سليامن بن عيل بن عبد الله بن محمد بن عيىس بن إدريس بن عبد الله بن‬
‫عيىس بن عبد الله بن الحسن املثنى بن الحسن السبط ابن عيل بن أيب طالب كرم الله وجهه‪،‬‬
‫وريض الله عنه ابن فاطمة بنت رسول الله صىل الله عليه وسلم‪ ،‬ويلقب جوزي اليمن‪ ،‬النتهاجه‬
‫أسلوب الوعظ والتوجيه واإلرشاد عىل غرار ابن الجوزي [[[‪.‬‬
‫ولد الشيخ أحمد بن علوان بقرية عقاقة أو بقرية ذي الجنان‪ ،‬األوىل برواية الخزرجي‪ ،‬والثانية‬
‫برواية الجندي‪ ،‬ورمبا هام اسامن لقرية واحدة؛ حيث ما زال االسم األول يطلق عىل إحدى قرى‬
‫جبل أذخر عىل ح ّد قول عبد العزيز سلطان‪ ،[[[.‬وهي يف عزلة بني عيىس التابعة ملديريّة جبل‬
‫حبيش مبحافظة تعز حالياً‪ ،‬وتقع يف منتصف املسافة بني وادي الضباب‪ ،‬وبني يفرس‪ ،‬القرية التي‬
‫ّ‬
‫توف فيها الشيخ أحمد بن علوان[[[‪.‬‬
‫جح أغلب من أ ّرخ له والدته بني الفرتة من (‪590-585‬هـ)(‪1193-1189‬م) مستدلّني بوفاة‬ ‫وقد ر ّ‬
‫والدته عام (‪600‬هـ‪-1204‬م) أو أن والدته كانت يف زمن امللك املسعود آخر ملوك بني أيوب‪،‬‬
‫الذي وصل إىل اليمن عام (‪612‬هـ‪-1216‬م)‪ ،‬ووفاة والده الذي عمل كاتباً لهذا امللك عام (‪625‬هـ‪-‬‬
‫‪1228‬م) أي بعد والدة الشيخ بقرابة ثالثني عاماً وقت ما كان يبحث عن عمل مناسب مكان أبيه‪،‬‬
‫وبذلك تكون األعوام بني ‪590-585‬هـ هي األعوام املحتملة لوالدة الشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬عىل‬
‫وفق أكرث املصادر قرباً من عرصه‪ .‬يف حني تجمع كل املصادر عىل أن وفاته كانت ليلة االثنني‬
‫لعرشين خلت من شهر رجب (‪665‬هـ) املوافق ‪ 16‬أبريل ‪1267‬م أو أن (‪668‬هـ أو ‪669‬هـ) تاريخ‬
‫وفاته‪ ،‬وع ّمره بني (‪ )69-68‬سنة[[[‪.‬‬
‫تزوج الشيخ أحمد بن علوان حسب ما تذكر روايات الجندي‪ ،‬واليافعي‪ ،‬والخزرجي‪ ،‬والرشجي‪،‬‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬عبدالعزيز سلطان‪ ،‬مقدّ مة الفتوح‪ ،‬للشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬ص‪ ،38‬والتوحيد البن علوان‪ ،‬ص‪ ( ،20‬وثقت مؤلفات الشيخ مبنت‬
‫البحث ) وقارن‪ :‬القديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬عند ابن علوان قضاياه وإشكال ّيته‪ ،‬ماجستري‪ ،‬عني شمس‪1995 ،‬م‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫[[[‪ -‬الجندي‪ ،‬السلوك‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،.456‬والخزرجي‪ ،‬العقود اللؤلؤيّة ج‪ ،1‬ص‪ .146‬وعبدالعزيز سلطان‪ ،‬مقدّ مة الفتوح‪ ،‬ص‪ ،42‬والقريي‪،‬‬
‫املقدّ مة‪ ،‬ص‪ ،15‬والقديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪ ،8‬والعقييل‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪.70‬‬
‫[[[‪ -‬هي اآلن مركز ناحية يفرس يف محافظة تعز‪ ،‬تقع إىل الجنوب الغريب من املحافظة‪ ،‬وتبعد عن مركز املحافظة حوايل (‪ 30‬كيلومرت)‪،‬‬
‫وفيها رضيح الشيخ أحمد بن علوان املشهور والذي يقصد للزيارة والتربّك إىل حد اآلن‪ ،‬ويشتهر أهلها بالخري والصالح‪ ،‬والربكة ال تفارقها‬
‫لوجود الشيخ املدفون فيها‪ ،‬أنظر‪ :‬األهدل‪ ،‬تحفة الزمن‪ ،‬هامش ص‪ ،353‬وقارن‪ :‬الجندي‪ ،‬السلوك ج‪ ،1‬هامش‪ ،‬ص‪.349 ،‬‬
‫[[[‪ -‬الجندي‪ ،‬السلوك‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 49 ،‬و ص ‪ ،458‬والخزرجي‪ ،‬العقود‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،145،146‬والرشجي‪ ،‬الطبقات‪ ،‬ص‪ ،71-69‬وقارن‪:‬‬
‫ماسينيون‪ ،‬حياة الحالّج‪ ،‬مجلّة «املورد»‪ ،‬ص‪.62‬‬

‫‪76‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫بآخر مطاف حياته بامرأة من يفرس ‪-‬القرية التي تويف فيها‪ -‬فسكن معها بعد أن ترك قريته األصلية‬
‫( ذي الجنان )‪ ،‬وقيل رزق بولدين هام‪( ،‬الحسن‪ ،‬والعباس)‪ ،‬وثالثاً سمي (محم ًدا)‪(،‬ت‪704‬هـ‪-‬‬
‫‪1305‬م) وبنتاً ز ّوجها ابن شيخه‪ ،‬عبد الله بن عمر املسن[[[‪.‬‬
‫كانت املرحلة األوىل من حياة الشيخ يف كنف والده؛ الذي عمل كاتب إلنشاء امللك‪ ،‬فعاش‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يف سعة من املال‪ ،‬فتلقّى قدرا ً من التعليم‪ ،‬واكتسب ثقافة عرصه يف راحة بال‪ ،‬وقد تعلم الكتابة‪،‬‬
‫اللغة‪ ،‬الفقه‪ ،‬واألدب‪ ،‬يشهد بذلك شعره ونرثه‪ ،‬وتتلمذ يف هذه املرحلة عىل يد أشهر فقهاء‪ ،‬وهو‬
‫عرصه عمر بن أحمد بن أسعد املعروف بابن الحذاء رئيس قراء اليمن[[[‪.‬‬
‫جح بعض الروايات أن الشيخ نفسه قد عمل لدى السلطان رمبا بوظيفة والده نفسها‪ ،‬حيث‬ ‫وتر ّ‬
‫لقب باألمري‪ ،‬كام أورده لويس ماسينيون‪ ،‬والخزرجي قبله‪ ،‬مضافاً إىل اسم أحمد بن علوان‪ ،‬وهذا‬
‫ال يطلق إال عىل كاتب امللك‪ .‬وال يوجد شخص آخر بهذا االسم غري الشيخ أحمد بن علوان[[[ يف‬
‫وقته باعتقادنا‪ .‬ويف كالم الشيخ نفسه ما يشري إىل وظيفته هذه بقوله‪:‬‬
‫كاتب‬
‫ُ‬ ‫يا جـــا َر دا ِر جــوارنا يا‬ ‫بط من أسباطنا‬ ‫ط ِسبط ِّ‬
‫ِالس ِ‬ ‫يا ِسب َ‬
‫وأحب أن يطلقها عىل نفسه‪ ،‬لكن رمبا أن وظيفته هذه مل تدم‪ ،‬لعدم تحقيقها ما كان يطمح إليه‬
‫الشيخ‪ ،‬وكان عدم رضاه هذا أثر عىل مجرى حياته‪ ،‬فانرصف نحو التص ُّوف‪ ،‬والصالح‪ ،‬ليحقّق له‬
‫املجد األخروي التليد‪ ،‬بدالً من أي مجد آخر‪ .‬ويرى البعض‪ ،‬أن الشيخ بن علوان‪ ،‬مل يعمل مع‬
‫الحكام‪ ،‬وأنه قد عاش ميسور الحال عىل ما تركه له والده من مال[[[‪.‬‬
‫ووفقاً للرواية األوىل فإن الشيخ أحمد بن علوان قد م ّر بعمل ّية تح ُّول نفيس فعيل أحدث له‬
‫تغري فجايئ يف حياته‪ ،‬كام حدث للكثري من مشايخ الصوف ّية أمثال‪ :‬إبراهيم بن أدهم‪ ،‬والفضيل بن‬
‫عياض‪ ،‬وأن عدم خروجه من البلد يشبه سلوك سقراط يف عدم خروجه من أثينا[[[‪.‬‬
‫ووفقاً للرواية الثانية‪ ،‬فإن الشيخ قد استفاد من وظيفة والده ويرس حاله‪ ،‬بتنقله‪ ،‬وترحاله يف‬
‫جح‬‫االستزادة من الثقافة والتفاعل مع املحيط الثقايف والفكري والعقائدي‪ ،‬السائد يف عرصه‪ .‬ونر ّ‬
‫ترحال الشيخ واقرتابه من مراكز العلم والثقافة‪ ،‬أقرب من سكونه وبقائه يف املتعبد‪ ،‬سواء عمل‬
‫بوظيفة والده‪ ،‬أم استفاد من يرس احواله املعيشية ‪.‬‬

‫[[[‪ -‬الجندي‪ ،‬السلوك‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ..107‬واليافعي‪ ،‬مرآن الجنان‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،357‬ونرث املحاسن الغالية‪ ،‬ص‪ ،.298‬والخزرجي‪ ،‬العقود‬
‫اللؤلؤيّة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.146‬والرشجي‪ ،‬طبقة الخواص‪ ،‬ص‪ 69‬و‪.70‬‬
‫[[[‪ -‬الرشجي‪ ،‬الطبقات‪ ،‬ص‪ ،70‬والجندي‪ ،‬السلوك ج‪ ،1‬ص‪ ،454‬وعبدالعزيز‪ ،‬مقدمة الفتوح‪ ،‬ص‪.46‬‬
‫ّ‬
‫الحالج‪ ،‬املورد‪ ،‬ص‪.63‬‬ ‫[[[‪ -‬الخزرجي‪ ،‬العقود‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .117 ،105 ،102‬و لويس ماسينيون‪ ،‬حياة‬
‫[[[‪ -‬يُنظر‪ :‬الخزرجي‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪ ،117‬و العقييل‪ ،‬التص ّوف يف تهامة‪ ،‬ص‪.70‬‬
‫[[[‪ -‬إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي‪( ،‬ت ‪161‬هـ‪-777‬م)‪ ،‬الفضيل بن عياض التميمي‪( ،‬ت‪187‬هـ‪-802‬م)‪ .‬السلمي‪،‬‬
‫الطبقات‪ ،‬ص ‪ ،27 ،6،‬والشعراين‪ ،‬الطبقات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .410 ،68 ،‬وللمقارنة‪ُ ،‬ينظر‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن بدوي‪ ،‬أفالطون‪ ،‬ط‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1979‬م‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪77‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫والفكرية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫االجتماعية‬ ‫سريته‪ ،‬وبيئت�ه‬
‫خاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رافقت مسرية الشيخ أحمد بن علوان أوضاعاً سياس ّية‪ ،‬اقتصاديّة‪ ،‬اجتامع ّية‪ ،‬وثقاف ّية‬
‫فقد عاش بني عهدين سياسيني حاكمني هام‪ :‬النصف الثاين من عهد األيوبيني‪ ،‬وبالذات أواخر‬
‫حكم امللك املسعود (تـ‪626‬هـ) ومدة أطول من حكم بني رسول‪ ،‬ويف أهم فرتات حكمهم‪ ،‬وهي‬
‫فرتة امللك املنصور‪( ،‬نور الدين‪ ،‬عمر بن عيل بن رسول ‪،‬مؤسس الدولة الرسولية‪ ،‬والذي جعل‬
‫من مدينتي تعز و زبيد عاصمتان لحكمه‪ ،‬وامللك املظفر‪( ،‬يوسف بن عمر بن عيل بن رسول)(‬
‫‪694-647‬هــ ) الذي اكتفى مبدينة تعز عاصمة لحكمه بعد مقتل أبيه يف مدينة الجند*[[[ العاصمة‬
‫األوىل لحكمه‪.‬‬
‫وتع ُّد املدة التي حكم بها كل من امللك املنصور‪ ،‬وامللك املظفر من بعده من أفضل‬
‫الفرتات التي شهدها اليمن يف عرصه الوسيط‪ ،‬فقد مثّلت فرتة ذهب ّية شملت كل جوانب الحياة‪،‬‬
‫ففيها تم‪ :‬توحيد اليمن رشقه وغربه‪ ،‬حيث شمل حرضموت ومكة‪ ،‬وسيادة الدولة املركزيّة‪ ،‬وقيام‬
‫املحل‪ ،‬وتنظيم اإلدارة‪ ،‬وإقرار قواعد الحكم‪ ،‬واستقدام الخربات العربيّة من مرص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نظام الحكم‬
‫وبالد الشام‪ ،‬يف الشئون املدن ّية‪ ،‬والعسكريّة واإلداريّة‪ ،‬والدواوين‪ ،‬ومجال الطب والهندسة‬
‫يل يف األرياف‪.‬‬ ‫الزراع ّية‪ ،‬والصناع ّية‪ ،‬وشهدت املدن من ّوا ً وازدهارا ً‪ ،‬يف حني تقلّص النفوذ القب ّ‬
‫وكان للدولة املركزيّة دور فاعل يف تفتيت البنية القبليّة‪ ،‬واقتصارها عىل املناطق الريفيّة الجبليّة‬
‫منها والصحراويّة[[[‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كان هناك جانب مظلم من الحياة االقتصاديّة واالجتامعيّة‪ ،‬رمبا‬
‫يف العهد األول للدولة الرسول ّية‪ ،‬وصفه الشيخ بن علوان‪ ،‬نرثا ً ونظامً‪ ،‬يف رسالة بعثها اىل امللك‬
‫املنصور اول حاكم رسويل بعد األيوبيني‪ ،‬مطلعها‪:‬‬
‫[[[*‬
‫حســـ ُن‬
‫وفعل كلُّه َ‬
‫ٌ‬ ‫يعـــ ُّم‬ ‫أيا ُم عمرِك أيا ٌم لها مث ٌن ٌ‬
‫عدل‬

‫[[[‪ -‬الجند‪ :‬مدينة تاريخ ّية إسالم ّية شهرية تقع إىل الشامل والرشق من مدينة تعز‪ ،‬وارتبط اسمها باسم الجامع الشهري الذي أسسه معاذ بن‬
‫جبل بأمر من رسول الله ّ‬
‫صل الله عليه وسلّم‪ .‬أنظر‪ :‬الخزرجي‪ ،‬العقود‪ ،‬اللؤلؤيّة ‪،‬ج‪ ،1‬ص‪ .51‬وعبدالعزيز سلطان‪ ،‬مقدّ مة الفتوح‪ ،‬ص‪،43‬‬
‫وقارن‪ :‬عبدالكريم القديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪ ،21‬واملندعي‪ ،‬الزراعة يف عرص بني رسول‪ ،‬ص‪،21‬‬
‫[[[‪ -‬الخزرجي‪ ،‬العقود‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،53‬واملندعي‪ ،‬الزراعة‪ ،‬ص‪ .30 21-‬والقديس‪ ،‬التصوف‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫[[[‪ -‬يُنظر‪ :‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح ص‪ .506‬ومام قاله فيها أيضاً ‪:‬‬
‫ال فتن ًة َ‬
‫لك واألقطا ُر واملد ُن‬ ‫أعطاك ربُك ملكاً محل ًة كرماً‬ ‫َ‬
‫والبخت حامل َة األثقا ِل والحص ُن‬
‫ُ‬ ‫أما الحصو ُن فال يُحىص لها عد ٌد‬
‫طوعاً وكرهاً عليها ُ‬
‫الذل والوه ُن‬ ‫رجال ردهم خوالً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ونازعتك‬
‫املليك ونِع َم البلد ُة اليم ُن‬
‫ُ‬ ‫نِع َم‬ ‫فاستبقِ عدالً بقو ِل القائلو َن به‬
‫ني بل صنعا َء بل(عدنُ)‬
‫(ولحج أب َ‬ ‫هذي تهام َة ال دينا َر عنده ُم‬
‫ِ‬
‫جرت املسحاتُ والحج ُن‬ ‫إال مبا‬ ‫ضعفت فام يقتاتُ أجزلهم‬ ‫ُ‬ ‫وإال‬
‫وللرعي ِة دو ٌر كُلها دم ُن‬ ‫عليك عامراتٌ مشيد ٌة‬ ‫َ‬ ‫عا ٌر‬
‫أىن أتت وبأي القد ِر تختز ُن‬ ‫جا ِمعها‬ ‫ِ‬
‫والتستفت َ‬ ‫َ‬
‫األلوف‬ ‫ترى‬

‫‪78‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫َّ‬
‫الفكرية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫شخصيت�ه‬ ‫مصادر تكوين‬
‫بينام شهدت البن َّية الفكريَّة والثقاف ّية يف عرص الشيخ أحمد بن علوان تن ُّوعاً يف املذاهب‬
‫الفقه ّية‪ ،‬كاملذهب الشيعي‪ ،‬واملذهب الحنبيل‪ ،‬واملذهب الشافعي‪ ،‬وتع ُّددا ً يف التيارات الكالم ّية‪،‬‬
‫كاملعتزلة‪ ،‬واألشاعرة‪ ،‬والزيديّة‪ ،‬واإلسامعيل ّية والفلسفة الباطن ّية‪ ،‬والتص ُّوف ممثالً بالعديد من الطرق‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الصوفيّة والعديد من مشايخ الصوفيّة‪ ،‬سواء من شيوخ أحمد بن علوان نفسه‪ ،‬أو من معارصيه‪ ،‬أو‬
‫الالحقني عليه[[[‪.‬‬
‫يف والصوفيّة قادها خصومه السياسيون املتمثلون بدولة‬ ‫تجدر اإلشارة اىل معارضة الفكر الصو ّ‬
‫األيوبيني الذين كانوا ضد الفلسفة الباطنيّة والتص ُّوف معاً‪ ،‬وخصومه التقليديون املمثّلون بفقهاء‬
‫الحنابلة‪ ،‬والحشويّة‪ ،‬واإلسامعيل ّية معاً‪ .‬ومن مناذج نقاد الصوف ّية املتفلسفة‪ ،‬أمثال الحالّج‪ ،‬وابن‬
‫الفارض‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬وأتباعهم يف اليمن‪ ،‬أمثال الشيخ احمد بن علوان‪ ،‬وعبدالكريم الجييل‪،‬‬
‫والعيدروس‪ ،‬نجد أعالماً كبرية تص ّدت للنقد‪ ،‬أمثال‪ :‬يحيى بن أيب الخري العمراين‪ ،‬ت(‪558‬هـ‪-‬‬
‫‪1163‬م) وجعفر بن أحمد عبد السالم ت(‪573‬هـ‪-1177‬م) وأبو بكر الخياط ت(‪813‬هـ‪-1411‬م)‬
‫وأحمد النارشي ت(‪815‬هـ‪-1413‬م) وعبد الرحمن األهدل ت(‪855‬هـ‪-1452‬م) ويحيى حميد‬
‫املقري‪ ،‬ت(‪990‬هـ‪-1583‬م) وصالح مهدي املقبيل ت(‪1108‬هـ‪-1697‬م)‪ ،‬وأحمد بن عبد الله‬
‫السلمي ت(‪1116‬هـ‪-1705‬م) ومحمد بن إسامعيل األمري ت(‪1182‬هـ‪-1769‬م) ومحمد بن عيل‬
‫الشوكاين ت(‪1250‬هـ‪-1835‬م)[[[‪.‬‬
‫وهناك صورة أخرى للجدل بني علامء الكالم من املعتزلة واألشاعرة ظهر يف اليمن‪ ،‬واستمر‬
‫طوال القرنني (‪ 6‬و‪ 7‬الهجريني)؛ حتى ساد علم الكالم األشعري أغلب مناطق اليمن‪ ،‬بسبب وسطية‬
‫األشاعرة من جانب‪ ،‬ودعم الدولة لهم من جانب آخر‪ .‬بينام انحرص االعتزال يف شامل اليمن عىل‬
‫الزيديّة واإلسامعيل ّية[[[ ‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املذهب الزيدي – أحدى فرق الشيعة املعتدلة‪ ،‬نسبة إىل إمام املذهب اإلمام زيد بن عيل زين العابدين بن الحسني بن عيل بن‬
‫أيب طالب‪ ،) ‬دخل إىل اليمن عىل يد اإلمام الهادي يحيى بن الحسني بن القاسم (ـ‪245‬هـ‪-198‬م)‪ ،‬وقد نحى املنحى االعتزايل يف‬
‫علم الكالم‪ ،‬أ ّما املذهب الحنبيل فقد كان مذهب األيوبيني إضافة إىل املذهب الشافعي‪ ،‬وأما املذهب الشافعي فقد صار مذهب الدولة‬
‫الرسول ّية الرسمي‪ ،‬وانحرص املذهب الزيدي باملناطق الشاملية من اليمن‪ .‬أما الرتاث الباطني‪ ،‬فيتمثّل باملذهب اإلسامعييل يف اليمن‪،‬‬
‫ممثالً بحركة القرامطة عام ‪303‬هـ والصليحني يف منتصف (ق‪5‬هـ للتفاصيل ‪ :‬أنظر‪ :‬الخزرجي‪ ،‬العقود‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،85‬وأيب سمرة الجعدي‪،‬‬
‫طبقات فقهاء اليمن‪ ،‬ت ‪:‬فؤاد سيد‪ ،‬ط الس ّنة املحمديّة‪ ،‬القاهرة‪1975 ،‬م‪ ،‬ص‪ ،78‬ص‪.123‬والربدوين‪ ،‬فنون األدب الشعبي‪ ،‬ص‪،70‬‬
‫والقديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪.35‬‬
‫[[[‪ -‬للمزيد من التفاصيل حول هذا الرصاع‪ ،‬أنظر‪ :‬الجعدي‪ ،‬طبقات فقهاء اليمن‪ ،‬ص‪ 181 ،180‬وللمقارنة أنظر‪ :‬الحبيش‪ ،‬الصوف ّية‪،‬‬
‫ص‪ ،96‬وأمين فؤاد سيد‪ ،‬مصادر تاريخ اليمن يف اإلسالم‪ ،‬املعهد الفرنيس لالسترشاق‪ ،‬القاهرة‪1974 ،‬م‪ ،‬ص‪ ،35‬حيث يرجع الفضل األكرب‬
‫يف احتفاظ اليمن برتاث املعتزلة إىل األمام املنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليامن (ت‪614‬هـ‪-1218‬م)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬انظر‪ :‬عبدالله الربدوين‪ ،‬أحمد بن علوان بني الحكاية والتاريخ‪ ،‬مجلة اإلكليل‪ ،24 ،‬لسنة (‪ ،)1‬وزارة اإلعالم صنعاء‪1980 ،‬م‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫وله كذلك ‪:‬فنون األدب الشعبي للمؤلف أيضاً‪ ،‬ص‪.67‬‬

‫‪79‬‬
‫المحور‬

‫ويف جانب الفلسفة‪ ،‬نجد فلسفة إخوان الصفاء حارضة يف أوساط الزيديّة واالسامعيليّة يف‬
‫اليمن‪ ،‬وفلسفة الغزايل الصوفيّة األكرث حضورا ً بني أبناء أغلب مناطق اليمن‪ ،‬وكانت مؤلّفاته أداة‬
‫ممتازة للتص ّدي للفلسفة‪ ،‬وأداة ملقارعة املعتزلة‪ ،‬والباطن ّية معاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫منهج الشيخ بن علون يف مؤلفاته‪:‬‬
‫ميكن عرض أساليب الشيخ بن علوان وطرقه يف مؤلّفاته عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ -‬جمع بني الشعر والنرث‪ ،‬واتّخذ كغريه من الصوف َّية صيغاً تعبرييَّة لعل من أوضح معالهام‪:‬‬
‫حل كثريا ً من املشكالت الناجمة‬‫يف حيث ّ‬
‫أخص خصائص الخطاب الصو ّ‬ ‫َّ‬ ‫أوالً‪ :‬الرمز‪ :‬ويع ُّد‬
‫عن الترصيح مبا يريد الصويف التح ُّدث عنه‪ ،‬أو تفادي سوء فهم أصحاب التفسريات الشكليّة‪،‬‬
‫فكان الرمز هو األسلوب األفضل لتجاوز كل هذه الصعوبات‪ ،‬من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر فإن عامل‬
‫يف يتّسع لدالالت وفرية يستم ُّدها الصويف من الكلامت‪ ،‬واألصوات‪ ،‬أو الحوادث‬ ‫اإللهام الصو ّ‬
‫الطبيعية‪ ،‬ويتخذها رموزا ً ملعاين مجردة وخفية‪ ،‬فيوجهها حسب حاله[[[‪.‬‬
‫اإللهي‪ ،‬فصارت أسلوباً‬
‫ّ‬ ‫يف بلغة الحب‬
‫ولقد اقرتنت لغة الرمز واإلشارة يف الفكر الصو ّ‬
‫الحس والعقل املعرب‬
‫ّ‬ ‫للتعبري عن األحوال‪ ،‬واملواجيد الصوف ّية‪ ،‬الخارجة عن نطاق موضوعات‬
‫رشاح لها عىل غرار ديوان‬
‫عنهام باللغة االعتياديّة[[[‪ ،‬األمر الذي جعل قصائد بن علوان بحاجة إىل ّ‬
‫الحالج‪ ،‬وابن الفارض والنفّري‪ ،‬ليفهم مراده من هذه العبارات‪ ،‬واملصطلحات الغامضة الفهم لدى‬
‫القارئ العادي‪ .‬وقد توزّع الرمز لديه عىل الشكل اآليت‪:‬‬
‫‪1-‬الرمز اللفظي أو اإلشاري‪ :‬وهو إما أن يستخدم حروف أسامء أوائل السور‪ ،‬حيث يع ُّد الشيخ‪،‬‬
‫القرآن الكريم املنظور األول له بحروفه املقطوعة املفتتحة لبعض السور عىل أساس أن ورائها رسا ً‬
‫كامناً[[[‪ ،‬كام يقول يف هذه األبيات[[[‪.‬‬
‫أرسار علم يف القلوب مصو ُن‬ ‫زبرات زبر كتابـك املكنونِ‬
‫ني‬
‫طس ‪ -‬طه كاف ها – ياســـ ِ‬ ‫رآ ميم‪ ،‬صاد عج فيها المها‬
‫وامليم ميم محمــد املكنـونِ‬ ‫والالم الم الله فـي الفاتـــه‬

‫[[[‪ -‬عبدالعزيز سلطان‪ /‬مقدّ مة املهرجان‪ ،‬ص ‪،9‬‬


‫[[[‪ -‬د‪ .‬نظلة أحمد نائل‪ ،‬الخصائص العا ّمة للتجربة الصوف ّية‪ ،‬رسالة دكتوراه بإرشاف د‪ .‬عبد األمري األعسم‪ ،‬جامعة بغداد ‪ /‬قسم الفلسفة‪،‬‬
‫بغداد‪1990 ،‬م‪ ،‬مخطوط‪ ،‬ص‪،)54.70‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬عبدالعزيز املقالح‪ ،‬مقدّ مة الفتوح‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬أيضاً‪ ،‬ص‪.56‬‬

‫‪80‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫روح لها حمـــد ألهـــل الدينِ‬ ‫والراء والصاد التي هي قبلها‬


‫والهاء هاوية هوت من ها هو هادي الغواة وهازم امللعــــونِ‬
‫أو أن يستخدم كلامت مستوحاة من أسامء الحيوانات‪ ،‬والنباتات‪ ،‬وعنارص الطبيعة كالهواء‪،‬‬
‫املاء‪ ،‬والنار‪ ،‬أو أسامء املوجودات العلويّة والسفل ّية والسامويّة واألرض ّية‪ .‬فتقابلنا يف مؤلّفاته‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أسامء عديدة مثل‪( :‬الطاووس‪ ،‬الكرايس‪ ،‬البالبل‪ ،‬السلسبيل‪ ،‬الزهور‪ ،‬السفن‪ ،‬الرياح‪ ،‬الشموس‪،‬‬
‫األقامر‪ ،‬النجوم البحار االنهار‪ ..‬الخ[[[‪ .‬أو أن يستعري ألفاظاً دالة عىل ما يريد‪ ،‬لكنها قد تكون من‬
‫لغات أخرى كالفارس ّية‪ ،‬والهنديّة‪ ،‬والرسيان ّية مثالً‪ ،‬وال نستطيع الجزم إىل أي لغة بعينها ينتمي أي‬
‫من هذه األلفاظ‪ .‬فقد ورد يف أحد مؤلّفاته وهو (الفتوح) ويف قصائده الشعريّة أكرث من خمسني‬
‫مصطلحاً‪ ،‬ومل يستطع أي من املهتمني تحديد طبيعة هذا االشتقاق لعدم وجود دراسة سيمنطيق ّية أو‬
‫فينومينولوجيّة لها‪ ،‬ومنها عىل سبيل املثال‪( [[[:‬اسباطون‪ ،‬أسطاسون‪ ،‬الزردكاش‪ ،‬هرتبار‪ ،‬بارقوش‪،‬‬
‫طريسون‪ ،‬بالون‪ ،‬بانون‪ ،‬أصفهسالرة‪ ،‬نافروت‪ ،‬هرجامن‪ ،‬أرسطا‪ ،‬دسكتان‪ ،‬أردشري‪ ،‬راقشون‪،‬‬
‫هاسون‪ ،‬مهتار‪ ،‬استمدار‪ ،‬زامخشلوش‪ ،‬أزبردكوش‪ ،‬اشاملون‪ ،‬سباهشتون‪ ،‬شابور‪ ،‬شبهشاهوت‪،‬‬
‫أزرمخيش ‪ ،‬خاش باش‪ ،‬ازبخشناشوت ‪ -‬زامخرتوش‪ ،‬نارشون‪ ،‬رسنار رسبار) وهي يف أغلبها عىل‬
‫وزن ‪ :‬فاعول‪ ،‬فاعولن‪ ،‬افعولن ‪....‬‬
‫أو أن يستخدم الشيخ كذلك أسامء األماكن املق ّدسة‪ ،‬وأسامء أعضاء اإلنسان‪ ،‬واألفالك‬
‫والكواكب‪ ،‬والسموات‪ ،‬والجنان‪ ،‬والنريان‪ ،‬ومرادفاتها‪ ،‬ومن أمثلة هذه األسامء (الحرم امليك‬
‫واملدين‪ ،‬املسجد األقىص‪ ،‬طور سيناء‪ ،‬وزمزم‪ ،‬عرش بلقيس‪ ،‬هدهد سبأ‪ ،‬جربائيل‪ ،‬ارسافيل‪ ،‬مقام‬
‫إبراهيم‪ ،‬حجر إسامعيل‪ ،‬عصا موىس‪ ،‬قميص يوسف‪ ،‬القصور‪ ،‬الخمور‪ ،‬حور العني‪ ،‬الخدور‪،‬‬
‫الزبرقان‪ ،‬الرصاط‪ ،‬األنهار)‪ .‬للداللة عىل بعض الظواهر األنطولوج ّية واألبستمولوج ّية (الروح ّية‬
‫والعرفانيّة امليتافيزيقيّة)‪ ،‬كالحقيقة املحمديّة من وجه‪ ،‬وعىل العوامل العلويّة النورانيّة والعوامل‬
‫الظلامنيّة وفق نظريّة الفيض وعواملها املنبثقة عنها من وجه آخر‪.‬‬
‫واملصادر التي تح ّدثت عن الشيخ أحمد بن علوان‪ - ،‬وخصوصاً القدمية منها ‪ -‬حاولت اعطاء‬
‫تفسري ميتافيزيقي أبستمولوجي لرس استخدام الشيخ هذه املصطلحات‪ ،‬فرأوا أن روحه كانت‬
‫مهبطاً ألولياء الله‪ ،‬فيتح ّدث إليهم ويتح ّدثون إليه‪ ،‬فيسمع ويعي ويفهم منهم‪ ،‬وحني يتح ّدث به‬
‫إىل مريديه‪ ،‬ال يفهمونها منه‪ .‬فيعمد أحياناً إىل متزيق ما كتبه منها‪ ،‬وقد عرب عن هذا بقوله‪« :‬يا‬
‫قائم عىل املاء وهو عطشان»‪ ،‬وقيل كان يكتب كالماً وهو يف حالة الفناء‪ ،‬ثم يعود ليقرأه‪ ،‬فال‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص ‪.195 ،194 ،179 ،136 ،126 ،104 ،99 ،97‬‬
‫[[[‪ -‬أيضاً‪ ،‬الصفحات ذاتها‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫المحور‬

‫يفهمه فيقوم بإحراقه أو يغسله‪ ،‬ولكن هذا التفسري مل يقنعنا وإالّ كانت غابت هذه املصطلحات‬
‫من مؤلّفاته‪ ،‬فلذا هي تدخل يف إطار الرمزيّة التي يغطي بها الصوفيّة عىل معان رمبا لو وضحت‬
‫رضت بقائلها‪ ،‬ولجعلته يف مرمى النقد من قبل خصومهم من الفقهاء الظاهريّة والسياسيني عىل‬ ‫أل ّ‬
‫ح ٍّد سواء‪ .‬والدليل أ ّن هذه األلفاظ جميعها أو أغلبها‪ ،‬ال نجد لها يف اللهجة اليمن ّية‪ ،‬أو حتى العرب ّية‬
‫ما يقابلها[[[‪.‬‬
‫أ ّما الباحث فريى ثالثة أسباب الستخدام بن علوان هذه املصطلحات واشتقاقها‪:‬‬
‫األول‪ :‬استفادته من بعض األلفاظ واملصطلحات من غري اللغة العرب ّية بحكم اطّالعه عىل علوم‬
‫وثقافة بعض الشعوب ومنها الهنديّة والفارس ّية‪ ،‬واليونان ّية والرسيان ّية‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬إن مل تكن من لغات أخرى كالكرديّة والهنديّة والفارسيّة‪ ،‬فإنها لغة خاصة ركبها بنفسه‬
‫ويعتمد معنى املصطلح عىل نهايته‪ .‬وقد وجدنا فيها صور من املقوالت ذات املتقابالت املنطق ّية‬
‫العقل ّية أو األنطولوج ّية‪ ،‬مثل‪(:‬اسطاسون – اسباطون) األول إشارة إىل املأل األعىل‪ ،‬وسدرة املنتهى‪،‬‬
‫والثاين إشارة إىل املأل األسفل وعوامله‪ ،‬أي العرش والفرش‪ ،‬ومثلها (رسنار – رسبار)‪( ،‬راقشون‬
‫دل املصطلح األول عىل معنى أنطولوجي‪ّ ،‬‬
‫دل الثاين‬ ‫– نارشون)‪( ،‬اسطاسمون – ناسمون)‪ ،‬فإذا ّ‬
‫باختالف أحد حروفه عىل نقيضه واملقابل له‪ ،‬وعادة ما يشري بها إىل النوران ّيات‪ ،‬والظلامن ّيات‪،‬‬
‫الكثائف واللطائف‪ ،‬العوامل امللك ّية‪ ،‬وامللكوت ّية‪ ،‬السامويّة‪ ،‬األرض ّية‪ ،‬يتّضح هذا جل ّياً من خالل‬
‫السياق العام للقصيدة وموضعها الذي تشري إليه‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬وهو مج ّرد احتامل‪ ،‬أن يكون الشيخ أحمد بن علوان قد ركب مصطلحات صوف ّية وفق‬
‫تركيبة عدديّة رياض ّية عىل غرار علامء الجفر والحساب الفليك والنجوم‪ ،‬كام فعل بن عريب‪ ،‬يف‬
‫تضمني عدد من مؤلّفاته لهذه العلوم ورموزها‪ ،‬مثل كتابه «الكربيت األحمر»‪ ،‬وهو الذي وجدنا له‬
‫نظريا ً عند الشيخ أحمد بن علوان كام مر معنا‪.‬‬
‫ين واللغة الرمزيّة واإلشاريّة لدى‬ ‫‪ 2-‬قصص األنبياء‪ :‬وهي صورة من صور املنهج العرفا ّ‬
‫الشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬حيث حملت أسامء األنبياء وقصصهم دالالت ميتافيزيق ّية‪ ،‬أنطولوج ّية‬
‫نبي يرمز إىل موضوع خاص مثل املقامات واألحوال والرتقّي يف مراتب‬ ‫فكل ّ‬
‫وأبستمولوج ّية‪ُّ ،‬‬
‫املعرفة‪ ،‬ومراتب الشهود والوجود املمثل بالوحدة والغيبة والرؤية واالتحاد والفناء والبقاء والتمكني‬
‫عىل غرار ما فعل ابن عريب يف فصوصه‪ ،‬مع اختالف يف طريقة الرتكيب‪ ،‬واالستخدام‪ ،‬مثال ذلك‬

‫[[[‪ -‬الجندي‪ ،‬السلوك‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،457‬والرشجي‪ ،‬الطبقات‪ ،‬ص‪ ،69‬واألهدل‪ ،‬تحفة الزمن‪ ،‬ص‪354‬‬

‫‪82‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫ما نجده شعرا ً يف بعض قصائده كقوله‪.[[[:‬‬


‫يف حب جـب منه فاختـار زمزم‬ ‫يا زعــفرانة إنه يوســـف حبــــكم‬
‫بقميص يوسف يستفيق من العنا‬ ‫وأقواله‪ :‬وإىل قلوب العاشقني فاقبيل‬
‫خذين فبي اســف عىل جالوت‬ ‫حجــــر ينــــادي ســـرها داوودها‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يا روح أمر تبينا له جســــــــام‬ ‫ياعرش بلقيس محموالً عىل األسمـاء‬
‫لتفلق البحر أو تجري عيون املاء‬ ‫كـــأن عيـــني عصا موىس إذا ترمى‬
‫أم املــسيح‪ ،‬ويف الــغناء داوود‬ ‫تلميذها يف الحـــسن يوسف والتقى‬
‫للخـوف من طوفــان أمـــة نوح‬ ‫نوح أقــــام رشعهـــا‪ ،‬ورشاعـــــها‬
‫إىل بــاب من التعظيـــــــــــم‬ ‫وصـــل خــلف إبراهيـــــــــــــم‬
‫[[[‬
‫ليأيت بالفداء جـــــــــــــربيل‬ ‫وقـــرب مثــــل اســـــــــــامعيل‬
‫وهذه النامذج من األبيات التي يستعري فيها أسامء األنبياء وقصصهم ومعجزاتهم‪ ،‬البعض‬
‫منها يشري إىل النفس اإلنسان ّية‪ ،‬والبعض اآلخر يتح ّدث عن الجامل اإللهي والجامل املحمدي‪،‬‬
‫رس الوجود املتعلّق به‪ .‬كام يشري يف بعض منها إىل الرشيعة‪،‬‬
‫والبعض منها يتعلّق بالحب اإللهي و ّ‬
‫والطريقة أو الحقيقة يف اعتقادنا‪ ،‬وأن األمر ال يستقيم إال بكليهام‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬التأويل‪ :‬يتّخذ التأويل عند الشيخ أحمد بن علوان صورتني‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬التأويل الرمزي لبعض اآليات القرآن ّية‪ ،‬وأوائل السور بوصفها مطالع شموس القرآن‪،‬‬
‫وعىل أساس فهمها ميكن فهم سور القرآن‪ .‬و قد رصف داللة الحرف عن ظاهره إىل باطنه ملعرفة‬
‫داللته الخفيّة من خالل تحليل الحروف للكشف عن أرسار مطالعها[[[‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬تأويل بعض اآليات القرآن ّية تأويالً باطناً‪ ،‬بعد تفسريها الظاهري‪ ،‬عىل أساس أن لآلية‬
‫دليل يقود إىل تأويلها‪ .‬ورغم تأويله اإلشاري يرفض الشيخ أن نبني عىل التأويل أحكاماً‪ ،‬أو أن يبطل‬
‫التأويل احكاماً إله ّية واضحة يف كتابه العزيز‪ ،‬فيقول[[[‪:‬‬

‫[[[‪ -‬القديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪ ،22‬وقد رفض رأي عبدالعزيز سلطان باشتقاقها من لغات أخرى بحجة أنها ال تنسجم مع السياق العام‪ .‬يقصد‬
‫املعاين التي أوردها يف الفتوح‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص‪،200 ،194 ،183 ،175 ،167 ،164 ،163 ،161 ،153 ،150 ،142 ،127 ،123 ،120 ،119 ،116 ،106‬‬
‫‪.546 ،204 ،202‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص‪.161 ،153 ،150 ،142 ،127 ،123 ،120 ،119 ،116 ،106‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬نظلة‪ ،‬الخصائص‪ ،‬ص‪.56‬‬

‫‪83‬‬
‫المحور‬

‫أحكم ربكم التأويل يبطله ماذا القوييض يزيل الحكم إذ وجبا‬


‫كام يرشح الشيخ ابن علوان أسامء الله الحسنى عىل غرار الغزايل الجيالين‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬فقد‬
‫رشحها من خالل بعض التسبيحات‪ ،‬ثم يعطي معاين ميتافيزيق ّية أنطولوج ّية – أبستمولوج ّية لكل‬
‫اسم كقوله‪« :‬سبحانك قيوم أنت‪ ،‬أقمت األشياء عىل األشياء‪ ،‬وأنت القائم باألشياء‪ ،‬العامل تحت‬
‫أرسك قائم عىل قاعدة من أمرك»[[[‪.‬‬
‫املعبة عن الشطح*‬
‫[[[‬
‫ّ‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل خلو مؤلّفات الشيخ أحمد بن علوان من األلفاظ‬
‫عند بعض الصوف ّية‪ ،‬أمثال البسطامي‪ ،‬والحالّج‪ ،‬وابن الفارض‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬مثل ألفاظ الحلول‬
‫واالتحاد‪ ،‬ووحدة الوجود والوحدة املطلقة‪ ،‬وعالقة الله باإلنسان‪ ،‬بل له بعض الشطحات التي‬
‫تصف حالة التمكني التي ميتع بها كقوله[[[‪:‬‬
‫من محاريب الشـرنبي‬ ‫أنا شمسون الشامسون‬
‫وبصدري وبكعبي‬ ‫فبلحظي وبلفظي‬
‫عسل صاف لشـريب‬ ‫لنب ماء سالف‬
‫ذاك حبي ذاك ريب‬ ‫ذا يقيني ذاك ديني‬
‫فأدارت كل قطبي‬ ‫يل رحى بالحب دارت املعاين تحت‬
‫تحت رفعي تحت نصبي‬ ‫خفيض‬
‫َّ‬
‫اإلنساني�ة عند بن علوان‬ ‫أبعاد ميت�افزييقا الصورة‬
‫يف‪ ،‬بأنه «الكون الجامع‪ ،‬أو اإلنسان‬
‫مل يقرص الشيخ بن علوان حديثه عن اإلنسان باملعنى الصو ّ‬
‫الكامل الذي ميثّل الربزخ بني الوجوب واإلمكان‪ ،‬أو الواسطة بني الحق‪ ،‬والخلق‪ ،‬أو بني الدليل‬
‫واملدلول بتعبريه‪ ،‬أو الذي به يصل فيض الحق إىل العامل‪ ،‬والذي لوال برزخيّته‪ ،‬مل يقبل العامل‬
‫شيئاً من املدد اإللهي‪ ،‬أو أنه تاج الخليقة‪ ،‬وآخر أسبابها‪ ،‬فكان آخرا ً يف ترتيب الخليقة وأوالً يف‬
‫مجرى الفكر الرباين[[[‪ ،‬أو اإلنسان الكامل (الحقيقة املحمديّة)‪ ،‬بوصفه أول األعيان‪ ،‬وأول الوجوه‬
‫عنده[[[‪ .‬بل تع ّداه إىل معرفة اإلنسان املشخص املحسوس من كل جوانبه‪ ،‬وأبعاد شخصيته‪ .‬أي‬
‫أنه بحث يف اإلنسان الكامل الجامع لجميع العوامل اإللهيّة‪ ،‬وأول املخلوقات‪ ،‬يف عامل األرواح‪،‬‬

‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪. 290‬و املهرجان والبحر املشكل‪ ،‬ملحق رقم (‪ ،)4‬ص‪.116‬‬
‫[[[‪« -‬الشطح نوع من اللغة الرمزيّة يتض ّمن معنى باطن‪ ،‬تسرته األلفاظ‪ ،‬والكلامت‪ ،‬ليرتجم باللسان‪ ،‬شدّ ة وجد البد من أن يظهر ويعبّ عن‬
‫معاناة النفس يف درجة الكشف العليا»‪ ،‬أنظر‪ :‬د‪ .‬نظلة‪ ،‬الخصائص‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.273‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬عبداملنعم الحفني‪ ،‬معجم مصطلحات الصوف ّية‪ ،‬ط‪ 1‬دار املسرية‪ ،‬بريوت ‪1980‬م‪ ،‬ص‪.27‬‬
‫[[[‪ -‬نيكلسون‪ ،‬الصوف ّية يف اإلسالم‪ ،‬ص‪ .82 ،81‬وابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪84‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫الحيس املح ّدد بشخص‬ ‫ّ‬ ‫والحقيقة املحمديّة مبفهوم فالسفة اإلرشاق وصوفيّة اإلسالم‪ ،‬واإلنسان‬
‫آدم‪ ،‬املخلوق من عجينته الطينيّة املخلوطة من العنارص األربعة‪ ،‬والطبائع األربع‪ ،‬والذي عند‬
‫استوائه نفخ فيه الروح التي هي رس الحياة‪ ،‬وروح األمر‪ ،‬فيقول‪« :‬سبحانك مصور أنت‪ :‬ملا أردت‬
‫أن تخلق برشا ً من طني‪ ،‬فتصور عىل ما أردت وتسوى‪ ،‬وهو رطب يتحوى ويتلوى‪ ،‬فجففته بنار‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الشمس وأنفاس الهواء‪ ،‬إىل أن تصلب عن الرطوبة‪ ،‬وتقوى‪ ،‬واجتمعت فيه أرسار ما يف األسفل‬
‫رصفت يف جسده‬ ‫الحسيّة‪ ،‬فت ّ‬
‫ّ‬ ‫واألعىل‪ ،‬فنفخت فيه الروح القدسيّة الجامعة للجواهر العقليّة أو‬
‫رصف األكسري‪ ،‬وهو عىل وجه األرض مطروح أسري‪ ،‬بالتبييض‪ ،‬والتسويد‪ ،‬والتحمري‪ ،‬والتصفري‪،‬‬ ‫كت ُّ‬
‫وأحلت ما فيه من الرطوبة بلغامً ودماً‪ ،‬وما فيه من اليبوسة عصباً رابطاً وأعظام‪ ،‬وما فيه من الطين َّية‬
‫خاً‪ ،‬ولحامً‪ ،‬وعروقاً نابضة‪ ،‬وحام «[[[‪.‬‬
‫الخاصة م ّ‬
‫ّ‬

‫املطلب األول ‪ :‬البعد امليت�افزييقي حلقيقة اإلنسان واصطفائه عند بن علوان‬


‫أعطى الشيخ أحمد بن علوان أوصافاً فيزيقيَّة وميتافيزيقيّة للحقيقة اإلنسانيّة‪ ،‬عندما جعلها‬
‫رسا ً من أرسار الله مودعة يف القلب‪ ،‬ورمبا قصد بال ّ‬
‫رس روح الحياة‪ ،‬أو روح األمر‪ .‬فمن‬ ‫يف أصلها ّ‬
‫حيث هي روح الحياة‪ ،‬فاإلنسان هو النفس التي هي جوهر بسيط‪ ،‬وأن هذا الجسد لها كاآللة‪،‬‬
‫وليس الصورة املرئ ّية كام ي ّدعي أهل املجاز[[[‪ .‬كأرسطو‪ ،‬الذي قرب فكرة الصورة من فكرة النفس‪،‬‬
‫وفكرة القوة[[[‪ .‬وبعض املعتزلة‪ ،‬كالعالف الذي ارتىض من حقيقة اإلنسان بصورته الجسديّة واآللة‬
‫املتح ّركة[[[‪ ،‬ومال إىل رأي بعض الفالسفة اإلرشاقيني كأفلوطني‪ ،‬وابن سينا الذي رأى باختصاص‬
‫اإلنسان بنفس إنسان ّية تس ّمى نفساً ناطقة[[[‪.‬‬
‫رس املس ّمى روح الحياة يتف ّرع يف الجسد مع الغذاء‪ ،‬والدم من القلب املتف ّرع إىل‬
‫هذا ال ّ‬
‫كل من الرأس‪،‬‬ ‫أجزاء الجسد‪ ،‬عىل صورة معان عقل ّية مج ّردة‪ ،‬أو محسوسات خارج ّية مدركة إىل ٍّ‬
‫والسمع‪ ،‬والبرص‪ ،‬والذوق‪ ،‬واللمس‪ ،‬والفرج‪ ،‬واللسان‪ ،‬والكف‪ ،‬والقدم‪ ،‬حيث تتشكّل وفقاً لآلالت‬

‫[[[‪ -‬التوحيد‪ ،‬ص ‪..145‬‬


‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ ،.112‬و ص‪.298 ،‬‬
‫مؤسسة سجل العرب‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪ .‬ص ‪،122‬‬ ‫[[[‪ -‬جان فال‪ ،‬طريق الفيلسوف‪ ،‬ترجمة‪ .‬د‪ .‬أحمد حمدي محمود‪ ،‬مراجعة د‪ .‬عفيفي‪ّ ،‬‬
‫وقارن‪ :‬د‪ .‬محمود قاسم‪ ،‬يف النفس والعقل لدى فلسفة اإلغريق واإلسالم‪ ،‬ط‪ 4‬مكتبة األنجلو املرصيّة‪1969 ،‬م‪ .‬ص‪.68‬‬
‫[[[‪ -‬ابن حزم‪ ،‬امللل واألهواء والنحل‪ ،‬املطبعة األدب ّية‪ ،‬مرص ‪132‬هـ ‪1902‬م‪ ،‬ج‪ /5‬ص‪ .15‬حيث مال ابن حزم هو اآلخر إىل رأي النظام‬
‫كل الوجوه من حيث هو جسد ونفس‪ ،‬أو من كليهام‪ ،‬ألنّ النظام عرفه بأنه روح‪ ،‬وأن الروح جسم لطيف‬ ‫ورأى أنّه يطلق عليه إنسان من ّ‬
‫لهذا الجسم الكثيف‪ .‬وللمقارنة أنظر‪ :‬عيل مصطفى الغرايب‪ ،‬تاريخ الفرق اإلسالم ّية ونشأة علم الكالم ط‪ ،‬مكتبة محمد صبيح وأوالده‪،‬‬
‫‪1965‬م‪ ،‬ص‪..201 ،200‬‬
‫ّ‬
‫[[[‪ -‬حيث رأي أفلوطني‪ ،‬أن النفس اإلنسان ّية هي اإلنسان‪ ،‬وأنّ صفة اإلنسان ال تتحقّق إال مبا هو حي مفكر‪ :‬أنظر‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن بدوي‪،‬‬
‫أفلوطني عند العرب‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪1977 ،‬م‪ .‬ص‪.142‬وقارن‪ :‬ابن سينا‪ ،‬عيون الحكمة‪ ،‬تحقيق د‪ .‬عبدالرحمن بدوي‪ ،‬دار‬
‫القلم‪ ،‬بريوت‪1989 ،‬م‪ .‬ص‪.40‬‬

‫‪85‬‬
‫المحور‬

‫أو األدوات القابلة لها‪ .‬فيقول‪« :‬اعلم أن حقيقة اإلنسان رس يف القلب يتفرع يف الجسد‪ ،‬ففي الرأس‬
‫وقاره‪ ،‬ويف السمع والبرص عقله‪ ،‬ويف الشم والذوق‪ ،‬واللمس‪ ،‬والفرج لذاته‪ ،‬ويف اللسان والكف‬
‫والقدم خلقه»‪ [[[.‬وهذا هو املنظور القرآين – الكالمي الفلسفي وفق جميع الوجوه التي ميكن من‬
‫خاللها تعريف اإلنسان وبيان حقيقته‪.‬‬
‫ين الخاص‪ ،‬فهو «الذي أنس بالرحمن وأنس به‬ ‫يف العلوا ّ‬
‫الفلسفي الصو ّ‬
‫ّ‬ ‫أما اإلنسان وفق املنظور‬
‫َْ َ َ َ َ َْ ْ ُ َْ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الرحمن‪ ،‬ونفر منه الشيطان‪ ،‬مكتوب عىل ظاهر قلبه بعلم ربه ‪‬إِن عِبادِي ليس لك علي ِهم سلطان‪،‬‬
‫َّ ْ َ ُ َ َّ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ‬
‫نسان عل َم ُه ال َب َيان‪ .[[[‬نحن هنا‬ ‫ومكتوب عىل باطن قلبه بنقش ربه‪ :‬الرحمن*علم القرآن خلق الإ ِ‬
‫يف هذا التعريف أمام إنسان من نوع خاص‪ ،‬إنه إنسان مثايل مبعنى ما ينبغي أن يكون عليه اإلنسان‪،‬‬
‫عىل نحو ما ذهب اليه (نيتشة‪ ،‬وماركس) يف الفلسفة املعارصة‪ .‬فاإلنسان يف رأي الشيخ أحمد بن‬
‫علوان ال يس ّمى إنساناً إالّ إذا تحقّقت فيه تلك الصفات‪ ،‬وصار صورة من صور الرحمن[[[‪ .‬ولعل خري‬
‫صل الله عليه وسلّم)‪ .‬اإلنسان‬ ‫من ميثل الحقيقة اإلنسان ّية املثال ّية‪ ،‬أو اإلنسان الكامل‪ ،‬هو (محمد ّ‬
‫الذي جمع بني الحقيقة اإلله ّية والطبيعة البرشيّة‪ ،‬وكان مثاالً للرحامن ّية‪ ،‬والرحيم ّية[[[‪.‬‬
‫إن هناك وجوهاً ظاهرة ووجوهاً باطنة لحقيقة اإلنسان عند الشيخ بن علوان‪ .‬فوجوه اإلنسان‬
‫الحس ّية و‬
‫ّ‬ ‫الظاهرة هي أنه كائن ناطق يجمع بني خاصية األنواع‪ ،‬واألجناس لطبيعته الجسم ّية‬
‫تجل من‬‫خصائص العوامل السفل ّية‪ .‬أما الوجوه الباطنة فهي أنه صورة الرحمن ومظهر الحق أو ٍّ‬
‫تجلّيات أسامء الحق وصفاته‪ ،‬فيقول‪« :‬إن حقيقة هذا اإلنسان جارية من حقيقة ذات الرب وصفاته‪،‬‬
‫مثل ذلك مثل ال َّنفس املستم ّدة من الهواء الجاري يف القوى الذي عليه يرتكّب الكالم‪ ،‬وتستطيع‬
‫ولعل هذا هو تفسريه للحديث «خلق الله آدم عىل صورته»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫به النفوس الحركة يف األجسام»[[[‪.‬‬
‫وفق منظوره لحقيقة اإلنسان‪ .‬حال الجنيد البغدادي‪ ،‬عندما رأى بأن اإلنسان هو الوحيد الذي خلقه‬
‫الله عىل صورته‪ ،‬ومن عرف الصورة‪ ،‬عرف صايف الصورة‪ .‬وحال ابن عريب الذي رأى أن صورة‬
‫اإلنسان هي الحرضة اإلله ّية‪ ،‬وأن اإلنسان الكامل من تحقّقت فيه األسامء اإلله ّية‪ ،‬وجمع ين‬
‫العوامل العلويّة والسفليّة[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.246‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الحجر‪ .24/15 :‬وسورة الرحمن‪4-1/55 :‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ .247‬وقارن‪ :‬الطيب بوعزة‪« ،‬اإلنسان بوصفه حيوانا!”‪ ،www.aljazeera.net ،‬اطّلع عليه بتاريخ ‪-2022‬‬
‫رصف‪.‬‬
‫‪ .21-9‬بت ّ‬
‫[[[‪ -‬لبيان صور هذه التعريفات عند بعض الفالسفة (سقراط‪ ،‬أفالطون‪ ،‬أرسطو وبعض فالسفة اإلسالم والعرص الحديث‪ ،‬أنظر‪ :‬يوسف‬
‫كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونان ّية‪ ،‬ط‪ ،‬لجنة التأليف والنرش‪ ،‬مرص‪1936 ،‬م‪ ،‬ص‪ 68‬و‪ ،240‬ود‪ .‬حسان األلويس‪ ،‬الفلسفة واإلنسان‪ ،‬دار الحكمة‪،‬‬
‫بغداد ‪1990‬م‪ ،‬ص‪.74-53‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪..283‬‬
‫[[[‪ -‬رواه الرتمذي‪ً ،‬‬
‫نقال عن األحاديث القدس ّية‪ ،‬املجلس األعىل للشؤون اإلسالم ّية‪ ،‬القاهرة‪1969 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .96 ،95‬والبخاري‪ ،‬عمدة‬
‫القاري‪ ،‬ج‪/22‬ص‪ ،229‬ومسلم يف صحيحه ج‪/17‬ص‪.178‬‬
‫[[[‪ُ -‬ينظر‪ :‬ابن عريب‪ ،‬يف الفصوص‪ ،‬تح‪ :‬د‪ .‬أبو العالء عفيفي‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الثقافة‪ ،‬بغداد‪1989 ،‬م‪ ،‬ص‪.199‬وأبوالعالء عفيفي‪ ،‬التصوف‬
‫الثورة‪ ،‬ص‪..153‬‬

‫‪86‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫إ ّن هذه الصفات اإلنسانيّة التي من صفات الله‪ ،‬مالزمة لإلنسان‪ ،‬وثابتة كثبوت ذات الله‬
‫وأي جحود لها إمنا هو جحود لله‪ .‬وهذا ال يدرك بنظر الشيخ إال ملن عرف الله وعرفه‬ ‫وصفاته‪ّ ،‬‬
‫الله فوصل إىل املعرفة الحقيق ّية فأدركها‪ « .‬وذلك إذا جالت العقول يف آفاق االستبصار بأجنحة‬
‫األفكار فحصلت عىل معارف ذواتها‪ ،‬وإدراك غرائب صفاتها‪ ،‬فإذا هي أقباس قبس تزهو من نوره‪،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ومصابيح زيت شجرة تخرج من طوره‪ ،‬متعلّقة الذوات بذاته‪ ،‬مرتبطة الصفات بصفاته‪ ،‬وجود‬
‫جواهر صورها هو وجوده‪ ،‬وجحودها لحقيقة كونها‪ ،‬هو جحوده‪ ،‬فكلام رامت أن تنفيه‪ ،‬وقع النفي‬
‫عليها‪ ،‬وكلام أرادت أن تجحده رسى الجحود إليها[[[‪ .‬وهو قول يذكرنا مبثيله لدى الحالج‪ ،‬واملعرب‬
‫عنه شعرا ً بقوله[[[‪:‬‬
‫الثاقب‬
‫ِ‬ ‫رسا ً سنـا الهــــــوته‬
‫ّ‬ ‫سبحان من أظهر ناسوته‬
‫والشارب‬
‫ِ‬ ‫فــي صــورة اآلكل‬ ‫ثم بدا يف خلقه ظــاهرا ً‬
‫بالحاجب‬
‫ِ‬ ‫الحاجب‬
‫ِ‬ ‫كلحظــة‬ ‫حتى لقد عاينه خلقــــه‬
‫يعتقد الحالّج أ ّن الحق سبحانه ملا أراد أن يُ َرى يف صورة ظاهرة أخرج من العدم صورة من ذاته‬
‫لها جميع صفاته وأسامئه‪ ،‬فكانت هذه الصورة اإللهية= (آدم‪ ،‬الذي تجىل الحق فيه وبه)[[[‪ .‬أي أن‬
‫اإلنسان يف أصله وصفوة عنرصه ربّاين «خلق آدم عىل صورته»‪ ،‬ثم أبرز من ذاته تلك الصورة من‬
‫حبه الخالد‪ ،‬يرى نفسه فيها كمن ينظر يف املرآة[[[‪ .‬ولكن ال يستطيع االتحاد بالطبيعة اإللهيّة عن‬
‫التجسد أو حلول روح القدس فيه كام يرى (ماسينيون)‪ ،‬وإمنا صورة الله التي أخرجها من‬ ‫ُّ‬ ‫طريق‬
‫نفسه يف األزل‪ ،‬وبها أعلن عن مكنون رسه وجامله‪.‬‬
‫بينام اإلنسان يف منظور الشيخ أحمد بن علوان يستطيع إدراك حقيقة نفسه من حقيقة ربه‪ ،‬عند‬
‫إإلرشاق املعرفة عىل العقل‪ ،‬فريى الصلة وهامً‪ ،‬حيث كادت تتوهم إمنا هي هو‪ ،‬أو هو هي‪ [[[،‬أو‬
‫والحالج‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اقباس قبس من نوره وليس توحد كام فهم عند الحالج [[[‪ .‬ووجه التشابه بني بن علوان‬
‫هو يف ما يتعلّق مبسألة انتقال النفي واإلثبات من النفس والحقيقة اإلنسانيّة إىل الحقيقيّة اإللهيّة‪.‬‬
‫حد بني الطبيعة الالّهوت ّية والطبيعة الناسوت ّية‬
‫أو أن نفي أحدهام يعني نفي اآلخر‪ ،‬وذلك بحكم التو ّ‬
‫بتعبري الحالّج[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ ،83‬وله أيضاً‪ ،‬األجوبة اللّئقة‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫ّ‬
‫الحالج‪ ،‬تحقيق د‪ .‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬مطبعة املعارف‪ ،‬بغداد‪1973 ،‬م‪ ،‬ص‪.21‬‬ ‫[[[‪ -‬ديوان‬
‫[[[‪ -‬نيكلسون‪ ،‬يف التص ّوف اإلسالمي‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫[[[‪ -‬نيكلسون‪ ،‬الصوف ّية يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫[[[‪ -‬عفيفي‪ ،‬التصوف الثورة‪ ،‬ص‪ ،233 ،232‬وقارن‪ :‬د ‪.‬نظلة‪ ،‬الخصائص‪ ،‬ص‪.267‬‬
‫[[[‪ -‬أيضاً‪ ،‬نظلة‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.266 ،265‬‬

‫‪87‬‬
‫المحور‬

‫يقول بن علوان يف هذا الصدد ‪:‬‬


‫فذا من ذا وذلك أصل هذا صفات من صفات من صفات‬
‫حياة الخلقِ من تلك الحيــــــا ِة‬ ‫لها أصل تعود إليه حي‬
‫دل عىل الفتــــا ِة‬ ‫ِ‬
‫املسك ّ‬ ‫كريح‬ ‫فلوال كو ُن ذا مكان هذا‬
‫[[[‬
‫وملحق نفســــــــه بني الزنا ِة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كجاحد والديه‬ ‫فجاحده‬
‫ولكن طبيعة العالقة هذه‪ ،‬قد تشبه إىل حد ما صورة امتزاج الخمرة باملاء كام هي عند الحالج‬
‫وليست وجهني لطبيعة واحدة كام هي عند ابن عريب ‪.،‬وباألصح أنها نسبة منه‪ ،‬أو أنها أنوار الداللة‬
‫عليه كنوع الثمرة الدالة عىل صفة الغرس وكمعنى الحركة الدالة عىل جوهر النفس‪ ،‬وكأنوار الفجر‬
‫الدالة عىل ذات الشمس ‪،‬بتعبري بن علوان[[[‪.‬‬
‫هكذا إذن‪ :‬يتجاوز الشيخ بن علوان‪ ،‬تلك التفسريات وازالة االلتباس فيها‪ ،‬حيث مثل تلك العالقة‬
‫بالنفس املستمد من الهواء‪ ،‬بوصفه مثالً ملمثول‪ ،‬واملثل معدود‪ ،‬ومحدود‪ ،‬تحويه الجهات وتدركه‬
‫العقول‪ ،‬بينام املتعلق به أو املمثول غري ذلك متاماً[[[‪ .‬ولعل الشيخ أحمد بن علوان ‪،‬اراد بيان رس‬
‫االستخالف بعد أن نظر إىل اإلنسان بهذه الصورة‪ ،‬ورأى اصطفاءه من بني سائر املخلوقات لخالفة‬
‫َ ًَ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ْ َ َ ّ‬
‫الله عىل هذه األرض[[[‪ ،‬كام قال تعاىل‪ِ :‬إَوذ قال َر ّبك ل ِل َملائِكةِ إِن ِي َجاعِل ف ِي الأ ْر ِض خل ِيفة‪،‬‬
‫ََ َ‬ ‫ك ل َِن ْفسِي‪ ‬وقوله تعاىل‪ْ َ :‬‬ ‫َ ْ َ َُْ َ‬
‫‪‬ول ُِتص َن َع على عيْن ِي‪ .[[[‬فقد نال هذا الرشف‬ ‫وقوله تعاىل‪ :‬واصطنعت‬
‫‪،‬لجمع خاصية تركيبه بني الالهوت‪ ،‬والناسوت‪ ،‬فهو مركز الوجود‪ ،‬وهو املتحكم فيه من دونه من‬
‫ُ َّ ُ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫‪‬و َعل َم آد َم الأ ْس َماء كل َها ث ّم‬ ‫املخلوقات‪ ،‬لذلك أسجد الله له مالئكته وعلمه ارسار مخلوقاته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َْ َ َ ُ‬
‫ـؤلاء إن ُك ُ‬
‫نت ْم َصادِق َ‬ ‫كةِ َف َق َال أَنب ُ‬
‫َ َ َ ُ ْ َ َ َْ َ َ‬
‫أصال لوجود‬ ‫ِين‪ .[[[‬فجسمه مثل ً‬ ‫ِ‬ ‫ون بِأسماء ه‬
‫ِ ِ‬‫ئ‬ ‫عرضهم على الملائ ِ‬
‫نفسه‪ ،‬والنفس مثلت أصالً لوجود عقله‪ ،‬والعقل مثل أصالً لوجود ربه[[[‪ .‬فكأن الصورة االنسانية‪ ،‬قد‬
‫رتبت يف هرم‪ ،‬رأسه الوجود اإللهي‪ ،‬وقاعدته تنتهي بوجود العوامل الحسية‪ ،‬وموقع النفس بني األجزاء‬
‫النورانية العليا‪ ،‬والظلامنية السفىل‪ ،‬لها جاذبتني مختلفتني ‪ :‬الجسم‪ ،‬يجذبها بالنسبة الحسية إىل أسفل‬
‫سافلني‪ ،‬والعقل يجذبها بالنسبة القدسية إىل أعىل عليني[[[‪..‬‬

‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.84‬‬


‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص‪ ،111‬ونظلة‪ ،‬الخصائص‪ ،‬ص‪ .266 ،‬والقديس‪ ،‬التص ّوف‪ ،‬ص‪206‬م‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪84‬‬
‫[[[‪ -‬التوحيد‪ ،‬ص‪.286-283‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪. 30/2 :‬وسورة طه ‪. 41 /20:‬وسورة البقرة‪ 31/2 :‬والتوحيد‪ ،‬ص‪.286-283‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ .31/2 :‬ونضلة املرجع السابق‪ ،‬ص‪.266 ،‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.287‬‬
‫[[[‪ -‬أيضاً ص‪ ،287‬وقارن‪ :‬له أيضاً‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص‪.417 ،416‬‬

‫‪88‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫هذه الصورة التي قدمها الشيخ أحمد بن علوان لبيان حقيقة رس االصطفاء اإللهي لإلنسان وفق‬
‫املنظور القرآين‪ ،‬قاربت الصورة التي قدمها قبله ابن عريب‪ ،‬عندما رأى بأن فطرة االنسان‪ ،‬من حيث‬
‫ما هو إنسان‪ ،‬هو العامل الكبري‪ ،‬وإنسان وخليفة «بفطرته ذات منسوبة إليها برتبة ال تعقل املرتبة‬
‫دونها‪ ،‬وال تعقل هي دون املرتبة‪ .‬ويف حالة ما هو ال إنسان‪ ،‬وال خليفة يصبح آمر بنفسه (كنت‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫سمعه الذي سمع به‪ ،‬وبرصه الذي يبرص‪...‬الحديث)»[[[‪ .‬وقريب من هذا التصور عند بعض فالسفة‬
‫اإلرشاق كأفلوطني‪ ،‬الذي جعل من اإلنسان الحيس‪ ،‬صنامً لإلنسان العقيل‪ ،‬املتصف بالروحانية‪،‬‬
‫إال أن هذا مصدره النفس‪ ،‬وقد حدث عنها صدور ذاتها‪ ،‬فحصلت فيها صفات اإلنسان األول‪.‬‬
‫وأشار الكندي إىل مثل ذلك‪ ،‬عندما قال‪ :‬أن ما سمي اإلنسان عاملاً صغريا ً‪ ،‬إال أنه فيه جميع القوى‬
‫التي موجودة يف الوجود الكل[[[‪.‬‬
‫أما عالقة الصورة اإلنسانية بالوحدة والكرثة عند الشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬وقيام كل منهام‬
‫باآلخر باإلنسان‪ .‬فمن جهة الوحدة‪ ،‬اإلنسان كله وجه‪ ،‬وكله عني‪ ،‬ومن جهة الكرثة‪ ،‬اإلنسان له أثنتا‬
‫عرشة عيناً‪ ،‬هي مبثابة األعضاء املختلفة يف تركيب جسمه‪ ،‬وكل جارحة فيه تسمى عيناً بوظيفتها‪.‬‬
‫فعني الكالم هي اللسان‪ ،‬وعني الطعم هي الذوق‪ ،‬وعني الشم هي األنف‪ ،‬وعني اإلدراك هي‬
‫البرص‪ ،‬وعني السمع هي األذن‪ ،‬وعني التمييز هي اللمس‪ ،‬وعني النعمة هي النفس‪ ،‬وعني املحبة‬
‫هي القلب‪ ،‬وعني املعرفة هي العقل‪ ،‬فكانت حقيقة اإلنسان (كوحدة)‪ :‬حجرة كرمية انبجست منها‬
‫َ َ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُُ ْ ْ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ُّ ُ َ‬
‫اس ّمش َر َب ُه ْم كلوا َواش َر ُبوا مِن ّرِ ْز ِق اللِ َولا ت ْعث ْوا ف ِي‬ ‫َ‬
‫(بالكرثة) اثنتا عرشة عيناً ‪‬قد عل َِم كل أن ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِين‪ .‬فاإلنسان الواحد متكرث يف أعضاءه وقواه‪ .‬واألعضاء عوامل متكرثة من أصل‬ ‫الأ ْر ِض ُمف ِ‬
‫سد َ‬
‫واحد[[[‪.‬‬
‫أما منظور بن علوان لإلنسان الواحد‪ ،‬األصل‪ ،‬والعوامل املتكرثة عنه‪ ،‬فقد مثل اإلنسان األول‪-:‬‬
‫رس الحقيقة اإللهية بنظره ‪ ،-‬وحدة واحدة‪ ،‬تكاثرت بتوالد العوامل اإلنسانية‪ ،‬فخرج من صلبه‬ ‫ّ‬
‫َ [[[‬
‫ُ َّ ٌ ّ َ ْ َ َّ َ َ َ ٌ ّ َ ْ‬
‫املؤمنون‪ ،‬وغري املؤمنني‪ ،‬فعرف كل أناس مرشبهم ‪.‬ثلة مِن الأول ِين وقل ِيل مِن الآخ ِِرين‪، ‬‬
‫وهذا املعنى العميق للصورة اإلنسانية نجده لدى الجنيد قبله‪ ،‬يف قوله‪« :‬حني اصطفى الله من‬
‫عباده الخلصاء من خلقه‪ ،‬يف كون األزل عنده‪ ،‬وعرفهم نفسه‪ ،‬ثم أخرجهم مبشيئته خلقاً‪ ،‬فأودعهم‬

‫[[[‪ -‬أورده الحافظ شمس الدين محمد الذهبي‪ ،‬يف ميزان االعتدال‪ :‬تحقيق عيل أحمد البجاوي‪ ،‬نرش عيىس الحلبي‪ ،‬مرص ب‪ .‬ت‪ ،‬ج‪/13‬‬
‫ص ‪.197‬‬
‫[[[‪ -‬ينظر‪ :‬أفلوطني‪ ،‬األتوبولوجيا املنسوبة ألرسطو (ضمن كتاب أفلوطني عند العرب) وقارن‪ :‬د‪ .‬بدوي‪ ،‬اإلنسان ّية والوجوديّة يف الفكر‬
‫العريب‪ ،‬ط‪ 2‬دار القلم‪ ،‬بريوت ‪1982‬م‪ .‬ص ‪ ،34 ،33‬وجورج طرابييش‪ ،‬معجم الفالسفة‪ ،‬ص ‪ .71 ،70‬وللمقارنة‪ ،‬يُنظر‪ :‬الكندي‪ ،‬الرسائل‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد عبدالهادي أبو ريده‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬مرص ‪1950‬م‪ ،‬ص‪..61 ،260‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة ‪ ،60/20‬وابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص‪.323 ،322‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الواقعة‪.14/56 :‬‬

‫‪89‬‬
‫المحور‬

‫سه ْم َأل َ ْستُ‬ ‫ْ ُ ّ َّ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ َ ُّ َ‬


‫صلب آدم فقال‪ِ :‬إَوذ أخذ ربك مِن بن ِي آدم مِن ظهورِهِم ذرِيتهم وأشهدهم على أنف ِ ِ‬
‫ُ َ ُ ْ َ َ َْ‬
‫ب ِ َر ّبِك ْم قالوا بَلى ش ِهدنا‪.[[[»..‬‬
‫وأما عن كيفية خلق الله اإلنسان عىل هذه الصورة‪ ،‬عند بن علوان ‪،‬فإن الخلق قد كان بيدين‬
‫من أيادي القدرة اإللهية‪ .‬وكانت مادة الخلق من جوهرين مختلفني‪ ،‬ظاهر‪ :‬يقبل اإلحساس حساً‪،‬‬
‫وباطن ‪ :‬يقبل البواطن علامً‪ .‬األوىل‪ :‬تتمثل بالشهوات الحسية‪ ،‬التي تجذب الصورة اإلنسانية إىل‬
‫الرتاب‪ ،‬والثانية ‪ :‬تتمثل بالعلوم القدسية التي تجذبها إىل االنتساب‪ ،‬واالرتقاء إىل مجاورة رب‬
‫َ َ َّ [[[‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ َََ َ َ َْ ُ َ َ َ َْ‬
‫األرباب‪ .‬مصداقاً لقوله تعاىل‪ :‬قال يا إِبل ِيس ما منعك أن تسجد ل ِما خلقت بِيدي‪ ، ‬يعني‬
‫بأحد اليدين‪ :‬األوىل‪ :‬يد القدرة التي خلق بها عقله‪ ،‬املتصل بنفسه علامً‪ ،‬والثانية‪ :‬الفطرة التي‬
‫خلق بها جسمه املتصل بنفسه حساً‪ ..‬ألن املالئكة‪ ‬و (الشياطني‪ ،‬والجن) باطن بال ظاهر‪،‬‬
‫والحيوانات البيهيمية واألجسام واألجساد واألعراض‪ ،‬ظاهر بال باطن‪ .‬واإلنسان ظاهر وباطن‪،‬‬
‫فاستحق السجود من العوامل الباطنة لرشف ظاهره‪ ،‬واستحق السجود من العوامل الظاهرة لرشف‬
‫باطنه[[[‪ .‬والفرق عند بن علوان بني ما اوجد الله بالقدرة‪ ،‬وما أوجده بالفطرة هو «أن كل ما جاء‬
‫كثيفاً مركباً داخالً يف الزمان واملكان‪ ،‬ينسب إىل الفطرة‪ ،‬وكل ما جاء عنه لطيفاً خارجاً عن الزمان‪،‬‬
‫ان مِن ُسلَالَة ّ‬‫َََ ْ َ ََْ ْ َ َ‬
‫ِين‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ط‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ٍ‬ ‫واملكان‪ ،‬ينسب إىل القدرة‪ .‬فام ينسب إىل الفطرة ‪:‬ولقد خلقنا الإِنس‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ َّ َ َ ٌ َ َ‬
‫وما ينسب إىل القدرة‪:‬وما أمرنا إِلا واحِدة كلم ٍح بِالبصرِ‪ .‬وتوصف الصورة اإلنسانية بالعرض‪،‬‬
‫حني يشار إىل صفتها الجسامنية‪ ،‬وتوصف بالجوهر‪ ،‬حني يشار إىل صفتها الربانية [[[‪ .‬وهذا ما‬
‫ذهب اليه الغزايل‪ ..‬وابن عريب‪ ،‬الذي جعل علة خلق اإلنسان بيدين‪ ،‬عالمة عىل العناية باإلنسان‪،‬‬
‫وفرس سبب امتناع إبليس عن السجود آلدم بالتناقض بني طبيعة خلق آدم‪ ،‬وخلق إبليس‪ .‬فكان‬
‫اإلنسان أفضل من خلق الله[[[‪ ،‬لجمعه بني العنارص العلوية والسفلية‪ ،‬وموقع النفس من الصورة‬
‫اإلنسانية‪ .‬وقد نحى ابن عريب بهذا التفسري‪ ،‬منحى ميتافيزيقيا – انطولوجيا‪ ،‬بإرجاعه سبب رفض‬
‫ابليس للسجود آلدم‪ ،‬لعدم مناسبة عنرص تكوين آدم لعنرص تكزين إبليس‪ ،‬ومل يفرس لنا سبب‬
‫سجود املالئكة ألدم‪ ،‬مع اختالف عنرصهم عن آدم أيضاً‪.‬‬
‫واتخذ تفسري النفري‪ ،‬الطابع امليتافيزيقي االيستمولوجي‪ ،‬وسيطرت عىل ذهنه اآلية القرآنية‬
‫َ ْ ْ َ ْ‬
‫‪‬واص َط َنع ُتك ل َِنفسِي‪ .[[[‬عندما علل سبب تفرد اإلنسان واصطفائه‪ ،‬باستخالص الله له لنفسه‬

‫[[[‪ -‬سورة األعراف‪ .172/7 :‬ورسائل الجنيد‪ ،‬تح‪ :‬عيل حسن عبدالقادر‪ ،‬لندن‪1962 ،‬م‪ ،‬ص‪.41،40‬‬
‫[[[‪ -‬سورة ص‪ .75/38 :‬وابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪287‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪( .288‬والصحيح الجن وشياطينهم)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬سورة املؤمنني‪ .12/23 :‬وسورة القمر ‪ .50/54 :‬وابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.288‬‬
‫[[[‪ُ -‬ينظر‪ :‬الغزايل‪ ،‬مخترص اإلحياء‪ ،‬مكتبة أسعد‪ ،‬بغداد‪1990 ،‬م‪ ،‬ص ‪.146‬وقارن‪ :‬ابن عريب‪ ،‬الفصوص‪ ،‬ص‪145،144‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪.41/20 :‬‬

‫‪90‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫من بني سائر املخلوقات فيقول ‪« :‬إين اصطفيتك عن البدايات‪ ،‬فأجريتك عنها إىل النهايات‪ ،‬ثم‬
‫اصطفيتك عن النهايات‪ ،‬فرحلتك عنها إيل»[[[ أي أن االصطفاء ال يتحقق جوهره إال بالوحدة‪،‬‬
‫والشهود‪ ،‬أو الوقفة الكاملة مع الله‪ .‬وهو تفسري اخوان الصفاء مع ما فيه من مالمح أفلوطينية‪،‬‬
‫عندما جعلوا التشبه بأفعال الحيوانات‪ ،‬والقيام ببعض الصنائع البرشية‪ ،‬راجع للخاصية الجسامنية‪،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫والتعقل‪ ،‬وتشبه االنسان بالله‪ ،‬راجع لصفته القدسية[[[‪.‬‬


‫أما صورة اإلنسان الكامل (الحقيقة املحمدية) ‪ -‬بوصفها رس أرسار االصطفاء اإللهي لإلنسان‪،‬‬
‫روحاً‪ ،‬وجسامً‪ ،‬عند ابن علوان ‪ ،-‬فجاءت حقيقته صىل الله عليه وسلم «روحاً محضة» وحقيقة‬
‫الصورة الظاهرة سوح‪ .‬لذا كانت روحه أكمل األرواح‪ ،‬وجسده أطهر األشباح‪ ،‬فقال «واعلم أن‬
‫حقيقة الرسول صىل الله عليه وسلم‪ ،‬روح‪ ،‬وأن حقيقة الصورة الظاهرة سوح‪ ،‬وأن الله عز وجل نفخ‬
‫أكرم األرواح النبوية‪ ،‬يف أطهر األشباح‪ ،‬فانقىض يف ظاهر سوحه‪ ،‬ما أفاض الله عليه من مقدس‬
‫روحه‪ ،‬ما البد منه لكل مسلم‪ ،‬ومسلمة‪ ،‬ومؤمن‪ ،‬ومؤمنة من ظاهر القرآن‪ ،‬ووجود الرشائع واألديان‬
‫يف ثالثة وعرشين سنة»[[[‪ .‬وأما الحقيقة املحمدية التي من أجلها كان خلق اإلنسان واصطفاؤه‪،‬‬
‫فاملراد بها‪( :‬كنت نبياً‪ ،‬وآدم بني املاء والطني) أو (إين عبدالله‪ ،‬وخاتم النبيني‪ ،‬وإن آدم ملجندل‬
‫يف طينته)[[[‪ ،‬وهي الحقيقة األوىف للصورة اإلنسانية‪ ،‬وهي الواسطة ين الدليل عىل الحقيقة‪ ،‬وهو‬
‫الرب‪ ،‬واملدلول عليها الذي هو العبد‪ .‬وهي عند الحالج ‪،‬كذلك ‪،‬عدا أنه أدمج الدليل باملدلول‪.‬‬
‫ووافق الشيخ بن علوان محي الدين بن عريب‪ ،‬بنموذج اإلنسان الكامل‪ ،‬حيث كانت حكمته فردية‪،‬‬
‫فهو أكمل موجود يف هذا النوع اإلنساين‪ ،‬وبه‬
‫بدأ األمر‪ ،‬وختم‪ .‬وهي ما قصد بها (الجييل)‪ ،‬من‬
‫مقابلة هذا الكامل لجميع الحقائق الوجودية‪،‬‬
‫العلوية بلطافته‪ ،‬واملوجودات السفلية بكثافته[[[‪.‬‬

‫املطلب الثاين‪ :‬البعد امليت�افزييقي يف‬


‫خلق اإلنسان وتكوين�ه عند بن علوان‬
‫من املفاهيم امليتافيزيق ّية األنطولوج ّية التي‬

‫[[[‪ -‬عبدالجبار النفري‪ ،‬املواقف واملخاطبات‪ ،‬ت‪:‬آرثر يوحنا أربري‪ ،‬ط‪ 1‬دار الكتب املرصيّة القاهرة‪1934 ،‬م‪ ،‬ص‪.147‬‬
‫[[[‪ -‬أخوان الصفاء‪ ،‬الرسائل‪ ،‬تح‪ :‬بطرس البستان‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت للطباعة‪ ،‬بريوت‪1957 .‬م‪ ،‬ج‪/1‬ص‪..297‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص ‪.274,273‬‬
‫[[[‪ -‬أورد الحديث ابن سعد‪ ،‬يف كتاب النهاية‪ ،‬ج‪/1‬ص‪ ،149‬والسيوطي يف الجامع الصغري‪ ،‬دار الفكر بريوت‪1981 .‬م‪ .‬ج‪/2‬ص‪ 296‬بنص‬
‫«كنت نب ّياً وآدم بني الروح والجسد»‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ .273‬والحالج‪ ،‬الطواسني‪ ،‬منشورات دار األمد‪ ،‬بغداد‪1991 ،‬م‪ ،‬ص‪ .27‬وقارن‪ :‬ابن عريب‪ ،‬الفصوص‪ ،‬ص‬
‫‪ .214‬والجييل‪ ،‬اإلنسان الكامل‪ ،‬ط‪ ،2‬مرص‪1911 ،‬م‪ ،‬ص‪.47‬‬

‫‪91‬‬
‫المحور‬

‫عالجها الشيخ أحمد بن علوان بصدد موضوع خلق اإلنسان وتكوينه مق ّدمة بصيغة أسئلة هي‪ :‬ما‬
‫أصل اإلنسان؟ وكيف خلقه الله عىل هذه الصورة؟ وما الذي جمع يف خلق اإلنسان من خصائص‬
‫وأرسار؟ وما أطوار تكوينه؟ ما العنارص الداخلة يف تركيبه؟ وما األرسار املودعة فيه؟‪ ..‬وغريها مام‬
‫سيظهر تباعاً هنا ‪.‬‬
‫بداية‪ ،‬يرى ابن علوان أ ّن الصورة اآلدم ّية التي ركّبها الله يف آدم‪ ،‬قد جاءت من عامل الشهود‪،‬‬
‫عىل ذلك املثال أو الصور األصل ّية يف الجواهر املحضة‪ .‬فيقول «سبحانك مصور أنت‪ :‬ركبت‬
‫املركب‪ ،‬وبسطت البسيط‪ ،‬ونصبت األعيان املختلفة‪ ،‬وأدرت املحيط‪ ،‬ثم نظرت إىل املاء‬
‫الرجراج‪ ،‬بعني القدرة‪ ،‬ومعنى االستخراج‪ ،‬يف ظلم ثالث ضيقة الفجاج*‪ ،‬فتحركت فيه قوة القبول‬
‫والقبض‪ ،‬ملا يتصل به من األغذية التي ميجها النبض فترشع بتقديرك مقادير الطول والعرض‪ ،‬عىل‬
‫التامثيل األصلية يف الجواهر املحض»[[[‪.‬‬
‫ويتّضح من النص أ ّن لإلنسان وجودين‪ :‬األول يف عامل الصور والجواهر املحضة‪ ،‬وهذا‬
‫تعي وتح ّدد وتأطّر بالوجود الثاين يف عامل املحسوسات‪ ،‬عندما‬ ‫الوجود كان ال متع ّيناً‪ ،‬وقد ّ‬
‫اتخذ اإلنسان بجسده حيز املكان‪ ،‬وتح ّددت مقاديره املختلفة الكم ّية والكيف ّية فطبعت الصور‬
‫الحسيّة أو األعيان الثابتة عىل منط الصور العقليّة الجوهرانيّة املحضة‪ ،‬واملوجودة وجودا ً أزليّاً‬
‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خارج حدود الزمان واملكان أو يف عامل األرواح‪ .‬قال تعاىل‪ :‬ألست ب ِ َربِكم قالوا بلى‪ ،[[[‬حني‬
‫خاطب األرواح وهي يف عامل الذر‪ ،‬وأق ّرت بوحدان ّيته هناك‪ .‬وهذا تص ُّور يشابه نظريّة أفالطون يف‬
‫املثل‪ ،‬وقوله‪ :‬بوجود عاملني‪ :‬األول العامل العقالين أو عامل الصور بتعبري أرسطو‪ ،‬والثاين عامل‬
‫املحسوسات‪ ،‬وأ ّن هذا األخري قد جاء عىل املثال األول‪ ،‬وأ ّن اإلنسان قد ُركِّب جسده وفقاً للهيئة‬
‫التي كانت نفسه قد اتخذتها يف عامل املثل[[[‪ .‬كام أ ّن عملية الخلق األول (خلق األرواح) متّ ت‬
‫يف عامل القدرة أو عامل األمر‪ ،‬خارج إطار الزمان واملكان‪ ،‬بينام عمل ّية الخلق الثانية متّت يف عامل‬
‫الفطرة ويف إطار الزمان واملكان‪ .‬وأ ّن الصورة اآلدم ّية مل تكن من فعل الكواكب السبعة وتدبريها‪،‬‬
‫وإمنا برأها الله مبارشة من أمره‪ ،‬إذ من املتعذّر بنظر الشيخ أحمد بن علوان أن تأيت الصور العقليّة‬
‫عن الجامد من غري واسطة‪ ،‬وإمنا هي آلة كآلة النجار‪ ،‬والحداد‪ ،‬متعلقة بأمر الله متحركة مبا أراد‪.‬‬
‫فبالجسد صح الوجود‪ ،‬وبالروح صحت الحياة‪ ،‬وبالتعلم صح العلم[[[‪ .‬وإذن‪ ،‬فابن علوان يرى ‪-‬‬

‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ .90‬الظُّلامت الثالث يقصد بها مناطق يف الرحم متر من خاللها النطفة حتى تستقر وتس ّمى علم ّياً باسم‬
‫املفسون فقد رأوا بالظّلامت الثالث‪( :‬صلب الرجل‪ ،‬مبيض‬ ‫ّ‬ ‫«املنياري‪ ،‬والخرويون‪ ،‬واللفائفي» وهي األغشية التي تحيط بالجنني‪ .‬أ ّما‬
‫الرحم‪ ،‬وظلمة املشيمة)‪ ،‬ولكن ابن علوان ‪،‬عندما قال ضيقة الفجاج كان قد رآها مناطق وأغلفة‪ ،‬توجد داخل الرحم حيث يستقر الجنني‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة األعراف‪.172/7 :‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬بدوي‪ ،‬أفالطون‪ ،‬ص‪ 152‬وما بعدها‪ ،‬وقارن‪ :‬كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص ‪..103‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪ ،.289‬و ص‪.312‬‬

‫‪92‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫كأفالطون‪ ،‬أو أرسطو‪ ،-‬أ ّن الصورة هي األصل‪ ،‬وأنّها جوهر محض‪ ،‬وأنها تنطبع بالجسد انطباعاً[[[‪.‬‬
‫املسمة بالروح‪ -‬كام‬
‫ّ‬ ‫أما طبيعة تركيب الصورة الجسامن ّية عنده فقد أع ّدت وفقاً لتلك الصورة‬
‫يرى اإلمام مالك‪ ،‬ولكن هذه الروح قرآن ّياً‪ ،‬نفخت بالجسد نفخاً بعدما استكمل عمل ّية تكوينه‪،‬‬
‫وعلوان ّياً‪ ،‬عندما «اجتمعت فيه أرسار ما يف األسفل‪ ،‬واألعىل‪ ،‬نفخت فيه الروح القدس ّية‪ ،‬الجامعة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫رصفت يف جسده كاإلكسري‪ ،‬وهو عىل وجه األرض مطروح أسري‪،‬‬ ‫والحس ّية‪ ،‬فت ّ‬
‫ّ‬ ‫للجواهر العقل ّية‪،‬‬
‫حواسه عىل فلكك العظيم‪ ،‬فناجته القوة العقل ّية بلسان التفهم‪( ،‬قل سبحان رب‬ ‫ّ‬ ‫فأرشق يف أفالك‬
‫السموات السبع‪ ،‬ورب العرش العظيم)[[[‪.‬‬
‫وأما طبيعة الروح اإلنسانيّة‪( :‬روح الحياة‪ ،‬وروح األمر) معاً‪ ،‬فإن اإلنسان مل يسمع النداء إالّ‬
‫عندما تكون قوة عقليّة‪ ،‬وذلك ألن الفطرة اإلنسانيّة حاوية لكافة األرسار والعلوم‪ ،‬وأنه لو كشف‬
‫لإلنسان الحجاب لرأى كل األشياء موجودة فيه‪ ،‬أو يف ذاته‪ ،‬ال يخرج منها يشء[[[‪ .‬وهنا يتفق ابن‬
‫علوان مع ابن عريب عىل أن الله جمع لهذه النشأة اإلنسانيّة كل حقائق العامل‪ ،‬فحازت الصورة‬
‫اإللهيّة‪ ،‬والصورة الكونيّة‪ ،‬عىل حد سواء [[[‪.‬‬
‫أما مسألة ظهور أفراد بني اإلنسان من اإلنسان‪ ،‬أي خروج األحياء من األموات‪ ،‬واألموات من‬
‫األحياء‪ ،‬فإ ّن ذلك قد بدأ من لحظة خروج حواء من ضلع آدم األيرس‪ ،‬لتمثّل الجنس املقابل له‪،‬‬
‫القابل للبذر والزرع‪ ،‬لتوفر نفس الطبائع والخصائص‪ ،‬ووفق هذا التجانس حدث التجاذب بني‬
‫الطبعني الذكر واألنثى‪ ،‬وتوافق الجنسان =(آدم‪ ،‬وحواء) بالشهوات واألهواء‪ ،‬فاعتنق الجسامن‬
‫بطبع مقتهر‪ ،‬وجرى املاء بأمر قدر ‪ -‬بتعبري بن علوان‪.[[[ -‬‬
‫الحب ليس بوصفه سبباً يف خلق آدم‪ ،‬وخلق حواء منه‪ ،‬أو سبباً يف‬
‫ِّ‬ ‫وقد أشار الحالَّج إىل‬
‫التجاذب بني الطبيعتني واالتصال بينهام وحسب ‪ ،-‬بل تع ّدى السبب أيضاً إىل االلتقاء بني ما‬
‫هو روحي وما هو مادي (أي بني النفس والجسد)[[[‪ ،‬وهي إشارة‪ ( :‬أفلوطني‪ ،‬وأخوان الصفاء‪،‬‬
‫رس ارتباط الروح بالجسد‪،‬‬‫والغزايل‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬وابن خلدون الحقاً)‪ ،-‬التي تؤكّد أن الحب هو ّ‬
‫وال كامل لإلنسان إال بها[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬اتفق الشيخ أحمد بن علوان مع أفالطون وأرسطو‪ :‬حول ماه ّية الصورة جوهريّتها وصلتها باملادّة وقولهام بأزل ّية الصورة‪ ،‬وقول ابن‬
‫علوان بخلقها خلقاً أزل ّياً‪ .‬أنظر‪ :‬بدوي‪ ،‬أفالطون‪ ،‬ص‪ 153،152‬وله أيضاً‪ :‬أرسطو‪ ،‬وكالة املطبوعات الكويت‪1984 .‬م‪ ،‬ص ‪.129،128‬‬
‫وابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص ‪.289‬‬
‫[[[‪ -‬سورة املؤمنون‪ ،86/23 :‬وابن علوان‪ ،‬التوحيد ص ‪.113‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬األجوبة اللّئقة‪ ،‬ص‪.7،6‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات‪ ،‬املك ّية‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت ب‪ ،‬ت ج‪/2‬ص‪ )135 .468‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.113‬‬
‫[[[‪ -‬الحسني بن منصور ‪،‬الحلّج‪ ،‬الديوان‪ ،‬ص‪ ،26‬ونظلة‪ :‬الخصائص‪ ،‬ص‪.266‬‬
‫[[[‪ -‬نظر‪ :‬أفلوطني‪ ،‬التساع ّية‪ ،‬ص‪ ،62-49‬وأخوان الصفاء‪ ،‬الرسائل ج‪ ،297/1‬ويوحنا الفاخوري‪ ،‬مقدّ مة‪ :‬رسائل أخوان الصفاء‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪1947‬م‪ ،‬ص‪ ،22‬وابن عريب‪ ،‬الفصوص‪ ،‬ص‪ ،35‬وص‪ ،45‬وص‪ ،167‬وقارن له أيضاً‪ ،‬الفتوحات املك ّية‪ ،‬ج‪/2‬ص‪ ،307‬وابن خلدون‪ ،‬شفاء‬
‫السائل‪ ،‬ص‪.80‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.289‬‬

‫‪93‬‬
‫المحور‬

‫مم سبق جملة أمور‪ ،‬هي‪:‬‬


‫نستخلص ّ‬
‫‪ -‬أ ّن الصورة الروحانيّة األوىل لإلنسان‪ ،‬هي من صورة الله‪ ،‬ومن أمره‪ ،‬فاتصفت الصورة اآلدميّة‬
‫بالكامل واستحقّت االستخالف‪ ،‬وأن برء الله لهذه الصورة كان يف الزمن األزيل‪ ،‬بينام الصورة‬
‫الحسية أو الجسدانيّة‪ ،‬قد خلقت بزمن مح ّدد‪ ،‬يبدأ من عند خلق هيكل اإلنسان وجسده من الرتاب‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحس املعدود لتناسل أفراد اإلنسان من‬
‫ّ‬ ‫ونفخ تلك الصورة الروحانية فيه»‪ ،‬ومن ثم يبدأ الزمن‬
‫اإلنسان األول‪ ،‬أي أن «كل ما يدخل تحت الزمان واملكان فينسب إىل الفطرة‪ ،‬وكل ما هو خارج‬
‫الزمان واملكان ينسب إىل القدرة»[[[‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّن عمل ّية الخلق األوىل قد مثّلت بنظر ابن علوان البعثة األوىل يف املدة األزل ّية الطوىل‪،‬‬
‫حيث بقيت األرواح يف زجاجة املصباح الفائضة عىل مشكاة األشباح‪ ،‬وأن عمليّة اتصال األرواح‬
‫بأشباحها كان اقرتاناً‪ ،‬وهذا االقرتان قد بدأ يف زمن ظهور هذه الروح يف صورة آدم أيب البرش‪ ،‬وأن‬
‫هذه الحالة أقرب الشبه بحالة البعث الثانية يف زمن ما‪ .‬إ ّن عمليّة الخلق األوىل كانت مبثابة إحياء‬
‫أموات بالقدرة التي مل تزل‪ ..‬وأ ّما عمل ّية الخلق الثانية فكانت عملية تناسل أفراد النوع اإلنساين‪،‬‬
‫فلن تكون عمليّة اقرتان كاألوىل‪ ،‬وإمنا تبدأ من عمليّة التقاء املاءين عىل أمر قد قدر‪ ،‬وصوالً إىل‬
‫مرحلة االستعداد ألن تكون ذكرا ً أو أنثى[[[‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّن التفسري الذي ق َّدمه الشيخ أحمد بن علوان لعمل َّية الخلق الثانية‪ ،‬كان تفسريا ً علم ّياً بيولوج ّياً‬
‫أيده باآليات القرآنيّة‪ ،‬واألحاديث النبويّة‪ ،‬وتفسريا ً فلسفيّاً نفسيّاً‪ ،‬صوفيّاً خالصاً‪ .‬عندما رأى «بأن الله‬
‫لكل صورة غذاء يليق بها‪ ،‬وتنمو‬
‫ركّب آدم عىل صورتني مختلفتني‪ :‬روحان ّية وجسدان ّية‪ ،‬وجعل ّ‬
‫به‪ ،‬ولكل غذاء نتيجة‪ ،‬ولكل نتيجة مق ّر‪ .‬فأ ّما الصورة الجسدانيّة فمق ُّر غذائها الرحم لكونه سبباً يف‬
‫إنشاء صورة مامثلة لها‪ .‬وأ ّما الصورة الروحان ّية فمق ُّر غذائها النفس الزك ّية ليكون سبباً مؤ ّدياً إىل‬
‫إنشاء صورة مامثلة لها»‪ .‬مضيفاً إليها روح العلم التي كانت آلدم‪ ،‬واملحل القابل للعلم هو العقل‬
‫ُ َّ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫‪‬و َعل َم آد َم الأ ْس َماء كل َها‪.[[[‬‬ ‫الذي فهم به ما علمه الله‬
‫وإذا كانت الصورة الجسدان ّية‪ -،‬بنظر بن علوان‪ ،-‬قد ركبت من العنارص األربعة‪ ،‬والطبائع‬
‫األربعة‪ ،‬واألخالط األربعة‪ ،‬فإنه قد أضاف إىل ذلك طبعاً خامساً‪ ،‬سامه الهوى‪ ،‬وقصد به‬
‫رس املزج والرتكيب‪ ،‬وأن صورة اإلنسان جمعت هذه الخصائص عىل‬
‫املحبة اإلله ّية‪،‬التي هي ُّ‬

‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ ،116‬و ص ‪.109‬‬


‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ :‬ص‪ 130‬و‪ .131‬وللمقارنة‪ ،‬يُنظر‪ :‬د‪ .‬محمد عيل أبو ريان‪ ،‬تاريخ الفكر الفلسفي يف اإلسالم‪ ،‬دار املعرفة‬
‫الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪1989 ،‬م‪ ،‬ص‪.367‬‬
‫[[[– سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬

‫‪94‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫حد تعبري أخوان الصفاء‪ ،‬وابن عريب‪[[[،‬حيث يقول ابن علوان‪:‬‬

‫وجعلت فرط هواك طبعاً خامسا‬ ‫يل أربع ركّبتــــــــــــهن طبائعاً‬

‫ونصبته ّن‪ ،‬وخفضته َّن نواكســا‬ ‫وجمعت من أرسار خلقك صوريت‬


‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫فإىل الرثى باملاء يك يتجانســا‬ ‫أهبطت أنوار النجوم إىل الهواء‬

‫ثم يعرض لنا طبيعة الرتكيب‪ ،‬واملراحل واألطوار التي مير بها اإلنسان‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫بني الرجا ِل مبا تق َّدر وال ِّنســــا‬ ‫وسللت منه سالل ًة أجريت ُـــــــها‬
‫ُ‬

‫متامشجاً متالحامً متالبســـــا‬ ‫من صلب ذاك‪ ،‬ومن ترائب هـذه‬

‫مأوى يق ّر به وحبساً حابســـــا‬ ‫وجعلت أرحام النســـــاء وعاءه‬


‫ُ‬

‫رسا ً إليه بهــا وكنت مؤانســــا‬


‫ّ‬ ‫ونظرتُ نظر َة راحـــمٍ مرتحـ ِّـــمٍ‬

‫وبدت عظاماً‪ ،‬واكتست مبالبسا‬ ‫فتقلّبت علقاً لذاك ومـضغــــــة‬

‫أجزاؤه أخـــــــــرجته متناكسا‬ ‫حتى إذا كملت لتسعة أشهـــــر‬

‫فمألتُ منه مسامعاً ومنافســــا[[[‪.‬‬ ‫ونفـخت فيه الروح عند خـروجه‬


‫ُ‬

‫األنطولوجي‪ ،‬األبستمولوجي الصويف‪ ،‬يبحث يف الجوانب‬


‫ّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ّ‬ ‫ومنهج بن علوان‬
‫الروح ّية‪ ،‬والفكريّة‪ ،‬واإلميان ّية‪ ،‬لإلنسان‪ ،‬فابن آدم رفعه الله من طبقات الرتاب‪ ،‬إىل طبقات النبات‪،‬‬
‫إىل طبقات الثامر‪ ،‬إىل طبقات األغذية‪ ،‬إىل طبقات النطف‪ ،‬إىل طبقات العلق‪ ،‬إىل طبقات املضغ‪،‬‬
‫إىل طبقة العظام‪ ،‬إىل طبقة األجسام‪ ،‬إىل طبقة النفوس‪ ،‬إىل طبقة العقول‪ ،‬إىل طبقة العلوم‪ ،‬إىل‬
‫طبقة املعارف‪ ،‬إىل طبقة النظر‪ ..‬ويعطينا الشيخ من هذا التصنيف أو الرتتيب‪ ،‬بعدا ً ميتافيزيقياً آخر‬
‫األبستمولوجي املتمثّل يف ترتيب املعرفة اإلنسان ّية‬
‫ّ‬ ‫لعمل ّية ترقّي اإلنسان وتط ُّوره‪ ،‬أال وهو البعد‬
‫الحسيّة األوليّة‪ ،‬ثم يتط ّور بعدها‬
‫ّ‬ ‫املمكنة‪ .‬فهي عنده تبدأ من اكتساب اإلنسان للعلوم واملعارف‬
‫إىل مرحلة أرقى هي الحصول عىل املعارف العقليّة كمرحلة ثانية‪ ،‬ثم املرحلة الثالثة‪ ،‬وهي النظر‬
‫الفلسفي الذي هو التأ ُّمل يف ملكوت الله والبحث يف أرسار الكون‪ ،‬والنظر يف حرضة الله‪ ،‬والذي‬
‫ّ‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬أخوان الصفاء‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ج‪ :1‬ص‪ ،297‬وابن عريب‪ ،‬الفتوحات املك ّية‪ ،‬ج‪/2‬ص‪.468‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ ، .209‬ص ‪.211،210‬‬

‫‪95‬‬
‫المحور‬

‫من خصائصه العروج يف امللكوت أو السباحة يف بحر التجلّيات الستكشاف معاين وأرسار‬
‫األسامء والصفات[[[‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ ّن هذه األبعاد األنطولوج ّية واألبستمولوج ّية للموجودات والعلوم واملعارف‪،‬‬
‫وموقع اإلنسان بينها عند بن علوان‪ ،‬لها جذورها يف الفلسفة والتص ّوف عىل ح ٍّد سواء ممثّلة‬
‫بعاملي املحسوس واملعقول عند أفالطون‪ ،‬والعقول العرشة واألفالك التسعة عند كل من أفلوطني‬
‫والفارايب وابن سينا وأخوان الصفا عامة‪ ،‬وعند الفارايب وابن سينا وابن خلدون من بعد ابن علوان‬
‫بصورة خاصة[[[‪.‬‬
‫وال بد لنا أخريا ً من بيان رأي بن علوان‪ ،‬يف مراحل وأطوار حياة اإلنسان واملعاين املصاحبة‬
‫والفلسفي إىل أن يقول‪« :‬إن أصل الشيخوخة رتبة من مراتب‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫لتلك املراحل‪ ،‬وفق منهجه الصو ّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وطور من عمره‪ ،‬وفيه يصح االشتقاق إىل ما سواه‪ ،‬وعليه يحمل ما ضاهاه‪ ،‬وأن الله‬
‫ملا خلق آدم كان قد جعل جسمه شيخاً لألجساد « متناهي الطبع‪ ،‬املواد‪ ،‬مستحكم العقل‪ ،‬كثري‬
‫التجارب‪ ،‬كامل الوقار‪ ،‬مستجمع الرأي‪ ،‬يحتاج إليه كل من دونه‪ ،‬من أهل مراتب األسنان[[[‪.‬‬
‫وهنا يتفرد ابن علوان بهذا التفسري الذي يرقى عىل تفسريات الغزايل بهذا الصدد‪ ،‬فيذكر املراحل‬
‫املشابهة للرتقي الحيس‪ ،‬وعىل النحو اآليت‪:‬‬
‫‪ - 1‬خروج الجنني من بطن أمه يحتاج إىل التغذية يشبه خروج العبد من سلطان طبعه‪ ،‬إىل رشف‬
‫االرتقاء والدخول يف عامل التقى‪ ،‬ويحتاج بذلك إىل تغذية روح ّية خفيفة‪ ،‬وهذه ال تت ّم إالّ بواسطة‬
‫مرب يشفق عليه‪ ،‬ويفتح له آفاق النظر‪ ،‬والتفكري‪.‬‬
‫غاذ ٍّ‬
‫‪ - 2‬س ُّن الغالم ّية يف الطفل‪ ،‬يقابلها املرحلة الثانية من مراحل النمو الروحي أو التغذية الفكرية‪،‬‬
‫وهذه ال تأيت إال بعد استيعاب متطلّبات املرحلة األوىل‪ ،‬وال يرقيه إىل بعد أن يعلم بقدرته عىل‬
‫تصور األشياء يف ذاته‪ ،‬وارتسام تلك الصفات يف صفاته‪ ،‬فعندئذ ينقل إىل هذه املرحلة‪ ،‬وفيها يغيبه‬
‫عن املحسوس‪ ،‬وامللموس يف غرائب علم النفوس‪ ،‬واطّالعه عىل الفرق بني النفوس املطمئنة‪،‬‬
‫والشيطان ّية‪ ،‬فإذا أدرك ذلك يرقيه إىل‪:‬‬
‫‪ - 3‬الس ُّن الثالثة = (سن الشباب) والتي يقابلها مرحلة تطليق النفس اللئيمة وتزويجه بالنفس‬
‫املطمئ ّنة‪ ،‬أو الط ّيبة الكرمية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أيضاً‪ ،‬ص ‪ 225‬و‪ ،266‬وله كذلك‪ :‬الفتوح‪ ،‬ص‪ 226‬واملالحظ أن هذا الرتتيب ليس اعتباط ّياً‪ ،‬بل جاء خالصة لتص ّور ابن علوان يف ما‬
‫الهرمي الذي يكون أعلها املوجودات النوران ّية – العقل ّية‪ ،‬وأسفله املوجودات املاديّة‬
‫ّ‬ ‫يتعلّق مبراتب املوجودات النوران ّية واتخاذها الطابع‬
‫الظلامن ّية الجسم ّية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أخوان الصفاء الرسائل‪ ،‬ج‪/1‬ص‪ ،297‬وابن خلدون‪ ،‬شفاء السائل‪ ،‬ص‪.80،‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.312‬‬

‫‪96‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫الس ُّن الرابعة = (سن الكهوليّة) يقابلها مرحلة اإلفاضة العقليّة‪ ،‬وإبداء األرسار اإللهيّة‪ ،‬وفتح باب‬
‫التوحيد‪ ،‬والكشف عن أرسار التجريد‪.‬‬
‫‪ - 5‬الس ُّن الخامسة =(الشيخوخة) يقابلها مرحلة القعود عىل كريس الفتيا والبلوغ إىل الدرجة‬
‫العليا[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ووفق هذا التصور األبستمولوجي ‪ -‬السيكولوجي العلواين‪ ،‬ال ميكن لإلنسان مبا هو انسان‪،‬‬
‫أن يعيش يف كافة مراحل حياته وفق متطلبات قواه املادية‪ ،‬بل وفق قوى واعية غريها‪ ،‬تبدأ‬
‫بالعلم‪ ،‬وأساسه العقل‪ ،‬ثم املعرفة وأساسها التفكري والنظر‪ ،‬ثم املعرفة الذوقية وأساسها الكشف‬
‫واملشاهدة ثم الفناء‪ ،‬وبلوغ الدرجة العليا‪.‬‬
‫اإلنساني�ة‪ ،‬واإلرادة ّ‬
‫احلرة‬ ‫ّ‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬ميت�افزييقا السيكولوجيا‪ ،‬الطبيعة‬
‫الفكري القائم‬
‫ِّ‬ ‫أرشنا سابقاً إىل أ ّن الشيخ أحمد بن علوان قد ّ‬
‫عب عن موقفه يف خض ّم الجدل‬
‫يف عرصه بني الفرق الكالم ّية االعتزال ّية واالشعريّة وغريهام بصدد اإلنسان من كونه مجربا ً ّ‬
‫مسيا ً‪،‬‬
‫ومسيا ً يف آن واحد‬
‫ّ‬ ‫مخيا ً‬
‫مخيا ً عىل رأي املعتزلة‪ ،‬أو ّ‬
‫فاقد اإلرادة‪ ،‬واملشيئة عىل رأي الجربيّة‪ ،‬أو ّ‬
‫عىل رأي (األشاعرة) والغزايل من الفالسفة‪ ،‬واملتص ّوفة‪ .‬ونعتقد أن حديث الشيخ أحمد بن علوان‬
‫يف هذا املوضوع‪ ،‬كان من منطلقني‪:‬‬
‫األول‪ :‬استغالله لعلم الكالم‪ ،‬ومزجه لنظريّة املتكلّمني‪ ،‬وأساليبهم بنظريّته الصوف ّية وخصوصاً‬
‫يف العقيدة والنفس اإلنسانيّة‪ ،‬كام فعل الرساج الطويس (‪378‬هـ ‪988 -‬م) يف اللّمع‪ ،‬والكالباذي يف‬
‫رسب إىل التص ّوف الفلسفي كثري من آراء‬
‫التع ُّرف‪ ،‬والقشريي يف الرسالة (‪465‬هـ ‪1072 -‬م)‪ ،‬حيث ت ّ‬
‫املعتزلة واألشاعرة والكراميّة‪ ،‬والشيعة‪( ،‬والزيديّة واإلسامعيليّة الباطنيّة‪ ..‬ونعتقد أن هذا قد ظهر‬
‫يف بعض آراء الشيخ أحمد بن علوان[[[‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أ ّن حديث الشيخ أحمد بن علوان الكالمي قد انطلق من وعي كامل‪ ،‬وإدراك تا ّم‪ ،‬وفهم‬
‫عميق للطبيعة اإلنسانيّة‪ ،‬يف جوانبها السيكولوجيّة (النفسيّة) أو البيولوجيّة‪ ،‬أو الروحيّة‪ ،‬أو العقليّة‪،‬‬
‫(الجانب الواعي‪ ،‬والالّواعي من اإلنسان)‪ .‬ومن هنا مل يكن حديثه عقديّاً فحسب‪ ،‬بل كانت األبعاد‬
‫وعب عنها‬
‫الفيزيقيّة وامليتافيزيقيّة املختلفة للشخصيّة اإلنسانيّة أيضاً‪ ،‬واضحة متام الوضوح لديه‪ّ ،‬‬
‫يف مؤلّفاته بأوضح تعبري‪ .‬فهو يعتقد بأ ّن حياة اإلنسان أو سلوكه‪ ،‬ال تقوم عىل آل ّيات غريزيّة‪ ،‬ودوافع‬

‫[[[‪ -‬أيضاً‪ ،‬ص‪.315 – 314‬‬


‫[[[ ‪ -‬أنظر‪ :‬الغزايل‪ ،‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬مكتبة الرشق‪ ،‬بغداد ‪ ،1990‬ص‪ 65‬و‪ .112‬وأبو العال عفيفي‪ ،‬التص ّوف النورة‪ ،‬ص‪.77‬‬

‫‪97‬‬
‫المحور‬

‫فطريّة‪ ،‬يسعى نحو تنفيذ وإشباع تلك الدوافع فحسب‪ ،‬بل أن اإلنسان من حيث سم ّوه وارتقائه‪ ،‬البد‬
‫من أن ميتلك أيضاً إرادة وحرية تفرضها دوافع واعية‪ ،‬تتحكّم بالعديد من ت ّ‬
‫رصفاته وأفعاله‪ ،‬وهي‬
‫جهه وتتحكّم بدوافعه غري الواعية كذلك‪ .‬ولقد حرص مكان هذه الدوافع الواعية‪ ،‬بالقلب‪،‬‬
‫التي تو ّ‬
‫رصف بثالثة مستويات هي‪(:‬النية‪ ،‬القول‪ ،‬العمل) وهذه تتطلب‬
‫والعقل الحاكمني يف اإلنسان‪ ،‬وتت ّ‬
‫ثالثة مق ّومات لالستعداد ‪(:‬القدرة‪ ،‬اإلرادة‪ ،‬العلم)‪ .‬فالنية بتعبري الغزايل «هي التي متثّل القصد‪،‬‬
‫وهذا القصد ال ب ّد له من إرادة‪ ،‬واإلرادة تتطلّب قدرة لتنفيذ تلك اإلرادة‪ ،‬وأنهام يتطلبان العمل»[[[‪.‬‬
‫إ ّن العقل هو مكان العلم عند الشيخ ابن علوان ألنه به يتمكّن اإلنسان من توجيه اإلرادة‪ .‬وعىل‬
‫ذلك يرى أن للعبد مشيئة وإرادة قد حصل عليهام من الله‪ ،‬كقوة غريزيّة تدفعه ألن يفعل أو ال‬
‫يفعل‪ ،‬أو متكّنه أن يسلك أو ال يسلك‪ ،‬وهام خاضعتان لسيطرة العقل الذي منحه الله إياه‪ ،‬وسلّمه‬
‫حكام‪،‬‬
‫ً‬ ‫حتام‪ ،‬وإمنا كان‬
‫أمره حني قال له (أقبل فأقبل‪ ،‬ثم قال له أدبر فأدبر)[[[‪ ،‬وأ ّن أمر الله مل يكن ً‬
‫وعليه أن يختار بني اإلقبال واإلدبار‪ ،‬فعندما عىص الله كان ذلك بفعل حريّته‪ ،‬واختياره وإرادته‪.‬‬
‫الحس ّية‪ ،‬مدفوعة بغرائزها الشهوان ّية‬
‫ّ‬ ‫وأ ّن النفس ملا استجابت لدعوة الجهل كانت استجابتها بذاتها‬
‫وامللذّات الدنيويّة الحس ّية‪.‬‬
‫ويفس ابن علوان امليل إىل الشهوات بأنّه نتاج ق ّوة غريزيّة كامنة يف داخل النفس‪ ،‬تحاول به‬
‫ّ‬
‫إشباع رغباتها‪ ،‬ومل تكن مشيئة قهريّة عليها‪ ،‬أي أن لها إرادة واختيارا ً‪ ،‬وبفعل هذه اإلرادة تتحكّم‬
‫جهها‪ ،‬وليس لله تعاىل إالّ العلم بها‪« ،‬فكل قول أو فعل أو إرادة لإلنسان‪ ،‬إمنا تنسب‬
‫بالدوافع وتو ّ‬
‫إىل الله علامً‪ ،‬وتنسب إىل اإلنسان حرية‪ ،‬واختيارا ً»[[[‪ .‬رافضاً لفكرة جربيّة أفعال اإلنسان متاماً‪،‬‬
‫فيقول‪« :‬فمن علّل املعصية باملشيئة‪ ،‬وس ّببها باإلرادة‪ ،‬ومل يجعل للعبد مشيئة من شهوات نفسه‪،‬‬
‫ربأ من لوازم دينه‪ ،‬وجثا عىل ركب الجهل مبخاصمة ربه‪ ،‬وجعل‬
‫وال إرادة من طبائع جسده‪ ،‬فقد ت ّ‬
‫املدح ذماً‪ ،‬والعقوبة ظلامً‪ ،‬واألمر نهياً‪ ،‬والنهي أمرا ً‪ ،‬والتمكني قهرا ً‪ ،‬واالختيار جربا ً‪ ،‬والحبيب‬
‫خصامً‪ ،‬والعدو سلامً‪ ،‬ودخل يف مقالة أهل اإلفك من جاهل ّية أهل الشِّ ك‪ ،‬حيث أخرب عنهم‬
‫الرحمن‪ ،‬بحكم القرآن‪ ،‬وجعل مقالتهم كذباً‪ ،‬وتكذيباً و ظناً»[[[‪.‬‬

‫[[[ ‪ -‬الغزايل‪ ،‬مخترص اإلحياء ص ‪ ،146‬وعبدالرحمن اإليجي‪ ،‬املواقف يف علم الكالم‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪1978 ،‬م‪ ،‬ص‪ 148‬و‬
‫‪.150‬‬
‫[[[ ‪ -‬تكملة الحديث «أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل‪ ،‬فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر»‪ ،‬أنظر‪ :‬أبو الفرج الجوزي‪ ،‬كتاب املوضوعات‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبد الرحمن محمد عثامن‪ ،‬املدينة املنورة‪1968 ،‬م‪ .‬ج‪/1‬ص وقد أورده الغزايل يف األحياء‪ ،‬ط‪ 1‬بريوت ب‪ .‬ت‪ .‬ج‪/1‬ص‪ ،82‬وابن‬
‫علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص ‪.297‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.355‬و ص‪.352 ،‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.357،356‬‬

‫‪98‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫حني رفض الشيخ أحمد بن علوان حجج واستدالالت الجربيّة مبقاالت أهل الشِّ ك واملعصية‪،‬‬
‫بزعمهم‪ ،‬قدم مشيئة الله فيهم‪ ،‬وتقدير الكفر واملعصية عليهم‪ ،-.‬فقد سار مع املعتزلة ليق ّرر بامتالك‬
‫اإلنسان لإلرادة‪ ،‬وحريّة االختيار‪ ،‬وليف ّرق بني إرادات ثالث‪ ،‬إلزالة اللبس ع ّمن يعتقدون بهذا سلباً‬
‫لإلرادة اإلله ّية‪ ،‬وهي‪ :‬اإلرادة اإلله ّية‪ ،‬وطبيعتها‪ ،‬واإلرادة اإلنسان ّية‪ ،‬وطبيعتها‪ ،‬واإلرادة الشيطان ّية‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وطبيعتها‪ .‬وأورد يف حديثه عن الطبيعة اإلنسانيّة وحريّة اإلرادة ما يزيد عىل خمس وعرشين آية‬
‫قرآن ّية[[[‪ ،‬دالّة عىل وجود إرادة لإلنسان مع اإلرادة اإلله ّية‪ ،‬موضحاً الفرق بني ّ‬
‫كل إرادة‪ ،‬كانت صادرة‬
‫عن الله‪ ،‬أم صادرة عن اإلنسان‪ ،‬أم صادرة عن الشيطان‪ .‬وكل إرادة من هذه اإلرادات تقابل مستوى‬
‫مع ّيناً من السلوك اإلنساين‪ .‬فهذا السلوك منه مدفوع بإرادة الحق‪ ،‬ومنه مدفوع بإرادة النفس‪ ،‬ومنه‬
‫مدفوع بإرادة الشيطان[[[‪.‬‬
‫كام استخلص من جميع هذه اآليات كل ما يتعلّق بأنواع اإلرادات واملشيئات اإلنسان ّية‬
‫كل منها باإلرادة واملشيئة اإلله ّية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫والشيطان ّية ودوافعها املختلفة‪ ،‬وعالقة ٍّ‬
‫‪ -‬أ ّن إرادة اإلنسان‪ ،‬منها ما هو مدفوع بالشهوات‪ ،‬ومنها ما هو مدفوع بوسوسة الشيطان‪ ،‬وأ ّن‬
‫إرادة الله بالعبد مدفوعة مبح ّبته له‪ ،‬وإرادة الشيطان مدفوعة بعداوته له‪ ،‬وإرادة اإلنسان لنفسه‬
‫مدفوعة بشهواته‪ ،‬وأ ّن الله أمر بالطاعة وما حتم‪ ،‬ونهى عن املعصية وما عصم[[[‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّن للعبد مشيئة سخيفة من جهة شهوته الداعية إىل الهوى‪ ،‬والهوى داعية إىل املعصية‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّن لله مشيئة رشيفة من جهة رحمته‪ ،‬والرحمة داعية الهدى‪ ،‬والهدى داعية الطاعة‪ ،‬وأ ّن لله مشيئة‬
‫كل مأمور عاقل متمكّن من أحد الفعلني‪ ،‬وأن‬
‫وإرادة يرجعان إىل محبته‪ ،‬هي اختياريّة الطاعة من ّ‬
‫لله مشيئة جربيّة متثّل كموناً يف األشياء التي ال تعقل‪ ،‬وال تتمكّن من أحد الفعلني أيضاً‪ ،‬مثل الخلق‬
‫والتسخري‪ ،‬فيقول الشيخ‪« :‬أن الله أمر وما قهر عىل فعل األمر‪ ،‬ونهى وما جرب عىل ترك النهي‪،‬‬
‫وكل مطيع يجد االختيار والتمكني يف نيته‪ ،‬وقوله‪ ،‬وعمله للطاعة‪ ،‬وال يجد االضطرار وال اإلجبار‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك تقوم له الحجة‪ ،‬وتجب له املثوبة‪ ،‬وكل عاص يجد االختيار والتمكني يف نيته‪،‬‬

‫ُوت َو َقدْ أُ ِم ُرواْ‬ ‫ل الطَّاغ ِ‬ ‫حاكَ ُمواْ إِ َ‬ ‫ل الَّ ِذي َن يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّ ُه ْم آ َم ُنواْ َبِا أُنز َِل إِلَ ْيكَ َو َما أُنز َِل ِمن َق ْبلِكَ يُرِيدُ ونَ أَن يَ َت َ‬ ‫[[[ ‪ -‬منها قوله تعاىل‪ :‬أَل َْم تَ َر إِ َ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫ضلَّ ُه ْم ضَ الَالً بَ ِعيداً‪ ،‬سورة النساء‪ ،60/4 :‬وقوله‪ :‬إِنَّ َا يُرِيدُ الشَّ ْيطَانُ أن يُو ِق َع بَ ْي َنك ُُم الْ َعدَ ا َو َة َوالْ َبغْضَ اء ِ‬ ‫أَن يَكْ ُف ُرواْ ِب ِه َويُرِيدُ الشَّ ْيطَانُ أَن يُ ِ‬
‫خ َن‬ ‫سى َحتَّى يُ ْث ِ‬ ‫الصالَ ِة َف َه ْل أَنتُم ُّمن َت ُهونَ ‪ ‬املائدة‪ ،91/5 :‬وقوله‪َ  :‬ما كَانَ لِ َنب ٍِّي أَن يَكُونَ لَهُ أَ ْ َ‬ ‫صدَّ ك ُْم َعن ِذكْ ِر اللّ ِه َوعَنِ َّ‬ ‫س َويَ ُ‬‫خ ْم ِر َوالْ َم ْي ِ ِ‬ ‫الْ َ‬
‫يم‪ ،‬سورة األنفال‪ ،68/8 :‬وقوله ‪ُ ‬يرِيدُ ونَ لِ ُيطْ ِفؤُوا نُو َر اللَّ ِه ِبأَ ْف َوا ِهه ِْم َواللَّهُ‬ ‫ك‬
‫ٌ َ ٌ‬‫ِ‬ ‫ح‬ ‫ز‬ ‫ِي‬
‫ز‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ّهُ‬ ‫ل‬ ‫ال‬‫و‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫َ َ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫خ‬ ‫اآل‬ ‫ر‬
‫ِيدُ‬ ‫ي‬ ‫ّهُ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ا‬‫ي‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫الدُّ‬ ‫ض‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ونَ‬ ‫ِيدُ‬‫ر‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫َ‬
‫ف ْ‬‫أل‬‫ا‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ج َر أ َما َمهُ ‪ ‬سورة القيامة‪ ،5/75 :‬وقوله‪ :‬يُرِيدُ اللّهُ ل ُيبَيِّ َ لَك ُْم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ِنسانُ ل َي ْف ُ‬
‫ال َ‬ ‫ُم ِت ُّم نُورِه َولَ ْو كَرِهَ الْكَاف ُرونَ ‪ ‬سورة الصف‪ ،8/61 :‬وقوله‪ :‬بَ ْل يُرِيدُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات أَن تَ ِيلُواْ َم ْيالً‬ ‫يم * َواللّهُ يُرِيدُ أَن يَت َ‬
‫ُوب َعلَ ْيك ُْم َويُرِيدُ الَّ ِذي َن يَ َّت ِب ُعونَ الشَّ َه َو ِ‬ ‫يم َح ِك ٌ‬ ‫ُوب َعلَ ْيك ُْم َواللّهُ َعلِ ٌ‬ ‫َويَ ْه ِديَك ُْم ُس َن َن الَّ ِذي َن ِمن َق ْبلِك ُْم َويَت َ‬
‫َع ِظيامً‪ ،‬سورة النساء‪.27-26/4 :‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.358،357‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.361،360‬وص‪.362 ،‬‬

‫‪99‬‬
‫المحور‬

‫وقوله‪ ،‬وعمله للمعصية‪ ،‬وال يجد االضطرار وال اإلجبار‪ .‬ومن أجل ذلك تقوم عليه الحجة‪ ،‬وتلزمه‬
‫العقوبة»[[[‪.‬‬
‫كل ما تق ّدم من عرض مليتافيزيقا سيكولوج ّية طبيعة اإلنسان وإرادته الح ّرة عند ابن علوان‪،‬‬
‫بعد ِّ‬
‫مبق ِّوماتها املختلفة‪( =،‬القدرة‪ ،‬اإلرادة‪ ،‬املشيئة)‪ ،‬وحريَّة الفعل‪ ،‬والقدرة عىل إتيانه أو تركه‪ ،‬الب َّد‬
‫يف يف تفسريه هذا؟‬
‫‪-‬الفلسفي والصو ّ‬
‫ّ‬ ‫من أن نتساءل‪ :‬ما املنحى الكالمي‬
‫أرشنا سابقاً إىل أن الشيخ أحمد بن علوان كان أشعريّاً‪ ،‬غزال ّياً‪ ،‬لك ّنه نحى املنحى االعتزايل‪ ،‬أو‬
‫املعب‬
‫ّ‬ ‫كان أكرث األشاعرة حريّة وعقالن ّية‪ ،‬يف هذه القضايا التي سيتّضح موقفه منها‪ ،‬من خالل كالمه‬
‫عن الجانب املكنون من فلسفته الصوف ّية ‪ -‬بتعبريه هو‪ .[[[-‬فقد وافق بن عريب يف ثنائ ّية املشيئة‪،‬‬
‫واإلرادة‪ ،‬مع ثنائ ّية األمر التكويني‪ ،‬واألمر التكليفي‪ ،‬حيث يق ّر الشيخ أحمد بن علوان مبشيئتني‪:‬‬
‫لكل ما ال يعقل‪ ،‬وال يتمكّن من أحد الفعلني‪ ،‬وأخرى اختيارية‬
‫األوىل لله‪ ،‬وترجع إىل جربيّته وقهره ّ‬
‫لكل مأمور عاقل يتمكن من أحد الفعلني‪ .‬لكن ابن عريب أراد باإلرادة اإلله ّية‪ ،‬العناية اإلله ّية أو‬
‫كل يشء يف الكون‪،‬‬
‫األمر التكويني الذي يشبه القانون العام الذي يحكم الوجود‪ ،‬ومبقتضاه يسري ّ‬
‫حتى أفعال اإلنسان‪ .‬إذن‪ :‬يتفق الشيخ مع ابن عريب يف األمر األول‪ ،‬ويختلف معه يف الثاين‪ .‬ألن‬
‫خيا ً‪ ،‬ورشيرا ً‬
‫ابن عريب جعل األول يرسي عىل الثاين‪ ،‬فيكون اإلنسان برأيه قد ولد مطيعاً‪ ،‬وعاصياً ّ‬
‫وفقاً ملا طبعت عليه عينه الثابتة يف العلم القديم‪ .‬وهذا ما يرفضه بن علوان ألنّه نوع من الجربيّة‪،‬‬
‫ويرجع ذلك إىل علم الله فقط‪ ،‬ومشيئة العبد واختياره‪ .‬وبذا يكون قد قبل بالرأي االعتزايل الذي‬
‫رفضه ابن عريب‪ ،‬هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر‪ ،‬يتفق مع الفارايب يف أن إرادة اإلنسان مدفوعة‬
‫الحسيّة‪ ،‬وهذه ال تت ُّم ‪ -‬بحسب الفارايب ‪ ،-‬إلّ عند حصول املعقوالت فيحدث له النزوع‬
‫ّ‬ ‫بشهواته‬
‫جهة لإلنسان بصورة تختلف عن الحيوان‪،‬‬
‫نحو تحقيق تلك الرغبات‪ ،‬فتكون اإلرادة العقالن ّية مو ّ‬
‫حق العاقل‪ ،‬وجربيّة يف‬
‫جهة بدوافع غريزيّة محضة[[[‪ .‬وهي التي جعلها بن علوان اختياريّة يف ّ‬
‫املو ّ‬
‫حق غري العاقل‪ ،‬وجعلها يف ثالث إرادات مختلفة ‪.‬‬
‫ّ‬
‫مم يؤكّد املنحى االعتزايل للشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬هو استحسانه رأي املعتزلة يف ميتافيزيقا‬
‫ّ‬
‫عالقة الله باإلنسان يف خلقه وخلق أفعاله‪ ،‬أو امتالكه القدرة‪ ،‬واإلرادة واملشيئة الح ّرة‪ ،‬كطبيعة‬
‫أو قوى كامنة فيه كام هو عند القايض عبدالجبار‪ ،‬الذي سوى بني األفعال املتولّدة‪ ،‬واألفعال‬
‫ل»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫جزيئ وك ّ‬ ‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬الفتوح‪ ،‬ص ‪ ،480‬حيث يقول‪« :‬فيل وجهان مكنون وبادي‪ ،‬ويل علامن‬
‫[[[ ‪ -‬أنظر الفتوح‪ ،‬ص ‪ ،480‬حيث يقول‪« :‬فيل وجهان مكنون وبادي‪ ،‬ويل علامن جزيئ وكيل»‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ .361‬د‪ .‬توفيق الطويل‪ ،‬فلسفة األخالق عند ابن عريب (ضمن الكتاب التذكاري ملحي الدين بن عريب)‪،‬‬
‫ص ‪ .165‬وأبو خاطر‪ ،‬نظرات يف الحتم ّية‪ ،‬ص‪ .126،125‬وقارن‪:‬الفارايب‪ ،‬آراء أهل املدينة الفاضلة‪ ،‬دار العراق‪ ،‬بريوت ‪1955‬م‪ ،‬ص‪.69‬‬
‫والغرايب‪ ،‬تاريخ الفرق‪ ،‬ص‪.201‬‬

‫‪100‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫الحق سبحانه وتعاىل املسؤوليّة‬


‫ّ‬ ‫املبارشة بكون وقوعها من اإلنسان‪ ،‬وأنه عىل أساس ذلك أقام‬
‫جة‪،‬‬
‫رصفاته‪ ،‬وأفعاله االختياريّة‪ ،‬ولزم عىل ذلك الثواب‪ ،‬أو قامت عليه الح ّ‬ ‫عىل اإلنسان إزاء ت ّ‬
‫ووجب عليه العقاب ‪ -‬بحسب ابن علوان ‪ ،-‬وأن أي فعل الب ّد من أن تتبعه نية أو إرادة‪ ،‬أو مشيئة‪،‬‬
‫وتصدق عىل األفعال االختياريّة الراجعة إىل التمكني وفق املنظور العلواين‪ ،‬دومنا سلب لإلرادة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫اإللهيّة والعلم‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والقدر‪ ،‬والتوفيق‪ ،‬واملحبة[[[‪ .‬كام يتّفق مع املعتزلة يف ما يتعلّق بالعدل‬
‫اإللهي الذي اقرتب فيه من موقفهم الذي ين ّزه الله عن إلحاق الظلم بعباده‪ ،‬فام دام عادالً‪ ،‬فهو لن‬
‫ّ‬
‫يفعل إال ما هو أصلح لعباده‪ ،‬وملا كان الله حكيامً وج ّوادا ً وعادالً‪ ،‬فإنه خلق كل يشء لصالح‬
‫الناس وخريهم‪ ..‬وابن علوان ‪ -‬كذلك ‪، -‬يرى أن الله عدل يف ثوابه‪،‬ال يحب الفساد‪ ،‬وال يريد ظلامً‬
‫للعباد‪ ،‬خلق العقل دواء‪ ،‬والجهل داء‪ ،‬والنفس بالء‪ ،‬وأن الله حني كلف عباده عمالً يف هذه الدنيا‪،‬‬
‫وعد عليه أجرا ً يف دار القرار‪ ،‬وحينام نهى الله عن معصيته يف الدنيا‪ ،‬تو ّعد عقوبة يف دار القرار[[[‪.‬‬
‫ومبوجب فهم الشيخ للعدل اإللهي‪ ،‬وفهمه لطبيعة اإلرادة اإلنسانيّة الح ّرة وقدرتها عىل الكسب‬
‫األنطولوجي املتمثّل يف العالقة بني الله واإلنسان من‬
‫ّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ّ‬ ‫واالختيار‪ ،‬ح ّدد رؤيته للبعد‬
‫جهة‪ ،‬واإلنسان وأفعاله من الخري والرش‪ ،‬والقضاء والقدر‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫فالفعل الرشير‪ -‬عند بن علوان ‪ -‬الذي الزم فاعله ح ّدا ً يف الدنيا‪ ،‬وعذاباً يف اآلخرة فإنه ينسب‬
‫إىل الله علامً‪ ،‬وقضا ًء‪ ،‬وقدرا ً‪ ،‬وخذالناً‪ ،‬وكراهية‪ ،‬وينسب إىل العبد عمالً وحباً‪ ،‬واختيارا ً‪ ،‬وإرصارا ً‪،‬‬
‫وعتاهية‪ .‬والفعل الخري‪-‬عنده ‪ ،-‬كل فعل ألزم صاحبه يف الدنيا مدحاً‪ ،‬ويف اآلخرة ثواباً‪ ،‬فإنه ينسب‬
‫إىل الله تعاىل علامً‪ ،‬وقضا ًء‪ ،‬وقدرا ً‪ ،‬وتوفيقاً‪ ،‬ومحبة‪ ،‬وينسب إىل العبد عمالً‪ ،‬وحباً‪ ،‬واختيارا ً‪،‬‬
‫وإيثارا ً‪ ،‬وطواعية‪ .‬وأن التوفيق مقرون بالتوبة‪ ،‬واإلنابة وأن الخذالن مقرون باإلرصار‪ ،‬والجرأة[[[‪.‬‬
‫الحس ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وأخريا ً‪ ،‬وزع الشيخ أحمد بن علوان‪ ،‬كل فعل من األفعال االختياريّة عىل األعضاء‬
‫وكل عضو يكتسب فعله تبعاً لقدراته‪ ،‬واستعداداته الكامنة فيه‪ ،.‬وفقاً‬
‫والنفس ّية‪ ،‬والعقل ّية والروح ّية‪ّ ،‬‬
‫الفلسفي لألفعال اإلنسان ّية عنده ‪ -:‬فاستعداد األرواح هو الشهود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف –‬
‫امليتافيزيقي الصو ّ‬
‫ّ‬ ‫للبعد‬
‫واستعداد العقول هو العلم‪ ،‬واستعداد القلوب هو الحب والوجدان‪ ،‬واستعداد النفوس مبا تهوى‪،‬‬
‫الحواس هو اإلدراك‪ ،‬واستعداد الجوارح هو الكسب لألفعال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتعشق‪ ،‬أو ترغب أو متيل‪ ،‬واستعداد‬

‫[[[ ‪ -‬د‪ .‬عبدالستار الراوي‪ ،‬ثورة العقل دراسة يف فكر املعتزلة‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬الكويت‪1982 ،‬م‪ ،‬ص‪ ،273‬ود‪ .‬سامي نرص لطيف‪ ،‬الحرية‬
‫املسؤولة يف الفكر الفلسفي اإلسالمي‪ ،‬مكتبة الحرية الحديثة‪ ،‬القاهرة ‪1977‬م‪ ،‬ص‪.381،380‬وللمقارنة‪ ،‬ينظر‪ :‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪،‬‬
‫‪ ،352‬و ص‪ ،354‬والفتوح‪ ،‬ص‪..314،313‬‬
‫[[[ ‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪ .352‬وقارن‪ :‬الغزايل‪ ،‬مخترص اإلحياء‪ ،‬ص ‪ .219،218‬ود‪ .‬سامي نرص‪ ،‬الحريّة املسؤولة‪ ،‬ص‪.33‬وابن‬
‫علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص ‪.352‬‬

‫‪101‬‬
‫المحور‬

‫يقول الشيخ أحمد‪« :‬أللّهم رب األرواح وما شهدت‪ ،‬والعقول وما علمت‪ ،‬والقلوب وما وجدت‪،‬‬
‫والحواس وما أدركت‪ ،‬والجوارح وما اكتسبت‪ .‬أسألك أن تجعل أرواحنا‬
‫ّ‬ ‫والنفوس وما هويت‪،‬‬
‫لجالك شاهدة‪ ،‬وعقولنا لعظمتك ساجدة‪ ،‬وقلوبنا ملحبتك واحدة‪ ،‬ونفوسنا لنعتمك حامدة‪،‬‬
‫وحواسنا لحكمتك صائدة‪ ،‬وجوارحنا يف سبيلك مجاهدة»[[[‪ .‬وتسبيحه ودعاؤه هذا ‪ -‬وإن كان‬
‫ّ‬
‫يتّصل مبراتب املعرفة‪ ،‬إالّ أنه يظهر من خالله‪ ،‬تحديد العالقة بني األفعال والقدرة واإلرادة والعلم‪،‬‬
‫فقوله هذا يشبه تارة مبا قاله القايض عبدالجبار من أ َّن اإلنسان قادر عىل أفعال الجوارح‪ ،‬مبا يجب‬
‫وقوعها بحسب قصده‪ .‬وتصدر عن جوارحه عند توافر الداعي عند الفاعل[[[‪ .‬وتارة يشبه مبا قاله‬
‫الفارايب من أن اختالف االفعال‪ ،‬واإلرادات‪ ،‬إمنا ترجع الختالف مصادرها‪ ،‬أي أن هناك إرادات‬
‫ناتجة من اإلحساس والتخ ُّيل‪ ،‬وإرادات ناتجة من نطق ورؤية‪ ،‬وال سيام إرادات العقول العارفة التي‬
‫ترفع اإلنسان إىل املرتبة القريبة من العقل الفعال أو تنفعه يف بلوغ السعادة‪ ،‬وتارة أخرى‪ ،‬يشبه قول‬
‫ين أو اإلرادة اإلنسان ّية بالعلم والعقل‪ ،‬والقلب‪ ،‬وما يتطلّبه من تالزم‬
‫الغزايل من ارتباط العقل اإلنسا ّ‬
‫بني القدرة واإلرادة‪ ،‬والعلم كام ب ّينا سابقاً[[[‪.‬‬

‫اخلاتمة‪:‬‬
‫توصل البحث إىل العديد من النتائج والخالصات التي وردت يف ثناياه‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ - 1‬أ ّن الشيخ أحمد بن علوان اليامين كان أهم شخصيّة صوفيّة يف اليمن منذ عرصه وحتى اآلن‬
‫م ّمن سبقوه‪ ،‬أو من الذين عارصوه أو جاؤوا بعده وذاع صيتهم خارج اليمن‪.‬‬
‫‪ - 2‬أنّه كان ضمن ت ّيار فالسفة التص ُّوف يف القرن السابع الهجري‪ ،‬من أمثال‪ :‬معارصه‬
‫الرئيس‪،‬الشيخ األكرب‪ ،‬محي الدين بن عريب‪ ،‬وأيب الحسن الشاذيل‪ ،‬وعمر بن الفارض‪ ،‬وعبدالغني‬
‫النابليس‪ ،‬وابن سبعني‪ ،‬فلسف ًة ومنهجاً وعرفاناً وسلوكاً وتربية صوف ّية‪ ،‬وإنتاجاً علم ّياً صوف ّياً مفلسفاً‪،‬‬
‫وفلسفة رمزيّة أدبيّة‪.‬‬
‫‪ - 3‬رغم أنه من أصحاب وحدة الوجود الشهوديّة‪ ،‬التي عرب عنها يف كالمه الشعري والنرثي‪،‬‬
‫[[[‪ -‬ابن علوان‪ ،‬التوحيد‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫[[[‪ -‬للمقارنة‪ ،‬ينظر‪ :‬سامي نرص‪ ،‬الحريّة املسؤول ّية‪ ،‬ص‪..83‬‬
‫[[[‪ -‬الغزايل مخترص اإلحياء‪ ،‬ص‪ ،249‬والجدير ذكره أنّ علامء الكالم من املعتزلة واألشاعرة تقريباً يجمعون عىل ارتباط األفعال باإلرادة‪،‬‬
‫واإلرادة بالعلم‪ ،‬والعلم قد يكون إدراكاً يحدث يف عضو ّ‬
‫حاسة (وهو ما رآه ابن علوان) أم يف األوتار العضل ّية‪ ،‬أم يف مراكز الدماغ‪ ،‬أم يف‬
‫يختص به القلب الوجدان‪،‬‬‫ّ‬ ‫يختص به العقل هو العلم‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫القلب بوصفه لطيفة روح ّية تشتمل عىل الفكر واإلرادة‪ّ ،‬‬
‫إل أنّ ابن علوان جعل ما‬
‫يختص به الروح الشهود‪ .‬أنظر‪ :‬التوحيد‪ ،‬ص‪ ،179‬للمقارنة أنظر‪ :‬سامي نرص‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪ 171‬و ‪ ،،175‬وكذلك الغرايب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وما‬
‫تاريخ الفرق‪ ،‬ص‪ 195،194‬حيث ذكر أنّ األشاعرة يجعلون مثل هذه الصفات والفكر‪ ،‬والقدرة‪ ،‬واإلرادة من الصفات الذات ّية‪ ،‬وأنّها صفة‬
‫تكوين عندما تكون من الله‪ ،‬وصفة فعل عندما تكون من اإلنسان‪ ،‬وأنّها ميل قوى النفس أو اتّجاهها نحو يشء تريد تحقيقه‪َّ ،‬‬
‫إل أنّ النظام‬
‫رفض أن تكون ذات َّية‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫لكنه بعقالنيّته الفلسفيّة الصوفيّة‪ ،‬قد تج ّنب الوقوع يف شطحات زمالئه م ّمن سبقوه‪ ،‬أو عارصهم‬
‫م ّمن اتهموا بالحلول واالتحاد‪ ،‬والزندقة وغريها‪ ،‬فكان مبأمن من تلك االت ّهامات‪ ،‬بل أنه تعاطى‬
‫مع بعض شطحات أسالفه‪ ،‬باالعتذار والرشح والتعليل الصويف املتعقّل ملا صدر عنهم‪ ،‬كام فعل‬
‫مع الحسني بن منصور الحالّج عىل وجه الخصوص‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪ - 4‬أنَّه ق ّدم نظريّة فلسف ّية صوف ّية‪ ،‬وميتافيزيقا متم ّيزة يف مباحث الفلسفة الرئيسة‪ ،‬الوجود‬
‫واملعرفة‪ ،‬واألخالق‪ ،‬فضالً عن النظريّة الكالم ّية التي جمعت بني مدرستي املعتزلة واألشاعرة‪،‬‬
‫إذ كان معتزل ًّيا يف أهم قض ّية عقديّة وفكريّة‪ ،‬هي قض ّية حريَّة اإلرادة واملشيئة والقدرة اإلنسان ّية‬
‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫رش‪ ،‬واللُّطف‬
‫وعالقتها بالقضاء والقدر اإللهي‪ ،‬وصلتها مبوضوعات العدل‪ ،‬والخري وال ّ‬
‫ونحوها‪ ،‬يف حني كان أشعريّاً يف بق ّية القضايا العقديّة والكالم ّية‪.‬‬
‫‪ - 5‬أ ّن ميتافيزيقا الصورة اإلنسانيّة‪ ،‬بأبعادها الرئيسة‪ ،‬قد مثّلت محور ارتكاز نظريّة الوجود‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫يئ‪ ،‬أو‬
‫الحس واملاورا ّ‬
‫ّ‬ ‫تبي لنا متكُّن الشيخ من فهم الحقيقة اإلنسان ّية ببعديها‬
‫عنده‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫محك العلم الحديث‪ ،‬وخصوصاً علم البيولوجيا‪ ،‬والسيكولوجيا‬ ‫وامليتافيزيقي‪ ،‬عندما نضعها عىل‬
‫ّ‬
‫امليتافيزيقي للشخص ّية اإلنسان ّية بأبعادها‬
‫ّ‬ ‫العلم ّية والعقل ّية‪ .‬وهذا التمكُّن امت ّد إىل ثقته بتفسريه‬
‫الروحيّة والعقليّة واإللهيّة‪ ،‬وربط تلك القوى واملك ّونات العقليّة والروحيّة والوجدانيّة‪ ،‬باملعرفة‬
‫ومراتبها ومصادرها ومراحلها من وجه‪ ،‬واألفعال السلوك ّية واألخالق ّية واإلميان ّية والرشع ّية من وجه‬
‫آخر‪ ،‬أكاد أجزم بأسبقيّته يف أغلبها‪ ،‬بل أنه يف بعض كالمه ويف معرض حديث آخر عن اإلنسان‬
‫وميتافيزيقا مصريه يف الحياة األخرى‪ ،‬قد جزم بأنه ناقش أحوال وطبيعة وصفة األجسام واألرواح‬
‫البرشيّة‪ ،‬بعد الحرش ودخول الج ّنة والنار بطريقة أكّد فيها أنه مل يسبقه أحد من القوم قبله من رجال‬
‫التص ّوف والفلسفة وحتى رجال علوم الرشيعة وعلوم الحقيقة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫المحور‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬ابن حزم‪ ،‬امللل واألهواء والنحل‪ ،‬املطبعة األدب ّية‪ ،‬مرص ‪132‬هـ ‪1902‬م‪ ،‬ج‪.15‬‬
‫‪2.2‬ابن سينا‪ ،‬عيون الحكمة‪ ،‬تحقيق د‪ .‬عبدالرحمن بدوي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بريوت‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪3.3‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات‪ ،‬املك ّية‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت ب‪ ،‬ت ج‪.2‬‬
‫‪4.4‬ابن عريب‪ ،‬يف الفصوص‪ ،‬تح‪ :‬د‪ .‬أبو العالء عفيفي‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الثقافة‪ ،‬بغداد‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪5.5‬أبو الفرج الجوزي‪ ،‬كتاب املوضوعات‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن محمد عثامن‪ ،‬املدينة‬
‫املنورة‪1968 ،‬م‪ .‬ج‪.1‬‬
‫‪6.6‬أخوان الصفاء‪ ،‬الرسائل‪ ،‬تح‪ :‬بطرس البستان‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت للطباعة‪ ،‬بريوت‪1957 .‬م‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫‪7.7‬بدوي‪ ،‬اإلنسان ّية والوجوديّة يف الفكر العريب‪ ،‬ط‪ 2‬دار القلم‪ ،‬بريوت ‪1982‬م‪.‬‬
‫مؤسسة‬
‫‪8.8‬جان فال‪ ،‬طريق الفيلسوف‪ ،‬ترجمة‪ .‬د‪ .‬أحمد حمدي محمود‪ ،‬مراجعة د‪ .‬عفيفي‪ّ ،‬‬
‫سجل العرب‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪9.9‬الحافظ شمس الدين محمد الذهبي‪ ،‬يف ميزان االعتدال‪ :‬تحقيق عيل أحمد البجاوي‪ ،‬نرش‬
‫عيىس الحلبي‪ ،‬مرص ب‪ .‬ت‪ ،‬ج‪.13‬‬
‫‪1010‬حسان األلويس‪ ،‬الفلسفة واإلنسان‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬بغداد ‪1990‬م‪.‬‬
‫‪1111‬ديوان الحالّج‪ ،‬تحقيق د‪ .‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬مطبعة املعارف‪ ،‬بغداد‪1973 ،‬م‪.‬‬
‫‪1212‬سامي نرص لطيف‪ ،‬الحرية املسؤولة يف الفكر الفلسفي اإلسالمي‪ ،‬مكتبة الحرية الحديثة‪،‬‬
‫القاهرة ‪1977‬م‪.‬‬
‫‪1313‬السيوطي يف الجامع الصغري‪ ،‬دار الفكر بريوت‪1981 .‬م‪.‬‬
‫‪1414‬عبد الستار الراوي‪ ،‬ثورة العقل دراسة يف فكر املعتزلة‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬الكويت‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪1515‬عبدالجبار النفري‪ ،‬املواقف واملخاطبات‪ ،‬ت‪ :‬آرثر يوحنا أربري‪ ،‬ط‪ 1‬دار الكتب املرصيّة‬
‫القاهرة‪1934 ،‬م‪.‬‬
‫‪1616‬عبدالرحمن بدوي‪ ،‬أفلوطني عند العرب‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪1977 ،‬م‪.‬‬
‫‪1717‬عبداملنعم الحفني‪ ،‬معجم مصطلحات الصوف ّية‪ ،‬ط‪ 1‬دار املسرية‪ ،‬بريوت ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪1818‬الغزايل‪ ،‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬مكتبة الرشق‪ ،‬بغداد ‪.1990‬‬

‫‪104‬‬
‫األبعاد الميتافيزيق َّية للصورة اإلنسان َّية‬

‫‪1919‬الغزايل‪ ،‬مخترص اإلحياء‪ ،‬مكتبة أسعد‪ ،‬بغداد‪1990 ،‬م‪.‬‬


‫‪2020‬الفارايب‪ ،‬آراء أهل املدينة الفاضلة‪ ،‬دار العراق‪ ،‬بريوت ‪1955‬م‪.‬‬
‫‪2121‬الكندي‪ ،‬الرسائل‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبدالهادي أبو ريده‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬مرص ‪1950‬م‪.‬‬
‫‪2222‬محمد عيل أبو ريان‪ ،‬تاريخ الفكر الفلسفي يف اإلسالم‪ ،‬دار املعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪1989‬م‪.‬‬
‫‪2323‬محمود قاسم‪ ،‬يف النفس والعقل لدى فلسفة اإلغريق واإلسالم‪ ،‬ط‪ 4‬مكتبة األنجلو‬
‫املرصيّة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪2424‬املواقف يف علم الكالم‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫‪2525‬نظلة أحمد نائل‪ ،‬الخصائص العا ّمة للتجربة الصوف ّية‪ ،‬رسالة دكتوراه بإرشاف د‪ .‬عبد األمري‬
‫األعسم‪ ،‬جامعة بغداد ‪ /‬قسم الفلسفة‪ ،‬بغداد‪1990 ،‬م‪ ،‬مخطوط‪.‬‬
‫‪2626‬يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونان ّية‪ ،‬ط‪ ،‬لجنة التأليف والنرش‪ ،‬مرص‪1936 ،‬م‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ميتافيزيقا احلضور واملشاهدة‬
‫بحث يف أصول ومبادئ الرؤية الكون َّية العرفان َّية‬

‫فادي نارص‬
‫اإلسالمية ف ي� جامعة المعارف‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أستاذ الفلسفة والدراسات‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ‬
‫المتبعة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫المعرفية‬ ‫اإلنسانية باختالف المناهج‬ ‫الكونية‬ ‫تختلف الرؤى‬
‫وه نابعة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وعلم العرفان كبقية العلوم اإلسالمية‪ ،‬له رؤيته الكونية الخاصة‪ ،‬ي‬
‫َّ‬
‫الروحية باالعتماد‬ ‫المتأسس عىل الكشف والمشاهدة‬ ‫ِّ‬ ‫ف ِّ‬
‫المعر�‬ ‫من منهجه‬
‫ي‬
‫َّ ف‬ ‫ت ُ َ‬ ‫َّ‬
‫ال� تعت ب� وسيلة العارف األساسية ي� تحصيل‬ ‫عىل أداة القلب المعرفية ي‬
‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬
‫ال� يصطلح عليها ي� القرآن الكريم‬ ‫ه ي‬ ‫المعرفة الحضورية‪ .‬وهذه المعرفة ي‬
‫َّ‬
‫اإللهية‬ ‫ت�ل الرحمة‬ ‫ال� تحصل لدى العارف من خالل نزُّ‬ ‫ت‬ ‫َّ َّ‬
‫بالمعرفة "اللدنية"‪ ،‬ي‬
‫يتوصل إىل معرفته بالعقل‬ ‫َّ‬ ‫عىل قلبه‪ ،‬فيبرص ويعاين بواسطته ما ال يمكن أن‬
‫وال�هان‪.‬‬
‫ب‬
‫َّ‬
‫الكونية هو التوحيد‪ ،‬والمنتىه هو‬ ‫َّ‬
‫األساس من بناء العارف لرؤيته‬ ‫الهدف‬
‫ي‬
‫ن‬ ‫َّ‬ ‫ن‬
‫سؤال� أساسي ي� هما‪ :‬ما التوحيد؟‬‫ي‬ ‫التوحيد‪ ،‬وعماد هذه الرؤية اإلجابة عن‬
‫الموحد؟ فالتوحيد عنده يختلف عىل مستوى التأسيس والمنهج‬ ‫ِّ‬ ‫ومن هو‬
‫ّ‬
‫الوجودي"‪،‬‬ ‫غ�ه من العلماء‪ ،‬وهو يصطلح عليه بـ "التوحيد‬ ‫والنتائج عن ي‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ويصطلح عىل المتحقق بهذا التوحيد بـ "اإلنسان الكامل"‪.‬‬

‫* * *‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا المشاهدة ‪ -‬المعرفة‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬الرؤية الكونية ‪ -‬التوحيد ‪-‬‬
‫الكشفية ‪ -‬وحدة الحق ‪ -‬اإلنسان الكامل‪.‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ين‪ ،‬وهو ما يُصطلح‬‫اإلبداعي لكيف َّية ابتداع الوجود اإلمكا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يتف َّرد العارف بنظريَّته الفذّة وتفسريه‬
‫عليه بـ«عامل الكرثة» الذي يقابل «عامل الوحدة»‪ .‬وألجل أن مييض بنظريته إىل مآالتها‪ ،‬سيون عليه‬
‫حر يف اإلجابة عىل سؤال شغل بال األنبياء واألولياء والفالسفة عىل م ِّر العصور وهو؛ «كيفيَّة‬ ‫أن يتب َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫صدور الكرثة اإلمكان َّية والخلق َّية من الوحدة الوجوديَّة للحق؟»‪ ،‬من دون أي يخدش يف «وحدة‬
‫الحق»‪ ،‬وال ينقص من قدرها قيد أُمنلة‪ ،‬وهذا هو ه ُّمه األوحد‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫مدخل إىل فهم الوجود عند العارف‪:‬‬


‫تختلف حقيقة الوجود[[[ باختالف املدارس الفكريَّة واملناهج املتّبعة‪ .‬فهو عند املتكلِّم غريه‬
‫للحق تعاىل حيث يع ّرفه‬
‫ِّ‬ ‫عند الفيلسوف‪ ،‬وعند الفيلسوف غريه عند العارف‪ .‬إنَّه عند العارف مساوق‬
‫الحق وحده من حيث ذاته وعينه‪ .‬مبعنى أنَّه‬ ‫ِّ‬ ‫الحق»[[[‪ .‬وهو ليس سوى وجود‬
‫ّ‬ ‫قائل «الوجود إنَّه‬
‫ً‬
‫جل‬
‫الحق َّ‬
‫ُّ‬ ‫من حيث هو وجود‪ -‬أي الوجود الرصف املحض املس َّمى عندهم بالوجود املطلق‪ -‬هو‬
‫أصل‪.‬‬
‫ً‬ ‫جالله ال غريه‪ ،‬و ليس لغريه وجود‬
‫حقيقي من جميع الجهات‪ ،‬ليس فيه كرثة بوجه من الوجوه ال ذه ًنا‬ ‫ٌّ‬ ‫هذا الوجود املطلق واح ٌد‬
‫جا‪ ،‬وهو من َّزه عن جميع ال ّنسب واإلضافات‪ ،‬وعن التعيني واإلطالق‪ ،‬وعن الوصف واإلسم‬ ‫وال خار ً‬
‫وغريها من االعتبارات‪ ،‬أل َّن اليش‏ء من حيث هو هو‪ ،‬ال يُراد به إلَّ ذلك اليش‏ء من حيث ذاته فقط‪.‬‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫جل جالله يف قوله‏‪﴿ :‬فإِن اهلل غن ٌِّي َع ِن العال ِمين﴾[[[‪ .‬ولذا قالوا إنّه الوجود‬ ‫وعن هذا التنزيه أخرب َّ‬
‫الليش‏ء‪.‬‬ ‫املحض من حيث هو هو‪ ،‬ال برشط اليش‏ء‪ ،‬وال برشط َّ‬
‫حقيقي من جميع الجهات‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫الحق تعاىل ال غري‪ ،‬وأنَّه واحد‬
‫ُّ‬ ‫مبعنى آخر‪ ،‬الوجود عند العارف «هو‬
‫وهم وال حقيق ًة وال مجازًا‪ ،‬وهو‬‫عقل وال ً‬‫جا وال ً‬ ‫ليس فيه كرثة بوجه من الوجوه‪ ،‬ال ذه ًنا وال خار ً‬
‫غني عن جميع ذلك‪ ،‬من َّزه‪ ،‬مق َّدس عن التعريف والتعيني واإلطالق والتقييد والتشبيه والتعطيل‪،‬‬ ‫ٌّ‬
‫الحقيقي‪ ،‬ولغريه الوجود‬
‫ّ‬ ‫الكل‬
‫ّ‬ ‫وغري ذلك من االعتبارات‪ ،‬ليس يف الوجود غريه‪ ،‬له الوجود‬
‫املجازي‪ ،‬وهو واجب الوجود لذاته‪ ،‬وممتنع العدم لذاته»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االعتباري‬
‫ّ‬
‫وامل ُراد بـ «املطلق» هو الذات املطلقة املن َّزهة عن جميع االعتبارات‪ .‬وليس إطالق لفظ‬

‫[[[‪ -‬أي مصداق الوجود‪.‬‬


‫[[[‪ -‬القيرصي‪ ،‬داود‪ ،‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬تحقيق آية الله حسن زادة اآلميل‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪ ،‬الطبعة األوىل‪1424 ،‬ق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.21‬‬
‫[[[‪ -‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.97‬‬
‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬املقدّ مات من كتاب نص النصوص‪ ،‬تصحيح وتقديم هرني كربان وعثامن يحيى‪ ،‬إنتشارات طوس‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1367،‬ش‪ ،‬ص‪.407‬‬

‫‪107‬‬
‫المحور‬

‫إل من هذه الحيث َّية‪ ،‬ال من جهة املطلق الذي هو بإزاء املق ّيد‪.‬‬ ‫«املطلق» عىل الوجود البحت‪َّ ،‬‬
‫أي يش‏ء عليه‪ ،‬إطالقًا كان أو تقيي ًدا‪ ،‬عا ًّما‬‫غني عن إطالق ِّ‬ ‫أل َّن الوجود املحض من حيث هو هو‪ٌّ ،‬‬
‫يصح أن يحكم عليه بحكم‪ ،‬أو‬ ‫ُّ‬ ‫يت فال‬
‫إسم كان أو صفةً‪ .‬أ َّما من حيث إطالقه الذا ِّ‬ ‫خاصا‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫كان أو‬
‫كل ذلك يقتيض‬ ‫يع َّرف بوصف‪ ،‬أو تضاف إليه نسبة ما‪ ،‬من وحدة أو وجوب أو إيجاد وغريه‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫الكل‪ ،‬حتّى عن اإلطالق وعدم اإلطالق‪ ،‬أل ّن اإلطالق هو بنفسه تقييد‬ ‫التعي والتق ُّيد‪ .‬فهو من َّزه عن ِّ‬
‫ُّ‬
‫يت‬
‫اللإطالق قيد بعدم اإلطالق‪ ،‬وألنّه تعاىل بنفسه ومن حيث إطالقه الذا ِّ‬ ‫يق ّيد اإلطالق‪ ،‬كام أ ّن َّ‬
‫غني عنها‪ .‬وإىل هذا التنزيه أشار أمري املؤمنني‪ ،‬عيل بن أيب‬ ‫ال يحتاج إىل صفة يوصف بها‪ ،‬فإنَّه ٌّ‬
‫طالب‪ ‬يف قوله‪« :‬وكامل اإلخالص له نفي الصفات عنه»[[[‪ .‬فهو إشارة إىل الوجود املطلق‬
‫أصل وال اإلشارة إليه أب ًدا‪ ،‬كام قال عليه السالم يف موضع‬ ‫ً‬ ‫املحض الذي ال ميكن وصفه بيش‏ء‬
‫آخر‪« :‬الحقيقة كشف سبحات الجالل من غري إشارة»[[[‪.‬‬
‫«وإل فبالنسبة إليه ال إطالق وال‬
‫َّ‬ ‫إل من باب سلب التقييد عنه‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن تسميته باملطلق ليس َّ‬
‫أصل‪ ،‬وال إطالقه عنه‪ .‬ومن هنا‬‫ً‬ ‫كل يش‏ء يعترب من حيث هو هو‪ ،‬ال يجوز تقييده بيش‏ء‬ ‫تقييد‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫قلنا يف تعريف الوجود‪ :‬الوجود هو املطلق املحض والذات الرصف‪ ،‬لتحقُّق اعتباره من حيث‬
‫هو هو‪ ،‬ال من‏ حيث اإلطالق وال التقييد وال السلب وال اإلثبات‪ ،‬أل ّن التقييد كام أنّه قيد‪ ،‬كذلك‬
‫اإلطالق‪ ،‬فإنّه أيضً ا قيد‪ .‬وكذلك السلب واإلثبات‪ ،‬فإ َّن السلب كام أنّه قيد‪ ،‬اإلثبات أيضً ا هو قيد‪.‬‬
‫فاألصلح تص ُّوره من حيث هو هو‪ ،‬أعني تص ُّور الوجود من حيث هو هو‪ ،‬ال برشط اليش‏ء وال برشط‬
‫الليش‏ء‪ ،‬لريتفع اإلشكال‪ .‬وهذا دقيق يحتاج إىل دقَّة فهم وجودة ذهن «[[[‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وينبغي أن نلفت النظر إىل أ َّن هذا التقسيم للوجود إىل مطلق ومق ّيد‪ ،‬ال برشط وبرشط ال‬
‫الذهني‪ ،‬أ َّما الوجود من حيث هو هو فال‬
‫ِّ‬ ‫وغريها من التقسيامت‪ ،‬إنَّ ا هو بلحاظ العقل والتحليل‬
‫ينقسم وال يتجزأ بل هو كام قال الرسول (ص)‪»:‬كان الله ومل يكن معه شيئ واآلن كام كان»[[[‪.‬‬
‫َّ‪»:‬كل يش‏ء يُتص َّور أو يُعقَل‪ ،‬له ثالثة اعتبارات‪ :‬اعتبار الذات‬
‫وعلّة هذا التقسيم للوجود هو أن ّ‬
‫الحق تعاىل‪ -‬من حيث الذات‬ ‫ُّ‬ ‫والحقيقة‪ ،‬واعتبار الصفات‪ ،‬واعتبار سلب الصفات‪ .‬فالوجود ‪-‬أو‬
‫أصل‪ ،‬ومن هذه الحيثيَّة‪ ،‬ال يُع َّرف وال يُع َرف وال يحكم عليه بيش‏ء‪،‬‬
‫ً‬ ‫والحقيقة‪ ،‬ال يوصف بيش‏ء‬
‫إل عىل املعلوم أو املع َّرف املوصوف‪ ،‬فالذي ال يكون معلو ًما وال موصوفًا‬ ‫يصح َّ‬
‫ُّ‬ ‫أل َّن الحكم ال‬
‫بهام‪ ،‬ال يقبل الحكم وال يجوز الحكم عليه‪ ...‬وكذلك (األمر) ه ُهنا‪ ،‬فإ َّن الوجود إذا وصف بحيث‬

‫مؤسسة الوفاء‪ ،‬بريوت‪ 1404،‬ه ق‪،‬ج‪،4‬ح‪ ،5‬ص ‪.247‬‬‫[[[‪ -‬املجليس‪ ،‬محمد باقر‪ ،‬بحار األنوار‪َّ ،‬‬
‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬جامع األرسار ومنبع األنوار‪ ،‬تحقيق هرني كربان وعثامن يحي‪ ،‬انتشارات علمى وفرهنىك‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1368 ،‬ش‪،‬‬
‫ص ‪.29‬‬
‫[[[‪ -‬املقدِّ مات من كتاب نص النصوص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.408‬‬
‫[[[‪ -‬جامع األرسار ومنبع األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.303‬‬

‫‪108‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫يئ أو غري ذلك‪ .‬هذا بحسب‬ ‫كل أو جز ّ‬ ‫هو هو‪ ،‬ال يقال له‪ :‬هو كثري أو واحد‪ ،‬موجود أو معدوم‪ّ ّ ،‬‬
‫االعتبار األ ّول (أي الوجود من حيث الذات والحقيقة)‪ .‬فأ ّما باعتبار اآلخر‪ -‬أعني باعتبار الصفات‬
‫بكل يش‏ء من األسامء والصفات والظهور والبطون وأمثالها‪،‬‬ ‫أو سلبها‪ -‬فيجوز أن يوصف (الوجود) ِّ‬
‫مفص ًل عند بحث الظهور إن شاء الله تعاىل‪ ...‬والحاصل أ ّن املراد بإطالقه‪ ،‬تنزيهه‬ ‫كام سيجي‏ء ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫بكل يش‏ء من صفات الكامل‬ ‫وتقديسه‪ ،‬ال اإلطالق الذي بإزاء املقيّد‪ .‬و(املراد) بالتقييد اتّصافه ِّ‬
‫عىل طريق اإلضافة‪ -‬أي إضافة املطلق إىل املقيّد‪ ،‬ال التقييد الذي هو بإزاء املطلق‪ -‬عىل الوجه‬
‫بأي وجه يحصل‪ ،‬هو املقصود من طريق القوم‏»[[[‪ .‬إذًا فالذات اإلله َّية ميكن‬ ‫الذي ق َّررناه‪ .‬وهذا ِّ‬
‫النظر إليها من وجهني‪:‬‬
‫الوجه األ َّول‪ ،‬من حيث هي ذات بسيطة مج ّردة عن النسب واإلضافات‪ ،‬وبهذا الِّلحاظ تكون‬
‫من َّزهة عن جميع االعتبارات بل حتى عن املعرفة‪ .‬والذَّات بهذا الوجه هي وجود مطلق‪.‬‬
‫ونسبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوجه الثاين‪ ،‬من حيث هي ذات متَّصفة بصفات‪ ،‬وهي عىل هذا الوجه وجود مق َّيد‬
‫املطلق‬
‫ُّ‬ ‫يشك يف الوجود‬ ‫ُّ‬ ‫كل من‬ ‫بديهي‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫ٌّ‬ ‫يجدر القول أَّ َّن الوجود املطلق عند العارف‬
‫يشك أحد يف‬ ‫يشك يف وجوده هو ألنَّه من مصاديق هذا الوجود املطلق‪ ،‬ومن املحال أن َّ‬ ‫فسوف ُّ‬
‫غني عن التعريف‪،‬‬ ‫يشك يف الوجود املطلق‪ .‬ولٍذلك قالوا إ َّن الوجود ٌّ‬ ‫وجوده‪ ،‬إذًا من املحال أن َّ‬
‫وما ع َّرفه أحد بيشء يوجب االطمئنان واإليقان‪ ،‬أل َّن هذا هو حال أكرث البديه َّيات‪ ،‬كام يقول السيد‬
‫شك أحد من العقالء وأرباب العلم يف الوجود مطلقًا‪ ،‬وال‬ ‫شك وال خفاء أنَّه ما َّ‬ ‫حيدر اآلميل‪« :‬ال َّ‬
‫من أرباب الكشف وأهل الشهود أيضً ا‪ ،‬وإن اختلفوا يف تعريفه وتحقيقه‪ ،‬وعجزوا عن تعيينه والتعبري‬
‫يشك أحد‬ ‫يشك يف وجوده الذي هو جزؤه‪ .‬ومحال أن َّ‬ ‫يشك يف الوجود مطلقًا‪ُّ ،‬‬ ‫كل من ُّ‬ ‫عنه‪ .‬فإ َّن َّ‬
‫بديهي لبداهة‬‫ٌّ‬ ‫يشك أحد يف الوجود مطلقًا‪ ...‬واملراد أ ّن الوجود املطلق‬ ‫ّ‬ ‫يف وجوده‪ ،‬فمحال أن‬
‫ورضوري التص ُّور لرضوريَّات أجزائه التي هي املقيَّدات‪ .‬ومن هذا صار الوجود غنيًّا عن‬ ‫ٌّ‬ ‫مقيَّداته‪،‬‬
‫التعريف‪ ،‬أل َّن البديهيَّات كلَّها هي كذلك‪ ،‬أعني ليست محتاجة إىل تعريف كالذوقيَّات‪ ،‬فثبت أ َّن‬
‫رضوري»[[[‪ .‬وهذا التفسري الذي يق ِّدمه العارف للوجود‬ ‫ّ‬ ‫بديهي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫ذوقي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫تص َّور الوجود املطلق هو‬
‫يخ ِّوله أكرث من غريه سرب أغوار الكثري من اآليات والروايات وكشف أرسارها‪ ،‬واإلجابة عن األسئلة‬
‫الكثرية التي تدور حولها‪ .‬كام ميكِّنه من إدراك وفهم حقيقة التوحيد الذي هو شغل العارف الشاغل‪.‬‬
‫ََ ْ َْ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َُ‬
‫ح ُن أق َر ُب‬ ‫﴿وه َو َم َعك ْم أ ْي َن ما كن ُت ْم﴾‪﴿ ،‬ون‬ ‫رس قوله‪:‬‬
‫الحق علمت َّ‬ ‫ُّ‬ ‫فإذا «علمت أ َّن الوجود هو‬
‫َّ‬ ‫َ ُ َ َّ‬ ‫ُ ْ ََ ُْ ُ َ‬ ‫َ َُْ‬ ‫ْ ُْ ُ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫كن لا تب ِصرون﴾‪﴿ ،‬ويف أنفسِكم أفلا تب ِصرون﴾‪﴿ ،‬وهو الذِي في السماءِ‬ ‫إِليْهِ مِنك ْم َو ل ِ‬

‫[[[‪ -‬املقدِّ مات من كتاب نص النصوص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.408‬‬


‫[[[‪ -‬املقدِّ مات من كتاب نص النصوص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ٍ.410‬‬

‫‪109‬‬
‫المحور‬

‫يط﴾ و«كنت‬ ‫ح ٌ‬ ‫َّ ُ ُ‬


‫ك ّل َش ْ‏ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ماوات َوالْأَ ْ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫له َويف الْأَ ْر ِض إ ٌ‬
‫إ ٌ‬
‫ي ٍء م ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬‫ب‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫﴿‬ ‫﴾‪،‬‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫الس‬ ‫ور‬ ‫ن‬ ‫﴿اهلل‬ ‫وقوله‪:‬‬ ‫﴾‪.‬‬ ‫له‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رس قوله عليه السالم‪« :‬لو دلّيتم بحبل لهبط عىل الله»‪ ،‬وأمثال ذلك من األرسار‬ ‫سمعه وبرصه»‪ .‬و ُّ‬
‫املنبِّهة للتوحيد بلسان اإلشارة»[[[‪.‬‬
‫بأي وجه من الوجوه‪ ،‬وأنّه‬ ‫والوجود عند العارف واح ٌد ال رشيك له‪ ،‬مبعنى أنَّه ليس فيه كرثة ِّ‬
‫ليس لغريه وجود‪ ،‬وهذا ما يس ّمونه بالوحدة الشخصيَّة للوجود‪ .‬فالحقيقة الوجوديَّة عنده واحدة‬
‫إل بالنسب واالعتبارات واإلضافات‪ .‬فالوحدة عنده حقيق َّية والكرثة اعتباريَّة‪،‬‬ ‫بالذات‪ ،‬ال تع ُّدد فيها َّ‬
‫وليس املقصود باالعتباريَّة أنَّها رساب ووهم من قبيل أنياب األغوال‪ ،‬بل املقصود أنها نفس أَم ِريَّة‪،‬‬
‫مبعنى أ َّن لها منشأ انتزاع من الخارج‪ .‬مثال عىل ذلك املاه َّية‪ ،‬فهي بناء عىل أصالة الوجود اعتباريَّة‬
‫خاص يف الخارج‪ .‬وهذا هو حال الكرثة‬ ‫ٍّ‬ ‫وليس لها وجود يف الخارج‪ ،‬نعم هي منتزعة من موجود‬
‫بالنسبة إىل الوجود الواحد‪ .‬وقد استدلّوا عىل م َّدعاهم بأدلَّة مل نذكرها من ًعا لإلطالة والخروج عن‬
‫نص النصوص»‪،‬‬ ‫أصل البحث‪ ،‬وملن يرغب يف التع ُّرف عليها فلرياجع كتاب «املق ِّدمات من كتاب ِّ‬
‫و«رسالة نقد النقود يف معرفة الوجود» للسيد حيدر اآلميل‪.‬‬
‫ّ‬
‫العالم ظهور احلق‪:‬‬
‫الحق‪ ،‬وأنَّه ليس يف وجود غريه‪ ،‬وهو واحد ال ن َّد له وال‬
‫َّ‬ ‫إذا كان الوجود املوسوم باملطلق هو‬
‫يفس لنا هذه الكرثة‪ ،‬وهذه التع ُّينات‬
‫رشيك‪ ،‬وهو ما يصطلح عليه العارف بوحدة الوجود‪ ،‬فكيف إذًا ّ‬
‫املوجودة يف العامل؟! وكيف ينفي الوجود لغريه تعاىل مع أنَّنا نرى أمو ًرا ممكنة وتع ُّينات أخرى‬
‫موجودة يف الخارج ؟!‬
‫الخاص للوجود وللكرثة املوجودة يف هذا العامل أيضً ا‪ ،‬فهو وإن كان‬ ‫ُّ‬ ‫للعارف منظومته وتفسريه‬
‫إل أ َّن هذه الوحدة عنده تنفي الكرثة الوجوديَّة ال الكرثة االعتباريَّة‪.‬‬ ‫يؤمن بالوحدة الشخص َّية للوجود َّ‬
‫وهم ورسابًا‪ ،‬بل لها منشأ انتزاع من الخارج‪ ،‬ومنشأ‬ ‫فالكرثة عنده حقيقيَّة أيضً ا‪ ،‬مبعنى أنَّها ليست ً‬
‫تستحق الوجود‬
‫ُّ‬ ‫الحق وأحواله‪ ،‬يعني أنَّها بذاتها ال‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقي‪ ،‬فهي من شؤون‬ ‫ّ‬ ‫انتزاعها هو املوجود‬
‫والعدم‪ ،‬ولكن عند مقارنة الوجود إيَّاها تصبح موجودة‪ ،‬فالكرثة والتع ُّينات الوجوديَّة ليست موجودة‬
‫الحق تعاىل بل وجودها إمنا هو بوجوده‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬إن التع ُّينات تكون معدومة من‬ ‫ِّ‬ ‫بإزاء وجود‬
‫حيث هي تعيُّنات‪ ،‬أ َّما إذا اعتربت من حيث هي أحوال للوجود‪ ،‬ومظاهر يظهر من خاللها‪ ،‬فال تكون‬
‫فالحق يف هذه املرتبة يظهر بهذا الوجود ويف تلك املرتبة يظهر بوجود آخر‪ .‬لذا قالوا إنّه‬ ‫ُّ‬ ‫معدومة‪.‬‬
‫هو الظاهر والعامل َمظ َه ُره‪ ،‬فهذه التع ُّينات ليست سوى مظا ِه ُره التي ظَ َهر من خاللها يف هذا العامل‪.‬‬

‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.36‬‬

‫‪110‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫الحق الظاهر بصور املمكنات كلّها‪ .‬فلظهوره تعاىل بتع ُّيناتها‬‫ِّ‬ ‫إل وجود‬ ‫عند العارف «العامل ليس َّ‬
‫ُس ّمي باسم «السوى» و«الغري»‪( ،‬أي) باعتبار إضافته إىل املمكنات‪ ،‬إذ ال وجود للممكن إلَّ مبج َّرد‬
‫الحق‪ ،‬وهي شؤونه‬ ‫ِّ‬ ‫الحق‪ ،‬واملمكنات ثابتة عىل عدمها يف علم‬
‫ِّ‬ ‫وإل فالوجود عني‬ ‫هذه النسبة‪َّ .‬‬
‫والحق هويّة العامل وروحه‪ .‬وهذه التع ُّينات يف الوجود الواحد (هي)‬ ‫ُّ‬ ‫الحق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الذات َّية‪ .‬فالعامل صورة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫والحق هو الظاهر والباطن واأل َّول واآلخر‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫أحكام اسمه «الظاهر» الذي هو مجىل السمه «الباطن»‪.‬‬
‫حقيقي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫أصل‪ .‬وحيث أ َّن العامل عند التحقيق مل يكن إلَّ كذلك‪ ،‬وليس له وجود‬ ‫ً‬ ‫وليس لغريه وجود‬
‫قال الشيخ (ابن العريب) يف املقام نكتة هي يف غاية اللطف‪ ،‬وهي قوله‪«:‬العامل غيب مل يظهر قطّ‪،‬‬
‫والحق تعاىل هو الظاهر ما غاب قطّ‪ .‬والناس يف هذه املسألة عىل عكس الصواب‪ ،‬فيقولون‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫والحق تعاىل غيب»» ‪ .‬أ َّما التعيُّنات من حيث أنفسها بقطع النظر عن معروضها‬
‫[[[‬
‫ُّ‬ ‫العامل ظاهر‬
‫تستحق الوجود‪ ،‬وال العدم أيضً ا‪ ،‬بل تقتيض بهذا االعتبار عدم االستحقاق ليش‏ء‬ ‫ُّ‬ ‫ومقارنتها له‪ ،‬فال‬
‫منهام‪ ،‬وهذا هو مفهوم اإلمكان الذي مقتىض طبائعه عدم استحقاق َّيته الوجود والعدم‪ ،‬وذلك أل َّن‬
‫هذه التع ُّينات «عند مقارنة الوجود إيَّاها ومقارنتها للوجود‪ ،‬تصري موجودة بالرضورة‪ ،‬فلو كانت‬
‫استحقاقيَّة العدم مطلقًا مقتىض طبائعها‪ ،‬للزم صريورة املمتنع الذايتِّ موجو ًدا برضورة الوصف‪،‬‬
‫وذلك بَ ِّي االستحالة‪ ،‬فظهر أ َّن عدم استحقاقيَّة الوجود والعدم‪ ،‬هو مقتىض طبائع التعيُّنات»[[[‪.‬‬
‫أحوال عندما‬
‫ً‬ ‫إل أ َّن له‬
‫وعليه‪ ،‬فالوجود وإن كان أم ًرا واح ًدا ال تع ُّدد فيه وما عداه عدم محض‪َّ ،‬‬
‫يل عليها يكون سببًا لهذه التعيُّنات واملاهيَّات‪ ،‬وال يقع اإلدراك إلَّ عىل تلك‬ ‫يقع اإلدراك العق ُّ‬
‫القيرصي‬
‫ُّ‬ ‫األحوال‪ ،‬أ َّما الوجود الواحد من حيث هو واحد فال يعقل وال يدرك‪ .‬يف هذا السياق‪ ،‬يؤكِّد‬
‫إل‪،‬‬‫يل ليس َّ‬
‫عىل أ ّن الوجود واحد ال رشيك له وال تع ُّدد فيه‪ ،‬وأ َّن التغاير منشؤه فقط االعتبار العق ُّ‬
‫بقوله‪« :‬الوجود‪ ،‬من حيث هو واحد‪ ،‬ال ميكن أن يتحقَّق يف مقابله وجود آخر‪ ،‬وبه يتحقَّق الض َّدان‬
‫ويتق َّوم املثالن‪ ،‬بل هو الذي يظهر بصورة الض َّدين وغريهام ويلزم منه الجمع بني النقيضني‪ ،‬إذ‬
‫كل منهام يستلزم سلب اآلخر‪ ،‬واختالف الجهتني إمنا هو باعتبار العقل‪ .‬وأ َّما يف الوجود فتتَّحد‬ ‫ٌّ‬
‫الجهات كلُّها‪ ،‬فالظهور والبطون وجميع الصفات الوجوديَّة املتقابلة مستهلكة يف عني الوجود فال‬
‫إل يف اعتبار العقل»[[[‪ .‬والتع ُّينات املمكنة عنده ال تعدم بل تدخل يف الباطن بعد الخضوع‬ ‫مغايرة َّ‬
‫لحيطة اإلسم الباطن‪ ،‬وبعد زوال اإلضافات التي تعرض الوجود والتي هي أمور اعتباريَّة‪« :‬ويف‬
‫الحقيقة املمكن أيضً ا ال ينعدم بل يختفي ويدخل يف الباطن الذي ظهر منه‪ ،‬واملحجوب يزعم‬
‫أنَّه ينعدم‪ .‬وتو ُّهم انعدام وجود املمكن أيضً ا إنّ ا ينشأ من فرض األفراد للوجود‪ .‬فالوجود حقيقة‬

‫[[[‪ -‬املقدِّ مات من كتاب نص النصوص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.361‬‬


‫[[[‪ -‬صائن الدين‪ ،‬ابن تركه األصفهاين‪ ،‬متهيد القواعد‪ ،‬تقديم وتصحيح جالل األشتياين‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1381 ،‬ش‪،‬‬
‫ص‪.301‬‬
‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.26‬‬

‫‪111‬‬
‫المحور‬

‫اعتباري‪ ،‬فليس لها أفراد‬


‫ّ‬ ‫واحدة ال ّ‬
‫تكث فيها‪ ،‬وأفرادها باعتبار إضافتها إىل املاهيّات‪ ،‬واإلضافة أمر‬
‫موجودة ليعدم ويزول‪ ،‬بل الزائل إضافتها إليها‪ ،‬وال يلزم من زوالها انعدام الوجود وزواله ليلزم‬
‫[[[‪.‬‬
‫انقالب حقيقة الوجود بحقيقة العدم‪ ،‬إذ زوال الوجود باألصالة هو العدم رضورة وبطالنه ظاهر»‬

‫معىن الظهور‪:‬‬
‫ال ب َّد من القول أ َّن كنه الذات اإلله َّية‪ ،‬والتي يصطلح عليها العارف بالهويَّة الغيب َّية‪ ،‬غري‬
‫معروفة ألحد‪ ،‬وال مشاهدة من قبل أحد‪ ،‬وال ظاهرة ألحد‪ ،‬وال معبودة من أحد‪ ،‬وال مقصودة من‬
‫قبل أحد‪ ،‬ألنَّها بطون وخفاء مطلق‪ ،‬فال إسم وال رسم لها حتى تُعرف أو تظهر‪ ،‬كام يقول اإلمام‬
‫الخميني(قده)‪« :‬إ َّن الهويَّة الغيب َّية األحديَّة والعنقاء املغرب املستك ّن يف غيب الهويَّة والحقيقة‬
‫جب الظلامن َّية يف «عامء» وبطون وغيب وكمون ال إسم لها‬ ‫الكامنة تحت الرسادقات النوريَّة والح ُ‬
‫يف عوامل الذكر الحكيم‪ ،‬وال رسم‪ ،‬وال أثر لحقيقتها املق َّدسة يف امللك وامللكوت وال وسم‪،‬‬
‫تزل لدى رسادقات جاللها أقدام السالكني‪ ،‬محجوب عن ساحة قدسها‬ ‫منقطع عنها آمال العارفني‪ّ ،‬‬
‫قلوب األولياء الكاملني‪ ،‬غري معروفة ألحد من األنبياء واملرسلني‪ ،‬وال معبودة ألحد من العابدين‬
‫والسالكني الراشدين‪ ،‬وال مقصودة ألصحاب املعرفة من املكاشفني‪ ،‬حتّى قال أرشف الخليقة‬
‫حق عبادتك»‪( ...‬و)هذه الحقيقة الغيب َّية غري مربوطة‬‫حق معرفتك‪ ،‬وما عبدناك ّ‬ ‫أجمعني‪« :‬ما عرفناك ّ‬
‫أصل وال اشرتاك أب ًدا‪ .‬فإذا قرع سمعك يف‬ ‫ً‬ ‫بالخلق‪ ،‬متباينة الحقيقة عنهم‪ ،‬وال سنخيّة بينها وبينهم‬
‫مطاوي كلامت األولياء الكاملني نفي االرتباط وعدم االشرتاك والتباين بالذات‪ ،‬فكالمهم محمول‬
‫عىل ذلك‪ .‬وإذا سمعت الحكم باالشرتاك واالرتباط‪ ،‬بل رفع التغاير والغرييَّة من العرفاء املكاشفني‪،‬‬
‫فمحمول عىل غري تلك املرتبة األحديَّة الغيب َّية»[[[‪.‬‬
‫وهذا البطون املطلق الذي هو سمة الهويَّة الغيب َّية‪ ،‬ال يقابله يشء حتى الظهور والبطون اللذين‬
‫هام يف الحقيقة من صفات مقام الواحديَّة واألحديَّة التي هي من تجلّيات ذلك البطون املطلق‪،‬‬
‫تجل اسم‬
‫ّ‬ ‫فكنه الذات عندما تتن َّزل عن مقام إطالقها وخفائها تظهر يف مقام األحديَّة التي هي‬
‫تجل اسم الظاهر‪ .‬إذًا هناك نوعان من البطون‪ ،‬بطون يقابله ظهور‬ ‫ّ‬ ‫الباطن‪ ،‬والواحديَّة التي هي‬
‫وهو مقام األحديَّة‪ ،‬وبطون ال يقابله ظهور وهو كنه الذات اإلله َّية وغيب الهويَّة‪« .‬فالبطون والغيب‬
‫اللّذان نسبناهام إىل هذه الحقيقة الغيب َّية ليسا مقابلني للظهور الّذي (هو) من الصفات يف مقام‬
‫الواحديَّة والحرضة الجمعيّة‪ ،‬وال الباطن الّذي هو من األسامء اإللهيّة‪ ...‬وهام متأخّران عن تلك‬
‫الحرضة (الهويَّة الغيب َّية والبطون املطلق)‪ .‬بل التعبري مبثل هذه األوصاف واألسامء لضيق املجال‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫مؤسسة تنظيم ونرش آثار اإلمام الخميني‪،‬‬
‫َّ‬ ‫األشتياين‪،‬‬ ‫الدين‬ ‫جالل‬ ‫السيد‬ ‫مة‬ ‫مقدّ‬ ‫والوالية‪،‬‬ ‫الخالفة‬ ‫اىل‬ ‫الهداية‬ ‫مصباح‬ ‫[[[‪ -‬الخميني‪ ،‬روح الله‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،‬ص ‪ 13‬و ‪.14‬‬

‫‪112‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫يف املقال»[[[‪ .‬والذات اإللهيَّة ملا أرادت أن تخرج من مقام الغيب والبطون وحرضة الخفاء‬
‫والكمون‪ ،‬قامت وتن َّزلت عن مقام إطالقها الذايتِّ‪ ،‬وهذا التن ُّزل هو ما يصطلحون عليه بالظهور‪،‬‬
‫جه الذات من كُنه غيب‬ ‫حيث ع ّرفوه بأنّه‪»:‬صريورة املطلق متع ّي ًنا بيشء من التع ُّينات»[[[‪ .‬وأنّه‪ »:‬تو ُّ‬
‫املعب بالنسبة العلم َّية»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتجل‬
‫ّ‬ ‫هويَّتها وعدم تناهيها إىل حرضة اإلحاطة والتناهي‪ ،‬وهو الظهور‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫للتعي‬
‫ّ‬ ‫ومقصودهم أ َّن الهويّة املطلقة ملا كانت غري قابلة لل ّنسب واإلضافات ألنّها غري قابلة‬
‫عي‪ ،‬لذا كان ال بد ان تتن ّزل الذات املقدسة أوالً‬
‫بسبب إطالقها وبطونها وال ّنسب إنّ ا تأيت بعد التّ ُّ‬
‫تتعي‪ ،‬وإذا تع ّينت فقد ظهرت‪ .‬وليس مرادهم بالظهور أ ّن اليشء يكون‬ ‫ّ‬ ‫عن مقام إطالقها حتى‬
‫معدو ًما ثم يوجد‪ ،‬أو أن يكون مخفيًّا ثم يظهر‪ ،‬بل مقصودهم أنَّ‪« :‬ظهورها إمنا يكون بتن ُّزلها عن‬
‫رصافة إطالقها ووحدتها‪ ،‬إىل االنتساب بالتقييدات واالنصباغ بكرثة تع ُّيناتها‪ ،‬فإن الحقائق إنّ ا‬
‫تظهر مبقابالتها وذلك أل َّن الظهور عند التحقيق هو أن يتص َّور الظاهر بصورة أثره‪ ،‬فال ب َّد هاهنا من‬
‫متأث ِّر قابل يف مقابلته حتى يؤث ّر فيه ويتأث ّر منه‪ ،‬فيظهر بصورته ويجعله مظه ًرا له»[[[‪.‬‬
‫ث َّم إ َّن التع ُّينات وإن كانت من حيث نسبتها اىل ذاتها معدومة وغري موجودة وال تصلح ألن تكون‬
‫إل أنَّها من حيث كونها أحوال الوجود‬ ‫يف مقابل الوجود املطلق حتى تتأث َّر منه وتظهر بصورتها‪َّ ،‬‬
‫يصح أن ينسب إليها الظهور‬ ‫ُّ‬ ‫ومظاهره التي يظهر من خاللها ال تتَّصف بأنَّها معدومة‪ ،‬وعندها‬
‫كام يقول صاحب «متهيد القواعد»‪« :‬إنّ ا تكون(التع ُّينات) كذلك(معدومة)‪ ،‬لو اعتربت التع ُّينات‬
‫من حيث أنّها هي تع ّينات فقط‪ ،‬وأما إذا اعتربت من حيث أنَّها أحوال للوجود مقارنة له ومظاهر‬
‫وحينئذ تكون معدومات‬‫ٍ‬ ‫يظهر بها فال‪ ،‬فإ َّن تلك التع ُّينات مأخوذة تارة من حيث إنَّها كرثة حقيق َّية‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ تصلح ألن‬ ‫رصفة‪ ،‬ومعترب ٌة أخرى من حيث أنّها معروضة للوحدة وبهذا االعتبار موجودة‪،‬‬
‫ّ‬
‫محال موجودة‪ ،‬كاإليجاب‬ ‫ينسب إليها الظهور وغريه من املعاين الوجوديَّة املقتضية ألن يكون لها‬
‫واالقتضاء وغريهام»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضروري‪:‬‬ ‫ظهور احلق‬
‫تتعي لبقيت عىل إطالقها ووحدتها‬ ‫َّ‬ ‫والتعي أمران رضوريَّان أل َّن الذات اإلله َّية لو مل‬
‫ُّ‬ ‫الظهور‬
‫الرصفة‪ ،‬ولبقيت يف مقام الغيب والخفاء‪ ،‬وملا تحقَّقت بذلك األلوهيَّة والربوبيَّة التي هي من شؤون‬
‫إل باملألوه واملربوب‪ ،‬فال ب َّد إذًا من الظهور لتحقيق‬ ‫الحق الذاتيَّة‪ .‬واأللوهيّة والربوبيّة ال تتحقَّقان َّ‬
‫ِّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.304‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.272‬‬
‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.304‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.306‬‬

‫‪113‬‬
‫المحور‬

‫املألوه واملربوب‪ .‬وليس املألوه واملربوب إال األعيان الثابتة واملاهيَّات غري املجعولة‪ ،‬املحتاجة‬
‫أزل‬
‫الحق الذاتيَّة‪ ،‬الطالبة للوجود من‏ املوجد ً‬ ‫ِّ‬ ‫إىل الوجود والظهور يف الخارج‪ ،‬ألنّها معلومات‬
‫الحق تعاىل بصورهم‪ ،‬إلعطاء‬ ‫حينئذ ظهور ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫وأب ًدا‪ ،‬عىل قدر القابل َّية واالستعداد واالستحقاق‪ .‬فوجب‬
‫حق حقَّه‪ ،‬كظهور النواة بالصورة الشجريَّة‪ ،‬وإعطاء كل غصن من أغصانها ما تستوجبه من‬ ‫كل ذي ٍّ‬ ‫ِّ‬
‫مثار‪ .‬ومن هنا يقول ابن عريب‪ »:‬فنحن جعلناه مبألوهيَّتنا إل ًها‪ ...‬ومعناه‪ :‬نحن أظهرنا بعبوديَّتنا‬
‫معبوديَّته‪ ،‬وبأعياننا إلهيَّته‪ ،‬إذ لو مل يوجد موجود قطُّ‪ ،‬ما كان يظهر أنَّه تعاىل إله‪ .‬بل العلَّة الغائيَّة من‬
‫إيجادنا ظهور إله َّيته‪ ،‬كام نطق به‪(:‬كنت كنزاً مخف ّياً(‪.[[[»...‬‬
‫وألجل ذلك قال ابن عريب أيضً ا‪« :‬فال يُعرف(الحق) حتى نَعرِف‪ ،‬قال عليه السالم‪« :‬من عرف‬
‫الحق من حيث أنّه إله حتى نَعرف‪ ،‬لتوقّف تعقّل هذه الحيث ّية‬
‫ُّ‬ ‫نفسه‪ ،‬فقد عرف ربه»‪ .‬أي فال يُعرف‬
‫الرب عىل معرفة النفس التي هي املربوب‪.‬‬ ‫التي هي النسبة إىل تعقّل املنتسبني‪...‬أي أوقف معرفة ّ‬
‫رب يقتيض املربوب»[[[‪.‬‬
‫الرب من حيث هو ّ‬
‫فإن ّ‬
‫ويشري السيد حيدر اآلميل إىل مسألة توقُّف تحقُّق األلوه َّية والربوب َّية عىل املظاهر أي عىل‬
‫إل بوجود املألوه واملربوب‪.‬‬ ‫املألوه واملربوب فيقول‪« :‬األلوه َّية والربوب َّية ال ميكن وال تتص َّور َّ‬
‫رسا‪ ،‬لو ظهر لبطلت الربوبيَّة» ومعناه ‪ :‬أ ّن الربوبيّة‬ ‫وإليه أشاروا أيضً ا بقولهم‪« :‬إ ّن للربوبيَّة ًّ‬
‫موقوفة عىل املربوب الذي هو (كناية عن) املظاهر اإلله ّية مطلقًا‪ .‬أعني أ ّن الفاعل ّية موقوفة عىل‬
‫رس‪ ،‬أي لو بطل‬ ‫أي أثر وال فعل‪ .‬فلو ظهر هذا ال ّ‬ ‫القابل ّية‪ ،‬أل ّن الفاعل ما مل يكن له قابل مل يكن له ّ‬
‫وارتفع‪ ،‬لبطلت الربوب ّية‪ .‬وإبطال املظاهر وإزالتها عن الوجود مستحيل ممتنع‪ ،‬ألنّها شؤون ذات ّية‬
‫كل واحد منهام‪ ،‬أي‬ ‫مستحيل ممتن ًعا‪ .‬فيكون ّ‬
‫ً‬ ‫وخصوصيّات إلهيّة‪ .‬فإبطال الربوبيّة وإزالتها يكون‬
‫(الحق)‬
‫ّ‬ ‫رس أخرب‬‫الرب واملربوب‪ ،‬والظاهر واملظاهر‪ ،‬مربوطًا باآلخر‪...‬وبالحقيقة عن هذا ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫القديس) املذكور‪« :‬كنت كنزاً مخف ّياً فأحببت أن أُع َرف فخلقت الخلق»‬ ‫ّ‬ ‫بنفسه يف قوله (بالحديث‬
‫أل ّن معناه هو أنّه‪ :‬كنت ذاتًا أو وجو ًدا باط ًنا مج ّر ًدا مخف ًّيا‪ ،‬بال مألوه وال مربوب‪ ،‬كام قال أمري‬
‫رب إذ ال مربوب‪ ،‬وخالق إذ ال مخلوق‪ ،‬وقادر إذ ال مقدور»‪« .‬فأحببت‬ ‫املؤمنني عليه السالم‪ّ « :‬‬
‫أن أُع َرف» أي أردت أن أكون ظاه ًرا‪ ،‬مبقتىض ذايت وكاماليت‪ ،‬يف مظاهر أساميئ وصفايت‪ ،‬حتّى‬
‫إل يل‪« .‬فخلقت الخلق» أي ظهرت بصورهم وتع ُّيناتهم‪ ،‬بل بأعيانهم‬ ‫ال يكون كامل يف الوجود َّ‬
‫نقص‪،‬‬ ‫وماه َّياتهم‪ ،‬وليس يف الوجود إلَّ أنا وأساميئ وصفايت وكاماليت‪ .‬وليس من هذا يف ذايت ٌ‬
‫قدح‪ ،‬بل هذا عني كاميل ومحض عظمتي وجاليل»[[[‪.‬‬ ‫وال يف وحديت ٌ‬
‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.526‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬رسالة نقد النقود يف معرفة الوجود (املطبوعة مع جامع األرسار)‪ ،‬تحقيق هرني كربني وعثامن يحيي‪ ،‬رشكت انتشارات‬
‫علمى وفرهنىك‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1368،‬ش‪ ،‬ص‪.665‬‬

‫‪114‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫الحق واحتياجه إىل املظاهر أي نقص يف ذاته‪ ،‬فالعارف يشبّه ظهور‬ ‫ِّ‬ ‫هذا‪ ،‬وال يوجب ظهور‬
‫الحق بصور املوجودات بظهور العدد «واحد» يف صور األعداد‪ .‬فكام أ ّن العدد «واحد» من‬ ‫ِّ‬
‫غني عن‬‫الحق تعاىل هو ٌّ‬ ‫ُّ‬ ‫غني عن وجود األعداد األخرى وعن ظهوره بصورها‪ ،‬كذلك‬ ‫حيث ذاته ٌّ‬
‫الحق والعدد «واحد» إمنا يكون من‬ ‫ّ‬ ‫املوجودات من حيث ذاته وعن ظهوره بصورها‪ .‬لكن ظهور‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫حيث كامالتهام املندرجة يف ذاتهام‪ .‬فكام أ ّن العدد «واحد» محتاج من حيث كامالته ال ذاته‬
‫الحق‬
‫ّ‬ ‫إىل األعداد ومظاهرها غري املتناهية ليك يظهر من خاللها كامالته غري املتناهية‪ ،‬كذلك‬
‫تعاىل محتاج بحسب كامالته ال ذاته إىل املوجودات ومظاهرها غري املتناهية‪ ،‬ليظهر من خاللها‬
‫كامالته غري املتناهية‪ .‬إذن «هذا االحتياج ليس موج ًبا للنقص يف ذاته املق َّدسة‪ ،‬أل ّن االحتياج إذا‬
‫نقصا‪ ،‬أل ّن االحتياج الذي هو سبب النقص‪ ،‬هو االحتياج الذايتُّ وهذا ليس‬ ‫مل يكن ذاتيًّا‪ ،‬مل يكن ً‬
‫فحينئذ كام ال يلزم النقص والكامل من وجود األعداد وعدمها يف ذات‬ ‫ٍ‬ ‫نقصا‪.‬‬
‫بذلك فال يكون ً‬
‫الحق‪ .‬وكام أ ّن‬
‫ّ‬ ‫الواحد‪ ،‬فكذلك ال يلزم النقص والكامل من وجود املوجودات وعدمها يف ذات‬
‫كامل األعداد ونقصها يكون راجعاً إليها ال إىل الواحد الظاهر بصورها ومراتبها‪ ،‬فكذلك كامل‬
‫الحق الظاهر بصورها ومراتبها»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املوجودات ونقصها يكون راج ًعا إليها‪ ،‬ال اىل‬
‫الحق يف صور املظاهر ال ينايف وحدته وال يوجب التَك َُّث يف ذاته‪،‬ألن‬ ‫ِّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬فإ َّن ظهور‬
‫الوحدة نوعان‪ :‬وحدة ال يقابلها كرثة وهي الوحدة الحقّة الحقيق َّية التي ال يقابلها يشء‪ ،‬ووحدة‬
‫والحق إذا كان واح ًدا ال‬
‫ّ‬ ‫أخرى يقابلها كرثة وهي الوحدة األسامئيَّة التي ترجع إليها جميع الكرثات‪.‬‬
‫بتعي آخر زائد عليه‪ ،‬ألنه ال ثاين له حتى يتم َّيز عنه‪.‬‬‫مقابل له‪ ،‬فيكون تع ُّينه إذا ومت ُّيزه بنفس ذاته ال ُّ‬
‫واملراد بالتم ُّيز هنا التشخُّص ألنَّه بلحاظ هذه الوحدة الحقيق َّية ال مقابل له حتى يتم َّيز عنه‪ .‬ولكن‬
‫بالتعي هنا التم ّيز ال التشخّص ألنه‬
‫ّ‬ ‫هذا ال ينايف ظهور الحقيقة الواحدة يف مراتبها املتع ّينة‪ ،‬واملراد‬
‫مرتبط مبقام الظهور‪.‬‬
‫وتعي مبعنى التم ُّيز وهو مرتبط‬
‫ُّ‬ ‫تعي شخيصٌّ مرتبط مبقام الواحد الشخيصِّ ‪،‬‬
‫والتعي نوعان‪ُّ :‬‬
‫ُّ‬
‫ّ‬
‫املتكثة‪،‬‬ ‫الحق من جهة عني هذه التعيُّنات واألمور‬
‫ُّ‬ ‫مبقام الظهور واملراتب التي له‪ .‬وعليه يكون‬
‫والتعي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ومن جهة أخرى غريها‪ .‬فهو عينها من ناحية الوجود والحقيقة وغريها من ناحية التقييد‬
‫مبعنى آخر‪ ،‬هو عني األشياء بظهوره فيها مبالبس أسامئه وصفاته‪ ،‬وغريها من خالل احتجابه عنها‬
‫تكث فيها‪ ،‬وكرثة ظهوراتها وصورها ال تقدح يف‬ ‫بذاته ووجوده املطلق‪ .‬إذن «هو حقيقة واحدة ال ّ‬
‫بتعي زايد‪ ،‬عليها إذ ليس يف الوجود ما‬‫ّ‬ ‫وحدة ذاتها‪ ،‬وتعيّنها (أي تشخّصها) وامتيازها بذاتها ال‬
‫يغايره ليشرتك معه يف يش‏ء ويتم ّيز عنه بيش‏ء‪ ،‬وذلك ال ينايف ظهورها يف مراتبها املتع ّينة‪ ،‬بل هو‬

‫[[[‪ -‬جامع األرسار ومنبع األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.191‬‬

‫‪115‬‬
‫المحور‬

‫أصل جميع التعيّنات الصفاتيَّة واألسامئيَّة واملظاهر العلميَّة والعينيّة‪ .‬ولها وحدة ال تقابل الكرثة‬
‫هي أصل الوحدة املقابلة لها‪ ،‬وهي عني ذاتها األحديَّة‪ ،‬والوحدة األسامئية املقابلة للكرثة ‪-‬التي‬
‫هي ظل تلك الوحدة األصلية الذاتية‪ -‬أيضاً عينها من وجه‪ ...‬فكونه عني األشياء بظهوره يف مالبس‬
‫عم‬
‫أسامئه وصفاته يف عاملي العلم والعني‪ ،‬وكونه غريها باختفائه يف ذاته واستعالئه بصفاته َّ‬
‫يوجب النقص والشني‪ ،‬وتن ُّزهه عن الحرص والتعيني‪ ،‬وتق ُّدسه عن سامت الحدوث والتكوين «[[[‪.‬‬
‫من هنا يقول العارف إ َّن ظهور الحق إمنا كان من حيث كلّ ّيته ال من حيث وحدته وذاته‪ .‬ألن مقام‬
‫قابل للظهور كام ذكرنا بل هو يف كمون وخفاء مطلق‪ .‬وعليه‬ ‫الذات ليس له اسم وال رسم‪ ،‬وليس ً‬
‫الكل‪،‬‬
‫الكل أو بصورة ّ‬‫فال تكون الكرثة واألمور املتعيّنة قادحة يف وحدته ألن « ظهوره تعاىل يف ّ‬
‫الكل ال يظهر‬
‫الكل من حيث ِّ‬ ‫(هو) من حيث كلّ ّيته ومجموع ّيته‪ ،‬ال من حيث وحدته وذاته‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫والكل (هو) اسم له باعتبار الحرضة الواحديّة األسامئ ّية‪ ،‬ال باعتبار الحرضة األحديّة‬
‫ّ‬ ‫الكل‪.‬‬
‫إلَّ يف ّ‬
‫كل باألسامء»‪ .‬وإذا كان كذلك فال يلزم من ظهوره تعاىل بصورة‬ ‫الذات ّية‪ ،‬كام قيل «أحد بالذات‪ّ ،‬‬
‫الكل من غري تغيري فيه‪ ،‬ويكون العارف صادقاً‬ ‫أصل‪ .‬ويكون تعاىل هو ّ‬ ‫ً‬ ‫الكل كرثة يف ذاته‏ ووجوده‬
‫ّ‬
‫فالكل هو وبه ومنه وإليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف قوله «ليس يف الوجود سوى الله تعاىل وأسامئه وصفاته وأفعاله»‪.‬‬
‫كل واحد من أفراد‬‫كل واحد من مظاهره أنّه هو‪ ،‬كام ال يصدق عىل ّ‬ ‫وأيضا ال يصدق من هذا عىل ّ‬
‫فللحق تعاىل الذي ثبت إطالقه ووحدته‪ ،‬ظهور وكرثة يف صور املظاهر‪ ،‬من‬ ‫ِّ‬ ‫الكل»[[[‪.‬‬
‫الكل أنّه ّ‬
‫ّ‬
‫حيث أسامئه وكامالته وشؤون ذاته‪ ،‬وإن كان تعاىل من حيث ذاته‪ ،‬من ّز ًها عن ذلك لغناه الذايت‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫علة ظهور احلق ومراتب�ه‪:‬‬
‫رضوري‪ ،‬ولكن ظهوره تعاىل ليس من حيث ذاته‬‫ٌّ‬ ‫الحق يف الرؤية الكون َّية العرفان َّية‬
‫ِّ‬ ‫ظهور‬
‫غني عن الظهور والبطون‪ .‬فالذات‬
‫املق َّدسة ووجوده املطلق وهويَّته الغيب َّية‪ ،‬ألنه من حيث ذاته ٌّ‬
‫أي بحث بشأنها‪ ،‬وهي باطنة بطونًا‬
‫اإلله َّية من حيث وجودها املطلق يف خفاء وكمون وال يقع ُّ‬
‫مطلقًا‪ ،‬وهو بطون ليس يف مقابله ظهور‪ ،‬وهو الذي يشار إليه بضمري «هو» يف القرآن الكريم‬
‫واألحاديث الرشيفة‪.‬‬
‫وتعي ألنه ال توجد فيها حيثيَّة‬
‫ُّ‬ ‫ألي ظهور‬
‫فالذات اإللهيَّة يف مقام كنهها ال ميكن أن تكون مبدأ ِّ‬
‫غالبة وأخرى مغلوبة حتى يكون هناك مبدأ للظهور‪ ،‬فال يوجد يف مقام الذات اسم غالب وآخر‬
‫مغلوب بل كل األسامء موجودة بوجود واحد من غري غلبة اسم عىل آخر‪ .‬يف مقام كنه الذات تكون‬
‫الذات عاملة وقادرة ورازقة وموجدة و‪ ...‬يف وقت واحد وعىل نحو االندماج والبساطة‪ ،‬وهذا معنى‬

‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ 31‬و‪.34‬‬


‫[[[‪ -‬جامع األرسار ومنبع األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.195‬‬

‫‪116‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫أن األسامء يف مقام كنه الذات موجودة عىل السويَّة أي ال توجد فيها حيثيَّة غالبة وأخرى مغلوبة‪،‬‬
‫ألنه إذا صارت هناك هناك حيثيَّة غالبة وأخرى مغلوبة فهذا يعني أن هناك تعيُّ ًنا‪ ،‬واملفروض أ َّن‬
‫اللتعني‪.‬‬ ‫الذات وغيب الهويَّة مقام َّ‬
‫للتعي؟ هنا يجمع‬
‫ُّ‬ ‫اللتعني منشأ‬‫ما الذي حصل حتى صارت الذات اإللهيَّة التي هي مقام َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫العرفاء عىل الحاجة إىل الواسطة ألجل االنتقال من مقام الذات إىل ما وراء الذات وهو مقام‬
‫التعي‪ .‬وقالوا إن هذه الواسطة هي العلم؛ أي علم الحق بذاته يف ذاته لذاته‪ ،‬فعلمه بنفسه هو الذي‬
‫ُّ‬
‫التعي هي الوحدة الحقيق ّية‪ ،‬فمن خالل علم الذات‬
‫ُّ‬ ‫التعي األول‪ ،‬والصفة التي أوجدت هذا‬
‫ُّ‬ ‫أوجد‬
‫بالوحدة الحقيقيَّة يحصل التعني األول‪.‬‬
‫للتعي األول‪ ،‬ومن‬
‫ُّ‬ ‫مبعنى آخر‪ ،‬إن الذات اإلله َّية من حيث ات ّصافها بالوحدة الحقيق َّية تكون منشأ‬
‫التعي األول فنجد‬ ‫ُّ‬ ‫التعي الثاين‪ .‬ففي مقام الذات ال يوجد صفة غالبة‪ ،‬أ َّما يف مقام‬ ‫ُّ‬ ‫ثم سببًا لحصول‬
‫أن هناك صفة غالبة وهي صفة الوحدة الحقيق َّية‪ .‬كام يقول ابن تركه يف «متهيد القواعد»‪« :‬اعلم أ َّن‬
‫أول بحصول نفسها يف نفسها‬ ‫تلك الهويَّة املطلقة الواحدة بالوحدة الحقيق َّية تلزمها النسبة العلم َّية ً‬
‫اللزم (النسبة العلم َّية) الواجب َّية بالذات واملوجب َّية‬‫بتوسط هذا َّ‬
‫التعي األول)‪ ،‬وتلزمها ُّ‬
‫ُّ‬ ‫لنفسها (وهو‬
‫التعي الثاين)»[[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اللزمة لذاتها (وهو‬ ‫واملفيضيَّة وغريها من الصفات املرتت ِّبة وغري املرتتِّبة َّ‬
‫تعي تع ّينت به الذات كان من علمه تعاىل بذاته‪،‬‬ ‫ويقول السيد حيدر أيضً ا يف «نقد النقود»‪« :‬أ ّول ُّ‬
‫وكل معلوم ال ب ّد من أن يكون معيّ ًنا‪ ،‬فيكون أ ّول‬
‫ألنّه إذا صار عامل ًا بذاته صارت ذاته معلومة له‪ّ .‬‬
‫تعيُّنه علمه بذاته‪ .‬وإذا صارت ذاته تعاىل معلومة له‪ ،‬وصار هو عامل ًا بها‪ ،‬فال ب ّد من أن يكون العلم‬
‫واسطة بينهام (أي بني الله من حيث هو عامل‪ ،‬وبني ذاته املق ّدسة من حيث هي معلومة له)‪ .‬فيكون‬
‫هناك ثالثة اعتبارات‪ :‬اعتبار العلم‪ ،‬واعتبار املعلوم‪ ،‬واعتبار العامل‪ ،‬وهذا عني الكرثة‪ .‬وإذا كان‬
‫كل واحد من معلوماته التي هي األعيان‬ ‫تعي ّ‬
‫كذلك‪ ،‬فيكون علمه تعاىل بذاته سبب تعيُّنه‪ ،‬وسبب ُّ‬
‫املسمة بالشؤون الذاتيّة‪ .‬ويكون تعاىل هو الفاعل والقابل حقيقة واعتبا ًرا ال غريه»[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والحقائق‬
‫التعي أي يف مقام الذات والهويَّة‬
‫ُّ‬ ‫التعي األول يصبح عندنا ظهور وبطون أما قبل هذا‬
‫ُّ‬ ‫وإذا تحقَّق‬
‫الغيبيَّة املطلقة فال يوجد إلّ البطون املحض الذي ال مقابل له عىل اإلطالق‪ .‬ويطلق العرفاء عىل‬
‫فالتعي األول عندهم له بطون‬
‫ُّ‬ ‫التعي األول الواحديّة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫التعي األول اسم األحديَّة وعىل ظاهر‬
‫ُّ‬ ‫باطن‬
‫وظهور باطنه هو مقام األحديَّة وظاهره هو مقام الواحديَّة‪ .‬والفرق بينهام أن العلم يف مقام األحديَّة‬
‫إل وصف واحد وهو‬ ‫يل‪ ،‬ويف مقام األحديَّة ال يوجد َّ‬‫يل ويف مقام الواحديَّة علم تفصي ٌّ‬
‫علم إجام ٌّ‬

‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.269‬‬


‫[[[‪ -‬رسالة نقد النقود يف معرفة الوجود‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.685‬‬

‫‪117‬‬
‫المحور‬

‫الوحدة الحقيقيَّة‪ ،‬أما يف مقام الواحديَّة فتوجد أسامء وصفات متع ِّددة ومتاميزة‪ .‬ومقام األحديَّة هو‬
‫مقام إسقاط النسب واإلضافات‪ ،‬أ َّما مقام الواحديَّة فهو مقام إثبات النسب واإلضافات‪ .‬ففي مقام‬
‫األحديَّة ال توجد كرثة عىل اإلطالق‪ ،‬أ َّما يف مقام الواحديَّة فتوجد كرثة وهي كرثة أسامئ َّية‪ .‬فالذات‬
‫تعي املسمَّ ة بغيب الغيب‪ ،‬تارة والهويَّة املطلقة أخرى‪ ،‬ميتنع أن يعترب‬ ‫الل ُّ‬
‫اإلله َّية إذن «باعتبار َّ‬
‫التكث والتع ُّدد‪ ،‬فأول ما اعترب فيها من املعاين الوصفيَّة‬‫ُّ‬ ‫التعي والتقيُّد ويستدعي‬
‫ُّ‬ ‫فيها أمر يستلزم‬
‫هي الوحدة الحقيقيَّة التي ال يتص َّور اعتبار الكرثة واملغايرة فيها بوجه من الوجوه حتى ان الكرثة ال‬
‫تغاير الوحدة بالنسبة إليها وكذلك الوحدة ال تغاير الذات‪(...‬و)للوحدة (الحقيق َّية) املعتربة ههنا‬
‫ت وخفائها‪ ،‬وهو اعتبار إسقاط سائر النسب واإلضافات‬ ‫اعتبارين‪ :‬أحدهام متعلّقه طرف بطون الذا ‏‬
‫عنها‪ ،‬ويس َّمى الذات به أح ًدا‪ .‬وثانيهام متعلِّقه طرف ظهور الذّات وانبساطها واعتبار إثبات النسب‬
‫واإلضافات كلّها‪ ،‬ويس ّمى الذات به واح ًدا‪ ،‬وبهذا االعتبار يصري الذات منشأ األسامء والصفات»[[[‪.‬‬
‫فالوحدة بالنسبة إىل مقام الذات ال متايز بني اعتباريها فال يتم َّيز مس َّمى الواحد فيها عن األحد‪،‬‬
‫التعي األول‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫نعم الذات باعتبار ات ِّصافها بالوحدة الحقيق َّية تستلزم تع ُّي ًنا يس َّمى بإصطالح القوم‬
‫الحق بذاته‪ ،‬وعلم الحق بذاته واحد ولكنه يف مقام‬ ‫ِّ‬ ‫للتعي األول هو العلم أي علم‬ ‫ُّ‬ ‫واملوجد‬
‫يل‪.‬‬
‫يل ويف مقام الواحديَّة عل ٌم تفصي ّ‬ ‫األحديَّة عل ٌم إجام ٌّ‬
‫الحق بذاته يستلزم أيضً ا العلم بسائر كامالت ذاته املق َّدسة وشؤونها من أسامء وصفات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وعلم‬
‫وبلوازم هذه األسامء والصفات أيضً ا‪ .‬كام يقول اإلمام الخميني (قده)‪« :‬إن علمه بذاته هو العلم‬
‫بكامالت ذاته ولوازم أسامئه وصفاته ال بعلم متأخر أو علم آخر بل بالعلم املتعلق بالذات يف حرضة‬
‫الذات‪ .‬ولوال هذا العلم البسيط يف حرضة الذات مل تتحقَّق الحرضة الواحديَّة األسامئ َّية والصفات َّية‬
‫وال األعيان الثابتة املتحقّقة يف الحرضة العلم َّية باملح ّبة الذات َّية وال األعيان املوجودة»[[[‪ .‬والعلم‬
‫بكامالت الذات يستلزم تعني هذه الكامالت أيضً ا كام أن علم الذات بنفسها يستلزم تعيُّنها كام‬
‫متعي والظهورهو العلم نفسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذكرنا سابقًا‪ ،‬فكل معلوم‬
‫وتعني كامالت الذات وشؤونها مرة يكون يف مقام البطون واإلجامل فتظهر بذلك االعيان الثابتة‬
‫التجل بـ«الفيض األقدس» بسبب الحركة الحب َّية‬
‫ّ‬ ‫(أي الكرثة العلم َّية) يف حرضة العلم من خالل‬
‫والعشق َّية وهذه هي مرتبة «الجالء» عند العرفاء‪ ،‬وأخرى يف مقام الظهور والتفصيل فتظهر بذلك‬
‫األعيان الخارج َّية (أي الكرثة الخلق َّية) يف حرضة الشهادة من خالل «الفيض املق َّدس»‪ ،‬وتس َّمى‬
‫التعي الثاين ألنه مرتبط باملظاهر الخلقيَّة‪ ،‬أما‬
‫ُّ‬ ‫هذه املرتبة عندهم بـ«اإلستجالء»‪ ،‬ومن هنا يبدأ‬
‫التعي األول أي مقام الواحديَّة ألنَّه‬
‫ُّ‬ ‫بالتعي األول وبالتحديد بظاهر‬
‫ُّ‬ ‫التعي فكلُّه مرتبط‬
‫ُّ‬ ‫ما قبل هذا‬

‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.270‬‬


‫مؤسسة تنظيم ونرش آثار اإلمام الخميني‪ ،‬الطبعة االوىل‪ ،1416 ،‬ص ‪.119‬‬
‫[[[‪ -‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬رشح دعاء السحر‪َّ ،‬‬

‫‪118‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫اإللهي عند العارف ينقسم إذا إىل قسمني‪ :‬الفيض‬ ‫ُّ‬ ‫ال متايز وال تغاير يف مقام األحديَّة‪ .‬فالفيض‬
‫التجل بحسب باطن الذات‪ ،‬وبه تظهر األعيان الثابتة وإستعداداتها يف حرضة العلم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األقدس وهو‬
‫التجل بحسب ظاهر الذات‪ ،‬وبه تظهر األعيان الخارج َّية واملظاهر الخلق َّية‬ ‫ّ‬ ‫والفيض املق َّدس وهو‬
‫يف حرضة العني والشهادة‪ .‬فالفيض املق ّدس مرتتّب عىل الفيض األقدس واألقدس مرتت ّب عىل‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫األسامء اإللهيّة واألسامء اإللهيّة مرت ّبة عىل الكامالت الذاتيّة األزليّة القدسيَّة‪ .‬واملراد باألقدس أي‬
‫األقدس من شوائب الكرثة األسامئيَّة والنقائص اإلمكانيَّة‪ .‬يقول املريزا األصفهاين يف الحاشية‬
‫عىل متهيد القواعد‪:‬‬
‫«إ َّن الكرثات كانت بوحداتها الحقيقيَّة مندمجة ومستج ّنة يف غيب الهويَّة وأحديَّة الجمع املشار‬
‫أصل‪ ،‬بل كانت‬ ‫ً‬ ‫الص َمدُ ﴾ ويف ذلك املوطن مل يكن لها متايز وتكاثر‬‫إليها يف قوله تعاىل‪﴿:‬الله َّ‬
‫عني ذاته األحديَّة‪ ...‬ث َّم بحكم «كنت كنزاً مخفياً‪ ،‬فأحببت ان اعرف» تح َّركت بالحركة الغيب َّية‬
‫ح ِّبية العشق َّية‪ ،‬فإ َّن غاية املح َّبة العشق‪ ،‬وصفاته تعاىل يف غاية الكامل والتامم‪ ،‬وتن َّزلت من موطن‬
‫ال ُ‬
‫اإلجامل ومرتبة االستجنان إىل مرتبة الظهور والربوز والتكاثر والتاميز العلمي‪ ،‬من غري تغيري يف‬
‫بالتجل والفيضان‪ ،‬املس َّمى بالفيض األقدس‪ ،‬فتكثَّ ت ومتايزت بعضها عن بعض‬ ‫ّ‬ ‫ذاته تعاىل‪ ،‬بل‬
‫مفصلة متاميزة‪ ،‬وليس ذلك عىل الله بعزيز‪،‬‬ ‫يف علمه تعاىل‪ ،‬وهذا مرتبة الجالء عندهم لظهورها َّ‬
‫فإ َّن العلوم الكثرية واملعلومات املختلفة مندمجة ومستج ّنة بوحدتها الحقيق َّية يف عقلك اإلجامل‬
‫متكثة متاميزة بعضها عن بعض‪ ،‬منجلية بذلك يف كامل االنجالء‪ ،‬من غري‬ ‫ِّ‬ ‫إىل موطن التفصيل‪،‬‬
‫تغي يف عقلك اإلجاميل‪ .‬فإذا كان حالك هكذا‪ ،‬فام ظ ُّنك بربك العليم القدير‪ .‬ثم تطلب ظهورها‬ ‫ُّ‬
‫لنفسها وبعضها لبعض‪ ،‬واستدعاء ترت ّب آثارها عليها‪ ،‬وسعة رحمة بارئها تن ّزلت من ذلك املوطن‬
‫الغيبي بالحركة الغيب َّية أيضً ا إىل موطن العني والشهادة‪ ،‬وذلك بنزول الفيض األقدس من األقدس َّية‬ ‫ِّ‬
‫إلمكان‪ ،‬وترتُّب آثار املمكنات‬ ‫عن السوائيَّة إىل املقدسيَّة املستلزمة للسوائيَّة‪ ،‬لظهور أحكام ا ِ‬
‫عليها‪ .‬وهذا مرتبة االستجالء يف عرفهم‪ ،‬وإىل ذلك النزول أشري يف قوله تعاىل‪﴿ :‬أَل َْم تَ َر إِىل‏ َربِّكَ‬
‫علم وعي ًنا‪ ،‬يف الغيب‬ ‫طول وعرضً ا‪ً ،‬‬‫الظل هو الفيض‪ ،‬وم ّده نزوله وانبساطه ً‬ ‫ف َمدَّ الظِّ َّل﴾ فإن َّ‬ ‫كَ ْي َ‬
‫والشهادة»[[[‪.‬‬
‫ين» مراتب وتجلّيات مختلفة‪ ،‬فالحق‬ ‫التعي الثاين أو ما يس ّميه العرفاء بـ«النفس الرحام ّ‬
‫ُّ‬ ‫ولهذا‬
‫التجل بحسب ظاهريَّة الذات فيصل الفيض من الحرضة اإلله َّية‬ ‫ّ‬ ‫يتجل بالفيض املق َّدس وهو‬ ‫َّ‬
‫الجامعة لألحديَّة والواحديَّة إىل األعيان الخارجيَّة وحرضة الشهادة‪ ،‬فتظهر تلك األعيان يف الخارج‪.‬‬
‫يقسم العرفاء العامل إىل عاملني‪ :‬عامل الصقع‬
‫واملقصود من الخارج عامل املظاهر الخلق َّية‪ ،‬حيث ِّ‬

‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.283‬‬

‫‪119‬‬
‫المحور‬

‫التعي األول‪ ،‬وعامل املظاهر الخلقيَّة وهو عامل الشهادة‬


‫ُّ‬ ‫يب وهو مقام األحديَّة والواحديَّة أو‬
‫الربو ِّ‬
‫ين مراتب‬
‫والظاهر‪ ،‬حيث تظهر فيه التعيُّنات الخلقيَّة عىل قدر استعداداتها‪ .‬ولهذا النفس الرحام ِّ‬
‫مختلفة يف عامل الظاهر والشهادة‪:‬‬
‫أ َّولها‪:‬عامل العقل‪.‬‬
‫ثانيها‪:‬عامل الخيال‪.‬‬
‫ثالثها‪:‬عامل الطبيعة واألجسام‪.‬‬
‫بالتعي األول الجامع لألحديَّة‬ ‫ُّ‬ ‫وإذا أضفنا إىل هذه العوامل الثالثة عامل الغيب أو ما يس َّمى‬
‫والواحديَّة‪ ،‬فيصبح عندنا أربعة عوامل أو حرضات‪ ،‬والعرفاء يضيفون إليها حرضة اإلنسان الكامل‬
‫خمسا كام‬ ‫ً‬ ‫لكل املراتب‪ ،‬فتصبح بذلك الحرضات‬ ‫لكل الحرضات‪ ،‬وهو الكون الجامع ِّ‬ ‫الجامع ِّ‬
‫ظل الحرضات الخمس‬ ‫يقول اإلمام الخميني (قده)‪« :‬اعلم يا حبيبي أ َّن العوامل الكل َّية الخمسة ّ‬
‫فتجل اللّه تعاىل باسمه الجامع للحرضات‪ ،‬فظهر يف مرآة اإلنسان‪ ،‬فإ َّن اللّه خلق آدم عىل‬ ‫َّ‬ ‫اإللهيَّة‪،‬‬
‫وتجل بفيضه األقدس وظلِّه‬ ‫َّ‬ ‫والظل األرفع وخليفة اللّه يف العاملني‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫صورته‪ ...‬وهو اإلسم األعظم‬
‫تجل بالفيض‬ ‫َّ‬ ‫األرفع‪ ،‬فظهر يف مالبس األعيان الثابتة من الغيب املطلق والحرضة العامئ َّية‪ ،‬ثم‬
‫املخفي واملرتبة العامئ َّية‬
‫ِّ‬ ‫ين من الغيب املضاف والكنز‬ ‫املق َّدس وال َّرحمة الواسعة والنفس الرحام ِّ‬
‫عىل طريقة شيخنا العارف م ّد ظلّه يف مظاهر األرواح الجربوتيَّة وامللكوتيَّة أي عامل العقول‬
‫املج َّردة والنفوس الكل َّية‪ ،‬ثم يف مرايئ عامل املثال والخيال املطلق أي عامل امل ُثل املعلّقة ثم يف‬
‫عامل الشهادة املطلقة أي عامل امللك والطبيعة»[[[‪.‬‬
‫املظهر ُّ‬
‫األتم للحق‪:‬‬
‫تعي تغلب عليه أحكام الوحدة‬‫الحق وتع ُّينه عىل قسمني‪ُّ :‬‬
‫ِّ‬ ‫تبي من البحوث السابقة أ َّن ظهور‬ ‫َّ‬
‫وتعي تغلب عليه أحكام الكرثة والظهور‪ ،‬وهو املس َّمى‬
‫ُّ‬ ‫بالتعي األول‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫والبطون‪ ،‬وهو املس َّمى‬
‫بالتعي الثاين‪.‬‬
‫ُّ‬
‫التعي األول بسبب ظهور القاهريَّة األحديَّة والواحديَّة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ومل َّا كانت الوحدة غالبة عىل الكرثة يف‬
‫ين وتجلّيه يف املراتب‬ ‫التعي الثاين بسبب ظهور النفس الرحام ِّ‬
‫ُّ‬ ‫وكانت الكرثة غالبة عىل الوحدة يف‬
‫الحق تعاىل أن يظهر يف مظهر جامع للكرثة والوحدة‬ ‫ُّ‬ ‫الخلق َّية من العقل والخيال والجسم‪ ،‬أراد‬
‫م ًعا ليكون عىل صورته كام يف الحديث‪”:‬إن الله خلق آدم عىل صورته”[[[‪ .‬وليكون مظه ًرا كاملً‬

‫[[[‪ -‬رشح دعاء السحر‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.120‬‬


‫[[[‪ -‬بحار األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،4‬ح‪ ،1‬ص‪.11‬‬

‫‪120‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫‪﴿:‬إن جاعل يف األرض خليفة﴾[[[‪ ،‬مظه ًرا يكون جام ًعا‬ ‫ّ‬ ‫وتا ًّما وخليفة حقيقيًّا له كام يف قوله تعاىل‬
‫للحقائق اإللهيَّة واإلمكانيَّة‪ ،‬أي جام ًعا ملرتبتي الجمع والتفصيل‪ ،‬والوجوب واإلمكان‪ ،‬ليغدو‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫تجل‬
‫بالحق املق ّيد الذي هو ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بحق مظه ًرا لإلسم األعظم‪ ،‬وهذا الذي يصطلح عليه العرفاء‬ ‫ٍّ‬
‫املطلق‪ ،‬واإلنسان الكامل‪ ،‬والحقيقة املح َّمديَّة‪ ،‬وآدم‪ ،‬والكون الجامع‪ .‬فالوحدة الذات َّية “والهويَّة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أصل‪ .‬وكذلك‬ ‫ً‬ ‫يئ فيها مجال‬


‫املطلقة لغلبة حكم اإلطالق فيها‪ ،‬ال ميكن أن يكون للتفصيل األسام ِّ‬
‫املظاهر التفصيليَّة التي هي أجزاء العامل الكبري أيضً ا لغلبة حكم القيود الكونيَّة والكرثة اإلمكانيَّة‬
‫فيها ال ميكن أن يكون للجمع َّية اإلله َّية التي هي صورة الوحدة الحقيق َّية فيها ظهور‪ ،‬فاقتىض األمر‬
‫اإللهي أن تكون صورة اعتدال َّية ليس للوحدة الذاتية فيها غلبة‪ ،‬وال للكرثة اإلمكان َّية عليها سلطنة‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫للحق من حيث تفاصيله األسامئيَّة‪ ،‬وأحديَّة جمعيَّته الذاتيَّة‪ ،‬بسعة‬ ‫ِّ‬ ‫حتى تصلح ألن تكون مظه ًرا‬
‫قابليَّتها وعموم عدالتها‪ ،‬وذلك هو النشأة العنرصيَّة اإلنسانيَّة‪ ،‬إذ ليس يف اإلمكان أجمع من اإلنسان‬
‫إلحاطته باملرتبة اإلطالق َّية اإلله َّية والقيدية العبدية‪.[[[”.‬‬
‫لقد س ّمي هذا املوجود بالكون الجامع ألنَّه جامع ملظهريَّة الذات يف حرضة األحديَّة‪ ،‬ومظهريَّة‬
‫رصا‬
‫األسامء والصفات يف حرضة الواحديَّة‪ ،‬ومظهريَّة األفعال يف حرضة الشهادة‪ .‬وبذلك كان حا ً‬
‫لكل املراتب‪ ،‬ومحيطًا بسائر املوجودات‪ ،‬ألنَّه آخر التن ُّزالت والتجلّيات اإلله َّية وعندهم قاعدة‬ ‫ِّ‬
‫تقول‪”:‬كل سافل محيط بالعايل”[[[‪ .‬مبعنى أنَّه كلَّام تن َّزلنا يف مراتب والوجود اشتملت هذه املرتبة‬ ‫ُّ‬
‫مثل‬
‫مختصات مرتبتها‪ .‬فمرتبة املثال ً‬ ‫َّ‬ ‫النازلة عىل ما هو موجود يف املرتبة العالية‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫مختصات الطبيعة‪ ،‬باإلضافة‬ ‫َّ‬ ‫مشتملة عىل ما يف العقل واملثال م ًعا‪ ،‬ومرتبة الجسد مشتملة عىل‬
‫إىل عامل َي املثال والعقل‪ .‬فاليشء كلَّام ازداد قيو ًدا ازداد كرثة‪ ،‬وكلَّام ازداد كرثة ازداد ظهو ًرا‪ ،‬وكلَّام‬
‫ازداد ظهو ًرا ازداد إدراكًا‪“ .‬فكل مرتبة أنزل بحسب رتبة الوجود‪ ،‬ال بد وأن تكون تلك القيود فيه أكرث‪،‬‬
‫وكل ما كان‬‫ص به يف تن ُّزالته‪ُّ ،‬‬
‫إذ النازل مشتمل عىل ما اشتمل عىل العايل من تلك القيود مع ما اختُ َّ‬
‫وكل ما كان أشمل كان أكمل‪ ،‬رضورة أن الكامل‬ ‫للخواص واألحكام أشمل‪ُّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أنزل ال بد وأن يكون‬
‫هو الجامع َّية إىل تستتبع الخالفة اإلله َّية”[[[‪.‬‬
‫ونظ ًرا لجامع َّيته بني الوحدة والكرثة‪ ،‬وبني املراتب العلويَّة والسفل َّية (من العقل َّية واملثال َّية‬
‫والطبيع َّية)‪ ،‬ولكونه آخر التن ُّزالت والتجلِّيات‪ ،‬صار أكمل املوجودات‪ ،‬وبسبب أكمل َّيته صار املظهر‬
‫لخواص‬
‫ِّ‬ ‫للحق الذي ال يصلح لهذه املظهريَّة التا َّمة غريه‪ .‬وهذا املظهر يجب أن يكون جام ًعا‬ ‫ِّ‬ ‫التام‬
‫يستحق املظهريَّة التا َّمة إلسم الله األعظم‪ .‬ويجدر‬ ‫ُّ‬ ‫كل املراتب ومحتويًا عىل مناذج منها‪ ،‬وبذلك‬ ‫ِّ‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬
‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.322‬‬
‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.326‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.313‬‬

‫‪121‬‬
‫المحور‬

‫للحق يف املدرسة العرفانيَّة “عبارة عن الكون الجامع الحارص لجميع‬ ‫ِّ‬ ‫القول أ َّن املظهر الكامل‬
‫املظاهر التي يف سائر املراتب املوجودة فيه‪ ،‬وهذا هو النشأة العنرصيَّة اإلنسانيَّة ال غري‪ ،‬فهي آخر‬
‫وكل‬
‫كل مظهر سافل شامل للعايل َّ‬ ‫تن ُّزالت املظاهر الواقعة يف آخر تن ُّزالت املراتب‪ .‬وقد عرفت أن َّ‬
‫العنرصي هو الحائز لسائر املراتب‬
‫ُّ‬ ‫مرتبة سافلة شاملة لعلياها مبا فيها من املظاهر‪ ،‬فيكون اإلنسان‬
‫عم يصلح ألن‬ ‫إل هو أل َّن املظهر الكامل الذي هو عبارة َّ‬ ‫واملظاهر‪ ،‬فال يصلح للمظهريَّة املذكورة َّ‬
‫كل مرتبة‬
‫يكون مرآة جامعة لجميع الحرضات اإللهيَّة والعوامل الكيانيَّة‪ ،‬يجب أن يكون له بحسب ِّ‬
‫خاص به يكون ذلك عنده كالنسخة الجامعة لسائر جزئ ّيات‬ ‫ٌّ‬ ‫من املراتب الكل َّية املذكورة أمنوذج‬
‫مختص بالنشأة العنرصيَّة اإلنسان َّية‪ .‬ومل َّا كانت آخر‬
‫ٌّ‬ ‫تلك املرتبة(إله َّية كانت أو كون َّية) ‪ ...‬وذلك‬
‫تن ُّزالت الوجود‪ ،‬فقد حصل لها من كل مرتبة عند وصولها إليها يف مرورها عليها أمنوذج‪ ،‬ونسخة‬
‫شاملة يظهر فيها جميع ما يف تلك املرتبة‪ ،‬صالحة ألن تكون مرآة ملا فيها عندها‪ ،‬فتكون نشأته‬
‫هذه عبارة عن مجموع مشتمل عىل هذه النسخ واألمنوذجات واملرايا مع أحديَّة جمع الجمع»[[[‪.‬‬
‫أ َّما سبب كونه آخر املراتب والتن ُّزالت «فألنه مل َّا جعلت حقيقته متَّصفة بجميع الكامالت‪،‬‬
‫جامعة لحقائقها‪ ،‬وجب أن توجد الحقائق كلُّها يف الخارج قبل وجوده‪ ،‬حتى مي َّر عند تن ُّزالته عليها‪،‬‬
‫فيتَّصف مبعانيها طو ًرا بعد طور من أطوار الروحان َّيات والسامويَّات والعنرصيَّات‪ ،‬إىل أن تظهر يف‬
‫الحس َّية‪ ،‬واملعاين النازلة عليه من الحرضات األسامئ َّية‪ ،‬ال ب َّد من أن مت َّر عىل هذه‬
‫ّ‬ ‫صورته النوع َّية‬
‫اللئقة به‪،‬‬
‫الوسائط أيضً ا حتى تصل إليه وتكمله‪ .‬وذلك املرور إمنا هو لتهيئة استعداده للكامالت َّ‬
‫والجتامع ما فصل من مقام جمعه من الحقائق والخصائص فيه‪ ،‬ولإلشهاد واإلطالع عىل ما أريد‬
‫أن يكون خليفة عليه»[[[‪.‬‬
‫للحق وإلسمه األعظم‪ .‬ومل َّا كان اسم «الله» األعظم‬
‫ِّ‬ ‫استحق اإلنسان أن يكون املظهر التا َّم‬
‫َّ‬ ‫بذلك‬
‫مشتمل عىل جميع األسامء‪ ،‬ومق ّد ًما بالذات عليها ومتجلٍ ًيا فيها بحسب املراتب اإلله َّية ومظاهرها‪،‬‬
‫ً‬
‫فإ َّن مظهره التا َّم أيضً ا الذي هو اإلنسان الكامل يجب أن يكون مق ّد ًما عىل جميع املظاهر‪ ،‬ومتجلّ ًيا‬
‫فيها أيضً ا بحسب مراتبه‪ ،‬ولهذا صارت حقائق العامل يف حرضة العلم والشهادة كلها مظاهر الحقيقة‬
‫كل العوامل‪.‬‬ ‫اإلنسان َّية التي هي بدورها مظهر االسم األعظم «الله»‪ ،‬وصار لهذه الحقيقة مظاهر يف ِّ‬
‫أول بصورة كل َّية إجاملية فكانت الحقيقة املح َّمديَّة التي هي حقيقة‬
‫ففي الحرضة العلم َّية ظهرت ً‬
‫النوع اإلنساين‪ ،‬ومن ثم بصورة تفصيل َّية فكانت العني الثابتة لإلنسان الكامل الجامعة لجميع‬
‫األعيان الثابتة‪ ،‬ث َّم ظهرت يف حرضة العني والشهادة فكانت يف عامل الجربوت (وهو عامل األرواح‬
‫والعقول) العقل األول وهو أول موجود يف نشأة الخلق والذي قال عنه رسول الله(ص)‪«»:‬أول ما‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.360‬‬


‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.244‬‬

‫‪122‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫خلق الله العقل»»[[[‪ .‬ث َّم ظهرت هذه الحقيقة اإلنسانيَّة يف عامل امللكوت وهو عامل النفوس فكانت‬
‫النفس الكليَّة التي تتولَّد منها النفوس الجزئيَّة‪ ،‬ويف النهاية ظهرت يف عامل امللك والطبيعة فكان‬
‫آدم أبو البرش‪.‬‬
‫تجل لذاته بذاته‪ ،‬وشاهد جميع صفاته‬ ‫«الحق تعاىل مل َّا ّ‬
‫ُّ‬ ‫يقول القيرصي يف رشح «الفصوص»‪:‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وكامالته يف ذاته‪ ،‬وأراد أن يشاهدها يف حقيقة تكون له كاملرآة‪ ،‬أوجد الحقيقة املح َّمديَّة التي‬
‫ين يف الحرضة العلم َّية‪ ،‬فوجدت حقائق العامل كلّها بوجودها وجو ًدا‬ ‫هي حقيقة هذا النوع اإلنسا ِّ‬
‫إجامل ًّيا الشتاملها عليها من حيث مضاهاتها للمرتبة اإلله َّية الجامعة لألسامء كلِّها‪ ،‬ثم أوجدها فيها‬
‫وجو ًدا تفصيل ًّيا‪ ،‬فصارت أعيانًا ثابتة‪ .‬وأما يف العني‪...‬فمظهره األول يف عامل الجربوت هو الروح‬
‫الكل املس َّمى بالعقل األول‪...‬ويف عامل امللكوت هو النفس الكلّ َّية‪...‬ويف عامل امللك هو آدم‬ ‫ّ ُّ‬
‫ين‪ ،‬وصار اإلنسان الكامل‬ ‫ين العامل الصغري اإلنسا َّ‬‫أبو البرش»[[[‪ .‬وهكذا طابق العامل الكبري الكو ُّ‬
‫الحق‪ ،‬واملظهر األت َّم ألسامئه وصفاته‪ ،‬والواسطة بينه وبني خلقه‪ ،‬والوسيلة التي من خاللها‬ ‫ِّ‬ ‫خليفة‬
‫اختصه تعاىل بخزائن علمه وودائع أرساره كام قال تعاىل يف كتابه‪﴿ :‬وعلم‬ ‫َّ‬ ‫يحفظهم‪ ،‬ولذلك كلِّه‬
‫آدم الأسماء كلها﴾[[[‪.‬‬
‫ّْ‬
‫ُّ‬
‫العرفاين للوصول إىل احلق‪:‬‬ ‫املنهج‬
‫وكل ما سواه إنَّ ا هو آية ومظهر له‪ .‬ومظاهره‪،‬‬ ‫عند العارف‪ ،‬ال وجود لغري الله يف عامل الوجود‪ُّ ،‬‬
‫سواء اآلفاق َّية منها أم األنفس َّية‪ ،‬ليست سوى آيات دالَّة عىل وجوده املق َّدس‪ .‬ولذا قال ع َّز اسمه يف‬
‫الحق﴾[[[‪ ،‬فمشاهدة اآليات‬‫ّ‬ ‫كتابه الكريم‪﴿ :‬سرنيهم آياتنا يف اآلفاق ويف أنفسهم حتى يتبيَّ لهم أنه‬
‫كل بحسبها‪،‬‬ ‫املتجل فيها ٌّ‬
‫ّ‬ ‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫اإلله َّية يفيض إىل نتيجة واحدة هي‪ :‬أ َّن هذه اآليات ليست سوى‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫جل وعال‪ .‬ومن هنا صار باإلمكان رؤية‬ ‫للحق َّ‬
‫ِّ‬ ‫وهي املرايا التي ت ُري جامل الذات املق َّدسة‬
‫أصل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومعرفته من خالل آياته ومظاهره‪ ،‬أ َّما ذاته فهي غري قابلة لإلدراك واملشاهدة‬
‫هكذا صار ه ُّم العارف الوصول إىل هذه الرؤية واملعرفة التي قال عنها رسول الله(ص)‪”:‬اللهم‬
‫أرين األشياء كام هي”[[[‪ ،‬أي كام هي عليه من املظهريَّة واآليات َّية له‪ .‬فه ُّمه وحرصه الدائم هو رؤية‬
‫الحق والوصول إليه‪ ،‬مبعنى الوصول إىل أسامئه وصفاته والفناء فيه يف نهاية املطاف بعد حصول‬ ‫ِّ‬
‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ َّ َ‬
‫الحق وحده‪ ،‬ليكون مصداقًا لقوله تعاىل ﴿يا أيها الإِنسان إِنك‬ ‫ِّ‬ ‫جه التام نحو‬‫التقوى الكاملة والتو ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بالحق من خالل‬
‫ِّ‬ ‫كاد ٌِح إِل ٰى َر ّب ِك كد ًحا ف ُملاقِيهِ﴾[[[‪ .‬ولك َّن العارف حريص عىل أن يكون لقاؤه‬
‫[[[‪ -‬بحار األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ح‪ ،9‬ص ‪.97‬‬
‫[[[‪ -‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 240‬و ‪.306‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.31‬‬
‫[[[‪ -‬سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪.53‬‬
‫[[[‪ -‬حمزة‪ ،‬الفناري‪ ،‬مصباح األنس‪ ،‬تصحيح محمد خواجوي‪ ،‬انتشارات موىل‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األوىل‪1374 ،‬ش‪ ،‬ص‪.220‬‬
‫[[[‪ -‬سورة اإلنشقاق‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬

‫‪123‬‬
‫المحور‬

‫الحق له بأسامئه الجامل َّية التي تعني النعيم والسعادة‪ ،‬من دون األسامء الجالل َّية التي تعني‬
‫ِّ‬ ‫تجل‬
‫ّ‬
‫العذاب والنقمة‪.‬‬
‫ويحول دون تحقُّق هذا الهدف موانع متنع من بلوغ هذه الغاية الرشيفة يخترصها العرفاء بكلمة‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫هي‪“ :‬حب النفس” و”األنا”‪ .‬فاألنان َّية وحب النفس ميثِّالن العائق األكرب أمام رؤية تجلّيات‬
‫الحق‪ ،‬وتجعل لإلنسان قبلة ووجهة أخرى‬ ‫َّ‬ ‫والفناء فيه ألنَّها باختصار تثبت مبدأ الغري الذي يقابل‬
‫الحق الذي ال يرى وال يشاهد غريه حيث لسان‬ ‫ُّ‬ ‫الحقيقي وجهته دامئًا‬
‫َّ‬ ‫الحق‪ ،‬مع أ َّن العارف‬
‫ِّ‬ ‫غري‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫۠‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت َوٱلأ ْرض َحن ِيفا ۖ َو َما أنا م َِن ٱل ُمشرك َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫جه َى ل ِلذِى ف َط َر ّ َ َ‬ ‫َ‬
‫َ ّ ْ ُ َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ِين‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫حاله قوله تعاىل‪﴿ :‬إِن ِى وجهت و ِ‬
‫َّ َ ّ ْ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ ٰ َ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫ََ َْ َ َ َ َ‬ ‫َُُ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ت َوأنا أ ّول‬ ‫ب العال ِمين لا ش ِريك له ۖ وبِذل ِك أمِر‬ ‫إ ِ ْن صلات ِي ونسكِي ومحياي وممات ِي ِلِ ر ِ‬
‫ال ُم ْسل ِ ِم َ‬
‫ين﴾[[[‪.‬‬
‫املحب لنفسه فال يرى نفسه ويتعلق بها فحسب بل ينسب إليها التأثري والكامل أيضً ا‪ .‬وهذا‬ ‫ُّ‬ ‫أ َّما‬
‫كل خطيئة كام يف الحديث عن اإلمام الصادق‪‬‬ ‫حب الدنيا التي هي رأس ِّ‬ ‫الحب هو منشأ ِّ‬ ‫ُّ‬
‫كل خطيئة”[[[‪ .‬فام هو”مذموم وأساس جميع ألوان الشقاء والعذاب‬ ‫أنَّه قال‪”:‬حب الدنيا رأس ِّ‬
‫واملهالك ورأس جميع ألوان الخطايا والذنوب‪ ،‬إنَّ ا هو حب الدنيا الناشئ من حب النفس”[[[‪.‬‬
‫حب النفس كام‬ ‫وحب الدنيا منشؤه ُّ‬‫ُّ‬ ‫حب الدنيا والتعلُّق بها‪،‬‬‫فالذنوب واملعايص إذًا مر ُّدها إىل ِّ‬
‫الحقيقي من لقاء الله فيقول‪“ :‬إ َّن اآليات واألخبار الواردة‬
‫َّ‬ ‫ذكرنا‪ .‬ويرشح اإلمام الخمنيي(قده) املراد‬
‫يف لقاء الله رصاحة أو كناية وإشارة‪ ،‬كثرية‪...‬وال ب َّد من أن تعرف بأنَّه ليس مقصو ًدا من أجاز فتح‬
‫الطريق عىل لقاء الله ومشاهدة جامل الحق وجالله‪ ،‬جواز اكتناه التع ُّرف ‪-‬عىل الحقيقة والذات‪ -‬ذاته‬
‫الحضوري واملشاهدة العينيَّة الروحانيَّة‪ ،‬عىل ذاته املحيط‬‫ِّ‬ ‫املق َّدس‪ ،‬أو إمكان اإلحاطة يف العلم‬
‫الكل ‪-‬الفلسفة‪-‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫بكل يشء عىل اإلطالق‪ ،‬فإ َّن امتناع االكتناه لذاته املق َّدس بالفكر يف العلم‬ ‫ِّ‬
‫وامتناع اإلحاطة بالبصرية يف العرفان‪ ،‬من األمور الربهانيَّة‪ ،‬ومتَّفق عليه لدى جميع العقالء‪ ،‬وأرباب‬
‫القلوب واملعارف‪.‬‬
‫بل املقصود لدى من ي َّدعي مقام لقاء الله هو‪ :‬أنه بعد حصول التقوى التا َّمة والكاملة‪ ،‬وانرصاف‬
‫جه نحو النشأتني ‪-‬امل ُلك وامللكوت‪ -‬ووطأ األنان َّية‬ ‫القلب نهائ ًّيا عن جميع العوامل‪ ،‬ورفض التو ُّ‬
‫الحق املتعايل وأسامء ذاته املق َّدس وصفاته‪ ،‬واالنصهار يف عشق ذاته‬ ‫ِّ‬ ‫يل نحو‬
‫واإلن َّية‪ ،‬واإلقبال الك ُّ‬
‫املق َّدس وح ّبه‪ ،‬وتح ُّمل جهد وترويض القلب‪ ،‬يحصل صفاء يف القلب لدى السالك يبعث عىل‬
‫جب الغليظة التي أسدلت بني العبد من جهة واألسامء والصفات‬ ‫ح ُ‬
‫تجل أسامئه وصفاته‪ ،‬ومت ُّزق ال ُ‬ ‫ّ‬
‫والتدل التا ّم بذاته‪ .‬ويف‬
‫ّ‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬والفناء يف األسامء والصفات‪ ،‬والتعلُّق بع ِّز قدسه وجالله‬

‫[[[‪ -‬سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.79‬‬


‫[[[‪ -‬بحار األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،70‬ح‪ ،62‬ص‪.90‬‬
‫[[[‪ -‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬وصايا عرفان َّية‪ ،‬مركز بق َّية الله األعظم‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪1998،‬م‪ ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪124‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫والحق املتعايل سوى حجاب األسامء‬ ‫ِّ‬ ‫هذا الحال‪ ،‬ال يوجد حاجز بني روح السالك املق َّدسة‬
‫والصفات‪ .‬وميكن أن يرفع الستار النوري لألسامء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضً ا‪ ،‬وينال‬
‫التجلّيات الذات َّية الغيب َّية‪ ،‬ويرى نفسه متدلّ ًيا ومتعلّقًا بالذات املق َّدس‪ ،‬ويشهد اإلحاطة القيوم َّية‬
‫للحق املتعايل»[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ظل‬
‫للحق والفناء الذايتِّ لنفسه‪ ،‬ويرى بالعيان أ َّن وجوده ووجود كافَّة الكائنات‪ًّ ،‬‬‫ِّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫أسايس ميكن من خالله أن ينطلق السالك يف رحلته نحو‬ ‫ٍّ‬ ‫من هنا‪ ،‬يجمع العرفاء عىل مبدأ‬
‫أصل وال سلوك‪ ،‬وهو مبدأ تهذيب النفس وتصفيتها‪ ،‬حتى تتمكَّن من خرق‬ ‫ً‬ ‫والذي من دونه ال سفر‬
‫الحق وإىل معدن العظمة كام يف مناجاة اإلمام‬ ‫ِّ‬ ‫جب الظلامن َّية والنوران َّية لتصل بعدها إىل لقاء‬ ‫ح ُ‬ ‫ال ُ‬
‫ِضيا ِء نَظَرِها إِلَ ْيكَ َح ّتى‬ ‫صا َر قُلو ِب َنا ب ِ‬ ‫َب ِل ك ََم َل االنْ ِقطَاع إِلَ ْيكَ ‪َ ،‬وأَنْ ِر أَ ْب َ‬ ‫عيل‪ ‬الشعبان َّية‪« :‬إِلهي ه ْ‬
‫ري أ ْر َوا ُح َنا ُم َعلَّ َق ًة ِب ِع ِّز ُقدْ ِسكَ ‪ .‬إِلهِي‬
‫َص َ‬ ‫ص َل إِ َل َم ْع ِدنِ ال َعظَ َم ِة َوت ِ‬ ‫ب ال ُّنو ِر َف َت ِ‬ ‫ج َ‬
‫ُلوب ُح ُ‬
‫صا ُر الق ِ‬ ‫خر َِق أَ ْب َ‬‫تَ ْ‬
‫ساً و َع ِم َل لَكَ َج ْهراً»[[[‪.‬‬ ‫جاللِكَ فَنا َج ْيتَهُ ِ ّ‬ ‫َص ِع َق لِ َ‬ ‫َوا ْج َعلْ ِني ِم َّم ْن نَا َد ْيتَهُ فأجا َبكَ َوال َحظْتَهُ ف َ‬
‫فتهذيب النفس وتزكيتها من األهواء واألخالق الرذيلة وتنزيهها عن الذنوب الكبرية والصغرية‪،‬‬
‫يل يف السلوك إىل الله‪ .‬ويع ِّرفه القاساين يف‬ ‫هو األصل الذي يبني عليه العرفاء منهجهم العم َّ‬
‫«رشح منازل السائرين» بأنَّه‪»:‬التخليص من دنس الطبائع ولوث العالئق»[[[‪ .‬ويع ِّرفه اإلمام الخميني‬
‫بأنَّه‪»:‬عبارة عن انتصار اإلنسان عىل قواه الظاهريَّة‪ ،‬وجعلها تأمتر بأمر الخالق‪ ،‬وتطهري اململكة‬
‫الحق تعاىل يف كتابه الكريم الفوز والفالح‬‫ُّ‬ ‫من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده»[[[‪ .‬ولقد قرن‬
‫بتهذيب النفس وتزكيتها حيث قال‪﴿ :‬ونفس وما س َّواها‪ ،‬فألهمها فجورها وتقواها‪ ،‬قد أفلح من‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقي يف هذه الدنيا يف حالة سلوك وسفر نحو‬ ‫ُّ‬ ‫دساها﴾[[[‪ .‬فالعارف‬‫زكَّاها‪ ،‬وقد خاب من َّ‬
‫ين يف رسالة «لب اللباب»‪« :‬هو املجاهدة‬ ‫العلمة الطهرا ُّ‬
‫للفوز بلقائه‪ ،‬وزاد هذا السفر كام يقول َّ‬
‫والرياضة النفسانيَّة‪ ،‬وأل َّن قطع عالئق املا َّدة صعب ج ًّدا‪( ،‬فإنه) يت ُّم التخلُّص من وشائج عامل‬
‫الكرثة بالتدريج حتى يت َّم السفر من عامل الطبع»[[[‪.‬‬
‫يل لتهذيب النفس عند العارف فيكمن يف مخالفة أهواء النفس والعمل‬ ‫أ َّما الربنامج العم ُّ‬
‫عىل خالف ما تطلبه وتريده‪ ،‬أل َّن النفس بطبيعتها أ َّمارة بالسوء‪ ،‬م ّيالة إىل اللهو والجري وراء زينة‬
‫مم يرصفها عن الوجهة الحقيق َّية التي خلقت ألجلها‪ .‬وعليه فإنَّ‪« :‬معالجة األمراض‬ ‫الحياة الدنيا‪َّ ،‬‬
‫النفسان َّية‪ ،‬وتخليص النفس من األخالق الرديَّة املهلكة‪ ،‬وتجريدها عن العادات الخبيثة املظلمة ال‬
‫رضية وعادات حسنة تقابل األخالق الذميمة والصفات الخبيثة‪،‬‬ ‫ميكن من دون ات ِّصافها مبلكات ُم ِ‬

‫[[[‪ -‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬األربعون حديثًا‪ ،‬ترجمة محمد الغروي‪ ،‬دار التعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،1988 ،‬ص‪.504‬‬
‫[[[‪ -‬أمري املؤمنني عيل ابن ايب طالب(ع)‪:‬املناجاة الشعبان َّية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬القاساين‪ ،‬عبد الرزاق‪ ،‬رشح منازل السائرين‪ ،‬دار املجتبى‪ ،‬بريوت‪1995،‬م‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫[[[‪ -‬األربعون حديثًا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الشمس‪ ،‬اآليات ‪.10-7‬‬
‫جة البيضاء‪ ،‬بريوت‪1417،‬ق‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫[[[‪ -‬الطهراين‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬رسالة لب اللباب يف سري وسلوك أويل األلباب‪ ،‬دار املح َّ‬

‫‪125‬‬
‫المحور‬

‫الخميني (قده) برنامج معالجة‬


‫ُّ‬ ‫إل بالض ِّد اآلخر»[[[‪ .‬ويرشح اإلمام‬
‫فإن دفع أحد الض َّدين ال ميكن َّ‬
‫املفاسد األخالقيَّة ويلخِّصه بالتايل‪« :‬أفضل عالج لدفع املفاسد األخالقيَّة‪ ،‬هو ما ذكره علامء‬
‫كل واحدة من امللكات القبيحة التي تراها يف نفسك‪ ،‬وتنهض‬
‫األخالق وأهل السلوك‪ ،‬وهو أن تأخذ ُّ‬
‫بعزم عىل مخالفة النفس إىل أمد‪ ،‬وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلبه منك تلك امللكة الرذيلة»[[[‪.‬‬
‫يئ وبحسب رغبة النفس‪ ،‬وإلَّ فإ َّن السالك سيعود ليقع يف‬
‫ومخالفة النفس ال تت ُّم بشكل عشوا ٍّ‬
‫املشكلة نفسها التي هرب منها‪ .‬بل إ َّن مخالفة النفس ال ب َّد من أن تخضع لربنامج واضح عنوانه‬
‫التقوى والطاعة لله‪ .‬فالطريق السليم ملخالفة النفس هو من خالل ات ّباع الرشيعة التي وضعها‬
‫خالق هذا اإلنسان العارف بشؤون وأحاوله‪ .‬فالسالك عندما يلتزم بأحكام الله فسوف يكون يف‬
‫للرب ومخالفة للنفس وأهوائها‪ ،‬أ َّما إذا كان مطي ًعا لنفسه ومخالفًا لربِّه فسيكون‬ ‫ِّ‬ ‫حالة طاعة وعبوديَّة‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ٰ َ ُ َ َ ُ َ َ ّ ُ َّ ُ َ‬ ‫َ‬
‫الل َعل ٰى عِل ٍم ﴾[[[‪ .‬وعليه فإ َّن «وسيلة‬ ‫مصداقًا لقوله تعاىل‪﴿ :‬أفرأيت م ِن اتخذ إِلهه هواه وأضله‬
‫الخالص من العذاب تنحرص يف أمرين‪ :‬األول‪ :‬اإلتيان مبا يصلح النفس ويجعلها سليمة‪ .‬واآلخر‪:‬‬
‫ريا يف النفس من‬
‫رضها ويؤملها‪ .‬ومن املعلوم أ َّن رضر املح َّرمات أكرث تأث ً‬‫كل ما ي ُّ‬
‫هو االمتناع عن ِّ‬
‫أي يش ٍء آخر‪ ،‬ولهذا كانت مح َّرمة‪ ،‬كام أ َّن الواجبات لها أكرب األثر يف مصلحة األمور‪ ،‬ولهذا كانت‬
‫ِّ‬
‫كل هدف‪ ،‬ومم ِّهدة للتط ُّور إىل ما هو أحسن‪ .‬إ َّن الطريق‬
‫أي يشء‪ ،‬ومق َّدمة عىل ِّ‬
‫واجبة وأفضل من ِّ‬
‫الوحيد إىل املقامات واملدارج اإلنسان َّية مي ُّر عرب هاتني املرحلتني‪ ،‬بحيث أ َّن من يواظب عليهام‬
‫يكون من الناجني السعداء‪ ،‬وأه ُّمهام هي التقوى من املح َّرمات»[[[‪ .‬والتقوى عن املح َّرمات ال‬
‫إل بطاعة الله واتِّباع رشيعته والدخول يف إرادته الترشيع َّية إىل ح ِّد الفناء التا ِّم فيها بحيث ال‬
‫تحصل َّ‬
‫الحق ومظهريَّته‬
‫ِّ‬ ‫يبقى إلرادة السالك باقية عىل قاعدة (ليس لك من األمر يشء)‪ ،‬ليصبح عىل صورة‬
‫بحسب قابليَّاته واستعدداته‪« .‬عبدي ِ‬
‫اطعني تكُن مثيل تقُل لليشء كن فيكون»[[[‪.‬‬
‫وهذه التقوى[[[ ليست عىل مرتبة واحدة بل تختلف أحكامها باختالف مقامات السالكني؛‬
‫الخاصة تكون من املشتهيات‪ ،‬وتقوى الزاهدين‬
‫َّ‬ ‫«فتقوى العا َّمة إذًا تكون من املحرمات‪ ،‬وتقوى‬
‫حب الذَّات‪ ،‬واملنجذبني من كرثة ظهور األفعال‪ ،‬والفانني من كرثة‬
‫حب الدنيا‪ ،‬واملخلصني من ِّ‬
‫من ِّ‬
‫جه إىل الفناء‪ ،‬واملتمكّنني من التلوينات»‪.‬‬
‫األسامء‪ ،‬والواصلني من التو ُّ‬

‫[[[‪ -‬متهيد القواعد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.388‬‬


‫[[[‪ -‬األربعون حديثًا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫[[[‪ -‬الجاثية‪.23 :‬‬
‫[[[‪ -‬األربعون حديثًا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.254‬‬
‫[[[‪ -‬بحار األنوار‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ج‪ ،90‬ص ‪.376‬‬
‫[[[‪ -‬األربعون حديثًا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.252‬‬

‫‪126‬‬
‫ميتافيزيقا الحضور والمشاهدة‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬املقدّمات من كتاب نص النصوص‪ ،‬تصحيح وتقديم هرني كربان وعثامن يحيى‪ ،‬إنتشارات‬
‫طوس‪ ،‬الطبعة الثانية‪1367،‬ش‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪2.2‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬جامع األرسار ومنبع األنوار‪ ،‬تحقيق هرني كربان وعثامن يحي‪ ،‬انتشارات علمى وفرهنيك‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ 1368 ،‬ش‪.‬‬

‫‪3.3‬اآلميل‪ ،‬حيدر‪ ،‬رسالة نقد النقود يف معرفة الوجود (املطبوعة مع جامع األرسار)‪ ،‬تحقيق هرني كربني وعثامن‬
‫يحيي‪ ،‬رشكت انتشارات علمى وفرهنىك‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1368 ،‬ش‪.‬‬

‫مؤسسة تنظيم ونرش آثار اإلمام الخميني‪ ،‬الطبعة االوىل‪.1416 ،‬‬


‫‪4.4‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬رشح دعاء السحر‪َّ ،‬‬

‫‪5.5‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬األربعون حديثًا‪ ،‬ترجمة محمد الغروي‪ ،‬دار التعارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة السادسة‪.1988 ،‬‬

‫مؤسسة تنظيم‬
‫‪6.6‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬مصباح الهداية اىل الخالفة والوالية‪ ،‬مقدّمة السيد جالل الدين األشتياين‪َّ ،‬‬
‫ونرش آثار اإلمام الخميني‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.‬‬

‫‪7.7‬الخميني‪ ،‬روح الله‪ ،‬وصايا عرفانيَّة‪ ،‬مركز بقيَّة الله األعظم‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪1998،‬م‪.‬‬

‫جة البيضاء‪،‬‬
‫‪8.8‬الطهراين‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬رسالة لب اللباب يف سري وسلوك أويل األلباب‪ ،‬دار املح َّ‬
‫بريوت‪1417،‬ق‪.‬‬

‫‪9.9‬القاساين‪ ،‬عبد الرزاق‪ ،‬رشح منازل السائرين‪ ،‬دار املجتبى‪ ،‬بريوت‪1995،‬م‪.‬‬

‫‪1010‬القيرصي‪ ،‬داود‪ ،‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬تحقيق آية الله حسن زادة اآلميل‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫‪1424‬ق‪ ،‬ج ‪.1‬‬

‫مؤسسة الوفاء‪ ،‬بريوت‪ 1404،‬هـ ق‪ ،‬ج‪،4‬ح‪.5‬‬


‫‪1111‬املجليس‪ ،‬محمد باقر‪ ،‬بحار األنوار‪َّ ،‬‬

‫‪1212‬أمري املؤمنني عيل ابن ايب طالب‪:‬املناجاة الشعبانيَّة‪.‬‬

‫‪1313‬حمزة‪ ،‬الفناري‪ ،‬مصباح األنس‪ ،‬تصحيح محمد خواجوي‪ ،‬انتشارات موىل‪ ،‬طهران‪ ،‬الطبعة األوىل‪1374 ،‬ش‪.‬‬

‫‪1414‬صائن الدين‪ ،‬ابن تركه األصفهاين‪ ،‬متهيد القواعد‪ ،‬تقديم وتصحيح جالل األشتياين‪ ،‬بوستان كتاب‪ ،‬قم‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪1381 ،‬ش‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫املكانة امليتافيزيقية للجسم الطبيعي‬
‫يف فلسفة َّ‬
‫مل صدرا‬
‫للـ«الذرات»‬
‫َّ‬ ‫املستمر‬
‫ُّ‬ ‫التحول‬
‫ُّ‬ ‫دراسة مقارنة بصدد‬

‫ف‬
‫باحث ي� الفلسفة المقارنة‪ ،‬جامعة قم – إيران‬ ‫حج�‬‫ت‬ ‫فريد‬
‫ي‬
‫ف‬
‫أستاذ مساعد ي� قسم الفلسفة‬ ‫مهدي منفرد‬
‫أستاذ ف� قسم ي ز‬ ‫رزم‬
‫الف�ياء‬ ‫ي‬ ‫حبيب هللا ي‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الكوانتومية لحالة ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫القاطعية‪،‬‬ ‫مستمر ينشأ من أصل عدم‬ ‫تغ�‬ ‫ي‬ ‫النظرية‬ ‫تخضع األشياء ي�‬
‫التبعية تجعل َّ‬ ‫ّ‬ ‫تّ َّ‬ ‫وتكون َّ‬
‫الذرة‬ ‫ح� أن هذه‬ ‫الذرة مع ما تحمل من أمواج تابعة للزمان‪.‬‬
‫متبدلة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫وبالتال‬ ‫ي‬ ‫متعينة‬ ‫غ�‬ ‫المستمر والدائم‪ ،‬فتكون حالتها ي‬ ‫للتحول‬ ‫المتحررة خاضعة‬
‫النسبية‪ ،‬يعط مفهوم َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ف‬
‫الذرة والموج المغلق‬ ‫ي‬ ‫الكوانتومية‬ ‫نظريات المدارات‬ ‫كذلك األمر ي�‬
‫ف‬ ‫ش‬ ‫ش‬
‫ال�ء يمتاز بعدم استقرار دائم ي� حاالته‬ ‫ل�ء مغلق يطلق عليه "المدار"‪ .‬وهذا ي‬ ‫األصالة ي‬
‫تحول الجسم‬ ‫األساسية (الخالء الكوانتوم)‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يجري الحديث عن موضوع ُّ‬ ‫َّ‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ف‬
‫والتكاملية‪.‬‬ ‫الذاتية‬ ‫ي� فلسفة مل صدرا ي� قالب الحركة‬
‫مجال الفلسفة الصدر َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ف‬ ‫ف‬
‫ائية‬ ‫ي‬ ‫األساسية ي�‬ ‫نعمل ي� هذا البحث*‪ ،‬وباالستعانة بالمصادر‬
‫اإلله مال صدرا‬ ‫ميتاف�يقا الحكيم‬ ‫يز‬ ‫ب�‬ ‫والف�ياء الحديثة‪ ،‬عىل إنجاز دراسة مقارنة ي ن‬ ‫يز‬
‫ي‬
‫ِّ ف‬ ‫أن ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫يز‬
‫الطبيع ي� الفلسفة‬ ‫ي‬ ‫تحول الجسم‬ ‫والف�ياء الحديثة‪ .‬وسسنحاول أن نثبت ي� النتيجة‪،‬‬
‫وتغ� َّ‬ ‫تحول ُّ‬ ‫تحقق الوجود وفقدانه‪ ،‬كذلك األمر ف� موضوع ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ائية ال ُّ‬ ‫الصدر َّ‬
‫الذرات‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫يدل عىل‬
‫ً‬ ‫ين‬ ‫األساسية‪ ،‬حيث يمكن المقارنة ي ن‬ ‫َّ‬ ‫الكوانتومية‪ ،‬أو خلق وفناء َّ‬ ‫َّ‬
‫المسألت� انطالقا‬ ‫ب�‬ ‫الذرات‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الكوانتومية‪ ،‬حيث‬ ‫القاطعية‬ ‫الكوانتومية‪ .‬وإىل ذلك انطالقا من عدم‬ ‫نظرية المدارات‬ ‫من‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ين‬ ‫ف‬ ‫تحتفظ َّ‬
‫ال� توضح‬ ‫زمان� ونظرية الحركة الجوهرية الصدرائية ي‬ ‫الذرة بوضع واحد ي�‬
‫ً‬
‫الحركة انطالقا من الزمان‪.‬‬

‫* * *‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫نظرية الكوانتوم ـ‬ ‫الطبيع ـ‬
‫ي‬ ‫الجوهرية ـ الجسم‬ ‫مفتاحية‪ :‬مل صدرا ـ الحركة‬ ‫مفردات‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫نظرية المدارات الكوانتومية ـ أصل عدم القاطعية‪.‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫ّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫دأب الفالسفة باستمرار عىل البحث عن طريق لتربير التح ُّول والحركة يف عامل الطبيعة (باعتبار‬
‫أ َّن عامل الطبيعة أحد مراتب الوجود)‪ .‬واختلفت طرق الوصول إىل هذا الهدف عندهم باختالف‬
‫كل‬
‫يئ‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ .‬ففي ّ‬ ‫املباين الفلسفيَّة التي اعتمدوا عليها‪ ،‬يف النظام الفلسفي املشَّ ا ِّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الذهني‪ ،‬هناك أمر ثابت يجب أن يكون موجو ًدا يف مراحل التح ّول والتغيري‬ ‫ّ‬ ‫حركة وبحسب الغرض‬
‫كافَّة‪ ،‬أطلق عليه أرسطو وابن سينا اسم “املا ّدة األوىل” أو “الهيوىل”[[[‪.‬‬
‫مؤس ًسا لنظريّة الرتكيب‬‫ِّ‬ ‫خاصة يف هذا السياق‪ ،‬فاعتُ ِب‬ ‫َّ‬ ‫كذلك كان أرسطو صاحب رؤية‬
‫يئ من خالل فناء‬‫االنضاممي لألجسام من املا َّدة والصورة[[[‪ .‬وتتحقّق الحركة يف النظام املشَّ ا ِّ‬
‫ِّ‬
‫مراتب مختلفة تُفاض من‬
‫َ‬ ‫يئ‪ ،‬فإ َّن للوجود‬
‫الفلسفي الصدرا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫صورة وخلق صورة أخرى‪ .‬أ ّما يف النظام‬
‫واجب املوجود انطالقًا من نظريَّتي أصالة الوجود‪ ،‬والتشكيك فيه‪ .‬وتختتم هذه املراتب بأضعفها‬
‫اللمستق ّرة‪ ،‬حيث تكون أجزاؤها غائبة‬ ‫وأدناها؛ أي “املا ّدة األوىل” أو “الهيوىل”‪ ،‬وهي املرتبة َّ‬
‫إل أنَّها متَّصلة‪.‬‬
‫بعضها عن بعض يف تحقّقها‪َّ ،‬‬
‫املل صدرا قسامن‪ :‬وجود ثابت ووجود س ّيال‪ .‬وقد اعترب أ َّن الوجود‬
‫َّ‬ ‫الوجود من وجهة نظر‬
‫الس َّيال متَّصل األجزاء‪ ،‬يتكامل أثناء الحركة عىل امتداد الزمان‪ ،‬وبالتايل فهو صاحب وحدة اتِّصال َّية‬
‫وشخص َّية‪ ،‬وبهذا النحو متكَّن من االستدالل عىل بقاء املوضوع مع وجود الحركة يف الجوهر[[[‪.‬‬
‫كام اعترب أ َّن “الجسم”‪ ،‬هو خالصة الرتكيب االت ِّحادي بني املا َّدة والصورة‪ ،‬فهام جوهران متَّحدان‬
‫من ناحية الوجود يف الخارج[[[‪.‬‬
‫الطبيعي يف هذه‬
‫ُّ‬ ‫خاصة حول الجسم‪ ،‬فالجسم‬ ‫َّ‬ ‫يف اإلطار عينه‪ ،‬ق ّدمت حكمة اإلرشاق رؤية‬
‫احتل‬
‫ّ‬ ‫الحكمة‪ ،‬ليس جوه ًرا مركَّبًا من ما ّدة وصورة‪ ،‬بل من جوهر وعرض‪ .‬ويف الفيزياء الجديدة‬
‫موضوع الحركة وعالقتها الوثيقة بالجسم أهم ّية كبرية‪ ،‬فبعد نيوتن ‪ -‬وعرضه نظريَّة ظهور األنواع‬
‫وعىل أساس مبدئ َّية الفعل ور َّدة الفعل امليكانيك َّية‪ -‬وما ق َّدمه من أفكار جديدة حول الطبيعة‪،‬‬
‫ضعفت قضيَّة رشح الجسم عىل أساس ثنائيَّة املا َّدة والصورة‪ .‬وقد بدأ املفكِّرون البحث عن املا َّدة‬
‫خاصة؛ ممَّ م َّهد األرضيَّة لتحليل صور املا َّدة املختلفة‪ ،‬وكشف‬ ‫َّ‬ ‫ضمن رشوط طبيعيَّة ومخربيَّة‬
‫خواصها الظاهريَّة‪ ،‬حيث برزت العنارص الكيميائ َّية‪ .‬ومع مرور الوقت‪ ،‬وبعد الجهود‬ ‫ِّ‬ ‫النقاب من‬
‫التي بذلها بعض املفكِّرين من أمثال دالتون‪ ،‬تامسون‪ ،‬رادرفورد و‪ ...‬حتَّى بداية القرن العرشين‪ ،‬ت َّم‬

‫[[[‪( -‬ابن سينا‪ ،1376 ،‬ص‪123‬؛ ‪.)Aristotle, 1995, p.1005‬‬


‫[[[‪( -‬أرسطو‪ ،1377 ،‬ص‪)223‬‬
‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪ ،1378 ،‬ص‪)82‬‬
‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪)283‬‬

‫‪129‬‬
‫المحور‬

‫التع ُّرف عىل األجزاء الثالثة املؤلِّفة للذ َّرة (اإللكرتون‪ ،‬الربوتون والنيوترون)[[[‪.‬‬
‫وال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن اكتشاف أجزاء الذ ّرة هذه ساعد الفيزيائ ّيني عىل تقديم منوذج عن الذ َّرة‪.‬‬
‫فبعدما فشل الفيزيائ ّيون التقليديّون حتّى أوائل القرن العرشين‪ ،‬يف تقديم منوذج يتالءم مع النتائج‬
‫حل املشكلة مع فيزياء كوانتوم‪ ،‬انطالقًا من األعامل التي‬ ‫التي حصلت يف املختربات‪ ،‬جرى ّ‬
‫ق ّدمها ماكس بالنك[[[‪ .‬وظهرت عىل أثر ذلك‪ ،‬بعض النظريَّات واألفكار من جملتها نظريَّة أينشتاين‬
‫الذري[[[‪ ،‬أصل عدم القاطع َّية عند هايزنربغ[[[‪ ،‬نظريَّة‬
‫ّ‬ ‫يف توضيح آثار الفوتو إلكرتونيك[[[منوذج بور‬
‫مت ُّوج الذ َّرات املا ّديَّة يف نظريَّة لوي دوبروى[[[‪ ،‬معادلة رشود ينكر[[[‪...‬‬
‫وبنا ًء عىل نظريّة كوانتوم‪ ،‬فإ ّن لألشياء (الذ َّرات) التابعة لألت ّم متتلك خاص َّية ثنائ َّية التم ُّوج‪ ،‬وهذا‬
‫يعني نو ًعا من التامزج بني توضيح ماه َّية الجسم ومفهوم الحركة‪.‬‬
‫التقليدي (الحركة‬
‫َّ‬ ‫يك‬
‫يجدر القول أ َّن مت ُّوج الذ َّرات يف الفهم الكوانتومي ال يشبه التم ُّوج الكالسي َّ‬
‫املتقلِّبة أو ما يعبَّ عنها باملتم ِّوجة)‪ ،‬بل هو مت ُّوج من نوع آخر تح َّدث عنه رشودينكر‪ ،‬ويختلف عن‬
‫املعادالت الكالسيكيّة واملعروفة يف األمواج‪ ،‬ويُبنى عىل أصل عدم القاطعيَّة عند هايزنربغ‪ ،‬وهذا‬
‫يعني أ ّن األشياء الكوانتوميّة ليس لها مكان ورسعة مح َّددان‪ ،‬وهي يف حالة تح ُّول وتغيري مستم ٍّر‬
‫خارجي)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لحالتها الفيزيائ َّية حتّى عند تح ُّررها الكامل (أي عندما تكون غري متأث ِّرة بعامل‬
‫ويف هذا السري التح ُّويل‪ ،‬يكون مت ّوج الذ َّرة تاب ًعا للتم ُّوج الحاصل يف اللحظة السابقة‪ ،‬والحالة‬
‫ين الذي يجري بنا ًء عىل معادلة الديفرانسيل‬
‫السابقة كذلك بالنسبة إىل الَّالحقة‪ ،‬وهو التح ُّول الزما ُّ‬
‫الزمان ّية عند رشودينكر[[[‪.‬‬
‫سنحاول يف هذا املقال إجراء مقارنة بني موضوع الحركة من وجهة نظر الحكمة املتعالية‪،‬‬
‫توصلت إليه آخر نتائج الفيزياء الكوانتوم َّية حول الحركة‪ ،‬وللوصول إىل هذا الهدف‪ ،‬ال ب َّد من‬
‫وما َّ‬
‫حصول مسائل ثالث‪ :‬اختالف املبادئ بني الحكمة املتعالية والفيزياء الكوانتوم ّية‪ ،‬الوصول إىل‬
‫لغة مشرتكة تتيح القيام بعمليّة املقارنة‪ ،‬والوصول إىل أهداف املقارنة‪.‬‬
‫يف الفلسفة املقارنة‪ ،‬تجري املقارنة بني متام فلسفة عىل فلسفة أخرى أو عىل تاريخ الفلسفة‪،‬‬

‫[[[ ‪( -‬پانوماريف‪ ،1359 ،‬ص‪)51-14‬‬


‫‪[2] - planck, 1901, p.533.‬‬
‫‪[3] - Einstein, 1905, p.132،‬‬
‫)‪[4] - Bohv, 1913a, pp. 124-; Bohv, 1913b, pp.476502-; Bohv, 1913c, pp.857- 875‬‬
‫‪[5] - Heisenberg, 1927, pp.172 -198.‬‬
‫‪[6] - De Broglie, 1923, p.540.‬‬
‫‪[7] - Schrodinger, 1926, pp. 1049 -1070.‬‬
‫‪[8] - Sukurai, 1994, p.86.‬‬

‫‪130‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫ويتحقَّق هذا األمر امله ُّم مع وجود لغة مشرتكة بني الفالسفة وفلسفاتهم‪ .[[[13‬وعىل هذا األساس‪،‬‬
‫فعند املقارنة بني التح ُّول املستم ِّر والدائم لتم ُّوج األشياء (الذ َّرات) الكوانتوميَّة املغلقة‪ ،‬وخلق وفناء‬
‫الطبيعي يف‬
‫ِّ‬ ‫الذ َّرات يف نظريَّة املدارات الكوانتوم َّية النسب َّية وبني الحركة الذات َّية واملستم َّرة للجسم‬
‫الفلسفة الصدرائ َّية‪ ،‬ينبغي البحث عن أوجه االشرتاك واالختالف الظاهريَّة بني املجالني‪ ،‬باإلضافة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫إىل املقارنة يف التامميَّة والبحث يف مبادئ وأصول هذين االتّجاهني‪.‬‬


‫بنا ًء عىل ما تق ّدم‪ ،‬يتض َّمن هذا املقال ثالثة أقسام عا ّمة‪:‬‬
‫القسم األ ّول‪ :‬يدرس املبادئ الفيزيائ َّية التي يحتاجها البحث‪ ،‬حيث نوضح فيه الحركة يف‬
‫نبي موضوع الحركة يف الذ َّرات الكوانتوم َّية‪ ،‬باإلضافة إىل تحليل نظريَّة‬
‫الذ َّرات األساس َّية‪ ،‬ومن ث ّم ّ‬
‫املدارات الكوانتوم َّية ومسائل والخلق والفناء يف هذه النظريّة‪.‬‬
‫مل صدرا‪ ،‬باإلضافة إىل‬‫الفلسفي من وجهة نظر ّ‬
‫ِّ‬ ‫القسم الثاين‪ :‬يدرس مسألة التح ُّول يف الجسم‬
‫الطبيعي ّمام يساهم يف التع ُّرف‬
‫ّ‬ ‫تعريف الجسم يف الفلسفة ومختلف آراء الفالسفة حول الجسم‬
‫الفلسفي‪ ،‬وبعد التدقيق يف مسألة التغيري‬
‫ِّ‬ ‫عىل إبداعات هذا الفيلسوف العظيم عىل املستوى‬
‫الطبيعي‪ ،‬وانطالقًا من التعريف املق َّدم سنعمد إىل دراسة الحركة الجوهريَّة‬
‫ّ‬ ‫والتح ُّول يف الجسم‬
‫عنده باعتبارها الطرف الثاين للمقارنة‪.‬‬
‫مل صدرا والذ َّرات‬
‫الطبيعي يف فلسفة ّ‬
‫ِّ‬ ‫القسم الثالث واألخري‪ :‬يجري مقارنة بني تح ُّول الجسم‬
‫حا للغة املشرتكة بني االتجاهني ونقاط املقارنة بينهام‪.‬‬
‫الكوانتوم ّية‪ ،‬ويق ِّدم رش ً‬
‫شك فيه أ َّن توضيح ماهيَّة الجسم قد امتزج مبفهوم الحركة يف الفلسفة والفيزياء‪ ،‬ويبدو‬ ‫ممَّ ال ّ‬
‫أ َّن التح ُّول والتغيري الدائم للذ َّرات يف عامل الكوانتوم أو ما ميكن أن يُعبَّ عنه بشكل أكرث تط ُّو ًرا‪،‬‬
‫خلق وفناء الذ َّرات يف عامل نظريّة املدارات الكوانتوم ّية‪ ،‬والتي تطرح عند تقييم النسب َّية يف نظرية‬
‫مل صدرا‪.‬‬ ‫يل يف فلسفة ّ‬
‫حا مع التح ُّول والتح ُّرك الدائم والتكام ِّ‬
‫كوانتوم‪ ،‬ميتلك مواءمة وتناسقًا واض ً‬
‫تختص بعامل املا َّدة‪ ،‬بل تتض َّمن عامل‬
‫ّ‬ ‫طب ًعا‪ ،‬الحركة الجوهريَّة الصدرائيَّة ‪ -‬طبق بعض القراءات ‪ -‬ال‬
‫لكل القراءات‪ ،‬فإ ّن حصول‬ ‫املثال وحتّى عامل املج َّردات طبق آراء أخرى‪ ،[[[14‬ومع ذلك وطبقًا ِّ‬
‫يل يف عامل املا ّدة أمر ُمسلَّم به‪ ،‬وكذلك يف خصوص الفيزياء الكوانتوم ّية‬ ‫التدريجي والتكام َّ‬
‫َّ‬ ‫التح ُّول‬
‫املنحرصة بعامل املا ّدة واملاديّات‪.‬‬
‫بشكل عام‪ ،‬ميكن القول أ َّن كلًّ من الفلسفة والعلوم التجريب ّية‪ ،‬ق ّدما مساعدات كبرية يف‬
‫تق ّدم وارتقاء أحدهام اآلخر‪ ،‬وكانت النتيجة االرتقاء مبستوى املعرفة البرشيَّة حول عامل الوجود‪،‬‬

‫[[[ ‪( -‬منفرد‪ ،1394 ،‬ص‪.)25‬‬


‫[[[ ‪( -‬فيايض‪ ،1389 ،‬ص‪.)265-260‬‬

‫‪131‬‬
‫المحور‬

‫والعلمي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫ويف هذا اإلطار هناك الكثري من املوضوعات‪ ،‬والتي ميكن من خالل تتبُّعها‬
‫الوصول إىل جوانب عديدة ومتن ِّوعة منها‪ .‬وقد شهدت العقود األخرية جهو ًدا حثيثة يف مسألة‬
‫خصوصا امليكانيك الكوانتومي[[[‪ .‬طب ًعا‬
‫ً‬ ‫العالقة التي تربط الفلسفة الصدرائ َّية والفيزياء الحديثة‪،‬‬
‫االت ّجاه الحاكم عىل هذه العالقة هو نقد النظريَّة الكوانتوم ّية ‪ ،‬بسبب بعض التح ّديات من قبيل‬
‫نقض العليّة املبتنية عىل أصل عدم القاطعيّة أو نقد الواقعيّة وأمثال ذلك‪.‬‬
‫مع العلم‪ ،‬أ ّن النظريّة الكوانتوم ّية كانت ناجحة وموفّقة حتّى اآلن يف القراءة التجريب َّية للظواهر‬
‫إل أنّه يف حدود التنظري قد ميكن االستفادة‬ ‫امليكروسكوب ّية‪ ،‬وحتّى لو اعتربناها نظريّة غري كاملة‪ّ ،‬‬
‫ممَّ متلكه الفلسفة اإلسالميّة‪ ،‬والسيَّام الصدرائيَّة من غنى‪ .‬وسنعمل يف هذا املقال عىل نوع من‬
‫املقارنة‪ ،‬ال بل األكرث من ذلك عىل “تقديم مبادئ فلسف ّية‪ ،‬لخاص َّية الذ َّرات الكوانتوم ّية التي ال‬
‫بديل عنها (ثنائ َّية التم ُّوج والذ َّرة) بنا ًء عىل الفلسفة الصدرائ ّية‪ ،‬وهذا ما مل يج ِر العمل عليه حتّى‬
‫اآلن حسب اطّالعنا‪.‬‬
‫مم ال َّ‬
‫شك فيه أ َّن التح ُّول والتغيري املغلق لتم ُّوج األشياء الكوانتوم َّية أو خلق وفناء الذ ّرات‬ ‫ّ‬
‫دليل ومساعدة مه َّمة إلحكام الفكر‬‫األساس َّية عىل أساس الصعود والهبوط يف البنية األساس ّية‪ ،‬يق ّدم ً‬
‫مم يساهم يف فهم املوضوع بشكل أفضل‪ ،‬وهذا هو الهدف امله ّم‬ ‫يئ ّ‬
‫خصوصا الصدرا ّ‬ ‫ً‬ ‫الفلسفي‪،‬‬
‫ّ‬
‫والفائدة األساس ّية للبحث الحارض‪ ،‬حيث يشكّل األمر مصداقًا مهمًّ لقبول نظريّة الحركة الجوهريّة‬
‫الصدرائ ّية يف األشياء الكوانتوم ّية‪ ،‬ويساعد إىل حدود بعيدة يف الوصول إىل نتائج صحيحة‪.‬‬
‫ال ب ّد من اإلشارة إىل مسألتني مه ّمتني حول هذا املقال‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬يعتمد مضمون ونتيجة هذا البحث عىل أساس فرض أصل عدم القاطع َّية‬
‫أو ثنائيّة التم ّوج والذ ّرة‪ ،‬وكذلك صعود وهبوط املدارات األساسيّة بشكل دائم (املشتملة عىل‬
‫الطبيعي‬
‫ّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫خلق وفناء الذ ّرات)‪ ،‬والذي يعتمد عىل مقولة معرفة الوجود أو يف الح ّد األدىن‬
‫وإل فإذا اقتفينا أثر طريقة تفكري منتقدي‬
‫ملوضوع محوري بهدف معرفة الوجود يف عامل الواقع‪ّ ،‬‬
‫نظريّة كوانتوم الذين اعتربوا أ ّن بعض املوضوعات واألصول من قبيل عدم القاطع ّية نوع من الجهل‬
‫يئ‪ ،‬عند ذلك ترد إشكاالت عىل املقارنة التي سنق ّدمها من‬ ‫يف أو نوع من التعبري اإلحصا ّ‬
‫املعر ّ‬
‫الناحية املاهويّة‪.‬‬
‫بوهمي للميكانيك الكوانتوميّة ‪-‬والتي هي أقوى نظريّة منافسة‬
‫ّ‬ ‫نلفت هنا إىل نظريّة‪ /‬منوذج‬
‫القيايس‪ -‬هو النموذج الذي متكّن عىل مستوى التجربة واالختبار من‬
‫ّ‬ ‫للميكانيك الكوانتومي‬
‫القيايس‪ ،‬مع العلم أنّه ق ّدم عىل املستوى‬
‫ّ‬ ‫الحفاظ عىل النتائج اإليجاب ّية للميكانيك الكوانتومي‬
‫[[[ ‪( -‬دهبايش‪ ،1387 ،‬ص‪46‬؛ نصريي محلّيت وآخرون‪ ،1397 ،‬ص‪.)163‬‬

‫‪132‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫يئ واألصويل نظريّة عليّة وواقعيّة[[[‪ .‬وينبغي القول أنّنا حتّى لو قبلنا امليكانيك الكوانتوميّة‬ ‫البنا ّ‬
‫البوهيميَّة عىل أنّها النظريّة األخرية‪ ،‬والنموذج الثابت للفيزياء الحديثة‪ ،‬تحافظ املقارنة التي‬
‫ستجري هنا عىل قيمتها؛ باعتبار أ ّن امليكانيك الكوانتوم ّية البوهيم ّية تعترب “الذ ّرة” ‪-‬انطالقًا من‬
‫جا ويشكّل أرض ّية التح ّول والتغيري املستم ّر‪.‬‬‫ين‪ -‬شيئًا يعتيل مو ً‬
‫حاكم ّية معادلة التح ّول الزما ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫إ ّن وجود بعض اإلمكان ّيات البوهيم ّية غري املوضع ّية يشكل وجه االختالف بينها وبني النظريّة‬
‫البوهيمي‪ ،‬وهذا بح ّد ذاته ال يشكّل عائقًا أمام‬
‫ّ‬ ‫القياس ّية‪ ،‬وهذا الذي أ ّدى إىل توجيه النقد للنموذج‬
‫املقارنة املطلوبة‪ ،‬بل يعترب داف ًعا يساهم يف تقويتها؛ ذلك أل ّن اإلمكان ّيات البوهيم ّية غري املوضع ّية‬
‫تبي عدم وجود بديل عن األشياء (الذ ّرات) الكوانتوميّة يف الفضاء والزمان املحدودين‪ ،‬وهذا أحد‬ ‫ّ‬
‫مجاالت املقارنة مع الفلسفة الصدرائ ّية‪.‬‬
‫ين‬
‫التغي والتح ُّول يدور حول املوقع املكا ّ‬
‫ُّ‬ ‫املسألة الثانية‪ :‬صحيح أ َّن الشكل املشهور لهذا‬
‫أدق قياس الحركة)‪ ،‬ولكن وانطالقًا من أصل عدم القاطع ّية يف أركان قياس‬ ‫والرسعة (وبشكل ّ‬
‫التدريجي الحاكم عىل الذ ّرات الكوانتوم ّية‬
‫ّ‬ ‫الحركة‪ ،‬الطاقة‪ ،‬الزمان‪... ،‬؛ ميكن القول أ ّن التح ّول‬
‫مختصا مبكان تلك الذ ّرة‪ ،‬بل هو خاص ّية عا ّمة‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ليس‬
‫ّ‬
‫األساسية واحلركة‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الذرات‬
‫تشري مختلف النظريَّات الفيزيائيَّة إىل أ ّن الحركة واملا ّدة ممتزجان بعضهام ببعض‪ .‬وتقسم‬
‫الذ ّرات األساسيَّة يف الفيزياء الجديدة إىل صنفني‪ :‬األ ّول‪ ،‬الذ ّرات األساسيّة املشكّلة للام ّدة‪ ،‬ومن‬
‫جملتها اإللكرتون‪ ،‬النيوترون والربوتون‪ .‬والصنف الثاين‪ ،‬عبارة عن الذ ّرات الحاملة للطاقة‪ ،‬والتي‬
‫تكون الحركة ممتزجة بها ذاتًا‪ ،‬من قبيل الفوتون التي تتح ّرك برسعة الضوء[[[‪ .‬وبنا ًء عىل مبادئ‬
‫نظريّة الرتموديناميك‪ ،‬فإ ّن درجة حرارة الصفر املطلق‪ ،‬هي أدىن درجة حرارة يف الكون‪ ،‬وإذا أخذنا‬
‫متوسط الطاقة املتح ّركة يف ذ َّرات‬
‫ّ‬ ‫بعني االعتبار تناسب درجات الحرارة يف مقياس كوين مع‬
‫املا ّدة‪ ،‬يف درجة حرارة كهذه يجب أن تصل طاقة ذ ّرات املا ّدة إىل أدىن املستويات‪ ،‬ولكن ما تج ّد‬
‫اإلشارة إليه أ َّن الطاقة املتح ّركة مرتبطة برسعة الذ ّرات‪ ،‬لذا فإ َّن حركة الذ ّرات لن تصل إىل الصفر‬
‫عىل اإلطالق‪.‬‬
‫خواص الذ ّرات الذات ّية‪ .‬وإذا نظرنا‬
‫ّ‬ ‫وانطالقًا من نظريّة الرتموديناميك‪ ،‬فالحركة واحدة من‬
‫إىل املسألة من وجهة نظر الكوانتوم‪ ،‬وعىل أساس أصل عدم القاطع ّية عند هايزنربك‪ ،‬فالذ ّرات‬
‫الكوانتوميّة ذات حركة وتح ُّول وتغيري ذايتّ‪.‬‬
‫‪[1] - Bohn, 1952, pp. 166 -179 & 180- 193.‬‬
‫[[[‪( -‬كلوز‪ ،1387 ،‬ص‪)24 ،8‬‬

‫‪133‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫الكوانتومية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫نظرية املدارات‬
‫الكوانتومي باتّجاه نظريَّة املدارات‪ ،‬ومن خالل‬
‫ِّ‬ ‫هذه النظريَّة ظهرت عىل أثر تعميم نظريَّة التم ُّوج‬
‫ما تحمل من نسب َّية فيها‪ ،‬وهي تستخدم يف الطاقة العالية ويف أبعاد شديدة الدقّة‪ .[[[18.‬وهي تعترب من‬
‫أكرث النظريّات تط ُّو ًرا يف وصف عامل الذ ّرات األساس َّية‪ ،‬وت ُشكّل فروعها من قبيل “اإللكرتوديناميك‬
‫الكوانتوميّة” دعامة أساسيَّة لنموذج الذ َّرات األساسيّة‪ ،‬حيث تؤيّد الفيزياء الجديدة مبادئها النظريّة‬
‫ي بعدد محدود‬ ‫وتوقُّعاتها التجريب َّية‪ .‬كام أنَّها ت ّدعي إمكان تبيني الكرثات املوجودة يف العامل املا ّد ّ‬
‫من املدارات األساس َّية‪.‬‬
‫يف الفيزياء النظريّة‪ ،‬تُعترب نظريَّة املدارات الكوانتوميّة إطا ًرا لصناعة مناذج امليكانيك الكوانتوميَّة‬
‫من الذ ّرات الدقيقة يف فيزياء الذ ّرات وشبه الذ ّرات‪ .‬وهي تفرض أن تكون الذ ّرات عىل شكل‬
‫حاالت متح ّركة خارجة عن ساحة الفيزياء؛ لذلك يُطلق عليها عنوان “كوانتوم املدارات “‪ .‬ومن‬
‫هنا‪ ،‬تتشكّل الذ ّرات األساسيّة من قبيل اإللكرتون‪ ،‬البوزيرتون‪ ،‬الفوتون و‪ ...‬كوانتوم املدارات؛‬
‫وقد ذكر عىل سبيل املثال أ ّن “الفوتون هو كوانتوم النور”‪ ،‬وعىل هذا النحو يكون اإللكرتون‪،‬‬
‫خاصا؛ أي أنّها أمواج مرتاكمة تحرض‬
‫ًّ‬ ‫مجال‬
‫ً‬ ‫وكذلك الذ ّرات األساس ّية األخرى‪ ،‬كوانتوم مساحة أو‬
‫يف املدارات عىل شكل ذ ّرات‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬يكون الحديث يف نظريّة املدارات عن الذ ّرة‬
‫واملدار‪ .‬واملدار هو كالساحة اإللكرتومغناطيسيّة لليشء املتّصل يف الفضاء‪ ،‬والتي ميكنها‬
‫كل مكان‪ ،‬إلّ أنّها قويّة يف مكان وضعيفة يف مكان آخر‪ .‬ويف نظريّة املدارات ال‬ ‫االمتداد إىل ّ‬
‫ين”‪.‬‬
‫يجري الحديث عن عدد اإللكرتون‪ ،‬بل نقول “لدينا مدار إلكرتو ّ‬
‫صل‬
‫جا متّ ً‬
‫وإذا سألنا‪ :‬ما هو اإللكرتون؟ نقول‪“ :‬اإللكرتون هو كوانتوم املدار”‪ ،‬وكأ ّن هناك مو ً‬
‫بعي ًدا‪ ،‬ونحن نرى ق ّمة املوج؛ مع العلم أ ّن هذه القمم أفراد يشء متّصل واحد‪.‬‬
‫ّ‬
‫الكوانتومية ومسألة الخأل‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أ‪ -‬نظرية المدارات‬
‫أي‬
‫والخارجي يف أن يتبادر إىل األذهان عدم وجود ّ‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫يساهم التوغُّل يف فضاء الذ ّرة الداخ ّ‬
‫يشء بني الذ ّرة واإللكرتون‪ ،‬ويف الفواصل الواقعة بني الذ ّرات؛ مع العلم أ ّن هذا الفضاء ميلء‬
‫باملدارات اإللكرتو مغناطيسيّة‪ .‬إذًا‪ ،‬الخأل يف الفيزياء الجديدة مرفوض‪ ،‬إلّ أ ّن ما يجري الحديث‬
‫الكوانتومي” هو يف الحقيقة موجود معقّد للغاية خا ٍل من املا ّدة واملوج‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عنه تحت عنوان “الخأل‬
‫الكوانتومي الدائم الصعود‬
‫ّ‬ ‫إل أنّه مشبع باملدارات والطاقات‪ .‬املقصود من املدار هنا‪ ،‬املوجود‬ ‫ّ‬
‫والهبوط‪ ،‬والذي هو منشأ خلق وفناء الذ ّرات‪.‬‬

‫‪[1] - Dirac, 1927, p.243; Fock, 1932, pp.622- 647.‬‬

‫‪134‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫خالصة هذا الخلق والفناء مجموعة من الذ ّرات وجزئيّاتها‪ ،‬ويعتقد العديد من الفيزيائيّني الجدد‪،‬‬
‫أ ّن “الخأل” يتض ّمن صعو ًدا وهبوطًا كوانتوميًّا يجري توضيحه عىل أساس أصل عدم القاطعيّة‬
‫عند هايزنربك[[[‪ .‬تجدر اإلشارة إىل أ ّن الخأل هو ليس “ال يشء”‪ ،‬بل هو منشأ العديد من الظواهر‬
‫املعروفة‪ ،‬كالظل الذي ينطلق من الذ ّرة لذاتها أو آثار كازميري و‪...‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫بنا ًء عىل ما تق ّدم‪ ،‬وبااللتفات إىل أ ّن واح ًدا من أقوى املرشّ حني لتربير الطاقة املظلمة يف‬
‫كل‬‫يئ ليس “ال يشء”‪ ،‬بل هو ّ‬‫العامل هو الخأل الكوانتومي‪ ،‬تطرح العبارة القائلة بأ ّن الخأل الفيزيا ّ‬
‫الكوانتومي‬
‫ّ‬ ‫يشء بالنتيجة امله ّمة لهذا األمر‪ ،‬أ ّن الفضاء لن يصبح خال ًيا عىل اإلطالق‪ ،‬والخأل‬
‫املشبع بالحركة سيكون موجو ًدا يف الفضاء الخايل من املا ّدة والطاقة املتداولتان‪ ،‬وسيتض ّمن‬
‫الكوانتومي حالة من الطاقة يف حدودها الدنيا واملعروفة بـ”طاقة الخأل”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخأل‬
‫ّ‬
‫الكوانتومية‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫ب‪ -‬الخلق والفناء ي� نظرية المدارات‬
‫الكوانتومي بني الذ ّرات يف نظريّة املدارات الكوانتوم ّية عىل‬
‫ّ‬ ‫يجري توضيح التفاعل امليكانييك‬
‫صل‬‫أساس التفاعل بني املدارات الخلف ّية املقابلة‪ .‬ميكن اعتبار املدار يف هذه النظريّة شيئًا متّ ً‬
‫ي الضعيف عىل سبيل املثال تجري فيه‬ ‫تجري فيه عمليّة الخلق والفناء بشكل مستم ّر؛ فاملدار الذ ّر ّ‬
‫عملية خلق وفناء اإللكرتون والبوزيرتون بشكل دائم‪ .‬ويف ما يتعلّق بخلق وفناء الذ ّرات يف نظرية‬
‫املدارات الكوانتوم ّية‪ ،‬فإ ّن املقصود من الخلق والفناء ليس حصول الوجود أو فقده؛ فاملدار يت ّم‬
‫تعريفه عىل أساس الفضاء والزمان‪ ،‬ففي هذه اللحظة وهذه النقطة عىل سبيل املثال تكون الذ ّرة‬
‫الفالنيّة موجودة‪ ،‬ث ّم إنّها ال تبقى موجودة يف اللحظة التالية؛ فالحبل املمت ّد صاحب النتوءات‪،‬‬
‫فك نتوءاته بسحبه إىل اإلمام‪ ،‬كانت النتوءات تتق ّدم وتختفي من األجزاء املتق ّدمة‪،‬‬ ‫كلّام حاولت ّ‬
‫إلّ أ ّن أصل الحبل ما زال موجو ًدا‪.‬‬
‫وبعبارة أكرث دقّة وعمقًا‪ ،‬فإ ّن خلق وفناء الذ ّرات عىل أساس الهبوط والصعود يف املدار مي ّهد‬
‫الكوانتومي)‪ .‬كام أ ّن خلق وفناء الذ ّرات األساس ّية‪ ،‬أمر يحصل يف طول الزمان‬
‫ّ‬ ‫لوجود الخأل (الخأل‬
‫ريا‪ ،‬وليس يف آنٍ واحد‪ .‬الذ ّرة يف الفيزياء الكالسيك ّية تبقى ذ ّرة حتّى بعد أن تقطع‬
‫حتّى لو كان قص ً‬
‫السري‪ ،‬بينام تكون يف حال تغيري وتح ّول أو خلق وفناء دائم يف عامل الكوانتوم؛ سواء نظرنا إليه‬
‫من وجهة نظر موجية وعىل أساس معادلة سرتودينكر أو نظرنا إليه عىل أساس نظريّة املدارات‬
‫الكوانتوم ّية النسب ّية‪.‬‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬ما هو اليشء الذي يؤ ّدي إىل وجود هكذا وضع متح ّول؟ ميكن‬

‫[[[ ‪( -‬هايزنربك‪ ،1370 ،‬ص‪ ،30‬هاولينغ وملودينو‪ ،1391 ،‬ص‪.)104‬‬

‫‪135‬‬
‫المحور‬

‫الطبيعي؛‬
‫ّ‬ ‫مل صدرا‪ ،‬أي الحركة الذاتيّة والتكامليّة للجسم‬
‫الحصول عىل الجواب من خالل فلسفة ّ‬
‫أي “الحركة الجوهريّة”‪.‬‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬ينبغي بداية البحث عن رؤية الفلسفة الصدرائ ّية حول الجسم‪ .‬تجدر اإلشارة‬
‫إىل ما يُذكر يف الطاقة العالية ويف مجال الفيزياء النسبيّة‪ ،‬حيث ميكن الحديث عن تح ّول املا ّدة‬
‫إىل طاقة وبالعكس‪ ،‬وهنا يصبح باإلمكان تبديل النور إىل مادة‪ ،‬وبالتايل إنتاج زوج من اإللكرتون –‬
‫البوزيرتون بواسطة الفوتون أو زوال املا ّدة وتحويلها إىل نور كام يف زوال اإللكرتون – البوزيرتون‬
‫وتحويله إىل فوتون‪ ،‬حيث يعترب هذا األمر اليوم من الظواهر املعروفة عىل املستويني النظري‬
‫والتجريبي يف الفيزياء‪.‬‬
‫وإذا أخذنا بعني االعتبار أصل بقاء الطاقة‪ ،‬وكذلك كل أصول بقاء الفيزياء األخرى من قبيل‬
‫ين” الصادق حول هذه الظواهر‪ ،‬فعند ذلك ميكن الحديث عن هذا‬ ‫“أصل بقاء الشحن اإللكرتو ّ‬
‫إل أ ّن املوضوع بذاته يت ّم‬ ‫النوع من الخلق والفناء‪ ،‬ويدخل يف إطار مضمون وهدف هذه الدراسة‪ّ ،‬‬
‫تبيينه عىل أساس خلق وفناء الذ ّرات‪ ،‬باعتباره أساس وأصل املوجود وهو الذي يطلق عليه “املدار”‬
‫املبني عىل أصل عدم قاطع ّية النظريَّة الكوانتوم ّية[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫القائم عىل أساس التغيُّ والتح ُّول املستم ِّر‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعي يف فلسفة مل صدرا‪:‬‬ ‫حتول اجلسم‬
‫الطبيعي وتح ُّوله متوقِّف عىل وجود فهم صحيح لهذه‬
‫ِّ‬ ‫املل صدرا للجسم‬ ‫َّ‬ ‫مبا أ َّن فهم رؤية‬
‫خصوصا الفالسفة‬
‫ً‬ ‫املفاهيم‪ ،‬ومبا أنَّه أشار يف مؤلّفاته آلراء الفالسفة اآلخرين يف املسألة‪،‬‬
‫املشّ ائني‪ ،‬ث ّم ق ّدم إجابات عىل آرائهم‪ ،‬سنعمل يف هذا املقال أيضً ا عىل تبيني املفاهيم ذات‬
‫الطبيعي وتح ّوله‪ ،‬انطالقًا من الفلسفة اإلسالم ّية قبل الرشوع بالحديث عن تح ّول‬
‫ّ‬ ‫العالقة بالجسم‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجسم‬
‫ّ‬
‫اإلسالمية‪:‬‬ ‫ف‬
‫*الجسم ي� الفلسفة‬
‫يُبحث عن الجسم بشكل عام يف الفلسفة اإلسالميّة ومن جملتها الحكمة املتعالية مع ذكر‬
‫التلعيمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطبيعي والجسم‬
‫ّ‬ ‫قيدين‪ :‬الجسم‬
‫مل صدرا وقال‪:‬‬ ‫الطبيعي‪ :‬اختلف املفكّرون يف تعريف الجسم الطبيعي؛ فع َّرفه ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الجسم‬
‫ريا إىل تعريف الحكامء واملتأخّرين‬‫“الجسم جوهر ذو طول وعرض وعمق”‪ ،‬ث ّم تابع الحديث مش ً‬
‫للجسم‪“ :‬جوهر ميكن أن يفرض فيه خطوط ثالثة متقاطعة عىل الزوايا القوائم”‪ ،‬وهذا يعني أ ّن‬
‫الطبيعي‪ ،‬جوهر ميكن أن يفرض فيه وجود األبعاد الثالثة (طول‪ ،‬عرض‪ ،‬عمق)‪ ،‬بحيث‬ ‫ّ‬ ‫الجسم‬
‫‪[1]- Divac, 1927, p.243; Fock, 1932, pp. 662- 647.‬‬

‫‪136‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫تتقاطع الخطوط الثالثة مع بعضها فتشكّل ثالثة زوايا قامئة[[[‪.‬‬


‫يل باعتبار أ ّن األبعاد الثالثة املذكورة‬
‫أ ّما املقصود من قيد “يفرض” يف التعريف‪ ،‬فهو الجواز العق ّ‬
‫ال تكون موجودة بالفعل يف بعض األجسام‪ ،‬كالكرة أو املخروط‪.‬‬
‫أ ّما قيد “اإلمكان”‪ ،‬فهو لإلشارة إىل عدم رضورة أن يكون الفرض بالفعل بل يكفي إمكانه‪ ،‬وإذا‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫مل نتمكّن من فرض األبعاد‪ ،‬عند ذلك ال يكون الجسم طبيع ًّيا[[[‪.‬‬
‫التعليمي‪ :‬الجسم التعليمي ك ّم متصل يقبل األبعاد الثالثة‪ ،‬ويعرض الجسم الطبيعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الجسم‬
‫وبالتايل فهو ال ّ‬
‫ينفك عنه‪ ،‬فهام متّحدان يف الوجود ويختلفان يف التحليل العقيل‪ ،‬ويقدم الحكامء‬
‫إل أ ّن الجسم الطبيعي يف‬
‫مثالً لتوضيح الفكرة يف “الشمع” الذي ميكن أن يتخذ أشكالً متع ّددة‪ّ ،‬‬
‫الشمع واحد ليس أكرث‪.‬‬
‫والتعي‪ .‬يعتقد‬
‫ُّ‬ ‫الطبيعي‪ ،‬هو من حيث اإلبهام‬
‫ِّ‬ ‫التعليمي والجسم‬
‫ِّ‬ ‫وبالتايل‪ ،‬فالفرق بني الجسم‬
‫علامء الرياضيَّات أ َّن الك َّم املتَّصل ذا البُعد الواحد هو “الخطّ”‪ ،‬الك ّم املتصل ذو البُعدين هو‬
‫التعليمي”[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫“السطح”‪ ،‬وأ ّن الك ّم املتصل ذا األبعاد الثالثة هو “الجسم‬
‫َّ‬
‫الطبيع من وجهة مل صدرا‪:‬‬ ‫ي‬ ‫* الجسم‬
‫الطبيعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أرشنا يف ما تق ّدم إىل وجود رؤيتني يف الفلسفة‪ ،‬كام يف الفيزياء حول الجسم‬
‫فيجري الحديث يف الفيزياء عن الذ ّرة املنفصلة والذ ّرة املتّصلة‪ .‬الذ ّرات الصغار الصلبة (مقولة‬
‫دميقراطيس) هي أجزاء ال تتج ّزأ ومتناهية أو الجوهر الفرد (مقولة أغلب املتكلّمني)‪ ،‬وهي أجزاء‬
‫ال تتج ّزأ وغري متناهية (وهو القول املنسوب للنظام)‪ ،‬ومن جملة اآلراء يف الذ ّرة يف الفلسفة مقولة‬
‫التساوي بني األجزاء التي ال تتج ّزأ والهيوىل األوىل (القول املنسوب إىل زكريا الرازي)‪ ،‬وكانت‬
‫جا منذ سقراط إىل القرن السابع عرش بني الفالسفة‪ ،‬رفض فكرة تك ّون الجسم‬ ‫الرؤية األكرث روا ً‬
‫الطبيعي من الذ ّرات‪ ،‬واالعتقاد بأ ّن األجسام ليست عبارة عن عدد كبري من األشياء التي اجتمعت‬
‫إىل جانب بعضها البعض‪ ،‬بل األجسام عبارة عن واحد متّصل ممت ّد وهو ما نشاهده‪.‬‬
‫مل يختلف أتباع هذه النظرية حول قبول الجسم الطبيعي القسمة‪ ،‬إلّ أنّهم مل يهت ّموا بالتفكري‬
‫بالجسم الطبيعي لناحية فرض تقسيمه املستم ّر إىل جزئني‪ ،‬فهل سنصل يف النهاية إىل الذ ّرة التي‬
‫معي؟‬
‫ال تتج ّزأ‪ ،‬كام يقول دميقراطيس أم أن هذه القسمة لن تتوقّف عند ح ّد ّ‬

‫[[[ ‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬السفر ‪ ،2‬ج‪ ،5‬ص‪)12-10‬‬


‫[[[‪( -‬ابن سينا‪ ،1404 ،‬ص‪)63‬‬
‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬السفر ‪ ،2‬ج‪ ،4‬ص‪12-10‬؛ مط َّهري‪ ،1384 ،‬ج‪ ،5‬ص‪.)537‬‬

‫‪137‬‬
‫المحور‬

‫يعتقد بعض املفكّرين من قبيل مح ّمد الشهرستاين صاحب “امللل والنحل”‪ ،‬بإمكان انتهاء‬
‫إل أ ّن أغلب الحكامء يعتقدون بعدم انتهاء قسمة الجسم الطبيعي إىل‬
‫القسمة يف الجسم الطبيعي‪ّ ،‬‬
‫قسمني‪ ،‬ث ّم إ ّن الحكامء ق ّدموا آراء مختلفة حول ماه ّية الجسم الطبيعي[[[‪.‬‬

‫يف هذا اإلطار‪ ،‬ميكن اإلشارة إىل رؤيتني‪:‬‬

‫الجوهري يف الوهم والعقل‬


‫ّ‬ ‫ألف‪ -‬الجسم الطبيعي جوهر بسيط؛ ميكن أن يقسم اتصاله وامتداده‬
‫الخارجي‪ ،‬وقد نسبت هذه النظريَّة ألفالطون[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويف العامل‬

‫ب‪ -‬الجسم الطبيعي جوهر مركَّب؛ يقسم أتباع هذه النظريَّة إىل مجموعات ع َّدة‪:‬‬
‫َّ‬
‫المادة والصورة‪.‬‬ ‫‪ - 1‬الجسم الطبيع هو خالصة ت‬
‫ال�كيب ي ن‬
‫ب�‬ ‫ي‬
‫ويقسم أتباع نظريَّة تركُّب الجسم من املا ّدة والصورة إىل مجموعتني‪:‬‬

‫الطبيعي هو نتيجة الرتكيب االنضاممي بني املادَّة والصورة‪ :‬يعتقد الفالسفة‬


‫ُّ‬ ‫ألف‪ .‬الجسم‬
‫املشّ اؤون أ َّن حقيقة الجسم مركّبة من جزئني جوهريّني‪ ،‬هام املادة والصورة‪ .‬واملقصود من‬
‫“الصورة”‪ ،‬هو االتصال أو االمتداد يف الجهات الثالث‪ ،‬وهي متام فعل ّية الجسم‪ ،‬وهذا يعني أ ّن‬
‫جرم املمت ّد والصورة الجوهريّة املمت ّدة هي التي يطلق عليها “الصورة الجسميّة”‪ .‬وأ ّما املقصود‬
‫ال ُ‬
‫من “املا ّدة”‪ ،‬االستعداد املوجود لقبول الصور النوعيّة وهي التي يطلق عليها “الهيوىل”[[[‪.‬‬

‫مل صدرا‪.‬‬
‫ّحادي بني املا ّدة والصورة؛ وهي نظريَّة ّ‬
‫ِّ‬ ‫ب‪ .‬الجسم الطبيعي‪ ،‬هو نتيجة الرتكيب االت‬
‫ُّ‬
‫الطبيع هو الحاصل من تركيب عنرصي الجوهر والعرض‪:‬‬ ‫‪ - 2‬الجسم‬
‫ي‬
‫هذا الجوهر هو املقدار والجسم ليس شيئًا سوى املقدار‪ ،‬ومبا أ َّن التشكيك يجري يف املقادير؛‬
‫فام به تختلف األجسام (املقادير املعن َّية) يعود إىل ما تشرتك به؛ أي املقدار املطلق‪ .‬تعود هذه‬
‫النظريَّة للشيخ شهاب الدين السهروردي التي ذكرها يف كتاب التلويحات[[[‪.‬‬

‫[[[ ‪( -‬مط َّهري‪ ،1384 ،‬ج‪ ،5‬ص‪)537‬‬


‫[[[‪( -‬إبراهيمي الديناين‪ ،1383 ،‬ص‪.)237-235‬‬
‫[[[‪( -‬أرسطو‪ ،1377 ،‬ص‪.)223‬‬
‫[[[‪( -‬إبراهيمي الديناين‪ ،1383 ،‬ص‪.)237-235‬‬

‫‪138‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫* اجلسم الطبيعي وارتب�اطه بالتغيري يف الفلسفة‪:‬‬


‫والتدري�‪:‬‬
‫ج ي‬ ‫الدفع‬
‫ي‬ ‫التغي� ف ي� الفلسفة‪:‬‬
‫ي‬ ‫ألف‪ -‬أقسام‬

‫أي موجود بالق َّوة من جميع الجهات‪،‬‬


‫مبا أ ّن املوجوديّة تتناىف مع الق َّوة املحضة‪ ،‬فال يكون ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وعىل هذا األساس‪ ،‬فاألشياء املوجودة إ ّما أن تكون بالفعل من جميع الجهات أو بالفعل من بعض‬
‫الجهات‪ ،‬وبالقوة من بعض الجهات األخرى‪.‬‬

‫يف الحالة األوىل‪ ،‬متتلك املوجودات متام الكامالت الوجوديّة‪ ،‬وال ميكن أن نتص ّور فيها حالة‬
‫تب ّدل وتح ّول من القوة إىل الفعل‪ ،‬مثال ذلك ذات الله املق ّدسة والعقول املفارقة‪ ،‬وأ ّما يف الحالة‬
‫الثانية‪ ،‬فإ ّن خروج املوجودات – من ناحية امتالكها جهات بالق َّوة – إىل الفعل‪ ،‬ففيه وجهان‪ :‬إ ّما‬
‫العنرصي وتح ّول املاء‬
‫ِّ‬ ‫أن يكون الخروج دفع ًّيا وهو الذي يطلق عليه “الكون والفساد”؛ كاالنقالب‬
‫التدريجي من‬
‫َّ‬ ‫إىل هواء‪ ،‬وإ ّما أن يكون تدريج ًّيا وهو الذي يطلق عليه “الحركة”[[[‪ .‬ومبا أ ّن الخروج‬
‫الق َّوة إىل الفعل هو حركة من النقص إىل الكامل‪ ،‬كان النقص والكامل صفتني لليشء املتح ّرك‬
‫أثناء الحركة‪.‬‬

‫قسم أرسطو املوجودات إىل أربع مجموعات‪ :‬الجواهر‪ ،‬الكيفيَّات‪ ،‬الكميَّات والنسب (األين‪،‬‬
‫ّ‬
‫كل واحدة منها “مقولة”[[[‪ .‬ويحصل‬
‫الوضع‪ ،‬متى‪ ،‬امللك‪ ،‬اإلضافة‪ ،‬الفعل‪ ،‬االنفعال)‪ ،‬واعترب أ ّن ّ‬
‫التح ُّول والتغيري يف مقوالت أربع فقط‪ :‬الجوهر‪ ،‬الك ّم‪ ،‬الكيف واألين‪ .‬ويكون التح ّول يف الجوهر‬
‫عىل نحو الكون والفساد‪ ،‬ويف األعراض (الك ّم‪ ،‬الكيف واألين) عىل نحو الحركة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬رفض‬
‫أرسطو فكرة الكون املطلق والفساد املطلق؛ ففي الكون املطلق يلزم أن يحصل املوجود من ال‬
‫وجود مطلق‪ .‬ويصدق األمر أيضً ا حول الفساد املطلق‪.‬‬

‫يف الواقع‪ ،‬أذعن أرسطو كام هو الحال عند بارامنيدس بعدم تحقُّق العدم من الوجود أو الوجود‬
‫من العدم‪ ،‬وأضاف بإمكان وجود حالة ثالثة بني الوجود والعدم هي غري مستحيلة من الناحية العقل َّية‪،‬‬
‫بل ممكنة‪ .‬ث ّم اعرتف بوجود مرتبة أخرى بني املمكن واملوجود‪ ،‬وأطلق عليه األمر “بالق َّوة”[[[‪.‬‬

‫اقتفى ابن سينا أثر أرسطو يف القول بإمكان حصول التغيري يف الجوهر عىل صورة الكون‬
‫(التدريجي وعىل‬
‫ّ‬ ‫والفساد (الدفعي واآلين)‪ ،‬وكذلك حصوله يف اإلعراض عىل صورة الحركة‬

‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪ ،1378 ،‬ص‪41‬؛ ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.)24-21‬‬
‫‪[2]- (Aristotle, 1995, p. 1005).‬‬
‫[[[‪( -‬فولكيه‪ ،1366 ،‬ص‪.)73-72‬‬

‫‪139‬‬
‫المحور‬

‫امتداد الزمان)؛ واختلف عنه يف أنّه أجاز وقوع الحركة يف مقولة الوضع[[[‪ .‬كام اعترب أ ّن الجسم‬
‫خاص َّية تنشأ من صورها فتصبح ذات‬
‫ّ‬ ‫االنضاممي بني املا ّدة والصورة‪ ،‬ولألجسام‬
‫ّ‬ ‫هو نتيجة الرتكيب‬
‫خاص َّية أخرى تنشأ من املا َّدة‪ ،‬فيحصل‬
‫ّ‬ ‫بُ ْعد‪ ،‬وعىل هذا األساس‪ ،‬تكون بالفعل‪ ،‬كام أ ّن لألجسام‬
‫التغيري بسببها وتتح َّول لتصبح شيئًا آخر‪ ،‬ومن هذا الجانب تكون بالق ّوة[[[‪ .‬ويعتقد ابن سينا بعدم‬
‫حصول التشكيك والش َّدة والضعف يف الجواهر وصور األجسام الجوهريّة[[[‪.‬‬

‫الجوهري‪ ،‬تخلع املا َّدة األوىل صورتها وترتدي صورة أخرى‪ ،‬وتتحقَّق هويَّة اليشء‬
‫ّ‬ ‫ويف التح ُّول‬
‫ي أو تعدم عىل أثر حدوث‬
‫الخواص واألعراض يف اليشء املا ّد ّ‬
‫ُّ‬ ‫بصورته وليس مبا َّدته‪ ،‬وتظهر‬
‫الصورة يف الهيوىل‪ .[[[34‬وتكون املا َّدة والصورة يف عامل الكون والفساد ممتزجتان بعضهام ببعض‬
‫عىل نحو ال ميكن االنفكاك‪ ،‬وهذا النوع من الرتكيب بني املا ّدة والصورة هو الذي يوجب التح ّول‬
‫الدائم‪ ،‬حيث ترتك املا ّدة صورة وتقبل صورة أخرى عىل نحو دائم[[[‪.‬‬

‫التغيري يف اجلسم الطبيعي يف احلكمة املتعالية‪:‬‬


‫وافق صدر املتألّهني عىل كلّيّات الحكمة املشّ ائيّة‪ ،‬ومن جملتها الجواهر الخمس واملقوالت‬
‫العرش‪ ،‬والتي هي من أقسام املاهيّة‪ ،‬وبنى الحكمة املتعاليّة عىل أساس أصول من جملتها “أصالة‬
‫الوجود”‪“ ،‬وحدة الوجود” و”التشكيك يف الوجود”‪ ،‬وقد ساهم اعتقاده بهذه األمور يف قدرته عىل‬
‫اإلبداع والتجديد يف العديد من األبحاث الفلسف َّية‪ ،‬فافرتق فيها عن املشّ ائ َّية‪ ،‬ومن جملة األمور‬
‫التي افرتق فيها عنهم‪ ،‬موضوع “الحركة الجوهريّة”‪.‬‬

‫من أبرز وأه ِّم األدلَّة التي ذكرها صدر املتألّهني عىل وقوع الحركة يف الجوهر‪ ،‬قوله بأ َّن املقصود‬
‫من الحركة‪ ،‬التج ُّدد وعدم القرار‪ ،‬وفاعل الحركة املبارش يجب أن يكون أم ًرا متج ّد ًدا ال قرار له؛‬
‫الصوري لألجسام أو‬
‫ّ‬ ‫وذلك الستحالة صدور املتج ّدد عن الثابت والفاعل املبارش هو الجوهر‬
‫طبيعتها الس ّيالة واملتج ّددة ذات ًا[[[‪.‬‬

‫خاصة‪ ،‬وهي تشتمل عىل الجوهر واإلعراض‪ ،‬وأل ّن‬


‫ّ‬ ‫وأل ّن “املاه ّية” ‪-‬عند املشّ اء‪ -‬ذات أهم ّية‬

‫[[[‪( -‬ابن سينا‪ ،1375 ،‬ص‪105‬؛ ابن سينا‪1404 ،‬ق‪ ،‬ص‪)98‬‬


‫[[[‪( -‬ابن سينا‪ ،1376 ،‬ص‪)77‬‬
‫[[[ ‪( -‬ابن سينا‪ ،1357 ،‬ص‪.)123‬‬
‫[[[ ‪( -‬ابن سينا‪ ،1357 ،‬ص‪.)124‬‬
‫[[[‪( -‬ابن سينا‪ ،1383 ،‬ص‪.)135-134‬‬
‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪ ،1378 ،‬ص‪.)34‬‬

‫‪140‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫الطبيعي‪ ،‬والحركة يف هذه الجواهر‪ ،‬تستلزم‬


‫ِّ‬ ‫املا ّدة والصورة هام الجزءان املق ّومان ملاهيّة الجسم‬
‫عدم بقاء موضوع الحركة وزوال الحقيقة ووحدة املوضوع الشخص ّية؛ لذلك رفض املشّ اؤون‬
‫الحركة يف الجوهر‪ ،‬أ ّما صدر املتألّهني وبسبب اعتقاده بأصالة الوجود وليس املاه ّية‪ ،‬والعتقاده‬
‫بأ ّن حقيقة املوجود وسبب وحدته الشخصيّة هو “الوجود” وليس “املاهيّة”؛ فلذلك ذهب إىل‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫االعتقاد بالحركة يف الجوهر‪ ،‬مع االعتقاد ببقاء الوحدة الشخصيّة‪.‬‬

‫وتوضيح ذلك بنا ًء عىل أصالة الوجود‪ ،‬أ ّن الوجود هو الوحيد املتحقّق يف العامل‪ ،‬وهو منشأ‬
‫اآلثار‪ ،‬وأ ّن مراتب الوجود تفاض من ِق َبل واجب الوجود – باعتباره الكامل املطلق وحقيقة الوجود‬
‫‪ -‬بسبب ش ّدة وجوده‪ ،‬وعىل هذا النحو يتن ّزل الوجود من ذات واجب الوجود (املرتبة الوجوديّة‬
‫الشديدة) إىل املا ّدة أو الهيوىل‪ ،‬والتي هي أدىن وأضعف مراتب ممكن الوجود‪ ،‬وعليه يظهر نظام‬
‫يل مشكّك من تجليات ومظاهر واجب الوجود‪.‬‬
‫طو ّ‬
‫طب ًعا‪ ،‬من لوازم الوجود والتحقّق‪ ،‬الثبات والقرار‪ ،‬وهو من خصائص املوجود املج َّرد‪ ،‬وأ ّما يف‬
‫أدىن مراتب عامل الوجود؛ أي يف عامل املا ّدة‪ ،‬فإ ّن املوجودات واقعة عند حدود العدم‪ ،‬عدا عن‬
‫أنَّها تفتقد الثبات والقرار بسبب ضعف وجودها‪ ،‬ال بل تفتقد القدرة عىل إيجاد املرتبة األدىن منها‪.‬‬
‫متغية بالذات لضعف وجودها؛ ويف عني تغيريها متتلك‬
‫ّ‬ ‫مل صدرا أ ّن هذه املوجودات‬
‫يعتقد ّ‬
‫ثبات ًا وقرا ًرا‪ ،‬ومن هذه الجهة ترتبط بالعلّة الثابتة واملج ّردة؛ أي العقل األخري؛ فالعلّة تفيض الذايت‬
‫وإفاضة تلك الذات مالزمة لنوع خاص من االمتداد (امتداد الق ّوة‪ ،‬والفعل والزمان)‪ ،‬بل هو عني‬
‫االمتداد والعلّة تقوم بإيجاد الحركة والزمان[[[‪ .‬والعلّة تقوم بإيجاد الحركة والزمان[[[‪ .‬وعىل هذا‬
‫متغي بالذات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املادي والجوهر الصوري كالهام‬
‫ّ‬ ‫األساس‪ ،‬فالجوهر‬
‫َّ‬
‫اجلوهرية‪:‬‬ ‫واملتحرك يف ّ‬
‫نظرية احلركة‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫عيني�ة احلركة‬
‫ميكن القول أ ّن الوجود يف نظام الحكمة املتعالية يقسم يف تقسيامته األ ّولية إىل قسمني‪ :‬ثابت‬
‫وس ّيال‪ .‬والحركة يف هذا النظام هي نحو وجود املرتبة الس ّيالة‪ ،‬وعامل الطبيعة متج ّدد ذات ًا‪ .‬وعىل‬
‫هذا األساس‪ ،‬ال ميكن الحديث عن متايز بني الحركة واملتح ّرك‪ ،‬كام هو الحال يف الفلسفات‬
‫يئ عني‬
‫السابقة القائلة بالتاميز بني العرض واملوضوع؛ لذلك كانت الحركة يف النظام الصدرا ِّ‬
‫املتح ّرك‪.‬‬

‫[[[‪( -‬مط ّهري‪ ،1383 ،‬ص‪)68‬‬


‫[[[‪( -‬مط ّهري‪ ،1383 ،‬ص‪.)68‬‬

‫‪141‬‬
‫المحور‬

‫يضاف إىل ذلك‪ ،‬وانطالقًا من كون الواجب هو علَّة العلل والخالق وعلّة الوجود‪ ،‬ومن جملته‬
‫جعل تأليف ًّيا زائ ًدا عىل خلق‬
‫ً‬ ‫الوجود الس َّيال؛ لذلك ميكن القول أ ّن جعل الحركة بسيط وليس‬
‫املتح ِّرك‪ .‬ويعتقد صدر املتألّهني‪ ،‬أ َّن السيالن والثبات صفتان تحليل َّيتان للوجود الس ّيال والثابت‪.‬‬
‫مستقل عن الوصف‪ ،‬بل عني اليشء هو الوجود‬
‫ٍّ‬ ‫عيني‬
‫ٍّ‬ ‫وهذه األوصاف ال تحتاج إىل موضوع‬
‫املتح ِّرك‪ ،‬وليس شيئًا له الحركة[[[‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬يعتقد صدر املتألّهني يف جواب اإلشكال القائل بأ ّن وقوع الحركة يف الجوهر يحمل‬
‫إشكال بقاء املوضوع‪ ،‬أ ّن موضوع الحركة يجب أن يكون ثابتًا من جهة لتع ُّرض الحركة عليه‪.‬‬
‫والواقع‪ ،‬أ ّن هذا األمر ثابت وإ ّما أن يكون بالق َّوة أو بالفعل‪ .‬فإن كان بالق َّوة‪ ،‬فهذا يعني أنَّه مل يتحقّق‬
‫بعد‪ ،‬ومن املحال أن تعرض الحركة شيئًا ال فعل ّية له‪ .‬إذًا‪ ،‬يجب أن يكون موضوع الحركة أم ًرا ثابتًا‬
‫وبالفعل‪ .‬وهذا األمر الثابت وبالفعل ال يخرج عن حالني‪ :‬إ ّما أن يكون بالفعل من جميع الجهات‬
‫أو بالفعل من بعض الجهات‪.‬‬

‫التدريجي من الق َّوة‬


‫ّ‬ ‫يف الحالة األوىل‪ ،‬ومبا أ َّن هذا األمر ال ق َّوة فيه‪ ،‬والحركة عبارة عن الخروج‬
‫إىل الفعل؛ لذلك كان وقوع الحركة يف موضوع محال كهذا‪ ،‬وهذا يعني رضورة أن يكون املوضوع‬
‫خاص ّية ترتبط بالجسم‬
‫ّ‬ ‫أم ًرا ثابتًا‪ ،‬وهو بالق ّوة من بعض الجهات وبالفعل من جهات أخرى‪ ،‬وهي‬
‫الطبيعي‪ّ .‬‬
‫تدل جهة القوة عىل املا َّدة وجهة الفعل عىل الصورة[[[‪.‬‬ ‫ّ‬
‫من هنا‪ ،‬يعتقد صدر املتألّهني أ ّن الجسم الطبيعي عبارة عن وجود ممت ّد بالذات يف الزمان‬
‫االتحادي بني املا َّدة والصورة‪ .‬وذكر مجموعة من األدلّة إلثبات‬
‫ِّ‬ ‫واملكان‪ ،‬وهو نتيجة الرتكيب‬
‫حة الحمل بني املا َّدة والصورة‪ ،‬فعليَّة‬
‫االتحادي بني املا ّدة والصورة من جملتها‪ :‬ص َّ‬
‫ِّ‬ ‫الرتكيب‬
‫العنارص التي تتألّف منها األشياء املركّبة‪ ،‬وحدة ماه ّية الصورة والجسم وات ّصاف النفس بصفات‬
‫الخاصة[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البدن‬
‫َّ‬
‫الجوهرية‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫ن� الخلع واللبس ي� نظرية الحركة‬
‫أ‪ -‬ي‬
‫مل صدرا أ ّن العدم أو خلع الصور ‪-‬كام يعتقد املشّ اؤون‪ -‬يتناىف مع غائ ّية الكون‪ ،‬والسبب‬
‫يعتقد ّ‬
‫يف ذلك أ ّن للطبيعة غاية ويكون لليشء غاية إذا تح ّرك نحوها‪ .‬وإذا أعدمت صورة يف الجسم‬

‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.)110‬‬


‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.)60-59‬‬
‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.)286-283‬‬

‫‪142‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫الطبيعي وحلّت مكانها صورة أخرى‪ ،‬فالحركة تتص ّور لتلك الصورة فقط‪ ،‬وليس لذاك املوجود‬
‫ِّ‬
‫الذي تواردت عليه الصور‪ .‬إذًا‪ ،‬يجب أن يكون هناك صورة واحدة تتح ّرك نحو الغاية من البداية‬
‫التوسط ّية”؛ أي أنّها أمر ثابت ومستم ّر‪ .‬ويف‬
‫ُّ‬ ‫وإىل النهاية‪ ،‬وهذه الصورة هي التي تتطابق مع “الحركة‬
‫اللحقة‪ ،‬حيث يشكّل مجموع املا ّدة‬
‫كل صورة وتقبل الصور َّ‬
‫نظريّة الحركة الجوهريّة تقبل املادة ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أي صورة‪.‬‬
‫اللحقة وهكذا‪ .‬لذلك ووفق الحكمة املتعالية ال تُعدم ّ‬
‫والصورة ما ّدة لقبول الصورة َّ‬

‫وقد أرشنا يف ما تق ّدم‪ ،‬إىل أ ّن نظرية الكون والفساد عند ابن سينا وأتباعه قد ظهرت نتيجة‬
‫االعتقاد بأ ّن “الجوهر” ليس مقولة تشكيك ّية؛ فلو كانت تشكيك ّية‪ ،‬للزم من ذلك أن تكون ماه ّية‬
‫اليشء أي حقيقته يف حال تغيري وتح ُّول مستم ّر‪ ،‬وهذا ما يدفع نحو اإلشكال عىل بقاء املوضوع‬
‫ي هو يف حال حركة وعدم قرار‬
‫يف الحركة العارضة عىل الجسم الطبيعي‪ .‬إ َّن أساس العامل املا ّد ّ‬
‫ي عىل صورة واحدة يف زمانني‪ ،‬وأ ّما سبب هذه الحركة يف عامل‬
‫مستم ّرين‪ ،‬فال يكون األمر املا ّد ُّ‬
‫يت‬
‫الوجودي وعدم القرار والتغيري الذا ِّ‬
‫ُّ‬ ‫املا َّدة ‪ -‬عىل أساس نظريَّة الحركة الجوهريَّة – فهو الفقر‬
‫ي و”ذايت يشء مل يكن معل ًّل”‪.‬‬
‫للجوهر املا ّد ّ‬
‫ّ‬
‫والشخصية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫االتصالية‬ ‫ب‪ -‬الحركة الجوهرية‪ ،‬الزمان والوحدة‬
‫التدريجي من الق َّوة إىل الفعل‪ ،‬ويتحقّق‬
‫ّ‬ ‫مل صدرا – هي خروج اليشء‬ ‫الحركة – من وجهة نظر ّ‬
‫هذا األمر عىل امتداد “الزمان”‪ .‬كام أ َّن االتصال هو من رضوريّات الوجود الس َّيال؛ أل ّن هذا النحو‬
‫كل لحظة‪ ،‬إلّ أنّه يجب أن يكون‬ ‫من الوجود ومع أنّه واسع يرتافق مع الحركة وتتحقّق أجزاؤه يف ِّ‬
‫الوجودي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجوده السابق متح ّققًا يف وجود اليشء يف هذه اللحظة‪ ،‬وهذا هو املقصود من االتصال‬
‫كل الكامالت الوجوديّة للوجودات السابقة‪ ،‬باإلضافة‬ ‫يل هو حقيقة واحدة ميتلك َّ‬ ‫هذا الوجود الفع ّ‬
‫إىل الكامالت الوجوديّة األعىل عىل نحو البساطة والوحدة‪ .‬من هنا‪ ،‬يجب أن متتلك أجزاء الوجود‬
‫الس ّيال‪ ،‬وحدة ات ّصال ّية ويف النتيجة وحدة شخص ّية‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ميكن القول أ ّن الحركة امتداد واحد‬
‫واتّصال عىل طول الزمان‪ ،‬حيث يحفظ املتح ّرك طوال م ّدة الحركة وحدته الحقيقيّة[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الكوانتومية‪:‬‬ ‫والتحول يف َّ‬
‫الذرات‬ ‫ًّ‬ ‫ِّ‬
‫الطبيعي‬ ‫ّ‬
‫التحول يف اجلسم‬ ‫مقارنة بني‬
‫الطبيعي يف الفلسفة الصدرائيَّة‬
‫َّ‬ ‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬ميكن القول عىل سبيل القطع‪ ،‬أ َّن الجسم‬
‫جب َِل] بالتح ُّول والتغيري املستم ِّر‪ ،‬وكذلك األمر يف الذ َّرات الكوانتوميَّة الدامئة التح ُّول‬
‫قد امتزج [ ُ‬
‫والحركة عىل أساس الفيزياء الكوانتوم َّية‪ ،‬وهذه هي الُّلغة املشرتكة والتناسب الذي أردنا البحث‬

‫[[[‪( -‬ملّ صدرا‪1981 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.)275‬‬

‫‪143‬‬
‫المحور‬

‫إل أ َّن التغيري يف الفلسفة عبارة عن خروج اليشء من الق َّوة إىل الفعل‪ ،‬حيث‬ ‫عنه يف هذا املقال‪َّ ،‬‬
‫تدريجي (الحركة)‪ .‬وقد عرض صدر‬ ‫ٍّ‬ ‫دفعي (الكون والفساد)‪ ،‬وإ َّما عىل نحو‬ ‫ٍّ‬ ‫يحصل إ َّما عىل نحو‬
‫ليبي أ َّن التح ُّول يف‬
‫املتألّهني نظريَّة الحركة الجوهريَّة ورفض نظريَّة الكون والفساد األرسط َّية؛ ّ‬
‫التدريجي الدائم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الطبيعي يجري يف قالب الحركة الذات َّية والتغيري‬
‫ِّ‬ ‫الجسم‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬ميكن توضيح تح ُّول وتغيري الذ َّرات الكوانتوم َّية يف فيزياء الكوانتوم‪ ،‬وكذلك خلق‬
‫وفناء الذ َّرات يف نظريَّة املدارات الكوانتوم َّية عىل أساس “أصل عدم القاطع َّية”‪ ،‬وكذلك حركة‬
‫إل‬
‫األشياء الذات َّية يف الحكمة املتعالية الصدرائ َّية عىل أساس الحركة الجوهريَّة والتغيري الدائم‪َّ ،‬‬
‫أ َّن املسألة الجديرة بالذكر هنا أ َّن هذا التغيري يرتافق يف الحالتني مع توارد الصور؛ وليس مع تحقُّق‬
‫الكوانتومي تخضع للخلق ث َّم الفناء‪ ،‬فهي يف الحقيقة قد‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي وفقده‪ ،‬فالذ َّرة يف املدار‬
‫ِّ‬ ‫الوجود‬
‫ات َّخذت صورة جديدة ث َّم تزول تلك الصورة‪ .‬وهذا ما رشحته الحكمة املشَّ ائ َّية تحت عنوان‪ :‬الخلع‬
‫واللبس‪ ،‬انطالقًا من فكرة الكون والفساد‪ ،‬بينام رشحته الحكمة املتعالية تحت عنوان‪ :‬اللبس بعد‬
‫اللبس‪ ،‬وانطالقًا من فكرة الحركة الجوهريَّة‪ .‬ممَّ ال َّ‬
‫شك فيه‪ ،‬أ َّن الذ َّرة وبعد فنائها‪ ،‬يجب أن ترد‬
‫وإل لزم أن تتحقِّق فعل َّية املا َّدة من دون‬
‫عليها صورة أخرى (الذ َّرة الجديدة املخلوقة يف املدار)؛ ّ‬
‫صورة‪ ،‬وهذا محال‪ .‬املسلَّم به‪ ،‬أ َّن توارد الصور هذا عىل الذ َّرات‪ ،‬سواء كان عىل شاكلة الخلع‬
‫الفلسفي‪ .‬كام ميكن‬
‫ّ‬ ‫واللبس أم اللبس بعد اللبس‪ ،‬ال يحمل معنى تحقّق الوجود وفقده باملعنى‬
‫القول أ َّن أصل عدم القاطعيّة عند هايزنربك‪ ،‬هو شكل من أشكال التح ُّول واملرونة الدامئة‪ ،‬وبالذات‬
‫لعامل الذ َّرات الكوانتوم َّية‪.‬‬
‫بنا ًء عىل هذا األصل‪ ،‬ال ميكن تعيني مكان ومتّكأ الذ َّرة الواحدة يف آن واحد عىل وجه الدقَّة‪.‬‬
‫وهذا يعني أ َّن الذ َّرة ‪ -‬وبسبب ما تحمل من حركة وتح ُّول ذايتّ‪ -‬ال تبقى عىل حال واحدة يف‬
‫لحظتني‪ .‬ويتطابق هذا األمر مع نظريَّة الحركة الجوهريَّة الصدرائ َّية التي ُّ‬
‫تدل عىل اللبس بعد اللبس‬
‫والحركة عىل امتداد الزمان أكرث من تطابقها مع الخلع واللبس الذي ال يحصل عىل امتداد الزمان‪.‬‬
‫ي يتح َّرك من الق َّوة إىل الفعل يف نظريّتَي الخلع واللبس‪ ،‬واللبس‬ ‫وتوضيح ذلك‪ ،‬أ َّن اليشء املا ّد ّ‬
‫دفعي لليشء من الق َّوة إىل الفعل‪ ،‬والذي يحصل يف‬ ‫ٌّ‬ ‫إل أ َّن الخلع واللبس هو خروج‬ ‫بعد اللبس‪ّ ،‬‬
‫تدريجي من الق َّوة إىل الفعل الذي يتحقّق عىل امتداد “الزمان”‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫“اآلن” واللبس بعد اللبس‪ ،‬خروج‬
‫مل صدرا أ َّن “الزمان” هو مقدار الحركة يف الجوهر؛ أي أ َّن عامل الطبيعة يف حالة تح ُّرك‬ ‫يعتقد َّ‬
‫إل أ َّن من جملة اإلشكاالت‬ ‫والتغي يف الطبيعة‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫وتج ُّدد مستم َّرين‪ ،‬والزمان هو مقدار هذا التج ُّدد‬
‫والتح ّديات املطروحة يف الحكمتني املشّ ائ َّية واملتعالية يف خصوص الحركة الجوهريَّة‪ ،‬والتي‬
‫ق ّدم صدر املتألّهني إجابات متع ِّددة لها‪ ،‬هو بحث ثبات املوضوع‪ ،‬والذي عىل أساسه رفض‬

‫‪144‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫املشّ اؤون الحركة يف الجوهر‪ ،‬حيث اعتربوا أ َّن ثبات املوضوع واحد من رضورات الحركة وهو‬
‫يتناىف مع الحركة الجوهريَّة‪.‬‬
‫خاص (مع األخذ بعني االعتبار أ َّن يف‬
‫ّ‬ ‫أ َّما يف الفيزياء الجديدة‪ ،‬عندما تفنى الذ َّرة يف ميدان‬
‫أحدث النظريَّات الكوانتوميَّة؛ أي نظريّة املدارات الكوانتوميّة‪ ،‬تكون األصالة للمدار والذ ّرات هي‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫مظاهر أو تجلّيات الحاالت الصادرة عن املدار‪ ،‬والتي هي يف حالة تح ّول وتغيري دائم من دون أن‬
‫تتع ّرض للزوال)‪ ،‬وعندما تخلق الذ ّرة [نوع الذ ّرة عينها]‪ ،‬فهذا يشري إىل ثبات املوضوع‪ ،‬وهذا الذي‬
‫ا ّدعته الفلسفة الصدرائ ّية وأيّدته انطالقًا من اعتبار الحركة نوع من الوجود‪ ،‬ومن العين ّية بني الحركة‬
‫والتح ُّرك‪ .‬ويف هذا األمر‪ ،‬ميكن مالحظات التطابق بني األمرين‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وتدل الق َّوة‬ ‫الطبيعي يف الفلسفة الصدرائ َّية مركَّب من الق َّوة والفعل‬
‫َّ‬ ‫املسألة األخرى‪ ،‬أ َّن الجسم‬
‫الطبيعي‪ .‬ويف ما يتعلّق بالذ ّرة‬
‫ّ‬ ‫عىل املا َّدة والفعل عىل الصورة؛ ولذلك‪ ،‬فالق ّوة مرتبطة بالجسم‬
‫األساس َّية‪ ،‬فهناك ما يشري إىل وجود ما هو بالق َّوة‪ ،‬كام يقول هايزنربك‪“ :‬هناك إمكان للموجوديّة أو‬
‫ّ‬
‫وتدل هذه الجملة عىل أ َّن الذ ّرات األساس ّية هي حالة املا ّدة التي هي بالق ّوة‬ ‫ميل نحو املوجوديّة”‪،‬‬
‫وليس املا ّدة بالفعل‪ ،‬وتحصل املا ّدة بالفعل من خالل ات ّصال هذه الذ ّرات بعضها ببعض[[[‪ .‬كام‬
‫التدريجي من الق َّوة إىل الفعل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن الحركة يف الحكمة املتعالية عبارة عن الخروج‬
‫ومن النقص إىل الكامل‪ .‬إذًا‪ ،‬النقص والكامل صفتان لليشء املتح ِّرك يف طول الحركة؛ وهذا يعني‬
‫أ َّن الحركة الجوهريّة يف الفلسفة الصدرائ ّية تتحقّق عىل أساس استكامل ما ّدة الصورة‪ ،‬أ ّما يف نظريّة‬
‫خلق وفناء الذ ّرات األساس ّية‪ ،‬والتي يبدو يف الظاهر أنّها تتطابق مع نظريّة الكون والفساد املشّ ائ ّية‪،‬‬
‫يل‪ .‬مع العلم‪ ،‬أ ّن املدار يتع ّرض باستمرار‬ ‫فقد ال ميكن الحديث بوضوح عن هذا البُعد االستكام ّ‬
‫لحال هبوط وصعود (تح ُّول) دائم‪ ،‬وهنا ميكن الحديث عن هذه املقارنة االستكامل ّية‪.‬‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬فإ َّن توارد الصور املتق ِّدم الذكر يف خصوص الذ َّرات األساسيّة‪ ،‬هو نوع من التكامل‬
‫حا‪ .‬ومع التدقيق والتع ُّمق‪ ،‬ندرك‬ ‫وهذا ما يجعل من املقارنة بينها وبني الحكمة املتعالية أكرث وضو ً‬
‫الطبيعي‪ ،‬تتّضح من خالل فرض وجود ما ّدة أوىل هي‬ ‫ّ‬ ‫أ ّن نظريَّة الحركة الذات ّية والتكامل ّية للجسم‬
‫بالق ّوة املحضة وال فعل ّية لها سوى كونها بالقوة؛ وإذا نظرنا إىل املا ّدة األوىل للذ ّرات األساس ّية من‬
‫ناحية كونها عني املدارات الكوانتوميّة‪ ،‬فللمدارات هذه فعليّة‪ ،‬وبالتايل هي ذات صور‪ .‬إذًا‪ ،‬يجب‬
‫الطبيعي وما ّدته األوىل يف أمر آخر يف عامل الذ ّرات الكوانتوميّة‪ .‬يبدو أ ّن املفيد‬
‫ّ‬ ‫البحث عن الجسم‬
‫أي مخترب يتمكّن من إثبات‬ ‫الفلسفي فقط‪ ،‬وليس االختبارات التجريب ّية‪ ،‬فليس هناك ّ‬ ‫ّ‬ ‫هنا هو الفكر‬
‫وجود ما ّدة ال أثر لها عىل اإلطالق‪.‬‬

‫[[[‪( -‬ناجي أصفهاين وقاسمي‪ ،1395 ،‬ص‪.)110‬‬

‫‪145‬‬
‫المحور‬

‫النتيجة‪:‬‬
‫الطبيعي يف نظريَّة الحركة الجوهريَّة الصدرائيَّة‪ ،‬وتح ُّول‬
‫ِّ‬ ‫يف ما يتعلّق باملقارنة بني تح ُّول الجسم‬
‫الذ َّرات الكوانتوميَّة املستم ِّر‪ ،‬ميكن القول أنَّه أمر مربهن ومتقن‪ ،‬ويرتافق مع توارد الصور وليس مع‬
‫الفلسفي‪ .‬وانطالقًا من أصل عدم القاطعيَّة عند هايزنربك الذي ُّ‬
‫يدل‬ ‫ّ‬ ‫تحقّق الوجود وفقدانه باملعنى‬
‫أي ذ َّرة لن يكون لها وضع متسا ٍو يف لحظتني‬
‫عىل التح ُّول الدائم والذايتِّ للذ َّرات الكوانتوميَّة‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫متتاليتني‪ .‬وتتطابق هذه الحالة مع نظريَّة الحركة الجوهريَّة الصدرائيَّة‪ ،‬حيث تكون الحركة عىل‬
‫خاص‪ ،‬ثم يخلق‬
‫ٍّ‬ ‫امتداد الزمان‪ ،‬وليس يف “اآلن”‪ .‬وعندما نقول إ َّن الذ َّرة األساسيَّة تفنى يف مدار‬
‫املل صدرا تحت‬
‫َّ‬ ‫نوعها من جديد‪ ،‬فهذا ُّ‬
‫يدل عىل ثبات موضوع هذا التح ُّول‪ ،‬وهذا ما أشار إليه‬
‫عنوان “عينيَّة الحركة واملتح ِّرك”‪.‬‬

‫الطبيعي يف الفلسفة الصدرائ َّية والذ َّرة األساس َّية كالهام متَّحد مع‬
‫َّ‬ ‫املسألة األخرى‪ ،‬أ َّن الجسم‬
‫التدريجي من الق َّوة إىل الفعل‪ ،‬ومن النقص إىل‬
‫ُّ‬ ‫مل صدرا‪ -‬هي الخروج‬
‫الق َّوة‪ .‬الحركة ‪ -‬من وجهة نظر َّ‬
‫الكامل والحركة الجوهريَّة تفيد استكامل املا َّدة وتوارد الصور يف الذ َّرات األساس َّية نوع من التكامل‪.‬‬

‫الطبيعي مع فرض وجود ما َّدة أوىل بالق َّوة من‬


‫ِّ‬ ‫ريا‪ ،‬يت ُّم توضيح الحركة الذاتيَّة والتكامليَّة للجسم‬
‫أخ ً‬
‫جميع الجهات‪ ،‬ولكن إذا أنتجت املدارات الكوانتوميَّة عني هذه املا َّدة األوىل للذ َّرات األساسيَّة‪،‬‬
‫سيكون لهذه املدارات آثار وصور‪ ،‬وبالتايل ال ميكن لها أن تكون املا َّدة الفلسفيَّة األوىل‪ ،‬كام‬
‫يشري العديد من القرائن التي ال ميكن التط ُّرق إليها يف هذا البحث‪.‬‬

‫***‬

‫قائمة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫السهروردي‪ ،‬طهران‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪1.1‬إبراهيمي الديناين‪ ،‬غالم حسني (‪ ،)1383‬شعاع الفكر والشهود يف فلسفة‬
‫انتشارات حكمت‪.‬‬

‫يل (‪ ،)1357‬النجاة‪ ،‬طهران‪ ،‬جامعة طهران‪.‬‬


‫‪2.2‬ابن سينا‪ ،‬الحسني بن ع ّ‬
‫‪3.3‬ابن سينا‪ ،‬الحسني بن عيل (‪ ،)1376‬اإللهيَّات من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق حسن حسن زاده اآلميل‪ ،‬قم‪،‬‬
‫اإلسالمي للحوزة العلم َّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انتشارات مكتب اإلعالم‬

‫‪146‬‬
‫مل صدرا‬
‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة َّ‬

‫يل (‪ ،)1383‬الرسالة العالئ َّية (قسم اإلله َّيات)‪ ،‬همدان‪ ،‬انتشارات جمع َّية اآلثار‬
‫‪4.4‬ابن سينا‪ ،‬الحسني بن ع ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫واملفاخر الثقافيَّة وجامعة أبو ع ّ‬
‫يل (‪1404‬ق)‪ ،‬الشفاء (الطبيعيَّات)‪ ،‬ج‪ 1‬و‪ ،2‬تحقيق‪ :‬سعيد زاند‪ ،‬قم‪ ،‬مكتبة‬
‫‪5.5‬ابن سينا‪ ،‬الحسني بن ع ّ‬
‫آية الله املرعيش‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪6.6‬أرسطو (‪ ،)1377‬امليتافيزيك‪ ،‬ترجمة رشف الدين الخراساين‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات حكمت‪.‬‬

‫‪7.7‬بانو ماريف‪ ،‬ال‪ ،)1359( .‬در آنسوى كونت [يف الجهة األخرى من الكوانت]‪ ،‬ترجمة هوشنك‬
‫طفرايئ‪ ،‬مسكو‪ ،‬مركز نرشيات مري (غوتنربغ)‪.‬‬

‫‪8.8‬دهبايش‪ ،‬مهدي (‪ ،)1378‬شبكة املنظومة الوجوديَّة الصدرائيَّة وتأثريها يف الفيزياء الحديثة‪ ،‬مجلَّة‬
‫نامه فلسفه‪ ،)3(3 ،‬ص‪.66-46‬‬

‫(مل صدرا)‪ ،)1378( ،‬رسالة يف الحدوث‪ ،‬تحقيق حسني موسويان‪،‬‬


‫‪9.9‬الشريازي‪ ،‬مح َّمد بن إبراهيم َّ‬
‫طهران‪ ،‬مركز الحكمة اإلسالم َّية صدرا‪.‬‬

‫(مل صدرا)‪1981( ،‬م)‪ ،‬الحكمة املتعالية يف األسفار العقل َّية األربعة‬


‫‪1010‬الشريازي‪ ،‬مح َّمد بن إبراهيم ّ‬
‫يب‪.‬‬
‫(ج‪ ،)5 ،4 ،3‬بريوت‪ ،‬جار إحياء الرتاث العر ّ‬

‫‪1111‬فولكيه‪ ،‬بول (‪ ،)1366‬الفلسفة العا َّمة (ما بعد الطبيعة)‪ ،‬ترجمة يحيى مهدوي‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات‬
‫جامعة طهران‪.‬‬

‫الخميني التعليم َّية والبحث َّية‪.‬‬


‫ّ‬ ‫مؤسسة اإلمام‬
‫الفلسفي‪ ،‬قم‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪1212‬فيايض‪ ،‬غالمرضا‪ ،)1389( ،‬علم النفس‬

‫‪1313‬كوز‪ ،‬فرانك (‪ ،)1387‬فيزياء الذ َّرات‪ ،‬ترجمة فريوز آرش‪ ،‬طهران‪ ،‬الثقافة املعارصة‪.‬‬

‫‪1414‬مط َّهري‪ ،‬مرتىض (‪ ،)1383‬دروس األسفار‪( ،‬بحث الق َّوة والفعل)‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات صدرا‪.‬‬

‫‪1515‬مط َّهري‪ ،‬مرتىض (‪ ،)1384‬مجموعة آثار األستاذ الشهيد مط َّهري‪ ،‬ط‪ ،7‬ج‪ ،5‬طهران‪ ،‬انتشارات صدرا‪.‬‬

‫‪1616‬منفرد‪ ،‬مهدي (‪ ،)1394‬ما هي الفلسفة املقارنة؟ الدراسات الفلسفيَّة الكالميَّة‪.)4(16 ،‬‬

‫‪1717‬ناجي أصفهاين‪ ،‬حامد وقاسمي‪ ،‬نارص‪ ،)1395( ،‬مقارنة بني الجوهر الفرد من وجهة نظر املتكلِّمني‬
‫املسلمني والذ َّرات األساس َّية يف الفيزياء الحديثة‪ ،‬دراسات العلم والدين‪ ،‬مركز دراسات العلوم‬
‫اإلنسانيَّة والدراسات الثقافيّة‪.)2(7 ،‬‬

‫‪1818‬نصريي محاليت‪ ،‬أحمد؛ كهنسال‪ ،‬عيل رضا ومسعودي‪ ،‬جهانكري‪ ،)1397( ،‬أصالة الوجود ونظرية‬

‫‪147‬‬
‫المحور‬

.)2(6 ‫ الحكمة الصدرائيّة‬،‫امليكانيك الكوانتومي – دراسة مقارنة‬

‫ ترجمة سارة ايزديار وعيل‬،2‫ ط‬،‫ الخطّة الكربى‬،)1391( ،‫ لئوناردو‬،‫ أستيون؛ ملودينو‬،‫هاوكينغ‬1919
.‫ طبعة مازيار‬،‫ طهران‬،‫هاديان‬

20. ‫ رشكة العلمي للطباعة‬،‫ طهران‬،‫ ترجمة محمود خامتي‬،‫ الفيزياء والفلسفة‬،)1370( ‫ ورنر‬،‫هايزنربك‬
‫والنرش‬.

21. Aristotle. (1377 AP/19989-). Metaphysique [metaphysics). (Khorasani, S. D., Trans.).


Tehran: Hekmat Publications. [In Persian].

22. Aristotle. (1995). Categories. In Barnes, J. (Ed.), & Ackrill, J.L. (Trans.), The Complete
Works of Aristotle. Princeton University Press.

23. Avicenna (Ibn Sina). (1357 AP/1978- 9). Al-Najat [The Book of Salvation]. Tehran:
University of Tehran Press.

24. Avicenna (Ibn Sina). (1376 AP/19978-). Al-llahiyyat min Kitab al-Shifa [Book of
The Healing: Metaphysics]. (Research by Hasanzadeh Amoli, H.). Qom: Daftar-i
Tablighat-i Islami-yi Howze-yi Ilmiyya Publications.

25. Avicenna (Ibn Sina). (1383 AP/20045-). Daneshnameyi Alayi (baksh-i Ilahiyyat)
[The Book of Scientific Knowledge: Metaphysics]. Hamedan: Anjuman-i Athaar va
Mafakhir-i Farhangi va Daneshgah-i Bu Ali Publications.

26. Avicenna (Ibn Sina). (1404 AH). Al-Shifa’ (Tabi’iyyat) [Book of Healing: Earth
Sciences], vol.1 & 2. (Research by Zaid, S.). Qom: Ayatollah Marashi Najafi Library.

27. Bohm, D. (1952). A Suggested Interpretation of the Quantum Theory in Terms of


“Hidden” Variables. I. Physical Review. 85(2), 166179-. doi: 10.1103/PhysRev.85.166

28. Bohm, D. (1952). A Suggested Interpretation of the Quantum Theory in Terms of


“Hidden” Variables. II. Physical Review. 85(2), 180193-. doi: 10.1103/PhysRev.85.180.

29. Bohr, N. (1913). 1. On the Constitution of Atoms and Molecules. The London,
Edinburgh, and Dublin Philosophical Magazine and Journal of Science. 26(151),

148
‫مل صدرا‬
َّ ‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة‬

125-. doi: 10.108014786441308634955/.

30. Bohr, N. (1913). LXXIII. On the Constitution of Atoms and Molecules. The London,
Edinburgh, and Dublin Philosophical Magazine and Journal of Science. 26(155), 857
- 875. doi: 10.108014786441308635031/.
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

31. Bohr, N. (1913). On the Constitution of Atoms and Molecules, Part II, Systems
Containing Only a Single Nucleus. Philosophical Magazine. 26, 476- 502. 10.1016/
S1876- 0503(08)70046 -X

32. Close, F. (2004). Particle Physics: A Very Short Introduction (1” edition). Oxford:
Oxford University Press.

33. Dahbashi, M. (1378 AP/1999- 2000). Shabake-yi Sistemi-yi Hasti Shenasi-yi Mulla
Sadra va Imkan-i Baztab-i aan dar Fizik-i Jadid [Mulla Sadra’s ontological systematic
network and the possibility of its reflection in modem physics]. Name-yi Falsafe. 3(3),

34. De Broglie, L. (1923). Waves and Quanta. Nature. 112(2815), 540- 540.
doi:10.1038112540/a0

35. Dirac, P. A. M. (1927). The Quantum Theory of the Emission and Absorption
of Radiation. Proceedings of the Royal Society A: Mathematical, Physical and
Engineering Sciences. doi: 10.1098/rspa.1927.0039

36. Einstein, A. (1905). Über einen die Erzeugung und Verwandlung des Lichtes
betreffenden heuristischen Gesichtspunkt. Annalen der Physik. 322(6), 132- 148. doi:
10.1002/andp.19053220607

37. Fock, V. (1932). Konfigurationsraum und zweite Quantelung. Zeitschrift für Physik.
75(9647-622 ,)10-. doi: 10.1007/BF01344458

38. Foulquie, P (1947). Traité élémentaire de philosophie: Métaphysique (In French): Les
Editions de L’Ecole

39. Foulquié, P. (1366 AP/1987 -8). Falsafe-yi ‘Umumi [Précis de philosophie Tome

149
‫المحور‬

III Métaphysique). (Mahdavi, Y. Trans.). Tehran: University of Tehran Press. [In


Persian].

40. Hawking, S. & Mlodinow, L. (1391 AP/20123-). Tarh-i Buzurg [The Grand Design]
(2nd ed.). (Izadyar, S. & Hadiyan, A., Trans.). Tehran: Mazyar Publucations. [In
Persian].

41. Hawking, S. & Mlodinow, L. (2010). The Grand Design. United States: Bantam Books
Press

42. Heisenberg, W. (1370 AP/1991- 2). Fizik va Falsafe [Physics and Philosophy:
Revolution in Modern Science). (Khatami, M., Trans.). Tehran: mi Publications and
Publishing Company. [In Persian].

43. Heisenberg, W. (1927). Über den anschaulichen Inhalt der quantentheoretischen


Kinematik und Mechanik. Zeitschrift Für Physik, 43(3 -4), doi:

44. Heisenberg, W. Physic und Philosophie (physics and philosophy). Frankfurt (A. M.).
Berlin. Wien: Ull- stein doi:10.131401/2.1.4886.3521/

45. Ibrahimi Dinani, G. H. (1383 AP/20045-). Shu’a-yi Andishe va Shuhud dar Falsafe-yi
Sohravardi [the range of thought and intuition in Sohravardi’s Philosophy]. Tehran:
Hekmat Publications.

46. Klose, F. (1387 AP/2008- 9). Fizik-i Zarrat [Particle Physics]. (Arash, F. Trans.).
Tehran: Farhang-i Muaser. [In Persian].

47. Mahalati, N., Kohansal, A. R., & Masoodi, J. (2018). Comparative Review on the Idea
of Priority of Existence and Quantum Mechanic Theory. Bianmal Scientific Journal
Sadra’i Wisdom. 6(2), 163- 169.

48. Munfared, M. (2015). What is Comparative Philosophy? Journal of Philosophical


Theological Research, 16(4), 25- 42.

49. Mutahhari, M. (1383 AP/20045-). Dars-hayi Asfar (Mabahith-i Quwwe wa Fe’l)

150
‫مل صدرا‬
َّ ‫المكانة الميتافيزيقية للجسم الطبيعي في فلسفة‬

[lessons on Asfar, discussion on potential and actuality]. Tehran: Sadra Publications.

50. Mutahhari, M. (1384 AP/2005- 6). Majmu’a-yi Athaar-i Ustad Shahid Mutahhari [a
collection of Mutahhari’s works], vol. 5 (7th ed.). Tehran: Sadra Publications.

51. Naji Isfahani, H. & Ghasemi, N. (2017). Muqayese beyne Jowhar-i Fard az Nazar-o
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

Mutakalliman-i Islami va Zarrat-i Bunyadin dar Fizik-i Novin (a comparison between


the essence of an individual according to Islamic theologians and foundational
particles in modem phyics]. Researches on Science and Religion. 7(2), 97- 116.

52. Planck, M. (1901). Ueber das Gesetz der Energieverteilung im Normalspectrum.


Annalen der Physik. 309(3), 553563-. doi: 10.1002/andp.19013090310

53. Ponomarev, L. I. (1359 AP/1980- 1). Dar Ansuye Qwant [The Quantum Dice].
(Toghraie, H., Trans.). Moscow: Bongah-i Nashriyyat-i Mir (Kotenberg). [In Persian].

54. Ponomarev, L. Pod znakom Kvanta (In Russian).

55. References

56. Sakurai, J. J. (1994). Modern Quantum Mechanics (Revised edition; S. F. Tuan, Ed.).
Reading, Mass: Addison-Wesley.

57. Schrödinger, E. (1926). An Undulatory Theory of the Mechanics of Atoms and


Molecules. Physical Review. 28(6), 10491070-. doi: 10.1103/PhysRev.28.1049

58. Shirazi, S. D. (Mulla Sadra). (1981). Al-Hikmat al-Muta’aliyah fi al-Asfar al-’Aqliyyat


al-Arba’ (The Transcendent Theosophy in the Four Journeys of the Intellect), vols. 3,
4, & 5. Beirut: Dar Ihya Turath al-Arabi.

59. Shirazi, S. M. (Mulla Sadra). (1378 AP/1999- 2000). Risalat fi al-Huduth. (Research
by Musavian, H.). Tehran: Sadra Islamic Philosophy Foundation.

151
‫إقبال امليتافيزيقا وإدبارها‬
‫حماولة لالنتقال بالفلسفة إىل طور ما َبعدي‬

‫عل‬
‫غيضان السيد ي‬
‫ن‬
‫ب� سويف‪ -‬مرص‬ ‫ف َّ‬
‫أستاذ الفلسفة ي� كلية اآلداب – جامعة ي‬

‫ّ‬
‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫جوهرية‪َّ ،‬أرقت العقل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الميتاف�يقا عىل امتداد أحقابها بقضايا‬ ‫يز‬ ‫انشغلت‬
‫تفرق الفالسفة حيالها إىل جهات تَّ‬ ‫وقضت مضجعه؛ مع ذلك فقد َّ‬ ‫َّ‬
‫ش�‪ :‬ثمة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ً‬
‫لغو ال طائل منه‪ ،‬ومنهم من نظر إليها بوصفها‬ ‫من رفضها كلية‪ ،‬ورأى أنها مجرد ٍ‬
‫ف‬ ‫ف‬
‫الفلس�‪ ،‬وقدس األقداس ي� معبد الفكر؛ وهناك‬ ‫ي‬ ‫إحدى أهم مباحث العقل‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ثالثا من َو َجد �ض ورة مجاوزة التقليد الذي سكنها منذ اإلغريق إىل عصور ما‬
‫ِّ‬
‫بعد الحداثة‪ ،‬ثم راح يدعو إىل تطويرها لتحقق أهدافها المبتغاة مع حرصه عىل‬
‫أهميتهاكسبيل إىل المعرفة المتعالية‪.‬‬
‫يز‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬
‫الميتاف�يقا‪ .‬ال سيما‬ ‫ال� واجهت‬ ‫الك�ى ي‬ ‫تدور هذه الدراسة مدار المشكالت ب‬
‫مق�ح جديد يشكل‬ ‫المف�ض تقديم ت‬ ‫ت‬ ‫وعما إذا كان من‬ ‫لجهة قبولها أو رفضها‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ف‬
‫ماهيات األشياء‬ ‫تظه� العلم بالوجود ومعرفة‬ ‫ي‬ ‫انعطافة مفارقة ي� عالمها بغية‬
‫"ال�ء ف ي� ذاته"‪.‬‬ ‫ي‬
‫أو ش‬

‫وه إمكان استحداث‬ ‫ت‬


‫سوف نناقش هنا أحد هذه المق�حات المستحدثة‪ ،‬ي‬
‫الكالسيك المعهود‪ ،‬ثم لتنتقل‬ ‫ميتاف�يقا ذات مهمة ما بعدية تتجاوز التنميط‬ ‫يز‬
‫ي‬
‫ن‬ ‫ف‬
‫يع� أن‬ ‫إىل طور يجيب عىل األسئلة الموقوفة ي� أنطولوجيا الوجود‪ .‬ذاك ي‬
‫البعدية ـ كما يسميها المفكر محمود حيدر ـ‬ ‫الميتاف�يقا َ‬
‫يز‬ ‫المق�حة أو‬‫ت‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫يز‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫ال�‬‫"الميتاف�يقا القبلية" ي‬ ‫تقصد البحث ي� الوجود والموجود والواجد ي� مقابل‬
‫ً‬ ‫ف‬ ‫قرصت َّ‬
‫قارصا عن‬ ‫مهمتها عىل البحث ي� ظواهر الوجود‪ ،‬حيث بدا العقل فيها‬
‫ّ‬
‫الحس‪.‬‬ ‫يتيس له إدراك ما وراء عالم‬ ‫الع� وأحكامها‪ ،‬ولم َّ‬ ‫مجاوزة دنيا المقوالت ش‬

‫* * *‬
‫َّ‬ ‫يز‬ ‫َّ‬ ‫يز‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫البعدية – إقبال‬ ‫الميتاف�يقا‬ ‫القبلية‪-‬‬ ‫الميتاف�يقا‬
‫ف‬
‫المكت� بذاته‪.‬‬ ‫يز‬
‫الميتاف�يقا وإدبارها‪ -‬الفلسفة األوىل السؤال‬
‫ي‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫ِّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫انرصفت «امليتافيزيقا الكالسيكية القبلية» عن مه َّمتها األساس َّية يف البحث عن سؤال الوجود‬
‫مؤسس‪ ،‬واستغرقت يف خض ِّم بحر تتالطم فيه أسئلة املمكنات الفانية وأعراضها‪ .‬أ َّما‬ ‫كسؤال ِّ‬
‫«امليتافيزيقا البعديَّة»[[[ فقد ات َّخذ السؤال فيها مكانة تأسيسيَّة؛ حيث يستفهم العارف حقيقة الوجود‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫رس القدر يف عامل الخلق واألمر؛ لتنبني اإلجابة فيها عىل نح ٍو تتآزر فيه إلهامات التجربة الشهوديَّة‬
‫و ّ‬
‫النظري وكشوفاتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكشوفاتها‪ ،‬مع تساؤالت العقل‬
‫ظهر مصطلح «ميتافيزيقا‪ “ Metaphysics‬ألول م َّرة باملصادفة البحتة؛ حيث تعود نشأته األوىل‬
‫إىل إطالقه عىل أحد كتب أرسطو الذي مل يستخدم هذا املصطلح عىل اإلطالق‪ ،‬بل مل يستخدمه‬
‫الهللينستي ‪Hellenisitic Age‬‬
‫ّ‬ ‫الهلليني‪ ،‬وإمنا ظهر يف العرص‬
‫ّ‬ ‫واح ٌد من فالسفة اليونان يف العرص‬
‫عندما قام أندروينقوس الروديس ‪ Andronicus of Rhodes‬حوايل سنة ‪ 60‬ق‪.‬م الرئيس الحادي‬
‫عرش للمدرسة املشَّ ائ َّية يف روما بتصنيف كتب أرسطو وترتيبها ونرشها مع رشح للفلسفة األرسط َّية‪،‬‬
‫وأثناء ترتيب أندرونيقوس لكتب أستاذه أرسطو‪ ،‬وجد أ َّن هناك مجموعة من البحوث مل يطلق‬
‫اسم مع َّي ًنا يستق ُّر عليه‪ ،‬وقد جاء يف الرتتيب بعد البحوث التي كتبها أرسطو‬
‫عليها املعلّم األول ً‬
‫ريا أطلق عليها مؤقَّتًا ً‬
‫اسم مركَّبًا من‬ ‫يف الطبيعة(الفيزيقا) فاحتار أندرونيقوس‪ :‬ماذا يس ّميها؟ وأخ ً‬
‫مقطعني‪ :‬ميتا ‪ Meta‬أي ما بعد‪ ،‬وفيزيقا ‪ Physics‬أي علم الطبيعة؛ أي أنها البحوث التي تيل كتب‬
‫أي إشارة‬
‫الطبيعة يف ترتيب املؤلفات األرسطية‪ .‬فكلمة “ميتافيزيقا” أو “ما بعد الطبيعة” ال تحمل َّ‬
‫إىل مضمون هذه البحوث‪ ،‬بل هي ما بعد طبيع َّيات أرسطو فحسب‪ .‬وهكذا جاءت التسمية عرضً ا‬
‫أو مصادفة‪ ،‬لكنها مع تط ُّور املصطلح أصبحت وصفًا للموضوعات التي يدرسها هذا العلم‪ ،‬مبعنى‬
‫أنَها العلم الذي يدرس موضوعات تجاوز الظواهر املحسوس‪ .‬وقد كان أرسطو يطلق عىل مجموعة‬
‫من البحوث امليتافيزيق َّية اسم “الفلسفة األوىل” ويرى أنَّها علم املبادئ األوىل والعلل البعيدة التي‬
‫فضل عن أنَّها أرشف‬
‫ً‬ ‫تشمل جميع املبادئ األخرى‪ ،‬فهي أشمل العلوم وأكرثها يقي ًنا وتجري ًدا‪،‬‬
‫يئ هو العلَّة األوىل أو املبدأ األول وهو أرشف املوضوعات‪ ،‬وهو الله‬ ‫العلوم؛ أل َّن موضوعها النها َّ‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫الحقيقي‬
‫ُّ‬ ‫معنى ذلك أ َّن امليتافيزيقا تشطر الوجود إىل شطرين أساسيَّني‪ :‬األول هو الوجود‬
‫الحواس‬
‫ُّ‬ ‫الظاهري الذي تستطيع‬
‫ُّ‬ ‫للحواس‪ ،‬والثاين هو هذا الوجود‬
‫ّ‬ ‫الكامن وراء الظواهر البادية‬

‫[[[‪ -‬بصدد املبنى املعريفّ للميتافيزيقا ال َبعديَّة كمصطلح ومفهوم فقد ورد عىل نحو التأصيل والتفصيل ضمن كتاب قيد الطبع للدكتور‬
‫محمود حيدر تحت عنوان‪ :‬العرفان يف مقام التدبري السيايس‪ -‬دراسة يف املباين امليتافيزيق َّية والتأسيسات املعرف َّية للحضارة اإلله َّية‪-‬‬
‫ولسوف يصدر الكتاب كام هو مق َّرر عن دار الفارايب ومركز دلتا لألبحاث املع َّمقة يف بريوت‪ -‬كام ورد هذا املصطلح يف عدد من‬
‫الدراسات واملحارضات التي أنجزها حيدر يف سياق التنظري ألفق مفارق يف عامل امليتافيزيقا‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫المحور‬

‫غوصا وراء الظاهر‪ ،‬أو الظواهر البادية‬


‫ً‬ ‫الخمس أن تدركه عىل نحو مبارش‪ ،‬وهكذا تكون امليتافيزيقا‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أمامنا ملعرفة أساسها‬
‫كل‬
‫لقد متيَّز تاريخ الفلسفة بسيادة “ميتافيزيقا قبليَّة” اعتمدت عىل العقل‪ ،‬ووضعته فوق ِّ‬
‫اعتبار‪ ،‬وآمنت بعصمته وقدرته عىل الوصول للمعرفة العليا أو معرفة “اليشء يف ذاته”‪ ،‬إلَّ أنَّها‬
‫انشغلت بالسؤال؛ فابتدأت بالسؤال وانتهت بالسؤال‪ ،‬فلم تتب َّدد الحرية‪ ،‬ومل ت ُدرك الغاية‪ .‬وهنا كان‬
‫تتأسس عليها‬ ‫القوي لربوز “امليتافيزيقا البعديَّة” التي مل تستغنِ عن املعارف العقليَّة التي َّ‬
‫ُّ‬ ‫ربر‬
‫امل ِّ‬
‫“امليتافيزيقا القبليَّة”‪ ،‬ولكنها تعتقد أ َّن فوق تلك املعارف املستندة إىل العقل األدىن‪ ،‬ق َّوة بصرييَّة‬
‫كل عرفان‪ .‬وحينها تحيا هذه‬ ‫تغمر صاحبها يف بحار النور األقدس الذي ال يستعيص عليه انكشاف ِّ‬
‫كل نور‪ ،‬وهو الصادر عن‬ ‫النقي‪ ،‬وتتلقَّى منه إشعاع النور الذي هو منبع ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫النفس حياة العامل العق ِّ‬
‫كل ما عداه‪،‬‬
‫كل وجه‪ ،‬والذي عنه انبثق ُّ‬
‫كل وجه‪ ،‬الواحد من ِّ‬
‫املوجود األول الذي هو الكامل من ِّ‬
‫كل ما عداه‪.‬‬
‫وهو املستغني عن ِّ‬
‫هذه الدراسة قامت عىل مق ِّدمة ومباحث أربعة وخامتة؛ جاءت املق ِّدمة متهي ًدا للموضوع‬
‫حا ألهميَّته‪ ،‬بينام جاء املبحث األول تحت عنوان‪“ :‬تعريف امليتافيزيقا”‪ .‬وجاء املبحث‬ ‫وتوضي ً‬
‫الثاين بعنوان‪“ :‬موضوعات امليتافيزيقا وأقسامها”‪ .‬يف حني جاء املبحث الثالث بعنوان‪“ :‬املوقف‬
‫من امليتافيزيقا” سواء بالقبول أم بالرفض‪ .‬وجاء املبحث الرابع تحت عنوان‪“ :‬من امليتافيزيقا‬
‫القبل َّية إىل امليتافيزيقا البعديَّة»‪ .‬ثم جاءت الخامتة لرتصد أهم النتائج التي انتهت إليها ال ّدراسة‪.‬‬
‫ً‬
‫َّأول‪ -‬تعريف امليت�افزييقا‪:‬‬
‫قد يتص َّور القارئ للوهلة األوىل بساطة تعريف امليتافيزيقا‪ ،‬وأنَّها مصطلح واضح وال يحتاج‬
‫ُّلغوي ليقف عىل حقيقة معناه‪ .‬لكنه يفاجأ مبدى‬
‫َّ‬ ‫إىل تعريف؛ حيث يكفي املرء أن يحلِّل تركيبه ال‬
‫الصعوبة حول هذا التعريف عندما يحاول بيان طبيعته أو تحديد مجاله وموضوعاته‪ .‬لذلك سنحاول‬
‫يف هذا املحور مقاربة هذا املفهوم حتى نقف عىل حقيقته وماه َّيته كام ظهر يف تاريخ الفلسفة‪،‬‬
‫وما هي نقاط ضعفه؟ وكيف ميكن تطويره بحيث يتناسب مع مكانة موضوعه‪ ،‬حيث إ َّن موضوعه‬
‫يئ هو املبدأ األول؟‬
‫النها ّ‬
‫أُطلق مفهوم امليتافيزيقا ‪ -‬كام سبقت اإلشارة ‪ -‬عىل مجموعة البحوث األرسطيَّة التي كانت‬
‫معي بالذات‪ ،‬أو يف جزء‬‫أي موجود َّ‬ ‫تتناول البحث يف الوجود مبا هو وجود‪ ،‬وال تبحث يف ِّ‬
‫من أجزاء املوجود مثلام تفعل سائر العلوم‪ ،‬وهكذا تصبح امليتافيزيقا»علم الوجود الشامل»[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬إمام عبدالفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا مع ترجمة كاملة لكتاب ميتافيزيقا أرسطو‪ ،‬القاهرة‪ ،‬نهضة مرص للطباعة والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫ط‪ ،2009 ،3‬ص‪.27‬‬

‫‪154‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫لعل أه َّمها اختالف الفالسفة أنفسهم يف نظرتهم إىل امليتافيزيقا‬‫لكن هذا التعريف يجد صعوبات َّ‬
‫موغل يف التط ُّرف والتضارب سواء يف القدح أم يف املدح‪ ،‬الهجاء أم الثناء‪ .‬فبعض‬ ‫ً‬ ‫اختالفًا‬
‫امليتافيزيقي بازدراء‪ ،‬وبعضهم اآلخر يرفعه إىل أعىل ِعل ّيني؛ هذا‬
‫ِّ‬ ‫الفالسفة يتح َّدث عن التفكري‬
‫امليتافيزيقي‪ .‬فأحيانًا تُلقَّب امليتافيزيقا مبلكة العلوم وقدس‬
‫ّ‬ ‫رغم اعرتافهم ضم ًنا بأهم َّية التفكري‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫األقداس يف معبد الفكر‪ ،‬وأحيانًا ت ُنبذ ويقال عنها إنها مج َّرد لغو فارغ أو كالم خا ٍل من املعنى[[[‪.‬‬
‫كام أ َّن بساطة املشكلة تضفي صعوبة أخرى عىل تعريف امليتافيزيقا؛ وذلك أل َّن املسائل‬
‫التي تعالجها هذه البحوث هي يف الواقع من ذلك النوع البسيط املألوف بصفة عا َّمة‪ ،‬وكام يقول‬
‫ألفرد إدوارد تايلور ‪“ :)1945-A.E Taylor (1869‬إ َّن بساطة وعموميَّة موضوعات امليتافيزيقا هو‬
‫األمر الذي يشكل الصعوبة الرئيس َّية يف تعريفها”[[[‪ .‬فامليتافيزيقا تبحث يف جميع رضوب املعرفة‪،‬‬
‫ميسات البحث يف العلوم املختلفة‬ ‫وتتغلغل يف جميع العلوم الجزئ َّية‪ ،‬وال تعتمد يف ذلك عىل ّ‬
‫كاألجهزة العلم َّية الدقيقة ذات النفع الكبري يف العلوم األخرى‪ ،‬أو أنَّها تستم ُّد العون من التجربة‬
‫يل ‪( Apriori‬أي قبل التجربة) مبعنى ما‬ ‫يل أو قب ٌّ‬
‫امليتافيزيقي تفكري عق ٌّ‬
‫َّ‬ ‫الحسيَّة؛ وذلك أل َّن التفكري‬
‫ّ‬
‫من املعاين؛ أعني أنه يعتمد عىل منهج العقل وحده‪ ،‬وقد يعتمد أحيانًا عىل الحدس أو نور العقل‬
‫الطبيعي‪ .‬وإن كان هذا الكالم ال يرسي عىل “امليتافيزيقا البعديَّة” التي تحاول أن تتح َّرر من هذه‬ ‫ّ‬
‫الصعوبات وتتخلَّص من املعاثر التي وقعت فيها “امليتافيزيقا القبل َّية التقليديَّة”‪ ،‬فتأنس بالُّلجوء‬
‫إىل اإلميان بالغيب‪ ،‬والتعامل مع الواقع بالحكمة واإلحسان‪.‬‬
‫رغم ذلك‪ ،‬حاول الكثري من الفالسفة الوصول إىل تعريف للميتافيزيقا‪ ،‬فع َّرفها أرسطو بأنها‬
‫“الفلسفة األوىل” أو “العلم األول”‪ ،‬وهو العلم الذي يسبق موضوعه منطقيًّا بقيَّة العلوم األخرى‪،‬‬
‫والذي تفرتضه العلوم األخرى جمي ًعا‪ ،‬ويس ّميها – أحيانًا‪ -‬بالحكمة عىل اعتبار أنَّها الغاية التي تسعى‬
‫باللهوت أو اإلله َّيات أو العلم الذي يرشح‬‫لها العلوم األخرى يف بحثها‪ ،‬وأحيانًا أخرى يس ّميها َّ‬
‫طبيعة الله[[[‪ .‬أو هي العلم الذي يدرس الوجود مبا هو موجود‪ ،‬ومعرفة الخصائص الكامنة فيه‬
‫لكل يشء‪ ،‬ولذلك‬ ‫الخاصة‪ .‬فهي إذن‪ ،‬تبحث يف املبادئ األوىل واألسباب النهائيَّة ِّ‬
‫َّ‬ ‫مبوجب طبيعته‬
‫تحتل مكانة رئيس َّية يف مؤلَّفات معظم امليتافيزيقيني‬
‫ُّ‬ ‫هي بحث يف الجوهر[[[‪ .‬فدراسة الجوهر‬
‫الكبار الذين جاءوا يف أعقابه‪ .‬وقد أعلن أرسطو أ َّن الجوهر هو ما وجد منذ البداية‪ ،‬وأنه سابق‬
‫عىل سائر األشياء األخرى ال من حيث الوجود فحسب‪ ،‬بل من حيث التفسري واملعرفة كذلك؛ أي‬
‫أي يشء آخر تقتيض معرفة الجوهر‪ .‬وهكذا‬ ‫أي يشء آخر يتطلَّب فكرة الجوهر‪ ،‬ومعرفة ِّ‬
‫أ َّن تفسري ِّ‬
‫[[[‪ -‬سامية عبدالرحمن‪ ،‬امليتافيزيقا بني التأييد والرفض‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪ ،1993 ،‬ص‪.3‬‬
‫‪[2]- (Taylor (A.E.), Elements of Metaphysics, Routledge Revivals, New York, 1961, p.2.‬‬
‫[[[‪ -‬إمام عبدالفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.113‬‬
‫‪[4]- (Richard de George, Classical and Contemporary Metaphysics, New York, 1962, p.4.‬‬

‫‪155‬‬
‫المحور‬

‫جوهري يف الوجود واملعرفة‬


‫ٌّ‬ ‫لكل ما هو‬
‫ينظر أرسطو إىل امليتافيزيقا باعتبارها دراسة فريدة شاملة ِّ‬
‫والتفسري جمي ًعا[[[‪ .‬ولذلك وصفها بأنَّها أرشف العلوم النظريَّة؛ ألنَّها تريد أن تصل إىل املعرفة‬
‫الحقيقي لهذا الكون‪ .‬ووصفها أحدهم بأنَّها «محاولة الوصول إىل صورة‬ ‫ِّ‬ ‫بالسبب األول أو املوجد‬
‫االنكليزي براديل بأنَّها «محاولة ملعرفة ماه َّية‬
‫ُّ‬ ‫عا َّمة عن العامل بطريقة معقولة»[[[‪ .‬وع َّرفها الفيلسوف‬
‫الواقع يف مقابل الظاهر املحض»[[[‪ .‬أو «الغوص يف أعامق الظواهر ملعرفة حقائقها الباطنة»[[[‪.‬‬
‫ككل يف مقابل‬ ‫أي أنَّه إذا كانت امليتافيزيقا مع أرسطو دراسة «املبادئ األوىل» ومعرفة «الوجود» ٍّ‬
‫املعرفة الجزئ َّية للعلوم األخرى‪ ،‬فإنها مع براديل قد أحرزت تق ُّد ًما نوع ًّيا من خالل معرفة حقيقة‬
‫الواقع يف مقابل الظاهر املحض‪.‬‬
‫ككل‪ ،‬يدرس‬ ‫بنا ًء عليه‪ ،‬تكون امليتافيزيقا هي ذلك املبحث من املعرفة الذي يدرس الوجود ّ‬
‫مبادئه القريبة والبعيدة‪ ،‬ويبحث يف خصائصه األساس َّية العا َّمة‪ ،‬ويحاول كشف القوانني الكل َّية التي‬
‫تفسِّ حقيقة الوجود‪ ،‬وتكشف عن جوهره‪ ،‬وال تقف فقط عند الظواهر بل تحاول سرب األغوار‬
‫والوقوف عىل الحقائق املخفيَّة‪ .‬وبهذا املعنى يكون موضوع دراستها موضو ًعا مفارقًا متعاليًا؛ إذ‬
‫ليس من املمكن التحقُّق من نتائجها أو مناهجها عن طريق الخربة‪ ،‬إذ تريد الوصول إىل نتائج عن‬
‫أشياء تجاوز حدود الخربة ووفقًا ملبادئ مل تق ِّررها الخربة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثاني�ا‪ :‬موضوعات امليت�افزييقا وأقسامها‪:‬‬
‫األسايس للميتافيزيقا لدى نشأتها عند اليونان القدماء؛‬
‫َّ‬ ‫كان مبحث األنطولوجيا هو املوضوع‬
‫ويتَّضح ذلك من تعريف أرسطو السالف الذكر للميتافيزيقا بأنَّها البحث يف الوجود مبا هو وجود‪.‬‬
‫وقد استم َّر هذا املعنى يف العصور الوسطى لك َّنه مل يستم ّر يف العصور الحديثة أو املعارصة؛ إذ‬
‫إنَّه امت َّد ليضيف إىل مبحث الوجود مبحثًا آخر هو مبحث املعرفة أو االبستمولوجيا‪ .‬وقد انشغل‬
‫فالسفة الفلسفة الحديثة من أمثال‪ :‬توماس هوبز‪ ،‬وديكارت‪ ،‬وباركيل‪ ،‬وجون لوك‪ ،‬وديفيد هيوم‪،‬‬
‫وإميانويل كانط مبشكلة املعرفة‪ ،‬وطرحوا حولها العديد من األسئلة‪ :‬ما مصادر املعرفة؟ أهي‬
‫حاسة سادسة تس َّمى بالحدس‪ ،‬أو «العيان املبارش»؟‬ ‫الحواس أم العقل‪ ،‬أم الجمع بينهام‪ ،‬أم هي َّ‬
‫ُّ‬
‫كل يشء؟ أم أ َّن هناك أمو ًرا تجاوز هذه القدرات بحيث‬ ‫وهل تستطيع قدراتنا وملكاتنا أن تعرف َّ‬
‫يستحيل علينا أن نعرفها؟ وما هي طبيعة املعرفة البرشيَّة؟ وما عالقة الذات البرشيَّة العارفة‬

‫[[[‪ -‬جوناثان ري‪ ،‬وج‪ .‬أو‪ .‬أرمسون‪ ،‬املوسوعة الفلسف َّية املخترصة‪ ،‬ترجمة فؤاد كامل وآخرون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2013‬ص ‪.356‬‬
‫‪[2]- (Carter (W.R.),The Elements of Metaphysics, Temple University Press, New York, 1990, p.12.‬‬
‫‪[3]- ( Bradley (F.H.) Appearance & Reality- A metaphysical Essay, Oxford, 1959, p.3.‬‬
‫[[[‪.Ibid, p.4 ( -‬‬

‫‪156‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫الخارجي الذي تعرفه؟ وقد ذهب الفالسفة املح َدثون إىل أ َّن دراسة هذه املشكلة‬ ‫ِّ‬ ‫باملوضوع‬
‫وشامل؛ إذ إ َّن علينا كام يقول كانط أن‬
‫ً‬ ‫فهم عميقًا‬
‫مسألة جوهريَّة حتى لدراسة الوجود نفسه وفهمه ً‬
‫الحقيقي لألشياء[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نفحص ملكة املعرفة قبل أن نبحث يف الوجود‬
‫ومن ث َّم تكون موضوعات امليتافيزيقا هي املوضوعات التي تشغل عقل اإلنسان وتبث فيه‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الخارجي وما يزخر به من موجودات‬


‫ِّ‬ ‫الحرية والتساؤل‪ ،‬فقد انشغل اإلنسان يف البداية بالعامل‬
‫ومخلوقات‪ ،‬وبعدما فرغ من تأ ُّمل هذه املوجودات وتلك املخلوقات التي ح َّركت فيه الشوق‬
‫وال َّرغبة إىل معرفة كنهها وما يكمن وراءها‪ ،‬أخذ يتأ َّمل ذاته وقدراته وملكاته املعرف َّية من حيث‬
‫قدرتها عىل الكشف عن أرسار هذا الكون وسرب أغواره‪ .‬ولذلك كانت موضوعات امليتافيزيقا‬
‫تتمثَّل يف املبحثني م ًعا؛ مبحث األنطولوجيا ومبحث املعرفة‪.‬‬
‫إل أ َّن هناك ِمن الفالسفة َمن اعرتض عىل هذا القول‪ ،‬ورأى ‪-‬عىل عكس أرسطو‪ -‬أنَّه ميكن‬ ‫َّ‬
‫جاعل منها مج َّرد دراسة لالفرتاضات السابقة ‪،Presuppositions‬‬ ‫ً‬ ‫قيام ميتافيزيقا «بال أنطولوجيا»‬
‫عىل اعتبار أ َّن اإلنسان عندما يعرب عن فكرة يف جملة مع َّينة‪ ،‬فإنه يجد يف رأسه أفكا ًرا أكرث من‬
‫تلك األفكار التي شملتها هذه الجملة املع َّينة‪ ،‬وهي أفكار ميكن أن يسبق بعضها بعضً ا‪ ،‬وإن‬
‫كان السبق هناك منطقيًّا ال زمانيًّا[[[‪ .‬كام يشري إمام عبد الفتاح إمام إىل نقطة‪ ،‬هي غاية األهميَّة‪،‬‬
‫وهي أ َّن مصطلح «األنطولوجيا» قد تغيَّ معناه يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬فلم يعد الوجود بصفة عا َّمة‬
‫يل ‪– Existence‬عند الفالسفة‬ ‫عىل نحو ما كان عليه عند أرسطو‪ ،‬بل أصبحت كلمة الوجود الفع ِّ‬
‫البرشي الفرد‪ .‬إذ ال‬
‫ِّ‬ ‫العيني الفريد ‪ Unique‬لشخص َّية املوجود‬
‫َّ‬ ‫أساسا الوجود‬ ‫ً‬ ‫الوجوديني‪ -‬تعني‬
‫ين‪ .‬أي وجود الذات البرشيَّة بني‬‫الخارجي إلَّ من منظور إنسا ّ‬
‫ِّ‬ ‫يهتم الفالسفة الوجوديون بالوجود‬
‫أول‪ ،‬وبني موجودات البيئة ثان ًيا‪ ،‬ثم يعكفون عىل دراسة خصائص الذات‬ ‫غريها من املوجودات ً‬
‫الهالمي االنبثاقي املتعايل الذي ينجذب‬
‫ِّ‬ ‫العيني عىل األصالة‪ ،‬كالطابع‬
‫ُّ‬ ‫البرشيَّة التي هي الوجود‬
‫وخاص َّية العلو‪ ،‬والحريَّة‪ ،‬والتف ُّرد‪ ،‬وارتباطه بذاته‪...‬إىل آخر هذه الخصائص‬
‫ّ‬ ‫نحو موجود آخر‪،‬‬
‫اإلنسانيَّة الخالصة[[[‪.‬‬
‫نخلص من هذا إىل أ َّن البحث يف امليتافيزيقا ال يقترص عىل موضوعات بعينها‪ ،‬لكنه يرتبط بتط ُّور‬
‫البرشي تن َّوعت املوضوعات التي تدرسها امليتافيزيقا‪ .‬فتتع ُّدد‬
‫ُّ‬ ‫البرشي‪ ،‬فكلَّام تط َّور الوعي‬
‫ِّ‬ ‫الوعي‬
‫يب‬
‫املوضوعات وتختلف من عرص إىل عرص‪ ،‬ومن ثقافة إىل أخرى‪ .‬فإذا انتقلنا إىل الفكر العر ِّ‬
‫املعارص وجدنا موضو ًعا جدي ًدا للميتافيزيقا؛ حيث ينعطف محمود حيدر بامليتافيزيقا منعطفًا‬

‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.33-32‬‬


‫‪[2]- (Collingwood(R.G.), An Essay on Metaphysics, The Clarendon Press, Oxford, 1969, p.21.‬‬
‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.34‬‬

‫‪157‬‬
‫المحور‬

‫يؤسس «علم املبدأ» أو «امليتافيزيقا البعديَّة»؛ ذاك العلم الذي يتغيَّا استكشاف‬ ‫جدي ًدا‪ ،‬عندما ِّ‬
‫املنيس واملغفول عنه من الوجود‪ ،‬فرياهن عىل اسرتجاع ما هو مفقو ٌد يف عامل امليتافيزيقا‪ ،‬ويتوق‬ ‫ِّ‬
‫للعثور عىل موجود أصيل عصف به النسيان[[[‪ .‬وهذا العلم‪ ،‬وإن بدا للقارئ أنَّه مفارق للميتافيزيقا‬
‫بكل معانيها؛ حيث إنَّه ينشد ‪ -‬يف املقام‬
‫التقليديَّة إلَّ إنَّه‪ -‬يف واقع األمر‪ -‬يقع يف صميم امليتافيزيقا ِّ‬
‫رس ظهوره‪ ،‬والكيفيَّة التي ظهرت منه الكرثة‪ ،‬ويعيد االعتبار‬‫األول ‪ -‬التع ُّرف عىل املوجود األول‪ ،‬و ِّ‬
‫لكالم متج ِّدد عن واحديَّة الوجود بني الخلق األول والكرثة الصادرة منه[[[‪ .‬ومن ث َّم فهو يقع ضمن‬
‫التقليدي ألقسام امليتافيزيقا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫القسم الرابع من أقسام امليتافيزيقا حسب الرتتيب‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬ميكن تقسيم امليتافيزيقا إىل أربعة أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬يتناول مبحث األنطولوجيا أو نظريَّة الوجود‪ ،‬تلك النظريَّة التي ظلَّت ً‬
‫قسم رئيس ًّيا‬
‫من أقسام امليتافيزيقا طوال العصور القدمية والوسطى؛ مسيح َّية وإسالم َّية‪ ،‬ث َّم تح َّولت يف العصور‬
‫والحق أ َّن هناك ارتباطًا رضوريًّا بني األنطولوجيا‬ ‫َّ‬ ‫الحديثة إىل دراسة اإلبستمولوجيا أو نظريَّة املعرفة‪.‬‬
‫واإلبستمولوجيا؛ ذلك أل َّن دراسة الخصائص العا َّمة للوجود تعني أيضً ا معرفتنا بهذه الخصائص‪ .‬وقد‬
‫املتعي الذي يشري إىل ذلك اللون من الوجود‬ ‫ّ‬ ‫أدخل الوجوديون إىل امليتافيزيقا مصطلح الوجود‬
‫أنطولوجي يشري إىل اإلنسان من زاوية وجوده‪ .‬بل‬ ‫ٌّ‬ ‫الذي يتمثَّل يف اإلنسان‪ ،‬فهو عندهم مصطلح‬
‫ش َّعب أصحاب الفلسفة الوجوديَّة كلمة «الوجود» الذي اشتقَّت اسمها منه إىل أنواع‪ ،‬وإن كانت كلّها‬
‫مثل‪ :‬الوجود يف العامل‪ ،‬والوجود مع اآلخرين‪ ،‬والوجود من‬ ‫البرشي‪ ،‬من ذلك ً‬‫ِّ‬ ‫تدور حول الوجود‬
‫أجل اآلخر‪ ،‬والوجود الواقعي‪ ،‬أي الجانب املعطى يف الوجود اإلنساين‪...‬إلخ[[[‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬ميثِّل السيكولوجيا العقليَّة‪ ،‬وهذا القسم يهت ُّم بدراسة النفس البرشيَّة‪ :‬هل هي‬
‫بسيطة أم مركَّبة؟ وهل هي نفس واحدة أم هناك أنفس ع َّدة؟ وما العالقة بني هذه األنفس إن وجدت؟‬
‫وما الفرق بني النفس والروح؟ وما هي العالقة بينهام وبني الجسد؟ وهل تفنى النفس بفناء البدن؟‬
‫أم تبقى النفس ويفنى البدن؟ أم يفنيان م ًعا؟ أم يبقيان م ًعا؟‬
‫القسم الثالث‪ :‬هو الكسمولوجيا أو الكون َّيات‪ ،‬واملوضوعات التي يشملها هذا القسم هي‬
‫العامل وظهور الكون والبنية التي يتألَّف منها‪ ،‬ثم ما طبيعة املكان؟ وما طبيعة الزمان؟ وكيف ظهرت‬
‫البدايات األوىل للحياة عىل ظهر األرض؟ وما الحياة؟ وهل هناك غاية أو هدف يف الكون ككل أم‬
‫أنه يسري بال هدف وال غاية؟‬
‫الطبيعي‪ ،‬وهو يناقش موضوع األلوه َّية‪ ،‬واألدلَّة‬
‫ِّ‬ ‫يل أو‬ ‫القسم الرابع‪ :‬ينظر يف َّ‬
‫اللهوت العق ِّ‬

‫[[[‪ -‬محمود حيدر‪ ،‬االشتياق إىل علم املبدأ‪ ،‬مجلة “علم املبدأ”‪ ،‬العدد األول التجريبي‪1443 ،‬ه‪2022/‬م‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.41‬‬

‫‪158‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫عىل وجود الله وصفاته‪ .‬فيتع َّرض للمواقف املختلفة من األلوهيَّة؛ سواء عند أصحاب مذهب‬
‫التأليه أو املؤلّهة ‪ Theism‬وهم الذين يؤمنون بوجود إله أو أكرث‪ ،‬أم عند أصحاب مذهب الطبيعيني‬
‫اإللهيني من الذين يؤمنون بوجود إله لك ّنهم يكفرون بالوحي وال ُّرسل والكتب املق َّدسة‪ ،‬أو عند‬
‫كل صورها‪ .‬كام تدخل مشكلة التجربة الدينيَّة‬ ‫أصحاب مذهب اإللحاد الذين ينكرون األلوهيَّة يف ِّ‬
‫إىل مجال هذا القسم‪ .‬وهنا قد يرى البعض أ َّن التص ُّوف يدخل يف إطار امليتافيزيقا لكني أرى‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫النفيس عن طريق اتصاله مبا يرى‬ ‫ِّ‬ ‫أ َّن التص ُّوف مغاير للميتافيزيقا؛ حيث يسعى املتص ِّوف للرضا‬
‫امليتافيزيقي للحقيقة العقليَّة املتَّسقة منطقيًّا‪ ،‬من دون أن تعني‬
‫ُّ‬ ‫أنَّه الحقيقة النهائيَّة‪ ،‬بينام يسعى‬
‫األسايس للتص ُّوف‬
‫َّ‬ ‫املغايرة هنا عدم وجود ارتباط وثيق بني امليتافيزيقا والتص ُّوف؛ حيث إ َّن الهدف‬
‫يف إىل األعامق وراء الظواهر الخارجيَّة بهدف الوصول إىل الحقائق الكامنة‬ ‫هو أن ينفذ الصو ُّ‬
‫خلفها‪ .‬وهو الهدف نفسه الذي ينشده امليتافيزيقي لكن دون أن يشك يف صدق العامل الظاهري‪،‬‬
‫حيث يتّخذه أحيانًا وسيلة ملعرفة حقيقة اليشء يف ذاته‪ ،‬وهنا ميكن الحديثة عن وشائج قرىب‬
‫حقيقيَّة بني التص ُّوف و”امليتافيزيقا البَعديَّة” أكرث بكثري عن تلك التي ميكن أن توجد بني التص ُّوف‬
‫“ وامليتافيزيقا القبليّة” ‪.‬‬
‫التقليدي للميتافيزيقا يف كتابه “نقد العقل‬
‫َّ‬ ‫والجدير بالذكر أ َّن كانط قد هاجم هذا التقسيم‬
‫الخالص”‪ ،‬ووصفه بأنَّه تقسيم يعبِّ عن ميتافيزيقا دجامطيق َّية أو قطع َّية تسلم مبوضوعاتها قبل أن‬
‫البرشي قادرة عىل معرفتها‬
‫ِّ‬ ‫تسأل نفسها هل يف استطاعتها أن تدرسها أم ال؟ وهل ملكات العقل‬
‫إل الظاهر وحده فحسب؟ وهذا ما يحيلنا إىل املوقف‬ ‫أم أ َّن هذه امللكات ال تستطيع أن تدرك َّ‬
‫الحقيقي للفالسفة من امليتافيزيقا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ -‬املوقف من امليت�افزييقا‪:‬‬
‫تباينت مواقف الفالسفة من معنى امليتافيزيقا وإمكانيَّة قيامها؛ فمنهم من بالغ يف قبولها ولقَّبها‬
‫مبلكة العلوم وقدس األقداس يف معبد الفكر‪ ،‬ومنهم من رفضها ونبذها وقال عنها إنَّها مج َّرد‬
‫لغو فارغ أو كالم خال من املعنى‪ .‬وسوف نقف يف هذا املبحث عىل رأي الفريقني‪ ،‬الرافضون‬
‫واملؤيّدون‪.‬‬
‫يز‬
‫للميتاف�يقا‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفريق الرافض‬
‫امليتافيزيقي من قديم الزمان موجة من النقد والسخرية وسوء الظ ّن‪ ،‬فضاق العا َّمة‬
‫ُّ‬ ‫أثار التفكري‬
‫وأنصاف املثقَّفني بامليتافيزيقا لفرط عجزهم عن فهم معانيها الدقيقة ومفهوماتها الوعرة العميقة[[[‪.‬‬
‫وسوف نعرض يف ما ييل ألشهر االتجاهات الفلسفة أو الفالسفة الذين رفضوا امليتافيزيقا عرب‬
‫تاريخ الفلسفة‪:‬‬
‫[[[‪ -‬توفيق الطويل‪ ،‬أسس الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العرب َّية‪ ،‬ط‪ ،1979 ،7‬ص‪.256‬‬

‫‪159‬‬
‫المحور‬

‫يف العصور القدمية تص َّدى السفسطائيون وأصحاب مذهب الشك لهدم امليتافيزيقا؛ حيث إ َّن‬
‫الحس فقط‪ ،‬فانتهوا من ذلك إىل القول بأ َّن الفكر ال يقع عىل يشء ثابت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املعرفة عندهم تقوم عىل‬
‫ومن ثم ميتنع اصدار األحكام الثابتة‪ ،‬ويبطل القول بوجود حقيقة مطلقة‪ ،‬فاإلنسان الفرد هو مقياس‬
‫كل يشء‪ ،‬وبذلك تتع َّدد الحقائق بتع ُّدد األفراد‪ ،‬وال ميكن أن تكون هناك حقيقة واحدة مطلقة‬ ‫ّ‬
‫يتَّفق عليها الجميع‪ .‬أ َّما عند أصحاب مذهب الشّ ِّك فالوجود كلُّه يف تغيُّ دائم وصريورة وحركة‬
‫وبكل‬
‫ِّ‬ ‫وبالحس‬
‫ِّ‬ ‫مستم َّرة‪ ،‬واإلنسان يفتقد أداة اإلدراك الصحيحة‪ ،‬حيث فقد الشكَّاك ثقتهم بالعقل‬
‫املتغية من دون الوقوف عىل حقائقها‬
‫ّ‬ ‫أدوات املعرفة‪ ،‬فهم ال يعرفون من األشياء سوى ظواهرها‬
‫وماهيَّتها‪ .‬وبنا ًء عىل هذا املوقف الشّ يكِّ‪ ،‬تم رفض الحقائق كلِّها وليست امليتافيزيقا فحسب‪.‬‬
‫العلني للتفكري امليتافيزيقي ‪ -‬الذي ارتضته الكنيسة تأيي ًدا‬
‫ِّ‬ ‫يف العصور الوسطى‪ ،‬كان توجيه النقد‬
‫يشك املؤ ِّرخون يف وجود حركات قويَّة خف َّية معادية‬ ‫للعقيدة املسيح َّية‪ -‬أم ًرا مح َّر ًما‪ ،‬ومع هذا ال ُّ‬
‫للتفكري امليتافيزيقي يف هذه العصور‪ ،‬وإن خيش أصحابها أن يعرف أمرهم فينالهم عذاب أليم! أ َّما‬
‫يف اإلسالم إبَّان العصور الوسطى‪ ،‬فقد ظهر من مفكِّري العرب من هاجم الفلسفة امليتافيزيقيَّة يف‬
‫غري رفق وال هوادة‪ ،‬وق َّوض األُ ُسس التي انبنت عليها من غري تر ُّدد أو رحمة[[[‪.‬‬
‫ويف العصور الحديثة يف أوروبا تص َّدى لنقد امليتافيزيقا وهدمها أصحاب الفلسفات الواقعيَّة‬
‫والحس َّية‪ ،‬ومن أنكروا االعرتاف بالعقل كأداة ملعرفة الحقيقة‪ ،‬ومن شكَّكوا يف قدرة العقل عىل‬ ‫ّ‬
‫حدوا بني معنى‬ ‫إدراك التجربة اإلنسان َّية الحية‪ ،‬ومن هؤالء أصحاب الفلسفة الرباغامت َّية الذين و َّ‬
‫الفكرة وآثارها العمل َّية يف حياة اإلنسان‪ ،‬وكذلك أصحاب النزعة العلمية املتط ِّرفة من أرباب‬
‫الطبيعي وحده‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫إل يف العلم‬
‫الفلسفة الوضعيَّة الذين اعتقدوا أ َّن الحقائق ال تكون َّ‬
‫ولو عدنا إىل عرص التنوير لوجدنا الفيلسوف الفرنيس داملبري ‪ )1783-D.Alembert (1717‬يرفض‬
‫يئ‪ ،‬مرتئيًا أ َّن امليتافيزيقيني‬
‫امليتافيزيقي ويساوي بينه وبني السوفسطا ّ‬
‫َّ‬ ‫امليتافيزيقا بإطالق‪ ،‬بل يزدري‬
‫قلَّام يحرتم بعضهم بعضً ا‪ .‬وقد اتفق معه فولتري ‪ )1778-Voltaire (1694‬يف نظرة االزدراء نفسها‪،‬‬
‫معبا عن ذلك بقوله ‪”:‬إذا رأيت اثنني يتناقشان يف موضوع ما‪ ،‬وال يفهم أحدهام اآلخر‪ ،‬فاعلم أنهام‬ ‫ًّ‬
‫كبريا من‬
‫الفلسفي عد ًدا ً‬
‫ِّ‬ ‫يتناقشان يف امليتافيزيقا” ‪ .‬هذا فضلً عن أنَّنا ميكن أن نجد يف معجمه‬
‫[[[‬

‫الخفي عليهم‪ .‬كام رأى ديفيد هيوم ‪D. Hume‬‬ ‫ّ‬ ‫كلامت التحقري واالزدراء للميتافيزيقيني‪ ،‬والتهكُّم‬
‫ين الذي‬ ‫علم باملعنى املفهوم‪ ،‬إنها تنبع من الجهد غري املثمر للغرور اإلنسا ِّ‬ ‫“أ َّن امليتافيزيقا ليست ً‬
‫يبحث يف موضوعات خارج نطاق الفهم‪ ،‬أو تنبع من عمل الخرافات التي ال تقوى عىل الدفاع عن‬
‫نفسها عىل أرض صلبة‪ ،‬وبالتايل تأيت بهذه املغالطات أو األوهام لتدافع عن ضعفها‪ .‬ويبدو أ َّن هذه‬

‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.257‬‬


‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.28‬‬

‫‪160‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫املغالطات قد ت َّم قبولها منذ فرتة طويلة عىل أنها حقائق‪ ،‬وعلينا اآلن أن ندعو إىل مناقشتها”[[[‪.‬‬
‫كل يشء وراء املعرفة‬ ‫يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬رفضت الفلسفة الوضع َّية امليتافيزيقا‪ ،‬ورأت أ َّن ّ‬
‫يل الصحيح إنَّ ا‬
‫البرشي أن يدركه؛ أل َّن مجال التفكري العق ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الوضع َّية التجريب َية ليس يف مقدور العقل‬
‫هو الحقائق وقوانينها والظواهر والعالقات الثابتة التي تربط بعضها بالبعض اآلخر[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫كام رفضتها الفلسفة الرباغامت َّية ورأى وليم جميس ‪ )1910-W.Games (1832‬أحد كبار‬
‫امليتافيزيقي أشبه باألعمى‪ ،‬الذي يبحث يف حجرة مظلمة‪ ،‬عن قطة‬‫َّ‬ ‫فالسفتها‪« :‬أ َّن الفيلسوف‬
‫سوداء‪ ،‬ال وجود لها»‪ ،‬وواضح من هذه العبارة املغاالة يف االزدراء‪ ،‬فاألعمى تتساوى أمامه الحجرة‬
‫املظلمة أو املنرية‪ ،‬وكذلك القطة السوداء أو البيضاء‪ ،‬التي هي يف النهاية ال وجود لها‪ ،‬لكن‬
‫امليتافيزيقي بصفة عا َّمة[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والل جدوى من التفكري‬
‫املقصود إبراز العبث َّية َّ‬
‫‪ .2‬الفريق ّ‬
‫املؤيد للميت�افزييقا‪:‬‬
‫الطبيعي أن نبدأ بأول الفالسفة يف تاريخ الفلسفة‬
‫ِّ‬ ‫إذا أردنا أن نقف عىل مؤيّدي امليتافيزيقا فمن‬
‫وهو طاليس ‪ Thales‬ألنَّه أول من تساءل عن األصل الذي صدرت عنه األشياء جمي ًعا‪ ،‬وكأنَّه‬
‫حس َّية ليغوص تحتها بحثًا عن‬ ‫بذلك قد طرح جان ًبا الظواهر املاديَّة وما ميكن أن ندركه من أشياء ّ‬
‫أساسا‪ .‬وقد تابعه يف‬‫ً‬ ‫الحس َّية‪ ،‬وقال بنظرة تقوم عىل العقل‬
‫ّ‬ ‫مصدرها‪ ،‬فارتفع بذلك عن املشاهدة‬
‫هذا املنهج تالمذته من الفالسفة الطبيعيني األوائل‪ :‬أنكسيمندر وأنكسمينس‪ .‬لكنهم وقعوا جمي ًعا‬
‫يف مأزق بسبب تص ُّورهم للحقيقة النهائ َّية أو للام َّدة األوىل الذي صدر عنها العامل‪ ،‬فكيف تصدر‬
‫عن هذه املا َّدة جميع األشياء وتكون سابقة يف وجودها عىل وجود األشياء املحسوسة[[[‪.‬‬
‫كام يع ُّد بارمنيدس ‪ Parmenides‬اإلييل من أكرب الفالسفة تح ُّم ًسا للميتافيزيقا؛ حيث فصل بني‬
‫الحقيقي كامن خلف هذا الظاهر‪ ،‬وال يُعرف‬
‫َّ‬ ‫الحقيقي والوجود الزائف؛ ورأى أ َّن الوجود‬
‫ِّ‬ ‫الوجود‬
‫حقيقي للميتافيزيقا مبعناها‬
‫ٍّ‬ ‫للحواس أن تعرفه‪ .‬ليكون ذلك أول تص ُّور‬
‫ِّ‬ ‫إل بالعقل وحده‪ ،‬وال ميكن‬ ‫َّ‬
‫املعارص‪ .‬وهو املعنى نفسه الذي نجده عند أفالطون الذي كان يعتقد أ َّن عامل الحس هو عامل‬
‫التغري‪ ،‬ولهذا فهو غري حقيقي؛ أل َّن الحقيقة أبدية ساكنة ال تتغري‪ ،‬كام ذهب إىل ذلك بارمنيدس‪.‬‬
‫الحواس التي تعطينا عامل الظاهر أو عامل التغيُّ ‪ ،‬بل يصل‬
‫ِّ‬ ‫ومعنى ذلك أ َّن املعرفة ال تستم ُّد من‬
‫إليها العقل وحده الذي يستطيع أن يقودنا إىل عامل امل ُثل‪.‬‬
‫أ َّما أرسطو فهو الذي جعل من الفلسفة األوىل التي يجب أن يتعلَّمها من يروم الوصول إىل‬

‫[[[‪ -‬سامية عبدالرحمن‪ ،‬امليتافيزيقا بني التأييد والرفض‪ ،‬ص‪.35‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.27‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.100‬‬

‫‪161‬‬
‫المحور‬

‫الحقيقي لهذا الكون‪ ،‬وأطلق عليها «الحكمة»‪ ،‬وأ َّن الشخص الذي يعمل‬ ‫ِّ‬ ‫السبب األول أو املوجد‬
‫الحواس ال ميكنها‬
‫َّ‬ ‫بهذا العلم هو الحكيم‪ .‬أ َّما أفلوطني فقد ف َّرق بني عامل الظاهر وعامل الحقيقة‪ ،‬وأ َّن‬
‫الحقيقي؛ أل َّن املعرفة الحقيقيَّة هي معرفة «الواحد» الذي نصعد إليه يف حركة أقرب‬ ‫َّ‬ ‫أن تدرك العامل‬
‫يل‪ .‬وعىل هذا النهج املؤيِّد للميتافيزيقا سار‬ ‫إىل التص ُّوف‪ ،‬ونهبط منه إىل األشياء بواسطة التدليل العق ّ‬
‫فالسفة العصور الوسطى املشهورون سواء من فالسفة املسيحيَّة أم فالسفة اإلسالم‪.‬‬
‫فقد جعل الكندي(‪ )865-801‬من امليتافيزيقا أو الفلسفة األوىل أرشف العلوم وأعالها مرتبة؛‬
‫حق‪ .‬ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التا ُّم‬ ‫كل ّ‬ ‫الحق األول الذي هو علَّة ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ألنَّها ت ُعنى مبعرفة‬
‫األرشف هو املرء املحيط بهذا العلم األرشف؛ ألنه بذلك يصل إىل الحكمة العليا كام كان يقول‬
‫أرسطو‪ .‬وعىل درب الكندي سار الفارايب(‪ )950-870‬الذي نظر إىل امليتافيزيقا عىل أنَّها «دراسة‬
‫فكل موجود إما واجب الوجود‪ ،‬أو ممكن الوجود‪ .‬ثم‬ ‫للوجود مبا هو وجود»‪ ،‬والوجود نوعان‪ُّ ،‬‬
‫ف َّرق بني واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغريه ‪....‬إلخ‪ .‬وعىل الدرب ذاته سار ابن سينا‬
‫اإللهي الذي يبحث يف الوجود‬‫َّ‬ ‫(‪ )1037-980‬يف رؤيته للميتافيزيقا؛ حيث رآها العلم األول أو العلم‬
‫املطلق وأحواله ولواحقه ومبادئه‪.‬‬
‫ين إميانويل كانط ‪-I. Kant (1724‬‬ ‫فإذا ما وصلنا إىل العصور الحديثة نجد الفيلسوف األملا َّ‬
‫الحق والدائم للجنس‬ ‫َّ‬ ‫رصح بأهم َّية امليتافيزيقا فيقول‪“ :‬إنَّني مقتنع متا ًما بأ َّن الوجود‬
‫‪ )1804‬ي ِّ‬
‫إل بها”[[[‪ .‬ومن ث َّم استهدف إصالحها وإحياءها والنهوض‬ ‫إل عليها وال يكون َّ‬ ‫البرشي ال يقوم َّ‬
‫ِّ‬
‫بها من عرثتها ليك تلحق بركب العلوم الرياض َّية والطبيع َّية‪ .‬ومن ث َّم أصبح إصالح امليتافيزيقا هو‬
‫الهدف األسمى لفلسفة كانط [[[ ملا تحتله عنده من مكانة رفيعة؛ حيث يصفها أحيانًا بأنَّها « ملكة‬
‫العلوم» وأنَّها « الطفل املدلل»‪ ،‬وكام أ َّن اإلنسان ال يستطيع أن يحيا بال تنفُّس‪ ،‬فهو ال يقوى عىل‬
‫يتخل عن امليتافيزيقا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أن‬
‫أ َّما هيغل ‪ )1831-Hegel (1770‬فريى أ َّن امليتافيزيقا “قدس األقداس” يف معبد الفكر؛ إذ‬
‫الحس املشرتك الساذج‪ ،‬جنبًا إىل جنب يف هدم امليتافيزيقا‪ ،‬وهو‬
‫ِّ‬ ‫يقول‪“ :‬لقد تعاونت الفلسفة مع‬
‫مشهد أشبه ما يكون مبنظر املعبد الضخم الذي ُزيّنت جميع جوانبه بزينات فخمة‪ ،‬لكنه فقد قدس‬
‫أقداسه”[[[‪.‬‬
‫وذهب براديل إىل أ َّن الدافع إىل امليتافيزيقا موجود يف قلب الطبيعة البرشيَّة نفسها‪ ،‬حيث‬
‫شامل[[[‪ .‬وهذا الدافع هو الذي‬
‫ً‬ ‫فهم‬
‫الحقيقي من حولنا ً‬
‫ِّ‬ ‫يتمثَّل يف رغبتنا العارمة يف فهم العامل‬

‫[[[‪ -‬محمود رجب ‪ ،‬امليتافيزيقا عند الفالسفة املعارصين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،1987 ،‬ص‪.13‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬نقلً عن إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫[[[‪.Bradley (F.H.) Appearance & Reality- A metaphysical Essay, p.3 ( -‬‬

‫‪162‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫الحقيقي الذي يكمن خلف عامل‬


‫ِّ‬ ‫يدفعنا لتجاوز عامل الظاهر للنفاذ إىل عامل الباطن أو العامل‬
‫الظواهر الذي يحمل قرشة الحقيقة‪.‬‬
‫ميتافيزيقي”!‬
‫ّ‬ ‫كذلك وصف شوبنهاور ‪ )1860-Schopenhauer (1788‬اإلنسان بأنه “حيوان‬
‫إل‬
‫فامليتافيزيقا واالنشغال بقضاياها هي التي مت ّيزه عن غريه من الكائنات الح َّية‪ ،‬فال ميكن تخ ُّيله َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫منشغل بالقضايا امليتافيزيق َّية‪.‬‬


‫ً‬
‫وكان العلم املعارص ‪ -‬عىل خالف ما قد يظ ُّن الكثريون ‪ -‬من أه ِّم املؤيّدين للميتافيزيقا؛ حيث‬
‫إ َّن العلم ‪ -‬أيضً ا ‪ -‬يخلق مشكالت من النوع نفسه الذي تخلقه خربتنا اليوم َّية‪ ،‬والتي تتَّسم بسمة‬
‫مم يجعلنا نقف يف الحال يف قلب امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫أساس َّية هي إبراز التناقض بني الظاهر والحقيقة َّ‬
‫والغريب أ َّن العلم ‪ -‬رغم تق ُّدمه الهائل يف القرون الثالثة املاضية ‪ -‬مل يتمكَّن من إزالة هذا التناقض‬
‫أو حتى التخفيف منه‪ ،‬بل عىل العكس فهو كلَّام تق َّدم زاد من ح َّدة التقابل بني الجانب الذي يبدو‬
‫الخفي الذي يكشفه لنا العلامء يو ًما بعد يوم‪ ،‬بحيث يتع َّمق‬ ‫ِّ‬ ‫أمامنا من أشياء العامل‪ ،‬والجانب‬
‫التناقض بني ما يظهر يف حياتنا اليوم َّية املألوفة وما يكشف عنه العلم من حقائق[[[‪.‬‬
‫إل إنهم‬‫كل األجهزة الدقيقة التي يستخدمها العلامء لفحص ظواهر الكون من حولنا َّ‬ ‫فرغم ِّ‬
‫ينتهون دامئًا إىل نتيجة فحواها أنَّنا نجهل حقيقة األشياء‪ ،‬وال نعلم منها سوى ظاهرها فحسب‪،‬‬
‫توصل إليها علامء الكوانتم وبعض علامء النسبيَّة‪ .‬وقد بنوا هذه النتيجة‬‫وتلك هي النتيجة التي َّ‬
‫عىل أساس أ َّن العامل الذي يدرسه العلامء ويكشفون عن أرساره ويصوغون قوانينه‪ ،‬ال يتطابق مع‬
‫يستقل عن إدراكنا له‪ .‬فالعلامء يدرسون مجموعة من‬
‫ُّ‬ ‫الخارجي الذي نشاهده‪ ،‬والذي‬
‫ِّ‬ ‫املادي‬
‫ِّ‬ ‫العامل‬
‫الصيغ والرموز واملعادالت الرياضيَّة التي استم َّدها العلامء السابقون من الطبيعة حسب تص ُّورات‬
‫أي لحظة ‪ -‬فقر هذه العيّنات وعدم‬ ‫علميَّة مأخوذة من عيّنات من الطبيعة قد يكشف آخرون ‪ -‬يف ِّ‬
‫تعبريها عن حقيقة الكون‪.‬‬
‫هكذا يدرس العلامء العامل كام يبدو لهم‪ ،‬ال كام هو يف حقيقته‪ ،‬ودامئا ما يستنتجون أ َّن وراء‬
‫كل يشء‪ .‬وهكذا يقعون يف نظرة‬ ‫هذا العامل الذي ندرسه ونحاول التع ُّرف عليه عامل ًا آخر نجهل عنه َّ‬
‫الفرنيس املعارص غاستون باشالر ‪G.‬‬ ‫ُّ‬ ‫مثال َّية ميتافيزيق َّية ال تخفى‪ .‬وبنا ًء عىل ذلك‪ ،‬ناشد الفيلسوف‬
‫قائل‪“ :‬ال تعطونا تجربة املساء‪ ،‬بل عقالن َّية الصباح‪ ،‬أعطونا‬ ‫‪ )1962-Bachelard (1884‬العلامء ً‬
‫حمية وحرارة مرشوعاتكم وحدوسكم التي ال تبوحون بها ألحد”[[[‪ .‬وهكذا يؤيّد العلم املعارص‬
‫العلمي ويف عقولهم مئات‬ ‫ِّ‬ ‫ريا ما يخرج العلامء من ميدان بحثهم‬ ‫وجود امليتافيزيقا وأهم َّيتها فكث ً‬
‫األسئلة امليتافيزيق َّية فيتَّخذ كثري منهم مواقف فلسف َّية بل أحيانًا مواقف ميتافيزيق َّية خالصة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ ،‬ص‪.89‬‬


‫[[[‪ -‬نقلً عن املرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬

‫‪163‬‬
‫المحور‬

‫الب َّ‬
‫بلية إىل امليت�افزييقا َ‬ ‫َ‬
‫الق َّ‬ ‫ً‬
‫عدية‪:‬‬ ‫رابعا‪ :‬من امليت�افزييقا‬
‫كان من أكرث ما لفت االنتباه ناحية «امليتافيزيقا القبليَّة» أنَّها ميَّزت بني الظاهرة (الفينومني)‬
‫واليشء يف ذاته (النومني)‪ ،‬وراحت تبحث يف الظاهرة محاولة الوصول إىل اليشء يف ذاته‪ ،‬حتى‬
‫أصابها الوهن والتعب من دون أن تصل إىل هدفها األسمى وغايتها القصوى‪ .‬ومن ثم تك َّون وتبلور‬
‫الفريق الرافض لها‪ ،‬واملشكِّك يف جدواها‪ .‬يف حني أ َّن (اليشء يف ذاته) أم ٌر له أهميَّته القصوى‬
‫كل عاقل؛ حيث ال يتخيَّل هذا العاقل نفسه من دون العيش معه متش ِّوقًا‬ ‫يف نفس وقلب ووجدان ِّ‬
‫الوصول إليه واالتصال به والفناء فيه‪ ،‬وفيه تتحقَّق الغبطة القصوى والسعادة العظمى‪ .‬من هنا‪ ،‬كان‬
‫امليتافزيقي فال مجال‬
‫ِّ‬ ‫الحي‬
‫ِّ‬ ‫الفريق الداعم لها املؤكِّد عىل أهميَّتها لدرجة وصف اإلنسان بالكائن‬
‫توسط بني الفريقني‬ ‫إلنسانيَّته من دون امليتافيزيقا‪ .‬وهنا كانت املعضلة التي حاول الفريق الذي ِّ‬
‫مم أفقدها رشفها الذي ال يُداين‪ ،‬وجعلها تبدو عاجزة عن‬ ‫محاولً إصالح امليتافيزيقا للتخلُّص َّ‬
‫إدراك مراميها الرشيفة‪.‬‬
‫للوقوف عىل األسباب الحقيق َّية التي جعلت «امليتافيزيقا القبل َّية» تبدو هكذا هو أُنسها املتامدي‬
‫بسحر املفاهيم؛ حتى أخلدت لدنيا الطبيعة ودارت مدارها‪ ،‬ومل تكن يف مجمل أحوالها ومشاغلها‬
‫يئ‪ .‬فكام يرى محمود حيدر أ َّن «امليتافيزيقا القبل َّية»‬‫سوى مكوث مديد عىل ضفاف الكون املر ّ‬
‫قد انسحرت بالبادي األول حتى أرشكته ُمبدي ِه وبارئه‪ ،‬ثم راحت تخلع عليه ما ال حرص له من‬
‫ظنون األسامء‪ :‬املح ِّرك األول غري املتح ِّرك‪« ،‬النومني أو اليشء يف ذاته»‪« ،‬العلَّة األوىل» و«املا َّدة‬
‫ريا وليس آخ ًرا» القديم واألزيل»‪ ..‬وجريًا عىل هذه الحكاية ستنتهي إىل‬ ‫األوىل أو الهيوىل»‪ ،‬وأخ ً‬
‫نعته باملوجود الذي أوجد ذاته بذاته من عدم‪ ،‬وملا أن ُوجد مل يكن له من حاجة إىل تلقي الرعاية‬
‫مكتف بذاته‪ ،‬ناشط من تلقاء ذاته‪ ،‬ومرتوك ألمر ذاته[[[‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫من سواه‪ .‬هو بحسب «ميتافيزيقاهم» كائن‬
‫كذلك فقدت «امليتافيزيقا القبليَّة» طاقتها وغرقت يف معاثرها من خالل محاوالتها الدءوبة‬
‫لإلجابة عن األسئلة التقليديَّة من قبيل‪ :‬ما هو املوجود األول؟ وكيف صدرت الكرثة عن الواحد؟‬
‫وهل صدرت املوجودات عن الله مبارشة أم بواسطة وسبب؟ وهل أوجد الله األشياء باألسباب أم‬
‫عند األسباب؟‬
‫يف هذا اإلطار يرى محمود حيدر «أ َّن امليتافيزيقا القبل َّية مل تستطع أن تفارق معضلتها وهي تتغ َّيا‬
‫االستفهام عن مبادئ الوجود األوىل‪ .‬يظهر ذلك رغم االنعطافات التي شهدت مشاغلها الكربى‬
‫لعرشات القرون‪ ،‬حتى الفلسفة الحديثة‪ -‬وهي يف ذروة دهشتها بذاتها‪ -‬مل تربح هذه املعضلة املوروثة‬
‫عن أسالفها»[[[‪ .‬وانتهت إىل القول بأنَّنا نعرف» الظاهرات» ولكننا نعجز عج ًزا تا ًّما عن معرفة «األشياء‬

‫[[[‪ -‬محمود حيدر‪ ،‬االشتياق إىل علم املبدأ‪ ،‬ص‪.14‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫يف ذاتها»‪ ،‬فعامل «األشياء يف ذاتها» عند كانط نضط ُّر إىل تعقّله موجو ًدا وإن مل نكن نستطيع أن نصفه‬
‫إل «تص ُّور سلبي»‪ :‬إ َّن مثل هذا التص ُّور‬
‫بصفات إيجابيَّة‪ :‬ألنَّه ليس لدينا وال ميكن أن يكون لدينا عنه َّ‬
‫كل أمل يف الوصول إىل‬ ‫السلبي لألشياء يف ذاتها ال ينطوي عىل تناقض‪ ،‬وإمنا ينفع يف القضاء عىل ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يل املضنون به عىل الذهن اإلنساين‪ .‬إننا إذن ال نستطيع أن نطبِّق عىل «النومني» مقوالت‬ ‫الحدس العق ِّ‬
‫الحس ‪.‬‬
‫[[[‬
‫ّّ‬ ‫املوضوعي خارج الحدس‬ ‫ين‪ ،‬أل َّن املقوالت تفقد معناها‬‫الفهم اإلنسا ِّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫َّ‬
‫هكذا تنتهي «امليتافيزيقا القبل َّية» إىل استحالة إدراك «النومني» أو الجوهر املنفرد بذاته‪ .‬ومل‬
‫تفلح يف مجاوزة املعضلة الكربى املتمثّلة بالقطيعة األنطولوج َّية بني الله والعامل‪ .‬فعندما تص َّدى‬
‫اإلنسان ‪ -‬وفقًا مليتافيزيقاه القبل َّية ‪ -‬ملقولة الوجود بذاته أخفق يف إدراك حقيقته وسرب أغواره؛‬
‫وظل املوجود األول يف هندسة‬ ‫الحس َّية‪َّ .‬‬
‫ّ‬ ‫املنطقي والتجربة‬
‫ِّ‬ ‫فأعرض عنها واطأم َّن إىل االستدالل‬
‫العقل املق َّيد باملقوالت العرش لغ ًزا يدور مدار الظ ِّن ومل يبلغ اليقني‪ .‬وبسبب من قيديَّته رست‬
‫الشك سيد التفلسف منذ اليونان إىل ما بعد الحداثة‪ .‬ومن ث َّم‬ ‫ُّ‬ ‫ظنونه إىل سائر املوجودات ليصري‬
‫يب يف إحداث مسرية حضاريَّة مظفَّرة نحو النور والسعادة[[[‪.‬‬ ‫أخفق العقل الغر ُّ‬
‫يب يف محيط‬ ‫بنا ًء عليه‪ ،‬ميكننا القول أ َّن «امليتافيزيقا القبل َّية» يف الحقيقة أغرقت العقل الغر َّ‬
‫جوهري‪ .‬والنظَّار الذين قالوا بهذا ال‬
‫ّ‬ ‫الحس ومضامر التقن َّيات الحديثة‪ ،‬فنيس ما هو‬ ‫ّ ِّ‬ ‫العامل‬
‫يحرصون أحكامهم بتاريخ الحداثة‪ ،‬بل يرجعونها إىل مؤث ِّرات اإلغريق حيث ولدت اإلرهاصات‬
‫األوىل لتأ ُّوالت العقل األدىن؛ حيث كان أفالطون عىل عل ٍّو مثله‪ ،‬مركز الجاذب َّية يف هذه التأوالت؛‬
‫إذ إنَّه مال إىل معاينة موجودات العامل ضمن معايري عقل َّية صارمة من أجل أن يحكم من خاللها‬
‫عىل صدق القضايا أو بطالنها‪ .‬وجاء أرسطو من بعده لينشئ نظا ًما منطق ًّيا للتفكري‪ ،‬ترثه الفلسفات‬
‫حكم ال ينازعه منازع يف فهم الوجود وحقائقه املسترتة[[[‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اللحقة‪ ،‬لتصبح العقل َّية العلم َّية معها‬
‫َّ‬
‫ومن ث َّم كانت رضورة االنتقال من «امليتافيزيقا القبليَّة» إىل «امليتافيزيقا البعديَّة» لتجاوز هذا‬
‫يف مل َّا ألزمت نفسها بالتوقُّف عند‬
‫أسست لالنشطار املعر ِّ‬ ‫يف؛ فامليتافيزيقا البعديَّة قد َّ‬
‫القصور املعر ِّ‬
‫تخوم االستفهام القلق عن «الوجود بذاته» و«الوجود بغريه»‪ ،‬فعاد الظأم القديم إىل عرفان «املطلق»‬
‫يقض مضجعه ويشقيه‪ ،‬فكان لزا ًما‬ ‫ُّ‬ ‫أو «اليشء يف ذاته» واالتصال به يعذب اإلنسان ويضنيه‪ ،‬بل‬
‫عليه أن يبحث عن وسيلة لالنتهال واالسرتواء فكانت «امليتافيزيقا البعديَّة» هي سبيله املنشود‪.‬‬
‫اتخذت «امليتافيزيقا البعديَّة» مسارها املفارق عرب فضاء الحكمة العرفان َّية وكشوفاتها املعرف َّية‬
‫لتنتقل بالعقل إىل الضفة األخرى من نهر الوجود بهدف استكناه رسه املضمر‪ ،‬واالنفتاح عىل آفاقه‬

‫[[[‪ -‬عثامن أمني‪ ،‬رواد املثالية يف الفلسفة الغرب َّية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪ ،2000 ،‬ص‪.95‬‬
‫[[[‪ -‬محمود حيدر‪ ،‬االشتياق إىل علم املبدأ‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫المحور‬

‫اللمتناهية[[[‪ .‬وقد أصبحت طريقًا مغاي ًرا عن طريق أنطولوجيا الفلسفة الكالسيكيَّة؛ حيث إ َّن األخرية‬ ‫َّ‬
‫هذه قرصت مه َّمتها عىل البحث يف ظواهر الوجود‪ ،‬والعقل فيها قارص عن مجاوزة دنيا املقوالت‬
‫الحس‪ .‬أ َّما األوىل (امليتافيزيقا البعديَّة)‬‫ّ‬ ‫العرش وأحكامها‪ ،‬وأنه ال يتيرس له إدراك ما وراء عامل‬
‫فإنها تتجاوز معرفة «امليتافيزيقا القبليَّة» إىل ما هو أبعد؛ حيث يُفرتض لها أن تطلق املنفسح الذي‬
‫األريض‪ ،‬والعقل املمت ُّد الذي نعنيه هو العقل الناشط يف ترقّيه إىل‬ ‫ّ‬ ‫يتم َّدد فيه العقل خارج محبسه‬
‫ما فوق أطواره املألوفة‪ ،‬أي أنَّه يتجاوز مشاغل العقل املقيد من دون أن ينفصل عنه‪ .‬ووظيفته‬
‫هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تن ُّزلها عليه من عامل القدس[[[‪ .‬إذن يف «امليتافيزيقا البعديَّة» تتآزر‬
‫النظري وحدوساته؛ فالعارف فيها يسائل‬ ‫ِّ‬ ‫إلهامات التجربة الشهوديَّة وكشوفاتها مع تساؤالت العقل‬
‫إل أل َّن سؤاله أو تساؤله يبقى‬ ‫الغيب والواقع من دون أن تشوب استفهامه شائبة تناقض‪ .‬وما ذلك َّ‬
‫ين بهذه السمة املفارقة يكتسب سمة‬ ‫عىل وصل وثيق بالدائرتني الغيبيَّة والواقعيّة‪ .‬فالسؤال العرفا ُّ‬
‫الشمول‪ ،‬ليكون استفها ًما عن الوجود واملوجود‪ ،‬ويتطلَّع إىل بلوغ الدرجة القصوى من االستفهام‬
‫عن واجب الوجود األتم[[[‪.‬‬
‫تتأسس «امليتافيزيقا البعديَّة» عىل ركنني متالزمني ال انفصال يف وحدتهام‪ :‬ركن االعتقاد‬ ‫َّ‬
‫بالغيب‪ ،‬وركن التعامل مع الواقع بالحكمة واإلحسان‪ .‬ومبقتىض هذين الركنني‪ ،‬نرى أننا بإزاء‬
‫التاريخي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإللهي والواقع‬
‫ِّ‬ ‫وصلٍ وطيد بني الواقع والحقيقة الدين َّية‪ ،‬ومبعنى أعمق بني االعتناء‬
‫املؤسس عىل الرصاط‪ ،‬والوحي الذي‬ ‫ِّ‬ ‫البرشي‬
‫ِّ‬ ‫الخلق بني الفعل‬
‫َّ‬ ‫وكل ذلك ضمن جدل َّية التفاعل‬
‫ينفك عنه طرفة عني‪ .‬مع هذين – الوصل والتفاعل‪ -‬ال يعود عامل الشهادة منقط ًعا‬ ‫يؤيّده ويهديه ال ُّ‬
‫اإللهي مج َّرد مفهوم سار يف فضاء االحتامالت‪ ،‬بل هو أم ٌر‬
‫ُّ‬ ‫عن عامل الغيب‪ ،‬كذلك ال يعود العدل‬
‫مقيض ومقدر يفصح عن جمع وثيق بني إرادة الغيب وقوانني التاريخ يف اآلن عينه[[[‪.‬‬
‫وعىل هذا تشرتط «امليتافيزيقا البعديَّة» تضافر العقل والقلب‪ ،‬فالعالقة بني العقل والقلب‬
‫كالعالقة بني العني والنفس‪ ،‬وأ َّن العقل بالنسبة إىل القلب مبنزلة العني بالنسبة إىل النفس؛ أل َّن‬
‫النفس ترى وتبرص بواسطة العني‪ ،‬فهام يف الواقع يعرتفان بهذه الحقيقة؛ وهي أ َّن القلب إمنا يشاهد‬
‫بعني العقل وبوساطته‪ ،‬وأ َّن العقل‪ ،‬ويف ذات الوقت‪ ،‬الذي يتمتَّع بالقابل َّية عىل االستدالل‪ ،‬يتمتَّع‬
‫بقابل َّية املشاهدة والكشف أيضً ا‪ .‬فإذا تن َّور العقل بنور القدس وات َّحد بالقلب‪ ،‬وحصلت البصرية يف‬
‫جر املعرفة اللدن َّية من الله‪ ،‬وت ُفاض املعارف‬ ‫القلب‪ ،‬وصار العقل يرى بواسطة القلب‪ ،‬عندها تتف َّ‬
‫والحقائق اإللهية عىل قلب السالك‪ ،‬فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله م ًعا لجهة االتحاد والوحدة‬
‫كل بحسب سعته ومرتبته الوجوديَّة؛ أل َّن املعرفة العقل َّية مهام ترقَّت يف‬ ‫الحاصلة بينهام‪ ،‬ولكن ٌ‬

‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.16‬‬


‫[[[‪ -‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫[[[‪ -‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬

‫‪166‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫مراتب الكشف‪ ،‬فإنها تبقى محدودة إذا ما قيست بحدود املعرفة القلبيَّة وسعتها واملقام األسمى‬
‫الذي ميكن أن تصل إليه[[[‪.‬‬
‫معنى ذلك أ َّن «امليتافيزيقا البعديَّة» ال تقنع مبا تقف عنده العلوم العقل َّية وما يوفِّره العقل الكامل‬
‫بعد ج ِّده واجتهاده؛ ألنَّها ترى أ َّن هناك معارف تفوق قدرة العقل وليست يف متناوله وال طاقته‪ .‬إذ هي‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ين‪ .‬ومنها‪ -‬أيضً ا‪ -‬ما أىت عن طريق‬ ‫ين‪ ،‬ونفث روحا ّ‬‫إلهي‪ ،‬وإلقاء ربا ٌّ‬
‫م َّنة الوهاب العليم فهي إمالء ٌّ‬
‫ين املوروث عن أحد األنبياء يضمن لصاحبه صحة جميع ما‬ ‫نبي عليم‪ .‬فهذا العلم الَّلد ُّ‬
‫رسول كريم أو ٍّ‬
‫ين كعلم الوحي‬ ‫يُلقى إليه‪ ،‬كام يضمن له اإلحاطة مبعارف كثرية جديرة بصدورها عن الفيض الصمدا ِّ‬
‫ورضوبه‪ ،‬وعلم السامع‪ ،‬وعلم الربزخ‪ ،‬وعلم الجربوت‪ ،‬وعلم الهدى‪ ،‬وعلم العظمة اإلله َّية إىل ماذا‬
‫ترجع؟ وأين تظهر؟ ومن هو املوصوف بها؟ وملن هي نسبة؟ وملن هي صفة؟ وعلم التنزيه وعىل‬
‫يل؟‬
‫من يعود؟ وعلم الحرضة التي أطلق الله منها ألسنة عباده عىل نفسه مبا ال يليق به يف الدليل العق ّ‬
‫إلهي يستند إليه يف ذلك أو ال؟ وعلم الظ ِّن وحكمه‪ ،‬واملحمود منه واملذموم‪ ،‬وما‬ ‫وهل لذلك وجه ٌّ‬
‫متعلَّقه؟ وعلم اإلميان‪ ،‬وعلم ما ينبغي أن يُسند إليه مام ال يسند‪ ،‬وما صفته؟ وما يجوز من ذلك وما‬
‫ال يجوز‪ ،‬وعلم مراتب الكواكب‪ ،‬وعلم منازل الروحانيني من السامء‪ ،‬وعلم أحوال الخلق‪ ،‬وعلم‬
‫الحق من علم الغيب من دون خلقه‪،‬‬ ‫الص ّديقني‪ ،‬وعلم القيام بأمر الله‪ ،‬وعلم مراتب الغيب وما انفرد به ُّ‬
‫حق العامل أو ال؟ وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫وما ميكن أن يعلم من الغيب‪ ،‬وهل العلم به يزيل عنه اسم الغيب يف ِّ‬
‫«عامل الغيب» إىل ماذا يرجع إطالق الغيب؟ وهل لكونه غي ًبا عنا أو غي ًبا يف نفسه من حيث مل يصفه‬
‫بتعلق الرؤية فيكون شهادة‪ .‬وعلم العصمة‪ ،‬وعلم تعلُّق العلم مبا ال يتناهى‪ ،‬هل يتعلَّق به عىل جهة‬
‫اإلحاطة أو ال؟ وعلم قول النبي صىل الله عليه وسلم يف األسامء الحسنى‪ :‬من أحصاها دخل الج َّنة‪.‬‬
‫وما معنى االحصاء؟ وإىل ماذا يرجع؟ وهل يدخل تحت اإلحاطة أو ال يدخل؟ وما الفرق بني اإلحاطة‬
‫واإلحصاء؟ فإن الواحد يحاط به وال يحىص[[[‪.‬‬
‫هكذا تتغ َّيا «امليتافيزيقا البعديَّة» علم املعرفة الفائقة التي هي حاصل وحدة املنطقني يف منطق‬
‫لحاسة العني وارتياضات العقل الحاسب‬ ‫َّ‬ ‫«امليتافيزيقا البعديَّة»؛ ذلك بأنَّها معرفة تتع َّدى ما يرتاءى‬
‫يتجل يف الكون من حضور أصيل لحقائق‬ ‫َّ‬ ‫تتبي ما‬
‫إىل املنطقة املضنون بها عىل غري أهلها‪ ،‬حتى َّ‬
‫املوجودات‪ ،‬وتتع َّرف عىل علَّة مكنوناتها وعلَّة تف ُّوقها وتساميها[[[‪ .‬وبذلك تتم َّيز «امليتافيزيقا‬
‫البعديَّة» عن امليتافيزيقا القبليَّة وتتجاوز معاثرها وضالالتها‪.‬‬

‫[[[‪ -‬فادي نارص‪ ،‬إبستمولوجيا العرفان‪ -‬بحث يف نظريَّة املعرفة ومنهج الجمع بني العقل والقلب‪ ،‬مجلة علم املبدأ‪ ،‬العدد األول التجريبي‪،‬‬
‫‪1443‬ه‪2022/‬م‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫[[[‪ -‬محمد غالب‪ ،‬املعرفة عند مفكري املسلمني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدار املرص َّية للتأليف والرتجمة‪ ،1966 ،‬ص‪.355-354‬‬
‫[[[‪ -‬محمود حيدر‪ ،‬التعرف عىل الفائق‪ ،‬مجلة علم املبدأ‪ ،‬العدد الثاين‪ 1444-،‬صيف‪ ،2022‬ص‪.13‬‬

‫‪167‬‬
‫المحور‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫انتهت هذه الدراسة إىل أ َّن «امليتافيزيقا البعديَّة» تع ُّد محاولة جديدة أصيلة إلنقاذ مبحث‬
‫امليتافيزيقا من الوقوع يف اإلهامل أو التهميش‪ .‬إنَّها محاولة قد تفوق محاولة كانط الذي أراد أن‬
‫خصوصا بعد أن‬
‫ً‬ ‫علم»‬
‫لكل ميتافيزيقا مقبلة ميكن أن تصري ً‬ ‫ينهض بامليتافيزيقا يف كتابه «مق ِّدمة ِّ‬
‫أصابها التلف عىل أيدي ليبنتس وفولف‪ ،‬أو أن ينقذها من هجوم أعدائها الذين رفضوا وجودها‪،‬‬
‫فيظل بعي ًدا‬
‫ّ‬ ‫أل يأخذ باملظاهر‬ ‫ورأوا أنَّها ال قيمة لها وال فائدة ترجى من ورائها‪ .‬فأخذ يناشد العقل َّ‬
‫مادي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفطري إىل‬
‫َّ‬ ‫محاول أن يبني امليتافيزيقا عىل علم النقد‪ .‬وبذلك‪ ،‬ح َّول كانط‬
‫ً‬ ‫عن التجربة‪،‬‬
‫الطبيعي أن تعجز‬
‫ِّ‬ ‫كل ما له عالقة بحركة القلب والكشف والشهود‪ ،‬فكان من‬ ‫وحجب عن الناس َّ‬
‫محاولته عن الوصول إىل مبتغاها‪ ،‬فوقفت عند ظاهر اليشء «الفينومني» من دون معرفة اليشء‬
‫يف ذاته «النومني»‪ .‬ومع مغاالة «امليتافيزيقا القبل َّية» يف تقييد نفسها بشكائم العقل ومنطقه‪ ،‬كانت‬
‫مجال للمعارفة القلب َّية والحدس َّية‪،‬‬‫ً‬ ‫«امليتافيزيقا البعديَّة» التي عملت عىل تجاوز معاثره؛ فأفسحت‬
‫يف محاولة للوصول إىل حقيقة «اليشء يف ذاته» عرب طريق مخالف غفلت عنه الفلسفة التقليديَّة‬
‫وميتافيزيقاها القبليَّة‪ ،‬ومن ثم بدا االنتقال من «امليتافيزيقا القبليَّة» إىل «امليتافيزيقا البعديَّة» رضورة‬
‫ين‪ .‬وقد انبنت هذه الرضورة عىل األسباب التالية‪:‬‬ ‫الب َّد منها إلرضاء الوجود اإلنسا ّ‬
‫أ َّو ًل‪ -‬إذا كانت «امليتافيزيقا القبليَّة» تنشد معرفة عقليَّة باردة تقبع يف الذهن‪ ،‬وليست لها بشاشة‬
‫تخالط القلوب‪ ،‬ومتازج النفوس‪ ،‬فإن «امليتافيزيقا البعديَّة» تنشد تجربة روح َّية ح َّية تتجاوب‬
‫أصداؤها يف أعامق الضمري‪ ،‬وتذوق ووجدان نابض يحمل الفكرة من سامء العقل إىل قرارة القلب‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ -‬إذا كانت «امليتافيزيقا القبل َّية» متارس نشاطها يف جانب واحد من جوانب النفس اإلنسان َّية‬
‫يل فإ َّن «امليتافيزيقا البعديَّة» متارس نشاطها عرب الكينونة البرشيَّة من جميع‬ ‫وهو الجانب العق ّ‬
‫جوانبها فتتعامل مع بديهة اإلنسان وعقله وعاطفته ووجدانه‪ .‬كام أنَّه إذا كان مطلب «امليتافيزيقا‬
‫القبليَّة» معرفة خامدة وأفكا ًرا جافة فإ َّن مطالب «امليتافيزيقا البعديَّة» روح وث ّابة وق َّوة مح ِّركة‪.‬‬
‫ين القارص الذي تحتمل‬ ‫ثالثًا‪ -‬إذا كانت «امليتافيزيقا القبل َّية» تقوم ‪ -‬فقط ‪ -‬عىل العقل اإلنسا ِّ‬
‫أفكاره الصواب والخطأ‪ ،‬فتكون أفكارها محض أقوال عقل َّية ظن َّية احتامل َّية‪ .‬أ َّما «امليتافيزيقا‬
‫البعديَّة» فإنها تقوم عىل اإلئتناس بالوحي املعصوم‪ ،‬وبالتجربة الروح َّية‪ ،‬ومبنطق القلب الذي‬
‫يضل وال يشطح‪ ،‬وال‬ ‫فضل عن العقل يف حدود املعطيات الدين َّية‪ ،‬فال ُّ‬ ‫ً‬ ‫هيهات للعقل أن يدركه‪،‬‬
‫يب ِّدد طاقته فيام ال مطمع يف إدراكه‪ ،‬وال أمل يف محاولة استكناهه‪ .‬فتكون حقائقها أكرث وثوقًا‬
‫توسط صور بخالف املناهج‬ ‫ويقي ًنا‪ ،‬العتامدها منهج الكشف والشهود الذي تت ُّم معارفه من دون ُّ‬
‫العقل َّية والحس َّية والتجريب َّية‪ .‬وبذلك‪ ،‬تضمن «امليتافيزيقا البعدية» تخليص اإلنسان من التخ ُّبط‬
‫الشك والحرية والعيش يف‬ ‫َّ‬ ‫إل‬
‫والحرية يف تخ ّرصات «امليتافيزيقا القبل َّية» التي مل تورث البرشيَّة َّ‬
‫ظلامت العمى والضالل‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫إقبال الميتافيزيقا وإدبارها‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫َّ‬
‫العربية‪:‬‬ ‫المصادر‬
‫‪1.1‬إمام عبدالفتاح إمام‪ ،‬مدخل إىل امليتافيزيقا مع ترجمة كاملة لكتاب ميتافيزيقا أرسطو‪ ،‬القاهرة‪ ،‬نهضة مرص‬
‫للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬ط‪.2009 ،3‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪2.2‬توفيق الطويل‪ ،‬أسس الفلسفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العرب َّية‪ ،‬الطبعة السابعة‪.1979 ،‬‬
‫‪3.3‬جوناثان ري‪ ،‬وج‪ .‬أو‪ .‬أرمسون‪ ،‬املوسوعة الفلسفيَّة املخترصة‪ ،‬ترجمة فؤاد كامل وآخرون‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫املركز القومي للرتجمة‪ ،‬ط‪.2013 ،1‬‬
‫‪4.4‬سامية عبدالرحمن‪ ،‬امليتافيزيقا بني التأييد والرفض‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪.1993 ،‬‬
‫‪5.5‬عثامن أمني‪ ،‬رواد املثال َّية يف الفلسفة الغرب َّية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الثقافة للنرش والتوزيع‪.2000 ،‬‬
‫‪6.6‬فادي نارص‪ ،‬إبستمولوجيا العرفان‪ -‬بحث يف نظرية املعرفة ومنهج الجمع بني العقل والقلب‪ ،‬مجلَّة “علم‬
‫املبدأ”‪ ،‬العدد األول التجريبي‪1443 ،‬ه‪2022/‬م‪.‬‬
‫‪7.7‬محمد غالب‪ ،‬املعرفة عند مفكِّري املسلمني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدار املرصيَّة للتأليف والرتجمة‪.1966 ،‬‬
‫‪8.8‬محمود حيدر‪ ،‬االشتياق إىل علم املبدأ‪ ،‬مجلَّة “علم املبدأ”‪ ،‬العدد األول التجريبي‪1443 ،‬ه‪2022/‬م‪.‬‬
‫‪ 9.9‬محمود حيدر‪ ،‬التع ُّرف عىل الفائق‪ ،‬مجلَّة “علم املبدأ”‪ ،‬العدد الثاين‪ 1444-،‬صيف‪2022‬‬
‫‪1010‬محمود رجب‪ ،‬امليتافيزيقا عند الفالسفة املعارصين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪.1987 ،‬‬

‫المصادر األجنبية‪:‬‬
‫‪1. Bradley (F.H.) Appearance & Reality- A metaphysical Essay, Oxford,1959‬‬
‫‪2. Carter (W.R.), The Elements of Metaphysics, Temple University Press, New York, 1990.‬‬
‫‪3. Collingwood (R.G.), An Essay on Metaphysics, The Clarendon Press, Oxford, 1969.‬‬
‫‪4. Richard de George, Classical and Contemporary Metaphysics, New York, 1962,‬‬
‫‪5. Taylor (A.E.), Elements of Metaphysics, Routledge Revivals, New York, 1961.‬‬

‫‪169‬‬
‫المحور‬

‫ميتافيزيقا املث َّنى‬


‫الع َرفاء إىل توحيد اهلل وتوحيد العامل‬
‫ُدربة ُ‬

‫محمود حيدر‬
‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ِّ‬
‫اإللهية ـ لبنان‬ ‫مفكر وباحث ي� الفلسفة والحكمة‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫المث�"‪ ،‬هو‬ ‫نَّ‬ ‫يز‬
‫"ميتاف�يقا‬ ‫مسىع هذا البحث الذي بسطناه تحت عنوان‬
‫ت‬
‫ال�‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫التعرف عىل واحدة من أهم وأبرز معضالت علم الوجود‪ ،‬عنينا بها الكيفية ي‬
‫وألن مقت�ض‬ ‫َّ‬
‫الوجودية منه‪.‬‬‫َّ‬ ‫الك�ات‬ ‫ُقور َب فيها إظهار الموجود األول وظهور ث‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫المسألة جالء حقيقة هذا الموجود‪ ،‬فقد ابتنينا مسعانا عىل فرضية وجود‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫ثُّ‬ ‫د� منه ظهرت الموجودات عىل ُّ‬ ‫َ ئ‬
‫المتناه‪.‬‬
‫ي‬ ‫وتك�ها ال‬ ‫تنوعها واختالفها‬ ‫موجود ب ي‬
‫ً َّ‬ ‫نَّ‬ ‫الب ئ ُّ‬ ‫وهذا َ‬
‫نظرا ألنه الكائن الفريد الذي‬ ‫"المث�"‪،‬‬ ‫د� هو ما سنم�ض ي إىل نعته بـ‬ ‫ي‬
‫ف‬ ‫خاص َّية البساطة ت‬ ‫يجمع إىل فرادته ِّ‬
‫وال�كيب ي� آن‪ .‬وعليه سوف نكون تلقاء‬
‫الميتاف�يقا‪ً .‬‬ ‫يز‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫غالبا ما‬ ‫أنطولو� يكشف عن اعتالالت تأسيسية ي� عالم‬ ‫ج ي‬ ‫شكل‬
‫م ٍ‬
‫ب� هذا الكائن وهللا‪ ،‬ومن ذلك نشأت معضلة‬ ‫َّ‬
‫الوحيانية ي ن‬ ‫غ�‬ ‫مزجت الفلسفات ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫المكوث المستدام ي� كهف السؤال عن ماهيته وكيفية ظهوره ونسيان كونه‬
‫نَّ‬ ‫ف‬ ‫بالتبعية لموجده‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫المث�‪،‬‬ ‫وأما اإلنسان الذي هو نقطة الدائرة ي� ح�ض ة‬ ‫ِ‬ ‫موجودا‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫األك� الحاوي للموجودات كلها‪ ،‬وسيكون عليه أن يتول‬ ‫ب‬ ‫نظ� الكون‬ ‫فإنما هو ي‬
‫المهمة ركنان متالزمان‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫تنج� َّ‬ ‫يز‬
‫مهمته العظىم ي� االستخالف‪ .‬ومبتدأ هذه‬
‫توحيد الخالق وتوحيد المخلوقات‪ .‬فإذا كان مقت�ض األول توحيد الخالق‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫وال�كيب‪ ،‬فمقت�ض‬ ‫الثنائية ت‬ ‫َّ‬ ‫نز‬
‫وتدب� حاجاتهم‬ ‫ي‬ ‫الثا� توحيد الخلق‪،‬‬ ‫ي‬ ‫بت�يــهه عن‬
‫وتنوعها واختالفها‪.‬‬ ‫ك�تها ُّ‬ ‫عىل ث‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫نَّ‬ ‫َّ‬
‫زوجية العالم – الحق المخلوق‬ ‫المث� – توحيد هللا –‬ ‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫به – الخلق األول – المطلق المحدود – علم َ‬
‫البدء – علم كان‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫َّ‬
‫التمهيد إىل معىن املثن‪:‬‬
‫اإللهي بالخلق األول‪ [[[.‬وهذا املوجود املفطور عىل‬ ‫ُّ‬ ‫دل عليه الكالم‬ ‫يل َّ‬
‫املث َّنى موجود أز ٌّ‬
‫حد هو يف طبيعته التكوينيَّة قائم‬ ‫الزوجيَّة مؤلَّف من زوجني متَّحدين يف واحد كلِّ ّ ‪ .‬وهذا التو ُّ‬
‫عىل وحدة أضداد ينتظ ُمها تداف ٌع وتضا ٌّد أبديَّان يف ما بينها؛ وتلك َس ْييَّة جوهريَّة تحفظ تنامي‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫جيه يف نظريه ويتكامالن م ًعا‪ .‬وال‬ ‫كل من َز ْو َ‬


‫زوج ينثني ٌّ‬ ‫املخلوقات وتج ُّددها املستدام‪ .‬واملث َّنى ٌ‬
‫عم ذهبت إليه بعض مذاهب‬ ‫املؤسسة لعامل الخلق‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ينأى ما تقصده العلوم اإلله َّية يف الزوج َّية‬
‫الحكمة القدمية باعتبار الزوجيَّة مبدأ تفسري الكون وفهم أرساره‪ .‬من ذلك ميكن أن نستذكر عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬ثنائيَّة األضداد وتعاقبها عند اليونان القدماء‪ ،‬أو ثنائيَّة الواحد وغري املتناهي عند‬
‫الفيثاغوريني‪ ،‬أو عامل املُثُل عند أفالطون‪ ...‬إلخ‪ .‬لكن من املفيد اإلشارة إىل أ َّن الثنويَّة التي قالت‬
‫مستقل يف ذاته‪ ،‬ومن غري هذين األصلني ال ميكن فهم‬ ‫ٌّ‬ ‫ولكل منهام وجود‬‫ٍّ‬ ‫بوجود أصلني للوجود‪،‬‬
‫طبيعة الكون[[[‪ ..‬إنَّا هي ثنويَّة تختلف جوهريًّا عن املث َّنى كمخلوق حا ٍو للمخلوقات ذات النشأة‬
‫الواحدة[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫األنطولوجية للمثن‪:‬‬ ‫الماهية‬
‫يئ للكون‪ ،‬بالقدرة عىل الربط بني الظواهر‬ ‫األنطولوجي ينفرد املث َّنى مبا هو جوهر بَد ٌّ‬
‫ِّ‬ ‫يف املقام‬
‫نفي‬
‫املتضا َّدة التي يُتَو َّهم أنَّها منفصلة‪ .‬فالتضا ُّد يف املث َّنى رابطة متاثل وتكامل وانسجام وهو ٌ‬
‫للتناقض والتشظِّي‪ .‬ذلك بأ َّن الحالتني املتضا َّدتني إذا تتالتا‪ ،‬أو اجتمعتا م ًعا يف املدرِك نفسه كان‬
‫شعوره بهام أت َّم وأوضح‪ ،‬وهذا ال يَص ُدق عىل اإلحساسات واإلدراكات والصور العقليَّة فحسب‪،‬‬
‫بل أيضً ا عىل جميع حاالت الشعور كالَّلذَّة واألمل‪ .‬وكام يف التعريف الشائع‪ ،‬فإ َّن األشياء تتم َّيز‬
‫يدل عىل عالقة بني شيئني‬ ‫بأضدادها‪ ،‬وقانون التضا ِّد هو أحد قوانني التقابل (‪ )opposition‬الذي ُّ‬
‫أح ُدهام موا ِج ٌه لآلخر‪ ،‬أو عالقة بني متح ِّركني يقرتبان سويَّة من نقطة واحدة‪ ،‬أو يبتعدان عنها‪.‬‬
‫يف املنطق‪ ،‬يأخذ التقابل وجهني‪ :‬أحدهام تقابل الحدود‪ ،‬واآلخر هو تقابل القضايا‪ .‬فاملتقابالن‬
‫يف تقابل الحدود هام الَّلذان ال يجتمعان يف يشء واحد‪ ،‬يف زمان واحد[[[‪ .‬ومن هنا نستطيع أن‬
‫الجوهري بني وج َه ْي التقابل‪ ،‬حيث يستوي املث َّنى كقض َّية تعرب عن الواحديَّة‬ ‫َّ‬ ‫نستظهر التاميز‬
‫سيتبي الحقًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحاوية للتع ُّدد‪ ،‬وكنقيض لإلثنين َّية كام‬
‫يت‪ ،‬واإلثنين َّية‬
‫املتأسسة عىل التناغم واالنسجام الذا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫تكويني بني ماه َّية املث َّنى‬
‫ٌّ‬ ‫مث َّة إذن‪ ،‬فارق‬
‫َبس من خلق جديد‪ .‬سورة ق‪ ،‬اآلية ‪.15‬‬ ‫[[[‪ -‬أنظر قوله تعاىل‪ :‬أفعيينا بالخلق األول بل هم يف ل ٍ‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬الحسن‪ ،‬عيىس‪ :‬موسوعة الحضارات‪ ،‬األهل َّية للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ 2007- ،‬ص ‪.246‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬الديوب‪ ،‬سمر– الثنائ َّيات الضدِّ ية – املركز اإلسالمي للدراسات اإلسرتاتيج َّية – بريوت ‪ 2017-‬ص ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.285‬‬

‫‪171‬‬
‫المحور‬

‫امل ُن َب ِنية عىل جدل االختصام والتناقض‪ .‬مؤ َّدى األطروحة‪ :‬أ َّن َّ‬
‫كل تناظ ٍر بني متقابلني يف اإلثنين َّية‬
‫كل األشياء يف حرضة املث َّنى محمولة عىل االنسجام والجمع؛ ذاك بأ َّن‬ ‫آيل إىل التنابذ وال ِفرقة‪ ،‬بينام ُّ‬
‫ٌ‬
‫إل وفقًا لقانون التكامل‪ ،‬وألنَّها كذلك فإ َّن سعيها نحو الوحدة يجري طبقًا‬ ‫زوج َّية املث َّنى ال تعمل َّ‬
‫الجوهري يف الواحديَّة الجامعة للكرثة والتن ُّوع‪ .‬وعىل أساس هذا املبدأ الساري‬ ‫ِّ‬ ‫ملبدأ االمتداد‬
‫وتفاعل‬
‫ٌ‬ ‫تكامل‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عرب االنسجام والتناسب بني أضداد املث َّنى ال يعود مث َّة قطيعة يف ما بينها‪ ،‬بل‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫يف اآلن نفسه‪ .‬أ َّما مصطلح القطب َّية فيقول بوجود ثنائ َّية أصل َّية لها قطبان متعارضان‪ ،‬يف ِّ‬
‫ولك َّنهام متعاونان‪ ،‬وال قيام ألحدهام من غري اآلخر‪ .‬ومن تضا ِّدهام‪ ،‬وتعاونهام تنشأ مظاهر الوجود‬
‫وتستم ّر[[[‪ .‬يف النفس البرشيَّة تجتمع ثنائيَّات خلَّقة كامنة يف أغوار النفس اإلنسانيَّة‪ .‬فالحياة غريزة‬
‫واضحة األثر يف حركاتنا وسكناتنا‪ ،‬واملوت غريزة ماثلة أمام أعيننا‪ ،‬والسواد والبياض موجودان‬
‫جن ًبا إىل جنب يف الحياة‪ ،‬وميكن القول‪ :‬إ َّن مظاهر الحياة كلِّها هي نتيجة ذلك التجاذب بني قط َبي‬
‫هذه الثنائ َّية[[[‪.‬‬
‫أي من‬ ‫حل يف حرضة املث َّنى‪ .‬فال يستطيع ٌّ‬ ‫مم ُذكِر‪ ،‬أ َّن التحا ًما جوهريًّا بني األزواج قد َّ‬ ‫يُستفاد َّ‬
‫لكل فر ٍد يف الكرثة األصل َّية‬ ‫ينفك عن نظريه انفكاكًا تا ًّما‪ .‬هام من نفس واحدة‪ ،‬لك ْن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫عنارصه أن‬
‫إل أنَّه ال يقدر عىل أن يربح عامل الزوجيَّة والقوانني الكلِّيَّة‬ ‫نفس فرعيَّة تدبِّر له أمره ويتدبَّر بها شأنه‪َّ ،‬‬‫ٌ‬
‫التي تنتظمه‪ .‬أ َّما الوجود الوحيد الذي ال ض َّد له‪ ،‬بسبب تعاليه عىل الثنويَّة واملث َّنى يف آن‪ ،‬هو ما‬
‫اإللهي‪ .‬يف حني أ َّن العمل َّية الخَلق َّية أو‬‫ّ‬ ‫يس َّمى أحيانًا الحقيقة الغائ َّية‪ ،‬أو الذات اإلله َّية‪ ،‬أو املبدأ‬
‫فضل عن الذات‬ ‫ً‬ ‫اإللهي الذي يكتنف‬‫ِّ‬ ‫فعل إيجاد العامل يستلزم التضا َّد بطبيعته‪ .‬حتى يف النظام‬
‫اإلسالمي أسامء وصفات‬ ‫ِّ‬ ‫ين‬
‫توسطات‪ -‬أو حسب التعبري العرفا ِّ‬ ‫املتعالية أو الواحد املطلق‪ ،‬هنالك ُّ‬
‫إلهيَّة ‪ -‬ميكن عن طريقها معاينة الكرثة‪ ،‬ونظام الض ِّدية الذي تحتكم إليه‪ .‬ويجوز القول تب ًعا ملبدأ‬
‫التوسطات املشار إليها‪ ،‬أ َّن دائرة األسامء والصفات اإلله َّية هذه هي التي تنطلق منها مساحات‬ ‫ُّ‬
‫اإللهي‪ ،‬إنَّ ا يت ُّم عن طريق‬‫ِّ‬ ‫النسب َّية‪ .‬ولذا‪ ،‬فإ َّن ظهور أشياء هذا العامل كافَّة‪ ،‬وهي الصادرة عن األمر‬
‫أضدادها[[[‪ .‬وبهذا‪ ،‬فالحياة يف عامل الظهورات‪ ،‬أو يف مرتبة التجلِّ ‪ ،‬حياة سارية يف عامل أضداد‬
‫ال ترتفع إلَّ يف الوجود الجامع لألضداد (‪ .)Coincidentiaoppositorum‬وعليه‪ ،‬فاألضداد يف‬
‫مرتبتها الوجوديَّة تتعارض يف الغالب‪ ،‬وتفتقر إىل التح ُّمل والتسامح حيال بعضها‪ .‬ولهذا‪ ،‬مل يكن‬
‫آفاقي‪ ،‬وهذه نقطة جرى التشديد‬ ‫ٍّ‬ ‫التسامح أو عدم التسامح مج َّرد أمور أخالق َّية‪ ،‬بل هي ذات بعد‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬حيدر‪ ،‬محمود‪ :‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة‪ ،‬فصل َّية «االستغراب»‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيج َّية‪ ،‬العدد الخامس‪،‬‬
‫السنة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬الديوب‪ ،‬سمر‪ -‬الثنائ َّيات الضدِّ يَّة ‪ -‬مصدر سابق ‪ -‬ص ‪.17‬‬
‫[[[‪ -‬نرص‪ ،‬سيد حسني ‪ -‬جذور التسامح واللَّتسامح ‪ -‬رؤى يف املبادئ امليتافيزيق َّية ‪ -‬مجلَّة «قضايا إسالم َّية معارصة» ‪ -‬العدد (‪)29-28‬‬
‫– ‪.2004‬‬

‫‪172‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫عليها يف التعاليم الرتاثيَّة الرشقيَّة التي أكَّدت أ َّن القوانني البرشيَّة والنواميس األخالقيَّة غري منفصلة‬
‫قيمي‪ ،‬بل ينبغي‬‫ٍّ‬ ‫أخالقي أو‬
‫ٍّ‬ ‫بعضها عن بعض‪ .‬وعىل ذلك ال ينبغي ال َّنظر إليها عىل أنَّها مج َّرد خيار‬
‫وجودي حيث تتموضع الحقيقة األخالق َّية‬ ‫ٍّ‬ ‫اعتبارها حقيقة أنطولوج َّية أيضً ا‪ .‬أي أنَّها ذات أصل‬
‫إل أ َّن الكرثات املوجودة يف نشأة الظهور والتجلِّ ‪ ،‬رغم‬ ‫يف الحقيقة األساس َّية لنظام الخلق‪َّ .‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫توفُّرها عىل وجودات متالمئة ومتكاملة بعضها مع بعض‪ ،‬فإ َّن بعدها الرصاعي ميكن مالحظته يف‬
‫رش[[[‪.‬‬
‫املتضا َّدات السلوكيَّة‪ ،‬كالتضا ِّد بني الصدق والكذب‪ ،‬والجامل والقبح‪ ،‬والخري وال ّ‬
‫أ َّما بصدد مبدأ الض ِّديَّة يف املعرفة العرفان َّية‪ ،‬فإ َّن ال ُعرفاء يربطون بني املعرفة العرفان َّية (وهي‬
‫هنا املشاهدة والكشف) ومفهوم األضداد من جهة‪ ،‬وبني الدهشة أو الصدمة من جهة ثانية‪ .‬ومثل‬
‫هذا الربط عائد إىل حكمة نظام املث َّنى التي توفِّر الحقل الخصيب لتكامل األضداد وانسجامها‪.‬‬
‫ين بوجه عام‪ ،‬تحتمل االنتقال من إدراك مجال‪ ،‬إىل مشاهدة مجالٍ آخر‬ ‫فاملعرفة يف األدب العرفا ِّ‬
‫مخالف له‪ ،‬وهي معرفة تتض َّمن الخروج أو االنتقال من «الظلمة العظيمة إىل النور العظيم»‪ ،‬ومن‬
‫نتبي يف ما ييل‪ِ ،‬س َمتني أساس َّيتني ملبدأ الضدِّ يَّة‬
‫الغفلة املطلقة إىل الوعي املطلق‪ .‬وميكن لنا أن َّ‬
‫يف املث َّنى العرفاين‪:‬‬
‫السمة األوىل‪ :‬أنَّ للمعرفة الصوف َّية عالقة وثيقة مبفهوم األضداد‪ :‬فمشاهدة الحقيقة اإلله َّية‬ ‫ِّ‬
‫كل يشء‪َ  -‬فأَيْ َن َم تُ َولُّوا َفث ََّم َو ْجهُ اللَّ ِه‪ -[[[‬تولِّد لدى الصويفِّ قبولً‬
‫الحارضة والقريبة واملوجودة يف ِّ‬
‫الوجودي العا ّم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األخالقي أم‬
‫ِّ‬ ‫بفكرة األضداد باعتبارها لحمة الوجود وأساسه‪ ،‬سواء عىل املستوى‬
‫ي بني الخالق واملخلوق‪ ،‬وبني القديم واملُحدَ ث‪ ،‬وبني‬ ‫ففي هذه املعرفة يتجلَّ التقابل الضدِّ ُّ‬
‫الثابت والزائل‪ ،‬وبني الخالد والفاين‪ .‬والله تعاىل جعل األضداد كامنة يف األضداد‪ :‬فجعل العل َّو‬
‫الذل‪ ،‬إىل غري ذلك من األوصاف العلويَّة مع األوصاف السفل َّية‪.»...‬‬ ‫كام ًنا يف الدن ِّو‪ ،‬والع ُّز كام ًنا يف ِّ‬
‫فـ»األشياء كامنة يف أضدادها ولوال األضداد ملا ظهر املضا ُّد كام يقول بعض العارفني»[[[‪.‬‬
‫السمة الثانية‪ :‬أنَّ الوعي باألضداد يف املعرفة الصوف َّية يقتيض الشعور بالدهشة عند الوقوف عىل‬‫ِّ‬
‫الحقيقة‪ ،‬أو الوقوف عند مرحلة التحقيق‪ :‬وكلام كان الضدَّ ان متباعدين كان االلتقاء بينهام مصحوبًا‬
‫بدهشة قو َّية من طرف العارف أو املتأ ِّمل»‪ .‬وهنا سنالحظ أنَّ من العرفاء من ذهب بعيدً ا يف التمثيل‬
‫بالدهشة الناتجة من التقاء األضداد يف تجربة االنتقال من الكفر إىل اإلميان‪ .‬فاملشاهدة – كام يبيِّ‬
‫العارف بالله ابن عجيبة الحسني – تتق َّوى لدى أهل الكفر الذين تابوا من كفرهم ورجعوا إىل مشاهدة‬

‫[[[‪ -‬نرص‪ ،‬سيد حسني ‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪ -‬اآلية ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬الحسني‪ ،‬ابن عجيبة‪ ،‬الفتوحات اإلله َّية يف رشح املباحث األصل َّية ‪ -‬الجزء الثاين‪ -‬تحقيق‪ :‬عاصم الكيايل‪ -‬دار الكتب العلم َّية ‪-‬‬
‫بريوت ‪ ،2000 -‬ص ‪.144‬‬

‫‪173‬‬
‫المحور‬

‫الحقيقة اإلله َّية أكرث من أهل اإلميان»[[[‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإنَّ هذه الدهشة التي متيز املعرفة الصوف َّية هي‬
‫صريورة دامئة تتواصل بتواصل املعرفة‪ :‬فإذا كانت الدهشة هي بداية الفلسفة أو التفكري كام قيل‪،‬‬
‫وخصوصا يف غايتها‪ .‬وعند إشارة ابن‬
‫ً‬ ‫فإنَّ الدهشة يف الفكر الصويفِّ مصا ِحبة للمعرفة منذ بدايتها‬
‫جه (اإلسالم واإلميان) وأنوار املواجهة (اإلحسان)‪ ،‬نراه يؤكِّد أنَّ‬ ‫عجيبة إىل الفرق بني أنوار التو ُّ‬
‫الصويفَّ السالك ي َّتجه إىل إدراك نور «حالوة املشاهدة وهو الروح‪ ،‬وهو أول نور املواجهة فتأخذه‬
‫والسكرة‪ :‬فإذا أفاق من سكرته وصحا من ج ْذبته ومتكَّن من الشهود‪ ...‬ورجع إىل‬ ‫الدهشة والحرية َّ‬
‫البقاء‪ ،‬كان لله وبالله»[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ - 2‬املثن بما هو «املطلق املحدود»‪:‬‬
‫يجري يف عامل امليتافيزيقا متييز دقيق بني املطلق بوصفه الواحد بالوحدة الحقيق َّية أي الله‬
‫تعاىل‪ ،‬وبني املطلق مبا هو الواحد بالوحدة الحقيق َّية الظلِّ َّية‪ ،‬أي املوجود بغريه؛ وهو ما يُنعت‬
‫كل قيد‪ ،‬وهو واجب‬ ‫باملطلق املحدود‪ .‬فاملطلق مبعناه األول هو التا ُّم والكامل واملتح ِّرر من ِّ‬
‫الوجـود املتجـاوز للزمان واملكـان‪ ،‬ولذا فهو يتَّســم بالثبات والكلِّ َّية‪ .‬أ َّما مبعناه الثاين فهو‬
‫وناقص‬
‫ٌ‬ ‫النسبي ُمق َّيد‬
‫ُّ‬ ‫إل مقرونًا به‪ .‬وهذا‬
‫يتعي َّ‬
‫نسب إىل غريه ويتوقَّف وجوده عليه وال َّ‬ ‫النسبي الذي يُ َ‬
‫ُّ‬
‫بتغيهام‪ ،‬ولذا فهو ليس بكلِّ ّ ‪ .‬يف‬
‫[[[‬
‫ِّ‬ ‫ومحدو ٌد‪ ،‬وهو مرتبط بالزمان واملكان‪ ،‬ويتل َّون بهام ويتغيَّ‬
‫والنسبي تعريفًا عا ًّما وال يؤ ّدي غايته املثىل‪ .‬ولذا‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفات الحديثة‪ ،‬يع ُّد هذا التعريف للمطلق‬
‫يرى أحد فالسفة مدرسة الحكمة الخالدة املعارصين السويرسي فريذوف شوان (‪)1998-1907‬‬
‫[[[‬

‫أ َّن اللَّنهائ َّية والكامل من األبعاد الكامنة يف املطلق‪ ،‬وتربهن عىل ذاتها “يف اتجاه هابط” حسب‬
‫النشأة الكون َّية للتجلِّيات‪ .‬حتى ليتس َّنى لنا القول أ َّن الكامل هو صورة املطلق يف انعكاساته يف‬
‫اللنهائيَّة‪ ،‬وهنا تتدخَّل العناية الربَّانيَّة حيث ينبثق من املطلق النهائيَّة فاعلة‬
‫الوجود‪ ،‬وهوما يُؤلِّف َّ‬
‫تتجل يف الخري‪ ،‬وترسم بالتايل بنية أقنوم َّية يف اتجاه “خالقٍ ” حتى نهاية التجلّيات[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫املعجمي‪ ،‬وهو يق ِّدم‬
‫َّ‬ ‫ُّلغوي‬
‫َّ‬ ‫وقد تع َّمق شوان يف تحديد ماهيَّة املطلق متجاوزًا التحليل ال‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.37‬‬


‫[[[‪ -‬الحسني‪ ،‬ابن عجيبة‪ -‬وإيقاظ الهمم يف رشح الحكم‪ -‬املكتبة الثقاف َّية‪ -‬بريوت‪ -‬باإلشرتاك مع مكتبة ومطبعة مصطفى البايب الحلبي‬
‫– القاهرة – ‪ 1982-‬ج ‪ ،1‬ص ‪.63‬‬
‫[[[‪ -‬د‪ .‬عبد الوهاب املسريى‪ :‬موسوعة اليهود واليهوديَّة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،1999 ،‬ص‪.59‬‬
‫[[[‪ -‬ولد فريذوف شوان مبدينة بازل يف سويرسا عام ‪ ،1907‬واعتنق اإلسالم يف السادسة عرشة من عمره‪ ،‬وحمل اسم الشيخ عيىس نور‬
‫قبول منقطع النظري يف القرن العرشين‪ .‬من أعامله‪ :‬عني‬‫الدين‪ .‬كتب ما يربو عىل العرشين مؤلَّفًا يف امليتافيزيقا والتص ُّوف‪ ،‬والقت مؤلَّفاته ً‬
‫القلب‪ ،‬العرفان حكمة ربان َّية‪ ،‬املنطق والتعايل‪ ،‬لعبة األقنعة‪ ،‬طرق الحكمة الخالدة‪ ،‬مقامات الحكمة‪ ،‬تح ُّوالت اإلنسان‪ ،‬الوحدة املتعالية‬
‫لألديان‪ ،‬أحوال اإلنسان وجذورها‪ ،‬كنوز البوذيَّة‪ ،‬الشمس املج َّنحة‪ ،‬الطريق اىل القلب‪ ،‬املسيح َّية واإلسالم‪.‬‬
‫‪[5]- FrithjofSchuon: From The Divine to The Human، Survey of Metaphysics and Epistemology،‬‬
‫‪Translated into English by Gustavo Polit and Deborah Lambet، World Wisdom Books، 1981، P15.‬‬

‫‪174‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫الجوهري‬
‫ُّ‬ ‫أول إنَّه‬
‫عم هو املطلق‪ ،‬لقلنا ً‬ ‫مجموعة من التساؤالت حوله‪ .‬يقول‪“ :‬لو ُسئلنا َّ‬
‫النهايئ وكامل‪ ،‬ولقلنا‬ ‫ٌّ‬ ‫العريض ممكن الوجود فحسب‪ ،‬وبالتايل فهو‬ ‫ُّ‬ ‫واجب الوجود‪ ،‬وليس‬
‫كل ما انعكس يف الوجود‪ ،‬كوجود األشياء بحسب مستوى السؤال‪ ،‬وال وجود بغري‬ ‫ثان ًيا إنَّه ُّ‬
‫اللموجود‪ ،‬فح َّبة الرمل‬ ‫ويتجل وجه املطلق َّية يف وجود يشء ما ُي ِّيز املوجود عن َّ‬ ‫َّ‬ ‫املطلق‪،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يئ لقلنا إنَّه‬ ‫اللنها ُّ‬ ‫عم هو َّ‬ ‫املوجودة معجزة بالقياس إىل الفضاء الفارغ‪ ..‬ولو نحن ُسئلنا َّ‬
‫التجريبي الذي يطلبه السؤال نفسه‪ ،‬ويتب َّدي يف الوجود كصيغ للم ِّد والجزر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫املنطق شبه‬
‫شأنَّه شأن املكان والزمن والشكل والعدد والتكاثر واملا َّدة‪ ،‬وحتى نكون أكرث دقَّة نقول بطريقة‬
‫حول ًة هي الزمن‪ ،‬والذي يعني النهائ َّية‬ ‫أخرى‪ :‬إ َّن هناك صيغة حافظة هي املكان وصيغة ُم َ‬
‫اطِّراد التح ُّوالت‪ ،‬ال تحديد الدوام فحسب‪ ،‬وصيغة كميَّة هي العدد الذي يعني النهائيَّة العدد‬
‫كتجل‬‫ّ‬ ‫ذاته ال تحديد الك ِّم فحسب‪ ،‬وصيغة ماديَّة هي املا َّدة وهي األخرى ال حدود لها‬
‫الحيوي وما وراءه‪ ،‬فهي أعمدة‬ ‫ِّ‬ ‫ولكل من هذه الصيغ امتداد يف الحال‬ ‫ٍّ‬ ‫النجوم يف السامء‪،‬‬
‫وأخريا‪ ،‬لو ُس ِئلنا عن الكامل أو الخري األسمى‪ ،‬لقلنا إنَّه الله سبحانه‪ ،‬والخري‬ ‫ً‬ ‫الكوين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوجود‬
‫بالحري ظواهر كيفيَّة تتب َّدى يف كامل األشياء‬ ‫ِّ‬ ‫يتجل يف الوجود عىل شكل فضائل‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫هو ما‬
‫واللنهايئ والخري‪ ،‬ال تناظر الوجود واألنواع املوجودة وما‬ ‫َّ‬ ‫ال يف وجودها فحسب‪ ،‬واملطلق‬
‫لتبي معنى األوجه الربَّان َّية فيام‬ ‫يتعلق بكيفيات وجودها فحسب‪ ،‬بل هذه العوامل م ًعا يف آن‪ّ ،‬‬
‫وراء العامل لو جاز القول”[[[‪.‬‬
‫يئ‪ ،‬والكامل‪ ،‬والخري األسمى‪ ،‬قد يعادل‬‫الواضح أ َّن وصف شوان املطلق بصفات مثل اللَّ نها ِّ‬
‫ين الذي يتَّسم بالثبات من ناحية‪ ،‬وهو الخري األسمى الذي تفيض منه‬ ‫وصف املثال األفالطو ِّ‬
‫املوجودات وتتشاكل معه عن طريق النفس من ناحية أخرى‪ .‬لك َّن شوان يختلف عن أفالطون يف‬
‫للنسبي‪ ،‬يف حني كانت العالقة غامضة بني مثال املثل‬ ‫ِّ‬ ‫يتجل املطلق‬
‫َّ‬ ‫ين حيث‬
‫التجل الربَّا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫مبدأ‬
‫واملحسوسات عند أفالطون؛ وهو األمر الذي جعلنا نرتطم بأمواج من التفسري والتأويل لفهم معنى‬
‫يئ ومشاركته الوجود[[[‪.‬‬ ‫الكل يف الجز ِّ‬
‫ّ ِّ‬ ‫تجل‬
‫التشاكل‪ ،‬وكيف َّية ّ‬
‫األنطولوجي‪ ،‬أو باألحرى يف ما‬
‫ِّ‬ ‫بحسب شوان‪ ،‬ميكن أن ندرك املطلق سبحانه عىل ق َّمة الهرم‬
‫واللنهائ َّية تش ُّع من الباطن والظاهر‪ ،‬أي‬
‫وراءه‪ ،‬وهو الذي تشتمل طبيعته عىل اللَّنهائ َّية والكامل‪َّ ،‬‬
‫وجل وتنرشها يف اآلفاق‪ .‬وأ َّما الكامل الذي متاهى مع هذه‬ ‫َّ‬ ‫أنَّها تشتمل عىل قدرات املطلق ع َّز‬
‫جر منه إمكان الصفات كافَّة سواء أكانت‬ ‫القدرات هو الذي يعكسها يف عامل النسبيَّة‪ ،‬وهو الذي يتف َّ‬

‫‪[1]-Ipid. P: 8‬‬
‫[[[‪ -‬للمزيد من اإليضاح حول مفهوم املطلق النسبي‪ ،‬راجع مقالة حامدة أحمد عيل‪ -‬املطلق النسبي وغري َّية املوجود‪ -‬فصل َّية “االستغراب”‬
‫‪ -‬العدد العارش‪ -‬شتاء ‪.2018‬‬

‫‪175‬‬
‫المحور‬

‫اللنهائيَّة هي‬
‫يف الوجود‪ ،‬أم يف العامل‪ ،‬أم يف أنفسنا‪ .‬وإذا كان املطلق هو الحقيقة الرصف‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫يئ[[[‪.‬‬
‫اللنها ّ‬
‫جامع محتوى َّ‬‫اإلمكان‪ ،‬والكامل أو الخري األسمى هو ُ‬
‫يل بني الله والعامل‪ ،‬راح‬
‫وألجل تج ُّنب ما وقعت فيه بعض ت َّيارات وحدة الوجود من جمع حلو ٍّ‬
‫شوان مييِّز بني نوعني من الوجود من حيث اإلطالق وهام‪ :‬الوجود املطلق والوجود املحض‪.‬‬
‫يتجل يف النسب َّية‪ ،‬وال ميكن أن يتح َّول‬
‫َّ‬ ‫أ َّما الوجود املطلق فيمثِّل انعكاس املطلق املحض الذي‬
‫الوجود املطلق إىل الوجود املحض كام ي َّدعي فالسفة النسب َّية املعارصة‪ ،‬ولو حدث التح ُّول‪،‬‬
‫وهذا مستحيل‪ ،‬لتن َّزهت الثنويَّات والثالوث عن مخالطة البرش أو محادثتهم‪ ،‬أل َّن التنزيه من صفات‬
‫الصمدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املطلق املحض‪ ،‬وهكذا يقول شوان “ال يتطابق الوجود امل ُطلق مع املطلق املحض‬
‫ين بقدر ما هو انعكاس للمطلق يف عامل النسب َّية‪ ،‬ومن ث َّم ميكن تسميته مطلقًا‬ ‫فهو تابع للنظام الربَّا ِّ‬
‫ين‪ .‬وإذا كانت األقانيم الربان َّية هي‬‫نسب ًّيا رغم ما تحمله التسم َّية من تناقض‪ ،‬ولذا فهو أقنوم ربَّا ّ‬
‫النسبي أو املطلق‬
‫ُّ‬ ‫املطلق هو املطلق‬‫املطلق مبا هو لتن َّزهت عن مخاطبة اإلنسان”[[[‪ .‬والوجود ُ‬
‫الصمدي أي “غيب الغيب”‬‫ّ‬ ‫املحدود‪ ،‬أو هو الرب مطلقًا نسبيًّا قاد ًرا عىل الخلق‪ ،‬فاملطلق املحض‬
‫ريا‪.‬‬
‫يتعاىل عن ذلك عل ًّوا كب ً‬
‫اإللهي يعكس الجوهر عىل‬
‫ُّ‬ ‫اللنهائيَّة التي تش ُّع بنوره‪ ،‬فالنور‬
‫ويشتمل املطلق أو الجوهر عىل َّ‬
‫بأي شكل كان‪ ،‬إذ إ َّن املبدأ معصوم ال ينقسم‪ ،‬وال ميكن أن‬ ‫“الفراغ” من دون أن “يخرج” إليه ِّ‬
‫يتجل بصيغة “أشكال” بادية و”أفعال” حادثة‪ ،‬و”حياة”‬ ‫َّ‬ ‫الليشء‬‫يُغتصب منه يش ٌء‪ ،‬فانعكاسه عىل َّ‬
‫يئ ليست فعالة بق َّوة مركزيَّة ‪ centrifugal‬فحسب‪ ،‬ولكن أيضً ا ببنية مركزيَّة ‪،centripetal‬‬ ‫اللنها ّ‬
‫َّ‬
‫يل أو متزامن بد ًءا باإلشعاع وعو ًدا إىل املبدأ‪ ،‬واملبدأ األخري يعني نشو ًرا وعودة األشكال‬‫وبشكل تباد ٍّ‬
‫والحوادث إىل الجوهر‪ ،‬ومن دون أن يزيد أو يُنقص من الجوهر شيئًا‪ ،‬فهو النعمة والكامل مطلقًا‪،‬‬
‫وهو خصيصة من خصائص املطلق كام لوكان حياته الباطنة‪ ،‬أو حبه الذي يفيض ليخلق العامل[[[‪.‬‬
‫بأي‬
‫ويرى شوان أنَّه رغم ما تع َّرضنا له من تعريف للمطلق‪ ،‬فهذا نسبيَّة محضة‪ ،‬وميكن إحاللها ِّ‬
‫ألفاظ‪ ،‬فال تساوي الصفات الذات‪ ،‬وإ َّن محاولة التعريف خطوة نحو الفهم‪ ،‬والخوض فيها إدراك‬
‫وكل محاولة‬
‫للامه َّية وليس إدراكًا للذات‪ .‬وتعريف املطلق مبا هو‪ ،‬ال ب َّد من أن يكون مطلقًا بدوره‪ُّ ،‬‬
‫لوصفه تنتمي بالرضورة إىل النسبيَّة مبوجب تن ُّوع طبيعة محتوياتها‪ ،‬وليست غري صحيحة لهذا السبب‬
‫ولك َّنها باألحرى عرضيَّة محدودة قابلة لإلحالل بغريها‪ ،‬حتى أ َّن املرء لو حاول أن يضفي عىل املطلق‬

‫‪[1]-FrithjofSchuon: From The Divine to The Human p75.‬‬


‫‪[2]- FrithjofSchuon: the play of masks، world Wisdom Books INC، 1992، p45.‬‬
‫‪[3]- FrithjofSchuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart، world‬‬
‫`‪Wisdom Books INC،1981، p165.‬‬

‫‪176‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫ريا مطلقًا ملا أمكن سوى أن يقول “الله واحد”‪ ،‬ويقول الصوفيَّة إن “التوحيد واحد”‪ ،‬ويقصدون‬ ‫تعب ً‬
‫ح ًدا مع غايته[[[‪ .‬وهكذا ال يُدرك املطلق يف‬ ‫بذلك أ َّن التعبري يف حدود إمكانيَّاته ال ب َّد من أن يكون متو ِّ‬
‫تتجل يف‬
‫َّ‬ ‫اللنهائ َّية‬
‫ح ِّد ذاته لكنه يتب َّدى يف وجود األشياء‪ ،‬ولذلك ميكن القول بصورة مفارقة أ َّن َّ‬
‫يبي الزهد أمام املطلق‬ ‫يتجل الكامل يف صفات األشياء الكيف َّية‪ ،‬إذ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫التن ُّوع الذي ال ينتهي‪ ،‬وكذلك‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يئ‪ ،‬فاألمور تتب َّدى يف تناغمها وهندستها[[[‪.‬‬ ‫اللنها ِّ‬


‫يف تجلِّ َّ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫‪ - 3‬املثن والواحد وقانون العل َّية‪:‬‬
‫سبيل لتدبري العامل‪ .‬وطبقًا للقاعدة التي ق َّررتها الحكمة اإلسالميَّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يتَّخذ املث َّنى من قانون العلِّيَّة‬
‫“كل معلول هو مركَّب يف طبعه من جهتني‪ :‬جهة بها يشابه الفاعل ويحاكيه‪ ،‬وجهة بها يباينه‬ ‫فإ َّن َّ‬
‫ونسبي يف آن‪ .‬وقاعدة الكالم عن معلول َّية املث َّنى رغم فرادته وخصوص َّية تركيبه‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫وينافيه‪ .‬فهو مطلق‬
‫كل فرد يف عامل الكرثة‪ .‬ودليل أصحاب هذه القاعدة هو التايل‪ :‬إذا كان املوجود‬ ‫هي قاعدة تنطبق عىل ِّ‬
‫أي اختالف بني العلَّة واملعلول‪ ،‬وحينذاك ال‬ ‫يشبه فاعله من جميع الجهات‪ ،‬يلزم إلَّ يكون هناك ُّ‬
‫معنى ملسألة الصدور‪ .‬ولو خالف املوجود فاعله من جميع الجهات‪ ،‬يلزم أن تتناقض العلَّة مع‬
‫معلول له‪ ،‬لوجود متانع بني املوجودين املتناقضني[[[‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املعلول‪ ،‬يف حني ال يقع نقيض اليشء‬
‫وإذن‪ ،‬فاملوجود املعلول‪ -‬بحسب هؤالء‪ -‬ذو جهتني دامئًا‪ :‬جهة متعلِّقة بالفاعل وتشري إليه‪ ،‬وجهة‬
‫متعلِّقة به‪ .‬وعليه فهو يُع ُّد “وجو ًدا” من حيث جهة الفاعل‪ ،‬ويُع ُّد “ماهيَّة” من حيث جهته‪ ،‬ويف‬
‫حني تس َّمى جهة وجود املوجود بالجهة النوران َّية‪ ،‬تس َّمى جهة املاه َّية بالظلامن َّية[[[‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن‬
‫فالظل من حيث هو ميضء يكشف عن الضياء‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الظل إىل الضياء‪.‬‬
‫نسبة املعلول إىل فاعله كنسبة ِّ‬
‫ومن حيث هو مزيج بنوع من الظلمة‪ ،‬متناقض مع الضياء ويحيك عن الظالم‪ .‬فمثلام ال ميكن‬
‫للظل إىل وجود الضوء‪ ،‬كذلك ال ميكن أن ت ُنسب جهة املاهيَّة إىل‬ ‫ِّ‬ ‫أن ننسب الجهة الظلامنيَّة‬
‫الفاعل‪ .‬وعليه‪ ،‬ميكن القول بأ َّن الجعل واإليجاد ال يتعلَّقان باملاه َّية قطّ‪ ،‬وإنَّ ا يتعلَّقان بالوجود‬
‫خاصة بالوجود‪ .‬ودور‬ ‫َّ‬ ‫فقط‪ .‬أي ال ب َّد من أن يع َّد الجعل واإليجاد واإلفاضة واإلرشاق‪ ،‬خصوص َّية‬
‫املاه َّية عىل صعيد املوجودات البسيطة واملج َّردة كدور املا َّدة عىل صعيد املوجودات املاديَّة‬
‫واملركَّبة‪ .‬وكام أ َّن مقتىض الكرثة يف املوجودات املا ّديَّة واملركَّبة هو وجود املا َّدة األوىل أو‬
‫الهيويل‪ ،‬كذلك مقتىض الكرثة يف املوجودات البسيطة واملج َّردة هو املاه َّية‪ .‬ولذا ميكن القول أ َّن‬

‫‪[1] -Valodia، D. Glossary of Terms Used by Frithjof Schuon،http://www.frithjof schuon.com/‬‬


‫‪Glossary%20Schuon%20Revised.pdf،pp 3 -5.‬‬
‫[[[‪ -‬عيل‪ ،‬حامدة أحمد‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬الديناين‪ ،‬غالم حسني اإلبراهيمي‪ -‬القواعد الفلسف َّية العا َّمة يف الفلسفة اإلسالم َّية – الجزء الثاين‪ -‬تعريب‪ :‬عبد الرحمن العلوي ‪ -‬دار‬
‫الهادي‪ -‬بريوت‪ - 2007 -‬ص ‪.355‬‬
‫[[[‪ -‬الديناين‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.356‬‬

‫‪177‬‬
‫المحور‬

‫الكرثة يف عامل البسائط واملج َّردات‪ ،‬ناشئة من املاهيَّات فقط‪ .‬الشيخ الرئيس ابن سينا يأخذ بهذه‬
‫كل تركيب وتع ُّدد يف عامل البسائط‪ .‬ويف كتاب “اإللهيَّات”‬ ‫الفكرة أيضً ا ويعترب املاهيَّات مصدر ِّ‬
‫“كل ممكن زوج تركيبي”‪ .‬حيث تكشف هذه القاعدة جي ًدا عن رضورة‬ ‫بحث القاعدة املعروفة ُّ‬
‫أي تركيب وتع ُّدد‪ ،‬يف املاه َّيات‪ .‬ولذلك ت ُع ُّد املاه َّيات مثار الكرثة ومنشأها[[[‪ .‬النتيجة‬
‫البحث عن ِّ‬
‫أنَّه باإلمكان القول أ َّن أثر الفاعل ليس سوى مثال الفاعل‪ ،‬ولهذا السبب يكشف الفعل عن الفاعل‬
‫دامئًا‪ .‬أي أنَّه ميكن معرفة الفاعل عن طريق الفعل‪ .‬وقد تناول صدر الدين الشريازي هذه املسألة‬
‫بتوسط مثال‬ ‫كل منفعل عن فاعل‪ ،‬فإمنا ينفعل َّ‬ ‫يف كتاب “األسفار” وصاغها عىل الوجه التايل‪“ :‬إ َّن َّ‬
‫بي باالستقراء‪ .‬فإ َّن‬
‫بتوسط مثال يقع منه فيه‪ .‬وذلك ِّ ٌ‬ ‫وكل فاعل يفعل املنفعل ُّ‬ ‫واقع من الفاعل فيه‪ُّ .‬‬
‫الحرارة الناريَّة تفعل يف جرم من األجرام بأن تضع فيه مثالها وهو السخونة‪ .‬وكذلك سائر القوى‬
‫من الكيفيَّات‪ .‬والنفس الناطقة إنَّ ا تفعل يف نفس أخرى مثلها”‪ [[[.‬كذلك تفعل العلَّة األوىل يف‬
‫حكمة املث َّنى‪ .‬فهي مع كونها فاعلة ملعلوالت ال متناهية‪ ،‬إلَّ أنَّها ليست وحدة عدديَّة كوحدة‬
‫املحسوسات‪ ،‬فهي تنتمي إىل وحدة املعقوالت مع كونها متَّصلة بعامل املمكنات وناظمة لحياتها‬
‫البي يف الحكمة اإلسالميَّة أ َّن الوحدة يف األمور املعقولة ليست كالوحدة يف‬ ‫الجوهريَّة‪ .‬ومن ِّ‬
‫األمور املحسوسة‪ ،‬أل َّن الوحدة يف األمور املحسوسة‪ ،‬هي من نوع الوحدة العدديَّة‪ ،‬يف حني ال‬
‫تع ُّد الوحدة يف األمور املعقولة من نوع الوحدة العدديَّة‪ .‬واملث َّنى الذي كان إيجاده باألمر واإلرادة‬
‫ونسبي يف اآلن عينه‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫إل أنه ال يتك َّرر‪ ،‬فهو مطلق‬
‫والكلمة هو واحد‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫العرفاني�ة‪:‬‬ ‫‪ - 4‬جتليات املثن يف املعرفة‬
‫يف مفارق ملا‬
‫النظري‪ ،‬تستوي عىل نصاب معر ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫ماه َّية املث َّنى كام ت ُستقرأ يف اإلله َّيات والعرفان‬
‫فضل عن املتأخّرين من بعدهم‪ .‬فقد اتَّخذ الكالم عىل املوجود األول يف‬ ‫ً‬ ‫اشتغل عليه اإلغريق‪،‬‬
‫ظل ينتظم دائرة واسعة من تلك‬ ‫إل أ َّن جام ًعا مشرتكًا حول ماه َّيته ّ‬‫امليتافيزيقا العرفان َّية مسالك شتَّى؛ َّ‬
‫مطلق من حيث كونه أول موجود يف‬ ‫ٌ‬ ‫املسالك‪ .‬ويف املجمل كان يُنظر إىل هذا املوجود عىل أنَّه‬
‫جا ملوج ِِده ومركَّ ًبا عىل الزوج َّية والكرثة‪.‬‬
‫ونسبي من حيث كونه محتا ً‬ ‫ٌّ‬ ‫اإللهي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مشيئة اإليجاد‬
‫يتوسع أفق التنظري واالستشعار‪ ،‬حتى لنج ُدنا تلقاء مسا ٍع فريدة ومفارقة بغية‬
‫النظري َّ‬
‫ِّ‬ ‫يف العرفان‬
‫الخروج من العرثات التي تحول دون األجوبة اآلمنة‪ .‬وألجل الوقوف عىل أه ِّم هذه املساعي نلقي‬
‫الضوء بداية عىل قاعدتني تؤلّفان أبرز التنظريات التي َع ِنيَت بنظام معرفة املوجود البَ ْد ّ‬
‫يئ‪ ،‬وقد‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين‪ -‬األسفار العقل َّية األربعة يف الحكمة املتعالية ‪ -‬الجزء األول‪ -‬مصدر سابق‪ -‬ص ‪.419‬‬

‫‪178‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫الرتمذي‪ ،‬وهام‪ :‬علم «كان» و«علم البدء»[[[‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫ذكرهام ابن عريب يف ر ِّده عىل أسئلة الحكيم‬
‫ب وطيدة بحكمة املث َّنى‪ .‬فاملقصود‬ ‫‪ -‬القاعدة األوىل‪ -‬علم “كان”‪ :‬ولهذه القاعدة صلة ن ََس ٍ‬
‫وتأسيسا عىل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ً‬ ‫كل ما سواه من أشياء الكون‪.‬‬ ‫من هذا العلم هو تنزيه الله تعاىل عن ِّ‬
‫َيس كَ ِم ْثلِ ِه َ‬
‫ش ٌء‪ .[[[‬يق ّرر علم “كان” أنَّه سبحانه ال تصحبُه الشّ يئيَّة‪ ،‬وال تنطلق عليه‪ ..‬فقد َسلَب‬ ‫‪‬ل َ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وسلَب َمع ّية الشيئ َّية‪ .‬إنه مع األشياء‪ ،‬وليست األشياء معه‪ .‬أل َّن امل َع َّية تابعة للعلم‪ :‬إنَّه‬‫الشيئ َّية عنه‪َ ،‬‬
‫ين‪،‬‬
‫يعل ُمنا فهو معنا‪ ،‬ونحن ال نعل ُمه فلسنا معه‪ ..‬وأ َّما لفظة (كان) فليس املراد منها التّقييد الزما َّ‬
‫وجودي‪ ،‬ال فعل يطلُب الزمان‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫وإمنا املراد بها الكون الذي هو (الوجود)‪ .‬فتحقيق “كان” أنَّه حرف‬
‫ولهذا مل يَرد ما يقوله علامء ال ُّرسوم‪ ،‬من املتكلّمني‪ ،‬وهو قولهم “وهو اآلن عىل ما عليه كان”‪،‬‬
‫يبي‬‫فهذه زيادة ُمدرجة يف الحديث م َّمن ال علم له بعلم (كان)‪ ،‬وال س َّيام يف هذا املوضع كام ِّ‬
‫رصف األفعال‪ ،‬فليس من أشْ َبه شيئًا من وجه ما يُشبهه‬ ‫رصفت “كان” ت ُّ‬
‫ابن عريب‪ ..‬ويضيف‪ :‬ولنئ ت َّ‬
‫تدل عىل الزمان‪ .‬وأصل وضعه‬ ‫من جميع الوجوه‪ ،‬بخالف الزيادة‪ ،‬بقولهم “وهو اآلن”‪ ،‬فإ َّن “اآلن” ُّ‬
‫فلم كان مدلولها “الزمان‬ ‫تدل عىل الزمان الفاصل بني الزمانني (املايض واملستقبل)‪َّ ..‬‬ ‫أنها لفظة ُّ‬
‫وجودي”‪ ،‬وتخ َّيل فيه‬
‫ّ‬ ‫الحق‪ ،‬وأطلق (كان) ألنَّه “حرف‬ ‫ِّ‬ ‫الوجودي”‪ ،‬مل يُطلقه الشارع يف وجود‬
‫رصف‪،‬‬ ‫رصف‪ :‬من كان ويكون فهو كائن و ُمك َّون‪ ..‬فلام رأوا يف “الكون” هذا الت ُّ‬ ‫الزمان لوجود الت ُّ‬
‫الذي يلحق األفعال الزمان َّية‪ .‬تخ ّيلوا أ َّن حكمها حكم الزمان‪ ،‬فأدرجوا “اآلن” تت َّمة للخرب وليس‬
‫منه[[[‪ ..‬وعليه كان تقرير الشيخ ابن عريب حول علم “كان” أ َّن الله موجود‪ ،‬وال يشء معه‪ .‬أي‬
‫ما ث َّم من وجوده واجب لذاته غري الحق‪ .‬واملمكن واجب الوجود به ألنَّه مظهره‪ ،‬وهو ظاهر به‪.‬‬
‫وال َع ْي املمكنة مستورة بهذا الظاهر فيها‪ ..‬فانْ َدرج املمكن يف واجب الوجود لذاته “ َع ْي ًنا”‪ ،‬واندرج‬
‫كم”‪...[[[..‬‬
‫ح ً‬‫الواجب الوجود لذاته يف املمكن “ ُ‬
‫‪ -‬القاعدة الثانية‪ :‬علم ال َبدء‪ :‬ال ينأى هذا العلم عن علم “كان” يف منظومة ابن عريب‪ ،‬بل هو‬
‫الحلقة التالية يف علم التوحيد‪ .‬فإذا كان علم “كان” هو علم اإلقرار بالذات األحديَّة وتنزيهها عن‬
‫الفقر واإلمكان‪ ،‬فإ َّن علم البَدء هو علم اإلقرار بحاصل الكلمة اإللهيَّة “كن”‪ .‬أي باملوجود البَ ْديئ‬
‫إلهي يف دنيا الخلق‪ .‬عىل هذا األساس يع ِّرفه ابن عريب بأنَّه علم الفصل بني الوجودين‪،‬‬ ‫تجل ٍّ‬
‫كأول ٍّ‬
‫رصح الشيخ األكرب ويضيف‪ :‬إ َّن أقرب ما تكون‬ ‫القديم وامل ُحدث‪ .‬وهو علم عزيز وغري مق َّيد‪ .‬كام ي ِّ‬
‫العبارة عنه‪ ،‬أن يُقال‪ :‬ال َب ْدء افتتاح وجود املمكنات عىل التّتايل والتّتابُع‪ ،‬لكون الذات املوجدة‬

‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ -‬أجوبة ابن عريب عىل أسئلة الحكم الرتمذي‪ -‬إعداد وتحقيق‪ :‬أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق عيل وهبي ‪ -‬مكتبة الثقافة‬
‫الدين َّية ‪ -‬ط ‪ 1-‬القاهرة ‪ - 2006 -‬ص ‪.42-41‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬أجوبة ابن عريب عىل أسئلة الحكيم الرتمذي‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.50‬‬

‫‪179‬‬
‫المحور‬

‫إل‬
‫له اقتضت ذلك من غري تقييد بزمان‪ .‬فالزمان من جملة املمكنات الجسامنيَّة‪ ،‬وهو ال يُعقل َّ‬
‫الحق‪ ،‬أعيان ثابتة‪ ،‬موصوفة بالعدم أزلً ‪ ،‬وهو‬ ‫ِّ‬ ‫إرتباط ممكن بواجب لذاته‪ .‬فكان يف مقابلة وجود‬
‫الكون‪ ،‬الذي ال يشء مع الله فيه‪ ،‬إلَّ أن وجوده أفاض عىل هذه األعيان‪ ،‬عىل حسب ما اقتضته‬
‫ح ْية”‬
‫استعداداتها‪ ،‬فتك َّونت ألعيانها‪ ،‬ال ل ُه‪ ،‬من غري بين َّية تُعقَل أو تتو َّهم‪ .‬فوقعت يف تص ُّورها “ال َ‬
‫الفكري”‪ .‬وال ُّنطق عام يقتضيه الكشف‪ ،‬بإيضاح‬ ‫ّ‬ ‫من طريقني‪ :‬طريق “الكشف”‪ ،‬وطريق “الدليل‬
‫معناه‪ ،‬يتعذَّر‪ :‬فإ َّن األمر غري ُمتخيَّل‪ ،‬فال يُقال‪ ،‬وال يدخُل يف قوالب األلفاظ‪ .‬وسبب ع َّزة ذلك‪،‬‬
‫يبي الشيخ األكرب‪ ،‬يعود إىل الجهل بالسبب األول وهو “ذات الحق”‪ .‬وملا كانت سب ًبا‪ ،‬كانت‬ ‫كام ّ‬
‫إل ًها ملألوه لها‪ ،‬حيث ال يعلم املألوه أنه مألوه‪ .‬بعضهم قال‪“ :‬إن البدء كان عن نسبة القهر”‪ ،‬وقال‬
‫غريهم‪“ .‬بل كان عن نسبة القدرة”‪ ..‬والذي وصل إليه عل ُمنا من ذلك ‪َ -‬و َوافَقنا األنبياء عليه ‪ -‬كام‬
‫إل عىل َع ْي ثابتة‪،‬‬‫يضيف ابن عريب‪ -‬أ ّن “البدء عن نسبة أ ْمر‪ ،‬فيه رائحة َج ْب”‪ .‬إذ الخطاب ال يَقَع َّ‬
‫بس ْمع ما هو سمع وجود‪ ،‬ال عقل وجود‪ ،‬وال علم وجود‪.‬‬ ‫معدومة‪ ،‬عاقلة سميعة‪ ،‬عاملة مبا تسمع‪َ :‬‬
‫فالْتَبست‪ ،‬عند هذا الخطاب بوجوده‪ .‬فكانت “ َمظْه ًرا له” من إسمه (األول‪-‬الظاهر)‪ .‬وانسحبت هذه‬
‫كل َع ْي إىل ما ال يتناهى‪ ..‬فإن ُمعطي الوجود ال يُقيّده ترتيب‬ ‫الحقيقة‪ ،‬عىل هذه الطريقة‪ ،‬عىل ِّ‬
‫املمكنات‪ ،‬إذ النسبة منه واحدة‪ .‬فالبَ ْدء ما زال‪ ،‬وال يزال‪ .‬وكل يشء من املمكنات له عني األوليّة‬
‫يف البدء‪ .‬ث ُ ّم إذا نُسبت املمكنات‪ ،‬بعضها إىل بعض‪ّ ،‬‬
‫تعي التق ُّدم والتأخُّر‪ ،‬ال بالنسبة إليه سبحانه‪..‬‬
‫فوقف “علامء ال َّنظر” مع ترتيب املمكنات‪ ،‬حيث َوقَفنا نحن مع نسبتها إليه تعاىل[[[‪..‬‬
‫الحق هي أول َّية‬‫ِّ‬ ‫ث َّم ينتقل ابن عريب إىل طور متق ِّدم يف تعريف هذا املوجود فيقول‪“ :‬إ َّن أول َّية‬
‫صح نسبتها وال نَ ْعته بها‪ ،‬وهكذا جميع ال ّنسب األسامئ َّية‬ ‫(العامل)‪ ،‬إذ ال أول ّية للحق بغري العامل‪ ،‬وال يَ ّ‬
‫كلِّها‪ ..‬ف َع ْي املمكن مل ت َزل‪ ،‬وال تزال‪ ،‬عىل حالها من اإلمكان‪ ..‬واألمور ال تتغيَّ عن حقائقها‪،‬‬
‫َ ُ َ َ ُ‬ ‫ََ َ َْ َ‬
‫‪‬وق ْد خلق ُتك مِن قبْل َول ْم تك‬ ‫باختالف الحكم عليها‪ ،‬الختالف ال ّنسب‪ .‬أال ترى إىل قوله تعاىل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ َ ْ َُ َ َ‬ ‫َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫شيْ ًـٔا‪ ،[[[‬وقوله تعاىل ‪‬‏‏إِن َما ق ْول َنا ل ِش ْي ٍء إِذا أ َردناهُ أن نقول ل ُه كن ف َيكون‏‪ ،[[[‬ف َنفى الشّ يئ َّية عنه‬
‫ْ‬
‫[[[‬
‫وأث ْ َبتها له‪ ،‬والعني هي العني‪ ،‬ال غريها‪...‬‬
‫النظري للمخلوق األول‪ .‬وعليه سوف‬ ‫ِّ‬ ‫بي يف مقرتبات العرفان‬
‫سيكون لهاتني القاعدتني حضو ٌر ِّ ٌ‬
‫نحاول يف ما ييل استظهار طائفة من املقرتبات الواردة يف أعامل عدد من العرفاء‪ ،‬وهي تدور عىل‬
‫اإلجامل مدار التعريف بطبيعة املوجود األول‪ ،‬وخصوص َّيته وكيف َّية صدوره‪ ،‬وامله َّمة اإلله َّية التي‬
‫أوكلت اليه‪ .‬وميكن القول أ َّن هذه املقاربات وإن تباينت يف رسديَّاتها حول ماهيَّة وهويَّة هذا‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫[[[‪ -‬سورة مريم‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪.40‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب – أجوبة ابن عريب عىل أسئلة الحكيم الرتمذي‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.44‬‬

‫‪180‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫املخلوق‪ ،‬فإنَّها تتقاطع عىل الجملة حول منزلته الفريدة ومكانته املفارقة يف عامل الوجود‪.‬‬
‫سنورد يف ما ييل أبرز ما أطلق عليه من نعوت وأوصاف يف هذا الخصوص‪:‬‬
‫َّ‬
‫األول‪ :‬املوجود املنفرد بذاته‪:‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يل‪ .‬ومؤ َّدى‬ ‫يستهل العرفاء َسفَرهم ملعرفة املخلوق األول من خالل السعي إلثباته بالدليل العق ّ‬
‫قولهم يف هذا املسعى أ َّن مقتىض القوانني العقليَّة تثبت وجود موجود يف الخارج قائمٍ بنفسه غريِ‬
‫ذي وضع‪ ،‬ومشتملٍ بالفعل عىل جميع املعقوالت‪ ،‬التي ميكن أن تخرج إىل الفعل‪ ،‬بحيث يستحيل‬
‫أزل وأب ًدا[[[‪ .‬من‬
‫الصفات ً‬ ‫عليه وعليها التغيُّ واالستحالة والتجديد والزوال‪ ،‬ويكون هو وهي بهذه ِّ‬
‫الكل‪ ،‬وحي ًنا آخر بـ “الَّلوح املحفوظ”‪ .‬ويقول املحقِّق‬ ‫ِّ ّ‬ ‫الحكامء من ذهب إىل تسميته حي ًنا بالعقل‬
‫والفيلسوف صائن الدين ابن تركة عن هذا املوجود أنَّه يعادل “نفس األمر” الذي هو عبارة عن‬
‫حقائق األشياء بحسب ذواتها‪ ،‬وبقطع النظر عن األمور الخارجة عنها‪ .‬ويضيف‪“ :‬أن نفس األمر هو‬
‫عم ث ُبتت فيه الصور واملعاين الحقَّة‪ ،‬وهو العالَم األعىل الذي هو عامل املج َّردات‪ ،‬كام‬ ‫أيضً ا كناية ّ‬
‫حق وصدق من املعاين والصور‪ ،‬ال بُ َّد وأن‬ ‫كل ما هو ٌّ‬ ‫يُطلق عامل األمر عىل هذا العامل؛ ذلك أل َّن َّ‬
‫الحق هو‬
‫ِّ‬ ‫الحي التا ُّم الذي فيه جميع األشياء‪ ،‬وأ َّن فعل‬
‫ُّ‬ ‫يكون له مطابَق يف ذلك‪ .‬فالعامل األعىل هو‬
‫العقل األ ّول؛ فلذلك صار له من الق َّوة ما ليس لغريه‪ ،‬وأنَّه ليس هناك جوهر من الجواهر التي بعد‬
‫والعقل هي األشياء‪،‬‬‫َ‬ ‫إل وهو من فعل العقل األ ّول؛ وعليه فإ َّن األشياء كلّها هي العقل‪،‬‬ ‫العقل األ َّول ّ‬
‫وإنَّ ا صار العقل جمي َع األشياء‪ ،‬أل َّن فيه جمي َع كلّ َّيات األشياء وصفاتِها وصورِها‪ ،‬وجمي ُع األشياء‬
‫‪-‬التي كانت وتكون‪ -‬مطابِق ٌة ملا يف العقل األ ّول‪ .‬ثم مييض ابن تركة إىل إنشاء عالقة وطيدة بني‬
‫هذا املوجود ومنشأ املعرفة البرشيَّة لريى أ َّن معارفنا ‪-‬التي يف نفوسنا‪ -‬مطابقة لألعيان التي يف‬
‫الصور التي يف نفوسنا وبني الصور التي يف‬ ‫الوجود‪ ،‬ولو ج َّوزنا غري ذلك ‪-‬أعني أن يكون بني تلك ُّ‬
‫الوجود تباين أو اختالف‪ -‬ما عرفنا تلك الصور‪ ،‬وال أدركنا حقائقها؛ أل َّن حقيقة اليشء ما هو به هو‪،‬‬
‫وإذا مل يكن‪ ،‬فال محالة غريه‪ ،‬وغري اليشء نقيضه؛ فإذن جميع ما تدركه النفس وتتص َّوره من أعيان‬
‫إل أنَّه تن َّوع بنوع ونوع[[[‪.‬‬ ‫املوجودات‪ ،‬هو تلك املوجودات‪ّ ،‬‬
‫كالم ابن تركة حول ماهيَّة املوجود األول يحيلنا إىل الفضاء الذي اشتغل عليه العرفاء‪ .‬فاملقطوع‬
‫جل هؤالء عن هذا املوجود ليس هو نفسه الكون الذي ع َّرفه اإلغريق بادئ األمر‬ ‫به أن ما تداوله َّ‬
‫كل‬
‫ثم أخذه عنهم كرثة من املتأخّرين من الفالسفة وعلامء الكالم‪ .‬فهو عندهم الكائن املنعتق من ِّ‬

‫[[[‪ -‬ابن تركه‪ ،‬صائن الدين ‪ -‬متهيد القواعد ‪ -‬تقديم وتصحيح وتعليق‪ :‬سيد جالل الدين آشتياين‪ -‬مركز النرش اإلسالمي يف الحوزة العلم َّية‬
‫‪ -‬قم‪ -‬إيران ‪ 1381‬هـ ‪ -‬ص ‪.182‬‬
‫[[[‪ -‬ابن تركة‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.183‬‬

‫‪181‬‬
‫المحور‬

‫لكل موجوديَّة‪ ،‬لكونه يؤلِّف صيغة الظهور‬


‫يئ‪ ..‬إلَّ أنَّه مع ذلك هو الحاضن ِّ‬
‫عالقة بالزمان الفيزيا ّ‬
‫الذي به تظهر األشياء من دون أن تلزمه أن ميتلئ بها ليحقِّق هذا الظهور‪...‬‬

‫الثاين‪ :‬عالم اإلمكان وعالم األمر‪:‬‬


‫يناظر املث َّنى بصفته موجو ًدا بدئ ًّيا عامل اإلمكان أو عامل األمر‪ .‬بل هو عامل الوجود املطلق‪،‬‬
‫وهو أ َّن املوجودات موجودة فيه عىل وجه اإلطالق‪ ،‬غري مق َّيدة بهيئة‪ .‬أي أ َّن املخلوقات موجودة‬
‫فيه ذك ًرا ال عي ًنا‪ .‬ما َّدتها واحدة‪ ،‬ال ميكن متييزها بعضها عن بعض‪ ،‬يعني أن زي ًدا موجود يف عامل‬
‫متخصصة‪ [[[.‬ويُس َّمى أيضً ا‬ ‫ّ‬ ‫اإلمكان‪ ،‬لكنه موجود بالذكر‪ ،‬ال بالعني‪ ،‬يعني‪ :‬مادة ليست متعيّنة‪ ،‬وال‬
‫الَ ْم ُر تَ َبا َركَ اللَّهُ َر ُّ‬
‫ب الْ َعالَ ِم َ‬
‫ني‪.[[[‬‬ ‫بعامل األمر‪ ،‬وهو مأخو ٌذ من قوله تعاىل‪ :‬أَ َل لَهُ الْ َ‬
‫خل ُْق َو ْ‬
‫ويقابل الوجود املطلق الوجود املقيّد‪ ،‬وفيه املخلوقات موجودة وجو ًدا مقيّ ًدا بصورة‪،‬‬
‫وموجودة فيه ذك ًرا وعي ًنا‪ .‬ويكون تقييدها بالحدود الستة‪ ،‬وهي‪ :‬الكم‪ ،‬والكيف‪ ،‬والجهة‪ ،‬والرتبة‪،‬‬
‫والزمان‪ ،‬واملكان‪ ،‬ويُس ّمى هذا بعامل التكوين‪ ،‬يعني زيد يف هذا العامل موجود بالذكر والعني‪،‬‬
‫وتخصصت بالحدود املذكورة‪ .‬ويس َّمى أيضً ا بعامل الخلق‪ .‬وميثل ذلك املحربة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ما َّدته تع َّينت‬
‫تحتوي حروفًا‪ ،‬لكنها موجودة ذك ًرا ال عي ًنا‪ .‬وبالكتابة تخرج من اإلطالق إىل التقييد فتكون‪ - :‬‬
‫وحينئذ ت ُعترب مق ّيدة‪ ،‬فيحكم عليها بأنها ‪ ‬و(ن) و(ع)‪ ،‬فقد أصبحت موجودة ذك ًرا‬ ‫ٍ‬ ‫أو(ن) و(ع)‪،‬‬
‫وعي ًنا‪ .‬فاملخلوقات مل َّا كانت يف عامل اإلمكان مل تكن متاميزة‪ ،‬وملا أُل ِق َي عليها التكليف‪ ،‬وقَبِلت‬
‫كل حسب قدره ظهرت ومت َّيزت يف عامل التكوين‪.‬‬ ‫صصها‪ّ ،‬‬ ‫ِح َ‬
‫الثالث‪ :‬املمدُّ األول أو العرش‪:‬‬
‫حسن‬ ‫يئ مبا وصفه به الخالق وأفاضه عليه من ُ‬ ‫يذهب ابن عريب إىل وصف املوجود البَد ّ‬
‫التدبري‪ .‬فقد منحه من صفاته وأسامئه الحسنى اإلمداد والرعاية‪ .‬وعليه فقد أعطاه حقَّه من التنظري‬
‫يبي ابن عريب يف هذا املوضع‪،‬‬ ‫وخلقًا يف اآلن عينه‪ّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫املخصوص عىل نحو يجعل منه مخلوقًا‬
‫أن ما أطل ََق عليه بعض املحقّقني من أهل املعاين املا َّدة األوىل‪ ،‬كان األوىل بهم أن يطلقوا عليه‬
‫امل ُ ِم ّد األول يف املحدثات؛ لكنهم س َّموه بالصفة التي أوجده الله تعاىل لها‪ .‬وليس مبستبعد أن‬
‫يس َّمى اليشء مبا قام به من الصفات‪ .‬يضيف‪« :‬وإمنا ُع ِّب عنه باملا َّدة األوىل فألن الله تعاىل خلق‬
‫األشياء عىل رضبني‪ :‬منها ما خلق من غري واسطة وسبب‪ ،‬وجعله سبباً لخلق يشء آخر‪ .‬ومنها وهو‬
‫الحق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ج َد األشياء عند األسباب ال باألسباب‪ ،‬خالفًا ملخالفي أهل‬ ‫االعتقاد الصحيح أنَّه تعاىل أو َ‬

‫مؤسسة اإلحقاقي للتحقيق والطباعة والنرش‪-‬‬


‫[[[‪ -‬آل سلامن‪ ،‬العالمة هاشم ‪ -‬رسالة املال حسن بن أمان‪ -‬تحقيق‪ :‬توفيق نارص البدعيل ‪َّ -‬‬
‫بريوت ‪ 2011-‬ص ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.54‬‬

‫‪182‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫يصح أن أول موجود مخلوق من غري سبب متقدم ثم صار سببًا لغريه ومادة له ومتوقّفًا ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫والذي‬
‫والري عىل الرشب عادة؛ وكتوقُّف‬ ‫ِّ‬ ‫الغري عليه عىل العقد الذي تق َّدم‪ ،‬كتوقُّف الشبع عىل األكل‪،‬‬
‫عقل وأمثال هذا؛ وكذلك كتوقُّف الثواب عىل فعل الطاعة‬ ‫والحي عىل الحياة ً‬‫ّ‬ ‫العامل عىل العلم‪،‬‬
‫ح َس ٌن‪ ،‬وال حرج‬
‫فلم لحظوا هذا املعنى س َّموه املادة األوىل وهو َ‬
‫والعقاب عىل املعصية رش ًعا‪َّ .‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫عقل[[[‪.‬‬
‫عليهم يف ذلك رش ًعا ال ً‬
‫لكن الشيخ األكرب يكتفي مبا َع َرضه قدماء اإلغريق وسواهم يف تعريف املوجود األول‪ ،‬لذا‬
‫سينتقل إىل أرض العرفاء حيث عبَّ عنه بعضهم بالعرش‪ .‬والذي حملهم عىل ذلك أنَّه ملا كان‬
‫العرش محيطًا بالعامل يف قول‪ ،‬أو هو جملة العامل يف قول آخر‪ ،‬وهو منبع إيجاد األمر والنهي‪،‬‬
‫ووجدوا هذا املوجود املذكور آنفًا يشبه العرش من هذا الوجه أعني اإليجاد واإلحاطة‪ .‬فكام‬
‫أ َّن العرش محيط بالعامل وهو الفلك التاسع [يف مذهب قوم]‪ ،‬كذلك هذا الخليفة محيط بعامل‬
‫ح َم ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫اس َت َوى‪ [[[‬عىل أنَّه يف معرض التم ُّدح‬
‫َّ‬
‫‪‬الر ْ‬ ‫اإلنسان‪ .‬ثم يومئ إىل قوله تعاىل‪:‬‬
‫حا‪ .‬فالعرش املذكور يف هذه اآلية‬ ‫لهذا املخلوق‪ .‬فلو كان يف املخلوقات أعظم منه مل يكن مت ُّد ً‬
‫حمل عىل هذا مستوى الله‬ ‫ً‬ ‫محل الصفة؛ والخليفة الذي س َّميناه عرشً ا‬ ‫ُّ‬ ‫هو مستوى ال َّرحمن‪ ،‬وهو‬
‫جل جالله؛ فبني العرشني ما بني الله والرحمن‪ ،‬وإنه كان‪ ،‬فال خفاء عند أهل األرسار فيام ذكرناه[[[‪.‬‬
‫وحد االستواء من هذا العرش املرموز قوله‪« :‬إ َّن الله تعاىل خلق آدم عىل صورته»؛ فالعرش‬
‫الحامل للذات واملحمول عليه للصفة‪ ،‬فتحقَّق أيُّها العارف وتنبَّه أيها الواقف‪ ،‬وأمعن أيها الوارث‪،‬‬
‫(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الرابع‪ :‬املعلم األول واإلمام املبي‪:‬‬
‫يئ ما عبَّ عنه بعضهم باملعلِّم األول‪ .‬والذي حملهم عىل ذلك‬ ‫من صفات املوجود ال َبد ِّ‬
‫أنه ملا تحقَّق عندهم خالفته وأنَّه حامل األمانة اإلله َّية‪ ،‬ونسبته من العامل األصغر نسبة آدم من‬
‫َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ‬
‫َ [[[‬
‫العامل األكرب‪ ،‬وقد قيل يف آدم‪‬وعلم آدم الأسماء كلها‪ ‬؛ كذلك هذا املوجود‪ ،‬ثم خاطب‬
‫َّ‬ ‫َ [[[ َ ُ ْ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ‬
‫حانك لا عِل َم ل َنا إِلا َما‬ ‫املالئكة فقال‪:‬أَنب ُئون بأَ ْس َماء َه ُؤلاء إن ُك ُ‬
‫نت ْم َصادِقِين‪ ‬قالوا سب‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬

‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين ‪ -‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ -‬تحقيق‪ :‬عاصم ابراهيم الكيايل الحسيني‪ -‬الطبعة الثانية‪ -‬دار‬
‫الكتب العلم َّية‪ 2003- -‬ص ‪.22‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآلية‪.5 :‬‬
‫[[[‪ -‬التدبريات اإلله َّية‪ -‬ص ‪.22‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األحزاب ‪ -‬اآلية‪.4 :‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪.32‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪.31‬‬

‫‪183‬‬
‫المحور‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ ْ‬
‫علمتنا إِنك أنت العل ِيم الحكِيم‪ ‬فأمر الخليفة أن يعلّمهم ما مل يعلموا فأمرهم الله سبحانه‬
‫[[[‬

‫بالسجود ملعلمهم [سجود أمر] كسجود الناس إىل الكعبة‪ ،‬كسجود أمر وترشيف ال سجود عبادة‪.‬‬
‫رس السجود هنا‬
‫الخواص يف فهم املخلوق األول‪ ،‬يرى ابن عريب أ َّن َّ‬
‫ِّ‬ ‫رسا من أرسار‬
‫ويف ما يعتربه ًّ‬
‫عب عنه بعضهم مبرآة‬
‫ال ميكن إيضاحه‪ ،‬وهو ما أشار إليه من قبل يف «مطالع األنوار اإلله َّية»؛ وقد َّ‬
‫تجل الحقائق والعلوم اإللهيَّة والحكم الربانيَّة‪ ،‬وأ َّن‬
‫ّ‬ ‫الحق والحقيقة‪ ،‬ذلك أنَّهم مل َّا رأوه موضع‬
‫ِّ‬
‫تجل وال ظهور كشف‪،‬‬
‫يصح يف العدم ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫الباطل ال سبيل له إليها‪ ،‬إذ الباطل هو العدم املحض‪ ،‬وال‬
‫الحق قوله‪« :‬املؤمن مرآة أخيه»‪ [[[.‬واألخوة‬ ‫ِّ‬ ‫فالحق كل ظهر‪ .‬والسبب املوجب هو لكونه مرآة‬ ‫ُّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫هنا عبارة عن املثل َّية اللغويَّة يف قوله تعاىل‪ :‬لي َس ك ِمثلِهِ ش ْي ٌء‪[[[‬؛ وذلك عند بروز هذا املوجود‬
‫وتجل له من‬
‫َّ‬ ‫يف أصفى ما ميكن وأجىل ممكن ظهر فيه الحق بذاته وصفاته املعنويَّة ال النفسيَّة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ان ف ِي أَ ْ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ َْ‬
‫يم‪[[[‬؛‬ ‫و‬
‫ِ ِ ٍ‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ح َ‬
‫س‬ ‫حرضة الوجود؛ ويف هذا الظهور الكريم قال تعاىل‪ :‬لق ْد خلق َنا الإِنس‬
‫فتأ َّمل هذه اإلشارة فإنَّها لباب املعرفة وينبوع الحكمة[[[‪.‬‬
‫يئ باإلمام‬
‫وينقل ابن عريب عن الشيخ العارف أيب الحكيم بن ب ّرجان[[[ وصفه املوجود البَ ْد ُّ‬
‫بكل يشء يف قوله تعاىل‪:‬‬‫املبني‪ ،‬وهو – حسب تأويل الشيخ األكرب ‪ -‬الَّلوح املحفوظ [املعرب عنه ِّ‬
‫ًّ ُّ َ‬ ‫ُ ّ َ ْ َّ ْ َ ً َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫‪‬وك َتب َنا ل ُه ف ِي الألواح مِن ك ِل شي ٍء موعِظة وتف ِصيلا ل ِك ِل شي ٍء‪ ‬وهو الَّلوح املحفوظ‪ .‬والذي‬
‫[[[‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ين‪ ،[[[‬ووجدنا العامل كلّه أسفله‬ ‫ح َصيْ َناهُ ف ِي إ َمام ُ‬ ‫ك َش ْيء أَ ْ‬
‫َ ُ َّ‬
‫ب‬‫م‬
‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫حمله عىل ذلك قوله تعاىل‪ :‬و‬
‫وأعاله محىص يف اإلنسان فس َّميناه اإلمام املبني‪ ،‬وأخذناه تنبي ًها من اإلمام املبني الذي هو عند‬
‫الله تعاىل‪ ،‬فهذا حظنا منه[[[‪.‬‬
‫اخلامس‪ُ :‬‬
‫المفيض ومركز الدائرة‪:‬‬
‫ت املوجود البَديئ بامل ُفيض‪ :‬وهو ما ورد عن أحد أساتذة ابن عريب العارف‬
‫من العرفاء من ن َع َ‬

‫[[[‪ -‬سورة البقرة ‪ -‬اآلية ‪.32‬‬


‫[[[‪ -‬للحديث رواية أخرى هي‪« :‬املؤمن مرآة املؤمن» أخرجه أبو داود (أدب ‪.)49‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الشورى ‪ -‬اآلية ‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬سورة التني‪ -‬اآلية ‪.4‬‬
‫[[[‪ -‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ -‬مصدر م َّر ذكره‪ -‬ص ‪.23‬‬
‫[[[‪ -‬هو عبد السالم بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي اإلشبييل (انظر ترجمته يف فوات الوفيات ‪ ،274/1‬ويف االستقصاء ‪ ،129/1‬ويف‬
‫لسان امليزان ‪ ،13/4‬ويف مفتاح السعادة ‪ 44/1‬وفيه وفاته ‪ 727‬خطأ)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.145‬‬
‫[[[‪ -‬سورة يس‪ -‬اآلية‪.12 :‬‬
‫[[[‪ -‬التدبريات اإلله َّية‪ -‬املصدر نفسه – ص ‪.24‬‬

‫‪184‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫بالله أبو مدين شعيب التلمساين[[[‪ -‬ومنهم من اعتربه «مركز الدائرة»‪ .‬والذي حمل هؤالء عىل مثل‬
‫هذا االعتبار‪ -‬كام يبني الشيخ األكرب‪ -‬أنَّهم ملا نظروا إىل عدل هذا الخليفة يف ملكه واستقامة‬
‫طريقته يف هيئاته وأحكامه وقضاياه‪ ،‬فقد س َّموه مركز دائرة الكون لوجود العدل به‪ ،‬وإمنا حملوه‬
‫كل خط يخرج من النقطة إىل املحيط مساويًا لصاحبه رأوا ذلك‬ ‫عىل مركز الكرة نظ ًرا منهم إىل أن َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫غاية العدل فس ّموه مركز الدائرة لهذا املعنى‪ .‬وأ َّما تأويل ذلك فإ َّن نقطة الدائرة هي أصل يف وجود‬
‫املحيط‪ ،‬ومهام ق َّدرت كرة وجو ًدا أو تقدي ًرا فال ب َّد من أن تقدر لها نقطة هي مركزها؛ فال يلزم من‬
‫وجود النقطة ووجود املحيط ووجود الفاعل من هذه الدائرة ورأس الضابط وال دائرة يف الوجود‬
‫املختصة بالنقطة يد‬
‫َّ‬ ‫كان الله وال يشء معه‪ ،‬وفخذاه يداه املبسوطتان جو ًدا أو إيجا ًدا؛ والفخذ‬
‫املختصة باملحيط يد عامل امللك والشهادة‪ :‬فالواحدة لألمر‬ ‫َّ‬ ‫املغيب وامللكوت األعىل‪ ،‬والفخذ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ َ‬
‫حيط‪ ،[[[‬وقد خلقتك مِن قبل ولم تك شيئا‪[[[‬؛ فَيد‬ ‫واألخرى للخلق والله ‪‬بِك ِل ش ْي ٍء م ِ‬
‫املركز مع َّراة عن الحركة القاطعة لألحياز‪ ،‬ويد املحيط متح ِّركة؛ فتأ َّمل ن َّور الله بصريتك لهذه‬
‫اإلشارات‪ ،‬فقد م َّهد لك السبيل‪ .‬ثم يختم ابن عريب حديثه يف شأن هذا املخلوق األول بقوله‪ :‬ولو‬
‫تقصيت آثاره وتتبّعت خصائصه وأطلقت عليه [من ذلك] ألقابًا ملا وسعها ديوان؛ فاقترصنا يف هذا‬ ‫ّ‬
‫[[[‬
‫اإليجاز عىل هذا القدر لندل بذلك عىل رشفه واجتبائه من بني سائر املحدثات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وظهورها بالكلمة‪:‬‬ ‫السادس‪ :‬العني الثابت�ة‬
‫استنا ًدا إىل كونه معادلً لألعيان الثابتة مبا هي الوجود الكامن يف مقام األلوه َّية‪ .‬فقد ثبت أ َّن‬
‫املث َّنى مل يوجد من عدم‪ .‬بل إ َّن فعل إيجاده متصل بكمونه وقابل َّيته للظهور حاملا يجيئه األمر‬
‫رصح مبا وصف به هذا املخلوق‪ ،‬لوال أنَّه استشعر‬ ‫اإللهي‪ .‬عىل هذا األساس مل يكن ابن عريب لي ِّ‬ ‫ّ‬
‫املؤسسة لعلم البدء‪ .‬من أجل ذلك سيطلق عىل متعلِّق هذا العلم اسم األعيان الثابتة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫منزلته‬
‫نتبي من أعامل العرفاء‪ -‬هي مفتاح الكثري من املعضالت التي واجهت‬ ‫واألعيان الثابتة – عىل ما َّ‬
‫النظريَّات الوجوديَّة‪ .‬أ َّما فهمها فيقوم عىل أن عمل الخلقة ال يعني ظهور موجودات مستقلَّة إىل‬
‫الحق وتش ّؤنه يف صور األشياء‪ .‬وعليه فإ َّن صورة‬‫ِّ‬ ‫تجل‬
‫ّ‬ ‫جانب الله تعاىل‪ .‬وإنّ ا هو عبارة عن‬
‫فكل يشء يظهر‪ ،‬إمنا يظهر من يشء شبيه به‪.‬‬ ‫األشياء ال ت ُخلق بواسطة الله‪ ،‬ما مل تكن موجودة فيه‪ُّ .‬‬
‫يعتقد ابن عريب يف هذا الخصوص أ َّن إنشاء الخلق يقتيض توفُّر طرفني‪ :‬األول هو الفاعل والذي‬

‫[[[‪ -‬هو شعيب بن الحسن األندليس التلمساين ‪ 594‬هـ – ‪ 1198‬م)‪ ،‬أبو مدين‪ ،‬صويف‪ ،‬من مشاهريهم‪ ،‬أصله من األندلس‪ ،‬أقام بفاس‪،‬‬
‫وسكن «بجاية» وكرث أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب املنصور‪ ،‬وتويف بتلمسان‪ ،‬وقد قارب الثامنني أو تجاوزها‪ .‬له «مفاتيح الغيب إلزالة‬
‫الريب‪ ،‬وسرت العيب»‪ .‬األعالم ‪ ،166/3‬وجذوة االقتباس ‪ ،332‬وشجرة النور ‪ ،164‬وشذرات الذهب ‪.303/4‬‬
‫[[[‪ -‬سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪.54‬‬
‫[[[‪ -‬سورة مريم‪ ،‬اآلية‪.9 :‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ -‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة االنسان َّية ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.27‬‬

‫‪185‬‬
‫المحور‬

‫عبارة عن أسامء الله‪ .‬والثاين هو القابل والذي عبارة عن األعيان الثابتة‪ .‬واالثنان – أي الفاعل‬
‫والقابل – موجودان يف مقام األلوهيَّة‪ ،‬أي أ َّن الفاعل والقابل مجتمعان م ًعا‪ :‬فإنَّه أعىل ما يكون من‬
‫إل وجود‬ ‫الحق تعاىل هو عني الوجود الذي استفادته املمكنات فام ثم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫النسب اإلله َّية أن يكون‬
‫الحق ال غريه؛ والتغيريات الظاهرة يف هذه العني هي أحكام أعيان املمكنات فلوال العني ملا‬ ‫ِّ‬ ‫عني‬
‫ظهر الحكم‪ ،‬ولوال املمكن ملا ظهر التغيري‪ ،‬فال ب َّد من األفعال من حق وخلق[[[‪ .‬ويرى ابن عريب‬
‫أ َّن هذه األعيان موجودة بوجود الله من جانب‪ ،‬ومعدومة من جانب آخر ألنها تقبل الوجود‪ .‬إذن‬
‫فالخلق من العدم يعني الخلق من األعيان الثابتة‪ .‬وها هنا تظهر مفارقة الوجود والعدم‪ .‬واألعيان‬
‫صحيح أنها تحظى بالشيئ َّية لكنها ال تتمتَّع بالوجود كوجود‬ ‫ٌ‬ ‫الثابتة أشياء ال وجود لها يف الخارج‪.‬‬
‫عيني وظهور يف عامل الشهادة حتى يفيض عليها الله بأمر اإليجاد‪ .‬وهنا بالذات يبطل ابن عريب‬ ‫ّ‬
‫وسائر العرفاء اإللهيون نظريَّة الخلق من عدم‪ .‬ويف هذا الشأن يضيف الشيخ األكرب “أل َّن أعيان‬
‫إل أنَّها مل تتَّصف بالوجود[[[‪ ...‬ألن العدم الثابتة فيه ما‬
‫املوجودات معدومة وإن ات َّصفت بالثبوت‪َّ ،‬‬
‫ش َّمت رائحة من املوجود فهي عىل حالها مع تعداد الصور يف املوجودات[[[‪ .‬أ َّما األعيان الظاهرة‬
‫فهي مظهر تلك األعيان الثابتة‪ .‬وميكن القول عىل ضوء وحدة الظاهر واملظهر‪ -‬إنّها نفسها‪ .‬أي‬
‫أنَّها األعيان الثابتة الظاهرة التي ما زالت يف البطون أيضً ا‪ .‬بتعبري آخر‪ :‬إ َّن وحدة الحق والخلق ال‬
‫يكون لها معنى إلَّ إذا كان أحد الطرفني معدو ًما‪ .‬واملخلوقات ليست سوى هذه األعيان الثابتة التي‬
‫الحق يقول‬
‫َّ‬ ‫الحق يف عامل الشهادة‪ .‬وحسب ابن عريب‪ ،‬أ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫إل أنَّها تتَّحد مع وجود‬
‫قلنا إنَّها معدومة َّ‬
‫إل‬
‫إل ملن ليست له شيئيَّة الوجود فال تراين َّ‬ ‫ألن عني كل يشء‪ ،‬فام أظهر َّ‬ ‫ما ث َّم يشء أظهر اليه ّ‬
‫املمكنات يف شيئيَّة ثبوتها‪ ،‬فام ظهرتُ إليها ألنَّها مل تزل معدومة‪ ،‬وأنا مل أزل موجو ًدا فوجودي‬
‫[[[‬
‫إل هكذا‪.‬‬ ‫عني ظهوري‪ ،‬وال ينبغي أن يكون األمر َّ‬
‫اإللهي عن علم الله‬
‫ُّ‬ ‫أسس له الكتاب‬‫يس ِّوغ القائلون باألعيان الثابتة م َّدعاهم اآلنف الذكر مبا َّ‬
‫بكل يشء قبل ظهوره‪.‬‬ ‫يتغي‪ .‬ولديه علم ِّ‬ ‫يل‪ ،‬وال َّ‬
‫يل‪ .‬فالله عامل مطلق‪ ،‬وعلمه غري محدود‪ ،‬وأز ٌّ‬ ‫األز ّ‬
‫يل‬
‫كام أ َّن ماه َّية العلم تكشف عن حقيقة املعلوم‪ .‬إذن ال ب َّد قبل ظهور الخلقة‪ ،‬من وجود معلوم أز ٍّ‬
‫يل الذي ال‬
‫يتغي‪ .‬ويعتقد ابن عريب بأ َّن األعيان الثابتة هي هذا املعلوم‪ ،‬وأنَّها أيضً ا علم الله األز ّ‬
‫ال َّ‬
‫تتغي‪ .‬وهو يذكر العديد من اآليات‬ ‫يتغي طبقًا لوحدة العلم واملعلوم‪ .‬وقد س ّميت بالثابتة ألنَّها ال َّ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الدالَّة عىل حضور األشياء عند الله‪ ،‬والتي تستخدم كلمة “عند”‪ ،‬مثل‪ :‬وما عِند اللِ ب ٍ‬
‫اق‪– [[[‬‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬ج ‪ 3-‬مرجع سبق الرجوع إليه يف فصول سابقة‪ -‬ص ‪.211‬‬
‫[[[‪ -‬فصوص الحكم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.102‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.76‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬ج ‪ ،4‬سبق ذكره‪ -‬ص ‪.9-8‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النحل ‪ -‬اآلية ‪.96‬‬

‫‪186‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫ََ َ ٓ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ [[[ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ ْ‬ ‫ََْ ُ َ ْ َ ً ّ ْ‬


‫ب‪ِ–[[[‬إَون ّمِن ش ْى ٍء إِلا ع‬
‫ِندنا خ َزائ ِ ُن ُه‪.[[[‬‬ ‫‪‬آتيناه رحمة ِمن عِندِنا‪ - ‬وعِنده مفات ِح الغي ِ‬
‫يرى الشيخ األكرب أ َّن كلمة «عند» ال ظرف زمان‪ ،‬وال ظرف مكان‪ ،‬كام أنَّها ليست «ظرف مكانة»‬
‫يف جميع املوارد‪ ،‬وال ب َّد من أن تكون إشارة إىل تلك األعيان الثابتة‪ :‬إنه يخلق األشياء ويخرجها‬
‫من العدم إىل الوجود وهذه اإلضافة تقيض بأنَّه يخرجها من الخزائن التي عنده فهو يخرجها من‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وجود مل تدركه إىل وجود تدركه فام خلقت األشياء إىل العدم الرصف بل ظاهر األمر أ َّن عدمها‬
‫مفصلة بعضها عن‬ ‫من العدم اإلضايف‪ ،‬ذلك أ َّن األشياء يف حال عدمها مشهودة له مي ّيزها بأعيانها ّ‬
‫بعض ما عنده فيها إجامل[[[‪.‬‬
‫اإللهي‪ .‬فالله فاعل بالحب‪ ،‬أي أنَّه‬
‫ّ‬ ‫الحب‬
‫ِّ‬ ‫يئ هو حاصل فعل‬
‫عند العرفاء‪ ،‬إ َّن ظهور املوجود ال َبد ّ‬
‫خلق العامل من أجل الحب‪ .‬وألنَّه يحب العامل فقد تعلَّقت إرادته بالخلق‪ .‬والعامل ليس سوى مظهر‬
‫الخفي الذي سيأيت تفصيله بعد قليل‪ .‬فاملسألة هي أ َّن إرادة‬ ‫ّ‬ ‫يل له‪ .‬وهذا أمر يؤيّده حديث الكنز‬ ‫تفصي ّ‬
‫االيجاد تتعلَّق بيشء معدوم‪ .‬وعليه ال ب َّد وأن يتعلَّق حب الله وإرادته يف خلقة العامل بيشء ينبغي أن‬
‫يدل عليه معنى العني الثابتة‪ .‬وقد م َّر معنا أ َّن األعيان الثابتة‬ ‫أول‪ ،‬ومعدو ًما ثان ًيا‪ .‬وهذا ما ُّ‬‫يكون شيئًا ً‬
‫القديس يف‪« :‬كنت كن ًزا‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي[[[‪ .‬يرشح ابن عريب الحديث‬ ‫ّ‬ ‫تتعلَّق بإرادة الله‪ ،‬والله يطلب وجودها‬
‫مخف ًّيا مل أعرف‪ ،‬فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتع َّرفت إليهم فعرفوين»‪ .‬يقول‪ :‬وملا ذكر املح َّبة‬
‫إل مبعدوم‬ ‫املحب يف نفسه‪ .‬وقد بيَّنا أ َّن الحب ال يتعلَّق َّ‬
‫ّ‬ ‫الحب ولوازمه مام يجده‬‫ِّ‬ ‫َعلِ ْمنا من حقيقة‬
‫يصح وجوده‪ .‬وهو غري موجود يف الحال والعامل محدث والله كان وال يشء معه‪ ،‬وعلم العامل من‬ ‫ّ‬
‫إل ما هو عليه يف نفسه وكأنَّه كان باط ًنا فصار بالعامل ظاه ًرا[[[‪.‬‬ ‫علمه بنفسه فام أظهر يف الكون َّ‬
‫َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫َّ َ ُ َ‬
‫ويف تأويله لقوله تعاىل‪:‬إِن َما ق ْول َنا ل ِش ْي ٍء إِذا أ َردناهُ أن نقول ل ُه كن ف َيكون‪ ،[[[‬يالحظ ابن‬
‫عريب أ َّن ذلك اليشء الذي يستمع أمر «كن» ويطيعه‪ ،‬ويظهر إىل الوجود بعد أن كان معدو ًما‪ ،‬هو‬
‫والحق املخلوق به حسب وصف‬ ‫ّ‬ ‫يئ‬
‫العني الثابتة‪ ،‬وهو ذاك الذي قصدنا به املث َّنى أو املوجود ال َبد ّ‬
‫تدل عىل مجمل األوصاف التي م َّرت معنا هي يف حقيقة أمرها‬ ‫الشيخ األكرب‪ .‬والعني الثابتة التي ُّ‬
‫ذاتٌ وجوديَّة مهديَّ ٌة وهادية يف اآلن عينه‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سورة الكهف ‪ -‬اآلية ‪.65‬‬


‫[[[‪ -‬سورة األنعام ‪ -‬اآلية ‪.59‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الحجر ‪ -‬اآلية ‪.21‬‬
‫[[[‪ -‬الكاكايئ‪ ،‬قاسم ‪ -‬وحدة الوجود برواية ابن عريب وماسرت ايكهارت ‪ -‬تعريب‪ :‬عبد الرحمن العلوي ‪ -‬دار املعارف الحكم َّية ‪ -‬بريوت‬
‫‪ 2018- -‬ص ‪.632‬‬
‫[[[‪ -‬ملزيد من التوضيح حول هذه النقطة راجع قاسم الكاكايئ ‪ -‬وحدة الوجود برواية ابن عريب وماسرت إيكهارت ‪ -‬مصدر سبق ذكره ‪ -‬ص‬
‫‪.635‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.399‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النحل ‪ -‬اآلية ‪.40‬‬

‫‪187‬‬
‫المحور‬

‫وعىل نحو ما تفصح عنه هذه املقاربة التأويليَّة ينوجد املث َّنى كعني ثابتة ث َّم يظهر يف عامل‬
‫اإلمكان كحاصل للمشيئة الخالقة من خالل تالزم ثالثة أفعال إلهيَّة هي‪ :‬األمر واإلرادة والكلمة‪.‬‬
‫‪‬إن َما أَ ْم ُرهُ‬
‫َّ‬
‫ُّ‬
‫نستدل عليه من اآلية التي وردت يف سورة يس وأ َّدت قصد اآلية السابقة نفسه‬ ‫وهو ما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫إِذا أ َراد شيْ ًئا أن َيقول ل ُه كن ف َيكون‪ .[[[‬فاآلية هنا تشري إىل نظام مثلَّث األضالع ينتظم الفعل‬
‫اإللهي يف إيجاد املوجودات‪ .‬فاألمر فعل اإلرادة‪ ،‬وال إرادة ملجهول‪ .‬والنتيجة أ َّن اليشء سابق يف‬ ‫ُّ‬
‫يب‪.‬‬
‫الواقعي يف الصقع الربو ّ‬
‫ّ‬ ‫الذهني الوجود‬
‫ّ‬ ‫األمري‪ ،‬متا ًما كام يسبق الوجود‬
‫ّ‬ ‫إيجاده عىل إيجاده‬
‫أ َّما الكلمة «كن» الواسطة اإلله َّية التي ظهر بها عامل الوجود اإلمكاين‪ .‬بذلك يكون فعل الكلمة‬
‫رس يف جعل‬ ‫كتجل لألمر واإلرادة م ًعا‪ .‬ولعل ال َّ‬
‫ِّ‬ ‫انكشَ َف الله عن أمره وإرادته ليظهر املخلوق األول‬
‫متعلّق إرادته سبحانه يف «كن» هو استبعاد دخولها تحت توصيف «ما بالق َّوة – ما بالفعل» التي‬
‫زخرت بها البحوث امليتافزيقيَّة يف عامل املمكنات‪ .‬أ َّما يف بحوث العرفان فسنجد قراءة مفارقة‬
‫مؤ َّداها‪ :‬أن يكون ما بالفعل هو عني ما بالق َّوة تجاوزًا‪ .‬لكن تحت حيطة ارادته املطلقة وبصورة‬
‫الرسم امنحاء الواو يف «كن» «تعبري» عن ذلك‪ .‬فليس يشء بحاجة إىل كون ما دام يف مخطوطة‬
‫األنطولوجي للعلم واإلرادة هو‬
‫ّ‬ ‫يتبي لنا أ َّن الحاصل‬
‫علمه للذي هو يف الوقت ذاته إرادته‪ .‬وبهذا َّ‬
‫الحق تعاىل «كن»‪ .‬ولذا فإ َّن هذه الكلمة االيجاديَّة هي الطريق بني الكون‬
‫ّ‬ ‫سمه‬
‫التجل البَديئ الذي َّ‬
‫ِّ‬
‫(ما دون الصقع الربويب) وبني العلم يف تعلق اإلرادة‪ .‬وبهذا املعنى تصري اإلرادة وسيط العلم إىل‬
‫الكينونة‪.‬‬
‫َّ‬
‫السابع‪ :‬املثن بما هو احلادث القديم‪:‬‬
‫مي ّيز ابن عريب بني مرتبتني للوجود‪ :‬مرتبة الوجود املطلق‪ ،‬وهو وجود الذات‪ ،‬ومرتبة الوجود‬
‫كل موجود‪،‬‬ ‫الحق منبع ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫الحس للعامل‪ .‬فالوجود املطلق هو الوجود‬
‫ّ ُّ‬ ‫العيني‬
‫ّ‬ ‫املقيَّد‪ ،‬وهو الوجود‬
‫يل[[[‪ .‬إلَّ‬
‫وهو النور الذي يسطع عىل املمكنات‪ ،‬فيخرجها من ح ّيز اإلمكان إىل ح ّيز الوجود الفع ّ‬
‫أ َّن التمييز الذي يجريه ابن عريب بني املرتبتني له تكملة جوهريَّة يف منظومته العرفان َّية‪.‬‬
‫اإللهي‪ ،‬ومن ث َّم‬
‫ِّ‬ ‫قابل للوجود من دون العدم؛ أل َّن له مرتبة الوجود يف العلم‬ ‫وإنَّ ا كان املمكن ً‬
‫الحق‪ ،‬ونسبة تغلب عىل جانب العدم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ترجح جانب الوجود فيه عىل جانب العدم؛ أل َّن له وج ًها إىل‬
‫فلذلك قبل الظهور بالوجود‪ ،‬وصار وجوده وجو ًدا إضاف ًّيا نسب ًّيا‪ ،‬ويف هذا املعنى يتن َّزل قوله‪:‬‬
‫ض ماثل‪ ،‬وأنه‪ ،‬وأن ات َّصف بالوجود‪ ،‬وهو بهذه‬ ‫ض زائل‪ ،‬و َغ َر ٌ‬ ‫الحق َع َر ٌ‬
‫ِّ‬ ‫كل ما سوى‬
‫«علمنا قط ًعا أ َّن َّ‬
‫حافظ يحفظ عليه الوجود‪ ،‬وليس إلَّ الله تعاىل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫املثابة يف نفسه‪ ،‬يف حكم املعدوم‪ ،‬فال ب َّد من‬
‫[[[‪ -‬سورة يس‪ -‬اآلية ‪.82‬‬
‫[[[‪ -‬الطيب‪ ،‬محمد بن‪ -‬عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عريب ‪ -‬بحث يف إطار كتاب جامعي بعنوان‪ :‬اإلميان يف الفلسفة والتص ُّوف‬
‫اإلسالميني‪ -‬إرشاف‪ :‬نادر الحاممي‪ -‬منشورات‪ :‬مؤمنون بال حدود ‪ -‬الرباط‪ -‬املغرب‪ 2016- -‬ص ‪.252‬‬

‫‪188‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫للحق يف الوجود‪ ،‬وليس‬


‫ِّ‬ ‫ولو كان العامل أعني وجوده لذات الحق ال للنسب لكان العامل مساوقًا‬
‫الحق‪ ،‬فيصح حدوث‬‫ِّ‬ ‫كذلك‪ ،‬فالنسب حكم الله أولً ‪ ،‬وهي تطلب تأخُّر وجود العامل عن وجود‬
‫حا عىل عدمه‪،‬‬
‫ج ً‬
‫العامل‪ ،‬وليس ذلك إلَّ لنسبة املشيئة‪ ،‬وسبق العلم بوجوده‪ ،‬فكان وجود العامل مر ّ‬
‫والوجود املرجع ال يساوق الوجود الذايت الذي ال يتَّصف بالرتجيح»‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ويصح وصفك‬‫ُّ‬ ‫العلمي‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫يصح وصفك العامل بال ِقدم إذا نظرت إىل مرتبة الوجود‬
‫ُّ‬ ‫وبنا ًء عىل ذلك‪،‬‬
‫الحس‪ ،‬وكالهام مرتبتان‪ ،‬ونسبتان إىل حقيقة وجوديَّة‬
‫ّ ِّ‬ ‫إيَّاه بالحدوث إذا نظرت إىل مرتبة الوجود‬
‫واحدة‪.‬‬
‫إل مجموعة‬ ‫وال يني ابن عريب ير ِّدد أ َّن األسامء اإلله َّية‪ ،‬ويجمعها اسم جامع هو األلوه َّية‪ ،‬ليست َّ‬
‫مستقل‪ ،‬بل وجودها وجود‬
‫ٌّ‬ ‫حس‬
‫من التعلُّقات واإلضافات ال أعيان لها‪ ،‬مبعنى أنَّه ليس لها وجود ّ ٌّ‬
‫الذهني املعقول لأللوهيَّة قوله‪ ،‬تقريبًا لهذا املعنى من‬
‫ُّ‬ ‫ومم يدعم وعيه هذا التص ُّور‬ ‫يل مفهوم‪َّ ،‬‬ ‫عق ٌّ‬
‫األذهان‪« :‬إ َّن اليشء الواحد تثنيه نفسه ال غري‪ ،‬فأ َّما يف املحسوس فآدم ثناه ما فتح يف ضلعه القصري‬
‫جا بها‪ ،‬وليست سوى نفسه التي قيل بها فيه‬ ‫األيرس من صورة حواء‪ ،‬فكان واح ًدا يف عينه‪ ،‬فصار زو ً‬
‫إنَّه واحد‪ .‬وأ َّما يف املعقول فاأللوه َّية ليست غري ذاته تعاىل‪ ،‬ومعقول األلوهة خالف معقول كونه‬
‫الحق وليست سوى عينها»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ذات ًا‪ ،‬فثنت األلوهة ذات‬
‫يتوسط بني الذات اإلله َّية والعامل‪ ،‬أو بني الوجود‬ ‫َّ‬ ‫ومن ث َّم‪ ،‬تكون األلوه َّية مفهو ًما ذهن ًّيا معقولً‬
‫الحس‪،‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫الحق املطلق والوجود املقيَّد املضاف‪ ،‬ويصعب أن توصف بالوجود أو العدم مبعناهام‬ ‫ِّ‬
‫بل األلوهة فاصلة واصلة يف آن‪ ،‬إنَّها أمر ثالث بني الوجود املطلق والوجود املقيّد «ال يتَّصف ال‬
‫أزل‪ ،‬فيستحيل عليه‪،‬‬ ‫الحق ً‬
‫ِّ‬ ‫بالوجود‪ ،‬وال بالعدم‪ ،‬وال بالحدوث‪ ،‬وال بال ِقدم‪ ،‬وهو مقارن لألز ِّ‬
‫يل‬
‫الحق وزيادة؛ ألنه ليس مبوجود‪ ،‬فإ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫ين عىل العامل والتأخُّر‪ ،‬كام استحال عىل‬ ‫أيضً ا‪ ،‬التق ُّدم الزما ُّ‬
‫يف يوصل إىل العقل حقيقة ما‪ ،‬وذلك أنَّه لو زال العامل ملا أطلقنا عىل‬ ‫الحدوث والعدم أمر إضا ٌّ‬
‫الواجب الوجود قدميًا‪ ،‬وإن كان الرشع مل يجىء بهذا االسم – أعني‪ :‬القديم – وإمنا جاء باالسم‬
‫األول واآلخر؛ إذ الوسط العاقد لألول َّية واآلخريَّة ليس ثم‪ ،‬فال أول وال آخر‪ ،‬وهكذا الظاهر‪ ،‬والباطن‪،‬‬
‫واألسامء‪ ،‬واإلضافات كلُّها‪ ،‬فيكون موجو ًدا مطلقًا من غري تقييد بأول َّية‪ ،‬أو آخريَّة»[[[‪ .‬وهكذا يستبني‬
‫لنا أ َّن األسامء اإللهيَّة ليس لها وجود إضافة كالعامل‪ ،‬وإمنا هي مجموعة من التعلُّقات التي تصل‬
‫بني كينونتني؛ األوىل هي الذات اإللهيَّة بوجودها املطلق حتى عن اإلطالق‪ ،‬والثانية هي العامل‬
‫يل[[[‪ .‬وتلك النسب‪ ،‬واإلضافات‪ ،‬والتعلُّقات‬ ‫العلمي األز ّ‬
‫ِّ‬ ‫العيني املضاف ال بوجوده‬ ‫ِّ‬ ‫بوجوده‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.253‬‬


‫[[[‪ -‬م‪ .‬نفسه ‪ -‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫المحور‬

‫هي التي تقيّد إطالق الذات اإللهيَّة‪ ،‬ومن ثم تجمع بينها وبني العامل‪ ،‬وبذلك يكون الله متعال ًيا‬
‫للحق باعتباره ذات ًا إلهيَّة مجهولة العني‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫للحق‪ ،‬فالتعايل‬
‫ِّ‬ ‫ومحايثًا يف آن‪ ،‬والتعايل واملحايثة مظهران‬
‫وانعكاسا لصفاتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫واملحايثة باعتبار العامل مجىل أللوه َّيتها؛ أي‪ :‬مظه ًرا ألسامئها‪،‬‬
‫الوجودي عند الشيخ األكرب‪ -‬يعني‬
‫ِّ‬ ‫فالوقوف عند التع ُّدد – كام يذكر الشارحون لعقيدة التوحيد‬
‫الوقوف مع كرثة األسامء اإلله َّية‪ ،‬والوقوف عند وحدة املس َّمى‪ ،‬يعني‪ :‬الوقوف مع الذات اإلله َّية‬
‫مستقلَّة عن العامل‪ ،‬وعن تعلُّقات أسامئها بالعامل[[[‪ .‬يقول ابن عريب‪« :‬وأعلم أن الله‪ ،‬من حيث‬
‫نفسه‪ ،‬له أحديَّة األحد‪ ،‬ومن حيث أسامئه له أحديَّة الكرثة»‪ ،‬لكن الله والعامل متالزمان رضورة‪،‬‬
‫«فمدلول الله يطلب العامل مبا فيه‪ ،‬فهو كاإلسم امللك‪ ،‬أو السلطان‪ ،‬فهو اسم للمرتبة ال للذات»[[[‪.‬‬
‫الديني‪ ،‬والوسيط الفاصل‬
‫ِّ‬ ‫محل الثنائ َّية القدمية (الله‪/‬العامل) يف الفكر‬
‫تحل َّ‬ ‫نحن‪ ،‬إذًا‪ ،‬إزاء ثالث َّية ُّ‬
‫ذهني معقول؛ إذا ال أعيان لها‪ ،‬وليس معنى ذلك أننا‬ ‫ٍّ‬ ‫الواصل بينهام هو األلوهة‪ ،‬وهي ذات وجود‬
‫إزاء ثالث كينونات مستقلَّة منفصل بعضها عن بعض‪ ،‬وإمنا نحن إزاء مراتب ثالث لحقيقة واحدة‬
‫الحق املطلق‪ ،‬إذا نظرنا اىل هذه الحقيقة يف مرتبة اإلطالق والتج ُّرد قلنا‪« :‬الذات»‪ ،‬وإذا‬ ‫ُّ‬ ‫هي الوجود‬
‫نظرنا إليها من حيث أحكامها الباطنة املعقولة قلنا «األلوهة»‪ ،‬وإذا نظرنا إليها من حيث ظهور هذه‬
‫حسيَّة كثرية قلنا «العامل»‪ ،‬فهذه ثالث مراتب للوجود هي الوجود الذايت‪ ،‬أو ذات‬ ‫األحكام يف حقائق ّ‬
‫الحق املخلوق به‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يل (األلوهة) وهو نفسه يس ّميه ابن عريب‬ ‫الوجود(الذات اإلله َّية)‪ ،‬والوجود العق ّ‬
‫والوجود الحسِّ َّ (العامل)[[[‪ .‬وقد تن َّبه بعض املسترشقني إىل هذا املعنى‪ ،‬فنفى عن وحدة الوجود‬
‫االندماجي‪ ،‬وعلَّل ذلك بأ َّن الله عنده هو الوجود الطلق‪ ،‬الذي عنه‬
‫َّ‬ ‫ي‬‫عند ابن عريب املعنى املا ّد َّ‬
‫تك َّونت املوجودات‪ ،‬فليست املوجودات مامثلة لله‪ ،‬متطابقة معه‪ ،‬مامهية له‪ ،‬وإمنا هي مج َّرد‬
‫انعكاسات ألسامئه‪ ،‬وصفاته[[[‪.‬‬
‫الحق الوحيد‪ ،‬أ َّما العامل فال وجود له من ذاته‪ ،‬وإمنا وجوده موقوف عىل إيجاد الله‬ ‫ُّ‬ ‫فالله هو‬
‫إيَّاه‪ ،‬وحفظه الوجد عليه‪ ،‬فال مجال للحديث عن وحدة وجود ما ّديَّة محايثة ترجع الله إىل العامل‪،‬‬
‫ماثل فيه‪ ،‬وال عن وحدة وجود فيض َّية تع ُّد العامل سيالنًا‪ ،‬واندفاقًا من الذات‪ ،‬وإمنا هي‬‫وتجعله ً‬
‫الحق الفرد الصمد الذي ال يتب َّدل‪ ،‬فهو نفسه يف حقيقته الغيب َّية‬
‫ِّ‬ ‫وحدة عامدها اإلميان بالله الواحد‬
‫املتعالية‪ ،‬وهو نفسه يف املظاهر املتعلقة بالكون املخلوق‪.‬‬

‫[[[‪ -‬م‪ .‬نفسه ‪ -‬الصفحة نفسها‪.‬‬


‫[[[‪-‬الفتوحات‪ ،‬الجزء الثالث‪ -‬ص ‪.101‬‬
‫[[[‪ -‬أبو زيد‪ ،‬نرص حامد‪ ،‬فلسفة التأويل‪ ،‬دراسة يف تأويل القرآن عند محيي الدين بن عريب ‪ -‬دار التنوير ‪ -‬ط ‪ 1-‬بريوت ‪.1983‬ص ‪.64‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫ِّ‬
‫التجلي َّ‬ ‫َّ‬
‫األول‪:‬‬ ‫الثامن‪ :‬املثن بوصفه‬
‫الحق والخلق‬
‫ِّ‬ ‫يل الذي يطرحه ق َّراء ابن عريب بإزاء الصلة بني الله والعامل‪ ،‬أو بني‬
‫السؤال اإلشكا ُّ‬
‫الحق أن يظهر يف مراتب وظهورات مختلفة؟‬ ‫ِّ‬ ‫هو التايل‪ :‬كيف للوجود‬
‫يف جوابهم يسعى هؤالء ملتاخمة ركن بارز يف أركان التنظري عند ابن عريب‪ ،‬عنينا به مفهوم‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التجل هو‬‫ّ‬ ‫الوجودي‪ :‬يرى هؤالء أ َّن مفهوم‬


‫ّ‬ ‫التجل‪ ،‬والوظيفة املعرف َّية املسندة إليه يف التوحيد‬ ‫ِّ‬
‫مبثابة األداة اإلجرائ َّية؛ التي بفضلها يفسِّ ابن عريب تع ُّدد املراتب الوجوديَّة‪ ،‬مع أ َّن عني الوجود‬
‫التجل‪ ،‬وهي ميتافيزيقا وحدويَّة تصل بني‬ ‫ّ‬ ‫يؤسس ميتافيزيقا‬ ‫واحدة‪ ،‬وبفضل هذا املفهوم املفتاح ِّ‬
‫اإللهي الدائم‪ ،‬ويعتاض بها عن ميتافيزيقا‬ ‫ّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫الله والعامل‪ ،‬فتجعل من العامل مرتبة من مراتب‬
‫الفيض‪ ،‬كام نظر لها الفالسفة‪ ،‬وعن ميتافيزيقا الخلق من عدم كام نظر لها املتكلّمون‪ .‬تلك التي‬
‫تتأسس عىل مبدأ اإلله املفارق املتعايل‪ ،‬والعامل املنفصل عنه؛ ولذلك أتيح له أن يحقِّق مقصوده‬ ‫َّ‬
‫من متييز نسق تفكريه الخاص من الفالسفة واملتكلمني م ًعا بفضل استصفاء هذا املصطلح‪)...(.‬‬
‫التجل تجعل املفارق محايثًا من غري أن يفقد مفارقته‪ ،‬وتعاليه‪ ،‬فهو متعا ٍل من‬ ‫ّ‬ ‫ثم إ َّن ميتافيزيقا‬
‫يف؛ ألنَّه‬‫وجودي وجانب معر ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫التجل له جانبان‪ :‬جانب‬ ‫ّ‬ ‫جهة ذاته‪ ،‬محايث من جهة أسامئه‪ ،‬وهذا‬
‫ين‪ ،‬وهو قوله تعاىل‬ ‫تجل رحام ٌّ‬‫فالتجل العا ُّم ٍّ‬
‫ّ‬ ‫خاص شخيصٌّ ‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫وتجل‬
‫ٍّ‬ ‫إحاطي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫«تجل عا ٌّم‬
‫ٍّ‬ ‫نوعان‪:‬‬
‫ََْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َ ُ َ‬
‫لكل شخص من العلم بالله‪ ،‬وهو ما‬ ‫الخاص هو ما ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪‬الرحمن على العر ِش استوى‪ ، ‬والتج ِّ‬
‫ل‬ ‫[[[‬

‫فضل عن أ َّن األسامء اإللهيَّة‪ ،‬عىل تع ُّددها‪ ،‬وتن ُّوع‬


‫ً‬ ‫الشهودي)‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫و(التجل‬
‫ِّ‬ ‫الوجودي)‬
‫ُّ‬ ‫(التجل‬
‫ِّ‬ ‫يس َّمى‬
‫التجل‬
‫ّ‬ ‫حرضاتها‪ ،‬وفاعل َّيتها يف األكوان كلِّها‪ ،‬ميكن إرجاع األفعال املتصلة بها إىل نوعني من‬
‫وتجل الجالل[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تجل الجامل‪،‬‬ ‫هام‪ّ :‬‬
‫كل آن‬
‫فالتجل هو حركة الوجود األزل َّية األبديَّة‪ ،‬عنها يظهر الوجود يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫الوجودي‬
‫ّ‬ ‫أ َّما من الوجه‬
‫يف ثوب جديد‪ ،‬وتتعاقب عليه الصور التي ال تتناهى عد ًدا من غري أن تزيد فيه‪ ،‬أو تنقص شيئًا من‬
‫بكل حد[[[‪.‬‬
‫فالحق محدود ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫كل خلق ظهو ًرا‪...‬‬
‫للحق يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫جوهر ذاته‪ ،‬فإ َّن‬
‫وقد ذهب عدد من أقطاب الصوف َّية املتأث ّرين بالشيخ األكرب إىل تأصيل نظريَّة توحيد الوجود‪،‬‬
‫بالحق املوجود وفق مبدأ الوصل‬
‫ِّ‬ ‫فم َّيزوا بني مراتب الوجود ليؤ ُّدوا تنزيه الحق الواجد ورعايته‬
‫والوصل‪ .‬ومثل هذا التمييز سنجده لدى املتص ِّوف الكبري الشيخ عبد الغني النابليس الدمشقي‬
‫يبي يف كتابه «الوجود الحق والخطاب الصدق» أن «الوجود‬ ‫الحنفي (‪1143 1050-‬هـ) الذي ّ‬

‫[[[‪ -‬سورة طه ‪ -‬اآلية ‪.5‬‬


‫[[[‪ -‬الطيب‪ ،‬محمد بن‪ -‬مصدر سابق‪.‬‬
‫[[[‪ -‬فصوص الحكم‪.68-1 ،‬‬

‫‪191‬‬
‫المحور‬

‫تجل‪،‬‬
‫الحق‪ ،‬وإن كان يف ذاته مطلقًا عن جميع التقادير‪ ،‬والتصاوير‪ ،‬والقيود‪ ،‬والحدود‪ ،‬قد َّ‬ ‫ّ‬ ‫الواحد‬
‫وانكشف‪ ،‬وظهر بجميع التقادير‪ ،‬والتصاوير‪ ،‬والقيود‪ ،‬والحدود؛ ألنَّه فاعلها‪ ،‬وخالقها‪ ،‬وصانعها‬
‫إل وجود وقيود وحدود‬ ‫عىل مقتىض ما جرى يف علمه‪ ،‬وق َّررته إرادته‪ ،‬وأنشأته قدرته‪ ،‬فليس مث َّة َّ‬
‫بالحس والعقل‪ ،‬والوجود غيب عن‬ ‫ِّ‬ ‫قامئة بالوجود‪ ،‬والقيود والحدود هي املعلومة املشهودة‬
‫الحس والعقل من حيث ذاته‪ ،‬وشهادة لهام من حيث ظهور القيود‪ ،‬والحدود به[[[‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وهكذا سرنى أ َّن الخلق يف ‪ -‬منظومة ابن عريب العرفان َّية ‪ -‬ليس إيجا ًدا ليشء ال وجود له‪ ،‬فذلك‬
‫كل‪ ،‬فليس‬ ‫وفعل‪ ،‬وال هو فعل قام به الحق يف زمن مىض‪ ،‬دفعة واحدة‪ ،‬ثم فرغ منه‪َّ ،‬‬‫ً‬ ‫عقل‬
‫مستحيل ً‬
‫الخالق عنده مبعنى املوجد من عدم‪ ،‬أو املبدع عىل غري مثال سابق‪ ،‬وإمنا الخالق ذاتٌ أزليَّة أبديَّة‬
‫تجل يف‬ ‫كل آن يف صور ما ال يحىص من املوجودات كرثة‪ ،‬فإذا ما اختفت فيه صورة ّ‬ ‫تظهر يف ِّ‬
‫التجل املتج ِّدد‪ ،‬واملخلوق هو تلك الصور‬ ‫ّ‬ ‫غريها يف الَّلحظة التي تليها‪ ،‬فعمل َّية الخلق هي حركة‬
‫بالحق الذي يوجدها مبقتىض علمه‪ ،‬ويحفظ‬ ‫ِّ‬ ‫املتغية الفانية التي ال قوام لها يف ذاتها‪ ،‬وإمنا قوامها‬
‫ّ‬
‫عليها وجودها عىل النحو الذي يشاء‪ ،‬مبقتىض قدرته‪ ،‬وإرادته‪ .‬فـ‪« :‬إذا قلت القديم فني املحدث‪،‬‬
‫وفني‪ ،‬وإذا رسى‬
‫ٌّ‬ ‫وإذا قلت الله فني العامل‪ ،‬واذا أخليت العامل من حفظ الله‪ ،‬مل يكن للعامل وجود‬
‫يصح افتقار‬
‫ُّ‬ ‫حفظ الله يف العامل بقي العامل موجو ًدا‪ ،‬فبظهور وتجلّيه يكون العامل باق ًيا‪ ...‬وبهذا‬
‫خلقًا عىل الدوام[[[‪.‬‬
‫كل نفس‪ ،‬وال يزال الله َّ‬ ‫العامل إىل الله يف بقائه يف ِّ‬
‫التجل؛ أي‪ :‬إخراج ما له وجود يف حرضة من حرضات الوجود‬ ‫ّ‬ ‫إ َّن الخلق عند ابن عريب هو‬
‫الخارجي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اإللهي اىل الوجود يف العامل‬
‫ِّ‬ ‫إىل حرضة أخرى‪ ،‬مبعنى إخراجه من الوجود يف العلم‬
‫أو هو إظهار اليشء يف صورة غري الصورة التي كان عليها من قبل‪ ،‬فالعامل‪ ،‬من حيث بطونه يف‬
‫إل من حيث صورها‪ ،‬أما حقيقة ذاتها‬ ‫تتغي َّ‬
‫اإللهي‪ ،‬حقيقة أزل َّية دامئة ال تفنى‪ ،‬وال تتب َّدل‪ ،‬وال َّ‬
‫ِّ‬ ‫العلم‬
‫وجوهرها فال تخضع للكون والفساد‪ ،‬وإنَّ ا تخضع لهام صورها املتكرثة‪ ،‬ومظاهرها املتع ِّددة[[[‪.‬‬
‫إلهي دائم يف ما ال يحىص عدده من صور‬ ‫ٌّ‬ ‫تجل‬
‫ذلك هو الخلق يف اصطالح ابن عريب؛ ٍّ‬
‫املوجودات‪ ،‬وتغيُّ دائم يف ما ال يحىص من صور املوجودات‪ ،‬وتح ُّول مستم ٌّر يف الصور يف كل‬
‫آن‪ ،‬وهو ما يطلق عليه اسم (الخلق الجديد) و(تجديد الخلق مع األنفاس)[[[‪ ،‬زاعمً أنه املشار إليه‬
‫ِيد‪.[[[‬‬ ‫ْ َ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َُْ ْ‬
‫والحق أن مفهوم الخلق املتج ِّدد‪ ،‬الخلق‬
‫َّ‬ ‫يف قوله تعاىل‪ :‬بلهم ف ِي لب ٍس مِن خل ٍق جد ٍ‬
‫املستم ِّر‪ ،‬أو تج ُّدد الوجود‪ ،‬أق َّر به‪ ،‬قبل ابن عريب‪ ،‬الغزايل‪ ،‬ومن قبله املتكلّمون‪ ،‬وهو يف األصل‬
‫[[[‪ -‬النابليس‪ ،‬الوجود الحق‪ ،‬ص ‪.31-30‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب ‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬الجزء األول مصدر سبق ذكره ‪ -‬ص ‪.454‬‬
‫[[[‪ -‬العفيفي‪ ،‬أبو العال‪ -‬التعليقات عىل فصوص الحكم ‪ -‬الجزء الثاين‪ -‬مصدر سبق ذكره ‪ -‬ص ‪.213‬‬
‫[[[‪ -‬فصوص الحكم‪ ،‬الجزء األول‪ -‬ص ‪.155‬‬
‫[[[‪ -‬سورة ق ‪ -‬اآلية ‪.15‬‬

‫‪192‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫مقالة عريقة يف ال ِقدم‪ ،‬مل تكن من إبداع ابن عريب‪ ،‬وال الغزايل‪ ،‬وال املتكلّمني‪ ،‬بل ترجع إىل بعض‬
‫املذاهب يف الثقافة الهنديَّة القدمية‪ ،‬وقد تب َّناها إخوان الصفاء[[[‪.‬‬
‫وكل موجود من املوجودات صورة من صوره‪ ،‬والصورة إن أخذت يف‬ ‫فالله هو الوجود املطلق‪ُّ ،‬‬
‫َ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫جزئيَّتها ليست هـي الله فـي إطالقـه‪ ،‬إنَّ ـا هـي مجلـى مـن مجاليــه‪ ،‬وإمنا ‪‬كفـر الذِيـن قالـوا‬
‫ـو ال ْ َمس ُ‬ ‫إ َّن َّ‬
‫الل ُه َ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ِيـح اب ْ ُ‬
‫ـن َم ْر َي َم‪ ،[[[‬يف رأي ابن عريب؛ ألنهم حرصوا الحق الذي ال تتناهى صوره‬ ‫ِ‬
‫يف تلك الصورة الجزئ َّية بعينها‪ ،‬ولو قالوا‪ :‬إ َّن املسيح صورة من صورة الله التي ال تتناهى‪ ،‬ملا‬
‫العيني صورة من وجوده‪ ،‬فإن الله‪ ،‬باعتباره‬
‫ّ‬ ‫كفروا‪ ،‬فالصورة‪ ،‬وإن كانت من صور الحق‪ ،‬ووجوها‬
‫ذات ًا مطلقة ليس من حيث إطالقه‪ ،‬واستغنائه الذايتّ عنها‪ ،‬وعن غريها أي نسبة اليها‪ ،‬وال لها هي‬
‫نسبة إليه‪ ،‬فليس فيها من ذلك املطلق يشء‪ ،‬وإمنا هي مج َّرد مجىل ومظهر[[[‪.‬ومن ثم‪ ،‬ميكن‬
‫القول‪ :‬أ َّن املوجودات‪ ،‬من حيث حقيقتها الجوهريَّة التي بها قوام وجودها‪ ،‬هي الله‪ ،‬لكن الله ليس‬
‫هو املوجودات‪ ،‬ال مبعنى أ َّن حقيقته ت ُقيص املوجودات؛ وإنَّ ا ألن املوجودات الزائلة الفانية‬
‫ليست شيئًا مذكو ًرا أمام إطالقه‪ ،‬وال نهائيَّته‪ ،‬فهي ملغاة أمامه‪.‬‬
‫سحري يفتح املستغلقات‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫التجل‪ ،‬كام استق َّر عند ابن عريب‪ ،‬أشبه ما يكون مبفتاح‬
‫ّ‬ ‫إ َّن مفهوم‬
‫فالحق‬
‫ُّ‬ ‫فقد رأينا‪ ،‬من الناحية الوجوديَّة‪ ،‬أنَّه رشط وجود األشياء واستمرارها يف الوجود وبقائها‪،‬‬
‫لكل يشء ما ظهرت شيئ َّية ذلك‬ ‫كل ما سواه من املوجودات‪« ،‬فلوال تجلّيه ِّ‬ ‫بالتجل يف صور ِّ‬
‫ّ‬ ‫يظهر‬
‫اإللهي ال ينقطع»[[[‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ل‬
‫اإللهي هي الدوام‪« ،‬فالتج ّ‬
‫ِّ‬ ‫ل‬
‫اليشء» ‪ .‬ومزيَّة هذا التج ّ‬
‫[[[‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬


‫التاسع‪ :‬املثن أو احلق املخلوق ِبه‪:‬‬
‫رس الوجود يف ذاته‪ .‬وهو يف هذا‬ ‫يف واختباراته املعنويَّة َّ‬ ‫يكتشف العارف خالل معراجه املعر ِّ‬
‫يتفادى الجدل الذي يشهده فقه الفلسفة لجهة التعارض بني الخلق من العدم والخلق من يشء‪،‬‬
‫أي مخلوق‪.‬‬ ‫الحق املخلوق به فال يشاركه فيها ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الخاصيَّة التي يتمتَّع بها‬
‫ّ‬ ‫وهو تعارض ال نعرف معه‬
‫بالحق األعىل ولذلك حظي مبنزلة الخلق األول‬ ‫ِّ‬ ‫فهو مخلوق متف ِّرد بذاته‪ ،‬فاعل بالخلق منفعل‬
‫اإللهي‪ .‬وهي تعني‬
‫ّ‬ ‫والتجل للكلمة اإلله َّية البدئ َّية «كن»‪ .‬فهذه الكلمة ميثِّلها ابن عريب بـ «النفس‬
‫ّ‬
‫االنبالج كام ينبلغ الفجر‪ .‬وأ َّما الخلق هنا فهو أساس كشف الذات اإللهيَّة لنفسها‪ ،‬ولذا فال مجال‬
‫رسا‪ ،‬أل َّن تلك اله َّوة نفسها‬
‫ين أن مي َّد فوقها ج ً‬
‫ألي فكر عقال ٍّ‬ ‫هنا للخلق من عدم لفتح ه َّوة ال ميكن ِّ‬

‫[[[‪ -‬الطيب‪ ،‬محمد بن ‪ -‬عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عريب‪ -‬مصدر سبق ذكره ‪ -‬ص ‪.354‬‬
‫[[[‪ -‬سورة املائدة ‪ -‬اآلية ‪.72‬‬
‫[[[‪ -‬عفيفي‪ ،‬التعليقات عىل الفصوص ‪ -‬الجزء الثاين ‪ -‬ص‪.28-27‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ت‪ .‬عثامن يحيى‪ ،‬الجزء الثالث‪ -‬ص ‪.194-193‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.287-10 ،‬‬

‫‪193‬‬
‫المحور‬

‫اإللهي يخرج ما ميسيه ابن عريب‬


‫ُّ‬ ‫التمييزي تقوم باملعارضة واإلبعاد بني األشياء‪ .‬فالتنفُّس‬
‫ِّ‬ ‫وبطابعها‬
‫لكل األجسام «اللطيفة» التي تشكِّل‬‫َس هو الذي مينح الوجود والحياة ِّ‬ ‫نَف ًَسا رحامنيًّا وهذا ال َنف ُ‬
‫الفرنيس هرني كوربان‬
‫ُّ‬ ‫يل والتي تحمل اسم العامء[[[‪ ..‬يف هذا املجال يشري املفكِّر‬ ‫الوجود األو َّ‬
‫النبي‪ ‬مل َّا ُسئل أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب‪ :‬كان يف‬ ‫ِّ‬ ‫إىل الحديث املنسوب إىل‬
‫عامء‪ ،‬ما فوقه هواء وما تحته هواء‪.‬‬
‫اإللهي‪ ،‬هو نفسه الذي‬
‫ّ‬ ‫أزل الكيان‬
‫يرى كوربان أ َّن هذا العامء الذي يصدر عنه والذي فيه يوجد ً‬
‫متلق‬
‫ين‪ٍّ ،‬‬‫يقوم يف اآلن ذاته بتلقّي األشكال كلِّها‪ ،‬ومينح للمخلوقات أشكالها‪ :‬إنه نشط وسكو ٌّ‬
‫الحق يف ذاته‪ .‬إنه من حيث هو كذلك‬‫َّ‬ ‫ومحقِّق‪ ،‬وبه يت ُّم التمييز داخل حقيقة الوجود باعتبارها‬
‫اإللهي األصل َّية التي من خاللها «يظهر» الوجود‬
‫ِّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫واللمرشوط‪ .‬وعمل َّية‬
‫َّ‬ ‫الخيال املطلق‬
‫الخفي‪ ،‬أي بإظهاره لذاته ممكنات أسامئه وصفاته واألعيان الثابتة‪ ،‬هذه‬ ‫ّ‬ ‫لنفسه بالتميز يف وجوده‬
‫اإللهي‬
‫ُّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫وخلقًا وتجلّ ًيا‪ .‬العامء بهذه الداللة هو الخيال املطلق أو‬‫َّ‬ ‫فاعل‬
‫ً‬ ‫خيال‬
‫ً‬ ‫العمل َّية تعترب‬
‫أو ال َّرحمة املوجِدة‪ ،‬تلك ُم هي بعض املفاهيم املرتادفة التي تعبِّ عن الواقع األصل نفسه‪ ،‬أي‬
‫كل يشء‪ ،‬وهو ما يعني أيضً ا «الخالق املخلوق»‪ .‬فالعامء هو الخالق‪ ،‬مبا أنَّه‬ ‫الحق املخلوق به ُّ‬ ‫َّ‬
‫يئ و«الباطن»‪ .‬والعامء‬ ‫اللمر ُّ‬
‫النفيس الذي يصدر عنه ألنَّه مخبوء فيه‪ :‬وهو من حيث هو كذلك َّ‬
‫اإللهي هو املحجوب‬ ‫َّ‬ ‫هو املخلوق باعتباره ظرفًا ظاه ًرا‪ .‬فالخالق املخلوق يعني أ َّن الوجود‬
‫واملكشوف أو أنَّه هو األول واآلخر[[[‪.‬‬
‫الحق املخلوق به كل يشء‪ ،‬إيحا ًء غيب ًّيا من خالقه مؤ َّداه‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫تتض َّمن كلمة «كن» التي كان بها‬
‫كل مخلوق له بعد‬ ‫حقيقي أل َّن َّ‬
‫ٌّ‬ ‫حقيقي‪ .‬وهو‬
‫ّ‬ ‫«لست أنت الذي يخلق حني تخلق‪ ،‬ولهذا فخلقك‬
‫متأصلة يف الخلق‬ ‫ِّ‬ ‫مزدوج‪ :‬فالخالق املخلوق ينمذج وحدة األضداد‪ .‬ومنذ األزل وهذه املصادفة‬
‫الخلق هو‬ ‫َّ‬ ‫تجل‪ ،‬ومن حيث هو كذلك فهو خيال‪ .‬فالخيال‬ ‫أل َّن الخلق ليس من عدم وإنَّ ا هو ٍّ‬
‫تجل وتج ُّدد للخلق‪.‬‬ ‫خلق هو ٍّ‬ ‫كل خيال َّ‬ ‫شهودي‪ ،‬والخالق مرتبط باملخلوق املتخ ّيل‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫ٌّ‬ ‫خيال‬
‫التجل يرصفهام يف سيكوكسمولوجيا‪ .‬وبالحفاظ‬ ‫ّ‬ ‫وعلم النفس ال ينفصل عن علم الكون‪ :‬وخيال‬
‫ين‪ ،‬أي عضو‬
‫عىل هذه الفكرة حارضة يف الذهن يلزمنا مساءلة ما يكون عضوها يف الكائن اإلنسا ِّ‬
‫[[[‬
‫كل األشياء إىل إشارات ورموز‪.‬‬
‫الرؤى والتنقيل‪ ،‬وتحويل ِّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫[[[‪ -‬ابن عريب ‪ -‬فصوص الحكم ‪ -‬الجزء الثاين ‪ -‬ص ‪.313‬‬
‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.184‬‬

‫‪194‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫َّ‬
‫العاشر‪ :‬املثن بما هو الوجود املنبسط‪:‬‬
‫تع َّددت اآلراء حول كيف َّية صدور الكرثة عن الصادر األ َّول‪ .‬لكن الرأي الشائع يف الحكمة‬
‫اإلسالم ّية ما ذهب إليه الفارايب وابن سينا من أ َّن العامل صدر من الصادر األ َّول عىل نحو الرتتيب‬
‫إل واحد” من أبرز القضايا اإلشكال َّية يف تاريخ‬
‫والرتت ُّب‪ .‬وظهرت قاعدة “الواحد ال يصدر عنه َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫امليتافيزيقا والعلوم اإللهيَّة‪ .‬ومن الباحثني من يشري إىل أ َّن هذه القاعدة مل تكن مسلَّمة عند‬
‫الحكامء[[[‪ ،‬ومنهم من تص َّدى لها بالنقد والتفنيد‪ ،‬يف مق َّدمهم الفيلسوف أبو الربكات البغدادي‬
‫استعامل‬
‫ً‬ ‫بي أ َّن حكامء املشَّ ائ َّية من املسلمني مل يستعملوا هذه القاعدة‬
‫(ت ‪447‬هـ)‪ ،‬حيث َّ‬
‫حا[[[‪.‬‬‫صحي ً‬
‫وبنا ًء عىل أ َّن الواحد ال يصدر عنه إلَّ واحد‪ ،‬ك َُث التساؤل عن ماه َّية وطبيعة وصفة ذلك الواحد‬
‫أوَّل من املبدأ األعىل‪ .‬يف تعريفات مدرسة الحكمة املتعالية أن الصادر األ ّول ممكن ال‬ ‫الصادر ً‬
‫يحتاج إىل غريه من املمكنات بل يجب أن يكون هو واسطة يف وجودها‪ ،‬وينحرص احتياجه إىل‬
‫الواجب نفسه وحسب‪ ،‬وهي ترى إليه عىل أنَّه املمكن األرشف‪ .‬والوجود املطلق املنبسط‪ .‬وهو‬
‫الحق‪ .‬ويجمع صدر الدين الشريازي بني القولني أي املمكن األرشف‬ ‫ّ‬ ‫أ ّول ما ينشأ من الوجود‬
‫والعقل األ ّول باعتبار هذا األخري صاد ًرا أ ّول بالقياس إىل املوجودات املتع ّينة املتباينة املتخالفة‬
‫وإل فعند تحليل‬‫اآلثار‪ .‬فاأل ّوليَّة ه ُهنا بالقياس إىل سائر الصوادر املتباينة الذوات والوجودات‪َّ ،‬‬
‫خاصة ونقص وإمكان حكمنا بأن أ ّول ما ينشأ هو‬ ‫َّ‬ ‫الذهن العقل األ ّول إىل وجود مطلق وماهيَّة‬
‫خاص يلحقه إمكان‬ ‫ٌّ‬ ‫خاصة‪ ،‬وتن َّز ٌل‬
‫َّ‬ ‫كل مرتبة ماه َّية‬
‫الوجود املطلق املنبسط ويلزمه بحسب ِّ‬
‫ّْ‬
‫خاص[[[”‪.‬‬
‫املل هادي السبزواري تعريف آخر يبدو فيه أقرب إىل ما يق ِّرره أهل العرفان‪ .‬فهو‬ ‫وللفيلسوف َّ‬
‫حقيقي وإرشاقه تعاىل الفعيل وال مسترشق‬ ‫ٌّ‬ ‫يرى أنَّ‪“ :‬الوجود املنبسط ليس صاد ًرا إنَّ ا هو صدور‬
‫ولعل‬
‫ّ‬ ‫هناك ولو بالتع ّمل‪ .‬فالعقل أ ّول الصوادر وليس مسبوقًا بصادر وإن كان مسبوقًا بالصدور[[[”‪،‬‬
‫مراده بالصدور هنا‪ ،‬كام يظهر عند تتبُّع عباراته يف موارد مختلفة‪ ،‬هو ظهوره تعاىل ومعروفيَّته‪،‬‬
‫وظهور اليشء ال يباينه‪ .‬ث ّم بعد صدور العقل األ ّول تتواىل الصدورات وتحصل الكرثة يف العامل‪،‬‬
‫فالعقل األ ّول وإن كان واح ًدا لكن فيه كرثة اعتباريَّة‪ ،‬فإ َّن له وجو ًدا وماه َّية‪ ،‬وأنَّه مج َّرد عقل له تعقُّل‬

‫[[[العبيدي‪ ،‬حسام عيل حسن ‪ -‬معامل العرفان عند الشيعة اإلمام َّية (امللَّ هادي السبزواري) أمنوذ ًجا – النارش‪ :‬العتبة العلو َّية املقدَّ سة ‪-‬‬
‫النجف األرشف ‪ -‬العراق ‪ 2011-‬ص ‪.85-84‬‬
‫[[[‪ -‬إبراهيم‪ ،‬د‪ .‬نعمة مح ّمد‪ ،‬علم ما بعد الطبيعة يف فلسفة أيب الربكات البغدادي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الضياء‪ ،‬النجف األرشف‪ ،2007 ،‬ص‪،91‬‬
‫و‪.196‬‬
‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬األسفار‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.271-270‬‬
‫[[[‪ -‬العبيدي‪ ،‬حسام عيل حسن ‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص‪.83‬‬

‫‪195‬‬
‫المحور‬

‫حينئذ بتعقُّله ملبدئه يصدر العقل الثاين وبتعقُّله لذاته يصدر الفلك األقىص‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لذاته وتعقُّل ملبدئه‪،‬‬
‫وهكذا العقل الثاين يصدر منه عقل ثالث وفلك ثانٍ ‪ ،‬وتستم ُّر سلسلة الفيض والصدور هذه حتّى‬
‫تصل إىل العقل العارش‪ ،‬وهو العقل الف َّعال املك ِّمل للنفوس الناطقة‪ ،‬ث ّم تتصل العقول الطول َّية هذه‬
‫بعقول أخرى عرض َّية‪ ،‬فيكون ترتيب العوامل كاآليت[[[‪:‬‬
‫‪ - 1‬عامل الجربوت‪ ،‬وهو عامل العقول مطلقًا (الطول َّية والعرض َّية)‪ ،‬العقول الطول َّية تتق َّدم كلُّها‬
‫عىل العقول العرض َّية املتكافئة‪ ،‬وأ َّن العقول الطول َّية هي أيضً ا مرتبة بتق ُّدم العقل األ ّول عىل الثاين‪،‬‬
‫والثاين عىل الثالث‪ ،‬إىل أن ينتهي إىل آخر العقول الطول َّية املتّصلة بالعقول العرض َّية[[[‪.‬‬
‫‪ - 2‬عامل امللكوت‪ ،‬وهو عامل النفوس الكلّ َّية املح ِّركة للساموات‪“ ،‬ث َّم عامل املُثُل املعلَّقة وهو‬
‫عامل املثال والخيال املنفصل أي عامل الصور املج َّردة عن املا َّدة املعبَّ عنه بعامل الذ ِّر يف القوس‬
‫الصعودي بلسان الرشع”‪ ،‬واملُثُل املعلَّقة هذه تختلف عن املُثُل‬‫ِّ‬ ‫يل‪ ،‬وعامل الربزخ يف القوس‬ ‫النزو ِّ‬
‫األفالطون َّية (السابقة الذكر)‪ ،‬فاألخرية ُمث ٌُل نوريَّة عقل َّية بينام هذه عبارة عن أشباح مقداريَّة موجودة‬
‫متوسط بني عامل املفارقات وعامل املاديَّات‪ ،‬وعامل املثال هذا هو أ ّول ما ينفتح لإلنسان‬ ‫ِّ‬ ‫يف عامل‬
‫ين‪ ،‬وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن وق ّوة االستعداد‪،‬‬ ‫عند غيبته عن العامل الجسام ِّ‬
‫وأكرث ما يكاشف به أرباب املكاشفة من أمور غيبيَّة يكون يف هذا العامل‪ ،‬فالكشف الذي يحصل‬
‫للمرتاضني من أحوال الناس والحوادث التي تقع إنَّ ا يحصل فيه‪ ،‬ولكن ال يلتفت إليه ال ُك َّمل من‬
‫أهل العرفان لكونه غري مخصوص بأهل اإلميان ولعدم اهتاممهم بالحوادث الزمان َّية[[[‪.‬‬
‫املعب عنه بالناسوت‪ ،‬وهو العامل املشتمل عىل الصور واملواد حيث‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 3‬عامل امللك والشهادة‬
‫تتق ّدم الصورة عىل الهيوىل “فآخر ما ينتهي إليه تن ُّزل الوجود هو الهيوىل‪ ،‬ولذا تكون مرتبتها مرتبة‬
‫الصعودي فيتصاعد‬
‫ُّ‬ ‫يل‪ ،‬كام أ َّن منها يفتتح القوس‬
‫صف النعال من الوجود‪ ،‬وبها يختتم القوس النزو ُّ‬
‫إىل الصورة إىل عامل املثال إىل امللكوت إىل الجربوت إىل أن ينتهي إىل العقل األ ّول ما يناظر‬
‫َ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫األخس حتّى ينتهي إىل‬
‫ِّ‬ ‫قوله تعاىل ‪‬ك َما بَ َدأك ْم ت ُعودون‪ ،[[[‬وهنا يكون التن ُّزل من األرشف إىل‬
‫األخس إىل األرشف حتّى ينتهي إىل العقل األ ّول”[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الهيوىل‪ ،‬والتّصاعد من‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اخلالقية يف صيغة املثن‪:‬‬ ‫احلادي عشر‪ :‬وحدة‬
‫مم م َّر معنا أ َّن الله تعاىل خلق الخلق بصيغة املث َّنى‪ ،‬وهذه الصيغة الخالق َّية هي مبثابة‬
‫نستنتج َّ‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص‪.84‬‬
‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حسن زادة‪ ،‬يف تعليقته عىل رشح غرر الفرائد‪ ،‬قسم اإلله ّيات باملعنى األخص‪ ،‬ص‪.272‬‬
‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حسن زادة ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص‪.273‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األعراف ‪ -‬اآلية ‪.29‬‬
‫[[[‪ -‬العبيدي ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.88‬‬

‫‪196‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫يل الذي ميكن فهمه ضمن قاعدتني‪:‬‬


‫اإللهي عن التوحيد األفعا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫اإلعراب‬
‫ومستقل واحد‪ ،‬وأ َّما تأثري العلل‬
‫ٌّ‬ ‫خالق أصيل‬ ‫ٌ‬ ‫إل‬
‫القاعدة األوىل تقول‪ :‬ليس يف عامل الوجود َّ‬
‫إل يف طول خالق َّية الله وعل ِّيته وفاعل َّيته ومحقَّقة بإذنه‪.‬‬
‫األخرى وفاعل َّيتها فليست َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫القاعدة الثاني�ة تقول‪ :‬ال ِّ‬
‫مدبر للعالم إل هللا‪ ،‬وال تدبري لغريه إل بإذنه[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الرب هنا ليس‬ ‫هاتان القاعدتان متيِّزان بني التوحيد يف الخالقيَّة والتوحيد يف التدبري والربوبيَّة‪ُّ .‬‬
‫مبعنى الخالق‪ ،‬وإنَّ ا باملعنى الذي يُقصد منه إيكال األمر إليه إلصالح أمر الخلق فر ًدا كان أو‬
‫توسطات‬‫إل ُّ‬ ‫جامعة‪ .‬عىل أ َّن الربوب َّية والخالق َّية الَّلتني تنسبان إىل أفعال الله يف العامل‪ ،‬إن هي َّ‬
‫إل الله‪.‬‬‫وأصيل َّ‬
‫ٌ‬ ‫مستقل‬
‫ٌّ‬ ‫خالق‬
‫ٌ‬ ‫رحامن َّية وألطاف إله َّية‪ .‬وهو ما توضحه اآليات الب ِّينات بأن ليس مثة‬
‫أي استقالل يف الخلق واإليجاد[[[‪ .‬وهنا‬ ‫وأ َّما خالقيَّة ما سواه فهي يف طول خالقيَّته تعاىل وليس لها ُّ‬
‫تدل عىل ما ذهبنا إليه‪:‬‬ ‫طائفة من اآليات ُّ‬
‫َ [[[‬
‫َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ‬
‫َ‬
‫‪‬ألا له الخلق والأمر تبارك الل رب العال ِمين‪‬‬
‫َ َّ ُ [[[‬
‫ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ َّ ُ َ‬
‫الل خال ُِق ك ِل ش ْي ٍء َوه َو ال َواح ُِد القهار‪‬‬ ‫‪‬ق ِل‬
‫ٌ [[[‬ ‫ُ َ ُّ َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َّ ُ َ‬
‫‪‬الل خال ُِق ك ِل ش ْي ٍء َوه َو َعلى ك ِل ش ْي ٍء َوك ِيل‪‬‬
‫ُّ َ‬ ‫َ َّ ُ َ‬ ‫َ ُ ُ َّ ُ ُ ُ‬
‫[[[‬
‫الل َر ّبك ْم لا إِل َه إِلا ه َو خال ُِق ك ِل ش ْي ٍء‪‬‬ ‫‪‬ذل ِكم‬
‫َ‬
‫ئ ال ْ ُم َص ّو ُر لَ ُه الأ ْس َماء الْ ُ‬
‫ُ َ َّ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ‬
‫[[[‬
‫ح ْس َنى‪‬‬ ‫ِ‬ ‫‪‬هو الل الخال ِق البارِ‬
‫وهكذا فإ َّن جميع األسباب واملس ِّببات‪ ،‬ورغم ارتباط بعضها ببعض بحكم قانون العلِّ َّية‪ ،‬فهي‬
‫مخلوقة لله جمي ًعا‪ ،‬فإليه تنتهي العل َّية‪ ،‬وإليه تؤول السبب َّية‪ ،‬وهو معطيها لألشياء‪ .‬وعليه‪ ،‬فاملراد من‬
‫فعل له سبحانه بال مشاركة العبد‪ ،‬بل املراد هو عدم استغالل‬ ‫كون أفعال العباد مخلوقة هو أنَّها ً‬
‫وإل لزم أن يكون يف صفحة الوجود فاعلون مستقلّون‬ ‫العبد والعلل كلِّها يف مقام اإلنشاء واإليجاد‪َّ ،‬‬
‫يف الفعل وهو مبنزلة الرشك[[[‪.‬‬
‫ب شتَّى‬
‫ج ٌ‬
‫ح ُ‬
‫يل‪ ،‬لتكشَّ فت ُ‬
‫رس الكامن يف التوحيد األفعا ِّ‬
‫ولو تدبَّرنا الخالقيَّة من وجه كونها ال َّ‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.331‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬السبحاين‪ ،‬جعفر‪ ،‬مفاهيم القرآن ‪ -‬تقرير‪ :‬جعفر الهادي‪ -‬ج‪ 1-‬مؤسسة اإلمام الصادق‪ -‬ط ‪ 5-‬قم‪ -‬إيران ‪1430‬هـ ‪ -‬ص ‪.330‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األعراف ‪ -‬اآلية ‪.54‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الرعد ‪ -‬اآلية ‪.16‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الزمر ‪ -‬اآلية ‪.62‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنعام ‪ -‬اآلية ‪.102‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الحرش ‪ -‬اآلية ‪.24‬‬
‫[[[‪ -‬ابن تركه‪ ،‬صائن الدين ‪ -‬متهيد القواعد ‪ -‬مصدر م َّر ذكره‪ -‬ص ‪.182‬‬

‫‪197‬‬
‫المحور‬

‫األخص ما يتعلَّق مبخلوقيَّة املث َّنى والعلَّة الغائيَّة إليجاده‪ .‬نحن‬


‫ِّ‬ ‫يف املعارف التوحيديَّة‪ .‬منها عىل‬
‫إل أم ًرا واح ًدا يتعلَّق بالضبط‬
‫اللمرشوط‪ ،‬وال نعرف عنه َّ‬ ‫حد يف جوهره َّ‬
‫إلهي متو ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫إذن‪ ،‬تلقاء كيان‬
‫بتلك الوحدة األصل َّية التي جعلته ينكشف يف املخلوقات التي تظهره لنفسه طاملا ظهر هو لها[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٍّ‬
‫الثاين عشر‪ :‬اإلنسان الكامل كتجل حلقيقة املثن‪:‬‬
‫إل أنَّنا سنلقاها مطويَّة يف منظومته‬
‫ين عىل نحو رصيح؛ َّ‬ ‫مل ترِد لفظة املث َّنى يف األدب العرفا ِّ‬
‫وخصوصا يف تأويل َّيات ال ُعرفاء مل َّا تح َّدثوا عن البعد املزدوج للموجودات‪.‬‬
‫ً‬ ‫الوجوديَّة الشاملة‪،‬‬
‫التجل يف‬
‫ّ‬ ‫لتجل الواحد يف العامل الكثري‪ ،‬وهو مصداق هذا‬ ‫ّ‬ ‫فاملث َّنى املستظهِر نصوصهم معادل‬
‫[[[‬
‫اآلن نفسه‪ ،‬أ َّما أصالته فأمخوذة من الواحد ومرع َّية باعتنائه‪ .‬وتلك مسألة ال يدركها العقل الحسري‬
‫مهام دأب عىل اختبارها باالستدالل‪ ،‬إذ كلَّام مىض هذا العقل إىل مقايستها والربهنة عليها وفق‬
‫قاعدة املق ِّدمات والنتائج عادت خائبة إىل سريتها األوىل‪ .‬والعارف الذي يقطع جسور االستدالل‬
‫سبيل إىل التع ُّرف‪.‬‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫حالئذ سوى التأويل‬ ‫يعرف أ َّن مسألة كهذه ممتنعة عىل الفهم فال يجد العارف‬
‫حل لهذه املعضلة‪ ،‬حيث‬ ‫لقد بذلت املنظومة الفلسف َّية العرفان َّية جهو ًدا مضنية للوصول إىل ٍّ‬
‫أخذت املساحة العظمى من مكابداتها‪ .‬كان التناظر يف البعدين الوجوديَّني للموجودات واق ًعا يف‬
‫أصل تلك املكابدات التي ات َّخذت مسلكًا متامديًا يف التأويل‪ .‬ذلك ما يب ّينه الفيلسوف املسترشق‬
‫هرني كوربان يف سياق اشتغاله عىل ما ذهب إليه ابن عريب يف هذا الصدد‪ .‬لقد أشار إىل واحديَّة‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫األكربي يف فقه التع ُّرف عىل النظام الدقيق الذي يحكم صالت الوصل بني وحدة‬ ‫ِّ‬ ‫املنهج‬
‫اإللهي يشء آخر غري الله ‪ -‬كام يالحظ كوربان ‪ .-‬ال يعني القدح‬
‫َّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫ووحدة الخلق «فالقول بأ َّن‬
‫التجل باعتباره «وهم ًّيا»‪ ،‬بل بالعكس تثمينه وتأسيسه بوصفه رم ًزا يحيل عىل املرموز‬ ‫ّ‬ ‫يف ذلك‬
‫وتجل‪ ،‬ويف اآلن نفسه فإ َّن حقيقته الباطنة‬
‫ٍّ‬ ‫الحق‪ ،‬وبالفعل فإ َّن الظاهر هو خيال‬ ‫ُّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬الذي هو‬
‫ِّ‬
‫تأويل يؤول بتلك‬
‫ً‬ ‫تأويل للصورة املتجلّية فيه‪ ،‬أي‬
‫ً‬ ‫الحق‪ .‬إ َّن الظاهر خيال‪ ،‬ويتطلَّب رضورة‬ ‫ّ‬ ‫هي‬
‫الحقيقي‪ .‬ليس عامل املنام وحده‪ ،‬بل العامل الذي نس ّميه عادة عامل اليقظة أيضً ا‬
‫ّ‬ ‫الصور إىل واقعها‬
‫بحاجة باملقدار نفسه للتأويل[[[‪.‬‬
‫للمث َّنى يف املنظومة العرفانيَّة حقيقته املفارقة‪ .‬هو واحد وكثري يف اآلن عينه‪ .‬وحني يصل العارف‬

‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني‪ ،‬الخيال الخالق يف تص ُّوف ابن عريب – ترجمة‪ :‬فريد الزاهي‪ -‬منشورات مرسم‪ -‬الرباط‪ -‬املغرب‪ 2006- -‬ص ‪.162‬‬
‫حديث رواه البخاري يف صحيحه عن عمران بن حصني‪ .‬رقم الحديث ‪.7418‬‬
‫[[[‪ -‬واملقصود به العقل االستداليل الذي يدور مدار عامل املمكنات وال يغادره أبدً ا‪ ،‬وهو عقل غري قادر عىل االمتداد إىل ما فوق أطواره‬
‫الدنيويَّة‪ .‬وبذلك فإنَّه كلام قطع شوطًا باتجاه معرفة الحقائق عاد إىل نشأته األوىل فحلّت بصاحبه الحرسة‪ .‬وهو ما أشار إليه القرآن الكريم‬
‫َي‬ ‫ص ه َْل تَ َرى ِمن ُفطُور َّ‬
‫ٍ*ثم ا ْرجِ عِ الْ َب َ َ‬
‫ص كَ َّرت ْ ِ‬ ‫خل ِْق ال َّر ْح َمنِ ِمن تَفَا ُو ٍ‬
‫ت فَا ْرجِ عِ الْ َب َ َ‬ ‫ات ِط َباقًا َّما تَ َرى ِ‬
‫ف َ‬ ‫خل ََق َس ْب َع َس َم َو ٍ‬‫بقوله تعاىل‪ :‬الَّ ِذي َ‬
‫ري‪( ‬سورة امللك اآلية ‪.)4-3‬‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ َ َ ٌ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ًا‬
‫ئ‬ ‫ِ‬
‫َاس‬ ‫صخ‬ ‫َين َقلِ ْ‬
‫ب إِلَ ْيكَ الْ َب َ ُ‬
‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني‪ -‬الخيال الخالَّق يف تص ُّوف ابن عريب– ص ‪.180– 179‬‬

‫‪198‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫إىل هذا املقام يكون قد متثّل ماهيَّته وصار هو عني املث َّنى وحقيقته‪ .‬ولذا سرنى كيف ابتنى سريه‬
‫اآلدمي‪ .‬ذلك بأنَّه اآلن يف‬
‫ّ‬ ‫الخلقة حيال سائر املوجودات ويف مق َّدمها النوع‬
‫َّ‬ ‫وسلوكه عىل الغرييَّة‬
‫إل أل َّن هذه الحارضيَّة‬‫مبني عىل حارضيَّة الله يف عامل االختالف والكرثة‪ .‬وما ذاك َّ‬ ‫يف ٍّ‬ ‫مقام معر ٍّ‬
‫ين‪ ،‬وليس مج َّرد كائن‬ ‫املتعالية املعتَ ِنية يف اآلن نفسه‪ ،‬تجعل العارف كائ ًنا راع ًيا للمجتمع اإلنسا ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫اإللهي ليكسب عظمة اإليثار واإلنفاق‪ .‬وما‬ ‫ِّ‬ ‫اعتيادي شأنه شأن سائر البرش‪ .‬فهو مهاجر إىل الجود‬
‫ٍّ‬
‫إل لتمنحه صفاتها يف العطاء والجود والُّلطف‪ .‬ولذا جاءت حارضيَّة الله‬ ‫غايته من متاخمة األلوهيَّة َّ‬
‫اآلدمي بالعدل عىل نشأة النفس‬‫ُّ‬ ‫يف هجرة النظري‪ ،‬حارضيَّة تدبري ولطف‪ ،‬حيث يستوي فيها النوع‬
‫الواحدة‪.‬‬
‫ومل َّا كان مسعانا يف هذا الفصل بيان منزلة العارف كنظري للمث َّنى يف نظريَّة املعرفة العرفان َّية‪،‬‬
‫فقد ارتأينا بداية إيضاح ماه َّيته وهويَّته وغايته عىل الوجه التايل‪:‬‬
‫أـ املث َّنى هو الذي يستوي جناحاه عىل مبدأ االعتدال يف رؤية ذاته ورؤية العامل من حوله‪.‬‬
‫اآلدمي الجامع للكرثة اإلنسانيَّة‪ ،‬عىل اختالف ألسنتها وألوانها ومعتقداتها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وهو‬
‫وأصل يتح َّرك‬
‫ً‬ ‫ج‪ -‬وهو صاحب النفس املحرتمة‪ ،‬املستخلف يف األرض‪ ،‬وهو بوصفه عارفًا‬
‫الحق األول وعنايته‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تحت إرشاف‬
‫حق متأتٍّ من فيض الله ال من كهف النفس البرشيَّة‬
‫حق الغري فيه هو ّ‬
‫د‪ -‬وهو الذي يق ُّر بأ َّن َّ‬
‫وأنان َّيتها‪.‬‬
‫آيل إىل االختصام والتشظّي‪ ،‬بينام‬ ‫وإذا شئنا رشح ما م َّر معنا فنقول إ َّن التناظر يف عامل االثنين َّية ٌ‬
‫إل‬
‫كل يشء يف وحدة املث َّنى محمول عىل جمع الشمل‪ .‬ذاك أ َّن زوج َّية املث َّنى ال تؤ ّدي وظيفتها َّ‬ ‫ُّ‬
‫وفقًا لقانون التكامل واالنسجام‪ .‬وإ َّن إدراك هذا القانون توفِّ ُره واحديَّة املث َّنى بوصف كونها سرييَّة‬
‫امتداديَّة ترتق القطيعة املتو ّهمة بني الله والعامل‪ ،‬وتق ُّر بالقيوميَّة اإللهيَّة يف اآلن عينه‪ .‬أ َّما مؤ َّدى هذه‬
‫وداخل يف األشياء ال كدخول‬ ‫ٌ‬ ‫خارج عن األشياء ال كخروج يشء عن يشء‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الحق‬
‫َّ‬ ‫السرييَّة فهي أ َّن‬
‫يشء يف يشء‪.‬‬
‫وتب ًعا الستحالة االنفصال بني الوجود واملوجود يف مقام القيوم َّية اإلله َّية‪ ،‬ميكن للعارف‬
‫الحق‪ .‬ففي هذا املقام املتعايل تغمر الرحامن َّية‬ ‫ّ‬ ‫اآلخذ مببدأ املثنى ان يتدبَّر شأن الخلق بعني‬
‫ين‪ .‬وعليه يصبح هذا العامل مرع ًّيا مببدأ املث َّنى؛ بحيث‬‫وخصوصا العامل اإلنسا ّ‬
‫ً‬ ‫كل املوجودات‬ ‫َّ‬
‫إل واسطة‬ ‫كل ما تق ِّدمه الذات إىل الغري من عطاء جميل فهو منه تعاىل‪ ،‬وما الذات اإلنسانيَّة َّ‬
‫يكون ُّ‬
‫اللمتناهي‪ .‬هكذا ال تعود ثنائ َّية الذات واآلخر محكومة بالتناقض ما دامت موصولة‬ ‫لفيضه وعطائه َّ‬

‫‪199‬‬
‫المحور‬

‫ط اإلستواء واإلستقامة‪ .‬حيث‬ ‫باأللوهة‪ .‬وعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة املعرفة عىل خ ِّ‬
‫تعرف الذات نفسها ونظريها عىل نصاب العدل‪ ،‬ث َّم لتبدأ َس ْ ِ‬
‫ييَّة معاكسة من التع ُّرف ليعرف النظ ُ‬
‫ري‬
‫نظريه عىل القدر نفسه من املو َّدة وال َّرحمة‪ .‬أ َّما ما يحكم التفاعل يف املث َّنى الذي يسكن اآلخر‬
‫والذات م ًعا‪ ،‬فإنَّ ا هو مبدأ التح ُّول والتكامل‪ .‬ذاك أ َّن طَرفَ ْيه يف حالة امتداد وتواصل جوهريَّني‬
‫بحكم أ َّن نهاية الطرف األول (الذات) هي بداية الطرف الثاين (اآلخر)‪.‬‬
‫إل‬
‫إ َّن فهم ماه َّية املث َّنى وهويَّته عىل مثل هذا النصاب املتعايل‪ ،‬فه ٌم ال يتحقَّق عىل التامم َّ‬
‫الحق ال بعني ذاتنا‪ ،‬إذ ال تستقيم الرؤية التوحيديَّة مع الدنيويَّة املكتظَّة بالنقصان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إذا عاي َّناه بعني‬
‫خلْقيَّة هي قاعدة أصيلة ثابتة ينفرد بها الخالق‬‫واألنانيَّة‪ ،‬ونكران الجميل‪ .‬فقاعدة التناظر يف الكرثة ال َ‬
‫إل باملجاهدة‪ .‬ولهذه املجاهدة رشائط معرف َّية‬
‫وحده‪ .‬والخلق املأمورون بتمثُّلها ال ينالون بلوغها َّ‬
‫يف املديد يف املباحث اإلله َّية والعمل مبحاسن السري‬
‫وسلوك َّية‪ ،‬هي من مقتضيات السفر املعر ِّ‬
‫والسلوك‪.‬‬
‫متثيل ح ًّيا لالنسجام بني الواحد والكثري يف عامل االختالف‪ .‬وبسبب من هذا‬ ‫ً‬ ‫بوصف كونه‬
‫االنسجام يصبح التع ُّرف بديه ًّيا بني طرفيه املتناظرين كام لو أنه يجري مجرى القوانني التي تنظِّم‬
‫اآلدمي‪ ،‬حيث يؤالف بني اثنني من أصل‬ ‫ِّ‬ ‫حركة الطبيعة‪ .‬ولذا سنجده عىل “النشأة األصليَّة للنوع‬
‫كل من‬ ‫واحد‪ .‬وهو ما نجده يف زوج َّية املث َّنى حيث ال انفصال لألصل‪ ،‬وإنَّ ا رضب من متيي ٍز بني ٍّ‬
‫فكل متقابلني عىل نحو التناظر‪ ،‬هام نظريان متعادالن يف أصل‬ ‫َ‬
‫طرف الزوج َّية يف الصفة والهويَّة‪ُّ .‬‬
‫مثل يدار بسلسلة من األنظمة‬ ‫تقابلهام وج ًها لوجه‪ .‬وبذلك يؤول التناظر إىل مبدأ اإليجاد‪ .‬فالكون ً‬
‫تتغي‪ .‬وهذه القوانني واألنظمة هي نظائر متعادلة يف أصل ظهورها يف‬ ‫والقوانني الذاتيَّة الثابتة التي ال َّ‬
‫الوجود رغم االختالفات والتفاوتات بني شخوصها وأفرادها‪ ..‬ويقوم العدل يف نظام النشأة الكون َّية‬
‫عىل وجود مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة للوجود‪ .‬وهذا هو منشأ ظهور االختالف والنقص‬
‫والعدم‪ .‬وأل َّن التفاوت واالختالف والنقص يف املخلوقات أمور ال تتعلَّق بأصل الخلق‪ ،‬بل هي‬
‫من لوازم ومقتضيات تلك املخلوقات‪ ،‬فمن الخطأ الظ ُّن بأ َّن الخالق فد رجح بعض مخلوقاته عىل‬
‫البرشي‪ .‬أي‬
‫ّ‬ ‫بعض‪ .‬أ َّما الرتجيح فهو الذي يؤ ّدي إىل نقض العدالة والحكمة فإنَّه من فعل الفاعل‬
‫وكامل محضً ا‪ ،‬وفعل َّية خالصة‪،‬‬
‫ً‬ ‫من املخلوق‪ .‬أ َّما الذات اإلله َّية املق َّدسة‪ ،‬فلام كانت وجو ًدا رصفًا‬
‫فهي إذن‪ ،‬من َّزهة عن تلك الوسائل واألفكار والوسائط‪ ،‬وبالتايل عن كيف َّيات الرتجيح التي هي‬
‫حكيم‬
‫ً‬ ‫البرشي‪ .‬ولذا فالعدل ـ مبعنى التناسب والتوازن ـ من لوازم كون الله‬
‫ّ‬ ‫من لوازم االجتامع‬
‫أي يشء مقادير معينة‬‫وعليم‪ .‬فهو سبحانه مبقتىض علمه الشامل‪ ،‬وحكمته العا َّمة‪ ،‬يعلم أن لبناء ِّ‬
‫ً‬
‫من العنارص‪ .‬ولذا فهو من يركب تلك العنارص‪ ،‬لتشييد ذلك البناء‪ .‬وضمن دائرة ارتباط العدل‬
‫اإللهي من خالل فيضه عىل‬
‫ُّ‬ ‫الحق تعاىل‪ ،‬يتجلَّ العدل‬
‫ِّ‬ ‫بالحكمة باعتبارهام صفتني من صفات‬

‫‪200‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫الئق غري‬
‫يستحق‪ .‬وعىل قول الفيلسوف نصري الدين الطويس‪ :‬ال يوجد حكم ٌ‬ ‫ّ‬ ‫كل مخلوق بقدر ما‬
‫ِّ‬
‫وكل يشء موجود قد أُوجد كام كان ينبغي‪ ،‬ومل‬ ‫الحق‪ ..‬ولن يأيت حكم يفضُ ُل الحك َم الحق‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫حكم‬
‫يوجد يشء ال ينبغي وجوده”‪ ..‬وأل َّن الزم الحكمة والعناية اإلله َّية هو أن يكون للكون والوجود‬
‫ريا بنفسه‪ ،‬وإ َّما أن يكون وسيلة للوصول إىل الخري‪...‬‬ ‫فأي يشء يوجد‪ ،‬إ َّما أن يكون خ ً‬
‫معنى وغاية‪ُّ ،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫عليم ومري ًدا‪ ،‬هي توضيح أصل العلَّة الغائيَّة للكون‪ .‬أ َّما العدالة فليس لها‬
‫ً‬ ‫فالحكمة من لوازم كونه‬
‫عالقة بصفتي العلم واإلرادة‪ ،‬ولك َّنها باملعنى الذي م َّر تكون من شؤون فاعليَّة الله‪ ،‬أي أنَّها من‬
‫صفات الفعل وليست من صفات الذات[[[‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫الراعي َّ‬ ‫َّ‬


‫املثن بما هو َّ‬
‫حماين للموجودات‪:‬‬ ‫الر‬ ‫الثالث عشر‪:‬‬
‫حاصل لقاء الغرييَّة يف املوجودات‪ ،‬فذلك يعني أ َّن حارضيَّته‬
‫ُ‬ ‫لنئ كان املث َّنى هو يف حيث َّية ما‬
‫اإللهي‪ .‬ولذا فهو‬
‫ّ‬ ‫الوضعي مبفهوم التدافع‬
‫ِّ‬ ‫يف الوجود هي نتيجة فعل َّية الستبدال مفهوم التناقض‬
‫ال يقوم عىل قانون نفي ال َّنفي كام تق ِّرر املا ّديَّة الديالكتيك َّية‪ ،‬وال عىل قانون التناقض كام وجدت‬
‫الهيغل َّية‪ ،‬وإنَّ ا عىل ما نس ّميه بـ “زوج َّية التكامل يف عامل املثَّنى”‪ ...‬ففي هذا العامل بالذات يولد‬
‫املث َّنى من دون أن تشوب والدته شائبة‪.‬‬
‫الخلق بني الكرثات الوجوديَّة لظهر لنا ما نعتربه مجازًا‬
‫َّ‬ ‫فلو أ َّولنا املث َّنى يف توليده للتناظر‬
‫جوهري للنظائر‬
‫ٍّ‬ ‫بـ”ديالكتيك التوحيد”‪ ،‬بحيث ال يعود النظري نقيضً ا لنظريه وإنَّ ا هو سرييَّة امتداد‬
‫إل العارف املقيم يف رحاب األلوهة لحظة‬
‫املتآلفة يف ما بينها‪ .‬وهو ما ال يقدر عىل إدراك حقيقته َّ‬
‫تلقّيه ال َّرحامن َّية وامتالئه بها‪..‬‬
‫وعليه‪ ،‬ال تعمل النظائر خارج مبدأ املث َّنى‪ ..‬وألنَّه متَّصل بال َّرحامنيَّة‪ ،‬ال يرتيض املث َّنى لنفسه‬
‫أن يكون انشقاق الواحد عن اإلثنني‪ ،‬بحيث لو تآلف هذان اإلثنان من بعد املكابدة يف مشقَّة‬
‫التناقض‪ ،‬أن يظهر كثالث يروح يستعيد استبداد األنا بالغري ليصبح أ َّولً من جديد‪.‬‬
‫لو فعل العارف هذا ما كان ليبلغ السم َّو‪ ،‬وال تس َّنى له أن يكون له ح ُّ‬
‫ظ املفارقة‪ ،‬ذلك أنَّه محفوظ‬
‫بأي حال‪ .‬فاألنا باقية تحتفظ بفرديَّتها واستقاللها‪ ،‬وكذلك اآلخر باق‬
‫يف محراب املث َّنى‪ ،‬فال يغادره ِّ‬
‫ٍ عىل فرديَّته واستقالله‪ ،‬لكنهام إذ يجريان مجرى القرىب سوف يُفتح لهام باب الكامل ليناال مقام‬
‫املؤسسة عىل العدل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحريَّة‬
‫يف هذا املقام بالذات‪ ،‬سوف يُرى املث َّنى يف ضمري األنا والغري الَّلذين اكتمال باملث َّنى‪ ،‬ثم‬

‫[[[‪ -‬مرتىض مط َّهري‪ -‬العدل اإللهي ‪ -‬ترجمة محمد عبد املنعم الخاقاين ‪ -‬الدار اإلسالم َّية ‪ -‬بريوت ‪ 1997- -‬ص ‪.82‬‬

‫‪201‬‬
‫المحور‬

‫ليستقل بذاته‪ ،‬فهو ممت ٌّد معها‬


‫َّ‬ ‫بالحق األعىل‪ .‬سوى أنَّه ال يفارق الجرية الحميمة‬
‫ِّ‬ ‫توث َّقت صلته‬
‫ريا يف‬
‫كل نظري آخ َر يف األنا‪ ،‬وتصري األنا نظ ً‬
‫عىل أرض األخ َّوة الفاضلة‪ .‬وتب ًعا ملبدأ االمتداد يصري ُّ‬
‫كل موجود بحسبه يف س َّنة‬
‫اآلخر‪ ،‬فيام تتولَّ الرحامنيَّة بعنايتها تثبيت املث َّنى وتسديده‪ .‬ولذا يدخل ُّ‬
‫وتيس سبيله‬
‫ِّ‬ ‫وتؤسس إلعامر دنيا اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫التدافع‪ ،‬مبا هي س َّنة عمران َّية متنع الفساد يف األرض‪،‬‬
‫إىل السعادة القصوى‪.‬‬

‫شتق منه‪ ،‬ال من سواه‪،‬‬


‫شتق املث َّنى من ض َّدين‪ :‬األنا واآلخر‪ .‬بل هو مام يُ ُّ‬
‫بهذه الصريورة ال يُ ُّ‬
‫نظ ًرا ألصالته‪ ،‬وكذلك مبا هو مفارق لألضداد‪ .‬يستطيع األنا أن يتمثَّل حال سواه ويكونه‪ ،‬برشط‬
‫أن يعقد الن َّية عىل الخروج من كهف الثنائ َّية واحرتابها‪ .‬ففي هذا الكهف تحتدم املوجودات مع‬
‫كل منهام نقيضني متنافرين ال يلتقيان عىل كلمة سواء‪ .‬بل قد‬ ‫ٍ‬
‫وحالئذ يغدو ٌّ‬ ‫ما يغايرها هويَّتها‪.‬‬
‫كل منهام لتدمري نظريه‪ ،‬أو‪ -‬يف أحسن حال ‪ -‬ليقيم معه توازن هلع ال يلبث بعد هنيهة أن‬
‫يسعى ٌّ‬
‫ينفجر لتصيب شظاياه اإلثنني م ًعا‪ .‬وإذن‪ ،‬ال يولد املث َّنى الكامل إلَّ يف مكان ٍنظيف خارج الكرثة‬
‫املشحونة بالتحاسد وسوء الظ ّن‪ .‬وسيكون له ذلك حني تبلغ أحوال العامل درجة اإلختناق‪ .‬فعند‬
‫ين جاهل َّيته ليصبح‬
‫إل حني يفارق النوع اإلنسا ُّ‬
‫هذه الدرجة ال يعود مث َّة انبثاق للحقيقة السامية َّ‬
‫ين‪.‬‬
‫معادل للصفاء الكو ّ‬
‫ً‬

‫كتب لعامل املوجودات أن يجتاز التناقض‬


‫عىل هذا النصاب من جمع الظاهر إىل الباطن س ُي ُ‬
‫لسيان الزوجيَّة‬
‫قابل َ َ‬
‫كل يشء بالنسبة إليه ً‬
‫لريى الوحدانيَّة يف املث َّنى‪ .‬ويف هذه الحال يصري ُّ‬
‫واختالفاتها يف الوجود‪ .‬لقد صار األمر بي ًّنا ملن رأى نقيضه قامئًا يف ذاته‪ ،‬ويف هذه الحال ال حاج ٍة‬
‫َ‬
‫طرف الزوج َّية إىل البحث عن صاحبه يف غري ذات زوجه‪ ،‬أل َّن كلًّ من الزوجني النقيضني‬ ‫ٍ‬
‫ألحد من‬
‫كل من الباطن والظاهر قامئًا يف اآلخر‬
‫يحس بزوجه‪ ،‬ولوال رؤية ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫وكل منهام‬
‫قائ ٌم يف ذات اآلخر‪ٌّ ،‬‬
‫لكل حال ع ّدته‬
‫ملا استطاع اإلنسان أن يتالءم مع رصوف الدهر‪ ،‬فيحيا النقيض يف نقيضه‪ ،‬ليُع َّد ِّ‬
‫العادي‬
‫ُّ‬ ‫حته ملرضه‪ ،‬ومن راحته لتعبه ومن شبابه لهرمه‪ .‬وإذا كان الفر ُد‬ ‫مز َّو ًدا من غناه لفقره‪ ،‬ومن ص َّ‬
‫يحيا هذا التناقض فطر ًة وسليق ًة وطب ًعا بحياته النقيضني م ًعا‪ ،‬فإنَّه عىل بصرية من أمره‪ ،‬فكيف حياة‬
‫ولعل السبب يف غيابها ع َّنا هو أنَّنا قد تجافينا عن فطرتنا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫إل أصحابها‪،‬‬
‫أهل الغرام التي ال يعرفها َّ‬
‫[[[‬
‫فلم نعش النقيض قامئًا يف ذات نقيضه؟‬

‫[[[‪ -‬محمد عنرب ‪ -‬مقدِّ مة لديوان العارف بالله العلَّمة الشيخ أحمد محمد حيدر «النغم القديس» ‪ -‬دار الشامل ‪ -‬طرابلس ‪ -‬لبنان ‪1997 -‬‬
‫– ص ‪.18‬‬

‫‪202‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫ولهذا كان عل ُمنا بباطن اليشء يجعلنا نعلم ظاهره رضورة وبداهة والعكس بالعكس‪ .‬ولنا يف‬
‫كل يشء‪ ،‬تنتهي وتبدأ يف الزوج‬
‫كل من الزوجني النقيضني من ِّ‬
‫علمت أ ّن الحركة يف ّ‬
‫َ‬ ‫هذا مثال‪ :‬فلو‬
‫تظل مستم ّرة دامئًا وأب ًدا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬لوجدت أ َّن السبب يف ذلك إمنا هو من أجل أن َّ‬ ‫اآلخر يف ٍ‬
‫وقت‬
‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬إنَّ ا‬ ‫فاليشء املتح ّرك الذي تنتهي حركته يف أحد الزوجني وتبدأ يف الزوج اآلخر يف ٍ‬
‫وقت‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫هي حرك ٌة مستم َّر ُة ال تتوقَّف‪ ،‬وفيها تتمثّل الصلة بني الخالق واملخلوق‪ -،‬وبني النظري ونظريه‪،-‬‬
‫كل يشء[[[‪ .‬ويف استمرار هذه الصلة املتبادلة عىل السواء‬
‫وذلك يف صورة رحمته التي وسعت َّ‬
‫رس هذا الوجود يف صورة قيام النهاية يف البداية والبداية يف النهاية يف‬
‫والتعادل املتبادل‪ ،‬يتجلَّ ُّ‬
‫مستقل عن معنى التجاوز‬
‫ًّ‬ ‫مثل إىل معنى التزاوج الذي يتَّجه إىل االتصال‬
‫كل يشء‪ .‬فإذا نظرت ً‬
‫ِّ‬
‫أي منهام من‬
‫منفصل عنه‪ ،‬وجدت أنَّه ليس إىل تع ُّرف ٍّ‬
‫ً‬ ‫الذي يتَّجه إىل تع ّدي اليشء الذي تتجاوزه‬
‫إل من خالل اآلخر‪.‬‬
‫سبيل َّ‬

‫وإذن‪ ،‬فاالنفصال محال آخر يف مقام القيوم َّية اإلله َّية‪ .‬ففي هذا املقام املتعايل تغمر الرحامن َّية‬
‫كيانهام م ًعا‪ ،‬لذا فإنَّهام يثبتان عليها ويتبادالنها بالتعادل والتساوي من دون أن تتخلَّل العمل َّية‬
‫التواصل َّية بينهام عقدة العطاء املرشوط باألنان َّية‪ .‬ذاك أ َّن العطاء يف هذه الحال هو عطاء صادر من‬
‫إل‬
‫املعطي األول‪ ،‬وما تق ِّدمه الذات إىل الغري من عطاء جميل فهو منه تعاىل وما الذات اإلنسانيَّة َّ‬
‫اللمتناهي‪ .‬وهكذا ال تعود زوج َّية الذات واآلخر محكومة بالتناقض ما دامت‬
‫واسطة لفيضه وعطائه َّ‬
‫غري مقطوعة الوصل باأللوهة‪ .‬فعند هذه النقطة من الوصل تنطلق رحلة املعرفة عىل خ ِّ‬
‫ط االستواء‬
‫واالستقامة‪ .‬حيث تعرف الذات نفسها ونظريها عىل نصاب العدل‪ ،‬ثم لتبدأ َس ْ ِ‬
‫ييَّة معاكسة من‬
‫ري نظريه عىل القدر نفسه من املودة والرحمة‪ .‬أ َّما ما يحكم التفاعل يف املث َّنى‬
‫التع ُّرف ليعرف النظ ُ‬
‫َ‬
‫طرف املث َّنى هام يف‬ ‫الذي يسكن اآلخر والذات م ًعا‪ ،‬فإنَّ ا هو مبدأ التح ُّول والتكامل‪ .‬ذاك أ َّن‬
‫تح ُّول مستم ٌّر بحكم أ َّن نهاية الطرف األول (الذات) هي بداية الطرف الثاين (اآلخر)‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه – ص ‪.19‬‬

‫‪203‬‬
‫المحور‬

‫قائمة املراجع واملصادر‪:‬‬


‫َّ‬
‫العربية‪:‬‬ ‫المصادر‬
‫‪1.1‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪2.2‬إبراهيم‪ ،‬نعمة مح َّمد‪ ،‬علم ما بعد الطبيعة يف فلسفة أيب الربكات البغدادي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الضياء‪ ،‬النجف األرشف‪،‬‬
‫‪.2007‬‬

‫‪3.3‬ابن تركه‪ ،‬صائن الدين ‪ -‬متهيد القواعد ‪ -‬تقديم وتصحيح وتعليق‪ :‬سيد جالل الدين آشتياين ‪ -‬مركز النرش اإلسالمي‬
‫يف الحوزة العلم َّية ‪ -‬قم ‪ -‬إيران ‪ 1381‬هـ ‪.‬‬

‫‪4.4‬ابن عريب ‪« -‬الفتوحات امل ّك َّية» ‪ -‬دار صادر ‪ -‬بريوت ‪.1990‬‬

‫‪5.5‬ابن عريب ‪“ -‬فصوص الحكم” تحقيق وتعليق‪ :‬أبو العال عفيفي‪ -‬ط‪ 2-‬دار الكتاب العريب‪ -‬بريوت ‪.1980‬‬

‫‪6.6‬ابن عريب ‪ -‬أجوبة ابن عريب عىل أسئلة الحكيم الرتمذي ‪ -‬إعداد وتحقيق‪ :‬أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق عيل‬
‫وهبي ‪ -‬مكتبة الثقافة الدين َّية ‪ -‬ط ‪ 1-‬القاهرة ‪.2006 -‬‬

‫‪7.7‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين ‪ -‬التدبريات اإلله َّية يف إصالح اململكة اإلنسان َّية‪ -‬تحقيق‪ :‬عاصم ابراهيم الكيايل الحسيني‬
‫‪ -‬الطبعة الثانية ‪ -‬دار الكتب العلميَّة ‪.2003 -‬‬

‫‪8.8‬أبو زيد‪ ،‬نرص حامد‪ ،‬فلسفة التأويل‪ ،‬دراسة يف تأويل القرآن عند محيي الدين بن عريب ‪ -‬دار التنوير ‪ -‬ط ‪ 1-‬بريوت‬
‫‪.1983‬‬

‫مؤسسة اإلحقاقي للتحقيق‬


‫املل حسن بن أمان‪ -‬تحقيق‪ :‬توفيق نارص البدعيل ‪َّ -‬‬
‫العلمة هاشم ‪ -‬رسالة َّ‬
‫‪9.9‬آل سلامن‪َّ ،‬‬
‫والطباعة والنرش‪ -‬بريوت ‪.2011‬‬

‫‪1010‬الحسن‪ ،‬عيىس‪ :‬موسوعة الحضارات‪ ،‬األهليَّة للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪.2007 ،‬‬

‫‪1111‬الحسني‪ ،‬ابن عجيبة ‪ -‬وإيقاظ الهمم يف رشح الحكم ‪ -‬املكتبة الثقافيَّة ‪ -‬بريوت‪ -‬باإلشرتاك مع مكتبة ومطبعة‬
‫مصطفى البايب الحلبي ‪ -‬القاهرة ‪ 1982- -‬ج ‪.1‬‬

‫‪1212‬الحسني‪ ،‬ابن عجيبة‪ ،‬الفتوحات اإللهيَّة يف رشح املباحث األصليَّة ‪ -‬الجزء الثاين‪ -‬تحقيق‪ :‬عاصم الكيايل ‪ -‬دار‬
‫الكتب العلم َّية ‪ -‬بريوت ‪.2000 -‬‬

‫‪1313‬حامدة أحمد عيل ‪ -‬املطلق النسبي وغرييَّة املوجود ‪ -‬فصل َّية “االستغراب” ‪ -‬العدد العارش ‪ -‬شتاء ‪.2018‬‬

‫‪1414‬حيدر‪ ،‬محمود‪ :‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة‪ ،‬فصل َّية «االستغراب»‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيج َّية‪،‬‬
‫العدد الخامس‪ ،‬السنة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪.2016‬‬

‫‪1515‬الديناين‪ ،‬غالم حسني اإلبراهيمي ‪ -‬القواعد الفلسفيَّة العا َّمة يف الفلسفة اإلسالميَّة ‪ -‬الجزء الثاين ‪ -‬تعريب‪ :‬عبد‬
‫الرحمن العلوي ‪ -‬دار الهادي‪ -‬بريوت‪.2007 -‬‬

‫‪1616‬الديوب‪ ،‬سمر ‪ -‬الثنائ َّيات الض ِّديَّة ‪ -‬املركز اإلسالمي للدراسات اإلسرتاتيج َّية ‪ -‬بريوت ‪.2017‬‬

‫‪204‬‬
‫ميتافيزيقا المثنَّى‬

‫مؤسسة اإلمام الصادق ‪ -‬ط ‪ 5-‬قم ‪ -‬إيران ‪1430‬هـ‪.‬‬


‫َّ‬ ‫‪1717‬السبحاين‪ ،‬جعفر‪ ،‬مفاهيم القرآن ‪ -‬تقرير‪ :‬جعفر الهادي‪ -‬ج‪1-‬‬

‫‪1818‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين ‪ -‬األسفار العقليَّة األربعة يف الحكمة املتعاليَّة ‪ -‬الجزء األول ‪ -‬مصدر سابق ‪ -‬ص ‪.419‬‬

‫‪1919‬الطيب‪ ،‬محمد بن ‪ -‬عقيدة التوحيد الوجودي عند ابن عريب ‪ -‬بحث يف اطار كتاب جامعي بعنوان‪ :‬اإلميان يف‬
‫الفلسفة والتص ُّوف اإلسالميني ‪ -‬إرشاف‪ :‬نادر الحاممي ‪ -‬منشورات‪ :‬مؤمنون بال حدود ‪ -‬الرباط ‪ -‬املغرب ‪.2016 -‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪2020‬عبد الوهاب املسريى‪ :‬موسوعة اليهود واليهوديَّة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪.1999 ،‬‬

‫جا ‪ -‬النارش‪ :‬العتبة‬


‫(املل هادي السبزواري) أمنوذ ً‬
‫َّ‬ ‫‪2121‬العبيدي‪ ،‬حسام عيل حسن ‪ -‬معامل العرفان عند الشيعة اإلمام َّية‬
‫ال َعلويَّة املقدَّسة ‪ -‬النجف األرشف ‪ -‬العراق ‪.2011‬‬

‫‪2222‬العفيفي‪ ،‬أبو العال‪ -‬التعليقات عىل فصوص الحكم ‪ -‬الجزء الثاين‪.‬‬

‫‪2323‬الكاكايئ‪ ،‬قاسم ‪ -‬وحدة الوجود برواية ابن عريب وماسرت ايكهارت ‪ -‬تعريب‪ :‬عبد الرحمن العلوي ‪ -‬دار املعارف‬
‫ِ‬
‫الحكْم َّية ‪ -‬بريوت ‪.2018 -‬‬

‫الخلق يف تص ُّوف ابن عريب ‪ -‬ترجمة‪ :‬فريد الزاهي‪ -‬منشورات مرسم ‪ -‬الرباط ‪ -‬املغرب‬
‫َّ‬ ‫‪2424‬كوربان‪ ،‬هرني‪ ،‬الخيال‬
‫‪.2006 -‬‬

‫العلمة الشيخ أحمد محمد حيدر “النغم القديس” ‪ -‬دار الشامل ‪ -‬طرابلس‬
‫‪2525‬محمد عنرب‪ -‬مقدمة لديوان العارف بالله َّ‬
‫‪ -‬لبنان ‪.1997 -‬‬

‫‪2626‬مرتىض مط َّهري‪ -‬العدل اإللهي ‪ -‬ترجمة محمد عبد املنعم الخاقاين ‪ -‬الدار اإلسالميَّة ‪ -‬بريوت ‪.1997 -‬‬

‫‪2727‬النابليس‪ ،‬الوجود الحق‪.‬‬

‫واللتسامح ‪ -‬رؤى يف املبادئ امليتافيزيقيَّة ‪ -‬مجلَّة «قضايا إسالميَّة معارصة»‬


‫‪2828‬نرص‪ ،‬سيد حسني ‪ -‬جذور التسامح َّ‬
‫‪ -‬العدد (‪.2004 - )29-28‬‬

‫المصادر األجنبية‬
‫‪1.‬‬ ‫‪Frithjof Schuon: From The Divine to The Human، Survey of Metaphysics and Epistemol، Translated‬‬
‫‪into English by Gustavo Polit and Deborah Lambet، World Wisdom Books 1981،‬‬

‫‪2.‬‬ ‫‪Frithjof Schuon: the play of masks، world Wisdom Books INC 1992.‬‬

‫‪3.‬‬ ‫‪Frithjof Schuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart،‬‬
‫‪world Wisdom Books INC1981،.‬‬

‫‪4.‬‬ ‫‪Valodia، D. Glossary of Terms Used by Frithjof Schuon،http://www.frithjof schuon.com/‬‬


‫‪Glossary%20Schuon%20Revised.pdf.‬‬

‫‪205‬‬
‫إشكالية اهلل يف ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬
‫مفهوم الكينونة ومسألة اإلله الشخيص‬

‫هانس كوكلر‬
‫فيلسوف نمساوي معارص ‪ /‬تمهيد وترجمة‪ :‬بروفسور حميد لشهب‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫ه تقريب فضاءات‬ ‫الغاية من ترجمة "إشكالية هللا ي� فكر مارتن هايدغر" ي‬
‫توف� سبل للتعايش والحوار والتعاون من أجل‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وفلسفية مختلفة‪ ،‬بغية ي‬ ‫فكرية‬
‫النمساوي هانس كوكلر‬ ‫ُّ‬ ‫لإلنسانية‪ .‬وهذا بالضبط ما حاوله الفيلسوف‬ ‫َّ‬ ‫غد أفضل‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫الفلسفية‪،‬‬ ‫الفكرية‪ ،‬سواء ي� نصوصه‬ ‫(‪ )Hans Kochler‬نفسه ي� حياته‬
‫ِّ‬ ‫ن ِّ‬ ‫َّ ف‬ ‫ً‬
‫الدول‪-‬‬ ‫ي‬ ‫القانو� ‪-‬عىل مستوى القانون‬ ‫ي‬ ‫السياسية‪ ،‬ي� بعدها‬ ‫وخصوصا فلسفته‬
‫اقتصادية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أيديولوجية‪،‬‬ ‫(سياسية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لكل وصاية من ِّ‬
‫أي نوع‬ ‫أم ف� مواقفه الرافضة ِّ‬
‫ي‬
‫فكرية إلخ) للغرب عىل دول العالم الثالث‪ .‬وليس هناك من دليل عىل هذا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ئ ِّ‬ ‫يفوق ت ز‬
‫العربية‬ ‫الفلسطينية مثل ودعمه للشعوب‬ ‫بالقضية‬ ‫المبد� الدائم‬ ‫ي‬ ‫ال�امه‬
‫ًّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ف� ت‬
‫شخصيا بأن هذا‬ ‫وأع�ف‬ ‫اس�داد حقوقها والذود عن ثقافتها وحضارتها‪.‬‬ ‫ي‬
‫عت� عىل امتداد ربــع قرن‬ ‫شج ن‬ ‫ال� َّ‬ ‫فكرية فريدة‪ ،‬ه ت‬ ‫لشخصية َّ‬ ‫َّ‬ ‫ء‬ ‫الجانب الم�ض‬
‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬
‫الفكرية لكوكلر‪ ،‬وترجمة بعضها‪ ،‬وعرض أخرى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تتبع اإلنتاجات‬ ‫من الزمن عىل ُّ‬
‫و� النمسا‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫وتنظيم لقاءات معه ي� إطار مشاري ــع فكرية بيننا‪ ،‬ي� المغرب ي‬
‫ف‬ ‫ئ‬
‫رجا� تب�جمة هذا النص‪ ،‬أن أكون ساهمت ولو بالقليل ي� رفد األوساط‬ ‫ي‬
‫والثقا�‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ين‬ ‫ف‬
‫ي‬ ‫الفلس�‬
‫ي‬ ‫الحقل�‬ ‫الناطقة باللغة العربية بفكرة جديدة ذات أهمية ي�‬
‫جرماني� آخرين‪ ،‬كان المبت�غ‬ ‫ين‬ ‫ّ‬ ‫ت‬
‫ترجما� السابقة‪ ،‬سواء لكوكلر أو لمفكرين‬ ‫ي‬ ‫وككل‬
‫ليتس� لنا بدء فهم ذواتنا‪ ،‬وبناء‬ ‫نَّ‬ ‫إكمال وتوسيع معرفتنا بالغرب ثقافة وحضارة‪،‬‬
‫ما يجب بناؤه ف ي� غضون األزمنة اآلتية‪.‬‬
‫الميتاف�يقا الملتوية –‬ ‫يز‬ ‫تفك� الكينونة‪ -‬اإلنعطاف –‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫األنطولو�‪.‬‬
‫ج ي‬ ‫الدازاين – اإلختالف‬
‫إشكالية اهلل في ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬

‫تقديم‪:‬‬
‫«أتينا لآللهة بعد فوات األوان ومبك ًرا بكثري للكينونة»‬

‫)*( “‪„Wir kommen für die Götter zu spät und zu früh für das Seyn‬‬ ‫]‪[1‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ما من ريب أن محاولة التوفيق بني «تفكري الكينونة» عند هايدغر وتص ُّوره الشخيصِّ عن الله هي‬
‫األنطولوجي الذي رسمه بعد «اإلنعطاف ‪ »Kehre‬يح ِّدد يف‬‫َّ‬ ‫مشكلة منذ البداية‪ .‬ذلك أل َّن اإلطار‬
‫البداية منطقة خارج الشخيصِّ ‪ ،Personalen‬بعي ًدا عن الطريقة التي فكرت امليتافيزيقا الغرب َّية للـ‬
‫‪ actualitas‬يف ذلك‪.‬‬
‫الفينومينولوجي يف ما يتعلَّق مبسألة الله األنطولوجيا الوجوديَّة يف بداية تفكري‬
‫ُّ‬ ‫مييِّز الحياد‬
‫هايدغر‪ ،‬خصوصاً وأنه يستنتج أيضً ا استحالة وجود ِّ‬
‫أي فلسفة «دين َّية»‪ .‬يشري إىل هذا يف تفسري‬
‫الوجودي لجوهر اإلنسان‪...‬‬
‫ِّ‬ ‫طريقة تفكريه يف خطاب اإلنسان َّية ‪« :Humanismusbrief‬مع التحديد‬
‫مل يتم حتى اآلن ات ِّخاذ قرار بشأن «وجود الله» أو عدم وجوده‪ ،‬كام مل يت ّم تقرير سوى القليل عن‬
‫إمكانيَّة وجود اآللهة»[[[‪.‬‬
‫يتغي املوقف املحايد إىل موقف «ه ّدام»‪:‬‬‫يف مرحلة امليتافيزيقا «امللتوية ‪َّ ،»Verwindung‬‬
‫امليتافيزيقي‪ ،‬وبالتايل‬
‫ِّ‬ ‫إ َّن األنطولوجيا الثيولوجيَّة املسيحيَّة هي يف األساس جزء من املخزون‬
‫والطوعي‪ .‬وقد أصبحت اإلشكال َّية الجديدة التي طُرحت بعد‬ ‫ّ‬ ‫املوضوعي‬
‫ِّ‬ ‫يجب رفضها يف طابعها‬
‫األنطولوجي إلشكال َّية الله[[[‪ .‬ويتض َّمن هذا التصحيح نق ًدا للمفهوم‬
‫ِّ‬ ‫«االنعطاف» مبثابة التصحيح‬
‫خصوصا يف ما يتعلَّق بإضفاء الطابع املطلق عىل‬‫ً‬ ‫الشخيصِّ عن الله كام تط َّور يف املسيح َّية‪،‬‬
‫مفهوم الذاتيَّة‪.‬‬

‫أسس هذا التص ُّور يف ما يتعلَّق مبخاوف هايدغر‪ :‬نُظِّر إىل‬


‫يجب تسليط الضوء بإيجاز عىل ُ‬
‫الوجود ‪ - Sein‬من طرف أفالطون وأرسطو‪ -‬عىل أنَّه أمر واقع ‪( actualitas‬حيث يُفهم هذا يف النهاية‬
‫عىل أنَّه تحقيق الذات يف الوجود مبعنى مجسم)؛ والتمثيل «األعىل» للواقع َّية‪ ،‬إن جاز التعبري‪ ،‬يُرى‬

‫(*) العنوان األصيل بالُّلغة األملان َّية‪،»Heideggers Denken des Seins und die Frage nach dem Personalen Gott« :‬‬
‫وهو جزء من كتاب هانس كوكلر‪« :‬السياسة والثيولوجيا عند مارتني هايدغر ‪،»Politik und Theologie bei Martin Heidegger‬‬
‫فيينا‪.1991 ،‬‬
‫‪[2]- Brief über „Humanismus“, in: Wegmarken, Frankfurt a. M. 1967, S. 181.‬‬
‫‪[3]- Der Verf. Hat dies in der Abhandlung Das Gottesproblem im Denken Martin Heideggers, in:‬‬
‫‪Zeitschrift für katholische Theologie, Bd. 95 (1973), H. 1, bes. S. 6190-, näher ausgeführt.‬‬

‫‪207‬‬
‫المحور‬

actus purust[[[ ‫ وهو‬،‫ ميتلك مثل هذا «الوجود» يف أنقى صوره‬-‫ باعتباره صفة مح َّددة له‬-‫يف كائن‬
، ‫ حس ًنا‬Deo autem convenit esse actum purum et primum„ .. ‫«شك ًرا لتكون نقيًّا وقريبًا‬
‫ ال تتجاوز هذه امليتافيزيقا أبعاد الوجود‬،‫ من حيث املبدأ‬،‫ ومع ذلك‬.[[[“‫فعل نق ًّيا وأول عمل‬
ً ‫ليكون‬
‫ يتح َّدث‬،‫ من ناحية‬.‫األنطولوجي) بحزم كاف‬
َّ ‫ ألنَّها ال تط ِّبق «االختالف» (أي االختالف‬Seienden
‫إل بأنَّه هذه‬
َّ ‫ وال ميكن فهمه‬Seiendem ‫» وهو يف ح ِّد ذاته سمة من سامت الوجود‬Sein ‫عن «كائن‬
‫ يفرتض وجود‬،‫ ومن ناحية أخرى‬،]Seienden ‫كل كائن‬
ِّ ‫ كتحديد وضع‬actualitas ‫الخاصيَّة [الواقع‬
ّ
،‫ واقعها‬،Seienden ‫خاص َّية مع َّينة «حاسمة» للكائنات‬
ّ ‫ والتي لها‬،‫كائن كأساس للكائنات نفسها‬
‫ (أي‬actualitas ‫ عىل أنَّه واقع‬Sein ‫منوذجي للوجود‬
ٌّ ‫ الله هو متثيل‬،‫ مبعنى ما‬.[[[‫إىل درجة بارزة‬
ّ ‫ بهذه الطريقة يح ِّدد توماس[[[ الَّلحظة املو‬.[[[ )‫أن يتحقَّق بالكامل‬
‫ بني الله والفرد‬einende ‫حدة‬
.Wirklichsein ‫ والذي يعني دامئًا أن وجو ًدا حقيقيًّا‬،‫» املفهوم بهذه الطريقة‬Sein ‫يف «الوجود‬
:zweier Seiender ‫تكمن العالقة بني الله والفرد عىل هذا املستوى من املساواة الشكل َّية لكائنني‬
Ipsum esse est„ »‫ أين نريد أن نكون ضمنيني يف الصورة والله‬.‫اإللهي‬
ّ ‫«»هناك تشابه مع الخري‬
similitudo divinae bonitatis; unde inquantum aliqua desiderant esse, desiderant Die
.»[[[ “similitudinem et Deum implicite

‫األرسطي للسببيَّة‬
ِّ ‫امليتافيزيقي للخلق يف توافق دقيق مع النهج‬
َّ ‫هكذا ط َّور توماس املفهوم‬
‫ وعىل هذا النحو ال يصل إىل‬،‫ والتعايل الذي يظهر هنا هو التعايل بني الكائنات‬،[[[‫الحقيقيَّة‬

[1]- Im Sinne einer solchen actualitas deutet Thomas auch das biblische „Sum quod Sum“: Summa
contra gentile I, c.22 (op. Tom. XIII, 69: STheol I, qu. 13, art. 11 (op. Tom. IV, 162): „Utrum hoc nomen
qui est sit maxime nomen Die proprium“:
[2]- Thomas, Quaestiones disputatae: De Potentia, qu. 1, art. 1 (op. Tom. XIII, 3).
[3]- Zur auf derselben liegenden Ansetzung Gottes als summum bonum – was der Konzeption
des summum ens entspricht: -vgl. Heideggers prinzipielle Kritik: „Wenn man vollends „Gott“
als, den höchsten Wert verkündet, so ist das eine Herabsetzung des Wesens Gottes. (Brief über den
„Humanismus“, in: Wegmarken, S. 179).
[4]- Dies bedeutet: die klassische Metphysik „onto-theo-logisch“, insofern sie das Seiende im Ganzen
auf einen „gründenden“ Grund hin denkt. „Die Ganzheit dieses Ganzen ist die Einheit des Seienden,
die als der hervorbringende Grund [Gott] einigt. „(Identität und Differenz. Pfullingen 1957 [4. Aufl. o.
J.] S. 45. Darin liegt die „noch ungedachte Einheit des Wesens der Metaphysik“. (ebd.), sofern sich aus
der einen Frage nach dem „Grunde“ des Seienden die Frage nach dem Seienden als solchen und nach
dem höchsten Seienden ineins ergibt.
[5] - ‫ إضافة املرتجم‬:‫املقصود طوماس األكويني‬.
[6]- Quaest. Disp. De veritate, qu. 22, art. 2, ad 2 (op. Tom. XV, 146.
[7]- Zu Heideggers diesbezüglicher Kritik vgl. Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 136; Nietzsche,
Bd. II. Pfullingen, 1961. S. 131f.

208
‫إشكالية اهلل في ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬

‫ين الذي‬
‫كل الوجود من السبب الكو ِّ‬
‫األنطولوجي‪ .‬ويفهمه كـ‪« :‬انبثاق» ِّ‬
‫ّ‬ ‫مضمون مشكلة االختالف‬
‫هو الله ‪ »emanatio „totiu entis a causa universali, quae est Deus‬ويضيف‪« :‬ونس ّمي هذا‬
‫االنبعاث باسم الخلق‪.[[[»et hanc quidem emanationem designamus nomine creationis‬‬
‫الذي يحاول هايدغر تجاوزه باستعامل مفهوم الكينونة[[[‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫مي ّيز طوماس بالتأكيد بني األشكال املختلفة لهذه السبب َّية ‪ ،Ursächlichkeit‬لكنه مل يعد يشكِّك‬
‫عاملي ‪ causa universalis‬ضمن هذا النموذج‪( .‬أو‬
‫ٌّ‬ ‫فيها بنفسه‪ ،‬فهو يعتقد بأ َّن الله نفسه هو سبب‬
‫السببي‬
‫َّ‬ ‫الطوماوي عن الله‪« :‬إن الطابع‬
‫ِّ‬ ‫املدريس‬
‫ِّ‬ ‫‪ ،[[[ )causa sui‬كام يرشح يف نقده للمفهوم‬
‫بكل نقاء يف ذلك الكائن الذي ميأل جوهر الوجود بأعىل معناه‪ ،‬ألنَّه ال‬
‫للوجود كواقع يظهر نفسه ِّ‬
‫ميكن أب ًدا أال يوجد هذا الكائن ‪ .[[[»Seiende‬طبقًا لهايدغر‪ ،‬فإ َّن املشكلة التي تظهر هنا تنتمي إىل‬
‫مجال «األنطوثيولوجيا»[[[‪ ،‬ألنها تتعلَّق مبسألة «وجود الله مبعنى كونها أعىل واقعيَّة ‪summum‬‬
‫‪.[[[»ens qua ens realismum‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن ما يفهمه هايدغر نفسه عىل أنَّه كائن ‪ Sein‬غري ُمتض َّمن يف مفهوم الفعل ‪=( actus‬‬
‫الوجود ‪ )esse‬وال الفعل الخالص ‪ =( actus purus‬اإلله) ‪ ،‬كام اعتقد طوماس‪ .‬وهذا هو السبب‬
‫يف أن ما يعتقده هايدغر «إله ًّيا» يف الوجود ‪ Sein‬ويف ظهور الكينونة ‪ ،Sein‬ال ميكن التعبري عنه‬
‫بشكل ٍ‬
‫كاف مبصطلحات امليتافيزيقا املدرس َّية املسيح َّية‪ .‬أكرث من هذا‪ ،‬يفهم هايدغر الوجود ‪Sein‬‬
‫والله يف ميتافيزيقا الطوماويَّة عىل أنهام تعديالت معيَّنة لإلشكاليَّة الوجوديَّة ‪Seinsproblematik‬‬
‫الواحدة الشاملة‪ .‬والتي ال ميكن التفكري فيها يف امليتافيزيقا عىل هذا النحو‪ .‬إنَّه يحاول العودة إىل‬
‫ما وراء امليتافيزيقا‪.‬‬

‫يتعي عىل هايدغر أن يشكِّك يف مفهوم الله باعتباره سب ًبا كون ًّيا ال‬
‫من وجهة النظر النقديَّة هذه‪َّ ،‬‬
‫غنى عنه ‪ causa universalis qua causa sui‬من حيث الرشوط التاريخ َّية ‪seinsgeschichtlich‬‬
‫التي مل يفكر فيها‪ ،‬والتي تُظهر له كيف تعيد امليتافيزيقا املسيحيَّة تفسري «وجود الوجود للخلق ‪das‬‬

‫‪[1]- Summa Theologica I, qu. 45., art. 1 (op. TomIV, 464).‬‬


‫‪[2]- Vgl. dazu seine Ausführungen in Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 191ff.‬‬
‫‪[3]- Heidegger fügt dem, um die innere Begrenztheit metaphysischer Reflexion aufzuweisen,‬‬
‫‪unmissverständlich hinzu: „So lautet der sachgerechte Name für den Gott in der Philosophie“ (Identität‬‬
‫‪und Differenz. S. 64).‬‬
‫‪[4]- Nietzsche, Bd. II, S. 415.‬‬
‫‪[5]- Vlg. a. a. o., S. 470.‬‬
‫‪[6]- ebd.‬‬

‫‪209‬‬
‫المحور‬

‫‪ .[[[« Sein des Seienden‬و«ينىس»‪».‬الوجود ‪ »Sein‬هكذا باعتباره «السبب» غري املتوفّر واملسيطر‬
‫الفردي‪ ،‬الذي ال يكون هو ذاته ‪ summum ens‬م َّرة أخرى‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فهو أيضً ا يفلت‬
‫ِّ‬ ‫عىل الوجود‬
‫من األرض َّية التي يظهر عليها جوهر «اإللهي»‪ ،‬إذا كان ال يزال من املمكن اليوم الحديث عنها‬
‫عىل اإلطالق يف «ليل العامل»[[[‪ ،‬وكان من املمكن تحديد هذا الوقت بشكل مناسب‪ .‬وال تت ُّم‬
‫يصل إىل هذا اإلله‬
‫ّ‬ ‫والتجريدي‪« :‬ال يقدر اإلنسان أن‬
‫ِّ‬ ‫املوضوعي‬
‫ِّ‬ ‫إل باملعنى‬
‫معرفة اإلله نفسه َّ‬
‫[األنطوثولوجي] وال تقديم ذبائح‪ .‬وال ميكن لإلنسان أن يركع بخجل أمام سبب ذاته ‪،Causa sui‬‬
‫ّ‬
‫وال ميكنه أن يعزف املوسيقى ويرقص أمام هذا اإلله»[[[‪.‬‬

‫املسيحي عن الله‪ ،‬ويقرتح يف الوقت نفسه عىل‬


‫َّ‬ ‫املدريس‬
‫َّ‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬يد ّمر هايدغر املفهوم‬
‫ريا عىل أنَّه «شكل» (مظهر)‬
‫املرء أن يبحث عن إله «مختلف»‪ ،‬وليس عن مج َّرد إله‪ ،‬يختربه أخ ً‬
‫الوجود يف األسطورة‪.‬‬

‫ّ‬
‫الشخيص‪:‬‬ ‫فكر الكينونة ومسألة تفسريه‬
‫إ َّن محاولة هايدغر الوصول إىل تجربة جديدة للوجود ‪ ،Seinserfahrung‬غري متخفّية من قبل‬
‫البوذي‬
‫ِّ‬ ‫شخيص‪ ،‬يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفكر‬
‫ّ‬ ‫امليتافيزيقي‪ ،‬تقود يف البداية إىل آخر غري‬
‫ِّ‬ ‫التقليد‬
‫املسيحي لله[[[‪ .‬ويبدو أ َّن الكون َّية ‪ Pankosmismus‬وتقوى الطبيعة‬
‫ِّ‬ ‫أكرث من ارتباطه باملفهوم‬
‫اللحقة تؤكِّد ذلك‪ .‬ويجب تجاوز الشخصيَّة كفئة لوصف‬
‫‪ Naturfrömmlichkeit‬يف كتاباته َّ‬
‫املطلق (للوجود)‪ ،‬ألنَّها تعبري عن التط ُّوع َّية ‪ Voluntarismus‬غري امل ُتحكّم فيها ‪ -‬وبالتايل فإنَّها‬
‫تجسيم‪ .‬ويت ُّم التفكري يف الوجود ‪ Sein‬نفسه يف فئة «اإللهي» (املق َّدس)‪.‬‬

‫وهكذا يبدو أ َّن ازدواج َّية امليتافيزيقا التقليديَّة بني الوجود والله (كـ ‪ )summum ens‬قد ألغيت‬
‫بوذي مج َّرد عن الوجود ‪ Sein‬كال يشء ‪ ،Nichts‬والذي له مكان واحد‪ ،‬بالنسبة‬
‫ٍّ‬ ‫لصالح مفهوم‬
‫املسيحي الشخيصِّ ‪ ،‬يف مجال نسيان الكينونة ‪ Siensvergessenheit‬فقط‪ .‬لطاملا أشار‬
‫ِّ‬ ‫إىل اإلله‬
‫هايدغر (يف محادثة حول فلسفة سوزويك ‪ )Suzuki‬إىل البوذيَّة باعتبارها التعبري عن نيَّته الفلسفيَّة‬

‫‪[1]- Einführung in die Metaphysik. Frankfurt a. M. 1966. S. 147.‬‬


‫‪[2]- Vgl. Erläuterung zu Hölderlins Dichtung. Frankfurt a. M. 1963. S. 44. – Holzwege. Frankfurt a. M.‬‬
‫‪1963. S. 248.‬‬
‫‪[3]- Identität und Differenz. S. 64.‬‬
‫‪[4]- So meint auch C. Fabro, dass in Heideggers Seinsphilosophie kein Platz sei für einen personalen‬‬
‫‪Gott im Sinne des Christentums (Ontologia esistenzialistica e metafisica tradizionale, in: Rivisita di‬‬
‫‪Filosofia neo-scolastica 45 [1953], S. 613).‬‬

‫‪210‬‬
‫إشكالية اهلل في ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬

‫ عن‬Feldweggespräch ‫ يف ما يتعلَّق مبناقشة أطروحاته يف «حديث طريق الحقل‬.‫املركزيَّة‬


‫خاص يف مجلَّد نيتشه‬
ٍّ ‫ الذي ق َّدمه بشكل‬،»‫ وهو مفهومه للتاريخ الكينوين «العدم َّية‬،[[[»‫التفكري‬
‫ كام يُالحظ يف الواليات املتَّحدة األمريك َّية واليابان عىل مدى‬،‫ ت َّم استخدام هذا التفكري‬،[[[‫الثاين‬
‫ وميكن‬.Personalismus ‫يب وشخصانيَّته‬
ِّ ‫ كذلك يف تفسري الدين الغر‬،‫العقود القليلة املاضية‬
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

»:‫ صاغه بالفعل يف أطروحته عن قول نيتشه مبوت الله‬،‫للمرء أن يعتمد عىل تفسري هيدغر نفسه‬
.[[[»‫ألنه ميكن أن تكون املسيح َّية نفسها نتيجة وتط ُّو ًرا للعدم َّية‬

Roland S. Valle ‫ وروالند س فايل‬Rolf von Eckartsberg ‫أشار رولف فون إيكارتسبريج‬
»transpersonale ‫الرشقي حول البعد «عرب الشخص َّية‬
ّ ‫إىل يشء ما يف دراستهم لهايدغر والتفكري‬
.Sein ‫لتفكري هيدغر يف الوجود‬

)‫ املوضوعان َّية يف اتجاه تجربة ما قبل التشخيص (األصل َّية‬،‫يف سعيه لرتك مجال التشخيص‬
‫ «البعد الثيولوجي العابر‬:‫ يرون فيه قاسمً مشرتكًا أساس ًّيا مع البوذيني ويتح َّدثان عن‬.[[[‫للكينونة‬
‫ التي هي مصدر اإلنارة‬،‫ ما وراء اإلرادة البرشيَّة‬،‫للبرش يف املنطقة ما وراء العمق وما وراء االرتفاع‬
‫ ويشري اهتامم هيدغر بتص ُّوف مايسرت إيكهارت‬.[[[‫ ما وراء الشخص َّية‬- ‫والوفاء والحقيقة لإلنسان‬
Peter Krefft ‫ يتح َّدث بيرت كريفت‬،‫ وباإلضافة إىل الكثريين‬.[[[‫ إىل اإلتجاه نفسه‬Meister Eckhart
.[[[‫أيضً ا عن يشء مذهل يف كيف َّية «رسم» هايدغر‬

[1]- Zur Erörterung der Gelassenheit. Aus einem Feldweggespräch über das Denken, in: Gelassenheit.
Pfullingen 1959 [3. Aufl. o. J.], S. 27ff.
[2]- Vgl Unsere Darlegung in: Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers.
Meisenheim a. G. 1978.
[3]- Holzwege, Frankfurt a. M. 1963, S, 204.
[4]- Ich habe Ähnliches in meiner Deutung von Heideggers Seinsdenkens als einer geläuterten Skepsis
versucht (vgl. Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers. Meisenheim a. G. 1978.
[5]- Rolf von Eckartsberg und Roland S. Valle, Heidegger Thingking and the Eastern Mind, in: The
Metaphysics of Conschiouness (ed. Rolf von Eckartsberg). New York 1981, S. 309. „transhuman
theo-dimension in the region beyond depth and beyond height, beyond human willulness, wich ist the
source of illumination, fulfillment, and truth for man -the transpersonal“.
[6]- „ … zur echten und grossen Mystik gehör[t] die äusserste Schärfe und Tiefe des Denkens. Dies ist
auch die Wahrheit. Meister Eckhart bezeugt sie“. (Der Satz vom Grund, S. 71, S. 71) – Vgl. auch: John
D. Caputo, Meister Eckhart and the Later Heidegger: The Mystical l in Heidegger´s Thought, Part two,
in: Journalof the History of Philosophy, vol. XII (1975), pp.6280-.
[7]- Zen in Heidegger´s Gellassenheit in: International Philosophical Quarterly, vol. XI, no. 1. March
1971, p. 453 („The simple releasement oft he ego: ist this not alm perfect a description of what goes on
in Zen as such categories can afford?

211
‫المحور‬

‫ميكن أن تشري هذه التفسريات عىل األقل إىل جهود هايدغر إلجراء محادثة مع ممثيل زن‬
‫ين‪ ،‬املستوحى من هولدرلني‪،‬‬
‫األسطوري اليونا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫البوذيَّة ‪ ، Zen-Buddhismus‬حتى لو كان تديُّنه‬
‫يتناقض يف النهاية مع عنفه‪/‬قوته التصويري‪/‬التص ُّوري‪ .‬يبدو أن هناك مستويات مختلفة من التفسري‬
‫توسط بطريقة مضلّلة فقط‪ ،‬وهو ما يقرتحه حديثه‬
‫يتوسط بينها هو نفسه‪ ،‬أو ُّ‬
‫يف عمل هيدج‪ ،‬التي مل َّ‬
‫عن «املنعطف ‪ »Kehre‬بالفعل (وإن كان يف سياق مختلف)‪.‬‬

‫األنطولوجي لهايدغر يف اتجاه التجربة الشخصيَّة (كام فعلته‬


‫ِّ‬ ‫إ َّن املحاوالت ملواصلة املنهج‬
‫الفلسفة املسيح َّية مرات ع َّدة)‪ ،‬تعود وفقًا له إىل «امليتافيزيقا» التي يحاول الخروج منها‪ .‬ورمبا‬
‫ينطبق هذا أيضً ا عىل محاولة فريدولني فيبلنغر ‪ ،Fridolin Wiplinger‬الذي سعى إليجاد «نظري»‬
‫شخيص يف البنية الديالكتيك َّية لعالقة الذات‪-‬اليشء كعالقة بني اإلنسان والوجود‪ .‬حيث يقرتب من‬
‫ٍّ‬
‫تك ُّهنات الشعارات املسيحيَّة الرواقيَّة‪ ،‬التي تناولها هيغل احتامالته املنطقيَّة ‪Logos-Spekulation‬‬
‫م َّرة أخرى‪ ،‬الذي يسعى إىل توسيعه ليشمل تجربة شخص َّية يف ما يتعلَّق بإشكال َّية وجود الكينونة‬
‫عب عنها هايدغر حديثًا‪« :‬ما يوجد يف الواقع‪ ،‬هو‬
‫والتفكري يف بعضهام البعض ‪ ،Ineinander‬والتي َّ‬
‫العالقة بني امل ُقابل ‪ Gegenüber‬وتنفيذ‪/‬اكتامل امل ُقابل‪ ،‬التمديد ‪ Legein‬كرتاجع ‪،Dia-legein‬‬
‫جا عنهام أو فوقهام‪،‬‬
‫واللغوص ‪ Logos‬كحوار ‪ ،Dia-logos‬وهو ليست ثالثًا بجانبهام‪ ،‬خار ً‬
‫ولكن جوهريهام ‪ ...‬يف حدث ‪ Ereignis‬واحد ال ينفصل عن امل ُقابل ‪ ،Gegenüber‬اللوغوس‬
‫الحواري‪ ،‬الذي يفتح ويكشف أحدهام لآلخر»[[[‪ .‬ويتح َّدث فيبلنغر ‪ Wiplinger‬عن اإلخالص‬
‫جة‪« :-‬يبدو هذا التفاين ممك ًنا لألنت ‪Du‬‬
‫املتبادل ويقول ‪ -‬وهذه هي النقطة املركزيَّة يف الح َّ‬
‫الحقيقي‪ ،‬األنت الوحيد»[[[‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فقط»[[[‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإ َّن تجربة الكينونة ‪ Seinserfahrung‬هي «لقاء مع‬
‫كل تجربة ملموسة إلنسان أنت ‪ .Du‬بهذه الطريقة‪ ،‬يسعى فيبلنغر‬
‫والذي يحتوي عىل رشط إمكان َّية ِّ‬
‫األنطولوجي‪ ،‬الذي صاغه هيدغر برصامة ‪ ،‬نحو «اختالف الهويت»[[[‪ ،‬من‬
‫ِّ‬ ‫إىل تجاوز االختالف‬
‫خالل فهم الكينونة كلوغوس باملعنى «املسيحي»[[[‪ ،‬ويعني هذا بحسبه االنتكاس إىل التفكري‬
‫األنطوثيولوجي‪ ،‬الذي تخضع الكينونة نفسها فيه لكائن أعىل وال يكون باإلمكان التفكري فيها‬

‫‪[1]- Dialogische Logos. Gedanken zur Struktur des Gegenübers, in: Philosophisches Jahrbuch der‬‬
‫‪Görres-Gesellschaft, Bd. 70 (196263/), S. 185.‬‬
‫‪[2]- A.a. o., S. 374.‬‬
‫‪[3]- Fridolin Wiplinger, Wahrheit und Geschichtlichkeit. Eine Untersuchung über die Frage nach dem‬‬
‫‪Wesen der Wahrheit im Denken Martin Heideggers. Freiburg/München 1961. S. 375‬‬
‫‪[4]- a.a.O. S. 374.‬‬
‫‪[5]- Vgl. ebd.‬‬

‫‪212‬‬
‫إشكالية اهلل في ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬

‫يؤسس‬
‫ككينونة‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬فإ َّن «املوجود ‪ »Seiende‬ذاته كوجود أسمى ‪ =[ Seiendste‬الله] ِّ‬
‫امليتافيزيقي للكينونة‪ ،Sein‬ال يقول كيف ميكن معرفة‬
‫ِّ‬ ‫الكينونة ‪ .[[[»Sein‬ولكن مثل هذا التأويل‬
‫الكينونة كأساس‪/‬سبب هذا «الوجود األسمى ‪ .»Seiendste‬وتأخذ الربهنة هنا دامئًا قفزة مفاجئة‬
‫التوحيدي الشخيصِّ ‪ -‬سواء كان املرء يشري إىل مخطَّطات التفكري األرسطيَّة‬
‫ِّ‬ ‫يف اتجاه التفسري‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أم املدرسيَّة الطوماسيَّة‪ .‬ويف هذا املعنى يجب أيضً ا فهم مالحظة هيدغر املشكّكة‪« :‬من اخترب‬
‫يظل‬
‫الفلسفي‪ ،‬من خلف َّية ناضجة ‪ ،‬يفضِّ ل اليوم أن َّ‬
‫ِّ‬ ‫املسيحي أم‬
‫ِّ‬ ‫اللهوت‪ ،‬سواء كان يف اإلميان‬
‫َّ‬
‫صامتًا عن الله يف ميدان الفكر»[[[‪.‬‬

‫بالنسبة إىل هايدغر‪ ،‬فإ َّن التش ّيؤ ‪ ،Vergegenständlichung‬الذي تقوم به «امليتافيزيقا» أيضً ا يف‬
‫تص ُّور مفهوم الله [األنطو‪-‬ثيو‪-‬لوجي ‪ ، ]Onto-theo-logie‬يعني يف الواقع العدم َّية األساس َّية مبعنى‬
‫نفي الكينونة[[[‪ .‬إ َّن التديُّن‪ ،‬كام تط َّور يف الغرب يف التص ُّور الشخيصِّ عن الله يف املسيحيَّة‪ ،‬ينتمي‬
‫التاريخي‪ ،‬ما يصبح مهارة ‪،Geschick‬‬
‫ّ‬ ‫أيضً ا إىل مجال امليتافيزيقا‪« :‬إ َّن امليتافيزيقا هي الفضاء‬
‫الحس واألفكار والله والقانون األخالقي يفقدون ق َّوتهم الب َّناءة ويصبحون‬
‫ّ ِّ‬ ‫بحيث أ َّن العامل الفوق‬
‫األسايس لعقيدة الله املسيح َّية‪-‬‬
‫َّ‬ ‫الغني وباطلني»[[[‪ .‬وتجدر اإلشارة م َّرة أخرى إىل أ َّن الخطأ‬
‫املدرسيَّة‪ ،‬يتمثَّل‪ ،‬طبقًا لهيدغر‪ ،‬يف كون املوجود ‪ Seiende‬يف األنطو‪-‬ثيو‪-‬لوجيا (يف امليتافيزيقا)‬
‫يؤسس الكينونة[[[‪ .‬إنَّه يريد «تحريف ‪»Verwinden‬‬
‫كأسمى موجود ‪( Seiendeste‬الله) هو الذي ِّ‬
‫امليتافيزيقا مبعنى املطلق الشامل للكائنات ‪ Seienden‬يف جميع املجاالت‪ ،‬فإ َّن هيدغر يعرتف بـ‬
‫«التفكري الخايل من الله ‪ ،»gott-losen Denken‬وهو تعبري يرجع إىل املقارنة بـ«األنطوثيولوجيا»‬
‫املسيحيَّة[[[‪ .‬ويتح َّدث يف الوقت نفسه عن «الله اإللهي ‪ُ ،»göttlichen Gott‬موحيًا بذلك إىل بُعد‬
‫املوضوعي‪ .‬ويشري هذا إىل حديثه عن‬
‫ّ‬ ‫لإللهي ‪ ،Göttlichen‬يبقى مغلقًا أمام التفكري‬
‫ِّ‬ ‫آخر عميق‬
‫ريا من تع ُّدد اآللهة اليونانيني‪.‬‬
‫«املربّع ‪ ،»Geviert‬الذي يبدو لنا أنَّه مستوحى كث ً‬

‫‪[1]- Identität und Differenz. S. 62.‬‬


‫‪[2]- Identität und Differenz. S. 45.‬‬
‫‪[3]- Vgl. Nietzsche, Bd. II. S. 335ff.‬‬
‫‪[4]- Holzwege, S. 204.‬‬
‫‪[5]- Identität und Differenz. S. 62.‬‬
‫‪[6]- a. a. O., S. 65.‬‬

‫‪213‬‬
‫المحور‬

:‫قائمة املصادر واملراجع‬


Heideggers Denken des Seins und die Frage nach dem« :‫العنوان األصيل بالُّلغة األملانيَّة‬1.1
Politik ‫ «السياسة والثيولوجيا عند مارتني هايدغر‬:‫ وهو جزء من كتاب هانس كوكلر‬،»Personalen Gott
.1991 ،‫ فيينا‬،»und Theologie bei Martin Heidegger
2. „ … zur echten und grossen Mystik gehör[t] die äusserste Schärfe und Tiefe des Denkens.
Dies ist auch die Wahrheit. Meister Eckhart bezeugt sie“. (Der Satz vom Grund, S. 71, S.
71) – Vgl. auch: John D. Caputo, Meister Eckhart and the Later Heidegger: The Mystical l
in Heidegger´s Thought, Part two, in: Journalof the History of Philosophy, vol. XII (1975.
3. Brief über „Humanismus“, in: Wegmarken, Frankfurt a. M. 1967, S. 181.
4. Der Verf. Hat dies in der Abhandlung Das Gottesproblem im Denken Martin Heideggers,
in: Zeitschrift für katholische Theologie, Bd. 95 (1973), H. 1, bes. S. 6190-, näher
ausgeführt.
5. Dialogische Logos. Gedanken zur Struktur des Gegenübers, in: Philosophisches Jahrbuch
der Görres-Gesellschaft, Bd. 70 (1962/63), S. 185.
6. Dies bedeutet: die klassische Metphysik „onto-theo-logisch“, insofern sie das Seiende im
Ganzen auf einen „gründenden“ Grund hin denkt. „Die Ganzheit dieses Ganzen ist die
Einheit des Seienden, die als der hervorbringende Grund [Gott] einigt. „(Identität und
Differenz. Pfullingen 1957 [4. Aufl. o. J.] S. 45. Darin liegt die „noch ungedachte Einheit
des Wesens der Metaphysik“. (ebd.), sofern sich aus der einen Frage nach dem „Grunde“
des Seienden die Frage nach dem Seienden als solchen und nach dem höchsten Seienden
ineins ergibt.
7. Einführung in die Metaphysik. Frankfurt a. M. 1966. S. 147.
8. Fridolin Wiplinger, Wahrheit und Geschichtlichkeit. Eine Untersuchung über die Frage
nach dem Wesen der Wahrheit im Denken Martin Heideggers. Freiburg/München 1961.
S. 375
9. Heidegger fügt dem, um die innere Begrenztheit metaphysischer Reflexion aufzuweisen,
unmissverständlich hinzu: „So lautet der sachgerechte Name für den Gott in der
Philosophie“ (Identität und Differenz. S. 64).
10. Heidegger, aus der Erfahrung des Denkens. Pfullingen, 1965, S. 7.
11. Ich habe Ähnliches in meiner Deutung von Heideggers Seinsdenkens als einer geläuterten
Skepsis versucht (vgl. Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers.
Meisenheim a. G. 1978.

214
‫إشكالية اهلل في ميتافيزيقا مارتن هايدغر‬

12. Im Sinne einer solchen actualitas deutet Thomas auch das biblische „Sum quod Sum“:
Summa contra gentile I, c.22 (op. Tom. XIII, 69: STheol I, qu. 13, art. 11 (op. Tom. IV,
162): „Utrum hoc nomen qui est sit maxime nomen Die proprium“:Nietzsche, Bd. II, S.
415.
13. Rolf von Eckartsberg und Roland S. Valle, Heidegger Thingking and the Eastern Mind,
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

in: The Metaphysics of Conschiouness (ed. Rolf von Eckartsberg). New York 1981, S.
309. „transhuman theo-dimension in the region beyond depth and beyond height, beyond
human willulness, wich ist the source of illumination, fulfillment, and truth for man -the
transpersonal“.
14. So meint auch C. Fabro, dass in Heideggers Seinsphilosophie kein Platz sei für einen
personalen Gott im Sinne des Christentums (Ontologia esistenzialistica e metafisica
tradizionale, in: Rivisita di Filosofia neo-scolastica 45 [1953], S. 613).
15. Summa Theologica I, qu. 45., art. 1 (op. TomIV, 464).
16. Thomas, Quaestiones disputatae: De Potentia, qu. 1, art. 1 (op. Tom. XIII, 3).
17. Vgl Unsere Darlegung in: Skepsis und Gesellschaftskritik im Denken Martin Heidegers.
Meisenheim a. G. 1978.
18. Vgl. dazu seine Ausführungen in Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 191ff.
19. Vgl. Erläuterung zu Hölderlins Dichtung. Frankfurt a. M. 1963. S. 44. – Holzwege.
Frankfurt a. M. 1963. S. 248.
20. Zen in Heidegger´s Gellassenheit in: International Philosophical Quarterly, vol. XI, no. 1.
March 1971, („The simple releasement oft he ego: ist this not alm perfect a description of
what goes on in Zen as such categories can afford?
21. Zu Heideggers diesbezüglicher Kritik vgl. Der Satz vom Grund. Pfullingen, 1965, S. 136;
Nietzsche, Bd. II. Pfullingen, 1961. S. 131f.
22. Zur auf derselben liegenden Ansetzung Gottes als summum bonum – was der
Konzeption des summum ens entspricht: -vgl. Heideggers prinzipielle Kritik: „Wenn
man vollends „Gott“ als, den höchsten Wert verkündet, so ist das eine Herabsetzung
des Wesens Gottes. (Brief über den „Humanismus“, in: Wegmarken, S. 179).
23. Zur Erörterung der Gelassenheit. Aus einem Feldweggespräch über das Denken, in:
Gelassenheit. Pfullingen 1959 [3. Aufl. o. J.], S. 27ff.

215
‫المحور‬

‫الفيلسوف النمساوي المعارص هانس كوكلر‪:‬‬


‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫يفكر ف� ش‬
‫غ� هللا وال يتحدث إال عنه‬
‫�ء ي‬
‫ي ي‬ ‫هايدغر لم‬

‫ف‬
‫حاوره ي� فيينا‪ :‬د‪ .‬حميد لشهب‬
‫الفيلسوف النمساوي املعارص هانس كوكلر‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫يفكر ف� ش‬
‫غ� هللا وال يتحدث إال عنه‬
‫�ء ي‬
‫ي ي‬ ‫هايدغر لم‬

‫ف‬
‫حاوره ي� فيينا‪ :‬د‪ .‬حميد لشهب‬

‫تمهيد للحوار‪:‬‬
‫ ‬

‫خصص بريتو دراسة وافية ورشح عميق لقراءة هانس كوكلر‬ ‫مل يكن من الصدفة أن َّ‬
‫للفيلسوف األملاين مارتن هايدغر‪ .‬وما ذلك إال ألنَّه كان يعرف أنَّه من القالئل الذين‬
‫بتبص عميق إىل “كنه” فلسفته وافتتانه بدراسة الكينونة‪ ،‬بل هذا النوع من االحرتام‬ ‫ن َفذَوا ُّ‬
‫الكبري لها ولتجلّياتها‪ .‬ولرمبا كان من األفضل ترجمة مفهوم “الكينونة” بـ “الكنه”‪،‬‬
‫ذلك أل َّن الكلمة جد قويَّة يف العرب َّية‪ ،‬وتعرب بالكاد وبق َّوة أيضً ا عىل الكلمة األملان َّية‬
‫“الزاين ‪ “Sein‬يف اإلستعامل الذي دأب هايدغر عليه‪ .‬فـ „الكنه“ بالعرب َّية هو جوهر‬
‫اليشء وحقيقته‪ ،‬وكذا غايته وهدفه‪ .‬كام تحمل معنى ما كان يقصده هيدغر من „الزاين‬
‫‪ ،“Sein‬كإشكال َّية ال يدرك املرء كُنهها‪ ،‬ألنها بعيدة الغور وتستعيص عىل الفهم‪.‬‬
‫ركب الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر ‪ Hans Kochier19‬غامر اإلبحار يف‬
‫فلسفة هايدغر بثبات وعزمية قويَّني‪ ،‬مكلَّلني بإرادة ال َّرغبة يف الفهم‪ ،‬قبل الرشح‬
‫والتأويل‪ .‬وهذا ما خ َّول له‪ ،‬باعرتاف الكثريين‪ ،‬تقديم فهم فريد وأصيل لفكر هايدغر‬
‫يف الكثري من جوانب فلسفته‪ .‬وما ميَّزه عن الكثري من مؤ ّويل هايدغر من الفالسفة‬
‫الناطقني باألملانيَّة هي تلك النفحة النقديَّة‪ ،‬رغم أنه يف كثري من األحيان كان مداف ًعا‬
‫رشاحه‪ ،‬وهذا ما نلمسه عندما يقول‪« :‬قالت‬ ‫حا لآلراء املغرضة لبعض َّ‬ ‫ح ً‬
‫عنه ومص ِّ‬
‫هانا أرينت ‪ Hannah Arendt‬عام ‪ ،1969‬مبناسبة عيد ميالد هايدغر الثامنني‪ ،‬أم ًرا‬
‫حاسم يتمثَّل يف عدم إمكانيَّة إنكار كون تاريخ تأثري فكره أبعد من األطر املرجعيَّة‬ ‫ً‬
‫الغربيَّة الضيِّقة (أي األوروبيَّة‪-‬األمريكيَّة)‪ .‬وما يُعترب حقيقة تاريخيَّة هو أ َّن تحليالت‬
‫هايدغر املتجذِّرة يف االهتامم باألنطولوجيا األساسيَّة أصبحت أساس األيديولوجيَّات‬
‫خصوصا يف سياق النقد الحديث للتكنولوجيا والحركة البيئيَّة‪ ،‬وأ َّن فلسفته‬ ‫ً‬ ‫التح ُّررية ‪-‬‬
‫األكادميي الضيّق للفلسفة‬
‫َّ‬ ‫اكتسبت أهميَّة عامليَّة متع ِّددة الثقافات‪ ،‬تتجاوز اإلطار‬
‫األكادمييَّة الغربيَّة التقليديَّة‪ .‬ويتأكَّد هذا أيضً ا يف تأثري تفكريه عىل التيَّارات ما بعد‬
‫الحضاري يف جميع أنحاء العامل»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الحداثيَّة واتّجاهات النقد‬
‫الفيلسوف النمساوي المعاصر هانس كوكلر‬

‫ال ب َّد من القول أ َّن أكرث ما اشتغل عليه كوكلر يف فكر هايدغر هي األنطولوجيا التي قادته بدورها‬
‫مهم لتصنيف‬ ‫يل‪ ،‬كان فريتز هيدغر‪ Fritz Heidegger‬وسيطًا ًّ‬ ‫إىل دراسة اهتاممه بالله‪« :‬بالنسبة إ َّ‬
‫يخص السرية الذات َّية‪،‬‬‫ُّ‬ ‫خاص يف ما‬ ‫ٍّ‬ ‫إشكال َّية الله يف النظام الشامل لتفكري الكينونة‪ ،‬وأيضً ا وبشكل‬
‫يل هو إظهار‬ ‫أي يف ما يتعلَّق بوحدة الفلسفة والحياة»‪ .‬ويضيف‪« :‬كان الشغل الشاغل بالنسبة إ َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫(األنطولوجي املثايل يف نهاية املطاف) لفكر‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي املتعايل‬


‫َّ‬ ‫كيف يرتك هايدغر وراءه اإلطار‬
‫األنطولوجي»‪ ،‬كام يروق يل تسميته‪ ،‬تفتح الفلسفة أفقًا عىل‬ ‫ِّ‬ ‫هورسل‪ .‬ويف «التفكري يف االختالف‬
‫خلف َّية ميكن عىل خلف َّيته طرح أسئلة جديدة حول جوهر اإلنسان وتجربة الله خارج امليتافيزيقا‬
‫الغرب َّية املسيح َّية‪ .‬يف اهتاممه بإشكال َّية الله التي رافقته منذ بداية فكره‪ ،‬ط َّور هايدغر بالفعل شيئًا مثل‬
‫يل‬
‫كل من نقده شبه الجد ِّ‬ ‫كينونتاريخي‪ .‬وينطبق هذا عىل ِّ‬
‫ّ‬ ‫الضمني عىل أساس‬
‫ّ‬ ‫السلبي»‬
‫ّ‬ ‫«اللهوت‬
‫َّ‬
‫اللحق له يف اتجاه استدعاء‬ ‫يف َّ‬ ‫اللهوت» وللفلسفة الوسيطيَّة‪ ،‬وكذلك عىل التح ُّول الصو ِّ‬ ‫«لعلم َّ‬
‫«الحقيقي»‬
‫ّ‬ ‫‪ Invokation‬الله‬
‫«اإللهي» – بعي ًدا عن‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫امليتافيزيقا املسيحيَّة‪ .‬جزء ال‬
‫حاول هايدغر إعادة طرح مسألة "الكينونة"‪،‬‬
‫ف‬ ‫ًّ‬ ‫يتج َّزأ من نقده «للميتافيزيقا»‬
‫التفك� ي� ما يظهر له‬
‫ي‬ ‫فينومينولوجيا‪ ،‬أراد‬ ‫وبصفته‬
‫ف‬ ‫هو نقده إلرادة الق َّوة يف‬
‫عىل الفور ي� تجربة العالم‪ .‬وكان هذا هو الهدف‬
‫«التقن َّية االحديثة‪ ،‬والذي يفتح‬
‫من تحليله لـلوجود هنا"‪."Dasein‬‬
‫الفلسفي للتعامل‬
‫ّ‬ ‫أيضً ا اإلطار‬
‫مع ظاهرة العوملة‪ .‬وعىل هذا‬
‫األساس فإ َّن هايدغر أكرث‬
‫أي وقت مىض»‪.‬‬ ‫راهن َّية من ِّ‬
‫لنفهم أكرث‪ ،‬وبطريقة أفضل اهتامم كوكلر بالطريقة التي اشتغل بها هايدغر عىل موضوع «الله»‪،‬‬
‫يك لله‪ ،‬نورد يف ما ييل جزءا ً من حوار طويل أجريناه معه صدر‬
‫املسيحي الكاثولي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ورفضه للتص ُّور‬
‫العام املايض ‪ 2022‬ضمن كتاب حمل عنوان «هكذا تكلم كوكلر يف الفلسفة والفكر وحوار‬
‫الثقافات»‪.‬‬
‫أي إله‬
‫«‪ -‬تط َّرقتم يف كتابكم‪« :‬هايدغر وريبة الكينونة» أيضً ا إىل مسألة الله يف فكر هايدغر‪ّ .‬‬
‫كان يعنيه‪ ،‬مع العلم أن الرأي العام يف الفلسفة يعتقد بأنَّه كان َس َّوى حساباته مع إرثه الكاثولييك؟‬
‫‪ -‬كفيلسوف‪ ،‬حاول هايدغر إعادة طرح مسألة «الكينونة» ‪ -‬كمصدر للواقع ‪ -‬مبساعدة املنهج‬
‫الفينومينولوجي‪ .‬ويعني هذا أنَّه‪ ،‬بصفته فينومينولوجيًّا‪ ،‬أراد التفكري يف ما يظهر له عىل الفور يف تجربة‬
‫ّ‬

‫‪219‬‬
‫محاورات‬

‫العامل‪ .‬وكان هذا هو الهدف من تحليله لـلوجود هنا»‪ .»Dasein‬لذلك‪ ،‬مل يستطع اعتبار اإلميان‬
‫الكاثولييكِّ‪ ،‬القائم بالفعل عىل اليقني املطلق‪ ،‬كأساس لفلسفته‪ .‬ولكن ال يرتت َّب عىل ذلك أنَّه كان‬
‫ملح ًدا‪ ،‬وأنه رفض وجود الله‪« .‬تفسريه» للمرياث الكاثولييك ال يعني أكرث من كونه عرب عن وجهة نظر‬
‫ديني مسبق‪ .‬ويف هذا املعنى‬ ‫كل يقني ٍّ‬ ‫مستقل عن ِّ‬
‫ًّ‬ ‫الفلسفي بشكل عام يكون‬ ‫َّ‬ ‫تؤكِّد عىل أ َّن التفكري‬
‫ريا ما يت ُّم تداولها والقائلة بأ َّن الفلسفة «املسيحيَّة» هي تناقض ذايتّ‪.‬‬
‫يجب أيضً ا فهم أطروحته التي كث ً‬
‫يف املرحلة الثانية من فلسفته ‪ -‬بعد ما يس َّمى بـ «املنعطف» ‪ -‬وصف هايدغر بشكل مرت ِّدد وجود‬
‫السحري‬
‫ِّ‬ ‫كائنات ذات صفات إله َّية؛ يقرتب من الصوفيني مثل مايسرت إيكهارت‪ ،‬ويرجع إىل العامل‬
‫األسطوري للشاعر هولدرلني‪ .‬بالنسبة إليه‪ ،‬كان من الخطأ يف املسيح َّية تقديم الله عىل أنَّه أسمى‬ ‫ِّ‬
‫كائن (‪ )summum ens‬يتمتَّع بأسمى مستوى من الوعي الذايتِّ‪ .‬ووفقًا لهايدغر‪ ،‬فإ َّن هذا من شأنه أن‬
‫يكون مبثابة ح ٍّ‬
‫ط من قيمة الله‪ ،‬أل َّن املرء ال يفكر فيه يف بُعد الكينونة‪ ،‬بل يعتربه مج َّرد كائن‪.‬‬
‫من املفيد هنا ذكر ما كتبه يل شقيقه فريتس هايدغر (الذي رمبا كان يعرفه شخص ًّيا وفلسف ًّيا‬
‫اللحقة ‪ -‬كتب جميع مخطوطاته أيضً ا)‬ ‫بشكل أفضل‪ ،‬ألنَّه مل يكرب معه فحسب‪ ،‬بل ‪ -‬يف السنوات َّ‬
‫يف رسالة عام ‪( 1973‬بعد قراءته مخطوطًا بحث ًّيا عن «مشكلة الله يف تفكري هايدغر»)‪« :‬يجب عىل‬
‫إل عنه‪،‬‬ ‫املرء أن يضع دامئًا يف اعتباره أ َّن هايدغر ال يفكِّر يف يشء آخر غري الله‪ ،‬وال يتح َّدث َّ‬
‫إل ظاهريًّا فقط»‪ .‬يف الرسالة نفسها‪ ،‬أشار فريتس هايدغر أيضً ا إىل أ َّن‬ ‫والذي ال تتجاوزه الكينونة َّ‬
‫واللهوت» مل تنرش إلَّ «اآلن» (‪- )1973‬‬ ‫محارضة مارتن هايدغر يف توبنغن حول «الفينومينولوجيا َّ‬
‫مؤشا عىل عودته لإلشتغال عىل الدين يف عمر متأخِّر‪.‬‬ ‫بعد ‪ 43‬عا ًما من كتابتها ‪ -‬وهو ما قد يكون ّ ً‬
‫‪ -‬ما هي أسباب عالقة هايدغر املتش ِّنجة مع املسيح َّية الكاثوليك َّية؟‬
‫‪ -‬تفسِّ أصول هايدغر ما تس ّمونه العالقة «املتش ِّنجة» له باملسيح َّية الكاثوليك َّية‪ .‬أستطيع أن أفهم‬
‫موقفه جي ًدا يف هذا الصدد‪ ،‬أل َّن أصويل متطابقة تقريبًا مع أصوله‪ .‬نشأنا م ًعا تحت جناح الكنيسة‬
‫الكاثوليكيَّة‪ .‬كان والدانا ساكريستانني (يساعدان من دون مقابل القساوسة يف شؤون الكنيسة‬
‫‪-‬إضافة املرتجم‪ )-‬يف الكنيسة يف مسقط رأسنا‪ .‬خدمنا كمساعدين يف الق َّداس يف س ٍّن مبكرة‪،‬‬
‫وتربَّينا يف مدرسة داخل َّية كاثوليك َّية‪ .‬عىل ضوء هذا‪ ،‬يفهم املرء أ َّن هايدغر الشاب الذي‪ ،‬وبرعاية‬
‫اللهوت يف األصل‪ ،‬كان‬ ‫رئيس أساقفة فرايبورغ غروبرن ‪ ، Gröbner‬كان من املفرتض أن يدرس َّ‬
‫عليه أن يتح َّرر تدريجيًّا من الكاثوليكيَّة بسبب اهتامماته الفلسفيَّة‪ .‬وال ينبغي أيضً ا تجاهل حقيقة‬
‫اللحقة ‪ -‬كفيلسوف مشهور عامل ًّيا ‪ -‬كان يتعامل دامئًا باحرتام كبري مع‬ ‫كونه حتى يف السنوات َّ‬
‫تقوى وإميان والديه وسكان مدينته األصل َّية‪.‬‬
‫أي نوع من الدين كان هايدغر يصبو إليه‪ ،‬إن كان بالفعل قد فكَّر يف يشء من هذا القبيل؟‬
‫‪ُّ -‬‬

‫‪220‬‬
‫الفيلسوف النمساوي المعاصر هانس كوكلر‬

‫وخصوصا النصوص املنشورة يف مجلَّد‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬إذا نظرت إىل نصوصه بعد «اإلنعطاف» «‪- »Kehre‬‬
‫«الحدث ‪ – »Das Ereignis‬فقد أتح َّدث عن «دين الكينونة»‪ .‬تح َّدث هايدغر غال ًبا عن الكينونة‬
‫يف وحذاها بالصفات اإللهيَّة (وهي صفات ال تشري حرصيًّا إىل املسيحيَّة‪ ،‬التي‬ ‫مبعنى شبه صو ٍّ‬
‫أي تشييئ لها‪ ،‬ميكن‬ ‫املجسم عن الله)‪ .‬بإعادة كتابته للكينونة مح ّذ ًرا من ِّ‬
‫ّ‬ ‫رفض قط ًعا مفهومها‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫اإللهي باإلشارة إىل ما‬


‫ُّ‬ ‫«اللهوت السلبي» يف مقاربته هذه‪ ،‬ويصف‬ ‫للمرء أيضً ا أن يرى نو ًعا من َّ‬
‫إلهي عن الله ‪-‬إضافة املرتجم)‪ .‬وبهذا الصدد‪ ،‬فإن‬ ‫ٍّ‬ ‫هو ليس هو (يعني يزيح صفات ما هو غري‬
‫تفكريه قريب بالتأكيد من الروحانيَّة‪ ،‬وقد يقول البعض أيضً ا اإلميان بوحدة الوجود والتقاليد الدينيَّة‬
‫األخرى غري الغربيَّة ‪ -‬أكرث بكثري من املفهوم الشخيصِّ عن الله يف املسيحيَّة‪.‬‬
‫رشاحه هذا‪ .‬ماذا استهواه يف نظركم‬
‫‪ -‬كانت لهايدغر عالقة خاصة بالبوذ َّية‪ ،‬أو هكذا يؤ ّول بعض َّ‬
‫يف هذه الديانة؟‬
‫‪ -‬العالقة بني تفكري‬
‫ً ف‬ ‫هايدغر والبوذيَّة ‪ -‬وعىل‬
‫دائما ي� اعتباره‬ ‫يجب عىل المرء أن يضع‬
‫ِّ‬
‫يفكر ف� ش‬ ‫َّ‬ ‫وجه التحديد‪ :‬بوذيَّة الزن‬
‫غ� هللا‪ ،‬وال‬‫�ء آخر ي‬ ‫ي ي‬ ‫ال‬ ‫هايدغر‬ ‫أن‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬ناتجة من نقده للعقالن َّية‬
‫َّ‬
‫يتحدث إل عنه‪ ،‬والذي ال تتجاوزه الكينونة‬ ‫يب‬
‫املوضوع َّية للفكر الغر ِّ‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫ظاهريا فقط‬ ‫إل‬ ‫وإضفاء الطابع املطلق عىل‬
‫إرادة الق َّوة‪ ،‬كام يالحظ‬
‫هايدغر ذلك يف الحضارة‬
‫التقن َّية‪ .‬ما يتشاركه أيضً ا مع‬
‫خصوصا أ َّن مفهوم «الكينونة» يشري عند هايدغر إىل‬ ‫ً‬ ‫مجسم عن الله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شخيص‬
‫ٍّ‬ ‫البوذيَّة هو نقد مفهوم‬
‫قربه من «ال يشء ‪( « Nichts‬كال يشء الوجود)‪ ،‬كام وصفه ذلك بوضوح يف محارضته االفتتاح َّية‬
‫يف فرايبورغ عام ‪ ،1929‬ويقدم هذا تشاب ًها بنيويًّا مع منهج بوذيَّة الزن‪ .‬وكام نعرف اآلن‪ ،‬فإن هايدغر‬
‫يف تفكريه حول الكينونة استلهم‪ ،‬من بني من استلهم منهم‪ ،‬من املفكّر الياباين د‪ .‬ت‪ .‬سوزويك‬
‫‪ ، D. T. Suzuki‬الذي زاره أيضً ا يف فرايبورغ‪ .‬بشكل عام‪ ،‬قادته محاولة «تجاوز امليتافيزيقا» –‬
‫اإلرادي للغرب – والوصول إىل مسارات‬ ‫ِّ‬ ‫جا عن التفكري‬ ‫ويعترب انعطاف «‪ »Kehre‬هايدغر خرو ً‬
‫البوذي‪ .‬وميكن مالحظة ذلك أيضً ا يف كتابه الشهري «‬ ‫ِّ‬ ‫فكريَّة ليست غريبة نجدها أيضً ا يف التأ ُّمل‬
‫‪ »Feldweggespräch‬عن «السكينة‪/‬الصفاء ‪ ،« Gelassenheit‬والذي نُرش بعد الحرب‪ .‬لذلك مل‬
‫يكن من قبيل الصدفة أن وجدت فلسفة هايدغر صدى قويًّا يف اليابان‪ .‬وقد الحظت وتأكَّدت بهذا‬
‫بنفيس يف محارضة يل عن الفينومينولوجيا يف جامعة طوكيو (‪.)1980‬‬
‫‪221‬‬
‫محاورات‬

‫أي أساس ينبني‬


‫‪ -‬يُقال إن هايدغر تراجع يف أواخر حياته عن موقفه الرافض للكاثوليك َّية‪ ،‬عىل ِّ‬
‫هذا االدّعاء؟‬
‫األسايس من العقيدة العقائديَّة للكاثوليك َّية حتى يف‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫يتخل هايدغر عن موقفه‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬مل‬
‫اللحقة من حياته‪.‬‬ ‫املرحلة َّ‬
‫ما قام به هو اقرتابه مرة أخرى‬
‫ن‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫بمع�‬ ‫تحدث هايدغر غالبا عن الكينونة‬ ‫الطبيعي ملسقط‬
‫ِّ‬ ‫من اإلميان‬
‫َّ‬ ‫ٍّف‬
‫(وه‬
‫ي‬ ‫صو� وحذاها بالصفات اإللهية‬ ‫ي‬ ‫شبه‬ ‫رأسه‪ .‬هكذا يجب أيضً ا فهم‬
‫ال�‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫تش� حرصيا إىل المسيحية‪ ،‬ي‬ ‫صفات ال ي‬ ‫وصيَّته قبل وفاته برغبته يف‬
‫ّ‬
‫قطعا مفهومها المجسم عن هللا)‪..‬‬ ‫رفض ً‬
‫يك‬
‫يتول الكاهن الكاثولي ُّ‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫الديني برنارد فيلتي‬
‫ُّ‬ ‫والفيلسوف‬
‫‪ ،Bernhard Welte‬الذي‬
‫ولد يف نفس مدينة هايدغر‬
‫ميسكريخ‪ ،‬بإلقاء خطبة جنازته‪ ،‬وهذا ما حدث أيضً ا‪ .‬كان فيلتي ‪ -‬وإن كان أستاذًا يف „الفلسفة‬
‫مهم لهايدغر يف السنوات األخرية من حياته‪ .‬كام أرشت إىل ذلك‬ ‫املسيح َّية للدين“ ‪ -‬محاو ًرا ًّ‬
‫يئ بحت‪ .‬يف هذا الصدد‪،‬‬ ‫سابقًا‪ ،‬كان دامئًا يحرتم ديانة الناس وتقواهم‪ ،‬لكن ليس يف شكل دوغام ٍّ‬
‫أتذكَّر أيضً ا محادثة أجريتها مع الربوفيسور برنارد فيلتي حول تص ُّور الله عند هايدغر الذي كان‬
‫حينها عىل قيد الحياة‪ .‬وحىك يل اليشء نفسه تلميذ هيدغر‪ ،‬األستاذ ماكس مولر ‪ Max Müller‬من‬
‫ميونيخ‪ ،‬والذي كان راسخًا بقوة يف العامل الكاثولييك ومؤث ّ ًرا للغاية يف السياسة‪ ،‬ولعب دو ًرا رئيس ًّيا‬
‫يغي حقيقة ‪ -‬للعودة إىل سؤالكم‬ ‫كل هذا ال ّ‬ ‫يف إعادة تأهيل هايدغر بعد الحرب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫الدقيق – كون املرء وضع صليبًا عىل قرب زوجته إلفريدا‪ ،‬وقرب آخر يف مقربة مسكريخ‪ ،‬وقربه هو‬
‫نفسه يوجد بني هذين القربين‪ ،‬ومزيَّن بنجمة عوضً ا عن صليب‪ .‬ويعني هذا أنَّه أراد أن يرى ديانته‬
‫الفلسف َّية موث َّقة إىل األبد بعد وفاته‪ ،‬متا ًما كام وضعها يف قوله البسيط وهو حي‪:‬‬
‫«الذهاب إىل نجم ما‪ ،‬هذا النجم فقط ‪.„ Auf einen Stern zugehen, nur dieses ...‬‬
‫إ َّن الغاية من ترجمة «إشكاليَّة الله يف فكر مارتن هايدغر» هي تقريب فضاءات فكريَّة وفلسفيَّة‬
‫مختلفة‪ ،‬بُغية توفري سبل للتعايش والحوار‪ ،‬وملَ ال فالتكامل والتعاون من أجل غد أفضل لإلنسانيَّة‪.‬‬
‫النمساوي هانس كوكلر نفسه يف حياته الفكريَّة‪ ،‬سواء يف‬ ‫ُّ‬ ‫وهذا بالضبط ما حاوله الفيلسوف‬
‫يل‪-‬‬
‫ين ‪-‬عىل مستوى القانون الدو ِّ‬ ‫وخصوصا فلسفته السياس َّية‪ ،‬يف بعدها القانو ِّ‬
‫ً‬ ‫نصوصه الفلسف َّية‪،‬‬
‫أي نوع (سياسيَّة‪ ،‬أيديولوجيَّة‪ ،‬اقتصاديَّة‪ ،‬فكريَّة إلخ) للغرب‬
‫لكل وصاية من ِّ‬
‫أم يف مواقفه الرافضة ِّ‬

‫‪222‬‬
‫الفيلسوف النمساوي المعاصر هانس كوكلر‬

‫عىل دول العامل الثالث‪ ،‬والسيام العربيَّة واإلسالميَّة‪ .‬وليس هناك أنصع دليل عىل هذا أكرث من‬
‫مثل ودعمه للشعوب العربيَّة يف اسرتداد حقوقها والذَّود‬
‫يئ الدائم بالقضيَّة الفلسطينيَّة ً‬
‫التزامه املبد ِّ‬
‫عن ثقافتها وحضارتها‪ .‬وأعرتف شخص ًّيا بأن هذا الجانب املنري لشخص َّية فكريَّة فريدة‪ ،‬هي التي‬
‫جعتني عىل امتداد ربع قرن من الزمن عىل تت ُّبع اإلنتاجات الفكريَّة لكوكلر‪ ،‬وترجمة بعضها‪،‬‬ ‫ش َّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫وعرض أخرى‪ ،‬وتنظيم لقاءات معه يف إطار مشاريع فكريَّة بيننا‪ ،‬يف املغرب ويف النمسا‪.‬‬
‫برتجمة هذا النص‪ ،‬أمتنى أن أكون ساهمت ولو بالقليل جدا يف إغناء الساحة الثقافية والفلسفية‬
‫الناطقة باللغة العربية‪ ،‬وككل ترجاميت السابقة‪ ،‬سواء لكوكلر أم ملفكّرينجرمانيني آخرين‪ ،‬فإ َّن املبتغى‬
‫إل اليشء القليل‪،‬‬ ‫هو إكامل وتوسيع معرفتنا بالغرب ثقافة وحضارة‪ ،‬ألنَّنا يف الواقع ال نعرف عنه َّ‬
‫ونتو َّهم بأننا نعرفه مبا فيه الكفاية‪ .‬وهذا اال ِّدعاء هو الذي حدا بنا أيضً ا إىل أخذ مواقف متش ِّنجة تجاه‬
‫الغرب‪ ،‬بل زرع يف فضاءاتنا‬
‫الثقاف َّية والفن َّية واإلعالم َّية بذور‬
‫التفرقة‪ :‬هناك من انبهر كل َّية‬
‫ً‬
‫خروجا‬ ‫يعت� انعطاف "‪ "Kehre‬هايدغر‬ ‫ب‬ ‫بإنجازات الغرب منذ األنوار‪،‬‬
‫عن التفك� اإلر ِّ‬
‫ادي للغرب‪ ،‬والوصول إىل‬ ‫مثال يقتدى‪ ،‬وعىل‬ ‫ويرى فيه ً‬
‫ي‬
‫التأمل البوذي‪ِّ.‬‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫مسارات فكرية نجدها � ُّ‬ ‫الشعوب العرب َّية التخلُّص‬
‫ي‬
‫من ركام ماضيها واالنخراط‬
‫يف تحديث ذاتها باالعتامد‬
‫عىل ما حقَّقه الغرب؛ وهناك‬
‫فريق آخر ال يرى يف الغرب‬
‫الرمادي بني‬
‫ِّ‬ ‫إل جانبه املظلم‪ ،‬امله ّدد لهويَّتنا وثقافتنا‪ .‬واملطلوب حاليًّا هو التموضع يف الفضاء‬ ‫َّ‬
‫األبيض واألسود‪ ،‬بتعميق فهمنا للغرب ورسائله وأهدافه‪ ،‬ليتس َّنى لنا بدء فهم ذواتنا وموضعتها يف‬
‫موضعها الصحيح زمكان ًّيا‪ .‬وقد م َّر ربع قرن من القرن الحادي والعرشين‪ .‬فال الدعاية للغرب وال‬
‫وتفصيل يخدمان قضايانا املصرييَّة‪ ،‬بل توسيع فهمنا لإلثنني م ًعا‪ ،‬ليتس َّنى لنا أخذ مواقف‬
‫ً‬ ‫رفضه جملة‬
‫موضوعيَّة‪ ،‬وبناء ما يجب بناؤه يف غضون القرون القادمة‪ ،‬أل َّن „النهضة“‪ ،‬التي يجب أن تعني يف‬
‫حالتنا „النهوض“‪ ،‬أي الوقوف ونفض الغبار الذي راكمته علينا القرون الفائتة‪ ،‬تبدأ بالضبط بهذا‬
‫„النهوض“‪ .‬وال غرو يف أ َّن الرتجمة هي جزء ال يتج َّزأ يف هذا „النهوض“‪ ،‬ملا توفّره من إمكانات‬
‫الحقيقي‪ ،‬وليس يف إطار متثُّالتنا له‪ ،‬سواء أكانت هذه‬
‫ِّ‬ ‫ملعرفة اآلخر وتأطريه مبوضوع َّية يف إطاره‬
‫التمثُّالت إيجابيَّة أم سلبيَّة‪.‬‬
‫الفيلسوف واملفكِّر النمساوي هانس كوكلر ‪ ،Hans Köchler‬هو الرئيس السابق لقسم الفلسفة‬

‫‪223‬‬
‫بجامعة إنزبروك النمساويَّة‪ ،‬ورئيس املنظَّمة‬
‫هانس كوكلر‬
‫العامل َّية للتق ُّدم بفيينا‪ ،‬وهي منظَّمة مستقلَّة‬
‫تستشريها منظَّمة األمم املتَّحدة يف الكثري من‬
‫سيرة ثاتية‬
‫القضايا‪ ،‬هو أحد املفكِّرين الغربيني القالئل حاليًّا‬
‫الذين تب ّنوا يف مشاريعهم الفكريَّة والعمليَّة‪-‬السياسيَّة‬
‫الوقوف بجانب الشعوب الضعيفة‪ .‬تب َّنى القض َّية‬
‫الفلسطين َّية منذ عقود من الزمن‪ ،‬وهو صديق مخلص‬
‫للعامل املسلم بر َّمته‪ ،‬حيث يحارض باستمرار‪ ،‬وحصل عىل‬
‫ترشيفات متميِّزة من الكثري من هذه الدول‪.‬‬
‫متخصص يف فلسفة القانون والسياسة‪ ،‬حيث‬ ‫ِّ‬ ‫كوكلر‬
‫ق َّيد طواعية «متسلِّ ً‬
‫حا» ومتش ّب ًعا بالفلسفة الهيدغرييَّة‪ ،‬التي‬
‫ألَّف فيها الكثري‪ ،‬و َد َّر َس َها لسنوات عديدة يف جامعة إنسربوك‪.‬‬
‫وفلسفة هايدغر هذه هي التي فتحت له آفاق شاسعة لتجاوز «املركزيَّة‬
‫املؤسسة عىل ذاتيَّة ميتافيزيقيَّة قوامها إرادة الق َّوة ومحاولة السيطرة عىل الطبيعة‪ ،‬مبا‬
‫َّ‬ ‫األوروبيَّة»‪،‬‬
‫حق‬
‫فيها اإلنسان‪ ،‬ومعانقة فلسفة «إنس َّية» منفتحة عىل ثقافات وحضارات مختلفة ومؤمنة مببدأ ِّ‬
‫يل يف الحقوق والواجبات‪.‬‬ ‫جميع الشعوب يف العيش الكريم‪ ،‬واملساواة أمام القانون الدو ِّ‬
‫يف جعبة كوكلر أكرث من ‪ 700‬دراسة منشورة‪ ،‬بلغته األ ِّم وبالُّلغة اإلنكليزيَّة‪ ،‬تتوزَّع عىل ميادين‬
‫قل نظريها‪ ،‬سواء يف تركيباته الُّلغويَّة أم يف‬ ‫تخصصه العديدة‪ .‬وتتم َّيز طريقة تفلسفه برصامة لغويَّة َّ‬
‫ُّ‬
‫رسعة إيقاعها ‪ -‬حتى ليخ َّيل للمرء أنَّه يف ماراتون أفكار فلسف َية‪ -‬بل حتى يف ضغط ‪،compression‬‬
‫لتؤ ّدي طريقته هذه وظيفتها كوسيط بني الفكر والواقع‪ .‬وهذا املرور الرسيع يف أسلوب كتابته‬
‫تحتل مساحات أطول‪ ،‬نصف صفحة يف بعض‬ ‫ُّ‬ ‫بني جمل قصرية ال تتع َّدى بضع كلامت‪ ،‬وجمل‬
‫األحيان‪ ،‬بفواصلها‪ ،‬ومزدوجاتها‪ ،‬وجملها اإلعرتاض َّية‪ ،‬تتوخَّى تعميق األفكار‪ ،‬وسرب أغوارها‪،‬‬
‫ليتس َّنى للقارئ فهمها واستيعابها‪.‬‬
‫لعل نظرة إجاملية إىل السرية الذاتية للفيلسوف النمساوي هانس كوكلر (‪ ،)Hans Köchler‬ت ُقنع‬
‫بأنه من املفكرين الغربيني «غري العاديني» باملعنى اإليجايب للكلمة‪ ،‬فقد أظهر عندما كان شاباً يافعاً‬
‫حديث العهد بالعمل األكادميي استعدادا ً قوياً ملد اليد إىل ثقافات وحضارات أمم أخرى يف مشارق‬
‫األرض ومغاربها‪ ،‬واقفاً بذلك يف وجه املركزية األوروبية والغربية يف كل تجلياتها وأصباغها‪ ،‬الظاهر‬
‫منها واملسترت‪.‬‬
‫يرجع هذا االلتزام الفكري إىل قناعاته الفلسفية واإلنسانية بالعدالة واملساواة بني البرش يف‬
‫الحقوق والواجبات ومقاومة الظلم الذي تعرضت له شعوب األرض من طرف األوروبيني منذ‬
‫حركات االكتشافات الجغرافية‪ ،‬ومنذ سقوط آخر معاقل املسلمني يف األندلس‪.‬‬
‫وبهذا‪ ،‬ميكن تأطري كوكلر يف صف املفكرين األوروبيني املتشبعني بالنزعة اإلنسانية‬
‫واملدافعني عنها‪ .‬وحتى لو مل يكن مسترشقاً باملعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬فإنه ط ّور منهجه‬
‫الخاص يف دراسة القضايا اإلسالمية والتعريف بها يف املحافل الدولية والدفاع عنها‪ .‬كام أنه‬
‫حاول التأسيس لثقافة حوار مسؤول وجدي بني املسلمني والغرب‪ ،‬قوامه االعرتاف بحقوق‬
‫املسلمني ومامرسة حوار الند للند‪ ،‬من دون رشوط مسبقة من طرف الغرب‪.‬‬
‫ال يصف كوكلر منهجاً واضح املعامل لكيفية بنائه الحوار بني الغرب واملسلمني‪ ،‬لكن‬
‫باستطاعة املتتبع لفكره والدارس له العثور عىل هذا البناء من خالل النصوص املختلفة‬
‫التي نرشها حتى اآلن‪ ،‬ومواقفه املبدئية وترحاله يف ربوع العامل املسلم رشقاً وغرباً وشامالً‬
‫وجنوباً‪.‬‬
‫ولعل أهم ميزة لهذا املنهج هو الحضور الفيزيقي لكوكلر يف الكثري من الدول املسلمة‪،‬‬
‫ملعاينة إشكاليات دراسته يف الواقع الفعيل للمسلمني‪ ،‬سواء يف بؤر التوتر العسكري يف‬
‫البلدان املسلمة (لبنان وسوريا والعراق وليبيا‪ )...‬أو عىل شكل لقاءات فكرية جمعته بالعديد‬
‫من املفكرين املسلمني يف كل البلدان املسلمة تقريباً‪ ،‬ودعوته املفكرين املسلمني من‬
‫مختلف التوجهات الفكرية والعقائدية للمشاركة يف محارضات وندوات ومؤمترات نظمها‬
‫يف إطار مهمته السابقة كرئيس لقسم الفلسفة يف جامعة «إنزبروك» النمساوية أو كرئيس‬
‫ملنظمة التقدم العاملية التي أسسها يف فيينا‪.‬‬
‫عىل املستوى العقائدي والثقايف‪ ،‬حلّل كوكلر يف العديد من نصوصه أهمية الحوار العقائدي‬
‫والثقايف بني الغرب واملسلمني‪ .‬وبالرجوع املنهجي إىل ما يجمع املسيحية واإلسالم وما يفرقهام‬
‫عىل املستوى العقائدي‪ ،‬عمل كوكلر عىل التأكيد أن أهم ما يجب القيام به هو االهتامم أكرث مبا‬
‫يجمع كأساس للتعايش السلمي بني الطرفني‪ ،‬من دون إغفال ما يفرق‪ ،‬ألنه يتض ّمن خصوصيات‬
‫كل جانب من الجانبني‪ ،‬وليس من حق املرء‪ ،‬يف نظره‪ ،‬ترك الخصوصيات جانباً‪ ،‬ألنها تساهم يف‬
‫هوية كل من اإلسالم واملسيحية عىل حد سواء‪ .‬ويف مثل هذه النصوص‪ ،‬استعمل املنهج املقارن‬
‫يف دراساته املختلفة‪.‬‬
‫إىل ذلك فقد عمل كوكلر عىل إظهار الدور الفعال الذي أدته الثقافة والحضارة املسلمة‬
‫يف بناء الحضارة اإلنسانية الحالية يف مختلف امليادين ابتداء من العصور الوسطى‪ .‬وبحكم‬
‫احتكاكه املبارش بثقافات العامل املسلم‪ ،‬فإنه قدم ثقافة املسلمني الحالية كثقافة عاملية‪،‬‬
‫داحضاً بذلك أطروحة «رصاع الحضارات» بكل ما أويت من قوة‪ ،‬فاإلسالم ال ميثل يف نظره‬
‫«صنع» ثقافة عاملية‪ ،‬قوامها االحرتام واالعرتاف‬‫خطرا ً عىل الغرب‪ ،‬بقدر ما يُعترب رشيكاً يف ُ‬
‫املتبادل‪ ،‬مذكرا ً عىل الدوام باإلرث اإلسالمي يف شبه الجزيرة اإليبريية ومناخ التفاهم والتعايش‬
‫بني الديانات اإلبراهيمية الثالث ومعتنقيها‪.‬‬
‫المحور‬

‫عر�‬ ‫ِّ‬
‫لمدونات ميشال شودكيفيتش حول إبن‬ ‫تصويبات منهجية‬
‫يب‬
‫ق‬
‫البا� مفتاح‬
‫ـ عبد ي‬

‫ُّ‬
‫التصوف‬ ‫سوسيولوجيا‬
‫ُّ ف‬
‫اإلسالم‬
‫ي‬ ‫العالم‬ ‫�‬
‫وس�ورة التمثل ي‬
‫مبتدأ التشكل ي‬
‫القاسم‬ ‫ـ ـ نز‬
‫ك�ة‬
‫ي‬
‫ملدونات ميشال شودكيفيتش‬
‫تصويبات منهجية َّ‬
‫حول إبن عريب‬
‫ق‬
‫البا� مفتاح‬
‫ي‬ ‫عبد‬
‫ّ ف‬ ‫ّ‬
‫عر� ـ الجزائر‬
‫إسالم ومحقق ي� تراث ابن ب ي‬
‫ي‬ ‫مفكر‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫تقديم‬
‫ن‬
‫العرفا� الواسع‬ ‫عر� وتراثه‬
‫ي‬ ‫مح� الدين إبن ب ي‬
‫األك� ي ي‬
‫حظيت أعمال الشيخ ب‬ ‫ِ‬
‫بعناية استثنائية من جانب الدوائر البحثية الغربية وبخاصة من جانب‬
‫ش‬
‫المست� ي ن‬
‫ق�‪.‬‬

‫ال� دارت‬ ‫ت‬


‫وعىل الرغم من أهمية الدراسات واألبحاث والتحقيقات ي‬
‫الكث� من العيوب المنهجية والتوثيقية؛‬ ‫ي‬ ‫حول هذه األعمال‪ ،‬فقد تخللها‬
‫لدواع متعددة‪ .‬منها ما يتصل بالخلفية الثقافية واإليديولوجية لهذا‬ ‫ٍ‬ ‫وذلك‬
‫ال� جرى‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ش‬
‫وال� حكمت بمنطقها الخاص عىل النصوص ي‬ ‫المست�ق أو ذاك‪ ،‬ي‬
‫ت‬
‫ال� امتازت‬ ‫تناولها‪ ..‬ومنها ما يعود إىل مشقة فهم اللغة الباطنية واإلشارية ي‬
‫ت‬ ‫َّ‬
‫ال� طرأت‬ ‫األك�ية‪ ..‬وكذلك تنوع المصادر األصلية واإلضافات ي‬ ‫بها النصوص ب‬
‫ً‬ ‫ن‬ ‫ين‬ ‫ِّ‬
‫عليها من جانب المحق ي ن‬
‫أخ�ا‬‫الزم�‪ ..‬ناهيك ي‬ ‫ي‬ ‫المسلم� بحكم التعاقب‬ ‫ق�‬
‫ين‬
‫أحاي�‬
‫ز ف‬
‫التمي� ي�‬ ‫ي‬ ‫و�وحاتها بحيث غاب‬ ‫وليس آخ ًرا عن ظاهرة اإلستدخال ش‬
‫َّ‬
‫تلقاه ش َّ‬ ‫َّ‬ ‫ب� ما َّ‬
‫ش� ي ن‬‫ت‬
‫ال�اح من أفهام ثم‬ ‫دونه المصنف عىل وجه الدقة وما‬
‫عر� نفسه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫دونوه كما لو انه إلبن ب ي‬
‫ف‬
‫ا� لما شاب دراسات واحد من‬ ‫ه أقرب عىل بيان بيبليوغر ي‬ ‫هذه الدراسة ي‬
‫األك� وعاينوا أعماله عىل امتداد حقبة‬ ‫ق� الذين اعتنوا بالشيخ ب‬ ‫ش‬
‫المست� ي ن‬ ‫أبرز‬
‫ش‬ ‫ِّ‬
‫الفرنس ميشال شودكيفيتش‪.‬‬ ‫ي‬ ‫والمست�ق‬ ‫زمنية وازنة‪ ،‬وهو المحقق‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫كانت أ ّول إطاللة للشيخ األكرب محمد محيي ال ّدين بن عريب (‪ 638-560‬هـ) يف الغرب خالل‬
‫العرص الحديث‪ ،‬كانت سنة ‪ 1845‬يف اليبزيغ األملانية‪ ،‬عندما نرش املسترشق األملاين غوستاف‬
‫فلوغل(ت‪ )1870:‬كتابه «اصطالحات الصوفيَّة» كتكملة لرتجمته لتعريفات الجرجاين‪ .‬بعد ذلك‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫بأكرث من نصف قرن‪ ،‬وتحدي ًدا سنة ‪ ،1901‬ترجم املسترشق الربيطاين «واير» إىل اإلنكليزيَّة «رسالة‬
‫الرسام إيفان غوستاف أغييل(عبد الهادي عقييل) إىل‬ ‫العلمة السويدي ّ‬
‫األحديَّة»‪ ،‬وترجمها أيضً ا َّ‬
‫اإليطاليَّة سنة ‪ ،1907‬وإىل الفرنسيَّة سنة ‪ .1910‬وهي رسالة يف «الوحدة املطلقة» منسوبة خطأ‬
‫العلمة ميشال شودكيفتيش (عيل عبد‬ ‫الفرنيس َّ‬
‫ُّ‬ ‫إىل ابن عريب‪ .‬وبرهن عىل هذا الخطأ املسترشق‬
‫وبي أ َّن مؤلِّفها‬
‫الله) يف مق ِّدمة مستفيضة لرتجمته املمتازة لها التي نرشها يف باريس سنة ‪َّ ،1982‬‬
‫الحقيقي هو أوحد ال ّدين البلياين(ت‪686:‬هـ‪.).‬‬
‫َّ‬
‫يف سنة ‪ ،1911‬نرش املسترشق اإلنكليزي رينولــد نيكلسون يف لندن ترجمته لـ «ديوان‬
‫السويدي هرنيك صمويل نيربج يف‬
‫ُّ‬ ‫األشواق» البن عريب‪ .‬ويف سنة ‪ ،1919‬أصدر املسترشق‬
‫«اليدن» الهولنديَّة‪ ،‬مق ِّدمة طويلة لرتجمته أجزاء من ثالث رسائل ها َّمة البن عريب هي‪« :‬إنشاء‬
‫الدوائر»‪ ،‬و«عقلة املستوفز»‪ ،‬و«التدبريات اإللهيَّة يف إصالح اململكة اإلنسانيَّة»‪ .‬ويف سنة ‪،1931‬‬
‫ين آسني باالسيوس باللغة اإلسبان َّية كتابًا جام ًعا لدراساته‬
‫يك املسترشق اإلسبا ُّ‬‫القس الكاثولي ُّ‬
‫ُّ‬ ‫نرش‬
‫املتنصن»‪ ،‬ويتض ّمن يف قسمه األ َّول تعريفًا بأه ّم مراحل سرية ابن‬
‫ْ َ‬ ‫حول ابن عريب بعنوان‪« :‬اإلسالم‬
‫عريب‪ .‬وكان هذا أ َّول عمل يف الغرب يعطي بعض املالمح عن شخص َّيته‪ ،‬وعنوانه كاف يف الداللة‬
‫املتعصبة املسبقة لكاتبه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عىل املواقف‬
‫وقبل منتصف القرن العرشين‪ ،‬بدأ اهتامم بعض أساتذة وطلبة األوساط األكادمي َّية الغرب َّية برتاث‬
‫ابن عريب‪ ،‬فكان منهم الباحث املرصي أبو العال عفيفي(ت‪ )1966:‬الذي اختار سنة ‪ 1930‬موضو ًعا‬
‫ألطروحته لنيل شهادة الدكتوراه باإلنكليزيَة أرشف عليها نيكلسون عنوانها‪»:‬الفلسفة الصوفية‬
‫ملحيي ال ّدين بن عريب»‪ ،‬وقد صدرت عام ‪ .1938‬ثم نرش سنة ‪ 1947‬تحقيقه ورشوحه لـ»فصوص‬
‫الحكم» البن عريب‪ .‬ورغم القيمة األكادمي َّية املعتَربة وفق املعايري الغرب َّية لهذين الكتابني‪ ،‬فإنهام‬
‫من الناحية العرفانيَّة والصوفيَّة الخالصة بعيدان عن الروح الحقيقيَّة للشيخ األكرب‪.‬‬
‫السوري عثامن يحيى (ت‪)1997:‬‬
‫ُّ‬ ‫ويف الخمسين َّيات من القرن املايض‪ ،‬أنجز املحقِّق املدقِّق‬
‫ريا ق ّدمه بالفرنسيَّة أطروحة عنوانها‪« :‬تاريخ وتصنيف ِمؤلَّفات ابن عريب» طبعت‬
‫عمل موسوعيًّا كب ً‬
‫ً‬
‫يف مجلَّدين يف دمشق سنة ‪ 1964‬وترجمها إىل العربيَّة شيخ األزهر أحمد الطيّب ونرشت يف‬
‫القاهرة سنة‪..2001‬‬

‫‪229‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وخالل النصف الثاين من القرن املايض‪ ،‬تكاثرت يف الغرب الدراسات حول ابن عريب‬
‫وترجمة نصوصه‪ ،‬من قبل املتأث ّرين بالشيخني «رنيه غينون» وصاحبه «فالسان» وغريهام‪ ،‬ومن‬
‫العلمة «هرني‬
‫الشيعي والفلسفة اإلرشاق َّية َّ‬
‫ِّ‬ ‫املتخصص يف املذهب‬ ‫ِّ‬ ‫الفرنيس‬
‫ُّ‬ ‫هؤالء‪ :‬املسترشق‬
‫الخلق يف تص ُّوف ابن عريب»‪ ،‬نرشه يف باريس‬ ‫َّ‬ ‫كوربان»(ت‪ )1979:‬يف كتابه املشهور‪»:‬الخيال‬
‫سنة ‪ ،1958‬وموضوعه جيّد لكن مؤلِّفه من ش ّدة انغامسه يف البيئة الشيعيَّة حاول إلقاء صبغة شيعيَّة‬
‫عىل الشيخ األكرب‪ ،‬وهو يف هذه املحاولة خاطئ متا ًما‪ ،‬وهذه املسألة تحتاج إىل تفصيل دقيق‬
‫ليس هنا موضعه‪.‬‬
‫ّ‬
‫إيزوتسو»(توف سنة ‪ )1993‬الذي نرشه‬ ‫ونشري هنا أيضً ا إىل كتاب الباحث الياباين «توشيهيكو‬
‫ين‬
‫يف طوكيو سنة ‪ 1966‬وعنوانه «التص ُّوف والطاوية» وفيه قارن بني ابن عريب وإمام املذهب العرفا ِّ‬
‫يف امللَّة الصين َّية خالل القرن السادس قبل امليالد‪« :‬الو تسا»‪ .‬لك َّن بحثه هذا شابته نظرته الفلسف َّية‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميتافيزيقي عا ٍل بعيد من متاهات الفكر‬
‫ٍّ‬ ‫ين‬
‫ين روحا ٍّ‬‫ملجال عرفا ٍّ‬
‫ويف سنة ‪ ،1979‬أصدر األستاذ «اوستان» كتاب «صوف َّية األندلس» املتض ِّمن ترجمة البن عريب‬
‫مع تقديم وتعليقات ج ّيدة لكتاب «روح القدس يف محاسبة النفس» وكتاب «الد َّرة الفاخرة يف ذكر‬
‫من انتفعت به يف طريق اآلخرة»‪ ،‬ويتض َّمن ترجمة واحد وسبعني وليًّا من الذين صحبهم الشيخ‬
‫األكرب يف األندلس واملغرب‪.‬‬
‫الرسام‬
‫التاريخي يف تقديرين هو ال ُّرجوع إىل ّ‬
‫ِّ‬ ‫لك َّن أه َّم ما ينبغي الوقوف عنده يف هذا السياق‬
‫العلمة عبد الهادي عقييل(‪ )1917-1869‬السابق ذكره‪ ،‬ألنه – يف حدود اطّالعي‪ -‬هو أ َّول‬ ‫السويدي َّ‬
‫ِّ‬
‫العلمي‬
‫َّ‬ ‫واضع لبصمة الشيخ األكرب الروح َّية يف الغرب الحديث‪ ،‬وال أعني بهذه البصمة الحضور‬
‫يل الف ّعال‪ .‬فعشق عبد الهادي الكتشاف الحقيقة‬ ‫ين العم َّ‬ ‫َّ‬
‫الجاف‪ ،‬وإنَّ ا أعني بها الحضور الروحا َّ‬
‫منذ بداية شبابه جعله يكتشف الشيخ األكرب ويتأث َّر به تأث ُّ ًرا عميقًا نظريًّا‪ ،‬ثم مامرسة عمليَّة بانخراطه‬
‫يف الطريقة الشاذليَّة عىل يد شيخها يف مرص الشيخ عبد الرحمن عليش (تّ ‪ )1928:‬الذي كان يف‬
‫أكربي املرشب‪ ،‬وقد تع َّمق مرشبه هذا خالل صحبته ملرجع العلوم األكربيَّة يف‬ ‫َّ‬ ‫التص ُّوف والعرفان‬
‫الشام يف عرصه األمري عبد القادر الجزائري(ت‪ )1883:‬مؤلِّف كتاب «املواقف يف إشارات القرآن‬
‫إىل األرسار واملعارف» يف ثالثة أجزاء‪ ،‬وهو يف مواضيعه امتداد لـ»فتوحات» و«فصوص» الشيخ‬
‫العلمة ميشال شودكيفيتش‬ ‫األكرب‪ .‬وقد ابتدأت ترجمة أبواب منه إىل الفرنسيَّة سنة ‪ 1982‬عىل يد َّ‬
‫ولقيت هذه الرتجمة‬
‫ْ‬ ‫حيث ترجم ‪ 38‬موقفًا ترجمة ممتازة‪ ،‬مع مق ِّدمة وتعليقات يف غاية الجودة‪.‬‬
‫خصوصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ريا ملحوظًا عند املثقَّفني الغرب ّيني املهت ّمني باإلسالم عمو ًما والتص ُّوف‬
‫ريا وتأث ً‬
‫قبولً كب ً‬
‫وظهر هذا االهتامم مبواصلة ترجمة أبواب أخرى من كتاب «املواقف» من طرف فرنسيني أكربيّني‬

‫‪230‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫ريا فرتجم جميع‬ ‫آخرين‪ ،‬ث َّم يف عام ‪ 2000‬بذل القسيس الفرنيس «ميشال الغارد» مجهو ًدا كب ً‬
‫املواقف يف ثالثة مجلَّدات ضخمة ختمها بفهارس دقيقة‪ .‬وخالل السنوات األخرية أعاد الرتجمة‬
‫بكاملها الباحث الفرنيس ماكس جريو (حسني) مع تعليقات كثرية مفيدة‪.‬‬
‫ومببارك ٍة وتشجيع من الشيخ عبد الرحمن عليش‪ ،‬تشارك عبد الهادي مع صحفي إيطايل ‪ -‬اعتنق‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫هو أيضً ا اإلسالم» إنريكو إنساباتو(‪ -»)1963-1878‬يف تأسيس(مجلَّة النادي (باإليطالية صدرت يف‬
‫القاهرة بني عامي ‪ 1904‬و‪ .1913‬وأسس عبد الهادي يف باريس سنة ‪ 1911‬جمع َّية مهت َّمة بالرتاث‬
‫العلمة العارف «رنيه غينون» الشيخ عبد الواحد‬ ‫خصوصا‪ ،‬وكان َّ‬
‫ً‬ ‫يف عمو ًما‪ ،‬وبرتاث ابن عريب‬
‫الصو ِّ‬
‫الروحي يف تحرير‬
‫ِّ‬ ‫يحيى) أحد أعضائها البارزين‪ ،‬واشرتكا مع ثلَّة من أحسن الباحثني يف الرتاث‬
‫مجلَّة «العرفان» بالفرنس َّية ما بني سنتي ‪ 1909‬و‪ .1912‬وأمثرت صحبتهام اعتناق «رنيه غينون»‬
‫لإلسالم وانخراطه هو أيضً ا يف طريقة الشيخ عليش الشاذل َّية‪ .‬والبذرة األكربيَّة التي زرعها عبد‬
‫وتوسعت وأمثرت الكثري الطيب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الهادي نفث الشيخ عبد الواحد يحيى فيها الروح‪ ،‬فربت‬
‫وميكن القول – بال مبالغة يف تقديري‪ -‬أ ّن جهود «غينون» مفصلية يف التطور الروحي والفكري‬
‫للعامل الغريب خالل القرن العرشين‪ ،‬فبحوثه وكتبه وآثارها أحدثت يف الدراسات الروحية والفكرية‬
‫يف الغرب نقـلة هائلة‪ ،‬ارتفعت بها من مستويات متعصبة ومضــلـلة وتافهة ومغلقة‪ ،‬إىل دراسات‬
‫رائعة وفحوص عميقة وانفتاح عىل الرتاثيات الروحية العاملية ملختلف األمم واألديان‪.‬‬
‫اإلسالمي وعن عرفان الشيخ األكرب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ريا عن التص ُّوف‬
‫ومل يكتب الشيخ عبد الواحد يحيى كث ً‬
‫كل ما يف تصانيفه‪،‬‬ ‫باستثناء مقاالت وتعليقات ع َّدة عن كتب ومالحظات يف ثنايا كتبه‪ .‬لكن ّ‬
‫األكربي‪ .‬ويف إطار اهتامم كاتب هذه السطور‬ ‫ّ‬ ‫خصوصا الحقائق امليتافيزيق َّية‪ ،‬متطابق مع املرشب‬
‫ً‬
‫ترجمت له اثني‬
‫ُ‬ ‫برتجمة بعض كتب ومقاالت الشيخ عبد الواحد يحيى من الفرنس َّية إىل العرب َّية‪،‬‬
‫عرش كتابًا‪ ،‬من بينها كتاب «التص ُّوف اإلسالمي املقارن» طبع يف دار عامل الكتب الحديث باألردن‬
‫مقال حول اإلسالم وحضارته‪ ،‬وحول مسائل ها َّمة يف التص ُّوف‬ ‫ً‬ ‫سنة ‪ ،2013‬ويتض ّمن عرشين‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ومعها أربعة عرش تعليقًا حول كتب صدرت حول اإلسالم والتص ُّوف‪.‬‬
‫األكربي للشيخ عبد الواحد يحيى هو الذي نجده يف كتب وبحوث‬ ‫ُّ‬ ‫ين‬
‫واملرشب العرفا ُّ‬
‫الروحي الذين ترجموا رسائل ومقاالت وأشعا ًرا البن عريب وسلكوا منهاجه‬
‫ِّ‬ ‫املنتمني إىل اتجاهه‬
‫العلمة العارف الروماين الفرنيس «ميشال فالسان (مصطفى‬
‫العرفاين‪ ،‬ويف مق ّدمتهم صاحبه الويف َّ‬
‫عبد العزيز‪ »)1974 1907-:‬ومريدوه‪.‬‬
‫يل ف َّعال هو وتالميذه يف توجيه تعاليم الشيخ‬
‫وروحي عم ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫نظري‬
‫ٌّ‬ ‫لقد كان للشيخ فالسان دور‬
‫األكربي العميق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫النقي والعرفان‬
‫ِّ‬ ‫خالصا وفق التص ُّوف الس ّن ِّي‬
‫ً‬ ‫عبد الواحد يحيى توجي ًها إسالم ًّيا‬

‫‪231‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ِمؤكّدين أنّه مي ِثــّل ٍّ‬


‫بحق صميم اإلسالم‪ ،‬وال مرجعيَّة له سوى القرآن العظيم والرشيعة املحمديَّة‬
‫الثابتة والرتبية الروحيَّة التي ورثها األمئَّة الصالحون من أهل الله من رسول الله –صىل الله عليه‬
‫وسلم‪.-‬‬
‫واقتفى تالميذ الشيخ فالسان منهاجه‪ ،‬وكتبوا الكثري من البحوث‪ ،‬وترجموا العديد من نصوص‬
‫األكربي بكيف َّية صحيحة سليمة‪ ،‬وبحمد‬
‫ِّ‬ ‫الشيخ األكرب‪ ،‬وكان لهم الفضل األكرب يف تقديم العرفان‬
‫جه يف مزيد إشعاع وات ِّساع‪.‬‬
‫الله تعاىل ال يزال هذا التو ُّ‬
‫املتخصص يف التص ُّوف عمو ًما ويف ابن‬
‫ِّ‬ ‫الفرنيس‬
‫ِّ‬ ‫بالعلمة‬
‫ًّ‬ ‫من تالميذ الشيخ فالسان نلتقي‬
‫خصوصا‪ :‬ميشيل شودكيفيتش(ت‪ )2020:‬الذي ذكرنا ترجمته لرسالة األحديَّة وتصحيحه‬ ‫ً‬ ‫عريب‬
‫لنسبة مؤلِّفها‪ ،‬وترجمته ألبواب من كتاب «املواقف « لألمري عبد القادر‪ .‬كام له حوارات وبحوث‬
‫ومقاالت كلُّها ممتازة‪ ،‬تتميَّز بالدقَّة العلميَّة البالغة‪ ،‬والفهم السديد واالطِّالع الواسع‪ .‬وأه ّم ما تتميّز‬
‫رسخ فيها املرجع َّية اإلسالم َّية الس ّن َّية الخالصة لعرفان الشيخ األكرب‪ .‬وقد أرشف عىل ترجمة‬ ‫به أنَّه ّ‬
‫أبواب أساس َّية من «الفتوحات امل ّك َّية» إىل الفرنس َّية واإلنكليزيَّة اشرتك فيها أربعة من أملع وأحسن‬
‫املتخصصني الغربيني يف الدراسات األكربيَّة هم «وليام تشيتيك»‪ ،‬و«جيمس موريس»‪ ،‬و«سرييل‬ ‫ِّ‬
‫شودكيفيتش»‪ ،‬و«دينيس غريل»‪ .‬ونرش الكتاب يف دار سندباد يف باريس سنة ‪ .1988‬ثم ألف‬
‫كتابه‪»:‬ختم الوالية» ونرشه سنة ‪ 1986‬بباريس‪ ،‬وقد ترجمه إىل العرب َّية شيخ األزهر «أحمد الط ّيب»‬
‫ب ُعنوان «الوالية والنب َّوة عند الشيخ األكرب محيي الدين ابن العريب»‪ ،‬ث ّم أصدر كتابه الثاين األه ّم‬
‫وٱلشيعة» نرشه سنة‪ ،1992‬ويعني بالكتاب‬ ‫ّ‬ ‫يب‪ ،‬ٱلكتاب‬ ‫ح ٌر ب َِل ساحل‪ :‬ابن عر ّ‬ ‫الذي عنوانه‪« :‬بَ ْ‬
‫الصادقي»‬‫لكل معارف الشيخ األكرب‪ .‬وقد ترجمه «أحمد ّ‬ ‫القرآن الكريم الذي هو املرجعيَّة الحقيقيَّة ّ‬
‫اإلسالمي سنة ‪.2018‬‬
‫ِّ‬ ‫إىل العرب َّية‪ ،‬وأصدرته دار املدار‬
‫ولشودكيفيتش ابنته الباحثة املتميّزة السيدة كلود ع َّداس التي ورثت من والدها رصامة الدقَّة‬
‫العلميَّة‪ ،‬وساهمت بج ٍّد وأسلوب ذيكٍّ يف الدراسات األكربيَّة من خالل مقاالتها املتع ِّددة‪،‬‬
‫وخصوصا يف أطروحتها املمتازة للدكتوراه حول سرية الشيخ األكرب ونرشتها سنة ‪ 1989‬بعنوان‪»:‬ابن‬
‫ً‬
‫رصته يف كتاب لطيف عنوانه‪« :‬ابن عريب والسفر بال‬‫عريب أو البحث عن الكربيت األحمر»‪ ،‬واخت َ‬
‫عودة» نرش سنة ‪ .1996‬وقد ترجم أحمد الصادقي األطروحة إىل العربيَّة‪ ،‬ونرشت الرتجمة دار‬
‫اإلسالمي سنة ‪ 2014‬بعنوان‪« :‬ابن عريب‪ ..‬حياته وفكره»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املدار‬
‫تصويبات ومالحظات حول كتب شودكيفيتش‬
‫كل منصف يف أ َّن كتب ومقاالت األستاذ الفرنيس ميشال شودكيفيتش وابنته‬ ‫ال َّ‬
‫شك عند ِّ‬
‫خصوصا والتص ُّوف عمو ًما‪ ،‬هي من أحسن البحوث‬
‫ً‬ ‫األستاذة كلود ع ّداس حول ابن عريب‪،‬‬

‫‪232‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫حا وعمقًا ودقَّة‪ .‬واألخطاء الطفيفة ج ًّدا ال تنقص شيئًا من قيمتها العلميَّة املمتازة‪.‬‬
‫موضوعيَّة ووضو ً‬
‫كنت راسلت شودكيفيتش يف شأنها إثر‬ ‫ويف هذه السطور سأذكر ما الحظتــُه من هذه األخطاء‪ .‬وقد ُ‬
‫صدور الكتب التي سنأيت عىل ذكرها‪ ،‬فكان منصفًا ومتواض ًعا ج ًّدا يف اإلقرار بها‪.‬‬
‫[[[‬
‫‪ 1-‬كتاب «خاتم األولياء»‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫‪ -‬ص‪17-‬السطر‪ :36‬وفاة ابن العريب يوم ‪ 28‬ربيع الثاين ‪ 638‬هـ‪ 16( .‬نوفمرب ‪: -)1240‬هذا‬
‫التاريخ ذكره امل َقــَّري يف «نفح الطيب»‪ .‬لكن غالب املرتجمني للشيخ‪ -‬ومنهم املِؤ ّرخ أبو شامه‬
‫الذي حرض جنازته‪ -‬مجمعون عىل أ َّن يوم وفاته هو يوم ‪ 22‬ربيع األول‪638‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪42-‬آخر سطر‪ :‬سنة وفاة الحكيم الرتمذي هي ‪285‬هـ‪ .‬هذا غري صحيح‪ .‬وإمنا ّ‬
‫توف نحو‬
‫سنة ‪320‬هـ‪ .‬والدليل عىل أنَّه كان حيًّا بعد سنة ‪317‬هـ‪ .‬هو ذكره يف كتابه «أرسار الحج» لنزع‬
‫القرامطة الحجر األسود من الكعبة وذهابهم به إىل بالدهم‪ .‬وذكر ابن حجر العسقالين يف كتاب‬
‫الرتمذي سنة‪318‬هـ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األنباري سمع الحديث من الحكيم‬
‫َّ‬ ‫«لسان امليزان»(جزء‪5‬ص‪ )308‬أ َّن‬
‫متفش قدميًا وحديثًا عند‬
‫ٍّ‬ ‫‪ -‬ص‪ :96‬التهميش‪ :1‬سنة وفاة الشيخ أيب مدين‪594:‬هـ‪ :.‬هذا خطأ‬
‫غالب من تكلَّموا عن الشيخ أيب مدين‪ .‬لكن ابن عريب أعطى يف عنوان الباب ‪ 556‬من «الفتوحات»‬
‫السنة الصحيحة لهذه الوفاة‪ ،‬وهي سنة ‪589‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :109‬الكالم عن ترتيب أبواب الفصوص‪ :‬مل َّا كتب املؤلِّف هذا الكتاب‪ ،‬مل يكن قد‬
‫صدر حينذاك كتابنا «مفاتيح فصوص الحكم» الذي فيه بيان ألرسار ذلك الرتتيب‪ .‬وفيه أيضً ا بيان‬
‫للمفاتيح القرآنيَّة لبعض فصول الفتوحات الستَّة‪ ،‬وبعض الكتب األخرى للشيخ‪ ،‬ولهذا مل يذكر يف‬
‫كتابه هذا‪ -‬وال يف مق ِّدمته للكتاب الذي أرشف عليه املتض ِّمن ترجامت لبعض أبواب الفتوحات‪،‬‬
‫املنشور يف دار سندباد سنة ‪ 1988-‬عالقات أبواب الفتوحات‪ -‬السيام أبواب الفصلني الرابع‬
‫والخامس‪ -‬مع سور القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 116-‬سطر‪ :22‬األقطاب الخمسة والعرشون هم األنبياء الخمسة والعرشون املذكورون يف‬
‫القرآن‪ .‬وأعطى الشيخ أسامء لهم من حيث قطب َّيتهم لزمانهم‪ ،‬وما بني قوسني نذكر أسامءهم يف القرآن‪.‬‬
‫قال الشيخ يف الباب ‪ 14‬من الفتوحات‪[:‬وأما أقطاب األمم املك ّملني يف غري هذه األمة ممن تقدمنا‬
‫يب‪ ،‬ملا أشهدتهم ورأيتهم يف حرضة برزخيَّة‪ ،‬وأنا‬
‫بالزمان‪ ،‬فجامعة ذُكرت يل أسامؤهم باللسان العر ِّ‬
‫مبدينة قرطبة يف مشهد أقدس‪ .‬فكان منهم املفرق(آدم)‪ ،‬ومداوي الكلوم(إدريس)‪ ،‬والبكاء(نوح)‪،‬‬
‫واملرتفع(إلياس)‪ ،‬والشفاء(إبراهيم)‪ ،‬واملاحق(إسحاق)‪ ،‬والعاقب(يعقوب)‪ ،‬واملنحور(إسامعيل)‪،‬‬

‫[[[‪ -‬خاتم األولياء للشيخ محيي الدين إبن عريب – تحقيق ميشال شودكيفيتش‪ -‬دار غاليامر – باريس‪.1986 -‬‬

‫‪233‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وشجراملاء(موىس)‪ ،‬وعنرصالحياة(عيىس)‪ ،‬والرشيد(يوسف)‪ ،‬والراجع(يونس)‪ ،‬والصانع(داود)‪،‬‬


‫والطيار(سليامن)‪ ،‬والسامل(أيوب)‪ ،‬والخليفة(هارون)‪ ،‬واملقسوم(شعيب)‪ ،‬والحي(يحيى)‪،‬‬
‫وال ّرامي(زكريا)‪ ،‬والواسع(اليسع)‪ ،‬والبحر(ذوالكفل)‪ ،‬وامللصق(لوط)‪ ،‬والهادي(هود)‪،‬‬
‫واملصلح(صالح)‪ ،‬والباقي سيدنا محمد (ص)‪ .‬فهؤالء املكملون الذين سموا لنا من آدم (ع) إىل‬
‫زمان محمد (ص)]‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :127‬سطر‪ :10/9‬القطبية التي قال الشيخ عنها أ ّن بإمكان النساء نيلها‪ ،‬هي قطب َّية بعض‬
‫املقامات‪ ،‬كالتوكُّل أو الصرب‪ ،‬أو قطب َّية منطقة من جهات األرض‪ .‬أ ّما مقام الخليفة قطب الزمان‬
‫الواحد الفرد فهو مخصوص بالرجال وحدهم‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 170-‬سطر‪ :23‬كتاب»الجواهر» للشعراين خالصة للفتوحات‪ :‬هذا غري صحيح‪ .‬ففي‬
‫الفتوحات ما ال يحىص من املسائل واملعارف التي ال وجود لها يف «الجواهر»‪ .‬فال وجود يف‬
‫كتاب «اليواقيت والجواهر يف بيان عقائد األكابر» إلَّ ملقتطفات من «الفتوحات» تتعلَّق بالعقائد‬
‫العقائدي أغفل الشعراين العديد من املسائل األساس َّية يف املذهب‬
‫ِّ‬ ‫فقط‪ .‬وحتى يف هذا الجانب‬
‫مقبول عند علامء الظاهر‪..‬‬
‫ً‬ ‫ين العميق للشيخ األكرب‪ ،‬ألنَّه أراد من كتابه أن يكون‬
‫العرفا ِّ‬
‫‪ -‬ص‪ 176-‬سطور‪ :10...5‬ال وجود بعد الشيخ األكرب لوارث محمدي كامل‪ :‬هذا ال يَ َسل ِّـم به‬
‫الكثري من شيوخ الطريق‪ ،‬حتى املح ّبون للشيخ‪ .‬وبعضهم يقول‪ :‬إنَّ ا ختم َّيته املح ّمديَّة املخصوصة‬
‫به كونه ظهر باملعارف ظهو ًرا ال يسبقه فيه أحد‪ ،‬ونال من الوراثة األحمديَّة أعىل مقام‪ .‬لكن هذا ال‬
‫يعني أ ّن بعض أكابر األولياء الذين أتوا بعده وسيأتون ليسوا ورثة محمديّني بكيفيَّة مبارشة‪ ،‬بل هم‬
‫من كُ ّمل الورثة املحمديني‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 179-‬آخر سطر من التهميش‪ :‬وفاة الجييل سنة‪832‬هـ‪ :‬الصحيح يف تاريخ وفاته هو سنة‬
‫رسدد من أرض مدينة‬ ‫‪826‬هـ‪ّ .‬‬
‫توف يف قريته التي نشأ فيها‪ ،‬وهي تس ّمى»أبيات حسن» التابعة لوادي ْ‬
‫«زبيد»‪ ،‬باليمن ‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 184-‬سطر‪ :7‬شارح «رسالة األنوار» البن العريب هو عبد الكريم الجييل‪ :‬هذا غري صحيح‪.‬‬
‫وإمنا هو لشارح مجهول‪ .‬فأسلوب الشارح بعيد ج ًّدا عن أسلوب الجييل‪ .‬ويف الرشح أخطاء كبرية‬
‫ال ميكن أن يقرتفها العارف الجييل‪ ،‬وأوضح دليل أ ّن كاتبها قال يف خطبة رشحه‪-‬أي بضعة سطور‬
‫قبل املق ّدمة‪»:-‬ولقد رأيته‪ -‬ريض الله تعاىل عنه‪ -‬يف الينبوع الكبري سنة تسع ومثانني ومثامنائة‪ ،‬وأنا‬
‫مسافر من البيت الحرام‪ .»...‬أي أ ّن الشارح رأى يف املنام الشيخ ابن العريب سنة ‪889‬هـ‪ .‬أي أ ّن‬
‫الشارح كان ح ًّيا يف هذه السنة بعد وفاة الجييل بنحو ‪63‬سنة‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫‪ -‬ص‪ 192-‬سطر‪ :17‬ترجم املؤلِّف كلمة «الكشف الخيايل» التي استعملها الشيخ بكلمة‬
‫«‪ .»hallucinations‬وهذا خطأ واضح‪ .‬فالكشف الخيايل هو كشف صحيح بواسطة الق َّوة املص ِّورة‪،‬‬
‫وهو بعيد ج ًّدا عن «الهلوسات» الوهميَّة عند بعض املرىض‪.‬‬
‫حا لـ»رسالة األنوار»‬
‫‪ -‬من صفحة‪193‬إىل صفحة ‪ :201‬يف هذه الصفحات ترجم املؤلِّف رش ً‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫البن عريب‪ ،‬وهي – كام سبق قوله‪ -‬لشارح مجهول‪ .‬ففي تقسيم مراحل السلوك عرب املراتب السفل َّية‬
‫للوجود‪ ،‬من خالل الفقرات التي ذكرها الشيخ لهذه املراحل‪ ،‬توجد أخطاء تابَع فيها «شودكيفيتش»‬
‫الشارح من دون أ ْن يتفطّـن ألخطائها‪ .‬والتفصيل يف ما ييل‪:‬‬
‫‪ -‬كالم الشيخ عن كشف أرسار األحجار والنباتات والحيوانات‪ ،‬كلُّه تابع لفلك الرتاب‪.‬‬
‫وبعده قال الشيخ‪[:‬ثم بعد ذلك يُكشف لك عن رسيان الحياة السبب َّية يف األحياء‪...‬الخ](ص‪196-‬‬
‫سطر‪ .)13...10‬وهنا يبدأ خطأ الشارح ومرتجمه «شودكيفيتش»‪ ،‬حيث ظ ّنا أ َّن هذا الكالم يعني‬
‫دخول السالك إىل السامء الثانية‪ .‬وقال «شودكيفيتش» إ ّن الشيخ مل يقل يف هذه الرسالة عن السامء‬
‫األوىل شيئًا(ص‪ 193-‬سطر‪ .)12‬والصحيح هو أ ّن كالم الشيخ املذكور ال يتعلَّق بالسامء الثانية‪،‬‬
‫وإمنا يتعلَّق بفلك املاء الذي هو سبب الحياة يف األحياء‪ ،‬وفلكه يتلو مبارشة فلك الرتاب السابق‪،‬‬
‫خالل عروج السالك‪.‬‬
‫فبداية من هذه الجملة وما بعدها‪ ،‬إىل قول الشيخ‪[:‬رفع لك عن مراتب العلوم النظريَّة‪....‬‬
‫كل الرتتيب الذي ذكره»شودكيفيتش» من صفحة‪ 196‬سطر‪ 11‬إىل صفحة‪ 201‬سطر‪ 10‬هو‬ ‫الخ] (أي ّ‬
‫كل الفقرات‬
‫ترتيب خاطئ‪ ،‬ألنَّه قفز فيه مبارشة من فلك الرتاب إىل السامء الثانية‪ ،‬حيث ظ َّن أ َّن َّ‬
‫السابقة التالية لفلك الرتاب راجعة للسامء الثانية‪ .‬فالرتتيب الصحيح لهذه الفقرات هو كام ييل‪:‬‬
‫‪ -‬بعد كالمه عن فلك املاء‪ ،‬قال الشيخ‪[ :‬وإن مل تقف مع هذا ُر ِف َعـت لك اللوائح اللوح َّية‪....‬‬
‫واللطيف كثيفًا‪ ،‬وما أشبه ذلك]‪ .‬يعني به فلك الهواء يف دائرة الزمهرير‪ .‬وهنا أيضً ا أخطأ‬
‫«شودكيفيتش» عندما ظ ّن أ ّن املقصود باللوائح اللوح َّية هو ما يظهر من الَّلوح املحفوظ(ص‪197‬‬
‫سطر‪ .)10‬والصحيح هو أ َّن السالك دخل هنا إىل فلك الهواء‪ ،‬فال يزال تحت فلك القمر‪ ،‬بعي ًدا ج ًّدا‬
‫ج ًّدا عن الَّلوح املحفوظ فوق العرش املحيط‪ .‬فاللوائح اللوح َّية هي ما يلوح من صفات النفس‬
‫يئ أصله من الروح املنفوخ من‬
‫يف رصاعها مع الهوى‪ ،‬يف مرتبة فلك الهواء‪ .‬فالنفس هي لوح جز ٌّ‬
‫النفس الكل َّية التي هي الَّلوح املحفوظ‪ .‬يقول الشيخ يف إشارته لهيجان الهوى يف لوح النفس‬
‫يف بداية الباب‪ 273‬من الفتوحات املتعلِّق بسورة املسد(وعنوانه‪ :‬يف معرفة منزل الهالك للهوى‬
‫والنفس)‪ ،‬حيث يظهر أبو لهب رم ًزا للهوى املهلك‪ ،‬وامرأته رم ًزا للنفس األ ّمارة بالسوء‪:‬‬

‫‪235‬‬
‫حقول التنظير‬

‫هب يف اللوح‬
‫هالك الخلق يف ال ّريح ‏ إذا ما ّ‬
‫والذ بـــــغـــري مواله إله الجـسم والـروح‬
‫‪ -‬وقول الشيخ بعد ذلك‪[:‬وإن مل تقف مع هذا رفع لك نور متطاير الرشر‪...‬مل تصبك آفة]‪ :‬هنا‬
‫دخل السالك إىل فلك النار أو األثري‪.‬‬
‫‪ -‬ثم قال الشيخ‪[:‬وإن مل تقف معه رفع لك عن نور الطوالع‪ ....‬وأ ّن الطرق كلَّها مستديرة‪ ،‬وما‬
‫مم تضيق هذه الرسالة عن ٌه]‪ :‬هذه الفقرة الطويلة كلها تتعلق بالسامء‬
‫ث ّم طريق خط ّّي‪ ،‬وغري ذلك ّ‬
‫الثانية‪ ،‬حيث فـلك القمر‪.‬‬
‫فكل هذه الفقرات اعتربها الشارح و«شودكيفيتش» تابعة للسامء الثانية‪ ،‬ويف ذلك خطأ واضح‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫فبداية كالم الشيخ عن السامء الثانية تبدأ بعد هذه الفقرات عند قوله‪[:‬فإن مل تقف معه رفع لك عن مراتب‬
‫مم يطول رشحه]‪.‬‬
‫العلوم النظريَّة‪ ...‬وسبب من ترك الكون عن مجاهدة وعن ال مجاهدة‪ ،‬وغري ذلك ّ‬
‫‪ 2-‬كتاب «محيط بال ساحل»‬
‫[[[‬

‫‪ -‬ص‪ 23-‬سطر‪ :17‬شطر بيت الشعر‪»:‬والسبع املثاين حقيقة أمري»‪ ،‬هو من قصيدة للشيخ‬
‫محمد بلقائد التلمساين (‪ )1998-1911‬شيخ الطريقة الهربيَّة الدرقاويَّة الشاذل َّية‪ .‬والشطر األ ّول‬
‫لهذا البيت هو‪»:‬فواتح السور ت ُـع َرف باسمي»‪ .‬ونظم الشيخ هذه القصيدة خالل بداية شبابه‪ ،‬ومل‬
‫يكن حينها مط ّــلِ ًعا عىل نصوص وأشعار ابن عريب‪ .‬فقول «شودكيفيتش» أ ّن ذلك صدى لقوله‪»:‬أنا‬
‫القرآن والسبع املثاين»‪ ،‬غري صحيح‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 35-‬سطر‪ :15‬مؤلف كتاب «سلوة األنفاس» هو»عبد الحي الكتاين»‪:‬هذا غري صحيح‪،‬‬
‫وإمنا املِؤلف لهذا الكتاب هو للشيخ أيب عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاين(‪1345-‬‬
‫‪ 1274‬هـ ‪1927 – 1857 /‬م)‪ .‬أ ّما عبد الحي الكتاين فقد ّ‬
‫توف سنة ‪.1962‬‬
‫‪ -‬ص‪ 69-‬سطر‪ :6‬ذكر»شودكيفيتش» رمزيَّة للعدد ‪ 35‬كحاصل رضب السبعة يف الخمسة‪ .‬لكن‬
‫األه ّم هو أنَّه مجموع ‪ 28‬مع السبعة‪ ،‬أي عدد املنازل الفلك َّية مع الساموات السبع‪ .‬والعدد ‪ 28‬هو‬
‫فصلها الشيخ يف الباب ‪ 198‬من الفتوحات‪.‬‬ ‫أيضً ا عدد الحروف‪ ،‬وعدد مراتب الوجود كام ّ‬
‫‪ -‬ص‪ 91-‬سطر‪ :5‬الباب‪»:272‬منزل تنزيل التوحيد»‪ :‬الصحيح هو ‪ :‬منزل تنزيه التوحيد‪.‬‬
‫‪ -‬ص ‪ 93-‬سطر‪ 72:3-‬درجة عدد البسملة بحساب الجمل الصغري‪ :‬هذا صحيح‪ .‬لكن حيث أ ّن‬
‫الكالم متعلِّق بسورة املسد التالية لسورة اإلخالص التي لها «منزل تنزيه التوحيد»‪ ،‬فيمكن اعتبار‬
‫العدد‪72‬متعلّقًا بها‪ ،‬حيث أ ّن عدد حروفها مع بسملتها هو ‪ .72‬كام ميكن اعتبار هذا العدد عدد‬

‫[[[‪ -‬ميشال شودكيفيتش‪ -‬محيط بال ساحل – دار الساي‪ -‬باريس‪ -‬فرنسا – ‪.1992‬‬

‫‪236‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫الكلامت من سورة الناس ‪ -‬التي ابتدأ بها الشيخ منازل سور القرآن‪ -‬إىل كلمة»بسم الله» من سورة‬
‫كل سورة‪.‬‬
‫املسد‪ ،‬مع اعتبار كلامت البسملة يف ِّ‬
‫‪ -‬ص‪ 97-‬سطر‪ :33...31‬قول»شودكيفيتش»أ ّن العددين ‪ 24‬و‪ 6‬راجعان لحروف اآليتني األوىل‬
‫والثانية من سورة قريش‪ ،‬يحتاج إىل تقويم‪ .‬فمراد الشيخ من كالمه عىل سفر األبدال السبعة‪ ،‬هو‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التنبيه عىل عالقتهم بالكواكب السيارة السبعة خالل سريهم يف الشتاء والصيف عرب الربوج الشتويَّة‬
‫والصيف َّية‪ ،‬وداللة ذلك يف مجال املعرفة اإلله َّية هو أ َّن املعرفة املتعلِّقة بالذات مناسبة للصيف‬
‫حني ترشق شمس الذات بال سحاب‪ ،‬ومعرفة مرتبة األلوهــ َّية مناسبة للشتاء‪ ...‬فالعدد ‪ – 24‬يف‬
‫علم الفلك الرتايث‪-‬هو عدد أقسام الربوج الصيف َّية(‪ 9‬للرسطان‪+8‬لألسد‪ +7‬للسنبلة)‪ .‬والعدد‪ 6‬هو‬
‫ولكل قسم حكم يف العامل يدوم ألف‬‫ِّ‬ ‫عدد أقسام الربوج الشتويَّة(‪ 3‬للجدي‪ 2 +‬للدلو‪ 1 +‬للحوت)‪.‬‬
‫«الرب»‪ ،‬وهو االسم الوحيد الظاهر يف سورة قريش‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سنة‪ ،‬أي يو ًما واح ًدا من أيام االسم‬
‫‪ -‬ص‪ 104-‬سطر‪:7‬كتاب «إشارات القرآن يف عامل اإلنسان»‪ ،‬كنت بحمد الله رشحته بتاممه‪،‬‬
‫وطبع يف دار نينوى بدمشق سنة؛ وأدرجته أيضً ا يف كتاب «رشوح عىل التفسري اإلشاري البن‬
‫عريب(أربعة مجلَّدات‪ ،‬طبعت يف دار عامل الكتب الحديث يف األردن سنة‪.)2017‬‬
‫‪ -‬ص‪ 105-‬سطر‪ :18‬كتاب «مشاهد األرسار القدسيَّة» كنت بحمد الله حقَّقته وأضفت إليه‬
‫مفصل ‪ ،‬مبيّ ًنا مفاتيحه القرآنيَّة الخفيَّة‪.‬‬
‫ً‬ ‫حا‬
‫مق ِّدمته التي كانت مفقودة ومنفصلة عنه‪ ،‬وكتبت عليه رش ً‬
‫وقد طبعته دار الكتب العلميَّة يف لبنان سنة‪.2010‬‬
‫‪ -‬ص‪ :109‬السور التي ذكرها(الكهف‪/‬مريم‪/‬الحج‪/‬املؤمنون) أنّها هي التي ترجع إليها بعض‬
‫جمل من أبواب كتاب «العبادلة»‪ ،‬غري ُم َسـل ّــم‪ .‬أل ّن باإلمكان إرجاع تلك الجمل إىل سور أخرى‬ ‫ُ‬
‫لكل أبواب هذا الكتاب مب ّي ًنا مرجع َّيتها‬
‫مفص ًل ِّ‬
‫ريا َّ‬
‫حا كب ً‬
‫قد تكون هي األنسب لها‪ .‬وقد كتبت رش ً‬
‫القرآن َّية‪ ،‬وطبع يف دار نينوى بدمشق سنة‪.2022‬‬
‫ريا هو «الرشح القرآين‬
‫كتبت بحمد الله كتابًا كب ً‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬ص‪:117...109‬كالمه حول كتاب «التجلّيات»‪:‬‬
‫نت فيه مرجعيَّة تلك التجلّيات (عددها ‪ )109‬إىل آيات من سورة البقرة‪ .‬وقد‬
‫لكتاب التجلّيات»‪ ،‬وبيّ ُ‬
‫طبع يف دار عامل الكتب الحديث يف األردن سنة‪.2017‬‬
‫التجل‪ :83‬الصحيح هو الرقم ‪.82‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ص‪ 117-‬سطر‪ :12‬رقم‬
‫‪ -‬ص‪ 118-‬سطر‪ /20‬التهميش رقم‪ 46‬ص‪:192‬كأ ّن املؤلِّف يشري إىل قول من قال إ ّن أبواب‬
‫املنازالت متناسبة مع فواتح السور النورانيَّة أو سورها‪ ،‬وهو نفسه ما قاله «شارل أندري جليس» يف‬
‫خاص‪ ،‬ويف كتاب «رشوح‬ ‫ٍّ‬ ‫بحث له‪ .‬وهذا خطأ‪ .‬وقد بيّ ّنا الرتتيب الصحيح لهذه األبواب يف بحث‬
‫عىل التفسري اإلشاري البن العريب»‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫حقول التنظير‬

‫‪ -‬ص‪122-‬آخر سطر‪ :‬الباب‪ 405‬يف الفتوحات يرجع يف فصل املنازالت إىل سورة «يس» ‪ :‬هذا‬
‫غري صحيح‪ ،‬بل يرجع إىل سورة القصص‪ ،‬وبالضبط إىل اآلية‪»:57‬أو مل منكّن لهم حرما آمنا يُجبى‬
‫كل يشء رزقا من لدنّا»‪ .‬أ ّما املنازلة املناسبة لسورة «يس» فلها الباب ‪ 446‬من الفتوحات‪.‬‬
‫إليه مثرات ّ‬
‫‪ -‬ص‪ 187-‬سطر‪ :17‬قوله إ ّن «حافظ» وزراء املهدي هو عيىس‪ -‬عليه السالم‪ -‬غري ُم َسلــَّم؛ أل َّن‬
‫إل واح ًدا منهم‪ .‬ومن املعروف أ ّن عيىس عندما ينزل‬ ‫الشيخ قال يف الباب‪ 366‬إنَّهم يُقتلون كلُّهم َّ‬
‫مقتول‪ ،‬وإمنا ميوت ميتة طبيع َّية‪ ،‬ويُدفن مع رسول الله‪ -‬صىل الله عليه‬ ‫ً‬ ‫يف آخر الزمان ال ميوت‬
‫وسلم‪ -‬يف مقامه الرشيف باملدينة املن ّورة‪ .‬وال ّراجح أ ّن هذا «الحافظ» الوزير التاسع هو الخرض‪-‬‬
‫عليه السالم‪ ،-‬وهو الذي ذكر الشيخ اسمه مبارشة بعد ذكره لقتل الوزراء اآلخرين‪ ،‬الذين لهم عالقة‬
‫روح َّية مبارشة بفتية الكهف وكلبهم الحارس لهم‪.‬‬
‫‪ 3-‬كتاب «ابن عريب أو البحث عن الكربيت األحمر»[[[ لكلود عدّ اس‬
‫طبعة أوىل سنة ‪1989‬‬
‫ميا‬
‫متفش قد ً‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫توف الشيخ أبو مدين‪ :‬سبق بيان أ َّن هذا خطأ‬ ‫‪ -‬صفحة ‪ 89-‬سطر‪ :24‬سنة ‪594‬‬
‫وحديثًا عند غالب من تكلَّموا عن الشيخ أيب مدين‪ .‬لكن ابن عريب أعطى يف عنوان الباب ‪ 556‬من‬
‫الفتوحات السنة الصحيحة لهذه الوفاة‪ ،‬وهي سنة ‪589‬هـ‪.‬‬
‫إل بالنسبة‬
‫يصح َّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ص‪ 91-‬سطور‪ :19...5:‬هذا الكالم عن إمكانيَّة تع ُّدد الشيوخ عند املريد ال‬
‫رصح به الشيخ يف‬‫ربك‪ ،‬أ َّما صحبة الرتبية والرتقية فال تكون إلَّ مع شيخ واحد‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫إىل صحبة الت ّ‬
‫آخر الباب ‪ 181‬من الفتوحات‪ ،‬وهو يف معرفة مقام الشيوخ‪ ،‬فقال‪ [:‬واألصل أنه كام مل يكن وجود‬
‫العامل بني إلهني‪ ،‬وال املكلف بني رسولني مختلفي الرشائع‪ ،‬وال امرأة بني زوجني‪ ،‬كذلك ال يكون‬
‫املريد بني شيخني إذا كان مريد تربية‪ .‬فإن كانت صحبة بال تربية فال يبايل بصحبة الشيوخ كلّهم‪ ،‬ألنه‬
‫ليس تحت حكمهم‪ ،‬وهذه الصحبة تس َّمى «صحبة الربكة»‪ ،‬غري أنه ال يجي‏ء منه رجل يف طريق الله]‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 102-‬سطور‪:30....25‬حول وجود ورثة محمديني كُ ّمل بعد الشيخ األكرب‪ :‬تنظر املالحظة‬
‫السادسة حول كتاب «خاتم األولياء» لـ»شودكيفيتش»‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 105-‬التهميش الثالث‪ :‬سنة وفاة الحكيم الرتمذي‪ :‬تنظر املالحظة الثانية حول كتاب‬
‫«خاتم األولياء» لـ»شودكيفيتش»‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :112‬الكالم عن زوجات الشيخ‪ :‬ميكن إضافة ما ذكره الشيخ يف كتابه»األجوبة العرب َّية‬
‫يف رشح النصائح اليوسف َّية»(طبعة دار الكتب العلم َّية‪ -‬لبنان‪ -‬سنة‪2010-‬ص‪ )217.‬عن زواجه من‬
‫أخت ملك كبري‪ .‬لكنه مل يذكر من هو هذا امللك‪ ،‬وال زمان وال مكان هذا الزواج‪ .‬ومن ال ّراجح أن‬

‫[[[‪ -‬كلود عدَّ اس‪ -‬إبن عريب أو البحث عن الكربيت األحمر‪ -‬ط‪ – 1989 – 1‬نرش خاص‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫سمها بـ»خاتون أ ّم جنان» يف املبرشة التي ذكرتها الكاتبة يف صفحة‪ .110‬ويبدو‬‫تكون هي التي ّ‬
‫من اسمها أنّها من عائلة ملوك السالجقة‪ ،‬وتز ّوجها خالل إقامته الطويلة يف األناضول‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :113‬الكالم عن إمكان َّية نيل املرأة مقام القطب َّية‪ :‬نعم هذا صحيح بالنسبة إىل قطب َّية مقام‬
‫رصح به العديد‬ ‫من املقامات؛ أ ّما مقام الخليفة القطب الغوث الفرد فال يكون إلَّ للرجال‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫من أمئَّة القوم‪.‬‬


‫‪ -‬ص‪ 113-‬سطر‪:17‬قول فاطمة بنت ابن املثنى للشيخ‪»:‬أنا أ ّمك اإلله َّية ونور أ ّمك الرتاب َّية»‪،‬‬
‫ترجمتها الكاتبة هكذا‪:‬‬
‫«‪»Je suis ta mère spirituelle et la lumière de ta mère charnelle‬‬
‫وهذه ترجمة غري صحيحة‪ ،‬أل ّن «نـ ُــور» هو اسم أ ّم الشيخ‪ .‬وهو الخطأ نفسه الذي وقع فيه هرني‬
‫الخلق عند ابن عريب»‪ .‬فالرتجمة الصحيحة هي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫كوربان مل ّا ترجم هذه الجملة يف كتابه»الخيال‬
‫« ‪»Je suis ta mère divine et “Nour” ta mère charnelle‬‬
‫‪ -‬ص‪ 137-‬سطر‪»:5‬بعض أهل الكفر»‪ :‬يوجد خطأ مطبعي لهذه الجملة‪ .‬والصحيح هو‪« :‬بعض‬
‫أهل الفـكـر»‪ .‬فالشيخ األكرب ال يكفِّر أب ًدا أح ًدا منتس ًبا إىل اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 141-‬سطر ‪ :15‬قول الشيخ يف كتابه «روح القدس» عن ابن الصائغ أنه من «املح ّدثني وهو‬
‫يف‬
‫صويف‪ ،‬وهذا من األعجوبات‪ :‬مح ّدث صويف‪ ،‬كربيت أحمر»‪ ،‬ال يعني أنه بلغ يف العرفان الصو ِّ‬
‫شخصا جام ًعا يف‬
‫ً‬ ‫درجة «الكربيت األحمر» كام ظن ّـته املِؤلّفة‪ ،‬وإمنا يعني أ ّن من النادر أ ْن تجد‬
‫للتخصص يف علم الحديث مع سلوك التص ُّوف‪ .‬فعبارة «كربيت أحمر» تعني يف‬ ‫ُّ‬ ‫الوقت نفسه‬
‫الكالم الجاري‪ :‬الحالة النادرة‪ ،‬أي كندرة الكربيت األحمر‪.‬‬
‫خصص الشيخ لها‬ ‫‪ -‬ص‪ :148‬يبدو من كالم الكاتبة عدم التمييز الدقيق بني أرض الحقيقة التي َّ‬
‫الباب الثامن من الفتوحات(وقد رشحنا هذا الباب يف آخر كتاب»الحقائق الوجوديَّة الكربى يف‬
‫رؤية ابن العريب)‪ ،‬واألرض اإلله َّية الواسعة التي تكلَّم الشيخ عنها يف الباب‪ 351‬املتعلِّق بسورة‬
‫وتوسع يف بيانها يف الباب‪ 355‬املتعلّق بسورة العنكبوت الذي عنوانه‪»:‬يف معرفة منزل‬ ‫ّ‬ ‫األحزاب‪،‬‬
‫السبل املولّدة وأرض العبادة واتساعها وقوله تعاىل‪ :‬يا عبادي إ ّن أريض واسعة فإيَّاي فاعبدون‪-‬‬
‫الحق أن تعبده‬ ‫ّ‬ ‫العنكبوت‪ ،»56-:‬وفيه يقول‪[:‬إ ّن أرض بدنك هي األرض الحقيقية الواسعة التي أمرك‬
‫باألخص‬
‫ّ‬ ‫خصص لها الباب الثامن‪ ،‬هي‬ ‫فيها‪....‬الخ]‪ .‬فأرض السمسمة‪ ،‬أو أرض الحقيقة التي ّ‬
‫عبارة عن عامل الخيال الواسع املتصل واملنفصل‪ .‬وهي شعبة من شُ َعب األرض الحقيق َّية اإلله َّية‬
‫األوسع التي هي أرض بدن اإلنسان»‪.‬‬
‫خصص الشيخ له‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬ص‪ :172‬منزل النور الذي دخله الشيخ‪ ،‬هو منزل سور»ص»‪ ،‬الذي‬

‫‪239‬‬
‫حقول التنظير‬

‫رس صدق فيه بعض‬ ‫الباب‪ 346‬املتعلِّق مبنزل سورة «ص» يف فصل املنازل‪« :‬يف معرفة منزل ّ‬
‫رس حرف «ص» الذي يعتربه‬ ‫العارفني فرأى نوره كيف ينبعث من جوانب ذلك املنزل»‪ .‬ويعـني بال ّ‬
‫الشيخ رم ًزا ألمور عدة‪ ،‬من أه ّمها الصدق‪ .‬ويف تعريفه له يف الباب الثاين قال‪»:‬الصاد حرف‬
‫رشيف*** والصاد يف الصاد أصدق»‪ .‬وعنوان منازلة هذه السورة يف كتاب «الرتاجم» عنوانها‬
‫‪»:‬ترجمة انبعاث نور الصدق»‪ .‬وكالمه يف الباب ‪ 346‬عن الفرق بني األجسام واألجساد مرجعه‬
‫لآلية ‪34‬من سورة»ص»‪[:‬ولقد فتنـّا سليامن وألقينا عىل كرسيّه جسدا ث ّم أناب]‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 308-‬سطر‪ :22‬السورة التي تجلَّت له يف حلب هي سورة «اإلخالص»‪ :‬هذا غري صحيح‪،‬‬
‫وإمنا هي سورة «الزمر» التي تك ّرر فيها ذكر اإلخالص‪ ،‬أل ّن الباب الذي ذكر الشيخ فيه هذه الواقعة‬
‫هو الباب‪ 345‬من الفصل الرابع‪ ،‬فصل منازل السور من الفتوحات‪ ،‬وهو الباب املتعلّق بسورة‬
‫الزمر‪ .‬أ َّما منزل سورة اإلخالص فله الباب‪ .272‬لكن الكاتبة معذورة يف هذا الخطإ‪ ،‬ألنها مل ّا كتبت‬
‫هذا الكتاب مل تكن تعلم أ ّن أبواب الفصل الرابع ‪ -‬التي عددها ‪ 114-‬راجع إىل سور القرآن‪،‬‬
‫لكل باب سورة‪ ،‬انطالقًا من الباب ‪ 270‬املتعلق بسورة «الناس»‪ ،‬وصعو ًدا حسب ترتيب السور يف‬
‫املصحف إىل الباب ‪ 383‬املتعلق بالفاتحة‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :310‬قول الكاتبة إ ّن زينب بنت الشيخ كانت قادرة عىل إصدار الفتاوى وهي ال تزال‬
‫إل م ّرة واحدة‬
‫رضيعة‪ :‬يف هذا الكالم مبالغة كبرية‪ .‬فالشيخ مل يذكر ما وقع لها بطريق خرق العادة َّ‬
‫ربا‬
‫فقط‪ .‬ومل يكن ذلك عادة لها بتات ًا‪ ،‬ولهذا غيش عىل ج ّدتها مل ّا سمعت كالمها الغريب‪ .‬بل ّ‬
‫هي نفسها نطقت مبا مل تكن واعية به‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 319-‬سطر‪ :20‬قول الكاتبة إ َّن الشيخ يف آخر حياته فضّ ل ذكر «ال إله إال الله» عىل ذكر‬
‫جريه‬
‫بي الشيخ يف الباب‪ 464‬الخاص بحال قطب ه ّ‬ ‫االسم األعظم «الله»‪ :‬هذا غري صحيح‪ .‬نعم ّ‬
‫«ال إله إال الله»‪ ،‬ما تتميّز به كلمة التوحيد من معنى ال يوجد يف االسم املفرد «الله»‪ .‬لكن هذا ال‬
‫يعني بتات ًا أ ّن ذكرها أفضل من ذكره‪ .‬ونصوص الشيخ يف أفضليّة الذكر باسم الجاللة الجامع»الله»‬
‫مثل يف األبواب التالية من الفتوحات‪:‬‬
‫كثرية ج ًّدا يف الفتوحات‪ ،‬ورسالة األنوار وغريها‪ .‬ينظر هذا ً‬
‫الباب ‪ 142‬وفيه يقول‪ [:‬وقال صىل الله عليه وسلم‪»:‬ال تقوم الساعة حتى ال يبق عىل وجه األرض‬
‫الخاصة من عباده‪ ،‬الذين يحفظ‬
‫ّ‬ ‫من يقول‪ :‬الله الله»‪ ،‬فام قيّده بأمر زائد عىل هذا اللفظ‪ ،‬ألنه ذكر‬
‫الله بهم عامل الدنيا‪ ،‬وكل دار يكونون فيها‪ ،‬فإذا مل يبق يف الدنيا منهم أحد مل يبق للدنيا سبب‬
‫حافظ يحفظها الله من أجله‪ ،‬فتزول وتخرب]‪ ...‬ويف الباب ‪ ...[:361‬وما يف فوائد األذكار أعظم‬
‫فائدة منه‪ ...]...‬ويف الفصل الرابع من الباب‪[: 371‬وهو الذكر األكرب الذي قال الله فيه‪« :‬ولذكر‬
‫الله أكرب»‪-‬العنكبوت‪ .45-:‬فام قال الرسول‪ -‬صىل الله عليه وسلم‪ -‬من يقول‪« :‬ال إله إال الله»‪.‬‬
‫الساعة‪ ،‬فتنشق‬‫ض آخ ًرا ‪-‬أي‪ :‬آخر قطب خليفة‪ ، -‬وتقوم ّ‬ ‫فهذا االسم هو ِهـ ّ‬
‫جري هذا اإلمام الذي يُقبَ ُ‬
‫السامء‪ .‬فإ ّن هذا وأمثاله كان ال َع َمد‪ ،‬ألن الله ما أمسكها إلَّ من أجله أن تقع عىل األرض]‪ ...‬ويف‬

‫‪240‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫الباب ‪ 463‬الذي خصصه ملعرفة االثني عرش قطبًا الذين يدور عليهم عامل زمانهم‪ ،‬يقول عنهم‪:‬‬
‫جـريهم ‪ -‬أي ذكرهم الدائم املتواصل‪ -‬واحد وهو‪« :‬الله الله»‪ ،‬بسكون الهاء وتحقيق الهمزة‪،‬‬ ‫[و ِهـ ّ‬
‫ما لهم ِه ّ‬
‫جري سواه]‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ :335‬قول الكاتبة إ َّن السلطان نفى الشيخ عز ال ّدين إىل مرص مخالف ملا قاله مؤ ِّرخون‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫آخرون‪ ،‬وهو أ َّن السلطان مل ينف عز ال ّدين‪ ،‬بل ع ّز الدين هو الذي خرج مغاض ًبا عليه‪ ،‬واستعطفه‬
‫السلطان‪ ،‬فلم يقبل منه ع ّز الدين والتحق مبرص‪.‬‬
‫[[[‬
‫‪ - 4‬كتاب «ابن عريب والسفر بال عودة»‬
‫‪ -‬ص‪ :45‬قول الكاتبة إ َّن الشيخ أكّد عىل أ َّن أهل الترصيف يف ديوان األولياء هم من األفراد‬
‫نصا قال الشيخ فيه هذا الكالم‪ .‬بل العكس هو الصحيح بالنسبة إىل األفراد‬ ‫املالميَّة‪ :‬ال أعرف ًّ‬
‫الذين قال عنهم يف الباب‪[ :73‬وال عدد يحرصهم‪...‬وهم رجال خارجون عن دائرة القطب]‪ .‬بينام‬
‫كل طبقة أيضً ا لهم عدد ال يزيد‬
‫املنضوون ضمن دوائر القطب لهم طبقات محصورة العدد‪ ،‬وأهل ّ‬
‫فصله الشيخ يف هذا الباب ‪ .73‬وميكن لبعضهم أن يكونوا من‬ ‫كل زمان‪ ،‬حسبام ّ‬ ‫وال ينقص يف ِّ‬
‫أل يكونوا منهم‪.‬‬ ‫املالميَّة‪ ،‬كام ميكن َّ‬
‫‪ -‬ص‪57-‬السطر قبل األخري‪« :‬دخل الشيخ إىل أرض الله الواسعة سنة ‪ :»1190‬التاريخ الصحيح‬
‫هو آخر سنة ‪ ،1193‬أو بدايات سنة ‪1194‬م‪590/‬هـ‪ .‬حسبام ذكره الشيخ يف الباب‪ 351‬من الفتوحات‪.‬‬
‫وقد ناقضت الكاتبة نفسها‪ ،‬فعادت إىل ذكر هذه الواقعة يف صفحة ‪ 59‬فجعلتها سنة ‪ .1193‬وعن‬
‫هذه الواقعة ووجوب التمييز بني أرض الخيال الواسعة وأرض البدن األوسع‪ ،‬يرجع إىل ما سبق‬
‫ذكره يف املالحظة الثامنة حول كتابها السابق‪.‬‬
‫نبوي‪ :‬هذا غري صحيح‪ ،‬وإمنا‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ص‪:85‬تقول الكاتبة إ ّن كلمة»هباء» نسبها الشيخ إىل حديث‬
‫يل بن أيب طالب‪ -‬ريض الله عنه‪ ،-‬وذلك يف الباب السادس من الفتوحات حيث يقول‬ ‫نسبها إىل ع ٍّ‬
‫عن الهباء‪[:‬وهذا هو أ ّول موجود يف العامل وقد ذكره عيل بن أيب طالب ‪ -‬ريض الله عنه‪ -‬وسهل بن‬
‫عبد الله‪ -‬رحمه الله‪ -‬وغريهام من أهل التحقيق أهل الكشف والوجود]‪.‬‬
‫[[[‬
‫‪ - 5‬ترجمة أبواب من «الفتوحات املكّ َّية البن عريب»‬
‫العلمة‬
‫املالحظات التالية ال تتعلَّق إلَّ بالفصل الثامن من هذا الكتاب‪ ،‬الذي ترجم فيه األستاذ َّ‬
‫الكبري دنيس كريل فقرات من الباب الثاين من «الفتوحات»‪ ،‬يف علم الحروف‪ ،‬وهي ترجمة ممتازة‬
‫كسائر ترجامته وبحوثه‪.‬‬

‫[[[‪ -‬كلود عدَّ اس‪ -‬إبن عريب والسفر بال عودة – دار الساي – باريس – فرنسا – ‪.1996‬‬
‫[[[‪ -‬أبواب من الفتوحات املكِّية – مجموعة باحثني – إرشاف‪ :‬ميشال شودكيفيتش – دار سندباد دمشق – ‪.1988‬‬

‫‪241‬‬
‫حقول التنظير‬

‫‪ -‬ص ‪ 440-‬السطر قبل األخري‪ :‬عدد أفالك الربودة واليبوسة هو ‪ .88‬هذا هو العدد املذكور‬
‫نقل من مخطوط قونيه‪ .‬لكن الحساب الصحيح يعطي العدد‪،38:‬‬ ‫بالفعل يف مطبوعات الفتوحات‪ً ،‬‬
‫وهو العدد املذكور يف نسخة بايزيد‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 449-‬السطر‪ :20‬قوله‪« :‬ورأس الباء»‪ -‬بنقطة واحدة يف أسفلها‪ :-‬هذا هو الحرف املذكور‬
‫بالفعل يف مطبوعات الفتوحات‪ ،‬لكن الصواب الذي ال ريب فيه هو‪»:‬رأس الـياء»‪ -‬بنقطتني يف‬
‫أسفلها‪ ،-‬وهو املذكور يف نسخة بايزيد‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 451-‬السطر‪:18/17‬أفالك املالئكة تسعة‪ ،‬وأفالك الجن عرشة‪ :‬الصواب هو العكس‪،‬‬
‫أي‪ :‬أفالك الجن تسعة‪ ،‬وأفالك املالئكة عرشة‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 499-‬امللحق رقم‪ :162‬قال الكاتب إ ّن بني آدم ومحمد‪ -‬عليهام الصالة والسالم‪-‬‬
‫‪78000‬سنة‪ :‬مل يقل الشيخ هذا‪ ،‬وإمنا قال إ ّن هذه م ّدة دورة الزمان‪ ،‬أي م ّدة حكم الربوج االثني‬
‫عرش يف العامل‪ ،‬أي م ّدة دورة واحدة لفلك الربوج‪ .‬أ ّما امل ّدة الرمزيَّة بني آدم ومحمد ‪ -‬عليهام‬
‫الصالة والسالم‪ -‬فهي سبعة آالف سنة‪ ،‬وهي التي ذكرها الشيخ يف نصوصه األخرى‪ ،‬حيث يقول إ ّن‬
‫آدم خـُلق عند مطلع برج السنبلة الذي حكمه ‪ 7000‬سنة‪ ،‬وبُعث النبي‪ -‬صىل الله عليه وسلم‪ -‬عند‬
‫مطلع برج امليزان التايل للسنبلة‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 629-‬سطر‪ :15‬يتساءل الكاتب‪ :‬من هو هذا املحقِّق الذي ذكر كلمة «اإلنسان األزيل»؟‬
‫الجواب هو العارف الكبري ابن العريف الصنهاجي يف خطبة كتابه «محاسن املجالس»‪ ،‬يف قوله‬
‫نسب‬‫الذي ك َّرره الشيخ يف الفتوحات‪ ،‬واستشهد به يف بداية الباب الثالث‪[:‬ليس بينه وبني العباد َ‬
‫حكم‪ ،‬وال وقت غري األزل]‪ .‬فقوله‪« :‬وال وقت غري األزل»‪ ،‬يشري به إىل‬ ‫إل ال ُ‬
‫إل العناية‪ ،‬وال سبب َّ‬
‫َّ‬
‫اإلنسان األزيل‪ ،‬أي عينه الثابتة يف األزل قبل وجوده الخلقي املق ّيد‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 622-‬رقم‪ 223‬يف السطر‪ :5‬الحروف التي يتساءل عنها الكاتب هي الحروف الواقعة‬
‫ونزول حسب ترتيب‬
‫ً‬ ‫يف آخر كل كلمة أخرية من السور‪ ،‬بداية من حرف «ن» يف آخر الفاتحة‪،‬‬
‫السور‪ ،‬وانتهاء بحرف «س» من سورة الناس‪.‬‬
‫‪ -‬ص‪ 624-‬رقم‪ :245‬إمنا اعترب الشيخ حرف «ن» آخر الحروف‪ ،‬من حيث أنَّها آخر الحروف‬
‫املقطعة الفاتحة للسور‪ ،‬وأولها فاتحة البقرة‪« :‬امل»‪ .‬وهي أيضً ا آخر حرف من الفاتحة‪ ،‬وهي آخر‬
‫حرف من لفظة «سني»‪ ،‬وحرف «س» هو آخر حرف يف القرآن‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫تصويبات منهجية لمدوِّنات ميشال ودكيفيتش حول إبن عربي‬

‫قائمة املصادر واملراجع‬


‫‪1.1‬أبواب من الفتوحات املكِّية – مجموعة باحثني – إرشاف‪ :‬ميشال شودكيفيتش – دار سندباد‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫دمشق – ‪.1988‬‬

‫‪2.2‬خاتم األولياء للشيخ محيي الدين إبن عريب – تحقيق ميشال شودكيفيتش‪ -‬دار غاليامر –‬
‫باريس‪.1986 -‬‬

‫‪3.3‬كلود ع َّداس‪ -‬إبن عريب أو البحث عن الكربيت األحمر‪ -‬ط‪ – 1989 – 1‬نرش خاص‪.‬‬

‫‪4.4‬كلود ع َّداس‪ -‬إبن عريب والسفر بال عودة – دار الساي – باريس – فرنسا – ‪.1996‬‬

‫‪5.5‬ميشال شودكيفيتش‪ -‬محيط بال ساحل – دار الساي‪ -‬باريس‪ -‬فرنسا – ‪.1992‬‬

‫‪243‬‬
‫التصوف‬
‫ُّ‬ ‫سوسيولوجيا‬
‫مبتدأ التشكل وسريورة التمثُّل يف العامل اإلسالمي‬

‫القاسم‬ ‫نز‬
‫ك�ة‬
‫ي‬
‫ث‬
‫واألن�وبولوجيا جامعة ابن زهر ‪/‬أغادير‪ -‬المغرب‬ ‫أستاذة علم االجتماع‬

‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ص‬ ‫ملخ‬
‫ال� تتباين طقوسها‬‫ت‬ ‫ُّ‬ ‫ف ِّ‬ ‫ُّ‬
‫التصوف ي� كل الديانات‪ ،‬هو أحد أشكال التدين ي‬
‫َّ‬
‫األيديولوجية من مجتمع إىل آخر‪ ،‬ومن ديانة إىل أخرى‪،‬‬ ‫وأفكارها ومواقفها‬
‫ت‬
‫محددات ف�ة حضارية معينة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وكذا من‬

‫ف ف‬
‫الصو�" ي�‬
‫ي‬ ‫ومن معاينتنا اإلجمالية لما يمكن أن نسميه بـ "اإلجتماع‬
‫دي البسيط‪ ،‬إىل‬ ‫التعب ِّ‬
‫ُّ‬ ‫واإلسالمية ‪ -‬من ظاهرة الزهد‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫العربية‬ ‫المجتمعات‬
‫ِّق‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ف ِّ‬ ‫ُّ‬
‫الطر� الذي‬ ‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫الوجودي‪ ،‬ثم بصورة خاصة‬ ‫الفلس�‬
‫ي‬ ‫التصوف‬ ‫ظاهرة‬
‫ً ف‬ ‫ج ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ين‬ ‫يحتل مكانة َّ‬
‫ُّ‬
‫واأليديولو� ‪ ...‬نالحظ تباينا ي�‬
‫ي‬ ‫السياس‬
‫ي‬ ‫المستوي�‬ ‫هامة عىل‬
‫َّ‬
‫المفاهيم والمواقف والتمثالت واألدوار ‪...‬‬
‫ف‬
‫تسىع هذه الدراسة اىل بيان مواضع المفارقة والمشاركة ي� اجتماعيات‬
‫ت‬ ‫ف‬
‫ال� انطوت‬‫اإلسالم‪ ،‬كما تعرض اىل األنماط المتعددة ي‬
‫ي‬ ‫التصوف ي� الفضاء‬
‫عليها تلك االجتماعيات‪ ،‬وأثر ذلك كله عىل ّ‬
‫التنوع الذي امتازت بها الظاهرة‬
‫الصوفية ف ي� عالمنا‪.‬‬

‫* * *‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬ث‬ ‫مفردات‬
‫الطرقية‪-‬‬ ‫التصوف‪-‬‬ ‫أن�وبولوجيا التصوف‪ -‬الزهد‪-‬‬
‫ُّ‬
‫التدين‪.‬‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمية‪-‬‬ ‫المجتمعات‬
‫التصوف‬
‫ُّ‬ ‫سوسيولوجيا‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬كام عرف مجموعة من الطقوس واألفكار‬ ‫ِّ‬ ‫عرف التص ُّوف مسارات عديدة يف العامل‬
‫واملامرسات‪ ،‬التي تباينت من محطة سوسيوتاريخ َّية إىل أخرى‪ .‬فقد بدأ عىل شكل زهد وتع ُّبد بسيط‬
‫يف عهد الخالفة الراشدة‪ ،‬لينتهي به الوضع يف عرص املثاقفة وبعد الفتوحات واحتضان الدولة اإلسالم َّية‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ثوري حي ًنا‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫وجودي مح َّمل مبفاهيم ودالالت ذات بعد‬
‫ٍّ‬ ‫ملختلف الثقافات واألجناس‪ ،‬إىل تص ُّوف‬
‫ثوري إىل تص ُّوف طُ ُر ّ‬
‫قي‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫فلسفي‬
‫ٍّ‬ ‫يل حي ًنا آخر‪ .‬وبعد تصديره إىل دول مجاورة انتقل من تص ُّوف‬
‫وانعزا ٍّ‬
‫َّ‬
‫وجودية‪:‬‬ ‫التصوف يف املجتمعات املسلمة‪ ،‬من البدايات ُّ‬
‫التعبدية إىل املفاهيم‬ ‫ُّ‬ ‫‪-1‬‬
‫كانت البدايات األوىل للتص ُّوف‪ ،‬كأحد أشكال التديُّن‪ ،‬عبارة عن “زهد” مرتبط بالعقيدة الدينيَّة‬
‫بالتفلسف املتع ِّدد املرجعيَّات‬
‫ُ‬ ‫يتأسس عىل الشعائر والعبادات‪ ،‬وال عالقة له‬ ‫ظل إسالم َّ‬ ‫يف ِّ‬
‫للحضارات املجاورة‪.‬‬
‫وقد ات َّخذ الزهد منحى سلوك ًّيا يرتكز عىل املغاالة يف التقشُّ ف والصوم والصالة‪ ،‬لك َّنه بعد‬
‫الدموي بني املسلمني‪ ،‬ألسباب سياس َّية ال تخلو‬‫ِّ‬ ‫مقتل الخليفة عثامن بن عفان‪ ،‬واندالع االقتتال‬
‫السيايس عرب معارضة هذا االقتتال‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫من مصالح قبل َّية‪ ،‬انتقل إىل مرحلة تب ّني املوقف من الرصاع‬
‫وعدم االنخراط فيه‪ ،‬والحياد عنه‪ ،‬فكانت النتيجة عزلة اجتامع َّية وسياس َّية مع اإلبقاء عىل املامرسة‬
‫التع ُّبدية السالف ذكرها‪.‬‬
‫بعد انتهاء عهد الخالفة الراشدة‪ ،‬وترسيم االنتقال إىل الدولة األمويَّة التي واصلت توسيع املجال‬
‫يف‪ ،‬الذي ات َّسم باملثاقفة عرب ض ِّم شعوب الحضارات املجاورة إىل رقعة‬
‫يف والجغرا ِّ‬
‫الحضاري والثقا ِّ‬
‫ِّ‬
‫مركزي للفئة الحاكمة‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫جه‬
‫اإلثني كتو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫السيايس واالقصاء‬
‫ِّ‬ ‫الحضارة اإلسالم َّية‪ ،‬لوحظ نوع من االستبداد‬
‫دي محايد يف مرحلة أوىل‪ ،‬ومعارض عرب العزلة‬ ‫ضمن هاته املحطَّة‪ ،‬انتقل الزهد كتديُّن تعبُّ ٍّ‬
‫السياسية يف مرحلة ثانية‪ ،‬إىل االنخراط الواضح يف املعارضة السياسيَّة للعنرصيَّة اإلثنيَّة‪ ،‬وتراكم‬
‫الرثوات لفئة تشكِّل األقليَّة‪ ،‬مقابل تفقري األغلبيَّة‪ ،‬وضمنها النخبة املثقَّفة‪ .‬فكانت هذه النقلة من‬
‫املس َّمى «زه ًدا» إىل املسمى «تص ُّوفًا»[[[‪ ،‬ظاهرة تدينيَّة يف العامل اإلسالمي رافقت التح ُّوالت‬
‫يف‪ ،‬شملت احتضان األمرباطورية اإلسالميَّة‬ ‫واالجتامعي والثقا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫السيايس‬
‫ِّ‬ ‫الجذريَّة عىل املستوى‬
‫فكري يستم ُّد مرجعيَّاته‬
‫ٌّ‬ ‫وإثني‪ ،‬وسيادة رشوط اجتامعيَّة وسياسيَّة مستجدة رافقها غليان‬ ‫ٍّ‬ ‫لتع ُّد ٍد ثقا ٍّ‬
‫يف‬
‫جا‪ ،‬بدأت تظهر‬ ‫من الثقافات املستد َمجة عرب الفتوحات اإلسالميَّة ودخول إثنيَّات متن ِّوعة[[[‪ .‬وتدري ً‬
‫مالمح «التص ُّوف» كظاهرة تديُّنيَّة تكتيس أبعا ًدا ترتبط باملعارضة الفلسفيَّة للمق َّدسات الرسميَّة من‬

‫[[[‪ -‬حسني مروة‪ ،‬النزعات املادية يف الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬دار الفارايب‪ ،1985 ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬صص ‪152-151‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد أمني‪ ،‬ظهر اإلسالم‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،2004 ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.47‬‬

‫‪245‬‬
‫حقول التنظير‬

‫فهم للعقيدة إىل املامرسة السياسيَّة السائدة‪ .‬بل أصبح مواقف أيديولوجيَّة[[[ و فلسفيَّة تنزاح عن‬
‫تلك املق َّدسات لتعارضها وتتبنى البديل منها‪.‬‬
‫وقد رسم التص ُّوف يف تح ُّوله هذا مسارين‪:‬‬
‫‪ -‬املسار األول‪ :‬مرتبط بإعادة تأويل القرآن الكريم ألجل تقديم أفهام جديدة تتامىش مع‬
‫مرجع َّياتهم الفكريَّة‪.‬‬
‫‪ -‬املسار الثاين‪ :‬مساوق لألول‪ ،‬وهو التعبري عرب الرفض واملعارضة لواقع َّ‬
‫اللعدالة االجتامع َّية‬
‫الفلسفي ذو األصول‬
‫ُّ‬ ‫أشكال متباينة من التعبري‪ ،‬ولكن مل يغب الوعي‬
‫ً‬ ‫السيايس‪ ،‬متَّخذًا‬
‫ِّ‬ ‫واالستبداد‬
‫سبل جديدة لالنعتاق‪.‬‬
‫الرسمي‪ ،‬ليبدع ً‬
‫ِّ‬ ‫األجنب َّية‪ ،‬والذي مت َّرد عىل الوعي‬
‫مع نهاية القرن الثاين الهجري‪ ،‬واستمرار امتداد األمرباطوريَّة اإلسالمية‪ ،‬اكتسب التص ُّوف‪،‬‬
‫كأحد أشكال التديُّن املرتبط بالعقيدة اإلسالم َّية‪ ،‬ثالثة أبعاد إضاف َّية‪:‬‬
‫املرتسخة يف الدولة اإلسالم َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬البعد األول‪ :‬متثَّل يف العمل للقضاء عىل العصب َّية القبل َّية‬
‫منذ عهد األمويني‪ ،‬تجاه عا َّمة املواطنني اللذين كانوا آنذاك يس ّمون بـ «ال َّرع َّية» يف مقابل مفهوم‬
‫«ال َّراعي» الذي هو الحاكم‪ ،‬أو الفئة الحاكمة‪.‬‬
‫الثيوقراطي للدولة الحاكمة‪ ،‬حيث اعترب الخليفة‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬البعد الثاين‪ :‬تب َّنى العمل عىل تجاوز الطابع‬
‫ممثِّل لله عىل األرض‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬البعد الثالث‪ :‬ارتبط برتسيخ تأثري مرجعيَّات اإلثنيَّات ذات األصول األجنبيَّة‪ ،‬والتي ت َّم احتضانها‬
‫بالدولة اإلسالم َّية عرب الفتوحات‪.‬‬
‫يتبي أ َّن التص ُّوف كأحد أشكال التديُّن املرتبط بالحضارة اإلسالميَّة يف أحد محطَّاتها‪،‬‬
‫من هنا‪َّ ،‬‬
‫واملؤسس ملواقف فكريَّة‬
‫ِّ‬ ‫األيديولوجي املعارض سياسيًّا ومامرسة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫قد ربط العقيدة باملوقف‬
‫تنظرييَّة عرب التأويالت املستج َّدة املعارضة‪ ،‬أو عرب ما كانت تنتجه الشطحات الصوفيَّة من أفكار‬
‫وتعابري غريبة عن املعتاد يف الحضارة العرب َّية اإلسالم َّية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الثوري‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫التصوف‬ ‫‪-2‬‬
‫جه لدى املتص ِّوف ذي‬ ‫إذا كان املواطن مه َّمشً ا مظلو ًما يف املنظومة الرسميَّة السائدة‪ ،‬فإ َّن التو ُّ‬
‫األصول األجنبيَّة آنذاك‪ ،‬قد عمل عىل إعادة االعتبار لذلك اإلنسان عرب مجموعة من اآلليَّات‪ ،‬منها‬
‫خلق تعاليه عىل الذات املحسوسة ليجعله يرتقي عرب مفاهيم مثل «الفناء يف الله»‪ ،‬و«الحلول»‪،‬‬
‫و«وحدة الوجود»‪ ،‬ويت ُّم ذلك عرب روحان َّيات تسبقها تنقية الروح والذات من الشوائب املرتبطة‬
‫باملس َّمى ذنوبًا سياس َّية واجتامع َّية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬حسني مروة‪ ،‬النزعات املادية يف الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬املرجع أعاله ‪ ،‬صص (‪)155-154‬‬

‫‪246‬‬
‫التصوف‬
‫ُّ‬ ‫سوسيولوجيا‬

‫الهجري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫البسطامي‪ ،‬أحد املتص ِّوفة املعروفني من القرن الثالث‬
‫ُّ‬ ‫يف هذا السياق‪ ،‬حاول أبو يزيد‬
‫الوصول إىل «االتحاد» عرب مفهوم «الفناء»‪ ،‬حتى أنَّه يف أحد شطحاته الصوفيَّة‪ُ ،‬سمع وهو ير ِّدد‪:‬‬
‫«سبحاين ما أعظم شأين»[[[‪ ،‬إىل غريها من العبارات الغريبة عن الثقافة اإلسالم َّية آنذاك‪.‬‬
‫والسيايس‪ ،‬فتم َّرد عليه‪ ،‬ولكنه مل يستطع أن يغيِّ منه‬
‫َّ‬ ‫االجتامعي‬
‫َّ‬ ‫لقد رفض املتص ِّوف واقعه‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫عمل ًّيا‪ ،‬فأنتج فك ًرا يضا ُّده مفاهيم ًّيا‪ ،‬بل خلق عربه عوامل متعالية عىل الواقع وعىل األفهام البسيطة‬
‫حقيقي عىل أرض‬
‫ٍّ‬ ‫السائدة‪ ،‬وهو ما جعل البعض يعتربها «ثورة عدم َّية» ال ترقى إىل إحداث تغيري‬
‫الواقع‪.‬‬
‫يحس بإمكانيَّة تحقيق‬ ‫َّ‬ ‫فمحاولة الهروب من الواقع جعله يخضع ذاته لتامرين التنقية ليك‬
‫تجارب «االتحاد والحلول»‪ ،‬حيث يفقد الوعي أحيانًا‪ ،‬ويعيش تجارب روحانيَّة فريدة من نوعها‪،‬‬
‫إل من يعيشها‪...‬فأنتج عرب هاته التجارب ومن خاللها تص ُّورات‬ ‫هي تجارب وجوديَّة ال يفهمها َّ‬
‫خاصا بفئة املتص ِّوفة‬
‫ًّ‬ ‫وتفلسفًا حي ًنا آخر‪ ،‬كام اعتربت تديُّ ًنا‬
‫ُ‬ ‫ومفاهيم اعتُربت شطحات صوفيَّة حي ًنا‬
‫يف ذلك العرص‪...‬‬
‫البسطامي الذي عكس موقفه من أحداث‬
‫ِّ‬ ‫وإذا كان مفهوم «الفناء يف الله» هو معتقد أيب يزيد‬
‫الحلج (‪ 244-309‬هجريَّة)[[[‪،‬‬
‫َّ‬ ‫عرصه‪ ،‬فإ َّن مفهوم «وحدة الوجود» هو معتقد حسني بن منصور‬
‫وعربه نرش معتقده يف كون الله هو الحقيقة الوحيدة يف الكون‪ ،‬وهي املتجلِّية عرب مجموعة من‬
‫الوقائع‪ ،‬ومقولته املشهورة‪« :‬أنا الحق» تعكس معتقده السالف ذكره‪.‬‬
‫اإللهي» كمعتقد انتهى به إىل مفهوم آخر هو «الفناء يف الله»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫كام تبنى الحلَّ ج مفهوم «الحب‬
‫ث َّم «وحدة الوجود»‪ ،‬ث َّم «وحدة الديانات»‪ ،‬فها هو يقول‪:‬‬
‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا‬
‫نحن روحان حللنا بدنا‬
‫فإذا أبرصتني أبرصته‬
‫[[[‬
‫و إذا أبرصته أبرصتنا‬
‫كام نجده يقول‪:‬‬
‫َ‬
‫وحبــك مقــرو ٌن بأنفــايس‬ ‫إل‬
‫َّ‬ ‫نفـس وال غــربت‬
‫ٌ‬ ‫والله ما طلعت‬
‫وأنت حديـــثي بني جلَّ يس‬
‫َ‬ ‫إلَّ‬ ‫وال خلــوتُ إىل قــوم أح ّدثهــم‬
‫[[[‪ -‬عبد الرحامن البدوي‪ ،‬شطحات الصوفية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار النرش وكالة املطبوعات‪ ،1976 ،‬الكويت‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد أمني‪ ،‬ظهر اإلسالم‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪[3]- Sami Ali, Poèmes Mystiques d’Al Hallaj, Albin Michel, Spiritualités vivantes, 1998, Paris, p. 115.‬‬

‫‪247‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وأنــت بقلـبي بني وسوايس‬


‫َ‬ ‫إل‬
‫َّ‬ ‫حا‬
‫وال ذكرت ُــك محــزونًا وال فــر ً‬
‫[[[‬
‫خيال َ‬
‫منك يف كايس‬ ‫ً‬ ‫إل رأيت‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫عطش‬ ‫هممت برشب املاء من‬
‫ُ‬ ‫وال‬
‫توسع األمرباطوريَّة‬
‫الفكري الح ِّر‪ ،‬و بعد ُّ‬
‫ِّ‬ ‫وعليه‪ ،‬ميكننا اعتبار أنَّه خالل فرتة املثاقفة والغليان‬
‫اإلسالم َّية واحتضانها إلثن َّيات ومرجع َّيات فلسف َّية عديدة ومتن ِّوعة‪ ،‬فقد انخرط التص ُّوف كأحد‬
‫أشكال التديُّن بالحضارة اإلسالم َّية‪ ،‬وأبدع مفاهيم ومعتقدات‪ ،‬شكَّلت عودة التديُّن إىل العامل‬
‫يل لإلنسان‪ ،‬أثناء تجربة روحان َّية فريدة من نوعها‪ ،‬تُعاش وال تُحىك تفاصيلها الدقيقة‪ ،‬فهي‬ ‫الداخ ِّ‬
‫متس‬
‫َّ‬ ‫تجربة روحان َّية تبدأ مساراتها عرب تنقية الروح والبدن من شوائب الخطايا التي ميكن أن‬
‫باآلخر‪ ،‬كيفام كان‪ ،‬وتبدأ عمل َّية التنقية للروح عرب الخلوة و التأ ُّمل والتع ُّبد والتفكُّر واالبتعاد عن‬
‫ين الذي يؤ ّدي إىل إبداع‬
‫اإلساءة أو املشاركة فيها‪ ،‬لتصل إىل اإلحساس بالنقاء واالرتقاء الروحا ِّ‬
‫مفاهيم ومعتقدات روحان َّية‪ ،‬عالقتها بالواقع املحسوس والفرد من عا َّمة الناس‪ ،‬تتلخَّص يف رفض‬
‫اللعدالة االجتامع َّية التي يرفضها املتص ِّوف وال يتواطأ مع داعميها‪،‬‬ ‫الواقع املعيش‪ ،‬حيث تسود َّ‬
‫بل يتعاىل عرب روحان َّيات تعيد يف نظره االعتبار لإلنسان‪/‬الفرد‪ ،‬من خالل تجارب الحلول والفناء‬
‫ووحدة الوجود ووحدة األديان‪...‬‬
‫أسس تديُّنا ينتمي إىل‬
‫بذلك نخلص إىل أ َّن التص ُّوف ما بني القرنني الثاين والخامس الهجريني)‪َّ ،‬‬
‫السيايس عرب رفضه ومعارضة‬ ‫ِّ‬ ‫بالتوسع واملثاقفة‪ ،‬فارتبط بالواقع‬
‫ُّ‬ ‫اإلسالمي الحديث العهد‬
‫ِّ‬ ‫العامل‬
‫لتؤسس البديل الذي يعيد االعتبار للفرد‪/‬‬ ‫ِّ‬ ‫مق َّدساته‪ ،‬ومن ث َّم أنتج مفاهيم تنزاح عن ذلك الواقع‬
‫ظل منظومة مل تنصفه‪ ،‬فكانت مفاهيم ومعتقدات املتص ِّوف املفكِّر املتديّن الذي‬ ‫املواطن‪ ،‬يف ِّ‬
‫ظل تجربة روحانيَّة فريدة‪،‬‬ ‫يبدع الجديد بحثًا عن مفهوم جديد للعدالة عرب التامهي مع السامء يف ِّ‬
‫فكل متص ِّوف أنتج وأبدع‬‫ظل هذا املنحى‪ُّ ،‬‬ ‫لكنها مل تكن وحيدة‪ ،‬بل تع َّددت التجارب الصوفيَّة يف ِّ‬
‫عىل حدة‪ ،‬لكن معظمهم التقى عند براديغم املعارضة السياسيَّة‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫يب اليوم‪ ،‬انتشار الزوايا واألرضحة وتع ُّدد الطرق الصوف َّية‪ ،‬كام نالحظ‬
‫نالحظ يف مجتمعنا املغر ِّ‬
‫انتشار ظاهرة زيارة هاته األرضحة وإقامة املواسم حولها‪ ،‬حيث يشارك األعالم ووجهاء املجتمع‬
‫يف تسييسها‪.‬‬
‫وعندما طرحنا السؤال عىل عيِّنة من املحتفلني حول الزوايا واألرضحة‪ ،‬تباينت األجوبة‪،‬‬
‫لتكشف لنا عن تباين الرؤى واختالف املرجعيَّات واألهداف‪...‬‬
‫الطرقي اليوم يف املغرب ومدى عالقته بالتص ُّوف‬
‫ِّ‬ ‫فحق لنا طرح السؤال حول خصوص َّية التص ُّوف‬
‫َّ‬
‫الفلسفي املتح َّدث عنه آنفًا باملرشق‪ ،‬واإلجابة يف بحث آخر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫النظري‬
‫ِّ‬
‫[[[‪ -‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪248‬‬
‫التصوف‬
ُّ ‫سوسيولوجيا‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


.‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،2004 ،‫ دار الكتب العلميَّة‬،‫ الجزء الثاين‬،‫ ظهر اإلسالم‬،‫أحمد أمني‬1.1
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

.‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،1985 ،‫ دار الفارايب‬،‫ الجزء الثاين‬،‫ النزعات املاديَّة يف الفلسفة العربيَّة اإلسالميَّة‬،‫حسني مروة‬2.2

.‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،1987 ،‫ دار الجيل‬،‫ تاريخ الفلسفة العربيَّة‬،‫حنا الفاخوري وخليل الجر‬3.3

.‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،1985 ،‫ دار الكتاب اللبناين‬،‫ الصوف َّية يف نظر اإلسالم‬،‫سامح عاطف الزين‬4.4

.‫ الكويت‬،1976 ،‫ دار النرش وكالة املطبوعات‬،‫ الجزء األول‬،‫ شطحات الصوف َّية‬،‫عبد الرحمن بدوي‬5.5

:‫اإلنكليزية‬

1. Badaoui, L’humanisme dans la pensée arabe, in revue Studia Islamica, N° VI, Larose, 1950,
Paris, France.

2. Ali Sami, Poèmes mystiques d’al-hallag, traduits et présentés, éd.Albin Michel, Spiritualités
vivantes, 1998, Paris, France.

3. F.M. Pareja et autres, Islamologie, Imprimerie Catholique, 1957, Beyrouth, Liban.

4. Kanza Kassimi, Des manifestations de la libre pensée dans le monde arabo-musulman,


Presses universitaires de Bordeaux, Lille, France, 2009.

5. -Nicholson, The tarjuman al-aswaq, a collection of mystical odes, 1911, London.

249
‫المحور‬

‫يز‬
‫الميتاف�يقا ـ ـ لوجيا‬
‫ًّ‬ ‫ف‬
‫علميا‬ ‫ي� إمكان (مفهمة) الفلسفة والحكمة والعرفان‬
‫عجم‬
‫ي‬ ‫حسن‬
‫امليتافيزيقا ـ لوجيا‬
‫يف إمكان «مفهمة» الفلسفة واحلكمة والعرفان علم ّي ًا‬

‫ف‬
‫أم�كا‬
‫أستاذ الفلسفة ي� جامعة والية أريزونا ـ ي‬ ‫عجم‬
‫ي‬ ‫حسن‬

‫ّ‬
‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ف‬
‫تحاول هذه الدراسة مجاوزة الشائع من المفاهيم ي� ميادين الفلسفة والحكمة‬
‫َّ‬
‫مفاهيمية مستحدثة‬ ‫فه تشييد نطاقات‬ ‫َّ‬
‫اإللهية والعرفان؛ وأما الغاية من ذلك ي‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ولك تنجز هذه المحاولة عىل‬‫قصد إقامتها ضمن حقولها العلمية المناسبة لهويتها‪ .‬ي‬
‫َّ‬
‫الفرضية التالية‪ :‬باإلمكان صياغة مناهج‬ ‫يل� غايتها‪ ،‬فقد َّأسست منهجها عىل‬
‫ّ‬
‫نحو ب ي‬
‫ًّ‬
‫علميا‪ ،‬من خالل التأسيس‬ ‫الميتاف� َّ‬
‫يقية‬ ‫يز‬ ‫جديدة تهدف إىل تحليل ودراسة المفاهيم‬
‫لمفاهيم ومصطلحات جديدة من قبيل الفلسفالوجيا والحكمالوجيا والمعرفالوجيا‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يز‬
‫ه الفضاء الذي يتسع لهذه الحقول جميعا‪،‬‬ ‫الميتاف�يقا ي‬ ‫والعرفانلوجيا‪ .‬وإذا كانت‬
‫ه‬ ‫ِّ‬ ‫ف ِّ‬ ‫تؤسس لبناء هذا ش‬ ‫نف�ض أنها ِّ‬‫ال� ت‬ ‫ت‬
‫والعلم‪ ،‬ي‬‫ي‬ ‫الفلس�‬
‫ي‬ ‫الم�وع‬ ‫فإن الفلسفالوجيا ي‬
‫المبتدأ الذي منه سيجري تعريف الحكمة والمعرفة والعرفان من خالل معادالت‬
‫كل ف ي� ما نذهب إليه‪.‬‬ ‫وعلمية‪ .‬لذا فإن تعريف الفلسفالوجيا يدخل كنموذج ٍّ‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فلسفية‬
‫َّ‬ ‫أن ن‬ ‫َّ‬
‫وهويتها هو‬ ‫مع� الفلسفالوجيا‬ ‫ومن هذا النحو يمكن القول ‪ -‬عىل سبيل المثال ‪-‬‬
‫ن‬ ‫َّ‬
‫فه‪ ،‬إذن‪ِ ،‬علم الفلسفة‪.‬‬ ‫ي‬ ‫‪.‬‬ ‫لم‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫بمع�‬ ‫و"لوجيا"‬ ‫"الفلسفة"‬ ‫من‬ ‫بة‬ ‫ك‬ ‫عبارة عن كلمة مر‬
‫علميا‪ ،‬وتسىع إىل طرح‬ ‫ًّ‬ ‫من هذا المنطلق‪ ،‬تهدف الدراسة إىل تقديم الفلسفة‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ال� ستحكم عىل‬ ‫نظريات فلسفية وعلمية قابلة لالختبار‪ .‬أما القاعدة المنهجية ي‬
‫َّ‬
‫رياضية‬ ‫الفلسفية من خالل معادالت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫نظرياتها‬ ‫فه تقوم عىل صوغ‬ ‫عمليات اإلختبار ي‬
‫َّ‬ ‫ف‬
‫كسبيل ال تنقصه الدقة ي� اختبارها وضمان علميتها‪.‬‬

‫* * *‬
‫يز‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫الميتاف�يقا الفلسفالوجيا – علم الفلسفة – المعرفة‪ -‬اإلعتقاد‪-‬‬
‫الواقع – الحكمة – العرفان‪.‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫يع ِّرف أفالطون املعرفة بأنَّها اعتقاد صادق ُمرب َهن عليه[[[‪ .‬ويف إطار الفلسفالوجيا فهو تقديم‬
‫هذه النظريَّة الفلسفيَّة عىل أنَّها معادلة رياضيَّة وهي التالية‪ :‬املعرفة = االعتقاد × صدق االعتقاد‬
‫(أي مطابقته للواقع) × الربهنة عىل صدق االعتقاد‪ .‬هذا يعني أ َّن من املمكن تقديم هذه النظريَّة‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يف املعرفة بوصف كونها معادلة تقول بأنَّها تساوي االعتقاد مرضوبًا رياض ًّيا بالصدق (أي مطابقة‬
‫الواقع)‪ ،‬واملرضوب رياض ًّيا بالربهنة عىل صدق االعتقاد‪ .‬ويف ضوء هذه املعادلة تجري دراسة‬
‫علمي ُمعبَّ عنه من خالل‬
‫ٌّ‬ ‫العلمي املعاداليتِّ لنظريَّة أفالطون‪ .‬وبهذا فهو طرح‬
‫ِّ‬ ‫فضائل هذا الطرح‬
‫فلسفي يف آن‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫معادلة رياضيَّة من املمكن اختبارها‪ ،‬كام أنَّه طرح‬

‫‪ .1‬غاية الفلسفالوجيا‪:‬‬
‫تتغ َّيا الفلسفالوجيا دراسة فضائل املعادالت الفلسف َّية والعلم َّية التي تبنيها‪ .‬مثل ذلك التايل‪:‬‬
‫مبا أ َّن املعرفة = االعتقاد × صدق االعتقاد × الربهنة عىل صدق االعتقاد‪ ،‬إذن متى ازداد االعتقاد‬
‫معي‪ ،‬وازداد احتامل صدق هذا االعتقاد وازدادت الرباهني املقبولة عىل صدقه‪ ،‬فحينها‬ ‫مبعتقد َّ‬
‫وإل تناقصت‪ .‬وبذلك‪ ،‬فإ َّن تقديم الفلسفالوجيا لنظريَّة أفالطون عىل أنَّها‬ ‫تزداد درجة املعرفة َّ‬
‫معادلة رياض َّية يفيد بأ َّن املعرفة مسألة درجات؛ أي أنَّها من املمكن أن تزداد أو تتناقص‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫فإنها تنجح يف التعبري عن كون املعرفة مسألة درجات تزيد أو تنقص‪ .‬وهذا النجاح هو دليل عىل‬
‫مرشوع َّية الفلسفالوجيا ومنفعتها‪ .‬ومبا أ َّن املعرفة = االعتقاد × صدق االعتقاد × الربهنة عىل صدق‬
‫االعتقاد‪ ،‬إذن نستنتج رياضيًّا أ َّن االعتقاد = املعرفة ÷ صدق االعتقاد والربهنة عىل صدقه‪ ،‬وصدق‬
‫االعتقاد = املعرفة ÷ االعتقاد والربهنة عليه‪ ،‬والربهنة عىل صدق االعتقاد = املعرفة ÷ االعتقاد‬
‫وصدقه‪ .‬وبذلك مثة أنواع متع ِّددة ومختلفة من املعرفة منها عىل سبيل املثال‪ - :‬أ َّو ًل‪ :‬معرفة مبن َّية‬
‫َص صدق االعتقاد‬ ‫عىل االعتقاد وازدياد درجته (أي معرفة عىل أساس االعتقاد الراسخ)‪ ،‬وإن تناق َ‬
‫أو تناقصت الرباهني عىل صدقه‪.‬‬
‫‪ -‬ثان ًيا‪ :‬معرفة مك َّونة من تزايد احتامل صدق االعتقاد‪ ،‬وإن تناقص االعتقاد والربهنة عليه‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬معرفة متشكِّلة من تزايد الربهنة عىل صدق االعتقاد‪ ،‬وإن تناقص االعتقاد واحتامل‬
‫صدقه‪.‬‬
‫وهكذا تستطيع الفلسفالوجيا التعبري عن تن ُّوع املعارف كام سبق أن أرشنا إىل نظريَّة أفالطون‬
‫أي حال‪ ،‬إن مل تكن املعرفة متن ّوعة عىل‬‫بوصفها معادلة رياض َّية فلسف َّية قابلة لالختبار‪ .‬وعىل ِّ‬

‫‪[1]- Plato: Complete Works. 1997. Hackett -‬‬

‫‪253‬‬
‫أفنان‬

‫ُعبة عن نظريَّة أفالطون معادلة كاذبة‬‫النحو السابق‪ ،‬فحينذاك تصبح املعادلة الرياض َّية الفلسف َّية امل ِّ‬
‫يف السابق‪ .‬وهذا األمر يجعلها قابلة لالختبار عىل ضوء الواقع (أي عىل‬ ‫ألنَّها تتض َّمن التن ُّوع املعر َّ‬
‫يف السابق أو عدم وجوده)‪ ،‬وهذا سيم ِّك ُنها بالتايل من أن تكون معادلة‬ ‫ضوء وجود التن ُّوع املعر ِّ‬
‫علميَّة‪ .‬وفق هذا املنهج‪ ،‬تح ِّول الفلسفالوجيا النظريَّات الفلسفيَّة إىل نظريَّات علميَّة قابلة لالختبار‬
‫من خالل تقديم تلك النظريَّات الفلسف َّية عىل أنَّها معادالت رياض َّية‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن تن ُّوع‬
‫املعارف عىل النحو السابق قد يع ِّزز احتامل صدق نظريَّة أفالطون‪.‬‬
‫مثل عىل تن ُّوع املعارف هو نظريَّة األوتار العلميَّة التي تشكِّل معرفة بالفعل رغم عدم إمكان َّية‬
‫ٌ‬
‫اختبارها اليوم‪ .‬ويعتقد العديد من العلامء بصدق هذه النظريَّة التي تؤكِّد أ َّن الكون يتك َّون من أوتار‬
‫وأنغامها‪ ،‬مع أن العلامء مل يتمكَّنوا بعد من اختبارها علم ًّيا‪ ،‬وبذلك تتناقص الرباهني العلم َّية عىل‬
‫صدقها‪ ،‬ولكن هذا مل مينع العديد من الفيزيائيني من االعتقاد بصدقها[[[‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ َّن املعرفة‬
‫ِّ‬
‫للشك‬ ‫املتك ِّونة من مضامني نظريَّة األوتار إمنا هي معرفة قامئة عىل االعتقاد الراسخ (وغري القابل‬
‫بها حال ًّيا)‪ ،‬وإن تناقصت آل َّيات الربهنة عىل صدقها‪ .‬وبذلك تشكِّل هذه املعرفة نو ًعا مع ّي ًنا من‬
‫املعارف يختلف عن املعرفة املتك ِّونة عىل أساس امتالك براهني علم َّية قويَّة دالَّة عىل صدق‬
‫االعتقاد؛ كاملعرفة املتك ِّونة من نظرية آينشتاين النسبيَّة التي ميتلك العلامء أدلَّة علميَّة عىل صدقها‬
‫البي أ َّن نظريَّة النسبيَّة قد ت ّم اختبارها والربهنة عىل صدقها‪.‬‬ ‫لتمكّنهم من اختبارها علميًّا‪ .‬إذ من ِّ‬
‫عىل سبيل املثال ال الحرص‪ :‬اختبار أ َّن الزمن يتسارع أو يتباطأ عىل أساس رسعة األجسام املاديَّة‪،‬‬
‫املادي (كأن تتسارع رسعة الطائرة) يؤ ّدي إىل تباطؤ الزمن بالنسبة إىل الجسم‬ ‫ُّ‬ ‫فإن تسارع الجسم‬
‫املتسارع[[[‪ .‬من هنا‪ ،‬تشكِّل هذه النظريَّة معرفة متك ِّونة من الربهنة عىل صدق االعتقاد مبضامينها‬
‫ُختب علميًّا ومل يُرب َهن عىل صدقها‪ .‬باإلضافة‬ ‫فتشكِّل معرفة مختلفة عن معرفة نظريَّة األوتار التي مل ت َ‬
‫الخاصة وتق ِّدمها عىل أنَّها قابلة لالختبار وعلم َّية‬
‫َّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬تطرح الفلسفالوجيا نظريَّاتها الفلسف َّية‬
‫فمثل‪ ،‬من منطلق الفلسفالوجيا‪ ،‬ميكن تحليل الحضارة‬ ‫ً‬ ‫بفضل صياغتها عىل أنَّها معادالت رياض َّية‪.‬‬
‫عىل أنَّها املعادلة الرياضيَّة التالية‪ :‬الحضارة = إنتاج املعارف × إنتاج العدالة‪ .‬ولكن املعارف‬
‫الواقعي‬
‫ِّ‬ ‫كامنة يف الفلسفات والعلوم واآلداب والفنون واألديان (فإن مل تصدق معتقداتها يف عالَمنا‬
‫صدقت يف أكوان ممكنة مختلفة ما يجعلها معارف بتلك األكوان)‪ ،‬بينام العدالة تتض َّمن بالرضورة‬
‫األخالق والحريَّات واملساواة (فبزوال الحريَّة واملساواة واألخالق يخرس اإلنسان إنسان َّيته ما‬
‫يشكِّل غيابًا جوهريًّا للعدالة)‪ .‬وبذلك تتض َّمن املعادلة السابقة أ َّن الحضارة هي امل ُن ِتجة للفلسفات‬
‫والعلوم واآلداب والفنون واألديان واألخالق والحريَّات واملساواة‪ .‬ولذلك‪ ،‬إن ُوجِدت حضارة بال‬
‫‪[1]- Brian Greene: The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the‬‬
‫‪Ultimate Theory. 2000. Vintage Books.‬‬
‫‪[2]- Albert Einstein: Relativity: The Special and General Theory. 2010. Dover Publications.‬‬

‫‪254‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫عنرص من تلك العنارص (أي بال فلسفات وعلوم وآداب وفنون وعدالة إلخ)‪ ،‬فحينها تكون معادلة‬
‫الحضارة السابقة معادلة كاذبة‪ .‬من هنا‪ ،‬من املمكن اختبار هذه املعادلة مبا يجعلها علميَّة‪ .‬ولكن‬
‫ال حضارة بال علوم وفلسفات وآداب وفنون وأديان وأخالق وعدالة‪ .‬لذا‪ ،‬فمعادلة أ َّن الحضارة =‬
‫إنتاج املعارف × إنتاج العدالة‪ ،‬هي معادلة صادقة‪ .‬هكذا الفلسفالوجيا منهج يف صياغة النظريَّات‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الفلسفيَّة القابلة لالختبار كصياغة أ َّن الحضارة = إنتاج املعارف × إنتاج العدالة‪.‬‬
‫َّ‬
‫مادة وعالم َّ‬
‫مجرد‪:‬‬ ‫‪ .2‬الكون بوصفه‬
‫وحل‬
‫من فضائل الفلسفالوجيا املقرتحة قدرتها عىل التوحيد بني املذاهب الفلسف َّية املتصارعة ِّ‬
‫اإلشكال َّيات والخالفات الفلسف َّية حيال تحليل املفاهيم وتفسري الظواهر‪ ،‬وذلك بفضل اعتامدها‬
‫مادي‬
‫ٌّ‬ ‫عىل صياغة النظريَّات من خالل معادالت رياض َّية‪ .‬مثل ذلك تحليل الكون وتفسريه عىل أنَّه‬
‫يل يف آن من خالل املعادلة الرياض َّية التالية‪ :‬الكون = املادي × املثايل‪ .‬فبام أ َّن الكون =‬
‫ومثا ٌّ‬
‫وتفسه‬
‫ِّ‬ ‫الطبيعي واملتوقَّع أن تنجح النظريَّات العلم َّية التي تحلِّل الكون‬
‫ِّ‬ ‫املادي × املثايل‪ ،‬إذن من‬
‫الطبيعي واملتوقَّع أيضً ا أن تنجح النظريَّات‬
‫ِّ‬ ‫مادي كأن يكون متك ِّونًا من ذ َّرات ماديَّة‪ ،‬ومن‬
‫ٌّ‬ ‫عىل أنَّه‬
‫يل كأن يكون متك ِّونًا من معلومات مج َّردة (كام يقول‬
‫وتفسه عىل أنَّه مثا ٌّ‬
‫ِّ‬ ‫العلم َّية التي تحلِّل الكون‬
‫رص الفيزيايئ ماكس تغامرك)[[[‪ .‬هكذا‬
‫الفيزيايئ جون ويلر) أو معادالت رياض َّية مج َّردة (كام ي ُّ‬
‫[[[‬

‫تنجح معادلة الكون = املادي × املثايل يف تفسري ملاذا تنجح النظريَّات العلم َّية املاديَّة واملثال َّية‬
‫م ًعا رغم اختالفها‪ .‬وبذلك تكتسب هذه املعادلة الفلسفالوج َّية فضيلة امتالك قدرة تفسرييَّة ناجحة‬
‫ما ُّ‬
‫يدل عىل صدقها‪.‬‬
‫املذهبي‬
‫ْ‬ ‫ومبا أ َّن املعادلة تقول إ َّن الكون = املادي × املثايل‪ ،‬إذن هذه املعادلة تتض َّمن‬
‫املادي ويصدق أيضً ا‬
‫ُّ‬ ‫والعلمي‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ُّ‬ ‫املادي واملثايل م ًعا فيصدق بالنسبة إليها املذهب‬
‫يل‬
‫ي واملثا ِّ‬
‫املذهبي املا ّد ِّ‬
‫ْ‬ ‫حد هذه املعادلة بني‬
‫يل‪ .‬وبذلك تو ِّ‬
‫والعلمي املثا ّ‬
‫ُّ‬ ‫الفلسفي‬
‫ُّ‬ ‫املذهب‬
‫والعلمي بينهام‪ .‬من هنا‪ ،‬تتف ّوق الفلسفالوجيا يف مقدرتها عىل التوحيد‬
‫َّ‬ ‫الفلسفي‬
‫َّ‬ ‫فتحل الخالف‬
‫ّ‬
‫فحل الخالفات الفلسف َّية والعلم َّية يت ُّم بفضل طرح نظريَّاتها‬
‫بني املذاهب املختلفة واملتنافسة‪ُّ ،‬‬
‫من خالل معادالت رياضية متا ًما كطرحها ملعادلة أ َّن الكون = املادي × املثايل‪ .‬وهذه املعادلة‬
‫الفلسفالوجيَّة هي معادلة علميَّة إلمكان اختبارها‪ .‬فبام أ َّن الكون = املادي × املثايل‪ ،‬إذن إن مل‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ معادلة الكون =‬ ‫تنجح النظريَّات العلم َّية املاديَّة ومل تنجح النظريَّات العلم َّية املثال َّية أيضً ا‪،‬‬
‫‪[1]- James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books‬‬
‫‪[2]- Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf‬‬

‫‪255‬‬
‫أفنان‬

‫املادي × املثايل معادلة كاذبة‪ .‬وبذلك من املمكن اختبار هذه املعادلة ما يجعلها علميَّة‪ .‬ولكن‬
‫يف النظريَّات العلم َّية املاديَّة واملثال َّية م ًعا تبدو الرؤية ناجحة وبهذا املعنى تكون املعادلة صادقة‪.‬‬
‫مل َّا كانت الفلسفالوجيا هادفة إىل إنتاج الفلسفة علم ًّيا‪ ،‬فإ َّن مبستطاعها تحليل املفاهيم وتفسري‬
‫الظواهر من خالل معادالت رياض َّية قابلة لالختبار بطبيعتها‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬تع ِّرف الفلسفالوجيا‬
‫مصطلحي جديديْن هام الحكاملوجيا واملعرفالوجيا‪ .‬الحكاملوجيا‬
‫ْ‬ ‫الحكمة واملعرفة علم ًّيا فتصوغ‬
‫ِعلم الحكمة بينام املعرفالوجيا ِعلم املعرفة‪ .‬والحكمة واملعرفة مرتبطان بالرضورة يف ما بينهام‪.‬‬
‫فالحكمة تتض َّمن املعرفة ألنَّها تعبري عن املعارف بينام املعرفة تفيض إىل الحكمة‪ ،‬أل َّن املعرفة‬
‫هي ف ُّن صياغة املعتقدات املمكنة التي من ضمنها الحكمة الحاكية عن املعارف‪.‬‬
‫‪ .3‬احلكمالوجيا ُّ‬
‫فن التعبري عن املعارف‪:‬‬
‫الحكاملوجيا كلمة ُمركَّبة من “الحكمة” و”لوجيا” مبعنى ِعلم‪ ،‬وبذلك تعني ِعلم الحكمة‪.‬‬
‫تدرس الحكاملوجيا الحكمة بهدف إيضاح معانيها ودالالتها وأدوارها‪ .‬وضمن هذا السياق‪ ،‬تع ِّرف‬
‫الحكمة بأنَّها ف ُّن التعبري عن املعارف واملعاين‪ ،‬وذلك باختصار ما يتض َّمن أ َّن الحكمة ف ُّن اختصار‬
‫بكالم آخر‪ ،‬الحكمة هي ف ُّن التعبري عن العلوم والفلسفات والثقافات بعبارات‬
‫ٍ‬ ‫املعاين واملعارف‪.‬‬
‫ختصة‪.‬‬
‫ُم َ‬
‫مثل عىل ذلك‪ ،‬ما يرد يف معنى الحكمة عىل لسان صاحب نظريَّة النسب َّية بقوله إ َّن “الله‬
‫ٌ‬
‫ب عن معارف ومعان ٍ‬
‫ال يلعب بالرند”[[[‪ .‬إذا نظرنا إىل هذه الشذرة الحكم َّية سوف نجد أنَّها تع ِّ‬
‫علم َّية دقيقة من خالل عبارة قصرية‪ .‬ما ُّ‬
‫يدل عىل أ َّن الحكمة هي ف ُّن التعبري عن املعارف واملعاين‬
‫باختصار‪ .‬وبذلك تكون حاصل إنتاج املعرفة واملعنى‪ ،‬ذلك ألنَّها تنشأ بعد ظهور النظريَّات‬
‫ختصة متض ِّمنة املعاين‬
‫والنامذج العلم َّية والفلسف َّية‪ ،‬وتصوغ تلك النامذج والنظريَّات بعبارات ُم َ‬
‫واملعارف الجوهريَّة ضمن النامذج والنظريَّات الفلسف َّية والعلم َّية‪ .‬فحكمة أينشتاين “الله ال يلعب‬
‫تعب عن إحكام وإتقان القوانني الطبيع َّية وبأنَّها حتم َّية وليست احتامل َّية‪ .‬ولذا‪ ،‬فإ َّن الله ُمنظِّم‬
‫بالرند” ِّ‬
‫الكون وخالقه ال يلعب بالرند املحكوم باالحتامالت‪ .‬ث َّم إ َّن التعبري عن أ َّن قوانني الطبيعة حتم َّية‬
‫وليست احتامل َّية يحيل إىل نظريَّة ميكانيكا الك ِّم القائلة بأ َّن قوانني الكون احتامل َّية‪ .‬وتلك نظريَّة‬
‫غري صادقة‪ ،‬ذلك بأ َّن النظريَّات العلم َّية الصادقة هي تلك التي تص ِّور قوانني الكون عىل أنَّها حتم َّية‬
‫متا ًما كام تفعل نظريَّة أينشتاين العلم َّية التي تقع عىل النقيض من ميكانيكا الك ّم‪ .‬هذا يعني أ َّن‬

‫‪[1]- David A. Shiang: God Does Not Play Dice: The Fulfillment of Einstein’s Quest for Law and Order‬‬
‫‪in Nature. 2008. Open Sesame Productions.‬‬

‫‪256‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫رص عىل أ َّن قوانني‬


‫تعب عن رفضه لنظريَّة ميكانيكا الك ِّم التي ت ُّ‬
‫حكمة أينشتاين “الله ال يلعب بالرند” ِّ‬
‫الطبيعة احتامل َّية‪ ،‬وبذلك تصري حكمته مبثابة دفاع عن نظريَّته العلم َّية التي تص َّور قوانني الطبيعة‬
‫جدل علميًّا‬
‫ً‬ ‫بدل من كونها احتامليَّة‪ .‬هكذا تخترص حكمة “الله ال يلعب بالرند”‬
‫عىل أنها حتمية ً‬
‫أساس ًّيا بني الذين ينارصون ميكانيكا الك ِّم وأولئك الذين يرفضونها من خالل تعبريها عن أ َّن القوانني‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يئ الراحل ستيفن هوكنغ(‪“ )2022-1942‬الله‬


‫الطبيعيَّة حتميَّة‪ .‬يف مقابل ذلك‪ ،‬سنجد يف قول الفيزيا ِّ‬
‫ال يلعب بالرند فقط بل يرميه أحيانًا حيث ال نراه”[[[ قولً مناقضً ا لحكمة أينشتاين ومفادها أ َّن قوانني‬
‫بدل من كونها حتميَّة متا ًما كام تقول نظريَّة ميكانيكا الك ّم‪ ،‬وبذلك يكون منوذج‬
‫الطبيعة احتامليَّة ً‬
‫جا كاذبًا‪ .‬وهكذا فإن حكمة أ َّن “الله ال يلعب‬
‫العلمي القائل بحتم َّية قوانني الطبيعة منوذ ً‬
‫ِّ‬ ‫أينشتاين‬
‫جدل علميًّا مدي ًدا بني الذين يقبلون نظرية‬
‫ً‬ ‫بالرند فقط بل يرميه أحيانًا حيث ال نراه” تخترص أيضً ا‬
‫ميكانيكا الك ّم والذين يرفضونها‪ .‬كل هذا يرينا صدق الحكاملوجيا التي ترى أ َّن الحكمة هي فن‬
‫التعبري باختصار عن املعاين واملعارف العلميَّة‪ .‬فلو مل تكن الحكمة كذلك ألمىس من امل ُستغ َرب‬
‫العلمي‬
‫ِّ‬ ‫السؤال عن السبب الذي يحمل حكمة أينشتاين وحكمة هوكنغ عىل التعبري عن الجدل‬
‫ُعب عن حتميَّة‬
‫يك للكون امل ِّ‬ ‫منوذجي علميَّني متنافسني هام النموذج الكالسي ُّ‬ ‫ْ‬ ‫السابق فتخترصان‬
‫ُعب عن أ َّن قوانني الطبيعة احتامل َّية‪.‬‬
‫قوانني الطبيعة‪ ،‬ومنوذج ميكانيكا الك ّم امل ِّ‬
‫من املنطلق نفسه أيضً ا‪ ،‬أمكننا القول أ َّن الحكمة هي ف ُّن تكثيف املعاين واملعارف ضمن عبارة‬
‫العلمي بني تصوير الكون عىل أنَّه‬
‫ِّ‬ ‫ختصة‪ .‬فحكمة أينشتاين كثَّفت معارف ومعاين الجدل‬
‫قصرية ُم َ‬
‫رصت عىل محكوم َّيته بقوانني‬
‫محكوم بقوانني حتم َّية وتصويره عىل أنَّه محكوم بقوانني احتامل َّية وأ َّ‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫بدل من قوانني االحتامل َّية‪ .‬أ َّما حكمة هوكنغ فقد كثَّفت معارف ومعاين الجدل‬ ‫حتم َّية ً‬
‫بدل من حتم َّية‪ .‬من هنا‪،‬‬
‫نفسه ولك َّنها أكّدت يف اآلن عينه عىل محكوم َّية الكون بقوانني احتامل َّية ً‬
‫جاء قولنا يف تعريف الحكمة بأنَّها ف ُّن تكثيف املعاين واملعارف يف عبارة قصرية‪ .‬فحني تتكاثف‬
‫كل من‬
‫العلمي السابق يف ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫املعاين واملعارف تصبح حكمة كتكاثف املعارف العلم َّية حيال الجدل‬
‫حكمة أينشتاين وحكمة هوكنغ‪.‬‬
‫عىل ضوء هذه االعتبارات‪ ،‬تق ِّدم “الحكاملوجيا” الحكمة بوصفها معادلة رياض َّية مفادها التايل‪:‬‬
‫ختصة‪ .‬وبذلك التعبري عن املعارف‬
‫الحكمة = تعبري عن املعارف × تكثيف املعارف يف عبارات ُم َ‬
‫ختصة‪ ،‬وتكثيف املعارف بعبارات مخترصة = الحكمة ÷‬
‫= الحكمة ÷ تكثيف املعارف بعبارات ُم َ‬
‫قل التعبري عن املعارف‬
‫التعبري عن املعارف‪ .‬ولذلك إذا ازداد تكثيف املعارف بعبارات مخترصة َّ‬

‫‪[1]- Stephen Hawking: Does God Play Dice? www.hawking.org.uk.‬‬

‫‪257‬‬
‫أفنان‬

‫(ك ِقلَّة التعبري عن املعارف بالتفصيل)‪ ،‬وإذا إزداد التعبري عن املعارف (كازدياد التعبري التفصي ِّ‬
‫يل‬
‫قل تكثيف املعارف بعبارات مخترصة‪ .‬وهذه النتيجة منطق َّية أل َّن ازدياد التعبري عن‬
‫عن املعارف) َّ‬
‫املعارف نقيض تكثيف املعارف بعبارات مخترصة‪ .‬وبذلك تنجح هذه املعادلة يف التعبري عن هذه‬
‫النتيجة املنطق َّية ما يدعم صدقها‪.‬‬
‫ب عن فلسفته يف األخالق واملعرفة‬
‫أ َّما حكمة الفيلسوف سقراط “الفضيلة هي املعرفة”[[[ فتع ِّ‬
‫والسعادة‪ .‬تعني “الفضيلة مبا هي املعرفة” أ َّن املعرفة هي أصل الفضائل واألخالق والسعادة ألنَّنا إذا‬
‫األسايس الذي‬
‫ِّ‬ ‫ين‬
‫مل نعرف ما هو الخري فلن نتمكَّن من فعله؛ وبذلك لن ننجح يف تحقيق هدفنا اإلنسا ِّ‬
‫كل ذات االنسجام مع ذاتها مبا يرتتَّب عىل ذلك من خرسان السعادة‪.‬‬
‫هو تحقيق الخري‪ .‬وبهذا تخرس ُّ‬
‫تعب عن فلسفة متكاملة يف املعرفة واألخالق والسعادة‪ ،‬وتخترص مضامينها‬
‫الحكمة بهذه املثابة ِّ‬
‫الجوهريَّة‪ ،‬ما يعني أ َّن الحكمة ف ُّن تكثيف املعاين واملعارف كتكثيف املعارف واملعاين الفلسف َّية‪.‬‬
‫ب عن فلسفته الرباغامت َّية التي من‬
‫أ َّما حكمة الفيلسوف ريتشارد روريت “الكون ال يتكلّم”[[[ فتع ِّ‬
‫ج َمل وليس صفة للواقع‪ .‬فالحقيقة ليست‬
‫حقيقي هو صفة لل ُ‬
‫ٌّ‬ ‫كل ما هو‬
‫مبادئها األساس َّية اعتبار ِّ‬
‫البرشي‪ ،‬أل َّن‬
‫ِّ‬ ‫سوى ما نستطيع التعبري عنه لغويًّا‪ ،‬وبذلك تصبح الحقيقة غري مستقلَّة عن العقل‬
‫ُختص عن النظريَّات الفلسف َّية‬
‫عباراتنا اللغويَّة معتمدة عىل عقولنا‪ .‬من هنا‪ ،‬الحكمة ف ُّن التعبري امل َ‬
‫متا ًما كتعبري حكمة روريت عن فلسفته الرباغامت َّية‪.‬‬
‫تعب الحكمة عن الثقافات املتن ِّوعة‪ .‬وألنَّها بهذه املكانة‪ ،‬فهي ف ُّن الداللة عىل‬
‫إىل ذلك‪ِّ ،‬‬
‫املعارف واملعاين كام تؤكِّد الحكاملوجيا‪ ،‬أل َّن الثقافات هي معارف دالَّة عىل معان ٍ‪ .‬مثل ذلك‬
‫ُعبة عن ثقافة العرب اليقين َّية ذات السياق العايل التي‬ ‫قل َّ‬
‫ودل” امل ِّ‬ ‫الحكمة القائلة “خري الكالم ما َّ‬
‫يل‪،‬‬
‫تعتقد باليقينيَّات غري القابلة للشك‪ ،‬والتي تعتمد يف التواصل عىل املجاز وإيجاز الرشح التفصي ّ‬
‫والتسليم بأ َّن اآلخر يعرف املعلومات الرضوريَّة لفهم الحديث أو الحوار وإن كان حديثًا أو حوا ًرا‬
‫ختصا‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ َّن الحكمة العربيَّة إمنا هي تعبري عن ثقافة العرب ومناهج تواصلهم‪ ،‬األمر الذي‬
‫ُم َ ً‬
‫ُّ‬
‫يدل عىل أ َّن الحكمة هي ف ُّن الداللة عىل املعارف واملعاين املتمثِّلة يف هذه الثقافة أو تلك‪ .‬يرينا‬
‫هذا املثل أيضً ا صدق الفلسفة الحكاملوجيَّة التي تع ِّرف الحكمة بأنَّها ف ُّن التعبري باختصار عن‬
‫الحكاملوجي يف التعبري عن دالالت الحكمة ومعانيها إنَّ ا هو‬
‫ِّ‬ ‫املعرفة واملعنى‪ .‬فنجاح التحليل‬
‫يف‪.‬‬
‫دليل عىل صدق هذا التحليل وتف ُّوقه املعر ّ‬

‫‪[1]- Plato: Complete Works. 1997. Hackett Publishing‬‬


‫‪[2]- Richard Rorty: Contingency, Irony, and Solidarity. 1989. Cambridge University Press.‬‬

‫‪258‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫كل هذه األمثلة توضح أدوا ًرا معيَّنة للحكمة؛ منها دورها يف الحكم عىل ما هو صادق وما هو‬
‫ُّ‬
‫كاذب كحكم حكمة أينشتاين عىل صدق نظريَّته العلم َّية القائلة بحتم َّية القوانني الطبيع َّية وكذب‬
‫ميكانيكا الك ِّم ودور الحكمة يف توجيه املجتمع والتعبري عنه يف آن‪ ،‬كدور حكمة العرب السابقة‬
‫األسايس للحكمة فكامن يف‬
‫ُّ‬ ‫تعب عن الثقافة العرب َّية اليقين َّية ذات السياق العايل‪ .‬أ َّما الدور‬
‫التي ِّ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫التعبري عن املعاين واملعارف العلميَّة والفلسفيَّة والثقافيَّة‪ .‬فالحفاظ عليها من خالل اختصار‬
‫مشاعري يجذب االنتباه‬
‫ٍّ‬ ‫النامذج الفكريَّة والفلسف َّية والعلم َّية والثقاف َّية بعبارات قصرية ذات وقع‬
‫والقبول‪ .‬إىل ذلك‪ ،‬سنميض إىل القول أ َّن الحكمة هي أيضً ا آليَّة بقاء لكونها تحفظ معارف ومعاين‬
‫الفلسفات والعلوم والثقافات فتمكّن اآلخذين بها من االسرتشاد والرتقِّي عىل ضوء منافعها‪.‬‬
‫‪ .4‬املعرفالوجيا ُّ‬
‫فن إنت�اج املعتقدات املمكنة‪:‬‬
‫املعرفالوجيا مفردة ُمركَّبة من “املعرفة” و”لوجيا” مبعنى ِعلم‪ .‬وبذلك تعني ِعلم املعرفة‬
‫الهادف إىل تحليل املعرفة علم ًّيا إليضاح معانيها ودالالتها‪ .‬وعليه‪ ،‬هي تؤكِّد عىل أ َّن املعرفة‬
‫هي ف ُّن إنتاج املعتقدات املمكنة‪ .‬عىل هذا األساس‪ ،‬تسعى املعرفالوجيا إىل درس األكوان‬
‫املمكنة املختلفة‪ ،‬ذلك بأ َّن يف ُّ‬
‫تكث املعارف املمكنة الصادقة يف تلك األكوان ما يح ِّرر العقل‬
‫كل العوامل املمكنة‪ .‬يف تلك‬
‫بدل من أن يكون ح ًّرا يف درس ِّ‬
‫من االنحباس يف عالَم ممكن ُمح َّدد ً‬
‫كل النظريَّات واألنظمة الفكريَّة املمكنة (أي املنسجمة) واملختلفة التي يعتقد‬
‫العوامل تصدق ُّ‬
‫كل البرش بسبب من إمكان صدقها‪ .‬وبذلك تتساوى يف قيمتها ومقبوليتها (لصدقها يف أكوان‬
‫بها ُّ‬
‫كل البرش ج َّراء املساواة بني معتقداتهم املمكنة‬
‫يؤسس للمساواة بني ِّ‬
‫ممكنة مختلفة)‪ .‬وهو ما ِّ‬
‫الصادقة يف عوامل ممكنة مختلفة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن املعرفالوجيا هي فلسفة إنسانويَّة بامتياز‪ ،‬وذلك‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪ .‬فبام أ َّن املعرفة ف ُّن‬
‫يعود إىل أنَّها تع ِّرف املعرفة علم ًّيا بأنَّها ف ُّن إنتاج ِّ‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪ ،‬يتنبَّأ هذا التحليل باستحالة أن تكون املعرفة ُمتك ِّونة من معتقدات‬
‫إنتاج ِّ‬
‫مستحيلة كاملعتقدات املتناقضة مع ذاتها‪ .‬وبذلك فإ َّن صدق هذا التن ُّبؤ يعادل صدق هذا التحليل‬
‫للمعرفة‪ ،‬وإن كذب هذا التنبُّؤ يوازي كذب التحليل نفسه‪ .‬وبهذا‪ ،‬من املمكن اختبار هذا التحليل‬
‫علمي أل َّن ال ِعلم هو ذاك القابل‬
‫ٌّ‬ ‫فإ َّما تكذيبه وإما تصديقه عىل ضوء ما يتن َّبأ به‪ .‬ولذا‪ ،‬فهو تحليل‬
‫علمي للمعرفة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬من املستحيل أن‬
‫ٍّ‬ ‫لالختبار‪ .‬هكذا تنجح املعرفالوجيا يف تقديم تحليل‬
‫تكون املعرفة ُمتك ِّونة من معتقدات مستحيلة أل َّن املستحيل ال يتحقَّق فال يصدق الستحالته‪ ،‬بينام‬
‫املعرفة متشكِّلة من معتقدات صادقة‪ ،‬فإن مل تصدق يف الواقع صدقت يف األكوان املمكنة‪ .‬من‬
‫هنا‪ ،‬تصدق املعرفالوجيا بصدق ما تن َّبأَّت به‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫أفنان‬

‫من أجل ذلك‪ ،‬وعىل ضوء االعتبارات السابقة‪ ،‬من املمكن بناء معادلة املعرفالوجيا عىل النحو‬
‫كل املعتقدات املمكنة ناقص إنتاج املعتقدات املستحيلة ما يج ِّنب‬ ‫التايل‪ :‬املعرفة تساوي إنتاج ِّ‬
‫أن تكون املعرفة متك ِّونة من معتقدات مستحيلة‪ .‬عىل هذا النحو‪ ،‬تكتسب املعادلة فضيلة التعبري‬
‫عن استحالة أن تكون املعرفة متناقضة ج َّراء عدم تض ُّمنها ملعتقدات مستحيلة أي متناقضة‪ .‬ومبا‬
‫أ َّن املعرفة تعني إنتاج املعتقدات املمكنة ال إنتاج املعتقدات املستحيلة‪ ،‬فذاك يدل عىل أن‬
‫املعرفة عملية مستمرة يف البحث عن كل املعتقدات املمكنة املنسجمة والحائزة عىل قدرات‬
‫متغية وغري قابلة للتط ُّور‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وصفية وتفسريية وتنبؤية ناجحة بدالً من أن تكون حالة عقل َّية ثابتة غري‬
‫تغي املعارف وتط ُّورها وال تسجن املعرفة يف حالة‬ ‫من هنا‪ ،‬تنجح هذه املعادلة أيضً ا يف التعبري عن ُّ‬
‫اعتقاديَّة ُمح َّددة (ألنَّها تعترب أ َّن املعرفة عمليَّة إنتاج مستم َّرة للمعتقدات املمكنة كافَّة) ما يح ِّرر‬
‫العقل ومعارفه‪ .‬ويف هذا فضيلة أساسيَّة أخرى‪.‬‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪ ،‬واملعتقدات املمكنة هي الصادقة يف‬ ‫إذا كانت املعرفة ف َّن إنتاج ِّ‬
‫الواقعي املمكن لكونها معتقدات ممكنة‪ ،‬إذن‪ ،‬هي ف ُّن‬‫ُّ‬ ‫األكوان املمكنة التي من ضمنها عالَمنا‬
‫اكتشاف األكوان املمكنة‪ .‬ومبا أ َّن املعرفة هي كذلك‪ ،‬فاملعتقدات املمكنة صادقة يف األكوان‬
‫الواقعي (ألنَّه‬
‫ِّ‬ ‫املمكنة التي من ضمنها عالَمنا الواقعي‪ ،‬إذن هي ف ّن إنتاج معتقدات صادقة يف عاملنا‬
‫الواقعي (فتكون‬
‫ِّ‬ ‫عامل ممكن)‪ ،‬فتكون بذلك معرفة الواقع أو صادقة يف أكوان ممكنة شبيهة بعاملنا‬
‫من املحتمل أنها صادقة من منظور عاملنا)‪ ،‬وتكون بذلك معرفة مبا هو محتمل أو صادقة يف‬
‫الواقعي (فتكون من املمكن أن تكون صادقة من منظور عاملنا)‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أكوان ممكنة مختلفة عن عاملنا‬
‫والنتيجة تصبح معرفة مبا هو ممكن فقط‪ .‬يضمن هذا التحليل للمعرفة معرفة الواقع واملحتمل‬
‫يدل عىل نجاح املعرفالوجيا حيال تحليل املعرفة وإيضاح معناها ودالالتها‪.‬‬ ‫واملمكن‪ ،‬األمر الذي ُّ‬
‫من فضائل املعرفالوجيا أنها ت ِّ‬
‫ُكث املعتقدات واملعارف املمكنة‪ .‬فبام أنَّها تع ِّرف املعرفة بأنَّها‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪ ،‬واملعتقدات املمكنة صادقة يف األكوان املمكنة التي من ضمنها‬ ‫ف ُّن إنتاج ِّ‬
‫وإل مل يوجد)‪ .‬إذن هي تدرس األكوان املمكنة من خالل إنتاجها‬ ‫الواقعي (ألنه عالَم ممكن َّ‬
‫ُّ‬ ‫عالَمنا‬
‫الواقعي صدقت يف األكوان املمكنة املتوازية‬ ‫ِّ‬ ‫للمعتقدات املمكنة التي إن مل تصدق يف عاملنا‬
‫الشبيهة به أو املختلفة عنه‪ .‬ولكن حني تدرس األكوان املمكنة بغرض اكتشاف حقيقة املعتقدات‬
‫ُكث املعتقدات واملعارف أل َّن األكوان املمكنة عديدة ومختلفة‬ ‫الصادقة يف تلك األكوان فإنها ت ِّ‬
‫ومتن ّوعة (إن مل تكن المتناهية عدديًّا) فتصدق فيها معتقدات متع ِّددة ومختلفة (إن مل تكن المتناهية‬
‫عدديًّا)‪ .‬وتكثري املعتقدات واملعارف املمكنة فضيلة فكريَّة ومعرف َّية أل َّن العقل هنا ال يسجن داخل‬
‫كل املعتقدات‬ ‫الواقعي بل يستدعي صياغة ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫معارف ومعتقدات صادقة يف عالَم ممكن كعاملنا‬
‫كل األكوان املمكنة املختلفة بقوانينها الطبيع َّية وحقائقها‪ .‬هكذا‬ ‫واملعارف املمكنة الصادقة يف ِّ‬

‫‪260‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫ت ُح ِّرر املعرفالوجيا العقل واملعارف بعدم سجن عقولنا يف عالَم ممكن واحد و ُمح َّدد لكونها تُع َنى‬
‫كل األكوان املمكنة‪.‬‬
‫بدراسة ِّ‬
‫كل املعتقدات املمكنة‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ تتساوى ُّ‬ ‫إذا كانت املعرفة هي ف ُّن إنتاج املعتقدات املمكنة‬
‫وإن اختلفت وتن َّوعت‪ .‬وما ذلك إلَّ أل َّن إنتاجها عىل الجملة يُشكِّل قوام املعرفة‪ .‬من أجل ذلك‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫كل البرش وإن اختلفوا ج َّراء تض ُّمنه للمساواة بني‬


‫املعرفالوجي املساواة بني ِّ‬
‫ُّ‬ ‫يتض َّمن هذا التحليل‬
‫كل املعتقدات املمكنة املختلفة التي يعتقد بصدقها البرش‪ .‬هكذا تبدو الفلسفة املعرفالوج َّية‬ ‫ِّ‬
‫فلسفة إنسانويَّة بامتياز لكونها تتض َّمن املساواة بني جميع أفراد البرشيَّة وتضمنها‪ .‬ولكن ال حكمة‬
‫ٍ‬
‫حينئذ كاذبة‬ ‫تعب الحكمة واملعارف عن الحقائق تغدو‬‫وال معرفة بال تعبري عن الحقائق‪ ،‬فإن مل ِّ‬
‫فتزول حكمتها وتزول عنها صفة املعرفة‪ .‬لذا تسعى الفلسفالوجيا أيضً ا إىل تحليل مفهوم الحقيقة‬
‫فلسفي جديد‪ ،‬هو‬
‫ٍّ‬ ‫يؤسس ملصطلح‬ ‫مم ِّ‬
‫فتق ِّدم معادلة رياض َّية ناجحة يف تعريف مضامني الحقائق َّ‬
‫الحقيقالوج َّيا‪ .‬فامذا عن هذا املصطلح؟‪.‬‬
‫‪ .5‬احلقيقالوجيا ُّ‬
‫فن االحتماالت املمكنة‪:‬‬
‫الحقيقالوجيا كسابقاتها مام يُستولد من فضاء امليتافيزيقا‪ ،‬هي كلمة مركَّبة من “الحقيقة”‬
‫و”لوجيا” مبعنى ِعلم‪ .‬وبذلك تغدو ِعلم الحقيقة الذي يهدف إىل دراسة الحقيقة فلسف ًّيا وعلم ًّيا يف‬
‫تحليل ملفهوم الحقيقة من خالل معادلة رياض َّية فلسف َّية ناجحة يف التعبري عن العلوم‪.‬‬
‫ً‬ ‫آن‪ ،‬فيصوغ‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬تع ِّرف الحقيقالوجيا الحقيقة وفق املعادلة التالية‪ :‬الحقيقة = كل االحتامالت‬
‫املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة‪.‬‬
‫أسايس ضمن نظريَّة ميكانيكا الك ّم‬
‫ٍّ‬ ‫تعب عن مضمون‬ ‫لهذه املعادلة فضائل عديدة منها أنَّها ِّ‬
‫العلم َّية ما يشري إىل نجاحها فمقبول َّيتها‪ .‬فمتى اعتربنا أ َّن الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷‬
‫ٍ‬
‫حينئذ نستنتج بحق بأ َّن الحقيقة تتك ّون من تزايد االحتامالت املمكنة‬ ‫االحتامالت املستحيلة‪،‬‬
‫وتناقص االحتامالت املستحيلة‪ .‬وبذلك الحقيقة تتض َّمن االحتامالت املستحيلة (رغم تناقصها)‬
‫كاالحتامل املستحيل بأ َّن القطَّة حيَّة وميتة يف الوقت نفسه‪ .‬لكن من املضامني األساسيَّة ضمن‬
‫نظريَّة ميكانيكا الك ّم مضمون أن تكون القطَّة كقطة رشودنغر ح َّية وميتة يف آن[[[‪ .‬هكذا تنجح معادلة‬
‫الحقيقالوجيا القائلة بأ َّن الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة يف التعبري‬
‫العلمي وهو األمر الذي يسهم يف تعزيز صدقها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عن هذا املضمون‬
‫من فضائل هذه املعادلة أيضً ا نجاحها يف التعبري عن وجود األكوان املتوازية املمكنة‪ .‬فإن‬
‫‪[1]- David J. Griffiths: Introduction to Quantum Mechanics. 2018. Cambridge University Press.‬‬

‫‪261‬‬
‫أفنان‬

‫علم بأ َّن االحتامالت املمكنة‬


‫كانت الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة‪ً ،‬‬
‫إل‬
‫مختلفة ومتن ّوعة ومناقضة لبعضها البعض؛ فإنَّها ال تتحقَّق مجتمعة يف كون واحد لتناقضها‪( ،‬و َّ‬
‫مستحيل)‪ .‬إذن‪ ،‬ال ب ّد من وجود أكوان‬
‫ً‬ ‫لكل املتناقضات فأمىس بذلك كونًا‬
‫أصبح الكون حاويًا ِّ‬
‫(بدل من أن تتحقَّق‬
‫ً‬ ‫ممكنة مختلفة تتحقَّق فيها تلك االحتامالت املمكنة املختلفة واملتناقضة‬
‫م ًعا يف كون واحد أو يف الكون نفسه) متا ًما كام تؤكِّد عىل ذلك نظريَّة ميكانيكا الك ّم ونظريَّة‬
‫األوتار العلم َّية[[[‪ .‬من هنا‪ ،‬تنجح معادلة أ َّن الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت‬
‫املستحيلة يف التعبري عن فكرة علميَّة أساسيَّة‪ ،‬مؤ َّداها وجود أكوان ممكنة مختلفة يف حقائقها‬
‫وقوانينها الطبيع َّية‪ .‬وبذلك تكتسب املعادلة املذكورة هذه الفضيلة اإلضاف َّية ما ّ‬
‫يدل عىل مقبول َّيتها‬
‫يف‪.‬‬
‫وتف ُّوقها املعر ّ‬
‫مث َّة كذلك مقاربة أخرى بخصوص هذه املعادلة‪ :‬مبا أ َّن الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷‬
‫االحتامالت املستحيلة‪ ،‬يف اآلن الذي يكون فيه من املحتمل أن تكون الحقائق ماديَّة‪[ .‬كأن تتك َّون‬
‫جسيامت ماديَّة (أل َّن قوانني الطبيعة تتض َّمن مفاهيم مرتبطة بالرضورة باملا َّدة كمفاهيم‬
‫من ذ َّرات و ُ‬
‫الق َّوة والكتلة والتسارع كام يف قانون نيوتن القوة = الكتلة × التسارع]‪ ،‬فإ َّن من املتوقَّع أن تكون‬
‫العلمي الكالسييكّ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫جسيامت ماديَّة متا ًما كام يقول النموذج‬
‫الحقائق ماديَّة كأن تتشكَّل من ذ َّرات و ُ‬
‫ومبا أ َّن الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة‪ ،‬من املحتمل أن تكون‬
‫الحقائق معلومات (أل َّن القوانني الطبيع َّية عبارة عن معلومات كمعلومة أ َّن القوة تساوي الكتلة‬
‫مرضوبة رياض ًّيا بالتسارع)‪ ،‬فمن املتوقَّع أيضً ا أن تكون الحقائق معلومات متا ًما كام يقول الفيزيايئ‬
‫جون ويلر[[[‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬إن كانت الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت‬
‫املستحيلة‪ ،‬بينام من املحتمل أن تكون الحقائق معادالت رياض َّية (أل َّن القوانني الطبيع َّية التي‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ‬ ‫عىل ضوئها ت ُب َنى الحقائق مكتوبة مبعادالت رياض َّية كمعادلة أ َّن الق َّوة = الكتلة × التسارع)‪،‬‬
‫يئ ماكس تغامرك[[[‪ .‬وإن كانت‬
‫الطبيعي أن تكون الحقائق معادالت رياض َّية كام يقول الفيزيا ُّ‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫وعلم بأنه من املحتمل أن تكون‬
‫ً‬ ‫الحقيقة = كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة‪،‬‬
‫ص َو ًرا هولوغرام َّية (أل َّن قوانني الطبيعة تؤ ّدي إىل نتيجة أ َّن معلومات الكون‬
‫الحقائق أوها ًما أي ُ‬
‫يئ ليونارد سسكيند‪،‬‬
‫موجودة عىل سطح الكون بدلً من أن تكون موزَّعة داخله كام يقول الفيزيا ُّ‬

‫‪[1]- Michio Kaku: Parallel Worlds: The Science of Alternative Universes and Our Future in the Cosmos.‬‬
‫‪2006. Penguin books.‬‬
‫‪[2]- James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books‬‬
‫‪[3]- Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf‬‬

‫‪262‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫الطبيعي أن تكون‬
‫ِّ‬ ‫وبذلك فإن قوانني الطبيعة ستفيد بأ َّن الحقائق هي مج َّرد أوهام)[[[‪ .‬إذن‪ ،‬من‬
‫كل هذا يرينا كيف أ َّن معادلة الحقيقالوجيا القائلة بأ َّن الحقيقة‬
‫الحقائق أوها ًما كام يؤكِّد سسكيند‪ُّ .‬‬
‫كل النظريَّات العلميَّة السابقة (القائلة‬
‫= كل االحتامالت املمكنة ÷ االحتامالت املستحيلة تتض َّمن َّ‬
‫حد‬
‫جسيامت ماديَّة ومعلومات ومعادالت رياض َّية وأوهام) وبذلك تو ِّ‬
‫بأ َّن الكون يتك ّون من ذرات و ُ‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫فتحل الخالف القائم ما يجعلها تكتسب هذه الفضيلة الكربى ّ‬


‫فيدل عىل صدقها‪ .‬ومبا‬ ‫ُّ‬ ‫يف ما بينها‬
‫املنطقي أن تعبِّ هذ املعادلة‬
‫ِّ‬ ‫أ َّن معادلة الحقيقالوجيا تتض َّمن النظريَّات العلم َّية السابقة‪ ،‬فمن‬
‫بنجاح عن تلك النظريَّات العلميَّة ما يجعل الحقيقالوجيا ِعلم الحقيقة الذي يدرس الحقائق علميًّا‪.‬‬
‫هكذا تنجح بأن تكون ِعلم دراسة الحقائق علم ًّيا بفضل تض ُّمنها للنظريَّات العلم َّية ونجاحها يف‬
‫التعبري عن النامذج العلميَّة املختلفة ضمن علوم الفيزياء‪ .‬وهي بذلك تتف َّوق أيضً ا عىل أتباع منوذج‬
‫كل تلك النامذج العلم َّية املتنافسة ما يحتِّم قبولها جمي ًعا‪.‬‬
‫حد بني ِّ‬
‫علمي من دون آخر ألنَّها تو ِّ‬
‫ٍّ‬
‫معي لكونها تتض َّمن‬
‫علمي َّ‬
‫ٍّ‬ ‫جن يف منوذج‬
‫موجز القول أن معادلة الحقيقالوجيا تح ِّررنا من أن نُس َ‬
‫كل النامذج العلم َّية األساس َّية املتصارعة‪ .‬من هنا‪ ،‬ستكون معادلة التح ّرر العلمي بامتياز‪.‬‬
‫َّ‬
‫تعب عن فرديَّة هذه الحقيقة أو تلك‪ .‬فالحقائق‬
‫يصح الكالم ه ُهنا أن ال حقيقة بال ماه َّية ِّ‬
‫ُّ‬ ‫مع ذلك‬
‫تتشكّل يف ضوء ماه َّياتها‪ .‬مبا أ َّن الحقائق ت ُع َّرف وت ُع َرف من خالل ماه َّياتها‪ ،‬وال وجود بال إمكان َّية‬
‫فاقد للامه َّية هو فاقد للوجود؛ وبذلك ال يشكِّل حقيقة فعل َّية‪ .‬هذا مع العلم‬ ‫تعريفه‪ ،‬إذن فإ َّن كل ٍ‬
‫بأن ال حقيقة بال ماه َّية‪ ،‬ولذا ال ب ّد من تعريف املاه َّيات ليك نفهم الحقائق والكون الذي يتك َّون‬
‫منها‪ .‬عىل هذا األساس‪ ،‬تصوغ الفلسفالوجيا مصطلح املاه َّيالوجيا كحقل دراسة املاه َّية علم ًّيا‪.‬‬
‫الماهيالوجيا ُّ‬
‫فن إنت�اج املعلومات وتب�ادلها‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫‪.6‬‬
‫املاهيالوجيا أيضً ا كلمة ُمركَّبة من “ماهية” و”لوجيا”‪ .‬وبذلك فهي ِعلم املاهيَّة الذي يدرس‬
‫تحليل علم ًّيا‬
‫ً‬ ‫علم ًّيا كيف َّية تحليلها بهدف إيضاح معانيها ودالالتها‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬هي تق ِّدم‬
‫قابل لالختبار‪ ،‬وتؤكِّد أنَّها معادلة رياضيَّة فلسفيَّة وعلميَّة مفادها التايل‪ :‬املاهية = إنتاج‬
‫للامهيَّة ً‬
‫املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ .‬تنجح هذه املعادلة يف التمييز بني الظواهر املختلفة عىل ضوء‬
‫اختالف املعلومات التي تنتجها الظواهر وتتبادلها‪.‬‬
‫تختلف الظواهر الطبيع َّية كاختالف األشجار والبرش والشمس والزهور ألنَّها تنتج وتتبادل‬
‫معلومات مختلفة كأن تنتج وتتبادل األشجار معلومات بأنَّها مصادر لألوكسيجني وينتج ويتبادل‬

‫‪[1]- Leonard Susskind and James Lindesay: Introduction to Black Holes, Information And the String‬‬
‫‪Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.‬‬

‫‪263‬‬
‫أفنان‬

‫البرش معلومات بأنَّهم مستهلكو األوكسيجني وتنتج الشمس معلومات بأنَّها مصدر الضوء والطاقة‬
‫وتنتج وتتبادل الزهور معلومات بأنَّها مصادر غذاء للنحل والطيور‪ ،‬وتنجح املاهيالوجيا يف التعبري‬
‫عن ذلك‪ .‬فبام أ َّن املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ ،‬إذن من املتوقَّع أن تنتج الظواهر‬
‫الطبيع َّية املعلومات وتتبادلها كام تفعل األشجار والشمس والزهور وكام يفعل البرش‪ .‬من هنا‪،‬‬
‫تنجح يف تفسري ملاذا تنتج وتتبادل الظواهر املعلومات ما ُّ‬
‫يدل عىل صدقها‪.‬‬
‫إىل ذلك‪ ،‬تنجح املاهيالوجيا يف التمييز بني الظواهر املختلفة عىل النحو التايل‪ :‬مبا أ َّن املاهية‬
‫وعلم بأ َّن الظواهر الطبيع َّية تختلف باختالف ماه َّياتها‬
‫ً‬ ‫= إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪،‬‬
‫فاملاهيَّة هي التي بفضلها تكون الظواهر ما هي‪ ،‬إذن تختلف الظواهر الطبيعيَّة باختالف ما تنتج‬
‫وتتبادل من معلومات كأن تختلف األشجار عن البرش بفضل كونها منتجة معلومات مع ّينة منها‬
‫أنها مصادر األوكسيجني‪ ،‬بينام البرش ينتجون معلومات أخرى مختلفة كمعلومة أنهم مستهلكون‬
‫يف‬
‫لألوكسيجني‪ .‬هكذا تنجح يف التمييز بني الظواهر املختلفة ما يربهن عىل تف ُّوقها املعر ِّ‬
‫فمقبوليَّتها‪.‬‬
‫عىل هذا السياق تتمكّن املاهيالوجيا من التعبري بنجاح عن هذا التعريف للامهيَّة ما يؤكِّد مج ّد ًدا‬
‫عىل صدق مضمونها‪ .‬إذًا‪ ،‬كانت املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ ،‬والظواهر الطبيعية‬
‫تنتج وتتبادل املعلومات فتتشكّل بذلك عىل ضوء ما تنتج وتتبادل من معلومات وت ُع َرف من خاللها‬
‫(كأن تتشكّل ظاهرة الشمس من خالل ما تنتجه من معلومات بأنَّها مصدر النور والطاقة وت ُع َرف بأنها‬
‫الشمس من خالل ما تنتج من معلومات مفادها بأنها مصدر النور والطاقة)‪ ،‬إذن الظواهر الطبيعيَّة‬
‫تتك َّون عىل ضوء ماه َّياتها الكامنة يف إنتاج املعلومات وتبادلها‪ ،‬وبذلك تُع َرف من خالل ماه َّياتها‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬تنجح املاهيالوجيا يف التعبري عن أ َّن املاه َّيات هي التي من خاللها تتك َّون الظواهر‬
‫وت ُع َرف‪ .‬إىل ذلك تق ِّرر أ َّن ما ال ينتج املعلومات وال يتبادلها ال ماهيَّة له وبالتايل فال وجود له‪ .‬فإن‬
‫كانت املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ ،‬فإن ما ال ينتج وال يتبادل املعلومات ال‬
‫ماهيَّة له‪ .‬ولكن املاهيَّة أصل الوجود‪ ،‬فعىل أساسها تتك ّون الظواهر‪ .‬وبذلك ما ال ينتج وال يتبادل‬
‫املعلومات ال ماه َّية له فال وجود له‪ .‬ويصدق هذا التن ُّبؤ ما يشري إىل نجاح املاهيالوجيا ومقبول َّيتها‪.‬‬
‫فالذي ال ينتج املعلومات وال يتبادلها من املستحيل أن يُع َرف لعدم تبادله للمعلومات‪ ،‬واستحالة‬
‫معرفة اليشء داللة عىل عدم وجوده‪ .‬من هنا‪ ،‬ما ال ينتج املعلومات وال يتبادلها ال ماه َّية وال وجود‬
‫له متا ًما كام تتنبَّأ املاهيالوجيا‪.‬‬
‫أسايس يع ِّزز صدقها ومفاده التايل‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫علمي‬
‫ٍّ‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬تنسجم املاهيالوجيا مع منوذج‬

‫‪264‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫علمي سائد ضمن العلوم الفيزيائيَّة‪ ،‬يتشكَّل الكون من معلومات وتبادلها كام‬
‫ٍّ‬ ‫بالنسبة إىل منوذج‬
‫َعبَّ َ عن ذلك الفيزيايئ جون ويلر[[[‪ .‬أ َّما املاهيالوجيا فتع ِّرف املاه َّيات بأنَّها إنتاج املعلومات‬
‫وتبادلها‪ ،‬وتق ِّرر أ َّن املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ .‬فهكذا تتض َّمن فكرة أ َّن الكون‬
‫يتشكَّل من معلومات متبادلة لكونه يتشكَّل من ماه َّيات هي عمل َّيات إنتاج املعلومات وتبادلها‪.‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫العلمي‪ .‬باإلضافة‬
‫ّ‬ ‫العلمي السابق وتنسجم مع مضمونه‬
‫ِّ‬ ‫لهذا السبب‪ ،‬تنجح يف التعبري عن النموذج‬
‫إىل ذلك‪ ،‬تعترب املاهيالوجيا نظريَّة علم َّية ألنه من املمكن اختبارها متا ًما كام أنَّها نظريَّة فلسف َّية‪.‬‬
‫أي موجود ال ب َّد من أنَّه ينتج ويتبادل‬
‫فبام أ َّن املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ ،‬إذن ُّ‬
‫املعلومات المتالكه ماه َّية بالرضورة‪ ،‬وبذلك إذا ُوجِدت ظاهرة ال تنتج معلومات وال تتبادلها‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ تكذب املاهيالوجيا‪ .‬هكذا ميكن اختبارها مبا يجعلها علميَّة‪ .‬وإذا كانت املاهية = إنتاج‬
‫املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪ ،‬علامً بأن من املمكن دو ًما إنتاج معلومات أكرث عدديًّا وف ّعال ّية‬
‫وتط ُّو ًرا‪ ،‬يصري من املمكن باستمرار أن نكون ف ّعالني يف صياغة ماهيَّات متط ِّورة أل َّن املاهيَّات‬
‫ليست سوى إنتاج املعلومات القابلة للتط ُّور وتبادل تلك املعلومات املتط ّورة‪ .‬هكذا تضمن‬
‫املاهيالوجيا التط ُّور‪ .‬من املنطلق نفسه‪ ،‬مبا أ َّن املاهية = إنتاج املعلومات ‪ +‬تبادل املعلومات‪،‬‬
‫كتسبة وإما من صناعتنا‪ ،‬إذن ماه َّياتنا معتمدة يف تك ُّونها عىل ما نصوغ من‬
‫واملعلومات إما ُم َ‬
‫معلومات متا ًما كام تعتمد عىل ما نكتسب من معلومات‪ .‬وبذلك تكون ماهيَّاتنا من صنعنا أيضً ا‬
‫ما يضمن أننا خالقو ماه َّياتنا فيضمن أنَّنا أحرار بالفعل بدلً من أن نكون سجناء ماه َّيات ُمح َّددة‬
‫ُمسبَقًا‪ .‬هكذا تنجح املاهيالوجيا يف التعبري عن حريَّتنا وإمكانية تط ُّورنا وتضمن الحريَّة والتط ُّور‬
‫ما ميكِّنها من اكتساب هذه الفضيلة الكربى‪ .‬ولنئ كانت املاهية تعني إنتاج املعلومات وتبادلها‪،‬‬
‫كل االحتامالت املمكنة املرتت ِّبة عىل تلك املعلومات‬
‫فإ َّن املتوقَّع أن تكون الحقيقة هي مجموع ِّ‬
‫التي تنتجها املاهية‪ .‬وبذلك ينسجم تحليل املاه َّية عىل أنَّها إنتاج املعلومات مع تحليل الحقيقة‬
‫عىل أنَّها كل االحتامالت املمكنة‪ .‬فاملعلومات برامج تشري إىل ما قد يحدث بدلً من أن تفرض‬
‫أو تُح ِّدد ما يحدث أو سوف يحدث‪ .‬وبذلك املاهيات كمعلومات تتضمن الحقائق كمجاميع‬
‫احتامالت ممكنة ما يتض َّمن بدوره ال ُمح َّددية الكون‪ .‬وإن كانت املاهيَّة إنتاج املعلومات وتبادلها‪،‬‬
‫إذن من املتوقَّع أيضً ا أن تكون املعرفة املبن َّية عىل ضوء ماه َّيات الحقائق ُمن ِتجة ِّ‬
‫لكل املعتقدات‬
‫املمكنة امل ُتشكِّلة عىل أساس املعلومات التي تتض َّمنها املاهيَّات‪ .‬وتحليل املاهيَّة عىل أنها إنتاج‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪.‬‬
‫املعلومات ينسجم مع تحليل املعرفة عىل أنَّها إنتاج ِّ‬

‫‪[1]- James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books.‬‬

‫‪265‬‬
‫أفنان‬

‫متكّننا التعاريف السابقة من تطبيق هذه املنظوريَّة عىل العرفان يف ضوء ما تق ِّدمه من إيضاح‬
‫كل‬
‫كل املعتقدات املمكنة بينام الحقيقة هي ُّ‬
‫ملعاين املعرفة والحقيقة‪ .‬فبام أ َّن املعرفة إنتاج ِّ‬
‫االحتامالت املمكنة‪ ،‬وأ َّن املعتقدات املمكنة متا ًما كاالحتامالت املمكنة متع ِّددة ومتن ِّوعة‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ ال‬ ‫ومتعارضة‪ ،‬فحاصل القول هو أ َّن املعرفة غري ُمح َّددة‪ .‬ولو كانت املعرفة غري ُمح َّددة‬
‫ب ّد من تعريف العرفان كمصدر أعىل للمعرفة من خالل ال ُمح َّددية املعرفة‪ .‬سوى أ َّن ال ُمح َّددية‬
‫املعرفة تعبري عن ال ُمح َّددية الكون‪ ،‬فبام أ َّن الكون غري ُمح َّدد لذا املعرفة غري ُمح َّددة‪ .‬وبذلك‬
‫ريا صادقًا عن الكون من ج َّراء تضمنه لِال ُمح َّددية املعرفة امل ِّ‬
‫ُعبة عن ال ُمح َّددية‬ ‫يصبح العرفان تعب ً‬
‫حد املعارف وتتَّحد بال ُمح ّدديَّتها ما يستلزم حضور‬
‫الكون‪ .‬ومبا أ َّن املعرفة غري ُمح َّددة‪ ،‬إذن تتو َّ‬
‫وحدة املعارف‪ .‬عىل ضوء هذه االعتبارات‪ ،‬يتض َّمن العرفان ال ُمح َّددية املعرفة ووحدة املعارف‬
‫م ًعا‪ .‬كام تشري املعرفة كمجموع كل املعتقدات املمكنة إىل وحدة املعارف بينام ُّ‬
‫تدل الحقيقة‬
‫يؤسس للعرفان عىل أنه ال ُمح َّدديَّة‬
‫كمجموع كل االحتامالت املمكنة عىل ال ُمح َّددية املعرفة مام ِّ‬
‫املعرفة ووحدة املعارف يف آن‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬تصوغ الفلسفالوجيا مصطلح العرفانلوجيا‬
‫علمي لدراسة العرفان عىل ضوء ال ُمح َّدديَّة املعرفة ووحدة املعارف‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫كحقل‬
‫ُ‬
‫العرفانلوجيا‪ ..‬بوصفها دراسة العرفان ًّ‬
‫علميا‪:‬‬ ‫‪.7‬‬
‫العرفانُلوجيا هي ِعلم العرفان الذي يهدف إىل دراسة العرفان علميًّا من خالل تحليله عىل أنه‬
‫معادلة علم َّية قابلة لالختبار‪ .‬وهي تعترب أنَّه معادلة مفادها التايل‪ :‬العرفان = ال ُمح َّدديَّة املعرفة×‬
‫وحدة املعارف‪ .‬إن كانت املعرفة ُمح َّددة‪ ،‬أو كانت املعارف املتن ّوعة ال تشكِّل نظا ًما معرفيًّا واح ًدا‬
‫فحينئذ تكون املعادلة السابقة كاذبة‪ ،‬وبذلك من املمكن اختبارها ما يجعلها معادلة‬ ‫ٍ‬ ‫ومنسجم‪،‬‬
‫ً‬
‫علميَّة‪.‬‬
‫مادي‪ ،‬أم اعتقا ًدا ( ُمرب َه ًنا عليه)‬
‫ٌّ‬ ‫من غري امل ُح َّدد إن كانت املعرفة اعتقا ًدا ( ُمرب َه ًنا عليه) بأ َّن الكون‬
‫مادي (كأن يكون متك ِّونًا‬
‫ٌّ‬ ‫يل مج َّرد‪ ،‬ولذلك ننجح يف وصف الكون وتفسريه عىل أنه‬
‫بأ َّن الكون مثا ٌّ‬
‫يل مج ّرد (كأن يكون متك ِّونًا من‬
‫من ذ َّرات ماديَّة)‪ ،‬كام ننجح يف وصف الكون وتفسريه عىل أنَّه مثا ٌّ‬
‫يئ جون ويلر‪ ،‬أو متك ِّونًا من معادالت رياض َّية مج َّردة كام يقول‬
‫معلومات مج َّردة كام يقول الفيزيا ُّ‬
‫ُفس نجاح النظريَّات العلميَّة املتن ّوعة يف‬
‫يئ ماكس تغامرك)‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن ال ُمح َّدديَّة املعرفة ت ِّ‬
‫الفيزيا ُّ‬
‫وصف الكون وتفسريه رغم اختالف النظريَّات العلم َّية وتعارضها‪ ،‬وهذه القدرة التفسرييَّة الناجحة‬
‫مادي‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ ال ب ّد من أن تكون إما معرفة بأ َّن الكون‬ ‫ّ‬
‫تدل عىل صدقها‪ .‬فإذا كانت املعرفة ُمح َّددة‬
‫يل مج َّرد أيضً ا من ج َّراء‬
‫مادي وأنه مثا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫يل مج َّرد‪ .‬ولكن‪ ،‬مبا أنَّنا نعرف أنه‬
‫أو معرفة بأ َّن الكون مثا ٌّ‬

‫‪266‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

‫يل مج َّرد يف آن‪ ،‬إذن املعرفة غري ُمح َّددة‪ .‬اآلن‪ ،‬مبا‬
‫مادي ومثا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫نجاح وصف الكون وتفسريه عىل أنه‬
‫عبا عن الحقائق كحقيقة‬
‫أ َّن املعرفة غري ُمح َّددة بينام من املفرتض أن يكون مصدر العرفان إله ًّيا ف ُم ِّ ً‬
‫أ َّن املعرفة غري ُمح َّددة‪ ،‬إذن ال ب ّد من تحليل العرفان من خالل ال ُمح َّددية املعرفة متا ًما كام تؤكِّد‬
‫عىل ذلك معادلة العرفان‪ .‬ومبا أنه من املفرتض أن يكون مصدر العرفان إله ًّيا‪ ،‬ال ب ّد من أن يكون‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫الرضوري أن يتض َّمن وحدة املعارف‬


‫ِّ‬ ‫العرفان خال ًيا من الخطأ كأن يكون غري متناقض‪ .‬إذن‪ ،‬من‬
‫ألنَّه بغيابها تتعارض املعارف وتتناقض ما يعارض أن يكون مصدر العرفان إله ًّيا‪ .‬من هذا املنطلق‪،‬‬
‫ال ب َّد أيضً ا من تحليل العرفان من خالل وحدة املعارف متا ًما كام تفعل معادلة العرفان بقولها‬
‫إنَّه يساوي ال ُمح َّددية املعرفة مرضوبة رياض ًّيا بوحدة املعارف‪ .‬وإن كانت املعرفة غري ُمح َّددة‬
‫ومنسجم بفضل ال ُمح َّدديتها‪ .‬هكذا ال‬
‫ً‬ ‫حقل معرف ًّيا واح ًدا‬
‫ً‬ ‫كل املعارف املتن ّوعة تشكِّل‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ ُّ‬
‫ُمح َّددية املعرفة مرتبطة بالرضورة بوحدة املعارف ما ّ‬
‫يدل عىل مصداقية تحليل العرفان من خالل‬
‫ال ُمح َّددية املعرفة ووحدة املعارف م ًعا‪.‬‬
‫عىل صعيد موازٍ‪ ،‬متيِّز املعرفة الحسيَّة والعقليَّة الناقصة بني املعارف‪ ،‬كالتمييز بني املعرفة بأ َّن‬
‫يل مج َّرد‪ .‬وبذلك فإ َّن العرفان امل ُع َّرف بوحدة املعارف وال‬
‫مادي واملعرفة بأ َّن الكون مثا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫الكون‬
‫الحسيَّة والعقليَّة السائدة‪ .‬هكذا تنجح معادلة العرفان يف التعبري عن‬
‫ّ‬ ‫ُمح َّدديتها يتعاىل عىل املعرفة‬
‫يل ومج ّرد ألنَّه‬
‫مادي‪ ،‬هي مطابقة للمعرفة بأ َّن الكون نفسه مثا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫تعايل العرفان‪ .‬فاملعرفة بأ َّن الكون‬
‫وصف ويُفسَّ عىل أنَّه‬
‫يل مج ّرد يف آن (كأن يُ َ‬ ‫مادي ومثا ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫من املمكن وصف الكون وتفسريه عىل أنَّه‬
‫متك ِّون من ذ َّرات ماديَّة ومعلومات مج َّردة أو معادالت رياض َّية مج َّردة م ًعا)‪ .‬ومعادلة العرفان تنجح‬
‫املعرفتي ج َّراء تض ُّمنها لوحدة املعارف ما ُّ‬
‫يدل عىل تف ّوقها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫يف التعبري عن وحدة هاتني‬
‫الحسيَّة والعقليَّة‪ .‬ولكن تتعاىل الوحدة‬
‫ّ‬ ‫كل املعارف التي من ضمنها املعرفة‬
‫العرفان وحدة ِّ‬
‫الحس َّية والعقل َّية‪ .‬من هنا ستفلح‬
‫ّ‬ ‫أي جزء منها‪ .‬وبذلك يختلف ويتعاىل عىل املعرفة‬
‫وتختلف عن ّ‬
‫أسايس من جواهر العرفان ما يشري‬
‫ٌّ‬ ‫معادلة العرفان أيضً ا يف تفسري ملاذا قبول اآلخر هو جوهر‬
‫إىل صدقها‪ .‬فبام أ َّن العرفان = ال ُمح َّددية املعرفة× وحدة املعارف‪ ،‬إذن تتساوى كل األنظمة‬
‫املعرفية واالعتقادية فال أفضليَّة العتقاد منسجم عىل اعتقاد منسجم آخر مختلف من ج َّراء وحدة‬
‫يؤسس العرفان للفلسفة‬
‫املعارف وال ُمح َّدديتها مام يحتِّم قبول اآلخر وإن اختلف عنا‪ .‬وبذلك ِّ‬
‫حقل معرفيًّا‬
‫ً‬ ‫اإلنسانويَّة القامئة عىل قبول اآلخر املختلف‪ .‬إن كانت املعارف املتن ّوعة تشكِّل‬
‫ومنسجم‪ ،‬إذن ال تفضيل ملعرفة عىل أخرى‪ .‬وإن كانت املعرفة غري ُمح َّددة‪ ،‬إذن ال تفضيل‬
‫ً‬ ‫واح ًدا‬
‫العتقاد (منسجم ذاتيًّا) عىل اعتقاد آخر‪ .‬وبهذا تتساوى املعتقدات واملعارف فتتساوى السلوكيَّات‬

‫‪267‬‬
‫أفنان‬

‫كل األفراد والثقافات واألديان‬


‫القامئة عىل تلك املعارف واملعتقدات ما يتض َّمن املساواة بني ِّ‬
‫واألنظمة الفلسفيَّة والعلميَّة‪ .‬هكذا تكون معادلة العرفان معادلة اإلنسانويَّة بامتياز‪.‬‬
‫مثل عن العرفان قول إبن عريب شع ًرا ‪:‬‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫طائف ‪/‬‬ ‫وبيت ألوثانٍ وكعب ُة‬
‫ٌ‬ ‫فمرعى لغزالنٍ ودي ٌر لرهبانِ ‪/‬‬
‫ً‬ ‫كل صور ٍة ‪/‬‬‫قابل َّ‬
‫«لقد صا َر قلبي ً‬
‫ب ديني وإمياين”[[[‪.‬‬ ‫ح ُّ‬
‫جهت ‪ /‬ركائ ُب ُه فال ُ‬ ‫أن تو ّ‬
‫ب ّ‬‫ح ِّ‬ ‫ومصحف قرآنِ ‪ /‬أدي ُن بدينِ ال ُ‬
‫ُ‬ ‫وألواح تورا ٍة‬
‫ُ‬
‫عب بذلك‬
‫لكل الظواهر الطبيعيَّة واألديان املتع ِّددة فيُ ِّ‬
‫عري قبول القلب ّ‬
‫النص الشِّ ُّ‬
‫ّ‬ ‫يتض َّمن هذا‬
‫عن وحدة الوجود ووحدة األديان واملعارف‪.‬‬
‫مثل آخر عىل العرفان قول رابعة العدوية شع ًرا‪:‬‬
‫ٌ‬
‫َ‬
‫بذكرك‬ ‫ب الهوى ‪ /‬فشغيل‬ ‫ح ُّ‬ ‫أهل َ‬
‫لذاك ‪ /‬فأما الذي هو ُ‬ ‫ح َّباً ألن َّك ٌ‬
‫ب الهوى ‪ /‬و ُ‬
‫ح َّ‬
‫بي ُ‬
‫ح ْ‬‫“أح ُّب َك ُ‬
‫أراك ‪ /‬فال الحم ُد يف ذا وال َ‬
‫ذاك يل ‪/‬‬ ‫أهل له ‪ /‬فال أرى الكون حتى َ‬ ‫أنت ٌ‬ ‫َ‬
‫سواك ‪ /‬وأما الذي َ‬ ‫ع َمن‬
‫لك الحم ُد يف ذا َ‬
‫وذاك”[[[‪.‬‬ ‫ولكن َ‬
‫النص الشِّ عري‪ ،‬ال تتمكّن رابعة من رؤية الكون سوى من خالل رؤية الله‪ ،‬وبذلك تعلو‬
‫ّ‬ ‫يف هذا‬
‫عن رؤية ثنائيَّات الكون الكاذبة فتصل إىل وحدة املعارف برؤية وحدانيَّة الله ومعرفته‪.‬‬
‫يعب العرفان عن ال‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ ِّ‬ ‫ولنئ كان العرفان يعني ال ُمح َّدديَّة املعرفة ووحدة املعارف م ًعا‪،‬‬
‫يعب عن انسجام الكون بفضل وحدة املعارف‪.‬‬‫ُمح َّدديَّة الكون من خالل ال ُمح َّدديَّة املعرفة كام ِّ‬
‫منسجم فهو ُم ِ‬
‫نتظم ما‬ ‫ً‬ ‫هكذا يتضمن العرفان أ َّن الكون منسجم رغم ال ُمح َّدديته‪ .‬وإن كان الكون‬
‫ميكّننا من معرفته عىل ضوء انتظامه‪ .‬من هنا‪ ،‬يتض َّمن العرفان إمكان َّية معرفة الكون رغم ال ُمح َّدديَّة‬
‫كل املعتقدات املمكنة‪ ،‬وإن تعارضت‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ تصدق ُّ‬ ‫املعرفة‪ .‬فإن كانت املعرفة غري ُمح َّددة‬
‫فكري منسجم‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫كل نظام‬
‫فتولد املعارف املتع ِّددة واملتن ِّوعة ويصدق ُّ‬

‫[[[‪ -‬ديوان إبن عريب‪ .2012 .‬دار صادر للطباعة والنرش‪.‬‬


‫‪.‬ديوان رابعة العدو َّية وأخبارها‪ :‬موفق فوزي الجرب‪ .1999 .‬دار النمري للطباعة والنرش والتوزيع ‪[2]-‬‬

‫‪268‬‬
‫الميتافيزيقا ـ لوجيا‬

:‫قائمة املراجع واملصادر‬


:‫المصادر العربية‬
.2012 ‫ بريوت‬،‫ دار صادر للطباعة والنرش‬،‫ديوان إبن عريب‬1.1
‫م‬2023 ‫هـ ــ شتاء‬1444 ‫العدد الرابع ــ‬

:‫المصادر األجنبية‬
1. Plato: Complete Works. 1997. Hackett Publishing.
2. David J. Griffiths: Introduction to Quantum Mechanics. 2018. Cambridge
University Press.
3. Michio Kaku: Parallel Worlds: The Science of Alternative Universes and Our
Future in the Cosmos. 2006. Penguin books.
4. Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf
5. Leonard Susskind and James Lindesay: Introduction to Black Holes,
Information And the String Theory Revolution: The Holographic Universe.
2004. World Scientific Publishing Company.
6. Brian Greene: The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and
the Quest for the Ultimate Theory. 2000. Vintage Books.
7. Albert Einstein: Relativity: The Special and General Theory. 2010. Dover
Publications.
8. James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books
9. David A. Shiang: God Does Not Play Dice: The Fulfillment of Einstein’s
Quest for Law and Order in Nature. 2008. Open Sesame Productions.
10. Stephen Hawking: Does God Play Dice? www.hawking.org.uk
11. Richard Rorty: Contingency, Irony, and Solidarity. 1989. Cambridge
University Press.

269
‫المحور‬

‫ميدغل‬
‫ي‬ ‫«اإلنسان والوحش»‪ :‬للفيلسوفة ب‬
‫ال�يطانية ماري‬
‫عرض وتقديم‪ /‬أ‪.‬د‪ /‬حمادة أحمد ي‬
‫عل‬
‫يز‬
‫ميتاف�يقا؟‬ ‫كيف يمكن قيام‬
‫يز‬ ‫ف‬
‫الميتاف�يقا وعدم إمكانها‬ ‫دراسة ي� إمكان‬
‫عرض وتحليل‪ :‬كريم عبد الرحمن‬
‫«اإلنسان والوحش» للفيلسوفة البريطانية‬
‫ماري ميدغلي‬
‫استقراء جذور الطبيعة اإلنسان َّية‬

‫عرض وتقديم‪ /‬أ‪.‬د‪ /‬حمادة أحمد ي‬


‫عل‬

‫يتح َّدث هذا الكتاب عن كيفيَّة إجراء املقارنات وأه ّميَّتها‪ ،‬بني‬
‫عاملني وجوديني‪ :‬عامل اإلنسان العاقل وعامل الحيوان وكيفية انعقاد‬
‫صالت الوصل بينهام والنظام الحاكم عىل هذه ال ِعالقة‪ .‬وحسب ما‬
‫يُستنتج من الكاتبة ماري ميدغيل‪ ،‬أ َّن الفجوة بني اإلنسان والحيوانات‬
‫األخرى‪ ،‬تأيت من موضع مختلف عن املوضع الذي يضعه التقليد‪،‬‬
‫الذي يع ُّد موضو ًعا ض ّيقًا‪ .‬يف حني أ َّن الجدل يف األخالق قد ش َّوه‬
‫النظرة الرتاث َّية‪ ،‬ورمبا تس َّبب يف أخطاء حول اإلمكانات املتاحة‬
‫للبرش‪.‬‬

‫ريا من الناس يكره استعامل مفاهيم‬


‫ترى املؤلِّفة ميدغيل أ َّن كث ً‬
‫مستنبطة من سلوك الحيوان لوصف املشهد اإلنساين‪ ،‬فاالستعامل‬
‫األ َّول مثري للجدل إذ يطرح أمامنا معلومات عن الحيوانات نفسها‪،‬‬
‫تغي بشكل مبارش فكرتنا عن اإلنسان‪ ،‬أل َّن هذه الفكرة‬
‫وهذه املعرفة ِّ‬
‫اإلنسان والوحش للفيلسوفة البريطانية ماري ميدغلي‬

‫قد تتأطَّر من الناحية الرتاثيَّة بتفاوت الجهل العميق والفكرة املش َّوهة عن األنواع األخرى‪ ،‬وميكننا‬
‫حح هذا الجهل والتشويه بالقول أ َّن نوع الحيوان الذي يظهر لنا ىف املالحظة الدقيقة ال‬
‫اآلن أن نُص ِّ‬
‫بأي حال بالبرش‪ ،‬كام اعتدنا القيام بهذه املحاكاة الساخرة‪.‬‬
‫ميكن مقارنته ِّ‬

‫يف الواقع‪ ،‬ال يزال لدى الناس كثري من األشياء امله َّمة والواضحة التي ال متتلكها األنواع‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫األخرى‪ ،‬مثل الكالم والعقالن َّية والثقافة وغريها‪ ،‬ومن الرضورة أن تكون املقارنة عادلة‪ ،‬وال نحاول‬
‫إنكار تف ُّردها‪ ،‬بل فهم كيف تجري يف ما هو كائن‪ .‬وأنواع الحيوانات الرئيسة ليست عالمة تجاريَّة‬
‫آللة أو منط لروح بال جسد‪ .‬لذا‪ ،‬تحاول الكاتبة أن تُظهر هذه القدرات بوصف استمرارها مع‬
‫طبيعتنا الحيوان َّية‪ ،‬وارتباطها ببنيتنا األساس َّية للدوافع‪.‬‬

‫يل أ َّن هذه املحاولة ينبغي أن تغزو أرض عرشات املوضوعات‪ ،‬وأ َّن املرشوع ال يزال فلسف ًّيا‪،‬‬
‫ج ٌّ‬
‫ألي سؤال هو مشكلة فلسف َّية‪ .‬وال يعني هذا بالطبع‬
‫أل َّن اكتشاف كيف َّية وضع املفاهيم األساس َّية ِّ‬
‫أن نستحرض فيلسوفًا حتى يقوم بهذا العمل‪ .‬فالعلامء الذين هم مبكانة نيوتن وداروين يطرحون‬
‫خاص بنا‪ .‬وال ب َّد من‬
‫ٍّ‬ ‫مفاهيمي‬
‫ٍّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬ونحن جمي ًعا نعمل إىل ح ٍّد ما عىل تطوير نظام‬
‫َّ‬ ‫فلسفتهم‬
‫اإلشارة إىل أ َّن التح ُّدث بالفلسفة‪ ،‬كام التح ُّدث بال َّنرث‪ ،‬أم ٌر علينا مامرسته طوال حياتنا‪ ،‬سوا ٌء أكان‬
‫س ّيئًا أم حس ًنا‪ ،‬وسوا ٌء ألحظناه أم مل نلحظه‪ ،‬وما يجربنا عادة عىل مالحظته هو الرصاع‪ .‬أ َّما يف ما‬
‫يتعلَّق بطبيعتنا الحيوان َّية فقد نشأت فوىض جسيمة بني العنارص املختلفة يف تراث الفطرة السليمة‪،‬‬
‫كل‬
‫وبني الفطرة السليمة والعديد من الدراسات املكتسبة‪ ،‬وبني الدراسات املكتسبة ذاتها‪ ،‬وبني ِّ‬
‫توصل إليها من تح َّملوا عناء مراقبة األنواع األخرى‬
‫هذه األمور والحقائق الجديرة باملالحظة التي َّ‬
‫بال تحيُّز يف العقود القليلة املاضية‪.‬‬

‫التخصصات تتعلَّق باملوضوع‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫لقد حاولت الكتابة من دون اصطالحات تقن َّية؛ أل َّن عدي ًدا من‬
‫وأعتقد أنه من الرضورة مناقشته بلغة واضحة‪ ،‬وليس هذا عىل اإلطالق طرفًا من هبوط املستوى‪،‬‬
‫وترجمة للمسألة املكتسبة يف اصطالحات أش َّد يف ق َّوتها وأضعف يف توافقها‪.‬‬

‫كل موضوع يُط ِّور لغة تقنيَّة تناسب افرتاضاته‪ ،‬وقد تكون هذه حسنة مبا يكفي الستعاملها‬
‫إ َّن َّ‬
‫يف هذا املوضوع‪ ،‬وقد تعمل بشكل سيّئ يف ربطه بجريانه‪ ،‬ففي مسائل املنهج العام للغاية‪ ،‬من‬
‫الرضورة أن تجرب املرء عىل أن يكتب ويتح َّدث بالُّلغة اإلنكليزيَّة السهلة‪ ،‬وكام هو معروف اعتاد‬
‫أي زمن قد نشأت جزئيًّا‬
‫األكادميي عىل أ َّن الحدود بني املوضوعات التي تعارف عليها يف ِّ‬
‫ُّ‬ ‫املشهد‬

‫‪273‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫عن طريق الصدفة‪ ،‬وهي ت ُحيي ذكرى شخصيَّات رائدة قويَّة وأجزاء من التعليم املناسب‪ ،‬وحتى‬
‫تدفُّق أموال البحث مثل املبادئ الواقعيَّة للدراسة‪ ،‬قد تتقاطع معها البنية الحقَّة للمشكالت‪.‬‬

‫أي اكرتاث عىل اإلطالق‪ ،‬ونحن نحتاج‬


‫ترى ميدغيل أ َّن ويلسون ال يق ِّدم يف ما يتعلَّق بالسياسة َّ‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لكل غاية سياس َّية‪ ،‬ناهيك باألغراض اإلصالح َّية والثوريَّة عىل نح ٍو‬
‫الجيني ِّ‬
‫ِّ‬ ‫إىل فهم دستورنا‬
‫تخطيطي عجيب‪ ،‬ميكن مقارنته‬
‫ٌّ‬ ‫وفكرة أ َّن مبقدور اإلصالحيني االستغناء عن هذا الفهم هو انحراف‬
‫إىل ح ٍّد بعيد مبوقف الكنيسة املسيح َّية يف القرن التاسع عرش عندما رفضت نظريَّة التط ُّور‪ ،‬بل‬
‫يشبه رفضها املامثل لجاليليو يف القرن السابع عرش‪ ،‬ويف كلتا الحالتني أرهقت نفسها وش َّوهتها‪،‬‬
‫وفقدت مصداق َّيتها من أجل مواجهة خطر متو َّهم‪ .‬فمعظم املسيحيني اليوم يقبلون بسهولة أن‬
‫األرض ال يجب أن تكون يف وسط الكون‪ ،‬وأ َّن اإلله إن كان قاد ًرا عىل خلق الحياة عىل اإلطالق‬
‫فبمقدوره أن يفعل ذلك أيضً ا بالتط ُّور‪ ،‬كام هو الحال باألمر العاجل‪ .‬وكثريون قد يضيفون القول‬
‫العضوي الشديد التعقيد هو معجزة كربى‪ ،‬ومل يحتاجوا كثري عناء يف ذكر هذا األمر‬
‫َّ‬ ‫أ َّن هذا األداء‬
‫فضل عن تناقضها‬
‫ً‬ ‫والقصة التي وردت يف سف َري التكوين األول والثاين‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بوصفه إظها ًرا للحقيقة‪،‬‬
‫مع ذاتها‪ ،‬تتعارض مع أمور أخرى كثرية يجب تصديقها‪ .‬والواقع أ َّن الثوريني واإلصالحيني اليوم‬
‫ليسوا يف حاجة إىل اإلبقاء عىل عقيدة أ َّن اإلنسان غري محتوم‪ ،‬فهم يحتاجونها مثل ثقب يف الرأس‪،‬‬
‫االجتامعي ترى أ َّن اإلنسان هو نتاج مجتمعه بالكامل‪ ،‬ويجب أن تد َّمر‬
‫ِّ‬ ‫وهذه العقيدة يف شكلها‬
‫الوجودي‪ ،‬حيث ترى أنَّنا نخلق‬
‫ِّ‬ ‫كل الحجج املركزيَّة كام افرتضت‪ ،‬وهذه العقيدة أيضً ا يف شكلها‬
‫ُّ‬
‫أنفسنا من ال يشء‪ ،‬ال معنى لها‪.‬‬

‫أجزاء الكتاب‪:‬‬
‫يف الجزء األ َّول‪ :‬أنظر يف االفرتاض القائل بأ َّن اإلنسان مختلف متا ًما عن األنواع األخرى‪ ،‬حيث‬
‫إنَّها بال طبيعة عىل اإلطالق‪ .‬وأتساءل‪ :‬ماذا ميكن أن يعني هذا؟ كام أحاول تحديد الصعوبات يف‬
‫التفكري عن حاجز األنواع بشكل مبارش‪ ،‬وتطهري املفاهيم الخرقاء مثل الغريزة والغاية والطبيعة‬
‫رض بكرامة‬
‫نفسها‪ ،‬وأستنتج أنَّنا إذا فهمنا هذا عىل نحو رصيح‪ ،‬فإن االعرتاف بأ َّن لدينا طبيعة ال ي ُّ‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫يف الجزء الثاين‪ :‬أتساءل عن كيف َّية دراسة هذه الطبيعة‪ ،‬وهنا يجب أن ننظر يف العرض املستفيض‬

‫‪274‬‬
‫اإلنسان والوحش للفيلسوفة البريطانية ماري ميدغلي‬

‫ريا من الناس يشاركونه‬


‫من ويلسون وعلامء األحياء اآلخرين ليتولَّوا مها َّم الوظيفة‪ ،‬وال ريب يف أ َّن كث ً‬
‫أي استفسار الئق هو جز ٌء من بعض العلوم الفيزيائيَّة‪ ،‬وينبغي إجراؤه مبا هو‪ .‬وأشري‬
‫شكوكه يف أ َّن َّ‬
‫إىل مدى صعوبة التفكري يف الخلفيَّة التي نحتاجها هنا‪ ،‬والتي ال متثِّل جز ًءا من العلم نفسه‪ ،‬مع‬
‫أ َّن من الرضورة أن يُجرى العلم بشكل صحيح‪ ،‬وهو بح ِّد ذاته «علم»‪ ،‬مبعنى أن يكون منضبطًا‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ومنهجيًّا ومناسبًا‪ .‬ث َّم أوضح هذه النقطة من الناحية العمليَّة من خالل توضيح مجموعة متشابكة‬
‫من املفاهيم‪ ،‬من بينها «الجني األناين» و «الّلياقة الجينيَّة الشاملة» ‪ ،‬والتي تفسد كتاب ويلسون‬
‫املفيد‪ ،‬وتؤخِّر الفهم العا َّم للتط ُّور‪.‬‬

‫يف الجزء الثالث‪ :‬أنتقل إىل النتائج العمل َّية‪ ،‬وهل ميكن أن يؤث ِّر فهمنا لطبيعتنا عىل حياتنا؟‬
‫التصاعدي الثابت يف التط ُّور‪ ،‬حيث‬
‫ِّ‬ ‫املحية بل العميقة الجذور لالتِّجاه‬
‫ّ‬ ‫وألقي نظرة عىل الفكرة‬
‫يل‬
‫كان الداروين ّيون االجتامع ّيون و «األخالق ّيون التط ّوريّون» يأملون يف استخدام هذا كدليل عم ٍّ‬
‫مبارش‪ ،‬ولكن حقائق التط ُّور ال ميكن أن ترشدنا عىل نحو مبارش‪ .‬إنَّها مه َّمة فحسب بقدر ما ميكن‬
‫ين‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن فهمنا لذلك يعطينا‬
‫العاطفي والعقال ِّ‬
‫ِّ‬ ‫أن تساعدنا عىل فهم طبيعتنا ودستورنا‬
‫توجيهات عمل َّية‪ ،‬والحقائق املتعلِّقة به ذات صلة مبارشة بالقيم‪ ،‬احتياجات سجل القيم‪ ،‬ومن‬
‫الخطأ االفرتاض أ َّن هناك حاج ًزا منطق ًّيا‪ ،‬قد يدين مثل هذا التفكري بـ «مغالطة طبيع َّية» (الفصل ‪.)9‬‬
‫عقول بال جسد‪ ،‬وال بحاجة إىل أن نكون كذلك‪ ،‬بل نحن مخلوقات من نوع مح َّدد عىل‬
‫ً‬ ‫فنحن لسنا‬
‫هذا الكوكب‪ ،‬وهذا يشكِّل ِق َيمنا‪.‬‬

‫يف الجزء ال َّرابع‪ - :‬وهو جوهر الكتاب حقًّا‪ -‬أعترب أ َّن من املسلَّم به أ َّن املفهوم العا َّم المتالكنا‬
‫طبيعة قد أُثبِت بالفعل‪ ،‬وأنظر يف العالقة بني أجزائه املتباينة‪ ،‬وألقي نظرة عىل العالمات التقليديَّة‬
‫لإلنسان‪ ،‬مثل الكالم والعقالن َّية والثقافة‪ ،‬وأحاول توضيح كيف ميكننا تأ ُّملها‪ ،‬ال باعتبارها غريبة أو‬
‫معادية للبنية العاطف َّية الرئيسة التي نشبه فيها أنوا ًعا أخرى كثرية‪ ،‬بل باعتبارها تنمو منها وتكملها‪،‬‬
‫فالعاطفة والعقل ليسا خصمني‪.‬‬

‫يف الجزء الخامس‪ :‬أق ِّدم استنتا ً‬


‫جا موج ًزا يرشد نحو مزيد من العمل‪ ،‬وفيه أجرف عىل َعجلٍ‬
‫الحيوي‬
‫ِّ‬ ‫أي شعور جا ٍّد ملحيطنا‬ ‫ريا من األسوار التي ُو ِ‬
‫ضعت لتمنعنا من رؤيتنا ألنفسنا‪ ،‬كام يف ِّ‬ ‫كث ً‬
‫الذي نجد فيه أنفسنا‪ ،‬مع إظهار خطر ‪ -‬كرامتنا الحقيقيَّة من أجل بقائنا ‪ -‬اإلرصار عىل العزلة‬
‫الجذريَّة‪ ،‬وأستنتج أ َّن اإلنسان ال ميكن أن يفهم وال أن يأمن مبفرده‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫قالوا عن الكتاب‪:‬‬
‫يقول جوزيف يو ‪« :Joseph Yue‬إ َّن ميدغيل يف هذا الكتاب قد التقطت ً‬
‫قلم‪ ،‬ورضبت مبليار‬
‫نيوتن عىل رأس من يقولون بنظريَّة الورق الفارغ‪ ،‬حيث ترى أنَّه ليس لدينا طبيعة برشيَّة فطريَّة مثل‬
‫كل يشء‪ ،‬فاألشياء املكتوبة هي من الثقافة واملجتمع‪،‬‬
‫األوراق الفارغة ميكن أن نكتب عليها َّ‬
‫وسعت‬
‫وميكن محوها وتغيريها حسب ال َّرغبة‪ .‬وحتى األوراق الفارغة ال متتلك طبيعة فطريَّة‪ .‬وقد َّ‬
‫الفلسفي مبعرفتها البيولوجيَّة الهائلة‪ ،‬ملناقشة مجموعة واسعة من املوضوعات‬
‫َّ‬ ‫ميدغيل تألُّقها‬
‫السلبي‬
‫ِّ‬ ‫التي تتعلَّق بالطبيعة البرشيَّة والحيوانات والجينات والثقافة والسلوك‪ ،‬وت ُش ِّدد عىل الجانب‬
‫ين للطبيعة البرشيَّة‪ ،‬ويبدو أنَّها تقلِّل من تف ُّرد اإلنسان‪.‬‬
‫أي األصل الحيوا ّ‬
‫التخصصات‪ ،‬فالحجج‬
‫ُّ‬ ‫يقول زاك ‪ :zach‬هذا الكتاب أفضل صنف من الفلسفة‪ ،‬وهو متع ِّدد‬
‫التي يق ِّدمها تناقض اختزال َّية فرويد وعلامء البيولوجيا االجتامع َّية مثل ويليون ودوكينز‪ ،‬واملشكلة‬
‫التي تتعامل معها ميدغيل هي عام إذا كان لدينا طبيعة أم ال‪ ،‬وماذا ميكن أن تخربنا هذه الطبيعة‪،‬‬
‫فمن الصعب أن تخربنا العلوم اإلنسان َّية عن الكيف الذي ميكن أن نعيش به حياتنا‪ ،‬وال ينبغي أن‬
‫النقدي فحسب‪ ،‬بل يجب أن‬
‫ِّ‬ ‫تسعى الجامعات إىل الهدف املج َّرد الذي يتمثَّل يف تحسني الفكر‬
‫تعني الناس عىل فهم كيف تبدو الحياة التي ميكن أن نعيشها عىل نحو حسن‪.‬‬

‫يقول شيام ساوندر‪ :‬هذا الكتاب أحد أفضل الكتب التي قرأتها عن الطبيعة البرشيَّة‪ ،‬حتى أشعر‬
‫بأنني أقلِّل من مرتبة جميع الكتب األخرى التي قرأتها يف حيايت‪ .‬إنَّها قراءة صعبة للغاية‪ ،‬ولكنها‬
‫متوسط لفهم ما تتح َّدث عنه‬
‫ِّ‬ ‫أيضً ا مفيدة للغاية‪ ،‬ويحتاج املرء إىل فهم الفلسفة الغربيَّة مبستوى‬
‫ريا لالهتامم‪ ،‬وكذلك نقدها‬
‫االجتامعي لويلسون مث ً‬
‫ِّ‬ ‫يف معظم املواضع‪ ،‬ويُع ُّد نقدها لعلم األحياء‬
‫لألنانيَّة والسلوكيَّة‪ .‬من هنا‪ ،‬يجب أن تكون القراءة إلزاميَّة لجميع طالب العلوم اإلنسانيَّة‪ ،‬إلخراج‬
‫كل هراء من رؤوسهم‪.‬‬

‫يقول دومنال ‪ :Domhnall‬ما مي ِّيز عمل ماري ميدغيل هو أنَّها مضت يف تطوير فلسفة أخالق َّية‬
‫يئ الذي نرش عام ‪ ،1979‬وأعي َد نرشه عام ‪ .1995‬وهي‬
‫بديلة‪ ،‬وضعتها يف هذا الكتاب االستثنا ِّ‬
‫تخصص الفلسفة‬
‫ُّ‬ ‫عىل مدى السنوات الفاصلة‪ ،‬قامت برتبية عائلة واستكشفت مواضيع خارج‬
‫األكادمي َّية‪ ،‬لك َّنها عىل وجه الخصوص أصبحت مفتونة بالبحوث التجريب َّية يف سلوك الحيوان يف‬

‫‪276‬‬
‫اإلنسان والوحش للفيلسوفة البريطانية ماري ميدغلي‬

‫تغي فهمنا لعلم نفس الحيوان‬


‫بدل من املختربات‪ ،‬تلك الدراسات التي مل ّ‬
‫الدراسات امليدانيَّة ً‬
‫فحسب‪ ،‬بل أظهرت يف الوقت نفسه مدى مشاركة البرش يف الصفات‪ ،‬ألنَّهم ليسوا مثل الحيوانات‬
‫املتفش يف الفلسفة األخالقيَّة بني الطبيعة‬
‫ّ‬ ‫فحسب‪ ،‬بل هم أيضً ا حيوانات‪ .‬وهي تدرس االنفصال‬
‫وتبي أ َّن هذا غري مستدام‪ .‬نحن‬
‫ّ‬ ‫والتنشئة‪ ،‬والشعور والتفكري‪ ،‬والجسد وال ُّروح‪ ،‬والحقائق والقيم‪،‬‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫بحاجة إىل فهم سيكولوجيَّة الحيوانات والبرش‪ ،‬وعلينا أن نفهم الدوافع التحفيزيَّة الطبيعيَّة لدى‬
‫أي نوع آخر لن يكون للُّغة أو املنطق أو الثقافة معنى أو أهميَّة من دونها‪.‬‬
‫البرش كام هو الحال يف ِّ‬
‫ِّ‬
‫نب�ذة عن املؤلفة‪:‬‬
‫عمل يف‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫ومحاضة بجامعة «نيوكاسل»‪ ،‬لها خمسة عرش‬ ‫ماري ميدغيل فيلسوفة بريطان َّية‬
‫خالصا»‪ ،‬و«التط ُّور بوصفه دي ًنا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫مجال العلوم واألخالق وحقوق الحيوان‪ ،‬ومنها «العلم بوصفه‬
‫و«الفساد»‪ ،‬و«الرئيس َّيات األخالق َّية»‪ .‬ونرشت سريتها الذات َّية بعنوان «بومة ميرنفا»‪ ،‬ووصفتها صحيفة‬
‫الـ«غارديان» الربيطان َّية بـ«الفيلسوفة املقاتلة»‪.‬‬

‫كانت ميدغيل واحدة من أربع نساء عىل األقل درس َن الفلسفة يف «أوكسفورد» يف سنوات‬
‫الحرب العامليَّة الثانية‪ ،‬ور َد ْدن عىل الفلسفة األخالقيَّة السائدة التي تركَّزت يف إنكلرتا عىل الوضعيَّة‬
‫يل‬
‫املنطقيَّة‪ ،‬ويف فرنسا عىل الوجوديَّة‪ ،‬ويف كلتا الحالتني أنتجت الصورة الرومانسيَّة عن إنسان بطو ٍّ‬
‫اللنهائيَّة للحرب‪.‬‬
‫يقف وحي ًدا أمام الهاوية َّ‬

‫‪277‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫كيف يمكن قيام ميتافزي يقا؟‬


‫دراسة يف إمكان امليتافزي يقا وعدم إمكانها‬

‫عرض وتحليل‪ :‬كريم عبد الرحمن‬

‫كيف ميكن قيام ميتافيزيقا؟ هو أحد أبرز األسئلة التي يجري‬


‫تداولها راه ًنا يف األوساط األكادمي َّية واملعاهد الفلسف َّية‪ .‬وهو‬
‫يكتسب أهم َّية علم َّية ومعرف َّية بعد أزمنة مديدة من الجدل حول‬
‫طبيعة املصطلح اإلشكال َّية‪ ،‬وكذلك حول مرشوع َّية أو ال مرشوع َّية‬
‫ستدل عليه بالعقل والتجربة‪.‬‬‫علم يُ ُّ‬
‫الحديث عن امليتافيزيقا بوصفها ً‬
‫شك يف أن هذه األسئلة شهدت انعطافات وتب ُّدالت عرب‬ ‫وليس من ٍّ‬
‫األسايس هو ذاك الذي شهدته أزمنة‬‫َّ‬ ‫تاريخ الفلسفة‪ ،‬إلَّ أ َّن املنعطف‬
‫الحداثة يف الغرب‪ ،‬حيث دعا معظم الفالسفة‪ ،‬بد ًءا من القرن السابع‬
‫الفلسفي استنا ًدا إىل‬
‫ِّ‬ ‫عرش‪ ،‬إىل استبعاد امليتافيزيقا من حقل البحث‬
‫العلمي حيالها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫األحكام القطع َّية التي أجراها العقل‬
‫اإلسالمي للدراسات‬
‫ّ‬ ‫يحاول هذا الكتاب الصادر عن “املركز‬
‫واألكادميي مهدي قوام صفري‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫اإلسرتاتيج َّية”‪ ،‬ملؤلِّفه الباحث‬
‫مقاربة هذه اإلشكال َّية من خالل وضع عنوان جاء بصيغة السؤال‬
‫وأغلب الظ ِّن‬
‫ُ‬ ‫حول الكيف َّية التي ميكن أن تقوم عليها امليتافيزيقا‪.‬‬
‫أ َّن املؤلِّف أراد من هذا العنوان‪ /‬السؤال أن يضمر هذه اإلمكان َّية‬
‫بعد استعراض طويل لألزمات املعرف َّية و البنيويَّة التي تع َّرضت لها‬
‫الفلسفة منذ أرسطو إىل حقبة الحداثة‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫كيف يمكن قيام ميتافيزيقا؟‬

‫يحتوي الكتاب عىل خمسة فصول سعى من خاللها لتحليل ونقد أبرز املحطَّات التي م َّرت‬
‫بها املباين األساسيَّة لنظريَّات املعرفة الفلسفيَّة من قبيل‪ :‬مبدأ الهديَّة والنزعة الفطريَّة – اإلدراك‬
‫وصول إىل الفصل الخامس‬ ‫ً‬ ‫الحس ومفهوم الوجود – املفاهيم‪،‬‬‫ِّ‬ ‫الحس ومبدأ الهويَّة – اإلدراك‬
‫ِّ‬
‫وعقل ومعرفة‪.‬‬
‫ً‬ ‫الذي يحاول فيه اإلجابة عن السؤال وتقديم أطروحته القائلة بإمكان امليتافيزيقا نظ ًرا‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫أصل املصطلح واملفهوم‪:‬‬


‫يتناول الكتاب مفهوم امليتافيزيقا يف نشأته اليونان َّية األوىل ويف تط ُّوراته املعرف َّية التي رست يف‬
‫اإلسالمي‪ .‬كام يتط َّرق إىل املرتكزات الفلسف َّية للمفهوم‬
‫ّ‬ ‫فضاءات الفلسفة‪ ،‬وال سيام يف الفضاء‬
‫وصول إىل ما دأبت عليه الفلسفة الغرب َّية يف سياق تأصيالته الحديثة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انطالقًا من تعريفاته القدمية‬
‫يك للميتافيزيقا هو ما ق َّدمته الفلسفة‬
‫لعل أبرز التح ُّوالت التي استج َّدت عىل التعريف الكالسي ِّ‬
‫َّ‬
‫الحديثة من تنظريات وجدت تأسيساتها مع الفيلسوف األملاين إميانويل كانط‪ .‬فقد رأى أ َّن‬
‫امليتافيزيقا هي العلم بالالّمحسوسات‪ ،‬لكن سيبدو لنا كام لو أنه كان مضطربًا مرت ِّد ًدا يف هذا‬
‫جا هو التايل‪:‬‬
‫الخصوص حيث سيق ِّدم لهذا السؤال جوابًا مزدو ً‬
‫‪ - 1‬امليتافيزيقا هي العلم بالله والنفس والعامل‪.‬‬
‫‪ - 2‬امليتافيزيقا هي العلم بالله والنفس وحرية اإلرادة‪.‬‬
‫بي املؤلف ـ ألنّه انبثق وأُوجِد يف حقبة علم املعرفة‬ ‫لقد كان هذا التص ُّور غري مسبوق ـ كام يُ ِّ‬
‫يب الحديث‪ ،‬ومل ت ُعترب امليتافيزيقا أب ًدا مج َّرد علم بالَّالمحسوسات ال يف الفلسفة اإلسالميَّة‬‫الغر ِّ‬
‫وال يف فلسفة القرون الوسطى‪ ،‬وال حتى يف الفلسفة اليونانيَة القدمية نفسها‪ ،‬أي‪ :‬عند أرسطو عىل‬
‫وجه التحديد‪ .‬مهام يكن من أمر‪ ،‬فإ َّن ما يعرتض عليه كانط من تعاليم أسالفه ليس امليتافيزيقا‪ ،‬بل‬
‫الخاصة‪ ،‬وهو ما سيتع َّرض له هذا الكتاب بالتحليل والنقد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫جسدته تعالي ُم ُه‬
‫هو شبح َّ‬
‫املصطلحي للمنظومة الفلسف َّية األرسط َّية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫من الواضح أ َّن تاريخ امليتافيزيقا انحكم يف التأسيس‬
‫يف مستهل كتابه املس َّمى «ما بعد الطبيعة»‪ ،‬يس ّمي أرسطو ما نس ّميه امليتافيزيقا بالحكمة (سوفيا)‪،‬‬
‫ويصفه بأنَّه بحث عن التبيينات (آيتياي) أو العلل‪ ،‬وعلم تبييني (إبستيمي)‪ .‬وكان يقصد أ َّن الحكمة‬
‫املعي هو ما هو عليه‪ .‬ولذا‪ ،‬فإ َّن علم التبيني هو ذلك العلم‬ ‫َّ‬ ‫هي عل ٌم يقول لنا ملاذا ذلك اليشء‬
‫العلمي‪ .‬لطاملا أطلق أرسطو عىل امليتافيزيقا‬
‫ّ‬ ‫اإلبستيمي ببساطة بأنَّه العلم‬
‫ِّ‬ ‫العلمي‪ ،‬وميكن ترجمة‬
‫ُّ‬
‫اسم اإلبستيمي‪ ،‬بل ويف الفصل األول من كتاب «اپسيلن» من «ما بعد الطبيعة» يس ّمي هذا العلم‬
‫العلمي األول) ألنَّه يعتقد أ َّن الحكمة (ما بعد الطبيعة) تبحث عن أكرث‬‫ّ‬ ‫بالپروته اپيستمه (العلم‬
‫كل‬
‫وتفس َّ‬‫ِّ‬ ‫تبي‬
‫وتأصُّل‪ ،‬وهي التي يس ّميها التبيينات واألصول األوىل‪ ،‬ألنَّها ّ‬
‫ً‬ ‫التبيينات جذريَّة‬
‫األشياء‪ ،‬أي جميع األشياء املوجودة‪ .‬وهكذا‪ ،‬يع ِّرف قارئ كتابه «ما بعد الطبيعة» تدريج ًّيا عىل‬

‫‪279‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫القضيَّة الرئيسيَّة يف امليتافيزيقا (الحكمة)‪ ،‬وهي‪ :‬ما هو الوجود؟ وال ي َّدعي أ َّن هذا السؤال من‬
‫كل املفكِّرين السابقني طرحوا منذ القدم هذا السؤال‪،‬‬‫اخرتاعه‪ ،‬بل عىل العكس يذهب إىل أ َّن َّ‬
‫وكان مبعث حرية وتيه‪ ،‬وال يزال كذلك إىل اآلن (ما بعد الطبيعة‪ ،‬زتا‪ 1028 ،1 ،‬ب ‪ 2‬ـ ‪:)4‬‬
‫الواقع أ َّن ما جرى البحث عنه دامئًا‪ ،‬اآلن ومنذ القدم‪ ،‬وكان دامئًا سبب حرية هو السؤال القائل‪:‬‬
‫ما هو الوجود؟‬
‫وبهذا‪ ،‬يعتقد أرسطو أ َّن املفكِّرين قبله أيضً ا حقَّقوا يف الوجود وتفلسفوا بشأن الواقع (ما‬
‫بعد الطبيعة‪ ،‬آلفا الكبرية‪ 983 ،3 ،‬ب ‪ 1‬ـ ‪ .)3‬ففي الفصول ‪ 1‬ـ ‪ 10‬من الكتاب األول من «ما‬
‫بعد الطبيعة» يذكر بوضوح أسامء الفالسفة الذين سبقوه إىل الخوض يف قض َّية الوجود وهم‪:‬‬
‫طالس‪ ،‬وأناكسيمنس‪ ،‬وديوجنس‪ ،‬وهيپاسوس من أهل متاپونتوس‪ ،‬وهرياقليطس‪ ،‬وإمبادوقليس‪،‬‬
‫وإنكساغوراس‪ ،‬وهرموتيموس من أهل كالزومناي‪ ،‬وليوكيپوس ودميقريطس‪ ،‬والفيثاغوريني‪،‬‬
‫وإفالطون نفسه‪ .‬بل ميكننا حتى القول أ َّن هسيودوس أيضً ا قد تابع هذه املسألة‪ .‬حتى أ َّن أرسطو‬
‫يَ ِع ُد بأنه يجب يف املستقبل تصنيف هؤالء املفكّرين بحسب تق ُّدمهم يف اكتشاف القض َّية‪ ،‬ولكن‬
‫يلوح أنَّه نيس الحقًا وعده هذا فلم يذكر شيئًا بهذا الخصوص‪.‬‬
‫االفتتاحي من «ما بعد الطبيعة» يق ِّرر فيه أرسطو أن إثارة السؤال عن الوجود هو مثرة‬ ‫ِّ‬ ‫الفصل‬
‫ين‪ .‬يقول لنا يف الفصل األول إ َّن سائر‬ ‫حرية وتيه (ثايومازين) اإلنسان وتوقه إىل أداء واجبه اإلنسا ّ‬
‫قليل‪« ،‬أ َّما‬
‫ً‬ ‫الحيوانات تعيش بتص ُّوراتها وذكرياتها‪ ،‬وال تتمتَّع بالتجربة (امپرييا) املتواصلة إلّ‬
‫البرشي فيعيش بالف ِّن (تخنه) واالستدالالت (لوغيسمويس) أيضً ا»‪ .‬وهو يذهب إىل أ َّن‬ ‫ُّ‬ ‫الجنس‬
‫التوصل إىل إدراكات كل َّية (كاثولو)‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫للحواس التي تتعامل مع الجزئ َّيات‪ ،‬عبارة عن‬ ‫ِّ‬ ‫الف َّن خالفًا‬
‫الحواس ال تستطيع‬ ‫َّ‬ ‫وهذا من شأن اإلنسان فقط‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإ َّن من الفوارق بينهام أ َّن‬
‫أب ًدا تقرير ملاذية (تو ديايت) يشء من األشياء وإعطاءها لنا وإتحافنا بها‪ ،‬بينام يَ ْعر ُِف الف ُّن «اللامذيَّ َة‬
‫الحواس أنَّها حكمة‪ .‬فالحكمة معناها‬ ‫ِّ‬ ‫ني (العلَّة) م ًعا»‪ .‬ولهذا السبب ال يتس َّنى اعتبار أيًّا من‬ ‫والتبي َ‬
‫وخصوصا اللامذات األكرث كل َّية‪ ،‬والتي تتحفنا بالتبيينات‬ ‫ً‬ ‫الخوض يف ملاذيَّة األشياء واألمور‪،‬‬
‫البرشي‪ ،‬والتعاطي بها هو يف الحقيقة أدا ٌء ألكرث‬ ‫ِّ‬ ‫(العلل) األوىل‪ .‬إنَّها الوظيفة املعرف َّية للجنس‬
‫واجبات اإلنسان املعرفيَّ ِة إنسانيَّةً‪.‬‬
‫يف الفصل الثاين يقول لنا إ َّن الحرية والتيه كانا املنطلق والخطوة األوىل نحو أداء هذه الوظيفة‬
‫يصح بشأن الفالسفة األوائل وحسب‪ ،‬بل وحتى اآلن أيضً ا‪ .‬اإلنسان الذي‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان َّية‪ .‬وهذا كالم ال‬
‫يجد نفسه حائ ًرا تائ ًها سيشعر أنَّه جاهل‪ ،‬لذلك سيحاول إزالة جهله عن طريق كسب املعرفة‪ .‬تبدأ‬
‫سؤال‬
‫ً‬ ‫الحكمة عن طريق حرية اإلنسان وتيهه حيال مسألة الوجود‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فسؤال الوجود ليس‬

‫‪280‬‬
‫كيف يمكن قيام ميتافيزيقا؟‬

‫نفسه كلُغ ٍز عىل اإلنسان من حيث هو إنسان‪ ،‬وهذه حقيقة يعضّ دها ـ‬
‫عاديًّا‪ ،‬إمنا يعرض الوجو ُد َ‬
‫حسب رأي أرسطو ـ حتى تاريخ الفالسفة األوائل‪.‬‬

‫بني أرسطو وأفالطون‪:‬‬


‫نظرة أرسطو هذه ت ُعترب نسخة أخرى لنظرة إفالطون الذي سبقه يف الحديث عن حالة الحرية‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫خصوصا‪ ،‬يطرح بوضوح الطابع امللغّز‬


‫ً‬ ‫إزاء الوجود‪ .‬ويف محاورة السوفسطايئ (‪ 242‬ب فام بعد)‬
‫للوجود مع إشارات إىل معتقدات املاضني املتن ِّوعة يف هذا املضامر‪ .‬ورمبا (ورمبا أكرث من رمبا)‬
‫كان أرسطو عندما يتح َّدث عن لغز الوجود ويعتربه املحور األه َّم لنقاشات املاضني واملعارصين‪،‬‬
‫رمبا كان يستذكر تعليامت أستاذه‪.‬‬
‫َب من أجل‬ ‫معرفة أ َّن الحكمة تبدأ من منطلق الحرية والتيه تفيض إىل نتيجة فحواها أنَّها ت ُطل ُ‬
‫َب‬
‫ألي هدف نافع آخر‪ .‬والواقع يؤيّد هذه الفكرة‪ ،‬أل َّن هذا العلم يُطل ُ‬ ‫املعرفة والعلم فقط‪ ،‬وليس ّ‬
‫كل رضورات الحياة واألشياء التي يحتاجونها لرفاههم وراحتهم‪.‬‬ ‫فقط عندما تتوفَّر للبرش مسبقًا ُّ‬
‫يل إننا يف بحثنا عن هذا العلم ال نبحث عن أية أرباح أو منافع أخرى غريه‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫إذن‪ ،‬من الج ّ‬
‫كام نقول‪ :‬إ َّن اإلنسان الح َّر هو اإلنسان الذي يعيش لنفسه وليس لآلخر‪ ،‬كذلك‪ :‬نبحث عن هذه‬
‫الحكمة كعلمٍ ح ّر (اليوثران) ف ّذ فريد‪ ،‬ألنها موجودة من أجل نفسها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ينبغي النظر إىل هذا‬
‫عمل إلهيًّا مبعنيني‪:‬‬
‫العلم الح ِّر باعتباره ً‬
‫‪ 1‬ـ التوفُّر عىل مثل هذا العلم الح ِّر فوق قدرة اإلنسان‪ ،‬أل َّن طبيعة اإلنسان مق َّيدة بقيود شتَّى‬
‫وألسباب عديدة‪ ،‬وعىل ح ِّد تعبري سيمونيدس (‪« )Simonides‬الله (ثيوس) وحده هو الذي يستطيع‬
‫التحل بهذه امليزة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫إلهي‪ ،‬أل َّن‬
‫ّ‬ ‫‪ 2‬ـ من ناحية أخرى‪ ،‬يتناول هذا العلم األمور اإللهيَّة (ثيوس) وموضوعه موضوع‬
‫كل األشياء‪ ،‬وهو األصل األول‪ .‬وهذا العلم يخوض يف هذه‬ ‫التص ُّور هو أ َّن الله موجو ٌد بني علل ِّ‬
‫العلل واألصول األوىل‪ ،‬وبالتايل سيكون الله أيضً ا موضو َع دراسته‪.‬‬
‫أي عال ِـمٍ آخر‪ ،‬وأ َّن الله ميتلكه إ َّما‬
‫يعتقد أرسطو أنَّه رغم أ َّن هذا العلم جدير بالله أكرث من ّ‬
‫كل من سواه‪ ،‬فخالفًا لكالم سيمونيدس‪ ،‬وجريًا عىل املثل القائل إ َّن الشعراء‬ ‫مبفرده أو أكرث من ِّ‬
‫ريا ما يكذبون‪ ،‬وأل َّن األلوه َّية ليست حسود ًة بخيلةً‪ ،‬لذا يستطيع اإلنسان أيضً ا التوفُّر عىل هذا‬
‫كث ً‬
‫«كل العلوم األخرى يف الواقع أكرث رضور ًة منه‪،‬‬ ‫العلم‪ .‬وضع َّية الحكمة هذه تعني يف الحقيقة أ َّن َّ‬
‫لكن أيّ ًـا منها ليس بأفضل منه»‪ .‬وهكذا‪ ،‬باملستطاع تسميتها من حيث املعنى الثاين باإلله َّيات (ثيو‬
‫لوغيكه)‪.‬‬
‫كل ما م َّر بنا من قو ٍل‪ ،‬يتس َّنى استخالص نتائج ع َّدة منها أ َّن أرسطو عند ذكره لسامت الحكمة‬
‫من ِّ‬

‫‪281‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫أخص يعادل معنى ما بعد الطبيعة‪ .‬لسوفيا كام‬‫َّ‬ ‫يف «ما بعد الطبيعة» استخدم مفردة “سوفيا” مبعنى‬
‫مم أراده يف البحوث السابقة‪ .‬ويشمل هذا‬ ‫معنى أوس ُع َّ‬
‫ً‬ ‫مثل من «األخالق النيقوماخية‪»7 ،6 ،‬‬‫يتبي ً‬
‫َّ‬
‫املعنى األوسع حتى الطبيعيَّات والسياسة وكذلك مهارات الفنون‪ .‬عىل أنَّه يستخدم هذه املفردة‬
‫خاص‪ ،‬ويقرصها عىل علم واحد من بني العلوم والفنون‪ .‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫هنا ـ خالفًا لباقي آثاره ـ مبعنى‬
‫املعنى عبارة عن علم العلل األوىل أو العلم بأع ِّم العلل وأكرثها كلّيَّةً‪ .‬وهذا هو اليشء الذي أطلق‬
‫عليه من بعده اسم “علم ما بعد الطبيعة”‪.‬‬
‫إذا كانت ما بعد الطبيعة علم العلل (التبيينات) األوىل أو العلل (التبيينات) األعم واألكرث كليةً‪،‬‬
‫إذن ميكن حال ًّيا تشخيص سمتني اثنتني لها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما بعد الطبيعة أو امليتافيزيقا هي علم التبيينات األوىل أو النهائ َّية‪ ،‬أي علم التبيينات التي ال‬
‫تحتاج إىل تبيني‪ ،‬وهي بذلك نهائ َّية‪.‬‬
‫لكل األشياء‬
‫لكل يشء‪ ،‬أي أنَّه علم يطرح يف الوقت نفسه تبيي ًنا ِّ‬
‫تبييني ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫‪ 2‬ـ امليتافيزيقا علم‬
‫كل األشياء املوجودة يف آن واحد‪ .‬يس ّمي أرسطو امليتافيزيقا من‬ ‫ويبي جان ًبا من صفات ِّ‬
‫املوجودة‪ّ ،‬‬
‫تبي‬ ‫الكل أ َّن امليتافيزيقا ّ‬
‫الكل (كاثولو اپيستمه)‪ .‬طب ًعا ليس قصده من العلم ّ ِّ‬
‫حيث سمتها الثانية العلم ّ َّ‬
‫كل يشء من حيث أنَّه موجود ال من حيث أ َّن‬ ‫تبي َّ‬
‫كل يشء‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬امليتافيزيقا ّ‬ ‫كل يشء حول ِّ‬ ‫َّ‬
‫معي‪ .‬وهكذا فامليتافيزيقا عبارة عن علم التبيينات واألصول النهائ َّية‬ ‫كل واحد من هذه األشياء يشء َّ‬ ‫َّ‬
‫لكل يشء من حيث هو موجود ال من حيث أنَّه يشء معني‪ .‬هنا يتالقى التعريفان اللذان يطرحهام‬ ‫ِّ‬
‫أرسطو للميتافيزيقا ويرتبطان أحدهام باآلخر‪ .‬والحقيقة هي أ َّن تعريفه األول للميتافيزيقا باعتبارها علم‬
‫التبيينات واألصول النهائية لكل يشء يفيض بشكل طبيعي إىل التعريف الثاين للميتافيزيقا باعتبارها‬
‫علم تبيني الوجود من حيث هو وجود‪ .‬وهو يكتب يف هذا الصدد (ما بعد الطبيعة‪ ،‬گاما‪1003 ،1 ،‬‬
‫ألف ‪ 21‬ـ ‪:)24‬‬
‫“مث َّة علم يحقِّق يف الوجود مبا هو وجود الصفات التي يتَّصف بها بسبب طبيعته‪ .‬وهذا ليس‬
‫الخاصة‪ ،‬أل َّن أيًّـا من العلوم األخرى ال تدرس الوجو َد مبا هو وجود‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مم نس ّميه العلوم‬
‫أيًّـا َّ‬
‫وعليه‪ ،‬متى ما خضنا يف امليتافيزيقا نكون يف الواقع قد درسنا أصول وعلل األشياء املوجودة‪،‬‬
‫وواضح أنَّنا هنا ندرس أصول األشياء وعللها باعتبارها وجو ًدا‪ ،‬وليس األشياء باعتبارها أشياء‪.‬‬
‫فاألشياء مبا هي أشياء تدرس يف العلوم التي تس ّمى علو ًما خاصة‪ ،‬وليس يف علم امليتافيزيقا‪ .‬والواقع‬
‫يدرس طبق ًة من املوجودات من حيث أ َّن لها صفات معيَّنة‪ ،‬أ َّما يف‬
‫ُ‬ ‫يئ)‬
‫خاص (جز ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫كل علم‬
‫هو أ َّن َّ‬
‫كل ما هو موجود من‬ ‫امليتافيزيقا فال يقترص البحث عىل طبقة مع َّينة من املوجودات‪ ،‬إمنا يندرج ُّ‬
‫امليتافيزيقي‪ ،‬مهام كان ذلك اليشء املوجود وأليَّة طبقة‬
‫ِّ‬ ‫حيث كونه موجو ًدا ضمن نطاق البحث‬

‫‪282‬‬
‫كيف يمكن قيام ميتافيزيقا؟‬

‫من املوجودات انتمى‪ ،‬سواء إىل املحسوسات أم إىل غريها‪ ،‬وسواء إىل األشياء الخالدة أم األشياء‬
‫الفانية‪ .‬فلامذا كانت امليتافيزيقا هكذا؟ ألنَّها تبحث عن األصول والتبيينات األوىل للوجود مبا هو‬
‫لكل املوجودات مهام كانت هو أنَّها موجودة‪ ،‬أي أ َّن لها وجودها‪.‬‬ ‫وجود‪ ،‬والوجه املشرتك األول ِّ‬
‫امليتافيزيقي من حيث املوضوع هي بالضبط م َديات الوجود‪ ،‬وإىل أين‬ ‫ِّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن م َديات البحث‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫ما امت َّدت مساحة الوجود امت َّد معها حضور امليتافيزيقا‪ .‬وكل من يطلق وصفًا أو تعريفًا لها‪ ،‬عن عمد‬
‫أو عن غري عمد‪ ،‬يتقلَّص مبوجبه موضو ُع بحثها إىل يشء أو أشياء معيَّنة‪ ،‬يكون يف الواقع قد هبط بها‬
‫يئ)‪ .‬امليتافيزيقا ليست غري محدودة بيشء أو أشياء مع َّينة وحسب‪،‬‬ ‫خاص (علم جز ّ‬
‫ٍّ‬ ‫إىل مستوى علمٍ‬
‫كل األشياء ولكن ال من حيث كونها موجودة بل من حيث َّيات‬ ‫بل حتى لو افرتضنا وجود علم يدرس ّ‬
‫كل الجواهر‪،‬‬ ‫ألي علم أن يخوض يف ِّ‬ ‫وأساسا‪ ،‬ال ميكن ِّ‬‫ً‬ ‫أخرى‪ ،‬فإ َّن هذا العلم لن يكون ميتافيزيقا‪.‬‬
‫ين‬
‫محتمل‪ :‬ففي هذه الحالة سيكون هناك عل ٌم برها ٌّ‬ ‫ً‬ ‫معقول أو‬
‫ً‬ ‫وإذا قال قائل بذلك مل يكن قوله هذا‬
‫معي بانطالقه‬ ‫ِ‬
‫الصفات الذات َّي َة ملوضوع َّ‬ ‫س‬‫ين يَد ُر ُ‬
‫أي علم برها ٍّ‬ ‫كل الصفات‪ ،‬أل َّن َّ‬ ‫س َّ‬
‫واحد فقط يَد ُر ُ‬
‫من املعتقدات املشرتكة‪.‬‬
‫لكل الجواهر؟ ال يوجد‪ ،‬أل َّن كل علم‬ ‫أي علم ذاك الذي يدرس األعراض والصفات الذات َّية ِّ‬ ‫ُّ‬
‫يئ كام يس ّمى‪ .‬عىل سبيل املثال مث َّة علم‬‫خاص أو جز ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫معي‪ ،‬هو علم‬
‫يدرس الصفات الذاتية لجوهر َّ‬
‫خاص يدرس «األشياء التي ال تنفصل عن املا َّدة لكنها ليست غري متح ِّركة»‪ ،‬وهو «العلم الطبيعي»‪.‬‬ ‫ٌّ‬
‫إذن‪ ،‬فـ «عدد أجزاء الفلسفة بعدد أنواع الجواهر»‪ .‬وعلم الرياضيَّات هو اآلخر ال ميكنه أن يدرس‬
‫كل الجواهر ألنَّه أيضً ا يتعامل مع أشياء غري متح ِّركة‪ ،‬ولكن من املحتمل أنَّها غري موجودة منفصل ًة‬ ‫َّ‬
‫الطبيعي وال علم الرياض َّيات‪ ،‬يستطيعان الخوض يف‬ ‫ُّ‬ ‫عن املا َّدة‪ ،‬بل هي يف املا َّدة‪ .‬إذن‪ ،‬ال العلم‬
‫لكل الجواهر‪ .‬وعليه‪ ،‬فتقييد امليتافيزيقا بدراسة الصفات الذات َّية لجواهر مع َّينة مثل‬ ‫الصفات الذات َّية ِّ‬
‫أي‬‫اعتباري مثل العالَم يف كلّيَّته‪ ،‬هو تجاهل ملاهيَّة البحث فيها‪ .‬فليس ُّ‬
‫ٍّ‬ ‫الله أو النفس‪ ،‬أو لجوهر‬
‫معي هو ميتافيزيقا‪.‬‬
‫علمٍ يبحث يف الصفات الذات َّية ألمر َّ‬
‫يف إمكان امليت�افزييقا‪:‬‬
‫حسب الفلسفة األوىل وأسئلتها التأسيس َّية يُطرح السؤال التايل‪:‬‬
‫كل الجواهر ودراستها؟ هذا سؤال‬ ‫بأي منهج كان‪ ،‬يستطيع البحث يف ِّ‬ ‫أال يوجد علم واحد‪ِّ ،‬‬
‫يجد أرسطو نفسه أمامه يف الفصل الثاين من الكتاب «بيتا» من «ما بعد الطبيعة»‪ .‬هل مثل هذا العلم‬
‫ممكن؟ ال مراء يف أنَّه يف هذه الفقرة ويف فقرات مامثلة من كتابه «ما بعد الطبيعة»‪ ،‬يطرح الشكل‬
‫الصائب للمسألة‪ ،‬والذي طرح بعد ذلك بتعبري «إمكان امليتافيزيقا»‪ .‬الشخص الذي طرح هذه‬
‫املسألة بهذا النحو‪ ،‬وبسبب موجة معاداة األرسطيَّة التي شاعت يف تلك الحقبة التي تس َّمى عرص‬

‫‪283‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫التنوير‪ ،‬مل يكن يتص َّور أب ًدا أن يكون أرسطو قد طرح مثل هذه املسألة‪ ،‬وبشكلها الصحيح‪ ،‬وق ّدم‬
‫لها إجابة معقولة‪ .‬إنَّ ا تص َّور أنَّه طرح مسألة مل تكن مطروحة لدى إنسان من قبله‪ ،‬وأل َّن تص ُّوره‬
‫عن أساس هذا العلم‪ ،‬كام سرنى يف أواخر هذا الفصل‪ ،‬مل يكن تص ُّو ًرا صائ ًبا‪ ،‬لذا مل يستطع أن‬
‫الخاص يف بيئة فهمٍ غري‬‫ِّ‬ ‫يجد لسؤاله املكرور إجاب ًة معقولةً‪ ،‬بل إن سؤاله‪ ،‬وبسبب ترعرعه ونشوئه‬
‫كل‬ ‫خ معا ٍد لألرسطيَّة‪ ،‬كان يف األساس سؤالً استنكاريًّا‪ ،‬وقد انصبَّت ُّ‬ ‫ح للميتافيزيقا‪ ،‬ويف منا ٍ‬ ‫صحي ٍ‬
‫سلبي له انطالقًا من مق ِّدماته غري الصائبة التي تب َّناها‪ .‬لقد تص َّور‪ ،‬كشخص‬
‫ٍّ‬ ‫جهوده عىل إنتاج جواب‬
‫امليتافيزيقي‪ ،‬ويجفِّفان‪ ،‬دفع ًة‬
‫ِّ‬ ‫سمني من الورم‪ ،‬أ َّن سؤاله وإجابته يغلقان إىل األبد طريق البحث‬
‫كل الكتّاب امليتافيزيقيني‪ ،‬ويص َّدانهم عن الكتابة حول امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫واحدةً‪ ،‬األحبا َر يف أقالم ِّ‬
‫كان أرسطو حسب مؤلِّف هذا الكتاب واع ًيا لقض َّية إمكان امليتافيزيقا التي يشار إليها اآلن باسم‬
‫صعوبة (آپوريا) بيتا الثالثة‪ ،‬وقد كان جوابه عن هذه املسألة بالطبع إيجاب ًّيا‪ :‬من بني الفلسفات‬
‫س الجوه َر غري املتح ِّرك (اإلله َّيات) متق ِّدم ًة‬
‫س يف ما تَد ُر ُ‬
‫النظريَّة يجب أن تكون الفلسفة التي تَد ُر ُ‬
‫وفلسف ًة أوىل (االسم اآلخر للحكمة وامليتافيزيقا)‪ .‬وأل َّن هذه الفلسفة أوىل فهي كليَّة‪ .‬وهي كليَّة‬
‫تختص بدراسة الوجود مبا هو وجود‪ ،‬سواء ما هو الوجود أو صفاته التي يتَّصف بها مبا‬ ‫ُّ‬ ‫مبعنى «أنَّها‬
‫سؤال صع ًبا‬
‫ً‬ ‫هو وجود»‪ .‬إذن‪ ،‬إجابة أرسطو عن السؤال الكامن يف صعوبة بيتا الثالثة‪ ،‬والذي يعتربه‬
‫يشك‬ ‫أو مسألة صعبة‪ ،‬إجابة إيجاب َّية من جهة واحدة فقط‪ ،‬ومن امله ِّم التأكيد عىل هذه الجهة‪ .‬ال ُّ‬
‫لكل الجواهر‪ .‬وهذا يعني أ َّن‬ ‫أرسطو أب ًدا يف أنه ال ميكن لعلم واحد مبفرده دراسة الصفات الذاتيَّة ِّ‬
‫لكل يشء من حيث أ َّن ذلك اليشء موجود‪،‬‬ ‫العلم الواحد ال يستطيع دراسة الخصوص َّيات األصل َّية ِّ‬
‫الخاصة (الجزئ َّية بهذا املعنى)‪ .‬ولك ْن‪ ،‬مث َّة يف هذه الغمرة عل ٌم‬ ‫َّ‬ ‫فهذه مه َّمة تقع عىل عاتق العلوم‬
‫نظري وثان ًيا ليس أيّ ًـا من العلوم الجزئ َّية‪ ،‬أي علوم الطبيع َّيات والرياض َّيات واإلله َّيات‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫أول عل ٌم‬‫هو ً‬
‫كل هذه العلوم النظريَّة‪ ،‬يدرسها من‬ ‫كل الجواهر التي متثِّل موضوع بحث ِّ‬ ‫ومع ذلك فهو يدرس َّ‬
‫كل‬ ‫جه ٍة وحيث َّي ٍة مع َّين ٍة كموضوع له‪ .‬هذا العل ُم‪ ،‬الذي يس َّمى الحكمة أو ما بعد الطبيعة‪ ،‬يدرس َّ‬
‫هذه الجواهر رغم خصوص َّياتها املتفاوتة‪ ،‬من حيث‪ -‬فقط من حيث‪ -‬كونها موجودة‪ ،‬ولها بسبب‬
‫كل الجواهر من حيث َّية واحدة كل َّية‪ ،‬تتعلَّق‬ ‫خاصة‪ .‬والحقيقة أ َّن امليتافيزيقا تدرس َّ‬ ‫َّ‬ ‫وجودها صفاتٌ‬
‫بوجود الجواهر‪ ،‬وليس بأشياء معيَّنة وال بتفاوت الجواهر يف ما بينها‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬يعتقد أرسطو أ َّن‬
‫علم واح ًدا هو علم األصول األوىل والعلل والتبيينات األوىل والنهائ َّية‪،‬‬ ‫امليتافيزيقا ممكنة‪ ،‬بصفتها ً‬
‫علم بالوجود مبا هو وجود وبامللحقات الذات َّية للوجود مبا هو وجود‪.‬‬
‫ويف الوقت ذاته ً‬

‫امليت�افزييقا يف طورها احلدايث‪:‬‬


‫اشتغلت الفلسفة الحديثة‪ ،‬وبحكم تأثري التح ُّوالت املعرف َّية وبداية الثورات الصناع َّية‪ ،‬عىل‬

‫‪284‬‬
‫كيف يمكن قيام ميتافيزيقا؟‬

‫ين إميانويل‬
‫إحداث تح ُّوالت جوهريَّة يف مه َّمة امليتافيزيقا‪ .‬ومن املعروف أ َّن الفيلسوف األملا َّ‬
‫سيتول فتح الباب عىل تلك التح ُّوالت والتي تنطلق من مرشوعه الشهري الداعي إىل‬ ‫َّ‬ ‫كانط هو الذي‬
‫تحويل الفلسفة إىل علم وإقامة الح ِّد عىل امليتافيزيقا بصيغتها الكالسيك َّية اإلغريق َّية‪.‬‬
‫يوضح املؤلِّف أ َّن امليتافيزيقا بالنسبة إىل أرسطو هي علم تبيني الواقع‪ ،‬وكان يحاول يف إطارها‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫يئ آخر دراستها‪.‬‬ ‫أي علم جز ٍّ‬


‫أن يدرس معرفة الوجود كلّه دفعة واحدة من حيث أوصاف ال يستطيع ُّ‬
‫كان ينظر إىل امليتافيزيقا (أو ما بعد الطبيعة‪ ،‬أو ما وراء الطبيعة) من زاوية تنكشف فيها أوجه مع َّينة‬
‫من الواقع غفلت عنها الدراسات األخرى‪ .‬بيد أ َّن سوء فهمٍ كبري ظهر تدريج ًّيا يف الفلسفة الغرب َّية‪،‬‬
‫وخصوصا من مطلع الحقبة الحديثة إىل زمن كانط‪ ،‬بخصوص ماهيَّة امليتافيزيقا إىل درجة أ َّن‬ ‫ً‬
‫األخري اختزل موضوعها من الوجود كلِّه إىل ثالث قضايا كح ّد أقىص هي‪ :‬الله‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعامل‪،‬‬
‫كل واحدة من هذه القضايا ثالث أو أربع مسائل مع َّينة متثِّل موضوع امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫وأوضح أ َّن حول ِّ‬
‫وبالنتيجة‪ ،‬فإ َّن ما أنكره كانط مل يكن‪ ،‬بحا ٍل من األحوال‪ ،‬امليتافيزيقا التي طرحها أرسطو وأنضجها‬
‫وط َّورها الفالسفة املسلمون‪ .‬كان مييش يف فضاء فارغ ويقاتل عد ًّوا وهميًّا خياليًّا يتمثَّل يف تص ُّو ٍر‬
‫أي‬ ‫أي مصداق‪ .‬مل يكن لديه ُّ‬ ‫وا ٍه للميتافيزيقا َّ‬
‫دسه أساتذت ُ ُه يف ذه ِن ِه‪ ،‬من دون أن يكون لهذا التص ُّور ُّ‬
‫تص ُّور واضح عن الصفات العا َّمة للوجود التي طرحها أرسطو‪ ،‬بل وميكن القول‪ ،‬بشهادة كتاباته‪،‬‬
‫ح َّمى ما يس َّمى بالتنوير يف زمانه‪ ،‬مل يقرأ كتاب امليتافيزيقا ألرسطو أب ًدا‪،‬‬ ‫أنَّه وبتأثري من تصاعد ُ‬
‫وعندما كان يواجه كلمة امليتافيزيقا تعود به الذاكرة إىل السنني التي كان يقيض فيها أوقاته بتدريس‬
‫كتاب «امليتافيزيقا» أللكسندر بومغارتن‪ .‬لقد فكّر كانط عىل مدى اثني عرش عا ًما‪ ،‬يف عدم جدوى‬
‫تص ُّوره للميتافيزيقا‪ ،‬وخوفًا من عجزه عن استكامل مرشوعه بسبب تق ُّدمه يف الس ِّن‪ ،‬د ّو َن أفكاره‬
‫املناهضة لها يف غضون ما ال يزيد عن خمسة أشهر‪ .‬وبعد فرتة من اإلقبال عليها خمدت هذه‬
‫الحقيقي‬
‫ِّ‬ ‫وخصوصا يف النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬ثاني ًة إىل املفهوم‬ ‫ً‬ ‫األفكار‪ ،‬عاد الفالسفة‪،‬‬
‫الصحيح مليتافيزيقا أرسطو‪ ،‬والعامل يشهد اليوم انتشار كتب جديدة تحت عنوان امليتافيزيقا‪.‬‬
‫يل‪ ،‬مصدرين مستقلَّني للمعرفة‪ ،‬من أصول علم‬
‫الحس والتلقّي العق ُّ‬
‫ّ ُّ‬ ‫يف سياق آخر‪ ،‬يُع ُّد التلقّي‬
‫وخصوصا منذ زمن ديكارت‪،‬‬
‫ً‬ ‫يب‪ .‬فلقد خ َّيمت هذه الفكرة دامئًا‪،‬‬
‫املعرفة الحديث يف العامل الغر ّ‬
‫عىل علم املعرفة الحديث‪ ،‬وأفضت إىل ظهور مجموعة من القضايا ذات الصلة‪ .‬وقد أ ّدت هذه‬
‫ّعت علام َء املعرفة إىل فريقني كبريين‬
‫الثنائ َّية يف مصادر املعرفة إىل ثنائ َّية يف مناحي تفسريها‪ ،‬ووز ْ‬
‫كل فريق آراء متطرفة عىل امتداد تاريخ الفلسفة الحديثة‪:‬‬
‫ُرحت لدى ِّ‬
‫هام‪ :‬التجربيون والعقليون‪ .‬وط ْ‬
‫مثل يف مقابل ديفيد هيوم‪ .‬ويف حني مال العقل ّيون بأشكال مختلفة إىل النزعة‬
‫ديكارت وليبنتس ً‬
‫الحس هو مصدر املعرفة‬
‫َّ‬ ‫كل أشكال النزعة الفطريَّة والقول بأ َّن‬
‫الفطريَّة‪ ،‬حاول التجرب ّيون دحض ِّ‬

‫‪285‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫وينبوعها الوحيد‪ .‬ولقد استتبع ظهو ُر النزعة الفطريَّة يف قلب النزعة العقليَّة يف الحقبة الحديثة‬
‫ومن ّوها وتط ُّورها‪ ،‬ظهو َر نزعة ٍّ‬
‫شك لدى الطرف اآلخر‪ ،‬وقد كان مثالها البارز الفيلسوف الربيطاين‬
‫ديفيد هيوم ونظرته للعلوم التجريبيَّة‪.‬‬
‫ترعرع إميانوئيل كانط يف البيئة العقل َّية‪ ،‬واكتسب تعليمه منها‪ ،‬وحافظ عىل تأثرياتها إىل نهاية‬
‫فلكل واحد من‬‫ِّ‬ ‫مستقل للمعرفة‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫الحس أو العقل مصد ًرا‬ ‫َّ‬ ‫أل نعترب‬
‫املطاف‪ ،‬فقد أراد القول‪ :‬يجب َّ‬
‫كل واحد منهام مبفرده عجز كالهام عن‬ ‫هذين املصدرين دوره يف حصول املعرفة‪ ،‬ولكن إذا عمل ُّ‬
‫تحصيل املعرفة‪ .‬والواقع أنَّه كان يعتقد أ َّن النزعة الفطريَّة ال تزال فاعلة‪ ،‬ولكن ليس لوحدها‪ ،‬إنَّ ا‬
‫إل إىل جانب العقل‪.‬‬ ‫فاعل غري أ َّن فاعل َّيته ال تعمل َّ‬
‫ً‬ ‫الحس ال يزال‬
‫َّ‬ ‫الحس‪ ،‬وأ َّن‬
‫ِّ‬ ‫إىل جانب‬
‫مثل هذا التجاوز للنزعة التجريب َّية والنزعة العقل َّية التقليديَّة يف علم املعرفة الحديث أفىض يف‬
‫ما أفىض إىل هذه النتيجة التي استساغها كانط‪ ،‬وهي أ َّن امليتافيزيقا غري ممكنة‪ .‬ملاذا؟ أل َّن تص ُّور‬
‫عنها وبسبب ما تعلَّمه من أسالفه‪ ،‬هو أنَّها تتعلَّق باملوجودات غري املحسوسة وهي يف الحقيقة علم‬
‫موهوم‪ ،‬أل َّن العقليني التقليديني بسبب عدم معرفتهم الصحيحة بوظيفة العقل (أو الفاهمة كام يف‬
‫مستقل للمعرفة‪ ،‬وبذلك ذهبوا خطأً إىل‬ ‫ًّ‬ ‫املصطلح)‪ ،‬غفلوا عن إدراك أنَّه ال ميكنه أن ميثِّل مصد ًرا‬
‫باللمحسوسات‪ ،‬والحال أ َّن هذه املضامني الفطريَّة يجب أن‬ ‫أ َّن املضامني الفطريَّة للعقل تنتج العل َم َّ‬
‫الحس بعض األشياء واملعطيات‪ .‬من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تستخدم فقط يف امل َواطن التي سبق أن وفَّر فيها‬
‫الحسيَّة تستأصل ـ حسب زعم كانط ـ شأفة‬ ‫ّ‬ ‫فإ َّن رضورة وكليَّة إطالق هذه الفطريَّات عىل املعطيات‬
‫تشكيك َّية هيوم من جذورها‪.‬‬
‫باللمحسوسات (مع أننا سنطالع يف هذا الكتاب‬‫امليتافيزيقا من وجهة نظر كانط هي العلم َّ‬
‫جا هو‪:‬‬‫الحقًا أنه كان مضطربًا مرت ِّددا يف هذا الخصوص‪ ،‬وأجاب عن هذا السؤال جوابًا مزدو ً‬
‫‪ 1‬ـ امليتافيزيقا هي العلم بالله والنفس والعامل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ امليتافيزيقا هي العلم بالله والنفس وحرية اإلرادة‪.‬‬
‫لقد أوردنا يف الفصل األخري من هذا الكتاب (القسم الثالث) عىل نحو االختصار مسرية تحقِّق‬
‫التاريخي الذي أ َّدى إىل وصول كانط إىل مثل هذا التص ُّور غري املسبوق حول موضوع‬
‫َّ‬ ‫ذلك القدر‬
‫امليتافيزيقا‪ .‬هذا التص ُّور غري مسبوق ألنَّه انبثق وأوجِد يف حقبة علم املعرفة الغريب الحديث‪ ،‬ومل‬
‫باللمحسوسات ال يف الفلسفة اإلسالميَّة وال يف فلسفة القرون‬ ‫تعترب امليتافيزيقا أب ًدا مج َّرد علم َّ‬
‫الوسطى‪ ،‬وال حتى يف الفلسفة اليونانيَّة القدمية نفسها‪ ،‬أي‪ :‬عند أرسطو عىل وجه التحديد‪ .‬ما‬
‫جسدته له‬
‫يهاجمه كانط يف الظلامت الناجمة عن تعاليم أسالفه ليس امليتافيزيقا‪ ،‬بل هو شبح َّ‬

‫‪286‬‬
‫كيف يمكن قيام ميتافيزيقا؟‬

‫الخاصة‪ ،‬والواقع أنَّها تس َّمى فقط ميتافيزيقا وليست مبيتافيزيقا (حاولنا يف القسمني األول‬
‫َّ‬ ‫تعالي ُم ُه‬
‫والثاين من الفصل الخامس من الكتاب اإلجابة عن السؤال‪ :‬ما امليتافيزيقا؟)‪.‬‬
‫القض َّية األساس َّية يف علم املعرفة هي قض َّية مصدر املفاهيم واألصول املعرف َّية‪ .‬والقول أ َّن‬
‫بعض هذه املفاهيم واملبادئ فطريَّة ـ وال يختلف األمر هنا يف ما إذا كانت «الفطريَّة بالفعل» هي‬
‫العدد الرابع ــ ‪1444‬هـ ــ شتاء ‪2023‬م‬

‫املقصودة أم «الفطريَّة بالقوة» ـ إمنا هو إقصاء للقض َّية وتجاهل لها وليس إجابة عنها‪.‬‬
‫مثل‪ ،‬ومن دون إيضاح كيفيَّة ظهور مبدأ‬ ‫يف كتاب ينتمي إىل علم املعرفة ال يستطيع الكاتب ً‬
‫عدم التناقض‪ ،‬أن يكتفي بالتوكّؤ عليه واالستشهاد به ـ حتى لو اعتربه بده ًّيا ـ واتخاذه وسيل ًة يستعني‬
‫بها يف تحليالته الفلسف َّية‪ ،‬إمنا ينبغي عليه يف البداية أن يقول من أين جاء هذا املبدأ؟‬
‫العودة ثاني ًة إىل مفهوم الوجود يف الفصل الرابع (القسم الرابع) متثَّل مستهل بحث من نوع آخر‬
‫حول هذا املفهوم‪ .‬ففي حني يستعرض البحث املطروح يف الفصل الثالث ـ بعد نقد آراء متن ِّوعة‬
‫حول ظهور مفهوم الوجود ـ الرؤي َة املتب َّناة من قبل كاتب السطور‪ ،‬نرى الفصل الرابع (يف قسمه الرابع)‬
‫كل‬
‫منفصل عن ِّ‬
‫ً‬ ‫يتح َّدث عن الخصوصيَّات الفرديَّة لهذا املفهوم‪ ،‬وهي خصوصيَّات تجعله ممتازًا‬
‫أي قيد أو رشط‪ ،‬أي الوجود‬ ‫أنواع املفاهيم‪ ،‬وتدلِّل كيف أصاب أرسطو وابن سينا يف جعله من دون ِّ‬
‫مبا هو وجود‪ ،‬موضو ًعا ملا بعد الطبيعة أو امليتافيزيقا (القسامن األول والثاين من الفصل الخامس)‪.‬‬
‫باستثناء القسم األخري من الفصل الخامس‪ ،‬وهو يف الواقع القسم األخري للكتاب بر َّمته‪ ،‬ومبثابة‬
‫كامل للبحث يف‬ ‫ً‬ ‫فصل‬
‫ً‬ ‫نخصص‬ ‫ِّ‬ ‫كل محتويات الكتاب‪ ،‬مل‬ ‫تذكري موجز بالنتيجة التي تنتهي إليها ُّ‬
‫أساسا‪ .‬وما منعني من‬ ‫ً‬ ‫ب هذا الكتاب للداللة عليه‬ ‫إمكان َّية امليتافيزيقا‪ ،‬وهو املوضوع الذي كُ ِت َ‬
‫الطبيعي لظهور املبادئ واملفاهيم‬
‫ِّ‬ ‫فعل جريًا عىل السياق‬ ‫ذلك هو أ َّن محتوى الكتاب كلِّه إذا كان ً‬
‫يئ عىل النتيجة القائلة إ َّن امليتافيزيقا ممكنة‪ ،‬مضافًا إىل أنه‬ ‫املعرفيَّة‪ ،‬فينبغي أن ينطوي بنحو تلقا ٍّ‬
‫يجب أن يوضح ملاذا هي ممكنة‪ .‬والواقع أ َّن القسم األخري من الفصل الخامس ُوضع للتأكيد‬
‫وإل فحسب اعتقاد كاتب السطور‪ ،‬إذا نُظر إىل الكتاب بتاممه وكل َّيته فيمكن أن‬ ‫عىل هذه النتيجة‪ّ ،‬‬
‫علم بالوجود مبا هو وجود‪.‬‬ ‫تستنتج منه إمكان َّية امليتافيزيقا بوصفها ً‬
‫‪---------------------------------------------------------------------------------------‬‬
‫الكتاب‪ :‬كيف ميكن قيام ميتافيزيقا؟‬
‫املؤلف‪ :‬مهدي قوام صفري‬
‫تعريب‪ :‬حيدر نجف‬
‫النارش‪ :‬املركز اإلسالمي للدراسات اإلسرتاتيجية‬

‫‪287‬‬
ILMOLMABDAA

is to construct modern conceptual frameworks within the scholarly


disciplines which are suitable for their identity. The methodology
of this essay is based on the following hypothesis: It is possible
to formulate new methodologies which aim to analyze and study
metaphysical concepts epistemologically, by establishing new
concepts and terminologies such as philosophology, wisdomology,
and ‘irfānology. Thus, the essay strives to present philosophy
epistemologically, and aims to propose philosophical and
epistemological theories which are susceptive to experimentation.
As for the methodological basis which governs the processes of
experimentation, it relies on formulating its philosophical theories
through mathematical equations as a method which provides
precision in experimentation and ensuring scholarliness.

288
Abstract

in the influence of Heidegger’s thought on post-modernist


movements and trends of criticism of civilization in all parts of the
world.
* * *
.Fourth Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

Fields of Theorization: Methodological Rectifications of Michel


Chodkiewicz’s Writings on Ibn Arabi
Abdol-Baqi Meftah
Despite the importance of the study, research and examination
of the work of Ibn Arabi in Western circles, they include many
methodological and documental flaws. This is a result of numerous
factors, one of which is connected to the cultural and ideological
background of the orientalist who is studying Ibn Arabi’s work
and which governs the examined text through its own logic, while
another factor is the difficulty in understanding the esoteric and
symbolic language which distinguishes Ibn Arabi’s work. A third
factor is the variety in the original sources and the additions
made to these sources by Muslim scholars throughout the ages.
An additional factor is insertion and exposition, which sometimes
led to a problem in discriminating the original work of the author
from what expositors have recorded as if it were an idea of Ibn
Arabi himself.
* * *
Metaphysics-Logia: The Possibility of Conceptualizing
Philosophy, Wisdom, and ‘Irfān Practically
Hasan Ajami
This essay aims to go beyond what is common in concepts within
the domains of philosophy, divine wisdom, and ‘irfān. The purpose

289
ILMOLMABDAA

striven to achieve in his intellectual career. In this essay, Kochler


strives to clarify one of the most prominent problems in the
philosophy of existence according to Heidegger: being and divinity,
and specifically what he names the personal God. Furthermore,
Kochler suggests that Heidegger’s aim was to undermine the
ontological foundations of Christian theology.
* * *
Interview with the Contemporary Austrian Philosopher Hans
Kochler: “Heidegger Did Not Contemplate or Discuss Anything
Other than God”
Interview conducted in Vienna by: Hamid Lashhab
In this interview, the Austrian philosopher Hans Kochler delves
into Heidegger’s philosophy with the aim of understanding his
thought before explaining and interpreting it. This has enabled
him, as many have acknowledged, to present a unique and
original understanding of Heidegger’s thought in many aspects
of his philosophy. Perhaps what distinguishes Kochler from many
interpreters of Heidegger’s thought among German-speaking
philosophers is the spirit of criticism, despite the fact that he
defended Heidegger in many instances and rectified the prejudiced
opinions of some expositors of Hidegger’s thought.
In this interview, we read that analyses of Heidegger’s thought
are rooted in the interest in essential ontology which has become
the basis for liberal ideologies, especially in the context of modern
criticism of technology and the environmental movement.
Heidegger’s philosophy has gained a global importance within
various cultures, going beyond the narrow academic framework of
traditional academic western philosophy. This is also emphasized

290
Abstract

* * *
The Metaphysics of the Muthanna: The Path of the Mystics
toward the Unity of God and the Unity of the World
Mahmoud Haidar
.Fourth Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

The aim of this essay is to introduce one of the most important


dilemmas in ontology: the manner in which the First Creation and
the appearance of numerous beings is approached. Due to the
fact that the requirement is clarifying the reality of this Creation,
the essay is based on the hypothesis of a First Creation from which
the presence of different and numerous entities has arisen. The
First Creation is referred to here as the Muthanna, the unique
entity which combines between simplicity and complexity at the
same time. Thus, we face an ontological problem which reveals
foundational flaws in metaphysics. Non-revelatory philosophies
have frequently mixed this entity with God, and thus a problem
has arisen due to dwelling on its essence and the manner of its
appearance, and forgetting that it is an entity whose existence
relies on its Creator.
* * *
“The Problem of God in the Metaphysics of Martin Heidegger”:
The Concept of Being and the Issue of the Personal God
Hans Kochler
The purpose of translating the essay “The Problem of God in
the Thought of Martin Heidegger” is to bring different intellectual
and philosophical domains closer together for providing means
of dialogue and cooperation for a better human future. This
is specifically what the Austrian philosopher Hans Kochler has

291
ILMOLMABDAA

divine mercy descends upon the heart of the ‘ārif, leading to his
witnessing of what may not be fathomed through reason.
The main aim behind the ‘ārif’s structuring of his worldview
is monotheism, the ultimate goal. This perspective is founded on
the two following essential questions: What is monotheism? Who
is the Creator? According to the ‘ārif, there is an in-depth form of
monotheism, with its own foundation, methodology and results-
which is named tawhīd al-wujūdī (monotheism in existence),
and the one who adopts it is called al-insān al-kāmel (the perfect
human being).
* * *
The Metaphysical Status of the Natural Object in the
Philosophy of Mullā Ṣadrā: A Comparative Study on the Constant
Transformation of Atoms
Farid Hojjati, Mahdi Monfared, Habibollah Razmi
This essay draws upon main sources on the philosophy of Mullā
Ṣadrā and modern physics for the purpose of comparing between
the metaphysics of the sage Mullā Ṣadrā and modern physics. The
essay aims to prove that the transformation of the natural object
in the philosophy of Mullā Ṣadrā does not indicate the presence or
the absence of existence. The same applies to the transformation
and alteration of quantum atoms, or the birth and demise of
essential atoms, where it is possible to compare between the two
matters based on the theory of quantum mechanics. It can also
be considered from the point of view which does not consider the
quantum theory to be definitive and where the atom preserves a
single state in two time periods, and from the theory of substantial
motion which clarifies motion according to time.

292
Abstract

from the time of Aristotle’s experiments on the structures of First


Philosophy up until the successive philosophies of modernism.
The content of the essay reveals Rasoul’s unique approach, driven
by his rare passion for philosophical texts, and his effort to fathom
their ontological element and historical transformation.
.Fourth Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

* * *
Metaphysics of Waḥdat al-Wujūd according to Stoics and
Plotinus: A Comparative Study of Theoretical Principles
Mostafa al-Nashar
There is some common ground between Stoics and Plotinus
on Waḥdat al-Wujūd (Unity of Existence) regarding the concept,
but differences arise in theorization. This essay compares the
concept of Waḥdat al-Wujūd according to the two philosophical
schools of thought for the purpose of demonstrating the points of
convergence and divergence between them.
* * *
Metaphysics of Ḥuḍūr and Mushāhada: Study of the Principles
of the Mystical Worldview
Fadi Nasser
Worldviews differ according to the difference in the
epistemological methodologies one follows. Like all Islamic fields
of knowledge, ‘irfān, presents a certain worldview, and this
arises from its epistemological methodology which is founded
on kashf (unveiling) and mushāhada (spiritual witnessing) which
are accomplished through the qalb, the ‘ārif’s main tool in
acquiring ḥuḍūrī knowledge. This knowledge, ‘ilm al-ladunī (inner
knowledge), is referred to in the Holy Quran and occurs when

293
Abstract
Synopses of Essays in the Fourth Issue of
‘Ilmol-Mabda’
In what follows is a brief overview of essays in the fourth issue
of the scholarly journal ‘Ilmol-Mabda’:
Nūrī Metaphysics: Establishment of the Ontology of Existence
in Suhrawardī’s Ḥikmat al-Ishrāq
Yadollah Yazdan Penah
The theory of the nūrī (lightened) system according to the
sage Shihāb al-Din Suhrawardī forms the pivotal discussion in his
philosophy of Ḥikmat al-Ishrāq (Wisdom of Illumination). This
essay on nūrī metaphysics examines one of the most prominent
theoretical foundations of ontology from the perspective of
Suhrawardī. In this line, the essay considers Suhrawardī’s opinion
on Wājib al-Wujūd (the Necessarily Existent Being) and bodily
resurrection, as well as highly philosophical topics such as the
iʿtibārī nature of second categories and aṣālat al-māhiyyah
(primacy of quiddity).
* * *
Reflections on Metaphysics: Aristotle’s Experiments in Building
Metaphysical Knowledge
Rasoul Mohammad Rasoul
This essay by the late Iraqi philosopher Rasoul Mohammad
Rasoul, demonstrates the origin of metaphysics as a term and
concept, and reviews the confusion surrounding metaphysics
Table of Contents

Branches of Knowledge

‫ ـ ـ‬Metaphysics-Logia: The Possibility of Conceptualizing


Philosophy, Wisdom, and ‘Irfān Practically
Interpretation of the Mystic Language according to Sheikh Allawi

‫ ـ‬Hasan Ajami ................................................................ 252

Treasure Trove of Books

‫ ـ ـ‬Beast and Man by Mary Midgley


The Roots of Human Nature The Tragedy of a Pessimistic Civilization
‫ ـ‬Presented by Hamade Ahmad Ali ......................................272

‫ ـ ـ‬How can Metaphysics Rise?


Criticism of the Greek and Kantian Perspectives in Establishing
Ontology

‫ ـ‬Karim Abdol-Rahman..........................................................278

Translation of Synopses................................................. 294


Table of Contents
- The Metaphysics of the Muthanna
The Path of the Mystics toward the Unity of God and the Unity of the
World
‫ ـ‬Mahmoud Haidar . .....................................................170
- “The Problem of God in the Metaphysics of Martin
Heidegger”
The Concept of Being and the Issue of the Personal God
‫ ـ‬Hans Kochler ..............................................................206

Interview Section

-Interview with the Contemporary Austrian Philosopher

Hans Kochler “Heidegger Did Not Contemplate or Discuss


Anything Other than God”
‫ ـ‬Interview conducted in Vienna by: Hamid Lashhab .......... 218

Fields of Theorization

- Paradoxes of Existential Duality in Ibn Arabi’s


Thought
Methodological Rectifications of Michel Chodkiewicz’s Writings
on Ibn Arabi

‫ ـ‬Abdol-Baqi Meftah ...................................................... 228

‫ ـ ـ‬Sociology of Sufism
The Principle of Formation and the Process Representation in
the Islamic World

‫ ـ‬Kanza al-Qasimi............................................................ 244


Table of Contents
Introduction
- Paving the Way for A Later Metaphysics
- Mahmoud Haidar......................................................... 7

Issue Folder

- Nūrī Metaphysics
Establishment of the Ontology of Existence in Suhrawardī’s Ḥikmat
al-Ishrāq
- Yadollah Yazdan Penah .............................................. 24
- Reflections on Metaphysics
Aristotle’s Experiments in Building Metaphysical Knowledge
‫ ـ‬Rasoul Mohammad Rasoul . ...................................... 44
- Metaphysics of Waḥdat al-Wujūd according to the
Stoics and Plotinus
‫ ـ‬Comparative Study of Theoretical Principles
Mostafa al-Nashar....................................................... 58
- Metaphysical Aspects of the Human Image
A Study of the Philosophy of the ‘Ārif Ahmad bin Alwan al-Yamani
‫ ـ‬Abdullah Mohammad Ali al-Falahi .............................74
- Metaphysics of Ḥuḍūr and Mushāhadah
Study of the Principles of the Mystical Worldview
‫ ـ‬Fadi Nasser . ..................................................................106
- The Metaphysical Status of the Natural Object in the
Philosophy of Mullā Ṣadrā
A Comparative Study on the Constant Transformation of Atoms
‫ ـ‬Farid Hojjati, Mahdi Monfared, Habibollah Razmi....128
- The Advance and Retreat of Metaphysics
An Attempt to Move Philosophy into an After Phase
‫ ـ‬Ghaydan Al-Sayyed Ali ..................................................152
Board of Trustees

Pr. Izhar Nuri Indonesia

Pr. Ahmed Jazzar Egypt

Pr. Toufiq Bin Amer Tunisia

Pr. Jad Hatem Lebanon

Pr. Zaim Khanshalawi Algeria

Pr. Sidi Ali Maaulainain Morocco

Pr. Abdullah Falahi Yemen


Pr. Azmuddine Ibrahim Malaysia

Pr. AlSadeq AlFakih Sudan

Pr. Fouad Sajwani Sultanate of Oman

Pr. Velin Belev Bulgaria

Pr. Muhammad hussain Al Yasin Iraq

Pr. Mahmud Erol Kılıç Turkey

Muhammad Taher Al-Qadri Pakistan

Pr. Muhammad El-Mokhtar Jieye Senegal

Pr. Muhammad Ahmad Ali Syria

Pr. Mol Badi Brunei

Pr. Muhammed Salem Al-Sufi Mauritania

Pr. Yadullah Yazdan Banah Iran


Editor-in-Chief
Mahmoud Haidar

Scholarly Advisor
Sayed Ali Moussawi Mustafa Al-Nashar

Managing Editors
Ihsan Haidari – AlHuthaili AlMansar
Mohammad Ali Mirzaii – Idriss Hani – Ghaidhan Sayyed Ali

Scientific Peer-revision Council


Mohamed Mahjoub (Tunis) Saber Aba Zeid (Egypt)
Muhammad Yahya Babah (Mauritania)
Habibullah Babaii (Iran) Jaafar Najm Nasr (Iraq)
Kenza AlQassmi (Morocco) Amin Youssef Audeh (Jordan)
Yassin Bin Obeid (Algeria)
Hoda Niimah Matar (Lebanon)
Bakri Alaa Addin (Syria)

Director-in-Charge Executive Editor


Qassem Toufaili Khodor Ibrahim Haidar

Design and Art Direction


Red Design Company

For Contact
Website: www.ilmolmabdaa.com
Email: ilmolmabdaa@gmail.com
Tel: 009611 – 305347 00961 – 13540762 00961 – 1908993
PO Box: 113/ 5748 – Beirut, Lebanon

You might also like